Professional Documents
Culture Documents
سورٌن
ػ2ػ
الحقوق كافة
مـحــــفــــوظـة
التـحــاد الـكـتـّاب الــعـرب
ػ3ػ
محمد رشٌد روٌلً
ســـــورٌن
رواٌة
ػ4ػ
ػ5ػ
اإلهداء
إلى روح العالمة (علً بك صائب) الذي نظم أهزوجة النضال ،ورحل ـ
عن الدنٌا بصمت كاألولٌاء والقدٌسٌن.
إلى روح المفكر السوري (ٌاسٌن الحافظ) ابن دٌر الزور البار ...ابن ـ
األرمنٌة كما كان ٌحلو للبعض أن ٌسمٌه.
إلى أرواح شهدائنا األبرار الذٌن ضحوا بأرواحهم وأوالدهم وأموالهم، ـ
كً نعٌش أحراراً أباة.
إلى الصدٌق العزٌز (سورٌن) والغالٌتٌن (هاصمٌك وتروندا) واألخوات ـ
(نورا ،مٌرنا ،لوسٌن)...
أهدي هذه الرواٌة
محمد رشٌد روٌلً
ػ6ػ
« ال شًء ٌجعلنا كباراً كاأللم الكبٌر »
ـــ المارتٌن ـــ
ػ7ػ
رأي فً الرواٌة
أ .د .عبد الحق حمادي
الهواس
دكتوراه فً اللغة العربٌة
وآدابها.
ما قرأت رواي ة أصيمة مف عيوف األدب العالمي إال وجدت نفسي أعيش
تفاصيميا أثناء وبعد قراءتيا .وال غرو في ذلؾ فالرواية المتميزة ىي التي تستولي
وتسيرؾ حسب ما يريد كاتبيا ،لتصبح جزءاً
عميؾ وتدخمؾ في عالميا ،بؿ تأسرؾ ّ
منيا تقوؿ ما قالتو ،وتحب وتكره ،وتوافؽ وترفض وتفرح وتحزف ،وتثور وتيدأ وفؽ
مجرى أحداثيا وموقؼ شخصياتيا في سموكيـ الحيوي.
وبيذا التأثير تقاس عظمة العمؿ المبدع ،ويشار إلى نجاحو وابداعو ،وحقاً
ىكذا كاف أثر رواية (سوريف) لمكاتب محمد رشيد الرويمي في نفسي ،وأنا أعيش
أحداثيا ،وأنفعؿ وأتفاعؿ مع تصاعدىا وتطورىا وحركة شخوصيا وتعامميـ مع
األحداث الكبرى والصغرى فييا..
إف أىـ ما يميز الرواية ىو منيجيا في رسـ الحدث الذي بنيت عميو إذ
استطاع الكاتب أف يصور الواقع المادي والمعنوي في المرحمة التي تناوليا ،أعني
قسوة الطبيعة في بيئة دير الزور ،وسموؾ أىميا اتجاه كوارثيا ،ليبرز الجانب
اإلنساني التكافمي نحو المنكوبيف ،ليكوف ذلؾ توطئة إلظيار القيـ العميا ليذه
المدينة التي ستحتضف المنكوبيف مف خارج حدودىا الجغرافية والعرقية والدينية.
صوره ،واختاره باكتشاؼ المسوغ اإلنساني ،وانما ّ
ّ فالكاتب بذكائو لـ يفتعؿ
إبداعي يمنح المتمقي األسباب المنطقية الطبيعة لمفعؿ اإلنساني نحو اآلخر بقطع
النظر عف انتمائو وىويتو ،والكاتب يؤكد األصالة ،وىو يتحدث عف غياب الثقافة
والعمـ ،وأف ىذه األصالة طبع في المجتمع وليست اكتساباً ،واذا كانت الثقافة
والعمـ ييذباف األصالة ويطوراف فعميا اإلنساني الشمولي ،فإنيما بالتأكيد ال
يخمقانيا ،وال يمنحانيا لشعب مقطوع الجذور الحضارية ،وتمؾ مقولة قاعدية
ػ8ػ
يستخمصيا القارئ مف سطور الكاتب أف ىذا الشعب الذي يرزخ تحت نير
االستبداد وما يعانيو مف تخمؼ وأمية ىو جزء مف أمة عظيمة ليا تاريخيا
العظيـ ،وتعيش كميا المعاناة نفسيا محافظة عمى أصالتيا وارتباطيا في أصوليا
وعطائيا بانتظار المحظة التاريخية المييئة لبلنطبلؽ ،وأخذ المبادرة لمنيوض ثانية
واغناء واثراء الواقعيف القومي واإلنساني.
إف الصراع الذي أداره الكاتب اتجاه الكارثة الطبيعية والكارثة السياسية كاف
اليدؼ منو واحداً انعكاسياً بتأثير كؿ منيما باآلخر ،واتياـ المستبد بنتائجو
يعج بالمرض
القاسية .لقد عرؼ الكاتب كيؼ يقيـ ىذه الثنائية في واقع متخمؼ ّ
الجسدي واالجتماعي ،وصورة المتحكـ بيذا الواقع ومسؤوليتو المباشرة عف ىذا
الواقع المزري والمعقّد ،وىذا الواقع المؤلـ الذي ينوء بأعباء الجوى والسبلسؿ عميو
أف ي قؼ عمى قدميو رغـ قسوة التحديات ليخفؼ أو يشارؾ في معاناة شعب آخر
ساقو القدر إلى ساحتو في أبشع مجزرة وحشية لطّخت جبيف اإلنسانية بالعار
والشنار.
إف كتابة التاريخ في توثيقو وتثبيت أحداثو ،والحكـ ليا أو عمييا ،ىو عمؿ
مختصيو ورواتو ونقاده حيف يسجموف حوادثو الكبرى ونتائجيا ،وىميـ أف يذ ّكروا
اإلنسانية بما جرى عمبلً بقوانينيا الكبرى ،أما الرواية التاريخية فإنيا تضيؼ عمى
يجسد الروائي أحداثو مف خبلؿ! إشراؾ اآلخر ذلؾ تفاصيؿ المعاناة في دقائقيا إذ ّ
في ىذه المعاناة ،واظيار تعاطفو مما يجعؿ منيا عمبلً حياً ال تغيب أحداثو في
بطوف الكتب التاريخية ،أو ليحضر أثرىا في مجموعة المختصيف أو الميتميف
بشؤوف التاريخ وحركتو ،وانصافيـ أو تجاىميـ أو ظمميـ لشعب ومشروعية
حؿ بو في مرحمة تاريخية مظممة عممت قضيتو ،أو نسياف أو استذكار ما ّ
األحداث األخرى عمى نسيانيا ،أو إلقاء الغطاء عمييا ،ويأتي نجاح الرواية مف
نجاح كاتبيا وقدرتو في رسـ الحدث وجزئياتو وشخوصو الرئيسة والثانوية ،وتطور
ىذا الحدث بمؤثراتو وصوالً إلى تشابكيا في ذروتيا ،ثـ انفراجيا وحمّيا ،ورؤيتو
نحو المستقبؿ في استخبلصو الفكري لمنتائج الباعثة لممستقبؿ ،أو الدافعة لحركة
التاريخ نحو األ ماـ بغية تغيير الواقع ،أو كسر الرتابة المستطيمة تحت قيود الظمـ
السياسي والقير االجتماعي وسمب حرية وارادة األخر.
ػ9ػ
وميما كاف الحدث عظيماً واليدؼ نبيبلً ،فإنو رىف بقدرة الكاتب عمى
سجؿ لمكاتب محمد رشيد الرويمي ،فيو لـ يتألؽ تصويره وحسف تناولو ،وىذا ما ُي ّ
بتصويره وحسف تناولو فحسب ،وانما أيضاً في قدرتو عمى بث الحياة في جميع
مناحييا الكبرى والصغرى في عمؿ متكامؿ يتحرؾ فيو الجزء نحو الكؿ ،وينفتح
فيو الكؿ نحو الجزء ليكمؿ أبعاد الصورة في ألوانيا المواكبة لحقيقة وجودىا مف
دوف افتعاؿ أو خمط أو مبالغة أو إىماؿ ،وىذه الدقة أضفت عمى العمؿ شكبلً مف
أشكاؿ التشويؽ األخاذ بفعؿ أسموب الكاتب صاحب التجربة الناشئة عف ممارستو
الطويمة لصناعة األدب ،مما أتاح لو إمكانية تقدير المواقؼ بعيف الناقد الذي ال
ضخـ ما ال يستحؽ ،أو يقمّؿ مف شأف ما يجبيطغى عنده موقؼ عمى آخر ،أو ُي ّ
إب ارزه واعطا ؤه أىميتو ،ورغـ عمؽ ىذه التجربة ،فإف الكاتب األديب لـ يتدخؿ في
صنع األحداث ،ولـ يركب ألسنة شخوصو ،أو يتربع داخؿ عقوليـ ،أو يتبطف
عز في عالـ الرواية حمُّيا ،ومركب صعب عالميـ الداخؿ ،وتمؾ معضمة كبرى َّ
كثي اًر ما يجنح بربانو أو يتيو بو حيف يتدخؿ الكاتب بثقافتو وعممو ليقوؿ ما ال
يقولو شخوصو.
الثر ،وحسف انتقائو ما
وكاف مما أسعؼ الكاتب حضور معجمو المغوي ّ
يناسب تصويره ،فالمغة التعبيرية والتصويرية أدت وظيفتيا في إنجاح العمؿ،
وادخاؿ المتمقي بو ،وأخذ مصادقتو عميو.
فكاف لمعنى الحزف ألفاظو ،ولمعنى الفرح ألفاظو ،إف ىمس الحزف سمع
القارئ ّأناتو ،واف جمجؿ الفرح طار المتمقي معو ،وكاف لمرفض صوتو ،إف قاؿ ال
رددت األصداء صداه ،وكاف لمحماسة حضورىا ،إف التيبت تأججت معيا
العواطؼ والمشاعر واألحاسيس ،واذا القارئ يعيش الماضي بكؿ ما فيو مف حياة
تتدفؽ أنفاسيا مع أنفاسو ،ويشارؾ بأحداثيا في أعماقيا واحداً منيا ال مراقباً عف
بعد لما جرى بيا.
وىذا ما عنيتو بالرواية التاريخية وميمتيا الرئيسة في نقؿ تفاصيميا الحيوية
حد تبني ذلؾ اليدؼ وجعمو وقدرتيا عمى إشراؾ اآلخر في ىدفيا إشراكاً يصؿ ّ
جزءاً أصيبلً مف موقفو الفكري في دفاعو عف كؿ المظموميف ،أو في تبنيو لمعدالة
والحؽ والخير في أوسع معانييا ومفاىيميا اإلنسانية.
ػ 11ػ
في أنني فخور بشعب أنتمي إليو ،أكد لي فخري أستطيع أف أقوؿ بمؿء ّ
بأمتي وأصالة قيميا وعظمة تاريخيا ،وىذا فضؿ الكاتب عمي ،أما فضمو عميؾ
أخي القارئ الكريـ ،فيذا ما ستقولو أنت ،ولربما قمت أكثر بكثير مما قمتو.
ػ 11ػ
كلمة البدَّ منها
يمـ الفجر مفأعز أحبلمو ،وأغمى أمانيوّ ، في عنفواف التشظي يقضـ األديب َّ
ٍ
ليؿ تناسؿ في الذاكرة ،ليعيد طبلء الفصوؿ ،ويمسح الوجو الذاىؿ بحفنة مف ٍ
صبر
جميؿ.
وأنا أكتب ىذه الرواية التي ّأرقتني ،تراءت لي نوافذ األحبلـ وىي تستجدي
صبلة الريح ،ودعاء الرّكع السجود ،واألرض محفورة بحوافر أحصنة القير ،تمتؼ
عروقيا حوؿ أكواـ مف الصدأ وأكداس مف العفونة...
تراءت لي ىميمات الفرح تتسمؿ بفضوؿ مثؿ قطط األزقة ووجوه المحسنيف،
فكنت أتماىى في دروب الميؿ الطويؿ ،أساىر نسيـ الودياف والتبلؿ العابقة
الغ َرب والطرفاء ،فأحمحـ كفرس بالذكريات ،وأستعيد حوار العنادؿ بيف أغصاف َ
جندلت فارسيا في لحظة المجابية...
وأنا أكتب ىذه الرواية تراءت لي دموع اليتامى ،وشيقات األيامى ،وندب
الثكالى ،واأللـ يعتصر القمب حتَّى حدود السقـ ،وتراءى لي مف احتضف كومة
ثـ يذروىا برفؽ عمى أجساد مف رحموا، ويقبميا بإباءَّ ،
تراب بكر ،يشميا بكبرياء ّ
لتنبت أزاىير الخبلص...
أعترؼ بأف األوىاـ قذفتني مف شاسع السيد طويبلً ،لكنيا لـ تستطع أف
تنتزع مف الذاكرة صور الوجوه الناحمة التي حاصرىا النفي والتشرد والظمـ ،وىي
تسطّر مبلحـ خالدة في التضحية واإليثار...
لـ تستطع أف تطمس في ِسفر التاريخ حقبةً كانت بدايتيا مؤلمة ،ونيايتيا مفرحة...
كانت البدايات َسوقيات األرمف إلى دير الزور ،إلى حيث الدؼء والحناف عاـ
،1915وكانت النيايات َسوؽ الفرنسييف إلى حيث الخزي والعار عاـ ،1946ولعمّي
أعبر عف دقائؽ مف خبلؿ ىذه الرواية أالمس جانباً مف الحقيقة التي ال تخفى ،و ّ
المحظات الحرجة واأللـ اإلنساني والصفاء الروحي والعزيمة المتوثبة التي كانت
مشاعؿ نور تضيء عتمة الطريؽ ووحشة المكاف ،ورحـ اهلل األديب والروائي الكبير
(عبد الرحمف منيؼ) حيث يقوؿ في (الكاتب والمنفى):
البد أف تق أر التاريخ الذي نعيشو اآلف وغداً ،ليس مف (إف األجياؿ القادمة َّ
كتب التاريخ المصقولة ،وانما مف روايات ىذا الجيؿ واألجياؿ القادمة).
ػ 13ػ
()9
دويو ،كما يشاطر أبناء المدينة
لـ يكف الفرات ىادئاً ...إنو يشاطر الريح ّ
أحزانيـ ،كاف صاخباً ىاد اًر ساخطاً متوعدًا كؿ الذيف رسموا السدود في طريقو،
وعرقموا شغبو بأوخـ العواقب ،فقذؼ موجات ىائجة كنست كؿ النفايات ،واقتحمت
تنز عفونةً وجرفت كؿ ما اختزنو المتشاطئوف مف مؤونة...
جد اًر ّ
كاف الشيوخ والعجائز يعرفوف سطوتو وقرابينو ،فكانوا يصمّوف ،ويرفعوف
أىؿ عمييـ شير نيساف ،وكاف الفرات عنيدًا عاقاً ال يقيـ وزن ًا
األكؼ بالدعاء كمّما ّ
ّ
لصموات ،وال يكترث باألدعيات ...يقتحـ حصوف األمؿ بيمجية ،ويفتح حقائب
وييز جذع الريح بقوة ،فيتساقط الدمع المعتّؽ أياماً ،وتُجمد ّ الصمت بعنجيية،
الوجوه بسياط الموعة والرىبة...
ىو الفرات الذي نعشقو رغـ مآسيو وجرائره ...مميـ األدباء وممتقى األحبة،
نطوؼ عمى سطحو الرقراؽ يمدنا بالعطاء ...ىو الفرات الذي ّ
وشرياف الحياة الذي ّ
المدمر ...وحدىا أشجار
ّ أحد أماـ ىيجانو
حيف شموع األمؿ ...لـ يصمد ٌ في كؿ ٍ
ترد لو الصفعات رغـ الغثاء الذي جمؿ لحاءىا ،ولوى أعناؽ التيف استطاعت أف ّ
المزروعات التي الذت بيا...
ممونة ،حدودىا صحارى
كؿ عاـ ،وفي نيساف يرسـ الفرات لممنطقة خرائط ّ
وتقشعر منيا األبداف...
ّ تيز الوجداف،
ومتاىات وأخاديد ّ
أما النساء فتندبف،
الرجاؿ يستغيثوف ،واألطفاؿ يبكوف ،والشيوخ يحوقموفَّ ،
وتولولف بعصبية...
قاؿ شيخ المدينة لمف احتشد أمامو:
ػ إنيا ضريبة البقاء يا أبنائي ،وامتحاف مف اهلل تعالى ...أكثِروا مف ذكر اهلل
والعمؿ الصالح ،فبيما منجاتكـ...
ىز الواقفوف رؤوسيـ بأسى ،وتفرقوا دوف أف ينبس أحدىـ ببنت شفة.ّ
أزىار الربيع ّلوثيا الغثاء ،فأصبحت نفايات ،والبسمة اختفت مف الشفاه،
الندية ما زالت تذرؼ دموعاً حارقة تميب الوجنات...
والعيوف ّ
إيو أييا اآلتي ...ماذا تركت لنا؟!
ػ 14ػ
انتماءىا
َ البيوت تآكمت حيطانيا ،وتق ّشر طبلؤىا ،وفقدت األبواب والنوافذ
ألي ٍ
لوف سوى الصدأ والرطوبة...
أشياءىا األشياء،
َ طيرتالخوؼ يمتد دماً حتَّى انتياءات الوداع ،وقد ّ
وانسابت عمى الغثاء تبحث عف سر الضياع.
الجبار كنت تمنحنا فرحاً ،ألق ًا ،وتح ّذرنا مف يباب األجؿ...
إيو أييا النير ّ
ثـ تغرس في حقولنا فسائؿ الحب والمودة ...كنت كنت تيدي إلينا عطر األمؿَّ ،
تقطؼ ذوب القموب ،وتجعمنا نتماىى عمى عجؿ ،كنت توقد نار العشيات في
م اربِعنا ّ
فييؿ الحجؿ...
ماذا جرى لؾ اليوـ عمى غير عادتؾ؟!
ِل َـ جعمتنا في المدى المفتوح وجعاً ينوح؟!
لِ َـ توزعت في مفردات الوقت أعاصير تيمي خرائب ودموعاً؟!
لِ َـ لوثت نقاء الصمت وصفاء الصبر ،وجعمت الفقراء يزدادوف فق اًر ،واألخيار
يمدوف أيادييـ لؤلشرار؟!
المتصدع ،وما
ّ وقؼ أبو أحمد الصباغ متسم اًر أماـ ما آلت إليو أحواؿ بيتو
خمّفو الفيضاف ...لقد أفسد أصبغتو كمّيا ،ول ّوث األصواؼ المتراكمة ،وغدت
أما مؤونة البيت مف ممونة ،ولوحات تشكيمية مذىمةَّ ، جدراف بيتو وأرضيتو خرائط ّ
الطحيف والبرغؿ والسكر والشاي وغير ذلؾ ،فقد أصبحت مع الغثاء طعاماً ليواـ
األرض وأسماؾ النير.
عدة مرات ،وعندما عجز أىؿ بيتو عف إنقاذ شيء،حوقؿ أبو أحمد ،وبسمؿ ّ
رفع يده إلى السماء ،سائبلً اهلل تعالى الرحمة والعوف.
كاف ابنو الوحيد (أحمد) يساعد أمو وأختو (حميدة) في تصريؼ الماء ،ونشر
الفراش والمبلبس عمى مصطبة مرتفعة ،وىو يتأمميـ واحداً تمو اآلخر...
عيناه ترقرقتا بالدمع ،وىما تفتشاف عف وجيب خافؽ متموج بالحياة ...عف
ربيع دافئ وشوؽ عابؽ إلبنو الوحيد الذي بمغ مبمغ الرجاؿ ،ولكف مف أيف ونرجس
الوقت ذبوؿ ،وقامة العمر انحناء ،وغابة الحمـ ىباء؟! مف أيف واألماني استطابت
نوميا في ميدىا واألغاني في سبات؟!
قاؿ أحمد ألبيو عندما بمغ بو التأثر مداه:
ػ 15ػ
مما
ػ ال تحزف يا أبي ...بإذف اهلل سأعيد صباغة األصواؼ ،وستكوف أفضؿ َّ
سبؽ...
التفت أبو أحمد إلى ابنو فوجد دمعتيف تنساباف بيدوء إلى وجنتيو ،اقترب منو
كثي اًر ،وطبع عمى جبيتو قبمة دامعة ،وقاؿ:
ػ أنا يا ولدي لـ أحزف يوماً عمى قضاء اهلل وقدره ...أليست ىذه حالنا في كؿ
نيساف؟! صحيح أف فيضاف ىذا العاـ كاف مأساوياً ،لكف اهلل لف يتخمى عنا ألننا
صالحوف .اهلل يشيد أنني لـ أرتكب إثماً أو جناية ،ولـ أطعمكـ إال الحبلؿ .كؿ
ما أطمبو مف اهلل تعالى المطؼ بنا ،وأف يبقيؾ وأختؾ ذخ اًر وسنداً ...أنت يا
وتكوف أسرة ،ستعرؼ الكثير ولدي ما زلت شاباً وعندما تتزوج إف شاء اهللِّ ،
عف معاناة األب.
ػ أبي ...ليس الزواج ىاجسي اآلف ...أريدؾ أف ترتاح ،وتترؾ العمؿ لي،
ألعوضؾ عف الكثير مف الذي فقدتو...
ّ
ػ أنت يا ولدي بحاجة إلى الماؿ لتتزوج ...أريد أف أفرح بؾ قبؿ أف يسترد
اهلل أمانتو.
ػ بعد عمر طويؿ يا أبي ،واف شاء اهلل سترى أوالدي وأحفادي.
وضمو بحناف إلى صدره ،بينما
ّ ثـ اقترب مف ولده،ىز أبو أحمد رأسو م ار اًرَّ ،
ّ
كانت زوجتو وابنتو تمممماف حوائج البيت المتناثرة.
كاف المغط قوياً أماـ البيت وعند الجيراف ،اختمطت األصوات الرعناء بالبكاء
ىز لو رأسو م ار اًر ...إنو
شنفت لو أذنا أبي أحمد ،وقد ّ
ثمة صوت ّ والنحيب ،وكاف َّ
الحمية لدى اآلخريف، ِ
(الكساري) وىو يشدو بشعر شعبي يثير النخوة و ّ ّ صوت
فيردد كؿ مف كاف يعمؿ معو عبارة يشير إلييا عندما ينتيي مف إنشادىا...
ألقى أبو أحمد بصره إلى السماء ...كانت صافية إال مف ذؤابات شائبة،
ليموف
والشمس تبث أطيافيا السحرية بيف أغصاف األشجار وشقوؽ الجدرافّ ،
الغثاء بألواف قوس قزح...
تأمؿ أبو أحمد النير والشجر ووجوه المارة ،وأصاخ السمع إلى أصوات
الكساري ...لكف
تقؿ عذوبة عف صوت ّ الببلبؿ المبعثرة عمى األشجار ،فوجدىا ال ّ
نكبات النير طغت عمى كؿ ما ىو جميؿ وعذب وممتع ،فأشاح وجيو وخطا
خطوات ثقيمة ،وقبؿ أف يبتمعو الزقاؽ ،قاؿ لولده:
ػ 16ػ
ػ ساعد أمؾ وأختؾ في ترتيب البيت يا ولدي ،فأنا ذاىب ألرى عمؾ أبا
حؿ بو ىو اآلخر ،وأساعده إف احتاج إلى مساعدة. ياسيف ماذا ّ
ػ اذىب يا أبي مصحوباً بالسبلمة ،وبمّغو تحياتي وأشواقي .إف احتاج إلى
مساعدة فأنا جاىز إف شاء اهلل.
كاف الطريؽ إلى بيت أبي ياسيف قصي اًر لكنو متعرج وصعب ...مميء
بالسواقي الصغيرة والحفر الكبيرة...
اتّكأ أبو أحمد عمى عصا عجراء ،ونّقؿ خطواتو بحذر شديد ،رغـ ذلؾ كاد
يقع أكثر مف م ٍرة حتَّى وصؿ...
تأمؿ كؿ مف حولو بقمؽ،
كاف أبو ياسيف يجمس عمى مصطبة بيتو المرتفع ،ي ّ
وعندما رأى أبا أحمد مقببلً ىبط الدرجات الخمس بسرعة ،واحتضنو بميفة ،وأمطره
بو ٍ
ابؿ مف األسئمة:
طمني يا أبا أحمد إف شاء اهلل خفيفة؟
ػ ّ
طمني ىؿ أنتـ بخير جميعاً؟
ّ
طّمني ىؿ األصبغة واألصواؼ سالمة؟
خمّص أبو أحمد جسده النحيؿ مف ساعدي أبي ياسيف بصعوبة بالغة،
وتمتـ بأسى:
يعوضيا اهلل.
ػ الكؿ بخير ...واألضرار ّ
ػ ألـ ينصحؾ أبي رحمو اهلل أف تجعؿ بيتؾ عمى مرتفع كما فعؿ؟
السدة التي عممتيا (النافعة) واأللسنة
ػ بمى واهلل نصحني ،وقد خاب أممي في ّ
الصخرية التي امتدت عمى ضفاؼ النير...
ػ ىيا ادخؿ اآلف لنشرب الشاي األحمر.
ػ ال .ىيا بنا لنطمئف عمى أبي عدناف المختار...
ػ المختار مازاؿ يدور عمى البيوت ليطمئف عمى أحواؿ سكانييا .لقد رأيتو منذ
أما اآلف
سيمروف عميؾَّ ،ّ فترة وجيزة مع أبي طارؽ وأبي سمطاف الجابي ...اطمئف
بسر.
فتعاؿ ادخؿ بيتي ألفضي لؾ ّ
تسمرت عيناه في عيني أبي ياسيف فرآىما
يـ يتممكوّ ،
دخؿ أبو أحمد وال ّ
فرحتيف...
ػ أرى البسمة عمى شفتيؾ وفي عينيؾ يا أبا ياسيف؟
ػ 17ػ
ىؿ عثرت عمى شريكة الحياة؟
يخصؾ
ّ أما سبب سعادتي
ػ شريكة الحياة يا أبا أحمد ستأتي عاجبلً أو آجبلًَّ ،
ويخص كؿ بيت تضرر مف الفيضاف. ّ
ػ أفصح يا أبا ياسيف...
قرر (عمي بؾ) البارحة أف يعطي لكؿ صاحب بيت متضرر كيسيف مف ػ ّ
الطحيف ،وكيسيف مف البرغؿ وبعض السكر والشاي السيبلني.
ػ أىذه نكتة يا أبا ياسيف؟
ػ ال واهلل إنيا حقيقة.
ػ إذف لؾ البشارة ،أتريد عصيداً أـ ىبيطاً؟
ػ اليبيط يا أبا أحمد أرجوؾ.
ػ ىو لؾ بعد أف نتسمـ المعونة ،واآلف منؾ اإلذف.
ػ ال واهلل لف أسمح لؾ قبؿ أف تشرب الشاي األحمر معي.
احتسى أبو أحمد الشاي القرمزي بتمذذ ،وغاصت عيناه في األسمحة المعمّقة
عمى الجدراف ،والمتراكمة عمى الطاوالت ...كاف الوحيد الماىر الحاذؽ في
إصبلح صنوؼ األسمحة كافة ،والخبير في الذخائر وصناعتيا ،وقد أدرؾ أبو
ياسيف سر نظرات أبي أحمد ،فقاؿ لو عمى الفور:
لي لما استطعت أف أعرض بضاعتي في الماسة
ّ ػ لوال حاجة األتراؾ
جديداً مف السبلح ...انتظرني... بيتي ...انتظرني لحظة ألريؾ نوعاً
بخطى عرجاء سار أبو ياسيف إلى طاولة منفردة في أقصى الغرفة ولممـ
ً
ظفيا بخرقة ممساء ،وىروؿ بيا
أشبلء مسدس كبير ،فرّكبيا بسرعة مذىمة بعد أف ن ّ
إلى أبي احمد.
ػ ما ىذا؟
ػ إنو سبلح أحد شيوخ البادية ،استعصى عميو ،فأعطاني إياه ألصمحو لو،
عمي مبمغاً كبي اًر مف الماؿ لقاء اقتنائو،
ّ ورآه ضابط تركي فعشقو ،وعرض
فاعتذرت بحجة أنو ال ي عمؿ ،حاوؿ أكثر مف مرة ،وفي كؿ مرة تكبر عروضو ُ
المغرية ،وآخر عرض طمب مبادلتو بعشرة مسدسات صغيرة مع ذخائرىا ،فأقسمت
لػو كذباً أنو يحتاج إلى قطع غيار غير متوفرة وال أستطيع تعويضيا ،فرحؿ
مطمئناً ومتحس اًر بآف واحد.
ػ 18ػ
ىز أبو أحمد رأسو ،وىو يتأمؿ وجو أبي ياسيف الطيب محدثاً نفسو :واهلل لو
ّ
ألنو رجؿ شريؼ وأميف وكريـ طمب مني ابنتي حميدة لما ترددت في قبوؿ طمبو َّ
ووطني.
بل:
وىـ بإلقاء تحية الوداع ،لكف أبا ياسيف اعترضو قائ ً
نيض أبو أحمدّ ،
ػ بعد صبلة العشاء سنمتقي في مضافة عمي بؾ.
أليس كذلؾ؟
ػ لست أدري واهلل.
ػ ال .ال ...أريدؾ إلى جانبي ألمر ميـ.
ػ كما تريد إف شاء اهلل.
ػ 19ػ
()5
دماء قانية تنعكس عمى صفحة النير الذي ً الشمس عميمة تنثر في األفؽ
بتحد،
ّ سكنت جرائره ...األشجار بدأت تستعيد عافيتيا ،والزروع طاولت أعناقيا
وكؿ شيء عمى مد البصر يوحي بالخير واألمؿ ،وكاف أبو أحمد ي ارقب الضوء
محمبلً
ييب مف النير ّ اء بارداً منعشاً ّ
المذاب في األفؽ لحظة الغسؽ ،ويستقبؿ ىو ً
بعبير أشجار مسؾ الميؿ .أحس بسحر المحظة يصنع خد ًار ناعماً لذيذًا يسري مع
قدر؟! الدـ في عروقو ،فتساءؿ ِل َـ أكتئب وقد ّ
قدر اهلل ما ّ
لغط الناس يدور في كؿ اتجاه حوؿ المساعدات التي ُوزعت ،ومصدرىا،
ميمة جداً عمى
وأىدافيا ،والغمز والممز في كؿ مكاف ،وكاف أبو أحمد يراىا ّ
عكس اآلخريف ،وثقتو بعمي بؾ كانت كبيرةَّ ،
ألنو يعرفو وطنياً رغـ إسباغ لقب
(بؾ) التركي عمى اسمو ،ويعرؼ أيضاً أف ىذا المقب يحصؿ عميو كؿ مثقؼ
وعّيف بموجبيا
حصؿ عمى شيادة عالية مف األستانة ،وعمي بؾ قد حصؿ عمييا ُ
موظفاً كبي اًر في ديواف المواء...
أشياء كثيرة كانت تثير إعجاب الجميع بعمي بؾ وفي مقدمتيـ أبو أحمد...
كاف مثقفاً وعالماً لغوياً ونحوياً ،يتمثؿ دائماً في إجاباتو بالقرآف الكريـ والشعر
العربي وبخاصة شعر الحكمة ،كما أنو مطّمع عمى األحواؿ السياسية التي تمؼ
العالـ بأسره ،ومطامع الدوؿ الكبرى بالوطف العربي الكبير ،وال سيما األجزاء
الواقعة تحت االحتبلؿ العثماني ،وكاف بق اررة نفسو ال ينفي تخمؼ األمة العربية
وفي مقدمتيا ببلد الشاـ ،وأف لواء الزور قمة التخمؼ لشيوع األمية ،وىيمنة الفكر
أخؼ وطأة مف المستعمر ّ السمفي عميو ،لكنو رغـ كؿ ذلؾ كاف يرى أف األتراؾ
الغربي الشرير الذي يتربص باألمة العربية ،وبشمسيا الساطعة ،وبخيراتيا،
وموقعيا االستراتيجي ،لذلؾ آلى عمى نفسو أف يجمع في مضافتو العامرة أكبر
عدد ممكف مف المتنوريف وشرائح أخرى مف المجتمع ليتـ توجيييـ نحو الخير
والعطاء ،وتشكيؿ خبليا ثورية يقع عمى عاتقيا جنباً إلى جنب مع جمعية العيد
السرية التغيير السياسي واالقتصادي والثقافي نحو األفضؿ ،ومناىضة التخمؼ
والطامعيف.
ػ 21ػ
عندما دخؿ أبو أحمد المضافة وجد عدداً كبي اًر مف الرجاؿ المشيود ليـ
حيا الجميع بتحية اإلسبلـ وجمس بالقرب بالوطنية والصدؽ واإليثار قد سبقوهّ ...
مف أبي ياسيف وأبي عدناف المختار .سمع الجميع مواعظ الشيخ حسيف والشيخ
ثـ تحدث األستاذ تحسيف عف مستقبؿ األمة العربية عمى ضوء المستجدات سعيدَّ ،
تـ توزيعيا عمى المنكوبيف ثـ تحدث عمي بؾ عف المساعدات التي َّ العالميةَّ ،
والمتضرريف مف الفيضاف ،وأشاد بالتجار والمزارعيف الذيف أسيموا بيا ،مممح ًا
عما ىمز ولمز بو بعض الناس ،مؤكداً أنيا خالية مف أية مآرب أو أىداؼ سوى ّ
قدموّ ما يكوف أف وتمنى المممات، عند جانبيـ إلى الوقوؼو الناس حب
المحسنوف كافي ًا ،وأخذ يتأ مؿ وجوه الجالسيف ...كاف أبو أحمد الصباغ يردد في
سره:
ّ
ُس اًر عديدة مف الجوع والحرماف،
ػ لتكف مف أية جية كانت ،الميـ أنيا أنقذت أ َ
ثـ ىمس في أذف أبي ياسيف قائبلً:
َّ
لكنا ليـ مف الشاكريف.وزعوا عمينا األلبسة وقميبلً مف الزيت ّ
ػ لو ّ
ضحؾ أبو ياسيف عالياً دوف أف يعي ،وكاف عمي بؾ يراقب المشيد بصمت،
فاقترب شيئاً فشيئاً مف أبي أحمد حتَّى ّ
تنبو لو ،فوقؼ أبو أحمد احتراماً وتقدي اًر لو.
ػ ما بؾ يا أبا أحمد؟
تمعثـ أبو أحمد ،ولـ ينبس ببنت شفة ،فوقؼ أبو ياسيف وقاؿ:
وزعوا عمينا األلبسة وبعض الزيت،
ػ إف أبا أحمد كاف يقوؿ لي :ليتيـ ّ
ليضاعؼ اهلل ليـ األجر.
رّبت عمى كتؼ أبي أحمد قائبلً:
ػ سيكوف ذلؾ غداً إف شاء اهلل.
دخؿ المضافة عدد مف كبار المبلكيف والتجار ،فبالغ عمي بؾ في إكراميـ،
ووقؼ ليـ كؿ الجالسيف...
كاف الجالسوف يعرفونيـ حؽ المعرفة ،ويعرفوف أيض ًا كيؼ نمت ثرواتيـ
حتَّى أصبح الواحد منيـ يممؾ عدة قرى ،لكف الذي يشفع ليـ أنيـ كراـ يبذلوف
بسخاء إف طمب منيـ أحد المتنفذيف مف ذوي الرتب واأللقاب...
قاؿ عمي بؾ:
ػ لقد جئتـ واهلل في وقتكـ ،كنت عمى وشؾ أف أرسؿ في طمبكـ؟
ػ 21ػ
قاؿ كبيرىـ:
ػ أنت تأمر يا أبا راغب ،ونحف ننفذ إف شاء اهلل.
ػ األمر هلل وحده ،وكؿ ما نطمبو باسـ المتضرريف والمنكوبيف زيادة الدعـ
ليشمؿ المبلبس والزيت...
ػ المبلبس والزيت والسمنة والماؿ أيضاً يا أبا راغب ...أريد منؾ أف تشكؿ
لجنة لتوزيع المساعدات صباح الغد.
ػ المجنة مشكمة وىي برئاسة المختار وعضوية أبي طارؽ وأبي ياسيف.
يسركـ.
ػ عمى بركة اهلل ،وفي الصباح ستجدوف ما ّ
صاح أبو أحمد فرحاً:
ػ اهلل أكبر ...الماؿ أيضاً؟!
قاؿ عمي بؾ:
ػ أجؿ يا أبا أحمد ...الماؿ مف أجؿ أف تستعينوا بو عمى األياـ العصيبة التي
ستمر عميكـ.
تمممؿ أبو ياسيف ،وتطاوؿ عنؽ أبي سمطاف ،وتمتـ أبو صادؽ:
مرت عمينا؟!
ػ أياـ عصيبة أخرى غير التي ّ
ػ أدعوا اهلل جميعاً ألف يرحمنا ويمطؼ بنا ...يا إخوتي ربَّما ال تعمموف بأف
المشفى الوحيد في المدينة بو مئات المرضى ،وليس لدينا سوى طبيبيف واحد
حكومي واآلخر محمي ،وال يستطيعاف القياـ بواجباتيما اإلنسانية كما يتمنياف،
وأفواج المرضى والمنيكيف تتيافت عمييما كؿ يوـ...
ػ مرضى ومنيكوف؟! ماذا جرى لنا؟!
ػ يا أبا صادؽ يسترىا ربؾ ...إخواننا األرمف الذيف ُى ّجروا إلى دير الزور في
محنة ،وىـ بحاجة إلى عوف مف اهلل ومنكـ ...سيقع عمى عاتقكـ إيواء بعضيـ
واطعاميـ والباسيـ ،وسأحث عشائر المواء ورجاالتيا الخّيريف عمى فعؿ ذلؾ.
أخفض عدد كبير مف الرجاؿ رؤوسيـ ،وقد وقع ىذا الخبر وقوع الصاعقة،
فيـ يتحسبوف لما ستؤوؿ إليو حاليـ ،وىـ في ظؿ حكـ يبغض األرمف ،ويعمد
لبلنتقاـ منيـ لوقوفيـ إلى جانب أعدائيـ ،كما أف التكمفة المادية ستكوف باىظة،
إضافة إلى عدـ سعة بيوتيـ وما إلى ذلؾ...
ػ 22ػ
فيز ليـ
رفع الرجاؿ رؤوسيـ بعد ألي ،ونظروا في عيني عمي بؾ ممياًّ ،
رأسو الصغير بأسى قائبلً:
ػ أعرؼ بما تفكروف ،والشاعر يقوؿ:
يوماً ،وان كنت من أىل المشورات شاور سواك إذا نابتك نائب ٌة
يا إخوتي ما جمعتكـ إال مف أجؿ المشاورة ،وأعدكـ بأنني وأخوتي المبلكيف
والتجار لف نتخمى عنكـ ميما كاف الثمف...
األرمف شعب طيب ،وذكي جداً .يستطيعوف التأقمـ بأي جو ُيفرض عمييـ...
وسييؿ الخير
ّ فكروا جيداً ،وال تخافوا أحداً ،وثقوا تماماً بأنكـ ستُرزقوف بسببيـ،
عميكـ مف كؿ مكاف.
قاؿ كبير المبلكيف:
ػ يا إخوتي لف نبخؿ عميكـ بالماؿ ،سنتكفؿ بمساعدة مف ُيؤوي األرمف،
وستصمو اإلمدادات إلى بيتو دوف معرفة اآلخريف ،واعمموا بأننا سنأخذ عدداً كبي ًار
منيـ إلى القرى والبادية ،ولف نترؾ لكـ منيـ إال مف ترغبوف بإيوائو.
قاؿ المختار:
ػ لكف الخوؼ مف عيوف الوالي المبثوثة في كؿ مكاف ،وكما تعرفوف وراءنا
أطفاؿ ويتامى وأرامؿ وعجزة بحاجة ماسَّة إلى رعايتنا.
قاؿ عمي بؾ:
ػ أعرؼ ذلؾ جيداً ،وأعي كؿ كممة قمتيا يا مختار ،وأقوؿ لكـ اطمئنوا ،فمف
حياً.
يصيبكـ مكروه بإذف اهلل ما دمت ّ
قاؿ أبو ياسيف بعصبية:
ػ أنا ليس لدي ما أخسره ،أو أخاؼ عميو يا عمي بؾ ،اعتبرني أوؿ
المتطوعيف ليذا العمؿ النبيؿ.
صاح أبو طارؽ بحماسة:
ػ وأنا الثاني بإذف اهلل.
صاح أبو أحمد:
ػ وأنا الثالث إف شاء اهلل.
ثـ وقؼ المختار قائبلً:
تعالى صياح اآلخريفَّ ،
ػ 23ػ
ظنكـ.
ػ بإذف اهلل سنكوف عند حسف ّ
ثـ قاؿ:
صفؽ عمي بؾ والحاضروف طويبلًَّ ،
ػ اآلف ارتاحت نفسي ...بارؾ اهلل فيكـ ،وسنحتفؿ الميمة بيذه المناسبة
السعيدة.
رفع الواقفوف والجالسوف رؤوسيـ عندما فتح الباب ،وتمخض عف رجاؿ
يحمموف أطباؽ الثريد ،وعمي بؾ يشير إلى أماكف وضعيا ويعطي توجيياتو إلى
الرجاؿ بجمب المزيد مف المرؽ والمحـ...
كاف الطعاـ شيياً ،والمضيؼ كريماً ،لـ ييدأ طواؿ الوقت وىو يفتت المحـ
ويصنعو أكواماً أماـ كؿ واحد ...يضيؼ المرؽ عمى الثريد مف آونة ألخرى ،ويقدـ
المبف وأعناؽ البصؿ والفجؿ ،مردداً عبارات الشكر هلل.
قاؿ كبير التجار:
أما ػ اسمعوا يا إخوتي ما سأقولو :صدقوني لـ أكف عمى ٍ
ثقة بصدؽ نواياكـَّ ،
اآلف فإنني أرى أمارات الصدؽ ودالالتو عمى وجوىكـ ،واني باسـ زمبلئي التجار
أعمف شكرنا وتقديرنا لما تقوموف بو مف أعماؿ الخير ،وسنبقى دائماً عمى اتصاؿ
مع لجنة المساعدات لمعالجة األمور المستعصية كميا ،وسنضع كؿ إمكاناتنا في
أف مف يتزوج أرمنية لو راتب شيري يتسممو أوؿ كؿ خدمتيا ،ويجب أف تعمموا ّ
شير مف المجنة.
رفع أبو ياسيف يديو إلى السماء ،وتمتـ تمتمات غير مفيومة.
ضحؾ عمي بؾ ،واقترب منو قائبلً:
بـ دعوت ربؾ؟ ِ
ػ أصدقني القوؿ يا أبا ياسيف َ
ػ واهلل كنت أقوؿ :الميـ ارزقني أـ ياسيف مف بيف األرمنيات ،لتشاطرني
تعاستي وآالمي وآمالي.
أما زلت تريدىا شقراء زرقاء العينيف طويمة نحيمة...
ػ َّ
ػ بمى واهلل ليتني أحصؿ عمييا...
ػ اطمئف يا أبا ياسيف ،فاألرمنيات يحممف ىذه الصفات ،وأنا عمى ثقة بأف اهلل
سييبؾ إحداىف ،وستحمؿ بالمولود الذي انتظرتو طويبلً.
ػ رباه ال أريد غير ياسيف...
ػ 24ػ
ضحؾ عمي بؾ ،والتفت إلى أبي سمطاف ،وكاف يدعو اهلل خمسة،
فقاؿ ضاحكاً:
ػ وأنت يا جابي المالية يا أبا سمطاف ما خطبؾ؟!
التزـ أبو سمطاف الصمت ،ولـ ينبس ببنت شفة ،ولما صاح بو عمي بؾ
َ
ثانية ،أجاب متمعثماً ،وقد أفاؽ مف شروده:
ػ كنت أدعو اهلل أف يمنحني الولد الصالح.
اعترض عميو أبو أحمد قائبلً:
مرتيف ،ولديؾ سبع بنات فماذا تريد؟ أتريد الزوجة الثالثة؟ لفجت ّتزو َ
أنت ّ
ػ َ
جت بأربع. ِ
تزو َ
تكوف خمفتؾ يا أبا سمطاف سوى البنات ،ولو ّ
صاح بو أبو سمطاف غاضباً:
حباً بالولد
ػ لماذا تقطع رجائي باهلل يا أبا أحمد؟ واهلل ليس حباً بالنساء ،وانما ّ
الصالح إف شاء اهلل.
ػ لكف لديؾ (سمطانة) وأخواتيا ،واهلل إف كؿ واحدة منيف تعادؿ عشرة رجاؿ.
غاؿ ميما كثر عدد البنات ،فيوػ صحيح ما تقولو يا أبا أحمد ولكف الولد ٍ
أما البنت فيي ضيفة وأمانة ...إنيا ليست لي يا أبا أحمد...
مف سيحمؿ اسميَّ ،
أفيمت؟
قاؿ عمي بؾ عندما بمغ التأثر بأبي سمطاف مداه:
أما سمعت شاعرنا يقوؿ:
ػ أخالفؾ الرأي يا أبا سمطافَّ ...
ائعو
فتاة ،وىل أوحت بذاك شر ُ ىل اهلل يرضى أن تُيان ألنيا
بائعو
ُ ويك ما أنا
َ بألف غالم، إن خشفاً واحداً لو قنصتو
إال ّ
ػ 25ػ
ضحؾ عمي بؾ ،وقيقو اآلخروف ،فشاركيـ أبو سمطاف بالضحؾ وضرب
الكفيف ببعضيما.
قاؿ عمي بؾ:
ػ اطمئف يا أبا سمطاف ،سيكوف لؾ ذلؾ بإذف اهلل.
ثـ التفت إلى أبي أحمد ،وىمس في أذنو:َّ
ػ وأنت اآلخر ،أال ترغب بزوجة ثانية؟
قاؿ أبو أحمد متنيداً:
ػ الحمد هلل الذي رزقني أـ أحمد ،فيي ابنة عمي ،وال أرغب بأخرى أبدًا ،لكف
يمف عمى ولدي أحمد بزوجة صالحة ،وكما تعرؼ (العيف ما أتمناه مف اهلل أف ّ
بصيرة واليد قصيرة).
الصداؽ وكؿػ اطمئف يا أبا أحمد ،سيناؿ مأربو إف شاء اهلل ،وأنا مف سيدفع ِ
تكاليؼ الزواج شريطة أف يحضر إلى مجمسي معؾ ،فيو رجؿ جاد ووطني.
تيمّؿ وجو أبي أحمد بالبِشر ،وقاؿ ِ
فرحاً:
ػ منذ الغد سيأت ي أحمد إلى مجمسؾ ،وال أعرؼ كيؼ سأرد إليؾ الجميؿ يا
عمي بؾ ...إف ما تبذلو ألجمنا كثير واهلل.
ػ أستغفر اهلل العظيـ:
نجود الخيرين
ّ بمال ونحن الخيرون بمالِيم
ِّ يجود عمينا
التفت الحاضروف إلى أبي صادؽ الميكانيكي الذي طاؿ شروده .اقترب منو
عمي بؾ وقاؿ لو بصوت ٍ
عاؿ:
ػ إيو يا رجؿ؟ أيف وصمت؟
تنبو أبو صادؽ ،فابتسـ وقاؿ:
ّ
كنت أحمـ بثبلثة رجاؿ َميَ ٍرة في الميكانيؾ ليجعموا ورشتي
ػ أصارحؾ القوؿُ .
تمبي طموحاتي.
ّ
ػ اطمئف يا أبا صادؽ ،الميكانيؾ في دـ األرمف ،وستجد الكثيريف منيـ ،أنا
عمى ثقة مف ذلؾ.
ػ 26ػ
ػ أريد ثبلثة فقط يا أبا راغب.
اقترب عمي بؾ مف المختار ،فقاؿ باسماً:
ػ المختار أبو عدناف سيؤوي عدداً غير محدود مف األرمفَّ ،
ألف بستانو كبير
ورزقو قميؿ ،ربَّما األرمف سيحيمونو إلى جنة ،وأنا عمى ثقة مف ذلؾ.
ػ إذا كاف ىذا رأيؾ يا أبا راغب ،فأنا ليا إف شاء اهلل.
سرحاف في المجيوؿ.
حدؽ عمي بؾ في عيني أبي طارؽ فرآىما المعتيف ،تَ َ
ّ
قاؿ صوت خفيض عندما اقترب منو:
ػ ما ألبي طارؽ ساىماً شارداً؟ أيف ّكر بتجارتو أـ بوطنو؟!
أزوج طارقاً
ػ تجارتي وسيمة يا أبا راغب وأنت تعرفني جيداً ،لكنني فكرت أف ّ
سنو.
بأرمنية رغـ حداثة ّ
ػ سيكوف لو ذلؾ إف شاء اهلل ،وأتمنى أف تحضره معؾ إلى المضافة غداً.
ػ لكنو ما زاؿ حدثاً!
الشبان و ِ
الشيب ّ قد يوجد الحمم في ٍ
بمانعة ٍ
حمم فما الحداثة من
ػ 27ػ
()3
سيجوا
إعياء ،وعشرات الرجاؿ والفتية ّ
ً الفرات ينثر زَب َده ٍ
كثور ىائج قد سقط
شاطئو عند المعبر الوحيد؛ ينظروف بقمؽ إلى سفف مآلى بالوافديف ...ظمّوا في
توزعوا في مفردات الوقت أسئمة تيمي شروقاً ببل
المدى المفتوح أزىا اًر تفوح؛ ّ
أجوبة...
إيو يا نير المآسي والمحف ...نير الكوارث والنكبات ...ماذا تحمؿ اليوـ
عمى سطحؾ الرجراج؟ أرفؽ بمف تحمؿ ،افرد جناحيؾ عمييـ ،امنع عنيـ لفح
اليجير وسياط التيو؛ واهلل ما جاؤوؾ خائفيف وال طامعيف ،جاء بيـ الظمـ ليموتوا
أوفياء ،أو يعيشوا شرفاء ...لقد فقدوا كؿ شيء إال األمؿ ،وىاىـ اليوـ في رحاب
يتجمعوف ...فإلى ماذا ستؤوؿ مصائرىـ؟ والى أي مدى سينظروف؟! النقاء ّ
ٍ
أجنحة فكيؼ سيطيروف؟! رب ...إنيـ ببل
يا ّ
يا رب ...إنيـ ببل زِاد فكيؼ تُراىـ َيحيوف؟!
