Professional Documents
Culture Documents
:::)
_µ..
.. ..
ru,Jl..w�
النقد األديب
96
مجانًا مع العدد ( )139من مج َّلة «الدوحة» -مايو 2019 -
ُي َوزَّع ّ
هذا الكتاب:
عب عن آراء مؤ ِّلفه ،وال ُي ِّ
عب -بالرضورة -عن رأي وزارة الثّقافة والرياضة أو مج ّلة الدوحة ُي ِّ
كارلوني وفيلو
النقد األدبي
La Critique Littéraire
Jean-Claude Carloni et Jean-Claude Filloux
ترجمة
كيتي سالم
مراجعة
جورج سالم
مقدمة
ِّ
5
يف كتاباتهـم النظريـةّ ،إل أننـا حاولنـا -قـدر اإلمـكان -أن نقابـل النظريـة
بالتطبيـق .ذلـك أن النقـد -بوصفه ف ّنـاً -يحتوي عىل كثري مـن االلتباس ،مل
يسـتطع حتـى كبار الن ّقاد أن ينجـوا منه :فقد يخفي ناقـد يعنى بالنظريات،
يف إِ َهابِـه ،ناقـد ًا انطباعيـ ًا بالـغ االقتنـاع ،أو أن َين ُتـج أفضـل يشء يـأيت بـه
متحمـس ملذهبـه ،عن عـدم إخالصـه ملذهبـه املزعوم. ِّ ناقـد
سـنتحدث عنهم يجـب أن يعتربوا ،قبلَّ على كلّ حـال ،إن الن ّقاد الذين
العامـة التـي طرحهـا املنهـج يف النقـد
ّ كلّ يشء ،منـاذج ُتظهـر املشـاكل
يبرر لنـا هـذا الثغـرات الكثيرة يف هـذا الكتـاب .إذا أردنـا
ربـاِّ - األديب؛ وَّ -
(وخاصـة املعارصيـن) ،فـإن هـذا يقودنـا إىل أن نقيـم
ّ نعـدد كلّ الن ّقـاد
ِّ أن
مجـرد جـدول دون مدلول. َّ
أهمها هي املشـكلة التي تطرح - 2من بني مشـاكل املنهج ،يبدو لنا أن ّ
األسـئلة اآلتيـة :هـل يسـتطيع الناقد ،يك يرشح أثـر ًا أدبي ًا ويحكـم عليه ،أن
يبحـث عـن أسـس ومقاييـس موضوعية يف عقيـدة أو يف علـم؟ وهل يجب
عليـه ذلـك؟ أو هـل ينبغي -عىل عكس ذلـك -أن يبقى محصـور ًا يف َّ
ذاتيته،
أي تعيين حقيقـي؟ وهـل يتوصـل إىل ّ
َّ ويعترف بـأن النقـد ال يسـتطيع أن
ميكـن تجـاوز هـذه املعضلـة املغلقـة؟ إن األجوبـة املختلفـة عـن هـذه
األسـئلة هـي التـي تشـكِّل مخطَّ طنا الذي سـيكون منطقي ًا أكرث منـه تاريخياً.
إن بعضـ ًا مـن هـذه األجوبـة ،وبعضـ ًا مـن هـذه املناهـج ،تسـتند إىل
حـد مـا؛ لهـذا فسـندخل يف تفاصيـل طويلـة بعـض خاصـة ،إىل ّ ّ أسـاليب
الشيء ،لنعرضهـا ،ونرجـو املعـذرة عـن األخطـاء التـي تنتـج عـن تفـاوت
فاألهم ّيـة النسـبية التـي أعطيناهـا لـكلّ مذهـب ال تتعلَّـق بفائدتـه
ِّ طولهـا؛
الحقيقيـة ،إمنـا تعتمـد على تعقُّـده.
يسـميه تيبوديه
ِّ - 3مثّـة نـوع مـن النقـد ،مل نطرقـه بوصفه ف ّنـاً ،وهو ما
«نقـد الحركـة» :إنـه نقـد «الدعايـة األدبيـة» التـي يقودهـا -عـادةً -كُ ّتـاب
يحرضـون عىل نشر أفكارهـم الجديدة ،وذلـك بإقامة هجـوم عنيف شـباب ِّ
على كلّ مـا هـو ليـس مـن «جامعتهـم» ،سـواء يف الحـارض ويف املايض،
وي َع َّبر عـن هـذا النقـد يف
الخاصـة أو آلثـار رفاقهـمُ ،
ّ أو بالدعايـة آلثارهـم
6
نشر يف مجلاّ ت حديثـة.
ومقدمـات ومقـاالت ُت َ
ِّ مناشير
وهكـذ ،نشـأ نقـد رومنسي ،ونقـد رمـزي ،ونقـد طبيعـي ،...ثم تلا ذلك
نقـد يعتمـد عىل «إعادة اكتشـاف األثر» ،يشـبه النقد السـابق ،وهو يعطي،
متميـزة ،لكنها جديـدة ،وغالبـ ًا ما تكون ِّ مـن خلال الـذوق املعارص ،رؤيـة
ً
(ظلما) يف خصبـة لك ّتـاب مشـهورين يف املـايض ،أو تبعـث كُ َّتابـ ًا وقعـوا
النسـيان .وهكـذا ،تختلـف دراسـة براسـيالخ عـن كـورين كثير ًا عـن دراسـة
النسـيون ،وإن موريـس سـيڤ املغمـور ،وجـد نفسـه ،فجـأةً ،بعـد ليـل
أهم ّيـة فائقـة .وهنـاك -أخيراً -النقـد الصحـايف املحـض طويـل ،وقـد أُ ِ
عطـي ِّ
يهتـم باألخبـار األدبيـة كاهتاممـه باألخبـار السياسـية واالقتصاديـة.
ّ الـذي
اليعنـي هـذا أن نوعـ ًا كهـذا من النقـد ،يبدو لنا عديـم الجدوى .فهـو ،إن كان
عملية البحث
ّ مهما يف الحيـاة األدبية ،يـأيت بقليل من العنـارص يفً يلعـب دور ًا
مضطـرون إىل دراسـة املؤلَّفـات النقديـة التـي تنشر عىل
ّ عـن منهـج؛ لـذا فإننـا
شـكل مجلـدات أو مجموعـة مقـاالت ،عندمـا تكشـف عـن موقـف وعـن منهـج،
خاص.
ّ لهما طابـع
- 4إننـا مل نبـدأ دراسـتنا النظاميـة ّإل اعتبـار ًا مـن القـرن التاسـع عشر.
وبالفعـل ،إن النقـد األديب مل ينشـأ -بوصفـه نوعـ ًا أدبيـاًّ -إل قريـب مطلـع هـذا
القـرن .كتـب تيبوديـه يقـول« :قبـل القرن التاسـع عشر كان هناك ن ّقـاد ،لكن مل
يكـن هنـاك نقـد».
نقـدم ملحـة تاريخيـة رسيعـة ،نتابـع -خاللهـا، ويبـدو مـن الضروري أن ِّ
شـيئ ًا فشـيئاً -ظهـور أنـواع النقـد وعمليـة النقـد يف القـرن التاسـع عشرّ .إل أننـا
ابتـداء مـن القـرن السـادس عشر ،وسـنقترص -كما يف ً سـنفتتح هـذه الدراسـة
بقيـة الكتـاب -على املجـال الفرنسي. ّ
7
األول
الفصل َّ
قبل أن يبدأ النقد
فنـون شـعرية ،أم مقـاالت؟ :إن مـا نرشه الفرنسـيون ،إثـر اإليطاليني،
يف القـرن السـادس عشر ،مـن رشوح عديـدة ألرسـطو ،لهـي أقـلّ صلـةً
خاص ًا
ّ ً
قسما نخصصِّ بالنقـد األديب منهـا بعلـم الجمال .لكـن ،يجـب أن
لبعـض الفنـون الشـعرية ذات موضـوع أقـلّ إبهامـ ًا عما يبـدو للوهلـة
األوىل ،وهـي النماذج األوىل لنقـد املنازعـات ،وأشـهرها «دفـاع عـن
اللّغـة الفرنسـية ،ومتجيدها» ،الـذي كتبه ،عام ،1949جواشـيم دو بيليه
«الفن الشـعري» لتوماس ّ ِاسـم رفاقـه «يف الفرقـة» ،ليجيـب عىل كتـابب ْ
سـيبيليه الـذ ي ظهـر يف السـنة السـابقة:
إننـا نجـد فيـه نقـد ًا عنيفـ ًا للشـعراء الفرنسـيني القدمـاء ،وكذلـك
نقـدي هجـايئ ،باإلضافـة إىل أشـياء
ّ لشـعراء مدرسـة مـارو ،فهـو كتـاب
تضم َنهـا ،وهـو -أيضـاً -نقد يدعم املدرسـة الناشـئة ،لكـن األحكام
َّ أخـرى
9
الح ِم ّيـة
خاصـة -يف َ
ّ الـواردة فيـه مجملـة ،وتكمـن قيمـة هـذا األثـر-
والحامسـة اللتين يبديهما املؤلِّـف فيـه.
شرت يف أواخر كما أن بعـض صفحـات مـن مقـاالت مونتـاين ،التـي ُن ِ
ال عـن النقـد اإلنطباعـي .يف فصلـه «عـن الكتـب»، القـرن ،تعطـي مثـا ً
يعترف مونتـاين بأنـه عاجـز عـن العلـم الحقيقـي؛ وذلـك بسـبب الكسـل
ذاتيـة
ّ الطبيعي ْين ،وال يسـعى ّإل يك يعطـي انطباعـات
َّ وعـدم التلاؤم
محضـة ،تركتهـا لـه الكتـب التـي قرأهـا .فهـو يظهـر كقـارئ هـاو للـذات،
ين معـاً ،يبحـث يف القـراءة عـن املتعـة وعـن املعرفـة العميقـةً وإنسـا ّ
لذاتـه ولإلنسـان ،يقـول« :إننـي ال أبحـث يف الكتـب ّإل عما يعطينـي
لـذّ ة ،مـن خلال تسـلية رشيفـة ،أو إذا درسـت فـإين ال أطلـب ّإل العلـم
حسـن املـوت،
َ الـذي يبحـث يف معرفـة النفـس ،والـذي يعلِّمنـي أن أُ
حسـن العيـش» .وهو يشير ،يف هاتين املقولتين ،إىل املؤلَّفات التي َ وأُ
مبينـ ًا أسـباب اختيـاره .إن هـذا النمـوذج مـن النقد ،الـذي ّ
ميدنا يفضلهـاِّ ،
ّ
عمـن ينقـد أكثر مما يعلمنا عن األثـر الذي ُينقَ ـد ،قد وجد- باملعلومـات َّ
منـذ القديـم -أنـه يذكّ رنـا بـكلٍّ مـن :بجـول لومتر ،وأناتـول فرانـس ،مـع
أما
بأي عمـل نقديّ . مهـم بالنسـبة إىل مونتـاين الذي ال يقـوم ،هناّ ،
ّ فـارق
أن ي َّتخـذ مونتـاين ،مـن النقـد أو مـن سـواه ،مهنـة ،فـذاك أبعـد مـا يكـون
عـن ذهنه.
يـأت بشيء نسـتطيع ،إذن ،أن نقـول :إن القـرن السـادس عشر مل ِ
مهـم إيجـايب ،يف املجـال الـذي يهمنـا ،ألن هـذه الفترة قـد شـغلت ّ
أراض جديـدة ،فلدينـا ،مـع ماليرب ٍ عـن النقـد بالخلـق والعمـل وارتيـاد
أمـا بوصفه كتاب ًا
«وتعليقـه على ديسـبورت» ،الفحـص النقدي ألثر أديبّ .
نظريـات ماليرب
ّ جـداً ،وركيـك أيضـاً .إنـه يخربنـا عـن
نقديـاً ،فهـو هزيـل ّ ّ
مـادة اللّغـة والعـروض ،أكثر بكثير مما يخربنـا عـن مزايا ديسـبورت يف ّ
واملآخـذ التـي أُ ِخـذت عليـه.
أمـا يف القرن السـابع عرش فقـد انتظمت الحياة مقـاالت وخصومـاتّ :
األدبيـة ،وبـدأ وضـع الكاتـب يتبلـور ،ويصبـح لـه مهنـة مسـتقلّة أكرث مام
10
كان عليـه فيما مضى؛ إذ سـيطرت مشـكلة القواعـد عىل النقـد حتى عام
،1660تقريبـاً .إن الن ّقـاد املحرتفين والكُ ّتـاب أنفهسـم كانـوا على ا ّتفاق
توصل إليه القدمـاء ،إذا ما طُ ِّبقت بعض ال مثاليـاً ثابت ًا ّ على أن هنـاك جام ً
مفسيه اإليطاليين وغريهم، القوانين التـي نجدهـا لدى أرسـطو أو لـدى ِّ
حين يعبرون ،عىل هذا النحو ،يف مقاالتهـم العلمية ،عن أفكار عقائدية
املقدمـات والكتـب النظريـة لهـؤالء «النظاميين»، ِّ ضيقـة قاسـية .وإن ِّ
باسـم القواعـد على قيمـة ْ الحكـم ميكـن ولكـن، ـة. نقدي
ّ ً
ا آثـار إال ليسـت
املرسحيـات التـي تظهـر .ومبـا أنهـم مل يكونـوا م َّتفقين على ّ الكتـب أو
تطبيـق القواعـد ،فقـد نتـج عن ذلـك مشـاحنات عنيفة ،وا َّتخـذ النقد ،يف
«السـيد»
ِّ مرسحية
ّ وتعد الخصومـة حول ّ أغلـب األحيـان ،شـكل الهجـاء.
مـن أشـهر هـذه املعـاركّ .إل أن خصومـات أخـرى قـد نشـبت :خصومات
يدعـون املعرفـة ،أتاحـت املجـال لظهـور مجموعـة مـن مضحكـة ملـن َّ
األهاجـي ،حيـث اختلطـت اإلهانـات الشـخصية بالشـواهد العلميـةّ .إل
خاصـ ًا ملقـاالت كورنـاي ،ودراسـته عـام ،1660 ّ أننـا يجـب أن نفـرد مكانـ ًا
مهمـة ،ميكـن لناقـد حديـث حيـث يفسـح الدفـاع الشـخيص مكانـ ًا آلراء ّ
أن يسـتفيد منهـا حتـى اآلن .إننـا نجـد فيها دراسـة تقنيـة للأمسـاة ،كتبها
رجـل ضليـع عـرف املشـاكل الواقعية التـي يطرحهـا ف ّنه.
النقـد النزيـه :نسـتطيع أن نقـول :لقـد ُو ِجـد ن ّقاد ،بالرغـم من عيوبهم
حدة
وتصلُّبهـم وعـدم خربتهـم؛ فبعـد عـام 1660وجد كثير منهم ،لكـن ّ
الحقيقيين األكثر رهافـة،
ِّ الكالسـيكيني
ِّ «النظاميين» سـيفتنها ذوق
ِّ
وهكـذا سـي َّتجهون نحـو نقـد ال ينحـو ،بقسـوة ،نحـو «اإلطلاق» حيـث
«فـن اإلرضـاء» والـذوق الرفيـع والـذي «ال أعـرف ما هـو» املرتبة
ّ سـيحتلّ
األوىل ،وسـتفقد الخصومـات األدبيـة تحذلقهـا ،مـرور ًا بحلقـة الفقهـاء
العامـة والصالونـات ،وسـيطلب الكُ ّتاب
ّ الخاصـة ،حتـى معـرض السـاحة ّ
املشـهورون حكـم الجمهـور الواعـي.
مقدمـة مرسحيـة «املرافعين» ،يسـخر مـن الذيـن ِّ إن راسين ،يف
«خافـوا ّأل يضحكـوا وفـق القوانين» .هكـذا نشـأ ومنـا ،يف الصالونـات،
11
«نقـد شـفهي» ،ونقـد «مدرسـة النسـاء» يعطينـا فكـرة عنـه.
يتحـول إىل هجـاء
َّ منهجيـةً ،حين ال
ّ يبقـى النقـد املكتـوب أكثر
اء أكرث
هج ًشـخيص .وبوالو ،يف األقسـام األدبيـة لكتابه «الهجاء» ،يبـدو َّ
منـه ناقـداً ،فهـو نفسـه يعترف أنـه مل يقـرأ بعـض املؤلَّفـات التـي أدانها
ويتغير اسـم ضحايـاه مـن طبعـة إىل أخـرى ،حسـب َّ بقسـوة شـديدة.
مزاجـه؛ وإذا كان قـد اعتبر «فاريـه» يشـبه دعامـة حانـة ،فذلـك بسـبب
املبررات ،و -على العكـس -إن ّ القافيـة ،وغالبـ ًا مـا تحتـاج أحكامـه إىل
دراسـته لــ «حـوار أبطال الروايـات» ،و(دراسـته للجوكونـدا) ،حيث يدافع
ضـد الشـاعر بويـون ،يعتبران نقـد ًا حقيقيـاً .يبنـيّ بوالـو عـن الفونتين
بوالـو حكمـه على نظرية ميليهـا عليه الذوق السـليم .إن القبول الشـامل
لهـو ضمان أكيـد يف النقـد ،كما أن املوهبـة رضوريـة للكاتـب كضرورة
القواعـد؛ ويجـب أن تراعـى قوانني اللياقـة ،واملحتمـل ،وأن يبقى األديب
أمينـ ًا للعقـل وللطبيعـة .على وجـه العمـوم ،على هـذه املبـادئ (وهـي
«فن الشـعر» وهو ليسـت بجديدة بالنسـبة إىل هذه الفرتة) يسـتند كتاب ّ
عامـة مبؤلَّـف نقـدي :إن كلّ مـا ميكـن اسـتخالصه ليـس حصيلـة أفـكار ّ
جـد ًا امللطَّ خة باألخطـاء واملمزوجة منـه ،لهـو بعض املعـارف املجملة ّ
بتاريـخ األدب ومبديـح ملوليير ،باهـت يف أعيننـا.
أهـم حـدث جديـد ،يف تلـك الفترة ،هـو اختراع الجرائـد .بـدأ قبلّ إن
ذلـك شـابالن ،وغيـه دو بلـزاك الصحافـة األدبيـة برسـائلهام ،ونشـأت
أسسـها ،عـام الصحافـة األدبيـة املحـض مـع جريـدة «العلماء» التـي َّ
حـد مـا ،عـن
،1665دونيـز دو سـالو ،حيـث نجـد تقاريـر موضوعيـة ،إىل ّ
الكتـب الحديثـة .كما كتـب لوريـه يف جريدتـه املق ّفـاة التـي تحمل اسـم
«املُلهمـة التاريخيـة»« ،أصداء» عن املؤلَّفات املأسـوية األوىل .وأخرياً،
ظهـرت ،عـام ،1672جريـدة «املركـور كاالن .»le mercure galant -
قـررت -إىل جانـب شـعارات أخـرى« -أن لصاحبهـا دونـو دو فيـزه ،وقـد َّ
تحكـم على كلّ ملهـاة جديـدة ،وعلى كلّ كتـاب يصـدر يف الغـزل».
وهكـذا ،ظهـر النقـد الصحـايف الـذي يخلـق حيـاة النقـد.
12
الـروح «الحديثـة» :إن الخصومـة بين القدمـاء واملحدثين التـي
مهم ،ال يف التاريخ األديب فحسـب بل يف ّ انفجـرت عـام ،1687هي حدث
تاريـخ النقـد .فعالً ،إننا نجد ،إىل جانب األحـكام املتناقضة التي أصدرها
كلٌّ مـن الطرفين ،يف حجـج أنصـار املحدثين ،أفـكار ًا تحمـل بـذور ُّ
تغي
التقـدم وعمومية العقل.
ُّ النقـد((( .إن النظريـة الحديثـة تسـتند إىل فكـرة
متفوقـون على األقدمين ،فقط ،ألننا أتينا بعدهـم ،وأن الفكر
ِّ - 1إننـا
الفنيـة التـي تسـتند
ّ مسـتمر ،و -كذلـك -ألن الطـرق
ّ اإلنسـاين يف تقـدم
مسـتمر.
ّ تحسـن
ُّ عليهـا الفنون يف
وتعسـفي ،ويجب ّأل نأخذ نزواتـه بعني االعتبار،
ُّ متغير
ِّ - 2إن الـذوق
عـام
ّ بـل -على العكـس -يجـب أن نصغـي إىل صـوت العقـل الـذي هـو
ومطلـق ،فالعقـل ،إذن ،يديـن القدمـاء ،وإن أوىل هـذه األفـكار تشـكِّ ل
الفـن تابعـة
ّ منطلقـ ًا سـينتهي ،مـع الزمـن ،بـأن ِّ
يغير النقـد :إن أشـكال
للعصر الـذي تتف َّتـح فيه ،وال ميكـن الحكـم بطريقة واحدة على مؤلَّفات
مـن عصـور مختلفـة ،وإننـا نجـد ،عنـد فونتنيـل ،فكـرة تأثير املنـاخ على
أدت إنتـاج الفكـر اإلنسـاين ،وإن ملـن املؤسـف أن الفكـرة األوىل قـد َّ
إىل نتائـج متعارضـة :لقـد اقتصرت على تبديـل العقائديـة القامئـة على
السـلطة بعقائديـة عقالنيـة ،ميكـن الحكـم ،مـن خاللهـا ،على األعمال
مجـردة ومطلقـة.
َّ األدبيـة ،وفـق نظريـة للجمال
ين كفونتنيـل ،لكنـه ف ّنـان ،وهـو- إن بوالـو ،بطـل القدمـاء ،عقلا ّ
لذلـك -يدافـع عـن قيـم للـذوق ،مل يحسـب لهـا فونتنيـل حسـاباًّ .إل أنه-
حجـة السـلطة اضطـر إىل أن يلجـأ إىل ّ
ّ نظريتـه-
َّ مـع األسـف ،يك يدعـم
القدميـة قائلاً « :ليـس هنـاك ّإل إعجـاب األجيـال اآلتيـة التـي ميكـن أن
تفـي املؤلَّفـات ح ّقهـا» .هنـاك ،إذن ،ذوق سـليم صالح لـكلّ الناس ولكلّ
األزمنـة .ويكفـي يك تعـرف -إن كنـت تحكـم وفـق الـذوق السـليم -أن ترى
((( انظر :فونتنيل« ،استطراد عن القدماء واملحدثني» .وانظر :برير «موازنة بني القدماء واملحدثني».
13
إن كان حكمـك ي َّتفـق مـع حكـم األجيـال السـابقة ،باإلجماع .وهكـذا ،إن
القدمـاء واملحدثين قـد ا َّتفقـوا ليصلـوا إىل مقيـاس موضوعـي للحكـم.
وينحـي كلّ ما له عالقـة بالخيال،
ّ يجـد فونتيـل هـذا املقيـاس يف العقل،
العـام) ،وتقتصر مشـكلة هـذاّ التقبـل
ُّ السـيام الشـعر( ،يجـده بوالـو يف
ّ
صحتـه.
َّ ليثبـت الالزمـة ةاملـد
ّ معرفـة على املقيـاس
مـع ذلـك ،ابتـدأت العقائديـة تنهـزم أمـام غـزارة األفـكار التـي طبعت
نهايـة حكـم لويـس الرابـع عشر ،ولقـد أظهـر البرويير ،وهـو مـن أنصـار
األول مـن كتابـه
َّ القدمـاء ،يف مقالـه عـن تيوفراسـت ،ويف الفصـل
تفه ً
ما مـن بوالو ،كما أن الفكر «الطبائـع» ،كالسـيكية أكثر مرونـةً وأكثر ُّ
تطـور اللّغـة
ُّ بخاصـة ،فنحـن نجـد عنـده معنـى
ّ التاريخـي قـد توفَّـر لديـه
والـذوق واملشـاعر.
حـس
ّ ورغـم اعتقـاد البرويير بوجـود ذوق شـامل ومطلـق ،لديـه
يقـدر مؤلّفـي القرون الوسـطى والقرن السـادس
بالنسـبية ،يسـمح لـه أن ِّ
عشر ،بإنصـاف أكثر مـن سـابقيه .وليسـت أحكامـه نظريـة محضـة ،بـل
والبـد مـن أن نشير ،أخيراً،
ّ إنهـا تقـوم على انطباعـات شـخصية عفويـة،
إىل أنـه يحـرص على أن يشرح أكثر مـن أن يحكـم.
إن رسـالة فينيلـون لألكادمييـة (التـي طبعت عـام ،)1716تعطينا مثا ً
ال
آخـر على كالسـيكية أرحـب .فمخطَّ ـط املؤلـف عقائـديّ ،
بالشـك؛ إذ كان
يسـعى ،بين أشـياء أخـرى ،إىل أن يضـع الخطـوط العريضـة للبالغـة
وللشعر ،كام أن هناك مقاالت عن املأساة وامللهاة والتاريخ .وهكذا ،إن
األحـكام عـن مؤلَّفات دميوسـتني ،وشـيرشون ،وفرجيـل ،وهومريوس...
عامة عـن مختلف وغريهـم ،أُعطيـت ،عىل سـبيل املثـال ،لتشرح نظرية ّ
األنـواع األدبيـة .وال يحتـوي الفصـل عـن التاريـخ ّإل تعـداد ًا لألخطـاء
مؤرخـي املسـتقبلمؤرخـو املـايض ،والتـي يجـب على ِّ التـي وقـع فيهـا ِّ
أن يتج َّنبوهـا؛ فاملوضـوع يـدور ،إذن ،حـول «نقـد األخطـاء» ،وهـو نقـد
عقيـم ،ركـد فيـه عـدد كبري مـن الن ّقـاد الفرنسـيني أمـد ًا طويلاً .لكن هذه
العقائديـة الظاهريـة ال ميكـن إرجاعهـا ّإل إىل عـادات العصر ،والظروف
14
نفسـها التـي رافقـت هـذه الرسـالة .يف الواقـع ،إن نظريـة فينليـون (التي
ـي «البسـاطة» و«الطبيعـة») ليسـت ّإل تعبير ًا عام ميكـن تلخيصهـا بكلم َت ّ
يؤثـر فينيلـون شـخصياً ،إنهـا ال تسـتند إىل السـلطة ،وال إىل أ ّي مذهـب
عـام؛ فاألحـكام التـي أصدرهـا ،وهـي أحـكام تـدلّ على ذوق مشـوب ّ
قوي بالشـعر ،قـد ُعرِضت كسلسـلة ّ إحسـاس وعىل الحيـاء، مـن بشيء
انطباعـات ذاتيـة .إن فينيلـون قـد َم ّثل ،إذن ،عىل غـرار البرويري ،وإىل َح ّد
نقد املسـتقبل.
