You are on page 1of 167

‫ػ‪1‬ػ‬

‫سورٌن‬

‫ػ‪2‬ػ‬
‫الحقوق كافة‬
‫مـحــــفــــوظـة‬
‫التـحــاد الـكـتـّاب الــعـرب‬

‫‪E-mailunecriv@net.sy‬‬ ‫البرٌد االلكترونً‪:‬‬


‫‪aru@net.sy‬‬
‫موقع اتحاد الك ّتاب العرب على شبكة اإلنترنت‬
‫‪www.awu-dam.org‬‬

‫لوحة الغالف ‪ :‬لمفنان اإليراني الكبير‬


‫رضا كاتوزريان‬
‫‪‬‬

‫ػ‪3‬ػ‬
‫محمد رشٌد روٌلً‬

‫ســـــورٌن‬
‫رواٌة‬

‫من منشورات اتحاد الكتاب العرب‬


‫دمشق ‪5005 -‬‬

‫ػ‪4‬ػ‬
‫ػ‪5‬ػ‬
‫اإلهداء‬

‫إلى روح العالمة (علً بك صائب) الذي نظم أهزوجة النضال‪ ،‬ورحل‬ ‫ـ‬
‫عن الدنٌا بصمت كاألولٌاء والقدٌسٌن‪.‬‬
‫إلى روح المفكر السوري (ٌاسٌن الحافظ) ابن دٌر الزور البار‪ ...‬ابن‬ ‫ـ‬
‫األرمنٌة كما كان ٌحلو للبعض أن ٌسمٌه‪.‬‬
‫إلى أرواح شهدائنا األبرار الذٌن ضحوا بأرواحهم وأوالدهم وأموالهم‪،‬‬ ‫ـ‬
‫كً نعٌش أحراراً أباة‪.‬‬
‫إلى الصدٌق العزٌز (سورٌن) والغالٌتٌن (هاصمٌك وتروندا) واألخوات‬ ‫ـ‬
‫(نورا‪ ،‬مٌرنا‪ ،‬لوسٌن‪)...‬‬
‫أهدي هذه الرواٌة‬
‫محمد رشٌد روٌلً‬

‫ػ‪6‬ػ‬
‫« ال شًء ٌجعلنا كباراً كاأللم الكبٌر »‬
‫ـــ المارتٌن ـــ‬

‫ػ‪7‬ػ‬
‫رأي فً الرواٌة‬
‫أ‪ .‬د‪ .‬عبد الحق حمادي‬
‫الهواس‬
‫دكتوراه فً اللغة العربٌة‬
‫وآدابها‪.‬‬

‫ما قرأت رواي ة أصيمة مف عيوف األدب العالمي إال وجدت نفسي أعيش‬
‫تفاصيميا أثناء وبعد قراءتيا‪ .‬وال غرو في ذلؾ فالرواية المتميزة ىي التي تستولي‬
‫وتسيرؾ حسب ما يريد كاتبيا‪ ،‬لتصبح جزءاً‬
‫عميؾ وتدخمؾ في عالميا‪ ،‬بؿ تأسرؾ ّ‬
‫منيا تقوؿ ما قالتو‪ ،‬وتحب وتكره‪ ،‬وتوافؽ وترفض وتفرح وتحزف‪ ،‬وتثور وتيدأ وفؽ‬
‫مجرى أحداثيا وموقؼ شخصياتيا في سموكيـ الحيوي‪.‬‬
‫وبيذا التأثير تقاس عظمة العمؿ المبدع‪ ،‬ويشار إلى نجاحو وابداعو‪ ،‬وحقاً‬
‫ىكذا كاف أثر رواية (سوريف) لمكاتب محمد رشيد الرويمي في نفسي‪ ،‬وأنا أعيش‬
‫أحداثيا‪ ،‬وأنفعؿ وأتفاعؿ مع تصاعدىا وتطورىا وحركة شخوصيا وتعامميـ مع‬
‫األحداث الكبرى والصغرى فييا‪..‬‬
‫إف أىـ ما يميز الرواية ىو منيجيا في رسـ الحدث الذي بنيت عميو إذ‬
‫استطاع الكاتب أف يصور الواقع المادي والمعنوي في المرحمة التي تناوليا‪ ،‬أعني‬
‫قسوة الطبيعة في بيئة دير الزور‪ ،‬وسموؾ أىميا اتجاه كوارثيا‪ ،‬ليبرز الجانب‬
‫اإلنساني التكافمي نحو المنكوبيف‪ ،‬ليكوف ذلؾ توطئة إلظيار القيـ العميا ليذه‬
‫المدينة التي ستحتضف المنكوبيف مف خارج حدودىا الجغرافية والعرقية والدينية‪.‬‬
‫صوره‪ ،‬واختاره باكتشاؼ‬ ‫المسوغ اإلنساني‪ ،‬وانما ّ‬
‫ّ‬ ‫فالكاتب بذكائو لـ يفتعؿ‬
‫إبداعي يمنح المتمقي األسباب المنطقية الطبيعة لمفعؿ اإلنساني نحو اآلخر بقطع‬
‫النظر عف انتمائو وىويتو‪ ،‬والكاتب يؤكد األصالة‪ ،‬وىو يتحدث عف غياب الثقافة‬
‫والعمـ‪ ،‬وأف ىذه األصالة طبع في المجتمع وليست اكتساباً‪ ،‬واذا كانت الثقافة‬
‫والعمـ ييذباف األصالة ويطوراف فعميا اإلنساني الشمولي‪ ،‬فإنيما بالتأكيد ال‬
‫يخمقانيا‪ ،‬وال يمنحانيا لشعب مقطوع الجذور الحضارية‪ ،‬وتمؾ مقولة قاعدية‬

‫ػ‪8‬ػ‬
‫يستخمصيا القارئ مف سطور الكاتب أف ىذا الشعب الذي يرزخ تحت نير‬
‫االستبداد وما يعانيو مف تخمؼ وأمية ىو جزء مف أمة عظيمة ليا تاريخيا‬
‫العظيـ‪ ،‬وتعيش كميا المعاناة نفسيا محافظة عمى أصالتيا وارتباطيا في أصوليا‬
‫وعطائيا بانتظار المحظة التاريخية المييئة لبلنطبلؽ‪ ،‬وأخذ المبادرة لمنيوض ثانية‬
‫واغناء واثراء الواقعيف القومي واإلنساني‪.‬‬
‫إف الصراع الذي أداره الكاتب اتجاه الكارثة الطبيعية والكارثة السياسية كاف‬
‫اليدؼ منو واحداً انعكاسياً بتأثير كؿ منيما باآلخر‪ ،‬واتياـ المستبد بنتائجو‬
‫يعج بالمرض‬
‫القاسية‪ .‬لقد عرؼ الكاتب كيؼ يقيـ ىذه الثنائية في واقع متخمؼ ّ‬
‫الجسدي واالجتماعي‪ ،‬وصورة المتحكـ بيذا الواقع ومسؤوليتو المباشرة عف ىذا‬
‫الواقع المزري والمعقّد‪ ،‬وىذا الواقع المؤلـ الذي ينوء بأعباء الجوى والسبلسؿ عميو‬
‫أف ي قؼ عمى قدميو رغـ قسوة التحديات ليخفؼ أو يشارؾ في معاناة شعب آخر‬
‫ساقو القدر إلى ساحتو في أبشع مجزرة وحشية لطّخت جبيف اإلنسانية بالعار‬
‫والشنار‪.‬‬
‫إف كتابة التاريخ في توثيقو وتثبيت أحداثو‪ ،‬والحكـ ليا أو عمييا‪ ،‬ىو عمؿ‬
‫مختصيو ورواتو ونقاده حيف يسجموف حوادثو الكبرى ونتائجيا‪ ،‬وىميـ أف يذ ّكروا‬
‫اإلنسانية بما جرى عمبلً بقوانينيا الكبرى‪ ،‬أما الرواية التاريخية فإنيا تضيؼ عمى‬
‫يجسد الروائي أحداثو مف خبلؿ! إشراؾ اآلخر‬ ‫ذلؾ تفاصيؿ المعاناة في دقائقيا إذ ّ‬
‫في ىذه المعاناة‪ ،‬واظيار تعاطفو مما يجعؿ منيا عمبلً حياً ال تغيب أحداثو في‬
‫بطوف الكتب التاريخية‪ ،‬أو ليحضر أثرىا في مجموعة المختصيف أو الميتميف‬
‫بشؤوف التاريخ وحركتو‪ ،‬وانصافيـ أو تجاىميـ أو ظمميـ لشعب ومشروعية‬
‫حؿ بو في مرحمة تاريخية مظممة عممت‬ ‫قضيتو‪ ،‬أو نسياف أو استذكار ما ّ‬
‫األحداث األخرى عمى نسيانيا‪ ،‬أو إلقاء الغطاء عمييا‪ ،‬ويأتي نجاح الرواية مف‬
‫نجاح كاتبيا وقدرتو في رسـ الحدث وجزئياتو وشخوصو الرئيسة والثانوية‪ ،‬وتطور‬
‫ىذا الحدث بمؤثراتو وصوالً إلى تشابكيا في ذروتيا‪ ،‬ثـ انفراجيا وحمّيا‪ ،‬ورؤيتو‬
‫نحو المستقبؿ في استخبلصو الفكري لمنتائج الباعثة لممستقبؿ‪ ،‬أو الدافعة لحركة‬
‫التاريخ نحو األ ماـ بغية تغيير الواقع‪ ،‬أو كسر الرتابة المستطيمة تحت قيود الظمـ‬
‫السياسي والقير االجتماعي وسمب حرية وارادة األخر‪.‬‬

‫ػ‪9‬ػ‬
‫وميما كاف الحدث عظيماً واليدؼ نبيبلً‪ ،‬فإنو رىف بقدرة الكاتب عمى‬
‫سجؿ لمكاتب محمد رشيد الرويمي‪ ،‬فيو لـ يتألؽ‬ ‫تصويره وحسف تناولو‪ ،‬وىذا ما ُي ّ‬
‫بتصويره وحسف تناولو فحسب‪ ،‬وانما أيضاً في قدرتو عمى بث الحياة في جميع‬
‫مناحييا الكبرى والصغرى في عمؿ متكامؿ يتحرؾ فيو الجزء نحو الكؿ‪ ،‬وينفتح‬
‫فيو الكؿ نحو الجزء ليكمؿ أبعاد الصورة في ألوانيا المواكبة لحقيقة وجودىا مف‬
‫دوف افتعاؿ أو خمط أو مبالغة أو إىماؿ‪ ،‬وىذه الدقة أضفت عمى العمؿ شكبلً مف‬
‫أشكاؿ التشويؽ األخاذ بفعؿ أسموب الكاتب صاحب التجربة الناشئة عف ممارستو‬
‫الطويمة لصناعة األدب‪ ،‬مما أتاح لو إمكانية تقدير المواقؼ بعيف الناقد الذي ال‬
‫ضخـ ما ال يستحؽ‪ ،‬أو يقمّؿ مف شأف ما يجب‬‫يطغى عنده موقؼ عمى آخر‪ ،‬أو ُي ّ‬
‫إب ارزه واعطا ؤه أىميتو‪ ،‬ورغـ عمؽ ىذه التجربة‪ ،‬فإف الكاتب األديب لـ يتدخؿ في‬
‫صنع األحداث‪ ،‬ولـ يركب ألسنة شخوصو‪ ،‬أو يتربع داخؿ عقوليـ‪ ،‬أو يتبطف‬
‫عز في عالـ الرواية حمُّيا‪ ،‬ومركب صعب‬ ‫عالميـ الداخؿ‪ ،‬وتمؾ معضمة كبرى َّ‬
‫كثي اًر ما يجنح بربانو أو يتيو بو حيف يتدخؿ الكاتب بثقافتو وعممو ليقوؿ ما ال‬
‫يقولو شخوصو‪.‬‬
‫الثر‪ ،‬وحسف انتقائو ما‬
‫وكاف مما أسعؼ الكاتب حضور معجمو المغوي ّ‬
‫يناسب تصويره‪ ،‬فالمغة التعبيرية والتصويرية أدت وظيفتيا في إنجاح العمؿ‪،‬‬
‫وادخاؿ المتمقي بو‪ ،‬وأخذ مصادقتو عميو‪.‬‬
‫فكاف لمعنى الحزف ألفاظو‪ ،‬ولمعنى الفرح ألفاظو‪ ،‬إف ىمس الحزف سمع‬
‫القارئ ّأناتو‪ ،‬واف جمجؿ الفرح طار المتمقي معو‪ ،‬وكاف لمرفض صوتو‪ ،‬إف قاؿ ال‬
‫رددت األصداء صداه‪ ،‬وكاف لمحماسة حضورىا‪ ،‬إف التيبت تأججت معيا‬
‫العواطؼ والمشاعر واألحاسيس‪ ،‬واذا القارئ يعيش الماضي بكؿ ما فيو مف حياة‬
‫تتدفؽ أنفاسيا مع أنفاسو‪ ،‬ويشارؾ بأحداثيا في أعماقيا واحداً منيا ال مراقباً عف‬
‫بعد لما جرى بيا‪.‬‬
‫وىذا ما عنيتو بالرواية التاريخية وميمتيا الرئيسة في نقؿ تفاصيميا الحيوية‬
‫حد تبني ذلؾ اليدؼ وجعمو‬ ‫وقدرتيا عمى إشراؾ اآلخر في ىدفيا إشراكاً يصؿ ّ‬
‫جزءاً أصيبلً مف موقفو الفكري في دفاعو عف كؿ المظموميف‪ ،‬أو في تبنيو لمعدالة‬
‫والحؽ والخير في أوسع معانييا ومفاىيميا اإلنسانية‪.‬‬

‫ػ ‪ 11‬ػ‬
‫في أنني فخور بشعب أنتمي إليو‪ ،‬أكد لي فخري‬ ‫أستطيع أف أقوؿ بمؿء ّ‬
‫بأمتي وأصالة قيميا وعظمة تاريخيا‪ ،‬وىذا فضؿ الكاتب عمي‪ ،‬أما فضمو عميؾ‬
‫أخي القارئ الكريـ‪ ،‬فيذا ما ستقولو أنت‪ ،‬ولربما قمت أكثر بكثير مما قمتو‪.‬‬

‫ػ ‪ 11‬ػ‬
‫كلمة البدَّ منها‬

‫يمـ الفجر مف‬‫أعز أحبلمو‪ ،‬وأغمى أمانيو‪ّ ،‬‬ ‫في عنفواف التشظي يقضـ األديب َّ‬
‫ٍ‬
‫ليؿ تناسؿ في الذاكرة‪ ،‬ليعيد طبلء الفصوؿ‪ ،‬ويمسح الوجو الذاىؿ بحفنة مف ٍ‬
‫صبر‬
‫جميؿ‪.‬‬
‫وأنا أكتب ىذه الرواية التي ّأرقتني‪ ،‬تراءت لي نوافذ األحبلـ وىي تستجدي‬
‫صبلة الريح‪ ،‬ودعاء الرّكع السجود‪ ،‬واألرض محفورة بحوافر أحصنة القير‪ ،‬تمتؼ‬
‫عروقيا حوؿ أكواـ مف الصدأ وأكداس مف العفونة‪...‬‬
‫تراءت لي ىميمات الفرح تتسمؿ بفضوؿ مثؿ قطط األزقة ووجوه المحسنيف‪،‬‬
‫فكنت أتماىى في دروب الميؿ الطويؿ‪ ،‬أساىر نسيـ الودياف والتبلؿ العابقة‬
‫الغ َرب والطرفاء‪ ،‬فأحمحـ كفرس‬ ‫بالذكريات‪ ،‬وأستعيد حوار العنادؿ بيف أغصاف َ‬
‫جندلت فارسيا في لحظة المجابية‪...‬‬
‫وأنا أكتب ىذه الرواية تراءت لي دموع اليتامى‪ ،‬وشيقات األيامى‪ ،‬وندب‬
‫الثكالى‪ ،‬واأللـ يعتصر القمب حتَّى حدود السقـ‪ ،‬وتراءى لي مف احتضف كومة‬
‫ثـ يذروىا برفؽ عمى أجساد مف رحموا‪،‬‬ ‫ويقبميا بإباء‪َّ ،‬‬
‫تراب بكر‪ ،‬يشميا بكبرياء ّ‬
‫لتنبت أزاىير الخبلص‪...‬‬
‫أعترؼ بأف األوىاـ قذفتني مف شاسع السيد طويبلً‪ ،‬لكنيا لـ تستطع أف‬
‫تنتزع مف الذاكرة صور الوجوه الناحمة التي حاصرىا النفي والتشرد والظمـ‪ ،‬وىي‬
‫تسطّر مبلحـ خالدة في التضحية واإليثار‪...‬‬
‫لـ تستطع أف تطمس في ِسفر التاريخ حقبةً كانت بدايتيا مؤلمة‪ ،‬ونيايتيا مفرحة‪...‬‬
‫كانت البدايات َسوقيات األرمف إلى دير الزور‪ ،‬إلى حيث الدؼء والحناف عاـ‬
‫‪ ،1915‬وكانت النيايات َسوؽ الفرنسييف إلى حيث الخزي والعار عاـ ‪ ،1946‬ولعمّي‬
‫أعبر عف دقائؽ‬ ‫مف خبلؿ ىذه الرواية أالمس جانباً مف الحقيقة التي ال تخفى‪ ،‬و ّ‬
‫المحظات الحرجة واأللـ اإلنساني والصفاء الروحي والعزيمة المتوثبة التي كانت‬
‫مشاعؿ نور تضيء عتمة الطريؽ ووحشة المكاف‪ ،‬ورحـ اهلل األديب والروائي الكبير‬
‫(عبد الرحمف منيؼ) حيث يقوؿ في (الكاتب والمنفى)‪:‬‬
‫البد أف تق أر التاريخ الذي نعيشو اآلف وغداً‪ ،‬ليس مف‬ ‫(إف األجياؿ القادمة َّ‬
‫كتب التاريخ المصقولة‪ ،‬وانما مف روايات ىذا الجيؿ واألجياؿ القادمة)‪.‬‬

‫دٌر الزور ‪2002/7/10‬‬


‫محمد رشٌد روٌلً‬
‫ػ ‪ 12‬ػ‬
‫معتاد الغرؽ مرمماً؟‬
‫َ‬ ‫تُرى ىؿ أرى مركب جسمي‬
‫ترى ىؿ أرى َفمؾ روحي المحزف عام اًر مف جديد؟‬
‫ترى ىؿ أرى تشتّتي بعيد المسافة موحداً مف جديد؟‬
‫ترى ىؿ أرى قمبي المكتئب الحزيف منشرحاً؟‬
‫ترى ىؿ أرى خيمتي الميدودة أنا البائس منصوبة مرة أخرى؟‬
‫محر اًر؟‬
‫ترى ىؿ أراني أنا األسير الممقوت ّ‬

‫ـ كتاب المراثي ـ من الحوار الخامس والعشرين ـ‬


‫ص‪ 989‬ـ كريكور ناريكاستي ـ ترجمة نزار خميمي‪.‬‬

‫ػ ‪ 13‬ػ‬
‫(‪)9‬‬
‫دويو‪ ،‬كما يشاطر أبناء المدينة‬
‫لـ يكف الفرات ىادئاً‪ ...‬إنو يشاطر الريح ّ‬
‫أحزانيـ‪ ،‬كاف صاخباً ىاد اًر ساخطاً متوعدًا كؿ الذيف رسموا السدود في طريقو‪،‬‬
‫وعرقموا شغبو بأوخـ العواقب‪ ،‬فقذؼ موجات ىائجة كنست كؿ النفايات‪ ،‬واقتحمت‬
‫تنز عفونةً وجرفت كؿ ما اختزنو المتشاطئوف مف مؤونة‪...‬‬
‫جد اًر ّ‬
‫كاف الشيوخ والعجائز يعرفوف سطوتو وقرابينو‪ ،‬فكانوا يصمّوف‪ ،‬ويرفعوف‬
‫أىؿ عمييـ شير نيساف‪ ،‬وكاف الفرات عنيدًا عاقاً ال يقيـ وزن ًا‬
‫األكؼ بالدعاء كمّما ّ‬
‫ّ‬
‫لصموات‪ ،‬وال يكترث باألدعيات‪ ...‬يقتحـ حصوف األمؿ بيمجية‪ ،‬ويفتح حقائب‬
‫وييز جذع الريح بقوة‪ ،‬فيتساقط الدمع المعتّؽ أياماً‪ ،‬وتُجمد‬ ‫ّ‬ ‫الصمت بعنجيية‪،‬‬
‫الوجوه بسياط الموعة والرىبة‪...‬‬
‫ىو الفرات الذي نعشقو رغـ مآسيو وجرائره‪ ...‬مميـ األدباء وممتقى األحبة‪،‬‬
‫نطوؼ عمى سطحو الرقراؽ‬ ‫يمدنا بالعطاء‪ ...‬ىو الفرات الذي ّ‬
‫وشرياف الحياة الذي ّ‬
‫المدمر‪ ...‬وحدىا أشجار‬
‫ّ‬ ‫أحد أماـ ىيجانو‬
‫حيف شموع األمؿ‪ ...‬لـ يصمد ٌ‬ ‫في كؿ ٍ‬
‫ترد لو الصفعات رغـ الغثاء الذي جمؿ لحاءىا‪ ،‬ولوى أعناؽ‬ ‫التيف استطاعت أف ّ‬
‫المزروعات التي الذت بيا‪...‬‬
‫ممونة‪ ،‬حدودىا صحارى‬
‫كؿ عاـ‪ ،‬وفي نيساف يرسـ الفرات لممنطقة خرائط ّ‬
‫وتقشعر منيا األبداف‪...‬‬
‫ّ‬ ‫تيز الوجداف‪،‬‬
‫ومتاىات وأخاديد ّ‬
‫أما النساء فتندبف‪،‬‬
‫الرجاؿ يستغيثوف‪ ،‬واألطفاؿ يبكوف‪ ،‬والشيوخ يحوقموف‪َّ ،‬‬
‫وتولولف بعصبية‪...‬‬
‫قاؿ شيخ المدينة لمف احتشد أمامو‪:‬‬
‫ػ إنيا ضريبة البقاء يا أبنائي‪ ،‬وامتحاف مف اهلل تعالى‪ ...‬أكثِروا مف ذكر اهلل‬
‫والعمؿ الصالح‪ ،‬فبيما منجاتكـ‪...‬‬
‫ىز الواقفوف رؤوسيـ بأسى‪ ،‬وتفرقوا دوف أف ينبس أحدىـ ببنت شفة‪.‬‬‫ّ‬
‫أزىار الربيع ّلوثيا الغثاء‪ ،‬فأصبحت نفايات‪ ،‬والبسمة اختفت مف الشفاه‪،‬‬
‫الندية ما زالت تذرؼ دموعاً حارقة تميب الوجنات‪...‬‬
‫والعيوف ّ‬
‫إيو أييا اآلتي‪ ...‬ماذا تركت لنا؟!‬

‫ػ ‪ 14‬ػ‬
‫انتماءىا‬
‫َ‬ ‫البيوت تآكمت حيطانيا‪ ،‬وتق ّشر طبلؤىا‪ ،‬وفقدت األبواب والنوافذ‬
‫ألي ٍ‬
‫لوف سوى الصدأ والرطوبة‪...‬‬
‫أشياءىا األشياء‪،‬‬
‫َ‬ ‫طيرت‬‫الخوؼ يمتد دماً حتَّى انتياءات الوداع‪ ،‬وقد ّ‬
‫وانسابت عمى الغثاء تبحث عف سر الضياع‪.‬‬
‫الجبار كنت تمنحنا فرحاً‪ ،‬ألق ًا‪ ،‬وتح ّذرنا مف يباب األجؿ‪...‬‬
‫إيو أييا النير ّ‬
‫ثـ تغرس في حقولنا فسائؿ الحب والمودة‪ ...‬كنت‬ ‫كنت تيدي إلينا عطر األمؿ‪َّ ،‬‬
‫تقطؼ ذوب القموب‪ ،‬وتجعمنا نتماىى عمى عجؿ‪ ،‬كنت توقد نار العشيات في‬
‫م اربِعنا ّ‬
‫فييؿ الحجؿ‪...‬‬
‫ماذا جرى لؾ اليوـ عمى غير عادتؾ؟!‬
‫ِل َـ جعمتنا في المدى المفتوح وجعاً ينوح؟!‬
‫لِ َـ توزعت في مفردات الوقت أعاصير تيمي خرائب ودموعاً؟!‬
‫لِ َـ لوثت نقاء الصمت وصفاء الصبر‪ ،‬وجعمت الفقراء يزدادوف فق اًر‪ ،‬واألخيار‬
‫يمدوف أيادييـ لؤلشرار؟!‬
‫المتصدع‪ ،‬وما‬
‫ّ‬ ‫وقؼ أبو أحمد الصباغ متسم اًر أماـ ما آلت إليو أحواؿ بيتو‬
‫خمّفو الفيضاف‪ ...‬لقد أفسد أصبغتو كمّيا‪ ،‬ول ّوث األصواؼ المتراكمة‪ ،‬وغدت‬
‫أما مؤونة البيت مف‬ ‫ممونة‪ ،‬ولوحات تشكيمية مذىمة‪َّ ،‬‬ ‫جدراف بيتو وأرضيتو خرائط ّ‬
‫الطحيف والبرغؿ والسكر والشاي وغير ذلؾ‪ ،‬فقد أصبحت مع الغثاء طعاماً ليواـ‬
‫األرض وأسماؾ النير‪.‬‬
‫عدة مرات‪ ،‬وعندما عجز أىؿ بيتو عف إنقاذ شيء‪،‬‬‫حوقؿ أبو أحمد‪ ،‬وبسمؿ ّ‬
‫رفع يده إلى السماء‪ ،‬سائبلً اهلل تعالى الرحمة والعوف‪.‬‬
‫كاف ابنو الوحيد (أحمد) يساعد أمو وأختو (حميدة) في تصريؼ الماء‪ ،‬ونشر‬
‫الفراش والمبلبس عمى مصطبة مرتفعة‪ ،‬وىو يتأمميـ واحداً تمو اآلخر‪...‬‬
‫عيناه ترقرقتا بالدمع‪ ،‬وىما تفتشاف عف وجيب خافؽ متموج بالحياة‪ ...‬عف‬
‫ربيع دافئ وشوؽ عابؽ إلبنو الوحيد الذي بمغ مبمغ الرجاؿ‪ ،‬ولكف مف أيف ونرجس‬
‫الوقت ذبوؿ‪ ،‬وقامة العمر انحناء‪ ،‬وغابة الحمـ ىباء؟! مف أيف واألماني استطابت‬
‫نوميا في ميدىا واألغاني في سبات؟!‬
‫قاؿ أحمد ألبيو عندما بمغ بو التأثر مداه‪:‬‬

‫ػ ‪ 15‬ػ‬
‫مما‬
‫ػ ال تحزف يا أبي‪ ...‬بإذف اهلل سأعيد صباغة األصواؼ‪ ،‬وستكوف أفضؿ َّ‬
‫سبؽ‪...‬‬
‫التفت أبو أحمد إلى ابنو فوجد دمعتيف تنساباف بيدوء إلى وجنتيو‪ ،‬اقترب منو‬
‫كثي اًر‪ ،‬وطبع عمى جبيتو قبمة دامعة‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ أنا يا ولدي لـ أحزف يوماً عمى قضاء اهلل وقدره‪ ...‬أليست ىذه حالنا في كؿ‬
‫نيساف؟! صحيح أف فيضاف ىذا العاـ كاف مأساوياً‪ ،‬لكف اهلل لف يتخمى عنا ألننا‬
‫صالحوف‪ .‬اهلل يشيد أنني لـ أرتكب إثماً أو جناية‪ ،‬ولـ أطعمكـ إال الحبلؿ‪ .‬كؿ‬
‫ما أطمبو مف اهلل تعالى المطؼ بنا‪ ،‬وأف يبقيؾ وأختؾ ذخ اًر وسنداً‪ ...‬أنت يا‬
‫وتكوف أسرة‪ ،‬ستعرؼ الكثير‬ ‫ولدي ما زلت شاباً وعندما تتزوج إف شاء اهلل‪ِّ ،‬‬
‫عف معاناة األب‪.‬‬
‫ػ أبي‪ ...‬ليس الزواج ىاجسي اآلف‪ ...‬أريدؾ أف ترتاح‪ ،‬وتترؾ العمؿ لي‪،‬‬
‫ألعوضؾ عف الكثير مف الذي فقدتو‪...‬‬
‫ّ‬
‫ػ أنت يا ولدي بحاجة إلى الماؿ لتتزوج‪ ...‬أريد أف أفرح بؾ قبؿ أف يسترد‬
‫اهلل أمانتو‪.‬‬
‫ػ بعد عمر طويؿ يا أبي‪ ،‬واف شاء اهلل سترى أوالدي وأحفادي‪.‬‬
‫وضمو بحناف إلى صدره‪ ،‬بينما‬
‫ّ‬ ‫ثـ اقترب مف ولده‪،‬‬‫ىز أبو أحمد رأسو م ار اًر‪َّ ،‬‬
‫ّ‬
‫كانت زوجتو وابنتو تمممماف حوائج البيت المتناثرة‪.‬‬
‫كاف المغط قوياً أماـ البيت وعند الجيراف‪ ،‬اختمطت األصوات الرعناء بالبكاء‬
‫ىز لو رأسو م ار اًر‪ ...‬إنو‬
‫شنفت لو أذنا أبي أحمد‪ ،‬وقد ّ‬
‫ثمة صوت ّ‬ ‫والنحيب‪ ،‬وكاف َّ‬
‫الحمية لدى اآلخريف‪،‬‬ ‫ِ‬
‫(الكساري) وىو يشدو بشعر شعبي يثير النخوة و ّ‬ ‫ّ‬ ‫صوت‬
‫فيردد كؿ مف كاف يعمؿ معو عبارة يشير إلييا عندما ينتيي مف إنشادىا‪...‬‬
‫ألقى أبو أحمد بصره إلى السماء‪ ...‬كانت صافية إال مف ذؤابات شائبة‪،‬‬
‫ليموف‬
‫والشمس تبث أطيافيا السحرية بيف أغصاف األشجار وشقوؽ الجدراف‪ّ ،‬‬
‫الغثاء بألواف قوس قزح‪...‬‬
‫تأمؿ أبو أحمد النير والشجر ووجوه المارة‪ ،‬وأصاخ السمع إلى أصوات‬
‫الكساري‪ ...‬لكف‬
‫تقؿ عذوبة عف صوت ّ‬ ‫الببلبؿ المبعثرة عمى األشجار‪ ،‬فوجدىا ال ّ‬
‫نكبات النير طغت عمى كؿ ما ىو جميؿ وعذب وممتع‪ ،‬فأشاح وجيو وخطا‬
‫خطوات ثقيمة‪ ،‬وقبؿ أف يبتمعو الزقاؽ‪ ،‬قاؿ لولده‪:‬‬

‫ػ ‪ 16‬ػ‬
‫ػ ساعد أمؾ وأختؾ في ترتيب البيت يا ولدي‪ ،‬فأنا ذاىب ألرى عمؾ أبا‬
‫حؿ بو ىو اآلخر‪ ،‬وأساعده إف احتاج إلى مساعدة‪.‬‬ ‫ياسيف ماذا ّ‬
‫ػ اذىب يا أبي مصحوباً بالسبلمة‪ ،‬وبمّغو تحياتي وأشواقي‪ .‬إف احتاج إلى‬
‫مساعدة فأنا جاىز إف شاء اهلل‪.‬‬
‫كاف الطريؽ إلى بيت أبي ياسيف قصي اًر لكنو متعرج وصعب‪ ...‬مميء‬
‫بالسواقي الصغيرة والحفر الكبيرة‪...‬‬
‫اتّكأ أبو أحمد عمى عصا عجراء‪ ،‬ونّقؿ خطواتو بحذر شديد‪ ،‬رغـ ذلؾ كاد‬
‫يقع أكثر مف م ٍرة حتَّى وصؿ‪...‬‬
‫تأمؿ كؿ مف حولو بقمؽ‪،‬‬
‫كاف أبو ياسيف يجمس عمى مصطبة بيتو المرتفع‪ ،‬ي ّ‬
‫وعندما رأى أبا أحمد مقببلً ىبط الدرجات الخمس بسرعة‪ ،‬واحتضنو بميفة‪ ،‬وأمطره‬
‫بو ٍ‬
‫ابؿ مف األسئمة‪:‬‬
‫طمني يا أبا أحمد إف شاء اهلل خفيفة؟‬
‫ػ ّ‬
‫طمني ىؿ أنتـ بخير جميعاً؟‬
‫ّ‬
‫طّمني ىؿ األصبغة واألصواؼ سالمة؟‬
‫خمّص أبو أحمد جسده النحيؿ مف ساعدي أبي ياسيف بصعوبة بالغة‪،‬‬
‫وتمتـ بأسى‪:‬‬
‫يعوضيا اهلل‪.‬‬
‫ػ الكؿ بخير‪ ...‬واألضرار ّ‬
‫ػ ألـ ينصحؾ أبي رحمو اهلل أف تجعؿ بيتؾ عمى مرتفع كما فعؿ؟‬
‫السدة التي عممتيا (النافعة) واأللسنة‬
‫ػ بمى واهلل نصحني‪ ،‬وقد خاب أممي في ّ‬
‫الصخرية التي امتدت عمى ضفاؼ النير‪...‬‬
‫ػ ىيا ادخؿ اآلف لنشرب الشاي األحمر‪.‬‬
‫ػ ال‪ .‬ىيا بنا لنطمئف عمى أبي عدناف المختار‪...‬‬
‫ػ المختار مازاؿ يدور عمى البيوت ليطمئف عمى أحواؿ سكانييا‪ .‬لقد رأيتو منذ‬
‫أما اآلف‬
‫سيمروف عميؾ‪َّ ،‬‬‫ّ‬ ‫فترة وجيزة مع أبي طارؽ وأبي سمطاف الجابي‪ ...‬اطمئف‬
‫بسر‪.‬‬
‫فتعاؿ ادخؿ بيتي ألفضي لؾ ّ‬
‫تسمرت عيناه في عيني أبي ياسيف فرآىما‬
‫يـ يتممكو‪ّ ،‬‬
‫دخؿ أبو أحمد وال ّ‬
‫فرحتيف‪...‬‬
‫ػ أرى البسمة عمى شفتيؾ وفي عينيؾ يا أبا ياسيف؟‬

‫ػ ‪ 17‬ػ‬
‫ىؿ عثرت عمى شريكة الحياة؟‬
‫يخصؾ‬
‫ّ‬ ‫أما سبب سعادتي‬
‫ػ شريكة الحياة يا أبا أحمد ستأتي عاجبلً أو آجبلً‪َّ ،‬‬
‫ويخص كؿ بيت تضرر مف الفيضاف‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ػ أفصح يا أبا ياسيف‪...‬‬
‫قرر (عمي بؾ) البارحة أف يعطي لكؿ صاحب بيت متضرر كيسيف مف‬ ‫ػ ّ‬
‫الطحيف‪ ،‬وكيسيف مف البرغؿ وبعض السكر والشاي السيبلني‪.‬‬
‫ػ أىذه نكتة يا أبا ياسيف؟‬
‫ػ ال واهلل إنيا حقيقة‪.‬‬
‫ػ إذف لؾ البشارة‪ ،‬أتريد عصيداً أـ ىبيطاً؟‬
‫ػ اليبيط يا أبا أحمد أرجوؾ‪.‬‬
‫ػ ىو لؾ بعد أف نتسمـ المعونة‪ ،‬واآلف منؾ اإلذف‪.‬‬
‫ػ ال واهلل لف أسمح لؾ قبؿ أف تشرب الشاي األحمر معي‪.‬‬
‫احتسى أبو أحمد الشاي القرمزي بتمذذ‪ ،‬وغاصت عيناه في األسمحة المعمّقة‬
‫عمى الجدراف‪ ،‬والمتراكمة عمى الطاوالت‪ ...‬كاف الوحيد الماىر الحاذؽ في‬
‫إصبلح صنوؼ األسمحة كافة‪ ،‬والخبير في الذخائر وصناعتيا‪ ،‬وقد أدرؾ أبو‬
‫ياسيف سر نظرات أبي أحمد‪ ،‬فقاؿ لو عمى الفور‪:‬‬
‫لي لما استطعت أف أعرض بضاعتي في‬ ‫الماسة‬
‫ّ‬ ‫ػ لوال حاجة األتراؾ‬
‫جديداً مف السبلح‪ ...‬انتظرني‪...‬‬ ‫بيتي‪ ...‬انتظرني لحظة ألريؾ نوعاً‬
‫بخطى عرجاء سار أبو ياسيف إلى طاولة منفردة في أقصى الغرفة ولممـ‬
‫ً‬
‫ظفيا بخرقة ممساء‪ ،‬وىروؿ بيا‬
‫أشبلء مسدس كبير‪ ،‬فرّكبيا بسرعة مذىمة بعد أف ن ّ‬
‫إلى أبي احمد‪.‬‬
‫ػ ما ىذا؟‬
‫ػ إنو سبلح أحد شيوخ البادية‪ ،‬استعصى عميو‪ ،‬فأعطاني إياه ألصمحو لو‪،‬‬
‫عمي مبمغاً كبي اًر مف الماؿ لقاء اقتنائو‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ورآه ضابط تركي فعشقو‪ ،‬وعرض‬
‫فاعتذرت بحجة أنو ال ي عمؿ‪ ،‬حاوؿ أكثر مف مرة‪ ،‬وفي كؿ مرة تكبر عروضو‬ ‫ُ‬
‫المغرية‪ ،‬وآخر عرض طمب مبادلتو بعشرة مسدسات صغيرة مع ذخائرىا‪ ،‬فأقسمت‬
‫لػو كذباً أنو يحتاج إلى قطع غيار غير متوفرة وال أستطيع تعويضيا‪ ،‬فرحؿ‬
‫مطمئناً ومتحس اًر بآف واحد‪.‬‬

‫ػ ‪ 18‬ػ‬
‫ىز أبو أحمد رأسو‪ ،‬وىو يتأمؿ وجو أبي ياسيف الطيب محدثاً نفسو‪ :‬واهلل لو‬
‫ّ‬
‫ألنو رجؿ شريؼ وأميف وكريـ‬ ‫طمب مني ابنتي حميدة لما ترددت في قبوؿ طمبو َّ‬
‫ووطني‪.‬‬
‫بل‪:‬‬
‫وىـ بإلقاء تحية الوداع‪ ،‬لكف أبا ياسيف اعترضو قائ ً‬
‫نيض أبو أحمد‪ّ ،‬‬
‫ػ بعد صبلة العشاء سنمتقي في مضافة عمي بؾ‪.‬‬
‫أليس كذلؾ؟‬
‫ػ لست أدري واهلل‪.‬‬
‫ػ ال‪ .‬ال‪ ...‬أريدؾ إلى جانبي ألمر ميـ‪.‬‬
‫ػ كما تريد إف شاء اهلل‪.‬‬

‫ػ ‪ 19‬ػ‬
‫(‪)5‬‬
‫دماء قانية تنعكس عمى صفحة النير الذي‬ ‫ً‬ ‫الشمس عميمة تنثر في األفؽ‬
‫بتحد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫سكنت جرائره‪ ...‬األشجار بدأت تستعيد عافيتيا‪ ،‬والزروع طاولت أعناقيا‬
‫وكؿ شيء عمى مد البصر يوحي بالخير واألمؿ‪ ،‬وكاف أبو أحمد ي ارقب الضوء‬
‫محمبلً‬
‫ييب مف النير ّ‬ ‫اء بارداً منعشاً ّ‬
‫المذاب في األفؽ لحظة الغسؽ‪ ،‬ويستقبؿ ىو ً‬
‫بعبير أشجار مسؾ الميؿ‪ .‬أحس بسحر المحظة يصنع خد ًار ناعماً لذيذًا يسري مع‬
‫قدر؟!‬ ‫الدـ في عروقو‪ ،‬فتساءؿ ِل َـ أكتئب وقد ّ‬
‫قدر اهلل ما ّ‬
‫لغط الناس يدور في كؿ اتجاه حوؿ المساعدات التي ُوزعت‪ ،‬ومصدرىا‪،‬‬
‫ميمة جداً عمى‬
‫وأىدافيا‪ ،‬والغمز والممز في كؿ مكاف‪ ،‬وكاف أبو أحمد يراىا ّ‬
‫عكس اآلخريف‪ ،‬وثقتو بعمي بؾ كانت كبيرة‪َّ ،‬‬
‫ألنو يعرفو وطنياً رغـ إسباغ لقب‬
‫(بؾ) التركي عمى اسمو‪ ،‬ويعرؼ أيضاً أف ىذا المقب يحصؿ عميو كؿ مثقؼ‬
‫وعّيف بموجبيا‬
‫حصؿ عمى شيادة عالية مف األستانة‪ ،‬وعمي بؾ قد حصؿ عمييا ُ‬
‫موظفاً كبي اًر في ديواف المواء‪...‬‬
‫أشياء كثيرة كانت تثير إعجاب الجميع بعمي بؾ وفي مقدمتيـ أبو أحمد‪...‬‬
‫كاف مثقفاً وعالماً لغوياً ونحوياً‪ ،‬يتمثؿ دائماً في إجاباتو بالقرآف الكريـ والشعر‬
‫العربي وبخاصة شعر الحكمة‪ ،‬كما أنو مطّمع عمى األحواؿ السياسية التي تمؼ‬
‫العالـ بأسره‪ ،‬ومطامع الدوؿ الكبرى بالوطف العربي الكبير‪ ،‬وال سيما األجزاء‬
‫الواقعة تحت االحتبلؿ العثماني‪ ،‬وكاف بق اررة نفسو ال ينفي تخمؼ األمة العربية‬
‫وفي مقدمتيا ببلد الشاـ‪ ،‬وأف لواء الزور قمة التخمؼ لشيوع األمية‪ ،‬وىيمنة الفكر‬
‫أخؼ وطأة مف المستعمر‬ ‫ّ‬ ‫السمفي عميو‪ ،‬لكنو رغـ كؿ ذلؾ كاف يرى أف األتراؾ‬
‫الغربي الشرير الذي يتربص باألمة العربية‪ ،‬وبشمسيا الساطعة‪ ،‬وبخيراتيا‪،‬‬
‫وموقعيا االستراتيجي‪ ،‬لذلؾ آلى عمى نفسو أف يجمع في مضافتو العامرة أكبر‬
‫عدد ممكف مف المتنوريف وشرائح أخرى مف المجتمع ليتـ توجيييـ نحو الخير‬
‫والعطاء‪ ،‬وتشكيؿ خبليا ثورية يقع عمى عاتقيا جنباً إلى جنب مع جمعية العيد‬
‫السرية التغيير السياسي واالقتصادي والثقافي نحو األفضؿ‪ ،‬ومناىضة التخمؼ‬
‫والطامعيف‪.‬‬

‫ػ ‪ 21‬ػ‬
‫عندما دخؿ أبو أحمد المضافة وجد عدداً كبي اًر مف الرجاؿ المشيود ليـ‬
‫حيا الجميع بتحية اإلسبلـ وجمس بالقرب‬ ‫بالوطنية والصدؽ واإليثار قد سبقوه‪ّ ...‬‬
‫مف أبي ياسيف وأبي عدناف المختار‪ .‬سمع الجميع مواعظ الشيخ حسيف والشيخ‬
‫ثـ تحدث األستاذ تحسيف عف مستقبؿ األمة العربية عمى ضوء المستجدات‬ ‫سعيد‪َّ ،‬‬
‫تـ توزيعيا عمى المنكوبيف‬ ‫ثـ تحدث عمي بؾ عف المساعدات التي َّ‬ ‫العالمية‪َّ ،‬‬
‫والمتضرريف مف الفيضاف‪ ،‬وأشاد بالتجار والمزارعيف الذيف أسيموا بيا‪ ،‬مممح ًا‬
‫عما ىمز ولمز بو بعض الناس‪ ،‬مؤكداً أنيا خالية مف أية مآرب أو أىداؼ سوى‬ ‫ّ‬
‫قدمو‬‫ّ‬ ‫ما‬ ‫يكوف‬ ‫أف‬ ‫وتمنى‬ ‫المممات‪،‬‬ ‫عند‬ ‫جانبيـ‬ ‫إلى‬ ‫الوقوؼ‬‫و‬ ‫الناس‬ ‫حب‬
‫المحسنوف كافي ًا‪ ،‬وأخذ يتأ مؿ وجوه الجالسيف‪ ...‬كاف أبو أحمد الصباغ يردد في‬
‫سره‪:‬‬
‫ّ‬
‫ُس اًر عديدة مف الجوع والحرماف‪،‬‬
‫ػ لتكف مف أية جية كانت‪ ،‬الميـ أنيا أنقذت أ َ‬
‫ثـ ىمس في أذف أبي ياسيف قائبلً‪:‬‬
‫َّ‬
‫لكنا ليـ مف الشاكريف‪.‬‬‫وزعوا عمينا األلبسة وقميبلً مف الزيت ّ‬
‫ػ لو ّ‬
‫ضحؾ أبو ياسيف عالياً دوف أف يعي‪ ،‬وكاف عمي بؾ يراقب المشيد بصمت‪،‬‬
‫فاقترب شيئاً فشيئاً مف أبي أحمد حتَّى ّ‬
‫تنبو لو‪ ،‬فوقؼ أبو أحمد احتراماً وتقدي اًر لو‪.‬‬
‫ػ ما بؾ يا أبا أحمد؟‬
‫تمعثـ أبو أحمد‪ ،‬ولـ ينبس ببنت شفة‪ ،‬فوقؼ أبو ياسيف وقاؿ‪:‬‬
‫وزعوا عمينا األلبسة وبعض الزيت‪،‬‬
‫ػ إف أبا أحمد كاف يقوؿ لي‪ :‬ليتيـ ّ‬
‫ليضاعؼ اهلل ليـ األجر‪.‬‬
‫رّبت عمى كتؼ أبي أحمد قائبلً‪:‬‬
‫ػ سيكوف ذلؾ غداً إف شاء اهلل‪.‬‬
‫دخؿ المضافة عدد مف كبار المبلكيف والتجار‪ ،‬فبالغ عمي بؾ في إكراميـ‪،‬‬
‫ووقؼ ليـ كؿ الجالسيف‪...‬‬
‫كاف الجالسوف يعرفونيـ حؽ المعرفة‪ ،‬ويعرفوف أيض ًا كيؼ نمت ثرواتيـ‬
‫حتَّى أصبح الواحد منيـ يممؾ عدة قرى‪ ،‬لكف الذي يشفع ليـ أنيـ كراـ يبذلوف‬
‫بسخاء إف طمب منيـ أحد المتنفذيف مف ذوي الرتب واأللقاب‪...‬‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ لقد جئتـ واهلل في وقتكـ‪ ،‬كنت عمى وشؾ أف أرسؿ في طمبكـ؟‬

‫ػ ‪ 21‬ػ‬
‫قاؿ كبيرىـ‪:‬‬
‫ػ أنت تأمر يا أبا راغب‪ ،‬ونحف ننفذ إف شاء اهلل‪.‬‬
‫ػ األمر هلل وحده‪ ،‬وكؿ ما نطمبو باسـ المتضرريف والمنكوبيف زيادة الدعـ‬
‫ليشمؿ المبلبس والزيت‪...‬‬
‫ػ المبلبس والزيت والسمنة والماؿ أيضاً يا أبا راغب‪ ...‬أريد منؾ أف تشكؿ‬
‫لجنة لتوزيع المساعدات صباح الغد‪.‬‬
‫ػ المجنة مشكمة وىي برئاسة المختار وعضوية أبي طارؽ وأبي ياسيف‪.‬‬
‫يسركـ‪.‬‬
‫ػ عمى بركة اهلل‪ ،‬وفي الصباح ستجدوف ما ّ‬
‫صاح أبو أحمد فرحاً‪:‬‬
‫ػ اهلل أكبر‪ ...‬الماؿ أيضاً؟!‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ أجؿ يا أبا أحمد‪ ...‬الماؿ مف أجؿ أف تستعينوا بو عمى األياـ العصيبة التي‬
‫ستمر عميكـ‪.‬‬
‫تمممؿ أبو ياسيف‪ ،‬وتطاوؿ عنؽ أبي سمطاف‪ ،‬وتمتـ أبو صادؽ‪:‬‬
‫مرت عمينا؟!‬
‫ػ أياـ عصيبة أخرى غير التي ّ‬
‫ػ أدعوا اهلل جميعاً ألف يرحمنا ويمطؼ بنا‪ ...‬يا إخوتي ربَّما ال تعمموف بأف‬
‫المشفى الوحيد في المدينة بو مئات المرضى‪ ،‬وليس لدينا سوى طبيبيف واحد‬
‫حكومي واآلخر محمي‪ ،‬وال يستطيعاف القياـ بواجباتيما اإلنسانية كما يتمنياف‪،‬‬
‫وأفواج المرضى والمنيكيف تتيافت عمييما كؿ يوـ‪...‬‬
‫ػ مرضى ومنيكوف؟! ماذا جرى لنا؟!‬
‫ػ يا أبا صادؽ يسترىا ربؾ‪ ...‬إخواننا األرمف الذيف ُى ّجروا إلى دير الزور في‬
‫محنة‪ ،‬وىـ بحاجة إلى عوف مف اهلل ومنكـ‪ ...‬سيقع عمى عاتقكـ إيواء بعضيـ‬
‫واطعاميـ والباسيـ‪ ،‬وسأحث عشائر المواء ورجاالتيا الخّيريف عمى فعؿ ذلؾ‪.‬‬
‫أخفض عدد كبير مف الرجاؿ رؤوسيـ‪ ،‬وقد وقع ىذا الخبر وقوع الصاعقة‪،‬‬
‫فيـ يتحسبوف لما ستؤوؿ إليو حاليـ‪ ،‬وىـ في ظؿ حكـ يبغض األرمف‪ ،‬ويعمد‬
‫لبلنتقاـ منيـ لوقوفيـ إلى جانب أعدائيـ‪ ،‬كما أف التكمفة المادية ستكوف باىظة‪،‬‬
‫إضافة إلى عدـ سعة بيوتيـ وما إلى ذلؾ‪...‬‬

‫ػ ‪ 22‬ػ‬
‫فيز ليـ‬
‫رفع الرجاؿ رؤوسيـ بعد ألي‪ ،‬ونظروا في عيني عمي بؾ ممياً‪ّ ،‬‬
‫رأسو الصغير بأسى قائبلً‪:‬‬
‫ػ أعرؼ بما تفكروف‪ ،‬والشاعر يقوؿ‪:‬‬

‫يوماً‪ ،‬وان كنت من أىل المشورات‬ ‫شاور سواك إذا نابتك نائب ٌة‬
‫يا إخوتي ما جمعتكـ إال مف أجؿ المشاورة‪ ،‬وأعدكـ بأنني وأخوتي المبلكيف‬
‫والتجار لف نتخمى عنكـ ميما كاف الثمف‪...‬‬
‫األرمف شعب طيب‪ ،‬وذكي جداً‪ .‬يستطيعوف التأقمـ بأي جو ُيفرض عمييـ‪...‬‬
‫وسييؿ الخير‬
‫ّ‬ ‫فكروا جيداً‪ ،‬وال تخافوا أحداً‪ ،‬وثقوا تماماً بأنكـ ستُرزقوف بسببيـ‪،‬‬
‫عميكـ مف كؿ مكاف‪.‬‬
‫قاؿ كبير المبلكيف‪:‬‬
‫ػ يا إخوتي لف نبخؿ عميكـ بالماؿ‪ ،‬سنتكفؿ بمساعدة مف ُيؤوي األرمف‪،‬‬
‫وستصمو اإلمدادات إلى بيتو دوف معرفة اآلخريف‪ ،‬واعمموا بأننا سنأخذ عدداً كبي ًار‬
‫منيـ إلى القرى والبادية‪ ،‬ولف نترؾ لكـ منيـ إال مف ترغبوف بإيوائو‪.‬‬
‫قاؿ المختار‪:‬‬
‫ػ لكف الخوؼ مف عيوف الوالي المبثوثة في كؿ مكاف‪ ،‬وكما تعرفوف وراءنا‬
‫أطفاؿ ويتامى وأرامؿ وعجزة بحاجة ماسَّة إلى رعايتنا‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ أعرؼ ذلؾ جيداً‪ ،‬وأعي كؿ كممة قمتيا يا مختار‪ ،‬وأقوؿ لكـ اطمئنوا‪ ،‬فمف‬
‫حياً‪.‬‬
‫يصيبكـ مكروه بإذف اهلل ما دمت ّ‬
‫قاؿ أبو ياسيف بعصبية‪:‬‬
‫ػ أنا ليس لدي ما أخسره‪ ،‬أو أخاؼ عميو يا عمي بؾ‪ ،‬اعتبرني أوؿ‬
‫المتطوعيف ليذا العمؿ النبيؿ‪.‬‬
‫صاح أبو طارؽ بحماسة‪:‬‬
‫ػ وأنا الثاني بإذف اهلل‪.‬‬
‫صاح أبو أحمد‪:‬‬
‫ػ وأنا الثالث إف شاء اهلل‪.‬‬
‫ثـ وقؼ المختار قائبلً‪:‬‬
‫تعالى صياح اآلخريف‪َّ ،‬‬

‫ػ ‪ 23‬ػ‬
‫ظنكـ‪.‬‬
‫ػ بإذف اهلل سنكوف عند حسف ّ‬
‫ثـ قاؿ‪:‬‬
‫صفؽ عمي بؾ والحاضروف طويبلً‪َّ ،‬‬
‫ػ اآلف ارتاحت نفسي‪ ...‬بارؾ اهلل فيكـ‪ ،‬وسنحتفؿ الميمة بيذه المناسبة‬
‫السعيدة‪.‬‬
‫رفع الواقفوف والجالسوف رؤوسيـ عندما فتح الباب‪ ،‬وتمخض عف رجاؿ‬
‫يحمموف أطباؽ الثريد‪ ،‬وعمي بؾ يشير إلى أماكف وضعيا ويعطي توجيياتو إلى‬
‫الرجاؿ بجمب المزيد مف المرؽ والمحـ‪...‬‬
‫كاف الطعاـ شيياً‪ ،‬والمضيؼ كريماً‪ ،‬لـ ييدأ طواؿ الوقت وىو يفتت المحـ‬
‫ويصنعو أكواماً أماـ كؿ واحد‪ ...‬يضيؼ المرؽ عمى الثريد مف آونة ألخرى‪ ،‬ويقدـ‬
‫المبف وأعناؽ البصؿ والفجؿ‪ ،‬مردداً عبارات الشكر هلل‪.‬‬
‫قاؿ كبير التجار‪:‬‬
‫أما‬ ‫ػ اسمعوا يا إخوتي ما سأقولو‪ :‬صدقوني لـ أكف عمى ٍ‬
‫ثقة بصدؽ نواياكـ‪َّ ،‬‬
‫اآلف فإنني أرى أمارات الصدؽ ودالالتو عمى وجوىكـ‪ ،‬واني باسـ زمبلئي التجار‬
‫أعمف شكرنا وتقديرنا لما تقوموف بو مف أعماؿ الخير‪ ،‬وسنبقى دائماً عمى اتصاؿ‬
‫مع لجنة المساعدات لمعالجة األمور المستعصية كميا‪ ،‬وسنضع كؿ إمكاناتنا في‬
‫أف مف يتزوج أرمنية لو راتب شيري يتسممو أوؿ كؿ‬ ‫خدمتيا‪ ،‬ويجب أف تعمموا ّ‬
‫شير مف المجنة‪.‬‬
‫رفع أبو ياسيف يديو إلى السماء‪ ،‬وتمتـ تمتمات غير مفيومة‪.‬‬
‫ضحؾ عمي بؾ‪ ،‬واقترب منو قائبلً‪:‬‬
‫بـ دعوت ربؾ؟‬ ‫ِ‬
‫ػ أصدقني القوؿ يا أبا ياسيف َ‬
‫ػ واهلل كنت أقوؿ‪ :‬الميـ ارزقني أـ ياسيف مف بيف األرمنيات‪ ،‬لتشاطرني‬
‫تعاستي وآالمي وآمالي‪.‬‬
‫أما زلت تريدىا شقراء زرقاء العينيف طويمة نحيمة‪...‬‬
‫ػ َّ‬
‫ػ بمى واهلل ليتني أحصؿ عمييا‪...‬‬
‫ػ اطمئف يا أبا ياسيف‪ ،‬فاألرمنيات يحممف ىذه الصفات‪ ،‬وأنا عمى ثقة بأف اهلل‬
‫سييبؾ إحداىف‪ ،‬وستحمؿ بالمولود الذي انتظرتو طويبلً‪.‬‬
‫ػ رباه ال أريد غير ياسيف‪...‬‬

‫ػ ‪ 24‬ػ‬
‫ضحؾ عمي بؾ‪ ،‬والتفت إلى أبي سمطاف‪ ،‬وكاف يدعو اهلل خمسة‪،‬‬
‫فقاؿ ضاحكاً‪:‬‬
‫ػ وأنت يا جابي المالية يا أبا سمطاف ما خطبؾ؟!‬
‫التزـ أبو سمطاف الصمت‪ ،‬ولـ ينبس ببنت شفة‪ ،‬ولما صاح بو عمي بؾ‬
‫َ‬
‫ثانية‪ ،‬أجاب متمعثماً‪ ،‬وقد أفاؽ مف شروده‪:‬‬
‫ػ كنت أدعو اهلل أف يمنحني الولد الصالح‪.‬‬
‫اعترض عميو أبو أحمد قائبلً‪:‬‬
‫مرتيف‪ ،‬ولديؾ سبع بنات فماذا تريد؟ أتريد الزوجة الثالثة؟ لف‬‫جت ّ‬‫تزو َ‬
‫أنت ّ‬
‫ػ َ‬
‫جت بأربع‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تزو َ‬
‫تكوف خمفتؾ يا أبا سمطاف سوى البنات‪ ،‬ولو ّ‬
‫صاح بو أبو سمطاف غاضباً‪:‬‬
‫حباً بالولد‬
‫ػ لماذا تقطع رجائي باهلل يا أبا أحمد؟ واهلل ليس حباً بالنساء‪ ،‬وانما ّ‬
‫الصالح إف شاء اهلل‪.‬‬
‫ػ لكف لديؾ (سمطانة) وأخواتيا‪ ،‬واهلل إف كؿ واحدة منيف تعادؿ عشرة رجاؿ‪.‬‬
‫غاؿ ميما كثر عدد البنات‪ ،‬فيو‬‫ػ صحيح ما تقولو يا أبا أحمد ولكف الولد ٍ‬
‫أما البنت فيي ضيفة وأمانة‪ ...‬إنيا ليست لي يا أبا أحمد‪...‬‬
‫مف سيحمؿ اسمي‪َّ ،‬‬
‫أفيمت؟‬
‫قاؿ عمي بؾ عندما بمغ التأثر بأبي سمطاف مداه‪:‬‬
‫أما سمعت شاعرنا يقوؿ‪:‬‬
‫ػ أخالفؾ الرأي يا أبا سمطاف‪َّ ...‬‬

‫ائعو‬
‫فتاة‪ ،‬وىل أوحت بذاك شر ُ‬ ‫ىل اهلل يرضى أن تُيان ألنيا‬
‫بائعو‬
‫ُ‬ ‫ويك ما أنا‬
‫َ‬ ‫بألف غالم‪،‬‬ ‫إن خشفاً واحداً لو قنصتو‬
‫إال ّ‬

‫نفرؽ بيف الذكر واألنثى‪،‬‬


‫واهلل إف بنتي بنظري قبيمة مف الرجاؿ‪ ،‬وعمينا أال ّ‬
‫وسنة رسولو‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ألف ذلؾ حراـ بشرع اهلل ّ‬
‫بل‪:‬‬
‫قاؿ أبو سمطاف خج ً‬
‫أفرؽ بينيما لو كاف عندي الولد‪ ،‬لكنني أريد سمطاناً‪،‬‬
‫ػ واهلل يا أبا راغب أنا ال ّ‬
‫ولعمو يأتيني مف أرمنية‪.‬‬

‫ػ ‪ 25‬ػ‬
‫ضحؾ عمي بؾ‪ ،‬وقيقو اآلخروف‪ ،‬فشاركيـ أبو سمطاف بالضحؾ وضرب‬
‫الكفيف ببعضيما‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ اطمئف يا أبا سمطاف‪ ،‬سيكوف لؾ ذلؾ بإذف اهلل‪.‬‬
‫ثـ التفت إلى أبي أحمد‪ ،‬وىمس في أذنو‪:‬‬‫َّ‬
‫ػ وأنت اآلخر‪ ،‬أال ترغب بزوجة ثانية؟‬
‫قاؿ أبو أحمد متنيداً‪:‬‬
‫ػ الحمد هلل الذي رزقني أـ أحمد‪ ،‬فيي ابنة عمي‪ ،‬وال أرغب بأخرى أبدًا‪ ،‬لكف‬
‫يمف عمى ولدي أحمد بزوجة صالحة‪ ،‬وكما تعرؼ (العيف‬ ‫ما أتمناه مف اهلل أف ّ‬
‫بصيرة واليد قصيرة)‪.‬‬
‫الصداؽ وكؿ‬‫ػ اطمئف يا أبا أحمد‪ ،‬سيناؿ مأربو إف شاء اهلل‪ ،‬وأنا مف سيدفع ِ‬
‫تكاليؼ الزواج شريطة أف يحضر إلى مجمسي معؾ‪ ،‬فيو رجؿ جاد ووطني‪.‬‬
‫تيمّؿ وجو أبي أحمد بالبِشر‪ ،‬وقاؿ ِ‬
‫فرحاً‪:‬‬
‫ػ منذ الغد سيأت ي أحمد إلى مجمسؾ‪ ،‬وال أعرؼ كيؼ سأرد إليؾ الجميؿ يا‬
‫عمي بؾ‪ ...‬إف ما تبذلو ألجمنا كثير واهلل‪.‬‬
‫ػ أستغفر اهلل العظيـ‪:‬‬

‫نجود‬ ‫الخيرين‬
‫ّ‬ ‫بمال‬ ‫ونحن‬ ‫الخيرون بمالِيم‬
‫ِّ‬ ‫يجود عمينا‬

‫التفت الحاضروف إلى أبي صادؽ الميكانيكي الذي طاؿ شروده‪ .‬اقترب منو‬
‫عمي بؾ وقاؿ لو بصوت ٍ‬
‫عاؿ‪:‬‬
‫ػ إيو يا رجؿ؟ أيف وصمت؟‬
‫تنبو أبو صادؽ‪ ،‬فابتسـ وقاؿ‪:‬‬
‫ّ‬
‫كنت أحمـ بثبلثة رجاؿ َميَ ٍرة في الميكانيؾ ليجعموا ورشتي‬
‫ػ أصارحؾ القوؿ‪ُ .‬‬
‫تمبي طموحاتي‪.‬‬
‫ّ‬
‫ػ اطمئف يا أبا صادؽ‪ ،‬الميكانيؾ في دـ األرمف‪ ،‬وستجد الكثيريف منيـ‪ ،‬أنا‬
‫عمى ثقة مف ذلؾ‪.‬‬

‫ػ ‪ 26‬ػ‬
‫ػ أريد ثبلثة فقط يا أبا راغب‪.‬‬
‫اقترب عمي بؾ مف المختار‪ ،‬فقاؿ باسماً‪:‬‬
‫ػ المختار أبو عدناف سيؤوي عدداً غير محدود مف األرمف‪َّ ،‬‬
‫ألف بستانو كبير‬
‫ورزقو قميؿ‪ ،‬ربَّما األرمف سيحيمونو إلى جنة‪ ،‬وأنا عمى ثقة مف ذلؾ‪.‬‬
‫ػ إذا كاف ىذا رأيؾ يا أبا راغب‪ ،‬فأنا ليا إف شاء اهلل‪.‬‬
‫سرحاف في المجيوؿ‪.‬‬
‫حدؽ عمي بؾ في عيني أبي طارؽ فرآىما المعتيف‪ ،‬تَ َ‬
‫ّ‬
‫قاؿ صوت خفيض عندما اقترب منو‪:‬‬
‫ػ ما ألبي طارؽ ساىماً شارداً؟ أيف ّكر بتجارتو أـ بوطنو؟!‬
‫أزوج طارقاً‬
‫ػ تجارتي وسيمة يا أبا راغب وأنت تعرفني جيداً‪ ،‬لكنني فكرت أف ّ‬
‫سنو‪.‬‬
‫بأرمنية رغـ حداثة ّ‬
‫ػ سيكوف لو ذلؾ إف شاء اهلل‪ ،‬وأتمنى أف تحضره معؾ إلى المضافة غداً‪.‬‬
‫ػ لكنو ما زاؿ حدثاً!‬

‫الشبان و ِ‬
‫الشيب‬ ‫ّ‬ ‫قد يوجد الحمم في‬ ‫ٍ‬
‫بمانعة‬ ‫ٍ‬
‫حمم‬ ‫فما الحداثة من‬

‫دعو يأتي إلى مجمسنا غداً‪ ،‬وسنرى رأيو‪.‬‬


‫ػ كما تشاء‪.‬‬
‫ػ اآلف أقوؿ لكـ جميعاً‪:‬‬
‫بارؾ اهلل فيكـ‪ ،‬وأتمنى مف لجنة المساعدات أف تحضر إلى مكتبي في تماـ‬
‫المتضرريف‬
‫ّ‬ ‫العاشرة مف صباح الغد مف أجؿ استبلـ األرزاؽ وتوزيعيا عمى‬
‫والمنكوبيف‪.‬‬

‫ػ ‪ 27‬ػ‬
‫(‪)3‬‬
‫سيجوا‬
‫إعياء‪ ،‬وعشرات الرجاؿ والفتية ّ‬
‫ً‬ ‫الفرات ينثر زَب َده ٍ‬
‫كثور ىائج قد سقط‬
‫شاطئو عند المعبر الوحيد؛ ينظروف بقمؽ إلى سفف مآلى بالوافديف‪ ...‬ظمّوا في‬
‫توزعوا في مفردات الوقت أسئمة تيمي شروقاً ببل‬
‫المدى المفتوح أزىا اًر تفوح؛ ّ‬
‫أجوبة‪...‬‬
‫إيو يا نير المآسي والمحف‪ ...‬نير الكوارث والنكبات‪ ...‬ماذا تحمؿ اليوـ‬
‫عمى سطحؾ الرجراج؟ أرفؽ بمف تحمؿ‪ ،‬افرد جناحيؾ عمييـ‪ ،‬امنع عنيـ لفح‬
‫اليجير وسياط التيو؛ واهلل ما جاؤوؾ خائفيف وال طامعيف‪ ،‬جاء بيـ الظمـ ليموتوا‬
‫أوفياء‪ ،‬أو يعيشوا شرفاء‪ ...‬لقد فقدوا كؿ شيء إال األمؿ‪ ،‬وىاىـ اليوـ في رحاب‬
‫يتجمعوف‪ ...‬فإلى ماذا ستؤوؿ مصائرىـ؟ والى أي مدى سينظروف؟!‬ ‫النقاء ّ‬
‫ٍ‬
‫أجنحة فكيؼ سيطيروف؟!‬ ‫رب‪ ...‬إنيـ ببل‬
‫يا ّ‬
‫يا رب‪ ...‬إنيـ ببل زِاد فكيؼ تُراىـ َيحيوف؟!‬
‫يا رب‪ ...‬إنيـ حفاةٌ عراةٌ فكيؼ يسيروف؟!‬
‫كاف الواقفوف وىـ ينظروف إلى السفف التي أخذت تقترب رويداً رويداً يدعوف‬
‫اهلل أف يحمي الوافديف مف كؿ مكروه‪ ،‬ويتمنوف عميو أف يحمييـ مف كؿ ٍ‬
‫عيف‬
‫شريرة‪.‬‬
‫المدعمة بأعمدة طويمة وصفائح عريضة المست الشاطئ برفؽ‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫القوارب‬
‫عشرات مف األطفاؿ والشيوخ والنساء وقمّة مف الرجاؿ تيالكوا عمى الشاطئ ببل زاد‬
‫وشفاه يابسة‪ ،‬وعيوف دامعة‪ ،‬وتمتمات‬ ‫أو متاع‪ ...‬وجوه مصفرة‪ ،‬وثياب بالية‪ِ ،‬‬
‫ّ‬
‫السف‪:‬‬
‫ّ‬ ‫في‬ ‫طاعف‬ ‫شيخ‬
‫تتيالؾ مف شفتي ٍ‬
‫ػ يا رب‪" ...‬قتموا الرجاؿ وأبقوني‪...‬‬
‫قدسيتؾ عني عند رحيمي‪...‬‬‫ال تبعد ّ‬
‫ال تيدر شرفي ػ أنا المديف ػ عند تكفيني‪...‬‬
‫ال تبخؿ عمى روحي بالخبلص يا مف ال يخوف‪...‬‬
‫ال تطمس خطوط حياتي المحسوبة عميؾ في أنفاسي‪...‬‬