يا رب ...إنيـ حفاةٌ عراةٌ فكيؼ يسيروف؟!
كاف الواقفوف وىـ ينظروف إلى السفف التي أخذت تقترب رويداً رويداً يدعوف
اهلل أف يحمي الوافديف مف كؿ مكروه ،ويتمنوف عميو أف يحمييـ مف كؿ ٍ
عيف
شريرة.
المدعمة بأعمدة طويمة وصفائح عريضة المست الشاطئ برفؽ... ّ القوارب
عشرات مف األطفاؿ والشيوخ والنساء وقمّة مف الرجاؿ تيالكوا عمى الشاطئ ببل زاد
وشفاه يابسة ،وعيوف دامعة ،وتمتمات أو متاع ...وجوه مصفرة ،وثياب باليةِ ،
ّ
السف:
ّ في طاعف شيخ
تتيالؾ مف شفتي ٍ
ػ يا رب" ...قتموا الرجاؿ وأبقوني...
قدسيتؾ عني عند رحيمي...ال تبعد ّ
ال تيدر شرفي ػ أنا المديف ػ عند تكفيني...
ال تبخؿ عمى روحي بالخبلص يا مف ال يخوف...
ال تطمس خطوط حياتي المحسوبة عميؾ في أنفاسي...
ػ 28ػ
تمح صورة الرحمة في وجوه مف أراىـ...
ال ُ
ولتسكف معي في قبري...
وليبؽ زيت نعمتؾ محفوظاً عندي بعد فناء جسدي"...
متشبث
ّ تياوى الشيخ المسكيف عندما وطئت قدماه تربة الشاطئ الندية ،وىو
بابنتو وحفيدتو.
المنيَكيف...
كؿ المرضى و ُ
ىرع الرجاؿ بنقمو إلى المشفى ،ونقموا معو ّ
اقترب أبو ياسيف مف األـ وابنتيا وأخذىما إلى بيتو.
لما تتجاوز السادس تسمرت عيناه في وجو فتاة ّ
نظر أبو أحمد إلى ابنو الذي ّ
عشر ربيعاً ...شقراء ،ذات عينيف زرقاويف ،وبشرة نحاسية ،طويمة ،نحيمة ،ثوبيا
ممزؽ مف أعمى الصدر ،وكانت تممممو بحياء ،فتعانقت األحداؽ طويبلً...
ّ
توحدت في مقمتييا؟!
توىج في قمبيا؟! وأي سماء ّ
ؽ ّ أي عش ٍ
ّ
يمتد أمبلً حتَّى انتياءات الوصوؿ...
تم ّفت يمنة ويسرة بيمع ...كاف الخوؼ ّ
اقترب منيا كثي اًر .أخذت خفقات الروح تزىو في خارطة األحبلـ أقما اًر .احتضنت
فتشبثت برجؿ كيؿ ناىز السبعيف عاماً؛ أخذه معيا دوف
جرىا بيدوءّ ، كفّو كفّياّ ،
جدىا...
تردد ،وقد عرؼ فيما بعد أنو ّ
مر
المموث بالشحـ والزيت ّ
أبو صادؽ الميكانيكي الذي جاء بمباسو الميداني ّ
مستعرضاً وجوه الرجاؿ ،وكانوا ينظروف إليو بدىشة ،وعندما توقّؼ أماميـ أقبؿ
عميو ثبلثة رجاؿ عرفوا صنعتو مف لباسو .أشار إلييـ أف يتبعوه ،فساروا عمى
يفروف مف الموت ،أخذىـ إلى ورشتو الصناعية ،فتعانقوا، وكأنيـ ّ
ّ عجؿ،
َ
وعانقوه...
تأنؽ عند حضوره ،فقد تعمّؽ قمبو في أىداب أما أبو سمطاف الجابي الذي ّ َّ
امرأة وجييا شمس مف عسؿ ،وفي عينييا ذىوؿ ال ُيحتَمؿ ...عندما اقترب منيا
كثي اًر احتضنت طفميا الصغير وعيناىا تدمعافّ ...قبؿ أبو سمطاف طفميا،
واحتضنو بحناف ،وشبؾ أناممو بأنامؿ المرأة وسار بيما إلى بيتو وىو يتمتـ:
أرزؽ منيا بطفؿ فسيكوف ابنيا بمثابة ولدي.ػ إف لـ َ
أما أبو طارؽ فكاف ينّقؿ عينيو ،تارةً إلى ابنو طارؽ ،وتارةً أخرى إلى وجوه
َّ
تقدـ ابنو إلييف ،وزادت غبطتو عندماالفتيات األرمنيات .أحس بالغبطة عندما ّ
عسميتيف ووجو مستدير ّلوحتو الشمس حتَّى غدا
ّ أمسؾ يد فتاة جميمة ذات عينيف
ػ 29ػ
ممزؽ ُيظير يعض مفاتنيا ،تبث اني ّ
ثوب أرجو ّ
نحاسياً .يستر جسدىا النحيؿ ٌ
المواعج شيقة ،وتفتح القمب ابتياجاً .اعتصر طارؽ يدىا الناعمة برفؽ ،وسار بيا
ولؼ بيا جسد الفتاة ،وسار
كوفيتوّ ،إلى والده الذاىؿّ ،قبؿ أبو طارؽ ابنو ،وخمع ّ
بيما إلى بيتو والفرحة تغمره.
أ َّما المختار أبو عدناف فقد واجو الموقؼ بحذر شديد ،ومع ذلؾ فقد انتقى
عدداً مف الرجاؿ والنسوة والشيوخ أخذىـ إلى بستانو الكبير الواقع في طرؼ
المدينة الغربي.
ثـ جاء عدد مف رجاؿ الريؼ فاقتسموا مف بقي منيـ ،وساروا بيـ إلى قراىـ
َّ
مسرعيف.
كاف عمي بؾ مسرو اًر لكؿ ما حدث ،وقد سارع بمعونة التجار والمزارعيف
بإرساؿ المؤونة والمباس إلييـ جميعاً .قاؿ مفتخ اًر بيـ:
ػ اآلف صدؽ الوعد ،وحمّت النعمى يا إخوتي ...اآلف أستطيع أف أفاخر بكـ،
فكؿ الشكر والتقدير لكـ.
قاؿ المختار:
ندمت ألنني لـ أجمب المزيد منيـ.
ُ ػ ال شكر عمى واجب ،واهلل لقد
قاؿ أبو أحمد:
تقدر بثمف ،وواهلل لو أف في
ػ نحف الذيف يجب أف نشكرؾ ،فسعادة ولدي ال ّ
لجمبت المزيد.
ُ بيتي سعة
أما أبو ياسيف فكاف في غاية السعادة والسرور ...قاؿ باسماً:َّ
إلي أـ ياسيف ...ومعيا أميا ...واهلل لـ َأر امرأةً بجماليا ،لقد
ػ وأخي اًر جاءت ّ
إلي بعينييا الخضراويف أحمّؽ في سماء فاقت التصور ...فتاة شقراء ،عندما تنظر ّ
الحب ،وقوس قزح يمفّني مف كؿ اتجاه ...يا إليي ،إنيا فتاة ُخمقت مف سوسف
الربيع وأقاحو .زادىا البؤس والحرماف جماالً وألقاً ،والخوؼ واليمع فتنة وروعة.
ػ ما ىذا يا أبا ياسيف؟! أنت شاعر واهلل...
ػ يا أبا راغب ...ستراىا وستحسدني عمييا.
ػ لف أحسد أحدًا .ىنيئاً لؾ بيا.
قاؿ أبو سمطاف مرتجفاً:
ػ أخشى يا عمي بؾ أف يعمـ الوالي بما فعمنا.
ػ 31ػ
ػ ال تخافوا رغـ أف الخبر سيصمو حتماً.
صاح المختار:
ػ وامصيبتاه! وماذا سنفعؿ وقتذاؾ؟!
ضحؾ عمي بؾ وقاؿ:
سأتدبر األمر في حينو.
ّ ػ قمت لكـ ال تخافوا.
ما كاد عمي بؾ يكمؿ عبارتو حتَّى دخؿ رجؿ يرتدي لباس الشرطة ،وىو مف
ىز ليا
ثـ ىمس في أذف عمي بؾ كميماتّ ،أتباع عمي بؾ ،فسّمـ عمى الجميعَّ ،
رأسو ،وقاؿ بصوت ٍ
عاؿ:
ػ اذىب إليو ،وقؿ لو بأني سآتي إليو بعد قميؿ.
مودعاً ،فتعمّقت قموب الجالسيف وعيونيـ في عيني عمي بؾ
رحؿ الشرطي ّ
تغير لونو قميبلً ،وتحاشى النظر إلى جمسائو.
الذي ّ
ٍ
بصوت راجؼ: اقترب أبو عدناف مف عمي بؾ كثي اًر ،وقاؿ
ػ خي اًر إف شاء اهلل!
رفع عمي بؾ رأسو عالياً ،وابتسـ ابتسامة صفراء ،وقاؿ ساخ ًار:
ػ لقد وصؿ الخبر إلى الوالي ،وىو يطمبني ليذا األمر.
ػ وماذا نفعؿ اآلف؟
ػ اذىبوا إلى بيوتكـ ،وال تخافوا أحدًا إال اهلل ،وأنا سأعالج الموضوع بحكمة.
متحدياً وقاؿ:
ّ وقؼ أبو ياسيف
أفجر دار الحكومة اآلف ،وأقتؿ الوالي وحاميتو.
ألف ّ ػ أنا عمى استعداد َّ
ىيف وال يستدعي إال قميبلً
ػ ال يا أبا ياسيف ،ال داعي لما تف ّكر فيو .األمر ّ
مف مكر ودىاء.
قاؿ أبو أحمد غاضباً:
المس بيـ إال عمى جثثنا.
فداء لضيوفنا ،ولف يستطيع أحد ّ
احنا ٌ ػ واهلل إف أرو َ
نحف الذيف نقوؿ لؾ اآلف اذىب إليو وال تخؼ ،ونحف رىف اإلشارة ،إف أراد الوالي
شر فنحف ليا.
خي اًر فخير ،واف أراد ّاً
وقؼ عمي بؾ شامخاً ،ورّبت عمى كتؼ أبي أحمد قائبلً:
ػ 31ػ
ػ أصيؿ يا أبا أحمد ،شك اًر لؾ ولكؿ الحاضريف .اذىبوا اآلف ،ال أريد أف
أحب أف أطمئنكـ مسبقاً بأنو لف يحدث لي إال الخير إف شاء
أتأخر عمى الوالي ،و ّ
اهلل.
رحؿ الحاضروف وكأف عمى رؤوسيـ الطير ،وكؿ واحد منيـ صار يضرب
أخماساً بأسداس ...يفكروف بأسوأ االحتماالت ...ماذا ستكوف مواقفيـ إف أخذوا
سيحؿ بيـ؟ كيؼ سيواجيوف الموقؼ إف أخفؽ عمي بؾ ّ األرمف مف بيوتيـ؟ ماذا
في محاولتو مع الوالي؟
ضؿ طريؽ بيتو ،وبعضيـ اآلخر أخذوا يفكروف بعمؽ ،حتَّى إف بعضيـ ّ
اصطدموا بالجدراف ووقعوا في حفر الطريؽ وسواقيو...
متوجياً إلى دار
ّ وبينما كانوا عمى ىذه الحاؿ ...كاف عمي بؾ يسير بتؤدة
الحكومة ،حيث الوالي ينتظره عمى أحر مف الجمر.
ػ 32ػ
()4
كاف الوالي التركي في حالة ىياج شديد ،يصرخ كؿ ٍ
آونة:
ػ صالح ...صالح ..تعالى إلى ىنا.
يدخؿ الشرطي صالح ،فيمسكو الوالي مف رقبتو النحيمة قائبلً:
ػ ىؿ ذىبت حق ًا إلى عمي بؾ؟
ػ نعـ يا سيدي ،وقاؿ لي بأنو سيحضر في الحاؿ.
ػ لِـ لـ ِ
يأت حتَّى اآلف؟ َ
ػ كاف في مضافتو عدد مف الوجياء ،ولكنو سيأتي كما قاؿ لي.
المخبر شريؼ ،وال تغادرىا أبداً.
ابؽ في الغرفة الثانية مع ُ
ػ َ
ػ كما تريد يا سيدي.
سيئ السيرة رغـ وعوده
السري كاف ّ
يحدث نفسو غاضباً ،فالمخبر ّأخذ الوالي ّ
المخبر
سيغير مف سموكو وعطائو ليناؿ الرضا ،وكاف يخشى كذب ىذا ُ ّ لو بأنو
وتيويمو ليذا األمر ،واعطاءه أكبر مف حجمو ،فأراد أف يقؼ عمى الحقيقة مف
خؼ
عمي بؾ ،فيو أدرى منو بيذا األمر ،وعندما دخؿ عمي بؾ إلى الوالي ّ
يحبو كثي اًر ويثؽ بو.
ىيجانو ،واستقبمو بترحاب ،فيو ّ
َ
ثـ أخذ ينظر إليو بعينيف ناعستيف قائبلً بيدوء:
أشار إليو أف يجمس قبالتوَّ ،
ػ أيف ذىبت قافمة األرمف يا عمي بؾ؟
توجيوا إلى
ػ قسـ كبير منيـ في المشفى ،وعدد منيـ توفّاىـ اهلل ،وآخروف ّ
حمب.
ػ قيؿ لي إف عدداً مف رجاالت المدينة والريؼ تقاسموىـ.
ػ ثبلثة رجاؿ بحاجة ماسَّة إلى الزواج انتقوا ثبلث فتيات ،ورجؿ بحاجة إلى
عماالً
عماؿ ميكانيكييف أخذ ثبلثة رجاؿ ،وعدد مف رجاؿ الريؼ انتقوا منيـ ّ
تـ بمعرفتي.
وكؿ ذلؾ َّ
زراعييفّ ،
ػ كيؼ يا عمي بؾ؟!
ػ 33ػ
ػ أنا كفيميـ ،وأنت تعرؼ يا موالي غبلء الميور وفقر الناس ،وندرة العماؿ
الصناعييف والفنييف الزراعييف ،واألرمف قد حمّوا لنا ىذه األمور المستعصية.
المخبر شريؼ عمى الفور.صاح الوالي بالحرس كي ُيدخموا ُ
فحيا الوالي ونكس طرفو أماـ نظرات عمي بؾ .اقترب منو دخؿ شريؼ ّ
الوالي وعرؾ شحمة أذنو بقوة ،قائبلً:
كؿ القافمة ،أليس كذلؾ؟
ػ أنت قمت لي إنؾ رأيت الرجاؿ الذيف تقاسموا ّ
نظر شريؼ إلى عمي بؾ ،فغمزه بطرؼ عينو ،فقاؿ:
سيدي...
ػ ليس كؿ القافمة يا ّ
ػ أنت تكذب إذف؟
سيدي.
ػ الرحمة يا ّ
ػ سأودعؾ السجف أييا الكاذب.
تدخؿ عمي بؾ عمى الفور راجياً العفو عف شريؼ ىذه المرة ،فعفا عنو ّ
شريطة أف يكوف صادقاً في نقؿ األخبار ،فوعده شريؼ بذلؾ.
كؿ قوافؿ األرمف اآليبة خبلؿ
ػ عمي بؾ ...أريد منؾ أف تُشرؼ بنفسؾ عمى ّ
الفترة القادمة ،وتعمؿ عمى ترحيميا إلى حمب دوف توقّؼ في المدينة.
ػ لكف مف واجبي أف أنقؿ المرضى إلى المشفى.
المنيكيف جدًا فقط.
ػ انقؿ ُ
ػ كما تشاء ...ىؿ تريد شيئاً آخر؟
ػ ال ...شك اًر ،وأنا آسؼ إلزعاجؾ.
ػ أستغفر اهلل العظيـ ،أنت تأمر في أي وقت تشاء.
ػ لـ تقؿ لي مف ىـ الرجاؿ الذيف أخذوا مف األرمف؟
الصباغ انتقى
ّ ػ أبو سمطاف الجابي ،فيو يريد الولد يا موالي ،وأبو أحمد
عروساً لولده أحمد ،وأبو ياسيف انتقى أـ ياسيف ،وأبو صادؽ الميكانيكي انتقى
ثبلثة عماؿ ميكانيكييف لورشتو ،وعدد مف شيوخ القبائؿ انتقوا عماالً زراعييف
لمزارعيـ.
ػ خي اًر إف شاء اهلل.
ػ 34ػ
كاف عمي بؾ مسرو اًر جداً ليذه النتيجة مع الوالي ،وعندما خرج مف مكتبو
تدخمو ،واعفاءه
المخبر شريؼ ،وتذلّؿ أمامو شاك اًر ّ
سار متّجياً إلى بيتو ،فمحؽ بو ُ
مف السجف .نظر إليو عمي بؾ بعينيف غاضبتيف ،وىو في الحقيقة الذي يجب أف
يتعود عمى يشكره َّ
ألنو لـ يقؿ الحقيقة ،وانما قصد بيذه النظرة إخافتو مف أجؿ أال ّ
نقؿ أخبار المناضميف والمحسنيف إلى الوالي لقاء درييمات معدودات.
بصوت خفيض:ٍ سر نظرات عمي بؾ ،فقاؿأدرؾ شريؼ ّ
ػ لست أدري ماذا جرى لي عندما قمت لو بأف القافمة كمّيا قد اقتسميا
رجاالت المدينة والريؼ؟ وعد مني أال أشي بمناضؿ أو محسف بعد اليوـ ،بؿ
سأعمد إلى مساعدتيـ بكؿ ما أستطيع.
ػ ىذا ما أطمبو منؾ يا شريؼ ،ووعداً مني إف احتجت إلى أي شيء فسيكوف
لؾ بإذف اهلل.
ثمة كوابيس مرىقة كانت كانت ليمة ثقيمة لـ ينـ خبلليا عمي بؾ إال قميبلًّ ...
فكره بيف متاىات الظنوف ومسارب الشؾ ...بيف ت ُ تتعاوره مف حيف آلخر .تشتّ َ
الحاضر والمستقبؿ ...بيف الواقع والخياؿ ...قدح زناد فكره م ار اًر ،فرأى ،ويا ليوؿ
ما رأى!
المستقبؿ
َ المستقبؿ مرعباً ...رأى الواقع دفمى و
َ رأى الحاضر يحتضر ،و
ط بو الخياؿ إلى رؤى وأوىاـ وىواجس وعواصؼ وزوابع ،كاف يتياوى عمقماً ..ش ّ
قوة ...ىرش جمدة رأسو الصغير ،ومسح بينيا ال يموي عمى شيء ،وال حوؿ لو وال ّ
أبجديةً عشقيا منذ الصغر وترّبى عمييا ،وأقسـ عمى الوفاء ليا
ّ أنفو الدامع ،ورتّؿ
المّرة يا ولدي لو طميتيا
ميما كاف الثمف .كاف أبوه يقوؿ لو دائماً( :الشجرة ُ
بالعسؿ لف تثمر إال ُمّاًر).
أف المحتؿ
حب وطنو واإلخبلص لو ،و ّ
كاف والده ػ رحمو اهلل ػ يحثّو عمى ّ
ميما كانت مواقفو إيجابية فوجوده سمبي.
مرددًا عمى
حب الناس واإلحساف إلييـ قدر استطاعتو ّ
كاف يطمب منو ّ
مسامعو أيضاً ما قالو الشاعر:
ػ 35ػ
فالكرـ والسخاء أحب الصفات إلى اهلل تعالى ،وىما ىبتاف ييبيما اهلل لمف
يصطفي مف عباده...
يردد عمى مسامعو صباح مساء الفضيمة والخير والعطاء
كاف والده مدرسةًّ ،
حتَّى آخر لحظة مف حياتو...
بتمعف
ّ حارسو األثير ،وناولو وريقةً صغيرة ،قرأىا عمي بؾ
ُ اقتحـ خموتَو
وشردت عيناه...
بتحرؾ الجيش العربي مف الحجاز إلى األردف ،ومف األردف
األخبار السعيدة ّ
تمح عميو أف ُيجير بالعداء لموالة والسبلطيفإلى سورية ،والحركة الوطنية ّ
العثمانييف ،وأف يدعو الشعب إلى الثورة.
كاف يرى ضرورة التميّؿ والعمؿ بسرّية وكتماف ،ىذا ما طرحو جيا اًر فاتّيمو
بعضيـ بأنو مع األتراؾ قمباً وقالباً...
قدـ ُي َش ّؾ بوطنيتو
كؿ ما ّ
أبعد ّ
الضيقة! يا لحصاد ألسنتيـ! َ
ّ يا ألخبلؽ الناس
عمي بحزف:
وسموكو ...تمتـ ٌّ
ِ
المئام فال أخشى اليوان من أكرموني الكرامة أىل إذا
مما يعرؼ اآلخروف ...إنو يعرؼ الوالي جيداً منذ كاف عمي بؾ يعرؼ أكثر َّ
أياـ دراستو في اآلستانة ،وكانت لو مواقؼ إيجابية مف العرب ،وحتى مف األرمف،
ويمح عمى رحيؿ السوقيات فور وكاف يأسؼ لِما جرى ليـ في /مركدة /وغيرىاّ ،
يقدر مواقفو جيداً ،ولو
عمي ّوصوليا دير الزور خوفاً مف غضب رؤسائو ،وكاف ّ
لتغير كؿ شيء ...ىذا ما كاف يجيمو رفاقو.
كاف غير ذلؾ ّ
الصباغ وأبو صادؽ وأبو
ّ بعد شروؽ الشمس بقميؿ ،كاف المختار وأبو أحمد
سمطاف وأبو ياسيف أماـ بيت عمي بؾ...
أخذوا .القمؽ واليواجس والظنوف تتناىبيـ
يينؤوا بمف َ
لـ يستطيعوا النوـ ،ولـ َ
مف حيف آلخر...
اتّفقوا فيما بينيـ عمى المجيء إلى بيت عمي بؾ بعد شروؽ الشمس،
فاجتمعوا عند بوابة الحديقة المؤلى بالزىور والرياحيف...
ػ 36ػ
ويرش الماء، يشـ الورد، ِ
ّ كاف عمي بؾ يقظاً يتنقؿ مف شجرة إلى أخرىّ ،
قصي...
ّ ويبعد اليباس إلى ركف
كانوا ينظروف إليو باحتراـ وتقدير ،وىو منيمؾ في العمؿ ...حتَّى إذا ما
كرسيو يحتسي الشاي تنحنحوا بصوت ٍ
عاؿ. ّ انتيى وجمس عمى
وقؼ عمي بؾ وأمرىـ بالدخوؿ ،فدخموا وىـ من ّكسو الرؤوس...
ػ أىبلً بكـ ...سنتناوؿ طعاـ الفطور معاً.
قاؿ المختار:
ػ نحف لـ ننـ ليمتنا يا أبا راغب .أرجوؾ قؿ لنا ماذا سنفعؿ؟
سقط أبو سمطاف عند قدمي عمي بؾ ناشجاً:
أتوسؿ
ػ أرجوؾ يا أبا راغب ،لقد أحبَّيا قمبي واهلل ،ولف أقوى عمى فراقياّ .
إليؾ ...ساعدني.
مد عمي بؾ يده ،ورفع جسد أبي سمطاف المتيالؾ ،ونظر في عيوف ّ
اآلخريف ،فوجدىا كابية ال لمعاف فييا وال ضوء ،فقاؿ بنبرة قاسية:
ػ إذاً ستتخمّوف عف المقاومة؟!
قاؿ المختار َدىشاً:
ػ وما دخؿ المقاومة بيذا الموضوع؟!
ػ إما أف تسمّموا األرمف ،أو تقاوموا األتراؾ.
أما أبو سمطاف فقاؿ:
سكت أبو أحمد الصباغ ،ولـ ينبس ببنت شفةَّ ،
ػ أنا سأسمّـ ما أخذت عندما أعجز عف المقاومة.
قاؿ أبو ياسيف بعد تفكير عميؽ:
ػ واهلل سأودع مخزناً مف الرصاص في قمب مف يقترب مف أـ ياسيف أو مف
أميا.
أما أبو صادؽ فقد أخرج مديةً طويمة مف جيبو ،ورفعيا عالياً ،وقاؿ
َّ
بأعمى صوت:
ػ أنا ليا يا أبا راغب.
نظر عمي بؾ في عيني أبي أحمد الصباغ قائبلً:
ػ لـ تقؿ شيئاً يا أبا أحمد!
ػ 37ػ
ثـ قاؿ:
تنيّد أبو أحمد ،وأطمؽ زفرةً مف أعماقوَّ ،
ػ واهلل لف يأخذوا زوجة ولدي أحمد إال عمى جثتي.
ضحؾ عمي بؾ طويبلً ،وقاؿ:
ػ ىنيئاً لكـ ما أخذتـ ،ولف يستطيع أحد أف يسمبكـ األمانة التي أرتضيتـ
قوة غاشمة ّأي ًا
حمميا بصدؽ .األرمف يا إخوتي أصبحوا جزءًا منا ،ولف تستطيع ّ
بأف ما أُخذ مف القافمة
أما بالنسبة لموالي فقد أقنعتو ّ
كانت اقتبلعيـ مف أرضناّ ،
لشد احتياجات مف ال يممؾ مي اًر أو عماالً ،وقمت لو إف مف أخذوىـ
قميؿ ،وذلؾ ّ
أعرفيـ وىـ بكفالتي.
ىدأت النفوس قميبل ،ما لبث أف تنيد المختار.
ػ ما بؾ يا أبا عدناف؟
ػ لـ تقؿ لي مف وشى بنا يا أبا راغب؟!
بل.
ػ لـ يكف تركي ًا ،وال ديرياً أصي ً
ػ مف ىو أرجوؾ؟
منبت سيئ عمى كؿ حاؿ ،وأرجو أال تموثوا ٍ ييمكـ اسمو ،فيو مفػ ال ّ
أنفسكـ بو ،لقد ىديتو إلى سواء السبيؿ ،وأرجو أف يكوف صادقاً بما وعد.
التفت الرجاؿ عمى صوت جمبة بالقرب مف الحديقة...
الخيالة ،وعندما أومأ ليـ عمي بؾ عرفوىـ جيداً ،إنيـ
كاف ثبلثة رجاؿ مف ّ
مف كبار التجار...
قاؿ عمي بؾ:
ػ اآلف طاب طعاـ اإلفطار...
دخؿ عمي بؾ بيتو ،وقد جمس الحاضروف جميعاً وما ىي إال دقائؽ ،حتَّى
كاف اإلفطار جاى اًز .تناولوه بارتياح وحمدوا اهلل كثي اًر.
قاؿ عمي بؾ لكبير التجار:
يأت أبو طارؽ معكـ؟ ما أخبار ابنو؟ ػ لِـ لـ ِ
َ
تزوج ابنو مف األرمنية ،وىو سعيد جداً بيا،
ػ أبو طارؽ يعيش الفرحة بعد أف َّ
وليتؾ رأيت العروس بعد أف ألبسوىا أجمؿ المباس ،وزّينوا يدييا بالذىب .كؿ مف
رآىا قاؿ :ىذه مبلؾ وليست مف البشر .ىنيئاً لطارؽ بيا!
ػ 38ػ
كنت أتمنى أف يعيش الفرحة ىؤالء الرجاؿ الذيف تراىـ أمامؾ ...إنيـ لـ ػ ُ
يناموا ليمتيـ خوفاً ورعباً.
ػ ماذا تقوؿ يا أبا راغب؟
ػ إف ثقتيـ بي ضعيفة.
قاؿ المختار بصوت ٍ
عاؿ:
تتصور.
ّ مما
بؾ يا أبا راغب أكبر َّ
ػ ال واهلل ...إف ثقتنا َ
قاؿ كبير التجار:
لتتعزز ثقتكـ بنا أيضاً ،أرجو أف تأخذوا...
ػ يا إخوتيّ ،
ثـ قاؿ: ومد يده في جيبو ،وأعطى لكؿ و ٍ
احد منيـ صرةًَّ ،
صرة عشروف ليرة رشادية ،ىي دفعة أولى لكـ لتساعدكـ عمى ػ في كؿ ّ
تحمؿ مسؤولية األمانة التي بيف أيديكـ.
دسوا الذىب في جيوبيـ ،واستأذنوا
فرحتيـّ . لـ تكف الحديقة تسع
باالنصراؼ.
قاؿ عمي بؾ قبؿ أف يغادروا:
يتيددىا،
ػ أوصيكـ يا إخوتي بحفظ األمانة ،والدفاع عنيا أماـ أي خطر ّ
سنة اهلل ورسولو ،واكتبوا وثيقة بذلؾ ،واجمبوىا لي كي أُميرىا
تزوجوىـ عمى ّّ
بخاتمي وتوقيعي.
قاؿ المختار:
ػ سنفعؿ ذلؾ ىذا اليوـ إف شاء اهلل ،واطمئف فواهلل الذي ال إلو إال ىو ستكوف
فداء ليـ...
رقابنا ً
وخرج كؿ واحد إلى بيتو والفرحة تغمرىـ ،بينما بقي عمي بؾ مع التجار
الثبلثة يتداولوف شؤوف البمد ،ومستمزمات المرحمة القادمة.
ػ 39ػ
ػ 41ػ
()5
كاف أبو أحمد الصباغ في غاية السعادة َّ
ألنو وجدىا عمى وجو ولده أحمد،
وكانت أـ أحمد تطمؽ زغاريد الفرح مف ٍ
آونة ألخرى ،وتقوـ بحركات راقصة
كؿ ٍ
آونة لئلمساؾ بيا ،إلى أف ساعدتو آخر ييـ ّ
متمايمة عمى أبي أحمد ،الذي ّ
مرة ،فوقعت عمداً في أحضانو ...الفرح قصائد عشؽ ال تستكيف ...أغصاف مفّ
ياسميف تتدلّى في فضاء الروح ...بيادر فصوؿ خضراء ...ميرجاف مف الفتنة
والمذة يغطي كؿ مساحات القير والحرماف...
قاؿ ليا ،والنشوة تغمره:
ػ أتدريف يا امرأة كـ أنا سعيد؟!
المست فخذه برفؽ ،وتنيّدت قائمة:
كنا نحمـ بيا منذ
مف عمينا بالسعادة التي ّ
ػ أنا واهلل أكثر منؾ ،الحمد هلل الذي ّ
سنيف طويمة...
ػ اهلل كريـ يا أـ أحمد ...منذ زمف طويؿ ،وأنا أقوؿ لؾ :إف اهلل لف ينسانا
َّ
ألنو يعمـ ما تخفي الصدور...
ػ قؿ لي يا أبا أحمد ...ماذا ستفعؿ بالذىب؟
أسجمو باسـ أحمد ،وسأشتري لو كؿ
ػ سأشتري المحؿ المجاور لمحمي ،و ّ
مستمزمات المصمحة حتَّى يظؿ سعيداً ،وسأبني لو غرفة في البيت كي يأخذ
أف لو بيتاً ،وأنو أصبح صاحب أسرة. حريتو ،ويعرؼ ّ
عـ الرأي واهلل.ِ
ػن َ
ثـ اقتربت مف زوجيا ،وأخفضت رأسيا
تشاغمت أـ أحمد بعقص ضفيرتياَّ ،
وقبمو ،وقاؿ
بحياء .أدرؾ أبو أحمد أف أم اًر ما يدور في خمدىا ،فأمسؾ رأسيا ّ
بصوت يشبو اليمس:
ػ ماذا يدور في ىذا الرأس الجميؿ مف أفكار يا ترى؟
وقبمتيا بحناف ،وقالت:
أمسكت أـ أحمد يد زوجياّ ،
ػ 41ػ
ػ أتعرؼ يا أبا أحمد ،لقد تممّكتني الغيرة عندما ذىبت إلى قافمة األرمف مع
جميبلتيف.
ّ ابنؾ ...خفت واهلل أف تستأثر بواحدة مف
ضحؾ أبو أحمد طويبلً ،وقاؿ:
ػ الصراحة يا امرأةّ ،أنيف ُي ِسمف المعاب .ماذا لو رأيت ابنؾ وىو يمسؾ بيد
إلييف؟ وكيؼ وثب أبو ياسيف كالنمر إلىّ أجمميف؟ وكيؼ ىرع أبو سمطاف متميّفاً ّ
ابف أبي طارؽ التاجر فتاة رائعة؟ وكيؼ وكيؼ؟ واهلل لوالؾ حسنائو؟ وكيؼ انتقى ُ
قصرت ،ويجب أف تعممي أنو لو أعطوني أجمؿ الجميبلت في يا ابنة عمي لَما ّ
العالـ ،ما قبمت بيا إكراماً لعينيؾ...
طوقت أـ أحمد عنؽ زوجيا بيدييا النحيمتيف ،وغمرتو بوابؿ مف القببلت التي ّ
ليا خفؽ كخفؽ اليديف بالعجيف ،معتذرة َّ
ألف األرمنيات فائقات الجماؿ ،والغيرة
طبع عند النساء.
محممة بالغبار ،وفتحت الباب
ىبت نسمة ّ أغمقت أـ أحمد نافذة الغرفة عندما ّ
ثـ جمست تراقب زوجيا وىو يقّمب
الجو تارةً ،وغرفة أحمد تارة أخرىَّ ،
تستطمع ّ
صفحات دفتر جيبو ،يحسب ما لو وما عميو ،فأغمقت الدفتر بيدوء ،ونظرت في
عينيو الواسعتيف ،فابتسـ وقاؿ:
ػ أيف ولدنا أحمد؟
ػ إنو في غرفتو ...ىنيئاً لو.
ػ كيؼ رأيت زوجتو؟
استحمت ،ولبست ثيابيا الجديدة ،ظننتيا مبلكاً
ّ ػ ّإنيا جميمة آسرة ...عندما
فواحة بالعطر ...حمامة مف ىبطت عمينا مف السماء ...يا إليي ما أجمميا! وردةٌ ّ
نور واهلل.
تمـ عميو بالخير والبركة ،وارزقو الولد الصالح.
ػ الميـ ّ
ػ آميف يا رب العالميف.
وأيف حميدة؟
ػ عند خالتيا تساعدىا في جرش البرغؿ.
اسـ زوجة أحمد؟ لقد نسيتو واهلل.
ػ أعرفت َ
يغير اسميا باسـ يسيؿ عمينا حفظو.ػ وأنا كذلؾ ،سأطمب مف أحمد أف ّ
تمحي عميو بيذا الطمب.
ػ أخشى أف يزعجيا ذلؾ يا أـ أحمد .أرجوؾ ...ال ّ
ػ 42ػ
رحب بيا.
ػ ال عميؾ ...انظر اآلف ...انظر ...ىاىي مقبمة إلينا ...قـ ّ
نيض أبو أحمد ،وزغردت أـ أحمد طويبلً عندما أقبمت زوجة أحمد برفقة
زوجيا...
كانت كمبلؾ النور ...شعرىا األشقر يتيادى عمى منكبيف كأنو شبلؿ مف
تتثنى في
الضياء ...عيناىا الزرقاواف كأنيما بحيرتاف تخفياف الآللئ والمرجاف؛ ّ
مشيتيا كالخيزراف ،ووجييا المشرؽ يكتنز بالحب والحناف ...يا لمجماؿ كيؼ
يصنع بالقموب والعقوؿ!
صاح أبو أحمد بأعمى صوت:
ػ صمّوا عمى النبي...
رددت الشفاه أعذب الصموات وأسماىا...ّ
احتضنتيا أـ أحمد بميفة ،وكأنيا آيبة بعد طوؿ غياب.
أجمستيا بينيا وبيف زوجيا ،وأخذت تبلمس شبلؿ شعرىا األشقر الجميؿ
بحناف .ضحؾ أحمد وقاؿ:
الدي...
ػ لكنني أغار عمييا منكما يا و ّ
قاؿ أبوه:
ػ نسيت اسميا يا ولدي ...ما ىو؟
ػ (ىاصميؾ) يا أبي.
ػ ماذا يعني ىذا االسـ لدييـ؟
ػ يعني (الياسميف) كما عممت.
ػ إذف دعنا نسمييا ياسميناً ،وأبعد ىذا االسـ الذي ال يحفظ.
يعتزوف بأسمائيـ.
ػ كما تريد يا أبي ،رغـ أنيـ ّ
ّقبمتيا أـ أحمد ثانية وثالثة ،وصاحت بأعمى صوت:
ياسميف ،يا أجمؿ ورد البساتيف
يا أغمى ريحانة بيف الرياحيف
رب احفظيا ،قولوا آميف
يا ّ
وتمنت عمى ابنيا أف يحافظ عمييا.
وزغردت طويبلًّ ،
وعيني ،فبل توصياني بيا.
ّ ػ واهلل يا أمي ،إنيا في قمبي وروحي
ػ 43ػ
ػ عمّميا يا أحمد العربية.
بعدة كممات عربية ،وخبلؿ شير أو أكثرتتقبؿ ذلؾ ،وأصبحت تنطؽ ّ ػ بدأت ّ
ستتحدث معؾ كأي امرأة ديرية ...إنيا ذكية جداً ،واستيعابيا سريع ،وتعرؼّ قميبلً،
شفتي.
ّ ماذا أريد مف حركة
جدىا؟
ػ بارؾ اهلل فيؾ يا ولدي ،لكف كيؼ أصبح ّ
تنيّد أحمد وقاؿ متألماً:
السؿ يفتؾ برئتيو ،وال أعتقد أنو سيشفى.
ػ إنو مريض جداًّ .
ػ الميـ يا ولدي أف تجعمو يشرب الدواء بانتظاـ ،والشافي ىو اهلل.
قاؿ أبو أحمد:
ػ واهلل يا ولدي ،لو أعرؼ أف مرضو ُيشفى ألعطيتؾ الذىب مف أجمو.
مني
ػ يا والدي ،الطبيب نفسو قاؿ لي أف ال أمؿ مف شفائو ،والعمّة أنو طمب ّ
عدـ مبلمستو لئبل أصاب بالعدوى.
تصرفت؟
ػ وكيؼ ّ
ولكف زوجتي متعمّقة بو إلى أبعد مدى ،إنيا تطعمو بيدىا، ّ ػ لـ ألمسو،
وتغسمو ،وتُمبِسو ،وتُشرؼ عمى نظافتو حتَّى يناـ ،غير آبية لتعميمات الطبيب ،وال
جدىا الذي رّباىا منذ الصغر في ِحجره يا أبي.
أستطيع منعيا ...إنو ّ
قالت أـ أحمد مشفقةً:
ػ دعيا يا ولدي تقـ بواجبيا ،أنت ال تعرؼ وفاء األرمف وايثارىـ ،واألعمار
كمّيا بيد اهلل.
لتغير أحواليا بعد
فتنبو والداىا ،وعجبا ّ
دخمت حميدة فرحة عمى غير عادتياّ ،
أف كانت كئيبة ال تمزح ،وال تضحؾ ،وال تكمّـ أحداً إال عندما تُجبر عمى ذلؾ...
تنبيت حميدة لحاليا أماـ والدييا وأخييا ،فوأدت فرحيا في قمبيا ،وتجيّمت
ّ
فجأة...
ناداىا والدىا ،وقاؿ ليا بدىشة:
رت يا حميدة؟! ماذا أصابؾ يا بنتي؟!تغي ِ
ػ َلـ ّ
تموف الوجو الجميؿ بحمرة الخجؿ وعقدة
تمعثمت حميدة وتعثرت في اإلجابة؛ ّ
الخوؼ؛ ارتجفت الشفتاف المكتنزتاف ارتجافةً مريعة ،وترقرقت دمعتاف عمى
الحدقتيف ،فانسابتا عمى الوجنتيف بحناف...
ػ 44ػ
وضمتيا برفؽ فتنفّست الصعداء...
ّ أميا،
اقتربت منيا ّ
فمبى
طمبت أـ أحمد مف زوجيا الخروج مف البيت لشراء بعض الحاجاتّ ،
أميا وأخييا وزوجة أخييا...
طمبيا عمى الفور،وجمست حميدة مع ّ
ساد الصمت ىنيية ...كؿ العيوف ترنو إلى وجو حميدة ،وكانت حميدة
طمت أـ أحمد قيود الصمتتغض الطرؼ بحياء ،وقد أرىقتيا الكوابيس ...ح ّ
ّ
قائمة:
ػ ما أخبار خالتؾ يا حميدة؟
ػ إنيا بخير يا أمي ،وتسمّـ عميؾ كثي اًر.
ػ وابف خالتؾ سامي ،ىؿ كاف ىناؾ؟
تممّؾ الحياء ثانيةً وجو حميدة ،وأخفضت بصرىا ،ولـ تتكمّـ.
ٍ
بصوت خفيض: قرصتيا أميا مف فخذىا ،فقالت
ػ نعـ ،كاف في غرفتو يقرأ.
قاؿ أحمد باسماً:
يحبؾ كثي ًار ،وكمّما كاف يفاتحني بموضوع أف سامي ّ ػ أتعرفيف يا أختاه ّ
خطبتؾ ،كنت أقوؿ لو :ترّيث حتَّى تُنيي دراستؾ ،وكاف يحاوؿ جاىداً إقناعي بأف
ومشجعاً .قمت لو
ّ الزواج ال يعيؽ الدراسة ،بؿ عمى العكس يكوف عامبلً محف اًز
مرةًِ :ل َـ ال تنتقي فتاة أرمنية جميمة ،وتُنيي ىذا الموضوع؟ ولكنو صرخ بوجيي
قائبلً :إف لـ تكف حميدة لي ،فمف أتزوج طوؿ العمر...
قالت أـ أحمد:
ػ يا ولدي ،سامي شاب ناضج ،وأصيؿ ابف أصيمة ،واهلل لف تكوف حميدة إال
لو ،فميطمئف ،ولتطمئف حميدة.
انسحبت حميدة باسمة ،فقاؿ أحمد:
مما ال تحمد عقباهَّ ،
ألف سامي ال يممؾ ػ لكف يا أمي ،أخشى عمى زواجيما َّ
شيئ ًا.
ػ كيؼ ال يممؾ شيئاً يا ولدي؟ إنو يشتري الحبوب بأنواعيا ،ويبيعيا ،وداره
واسعة ،وال أحد يؤنس وحدتو سوى أختي.
ػ 45ػ
أمو َّ
ألف تبيع مرات يخسر سامي في بيع الحبوب ،فتضطّر ّعدة ّ
ػ يا أماهّ ...
جيداً ،وىو يدرس اآلف،
مف ذىبيا سداداً لديونو ،إنو ال يعرؼ البيع والشراء ّ
فمننتظر حتَّى ُينيي دراستو ويحصؿ عمى وظيفة ،وبعدىا لكؿ حادث حديث.
ممؾ
حباً َػ ال يا ولدي .أنا أعرؼ ما ال تعرفو أنت ...سامي يحب حميدة ّ
يتزوجيا أف تفقد أختي وحيدىا ...كاف كمّما عصؼ بوقمبو وعقمو ،وأخشى إف لـ ّ
أمو لترسؿ في طمب حميدة بحجة مساعدتيا، يمح عمى ّالشوؽ ،وتقاذفتو اليموـّ ،
فتبدد كآبتو ،وتنزاح كؿ ىمومو عندما يراىا ...ىذا ىو
وكاف ال يراىا إال أماـ أموّ ،
الحب الصادؽ ،واعمـ أنني أعطيت حميدة خادمة ألختي ،وال أريدؾ أف
تعارضني.
ػ لكف والدي عندما فاتحتو بالموضوع قاؿ لي:
سامي ما زاؿ صغي اًر.
ػ يا ولدي ،الصغير بنظر أبيؾ مف ال وظيفة لديو أو عمؿ مربح.
ػ معو حؽ يا أمي.
سببا
إف موقفؾ وموقؼ أبيؾ ّ يتزوجا بأسرع وقتّ . ػ ال يا ولدي ...الحؽ أف ّ
ليا الكآبة ...يا ولدي ،حميدة تختزف في قمبيا حباً كبي اًر صادقاً وشريفاً لسامي،
وتتمنى مف كؿ قمبيا أف توافقا ،أنت وأبوؾ حتَّى ترتاح نفسياً وعاطفياً ...كانت ّ
سر وعبلنية :آه لو وافقا عمى سامي لعشت سعيدة ...ىي ال أختؾ يا أحمد تتمتـ ًّا
تزوجاىا مف رجؿ تعرؼ ما يجوؿ في خمدكما سوى أمر واحد ...إنيا تخاؼ أف ّ
وتردد دوف
وتتشنجّ ،
ّ وتتغير مبلمحيا،
ّ آخر ،وكانت كمّما ف ّكرت بيذا األمر تنفعؿ،
سابؽ إنذار( :وقتيا ،سأقتؿ نفسي ،أو ألقي بجسدي في الفرات ،ولف أكوف لغير
تقدر مشاعر أختؾ حميدة ...ال أريد أف أفقدىا سامي أبداً) أرجوؾ يا ولدي أف ّ
أبداً.
نظر أحمد في عيني أمو ،فرأى دمعتيف تنساباف في أخاديد وجييا ،فعانقيا قائبلً:
ػ وعداً مني يا أماه أف أكوف مف ىذه المحظة إلى جانب أختي حميدة،
وسأقنع أبي بضرورة زواجيا مف ساميَّ ،
ألف بيتنا لـ يعد يتّسع إال لمفرح.
ثـ قامت ،ورقصت، احتضنت أـ أحمد ولدىا ،وعانقتو ،وزغردت طويبلًَّ ،
وأخذت تُميؿ جسدىا تارة إلى ابنيا وتارة أخرى إلى زوجتو ،وتممّؾ الجميع شعور
بالغبطة والسعادة أكثر مف ذي قبؿ.
ػ 46ػ
كاف أحمد أكثرىـ سعادة .يتأمؿ وجو زوجتو المبلئكي بذىوؿ وعيناه تمتيماف
عينييا الزرقاويف بشبؽ ...قاؿ ألمو:
أماه ...ىؿ رأيت طواؿ عمرؾ أجمؿ مف ياسميف؟ ػ ّ
فتجيبو أمو بالنفي ،مطمقة التعويذات والدعاء كي يحرسيا اهلل ويحمييا مف
كؿ مكروه.
فجأة تجيّمت الوجوه ،وعمَتيا كآبة خرساء ،عندما تسمّؿ الغبار مف شقوؽ
النوافذ واألبواب...
صرخت أـ أحمد بأعمى صوتيا:
ػ العجاج ...العجاج ...أيف أنت يا أبا أحمد اآلف؟
بسرعة مذىمة نثر العجاج األصفر أحشاءه حتَّى أصبحت الرؤية عسيرة ،وما
ثـ تممّكت العتمة
ثـ أرجواني ًاَّ ،
لبثت السماء أف خمعت رداءىا ،وارتدت ثوب ًا برتقالياًَّ ،
عز الظييرة... أديـ السماء ،وأظممت الدنيا في ّ
دخؿ أبو أحمد مسرعاً ،وىو يصيح:
ػ أغمقوا األبواب والنوافذ جيداً .ضعوا عمى وجوىكـ مناشؼ مبممة بالماء...
س ّدوا فتحات آذانكـ وأنوفكـ بالقطف المبمؿ.
جدي .وصعدت إلى غرفتو جديّ ... قفزت ىاصميؾ بسرعة وىي تصيحّ :
حاداً متواصبلً.
غير مكترثة بنداء زوجيا ،فوجدتو يسعؿ سعاالً ّ
المدمى ينثر دمو
ّ انفؾ سعالو جدىا ِ
اليرـ الذي ما ّ تشبثت ىاصميؾ بأذياؿ ّ ّ
في كؿ اتجاه ...قاؿ ليا:
شر.
كؿ ّ
بنيتي ...أموت وأنا مطمئف عميؾ ،فأنت في مأمف مف ّ
ػ ال تخافي ّ
جدي ...ال ترحؿ
جدي ...لف تموت اآلف ...أريدؾ إلى جانبيّ .ػ ّ
ابؽ أرجوؾ.
وتتركنيَ ...
جدىا ،وبمّمت أخاديد وجيو بالدموع.اجي ّشت ىاصميؾ بالبكاء ،واحتضنت ّ
تشجعي يا بنتي ...لف أعيش طويبلً ،وعميؾ أف تتذ ّكري دائماً وأبداً أرضػ ّ
أمؾ وأبيؾ واخوتؾ الذيف ال يعمـ إالالمشرديف ...تذ ّكري ّ
ّ اآلباء واألجداد ،واخوانؾ
ورددي ما قالو شاعرنا "أواديؾ":
تشجعي ىاصميؾّ ، اهلل مصيرىـّ ...
ػ 47ػ
(يا بمد اآلباء واألجداد ...يا ذا الرأس الشامخ
يا من تمفظ بأسموبك البميغ لغتي األرمنية القديمة
العذبة النابعة من القمب ...يا وطني)
ػ 48ػ
جدي وأبي وأمي وأخي يا أحمد ...إنو مف رّباني ،وعمّمني وى ّذبني...
ػ لكنو ّ
ػ سأعوضؾ يا حبيبتي بإذف اهلل عف حنانو وعطفو وحبو الكبير ،فبل تحزني.
ػ لف تستطيع يا أحمد.
كؿ ّّ جيد ،ولف أبخؿ عميؾ بشيء إف شاء اهلل.
ػ سأبذؿ يا حبيبتي ّ
بكت ىاصميؾ طويبلً ،وغابت في سبات عميؽ.
السماء مازالت تمطر وحبلً أحمر يمطّخ الوجوه واألجساد ،ويرسـ خرائط
المنية عمى الجدراف والنوافذ واألشجار ،وعندما اختفى المطر بانت مف جديد
ّ
ثـ اتّسعت حتى كادت تبتمع السماء.
سحابة صفراءّ ،
تبلشت ذباالت المصابيح ،واختفت الوجوه بيف جدراف تفوح منيا رائحة
العفف..
كؿ ّّ ىنيية ،والشيوخ يرفعوف أكفّيـ إلى السماء ،يدعوف اهلل
المآذف تكبر ّ
الغمة لـ تنقشع إالَّ بعد ثبلثة أياـ ،وأصبحت المدينة
الغمة .لكف ّ
ليقشع عنيـ ىذه ّ
دمرىا.