مـاَ ،
بعقالنيتهـا وبتفضيلهـا الفكـر على
َّ كانـت الحركـة الحديثـة تسـعى،
الفـن ،إىل أن تنفـي الشـعر ،وتجعـل مـن العقـل الحاكـم الوحيـد يف ّ
موضـوع النقـد األديب .وكتـاب «الخواطـر النقديـة» لدوبـوس ()1719
ردة فعـل ناجحـة لخلـق النقـد الـذي يعتمـد على الشـعور .إن يحـوي ّ
العمـل الف ّنـي ،بالنسـبة إىل املؤلِّـف ،ال ميكـن الحكـم عليـه بالعقـل بـل
«بالقلـب».
وهكـذا ،عـادت املكانـة األوىل ،يف الشـعر ،إىل الشـكل؛ ذلـك ألن
أوالً -يف الحواس .هكذا ،يلتقيالصـور واأللحـان والتناغم هي التي تؤ ِّثـرَّ -
تحدثـوا قبله عن «هـذا الذي
دوبـوس مـع بوالـو والكالسـيكيني الذيـن قـد َّ
يسـمى» ،وأفـردوا يف النقـد مكانـة ممتـازة ملفهـوم الـذوق، ال ميكـن أن ّ
الحق بتربير األحـكام العفوية التي
ّ فهـو -مثلهـم -يعطي للعقل وللتقليـد
اطلقهـا الشـعور ،لكنـه يـأىب أن ميـوه نقـد الـذوق هـذا مبظاهـر عقائديـة
حـد مـا ،وهكـذا يجعـل االنطباعيـة تنترص. متالحمـة إىل ٍّ
عقالنيـة أم نسـبية؟ :نسـتطيع أن نسـتخلص ،مـن املحدثين ومـن
تطـور النقـد :مفهـوم «الشـعور» ،ومفهـوم
ُّ مفهوم ْين يالمئـان
َ دوبـوس،
جـد ًا يف القـرن
قويـة ّ
«النسـبية» ،و -مـع ذلـك -كانـت عـادات العقائديـة ّ
عامة -عىل إنشـاء منهج عـن الجامل أكرث
الثامـن عشر .إنهم يحرصـونّ -
يعبروا« -بسـذاجة» ،عما يعتقـدون ،يف مؤلَّف أو كتـاب .وهكذا،
مـن أن ّ
إن الراهـب ديفونتين بـات أصـدق مثـال على ذلـك ،يف كتابـه «إعـادة
الفنـون إىل مبـدأ واحـد» .،واملوضـوع الرئيسي الـذي طُ ـرِح ،يف هـذا
15
األبحـاث واملقـاالت ،هـو معرفـة املوضـوع اآليت :هـل ينبغـي أن تعطـى
للفـن ،لإللهـام أم للخبرة؟ فديـرو ،يف كتابـه
املكانـة األوىل للموهبـة أم ّ
«خواطـر عـن تريانس» ،ويف «مديحه لريشاردسـون» ،يدافـع عن الرأيني
العامة التـي يحكم من
ّ بح ِم ّيـة ،والنظريـات
متحمـس ،يحكـم َ
ِّ معـاً ،فهـو
خاللهـا ليسـت ،يف الحقيقـةّ ،إل تعبير ًا عـن طبعـه وذوقـه الشـخيص.
إن األهـواء التـي أثارتهـا املشـاحنات الفكريـة ،باإلضافـة إىل الـروح
املجـرد ،فقـد كان الن ّقـاد ينزعـون -غالبـاً-
َّ أرضت بالنقـد
املنهجيـة ،قـد َّ
إىل أن يحكمـوا ألسـباب ليـس لهـا عالقـة بـاألدب .وهـذا واضـح بالنسـبة
كتـاب «مالحظـات» للراهب ( ،)1725و«السـنة َ ْ إىل الصحافـة الدوريـة :إن
األدبيـة» لفريـرون ( )1754تسـيطر عليهما األهـواء الشـخصية أو األهـواء
وضد) (،)1733
ّ الطائفيـة .يقـول النسـون :إن الراهب بريفو ،يف كتابـه (مع
ال عن الفضـول غري الصحافيين الذيـن يعطـون مثـا ً
ِّ «لهـو واحـد مـن أنـدر
املتحيـز» ،وقـد أسـهمت الصحيفـة األجنبيـة ( )1754اسـهام ًا كبير ًا يف ِّ
التعريـف بـاآلداب األجنبيـة.
يسـتطيع فولتير((( أن ميثِّـل النقـد الحقيقـي ،وحتـى النقـد؛ بوصفـه
وخاصـةً طبيعتـه األصليـة؛ّ مهنـة .كان كلّ يشء يعـده لهـذا العمـل،
بوصفـه أديبـاً ،وكان واعيـ ًا متـام الوعـي للـدور الـذي عىل الناقـد أن يلعبه
مـع جمهوريـة األدب ،ونسـتطيع أن نعـرف مؤلَّفاتـه يف النقـد األديب ،من
الخـاص ،أكرث مـن املناهـج التي ا َّتبعهـا .وهذا
ّ حـدده لنقـدهالـدور الـذي َّ
الـدور ذو أبعـاد ثالثـة:
حب
ـد ما -دور اكتشـاف ونرش .ومجال ّ - 1نسـتطيع أن نعتبره -إىل َح ّ
جـداً .وإن صفحـات الرسـائل
ومتنـوع ّ
ِّ االسـتطالع ،لـدى فولتير ،واسـع
الفلسـفية ،حيـث يتكلَّـم عىل األدب اإلنكليزي ،ليسـت مببتكـرة أو عميقة
مقدمات مختلفة ،ويف مقاالت كثرية يف «املعجم((( إننا نجد نقد ًا أدبي ًا منشور ًا يف مؤلَّفات فولتري :كام يف ِّ
الفلسفي» ،ويف كتابه «عرص لويس الرابع عرش» ،وجدوله ،ويف الرسائل الفلسفية ،ويف رسائله ...وكذلك يف
خصصت للنقد. مقال عن لشعر امللحمي ،ومعبد الذوق ،تعليقه عىل كورين .كلّ هذه املؤلّفات قد ِّ
16
جـداً ،وليسـت خاليـة مـن األخطـاء أو املالبسـات يف كلّ حين ،لكنهـاّ
أسـهمت كثيراً؛ وذلـك بفضـل أسـلوب فولتير الرشـيق ،بنشر الرغبـة يف
معرفـة الشـعراء اإلنكليـز العظـام يف فرنسـا.
- 2إنـه ،قبـل كلّ يشء ،دور صيانـة .وهـذا مـا يقودنـا إىل التفكير،
مسـبقاً ،بنيـزار ،وبرونتيير .لقـد أنتـج عرص لويـس الرابع عشر ،يف نظره
األدب ْين:
َ كما يف نظـر كثير مـن معارصيـه ،أدبـ ًا كالسـيكي ًا ثالثـ ًا بعـد
توصلـوا إىل ذوره
اليونـاين ،والرومـاين .وإن بعـض كُ ّتـاب هـذا العرص قـد ّ
الكمال يف الـذوق؛ فيجـب ،إذن ،أن ننتقـي ،من نتاج القرن السـابع عرش
األديب ،مـا هـو جديـر -ح ّقـاً -بالخلـود.
ضـد كلّ ما ميكن أنّ يجـب ،بعـد ذلـك ،أن نناضل ،يف اإلنتـاج األديب،
يزحـزح االنتصارات املجيدة للمذهب الكالسـييك ومبادئـه العظيمة التي
هـي الصفـاء والطبيعـة؛ مـن هنـا تـأيت إداتنـه ملاريفـو الـذي ميثِّـل رضبـ ًا
مـن التص ُّنـع الجديد.
- 3أخيراً ،هـو دور دعـم ،وهنـا ي َّتخذ نقـد فولتري هدفاً؛ هـو أن يواصل
جـداً .وهكذا،
التقليـد بإغنائـه ومبحاولـة تجديـده ،وهـي محاولـة خجولة ّ
يرقـى راسين يف مجـال املأسـاة ،إىل الكمال ،بإضافة جرعـة خفيفة من
شكسري .
أمـا مـا يؤخـذ على هـذا النقـد فهـو أنـه ،يف معظـم األحيـان« ،نقـدّ
عيـوب» ،وينتـج هـذا عـن وجهـة النظـر العقائديـة .ويف كتابـه «معبـد
يتفضـل فولتير -بطريقة مزعجة قليلاً -بإسـداء النصائح (ناظر ًا
َّ الـذوق»
جـداً،
إىل املـايض) ملوليير ،وبوسـويه ،وإن تعليقـه على كورنـاي هزيـل ّ
يف أغلـب األحيـان .إنـه نقـد معلِّـم يشير إىل األخطـاء ،على الهامـش،
بالقلـم األحمـر.
17
مقـال لـه((( أن «الجمال هـو نفسـه يف كلّ األزمنـة ،ألن الطبيعـة والعقل
يتغيرا ،يسـتخلص مـن هـذا أنـه ميكـن تحويـل اإلحسـاس ال ميكـن أن ّ
القـراء»؛ فهـو-
ّ الفـن مـع «تفهيـم
ّ بالجمال إىل منهـج ،وأن يخضـع لـه
ً
تعميما تاريخيـاً. بذلـك -يتبـع
ّإل أن فكـرة منـوذج الجمال ليسـت فريدة؛ ذلك أن هنـاك عالقات بني
وعبقريـة الشـعوب ،وهـذا ما يجب
ّ املؤلَّفـات األدبيـة والعـادات والنظـم
أن نجـده -ح ّقـاً -عنـد مـدام دوسـتال ،وشـاتوبريان؛ ال يشء مـن حصيلـة
الفكـر يف القـرن الثامـن عرش ،وستسـمح هذه الفكرة للنقـد بأن يجد ،يف
القـرن الثامـن عشر ،طرقـ ًا أكرث ثباتـاً ،ومناهج أكثر إنتاجاً.
إن كتـاب مـدام دوسـتال ،الـذي ظهـر عـام ،1800تحـت عنـوان «عـن
بحـد ذاتـه.
ّ جـداً،
األدب يف عالقاتـه مـع النظـم االجتامعيـة» ،لهـو بليـغ ّ
تقـول الكاتبـة« :لقـد قصـدت أن أختبر مـدى تأثير الديـن والعـادات
والقوانين يف األدب؛ ومـدى تأثري األدب يف الديـن والعادات والقوانني»،
وإن فكـرة هـذه العالقـات القامئة بين مختلف فروع النشـاط االجتامعي،
لشـعب ،ليسـت بجديـدة؛ فمنـذ املحدثين ومنـذ دوبـوس ،طبقـت هـذه
التقـدم غير
ُّ النظريـة يف األدب .كذلـك ،تعيـد مـدام دوسـتال فكـرة
لكن أحـد ًا مل يدفعّ ،قـط ،نتائج هذه املحـدود للفكـر اإلنسـاين منتجاتهَّ ،
تعسـفية تدفـع الكاتـب ُّ املبـادئ إىل أبعـد مـن هـذا املـدى .إنهـا أفـكار
نظريتـه ،و -مـع ذلـك-َّ يزورهـا ،ليثنيهـا فـوق
إىل أن يختلـق الحـوادث أو ِّ
تـؤدي
ِّ أهميتهـا كبيرة يف التاريـخ األديب ،وكذلـك يف النقـد؛ فهـي َّ إن
نسـميها
ّ أزليـة،
ملاهيـات ّ
ّ إىل اعتبـار املؤلَّفـات األدبيـة ليسـت انبثاقـات
امللحمـة أو املأسـاة ..بـل كظواهـر ميكن دراسـة أسـبابها ونتائجهـا .إنها
تقـود إىل الحكـم على الكتـب ،وذلـك باعتبار الظـروف التي ظهـرت فيها،
وعامـة.
ّ ال وفـق مقاييـس ثابتـة
((( الهارب ( :)1853 - 1739املعهد أو دروس يف األدب القديم والحديث ( .)1805 - 1799
18
«عبقرية املسـيحية» ،عـام ،1802ليس حدث ًا ّ كذلـك ،إن ظهـور كتاب
أهميـةً ؛ فشـاتوبريان ،وقـد أراد أن يظهر أن الديانة املسـيحية -وهي أقـلّ ّ
تقـدم الفنـون واآلداب -قـد سـاعدت أبعـد مـا تكـون عـن أن تسيء إىل ُّ
على ازدهارهـا .وقـد انتهى به األمر ،هـو -أيضاً -إىل أن ينشـئ عالقات بني
الحجة ّ األدب والدين ،وليسـت هذه الفكرة بجديدة؛ فقد اسـتعملت هذه
مردهتفـوق املحدثني ّ خلال الخصـام بني القدمـاء واملحدثني ،وهـي أن ُّ
الوثنيين .لكـن شـاتوبريان يسـتثمر- ِّ تفـوق ديانتهـم على القدمـاء
إىل ُّ
الخاصـة؛ مـن هنـا ّ بعبقريتـه
َّ بعمـق ومنهجيـة -هـذه الفكـرة ،ويغنيهـا
املهمـة يف تاريـخ النقـد :مل يعدالنقـد نقـد األديـب الـذي ّ تـأيت مكانتهـا
يتعهدَّ يحكـم مـع أنداده وأسلافه ،أو البسـتاين الذي -على غرار فولتير-
حديقـة اآلداب الجميلـة؛ ين ّقيهـا مـن الحشـائش الرديئـة ،ويحميهـا مـن
الغـزوات األجنبيـة .إنـه العبقـري الـذي يشـعر بالعبقرية ألنه مسـا ٍو لها.
مل يعـد يسـعى النقـد إىل البحـث عن العيوب ،ومل يعـد عمله أن يفحص
املؤلَّفـات الفكريـة فحصـ ًا تافهـ ًا وهزيلاً ،يف بعـض األحيان .إنه -حسـب
تعبري شـاتوبريان -نفسـه «نقـد َمواطن الجمال» لقد أنشـئت ،اعتبار ًا من
ذلك الحني ،األسـس العقائدية للنقد األديب ،ويف الوقت نفسـه سـيخلق
والتطـور االجتامعـي أوضاعـاً مالمئـة لنشـأة النقـد ُّ التطـور السـيايس
ُّ
خـاص ،بـل أبعد مـن ذلـك؛ باعتبـاره مهنـة .إن ما ّ فـن
الحقيقـي على أنـه ّ
خاصـة يف الحيـاة ّ العامـة،
ّ كان ينقصـه -حسـب رأي تيبوديـه -يف الحيـاة
أهم َّيتهام يف القرن التاسـع عرش: األدبيـة ،وجـود جهازيـن كبريين تـزداد ِّ
جهـاز الصحافيين ،وجهاز األسـاتذة .وقد أخـذت الصحافةّ ،إبـان الثورة،
مظهـر ًا مياثـل مـا نعرفـه اآلن ،كما أنشـأ نابوليـون الجامعـة .ولقـد ابتدأ-
فعلاً -عرص النقـد ،حيث رشع الصحافيون واألسـاتذة ،بعد االسـتبدادية
الحر ّيـة.
ّ اإلمرباطوريـة ،بالتفكير والتكلُّـم والكتابـة يف يشء مـن
19
الفصل الثاين
يهـدف النقـد إىل أن يبـدي رأيـه يف قيمـة املؤلَّفـات ،ألن ميزتـه هـي اعتبار
ما .ولكـن ،هـل ينتـج عـن ذلـك أن النقـد يعنـي الحكـم ،وأن قي ً األدب مجـا ً
ال ِّ
مجـرد يشء ال ميكـنَّ مجـرد الحكـم هـو الهـدف األسـايس للنقـد ،ال َّ يكـون
أي متهيـد مسـبق تج ُّنبـه؟ وهـل يقضي هـذا بـأن يكـون الحكـم مبـارشاً ،دون ّ
قويـة
مجـرد تعليـق؟ على كلّ حـال ،هنـاك محاولـة ّ َّ للشرح وللفهـم ،ولـو
تعرفاً ،والحكم على النتاجال من أن يكـون ُّ لجعـل الحكـم مرسـوم ًا مطلقاً ،بـد ً
األديب على ضـوء القواعـد العقائديـة ،عوضـ ًا عـن شـكله الحقيقـي :هكـذا،
ام مسـبق ًا أكرث مما يطلق ميكـن تعريـف هـذا النـوع مـن النقد بأنـه يحكـم حك ً
قبلية مطلقة ،وهي -بذلك-أحكامـاً ،ويطرح -تحت سـتار املوضوعية -معايير ّ
تسـهل التقديـر األديب ،وهـي ليسـت عقائديـة من هـذه الناحية ،فحسـب؛ ألن ِّ
نسـبي ،لكنـه ذو فلسـفة ً
هنـاك أنواعـا أخـرى للعقائديـة ،كما سنرى ،أحدهـا
ّ
مطلقـة؛ ذلـك أن الناقـد يحكـم مـن عـلٍ ،وفـق معايير بالغـة القسـوة.
21
مادة
قـدم ّ ميكننـا -مبعنـى مـا -أن نعتبر أن «املذهـب» الكالسـييك قـد ّ
لفلسـفة مطلقـة يف النقـد .وعـدا أنـه مـن الصعـب التكلُّـم ،حينئـذ ،عـن
كفـن مل يكـن لـه وجـود ،إن الفلسـفة املطلقـة ليسـت الهـدف ّ النقـد ألنـه
الوحيـد؛ ذلـك أن النقـد -كما نعلـم -كان يقيـم توازنـ ًا بين االنطباعيـة
القـوة تتيـح لـه أن
ّ خاصـة أنـه مل يبلـغ مرحلـة مـن
ّ والذاتيـة املتخفِّيتين،
خاصـة .وهكـذا ،إن هـذه القسـوة قـد عملـت ،بالرغم من ّ يأخـذ فيهـا هيئـة
التطـور الـذي ذكرناه قبـل اآلن ،يف ا ِّتجـاه وجهة نظر تاريخيـة ،وموضوعيةُّ
نسـبية ،يف فترة اإلصلاح والحكم املطلق لعهد متـوز .ميكننا أن نجد فيها
ضـد الرومانسـية ،وهي ذات أسـباب ًا أدبيـة بحتـة :إن النظريـة الرسـمية هـي ّ
طابـع كالسـييك متأ ِّثـر بفولتري ،ولكنها سياسـية ،أيضاً :النظـام البورجوازي
األمة ،وهي تربوية :إن دراسـة األدبيجـب أن يحكـم يف األدب كما هـو يف ّ
مهمة الن ّقاد
يجـب أن تعطـي للشـباب عادات يف النظـام والووضح .وتقـوم ّ
فـن الكتابة.
على أن يعطـوا للشـباب والك ّتـاب أنفسـهم نصائـح عـن ّ
إن النقـد املطلـق ،مـن ناحيـة نظريـة ،ال ميكـن فصلـه عـن النظريـة،
والـذي يظهر كنتيجة لها ..وهذه النظرية ميكن تسـميتها بفلسـفة جاملية،
إذا ا َّتفقنـا -مـن جهـة -على أنهـا فلسـفة جامليـة قبليـة ،وأنهـا -مـن جهـة
ام مطلقـة ومضمون ًا بالحـق ،والخري ،والجمال ،قي ً
ّ تتميـز
أخـرى -ميكـن أن َّ
كل ّّيـاً .ذلـك أن كلّ فلسـفة مطلقة تنشـئ عالقات رضورية بين القيم ،فتار ًة
تعتبر األخلاق ،وطـور ًا الحقيقـة ،رشطـ ًا للجمال وعالمـة لـه .وفعلاً إن
جـد ًا عنـد معظـم ن ّقـاد املدرسـة املطلقة،
النقـد وعلـم الجمال مرتبطـان ّ
حتـى أنهما يختلطـان ،أحياناً ،كام لـو كان الحكم النقـدي -بالرضورة ،ويف
الوقـت نفسـه -نظريـة مبنتهـى التأكيـد ،بالنسـبة إىل األدب.
ين لهـذه النزعـة
منوذجي ْ
َّ إن نظـرة إىل املـايض ،نلقيهـا على َمثَلين
يـؤد بهـا طموحهـا ،على كلّ حـال ،إىل يشء،
الخاصـة التـي مل ّ
ّ املنهجيـة
خاصـةً إىل «نيـزار» ،و«سـان مـارك
ّ تقودنـا إىل «الهـارب» ،وهـي تقودنـا-
جيراردان» ،إىل جانـب «نيبوموسين لومرسـيه».
ونحـن ،إذا أوجزنـا الكالم عن هـؤالء اآلخرين ،بجانب اإلنصاف ،بالنسـبة
22
مموه ًا وراء النقَّاد «التقليديني»
إىل النقد املطلق الذي سـيعود ،فيام بعدَّ ،
اعتبـار ًا مـن أتبـاع «برونتري» حتـى «دوميك» حتى لدى أتباع «مـورا» ،أيضاً.
«نيـزار »Nisard -مب ّشر بالحقيقـة :كتـب األسـتاذ «نيـزار»((( ،يف كتابـه
جيـدة
«شـعراء التينيـون»« :إن مـا نطلبـه مـن ك ّتـاب النقـد هـو أحـكام ِّ
ونظريـات صحيحـة ..وإن مبـاديئ لهـي مانعـة أكرث منها انتقائيـة» ،فام هي
ّ
يشـكل وحـدة
أوالً :إن «الفكـر اإلنسـاين» مبـا يتعلَّـق بالقوميـةّ ،
َّ مبـاديئ؟
مـع «الفكـر الفرنسي» ،يليـه الجمال الخالـد ،وهـو حقيقـة كلّـه.
نقـاء للفكر
ً أتعـرف إىل الصـورة األكثر كماالً ،واألكرث ّ «لقـد تعلَّمـت أن
اإلنسـاين يف املجموعـة الرائعـة لتحف الفكر الفرنسي» .وهكذا ،كلّ كتب
«ضـد أوهام العصر وخدعاته»؛ ّ «نيـزار» هـي -مـن جهة« -دفـاع» عن ذوقه
املخصصـة إلثـارة اإلعجـاب ،نقـد َّ يهتـم ّإل باآلثـار
ّ و -فعلاً -إن نقـده ال
الحر ّية ملأى باملخاطر والضالل، ّ مقاومـة وإكـراه ،محافظ وآمر معـاً« :إن
القـوة الحقيقيـة ما نزعـه من قوى طائشـة ومفتعلة»، ّ ويضيـف النظـام إىل
و -مـن جهـة أخـرى -ال يريـد أن يعـرف ّإل «الجماالت الخالـدة»؛ وإن أثـر ًا
تحدهـا ّأيـة حـدود ـرض ،بلغـة كاملـة ،حقائـق ال ّ اليبـدو لـه جميلاً ّإل إذا َع َ
مـن حـدود املـكان أو الزمـان ،والتـي هي كجوهـر العقل اإلنسـاين.
نتـج عـن ذلـك عقالنيـة وعدائيـة .لقـد قالـوا ،غالبـاً :إن النصـب الـذي
أقامـه «نيـزار» ملجـد الفكـر القومـي ،أي ملجـد القـرن السـابع عشر ،يف
الحقيقـة ،والـذي اخرتعـه من كلّ مرسحيـة ،يكمن هذا النصـب يف تجميد
ضيقـةّ ،إل أنه مل يحقِّـق ما يصبو
هـذا الفكـر الكالسـييك الغزيـر يف وحـدة ّ
إليـه ّإل خلال فترة قصيرة لتـوازن رسيـع االختالل.
يدعـي أنـه «علـم دقيـق» ،ميتـازأضـف إىل ذلـك أن منهـج نيـزار الـذي َّ
الفـن ،الواحـد تلـو اآلخـر ،ويـرى ،مبقارنتـه مـع
ّ بصالبـة مطلقـة .إنـه يأخـذ
ذوقـه املثـايل ،الخسـائر مـن قـرن إىل آخـر .وال يكتفـي (تاريـخ األدب)
((( «نيزار» ( :)1888 - 1806منشور ضد األدب السهل ( ،)1833الشعراء الالتينني يف فرتة االنحطاط (،)1834
تاريخ األدب (.)1849 - 1844
23
التطـور املمكنـة يف األدب،
ُّ أي حسـاب لفكـرة الـذي ألَّفـه بأنـه ال يحسـب ّ
بـل يعتبر كلّ بـادرة مـن بـوادر الحركـة هـي -أيضـاً -إشـارة انحطـاط ...وقد
ال للفكـر اإلنسـاين ،وللعبقرية الفرنسـية،وضـع ،بعـد أن أقـام لنفسـه مثـا ً
وسـجل مـا
ّ وللّغـة الفرنسـية «كلّ مؤلّـف ،وكلّ كتـاب تجـاه هـذا املثلَّـث،
جيـداً ،ومـا يبتعـد عنـه؛ فـذاك هـو الـرديء».
يشـابهه» فاعتبره ِّ
الحـق والجمال
ّ الحـظ نيـزار بـأن كان
ّ يـا لهـا مـن سـذاجة! وكـم سـاعد
يتشـدق
َّ املطلـق، الحاكـم يكـون أن لـه أزليـاً ،وقـد أُعطـي
هكـذا مرتبطينّ ،
بأحـكام بلا اسـتئناف (ألن أسـلوب هـذا الرجـل ليـس باألسـلوب البسـيط).