‫ػ ‪ 28‬ػ‬
‫تمح صورة الرحمة في وجوه مف أراىـ‪...‬‬
‫ال ُ‬
‫ولتسكف معي في قبري‪...‬‬
‫وليبؽ زيت نعمتؾ محفوظاً عندي بعد فناء جسدي‪"...‬‬
‫متشبث‬
‫ّ‬ ‫تياوى الشيخ المسكيف عندما وطئت قدماه تربة الشاطئ الندية‪ ،‬وىو‬
‫بابنتو وحفيدتو‪.‬‬
‫المنيَكيف‪...‬‬
‫كؿ المرضى و ُ‬
‫ىرع الرجاؿ بنقمو إلى المشفى‪ ،‬ونقموا معو ّ‬
‫اقترب أبو ياسيف مف األـ وابنتيا وأخذىما إلى بيتو‪.‬‬
‫لما تتجاوز السادس‬ ‫تسمرت عيناه في وجو فتاة ّ‬
‫نظر أبو أحمد إلى ابنو الذي ّ‬
‫عشر ربيعاً‪ ...‬شقراء‪ ،‬ذات عينيف زرقاويف‪ ،‬وبشرة نحاسية‪ ،‬طويمة‪ ،‬نحيمة‪ ،‬ثوبيا‬
‫ممزؽ مف أعمى الصدر‪ ،‬وكانت تممممو بحياء‪ ،‬فتعانقت األحداؽ طويبلً‪...‬‬
‫ّ‬
‫توحدت في مقمتييا؟!‬
‫توىج في قمبيا؟! وأي سماء ّ‬
‫ؽ ّ‬ ‫أي عش ٍ‬
‫ّ‬
‫يمتد أمبلً حتَّى انتياءات الوصوؿ‪...‬‬
‫تم ّفت يمنة ويسرة بيمع‪ ...‬كاف الخوؼ ّ‬
‫اقترب منيا كثي اًر‪ .‬أخذت خفقات الروح تزىو في خارطة األحبلـ أقما اًر‪ .‬احتضنت‬
‫فتشبثت برجؿ كيؿ ناىز السبعيف عاماً؛ أخذه معيا دوف‬
‫جرىا بيدوء‪ّ ،‬‬ ‫كفّو كفّيا‪ّ ،‬‬
‫جدىا‪...‬‬
‫تردد‪ ،‬وقد عرؼ فيما بعد أنو ّ‬
‫مر‬
‫المموث بالشحـ والزيت ّ‬
‫أبو صادؽ الميكانيكي الذي جاء بمباسو الميداني ّ‬
‫مستعرضاً وجوه الرجاؿ‪ ،‬وكانوا ينظروف إليو بدىشة‪ ،‬وعندما توقّؼ أماميـ أقبؿ‬
‫عميو ثبلثة رجاؿ عرفوا صنعتو مف لباسو‪ .‬أشار إلييـ أف يتبعوه‪ ،‬فساروا عمى‬
‫يفروف مف الموت‪ ،‬أخذىـ إلى ورشتو الصناعية‪ ،‬فتعانقوا‪،‬‬ ‫وكأنيـ ّ‬
‫ّ‬ ‫عجؿ‪،‬‬
‫َ‬
‫وعانقوه‪...‬‬
‫تأنؽ عند حضوره‪ ،‬فقد تعمّؽ قمبو في أىداب‬ ‫أما أبو سمطاف الجابي الذي ّ‬ ‫َّ‬
‫امرأة وجييا شمس مف عسؿ‪ ،‬وفي عينييا ذىوؿ ال ُيحتَمؿ‪ ...‬عندما اقترب منيا‬
‫كثي اًر احتضنت طفميا الصغير وعيناىا تدمعاف‪ّ ...‬قبؿ أبو سمطاف طفميا‪،‬‬
‫واحتضنو بحناف‪ ،‬وشبؾ أناممو بأنامؿ المرأة وسار بيما إلى بيتو وىو يتمتـ‪:‬‬
‫أرزؽ منيا بطفؿ فسيكوف ابنيا بمثابة ولدي‪.‬‬‫ػ إف لـ َ‬
‫أما أبو طارؽ فكاف ينّقؿ عينيو‪ ،‬تارةً إلى ابنو طارؽ‪ ،‬وتارةً أخرى إلى وجوه‬
‫َّ‬
‫تقدـ ابنو إلييف‪ ،‬وزادت غبطتو عندما‬‫الفتيات األرمنيات‪ .‬أحس بالغبطة عندما ّ‬
‫عسميتيف ووجو مستدير ّلوحتو الشمس حتَّى غدا‬
‫ّ‬ ‫أمسؾ يد فتاة جميمة ذات عينيف‬

‫ػ ‪ 29‬ػ‬
‫ممزؽ ُيظير يعض مفاتنيا‪ ،‬تبث‬ ‫اني ّ‬
‫ثوب أرجو ّ‬
‫نحاسياً‪ .‬يستر جسدىا النحيؿ ٌ‬
‫المواعج شيقة‪ ،‬وتفتح القمب ابتياجاً‪ .‬اعتصر طارؽ يدىا الناعمة برفؽ‪ ،‬وسار بيا‬
‫ولؼ بيا جسد الفتاة‪ ،‬وسار‬
‫كوفيتو‪ّ ،‬‬‫إلى والده الذاىؿ‪ّ ،‬قبؿ أبو طارؽ ابنو‪ ،‬وخمع ّ‬
‫بيما إلى بيتو والفرحة تغمره‪.‬‬
‫أ َّما المختار أبو عدناف فقد واجو الموقؼ بحذر شديد‪ ،‬ومع ذلؾ فقد انتقى‬
‫عدداً مف الرجاؿ والنسوة والشيوخ أخذىـ إلى بستانو الكبير الواقع في طرؼ‬
‫المدينة الغربي‪.‬‬
‫ثـ جاء عدد مف رجاؿ الريؼ فاقتسموا مف بقي منيـ‪ ،‬وساروا بيـ إلى قراىـ‬
‫َّ‬
‫مسرعيف‪.‬‬
‫كاف عمي بؾ مسرو اًر لكؿ ما حدث‪ ،‬وقد سارع بمعونة التجار والمزارعيف‬
‫بإرساؿ المؤونة والمباس إلييـ جميعاً‪ .‬قاؿ مفتخ اًر بيـ‪:‬‬
‫ػ اآلف صدؽ الوعد‪ ،‬وحمّت النعمى يا إخوتي‪ ...‬اآلف أستطيع أف أفاخر بكـ‪،‬‬
‫فكؿ الشكر والتقدير لكـ‪.‬‬
‫قاؿ المختار‪:‬‬
‫ندمت ألنني لـ أجمب المزيد منيـ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ػ ال شكر عمى واجب‪ ،‬واهلل لقد‬
‫قاؿ أبو أحمد‪:‬‬
‫تقدر بثمف‪ ،‬وواهلل لو أف في‬
‫ػ نحف الذيف يجب أف نشكرؾ‪ ،‬فسعادة ولدي ال ّ‬
‫لجمبت المزيد‪.‬‬
‫ُ‬ ‫بيتي سعة‬
‫أما أبو ياسيف فكاف في غاية السعادة والسرور‪ ...‬قاؿ باسماً‪:‬‬‫َّ‬
‫إلي أـ ياسيف‪ ...‬ومعيا أميا‪ ...‬واهلل لـ َأر امرأةً بجماليا‪ ،‬لقد‬
‫ػ وأخي اًر جاءت ّ‬
‫إلي بعينييا الخضراويف أحمّؽ في سماء‬ ‫فاقت التصور‪ ...‬فتاة شقراء‪ ،‬عندما تنظر ّ‬
‫الحب‪ ،‬وقوس قزح يمفّني مف كؿ اتجاه‪ ...‬يا إليي‪ ،‬إنيا فتاة ُخمقت مف سوسف‬
‫الربيع وأقاحو‪ .‬زادىا البؤس والحرماف جماالً وألقاً‪ ،‬والخوؼ واليمع فتنة وروعة‪.‬‬
‫ػ ما ىذا يا أبا ياسيف؟! أنت شاعر واهلل‪...‬‬
‫ػ يا أبا راغب‪ ...‬ستراىا وستحسدني عمييا‪.‬‬
‫ػ لف أحسد أحدًا‪ .‬ىنيئاً لؾ بيا‪.‬‬
‫قاؿ أبو سمطاف مرتجفاً‪:‬‬
‫ػ أخشى يا عمي بؾ أف يعمـ الوالي بما فعمنا‪.‬‬

‫ػ ‪ 31‬ػ‬
‫ػ ال تخافوا رغـ أف الخبر سيصمو حتماً‪.‬‬
‫صاح المختار‪:‬‬
‫ػ وامصيبتاه! وماذا سنفعؿ وقتذاؾ؟!‬
‫ضحؾ عمي بؾ وقاؿ‪:‬‬
‫سأتدبر األمر في حينو‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ػ قمت لكـ ال تخافوا‪.‬‬
‫ما كاد عمي بؾ يكمؿ عبارتو حتَّى دخؿ رجؿ يرتدي لباس الشرطة‪ ،‬وىو مف‬
‫ىز ليا‬
‫ثـ ىمس في أذف عمي بؾ كميمات‪ّ ،‬‬‫أتباع عمي بؾ‪ ،‬فسّمـ عمى الجميع‪َّ ،‬‬
‫رأسو‪ ،‬وقاؿ بصوت ٍ‬
‫عاؿ‪:‬‬
‫ػ اذىب إليو‪ ،‬وقؿ لو بأني سآتي إليو بعد قميؿ‪.‬‬
‫مودعاً‪ ،‬فتعمّقت قموب الجالسيف وعيونيـ في عيني عمي بؾ‬
‫رحؿ الشرطي ّ‬
‫تغير لونو قميبلً‪ ،‬وتحاشى النظر إلى جمسائو‪.‬‬
‫الذي ّ‬
‫ٍ‬
‫بصوت راجؼ‪:‬‬ ‫اقترب أبو عدناف مف عمي بؾ كثي اًر‪ ،‬وقاؿ‬
‫ػ خي اًر إف شاء اهلل!‬
‫رفع عمي بؾ رأسو عالياً‪ ،‬وابتسـ ابتسامة صفراء‪ ،‬وقاؿ ساخ ًار‪:‬‬
‫ػ لقد وصؿ الخبر إلى الوالي‪ ،‬وىو يطمبني ليذا األمر‪.‬‬
‫ػ وماذا نفعؿ اآلف؟‬
‫ػ اذىبوا إلى بيوتكـ‪ ،‬وال تخافوا أحدًا إال اهلل‪ ،‬وأنا سأعالج الموضوع بحكمة‪.‬‬
‫متحدياً وقاؿ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫وقؼ أبو ياسيف‬
‫أفجر دار الحكومة اآلف‪ ،‬وأقتؿ الوالي وحاميتو‪.‬‬
‫ألف ّ‬ ‫ػ أنا عمى استعداد َّ‬
‫ىيف وال يستدعي إال قميبلً‬
‫ػ ال يا أبا ياسيف‪ ،‬ال داعي لما تف ّكر فيو‪ .‬األمر ّ‬
‫مف مكر ودىاء‪.‬‬
‫قاؿ أبو أحمد غاضباً‪:‬‬
‫المس بيـ إال عمى جثثنا‪.‬‬
‫فداء لضيوفنا‪ ،‬ولف يستطيع أحد ّ‬
‫احنا ٌ‬ ‫ػ واهلل إف أرو َ‬
‫نحف الذيف نقوؿ لؾ اآلف اذىب إليو وال تخؼ‪ ،‬ونحف رىف اإلشارة‪ ،‬إف أراد الوالي‬
‫شر فنحف ليا‪.‬‬
‫خي اًر فخير‪ ،‬واف أراد ّاً‬
‫وقؼ عمي بؾ شامخاً‪ ،‬ورّبت عمى كتؼ أبي أحمد قائبلً‪:‬‬

‫ػ ‪ 31‬ػ‬
‫ػ أصيؿ يا أبا أحمد‪ ،‬شك اًر لؾ ولكؿ الحاضريف‪ .‬اذىبوا اآلف‪ ،‬ال أريد أف‬
‫أحب أف أطمئنكـ مسبقاً بأنو لف يحدث لي إال الخير إف شاء‬
‫أتأخر عمى الوالي‪ ،‬و ّ‬
‫اهلل‪.‬‬
‫رحؿ الحاضروف وكأف عمى رؤوسيـ الطير‪ ،‬وكؿ واحد منيـ صار يضرب‬
‫أخماساً بأسداس‪ ...‬يفكروف بأسوأ االحتماالت‪ ...‬ماذا ستكوف مواقفيـ إف أخذوا‬
‫سيحؿ بيـ؟ كيؼ سيواجيوف الموقؼ إف أخفؽ عمي بؾ‬ ‫ّ‬ ‫األرمف مف بيوتيـ؟ ماذا‬
‫في محاولتو مع الوالي؟‬
‫ضؿ طريؽ بيتو‪ ،‬وبعضيـ اآلخر‬ ‫أخذوا يفكروف بعمؽ‪ ،‬حتَّى إف بعضيـ ّ‬
‫اصطدموا بالجدراف ووقعوا في حفر الطريؽ وسواقيو‪...‬‬
‫متوجياً إلى دار‬
‫ّ‬ ‫وبينما كانوا عمى ىذه الحاؿ‪ ...‬كاف عمي بؾ يسير بتؤدة‬
‫الحكومة‪ ،‬حيث الوالي ينتظره عمى أحر مف الجمر‪.‬‬

‫ػ ‪ 32‬ػ‬
‫(‪)4‬‬
‫كاف الوالي التركي في حالة ىياج شديد‪ ،‬يصرخ كؿ ٍ‬
‫آونة‪:‬‬
‫ػ صالح‪ ...‬صالح‪ ..‬تعالى إلى ىنا‪.‬‬
‫يدخؿ الشرطي صالح‪ ،‬فيمسكو الوالي مف رقبتو النحيمة قائبلً‪:‬‬
‫ػ ىؿ ذىبت حق ًا إلى عمي بؾ؟‬
‫ػ نعـ يا سيدي‪ ،‬وقاؿ لي بأنو سيحضر في الحاؿ‪.‬‬
‫ػ لِـ لـ ِ‬
‫يأت حتَّى اآلف؟‬ ‫َ‬
‫ػ كاف في مضافتو عدد مف الوجياء‪ ،‬ولكنو سيأتي كما قاؿ لي‪.‬‬
‫المخبر شريؼ‪ ،‬وال تغادرىا أبداً‪.‬‬
‫ابؽ في الغرفة الثانية مع ُ‬
‫ػ َ‬
‫ػ كما تريد يا سيدي‪.‬‬
‫سيئ السيرة رغـ وعوده‬
‫السري كاف ّ‬
‫يحدث نفسو غاضباً‪ ،‬فالمخبر ّ‬‫أخذ الوالي ّ‬
‫المخبر‬
‫سيغير مف سموكو وعطائو ليناؿ الرضا‪ ،‬وكاف يخشى كذب ىذا ُ‬ ‫ّ‬ ‫لو بأنو‬
‫وتيويمو ليذا األمر‪ ،‬واعطاءه أكبر مف حجمو‪ ،‬فأراد أف يقؼ عمى الحقيقة مف‬
‫خؼ‬
‫عمي بؾ‪ ،‬فيو أدرى منو بيذا األمر‪ ،‬وعندما دخؿ عمي بؾ إلى الوالي ّ‬
‫يحبو كثي اًر ويثؽ بو‪.‬‬
‫ىيجانو‪ ،‬واستقبمو بترحاب‪ ،‬فيو ّ‬
‫َ‬
‫ثـ أخذ ينظر إليو بعينيف ناعستيف قائبلً بيدوء‪:‬‬
‫أشار إليو أف يجمس قبالتو‪َّ ،‬‬
‫ػ أيف ذىبت قافمة األرمف يا عمي بؾ؟‬
‫توجيوا إلى‬
‫ػ قسـ كبير منيـ في المشفى‪ ،‬وعدد منيـ توفّاىـ اهلل‪ ،‬وآخروف ّ‬
‫حمب‪.‬‬
‫ػ قيؿ لي إف عدداً مف رجاالت المدينة والريؼ تقاسموىـ‪.‬‬
‫ػ ثبلثة رجاؿ بحاجة ماسَّة إلى الزواج انتقوا ثبلث فتيات‪ ،‬ورجؿ بحاجة إلى‬
‫عماالً‬
‫عماؿ ميكانيكييف أخذ ثبلثة رجاؿ‪ ،‬وعدد مف رجاؿ الريؼ انتقوا منيـ ّ‬
‫تـ بمعرفتي‪.‬‬
‫وكؿ ذلؾ َّ‬
‫زراعييف‪ّ ،‬‬
‫ػ كيؼ يا عمي بؾ؟!‬

‫ػ ‪ 33‬ػ‬
‫ػ أنا كفيميـ‪ ،‬وأنت تعرؼ يا موالي غبلء الميور وفقر الناس‪ ،‬وندرة العماؿ‬
‫الصناعييف والفنييف الزراعييف‪ ،‬واألرمف قد حمّوا لنا ىذه األمور المستعصية‪.‬‬
‫المخبر شريؼ عمى الفور‪.‬‬‫صاح الوالي بالحرس كي ُيدخموا ُ‬
‫فحيا الوالي ونكس طرفو أماـ نظرات عمي بؾ‪ .‬اقترب منو‬ ‫دخؿ شريؼ ّ‬
‫الوالي وعرؾ شحمة أذنو بقوة‪ ،‬قائبلً‪:‬‬
‫كؿ القافمة‪ ،‬أليس كذلؾ؟‬
‫ػ أنت قمت لي إنؾ رأيت الرجاؿ الذيف تقاسموا ّ‬
‫نظر شريؼ إلى عمي بؾ‪ ،‬فغمزه بطرؼ عينو‪ ،‬فقاؿ‪:‬‬
‫سيدي‪...‬‬
‫ػ ليس كؿ القافمة يا ّ‬
‫ػ أنت تكذب إذف؟‬
‫سيدي‪.‬‬
‫ػ الرحمة يا ّ‬
‫ػ سأودعؾ السجف أييا الكاذب‪.‬‬
‫تدخؿ عمي بؾ عمى الفور راجياً العفو عف شريؼ ىذه المرة‪ ،‬فعفا عنو‬ ‫ّ‬
‫شريطة أف يكوف صادقاً في نقؿ األخبار‪ ،‬فوعده شريؼ بذلؾ‪.‬‬
‫كؿ قوافؿ األرمف اآليبة خبلؿ‬
‫ػ عمي بؾ‪ ...‬أريد منؾ أف تُشرؼ بنفسؾ عمى ّ‬
‫الفترة القادمة‪ ،‬وتعمؿ عمى ترحيميا إلى حمب دوف توقّؼ في المدينة‪.‬‬
‫ػ لكف مف واجبي أف أنقؿ المرضى إلى المشفى‪.‬‬
‫المنيكيف جدًا فقط‪.‬‬
‫ػ انقؿ ُ‬
‫ػ كما تشاء‪ ...‬ىؿ تريد شيئاً آخر؟‬
‫ػ ال‪ ...‬شك اًر‪ ،‬وأنا آسؼ إلزعاجؾ‪.‬‬
‫ػ أستغفر اهلل العظيـ‪ ،‬أنت تأمر في أي وقت تشاء‪.‬‬
‫ػ لـ تقؿ لي مف ىـ الرجاؿ الذيف أخذوا مف األرمف؟‬
‫الصباغ انتقى‬
‫ّ‬ ‫ػ أبو سمطاف الجابي‪ ،‬فيو يريد الولد يا موالي‪ ،‬وأبو أحمد‬
‫عروساً لولده أحمد‪ ،‬وأبو ياسيف انتقى أـ ياسيف‪ ،‬وأبو صادؽ الميكانيكي انتقى‬
‫ثبلثة عماؿ ميكانيكييف لورشتو‪ ،‬وعدد مف شيوخ القبائؿ انتقوا عماالً زراعييف‬
‫لمزارعيـ‪.‬‬
‫ػ خي اًر إف شاء اهلل‪.‬‬

‫ػ ‪ 34‬ػ‬
‫كاف عمي بؾ مسرو اًر جداً ليذه النتيجة مع الوالي‪ ،‬وعندما خرج مف مكتبو‬
‫تدخمو‪ ،‬واعفاءه‬
‫المخبر شريؼ‪ ،‬وتذلّؿ أمامو شاك اًر ّ‬
‫سار متّجياً إلى بيتو‪ ،‬فمحؽ بو ُ‬
‫مف السجف‪ .‬نظر إليو عمي بؾ بعينيف غاضبتيف‪ ،‬وىو في الحقيقة الذي يجب أف‬
‫يتعود عمى‬ ‫يشكره َّ‬
‫ألنو لـ يقؿ الحقيقة‪ ،‬وانما قصد بيذه النظرة إخافتو مف أجؿ أال ّ‬
‫نقؿ أخبار المناضميف والمحسنيف إلى الوالي لقاء درييمات معدودات‪.‬‬
‫بصوت خفيض‪:‬‬‫ٍ‬ ‫سر نظرات عمي بؾ‪ ،‬فقاؿ‬‫أدرؾ شريؼ ّ‬
‫ػ لست أدري ماذا جرى لي عندما قمت لو بأف القافمة كمّيا قد اقتسميا‬
‫رجاالت المدينة والريؼ؟ وعد مني أال أشي بمناضؿ أو محسف بعد اليوـ‪ ،‬بؿ‬
‫سأعمد إلى مساعدتيـ بكؿ ما أستطيع‪.‬‬
‫ػ ىذا ما أطمبو منؾ يا شريؼ‪ ،‬ووعداً مني إف احتجت إلى أي شيء فسيكوف‬
‫لؾ بإذف اهلل‪.‬‬
‫ثمة كوابيس مرىقة كانت‬ ‫كانت ليمة ثقيمة لـ ينـ خبلليا عمي بؾ إال قميبلً‪ّ ...‬‬
‫فكره بيف متاىات الظنوف ومسارب الشؾ‪ ...‬بيف‬ ‫ت ُ‬ ‫تتعاوره مف حيف آلخر‪ .‬تشتّ َ‬
‫الحاضر والمستقبؿ‪ ...‬بيف الواقع والخياؿ‪ ...‬قدح زناد فكره م ار اًر‪ ،‬فرأى‪ ،‬ويا ليوؿ‬
‫ما رأى!‬
‫المستقبؿ‬
‫َ‬ ‫المستقبؿ مرعباً‪ ...‬رأى الواقع دفمى و‬
‫َ‬ ‫رأى الحاضر يحتضر‪ ،‬و‬
‫ط بو الخياؿ إلى رؤى وأوىاـ وىواجس وعواصؼ وزوابع‪ ،‬كاف يتياوى‬ ‫عمقماً‪ ..‬ش ّ‬
‫قوة‪ ...‬ىرش جمدة رأسو الصغير‪ ،‬ومسح‬ ‫بينيا ال يموي عمى شيء‪ ،‬وال حوؿ لو وال ّ‬
‫أبجديةً عشقيا منذ الصغر وترّبى عمييا‪ ،‬وأقسـ عمى الوفاء ليا‬
‫ّ‬ ‫أنفو الدامع‪ ،‬ورتّؿ‬
‫المّرة يا ولدي لو طميتيا‬
‫ميما كاف الثمف‪ .‬كاف أبوه يقوؿ لو دائماً‪( :‬الشجرة ُ‬
‫بالعسؿ لف تثمر إال ُمّاًر)‪.‬‬
‫أف المحتؿ‬
‫حب وطنو واإلخبلص لو‪ ،‬و ّ‬
‫كاف والده ػ رحمو اهلل ػ يحثّو عمى ّ‬
‫ميما كانت مواقفو إيجابية فوجوده سمبي‪.‬‬
‫مرددًا عمى‬
‫حب الناس واإلحساف إلييـ قدر استطاعتو ّ‬
‫كاف يطمب منو ّ‬
‫مسامعو أيضاً ما قالو الشاعر‪:‬‬

‫إحسان‬ ‫اإلنسان‬ ‫فطالما استعبد‬ ‫يم‬ ‫ِ‬


‫ُ‬ ‫َ‬ ‫قموب ُ‬
‫أحسن إلى الناس تستعبد َ‬

‫ػ ‪ 35‬ػ‬
‫فالكرـ والسخاء أحب الصفات إلى اهلل تعالى‪ ،‬وىما ىبتاف ييبيما اهلل لمف‬
‫يصطفي مف عباده‪...‬‬
‫يردد عمى مسامعو صباح مساء الفضيمة والخير والعطاء‬
‫كاف والده مدرسةً‪ّ ،‬‬
‫حتَّى آخر لحظة مف حياتو‪...‬‬
‫بتمعف‬
‫ّ‬ ‫حارسو األثير‪ ،‬وناولو وريقةً صغيرة‪ ،‬قرأىا عمي بؾ‬
‫ُ‬ ‫اقتحـ خموتَو‬
‫وشردت عيناه‪...‬‬
‫بتحرؾ الجيش العربي مف الحجاز إلى األردف‪ ،‬ومف األردف‬
‫األخبار السعيدة ّ‬
‫تمح عميو أف ُيجير بالعداء لموالة والسبلطيف‬‫إلى سورية‪ ،‬والحركة الوطنية ّ‬
‫العثمانييف‪ ،‬وأف يدعو الشعب إلى الثورة‪.‬‬
‫كاف يرى ضرورة التميّؿ والعمؿ بسرّية وكتماف‪ ،‬ىذا ما طرحو جيا اًر فاتّيمو‬
‫بعضيـ بأنو مع األتراؾ قمباً وقالباً‪...‬‬
‫قدـ ُي َش ّؾ بوطنيتو‬
‫كؿ ما ّ‬
‫أبعد ّ‬
‫الضيقة! يا لحصاد ألسنتيـ! َ‬
‫ّ‬ ‫يا ألخبلؽ الناس‬
‫عمي بحزف‪:‬‬
‫وسموكو‪ ...‬تمتـ ٌّ‬

‫ِ‬
‫المئام‬ ‫فال أخشى اليوان من‬ ‫أكرموني‬ ‫الكرامة‬ ‫أىل‬ ‫إذا‬

‫مما يعرؼ اآلخروف‪ ...‬إنو يعرؼ الوالي جيداً منذ‬ ‫كاف عمي بؾ يعرؼ أكثر َّ‬
‫أياـ دراستو في اآلستانة‪ ،‬وكانت لو مواقؼ إيجابية مف العرب‪ ،‬وحتى مف األرمف‪،‬‬
‫ويمح عمى رحيؿ السوقيات فور‬ ‫وكاف يأسؼ لِما جرى ليـ في ‪/‬مركدة‪ /‬وغيرىا‪ّ ،‬‬
‫يقدر مواقفو جيداً‪ ،‬ولو‬
‫عمي ّ‬‫وصوليا دير الزور خوفاً مف غضب رؤسائو‪ ،‬وكاف ّ‬
‫لتغير كؿ شيء‪ ...‬ىذا ما كاف يجيمو رفاقو‪.‬‬
‫كاف غير ذلؾ ّ‬
‫الصباغ وأبو صادؽ وأبو‬
‫ّ‬ ‫بعد شروؽ الشمس بقميؿ‪ ،‬كاف المختار وأبو أحمد‬
‫سمطاف وأبو ياسيف أماـ بيت عمي بؾ‪...‬‬
‫أخذوا‪ .‬القمؽ واليواجس والظنوف تتناىبيـ‬
‫يينؤوا بمف َ‬
‫لـ يستطيعوا النوـ‪ ،‬ولـ َ‬
‫مف حيف آلخر‪...‬‬
‫اتّفقوا فيما بينيـ عمى المجيء إلى بيت عمي بؾ بعد شروؽ الشمس‪،‬‬
‫فاجتمعوا عند بوابة الحديقة المؤلى بالزىور والرياحيف‪...‬‬

‫ػ ‪ 36‬ػ‬
‫ويرش الماء‪،‬‬ ‫يشـ الورد‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫كاف عمي بؾ يقظاً يتنقؿ مف شجرة إلى أخرى‪ّ ،‬‬
‫قصي‪...‬‬
‫ّ‬ ‫ويبعد اليباس إلى ركف‬
‫كانوا ينظروف إليو باحتراـ وتقدير‪ ،‬وىو منيمؾ في العمؿ‪ ...‬حتَّى إذا ما‬
‫كرسيو يحتسي الشاي تنحنحوا بصوت ٍ‬
‫عاؿ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫انتيى وجمس عمى‬
‫وقؼ عمي بؾ وأمرىـ بالدخوؿ‪ ،‬فدخموا وىـ من ّكسو الرؤوس‪...‬‬
‫ػ أىبلً بكـ‪ ...‬سنتناوؿ طعاـ الفطور معاً‪.‬‬
‫قاؿ المختار‪:‬‬
‫ػ نحف لـ ننـ ليمتنا يا أبا راغب‪ .‬أرجوؾ قؿ لنا ماذا سنفعؿ؟‬
‫سقط أبو سمطاف عند قدمي عمي بؾ ناشجاً‪:‬‬
‫أتوسؿ‬
‫ػ أرجوؾ يا أبا راغب‪ ،‬لقد أحبَّيا قمبي واهلل‪ ،‬ولف أقوى عمى فراقيا‪ّ .‬‬
‫إليؾ‪ ...‬ساعدني‪.‬‬
‫مد عمي بؾ يده‪ ،‬ورفع جسد أبي سمطاف المتيالؾ‪ ،‬ونظر في عيوف‬ ‫ّ‬
‫اآلخريف‪ ،‬فوجدىا كابية ال لمعاف فييا وال ضوء‪ ،‬فقاؿ بنبرة قاسية‪:‬‬
‫ػ إذاً ستتخمّوف عف المقاومة؟!‬
‫قاؿ المختار َدىشاً‪:‬‬
‫ػ وما دخؿ المقاومة بيذا الموضوع؟!‬
‫ػ إما أف تسمّموا األرمف‪ ،‬أو تقاوموا األتراؾ‪.‬‬
‫أما أبو سمطاف فقاؿ‪:‬‬
‫سكت أبو أحمد الصباغ‪ ،‬ولـ ينبس ببنت شفة‪َّ ،‬‬
‫ػ أنا سأسمّـ ما أخذت عندما أعجز عف المقاومة‪.‬‬
‫قاؿ أبو ياسيف بعد تفكير عميؽ‪:‬‬
‫ػ واهلل سأودع مخزناً مف الرصاص في قمب مف يقترب مف أـ ياسيف أو مف‬
‫أميا‪.‬‬
‫أما أبو صادؽ فقد أخرج مديةً طويمة مف جيبو‪ ،‬ورفعيا عالياً‪ ،‬وقاؿ‬
‫َّ‬
‫بأعمى صوت‪:‬‬
‫ػ أنا ليا يا أبا راغب‪.‬‬
‫نظر عمي بؾ في عيني أبي أحمد الصباغ قائبلً‪:‬‬
‫ػ لـ تقؿ شيئاً يا أبا أحمد!‬

‫ػ ‪ 37‬ػ‬
‫ثـ قاؿ‪:‬‬
‫تنيّد أبو أحمد‪ ،‬وأطمؽ زفرةً مف أعماقو‪َّ ،‬‬
‫ػ واهلل لف يأخذوا زوجة ولدي أحمد إال عمى جثتي‪.‬‬
‫ضحؾ عمي بؾ طويبلً‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ ىنيئاً لكـ ما أخذتـ‪ ،‬ولف يستطيع أحد أف يسمبكـ األمانة التي أرتضيتـ‬
‫قوة غاشمة ّأي ًا‬
‫حمميا بصدؽ‪ .‬األرمف يا إخوتي أصبحوا جزءًا منا‪ ،‬ولف تستطيع ّ‬
‫بأف ما أُخذ مف القافمة‬
‫أما بالنسبة لموالي فقد أقنعتو ّ‬
‫كانت اقتبلعيـ مف أرضنا‪ّ ،‬‬
‫لشد احتياجات مف ال يممؾ مي اًر أو عماالً‪ ،‬وقمت لو إف مف أخذوىـ‬
‫قميؿ‪ ،‬وذلؾ ّ‬
‫أعرفيـ وىـ بكفالتي‪.‬‬
‫ىدأت النفوس قميبل‪ ،‬ما لبث أف تنيد المختار‪.‬‬
‫ػ ما بؾ يا أبا عدناف؟‬
‫ػ لـ تقؿ لي مف وشى بنا يا أبا راغب؟!‬
‫بل‪.‬‬
‫ػ لـ يكف تركي ًا‪ ،‬وال ديرياً أصي ً‬
‫ػ مف ىو أرجوؾ؟‬
‫منبت سيئ عمى كؿ حاؿ‪ ،‬وأرجو أال تموثوا‬ ‫ٍ‬ ‫ييمكـ اسمو‪ ،‬فيو مف‬‫ػ ال ّ‬
‫أنفسكـ بو‪ ،‬لقد ىديتو إلى سواء السبيؿ‪ ،‬وأرجو أف يكوف صادقاً بما وعد‪.‬‬
‫التفت الرجاؿ عمى صوت جمبة بالقرب مف الحديقة‪...‬‬
‫الخيالة‪ ،‬وعندما أومأ ليـ عمي بؾ عرفوىـ جيداً‪ ،‬إنيـ‬
‫كاف ثبلثة رجاؿ مف ّ‬
‫مف كبار التجار‪...‬‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ اآلف طاب طعاـ اإلفطار‪...‬‬
‫دخؿ عمي بؾ بيتو‪ ،‬وقد جمس الحاضروف جميعاً وما ىي إال دقائؽ‪ ،‬حتَّى‬
‫كاف اإلفطار جاى اًز‪ .‬تناولوه بارتياح وحمدوا اهلل كثي اًر‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ لكبير التجار‪:‬‬
‫يأت أبو طارؽ معكـ؟ ما أخبار ابنو؟‬ ‫ػ لِـ لـ ِ‬
‫َ‬
‫تزوج ابنو مف األرمنية‪ ،‬وىو سعيد جداً بيا‪،‬‬
‫ػ أبو طارؽ يعيش الفرحة بعد أف َّ‬
‫وليتؾ رأيت العروس بعد أف ألبسوىا أجمؿ المباس‪ ،‬وزّينوا يدييا بالذىب‪ .‬كؿ مف‬
‫رآىا قاؿ‪ :‬ىذه مبلؾ وليست مف البشر‪ .‬ىنيئاً لطارؽ بيا!‬

‫ػ ‪ 38‬ػ‬
‫كنت أتمنى أف يعيش الفرحة ىؤالء الرجاؿ الذيف تراىـ أمامؾ‪ ...‬إنيـ لـ‬ ‫ػ ُ‬
‫يناموا ليمتيـ خوفاً ورعباً‪.‬‬
‫ػ ماذا تقوؿ يا أبا راغب؟‬
‫ػ إف ثقتيـ بي ضعيفة‪.‬‬
‫قاؿ المختار بصوت ٍ‬
‫عاؿ‪:‬‬
‫تتصور‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مما‬
‫بؾ يا أبا راغب أكبر َّ‬
‫ػ ال واهلل‪ ...‬إف ثقتنا َ‬
‫قاؿ كبير التجار‪:‬‬
‫لتتعزز ثقتكـ بنا أيضاً‪ ،‬أرجو أف تأخذوا‪...‬‬
‫ػ يا إخوتي‪ّ ،‬‬
‫ثـ قاؿ‪:‬‬ ‫ومد يده في جيبو‪ ،‬وأعطى لكؿ و ٍ‬
‫احد منيـ صرةً‪َّ ،‬‬
‫صرة عشروف ليرة رشادية‪ ،‬ىي دفعة أولى لكـ لتساعدكـ عمى‬ ‫ػ في كؿ ّ‬
‫تحمؿ مسؤولية األمانة التي بيف أيديكـ‪.‬‬
‫دسوا الذىب في جيوبيـ‪ ،‬واستأذنوا‬
‫فرحتيـ‪ّ .‬‬ ‫لـ تكف الحديقة تسع‬
‫باالنصراؼ‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ قبؿ أف يغادروا‪:‬‬
‫يتيددىا‪،‬‬
‫ػ أوصيكـ يا إخوتي بحفظ األمانة‪ ،‬والدفاع عنيا أماـ أي خطر ّ‬
‫سنة اهلل ورسولو‪ ،‬واكتبوا وثيقة بذلؾ‪ ،‬واجمبوىا لي كي أُميرىا‬
‫تزوجوىـ عمى ّ‬‫ّ‬
‫بخاتمي وتوقيعي‪.‬‬
‫قاؿ المختار‪:‬‬
‫ػ سنفعؿ ذلؾ ىذا اليوـ إف شاء اهلل‪ ،‬واطمئف فواهلل الذي ال إلو إال ىو ستكوف‬
‫فداء ليـ‪...‬‬
‫رقابنا ً‬
‫وخرج كؿ واحد إلى بيتو والفرحة تغمرىـ‪ ،‬بينما بقي عمي بؾ مع التجار‬
‫الثبلثة يتداولوف شؤوف البمد‪ ،‬ومستمزمات المرحمة القادمة‪.‬‬

‫ػ ‪ 39‬ػ‬
‫ػ ‪ 41‬ػ‬
‫(‪)5‬‬
‫كاف أبو أحمد الصباغ في غاية السعادة َّ‬
‫ألنو وجدىا عمى وجو ولده أحمد‪،‬‬
‫وكانت أـ أحمد تطمؽ زغاريد الفرح مف ٍ‬
‫آونة ألخرى‪ ،‬وتقوـ بحركات راقصة‬
‫كؿ ٍ‬
‫آونة لئلمساؾ بيا‪ ،‬إلى أف ساعدتو آخر‬ ‫ييـ ّ‬
‫متمايمة عمى أبي أحمد‪ ،‬الذي ّ‬
‫مرة‪ ،‬فوقعت عمداً في أحضانو‪ ...‬الفرح قصائد عشؽ ال تستكيف‪ ...‬أغصاف مف‬‫ّ‬
‫ياسميف تتدلّى في فضاء الروح‪ ...‬بيادر فصوؿ خضراء‪ ...‬ميرجاف مف الفتنة‬
‫والمذة يغطي كؿ مساحات القير والحرماف‪...‬‬
‫قاؿ ليا‪ ،‬والنشوة تغمره‪:‬‬
‫ػ أتدريف يا امرأة كـ أنا سعيد؟!‬
‫المست فخذه برفؽ‪ ،‬وتنيّدت قائمة‪:‬‬
‫كنا نحمـ بيا منذ‬
‫مف عمينا بالسعادة التي ّ‬
‫ػ أنا واهلل أكثر منؾ‪ ،‬الحمد هلل الذي ّ‬
‫سنيف طويمة‪...‬‬
‫ػ اهلل كريـ يا أـ أحمد‪ ...‬منذ زمف طويؿ‪ ،‬وأنا أقوؿ لؾ‪ :‬إف اهلل لف ينسانا‬
‫َّ‬
‫ألنو يعمـ ما تخفي الصدور‪...‬‬
‫ػ قؿ لي يا أبا أحمد‪ ...‬ماذا ستفعؿ بالذىب؟‬
‫أسجمو باسـ أحمد‪ ،‬وسأشتري لو كؿ‬
‫ػ سأشتري المحؿ المجاور لمحمي‪ ،‬و ّ‬
‫مستمزمات المصمحة حتَّى يظؿ سعيداً‪ ،‬وسأبني لو غرفة في البيت كي يأخذ‬
‫أف لو بيتاً‪ ،‬وأنو أصبح صاحب أسرة‪.‬‬ ‫حريتو‪ ،‬ويعرؼ ّ‬
‫عـ الرأي واهلل‪.‬‬‫ِ‬
‫ػن َ‬
‫ثـ اقتربت مف زوجيا‪ ،‬وأخفضت رأسيا‬
‫تشاغمت أـ أحمد بعقص ضفيرتيا‪َّ ،‬‬
‫وقبمو‪ ،‬وقاؿ‬
‫بحياء‪ .‬أدرؾ أبو أحمد أف أم اًر ما يدور في خمدىا‪ ،‬فأمسؾ رأسيا ّ‬
‫بصوت يشبو اليمس‪:‬‬
‫ػ ماذا يدور في ىذا الرأس الجميؿ مف أفكار يا ترى؟‬
‫وقبمتيا بحناف‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫أمسكت أـ أحمد يد زوجيا‪ّ ،‬‬

‫ػ ‪ 41‬ػ‬
‫ػ أتعرؼ يا أبا أحمد‪ ،‬لقد تممّكتني الغيرة عندما ذىبت إلى قافمة األرمف مع‬
‫جميبلتيف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ابنؾ‪ ...‬خفت واهلل أف تستأثر بواحدة مف‬
‫ضحؾ أبو أحمد طويبلً‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ الصراحة يا امرأة‪ّ ،‬أنيف ُي ِسمف المعاب‪ .‬ماذا لو رأيت ابنؾ وىو يمسؾ بيد‬
‫إلييف؟ وكيؼ وثب أبو ياسيف كالنمر إلى‬‫ّ‬ ‫أجمميف؟ وكيؼ ىرع أبو سمطاف متميّفاً‬ ‫ّ‬
‫ابف أبي طارؽ التاجر فتاة رائعة؟ وكيؼ وكيؼ؟ واهلل لوالؾ‬ ‫حسنائو؟ وكيؼ انتقى ُ‬
‫قصرت‪ ،‬ويجب أف تعممي أنو لو أعطوني أجمؿ الجميبلت في‬ ‫يا ابنة عمي لَما ّ‬
‫العالـ‪ ،‬ما قبمت بيا إكراماً لعينيؾ‪...‬‬
‫طوقت أـ أحمد عنؽ زوجيا بيدييا النحيمتيف‪ ،‬وغمرتو بوابؿ مف القببلت التي‬ ‫ّ‬
‫ليا خفؽ كخفؽ اليديف بالعجيف‪ ،‬معتذرة َّ‬
‫ألف األرمنيات فائقات الجماؿ‪ ،‬والغيرة‬
‫طبع عند النساء‪.‬‬
‫محممة بالغبار‪ ،‬وفتحت الباب‬
‫ىبت نسمة ّ‬ ‫أغمقت أـ أحمد نافذة الغرفة عندما ّ‬
‫ثـ جمست تراقب زوجيا وىو يقّمب‬
‫الجو تارةً‪ ،‬وغرفة أحمد تارة أخرى‪َّ ،‬‬
‫تستطمع ّ‬
‫صفحات دفتر جيبو‪ ،‬يحسب ما لو وما عميو‪ ،‬فأغمقت الدفتر بيدوء‪ ،‬ونظرت في‬
‫عينيو الواسعتيف‪ ،‬فابتسـ وقاؿ‪:‬‬
‫ػ أيف ولدنا أحمد؟‬
‫ػ إنو في غرفتو‪ ...‬ىنيئاً لو‪.‬‬
‫ػ كيؼ رأيت زوجتو؟‬
‫استحمت‪ ،‬ولبست ثيابيا الجديدة‪ ،‬ظننتيا مبلكاً‬
‫ّ‬ ‫ػ ّإنيا جميمة آسرة‪ ...‬عندما‬
‫فواحة بالعطر‪ ...‬حمامة مف‬ ‫ىبطت عمينا مف السماء‪ ...‬يا إليي ما أجمميا! وردةٌ ّ‬
‫نور واهلل‪.‬‬
‫تمـ عميو بالخير والبركة‪ ،‬وارزقو الولد الصالح‪.‬‬
‫ػ الميـ ّ‬
‫ػ آميف يا رب العالميف‪.‬‬
‫وأيف حميدة؟‬
‫ػ عند خالتيا تساعدىا في جرش البرغؿ‪.‬‬
‫اسـ زوجة أحمد؟ لقد نسيتو واهلل‪.‬‬
‫ػ أعرفت َ‬
‫يغير اسميا باسـ يسيؿ عمينا حفظو‪.‬‬‫ػ وأنا كذلؾ‪ ،‬سأطمب مف أحمد أف ّ‬
‫تمحي عميو بيذا الطمب‪.‬‬
‫ػ أخشى أف يزعجيا ذلؾ يا أـ أحمد‪ .‬أرجوؾ‪ ...‬ال ّ‬

‫ػ ‪ 42‬ػ‬
‫رحب بيا‪.‬‬
‫ػ ال عميؾ‪ ...‬انظر اآلف‪ ...‬انظر‪ ...‬ىاىي مقبمة إلينا‪ ...‬قـ ّ‬
‫نيض أبو أحمد‪ ،‬وزغردت أـ أحمد طويبلً عندما أقبمت زوجة أحمد برفقة‬
‫زوجيا‪...‬‬
‫كانت كمبلؾ النور‪ ...‬شعرىا األشقر يتيادى عمى منكبيف كأنو شبلؿ مف‬
‫تتثنى في‬
‫الضياء‪ ...‬عيناىا الزرقاواف كأنيما بحيرتاف تخفياف الآللئ والمرجاف؛ ّ‬
‫مشيتيا كالخيزراف‪ ،‬ووجييا المشرؽ يكتنز بالحب والحناف‪ ...‬يا لمجماؿ كيؼ‬
‫يصنع بالقموب والعقوؿ!‬
‫صاح أبو أحمد بأعمى صوت‪:‬‬
‫ػ صمّوا عمى النبي‪...‬‬
‫رددت الشفاه أعذب الصموات وأسماىا‪...‬‬‫ّ‬
‫احتضنتيا أـ أحمد بميفة‪ ،‬وكأنيا آيبة بعد طوؿ غياب‪.‬‬
‫أجمستيا بينيا وبيف زوجيا‪ ،‬وأخذت تبلمس شبلؿ شعرىا األشقر الجميؿ‬
‫بحناف‪ .‬ضحؾ أحمد وقاؿ‪:‬‬
‫الدي‪...‬‬
‫ػ لكنني أغار عمييا منكما يا و ّ‬
‫قاؿ أبوه‪:‬‬
‫ػ نسيت اسميا يا ولدي‪ ...‬ما ىو؟‬
‫ػ (ىاصميؾ) يا أبي‪.‬‬
‫ػ ماذا يعني ىذا االسـ لدييـ؟‬
‫ػ يعني (الياسميف) كما عممت‪.‬‬
‫ػ إذف دعنا نسمييا ياسميناً‪ ،‬وأبعد ىذا االسـ الذي ال يحفظ‪.‬‬
‫يعتزوف بأسمائيـ‪.‬‬
‫ػ كما تريد يا أبي‪ ،‬رغـ أنيـ ّ‬
‫ّقبمتيا أـ أحمد ثانية وثالثة‪ ،‬وصاحت بأعمى صوت‪:‬‬
‫ياسميف‪ ،‬يا أجمؿ ورد البساتيف‬
‫يا أغمى ريحانة بيف الرياحيف‬
‫رب احفظيا‪ ،‬قولوا آميف‬
‫يا ّ‬
‫وتمنت عمى ابنيا أف يحافظ عمييا‪.‬‬
‫وزغردت طويبلً‪ّ ،‬‬
‫وعيني‪ ،‬فبل توصياني بيا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ػ واهلل يا أمي‪ ،‬إنيا في قمبي وروحي‬

‫ػ ‪ 43‬ػ‬
‫ػ عمّميا يا أحمد العربية‪.‬‬
‫بعدة كممات عربية‪ ،‬وخبلؿ شير أو أكثر‬‫تتقبؿ ذلؾ‪ ،‬وأصبحت تنطؽ ّ‬ ‫ػ بدأت ّ‬
‫ستتحدث معؾ كأي امرأة ديرية‪ ...‬إنيا ذكية جداً‪ ،‬واستيعابيا سريع‪ ،‬وتعرؼ‬‫ّ‬ ‫قميبلً‪،‬‬
‫شفتي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ماذا أريد مف حركة‬
‫جدىا؟‬
‫ػ بارؾ اهلل فيؾ يا ولدي‪ ،‬لكف كيؼ أصبح ّ‬
‫تنيّد أحمد وقاؿ متألماً‪:‬‬
‫السؿ يفتؾ برئتيو‪ ،‬وال أعتقد أنو سيشفى‪.‬‬
‫ػ إنو مريض جداً‪ّ .‬‬
‫ػ الميـ يا ولدي أف تجعمو يشرب الدواء بانتظاـ‪ ،‬والشافي ىو اهلل‪.‬‬
‫قاؿ أبو أحمد‪:‬‬
‫ػ واهلل يا ولدي‪ ،‬لو أعرؼ أف مرضو ُيشفى ألعطيتؾ الذىب مف أجمو‪.‬‬
‫مني‬
‫ػ يا والدي‪ ،‬الطبيب نفسو قاؿ لي أف ال أمؿ مف شفائو‪ ،‬والعمّة أنو طمب ّ‬
‫عدـ مبلمستو لئبل أصاب بالعدوى‪.‬‬
‫تصرفت؟‬
‫ػ وكيؼ ّ‬
‫ولكف زوجتي متعمّقة بو إلى أبعد مدى‪ ،‬إنيا تطعمو بيدىا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ػ لـ ألمسو‪،‬‬
‫وتغسمو‪ ،‬وتُمبِسو‪ ،‬وتُشرؼ عمى نظافتو حتَّى يناـ‪ ،‬غير آبية لتعميمات الطبيب‪ ،‬وال‬
‫جدىا الذي رّباىا منذ الصغر في ِحجره يا أبي‪.‬‬
‫أستطيع منعيا‪ ...‬إنو ّ‬
‫قالت أـ أحمد مشفقةً‪:‬‬
‫ػ دعيا يا ولدي تقـ بواجبيا‪ ،‬أنت ال تعرؼ وفاء األرمف وايثارىـ‪ ،‬واألعمار‬
‫كمّيا بيد اهلل‪.‬‬
‫لتغير أحواليا بعد‬
‫فتنبو والداىا‪ ،‬وعجبا ّ‬
‫دخمت حميدة فرحة عمى غير عادتيا‪ّ ،‬‬
‫أف كانت كئيبة ال تمزح‪ ،‬وال تضحؾ‪ ،‬وال تكمّـ أحداً إال عندما تُجبر عمى ذلؾ‪...‬‬
‫تنبيت حميدة لحاليا أماـ والدييا وأخييا‪ ،‬فوأدت فرحيا في قمبيا‪ ،‬وتجيّمت‬
‫ّ‬
‫فجأة‪...‬‬
‫ناداىا والدىا‪ ،‬وقاؿ ليا بدىشة‪:‬‬
‫رت يا حميدة؟! ماذا أصابؾ يا بنتي؟!‬‫تغي ِ‬
‫ػ َلـ ّ‬
‫تموف الوجو الجميؿ بحمرة الخجؿ وعقدة‬
‫تمعثمت حميدة وتعثرت في اإلجابة؛ ّ‬
‫الخوؼ؛ ارتجفت الشفتاف المكتنزتاف ارتجافةً مريعة‪ ،‬وترقرقت دمعتاف عمى‬
‫الحدقتيف‪ ،‬فانسابتا عمى الوجنتيف بحناف‪...‬‬
‫ػ ‪ 44‬ػ‬
‫وضمتيا برفؽ فتنفّست الصعداء‪...‬‬
‫ّ‬ ‫أميا‪،‬‬
‫اقتربت منيا ّ‬
‫فمبى‬
‫طمبت أـ أحمد مف زوجيا الخروج مف البيت لشراء بعض الحاجات‪ّ ،‬‬
‫أميا وأخييا وزوجة أخييا‪...‬‬
‫طمبيا عمى الفور‪،‬وجمست حميدة مع ّ‬
‫ساد الصمت ىنيية‪ ...‬كؿ العيوف ترنو إلى وجو حميدة‪ ،‬وكانت حميدة‬
‫طمت أـ أحمد قيود الصمت‬‫تغض الطرؼ بحياء‪ ،‬وقد أرىقتيا الكوابيس‪ ...‬ح ّ‬
‫ّ‬
‫قائمة‪:‬‬
‫ػ ما أخبار خالتؾ يا حميدة؟‬
‫ػ إنيا بخير يا أمي‪ ،‬وتسمّـ عميؾ كثي اًر‪.‬‬
‫ػ وابف خالتؾ سامي‪ ،‬ىؿ كاف ىناؾ؟‬
‫تممّؾ الحياء ثانيةً وجو حميدة‪ ،‬وأخفضت بصرىا‪ ،‬ولـ تتكمّـ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بصوت خفيض‪:‬‬ ‫قرصتيا أميا مف فخذىا‪ ،‬فقالت‬
‫ػ نعـ‪ ،‬كاف في غرفتو يقرأ‪.‬‬
‫قاؿ أحمد باسماً‪:‬‬
‫يحبؾ كثي ًار‪ ،‬وكمّما كاف يفاتحني بموضوع‬ ‫أف سامي ّ‬ ‫ػ أتعرفيف يا أختاه ّ‬
‫خطبتؾ‪ ،‬كنت أقوؿ لو‪ :‬ترّيث حتَّى تُنيي دراستؾ‪ ،‬وكاف يحاوؿ جاىداً إقناعي بأف‬
‫ومشجعاً‪ .‬قمت لو‬
‫ّ‬ ‫الزواج ال يعيؽ الدراسة‪ ،‬بؿ عمى العكس يكوف عامبلً محف اًز‬
‫مرةً‪ِ :‬ل َـ ال تنتقي فتاة أرمنية جميمة‪ ،‬وتُنيي ىذا الموضوع؟ ولكنو صرخ بوجيي‬
‫قائبلً‪ :‬إف لـ تكف حميدة لي‪ ،‬فمف أتزوج طوؿ العمر‪...‬‬
‫قالت أـ أحمد‪:‬‬
‫ػ يا ولدي‪ ،‬سامي شاب ناضج‪ ،‬وأصيؿ ابف أصيمة‪ ،‬واهلل لف تكوف حميدة إال‬
‫لو‪ ،‬فميطمئف‪ ،‬ولتطمئف حميدة‪.‬‬
‫انسحبت حميدة باسمة‪ ،‬فقاؿ أحمد‪:‬‬
‫مما ال تحمد عقباه‪َّ ،‬‬
‫ألف سامي ال يممؾ‬ ‫ػ لكف يا أمي‪ ،‬أخشى عمى زواجيما َّ‬
‫شيئ ًا‪.‬‬
‫ػ كيؼ ال يممؾ شيئاً يا ولدي؟ إنو يشتري الحبوب بأنواعيا‪ ،‬ويبيعيا‪ ،‬وداره‬
‫واسعة‪ ،‬وال أحد يؤنس وحدتو سوى أختي‪.‬‬

‫ػ ‪ 45‬ػ‬
‫أمو َّ‬
‫ألف تبيع‬ ‫مرات يخسر سامي في بيع الحبوب‪ ،‬فتضطّر ّ‬‫عدة ّ‬
‫ػ يا أماه‪ّ ...‬‬
‫جيداً‪ ،‬وىو يدرس اآلف‪،‬‬
‫مف ذىبيا سداداً لديونو‪ ،‬إنو ال يعرؼ البيع والشراء ّ‬
‫فمننتظر حتَّى ُينيي دراستو ويحصؿ عمى وظيفة‪ ،‬وبعدىا لكؿ حادث حديث‪.‬‬
‫ممؾ‬
‫حباً َ‬‫ػ ال يا ولدي‪ .‬أنا أعرؼ ما ال تعرفو أنت‪ ...‬سامي يحب حميدة ّ‬
‫يتزوجيا أف تفقد أختي وحيدىا‪ ...‬كاف كمّما عصؼ بو‬‫قمبو وعقمو‪ ،‬وأخشى إف لـ ّ‬
‫أمو لترسؿ في طمب حميدة بحجة مساعدتيا‪،‬‬ ‫يمح عمى ّ‬‫الشوؽ‪ ،‬وتقاذفتو اليموـ‪ّ ،‬‬
‫فتبدد كآبتو‪ ،‬وتنزاح كؿ ىمومو عندما يراىا‪ ...‬ىذا ىو‬
‫وكاف ال يراىا إال أماـ أمو‪ّ ،‬‬
‫الحب الصادؽ‪ ،‬واعمـ أنني أعطيت حميدة خادمة ألختي‪ ،‬وال أريدؾ أف‬
‫تعارضني‪.‬‬
‫ػ لكف والدي عندما فاتحتو بالموضوع قاؿ لي‪:‬‬
‫سامي ما زاؿ صغي اًر‪.‬‬
‫ػ يا ولدي‪ ،‬الصغير بنظر أبيؾ مف ال وظيفة لديو أو عمؿ مربح‪.‬‬
‫ػ معو حؽ يا أمي‪.‬‬
‫سببا‬
‫إف موقفؾ وموقؼ أبيؾ ّ‬ ‫يتزوجا بأسرع وقت‪ّ .‬‬ ‫ػ ال يا ولدي‪ ...‬الحؽ أف ّ‬
‫ليا الكآبة‪ ...‬يا ولدي‪ ،‬حميدة تختزف في قمبيا حباً كبي اًر صادقاً وشريفاً لسامي‪،‬‬
‫وتتمنى مف كؿ قمبيا أف توافقا‪ ،‬أنت وأبوؾ حتَّى ترتاح نفسياً وعاطفياً‪ ...‬كانت‬ ‫ّ‬
‫سر وعبلنية‪ :‬آه لو وافقا عمى سامي لعشت سعيدة‪ ...‬ىي ال‬ ‫أختؾ يا أحمد تتمتـ ًّا‬
‫تزوجاىا مف رجؿ‬ ‫تعرؼ ما يجوؿ في خمدكما سوى أمر واحد‪ ...‬إنيا تخاؼ أف ّ‬
‫وتردد دوف‬
‫وتتشنج‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وتتغير مبلمحيا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫آخر‪ ،‬وكانت كمّما ف ّكرت بيذا األمر تنفعؿ‪،‬‬
‫سابؽ إنذار‪( :‬وقتيا‪ ،‬سأقتؿ نفسي‪ ،‬أو ألقي بجسدي في الفرات‪ ،‬ولف أكوف لغير‬
‫تقدر مشاعر أختؾ حميدة‪ ...‬ال أريد أف أفقدىا‬ ‫سامي أبداً) أرجوؾ يا ولدي أف ّ‬
‫أبداً‪.‬‬
‫نظر أحمد في عيني أمو‪ ،‬فرأى دمعتيف تنساباف في أخاديد وجييا‪ ،‬فعانقيا قائبلً‪:‬‬
‫ػ وعداً مني يا أماه أف أكوف مف ىذه المحظة إلى جانب أختي حميدة‪،‬‬
‫وسأقنع أبي بضرورة زواجيا مف سامي‪َّ ،‬‬
‫ألف بيتنا لـ يعد يتّسع إال لمفرح‪.‬‬
‫ثـ قامت‪ ،‬ورقصت‪،‬‬ ‫احتضنت أـ أحمد ولدىا‪ ،‬وعانقتو‪ ،‬وزغردت طويبلً‪َّ ،‬‬
‫وأخذت تُميؿ جسدىا تارة إلى ابنيا وتارة أخرى إلى زوجتو‪ ،‬وتممّؾ الجميع شعور‬
‫بالغبطة والسعادة أكثر مف ذي قبؿ‪.‬‬

‫ػ ‪ 46‬ػ‬
‫كاف أحمد أكثرىـ سعادة‪ .‬يتأمؿ وجو زوجتو المبلئكي بذىوؿ وعيناه تمتيماف‬
‫عينييا الزرقاويف بشبؽ‪ ...‬قاؿ ألمو‪:‬‬
‫أماه‪ ...‬ىؿ رأيت طواؿ عمرؾ أجمؿ مف ياسميف؟‬ ‫ػ ّ‬
‫فتجيبو أمو بالنفي‪ ،‬مطمقة التعويذات والدعاء كي يحرسيا اهلل ويحمييا مف‬
‫كؿ مكروه‪.‬‬
‫فجأة تجيّمت الوجوه‪ ،‬وعمَتيا كآبة خرساء‪ ،‬عندما تسمّؿ الغبار مف شقوؽ‬
‫النوافذ واألبواب‪...‬‬
‫صرخت أـ أحمد بأعمى صوتيا‪:‬‬
‫ػ العجاج‪ ...‬العجاج‪ ...‬أيف أنت يا أبا أحمد اآلف؟‬
‫بسرعة مذىمة نثر العجاج األصفر أحشاءه حتَّى أصبحت الرؤية عسيرة‪ ،‬وما‬
‫ثـ تممّكت العتمة‬
‫ثـ أرجواني ًا‪َّ ،‬‬
‫لبثت السماء أف خمعت رداءىا‪ ،‬وارتدت ثوب ًا برتقالياً‪َّ ،‬‬
‫عز الظييرة‪...‬‬ ‫أديـ السماء‪ ،‬وأظممت الدنيا في ّ‬
‫دخؿ أبو أحمد مسرعاً‪ ،‬وىو يصيح‪:‬‬
‫ػ أغمقوا األبواب والنوافذ جيداً‪ .‬ضعوا عمى وجوىكـ مناشؼ مبممة بالماء‪...‬‬
‫س ّدوا فتحات آذانكـ وأنوفكـ بالقطف المبمؿ‪.‬‬
‫جدي‪ .‬وصعدت إلى غرفتو‬ ‫جدي‪ّ ...‬‬ ‫قفزت ىاصميؾ بسرعة وىي تصيح‪ّ :‬‬
‫حاداً متواصبلً‪.‬‬
‫غير مكترثة بنداء زوجيا‪ ،‬فوجدتو يسعؿ سعاالً ّ‬
‫المدمى ينثر دمو‬
‫ّ‬ ‫انفؾ سعالو‬ ‫جدىا ِ‬
‫اليرـ الذي ما ّ‬ ‫تشبثت ىاصميؾ بأذياؿ ّ‬ ‫ّ‬
‫في كؿ اتجاه‪ ...‬قاؿ ليا‪:‬‬
‫شر‪.‬‬
‫كؿ ّ‬
‫بنيتي‪ ...‬أموت وأنا مطمئف عميؾ‪ ،‬فأنت في مأمف مف ّ‬
‫ػ ال تخافي ّ‬
‫جدي‪ ...‬ال ترحؿ‬
‫جدي‪ ...‬لف تموت اآلف‪ ...‬أريدؾ إلى جانبي‪ّ .‬‬‫ػ ّ‬
‫ابؽ أرجوؾ‪.‬‬
‫وتتركني‪َ ...‬‬
‫جدىا‪ ،‬وبمّمت أخاديد وجيو بالدموع‪.‬‬‫اجي ّشت ىاصميؾ بالبكاء‪ ،‬واحتضنت ّ‬
‫تشجعي يا بنتي‪ ...‬لف أعيش طويبلً‪ ،‬وعميؾ أف تتذ ّكري دائماً وأبداً أرض‬‫ػ ّ‬
‫أمؾ وأبيؾ واخوتؾ الذيف ال يعمـ إال‬‫المشرديف‪ ...‬تذ ّكري ّ‬
‫ّ‬ ‫اآلباء واألجداد‪ ،‬واخوانؾ‬
‫ورددي ما قالو شاعرنا "أواديؾ"‪:‬‬
‫تشجعي ىاصميؾ‪ّ ،‬‬ ‫اهلل مصيرىـ‪ّ ...‬‬

‫ػ ‪ 47‬ػ‬
‫(يا بمد اآلباء واألجداد‪ ...‬يا ذا الرأس الشامخ‬
‫يا من تمفظ بأسموبك البميغ لغتي األرمنية القديمة‬
‫العذبة النابعة من القمب‪ ...‬يا وطني)‬

‫جدي‪ ...‬ستعيش بإذف اهلل‪ ...‬سأجمب لؾ الطبيب اآلف‪...‬‬ ‫ػ ال تمت اآلف يا ّ‬


‫كؿ شيء يا بنتي‪ ،‬لف يفيدني الطبيب بشيء ولـ تُ ِ‬
‫جد كؿ األدوية‬ ‫ػ انتيى ّ‬
‫أمؾ وخاالتؾ‪ ...‬ليتني أرى أوالدي‪...‬‬ ‫التي أعطاني ّإياىا‪ ،‬آه ليتني أحظى برؤية ّ‬
‫كاف اهلل في عونيـ جميعاً‪ ...‬إف جاؤوا يا بنتي إلى ىنا‪ ،‬فعانقييـ نيابة عني‪،‬‬
‫تحياتي‪.‬‬
‫وبمّغييـ ّ‬
‫أميا وأخواتيا منذ زمف طويؿ‪ ،‬فيي عندما‬ ‫بل‪ ...‬إنيا لـ َتر َّ‬
‫بكت ىاصميؾ طوي ً‬
‫جدىا الذي يبعد مئة كيمومت اًر عف بمدة أىميا‪ ...‬أرادت أف تدرس‬ ‫سيقت كانت في بيت ّ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫جدىا منذ أف كانت صغيرة‪ ،‬وبقيت في حجره حتى سيقت معو‪.‬‬ ‫عند ّ‬
‫كانت زمجرة العواصؼ في صدرىا أعتى مف العواصؼ التي خمّعت األبواب‬
‫والنوافذ‪ ،‬لتطمر البيت بمف فيو وحبلً أحمر تقذفو السماء دوف انقطاع‪...‬‬
‫صاحت مف دوف وعي‪:‬‬
‫رب ليس‬
‫رب كف معنا وال تكف عمينا‪ ...‬يا ّ‬
‫جدي وارحمو‪ ...‬يا ّ‬
‫رب ساعد ّ‬
‫ػ يا ّ‬
‫لنا غيرؾ‪.‬‬
‫يموح بيده المعروقة‬
‫وعندما تمفتت إليو ناشجة‪ ،‬كاف في رحمتو السرمدية ّ‬
‫لظبلؿ تراءت لو‪ ،‬فصاحت بأعمى صوت‪:‬‬
‫جدي‪ ...‬ال ترحؿ أرجوؾ‪...‬‬ ‫ابؽ معي يا ّ‬
‫ػ َ‬
‫الميدـ‪ ،‬ولـ تفؽ إال‬
‫ّ‬ ‫انكبت عميو تبكي بدموع مد اررة‪ ،‬حتَّى غفت عمى صدره‬
‫و ّ‬
‫عمى ساعديف قوييف‪ ،‬وقد حممتاىا إلى السرير‪.‬‬
‫نظرت بذىوؿ‪ ،‬واذا بأحمد ينشج بصمت‪ .‬اقترب منيا‪ ،‬وجفّؼ دموعيا‬
‫بمنشفة نظيفة‪ ،‬وعانقيا بحناف‪ ،‬فتمتمت‪:‬‬
‫جدي يا أحمد‪.‬‬ ‫أريد ّ‬ ‫ػ‬
‫جدؾ اختار اهلل‪ ...‬إنو استراح يا حبيبتي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ػ‬
‫عنا اآلف؟‬ ‫ِ‬
‫لكف‪ ...‬ل َـ رحؿ ّ‬ ‫ػ‬
‫ىذا قضاء اهلل وقدره‪ ،‬وكمّنا عمى ىذا الطريؽ‪.‬‬ ‫ػ‬