كما لو أف زل ازالً ّ
اثنا عشر رجبلً ضحايا العجاجُ ،شيِّعوا بموكب مييب وكاف مف بينيـ
جد ىاصمي ؾ الذي بكتو بكؿ ما اختزنتو مف محجرييا مف دموع ،وما
(سوريف) ّ
احتضنو قمبيا مف دماء..
صحتيا حتى أصبحت أطرافيا تختمج ّ لـ تنقطع أحزاف ىاصميؾ ،وساءت
كؿ ّّ حيف .وكاف أحمد بكؿ الحب والوفاء
آونة ألخرى ،وكأف الصقيع يداىميا ّمف ٍ
يعانقيا ،ويرجوىا أف تخفؼ مف أحزانيا رأفة بصحتيا التي تدىورت ،وبجنينيا
أحشاءىا ،فتستجيب مرغمة لندائو الناشج ،والدموع تطفر مف عينيياَ الذي سكف
الزرقاويف كقطع مف الآللئ ..قالت لو مرةً:
أقمت لو احتفاالً في مقبرة النصارى ،وأريد منؾ شيئاً
َ ػ أشكرؾ يا أحمد ألنؾ
آخر.
أجابيا ،والبسمة عمى شفتيو:
ػ أأقدر عميو؟!
ػ أجؿ ..تقدر عميو.
ػ ما ىو؟
ػ إف كاف المولود ذك ًار أرجو أف تسميو (سوريف) عمى اسـ جدي رحمو اهلل.
ػ 49ػ
ػ سوريف؟! ما معنى ىذا االسـ؟
لجدي.
ػ معناه القوي يا أحمد .أرجوؾ إكراماً ّ
ػ أرجو أف تسمحي لي بحذؼ الحرؼ الخير منو إكراماً لوطني.
ػ الميـ أف أناديو أنا سوريف ،وأنت ن ِاده سوري.
ػ واف كاف المولود أنثى.
أمؾ الطيبة.
ػ أقترح أف تسمييا (نورا) عمى اسـ ّ
ػ اتّفقنا يا حبيبتي.
صمت كئيب ،ينظر إلييا ..وتنظر إليو..ٌ ساد جو الغرفة
كاف اشتعاؿ الروح يأخذه إلييا دفئاً وأغنية وشوقاً عابقاً بالحب والحناف ..كـ
وكأنو سيرحؿ عنو إلىكاف يأخذه الكبلـ إلى فضاءات الجسد ،فينيؿ منو بشوؽّ ،
األبد ..وكانت روحيا باردة ،وفوؽ شتائيا يطفو الظبلـ ..تممّكتو الدىشة .اقترب
فتنيدت .أراد أف يطمئنيا عف المستقبؿ عندما عجز أف ينقميا إلى ّ منيا كثي اًر،
عالـ السحر والمذة ..أراد أف يقوؿ ليا كبلماً كثي اًر لتيدأ روحيا القمقة ،وتسكف
لكنيا كانت تحمّؽ ببصرىا في سماوات التيو .تستذكر الماضي، النديةّ ،
جراحيا ّ
يؤدياف إلى طريؽ الفناء .أخذت وتستحضر الحاضر ،فترى أنيما توءماف كبلىما ّ
تفتح قمبيا لثوب الريح تكسوه بألواف الشجف ،وتمؤل كأس الحياة اختصا اًر تقتفي
درب المحف..
قاؿ ليا باسماً:
بحة الناي في
ػ ما ألنثى الغيـ ال تمطر في صحراء روحي بعد إف كانت ّ
كؿ ىنيية بالندى بوحي؟ ما ألنثى الغيـ ك ّفت عف السقيا؟ فيؿ ليصوتي توافي ّ
اآلف مف لمى الشيد الرحيؽ؟
عانقتو طويبلً ،داعبت شعره الكثيؼ بحنافّ ،ثـ وضعت رأسو عمى صدرىا قائمة:
وجد أداريو ،كنت أمشي حاممة حزني عمى ىدني ٌ ػ يا أحمد ..ال تممني ..لقد ّ
ظيري ،وتمفح جبيتي سحب الغبار ،فمقيتؾ نجمة نابضة بالحب ،ومنذ أف
تزوجتؾ أضحت روحي تعشؽ النار ..يا أحمد ،أغانينا ..أمانينا ،استطابت نوميا ّ
نيز الشمس إف نامت ..لكف الحياة ّ كي فييا اج
ر األب نرفع جيدنا كـ ميدىا.. في
ضيعتنا ..شاعرنا كيفورؾ كاف معنا ،قاؿ لو جدي رحمو اهلل :ألـ تقؿ شيئاً عف ّ
ىذه الرحمة؟ قاؿ :بمى .اسمع ما أقوؿ:
ػ 51ػ
(رحمة غريبة
لكن كيف؟
والى متى سأسير؟
وأدفن في ركضي أعزاء لي
واحداً تمو اآلخر..
ليس تحت التراب
بل في أعماق روحي
في مكان رطب
مؤلم..
جريح
آه ىل أعيش أنا؟
أو تعيشون أنتم؟!)
ىذا ما استطعت أف أتذكره يا أحمد مف قوؿ شاعرنا كيفورؾ الذي رحؿ في
كؿ ّّ
صدقني يا أحمد أرى في ّ
منتصؼ الطريؽ .فماذا ستقوؿ لي أييا الحبيب؟ ّ
ٍ
ليمة أمي تناديني وىي عارية .أخمع ثوبي ألسترىا بو ،فيطير الثوب ألغدو عارية
مثميا .إف قدرىا يا أحمد سيكوف قدري ،وأخشى أف يأتي يوـ فبل تجدني.
سنةكؿ ّّ ما يتراءى لؾ أضغاث أحبلـ ،أنت زوجتي عمى ّ ػ أقوؿ يا حبيبتيّ ،
اهلل ورسولو ،وأـ ولدي ،وحبيبتي التي ما أحببت غيرىا ،واعممي بأنو لف يفرقنا إالَّ
ّ ُ
الموت.
ػ وأمي إف جاءت؟
يضمؾ أنت وأىمؾ ،ثقي بي يا حبيبتي ،لف أتخمى
ّ ػ ستكوف بيننا .سنبني بيتاً
عنكـ ما دمت حياً.
ػ واف رفضت البقاء معي؟
ػ سترحؿ أينما تريد.
ػ ال يا أحمد ..سأرحؿ معيا.
ػ وأنا؟! وابنؾ؟!
ػ لكما اهلل .ىذا قدري.
ػ 51ػ
ػ ابعدي عنؾ الوساوس واألوىاـ ،ونامي فسآخذؾ غداً في زيارة عائمية.
ػ إلى مف؟
ػ إلى إحدى رفيقات الرحمة الصعبة.
ػ إذا كاف والبد ،أرجو أف تأخذني إلى ترفندا وأميا شاكي.
ػ مف تعنيف؟
ػ أعني بيت أبي ياسيف.
ػ ىذا ما كنت ػ واهلل ػ أنوي فعمو .نامي اآلف يا حبيبتي.
ػ سأناـ ،ولكف أرجوؾ أف تبقي السراج مشتعبلً.
ػ كما تريديف..
ػ 52ػ
()6
استكممت ىاصميؾ زينتيا ،وارتدت ثوبيا األسود ،ومبلءة حريرية سوداء
زادت جماليا ألقاً ،بدت كإحدى آلية اإلغريؽ القدماء..
مصدؽ أف ىذه الفاتنة ىي زوجتو ،وأف
ّ كاف أحمد ينظر إلييا بشغؼ غير
سره :يا اهلل ما أروعيا بمباس الحزف يا رب
ىذا السحر كمو لو وحده ،فيمس في ّ
احفظيا لي ،وال تدعيا ترحؿ عني.
شبؾ يدىا ،وسا ار إلى غرفة أبويو ،فوقفت أمو ذاىمة عندما رأتيما ،وأخذت
تفرؾ عينييا مف آونة ألخرى صائحة:
ياسميف يا نبعة ريحاف ،يا ورد جوري
ياسميف يا شجرة حور ومزّينة بالدوري
ياسميف يا عيوف نورا ،يا أـ السوري
رب خمّييا ألحمد وال ياخذىا الخوري
ّ
َّ
وزغردت طويبلً ،ولـ تتوقّؼ إال بسبب الطَرقات المتتالية عمى الباب
الخارجي ،وصوت أبي ياسيف ييدر منادياً مستغثياً.
أسرع أحمد ،وفتح الباب ،وكاد أبو ياسيف يقع أرضاً لوال أف تداركو.
ػ ما بؾ يا عماه؟
ػ أيف أبوؾ؟
ػ إنو يصمّي .خي اًر إف شاء اهلل؟
ػ أـ ياسيف مريضة يا أحمد ،وال أقوى عمى نقميا إلى المشفى.
اقتربت أـ احمد منو ذاىمة ،وقالت لو بإشفاؽ:
ػ ماذا أصابيا يا أبا ياسيف؟
آونة ألخرى ،وتعتصر بطنيا تارةً ،وتارةً أخرى رأسيا ..لقد ػ َّإنيا تتقيأ مف ٍ
تيدئ مف روعيا ،أو أميا أف ّ ذبمت عيناىا ،وذوى عودىا النضر ،ولـ تستطع ّ
تخفؼ آالمياَّ ..إنيا تبكي بحرقة يا أـ أحمد ،وأتمنى أف أفدييا بروحي واهلل .يا
رب احفظيا لي وخفؼ آالمياَّ ،إنيا أمانة غالية ،فبل تحرمني مف حمميا يا اهلل... ّ
ػ 53ػ
ودمعت عينا أبي ياسيف ..قالت أـ أحمد باسمة:
ػ مبارؾ يا أبا ياسيف ..امرأتؾ حامؿ.
تمتـ أبو ياسيف ذاىبلً:
ػ حامؿ؟ امرأتي حامؿ؟
ىزت أـ أحمد رأسيا باإليجاب ،وقالت:
ػ حامؿ إف شاء اهلل ،فبل تخؼ.
زاد ذىولو ودىشتو ،وجمس عمى األرض متيالكاً.
أقبؿ أبو أحمد إليو ،وأنيضو قائبلً:
ػ مبارؾ يا أبا ياسيف ،واهلل إنؾ فحؿ.
قالت أـ أحمد:
ػ اذىب يا أبا أحمد معو ،وسنأتي أنا وأحمد وزوجتو إليكـ بعد قميؿ.
صاح أبو ياسيف بأعمى صوت:
سوية.
ػ واهلل لف نذىب إال ّ
أسرعت أـ أحمد ،ودلفت إلى غرفة المؤونة ،وجمبت معيا بعض األعشاب
الطبية ،فوضعتيا بكيس مف الورؽ وجاءت بيا قائمة:
ػ ىيا ..سترى يا أبا ياسيف ،كيؼ سأجعؿ امرأتؾ تضحؾ.
لكف ،ال أريدىا أف تتكمـ.
ػ ْ
ػ لماذا؟
ػ ستعرفيف بعد قميؿ.
كانت أـ ياسيف ػ كما توقّعت أـ أحمد ػ قَ ْد طمبت مف أميا أف تغمي ليا بعض
األعشاب التي جمبتيا معيا ،ففعمت وما إف شربت نقيعيا حتى سكنت آالميا،
فقبمتيا
وأخذت تنظر بعيف الرضا والشكر إلى أـ أحمد التي اقتربت منيا كثي اًرّ ،
قائمة:
ػ ستنجبيف ألبي ياسيف المولود الذي انتظره سنيف طويمة ،أليس كذلؾ؟
ىزت أـ ياسيف رأسيا باإليجاب ،فقالت أـ أحمد:
ّ
ػ اآلف أنت بخير ،أرجو أف تسمحوا لي بالذىاب ،لقد تركت حميدة وحدىا،
وقمت ليا إنني لف أتأخر عمييا.
ػ 54ػ
تشبثت بيا أـ ياسيف راجية البقاء قميبلً ،فاستجابت أـ أحمد لرجائيا. ّ
وقبمتيا م ار اًر قائمة:
اقتربت ىاصميؾ مف أـ ياسيفّ ،
ػ لو لـ ِ
يأت أبو ياسيف إلينا لجئناؾ واهلل.
أمسكت أـ ياسيف يد ىاصميؾ ،واعتصرتيا بكؿ الحب الكامف فييا ،ولـ
تنبس ببنت شفة.
قالت أـ أحمد ألبي ياسيف مستفيمة:
ػ ما اسميا؟
ػ ترفندا.
ما معنى ىذا االسـ؟
ػ يعني بمغتيـ (وجو القمر).
ػ ما شاء اهللِ ،
نادىا (قمر) وانتيى األمر ،وىي واهلل مثؿ القمر ،وما اسـ أميا
يا أبا ياسيف؟
ػ شاكي ،وتعني (قميمة الحظ).
ػ واهلل مثمما نقوؿ /شاكي باكي /عف قميمة الحظ ،لكنيا سعيدة الحظ ،لذا
وجب أف تغير ليا اسميا .ىذا ظمـ .أما عمّمتيا العربية؟
بل ،وقاؿ:
ضحؾ أبو ياسيف طوي ً
كؿ ّّ ما نقولو ،لكنيا عند الكبلـ فإنيا تتكمـ بعربية ما تكمّميا
ػ أصبحت تفيـ ّ
عربي عمى وجو األرض ،لسانيا مازاؿ معوجاً؛ َّإنيا تذ ّكر المؤنثّ ،
وتؤنث الم ّذكر،
لكنيا ذكية وأميا أذكى منيا .اسألي قم اًر ػ كما تقوليف ػ واسمعي إجاباتيا
وستحكميف.
اقتربت أـ أحمد مف أـ ياسيف ،وقالت ليا:
ػ اسمؾ مف اليوـ (قمر) يا أـ ياسيف ،ماذا تقوليف؟
أجابت بتمعثـ:
أنت زيف ،أنا يحبؾ يا أـ أحمد.
يفَ ،أنت تقوؿ ز ْ
ػ َ
ضحؾ الجالسوف طويبلً ،فطمب أبو ياسيف مف أـ أحمد أف تسأؿ أميا أي
سؤاؿ ،فقالت أـ أحمد لشاكي:
ػ اسمؾ مف اليوـ (سعيدة) ،ماذا تقوليف؟
ػ 55ػ
ػ فأجابت شاكي بتعثّر:
ػ إيدة..
فرد عمييا أبو ياسيف عمى الفور:
ّ
ػ إي ..عيدة السعيدة..
ىزت شاكي رأسيا ،وابتسمت.
ّ
نظرت ىاصميؾ إلى ترفندا نظرة حب ،ثـ اقتربت منيا كثي اًر ،والمست بطنيا
برفؽ ،وقالت:
ػ ترفندا ..ستمديف إف شاء اهلل ولدًا.
ابتسمت ترفندا وقالت:
أنت ىاصميؾ مثمو إف شاء اهلل.ػ َ
قاؿ أبو ياسيف:
ػ إف شاء اهلل .اهلل يسمع منكما .يا عيدة السعيدة أيف الشاي األحمر؟
ػ جاىز.
يعده أبو ياسيف ،ووضعت أماـ
أعدت الشاي األحمر كما ّ
كانت شاكي قَ ْد ّ
كؿ ّّ واحد كوباً ،وبدأت تسكب ٍّ
بتأف الشاي القرمزي. ّ
قاؿ أبو أحمد:
ػ الميـ يا أبا ياسيف أف تكوف مرتاحاً معيما.
ػ أقسـ لؾ باهلل يا أبا أحمد إنني ما عرفت الراحة أو االستقرار إالَّ في ظمَّيما،
مثميف طيبةً وصدقاً وأمانة ،وما يعجبني ّ وانني أفدييما بروحي .لـ َأر في حياتي
أتصدؽ
ّ ٍ
أتقف تصميح السبلح وتنظيفو وتركيبو بسرعة قياسية.. فييف أكثر ّأنيف َّ
بدقة قمّما يمتمكيا رٍاـ؟
أنيما قادرتاف عمى التسديد والضبط واإلطبلؽ ّ
ػ ما شاء اهلل ..ما شاء اهلل ..أتعرؼ يا أبا ياسيف ،البارحة قاؿ لي أبو صادؽ
المعدات بشكؿ
ّ وطوروا بعض
الميكانيكي إف عمالو األرمف ابتكروا طرائؽ عديدةّ ،
يدؿ عمى ذكائيـ ومقدرتيـ
دؿ عمى شيء ،فإنما ّ أذىؿ كبار الميكانيكييف ،وىذا إف ّ
الفائقة في مجاؿ الصناعة.
ػ ليس في الصناعة وحدىا يا أبا أحمد .فنساؤىـ نظيفات ومرتّبات وأنيقات
ويعرفف كيؼ يمتمكف قمب الزوج وعقمو ،واهلل إنيف مبلئكة.
ػ 56ػ
محتجة:
ّ قالت أـ أحمد
تحبوف الغريبة .أما نحف فنعمؿ عمؿ الحمير وال تقولوف فينا
ػ أنتـ الرجاؿ ّ
ىذا القوؿ الجميؿ.
ضحؾ أبو أحمد ،وقاؿ:
كؿ ّّ
حؽ يجب أف تقاؿ ..أنت يا بنة عمي فيؾ ػ واهلل ػ ّ ػ يا أـ أحمد ،كممة ّ
ٍ
بحاجة إلى ثناء. الخير والبركة ،لـ تقصري في حقّي يوماًِ ،
أنت لست ّ
ِ
يحببف الثناء َفم َـ تبخموف بو عمينا؟ أال ػ ال يا أبا أحمد ،أنا كغيري مف النسوة
َ
نستحقّو؟
ػ واهلل ثـ واهلل ،تستحقوف أكثر مف ذلؾ.
قاؿ أبو ياسيف متفاخ اًر:
سر أرجو أف تكتمو.
ػ دعؾ مف كبلـ النساء يا أبا أحمد .أريد أف أذيع لؾ ّاً
تفضؿ يا أبا األسرار.
ػ ّ
بل في حجرة إطبلؽ (الطبنجة)،
ػ لقد أجريت بمساعدة أـ ياسيف وأميا تعدي ً
وقد حقّقنا نجاحاً باى اًر بحيث أصبح المدى أكثر مف ذي قبؿ ،وأكثر مقدرةً عمى
االختراؽ والنفاذ.
ػ وىؿ عمـ األتراؾ بيذا االختراع؟
ػ ال ..ليس بعد.
ػ أعمِ ْميـ بو كي تحصؿ عمى براءة اختراع وجائزة.
ػ ال أريد.
ػ لماذا؟
ػ أخشى مف النتائج العكسية .أريده أف ينفع الثوار وحدىـ دوف غيرىـ.
قالت أـ أحمد مستأذنة:
اطمأننا عمى أـ ياسيف ،ونرجو أف تسمحوا لنا بالذىاب إلى البيت.
ّ ػ أعتقد أننا
يودعيـ:
وقؼ الجميع ،وقاؿ أبو أحمد وىو ّ
ػ ىؿ ستذىب إلى مضافة عمي بؾ ىذا المساء؟
فمدي أكثر مف سؤاؿ سأطرحو عمى عمي بؾ لعمّو ُيشفي
ّ ػ أجؿ يا أبا أحمد،
غميمي باإلجابة عنيا.
ػ 57ػ
ىيا بنا.
ػ إذفّ ..
ػ اذىب أنت وأحمد ،وسألحؽ بكما بعد قميؿ.
المعدؿ انتباه أحمد وتفكيره طويبلً ،فيمس في أذف
ّ شد الحديث عف السبلحّ
ألح عميو
ّ لكنو النفي، عبلمة ابة بالسب
ّ أشار
و لوقعيا، تجؼ ر ا كميمات ياسيف أبي
فيز رأسو موافقاً شريطة
كثي اًر بأي ثمف يريده ،حتى استكاف أبو ياسيف ،وىدأ ّ
السرّية في األمر.
ضحؾ أحمد قائبلً:
ػ وىؿ تريدىا مثؿ أسرارؾ أـ مثؿ أسراري؟
ػ ال ..ال ..ال أريدىا مثؿ أسراري.
ػ إذف لؾ ىذا.
بعدة أمور ،منيا إصرار ولده
كاف أبو أحمد طواؿ الطريؽ إلى البيت يف ّكر ّ
المعدؿ ،أما األمور األخرى فسيطرحيا عمى عمي بؾ بعد أفّ عمى امتبلؾ السبلح
ولعؿ أىـ سؤاؿ مازاؿ يدور في رأسو أال وىو معرفة
يطرح أبو ياسيف أسئمتو عميوّ ،
الطيبيف ،فيو يعرؼ أف األرمف كانوا يخدموفالسر الحقيقي لعداء األتراؾ لؤلرمف ّ
ّ
ضباطاً كبا اًر ،ونواباً في مجمس المبعوثاف ،ورجاؿ
ّ منيـ أفو كي،التر الجيش في
أعماؿ وفنانيف وأدباء ومفكريف ،فيؿ مف المعقوؿ أنيـ تآمروا عمى تركيا ،وىـ
يعيشوف بينيـ؟ ولماذا إذف حدث ذلؾ؟ فيو قَ ْد سمع أف السبب الرئيس ىو خطورة
تفوقيـ ،فيؿ ىذا صحيح؟ّ
تاه فكر أبي أحمد في محنة األرمف المتواصمة وعذاباتيـ التي لـ تنقطع ،وتمتـ
تنبيت أـ أحمد لحاؿ زوجيا وشروده فقالت: سره :كاف اهلل في عونيـّ .
في ّ
غضبت مف احتجاجي
َ ػ ما بؾ يا أبا أحمد واجماً ال تتحدث؟ أخشى أنؾ
عمى الرجاؿ أماـ أبي ياسيف؟
ػ ال ..أبداً.
قاؿ أحمد معتذ اًر:
ػ أخشى يا أبي أنؾ غضبت مني عندما طمبت السبلح مف أبي ياسيف؟ واهلل
لـ أقصد اإلساءة إلى أحد ،أو أنوي الغدر بأحد ..لكف الحذر واجب.
ػ 58ػ
ثقة مف وعيؾ .إف سبب ػ ال يا بني ،فرغـ خطورة ما طمبت ،فأنا عمى ٍ
سارة،
صمتي ووجومي ىو تفكيري بالغد ،وما يحممو مف مفاجآت قَ ْد تكوف غير ّ
وستسمع بأذنيؾ ما سنقوؿ لعمي بؾ ،وأرجو أف تشاركنا الحديث في المضافة.
ػ كما تريد.
ػ ىيا أسرعوا ألف وقت لقاء األحبة في المضافة َق ْد حاف.
ػ 59ػ
()7
خيمت في سماء حياتو منعت أشعة كاف عمي بؾ قمق ًا ..سحب سوداء ّ
يؤميا
وثمة طيور سوداء تنعؽ في زوايا مضافتو التي ّ
الشمس مف اختراؽ حجبياّ ،
األحبة.
ىموـ ثقاؿ ،وكوابيس مرىقة تتناوب عمى رأسو وصدره النحيؿ ،وكاف رغـ
العناء والمحف يبتسـ ،وكانت ابتسامتو بمسماً لمجراح النازفة ،واشراقةً في عتمة
الضياع.
ميددة بالوباء ،والمجاعة تفتؾ بأحبلـ الفقراء ..الحرب المستعرة تنفث
الدير ّ
تجر المناضميف تارةً ىنا وتارةً ىناؾ..
كؿ اتّجاه ،وخيوط سوداء ّ
سموميا في ّ
قاؿ أبو طارؽ:
ػ أخشى أف ما جرى لؤلرمف َق ْد يجري عمينا..
شخصت عيونيـ ،واشرّأبت أعناقيـ ،ويبست حموقيـ ،فمـ يعد يقوى أحدىـ
حتى عمى اليمس.
قاؿ المختار:
ػ أخشى الفجيعة مما ستؤوؿ إليو األحواؿ..
سيحؿ في
ّ ىميموا طويبلً ثـ أدركيـ السبات ،لكنيـ ظمّوا أحياء ..أي خر ٍ
اب
أرض الخير؟ وأي دمار سيطيح بمعالـ الصفاء والنقاء؟
قاؿ أبو ياسيف:
ػ إف انتصر األتراؾ سيثأروف ،واف خسروا سيثأروف أيضاً ،فما العمؿ؟
حممؽ الرجاؿ في عيني أبي ياسيف ،وشفاىيـ الراجفة تقطر منيا تمتمات
عصيةٌ عمى األتراؾ
ّ واىنة ..ال شيء عندىـ يخسرونو سوى الكرامة ،وىذه
وغيرىـ ..األرض والعرض ال مساومة عمييما ميما بمغت التضحيات.
محتداً:
ّ قاؿ عمي بؾ
استعدوا لساعة الصفر ،ولعمري َّإنيا لقريبة.
ّ ػ
قاؿ أبو سمطاف بعد أف جفؼ عرقو بمنديؿ توضع داخؿ طربوشو:
ػ 61ػ
ػ ما رأي ممثّمينا في مجمس المبعوثاف يا أبا راغب؟
رد أبو صادؽ الميكانيكي ساخ اًر:
ّ
يؤخر ،ولف يستطيع ممثّمونا أف يجيروا
يقدـ وال ّ
ػ مجمس المبعوثاف؟! إنو ال ّ
تحدثوا فسيكوف مصيرىـ مصير األعضاء األرمف فيو.
بأصواتيـ فيو ،واف ّ
وىزىا قائبلً:
اقترب عمي بؾ مف أبي صادؽ ،وأمسؾ بكتفو ّ
قدر كبير مف الوعي والمسؤولية ،وماػ ال يا أبا صادؽ ..إف ممثّمينا عمى ٍ
أظف أنيـ سيتقاعسوف عف تمبية نداء الوطف..
ّ
ػ وىؿ كاف ليـ رأي في َسوقيات األرمف؟
صدقني يا أبا صادؽ إنيـ استنكروا وشجبوا ،ورفعوا أصواتيـ عالياً ،وقد
ػ ّ
ناليـ غضب الصدر األعظـ وكؿ السبلطيف.
ػ وماذا بعد ذلؾ؟
ػ ال شيء يا أخي ..الميـ أف نتدارس الموقؼ الحرج اآلف ..أريدكـ يا أخوتي
الموسع الذي سيضـ ممثمينا في مجمس المبعوثاف ،وعددًا
ّ أف تحضروا االجتماع
يسركـ.
مف أعضاء الخمية الثورية ..ستسمعوف في الغد إف شاء اهلل ما ّ
قاؿ أبو عدناف المختار:
ػ ما أريكـ أف يتـ االجتماع في بستاني ،فيو مناسب لتروه كيؼ غدا جميبلً
لتمبوا دعوتي لكـ جميعاً عمى العشاء؟
مثم اًر ،ومف ناحية أخرى ّ
قاؿ أبو سمطاف ضاحكاً:
ػ إذا كاف (ذو القرنيف) فسنأتي ،أما إذا كاف (ذو الجناحيف) فمف يمبي دعوتؾ
أحد.
متحدياً:
ّ رد عميو المختار
ػ ذو القرنيف يا أبا سمطاف جاىز واهلل ،وأنا أبو عدناف.
قاؿ عمي بؾ ضاحكاً:
ػ اطمئف يا أبا عدناف ،سنمبي دعوتؾ ميما كاف عشاؤؾ.
قاؿ أبو ياسيف:
ػ 61ػ
ػ يا أبا راغب ..أنا مف خبلؿ عبلقتي الحميمة برؤساء العشائر وشيوخ
القبائؿ أرى أنيـ يميموف إلى الياشمييف واتصاالتيـ باإلنكميز والفرنسييف ،فيؿ يا
ترى ىـ عمى صواب؟
ػ كالمستجير مف الرمضاء بالنار ،وأعتقد أف كبلمي واضح.
ػ نعـ يا أبا راغب ،صدقت واهلل.
كؿ ّّ شيء بالتفصيؿ بعد عشاء
ػ دعوا الحديث في السياسة لمغد ،سنناقش ّ
تحدثوني عف أحوالكـ مع األرمف.
أبي عدناف المختار ،واآلف أرجو أف ّ
قاؿ المختار:
ػ أنا سأترؾ الحديث لحيف زيارتكـ إلى البستاف ،وستروف بأـ أعينكـ كيؼ
جنة ،واهلل لقد ندمت كثي اًر ألنني لـ أستضؼ المزيد منيـ .إنيـ
جعمو األرمف ّ
وعمميوف وأذكياء ،ويقنعوف بالقميؿ .سترى يا أبا راغب كـ ىـ سعداء
ّ نشيطوف
عندي؟
ػ الحمد هلل ..وأنت يا أبا أحمد ،كيؼ حاؿ ولدؾ اآلف؟
سكت أبو أحمد ،ولـ ينبس ببنت شفة ،فذىؿ عمي بؾ وقاؿ متسائبلً:
ػ ماذا حدث يا أبا أحمد؟ قؿ لي أرجوؾ.
تزوج األرمنية،
ػ ال شيء يا أبا راغب غير أف ولدي نسي أمو وأباه منذ أف ّ
فمـ يعد يرى في الدنيا سوى عينييا الزرقاويف.
فتنفس عمي بؾ الصعداء ،وقاؿ باسماً:
ػ أال يروؽ لؾ ذلؾ يا أبا أحمد؟
ػ بمى واهلل ،فسعادتي أراىا مف خبلؿ سعادة ولدي الوحيد.
وجعمت القمؽ ينتابني؟
َ َّ
سكت في البداية، ػ إذف لِ َـ
جدىا ،وقد سمعتيا تقوؿ ألحمد أنيا لف تظؿ تغيرت زوجتو بعد وفاة ّػ لقد ّ
عنده عند مجيء أىميا في السوقيات القادمة.
ػ ال ت قمؽ يا أبا أحمد ،فمكؿ معضمة حؿ إف شاء اهلل ،وأعتقد أنيا عندما
ستتغير أيض ًا ،ولف تقوى عمى مفارقتو.
ّ تضع وليدىا
نظر عمي بؾ في عيني أبي ياسيف ،فوجدىما المعتيف تشياف بأسرار لـ
تستطيعا كتمانيا ..اقترب منو ،ورّبت عمى كتفو قائبلً:
ػ كيؼ حاؿ المخترع اليوـ؟
ػ 62ػ
ػ أنا بخير ،وزوجتي ستمد لي إف شاء اهلل المولود الذي انتظرتو طويبلً.
ػ إف شاء اهلل ..اهلل كريـ يا أبا ياسيف.
لـ يستطع أبو احمد إخفاء ضحكة انفجرت عالية ،فأذىمت الموجوديف ،أشار
عمي بؾ متسائبلً ،فقاؿ والضحكة ما تزاؿ تمؤل فمو:
ػ أرجوؾ ،اسألو عف أـ زوجتو.
ضحؾ أبو ياسيف وقاؿ:
تتحدث إالَّ بطمب رسمي ،واف تحدثت فإنيا كابنتياّ ػ َّإنيا مازالت واجمة ال
وتؤنث المذ ّكر.
المؤنثّ ،
ّ تماماً تذ ّكر
وروى أبو ياسيف عدة أمثمة عمى ذلؾ ،فضحؾ الجميع .التفت عمي بؾ بعد
ذلؾ إلى أبي صادؽ الميكانيكي ،فرآه باسماً ،وقد بدت عميو آثار النعمة والثراء،
وقؼ أبو صادؽ عندما اقترب منو عمي بؾ ،فقاؿ عمى الفور:
تصور يا أبا راغب بعد أف أتقنوا
ّ لدي ثبلثة رجاؿ ،ليتيـ كانوا ثبلثيف.
ػ ّ
وعدلوا في عدد مف اآلالت ،لـ يعد يعجبيـ عممي .يقولوف الصنعة وبرعوا فيياّ ،
أنت وال تفسد عممنا ..واهلل ال يدعوني أمسؾ مفتاحاً أو
كؿ ّّ دقيقة :اجمس َ لي ّ
كؿ ّّ خير.
مقراصاً ،جزاىـ اهلل ّ
فعمت مف أجميـ؟
َ ػ وماذا
ػ بنيت ليـ بجانب الورشة بيت ًا مف ثبلث غرؼ ومطبخ وحماـ ،وفيو فسحة
لكف أم اًر ما قَ ْد حدث،
جنةّ ،
واسعة ،زرعوا فييا األشجار والخضرة والورد ،وجعموه ّ
ويجب أف تطَّمع عميو.
ػ ما ىو يا أبا صادؽ؟
أحب فتاة تجاورنا ،وشاورني بأمرىا ،فماذا أفعؿ؟
ػ آرتيف ّ
ػ ال يحؽ لو الزواج مف مسممة إالَّ بعد أف يعتنؽ اإلسبلـ ،ىذا شرع اهلل ،فإف
الصداؽ وتجييز العروس بما يميؽ.فعمي ِّ
فعؿ ّ
جيدة والحمد هلل ،ولف أبخؿ عميو بشيء.
ػ لكف أحوالي ّ
ػ زيادة الخير خير يا أبا صادؽ.
أ ما أبو سمطاف ،فصاح بأعمى صوت عندما اقترب منو عمي بؾ بكؿ
عبارات الشكر والتقدير ،وقد أدىش الحاضريف بأناقتو ،وعدـ تنافر ألواف لباسو،
وبدا كأحد وجياء المدينة:
ػ 63ػ
ػ ما ىذا يا أبا سمطاف؟
ولدي سبع
ّ كياف ،ورغـ زواجي مر ّتيف، ػ واهلل ألوؿ مرة أشعر بأنني إنساف لو
اآلف ..و/ميرنا /ىي السببَّ ،إنيا ال بنات ،ما شعرت بم ّذة الزواج وروعتو إالَّ
لي مبلبسي بعد أف تنتقييا وتمسح تدعني أخرج مف البيت قبؿ أف تكوي
خدي.
وتودعني بقبمة عمى ّ
طربوشيّ ،
الضرتيف.
ّ تستحؽ أكثر مف ذلؾ ،لكف ما شعور
ّ أنت
ػ عظيـ يا أبا سمطافَ ..
ػ لو كانت ميرنا ديرية لما طمع عمييا الصباح ،ولكف ألنيا غريبة ال تفيـ ما
كؿ ّّ صغيرة وكبيرة ،وعندما
عمي في ّ
أنيف اتفقف ّوتصور ّ
ّ أحبتاىا.
تقوالف فييا ّ
ومرة أخرى في غرفة زوجتي مرة في غرفة زوجتي األولىّ ، أدخؿ البيت أجد ميرنا ّ
ٍ
غرفة واحدة. الثانية ،وقد يجتمعف أحياناً في
تغير اسميا بعد؟
ػ أَلَ ْـ ّ
لكنيا
أحببت أف أنادييا (سبلـ)ّ ،
ُ ػ عندما عرفت معنى اسميا وىو (السبلـ)
تسمييا (مريومة) والثانية تسمييا (مريولة)،
وتصور زوجتي األولى ّ ّ تحب اسميا،
وأدلّعيا أحياناً وأنادييا (ميمي).
ػ أتمنى أف تكوف ( ميرنا) سبلماً ووئاماً مع ضرتييا ،لكف عميؾ أف تعدؿ
بينيف لئبل تغضب اهلل ،وينالؾ غضبيف.
أما العدؿ فإنو مفقود واهلل،
كؿ ّّ قمبي أف يستمر السبلـ والوئاـّ ،
ػ أتمنى مف ّ
ليس بيدي يا عمي بؾ .أصارحؾ القوؿ بأنني أدعو اهلل أف يغفر لي زّلتي ،وفي
تسود عيشتي واهلل ،ومع ذلؾ اليوـ الذي ال أعدؿ فيو معيف ،فإف صاحبة الدور ّ
فأنا ر ٍ
اض.
أليس في ذلؾ عدؿ؟
ػ ال يا أبا سمطاف ..ليس ىذا ىو العدؿ ..العدؿ تعرفو جيداً ،وأجدادنا كانوا
يقولوف" :عند المسا تتساوى النسا".
ػ أال تعتقد يا أبا راغب أنيـ واىموف ،واهلل إنني ال أساوي ميرنا بأية امرأة
تحب وتكسب قمب زوجيا ،وتعرؼ ما أحب، ّ جيداً كيؼأخرىَّ .إنيا تعرؼ ّ
مرة رأتني ميموماً ،إال وأزاحت عني اليموـ كؿ ّّ فعؿ ال أحبو .واهلل ما ّ
وتتحاشى ّ
بممساتيا السحرية ،بعربيتيا الركيكة ،بابتسامتيا العذبة الجميمة..
ػ وماذا بعد ذلؾ؟
ػ 64ػ
ػ أصارحؾ القوؿ بأف زوجتي األولى قالت لي :إف وضعت (مريومة) مولوداً
ذك اًر ،فسيزداد حبيا ودالليا ،واالّ فالويؿ ليا ،وىذا ما أ ّكدتو زوجتي الثانية ،فما
رأيؾ؟
ػ يا أبا سمطاف ،ىذا اعتراض عمى حكـ اهلل ػ والعياذ باهلل ػ قؿ ليما ذلؾ وال
تخؼ ،فاهلل ارحـ بعباده مف األـ عمى وليدىا ،واآلف أريد منؾ أف تخبرني عف
ابنيا الذي رافقيا إلى بيتؾ.
ػ سركيس ..إنو واهلل مثؿ ابني ،ال يفارؽ ابنتي سمطانة ،وقد عمّمتو العربية
قراءة وكتابة ،وسأضعو قريب ًا عند المبلّ حسف ليدرس العربية والقرآف ،وكؿ شيء
بثوابو يا عمي بؾ.
ػ بارؾ اهلل فيؾ.
اقترب عمي بؾ مف أبي طارؽ ،فوجده واجماً يف ّكر.
ػ ما بؾ يا أبا طارؽ؟ وأيف طارؽ اآلف؟
كؿ ّّ حاؿ .أخي سعد غضب مني منذ أف تزوج طارؽ ػ الحمد هلل عمى ّ
بأرمنية ،وعبل صوتو ،وقذفني بكممات سامحو اهلل عمييا ،حتى إنو لـ يحضر
عرس طارؽ.
ػ لماذا؟
طرحت ىذا الموضوع عمى
ُ ػ كانوا يريدوف طارقاً البنتيـ .عمماً بأنني كنت قَ ْد
مرة ،وكاف يجيبني بأف ابنة عمو مثؿ أختو وال عاطفة لديو ولدي طارؽ أكثر مف ّ
تحدث أخي فيو يسمع تجاىيا سوى عاطفة األخوة ،فماذا أعمؿ؟ أريدؾ أف ّ
الرد عميو
كبلمؾ ،وكونو األخ األكبر لي فإنني حريص عمى طاعتو وحبو ،وعدـ ّ
إالَّ بالحسنى ،وقد أرسمت طارقاً مع زوجتو إلى خالتو في الحسكة بضعة أياـ.
ػ ال تيتـ يا أبا طارؽ ،سأستدعي سعداً صباح الغد إلى مكتبي وأتحدث معو.
ال تيتـ .قؿ لي ما اسـ زوجة طارؽ؟
ػ /لوسيف /كما قاؿ لي ،ومعناه القمر.
ػ بارؾ اهلل لو فييا ،وجعميا قم اًر تضيء لو عتمة دربو الطويؿ ..طارؽ شاب
وتفوقو في
ناضج ،وقد أعجبتني آراؤه في السياسة واالقتصاد ،ودراستو الجا ّدة ّ
جيداً ،وسيكوف لو شأف في المستقبؿ إف شاء اهلل.
المدرسة .انتبو إليو ّ
ػ إف شاء اهلل...
ػ 65ػ
ارتجفت القموب ،واختمجت األطراؼ ،وحممقت العيوف ،واشرّأبت األعناؽ،
ىز ليا رأسو
سيده كميماتّ ، عندما دخؿ خادـ عمي بؾ الىثاً ،وىمس في أذف ّ
م ار اًر ثـ ما لبث أف وقؼ ونظر في وجوه الحاضريف ،واستأذنيـ دقائؽ معدودة ،ثـ
خرج مف المضافة.
بدأ اليمس يعمو ،والمغط يكثر ..تُرى مف القادـ مف رحـ الميؿ؟! أي ر ٍ
عاؼ
ىمت بو سحابات الظبلـ؟! وأية حبمى جاءىا المخاض عمى أعتاب الكبلـ؟!
ىو الميؿ نبع الظنوف ووكر األحبلـ ،فكف يا ليؿ يقيناً وبشارةً وىاتفاً لمسبلـ،
وال تكف يا ليؿ ذئب ًا وأفعواناً وعيوناً ال تناـ..
بل ،ما لبث الدـ أف تدفّؽ إلييا، ألقى الشؾ ظبللو عمى الوجوه الصفراء طوي ً
مرحبة..
لتقؼ األجساد ،وتشرئب األعناؽ ،وتنطمؽ األلسف ميمّمة ّ
خضر بؾ ،ومحمد بؾ ،وتركي بؾ ،مف ممثّمي لواء الزور في مجمس
المبعوثاف ..إنيـ مف كراـ الناس ُخمقاً وسموكاً ووطنية ،وال غبار عمى إخبلصيـ
ووفائيـ.
قاؿ خضر بؾ:
الطيبة المؤمنة بحب الوطف ،المدافعة عف
شرؼ كبير أف نمتقي ىذه الوجوه ٌّ ػ
بودنا أف نحضر اجتماع الغد ،لكف أم اًر طارئاً
شرؼ األمة وكرامتيا ،وكاف ّ
منا ضرورة السفر إلى األستانة صباح الغد ،وسنمتقي عند عودتنا استدعي ّ
ونتحدث كثي ًار.
ّ
تقدـ محمد بؾ ،وقاؿ: ّ
الخيرة في احتضاف األرمف .إنو عمؿ
ػ باسمي وباسـ زمبلئي ،نبارؾ جيودكـ ّ
عظيـ سيذكره التاريخ في صحائفو المشرقة ،ونرجو أف تتكرر مثؿ ىذا األفعاؿ،
ألف القوافؿ مستمرة.
تقدـ تركي بؾ وقاؿ:
ثـ ّ
سببتيا أفعالكـ الطيبة .نحف َّ
ػ أرجو أال تقمقوا مف التكاليؼ المادية التي ّ
كؿ ّّ ما يمزـ إلى لجنة المساعدات ،ونرجوكـ أالّ تصطدموا مع سنرسؿ بانتظاـ ّ
جند الوالي وأزالمو ،ودعوا مثؿ ىذه األمور لعمي بؾ فيو أدرى الناس بأخبلؽ
بأف :لف يصيبكـ إالَّ ما كتب اهلل لكـ.
الوالي وسموكو ،وأنا عمى ثقة ْ
قاؿ عمي بؾ:
ػ 66ػ
ػ إف ما فعمو المناضموف ىو واجبيـ ،وال ِمّنة فيو ،وانيـ عمى استعداد
سنمد ليـ يد
ّ بأي جيد أو ماؿ ،ونحف
الحتضاف العديد مف الوافديف ،ولف يبخموا ّ
المساعدة المادية والمعنوية ،وال خوؼ عمييـ إف شاء اهلل .صحيح أنني أعرؼ
صرح لي بأف ضغوط /طمعت باشا /وأوامر الباب الوالي قبؿ تسمّمو الوالية ،لكنو ّ
ضيقة ،واني
وتمح عميو بالقياـ بواجبو ،والتسامح بحدود ّ
ّ العالي تضايقو كثي اًر،
أعدكـ أف يكوف دائماً وأبداً إلى جانبكـ .سنجتمع نحف غدًا في بستاف المختار،
ونتحدث طويبلً.
ّ ونمبي دعوتو،
ّ
قاؿ أبو ياسيف مخاطباً أعضاء مجمس المبعوثاف:
ػ نخشى عميكـ مف فقداف أماكنكـ في المجمس.
ضحؾ محمد بؾ قائبلً:
ػ يا أبا ياسيف ،أكثر مف مرة حاولوا طردنا مف المجمس ،وقد ُنطرد منو في
أي وقت ،أو ُنعتَقؿ ،أو ُننفى .فاألياـ القادمة عصيبة جداً ،ولسنا آسفيف عمى
يتصدى
ّ شيء .أسفنا أف يستشري الظمـ والعدواف ،وال أحد يستطيع أف ُيجابيو أو
لو.
ػ ماذا تعني باألياـ القادمة يا محمد بؾ؟
مح ٌف وامتحاف لكـ ولنا ولشعبنا ،فمتكف صفوفكـ
ػ األياـ القادمة يا أبا ياسيف َ
اصة ،وأيديكـ عمى ِّ
الزناد. متر ّ
كانت كممات محمد بؾ يشوبيا األسى والحزف ،ولـ تستطع االبتسامة
الصفراء التي ارتسمت عمى شفتيو أف تخفي معالـ الفجيعة التي ستحؿ عمى لواء
الزور ،فالحرب الكونية شارفت عمى االنتياء ،وقد تك ّشفت بعض نتائجيا ،والعرب
ضد األتراؾ ،والجيش العربي عمى أُىبة االستعداد ،فاكتفى محمد بؾ أف قَ ْد وقفوا ّ
فشيعتْيـ النظرات بعيوف قمقة.
ىز رأسو م ار اًر ،ثـ استأذف مع زميميو باالنصراؼّ ،
ّ
لكف المضيؼ أبى ،فجاء العشاء،
حاوؿ المختار وزمبلؤه االنصراؼ أيضاًّ ،
وجمسوا جميعاً يمضغوف الطعاـ وبعض الكبلـ ،حتى انتيوا ،فخرجوا يسيروف
ويتحدثوف بصوت خفيض ،وآخروف يرتّبوف أحبلميـ وأمانييـ في خزانة
ّ بتؤدة،
الوقت ولو إلى حيف.
()8
ػ 67ػ
لـ يكف نيساف /1916/ربيعاً مزى اًر بدير الزور ،كاف كسابقو يحمؿ سيؼ
الترجي ..يفتح حقائب
ّ القير ومتراس الرىبة ..يقتحـ حصوف األمؿ ،ويموي أعناؽ
كؿ أحاديث األماف..
الصمت ،ويجرؼ ّ
بيوت ُد ّمرت ،وعائبلت ُشّردت ،لوى الموج ساعد الصبر عندما جرؼ النير
ٌ
عدداً مف األطفاؿ والحيوانات.
قسـ منو،
السد الكبير الذي انيار ٌ
يرمموف ّ تجمع أكثر مف خمسيف رجبلً ّ
ّ
الكساري
ّ وصوت ي،تدو
ّ الشيامةو النخوة وصيحات السوداء، بالصخور ويدعمونو
كؿ ّّ صوت:
يعمو فوؽ ّ
ػ 68ػ
ِ
ألغضبت أباؾ. ِ
توقفت عنو يوماً ػ أكثري مف العطاء يا أـ بساـ ،فواهلل لو
شيخ عرفتيـ المدينة أياـ الجوع ،يولموف الوالئـ لمجائعيف، وكاف أكثر مف ٍ
ويكسوف العراة ،ويبذلوف الماؿ بسخاء ،أمثاؿ الشيخ أحمد وجنيد والحاج رشيد..
يوزعوف المؤف عمى المنكوبيف ،وقد بثّوا عددًا مف كانوا يدوروف في األحياءّ ،
الرجاؿ يصيحوف :مف يريد مساعدة فميتجو إلى بيوت ىؤالء المحسنيف .فتيافت
كؿ ّّ حدب وصوب. المعوزيف إلييـ مف ّ
الفقراء و ُ
بقعة ضوٍء أخرى أنارت دياجير الظبلـ في حياة عدد مف الرجاؿ بعيداً عف
الصباغ وأبي ياسيف وأبي سمطاف ّ جو النكبة ،وما خمّفو الفيضاف أمثاؿ :أحمد ّ
مف اهلل عمييـ بأوالد ذكور عدا طارقاً الذي كاف نصيبو مولودة جميمة. ّ إذ وطارؽ،
أقاموا ألجميـ االحتفاالت ،ولـ تعد الدنيا تتسع لفرحتيـ.
وتنوعت مشاربيا ،فقد
أما الخمية الثورية التي اتّسعت رقعتيا ،وكبر فضاؤىاّ ،
قادىا المث ّقفوف والمناضموف الثوريوف الذيف ش ّكموا جماعة العيد لتقض مضاجع
العثمانييف ،وكانت األستانة تدرؾ جيداً أىمية لواء الزور ومقدرتو الفائقة في قمب
وبخاصة عندما مالت كفّة الحمفاء عمييا ،وجعمتيا بيف المطرقة ّ الموازيف،
اؿ جديد إلييا اسمو /عمي سعاد بؾ /الذي بدا لطيف ًا والسنداف ،فقررت إرساؿ و ٍ
ّ
وكريماً ومتسامحاً مع سوقيات األرمف الجديدة التي تيافتت عمى المواء ،بحيث أمر
بترحيميـ إلى حمب دوف المساس بيـ.
وكاف مف بيف القادميف بقايا أىؿ ىاصميؾ زوجة أحمد الصّباغ :أميا وأختيا
فقد َف األب واألخ واالبف ..احتضنتيـ ىاصميؾ بكؿ الشوؽ الكامف وخالتياْ ،
فييا..
دموع مد اررة تيطؿ ببل حدود ،تبمّؿ الوجنات ،وتحرؽ ِّ
الشفاه ،والنشيج يتعالى
ىنيية ،وصوت ىاصميؾ الناشج يتساءؿ: ٍ كؿ ّّ
ّ
أماه ..أيف أبي؟ أيف إخوتي؟
ػ ّ
ػ لقد رحموا يا بنتي إلى حضرة اإللو..
ػ إذف قُتِموا؟ أليس كذلؾ؟
ٍ
ىاوية سحيقة قبؿ أف نصؿ إلى ىنا بوقت قصير ..صمّي ػ لقد أُلقوا في
ألجمِيـ يا بنتي.
كؿ الواقفيف ،وسقطت
رجت األرض ،أفزعت ّ صرخت ىاصميؾ صرخةً ّ
مردداً:
مغشياً عمييا ..حمميا أحمد عمى ساعديو ،وبمّؿ وجنتييا بدموعو ّ
ّ
ػ 69ػ
عمي ..ال تتركيني وحيداً ..إف
ردي ّ ػ ىاصميؾ ..حبيبتي ..يا أطير النساءّ ،
لـ يكف مف أجمي فمف أجؿ طفمنا الرضيع.
أجمسيا ،ومسح وجييا بمنديمو المبمؿ بالماء..