الحق
ّ سـان مـارك جيراردان :منشـد الفضيلـة :ولكن ،علينـا ّأل ننىس أن
والجمال ،يف كلّ فلسـفة مطلقـة ،كالمهما مرتبطـان بالخير ،وأن النقـد،
وهـو أبعـد مـا يكـون عـن بحث نظـري عديـم الفائـدة ،لهـو واجـب أخالقي،
بقـدر مـا هـو واجـب أديب .إن نيـزار وقد أعاد نيبوميسين لومرسـيه((( ،الذي
كان قـد كتـب أن «واجـب الكتـاب هـو نقـل فلسـفة صحيحـة ،والدفـاع ،يف
الخاصـة ،وقضية
ّ العامة واألخلاق
ّ محكمـة الشـعور ،عـن حقـوق األخلاق
الفضائـل املطعومـة» ،يريـد أن يحـوي األدب «على كثير مـن التعليـم
سـيئ ،ويفقـد الكثيرون املعنـى للسـلوك يف الحيـاة» ألن «هـذا العصر ِّ
األخالقـي بقـراءة كتابنـا»؛ على ذلـك إننـا نجـد -خاصـة لـدى سـان مـارك
جيراردان((( -أن النقـد املطلـق يطالـب الك ّتـاب «بتهذيـب أنفسـنا» جاعلاً
املحـددة بقسـوة ،الشـعار واملقيـاس للجمال نفسـه. َّ مـن األخلاق
إن سـان مـارك جيراردان يشرح ،يف مقاالته ،أن الناقـد يجب أن يهدف
ً
تعليما أخالقياً؛ لهذا فإنـه يدرس يف مختلف إىل أن يسـتخلص مـن اآلداب
متجـد
الفنـون واآلداب :املعـارصة ،والقدميـة ،واألجنبيـة ،الطريقـة التـي َّ
فيهـا الفضائـل الرئيسـية .إنـه يحـاول ،وقـد أخـذ -على التتابـع -مواضيـع
والوطنيـة ،والشـعور الدينـي ،وغريهـا ،وهـي مواضيـع
ّ كاملحبـة األبويـة،
ّ
كانـت الدوافـع للمآيس ،واملالهـي ،والدرامـا ،وحـاول أن يسـتخلص منها
24
تعليما مدرسـي ًا وأخالقيـاً؛ وهكـذا إن اآلدب الرومانسي هـو تعبير عـن
ً
تبدل رسـم املشـاعر برسـم الغرائز ،وإن املأسـاة املعارصة «تفسد ماد ّية ِّ
ِّ
العقـل بالسفسـطة ،والقلـب باالنفعـال» ،أضـف إىل ذلـك أن سـان مـارك
جيراردان يف دروسـه ،يحـذِّ ر الشـبيبة مـن أوهـام األخلاق والتباسـها التي
كانـت تنرشهـا «كتـب العرص».
أحـكام وأحـكام مسـبقة :مـاذا تجـدي املتابعـة؟ حين نريـد أن نحكـم،
ام مسـبقاً ،ونعلِّق على مبادئ يجب أن يخضـع لها كلّ نكتفـي بـأن نطلـق حك ً
املهمـة يف منتهى السـهولة ،فيكفي أن نقارن األثر باملبادئ،ّ نتـاج أديب .إن
املهمـة
ّ وإل قضينـا عليـه ،لكـن هـذه فـإن كان أمينـ ًا لهـا ،اعتربنـاه ِّ
جيـداًّ ،
لرشطـي األدب ،ليسـت العمـل الحقيقـي للناقـد؛ فاإلخضـاع للقوانين ليس ّ
معنـاه الحكـم ،فتحريـر املحـارض مل يكـن ،قـط ،مرادفـ ًا للفهم.
ُس ّـلامت ،مل يربهنبالفعل ،إن املوقف املطلق يسـتند عىل عدد من امل َ
أزليـة ،وأن كلّ حقيقـة تنبثق عـن العقل ،وأنعليهـا :أن يكـون هنـاك حقائـق ّ
بحـد ذاتـه ،و«طبيعـة إنسـانية» ،وأن يكون الخير واحد ًا ّ يكـون هنـاك جمال
جد ّيـة ،ثـم إن
يف كلّ األمكنـة وكلّ األزمنـة ..كلّ هـذا ال يثبـت أمـام دراسـة ِّ
بحـد ذاته ،بوصفهأي مـكان ،أن يدرس األثر األديب ّ هـذا النقـد ال يحـاول ،يف ّ
إبداعـ ًا وأثـر ًا إنسـانياً :إنـه يحلِّـل اآلثـار ،ألنه ال يحـاول ،أبداً ،معرفـة ّ
النيات.
وهكـذا ،إن أصحـاب مدرسـة نيـزار يتكلَّمـون ،بطريقـة متناقضـة ،عـن
اآلثـار ،كما لـو كانـوا يجهلونهـا.
لهـذا السـبب ،مل يكـن النقـد املطلـق نقـد ًا الب ّتـة ،مبقـدار ما كان سـعي ًا
مسـتمر مـع فلسـفة جامليـة قبليـة ،ال يسـتطيع -عىل كل حـال -أن ّ القتراح
ً
يكـون نقـدا مجديـاً .ولكي يكـون هكـذا ،عليه -على األقـلّ -أن يأتينـا مبعارف
قلم مل تكـن لدينـا ،وأن يعـرض علينـا رؤيـة .وإنـه ملن املـؤمل أن نفكِّـر بأنه ّ
مدعين ،كما كانـوا عليـه آنـذاك ،واثقني مـن أنه مبنجـى عن كلّ كان الن ّقـاد ّ
احتامل للخطأ .إننا سنرى أن من فضال سـانت بوف أنه قد قام باسـتخالص
دافـع إىل االقرتابٌ النقـد مـن الحفـرة؛ وذلك بـأن فتح له طريقـ ًا صعباً ،لكنه
السر األديب؛ وهـذا مـا مل يهتمـوا به كثيراً ،حتى ذلـك الحني.ّ مـن
25
Charles Augustin Sainte Beuve
شارل أوغستان سانت بوف
1804 - 1869
الفصل الثالث
سانت بوف
أول
ميثِّـل «سـانت بـوف» ،املعـارص لنيـزار ،وسـان مـارك جيراردانَّ ،
(((
((( سانت بوف ( :)1868 - 1804لوحة تاريخية ونقدية للشعر الفرنيس وللمرسح الفرنيس يف القرن السادس
عرش ،)1828( ،صور أدبية ( - )1839 - 1836صور النساء ( -)1844صور معارصة ( -)1846بور رويال (- 1804
،)1809أحاديث االثنني ( - )1857 - 1851أحاديث االثنني الجديدة ،1870 - 1863شاتوبريان وجامعته األدبية
،1861ودراسة عن فرجيل.)1857( ،
27
خـاص بـه ،بـل يفكِّ ـر على
ّ أي مـكان ،والـذي ليـس لـه أسـلوب يتوقَّـف يف ّ
الحبر الـذي يريـد أن
َ ِ
العكـس بأنـه «يجـب أن يأخـذ مـن محبرة كلِّ كاتـب
ممهـد لنقـد توافـق
أول َّ يرسـمه بـه» .إن «سـانت بـوف» هـو -يف الحقيقـةَّ -
مهمتـه أن يجـد نفسـاً ،ويرسـمها ،وإن كان قـد امتـاز ،يف مظاهـر مختلفة، َّ
بـأن يعلـن ويجمـع يف نفسـه كلّ أشـكال النقـد ،تقريبـاً ،التـي سـتزدهر
بعـده؛ وهـو امتيـاز وخطر يف آن واحد ،طبعاً ،ألن «سـانت بـوف» ،غالب ًا ما
الخاصـة تكمـن يف أنـه قـد أراد أن يعطي
ّ عبقريتـه
َّ كان يجـزئ كثيراّ ،إل أن
للنقـد بعـد ًا إبداعياً.
شـاعر أم ناقـد؟ :ذلـك أنـه قـد حلـم طويلاً بـأن يصبـح شـاعر ًا وروائيـاً،
اضطـره فشـل مؤلَّفاته إىل أن يلجـأ إىل النقد ،وهو فن اعتبره ،دامئاً، َّ وقـد
عب -بواسـطته -عن الشـاعر بشيء مـن الضغينـة« ،كأردأ ما يكـون» ،لكنه ّ
املؤرخ.
ِّ الـذي كان كلَّمنـا فيـه ح ّقـاً ،وعـن عـامل األخالق ،وعـن
الشـاب الـذي يعمـل يف جريـدة «كلـوب» ،والـذي ّ كان الصحـايف
كان صديقـ ًا لـ«فيكتـور هيجـو» ،وناقـد ًا ملجلّـة «باريـس» ّ
يـود أن يحصـل
الشـبان املوهوبين
ّ على املجـد عـن طريـق الشـعر ،وأن يكـون منافـس
يؤد
الرومنطيقيين الذيـن كان يعجب بهم .إن هذا امليـل ألدب اإلبداع ،مل ِّ
ِّ
ّإل إىل بعـض كتـب رديئـة :حيـاة وشـعر وأفكار جوزيـف دولـورم -التعازي-
اللـذة ..كانـت عليـه أن ينحنـي أمـام هـذا اإلخفـاق :مل يعـد «سـانت بوف»،
بعـد ذلـكّ ،إل ناقـداً ،واكتفـى بـأن يعبر عـن ذاتـه مـن خلال فكـر اآلخرين
ومواهبهـم.
متميز َت ْين عنـده،
ِّ أمل تكـن البعقريـة النقديـة ،والعبقريـة اإلبداعيـة
رديئين ،مـن جهـة ،هـو َ ْ متامـاً ؟ بالفعـل ،إن مـا يجعـل شـعره وروايتـه
يعب-
ال من أن ِّ الصفـات النقديـة التـي يظهرها فيهام .إن «سـانت بوف» ،بـد ً
ال مـن أن يفصـح بالشـعر أو مبـارشةً -عـن نفسـه ،فإنـه يحلِّـل نفسـه ،وبـد ً
مجـرداً؛ وإن دواوينهَّ النثر عن مشـاعره وانفعاالته وقلقه ،يعطيها تفسير ًا
مهمته بوصفـه ناقداً ،حتى الشـعرية هـي -يف الواقـع -مختلطة بأفـكار عن َّ
َّ
شـك فيه أننـا نجـد فيهـا نقـد ًا منظومـاً ،و -بالعكـس -إن مـا أعطـى بريقـ ًا ال
28
للنقـد ،مل يكـن يتم َّتـع بـه مـن قبـل ،هـو طموحـه الدائـم بوصفه شـاعر ًا أو
والسـيام عندمـا يجـد الشـاعر نفسـه يف
َّ مبدعـاً ،والـذي يبلـوره يف النقـد،
حي ًا
العمـل النقـدي .إن «سـانت بـوف» يعطينـا ،يف أفضـل الحـاالت ،نقـد ًا ّ
وتفسهـا.
ِّ لطيفـاً ،تشـعر فيـه «بنفـس أدبيـة» أخـرى يف أعامقهـا،
ال فريـد ًا لشـعر
وتعطينـا آثـار «سـانت بـوف» ،مـن هـذه الناحيـة ،مثـا ً
شـعري.
ّ نقـدي أو لنقـد
ّ
الخلقـة
ّ ومجمـل القـول أن سـانت بـوف قـد وضـع مجموعـة مواهبـه
يف خدمـة النقـد الـذي أصبـح منـذ ذاك الوقـت ،ليـس مهنـة فحسـب ،بـل
اختصاصـ ًا مـن الدرجـة الثانيـة ،لكنه يلتقـي باملجاالت األخرى للأدب :إنه
يعرب عن نفسـه كل ّّيـاً ،فقد أصبـح النقد،
ِّ يسـمح لإلنسـان الـذي ميارسـه أن
أدبيـ ًا كغيره مـن الفنون.
بفضلـه ،ف ّنـ ًا ّ
املبشر بالرومنطيقيـة :لقـد مـارس سـانت بـوف ،يف البـدء ،بشـكلِّ
«مبشراً» جاعلاً من نفسـه الداعيـة للمدرسـة الرومنطيقية.
ِّ خـاص ،نقـد ًا
ّ
يبـدي «سـانت بـوف» ،يف املقالين اللذيـن ظهـرا يف جريـدة «الكلوب»
( ،)1872عـن «األناشـيد والقصائـد» (بالرغم من إعجابه) كثير ًا من التحفُّظ
تجـاه أخطـاء املؤلِّـف ،مـن حيـث الـذوق ،و -على نقيـض ذلـك -جعل من
عامـي ( ،)1830 - 1827بعـدنفسـه دعامـة املدرسـة الجديـدة ،وذلـك بين َ
أن هـداه هيجـو إىل الـرو منطيقيـة ،وراح يسـعى إليجـاد أسلاف لـه يف
املـايض ،وهـذا مـا يتجىل يف كتابـه «الجدول» ،وكذلـك يف مقاالته ملجلّة
«باريـس» ،باحثـاً -لـدى الكالسـيكيني ،أيضـاً -عـن أسلاف أو عـن خصـوم
للرومنطيقيـة ،أو برتويـج مؤلَّفـات أصدقائـه.
التحيـز ،لكنـه
ُّ إن األحـكام التـي أصدرهـا مل تكـن -طبعـاً -خاليـة مـن
أما إذا كان قـد قبل برضورة إعادة النظـر يف بعض قيمنا قومهـاّ .
رسعـان مـا ّ
األدبيـة التقليديـة ،فألنـه يؤكِّ ـد أنـه يجـب القيـام بذلـك يف حـذر .هكـذا،
احتفـظ ببعـض املوضوعيـة يف أحكامه عن الحـدث ،إن مل يكن يف أحكامه
عـن القيمـة .إن هذه الطريقـة الجديدة التي درس بها مدام «دو سـيفينيه»،
29
و«موليير» ،و«الفونتين» ،و«راسين» قـد أفادتـه كثير ًا بـأن نفضـت عـن
وجددت لهم شـبابهم .أضف إىل َّ هـؤالء الكالسـيكيني القدمـاء غبار الزمـن،
يهمنـا -قد وجـد طريقتـه ،طريقـة «الصورة
ذلـك أن سـانت بـوف -وهـذا مـا ّ
سـيهتم بـه اآلن .
ّ الفـن الذي
ّ األدبيـة»؛ وهـو اسـم أطلقـه على
املـؤرخ ،وصانـع الصـور :ظهـرت مقـاالت «سـانت بـوف» النقديـة، ِّ
فعلاً ،تحـت عنـوان «الصور قبـل أحاديث اإلثنين» ،ويجـب أن نضيف إليها
املحـارضات التـي ألقاهـا يف لـوزان ،عـن «بـور رويـال» ،حيـث اعتمـد عىل
املنهـج نفسـه.
«املبشر»،
ِّ النقـد
َ تـرك «سـانت بـوف» ،منـذ عـام ،1830شـيئ ًا فشـيئاً،
جـد ًا عليـه .مل يعـد هـدف
وراح يتخلَّـص مـن حـدود املدرسـة القاسـية ّ
النقـد الحكـم ،إذن ،بـل تعريـف الك ّتـاب ،ورسـم صـور نفسـية ،وأخالقيـة،
وأدبيـة لهـم.
إن تأليـف هـذه الصـورة يختلـف بحسـب األحـوال؛ فـ«سـانت بـوف»
عامـة -بجمـع عـدد كبير مـن الحكايـات عـن الكاتـب؛ يبـدأ -بصـورة ّ
موضـوع البحـث .فتـارةً ،يبحـث عـن أصـل البطـل ،ويف َّأيـة ظـروف منا،
شـخصيته ،أو ميسـك املؤلِّـف يف اللحظة التي خلق
َّ حتـى يجد «عقدة»
أول أثـر ممتـاز لـه ،وطـور ًا يبعثهّ -
مرة أخـرى -أمام أعيننـا ،يف فرتة فيهـا ّ
معبرة .وهكـذا ،تنتظـم الصـورة
ّ بعـدة تفاصيـل حياتيـة
ّ نضجـه ،وذلـك
«نحاتـاً»، شـيئ ًا فشـيئاً؛ ألن «سـانت بـوف» ال يريـد أن يكـون ِّ
مؤرخـاً ،بـل ّ
إنـه ال يريـد أن يعمـل «ترجمـة حيـاة نفسـية» ،بـل يطمـح إىل أن يؤلّـف
صـورة األديـب؛ موضـوع البحـث.
وهكـذا ،إن األبحـاث الوثائقية ،والثورة عىل التحليـل ،ال تكفيان للناقد،
بـل يلزمـه ،أيضـاً ،لكي يجـد الوحـدة االجامليـة للوصـف ،أن يسـتعمل
حدسـه بوصفـه شـاعراً ،وموهبته على التجـاوب .ويصبح النقـد -مبفهومه
مسـتمريْن».
َّ هـذا« -خلق ًا وابتـكار ًا
اضطـر «سـانت بـوف» ،يف كثير مـن األحيـان،
ّ «نحـات العظماء» :لقـد
ّ
30
إىل أن يخـرج مـن أطـر النقـد األديب ،مبعناهـا الحقيقـي؛ وذلـك بعمـل
نفسـياتهم ،لكنهـم مل يكونـوا ك ّتابـ ًا ّإل
ّ تهمـه
وصـف لرجـال ونسـاء ،كانـت ّ
أدبيـ ًا محضـاً ،مـن الوجهـة النظريـة: يف املناسـبات .مـع ذلـك ،كان هدفـه ّ
يهيـئ الجمهـور لقـراءة املؤلِّفين ،وذلـك بربـط املظاهـر املختلفـة أن ِّ
واملتتابعـة لنتـاج أديب ،و -بكلمـة موجـزة« -أن يعلَـم اآلخـرون كيـف
ومحـب اآلداب ،ظهـر ،دامئـاً ،لكنـه كان ّ يقـرأون» .فرجـل الـذوق الرفيـع
يبحـث ،يف الكتـب ،عـن يشء آخـر غير االنفعـاالت الجامليـة؛ أال وهـو
مجـرد
َّ املدلـول األخالقـي ملؤلّـف أو لعصر .فـ«بـور رويـال» -مثلاً -ليسـت
تردد «سـانت تاريـخ ،بل ليسـت سلسـلة دراسـات نفسـية ،وأدبيـة ،إنه ينقل ُّ
بـوف» نفسـه ومخاوفـه ،وهـو ،إذ يتخلَّـص -شـيئ ًا فشـيئاً -مـن سـيطرة
النفـوس الدينيـة العظيمـة ،يعنـي أكثر فأكرث أنـه ينتمـي إىل أرسة مونتني،
ما ،وهنـا نـرى- تأملات أخالقيـة أو ِحكَ ًولقـد نشر ،يف كثير مـن املقـاالتُّ ،
أيضـاً -الطابـع الشـخيص ،الصميمـي الـذي يحلـم بـه نقد سـانت بـوف ،وما
أوسـع مجالـه!
إن نقـده قـد جعـل نَفَ سـه تاريخيـ ًا أيضـاً ،لكـن مواهـب سـانت بـوف يف
هـذا املجـال ،محـدودة أكثر ،وذلك بسـبب اإلطـار الضعيف الذي يشـغله
يـدرس التاريخ لذاته:
مقـال يف صحيفـة ،وحتى يف كتابـه «بور رويال» ،مل ُ
لكـن عنـدي زوايـا تاريخيـة» .وهكـذا ،يسـعى أن
ّ مؤرخـاً ح ّقـاً،
«إين لسـت ِّ
«يضـع» «ال مرتين» يف تاريـخ العاطفـة الدينيـة ،وأن يضع «الرو شـفوكو»
يف «تاريـخ اللغـة الكالسـيكية ،وأدبها».
المـة :إن منهـج النقـد يف «أحاديـث االثنين» ويف «أحاديث املحِّـدث الع ّ
يتعدل بشـكل محلوظ ،لكن بعض مالمحه َّ االثنين الجديـدة» التي تلتها ،مل
تحـددت :لقـد ا َّتخـذ أسـلوب ًا أكثر ِّ
حر ّيـة ،وأكثر معرفـة؛ ميـل ال ّتخـاذ َّ قـد
موقـف «علمـي» ،لكنـه -يف الوقـت نفسـه -إلحـاح على إصـدار األحكام.
أمـد «سـانت بـوف» ،منـذ عـام 1849وحتـى عـام ،1861كلّ اثنني،
لقـد ّ
الصحيفـة الدسـتورية ،ثـم صحيفـة «املرشـد» ،مبسلسـل أديب .وهكـذا،
نشـأت «مقـاالت االثنين».
31
تظهـر هـذه «األحاديـث» ،دامئـاً ،تحت شـكل الوصف ،لكنهـا ذات هيئة
يتحـدث فيهـا املؤلِّـف ،مـع القـارئ ،عـن اكتشـافاته
َّ حر ّيـة أيضـاً.
أكثر ِّ
وخواطـره ،ويشـاركه ميولـه وطرائفـه ،ويلهـو ،أحيانـاً ،بتأليـف واحـدة
مـن األجـزاء الجريئـة التـي أعطانـا ،يف «بـور رويـال» ،بعـض أمثلـة عنهـا.
إنـه يسـتعمل ،دامئـاً ،األسـلوب التصويـري نفسـه ،واألسـلوب الشـعري،
الحـرة يف التأليـف ،والتـي
ّ اللـف والـدوران ،هـذه الطريقـة
ّ والجمـل ذات
تبـدو كأنهـا تذهـب كيفام تشـاء ،تحسـن نقـل طبعـه ،بوصفه هاويـاً ،لكنها
تترك ،أحيانـاً ،انطباعـ ًا غامضـ ًا بعـض الشيء.
إن هـذه األحاديـث هـي -على كلّ حـال -حصيلـة أسـبوع طويـل ،أمضـاه
وخصصـه ،بكاملـه ،لقـراءات غزيـرة ،ولعمـل َّ «سـانت بـوف» يف العزلـة،
تنـوع املواضيع املدروسـة وغزارة جـداً ،نسـبياً؛ من هنا يـأيت ُّ
وثائقـي دقيـق ّ
املعلومـات التـي نجدهـا مـن كلّ نـوع .إن علـم «سـانت بـوف» الواسـع
جـداً ،وإن كان يعـرف كيـف يحـذر ،وكيف يتج َّنـب -بفضل بالتاريـخ الواقعـي ّ
يتسرع يف الحكـم ،أحيانـاً،
َّ حدسـه -أخطـاء العلـم يف عصره ،هـذا العلـم
ألنـه ال يريـد أن يكون نقـده قامئ ًا عىل العلم ،وإن كان على االطِّ الع باألعامل
التـي تظهـر ،فـإن هـذه املعلومـات ليسـت ،بالنسـبة إليه ،غري أسـاس .كتب
يقـول« :أريد سـعة العلم ،عىل أن يسـيطر عليهـا الحكم ،وينظَّ مهـا الذوق».
إن مفهومـه عـن هـذا الـذوق هو الذي أوقفـه عىل طريق النقـد الوضعي
«العلمـي» الذي اسـتهواه ،مـع ذلك ،فام أكثر ما قال:
أود أن تنفع كلّ هذه الدراسـات أديبّ ...ّ طبيعي
ّ «إن مـا أعمـل هو تاريـخ
األدبيـة ،ذا ت يـوم ،لتقيـم تصنيفـ ًا لألذهـان» ،ولطاملـا صفَّـق ملطامـح
«تين ،»Taine -ومت ّنـى أن تتحقَّـق هـذه املطامح يومـ ًا (ألن هذا املرشوع،
بالرغـم مما يفكِّ ـر فيـه «تين» يبقى ،سـابق ًا ألوانـه)((( .
((( انظر املقال املشهور عن شاتوبريان ،الذي كتب عام ،1862ونرش يف «أحاديث االثنني الجديدة» ،والذي
أخذت منه الجملة السابقة ،ففيه نجد نوع ًا من «البيان العام» الذي يكون جواب ًا عىل «تني» ،ودفاع ًا عن نهج
سانت بوف معاً ،لكنه -بشكل خاص -عرض ألساس منهجه النقدي كام كان يفهمه ،حينئذ.
32
إن فلسـفته الحقيقيـة هـي يف أحـد «أحاديـث االثنين» األوىل ،حيـث
متفه ً
ما ،وهـذا النقـد ،إذ «يـأيت مـن النفـس، ِّ يتم ّنـى -على العكـس -نقـد ًا
ميضي إىل النفـس» .إنـه يبقـى -بالرغـم مـن املحـاوالت العلميـة -املفكّ ر
املتعمـد ذلـك.
ّ اإلنسـاين
إن كتابه «الصور» يفسـح ،أخرياً ،مكان ًا صغري ًا لألحكام .يسـعى «سـانت
بـوف» ،يف كتابـه «أحاديـث االثنين» ،إىل أن يغطّ ـي هذا النقـص« :اعتقدت
أن هنـاك مجـاالً ،تـزداد فيـه جـرأة اإلنسـان ،دون أن يخرج عـن اللياقة ،وأن
يقـول -أخيراً ،برصاحـة -مـا يبـدو يل حقيقـة عـن املؤلَّفـات واملؤلِّفين».
الشـخيص الذي هو -يف
ّ ِاسـم ذوقهأوالً ،ب ْ
أي يشء سـيحكم؟ َّ ِاسـم ّ
ولكن ،ب ْ
متحررة من كلِّّ كالسـيكيته واسـعة،
َّ األصل -ذو طابع كالسـييك ،وإن كانت
عقائديـة ،لكنهـا -يف الحقيقـة -ال تخلـو ،دامئـاً ،من يشء مـن البهرجة :إنه
يعترف بـأن قـراءة كتـاب «بـول وفرجينـي» تجعلـه يسـكب الدمـوع ...ثـم،
وهنـا تطرح املشـكلة الشـهرية لألخطـاء التي ارتكبها سـانت بوف يف الحكم
خاص ،بسـبب بعـض التنافـر يف املزاج الـذي يجعله ّ على معارصيـه بنـوع
ضـد شـخصية أحدهـم :مل يفهـم ،مطلقـاً« ،بلـزاك» ،كما رفع ضـد األثـر أو ّ
ّ
بحـق
ّ القمـة ك ّتابـ ًا سـقطوا ،اليـوم ،يف عـامل النسـيان ،كما أجحـفّ إىل
«شـاتوبريان» إجحافـ ًا كبيراً .فليـس مثـة ناقـد مبنحـى عـن األخطـاء ،لكـن
مـا يزعـج ،لدى «سـانت بـوف» ،هو فظاظـة بائسـة ،حقـودة ،ومكروهة عىل
كلّ وجـه .ويف كثير مـن الحـاالت ،إن أحكامـه ،وإن مل تـرض عنهـا األجيال
عبقرية
ّ تعـرف إىل كلّ
التـي تلتهـا ،ليسـت خالية مـن الذكاء :إن مل يكـن قد َّ
حـدد -على األقلّ -معـامل آثارهـم ،بجالء. «سـتاندال» أو «فلوبير» ،فقـد َّ
فطنـة كئيبـة :ذلـك أن الوضـوح هـو امليـزة األساسـية لنقـد «سـانت
بـوف» ،لكـن ،ملـاذا ال يرضينـا دامئـاً؟ ميكننـا أن نجـد الجـواب عـن ذلـك؛
فهنـاك ،قبـل كلّ يشء ،أسـباب تعـود إىل شـخصية «سـانت بـوف» غير
املشـوقة ،فقـد قال عن نفسـه« :أخذت املوهبـة الكئيبة للحيـاة الثاقبة»، ِّ
يحب الناس ،رغم دعوته ّ ال أنه إىل هامرد
ّ يكـن مل إن «كئيبة»؟ ملـاذا لكـن،
يحب -فقط -اآلثـار املطبوعة التيّ إىل نقـد يقـوم على التعاطف ،فقـد كان
33
أدبيـاً ،و -بالرغم مـن الصيغ -إن
حبـه مل يكـن ّإل ّ
يرتكونهـا يف طريقهـم :إن ّ
جداً ،وذات نقـاء فكري بحت .ثم إن الشـخص محبتـه كانـت ،دامئـاً ،بـاردة ّ
َّ
الـذي جعـل مـن النقـد إبداعـاً ،مل يسـبقه إليـه أحـد ،تقريبـاً ،يجـب أن
سـجل ،بـدء ًا منـه« ،عقـدة النقـد» التـي كان هـو مصابـ ًا بها.