‫ػ ‪ 48‬ػ‬
‫جدي وأبي وأمي وأخي يا أحمد‪ ...‬إنو مف رّباني‪ ،‬وعمّمني وى ّذبني‪...‬‬
‫ػ لكنو ّ‬
‫ػ سأعوضؾ يا حبيبتي بإذف اهلل عف حنانو وعطفو وحبو الكبير‪ ،‬فبل تحزني‪.‬‬
‫ػ لف تستطيع يا أحمد‪.‬‬
‫كؿ ّّ جيد‪ ،‬ولف أبخؿ عميؾ بشيء إف شاء اهلل‪.‬‬
‫ػ سأبذؿ يا حبيبتي ّ‬
‫بكت ىاصميؾ طويبلً‪ ،‬وغابت في سبات عميؽ‪.‬‬
‫السماء مازالت تمطر وحبلً أحمر يمطّخ الوجوه واألجساد‪ ،‬ويرسـ خرائط‬
‫المنية عمى الجدراف والنوافذ واألشجار‪ ،‬وعندما اختفى المطر بانت مف جديد‬
‫ّ‬
‫ثـ اتّسعت حتى كادت تبتمع السماء‪.‬‬
‫سحابة صفراء‪ّ ،‬‬
‫تبلشت ذباالت المصابيح‪ ،‬واختفت الوجوه بيف جدراف تفوح منيا رائحة‬
‫العفف‪..‬‬
‫كؿ ّّ ىنيية‪ ،‬والشيوخ يرفعوف أكفّيـ إلى السماء‪ ،‬يدعوف اهلل‬
‫المآذف تكبر ّ‬
‫الغمة لـ تنقشع إالَّ بعد ثبلثة أياـ‪ ،‬وأصبحت المدينة‬
‫الغمة‪ .‬لكف ّ‬
‫ليقشع عنيـ ىذه ّ‬
‫دمرىا‪.‬‬
‫كما لو أف زل ازالً ّ‬
‫اثنا عشر رجبلً ضحايا العجاج‪ُ ،‬شيِّعوا بموكب مييب وكاف مف بينيـ‬
‫جد ىاصمي ؾ الذي بكتو بكؿ ما اختزنتو مف محجرييا مف دموع‪ ،‬وما‬
‫(سوريف) ّ‬
‫احتضنو قمبيا مف دماء‪..‬‬
‫صحتيا حتى أصبحت أطرافيا تختمج‬ ‫ّ‬ ‫لـ تنقطع أحزاف ىاصميؾ‪ ،‬وساءت‬
‫كؿ ّّ حيف‪ .‬وكاف أحمد بكؿ الحب والوفاء‬
‫آونة ألخرى‪ ،‬وكأف الصقيع يداىميا ّ‬‫مف ٍ‬
‫يعانقيا‪ ،‬ويرجوىا أف تخفؼ مف أحزانيا رأفة بصحتيا التي تدىورت‪ ،‬وبجنينيا‬
‫أحشاءىا‪ ،‬فتستجيب مرغمة لندائو الناشج‪ ،‬والدموع تطفر مف عينييا‬‫َ‬ ‫الذي سكف‬
‫الزرقاويف كقطع مف الآللئ‪ ..‬قالت لو مرةً‪:‬‬
‫أقمت لو احتفاالً في مقبرة النصارى‪ ،‬وأريد منؾ شيئاً‬
‫َ‬ ‫ػ أشكرؾ يا أحمد ألنؾ‬
‫آخر‪.‬‬
‫أجابيا‪ ،‬والبسمة عمى شفتيو‪:‬‬
‫ػ أأقدر عميو؟!‬
‫ػ أجؿ‪ ..‬تقدر عميو‪.‬‬
‫ػ ما ىو؟‬
‫ػ إف كاف المولود ذك ًار أرجو أف تسميو (سوريف) عمى اسـ جدي رحمو اهلل‪.‬‬

‫ػ ‪ 49‬ػ‬
‫ػ سوريف؟! ما معنى ىذا االسـ؟‬
‫لجدي‪.‬‬
‫ػ معناه القوي يا أحمد‪ .‬أرجوؾ إكراماً ّ‬
‫ػ أرجو أف تسمحي لي بحذؼ الحرؼ الخير منو إكراماً لوطني‪.‬‬
‫ػ الميـ أف أناديو أنا سوريف‪ ،‬وأنت ن ِاده سوري‪.‬‬
‫ػ واف كاف المولود أنثى‪.‬‬
‫أمؾ الطيبة‪.‬‬
‫ػ أقترح أف تسمييا (نورا) عمى اسـ ّ‬
‫ػ اتّفقنا يا حبيبتي‪.‬‬
‫صمت كئيب‪ ،‬ينظر إلييا‪ ..‬وتنظر إليو‪..‬‬‫ٌ‬ ‫ساد جو الغرفة‬
‫كاف اشتعاؿ الروح يأخذه إلييا دفئاً وأغنية وشوقاً عابقاً بالحب والحناف‪ ..‬كـ‬
‫وكأنو سيرحؿ عنو إلى‬‫كاف يأخذه الكبلـ إلى فضاءات الجسد‪ ،‬فينيؿ منو بشوؽ‪ّ ،‬‬
‫األبد‪ ..‬وكانت روحيا باردة‪ ،‬وفوؽ شتائيا يطفو الظبلـ‪ ..‬تممّكتو الدىشة‪ .‬اقترب‬
‫فتنيدت‪ .‬أراد أف يطمئنيا عف المستقبؿ عندما عجز أف ينقميا إلى‬ ‫ّ‬ ‫منيا كثي اًر‪،‬‬
‫عالـ السحر والمذة‪ ..‬أراد أف يقوؿ ليا كبلماً كثي اًر لتيدأ روحيا القمقة‪ ،‬وتسكف‬
‫لكنيا كانت تحمّؽ ببصرىا في سماوات التيو‪ .‬تستذكر الماضي‪،‬‬ ‫الندية‪ّ ،‬‬
‫جراحيا ّ‬
‫يؤدياف إلى طريؽ الفناء‪ .‬أخذت‬ ‫وتستحضر الحاضر‪ ،‬فترى أنيما توءماف كبلىما ّ‬
‫تفتح قمبيا لثوب الريح تكسوه بألواف الشجف‪ ،‬وتمؤل كأس الحياة اختصا اًر تقتفي‬
‫درب المحف‪..‬‬
‫قاؿ ليا باسماً‪:‬‬
‫بحة الناي في‬
‫ػ ما ألنثى الغيـ ال تمطر في صحراء روحي بعد إف كانت ّ‬
‫كؿ ىنيية بالندى بوحي؟ ما ألنثى الغيـ ك ّفت عف السقيا؟ فيؿ لي‬‫صوتي توافي ّ‬
‫اآلف مف لمى الشيد الرحيؽ؟‬
‫عانقتو طويبلً‪ ،‬داعبت شعره الكثيؼ بحناف‪ّ ،‬ثـ وضعت رأسو عمى صدرىا قائمة‪:‬‬
‫وجد أداريو‪ ،‬كنت أمشي حاممة حزني عمى‬ ‫ىدني ٌ‬ ‫ػ يا أحمد‪ ..‬ال تممني‪ ..‬لقد ّ‬
‫ظيري‪ ،‬وتمفح جبيتي سحب الغبار‪ ،‬فمقيتؾ نجمة نابضة بالحب‪ ،‬ومنذ أف‬
‫تزوجتؾ أضحت روحي تعشؽ النار‪ ..‬يا أحمد‪ ،‬أغانينا‪ ..‬أمانينا‪ ،‬استطابت نوميا‬ ‫ّ‬
‫نيز الشمس إف نامت‪ ..‬لكف الحياة‬ ‫ّ‬ ‫كي‬ ‫فييا‬ ‫اج‬
‫ر‬ ‫األب‬ ‫نرفع‬ ‫جيدنا‬ ‫كـ‬ ‫ميدىا‪..‬‬ ‫في‬
‫ضيعتنا‪ ..‬شاعرنا كيفورؾ كاف معنا‪ ،‬قاؿ لو جدي رحمو اهلل‪ :‬ألـ تقؿ شيئاً عف‬ ‫ّ‬
‫ىذه الرحمة؟ قاؿ‪ :‬بمى‪ .‬اسمع ما أقوؿ‪:‬‬

‫ػ ‪ 51‬ػ‬
‫(رحمة غريبة‬
‫لكن كيف؟‬
‫والى متى سأسير؟‬
‫وأدفن في ركضي أعزاء لي‬
‫واحداً تمو اآلخر‪..‬‬
‫ليس تحت التراب‬
‫بل في أعماق روحي‬
‫في مكان رطب‬
‫مؤلم‪..‬‬
‫جريح‬
‫آه ىل أعيش أنا؟‬
‫أو تعيشون أنتم؟!)‬

‫ىذا ما استطعت أف أتذكره يا أحمد مف قوؿ شاعرنا كيفورؾ الذي رحؿ في‬
‫كؿ ّّ‬
‫صدقني يا أحمد أرى في ّ‬
‫منتصؼ الطريؽ‪ .‬فماذا ستقوؿ لي أييا الحبيب؟ ّ‬
‫ٍ‬
‫ليمة أمي تناديني وىي عارية‪ .‬أخمع ثوبي ألسترىا بو‪ ،‬فيطير الثوب ألغدو عارية‬
‫مثميا‪ .‬إف قدرىا يا أحمد سيكوف قدري‪ ،‬وأخشى أف يأتي يوـ فبل تجدني‪.‬‬
‫سنة‬‫كؿ ّّ ما يتراءى لؾ أضغاث أحبلـ‪ ،‬أنت زوجتي عمى ّ‬ ‫ػ أقوؿ يا حبيبتي‪ّ ،‬‬
‫اهلل ورسولو‪ ،‬وأـ ولدي‪ ،‬وحبيبتي التي ما أحببت غيرىا‪ ،‬واعممي بأنو لف يفرقنا إالَّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الموت‪.‬‬
‫ػ وأمي إف جاءت؟‬
‫يضمؾ أنت وأىمؾ‪ ،‬ثقي بي يا حبيبتي‪ ،‬لف أتخمى‬
‫ّ‬ ‫ػ ستكوف بيننا‪ .‬سنبني بيتاً‬
‫عنكـ ما دمت حياً‪.‬‬
‫ػ واف رفضت البقاء معي؟‬
‫ػ سترحؿ أينما تريد‪.‬‬
‫ػ ال يا أحمد‪ ..‬سأرحؿ معيا‪.‬‬
‫ػ وأنا؟! وابنؾ؟!‬
‫ػ لكما اهلل‪ .‬ىذا قدري‪.‬‬

‫ػ ‪ 51‬ػ‬
‫ػ ابعدي عنؾ الوساوس واألوىاـ‪ ،‬ونامي فسآخذؾ غداً في زيارة عائمية‪.‬‬
‫ػ إلى مف؟‬
‫ػ إلى إحدى رفيقات الرحمة الصعبة‪.‬‬
‫ػ إذا كاف والبد‪ ،‬أرجو أف تأخذني إلى ترفندا وأميا شاكي‪.‬‬
‫ػ مف تعنيف؟‬
‫ػ أعني بيت أبي ياسيف‪.‬‬
‫ػ ىذا ما كنت ػ واهلل ػ أنوي فعمو‪ .‬نامي اآلف يا حبيبتي‪.‬‬
‫ػ سأناـ‪ ،‬ولكف أرجوؾ أف تبقي السراج مشتعبلً‪.‬‬
‫ػ كما تريديف‪..‬‬

‫ػ ‪ 52‬ػ‬
‫(‪)6‬‬
‫استكممت ىاصميؾ زينتيا‪ ،‬وارتدت ثوبيا األسود‪ ،‬ومبلءة حريرية سوداء‬
‫زادت جماليا ألقاً‪ ،‬بدت كإحدى آلية اإلغريؽ القدماء‪..‬‬
‫مصدؽ أف ىذه الفاتنة ىي زوجتو‪ ،‬وأف‬
‫ّ‬ ‫كاف أحمد ينظر إلييا بشغؼ غير‬
‫سره‪ :‬يا اهلل ما أروعيا بمباس الحزف يا رب‬
‫ىذا السحر كمو لو وحده‪ ،‬فيمس في ّ‬
‫احفظيا لي‪ ،‬وال تدعيا ترحؿ عني‪.‬‬
‫شبؾ يدىا‪ ،‬وسا ار إلى غرفة أبويو‪ ،‬فوقفت أمو ذاىمة عندما رأتيما‪ ،‬وأخذت‬
‫تفرؾ عينييا مف آونة ألخرى صائحة‪:‬‬
‫ياسميف يا نبعة ريحاف‪ ،‬يا ورد جوري‬
‫ياسميف يا شجرة حور ومزّينة بالدوري‬
‫ياسميف يا عيوف نورا‪ ،‬يا أـ السوري‬
‫رب خمّييا ألحمد وال ياخذىا الخوري‬
‫ّ‬
‫َّ‬
‫وزغردت طويبلً‪ ،‬ولـ تتوقّؼ إال بسبب الطَرقات المتتالية عمى الباب‬
‫الخارجي‪ ،‬وصوت أبي ياسيف ييدر منادياً مستغثياً‪.‬‬
‫أسرع أحمد‪ ،‬وفتح الباب‪ ،‬وكاد أبو ياسيف يقع أرضاً لوال أف تداركو‪.‬‬
‫ػ ما بؾ يا عماه؟‬
‫ػ أيف أبوؾ؟‬
‫ػ إنو يصمّي‪ .‬خي اًر إف شاء اهلل؟‬
‫ػ أـ ياسيف مريضة يا أحمد‪ ،‬وال أقوى عمى نقميا إلى المشفى‪.‬‬
‫اقتربت أـ احمد منو ذاىمة‪ ،‬وقالت لو بإشفاؽ‪:‬‬
‫ػ ماذا أصابيا يا أبا ياسيف؟‬
‫آونة ألخرى‪ ،‬وتعتصر بطنيا تارةً‪ ،‬وتارةً أخرى رأسيا‪ ..‬لقد‬ ‫ػ َّإنيا تتقيأ مف ٍ‬
‫تيدئ مف روعيا‪ ،‬أو‬ ‫أميا أف ّ‬ ‫ذبمت عيناىا‪ ،‬وذوى عودىا النضر‪ ،‬ولـ تستطع ّ‬
‫تخفؼ آالميا‪َّ ..‬إنيا تبكي بحرقة يا أـ أحمد‪ ،‬وأتمنى أف أفدييا بروحي واهلل‪ .‬يا‬
‫رب احفظيا لي وخفؼ آالميا‪َّ ،‬إنيا أمانة غالية‪ ،‬فبل تحرمني مف حمميا يا اهلل‪...‬‬ ‫ّ‬

‫ػ ‪ 53‬ػ‬
‫ودمعت عينا أبي ياسيف‪ ..‬قالت أـ أحمد باسمة‪:‬‬
‫ػ مبارؾ يا أبا ياسيف‪ ..‬امرأتؾ حامؿ‪.‬‬
‫تمتـ أبو ياسيف ذاىبلً‪:‬‬
‫ػ حامؿ؟ امرأتي حامؿ؟‬
‫ىزت أـ أحمد رأسيا باإليجاب‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ػ حامؿ إف شاء اهلل‪ ،‬فبل تخؼ‪.‬‬
‫زاد ذىولو ودىشتو‪ ،‬وجمس عمى األرض متيالكاً‪.‬‬
‫أقبؿ أبو أحمد إليو‪ ،‬وأنيضو قائبلً‪:‬‬
‫ػ مبارؾ يا أبا ياسيف‪ ،‬واهلل إنؾ فحؿ‪.‬‬
‫قالت أـ أحمد‪:‬‬
‫ػ اذىب يا أبا أحمد معو‪ ،‬وسنأتي أنا وأحمد وزوجتو إليكـ بعد قميؿ‪.‬‬
‫صاح أبو ياسيف بأعمى صوت‪:‬‬
‫سوية‪.‬‬
‫ػ واهلل لف نذىب إال ّ‬
‫أسرعت أـ أحمد‪ ،‬ودلفت إلى غرفة المؤونة‪ ،‬وجمبت معيا بعض األعشاب‬
‫الطبية‪ ،‬فوضعتيا بكيس مف الورؽ وجاءت بيا قائمة‪:‬‬
‫ػ ىيا‪ ..‬سترى يا أبا ياسيف‪ ،‬كيؼ سأجعؿ امرأتؾ تضحؾ‪.‬‬
‫لكف‪ ،‬ال أريدىا أف تتكمـ‪.‬‬
‫ػ ْ‬
‫ػ لماذا؟‬
‫ػ ستعرفيف بعد قميؿ‪.‬‬
‫كانت أـ ياسيف ػ كما توقّعت أـ أحمد ػ قَ ْد طمبت مف أميا أف تغمي ليا بعض‬
‫األعشاب التي جمبتيا معيا‪ ،‬ففعمت وما إف شربت نقيعيا حتى سكنت آالميا‪،‬‬
‫فقبمتيا‬
‫وأخذت تنظر بعيف الرضا والشكر إلى أـ أحمد التي اقتربت منيا كثي اًر‪ّ ،‬‬
‫قائمة‪:‬‬
‫ػ ستنجبيف ألبي ياسيف المولود الذي انتظره سنيف طويمة‪ ،‬أليس كذلؾ؟‬
‫ىزت أـ ياسيف رأسيا باإليجاب‪ ،‬فقالت أـ أحمد‪:‬‬
‫ّ‬
‫ػ اآلف أنت بخير‪ ،‬أرجو أف تسمحوا لي بالذىاب‪ ،‬لقد تركت حميدة وحدىا‪،‬‬
‫وقمت ليا إنني لف أتأخر عمييا‪.‬‬

‫ػ ‪ 54‬ػ‬
‫تشبثت بيا أـ ياسيف راجية البقاء قميبلً‪ ،‬فاستجابت أـ أحمد لرجائيا‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وقبمتيا م ار اًر قائمة‪:‬‬
‫اقتربت ىاصميؾ مف أـ ياسيف‪ّ ،‬‬
‫ػ لو لـ ِ‬
‫يأت أبو ياسيف إلينا لجئناؾ واهلل‪.‬‬
‫أمسكت أـ ياسيف يد ىاصميؾ‪ ،‬واعتصرتيا بكؿ الحب الكامف فييا‪ ،‬ولـ‬
‫تنبس ببنت شفة‪.‬‬
‫قالت أـ أحمد ألبي ياسيف مستفيمة‪:‬‬
‫ػ ما اسميا؟‬
‫ػ ترفندا‪.‬‬
‫ما معنى ىذا االسـ؟‬
‫ػ يعني بمغتيـ (وجو القمر)‪.‬‬
‫ػ ما شاء اهلل‪ِ ،‬‬
‫نادىا (قمر) وانتيى األمر‪ ،‬وىي واهلل مثؿ القمر‪ ،‬وما اسـ أميا‬
‫يا أبا ياسيف؟‬
‫ػ شاكي‪ ،‬وتعني (قميمة الحظ)‪.‬‬
‫ػ واهلل مثمما نقوؿ ‪/‬شاكي باكي‪ /‬عف قميمة الحظ‪ ،‬لكنيا سعيدة الحظ‪ ،‬لذا‬
‫وجب أف تغير ليا اسميا‪ .‬ىذا ظمـ‪ .‬أما عمّمتيا العربية؟‬
‫بل‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ضحؾ أبو ياسيف طوي ً‬
‫كؿ ّّ ما نقولو‪ ،‬لكنيا عند الكبلـ فإنيا تتكمـ بعربية ما تكمّميا‬
‫ػ أصبحت تفيـ ّ‬
‫عربي عمى وجو األرض‪ ،‬لسانيا مازاؿ معوجاً؛ َّإنيا تذ ّكر المؤنث‪ّ ،‬‬
‫وتؤنث الم ّذكر‪،‬‬
‫لكنيا ذكية وأميا أذكى منيا‪ .‬اسألي قم اًر ػ كما تقوليف ػ واسمعي إجاباتيا‬
‫وستحكميف‪.‬‬
‫اقتربت أـ أحمد مف أـ ياسيف‪ ،‬وقالت ليا‪:‬‬
‫ػ اسمؾ مف اليوـ (قمر) يا أـ ياسيف‪ ،‬ماذا تقوليف؟‬
‫أجابت بتمعثـ‪:‬‬
‫أنت زيف‪ ،‬أنا يحبؾ يا أـ أحمد‪.‬‬
‫يف‪َ ،‬‬‫أنت تقوؿ ز ْ‬
‫ػ َ‬
‫ضحؾ الجالسوف طويبلً‪ ،‬فطمب أبو ياسيف مف أـ أحمد أف تسأؿ أميا أي‬
‫سؤاؿ‪ ،‬فقالت أـ أحمد لشاكي‪:‬‬
‫ػ اسمؾ مف اليوـ (سعيدة)‪ ،‬ماذا تقوليف؟‬

‫ػ ‪ 55‬ػ‬
‫ػ فأجابت شاكي بتعثّر‪:‬‬
‫ػ إيدة‪..‬‬
‫فرد عمييا أبو ياسيف عمى الفور‪:‬‬
‫ّ‬
‫ػ إي‪ ..‬عيدة السعيدة‪..‬‬
‫ىزت شاكي رأسيا‪ ،‬وابتسمت‪.‬‬
‫ّ‬
‫نظرت ىاصميؾ إلى ترفندا نظرة حب‪ ،‬ثـ اقتربت منيا كثي اًر‪ ،‬والمست بطنيا‬
‫برفؽ‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ػ ترفندا‪ ..‬ستمديف إف شاء اهلل ولدًا‪.‬‬
‫ابتسمت ترفندا وقالت‪:‬‬
‫أنت ىاصميؾ مثمو إف شاء اهلل‪.‬‬‫ػ َ‬
‫قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬
‫ػ إف شاء اهلل‪ .‬اهلل يسمع منكما‪ .‬يا عيدة السعيدة أيف الشاي األحمر؟‬
‫ػ جاىز‪.‬‬
‫يعده أبو ياسيف‪ ،‬ووضعت أماـ‬
‫أعدت الشاي األحمر كما ّ‬
‫كانت شاكي قَ ْد ّ‬
‫كؿ ّّ واحد كوباً‪ ،‬وبدأت تسكب ٍّ‬
‫بتأف الشاي القرمزي‪.‬‬ ‫ّ‬
‫قاؿ أبو أحمد‪:‬‬
‫ػ الميـ يا أبا ياسيف أف تكوف مرتاحاً معيما‪.‬‬
‫ػ أقسـ لؾ باهلل يا أبا أحمد إنني ما عرفت الراحة أو االستقرار إالَّ في ظمَّيما‪،‬‬
‫مثميف طيبةً وصدقاً وأمانة‪ ،‬وما يعجبني‬ ‫ّ‬ ‫وانني أفدييما بروحي‪ .‬لـ َأر في حياتي‬
‫أتصدؽ‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫أتقف تصميح السبلح وتنظيفو وتركيبو بسرعة قياسية‪..‬‬ ‫فييف أكثر ّأنيف َّ‬
‫بدقة قمّما يمتمكيا رٍاـ؟‬
‫أنيما قادرتاف عمى التسديد والضبط واإلطبلؽ ّ‬
‫ػ ما شاء اهلل‪ ..‬ما شاء اهلل‪ ..‬أتعرؼ يا أبا ياسيف‪ ،‬البارحة قاؿ لي أبو صادؽ‬
‫المعدات بشكؿ‬
‫ّ‬ ‫وطوروا بعض‬
‫الميكانيكي إف عمالو األرمف ابتكروا طرائؽ عديدة‪ّ ،‬‬
‫يدؿ عمى ذكائيـ ومقدرتيـ‬
‫دؿ عمى شيء‪ ،‬فإنما ّ‬ ‫أذىؿ كبار الميكانيكييف‪ ،‬وىذا إف ّ‬
‫الفائقة في مجاؿ الصناعة‪.‬‬
‫ػ ليس في الصناعة وحدىا يا أبا أحمد‪ .‬فنساؤىـ نظيفات ومرتّبات وأنيقات‬
‫ويعرفف كيؼ يمتمكف قمب الزوج وعقمو‪ ،‬واهلل إنيف مبلئكة‪.‬‬

‫ػ ‪ 56‬ػ‬
‫محتجة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫قالت أـ أحمد‬
‫تحبوف الغريبة‪ .‬أما نحف فنعمؿ عمؿ الحمير وال تقولوف فينا‬
‫ػ أنتـ الرجاؿ ّ‬
‫ىذا القوؿ الجميؿ‪.‬‬
‫ضحؾ أبو أحمد‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫كؿ ّّ‬
‫حؽ يجب أف تقاؿ‪ ..‬أنت يا بنة عمي فيؾ ػ واهلل ػ ّ‬ ‫ػ يا أـ أحمد‪ ،‬كممة ّ‬
‫ٍ‬
‫بحاجة إلى ثناء‪.‬‬ ‫الخير والبركة‪ ،‬لـ تقصري في حقّي يوماً‪ِ ،‬‬
‫أنت لست‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫يحببف الثناء َفم َـ تبخموف بو عمينا؟ أال‬ ‫ػ ال يا أبا أحمد‪ ،‬أنا كغيري مف النسوة‬
‫َ‬
‫نستحقّو؟‬
‫ػ واهلل ثـ واهلل‪ ،‬تستحقوف أكثر مف ذلؾ‪.‬‬
‫قاؿ أبو ياسيف متفاخ اًر‪:‬‬
‫سر أرجو أف تكتمو‪.‬‬
‫ػ دعؾ مف كبلـ النساء يا أبا أحمد‪ .‬أريد أف أذيع لؾ ّاً‬
‫تفضؿ يا أبا األسرار‪.‬‬
‫ػ ّ‬
‫بل في حجرة إطبلؽ (الطبنجة)‪،‬‬
‫ػ لقد أجريت بمساعدة أـ ياسيف وأميا تعدي ً‬
‫وقد حقّقنا نجاحاً باى اًر بحيث أصبح المدى أكثر مف ذي قبؿ‪ ،‬وأكثر مقدرةً عمى‬
‫االختراؽ والنفاذ‪.‬‬
‫ػ وىؿ عمـ األتراؾ بيذا االختراع؟‬
‫ػ ال‪ ..‬ليس بعد‪.‬‬
‫ػ أعمِ ْميـ بو كي تحصؿ عمى براءة اختراع وجائزة‪.‬‬
‫ػ ال أريد‪.‬‬
‫ػ لماذا؟‬
‫ػ أخشى مف النتائج العكسية‪ .‬أريده أف ينفع الثوار وحدىـ دوف غيرىـ‪.‬‬
‫قالت أـ أحمد مستأذنة‪:‬‬
‫اطمأننا عمى أـ ياسيف‪ ،‬ونرجو أف تسمحوا لنا بالذىاب إلى البيت‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ػ أعتقد أننا‬
‫يودعيـ‪:‬‬
‫وقؼ الجميع‪ ،‬وقاؿ أبو أحمد وىو ّ‬
‫ػ ىؿ ستذىب إلى مضافة عمي بؾ ىذا المساء؟‬
‫فمدي أكثر مف سؤاؿ سأطرحو عمى عمي بؾ لعمّو ُيشفي‬
‫ّ‬ ‫ػ أجؿ يا أبا أحمد‪،‬‬
‫غميمي باإلجابة عنيا‪.‬‬

‫ػ ‪ 57‬ػ‬
‫ىيا بنا‪.‬‬
‫ػ إذف‪ّ ..‬‬
‫ػ اذىب أنت وأحمد‪ ،‬وسألحؽ بكما بعد قميؿ‪.‬‬
‫المعدؿ انتباه أحمد وتفكيره طويبلً‪ ،‬فيمس في أذف‬
‫ّ‬ ‫شد الحديث عف السبلح‬‫ّ‬
‫ألح عميو‬
‫ّ‬ ‫لكنو‬ ‫النفي‪،‬‬ ‫عبلمة‬ ‫ابة‬ ‫بالسب‬
‫ّ‬ ‫أشار‬
‫و‬ ‫لوقعيا‪،‬‬ ‫تجؼ‬ ‫ر‬ ‫ا‬ ‫كميمات‬ ‫ياسيف‬ ‫أبي‬
‫فيز رأسو موافقاً شريطة‬
‫كثي اًر بأي ثمف يريده‪ ،‬حتى استكاف أبو ياسيف‪ ،‬وىدأ ّ‬
‫السرّية في األمر‪.‬‬
‫ضحؾ أحمد قائبلً‪:‬‬
‫ػ وىؿ تريدىا مثؿ أسرارؾ أـ مثؿ أسراري؟‬
‫ػ ال‪ ..‬ال‪ ..‬ال أريدىا مثؿ أسراري‪.‬‬
‫ػ إذف لؾ ىذا‪.‬‬
‫بعدة أمور‪ ،‬منيا إصرار ولده‬
‫كاف أبو أحمد طواؿ الطريؽ إلى البيت يف ّكر ّ‬
‫المعدؿ‪ ،‬أما األمور األخرى فسيطرحيا عمى عمي بؾ بعد أف‬‫ّ‬ ‫عمى امتبلؾ السبلح‬
‫ولعؿ أىـ سؤاؿ مازاؿ يدور في رأسو أال وىو معرفة‬
‫يطرح أبو ياسيف أسئمتو عميو‪ّ ،‬‬
‫الطيبيف‪ ،‬فيو يعرؼ أف األرمف كانوا يخدموف‬‫السر الحقيقي لعداء األتراؾ لؤلرمف ّ‬
‫ّ‬
‫ضباطاً كبا اًر‪ ،‬ونواباً في مجمس المبعوثاف‪ ،‬ورجاؿ‬
‫ّ‬ ‫منيـ‬ ‫أف‬‫و‬ ‫كي‪،‬‬‫التر‬ ‫الجيش‬ ‫في‬
‫أعماؿ وفنانيف وأدباء ومفكريف‪ ،‬فيؿ مف المعقوؿ أنيـ تآمروا عمى تركيا‪ ،‬وىـ‬
‫يعيشوف بينيـ؟ ولماذا إذف حدث ذلؾ؟ فيو قَ ْد سمع أف السبب الرئيس ىو خطورة‬
‫تفوقيـ‪ ،‬فيؿ ىذا صحيح؟‬‫ّ‬
‫تاه فكر أبي أحمد في محنة األرمف المتواصمة وعذاباتيـ التي لـ تنقطع‪ ،‬وتمتـ‬
‫تنبيت أـ أحمد لحاؿ زوجيا وشروده فقالت‪:‬‬ ‫سره‪ :‬كاف اهلل في عونيـ‪ّ .‬‬
‫في ّ‬
‫غضبت مف احتجاجي‬
‫َ‬ ‫ػ ما بؾ يا أبا أحمد واجماً ال تتحدث؟ أخشى أنؾ‬
‫عمى الرجاؿ أماـ أبي ياسيف؟‬
‫ػ ال‪ ..‬أبداً‪.‬‬
‫قاؿ أحمد معتذ اًر‪:‬‬
‫ػ أخشى يا أبي أنؾ غضبت مني عندما طمبت السبلح مف أبي ياسيف؟ واهلل‬
‫لـ أقصد اإلساءة إلى أحد‪ ،‬أو أنوي الغدر بأحد‪ ..‬لكف الحذر واجب‪.‬‬

‫ػ ‪ 58‬ػ‬
‫ثقة مف وعيؾ‪ .‬إف سبب‬ ‫ػ ال يا بني‪ ،‬فرغـ خطورة ما طمبت‪ ،‬فأنا عمى ٍ‬
‫سارة‪،‬‬
‫صمتي ووجومي ىو تفكيري بالغد‪ ،‬وما يحممو مف مفاجآت قَ ْد تكوف غير ّ‬
‫وستسمع بأذنيؾ ما سنقوؿ لعمي بؾ‪ ،‬وأرجو أف تشاركنا الحديث في المضافة‪.‬‬
‫ػ كما تريد‪.‬‬
‫ػ ىيا أسرعوا ألف وقت لقاء األحبة في المضافة َق ْد حاف‪.‬‬

‫ػ ‪ 59‬ػ‬
‫(‪)7‬‬
‫خيمت في سماء حياتو منعت أشعة‬ ‫كاف عمي بؾ قمق ًا‪ ..‬سحب سوداء ّ‬
‫يؤميا‬
‫وثمة طيور سوداء تنعؽ في زوايا مضافتو التي ّ‬
‫الشمس مف اختراؽ حجبيا‪ّ ،‬‬
‫األحبة‪.‬‬
‫ىموـ ثقاؿ‪ ،‬وكوابيس مرىقة تتناوب عمى رأسو وصدره النحيؿ‪ ،‬وكاف رغـ‬
‫العناء والمحف يبتسـ‪ ،‬وكانت ابتسامتو بمسماً لمجراح النازفة‪ ،‬واشراقةً في عتمة‬
‫الضياع‪.‬‬
‫ميددة بالوباء‪ ،‬والمجاعة تفتؾ بأحبلـ الفقراء‪ ..‬الحرب المستعرة تنفث‬
‫الدير ّ‬
‫تجر المناضميف تارةً ىنا وتارةً ىناؾ‪..‬‬
‫كؿ اتّجاه‪ ،‬وخيوط سوداء ّ‬
‫سموميا في ّ‬
‫قاؿ أبو طارؽ‪:‬‬
‫ػ أخشى أف ما جرى لؤلرمف َق ْد يجري عمينا‪..‬‬
‫شخصت عيونيـ‪ ،‬واشرّأبت أعناقيـ‪ ،‬ويبست حموقيـ‪ ،‬فمـ يعد يقوى أحدىـ‬
‫حتى عمى اليمس‪.‬‬
‫قاؿ المختار‪:‬‬
‫ػ أخشى الفجيعة مما ستؤوؿ إليو األحواؿ‪..‬‬
‫سيحؿ في‬
‫ّ‬ ‫ىميموا طويبلً ثـ أدركيـ السبات‪ ،‬لكنيـ ظمّوا أحياء‪ ..‬أي خر ٍ‬
‫اب‬
‫أرض الخير؟ وأي دمار سيطيح بمعالـ الصفاء والنقاء؟‬
‫قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬
‫ػ إف انتصر األتراؾ سيثأروف‪ ،‬واف خسروا سيثأروف أيضاً‪ ،‬فما العمؿ؟‬
‫حممؽ الرجاؿ في عيني أبي ياسيف‪ ،‬وشفاىيـ الراجفة تقطر منيا تمتمات‬
‫عصيةٌ عمى األتراؾ‬
‫ّ‬ ‫واىنة‪ ..‬ال شيء عندىـ يخسرونو سوى الكرامة‪ ،‬وىذه‬
‫وغيرىـ‪ ..‬األرض والعرض ال مساومة عمييما ميما بمغت التضحيات‪.‬‬
‫محتداً‪:‬‬
‫ّ‬ ‫قاؿ عمي بؾ‬
‫استعدوا لساعة الصفر‪ ،‬ولعمري َّإنيا لقريبة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ػ‬
‫قاؿ أبو سمطاف بعد أف جفؼ عرقو بمنديؿ توضع داخؿ طربوشو‪:‬‬

‫ػ ‪ 61‬ػ‬
‫ػ ما رأي ممثّمينا في مجمس المبعوثاف يا أبا راغب؟‬
‫رد أبو صادؽ الميكانيكي ساخ اًر‪:‬‬
‫ّ‬
‫يؤخر‪ ،‬ولف يستطيع ممثّمونا أف يجيروا‬
‫يقدـ وال ّ‬
‫ػ مجمس المبعوثاف؟! إنو ال ّ‬
‫تحدثوا فسيكوف مصيرىـ مصير األعضاء األرمف فيو‪.‬‬
‫بأصواتيـ فيو‪ ،‬واف ّ‬
‫وىزىا قائبلً‪:‬‬
‫اقترب عمي بؾ مف أبي صادؽ‪ ،‬وأمسؾ بكتفو ّ‬
‫قدر كبير مف الوعي والمسؤولية‪ ،‬وما‬‫ػ ال يا أبا صادؽ‪ ..‬إف ممثّمينا عمى ٍ‬
‫أظف أنيـ سيتقاعسوف عف تمبية نداء الوطف‪..‬‬
‫ّ‬
‫ػ وىؿ كاف ليـ رأي في َسوقيات األرمف؟‬
‫صدقني يا أبا صادؽ إنيـ استنكروا وشجبوا‪ ،‬ورفعوا أصواتيـ عالياً‪ ،‬وقد‬
‫ػ ّ‬
‫ناليـ غضب الصدر األعظـ وكؿ السبلطيف‪.‬‬
‫ػ وماذا بعد ذلؾ؟‬
‫ػ ال شيء يا أخي‪ ..‬الميـ أف نتدارس الموقؼ الحرج اآلف‪ ..‬أريدكـ يا أخوتي‬
‫الموسع الذي سيضـ ممثمينا في مجمس المبعوثاف‪ ،‬وعددًا‬
‫ّ‬ ‫أف تحضروا االجتماع‬
‫يسركـ‪.‬‬
‫مف أعضاء الخمية الثورية‪ ..‬ستسمعوف في الغد إف شاء اهلل ما ّ‬
‫قاؿ أبو عدناف المختار‪:‬‬
‫ػ ما أريكـ أف يتـ االجتماع في بستاني‪ ،‬فيو مناسب لتروه كيؼ غدا جميبلً‬
‫لتمبوا دعوتي لكـ جميعاً عمى العشاء؟‬
‫مثم اًر‪ ،‬ومف ناحية أخرى ّ‬
‫قاؿ أبو سمطاف ضاحكاً‪:‬‬
‫ػ إذا كاف (ذو القرنيف) فسنأتي‪ ،‬أما إذا كاف (ذو الجناحيف) فمف يمبي دعوتؾ‬
‫أحد‪.‬‬
‫متحدياً‪:‬‬
‫ّ‬ ‫رد عميو المختار‬
‫ػ ذو القرنيف يا أبا سمطاف جاىز واهلل‪ ،‬وأنا أبو عدناف‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ ضاحكاً‪:‬‬
‫ػ اطمئف يا أبا عدناف‪ ،‬سنمبي دعوتؾ ميما كاف عشاؤؾ‪.‬‬
‫قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬

‫ػ ‪ 61‬ػ‬
‫ػ يا أبا راغب‪ ..‬أنا مف خبلؿ عبلقتي الحميمة برؤساء العشائر وشيوخ‬
‫القبائؿ أرى أنيـ يميموف إلى الياشمييف واتصاالتيـ باإلنكميز والفرنسييف‪ ،‬فيؿ يا‬
‫ترى ىـ عمى صواب؟‬
‫ػ كالمستجير مف الرمضاء بالنار‪ ،‬وأعتقد أف كبلمي واضح‪.‬‬
‫ػ نعـ يا أبا راغب‪ ،‬صدقت واهلل‪.‬‬
‫كؿ ّّ شيء بالتفصيؿ بعد عشاء‬
‫ػ دعوا الحديث في السياسة لمغد‪ ،‬سنناقش ّ‬
‫تحدثوني عف أحوالكـ مع األرمف‪.‬‬
‫أبي عدناف المختار‪ ،‬واآلف أرجو أف ّ‬
‫قاؿ المختار‪:‬‬
‫ػ أنا سأترؾ الحديث لحيف زيارتكـ إلى البستاف‪ ،‬وستروف بأـ أعينكـ كيؼ‬
‫جنة‪ ،‬واهلل لقد ندمت كثي اًر ألنني لـ أستضؼ المزيد منيـ‪ .‬إنيـ‬
‫جعمو األرمف ّ‬
‫وعمميوف وأذكياء‪ ،‬ويقنعوف بالقميؿ‪ .‬سترى يا أبا راغب كـ ىـ سعداء‬
‫ّ‬ ‫نشيطوف‬
‫عندي؟‬
‫ػ الحمد هلل‪ ..‬وأنت يا أبا أحمد‪ ،‬كيؼ حاؿ ولدؾ اآلف؟‬
‫سكت أبو أحمد‪ ،‬ولـ ينبس ببنت شفة‪ ،‬فذىؿ عمي بؾ وقاؿ متسائبلً‪:‬‬
‫ػ ماذا حدث يا أبا أحمد؟ قؿ لي أرجوؾ‪.‬‬
‫تزوج األرمنية‪،‬‬
‫ػ ال شيء يا أبا راغب غير أف ولدي نسي أمو وأباه منذ أف ّ‬
‫فمـ يعد يرى في الدنيا سوى عينييا الزرقاويف‪.‬‬
‫فتنفس عمي بؾ الصعداء‪ ،‬وقاؿ باسماً‪:‬‬
‫ػ أال يروؽ لؾ ذلؾ يا أبا أحمد؟‬
‫ػ بمى واهلل‪ ،‬فسعادتي أراىا مف خبلؿ سعادة ولدي الوحيد‪.‬‬
‫وجعمت القمؽ ينتابني؟‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫سكت في البداية‪،‬‬ ‫ػ إذف لِ َـ‬
‫جدىا‪ ،‬وقد سمعتيا تقوؿ ألحمد أنيا لف تظؿ‬ ‫تغيرت زوجتو بعد وفاة ّ‬‫ػ لقد ّ‬
‫عنده عند مجيء أىميا في السوقيات القادمة‪.‬‬
‫ػ ال ت قمؽ يا أبا أحمد‪ ،‬فمكؿ معضمة حؿ إف شاء اهلل‪ ،‬وأعتقد أنيا عندما‬
‫ستتغير أيض ًا‪ ،‬ولف تقوى عمى مفارقتو‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تضع وليدىا‬
‫نظر عمي بؾ في عيني أبي ياسيف‪ ،‬فوجدىما المعتيف تشياف بأسرار لـ‬
‫تستطيعا كتمانيا‪ ..‬اقترب منو‪ ،‬ورّبت عمى كتفو قائبلً‪:‬‬
‫ػ كيؼ حاؿ المخترع اليوـ؟‬
‫ػ ‪ 62‬ػ‬
‫ػ أنا بخير‪ ،‬وزوجتي ستمد لي إف شاء اهلل المولود الذي انتظرتو طويبلً‪.‬‬
‫ػ إف شاء اهلل‪ ..‬اهلل كريـ يا أبا ياسيف‪.‬‬
‫لـ يستطع أبو احمد إخفاء ضحكة انفجرت عالية‪ ،‬فأذىمت الموجوديف‪ ،‬أشار‬
‫عمي بؾ متسائبلً‪ ،‬فقاؿ والضحكة ما تزاؿ تمؤل فمو‪:‬‬
‫ػ أرجوؾ‪ ،‬اسألو عف أـ زوجتو‪.‬‬
‫ضحؾ أبو ياسيف وقاؿ‪:‬‬
‫تتحدث إالَّ بطمب رسمي‪ ،‬واف تحدثت فإنيا كابنتيا‬‫ّ‬ ‫ػ َّإنيا مازالت واجمة ال‬
‫وتؤنث المذ ّكر‪.‬‬
‫المؤنث‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫تماماً تذ ّكر‬
‫وروى أبو ياسيف عدة أمثمة عمى ذلؾ‪ ،‬فضحؾ الجميع‪ .‬التفت عمي بؾ بعد‬
‫ذلؾ إلى أبي صادؽ الميكانيكي‪ ،‬فرآه باسماً‪ ،‬وقد بدت عميو آثار النعمة والثراء‪،‬‬
‫وقؼ أبو صادؽ عندما اقترب منو عمي بؾ‪ ،‬فقاؿ عمى الفور‪:‬‬
‫تصور يا أبا راغب بعد أف أتقنوا‬
‫ّ‬ ‫لدي ثبلثة رجاؿ‪ ،‬ليتيـ كانوا ثبلثيف‪.‬‬
‫ػ ّ‬
‫وعدلوا في عدد مف اآلالت‪ ،‬لـ يعد يعجبيـ عممي‪ .‬يقولوف‬ ‫الصنعة وبرعوا فييا‪ّ ،‬‬
‫أنت وال تفسد عممنا‪ ..‬واهلل ال يدعوني أمسؾ مفتاحاً أو‬
‫كؿ ّّ دقيقة‪ :‬اجمس َ‬ ‫لي ّ‬
‫كؿ ّّ خير‪.‬‬
‫مقراصاً‪ ،‬جزاىـ اهلل ّ‬
‫فعمت مف أجميـ؟‬
‫َ‬ ‫ػ وماذا‬
‫ػ بنيت ليـ بجانب الورشة بيت ًا مف ثبلث غرؼ ومطبخ وحماـ‪ ،‬وفيو فسحة‬
‫لكف أم اًر ما قَ ْد حدث‪،‬‬
‫جنة‪ّ ،‬‬
‫واسعة‪ ،‬زرعوا فييا األشجار والخضرة والورد‪ ،‬وجعموه ّ‬
‫ويجب أف تطَّمع عميو‪.‬‬
‫ػ ما ىو يا أبا صادؽ؟‬
‫أحب فتاة تجاورنا‪ ،‬وشاورني بأمرىا‪ ،‬فماذا أفعؿ؟‬
‫ػ آرتيف ّ‬
‫ػ ال يحؽ لو الزواج مف مسممة إالَّ بعد أف يعتنؽ اإلسبلـ‪ ،‬ىذا شرع اهلل‪ ،‬فإف‬
‫الصداؽ وتجييز العروس بما يميؽ‪.‬‬‫فعمي ِّ‬
‫فعؿ ّ‬
‫جيدة والحمد هلل‪ ،‬ولف أبخؿ عميو بشيء‪.‬‬
‫ػ لكف أحوالي ّ‬
‫ػ زيادة الخير خير يا أبا صادؽ‪.‬‬
‫أ ما أبو سمطاف‪ ،‬فصاح بأعمى صوت عندما اقترب منو عمي بؾ بكؿ‬
‫عبارات الشكر والتقدير‪ ،‬وقد أدىش الحاضريف بأناقتو‪ ،‬وعدـ تنافر ألواف لباسو‪،‬‬
‫وبدا كأحد وجياء المدينة‪:‬‬

‫ػ ‪ 63‬ػ‬
‫ػ ما ىذا يا أبا سمطاف؟‬
‫ولدي سبع‬
‫ّ‬ ‫كياف‪ ،‬ورغـ زواجي مر ّتيف‪،‬‬ ‫ػ واهلل ألوؿ مرة أشعر بأنني إنساف لو‬
‫اآلف‪ ..‬و‪/‬ميرنا‪ /‬ىي السبب‪َّ ،‬إنيا ال‬ ‫بنات‪ ،‬ما شعرت بم ّذة الزواج وروعتو إالَّ‬
‫لي مبلبسي بعد أف تنتقييا وتمسح‬ ‫تدعني أخرج مف البيت قبؿ أف تكوي‬
‫خدي‪.‬‬
‫وتودعني بقبمة عمى ّ‬
‫طربوشي‪ّ ،‬‬
‫الضرتيف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تستحؽ أكثر مف ذلؾ‪ ،‬لكف ما شعور‬
‫ّ‬ ‫أنت‬
‫ػ عظيـ يا أبا سمطاف‪َ ..‬‬
‫ػ لو كانت ميرنا ديرية لما طمع عمييا الصباح‪ ،‬ولكف ألنيا غريبة ال تفيـ ما‬
‫كؿ ّّ صغيرة وكبيرة‪ ،‬وعندما‬
‫عمي في ّ‬
‫أنيف اتفقف ّ‬‫وتصور ّ‬
‫ّ‬ ‫أحبتاىا‪.‬‬
‫تقوالف فييا ّ‬
‫ومرة أخرى في غرفة زوجتي‬ ‫مرة في غرفة زوجتي األولى‪ّ ،‬‬ ‫أدخؿ البيت أجد ميرنا ّ‬
‫ٍ‬
‫غرفة واحدة‪.‬‬ ‫الثانية‪ ،‬وقد يجتمعف أحياناً في‬
‫تغير اسميا بعد؟‬
‫ػ أَلَ ْـ ّ‬
‫لكنيا‬
‫أحببت أف أنادييا (سبلـ)‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫ػ عندما عرفت معنى اسميا وىو (السبلـ)‬
‫تسمييا (مريومة) والثانية تسمييا (مريولة)‪،‬‬
‫وتصور زوجتي األولى ّ‬ ‫ّ‬ ‫تحب اسميا‪،‬‬
‫وأدلّعيا أحياناً وأنادييا (ميمي)‪.‬‬
‫ػ أتمنى أف تكوف ( ميرنا) سبلماً ووئاماً مع ضرتييا‪ ،‬لكف عميؾ أف تعدؿ‬
‫بينيف لئبل تغضب اهلل‪ ،‬وينالؾ غضبيف‪.‬‬
‫أما العدؿ فإنو مفقود واهلل‪،‬‬
‫كؿ ّّ قمبي أف يستمر السبلـ والوئاـ‪ّ ،‬‬
‫ػ أتمنى مف ّ‬
‫ليس بيدي يا عمي بؾ‪ .‬أصارحؾ القوؿ بأنني أدعو اهلل أف يغفر لي زّلتي‪ ،‬وفي‬
‫تسود عيشتي واهلل‪ ،‬ومع ذلؾ‬ ‫اليوـ الذي ال أعدؿ فيو معيف‪ ،‬فإف صاحبة الدور ّ‬
‫فأنا ر ٍ‬
‫اض‪.‬‬
‫أليس في ذلؾ عدؿ؟‬
‫ػ ال يا أبا سمطاف‪ ..‬ليس ىذا ىو العدؿ‪ ..‬العدؿ تعرفو جيداً‪ ،‬وأجدادنا كانوا‬
‫يقولوف‪" :‬عند المسا تتساوى النسا"‪.‬‬
‫ػ أال تعتقد يا أبا راغب أنيـ واىموف‪ ،‬واهلل إنني ال أساوي ميرنا بأية امرأة‬
‫تحب وتكسب قمب زوجيا‪ ،‬وتعرؼ ما أحب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫جيداً كيؼ‬‫أخرى‪َّ .‬إنيا تعرؼ ّ‬
‫مرة رأتني ميموماً‪ ،‬إال وأزاحت عني اليموـ‬ ‫كؿ ّّ فعؿ ال أحبو‪ .‬واهلل ما ّ‬
‫وتتحاشى ّ‬
‫بممساتيا السحرية‪ ،‬بعربيتيا الركيكة‪ ،‬بابتسامتيا العذبة الجميمة‪..‬‬
‫ػ وماذا بعد ذلؾ؟‬

‫ػ ‪ 64‬ػ‬
‫ػ أصارحؾ القوؿ بأف زوجتي األولى قالت لي‪ :‬إف وضعت (مريومة) مولوداً‬
‫ذك اًر‪ ،‬فسيزداد حبيا ودالليا‪ ،‬واالّ فالويؿ ليا‪ ،‬وىذا ما أ ّكدتو زوجتي الثانية‪ ،‬فما‬
‫رأيؾ؟‬
‫ػ يا أبا سمطاف‪ ،‬ىذا اعتراض عمى حكـ اهلل ػ والعياذ باهلل ػ قؿ ليما ذلؾ وال‬
‫تخؼ‪ ،‬فاهلل ارحـ بعباده مف األـ عمى وليدىا‪ ،‬واآلف أريد منؾ أف تخبرني عف‬
‫ابنيا الذي رافقيا إلى بيتؾ‪.‬‬
‫ػ سركيس‪ ..‬إنو واهلل مثؿ ابني‪ ،‬ال يفارؽ ابنتي سمطانة‪ ،‬وقد عمّمتو العربية‬
‫قراءة وكتابة‪ ،‬وسأضعو قريب ًا عند المبلّ حسف ليدرس العربية والقرآف‪ ،‬وكؿ شيء‬
‫بثوابو يا عمي بؾ‪.‬‬
‫ػ بارؾ اهلل فيؾ‪.‬‬
‫اقترب عمي بؾ مف أبي طارؽ‪ ،‬فوجده واجماً يف ّكر‪.‬‬
‫ػ ما بؾ يا أبا طارؽ؟ وأيف طارؽ اآلف؟‬
‫كؿ ّّ حاؿ‪ .‬أخي سعد غضب مني منذ أف تزوج طارؽ‬ ‫ػ الحمد هلل عمى ّ‬
‫بأرمنية‪ ،‬وعبل صوتو‪ ،‬وقذفني بكممات سامحو اهلل عمييا‪ ،‬حتى إنو لـ يحضر‬
‫عرس طارؽ‪.‬‬
‫ػ لماذا؟‬
‫طرحت ىذا الموضوع عمى‬
‫ُ‬ ‫ػ كانوا يريدوف طارقاً البنتيـ‪ .‬عمماً بأنني كنت قَ ْد‬
‫مرة‪ ،‬وكاف يجيبني بأف ابنة عمو مثؿ أختو وال عاطفة لديو‬ ‫ولدي طارؽ أكثر مف ّ‬
‫تحدث أخي فيو يسمع‬ ‫تجاىيا سوى عاطفة األخوة‪ ،‬فماذا أعمؿ؟ أريدؾ أف ّ‬
‫الرد عميو‬
‫كبلمؾ‪ ،‬وكونو األخ األكبر لي فإنني حريص عمى طاعتو وحبو‪ ،‬وعدـ ّ‬
‫إالَّ بالحسنى‪ ،‬وقد أرسمت طارقاً مع زوجتو إلى خالتو في الحسكة بضعة أياـ‪.‬‬
‫ػ ال تيتـ يا أبا طارؽ‪ ،‬سأستدعي سعداً صباح الغد إلى مكتبي وأتحدث معو‪.‬‬
‫ال تيتـ‪ .‬قؿ لي ما اسـ زوجة طارؽ؟‬
‫ػ ‪/‬لوسيف‪ /‬كما قاؿ لي‪ ،‬ومعناه القمر‪.‬‬
‫ػ بارؾ اهلل لو فييا‪ ،‬وجعميا قم اًر تضيء لو عتمة دربو الطويؿ‪ ..‬طارؽ شاب‬
‫وتفوقو في‬
‫ناضج‪ ،‬وقد أعجبتني آراؤه في السياسة واالقتصاد‪ ،‬ودراستو الجا ّدة ّ‬
‫جيداً‪ ،‬وسيكوف لو شأف في المستقبؿ إف شاء اهلل‪.‬‬
‫المدرسة‪ .‬انتبو إليو ّ‬
‫ػ إف شاء اهلل‪...‬‬

‫ػ ‪ 65‬ػ‬
‫ارتجفت القموب‪ ،‬واختمجت األطراؼ‪ ،‬وحممقت العيوف‪ ،‬واشرّأبت األعناؽ‪،‬‬
‫ىز ليا رأسو‬
‫سيده كميمات‪ّ ،‬‬ ‫عندما دخؿ خادـ عمي بؾ الىثاً‪ ،‬وىمس في أذف ّ‬
‫م ار اًر ثـ ما لبث أف وقؼ ونظر في وجوه الحاضريف‪ ،‬واستأذنيـ دقائؽ معدودة‪ ،‬ثـ‬
‫خرج مف المضافة‪.‬‬
‫بدأ اليمس يعمو‪ ،‬والمغط يكثر‪ ..‬تُرى مف القادـ مف رحـ الميؿ؟! أي ر ٍ‬
‫عاؼ‬
‫ىمت بو سحابات الظبلـ؟! وأية حبمى جاءىا المخاض عمى أعتاب الكبلـ؟!‬
‫ىو الميؿ نبع الظنوف ووكر األحبلـ‪ ،‬فكف يا ليؿ يقيناً وبشارةً وىاتفاً لمسبلـ‪،‬‬
‫وال تكف يا ليؿ ذئب ًا وأفعواناً وعيوناً ال تناـ‪..‬‬
‫بل‪ ،‬ما لبث الدـ أف تدفّؽ إلييا‪،‬‬ ‫ألقى الشؾ ظبللو عمى الوجوه الصفراء طوي ً‬
‫مرحبة‪..‬‬
‫لتقؼ األجساد‪ ،‬وتشرئب األعناؽ‪ ،‬وتنطمؽ األلسف ميمّمة ّ‬
‫خضر بؾ‪ ،‬ومحمد بؾ‪ ،‬وتركي بؾ‪ ،‬مف ممثّمي لواء الزور في مجمس‬
‫المبعوثاف‪ ..‬إنيـ مف كراـ الناس ُخمقاً وسموكاً ووطنية‪ ،‬وال غبار عمى إخبلصيـ‬
‫ووفائيـ‪.‬‬
‫قاؿ خضر بؾ‪:‬‬
‫الطيبة المؤمنة بحب الوطف‪ ،‬المدافعة عف‬
‫شرؼ كبير أف نمتقي ىذه الوجوه ّ‬‫ٌ‬ ‫ػ‬
‫بودنا أف نحضر اجتماع الغد‪ ،‬لكف أم اًر طارئاً‬
‫شرؼ األمة وكرامتيا‪ ،‬وكاف ّ‬
‫منا ضرورة السفر إلى األستانة صباح الغد‪ ،‬وسنمتقي عند عودتنا‬ ‫استدعي ّ‬
‫ونتحدث كثي ًار‪.‬‬
‫ّ‬
‫تقدـ محمد بؾ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬ ‫ّ‬
‫الخيرة في احتضاف األرمف‪ .‬إنو عمؿ‬
‫ػ باسمي وباسـ زمبلئي‪ ،‬نبارؾ جيودكـ ّ‬
‫عظيـ سيذكره التاريخ في صحائفو المشرقة‪ ،‬ونرجو أف تتكرر مثؿ ىذا األفعاؿ‪،‬‬
‫ألف القوافؿ مستمرة‪.‬‬
‫تقدـ تركي بؾ وقاؿ‪:‬‬
‫ثـ ّ‬
‫سببتيا أفعالكـ الطيبة‪ .‬نحف‬ ‫َّ‬
‫ػ أرجو أال تقمقوا مف التكاليؼ المادية التي ّ‬
‫كؿ ّّ ما يمزـ إلى لجنة المساعدات‪ ،‬ونرجوكـ أالّ تصطدموا مع‬ ‫سنرسؿ بانتظاـ ّ‬
‫جند الوالي وأزالمو‪ ،‬ودعوا مثؿ ىذه األمور لعمي بؾ فيو أدرى الناس بأخبلؽ‬
‫بأف‪ :‬لف يصيبكـ إالَّ ما كتب اهلل لكـ‪.‬‬
‫الوالي وسموكو‪ ،‬وأنا عمى ثقة ْ‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬

‫ػ ‪ 66‬ػ‬
‫ػ إف ما فعمو المناضموف ىو واجبيـ‪ ،‬وال ِمّنة فيو‪ ،‬وانيـ عمى استعداد‬
‫سنمد ليـ يد‬
‫ّ‬ ‫بأي جيد أو ماؿ‪ ،‬ونحف‬
‫الحتضاف العديد مف الوافديف‪ ،‬ولف يبخموا ّ‬
‫المساعدة المادية والمعنوية‪ ،‬وال خوؼ عمييـ إف شاء اهلل‪ .‬صحيح أنني أعرؼ‬
‫صرح لي بأف ضغوط ‪/‬طمعت باشا‪ /‬وأوامر الباب‬ ‫الوالي قبؿ تسمّمو الوالية‪ ،‬لكنو ّ‬
‫ضيقة‪ ،‬واني‬
‫وتمح عميو بالقياـ بواجبو‪ ،‬والتسامح بحدود ّ‬
‫ّ‬ ‫العالي تضايقو كثي اًر‪،‬‬
‫أعدكـ أف يكوف دائماً وأبداً إلى جانبكـ‪ .‬سنجتمع نحف غدًا في بستاف المختار‪،‬‬
‫ونتحدث طويبلً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ونمبي دعوتو‪،‬‬
‫ّ‬
‫قاؿ أبو ياسيف مخاطباً أعضاء مجمس المبعوثاف‪:‬‬
‫ػ نخشى عميكـ مف فقداف أماكنكـ في المجمس‪.‬‬
‫ضحؾ محمد بؾ قائبلً‪:‬‬
‫ػ يا أبا ياسيف‪ ،‬أكثر مف مرة حاولوا طردنا مف المجمس‪ ،‬وقد ُنطرد منو في‬
‫أي وقت‪ ،‬أو ُنعتَقؿ‪ ،‬أو ُننفى‪ .‬فاألياـ القادمة عصيبة جداً‪ ،‬ولسنا آسفيف عمى‬
‫يتصدى‬
‫ّ‬ ‫شيء‪ .‬أسفنا أف يستشري الظمـ والعدواف‪ ،‬وال أحد يستطيع أف ُيجابيو أو‬
‫لو‪.‬‬
‫ػ ماذا تعني باألياـ القادمة يا محمد بؾ؟‬
‫مح ٌف وامتحاف لكـ ولنا ولشعبنا‪ ،‬فمتكف صفوفكـ‬
‫ػ األياـ القادمة يا أبا ياسيف َ‬
‫اصة‪ ،‬وأيديكـ عمى ِّ‬
‫الزناد‪.‬‬ ‫متر ّ‬
‫كانت كممات محمد بؾ يشوبيا األسى والحزف‪ ،‬ولـ تستطع االبتسامة‬
‫الصفراء التي ارتسمت عمى شفتيو أف تخفي معالـ الفجيعة التي ستحؿ عمى لواء‬
‫الزور‪ ،‬فالحرب الكونية شارفت عمى االنتياء‪ ،‬وقد تك ّشفت بعض نتائجيا‪ ،‬والعرب‬
‫ضد األتراؾ‪ ،‬والجيش العربي عمى أُىبة االستعداد‪ ،‬فاكتفى محمد بؾ أف‬ ‫قَ ْد وقفوا ّ‬
‫فشيعتْيـ النظرات بعيوف قمقة‪.‬‬
‫ىز رأسو م ار اًر‪ ،‬ثـ استأذف مع زميميو باالنصراؼ‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫لكف المضيؼ أبى‪ ،‬فجاء العشاء‪،‬‬
‫حاوؿ المختار وزمبلؤه االنصراؼ أيضاً‪ّ ،‬‬
‫وجمسوا جميعاً يمضغوف الطعاـ وبعض الكبلـ‪ ،‬حتى انتيوا‪ ،‬فخرجوا يسيروف‬
‫ويتحدثوف بصوت خفيض‪ ،‬وآخروف يرتّبوف أحبلميـ وأمانييـ في خزانة‬
‫ّ‬ ‫بتؤدة‪،‬‬
‫الوقت ولو إلى حيف‪.‬‬

‫(‪)8‬‬
‫ػ ‪ 67‬ػ‬
‫لـ يكف نيساف ‪ /1916/‬ربيعاً مزى اًر بدير الزور‪ ،‬كاف كسابقو يحمؿ سيؼ‬
‫الترجي‪ ..‬يفتح حقائب‬
‫ّ‬ ‫القير ومتراس الرىبة‪ ..‬يقتحـ حصوف األمؿ‪ ،‬ويموي أعناؽ‬
‫كؿ أحاديث األماف‪..‬‬
‫الصمت‪ ،‬ويجرؼ ّ‬
‫بيوت ُد ّمرت‪ ،‬وعائبلت ُشّردت‪ ،‬لوى الموج ساعد الصبر عندما جرؼ النير‬
‫ٌ‬
‫عدداً مف األطفاؿ والحيوانات‪.‬‬
‫قسـ منو‪،‬‬
‫السد الكبير الذي انيار ٌ‬
‫يرمموف ّ‬ ‫تجمع أكثر مف خمسيف رجبلً ّ‬
‫ّ‬
‫الكساري‬
‫ّ‬ ‫وصوت‬ ‫ي‪،‬‬‫تدو‬
‫ّ‬ ‫الشيامة‬‫و‬ ‫النخوة‬ ‫وصيحات‬ ‫السوداء‪،‬‬ ‫بالصخور‬ ‫ويدعمونو‬
‫كؿ ّّ صوت‪:‬‬
‫يعمو فوؽ ّ‬

‫ىاتوا الصخر ىاتوا اْسالك‬


‫نقيد النير وْن ُقمّو اْىالك‬
‫تا ّ‬
‫السدة‪ ،‬زين‪ ..‬زين‬
‫دوسوا ّ‬
‫وىين‬
‫ْ‬ ‫تعدي غاد‬
‫ال تخمّوىا ّ‬
‫دوسوا السدة زين يا نشامى‬
‫دوسوىا زين إخوة الريامى‬

‫تجمعف عند امرأة عرفتيا المدينة مثاالً لمشيامة والكرـ والنخوة‬


‫أما النساء فقد ّ‬ ‫ّ‬
‫جؿ ماليا مف أجؿ أف‬ ‫واإليثار‪َّ ..‬إنيا الشيخة فاطمة بنت محمد بؾ التي أنفقت ّ‬
‫تغرس البسمة عمى شفاه المنكوبيف والمتعبيف‪ ..‬كانت تقيـ الوالئـ لمفقراء‬
‫يشجعيا‪ ،‬ويأخذ‬‫ّ‬ ‫وتوزع عمييـ الماؿ والمباس والمؤف‪ ،‬وكاف والدىا‬ ‫ّ‬ ‫والمساكيف‪،‬‬
‫مرةً‪:‬‬
‫بيدىا‪ ..‬قاؿ ليا ّ‬
‫ػ يا شيخة فاطمة‪ ..‬أتعرفيف ماذا سنفعؿ إف ضاقت بنا الدنيا‪ ،‬ونفذ مالُنا؟!‬
‫وكانت تجيبو باسمةً‪:‬‬
‫أحب األسماء إلى اهلل ىو (الكريـ)‪ ،‬وأحب الناس إليو‬
‫إف ّ‬ ‫ػ ال تخؼ يا أبي‪ّ ..‬‬
‫ىـ (الكرماء المحسنوف)‪ ..‬لقد عفا الرسوؿ الكريـ محمد ‪ ‬عف ابنة حاتـ الطائي‬
‫وقوميا عندما وقعوا في األسر إكراماً ألبييا الذي اشتير بالكرـ‪ ..‬ال تخؼ يا أبي‪،‬‬
‫يضيعنا‪.‬‬
‫ال تخؼ‪ ..‬فإف اهلل لف ّ‬
‫كاف محمد بؾ معجباً بذكاء ابنتو‪ ،‬وسرعة بدييتيا‪ ،‬فابتسـ ورّبت عمى كتفيا‬
‫قائبلً‪:‬‬