َ تحت ِظ ّؿ شجرة عمى الشاطئ
فتحت عينييا ببطء وتثاقؿ ،فرأت خياالت ترمقيا بعيوف ذابمة ..اقتربت منيا أميا،
فأودعت وجييا الجميؿ قببلت محمومة ..ىمست في أذنيا:
حياً؟
جدؾ ّ
ػ ىؿ مازاؿ ّ
بقوة وتمتمت ناشجةً:
أميا ّ
بكت ىاصميؾ ثانيةً ،واحتضنت ّ
ػ لقد رحؿ يا أمي ..أثقؿ عميو المرض ،وجاء العجاج ليكتـ أنفاسو.
ػ أيف وليدؾ؟
جدتو في البيت.
ػ إنو عند ّ
بنيتي؟
ػ ماذا أسميتو يا ّ
ػ عمى اسـ جدي :سوريف
الرب.
ػ بارؾ اهلل فيؾ ،وحفظؾ ّ
أماه ..أال تبقيف معي؟
ػ ّ
ػ ال يا بنتي لف نستطيع .قالوا لنا سنذىب إلى حمب.
ػ سأرحؿ معؾ.
ثـ ركعت عند قدميو تستحمفو باهلل وبرسمو وبحبيا لو أف والتفتت إلى أحمدّ ،
يسمح ليا بالرحيؿ مع بقايا أىميا..
طار صواب أحمد ،واستحمفيا باهلل وبمحمد والمسيح أف تبقى مع وليدىا
أصرت عمى الرحيؿ..
لكنيا أبت ،و ّ
وأىمو في بيتوّ ،
ػ وابننا يا ىاصميؾ؟!
كؿ ّّ قمبي..
أردت أف تأخذه فيو ابنؾ ،واف أعطيتنيو فسأشكرؾ مف ّ
َ ػ إف
أريد يا أحمد أف أحيا أو أموت مع أىمي ..اتركني أرجوؾ.
قمت لف ترحمي؟
ػ واف ُ
ػ سأقتؿ نفسي واهلل أمامؾ.
ػ ىاصميؾ؟
ػ أحمد ..أرجوؾ دعني.
ػ 71ػ
وقبمت يديو ،وركعت عند قدميو باكيةً..
ّ
ػ انيضي حبيبتي..
لـ يستطع أحمد أف يكسر قيود إصرارىا ،فكاف ينظر إلييا نظرة استجداء
وترجٍّ ،وكانت تيز رأسيا رافضةً..
ػ إذف سيبقى الطفؿ عندي ،وارحمي إف شئت.
سار ركب األرمف ،وقد زاد عددىـ امرأة ،لكنيا ليست كأي امرأة ..أنيا
ٍ
إنساف أف يأخذ أحداً منيـ ..ىمست الركب ألي
حراس ّىاصميؾ .ولـ يسمح ّ
ٍ
ىاصميؾ في أذف أحمد كميمات ناشجةً ،ورحمت.
مرة ،ولـ تسع ْفو
سار أحمد إلى حيث ال يدري ،تعثّر في مشيتو أكثر مف ّ
جيداً إلى حيث يسير ..توقّؼ ىنييةً ،وضرب جبيتو عيناه الدامعتاف مف النظر ّ
بكفّو ،وتمتـ متألماً:
عمي أف أمنعيا مف السفر ،وأحجر عمييا حتى يبتعد أىميا. ػ كاف ّ
لكف كبرياءه
حاوؿ أف يرجع إلى البيت ليمتطي صيوة جواده ويعود بياّ ،
بحؽ نفسيا ،فيي عنيدة كما خبِرىا. ٍ
حماقة ّ ىددت بارتكابمنعتو ،وتذ ّكر أنيا قَ ْد ّ
ظؿ شجرة توت ىرمة، سارت بو قدماه إلى بستاف يعرؼ صاحبو ،وجمس في ّ
وشرع يف ّكر..
حباً ممؾ قمبو وعقمو ،وأراد أف يبقى الطفؿ الوليد لديو ،ألنويحب زوجتو ّ ّإنو ّ
سيراىا مف خبللو ،وألنو سيبقى الذكرى الوحيدة المتبقّية لديو منيا..
بالرد
ّ تذكر عندما كانت ىاصميؾ تنادي ابنيا :سوريف .كيؼ كاف يسارع
عمييا قائبلً :إنو سوري .ليتو كاف سوريف ،وتبقى أمو إلى جانبو.
وا أسفاه! لقد رحمت .وكاف يدرؾ تماـ اإلدراؾ باستحالة عودتيا ..تذ ّكر ما
وعوض ِ
ىمست بو قبؿ رحيميا ..لقد قالت لو( :الولد أمانة عندؾ .أحسف تربيتوّ .
حناني لو بحناف امرأة تميؽ بؾ).
بقوة،
يا إليي! ما أعظميا مف امرأة! أخذ يضرب فخذيو بكفّيو ،ويمطـ وجيو ّ
يمزؽ السكوف ،حتى غاب عف الوعي. ونشيجو ّ
لـ يفؽ أحمد مف سباتو إالَّ عند أذاف العصر ،وصوت صاحب البستاف يذ ّكره
بصبلة العصر.
ػ 71ػ
اسودت الدنيا في عينيو .وعندما
ّ كاف رأسو ثقيبلً مميئاً باليواجس والظنوف..
بدأ يمشي ،أخذ يتمايؿ يمنةً ويسرة ،وال يكاد يرى شيئاً ،فاصطدـ بالشجر والحجر
مساً مف الجنوف قَ ْد أصابو.
ظف بعضيـ أف ّ والبشر ،حتى ّ
عاد إلى البيت بخطى ثقيمة ،شاحب الوجو ،أشعث َّ
الشعر ،وكاد يتياوى عمى
ً
عتبة الدار لوال سماعو صراخ الطفؿ ،فانتفض ،وىروؿ ،وخطؼ الطفؿ مف بيف
يشمو ،ويبكي معو..
يدي أختو حميدة ،وأخذ ّ
أمو بعد أف ىدأ:
قالت لو ّ
يكؼ عف الصراخ منذ رحيؿ أمو ..حاولت النسوة ػ إف الطفؿ يا ولدي لـ ّ
إرضاعو فرفض المراضع ،أعطيناه حميباً بقرّياً فرفضو ،دلقنا في فمو نقيع
أمو عميؾ أف تأخذه إلييا ..إف الطفؿاليانسوف فمـ يتقبمو ..أرجوؾ يا ولدي ،بحؽ ّ
يذوب ببطء ..ال أريده أف يموت بيف يدي ..أسرع بو يا أحمد ،فمازاؿ في الوقت
يحنف قمب أمو فترجع ،أو تكتب لو الحياة معيا..
متّسع ،لعؿ اهلل ّ
كاف أحمد يسمع كممات أمو ،وىو دامع العينيف ،وصراخ الطفؿ يتعالى ،فمـ
يد ِر ماذا سيفعؿ! وحده الطفؿ كاف يعرؼ أف اقتبلع الجذر مستحيؿ ،و ّ
أف الدـ ال
أي شيء ،وأف ماء ،وأف عبير األـ وعبقيا ال يعادليما في الدنيا ّ
يمكف أف يكوف ً
الظممات الثبلث التي مكث فييا تسعة أشير تناديو وتحثّو عمى المجيء ..األـ
الجنة تحت
وحدىا منبع السكينة والحب والحناف والطمأنينة ..األـ التي جعؿ اهلل ّ
وضحت بزوجيا وابنيا مف أجميا ..يا لموفاء! ّ أميا،
أقداميا ..أمو التي آثرت ّ
الطفؿ رضعو مف لباف أمو ..الطفؿ أدركو ،وأبى إالّ أف يترجـ صراخو إلى فعؿ..
فكاف ما كاف..
كؿ ّّ ىنيية ،ويبكي مع بكائو ،فتمتزج الدموع ،وتتعانؽ
يشـ الطفؿ ّ
أخذ أحمد ّ
التنيدات..
اآلىات و ّ
ٍ
"إيو يا طفمي الغالي..
وحدؾ مف ترجـ اآله في مسارب الدموع
تظؿ يا ولدي كممةً مبيمة في ِسفر التاريخ وال في ميب الريح.
لف ّ
دىور بابتياج وسرور..
ستنتظرؾ ٌ
َ
وستكوف رايةً لعشب يموج ولزىور تفوح
أراؾ اآلف خارج أسوار مممكتي أمي اًر وأنا الطريد
ػ 72ػ
أمد إليؾ يدي بميفة وال أصؿ إليؾ
ّ
أي بني ..سترحؿ اآلف لتداوي جناحؾ المكسور
وتترؾ أباؾ خمؼ كومة ٍ
غيـ كطائر الرعد
ارحؿ بني ..استجمع ذاتؾ في رئتيؾ
إلي".. ٍ وكف قاد اًر عمى ْ ِ
أمؾ وأرسمو ّ
نسؿ خيط مف عذوبة صوت ّ
تحبيا ..أنقذ الطفؿ يا
ػ أسرع يا أحمد ..أرجوؾ ..اذىب إلييا إف كنت حقّاً ّ
أحمد.
امتطى أحمد صيوة جواده األصيؿ ،وحمؿ طفمو في حضنو ،ولفّو بعباءتو،
يخب ،فوصؿ القافمة قبيؿ غروب الشمس بقميؿ ..قطع أكثر مف ثبلثيفّ وسار
كيمو مت اًر دوف أف يدري..
احد منيـ
عياً وعج اًز ،وكمّما تيالؾ و ٌ
يجروف أرجميـ وأجسادىـ ّ وكاف األرمف ّ
عمى األرض حمموه ،ور ّشوا الماء عمى وجيو ،ليتابع معيـ مسيرة البلنياية..
صاح أحمد بأعمى صوت:
ػ ىاصميؾ ..ىاصميؾ.
بقوة،
التفتت ىاصميؾ بذىوؿ إلى مصدر الصوت الذي اخترؽ قمبيا ّ
فصاحت دوف وعي:
ػ أحمد ..أحمد.
يا إليي! ما الذي جاء بو؟ ىؿ أصاب الولد مكروه؟! ترجؿ أحمد ،والطفؿ
بكاء يمزؽ األكباد..
في حضنو يبكي ً
وضع الطفؿ عمى األرض عندما أقبمت إليو ،واحتضنيا بميفة ،وكأنو لـ َيرىا
منذ سنيف.
ثدييا حتى سكت أخذت ىاصميؾ طفميا بشوؽ وىو يبكي ،وما إف ألقمتو ّ
ييزه مف ٍ
آونة ألخرى وىو يمتص لبف أمو ،وعينا نشيج غير مسموع ّ ٍ وسكف إالَّ مف
أحمد تغوصاف في عيني زوجتو باشتياؽ..
أخذت فبل تحرـ.
َ أعطيت ِفم َـ تأخذ؟ واف
َ رّباه ..إف
رّباه ..ابني وأمو ضيفاف عندؾ يا اهلل ..يا مف ال تضيع ودائعو ّإني أودعيما
عندؾ..
ػ 73ػ
أجتر القير
رّباه أنت القادر عمى أف تجمعني معيما ،ال تتركني وحيداًّ ،
أكرمني بيما ،وارحمني وارحميما.
والحرماف ،فأنت الكريـ الجوادْ ..
أفاؽ أحمد مف شروده عمى صوت طفمو وىو يناغي أمو فتناغيو ،حتى أخمد
متشبثاً بو.
رأسو في حجرىا ،وتممّكو النعاس فغفا عمى صدرىا ّ
ػ أصيؿ يا أحمد ..لف أنسى صنيعؾ ىذا مدى العمر.
ػ أرجوؾ يا حبيبتي أف تعودي إلى بيتؾ ،واهلل لف أىنأ بالعيش في غيابؾ.
تحبني
كنت ّانسني ،فمف أترؾ أىمي ،أرجوؾ إف َ تزوج و َػ قمت لؾ يا أحمد ّ
شئت اتركو لي ،وأقسـ لؾ باهلل وبكؿ َ فارحؿ أنت وابنؾ قبؿ أف يستيقظ ،واف
المقدسات سيعود إليؾ إف أبقاه اهلل حياً.
ّ
ػ خذيو يا ىاصميؾ كما أخذت قمبي وروحي وعقمي.
بكت ىاصميؾ طويبلً عمى كتؼ أحمد وعانقتو بح ار ٍرة عناق ًا ممزوجاً بالدموع،
وقالت لو ناشجةً:
وصادؽ
ٌ طيب
ٌ ألنؾ
تتزوج غيري ،واعمـ أف اهلل لف يخذلؾّ ، ػ أرجوؾ أف ّ
ووفي.
مموح ًا ٍ
كؿ ّّ آونة إلى حيث زوجتو وولدهّ ،
ألي ،وكاف يتمفّت ّرحؿ أحمد بعد ٍ
ترد عميو. بيده ،وكاف يرى عف ٍ
بعد تمويحةً متعبةً ّ
ػ 74ػ
()9
أحد ممف في المجمس أف يكمّـ عمي بؾ ،واف عرفوا سبب وجومو لـ يجرؤ ٌ
كؿ ّّ ىنيية ،وعيناه الصغيرتاف تحممقاف في أعمدةوكآبتو ..كاف يعتصر رأسو ّ
لطيور لـ تجد األماف إالَّ فييا.
ٍ سقؼ المضافة ،وما حوتو مف أعشاش
جو الكآبة ،وقطع حبؿ الصمت عندما اقترب منو قائبلً:
بدد ّ
وحده المختار مف ّ
ػ لقد آلمنا جميعاً ما حدث ،أنت تأمر ونحف ننفّذ ..رفع عمي بؾ رأسو
الصغير ،وقاؿ بألـ:
ػ لقد نقموا /سعاد بؾ /تأديب ًا إلى بغداد ،واتّيموه بالتساىؿ وعدـ إطاعة
اؿ عرفتو الواليات العربية عمى اإلطبلؽ ..إنو /زكي األوامر ،وجاءوا لنا بأقذر و ٍ
بؾ الجركسي ../مجرـ خطير ال يحمؿ في قمبو إالَّ الحقد والكراىية ..منذ يوميف
جاءت إلى الدير قافمتاف مف األرمف ،أمر بترحيؿ ٍ
قافمة إلى حمب ،أما الثانية فأمر
رجالو بأخذىا إلى جباؿ (الولي) المحيطة بأحد أطراؼ المدينة ،وقتميـ رمياً
بالرصاص ،وكاف ينظر إلييـ بمنظاره ،ويتم ّذذ بعممية اإلبادة ،حتى إذا ما تمت
بإتقاف تنفّس الصعداء ،وجمس ينتظر قوافؿ أخرى ..فيؿ ىذا الوضع مريح؟ وىؿ
المضي معو بسبلـ؟!
ّ يمكننا
قاـ أبو ياسيف منتفضاً ،وسار عدة خطوات ،حتى أصبح في مواجية عمي
بؾ ،وقاؿ:
أتحب أف أخمِّصكـ مف شروره وآثامو؟ ِ
أعطني األمر ،وأقسـ باهلل أنو لف ػ
ّ
يرى الصباح.
تحفمنا ألفاً .اسألني أنا .لـ ِ
ػ يا أبا ياسيف ..إف قتمنا واحداً فإنيـ سيقتموف ّ
الفرصة بعد لعممية االغتياؿ .عمينا أف ننتظر أياماً ،بؿ ربما شيو اًر قميمة حتى نق أر
كؿ ّّ ما أطمبو
فاتحة الخبلصّ ..إني أخاؼ عميكـ مف الذئب المجروح يا إخوتيّ .
منكـ المزيد مف الحيطة والحذر ،والحفاظ عمى حياة األرمف الموجوديف في بيوتكـ.
ػ ماذا تقوؿ يا أبا راغب؟! إف األرمف الموجوديف في بيوتنا أصبحوا أىمنا،
تعرضت أـ ياسيف أو أمياسأدمر بيت الوالي بمف فيو ،إف ّ
وأقسـ لؾ باهلل ثبلثاًّ ،
لسوء.
ػ 75ػ
أقسـ المختار ،وأبو صادؽ الميكانيكي ،وأبو سمطاف الجابي ،وأبو طارؽ،
وعدد كبير ممف حوتيـ المضافة يميف الوفاء.
قاؿ أبو عدناف متي ّكماً:
ػ ماذا فعؿ لنا ممثّمونا في مجمس المبعوثاف يا أبا راغب؟!
عاجؿ إلى الباب العالي لنْق ِؿ والينا ،وقالوا
ٍ ٍ
بطمب تقدموا
كؿ الخيرّ ، ػ فعموا ّ
سيتـ ىذا األمر. بصريح العبارة :إف الشعب ينوي قتمَو إف لـ ُي َنقؿ ،واف شاء اهلل ّ
كانت األياـ صعبة ،والدير تعيش حياة الحذر والقمؽ ،فالوالي الظالـ يفعؿ ما
بيت آخر غير بيتو ،فبل مضافات ،وال أحد أف يسير في ٍ يحمو لو ،لـ يستطع ٌ
متجددة ..الكؿ محكوـ عميو بالخوؼ والطاعة .المحاؿ التجارية، ّ أفراح ،بؿ أتراح
وخانات الحبوب واألقطاف مباحة لموالي وأتباعو ،وال أحد يردع الظالـ عف ظممو.
عاجؿ في بستاف أبي عدناف بعد صبلة العشاء.. ٍ دعا عمي بؾ الجتماع
اجتماع أحيط بالسرّية والكتماف.
متعرج ٍة ال تثير الشكوؾ أو الظنوف،ّ ذىب المناضموف فرادى ،ومف طر ٍ
ؽ
وعندما التأـ شمؿ الجماعة .قاؿ عمي بؾ متألِّماً:
ػ لقد أعدـ الظالموف مجموعة كبيرة مف الثوار في دمشؽ وبيروت ،وسورية
قوة.
تمتيب ،وعمينا أف نتضامف معيـ بكؿ ما أوتينا مف ّ
رحمة اهلل عمى الشيداء الذيف ينيروف لنا طريؽ الحرية والكرامة بدمائيـ
الزكيةَّ ..إنيا ضريبة الخبلص يا إخوتي ،وعميكـ بالمزيد مف الحيطة والحذر.
قاؿ أبو ياسيف:
لمتحرؾ؟!
ّ ترد َؾ تعميمات
ػ ألَ ْـ ْ
ػ ال .وسأبمغكـ بيا فور ورودىا ،فجمعية العيد مازالت مجتمعة في مركزىا
الرئيس بحمب.
قاؿ أبو طارؽ:
ػ ما أخبار ثورة الشريؼ؟
ستعـ القطر .اطمئف
ّ الطيبة ،وثمارىا اليانعة
ػ مسألة وقت وستسمع أخبارىا ّ
يا أبا طارؽ ..األمور بخير.
قاؿ أبو عدناف:
الغمة.
كؿ ّّ يوـ خميس ريثما تنقشع ّ
مقر الجتماعنا ّ
ػ أرى أف يكوف البستاف ّاً
ػ 76ػ
وىذا ىو رأيي ،واف شاء اهلل الخبلص قريب.
وكاف الخبلص قريباً ،تنفّس المناضموف الصعداء ،عندما أثمرت جيود
وقررت األستانة نقؿ زكي بؾ ،وتولية عبد القادر
ممثمينا في مجمس المبعوثافّ ،
بؾ ،ليكوف عاـ 1917عاـ خير وبركة.
قاؿ عمي بؾ لجمساء مضافتو:
بث عيونو في األياـ األخيرة لو لمراقبة ػ قاتؿ اهلل (زكي بؾ) ..أتدروف أنو ّ
كؿ ّّ مكاف أذىب إليو ،لقد كنت أراىـ في ّ تحركاتي مف الصباح إلى المساء؟! ُ
مني بتيديد مبطف حاصرني ذلؾ المجرـ حصا اًر رىيباً ،وأكثر مف ذلؾ أنو طمب ّ
أف أشي بالوطنييف الثائريف مقابؿ إطبلؽ يدي في أمور المواء ،وعندما رفضت
ىددني بالطرد والنفي إف لـ أستجب خبلؿ عشرة أياـ ،فسخرت منو ،وىددتو بأنني ّ
محمبلً بعريضة موقّعة مف كافّة شرائح ّ سأتوجو إلى األستانة مع وجياء المواء
ّ
المجتمع معمنة فساد الوالي وطغيانو .ضحؾ وقتذاؾ وقاؿ معتذ اًر :إنني أمازحؾ يا
سادياً يتم ّذذ بتعذيب اآلخريف حتى مع أقرب خمصائو ..إنوعمي بؾ .قاتمو اهلل كاف ّ
ال يثؽ بأحد ،ويتمنى الموت لمجميع .قاؿ لي أحد حراسو وكاف وطنياً :واهلل يا
عمي بؾ حاولت أكثر مف مرة اغتيالو ،ألخمّص الجزيرة والفرات مف شروره وآثامو،
لكنؾ لـ تعطني األمر بذلؾ ،وعندما قررت قتمو دوف إذف منؾ شفع لو قرار نقمو،
التفنف بقتميـ..
تقشعر ليا األبداف عف عمميات تعذيب األرمف ،و ّّ وروى لي قصصاً
عمى ٍّ
كؿ الحمد هلل الذي أزاح ذلؾ الكابوس عف البمد وأبنائو.
قاؿ المختار:
ػ أخشى أف يكوف عبد القادر بؾ مثمو.
رد عمي بؾ بصوت ٍ
عاؿ: ّ
ػ ال يا أبا عدناف .عبد القادر بؾ رج ٌؿ مثقّؼ ولطيؼ .أعرفو جيداً ،وقد وافؽ
حر لؤلدباء والمف ّكريف
عمى إصدار جريدة بالمغتيف العربية والتركية ،سأجعميا منب اًر ّاً
والوطنييف األحرار بإذف اهلل.
وقؼ أبو أحمد الصباغ ،وىو في حالة ُيرثى ليا ،وقد أثقمتو اليموـ
والمتاعب ،فاقترب منو عمي بؾ ،واحتضنو ،فأجيش أبو أحمد باكياً متمتماً:
ػ ولدي أحمد يا عمي بؾ .أرجوؾ أنقذه .إنو يقتؿ نفسو.
يص ُح بعد؟
ألـ ْ
ػ ْ
ػ 77ػ
ػ ال واهلل ..إنو يزداد سوءاً .ال يأكؿ إالَّ ما ّ
يسد بو الرمؽ ،أىمؿ نفسو ،وأطاؿ
لحيتو ،وصار ييذي في الحمـ واليقظة ،حتى اتّيمو الناس بالجنوف .أرجوؾ قؿ لي
ماذا أفعؿ؟
ػ يجب أف تزوج ابنؾ بأسرع وقت يا أبا أحمد ،وأنا عمى ٍ
ثقة بأف الزواج ّ
سيخرجو مف تمؾ الصدمة.
ممف؟!أزوجو؟ ّ ػ ّ
ػ أرسمو إلى مكتبي قبؿ صبلة الظير ،وسأناقش معو ىذا الموضوع.
عمياً أزاح يده بسرعة ،وحاؿ َّ
ىـ أبو أحمد الصباغ بتقبيؿ يد عمي بؾ .إال أف ّ ّ
دوف تقبيميا قائبلً:
ػ أستغفر اهلل ..ال يا أبا أحمد .أرجوؾ أالّ تفعؿ ذلؾ ثاني ًة ،فأنا أخوؾ ورفيؽ
المممات ،فمتى سأقؼ؟:
دربؾ ،واذا لـ أقؼ إلى جانبؾ في ّ
أمر
ُ يوم في خميقتوٍ لو ك ّل فر ٌج يأتي بو اهلل إنوعسى َ
اليسر
ُ أن العسر يتبعو
قضى اهلل ّ فار ُج يس ارً فإنو
عسر ْ
ٌ اشتد
ّ إذا
اليسر.
ػ إف شاء اهلل عمى يديؾ يأتي الفرج و ُ
إلي .وسترى.
ػ أىبلً بؾ وبولدؾ .أرسمؾ َّ
ػ ىؿ أرافقو في المجيء إلى مكتبؾ؟
ػ ال مانع مف ذلؾ ،بؿ أراه األفضؿ مف أف يأتي وحيداً ويضعؼ أمامي.
أعزز ثقتو بنفسو.
تعاؿ معو .أريد أف ّ
مطمئناً.
ّ التفت عمي بؾ إلى وجو أبي ياسيف ،فرآه
ابتسـ وقاؿ:
ػ كيؼ حاؿ ياسيف وأمو وجدتو؟
يحدثني وأحدثو ،ويمعب بقطع السبلح ،ويبكي إف فارقيا ،وأمو
ػ ياسيف بخيرّ ،
محي اًر.
تحسف كبلميا ،أما حماتي فأمرىا مازاؿ ّ
ّ
المحير في أمرىا؟
ّ ػ ما
ػ َّإنيا تخفي أم اًر لـ ّ
أتبيْنو بعد.
ػ 78ػ
ضحؾ المختار قائبلً:
يتحدث معو باألرمنية أـ ال؟ أما حماتو فأنا
ػ لـ يقؿ لنا أبو ياسيف ،ىؿ ولده ّ
أخمف أنيا تف ّكر بالزواج.
ّ
قاؿ عمي بؾ:
جيداً ُّ ،فيـ أمانة عندؾ. ػ ِ
اعتف بيـ يا أبا ياسيف ّ
أقصر إف شاء اهلل.
أقصر ،ولف ّ ػ واهلل يا أبا راغب لـ ّ
التفت عمي بؾ إلى أبي صادؽ الميكانيكي وقاؿ:
ػ لقد بمغني اتّساع ورشتؾ وسمعتيا الطيبة.
ػ ىذا بفضؿ اهلل وفضمؾ ،وفضؿ األرمف الطيبيف.
زوجت آرتيف. سمعت أنؾ ّ
ُ ػ
أرمنيةً كزميميو.
ّ تزوج
ػ بعد أف رفض تغيير اسمو ودينو ّ
تـ ليـ ذلؾ والقافمة كانت مراقبة؟!
ػ لكف كيؼ ّ
ػ ظمّوا ينتظروف القافمة ،وعندما رأوىا عمى الضفّة األخرى ،عبروا النير
ثـ
بقارب صغير ،واستطاعوا لقاء مبمغ مف الماؿ أف ينتقوا ثبلث فتيات منياّ ،
وبيف إلى الورشة سالميف.
عادوا بالقارب ّ
ػ أبطاؿ واهلل ،وماذا فعمت ليـ؟
وزودتيـ بكؿ مستمزمات الزواج وىـ اآلف
ودفعت ميرىـّ ،
ُ زوجتيـ لمفتيات،
ػ ّ
في غاية السعادة.
ػ بارؾ اهلل فيؾ .ىذا الخبر أسعدني كثي اًر.
تقدـ عمي بؾ مف أبي سمطاف ،وقاؿ باسماً: ّ
بمديتنا؟
ػ ما أحواؿ جابي ّ
ػ ولدي سمطاف سعيد ،وبإذف اهلل سيكوف سمطاناً غير تركي.
ضحؾ عمي بؾ وقاؿ:
ػ وماذا يمنع أف يكوف مثؿ السبلطيف األتراؾ إف كاف عادالً ورحيماً؟!
ػ ال يا أبا راغب ..أريده سمطاناً لمعقؿ والرحمة ،لمعمـ والمعرفة ،لموفاء
واإليثار ..أريده سمطاناً بأقوالو وأفعالو ..أريده سمطاناً يحمي أخواتو السبع ونسائي
الثبلث مف مكائد الدىر وصروؼ األياـ..
ػ 79ػ
ػ إف شاء اهلل يا أبا سمطاف ..إف شاء اهلل.
نظر عمي بؾ في وجو أبي طارؽ ،فرآه سعيداً ،قاؿ:
ػ في عينيؾ يا أبا طارؽ حكاية ،أرجو أف تفصح عنيا.
ػ واهلل يا أبا راغب ،لقد جاءني أخي وصالحني ،لكنو عاتبني ألنني نقمت
إليؾ ما جرى بيننا.
ػ الميـ أف األمور سارت بيدوء ،وأف المياه عادة إلى مجارييا.
ػ الحمد هلل ،وكؿ الشكر والتقدير لؾ يا عمي بؾ.
ػ وطارؽ ..ما أحوالو؟
بوده الحضور لوال أنو تعب مف السفر أما أحوالو العائمية فيي
ػ طارؽ كاف ّ
ممتازة والحمد هلل.
ػ وفّقو اهلل ،قؿ لو بأنني أتوؽ إلى رؤيتو.
ػ إف شاء اهلل سيحصؿ ذلؾ.
قاؿ المختار مستفس اًر:
كؿ ّّ مف يقؼ مع الفرنجة ضد األتراؾ ػ أحد األئمة عندنا أفتى بتكفير ّ
ويعد ذلؾ ػ إف حدث ػ خروجاً عمى الديف ،فما رأيؾ؟
المسمميفّ ،
يحؽ
ّ ػ مسكيف ىذا اإلماـ ،سيدرؾ فيما بعد خطؿ رأيو وخطره ،ومف ثـ ال
إلماـ مسمـ أف يكفّر مسمماً صحيح أف بعض األئمة مشبعوف بالفكر السمفي ،وأف
جندوىـ لخدمة مآربيـ الخبيثة:
األتراؾ َق ْد ّ
ىؤالء يا مختار الديف اإلسبلمي الحنيؼ بريء منيـ ،وال يمثّموف الوجو
الحقيقي لمشعب الفراتي العظيـ.
قاؿ أبو ياسيف:
ػ 81ػ
ػ يا أبا راغب ..منذ يوميف قاؿ لي أحد الضباط األتراؾ ػ عندما جاء إلي
ألصمح سبلحو الفردي ػ كبلماً يشي بقرب الخبلص.
كؿ ّّ مكاف ،لكف لف يتحرر الوطف ػ أجؿ يا أخي ،فالقوات التركية تقيقرت في ّ
سيتجز إلى دويبلت يخضع قسـ منيا لفرنسا وقسـ ّأ العربي ،بؿ عمى العكس
إلنجمترا ،وبقية الدويبلت إلى الدوؿ الحميفة ..الوضع سيصبح خطي اًر يا أبا ياسيف،
مح ٌف وىموـ ثقاؿ ..وغدًا
وسبؽ أف قمت لكـ إف األياـ القادمة لف تكوف مريحةً أبداًَ ..
ستقرؤوف في صحيفة (الجوؿ) مقاالت وقصائد ربما تعترض طريؽ المناضميف..
مرة خطورة ما يكتب األدباء والثوار. ستقرؤوف ربما آلخر ّ
ػ ماذا تعني يا أبا راغب؟
ػ أعني بأف الطريؽ لف يكوف مميّداً ألقبلـ الثائريف ،وأف دروبيـ محفوفة
بالمخاطر.
وحدث ما توقّع عمي بؾ .لقد ُغرست األشواؾ في أيادي األدباء والثوار،
والعمماء المتنوريف ،لكنيـ استطاعوا بعد ٍ
جيد جييد اقتبلعيا ،وكميـ عزـ وتصميـ ّ
المضي قُ ُدماً نحو التحرير.
ّ عمى
تسمّمت الصحيفة إلى قمب األستانة ،ودقّت الباب العالي بعنؼ ،وخمعت
وعمقت شرَخعمامة الصدر األعظـ ،وأشاعت البمبمة في صفوؼ السبلطيفّ ،
الحدث ،فكاف ىناؾ تياراف متناقضاف تقاسما تحميؿ الواقع ورسـ مبلمحو وأبعاده.
بكؿ عجرىا وبجرىا ،وىذا ما أراح الوالة
يصر عمى الخبلفة اإلسبلمية ّّ قسـ كاف
والقادة األتراؾ ،والقسـ اآلخر كاف يرى ضرورة الخروج مف الرداء التركي،
أنصار
ٌ والمعطؼ األوربي ،وكانوا يحمموف بالخبلفة العربية .وكاف لكؿ قسـ
فضيقوا الخناؽ عمييـ إلى درجة أف ىاجر
ومؤيدوف ،وىذا ما أثار حفيظة األتراؾّ ،
ّ
بعضيـ إلى دمشؽ وحمب ليكونوا باستقباؿ الفاتحيف العرب الذيف عمَت بشائر
نصرىـ سماء الوطف العربي.
ػ 81ػ
()90
الصباغ ..مازالت
ّ كاف عمي بؾ ينظر بإشفاؽ إلى ما آلت إليو حاؿ أحمد
عيناه دامعتيف ،ونظراتو ساىمة ،وجسده يرتجؼ دوف برد ..يضغط بأسنانو عمى
تتمزؽ ،ثـ ين ّكس رأسو ،ويرفعو بتثاقؿ ..لقد فقد كؿ ٍ
آونة حتى تكاد ّ شفتو السفمى ّ
األمؿ مف عودة زوجتو وولده ،كاف كمّما نظر إلى صورتيما التي أبدعيا فناف
تقرحت أجفانو ،وكاف يموـ نفسو الفحمي ..يجيش بالبكاء حتى ّّ ديري بقممو
ويحمميا مسؤولية رحيميما..
ّ
يزر حمب يوماً،
مرة بالسفر إلى حمب ،ليبحث عنيما ،لكنو لـ ْ
ىـ أكثر مف ّّ
مرة صمـ عمى السفر ميما كانت ّ آخر وفي الضياع، مف نفسو عمى وخشي
جراء تعنيؼ والديو وغضبيما منو ،فآثر االعتكاؼ
العواقب ،لكنو تراجع مف ّ
والبكاء عمى آثارىما في البيت.
كاف يرى الدنيا ومف فييا سراباً خادعاً ،ووىماً زائفاً ،لكف خياليما ما غاب
بكؿ الشوؽ الكامف فيو،
يموحاف لو ،فييروؿ ّ ٍ
يوماً عف عينيو ،يرى طيفيما مف بعيد ّ
وعند ما يختفياف عف ناظريو ،يجمس عمى األرض ،ويييؿ التراب عمى وجيو
استدر الشفقة والعطؼ مف وجوه السابمة..
ّ وجسده ،ناشجاً متيالكاً ،حتى
تأمؿ وتفكير:
قاؿ عمي بؾ بعد طوؿ ّ
ػ اسمع يا أحمد ..لقد أرسمت في طمبؾ ،ألناشدؾ اهلل أف ترحـ نفسؾ
تقر بو عيناؾ .أرجو أف تثؽ
ووالديؾ ..النساء كثيرات ،وسيمدف لؾ أكثر مف طفؿ ّ
بالمستقبؿ المشرؽ الذي ينتظرؾ ،وأف تيتـ بنفسؾ وبأبيؾ الذي ما عرؼ الراحة
منذ بدء ىذيانؾ ،واعمـ أنني لف أسمح باستم اررية ىذه الحالة لديؾ.
ٍ
بصوت رفع أحمد رأسو بتثاقؿ ،وقد ترقرقت دمعتاف عمى عينيو ،وقاؿ
خفيض:
ػ أعطني حبلً يا عمي بؾ؟
جداً يا ولدي ،وأيسرىا أف تتزوج
ػ الحموؿ كثيرة ّ
أتزوج بعد أـ سوري؟ محاؿ ذلؾ.
ػ ّ
أقدره فيؾ وأجمّو ،ولكف لمضرورة أحكاـ
ػ ىذا وفاء ّ
ػ 82ػ
الفرُار؟ فأين كربتي فيم
ُ أفر إلييم
كنت من كربتي ّ
ُ
الج ِ
نان َ ثب َت
عميك ،فكن ليا ْ خطوب الدىر يوماً
ُ إذا ثارت
يتكدُر
يجد من العيش ما يصفو وما ّ بد أن
ومن عاش في الدنيا فال ّ
يرى
عميؾ يا ولدي أالّ تستسمـ وترفع الراية البيضاء مف ّأوؿ ىزيمة حمّت بؾ..
وقت عصيب.أمامؾ ٌ
نحف اليوـ في ظؿ حكـ األتراؾ ،وغداً ربما مع البريطانييف أو الفرنسييف ،أو
أعمـ مف سيأتي بعدىما ..أنت يا أحمد رجؿ ناضج ،والوطف كمييما معاً ،واهلل ُ
وطني غيور، أي ٍ
ٍّ كؿ جيد ،يطمب مف ّ ماسة إليؾ ،كما ىو بحاجة إلى ّ بحاجة ّ
ولتعمـ أف دورؾ في الحياة السياسية ميـ ،وىذا يتطمب منؾ رباطة جأش ،ومزيدًا
إف لؾ يا أحمد دو ًار أراه مي ّماً في حركة
مف الثبات ،وتجاو اًز لمماضي المؤلـّ ..
ضد قوى االستعمار واالحتبلؿ ،فبل تبخؿ عمى وطنؾ بما تممؾ مف النضاؿ ّ
الخمية الثورية ال يتذ ّكروف
ّ إف الشباب في
صدقني يا ولدي ّ مواىب وقدراتّ ..
قدر ما يتذ ّكروف حاجة الوطف إلييـ ..يا أحمد ،الحياة لف نساءىـ وال أوالدىـ ْ
بأب وأـ وأخ ..الحياة بحر متبلطـ األمواج .البقاء تنتيي برحيؿ امرأة وولد ،وال ٍ
لؤلقوى واألصمح واألتقى دائماً.
كؿ ّّ كممة قمتيا ،فأنا واهلل أحبؾ مثؿ ولدي ،كماأرجوؾ يا ولدي أف تعي ّ
ط القمب.. طع نِيا َ
أحب أباؾ ىذا الجالس إلى جانبؾ ،والذي أصبحت حالتو تق ّ ّ
ليتؾ رأيتو البارحة في المضافة وىو يبكي كطفؿ صغير مف أجمؾ ..أرأؼ بو
أمؾ التي لـ تنـ ليمة ىانئة كبقية النساء منذ ىذيانؾ وصيحات أرجوؾ ،وارحـ ّ
األوالد وىـ يعدوف خمفؾ ،ويرجمونؾ بالحجارة قائميف :جاء المجنوف ..ركض
كؿ ّّ ما يقاؿ عنؾ المجنوف ..اختفى المجنوف ..كنت وال شؾ تسمع جيدًا ّ
وتتجاىؿ أقواليـ ،أليس كذلؾ؟
ػ 84ػ
ثـ قاؿ بيدوء:
عدة مراتّ ،ىز أحمد رأسو ّ ّ
ييمني ما يقولو البشر عني! ػ ال ّ
كؿ ّّ ما يقاؿ،جيداً ّ
ػ ال يا أحمد .كبلـ الناس ألسنة الحؽ ..يجب أف تعي ّ
وتف ّكر فيو ..أرجو أف تثبت لمناس أنؾ عاقؿ ومناضؿ شريؼ ،ولست أبموَ أو
يتصور بعضيـ. ّ مجنوناً كما
تقدـ نحو
ثـ ّ صمت أحمد طويبلً ،ثـ ما لبث أف رفع رأسو عالياً ،ووقؼّ ،
عمي بؾ ،وعانقو ،وبكى عمى كتفو طويبلً ،وعمي بؾ يرّبت عمى ظيره قائبلً:
بحاجة الوطف إليؾ قبؿِ مرة أخرى
ارحمنا ..أذكرؾ ّ
ػ أفرغ عبراتؾ يا ولدي ،و ْ
أي حاجة أخرى ..نحف يا أحمد مازلنا نعيش مرحمة حرجة ،وواجبنا أف نس ّخر
كنت
كؿ ّّ إمكاناتنا وقوانا كي نستطيع تجاوز المحنة ،ويؤسفني أف أقوؿ لؾ ّإنؾ َ ّ
عنا ،منشغبلً بحب زوجتؾ وولدؾ ،وىما عندؾ بعد اهلل ..كاف مف الواجب بعيداً ّ
تتحمؿ مسؤولية المرحمة متقدماً صفوؼ المناضميف مثؿ أبيؾ ،واف ّ عميؾ أف تكوف ّ
دوامتيا جميعاً ..لف أسمح لؾ أف تظؿ عمى ىذه الحاؿ الصعبة التي نعيش في ّ
كنت غير جدير بالرعاية والعناية .ستحضر مجمسي مع أبيؾ، َ المزرية ،واالّ
ُ
وتتعرؼ عمى رجاؿ النضاؿ ،عمى شباب نذروا أنفسيـ مف أجؿ الوطف ،وىي ّ
مناسبة أيضاً لنخطب لؾ الميمة سعدى بنت المختار ،وسنفرح بؾ ،ونقيـ لؾ
االحتفاؿ البلئؽ ،فما رأيؾ؟
جفّؼ أحمد دموعو بمنديمو القطني ،وقاؿ:
ظنؾ بي.ػ كما تشاء يا عمي بؾ وسأكوف عند حسف ّ
فقبؿ يده ،وعانقو ناشجاً.
ثـ اتّجو نحو والده الذي كاف يبكي فرحاًّ ،
قاؿ عمي بؾ:
ػ أريدؾ يا أحمد أف تأتي الميمة بأبيى حمّ ٍة إلى المجمس مع أبيؾ.
دسو في جيبو ،ولـ تُ ْج ِد محاوالت أحمد عف ثـ أخرج مف ُد ْرج طاولتو ماالً ّ
عدـ قبولو أماـ إصرار عمي بؾ الذي قاؿ لو:
ػ ىو مبمغ بسيط لتشتري المباس البلئؽ ،واعمـ أنني لف أتخمّى عنؾ وال عف
حياً ،وسأدفع الميمة ميرؾ ذىباً خالصاً ،وسيشيد رفاقؾ فرحؾ.. دمت ّ
ُ أبيؾ ما
ىيا يا ولدي ،أريد أف أراؾ دائماً بخير ستكوف الميمة يا أحمد متميزة بحضورؾّ ..
وسعادة.
()99
ػ 85ػ
أبي المختار إالّ أف يكوف حفؿ عقد قراف أحمد عمى ابنتو ُسعدى في بستانو
الكبير...
سعدى لـ تكف فتاةً عادية ..كانت رائعة الجماؿ ،طويمة ،آسرة ،في وجييا
الغرب والطرفاء ،وفي عينييا ُسمرة األرض ،وعمى جسدىا المكتنز ظبلؿ َ
العسميتيف طعـ الشيد ،وفي شبلّؿ شعرىا الفاحـ عتمة الميؿ وأس ارره لـ تكف لتوافؽ
عمى أحمد لوال رؤيتيا حالو بعد أف فارقتو ىاصميؾ ..كانت تشفؽ عميو ،وتكبرُ
وفياً مثمو ..
فيو ىذا الوفاء ،حتى تمنت مف اهلل أف ييبيا زوجاً ّ
ألوؿ مرة في حيات يا تضع األصبغة عمى شفتييا وجفينيا بفعؿ ترفندا وأميا
شاكي المتيف أشرفتا عمى زينتيا وخياطة ثوب عرسيا األبيض المو ّشى بالورد،
حتى إف أبا راغب لـ يعرفيا إالّ بعد ألي عندما مثمت أمامو ،وكاف معجباً بيا
كؿ األرمف الذيف أحبيا ّ وبفصاحتيا وحسف إصغائيا وسرعة بدييتيا ،كذلؾ ّ
يعمموف في مزرعة أبييا صغا اًر وكبا اًر ،وذكو اًر واناثاً ،وكانوا يقمّدونيا أطواقاً مف
الورد والريحاف كمما جاءت إلى البستاف ...لقد احتمّت سعدى مساحةً كبيرة في
قيمة عندما ينجحوف في قموبيـ منذ أف بدأت تعمّميـ المغة العربية ،وتمنحيـ جوائز ّ
التعمّـ .
كاف مف بيف الحضور أبو صادؽ الميكانيكي وعمالو األرمف وزوجاتيـ ..
آرتيف وزوجتو شاميراف ،آغوب وزوجتو أناىيت ،ديكراف وزوجتو أستخيؾ.
ّقبمتيا شاميراف قائمة:
يا إلو األرض والسماء ،واهلل أنت يا سعدى سميراميس وليس أنا.
ثـ ىمست في أذنيا أستخيؾ قائمة:
أنت واهلل نجمة في السماء وبزوغ الشمس ال أنا.
احتضنت يدىا أناىيت قائمة:
أنت واهلل آلية الحب قبؿ ميبلد السيد المسيح ال أنا.
أما النساء األرمنيات البلتي يعممف في البستاف ،فقد فرشف ليا طريقيا بالورد
لكنيا رحمت ببل
والرياحيف .صحيح أف ىاصميؾ كاف ليا موقع كبير في قموبيفّ ،
حباً بيا ،وسداداً لفضؿ أبييا
عمييف أف يمنحف سعدى الموقع الشاغر ّ
ّ عودة ،وكاف
عمييف ،وعمى األرمف الذيف يعيشوف في حمايتو ورعايتو.
ػ 86ػ
جرى احتفاؿ رائع في بستاف أبي عدناف ..نحرت الخراؼ ،وتعالت أصوات
الزغاريد ،وحمى وطيس الدبكة التي شارؾ فييا األرمف والعرب.
كاف أحمد يجمس إلى جانب أبيو سعيداً ،وكاف عمي بؾ مستغرقاً في الضحؾ
لعدـ إتقاف األرمف حركات األرجؿ وانحناء الجذع ،وكاف عازؼ المزمار ينحني
نقدية ،لينيض مف جديد
باستمرار أماـ عمي بؾ واآلخريف ،فيعّمقوف بعقالو وريقات ّ
ويميب الدبكة.
وقؼ عمي بؾ وصافح األرمف والحاضريف واحداً واحداً ،وقبؿ أف ينصرؼ
وزمبلؤه ىمس ( مردخياف ) رئيس العماؿ في البستاف في أذف عمي بؾ كممات
ىز ليا رأسو موافقاً ،ودخؿ غرفة الضيافة فتبعو ،ولحقة المختار وأبو أحمد وأبو
صادؽ وأبو سمطاف وأبو ياسيف وأبو طارؽ وجمسوا .قاؿ القس مردخياف بكؿ ثقة
ورجولة:
نود المشاركة مع
-عمي بؾ ..ال يمكننا البقاء ىنا لنأكؿ ونشرب ..إننا ّ
مجموعات المقاومة ..فباسمي وباسـ األرمف ،ليس في البستاف وحده ،وانما في
أنحاء المواء كافة نرجو الموافقة.
ػ ابتسـ عمي بؾ ،ووضع كفو عمى كتؼ مردخياف ،وقاؿ:
ػ اسمع يا أخي ..إنني باسـ المقاوميف العرب كميـ أشكرؾ وجماعتؾ ،وأرجو أف
تبتعدوا عف ىذا الطريؽ الشائؾ ،خوفاً عميكـ مف أمور ال يحمد عقباىا.
ػ لكننا أعددنا خطة لمتخفّي ،ولف يعرفوا مف نحف ،ثـ أحب أف أخبرؾ أف
فييف الحمية والنخوة ،أرجوؾ.
لدييف الرغبة نفسيا ،فبل تقتؿ ّ
ّ نساءنا
صدقني أييا القس بأننا سنمجأ إليكـ إف احتجنا لمساعدة أو مؤازرة ،أما
ػ ّ
اآلف فنحف بخير إف شاء اهلل.
ممي ًا
ىواً بمبادرة العماؿ األرمف ،وكاف طواؿ الطريؽ يفّكر ّ
خرج عمي بؾ مز ّ
بكؿ كممة قاليا القس مردخياف ،وتذكر مف قبؿ ما قالو أبو ياسيف عف رغبة
زوجتو وأميا بالتطوع.
قاؿ المختار وىو يوقؼ حصانو عف السير ،ممتفتاًً إلى عمي بؾ:
ػ لِ َـ ال نستعيف باألرمف في بعض األمور الخدمية والصحية؟!
بحدة:
أجاب عمي بؾ ّ
ػ 87ػ
ػ ال يا أبا عدناف .قمت لكـ ليس اآلف ،سيأتي دورىـ الحقاً.
سار عمي بؾ ،وسار وراءه المختار ورفاقو ،وكاف ثمة سؤاؿ ممحاح في رأس
طوؽ أعناقيـ ؟!
عمي بؾ يدور وال ييدأ :تراىا سداداً لديف ّ
سر صمتو ،فمـأدركوا بحسِّيـ ّ كاف الرجاؿ الذيف يسيروف خمؼ عمي بؾ َق ْد
بل:
تنحنح المختار قائ ً بل،
ينبسوا ببنت شفة ،حتى إذا ما قطعوا شوطاً طوي ً
أيف شرد قائدنا ؟
ابتسـ عمي بؾ قائبلً:
كؿ ّّ
سرني بستانؾ كثي اًر ،جماالً وترتيباً وخي اًر وفي اًر ،واألكثر مف ذلؾ ّ ػ لقد ّ
العامميف فيو.
كؿ ّّ ذلؾ بفضؿ اهلل ،ثـ فضمؾ وفضؿ األرمف.ػ ّ
طيبوف أوفياء ،وأرجو مف اهلل أف يسدد خطاىـ ،ويتـ عمييـ نعمتو ػ األرمف ّ
الماسة إلى عطاءاتيـ.
ّ ..لكف مف أوحى ليـ بحياتنا
ػ يا أبا راغب ..ىـ أذكياء وعمميوف ،ويشعروف أنيـ قادروف عمى فعؿ ما لـ
نستطع فعمو ،لذا ابتكروا وسائؿ وأساليب ال تخطر عمى بالنا أبداً.
يص عمى حياتيـ ..إنيـ أمانة عندنا،
ػ لكنني أخاؼ عمييـ كثي اًر ،وأنا حر ٌ
أنسيت ؟!
ػ ال ..لـ أنس
ػ قاؿ أبو ياسيف والحماس يتمّمكو :
ػ تصور يا أبا راغب أف أـ ياسيف وأميا أصبحتا خبيرتيف في إصبلح السبلح
وصنع الذخائر والمتفجرات ،ورجالنا ال يمتمكوف ىذه الخبرات ،ونحف بأمس
الحاجة إلييا أـ ياسيف وأميا خبيرتاف في إسعاؼ المرضى وتضميد الجراح ،ونحف
بحاجة إلى خبرتيما .أـ ياسيف وأميا خبيرتاف في التخفي ونقؿ المؤف والمستمزمات
الضرورية لمثوار ،ونحف بحاجة ماسة إلى ىذه الخبرة .أرجوؾ يا أبا راغب لممرة
الثانية دع األرمف يمارسوا رغبتيـ الصادقة في مساعدة الثوار.
-ال أستطيع أبداً يا أبا ياسيف ..لو اكتشؼ األتراؾ نواياىـ أو أمسكوا
بواحد منيـ وىو يمارس تمؾ الرغبة ،لحمّت بيـ كارثة ،وليس مف حقنا أبداً أف
نعرضيـ النتقاـ األتراؾ .عندما يرحؿ الجيش التركي عف أرضنا ،سيكوف لنا رأي ّ
ىيا..