ُت َّ
الحـق ،وهـذه الطبيعة فهـذا النقـص يف اإلحسـاس باملعنى اإلنسـاين ّ
الحق
ّ مبنـي على التعاطف ّ ـموا إىل نقـد
الغيـورة ،مل يكـن بإمكانهما أن َي ْس َ
كما سـيزدهر ،فيما بعـد ،عنـد «دوبـوس»ّ .إل أن النقـد قـد ا َّتخـذ ا ِّتجاهـ ًا
مفسر ًا وب ّنـاء معـاً؛ هـذا النقـد الـذي يختلـف عـن العنـف العقائـدي ،أو
يتدخـل «سـانت بـوف» يف َّ تشـدق «نيـزار» .ولكـن ،يف هـذه الحالـة ،أمل ُّ
حـد ما ،و«عـامل» دون أن يؤمـن بذلك، ّ إىل لكن ّمـة،
ال ع إنـه كثيرة؟ أشـياء
يجـب أن يكون كذلك ،دامئـاً ،وحتى «جامعـي» عندما ألقى ّ انطباعـي ،ألنـه
املتجـول
ِّ محـارضات يف «لـوزان» ،و«لييـج» أو يف شـارع «إيلـم» ..هـذا
الفطـن ،قـد اعتبر الناقد الذي بـدا وكأنه رضب من اإللـه «بروتيه» ِ املرتـاب
محدد، َّ الـذي يأخـذ -على التتابع -كلّ األشـكال ،دون أن يتوقَّف عىل شـكل
ينج منه «سـانت أي شـكل ،وهـو خطر مل ُ وهنـا ،يكمـن الخطـر؛ أن ال يجيـد ّ
حـرة أمـام «تين» ،وأمـام بـوف» دامئـاً .وقـد تـرك -على كل حـال -الطريـق ّ
«ماغيـه» ،و«النسـون».
بقـي عليـه أن يربهـن مبثالـه -وإن أحـدث ذلـك (عقـدة) -أن النقـد
الحقيقـي يصعـب أن يكـون نشـاط ًا منفصلاً ؛ إن مؤلِّـف كتـاب «اللـذّ ة» هـو
الـذي صنـع سـانت بـوف على كل حـال ،إن الجمـع بين النقـد والحكـم
والفهـم ،يف آن واحـد ،ذلـك هـو الـدرس الذي يجـب أن نسـتخلصه ،ال من
مضمـون نقـد «سـانت بـوف» ،بـل من «سـانت بـوف» ،الـذي كان يقـول عن
هـوى حقيقـي وحيـد ،هـو الهـوى األديب. نفسـه بأنـه ليـس لديـه ّإل ً
34
Ferdinand Brunetière
فرديناند برونتيير
1906 - 1849
الفصل الرابع
«علمية»
ّ موضوعية
ّ البحث عن
وادعاءاته، رد فعـل «سـانت بوف» عىل نقائـص النقد املطلـقِّ ، ال يـزال ّ
بحجـة
ّ محتفظـ ًا بكامـل قيمتـه ،لكـن مل يلبـث بعضهـم أن ا َّتهمـه بأنـه،
يت
املحافظـة على النقـد مـن الدغامتيـة ،قـد فتـح الطريـق أمـام نقـد ذا ّ
يتوصـل،
َّ خطير ،واسـتنتاجات غير أكيـدة .بالفعـل ،إن «سـانت بـوف» مل
لشـخصية الكتاب الحقيقيـة التي كان ّ قـط ،إىل هـذه املعرفـة املوضوعية ّ
يدعـي: يبحـث عنهـا ،ومل يكـن ح ّقـ ًا العـامل الطبيعـي للنفـوس ،كما كان ّ
الخاص (وهـي إمكانات ّ لقـد اكتفـى ،يف معظـم األحيان ،بإمكانات حدسـه
محـدودة ،كما رأينا) .يـرى فيلامن ،وتين ،وهينكان ،وبورجيـه ،وكذلك كلّ
دعـاة النقـد الوصفـي ،أنـه ال ميكـن الحصـول على موضوعيـة يف النقـد،
فالبد مـن موقف َّ بواسـطة قـراءة األثـر ،والبحـث الدائـب يف سيرة الحيـاة.
تفسر قبل أن تحكـم ،والتي تهدف- املـادة التي تريد أن ّ
ّ «علمـي» مـن هـذه
ّ
37
خاصـةً -إىل أن تكشـف ،بواسـطة التحليـل ،العالقـة التـي تربـط األثـر
ّ
نسـبيته الجوهريـة.
َّ بظروفـه ،وتعطيـه
التطـور املدهشُّ إننـا -بالفعـل -يف منتصـف القـرن التاسـع عرش ،مـع
للعلـوم الفيزيائيـة الكيميائيـة بفضـل اسـتعامل منهـج جديـد يف الشرح،
حتميـة قاسـية تديـر العامل،
ّ يذهـب مـن الوقائـع إىل القوانين ،ويـدرك أن
وسـيطبق الن ّقـاد ،إذن،
ِّ ويعطينـا -فجـأةً -ثقـة بلا حـدود ،باإللـه (الشرح).
بتسرع ،منهـج التوضيـح العلمـي على املؤلَّفـات األدبيـة؛ ُّ بجـرأة بـل
أوالً -أن األثـر هـو حـدث محتمـل ،إنتـاج اإلنسـان التاريخـي، وهـذا يعنـيَّ -
والنفسي ،واالجتامعـي ،ويعنـي -ثانيـاً -أن هـذا الحدث يجـب أن يتل ّقى من
النقـد تفسيراً ،كما يعنـي -ثالثـاً ،وأخيراً -أن الحكـم النقـدي ال ميكـن أن
حكما موضوعيـاًُ ،ت َّتخـذ معاييره من التفسير نفسـه .إنـه موقف ً يكـون ّإل
يعـود إىل «مـدام دوسـتال» وإىل «بارانـت» ،لكنـه ال يصبـح نظاميـ ًا ّإل مـع
املمهـد املبـارش لـ«تين» ،و«بورجيـه» .هكـذا ،يبـدو الطريـق َّ «فيلمان»
مفتوحـ ًا لرؤيـة جديـدة للنقـد.
ولكـن ،حـذارِ .فكلمـة العلـم ميكـن أن تخفـي الكثير مـن الدغامتيـة
يهيـئ ملـن يعـرف كيـف والكثير مـن األخطـاء .إن العلـم يسـتطيع أن ِّ
املقـرر قبليـاً« ،عقيدةً»
َّ يسـتخدمه ،وذلـك بسـبب عـدم وجـود «املطلـق»
شـك؛ كم هم ّ العامة مـن أن يضعوها موضع ّ مسـها ،وقـد يخجـل
ال ميكـن ّ
مخيب اضطرارنا أن نضيف ،إىل قامئة «الن ّقاد العلميني» ،اسـم «برونتيري» ِّ
ادعاءاته املتعلّقة بالنقد النسـبي ّإل متويه ًا ماهر ًا لعقائدية
الـذي مل تكـن ِّ
ً
علما ّإل بتجاوز هجوميـة .مـن جهـة أخـرى ،ال ميكـن أن نجعـل مـن النقـد
املجال األديب :ال رشح بال تفسير ،وال تفسير بال تغيري سجلّ ،أي االنتقال
ِ
املشترط ،ويف هـذا كلّـه خـروج عـن النقـد .وإن تجاوز ًا املشترط إىل
َ مـن
كهـذا يقتضي اسـتعامل معلومـات تاريخيـة ،ونفسـية ،واجتامعيـة تتعلَّق
صحـة النقـد الجديـد .ففـي عصر الفلسـفة العلميـة، بسلامتها -مبـارشةًّ -
مل تكـن العلـوم اإلنسـانية ّإل يف طورهـا الطفـويل ،ومفاهيمهـا األساسـية
ليسـت ّإل مثـرة األبحـاث املتتالية أكثر منها مالحظات دقيقـة؛ أي تنقصها
38
الرزانـة العلميـة .لقـد أدركـوا ،منذ ذلـك الحني ،أن التفسيرات التـي ُبنيت
على مفاهيـم كهـذه قـد تل ّقـت ،بالوراثـة ،العطـب الرسيع.
- 1فيلامن Villemain
جـد ًا للنقـد الحديـث؛إننـا نجـد ،لـدى «فيلمان» ،مفهومـا واضحـ ًا ّ
(((
- 2تني Taine
إننـا نجـد هـذا الـدأب القائـم على التجربـة واملنهجيـة لـدى مـن طبـع
((( فيلامن ( )1867 - 1790مقال يف محسنات النقل ومساوئه 1814؛ دروس ًا يف األدب الفرنيس (.)1829 - 1828
39
بطابعـه ،يف نظـر بعضهـم ،كلّ نقـد القـرن التاسـع عشر ،ويظهـر ذلـك،
بصيغـة واضحـة ،يف هـذه الجملة« :يقترص املنهـج الحديث ،الذي أحرص
خـاص -كوقائـع ونتاجات،ّ على ا ِّتباعـه ،على اعتبـار اآلثار اإلنسـانية بنـوع
تحـدد سماتها ،وتبحـث أسـبابها ،ال أكثر .إن العلم -بحسـب هذا ِّ يجـب أن
املفهـوم -ال يديـن وال يسـامح :إنـه يعايـن ويشرح ..إنـه يفعـل مثـل عامل
النبـات الـذي يـدرس باالهتمام نفسـه شـجرة الربتقـال وشـجرة الصنوبـر،
وكذلـك شـجرة الغـار وشـجرة البتولـة :إن هـذا العلـم هـو نفسـه نـوع مـن
علـم النبـات التطبيقـي ،ال على النبـات ،بـل على املؤلَّفـات اإلنسـانية».
وبالفعـل ،إن «هيبوليـت تين»((( قـد نجح أكرث من غيره يف تربير وجود
النقـد العلمـي ،ويف رسـم مبادئـه .يجـب أن ّل نحكـم ّإل باسـم مقاييـس
موضوعيـة ،وأن نبحـث -بلا كلـل -عـن امليـزات واألسـباب ،ومـع ذلـك مل
نظاميـ ًا قليـل القدرة عىل
ّ نظريـ ًا
ّ مثاليـ ًا مشـغوف ًا بالتجريـد ،وفكـر ًا
ّ يكـن إال
املالحظـة الدؤوبـة الدقيقـة ،وال نجـد يف نقـده -بالرغـم مـن الظواهـر-
جـدي عـن السـببية
أي مفهـوم ّ مجـد بالسـببية االجتامعيـة ،وال ّ أي إملـام ٍ َّ
آليـة باليـة ،مرتبطـة-
ّ روحانيـة إىل النهايـة، يف يشء، كلّ ـرد
ُ ّ ي النفسـية؛
ملخيلـة فلسـفية.
ِّ ـة الفتي
ِّ بالثمار بشـدة-
ّ
االدعـاءات الفلسـفية :لقـد كان «تين» أديبـ ًا من باب املصادفـة .إن ّ
رد ِّ
الفعـل السـيايس ،واالجتامعي ،للسـنوات ( ،)1852 - 1850وقد أبعده عن
يحضهـا ،قـد أجبره على أن يكتـب أطروحـة ِّ دكتـوراه الفلسـفة التـي كان
طبـق فيهـا منهـج تحليـل ،ناتجـاً -مبـارشةً -مـنعـن «الفونتين» حيـث َّ
مفاهيمـه النظريـة ،هـذه املفاهيـم التـي نشـأت مـن ا ِّتصاله «بأسـاتذته يف
الفلسـفة» ،ومنهـم «سـبينوزا» ،و«هيجـل» .تنادي هـذه املفاهيم بعقالنية
مطلقـة؛ إن الكـون هـو مظهـر لفكـرة منطقيـة ،والواقـع «الذي هـو املنطق
تبعية شـديدة ،لكنهـا مرشقة،ّ الحـي» ي َّتحـد مـع املعقـول؛ ينتج عـن ذلك
ّ
((( تني ( :)1893 - 1828مقال عن الفونتني ( ،)1853مقال عن تيت ليف ( ،)1856مقاالت يف النقد والتاريخ
الفن ( ،)1882مقاالت جديدة يف النقد والتاريخ ،وهو كتاب
ّ ( ،)1858تاريخ األدب اإلنجليزي ( ،)1863فلسفة
ُن ِش بعد وفاته ،عام (.)1893
40
التامـة ملمكنـة ،ويجـب
ّ يجـب أن نجـد ،مـن جديـد ،ترابطَ هـا .إن املعرفـة
أن تسـعى هـذه املعرفـة لرتسـيخ سلسـلة اسـتنتاجية عقليـة ،بلا نقطـاع،
الخاصـة بقانـون واحـد،
ّ وذلـك بإيضـاح نهـايئ لـكلّ الوقائـع وكلّ القوانين
ميكـن أن يسـتخرج منـه -بالضرورة -كلّ أشـكال الكائـن .ولكـن ،إذا كان
هنـاك تعـادل بين التسلسـل املثـايل للمقتضيـات ،والعالقـة الواقعيـة
للحـوادث ،بين روابـط املفاهيـم وبين املوجـودات ،فإنـه من املسـتحيل
مجردة كما حاول «هيجل» :يجـب أن ننطلق َّ إعـادة بنـاء كلّ يشء بطريقـة
مـن الوقائـع ،وأن نجـد ،مـن خاللها ،األسـباب التي «تدعمها» .إن التفسير
تعرب عن الوقائـع ،أو -مبا أن
ِّ للامهيات التـي
ّ يعنـي ،حينئـذ ،أن نجـد نظامـ ًا
العامـة التي تتعلَّق
ّ والعـام ال يشـكالن ّإل واحـداً -أن نجـد الوقائع
ّ الجوهـر
العامـة على وقائـع
ّ الخاصـة ،وأن نجـد روابـط هـذه الوقائـع ّ بهـا الوقائـع
عامـة أخرى.
ّ
ويتوصـل العلم ،بواسـطة القوانني
َّ يقـول «تين» :هكـذا يعمل العـامل،
التـي يكتشـفها ،إىل األسـباب الواقعيـة؛ هكـذا يجـب أن نـدرك العـامل
اإلنسـاين .سـواء أكان موضـع البحـث إنسـاناً ،أو عصراً ،أو أثـراً ،أو
أدبـاً ،ينبغـي أن نسـتخلص العالقـات التـي تفضي إىل السـبب الجوهـري
خاصـة ،وإىل «الظـروف» أي إىل الجواهـر األخـرى ّ ملجموعـة وقائـع
التـي ارتبـط بهـا السـبب األسـايس .وت َّتفـق هـذه املتطلَّبـات النظريـة مـع
جـداً« :امللكـة الرئيسـية» ،مـن جهـة ،و«العـرق ّ املواضيـع املعروفـة
والبيئـة والزمـان» ،مـن جهـة أخـرى.
41
ذات الفروق الدقيقة واملتشـابكة ،للكائن اإلنسـاين» .ال يكفي أن «نرسـم»
الخاصة إىل حدث
ّ كما فعـل «سـانت بوف» ،بـل أن نعرف إرجـاع الحـوادث
«مـؤرخ وخطيب»،
ِّ يضمهـا ،وهكـذا إن «تيـف ليـف» هو -يف األسـاس-
ِّ عـام
ّ
وتنتـج عـن هـذه الصفـة -عـن طريـق املنطـق -كلّ صفاته األخـرى وصفات
مؤلَّفاته.
يهتـم بالجـذور النفسـية ّ هكـذا ،رغـب «تين» يف أن يضـع قواعـد لنقـد
للعمـل األديب ،و -مـع األسـف -إن هـذه الطريقة النفسـية البحـت يف فهم
العالقـات ،يف كلّ املجـاالت املعقـدة بين النزعـة النفسـية والتعبير
األديب ،قـد قادته إىل صيغ ذات سـذاجة ال تسـتطيع الصمـود ،و -بالفعل-
مهتـم بالحقيقة
ّ نفيس
ّ مل
إن املنهـج الـذي اسـتعمله ليس ،أبـداً ،منهج عا ٍ
مبهمـة ملء اإلطـار الفـارغ والنظري ّ العلميـة؛ ذلـك أنـه يعهـد إىل حدسـه
الناتـج عـن حرصـه ،بوصفـه عاملـ ًا عـامل يف املنطـق .يلزمه سـبع أو مثاين
صيـغ ،ترتبـط بصيغة أكرث جوهرية كسلسـلة معلقة بسماء ،وكل واحدة-
«تلقائيـاً» ،بينما يقـرأ آثـار
ّ كما يقـول هـو نفسـه -يجـب أن تـايت إىل الناقـد
خاصةّ -أل
ّ هـذا الشـاعر أو ذاك الـروايئ ،وهو ممسـك قلمـه بيده؛ ويجـب-
تفوتـه «هـذه الدقّـة الكبيرة يف الرؤيـة» ،وال «عـادة اختراق املشـاعر التي
تحـت الكلمات»؛ بكلمـة مختصرة :أن يقـود الحـدس الترشيح.
حسـناً .لكـن ،يف هـذه الحالـة ،مـا هـي امللكـة الرئيسـية؟ هـل هي غري
املجـردة ملجموعة انطباعات مسـيطرة؟ أليسـت ،عىل وجه ما، ّ العالقـات
جد ّيـة؟ إن هـذا النقـد لَهـو نقـد انطباعـي
اإلنتـاج الناضـج لدراسـة نفسـية ِّ
ادعـاء فلسـفي عـا ٍر مـن كلّ َّأبهـة نفسـية ،ومـن كلّ موقـف ثابـت مـن
ذو ّ
نصدق أن
ّ البد من سـذاجة توفيقية لكي مشـكلة التشـخيص النفسي .كان ّ
مختلـف الخطـوط النفسـية والنشـاطات لفـرد -سـواء أكانت أكاذيـب أدبية
أم مل تكـن -ترتبـط مبصـدر واحـد ،وواضـح.
أهـو نقـد اجتامعـي؟ «العـرق» و«البيئـة» و«الزمـان» :أمل ِ
يـأت «تين»
األوليـة لعلـم اجتماع تاريخي يف األدب؛ بسـبب عـدم توفُّر نقد بالخطـوط َّ
ٍ
بسـيكولوجي ُم ْجـد؟ إن «األشـياء الخلقيـة ليـس لهـا ،فقـط« ،تواقـع» ،بـل
ّ
42
ال مبتكـر ًا للفكـر» ،ال يظهـر ّإل يف عالقتـهلهـا -أيضـاً« -ظـروف»؛ إن «شـك ً
أوليـة هـي العـرق ،والبيئـة،
مجـردات أخـرى ََّّ مـع ظـروف أكثر شـموالً ،مـع
والزمـان :هـل يصبـح النقـد ،إذن ،اجتامعيـاً؟ ال ميكننـا أن ننكـر أن «تين»
يفتـح الطريـق نحـو النقـد االجتامعـي ،لكنـه يفلسـفه فـوراً ،حين يتعلَّـق
فلنر ذلـك -بالفعـل -عـن كثـب. األمـر بـهَ .
«مقدمـة األدب اإلنكليـزي» أن العوامـل الثالثـة التي
ّ إننـا نقـرأ يف كتابـه
عامـة يف التفكري ،ويف الشـعور» إنهاهـي موضـع بحث ،هـي «بعض طـرق ّ
«حـاالت للفكـر» .إن العرق هو «مجموعة اسـتعدادات سـيكولوجية فطرية
عامـة -إىل ميـزات تتأثَّـر باملـزاج والبنيـة الجسـمية.البيئة
وراثيـة» تضـافّ -
هـي «مجموعـة الظـروف التـي يخضـع لهـا شـعب» ،وال ميكـن فصلهـا عـن
الزمـان الـذي هـو باعـث مكتسـب «دفعـة مـن املـايض إىل الحـارض ،هـو
فكـر شـعب يف صريورته». ُ نقطـة يصـل إليهـا
إن العاملين :االجتامعـي ،والتاريخـي يعـودان ،إذن ،إىل العامـل
السـيكولوجي ،إذا كانـت -بالفعـل« -هـذه القـوى العظيمـة ليسـت ّإل
العامـة املسـتعملةّ وقابلياتهـم» .وإن األلفـاظ
ّ حصيلـة ميـول األفـراد
هـي «تعابير جامعيـة نجمـع ،بواسـطتها ،بنظـرة مـن نظراتنـا ،عرشيـن أو
والفعالـة يف اال ّتجاه نفسـه» ..هل ّ ثالثين مليونـاً مـن النفـوس املتعاطفـة
فرديـ ًا كان أم
ّ منطقيـاً ،هنـا ،مع نفسـه؟ إن جوهـر ًا «إنسـانياً»؛
ّ يبـدو «تين»
جامعيـاً ،ال يسـتطيع ،وفـق منهجـه ،أن يكـون ّإل مـن النـوع «األخالقـي».
حينئـذ ،بالنوعيـة االجتامعيـة؟ كتـب «تين» ،فيما بعد: ٍ لكـن ،مـاذا يحـلّ ،
«إن التاريـخ هـو ،يف الحقيقـة ،مشـكلة سـيكولوجية» ،و -بكلمـة أخـرى-
يجب دراسـة الفلسـفة والديـن والفنون واألرسة والدولـة ،يف عرص ما ،من
خلال منظـار العـامل النفسي ،ألنهـا «تأخـذ ميزاتهـا مـن َهيـل ،أو موهبـة
وتصرف».
َّ مسـيطرة؛ إنـه الفكـر ذاتـه ،والقلـب نفسـه الـذي فكَّ ـر ،ورجـا،
بالفعـل ،إن «تين» يربـط العاملين :االجتامعـي ،والتاريخـي بالعامـل
يتحـدد باملوهبة الرئيسـية،
َّ السـيكولوجي ،ومبـا أن العامـل السـيكولوجي
سـواء أكانـت فرديـة أم جامعيـة ،فـإن نقـده ينتهـي إىل تعميمات حدسـية
43
الضيقـة التـي ينـادي بهـا تنتهـي إىل رؤيـة
ِّ وفرضيـات مبدعـة ،والحتميـة
ّ
مجـردة للفكـر.
َّ
النظريـة الجامليـة :مـع ذلـك ،يعـود فضلـه إىل أنـه بحـث عـن رشوط
«حكـم مـن خلال الوقائـع» الـذي يلازم ،على نحـو مـا ،تفسير الوقائـع؛
ميهـد للنقـد الـذي سـيعنى باألصالـة والتعبير.
فهـو -بذلـكّ -
ال يف رشوط الحكمولكـن ،كان ينبغـي عىل «تني» أن يكون قـد فكَّ ر طوي ً
ومهمته هام،
َّ الجمايل الوضعـي ،الـذي ال يتحقَّـق إذا أدركنـا أن دور األدب
قبـل كل يشء« ،أن يعطـي مع ًنـى» لإلنسـان ،بنـوع مـا .يبقـى «تين» إذن،
أمينـ ًا لوجهـة النظـر التقليديـة التـي تقـول إن األدب يجب ،قبـل كلّ يشء،
فعليـاً -عن نظريـة جاملية
ّ «أن يخلـق الجمال» :وهكـذا ،إن أحكامـه تنتـج-
تكـون ،أحيانـاً ،ال شـعورية (وهكـذا ،يبـدو أنـه أخـذ بالقـدرة على اإلنعـاش
والحيـاة والحركـة التـي يصادفهـا لـدى الفونتين ،وبلزاك ،وسـتندال) .عىل
الفن.
ّ منهجـي يف فلسـفته يف
ّ كل حـال ،إنـه
يقبـل «تين» ،اعتبـار ًا مـن كتابـه عـن «الفونتين» ،نظريـة للجمال
الحس للفكرة».ّ مسـتوحاة ،مبـارشة ،من «هيجل»« :الجامل ،هو التجلي
حس ّـياً ،وذلـك بإبـراز
الفـن هـو ترجمـة للطبيعـة ،يجعـل معنـى الواقـع ِّ ّ إن
عامـة ،وقـد أصبحـت «طابـع ،جوهـري للموضـوع» ،فهـو ،إذن« ،فكـرة ّ
جـد ًا قـدر اإلمـكان» .لقـد سـعى «تين» ،وفـق هـذه الشروط ،إىل خاصـة ّّ
الفـن) ،وأن يرسـم مبـدأ ّ (فلسـفة كتابـه يف الفنـون أسـباب على يقيـم أن
علـم جمال «حديـث وتاريخـي ،وليـس بعقائـدي» ،ولقـد انتهـى بـه األمـر
يدعـيِاسـم املقاييـس التـي ّ يتردد -ب ْ
َّ إىل أن يصـوغ أحكامـ ًا مطلقـة .إنـه ال
أنهـا «موضوعيـة» ناتجـة عـن الواقـع -أن يطـرح املقاييـس املعروفـة التي
تسـمح بقيـاس القيمـة النسـبية للمؤلَّفـات:
املتميـز (مـا نـوع ودرجـة القـدرة على التعبير
ِّ أهم ّيـة الطابـع
-درجـة ِّ
والتفسير املوجـودة يف األثـر؟ ومـا درجتهـا؟).
مبعدة ،عـن االنطباع
فعالة أو َ
-تقـارب النتائـج (هـل هنـاك عوامل غير ّ
44
الوحيـد الذي يجـب أن ينتج؟).
-نفـع الخصائـص (هـل يسـعى األثـر إىل زيـادة املعرفـة ،والطاقـة،
والحـب؟ هـل هـو مـؤذ أم مفيـد؟).
ّ
إن هـذه النظريـة الجاملية تصـل ،يف النهايـة ،إىل التأكيد الرصيح عىل
الفـن باألخلاق» .ويف عـام ،1862يعلـن «تين» أنـه -باسـتعامله
ّ «عالقـة
طريقـة النقـد الوضعي« -كان بيـده ،دون أن يعلم ،أداة أخـرى للقياس.»..