‫ػ ‪ 68‬ػ‬
‫ِ‬
‫ألغضبت أباؾ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫توقفت عنو يوماً‬ ‫ػ أكثري مف العطاء يا أـ بساـ‪ ،‬فواهلل لو‬
‫شيخ عرفتيـ المدينة أياـ الجوع‪ ،‬يولموف الوالئـ لمجائعيف‪،‬‬ ‫وكاف أكثر مف ٍ‬
‫ويكسوف العراة‪ ،‬ويبذلوف الماؿ بسخاء‪ ،‬أمثاؿ الشيخ أحمد وجنيد والحاج رشيد‪..‬‬
‫يوزعوف المؤف عمى المنكوبيف‪ ،‬وقد بثّوا عددًا مف‬ ‫كانوا يدوروف في األحياء‪ّ ،‬‬
‫الرجاؿ يصيحوف‪ :‬مف يريد مساعدة فميتجو إلى بيوت ىؤالء المحسنيف‪ .‬فتيافت‬
‫كؿ ّّ حدب وصوب‪.‬‬ ‫المعوزيف إلييـ مف ّ‬
‫الفقراء و ُ‬
‫بقعة ضوٍء أخرى أنارت دياجير الظبلـ في حياة عدد مف الرجاؿ بعيداً عف‬
‫الصباغ وأبي ياسيف وأبي سمطاف‬ ‫ّ‬ ‫جو النكبة‪ ،‬وما خمّفو الفيضاف أمثاؿ‪ :‬أحمد‬ ‫ّ‬
‫مف اهلل عمييـ بأوالد ذكور عدا طارقاً الذي كاف نصيبو مولودة جميمة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إذ‬ ‫وطارؽ‪،‬‬
‫أقاموا ألجميـ االحتفاالت‪ ،‬ولـ تعد الدنيا تتسع لفرحتيـ‪.‬‬
‫وتنوعت مشاربيا‪ ،‬فقد‬
‫أما الخمية الثورية التي اتّسعت رقعتيا‪ ،‬وكبر فضاؤىا‪ّ ،‬‬
‫قادىا المث ّقفوف والمناضموف الثوريوف الذيف ش ّكموا جماعة العيد لتقض مضاجع‬
‫العثمانييف‪ ،‬وكانت األستانة تدرؾ جيداً أىمية لواء الزور ومقدرتو الفائقة في قمب‬
‫وبخاصة عندما مالت كفّة الحمفاء عمييا‪ ،‬وجعمتيا بيف المطرقة‬ ‫ّ‬ ‫الموازيف‪،‬‬
‫اؿ جديد إلييا اسمو ‪/‬عمي سعاد بؾ‪ /‬الذي بدا لطيف ًا‬ ‫والسنداف‪ ،‬فقررت إرساؿ و ٍ‬
‫ّ‬
‫وكريماً ومتسامحاً مع سوقيات األرمف الجديدة التي تيافتت عمى المواء‪ ،‬بحيث أمر‬
‫بترحيميـ إلى حمب دوف المساس بيـ‪.‬‬
‫وكاف مف بيف القادميف بقايا أىؿ ىاصميؾ زوجة أحمد الصّباغ‪ :‬أميا وأختيا‬
‫فقد َف األب واألخ واالبف‪ ..‬احتضنتيـ ىاصميؾ بكؿ الشوؽ الكامف‬ ‫وخالتيا‪ْ ،‬‬
‫فييا‪..‬‬
‫دموع مد اررة تيطؿ ببل حدود‪ ،‬تبمّؿ الوجنات‪ ،‬وتحرؽ ِّ‬
‫الشفاه‪ ،‬والنشيج يتعالى‬
‫ىنيية‪ ،‬وصوت ىاصميؾ الناشج يتساءؿ‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫كؿ ّّ‬
‫ّ‬
‫أماه‪ ..‬أيف أبي؟ أيف إخوتي؟‬
‫ػ ّ‬
‫ػ لقد رحموا يا بنتي إلى حضرة اإللو‪..‬‬
‫ػ إذف قُتِموا؟ أليس كذلؾ؟‬
‫ٍ‬
‫ىاوية سحيقة قبؿ أف نصؿ إلى ىنا بوقت قصير‪ ..‬صمّي‬ ‫ػ لقد أُلقوا في‬
‫ألجمِيـ يا بنتي‪.‬‬
‫كؿ الواقفيف‪ ،‬وسقطت‬
‫رجت األرض‪ ،‬أفزعت ّ‬ ‫صرخت ىاصميؾ صرخةً ّ‬
‫مردداً‪:‬‬
‫مغشياً عمييا‪ ..‬حمميا أحمد عمى ساعديو‪ ،‬وبمّؿ وجنتييا بدموعو ّ‬
‫ّ‬
‫ػ ‪ 69‬ػ‬
‫عمي‪ ..‬ال تتركيني وحيداً‪ ..‬إف‬
‫ردي ّ‬ ‫ػ ىاصميؾ‪ ..‬حبيبتي‪ ..‬يا أطير النساء‪ّ ،‬‬
‫لـ يكف مف أجمي فمف أجؿ طفمنا الرضيع‪.‬‬
‫أجمسيا‪ ،‬ومسح وجييا بمنديمو المبمؿ بالماء‪..‬‬
‫َ‬ ‫تحت ِظ ّؿ شجرة عمى الشاطئ‬
‫فتحت عينييا ببطء وتثاقؿ‪ ،‬فرأت خياالت ترمقيا بعيوف ذابمة‪ ..‬اقتربت منيا أميا‪،‬‬
‫فأودعت وجييا الجميؿ قببلت محمومة‪ ..‬ىمست في أذنيا‪:‬‬
‫حياً؟‬
‫جدؾ ّ‬
‫ػ ىؿ مازاؿ ّ‬
‫بقوة وتمتمت ناشجةً‪:‬‬
‫أميا ّ‬
‫بكت ىاصميؾ ثانيةً‪ ،‬واحتضنت ّ‬
‫ػ لقد رحؿ يا أمي‪ ..‬أثقؿ عميو المرض‪ ،‬وجاء العجاج ليكتـ أنفاسو‪.‬‬
‫ػ أيف وليدؾ؟‬
‫جدتو في البيت‪.‬‬
‫ػ إنو عند ّ‬
‫بنيتي؟‬
‫ػ ماذا أسميتو يا ّ‬
‫ػ عمى اسـ جدي‪ :‬سوريف‬
‫الرب‪.‬‬
‫ػ بارؾ اهلل فيؾ‪ ،‬وحفظؾ ّ‬
‫أماه‪ ..‬أال تبقيف معي؟‬
‫ػ ّ‬
‫ػ ال يا بنتي لف نستطيع‪ .‬قالوا لنا سنذىب إلى حمب‪.‬‬
‫ػ سأرحؿ معؾ‪.‬‬
‫ثـ ركعت عند قدميو تستحمفو باهلل وبرسمو وبحبيا لو أف‬ ‫والتفتت إلى أحمد‪ّ ،‬‬
‫يسمح ليا بالرحيؿ مع بقايا أىميا‪..‬‬
‫طار صواب أحمد‪ ،‬واستحمفيا باهلل وبمحمد والمسيح أف تبقى مع وليدىا‬
‫أصرت عمى الرحيؿ‪..‬‬
‫لكنيا أبت‪ ،‬و ّ‬
‫وأىمو في بيتو‪ّ ،‬‬
‫ػ وابننا يا ىاصميؾ؟!‬
‫كؿ ّّ قمبي‪..‬‬
‫أردت أف تأخذه فيو ابنؾ‪ ،‬واف أعطيتنيو فسأشكرؾ مف ّ‬
‫َ‬ ‫ػ إف‬
‫أريد يا أحمد أف أحيا أو أموت مع أىمي‪ ..‬اتركني أرجوؾ‪.‬‬
‫قمت لف ترحمي؟‬
‫ػ واف ُ‬
‫ػ سأقتؿ نفسي واهلل أمامؾ‪.‬‬
‫ػ ىاصميؾ؟‬
‫ػ أحمد‪ ..‬أرجوؾ دعني‪.‬‬

‫ػ ‪ 71‬ػ‬
‫وقبمت يديو‪ ،‬وركعت عند قدميو باكيةً‪..‬‬
‫ّ‬
‫ػ انيضي حبيبتي‪..‬‬
‫لـ يستطع أحمد أف يكسر قيود إصرارىا‪ ،‬فكاف ينظر إلييا نظرة استجداء‬
‫وترجٍّ‪ ،‬وكانت تيز رأسيا رافضةً‪..‬‬
‫ػ إذف سيبقى الطفؿ عندي‪ ،‬وارحمي إف شئت‪.‬‬
‫سار ركب األرمف‪ ،‬وقد زاد عددىـ امرأة‪ ،‬لكنيا ليست كأي امرأة‪ ..‬أنيا‬
‫ٍ‬
‫إنساف أف يأخذ أحداً منيـ‪ ..‬ىمست‬ ‫الركب ألي‬
‫حراس ّ‬‫ىاصميؾ‪ .‬ولـ يسمح ّ‬
‫ٍ‬
‫ىاصميؾ في أذف أحمد كميمات ناشجةً‪ ،‬ورحمت‪.‬‬
‫مرة‪ ،‬ولـ تسع ْفو‬
‫سار أحمد إلى حيث ال يدري‪ ،‬تعثّر في مشيتو أكثر مف ّ‬
‫جيداً إلى حيث يسير‪ ..‬توقّؼ ىنييةً‪ ،‬وضرب جبيتو‬ ‫عيناه الدامعتاف مف النظر ّ‬
‫بكفّو‪ ،‬وتمتـ متألماً‪:‬‬
‫عمي أف أمنعيا مف السفر‪ ،‬وأحجر عمييا حتى يبتعد أىميا‪.‬‬ ‫ػ كاف ّ‬
‫لكف كبرياءه‬
‫حاوؿ أف يرجع إلى البيت ليمتطي صيوة جواده ويعود بيا‪ّ ،‬‬
‫بحؽ نفسيا‪ ،‬فيي عنيدة كما خبِرىا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫حماقة ّ‬ ‫ىددت بارتكاب‬‫منعتو‪ ،‬وتذ ّكر أنيا قَ ْد ّ‬
‫ظؿ شجرة توت ىرمة‪،‬‬ ‫سارت بو قدماه إلى بستاف يعرؼ صاحبو‪ ،‬وجمس في ّ‬
‫وشرع يف ّكر‪..‬‬
‫حباً ممؾ قمبو وعقمو‪ ،‬وأراد أف يبقى الطفؿ الوليد لديو‪ ،‬ألنو‬‫يحب زوجتو ّ‬ ‫ّإنو ّ‬
‫سيراىا مف خبللو‪ ،‬وألنو سيبقى الذكرى الوحيدة المتبقّية لديو منيا‪..‬‬
‫بالرد‬
‫ّ‬ ‫تذكر عندما كانت ىاصميؾ تنادي ابنيا‪ :‬سوريف‪ .‬كيؼ كاف يسارع‬
‫عمييا قائبلً‪ :‬إنو سوري‪ .‬ليتو كاف سوريف‪ ،‬وتبقى أمو إلى جانبو‪.‬‬
‫وا أسفاه! لقد رحمت‪ .‬وكاف يدرؾ تماـ اإلدراؾ باستحالة عودتيا‪ ..‬تذ ّكر ما‬
‫وعوض‬ ‫ِ‬
‫ىمست بو قبؿ رحيميا‪ ..‬لقد قالت لو‪( :‬الولد أمانة عندؾ‪ .‬أحسف تربيتو‪ّ .‬‬
‫حناني لو بحناف امرأة تميؽ بؾ)‪.‬‬
‫بقوة‪،‬‬
‫يا إليي! ما أعظميا مف امرأة! أخذ يضرب فخذيو بكفّيو‪ ،‬ويمطـ وجيو ّ‬
‫يمزؽ السكوف‪ ،‬حتى غاب عف الوعي‪.‬‬ ‫ونشيجو ّ‬
‫لـ يفؽ أحمد مف سباتو إالَّ عند أذاف العصر‪ ،‬وصوت صاحب البستاف يذ ّكره‬
‫بصبلة العصر‪.‬‬

‫ػ ‪ 71‬ػ‬
‫اسودت الدنيا في عينيو‪ .‬وعندما‬
‫ّ‬ ‫كاف رأسو ثقيبلً مميئاً باليواجس والظنوف‪..‬‬
‫بدأ يمشي‪ ،‬أخذ يتمايؿ يمنةً ويسرة‪ ،‬وال يكاد يرى شيئاً‪ ،‬فاصطدـ بالشجر والحجر‬
‫مساً مف الجنوف قَ ْد أصابو‪.‬‬
‫ظف بعضيـ أف ّ‬ ‫والبشر‪ ،‬حتى ّ‬
‫عاد إلى البيت بخطى ثقيمة‪ ،‬شاحب الوجو‪ ،‬أشعث َّ‬
‫الشعر‪ ،‬وكاد يتياوى عمى‬
‫ً‬
‫عتبة الدار لوال سماعو صراخ الطفؿ‪ ،‬فانتفض‪ ،‬وىروؿ‪ ،‬وخطؼ الطفؿ مف بيف‬
‫يشمو‪ ،‬ويبكي معو‪..‬‬
‫يدي أختو حميدة‪ ،‬وأخذ ّ‬
‫أمو بعد أف ىدأ‪:‬‬
‫قالت لو ّ‬
‫يكؼ عف الصراخ منذ رحيؿ أمو‪ ..‬حاولت النسوة‬ ‫ػ إف الطفؿ يا ولدي لـ ّ‬
‫إرضاعو فرفض المراضع‪ ،‬أعطيناه حميباً بقرّياً فرفضو‪ ،‬دلقنا في فمو نقيع‬
‫أمو عميؾ أف تأخذه إلييا‪ ..‬إف الطفؿ‬‫اليانسوف فمـ يتقبمو‪ ..‬أرجوؾ يا ولدي‪ ،‬بحؽ ّ‬
‫يذوب ببطء‪ ..‬ال أريده أف يموت بيف يدي‪ ..‬أسرع بو يا أحمد‪ ،‬فمازاؿ في الوقت‬
‫يحنف قمب أمو فترجع‪ ،‬أو تكتب لو الحياة معيا‪..‬‬
‫متّسع‪ ،‬لعؿ اهلل ّ‬
‫كاف أحمد يسمع كممات أمو‪ ،‬وىو دامع العينيف‪ ،‬وصراخ الطفؿ يتعالى‪ ،‬فمـ‬
‫يد ِر ماذا سيفعؿ! وحده الطفؿ كاف يعرؼ أف اقتبلع الجذر مستحيؿ‪ ،‬و ّ‬
‫أف الدـ ال‬
‫أي شيء‪ ،‬وأف‬ ‫ماء‪ ،‬وأف عبير األـ وعبقيا ال يعادليما في الدنيا ّ‬
‫يمكف أف يكوف ً‬
‫الظممات الثبلث التي مكث فييا تسعة أشير تناديو وتحثّو عمى المجيء‪ ..‬األـ‬
‫الجنة تحت‬
‫وحدىا منبع السكينة والحب والحناف والطمأنينة‪ ..‬األـ التي جعؿ اهلل ّ‬
‫وضحت بزوجيا وابنيا مف أجميا‪ ..‬يا لموفاء!‬ ‫ّ‬ ‫أميا‪،‬‬
‫أقداميا‪ ..‬أمو التي آثرت ّ‬
‫الطفؿ رضعو مف لباف أمو‪ ..‬الطفؿ أدركو‪ ،‬وأبى إالّ أف يترجـ صراخو إلى فعؿ‪..‬‬
‫فكاف ما كاف‪..‬‬
‫كؿ ّّ ىنيية‪ ،‬ويبكي مع بكائو‪ ،‬فتمتزج الدموع‪ ،‬وتتعانؽ‬
‫يشـ الطفؿ ّ‬
‫أخذ أحمد ّ‬
‫التنيدات‪..‬‬
‫اآلىات و ّ‬
‫ٍ‬
‫"إيو يا طفمي الغالي‪..‬‬
‫وحدؾ مف ترجـ اآله في مسارب الدموع‬
‫تظؿ يا ولدي كممةً مبيمة في ِسفر التاريخ وال في ميب الريح‪.‬‬
‫لف ّ‬
‫دىور بابتياج وسرور‪..‬‬
‫ستنتظرؾ ٌ‬
‫َ‬
‫وستكوف رايةً لعشب يموج ولزىور تفوح‬
‫أراؾ اآلف خارج أسوار مممكتي أمي اًر وأنا الطريد‬

‫ػ ‪ 72‬ػ‬
‫أمد إليؾ يدي بميفة وال أصؿ إليؾ‬
‫ّ‬
‫أي بني‪ ..‬سترحؿ اآلف لتداوي جناحؾ المكسور‬
‫وتترؾ أباؾ خمؼ كومة ٍ‬
‫غيـ كطائر الرعد‬
‫ارحؿ بني‪ ..‬استجمع ذاتؾ في رئتيؾ‬
‫إلي‪"..‬‬ ‫ٍ‬ ‫وكف قاد اًر عمى ْ ِ‬
‫أمؾ وأرسمو ّ‬
‫نسؿ خيط مف عذوبة صوت ّ‬
‫تحبيا‪ ..‬أنقذ الطفؿ يا‬
‫ػ أسرع يا أحمد‪ ..‬أرجوؾ‪ ..‬اذىب إلييا إف كنت حقّاً ّ‬
‫أحمد‪.‬‬
‫امتطى أحمد صيوة جواده األصيؿ‪ ،‬وحمؿ طفمو في حضنو‪ ،‬ولفّو بعباءتو‪،‬‬
‫يخب‪ ،‬فوصؿ القافمة قبيؿ غروب الشمس بقميؿ‪ ..‬قطع أكثر مف ثبلثيف‬‫ّ‬ ‫وسار‬
‫كيمو مت اًر دوف أف يدري‪..‬‬
‫احد منيـ‬
‫عياً وعج اًز‪ ،‬وكمّما تيالؾ و ٌ‬
‫يجروف أرجميـ وأجسادىـ ّ‬ ‫وكاف األرمف ّ‬
‫عمى األرض حمموه‪ ،‬ور ّشوا الماء عمى وجيو‪ ،‬ليتابع معيـ مسيرة البلنياية‪..‬‬
‫صاح أحمد بأعمى صوت‪:‬‬
‫ػ ىاصميؾ‪ ..‬ىاصميؾ‪.‬‬
‫بقوة‪،‬‬
‫التفتت ىاصميؾ بذىوؿ إلى مصدر الصوت الذي اخترؽ قمبيا ّ‬
‫فصاحت دوف وعي‪:‬‬
‫ػ أحمد‪ ..‬أحمد‪.‬‬
‫يا إليي! ما الذي جاء بو؟ ىؿ أصاب الولد مكروه؟! ترجؿ أحمد‪ ،‬والطفؿ‬
‫بكاء يمزؽ األكباد‪..‬‬
‫في حضنو يبكي ً‬
‫وضع الطفؿ عمى األرض عندما أقبمت إليو‪ ،‬واحتضنيا بميفة‪ ،‬وكأنو لـ َيرىا‬
‫منذ سنيف‪.‬‬
‫ثدييا حتى سكت‬ ‫أخذت ىاصميؾ طفميا بشوؽ وىو يبكي‪ ،‬وما إف ألقمتو ّ‬
‫ييزه مف ٍ‬
‫آونة ألخرى وىو يمتص لبف أمو‪ ،‬وعينا‬ ‫نشيج غير مسموع ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وسكف إالَّ مف‬
‫أحمد تغوصاف في عيني زوجتو باشتياؽ‪..‬‬
‫أخذت فبل تحرـ‪.‬‬
‫َ‬ ‫أعطيت ِفم َـ تأخذ؟ واف‬
‫َ‬ ‫رّباه‪ ..‬إف‬
‫رّباه‪ ..‬ابني وأمو ضيفاف عندؾ يا اهلل‪ ..‬يا مف ال تضيع ودائعو ّإني أودعيما‬
‫عندؾ‪..‬‬

‫ػ ‪ 73‬ػ‬
‫أجتر القير‬
‫رّباه أنت القادر عمى أف تجمعني معيما‪ ،‬ال تتركني وحيداً‪ّ ،‬‬
‫أكرمني بيما‪ ،‬وارحمني وارحميما‪.‬‬
‫والحرماف‪ ،‬فأنت الكريـ الجواد‪ْ ..‬‬
‫أفاؽ أحمد مف شروده عمى صوت طفمو وىو يناغي أمو فتناغيو‪ ،‬حتى أخمد‬
‫متشبثاً بو‪.‬‬
‫رأسو في حجرىا‪ ،‬وتممّكو النعاس فغفا عمى صدرىا ّ‬
‫ػ أصيؿ يا أحمد‪ ..‬لف أنسى صنيعؾ ىذا مدى العمر‪.‬‬
‫ػ أرجوؾ يا حبيبتي أف تعودي إلى بيتؾ‪ ،‬واهلل لف أىنأ بالعيش في غيابؾ‪.‬‬
‫تحبني‬
‫كنت ّ‬‫انسني‪ ،‬فمف أترؾ أىمي‪ ،‬أرجوؾ إف َ‬ ‫تزوج و َ‬‫ػ قمت لؾ يا أحمد ّ‬
‫شئت اتركو لي‪ ،‬وأقسـ لؾ باهلل وبكؿ‬ ‫َ‬ ‫فارحؿ أنت وابنؾ قبؿ أف يستيقظ‪ ،‬واف‬
‫المقدسات سيعود إليؾ إف أبقاه اهلل حياً‪.‬‬
‫ّ‬
‫ػ خذيو يا ىاصميؾ كما أخذت قمبي وروحي وعقمي‪.‬‬
‫بكت ىاصميؾ طويبلً عمى كتؼ أحمد وعانقتو بح ار ٍرة عناق ًا ممزوجاً بالدموع‪،‬‬
‫وقالت لو ناشجةً‪:‬‬
‫وصادؽ‬
‫ٌ‬ ‫طيب‬
‫ٌ‬ ‫ألنؾ‬
‫تتزوج غيري‪ ،‬واعمـ أف اهلل لف يخذلؾ‪ّ ،‬‬ ‫ػ أرجوؾ أف ّ‬
‫ووفي‪.‬‬
‫مموح ًا‬ ‫ٍ‬
‫كؿ ّّ آونة إلى حيث زوجتو وولده‪ّ ،‬‬
‫ألي‪ ،‬وكاف يتمفّت ّ‬‫رحؿ أحمد بعد ٍ‬
‫ترد عميو‪.‬‬ ‫بيده‪ ،‬وكاف يرى عف ٍ‬
‫بعد تمويحةً متعبةً ّ‬

‫ػ ‪ 74‬ػ‬
‫(‪)9‬‬
‫أحد ممف في المجمس أف يكمّـ عمي بؾ‪ ،‬واف عرفوا سبب وجومو‬ ‫لـ يجرؤ ٌ‬
‫كؿ ّّ ىنيية‪ ،‬وعيناه الصغيرتاف تحممقاف في أعمدة‬‫وكآبتو‪ ..‬كاف يعتصر رأسو ّ‬
‫لطيور لـ تجد األماف إالَّ فييا‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫سقؼ المضافة‪ ،‬وما حوتو مف أعشاش‬
‫جو الكآبة‪ ،‬وقطع حبؿ الصمت عندما اقترب منو قائبلً‪:‬‬
‫بدد ّ‬
‫وحده المختار مف ّ‬
‫ػ لقد آلمنا جميعاً ما حدث‪ ،‬أنت تأمر ونحف ننفّذ‪ ..‬رفع عمي بؾ رأسو‬
‫الصغير‪ ،‬وقاؿ بألـ‪:‬‬
‫ػ لقد نقموا ‪/‬سعاد بؾ‪ /‬تأديب ًا إلى بغداد‪ ،‬واتّيموه بالتساىؿ وعدـ إطاعة‬
‫اؿ عرفتو الواليات العربية عمى اإلطبلؽ‪ ..‬إنو ‪/‬زكي‬ ‫األوامر‪ ،‬وجاءوا لنا بأقذر و ٍ‬
‫بؾ الجركسي‪ ../‬مجرـ خطير ال يحمؿ في قمبو إالَّ الحقد والكراىية‪ ..‬منذ يوميف‬
‫جاءت إلى الدير قافمتاف مف األرمف‪ ،‬أمر بترحيؿ ٍ‬
‫قافمة إلى حمب‪ ،‬أما الثانية فأمر‬
‫رجالو بأخذىا إلى جباؿ (الولي) المحيطة بأحد أطراؼ المدينة‪ ،‬وقتميـ رمياً‬
‫بالرصاص‪ ،‬وكاف ينظر إلييـ بمنظاره‪ ،‬ويتم ّذذ بعممية اإلبادة‪ ،‬حتى إذا ما تمت‬
‫بإتقاف تنفّس الصعداء‪ ،‬وجمس ينتظر قوافؿ أخرى‪ ..‬فيؿ ىذا الوضع مريح؟ وىؿ‬
‫المضي معو بسبلـ؟!‬
‫ّ‬ ‫يمكننا‬
‫قاـ أبو ياسيف منتفضاً‪ ،‬وسار عدة خطوات‪ ،‬حتى أصبح في مواجية عمي‬
‫بؾ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫أتحب أف أخمِّصكـ مف شروره وآثامو؟ ِ‬
‫أعطني األمر‪ ،‬وأقسـ باهلل أنو لف‬ ‫ػ‬
‫ّ‬
‫يرى الصباح‪.‬‬
‫تحف‬‫منا ألفاً‪ .‬اسألني أنا‪ .‬لـ ِ‬
‫ػ يا أبا ياسيف‪ ..‬إف قتمنا واحداً فإنيـ سيقتموف ّ‬
‫الفرصة بعد لعممية االغتياؿ‪ .‬عمينا أف ننتظر أياماً‪ ،‬بؿ ربما شيو اًر قميمة حتى نق أر‬
‫كؿ ّّ ما أطمبو‬
‫فاتحة الخبلص‪ّ ..‬إني أخاؼ عميكـ مف الذئب المجروح يا إخوتي‪ّ .‬‬
‫منكـ المزيد مف الحيطة والحذر‪ ،‬والحفاظ عمى حياة األرمف الموجوديف في بيوتكـ‪.‬‬
‫ػ ماذا تقوؿ يا أبا راغب؟! إف األرمف الموجوديف في بيوتنا أصبحوا أىمنا‪،‬‬
‫تعرضت أـ ياسيف أو أميا‬‫سأدمر بيت الوالي بمف فيو‪ ،‬إف ّ‬
‫وأقسـ لؾ باهلل ثبلثاً‪ّ ،‬‬
‫لسوء‪.‬‬

‫ػ ‪ 75‬ػ‬
‫أقسـ المختار‪ ،‬وأبو صادؽ الميكانيكي‪ ،‬وأبو سمطاف الجابي‪ ،‬وأبو طارؽ‪،‬‬
‫وعدد كبير ممف حوتيـ المضافة يميف الوفاء‪.‬‬
‫قاؿ أبو عدناف متي ّكماً‪:‬‬
‫ػ ماذا فعؿ لنا ممثّمونا في مجمس المبعوثاف يا أبا راغب؟!‬
‫عاجؿ إلى الباب العالي لنْق ِؿ والينا‪ ،‬وقالوا‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بطمب‬ ‫تقدموا‬
‫كؿ الخير‪ّ ،‬‬ ‫ػ فعموا ّ‬
‫سيتـ ىذا األمر‪.‬‬ ‫بصريح العبارة‪ :‬إف الشعب ينوي قتمَو إف لـ ُي َنقؿ‪ ،‬واف شاء اهلل ّ‬
‫كانت األياـ صعبة‪ ،‬والدير تعيش حياة الحذر والقمؽ‪ ،‬فالوالي الظالـ يفعؿ ما‬
‫بيت آخر غير بيتو‪ ،‬فبل مضافات‪ ،‬وال‬ ‫أحد أف يسير في ٍ‬ ‫يحمو لو‪ ،‬لـ يستطع ٌ‬
‫متجددة‪ ..‬الكؿ محكوـ عميو بالخوؼ والطاعة‪ .‬المحاؿ التجارية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أفراح‪ ،‬بؿ أتراح‬
‫وخانات الحبوب واألقطاف مباحة لموالي وأتباعو‪ ،‬وال أحد يردع الظالـ عف ظممو‪.‬‬
‫عاجؿ في بستاف أبي عدناف بعد صبلة العشاء‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫دعا عمي بؾ الجتماع‬
‫اجتماع أحيط بالسرّية والكتماف‪.‬‬
‫متعرج ٍة ال تثير الشكوؾ أو الظنوف‪،‬‬‫ّ‬ ‫ذىب المناضموف فرادى‪ ،‬ومف طر ٍ‬
‫ؽ‬
‫وعندما التأـ شمؿ الجماعة‪ .‬قاؿ عمي بؾ متألِّماً‪:‬‬
‫ػ لقد أعدـ الظالموف مجموعة كبيرة مف الثوار في دمشؽ وبيروت‪ ،‬وسورية‬
‫قوة‪.‬‬
‫تمتيب‪ ،‬وعمينا أف نتضامف معيـ بكؿ ما أوتينا مف ّ‬
‫رحمة اهلل عمى الشيداء الذيف ينيروف لنا طريؽ الحرية والكرامة بدمائيـ‬
‫الزكية‪َّ ..‬إنيا ضريبة الخبلص يا إخوتي‪ ،‬وعميكـ بالمزيد مف الحيطة والحذر‪.‬‬
‫قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬
‫لمتحرؾ؟!‬
‫ّ‬ ‫ترد َؾ تعميمات‬
‫ػ ألَ ْـ ْ‬
‫ػ ال‪ .‬وسأبمغكـ بيا فور ورودىا‪ ،‬فجمعية العيد مازالت مجتمعة في مركزىا‬
‫الرئيس بحمب‪.‬‬
‫قاؿ أبو طارؽ‪:‬‬
‫ػ ما أخبار ثورة الشريؼ؟‬
‫ستعـ القطر‪ .‬اطمئف‬
‫ّ‬ ‫الطيبة‪ ،‬وثمارىا اليانعة‬
‫ػ مسألة وقت وستسمع أخبارىا ّ‬
‫يا أبا طارؽ‪ ..‬األمور بخير‪.‬‬
‫قاؿ أبو عدناف‪:‬‬
‫الغمة‪.‬‬
‫كؿ ّّ يوـ خميس ريثما تنقشع ّ‬
‫مقر الجتماعنا ّ‬
‫ػ أرى أف يكوف البستاف ّاً‬

‫ػ ‪ 76‬ػ‬
‫وىذا ىو رأيي‪ ،‬واف شاء اهلل الخبلص قريب‪.‬‬
‫وكاف الخبلص قريباً‪ ،‬تنفّس المناضموف الصعداء‪ ،‬عندما أثمرت جيود‬
‫وقررت األستانة نقؿ زكي بؾ‪ ،‬وتولية عبد القادر‬
‫ممثمينا في مجمس المبعوثاف‪ّ ،‬‬
‫بؾ‪ ،‬ليكوف عاـ ‪ 1917‬عاـ خير وبركة‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ لجمساء مضافتو‪:‬‬
‫بث عيونو في األياـ األخيرة لو لمراقبة‬ ‫ػ قاتؿ اهلل (زكي بؾ)‪ ..‬أتدروف أنو ّ‬
‫كؿ ّّ مكاف أذىب إليو‪ ،‬لقد‬ ‫كنت أراىـ في ّ‬ ‫تحركاتي مف الصباح إلى المساء؟! ُ‬
‫مني بتيديد مبطف‬ ‫حاصرني ذلؾ المجرـ حصا اًر رىيباً‪ ،‬وأكثر مف ذلؾ أنو طمب ّ‬
‫أف أشي بالوطنييف الثائريف مقابؿ إطبلؽ يدي في أمور المواء‪ ،‬وعندما رفضت‬
‫ىددني بالطرد والنفي إف لـ أستجب خبلؿ عشرة أياـ‪ ،‬فسخرت منو‪ ،‬وىددتو بأنني‬ ‫ّ‬
‫محمبلً بعريضة موقّعة مف كافّة شرائح‬ ‫ّ‬ ‫سأتوجو إلى األستانة مع وجياء المواء‬
‫ّ‬
‫المجتمع معمنة فساد الوالي وطغيانو‪ .‬ضحؾ وقتذاؾ وقاؿ معتذ اًر‪ :‬إنني أمازحؾ يا‬
‫سادياً يتم ّذذ بتعذيب اآلخريف حتى مع أقرب خمصائو‪ ..‬إنو‬‫عمي بؾ‪ .‬قاتمو اهلل كاف ّ‬
‫ال يثؽ بأحد‪ ،‬ويتمنى الموت لمجميع‪ .‬قاؿ لي أحد حراسو وكاف وطنياً‪ :‬واهلل يا‬
‫عمي بؾ حاولت أكثر مف مرة اغتيالو‪ ،‬ألخمّص الجزيرة والفرات مف شروره وآثامو‪،‬‬
‫لكنؾ لـ تعطني األمر بذلؾ‪ ،‬وعندما قررت قتمو دوف إذف منؾ شفع لو قرار نقمو‪،‬‬
‫التفنف بقتميـ‪..‬‬
‫تقشعر ليا األبداف عف عمميات تعذيب األرمف‪ ،‬و ّ‬‫ّ‬ ‫وروى لي قصصاً‬
‫عمى ٍّ‬
‫كؿ الحمد هلل الذي أزاح ذلؾ الكابوس عف البمد وأبنائو‪.‬‬
‫قاؿ المختار‪:‬‬
‫ػ أخشى أف يكوف عبد القادر بؾ مثمو‪.‬‬
‫رد عمي بؾ بصوت ٍ‬
‫عاؿ‪:‬‬ ‫ّ‬
‫ػ ال يا أبا عدناف‪ .‬عبد القادر بؾ رج ٌؿ مثقّؼ ولطيؼ‪ .‬أعرفو جيداً‪ ،‬وقد وافؽ‬
‫حر لؤلدباء والمف ّكريف‬
‫عمى إصدار جريدة بالمغتيف العربية والتركية‪ ،‬سأجعميا منب اًر ّاً‬
‫والوطنييف األحرار بإذف اهلل‪.‬‬
‫وقؼ أبو أحمد الصباغ‪ ،‬وىو في حالة ُيرثى ليا‪ ،‬وقد أثقمتو اليموـ‬
‫والمتاعب‪ ،‬فاقترب منو عمي بؾ‪ ،‬واحتضنو‪ ،‬فأجيش أبو أحمد باكياً متمتماً‪:‬‬
‫ػ ولدي أحمد يا عمي بؾ‪ .‬أرجوؾ أنقذه‪ .‬إنو يقتؿ نفسو‪.‬‬
‫يص ُح بعد؟‬
‫ألـ ْ‬
‫ػ ْ‬

‫ػ ‪ 77‬ػ‬
‫ػ ال واهلل‪ ..‬إنو يزداد سوءاً‪ .‬ال يأكؿ إالَّ ما ّ‬
‫يسد بو الرمؽ‪ ،‬أىمؿ نفسو‪ ،‬وأطاؿ‬
‫لحيتو‪ ،‬وصار ييذي في الحمـ واليقظة‪ ،‬حتى اتّيمو الناس بالجنوف‪ .‬أرجوؾ قؿ لي‬
‫ماذا أفعؿ؟‬
‫ػ يجب أف تزوج ابنؾ بأسرع وقت يا أبا أحمد‪ ،‬وأنا عمى ٍ‬
‫ثقة بأف الزواج‬ ‫ّ‬
‫سيخرجو مف تمؾ الصدمة‪.‬‬
‫ممف؟!‬‫أزوجو؟ ّ‬ ‫ػ ّ‬
‫ػ أرسمو إلى مكتبي قبؿ صبلة الظير‪ ،‬وسأناقش معو ىذا الموضوع‪.‬‬
‫عمياً أزاح يده بسرعة‪ ،‬وحاؿ‬ ‫َّ‬
‫ىـ أبو أحمد الصباغ بتقبيؿ يد عمي بؾ‪ .‬إال أف ّ‬ ‫ّ‬
‫دوف تقبيميا قائبلً‪:‬‬
‫ػ أستغفر اهلل‪ ..‬ال يا أبا أحمد‪ .‬أرجوؾ أالّ تفعؿ ذلؾ ثاني ًة‪ ،‬فأنا أخوؾ ورفيؽ‬
‫المممات‪ ،‬فمتى سأقؼ؟‪:‬‬
‫دربؾ‪ ،‬واذا لـ أقؼ إلى جانبؾ في ّ‬

‫أمر‬
‫ُ‬ ‫يوم في خميقتو‬‫ٍ‬ ‫لو ك ّل‬ ‫فر ٌج يأتي بو اهلل إنو‬‫عسى َ‬
‫اليسر‬
‫ُ‬ ‫أن العسر يتبعو‬
‫قضى اهلل ّ‬ ‫فار ُج يس ارً فإنو‬
‫عسر ْ‬
‫ٌ‬ ‫اشتد‬
‫ّ‬ ‫إذا‬

‫اليسر‪.‬‬
‫ػ إف شاء اهلل عمى يديؾ يأتي الفرج و ُ‬
‫إلي‪ .‬وسترى‪.‬‬
‫ػ أىبلً بؾ وبولدؾ‪ .‬أرسمؾ َّ‬
‫ػ ىؿ أرافقو في المجيء إلى مكتبؾ؟‬
‫ػ ال مانع مف ذلؾ‪ ،‬بؿ أراه األفضؿ مف أف يأتي وحيداً ويضعؼ أمامي‪.‬‬
‫أعزز ثقتو بنفسو‪.‬‬
‫تعاؿ معو‪ .‬أريد أف ّ‬
‫مطمئناً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التفت عمي بؾ إلى وجو أبي ياسيف‪ ،‬فرآه‬
‫ابتسـ وقاؿ‪:‬‬
‫ػ كيؼ حاؿ ياسيف وأمو وجدتو؟‬
‫يحدثني وأحدثو‪ ،‬ويمعب بقطع السبلح‪ ،‬ويبكي إف فارقيا‪ ،‬وأمو‬
‫ػ ياسيف بخير‪ّ ،‬‬
‫محي اًر‪.‬‬
‫تحسف كبلميا‪ ،‬أما حماتي فأمرىا مازاؿ ّ‬
‫ّ‬
‫المحير في أمرىا؟‬
‫ّ‬ ‫ػ ما‬
‫ػ َّإنيا تخفي أم اًر لـ ّ‬
‫أتبيْنو بعد‪.‬‬

‫ػ ‪ 78‬ػ‬
‫ضحؾ المختار قائبلً‪:‬‬
‫يتحدث معو باألرمنية أـ ال؟ أما حماتو فأنا‬
‫ػ لـ يقؿ لنا أبو ياسيف‪ ،‬ىؿ ولده ّ‬
‫أخمف أنيا تف ّكر بالزواج‪.‬‬
‫ّ‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫جيداً ُّ‪ ،‬فيـ أمانة عندؾ‪.‬‬ ‫ػ ِ‬
‫اعتف بيـ يا أبا ياسيف ّ‬
‫أقصر إف شاء اهلل‪.‬‬
‫أقصر‪ ،‬ولف ّ‬ ‫ػ واهلل يا أبا راغب لـ ّ‬
‫التفت عمي بؾ إلى أبي صادؽ الميكانيكي وقاؿ‪:‬‬
‫ػ لقد بمغني اتّساع ورشتؾ وسمعتيا الطيبة‪.‬‬
‫ػ ىذا بفضؿ اهلل وفضمؾ‪ ،‬وفضؿ األرمف الطيبيف‪.‬‬
‫زوجت آرتيف‪.‬‬ ‫سمعت أنؾ ّ‬
‫ُ‬ ‫ػ‬
‫أرمنيةً كزميميو‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تزوج‬
‫ػ بعد أف رفض تغيير اسمو ودينو ّ‬
‫تـ ليـ ذلؾ والقافمة كانت مراقبة؟!‬
‫ػ لكف كيؼ ّ‬
‫ػ ظمّوا ينتظروف القافمة‪ ،‬وعندما رأوىا عمى الضفّة األخرى‪ ،‬عبروا النير‬
‫ثـ‬
‫بقارب صغير‪ ،‬واستطاعوا لقاء مبمغ مف الماؿ أف ينتقوا ثبلث فتيات منيا‪ّ ،‬‬
‫وبيف إلى الورشة سالميف‪.‬‬
‫عادوا بالقارب ّ‬
‫ػ أبطاؿ واهلل‪ ،‬وماذا فعمت ليـ؟‬
‫وزودتيـ بكؿ مستمزمات الزواج وىـ اآلف‬
‫ودفعت ميرىـ‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫زوجتيـ لمفتيات‪،‬‬
‫ػ ّ‬
‫في غاية السعادة‪.‬‬
‫ػ بارؾ اهلل فيؾ‪ .‬ىذا الخبر أسعدني كثي اًر‪.‬‬
‫تقدـ عمي بؾ مف أبي سمطاف‪ ،‬وقاؿ باسماً‪:‬‬ ‫ّ‬
‫بمديتنا؟‬
‫ػ ما أحواؿ جابي ّ‬
‫ػ ولدي سمطاف سعيد‪ ،‬وبإذف اهلل سيكوف سمطاناً غير تركي‪.‬‬
‫ضحؾ عمي بؾ وقاؿ‪:‬‬
‫ػ وماذا يمنع أف يكوف مثؿ السبلطيف األتراؾ إف كاف عادالً ورحيماً؟!‬
‫ػ ال يا أبا راغب‪ ..‬أريده سمطاناً لمعقؿ والرحمة‪ ،‬لمعمـ والمعرفة‪ ،‬لموفاء‬
‫واإليثار‪ ..‬أريده سمطاناً بأقوالو وأفعالو‪ ..‬أريده سمطاناً يحمي أخواتو السبع ونسائي‬
‫الثبلث مف مكائد الدىر وصروؼ األياـ‪..‬‬

‫ػ ‪ 79‬ػ‬
‫ػ إف شاء اهلل يا أبا سمطاف‪ ..‬إف شاء اهلل‪.‬‬
‫نظر عمي بؾ في وجو أبي طارؽ‪ ،‬فرآه سعيداً‪ ،‬قاؿ‪:‬‬
‫ػ في عينيؾ يا أبا طارؽ حكاية‪ ،‬أرجو أف تفصح عنيا‪.‬‬
‫ػ واهلل يا أبا راغب‪ ،‬لقد جاءني أخي وصالحني‪ ،‬لكنو عاتبني ألنني نقمت‬
‫إليؾ ما جرى بيننا‪.‬‬
‫ػ الميـ أف األمور سارت بيدوء‪ ،‬وأف المياه عادة إلى مجارييا‪.‬‬
‫ػ الحمد هلل‪ ،‬وكؿ الشكر والتقدير لؾ يا عمي بؾ‪.‬‬
‫ػ وطارؽ‪ ..‬ما أحوالو؟‬
‫بوده الحضور لوال أنو تعب مف السفر أما أحوالو العائمية فيي‬
‫ػ طارؽ كاف ّ‬
‫ممتازة والحمد هلل‪.‬‬
‫ػ وفّقو اهلل‪ ،‬قؿ لو بأنني أتوؽ إلى رؤيتو‪.‬‬
‫ػ إف شاء اهلل سيحصؿ ذلؾ‪.‬‬
‫قاؿ المختار مستفس اًر‪:‬‬
‫كؿ ّّ مف يقؼ مع الفرنجة ضد األتراؾ‬ ‫ػ أحد األئمة عندنا أفتى بتكفير ّ‬
‫ويعد ذلؾ ػ إف حدث ػ خروجاً عمى الديف‪ ،‬فما رأيؾ؟‬
‫المسمميف‪ّ ،‬‬
‫يحؽ‬
‫ّ‬ ‫ػ مسكيف ىذا اإلماـ‪ ،‬سيدرؾ فيما بعد خطؿ رأيو وخطره‪ ،‬ومف ثـ ال‬
‫إلماـ مسمـ أف يكفّر مسمماً صحيح أف بعض األئمة مشبعوف بالفكر السمفي‪ ،‬وأف‬
‫جندوىـ لخدمة مآربيـ الخبيثة‪:‬‬
‫األتراؾ َق ْد ّ‬

‫داروا‬ ‫الدينار‬ ‫وعمى‬ ‫ديناً‬ ‫لمناس‬ ‫أظيروا‬


‫وزاروا‬ ‫حجوا‬
‫ّ‬ ‫ولـو‬ ‫وصمّوا‬ ‫صاموا‬ ‫ولـو‬
‫لطاروا‬ ‫ريش‬
‫ٌ‬ ‫وليم‬ ‫الثريا‬
‫ّ‬ ‫فوق‬ ‫بدا‬ ‫لو‬

‫ىؤالء يا مختار الديف اإلسبلمي الحنيؼ بريء منيـ‪ ،‬وال يمثّموف الوجو‬
‫الحقيقي لمشعب الفراتي العظيـ‪.‬‬
‫قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬

‫ػ ‪ 81‬ػ‬
‫ػ يا أبا راغب‪ ..‬منذ يوميف قاؿ لي أحد الضباط األتراؾ ػ عندما جاء إلي‬
‫ألصمح سبلحو الفردي ػ كبلماً يشي بقرب الخبلص‪.‬‬
‫كؿ ّّ مكاف‪ ،‬لكف لف يتحرر الوطف‬ ‫ػ أجؿ يا أخي‪ ،‬فالقوات التركية تقيقرت في ّ‬
‫سيتجز إلى دويبلت يخضع قسـ منيا لفرنسا وقسـ‬ ‫ّأ‬ ‫العربي‪ ،‬بؿ عمى العكس‬
‫إلنجمترا‪ ،‬وبقية الدويبلت إلى الدوؿ الحميفة‪ ..‬الوضع سيصبح خطي اًر يا أبا ياسيف‪،‬‬
‫مح ٌف وىموـ ثقاؿ‪ ..‬وغدًا‬
‫وسبؽ أف قمت لكـ إف األياـ القادمة لف تكوف مريحةً أبداً‪َ ..‬‬
‫ستقرؤوف في صحيفة (الجوؿ) مقاالت وقصائد ربما تعترض طريؽ المناضميف‪..‬‬
‫مرة خطورة ما يكتب األدباء والثوار‪.‬‬ ‫ستقرؤوف ربما آلخر ّ‬
‫ػ ماذا تعني يا أبا راغب؟‬
‫ػ أعني بأف الطريؽ لف يكوف مميّداً ألقبلـ الثائريف‪ ،‬وأف دروبيـ محفوفة‬
‫بالمخاطر‪.‬‬
‫وحدث ما توقّع عمي بؾ‪ .‬لقد ُغرست األشواؾ في أيادي األدباء والثوار‪،‬‬
‫والعمماء المتنوريف‪ ،‬لكنيـ استطاعوا بعد ٍ‬
‫جيد جييد اقتبلعيا‪ ،‬وكميـ عزـ وتصميـ‬ ‫ّ‬
‫المضي قُ ُدماً نحو التحرير‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عمى‬
‫تسمّمت الصحيفة إلى قمب األستانة‪ ،‬ودقّت الباب العالي بعنؼ‪ ،‬وخمعت‬
‫وعمقت شرَخ‬‫عمامة الصدر األعظـ‪ ،‬وأشاعت البمبمة في صفوؼ السبلطيف‪ّ ،‬‬
‫الحدث‪ ،‬فكاف ىناؾ تياراف متناقضاف تقاسما تحميؿ الواقع ورسـ مبلمحو وأبعاده‪.‬‬
‫بكؿ عجرىا وبجرىا‪ ،‬وىذا ما أراح الوالة‬
‫يصر عمى الخبلفة اإلسبلمية ّ‬‫ّ‬ ‫قسـ كاف‬
‫والقادة األتراؾ‪ ،‬والقسـ اآلخر كاف يرى ضرورة الخروج مف الرداء التركي‪،‬‬
‫أنصار‬
‫ٌ‬ ‫والمعطؼ األوربي‪ ،‬وكانوا يحمموف بالخبلفة العربية‪ .‬وكاف لكؿ قسـ‬
‫فضيقوا الخناؽ عمييـ إلى درجة أف ىاجر‬
‫ومؤيدوف‪ ،‬وىذا ما أثار حفيظة األتراؾ‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫بعضيـ إلى دمشؽ وحمب ليكونوا باستقباؿ الفاتحيف العرب الذيف عمَت بشائر‬
‫نصرىـ سماء الوطف العربي‪.‬‬

‫ػ ‪ 81‬ػ‬
‫(‪)90‬‬
‫الصباغ‪ ..‬مازالت‬
‫ّ‬ ‫كاف عمي بؾ ينظر بإشفاؽ إلى ما آلت إليو حاؿ أحمد‬
‫عيناه دامعتيف‪ ،‬ونظراتو ساىمة‪ ،‬وجسده يرتجؼ دوف برد‪ ..‬يضغط بأسنانو عمى‬
‫تتمزؽ‪ ،‬ثـ ين ّكس رأسو‪ ،‬ويرفعو بتثاقؿ‪ ..‬لقد فقد‬ ‫كؿ ٍ‬
‫آونة حتى تكاد ّ‬ ‫شفتو السفمى ّ‬
‫األمؿ مف عودة زوجتو وولده‪ ،‬كاف كمّما نظر إلى صورتيما التي أبدعيا فناف‬
‫تقرحت أجفانو‪ ،‬وكاف يموـ نفسو‬ ‫الفحمي‪ ..‬يجيش بالبكاء حتى ّ‬‫ّ‬ ‫ديري بقممو‬
‫ويحمميا مسؤولية رحيميما‪..‬‬
‫ّ‬
‫يزر حمب يوماً‪،‬‬
‫مرة بالسفر إلى حمب‪ ،‬ليبحث عنيما‪ ،‬لكنو لـ ْ‬
‫ىـ أكثر مف ّ‬‫ّ‬
‫مرة صمـ عمى السفر ميما كانت‬ ‫ّ‬ ‫آخر‬ ‫وفي‬ ‫الضياع‪،‬‬ ‫مف‬ ‫نفسو‬ ‫عمى‬ ‫وخشي‬
‫جراء تعنيؼ والديو وغضبيما منو‪ ،‬فآثر االعتكاؼ‬
‫العواقب‪ ،‬لكنو تراجع مف ّ‬
‫والبكاء عمى آثارىما في البيت‪.‬‬
‫كاف يرى الدنيا ومف فييا سراباً خادعاً‪ ،‬ووىماً زائفاً‪ ،‬لكف خياليما ما غاب‬
‫بكؿ الشوؽ الكامف فيو‪،‬‬
‫يموحاف لو‪ ،‬فييروؿ ّ‬ ‫ٍ‬
‫يوماً عف عينيو‪ ،‬يرى طيفيما مف بعيد ّ‬
‫وعند ما يختفياف عف ناظريو‪ ،‬يجمس عمى األرض‪ ،‬ويييؿ التراب عمى وجيو‬
‫استدر الشفقة والعطؼ مف وجوه السابمة‪..‬‬
‫ّ‬ ‫وجسده‪ ،‬ناشجاً متيالكاً‪ ،‬حتى‬
‫تأمؿ وتفكير‪:‬‬
‫قاؿ عمي بؾ بعد طوؿ ّ‬
‫ػ اسمع يا أحمد‪ ..‬لقد أرسمت في طمبؾ‪ ،‬ألناشدؾ اهلل أف ترحـ نفسؾ‬
‫تقر بو عيناؾ‪ .‬أرجو أف تثؽ‬
‫ووالديؾ‪ ..‬النساء كثيرات‪ ،‬وسيمدف لؾ أكثر مف طفؿ ّ‬
‫بالمستقبؿ المشرؽ الذي ينتظرؾ‪ ،‬وأف تيتـ بنفسؾ وبأبيؾ الذي ما عرؼ الراحة‬
‫منذ بدء ىذيانؾ‪ ،‬واعمـ أنني لف أسمح باستم اررية ىذه الحالة لديؾ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بصوت‬ ‫رفع أحمد رأسو بتثاقؿ‪ ،‬وقد ترقرقت دمعتاف عمى عينيو‪ ،‬وقاؿ‬
‫خفيض‪:‬‬
‫ػ أعطني حبلً يا عمي بؾ؟‬
‫جداً يا ولدي‪ ،‬وأيسرىا أف تتزوج‬
‫ػ الحموؿ كثيرة ّ‬
‫أتزوج بعد أـ سوري؟ محاؿ ذلؾ‪.‬‬
‫ػ ّ‬
‫أقدره فيؾ وأجمّو‪ ،‬ولكف لمضرورة أحكاـ‬
‫ػ ىذا وفاء ّ‬

‫ػ ‪ 82‬ػ‬
‫الفرُار؟‬ ‫فأين‬ ‫كربتي‬ ‫فيم‬
‫ُ‬ ‫أفر إلييم‬
‫كنت من كربتي ّ‬
‫ُ‬

‫يا عمي بؾ‪ ،‬واهلل لف أنساىما ما حييت‪.‬‬


‫ػ اسمع يا بني‪:‬‬

‫الج ِ‬
‫نان‬ ‫َ‬ ‫ثب َت‬
‫عميك‪ ،‬فكن ليا ْ‬ ‫خطوب الدىر يوماً‬
‫ُ‬ ‫إذا ثارت‬

‫ىكذا أوصانا آباؤنا وأجدادنا‪ ..‬يجب أف نصمد ال أف نتياوى ويتممّكنا الجنوف‬


‫ماسة لعطائؾ‪ ،‬والوطف الجريح ينتظر‬ ‫ٍ‬
‫مف ّأوؿ خطب‪ ..‬أنت رج ٌؿ وأىمُ َؾ بحاجة ّ‬
‫منؾ الكثير‪..‬‬
‫لكف‪ ،‬أيف أجد مثؿ ّأـ سوري؟‬
‫ػ ْ‬
‫ػ ستجد أفضؿ منيا إف شاء اهلل‪ ..‬إف أردتَيا أرمنية فالفوج القادـ غداً‪،‬‬
‫أردت مف‬ ‫َ‬ ‫التشدد‪ ،‬وستنتقي أجمؿ الفتيات‪ ،‬واف‬
‫سأرافقؾ إلى الشاطئ رغـ المنع و ّ‬
‫ويتمنيف شاباً مي ّذباً مثقّف ًا‬
‫ّ‬ ‫بنات مدينتؾ‪ ،‬فكثيرات ال يبحثف إالَّ عف الستر‪،‬‬
‫وصنائعياً دؤوباً مثمؾ‪ .‬ما رأيؾ بابنة المختار؟ سعدى شابة ناضجة واعية‪ ،‬رأيتيا‬
‫لدي ولد‬‫زرت أبا عدناف‪ ،‬فأدىشني جماليا ومنطقيا‪ ،‬ولو كاف ّ‬ ‫عدة أياـ عندما ُ‬‫منذ ّ‬
‫ترددت لحظة في خطبتيا لو‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ب ما‬‫عز ٌ‬
‫َ‬
‫كؿ شير‬‫ومحدثة لبقة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ما رأيؾ بابنة أبي سمطاف؟ سمطانة شابة جميمة‪،‬‬
‫زرت أبا‬
‫ُ‬ ‫تختـ القرآف الكريـ‪ ،‬كنت واهلل أتشيّى رؤيتيا والحديث معيا كمّما‬
‫سمطاف‪ ..‬كانت تسألني دائماً عف آخر التطورات السياسية واالجتماعية‬
‫واالقتصادية وتحاور أفضؿ مف كثير مف الرجاؿ‪.‬‬
‫قاؿ أبو أحمد فرحاً‪:‬‬
‫عـ الرأي رأيؾ يا أبا راغب‪ ،‬ولو أني أميؿ كثي اًر البنة المختار‪ ،‬فالمختار‬ ‫ِ‬
‫ػ ون َ‬
‫رجؿ طيب وشيـ ووطني وثري أيضاً‪.‬‬
‫ييز رأسو أسفاً‪:‬‬
‫قاؿ أحمد وىو ّ‬
‫أحببت ّأـ‬
‫ُ‬ ‫أحبيا كما‬
‫جت أجمؿ البنات‪ ،‬فمف أستطيع أف ّ‬ ‫تزو ُ‬
‫ػ واهلل لو ّ‬
‫ونيؼ كانت تسير عمى راحتي وصحتي‪ ،‬وتخدـ أىمي‪ ..‬تفيـ‬ ‫سوري‪ ..‬طواؿ عاـ ّ‬
‫ػ ‪ 83‬ػ‬
‫أمد‬
‫أتفوه بكممة واحدة‪ ..‬ال تناـ قبؿ أف أعود‪ ،‬وال تأكؿ قبؿ أف ّ‬
‫ما أريد قبؿ أف ّ‬
‫عمي وعمى أىمي‪ ..‬آه يا عمي‬ ‫يدي إلى الطعاـ‪ ،‬وال تشرب قبؿ أف تعرض الماء ّ‬
‫بؾ‪ ..‬لو رأيتَيا كيؼ كانت تصمّي هلل‪ ،‬وكيؼ كانت تدعوه وتناجيو لعذرتني واهلل‪.‬‬
‫ال تعيش في الخياؿ‪ ،‬وتغرؽ في بحر الماضي‪.‬‬ ‫ػ يا أحمد كف واقعي ًا‪ .‬أرجو أ ّ‬
‫عميؾ أحداً في‬
‫َ‬ ‫آثرت‬
‫ْ‬ ‫تحبؾ حقّاً لَما‬
‫أف ذكرى زوجتؾ عطر‪ ،‬لكف لو كانت ّ‬ ‫صحيح ّ‬
‫أشؾ أبدًا في إخبلصيا‪ ،‬لكنيا رحمت‬ ‫الدنيا‪ ،‬حتى لو كاف أميا وأختيا‪ .‬أنا ال ّ‬
‫تقدر مسؤوليتي تجاىؾ‪ ،‬واعمـ أنني لف أدعؾ تعيش‬ ‫وتركتؾ وحيدًا‪ .‬أرجو أف ّ‬
‫بظنونؾ وىواجسؾ إلى ما شاء اهلل‪ ..‬أرجوؾ يا ولدي أف تعيش الراىف بكؿ ما‬
‫يحمؿ مف مسرات وآالـ‪ .‬أما سمعت‪:‬‬

‫يتكدُر‬
‫يجد من العيش ما يصفو وما ّ‬ ‫بد أن‬
‫ومن عاش في الدنيا فال ّ‬
‫يرى‬
‫عميؾ يا ولدي أالّ تستسمـ وترفع الراية البيضاء مف ّأوؿ ىزيمة حمّت بؾ‪..‬‬
‫وقت عصيب‪.‬‬‫أمامؾ ٌ‬
‫نحف اليوـ في ظؿ حكـ األتراؾ‪ ،‬وغداً ربما مع البريطانييف أو الفرنسييف‪ ،‬أو‬
‫أعمـ مف سيأتي بعدىما‪ ..‬أنت يا أحمد رجؿ ناضج‪ ،‬والوطف‬ ‫كمييما معاً‪ ،‬واهلل ُ‬
‫وطني غيور‪،‬‬ ‫أي‬ ‫ٍ‬
‫ٍّ‬ ‫كؿ جيد‪ ،‬يطمب مف ّ‬ ‫ماسة إليؾ‪ ،‬كما ىو بحاجة إلى ّ‬ ‫بحاجة ّ‬
‫ولتعمـ أف دورؾ في الحياة السياسية ميـ‪ ،‬وىذا يتطمب منؾ رباطة جأش‪ ،‬ومزيدًا‬
‫إف لؾ يا أحمد دو ًار أراه مي ّماً في حركة‬
‫مف الثبات‪ ،‬وتجاو اًز لمماضي المؤلـ‪ّ ..‬‬
‫ضد قوى االستعمار واالحتبلؿ‪ ،‬فبل تبخؿ عمى وطنؾ بما تممؾ مف‬ ‫النضاؿ ّ‬
‫الخمية الثورية ال يتذ ّكروف‬
‫ّ‬ ‫إف الشباب في‬
‫صدقني يا ولدي ّ‬ ‫مواىب وقدرات‪ّ ..‬‬
‫قدر ما يتذ ّكروف حاجة الوطف إلييـ‪ ..‬يا أحمد‪ ،‬الحياة لف‬ ‫نساءىـ وال أوالدىـ ْ‬
‫بأب وأـ وأخ‪ ..‬الحياة بحر متبلطـ األمواج‪ .‬البقاء‬ ‫تنتيي برحيؿ امرأة وولد‪ ،‬وال ٍ‬
‫لؤلقوى واألصمح واألتقى دائماً‪.‬‬
‫كؿ ّّ كممة قمتيا‪ ،‬فأنا واهلل أحبؾ مثؿ ولدي‪ ،‬كما‬‫أرجوؾ يا ولدي أف تعي ّ‬
‫ط القمب‪..‬‬ ‫طع نِيا َ‬
‫أحب أباؾ ىذا الجالس إلى جانبؾ‪ ،‬والذي أصبحت حالتو تق ّ‬ ‫ّ‬
‫ليتؾ رأيتو البارحة في المضافة وىو يبكي كطفؿ صغير مف أجمؾ‪ ..‬أرأؼ بو‬
‫أمؾ التي لـ تنـ ليمة ىانئة كبقية النساء منذ ىذيانؾ وصيحات‬ ‫أرجوؾ‪ ،‬وارحـ ّ‬
‫األوالد وىـ يعدوف خمفؾ‪ ،‬ويرجمونؾ بالحجارة قائميف‪ :‬جاء المجنوف‪ ..‬ركض‬
‫كؿ ّّ ما يقاؿ عنؾ‬ ‫المجنوف‪ ..‬اختفى المجنوف‪ ..‬كنت وال شؾ تسمع جيدًا ّ‬
‫وتتجاىؿ أقواليـ‪ ،‬أليس كذلؾ؟‬

‫ػ ‪ 84‬ػ‬
‫ثـ قاؿ بيدوء‪:‬‬
‫عدة مرات‪ّ ،‬‬‫ىز أحمد رأسو ّ‬ ‫ّ‬
‫ييمني ما يقولو البشر عني!‬ ‫ػ ال ّ‬
‫كؿ ّّ ما يقاؿ‪،‬‬‫جيداً ّ‬
‫ػ ال يا أحمد‪ .‬كبلـ الناس ألسنة الحؽ‪ ..‬يجب أف تعي ّ‬
‫وتف ّكر فيو‪ ..‬أرجو أف تثبت لمناس أنؾ عاقؿ ومناضؿ شريؼ‪ ،‬ولست أبموَ أو‬
‫يتصور بعضيـ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مجنوناً كما‬
‫تقدـ نحو‬
‫ثـ ّ‬ ‫صمت أحمد طويبلً‪ ،‬ثـ ما لبث أف رفع رأسو عالياً‪ ،‬ووقؼ‪ّ ،‬‬
‫عمي بؾ‪ ،‬وعانقو‪ ،‬وبكى عمى كتفو طويبلً‪ ،‬وعمي بؾ يرّبت عمى ظيره قائبلً‪:‬‬
‫بحاجة الوطف إليؾ قبؿ‬‫ِ‬ ‫مرة أخرى‬
‫ارحمنا‪ ..‬أذكرؾ ّ‬
‫ػ أفرغ عبراتؾ يا ولدي‪ ،‬و ْ‬
‫أي حاجة أخرى‪ ..‬نحف يا أحمد مازلنا نعيش مرحمة حرجة‪ ،‬وواجبنا أف نس ّخر‬
‫كنت‬
‫كؿ ّّ إمكاناتنا وقوانا كي نستطيع تجاوز المحنة‪ ،‬ويؤسفني أف أقوؿ لؾ ّإنؾ َ‬ ‫ّ‬
‫عنا‪ ،‬منشغبلً بحب زوجتؾ وولدؾ‪ ،‬وىما عندؾ بعد اهلل‪ ..‬كاف مف الواجب‬ ‫بعيداً ّ‬
‫تتحمؿ مسؤولية المرحمة‬ ‫متقدماً صفوؼ المناضميف مثؿ أبيؾ‪ ،‬واف ّ‬ ‫عميؾ أف تكوف ّ‬
‫دوامتيا جميعاً‪ ..‬لف أسمح لؾ أف تظؿ عمى ىذه الحاؿ‬ ‫الصعبة التي نعيش في ّ‬
‫كنت غير جدير بالرعاية والعناية‪ .‬ستحضر مجمسي مع أبيؾ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫المزرية‪ ،‬واالّ‬
‫ُ‬
‫وتتعرؼ عمى رجاؿ النضاؿ‪ ،‬عمى شباب نذروا أنفسيـ مف أجؿ الوطف‪ ،‬وىي‬ ‫ّ‬
‫مناسبة أيضاً لنخطب لؾ الميمة سعدى بنت المختار‪ ،‬وسنفرح بؾ‪ ،‬ونقيـ لؾ‬
‫االحتفاؿ البلئؽ‪ ،‬فما رأيؾ؟‬
‫جفّؼ أحمد دموعو بمنديمو القطني‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ظنؾ بي‪.‬‬‫ػ كما تشاء يا عمي بؾ وسأكوف عند حسف ّ‬
‫فقبؿ يده‪ ،‬وعانقو ناشجاً‪.‬‬
‫ثـ اتّجو نحو والده الذي كاف يبكي فرحاً‪ّ ،‬‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ أريدؾ يا أحمد أف تأتي الميمة بأبيى حمّ ٍة إلى المجمس مع أبيؾ‪.‬‬
‫دسو في جيبو‪ ،‬ولـ تُ ْج ِد محاوالت أحمد عف‬ ‫ثـ أخرج مف ُد ْرج طاولتو ماالً ّ‬
‫عدـ قبولو أماـ إصرار عمي بؾ الذي قاؿ لو‪:‬‬
‫ػ ىو مبمغ بسيط لتشتري المباس البلئؽ‪ ،‬واعمـ أنني لف أتخمّى عنؾ وال عف‬
‫حياً‪ ،‬وسأدفع الميمة ميرؾ ذىباً خالصاً‪ ،‬وسيشيد رفاقؾ فرحؾ‪..‬‬ ‫دمت ّ‬
‫ُ‬ ‫أبيؾ ما‬
‫ىيا يا ولدي‪ ،‬أريد أف أراؾ دائماً بخير‬ ‫ستكوف الميمة يا أحمد متميزة بحضورؾ‪ّ ..‬‬
‫وسعادة‪.‬‬

‫(‪)99‬‬
‫ػ ‪ 85‬ػ‬
‫أبي المختار إالّ أف يكوف حفؿ عقد قراف أحمد عمى ابنتو ُسعدى في بستانو‬
‫الكبير‪...‬‬
‫سعدى لـ تكف فتاةً عادية ‪ ..‬كانت رائعة الجماؿ‪ ،‬طويمة‪ ،‬آسرة‪ ،‬في وجييا‬
‫الغرب والطرفاء‪ ،‬وفي عينييا‬ ‫ُسمرة األرض‪ ،‬وعمى جسدىا المكتنز ظبلؿ َ‬
‫العسميتيف طعـ الشيد‪ ،‬وفي شبلّؿ شعرىا الفاحـ عتمة الميؿ وأس ارره لـ تكف لتوافؽ‬
‫عمى أحمد لوال رؤيتيا حالو بعد أف فارقتو ىاصميؾ ‪ ..‬كانت تشفؽ عميو‪ ،‬وتكبرُ‬
‫وفياً مثمو ‪..‬‬
‫فيو ىذا الوفاء‪ ،‬حتى تمنت مف اهلل أف ييبيا زوجاً ّ‬
‫ألوؿ مرة في حيات يا تضع األصبغة عمى شفتييا وجفينيا بفعؿ ترفندا وأميا‬
‫شاكي المتيف أشرفتا عمى زينتيا وخياطة ثوب عرسيا األبيض المو ّشى بالورد‪،‬‬
‫حتى إف أبا راغب لـ يعرفيا إالّ بعد ألي عندما مثمت أمامو‪ ،‬وكاف معجباً بيا‬
‫كؿ األرمف الذيف‬ ‫أحبيا ّ‬ ‫وبفصاحتيا وحسف إصغائيا وسرعة بدييتيا‪ ،‬كذلؾ ّ‬
‫يعمموف في مزرعة أبييا صغا اًر وكبا اًر‪ ،‬وذكو اًر واناثاً‪ ،‬وكانوا يقمّدونيا أطواقاً مف‬
‫الورد والريحاف كمما جاءت إلى البستاف ‪ ...‬لقد احتمّت سعدى مساحةً كبيرة في‬
‫قيمة عندما ينجحوف في‬ ‫قموبيـ منذ أف بدأت تعمّميـ المغة العربية‪ ،‬وتمنحيـ جوائز ّ‬
‫التعمّـ ‪.‬‬
‫كاف مف بيف الحضور أبو صادؽ الميكانيكي وعمالو األرمف وزوجاتيـ ‪..‬‬
‫آرتيف وزوجتو شاميراف‪ ،‬آغوب وزوجتو أناىيت‪ ،‬ديكراف وزوجتو أستخيؾ‪.‬‬
‫ّقبمتيا شاميراف قائمة‪:‬‬
‫يا إلو األرض والسماء‪ ،‬واهلل أنت يا سعدى سميراميس وليس أنا‪.‬‬
‫ثـ ىمست في أذنيا أستخيؾ قائمة‪:‬‬
‫أنت واهلل نجمة في السماء وبزوغ الشمس ال أنا‪.‬‬
‫احتضنت يدىا أناىيت قائمة‪:‬‬
‫أنت واهلل آلية الحب قبؿ ميبلد السيد المسيح ال أنا‪.‬‬
‫أما النساء األرمنيات البلتي يعممف في البستاف‪ ،‬فقد فرشف ليا طريقيا بالورد‬
‫لكنيا رحمت ببل‬
‫والرياحيف‪ .‬صحيح أف ىاصميؾ كاف ليا موقع كبير في قموبيف‪ّ ،‬‬
‫حباً بيا‪ ،‬وسداداً لفضؿ أبييا‬
‫عمييف أف يمنحف سعدى الموقع الشاغر ّ‬
‫ّ‬ ‫عودة‪ ،‬وكاف‬
‫عمييف‪ ،‬وعمى األرمف الذيف يعيشوف في حمايتو ورعايتو‪.‬‬