ّ اآلف
و غباتيـ.ر ي وسنمب
ّ آخر،
ػ 88ػ
اتّجو عمي بؾ نحو الساقية الكبيرة التي تحاذي الفرع الصغير لمنير ،وفي
ظؿ شجرة توت ىرمة توقؼ ،فوقؼ الجميع ...
تأمؿ الشجر والنير وشمس الغروب وىي تخمع رداءىا األرجواني بخجؿ
لتدخؿ خيمة الميؿ ،ثـ قاؿ:
بل ،وعمينا أف نكوف ضياءه حتى لو
ػ اسمعوا يا إخوتيَ ،ق ْد يكوف الميؿ طوي ً
كانت األضواء خافتة ...
عمينا يا إخوتي أال نستعجؿ انببلج الفجر ،فالصباح سيتنفّس ال محالة ،وال
عد لكـ ،ال أريد أف أثقؿ كواىمكـ بأحماؿ قَ ْد تقصـ ظيور
مما ىو م ٌ
أريد منكـ أكثر ّ
ٍ
وتخؼ ويقظة وحذر ...أعداؤنا ليسوا بعض منكـ .يجب أف نمعب المعبة بميارة
تصدقوف
ىينيف ،وال متغافميف .البارحة كاف الوالي يقوؿ لي كبلماً مبطناً ..ىؿ ّّ
شيء عنا ؟! ردد عمى مسامعي بعض ما قمتو لكـ مرةً في ٍ كؿ ّّّ
ّ يعرؼ أنو
المضافة عندما اختمفتـ في مسألة الوقوؼ إلى جانب الحمفاء أو المحور ..ىناؾ
مف يسترؽ السمع إلىأحاديثنا ،فكونوا يقظيف ،ولوال التوجييات إلييـ باسترضائنا
لفعموا بنا األعاجيب .أنا لست خائفاً عمى نفسي واهلل بقدر ما أنا خائؼ عميكـ ..
عمى أبناء بمدي ..عمى وطني.
قاؿ أبو ياسيف :
ػ أفيـ مف كبلمؾ يا أبا راغب أننا سنوقؼ تحركاتنا في الريؼ والمدينة ؟
ػ ال .ال يا أبا ياسيف ،إنما قصدت مضاعفة الحيطة والحذر.
ػ ال تخؼ عمينا أييا القائد العظيـ واألب الرحيـ .أشعؿ المختار لفافة تبغ ونفث
ظؼ أنفو وفمو بمنديمة القطني ،وقاؿ:
دخانيا وسعالو بآف واحدّ ،ثـ ىدأ ،ون ّ
ػ لف تتوقّؼ الثورة ،وسندعـ لجاننا في الريؼ والمدينة ،واف احتجنا ،فأرى أف
نطمؽ الوافديف مف غير األرمف لمقياـ بواجباتيـ.
ػ صاح عمي بؾ محتدًا:
كؿ ّّ الوافديف مف أرمف وأكراد وشركس و جاجاف ومسيحييف ػ يا مختار ّ ..
باختبل ؼ طوائفيـ ومذاىبيـ ،وحتى الييود ،ىـ أمانة في أعناقنا ،والواجب أال
نستغؿ ضعفيـ وقمّة عددىـ مف أجؿ مآربنا.
ػ لكف الوطف لمجميع ،وىو بحاجة إلى جيودىـ وعطائيـ.
ػ صحيح ما تقولو ،ولكف ليس اآلف .افيمني يا مختار .أرجوؾ.
ػ 89ػ
تنحنح أبو صادؽ الميكانيكي ،واقترب مف عمي بؾ مبتسماً ،فابتسـ عمي بؾ
وقاؿ :
غنية
ػ إف في عينيؾ حكاي ًة يا أبا صادؽ؟ يا أبا راغب إف ورشتي والحمد هلل ّ
ال ثـ لؤلرمف ثاني ًا ..أريد أف أذيع
بمواردىا ورجاليا ،وكما قمت سابق ًا الفضؿ هلل أو ً
مرة ..عمى مسامعكـ س اًر أقولو ألوؿ ّ
اقترب الرجاؿ ،وتحمّقوا حوؿ أبي صادؽ ،وأصاخوا السمع لو .قاؿ عمي بؾ:
ػ أرجو أف تفصح مع اإليجاز ،ألف الميؿ أدركنا..
ػ أجؿ ..اسمعوا :لقد صمـ آرتيف وأغوب وديكراف سبلحاً ال يطمؽ النار،
ّإنما يقطّع األوصاؿ ،وقد أجروا اختبا اًر عمى حمار أجرب نبذه أصحابو ،وكانت
النتيجة إيجابية ،وقد استطاعوا حتى اآلف تصنيع أكثر مف عشريف قطعة.
ضحؾ عمي بؾ طويبلً ،وقاؿ:
ػ يا أبا صادؽ َّإنيا ( ّ
الدوسة) وىي معروفة ،وال تصمح إالّ لمحيوانات.
طوروىا بحيث أصبح ليا مخالب وأذرع كاألخطبوط، ػ أعرؼ ذلؾ ،ولكنيـ ّ
وعندما تراىا ستعجب بيا ،وتثني عمى مخترعييا ،فميا طريقة تختفي بيا وال أحد
يراىا.
ػ أخشى يا أبا صادؽ أف يقع في ِ
شراكيا األصدقاء .
ػ ال تخؼ ،نحف نعرؼ أيف سنضعيا ،وال نحتاج إالّ إلى أمر منؾ.
ػ بارؾ اهلل فيؾ ،سيكوف لؾ ذلؾ عندما تحيف الساعة ،أما اآلف ىيا بنا إلى
المرة ،ونتحدث عف آخر األخبار.
المضافة لنشرب القيوة ّ
ػ 91ػ
()95
لـ ييدأ أبو ياسيف طيمة الشيريف األخيريف مف عاـ ..1917فقد كاف ىو
ويييئوف األسمحة ،وقد استطاعّ وزوجتو وأميا يصنعوف الذخائر والمتفجرات،
كؿ ّّ ما طمب منو إلى أحياء المدينة والريؼ القريب ،ثـ
بمقدرة فائقة أف يوصؿ ّ
جواؿ أعرج،
امتد نشاطو حتى وصؿ إلى البوكماؿ ،وكاف يتخفّى عمى ىيئة بائع ّّ
يسوؽ حميره مف مكاف إلى آخر ،دوف أف يمفت النظر إليو ...
استطاع الثوار مف خبلؿ ذخائره وأسمحتو أف ين ّفذوا عمميات بطولية رائعة
أقضت مضاجع األتراؾ ،وكاف تحسيف بؾ مدير الماؿ يرسؿ الجباة عمى صيوات
جيادىـ المثقمة بالمؤف لتوزيعيا عمىأسر المناضميف وسراة القوـ ،وفي الوقت نفسو
لحماية أبي ياسيف إف تعرض لسوء ...
عيف المجمس كؿ ّّ عمميات الثوار ،وقد ّ
أما عمي بؾ فكاف يشرؼ بنفسو عمى ّ
الصباغ مسؤوالً مساعدًا في غرفة العمميات ،واضطمع أبو صادؽ الثوري أحمد ّ
الميكانيكي بنصب الفخاخ بأماكف تـ تحديدىا بدقة ،وكاف أبو سمطاف رجؿ
استطبلع ناجحاً ،وأبو طارؽ يجمع التبرعات مف أجؿ تمويؿ العمميات الثورية ،أما
كؿ ّّ مكاف حوؿ ىزيمة األتراؾ في المناطؽ يبث اإلشاعات في ّ المختار فكاف ّ
بث اليمع بنفوس الحاميةوالنواحي والقرى ،وكاف إلشاعاتو المحكمة أثر كبير في ّ
التركية ..
كاف الجميع يداً واحدة ،جعموا األتراؾ يستغيثوف ،ويبدوف مسالمةً مكشوفة،
تـ
وعندما جاءت قافمة مف األرمف لـ يرحؿ منيا أحد إلى حمب أو بيروت ،فقد ّ
استيعابيا في المدينة وحدىا أماـ أعيف األتراؾ دوف أف ينبسوا ببنت شفة ،حتى
تعج باألرمف ،وكاف التجار واإلقطاعيوف يؤازروف األىالي باحتضانيـ، أصبحت ّ
والزواج مف فتياتيـ ،فأخذوا أسماء العائبلت الديرية.
كؿ القافمة
قاؿ عمي بؾ بعد أف تنفس الصعداء :تصوروا أف طفميف بقيا مف ّ
/طفؿ وطفمة /مات أبواىما في الطريؽ ،أخذىما عبد الجاويش وأخوه عمي،
وسجبلىما في عائمتييما ،جزاىما اهلل كؿ خير ..
ّ
قاؿ أبو ياسيف:
كمؿ مساعينا بالنجاح.
ػ الحمد هلل الذي ّ
ػ 91ػ
الصباغ الذي لـ تفارؽ الكآبة ومسحة الحزف
ّ كاف الجميع فرحيف إال أحمد
كؿ ّّ طفؿ صورة
كؿ ّّ فتاة أرمنية صورة امرأتو ،وفي ّ
وجيو ..كاف يرى في وجو ّ
فيبددىا بسرعة عندما يذكر لو بأف
سر حزنو وكآبتوّ ، ولده ،وكاف عمي بؾ يدرؾ ّ
الفرج قريب ،وأف اليأس تممّؾ الوالي وجنوده.
قاؿ أبو سمطاف َد ِىشاً:
ظؿ يتراءى
كؿ ّّ ّ
أصدؽ اف األتراؾ كانوا يموذوف بالفرار ىرباً مف ّ
ّ ػ لـ أكف
ليـ.
قاؿ عمي بؾ:
أصدر الوالي أم اًر بإطبلؽ سراح السجناء ،وسيخرجوف في صبيحة الغد،
وعميكـ أف تستقبموىـ بالحفاوة والتكريـ .دعوا نساءكـ يزغردف ويوزعف الحموى أماـ
السجف الكبير ،وال تخشوا أحداً.
وكور جسمو بداخميا:
قاؿ المختار بعد أف لؼ عباءتو حوؿ جسده ّ
ٍ
مكاف كؿ ّّ
ػ ىؿ السبب قوة ضربات الثوار ،أـ تقيقر القوات التركية في ّ
وطئتو أقداـ الجيش العربي ؟
ود
ػ ىما سبباف مف أسباب كثيرة ،رّبما رغبتيـ في حقف الدماء ،وكسب ّ
الجماىير ،وقد يكوف السبب تعييف /حممي بؾ /والياً جديداً عمى لواء الزور،
وىذا الوالي ػ كما بدا لي ػ عاقؿ حكيـ.
قاؿ أبو ياسيف:
ػ إف كاف عاقبلً حكيماً فميسارع بالرحيؿ عف أرضنا ،واالّ فسوؼ نجعمو
مجنوناً واهلل.
ابتسـ عمي بؾ قائبلً:
ػ أقرأتـ ما كتب المناضموف في جريدة الجوؿ ىذا اليوـ ؟ اق أر يا مختار بعض
عناوينيا.
أخرج المختار نسخة مف الجريدة ،وأخذ يق أر بصوت ٍ
عاؿ مقالة عمي بؾ،
ومقالةً لمشيخ محمد سعيد ،وأخرى لتحسيف بؾ ،وقصيدة لمشاعر الفراتي ...
ػ قاؿ أبو سمطاف:
ػ عجبي مف األتراؾ ! وقد قرؤوىا بالتركية ،لماذا لـ يتّخذوا أي إجراء مضاد
؟
ػ 92ػ
ضحؾ عمي بؾ ،واقترب مف أبي سمطاف قائبلً:
اء مؤقتاً ،وىو إغبلؽ الجريدة ،ال أعمـ اإلجراءات األخرى
ػ لقد اتّخذوا إجر ً
متى ستتـ.
لكف أحدًا لـ ُيعتقؿ ،والثوار
دؽ عمي بؾ ناقوس الخطر ،الجريدة أغمقتّ ،
لقد ّ
تدؽ ساعة الصفر. عمى أىبة االستعداد لبلنقضاض عمى الحامية التركية عندما ّ
الجيش العربي يدخؿ حمب بعد دمشؽ ،والقوات البريطانية تصؿ إلى /عانة،/
وال أحد يأتي إلى دير الزور ..ما السبب؟ ال أحد يدري!
الوضع مريب ،والشكوؾ تتضاعؼ ،والثوار في يقظة وحذر ،والوالي التركي
يتدارس الوضع الخطير مع أركانو ..
أكثر مف ألؼ وخمسمائة بيف جندي وضابط تركي عمى أىبة االستعداد
لتنفيذ ما يوكؿ إلييـ مف مياـ تقررىا القيادة التركية ،وحممي بؾ يطمب منيا البقاء
في الثكنات وعدـ التحرؾ.
جمس الوالي حممي بؾ يعتصر رأسو ،يريد حبلً لمعضمة مازالت تكبر دوف
أي إشراقة أمؿ أو عبلج ناجع .أمر حممي بؾ أف يجتمع بكبار قادتو وطمب أف
ينضـ إلى االجتماع رئيس البمدية ،وعضو البرلماف محمد بؾ ،ومدير الماؿ،
ّ
والقضاة عمى وجو السرعة.
التأـ شمؿ االجتماع بعد صبلة الظير ،وبدا الوالي ميموماً ،ييرش جمدة
كؿ ّّ ىنيئة ..خطا خطوات غير متزنة ،ما لبث أف غادر مكتبو إلى قاعة رأسو ّ
االجتماعات .شرح لممجتمعيف الموقؼ العسكري والسياسي في المنطقة بعد خروج
القوات التركية مف سورية والعراؽ عدا لواء الزور ،وقاؿ إف لديو احتماالً قوياً
ليجوـ عمى قواتو مف أطراؼ عربية أو إنكميزية ،وليس لديو قوات مساندة ،واف ما
المتمرديف ليو دليؿ أكيد عمى صدؽ ىذا االحتماؿ.
ّ حدث لقواتنا عمى يد
مطوالً ،وتـ ترجيح رأي االنسحاب التركي مف لواء الزور ّ نوقش األمر
بصورة مؤقتة ،وتكميؼ رئيس البمدية بإدارة شؤوف المواء ..
بسرعة عجيبة جمعت الوثائؽ والمستندات ،وتـ إرساليا إلى /أورفو ،/وبعد
أياـ غادرت القوات التركية دير الزور ،واحتفؿ أبناء المواء بيوـ السادس مف تشريف
وعدوه عيد الخبلص
الثاني عاـ ّ ،1918
العيوف ترقب بحذر شديد الموقؼ الصعب الذي يمر بو لواء الزور ،واليمع
الكبير الذي اقتحـ حصوف المحتؿ وىو ينسحب مف دير الزور .وانقسـ الناس
ػ 93ػ
ثانية بيف مؤيد لبقاء األتراؾ المسمميف ،ومعارض ليـ .بؿ وجدت ىذه الفئة أف
الدوؿ األوروبية تحمؿ في احتبلليا عناويف ميمة أبرزىا :الحرية و الديمقراطية
أف مقاومة االحتبلؿ األوروبي أسيؿ بكثيروالتنمية ..وقد أ ّكدت ىذه الفئة عمى ّ
الديف.
مف مقاومة االحتبلؿ العثماني الذي حكمنا باسـ ّ
كاف أبو ياسيف متأث اًر بأفكار تحسيف بؾ االشتراكية ،التي وجد فييا خبلصاً
مستمر بينو وبيف المختار أبي
ّاً لكؿ المقيوريف والمعذبيف في األرض ،وكاف الجداؿ
مؤيد
عدناف الذي يرى في ىذه األفكار إلحاداً وتبعية ،وانقسـ المناضموف إلى ّ
لممختار ومعارض لو.
كاف المثقفّوف يروف في أفكار أبي ياسيف نو اًر يضيء ليـ دياجير عتمة
الطريؽ ،وكاف المختار واتباعو يرددوف بحماسة:
ػ ّتباً لمييود الذيف صاغوا أفكار الشيوعييف في روسيا !
قاؿ المختار ألبي ياسيف عندما احتدـ النقاش:
ػ يا أبا ياسيف ..أتعرؼ أصؿ /ماركس وأنجمز/؟
المتنور .نحف لـ نسأؿ عف
ّ ييمني فكرىما
ػ ال ييّمني أصميما وفصميما ،ما ّ
ىمنا
كؿ ّّ ّ
أصؿ الخوارزمي وابف سينا ونفطوية وسيبوية والفارابي وزرياب ،كاف ّ
وفنيـ.
أف ننيؿ مف أدبيـ وعمميـ ّ
ػ لكف ىؤالء أسمموا ،وأصبحنا جميعاً بنعمة اهلل إخواناً.
ػ يا مختار أرجوؾ افيمني .نحف نبحث عف الفكر الذي يرتقي بنا ويسمو ،ال
عف الفكر الذي حارب العمـ والمعرفة ،وأشاع األمية في وطني يا مختار كفاؾ
ظبلماً .نريد أف نرى النور.
ػ لكف /ماركس وأنجمز /مخرباف لمعقوؿ ولؤلمة العربية واإلسبلـ ..إنيما ال
يؤمناف با لقومية العربية التي نعمؿ ونضحي مف أجميا ..إنيما ال يؤمناف بالغيب
تج عفوه. ويحثنا عميو ديننا الحنيؼ ،فاتّ ِ
ؽ اهلل يا أبا ياسيف ،وار ِ ّ كما نؤمف بو،
ػ يا أبا عدناف ،إف كنت ال تؤمف بأفكارىما ،فمـ تصادر حرّية اآلخريف؟.
ػ قاتميما اهلل واهلل إني ال أحب ذكرىما أبدًا.
يا أبا عدناف ،أنسيت فضؿ االشتراكييف في روسيا عمينا ،ألـ يكشفو لنا
أسرار اتفاقية سايكس بيكو ،وخداع بريطانيا وفرنسا لمشريؼ حسيف ؟ !
ػ صحيح ما تقوؿ .لكنيـ كانوا يبغوف مف وراء ذلؾ مصالحيـ.
ػ 94ػ
ػ ما مصالحيـ عندنا؟.
ػ ستكشؼ لؾ األياـ ىذه المصالح يا أبا ياسيف.
كؿ ّّ
كاف عمي بؾ يتدخؿ كمما وصؿ النقاش إلى الذروة ،رغـ رضاه عمى ّ
محاورة فكرية تدور بيف أعضاء الخمية ،ألنيا توسع آفاؽ العضو ،وتسمو
بمداركو .قاؿ في نياية المحاورة:
ػ كبلىما عمى صواب ..الفكر االشتراكي خير مف الفكر الرجعي الذي
يشدنا إلى الجيالة والفقر والحرماف ،وليتو كاف يشدنا نحو اإليجابية.
الفكر االشتراكي ينشد العدالة لمجميع ،وىو إنساني غير متقوقع ،وأنا مع
الفكر االشتراكي وفؽ ما يناسب واقعنا وخصوصيتنا العربية واإلسبلمية ،فالغيب
الذي ال يؤمف بو الفكر االشتراكي نحف نؤمف بو ألننا مسمموف.
كؿ ّّ شيء لمدولة وىذا ظمـ وعدواف .الفكر الفكر االشتراكي يؤمف باف ّ
بحؽ
االشتراكي ضد الرأسمالية واإلقطاع ونحف نؤيده وفؽ معايير خاصة تتعمؽ ّ
الممكية واستثمار رؤوس األمواؿ ،وىكذا فمكؿ فكر سمبياتو وايجابياتو .نحف العرب
المسمميف يجب أال نياجـ الفكر مف أية جية كاف مصدره إذا كاف لنا فيو خير
وصبلح وخبلص.
كاف عمي بؾ مثقفّاً ،واسع اإلطّبلع ،لبقاً في الحديث والمحاورة ،يحبو
الجميع ،ويجمّونو ألنو طيب القمب نقي السريرة ،وطني مخمص وغيور ،لذا كاف
ويعدونيا مأثورة ،وغالباً ما ينيي جمسات
ّ الجميع يستمعوف إليو ،ويرددوف أقوالو
النقاش والحوار والجداؿ بقببلت عمى المحى والشوارب ،وبوليمة خاصة.
خؼ عمي بؾ قمقو حوؿ تسارع األحداث في المنطقة العربية بشكؿ عاـ لـ ي ِ
ُ
ولواء الفرات بشكؿ خاص ،لذلؾ كاف حريصاً عمى تكثيؼ المقاءات بشرائح
المجتمع كافة في مضافتو العامرة ،وزيارة المضافات األخرى التي انتشرت في
المدينة ،إذ ك اف لكؿ مضافة طابع سياسي واقتصادي واجتماعي ،وكاف يحث
الجميع عمى الوحدة الوطنية والتبلحـ ألف الوطف لمجميع ومسؤولية الجميع أماـ
الصباغ:
ّ بل .قاؿ لو أبو أحمد
يمر بو حاض اًر ومستقب ً
االمتحاف الصعب الذي ّ
ػ ىؿ تتصور دخوؿ اإلنجميز إلى دير الزور ؟
عدة خطوات مف ّك اًر:
قاؿ عمي بؾ وىو يخطو ّ
ػ االحتماؿ قائـ ،لكف ليس اآلف ألف الحكومة الشريفية ستدخؿ مؤقتاً ،وقد
يأتي الشريؼ عمي ناصر إلينا.
ػ 95ػ
ػ وحكومة الحاج فاضؿ ؟
ضحؾ عمي بؾ طويبلً ،وقاؿ:
ػ كفانا استمتاعاً بياَّ ،إنيا واهلل حكومة فريدة في العالـ ،تحتاج إلى سيرة
كاممة ،ليس وقتيا اآلف .
قاؿ أبو طارؽ:
تظؿ يا أبا راغب ،و واهلل َّإنيا أفضؿ مف أية حكومة في سورية .يكفي
ػ ليتيا ّ
تكـ األفواه ،أو تصـ اآلذاف ،والخير عمى يدييا وفيرأنيا ال تعتقؿ أحداً ،وال ّ
والحمد هلل.
ػ يا أبا طارؽ ،أنا ال أنتقص مف قدر الحاج فاضؿ ،فيو وطني غيور ،لكنو
ليس حازماً وقاد اًر عمى الفعؿ السياسي الذي نحف بحاجة إليو اآلف.
قاؿ أبو سمطاف الجابي:
ػ أنا مع أبي طارؽ ،فواهلل لقد ضاعؼ مرتباتنا وأعطانا عبلوات ولباس ًا
قرب األقارب ،وباعد األباعد.
ومؤونة ،وال عيب فيو سوى ّأنو ّ
ضحؾ عمي بؾ قائبلً:
سنخصص سيرة كاممة حوؿ حكومتنا الرشيدة ،أما اآلف فدعوناّ ػ قمت لكـ
نستفسر عف أحوالكـ.
الصباغ فرآه مشرقاً ،قاؿ لو:
ّ نظر عمي بؾ إلى وجو أبي أحمد
ػ ما مدى رضاؾ عمى أحمد ؟
ػ اهلل يرضى عميو ،وعمى المختار الذي أكرمنا بجوىرة ثمينة.
قاؿ المختار عمى عجؿ:
محبتي لو عندما رأيتو كيؼ
ػ أحمد يستحؽ الحب والتقدير ،واهلل لقد زادت ّ
يضحي بنفسو مف أجؿ الوطف قاؿ أبو أحمد:
يسمي عمي بؾ ( المنقذ ) منذ أف ػ ما يفعمو أحمد ىو واجب عميو ،وىو ّ
مف اهلل بيما تزوج سعدى َ ِ
ونع َـ بالراحة واالستقرار ،واآلف ىو مجنوف بالتوءـ المذيف ّ
عميو.
قاؿ عمي بؾ:
كؿ الخير ،ولقد أثبت جدارة بالعمؿ السياسي والعسكري،
أتوسـ في أحمد ّ
ػ ّ
أعوؿ عميو خي اًر.
و ّ
ػ 96ػ
لج ّف واهلل.
ػ ويبقى فضمؾ عميو كبي اًر ،إذ لوالؾ ُ
ػ ال تقؿ ىذا ثانيةً يا أبا أحمد .أحمد ولدي ،وسأزوره ألرى التوءـ .اهلل كريـ يا
ضيع ولداً ،فأعطاه اهلل ولديف .ماذا أسماىما ؟
أخيّ .
ػ الحسف ،والحسيف.
ػ ما شاء اهلل … ما شاء اهلل ..الميـ اجعميما مباركيف.
قاؿ أبو عدناف المختار:
ػ لكف يا عمي بؾ ،كمّما احتضنتيما يعمداف إلى نتؼ لحيتي ،فماذا أفعؿ؟
ضحؾ عمي بؾ ،وقاؿ:
بل ،ثـ قاؿ
شرىما .ضحؾ الجميع طوي ً
ػ ما عميؾ إالّ أف تحمؽ المحية لتأمف ّ
أبو سمطاف:
نسميؾ يا عمي بؾ ( أبا الخير ) ،فو اهلل كؿ الخير أتانا عمى يديؾ.
ػ لماذا ال ّ
اقترب عمي بؾ مف أبي سمطاف ،وقاؿ:
السودت الدنيا بعيني ..
ّ ػ يا أبا سمطاف ،أنت ورفاقؾ وجوه الخير ،واهلل لوالكـ
فعؿ الخير ىو منياج عممنا ،أتمنى مف اهلل يا ابا سمطاف أف يستمر العطاء ،حتى
حرة كريمة.
نرى ببلدنا ّ
قاؿ أبو ياسيف :
ػ يا أبا راغب ،قالت لي أـ ياسيف وأميا نرجو أف تذ ّكر عمي بؾ بوعده.
ػ أي وعد يا أبا ياسيف؟
ليأخذا دورىما استعداداً لآلتي.
ابتسـ عمي بؾ ،ونظر في عيني أبي ياسيف ،وقاؿ :قؿ ليما :أنا عمى الوعد
إف شاء اهلل.
دخؿ المضافة رجاؿ عمي بؾ وىـ يحمموف أطباؽ الثريد ،فزغردت البطوف،
ومدت األيادي ،وأخذت األفواه تموؾ طيب الطعاـ بنشوة.
ُ
قاؿ عمي بؾ والرفاؽ يشربوف الشاي:
ػ غداً وليمة أخرى عمى شرؼ حكومتنا الرشيدة ،لكف كؿ ما أرجوه
أالّ تصدقوا كؿ ما قيؿ عنيا في الشارع…بعض الناس اختمقوا قصصاً وأفعاالً
ػ 97ػ
نسبوىا إلييا ،والحاج فاضؿ واهلل بريء منيا وبعضيـ قاؿ عمى لسانو كبلماً لـ
يقْمو .سامح اهلل اآلخريف.
مودعيف عمي بؾ ،واألحبلـ ترفرؼ في سماء أمانييـ.
ابتسـ الجميع ،وقاموا ّ
ػ 98ػ
()93
كؿ ّّ سمبياتيا،
عاشت دير الزور في ظؿ حكومة ( الفمت ) أشي اًر حموة برغـ ّ
وقد توىـ الكثيروف أف دير الزور أصبحت دولة مستقمّة ،واعتقد آخروف أنيا تتمتع
يطبؽ عمييا ما يطبؽ عمى الواليات السورية ،حتى إف حاكـ المدينة
بحكـ ذاتي ال ّ
الديري ال يعرؼ تماماً مع أي فئة يقؼ مدافعاً ،لكنو استأثر بالتعييف والتسريح
ومنح األلقاب والرتب أسوة بالوالة األتراؾ ...روى المختار حكاية جرت أحداثيا
أماـ عينيو:
( جاء أحد أقرباء الحاكـ إليو ،وطمب منو أف يمنحو رتبة عسكرية ،فقاؿ لو
الحاكـ :ضع عمى كؿ كتؼ نجمة وانصرؼ ،لكف القريب أبى .فقاؿ لو الحاكـ
بل ،فأبى .وقؼ حينذاؾاجعميا نجمتيف ،فأبى .فقاؿ لو اجعميا ثبلثاً ويا أىبلً وسي ً
الحاكـ منتفضاً ،واقترب مف قريبو قائبلً :لـ يبؽ لي إالّ أف أعطيؾ مكاني ىذا،
وأنصرؼ أنا .فقاؿ لو :ومف قاؿ لؾ أنني أريد مكانؾ ؟ أنا ال أريد سوى أف أعمّؽ
كؿ ّّ كتؼ نس ًار .فوافؽ الحاكـ عمى مضض ،وكتب في ذلؾ كتاباً ،فانصرؼ عمى ّ
القريب مسرو اًر ).
كؿ ّّ واحد منيـ حكاية سمعيا مف
كؿ ّّ مف كاف في المضافة ،وروى ّ
ضحؾ ّ
اآلخريف ،معظميا ممفّؽ ،لكنيا مضحكة .أمضوا سيرة طويمة عمييا ،حتى وىـ
يتناولوف العشاء لـ يسمـ الحاكـ أبداً مف نوادرىـ عميو ،وعمى أعضاء حكومتو.
قبؿ أف يغادروا المضافة استوقفيـ عمي بؾ ،واقترب مف أبي ياسيف ،وسألو
مستفيماً:
كؿ ّّ األسمحة التي
ػ لـ تقؿ لي يا أبا ياسيف ،ىؿ أخذ منؾ الضباط األتراؾ ّ
بحوزتؾ ؟
أجاب أبو ياسيف ضاحكاً:
ػ ال تخؼ عمي .لقد أخفيت الصالح منيا في صندوؽ مبلبس زوجتي،
ىزوا رؤوسيـ وانصرفوا.
وعندما أروا ما لديّ ،
ػ بطؿ يا أبا ياسيف ..بطؿ واهلل .
الصباغ متسائبلً:
ّ قاؿ أبو أحمد
ػ 99ػ
ػ إلى متى سنظؿ عمى ىذا الوضع يا أبا راغب ؟
المتصرؼ الجديد
ّ ػ اطمئف يا أبا أحمد ..سيصؿ الشريؼ عمي ناصر ومعو
بعد غد في الرابع مف كانوف األوؿ .1918
المتصرؼ الجديد ؟
ّ ومف
ػ مرعي باشا المبلّح.
ػ لكننا لـ نسمع بو أبداً.
ػ مرعي باشا رجؿ وطني ،ولو تاريخ حافؿ بالنضاؿ ،وأرجو أف تتعاونوا معو،
وتطمئنوا لػو.
ّ
محتداً:
ّ قاؿ أبو ياسيف
أنا ال أطمئف لمباشوات أبداً يا أبا راغب.
ػ لكف مرعي باشا غير ما تظف يا أبا ياسيف ،ىا ىو رمضاف باشا حاكـ
الرقة ،وىو وطني غيور مف أبناء الدير.
سكت أبو ياسيف ،فقاؿ أحمد الصباغ:
ػ الرجؿ بأفعالو ،والميداف أمامو ،وىو وحده القادر عمى أف يكسب رضا
الجماىير واحتراميـ ،فالفرنسيوف دخموا سورية ،واإلنجميز استوطنوا العراؽ ،وىـ
اآلف في /عانة ،/وعانة جزء مف لواء الفرات.
ػ أنت عمى صواب يا أحمد .اإلنجميز ينظروف إلى دير الزور عمى أنيا
ضـ الموصؿ إلييـ ،وىذا
امتداد لمعراؽ ،والفرنسيوف راضوف بالتخمّي عنيا مقابؿ ّ
سر عدـ احتبلليا مف قبِميما حتى ىذه المحظة.
ىو ّ
قاؿ المختار منتفضاً:
يعدوف دير الزور عراقية والموصؿ سورية؟
ػ أفيـ مف حديثؾ أنيـ ّ
ػ أجؿ يا أبا عدناف ،ىكذا اقتضت مصالحيـ .أتذكر أنني ُقمت في جمسة
سابقة سيتقاسمنا األوربيوف وفؽ مصالحيـ ال وفؽ طموحاتنا.
ػ أجؿ ،وىذا ما قمتو ألبي ياسيف االشتراكي .صاح أبو ياسيف قائبلً:
ػ لف يتـ ليـ ذلؾ ياأبا عدناف ،أعدؾ بذلؾ .ساد جو المضافة ىرج غريب،
وىميمات عالية حسميا عمي بؾ بقولو:
ػ 111ػ
تتعجموا بالحكـ ،وابقوا عمى
ػ يا إخوتي ،األياـ القادمة ستكشؼ لنا المزيد ،فبل ّ
أىبة االستعداد مع رفاقكـ في الخبليا الثورية ،وأنت يا أبا ياسيف جيّز لنا قدر
المتفجرات والذخائر ،وستصمؾ اإلمدادات إلى بيتؾ.
ّ استطاعتؾ كميات كبيرة مف
ػ كما تريد يا أبا عمي بؾ ،ولو أنني استطعت بكؿ ما أممؾ أف أجيّز عشرة
صناديؽ ذخائر ومتفجرات لممقاومة الشعبية .
ذىؿ عمي بؾ ،واقترب مف أبي ياسيف وعانقو قائبلً:
ػ غداً سيصمؾ الماؿ البلزـ بإذف اهلل ،فبل تتوقّؼ أبداً.
مرت األياـ ثقيمة عاصفة ،لـ ييدأ خبلليا أبناء المواء أماـ مجرياتيا السيئة
التي غمرت الجيات والجبيات كافة ..ففي فمسطيف العربية كاف الصياينة
بحماية بريطانية إلييا ،ويبنوف المستوطنات ،ويصادروف األراضي ٍ يتسمّموف جيا اًر
المقدسة
ّ الخصبة ،ويطردوف أىميا ،ويفتكوف برجاليا ،ويعيثوف فساداً في األرض
قسمتو اتفاقية
تنفيذاً لوعد بمفور المشؤوـ ،وما تبقى مف الوطف العربي الكبير ّ
(سايكس بيكو) بيف فرنسا وانكمت ار واسبانيا وايطاليا ،فمـ يعد الوطف العربي وطن ًا
عربياً .قاؿ عمي بؾ مناشداً أعضاء الخمية الثورية:
ػ يا إخوتي دقّت ساعة العمؿ الثوري ،ال تتوقفوا عف نشاطاتكـ ،وأناشدكـ
وحدوا الصفوؼ ،وانبذوا الخبلفات جانباً ،و ّشدوا
جميعاً أف تضاعفوا جيودكـّ ..
األحزمة عمى البطوف ،فاألياـ السوداء قادمة ،واإلنكميز سيدخموف المواء في
الحادي عشر مف كانوف الثاني ليذا العاـ .1919
قاؿ أبو ياسيف:
ػ بعد ثبلثة أياـ ؟!
ػ نعـ ،بعد ثبلثة أياـ ستدخؿ ،ومعيا صؾ تبعية دير الزور إلى اإلنتداب
البريطاني بصفتيا تابعة لمعراؽ ،وعممت أف الميجر /كارفر /سيتولى زماـ
األمور عندنا.
صاح أحمد الصباغ:
ػ واهلل لف نجعؿ كارفر يناـ إالّ عمى فراش مف قتاد.
خطا عمي بؾ عدة خطوات ،واقترب مف أبي ياسيف ،وقاؿ:
ػ يا أبا ياسيف ،ستتولى تعبئة المقاومة الشعبية في األحياء ،وسيكوف الشيخ
سعيد ىو المرجع األوؿ واألخير لؾ ..وأنت ياأحمد ستتولى عممية التحريض في
ػ 111ػ
القرى القريبة ،وأنت يا أبا عدناف ستذىب إلى المياديف ،وتتصؿ بأعضاء الخمية
وتنسؽ معيـ ،وتكوف صمة الوصؿ بيننا وبينيـ ،وأنت يا أبا صادؽ ستذىب ىناؾ ّ
إلى البوكماؿ لمغرض نفسو ،وأنت يا أبا أحمد أريدؾ أف تتوّلى ميمة االستطبلع،
وأنت يا أبا طارؽ أريدؾ لئلمداد والتعيينات ،وليعنا اهلل.
قاؿ أبو سمطاف عندما صمت عمي بؾ:
ػ وأنا يا عمي بؾ ؟!
تأممو عمي بؾ طويبلً ،ثـ قاؿ لو:
ّ
ػ كيؼ أصبحت ص ّحة سمطاف ؟إف شاء اهلل بخير؟
ػ الوطف أغمى مف سمطاف وأخواتو ،عمي بؾ.
يبؿ
صدقت يا أخي ..لكنني أريدؾ أف تبقى إلى جانب ابنؾ الوحيد حتى ّ
َ ػ
مف مرضو.
ػ لف أرضى واهلل أف أكوف في البيت ،واخوتي يبذلوف دماءىـ رخيصة مف
أجؿ الوطف ..أرجوؾ يا عمي بؾ أف تكمّفني بميمة ،أفضؿ مف أف أختار طريقاً
آخر.
ػ ال يا أبا سمطاف ،لف ندعؾ تييـ عمى وجيؾ ،وطالما ىي رغبتؾ فمتبؽ
معي في العمميات ،وقد أرسمؾ إلى جية ما إف اقتضت الحاجة .ىؿ أنت
ر ٍ
اض اآلف ؟
ػ نعـ ..وألؼ شكر لؾ.
أشدة .استطاع أحمد تحريض السكاف ػ مدينة وريفاًػكاف الغمياف الشعبي عمى ّ
عمى الثورة ،وكاف شاعر الفرات يميب المشاعر واألحاسيس بقصائده التي كتبيا
ويوزعيا ،ومنيا :
كؿ ّّ قارئ يرددىا أو يكتبيا ّ
بخط يده مئات النسخ ،حتى أصبح ّ
ورو العوالي من عداك دماً
انيض ِّ
القرطاس والقمما
َ واستنيض السيف و
شمت يميني ،وبانت إثرىا ُع ُنقي ُ
كنت يوماً بغير السيف م ِ
عتصما إن ُ
ُ
ضالدير عن َع َر ٍيروم م ّنا استالم ّ
أىالً بمن لممواضي جاء مستمما
ػ 112ػ
البوعمر وخشاـ والخابور والمياديف
ْ امتد لييبيا إلى
وثارت دير الزور ،و ّ
أقضت مضاجع اإلنكميز ،وكانتوالقورية والمصمخة والبوكماؿ ..ثورات متبلحقة ّ
الخبليا الثورية تع مؿ ليؿ نيار وقوافؿ الشيداء متتالية ،وبطوالتيـ نادرة ،ارتجؼ
ليوليا اإلنكميز طويبلً.
قاؿ عمي بؾ بعد أف حمد اهلل وشكره:
ليتحدث ّأوالً أبو ياسيف.
ّ ػ
سيدي ّأدت واجبيا ،ولـ تقّصر إطبلقاً ،وقد سقط لنا ػ المقاومة الشعبية يا ّ
تـ عبلجيـ ميدانياً ،والحمد هلل
شييداف ،وارينا جثمانييما البارحة ،أما الجرحى فقد ّ
لمتصدي .أما خسائر العدو ّ التحقوا بالمقاومة ،ونحف ما زلنا عمى أىبة االستعداد
فقد تـ تدمير مستودعات البنزيف والكاز ،واحراؽ ثبلث سيارات نقؿ ،واعطاب
سيارة جيب صغيرة ،وأعتقد جازماً أف سائقيا والضابط الذي كاف يجمس إلى جانبو
قَ ْد قُتبل.
ػ عظيـ يا أبا ياسيف ..عظيـ ..وأنت يا أبا صادؽ.
تكبد العدو خسائر جسيمة،سيدي ،عند دخوؿ اإلنكميز بمدة البوكماؿّ ، ػ يا ّ
واستشيد عبد الدندؿ أحد رموز الثورة وشقيقو مشرؼ ،ما لبث اإلنكميز أف وقعوا
فخ نصبو الثوار ليـ في مكاف يدعى /المجرود ،/إذ تم ّكف العقيدات مف قتؿ في ّ
أكثر مف ثبلثيف جندياً إنكميزي ًا.
ػ مف كاف يقود الثوار في المجرود يا أبا صادؽ؟
ػ أسود ومميشاف وعبيد الفارس.
ػ بارؾ اهلل فييـ ..ابطاؿ.
كسار .لقد قتؿ
المصمخة بقيادة فارس وأخيو ّ
ّ ػ ثـ جرت المعركة الكبرى في
الثوار أكثر مف مائ ة جندي إنكميزي ،واستشيد منيـ سبعة عشر فقط .وتصور يا
سيدي مف كثرة القتمى أخذت النسور تنيش أشبلءىـ ،فأسمينا المعركة باسـ معركة
النسورية.
ػ عظيـ ..عظيـ ..وأنت يا أبا عدناف ،ماذا جرى في المياديف ؟
فصدقني ..لـ
ّ ػ إف قمت لؾ كاف أبناء المياديف والعشارة والقورية نسو اًر
كؿ ّّ
يستطيع اإلنكميز عبور المياديف إالّ بصعوبة بالغة ،فقد قاـ الثوار بقتؿ ّ
عدد ال يستياف بو
إنكميزي رأوه ،وأحرقوا عددًا مف آليات العدو ،وسقط مقابؿ ذلؾ ٌ
مف الشيداء.
ػ 113ػ
ػ شيداؤنا في الجنة ،وقتْبلىـ في النار يا أبا عدناف ..إخوتي أريد اآلف بعد
بسر ستفرحوف لو كثي اًر ..
المشرفة أف أفضي إليكـ ّ
ّ ىذه النتائج
ػ قاؿ أبو ياسيف ضاحكاً:
ػ إذف لست وحدي أبا األسرار ؟!
السر ال أحد منكـ يعرفو .خبلصة القوؿ إف رمضاف با شا حاكـ ػ لكف ىذا ّ
الرقة ىو ديري مف ريؼ المحافظة القريب كما تعمموف ،وىو وطني غيور ،آلمو ما
أصاب د ير الزور مف مآس ومحف ،فاستجاب لطمبنا بعد أف ميدنا لدخولو بغية
تحريرنا مف اإلنكميز وعودة دير الزور إلى سورية.
قاؿ أبو ياسيف:
ػ وي ٌؿ لئلنكميز منو ،وواهلل لف تقوـ ليـ قائمة عندما يأتي.
قاؿ أبو عدناف :ماذا وضعتـ لو مف ترتيبات الستقبالو ؟
قاؿ عمي بؾ:
ػ ال داعي ألف أشرح لكـ اآلف كؿ شيء ،ولكف اطمئنوا.
قاؿ أبو صادؽ:
تحركنا.
ػ أعتقد أف اإلنكميز سيقوموف بعمؿ مضاد إذا ما ّ
ػ ال تخؼ يا أبا صادؽ .لقد حسبنا لكؿ أمر حسابو.
الصباغ:
ّ قاؿ أبو أحمد
ػ دعني ياأبا راغب أنا وولدي أحمد نراقب طريؽ دير الزور ػ الرقة ،وارجوا
أف تكمؼ أبا سمطاف ومجموعة مف الثوار بمراقبة شاطئ النير عند (البغيمية) ،أما
أبو ياسيف ومجموعة الثوار فاجعميـ يكمنوف عند (الدخولية) عمى أبواب المدينة،
وباقي أعضاء الخمية اجعميـ يراقبوف مقري الحاكـ العسكري واالستخبارات
اإلنكميزية.
ضحؾ عمي بؾ طويبلً وىو يمعف النظر في عيني أبي أحمد ويراقب حركات
يتحدث ،فقاؿ:
يديو عندما ّ
أدر يا أبا أحمد ّأنؾ مخطط بارع ؟ مف أيف جئت بأفكاري ىذه؟ ىؿ ػ لـ ِ
ثت بو؟
تحد ُ
حضرت اجتماع قيادة الخمية ؟ أـ أف أحداً وشى لؾ بما جرى وما ّ
فالكبلـ الذي قمتو ىو ذاتو ما طرحتُو في القيادة ووافقوا عميو.
ػ 114ػ
ػ يا أبا راغب ،الحاجة أـ االختراع ،ومف ثـ فإني أخاؼ كثي اًر عمى رمضاف
باشا مف غدر اإلنكميز.
ػ ال تخؼ يا أبا أحمد .قمت لؾ لقد حسبنا لكؿ أمر حسابو.
نيض المختار بعصبية ،وقاؿ:
ىدأ عمي بؾ
ػ دعوا الميجر كارفر لي .أنا مف سيمقّنو الدرس الذي ال ُينسىّ .
مف عصبية المختار قائبلً:
القناصة.
ػ الميجر كارفر لف تصؿ إليو .إنو محاط بسياج منيع مف الجند و ّ
منا.
دعو لرمضاف باشا ،فيو أولى بتأديبو ّ
بقوة:
ػ صاح أبو سمطاف ّ
يفؿ الحديد إالّ الحديد ..صدقت يا أبا راغب ..صدقت.
ػ ال ّ
ػ 115ػ
()94
كاف يوـ الحادي عشر مف كانوف األوؿ عاـ 1919يوماً تاريخياً في دير
فارس فراتي يمتشؽ سيؼ الحؽ ٍ الزور ،عندما تنفّس الصبح ،وتك ّشؼ الجو عف
وفره ..عرفوا
وكره َّ
متحدياً قوى الباطؿ ..فارس عرؼ األتراؾ صوالتو وجوالتوَّ ،
ّ
فيو الشجاعة واإلقداـ ،كما عرؼ فيو أىموه المروءة والنخوة والشيامة ..رجؿ آلى
عمى نفسو أال يكوف بعيداً عف األحداث التي تعصؼ بإخوانو ووطنو
قاؿ لقواتو التي تحاصر الثكنة العسكرية االنكميزية ،والتي أمطرتيـ بوابؿ مف
الرصاص.
ػ اليوـ يوـ الممحمة ..اليوـ سيكوف لػو ذكرى وتاريخ ،ولف نقبؿ يا إخوتي
بغير استسبلـ اإلنكميز ورحيميـ عف بمدي ..
وكانت الجموع الغفيرة التي أحاطت بو تميب األفئدة وىي تصيح بأعمى
صوت:
ػ اهلل أكبر ..اهلل أكبر ..
رفع الحاكـ العسكري اإلنكميزي راية االستسبلـ عندما أحكـ الثوار حصارىـ
عميو وعمى حاميتو ،وألقى السبلح ىو وجنده عندما رأى بالمنظار أف سكاف
المدينة والريؼ َق ْد زحفوا إليو بالعصى والمعاوؿ ّ ..أدى التحية العسكرية لرمضاف
باشا ،وتسّمـ الثائروف أسمحة الحامية وذخائرىا.
صاح رمضاف باشا بأتباعو:
ػ اجمعوىـ في مكاف واحد ،وامنعوا عنيـ األذى ،ألنيـ أسرى حرب ،وعمينا
أف نحسف معاممتيـ .قاؿ أبو ياسيف ،والفرحة قَ ْد غمرتو:
نرحميـ إلى العراؽ ،أو نسمّميـ إلى الممؾ فيصؿ لينظر بأمرىـ؟
ػ لماذا ال ّ
تود قصؼ تحوـ اآلف فوقناَّ ،إنيا ّ
ػ ال يا أبا ياسيف .إف طائرات اإلنكميز ّ
المدينة بالقنابؿ ..اجعموىـ في العراء مكشوفبف دروعاً بشرية ،واختبئوا جميعاً في
الغمة.
المبلجئ ريثما تنقشع ّ
قاؿ أبو أحمد:
ػ لكنيّـ لف يتركونا بخير.
ػ 116ػ
ػ يا أبا أحمد ،سيتركوننا بخير طالما أف الحامية اإلنكميزية في قبضتنا .إف
مناشيرىـ الممقاة عمينا تح ّذرنا مف قتميـ.
ػ إذف ما العمؿ اآلف ؟!
الصباغ أف يكتب جواباً لئلنكميز:
ّ طمب رمضاف باشا مف أحمد
ػ اكتب يا أحمد :
(مف رمضاف باشا حاكـ الرقة ودير الزور إلى قائد القوات اإلنكميزية في
العراؽ :السبلـ عمى مف اتّبع اليدى ،وبعد :لو أردنا إبادة الحامية اإلنكميزية
لفعمنا منذ دخولنا ،لكننا نأبى الظمـ ،كما نأبى االحتبلؿ .إف لـ ترحؿ
كؿ ّّ جنودكـ بأسرع ما يمكف ،فمف
طائراتكـ عف سماء دير الزور ويرحؿ معيا ّ
تجدوا خي ًار .نحف نذرنا أنفسنا لمشيادة في سبيؿ اهلل ،وفي سبيؿ تحرير الوطف
الغالي ،وقد أعذر مف أنذر).
يمزؽ العمـ اإلنكميزي ويحرقو ،وتارة أخرى يياجـ
كاف الشعب ىائجاً ،تارة ّ
ىب عدد مف رجاالت المدينة لحماية األطفاؿ بيوت الضباط اإلنكميز ،ولوال أف ّ
عدة أياـ:
الرد بعد ّ
لمزقيـ الشعب أشبلء ،ورماىـ لمكبلب .جاء ّ والنساء اإلنكميز ّ
(إلى رمضاف باشا .سنرحؿ عف دير الزور فو اًر ونحف بانتظار تسميمنا
الحامية كاممة في مدينة البوكماؿ )
قائد القوات اإلنكميزية في العراؽ .ق أر رمضاف باشا الرد بعصبية ،وطمب مف
أحمد الصباغ أف يكتب ليـ:
( البوكماؿ بمدة سورية ،فميكف التسميـ عمى الحدود مع العراؽ في بمدة
/القائـ)/
وفي الخامس والعشريف مف كانوف األوؿ 1919أُطمؽ سراح اإلنكميز،
وانقشعت غمامة سوداء كادت تعصؼ بالمدينة والريؼ ،وتجعؿ الدماء
تجري سيوالً.
رحؿ اإلنكميز ببل رجعة بعد أف مكثوا في المواء أحد عشر شي اًر لـ يجنوا
منيا سوى الخيبات.
كاف عمي بؾ والمناضموف في الخبليا الثورية يعقدوف االجتماع تمو االجتماع
لمبحث في آخر المستجدات ،وفي آخر اجتماع في منتصؼ كانوف الثاني عاـ
محدثاً المناضميف في مضافتو:
/1921/وقؼ عمي بؾ ّ
ػ 117ػ
متصرفاً لدير
ّ ػ يا إخوتي ،قررت الحكومة الفيصمية إرساؿ السيد مولود
الزور.
محتداً:
ّ قاؿ أبو ياسيف
ػ ورمضاف باشا؟!