ومجمـل القـول أن «تين» مل ميلأ ،أبـداً ،الربنامج الذي كان قـد اختطَّ ه
لنفسـه :إن موقفـه املنـادي بالنسـبية ليخفـي فلسـفة مطلقـة عميقة؛ وإن
هدفـه يبـدو كأنـه يريـد إصـدار األحـكام وفـق التفسير ،ومن خاللـه ،لكنه،
فرضيـات جامليـة ،وأخالقية ،و -أخيراً -إنّ بالفعـل ،كان يحكـم مـن خلال
معـراة مـن كلّ قيمـة
ّ خاصـة ،ينتهـي إىل انطباعيـة ّ منهجـه يف الشرح،
يوضـح املوضـوع األسـايس للعالقـات بين األثـر موضوعيـة .إن «تين» مل ِّ
واإلنسـان والجامعـات ،ال مـن وجهـة نظـر الوقائـع ،وال مـن وجهـة نظـر
معرفتهـا املمكنـة .لقـد كان أسير فلسـفة مثاليـة أبعدتـه عـن الفسـلفة
عب
الحـق ،و -مـع ذلـك -ظهر «تني» كقائد مدرسـة؛ ذلـك أنه ّ ّ املوضوعيـة
متقـدم يف النقـد.
ِّ ً
رغما عنـه) عـن ا ِّتجـاه (ربـا،
َّ
- 3برونتيري Brunetière
ادعاءاتـه ،ال يعتبر مم ِّثلاً جريئـ ًا لهـذا
إن «برونتييـز» ،بالرغـم مـن ّ
ٍ
املتقـدم .أمل ي َّتهـم «تين» بأنـه مل يحكـم بحـزم كاف ،وأنـه نيس،
ِّ اال ِّتجـاه
إىل درجـة كبيرة ،وجهـة النظـر األدبيـة البحـت ،حين قصر رشحـه على
العـرق ،والبيئـة ،والزمـان ،وامللكة الرئيسـية؟ بالفعل ،إن النقد -بالنسـبة
إىل «برونتيير» -هـو ،قبـل كلّ يشء ،أن يحكـم على أثـر ،وأن يحكـم عليـه
باعتبـاره ينقـل جوهـراً ،هـو الجوهـر «األديب» .ولكـن ،ال ينتـج عـن ذلـك ّأل
يكـون النقـد «موضوعيـاً» ،بـل العكس .إن هـدف «برونتيري» هـو -عىل وجه
الدقّـة -أن يعـارض أهـداف النقـد االنطباعـي و«الـذوق الفـردي»؛ وذلـك
45
بإقامـة «علـم نقـدي» ذي أُسـس موضوعيـة .يكفـي ّأل يكون اإلنسـان عامل ًا
ليـدرك أن «برونتيير»((( يتالعـب باملعنـى املبهـم لكلمة «موضوعـي» ،وأن
نقـده ،يك ال يكـون «ذاتيـاً» ،اليبلـغ درجـة النقـد العلمـي ،وأنـه تحـت َّأبهة
ميـوه فلسـفة عقائديـة مسـهبة يف التقليديـة. الفلسـفة الوضعيـةّ ،
االتِّجاهـات الوضعيـة :إننـا نقـرأ ،يف مقالـه الشـهري يف املوسـوعة
الكبيرة ،أن «غايـة النقـد هـي الحكـم على األعمال األدبيـة ،وتصنيفهـا،
ورشحهـا» .تبـدو لنـا هـذه الصيغـة مبتذلـة إذا مل نبحـث عما تغطّ ي ،عىل
وجـه الدقّـة .إن وظيفـة الشرح لهـي «تحديد العالقـات بالنسـبة إىل األثر،
الخاصـة لف ّنـه ،وبالبيئـة التـي ظهـر
ّ العـام للأدب ،وبالقوانين ّ بالتاريـخ
فيهـا ،وأخير ًا بكاتبـه .إن الكلمـة الهامـة هنا هـي «النـوع األديب»؛ وبالفعل
أدبيـ ًا يعبر بطريقتـه عـن هـذا «الجوهـر األديب»
ّ فـإن األثـر باعتبـاره نوعـ ًا
الـذي ينبغـي على النقـد ّأل ينسـاه .إذن ،إن نقطـة مـن النقـاط األساسـية
يوصـف منهجـه بأنـه علمـي ،هـي التـي يطالـب «برونتيير» ،مبوجبهـا ،بـأن َ
تتطـو ر وفـق قوانين ،وأن «كلّ أثـر هـو فترة أو مرحلـة َّ أن األنـواع األدبيـة
تطـور نوعـه» .وكذلـك األمـر بالنسـبة إىل األعـراق (وهـذا مـا يربهـن ُّ مـن
تقدميـة ،وتعقيـد متزايـد .هناكتتطـور وفـق مفاضلـة َّ
َّ عليـه دارويـن) التـي
وتتحول،
َّ وتتثبـت،
َّ مجـرد تغيير يف تاريـخ األنـواع ،فهي تولـد َّ تتابـع وليـس
ويوجـد بين اآلثـار ،التـي هـي من نـوع واحـد ،روابـط تسلسـلية ،يجب عىل
التطـوري» أن يجدهـا .إن رشح أثـر ما يعني دراسـة مكانه ،كنوع، ُّ «املنهـج
التطـور اإلديب؛ فدراسـة الظـروف الجغرافيـة ،واالجتامعيـة ليسـت ّإل ُّ يف
املهـم هـو أن تحسـن وضـع األثـر يف الزمـن األديب. ّ ثانويـة ،ألن
مـا «التصنيـف»؟ ومـا «الحكـم»؟ إنهام بالنسـبة إىل برونتيير مترين يف
منتهـى املوضوعيـة إذا انتبهنـا مـن جهة إىل مـا هو «الجوهـر األديب» وإىل
دور النقـد ووظيفتـه من جهـة أخرى.
((( برونتيري ( :)1907 - 1849الرواية الطبيعية ( ،)1883التاريخ واألدب ،يف ثالثة أجزاء ( ،)1886 - 1884دراسات
مادة «النقد» يف املوسوعة
عن األدب الفرنيس ،يف مثانية أجزاء ( ،)1907 - 1884تطور النقد ( .)1890انظر ّ
الكبرية.
46
التطوري يسـمح بإقامة تسلسـل األنواع «لألسـباب املامثلة ُّ إن املنهـج
(الفن .النقد
ّ التـي تجعل من تسلسـل البنيات ،الفقريات فوق الرخويـات»
االنطباعـي يف كتـاب «املقـاالت») .وكذلـك األمر يف كنف النـوع ،فإن األثر
ميكـن أن «يبتعـد أو يقترب مـن كمال النـوع» .على كل حال ،إن من شـأن
يعبر ،مبسـاعدة شـكل مـا ،عـن الوظيفـة األثـر ،كما مـن شـأن النـوع ،أن ّ
األساسـية للأدب التـي هـي ،بالنسـبة لربونتيير ،أيضـاً ،أن تحقِّـق الجامل.
جـداً ،إذ يربـط مفهـوم إنـه ي َّتخـذ عـن هـذا الجمال مفهومـ ًا كالسـيكي ًا ّ
تعبر أدبيـ ًا و«بعقـل»الجمال بفكـرة «طبيعيـة إنسـانية» ،وظيفتهـا أن ّ
يتعـرف إليهـا .وإن اآلثـار ال تقـوم هكـذا ّإل مبـا لهـا مـن عموميـة ،وليـس َّ
بحقيقتهـا املوضوعيـة أو اآلنيـة .يجب عىل النقـد ،إذن ،قبل كلّ يشء ،ان
العـام .عليه ،وهو
ّ يبرز املكتسـبات الدامئـة التـي أغنى بهـا الكاتب التراث
يراعـي الشروط التـي ال ميكن لألثـر باعتباره «أدبيـاً» ،أن يخالفها ،أن يحكم
التطور األديب.
ُّ على قيمتهـا مـن ناحية تصنيفها يف النـوع ،وعىل النـوع يف
ال وتجريـداً .إنهألجـل هـذا يلجـأ إىل عقلـه ،إىل ماهـو فيه أكثر ثبات ًا وشـمو ً
العام
ّ مفسر ًا للمتطلَّبـات املجـردة لإلنسـانية يدافـع عـن العـرف باعتبـاره ِّ
لإلنسانية.
نتعـرف ،هنـا ،بالفعـل ،إىل السمات َّ العقائديـة :كتـب يقـول :إننـا
املميـزة للفلسـفة املطلقـة ،وكتـب يقـول« :هنـاك حقبـة أدبيـة»؛ ولهـذا ِّ
يسـميه
ّ ملا الشـهري ِّل
ث املم هـذا وإن ممكنـة»، النقديـة املوضوعيـة «فـإن
«تيبوديـه» «نقـد األسـاتذة» يأمـر ويبنـي ويحكـم باسـم اإلنسـان والعقـل
والتقليـد والجمال .قـد ال يسـتند على مطلـق ميتافيزيقـي «ولكـن على
يحـرم النقـد،
ِّ يتلخـص بالفكـرة الربجوازيـة للتقليـد« :أن َّ مطلـق تاريخـي،
الحق يف
ّ الحـق يف أن ينتسـب إىل التقليد؛ هذا يعنـي حرمانه ّ ومينعـه مـن
الوجـود» .مـن هنـا ،يأيت اليقين الهادئ للـذي «يعرف» أنه يقني يسـمح له
فردياتهم الحقيرة ،وأن يرفض، ّ ـاب الذين يـروون يعـرض للسـخرية الك ّت َ ِّ أن
للفـن».
ّ «الفـن
ّ باسـم اآلداب واألخلاق ،نظريـة
املعتد بنفسـه!
ّ كـم مـن معايـب نجدهـا ،يف النهاية ،لـدى هـذا الرجل
47
لتطـور األنـواع ،التـي ُنسـخت( ،ال نعـرف
ُّ تعسـف هـذه النظريـة ُّ أشـد
ّ ومـا
ملـاذا) ،عـن فلسـفة «دراويـن» الفرضيـة! إننـا نعجـب -أيضاً -من أنـه ،وقد
بحـد ذاته ،قد
ّ تشـبع بنـوع مـن الوضعيـة ،قد غاب عنـه أن موضـوع النقد، َّ
للفـن أم ال ،بـد ً
ال مـن أن يقبلهـا ّ مطلـق حقائـق هنـاك كان إن معرفـة يكـون
ادعائـه ،بعـد أن اكتشـفنا -بطريقـة بلا براهين .وأخيراً ،إننـا نحكـم وفـق ِّ
تطـور النقـد -تطابقـ ًا بين املوضـوع والوظيفـة ،وأنه
ُّ متناقضـة ،مـن خلال
كان هـو نفسـه الصيغـة التي شـعر النقد فيها -أخيراً ،وإىل األبـد -بوجوده
وبطريقته.
أتبـاع الفلسـفة املطلقـة لربونتيير :أسـهب تالميذ «برونتيير» يف ميوله
املطلقـة أكثر مـن إسـهابهم يف ا ِّتجاهاته العلميـة الغامضة.
وهكـذا ،إن منظّ ـر ًا مثـل «ريـكاردو»((( قـد فضـح معايـب النقـد العلمي،
ال إمكانيـة النقـد العقائـدي وقواعـده .على الناقـد أن يكـون مطـو ً
َّ ثـم حلَّـل
«الناطق باسـم اإلنسـانية» ،وهذا يعني (العودة إىل نيزار)« ،ان عىل الناقد
ليعبّ فرنسـيا ليكون إنسـانياً» .إن األثر األديب «قـد ُو ِجد
ًّ الفرنسي أن يكـون
«الحـق هـو الشرط الضروري للجمال» ،و«األخلاق هـي ّ عـن اإلنسـانية»،
العالمـة واملقيـاس لجمال األثـر» .كذلك ،إن على الذوق «أن يبـذل جهد ًا
ليتسـاوي مـع الحقيقـة والجمال والخري املطلـق» ،وال يسـتطيع الناقد أن
متحيز».
َّ إنسـاني ًا وغير
ّ «إل إذا أصبـح ،بفضـل التقليد، حاكما كفـؤ ًا ّ
ً يكـون
يعـود «رنيـه دوميـك»((( ،من خلال «بروننيير» ،إىل «الهـارب» أكرث من
متحمسـاً عن الذوق الكالسـييك-
ِّ عودته إىل «نيزار» .وهو -باعتباره مدافع ًا
يعلـن عـداءه العنيـف لـكلّ تجديـد ،يبـدو لـه متعارضـ ًا مـع وضـوح األدب
الفرنسي والقيـاس التقليدي.
((( ريكاردو :كتاب النقد األديب ،دراسة فلسفية :مقدمة عن برونتيري (.)1896
((( رنيه دوميك ( :)1937 - 1860دراسات يف األدب الفرنيس (.)1908 - 1896
48
- 4هانكان((( Hennequin
الجدي اعتبـار ًا مـن «هانكان»؛
ّ أخـذ مفهـوم «النقـد العلمـي» مضمونـة
الخاصـة بـه .ومـن املؤسـف أن «هانـكان» كانّ ومـن هنـا ظهـرت معضالتـه
منظِّ ـراً ،ال مامرسـاً للنقـد ألنه قد غرق يف نهر السين ،وهـو يف الثالثني من
عمـره ،يف السـنة نفسـها التـي ظهر فيهـا كتابه «النقـد العلمـي» .وبالفعل
إن النقـد العلمـي يطـرح مشـكلة الوظيفـة واملوضـوع :هـل يعتبر األثـر
وسـيلة للوصـول إىل معـارف مـن النـوع التاريخـي ،والنـوع السـيكولوجي،
والنـوع التاريخـي ،أم -على العكـس -أن األثـر ،وقـد اعتبر كنهايـة ،ميكـن
أن نسـتعمل معـارف غير أدبيـة كأداة لتوضيحه؟ إنه يطرح -أيضاً -مشـكلة
املنهـج :هـل ينبغـي أن نسـتخلص عنـارص التفسير السـيكولوجي مـن
مضمـون األثـر أم مـن سيرة الكاتـب؟ هـل ينبغـي أن نذهـب مـن األثـر إىل
اإلنسـان ،أم مـن اإلنسـان إىل األثـر؟ّ ،إل أن لـ«هانـكان» مفهومـ ًا عـن النقد
يبشر مبناهـج نـواح كثيرة ِّ
ٍ يجيـب ،بوضـوح ،عـن هـذه األسـئلة .إنـه مـن
حديثـه ،وقـد أشير إىل تأثيره يف املحلِّـل النفسي «بـودوان» ،أضـف إىل َ
ذلـك ،تأثيره يف «بـول بورجيـه» الـذي كان شـديد القـرب منـه.
األثـر والقـارئ« :التحليـل االجتامعي» :يبدأ «هانكان» ،وقد أعلن نفسـه
نظريتـه الضعيقـة للسـببية التاريخيـة،
َّ تلميـذ ًا لـ«تين» ،بـأن يلومـه على
واالجتامعيـة؛ فالبيئـة والزمان ال ميكـن تحديدهام بطريقة بسـيطة ،خالية
وإل حدثـت مامثلـة كاملـة يف اإلنتـاج األديب ،فكـم مـن مـن التناقـضّ ،
فنانين متناقضين مـع بيئتهـم! فليـس مـن املجـدي ،إذن،أن ننطلق رأسـ ًا
والعامة ،ألثر مـا .إن التأثري االجتامعي
ّ املميـزة :االجتامعية،
ِّ مـن الطوابـع
يوجـد ،طبعـاً ،ولكـن لكي نجـده يجـب أن نأخـذ بعين االعتبـار مجموعـة
القـراء ،واملعجبين باألثـر ،وأن نسـعى لنعـرف إىل مـن ي َّتجـه .هـذا هـو
ّ
التحليـل االجتامعـي الـذي يقرتحـه «هانـكان».
((( هانكان ( :)1888 - 1858النقد العلمي ( ،)1888دراسات يف النقد العلمي ( ،)1888كتاب مفرنسون (.)1889
49
ميس ،من ّ مـس ،من ناحية ،اإلنسـان الذي أبدعـه ،فإنه «كل أثـر ف ّنـي ،إن َّ
ناحيـة أخـرى ،مجموعة النـاس الذين يؤ ِّثر فيهم» .وهكـذا ،إن الرواية ُتقَ َّدر ،ال
تعبر عنها« ،ولكن بسـبب عدد مـن الناس بسـبب الحقيقـة املوضوعيـة التـي ِّ
وتعبر عـن أفكارهـم»« ،إن الذيـن ،وهـم يقـرأون ّ تح ّقـق حقيقتهـم الذاتيـة
جـد ًا عليهم ،هم كتابـاً ،يهتـ ّزون نشـوةً ،أن يجـدوا فيـه األفكار التي هـي غريزة ّ
أوالً ،هـذه األفكار».
اإلخـوة بالـروح لإلنسـان ،الـذي تفتحت يف كتبـهَّ ،
«كما ميكـن لكاتـب ّأل يكـون متقاربـ ًا ّإل مـع «قسـم» مـن «الجسـم
يتردد يف أن
َّ ـدر ّإل بعـد موتـه :إن «هانـكان» ال
االجتامعـي» ،بـل قـد ال ُيقَ َّ
وتطورهـا عالقاتها
ُّ تنوع الطبقـات االجتامعية، ُيرجـع سـبب ذلك ،هنـا ،إىل ُّ
مبناطـق نجـاح األثـر.
األثـر واإلنسـان« :التحليـل السـيكولوجي» :يبـدو لنـا املفهـوم الـذي
يعب عن ي َّتخـذه «هانـكان» ،عـن النقـد السـيكولوجي ،أقـلّ ابتـكاراً؛ فاألثـر ّ
كاتبه ،ولسـنا بحاجة إىل سيرة حياة لنسـتطيع أن نعيد بناء بنيته العقلية.
«إن التحليـل السـيكولوجي» يقتصر -بالفعـل -على «الصعـود مـن الـدالّ
العـام .وهكـذا،
ّ إىل املدلـول»؛ وذلـك باسـتعامل معطيـات علـم النفـس
التـام «بتالحم يف
ّ املكـون بفكـرة محسوسـة ،والرتكيب ّ سـنفس األسـلوب
ِّ
قابليات
ّ وسنرجع نوع الشـخصيات واملوضـوع إىل ِ ُ ضيق ومتتابع»
األفـكار ِّ
الكاتـب ورغباتـه ،واالنفعـاالت املوصوفـة إىل االنفعـاالت التـي شـعر بها.
موضـوع النقـد ووظيفتـه :ينتـج عن ذلك أن «هانـكان» يعترب النقد -بوجه
خـاص -وسـيلة لتحليـل حـاالت نفـس لـدى فـرد أو يف بيئـة .إننا نسـتطيع أنّ
نتسـاءل لـو قبلنـا هذه النظـرة :أال تسـمح املعرفة املسـبقة لظـروف األثر،
واقعيـة لألثـر األديب؟ على كلّ حـال ،إن حركـة جدليـة قـد
ًّ بإيضـاح أكثر،
ميدنا باملعلومات
خاصـة أن األثر وحده ال يسـتطيع أن ّ ّ تكـون أكثر منطقية،
عـن نفسـية الكاتـب .إن علـم النفـس التحليلي قـد أدرك ذلـك .وهنـاك كثري
مـن التحفُّظـات حـول علـم النفـس االجتامعـي الـذي ورثـه «هانـكان» عـن
يعب بهـا الكاتب عـن رؤية
تنـوع الطرائـق التـي ِّ
«تين» ،والـذي منعـه أن يـرى ُّ
الحـي ،والشـاهد عليها.
ّ الخـاص ملجموعـة من النـاس ،هو رسـولها
ّ العـامل
50
- 5بورجيه Bourget
على كل حـال ،أن يسـتخدم -وفـق طريـق ّ لقـد حـاول بورجيـه(((،
منهجيـة -تحليلاً اجتامعيـ ًا مامثلاً ملـا اختـاره «هانـكان» ،لكـن مثّـة كثير ًا
مـن األحـكام املسـبقة املذهبيـة قـد أبعدته ،يف البـدء ،عن ا ِّتخـاذ موقف
وضعـي بحـت.
ّ
نـص يعـود إىل عـام ،1882 املوقـف النسـبي :نسـتطيع أن نقـرأ ،يف ّ
مـا يـأيت« :ال يتحكَّ ـم الن ّقـاد باإلنتـاج األديب أكثر ّمما يتحكَّ ـم الفيزيائيـون
مقدمـة كتابـه (املقـاالت) ،عـام ،1883أن بإنتاجـات الحيـاة» .وكتـب يف ِّ
الفـن مل تحلّـل إال بقـدر مـا هـي إشـارات». ّ «طوائـف
يدخـل نقـد «بورجيـه» ،إذن ،يف الحركـة العلميـة .إنـه يقترب مـن
«هانـكان» أكثر مـن اقرتابـه مـن «تين» .وبالفعـل ،إن الحركـة التفسيرية
خاصـة ،مـن األثـر إىل املعطيـات النفسـية ّ ت َّتجـه ،يف نقـد «بورجيـه»
-خاصة-
ّ يهتـم
ّ االجتامعيـة؛ ولهـذا ال يكاد يشير إىل شـخصية الك ّتـاب ،بل
«مـؤرخ الحياة األخالقية
ِّ يقيم نفسـه
بالقيمـة االجتامعية لألثر :أمل يشـأ أن ِّ
خلال النصـف الثـاين من القرن التاسـع عرش» .مبـا أن «اآلثار هي الوسـيلة
األكثر فاعلّيـة لنقـل اإلرث السـيكولوجي»؛ ففيها «قدرة عمل مسـتقلّة عن
الكاتـب نفسـه ،تكمـن يف دعايـة فكريـة ،وعاطفيـة ،يختلـط فيهـا املنطـق
العميـق ،إذا نحـن وضعنـا -معـاً -الكتـب التـي كانـت شـائعة خلال فترة
واحـدة؟».
-عمليـاً -هـذا املنهـج يفّ مذهـب بورجيـه :لقـد اسـتخدم «بورجيـه»
التحليـل النفسي االجتامعـي ،ليكشـف (تأثير ًا واحـد ًا متشـامئ ًا عميقـ ًا
إمـا إىل االنفعاليةومسـتمراً» لـدى معارصيـه ،وتعود أسـباب هذا التأثير؛ ّ
ّ
الحـب املعارص ،وعجـزه تحت ضغط ّ فسـاد إىل أو الكونيـة، الحيـاة أو إىل
((( بول بورجيه ( :)1935 - 1852مقاالت عن علم النفس املعارص ( ،)1883علم اجتامع وأدب ( ،)1906صفحات
يف النقد واملذهب ( ،)1912دراسات وصور صفحات جديدة يف النقد واملذهب (.)1922
51
و-ربـا -إىل الصراع
َّ الفكـر التحليلي ،أو إىل التأثير الـذي أحدثـه العلـم،
بين الدميوقراطيـة وال ّثقافـة الرفيعـة ،أخيراً .فلنالحظ أنه ال يذهـب ،أبداً،
إىل األسـباب العميقـة؛ أي األسـباب «االجتامعيـة» الحقيقيـة القامئـة يف
تلخـص ،يف رأيـه مجموعـة «عـدم التوافـق بين اإلنسـان والبيئـة» التـي ّ
خاصة نحو هذا الكشـف َّ أسـباب هـذه «األزمة األخالقيـة» .إن انتباهه م َّتجه
عـن «املـرض التشـاؤمي» باسـم أوضـاع روحيـة أو مسـيحية ،قـد تنتـج عن
نقديـة.
ّ وضعيـة
ّ عقائديـة أخالقيـة أكثر مما تنتـج عـن فلسـفة
على الناقـد أن «يبـذل جهـد ًا ليسـتخلص من التجربـة والتاريـخ قوانني
يـؤدي التحليـل األديب ،إذن ،إىل التحليـل ّ صحـة املجتمعـات»؛ وهكـذا ّ
يـؤدي ،بـدوره ،إىل «التحليـل السـيايس» .وكذلـك «إن ِّ الـذي االجتامعـي
الديانـة املسـيحية هـي ،يف الوقـت الحـارض ،الشرط الوحيـد والضروري
للصحة والشـفاء» ،وإن «بورجيه» الذي كان يسـعى ،منذ عام ،1902ليأيت ّ
مـرب
ِّ يكونـوا أن ـاب ت
ّ الكُ مـن يطلـب التقليـدي»، املذهـب يف «مبشـاركة
الفكـر ،وأن يب ّثـوا األفـكار الصحيحـة والحسـنة« :هـذه هـي الخدمـة التـي
نقدمهـا »...و-أخيراً -قـد يكـون هـذا نوعـ ًا مـن «النقـد امللتـزم».
يجـب أن ِّ
52
Anatole France
أناتول فرانس
1924 – 1844
André Gide
أندريه جيد
1951 – 1869
الفصل الخامس
االنطباعية
ّ
55
تقص بأنملَ هـذا املوقـف؟ لقـد رأينـا كيـف أن املوضوعيـة العلميـة ال ّ
مفسرة ،ثقيلـة يف كثير مـن األحيـان ،وأن تنتهـي بأوضـاع تعمـل بوسـائل ّ
االنطباعيين يكرهـون التص ُّنـع قبـل كلّ يشء. ِّ خاصـة .غير أن
ّ عقائديـة
تجمعـت بصبر بـل ذكريـات مـن قـراءات، موادهـم ليسـت بطاقـات قـد َّّ إن
طيـب املعشر .إن منهجهـم هـو ّأل احتفـظ بهـا -بشـغف -إنسـان مثقَّـفِّ ،
االنطباعيين
ّ قبليـ ًا مريبـاً .ثـم إن
يكـون لهـم منهـج ،فـكلّ نظـام يبـدو لهـم ّ
يكرهـون -أيضـاً -الريـاء؛ إنهـم يقولـون :لنكـن رصيحين :أليـس كلّ نقـد-
-بحر ّيـة -هـذا
ِّ بالفعـل -انعكاسـ ًا لألثـر ،مـن خلال النقـد؟ وملـاذا ال نقبـل
الوضـع؟
ويعبر «لوميتر» عن وجهـة النظر هذه ،يف وضـوح« :إن النقد؛ منهجي ًا ِّ
يتوصـل ّإل إىل تعريـف
َّ ال عاءاتـه، اد
ّ كانـت ومهما منهجـي، غير كان أم
دو َن الكاتب نفسـه
أثر ف ّني ،فيه َّ االنطبـاع الـذي ُي ِ
حدثـه فينـا ،ويف زمن مـاٌ ،
االنطبـاع الـذي تل ّقـاه مـن العامل ،يف سـاعة ما.