‫ػ ‪ 86‬ػ‬
‫جرى احتفاؿ رائع في بستاف أبي عدناف ‪ ..‬نحرت الخراؼ ‪ ،‬وتعالت أصوات‬
‫الزغاريد‪ ،‬وحمى وطيس الدبكة التي شارؾ فييا األرمف والعرب‪.‬‬
‫كاف أحمد يجمس إلى جانب أبيو سعيداً‪ ،‬وكاف عمي بؾ مستغرقاً في الضحؾ‬
‫لعدـ إتقاف األرمف حركات األرجؿ وانحناء الجذع‪ ،‬وكاف عازؼ المزمار ينحني‬
‫نقدية‪ ،‬لينيض مف جديد‬
‫باستمرار أماـ عمي بؾ واآلخريف‪ ،‬فيعّمقوف بعقالو وريقات ّ‬
‫ويميب الدبكة‪.‬‬
‫وقؼ عمي بؾ وصافح األرمف والحاضريف واحداً واحداً‪ ،‬وقبؿ أف ينصرؼ‬
‫وزمبلؤه ىمس ( مردخياف ) رئيس العماؿ في البستاف في أذف عمي بؾ كممات‬
‫ىز ليا رأسو موافقاً‪ ،‬ودخؿ غرفة الضيافة فتبعو‪ ،‬ولحقة المختار وأبو أحمد وأبو‬
‫صادؽ وأبو سمطاف وأبو ياسيف وأبو طارؽ وجمسوا‪ .‬قاؿ القس مردخياف بكؿ ثقة‬
‫ورجولة‪:‬‬
‫نود المشاركة مع‬
‫‪ -‬عمي بؾ ‪ ..‬ال يمكننا البقاء ىنا لنأكؿ ونشرب ‪ ..‬إننا ّ‬
‫مجموعات المقاومة ‪ ..‬فباسمي وباسـ األرمف‪ ،‬ليس في البستاف وحده‪ ،‬وانما في‬
‫أنحاء المواء كافة نرجو الموافقة‪.‬‬
‫ػ ابتسـ عمي بؾ‪ ،‬ووضع كفو عمى كتؼ مردخياف‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ اسمع يا أخي ‪ ..‬إنني باسـ المقاوميف العرب كميـ أشكرؾ وجماعتؾ‪ ،‬وأرجو أف‬
‫تبتعدوا عف ىذا الطريؽ الشائؾ‪ ،‬خوفاً عميكـ مف أمور ال يحمد عقباىا‪.‬‬
‫ػ لكننا أعددنا خطة لمتخفّي‪ ،‬ولف يعرفوا مف نحف‪ ،‬ثـ أحب أف أخبرؾ أف‬
‫فييف الحمية والنخوة‪ ،‬أرجوؾ‪.‬‬
‫لدييف الرغبة نفسيا‪ ،‬فبل تقتؿ ّ‬
‫ّ‬ ‫نساءنا‬
‫صدقني أييا القس بأننا سنمجأ إليكـ إف احتجنا لمساعدة أو مؤازرة‪ ،‬أما‬
‫ػ ّ‬
‫اآلف فنحف بخير إف شاء اهلل‪.‬‬
‫ممي ًا‬
‫ىواً بمبادرة العماؿ األرمف‪ ،‬وكاف طواؿ الطريؽ يفّكر ّ‬
‫خرج عمي بؾ مز ّ‬
‫بكؿ كممة قاليا القس مردخياف‪ ،‬وتذكر مف قبؿ ما قالو أبو ياسيف عف رغبة‬
‫زوجتو وأميا بالتطوع‪.‬‬
‫قاؿ المختار وىو يوقؼ حصانو عف السير‪ ،‬ممتفتاًً إلى عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ لِ َـ ال نستعيف باألرمف في بعض األمور الخدمية والصحية؟!‬
‫بحدة‪:‬‬
‫أجاب عمي بؾ ّ‬

‫ػ ‪ 87‬ػ‬
‫ػ ال يا أبا عدناف‪ .‬قمت لكـ ليس اآلف‪ ،‬سيأتي دورىـ الحقاً‪.‬‬
‫سار عمي بؾ‪ ،‬وسار وراءه المختار ورفاقو‪ ،‬وكاف ثمة سؤاؿ ممحاح في رأس‬
‫طوؽ أعناقيـ ؟!‬
‫عمي بؾ يدور وال ييدأ‪ :‬تراىا سداداً لديف ّ‬
‫سر صمتو‪ ،‬فمـ‬‫أدركوا بحسِّيـ ّ‬ ‫كاف الرجاؿ الذيف يسيروف خمؼ عمي بؾ َق ْد‬
‫بل‪:‬‬
‫تنحنح المختار قائ ً‬ ‫بل‪،‬‬
‫ينبسوا ببنت شفة‪ ،‬حتى إذا ما قطعوا شوطاً طوي ً‬
‫أيف شرد قائدنا ؟‬
‫ابتسـ عمي بؾ قائبلً‪:‬‬
‫كؿ ّّ‬
‫سرني بستانؾ كثي اًر‪ ،‬جماالً وترتيباً وخي اًر وفي اًر‪ ،‬واألكثر مف ذلؾ ّ‬ ‫ػ لقد ّ‬
‫العامميف فيو‪.‬‬
‫كؿ ّّ ذلؾ بفضؿ اهلل‪ ،‬ثـ فضمؾ وفضؿ األرمف‪.‬‬‫ػ ّ‬
‫طيبوف أوفياء‪ ،‬وأرجو مف اهلل أف يسدد خطاىـ‪ ،‬ويتـ عمييـ نعمتو‬ ‫ػ األرمف ّ‬
‫الماسة إلى عطاءاتيـ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ ..‬لكف مف أوحى ليـ بحياتنا‬
‫ػ يا أبا راغب ‪ ..‬ىـ أذكياء وعمميوف‪ ،‬ويشعروف أنيـ قادروف عمى فعؿ ما لـ‬
‫نستطع فعمو‪ ،‬لذا ابتكروا وسائؿ وأساليب ال تخطر عمى بالنا أبداً‪.‬‬
‫يص عمى حياتيـ ‪ ..‬إنيـ أمانة عندنا‪،‬‬
‫ػ لكنني أخاؼ عمييـ كثي اًر‪ ،‬وأنا حر ٌ‬
‫أنسيت ؟!‬
‫ػ ال ‪ ..‬لـ أنس‬
‫ػ قاؿ أبو ياسيف والحماس يتمّمكو ‪:‬‬
‫ػ تصور يا أبا راغب أف أـ ياسيف وأميا أصبحتا خبيرتيف في إصبلح السبلح‬
‫وصنع الذخائر والمتفجرات‪ ،‬ورجالنا ال يمتمكوف ىذه الخبرات‪ ،‬ونحف بأمس‬
‫الحاجة إلييا أـ ياسيف وأميا خبيرتاف في إسعاؼ المرضى وتضميد الجراح‪ ،‬ونحف‬
‫بحاجة إلى خبرتيما‪ .‬أـ ياسيف وأميا خبيرتاف في التخفي ونقؿ المؤف والمستمزمات‬
‫الضرورية لمثوار‪ ،‬ونحف بحاجة ماسة إلى ىذه الخبرة‪ .‬أرجوؾ يا أبا راغب لممرة‬
‫الثانية دع األرمف يمارسوا رغبتيـ الصادقة في مساعدة الثوار‪.‬‬
‫‪ -‬ال أستطيع أبداً يا أبا ياسيف ‪ ..‬لو اكتشؼ األتراؾ نواياىـ أو أمسكوا‬
‫بواحد منيـ وىو يمارس تمؾ الرغبة‪ ،‬لحمّت بيـ كارثة‪ ،‬وليس مف حقنا أبداً أف‬
‫نعرضيـ النتقاـ األتراؾ‪ .‬عندما يرحؿ الجيش التركي عف أرضنا‪ ،‬سيكوف لنا رأي‬ ‫ّ‬
‫ىيا‪..‬‬
‫ّ‬ ‫اآلف‬
‫و‬ ‫غباتيـ‪.‬‬‫ر‬ ‫ي‬ ‫وسنمب‬
‫ّ‬ ‫آخر‪،‬‬

‫ػ ‪ 88‬ػ‬
‫اتّجو عمي بؾ نحو الساقية الكبيرة التي تحاذي الفرع الصغير لمنير‪ ،‬وفي‬
‫ظؿ شجرة توت ىرمة توقؼ‪ ،‬فوقؼ الجميع ‪...‬‬
‫تأمؿ الشجر والنير وشمس الغروب وىي تخمع رداءىا األرجواني بخجؿ‬
‫لتدخؿ خيمة الميؿ‪ ،‬ثـ قاؿ‪:‬‬
‫بل‪ ،‬وعمينا أف نكوف ضياءه حتى لو‬
‫ػ اسمعوا يا إخوتي‪َ ،‬ق ْد يكوف الميؿ طوي ً‬
‫كانت األضواء خافتة ‪...‬‬
‫عمينا يا إخوتي أال نستعجؿ انببلج الفجر‪ ،‬فالصباح سيتنفّس ال محالة‪ ،‬وال‬
‫عد لكـ‪ ،‬ال أريد أف أثقؿ كواىمكـ بأحماؿ قَ ْد تقصـ ظيور‬
‫مما ىو م ٌ‬
‫أريد منكـ أكثر ّ‬
‫ٍ‬
‫وتخؼ ويقظة وحذر ‪ ...‬أعداؤنا ليسوا‬ ‫بعض منكـ‪ .‬يجب أف نمعب المعبة بميارة‬
‫تصدقوف‬
‫ىينيف‪ ،‬وال متغافميف‪ .‬البارحة كاف الوالي يقوؿ لي كبلماً مبطناً ‪ ..‬ىؿ ّ‬‫ّ‬
‫شيء عنا ؟! ردد عمى مسامعي بعض ما قمتو لكـ مرةً في‬ ‫ٍ‬ ‫كؿ ّّّ‬
‫ّ‬ ‫يعرؼ‬ ‫أنو‬
‫المضافة عندما اختمفتـ في مسألة الوقوؼ إلى جانب الحمفاء أو المحور‪ ..‬ىناؾ‬
‫مف يسترؽ السمع إلىأحاديثنا‪ ،‬فكونوا يقظيف‪ ،‬ولوال التوجييات إلييـ باسترضائنا‬
‫لفعموا بنا األعاجيب‪ .‬أنا لست خائفاً عمى نفسي واهلل بقدر ما أنا خائؼ عميكـ ‪..‬‬
‫عمى أبناء بمدي‪ ..‬عمى وطني‪.‬‬
‫قاؿ أبو ياسيف ‪:‬‬
‫ػ أفيـ مف كبلمؾ يا أبا راغب أننا سنوقؼ تحركاتنا في الريؼ والمدينة ؟‬
‫ػ ال‪ .‬ال يا أبا ياسيف‪ ،‬إنما قصدت مضاعفة الحيطة والحذر‪.‬‬
‫ػ ال تخؼ عمينا أييا القائد العظيـ واألب الرحيـ‪ .‬أشعؿ المختار لفافة تبغ ونفث‬
‫ظؼ أنفو وفمو بمنديمة القطني‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫دخانيا وسعالو بآف واحد‪ّ ،‬ثـ ىدأ‪ ،‬ون ّ‬
‫ػ لف تتوقّؼ الثورة‪ ،‬وسندعـ لجاننا في الريؼ والمدينة‪ ،‬واف احتجنا‪ ،‬فأرى أف‬
‫نطمؽ الوافديف مف غير األرمف لمقياـ بواجباتيـ‪.‬‬
‫ػ صاح عمي بؾ محتدًا‪:‬‬
‫كؿ ّّ الوافديف مف أرمف وأكراد وشركس و جاجاف ومسيحييف‬ ‫ػ يا مختار ‪ّ ..‬‬
‫باختبل ؼ طوائفيـ ومذاىبيـ‪ ،‬وحتى الييود‪ ،‬ىـ أمانة في أعناقنا‪ ،‬والواجب أال‬
‫نستغؿ ضعفيـ وقمّة عددىـ مف أجؿ مآربنا‪.‬‬
‫ػ لكف الوطف لمجميع‪ ،‬وىو بحاجة إلى جيودىـ وعطائيـ‪.‬‬
‫ػ صحيح ما تقولو‪ ،‬ولكف ليس اآلف‪ .‬افيمني يا مختار‪ .‬أرجوؾ‪.‬‬

‫ػ ‪ 89‬ػ‬
‫تنحنح أبو صادؽ الميكانيكي‪ ،‬واقترب مف عمي بؾ مبتسماً‪ ،‬فابتسـ عمي بؾ‬
‫وقاؿ ‪:‬‬
‫غنية‬
‫ػ إف في عينيؾ حكاي ًة يا أبا صادؽ؟ يا أبا راغب إف ورشتي والحمد هلل ّ‬
‫ال ثـ لؤلرمف ثاني ًا ‪ ..‬أريد أف أذيع‬
‫بمواردىا ورجاليا‪ ،‬وكما قمت سابق ًا الفضؿ هلل أو ً‬
‫مرة ‪..‬‬‫عمى مسامعكـ س اًر أقولو ألوؿ ّ‬
‫اقترب الرجاؿ‪ ،‬وتحمّقوا حوؿ أبي صادؽ‪ ،‬وأصاخوا السمع لو‪ .‬قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ أرجو أف تفصح مع اإليجاز‪ ،‬ألف الميؿ أدركنا‪..‬‬
‫ػ أجؿ ‪ ..‬اسمعوا‪ :‬لقد صمـ آرتيف وأغوب وديكراف سبلحاً ال يطمؽ النار‪،‬‬
‫ّإنما يقطّع األوصاؿ‪ ،‬وقد أجروا اختبا اًر عمى حمار أجرب نبذه أصحابو‪ ،‬وكانت‬
‫النتيجة إيجابية‪ ،‬وقد استطاعوا حتى اآلف تصنيع أكثر مف عشريف قطعة‪.‬‬
‫ضحؾ عمي بؾ طويبلً‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ يا أبا صادؽ َّإنيا ( ّ‬
‫الدوسة) وىي معروفة‪ ،‬وال تصمح إالّ لمحيوانات‪.‬‬
‫طوروىا بحيث أصبح ليا مخالب وأذرع كاألخطبوط‪،‬‬ ‫ػ أعرؼ ذلؾ‪ ،‬ولكنيـ ّ‬
‫وعندما تراىا ستعجب بيا‪ ،‬وتثني عمى مخترعييا‪ ،‬فميا طريقة تختفي بيا وال أحد‬
‫يراىا‪.‬‬
‫ػ أخشى يا أبا صادؽ أف يقع في ِ‬
‫شراكيا األصدقاء ‪.‬‬
‫ػ ال تخؼ‪ ،‬نحف نعرؼ أيف سنضعيا‪ ،‬وال نحتاج إالّ إلى أمر منؾ‪.‬‬
‫ػ بارؾ اهلل فيؾ‪ ،‬سيكوف لؾ ذلؾ عندما تحيف الساعة‪ ،‬أما اآلف ىيا بنا إلى‬
‫المرة‪ ،‬ونتحدث عف آخر األخبار‪.‬‬
‫المضافة لنشرب القيوة ّ‬

‫ػ ‪ 91‬ػ‬
‫(‪)95‬‬
‫لـ ييدأ أبو ياسيف طيمة الشيريف األخيريف مف عاـ ‪ ..1917‬فقد كاف ىو‬
‫ويييئوف األسمحة‪ ،‬وقد استطاع‬‫ّ‬ ‫وزوجتو وأميا يصنعوف الذخائر والمتفجرات‪،‬‬
‫كؿ ّّ ما طمب منو إلى أحياء المدينة والريؼ القريب‪ ،‬ثـ‬
‫بمقدرة فائقة أف يوصؿ ّ‬
‫جواؿ أعرج‪،‬‬
‫امتد نشاطو حتى وصؿ إلى البوكماؿ‪ ،‬وكاف يتخفّى عمى ىيئة بائع ّ‬‫ّ‬
‫يسوؽ حميره مف مكاف إلى آخر‪ ،‬دوف أف يمفت النظر إليو ‪...‬‬
‫استطاع الثوار مف خبلؿ ذخائره وأسمحتو أف ين ّفذوا عمميات بطولية رائعة‬
‫أقضت مضاجع األتراؾ‪ ،‬وكاف تحسيف بؾ مدير الماؿ يرسؿ الجباة عمى صيوات‬
‫جيادىـ المثقمة بالمؤف لتوزيعيا عمىأسر المناضميف وسراة القوـ‪ ،‬وفي الوقت نفسو‬
‫لحماية أبي ياسيف إف تعرض لسوء ‪...‬‬
‫عيف المجمس‬ ‫كؿ ّّ عمميات الثوار‪ ،‬وقد ّ‬
‫أما عمي بؾ فكاف يشرؼ بنفسو عمى ّ‬
‫الصباغ مسؤوالً مساعدًا في غرفة العمميات‪ ،‬واضطمع أبو صادؽ‬ ‫الثوري أحمد ّ‬
‫الميكانيكي بنصب الفخاخ بأماكف تـ تحديدىا بدقة‪ ،‬وكاف أبو سمطاف رجؿ‬
‫استطبلع ناجحاً‪ ،‬وأبو طارؽ يجمع التبرعات مف أجؿ تمويؿ العمميات الثورية‪ ،‬أما‬
‫كؿ ّّ مكاف حوؿ ىزيمة األتراؾ في المناطؽ‬ ‫يبث اإلشاعات في ّ‬ ‫المختار فكاف ّ‬
‫بث اليمع بنفوس الحامية‬‫والنواحي والقرى‪ ،‬وكاف إلشاعاتو المحكمة أثر كبير في ّ‬
‫التركية ‪..‬‬
‫كاف الجميع يداً واحدة‪ ،‬جعموا األتراؾ يستغيثوف‪ ،‬ويبدوف مسالمةً مكشوفة‪،‬‬
‫تـ‬
‫وعندما جاءت قافمة مف األرمف لـ يرحؿ منيا أحد إلى حمب أو بيروت‪ ،‬فقد ّ‬
‫استيعابيا في المدينة وحدىا أماـ أعيف األتراؾ دوف أف ينبسوا ببنت شفة‪ ،‬حتى‬
‫تعج باألرمف‪ ،‬وكاف التجار واإلقطاعيوف يؤازروف األىالي باحتضانيـ‪،‬‬ ‫أصبحت ّ‬
‫والزواج مف فتياتيـ‪ ،‬فأخذوا أسماء العائبلت الديرية‪.‬‬
‫كؿ القافمة‬
‫قاؿ عمي بؾ بعد أف تنفس الصعداء‪ :‬تصوروا أف طفميف بقيا مف ّ‬
‫‪ /‬طفؿ وطفمة ‪ /‬مات أبواىما في الطريؽ‪ ،‬أخذىما عبد الجاويش وأخوه عمي‪،‬‬
‫وسجبلىما في عائمتييما‪ ،‬جزاىما اهلل كؿ خير ‪..‬‬
‫ّ‬
‫قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬
‫كمؿ مساعينا بالنجاح‪.‬‬
‫ػ الحمد هلل الذي ّ‬

‫ػ ‪ 91‬ػ‬
‫الصباغ الذي لـ تفارؽ الكآبة ومسحة الحزف‬
‫ّ‬ ‫كاف الجميع فرحيف إال أحمد‬
‫كؿ ّّ طفؿ صورة‬
‫كؿ ّّ فتاة أرمنية صورة امرأتو‪ ،‬وفي ّ‬
‫وجيو ‪ ..‬كاف يرى في وجو ّ‬
‫فيبددىا بسرعة عندما يذكر لو بأف‬
‫سر حزنو وكآبتو‪ّ ،‬‬ ‫ولده‪ ،‬وكاف عمي بؾ يدرؾ ّ‬
‫الفرج قريب ‪،‬وأف اليأس تممّؾ الوالي وجنوده‪.‬‬
‫قاؿ أبو سمطاف َد ِىشاً‪:‬‬
‫ظؿ يتراءى‬
‫كؿ ّّ ّ‬
‫أصدؽ اف األتراؾ كانوا يموذوف بالفرار ىرباً مف ّ‬
‫ّ‬ ‫ػ لـ أكف‬
‫ليـ‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫أصدر الوالي أم اًر بإطبلؽ سراح السجناء‪ ،‬وسيخرجوف في صبيحة الغد‪،‬‬
‫وعميكـ أف تستقبموىـ بالحفاوة والتكريـ‪ .‬دعوا نساءكـ يزغردف ويوزعف الحموى أماـ‬
‫السجف الكبير‪ ،‬وال تخشوا أحداً‪.‬‬
‫وكور جسمو بداخميا‪:‬‬
‫قاؿ المختار بعد أف لؼ عباءتو حوؿ جسده ّ‬
‫ٍ‬
‫مكاف‬ ‫كؿ ّّ‬
‫ػ ىؿ السبب قوة ضربات الثوار‪ ،‬أـ تقيقر القوات التركية في ّ‬
‫وطئتو أقداـ الجيش العربي ؟‬
‫ود‬
‫ػ ىما سبباف مف أسباب كثيرة‪ ،‬رّبما رغبتيـ في حقف الدماء‪ ،‬وكسب ّ‬
‫الجماىير‪ ،‬وقد يكوف السبب تعييف ‪ /‬حممي بؾ ‪ /‬والياً جديداً عمى لواء الزور‪،‬‬
‫وىذا الوالي ػ كما بدا لي ػ عاقؿ حكيـ‪.‬‬
‫قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬
‫ػ إف كاف عاقبلً حكيماً فميسارع بالرحيؿ عف أرضنا‪ ،‬واالّ فسوؼ نجعمو‬
‫مجنوناً واهلل‪.‬‬
‫ابتسـ عمي بؾ قائبلً‪:‬‬
‫ػ أقرأتـ ما كتب المناضموف في جريدة الجوؿ ىذا اليوـ ؟ اق أر يا مختار بعض‬
‫عناوينيا‪.‬‬
‫أخرج المختار نسخة مف الجريدة‪ ،‬وأخذ يق أر بصوت ٍ‬
‫عاؿ مقالة عمي بؾ‪،‬‬
‫ومقالةً لمشيخ محمد سعيد‪ ،‬وأخرى لتحسيف بؾ‪ ،‬وقصيدة لمشاعر الفراتي ‪...‬‬
‫ػ قاؿ أبو سمطاف‪:‬‬
‫ػ عجبي مف األتراؾ ! وقد قرؤوىا بالتركية‪ ،‬لماذا لـ يتّخذوا أي إجراء مضاد‬
‫؟‬

‫ػ ‪ 92‬ػ‬
‫ضحؾ عمي بؾ‪ ،‬واقترب مف أبي سمطاف قائبلً‪:‬‬
‫اء مؤقتاً‪ ،‬وىو إغبلؽ الجريدة‪ ،‬ال أعمـ اإلجراءات األخرى‬
‫ػ لقد اتّخذوا إجر ً‬
‫متى ستتـ‪.‬‬
‫لكف أحدًا لـ ُيعتقؿ‪ ،‬والثوار‬
‫دؽ عمي بؾ ناقوس الخطر‪ ،‬الجريدة أغمقت‪ّ ،‬‬
‫لقد ّ‬
‫تدؽ ساعة الصفر‪.‬‬ ‫عمى أىبة االستعداد لبلنقضاض عمى الحامية التركية عندما ّ‬
‫الجيش العربي يدخؿ حمب بعد دمشؽ‪ ،‬والقوات البريطانية تصؿ إلى ‪/‬عانة‪،/‬‬
‫وال أحد يأتي إلى دير الزور ‪ ..‬ما السبب؟ ال أحد يدري!‬
‫الوضع مريب‪ ،‬والشكوؾ تتضاعؼ‪ ،‬والثوار في يقظة وحذر‪ ،‬والوالي التركي‬
‫يتدارس الوضع الخطير مع أركانو ‪..‬‬
‫أكثر مف ألؼ وخمسمائة بيف جندي وضابط تركي عمى أىبة االستعداد‬
‫لتنفيذ ما يوكؿ إلييـ مف مياـ تقررىا القيادة التركية‪ ،‬وحممي بؾ يطمب منيا البقاء‬
‫في الثكنات وعدـ التحرؾ‪.‬‬
‫جمس الوالي حممي بؾ يعتصر رأسو‪ ،‬يريد حبلً لمعضمة مازالت تكبر دوف‬
‫أي إشراقة أمؿ أو عبلج ناجع‪ .‬أمر حممي بؾ أف يجتمع بكبار قادتو وطمب أف‬
‫ينضـ إلى االجتماع رئيس البمدية‪ ،‬وعضو البرلماف محمد بؾ‪ ،‬ومدير الماؿ‪،‬‬
‫ّ‬
‫والقضاة عمى وجو السرعة‪.‬‬
‫التأـ شمؿ االجتماع بعد صبلة الظير‪ ،‬وبدا الوالي ميموماً‪ ،‬ييرش جمدة‬
‫كؿ ّّ ىنيئة ‪ ..‬خطا خطوات غير متزنة‪ ،‬ما لبث أف غادر مكتبو إلى قاعة‬ ‫رأسو ّ‬
‫االجتماعات‪ .‬شرح لممجتمعيف الموقؼ العسكري والسياسي في المنطقة بعد خروج‬
‫القوات التركية مف سورية والعراؽ عدا لواء الزور‪ ،‬وقاؿ إف لديو احتماالً قوياً‬
‫ليجوـ عمى قواتو مف أطراؼ عربية أو إنكميزية‪ ،‬وليس لديو قوات مساندة‪ ،‬واف ما‬
‫المتمرديف ليو دليؿ أكيد عمى صدؽ ىذا االحتماؿ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حدث لقواتنا عمى يد‬
‫مطوالً‪ ،‬وتـ ترجيح رأي االنسحاب التركي مف لواء الزور‬ ‫ّ‬ ‫نوقش األمر‬
‫بصورة مؤقتة‪ ،‬وتكميؼ رئيس البمدية بإدارة شؤوف المواء ‪..‬‬
‫بسرعة عجيبة جمعت الوثائؽ والمستندات‪ ،‬وتـ إرساليا إلى ‪ /‬أورفو ‪ ،/‬وبعد‬
‫أياـ غادرت القوات التركية دير الزور‪ ،‬واحتفؿ أبناء المواء بيوـ السادس مف تشريف‬
‫وعدوه عيد الخبلص‬
‫الثاني عاـ ‪ّ ،1918‬‬
‫العيوف ترقب بحذر شديد الموقؼ الصعب الذي يمر بو لواء الزور‪ ،‬واليمع‬
‫الكبير الذي اقتحـ حصوف المحتؿ وىو ينسحب مف دير الزور‪ .‬وانقسـ الناس‬

‫ػ ‪ 93‬ػ‬
‫ثانية بيف مؤيد لبقاء األتراؾ المسمميف‪ ،‬ومعارض ليـ‪ .‬بؿ وجدت ىذه الفئة أف‬
‫الدوؿ األوروبية تحمؿ في احتبلليا عناويف ميمة أبرزىا‪ :‬الحرية و الديمقراطية‬
‫أف مقاومة االحتبلؿ األوروبي أسيؿ بكثير‬‫والتنمية ‪ ..‬وقد أ ّكدت ىذه الفئة عمى ّ‬
‫الديف‪.‬‬
‫مف مقاومة االحتبلؿ العثماني الذي حكمنا باسـ ّ‬
‫كاف أبو ياسيف متأث اًر بأفكار تحسيف بؾ االشتراكية‪ ،‬التي وجد فييا خبلصاً‬
‫مستمر بينو وبيف المختار أبي‬
‫ّاً‬ ‫لكؿ المقيوريف والمعذبيف في األرض‪ ،‬وكاف الجداؿ‬
‫مؤيد‬
‫عدناف الذي يرى في ىذه األفكار إلحاداً وتبعية‪ ،‬وانقسـ المناضموف إلى ّ‬
‫لممختار ومعارض لو‪.‬‬
‫كاف المثقفّوف يروف في أفكار أبي ياسيف نو اًر يضيء ليـ دياجير عتمة‬
‫الطريؽ‪ ،‬وكاف المختار واتباعو يرددوف بحماسة‪:‬‬
‫ػ ّتباً لمييود الذيف صاغوا أفكار الشيوعييف في روسيا !‬
‫قاؿ المختار ألبي ياسيف عندما احتدـ النقاش‪:‬‬
‫ػ يا أبا ياسيف ‪ ..‬أتعرؼ أصؿ ‪ /‬ماركس وأنجمز‪/‬؟‬
‫المتنور‪ .‬نحف لـ نسأؿ عف‬
‫ّ‬ ‫ييمني فكرىما‬
‫ػ ال ييّمني أصميما وفصميما‪ ،‬ما ّ‬
‫ىمنا‬
‫كؿ ّّ ّ‬
‫أصؿ الخوارزمي وابف سينا ونفطوية وسيبوية والفارابي وزرياب‪ ،‬كاف ّ‬
‫وفنيـ‪.‬‬
‫أف ننيؿ مف أدبيـ وعمميـ ّ‬
‫ػ لكف ىؤالء أسمموا‪ ،‬وأصبحنا جميعاً بنعمة اهلل إخواناً‪.‬‬
‫ػ يا مختار أرجوؾ افيمني‪ .‬نحف نبحث عف الفكر الذي يرتقي بنا ويسمو‪ ،‬ال‬
‫عف الفكر الذي حارب العمـ والمعرفة‪ ،‬وأشاع األمية في وطني يا مختار كفاؾ‬
‫ظبلماً‪ .‬نريد أف نرى النور‪.‬‬
‫ػ لكف ‪ /‬ماركس وأنجمز ‪ /‬مخرباف لمعقوؿ ولؤلمة العربية واإلسبلـ ‪ ..‬إنيما ال‬
‫يؤمناف با لقومية العربية التي نعمؿ ونضحي مف أجميا ‪ ..‬إنيما ال يؤمناف بالغيب‬
‫تج عفوه‪.‬‬ ‫ويحثنا عميو ديننا الحنيؼ‪ ،‬فاتّ ِ‬
‫ؽ اهلل يا أبا ياسيف‪ ،‬وار ِ‬ ‫ّ‬ ‫كما نؤمف بو‪،‬‬
‫ػ يا أبا عدناف‪ ،‬إف كنت ال تؤمف بأفكارىما‪ ،‬فمـ تصادر حرّية اآلخريف؟‪.‬‬
‫ػ قاتميما اهلل واهلل إني ال أحب ذكرىما أبدًا‪.‬‬
‫يا أبا عدناف‪ ،‬أنسيت فضؿ االشتراكييف في روسيا عمينا‪ ،‬ألـ يكشفو لنا‬
‫أسرار اتفاقية سايكس بيكو‪ ،‬وخداع بريطانيا وفرنسا لمشريؼ حسيف ؟ !‬
‫ػ صحيح ما تقوؿ‪ .‬لكنيـ كانوا يبغوف مف وراء ذلؾ مصالحيـ‪.‬‬

‫ػ ‪ 94‬ػ‬
‫ػ ما مصالحيـ عندنا؟‪.‬‬
‫ػ ستكشؼ لؾ األياـ ىذه المصالح يا أبا ياسيف‪.‬‬
‫كؿ ّّ‬
‫كاف عمي بؾ يتدخؿ كمما وصؿ النقاش إلى الذروة‪ ،‬رغـ رضاه عمى ّ‬
‫محاورة فكرية تدور بيف أعضاء الخمية‪ ،‬ألنيا توسع آفاؽ العضو‪ ،‬وتسمو‬
‫بمداركو‪ .‬قاؿ في نياية المحاورة‪:‬‬
‫ػ كبلىما عمى صواب ‪ ..‬الفكر االشتراكي خير مف الفكر الرجعي الذي‬
‫يشدنا إلى الجيالة والفقر والحرماف‪ ،‬وليتو كاف يشدنا نحو اإليجابية‪.‬‬
‫الفكر االشتراكي ينشد العدالة لمجميع‪ ،‬وىو إنساني غير متقوقع‪ ،‬وأنا مع‬
‫الفكر االشتراكي وفؽ ما يناسب واقعنا وخصوصيتنا العربية واإلسبلمية‪ ،‬فالغيب‬
‫الذي ال يؤمف بو الفكر االشتراكي نحف نؤمف بو ألننا مسمموف‪.‬‬
‫كؿ ّّ شيء لمدولة وىذا ظمـ وعدواف‪ .‬الفكر‬ ‫الفكر االشتراكي يؤمف باف ّ‬
‫بحؽ‬
‫االشتراكي ضد الرأسمالية واإلقطاع ونحف نؤيده وفؽ معايير خاصة تتعمؽ ّ‬
‫الممكية واستثمار رؤوس األمواؿ‪ ،‬وىكذا فمكؿ فكر سمبياتو وايجابياتو‪ .‬نحف العرب‬
‫المسمميف يجب أال نياجـ الفكر مف أية جية كاف مصدره إذا كاف لنا فيو خير‬
‫وصبلح وخبلص‪.‬‬
‫كاف عمي بؾ مثقفّاً‪ ،‬واسع اإلطّبلع‪ ،‬لبقاً في الحديث والمحاورة‪ ،‬يحبو‬
‫الجميع‪ ،‬ويجمّونو ألنو طيب القمب نقي السريرة‪ ،‬وطني مخمص وغيور‪ ،‬لذا كاف‬
‫ويعدونيا مأثورة‪ ،‬وغالباً ما ينيي جمسات‬
‫ّ‬ ‫الجميع يستمعوف إليو‪ ،‬ويرددوف أقوالو‬
‫النقاش والحوار والجداؿ بقببلت عمى المحى والشوارب‪ ،‬وبوليمة خاصة‪.‬‬
‫خؼ عمي بؾ قمقو حوؿ تسارع األحداث في المنطقة العربية بشكؿ عاـ‬ ‫لـ ي ِ‬
‫ُ‬
‫ولواء الفرات بشكؿ خاص‪ ،‬لذلؾ كاف حريصاً عمى تكثيؼ المقاءات بشرائح‬
‫المجتمع كافة في مضافتو العامرة‪ ،‬وزيارة المضافات األخرى التي انتشرت في‬
‫المدينة‪ ،‬إذ ك اف لكؿ مضافة طابع سياسي واقتصادي واجتماعي‪ ،‬وكاف يحث‬
‫الجميع عمى الوحدة الوطنية والتبلحـ ألف الوطف لمجميع ومسؤولية الجميع أماـ‬
‫الصباغ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫بل‪ .‬قاؿ لو أبو أحمد‬
‫يمر بو حاض اًر ومستقب ً‬
‫االمتحاف الصعب الذي ّ‬
‫ػ ىؿ تتصور دخوؿ اإلنجميز إلى دير الزور ؟‬
‫عدة خطوات مف ّك اًر‪:‬‬
‫قاؿ عمي بؾ وىو يخطو ّ‬
‫ػ االحتماؿ قائـ‪ ،‬لكف ليس اآلف ألف الحكومة الشريفية ستدخؿ مؤقتاً‪ ،‬وقد‬
‫يأتي الشريؼ عمي ناصر إلينا‪.‬‬

‫ػ ‪ 95‬ػ‬
‫ػ وحكومة الحاج فاضؿ ؟‬
‫ضحؾ عمي بؾ طويبلً‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ كفانا استمتاعاً بيا‪َّ ،‬إنيا واهلل حكومة فريدة في العالـ‪ ،‬تحتاج إلى سيرة‬
‫كاممة‪ ،‬ليس وقتيا اآلف ‪.‬‬
‫قاؿ أبو طارؽ‪:‬‬
‫تظؿ يا أبا راغب‪ ،‬و واهلل َّإنيا أفضؿ مف أية حكومة في سورية‪ .‬يكفي‬
‫ػ ليتيا ّ‬
‫تكـ األفواه‪ ،‬أو تصـ اآلذاف‪ ،‬والخير عمى يدييا وفير‬‫أنيا ال تعتقؿ أحداً‪ ،‬وال ّ‬
‫والحمد هلل‪.‬‬
‫ػ يا أبا طارؽ‪ ،‬أنا ال أنتقص مف قدر الحاج فاضؿ‪ ،‬فيو وطني غيور‪ ،‬لكنو‬
‫ليس حازماً وقاد اًر عمى الفعؿ السياسي الذي نحف بحاجة إليو اآلف‪.‬‬
‫قاؿ أبو سمطاف الجابي‪:‬‬
‫ػ أنا مع أبي طارؽ‪ ،‬فواهلل لقد ضاعؼ مرتباتنا وأعطانا عبلوات ولباس ًا‬
‫قرب األقارب‪ ،‬وباعد األباعد‪.‬‬
‫ومؤونة‪ ،‬وال عيب فيو سوى ّأنو ّ‬
‫ضحؾ عمي بؾ قائبلً‪:‬‬
‫سنخصص سيرة كاممة حوؿ حكومتنا الرشيدة‪ ،‬أما اآلف فدعونا‬‫ّ‬ ‫ػ قمت لكـ‬
‫نستفسر عف أحوالكـ‪.‬‬
‫الصباغ فرآه مشرقاً‪ ،‬قاؿ لو‪:‬‬
‫ّ‬ ‫نظر عمي بؾ إلى وجو أبي أحمد‬
‫ػ ما مدى رضاؾ عمى أحمد ؟‬
‫ػ اهلل يرضى عميو‪ ،‬وعمى المختار الذي أكرمنا بجوىرة ثمينة‪.‬‬
‫قاؿ المختار عمى عجؿ‪:‬‬
‫محبتي لو عندما رأيتو كيؼ‬
‫ػ أحمد يستحؽ الحب والتقدير‪ ،‬واهلل لقد زادت ّ‬
‫يضحي بنفسو مف أجؿ الوطف قاؿ أبو أحمد‪:‬‬
‫يسمي عمي بؾ ( المنقذ ) منذ أف‬ ‫ػ ما يفعمو أحمد ىو واجب عميو‪ ،‬وىو ّ‬
‫مف اهلل بيما‬ ‫تزوج سعدى َ ِ‬
‫ونع َـ بالراحة واالستقرار‪ ،‬واآلف ىو مجنوف بالتوءـ المذيف ّ‬
‫عميو‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫كؿ الخير‪ ،‬ولقد أثبت جدارة بالعمؿ السياسي والعسكري‪،‬‬
‫أتوسـ في أحمد ّ‬
‫ػ ّ‬
‫أعوؿ عميو خي اًر‪.‬‬
‫و ّ‬
‫ػ ‪ 96‬ػ‬
‫لج ّف واهلل‪.‬‬
‫ػ ويبقى فضمؾ عميو كبي اًر‪ ،‬إذ لوالؾ ُ‬
‫ػ ال تقؿ ىذا ثانيةً يا أبا أحمد‪ .‬أحمد ولدي‪ ،‬وسأزوره ألرى التوءـ‪ .‬اهلل كريـ يا‬
‫ضيع ولداً‪ ،‬فأعطاه اهلل ولديف‪ .‬ماذا أسماىما ؟‬
‫أخي‪ّ .‬‬
‫ػ الحسف‪ ،‬والحسيف‪.‬‬
‫ػ ما شاء اهلل … ما شاء اهلل ‪ ..‬الميـ اجعميما مباركيف‪.‬‬
‫قاؿ أبو عدناف المختار‪:‬‬
‫ػ لكف يا عمي بؾ‪ ،‬كمّما احتضنتيما يعمداف إلى نتؼ لحيتي‪ ،‬فماذا أفعؿ؟‬
‫ضحؾ عمي بؾ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫بل‪ ،‬ثـ قاؿ‬
‫شرىما‪ .‬ضحؾ الجميع طوي ً‬
‫ػ ما عميؾ إالّ أف تحمؽ المحية لتأمف ّ‬
‫أبو سمطاف‪:‬‬
‫نسميؾ يا عمي بؾ ( أبا الخير )‪ ،‬فو اهلل كؿ الخير أتانا عمى يديؾ‪.‬‬
‫ػ لماذا ال ّ‬
‫اقترب عمي بؾ مف أبي سمطاف‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫السودت الدنيا بعيني ‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ػ يا أبا سمطاف‪ ،‬أنت ورفاقؾ وجوه الخير‪ ،‬واهلل لوالكـ‬
‫فعؿ الخير ىو منياج عممنا‪ ،‬أتمنى مف اهلل يا ابا سمطاف أف يستمر العطاء‪ ،‬حتى‬
‫حرة كريمة‪.‬‬
‫نرى ببلدنا ّ‬
‫قاؿ أبو ياسيف ‪:‬‬
‫ػ يا أبا راغب‪ ،‬قالت لي أـ ياسيف وأميا نرجو أف تذ ّكر عمي بؾ بوعده‪.‬‬
‫ػ أي وعد يا أبا ياسيف؟‬
‫ليأخذا دورىما استعداداً لآلتي‪.‬‬
‫ابتسـ عمي بؾ‪ ،‬ونظر في عيني أبي ياسيف‪ ،‬وقاؿ‪ :‬قؿ ليما‪ :‬أنا عمى الوعد‬
‫إف شاء اهلل‪.‬‬
‫دخؿ المضافة رجاؿ عمي بؾ وىـ يحمموف أطباؽ الثريد‪ ،‬فزغردت البطوف‪،‬‬
‫ومدت األيادي‪ ،‬وأخذت األفواه تموؾ طيب الطعاـ بنشوة‪.‬‬
‫ُ‬
‫قاؿ عمي بؾ والرفاؽ يشربوف الشاي‪:‬‬
‫ػ غداً وليمة أخرى عمى شرؼ حكومتنا الرشيدة‪ ،‬لكف كؿ ما أرجوه‬
‫أالّ تصدقوا كؿ ما قيؿ عنيا في الشارع…بعض الناس اختمقوا قصصاً وأفعاالً‬

‫ػ ‪ 97‬ػ‬
‫نسبوىا إلييا‪ ،‬والحاج فاضؿ واهلل بريء منيا وبعضيـ قاؿ عمى لسانو كبلماً لـ‬
‫يقْمو‪ .‬سامح اهلل اآلخريف‪.‬‬
‫مودعيف عمي بؾ‪ ،‬واألحبلـ ترفرؼ في سماء أمانييـ‪.‬‬
‫ابتسـ الجميع‪ ،‬وقاموا ّ‬

‫ػ ‪ 98‬ػ‬
‫(‪)93‬‬
‫كؿ ّّ سمبياتيا‪،‬‬
‫عاشت دير الزور في ظؿ حكومة ( الفمت ) أشي اًر حموة برغـ ّ‬
‫وقد توىـ الكثيروف أف دير الزور أصبحت دولة مستقمّة‪ ،‬واعتقد آخروف أنيا تتمتع‬
‫يطبؽ عمييا ما يطبؽ عمى الواليات السورية‪ ،‬حتى إف حاكـ المدينة‬
‫بحكـ ذاتي ال ّ‬
‫الديري ال يعرؼ تماماً مع أي فئة يقؼ مدافعاً‪ ،‬لكنو استأثر بالتعييف والتسريح‬
‫ومنح األلقاب والرتب أسوة بالوالة األتراؾ ‪ ...‬روى المختار حكاية جرت أحداثيا‬
‫أماـ عينيو‪:‬‬
‫( جاء أحد أقرباء الحاكـ إليو‪ ،‬وطمب منو أف يمنحو رتبة عسكرية‪ ،‬فقاؿ لو‬
‫الحاكـ‪ :‬ضع عمى كؿ كتؼ نجمة وانصرؼ‪ ،‬لكف القريب أبى‪ .‬فقاؿ لو الحاكـ‬
‫بل‪ ،‬فأبى‪ .‬وقؼ حينذاؾ‬‫اجعميا نجمتيف‪ ،‬فأبى‪ .‬فقاؿ لو اجعميا ثبلثاً ويا أىبلً وسي ً‬
‫الحاكـ منتفضاً‪ ،‬واقترب مف قريبو قائبلً‪ :‬لـ يبؽ لي إالّ أف أعطيؾ مكاني ىذا‪،‬‬
‫وأنصرؼ أنا‪ .‬فقاؿ لو‪ :‬ومف قاؿ لؾ أنني أريد مكانؾ ؟ أنا ال أريد سوى أف أعمّؽ‬
‫كؿ ّّ كتؼ نس ًار‪ .‬فوافؽ الحاكـ عمى مضض‪ ،‬وكتب في ذلؾ كتاباً‪ ،‬فانصرؼ‬ ‫عمى ّ‬
‫القريب مسرو اًر )‪.‬‬
‫كؿ ّّ واحد منيـ حكاية سمعيا مف‬
‫كؿ ّّ مف كاف في المضافة‪ ،‬وروى ّ‬
‫ضحؾ ّ‬
‫اآلخريف‪ ،‬معظميا ممفّؽ‪ ،‬لكنيا مضحكة‪ .‬أمضوا سيرة طويمة عمييا‪ ،‬حتى وىـ‬
‫يتناولوف العشاء لـ يسمـ الحاكـ أبداً مف نوادرىـ عميو‪ ،‬وعمى أعضاء حكومتو‪.‬‬
‫قبؿ أف يغادروا المضافة استوقفيـ عمي بؾ‪ ،‬واقترب مف أبي ياسيف‪ ،‬وسألو‬
‫مستفيماً‪:‬‬
‫كؿ ّّ األسمحة التي‬
‫ػ لـ تقؿ لي يا أبا ياسيف‪ ،‬ىؿ أخذ منؾ الضباط األتراؾ ّ‬
‫بحوزتؾ ؟‬
‫أجاب أبو ياسيف ضاحكاً‪:‬‬
‫ػ ال تخؼ عمي‪ .‬لقد أخفيت الصالح منيا في صندوؽ مبلبس زوجتي‪،‬‬
‫ىزوا رؤوسيـ وانصرفوا‪.‬‬
‫وعندما أروا ما لدي‪ّ ،‬‬
‫ػ بطؿ يا أبا ياسيف ‪ ..‬بطؿ واهلل ‪.‬‬
‫الصباغ متسائبلً‪:‬‬
‫ّ‬ ‫قاؿ أبو أحمد‬

‫ػ ‪ 99‬ػ‬
‫ػ إلى متى سنظؿ عمى ىذا الوضع يا أبا راغب ؟‬
‫المتصرؼ الجديد‬
‫ّ‬ ‫ػ اطمئف يا أبا أحمد ‪ ..‬سيصؿ الشريؼ عمي ناصر ومعو‬
‫بعد غد في الرابع مف كانوف األوؿ ‪.1918‬‬
‫المتصرؼ الجديد ؟‬
‫ّ‬ ‫ومف‬
‫ػ مرعي باشا المبلّح‪.‬‬
‫ػ لكننا لـ نسمع بو أبداً‪.‬‬
‫ػ مرعي باشا رجؿ وطني‪ ،‬ولو تاريخ حافؿ بالنضاؿ‪ ،‬وأرجو أف تتعاونوا معو‪،‬‬
‫وتطمئنوا لػو‪.‬‬
‫ّ‬
‫محتداً‪:‬‬
‫ّ‬ ‫قاؿ أبو ياسيف‬
‫أنا ال أطمئف لمباشوات أبداً يا أبا راغب‪.‬‬
‫ػ لكف مرعي باشا غير ما تظف يا أبا ياسيف‪ ،‬ىا ىو رمضاف باشا حاكـ‬
‫الرقة‪ ،‬وىو وطني غيور مف أبناء الدير‪.‬‬
‫سكت أبو ياسيف‪ ،‬فقاؿ أحمد الصباغ‪:‬‬
‫ػ الرجؿ بأفعالو‪ ،‬والميداف أمامو‪ ،‬وىو وحده القادر عمى أف يكسب رضا‬
‫الجماىير واحتراميـ‪ ،‬فالفرنسيوف دخموا سورية‪ ،‬واإلنجميز استوطنوا العراؽ‪ ،‬وىـ‬
‫اآلف في ‪ /‬عانة ‪ ،/‬وعانة جزء مف لواء الفرات‪.‬‬
‫ػ أنت عمى صواب يا أحمد‪ .‬اإلنجميز ينظروف إلى دير الزور عمى أنيا‬
‫ضـ الموصؿ إلييـ‪ ،‬وىذا‬
‫امتداد لمعراؽ‪ ،‬والفرنسيوف راضوف بالتخمّي عنيا مقابؿ ّ‬
‫سر عدـ احتبلليا مف قبِميما حتى ىذه المحظة‪.‬‬
‫ىو ّ‬
‫قاؿ المختار منتفضاً‪:‬‬
‫يعدوف دير الزور عراقية والموصؿ سورية؟‬
‫ػ أفيـ مف حديثؾ أنيـ ّ‬
‫ػ أجؿ يا أبا عدناف‪ ،‬ىكذا اقتضت مصالحيـ‪ .‬أتذكر أنني ُقمت في جمسة‬
‫سابقة سيتقاسمنا األوربيوف وفؽ مصالحيـ ال وفؽ طموحاتنا‪.‬‬
‫ػ أجؿ‪ ،‬وىذا ما قمتو ألبي ياسيف االشتراكي‪ .‬صاح أبو ياسيف قائبلً‪:‬‬
‫ػ لف يتـ ليـ ذلؾ ياأبا عدناف‪ ،‬أعدؾ بذلؾ‪ .‬ساد جو المضافة ىرج غريب‪،‬‬
‫وىميمات عالية حسميا عمي بؾ بقولو‪:‬‬

‫ػ ‪ 111‬ػ‬
‫تتعجموا بالحكـ‪ ،‬وابقوا عمى‬
‫ػ يا إخوتي‪ ،‬األياـ القادمة ستكشؼ لنا المزيد‪ ،‬فبل ّ‬
‫أىبة االستعداد مع رفاقكـ في الخبليا الثورية‪ ،‬وأنت يا أبا ياسيف جيّز لنا قدر‬
‫المتفجرات والذخائر‪ ،‬وستصمؾ اإلمدادات إلى بيتؾ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫استطاعتؾ كميات كبيرة مف‬
‫ػ كما تريد يا أبا عمي بؾ‪ ،‬ولو أنني استطعت بكؿ ما أممؾ أف أجيّز عشرة‬
‫صناديؽ ذخائر ومتفجرات لممقاومة الشعبية ‪.‬‬
‫ذىؿ عمي بؾ‪ ،‬واقترب مف أبي ياسيف وعانقو قائبلً‪:‬‬
‫ػ غداً سيصمؾ الماؿ البلزـ بإذف اهلل‪ ،‬فبل تتوقّؼ أبداً‪.‬‬
‫مرت األياـ ثقيمة عاصفة‪ ،‬لـ ييدأ خبلليا أبناء المواء أماـ مجرياتيا السيئة‬
‫التي غمرت الجيات والجبيات كافة ‪ ..‬ففي فمسطيف العربية كاف الصياينة‬
‫بحماية بريطانية إلييا‪ ،‬ويبنوف المستوطنات‪ ،‬ويصادروف األراضي‬ ‫ٍ‬ ‫يتسمّموف جيا اًر‬
‫المقدسة‬
‫ّ‬ ‫الخصبة‪ ،‬ويطردوف أىميا‪ ،‬ويفتكوف برجاليا‪ ،‬ويعيثوف فساداً في األرض‬
‫قسمتو اتفاقية‬
‫تنفيذاً لوعد بمفور المشؤوـ‪ ،‬وما تبقى مف الوطف العربي الكبير ّ‬
‫(سايكس بيكو) بيف فرنسا وانكمت ار واسبانيا وايطاليا‪ ،‬فمـ يعد الوطف العربي وطن ًا‬
‫عربياً‪ .‬قاؿ عمي بؾ مناشداً أعضاء الخمية الثورية‪:‬‬
‫ػ يا إخوتي دقّت ساعة العمؿ الثوري‪ ،‬ال تتوقفوا عف نشاطاتكـ‪ ،‬وأناشدكـ‬
‫وحدوا الصفوؼ‪ ،‬وانبذوا الخبلفات جانباً‪ ،‬و ّشدوا‬
‫جميعاً أف تضاعفوا جيودكـ‪ّ ..‬‬
‫األحزمة عمى البطوف‪ ،‬فاألياـ السوداء قادمة‪ ،‬واإلنكميز سيدخموف المواء في‬
‫الحادي عشر مف كانوف الثاني ليذا العاـ ‪.1919‬‬
‫قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬
‫ػ بعد ثبلثة أياـ ؟!‬
‫ػ نعـ‪ ،‬بعد ثبلثة أياـ ستدخؿ‪ ،‬ومعيا صؾ تبعية دير الزور إلى اإلنتداب‬
‫البريطاني بصفتيا تابعة لمعراؽ‪ ،‬وعممت أف الميجر ‪ /‬كارفر ‪ /‬سيتولى زماـ‬
‫األمور عندنا‪.‬‬
‫صاح أحمد الصباغ‪:‬‬
‫ػ واهلل لف نجعؿ كارفر يناـ إالّ عمى فراش مف قتاد‪.‬‬
‫خطا عمي بؾ عدة خطوات‪ ،‬واقترب مف أبي ياسيف‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ يا أبا ياسيف‪ ،‬ستتولى تعبئة المقاومة الشعبية في األحياء‪ ،‬وسيكوف الشيخ‬
‫سعيد ىو المرجع األوؿ واألخير لؾ ‪ ..‬وأنت ياأحمد ستتولى عممية التحريض في‬

‫ػ ‪ 111‬ػ‬
‫القرى القريبة‪ ،‬وأنت يا أبا عدناف ستذىب إلى المياديف‪ ،‬وتتصؿ بأعضاء الخمية‬
‫وتنسؽ معيـ‪ ،‬وتكوف صمة الوصؿ بيننا وبينيـ‪ ،‬وأنت يا أبا صادؽ ستذىب‬ ‫ىناؾ ّ‬
‫إلى البوكماؿ لمغرض نفسو‪ ،‬وأنت يا أبا أحمد أريدؾ أف تتوّلى ميمة االستطبلع‪،‬‬
‫وأنت يا أبا طارؽ أريدؾ لئلمداد والتعيينات‪ ،‬وليعنا اهلل‪.‬‬
‫قاؿ أبو سمطاف عندما صمت عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ وأنا يا عمي بؾ ؟!‬
‫تأممو عمي بؾ طويبلً‪ ،‬ثـ قاؿ لو‪:‬‬
‫ّ‬
‫ػ كيؼ أصبحت ص ّحة سمطاف ؟إف شاء اهلل بخير؟‬
‫ػ الوطف أغمى مف سمطاف وأخواتو‪ ،‬عمي بؾ‪.‬‬
‫يبؿ‬
‫صدقت يا أخي ‪ ..‬لكنني أريدؾ أف تبقى إلى جانب ابنؾ الوحيد حتى ّ‬
‫َ‬ ‫ػ‬
‫مف مرضو‪.‬‬
‫ػ لف أرضى واهلل أف أكوف في البيت‪ ،‬واخوتي يبذلوف دماءىـ رخيصة مف‬
‫أجؿ الوطف ‪ ..‬أرجوؾ يا عمي بؾ أف تكمّفني بميمة‪ ،‬أفضؿ مف أف أختار طريقاً‬
‫آخر‪.‬‬
‫ػ ال يا أبا سمطاف‪ ،‬لف ندعؾ تييـ عمى وجيؾ‪ ،‬وطالما ىي رغبتؾ فمتبؽ‬
‫معي في العمميات‪ ،‬وقد أرسمؾ إلى جية ما إف اقتضت الحاجة‪ .‬ىؿ أنت‬
‫ر ٍ‬
‫اض اآلف ؟‬
‫ػ نعـ ‪ ..‬وألؼ شكر لؾ‪.‬‬
‫أشدة‪ .‬استطاع أحمد تحريض السكاف ػ مدينة وريفاًػ‬‫كاف الغمياف الشعبي عمى ّ‬
‫عمى الثورة‪ ،‬وكاف شاعر الفرات يميب المشاعر واألحاسيس بقصائده التي كتبيا‬
‫ويوزعيا‪ ،‬ومنيا ‪:‬‬
‫كؿ ّّ قارئ يرددىا أو يكتبيا ّ‬
‫بخط يده مئات النسخ‪ ،‬حتى أصبح ّ‬
‫ورو العوالي من عداك دماً‬
‫انيض ِّ‬
‫القرطاس والقمما‬
‫َ‬ ‫واستنيض السيف و‬
‫شمت يميني‪ ،‬وبانت إثرىا ُع ُنقي‬ ‫ُ‬
‫كنت يوماً بغير السيف م ِ‬
‫عتصما‬ ‫إن ُ‬
‫ُ‬
‫ض‬‫الدير عن َع َر ٍ‬‫يروم م ّنا استالم ّ‬
‫أىالً بمن لممواضي جاء مستمما‬

‫ػ ‪ 112‬ػ‬
‫البوعمر وخشاـ والخابور والمياديف‬
‫ْ‬ ‫امتد لييبيا إلى‬
‫وثارت دير الزور‪ ،‬و ّ‬
‫أقضت مضاجع اإلنكميز‪ ،‬وكانت‬‫والقورية والمصمخة والبوكماؿ ‪ ..‬ثورات متبلحقة ّ‬
‫الخبليا الثورية تع مؿ ليؿ نيار وقوافؿ الشيداء متتالية‪ ،‬وبطوالتيـ نادرة‪ ،‬ارتجؼ‬
‫ليوليا اإلنكميز طويبلً‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ بعد أف حمد اهلل وشكره‪:‬‬
‫ليتحدث ّأوالً أبو ياسيف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ػ‬
‫سيدي ّأدت واجبيا‪ ،‬ولـ تقّصر إطبلقاً‪ ،‬وقد سقط لنا‬ ‫ػ المقاومة الشعبية يا ّ‬
‫تـ عبلجيـ ميدانياً‪ ،‬والحمد هلل‬
‫شييداف‪ ،‬وارينا جثمانييما البارحة‪ ،‬أما الجرحى فقد ّ‬
‫لمتصدي‪ .‬أما خسائر العدو‬ ‫ّ‬ ‫التحقوا بالمقاومة‪ ،‬ونحف ما زلنا عمى أىبة االستعداد‬
‫فقد تـ تدمير مستودعات البنزيف والكاز‪ ،‬واحراؽ ثبلث سيارات نقؿ‪ ،‬واعطاب‬
‫سيارة جيب صغيرة‪ ،‬وأعتقد جازماً أف سائقيا والضابط الذي كاف يجمس إلى جانبو‬
‫قَ ْد قُتبل‪.‬‬
‫ػ عظيـ يا أبا ياسيف ‪ ..‬عظيـ ‪ ..‬وأنت يا أبا صادؽ‪.‬‬
‫تكبد العدو خسائر جسيمة‪،‬‬‫سيدي‪ ،‬عند دخوؿ اإلنكميز بمدة البوكماؿ‪ّ ،‬‬ ‫ػ يا ّ‬
‫واستشيد عبد الدندؿ أحد رموز الثورة وشقيقو مشرؼ‪ ،‬ما لبث اإلنكميز أف وقعوا‬
‫فخ نصبو الثوار ليـ في مكاف يدعى ‪ /‬المجرود‪ ،/‬إذ تم ّكف العقيدات مف قتؿ‬ ‫في ّ‬
‫أكثر مف ثبلثيف جندياً إنكميزي ًا‪.‬‬
‫ػ مف كاف يقود الثوار في المجرود يا أبا صادؽ؟‬
‫ػ أسود ومميشاف وعبيد الفارس‪.‬‬
‫ػ بارؾ اهلل فييـ ‪ ..‬ابطاؿ‪.‬‬
‫كسار ‪.‬لقد قتؿ‬
‫المصمخة بقيادة فارس وأخيو ّ‬
‫ّ‬ ‫ػ ثـ جرت المعركة الكبرى في‬
‫الثوار أكثر مف مائ ة جندي إنكميزي‪ ،‬واستشيد منيـ سبعة عشر فقط‪ .‬وتصور يا‬
‫سيدي مف كثرة القتمى أخذت النسور تنيش أشبلءىـ‪ ،‬فأسمينا المعركة باسـ معركة‬
‫النسورية‪.‬‬
‫ػ عظيـ ‪ ..‬عظيـ ‪ ..‬وأنت يا أبا عدناف‪ ،‬ماذا جرى في المياديف ؟‬
‫فصدقني ‪ ..‬لـ‬
‫ّ‬ ‫ػ إف قمت لؾ كاف أبناء المياديف والعشارة والقورية نسو اًر‬
‫كؿ ّّ‬
‫يستطيع اإلنكميز عبور المياديف إالّ بصعوبة بالغة‪ ،‬فقد قاـ الثوار بقتؿ ّ‬
‫عدد ال يستياف بو‬
‫إنكميزي رأوه‪ ،‬وأحرقوا عددًا مف آليات العدو‪ ،‬وسقط مقابؿ ذلؾ ٌ‬
‫مف الشيداء‪.‬‬

‫ػ ‪ 113‬ػ‬
‫ػ شيداؤنا في الجنة‪ ،‬وقتْبلىـ في النار يا أبا عدناف ‪ ..‬إخوتي أريد اآلف بعد‬
‫بسر ستفرحوف لو كثي اًر ‪..‬‬
‫المشرفة أف أفضي إليكـ ّ‬
‫ّ‬ ‫ىذه النتائج‬
‫ػ قاؿ أبو ياسيف ضاحكاً‪:‬‬
‫ػ إذف لست وحدي أبا األسرار ؟!‬
‫السر ال أحد منكـ يعرفو‪ .‬خبلصة القوؿ إف رمضاف با شا حاكـ‬ ‫ػ لكف ىذا ّ‬
‫الرقة ىو ديري مف ريؼ المحافظة القريب كما تعمموف‪ ،‬وىو وطني غيور‪ ،‬آلمو ما‬
‫أصاب د ير الزور مف مآس ومحف‪ ،‬فاستجاب لطمبنا بعد أف ميدنا لدخولو بغية‬
‫تحريرنا مف اإلنكميز وعودة دير الزور إلى سورية‪.‬‬
‫قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬
‫ػ وي ٌؿ لئلنكميز منو‪ ،‬وواهلل لف تقوـ ليـ قائمة عندما يأتي‪.‬‬
‫قاؿ أبو عدناف‪ :‬ماذا وضعتـ لو مف ترتيبات الستقبالو ؟‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ ال داعي ألف أشرح لكـ اآلف كؿ شيء‪ ،‬ولكف اطمئنوا‪.‬‬
‫قاؿ أبو صادؽ‪:‬‬
‫تحركنا‪.‬‬
‫ػ أعتقد أف اإلنكميز سيقوموف بعمؿ مضاد إذا ما ّ‬
‫ػ ال تخؼ يا أبا صادؽ‪ .‬لقد حسبنا لكؿ أمر حسابو‪.‬‬
‫الصباغ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫قاؿ أبو أحمد‬
‫ػ دعني ياأبا راغب أنا وولدي أحمد نراقب طريؽ دير الزور ػ الرقة‪ ،‬وارجوا‬
‫أف تكمؼ أبا سمطاف ومجموعة مف الثوار بمراقبة شاطئ النير عند (البغيمية)‪ ،‬أما‬
‫أبو ياسيف ومجموعة الثوار فاجعميـ يكمنوف عند (الدخولية) عمى أبواب المدينة‪،‬‬
‫وباقي أعضاء الخمية اجعميـ يراقبوف مقري الحاكـ العسكري واالستخبارات‬
‫اإلنكميزية‪.‬‬
‫ضحؾ عمي بؾ طويبلً وىو يمعف النظر في عيني أبي أحمد ويراقب حركات‬
‫يتحدث‪ ،‬فقاؿ‪:‬‬
‫يديو عندما ّ‬
‫أدر يا أبا أحمد ّأنؾ مخطط بارع ؟ مف أيف جئت بأفكاري ىذه؟ ىؿ‬ ‫ػ لـ ِ‬
‫ثت بو؟‬
‫تحد ُ‬
‫حضرت اجتماع قيادة الخمية ؟ أـ أف أحداً وشى لؾ بما جرى وما ّ‬
‫فالكبلـ الذي قمتو ىو ذاتو ما طرحتُو في القيادة ووافقوا عميو‪.‬‬

‫ػ ‪ 114‬ػ‬
‫ػ يا أبا راغب‪ ،‬الحاجة أـ االختراع‪ ،‬ومف ثـ فإني أخاؼ كثي اًر عمى رمضاف‬
‫باشا مف غدر اإلنكميز‪.‬‬
‫ػ ال تخؼ يا أبا أحمد‪ .‬قمت لؾ لقد حسبنا لكؿ أمر حسابو‪.‬‬
‫نيض المختار بعصبية‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ىدأ عمي بؾ‬
‫ػ دعوا الميجر كارفر لي‪ .‬أنا مف سيمقّنو الدرس الذي ال ُينسى‪ّ .‬‬
‫مف عصبية المختار قائبلً‪:‬‬
‫القناصة‪.‬‬
‫ػ الميجر كارفر لف تصؿ إليو‪ .‬إنو محاط بسياج منيع مف الجند و ّ‬
‫منا‪.‬‬
‫دعو لرمضاف باشا‪ ،‬فيو أولى بتأديبو ّ‬
‫بقوة‪:‬‬
‫ػ صاح أبو سمطاف ّ‬
‫يفؿ الحديد إالّ الحديد ‪ ..‬صدقت يا أبا راغب ‪ ..‬صدقت‪.‬‬
‫ػ ال ّ‬

‫ػ ‪ 115‬ػ‬
‫(‪)94‬‬
‫كاف يوـ الحادي عشر مف كانوف األوؿ عاـ ‪1919‬يوماً تاريخياً في دير‬
‫فارس فراتي يمتشؽ سيؼ الحؽ‬ ‫ٍ‬ ‫الزور‪ ،‬عندما تنفّس الصبح‪ ،‬وتك ّشؼ الجو عف‬
‫وفره ‪ ..‬عرفوا‬
‫وكره َّ‬
‫متحدياً قوى الباطؿ ‪ ..‬فارس عرؼ األتراؾ صوالتو وجوالتو‪َّ ،‬‬
‫ّ‬
‫فيو الشجاعة واإلقداـ‪ ،‬كما عرؼ فيو أىموه المروءة والنخوة والشيامة‪ ..‬رجؿ آلى‬
‫عمى نفسو أال يكوف بعيداً عف األحداث التي تعصؼ بإخوانو ووطنو‬
‫قاؿ لقواتو التي تحاصر الثكنة العسكرية االنكميزية‪ ،‬والتي أمطرتيـ بوابؿ مف‬
‫الرصاص‪.‬‬
‫ػ اليوـ يوـ الممحمة‪ ..‬اليوـ سيكوف لػو ذكرى وتاريخ‪ ،‬ولف نقبؿ يا إخوتي‬
‫بغير استسبلـ اإلنكميز ورحيميـ عف بمدي ‪..‬‬
‫وكانت الجموع الغفيرة التي أحاطت بو تميب األفئدة وىي تصيح بأعمى‬
‫صوت‪:‬‬
‫ػ اهلل أكبر ‪ ..‬اهلل أكبر ‪..‬‬
‫رفع الحاكـ العسكري اإلنكميزي راية االستسبلـ عندما أحكـ الثوار حصارىـ‬
‫عميو وعمى حاميتو‪ ،‬وألقى السبلح ىو وجنده عندما رأى بالمنظار أف سكاف‬
‫المدينة والريؼ َق ْد زحفوا إليو بالعصى والمعاوؿ ‪ّ ..‬أدى التحية العسكرية لرمضاف‬
‫باشا‪ ،‬وتسّمـ الثائروف أسمحة الحامية وذخائرىا‪.‬‬
‫صاح رمضاف باشا بأتباعو‪:‬‬
‫ػ اجمعوىـ في مكاف واحد‪ ،‬وامنعوا عنيـ األذى‪ ،‬ألنيـ أسرى حرب‪ ،‬وعمينا‬
‫أف نحسف معاممتيـ‪ .‬قاؿ أبو ياسيف‪ ،‬والفرحة قَ ْد غمرتو‪:‬‬
‫نرحميـ إلى العراؽ‪ ،‬أو نسمّميـ إلى الممؾ فيصؿ لينظر بأمرىـ؟‬
‫ػ لماذا ال ّ‬
‫تود قصؼ‬ ‫تحوـ اآلف فوقنا‪َّ ،‬إنيا ّ‬
‫ػ ال يا أبا ياسيف‪ .‬إف طائرات اإلنكميز ّ‬
‫المدينة بالقنابؿ ‪ ..‬اجعموىـ في العراء مكشوفبف دروعاً بشرية‪ ،‬واختبئوا جميعاً في‬
‫الغمة‪.‬‬
‫المبلجئ ريثما تنقشع ّ‬
‫قاؿ أبو أحمد‪:‬‬
‫ػ لكنيّـ لف يتركونا بخير‪.‬‬