ػ سيرحؿ إلى األردف.
ػ لماذا؟.
ػ إنيا أوامر عميا البد مف تنفيذىا .صاح أحمد الصباغ غاضباً:
ػ َّإنيا مؤامرة حاكياً الممؾ فيصؿ مع الفرنسييف تمييداً لدخوليـ إلى دير
مؤيداً
الزور .عميو أال يرحؿ ،وسنقؼ معو بكؿ ما نممؾ مف قوة ..قاؿ المختار ّ
الصباغ:
ً صيره أحمد
ػ يا عمي بؾ ،ما يقولو أحمد صحيح وعمينا أف نعي أبعاد ىذه المؤامرة،
ويجب أف نعي أيض ًا أننا لسنا أحجار شطرنج.
قاؿ عمي بؾ متأثّ ًار:
ػ يا إخوتي ..أعرؼ ما ال تعرفونو ..أعرؼ أف السيد مولود ىو عدو
تقميدي لرمضاف باشا ،وأنيما لف يجتمعا معاً ،لذا البد لو مف الرحيؿ ،وعمينا أف
جيداً.
نودع رمضاف باشا وداعاً حا اًر ،وأالّ نع ّقد األمور ،وسنرتّب أمورنا بعد ذلؾ ّ
صمت الجميع وكأف عمى رؤوسيـ الطير ،ألنيـ يعرفوف أف أبا راغب يعرؼ
خفايا األمور ،وعمييـ أف يطيعوه ،ويمتثموا ألمره قبؿ فوات األواف ،لذا اكتفوا
سرىا ،فابتسـ
بالنظرات التي ألقوىا في وجيو ،والذي بحكـ فطنتو وذكائو قَ ْد أدرؾ ّ
في وجوىيـ قائبلً:
ػ واآلف أخبروني عف أحواؿ ذوي الشيداء.
قاؿ المختار:
ػ لقد شكمّنا لجنة مؤلفة مني ومف أحمد وأبي ياسيف ،وذىبنا ،إلى بيوتيـ كما
أمرت ،وأعطيناىـ المساعدات المقررة فرفضوىا رغـ فقرىـ ،لكننا أرغمناىـ عمى
قبوليا.
ػ ماذا كاف يعمؿ الشييد األوؿ؟
ػ كاف عامبلً في إصبلح الطرؽ /النافعة./
ػ 118ػ
ػ أبمغوا أىمو إلرساؿ أحد أفراد أسرتو ليحؿ محمّو.
وماذا كاف يعمؿ الشييد الثاني؟
ػ كاف يعمؿ عمى عربة يبيع فييا الخضار والفواكو.
ػ خصصوا ألسرتو راتباً شيرياً يكفييـ ذؿ السؤاؿ .والشييد الثالث؟
ػ كاف موظفاً في دائرة البريد.
عينوا ابنو مكانو ،وأعطوا أسرتو الراتب الذي كاف يتقاضاه قبؿ استشياده.
ػ ّ
ُس ِرىـ ..
أما الجرحى فأرجو أف تسيروا عمى راحتيـ وتمبية مطالب أ َ
نقصر إف شاء اهلل.
ػ نحف فعمنا ذلؾ ،ولف ّ
ػ ىو الواجب يا إخوتي ،واألياـ القادمة حبمى بالمفاجآت ،وعمينا أف نستعد
ليا بكؿ عزيمة واصرار.
نير الفرات لـ ييدأ ،تتماوج تياراتو بصخب ،فتمقي في األذاف موسيقا
ال مف الشؾ...جنائزية ،وعمى الوجوه ظبل ً
كاف الرجاؿ يسيروف بتؤدة ،وألؼ سؤاؿ يدور في رؤوسيـ المثقمّة باليموـ
واألحزاف ،ولعؿ أبرز سؤاؿ يطرحونو في مجالسيـ:إلى أيف سنمضي؟ والى متى؟
ودع الرجاؿ قائدىـ الكبير ،ومحرر لواء دير الزور مف اإلنكميز بيتافات ناشجة،
ّ
وكاف ّيرد عمييـ بعبا ارت ممؤىا الثقة بالنصر ،ويطمب منيـ مواصمة التضحية
ضدىـ.
التنبو لكؿ ما ُيحاؾ ّ
والفداء ،و ّ
جوًا مف الفوضى والبمبمة في صفوؼ الشعب ،ولـ يسمـ
سرت شائعات خمقت ّ
يتأىبوف لمعودة إلى دير الزور ،وقد أ ّكدت
منيا المناضموف مفادىا أف اإلنكميز ّ
التصدي
ّ فتييأ الثوار لعممية
طبلئع االستطبلع في البوكماؿ صحة ىذه الشائعاتّ ،
والردع.
قاؿ عمي بؾ:
أطمب مف أبي أحمد وولده أحمد أف يقودا سرية مف المناضميف لدعـ الخمية ُ ػ
الثورية في البوكماؿ وقوات المقاومة الشعبية ،وسنوافييما بالدعـ البلزـ كمما
احتاجوا إليو ،عمى أف يوافونا باألخبار يوماً بيوـ.
قاؿ أبو أحمد ،وقد وقؼ رافعاً يده:
ػ منذ الغد إف شاء اهلل .
ػ 119ػ
ػ ال يا أبا احمد .منذ اآلف.
ػ كما تريد.
لـ تكف ميمة أبي أحمد وولده سيمة عمى اإلطبلؽ ،كاف عميو أف ينتقؿ بيف
القرى لتحريض أىميا ضد اإلنكميز ،كما كاف عمى ولده ميمة توزيع المياـ
واألماكف وتوجيو الثائريف إلى أىداؼ مرسومة.
وعندما دخؿ جيش اإلنكميز البوكماؿ جوبو بمقاومة لـ يكف يتوقّعيا أبدًا.
جندي وضابط، ّ كانت معركة طاحنة ،قُتؿ مف اإلنكميز أكثر مف ستيف ما بيف
واستشيد مف الثوار ثبلثة :أبو أحمد الصباغ واثناف مف البوكماؿ .تراجع أحمد
وسريتو إلى المي اديف فأطبؽ ومف معو مف ثوار المياديف عمى فموؿ اإلنكميز،
وطاردوىـ حتى قرية المصمّخة حيث كانت مقبرتيـ ىناؾ ،وقسـ كبير مف جثثيـ
وتحدث
ّ ألقي في نير الفرات ،فانتيت بذلؾ أحبلـ اإلنكميز بالعودة إلى دير الزور،
بل عف بطوالت خارقة فردية وجماعية. الناس طوي ً
قاؿ عمي بؾ وقد أمسؾ بيد أحمد الصباغ:
إني فخور بؾ يا أحمد ،ورحمة اهلل عمى أبيؾ ،واعمـ يا ولدي إف أردت
فسأنقؿ لؾ جثماف أبيؾ مف البوكماؿ إلى دير الزور.
قاؿ أحمد:
ػ والدي ػ رحمو اهلل ػ بذؿ روحو رخيصة ،واستطاع أف يقتؿ أكثر مف خمسة
اض ببقاء جثمانو في أرض عشر إنكميزي ًا ،ولوال نفاد ذخيرتو لقتؿ المزيد ،واني ر ٍ
النفس والنفيس مف أجؿ طرد اإلنكميز .لكف ػ يا
َ البوكماؿ الطاىرة التي بذؿ أبناؤىا
سيدي ػ حدث أمر غريب لـ أجد لو تفسي اًر. ّ
ػ ما ىو؟
شخصياتيـ وكانوا
ّ أتعرؼ عمى
ػ شارؾ في معركة المصمّخة ثبلثةُ ممثّميف لـ ّ
ثـ ِ ٍ
غرباء عنا .جاؤوا عمى صيوات جياد عتاؽ ،واستطاعوا أف يفتكوا باإلنكميزّ ،
المدوية ،وقاؿ
ّ اختفوا بعد النصر ،ولـ أعثر عمييـ ،وكاف الثوار يرددوف صيحاتيـ
عنيـ مشايخ الريؼ بأنيـ مف جند اهلل أرسميـ لنصرتنا.
ابتسـ عمي بؾ ،وكاف ىو الرجؿ الوحيد الذي يعرفيـ ..إنيـ عماؿ أبي
صادؽ الميكانيكي :ديكراف وآرتيف وآغوب ..ثـ قاؿ
ػ أتعرفوف يا إخوتي مف ازرني ليمة البارحة؟
ػ 111ػ
قاؿ أبو عدناف:
أود معرفتو ،لكنو
سمعت أف ضيفاً غريباً جاءؾ ليمة البارحة ،وكـ كنت ُّ ػ
فمف ىو يا تُرى؟ وِل َـ جاء؟
رحؿ قبؿ أف أراهَ ،
ابتسـ عمي بؾ ،وقاؿ:
إلي
ػ إنو قائد مناضؿ مف /حماة ،/تعرؼ فرنسا سطوتو وجبروتو ،وقد جاء ّ
ليخبرني أنو في العاشر مف تشريف األوؿ ىذا العاـ ،1921أي بعد أياـ قميمة
ستدخؿ دير الزور كباقي األلوية تحت االنتداب الفرنسي ،واف فرنسا جيّزت حممة
كبيرة الحتبلؿ دير الزور في مطمع العاـ القادـ ،وعرض عمي المساعدة وتدريب
الثائريف ،ووضع الخطط الحربية الكفيمة بإنياؾ القوات الفرنسية.
قاؿ أبو ياسيف بحماس:
ماسة إليو.
ػ إنو واهلل رجؿ شيـ ،ونحف بحاجة ّ
قاؿ عمي بؾ:
ػ طبعاً شكرتو عمى موقفو النبيؿ ،وقمت لو إننا سنحتاجو حتماً ،لكف عند
دخوؿ القوات الفرنسية دير الزور ،فقاؿ :أنا سأقيـ عند أصدقاء لي في بمدة
العشارة ،وقرية المصمّخة ،وسأكوف جاى اًز عند الطمب شريطة أف ترسؿ لي
الممثّميف الثبلثة ،وال أريد غيرىـ ،فوافقتو ،ثـ رحؿ.
قاؿ المختار:
ػ خي اًر فعمت يا عمي بؾ .لكف مف ىـ ىؤالء الممثّموف .أناشدؾ اهلل قؿ لي.
ألحوا عمى ذلؾ .أتعرؼ يا أبا
بعد التصريح بأسمائيـ .ىـ أرادوا و ّ
ػ لـ يحف ُ
عدناف أف عدداً مف النسوة أردف االنخراط في صفوؼ المقاومة الشعبية؟
قاؿ المختار ِ
دىشاً:
ػ نسوة يا عمي بؾ؟! أمف قمّة الرجاؿ؟!
ػ ال يا أبا عدناف ،يجب أف يكوف لمنسوة نصيب في ا لنضاؿ ،وما المانع مف
اكيف؟ لقد ّأيد ت زوجتي الفكرة وطمبت مني أف أبارؾ اشتراكيف فوافقت ،لكف
اشتر ّ
ضيقة.
بحدود ّ
عمييف؟
ّ نتعرؼ
ػ وىؿ نستطيع أف ّ
ػ 111ػ
وتيمناً بالممثميف طمبف أف
ىفّ ،يفؾ ُخ ُم َر ّ
أحد أف ّ
ػ يا أبا عدناف ،لف يستطيع ٌ
ليف بوضع النقاب إلى جانب الحجاب والعباءة أثناء المعارؾ ،وشرطت أسمح ّ
عمييف العمؿ ضمف أحياء المدينة ولساعات معدودات مف النيار.
ّ
خير إف شاء اهلل.
ػ ٌ
اقترب عمي بؾ مف أحمد الصباغ قائبلً:
ػ سنحضر الميمة عندؾ في البيت .ال يمكننا أف نستمر بالحزف ،نريد أف
نشيد عمى قراف حميدة مف ابف خالتيا سامي ،فما رأيؾ؟
يمؼ البيت بمف فيو،
ُدىش أحمد ،فالوقت غير مناسب ،ومازاؿ الحزف ّ
روية.
والموضوع يحتاج إلى ّ
بل:
قطع عمي بؾ عمى أحمد تفكيره قائ ً
ػ سنحضر بعد صبلة العشاء ،وسيرافقني أبو عدناف وأبو ياسيف وأبو سمطاف
وأبو صادؽ وأبو طارؽ.
ألتدبر أمري.
ػ أرجو أف تميمَني يوميف عمى األقؿ ّ
كؿ ّّ شيء جاىز يا أحمد .ستراه عندما تذىب إلى البيت.
ػ ّ
ػ عمى بركة اهلل يا عمي بؾ.
ػ 112ػ
()95
في حفؿ زفاؼ حميدة البف خالتيا سامي جرى احتفاؿ عائمي مختصر،
حضره عمي بؾ وأبو ياسيف وأبو عدناف وأبو طارؽ وأبو سمطاف وأبو صادؽ
الميكانيكي ،وارتأى أحمد إلغاء األىازيج والرقص والغناء والزغاريد إكراماً لروح
أبيو الشييد ،فوافقو عمي بؾ بسبب الظروؼ الصعبة التي تمر بيا المدينة أيضاً،
لكف الفرحة التي غمرت حميدة وابف خالتيا سامي كانت أكبر مف األحداث كمّيا.
بسنة اهلل ورسولو ،وما أف أنيى تصدؽ حميدة أف سامياً أصبح زوجيا ّ ّ لـ
القاضي الشرعي مراسيـ الزواج ومباركتو حتى بدأت أطباؽ الحموى الشيية تفوح
منيا رائحة السمف العربي تمؤل األنوؼ.
بل:
صرة مف الذىب أودعيا عمي بؾ بيف يدي حميدة قائ ً
كاف مير حميدة ّ
ػ واهلل يا بنتي لوال الظروؼ العصبية التي نمر بيا جميعاً ًّ ،ألقمت لؾ حفؿ
زفاؼ يفوؽ حفؿ زفاؼ أخيؾ.
قالت حميدة بخجؿ:
أردت مف الدنيا شيئاً سوى ابف خالتي.
ُ عماه ما
ػ واهلل يا ّ
أما سامي ،فوقؼ قائبلً:
عيني وفي قمبي ،كما أعدكـ بأنني
ّ ػ عيداً مني أمامكـ أف أضع حميدة في
سأواظب عمى الدراسة في المكتب السمطاني ألكوف جدي اًر بحمؿ رسالة العمـ
والمعرفة .قبؿ أف تنتيي حفمة القراف بدقائؽ ،جاء أحد أتباع عمي بؾ مسرعاً،
وطمب رؤية سيدة عمى عجؿ...
خرج عمي بؾ مف الغرفة ،واتّجو نحو الباب الخارجي ،وتسمـ وريقةً مف
تابعو .قرأىا فتجيـ وجيو النحيؿ ،لكنو حافظ عمى توازنو ،وعاد إلى الغرفة.
تغير مبلمح وجو عمي بؾ ،فاقترب منو ،ولـ يستطيع عمي
الحظ أبو ياسيف ّ
متيدج:
بؾ أف يخفي ما جاء بو حارسو .قاؿ بصوت ّ
ػ القوات الفرنسية اتجيت مف حمب إلى دير الزور بقيادة (دوبيوفر)
والمطموب منا عمؿ عاجؿ.
قاؿ أبو ياسيف:
ػ 113ػ
منا ما لـ يروه طواؿ حياتيـ.
ػ تميّؿ يا أبا راغب .الصباح رباح .وسيروف ّ
ػ إذف سنجتمع مع أعضاء الخمية صباحاً في المكتب السمطاني.
كاف الميؿ في اليزيع األوؿ ،لكف الشتاء يطرؽ األبواب بقوة ،والريح تصفع
بيمجية.
ّ النوافذ بقسوة ،فتطفئ ذباالت المصابيح
يودع العروسيف:
قاؿ عمي بؾ ،وىو ّ
بالرفاء والبنيف إف شاء اهلل.
ػ ّ
قاؿ أبو ياسيف ليما:
ػ أتمنى أف يكوف عاـ زواجكما عاـ تحرير إف شاء اهلل .أما المختار فابتسـ
ابتسامة ماكرة قائبلً:
شتاء دافئاً ،وحباً دائماً .وتصبحوف عمى خير.
ً ػ أتمنى لكما
كفزاعات تتمايؿ
الفرات يعزؼ مع الريح سيمفونية الخمود ،واألشجار بدت ّ
يمنة ويسرة ،تُطمؽ حفيفاً ُينبئ بأف عاصفةً عمى وشؾ الوقوع.
متنيداً:
ّ قاؿ عمي بؾ
الميـ انصرنا
عدونا في نحرهّ ..
ّ عامنا ىذا عاـ خير ،واجعؿ كيد
َ الميـ اجعؿ
الميـ أنت أعمـ بما في قموبنا
ّ تذؿ ِعبادؾ يا أرحـ الراحميف..
عمى أعدائنا ،وال ّ
كؿ خطوةفوفقنا في ّ
ّ وعمو رايتؾ،
ّ وىواجس ضمائرنا ،وأننا ال نبغي إالّ رضاؾ
نخطوىا ،وفي ك ّؿ ّّ فعؿ يقوـ بو المناضموف.
كؿّ ٍ
آونة :آميف يا رب العالميف. كاف رفاقو الذيف يسيروف خمفو يرددوف ّ ّ
وقبؿ أف يفترقوا قاؿ أبو ياسيف:
ػ متى تتوقّع وصوليـ يا أبا راغب؟
تنس يا أبا ياسيف أف لدييـ آليات وخيالة ،وقد يكونوف في الرقّة غداً،
ػ ال َ
توجيوا إلى دير الزور خبلؿ أياـ قميمة.
فإذا ما استطاعوا إخضاعيا ّ
قاؿ أبو عدناف
ػ سأفكر بخطة تصفعيـ ،وربما تردىـ عمى أعقابيـ.
ضحؾ عمي بؾ وقاؿ
ػ غداً في الصباح الباكر سنرى خطتؾ يا مختار.
ػ 114ػ
لـ يستطيع عمي بؾ النوـ ،كاف يفكر بما سيفعمو صباح الغد ،وبما يجب
المدجج بالسبلح ،بالشيداء الذيف يضحوف بدمائيـ
ّ فعمو مع الثوار لمواجية العدو
مف أجؿ الحرية والكرامة.
وتوضأ ،وصمّى هلل ركعتيف فأطاؿ سجوده
ّ أثقؿ التفكير رأسو الصغير ،فقاـ
ودعاءه ،ثـ تناوؿ لقيمات ،وارتدى لباسو ،وسار محاذاة الشاطئ رغـ البرد ورداءة
الجو.
لفت نظره عدد مف الطمبة يتحمّقوف حوؿ مدير المكتب السمطاني ،يتناقشوف
يتبينو إال حاؿ وصولو إلييـ.
في أمر ما ،لـ يستطيع أف ّ
تقدـ األستاذ عبد اهلل مدير المكتب السمطاني نحو عمي بؾ حينما رآه،
ّ
فتبسـ عمي بؾ قائبلً:
وعانقوّ ،
ػ ىؤالء أوائؿ الطمبة أـ مف المشاغبيف؟
ػإنيـ يجمعوف الصفتيف.
ػ ماذا كانوا يريدوف منؾ؟
ػ كعادتيـ ..التظاىر احتجاجاً عمى ّنية فرنسا احتبلؿ دير الزور ،وىذا مف
حقّيـ لكنني قمت ليـ :لـ تأت فرنسا كي نتظاىر ،فأرجو أف تتميّموا ،ووقتذاؾ
سأشارككـ أنا والييئة التدريسية تظاىركـ ،فاقتنعوا وانصرفوا.
ػ يا عبد اهلل سيكوف في تماـ الساعة الثامنة صباحاً عدد ال بأس بو مف
الخمية الثورية في ضيافتكـ.
ػ عمى الرحب والسعة وسأذىب المحظة ألىيئ ليـ المقاء.
ػ رافقتؾ السبلمة.
سار عمي بؾ عمى الشاطئ طويبلً ،ثـ توقؼ عندما سمع صوت حارسو
يناديو ميروالً .توقؼ حتى وصؿ إليو.
ػ ما بؾ يا سميـ؟
كؿ ّّ األسماء التي أعطيتنييا ،وىـ اآلف في
بمغت ّ
ػ جئت ألخبرؾ بأنني ّ
طريقيـ إلى المكتب السمطاني.
ػ بارؾ اهلل فيؾ يا ولدي .اذىب واحتؿ مكانؾ الذي أشرت بو إليؾ ،وأنا
سألحؽ بؾ.
ػ 115ػ
وقؼ الجميع عندما دخؿ عمي بؾ إلى المكتب السمطاني ،وىتفوا لموطف
طويبلً ،ثـ جمسوا وتناقشوا في المستجدات كافة وفي الخطط الرامية إلفشاء أو
إعاقة دخوؿ القوات الفرنسية دير الزور.
قاؿ عمي بؾ:
أعد لنا المختار؟
ػ لنسمع ما ّ
تنحنح أبو عدناف ،وقاؿ:
كؿ ّّ سرية سبعة مناضميف: ػ يجب أف نقسـ أنفسنا إلى سبع سرايا ،في ّ
ػ األولى تكمف في (عيف أبو جمعة) مع مجموعة االستطبلع .الثانية في
(عياش) ،والثالثة في (البغيمية) ،والرابعة في بساتيف (الرويمي) ،والخامسة في ّ
مغارة (ابف سعود) ،والسادسة في (الدخولية) ،والسابعة في الممعب مقابؿ المكتب
كؿ ّّ
تعينوف ليا قادة ميرة وأفراد اتصاؿ مع ّ
السمطاني ،إضافة إلى غرفة عمميات ّ
سنكبدىا
ّ سرية .صحيح أننا قَ ْد ال نستطيع أف نوقؼ زحؼ القوات الفرنسية ،لكننا
خسائر فادحة قَ ْد تعيؽ دخوليا إلى المدينة إلى فترة تسمح لممناضميف إعادة
يودع أىمو وأقرباءه وأصدقاءه كؿّ و ٍ
احد منا أف ّ انتشارىـ ولمممة صفوفيـ ،وعمى ّ ّ
ألنو قَ ْد ييبو اهلل الشيادة
صفّؽ لو عمي بؾ ،وكذلؾ فعؿ اآلخروف ،وقاؿ:
ػ أنا أضيؼ إلى سرايا أبي عدناف سرية ثامنة مؤلفة مف الييئتيف التدريسية
والطبلبية لمتظاىر وتحريض الشعب.
قاؿ أبو ياسيف:
المتطوعات .تمت الموافقة عمىّ ػ أنا أقترح سرية تاسعة مف النساء
المقترحات ،وأوكمت إلى لجنة مؤلفة مف خمسة مناضميف انتقاىـ عمي بؾ
بموافقتيـ ،لوضع ىذه المقترحات قيد التنفيذ بعد انتياء اجتماعاتيـ وتعييف لجنة
إمداد وتمويف برئاسة أبي ياسيف ،ولجنة تحريض واعبلـ برئاسة الشاعر الفراتي.
كؿ ّّ
انتظر المناضموف طويبلً ،وقد استكمموا تدريباتيـ القتالية ،وعاينوا ّ
األمكنة التي سيتواجدوف فييا ،وأقاموا تحصينات فييا ،وأودعوىا قسماً مف الذخائر
والمؤف والسبلح ،وطاؿ انتظارىـ ،حتى كاد صبرىـ ينفد..
القوات الفرنسية اصطدمت بمقاومة منظمة في قضاء الرقة ،وقد استطاعت
شخصية بدوية مف قبيمة /عنزة /اسميا (حاجـ بف مييد) أف تبسط نفوذىا
وسمطانيا عمييا وأف تمنع الفرنسييف مف دخوليا مف العاشر مف آب 1921ولغاية
ػ 116ػ
السابع عشر مف كانوف األوؿ ،ولـ تفمح جيود فرنسا بالتفاوض مع حاكـ الرقة إذ
أغروه بمئة ألؼ ليرة عثمانية كدفعة أولى ،ولـ يوافؽ ،إذ بمغت سطوة الشيخ
مد نفوذه إلى ريؼ حمب ،وكاد يحتؿ حمب لوال استخداـ فرنسا طائراتيا حاجـ أف ّ
التي شتتّت قواتو وقضت عمى العديد مف ثواره.
ولـ ينس القادة الفرنسيوف دير الزور ،إذ ذىبت قوة كبيرة أرسميا القائد
الفرنسي /ترانكيو /إلييا فوصمت في خريؼ 1921لتصطدـ بالمقاومة المنظمة
أعدتيا الخمية الثورية في دير الزور أبادت سرايا المقاومة عدداً كبي اًر مف
التي ّ
ودمرت عدداً مف آلياتو ،واستولت عمى قسـ مف القوات الفرنسية والسنغاليةّ ،
ذخائرىـ وأسمحتيـ وتموينيـ أما في الريؼ فكاف الكولونيؿ :/ريتشارد /يقود حممة
المتمرديف ،وذىؿ ريتشارد عندما وجد الريؼ منيعاً قوياً برجالو
ّ فرنسية لتأديب
وتحصيناتو ..بخنادقو ومتاريسو ،وطار صوابو عندما رأى أعمدة الميب تتصاعد
مف المطار ،إذ تبيف لو أف أربع عشرة طائرة قَ ْد أحرقت مع خزاف الوقود الرئيس،
السف ،ولـ يعد ُيسمعوجرت معركة حامية عمى تمة بيف ( مراط وخشاـ ) في موقع ّ
سوى صوت الحداة يرددوف:
كانت ثورة (العنابزة ) ،وثورة (البوخابور) تميباف الوجداف ،وتنثراف األمؿ في
ساحات االنتظار وكاف تؿ (الشروفية) حيث انتصب مدفع قديـ غنمو الثوار قبؿ
أشير مف اإلنكميز وعدد كبير مف المناضميف أمثاؿ حمود وعيباف وعربيد كانوا
بالمرصاد لكؿ تحرؾ فرنسي .استطاع الثوار أف يبيدوا أكثر مف مئة وثمانيف جندياً
وضابطاً فرنسياً وسنغالياً وعمى رأسيـ قائد الحممة ريتشارد ،وغنموا مف العدو
مدفعيف ومنظاريف استخدميما المناضؿ محمد الفبلح الذي كاف رقيباً في سبلج
المدفعية التركي ،فأحسف استخداميما ،وىربت القوات الفرنسية مف بطش الثوار
إلى مدينة دير الزور ،وصوت الحداة يبلحقيـ:
ػ 117ػ
متراسو الشروفية
ّ حطوا براسو ناموسو العمري
ميسر
ّ انجيبو شاش
والر ّ راسو انكحف الطوبجي
يناىن
خّم ْ الجفرة غرب الحرقناىن الطيارات
ميسر
ّ انجيبو لوز بالمطر وياىن
ّ المارد ميكال
وشيعت شيداءىا بكؿ فخر وشموخ أما مدينة دير الزور ،فممممت جراحاتياّ ،
شيعت(:ديكراف ،ميرنا أـ سمطاف ،وأبا طارؽ ) ،وقد أقامت دير الزور حفؿّ ..
وداع ليـ ألقى خبلليما عمي بؾ واألب مردخياف والشاعر الفراتي كممات وقصائد
ضد الفرنسييف ،وانتشرت
أججت المشاعر ،ودفعت الثوار لمزيد مف النضاؿ ّ
حي وشارع وزقاؽ.
كؿ ّّ ّ
مجالس التينئة باستشيادىـ في ّ
ػ 118ػ
()96
مكفيرة ..غيوـ سوداء ،وريح عاتية ،بروؽ ورعود قصفت
ّ السنوف تمر ثقيمة
كؿ ّّ بيت نواح وعويؿ ،وفي
رؤوس األشجار ،ولوت أعناؽ المزروعات ..في ّ
حي مأتـ..
كؿ ّّ ّ
ّ
فأرقيا ،والعيوف ذابمة تتطمع إلى اهلل بتذلّؿ
فقر وعوز وحرماف لؼ المدينة ّ
وانكسار ..
كثرت المقاىي عمى شاطئ الفرع الصغير ،والشيوخ يدفنوف الوقت بأحاديث
عرجاء ،بعضيـ يترحموف عمى العثمانييف ،وآخروف يشتموف دوف حياء فيصبلً
والحسيف وعمياً وزيداً وعبد اهلل ،وسقاه المقاىي ييزوف رؤوسيـ أسفاً ألنيـ ال
يفيموف ما يقاؿ ،وما يجري ،وما يدور ..لكنيـ يعرفوف مف استُشيد ،ومتى
وكيؼ..
قاؿ أحد الشيوخ لمساقي الذي ييز رأسو باستمرار:
ىزاز؟
ػ مف استشيد اليوـ يا ّ
وضع اليزاز أماـ الشيخ كأساً مف الشاي ،وجمس قبالتو ،وقاؿ:
كنا نحسبيـ مف الجبناء ،وكنت أناػ تصور يا أبا محسف أف شيداء اليوـ ّ
أكبرت فييـ
أسخر منيـ عندما كانوا يأتوف إلى المقيى ،واليوـ احتقرت نفسي ،و ُ
شجاعتيـ.
ػ ومف ىـ؟
ػ ابف عموش ،وابف عبوش ،وابف كردوش .كانوا ال يفترقوف إال عند النوـ،
وجاءىـ الموت ليجمعيـ مف جديد .يا قدرة اهلل!
ػ أيف استشيدوا؟
ػنصبوا كميناً لدورية فرنسية عند المكتب السمطاني وأبادوىا ،ولسوء حظيـ أف
دورية أخرى كانت ال تبعد كثي اًر عف سابقتيا رأتيـ ،فأصمتيـ نا اًر حامية ،وأردتيـ
قتمى.
ىزاز.
ػ ال تقؿ قتمى ،قؿ شيداء يا ّ
ػ 119ػ
ػ نعـ ..شيداء واهلل ،وشجعاف واهلل.
قتبلىـ في النار ،وشيداؤنا في الجنة إف شاء اهلل.
قاـ اليزاز عندما جاء عمي بؾ والشاعر الفراتي ،وجمسا إلى جانب الشيخ
أبي محسف ،وقد سمعا ما قالو اليزاز.
قاؿ عمي بؾ لميزاز:
ػ اجمب لنا إبريقاً مف الشاي بسرعة.
يتحدثوف بصوت خفيض إذ
ّ ذىب اليزاز يعدو مسرعاً ،وأخذ الرجاؿ الثبلثة
يتنصتوف لكؿ ما يقاؿ.
ّ شاىدوا بعض العمبلء في المقيى
قاؿ الشاعر الفراتي لعمي بؾ:
ػ لِ َـ ال تكوف في المدينة مقبرة خاصة لمشيداء؟
كؿ ّّ عائمة تدفف موتاىا وشيداءىا في مقبرتيا
ػ أنت تعرؼ يا أبا القاسـ أف ّ
الخاصة لكف توجد مقبرة بمحاذاة جبؿ الولي لـ ُيدفف بيا سوى أربعة شيداء مف
عائمة واحدة ،وأفكر أف أجعميا مقبرة لمشيداء.
ػ إنو تفكير صائب واهلل ،وسنزرع فييا عدداً كبي اًر مف األشجار والزىور إف
عما سمعتو ولـ نسمعو نحف. تحدثنا ّ
شاء اهلل ،واآلف أرجو أف ّ
ػ سمعت أف رمضاف باشا أخفؽ بتشكيؿ قوة في األردف مف أبناء الفرات
لتحرير دير الزور بسبب ضغط األمير عبد اهلل عميو ،كما سمعت أنو سيرحؿ إلى
بل في صفوؼ الثورة السورية الكبرى التي يقودىا سمطاف
لينضـ مقات ً
ّ جبؿ العرب
باشا األطرش.
ػ ىؿ نستطيع أف نقوؿ إنو بإذف اهلل سيكوف عاـ 1925عاـ تحرير يا
أبا راغب؟
ػستزداد قوة سمطاف باشا بانضماـ رمضاف باشا إليو ،فرمضاف باشا قائد
عسكري ومخطط حربي بارع .قاؿ الشاعر الفراتي :في حاؿ انضماـ رمضاف باشا
إلى سمطاف باشا سألقي قصيدة أجعميا حديث المحافؿ.
قاؿ أبو محسف:
ػ ونحف أال نتحرؾ ونحرؾ الريؼ معنا يا أبا راغب؟
ػ لقد وضعنا خطة لمتحرؾ يا أبا محسف ،أما الريؼ فقد تعاقدت القبائؿ،
وتعاىدت عمى طرد الفرنسييف ميما كمفيـ ذلؾ مف ثمف ،وأسموا أنفسيـ
ػ 121ػ
(العقيدات) وليـ نخوة (أبرز) عندما يسمعيا فرد منيـ فمعنى ذلؾ أف يتييأ
لمنضاؿ ويده عمى الزناد.
وسدد خطاىـ ،وأتمنى أف نتعاقد نحف في المدينة مثميـ وأف
ػ بارؾ اهلل فييـّ ،
جداً أف نظؿ /وسطييف وشرقييف وغربييف و/...ننبذ الخبلفات بيننا ،فمعيب ّ
ػ نحف متعاقدوف يا أخي .ألسنا جميعاً /أخوة بطة/؟
ػ ال يا أبا راغب ،فمازالت بعض العشائر /أخوة الخرسا ،وأخوة عدلة ،وأخوة
عمشة ،/وما زاؿ الثأر يحرؽ أوالدنا.
ضد فرنسا ،وشيداء اليوـ
ّ ػ يا أبا محسف ،نحف متعاقدوف في النضاؿ
مف ثبلث عشائر ،وىذا دليؿ تعاقدنا.
ػ صحيح ،لكف المساوئ مازالت.
ػ اتركيا لمزمف ،فيو كفيؿ بدفنيا.
قاؿ الشاعر الفراتي :
نشيع مف خبلليا
ػ سيقوـ المكتب السمطاني غداً بمظاىرة صباحية صاخبة ّ
شيداءنا ،وسندفنيـ في مقبرة الشيداء ،فيؿ توافؽ؟
قاؿ عمي بؾ:
ػ كيؼ ال أوافؽ ،وسأكوف في المقدمة إف شاء اهلل.
قاؿ أبو محسف:
سننضـ إليكـ إف شاء اهلل.
ّ ػ أنا واخوتي وأبنائي
لـ تكف مظاىرة المكتب السمطاني مظاىرة عادية .لقد خرجت دير الزور
المدرسوف يحمموف البلفتات
ّ عمى بكرة أبييا تيتؼ بحياة الوطف وبسقوط فرنسا..
ِّ
المعبرة ،والطبلب قَ ْد حمموا الطالب جبلالً الذي ما انقطع ىتافو طواؿ القماشية
تجمعف في زوايا الشوارع يزغردف.
وثمة نساء ّ المسيرةّ ،
استمر سير ا لمسيرة حتى مقبرة الشيداء ،حيث وارى المناضموف جثاميف
رفاقيـ ،وقد أقسموا عمى الثأر ليـ ،ثـ عادوا بالحماسة نفسيا التي جاؤوا بو.
بقيت دير الزور تمور غضباً وىيجاناً ،فقوافؿ الشيداء لـ تنتو ،والمقبرة عمى
رحبيا ضاقت بيـ ،فقرروا توسيعيا مف جية الشرؽ والغرب ،واحاطتيا بسياج مف
األشجار الحراجية ،وتطوع أحد المناضميف برعاية األشجار وحمايتيا.
ػ 121ػ
قاؿ عمي بؾ لجمساء مضافتو:
ػ يجب أف تحذروا العمبلء،إنيـ أخطر مف العدو المحتؿ ،فالعدو نعرفو ،أما
العمبلء فيـ يتخفّوف بأزياء ال تخطر عمى الباؿ.
قاؿ أبو ياسيف:
ػأليسوا ىـ أنفسيـ الذيف ارتضوا أف يعمموا في جياز االستخبارات الفرنسية؟
ػ ال يا أبا ياسيف ...العمبلء أفدح خط ًار منيـ ،قَ ْد يجمسوف معكـ دوف أف
تعرفوا ىويتيـ.
ػ وكيؼ لنا أف نعرفيـ؟!
تتحدثوا
ػ ال تجالسوا أحداً غير أعضاء الخمية ،أو مف تثقوف بيـ ،واّياكـ أف ّ
شرىـ .واصموا كمائنكـ ضد الفرنسييف ٍ
بأمور السياسة والحرب أماـ أحد ،فتأمنوا ّ
كما اتّفقنا .اضربوا واىربوا كحرب العصابات ،فالعدو ال يخشى شيئ ًا سوى ىذا
النوع مف الحروب.
أخذت الكمائف المنظّمة المدرّبة تقمؽ العدو الفرنسي ،ولعؿ أكبر كميف قادة
الشيخ محمد سعيد مف مركزه في /عياش /فقتؿ اثني عشر ضابطاً فرنسياً كانوا
اتيـ المكتب السمطاني بيذه العممية أخذ
متوجييف لحضور اجتماع ميـ ،وعندما ّ ّ
تحدوا الحصار ،وخرجوا بمظاىرةالمدرسيف الذيف ّ
يضيؽ عمى الطمبة و ّ ّ
صاخبة أحرقوا فييا العمـ الفرنسي ،ورفعوا عمـ سورية ،وعندما حاوؿ الجنود
سياراتيـ،
بلب عدداً مف ّ الفرنسيوف تفريؽ ىذه المظاىرة الضخمة بالقوة ،أحرؽ الط ّ
وقتموا ستةً مف جنودىـ ،فاستخدـ الفرنسيوف القوة ،واعتقموا الشيخ محمد سعيد
المدرسيف الفرار إلى العراؽ،ّ ونفوه ،بينما استطاع الشاعر الفراتي وعدد مف
وتخفّى ناظر المدرسة في قرية تبعد سبعيف كيمو مت اًر عف المدينة ،غير آسفيف
عمى تسريحيـ مف الخدمة ،وال مكترثيف باألحكاـ الصادرة بحقّيـ غيابياً ،وغدا عاـ
1928عاـ النضاؿ الحقيقي ضد الفرنسييف المحتمّيف ،كما غدا عاـ النكبات
ودمر
كؿ المؤفّ ، والمحف ،إذ زمجر الفرات غاضباً فجرفت ألسنتو الصخرية ّ
ومجالس األطفاؿ، مبلعب
الشيوخ ،واستراحات النساء ،وتخطّى بضع درجات مف بيت أبي ياسيف ،ومنع
عبار غرؽ). ساكني البيوت مف الخروج ،وعمت أصوات المتشاطئيف( :أبو ّ
فقد أراد ىذا الرجؿ الشيـ أف ينقذ أناساً ومراكب وأمتعة ،فجرفو التيار ولـ يترؾ لو
ػ 122ػ
سمي باسمو ،وأصبح أبناء دير الزور أث اًر ،حتَّى إف الفيضاف في تمؾ السنة ّ
يذكروف بألـ تاريخ الرابع والعشريف مف نيساف عاـ ثمانية وعشريف وتسعمائة وألؼ
عبار).
ذكرى (فيضة أبي ّ
قاؿ عمي بؾ لجمساء مضافتو العامرة:
ػ أتدروف يا إخوتي أف فرنسا بدأت بإنشاء جسر جديد عمى نير الفرات ،وقد
صممو ميندس فرنسي لـ يصمـ مثمو إال جس اًر واحدًا ،اشتروه منو في ساف
فرانسيسكو.
قاؿ األستاذ ثابت مستيزئ ًا:
ػ إنيـ يريدوف الجسر لتنفيذ مآربيـ ،وتحقيؽ مصالحيـ ،وتيسير أمورىـ التي
صدقني يا أخي ،عندماأربكيا مناضمو خشاـ والطابية والمريعية وما حولياّ ...
سيدمرونو.
ّ ميمتيـ بيذا المكاف
تنتيي ّ
أف مف سيبنونو ىـ ِ
ػ لنتركيـ يا أخي اآلف ُينشئوف ىذا الجسر ،وال ننسى ّ
أبناء المواء وليس الفرنسيوف ،وميما كاف األمر يبقى ىذا الجسر لصالح أبناء
المواء الذيف سيعرفوف جيداً كيؼ يمنعوف تدميره.
ػ سنكوف ليـ بالمرصاد إف حاولوا استغبللو ضدنا ،وسيجد الفرنسيوف منا ما
يسرىـ.
ال ّ
ػ ما أخبار ناديؾ الثقافي؟
ميمة عف (المستقبؿعمنا عبد الوىاب محاضرة ّ ػ منذ يوميف ألقى ابف ّ
ميمة أيضاً عفوتطمعات الجماىير) ،وسيمقي غداً األستاذ راغب محاضرة ثقافية ّ
(الوحدة والتجزئة) ،وبعدىا بثبلثة أياـ سيحيي الشاعر توفيؽ أمسية شعرية...
ػ انتبو يا أخي فناديكـ مراقب مراقبة شديدة.
ػ أعرؼ ذلؾ ،وسأجعؿ كؿ العناصر الموكمة ليا مراقبة النادي إما
محاضريف ،واما شعراء أو أنيا تمؿ وترحؿ بصمت.
ناد آخر ،وىو سيمارس تحت ستار الرياضة ميامو ػ سيكوف في المدينة ٍ
النضالية واسمو /نادي الجراح /تيمناً بالقائد العربي (أبو عبيدة بف الجراح) ،وقد
وافؽ عميو الحاكـ الفرنسي (جاكو) ،ومتصرؼ الفرات رشدي الصفدي شريطة
ممارسة الرياضة دوف غيرىا ،فوافؽ رئيس النادي السيد قاسـ ىنيدي ومديره
الشاعر توفيؽ قنبر.
ػ سنقؼ جنباً إلى جنب مع ىذا النادي َّ
ألنو سيكوف بؤرة ثقافية.
ػ 123ػ
ػ طبيعي ذلؾ ،وسندعمو بكؿ المستمزمات المادية والمعنوية.
ثـ ما لبث أف قاؿ:
صمت عمي بؾ ،وكأنو يف ّكر بأمر ما َّ
ػ يا أبا زىير ،سمعت أنؾ ستسافر قريباً إلى موسكو؟
تمقيتيا ،وسألبي الدعوة إف شاء اهلل.
ػ دعوة ّ
ػ أبا زىير ،الروس باردوف ،ونحف شعمة نار ،فكيؼ سنتّفؽ معيـ؟.
عدوؾ صديقؾ ،وكؿ دعـ منيـ سيخدـ قضيتنا المصيرية عدو ّ ػ أبا راغبّ ...
وسيكوف خي اًر إف شاء اهلل.
ػ الخير في ما اختاره اهلل.
العَمـ السوري ،كيؼ كاف وكيؼ
ػ أبا راغب ...ىناؾ استفسار والتباس حوؿ َ
أصبح ،ولماذا؟
وعمَـ العراؽ ،وكانت فرنسا ال تريده
ػ العمـ يا أبا زىير كاف َعمَـ شرقي األردف َ
ألنو صنيعة بريطانيا .كاف ذا ثبلثة ألواف ،مف األعمى األسود فاألبيض فاألخضر َّ
وعمى الطرؼ األيسر منو زاوية حمراء في وسطيا نجمة بيضاء ذات سبعة أشعة.
يرمز األسود فييا لراية العباسييف ،واألبيض لراية األموييف واألخضر لمفاطمييف،
والمثمث األحمر لمثورات العربية ،والنجمة البيضاء لسوريا.
اختصت بنجمتيف ،عمى أف تُمغي النجوـ عند تحقيؽ الوحدة بيف
ّ العراؽ
األقطار الثبلثة.
الوطنيوف وضعوا في مشروع الدستور العمـ الجديد بألوانو الثبلثة (أخضر،
أبيض ،أسود) وعمى األبيض ثبلثة نجوـ حمراء ذات خمسة أشعة مسايرة لفرنسا
لمعَمـ العربي وانما تساىموا في تغيير شكؿ
يفرطوا باأللواف األربعة َ
ومزاعميا ،ولـ ّ
العَمـ السوري.
َ
ػ إذا كاف األمر ىكذا ،فبل يضير شيئاً.
يمؼ المواء كمّو ،ففرنسا جاءت لتبقى ،واف لـ يستطع الثوار
التوتّر ما زاؿ ّ
إخراجيـ اليوـ ،فإف األياـ القادمة حبمى باألحداث ،ستتضافر الجيود مدينة وريفاً
وقوة أشد...
كما كاف سابقاً ،لكف بوتيرة أعمى ّ
المتفجرات
كاف أبو ياسيف وعائمتو يسيروف معظـ الميؿ في تجييز الذخائر و ّ
ليوـ يرونو قريباً...
وحدث ما توقّعو أبو ياسيف:
ػ 124ػ
تفجر الموقؼ في البوكماؿ ،وطغى عمى األحداث كمّيا.
ّ
قاؿ عمي بؾ.
ػ ضابط االرتباط بيننا وبيف مناضمينا في البوكماؿ ىاىو اآلف ىنا بينكـ،
وسيحدثكـ بالتفصيؿ عف مجريات األحداث.
وقؼ أحمد الصباغ ،وقاؿ:
عينوا مستشا ًار ليا يدعى /تاكو ،/قاـ ىذا ػ منذ أف دخؿ الفرنسيوف البوكماؿ ّ
ويتذرع
ّ المستشار بممارسات مذلّة لؤلىالي وبدأ يفرض الضرائب عمى السكاف،
بأتفو األسباب مف أجؿ تأديب شيوخ المنطقة ،وقد فرض ضريبة مقدارىا تسعوف
ليرة ذىبية وخمس وعشروف بندقية عمى عشيرة /الحسوف /مف العقيدات ،فوقؼ
التصدي لفرنسا بكؿ ما يممؾ مف
ّ مقر اًر
الشيخ مشرؼ الدندؿ رافضاً ىذه الضريبةّ ،
قوة ،وكانت الخمية الثورية والمقاومة الشعبية كميا معو ،وتوصمنا باألمر إلى تنبيو ّ
القرى كافة لبلمتناع عف إعطاء الضرائب ،وأخذ الحيطة والحذر ،ونصب الكمائف
عمى طريؽ دير الزور ػ البوكماؿ ،ومياجمة أية قوة تأتي مف ىناؾ ،وبالفعؿ
قَِدمت ثبلثوف سيارة ومصفّحة مف دير الزور ،فأطمؽ عمييا الكميف النار بعد أف
سدوا الطريؽ بالحج ارة ،وقتؿ قائد الحممة (شوفميو) مع عدد كبير مف جنوده والذت ّ
بقية الحممة بالفرار إلى دير الزور ،وقد ُجف جنوف القوات الفرنسية ،فألقت
الطائرات الفرنسية المناشير تطالب مف خبلليا الشيخ مشرؼ الدندؿ باعتقاؿ
الجوي،
تعرضت المنطقة بالكامؿ لمقصؼ ّ منفّذي اليجوـ وتسميميـ لممحاكمة واال ّ
مما
فرفض الشيخ مشرؼ ىذا الطمب ،فأصدر الفرنسيوف عميو حكماً باإلعداـَّ ،
اضطره إلى المجوء إلى العراؽ مع أفراد أسرتو ،وألقت القوات الفرنسية القبض عمى ّ
المؤبد .استطاع
ّ بالسجف عمييما فحكمت اليامة محمد عمو ابف
و اهلل عبد شقيقو
توفي محمد في السجف.يفر مف السجف بمساعدة المجنة الثورية ،بينما ّ عبد اهلل أف َّ
جمس أحمد الصباغ ،وقد أثنى عميو عمي بؾ ،وقاؿ:
ػ في الغد يا إخوتي قد تنفجر الش اررة الثانية مف دير الزور .ستقاـ مباراة في
المبلكمة بيف /فريد عميوي عضو نادي الجراح ومبلكـ فرنسي مشيور اسمو
الح َكـ حتماً إلى المبلكـ الفرنسي ،وىذا ما
نيكواليدس ،/والح َكـ فرنسي ،لذا سينحاز َ
سيغضب الجميور ،فأرجو أف تأخذوا المزيد مف الحيطة والحذر ،واالستعداد لقتاؿ
رّبما يكوف ضارياً .راقبوا الطرقات ،وانصبوا الكمائف ،ودعوا القناصة يحتموف أماكنيـ
عمى األسطحة ،فربما يكوف الغد حاسماً إف شاء اهلل.
ػ 125ػ
قاؿ أبو ياسيف:
ػ أتسمح لي أف أدع زوجتي وأميا تأخذاف مكانييما في ساحة األحداث؟
ػ ال يا أبا ياسيف .ليس اآلف أرجوؾ.
المتفجرات.
ػ لكنني أحتاج إلييما في نقؿ الذخائر و ّ
ضيقة أرجوؾ.
ػ إذف أوافؽ بحدود ّ
ػ كما تريد.
وجرت المباراة في الموعد المحدد ،وقد تج ّمع مئات مف المتطوعيف الشباب،
احد منيـ يخفي مدية وعصا عجراء في ثيابو ينتظروف المحظة الحاسمة، وكؿ و ٍ
وحيا الجماىير المحتشدة ،فصفّقوا لو طويبلً ،وعندما صعد
وصعد المبلكـ الديري ّ
حيا قادة االحتبلؿ الجالسيف عمى المنصة ،فبادلوه التحية والتصفيؽ
المبلكـ الفرنسي ّ
أماـ صفير الجماىير.
الح َكـ صافرة البدء ،فأخذ المبلكماف يتراقصاف قميبلً ويدوراف في الحمبة،أطمؽ َ
فوجو المكمة تمو األخرى
الح َكـ يتابعيما باىتماـ .أخذ المبلكـ الديري زماـ المبادرةّ ،
و َ
عمى وجو المبلكـ الفرنسي حتَّى أدماه ،وضربو ضربة أخرى مصحوبةً بتصفيؽ
الجماىير ،فترّنح المبلكـ الفرنسي عمى أرض الحمبة ،والصيحات تتالى :اهلل أكبر...