فلنحـب الكتـب التـي تـروق لنـا»..؛ ذلـك أن
ّ ومبـا أن النقـد هكـذا،
االنطباعيين -وهـذا هو السـبب الثالـث -اليريـدون أن يرفضوا لـذّ ة القراءة:
يضيـع معنـى املتعـةيفسر ويحكـم ،قـد أوشـك أن ِّ إن النقـد ،وقـد أراد أن ِّ
الجامليـة ،وهـذه املتعـة جوهريـة ،يف نظرهـم؛ من هنـا يأيت نـوع من لذّ ة
الحـواس ،التـي هـي أسـاس النطباعيـة.
انطباعي متالحم؟
ّ ولكن ،هل ميكن -ح ّقاً -أن يوجد موقف
نسـتطيع ّأل نقبـل تربيـر «لوميتر» الـذي ينطـوي على كثير مـن
السفسـطة ،بـل نسـتطيع بـأن نجيبـه بـأن االنطباعيـة ،وهـي أبعـد مـن أن
تكـون هوى سـاذجاً ،تسـتخدم ،دامئـاً ،مقاييس ورشائـع أو قوانني مقبولة
يف الوسـط األديب ،أو االجتامعـي؛ وتلـك هـي خطيئـة بـارزة يف الخيانـة.
أضـف إىل ذلـك أن االنطباعيـة الكاملـة قد تصبـح مبالغة يف الدقَّـة .إال أننا
(يتـم هـذا العمل، ّ لنكـون منهـا وحدة
ّ بقـدر مـا نربـط االنطباعـات الدقيقـة
الحسـية
ِّ على كلّ حـال ،عفويـ ًا أو عمـداً) ندخل وظيفة فكرية تتجاوز اللذّ ة
األدبيـة املحـض.
56
ذاتيـ ًا بحتـاً ،قـد ا َّتخـذ أشـكا ً
ال إن النقـد االنطباعـي ،وقـد أراد أن يكـون ّ
سـنميز جانـب اللذّ ة ،وجانـب التفرقة، ِّ بعـدد األفـراد الذين ميارسـونه .إننا
والبـد من أن
ّ و-أخيراً -جانـب الرنجسـية ذات املظهـر الخالـد والضروري،
نقـر بذلك.
ّ
((( جول لوميرت ( :)1914 - 1853نرش عدد ًا كبري ًا من املقاالت التي جمعت تحت عنوان (املعارصون) ،يف
خمسة مجلَّدات ( .)1899 - 1885ويف انطباعات عن املرسح 6مجلدات ( ،)1920 - 1888ومنذ عام ( )1907نرش
دراسات عن روسو ،فينيلون ،وراسني ..وغريهم.
((( أناتول فرانس ( :)1924 - 1844كتب لجريدة «الزمن» مقاالت جمعت يف أربعة مجلَّدات ،تحت عنوان
«الحياة األدبية» ( .)1894 - 1888كام أن هناك دراسات نقدية شتىُ ،جمعت يف كتاب «العبقرية الالتينية»
(.)1917
57
والفن .يقول «أناتـول فرانس»« :إن اللـذّ ة التي يعطيها
ّ ويعتمـد على اللـذّ ة
األثر ،هـي املقياس الوحيـد لقيمته».
ندعـي تحويـل النقـد إىل خيانـات رضوريـة :قـد يكـون مـن املجازفـة أن َّ
متفرقـة ،دون نظريـة أو كيان ،وإن «لوميتر» و«فرانس» ِّ مجموعـة عالمـات
مفسر -يحكمان -بالفعـل -مـن خلال مجموعـة -وإن مل يكـن لهما نظـام ّ
األول ،ارتبـاط بقيـم تقليديـة وظائـف مـن السـهل متييزهـا .إنهـا ،عنـد َّ
تقليديـة للـذوق الكالسـييك والفرنسي؛ هـذا الـذوق الـذي ميلي عليـه أن
أي ُيديـن «ايبسـن» وعـدد ًا كبير ًا آخر من كُ ّتاب الشمال ،إذ مل يجـد لديهم ّ
الرمزيين وك ّتاب ِّ يشء جديـد يضيفونـه إىل األدب الفرنسي ،أو نفـوره مـن
يهـددوا وزن الشـعر يتورعـوا عـن أن ِّ أواخـر القـرن التاسـع عشر الذيـن مل ّ
ُّ ً
وتقبلا لألفكار تحـرر ًا
ُّ أمـا «أناتـول فرانـس» فإنـه أكرث الفرنسي ،وإرشاقـهّ .
الرمزيين ،يعتـذر عـن نقدهـم ِّ الجديـدة ،فمـع أنـه مل يفهـم ،هـو -أيضـاً-
يدعـي، األقـل ،وميتنـع عـن إدانتهـم .إنـه يعطـي انطباعـه ،دون أن ّ على َّ
أبـداً ،أنـه على صواب ،لكن مجمـل نقده يقوده -بالرغم مـن كلّ يشء -إىل
ضـد دعـاة الحـرص على الحفـاظ على القيـم الكالسـيكية وحقـوق الـذكاء ّ
تام ًا
املدرسـة الواقعيـة الجديـدة (مثل «روسـني»)الذين قد حرمـوا حرمان ًا ّ
مـن موهبـة القـدرة على التجريد».
هنـاك رضورة أخـرى ،باإلضافة إىل رضورة وجود نـوع من النظرية ،وإن
كانـت ضمنيـة ،هـي رضورة التأليـف ،والتنظيـم ،والتجريـد؛ مـن هنـا ينتـج
جليـاً ،لـدى «جـول لوميتر»
االبتعـاد عـن االنطبـاع الصرف ،ويظهـر هـذاّ ،
الـذي ال يختلـف نقـده كثيراً ،يف مخطَّ طـه ومنهجـه ،عـن نقـد «النسـون»،
ويهـدف نقـده ،يف الواقـع ،إىل نـوع مـن املوضوعيـة يف وصـف اآلثـار.
أمـا بالنسـبة إىل «فرانـس» فإنه يبتعـد -أيضاً -عن املدرسـة االنطباعية
ّ
مجرد لذّ ة القراءة ،وأن يجد يف
َّ من أبعـد إىل يذهب أن يف برغبتـه البحـت،
دراسـة الكتـاب أدا ًة لفهـم اإلنسـان على نحو أوسـع ،وأن يبحـث يف الكتب
عـن «كلّ أنـواع األرسار الجميلـة ،عـن الناس ،وعن األشـياء»؛ يقول إنه من
الذيـن ليسـوا براضني ،لكنهم قلقون بسـبب قراءاتهـم .إن االنطباعية لديه
58
تهـدف إىل الفلسـفة اإلنسـانية ،فهـو يأخـذ منهـا عمقـ ًا أكثر ،لكنـه يخـون
نفسـه ،يف الوقت ذاته.
- 2انفصام أم تعاطف؟:
رميي دو غورمون
التحررية ،واملدرسـة
ُّ يعتمد نقد «دو غورمون»((( عىل كلّ من املدرسـة
حـد سـواء .لكـن مواقفـه أكثر إلحاحـاً ،وهـي
االرتيابيـة ،والنسـبية ،على ّ
جذرية.
ّ تقـوده إىل اسـتنتاجات أكثر
حذره
َ أي يقين ،بالنسـبة إليه ،فهو َي ْحذر مـن كلّ يقني
يسـتحيل وجـود ّ
ادعـاء مبعرفـة يشء مـا؛ فهـو ،إذن ،يقبـل كلّ األفـكار مؤقتـاً ،إىل
مـن كلّ ِّ
يـؤدي به أن يناقض نفسـه.
أن يظهـر حـدث جديد ّ
يتـذوق كلّ األفـكار ،على نحـو متتـالٍ ،دون أن يتوقَّـف عند
َّ إنـه يريـد أن
إحداهـا؛ وهـذا يعنـي أن يدفـع بالفلسـفة االنطباعيـة إىل أقصى حدودها.
ّإل أنـه -مـع ذلـك -مل يـرد أن يكـون ناقـد ًا انطباعيـ ًا مـن نـوع «لوميتر»،
و«فرانـس» اللذيـن ي َّتهمهما بالسـطحية .ويف الواقـع ،إن نقـده ال يسـتند
يعرفـه بأنـه
الحس ّـية :إن أثـاره متجيـد رصيـح للـذكاء الـذي ّ ِّ على اللـذّ ة
قـدرة على التمييـز .فهـو يقترح لتج ُّنـب كلّ «يقين» ،وكل لغـة سـاذجة
بحقيقـة مطلقـة ،أن يفـكِّ ك التداعـي املألـوف الـذي يجري حـول الكلامت،
املهمة
ّ رشك العادة .يقـول« :إنوأن يحـذف النظـام امل َّتفـق عليـه لتج َّنـب َ
السـامية للنقـد ،ال تقتصر على زرع الشـكوك ،فقـط ،بـل يجـب أن تذهـب
إىل بعـد مـن ذلـك ،يجـب أن تهـدم ،وأن تحـرق .إن الـذكاء هـو أداة ممتازة
للنفي».
((( رميي دو غورمون ( :)1915 - 1858النزعات األدبية ( ،)1927 - 1904النزعات الفلسفية ( ،)1959 - 1905كتاب
االقنعة ( ،)1896انظر كتاب ج .ربيس «رميي دو غورمون» (.)1940
59
إن هـذه ،يف الحقيقـة ،فكـرة من أفـكار الشـباب ،وإن «دو غورمون» مل
-عامـة -متثِّـل امليزات
ّ ميـارس ،يف الواقـع ،هـذا النقـد املحـرق .فكتاباتـه
املألوفـة للمدرسـة االنطباعيـة؛ إنهـا مجابهـة كتـب مـع األنـا« :لنأخـذ هذا
ولنر :هـل يـريض ذكاءنـا؟ وهـل يحملنـا على األثـر ،حديثـ ًا كان أم قدميـاًَ ،
التفكير؟ وهـل يؤثّـر يف إحساسـنا ،ويبعـث فينـا رغبـات وأحلام ،ويـريض
مثلنـا األعلى يف الجمال؟».
إن أصالـة «غورمـون» يف مـكان آخـر ،فقـد اسـتخلص مـن فكـرة عـدم
يـر
وجـود جمال مطلـق ،وأن كلّ يشء نسـبي ،هـذه النتيجـة التـي مل َ
الخاصة،
ّ «لوميتر» و«فرانـس» كلّ أبعادهـا ،وهي أن لكلّ مؤلِّف شـخصيته
يكـون لنفسـه فكـرة شـخصية عـن الجمال ،وأن النقـد ميكن وأن كلّ كاتـب ّ
تنبـأ «غورمـون» ،حين أرجـع فكـرة أن ُيفهـم كتفسير َ
ملثَـل كلّ فـرد .لقـد َّ
النسـبية للناقـد ،عـن األثـر املـدروس ،بالنقـد القائـم على الفهـم الـذي
يسـعى إىل إيجـاد القانـون الداخلي ،وإدراك مركـز تعبير املؤلِّـف.
(((
- 3نقد نرجيس :أندريه جيد
وجـد «جيد» نفسـه مسـوق ًا إىل مامرسـة النقد اإلنطباعـي ،وهو الداعي
إىل عبـادة الـذات ،والخصـم اللدود لـروح النظام الذي طاملـا تنقَّل ،حرص ًا
تعرضـ ًا
ُّ ٍ
موقـف إىل آخـر ،ولقـد كان «جيـد» أقـلّ منـه على الصـدق ،مـن
لخيانتـه مـن الذين سـبقوه.
و-بالفعـل -يؤكِّ ـد هـو نفسـه ،يف كتابـه «دستويفسكي» «أن هـذا
الخاصـة» ،ويعلـن
ّ ليعبر عـن أفـكاره
ِّ الكتـاب ليـس ّإل ذريعـة ا َّتخذهـا
ربـا أمكننـا
أنـه كتـب «كتـاب نقـد ،واعرتافـات معـاً» .إنـه نقـد «مناسـبة» َّ
ادعاءات (- )1903ادعاءات جديدة ( ،)1911دستويفسيك ( ،)1923رحلة إىل ((( أندريه جيد (ِّ :»)1951 - 1869
الكونغو ( ،)1927مقال عن مونتاين ( ،)1929لنكتشف هرني ميشو ( ،)1941الرجوع إىل مقدمات كثرية كتبها
خاص ،فيجب مراجعةّ أما عن نقد «جيد» ،بشكل
(عن بودلري ،وستندال ،وتوماس مان ،وشكسبري ..وغريهم)ّ .
كتاب «أندريه جيد» ،ملؤلِّفه مارك بيكبدر ( .)1954صدر له منشورات عويدات كتاب «قوت األرض» ،ورواية
«مزيفو النقود».
60
ليتوسـع يف فكـرة عزيـزة عليـه ،والكتشـاف رؤيـة بعيـدة َّ القـول :مناسـبة؛
املـدى .وهكـذا ،يجـدر بنا ّأل نطلب مـن «جيد» منهجاً ،بـل غياب املنهج:
الشـجاعة يف أن ننسى ،لفترة مـا ،كلّ مـا نعـرف أو نعتقـد معرفتـه،
مـرة أخـرى ،إىل املؤلَّفـات واملعضلات ..وبديهـي أنـه أكثر وأن ننظـرّ ،
عب -ح ّقـاً -عن مجموعـة من األحـكام ،وأعاد يدعـي .لقـد ّ
مما ّ موضوعيـة ّ
النظر فيها ،يف كثري من األحيان ،ونقَّحها مجازف ًا بأن يناقض نفسـه ،وهي
أحـكام تتعلّـق بـاألدب املعـارص ،بقدر تعلُّقهـا باألدب الكالسـييك واألدب
القديـم ،وغالبـ ًا مـا تكـون على شـكل انطباعـات أو ليـس هـذا عالمـة على
«جيـد» أن نجـد أفـكار ًا شـديدة الحدة عـن «راسين» و«الفونتني» «حر ّيـة» ّّ
مـن خلال مالحظاتـه يف كتابـه املشـهور «رحلـة إىل الكونغـو»؟ ويبدو أن
عامـة ،املنثورة هنـا وهناك ،قيمـة موضوعية، «جيـد» قـد علَّـق عىل آرائـه ّ
خاصـة قد أوحت بهـا إليه .عىلّ وإن كان مثّـة مناسـبات شـخصية وأوضـاع
الفـن ،وأن مفهومـه
ّ كل حـال ،مـن الثابـت أن «جيـد» قـد أعـاد النظـر يف
الفـن ال ينسـخ الطبيعـة ،وال أقبـل
ّ شـاء أم أىب ،يف نقـده« .إن
َ لـه قـد أثَّـر،
الفـن أن يربهـن»« ،إن
ّ «الفـن» «ليـس هـدف
ّ ّإل شـيئ ًا واحـد ًا غير طبيعـي:
أولويـة
ّ الفـن اإلرغـام:
ّ ال يكـون مغلقـاً»« ،يسـتوجب العمـل الف ّنـي يجـب أ ّ
الشـكل» .إن كلّ هـذه الصيـغ هـي -بالطبـع -رضورة تقـود نقـده .إننـا ال
ُندهـش ،يف هـذه الظـروف ،مـن أن تكون بعـض مقاالته ،كالتـي نرشها يف
(املجلّـة البيضـاء) ،دراسـات تتجـاوز املذهـب االنطباعـي البحـت.
ال قـد بقـي ،فهـذه «املوضوعيـة» ،أليسـت مظهـر ًا ال أن مثّـة شـك ً إ ّ
«جيـد» ،سـواء مـن جوهـره أو مبدئـه ،أن يعطـي لنفسـه -حسـب أراد بـه ّ
ومتحيزاً ،بـل أن يكون -أيضاً-
ِّ الضرورة -أن يكـون ،ليـس ،فقط ،موضوعي ًا
متحيـزاً؟ يجـب أال ننسى ،أخيراً ،أن «جيـد» بـل مل يـردِّ نظاميـاً ،قاسـياً،
وأل يـدرس مؤلَّفـات اآلخريـنال لنفسـهّ ،(نظريـاً ،على األقـلّ ) إ ّ
ّ أن يكتـب
«ادعـاءات»،
ّإل ليبحـث عـن ذاتـه؛ لهـذا إن رسـائله لـ«أنجيـل» يف كتابـه ِّ
هـي -بالفعـل -سيرة حيـاة فكريـة ،كتبهـا من خلال نقـده للكتـب؛ ولهذا
السـبب يجـد نقـد «جيـد» أفضل تربير لـه يف «املذكِّ ـرات» ،ولكـن :أليس
هـذا ،إذن ،نفيـ ًا للنقـد؟
61
- 4االنطباعية الخالدة
التمسـك بالحرفيـة ،فـإن اإلنطباعية هـي رضورة، ُّ مهما كانـت صعوبـة
شـعر بهـا الن ّقـاد دامئـاً ،فحين يكـون الناقـد مرسفـ ًا يف املنهجيـة ينتهـي
لتفسر
َّ بـه األمـر إىل أن يفلـت منـه الجوهـر ،وينسى أن الكتـب مل تكتـب
مـن جهـة أسـبابها الخارجـة عنها ،بـل لتو ِّفر انطباع لـذّ ة نفسـية أو فكرية؛
انطباعيـون ،يف
ّ منهجيـةً ،هـم
ّ أشـدهم
ّ و-بالفعـل -إن كلّ الن ّقـاد ،حتـى
ناحيـة مـا .ومهما كان األمـر ،فـإن اإلنطباعيـة قـد أخـذت ا ِّتجاهين:
يلح عىل عدم الصحافيـون :إن اإل ّتجـاه ّ
األول ،وهـو اال ِّتجـاه الصحـايفّ ، ّ
االدعـاء بإرسـاء أحكامـه وفـق نظرية ،وتفسيراته جـدوى ،بـل على خطـر ِّ
على ضـوء علـم أو معرفـة عميقـة .إن نقـد «بـول سـوداي»((( كان مـن هـذا
جيد ًا عىل يقـدم مثا ً
ال ّ النمـط .ويسـتطيع األثـر النقدي لـ«كليرب هادنز» أن ِّ
(((
مؤرخـي
مقدمـة كتابـه عـن «ترفـال» هـي احتجـاج عنيـف على ِّ ذلـك ،فـإن ِّ
رو ْوا -بالتفصيـل-
الس َير الذيـن يعتقـدون أنهـم قامـوا بـكلّ يشء ،حين َ ِ
يـدون تاريخـ ًا بـل تاريـخ
ِّ مغامـرات الشـاعر الغراميـة .فهـو مل يشـأ أن
األدب الفرنسي ،تاريخـه ،حيـث يحـرص ،يف مفارقـات كبيرة ،مسـلِّية يف
أغلـب األحيـان ،على كسر القوالـب التقليديـة التـي تحفـظ فيهـا األمجـاد
املقدسـة.
َّ
إن مقاالتـه يف الصحـف هـي حكمـه على الكتـب الحديثـة ،ونـوع مـن
الخـاص بأفضـل مـا
ّ «الجـو»
ّ الوصـف الشـعري املرهـف الـذي يدخلنـا إىل
كتـب ،يف آن واحـد.
((( بول سوداي ( :)1929 - 1869كتب العرص ( )1930 - 1929كاتب الصيغة الشهرية« :األدب هو ضمري
اإلنسانية؛ النقد هو ضمري األدب؛ أي يشء يسمو عليه؟».
((( وكذلك صيغة «ليون بلوم» ،التي أعيد اكتشافها ،حديثاً .انظر :أثر ليون بلوم «النقد األديب» (.)1954
62
يتميـز عـن النقـد الحديس ،ونقـد التعاطف ،ونقد اإلطالـةّ ،إل بأنه النقـد ال َّ
يرفـض أن يؤلّـف ،وأن يفـرض على مؤلَّفـات الكُ ّتـاب نظامـاً ،ال ميكـن ّإل أن
وخاصـةً
ّ يكـون قاسـياً .إننـا نفكِّ ـر بكتـاب «مالحظـات» لـ«أندريـه سـواريز»،
كتـاب «عـن األدب آلالن» الـذي هـو سلسـلة مالحظـات صغيرة بلا ترابـط:
ليعب
ّ حجـة
اآلثـار ،والكُ ّتـاب الذيـن ذُكـروا ليسـوا -بالنسـبة إىل الناقـدّ -إل ّ
والحق أنـه من الصعب ّ الخاصـة الفلسـفية ،أو األخالقية.
ّ فيهـا عـن أفـكاره
تصنيـف «آالن» .فلرنجـع إىل كتابـه عـن «سـتندال» ،وكتابـه عـن «بلـزاك»:
إنـه يعطـي لفكرتـه «قالبـ ًا انطباعيـاً» ،ولكـن تكمـن يف أعامقـه فلسـفة
روحيـة ،وعقالنيـة ،و -بالعكـس -إن هذه الفلسـفة ليسـت ،أبـداً ،مبنهجية
وال بجديـدة ،لكنهـا تعتمـد على االختيـار ،وتكـون ،أحيانـاً ،غامضـة؛ وهذا
و-ربـا -كان نقـده األديب، َّ االدخـار األيديولوجـي،
يقربنـا مـن نـوع مـن ِّمـا ِّ
يتحـدث عنها،َّ يف البـدء ،نتيجـة هـذه «السـعادة يف القـراءة التـي غالب ًا ما
وهـذه الصيـغ قـد متثِّـل وجهـة نظـره الحقيقيـة« :يجـب أن منضي سـنوات
يف الفهـم ،قبـل أن نسـتطيع أن ننقـد» ،ومتـى «وجـدت أنه ينبغـي أن نألف
الجيـدون ،وذاك خير مـن أن نجهـد أنفسـنا كثير ًا يف ِّ مـا يقولـه الك ّتـاب
فهمهم».
إن لالنطباعيـة أعظـم الفضـل يف أنهـا حفظـت ،للنقـد ،فتنـةً ولـذّ ة ،مل
«الجد ّيين» ،ولكـن ،إىل جانـب ذلك -كما رأينا -هناك ِّ نألفهما لـدى الن ّقـاد
شـدته ،وإننـا ملزمـون دامئ ًا -شـئن ًا أم َأب ْينـا -أن نخرج منه؛
وضـع عنيـف يف ّ
يـؤدي ،غالبـاً ،إىل نظـرة رسيعة وسـطحية للمؤلَّفات .إن دراسـة تعتمد مـا ّ
الصبر واليقظـة ،أو تعتمـد سـعة العلـم هـي -بكلمـة مختصرة -ال تظهـر،
إذن ،عدميـة الفائـدة ،كما قيـل عنها.
63
Albert Thibaudet
ألبرت تيبوديه
1936 - 1874
الفصل السادس
سعة العلم
سـجل النقـد العلمـي جهـداً ،وهـو جهـد مخفـق يف كثير مـن َّ لقـد
إيجابيـةً ،كادت
ّ بحـد ذاتـه ،ليدخـل
ّ األحيـانّ ،إل أنـه جديـر بالثنـاء،
تامـاً .وسـيكون علماء النقـد ،كمـن سـبقهم االنطباعيـة تنفيهـا عنـه نفيـ ًا ّ
العلمويين ،مولعين بالوقائـع ،لكنهـم سـيكونون أقـلّ منهـم فه ً
ام يف ّ مـن
البحـث عـن أسـباب األحـداث األدبيـة يف الوقائـع النفسـية أو االجتامعيـة
التـي هـي زائـدة على األدب .أضـف إىل ذلـك أنهـم سـيحذرون مـن مناهـج
يطبقـوا ،يف
جـداً ،سـتكون غايتهـم أكثر تواضعـاً :أن ِّ املترسعـة ّ
ِّ التفسير
متجـرداً ،وأن يجمعـوا كلّ املراجـع وكلّ
ِّ ً ً
دراسـة الكتـب ،اهتاممـا دقيقـا
باطنـي للمؤلَّفـات .وإذا
ّ املعلومـات التـي ميكـن أن تفيدهـم يف توضيـح
كانـوا يسـتخدمون معطيـات السيرة أو املعطيـات التاريخيـة ،فإنهـم
يفعلـون ذلـك دون ا ّتبـاع رأي مسـبق أو روح التنظيم ،بل ليحطيوا أنفسـهم
بضامنـات موضوعيـة.
65
تحول النقد الجامعي
ُّ - 1
غيروا نقـد األسـاتذة ،مـن خلال هذه إن الذيـن خلفـوا «برينوتيير» قـد ّ
الرؤيـة .لقـد اسـتبدلوا باملنهجيـة التـي أرادوهـا خطابيـة يف املـايض،
الحـرص على الدقّـة والرصامـة ،وهـي ميـزات أقـلّ بريقـاً ،لكنهـا أكثر
صالبـة ،مـع ذلـك لـن يحـدث التغيير دفعـة واحـدة ،فما يـزال «فاغيـه»
ميثِّل الفلسـفة اإلنسـانية القدمية ،وال يعري سـعة العلـم والتاريخ اهتامم ًا
كبيراً .وعلى العكس مـن «فاغيه» ،نجد «النسـون» ميتدح ،وميـارس نقد ًا
يقـوم على الدراسـة الدقيقـة للوقائـع ،دون أن ينسى أن دراسـة األدب
أوالً -إىل تنميـة الفكـر والـذوق .إن إصلاح التعليـم ،عـام ،1902 تهـدفَّ -
الـذي يسـعى إىل إحلال الـروح «العلميـة» محـلّ الـروح «البالغيـة» التـي
كان النقـد يعتمـد عليهـا ،يف املـايض ،قد خلَّد هـذه النزعـة الجديدة ،من
وض ِمـن اسـتمرارها.
حيـث األنظمـةَ ،
مبـؤرخ .إنـه رجـل
ِّ إميـل فاغيـه((( :هـو ،يف الحقيقـة ،ليـس بعالّمـة وال
مثقَّـف ،يسـتطيع أن يقـوم مبقارنـات مهما كان نوعها ،وهو قـارئ كبري :إنه
والعلميـون ،وهو ،حني
ّ ينـدد باألحكام املسـبقة التـي يطلقهـا العقائديونِّ
يقدمون عنمما ِّ يقدمـون معلومات عـن أنفسـهم أكرث ّ يعترف بـأن الن ّقـاد ِّ
لالنطباعيين .لكنـه
ِّ يتحدثـون عنهـم ،يعطـي -بذلـك -أدلّـة َّ الك ّتـاب الذيـن
يتوصـل ،دامئـاً ،إىل ذلـك -النزاهـة ،وال يطمـح ّإل إىل «أن
َّ يدعـي -دون أن َّ
يرشـد القـارئ إىل وجهـة النظـر التـي ميكـن أن يضع نفسـه فيهـا ،والتي قد
يكـون مـن املستحسـن أن يضـع نفسـه فيها ،ليقـرأ أثـر ًا عظيامً».