‫ػ ‪ 116‬ػ‬
‫ػ يا أبا أحمد‪ ،‬سيتركوننا بخير طالما أف الحامية اإلنكميزية في قبضتنا‪ .‬إف‬
‫مناشيرىـ الممقاة عمينا تح ّذرنا مف قتميـ‪.‬‬
‫ػ إذف ما العمؿ اآلف ؟!‬
‫الصباغ أف يكتب جواباً لئلنكميز‪:‬‬
‫ّ‬ ‫طمب رمضاف باشا مف أحمد‬
‫ػ اكتب يا أحمد ‪:‬‬
‫(مف رمضاف باشا حاكـ الرقة ودير الزور إلى قائد القوات اإلنكميزية في‬
‫العراؽ‪ :‬السبلـ عمى مف اتّبع اليدى‪ ،‬وبعد‪ :‬لو أردنا إبادة الحامية اإلنكميزية‬
‫لفعمنا منذ دخولنا‪ ،‬لكننا نأبى الظمـ‪ ،‬كما نأبى االحتبلؿ‪ .‬إف لـ ترحؿ‬
‫كؿ ّّ جنودكـ بأسرع ما يمكف‪ ،‬فمف‬
‫طائراتكـ عف سماء دير الزور ويرحؿ معيا ّ‬
‫تجدوا خي ًار‪ .‬نحف نذرنا أنفسنا لمشيادة في سبيؿ اهلل‪ ،‬وفي سبيؿ تحرير الوطف‬
‫الغالي‪ ،‬وقد أعذر مف أنذر)‪.‬‬
‫يمزؽ العمـ اإلنكميزي ويحرقو‪ ،‬وتارة أخرى يياجـ‬
‫كاف الشعب ىائجاً‪ ،‬تارة ّ‬
‫ىب عدد مف رجاالت المدينة لحماية األطفاؿ‬ ‫بيوت الضباط اإلنكميز‪ ،‬ولوال أف ّ‬
‫عدة أياـ‪:‬‬
‫الرد بعد ّ‬
‫لمزقيـ الشعب أشبلء‪ ،‬ورماىـ لمكبلب‪ .‬جاء ّ‬ ‫والنساء اإلنكميز ّ‬
‫(إلى رمضاف باشا‪ .‬سنرحؿ عف دير الزور فو اًر ونحف بانتظار تسميمنا‬
‫الحامية كاممة في مدينة البوكماؿ )‬
‫قائد القوات اإلنكميزية في العراؽ‪ .‬ق أر رمضاف باشا الرد بعصبية‪ ،‬وطمب مف‬
‫أحمد الصباغ أف يكتب ليـ‪:‬‬
‫( البوكماؿ بمدة سورية‪ ،‬فميكف التسميـ عمى الحدود مع العراؽ في بمدة‬
‫‪/‬القائـ‪)/‬‬
‫وفي الخامس والعشريف مف كانوف األوؿ ‪ 1919‬أُطمؽ سراح اإلنكميز‪،‬‬
‫وانقشعت غمامة سوداء كادت تعصؼ بالمدينة والريؼ‪ ،‬وتجعؿ الدماء‬
‫تجري سيوالً‪.‬‬
‫رحؿ اإلنكميز ببل رجعة بعد أف مكثوا في المواء أحد عشر شي اًر لـ يجنوا‬
‫منيا سوى الخيبات‪.‬‬
‫كاف عمي بؾ والمناضموف في الخبليا الثورية يعقدوف االجتماع تمو االجتماع‬
‫لمبحث في آخر المستجدات‪ ،‬وفي آخر اجتماع في منتصؼ كانوف الثاني عاـ‬
‫محدثاً المناضميف في مضافتو‪:‬‬
‫‪ /1921/‬وقؼ عمي بؾ ّ‬

‫ػ ‪ 117‬ػ‬
‫متصرفاً لدير‬
‫ّ‬ ‫ػ يا إخوتي‪ ،‬قررت الحكومة الفيصمية إرساؿ السيد مولود‬
‫الزور‪.‬‬
‫محتداً‪:‬‬
‫ّ‬ ‫قاؿ أبو ياسيف‬
‫ػ ورمضاف باشا؟!‬
‫ػ سيرحؿ إلى األردف‪.‬‬
‫ػ لماذا؟‪.‬‬
‫ػ إنيا أوامر عميا البد مف تنفيذىا‪ .‬صاح أحمد الصباغ غاضباً‪:‬‬
‫ػ َّإنيا مؤامرة حاكياً الممؾ فيصؿ مع الفرنسييف تمييداً لدخوليـ إلى دير‬
‫مؤيداً‬
‫الزور‪ .‬عميو أال يرحؿ‪ ،‬وسنقؼ معو بكؿ ما نممؾ مف قوة‪ ..‬قاؿ المختار ّ‬
‫الصباغ‪:‬‬
‫ً‬ ‫صيره أحمد‬
‫ػ يا عمي بؾ‪ ،‬ما يقولو أحمد صحيح وعمينا أف نعي أبعاد ىذه المؤامرة‪،‬‬
‫ويجب أف نعي أيض ًا أننا لسنا أحجار شطرنج‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ متأثّ ًار‪:‬‬
‫ػ يا إخوتي ‪ ..‬أعرؼ ما ال تعرفونو ‪ ..‬أعرؼ أف السيد مولود ىو عدو‬
‫تقميدي لرمضاف باشا‪ ،‬وأنيما لف يجتمعا معاً‪ ،‬لذا البد لو مف الرحيؿ‪ ،‬وعمينا أف‬
‫جيداً‪.‬‬
‫نودع رمضاف باشا وداعاً حا اًر‪ ،‬وأالّ نع ّقد األمور‪ ،‬وسنرتّب أمورنا بعد ذلؾ ّ‬
‫صمت الجميع وكأف عمى رؤوسيـ الطير‪ ،‬ألنيـ يعرفوف أف أبا راغب يعرؼ‬
‫خفايا األمور‪ ،‬وعمييـ أف يطيعوه‪ ،‬ويمتثموا ألمره قبؿ فوات األواف‪ ،‬لذا اكتفوا‬
‫سرىا‪ ،‬فابتسـ‬
‫بالنظرات التي ألقوىا في وجيو‪ ،‬والذي بحكـ فطنتو وذكائو قَ ْد أدرؾ ّ‬
‫في وجوىيـ قائبلً‪:‬‬
‫ػ واآلف أخبروني عف أحواؿ ذوي الشيداء‪.‬‬
‫قاؿ المختار‪:‬‬
‫ػ لقد شكمّنا لجنة مؤلفة مني ومف أحمد وأبي ياسيف‪ ،‬وذىبنا‪ ،‬إلى بيوتيـ كما‬
‫أمرت‪ ،‬وأعطيناىـ المساعدات المقررة فرفضوىا رغـ فقرىـ‪ ،‬لكننا أرغمناىـ عمى‬
‫قبوليا‪.‬‬
‫ػ ماذا كاف يعمؿ الشييد األوؿ؟‬
‫ػ كاف عامبلً في إصبلح الطرؽ ‪ /‬النافعة‪./‬‬

‫ػ ‪ 118‬ػ‬
‫ػ أبمغوا أىمو إلرساؿ أحد أفراد أسرتو ليحؿ محمّو‪.‬‬
‫وماذا كاف يعمؿ الشييد الثاني؟‬
‫ػ كاف يعمؿ عمى عربة يبيع فييا الخضار والفواكو‪.‬‬
‫ػ خصصوا ألسرتو راتباً شيرياً يكفييـ ذؿ السؤاؿ‪ .‬والشييد الثالث؟‬
‫ػ كاف موظفاً في دائرة البريد‪.‬‬
‫عينوا ابنو مكانو‪ ،‬وأعطوا أسرتو الراتب الذي كاف يتقاضاه قبؿ استشياده‪.‬‬
‫ػ ّ‬
‫ُس ِرىـ ‪..‬‬
‫أما الجرحى فأرجو أف تسيروا عمى راحتيـ وتمبية مطالب أ َ‬
‫نقصر إف شاء اهلل‪.‬‬
‫ػ نحف فعمنا ذلؾ‪ ،‬ولف ّ‬
‫ػ ىو الواجب يا إخوتي‪ ،‬واألياـ القادمة حبمى بالمفاجآت‪ ،‬وعمينا أف نستعد‬
‫ليا بكؿ عزيمة واصرار‪.‬‬
‫نير الفرات لـ ييدأ‪ ،‬تتماوج تياراتو بصخب‪ ،‬فتمقي في األذاف موسيقا‬
‫ال مف الشؾ‪...‬‬‫جنائزية‪ ،‬وعمى الوجوه ظبل ً‬
‫كاف الرجاؿ يسيروف بتؤدة‪ ،‬وألؼ سؤاؿ يدور في رؤوسيـ المثقمّة باليموـ‬
‫واألحزاف‪ ،‬ولعؿ أبرز سؤاؿ يطرحونو في مجالسيـ‪:‬إلى أيف سنمضي؟ والى متى؟‬
‫ودع الرجاؿ قائدىـ الكبير‪ ،‬ومحرر لواء دير الزور مف اإلنكميز بيتافات ناشجة‪،‬‬
‫ّ‬
‫وكاف ّيرد عمييـ بعبا ارت ممؤىا الثقة بالنصر‪ ،‬ويطمب منيـ مواصمة التضحية‬
‫ضدىـ‪.‬‬
‫التنبو لكؿ ما ُيحاؾ ّ‬
‫والفداء ‪ ،‬و ّ‬
‫جوًا مف الفوضى والبمبمة في صفوؼ الشعب‪ ،‬ولـ يسمـ‬
‫سرت شائعات خمقت ّ‬
‫يتأىبوف لمعودة إلى دير الزور‪ ،‬وقد أ ّكدت‬
‫منيا المناضموف مفادىا أف اإلنكميز ّ‬
‫التصدي‬
‫ّ‬ ‫فتييأ الثوار لعممية‬
‫طبلئع االستطبلع في البوكماؿ صحة ىذه الشائعات‪ّ ،‬‬
‫والردع‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫أطمب مف أبي أحمد وولده أحمد أف يقودا سرية مف المناضميف لدعـ الخمية‬ ‫ُ‬ ‫ػ‬
‫الثورية في البوكماؿ وقوات المقاومة الشعبية‪ ،‬وسنوافييما بالدعـ البلزـ كمما‬
‫احتاجوا إليو‪ ،‬عمى أف يوافونا باألخبار يوماً بيوـ‪.‬‬
‫قاؿ أبو أحمد‪ ،‬وقد وقؼ رافعاً يده‪:‬‬
‫ػ منذ الغد إف شاء اهلل ‪.‬‬

‫ػ ‪ 119‬ػ‬
‫ػ ال يا أبا احمد‪ .‬منذ اآلف‪.‬‬
‫ػ كما تريد‪.‬‬
‫لـ تكف ميمة أبي أحمد وولده سيمة عمى اإلطبلؽ‪ ،‬كاف عميو أف ينتقؿ بيف‬
‫القرى لتحريض أىميا ضد اإلنكميز‪ ،‬كما كاف عمى ولده ميمة توزيع المياـ‬
‫واألماكف وتوجيو الثائريف إلى أىداؼ مرسومة‪.‬‬
‫وعندما دخؿ جيش اإلنكميز البوكماؿ جوبو بمقاومة لـ يكف يتوقّعيا أبدًا‪.‬‬
‫جندي وضابط‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كانت معركة طاحنة‪ ،‬قُتؿ مف اإلنكميز أكثر مف ستيف ما بيف‬
‫واستشيد مف الثوار ثبلثة‪ :‬أبو أحمد الصباغ واثناف مف البوكماؿ‪ .‬تراجع أحمد‬
‫وسريتو إلى المي اديف فأطبؽ ومف معو مف ثوار المياديف عمى فموؿ اإلنكميز‪،‬‬
‫وطاردوىـ حتى قرية المصمّخة حيث كانت مقبرتيـ ىناؾ‪ ،‬وقسـ كبير مف جثثيـ‬
‫وتحدث‬
‫ّ‬ ‫ألقي في نير الفرات‪ ،‬فانتيت بذلؾ أحبلـ اإلنكميز بالعودة إلى دير الزور‪،‬‬
‫بل عف بطوالت خارقة فردية وجماعية‪.‬‬ ‫الناس طوي ً‬
‫قاؿ عمي بؾ وقد أمسؾ بيد أحمد الصباغ‪:‬‬
‫إني فخور بؾ يا أحمد‪ ،‬ورحمة اهلل عمى أبيؾ‪ ،‬واعمـ يا ولدي إف أردت‬
‫فسأنقؿ لؾ جثماف أبيؾ مف البوكماؿ إلى دير الزور‪.‬‬
‫قاؿ أحمد‪:‬‬
‫ػ والدي ػ رحمو اهلل ػ بذؿ روحو رخيصة‪ ،‬واستطاع أف يقتؿ أكثر مف خمسة‬
‫اض ببقاء جثمانو في أرض‬ ‫عشر إنكميزي ًا‪ ،‬ولوال نفاد ذخيرتو لقتؿ المزيد‪ ،‬واني ر ٍ‬
‫النفس والنفيس مف أجؿ طرد اإلنكميز‪ .‬لكف ػ يا‬
‫َ‬ ‫البوكماؿ الطاىرة التي بذؿ أبناؤىا‬
‫سيدي ػ حدث أمر غريب لـ أجد لو تفسي اًر‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ػ ما ىو؟‬
‫شخصياتيـ وكانوا‬
‫ّ‬ ‫أتعرؼ عمى‬
‫ػ شارؾ في معركة المصمّخة ثبلثةُ ممثّميف لـ ّ‬
‫ثـ‬ ‫ِ ٍ‬
‫غرباء عنا‪ .‬جاؤوا عمى صيوات جياد عتاؽ‪ ،‬واستطاعوا أف يفتكوا باإلنكميز‪ّ ،‬‬
‫المدوية‪ ،‬وقاؿ‬
‫ّ‬ ‫اختفوا بعد النصر‪ ،‬ولـ أعثر عمييـ‪ ،‬وكاف الثوار يرددوف صيحاتيـ‬
‫عنيـ مشايخ الريؼ بأنيـ مف جند اهلل أرسميـ لنصرتنا‪.‬‬
‫ابتسـ عمي بؾ‪ ،‬وكاف ىو الرجؿ الوحيد الذي يعرفيـ‪ ..‬إنيـ عماؿ أبي‬
‫صادؽ الميكانيكي‪ :‬ديكراف وآرتيف وآغوب‪ ..‬ثـ قاؿ‬
‫ػ أتعرفوف يا إخوتي مف ازرني ليمة البارحة؟‬

‫ػ ‪ 111‬ػ‬
‫قاؿ أبو عدناف‪:‬‬
‫أود معرفتو‪ ،‬لكنو‬
‫سمعت أف ضيفاً غريباً جاءؾ ليمة البارحة‪ ،‬وكـ كنت ّ‬‫ُ‬ ‫ػ‬
‫فمف ىو يا تُرى؟ وِل َـ جاء؟‬
‫رحؿ قبؿ أف أراه‪َ ،‬‬
‫ابتسـ عمي بؾ ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫إلي‬
‫ػ إنو قائد مناضؿ مف ‪/‬حماة‪ ،/‬تعرؼ فرنسا سطوتو وجبروتو‪ ،‬وقد جاء ّ‬
‫ليخبرني أنو في العاشر مف تشريف األوؿ ىذا العاـ ‪ ،1921‬أي بعد أياـ قميمة‬
‫ستدخؿ دير الزور كباقي األلوية تحت االنتداب الفرنسي‪ ،‬واف فرنسا جيّزت حممة‬
‫كبيرة الحتبلؿ دير الزور في مطمع العاـ القادـ‪ ،‬وعرض عمي المساعدة وتدريب‬
‫الثائريف‪ ،‬ووضع الخطط الحربية الكفيمة بإنياؾ القوات الفرنسية‪.‬‬
‫قاؿ أبو ياسيف بحماس‪:‬‬
‫ماسة إليو‪.‬‬
‫ػ إنو واهلل رجؿ شيـ‪ ،‬ونحف بحاجة ّ‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ طبعاً شكرتو عمى موقفو النبيؿ‪ ،‬وقمت لو إننا سنحتاجو حتماً‪ ،‬لكف عند‬
‫دخوؿ القوات الفرنسية دير الزور‪ ،‬فقاؿ‪ :‬أنا سأقيـ عند أصدقاء لي في بمدة‬
‫العشارة‪ ،‬وقرية المصمّخة‪ ،‬وسأكوف جاى اًز عند الطمب شريطة أف ترسؿ لي‬
‫الممثّميف الثبلثة‪ ،‬وال أريد غيرىـ‪ ،‬فوافقتو‪ ،‬ثـ رحؿ‪.‬‬
‫قاؿ المختار‪:‬‬
‫ػ خي اًر فعمت يا عمي بؾ‪ .‬لكف مف ىـ ىؤالء الممثّموف‪ .‬أناشدؾ اهلل قؿ لي‪.‬‬
‫ألحوا عمى ذلؾ‪ .‬أتعرؼ يا أبا‬
‫بعد التصريح بأسمائيـ‪ .‬ىـ أرادوا و ّ‬
‫ػ لـ يحف ُ‬
‫عدناف أف عدداً مف النسوة أردف االنخراط في صفوؼ المقاومة الشعبية؟‬
‫قاؿ المختار ِ‬
‫دىشاً‪:‬‬
‫ػ نسوة يا عمي بؾ؟! أمف قمّة الرجاؿ؟!‬
‫ػ ال يا أبا عدناف‪ ،‬يجب أف يكوف لمنسوة نصيب في ا لنضاؿ‪ ،‬وما المانع مف‬
‫اكيف؟ لقد ّأيد ت زوجتي الفكرة وطمبت مني أف أبارؾ اشتراكيف فوافقت‪ ،‬لكف‬
‫اشتر ّ‬
‫ضيقة‪.‬‬
‫بحدود ّ‬
‫عمييف؟‬
‫ّ‬ ‫نتعرؼ‬
‫ػ وىؿ نستطيع أف ّ‬

‫ػ ‪ 111‬ػ‬
‫وتيمناً بالممثميف طمبف أف‬
‫ىف‪ّ ،‬‬‫يفؾ ُخ ُم َر ّ‬
‫أحد أف ّ‬
‫ػ يا أبا عدناف‪ ،‬لف يستطيع ٌ‬
‫ليف بوضع النقاب إلى جانب الحجاب والعباءة أثناء المعارؾ‪ ،‬وشرطت‬ ‫أسمح ّ‬
‫عمييف العمؿ ضمف أحياء المدينة ولساعات معدودات مف النيار‪.‬‬
‫ّ‬
‫خير إف شاء اهلل‪.‬‬
‫ػ ٌ‬
‫اقترب عمي بؾ مف أحمد الصباغ قائبلً‪:‬‬
‫ػ سنحضر الميمة عندؾ في البيت‪ .‬ال يمكننا أف نستمر بالحزف‪ ،‬نريد أف‬
‫نشيد عمى قراف حميدة مف ابف خالتيا سامي‪ ،‬فما رأيؾ؟‬
‫يمؼ البيت بمف فيو‪،‬‬
‫ُدىش أحمد‪ ،‬فالوقت غير مناسب‪ ،‬ومازاؿ الحزف ّ‬
‫روية‪.‬‬
‫والموضوع يحتاج إلى ّ‬
‫بل‪:‬‬
‫قطع عمي بؾ عمى أحمد تفكيره قائ ً‬
‫ػ سنحضر بعد صبلة العشاء‪ ،‬وسيرافقني أبو عدناف وأبو ياسيف وأبو سمطاف‬
‫وأبو صادؽ وأبو طارؽ‪.‬‬
‫ألتدبر أمري‪.‬‬
‫ػ أرجو أف تميمَني يوميف عمى األقؿ ّ‬
‫كؿ ّّ شيء جاىز يا أحمد‪ .‬ستراه عندما تذىب إلى البيت‪.‬‬
‫ػ ّ‬
‫ػ عمى بركة اهلل يا عمي بؾ‪.‬‬

‫ػ ‪ 112‬ػ‬
‫(‪)95‬‬
‫في حفؿ زفاؼ حميدة البف خالتيا سامي جرى احتفاؿ عائمي مختصر‪،‬‬
‫حضره عمي بؾ وأبو ياسيف وأبو عدناف وأبو طارؽ وأبو سمطاف وأبو صادؽ‬
‫الميكانيكي‪ ،‬وارتأى أحمد إلغاء األىازيج والرقص والغناء والزغاريد إكراماً لروح‬
‫أبيو الشييد‪ ،‬فوافقو عمي بؾ بسبب الظروؼ الصعبة التي تمر بيا المدينة أيضاً‪،‬‬
‫لكف الفرحة التي غمرت حميدة وابف خالتيا سامي كانت أكبر مف األحداث كمّيا‪.‬‬
‫بسنة اهلل ورسولو‪ ،‬وما أف أنيى‬ ‫تصدؽ حميدة أف سامياً أصبح زوجيا ّ‬ ‫ّ‬ ‫لـ‬
‫القاضي الشرعي مراسيـ الزواج ومباركتو حتى بدأت أطباؽ الحموى الشيية تفوح‬
‫منيا رائحة السمف العربي تمؤل األنوؼ‪.‬‬
‫بل‪:‬‬
‫صرة مف الذىب أودعيا عمي بؾ بيف يدي حميدة قائ ً‬
‫كاف مير حميدة ّ‬
‫ػ واهلل يا بنتي لوال الظروؼ العصبية التي نمر بيا جميعاً ًّ‪ ،‬ألقمت لؾ حفؿ‬
‫زفاؼ يفوؽ حفؿ زفاؼ أخيؾ‪.‬‬
‫قالت حميدة بخجؿ‪:‬‬
‫أردت مف الدنيا شيئاً سوى ابف خالتي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عماه ما‬
‫ػ واهلل يا ّ‬
‫أما سامي‪ ،‬فوقؼ قائبلً‪:‬‬
‫عيني وفي قمبي‪ ،‬كما أعدكـ بأنني‬
‫ّ‬ ‫ػ عيداً مني أمامكـ أف أضع حميدة في‬
‫سأواظب عمى الدراسة في المكتب السمطاني ألكوف جدي اًر بحمؿ رسالة العمـ‬
‫والمعرفة‪ .‬قبؿ أف تنتيي حفمة القراف بدقائؽ‪ ،‬جاء أحد أتباع عمي بؾ مسرعاً‪،‬‬
‫وطمب رؤية سيدة عمى عجؿ‪...‬‬
‫خرج عمي بؾ مف الغرفة‪ ،‬واتّجو نحو الباب الخارجي‪ ،‬وتسمـ وريقةً مف‬
‫تابعو‪ .‬قرأىا فتجيـ وجيو النحيؿ‪ ،‬لكنو حافظ عمى توازنو‪ ،‬وعاد إلى الغرفة‪.‬‬
‫تغير مبلمح وجو عمي بؾ‪ ،‬فاقترب منو‪ ،‬ولـ يستطيع عمي‬
‫الحظ أبو ياسيف ّ‬
‫متيدج‪:‬‬
‫بؾ أف يخفي ما جاء بو حارسو‪ .‬قاؿ بصوت ّ‬
‫ػ القوات الفرنسية اتجيت مف حمب إلى دير الزور بقيادة (دوبيوفر)‬
‫والمطموب منا عمؿ عاجؿ‪.‬‬
‫قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬
‫ػ ‪ 113‬ػ‬
‫منا ما لـ يروه طواؿ حياتيـ‪.‬‬
‫ػ تميّؿ يا أبا راغب‪ .‬الصباح رباح‪ .‬وسيروف ّ‬
‫ػ إذف سنجتمع مع أعضاء الخمية صباحاً في المكتب السمطاني‪.‬‬
‫كاف الميؿ في اليزيع األوؿ‪ ،‬لكف الشتاء يطرؽ األبواب بقوة‪ ،‬والريح تصفع‬
‫بيمجية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫النوافذ بقسوة‪ ،‬فتطفئ ذباالت المصابيح‬
‫يودع العروسيف‪:‬‬
‫قاؿ عمي بؾ‪ ،‬وىو ّ‬
‫بالرفاء والبنيف إف شاء اهلل‪.‬‬
‫ػ ّ‬
‫قاؿ أبو ياسيف ليما‪:‬‬
‫ػ أتمنى أف يكوف عاـ زواجكما عاـ تحرير إف شاء اهلل‪ .‬أما المختار فابتسـ‬
‫ابتسامة ماكرة قائبلً‪:‬‬
‫شتاء دافئاً‪ ،‬وحباً دائماً‪ .‬وتصبحوف عمى خير‪.‬‬
‫ً‬ ‫ػ أتمنى لكما‬
‫كفزاعات تتمايؿ‬
‫الفرات يعزؼ مع الريح سيمفونية الخمود‪ ،‬واألشجار بدت ّ‬
‫يمنة ويسرة‪ ،‬تُطمؽ حفيفاً ُينبئ بأف عاصفةً عمى وشؾ الوقوع‪.‬‬
‫متنيداً‪:‬‬
‫ّ‬ ‫قاؿ عمي بؾ‬
‫الميـ انصرنا‬
‫عدونا في نحره‪ّ ..‬‬
‫ّ‬ ‫عامنا ىذا عاـ خير‪ ،‬واجعؿ كيد‬
‫َ‬ ‫الميـ اجعؿ‬
‫الميـ أنت أعمـ بما في قموبنا‬
‫ّ‬ ‫تذؿ ِعبادؾ يا أرحـ الراحميف‪..‬‬
‫عمى أعدائنا‪ ،‬وال ّ‬
‫كؿ خطوة‬‫فوفقنا في ّ‬
‫ّ‬ ‫وعمو رايتؾ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وىواجس ضمائرنا‪ ،‬وأننا ال نبغي إالّ رضاؾ‬
‫نخطوىا‪ ،‬وفي ك ّؿ ّّ فعؿ يقوـ بو المناضموف‪.‬‬
‫كؿّ ٍ‬
‫آونة‪ :‬آميف يا رب العالميف‪.‬‬ ‫كاف رفاقو الذيف يسيروف خمفو يرددوف ّ ّ‬
‫وقبؿ أف يفترقوا قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬
‫ػ متى تتوقّع وصوليـ يا أبا راغب؟‬
‫تنس يا أبا ياسيف أف لدييـ آليات وخيالة ‪ ،‬وقد يكونوف في الرقّة غداً‪،‬‬
‫ػ ال َ‬
‫توجيوا إلى دير الزور خبلؿ أياـ قميمة‪.‬‬
‫فإذا ما استطاعوا إخضاعيا ّ‬
‫قاؿ أبو عدناف‬
‫ػ سأفكر بخطة تصفعيـ‪ ،‬وربما تردىـ عمى أعقابيـ‪.‬‬
‫ضحؾ عمي بؾ وقاؿ‬
‫ػ غداً في الصباح الباكر سنرى خطتؾ يا مختار‪.‬‬

‫ػ ‪ 114‬ػ‬
‫لـ يستطيع عمي بؾ النوـ‪ ،‬كاف يفكر بما سيفعمو صباح الغد‪ ،‬وبما يجب‬
‫المدجج بالسبلح‪ ،‬بالشيداء الذيف يضحوف بدمائيـ‬
‫ّ‬ ‫فعمو مع الثوار لمواجية العدو‬
‫مف أجؿ الحرية والكرامة‪.‬‬
‫وتوضأ‪ ،‬وصمّى هلل ركعتيف فأطاؿ سجوده‬
‫ّ‬ ‫أثقؿ التفكير رأسو الصغير‪ ،‬فقاـ‬
‫ودعاءه‪ ،‬ثـ تناوؿ لقيمات‪ ،‬وارتدى لباسو‪ ،‬وسار محاذاة الشاطئ رغـ البرد ورداءة‬
‫الجو‪.‬‬
‫لفت نظره عدد مف الطمبة يتحمّقوف حوؿ مدير المكتب السمطاني‪ ،‬يتناقشوف‬
‫يتبينو إال حاؿ وصولو إلييـ‪.‬‬
‫في أمر ما‪ ،‬لـ يستطيع أف ّ‬
‫تقدـ األستاذ عبد اهلل مدير المكتب السمطاني نحو عمي بؾ حينما رآه‪،‬‬
‫ّ‬
‫فتبسـ عمي بؾ قائبلً‪:‬‬
‫وعانقو‪ّ ،‬‬
‫ػ ىؤالء أوائؿ الطمبة أـ مف المشاغبيف؟‬
‫ػإنيـ يجمعوف الصفتيف‪.‬‬
‫ػ ماذا كانوا يريدوف منؾ؟‬
‫ػ كعادتيـ‪ ..‬التظاىر احتجاجاً عمى ّنية فرنسا احتبلؿ دير الزور‪ ،‬وىذا مف‬
‫حقّيـ لكنني قمت ليـ‪ :‬لـ تأت فرنسا كي نتظاىر‪ ،‬فأرجو أف تتميّموا‪ ،‬ووقتذاؾ‬
‫سأشارككـ أنا والييئة التدريسية تظاىركـ‪ ،‬فاقتنعوا وانصرفوا‪.‬‬
‫ػ يا عبد اهلل سيكوف في تماـ الساعة الثامنة صباحاً عدد ال بأس بو مف‬
‫الخمية الثورية في ضيافتكـ‪.‬‬
‫ػ عمى الرحب والسعة وسأذىب المحظة ألىيئ ليـ المقاء‪.‬‬
‫ػ رافقتؾ السبلمة‪.‬‬
‫سار عمي بؾ عمى الشاطئ طويبلً‪ ،‬ثـ توقؼ عندما سمع صوت حارسو‬
‫يناديو ميروالً‪ .‬توقؼ حتى وصؿ إليو‪.‬‬
‫ػ ما بؾ يا سميـ؟‬
‫كؿ ّّ األسماء التي أعطيتنييا‪ ،‬وىـ اآلف في‬
‫بمغت ّ‬
‫ػ جئت ألخبرؾ بأنني ّ‬
‫طريقيـ إلى المكتب السمطاني‪.‬‬
‫ػ بارؾ اهلل فيؾ يا ولدي‪ .‬اذىب واحتؿ مكانؾ الذي أشرت بو إليؾ‪ ،‬وأنا‬
‫سألحؽ بؾ‪.‬‬

‫ػ ‪ 115‬ػ‬
‫وقؼ الجميع عندما دخؿ عمي بؾ إلى المكتب السمطاني‪ ،‬وىتفوا لموطف‬
‫طويبلً‪ ،‬ثـ جمسوا وتناقشوا في المستجدات كافة وفي الخطط الرامية إلفشاء أو‬
‫إعاقة دخوؿ القوات الفرنسية دير الزور‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫أعد لنا المختار؟‬
‫ػ لنسمع ما ّ‬
‫تنحنح أبو عدناف‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫كؿ ّّ سرية سبعة مناضميف‪:‬‬ ‫ػ يجب أف نقسـ أنفسنا إلى سبع سرايا‪ ،‬في ّ‬
‫ػ األولى تكمف في (عيف أبو جمعة) مع مجموعة االستطبلع‪ .‬الثانية في‬
‫(عياش)‪ ،‬والثالثة في (البغيمية)‪ ،‬والرابعة في بساتيف (الرويمي)‪ ،‬والخامسة في‬ ‫ّ‬
‫مغارة (ابف سعود)‪ ،‬والسادسة في (الدخولية)‪ ،‬والسابعة في الممعب مقابؿ المكتب‬
‫كؿ ّّ‬
‫تعينوف ليا قادة ميرة وأفراد اتصاؿ مع ّ‬
‫السمطاني‪ ،‬إضافة إلى غرفة عمميات ّ‬
‫سنكبدىا‬
‫ّ‬ ‫سرية‪ .‬صحيح أننا قَ ْد ال نستطيع أف نوقؼ زحؼ القوات الفرنسية‪ ،‬لكننا‬
‫خسائر فادحة قَ ْد تعيؽ دخوليا إلى المدينة إلى فترة تسمح لممناضميف إعادة‬
‫يودع أىمو وأقرباءه وأصدقاءه‬ ‫كؿّ و ٍ‬
‫احد منا أف ّ‬ ‫انتشارىـ ولمممة صفوفيـ‪ ،‬وعمى ّ ّ‬
‫ألنو قَ ْد ييبو اهلل الشيادة‬
‫صفّؽ لو عمي بؾ‪ ،‬وكذلؾ فعؿ اآلخروف‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ أنا أضيؼ إلى سرايا أبي عدناف سرية ثامنة مؤلفة مف الييئتيف التدريسية‬
‫والطبلبية لمتظاىر وتحريض الشعب‪.‬‬
‫قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬
‫المتطوعات‪ .‬تمت الموافقة عمى‬‫ّ‬ ‫ػ أنا أقترح سرية تاسعة مف النساء‬
‫المقترحات‪ ،‬وأوكمت إلى لجنة مؤلفة مف خمسة مناضميف انتقاىـ عمي بؾ‬
‫بموافقتيـ‪ ،‬لوضع ىذه المقترحات قيد التنفيذ بعد انتياء اجتماعاتيـ وتعييف لجنة‬
‫إمداد وتمويف برئاسة أبي ياسيف‪ ،‬ولجنة تحريض واعبلـ برئاسة الشاعر الفراتي‪.‬‬
‫كؿ ّّ‬
‫انتظر المناضموف طويبلً‪ ،‬وقد استكمموا تدريباتيـ القتالية‪ ،‬وعاينوا ّ‬
‫األمكنة التي سيتواجدوف فييا‪ ،‬وأقاموا تحصينات فييا‪ ،‬وأودعوىا قسماً مف الذخائر‬
‫والمؤف والسبلح‪ ،‬وطاؿ انتظارىـ‪ ،‬حتى كاد صبرىـ ينفد‪..‬‬
‫القوات الفرنسية اصطدمت بمقاومة منظمة في قضاء الرقة‪ ،‬وقد استطاعت‬
‫شخصية بدوية مف قبيمة ‪/‬عنزة‪ /‬اسميا (حاجـ بف مييد) أف تبسط نفوذىا‬
‫وسمطانيا عمييا وأف تمنع الفرنسييف مف دخوليا مف العاشر مف آب ‪ 1921‬ولغاية‬

‫ػ ‪ 116‬ػ‬
‫السابع عشر مف كانوف األوؿ‪ ،‬ولـ تفمح جيود فرنسا بالتفاوض مع حاكـ الرقة إذ‬
‫أغروه بمئة ألؼ ليرة عثمانية كدفعة أولى ‪ ،‬ولـ يوافؽ‪ ،‬إذ بمغت سطوة الشيخ‬
‫مد نفوذه إلى ريؼ حمب‪ ،‬وكاد يحتؿ حمب لوال استخداـ فرنسا طائراتيا‬ ‫حاجـ أف ّ‬
‫التي شتتّت قواتو وقضت عمى العديد مف ثواره‪.‬‬
‫ولـ ينس القادة الفرنسيوف دير الزور‪ ،‬إذ ذىبت قوة كبيرة أرسميا القائد‬
‫الفرنسي ‪ /‬ترانكيو‪ /‬إلييا فوصمت في خريؼ ‪ 1921‬لتصطدـ بالمقاومة المنظمة‬
‫أعدتيا الخمية الثورية في دير الزور أبادت سرايا المقاومة عدداً كبي اًر مف‬
‫التي ّ‬
‫ودمرت عدداً مف آلياتو‪ ،‬واستولت عمى قسـ مف‬ ‫القوات الفرنسية والسنغالية‪ّ ،‬‬
‫ذخائرىـ وأسمحتيـ وتموينيـ أما في الريؼ فكاف الكولونيؿ ‪:/‬ريتشارد ‪ /‬يقود حممة‬
‫المتمرديف‪ ،‬وذىؿ ريتشارد عندما وجد الريؼ منيعاً قوياً برجالو‬
‫ّ‬ ‫فرنسية لتأديب‬
‫وتحصيناتو ‪ ..‬بخنادقو ومتاريسو‪ ،‬وطار صوابو عندما رأى أعمدة الميب تتصاعد‬
‫مف المطار‪ ،‬إذ تبيف لو أف أربع عشرة طائرة قَ ْد أحرقت مع خزاف الوقود الرئيس‪،‬‬
‫السف‪ ،‬ولـ يعد ُيسمع‬‫وجرت معركة حامية عمى تمة بيف ( مراط وخشاـ ) في موقع ّ‬
‫سوى صوت الحداة يرددوف‪:‬‬

‫حدودك‬ ‫دون‬ ‫من‬ ‫اتحارب‬ ‫جدودك‬ ‫وين‬ ‫فرنسي‬ ‫يا‬


‫العسكر‬ ‫ضباط‬
‫ّ‬ ‫انذبح‬
‫و ّ‬ ‫انحودك‬ ‫لما‬
‫ّ‬ ‫شفتنا‬ ‫ما‬
‫وياىم‬
‫ّ‬ ‫ومعمو‬ ‫تسعميو‬
‫ّ‬ ‫احدرناىم‬ ‫السن‬ ‫فوق‬ ‫من‬
‫ميسر‬
‫ّ‬ ‫لّوز‬ ‫المطر‬ ‫جاب‬ ‫جاىم‬ ‫حمودالحمادي‬
‫وكاف ‪/‬معمو‪ /‬عميبلً لفرنسا‪ ،‬لـ يسمـ مف غضبة الثوار‪...‬‬

‫كانت ثورة (العنابزة )‪ ،‬وثورة (البوخابور) تميباف الوجداف‪ ،‬وتنثراف األمؿ في‬
‫ساحات االنتظار وكاف تؿ (الشروفية) حيث انتصب مدفع قديـ غنمو الثوار قبؿ‬
‫أشير مف اإلنكميز وعدد كبير مف المناضميف أمثاؿ حمود وعيباف وعربيد كانوا‬
‫بالمرصاد لكؿ تحرؾ فرنسي‪ .‬استطاع الثوار أف يبيدوا أكثر مف مئة وثمانيف جندياً‬
‫وضابطاً فرنسياً وسنغالياً وعمى رأسيـ قائد الحممة ريتشارد‪ ،‬وغنموا مف العدو‬
‫مدفعيف ومنظاريف استخدميما المناضؿ محمد الفبلح الذي كاف رقيباً في سبلج‬
‫المدفعية التركي‪ ،‬فأحسف استخداميما‪ ،‬وىربت القوات الفرنسية مف بطش الثوار‬
‫إلى مدينة دير الزور‪ ،‬وصوت الحداة يبلحقيـ‪:‬‬

‫ػ ‪ 117‬ػ‬
‫متراسو‬ ‫الشروفية‬
‫ّ‬ ‫حطوا‬ ‫براسو‬ ‫ناموسو‬ ‫العمري‬
‫ميسر‬
‫ّ‬ ‫انجيبو‬ ‫شاش‬
‫والر ّ‬ ‫راسو‬ ‫انكحف‬ ‫الطوبجي‬
‫يناىن‬
‫خّم ْ‬ ‫الجفرة‬ ‫غرب‬ ‫الحرقناىن‬ ‫الطيارات‬
‫ميسر‬
‫ّ‬ ‫انجيبو‬ ‫لوز‬ ‫بالمطر‬ ‫وياىن‬
‫ّ‬ ‫المارد‬ ‫ميكال‬

‫قوات الريؼ ‪/‬‬


‫كانت الثورات متبلحقة لـ تيدأ يومأً إالّ بعد استشياد قائد ّ‬
‫حمود الحمادي ‪ /‬الذي أس كت وحده سرية كاممة مف قوات الفرنسييف‪ ،‬حتى إذا ما‬
‫انتيت ذخيرتو راح يصيح‪:‬‬
‫شد وثاؽ‬
‫(اليعطيني مشط رصاص يأخذ بنتي فضة) ولـ ييرب ألنو طمب ّ‬
‫ساقيو‪ .‬قتمو الفرنسيوف‪ ،‬وقطعوا رأسو‪ ،‬وأخذوه إلى جية مجيولة‪ ،‬ودفف ببل رأس‪...‬‬
‫ولقد رثتو امرأة عجوز فقالت‪:‬‬

‫وذبح السودان حمود الحمادي‬


‫ّ‬ ‫تييجون الظعن بييا العوادي‬
‫ال ّ‬
‫يا فضة وصالحة حمود رافع البنود‬ ‫يام العيون السود‬
‫غ ّني وىميمي ّ‬

‫وشيعت شيداءىا بكؿ فخر وشموخ‬ ‫أما مدينة دير الزور‪ ،‬فممممت جراحاتيا‪ّ ،‬‬
‫شيعت‪(:‬ديكراف‪ ،‬ميرنا أـ سمطاف‪ ،‬وأبا طارؽ )‪ ،‬وقد أقامت دير الزور حفؿ‬‫‪ّ ..‬‬
‫وداع ليـ ألقى خبلليما عمي بؾ واألب مردخياف والشاعر الفراتي كممات وقصائد‬
‫ضد الفرنسييف‪ ،‬وانتشرت‬
‫أججت المشاعر‪ ،‬ودفعت الثوار لمزيد مف النضاؿ ّ‬
‫حي وشارع وزقاؽ‪.‬‬
‫كؿ ّّ ّ‬
‫مجالس التينئة باستشيادىـ في ّ‬

‫ػ ‪ 118‬ػ‬
‫(‪)96‬‬
‫مكفيرة ‪ ..‬غيوـ سوداء‪ ،‬وريح عاتية‪ ،‬بروؽ ورعود قصفت‬
‫ّ‬ ‫السنوف تمر ثقيمة‬
‫كؿ ّّ بيت نواح وعويؿ‪ ،‬وفي‬
‫رؤوس األشجار‪ ،‬ولوت أعناؽ المزروعات ‪ ..‬في ّ‬
‫حي مأتـ‪..‬‬
‫كؿ ّّ ّ‬
‫ّ‬
‫فأرقيا‪ ،‬والعيوف ذابمة تتطمع إلى اهلل بتذلّؿ‬
‫فقر وعوز وحرماف لؼ المدينة ّ‬
‫وانكسار ‪..‬‬
‫كثرت المقاىي عمى شاطئ الفرع الصغير‪ ،‬والشيوخ يدفنوف الوقت بأحاديث‬
‫عرجاء‪ ،‬بعضيـ يترحموف عمى العثمانييف‪ ،‬وآخروف يشتموف دوف حياء فيصبلً‬
‫والحسيف وعمياً وزيداً وعبد اهلل‪ ،‬وسقاه المقاىي ييزوف رؤوسيـ أسفاً ألنيـ ال‬
‫يفيموف ما يقاؿ‪ ،‬وما يجري‪ ،‬وما يدور‪ ..‬لكنيـ يعرفوف مف استُشيد‪ ،‬ومتى‬
‫وكيؼ‪..‬‬
‫قاؿ أحد الشيوخ لمساقي الذي ييز رأسو باستمرار‪:‬‬
‫ىزاز؟‬
‫ػ مف استشيد اليوـ يا ّ‬
‫وضع اليزاز أماـ الشيخ كأساً مف الشاي‪ ،‬وجمس قبالتو‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫كنا نحسبيـ مف الجبناء‪ ،‬وكنت أنا‬‫ػ تصور يا أبا محسف أف شيداء اليوـ ّ‬
‫أكبرت فييـ‬
‫أسخر منيـ عندما كانوا يأتوف إلى المقيى‪ ،‬واليوـ احتقرت نفسي‪ ،‬و ُ‬
‫شجاعتيـ‪.‬‬
‫ػ ومف ىـ؟‬
‫ػ ابف عموش‪ ،‬وابف عبوش‪ ،‬وابف كردوش‪ .‬كانوا ال يفترقوف إال عند النوـ‪،‬‬
‫وجاءىـ الموت ليجمعيـ مف جديد‪ .‬يا قدرة اهلل!‬
‫ػ أيف استشيدوا؟‬
‫ػنصبوا كميناً لدورية فرنسية عند المكتب السمطاني وأبادوىا‪ ،‬ولسوء حظيـ أف‬
‫دورية أخرى كانت ال تبعد كثي اًر عف سابقتيا رأتيـ‪ ،‬فأصمتيـ نا اًر حامية‪ ،‬وأردتيـ‬
‫قتمى‪.‬‬
‫ىزاز‪.‬‬
‫ػ ال تقؿ قتمى‪ ،‬قؿ شيداء يا ّ‬

‫ػ ‪ 119‬ػ‬
‫ػ نعـ ‪ ..‬شيداء واهلل‪ ،‬وشجعاف واهلل‪.‬‬
‫قتبلىـ في النار‪ ،‬وشيداؤنا في الجنة إف شاء اهلل‪.‬‬
‫قاـ اليزاز عندما جاء عمي بؾ والشاعر الفراتي‪ ،‬وجمسا إلى جانب الشيخ‬
‫أبي محسف‪ ،‬وقد سمعا ما قالو اليزاز‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ لميزاز‪:‬‬
‫ػ اجمب لنا إبريقاً مف الشاي بسرعة‪.‬‬
‫يتحدثوف بصوت خفيض إذ‬
‫ّ‬ ‫ذىب اليزاز يعدو مسرعاً‪ ،‬وأخذ الرجاؿ الثبلثة‬
‫يتنصتوف لكؿ ما يقاؿ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫شاىدوا بعض العمبلء في المقيى‬
‫قاؿ الشاعر الفراتي لعمي بؾ‪:‬‬
‫ػ لِ َـ ال تكوف في المدينة مقبرة خاصة لمشيداء؟‬
‫كؿ ّّ عائمة تدفف موتاىا وشيداءىا في مقبرتيا‬
‫ػ أنت تعرؼ يا أبا القاسـ أف ّ‬
‫الخاصة لكف توجد مقبرة بمحاذاة جبؿ الولي لـ ُيدفف بيا سوى أربعة شيداء مف‬
‫عائمة واحدة‪ ،‬وأفكر أف أجعميا مقبرة لمشيداء‪.‬‬
‫ػ إنو تفكير صائب واهلل‪ ،‬وسنزرع فييا عدداً كبي اًر مف األشجار والزىور إف‬
‫عما سمعتو ولـ نسمعو نحف‪.‬‬ ‫تحدثنا ّ‬
‫شاء اهلل‪ ،‬واآلف أرجو أف ّ‬
‫ػ سمعت أف رمضاف باشا أخفؽ بتشكيؿ قوة في األردف مف أبناء الفرات‬
‫لتحرير دير الزور بسبب ضغط األمير عبد اهلل عميو‪ ،‬كما سمعت أنو سيرحؿ إلى‬
‫بل في صفوؼ الثورة السورية الكبرى التي يقودىا سمطاف‬
‫لينضـ مقات ً‬
‫ّ‬ ‫جبؿ العرب‬
‫باشا األطرش‪.‬‬
‫ػ ىؿ نستطيع أف نقوؿ إنو بإذف اهلل سيكوف عاـ ‪ 1925‬عاـ تحرير يا‬
‫أبا راغب؟‬
‫ػستزداد قوة سمطاف باشا بانضماـ رمضاف باشا إليو‪ ،‬فرمضاف باشا قائد‬
‫عسكري ومخطط حربي بارع‪ .‬قاؿ الشاعر الفراتي‪ :‬في حاؿ انضماـ رمضاف باشا‬
‫إلى سمطاف باشا سألقي قصيدة أجعميا حديث المحافؿ‪.‬‬
‫قاؿ أبو محسف‪:‬‬
‫ػ ونحف أال نتحرؾ ونحرؾ الريؼ معنا يا أبا راغب؟‬
‫ػ لقد وضعنا خطة لمتحرؾ يا أبا محسف‪ ،‬أما الريؼ فقد تعاقدت القبائؿ‪،‬‬
‫وتعاىدت عمى طرد الفرنسييف ميما كمفيـ ذلؾ مف ثمف‪ ،‬وأسموا أنفسيـ‬

‫ػ ‪ 121‬ػ‬
‫(العقيدات) وليـ نخوة (أبرز) عندما يسمعيا فرد منيـ فمعنى ذلؾ أف يتييأ‬
‫لمنضاؿ ويده عمى الزناد‪.‬‬
‫وسدد خطاىـ‪ ،‬وأتمنى أف نتعاقد نحف في المدينة مثميـ وأف‬
‫ػ بارؾ اهلل فييـ‪ّ ،‬‬
‫جداً أف نظؿ ‪ /‬وسطييف وشرقييف وغربييف و‪/...‬‬‫ننبذ الخبلفات بيننا‪ ،‬فمعيب ّ‬
‫ػ نحف متعاقدوف يا أخي‪ .‬ألسنا جميعاً ‪/‬أخوة بطة‪/‬؟‬
‫ػ ال يا أبا راغب‪ ،‬فمازالت بعض العشائر ‪ /‬أخوة الخرسا‪ ،‬وأخوة عدلة‪ ،‬وأخوة‬
‫عمشة‪ ،/‬وما زاؿ الثأر يحرؽ أوالدنا‪.‬‬
‫ضد فرنسا‪ ،‬وشيداء اليوـ‬
‫ّ‬ ‫ػ يا أبا محسف‪ ،‬نحف متعاقدوف في النضاؿ‬
‫مف ثبلث عشائر‪ ،‬وىذا دليؿ تعاقدنا‪.‬‬
‫ػ صحيح‪ ،‬لكف المساوئ مازالت‪.‬‬
‫ػ اتركيا لمزمف‪ ،‬فيو كفيؿ بدفنيا‪.‬‬
‫قاؿ الشاعر الفراتي ‪:‬‬
‫نشيع مف خبلليا‬
‫ػ سيقوـ المكتب السمطاني غداً بمظاىرة صباحية صاخبة ّ‬
‫شيداءنا‪ ،‬وسندفنيـ في مقبرة الشيداء‪ ،‬فيؿ توافؽ؟‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ كيؼ ال أوافؽ‪ ،‬وسأكوف في المقدمة إف شاء اهلل‪.‬‬
‫قاؿ أبو محسف‪:‬‬
‫سننضـ إليكـ إف شاء اهلل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ػ أنا واخوتي وأبنائي‬
‫لـ تكف مظاىرة المكتب السمطاني مظاىرة عادية‪ .‬لقد خرجت دير الزور‬
‫المدرسوف يحمموف البلفتات‬
‫ّ‬ ‫عمى بكرة أبييا تيتؼ بحياة الوطف وبسقوط فرنسا‪..‬‬
‫ِّ‬
‫المعبرة‪ ،‬والطبلب قَ ْد حمموا الطالب جبلالً الذي ما انقطع ىتافو طواؿ‬ ‫القماشية‬
‫تجمعف في زوايا الشوارع يزغردف‪.‬‬
‫وثمة نساء ّ‬ ‫المسيرة‪ّ ،‬‬
‫استمر سير ا لمسيرة حتى مقبرة الشيداء‪ ،‬حيث وارى المناضموف جثاميف‬
‫رفاقيـ‪ ،‬وقد أقسموا عمى الثأر ليـ‪ ،‬ثـ عادوا بالحماسة نفسيا التي جاؤوا بو‪.‬‬
‫بقيت دير الزور تمور غضباً وىيجاناً‪ ،‬فقوافؿ الشيداء لـ تنتو‪ ،‬والمقبرة عمى‬
‫رحبيا ضاقت بيـ‪ ،‬فقرروا توسيعيا مف جية الشرؽ والغرب‪ ،‬واحاطتيا بسياج مف‬
‫األشجار الحراجية‪ ،‬وتطوع أحد المناضميف برعاية األشجار وحمايتيا‪.‬‬

‫ػ ‪ 121‬ػ‬
‫قاؿ عمي بؾ لجمساء مضافتو‪:‬‬
‫ػ يجب أف تحذروا العمبلء‪،‬إنيـ أخطر مف العدو المحتؿ‪ ،‬فالعدو نعرفو‪ ،‬أما‬
‫العمبلء فيـ يتخفّوف بأزياء ال تخطر عمى الباؿ‪.‬‬
‫قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬
‫ػأليسوا ىـ أنفسيـ الذيف ارتضوا أف يعمموا في جياز االستخبارات الفرنسية؟‬
‫ػ ال يا أبا ياسيف‪ ...‬العمبلء أفدح خط ًار منيـ‪ ،‬قَ ْد يجمسوف معكـ دوف أف‬
‫تعرفوا ىويتيـ‪.‬‬
‫ػ وكيؼ لنا أف نعرفيـ؟!‬
‫تتحدثوا‬
‫ػ ال تجالسوا أحداً غير أعضاء الخمية‪ ،‬أو مف تثقوف بيـ‪ ،‬واّياكـ أف ّ‬
‫شرىـ‪ .‬واصموا كمائنكـ ضد الفرنسييف‬ ‫ٍ‬
‫بأمور السياسة والحرب أماـ أحد‪ ،‬فتأمنوا ّ‬
‫كما اتّفقنا‪ .‬اضربوا واىربوا كحرب العصابات‪ ،‬فالعدو ال يخشى شيئ ًا سوى ىذا‬
‫النوع مف الحروب‪.‬‬
‫أخذت الكمائف المنظّمة المدرّبة تقمؽ العدو الفرنسي‪ ،‬ولعؿ أكبر كميف قادة‬
‫الشيخ محمد سعيد مف مركزه في ‪/‬عياش‪ /‬فقتؿ اثني عشر ضابطاً فرنسياً كانوا‬
‫اتيـ المكتب السمطاني بيذه العممية أخذ‬
‫متوجييف لحضور اجتماع ميـ‪ ،‬وعندما ّ‬ ‫ّ‬
‫تحدوا الحصار‪ ،‬وخرجوا بمظاىرة‬‫المدرسيف الذيف ّ‬
‫يضيؽ عمى الطمبة و ّ‬ ‫ّ‬
‫صاخبة أحرقوا فييا العمـ الفرنسي‪ ،‬ورفعوا عمـ سورية‪ ،‬وعندما حاوؿ الجنود‬
‫سياراتيـ‪،‬‬
‫بلب عدداً مف ّ‬ ‫الفرنسيوف تفريؽ ىذه المظاىرة الضخمة بالقوة‪ ،‬أحرؽ الط ّ‬
‫وقتموا ستةً مف جنودىـ‪ ،‬فاستخدـ الفرنسيوف القوة‪ ،‬واعتقموا الشيخ محمد سعيد‬
‫المدرسيف الفرار إلى العراؽ‪،‬‬‫ّ‬ ‫ونفوه‪ ،‬بينما استطاع الشاعر الفراتي وعدد مف‬
‫وتخفّى ناظر المدرسة في قرية تبعد سبعيف كيمو مت اًر عف المدينة‪ ،‬غير آسفيف‬
‫عمى تسريحيـ مف الخدمة‪ ،‬وال مكترثيف باألحكاـ الصادرة بحقّيـ غيابياً‪ ،‬وغدا عاـ‬
‫‪ 1928‬عاـ النضاؿ الحقيقي ضد الفرنسييف المحتمّيف‪ ،‬كما غدا عاـ النكبات‬
‫ودمر‬
‫كؿ المؤف‪ّ ،‬‬ ‫والمحف‪ ،‬إذ زمجر الفرات غاضباً فجرفت ألسنتو الصخرية ّ‬
‫ومجالس‬ ‫األطفاؿ‪،‬‬ ‫مبلعب‬
‫الشيوخ‪ ،‬واستراحات النساء‪ ،‬وتخطّى بضع درجات مف بيت أبي ياسيف‪ ،‬ومنع‬
‫عبار غرؽ)‪.‬‬ ‫ساكني البيوت مف الخروج‪ ،‬وعمت أصوات المتشاطئيف‪( :‬أبو ّ‬
‫فقد أراد ىذا الرجؿ الشيـ أف ينقذ أناساً ومراكب وأمتعة‪ ،‬فجرفو التيار ولـ يترؾ لو‬

‫ػ ‪ 122‬ػ‬
‫سمي باسمو‪ ،‬وأصبح أبناء دير الزور‬ ‫أث اًر‪ ،‬حتَّى إف الفيضاف في تمؾ السنة ّ‬
‫يذكروف بألـ تاريخ الرابع والعشريف مف نيساف عاـ ثمانية وعشريف وتسعمائة وألؼ‬
‫عبار)‪.‬‬
‫ذكرى (فيضة أبي ّ‬
‫قاؿ عمي بؾ لجمساء مضافتو العامرة‪:‬‬
‫ػ أتدروف يا إخوتي أف فرنسا بدأت بإنشاء جسر جديد عمى نير الفرات‪ ،‬وقد‬
‫صممو ميندس فرنسي لـ يصمـ مثمو إال جس اًر واحدًا‪ ،‬اشتروه منو في ساف‬
‫فرانسيسكو‪.‬‬
‫قاؿ األستاذ ثابت مستيزئ ًا‪:‬‬
‫ػ إنيـ يريدوف الجسر لتنفيذ مآربيـ‪ ،‬وتحقيؽ مصالحيـ‪ ،‬وتيسير أمورىـ التي‬
‫صدقني يا أخي‪ ،‬عندما‬‫أربكيا مناضمو خشاـ والطابية والمريعية وما حوليا‪ّ ...‬‬
‫سيدمرونو‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ميمتيـ بيذا المكاف‬
‫تنتيي ّ‬
‫أف مف سيبنونو ىـ‬ ‫ِ‬
‫ػ لنتركيـ يا أخي اآلف ُينشئوف ىذا الجسر‪ ،‬وال ننسى ّ‬
‫أبناء المواء وليس الفرنسيوف‪ ،‬وميما كاف األمر يبقى ىذا الجسر لصالح أبناء‬
‫المواء الذيف سيعرفوف جيداً كيؼ يمنعوف تدميره‪.‬‬
‫ػ سنكوف ليـ بالمرصاد إف حاولوا استغبللو ضدنا‪ ،‬وسيجد الفرنسيوف منا ما‬
‫يسرىـ‪.‬‬
‫ال ّ‬
‫ػ ما أخبار ناديؾ الثقافي؟‬
‫ميمة عف (المستقبؿ‬‫عمنا عبد الوىاب محاضرة ّ‬ ‫ػ منذ يوميف ألقى ابف ّ‬
‫ميمة أيضاً عف‬‫وتطمعات الجماىير)‪ ،‬وسيمقي غداً األستاذ راغب محاضرة ثقافية ّ‬
‫(الوحدة والتجزئة)‪ ،‬وبعدىا بثبلثة أياـ سيحيي الشاعر توفيؽ أمسية شعرية‪...‬‬
‫ػ انتبو يا أخي فناديكـ مراقب مراقبة شديدة‪.‬‬
‫ػ أعرؼ ذلؾ‪ ،‬وسأجعؿ كؿ العناصر الموكمة ليا مراقبة النادي إما‬
‫محاضريف‪ ،‬واما شعراء أو أنيا تمؿ وترحؿ بصمت‪.‬‬
‫ناد آخر‪ ،‬وىو سيمارس تحت ستار الرياضة ميامو‬ ‫ػ سيكوف في المدينة ٍ‬
‫النضالية واسمو ‪/‬نادي الجراح‪ /‬تيمناً بالقائد العربي (أبو عبيدة بف الجراح)‪ ،‬وقد‬
‫وافؽ عميو الحاكـ الفرنسي (جاكو)‪ ،‬ومتصرؼ الفرات رشدي الصفدي شريطة‬
‫ممارسة الرياضة دوف غيرىا‪ ،‬فوافؽ رئيس النادي السيد قاسـ ىنيدي ومديره‬
‫الشاعر توفيؽ قنبر‪.‬‬
‫ػ سنقؼ جنباً إلى جنب مع ىذا النادي َّ‬
‫ألنو سيكوف بؤرة ثقافية‪.‬‬

‫ػ ‪ 123‬ػ‬
‫ػ طبيعي ذلؾ‪ ،‬وسندعمو بكؿ المستمزمات المادية والمعنوية‪.‬‬
‫ثـ ما لبث أف قاؿ‪:‬‬
‫صمت عمي بؾ‪ ،‬وكأنو يف ّكر بأمر ما َّ‬
‫ػ يا أبا زىير‪ ،‬سمعت أنؾ ستسافر قريباً إلى موسكو؟‬
‫تمقيتيا‪ ،‬وسألبي الدعوة إف شاء اهلل‪.‬‬
‫ػ دعوة ّ‬
‫ػ أبا زىير‪ ،‬الروس باردوف‪ ،‬ونحف شعمة نار‪ ،‬فكيؼ سنتّفؽ معيـ؟‪.‬‬
‫عدوؾ صديقؾ‪ ،‬وكؿ دعـ منيـ سيخدـ قضيتنا المصيرية‬ ‫عدو ّ‬ ‫ػ أبا راغب‪ّ ...‬‬
‫وسيكوف خي اًر إف شاء اهلل‪.‬‬
‫ػ الخير في ما اختاره اهلل‪.‬‬
‫العَمـ السوري‪ ،‬كيؼ كاف وكيؼ‬
‫ػ أبا راغب‪ ...‬ىناؾ استفسار والتباس حوؿ َ‬
‫أصبح‪ ،‬ولماذا؟‬
‫وعمَـ العراؽ‪ ،‬وكانت فرنسا ال تريده‬
‫ػ العمـ يا أبا زىير كاف َعمَـ شرقي األردف َ‬
‫ألنو صنيعة بريطانيا‪ .‬كاف ذا ثبلثة ألواف‪ ،‬مف األعمى األسود فاألبيض فاألخضر‬ ‫َّ‬
‫وعمى الطرؼ األيسر منو زاوية حمراء في وسطيا نجمة بيضاء ذات سبعة أشعة‪.‬‬
‫يرمز األسود فييا لراية العباسييف‪ ،‬واألبيض لراية األموييف واألخضر لمفاطمييف‪،‬‬
‫والمثمث األحمر لمثورات العربية‪ ،‬والنجمة البيضاء لسوريا‪.‬‬
‫اختصت بنجمتيف‪ ،‬عمى أف تُمغي النجوـ عند تحقيؽ الوحدة بيف‬
‫ّ‬ ‫العراؽ‬
‫األقطار الثبلثة‪.‬‬
‫الوطنيوف وضعوا في مشروع الدستور العمـ الجديد بألوانو الثبلثة (أخضر‪،‬‬
‫أبيض‪ ،‬أسود) وعمى األبيض ثبلثة نجوـ حمراء ذات خمسة أشعة مسايرة لفرنسا‬
‫لمعَمـ العربي وانما تساىموا في تغيير شكؿ‬
‫يفرطوا باأللواف األربعة َ‬
‫ومزاعميا‪ ،‬ولـ ّ‬
‫العَمـ السوري‪.‬‬
‫َ‬
‫ػ إذا كاف األمر ىكذا‪ ،‬فبل يضير شيئاً‪.‬‬
‫يمؼ المواء كمّو‪ ،‬ففرنسا جاءت لتبقى‪ ،‬واف لـ يستطع الثوار‬
‫التوتّر ما زاؿ ّ‬
‫إخراجيـ اليوـ‪ ،‬فإف األياـ القادمة حبمى باألحداث‪ ،‬ستتضافر الجيود مدينة وريفاً‬
‫وقوة أشد‪...‬‬
‫كما كاف سابقاً‪ ،‬لكف بوتيرة أعمى ّ‬
‫المتفجرات‬
‫كاف أبو ياسيف وعائمتو يسيروف معظـ الميؿ في تجييز الذخائر و ّ‬
‫ليوـ يرونو قريباً‪...‬‬
‫وحدث ما توقّعو أبو ياسيف‪:‬‬

‫ػ ‪ 124‬ػ‬
‫تفجر الموقؼ في البوكماؿ‪ ،‬وطغى عمى األحداث كمّيا‪.‬‬
‫ّ‬
‫قاؿ عمي بؾ‪.‬‬
‫ػ ضابط االرتباط بيننا وبيف مناضمينا في البوكماؿ ىاىو اآلف ىنا بينكـ‪،‬‬
‫وسيحدثكـ بالتفصيؿ عف مجريات األحداث‪.‬‬
‫وقؼ أحمد الصباغ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫عينوا مستشا ًار ليا يدعى ‪/‬تاكو‪ ،/‬قاـ ىذا‬ ‫ػ منذ أف دخؿ الفرنسيوف البوكماؿ ّ‬
‫ويتذرع‬
‫ّ‬ ‫المستشار بممارسات مذلّة لؤلىالي وبدأ يفرض الضرائب عمى السكاف‪،‬‬
‫بأتفو األسباب مف أجؿ تأديب شيوخ المنطقة‪ ،‬وقد فرض ضريبة مقدارىا تسعوف‬
‫ليرة ذىبية وخمس وعشروف بندقية عمى عشيرة ‪/‬الحسوف‪ /‬مف العقيدات‪ ،‬فوقؼ‬
‫التصدي لفرنسا بكؿ ما يممؾ مف‬
‫ّ‬ ‫مقر اًر‬
‫الشيخ مشرؼ الدندؿ رافضاً ىذه الضريبة‪ّ ،‬‬
‫قوة‪ ،‬وكانت الخمية الثورية والمقاومة الشعبية كميا معو‪ ،‬وتوصمنا باألمر إلى تنبيو‬ ‫ّ‬
‫القرى كافة لبلمتناع عف إعطاء الضرائب‪ ،‬وأخذ الحيطة والحذر‪ ،‬ونصب الكمائف‬
‫عمى طريؽ دير الزور ػ البوكماؿ‪ ،‬ومياجمة أية قوة تأتي مف ىناؾ‪ ،‬وبالفعؿ‬
‫قَِدمت ثبلثوف سيارة ومصفّحة مف دير الزور‪ ،‬فأطمؽ عمييا الكميف النار بعد أف‬
‫سدوا الطريؽ بالحج ارة‪ ،‬وقتؿ قائد الحممة (شوفميو) مع عدد كبير مف جنوده والذت‬ ‫ّ‬
‫بقية الحممة بالفرار إلى دير الزور‪ ،‬وقد ُجف جنوف القوات الفرنسية‪ ،‬فألقت‬
‫الطائرات الفرنسية المناشير تطالب مف خبلليا الشيخ مشرؼ الدندؿ باعتقاؿ‬
‫الجوي‪،‬‬
‫تعرضت المنطقة بالكامؿ لمقصؼ ّ‬ ‫منفّذي اليجوـ وتسميميـ لممحاكمة واال ّ‬
‫مما‬
‫فرفض الشيخ مشرؼ ىذا الطمب‪ ،‬فأصدر الفرنسيوف عميو حكماً باإلعداـ‪َّ ،‬‬
‫اضطره إلى المجوء إلى العراؽ مع أفراد أسرتو‪ ،‬وألقت القوات الفرنسية القبض عمى‬ ‫ّ‬
‫المؤبد‪ .‬استطاع‬
‫ّ‬ ‫بالسجف‬ ‫عمييما‬ ‫فحكمت‬ ‫اليامة‬ ‫محمد‬ ‫عمو‬ ‫ابف‬
‫و‬ ‫اهلل‬ ‫عبد‬ ‫شقيقو‬
‫توفي محمد في السجف‪.‬‬‫يفر مف السجف بمساعدة المجنة الثورية‪ ،‬بينما ّ‬ ‫عبد اهلل أف َّ‬
‫جمس أحمد الصباغ‪ ،‬وقد أثنى عميو عمي بؾ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ في الغد يا إخوتي قد تنفجر الش اررة الثانية مف دير الزور‪ .‬ستقاـ مباراة في‬
‫المبلكمة بيف ‪/‬فريد عميوي عضو نادي الجراح ومبلكـ فرنسي مشيور اسمو‬
‫الح َكـ حتماً إلى المبلكـ الفرنسي‪ ،‬وىذا ما‬
‫نيكواليدس‪ ،/‬والح َكـ فرنسي‪ ،‬لذا سينحاز َ‬
‫سيغضب الجميور‪ ،‬فأرجو أف تأخذوا المزيد مف الحيطة والحذر‪ ،‬واالستعداد لقتاؿ‬
‫رّبما يكوف ضارياً‪ .‬راقبوا الطرقات‪ ،‬وانصبوا الكمائف‪ ،‬ودعوا القناصة يحتموف أماكنيـ‬
‫عمى األسطحة‪ ،‬فربما يكوف الغد حاسماً إف شاء اهلل‪.‬‬