الح َكـ أف المبلكـ الفرنسي لـ يعد يقوى عمى الوقوؼ أنيضو اهلل أكبر وعندما شعر َ
ورفع يده عالياً منيياً المباراة لصالحو معمناً لمجماىير أف المبلكـ الديري لـ يمتزـ
بقواعد المعبة فضرب المبلكـ الفرنسي بمكاف ممنوع جعمو يئف ويترّنح ،فوقؼ
ثـ ارتجؿ قصيدة شعرية أججت متحدثاً بالفرنسية كبلماً قاسياًَّ ،
ّ الشاعر توفيؽ قنبر
المشاعر ،فياج الشعب ،وأخرج كؿ واحد منيـ مديتو وعصاه ،وىاجموا الفرنسييف،
فقتموا عدداً كبي اًر منيـ ،وجرحوا عدداً أكبر ،حتَّى أصبحت حمبة المبلكمة وما حوليا
ساحة حرب دموية ،وخرج الشعب بتظاىرة كبيرة أحرقوا فييا ثبلث سيارات فرنسية،
ولـ تنتو ىذه الثورة إال باستخداـ العنؼ ،فاستشيد عدد مف المناضميف ،وألقوا القبض
عمى واحد وخمسيف مناضبلً أودعوىـ السجوف، ،وأصدروا أحكاماً قاسية عمى
الفاريف وعمى رأسيـ المناضؿ توفيؽ ،قاؿ عمي بؾ وىو ييز رأسو: المناضميف ّ
ػ رحمة اهلل عمى شيدائنا .شيداؤنا في الجنة ،وقتبلىـ في النار.
قاؿ المختار:
ػ لقد رأيت بأـ عيني كيؼ قاتؿ آغوب ،ولـ يجبف عندما أحاطوا بو ...رأيتو
يقتؿ عدداً مف الفرنسييف ،ويجرح بعضيـ قبؿ أف ُيقتؿ ...يا إليي! كـ كاف بطبلً!.
ػ 126ػ
ػ ىو الوفاء يا أبا عدناف ،رحمة اهلل عميو وعمى شيدائنا اآلخريف ،وعمينا أف
ونوزع عمييـ بعض المؤف ،وسيرافقنا أبو صادؽ ّ نزور عائبلتيـ لنواسييـ،
الميكانيكي وأبو ياسيف.
ػ أجؿ يا أبا راغب ،وكؿ شيء جاىز ،وستنطمؽ العربة معنا.
أولى الزيارات كانت إلى بيت أحمد الصباغ ...كانت األـ تيذي باسمو كؿ
آونة ،وسعدى لـ تنضب دموعيا رغـ مواساة والدىا وحديث أبي راغب عف بطوالتو،
وكيؼ استشيد بعد أف قتؿ ستة فرنسييف أحاطوا بو مف كؿ جانب ،أمر أبو راغب
وقبؿ الحسف والحسيف قببلت دامعة
بوضع المؤونة المخصصة آلؿ الشييد في منزلو ّ
ثـ توجيوا إلى
فودعيـ ىو وأعضاء المجنة عمى عجؿ َّ ولـ يستطع المكوث طويبلًّ ،
بيت آغوب ،حيث استقبمتيـ (أناىيت) أرممتو التي ارتدت ثوب الحداد عمى روحو.
قدمت ليـ الضيافة البلئقة ،فقاؿ عمي بؾ:
نكنو لممرحوـ مف حب وتقدير ،فيو واهلل
ػ يا أخت (أناىيت) ،أنت تعمميف ما ّ
منا ،ويكفينا فخ اًر أنو ضحى بروحو مف أجؿ حريتنا ،رحمو اهلل وأسكنو فسيح
واحد ّ
جناتو.
ّ
قالت أناىيت:
نحبو
كنا ّػ يا أبا راغب ...نحف لـ نيرب مف الموت حتَّى في أحمؾ الظروؼّ ،
ألنو الخبلص مف البؤس والحرماف والظمـ والعدواف ...ساقنا أعداؤنا إليو،كثي اًر َّ
أكنا في أرضنافسرنا في طريقو ،ونذرنا أنفسنا قرابيف لمحرية والعدالة ،سواء ّ
المغتصبة ،أـ في أرضكـ المحتمة .نحف أصحاب رسالة مثمكـ ،والحمد هلل عمى ما
كتب وما قسـ.
قاؿ المختار:
ػ يا أختنا الكريمة ،اقبموا مف عمي بؾ ىذه المؤونة.
وكاف سائؽ العربة قد أنزؿ كيساً مف الطحيف وآخر مف البرغؿ وعمبة مف
الشاي ،وصفيحة مف الزيت.
قالت أناىيت مشيرة إلى أبي صادؽ:
ػ ىذا الرجؿ الشيـ لـ يتركنا بحاجة أبداً ،واهلل إنو يعطينا فوؽ حاجتنا أضعافاً
ماسة إلييا.
مضاعفة ،وال حاجة لي بيا أبدًا .أرجو أف تعطوىا لمف ىو بحاجة ّ
قاؿ عمي بؾ:
ػ 127ػ
فوزعييا صدقةً عمى روحو الطاىرة.
ػ إف كنت يا أختنا لست بحاجة إليياّ ،
قاؿ ليا أبو صادؽ:
ػ خذييا يا أختاه ،أرجوؾ.
ىزت أناىيت رأسيا موافقة ،وشكرت أعضاء المجنة عمى زيارتيـ ليا.
ّ
قاؿ عمي بؾ ،وىو وفي الطريؽ إلى عائمة الشييد مصطفى:
ػ يا مختار ،كاف مصطفى رحمو اهلل أوؿ مف أطمؽ النار عمى َح َكـ المباراة ،ولـ
المنصة ،إنو يستحؽ التكريـ واهلل.
ّ ُيقتؿ إال بعد أف قتؿ ضابطيف كانا جالسيف عمى
ػ أجؿ يا أبا راغب ،وواهلل كاف مقاتبلً شرس ًا.
قاؿ أبو ياسيف:
كنت واهلل أنوي تزويجو حماتي /شاكي /فقد أُعجب بيا رحمو اهلل ،وأعجبت بو
ػ ُ
لكف
يقو عمى الزواج ،وقد تجاوز سنة الخامسة واألربعيفّ ، أيضاً ،وكاف فقي اًر لـ َ
تترصده.
ّ المقادير كانت
ابتسـ عمي بؾ قائبلً:
بحبو لشاكي لما ترددت لحظة واحدة في تزويجيا لو ،ولدفعت
كنت أدري ّػ لو ُ
المير وكؿ مستمزمات الزواج.
وتمخض عف عجوز تتوكأ ّ طرؽ المختار باب أىؿ مصطفى ،ففتح بعد حيف،
عمى عصا .كانت تنظر إلى القادميف إلييا بعينيف غائرتيف دامعتيف ،وفميا األدرد
يطمؽ عبارات الترحيب.
دخؿ عمي بؾ البيت مع أعضاء المجنة ،وجمسوا في فناء ٍ
بيت يشكو مف قمّة
ىز عمي بؾ رأسو وقاؿ متنيّداً:الجرذاف فيوّ ...
ػ ال حوؿ وال قوة إال باهلل العمي العظيـِ ...ل َـ لـ تخبرني يا مختار عف أحواؿ
ىؤالء الفقراء؟ سامحؾ اهلل.
سيدي ...أقسـ لؾ باهلل العظيـ أنني كمّما عرضت عمى مصطفى مساعدة
ػ يا ّ
نعمو ،ال ينقصنا أي شيء
عمي بغضب :الحمد هلل عمى َ
يرد َّ
مادية أو غيرىا كاف ّ
سوى حرية الشعب.
ػ يا أبا عدناف ،أنت مختار ،وىي مسؤوليتؾ .كاف عميؾ أف تزوره في البيت
لتستكشؼ أحوالو .أنظر جيداً ،ال شيء في بيتو البتة .كيؼ يكوف ىذا؟
ػ 128ػ
وقدمت لكؿ
قطعت العجوز عمى عمي بؾ حديثو عندما جاءت إلى ضيوفياّ ،
و ٍ
احد منيـ كأساً مف األعشاب الطبية قائمة:
ػ إنيا خمطة جمعتيا بنفسي مف بساتيف الرويمي جزاىـ اهلل خي اًر .إنيا أفضؿ مف
الشاي والقيوة .اشربوىا ىنيئاً مريئاً.
كاف عمي بؾ عمى ثقة مف أف ليس في بيتيا س ّكٌر أو شاي أو قيوة ،لكف أبت
نفسيا الشكوى إال هلل .قاؿ بعد ألي:
وتمني عمينا ،واهلل سنمبي
ػ يا أماه ...أنت أـ الشييد ونحف كمّنا أبناؤؾ ،اطمبي ّ
مطالبؾ ميما ثقمت عمينا.
ابتسمت العجوز وقالت:
ػ يا ولدي ...لقد رحؿ زوجي إلى دار اآلخرة ،وترؾ لي ولديف .واحداً مات
بالسؿ ،ومصطفى استشيد في سبيؿ اهلل ،وأنا أنتظر لقاء ربي .ال أريد مف الدنيا
شيئاً.
منا ىذه المساعدة.
ػ يا أماه ...أرجو أف تقبمي ّ
وأشار إلى العامؿ أف ُيدخميا إلى بيتيا (الطحيف والبرغؿ والسكر
والشاي والزيت).
يا أماه ،سأزورؾ إف شاء اهلل مف حيف آلخر ألرى احتياجاتؾ ،واف لـ يسعفني
الوقت ،فسيزورؾ المختار ،ويقوـ بالواجب.
ػ شك اًر يا ولدي ،واهلل ال أريد شيئاً إال رحمة ربؾ.
جفؼ عمي بؾ دموعو التي ىطمت رغماً عنو ،وقاؿ ألبي عدناف:
تدوف لي قائمة بأسماء الفقراء والمحتاجيف.
ػ يا أبا عدناف ...أرجوؾ أف ّ
ابتسـ المختار ،وقاؿ:
أسجؿ لؾ؟ الشعب معظمو فقير ،وزاده االحتبلؿعمف أدلّؾ و ّ ػ يا أبا راغبّ ،
والقحط واليباس والفيضاف فق اًر ومعيشة ضنكاً.
ىز عمي بؾ رأسو وقاؿ لنذىب إلى عائمة الشييد طارؽ. َّ
كاف طارؽ رحمو اهلل مف المناضميف الصمبيف الذيف نذروا أرواحيـ لخدمة
متفوقاً في عممو التجاري والزراعي ،لكنو
الوطف ،وكما كاف متفّوقاً في دراستو ،كاف ّ
ينس ثأر أبيو مف الفرنسييف ،وكانت زوجتو األرمنية (لوسيف) وابنو زياد يمثّبلف
لـ َ
عمو مصمح إلى جانبو أباً وأخاً وصديق ًا،قضية .عند استشياد والده وقؼ ّّ أمامو
ػ 129ػ
وكانت لوسيف التي كاف يسمييا (القمر) قم اًر مضيئاً ليس في حياة طارؽ وحده وانما
حب زوجيا وولده وأعمامو وأُسرىـ ،إضافة إلىفي حياة العائمة بأكمميا ،لتفانييا في ّ
أنيا كانت تدير تجارتو وزراعتو بذكاء وميارة نادرتيف ،وتنثر الخير عمييـ جميعاً
تتعودىا األسرة مف قبؿ.
بطريقة لبقة لـ ّ
كاف طارؽ مف القناصة الميرة ،استطاع أف يقنص أكثر مف عشرة جنود
فرنسييف وسنغالييف قبؿ أف يستشيد.
استقبؿ مصمح أبا راغب وأعضاء المجنة بترحاب كبير ،وما ىي إال دقائؽ حتَّى
وقبمو ،وبمّؿ وجنتيو بدموعو،
دخمت لوسيف وولدىا زياد .احتضف عمي بؾ زياداً ّ
وكذلؾ فعؿ أعضاء المجنة .قاؿ عمي بؾ:
حي في قموبنا كما ىو حاؿ ػ زياد يا ولدي ،ولتسمع أمؾ وعمؾ ما أقولو :طارؽ ّ
ألف شييديف عظيميف مثؿ طارؽ وأبيو يمثّبلف والده الشييد ،لترفعوا رؤوسكـ عالياً َّ
مر السنيف ...ىذه رؤوسنا نحنييا هلل أوالً وليما ثاني ًا
رمزيف ال يمكف تجاىميما عمى ّ
ألنيما غرسا فينا حب الشيادة وضرورة تحرير الوطف ميما غمت التضحيات ،فينيئاً
لكـ ىبة الشيادة التي ييبيا اهلل لمف اصطفى مف عباده.
قاؿ مصمح:
ػ يا عمي بؾ ،وليسمع أعضاء المجنة الكراـ بأنني منذ ىذه المحظة جندي مقاتؿ
في سبيؿ اهلل والوطف .أريد أف ألحؽ بكؿ فخر بأخي وابف أخي فبل تحرموني نعمة
الشيادة.
قالت لوسيف بعد أف كفكفت دموعيا:
ػ أنا واهلل لف أبخؿ بحياتي أللحؽ بزوجي وعمي ،وأرجو أف تقبموني مع النسوة
البلتي يشاركف في المقاومة الشعبية.
قاؿ زياد:
أماه ...أنا لست صغي ًار ،انظري...
ػ وأنا يا ّ
وأخذ يمط بجسمو الصغير ليتطاوؿ...
ط جسده
ضحؾ عمي بؾ ،وأعضاء المجنة مف رؤية زياد وىو يحاوؿ أف يم ّ
الصغير أكثر فأكثر ،وقاؿ:
ػ كمّنا لموطف يا أبنائي ،كمّنا إلى الجياد إف شاء اهلل.
قالت لوسيف وقد أخرجت مف جيبيا وريقة:
ػ 131ػ
ػ عمي بؾ ...ىذه وصية زوجي ،كتبيا قبؿ استشياده ،وأوصاني أف أسمّميا لؾ
عند استشياده فأرجو أف تتسمّميا.
يودوف
كانت الوريقة تحتوي عمى عشرة أسماء لطبلب مف المكتب السمطاني ّ
تجمعات الفرنسييف.
االستشياد في سبيؿ اهلل ،وىـ عمى استعداد لتفجير أنفسيـ في ّ
دسيا في جيبو.
بتمعف ،وطواىا ،و ّ
قرأىا عمي بؾ ّ
أصر المختار وأبو ياسيف وأبو صادؽ الميكانيكي
في الطريؽ إلى المضافةّ ،
عمى معرفة وصية الشييد طارؽ ،فأطمعيـ عمي بؾ عمى مضمونيا.
قاؿ أبو ياسيف:
الشباف يمكف أف تقير؟
ػ ىؿ تعتقد يا عمي بؾ أف أمةً بيا مثؿ ىؤالء ّ
ػ ال واهلل ...أبداً .ولكنني لف أضحي بو ٍ
احد منيـ.
المعوؿ في مستقبؿ المواء .ليتابعوا تعميميـ فيو
ّ إنيـ أوائؿ الطمبة ،وعمييـ
الجياد األكبر.
ػ 131ػ
()97
كؿ
تتالت الضربات عمى باب بيت أبي ياسيف ،وصوت المختار يعمو مع ّ
ولما لـ ُيفتَح الباب ،حوقؿ المختار وبسمؿ طويبلً ،وساءؿ ٍ
طرقة منادياً أبا ياسيفّ ،
ثـ أيف زوجتو وأميا؟!
نفسو وىو ييبط الدرجات الخمس( :تُرى أيف ذىب أبو ياسيف؟ َّ
َّ
البد أف أم اًر طارئاً قد حدث ...يا رب اجعميا خفيفة عمييـ).
ووقؼ أماـ درجات البيت ،وأخذ يقدح زناد الفكر ...يف ّكر ويخمف ،وكؿ ٍ
أونة ّ
ىـ
ّ وعندما مكروه. قدر اهلل ...الميـ احفظيـ مف كؿيعمو صوتو :ال سمح اهلل ...ال ّ
بالذىاب فوجئ بأبي ياسيف يقؼ قبالتو:
ثـ أيف زوجتؾ وأميا؟ أيف؟
كنت يا رجؿ؟! لقد شغمتني واهللَّ ...
ػ أيف َ
كنا ،وأيف زوجتي
ثـ سأروي لؾ أيف ّ
ػ تعاؿ يا أبا عدناف لندخؿ البيت ّأوالً ،ومف َّ
ىيا.
وأميا ...ادخؿ يا أبا عدناف ،وستشرب معي كوباً مف الشاي األحمر المذيذّ ...
تزوج أـ ياسيف ،وكانت أشبلء أسمحتو
كاف بيت أبي ياسيف مرتّباً نظيفاً منذ أف ّ
مرتّبة المعة عمى طاولتيا...
طباخاً ميدانياً ،ووضع إبريؽ الشاي عميو ،وجاء بكوبيف نظيفيف
بسرعة أشعؿ ّ
وعمبة السكر ومصفاة الشاي ،ووضعيا أماـ أبي عدناف...
كاف أبو ياسيف يدندف وىو يسير بأغنية أرمنية أذىمت المختار:
ػ ماذا أسمع؟
ػ أغنية أرمنية تعمّمتيا مف زوجتي ،كمماتيا تقوؿ:
"إيو يا وطني المجيد!
يا مف كاف يأتيو ش ّذاذ اآلفاؽ مف المضائؽ والفموات ليغرسوا الرماح في قمبو...
أييا الصامد عمى مفترؽ طرؽ األمـ المتحاربة تحت كابوس العصور القاسية
حبؾ"أغني ّ
نت روحي الحكمة بمسانؾ كي ّ وسنابؾ الخيؿ اليائمة لقد لقّ َ
ػ اهلل ...اهلل يا أبا ياسيف .كممات جميمة ،وصور حموة ،ىؿ ترفندا شاعرة؟
ػ ال .إنيا تردد دائماً ِشعر (أواديؾ) قريبيا.
صدقني يا أبا ياسيف إنيـ سينتصروف.
ػ ّ
ػ أعرؼ ذلؾ ...اسمع ىذا الشعر أيضاً:
ػ 132ػ
انحزت نحو الضعفاء تأكمني الديداف
ُ "إذا
فأية حاجة تبقى لؤلسود؟!
واذا نجوت مف الدببة المفترسة
يتعمّؽ بي البعوض المتعطّش إلى الدماء
جمست غير عابئ
ُ واذا
تنزؿ عمي البراغيث الحقيرة مثؿ شرر ٍ
نار مذرو ّ
واذا ىربت مف نطح ذي قروف
تناولتني مخالب الكواسر الجارحة الجائعة
التجأت إلى غرؼ العنابر العفنة
ُ واذا
تتمقّاني رائحة الضفادع قبيحة المنظر الكريية".
ػ ماذا أسمع اليوـ؟ واهلل إنيا أمسية شعرية ...ومف قاؿ ىذا الكبلـ الجميؿ؟
ػ قالت لي إنو مف حوارّيات شاعرىـ الكبير كريكور ناريكاتسي.
ألف مف يحفظ مثؿ ىذا الشعر يسيؿ عميو أصبحت شاع اًر يا أبا ياسيفَّ ...
َ ػ
اإلتياف بمثمو...
الشعر وال أنظمو يا أبا عدناف ،ولتعمـ أنني كمّما شربت الشاي ػ أنا أتذوؽ ِ
األحمر أحببت أف أسمع ِ
الشعر ،فتقوـ أـ ياسيف بيذه الميمة دوف كمؿ أو ممؿ.
ػ بارؾ اهلل لؾ فييا يا أخي .لكف أيف زوجتؾ وأميا؟!
ػ إنيما في ميمة إنسانية وتكتيكية بآف واحد.
ػ لـ أفيـ قصدؾ!
ػ ستفيـ بعد قميؿ.
سكب أبو ياسيف كوبيف مف الشاي القرمزي لممختار ولو قائبلً:
ػ انظر ما أجمؿ ىذا الموف يا مختار! إنني أعشقو.
ػ إنو يذ ّكرني بدماء الشيداء ...إنو لونو يا أبا ياسيف.
عيني.
ّ ػ وليذا أحبو لئبل تغيب صورتو عف
ػ اآلف قؿ لي يا أبا األسرار :أيف عيالؾ؟
األرمنيات ،واني أب ّشرؾ بأف عدد الممثمات سيزداد خبلؿ أياـ.
ّ ػ إنيما يتفقّداف
ػ 133ػ
ػ بارؾ اهلل فييف ،واهلل أعطيف وأوفيف.
ػ أريد أف أسألؾ يا أبا عدناف عف أخبار سعدى.
ػ سعدى بعد رحيؿ زوجيا تقوـ بخدمة أـ أحمد ،وتيتـ بتعميـ ولدييا الحسف
والحسيف.
ػ سمعت أف أـ أحمد مريضة ،ما رأيؾ بزيارتيا؟
ػ واجب يا أبا ياسيف ،وسنزور بعدىا أبا سمطاف.
ػ أبو سمطاف؟ ما بو؟
ػ قيؿ لي أنو مريض.
ػ إذف وجبت زيارتو أيضاً .قـ لنذىب.
كاف النير يعزؼ لحف المساء بأوتار القموب المكمومة ،والشجر يرقص مذبوحاً
عاؿ مف شرفات البيوت ونوافذىا ،واليواء مثقؿ ٍ
بصوت ٍ مف النواح الذي يتردد
باألنيف والزفرات...
بوابة الوقت ليغفو عمى وسادة العمر ،والدمع يكتب فييمر مف ّالخريؼ ّ
المدمى...
ّ صحائؼ الذكريات أحبلـ النبض الخافؽ ونثار القمب ووجيب الزىر
فضاءات الروح مؤلى بالمواعج وأغاني النخيؿ الشجية ،الفؤاد جمرة ،والدـ
صييؿ ،وعويؿ الريح ُبردة األجساد.
يتناىى إلى األسماع صوت ينوح:
ػ 134ػ
ػ إلى أبي سمطاف .بمغني أنو مريض أيضاً.
ػ إذف نذىب معاً.
ػ ادخبل بسرعة ،وأنا بانتظاركما.
دخؿ المختار وأبو ياسيف بيدوء .كانت زوجة أحمد تمبس السواد ،وتتحدث مع
حميدة أختو حديثاً جانبياً .توّقفتا عف الحديث عندما رأت سعدى والدىا مع أبي
وحيت أبا ياسيف .دخموا جميعاً غرفة أـ
وقبمت يد والدىاّ ،
ياسيف .أسرعت سعدىّ ،
أحمد ،وقد أحاط بيا حفيداىا الحسف والحسيف ،بينما سامي يذرؼ الدموع سخية...
اقترب منو المختار ،ورّبت عمى كتفو قائبلً:
ػ كميا بيد اهلل وبأمره يا ولدي .إف حدث مكروه ال سمح اهلل ،فأنا في بيت أبي
سمطاف.
ألقى المختار النظرة األخيرة عمى أـ أحمد ،وىي مغمضة العينيف تيذي باسـ
فجره المختار عمى
أحمد ...حوقؿ أبو ياسيف وبسمؿ ،ولـ يستطع أف يتمالؾ نفسوّ .
ٍ
عجؿ ،وخرجا مف البيت.
ثـ قاؿ عمي بؾ:
كاف عمي بؾ ينتظرىما .ساروا قميبلًَّ ،
ػ كيؼ رأيتما أـ أحمد؟
قاؿ المختار متنيّداً:
مودعة.
ػ األعمار بيد اهلل .أظف أنيا ّ
قاؿ أبو ياسيف:
تمزؽ قمبي.
ػ كمّما ذكرت أحمد ّ
قاؿ عمي بؾ:
ػ أوصيؾ يا أبا عدناف بيا .عميؾ أف تراقب وضعيا الصحي باستمرار .يجب
ثـ أخبرني ّأوالً بأوؿ.
تقصر بحقّياَّ .
أال ّ
ػ سأفعؿ إف شاء اهلل.
ػ أعممتـ بآخر األخبار؟
وحدقا في عيني عمي بؾ طويبلً:
صمت المختار وأبو ياسيفّ ،
/المية
ػ لقد ألقوا القبض عمى فاطمة الجذمور ،ورّبما ساقوىا اليوـ إلى سجف ّ
مية /في بيروت.ّ
ػ 135ػ
ػ يا ليـ مف أنذاؿ! يسترجموف عمى امرأة!
سيت ما فعمتو بالفرنسييف وىـ
ػ لكنيا امرأة تعادؿ مئة رجؿ يا أبا عدناف .أن َ
يطاردوف الثوار؟
ػ ال أبداً .وكيؼ أنسى؟ لقد ر ّشت مسحوؽ الفميفمة الحمراء الكاوية في عيوف
جراء ذلؾ يقتموف الجنود الفرنسييف ويسمبونيـالجنود الفرنسييف ،وكاف الثوار مف ّ
تسببت في مقتؿ أكثر مف عشريف جندياً فرنسياً.
سبلحيـ ،لقد ّ
ػ ليذا السبب يعاقبونيا عقوبة شديدة .سنحاوؿ يا إخوتي إنقاذىا بكؿ ما أوتينا
مف قوة.
ػ كيؼ؟
ػ الترّبص بالسيارة التي ستنقميا إلى بيروت ،واالستيبلء عمييا في الطريؽ إلى
حمب.
ػ لكننا ال نعرؼ متى سيتـ سوقيا!
ػ سأعرؼ ،وأبمّغكـ.
فتمخض عف فتاةّ توقّفوا عند باب خشبي عتيؽ .قرع المختار الباب بيدوء،
رائعة الجماؿ رغـ تقادـ السنيف عمييا .وجييا خاؿ مف األصبغة .عيناىا الواسعتاف
يسكنيما حزف عميؽ .تمتمت شفتاىا المكتنزتاف عندما رأت أصدقاء والدىا:
تفضموا.
ػ أىبلً بكـّ ،
ضرتيا،
ثـ تبعتيا ّ
ثـ وقفوا عندما دخمت أمياَّ ،
دخموا غرفة الضيافة وجمسواَّ ،
ورحبوا طويبلً...
فيمّموا ّ
قاؿ عمي بؾ:
ػ أيف أبو سمطاف؟
قالت أـ سمطانة:
ػ إنو في غرفتو معتكؼ حزيف عمى فراؽ أـ سمطاف.
ػ قيؿ لي إنو مريض؟
ػ ال .الحمد هلل ليس مريضاً.
ػ إذف دعيو ِ
يأت إلينا.
ػ بالحاؿ إف شاء اهلل.
ػ 136ػ
دخؿ أبو سمطاف بمحية كثّة ووجو شاحب .سمّـ عمى الجميع ،وجمس متيالكاً.
قاؿ عمي بؾ:
ػ ما شاء اهلل عميؾ ...ماذا تفعؿ بنفسؾ يا رجؿ؟
ػ لقد انتييت يا عمي بؾ.
يحبيا .ادعُ ليا
ػ انتييت؟ ما ىذا اليأس؟ ميرنا رحمت شييدة يا أخي .إف اهلل ّ
ميمة شاقّة.
بالرحمة ،وانفض غبار الكسؿ واليأس والقنوط .أمامؾ يا أبا سمطاف ّ
ػ أنا جاىز .لـ يعد أي شيء يمنعني مف المحاؽ بأـ سمطاف.
ػ لكف أيف سمطاف.
ػ إنو ما زاؿ عند المبل حسف يتمقى دروس الفقو والحديث والنحو والببلغة عمى
يديو .لكنو سيحضر قريباً .ىذا موعده .ماذا تشربوف؟
قاؿ المختار:
ػ نريد شاياً ،لكف ليس مثؿ شاي أبي ياسيف.
ػ عمى الرحب والسعة.
وىـ عمي بؾ بالحديث ،لكنو صمت عندما فُتح الباب
خيـ الصمت ىنييةّ ، ّ
ودخؿ سمطاف يحتضف كتابو ودفتره.
عانؽ سمطاف ضيوؼ أبيو ،وجمس قُبالتيـ.
قاؿ عمي بؾ:
ػ ما شاء اهلل يا سمطاف ...لقد أصبحت رجبلً.
عمي
عماه ،وخاالتي وأختي سمطانو يتآمروف ّ
ػ لقد تجاوز سني العشريف يا ّ
لتزويجي.
ػ ونِعـ التآمر يا ولدي ،وأنا وأعمامؾ نضـ أصواتنا ّ
إلييف.
عماه...
ػ لكف يا ّ
لـ يدع عمي بؾ سمطاناً يكمؿ عبارتو ،فقاؿ:
عمي والكؿ يشيد عمى ِّ
ػ يا ولدي ،الزواج نصؼ الديف ،وعصمة لممسمـ ...لؾ ّ
عمي وحدي ،فقط أريد منؾ أف تقوؿ مف ىي ما أقوؿ :إف ميرؾ وتجييز عروسؾ ّ
كي نذىب لنخطبيا لؾ ،دعنا نفرح بؾ ،نريدؾ أف تمؤل البيت أطفاالً ،فالحزف يجب
أال يتسمؿ إلى بيوتنا ونفوسنا لئبل نموت جزعاً...
ػ 137ػ
عماه أف الوقت غير مناسب اآلف؟! ػ أال ترى يا ّ
ػ لِ َـ يا ولدي؟
الجنة.
عماه ،ببلدنا محتمّة ،ولي أمنية أف ألحؽ بأمي إلى ّ
ػ يا ّ
ػ يا ولدي ،االستشياد ىبة مف اهلل ،ييبيا مف يشاء مف عباده ...خالد بف الوليد
يعطيا اهلل لو .ليس معنى ذلؾ أنو ليس شييدًا. يتمناىا فمـ ِ
رضي اهلل عنو كاف ّ
والجياد األكبر يا ولدي أف تيتـ برزقؾ وأرزاؽ أىمؾ وعائمتؾ ،واعمـ أف المبلئكة
رضاء لطالب العمـ مثمؾ.
ً تضع أجنحتيا
وقدمت أكواب الشاب لمجميع ،فشربوا وحمدوا اهلل ،وقاـ عمي دخمت سمطانةّ ،
لكف
صرة مف الماؿ .حاوؿ سمطاف رفضياّ ، ودس في جيبو ّبؾ ،واقترب مف سمطافّ ،
عمياً أقسـ عميو ،فقبميا شاك اًر.
ّ
قاموا جميعاً ،وأمسؾ عمي بؾ بيد أبي سمطاف قائبلً:
ػ سأراؾ الميمة في المضافةّ .إياؾ أف تتخمّؼ.
ػ سأحضر إف شاء اهلل.
في الطريؽ قاؿ عمي بؾ:
أسمعتـ ما ينوي سمطاف فعمو؟
قاؿ المختار:
ثـ لممبل حسف الذي يغرس في نفوس طبلبو حب الجياد ػ الفضؿ هلل َّ
واالستشياد .جزاه اهلل خي اًر.
قاؿ أبو ياسيف:
ػ ىؿ تعتقد يا عمي بؾ أف شيوخ القبائؿ سيستجيبوف لنداء فرنسا حوؿ اإلمارة؟
الجراح بيا فرفضوىا بإباء وشمـ،
ػ ال أعتقد ،فقد سبؽ ليـ أف حاولوا إغراء آؿ ّ
ومع ذلؾ فقد أرسمنا إلييـ مراسيؿ ورسائؿ نح ّذرىـ فييا مف خطط فرنسا الدنيئة.
قاؿ المختار:
ػ ما رأيكما أف نذىب إلى منزؿ األستاذ ثابت لنسمع منو أخبار المؤتمر الوطني
الذي حضره ىو ومحمد بؾ في حمب؟
قاؿ عمي بؾ:
ػ 138ػ
وسيتحدثاف بتفاصيؿ المؤتمر
ّ ػ ال تستعجبل ...سيأتياف إلى المضافة مساء،
وحقيقة الموقؼ .موعدنا مساء في المضافة إف شاء اهلل.
ػ 139ػ
()98
لقد كاف المؤتمر الوطني الذي حضره األستاذ ثابت والنائب محمد بؾ بحضور
قادة المؤتمر وعمى رأسيـ إبراىيـ ىنانو في حمب ذا أىمية كبيرة عمى صعيد
النضاؿ ،فقامت الثورات في كؿ مكاف مف سورية ،وكانت دير الزور شعمة نضاؿ ال
تُخمد .حاوؿ الفرنسيوف االلتفاؼ عمييا بدعوة شيوخ العشائر واالحتفاء بيـ ،ومنحيـ
اليبات والعطايا ،لمقبوؿ باإلمارة المنفصمة عف سورية.
حاوؿ الجنراؿ /جاكو /بكؿ ما يتمتّع مف ذكاء وفطنة وحنكة ،فأخفؽ إخفاقاً
ذريعاً .قاؿ لو أحد الشيوخ:
ػ أنا ال أقبؿ ىداياؾ وعطاياؾ يا جنراؿ ،وأقسـ باهلل أنني وعشيرتي لو أكمنا
أوراؽ الشجر لف نسمح باالنفصاؿ عف سورية األـ ،ولف نيادف دعاتو بكؿ ما نممؾ
مف قوة وعزيمة.
يعده ّليناً ومطواعاً فطرده،
غضب الجنراؿ جاكو مف ىذا الشيخ الذي كاف ّ
وتوعده ،فذىب الشيخ إلى عشيرتو وىو يصرخ بالكبير والصغير ،بالذكر واألنثى: ّ
حامية نا اًر الريؼ فاشتعؿ السبلح. إلى السبلح... إلى
فرؽ الشباب منيا أما في المدينة ،فقد تشكمت لجنة عميا لمحرس الوطني .ىاجمت ُ َّ
ثكنات الفرنسييف وأماكف تواجدىـ ،واستشيد عدد كبير مف المناضميف أبرزىـ:
سركيس بف ميرنا زوجة أبي سمطاف ،وسامي زوج حميدة ،ورشود ،وحمود ...وىرب
الجنراؿ جاكو أماـ ضربات المقاومة .ولما ضاقت فرنسا ذرعاً بأساليب المناضميف
ظناً منيا بأف ىذه الوسيمة سترغـ الشعب
ووسائميـ عمدت إلى اعتقاؿ وجياء المدينة ّ
الغاضب عمى اليدوء ونبذ العنؼ ،ولكف المدينة خرجت بأسرىا تناىض االحتبلؿ
مما اضطر الجنراؿ جاكو إلى والطرؽ الدنيئة التي يسير عمييا قادة الفرنسييفَّ ،
اإلفراج عف المعتقميف شريطة وقؼ الثورة.
سكتت البنادؽ واليتافات والتظاىرات فترة وجيزة ،لكف فرع العصبة الوطنية
وقادتو رفضوا الميادنة ،وآلوا عمى أنفسيـ اتخاذ أسموب آخر لممقاومة ،فدعوا
وتعيد أثرياء المدينة والريؼ بدعـ
ّ الطبلب إلى اإلضراب العاـ مدة ستيف يوماً،
الفقراء وذوي الحاجة.
ػ 141ػ
لكنيا
حاولت فرنسا فؾ اإلضراب واعادة الحياة إلى ما كانت عميو سابق ًاّ ،
أقضوا مضاجع جنودىا ،وفتكوا بالكثير منيـ.
اصطدمت بكوكبة مف الممثّميف ّ
المدججة بالسبلح ،وحاصرت الممثّميف .فمـ تتم ّكف إال ّ ضاعفت فرنسا قواتيا
وحمؿ أسي ًار ...استطاع المناضموف مف واحد منيـ سقط مف صيوة جواده جريحاًُ ،
بعد معركة دامية فؾ أسره ،وحممو إلى بيت أحد الوجياء لمعالجتو ،وكـ كانت دىشة
الثوار عظيمة عندما كشفوا المثاـ عف وجيو ...لقد كانت (شاكي) أـ ترفنداَ ،حماة
المؤنث
أبي ياسيف ...تمؾ المرأة التي لـ تكف تتكمـ إال بطمب رسمي ،تمؾ التي تذ ّكر ّ
وتؤنث المذكر في أقواليا مثؿ ابنتيا أـ ياسيف .يا ليذه المرأة الشجاعة! التي نذرت ّ
نفسيا هلل ولسورية ،لدير الزور المناضمة وألىميا الذيف احتضنوىا وابنتيا وبنات
جمدتيا ...أرادت أف تضرب مثبلً رائعاً في الوفاء ،وكاف ليا ذلؾ.
فقبؿ يدىا ورأسيا وأسماليا المدماة،رفع أبو ياسيف رأسو عالياً عندما رآىاّ ،
وقاؿ ليا:
ػ حقاً ِ
أنت ّأـ المناضبلت.
فاحتفت دير الزور بيا ،وتحدثت النسوة عنيا طويبلً ،وأصبحت َمثَبلً وقدوة،
وقد قاؿ عنيا أحد األدباء:
"شاكي يا وردة كيماخ الندية ...يا بوح العذابات الطويمة
شاكي يا رمز الحرية والكرامات ...يا أـ المناضبلت...
يا بنت أ ار ارت ...شاكي يا أخت موش وطرابزوف ...يا حبيبة تبميس وماما
خاتوف ...أنت في الدير وفينا َمثَ ٌؿ وقدوة ...وفي أرضؾ المحتمة شعمة وجذوة".
ُنقمت شاكي بعد استخراج الرصاصة مف ساقيا وتجبير كسورىا إلى منزؿ أبي
ياسيف وسط مظاىرة حاشدة صاخبة.
مقدمتيـ عمي
طوؽ الفرنسيوف بيت أبي ياسيف ،وىو مميء بالمناضميف وفي ّ
ّ
بؾ.
طمب عمى بؾ مف المناضميف البقاء ،وخرج إلى القوة الفرنسية التي تحاصر
القوة الذي نظر إلى الضفة األخرى مف النير مرتاعاً ،فرحؿ البيتَّ .
تحدث مع قائد ّ
وجماعتو عمى الفور.
عاد عمي بؾ إلى منزؿ أبي ياسيف ضاحكاً .قاؿ لو المختار:
ػ ما وراءؾ؟
ػ 141ػ
ػ لقد رحموا عندما قمت ليـ بأف الضفة األخرى مف النير مميئة بالثوار الذيف
يريدوف اقتناصكـ واحداً واحداً ،وعندما نظر قائد الوحدة إلى الضفة األخرى ،وجد
متفرقة عمى الشاطئ ،فأخذ وحدتو ورحموا جميعاً.
جماعات ّ
مساء في
ً كؿ إلى بيتو عمى أمؿ المقاءطمب عمي بؾ مف المناضميف الذىابّ ،
المضافة ،فرحموا ،وبقي المختار وأبو ياسيف مع عمي بؾ .اقتربوا مف سرير شاكي،
والفرحة تغمرىـ .قاؿ عمي بؾ:
ػ مف كاف معؾ مف الممثّميف يا شاكي؟
الصباغ ،وسعدى زوجة أحمد ،وشاميراف زوجةّ ػ كانت معي حميدة أخت أحمد
آرتيف ،وأناىيت زوجة آغوب ،وأستخيؾ زوجة ديكراف ،وتيريز زوجة سميماف ،وآرشو
زوجة عبد الحميد ،وتامار زوجة عبد الصمد ،وروزيت أختيا .كنا عشر ممثّمات في
مجموعتيف ...ليتني أعمـ ما َّ
حؿ بالمجموعة األولى .ليتكـ تخبروني!
التقيتف؟ ومف خطط ل ُك ّف
ّ اطمئني لف يكوف إال الخير إف شاء اهلل .لكف كيؼ
ّ ػ
ىذا اليجوـ الرائع؟
ػ إنيما حميدة وسعدى يا عمي بؾ.
صاح المختار:
ػ حميدة وسعدى؟ يا إليي!
قالت شاكي متنيّدة:
ػ نعـ ،حميدة وسعدى ،وقد أقسمنا أماميما عمى النضاؿ .يا مختار نحف ظمُمنا
يقدر الحرية إال المظموـ ...نحف مدينات لكـ بحياتنا وحياة اآلالؼ مف شعبي...
وال ّ
قاؿ عمي بؾ ذاىبلً:
تؤنثي المذكر؟ ماذا
المؤنث ولـ ّ
تتحدثيف بالعربية الفصحى؟ لـ تذ ّكري ّ
ػ أسمعؾ ّ
جرى لؾ؟
فقوـ لساني كثي ًار.
المقدس /القرآف الكريـّ /
ػ قرأت كتابكـ ّ
ػ وماذا تنويف فعمو بعد شفاء ساقؾ؟
ػ سأستمر بالنضاؿ يا عمي بؾ إلى أف ألقى اهلل شييدة.
ػ يا شاكي ،أرجوؾ ال تفعمي ذلؾ.
أنت ،دعنا نعمؿ بصمت وسرّية.
ػ أرجوؾ َ
أرجوؾ...
ػ 142ػ
دمعت عينا شاكي ،وىي تتحدث إلى عمي بؾ ،فأضافت ناشجة:
مت شييدة ،لكنني سأحصؿ عمى الشيادة إف شاء اهلل .أريد أف ألقى
ػ ليتني ّ
ربي وأىمي في الجنة.
قاؿ عمي بؾ ألبي ياسيف:
ػ يا لوفاء األرمف! واهلل إف أعماليـ ترفع اليامات عالياً ،في عاـ 1936قاـ
جاف ماتوسياف األرمني عندما شعر بأف المؤامرة التركية الفرنسية عمى لواء
اسكندروف ُمحكمة أحصى األرمف الذيف يحمموف أوراؽ نفوس مف المواء ،وىـ
بالمئات فساعدىـ عمى السفر إلى المواء يوـ االقتراع ،يوـ االستفتاءَّ ،
ألف المجنة
الدولية ستدرس رغبات السكاف ،وجاءت النتيجة لصالح سوريا ،واتّيمت لجنة
ثـ اتّفقت تركيا مع فرنسا عمى احتبلليا بالقوة.
االستفتاء بالتواطؤ مع العربَّ ،
ثـ قاؿ:
سكت عمي بؾ قميبلً َّ
ػ أريد منؾ يا أبا ياسيف أف تسير عمى راحة شاكي ،وال تنسى أنيا أمانة في
أعناقنا ىي وأبناء جمدتيا .أنا ذاىب مع المختار لنطمئف عمى حاؿ حميدة وسعدى.
يتأمبلف القوات الفرنسية ،وقد
سار عمي بؾ والمختار بجوار الشاطئ ،وكانا ّ
وضعت متاريس في عدد مف األماكف البارزة ،فضحؾ طويبلً ،وقاؿ:
صدقوا أف الثوار سيياجمونيـ عف طريؽ النير. ػ لقد ّ
كاف المختار يفكر بعمؽ ،حتَّى إنو لـ يأبو لما قالو عمي بؾ ،فمكزه عمي بؾ
بمرفقو قائبلً:
ػ أيف ذىب عقمؾ يا رجؿ؟ حميدة وسعدى بخير.
ػ إف شاء اهلل.
طرؽ المختار باب بيت أحمد الصباغ ،ففتحت لو ابنتو سعدى الباب .عانقيا
وتأمميا جيداً ،فمـ َير بيا ما يريب .قاؿ:
بح اررةّ ،
كنت إحدى الممثّمات يا سعدى؟ ىؿ سمح لؾ أبوؾ وأمؾ؟ ػ ِ
ػ يا والدي ،لقد اشتقت إلى أحمد .لقد رأيتو البارحة في المناـ يناديني.
ػو ِ
أنت يا حميدة ماذا تقوليف؟
شجعتني ُسعدى ،وأخذت بيدي شاكي،نذرت نفسي لمشيادة ،وقد ّ
ُ عماه ،لقد
ػ يا ّ
دربتنا عمى استخداـ السبلح جيداً.
فزودتنا بالسبلح والذخيرة بعد أف ّ
ّ
ػ متى كاف ذلؾ؟
ػ 143ػ
ػ منذ أكثر مف شير.
ػ عجيب أمركما! كيؼ لـ أعمـ بذلؾ؟
كنت تعمـ لمنعتنا واهلل.
ػ لو َ
ػ يا بنتي حراـ عميؾ الذي تفعمينو.
ػ يا عماه ،أنا لـ أتزوج بعد المرحوـ سامي ،وال أنوي الزواج ،وليس لي ىدؼ إال
الشيادة .أرجوؾ ال تقؼ في طريقي ،ألنني قررت وصممت عمى ذلؾ.
يرد عمييا ،لكنو سمع صوت عمي بؾ يناديو: أراد المختار أف ّ
قررتا عميو ،وتعاؿ أل ِ
ؽ النظرة األخيرة عمى أـ أحمد ،فإني ػ دعيما تفعبلف ما َّ
أراىا قد فارقت الدنيا.
نظر أبو عدناف إلى وجو أـ أحمد .كاف ساكناً شاحباً ،لكف شفتييا اليابستيف
كانتا تبتسماف.
ػ 144ػ
()99
مدوا
غص الجامع الكبير بالمصّميف ،وجمس العشرات عمى بابو الخارجي ،وقد ّ ّ
كرسياّ التي سعيد محمد الشيخ خطبة إلى لبلستماع آخروف ووقؼ ،ًا ان
ر وحص ُب ُسطاً
عف الشيادة والشيداء ،وأشاد فييا بأـ المناضبلت (شاكي) ،وبالممثّمات والممثّميف
الذيف يناضموف في الخفاء ،فيوقعوف أفدح الخسائر بالقوات الفرنسية ،وطالب
الشباب والشيوخ بواجبيـ المقدس لتحرير أرضيـ مف المحتؿ الغاصب ،وما إف
يوزعوف عمى المصميف صحيفة انتيت صبلة الجمعة ،حتَّى كاف عدد مف الفتية ّ
الفرات التي أنشأىا المناضؿ أحمد المصطفى ورأس تحريرىا المناضؿ الرحبي ،وقد
حوت الصحيفة عمى الكثير مف المقاالت التحريضية والقصائد المؤججة لممشاعر.
ولعؿ أبرزىا قصيدة (بني قومي) لمشاعر الشاب ناجي.
التقت جموع المصميف مع جماعات مف مساجد أخرى ،وساروا جنباً إلى جنب
بتظاىرة كبيرة لـ تشيد دير الزور مثميا منذ زمف طويؿ ،واتجيت نحو مقر الحاكـ
الفرنسي تيتؼ بسقوط فرنسا ،وتطالب الفرنسييف بالرحيؿ عف سورية.
كاف الحاكـ الفرنسي ينظر مف نافذة غرفتو بالطابؽ الثاني إلى تظاىرة أىؿ
العمائـ والمحى ،فمـ يأمر بتفريقيا بالقوة ،بؿ أمر بتفريغ كؿ مخزوف الخمر عمى
صب مف كؿ اتجاه عمى جاكو الفاسؽ ،وزمرتو
فتفرقت المظاىرة والمعنات تُ ّ
رؤوسيـّ ،
السكارى...
فوجئ الثوار في مساء اليوـ نفسو باعتقاؿ الشيخ محمد سعيد ،وصاحب جريدة
الفرات ورئيس تحريرىا والشاعر ناجي ،وصدور أمر تسريح الرحبي مف التعميـ،
فازداد غضب الجماىير ،وعبؤوا أنفسيـ ليوـ حاسـ ،وخاصة أف إخوتيـ في العراؽ
ىبوا بثورة عارمة ضد اإلنكميز يقودىا رشيد عالي.
قد ّ
اجتمع الثوار في مضافة عمي بؾ يتداولوف حديث الثورة في دير الزور
والعراؽ .قاؿ عمي بؾ:
ػ ال فرؽ لدينا بيف سورية والعراؽ .األرض واحدة والشعب واحد والمغة واحدة
والديف واحد والتاريخ واحد ،وعمينا نصرة إخواننا ،وأعرؼ مسبقاً أنيا ميمة ثقيمة تقع
عمى عاتؽ الشباب ،لكنو الوطف بحاجة إلى سواعدىـ وتضحياتيـ.
ػ 145ػ
وقؼ األستاذ جبلؿ قائبلً:
غاؿ ،لكنو الواجب يا إخوتي ،فبل حياة ػ أعرؼ أف الثمف الذي يجب أف ندفعو ٍ
مع الظمـ أبداً ،عمينا أف نذيؽ اإلنكميز الذيف يعيثوف فساداً بالعراؽ ألواناً مف العذاب،
كما نذيقو لمفرنسييف ىنا ...إلى النضاؿ يا إخوتي ..إلى النضاؿ.
وقؼ أبو ياسيف شامخ ًا ،وقاؿ:
ػ واهلل إنني أكرر ما قالو غاندي يوماً:
"لست ِ
آسفاً عمى شيء ،إال ألنني ال أممؾ إال حياة واحدة أىبيا لوطني". ُ
ليتني أييا األخوة أممؾ أكثر مف حياة ،لبذلتيا واهلل طوعاً في سبيؿ الواجب
والتحرير.
قاؿ األستاذ جبلؿ:
ِ
فميأت غداً بعد ػ يا إخوتي مف يرغب بالتطوع لبللتحاؽ بثورة رشيد في العراؽ
صبلة العصر إلى النادي الثقافي كي أسجمو ،وأعطيو التعميمات البلزمة.
قاؿ عمي بؾ:
ػ عمينا مف الصباح الباكر االستمرار بالتظاىر ،حتَّى يتـ اإلفراج عف
تتفرقوا اثنيف اثنيف
المسرحوف إلى أعماليـ ،واآلف أرجو منكـ أف ّ
ّ المعتقميف ،ويعود
وبفاصؿ زمني حتَّى ال تثيروا الريبة.
أمسؾ ياسيف بيد سمطاف ،وخرجا مف المضافة...
لـ تكف الدماء األرمنية وحدىا ىي التي جمعت بينيما .لقد التقيا عمى صعيد
الفكر والنضاؿ واالتجاه والرأي أيضاً .فكرىما ينفي الظمـ ويحارب االستبداد ،ويؤمف
بالحرية والعدالة ،وكانت آراؤىما مطابقة آلراء أستاذىما تحسيف بؾ ،وكاف اتّجاىيما
متفوقيف في دراستيما دائماً ،وفي كؿ
ماركسياً .قرأا كتب كارؿ ماركس وأنجمز ،وكانا ّ
عاـ دراسي كاف ياسيف األوؿ وسمطاف الثاني ترتيب ًا.
قاؿ سمطاف لياسيف:
ػ أخبرني عف ّأـ المناضبلت جدتؾ؟ كيؼ ىي اآلف؟
ػ جدتي ليست بخير ،فمنذ أف تفتّت عظـ ساقيا ،ولـ ينجح الطبيب في جبرىا
تماماً ،وىي تتّكئ عمى عصا عندما تسير ،وتتألـ كثي اًر .لكنيا كانت تقوؿ ألمي :إف
ياسيف سيكوف لو شأف كبير ،فبل تيمميو أبداً .كانت تحثّني عمى الدراسة أوالً ،وعمى
ػ 146ػ
فتيز رأسيا
فأصرح ليا بأفكاري ومبادئيّ ،
ّ النضاؿ ثانياً ،وتسير معي أثناء دراستي،
موافقة ،وترّبت عمى كتفي.
ػ أـ المناضبلت عظيمة ،وسيكوف حفيدىا مف أعظـ المف ّكريف إف شاء اهلل .أنا
أشاركيا الرأي دوف مجاممة.