إن اختصاصـه يقـوم على تحليل األفـكار ومناهج الفـن ،وأن يصنف كل
يقـدم صـورة واضحة -مـا أمكن -عـن كبار
ذلـك وفـق مخطـط منطقـي ،وأن ِّ
الفرنسـيني.
ِّ الك ّتاب
((( أميل فاغيه ( :)1916 - 1847القرن السادس عرش ( )1893القرن السابع عرش ( -)1889القرن الثامن عرش
«سياسيو القرن التاسع عرش وفالسفته يف األخالق» ()1900 - 1891
ّ ( -)1890القرن التاسع عرش ( ،)1887كتاب
...وغريها.
66
يـأت نقـد «فاغيـه» بشيء جديـد ،مـن ناحيـة املنهـج ،لكـن نقـده مل ِ
ينتمـي إىل نـوع ال يـزال قامئـ ًا حتـى يومنـا هـذا .إن «أندريـه بيللسـور»-
وحبـه للتحليل الواضـح ،وحرصه أن يكون متعل ً
ِّما دون أن يظهر بإنسـانيته ِّ
حق
متحذلقـاً -ميثِّـل هـذه النزعـة خير متثيـل ،وهـو ينـادي بالحفـاظ على ّ
النقـد ،حتـى الجامعـي منـه ،يف أن يبقـى ف ّنـاً.
غوسـتاف النسـون((( :تأثـر «النسـون» تأثـر ًا كبير ًا بـ«تين» و«برونتيير»،
على خلاف «فاغيـه» ،ولكنـه مل يأخـذ منهما ّإل أقـلّ األمـور صالحـ ًا
للمناقشـة ،ومـا هـو علمـي ،فعلاً ،فقـد أخذ عـن َّ
األول فكـرة البيئـة ،بينام
أخـذ عـن الثـاين فكـرة التاريخ ،وهـو يؤكّ د أنـه ،ليك نـدرس األدب ،يجب أن
(سـنعددها فيما بعـد) تهـدف إىل إبعادِّ نبـدأ بعـدد مـن األبحـاث العميقـة
كلّ أسـباب األخطـاء التـي تتعلَّـق بالحـوادث ،لكـن هـذا -بالنسـبة إليـه-
بحد ذاتهـا .كتب يقول:ليـس ّإل نقطـة انطالق ،فسـعة العلم ليسـت هدف ًا ّ
«إن الرياضيين ،كما أعـرف بعضـ ًا منهـم ،الذيـن يسـلّيهم األدب ،والذيـن
لريوحـوا عـن أنفسـهم ،هـم على يذهبـون إىل املسرح أو يأخـذون كتابـ ًا ّ
صـواب أكثر مـن األدبـاء (وأعـرف عـدد ًا منهـم) الذيـن ال يقـرؤون ،ولكنهم
ـرون الك ّتـاب الذيـن يسـتولون عليـه ،ظ ّنـ ًا منهـم أنهـم يحسـنون صنعـ ًاُي َع ّ
بتحويلـه إىل بطاقـات» .إن سـعة العلم ليسـت ّإل وسـيلة تسـمح ،قبل كلّ
جيـدة.
يشء ،أن نعـرف اآلثـار معرفـة ِّ
وكما أن األدب «هـو أداة ثقافـة داخليـة» ،فـإن هـذه املعرفـة الجيـدة
نتـذوق الكتـب بطريقـة أفضـل ،و -مـن َث َّم -نحسـن االسـتفادة
َّ تتيـح لنـا أن
املكونـة .ال يسـتطيع الناقـد ،إذن ،أن يحكـم ،وال ينبغـي عليه
ّ مـن قيمتهـا
أن يعفـي نفسـه مـن الحكـم ،وهنا -أيضاً -تسـتطيع سـعة العلـم أن تنفع،
فالتاريـخ يسـمح لنـا ،على سـبيل املثـال ،أن نـدرك أن «كورناي» قد رسـم
النـاس كما كانـوا يف عصره ،وتسـمح لنـا دراسـة «املصـادر» أن نحكـم
((( غوستاف النسون ( :)1934 - 1857تاريخ األدب الفرنيس (الطبعة األوىل ،)1894بوسويه ( ،)1890بوالو
()1892؛ كورين ( ،)1898فولتري ( ،)1906كتيب عن سرية األدب الفرنيس الحديث ( ،)1914 - 1909مطبوعات
«تأمالت» لالمرتني.
نقدية عن الرسائل الفلسفية لفولتري ( ،)1909وعن كتاب ُّ
67
على إبـداع «المرتين» .ولكـن سـعة العلـم وحدهـا ،هـي أبعـد مـا تكـون
عـن النفـع ،و -بالفعـل -إن الـذوق هـو الـذي يحكـم يف آخـر األمـرّ .إل أن
يتغير وفـق النـاس :إن «النسـون» مثـل
َّ هـذا الـذوق هـو -يف األصـل -ذايت
مقدمـة كتابـه «تاريـخ األدب الفرنيس»،يتعـرف بـه وينبئنـا ،يف َِّّ «فاغيـه»،
أنـه يـأيت «بـاآلراء واالنطباعـات واألشـكال الشـخصية للفكـر والشـعور،
واملسـتمر باملؤلَّفـات».
ّ حددهـا لديـه اال ِّتصـال املبـارش
التـي َّ
ّإل إننـا نجـد ،حتـى يف أحكامه الشـخصية ،شـيئ ًا مـن املوضوعية؛ فهو
«أل يكون
تحيـز ،وبال رأي مسـبق ،ويقـول إنه يأمـل ّ يجهـد يف أن يحكـم بلا ّ
ذم شـيئ ًا ّإل ألسـباب ذات طبيعـة أدبيـة» ،وإذا مـا اعتقدأحـب شـيئ ًا أو ّ
َّ قـد
يتردد ،يف الطبعات األخيرة لكتابه «تاريـخ األدب»، َّ أنـه قـد أخطـأ ،فهـو ال
حـدة أحكامـه .إن فضل أن يدخـل «مالحظـات نـدم أو ارتـداد» ليخفِّـف من ّ
«النسـون» ال يعـود إىل أنـه أدخـل مناهـج يف الدقّـة والصـواب ،وجعل لها
األفضليـة ،فحسـب ،بـل إنـه -بحرصـه أن يكـون مفكّر ًا إنسـانياً -قـد تدارك،
يسـتحق كلّ تقدير على نزاهتـه الفكرية.
ّ مسـبقاً ،بعـض األخطـاء؛ فهـو
68
يف النقـد األديب ،فعلينـا أن نـدرس مفهـوم «التاريـخ األديب» يف عالقاتـه
بحـد ذاته.
ّ مـع النقـد،
أوالً -األعمال التفصيليـة ،التـي تقتصر على سـعة إننـا سـنفحصَّ -
العلـم البحـت ،ثـم كيفية اسـتعامل سـعة العلم هـذه يف أعمال تركيبية،
سـواء عـن تواريـخ أدبيـة أو عـن دراسـات عـن الك ّتـاب.
البحـث عـن التفاصيـل :يجـب أن نبـدأ ،لكي نـدرس كاتبـ ًا أو نقطـة يف
تاريـخ األدب ،بعـدد مـن األبحـاث ،وهذه األبحاث ليسـت نقديـة بل تقترص
على علـوم تسـاعد يف النقـد ،ونتيجـة هـذه األبحـاث هـي طبعـات نقديـة
وتعليقيـة ومقـاالت يف املجلاّ ت العلميـة ...وغير ذلـك.
النص الـذي نقـرأه ..إن رضورة النقد الحرفية
ّ ال -أن نتأكَّ ـد مـن
أو ًيجـبَّ -
لبديهـة بالنسـبة إىل اآلداب التـي سـبقت اختراع الطباعـة .يجـب أن نقـارن
النـص الـذي يطابـق مـا كتبـه املؤلّـف وفـق أقـرب
ّ املخطوطـات ،ونبنـي
االحتماالت إىل الواقـع ،وهـذا العمـل رضوري أيضـاً بالنسـبة إىل األدب
النـص يف أفضل ما ي َّتفـق مع نوايات
ّ تقـدم
الحديـث :إن الطبعـات النقديـة ِّ
املؤلِّـف الحقيقيـة (الطبعـة األوىل أو األخيرة التـي راجعهـا املؤلِّـف،
مثلاً ) ،ويف املالحظـات ،والروايـات املختلفـة األساسـية التـي وجـدت يف
الطبعـات األخـرى أو املخطوطـة ،إذا مـا وجـدت .ويسـتطيع الناقـد ،بعـد
وتطـوره ...إىل غري
ُّ ذلـك ،أن يحـاول اسـتخالص النتائـج عـن عمل الكاتـب،
ذلك.
النـص ،يجـب أن نتأكَّ ـد مـن حسـن فهمـه؛ مـن هنـا ،تأيت
ّ فـإذا مـا أُقيـم
رضورة دراسـات القواعـد واألسـلوب ،التي تسـتند عىل القواعـد التاريخية،
والقواعـد اللغويـة ،ودراسـات العروض واملفـردات ..وغريهـا ..إن طبعات
مفسرة مصحوبـة ،أحيانـاً ،مبفـردات الكاتـب وقواعـده تعطـي ،يف بعـض ّ
امللحوظـات ،تفسيرات عـن اإلشـارات التاريخيـة وسمات التقاليـد،
العامـة ،و -مبجمـل القـول -عـن كلّ مـا ال يسـمح لنـا اختلاف
ّ واألنظمـة
األزمنـة أن نفهمـه بطريقـة مثلى.
69
هنـاك مياديـن أخرى لسـعة العلـم ،ترتبـط -مبـارشةً -بالنقـد؛ فلنذكر،
هنـا ،بعضـ ًا منها:
-نشر مؤلَّفـات مل تنشر ،وغالبـاً مـا تضيء هـذه املؤلَّفات ،مـن زاوية
جديـدة ،املؤلَّفـات املعروفـة ،بل شـخصية املؤلِّف نفسـها.
الخاصـة ،التـي تسـمح للباحـث أن يجـد،
ّ العامـة أو
ّ -السير الحياتيـة:
برسعـة ،تعـداد كلّ الكتـب وكلّ املقـاالت التـي تتعلَّـق مبوضوعـه.
-املشـاركات يف سيرة حيـاة الك ّتـاب؛ إن أقـلّ التفاصيـل عـن حيـاة
الك ّتـاب املشـهورين قـد فحصـت بدقّـة ،وفـق أكثر مناهـج التاريـخ أمانـة؛
تتبـدد بعـض األسـاطري ،وتعـرف النقـاط الغامضـة كما هـي.
َّ وهكـذا
-تقتصر دراسـة املصـادر عىل البحث ،سـواء يف اإلنتاج السـابق ،ويف
سيرة حيـاة الكاتب ،عن أصـل الفكرة والتعبير واملوضوع.
يشـكِّ ل هـذا نقطـة دقيقـة تدعـو إىل املناقشـة .إن املسـألة بسـيطة،
نسـبي ًا (نظريـاً ،على األقـلّ ) ،حين يتعلَّـق األمـر بالكاتـب الـذي َقل َ
َّـد
أمـا ،بالنسـبة إىل اآلخريـن ،فـإن
مبـؤرخ مـاّ .
ِّ «كرولسـار» أو «شـينيه» ،أو
الخطـر يكمـن بتقديـم مؤلَّفاتهـم كرسقـات لك ّتـاب سـابقني .تظهـر مثاليـة
تتوصـل إىل أن نكتشـف ،يف كلّ جملـة، َّ «النسـون» مسـتحيلة ،وهـي «أن
حـرك خيالـه» .إنـه مـن
الحـدث أو املوضـوع الـذي أثـار ذكاء الكاتـب أو ّ
الصعـب أن نحسـب حسـاب ًا ملـا هو أكيـد ومحتمل ،وللشـعور والالشـعور،
السـيام أننـا ال نسـتطيع أن نعـرف ،أبـداً ،كلّ املصادر .مع ذلـك ،إن العمل
َّ
ليـس خلـو ًا مـن الفائـدة؛ فدراسـةاملصادر هـي إحدى الوسـائل األساسـية
عبقريته ،لكنها تسـاعد
َّ تفسر
َّ للنفـاذ إىل مختبر الكاتـب :إنها ال تسـمح أن
على أن نفهـم كيـف كان يعمـل ،وأن نسـتخلص إبداعـه ،وهـي -على كلّ
يفسهـا ناقـد ذيك.
حـال -ال تقتصر على نفسـها؛ إنهـا تطلـب أن ِّ
نحـدد مـا
ِّ إن دراسـة التأثيرات أكثر نفعـ ًا للتاريـخ األديب؛ فيجـب أن
الـذي كان وراء نجـاح املؤلّـف أو الكتـاب ،ومـاذا كان كسـبه بعـد موتـه،
وأهم ّيته
ِّ عامة -مكانتـة
الفـن ،و -بطريقـة ّ
ّ ودوره يف تاريـخ الفكـر أو أشـكال
70
يف التاريـخ االجتامعـي ،والتاريـخ األديب.
نتوصـل
َّ التاريـخ األديب :يجـب أن تسـمح هـذه النقـاط التفصيليـة بـأن
إىل تركيبـات؛ إننـا سـنبدأ باألكثر سـعة ،أي بتواريـخ األدب .لكـن ،ما تاريخ
األدب؟ إنـه ليـس مجموعـة دراسـات عـن ك ّتـاب كبـار ،فحسـب؛ إذ يجـب
نطبـق ،يف مجـال األدب -أيضـاً -املناهـج املألوفـة يف التاريخ :أن ِّ
منيز أن ِّ
ونحـدد ،مـن خاللهـا ،اال ِّتجاهـات املسـيطرة؛ أن نظهر تسلسـل
ِّ العصـور،
األحـداث ،ونقيـم لـكلّ عنصر أو لكلّ نوع نـدرس عرصه ،لوحـة تأخذ بعني
االعتبـار الصغـار ،لنضـع الكبـار ،مـن جديـد ،وفـق الظـروف املرافقـة؛ أن
نقـدم
نربـط الحـوادث األدبيـة بوقائـع أخـرى للتاريـخ ،ومجمـل القـول :أن ِّ
األدب يف دميومتـه ويف اسـتمراره الحـي ،وأن نحيـي مؤلَّفـات املـايض
القديـم أو القريـب ،كما لـو ك ّنـا نعيـش زمـن ظهورهـا ،ونحـن نفهمها عىل
نحـو أفضـل ،ألننـا نعـرف النتيجة.
فلكتابـة تاريـخ األدب الفرنسي ،مثلاً ،يف هـذه الـروح ،مل يعـد يكفـي
رجـل واحـد للقيام بهذا العمل .لقد جمـع «بويت دو جيلوفيل» و«كالفيه»،
يف املـايض ،و«بيديـه» و«هـازار» ،يف ّأيامنـا -كلّ هـؤالء جمعـوا حولهـم
مختصين ليب ّتـوا يف كلّ هـذه املجموعـات ،ومـن الضروري أن يوجـد ِّ
ً
بالقـرب منهـم آخـرون أقامـوا تأليفـا أقـلّ طموحـاً ،ولكنـه أكثر دقّـة وأكثر
تفصيلاً ،وأن يكتبـوا تاريـخ قـرن أو تاريـخ ّ
فـن أديب أو تاريـخ مدرسـة أدبية.
يتجدد بال
َّ محـددة ،كذلك التاريـخ األديب
َّ وكما أن التاريـخ ال يوصـف بصفة
انقطـاع ،ألنـه حوادث جديدة تكتشـف دامئاً ،كام أن تفسير هـذه الحوادث
والصحـة،
ّ الفـن ال يقتضي الدقّـة
ّ واسـتخدامها ال يعنـي يقينـ ًا مطلقـاً ،وأن
فحسـب؛ بـل يلزمـه -أيضـاً -نـوع مـا مـن العبقرية.
مثّـة دراسـات تاريخيـة أخـرى تبتعـد أكثر فأكثر مـن وجهـة النظـر
النقديـة البحـت ،وتعالـج هذه الدراسـات الواقعيـة األدبية على أنها حدث
مجـرد عن قيمتـه الجامليـة؛ من هنـا مل يعد مثّة
َّ اجتامعـي مامثـل لغيره،
منيـز الكبـار والصغـار ،بـل -على العكـس -إن ك ّتـاب الدرجـةمجـال ألن ِّ
أهميـة أكبر يف تاريـخ الحـوادث االجتامعيـة.
الثانيـة لهـم ،غالبـاًِّ ،
71
وهكـذا ،اقترح «النسـون» أن يكتـب ،إىل جانب تاريـخ األدب الفرنيس،
(أي اإلنتـاج األديب) «تاريخـاً أدبيـاً لفرنسـا» ،وكان يقصـد مـن هـذا «لوحـة
لألمـة ،تاريـخ الثقافة ونشـاط الجامعة املغمـورة التي
عـن الحيـاة األدبيـة ّ
تقـرأ ،شـأنها شـأن األفراد الشـهريين الذيـن كتبوا» .وقد بـدأ بعضهم مبلء
هـذا الربنامـج ،وذلـك بتوسـيعه أيضـاً ،فقـد درس «دانيـل مورنـه» فكـرة
تقبل
بحـد ذاتهـا ،فحسـب ،بـل من ناحيـة ُّّ فالسـفة القـرن الثامـن عشر ،ال
الجمهـور لهـذه الفكـرة ،ويف تأثريهـا يف املعارصيـن ،أيضـاً؛ فقـد أظهـر-
نعدهـا مـن أسـباب الثـورة .ولقـد كتـب بعضهـم- مثلاً -أنـه ال ميكـن أن ّ
حـب الطبيعـة ،يف القـرن الثامن
الحـب يف عصر مـا :فتاريخ ّ ّ أيضـاً -تاريـخ
ـد «روسـو» مـن بين الجامعـة املغمـورة يف عصره ،ال عشر ،سـمح أن ُي َع ّ
مـن الك ّتـاب ،فحسـب .إن مجموعـة «الحيـاة األدبيـة» التـي أرشف عليهـا
«أندريـه بيلي» ،هدفـت إىل وصـف «حياة الك ّتاب يف األوسـاط التـي ناضلوا
فيهـا .فاملوضـوع ،إذن ،قبـل كلّ يشء ،هـو تاريخ اجتامعـي ،هو فصل يف
تاريـخ التقاليـد» .إن مؤلَّفـات كهـذه ،تصف األوسـاط األدبيـة (الصالونات،
واملجامـع العلميـة) ،وتراجـع مختلـف األنـواع األدبية املطروقـة ،وتدرس
ظـروف الك ّتـاب الحياتية.
العـام ،وليـس
ّ مجـرد فـرع يف التاريـخ
َّ ويصبـح تاريـخ األدب ،حينئـذ،
عامـة ،قـد ُج ِعـل ليسـمح لنـا بـأنخاصـة؛ فتاريـخ األدبّ ، ّ هـذا إال حالـة
نفهـم املؤلَّفـات العظيمـة بطريقـة أفضـل ،وأن يخـرج الك ّتـاب الكبـار مـن
وأل نحكـم عليهـا يف املطلـق، رتكـون فيهـاّ ، األوهـام املألوفـة التـي قـد ُي َ
دون أن نأخـذ بعين االعتبـار مـرور الزمـن .يصبـح التاريـخ األديب ،حينئـذ،
جذرياً -عنه كام مت ّنـى «فاغيه» ،مثالً.
ّ مسـاعد ًا للنقـد ،وال ميكـن أن ِّ
منيـزه-
املجددون
ِّ دراسـة وافيـة عـن املؤلِّفين :حني يكتب الن ّقـاد الجامعيون
دراسـة عـن كاتـب ،يجـدون أنفسـهم أمـام املعضلات نفسـها التـي
خاصـة -مبـا يضعـون مـن مواهـب ّ تتميـز أعاملهـم-
َّ اعرتضـت اآلخريـن.
قـو ًة وضعفـاً ،و -مـع ذلـك -هنـاك نقطـة تجمـع بينهـم؛ هـي أنهـم
تتبايـن ّ
يواجهـون الكاتـب الـذي يدرسـون مـن وجهـة نظـر تاريخيـة رصفـة ،و -مـن
72
ويفسروا أكثر مـن أن يحكمـواُ .يـدرس
ِّ ـم -يهدفـون إىل أن يلقـوا ضـوءاً، َث َّ
األثـر بارتباطـه بتاريـخ املؤلِّف ،وبالتاريـخ األديب من خالل تاريـخ املؤلِّف،
تبـدد بعضتطور فكـره (وهكذا َّ
أوالً ،أي مـن سيرة حياتـه :يـدرس ،حينئـذُّ ، َّ
وتطـور ف ّنـه ،والعالقـات بين األثـر واإلنسـان.
ُّ شـات)، التشو
ُّ أو التناقضـات
اختص
ّ فقد وإبداعـه؛ ّف،لاملؤ مصـادر د تحـد
َّ ً-
ا أيضـ األديب- فمـن التاريـخ
«مورنيـه» ،مثلاً ،بشرح الك ّتـاب الكبـار ،وبدراسـة املؤلِّفين مـن املرتبـة
الثانيـة ،واملرتبـة الثالثـة ،واملرتبـة العـارشة؛ إنـه يظهـر -عىل هـذا النحو-
أن منافسي «راسين» قـد اختـاروا املواقـف نفسـها واملواضيـع نفسـها
التـي اختارهـا ،وأن الفـرق الوحيـد (والشـائع) الـذي يفصلـه عـن غيره هـو
عبقريتـه؛ و -على العكـس -إننا ال نجـد يف عرص «موليري» ّأيـة ملهاة ميكن َّ
مبرسحياتـه ،وسـندرس -أيضـاً -معنـى أفـكار املؤلِّـف ،آخذيـن ّ مقارنتهـا
الجـو الفكـري الذي عـاش فيه ،والظـروف الدقيقة لـكلّ أثر. ّ بعين االعتبـار
تـؤدي
يخـرج هـذا املنهـج مـن الجامعـة ،ليعـود إليهـا ،والكتـب التـي ِّ
إليهـا تبـدأ مـن أطروحـات الدكتـوراه إىل الكتيـب املـدريس ،وميكننـا أن
نص ِّنفهـا ،إجماالً ،بالطريقـة اآلتيـة:
خاصـة يف املنهـج التاريخـي؛
ّ ير األدبيـة هـي تطبيـق على حالـة الس َ
أ) ِّ
لهـذا نحـن نص ِّنفهـا هنـا ،مـع أنهـا غالبـ ًا مـا تكـون عمـل ك ّتـاب غريبين عن
الجامعـة ،ويقتصر موضـوع بعضهـا على رسد حيـاة رجـل شـهري ذي
شـخصية فريـدة؛ مـن هذا القبيـل كتابـات «أندريه موروا» ،فهي قد تسـاعد
النقـد ،لكنهـا ال تتعلّـق به مبارشةً ،ويكـون بعضها دراسـات أدبية حقيقية،
بشـدة-
ّ وهـذا مـا يحـدث بالنسـبة إىل ِس َير الك ّتـاب وقـد ارتبطـت حيا ُتهـم-
سر الواحـدة باألخـرى .وهكـذا ،إن حيـاة كلّ مـن «بودلير» بآثارهـم ،تُف َ َّ
و«فولين» التـي كتبها «فرنسـوا بورشـيه» هي تعليق حقيقي على أثر هذين
الشـاعرين.
عامـةً على مظهـر مـن أثـر الكاتـب،
ب) تقتصر أطروحـات الدكتـوراه ّ
وتفـرض السـعة والدقّـة املطلوبـة ،يف هـذه األعمال ،هـذا التحديـد .إنهـا
أعمال ضخمـة أغنتهـا مجموعـة مـن املالحظـات الوثائقيـة ،وقامئـة مـن
73
نص
املراجـع ،وسيرة حياتيـة وافـرة ،وال تقوم فيـه ّأية فكرة ال تسـتند عىل ّ
أو مرجـع ،مـن غير أن يذكـر املصـدر .وبالرغـم مـن مظهرهـا املتحذلـق
(إىل َح ّـد مـا) ،غالبـ ًا ما تكون وسـائل عمل مثينـة للن ّقاد اآلخريـن مهام كان
الخـاص.
ّ منهجهـم
خاص.
ّ جــ) هنـاك أعامل أخـرى أكرث بسـاطةُ ،ت َو َّجه إىل الطالب بشـكل
فمجموعـة الك ّتـاب الكبـار التـي صـدرت يف نهايـة القـرن التاسـع عشر ،
(((
((( هاشيت.
((( بوافان.
((( ميلوتيه.
((( مالفري.
74
املخصصـة للتدريـس يف املرحلـة الثانويـة ،فهـي تسـعى إىل َّ إىل الكتـب
أهم ّيةً
أن تعطـي التاريـخ األديب واملقارنـات التاريخية ،من شـ َّتى األنـواعِّ ،
وتؤمـن ،تحـت شـكل مخطَّ ـط ،املراجعـة األساسـية الواسـعة ِّ متزايـدة،
املفيـدة يف الشرح املـدريس .
(((
- 3محاوالت جديدة:
التقنية األدبية
لقـد حقَّـق النقد نجاح ًا يف دراسـة اآلثار األدبية ،ال مـن حيث «الغاية»،
يهتـم ،اليـوم ،أكثر فأكثر،
ّ بـل مـن حيـث «الكيفيـة» .وهكـذا ،إن النقـد
بفحـص تقنيـة الك ّتـاب الكبار.