‫ػ ‪ 125‬ػ‬
‫قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬
‫ػ أتسمح لي أف أدع زوجتي وأميا تأخذاف مكانييما في ساحة األحداث؟‬
‫ػ ال يا أبا ياسيف‪ .‬ليس اآلف أرجوؾ‪.‬‬
‫المتفجرات‪.‬‬
‫ػ لكنني أحتاج إلييما في نقؿ الذخائر و ّ‬
‫ضيقة أرجوؾ‪.‬‬
‫ػ إذف أوافؽ بحدود ّ‬
‫ػ كما تريد‪.‬‬
‫وجرت المباراة في الموعد المحدد‪ ،‬وقد تج ّمع مئات مف المتطوعيف الشباب‪،‬‬
‫احد منيـ يخفي مدية وعصا عجراء في ثيابو ينتظروف المحظة الحاسمة‪،‬‬ ‫وكؿ و ٍ‬
‫وحيا الجماىير المحتشدة‪ ،‬فصفّقوا لو طويبلً‪ ،‬وعندما صعد‬
‫وصعد المبلكـ الديري ّ‬
‫حيا قادة االحتبلؿ الجالسيف عمى المنصة‪ ،‬فبادلوه التحية والتصفيؽ‬
‫المبلكـ الفرنسي ّ‬
‫أماـ صفير الجماىير‪.‬‬
‫الح َكـ صافرة البدء‪ ،‬فأخذ المبلكماف يتراقصاف قميبلً ويدوراف في الحمبة‪،‬‬‫أطمؽ َ‬
‫فوجو المكمة تمو األخرى‬
‫الح َكـ يتابعيما باىتماـ‪ .‬أخذ المبلكـ الديري زماـ المبادرة‪ّ ،‬‬
‫و َ‬
‫عمى وجو المبلكـ الفرنسي حتَّى أدماه‪ ،‬وضربو ضربة أخرى مصحوبةً بتصفيؽ‬
‫الجماىير‪ ،‬فترّنح المبلكـ الفرنسي عمى أرض الحمبة‪ ،‬والصيحات تتالى‪ :‬اهلل أكبر‪...‬‬
‫الح َكـ أف المبلكـ الفرنسي لـ يعد يقوى عمى الوقوؼ أنيضو‬ ‫اهلل أكبر وعندما شعر َ‬
‫ورفع يده عالياً منيياً المباراة لصالحو معمناً لمجماىير أف المبلكـ الديري لـ يمتزـ‬
‫بقواعد المعبة فضرب المبلكـ الفرنسي بمكاف ممنوع جعمو يئف ويترّنح‪ ،‬فوقؼ‬
‫ثـ ارتجؿ قصيدة شعرية أججت‬ ‫متحدثاً بالفرنسية كبلماً قاسياً‪َّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫الشاعر توفيؽ قنبر‬
‫المشاعر‪ ،‬فياج الشعب‪ ،‬وأخرج كؿ واحد منيـ مديتو وعصاه‪ ،‬وىاجموا الفرنسييف‪،‬‬
‫فقتموا عدداً كبي اًر منيـ‪ ،‬وجرحوا عدداً أكبر‪ ،‬حتَّى أصبحت حمبة المبلكمة وما حوليا‬
‫ساحة حرب دموية‪ ،‬وخرج الشعب بتظاىرة كبيرة أحرقوا فييا ثبلث سيارات فرنسية‪،‬‬
‫ولـ تنتو ىذه الثورة إال باستخداـ العنؼ‪ ،‬فاستشيد عدد مف المناضميف‪ ،‬وألقوا القبض‬
‫عمى واحد وخمسيف مناضبلً أودعوىـ السجوف‪، ،‬وأصدروا أحكاماً قاسية عمى‬
‫الفاريف وعمى رأسيـ المناضؿ توفيؽ‪ ،‬قاؿ عمي بؾ وىو ييز رأسو‪:‬‬ ‫المناضميف ّ‬
‫ػ رحمة اهلل عمى شيدائنا‪ .‬شيداؤنا في الجنة‪ ،‬وقتبلىـ في النار‪.‬‬
‫قاؿ المختار‪:‬‬
‫ػ لقد رأيت بأـ عيني كيؼ قاتؿ آغوب‪ ،‬ولـ يجبف عندما أحاطوا بو‪ ...‬رأيتو‬
‫يقتؿ عدداً مف الفرنسييف‪ ،‬ويجرح بعضيـ قبؿ أف ُيقتؿ‪ ...‬يا إليي! كـ كاف بطبلً!‪.‬‬

‫ػ ‪ 126‬ػ‬
‫ػ ىو الوفاء يا أبا عدناف‪ ،‬رحمة اهلل عميو وعمى شيدائنا اآلخريف‪ ،‬وعمينا أف‬
‫ونوزع عمييـ بعض المؤف‪ ،‬وسيرافقنا أبو صادؽ‬ ‫ّ‬ ‫نزور عائبلتيـ لنواسييـ‪،‬‬
‫الميكانيكي وأبو ياسيف‪.‬‬
‫ػ أجؿ يا أبا راغب‪ ،‬وكؿ شيء جاىز‪ ،‬وستنطمؽ العربة معنا‪.‬‬
‫أولى الزيارات كانت إلى بيت أحمد الصباغ‪ ...‬كانت األـ تيذي باسمو كؿ‬
‫آونة‪ ،‬وسعدى لـ تنضب دموعيا رغـ مواساة والدىا وحديث أبي راغب عف بطوالتو‪،‬‬
‫وكيؼ استشيد بعد أف قتؿ ستة فرنسييف أحاطوا بو مف كؿ جانب‪ ،‬أمر أبو راغب‬
‫وقبؿ الحسف والحسيف قببلت دامعة‬
‫بوضع المؤونة المخصصة آلؿ الشييد في منزلو ّ‬
‫ثـ توجيوا إلى‬
‫فودعيـ ىو وأعضاء المجنة عمى عجؿ َّ‬ ‫ولـ يستطع المكوث طويبلً‪ّ ،‬‬
‫بيت آغوب‪ ،‬حيث استقبمتيـ (أناىيت) أرممتو التي ارتدت ثوب الحداد عمى روحو‪.‬‬
‫قدمت ليـ الضيافة البلئقة‪ ،‬فقاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫نكنو لممرحوـ مف حب وتقدير‪ ،‬فيو واهلل‬
‫ػ يا أخت (أناىيت)‪ ،‬أنت تعمميف ما ّ‬
‫منا‪ ،‬ويكفينا فخ اًر أنو ضحى بروحو مف أجؿ حريتنا‪ ،‬رحمو اهلل وأسكنو فسيح‬
‫واحد ّ‬
‫جناتو‪.‬‬
‫ّ‬
‫قالت أناىيت‪:‬‬
‫نحبو‬
‫كنا ّ‬‫ػ يا أبا راغب‪ ...‬نحف لـ نيرب مف الموت حتَّى في أحمؾ الظروؼ‪ّ ،‬‬
‫ألنو الخبلص مف البؤس والحرماف والظمـ والعدواف‪ ...‬ساقنا أعداؤنا إليو‪،‬‬‫كثي اًر َّ‬
‫أكنا في أرضنا‬‫فسرنا في طريقو‪ ،‬ونذرنا أنفسنا قرابيف لمحرية والعدالة‪ ،‬سواء ّ‬
‫المغتصبة‪ ،‬أـ في أرضكـ المحتمة‪ .‬نحف أصحاب رسالة مثمكـ‪ ،‬والحمد هلل عمى ما‬
‫كتب وما قسـ‪.‬‬
‫قاؿ المختار‪:‬‬
‫ػ يا أختنا الكريمة‪ ،‬اقبموا مف عمي بؾ ىذه المؤونة‪.‬‬
‫وكاف سائؽ العربة قد أنزؿ كيساً مف الطحيف وآخر مف البرغؿ وعمبة مف‬
‫الشاي‪ ،‬وصفيحة مف الزيت‪.‬‬
‫قالت أناىيت مشيرة إلى أبي صادؽ‪:‬‬
‫ػ ىذا الرجؿ الشيـ لـ يتركنا بحاجة أبداً‪ ،‬واهلل إنو يعطينا فوؽ حاجتنا أضعافاً‬
‫ماسة إلييا‪.‬‬
‫مضاعفة‪ ،‬وال حاجة لي بيا أبدًا‪ .‬أرجو أف تعطوىا لمف ىو بحاجة ّ‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬

‫ػ ‪ 127‬ػ‬
‫فوزعييا صدقةً عمى روحو الطاىرة‪.‬‬
‫ػ إف كنت يا أختنا لست بحاجة إلييا‪ّ ،‬‬
‫قاؿ ليا أبو صادؽ‪:‬‬
‫ػ خذييا يا أختاه‪ ،‬أرجوؾ‪.‬‬
‫ىزت أناىيت رأسيا موافقة‪ ،‬وشكرت أعضاء المجنة عمى زيارتيـ ليا‪.‬‬
‫ّ‬
‫قاؿ عمي بؾ‪ ،‬وىو وفي الطريؽ إلى عائمة الشييد مصطفى‪:‬‬
‫ػ يا مختار‪ ،‬كاف مصطفى رحمو اهلل أوؿ مف أطمؽ النار عمى َح َكـ المباراة‪ ،‬ولـ‬
‫المنصة‪ ،‬إنو يستحؽ التكريـ واهلل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُيقتؿ إال بعد أف قتؿ ضابطيف كانا جالسيف عمى‬
‫ػ أجؿ يا أبا راغب‪ ،‬وواهلل كاف مقاتبلً شرس ًا‪.‬‬
‫قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬
‫كنت واهلل أنوي تزويجو حماتي ‪/‬شاكي‪ /‬فقد أُعجب بيا رحمو اهلل‪ ،‬وأعجبت بو‬
‫ػ ُ‬
‫لكف‬
‫يقو عمى الزواج‪ ،‬وقد تجاوز سنة الخامسة واألربعيف‪ّ ،‬‬ ‫أيضاً‪ ،‬وكاف فقي اًر لـ َ‬
‫تترصده‪.‬‬
‫ّ‬ ‫المقادير كانت‬
‫ابتسـ عمي بؾ قائبلً‪:‬‬
‫بحبو لشاكي لما ترددت لحظة واحدة في تزويجيا لو‪ ،‬ولدفعت‬
‫كنت أدري ّ‬‫ػ لو ُ‬
‫المير وكؿ مستمزمات الزواج‪.‬‬
‫وتمخض عف عجوز تتوكأ‬ ‫ّ‬ ‫طرؽ المختار باب أىؿ مصطفى‪ ،‬ففتح بعد حيف‪،‬‬
‫عمى عصا‪ .‬كانت تنظر إلى القادميف إلييا بعينيف غائرتيف دامعتيف‪ ،‬وفميا األدرد‬
‫يطمؽ عبارات الترحيب‪.‬‬
‫دخؿ عمي بؾ البيت مع أعضاء المجنة‪ ،‬وجمسوا في فناء ٍ‬
‫بيت يشكو مف قمّة‬
‫ىز عمي بؾ رأسو وقاؿ متنيّداً‪:‬‬‫الجرذاف فيو‪ّ ...‬‬
‫ػ ال حوؿ وال قوة إال باهلل العمي العظيـ‪ِ ...‬ل َـ لـ تخبرني يا مختار عف أحواؿ‬
‫ىؤالء الفقراء؟ سامحؾ اهلل‪.‬‬
‫سيدي‪ ...‬أقسـ لؾ باهلل العظيـ أنني كمّما عرضت عمى مصطفى مساعدة‬
‫ػ يا ّ‬
‫نعمو‪ ،‬ال ينقصنا أي شيء‬
‫عمي بغضب‪ :‬الحمد هلل عمى َ‬
‫يرد َّ‬
‫مادية أو غيرىا كاف ّ‬
‫سوى حرية الشعب‪.‬‬
‫ػ يا أبا عدناف‪ ،‬أنت مختار‪ ،‬وىي مسؤوليتؾ‪ .‬كاف عميؾ أف تزوره في البيت‬
‫لتستكشؼ أحوالو‪ .‬أنظر جيداً‪ ،‬ال شيء في بيتو البتة‪ .‬كيؼ يكوف ىذا؟‬

‫ػ ‪ 128‬ػ‬
‫وقدمت لكؿ‬
‫قطعت العجوز عمى عمي بؾ حديثو عندما جاءت إلى ضيوفيا‪ّ ،‬‬
‫و ٍ‬
‫احد منيـ كأساً مف األعشاب الطبية قائمة‪:‬‬
‫ػ إنيا خمطة جمعتيا بنفسي مف بساتيف الرويمي جزاىـ اهلل خي اًر‪ .‬إنيا أفضؿ مف‬
‫الشاي والقيوة‪ .‬اشربوىا ىنيئاً مريئاً‪.‬‬
‫كاف عمي بؾ عمى ثقة مف أف ليس في بيتيا س ّكٌر أو شاي أو قيوة‪ ،‬لكف أبت‬
‫نفسيا الشكوى إال هلل‪ .‬قاؿ بعد ألي‪:‬‬
‫وتمني عمينا‪ ،‬واهلل سنمبي‬
‫ػ يا أماه‪ ...‬أنت أـ الشييد ونحف كمّنا أبناؤؾ‪ ،‬اطمبي ّ‬
‫مطالبؾ ميما ثقمت عمينا‪.‬‬
‫ابتسمت العجوز وقالت‪:‬‬
‫ػ يا ولدي‪ ...‬لقد رحؿ زوجي إلى دار اآلخرة‪ ،‬وترؾ لي ولديف‪ .‬واحداً مات‬
‫بالسؿ‪ ،‬ومصطفى استشيد في سبيؿ اهلل‪ ،‬وأنا أنتظر لقاء ربي‪ .‬ال أريد مف الدنيا‬
‫شيئاً‪.‬‬
‫منا ىذه المساعدة‪.‬‬
‫ػ يا أماه‪ ...‬أرجو أف تقبمي ّ‬
‫وأشار إلى العامؿ أف ُيدخميا إلى بيتيا (الطحيف والبرغؿ والسكر‬
‫والشاي والزيت)‪.‬‬
‫يا أماه‪ ،‬سأزورؾ إف شاء اهلل مف حيف آلخر ألرى احتياجاتؾ‪ ،‬واف لـ يسعفني‬
‫الوقت‪ ،‬فسيزورؾ المختار‪ ،‬ويقوـ بالواجب‪.‬‬
‫ػ شك اًر يا ولدي‪ ،‬واهلل ال أريد شيئاً إال رحمة ربؾ‪.‬‬
‫جفؼ عمي بؾ دموعو التي ىطمت رغماً عنو‪ ،‬وقاؿ ألبي عدناف‪:‬‬
‫تدوف لي قائمة بأسماء الفقراء والمحتاجيف‪.‬‬
‫ػ يا أبا عدناف‪ ...‬أرجوؾ أف ّ‬
‫ابتسـ المختار‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫أسجؿ لؾ؟ الشعب معظمو فقير‪ ،‬وزاده االحتبلؿ‬‫عمف أدلّؾ و ّ‬ ‫ػ يا أبا راغب‪ّ ،‬‬
‫والقحط واليباس والفيضاف فق اًر ومعيشة ضنكاً‪.‬‬
‫ىز عمي بؾ رأسو وقاؿ لنذىب إلى عائمة الشييد طارؽ‪.‬‬ ‫َّ‬
‫كاف طارؽ رحمو اهلل مف المناضميف الصمبيف الذيف نذروا أرواحيـ لخدمة‬
‫متفوقاً في عممو التجاري والزراعي‪ ،‬لكنو‬
‫الوطف‪ ،‬وكما كاف متفّوقاً في دراستو‪ ،‬كاف ّ‬
‫ينس ثأر أبيو مف الفرنسييف‪ ،‬وكانت زوجتو األرمنية (لوسيف) وابنو زياد يمثّبلف‬
‫لـ َ‬
‫عمو مصمح إلى جانبو أباً وأخاً وصديق ًا‪،‬‬‫قضية‪ .‬عند استشياد والده وقؼ ّ‬‫ّ‬ ‫أمامو‬

‫ػ ‪ 129‬ػ‬
‫وكانت لوسيف التي كاف يسمييا (القمر) قم اًر مضيئاً ليس في حياة طارؽ وحده وانما‬
‫حب زوجيا وولده وأعمامو وأُسرىـ‪ ،‬إضافة إلى‬‫في حياة العائمة بأكمميا‪ ،‬لتفانييا في ّ‬
‫أنيا كانت تدير تجارتو وزراعتو بذكاء وميارة نادرتيف‪ ،‬وتنثر الخير عمييـ جميعاً‬
‫تتعودىا األسرة مف قبؿ‪.‬‬
‫بطريقة لبقة لـ ّ‬
‫كاف طارؽ مف القناصة الميرة‪ ،‬استطاع أف يقنص أكثر مف عشرة جنود‬
‫فرنسييف وسنغالييف قبؿ أف يستشيد‪.‬‬
‫استقبؿ مصمح أبا راغب وأعضاء المجنة بترحاب كبير‪ ،‬وما ىي إال دقائؽ حتَّى‬
‫وقبمو‪ ،‬وبمّؿ وجنتيو بدموعو‪،‬‬
‫دخمت لوسيف وولدىا زياد‪ .‬احتضف عمي بؾ زياداً ّ‬
‫وكذلؾ فعؿ أعضاء المجنة‪ .‬قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫حي في قموبنا كما ىو حاؿ‬ ‫ػ زياد يا ولدي‪ ،‬ولتسمع أمؾ وعمؾ ما أقولو‪ :‬طارؽ ّ‬
‫ألف شييديف عظيميف مثؿ طارؽ وأبيو يمثّبلف‬ ‫والده الشييد‪ ،‬لترفعوا رؤوسكـ عالياً َّ‬
‫مر السنيف‪ ...‬ىذه رؤوسنا نحنييا هلل أوالً وليما ثاني ًا‬
‫رمزيف ال يمكف تجاىميما عمى ّ‬
‫ألنيما غرسا فينا حب الشيادة وضرورة تحرير الوطف ميما غمت التضحيات‪ ،‬فينيئاً‬
‫لكـ ىبة الشيادة التي ييبيا اهلل لمف اصطفى مف عباده‪.‬‬
‫قاؿ مصمح‪:‬‬
‫ػ يا عمي بؾ‪ ،‬وليسمع أعضاء المجنة الكراـ بأنني منذ ىذه المحظة جندي مقاتؿ‬
‫في سبيؿ اهلل والوطف‪ .‬أريد أف ألحؽ بكؿ فخر بأخي وابف أخي فبل تحرموني نعمة‬
‫الشيادة‪.‬‬
‫قالت لوسيف بعد أف كفكفت دموعيا‪:‬‬
‫ػ أنا واهلل لف أبخؿ بحياتي أللحؽ بزوجي وعمي‪ ،‬وأرجو أف تقبموني مع النسوة‬
‫البلتي يشاركف في المقاومة الشعبية‪.‬‬
‫قاؿ زياد‪:‬‬
‫أماه‪ ...‬أنا لست صغي ًار‪ ،‬انظري‪...‬‬
‫ػ وأنا يا ّ‬
‫وأخذ يمط بجسمو الصغير ليتطاوؿ‪...‬‬
‫ط جسده‬
‫ضحؾ عمي بؾ‪ ،‬وأعضاء المجنة مف رؤية زياد وىو يحاوؿ أف يم ّ‬
‫الصغير أكثر فأكثر‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ كمّنا لموطف يا أبنائي‪ ،‬كمّنا إلى الجياد إف شاء اهلل‪.‬‬
‫قالت لوسيف وقد أخرجت مف جيبيا وريقة‪:‬‬

‫ػ ‪ 131‬ػ‬
‫ػ عمي بؾ‪ ...‬ىذه وصية زوجي‪ ،‬كتبيا قبؿ استشياده‪ ،‬وأوصاني أف أسمّميا لؾ‬
‫عند استشياده فأرجو أف تتسمّميا‪.‬‬
‫يودوف‬
‫كانت الوريقة تحتوي عمى عشرة أسماء لطبلب مف المكتب السمطاني ّ‬
‫تجمعات الفرنسييف‪.‬‬
‫االستشياد في سبيؿ اهلل‪ ،‬وىـ عمى استعداد لتفجير أنفسيـ في ّ‬
‫دسيا في جيبو‪.‬‬
‫بتمعف‪ ،‬وطواىا‪ ،‬و ّ‬
‫قرأىا عمي بؾ ّ‬
‫أصر المختار وأبو ياسيف وأبو صادؽ الميكانيكي‬
‫في الطريؽ إلى المضافة‪ّ ،‬‬
‫عمى معرفة وصية الشييد طارؽ‪ ،‬فأطمعيـ عمي بؾ عمى مضمونيا‪.‬‬
‫قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬
‫الشباف يمكف أف تقير؟‬
‫ػ ىؿ تعتقد يا عمي بؾ أف أمةً بيا مثؿ ىؤالء ّ‬
‫ػ ال واهلل‪ ...‬أبداً‪ .‬ولكنني لف أضحي بو ٍ‬
‫احد منيـ‪.‬‬
‫المعوؿ في مستقبؿ المواء‪ .‬ليتابعوا تعميميـ فيو‬
‫ّ‬ ‫إنيـ أوائؿ الطمبة‪ ،‬وعمييـ‬
‫الجياد األكبر‪.‬‬

‫ػ ‪ 131‬ػ‬
‫(‪)97‬‬
‫كؿ‬
‫تتالت الضربات عمى باب بيت أبي ياسيف‪ ،‬وصوت المختار يعمو مع ّ‬
‫ولما لـ ُيفتَح الباب‪ ،‬حوقؿ المختار وبسمؿ طويبلً‪ ،‬وساءؿ‬ ‫ٍ‬
‫طرقة منادياً أبا ياسيف‪ّ ،‬‬
‫ثـ أيف زوجتو وأميا؟!‬
‫نفسو وىو ييبط الدرجات الخمس‪( :‬تُرى أيف ذىب أبو ياسيف؟ َّ‬
‫َّ‬
‫البد أف أم اًر طارئاً قد حدث‪ ...‬يا رب اجعميا خفيفة عمييـ)‪.‬‬
‫ووقؼ أماـ درجات البيت‪ ،‬وأخذ يقدح زناد الفكر‪ ...‬يف ّكر ويخمف‪ ،‬وكؿ ٍ‬
‫أونة‬ ‫ّ‬
‫ىـ‬
‫ّ‬ ‫وعندما‬ ‫مكروه‪.‬‬ ‫قدر اهلل‪ ...‬الميـ احفظيـ مف كؿ‬‫يعمو صوتو‪ :‬ال سمح اهلل‪ ...‬ال ّ‬
‫بالذىاب فوجئ بأبي ياسيف يقؼ قبالتو‪:‬‬
‫ثـ أيف زوجتؾ وأميا؟ أيف؟‬
‫كنت يا رجؿ؟! لقد شغمتني واهلل‪َّ ...‬‬
‫ػ أيف َ‬
‫كنا‪ ،‬وأيف زوجتي‬
‫ثـ سأروي لؾ أيف ّ‬
‫ػ تعاؿ يا أبا عدناف لندخؿ البيت ّأوالً‪ ،‬ومف َّ‬
‫ىيا‪.‬‬
‫وأميا‪ ...‬ادخؿ يا أبا عدناف‪ ،‬وستشرب معي كوباً مف الشاي األحمر المذيذ‪ّ ...‬‬
‫تزوج أـ ياسيف‪ ،‬وكانت أشبلء أسمحتو‬
‫كاف بيت أبي ياسيف مرتّباً نظيفاً منذ أف ّ‬
‫مرتّبة المعة عمى طاولتيا‪...‬‬
‫طباخاً ميدانياً‪ ،‬ووضع إبريؽ الشاي عميو‪ ،‬وجاء بكوبيف نظيفيف‬
‫بسرعة أشعؿ ّ‬
‫وعمبة السكر ومصفاة الشاي‪ ،‬ووضعيا أماـ أبي عدناف‪...‬‬
‫كاف أبو ياسيف يدندف وىو يسير بأغنية أرمنية أذىمت المختار‪:‬‬
‫ػ ماذا أسمع؟‬
‫ػ أغنية أرمنية تعمّمتيا مف زوجتي‪ ،‬كمماتيا تقوؿ‪:‬‬
‫"إيو يا وطني المجيد!‬
‫يا مف كاف يأتيو ش ّذاذ اآلفاؽ مف المضائؽ والفموات ليغرسوا الرماح في قمبو‪...‬‬
‫أييا الصامد عمى مفترؽ طرؽ األمـ المتحاربة تحت كابوس العصور القاسية‬
‫حبؾ"‬‫أغني ّ‬
‫نت روحي الحكمة بمسانؾ كي ّ‬ ‫وسنابؾ الخيؿ اليائمة لقد لقّ َ‬
‫ػ اهلل‪ ...‬اهلل يا أبا ياسيف‪ .‬كممات جميمة‪ ،‬وصور حموة‪ ،‬ىؿ ترفندا شاعرة؟‬
‫ػ ال‪ .‬إنيا تردد دائماً ِشعر (أواديؾ) قريبيا‪.‬‬
‫صدقني يا أبا ياسيف إنيـ سينتصروف‪.‬‬
‫ػ ّ‬
‫ػ أعرؼ ذلؾ‪ ...‬اسمع ىذا الشعر أيضاً‪:‬‬

‫ػ ‪ 132‬ػ‬
‫انحزت نحو الضعفاء تأكمني الديداف‬
‫ُ‬ ‫"إذا‬
‫فأية حاجة تبقى لؤلسود؟!‬
‫واذا نجوت مف الدببة المفترسة‬
‫يتعمّؽ بي البعوض المتعطّش إلى الدماء‬
‫جمست غير عابئ‬
‫ُ‬ ‫واذا‬
‫تنزؿ عمي البراغيث الحقيرة مثؿ شرر ٍ‬
‫نار مذرو‬ ‫ّ‬
‫واذا ىربت مف نطح ذي قروف‬
‫تناولتني مخالب الكواسر الجارحة الجائعة‬
‫التجأت إلى غرؼ العنابر العفنة‬
‫ُ‬ ‫واذا‬
‫تتمقّاني رائحة الضفادع قبيحة المنظر الكريية"‪.‬‬
‫ػ ماذا أسمع اليوـ؟ واهلل إنيا أمسية شعرية‪ ...‬ومف قاؿ ىذا الكبلـ الجميؿ؟‬
‫ػ قالت لي إنو مف حوارّيات شاعرىـ الكبير كريكور ناريكاتسي‪.‬‬
‫ألف مف يحفظ مثؿ ىذا الشعر يسيؿ عميو‬ ‫أصبحت شاع اًر يا أبا ياسيف‪َّ ...‬‬
‫َ‬ ‫ػ‬
‫اإلتياف بمثمو‪...‬‬
‫الشعر وال أنظمو يا أبا عدناف‪ ،‬ولتعمـ أنني كمّما شربت الشاي‬ ‫ػ أنا أتذوؽ ِ‬
‫األحمر أحببت أف أسمع ِ‬
‫الشعر‪ ،‬فتقوـ أـ ياسيف بيذه الميمة دوف كمؿ أو ممؿ‪.‬‬
‫ػ بارؾ اهلل لؾ فييا يا أخي‪ .‬لكف أيف زوجتؾ وأميا؟!‬
‫ػ إنيما في ميمة إنسانية وتكتيكية بآف واحد‪.‬‬
‫ػ لـ أفيـ قصدؾ!‬
‫ػ ستفيـ بعد قميؿ‪.‬‬
‫سكب أبو ياسيف كوبيف مف الشاي القرمزي لممختار ولو قائبلً‪:‬‬
‫ػ انظر ما أجمؿ ىذا الموف يا مختار! إنني أعشقو‪.‬‬
‫ػ إنو يذ ّكرني بدماء الشيداء‪ ...‬إنو لونو يا أبا ياسيف‪.‬‬
‫عيني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ػ وليذا أحبو لئبل تغيب صورتو عف‬
‫ػ اآلف قؿ لي يا أبا األسرار‪ :‬أيف عيالؾ؟‬
‫األرمنيات‪ ،‬واني أب ّشرؾ بأف عدد الممثمات سيزداد خبلؿ أياـ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ػ إنيما يتفقّداف‬

‫ػ ‪ 133‬ػ‬
‫ػ بارؾ اهلل فييف‪ ،‬واهلل أعطيف وأوفيف‪.‬‬
‫ػ أريد أف أسألؾ يا أبا عدناف عف أخبار سعدى‪.‬‬
‫ػ سعدى بعد رحيؿ زوجيا تقوـ بخدمة أـ أحمد‪ ،‬وتيتـ بتعميـ ولدييا الحسف‬
‫والحسيف‪.‬‬
‫ػ سمعت أف أـ أحمد مريضة‪ ،‬ما رأيؾ بزيارتيا؟‬
‫ػ واجب يا أبا ياسيف‪ ،‬وسنزور بعدىا أبا سمطاف‪.‬‬
‫ػ أبو سمطاف؟ ما بو؟‬
‫ػ قيؿ لي أنو مريض‪.‬‬
‫ػ إذف وجبت زيارتو أيضاً‪ .‬قـ لنذىب‪.‬‬
‫كاف النير يعزؼ لحف المساء بأوتار القموب المكمومة‪ ،‬والشجر يرقص مذبوحاً‬
‫عاؿ مف شرفات البيوت ونوافذىا‪ ،‬واليواء مثقؿ‬ ‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬ ‫مف النواح الذي يتردد‬
‫باألنيف والزفرات‪...‬‬
‫بوابة الوقت ليغفو عمى وسادة العمر‪ ،‬والدمع يكتب في‬‫يمر مف ّ‬‫الخريؼ ّ‬
‫المدمى‪...‬‬
‫ّ‬ ‫صحائؼ الذكريات أحبلـ النبض الخافؽ ونثار القمب ووجيب الزىر‬
‫فضاءات الروح مؤلى بالمواعج وأغاني النخيؿ الشجية‪ ،‬الفؤاد جمرة‪ ،‬والدـ‬
‫صييؿ‪ ،‬وعويؿ الريح ُبردة األجساد‪.‬‬
‫يتناىى إلى األسماع صوت ينوح‪:‬‬

‫عمييم‬ ‫قمبي‬ ‫حزن‬ ‫يا‬ ‫تجدد‬


‫ّ‬ ‫أمي عمييم‬
‫بجت عيني وعين ّ‬
‫وطا‬ ‫عل‬ ‫تحدر‬
‫ّ‬ ‫سيل‬ ‫مثل‬ ‫أشوف البين مد إيدو عمييم‬

‫يردد مع القاصودة بعض‬


‫كفكؼ المختار دموعو خمسة‪ ،‬بينما كاف أبو ياسيف ّ‬
‫ميدداً الفرنسييف بالثبور‪.‬‬
‫المقاطع‪ ،‬وكاف يزمجر مف آونة ألخرى‪ّ ،‬‬
‫مودعاً مف بيت أبي أحمد‬
‫تممّكتيما الدىشة عندما شاىدا عمي بؾ يخرج ّ‬
‫الصباغ‪ ،‬فوقفا جامديف‪ .‬اقترب منيما عمي بؾ قائبلً‪:‬‬
‫ػ أسرعا‪ ،‬فأـ أحمد لـ تعد تعي ما تقوؿ‪ .‬إنيا في النزع األخير‪.‬‬
‫تود الذىاب؟‬
‫ػ وأنت؟ إلى أيف ّ‬

‫ػ ‪ 134‬ػ‬
‫ػ إلى أبي سمطاف‪ .‬بمغني أنو مريض أيضاً‪.‬‬
‫ػ إذف نذىب معاً‪.‬‬
‫ػ ادخبل بسرعة‪ ،‬وأنا بانتظاركما‪.‬‬
‫دخؿ المختار وأبو ياسيف بيدوء‪ .‬كانت زوجة أحمد تمبس السواد‪ ،‬وتتحدث مع‬
‫حميدة أختو حديثاً جانبياً‪ .‬توّقفتا عف الحديث عندما رأت سعدى والدىا مع أبي‬
‫وحيت أبا ياسيف‪ .‬دخموا جميعاً غرفة أـ‬
‫وقبمت يد والدىا‪ّ ،‬‬
‫ياسيف‪ .‬أسرعت سعدى‪ّ ،‬‬
‫أحمد‪ ،‬وقد أحاط بيا حفيداىا الحسف والحسيف‪ ،‬بينما سامي يذرؼ الدموع سخية‪...‬‬
‫اقترب منو المختار‪ ،‬ورّبت عمى كتفو قائبلً‪:‬‬
‫ػ كميا بيد اهلل وبأمره يا ولدي‪ .‬إف حدث مكروه ال سمح اهلل‪ ،‬فأنا في بيت أبي‬
‫سمطاف‪.‬‬
‫ألقى المختار النظرة األخيرة عمى أـ أحمد‪ ،‬وىي مغمضة العينيف تيذي باسـ‬
‫فجره المختار عمى‬
‫أحمد‪ ...‬حوقؿ أبو ياسيف وبسمؿ‪ ،‬ولـ يستطع أف يتمالؾ نفسو‪ّ .‬‬
‫ٍ‬
‫عجؿ‪ ،‬وخرجا مف البيت‪.‬‬
‫ثـ قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫كاف عمي بؾ ينتظرىما‪ .‬ساروا قميبلً‪َّ ،‬‬
‫ػ كيؼ رأيتما أـ أحمد؟‬
‫قاؿ المختار متنيّداً‪:‬‬
‫مودعة‪.‬‬
‫ػ األعمار بيد اهلل‪ .‬أظف أنيا ّ‬
‫قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬
‫تمزؽ قمبي‪.‬‬
‫ػ كمّما ذكرت أحمد ّ‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ أوصيؾ يا أبا عدناف بيا‪ .‬عميؾ أف تراقب وضعيا الصحي باستمرار‪ .‬يجب‬
‫ثـ أخبرني ّأوالً بأوؿ‪.‬‬
‫تقصر بحقّيا‪َّ .‬‬
‫أال ّ‬
‫ػ سأفعؿ إف شاء اهلل‪.‬‬
‫ػ أعممتـ بآخر األخبار؟‬
‫وحدقا في عيني عمي بؾ طويبلً‪:‬‬
‫صمت المختار وأبو ياسيف‪ّ ،‬‬
‫‪/‬المية‬
‫ػ لقد ألقوا القبض عمى فاطمة الجذمور‪ ،‬ورّبما ساقوىا اليوـ إلى سجف ّ‬
‫مية‪ /‬في بيروت‪.‬‬‫ّ‬

‫ػ ‪ 135‬ػ‬
‫ػ يا ليـ مف أنذاؿ! يسترجموف عمى امرأة!‬
‫سيت ما فعمتو بالفرنسييف وىـ‬
‫ػ لكنيا امرأة تعادؿ مئة رجؿ يا أبا عدناف‪ .‬أن َ‬
‫يطاردوف الثوار؟‬
‫ػ ال أبداً‪ .‬وكيؼ أنسى؟ لقد ر ّشت مسحوؽ الفميفمة الحمراء الكاوية في عيوف‬
‫جراء ذلؾ يقتموف الجنود الفرنسييف ويسمبونيـ‬‫الجنود الفرنسييف‪ ،‬وكاف الثوار مف ّ‬
‫تسببت في مقتؿ أكثر مف عشريف جندياً فرنسياً‪.‬‬
‫سبلحيـ‪ ،‬لقد ّ‬
‫ػ ليذا السبب يعاقبونيا عقوبة شديدة‪ .‬سنحاوؿ يا إخوتي إنقاذىا بكؿ ما أوتينا‬
‫مف قوة‪.‬‬
‫ػ كيؼ؟‬
‫ػ الترّبص بالسيارة التي ستنقميا إلى بيروت‪ ،‬واالستيبلء عمييا في الطريؽ إلى‬
‫حمب‪.‬‬
‫ػ لكننا ال نعرؼ متى سيتـ سوقيا!‬
‫ػ سأعرؼ‪ ،‬وأبمّغكـ‪.‬‬
‫فتمخض عف فتاة‬‫ّ‬ ‫توقّفوا عند باب خشبي عتيؽ‪ .‬قرع المختار الباب بيدوء‪،‬‬
‫رائعة الجماؿ رغـ تقادـ السنيف عمييا‪ .‬وجييا خاؿ مف األصبغة‪ .‬عيناىا الواسعتاف‬
‫يسكنيما حزف عميؽ‪ .‬تمتمت شفتاىا المكتنزتاف عندما رأت أصدقاء والدىا‪:‬‬
‫تفضموا‪.‬‬
‫ػ أىبلً بكـ‪ّ ،‬‬
‫ضرتيا‪،‬‬
‫ثـ تبعتيا ّ‬
‫ثـ وقفوا عندما دخمت أميا‪َّ ،‬‬
‫دخموا غرفة الضيافة وجمسوا‪َّ ،‬‬
‫ورحبوا طويبلً‪...‬‬
‫فيمّموا ّ‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ أيف أبو سمطاف؟‬
‫قالت أـ سمطانة‪:‬‬
‫ػ إنو في غرفتو معتكؼ حزيف عمى فراؽ أـ سمطاف‪.‬‬
‫ػ قيؿ لي إنو مريض؟‬
‫ػ ال‪ .‬الحمد هلل ليس مريضاً‪.‬‬
‫ػ إذف دعيو ِ‬
‫يأت إلينا‪.‬‬
‫ػ بالحاؿ إف شاء اهلل‪.‬‬

‫ػ ‪ 136‬ػ‬
‫دخؿ أبو سمطاف بمحية كثّة ووجو شاحب‪ .‬سمّـ عمى الجميع‪ ،‬وجمس متيالكاً‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ ما شاء اهلل عميؾ‪ ...‬ماذا تفعؿ بنفسؾ يا رجؿ؟‬
‫ػ لقد انتييت يا عمي بؾ‪.‬‬
‫يحبيا‪ .‬ادعُ ليا‬
‫ػ انتييت؟ ما ىذا اليأس؟ ميرنا رحمت شييدة يا أخي‪ .‬إف اهلل ّ‬
‫ميمة شاقّة‪.‬‬
‫بالرحمة‪ ،‬وانفض غبار الكسؿ واليأس والقنوط‪ .‬أمامؾ يا أبا سمطاف ّ‬
‫ػ أنا جاىز‪ .‬لـ يعد أي شيء يمنعني مف المحاؽ بأـ سمطاف‪.‬‬
‫ػ لكف أيف سمطاف‪.‬‬
‫ػ إنو ما زاؿ عند المبل حسف يتمقى دروس الفقو والحديث والنحو والببلغة عمى‬
‫يديو‪ .‬لكنو سيحضر قريباً‪ .‬ىذا موعده‪ .‬ماذا تشربوف؟‬
‫قاؿ المختار‪:‬‬
‫ػ نريد شاياً‪ ،‬لكف ليس مثؿ شاي أبي ياسيف‪.‬‬
‫ػ عمى الرحب والسعة‪.‬‬
‫وىـ عمي بؾ بالحديث‪ ،‬لكنو صمت عندما فُتح الباب‬
‫خيـ الصمت ىنيية‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ودخؿ سمطاف يحتضف كتابو ودفتره‪.‬‬
‫عانؽ سمطاف ضيوؼ أبيو‪ ،‬وجمس قُبالتيـ‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ ما شاء اهلل يا سمطاف‪ ...‬لقد أصبحت رجبلً‪.‬‬
‫عمي‬
‫عماه‪ ،‬وخاالتي وأختي سمطانو يتآمروف ّ‬
‫ػ لقد تجاوز سني العشريف يا ّ‬
‫لتزويجي‪.‬‬
‫ػ ونِعـ التآمر يا ولدي‪ ،‬وأنا وأعمامؾ نضـ أصواتنا ّ‬
‫إلييف‪.‬‬
‫عماه‪...‬‬
‫ػ لكف يا ّ‬
‫لـ يدع عمي بؾ سمطاناً يكمؿ عبارتو‪ ،‬فقاؿ‪:‬‬
‫عمي والكؿ يشيد عمى‬ ‫ِّ‬
‫ػ يا ولدي‪ ،‬الزواج نصؼ الديف‪ ،‬وعصمة لممسمـ‪ ...‬لؾ ّ‬
‫عمي وحدي‪ ،‬فقط أريد منؾ أف تقوؿ مف ىي‬ ‫ما أقوؿ‪ :‬إف ميرؾ وتجييز عروسؾ ّ‬
‫كي نذىب لنخطبيا لؾ‪ ،‬دعنا نفرح بؾ‪ ،‬نريدؾ أف تمؤل البيت أطفاالً‪ ،‬فالحزف يجب‬
‫أال يتسمؿ إلى بيوتنا ونفوسنا لئبل نموت جزعاً‪...‬‬

‫ػ ‪ 137‬ػ‬
‫عماه أف الوقت غير مناسب اآلف؟!‬ ‫ػ أال ترى يا ّ‬
‫ػ لِ َـ يا ولدي؟‬
‫الجنة‪.‬‬
‫عماه‪ ،‬ببلدنا محتمّة‪ ،‬ولي أمنية أف ألحؽ بأمي إلى ّ‬
‫ػ يا ّ‬
‫ػ يا ولدي‪ ،‬االستشياد ىبة مف اهلل‪ ،‬ييبيا مف يشاء مف عباده‪ ...‬خالد بف الوليد‬
‫يعطيا اهلل لو‪ .‬ليس معنى ذلؾ أنو ليس شييدًا‪.‬‬ ‫يتمناىا فمـ ِ‬
‫رضي اهلل عنو كاف ّ‬
‫والجياد األكبر يا ولدي أف تيتـ برزقؾ وأرزاؽ أىمؾ وعائمتؾ‪ ،‬واعمـ أف المبلئكة‬
‫رضاء لطالب العمـ مثمؾ‪.‬‬
‫ً‬ ‫تضع أجنحتيا‬
‫وقدمت أكواب الشاب لمجميع‪ ،‬فشربوا وحمدوا اهلل‪ ،‬وقاـ عمي‬ ‫دخمت سمطانة‪ّ ،‬‬
‫لكف‬
‫صرة مف الماؿ‪ .‬حاوؿ سمطاف رفضيا‪ّ ،‬‬ ‫ودس في جيبو ّ‬‫بؾ‪ ،‬واقترب مف سمطاف‪ّ ،‬‬
‫عمياً أقسـ عميو‪ ،‬فقبميا شاك اًر‪.‬‬
‫ّ‬
‫قاموا جميعاً‪ ،‬وأمسؾ عمي بؾ بيد أبي سمطاف قائبلً‪:‬‬
‫ػ سأراؾ الميمة في المضافة‪ّ .‬إياؾ أف تتخمّؼ‪.‬‬
‫ػ سأحضر إف شاء اهلل‪.‬‬
‫في الطريؽ قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫أسمعتـ ما ينوي سمطاف فعمو؟‬
‫قاؿ المختار‪:‬‬
‫ثـ لممبل حسف الذي يغرس في نفوس طبلبو حب الجياد‬ ‫ػ الفضؿ هلل َّ‬
‫واالستشياد‪ .‬جزاه اهلل خي اًر‪.‬‬
‫قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬
‫ػ ىؿ تعتقد يا عمي بؾ أف شيوخ القبائؿ سيستجيبوف لنداء فرنسا حوؿ اإلمارة؟‬
‫الجراح بيا فرفضوىا بإباء وشمـ‪،‬‬
‫ػ ال أعتقد‪ ،‬فقد سبؽ ليـ أف حاولوا إغراء آؿ ّ‬
‫ومع ذلؾ فقد أرسمنا إلييـ مراسيؿ ورسائؿ نح ّذرىـ فييا مف خطط فرنسا الدنيئة‪.‬‬
‫قاؿ المختار‪:‬‬
‫ػ ما رأيكما أف نذىب إلى منزؿ األستاذ ثابت لنسمع منو أخبار المؤتمر الوطني‬
‫الذي حضره ىو ومحمد بؾ في حمب؟‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬

‫ػ ‪ 138‬ػ‬
‫وسيتحدثاف بتفاصيؿ المؤتمر‬
‫ّ‬ ‫ػ ال تستعجبل‪ ...‬سيأتياف إلى المضافة مساء‪،‬‬
‫وحقيقة الموقؼ‪ .‬موعدنا مساء في المضافة إف شاء اهلل‪.‬‬

‫ػ ‪ 139‬ػ‬
‫(‪)98‬‬
‫لقد كاف المؤتمر الوطني الذي حضره األستاذ ثابت والنائب محمد بؾ بحضور‬
‫قادة المؤتمر وعمى رأسيـ إبراىيـ ىنانو في حمب ذا أىمية كبيرة عمى صعيد‬
‫النضاؿ‪ ،‬فقامت الثورات في كؿ مكاف مف سورية‪ ،‬وكانت دير الزور شعمة نضاؿ ال‬
‫تُخمد‪ .‬حاوؿ الفرنسيوف االلتفاؼ عمييا بدعوة شيوخ العشائر واالحتفاء بيـ‪ ،‬ومنحيـ‬
‫اليبات والعطايا‪ ،‬لمقبوؿ باإلمارة المنفصمة عف سورية‪.‬‬
‫حاوؿ الجنراؿ ‪/‬جاكو‪ /‬بكؿ ما يتمتّع مف ذكاء وفطنة وحنكة‪ ،‬فأخفؽ إخفاقاً‬
‫ذريعاً‪ .‬قاؿ لو أحد الشيوخ‪:‬‬
‫ػ أنا ال أقبؿ ىداياؾ وعطاياؾ يا جنراؿ‪ ،‬وأقسـ باهلل أنني وعشيرتي لو أكمنا‬
‫أوراؽ الشجر لف نسمح باالنفصاؿ عف سورية األـ‪ ،‬ولف نيادف دعاتو بكؿ ما نممؾ‬
‫مف قوة وعزيمة‪.‬‬
‫يعده ّليناً ومطواعاً فطرده‪،‬‬
‫غضب الجنراؿ جاكو مف ىذا الشيخ الذي كاف ّ‬
‫وتوعده‪ ،‬فذىب الشيخ إلى عشيرتو وىو يصرخ بالكبير والصغير‪ ،‬بالذكر واألنثى‪:‬‬ ‫ّ‬
‫حامية‬ ‫نا اًر‬ ‫الريؼ‬ ‫فاشتعؿ‬ ‫السبلح‪.‬‬ ‫إلى‬ ‫السبلح‪...‬‬ ‫إلى‬
‫فرؽ الشباب منيا‬ ‫أما في المدينة‪ ،‬فقد تشكمت لجنة عميا لمحرس الوطني‪ .‬ىاجمت ُ‬ ‫َّ‬
‫ثكنات الفرنسييف وأماكف تواجدىـ‪ ،‬واستشيد عدد كبير مف المناضميف أبرزىـ‪:‬‬
‫سركيس بف ميرنا زوجة أبي سمطاف‪ ،‬وسامي زوج حميدة‪ ،‬ورشود‪ ،‬وحمود‪ ...‬وىرب‬
‫الجنراؿ جاكو أماـ ضربات المقاومة‪ .‬ولما ضاقت فرنسا ذرعاً بأساليب المناضميف‬
‫ظناً منيا بأف ىذه الوسيمة سترغـ الشعب‬
‫ووسائميـ عمدت إلى اعتقاؿ وجياء المدينة ّ‬
‫الغاضب عمى اليدوء ونبذ العنؼ‪ ،‬ولكف المدينة خرجت بأسرىا تناىض االحتبلؿ‬
‫مما اضطر الجنراؿ جاكو إلى‬ ‫والطرؽ الدنيئة التي يسير عمييا قادة الفرنسييف‪َّ ،‬‬
‫اإلفراج عف المعتقميف شريطة وقؼ الثورة‪.‬‬
‫سكتت البنادؽ واليتافات والتظاىرات فترة وجيزة‪ ،‬لكف فرع العصبة الوطنية‬
‫وقادتو رفضوا الميادنة‪ ،‬وآلوا عمى أنفسيـ اتخاذ أسموب آخر لممقاومة‪ ،‬فدعوا‬
‫وتعيد أثرياء المدينة والريؼ بدعـ‬
‫ّ‬ ‫الطبلب إلى اإلضراب العاـ مدة ستيف يوماً‪،‬‬
‫الفقراء وذوي الحاجة‪.‬‬

‫ػ ‪ 141‬ػ‬
‫لكنيا‬
‫حاولت فرنسا فؾ اإلضراب واعادة الحياة إلى ما كانت عميو سابق ًا‪ّ ،‬‬
‫أقضوا مضاجع جنودىا‪ ،‬وفتكوا بالكثير منيـ‪.‬‬
‫اصطدمت بكوكبة مف الممثّميف ّ‬
‫المدججة بالسبلح‪ ،‬وحاصرت الممثّميف‪ .‬فمـ تتم ّكف إال‬ ‫ّ‬ ‫ضاعفت فرنسا قواتيا‬
‫وحمؿ أسي ًار‪ ...‬استطاع المناضموف‬ ‫مف واحد منيـ سقط مف صيوة جواده جريحاً‪ُ ،‬‬
‫بعد معركة دامية فؾ أسره‪ ،‬وحممو إلى بيت أحد الوجياء لمعالجتو‪ ،‬وكـ كانت دىشة‬
‫الثوار عظيمة عندما كشفوا المثاـ عف وجيو‪ ...‬لقد كانت (شاكي) أـ ترفندا‪َ ،‬حماة‬
‫المؤنث‬
‫أبي ياسيف‪ ...‬تمؾ المرأة التي لـ تكف تتكمـ إال بطمب رسمي‪ ،‬تمؾ التي تذ ّكر ّ‬
‫وتؤنث المذكر في أقواليا مثؿ ابنتيا أـ ياسيف‪ .‬يا ليذه المرأة الشجاعة! التي نذرت‬ ‫ّ‬
‫نفسيا هلل ولسورية‪ ،‬لدير الزور المناضمة وألىميا الذيف احتضنوىا وابنتيا وبنات‬
‫جمدتيا‪ ...‬أرادت أف تضرب مثبلً رائعاً في الوفاء‪ ،‬وكاف ليا ذلؾ‪.‬‬
‫فقبؿ يدىا ورأسيا وأسماليا المدماة‪،‬‬‫رفع أبو ياسيف رأسو عالياً عندما رآىا‪ّ ،‬‬
‫وقاؿ ليا‪:‬‬
‫ػ حقاً ِ‬
‫أنت ّأـ المناضبلت‪.‬‬
‫فاحتفت دير الزور بيا‪ ،‬وتحدثت النسوة عنيا طويبلً‪ ،‬وأصبحت َمثَبلً وقدوة‪،‬‬
‫وقد قاؿ عنيا أحد األدباء‪:‬‬
‫"شاكي يا وردة كيماخ الندية‪ ...‬يا بوح العذابات الطويمة‬
‫شاكي يا رمز الحرية والكرامات‪ ...‬يا أـ المناضبلت‪...‬‬
‫يا بنت أ ار ارت‪ ...‬شاكي يا أخت موش وطرابزوف‪ ...‬يا حبيبة تبميس وماما‬
‫خاتوف‪ ...‬أنت في الدير وفينا َمثَ ٌؿ وقدوة‪ ...‬وفي أرضؾ المحتمة شعمة وجذوة"‪.‬‬
‫ُنقمت شاكي بعد استخراج الرصاصة مف ساقيا وتجبير كسورىا إلى منزؿ أبي‬
‫ياسيف وسط مظاىرة حاشدة صاخبة‪.‬‬
‫مقدمتيـ عمي‬
‫طوؽ الفرنسيوف بيت أبي ياسيف‪ ،‬وىو مميء بالمناضميف وفي ّ‬
‫ّ‬
‫بؾ‪.‬‬
‫طمب عمى بؾ مف المناضميف البقاء‪ ،‬وخرج إلى القوة الفرنسية التي تحاصر‬
‫القوة الذي نظر إلى الضفة األخرى مف النير مرتاعاً‪ ،‬فرحؿ‬ ‫البيت‪َّ .‬‬
‫تحدث مع قائد ّ‬
‫وجماعتو عمى الفور‪.‬‬
‫عاد عمي بؾ إلى منزؿ أبي ياسيف ضاحكاً‪ .‬قاؿ لو المختار‪:‬‬
‫ػ ما وراءؾ؟‬

‫ػ ‪ 141‬ػ‬
‫ػ لقد رحموا عندما قمت ليـ بأف الضفة األخرى مف النير مميئة بالثوار الذيف‬
‫يريدوف اقتناصكـ واحداً واحداً‪ ،‬وعندما نظر قائد الوحدة إلى الضفة األخرى‪ ،‬وجد‬
‫متفرقة عمى الشاطئ‪ ،‬فأخذ وحدتو ورحموا جميعاً‪.‬‬
‫جماعات ّ‬
‫مساء في‬
‫ً‬ ‫كؿ إلى بيتو عمى أمؿ المقاء‬‫طمب عمي بؾ مف المناضميف الذىاب‪ّ ،‬‬
‫المضافة‪ ،‬فرحموا‪ ،‬وبقي المختار وأبو ياسيف مع عمي بؾ‪ .‬اقتربوا مف سرير شاكي‪،‬‬
‫والفرحة تغمرىـ‪ .‬قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ مف كاف معؾ مف الممثّميف يا شاكي؟‬
‫الصباغ‪ ،‬وسعدى زوجة أحمد‪ ،‬وشاميراف زوجة‬‫ّ‬ ‫ػ كانت معي حميدة أخت أحمد‬
‫آرتيف‪ ،‬وأناىيت زوجة آغوب‪ ،‬وأستخيؾ زوجة ديكراف‪ ،‬وتيريز زوجة سميماف‪ ،‬وآرشو‬
‫زوجة عبد الحميد‪ ،‬وتامار زوجة عبد الصمد‪ ،‬وروزيت أختيا‪ .‬كنا عشر ممثّمات في‬
‫مجموعتيف‪ ...‬ليتني أعمـ ما َّ‬
‫حؿ بالمجموعة األولى‪ .‬ليتكـ تخبروني!‬
‫التقيتف؟ ومف خطط ل ُك ّف‬
‫ّ‬ ‫اطمئني لف يكوف إال الخير إف شاء اهلل‪ .‬لكف كيؼ‬
‫ّ‬ ‫ػ‬
‫ىذا اليجوـ الرائع؟‬
‫ػ إنيما حميدة وسعدى يا عمي بؾ‪.‬‬
‫صاح المختار‪:‬‬
‫ػ حميدة وسعدى؟ يا إليي!‬
‫قالت شاكي متنيّدة‪:‬‬
‫ػ نعـ‪ ،‬حميدة وسعدى‪ ،‬وقد أقسمنا أماميما عمى النضاؿ‪ .‬يا مختار نحف ظمُمنا‬
‫يقدر الحرية إال المظموـ‪ ...‬نحف مدينات لكـ بحياتنا وحياة اآلالؼ مف شعبي‪...‬‬
‫وال ّ‬
‫قاؿ عمي بؾ ذاىبلً‪:‬‬
‫تؤنثي المذكر؟ ماذا‬
‫المؤنث ولـ ّ‬
‫تتحدثيف بالعربية الفصحى؟ لـ تذ ّكري ّ‬
‫ػ أسمعؾ ّ‬
‫جرى لؾ؟‬
‫فقوـ لساني كثي ًار‪.‬‬
‫المقدس ‪/‬القرآف الكريـ‪ّ /‬‬
‫ػ قرأت كتابكـ ّ‬
‫ػ وماذا تنويف فعمو بعد شفاء ساقؾ؟‬
‫ػ سأستمر بالنضاؿ يا عمي بؾ إلى أف ألقى اهلل شييدة‪.‬‬
‫ػ يا شاكي‪ ،‬أرجوؾ ال تفعمي ذلؾ‪.‬‬
‫أنت‪ ،‬دعنا نعمؿ بصمت وسرّية‪.‬‬
‫ػ أرجوؾ َ‬
‫أرجوؾ‪...‬‬
‫ػ ‪ 142‬ػ‬
‫دمعت عينا شاكي‪ ،‬وىي تتحدث إلى عمي بؾ‪ ،‬فأضافت ناشجة‪:‬‬
‫مت شييدة‪ ،‬لكنني سأحصؿ عمى الشيادة إف شاء اهلل‪ .‬أريد أف ألقى‬
‫ػ ليتني ّ‬
‫ربي وأىمي في الجنة‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ ألبي ياسيف‪:‬‬
‫ػ يا لوفاء األرمف! واهلل إف أعماليـ ترفع اليامات عالياً‪ ،‬في عاـ ‪ 1936‬قاـ‬
‫جاف ماتوسياف األرمني عندما شعر بأف المؤامرة التركية الفرنسية عمى لواء‬
‫اسكندروف ُمحكمة أحصى األرمف الذيف يحمموف أوراؽ نفوس مف المواء‪ ،‬وىـ‬
‫بالمئات فساعدىـ عمى السفر إلى المواء يوـ االقتراع‪ ،‬يوـ االستفتاء‪َّ ،‬‬
‫ألف المجنة‬
‫الدولية ستدرس رغبات السكاف‪ ،‬وجاءت النتيجة لصالح سوريا‪ ،‬واتّيمت لجنة‬
‫ثـ اتّفقت تركيا مع فرنسا عمى احتبلليا بالقوة‪.‬‬
‫االستفتاء بالتواطؤ مع العرب‪َّ ،‬‬
‫ثـ قاؿ‪:‬‬
‫سكت عمي بؾ قميبلً َّ‬
‫ػ أريد منؾ يا أبا ياسيف أف تسير عمى راحة شاكي‪ ،‬وال تنسى أنيا أمانة في‬
‫أعناقنا ىي وأبناء جمدتيا‪ .‬أنا ذاىب مع المختار لنطمئف عمى حاؿ حميدة وسعدى‪.‬‬
‫يتأمبلف القوات الفرنسية‪ ،‬وقد‬
‫سار عمي بؾ والمختار بجوار الشاطئ‪ ،‬وكانا ّ‬
‫وضعت متاريس في عدد مف األماكف البارزة‪ ،‬فضحؾ طويبلً‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫صدقوا أف الثوار سيياجمونيـ عف طريؽ النير‪.‬‬ ‫ػ لقد ّ‬
‫كاف المختار يفكر بعمؽ‪ ،‬حتَّى إنو لـ يأبو لما قالو عمي بؾ‪ ،‬فمكزه عمي بؾ‬
‫بمرفقو قائبلً‪:‬‬
‫ػ أيف ذىب عقمؾ يا رجؿ؟ حميدة وسعدى بخير‪.‬‬
‫ػ إف شاء اهلل‪.‬‬
‫طرؽ المختار باب بيت أحمد الصباغ‪ ،‬ففتحت لو ابنتو سعدى الباب‪ .‬عانقيا‬
‫وتأمميا جيداً‪ ،‬فمـ َير بيا ما يريب‪ .‬قاؿ‪:‬‬
‫بح اررة‪ّ ،‬‬
‫كنت إحدى الممثّمات يا سعدى؟ ىؿ سمح لؾ أبوؾ وأمؾ؟‬ ‫ػ ِ‬
‫ػ يا والدي‪ ،‬لقد اشتقت إلى أحمد‪ .‬لقد رأيتو البارحة في المناـ يناديني‪.‬‬
‫ػو ِ‬
‫أنت يا حميدة ماذا تقوليف؟‬
‫شجعتني ُسعدى‪ ،‬وأخذت بيدي شاكي‪،‬‬‫نذرت نفسي لمشيادة‪ ،‬وقد ّ‬
‫ُ‬ ‫عماه‪ ،‬لقد‬
‫ػ يا ّ‬
‫دربتنا عمى استخداـ السبلح جيداً‪.‬‬
‫فزودتنا بالسبلح والذخيرة بعد أف ّ‬
‫ّ‬
‫ػ متى كاف ذلؾ؟‬

‫ػ ‪ 143‬ػ‬
‫ػ منذ أكثر مف شير‪.‬‬
‫ػ عجيب أمركما! كيؼ لـ أعمـ بذلؾ؟‬
‫كنت تعمـ لمنعتنا واهلل‪.‬‬
‫ػ لو َ‬
‫ػ يا بنتي حراـ عميؾ الذي تفعمينو‪.‬‬
‫ػ يا عماه‪ ،‬أنا لـ أتزوج بعد المرحوـ سامي‪ ،‬وال أنوي الزواج‪ ،‬وليس لي ىدؼ إال‬
‫الشيادة‪ .‬أرجوؾ ال تقؼ في طريقي‪ ،‬ألنني قررت وصممت عمى ذلؾ‪.‬‬
‫يرد عمييا‪ ،‬لكنو سمع صوت عمي بؾ يناديو‪:‬‬ ‫أراد المختار أف ّ‬
‫قررتا عميو‪ ،‬وتعاؿ أل ِ‬
‫ؽ النظرة األخيرة عمى أـ أحمد‪ ،‬فإني‬ ‫ػ دعيما تفعبلف ما َّ‬
‫أراىا قد فارقت الدنيا‪.‬‬
‫نظر أبو عدناف إلى وجو أـ أحمد‪ .‬كاف ساكناً شاحباً‪ ،‬لكف شفتييا اليابستيف‬
‫كانتا تبتسماف‪.‬‬

‫ػ ‪ 144‬ػ‬
‫(‪)99‬‬
‫مدوا‬
‫غص الجامع الكبير بالمصّميف‪ ،‬وجمس العشرات عمى بابو الخارجي‪ ،‬وقد ّ‬ ‫ّ‬
‫كرسيا‬‫ّ‬ ‫التي‬ ‫سعيد‬ ‫محمد‬ ‫الشيخ‬ ‫خطبة‬ ‫إلى‬ ‫لبلستماع‬ ‫آخروف‬ ‫ووقؼ‬ ‫‪،‬‬‫ً‬‫ا‬ ‫ان‬
‫ر‬ ‫وحص‬ ‫ُب ُسطاً‬
‫عف الشيادة والشيداء‪ ،‬وأشاد فييا بأـ المناضبلت (شاكي)‪ ،‬وبالممثّمات والممثّميف‬
‫الذيف يناضموف في الخفاء‪ ،‬فيوقعوف أفدح الخسائر بالقوات الفرنسية‪ ،‬وطالب‬
‫الشباب والشيوخ بواجبيـ المقدس لتحرير أرضيـ مف المحتؿ الغاصب‪ ،‬وما إف‬
‫يوزعوف عمى المصميف صحيفة‬ ‫انتيت صبلة الجمعة‪ ،‬حتَّى كاف عدد مف الفتية ّ‬
‫الفرات التي أنشأىا المناضؿ أحمد المصطفى ورأس تحريرىا المناضؿ الرحبي‪ ،‬وقد‬
‫حوت الصحيفة عمى الكثير مف المقاالت التحريضية والقصائد المؤججة لممشاعر‪.‬‬
‫ولعؿ أبرزىا قصيدة (بني قومي) لمشاعر الشاب ناجي‪.‬‬
‫التقت جموع المصميف مع جماعات مف مساجد أخرى‪ ،‬وساروا جنباً إلى جنب‬
‫بتظاىرة كبيرة لـ تشيد دير الزور مثميا منذ زمف طويؿ‪ ،‬واتجيت نحو مقر الحاكـ‬
‫الفرنسي تيتؼ بسقوط فرنسا‪ ،‬وتطالب الفرنسييف بالرحيؿ عف سورية‪.‬‬
‫كاف الحاكـ الفرنسي ينظر مف نافذة غرفتو بالطابؽ الثاني إلى تظاىرة أىؿ‬
‫العمائـ والمحى‪ ،‬فمـ يأمر بتفريقيا بالقوة‪ ،‬بؿ أمر بتفريغ كؿ مخزوف الخمر عمى‬
‫صب مف كؿ اتجاه عمى جاكو الفاسؽ‪ ،‬وزمرتو‬
‫فتفرقت المظاىرة والمعنات تُ ّ‬
‫رؤوسيـ‪ّ ،‬‬
‫السكارى‪...‬‬
‫فوجئ الثوار في مساء اليوـ نفسو باعتقاؿ الشيخ محمد سعيد‪ ،‬وصاحب جريدة‬
‫الفرات ورئيس تحريرىا والشاعر ناجي‪ ،‬وصدور أمر تسريح الرحبي مف التعميـ‪،‬‬
‫فازداد غضب الجماىير‪ ،‬وعبؤوا أنفسيـ ليوـ حاسـ‪ ،‬وخاصة أف إخوتيـ في العراؽ‬
‫ىبوا بثورة عارمة ضد اإلنكميز يقودىا رشيد عالي‪.‬‬
‫قد ّ‬
‫اجتمع الثوار في مضافة عمي بؾ يتداولوف حديث الثورة في دير الزور‬
‫والعراؽ‪ .‬قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ ال فرؽ لدينا بيف سورية والعراؽ‪ .‬األرض واحدة والشعب واحد والمغة واحدة‬
‫والديف واحد والتاريخ واحد‪ ،‬وعمينا نصرة إخواننا‪ ،‬وأعرؼ مسبقاً أنيا ميمة ثقيمة تقع‬
‫عمى عاتؽ الشباب‪ ،‬لكنو الوطف بحاجة إلى سواعدىـ وتضحياتيـ‪.‬‬

‫ػ ‪ 145‬ػ‬
‫وقؼ األستاذ جبلؿ قائبلً‪:‬‬
‫غاؿ‪ ،‬لكنو الواجب يا إخوتي‪ ،‬فبل حياة‬ ‫ػ أعرؼ أف الثمف الذي يجب أف ندفعو ٍ‬
‫مع الظمـ أبداً‪ ،‬عمينا أف نذيؽ اإلنكميز الذيف يعيثوف فساداً بالعراؽ ألواناً مف العذاب‪،‬‬
‫كما نذيقو لمفرنسييف ىنا‪ ...‬إلى النضاؿ يا إخوتي‪ ..‬إلى النضاؿ‪.‬‬
‫وقؼ أبو ياسيف شامخ ًا‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ واهلل إنني أكرر ما قالو غاندي يوماً‪:‬‬
‫"لست ِ‬
‫آسفاً عمى شيء‪ ،‬إال ألنني ال أممؾ إال حياة واحدة أىبيا لوطني"‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ليتني أييا األخوة أممؾ أكثر مف حياة‪ ،‬لبذلتيا واهلل طوعاً في سبيؿ الواجب‬
‫والتحرير‪.‬‬
‫قاؿ األستاذ جبلؿ‪:‬‬
‫ِ‬
‫فميأت غداً بعد‬ ‫ػ يا إخوتي مف يرغب بالتطوع لبللتحاؽ بثورة رشيد في العراؽ‬
‫صبلة العصر إلى النادي الثقافي كي أسجمو‪ ،‬وأعطيو التعميمات البلزمة‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ عمينا مف الصباح الباكر االستمرار بالتظاىر‪ ،‬حتَّى يتـ اإلفراج عف‬
‫تتفرقوا اثنيف اثنيف‬
‫المسرحوف إلى أعماليـ‪ ،‬واآلف أرجو منكـ أف ّ‬
‫ّ‬ ‫المعتقميف‪ ،‬ويعود‬
‫وبفاصؿ زمني حتَّى ال تثيروا الريبة‪.‬‬
‫أمسؾ ياسيف بيد سمطاف‪ ،‬وخرجا مف المضافة‪...‬‬
‫لـ تكف الدماء األرمنية وحدىا ىي التي جمعت بينيما‪ .‬لقد التقيا عمى صعيد‬
‫الفكر والنضاؿ واالتجاه والرأي أيضاً‪ .‬فكرىما ينفي الظمـ ويحارب االستبداد‪ ،‬ويؤمف‬
‫بالحرية والعدالة‪ ،‬وكانت آراؤىما مطابقة آلراء أستاذىما تحسيف بؾ‪ ،‬وكاف اتّجاىيما‬
‫متفوقيف في دراستيما دائماً‪ ،‬وفي كؿ‬
‫ماركسياً‪ .‬قرأا كتب كارؿ ماركس وأنجمز‪ ،‬وكانا ّ‬
‫عاـ دراسي كاف ياسيف األوؿ وسمطاف الثاني ترتيب ًا‪.‬‬
‫قاؿ سمطاف لياسيف‪:‬‬
‫ػ أخبرني عف ّأـ المناضبلت جدتؾ؟ كيؼ ىي اآلف؟‬
‫ػ جدتي ليست بخير‪ ،‬فمنذ أف تفتّت عظـ ساقيا‪ ،‬ولـ ينجح الطبيب في جبرىا‬
‫تماماً‪ ،‬وىي تتّكئ عمى عصا عندما تسير‪ ،‬وتتألـ كثي اًر‪ .‬لكنيا كانت تقوؿ ألمي‪ :‬إف‬
‫ياسيف سيكوف لو شأف كبير‪ ،‬فبل تيمميو أبداً‪ .‬كانت تحثّني عمى الدراسة أوالً‪ ،‬وعمى‬