ػ أخي سمطاف ،المستقبؿ كمو بيد اهلل ،وعمينا أف نعمؿ بكؿ ما أوتينا مف قوة،
وأف نصبر عمى الشدائد ،ونح ّكـ عقمنا قبؿ عواطفنا ،لنستطيع أف نرتقي .الوطف
العمـ والمعرفة قبؿ العواطؼ واألحاسيس.بحاجة إلى ِ
ػ صدقت يا أخي ...فأنا معؾ في كؿ صغيرة وكبيرة.
ػ ما رأيؾ في ثورة رشيد؟
ػ رائعة إف ُكتب ليا النصر.
ػ وىؿ تعتقد أنيا ستنتصر؟
ػ ال أعتقدَّ .
ألف اإلنكميز سيحبطونيا بقسوة ،ألنيا تعني طردىـ مف العراؽ،
وىذا األمر ال يريدونو عمى اإلطبلؽ.
ػ ىؿ ستمتحؽ مع الشباب المتطوع؟
ونسجؿ معاً دوف تردد.
ّ ػ سأرافقؾ غداً إلى النادي الثقافي،
مدينة دير الزور تغمي غضباً وىياجاً ،والريؼ يمور ...الثورة بركاف ،واإليماف
طوفاف ...المآذف تصدح ،والنواقيس تقرع ...والكؿ يناجي اإللو أف ينصر الحؽ
ويقتص مف الظالـ.
قاؿ أبو ياسيف لعمي بؾ:
ػ سمعت مف أـ المناضبلت مقولة ُذىمت ليا.
ػ ما ىي؟
ػ "ومثمما تيتز أوراؽ غرسة ال ّشوح بفعؿ تيارات الريح العنيفة وتسقط ،وتخضع،
كذلؾ أراد الشر قطع فروع شجرة حياتي المنتصبة عالياً".
ػ كبلـ جميؿ ،ومعناه عميؽ ...إنيا يا أخي تتذكر مأساة قوميا.
تردد ىذا القوؿ وىي تمسؾ بساقيا وتبكي.
ػ لكنيا كانت ّ
احد يا أبا ياسيف ،لكف لبوسو يتجدد في كؿ حيف واآلف ىيا بنا ،فالقائد
ػ الشر و ٌ
فوزي في بيتي .في ضيافة ولدي راغب .لنذىب إليو عمى جناح السرعة.
ػ 147ػ
نودع المتطوعيف إلى العراؽ؟
ػ أال ّ
ػ أوكمت الميمة إلى الشيخ محمد سعيد ،واألستاذ جبلؿ واألستاذ ثابت.
ػ أال نأخذ المختار معنا؟
ػ لقد سبقنا ...ىيا.
ما إف وصؿ عمي بؾ إلى أوؿ حارتو حتَّى سمع أصوات الزغاريد تنطمؽ مف
بيتو فأسرع يحث الخطى إليو ليجد ابنتو شفيقة تقؼ عمى سطح البيت مطمقة تمؾ
ثمة ىرج ومرج .نزلت شفيقة مف الزغاريد بأعمى صوتيا ،وعمى باب البيت كاف َّ
السطح مسرعة وتمقّت والدىا عمى الباب وقالت قبؿ أف يسأؿ:
ػ لقد أمرني أخي راغب أف أزغرد مف عمى سطح البيت فرحاً بقدوـ القائد فوزي
وتحدياً لمفرنسييف.
ػ بوركت يا بنتي ،وبورؾ راغب فيما أمر .ولكننا نخشى عمى ضيفنا مف
الفرنسييف ومكرىـ.
ػ ال تخش شيئاً يا والدي ،فراغب عاقؿ ويعي ما يفعؿ.
لقاء حا اًر مع القائد فوزي الذي عرفت فرنسا صوالتو وجوالتو ،وكانت
كاف ً
تأممو عمي بؾ طويبلً فابتسـ
حياً أو ميتاً ،مقابؿ جوائز سخيةَّ .
تبحث عنو ،تريده ّ
قائبلً:
خشيت عمى نفسؾ؟
َ أما
ػ َّ
كنت أخشى عمى نفسي ما قاتمت فرنسا يا أخي.
ػ لو ُ
ػ لكنني أراؾ ميموماً؟!
أتوجو إلى العشارة والمصمخة.
أحببت أف أسمّـ عميؾ قبؿ أف ّ
ُ ػ
ػ أال تمكث معنا في المدينة؟
ماسة إلي ...وعدتيـ بالمجيء ،وعندما أنتيي مف ػ ال ...إخواني ىناؾ بحاجة ّ
ىناؾ ،سآتي إليؾ ،وسأقابؿ الممثّميف الذيف ضربوا أروع األمثمة في البطولة والفداء.
ابتسـ عمي بؾ ،فاستغرب فوزي ،وقاؿ:
ػ ىؿ أخطأت في أمر؟
ػ لو كنت تعمـ مف ىـ البتسمت مثمي!
ػ مف ىـ أرجوؾ.
ػ 148ػ
ػ ّإنيف نساء عاىدف اهلل ،ونذرف أنفسيف لمشيادة.
ػ عظيـ ...عظيـ ...وىذا يسرني كثي اًر ،واهلل لقد تفوقتـ عمينا ،وحتى عمى فرنسا
وانكمترا.
وقؼ القائد فوزي ليودع إخوانو ،فقاؿ لو عمي بؾ:
ػ ال يمكف أف ترحؿ اآلف ،فالقوات الفرنسية منتشرة في أحياء المدينة بكثافة
عالية.
ػ ال تخؼ .القوات الفرنسية منشغمة بالمتطوعيف.
لقد راقبت الموقؼ عف كثب.
ػ مف سيرافقؾ في سفرؾ؟
ػ ولدؾ األستاذ راغب إف وافقت.
ػ ونِعـ الرجؿ الصمب راغب .لكنني أخاؼ عميكما إف ذىبتما.
ػ ال تخؼ .لف يعرفنا أحد .لقد أصبحت ممؾ التخفّي.
ػ رافقتكما السبلمة.
في الوقت الذي رحؿ فيو القائد فوزي كانت حافبلت المناضميف ترفع العمـ
أما الرجاؿ فقد
العربي ،وتطمؽ اليتافات ،والنساء يزغردف تارة ،ويبكيف تارة أخرىَّ ،
تجميروا ،وتظاىروا ،وأطمقوا ىتافات في حب الوطف وسقوط فرنسا وانكمترا.
ما إف حؿ المساء ،حتَّى كاف المناضموف يتوافدوف عمى مضافة عمي بؾ.
الوجوه قمقة ،والعيوف تدور في محاجرىا بحيرة ،واألفواه فاغرة تتشيّى التياـ
الحقائؽ الخفية ..األياـ سكرى ،والشيور حبمى باألحداث...
كاف عمي بؾ قمقاً مف تواتر األخبار وتعاظـ األحداث ...الريؼ يحقؽ نص ًار
ىوة مزدانة بشيدائيا وتضحيات أبنائيا البررة ...اقترب عميتمو نصر ،والمدينة مز ّ
بؾ مف األستاذ جبلؿ ،قائبلً:
ػ ضع المناضميف بصورة األحداث التي جرت في المصمخة كونؾ كنت ىناؾ.
قاؿ جبلؿ بفخر واعتزاز:
كسار ولده الصغير قائبلً :يا بني ،عندما يصؿ القائد
ػ لقد أوصى الشيخ ّ
الفرنسي إلى ىنا ،ويقوؿ لؾ (بونجور) ،قؿ لو :بونجور وتسقط فرنسا .وىذا ما حدث
فعبلً.
ػ 149ػ
كسار القائد فوزي والقائد العراقي فتيخاف أبا ريشة المذيف بحثت
احتضف الشيخ ّ
كسار وفارس
القوات الفرنسية عنيما طويبلً دوف جدوى ،وصادؼ وجود الشيوخ ّ
وعبود في البوكماؿ ليح ّذروا القائد الفرنسي فييا مف التمادي في جباية الضرائب
وتقدـ
فتوجيت قوة إلى المصمخةّ ، المرىقة ،فوعدىـ خي اًر ،لكف لـ ينتظروا كما وعدواّ ،
أحد جنودىا مف فتاة تحمؿ عمى رأسيا خب اًز ،وعندما رأى في أذنييا قرطيف ذىبييف
ساؿ لعابو ،وىجـ عمييا ،وما كاف مف الفتاة إال أف ألقت الخبز ،وىربت صائحة،
فصوب بندقيتو نحو الفرنسي وأرداه قتيبلً ،وكانت ىذه
وكاف أخوىا غير بعيد عنياّ ،
الحادثة ىي الش اررة األولى التي أحرقت اليشيـ.
تمركزت القوات الفرنسية بعد ىذا الحادث وأحاطت بمنازؿ الشيوخ الثبلثة
كسار ،ووضعت أكياس (عيوؼ) زوجة الشيخ ّ ليشعروىـ بأنيـ رىائف ،فوقفت السيدة ّ
وخبأت األطفاؿ في الطحيف أماـ المنزؿ كمتراس يقييـ مف رصاص الفرنسييفّ ،
فتجمع الرجاؿ
ّ الزوايا ،وصاحت صيحة /الفدعاف( /الروـ يا ىمي) كونيا فدعانية،
حوليا ،وقالت ليـ مستيزئة( :يحمدونكـ ،وما شفت أفعالكـ) .فقالوا ليا :لبيؾ يا
أختاه .ونشبت المعركة ضارية تحصد أعناؽ الغادريف .حصد الثوار أعناؽ ستة
وسبعيف عسكرياً فرنسياً ،وقتموا قائد الحممة (الميوتناف أسبراف) ،وجرح مساعده
(الكابتف غوركي) واعتقموا عدداً مف األسرى ،وكانت خسائر الثوار خمسة عشر
ثائ اًر ًّ وعددًا مف الجرحى .استسمـ الفرنسيوف في ىذه المعركة ،وقاـ الثوار بجمع
جثث القتمى مف الفرنسييف وألقوىا في نير الفرات.
احتشد بعد ىذه المعركة عدد كبير مف الرجاؿ مف قرى الدميـ والقرى
وكسا اًر
وتوجيوا إلى البوكماؿ ،وكاف قد سبقيـ أحد الثوار ليخبر فارساً ّ
ّ المجاورة،
ومف معيما بما جرى كي يتواروا عف أعيف الفرنسييف إلى حيف ،لكنو لـ يوفّؽ إذ
فوجئ باعتقاؿ الشيخيف.
عندما عمـ القائد الفرنسي بما جرى لمقوة العسكرية ،وىالو ما رأى بمنظاره مف
حشد جماىيري في موقع مقبرة (أبي سيباط) أسرع إلى السجف ،وأخرج الشيخ فارساً
التوجو إلى الجموع المحتشدة وارجاعيـ إلى قراىـ ،فرفض الشيخ فارس ّ طالباً منو
كسا اًر
كسار ،فأقسـ لو الضابط بشرؼ فرنسا بأف ّ الخروج مف السجف إال برفقة ّ
كسار رضيسيمحؽ بو بعد أف يقنع المحتشديف بالتراجع ،وحرصاً عمى حياة الشيخ ّ
الشيخ فارس ،وتوجو إلى الجماىير الغاضبة ،قائبلُ ليـ :إف أردتـ أف تحافظوا عمى
حياة الشيخ كسار وسبلمتو ارجعوا ،فقد أقسـ الضابط الفرنسي بشرؼ فرنسا بأف
كسا اًر سيمحؽ بو بعد أف تتراجعوا ،ورضوخاً لطمب الشيخ فارس تراجع الحشد إلى ّ
ػ 151ػ
مسافة غير بعيدة .حينذاؾ طمب الضابط الفرنسي مف حامية دير الزور إرساؿ قوة
داعمة لتأديب الثائريف ،ووصمت القوة ،والجموع ما تزاؿ تنتظر عمى الطريؽ عودة
كسار.
الشيخ ّ
توقّفت القوة الداعمة أماـ الجماىير المحتشدة ،وخرج مف بينيا جندياف عرفتيما
الحشود ،وأرادت الفتؾ بيما ،لوال أف قاؿ ليـ أحدىـ :ال تخافوا يا إخوتي إف نشبت
الحرب لف نكوف واهلل إال معكـ.
القوة الداعمة،
تحرؾ ّ أما ضابط االستخبارات الفرنسي فقد كاف يراقب بقمؽ ّ َّ
وصوبو
ّ كسار ،فأخرج مسدسو متوجية إلى البوكماؿ ،توجو إلى سجف ّ
ّ وعندما رآىا
كسار ،لكف المسدس لـ يستجب لو ،فألقاه عمى األرض بعصبية ،وتناوؿ نحو رأس ّ
كسار فأرداه قتيبلً .حدث ىذا يا إخوتي عصر يوـ وصوبيا نحو ّ
ّ بندقية الحارس
السابع عشر مف أيموؿ ،1941وسرعاف ما نقؿ ضابط االستخبارات الفرنسي جثّة
كسار ووضعيا عمى كرسي سيارتو ،ووضع عمى رأسو غطاءه وعقالو ليوىـ مف يراه ّ
بأنو حي ،ورحؿ بو عف طريؽ البادية إلى دير الزور.
قاؿ عمي بؾ:
كسار ...أجؿ سمّموا الجثّة إلى تكية الشيخ أحمد الراوي،
ػ رحمة اهلل عمى ّ
ودفنت بدير الزور.
ػ رحمة اهلل عميو ،وما تزاؿ يا إخوتي الثورة تشمؿ الريؼ ومدينة البوكماؿ،
وتصبح أكثر شراسة ،وتسمع في كؿ مكاف حداء الثوار:
ػ 151ػ
دانة وعل طوب عل نيجم خيانة بينا وما عقيدات
مكسر
ّ والدربيل يزحف باركانو يعضعض ليس ما
وحدر
ّ الخزان،
ّ مكسور مبعوجي الطيارة
ّ راعي
ربعي دوم يزيحون الشر
ػ حمداً هلل عمى سبلمتؾ يا جبلؿ ،ولنسمع اآلف أخبار الثورة في المدينة مف
المختار أبي عدناف قائد العمميات فييا.
تنحنح أبو عدناف ،وقاؿ:
ػ ّأوالً ،أريد أف أطمئنكـ عمى صحة القائد فوزي ،فيي بخير ،ويسير عمى راحتو
األستاذ راغب .ثاني ًا ،الممثّموف قد تضاعؼ عددىـ حتَّى أصبحوا يتجاوزوف مئة
أما الفرنسيوف فخسائرىـ ثبلثوف
الممثّـ .ضربوا أروع األمثمة في البطولة والفداءَّ .
أما خسائرنا فقد استشيد اثنا عشر مناضبلًجندياً وضابطاً ،ومف السنغالييف ستوفَّ .
تـ دفنيـ في مقبرة الشيداء ،وأبرز الشيداء:
ومناضمةَّ ،
(حميدة أخت أحمد الصباغ ،وسمطانة بنت أبي سمطاف ،وأبو سمطاف الجابي،
وآرتيف وزوجتو شاميراف) رحمة اهلل عمييـ جميع ًا.
ػ يا إخوتي ،ثورة دير الزور أقمقت فرنسا ،وقد وردني خبر بأف الجنراؿ ديغوؿ
سيأتي إلى ىنا ليب ّشر الشعب بقرب الجبلء.
تردىـ يومياً بكؿ استخفاؼ ،فقد تعودوا عمى قابؿ الديريوف كؿ األخبار التي ِ
خداع المستعمر .ىـ يريدوف إطفاء نار الثورة المتأججة ،ولـ يفمحوا ،ولف يفمحوا ،إذ
كانت تشتعؿ بضراوة ،تحرؽ األخضر واليابس.
قُتؿ مف الفرنسييف والسنغالييف المئات ،وأحرقت سياراتيـ وناقبلت جندىـ،
تقؿ قائد قوات شرقي السويس الجنراؿ البريطاني
ورجموا حافمة صغيرة عابرة كانت ّ
سيريس وكادوا يفتكوف بو لوال سرعة ىروبو إلى العراؽ.
وجاء ديغوؿ...
استقبمو المحافظ توفيؽ ،والحاكـ العسكري ،وقائد االستخبارات ،وعدد محدود
ووزعت القوات الفرنسية مناشير تبشر أبناء الفرات بقرب
مف الضباط والوجياءّ ،
موعد الجبلء...
ػ 152ػ
قاؿ عمي بؾ لجمساء مضافتو:
ػ عمينا أف نوقؼ عممياتنا فترة محدودة حتَّى تتك ّشؼ األمور.
قاؿ أبو ياسيف:
ػ لـ يعترض الفرنسيوف قافمة المتطوعيف العائديف مف العراؽ بعد إخفاؽ الثورة
فييا.
ػ اطمأف قمبؾ عمى ياسيف؟
ػ الحمد هلل .عاد ياسيف سميماً إال مف شظية أصابت قدمو ،وىو اآلف معافى.
ػ لماذا حزنت عمى ذىابو يا أبا ياسيف؟
يودعني. ألنو ذىب ليقاتؿ ،وانما َّ
ألنو رحؿ دوف أف ّ ػ واهلل يا أبا راغب ال َّ
قاؿ المختار:
ػ أرجو يا أبا راغب أف نمنح الفرنسييف وقتاً كافياً مف أجؿ الجبلء ،وليكف ستة
أشير عمى األقؿ ،وىي مناسبة لنعيد ترتيب بيتنا النضالي.
ضحؾ أبو ياسيف:
ػ أنت كريـ عمييـ يا مختار .ثبلثة أشير كافية.
قاؿ األستاذ جبلؿ:
ػ يا إخوتي ،لف يكوف ثمف الجبلء إال دماء الشيداء.
وستروف.
مضت الشيور ثقيمة عمى المناضميف ،وجاء إلى دير الزور محافظ جديد
طيباً مع الشعب ،لكنو مسالـ إلى أبعد الحدود .طمب مف
داغستاني األصؿ ،وكاف ّ
عمي بؾ ،ومف القادة الوطنييف أال يشيروا السبلح في وجو الفرنسييف بعد اليوـ،
مقابؿ أف يضمف رحيميـ بعد أشير معدودات.
صاح عمي بؾ:
ىدأت أنا ،فمف ييدأ الشعب .الشعب أمانة
ُ ػ أشي اًر أخرى يا خالد بؾ؟ واهلل إف
في عنقؾ ،ومطمبيـ مطمب حؽ ،فاهلل اهلل بيـ.
خرج عمي بؾ مف دار المحافظة غاضباً ،واعتكؼ في بيتو.
جاء المناضموف ،وحمموه إلى المضافة ،وىـ ييتفوف:
ػ كمّنا لموطف ...كمّنا لمجياد ...كمّنا لبلستشياد.
ػ 153ػ
قاؿ عمي بؾ:
ػ يا إخوتي ،صدؽ األستاذ جبلؿ عندما قاؿ أف الجبلء لف يكوف ثمنو إال دماء
البد مف إجبار الفرنسييف عمى الرحيؿ ميما كانت التضحيات ،لنثبت ليـ الشيداءَّ ...
أننا شعب حي ال يأبو لمموت ،ولنبرىف ليـ أننا لف ندعو يناـ إال عمى فراش مف
قتاد ...أوصموا الميؿ بالنيار واعمموا كامؿ طاقتكـ...
صرخ أبو ياسيف بأعمى صوت:
ػ إلى النضاؿ يا إخوتي ...إلى النضاؿ.
ػ 154ػ
()50
وتوزعوا خبليا في كؿ حي وشارع.
ارتدى المناضموف جبلبيب الحرب ،وتمثّمواّ ،
أقسموا عمى االستشياد وتحرير األرض مف الغاصبيف ،فأخذوا يفتكوف
بالفرنسييف وأعوانيـ ،ولـ يسمـ (شوتيؿ) الكولونيؿ الفرنسي مف غضبتيـ ،فأحرقوا
ثمة شاعر شعبي يرافؽسيارتو ،وحاصروا بيتو عند الجسر العتيؽ ،وكاف َّ
المناضميف ،ويحدو بيـ:
كانت ثورة شاممة شاركت فييا كؿ شرائح المجتمع ...ثورة قادىا المثقفوف
ونساء.
ً الثوريوف شباباً وشيوخاً ،رجاالً
فعمت الذخائر والمتفجرات التي صنعيا أبو ياسيف وعائمتو ِفعميا الكبير ،إذ
ىدمت بيوت الفرنسييف وثكناتيـ ،وحافبلتيـ ومدرعاتيـ ،وعندما الذوا بالفرار
جف جنونيـ ،وأخذوا اصطادتيـ فخاخ أبي صادؽ ،والقناصة المدربوف ،حتَّى ّ
يمطروف المدينة وسكانيا اآلمنيف بوابؿ مف رصاص غدرىـ ...قصفوا الدير ب اًر وجواً
أشدىا فتكاً ،فتياوت بيوت الفقراء عمى رؤوس أصحابيا ...قتموا بأحدث القذائؼ و ّ
األطفاؿ والشيوخ والنساء ،وكانت مجزرة لف تمحى مف ذاكرة األجياؿ أبداً.
تدارس المناضموف الموقؼ ،فقرروا إعبلف ىدنة كي يستطيعوا جمع شيدائيـ
ودفنيـ ،وترتيب خبلياىـ مف جديد ،فر ّشحوا الشاعر الفراتي لمتفاوض كونو يجيد
المغة الفرنسية بطبلقة.
ػ 155ػ
قبِ َؿ الفرنسيوف التفاوض ووقؼ إطبلؽ النار ثبلثة أياـ .كاف مف بيف الشيداء
(أبو ياسيف وزوجتو ترفندا ،والمختار أبو عدناف وابنتو سعدى ،وأناىيت زوجة
آغوب ،وأستخيؾ زوجة ديكراف ،ولوسيف زوجة طارؽ ،والقس قاطرياف ،وروزيت
وآرشو وىوري وتامار).
بكاىـ عمي بؾ طويبلً ،وكذلؾ فعؿ الثوار ،وأقسموا عمى الثأر ليـ ميما
عظمت التضحيات وغمت.
قاؿ عمي بؾ:
ػ رأيتـ كيؼ كاف المصاب جمبلً ...ىذا يا إخوتي ثمف الحرية والكرامة ،فبل
حرية دوف استشياد:
ُيدق مضر ٍ
جة ٍ
يد بكل باب الحمراء ولمحرية
ّ ٌ
ما حدث في دير الزور حدث في بقية المحافظات ...إنيا إرادة اهلل ،وال ر ّاد
لقضائو.
طة لنسؼ الجسر المعمّؽ أعدوا خ ّ
وردني قبؿ قميؿ أف الفرنسييف قد ّ
يا إخوتيّ ،
قبؿ رحيميـ ،ونحتاج إلى ثبلثة فدائييف استشيادييف إلنقاذ الجسر مف الدمار ،فمف
المتفجرات التي
ّ يجد في نفسو الكفاية والمقدرة والمعرفة بقطع األسبلؾ وابطاؿ مفعوؿ
ىـ اآلف بصدد ربطيا فميقؼ.
وقؼ شاب في الثبلثيف مف عمره ،عرفو عمي بؾ وكؿ الثائريف ِلما لو مف ٍ
أياد َ
بيضاء عمى الثورة ،فصفؽ عمي بؾ قائبلً:
ػ أنت ليا واهلل يا أبا رمزي يا أخا الخرسا.
ثـ وقؼ شاباف شقيقاف ىما عمر وحمود ،فقاؿ ليما عمي بؾ.
َّ
ػ أنتما ساعداه األيمف واأليسر.
أطمب مف الجميع أخذ الحيطة والحذر ،وأياديكـ عمى الزناد دائماً ،فاالنفجار قد
ُ
يقع بعد األياـ الثبلثة حتماً إف لـ يرحموا عف أرضنا ،وأنا سأواصؿ االتصاالت مع
شيوخ العشائر والوجياء والوطنييف ،وسأوافيكـ بكؿ ما ىو جديد.
اذىبوا يا إخوتي إلى بيوتكـ ،وال تنسوا تنفيذ ميامكـ النضالية.
ػ 156ػ
رحؿ الجميع ،وبقي عمي بؾ وحيداً يف ّكر ،وكمّما تذكر قافمة الشيداء األخيرة
يعتصر رأسو ،وتقطر مف عينيو الدموع:
ػ رباه! أيرحموف دفعة واحدة وأبقى أنا وحيداً؟! لِ َـ لـ تأخذني مع قافمتيـ؟ يا رب
ساعدني...
قدموا أنفسيـ إلى عمي بؾ
دخؿ المضافة ستة طبلب مف تجييز الفراتّ ،
(إسماعيؿ ومصمح وعبلء وفوزي وصالح وسميماف):
ػ أىبلً بكـ جميعاً ...تفضموا.
عماه .ال نريد أف نأخذ وقتاً منؾ .فقد أردنا أف نقوؿ لؾ بأننا
ػ أىبلً بؾ يا ّ
بعد.
أحد غيرؾ ُ
أعضاء جمعية الطبلب السرية التي لـ يعرفيا ٌ
نتصرؼ بغير مشورتؾ.
ّ لتحممنا أثقالنا ،ألننا ال نريد أف
جئنا إليؾ ّ
وعبدوا لكـ
ػ اسمع يا ولدي مصمح ...اآلف جاء دوركـ بعد أف استشيد رفاقيّ ،
طريؽ الحرية والكرامة ...العدو الغاصب ما زاؿ يحتؿ أرضنا بالرغـ مف أف فترة
إقامتو كما أراىا ليست طويمة ،لكنو يجب أف يخرج بالقوة ،ال نريد ِمّنةً مف أحد.
مقدمتيـ ،وتمتفّوا حوؿ المناضميف أمثاؿ
تحرضوا الشعب ،والطمبة في ّ عميكـ أف ّ
جبلؿ وسعيد وثابت وعبد الوىاب وراغب وياسيف وسمطاف وغيرىـ ،وحقّقوا الشيء
الذي لـ نستطع نحف تحقيقو.
عماه ...أنت حققت ورفاقؾ كؿ شيء ،ونحف سنكمؿ المشوار .ثؽ بي
ػ يا ّ
وبرفاقي.
عمي ًا وضيوفو
دخؿ ياسيف وسمطاف المضافة وىما يرغياف ويزبداف ،فمما رأيا ّ
ٍ
بصوت خفيض: صمتا .نظر إلييما عمي بؾ باستغراب ،وقاؿ
تحدثا ...ال أحد غريب ىنا.
ػ ماذا جرى لكما؟ ّ
قاؿ ياسيف:
تحوالً خطي اًر.
ػ االنتفاضة في المياديف والقورية تشيد ّ
ػ ماذا جرى؟
تقؿ عدداً كبي اًر مف
ػ استطاع المناضموف في المياديف نصب كميف لحافمة ّ
فدمروىا بمف فييا ،وقتموا أيضاً أربعة عشر
الضباط الفرنسييف قادمة مف البوكماؿّ ،
لفؾ
ىب أىؿ القورية ّ جندياً فرنسياً كانوا قد جاؤوا لحمايتيا ،والمياديف اآلف محاصرةّ .
الحصار عنيا ،فالتحموا مع القوات الفرنسية وقتموا أعداداً كبيرة مف جنودىـ
ػ 157ػ
اء سريعاً لنجدة أىمنا في المياديف،
متوتر اآلف ،ونريد منؾ إجر ً
وضباطيـ ،والجو ّ
خاصة وأف قوة كبيرة اتجيت اآلف إلى موقع األحداث.
ّ
صمت عمي بؾ طويبلً:
ردنا في دير الزور مزلزالً إف شاء اهلل .اذىبا وبمّغا كؿ المناضميف
ػ سيكوف ّ
لمتحرؾ فو اًر ،وأنت يا ولدي مصمح بمّغ تحياتي إلى جماعتكـ ،وقؿ ليـ عمى لساني
ّ
التحرؾ اآلف ضروري وال يحتمؿ التأجيؿ.
إف ّ
عاشت دير الزور مدينة وريفاً وبمداناً أياماً وشيو اًر قاسية ،فالفرنسيوف الذيف
ىاليـ حجـ خسائرىـ البشرية ومعداتيـ الحربية أصبحوا يضربوف في ك ّؿ اتجاه
يفرقوا بيف طفؿ ورجؿ أو شيخ أو امرأة ...لكف الخوؼ واليمع قد كالمجانيف ،لـ ّ
وحمموىـ مسؤولية تمؾ األحداث ،ولـ يفرجوا سيط ار عمييـ .اعتقموا وجياء المدينة َّ
عنيـ إال بعد تعيدىـ بإنياء الثورة وتسميـ قادتيا ،وكأف الوجياء بأيادييـ الحؿ
والربط...
وحدثوه بما جرى ليـ مف إىانة واذالؿ وطالبوه
اجتمع الوجياء مع عمي بؾ ّ
بتصعيد الثورة ميما غمت التضحيات.
ميمة إبطاؿ مفعوؿ المتفجرات
دخؿ المضافة الرجاؿ الثبلثة الذيف أوكمت إلييـ ّ
التي نوى الفرنسيوف استخداميا لتدمير الجسر المعمّؽ ،فوقؼ عمي بؾ ،وعانقيـ،
بل:
متسائ ً
ػ ماذا فعمتـ؟
تقدـ إليو أبو رمزي قائبلً:
ّ
ػ لقد وفّقني اهلل في المحظة األخيرة عمى قطع األسبلؾ ،وابطاؿ مفعوؿ
المتفجرات .الجسر في أماف يا عمي بؾ.
عانؽ عمي بؾ أبا رمزي قائبلً:
ػ بوركت سواعدكـ أييا المناضموف.
قاؿ عمر:
ػ واهلل يا أبا راغب ،لـ َي َدعنا أبو رمزي أنا وأخي أف نساعده ،كاف يقوؿ لنا :أنتما
أما أنا فإف استشيدت ،فستأخذاف بثأري شاباف في مقتبؿ العمر ،وأخاؼ عميكماَّ ،
حتماً ،وذىب وحيداً ،ووفّقو اهلل في إنجاز الميمة الصعبة.
قاؿ عمي بؾ:
ػ 158ػ
ػ بطؿ يا أبا رمزي ،بطؿ ...سيذكرؾ التاريخ وأبناء بمدؾ ،وقد يقيموف لؾ تمثاالً
عمى باب الجسر ،كونؾ المنقذ الوحيد لو.
ػ يا أبا راغب ،واهلل ال أريد تمثاالً وال شك اًر وال مكافأة .ما عممتو ىو واجبي ال
عني. أكثر وال أقؿ ،وقد تمنيت أف أستشيد فأالقي وجو ربي وىو ر ٍ
اض ّ
النار تحرؽ اليشيـ ،خرج األطفاؿ يحمموف أعبلـ سورية عالياً ،وييتفوف رغـ
أحب الشعب االستشياد ،ومضوا في طريقو غير منع التجوؿ واطبلؽ الرصاصّ ،
ىيابيف ،ال أحد يمنعيـ مف التضحية ،وال شيء يغموا في أعينيـ سوى حب الوطف ّ
والدفاع عنو...
الرقة مضرب المثؿ ،والحسكة أسطورة منذ أف أوكمت الميمة النضالية فييا إلى َّ
الجوالة وغيرىا ِ
وشمر و ّ
طي ّ محمد بؾ ،ولـ ُيجد قصؼ عامودا ورأس العيف ،فقبائؿ ّ
قامت بواجبيا الوطني خير قياـ ،وكاف الشيوخ جميؿ وادىاـ وسعيد وحمادي مف
تحوؿ إلى جماعة القمصاف الحديدية مف خيرة القادة جماعة الحزب الوطني الذي ّ
سجموا مبلحـ نضالية خالدة ،كما لـ تفمح فرنسا بمحاولة فصؿ الجزيرة الكبار الذي ّ
عف الفرات بسبب وعي القادة المناضميف.
قاؿ عمي بؾ لموطنييف في مضافتو:
الرقة بفضؿ النقيب أديب أصبحت شبو ػ الحسكة أصبحت بيد الوطنييف ،و َّ
العمَـ العربي السوري عمى مبانييا الحكومية ،ونحف عمى محررة ،والبوكماؿ رفعت َ ّ
الطريؽ إف شاء اهلل .كؿ ما أرجوه أف نن ّفذ الميمة النضالية بدقة وأمانة ،فيوـ
الخبلص أراه واهلل قريباً.
وحدث ما كاف متوقّعاً .في ليمة الثامف والعشريف مف أيار 1945انفجرت بدار
االستخبارات الفرنسية أوؿ قنبمة ألقاىا المناضؿ حسف ،وقطعت مجموعتو كافة
طرقات المدينة بالحجارة ،كما قطعوا أسبلؾ الياتؼ ،فانقطع االتصاؿ بيف القوات
الفرنسية ،واجتمعت رجاالت المدينة وزعماء العشائر بدار المحافظ غالب ،وأخذوا
تعـ الشوارع،
يتداولوف الوسائؿ الكفيمة بالقضاء عمى القوات الفرنسية ،والمظاىرات ّ
اشتدت المعركة تسع ساعات دوف انقطاع ،وانسحب العدو الفرنسي إلى ثكناتو و ّ
خارج المدينة ،وما ىي إال لحظات حتَّى رفرفت األعبلـ السورية فوؽ المباني
الحكومية والبيوت وعمى المحاؿ التجارية ،وىاجمت مجموعة سمطاف وياسيف
الشرطة العسكرية ،وألقوا القبض عمى أفراد الشرطة كافة الذيف لـ يميميـ
المناضموف ،فقتموىـ جميعاً ،وألقوا بأجسادىـ مف الشرفة معمنيف بذلؾ تطيير الجيوب
كافة.
ػ 159ػ
لـ يقؼ الفرنسيوف مكتوفي األيدي لِما حدث ،فقذفوا المدينة بالمدافع ،ونسفت
طائراتيـ البيوت والمباني الحكومية ،ولوال أف قاـ أحد أبناء المدينة الذي يعمؿ في
المطار بتعبئة الطائرات بالماء بدالً مف البنزيف الحترقت دير الزور كمّيا.
قاؿ عمي بؾ مفتخ اًر:
ػ إنو البطؿ أخو نصرة .لقد نفّذ ميمتو خير تنفيذ.
وقاؿ المحافظ:
ػ عمينا يا إخوتي أف نطمب ىدنة لدفف شيدائنا ومداواة جرحانا.
ّأيده المناضموف ،ووافقت فرنسا عمى ىذه اليدنة ،وكاف الشاعر الفراتي ىو
المفاوض نيابة عف الثوار.
قاؿ عمي بؾ:
نداء إلى الضباط وصؼ الضباط واألفراد الديرييف كافة الذيف وجينا ًػ لقد ّ
يخدموف في الجيش الفرنسي لبللتحاؽ بصفوؼ المقاومة.
قاؿ المحافظ:
ػ لقد التحؽ بنا عدد منيـ وىـ ذوو أىمية كبرى النتزاع االستقبلؿ .لكف عصبة
األمـ قررت إسناد األمف إلى الجيش اإلنكميزي لفترة محدودة.
قاؿ ياسيف:
ػ لف تكوف إقامتيا عندنا إال كإقامة شقيقتيا فرنسا.
ِقدمت إلى المدينة بتاريخ 6حزيراف 1945طبلئع الجيش اإلنكميزي الستبلـ
الميدمة،
ّ األمف ،كما قَِدمت بعدىا لجنة تحقيؽ إنكميزية طافت عمى األماكف والبيوت
ميدماً.
فأحصت تسعة وثمانيف شييداً ومئتي جريح وخمسة وثبلثيف بيتاً ّ
وحؿ الشتاء
مرت األياـ والشيور ،وتعاقبت الفصوؿ .رحؿ الصيؼ والخريؼ ّ ّ
مرعداً ومزمج اًر ،وكاف الفرنسيوف يخموف المواقع ،ويطووف أعبلميـ ،لترفرؼ أعبلـ
النصر خفّاقة ،ويتسّمـ الوطنيوف أمور ببلدىـ في صبيحة السابع عشر مف نيساف
عاـ ستة وأربعيف وتسعمائة وألؼ.
ػ 161ػ
()59
أقيـ سرادؽ كبير أماـ دار الحكومة ،رصفت عميو مف كؿ جانب األعبلـ
يينئوف أنفسيـ واآلخريف بعيد الجبلء.
السورية ،وجمس أئمة النضاؿ فيوّ ،
قاؿ ياسيف:
ػ ماذا لو عاد الفرنسيوف أو اإلنكميز إلى أرضنا؟
قاـ كبير شيوخ العشائر ،وقد رفع عصاه عالياً:
ػ إف عادوا عدنا...
(وكررىا ثبلث مرات) ،فصفّؽ لو الحاضروف طويبلً.
شؽ صفوؼ المناضميف ممثّـ ،فالتيمتو األعيف ،واشرّأبت لو األعناؽ ...كاف
يسير بتؤدة ،وقد اتّكأ عمى بارودة فرنسية طويمة ،وقبؿ أف يتحدث ،نزع لثامو،
وكشؼ عف وجيو ،فشيؽ الحاضروف ،وصاحوا بدىشة:
ػ أـ المناضبلت؟! كيؼ جاءت وىي ال تقوى عمى السير؟!
قالت بيدوء واتّزاف:
ػ يا أىمي واخوتي ،يا أبناء دير الزور المناضمة ،يا مف أنقذتـ الشعب األرمني
تعرض ليا ،يا مف احتضنتـ أطفالنا مف الموت ،ووقفتـ إلى جانبو في كؿ محنة ّ
ورجالنا ونساءنا ،يا مف منحتمونا أسماءكـ وشرؼ االنتماء إلى عائبلتكـ الكريمة...
تمنيت أف أكوف شييدة أللحؽ الخالد؟ واهلل ل َكـ ّ
ّ كيؼ ال أحضر في مثؿ ىذا اليوـ
ابنتي إلى دار الحؽ والرضواف ...لكنيا مشيئة اهلل ،والحمد هلل عمى كؿ حاؿ .لـ
وصيتي أف ال تنسوا مف بقي
ّ نبخؿ واهلل بأي عطاء ،وكنا صادقيف بالقوؿ والفعؿ.
تييئوا ليـ سبؿ العودة إلى ببلدىـ إف أرادوا ...سيذكركـحياً مف أبناء جمدتي ،وأف ّ
األرمف طويبلً طويبلً ،فنحف شعب ال يضيع الخير فينا أبداً ،وال ينسى المعروؼ
إطبلقاً.
تقدـ إلييا عمي بؾ
صفؽ ليا الحاضروف طويبلً ،وىتفوا باسميا كثي اًرّ .
والمحافظ وصافحاىا ،وأجمساىا بينيما .دخؿ السرداؽ رجؿ في الثبلثيف مف عمره،
تبدو عميو آثار النعمة والوسامة والجد .بيده حقيبة جمدية منفوخة.
وحيا بمغة عربية تشوبيا لكنة أرمنية ،وجمس ىادئاً
تأمؿ وجوه الحاضريفّ ،
ّ
صامتاً.
ػ 161ػ
ىمس عمي بؾ في أذف الشيخ محمد سعيد قائبلً:
ػ يبدو أنو أرمني .ىؿ سبؽ أف رأيتو؟
ػ ال واهلل .لكف انتظرني.
عدة خطوات ،حتَّى وقؼ أمامو ،فوقؼ ثـ خطا ّ وقؼ الشيخ محمد سعيدَّ ،
الرجؿ ،وحاوؿ تقبيؿ يد الشيخ ،لكف الشيخ سحب يده بسرعة قائبلً:
أردت دار
َ ػ أستغفر اهلل العظيـ ...اجمس يا أخي ،عمى الرحب والسعة .إف
كنت َمديناً ،فسنعطيؾ ما تفي بو
كنت جائعاً أطعمناؾ ،واف َ
أماف فقد وصمت ،واف َ
ت مطموباً أجرناؾ.
دينؾ ،واف كن َ
ػ أنا َمديف يا شيخ.
وتمف ...وقؿ لنا مف ىو الدائف حتَّى نفي َ
دينؾ. ػ اطمب َّ
ػ أنا َمديف لكـ.
تعرفني عمى شخصؾ.
ػ لنا؟! مف أنت يا أخي؟ ليتؾ ّ
حاوؿ الرجؿ أف يجيب الشيخ ،فتعثّر لسانو ،ولـ ينبس ببنت شفة ،وأخذت
دموعو تيطؿ بغ ازرة.
ػ ىؿ أنت أجنبي؟
سبابتو بالنفي.
حرؾ الرجؿ ّ
ّ
ػ عجباً! تفيـ ما أقوؿ ،وال تتكمـ؟
ثـ فتح جيب
أخرج الرجؿ مف جيبو منديبلً قماشياً ،وجفّؼ دموعو عمى عجؿَّ ،
وقدميا إلى الشيخ بكؿ احتراـ.
حقيبتو الجانبي ،وأخرج وريقة صفراء قديمةّ ،
ممياً في الورقة الميترئة ،وزادت دىشتو
عقمت الدىشة لساف الشيخ ،وىو ينظر ّ
مكب اًر بأعمى صوت:
عندما رأى توقيعو عمييا ،فصاح ميمبلً ّ
ػ اهلل أكبر ...اهلل أكبر ...اهلل أكبر.
أسرع عمي بؾ والمحافظ واألستاذ جبلؿ واألستاذ ثابت إلى الشيخ وىو يكاد
يبمّؿ الوريقة الصفراء بدموعو...
قاؿ عمي بؾ مستغرباً:
ػ ماذا أصابؾ يا شيخ؟ لقد أفزعتنا.
ػ 162ػ
كانت الدموع تمؤل عيني الشيخ ،وىو يق أر تمؾ الوريقة .أخرج الشيخ منديمو،
وقدـ الوريقة إلى عمي بؾ الذي صاح بأعمى صوت عندما قرأىا:فجفّؼ دموعوّ ،
ػ اهلل أكبر ...اهلل أكبر ...اهلل أكبر.
وتعالى صياحو عندما رأى توقيعو أيضاً عمييا.
ػ ما ىذا يا شيخ؟
ػ إنيا الحقيقة يا أبا راغب ،التي ال تخفى واف طُمست إلى حيف.
ػ اسمعوا يا إخوتي ...إف ىذا الشاب ىو /سوريف /ابف الشييد أحمد الصباغ.
كانت األلسف تتساءؿ:
ػ كيؼ عرفوا ذلؾ؟ وما ىذه الوريقة؟
قاؿ عمي بؾ:
ػ إف ىذه الوريقة ىي وثيقة زواج ىاصميؾ بأحمد الصباغ.
قفزت شاكي مف مكانيا ،واتّكأت عمى بندقيتيا ،وسارت تخب ،حتَّى وصمت
ثـ ما لبثت أف احتضنتو.
تأممتو جيداًَّ ،
سوريفّ .
وتشبث بيا ،وقاؿ ليا بأنو ابف ىاصميؾ .عانقتو،
حدثتو باألرمنية ،ففرح كثي اًرّ ،
ّ
بكاء محرقاً ،أثارت دىشة الواقفيف جميعاً.
ً وتبكي ولباسو، وجسده وجيو تشـ وأخذت
قاؿ ليا عمي بؾ:
حدثيو باألرمنية يا شاكي ،وافيمي لنا أيف تقيـ أمو اآلف.
ػ ّ
تحدث سوريف ألـ المناضبلت حديثاً غريباً.
ّ
قالت شاكي:
أمو وجدتو وخالتو .ويقوؿ إنو كاف
ػ إنو يتذكر رحمة العذاب التي القاىا مع ّ
جدتو وخالتو ،ومنذ شير نادتو أمو وىي عمى
يعيش مع أمو في أرمينيا بعد وفاة ّ
ويخرج
فراش الموت ،وأمرتو أف يفتح حقيبتيا الجمدية المودعة في صندوؽ مبلبسياُ ،
منيا ىذه الوريقة.
قالت لو الحقيقة كاممة ،وطالبتو بالسفر إلى دير الزور ورؤية أبيو واخوتو إف
كاف لػو إخوة ،وأف يحمؿ إلييـ الماؿ البلزـ إلسعادىـ ،وخوفاً مف عدـ تصديقو
أعطتو وثيقة زواجيا كدليؿ عمى صحة ّادعائو.
ػ 163ػ
وكبروا ،وحمموا سوريف عمى
لقد أذىمت الحقيقة وجوه الحاضريف ،فيمّموا ّ
األكتاؼ ،وصاحوا بأعمى صوت:
ػ سوريف ،ابف الشييد أحمد الصباغ.
قاؿ عمي بؾ لشاكي:
حية أـ ميتة؟
ػ اسأليو ...ىؿ أمو ّ
ثـ قالت:
تحدثت معوَّ ،
ّ
ػ لقد رحمت عف الدنيا بعد أف أوصتو بالسفر إلى دير الزور ،وأقسمت عميو بأف
أمو
تحدثو بالمغة العربية رغـ محاوالت ّيرى أىمو فييا ويساعدىـ ،ويعتذر عف عدـ ّ
عمى تعمُّميا .يقوؿ :استطعت أف أفيـ العربية لكنني ال أتكمـ بيا كثي اًر.
قاؿ عمي بؾ:
ػ ال ييـ ،سيتعمّميا آجبلً أو عاجبلً ما داـ جذره ىنا .وطمب عمي بؾ مف ياسيف
وسمطاف أف يأخذاه إلى بيت أىمو بعد أف يزوروا قبر أبيو في مقبرة الشيداء.
سار سوريف برفقة ياسيف وسمطاف إلى مقبرة الشيداء ،ووقفوا خاشعيف أماـ قبر
الشييد أحمد الصباغ .ق أر ياسيف سورة الفاتحة جي اًر ،فرفع سمطاف كفيو ،وتمتمت
شفتاه بأـ الكتاب ،فما كاف مف سوريف إال أف عمؿ مثميما وأخذ يتمتـ تمتمات لـ
يفيما معانييا ،لكف عينيو ىطمتا دموعاً مد اررة.
رجعوا إلى بيت أحمد الصباغ ،فوجدوا أـ المناضبلت وعمي بؾ في استقباليـ.
قالت شاكي لسوريف:
ػ إف أباؾ تزوج بعد رحيمكما إلى حمب ،ولو ولداف شاباف ىما /الحسف
والحسيف /وىاىما ىنا يعيشاف مع جدتيما أـ سامي.
أقبؿ الحسف والحسيف عمى أخييما ،فعانقاه بح اررة ،وطفرت دموعيما وىما
يحتضنانو ،وبكى الواقفوف جميعاً أماـ ىذا المشيد المؤثر.
اقترب الحسف مف أـ المناضبلت قائبلً:
ػ قولي ألخي أف يبقى معنا.
بتنيد:
نقمت لو ىذا المطمب باألرمنية ،فأجاب ،وقالت ّ
بل ،فمديو شركة كبيرة لممقاوالت تستوجب وجودهػ ال يستطيع البقاء ىنا طوي ً
ثـ ال يستطيع أف يترؾ أرمينيا وقبر أمو ،ويقوؿ لكما :خذا الماؿ الذي أحممو
ومف َّ
ػ 164ػ
كمو لكما ،واف أردتما السفر إلى أرمينيا فسأجمبكما معي بأقرب وقت لتساعداني،
وتحمبل عبء الشركة.
قاؿ الحسف مخاطباً شاكي:
ػ قولي ألخي الكبير ،نحف أيضاً ال نستطيع أف نترؾ بمدنا وقبر أبينا الشييد،
فإف رغب بالبقاء فيو أخونا الكبير الذي تجب عمينا طاعتو واحترامو وتقديره ،واف
رفض فميذىب مصحوباً بالسبلمة.
فيز سوريف رأسو ،وأخرج مف حقيبتو حفنة كبيرة
نقمت لو شاكي ما قالو الحسفّ ،
مف الدوالرات ،نثرىا تحت أقداـ أخويو قائبلً لشاكي:
ػ قولي ليما بأنني سآتي إلييما مف فترة ألخرى ،ولف يريا مني إال الخير ،فأنا
مضطر لمسفر.
انتهت الرواٌة
دٌر الزور ـ 2002/10/10م.
ػ 165ػ
ػ 166ػ
الكاتب فً سطور
ػ محمد رشيد بف عبد اهلل الحمد الرويمي
ػ مواليد دير الزور .1947
ػ إجازة في اآلداب –قسـ المغة العربية .1972
ػ عمؿ مدرساً لمادة المغة العربية ،ومدي اًر لكبرى ثانويات ومعاىد مدينة دير الزور
ومدي اًر لتحرير صحيفة الفرات األسبوعية ،وموجياً اختصاصياً لمادة المغة
العربية في دير الزور وصنعاء.
ػ رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب بدير الزور منذ عاـ 1993وال يزاؿ.
صدر لو:
1ػ الرباط الواىي –مجموعة قصص –مطبعة الفرات بدير الزور –1982.
2ػ ىدباء –مجموعة قصص – مطبعة الفيصؿ بدير الزور – .1984
3ػ المعادة – مجموعة قصص – المطبعة السميمية بدير الزور – .1992
4ػ ليؿ الظييرة – مجموعة قصص – دار حساف عطواف لمنشر بدمشؽ – 1996
5ػ الوصية – مجموعة قصص – اتحاد الكتاب العرب – 1998.
6ػ الدليؿ السياحي لمحافظة دير الزور – دار الحمزاوي لمطباعة والنشر بدمشؽ –
. 1998
7ػ دير الزور ..ماض عريؽ وحاضر مشرؽ (مشترؾ) مطبعة الجميورية بدمشؽ
–.1998
8ػ الحركة الثقافية في محافظة دير الزور خبلؿ القرف العشريف – الجزء األوؿ –
دار صائب لمنشر بدير الزور –.2113
9ػ الخموج :رواية –اتحاد الكتاب العرب –2113.
11ػ الحركتاف المسرحية والفنية بدير الزور وىي الجزء الثاني مف الحركة الثقافية
–مطبعة دار التكويف بدمشؽ –.2115
11ػ سوريف –رواية –اتحاد الكتاب العرب –.2115
لو قيد الطبع:
1ػ الطريؽ إلى الحموى –مجموعة قصص.
2ػ مف أعبلـ الفكر واألدب في دير الزور –وىي الجزء الثالث مف الحركة الثقافية.
3ػ محمد الفراتي ..الشاعر الثائر –دراسة أدبية.
4ػ عودة الكناري –مجموعة قصص لمفتياف.
5ػ عندما تسقط أوراؽ التوت –رواية.
ػ 167ػ