‫ػ ‪ 146‬ػ‬
‫فتيز رأسيا‬
‫فأصرح ليا بأفكاري ومبادئي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫النضاؿ ثانياً‪ ،‬وتسير معي أثناء دراستي‪،‬‬
‫موافقة‪ ،‬وترّبت عمى كتفي‪.‬‬
‫ػ أـ المناضبلت عظيمة‪ ،‬وسيكوف حفيدىا مف أعظـ المف ّكريف إف شاء اهلل‪ .‬أنا‬
‫أشاركيا الرأي دوف مجاممة‪.‬‬
‫ػ أخي سمطاف‪ ،‬المستقبؿ كمو بيد اهلل‪ ،‬وعمينا أف نعمؿ بكؿ ما أوتينا مف قوة‪،‬‬
‫وأف نصبر عمى الشدائد‪ ،‬ونح ّكـ عقمنا قبؿ عواطفنا‪ ،‬لنستطيع أف نرتقي‪ .‬الوطف‬
‫العمـ والمعرفة قبؿ العواطؼ واألحاسيس‪.‬‬‫بحاجة إلى ِ‬
‫ػ صدقت يا أخي‪ ...‬فأنا معؾ في كؿ صغيرة وكبيرة‪.‬‬
‫ػ ما رأيؾ في ثورة رشيد؟‬
‫ػ رائعة إف ُكتب ليا النصر‪.‬‬
‫ػ وىؿ تعتقد أنيا ستنتصر؟‬
‫ػ ال أعتقد‪َّ .‬‬
‫ألف اإلنكميز سيحبطونيا بقسوة‪ ،‬ألنيا تعني طردىـ مف العراؽ‪،‬‬
‫وىذا األمر ال يريدونو عمى اإلطبلؽ‪.‬‬
‫ػ ىؿ ستمتحؽ مع الشباب المتطوع؟‬
‫ونسجؿ معاً دوف تردد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ػ سأرافقؾ غداً إلى النادي الثقافي‪،‬‬
‫مدينة دير الزور تغمي غضباً وىياجاً‪ ،‬والريؼ يمور‪ ...‬الثورة بركاف‪ ،‬واإليماف‬
‫طوفاف‪ ...‬المآذف تصدح‪ ،‬والنواقيس تقرع‪ ...‬والكؿ يناجي اإللو أف ينصر الحؽ‬
‫ويقتص مف الظالـ‪.‬‬
‫قاؿ أبو ياسيف لعمي بؾ‪:‬‬
‫ػ سمعت مف أـ المناضبلت مقولة ُذىمت ليا‪.‬‬
‫ػ ما ىي؟‬
‫ػ "ومثمما تيتز أوراؽ غرسة ال ّشوح بفعؿ تيارات الريح العنيفة وتسقط‪ ،‬وتخضع‪،‬‬
‫كذلؾ أراد الشر قطع فروع شجرة حياتي المنتصبة عالياً"‪.‬‬
‫ػ كبلـ جميؿ‪ ،‬ومعناه عميؽ‪ ...‬إنيا يا أخي تتذكر مأساة قوميا‪.‬‬
‫تردد ىذا القوؿ وىي تمسؾ بساقيا وتبكي‪.‬‬
‫ػ لكنيا كانت ّ‬
‫احد يا أبا ياسيف‪ ،‬لكف لبوسو يتجدد في كؿ حيف واآلف ىيا بنا‪ ،‬فالقائد‬
‫ػ الشر و ٌ‬
‫فوزي في بيتي‪ .‬في ضيافة ولدي راغب‪ .‬لنذىب إليو عمى جناح السرعة‪.‬‬

‫ػ ‪ 147‬ػ‬
‫نودع المتطوعيف إلى العراؽ؟‬
‫ػ أال ّ‬
‫ػ أوكمت الميمة إلى الشيخ محمد سعيد‪ ،‬واألستاذ جبلؿ واألستاذ ثابت‪.‬‬
‫ػ أال نأخذ المختار معنا؟‬
‫ػ لقد سبقنا‪ ...‬ىيا‪.‬‬
‫ما إف وصؿ عمي بؾ إلى أوؿ حارتو حتَّى سمع أصوات الزغاريد تنطمؽ مف‬
‫بيتو فأسرع يحث الخطى إليو ليجد ابنتو شفيقة تقؼ عمى سطح البيت مطمقة تمؾ‬
‫ثمة ىرج ومرج‪ .‬نزلت شفيقة مف‬ ‫الزغاريد بأعمى صوتيا‪ ،‬وعمى باب البيت كاف َّ‬
‫السطح مسرعة وتمقّت والدىا عمى الباب وقالت قبؿ أف يسأؿ‪:‬‬
‫ػ لقد أمرني أخي راغب أف أزغرد مف عمى سطح البيت فرحاً بقدوـ القائد فوزي‬
‫وتحدياً لمفرنسييف‪.‬‬
‫ػ بوركت يا بنتي‪ ،‬وبورؾ راغب فيما أمر‪ .‬ولكننا نخشى عمى ضيفنا مف‬
‫الفرنسييف ومكرىـ‪.‬‬
‫ػ ال تخش شيئاً يا والدي‪ ،‬فراغب عاقؿ ويعي ما يفعؿ‪.‬‬
‫لقاء حا اًر مع القائد فوزي الذي عرفت فرنسا صوالتو وجوالتو‪ ،‬وكانت‬
‫كاف ً‬
‫تأممو عمي بؾ طويبلً فابتسـ‬
‫حياً أو ميتاً‪ ،‬مقابؿ جوائز سخية‪َّ .‬‬
‫تبحث عنو‪ ،‬تريده ّ‬
‫قائبلً‪:‬‬
‫خشيت عمى نفسؾ؟‬
‫َ‬ ‫أما‬
‫ػ َّ‬
‫كنت أخشى عمى نفسي ما قاتمت فرنسا يا أخي‪.‬‬
‫ػ لو ُ‬
‫ػ لكنني أراؾ ميموماً؟!‬
‫أتوجو إلى العشارة والمصمخة‪.‬‬
‫أحببت أف أسمّـ عميؾ قبؿ أف ّ‬
‫ُ‬ ‫ػ‬
‫ػ أال تمكث معنا في المدينة؟‬
‫ماسة إلي‪ ...‬وعدتيـ بالمجيء‪ ،‬وعندما أنتيي مف‬ ‫ػ ال‪ ...‬إخواني ىناؾ بحاجة ّ‬
‫ىناؾ‪ ،‬سآتي إليؾ‪ ،‬وسأقابؿ الممثّميف الذيف ضربوا أروع األمثمة في البطولة والفداء‪.‬‬
‫ابتسـ عمي بؾ‪ ،‬فاستغرب فوزي‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ ىؿ أخطأت في أمر؟‬
‫ػ لو كنت تعمـ مف ىـ البتسمت مثمي!‬
‫ػ مف ىـ أرجوؾ‪.‬‬

‫ػ ‪ 148‬ػ‬
‫ػ ّإنيف نساء عاىدف اهلل‪ ،‬ونذرف أنفسيف لمشيادة‪.‬‬
‫ػ عظيـ‪ ...‬عظيـ‪ ...‬وىذا يسرني كثي اًر‪ ،‬واهلل لقد تفوقتـ عمينا‪ ،‬وحتى عمى فرنسا‬
‫وانكمترا‪.‬‬
‫وقؼ القائد فوزي ليودع إخوانو‪ ،‬فقاؿ لو عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ ال يمكف أف ترحؿ اآلف‪ ،‬فالقوات الفرنسية منتشرة في أحياء المدينة بكثافة‬
‫عالية‪.‬‬
‫ػ ال تخؼ‪ .‬القوات الفرنسية منشغمة بالمتطوعيف‪.‬‬
‫لقد راقبت الموقؼ عف كثب‪.‬‬
‫ػ مف سيرافقؾ في سفرؾ؟‬
‫ػ ولدؾ األستاذ راغب إف وافقت‪.‬‬
‫ػ ونِعـ الرجؿ الصمب راغب‪ .‬لكنني أخاؼ عميكما إف ذىبتما‪.‬‬
‫ػ ال تخؼ‪ .‬لف يعرفنا أحد‪ .‬لقد أصبحت ممؾ التخفّي‪.‬‬
‫ػ رافقتكما السبلمة‪.‬‬
‫في الوقت الذي رحؿ فيو القائد فوزي كانت حافبلت المناضميف ترفع العمـ‬
‫أما الرجاؿ فقد‬
‫العربي‪ ،‬وتطمؽ اليتافات‪ ،‬والنساء يزغردف تارة‪ ،‬ويبكيف تارة أخرى‪َّ ،‬‬
‫تجميروا‪ ،‬وتظاىروا‪ ،‬وأطمقوا ىتافات في حب الوطف وسقوط فرنسا وانكمترا‪.‬‬
‫ما إف حؿ المساء‪ ،‬حتَّى كاف المناضموف يتوافدوف عمى مضافة عمي بؾ‪.‬‬
‫الوجوه قمقة‪ ،‬والعيوف تدور في محاجرىا بحيرة‪ ،‬واألفواه فاغرة تتشيّى التياـ‬
‫الحقائؽ الخفية‪ ..‬األياـ سكرى‪ ،‬والشيور حبمى باألحداث‪...‬‬
‫كاف عمي بؾ قمقاً مف تواتر األخبار وتعاظـ األحداث‪ ...‬الريؼ يحقؽ نص ًار‬
‫ىوة مزدانة بشيدائيا وتضحيات أبنائيا البررة‪ ...‬اقترب عمي‬‫تمو نصر‪ ،‬والمدينة مز ّ‬
‫بؾ مف األستاذ جبلؿ‪ ،‬قائبلً‪:‬‬
‫ػ ضع المناضميف بصورة األحداث التي جرت في المصمخة كونؾ كنت ىناؾ‪.‬‬
‫قاؿ جبلؿ بفخر واعتزاز‪:‬‬
‫كسار ولده الصغير قائبلً‪ :‬يا بني‪ ،‬عندما يصؿ القائد‬
‫ػ لقد أوصى الشيخ ّ‬
‫الفرنسي إلى ىنا‪ ،‬ويقوؿ لؾ (بونجور)‪ ،‬قؿ لو‪ :‬بونجور وتسقط فرنسا‪ .‬وىذا ما حدث‬
‫فعبلً‪.‬‬

‫ػ ‪ 149‬ػ‬
‫كسار القائد فوزي والقائد العراقي فتيخاف أبا ريشة المذيف بحثت‬
‫احتضف الشيخ ّ‬
‫كسار وفارس‬
‫القوات الفرنسية عنيما طويبلً دوف جدوى‪ ،‬وصادؼ وجود الشيوخ ّ‬
‫وعبود في البوكماؿ ليح ّذروا القائد الفرنسي فييا مف التمادي في جباية الضرائب‬
‫وتقدـ‬
‫فتوجيت قوة إلى المصمخة‪ّ ،‬‬ ‫المرىقة‪ ،‬فوعدىـ خي اًر‪ ،‬لكف لـ ينتظروا كما وعدوا‪ّ ،‬‬
‫أحد جنودىا مف فتاة تحمؿ عمى رأسيا خب اًز‪ ،‬وعندما رأى في أذنييا قرطيف ذىبييف‬
‫ساؿ لعابو‪ ،‬وىجـ عمييا‪ ،‬وما كاف مف الفتاة إال أف ألقت الخبز‪ ،‬وىربت صائحة‪،‬‬
‫فصوب بندقيتو نحو الفرنسي وأرداه قتيبلً‪ ،‬وكانت ىذه‬
‫وكاف أخوىا غير بعيد عنيا‪ّ ،‬‬
‫الحادثة ىي الش اررة األولى التي أحرقت اليشيـ‪.‬‬
‫تمركزت القوات الفرنسية بعد ىذا الحادث وأحاطت بمنازؿ الشيوخ الثبلثة‬
‫كسار‪ ،‬ووضعت أكياس‬ ‫(عيوؼ) زوجة الشيخ ّ‬ ‫ليشعروىـ بأنيـ رىائف‪ ،‬فوقفت السيدة ّ‬
‫وخبأت األطفاؿ في‬ ‫الطحيف أماـ المنزؿ كمتراس يقييـ مف رصاص الفرنسييف‪ّ ،‬‬
‫فتجمع الرجاؿ‬
‫ّ‬ ‫الزوايا‪ ،‬وصاحت صيحة ‪/‬الفدعاف‪( /‬الروـ يا ىمي) كونيا فدعانية‪،‬‬
‫حوليا‪ ،‬وقالت ليـ مستيزئة‪( :‬يحمدونكـ‪ ،‬وما شفت أفعالكـ)‪ .‬فقالوا ليا‪ :‬لبيؾ يا‬
‫أختاه‪ .‬ونشبت المعركة ضارية تحصد أعناؽ الغادريف‪ .‬حصد الثوار أعناؽ ستة‬
‫وسبعيف عسكرياً فرنسياً‪ ،‬وقتموا قائد الحممة (الميوتناف أسبراف)‪ ،‬وجرح مساعده‬
‫(الكابتف غوركي) واعتقموا عدداً مف األسرى‪ ،‬وكانت خسائر الثوار خمسة عشر‬
‫ثائ اًر ًّ وعددًا مف الجرحى‪ .‬استسمـ الفرنسيوف في ىذه المعركة‪ ،‬وقاـ الثوار بجمع‬
‫جثث القتمى مف الفرنسييف وألقوىا في نير الفرات‪.‬‬
‫احتشد بعد ىذه المعركة عدد كبير مف الرجاؿ مف قرى الدميـ والقرى‬
‫وكسا اًر‬
‫وتوجيوا إلى البوكماؿ‪ ،‬وكاف قد سبقيـ أحد الثوار ليخبر فارساً ّ‬
‫ّ‬ ‫المجاورة‪،‬‬
‫ومف معيما بما جرى كي يتواروا عف أعيف الفرنسييف إلى حيف‪ ،‬لكنو لـ يوفّؽ إذ‬
‫فوجئ باعتقاؿ الشيخيف‪.‬‬
‫عندما عمـ القائد الفرنسي بما جرى لمقوة العسكرية‪ ،‬وىالو ما رأى بمنظاره مف‬
‫حشد جماىيري في موقع مقبرة (أبي سيباط) أسرع إلى السجف‪ ،‬وأخرج الشيخ فارساً‬
‫التوجو إلى الجموع المحتشدة وارجاعيـ إلى قراىـ‪ ،‬فرفض الشيخ فارس‬ ‫ّ‬ ‫طالباً منو‬
‫كسا اًر‬
‫كسار‪ ،‬فأقسـ لو الضابط بشرؼ فرنسا بأف ّ‬ ‫الخروج مف السجف إال برفقة ّ‬
‫كسار رضي‬‫سيمحؽ بو بعد أف يقنع المحتشديف بالتراجع‪ ،‬وحرصاً عمى حياة الشيخ ّ‬
‫الشيخ فارس‪ ،‬وتوجو إلى الجماىير الغاضبة‪ ،‬قائبلُ ليـ‪ :‬إف أردتـ أف تحافظوا عمى‬
‫حياة الشيخ كسار وسبلمتو ارجعوا‪ ،‬فقد أقسـ الضابط الفرنسي بشرؼ فرنسا بأف‬
‫كسا اًر سيمحؽ بو بعد أف تتراجعوا‪ ،‬ورضوخاً لطمب الشيخ فارس تراجع الحشد إلى‬ ‫ّ‬

‫ػ ‪ 151‬ػ‬
‫مسافة غير بعيدة‪ .‬حينذاؾ طمب الضابط الفرنسي مف حامية دير الزور إرساؿ قوة‬
‫داعمة لتأديب الثائريف‪ ،‬ووصمت القوة‪ ،‬والجموع ما تزاؿ تنتظر عمى الطريؽ عودة‬
‫كسار‪.‬‬
‫الشيخ ّ‬
‫توقّفت القوة الداعمة أماـ الجماىير المحتشدة‪ ،‬وخرج مف بينيا جندياف عرفتيما‬
‫الحشود‪ ،‬وأرادت الفتؾ بيما‪ ،‬لوال أف قاؿ ليـ أحدىـ‪ :‬ال تخافوا يا إخوتي إف نشبت‬
‫الحرب لف نكوف واهلل إال معكـ‪.‬‬
‫القوة الداعمة‪،‬‬
‫تحرؾ ّ‬ ‫أما ضابط االستخبارات الفرنسي فقد كاف يراقب بقمؽ ّ‬ ‫َّ‬
‫وصوبو‬
‫ّ‬ ‫كسار‪ ،‬فأخرج مسدسو‬ ‫متوجية إلى البوكماؿ‪ ،‬توجو إلى سجف ّ‬
‫ّ‬ ‫وعندما رآىا‬
‫كسار‪ ،‬لكف المسدس لـ يستجب لو‪ ،‬فألقاه عمى األرض بعصبية‪ ،‬وتناوؿ‬ ‫نحو رأس ّ‬
‫كسار فأرداه قتيبلً‪ .‬حدث ىذا يا إخوتي عصر يوـ‬ ‫وصوبيا نحو ّ‬
‫ّ‬ ‫بندقية الحارس‬
‫السابع عشر مف أيموؿ ‪ ،1941‬وسرعاف ما نقؿ ضابط االستخبارات الفرنسي جثّة‬
‫كسار ووضعيا عمى كرسي سيارتو‪ ،‬ووضع عمى رأسو غطاءه وعقالو ليوىـ مف يراه‬ ‫ّ‬
‫بأنو حي‪ ،‬ورحؿ بو عف طريؽ البادية إلى دير الزور‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫كسار‪ ...‬أجؿ سمّموا الجثّة إلى تكية الشيخ أحمد الراوي‪،‬‬
‫ػ رحمة اهلل عمى ّ‬
‫ودفنت بدير الزور‪.‬‬
‫ػ رحمة اهلل عميو‪ ،‬وما تزاؿ يا إخوتي الثورة تشمؿ الريؼ ومدينة البوكماؿ‪،‬‬
‫وتصبح أكثر شراسة‪ ،‬وتسمع في كؿ مكاف حداء الثوار‪:‬‬

‫ػ ‪ 151‬ػ‬
‫دانة‬ ‫وعل‬ ‫طوب‬ ‫عل‬ ‫نيجم‬ ‫خيانة‬ ‫بينا‬ ‫وما‬ ‫عقيدات‬
‫مكسر‬
‫ّ‬ ‫والدربيل‬ ‫يزحف‬ ‫باركانو‬ ‫يعضعض‬ ‫ليس‬ ‫ما‬
‫وحدر‬
‫ّ‬ ‫الخزان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مكسور‬ ‫مبعوجي‬ ‫الطيارة‬
‫ّ‬ ‫راعي‬
‫ربعي دوم يزيحون الشر‬

‫ػ حمداً هلل عمى سبلمتؾ يا جبلؿ‪ ،‬ولنسمع اآلف أخبار الثورة في المدينة مف‬
‫المختار أبي عدناف قائد العمميات فييا‪.‬‬
‫تنحنح أبو عدناف‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ ّأوالً‪ ،‬أريد أف أطمئنكـ عمى صحة القائد فوزي‪ ،‬فيي بخير‪ ،‬ويسير عمى راحتو‬
‫األستاذ راغب‪ .‬ثاني ًا‪ ،‬الممثّموف قد تضاعؼ عددىـ حتَّى أصبحوا يتجاوزوف مئة‬
‫أما الفرنسيوف فخسائرىـ ثبلثوف‬
‫الممثّـ‪ .‬ضربوا أروع األمثمة في البطولة والفداء‪َّ .‬‬
‫أما خسائرنا فقد استشيد اثنا عشر مناضبلً‬‫جندياً وضابطاً‪ ،‬ومف السنغالييف ستوف‪َّ .‬‬
‫تـ دفنيـ في مقبرة الشيداء‪ ،‬وأبرز الشيداء‪:‬‬
‫ومناضمة‪َّ ،‬‬
‫(حميدة أخت أحمد الصباغ‪ ،‬وسمطانة بنت أبي سمطاف‪ ،‬وأبو سمطاف الجابي‪،‬‬
‫وآرتيف وزوجتو شاميراف) رحمة اهلل عمييـ جميع ًا‪.‬‬
‫ػ يا إخوتي‪ ،‬ثورة دير الزور أقمقت فرنسا‪ ،‬وقد وردني خبر بأف الجنراؿ ديغوؿ‬
‫سيأتي إلى ىنا ليب ّشر الشعب بقرب الجبلء‪.‬‬
‫تردىـ يومياً بكؿ استخفاؼ‪ ،‬فقد تعودوا عمى‬ ‫قابؿ الديريوف كؿ األخبار التي ِ‬
‫خداع المستعمر‪ .‬ىـ يريدوف إطفاء نار الثورة المتأججة‪ ،‬ولـ يفمحوا‪ ،‬ولف يفمحوا‪ ،‬إذ‬
‫كانت تشتعؿ بضراوة‪ ،‬تحرؽ األخضر واليابس‪.‬‬
‫قُتؿ مف الفرنسييف والسنغالييف المئات‪ ،‬وأحرقت سياراتيـ وناقبلت جندىـ‪،‬‬
‫تقؿ قائد قوات شرقي السويس الجنراؿ البريطاني‬
‫ورجموا حافمة صغيرة عابرة كانت ّ‬
‫سيريس وكادوا يفتكوف بو لوال سرعة ىروبو إلى العراؽ‪.‬‬
‫وجاء ديغوؿ‪...‬‬
‫استقبمو المحافظ توفيؽ‪ ،‬والحاكـ العسكري‪ ،‬وقائد االستخبارات‪ ،‬وعدد محدود‬
‫ووزعت القوات الفرنسية مناشير تبشر أبناء الفرات بقرب‬
‫مف الضباط والوجياء‪ّ ،‬‬
‫موعد الجبلء‪...‬‬

‫ػ ‪ 152‬ػ‬
‫قاؿ عمي بؾ لجمساء مضافتو‪:‬‬
‫ػ عمينا أف نوقؼ عممياتنا فترة محدودة حتَّى تتك ّشؼ األمور‪.‬‬
‫قاؿ أبو ياسيف‪:‬‬
‫ػ لـ يعترض الفرنسيوف قافمة المتطوعيف العائديف مف العراؽ بعد إخفاؽ الثورة‬
‫فييا‪.‬‬
‫ػ اطمأف قمبؾ عمى ياسيف؟‬
‫ػ الحمد هلل‪ .‬عاد ياسيف سميماً إال مف شظية أصابت قدمو‪ ،‬وىو اآلف معافى‪.‬‬
‫ػ لماذا حزنت عمى ذىابو يا أبا ياسيف؟‬
‫يودعني‪.‬‬ ‫ألنو ذىب ليقاتؿ‪ ،‬وانما َّ‬
‫ألنو رحؿ دوف أف ّ‬ ‫ػ واهلل يا أبا راغب ال َّ‬
‫قاؿ المختار‪:‬‬
‫ػ أرجو يا أبا راغب أف نمنح الفرنسييف وقتاً كافياً مف أجؿ الجبلء‪ ،‬وليكف ستة‬
‫أشير عمى األقؿ‪ ،‬وىي مناسبة لنعيد ترتيب بيتنا النضالي‪.‬‬
‫ضحؾ أبو ياسيف‪:‬‬
‫ػ أنت كريـ عمييـ يا مختار‪ .‬ثبلثة أشير كافية‪.‬‬
‫قاؿ األستاذ جبلؿ‪:‬‬
‫ػ يا إخوتي‪ ،‬لف يكوف ثمف الجبلء إال دماء الشيداء‪.‬‬
‫وستروف‪.‬‬
‫مضت الشيور ثقيمة عمى المناضميف‪ ،‬وجاء إلى دير الزور محافظ جديد‬
‫طيباً مع الشعب‪ ،‬لكنو مسالـ إلى أبعد الحدود‪ .‬طمب مف‬
‫داغستاني األصؿ‪ ،‬وكاف ّ‬
‫عمي بؾ‪ ،‬ومف القادة الوطنييف أال يشيروا السبلح في وجو الفرنسييف بعد اليوـ‪،‬‬
‫مقابؿ أف يضمف رحيميـ بعد أشير معدودات‪.‬‬
‫صاح عمي بؾ‪:‬‬
‫ىدأت أنا‪ ،‬فمف ييدأ الشعب‪ .‬الشعب أمانة‬
‫ُ‬ ‫ػ أشي اًر أخرى يا خالد بؾ؟ واهلل إف‬
‫في عنقؾ‪ ،‬ومطمبيـ مطمب حؽ‪ ،‬فاهلل اهلل بيـ‪.‬‬
‫خرج عمي بؾ مف دار المحافظة غاضباً‪ ،‬واعتكؼ في بيتو‪.‬‬
‫جاء المناضموف‪ ،‬وحمموه إلى المضافة‪ ،‬وىـ ييتفوف‪:‬‬
‫ػ كمّنا لموطف‪ ...‬كمّنا لمجياد‪ ...‬كمّنا لبلستشياد‪.‬‬

‫ػ ‪ 153‬ػ‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ يا إخوتي‪ ،‬صدؽ األستاذ جبلؿ عندما قاؿ أف الجبلء لف يكوف ثمنو إال دماء‬
‫البد مف إجبار الفرنسييف عمى الرحيؿ ميما كانت التضحيات‪ ،‬لنثبت ليـ‬ ‫الشيداء‪َّ ...‬‬
‫أننا شعب حي ال يأبو لمموت‪ ،‬ولنبرىف ليـ أننا لف ندعو يناـ إال عمى فراش مف‬
‫قتاد‪ ...‬أوصموا الميؿ بالنيار واعمموا كامؿ طاقتكـ‪...‬‬
‫صرخ أبو ياسيف بأعمى صوت‪:‬‬
‫ػ إلى النضاؿ يا إخوتي‪ ...‬إلى النضاؿ‪.‬‬

‫ػ ‪ 154‬ػ‬
‫(‪)50‬‬
‫وتوزعوا خبليا في كؿ حي وشارع‪.‬‬
‫ارتدى المناضموف جبلبيب الحرب‪ ،‬وتمثّموا‪ّ ،‬‬
‫أقسموا عمى االستشياد وتحرير األرض مف الغاصبيف‪ ،‬فأخذوا يفتكوف‬
‫بالفرنسييف وأعوانيـ‪ ،‬ولـ يسمـ (شوتيؿ) الكولونيؿ الفرنسي مف غضبتيـ‪ ،‬فأحرقوا‬
‫ثمة شاعر شعبي يرافؽ‬‫سيارتو‪ ،‬وحاصروا بيتو عند الجسر العتيؽ‪ ،‬وكاف َّ‬
‫المناضميف‪ ،‬ويحدو بيـ‪:‬‬

‫الكمونير‬ ‫سيارة‬ ‫حرقوا‬ ‫الدير‬ ‫أىل‬ ‫ثورة‬ ‫شوف‬


‫تطمع‬ ‫اليوم‬ ‫روحو‬ ‫وخمّوا‬ ‫ىالشوفير‬ ‫اذبحوا‬ ‫وصاحوا‬
‫*‬
‫ضيق‬ ‫بأكبر‬ ‫شوتيل‬ ‫وصفّى‬ ‫ولمن ىجموا عالجسر العتيق‬
‫ّ‬
‫يطمع‬ ‫ما‬ ‫مجحر‪،‬‬ ‫وشوتيل‬ ‫والتصفيق‬ ‫التصفير‬ ‫اشتغل‬
‫*‬

‫كانت ثورة شاممة شاركت فييا كؿ شرائح المجتمع‪ ...‬ثورة قادىا المثقفوف‬
‫ونساء‪.‬‬
‫ً‬ ‫الثوريوف شباباً وشيوخاً‪ ،‬رجاالً‬
‫فعمت الذخائر والمتفجرات التي صنعيا أبو ياسيف وعائمتو ِفعميا الكبير‪ ،‬إذ‬
‫ىدمت بيوت الفرنسييف وثكناتيـ‪ ،‬وحافبلتيـ ومدرعاتيـ‪ ،‬وعندما الذوا بالفرار‬
‫جف جنونيـ‪ ،‬وأخذوا‬ ‫اصطادتيـ فخاخ أبي صادؽ‪ ،‬والقناصة المدربوف‪ ،‬حتَّى ّ‬
‫يمطروف المدينة وسكانيا اآلمنيف بوابؿ مف رصاص غدرىـ‪ ...‬قصفوا الدير ب اًر وجواً‬
‫أشدىا فتكاً‪ ،‬فتياوت بيوت الفقراء عمى رؤوس أصحابيا‪ ...‬قتموا‬ ‫بأحدث القذائؼ و ّ‬
‫األطفاؿ والشيوخ والنساء‪ ،‬وكانت مجزرة لف تمحى مف ذاكرة األجياؿ أبداً‪.‬‬
‫تدارس المناضموف الموقؼ‪ ،‬فقرروا إعبلف ىدنة كي يستطيعوا جمع شيدائيـ‬
‫ودفنيـ‪ ،‬وترتيب خبلياىـ مف جديد‪ ،‬فر ّشحوا الشاعر الفراتي لمتفاوض كونو يجيد‬
‫المغة الفرنسية بطبلقة‪.‬‬

‫ػ ‪ 155‬ػ‬
‫قبِ َؿ الفرنسيوف التفاوض ووقؼ إطبلؽ النار ثبلثة أياـ‪ .‬كاف مف بيف الشيداء‬
‫(أبو ياسيف وزوجتو ترفندا‪ ،‬والمختار أبو عدناف وابنتو سعدى‪ ،‬وأناىيت زوجة‬
‫آغوب‪ ،‬وأستخيؾ زوجة ديكراف‪ ،‬ولوسيف زوجة طارؽ‪ ،‬والقس قاطرياف‪ ،‬وروزيت‬
‫وآرشو وىوري وتامار)‪.‬‬
‫بكاىـ عمي بؾ طويبلً‪ ،‬وكذلؾ فعؿ الثوار‪ ،‬وأقسموا عمى الثأر ليـ ميما‬
‫عظمت التضحيات وغمت‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ رأيتـ كيؼ كاف المصاب جمبلً‪ ...‬ىذا يا إخوتي ثمف الحرية والكرامة‪ ،‬فبل‬
‫حرية دوف استشياد‪:‬‬

‫ُيدق‬ ‫مضر ٍ‬
‫جة‬ ‫ٍ‬
‫يد‬ ‫بكل‬ ‫باب‬ ‫الحمراء‬ ‫ولمحرية‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬

‫ما حدث في دير الزور حدث في بقية المحافظات‪ ...‬إنيا إرادة اهلل‪ ،‬وال ر ّاد‬
‫لقضائو‪.‬‬
‫طة لنسؼ الجسر المعمّؽ‬ ‫أعدوا خ ّ‬
‫وردني قبؿ قميؿ أف الفرنسييف قد ّ‬
‫يا إخوتي‪ّ ،‬‬
‫قبؿ رحيميـ‪ ،‬ونحتاج إلى ثبلثة فدائييف استشيادييف إلنقاذ الجسر مف الدمار‪ ،‬فمف‬
‫المتفجرات التي‬
‫ّ‬ ‫يجد في نفسو الكفاية والمقدرة والمعرفة بقطع األسبلؾ وابطاؿ مفعوؿ‬
‫ىـ اآلف بصدد ربطيا فميقؼ‪.‬‬
‫وقؼ شاب في الثبلثيف مف عمره‪ ،‬عرفو عمي بؾ وكؿ الثائريف ِلما لو مف ٍ‬
‫أياد‬ ‫َ‬
‫بيضاء عمى الثورة‪ ،‬فصفؽ عمي بؾ قائبلً‪:‬‬
‫ػ أنت ليا واهلل يا أبا رمزي يا أخا الخرسا‪.‬‬
‫ثـ وقؼ شاباف شقيقاف ىما عمر وحمود‪ ،‬فقاؿ ليما عمي بؾ‪.‬‬
‫َّ‬
‫ػ أنتما ساعداه األيمف واأليسر‪.‬‬
‫أطمب مف الجميع أخذ الحيطة والحذر‪ ،‬وأياديكـ عمى الزناد دائماً‪ ،‬فاالنفجار قد‬
‫ُ‬
‫يقع بعد األياـ الثبلثة حتماً إف لـ يرحموا عف أرضنا‪ ،‬وأنا سأواصؿ االتصاالت مع‬
‫شيوخ العشائر والوجياء والوطنييف‪ ،‬وسأوافيكـ بكؿ ما ىو جديد‪.‬‬
‫اذىبوا يا إخوتي إلى بيوتكـ‪ ،‬وال تنسوا تنفيذ ميامكـ النضالية‪.‬‬

‫ػ ‪ 156‬ػ‬
‫رحؿ الجميع‪ ،‬وبقي عمي بؾ وحيداً يف ّكر‪ ،‬وكمّما تذكر قافمة الشيداء األخيرة‬
‫يعتصر رأسو‪ ،‬وتقطر مف عينيو الدموع‪:‬‬
‫ػ رباه! أيرحموف دفعة واحدة وأبقى أنا وحيداً؟! لِ َـ لـ تأخذني مع قافمتيـ؟ يا رب‬
‫ساعدني‪...‬‬
‫قدموا أنفسيـ إلى عمي بؾ‬
‫دخؿ المضافة ستة طبلب مف تجييز الفرات‪ّ ،‬‬
‫(إسماعيؿ ومصمح وعبلء وفوزي وصالح وسميماف)‪:‬‬
‫ػ أىبلً بكـ جميعاً‪ ...‬تفضموا‪.‬‬
‫عماه‪ .‬ال نريد أف نأخذ وقتاً منؾ‪ .‬فقد أردنا أف نقوؿ لؾ بأننا‬
‫ػ أىبلً بؾ يا ّ‬
‫بعد‪.‬‬
‫أحد غيرؾ ُ‬
‫أعضاء جمعية الطبلب السرية التي لـ يعرفيا ٌ‬
‫نتصرؼ بغير مشورتؾ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لتحممنا أثقالنا‪ ،‬ألننا ال نريد أف‬
‫جئنا إليؾ ّ‬
‫وعبدوا لكـ‬
‫ػ اسمع يا ولدي مصمح‪ ...‬اآلف جاء دوركـ بعد أف استشيد رفاقي‪ّ ،‬‬
‫طريؽ الحرية والكرامة‪ ...‬العدو الغاصب ما زاؿ يحتؿ أرضنا بالرغـ مف أف فترة‬
‫إقامتو كما أراىا ليست طويمة‪ ،‬لكنو يجب أف يخرج بالقوة‪ ،‬ال نريد ِمّنةً مف أحد‪.‬‬
‫مقدمتيـ‪ ،‬وتمتفّوا حوؿ المناضميف أمثاؿ‬
‫تحرضوا الشعب‪ ،‬والطمبة في ّ‬ ‫عميكـ أف ّ‬
‫جبلؿ وسعيد وثابت وعبد الوىاب وراغب وياسيف وسمطاف وغيرىـ‪ ،‬وحقّقوا الشيء‬
‫الذي لـ نستطع نحف تحقيقو‪.‬‬
‫عماه‪ ...‬أنت حققت ورفاقؾ كؿ شيء‪ ،‬ونحف سنكمؿ المشوار‪ .‬ثؽ بي‬
‫ػ يا ّ‬
‫وبرفاقي‪.‬‬
‫عمي ًا وضيوفو‬
‫دخؿ ياسيف وسمطاف المضافة وىما يرغياف ويزبداف‪ ،‬فمما رأيا ّ‬
‫ٍ‬
‫بصوت خفيض‪:‬‬ ‫صمتا‪ .‬نظر إلييما عمي بؾ باستغراب‪ ،‬وقاؿ‬
‫تحدثا‪ ...‬ال أحد غريب ىنا‪.‬‬
‫ػ ماذا جرى لكما؟ ّ‬
‫قاؿ ياسيف‪:‬‬
‫تحوالً خطي اًر‪.‬‬
‫ػ االنتفاضة في المياديف والقورية تشيد ّ‬
‫ػ ماذا جرى؟‬
‫تقؿ عدداً كبي اًر مف‬
‫ػ استطاع المناضموف في المياديف نصب كميف لحافمة ّ‬
‫فدمروىا بمف فييا‪ ،‬وقتموا أيضاً أربعة عشر‬
‫الضباط الفرنسييف قادمة مف البوكماؿ‪ّ ،‬‬
‫لفؾ‬
‫ىب أىؿ القورية ّ‬ ‫جندياً فرنسياً كانوا قد جاؤوا لحمايتيا‪ ،‬والمياديف اآلف محاصرة‪ّ .‬‬
‫الحصار عنيا‪ ،‬فالتحموا مع القوات الفرنسية وقتموا أعداداً كبيرة مف جنودىـ‬

‫ػ ‪ 157‬ػ‬
‫اء سريعاً لنجدة أىمنا في المياديف‪،‬‬
‫متوتر اآلف‪ ،‬ونريد منؾ إجر ً‬
‫وضباطيـ‪ ،‬والجو ّ‬
‫خاصة وأف قوة كبيرة اتجيت اآلف إلى موقع األحداث‪.‬‬
‫ّ‬
‫صمت عمي بؾ طويبلً‪:‬‬
‫ردنا في دير الزور مزلزالً إف شاء اهلل‪ .‬اذىبا وبمّغا كؿ المناضميف‬
‫ػ سيكوف ّ‬
‫لمتحرؾ فو اًر‪ ،‬وأنت يا ولدي مصمح بمّغ تحياتي إلى جماعتكـ‪ ،‬وقؿ ليـ عمى لساني‬
‫ّ‬
‫التحرؾ اآلف ضروري وال يحتمؿ التأجيؿ‪.‬‬
‫إف ّ‬
‫عاشت دير الزور مدينة وريفاً وبمداناً أياماً وشيو اًر قاسية‪ ،‬فالفرنسيوف الذيف‬
‫ىاليـ حجـ خسائرىـ البشرية ومعداتيـ الحربية أصبحوا يضربوف في ك ّؿ اتجاه‬
‫يفرقوا بيف طفؿ ورجؿ أو شيخ أو امرأة‪ ...‬لكف الخوؼ واليمع قد‬ ‫كالمجانيف‪ ،‬لـ ّ‬
‫وحمموىـ مسؤولية تمؾ األحداث‪ ،‬ولـ يفرجوا‬ ‫سيط ار عمييـ‪ .‬اعتقموا وجياء المدينة َّ‬
‫عنيـ إال بعد تعيدىـ بإنياء الثورة وتسميـ قادتيا‪ ،‬وكأف الوجياء بأيادييـ الحؿ‬
‫والربط‪...‬‬
‫وحدثوه بما جرى ليـ مف إىانة واذالؿ وطالبوه‬
‫اجتمع الوجياء مع عمي بؾ ّ‬
‫بتصعيد الثورة ميما غمت التضحيات‪.‬‬
‫ميمة إبطاؿ مفعوؿ المتفجرات‬
‫دخؿ المضافة الرجاؿ الثبلثة الذيف أوكمت إلييـ ّ‬
‫التي نوى الفرنسيوف استخداميا لتدمير الجسر المعمّؽ‪ ،‬فوقؼ عمي بؾ‪ ،‬وعانقيـ‪،‬‬
‫بل‪:‬‬
‫متسائ ً‬
‫ػ ماذا فعمتـ؟‬
‫تقدـ إليو أبو رمزي قائبلً‪:‬‬
‫ّ‬
‫ػ لقد وفّقني اهلل في المحظة األخيرة عمى قطع األسبلؾ‪ ،‬وابطاؿ مفعوؿ‬
‫المتفجرات‪ .‬الجسر في أماف يا عمي بؾ‪.‬‬
‫عانؽ عمي بؾ أبا رمزي قائبلً‪:‬‬
‫ػ بوركت سواعدكـ أييا المناضموف‪.‬‬
‫قاؿ عمر‪:‬‬
‫ػ واهلل يا أبا راغب‪ ،‬لـ َي َدعنا أبو رمزي أنا وأخي أف نساعده‪ ،‬كاف يقوؿ لنا‪ :‬أنتما‬
‫أما أنا فإف استشيدت‪ ،‬فستأخذاف بثأري‬ ‫شاباف في مقتبؿ العمر‪ ،‬وأخاؼ عميكما‪َّ ،‬‬
‫حتماً‪ ،‬وذىب وحيداً‪ ،‬ووفّقو اهلل في إنجاز الميمة الصعبة‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬

‫ػ ‪ 158‬ػ‬
‫ػ بطؿ يا أبا رمزي‪ ،‬بطؿ‪ ...‬سيذكرؾ التاريخ وأبناء بمدؾ‪ ،‬وقد يقيموف لؾ تمثاالً‬
‫عمى باب الجسر‪ ،‬كونؾ المنقذ الوحيد لو‪.‬‬
‫ػ يا أبا راغب‪ ،‬واهلل ال أريد تمثاالً وال شك اًر وال مكافأة‪ .‬ما عممتو ىو واجبي ال‬
‫عني‪.‬‬ ‫أكثر وال أقؿ‪ ،‬وقد تمنيت أف أستشيد فأالقي وجو ربي وىو ر ٍ‬
‫اض ّ‬
‫النار تحرؽ اليشيـ‪ ،‬خرج األطفاؿ يحمموف أعبلـ سورية عالياً‪ ،‬وييتفوف رغـ‬
‫أحب الشعب االستشياد‪ ،‬ومضوا في طريقو غير‬ ‫منع التجوؿ واطبلؽ الرصاص‪ّ ،‬‬
‫ىيابيف‪ ،‬ال أحد يمنعيـ مف التضحية‪ ،‬وال شيء يغموا في أعينيـ سوى حب الوطف‬ ‫ّ‬
‫والدفاع عنو‪...‬‬
‫الرقة مضرب المثؿ‪ ،‬والحسكة أسطورة منذ أف أوكمت الميمة النضالية فييا إلى‬ ‫َّ‬
‫الجوالة وغيرىا‬ ‫ِ‬
‫وشمر و ّ‬
‫طي ّ‬ ‫محمد بؾ‪ ،‬ولـ ُيجد قصؼ عامودا ورأس العيف‪ ،‬فقبائؿ ّ‬
‫قامت بواجبيا الوطني خير قياـ‪ ،‬وكاف الشيوخ جميؿ وادىاـ وسعيد وحمادي مف‬
‫تحوؿ إلى جماعة القمصاف الحديدية مف خيرة القادة‬ ‫جماعة الحزب الوطني الذي ّ‬
‫سجموا مبلحـ نضالية خالدة‪ ،‬كما لـ تفمح فرنسا بمحاولة فصؿ الجزيرة‬ ‫الكبار الذي ّ‬
‫عف الفرات بسبب وعي القادة المناضميف‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ لموطنييف في مضافتو‪:‬‬
‫الرقة بفضؿ النقيب أديب أصبحت شبو‬ ‫ػ الحسكة أصبحت بيد الوطنييف‪ ،‬و َّ‬
‫العمَـ العربي السوري عمى مبانييا الحكومية‪ ،‬ونحف عمى‬ ‫محررة‪ ،‬والبوكماؿ رفعت َ‬ ‫ّ‬
‫الطريؽ إف شاء اهلل‪ .‬كؿ ما أرجوه أف نن ّفذ الميمة النضالية بدقة وأمانة‪ ،‬فيوـ‬
‫الخبلص أراه واهلل قريباً‪.‬‬
‫وحدث ما كاف متوقّعاً‪ .‬في ليمة الثامف والعشريف مف أيار ‪ 1945‬انفجرت بدار‬
‫االستخبارات الفرنسية أوؿ قنبمة ألقاىا المناضؿ حسف‪ ،‬وقطعت مجموعتو كافة‬
‫طرقات المدينة بالحجارة‪ ،‬كما قطعوا أسبلؾ الياتؼ‪ ،‬فانقطع االتصاؿ بيف القوات‬
‫الفرنسية‪ ،‬واجتمعت رجاالت المدينة وزعماء العشائر بدار المحافظ غالب‪ ،‬وأخذوا‬
‫تعـ الشوارع‪،‬‬
‫يتداولوف الوسائؿ الكفيمة بالقضاء عمى القوات الفرنسية‪ ،‬والمظاىرات ّ‬
‫اشتدت المعركة تسع ساعات دوف انقطاع‪ ،‬وانسحب العدو الفرنسي إلى ثكناتو‬ ‫و ّ‬
‫خارج المدينة‪ ،‬وما ىي إال لحظات حتَّى رفرفت األعبلـ السورية فوؽ المباني‬
‫الحكومية والبيوت وعمى المحاؿ التجارية‪ ،‬وىاجمت مجموعة سمطاف وياسيف‬
‫الشرطة العسكرية‪ ،‬وألقوا القبض عمى أفراد الشرطة كافة الذيف لـ يميميـ‬
‫المناضموف‪ ،‬فقتموىـ جميعاً‪ ،‬وألقوا بأجسادىـ مف الشرفة معمنيف بذلؾ تطيير الجيوب‬
‫كافة‪.‬‬

‫ػ ‪ 159‬ػ‬
‫لـ يقؼ الفرنسيوف مكتوفي األيدي لِما حدث‪ ،‬فقذفوا المدينة بالمدافع‪ ،‬ونسفت‬
‫طائراتيـ البيوت والمباني الحكومية‪ ،‬ولوال أف قاـ أحد أبناء المدينة الذي يعمؿ في‬
‫المطار بتعبئة الطائرات بالماء بدالً مف البنزيف الحترقت دير الزور كمّيا‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ مفتخ اًر‪:‬‬
‫ػ إنو البطؿ أخو نصرة‪ .‬لقد نفّذ ميمتو خير تنفيذ‪.‬‬
‫وقاؿ المحافظ‪:‬‬
‫ػ عمينا يا إخوتي أف نطمب ىدنة لدفف شيدائنا ومداواة جرحانا‪.‬‬
‫ّأيده المناضموف‪ ،‬ووافقت فرنسا عمى ىذه اليدنة‪ ،‬وكاف الشاعر الفراتي ىو‬
‫المفاوض نيابة عف الثوار‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫نداء إلى الضباط وصؼ الضباط واألفراد الديرييف كافة الذيف‬ ‫وجينا ً‬‫ػ لقد ّ‬
‫يخدموف في الجيش الفرنسي لبللتحاؽ بصفوؼ المقاومة‪.‬‬
‫قاؿ المحافظ‪:‬‬
‫ػ لقد التحؽ بنا عدد منيـ وىـ ذوو أىمية كبرى النتزاع االستقبلؿ‪ .‬لكف عصبة‬
‫األمـ قررت إسناد األمف إلى الجيش اإلنكميزي لفترة محدودة‪.‬‬
‫قاؿ ياسيف‪:‬‬
‫ػ لف تكوف إقامتيا عندنا إال كإقامة شقيقتيا فرنسا‪.‬‬
‫ِقدمت إلى المدينة بتاريخ ‪ 6‬حزيراف ‪ 1945‬طبلئع الجيش اإلنكميزي الستبلـ‬
‫الميدمة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األمف‪ ،‬كما قَِدمت بعدىا لجنة تحقيؽ إنكميزية طافت عمى األماكف والبيوت‬
‫ميدماً‪.‬‬
‫فأحصت تسعة وثمانيف شييداً ومئتي جريح وخمسة وثبلثيف بيتاً ّ‬
‫وحؿ الشتاء‬
‫مرت األياـ والشيور‪ ،‬وتعاقبت الفصوؿ‪ .‬رحؿ الصيؼ والخريؼ ّ‬ ‫ّ‬
‫مرعداً ومزمج اًر‪ ،‬وكاف الفرنسيوف يخموف المواقع‪ ،‬ويطووف أعبلميـ‪ ،‬لترفرؼ أعبلـ‬
‫النصر خفّاقة‪ ،‬ويتسّمـ الوطنيوف أمور ببلدىـ في صبيحة السابع عشر مف نيساف‬
‫عاـ ستة وأربعيف وتسعمائة وألؼ‪.‬‬

‫ػ ‪ 161‬ػ‬
‫(‪)59‬‬
‫أقيـ سرادؽ كبير أماـ دار الحكومة‪ ،‬رصفت عميو مف كؿ جانب األعبلـ‬
‫يينئوف أنفسيـ واآلخريف بعيد الجبلء‪.‬‬
‫السورية‪ ،‬وجمس أئمة النضاؿ فيو‪ّ ،‬‬
‫قاؿ ياسيف‪:‬‬
‫ػ ماذا لو عاد الفرنسيوف أو اإلنكميز إلى أرضنا؟‬
‫قاـ كبير شيوخ العشائر‪ ،‬وقد رفع عصاه عالياً‪:‬‬
‫ػ إف عادوا عدنا‪...‬‬
‫(وكررىا ثبلث مرات)‪ ،‬فصفّؽ لو الحاضروف طويبلً‪.‬‬
‫شؽ صفوؼ المناضميف ممثّـ‪ ،‬فالتيمتو األعيف‪ ،‬واشرّأبت لو األعناؽ‪ ...‬كاف‬
‫يسير بتؤدة‪ ،‬وقد اتّكأ عمى بارودة فرنسية طويمة‪ ،‬وقبؿ أف يتحدث‪ ،‬نزع لثامو‪،‬‬
‫وكشؼ عف وجيو‪ ،‬فشيؽ الحاضروف‪ ،‬وصاحوا بدىشة‪:‬‬
‫ػ أـ المناضبلت؟! كيؼ جاءت وىي ال تقوى عمى السير؟!‬
‫قالت بيدوء واتّزاف‪:‬‬
‫ػ يا أىمي واخوتي‪ ،‬يا أبناء دير الزور المناضمة‪ ،‬يا مف أنقذتـ الشعب األرمني‬
‫تعرض ليا‪ ،‬يا مف احتضنتـ أطفالنا‬ ‫مف الموت‪ ،‬ووقفتـ إلى جانبو في كؿ محنة ّ‬
‫ورجالنا ونساءنا‪ ،‬يا مف منحتمونا أسماءكـ وشرؼ االنتماء إلى عائبلتكـ الكريمة‪...‬‬
‫تمنيت أف أكوف شييدة أللحؽ‬ ‫الخالد؟ واهلل ل َكـ ّ‬
‫ّ‬ ‫كيؼ ال أحضر في مثؿ ىذا اليوـ‬
‫ابنتي إلى دار الحؽ والرضواف‪ ...‬لكنيا مشيئة اهلل‪ ،‬والحمد هلل عمى كؿ حاؿ‪ .‬لـ‬
‫وصيتي أف ال تنسوا مف بقي‬
‫ّ‬ ‫نبخؿ واهلل بأي عطاء‪ ،‬وكنا صادقيف بالقوؿ والفعؿ‪.‬‬
‫تييئوا ليـ سبؿ العودة إلى ببلدىـ إف أرادوا‪ ...‬سيذكركـ‬‫حياً مف أبناء جمدتي‪ ،‬وأف ّ‬
‫األرمف طويبلً طويبلً‪ ،‬فنحف شعب ال يضيع الخير فينا أبداً‪ ،‬وال ينسى المعروؼ‬
‫إطبلقاً‪.‬‬
‫تقدـ إلييا عمي بؾ‬
‫صفؽ ليا الحاضروف طويبلً‪ ،‬وىتفوا باسميا كثي اًر‪ّ .‬‬
‫والمحافظ وصافحاىا‪ ،‬وأجمساىا بينيما‪ .‬دخؿ السرداؽ رجؿ في الثبلثيف مف عمره‪،‬‬
‫تبدو عميو آثار النعمة والوسامة والجد‪ .‬بيده حقيبة جمدية منفوخة‪.‬‬
‫وحيا بمغة عربية تشوبيا لكنة أرمنية‪ ،‬وجمس ىادئاً‬
‫تأمؿ وجوه الحاضريف‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫صامتاً‪.‬‬

‫ػ ‪ 161‬ػ‬
‫ىمس عمي بؾ في أذف الشيخ محمد سعيد قائبلً‪:‬‬
‫ػ يبدو أنو أرمني‪ .‬ىؿ سبؽ أف رأيتو؟‬
‫ػ ال واهلل‪ .‬لكف انتظرني‪.‬‬
‫عدة خطوات‪ ،‬حتَّى وقؼ أمامو‪ ،‬فوقؼ‬ ‫ثـ خطا ّ‬ ‫وقؼ الشيخ محمد سعيد‪َّ ،‬‬
‫الرجؿ‪ ،‬وحاوؿ تقبيؿ يد الشيخ‪ ،‬لكف الشيخ سحب يده بسرعة قائبلً‪:‬‬
‫أردت دار‬
‫َ‬ ‫ػ أستغفر اهلل العظيـ‪ ...‬اجمس يا أخي‪ ،‬عمى الرحب والسعة‪ .‬إف‬
‫كنت َمديناً‪ ،‬فسنعطيؾ ما تفي بو‬
‫كنت جائعاً أطعمناؾ‪ ،‬واف َ‬
‫أماف فقد وصمت‪ ،‬واف َ‬
‫ت مطموباً أجرناؾ‪.‬‬
‫دينؾ‪ ،‬واف كن َ‬
‫ػ أنا َمديف يا شيخ‪.‬‬
‫وتمف‪ ...‬وقؿ لنا مف ىو الدائف حتَّى نفي َ‬
‫دينؾ‪.‬‬ ‫ػ اطمب َّ‬
‫ػ أنا َمديف لكـ‪.‬‬
‫تعرفني عمى شخصؾ‪.‬‬
‫ػ لنا؟! مف أنت يا أخي؟ ليتؾ ّ‬
‫حاوؿ الرجؿ أف يجيب الشيخ‪ ،‬فتعثّر لسانو‪ ،‬ولـ ينبس ببنت شفة‪ ،‬وأخذت‬
‫دموعو تيطؿ بغ ازرة‪.‬‬
‫ػ ىؿ أنت أجنبي؟‬
‫سبابتو بالنفي‪.‬‬
‫حرؾ الرجؿ ّ‬
‫ّ‬
‫ػ عجباً! تفيـ ما أقوؿ‪ ،‬وال تتكمـ؟‬
‫ثـ فتح جيب‬
‫أخرج الرجؿ مف جيبو منديبلً قماشياً‪ ،‬وجفّؼ دموعو عمى عجؿ‪َّ ،‬‬
‫وقدميا إلى الشيخ بكؿ احتراـ‪.‬‬
‫حقيبتو الجانبي‪ ،‬وأخرج وريقة صفراء قديمة‪ّ ،‬‬
‫ممياً في الورقة الميترئة‪ ،‬وزادت دىشتو‬
‫عقمت الدىشة لساف الشيخ‪ ،‬وىو ينظر ّ‬
‫مكب اًر بأعمى صوت‪:‬‬
‫عندما رأى توقيعو عمييا‪ ،‬فصاح ميمبلً ّ‬
‫ػ اهلل أكبر‪ ...‬اهلل أكبر‪ ...‬اهلل أكبر‪.‬‬
‫أسرع عمي بؾ والمحافظ واألستاذ جبلؿ واألستاذ ثابت إلى الشيخ وىو يكاد‬
‫يبمّؿ الوريقة الصفراء بدموعو‪...‬‬
‫قاؿ عمي بؾ مستغرباً‪:‬‬
‫ػ ماذا أصابؾ يا شيخ؟ لقد أفزعتنا‪.‬‬

‫ػ ‪ 162‬ػ‬
‫كانت الدموع تمؤل عيني الشيخ‪ ،‬وىو يق أر تمؾ الوريقة‪ .‬أخرج الشيخ منديمو‪،‬‬
‫وقدـ الوريقة إلى عمي بؾ الذي صاح بأعمى صوت عندما قرأىا‪:‬‬‫فجفّؼ دموعو‪ّ ،‬‬
‫ػ اهلل أكبر‪ ...‬اهلل أكبر‪ ...‬اهلل أكبر‪.‬‬
‫وتعالى صياحو عندما رأى توقيعو أيضاً عمييا‪.‬‬
‫ػ ما ىذا يا شيخ؟‬
‫ػ إنيا الحقيقة يا أبا راغب‪ ،‬التي ال تخفى واف طُمست إلى حيف‪.‬‬
‫ػ اسمعوا يا إخوتي‪ ...‬إف ىذا الشاب ىو ‪/‬سوريف‪ /‬ابف الشييد أحمد الصباغ‪.‬‬
‫كانت األلسف تتساءؿ‪:‬‬
‫ػ كيؼ عرفوا ذلؾ؟ وما ىذه الوريقة؟‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ إف ىذه الوريقة ىي وثيقة زواج ىاصميؾ بأحمد الصباغ‪.‬‬
‫قفزت شاكي مف مكانيا‪ ،‬واتّكأت عمى بندقيتيا‪ ،‬وسارت تخب‪ ،‬حتَّى وصمت‬
‫ثـ ما لبثت أف احتضنتو‪.‬‬
‫تأممتو جيداً‪َّ ،‬‬
‫سوريف‪ّ .‬‬
‫وتشبث بيا‪ ،‬وقاؿ ليا بأنو ابف ىاصميؾ‪ .‬عانقتو‪،‬‬
‫حدثتو باألرمنية‪ ،‬ففرح كثي اًر‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫بكاء محرقاً‪ ،‬أثارت دىشة الواقفيف جميعاً‪.‬‬
‫ً‬ ‫وتبكي‬ ‫ولباسو‪،‬‬ ‫وجسده‬ ‫وجيو‬ ‫تشـ‬ ‫وأخذت‬
‫قاؿ ليا عمي بؾ‪:‬‬
‫حدثيو باألرمنية يا شاكي‪ ،‬وافيمي لنا أيف تقيـ أمو اآلف‪.‬‬
‫ػ ّ‬
‫تحدث سوريف ألـ المناضبلت حديثاً غريباً‪.‬‬
‫ّ‬
‫قالت شاكي‪:‬‬
‫أمو وجدتو وخالتو‪ .‬ويقوؿ إنو كاف‬
‫ػ إنو يتذكر رحمة العذاب التي القاىا مع ّ‬
‫جدتو وخالتو‪ ،‬ومنذ شير نادتو أمو وىي عمى‬
‫يعيش مع أمو في أرمينيا بعد وفاة ّ‬
‫ويخرج‬
‫فراش الموت‪ ،‬وأمرتو أف يفتح حقيبتيا الجمدية المودعة في صندوؽ مبلبسيا‪ُ ،‬‬
‫منيا ىذه الوريقة‪.‬‬
‫قالت لو الحقيقة كاممة‪ ،‬وطالبتو بالسفر إلى دير الزور ورؤية أبيو واخوتو إف‬
‫كاف لػو إخوة‪ ،‬وأف يحمؿ إلييـ الماؿ البلزـ إلسعادىـ‪ ،‬وخوفاً مف عدـ تصديقو‬
‫أعطتو وثيقة زواجيا كدليؿ عمى صحة ّادعائو‪.‬‬

‫ػ ‪ 163‬ػ‬
‫وكبروا‪ ،‬وحمموا سوريف عمى‬
‫لقد أذىمت الحقيقة وجوه الحاضريف‪ ،‬فيمّموا ّ‬
‫األكتاؼ‪ ،‬وصاحوا بأعمى صوت‪:‬‬
‫ػ سوريف‪ ،‬ابف الشييد أحمد الصباغ‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ لشاكي‪:‬‬
‫حية أـ ميتة؟‬
‫ػ اسأليو‪ ...‬ىؿ أمو ّ‬
‫ثـ قالت‪:‬‬
‫تحدثت معو‪َّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ػ لقد رحمت عف الدنيا بعد أف أوصتو بالسفر إلى دير الزور‪ ،‬وأقسمت عميو بأف‬
‫أمو‬
‫تحدثو بالمغة العربية رغـ محاوالت ّ‬‫يرى أىمو فييا ويساعدىـ‪ ،‬ويعتذر عف عدـ ّ‬
‫عمى تعمُّميا‪ .‬يقوؿ‪ :‬استطعت أف أفيـ العربية لكنني ال أتكمـ بيا كثي اًر‪.‬‬
‫قاؿ عمي بؾ‪:‬‬
‫ػ ال ييـ‪ ،‬سيتعمّميا آجبلً أو عاجبلً ما داـ جذره ىنا‪ .‬وطمب عمي بؾ مف ياسيف‬
‫وسمطاف أف يأخذاه إلى بيت أىمو بعد أف يزوروا قبر أبيو في مقبرة الشيداء‪.‬‬
‫سار سوريف برفقة ياسيف وسمطاف إلى مقبرة الشيداء‪ ،‬ووقفوا خاشعيف أماـ قبر‬
‫الشييد أحمد الصباغ‪ .‬ق أر ياسيف سورة الفاتحة جي اًر‪ ،‬فرفع سمطاف كفيو‪ ،‬وتمتمت‬
‫شفتاه بأـ الكتاب‪ ،‬فما كاف مف سوريف إال أف عمؿ مثميما وأخذ يتمتـ تمتمات لـ‬
‫يفيما معانييا‪ ،‬لكف عينيو ىطمتا دموعاً مد اررة‪.‬‬
‫رجعوا إلى بيت أحمد الصباغ‪ ،‬فوجدوا أـ المناضبلت وعمي بؾ في استقباليـ‪.‬‬
‫قالت شاكي لسوريف‪:‬‬
‫ػ إف أباؾ تزوج بعد رحيمكما إلى حمب‪ ،‬ولو ولداف شاباف ىما ‪/‬الحسف‬
‫والحسيف‪ /‬وىاىما ىنا يعيشاف مع جدتيما أـ سامي‪.‬‬
‫أقبؿ الحسف والحسيف عمى أخييما‪ ،‬فعانقاه بح اررة‪ ،‬وطفرت دموعيما وىما‬
‫يحتضنانو‪ ،‬وبكى الواقفوف جميعاً أماـ ىذا المشيد المؤثر‪.‬‬
‫اقترب الحسف مف أـ المناضبلت قائبلً‪:‬‬
‫ػ قولي ألخي أف يبقى معنا‪.‬‬
‫بتنيد‪:‬‬
‫نقمت لو ىذا المطمب باألرمنية‪ ،‬فأجاب‪ ،‬وقالت ّ‬
‫بل‪ ،‬فمديو شركة كبيرة لممقاوالت تستوجب وجوده‬‫ػ ال يستطيع البقاء ىنا طوي ً‬
‫ثـ ال يستطيع أف يترؾ أرمينيا وقبر أمو‪ ،‬ويقوؿ لكما‪ :‬خذا الماؿ الذي أحممو‬
‫ومف َّ‬

‫ػ ‪ 164‬ػ‬
‫كمو لكما‪ ،‬واف أردتما السفر إلى أرمينيا فسأجمبكما معي بأقرب وقت لتساعداني‪،‬‬
‫وتحمبل عبء الشركة‪.‬‬
‫قاؿ الحسف مخاطباً شاكي‪:‬‬
‫ػ قولي ألخي الكبير‪ ،‬نحف أيضاً ال نستطيع أف نترؾ بمدنا وقبر أبينا الشييد‪،‬‬
‫فإف رغب بالبقاء فيو أخونا الكبير الذي تجب عمينا طاعتو واحترامو وتقديره‪ ،‬واف‬
‫رفض فميذىب مصحوباً بالسبلمة‪.‬‬
‫فيز سوريف رأسو‪ ،‬وأخرج مف حقيبتو حفنة كبيرة‬
‫نقمت لو شاكي ما قالو الحسف‪ّ ،‬‬
‫مف الدوالرات‪ ،‬نثرىا تحت أقداـ أخويو قائبلً لشاكي‪:‬‬
‫ػ قولي ليما بأنني سآتي إلييما مف فترة ألخرى‪ ،‬ولف يريا مني إال الخير‪ ،‬فأنا‬
‫مضطر لمسفر‪.‬‬

‫انتهت الرواٌة‬
‫دٌر الزور ـ ‪2002/10/10‬م‪.‬‬

‫ػ ‪ 165‬ػ‬
‫ػ ‪ 166‬ػ‬
‫الكاتب فً سطور‬
‫ػ محمد رشيد بف عبد اهلل الحمد الرويمي‬
‫ػ مواليد دير الزور ‪.1947‬‬
‫ػ إجازة في اآلداب –قسـ المغة العربية ‪.1972‬‬
‫ػ عمؿ مدرساً لمادة المغة العربية‪ ،‬ومدي اًر لكبرى ثانويات ومعاىد مدينة دير الزور‬
‫ومدي اًر لتحرير صحيفة الفرات األسبوعية‪ ،‬وموجياً اختصاصياً لمادة المغة‬
‫العربية في دير الزور وصنعاء‪.‬‬
‫ػ رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب بدير الزور منذ عاـ ‪ 1993‬وال يزاؿ‪.‬‬
‫صدر لو‪:‬‬
‫‪1‬ػ الرباط الواىي –مجموعة قصص –مطبعة الفرات بدير الزور –‪1982.‬‬
‫‪2‬ػ ىدباء –مجموعة قصص – مطبعة الفيصؿ بدير الزور – ‪.1984‬‬
‫‪3‬ػ المعادة – مجموعة قصص – المطبعة السميمية بدير الزور – ‪.1992‬‬
‫‪4‬ػ ليؿ الظييرة – مجموعة قصص – دار حساف عطواف لمنشر بدمشؽ – ‪1996‬‬
‫‪5‬ػ الوصية – مجموعة قصص – اتحاد الكتاب العرب – ‪1998.‬‬
‫‪6‬ػ الدليؿ السياحي لمحافظة دير الزور – دار الحمزاوي لمطباعة والنشر بدمشؽ –‬
‫‪. 1998‬‬
‫‪ 7‬ػ دير الزور‪ ..‬ماض عريؽ وحاضر مشرؽ (مشترؾ) مطبعة الجميورية بدمشؽ‬
‫–‪.1998‬‬
‫‪8‬ػ الحركة الثقافية في محافظة دير الزور خبلؿ القرف العشريف – الجزء األوؿ –‬
‫دار صائب لمنشر بدير الزور –‪.2113‬‬
‫‪9‬ػ الخموج‪ :‬رواية –اتحاد الكتاب العرب –‪2113.‬‬
‫‪11‬ػ الحركتاف المسرحية والفنية بدير الزور وىي الجزء الثاني مف الحركة الثقافية‬
‫–مطبعة دار التكويف بدمشؽ –‪.2115‬‬
‫‪11‬ػ سوريف –رواية –اتحاد الكتاب العرب –‪.2115‬‬
‫لو قيد الطبع‪:‬‬
‫‪1‬ػ الطريؽ إلى الحموى –مجموعة قصص‪.‬‬
‫‪2‬ػ مف أعبلـ الفكر واألدب في دير الزور –وىي الجزء الثالث مف الحركة الثقافية‪.‬‬
‫‪3‬ػ محمد الفراتي‪ ..‬الشاعر الثائر –دراسة أدبية‪.‬‬
‫‪4‬ػ عودة الكناري –مجموعة قصص لمفتياف‪.‬‬
‫‪5‬ػ عندما تسقط أوراؽ التوت –رواية‪.‬‬

‫ػ ‪ 167‬ػ‬

You might also like