وهكـذا ،إن «جـان بريفـو»((( الـذي امتـاز بأنـه جمـع ،إىل جانـب الدقّـة
يف املناهـج الجامعيـة( ،كتابـه «سـتندال» هـو أطروحه دكتـوراه -تجربته
مـر ًة أخـرى -الطريقـة التـي كتب الشـخصية بوصفـه كاتبـاً) حـاول أن يجـدّ -
رس اإلبداع
وحقَّـق بهـا كلّ من «سـتندال» و«بودلري» مؤلَّفاتهما ،وأن يفهم ّ
الـروايئ ،والشـعري ،وأن يلقـي الضـوء بواسـطة مثال َْين -ومل يكـن هـذا،
بالنسـبة إليـهّ ،إل بدايـة -على نفسـية الكاتـب .وهكـذا ،أعطـي لدراسـة
السير الحياتيـة والبحـث عـن املصـادر إنتاجـ ًا جديـداً ،و -مـن َّ
ثـم -مع ًنـى
واسـعاً ،وقـد رفـع النقـد ،يف الوقـت نفسـه ،إىل درجـة ،نجحـت املناهـج
العلميـة يف رشحهـا ،وهـي اإلبـداع األديب .إن هـدف النقـد ،بالنسـبة إليـه،
هـو ،يف الواقـع ،رشح كيفيـة القصيـدة ،وأن يـرى ،كما يقال ،كيـف ُبنيت،
وأن «يفهـم ويشرح العمـل الشـعري بواسـطة سـبل مل يعرفهـا الشـاعر
مبارشة».
75
لس َير الحيـاة ،واملقـاالت السـيكولوجية ،فائـدة عظيمـة يف مضامرإن ِ
دراسـة التقنيـة األدبيـة .وكذلـك ،بالنسـبة إىل البحـث عـن املصـادر،
تعـرض لها الكاتـب .لكنه ال يأخذ من كلّ هـذه املراجع إال
َّ والتأثيرات التـي
مـا يسـمح لـه بـأن يـرى كيـف أن اإلنسـان ،املبدع ،قـد وجد طريقـه ،وكيف
تكونـا -شـيئ ًا فشـيئاً -بفضـل ُّ
تخبطـات طويلـة، أن أسـلوبه وطريقتـه قـد ّ
وكيـف أن فكـرة ،أُ ِخـذت مـن قـراءة ،مـن حديـث ،مـن مشـهد ،قـد تبلـورت
وأدت إىل أثـر أديب.
شـخصيته رصفـاًّ ،
َّ يف نفسـه ،حتـى أصبحـت
يحتـل النقـد الداخلي مقامـ ًا أقـلّ عنـد «جـان بريفـو» ،فمؤلَّفـات
ّ ال
«سـتندال» ،و«بودلير» قـد درسـت بدقَّـة ،ومن خلال تفاصيـل القالب .إنه
يسـتعمل -مـا أمكـن ذلك -الروايـات املتتالية للصفحة نفسـها أو للقصيدة
نفسـها .إن النتائـج التـي يسـتخلصها مـن دراسـته عـن خلـق الشـخصيات،
جـداً ،على وجـه العمـوم.
وعـن أسـلوب «بودلير» ،إيحائيـة ،ومقنعـة ّ
الخاصـة
ّ توصـل ،هكـذا ،إىل اكتشـاف البالغـة والنفحـة الشـعرية لقـد ّ
باملؤلِّـف الـذي درسـه ،إىل جانـب املقارنـات الكثيرة التـي يقيمهـا مـع
يعبر عنهـا معتمـد ًا على
ِّ العامـة التـي
ّ مؤلِّفين آخريـن ،واألفـكار الكثيرة
أهم ّيـة
تجربتـه الشـخصية ،وعلى تجربـة معارصيـه التـي تعطـي لكتبـه ِّ
مجـرد معرفـة «سـتندال» أو «بودلير».َّ قويـة تفـوق
ّ
إن أبحاثـ ًا كهـذه ليسـت -مطلقـاً -بجديـدة .لكـن إبـداع «جـان بريفـو»
ـد ،وأنـه طَ َّب َ
ـق تعمـق يف هـذه األبحـاث إىل أقصى َح ّ يكمـن يف أنـه قـد َّ
خاصـةً -يف فلسـفة راسـخة وواضحة .إن ّ املناهـج العلميـة ،وأنـه أقامهـا-
أوالً -نقد هـذه الفلسـفة ،التـي تديـن بالكثري إىل فكرة «بـول فالريي» ،هـيَّ -
يدعـي أصحابهـا أنها تكفي لـكلّ يشء: ألسـطورة اإللهـام الرومانسـية التـي َّ
للعبقريـة الغامضـة ،واإللهية التـي قد تخلق من العـدم؛ فاإلبداع ال يكمن
يف نقطة اإلنطالق ،بل يف التنفيذ .يجب ّأل تقترص الدراسـة السـيكولوجية
على اكتشـاف املشـابهات بين الحيـاة واألثـر ،ودراسـة املصـادر على أن
تشير إىل املامثلات بين مطالعـات املؤلِّـف وكتاباتـه؛ إن االختالفـات هي
ضـد املقاومـات ،وكمجموعـة مـن ّ تهـم .يفهـم األثـر األديب كنضـال
ّ التـي
76
املصادفـات السـعيدة ،عـرف املبـدع أن يسـتفيد منهـا .إنهـا مثـرة إرادة،
سـاعدتها املصادفـة .إنهـا تفترض -إذن ،مهنـة .وهكـذا ،إن عمـل الناقـد
رس ًا وحامسـة َّ
مقدسـة. ممكـن ومثمـر ،ألنـه ليـس كلّ يشء ّ
لـو عـرف العلماء ،دامئـاً ،أن يبقـوا أمينين على مبـادئ «النسـون»
وأل يعتبروا
وأل يدفنـوا أنفسـهم تحـت (كومـات) البطاقـاتّ ، الحقيقـةّ ،
سـعة العلـم ّإل واسـطة وأداة ،لتهـاوى ،مـن تلقـاء نفسـه ،كثري مـن النقد
يوجـه إليهـم ،عـادةً.
الـذي َّ
مخيبـ ًا لألمـل .إن مـا ينقـص منهجـم هـو أن
ِّ يبقـى موقفهـم ،مـع ذلـك،
يعـي هـذا املنهـج ،أكثر فأكثر ،وسـائله ،وأن تكـون له فلسـفة.
مل يعـد أحـد يؤمـن بنظريـة العـرق والبيئـة والزمـن؛ ولكـن اعتـاد كلّ
الناس أن يذعنوا لها ،ويدرسـوا سلالة الك ّتاب حتى الجيل الثالث ،ويصفوا
املشـهد حيـث خطـت عبقرية املسـتقبل خطواتها األوىل .إنهـم يقترصون
على أن يضعـوا سيرة الحيـاة بجانـب الدراسـة النقديـة؛ لكـن ،كيـف يجب
علينـا أن نفهـم -بدقّـة -العالقـات بين اإلنسـان ونتاجه؟ كيف نحلّ مشـكلة
أهم ّية
األدبية»؟ إننـا نعلِّق ِّ
ّ املصادر ،ومشـكلة األسـباب يف «السـيكولوجيا
كبرى على التاريـخ؛ لكـن ،مبـاذا يشـهد لنـا التاريخ؟ هـل ميكننـا أن نقول،
مثـل «رنـان» ،إن اإلعجـاب الحقيقـي هـو تاريخـي؟ إن أجوبـة مثـل أجوبـة
متأخـرة ،وقـد ال تحلّ املشـكلة حلاً ّ
تاماً. ِّ «جـان بريفـو» قـد أتـت
جداً،
مشرف ّ
ِّ ثـم ،إن الثقـة بالنفـس تنقص هـؤالء الن ّقاد .إن تواضعهم
لكنـه مينعـم مـن أن يحكمـوا ،وحتـى أن يحملـوا ،يف الشرح ،هـذا الهـوى
يتعمقوا ح ّقـاً :لقد فاتتهم
ّ يف أن يثبتـوا وجودهـم ،الـذي بدونه ال ميكـن أن
روح املغامرة.
77
Paul Valéry
بول فاليري
1945 - 1871
الفصل السابع
نقد وإبداع
لقد أضاع الناس ،منذ «سـانت بوف» ،كثري ًا من روح املغامرة النقدية،
ومل يكـن علماء النقـد ،وكذلـك أنصـار «تين» يف النقـد ،واالنطباعيـون،
خلقـة ،وهـي -من َث َّم -ليسـت
يشـعرون أنـه ميكـن أن يكـون للنقـد وظيفـة ّ
مجـردة مـن املجازفـات الفكريـة .ويبـدو لنـا
َّ خاصـةّ -أل تكـون)
ّ (ويجـب-
جليـاً ،أنـه ميكننـا أن نجمـع ،حول مفهـوم «اإلبـداع» هـذا ،مجموعة كامل
ّ
الحـي ،يف سـبلٍ ،
ّ مـن الن ّقـاد الذيـن مارسـوا نوعـ ًا مـن االلتـزام الشـخيص
غالبـ ًا مـا اختلفـت ،ولكنها كانت ،دامئـاً ،حريصة على أداء عمل مبدع ،قد
يكـون اختياريـاً ،واسـتمراراً ،ورحلة.
79
وخاصـةً لـدى الذيـن،
ّ عامـة(((؛
يكونونهـا عـن الشـعر ،والروايـة ،واألدب ّ ّ
حيـة تختلـف عن فكرتهـم ،يجهـدون -بالرغم من ّ فكـرة مـع باحتكاكهـم
مفـر
ّ ال والتـي األشـخاص بين الرضوريـة املسـافة حرصهـم على هـذه
ليتعرفـوا وحـدة األثـر ،وليعيـدوا بناءهـا .إنهم ،جميعـاً ،عىل كل
ّ منهـا-
مادة كما لو كانت «غـذاء» (ممثَّلـة ،هنا ،بكتب
حـال ،وقـد انطلقـوا مـن ّ
بحـد ذاته؛ إنهم
ّ ٍ
ومجد، تأمـل وحيداآلخريـن) ،يجعلـون مـن ذلك وضع ُّ
يتوصلـون إىل أن يتجـاوزوا معضلـة (املوضوعيـة -الذاتيـة) بقدر ما هم َّ
شـخصيته ليصبح شـاهد ًا أو حاك ً
ام َّ واعون أن النقد ال ميكن تجريده من
مطلقـاً .إنهـم ينـادون «بالذاتيـة» النقدية كحلّ موضوعـي ،ويكون ذلك-
طبعـاً -باال ِّتصـال مـع ذاتيـة أخـرى ،ولكـن مبواجهتهـا كما لـو كانـت
تعبير ًا عن متهيد يسـعى نحـو الحقيقة :فاملعرفـة املوضوعية ال تعني
املعرفـة الخارجيـة ،لكنهـا تعني حدسـ ًا للحميمية .هي إبـداع ذو مع ًنى
ثلايث؛ للبنـاء مـن جديد ،وإلبـراز القيمـة ،وملجابهة مثمـرة .ولكن ،هل
عامـة ،كلَّ الفـرص للتقديـر
يعطـي اللجـوء املواجـه للحـدث الفـرديّ ،
املجدي؟.
نقـد بودلير :تعـود هـذه النزعـة النقديـة ،يف الحقيقـة ،إىل «سـانت
بـوف» وإىل «بودلير»((( الـذي يبدو أنه قـد حقَّق -بطريقـة أفضل -ماكان
يحلـم به «سـانت بـوف» ،يف إخفاقـات غامضة.
فنيـة .إن ً
علما ،بـل هـو مسـاهمة ّ ليـس النقـد ،يف عـرف «بودلير»
النقـد يهـرب مـن األنظمـة ،ويخضـع لألثـر مـع هـذا التعاطـف الـذي هـو
يرتدد
َّ ((( إنه ملن البديهي أال نعني بالنقد االنفعايل نقد منازعة أنصار «موراس» ونقد بائع الصحف الذي ال
الضيق يبعده عن موقف استقبايل،ِّ يف أن يسحق ،بهراوته ،كلّ الذين ال يفكِّ رون كام يجب .إن موقفه القومي
صنعه االنفعال املبدع واملنفتح .وعوض ًا عن هذا ،نجد عودة إىل فلسفة مطلقة رثّة .هذه هي املعادلة التي
ينادي بها «موراس» (مقال عن النقد عام )1896والذوق والكامل والعقل ،والتقليد؛ وكل ما تبقى هو «بربرية».
ونجد ،يف مكان آخر« :هناك جامل خالد ،كالسييك ،عاقل» ..وغري ذلك .يجد «مورا» ،شأنه شأن «السري» ،كلّ
متحيز ،ألنه جزيئ ،نتاج رائع للسلبية ،يف نضال مريب.
ِّ متطرف،
ِّ هذه املبتذالت ،وباسمها يستسلم إىل نقد
وخاصة يف دراسة عن «غوتيه»،
ّ الرومانيس»، «الفن
ّ ديوان يف لـ«بودلري» ((( إننا سنجد اآلثار الرئيسية النقدية
حيث نجد الشاعر قد أدرك -متاماً -منهجه النقدي.
80
أفضـل مسـاعد للـذكاء ،وميكننـا أن نعتربه خضوعـ ًا رفيعاً؛ فبـد ً
ال من أن
خاصة ،ويتبع،
ّ يتبـع األثـر تبعية عبودية وتطفُّـل ،يحيا بالقرب منه حيـاة
أحيانـاً ،طريقـ ًا موازيـة يراقـب منهـا ويحكـم وفـق إيقـاع مسـتقلّ :ولكن،
يك يـدرك «بودلير» أغـوار نفسـه ،يجـب عليـه -وقـد أغلـق أذنيـه على
الضجـة التـي يف الخـارج -أن يضع نفسـه وسـط األثر ،ويحيـا من خالله. ّ
أليسـت هـذه ،يف الواقـع ،هي االزدواجية األساسـية للنقـد الصحيح؟ إن
«بودلير» على كلّ حـال -يحيا هذا بشـغف؛ وهنا تكمن هـذه امليزة التي
كحـد فاصـل ،ألنهـا هـي وحدهـا ميكـن أن تثير ا ِّتصـاالً ،وأن تثير
ّ يقبلهـا
تحـب أو أن تكـره».
ّ إمـا أن
معرفـة؛ «فالحكـم يعنـي ،آنئـذّ ،
أولهـا الناحية الصوفية،هنـاك ،طبعاً ،عند «بودلير» ،حدود غريبةَّ :
جـداً،
ويـأيت -أيضـاً -هـذا الجانـب الغنـايئ ،هـذه الحساسـية املرهفـة ّ
التـي غالبـ ًا مـا تختـلّ وتصبـح خاضعـة ألخطـاء يف التقديـر ،بسـبب
مفاجـآت القلـب وشـطحات الخيـال .إن الشـاعر يبحـث عـن نفسـه أكرث
يفسهـا ،أحياناً،
مما يجـب ،يف اآلثـار التـي يحـاول أن ينفذ إليهـا يك ال ِّ
وفـق إمكاناتـه الشـخصية؛ حينئـذ ،كـم مـن أفـكار قـد تخفـى عليه!
الخلق ،والذيّ نفرس حركة هـذا النقد
ِّ تغير أم منافسـة؟ :إذا أردنـا أن ُّ
يعيـد الخلـق مـن جديـد ،يف آن واحـد ،فـإن هـذه الحركـة التـي تكلَّمنـا
التغير .إن تعاطفـ ًا
ُّ عليهـا يف هـذا الفصـل ،وجـب علينـا أن نأخـذ صـورة
يوحـد النقـد مبوضوعـه :يصبـح النقد ،حينئـذ ،هذا تبـد ً
ال ِّ تامـ ًا قـد يصبـح ُّ
ّ
املوضـوع ،وال يبقـى نقـداً .ولكـن -على عكس ذلـك -تترك مجموعة من
«التغي» رضوري،ّ وجهـات النظر الخارجية النقد غريبـ ًا عن موضوعه .إن
ـد يجـب أن يذهب؟ إننا سنرى كيـف أن تيبوديه ،وفالريي، أي َح ّ
ولكـن إىل ّ
ودو بـوس ،وجالـو ،وريفيير قـد سـاروا بعيـداً ،على تفـاوت ،وذلـك يف
مجال األسـلوب الفكري أو الشـعوري ،وسنرى عمق هذا اال ِّتحاد؛ وكيف
أن «تيري مولنيـه» و«جيرودو» ،وأنصارهام سيسـتخدمون قواهم بعنف،
تقـدم إليهـم ،وقـد جعلـوا بينهـم َّ املـادة الروحيـة التـي
ّ يف نضـال مـع
موضحين أنفسـهم ،وغريهم. ِّ وبينهـا مسـافة أكبر،
81
- 1ألبري تيبوديه
لقـد شـعر ألبير تيبوديه((( ،مسـبقاً ،بـكلّ اال ّتجاهات النقديـة تقريب ًا يف
النقـد الحديـث (النقـد الـذي يسـتند عـإى التحليـل النفسي ،والفلسـفي)،
محتفظـاً ،يف الوقـت نفسـه ،بأفضـل مـا ُو ِجـد مـن قبلـه؛ وهكـذا يكـون قـد
حقَّـق ،يف عصره ،نوعـاً مـن الرتكيـب الـذي نتـج عنـه أن َج َّن َبـه مخاطـر
تبـدالت أكثر شـموالً ،كالتـي سـتجدها عنـد غيره. ُّ
ذكاء وحـدس :لقـد أراد «تيبوديـه» ،قبـل كلّ يشءّ ،أل يفصل املعرفة
الحدسـية عن املعرفة الشـاملة.
ففـي مقـال لـه ،وضـع فيـه كتـاب «بلـزاك» لـ«كورتيـوس» األملـاين
توصـل القرن العرشيـن ،بعد األحكام مقابـل كتـاب «بيلسـور» أعلـن« :لقد َّ
املتناقضـة يف املـايض ،إىل تركيـب عنيـف .إنه يدرك «بلـزاك» ،يف وحدته
تحدهـا ّأية صيغـة ،وهذه البعقريـة أحدثت، خلقـة ال ّ وشـموله ،كعبقريـة ّ
املـادة املعطاة
ّ يف نظـام عظمـة خالـدة ،صورة عن الكون واإلنسـانية من
يف زمـن مـا» .إن النقـد الـذي مارسـه «كورتيـوس» ،يف نظـره «يسـعى إىل
أن يسـتخلص مـن األثـر موضوعاتـه ،وأن يبحـث عـن موسـيقى النفـوس،
بالطريقـة نفسـها التـي كان يبحـث فيهـا «سـانت بـوف» عـن تاريـخ طبيعـي
للنفـوس» ،ويضيـف أن «الناقـد األملـاين قـد هـدف إىل «ميتافزيقيـة»
«سـيكولوجيته» ،وإىل
َّ أمـا الناقـد الفرنسي فقـد سـعى إىل «بلـزاك»ّ ،
األول بالنـار الداخليـة«أخالقيتـه» وإىل االسـتفادة مـن «بلـزاك» .يفكِّ ـر َّ
َّ
يغير مكانـه لينير ،على التـوايل، ِّ الـذي فبالنـور الثـاين ـا أم
ّ لـ«بلـزاك»،
ذكاء،
ً فرييـد اآلخر ـا أم
ّ ً،
ا حدسـ أحدهما يريـد الضخـم. البنـاء مجموعـات
يسـمى
ّ أو -باألحـرى -هـذا الشـكل مـن الـذكاء امل َّتحد بالحساسـية ،والذي
((( ألبري تيبوديه ( :)1936 - 1874شعر ستيفان مالرميه (ُ .)1912ع ّدل سنة ،)1926فلويري ( ،)1922ثالثون عام ًا
لحياة فرنسية ( ،)1923 - 1920بول فالريي ( ،)1924ستندال ( ،)1931فيزيولوجية النقد ( .)1930وهناك قسم
أما كتاب تاريخ األدب الفرنيس كبري من املقاالت التي ظهرت يف ،N.R.Fقد ُجمعت يف مجلّدات الخواطر؛ ّ
من عام 1789إىل أيامنا ،فقد ظهر بعد موته سنة (.)1936
82
«الـذوق» .إن «كورتيـوس» يصنـع مـن مقـال «هوغـو فـون هو فامنسـتال»،
هـذا املديـح الـذي يبـدو أنه «اليكتب عـن «بلزاك» ،بـل يأخذ األفـكار منه».
َ ّ
حـرف الجـر قـد يجديـان كصيغـة لهذيـن الناقديـن. إن
إن الـدور الـذي لعبتـه الفلسـفة ،دون البحـث عن التأثيرات الخارجية،
أو نـوع مـن التكويـن الفلسـفي ،على األقـلّ ،يف النقـد الفرنسي فيما بعد
جداً .ولقد مارسـت فلسـفة «برغسـون»، معب ًا ّ
الحرب ،قد بدا لـ«تيبوديه» ِّ
الخط،
ّ عـودت األذهان على أن تضع ،عىل طـول خاصـة ،تأثير ًا كاملاً «بأن َّ
ّ
قيـم الحركـة بـدل القيـم الثابتـة» .وهكـذا ،ميكـن لنقـد جديـد أن يتشـكَّ ل
لـدى الفالسـفة ،شـأنه شـأن النقـد القديـم ،وقسـم مـن النقـد الحديـث
وهيأتهما الفلسـفة اإلنسـانية ،واألنظمـة األدبيـة». َّ اللذيـن شـكَّ لَتهام
وخاصـة دعـاة الفلسـفة «اإليونيـة» الذيـن لديهـم ّ إن دعـاة «برغسـون»،
«االيليين» لنقد
ّ والتعدد ،سـيكونون أحسـن اسـتعداد ًا من
ُّ التنـوع،
ُّ معنـى
الفالسـفة هـذا ،الـذي يسـعى إىل أن يـرى الك ّتـاب؛ ال على أنهـم أجـزاء من
العـامل (كما كان يفعـل «تين») ،بـل على أنهـم عـوامل.
حـد مـا(((ّ ،إل
إن هـذا النقـد الجديـد ،قـد مارسـه «تيبوديـه» نفسـه إىل ّ
واف ،فقـد أراد إضافة «بلسـور» إىل «كورتيـوس» .وتبدو أنـه قـد بـدا له غري ٍ
مثاليتـه ،مـن خالل املقال الذي ذكرناه سـابقاً ،تنسـيق ًا ملناهـج كثرية :إنه َّ
نقطـة انطلاق فلسـفية ،كام عنـد «كورتيـوس» ،ثم دراسـة لتقنيـة الرواية،
عامـة ،وبتاريـخ الروايـة» (إن هـذا يذكِّ رنا -مسـبقاً -بـ«جان «مرتبطـة بتقنيـة ّ
بريفـو») ،يقـول« :ثـم إين أنهـي عملي يف مجـال التقاليـد والـذوق» مثـل
«بلسـور» .إن هـذه املثاليـة يف التوفيـق تظهـر يف الف َّن ْين اللذَ يْـن ميكن أن
مجلتّ منيزهما يف أثـر هـذا الكاتـب الـذي كان -تـارةً -أسـتاذاً ،وطور ًا ناقـد
ِّ
وكاتـب مقـاالت يف التاريـخ األديب ،والنقـد املحـض.
تاريـخ أديب ونقـد َب ّنـاء :يف كتـاب «تاريـخ األدب» أراد «تيبوديـه» أن
83
املسـتمرة ،الدميومة
ّ يظهـر (وهو مـن دعاة برغسـون املخلصين) الحركة
والسـياق غير املتقطِّ ـع ،و -مبجمـل القـول -حيـاة األدب الفرنسي ،بـد ً
ال
متميـزة؛ من هنـا يأيت املفهـوم الذي
َّ مـن أن يقطـع التاريـخ ِقطَ عـ ًا واضحـة
كالسـيكي ًا «لألجيـال» ،الـذي ّ
حـل مـكان الفترات أو العصور. ّ أصبـح ،اآلن،
إنـه «روايـة جمهوريـة اآلداب» التـي أراد أن يصنعهـا .أضـف إىل ذلـك أنـه،
يدعـي (كام فعـل «برونتيري») أنـه ديكتاتور هـذه الجمهورية عوضـاً ،عـن أن ّ
مسـمي ًا نفسـه
ّ ومتـذوق أبيقـوري للكتـب،
ِّ وحاميهـا ،وضـع نفسـه كهـاو،
«مواطنـاً ،برجوازيـاً ،متسـكِّع ًا يف جمهوريـة اآلداب».
طبـق ،يف كتابـه عـن «فلوبير» ،املناهـج التـي يربهـن عليهـا علـم لقـد َّ
جد ّية لحيـاة «فلوبري»
«النسـون» الواسـع؛ فهـذا الكتاب ينطلق من دراسـة ِّ
وكتاباتـه ،وتعطينـا الطبعـة الثانيـة ،مـع تصحيحاتهـا ،الربهـان على دقَّته.
الخلاق يبدأ حيـث تلتهي سـعة العلم» ،ففـي النقد ّ لكنـه يعـرف أن «النقـد
السـيام حين يكتب عن الشـعراء،َّ عبقريتـه املبدعـة .إنـه ،أحياناً،
َّ البحـت
وشـعرياً.
ّ ميارس نقـد ًا مبدعـ ًا ح ّقاً،
إنـه يتعلَّـق بنتـاج «ماالرميـه» أو «فاليري» ،بطريقـة تجعلـه يفهمه من
الداخـل ،ويتعاطـف -بعمـق -معـه .وقـد يحـدث معـه ،أحيانـاً ،بالنسـبة
إىل «جيرودو»أو «لبيغـي» ،أن يجـد صـور ًا لألسـلوب أو أشـكاله ،قريبـة
يتحـدث عنهـم،
َّ جـد ًا مـن تلـك الصـور املألوفـة للك ّتـاب أنفسـهم ،الذيـن ّ
جوهـم .مـع ذلـك ،يك يبقـى ناقـداً ،إنـه يشـعر أن هـذا ويدخلنـا هكـذا يف ّ
املوقـف للبنـاء مـن جديـد ،لإلبـداع الشـعري يف الدرجـة الثانيـة ،ليـس
التبـدل؛ فينبغـي -رغـم
ُّ ٍ
مبجـد .الميكـن أن يكـون النقـد ّإل شـيئ ًا قريبـ ًا مـن
كلّ يشء -أن نحافـظ على أبعادنـا ،وهـذا مـا يفعلـه -متامـاً -حين يـدرس
روائيين .ففصلـه عـن بلـزاك ،يف كتابـه «تاريـخ األدب» ،هو تطبيـق دقيق، ِّ
إىل َحـد مـا ،للمثاليـة التـي خطَّ هـا يف املقـال الـذي درسـه مـن قبـل :إن
خـاص؛ فهو يحلِّل أسـس ّ «بلـزاك» املبـدع هـو الـذي يثير اهتاممـه بشـكل
املفتاح الفلسـفي،
َ اإلبـداع املختلفـة لدى هـذا الروايئ ،ويعطـي -مجمالً-
والجمايل للكوميديـا اإلنسـانية ،ثـم يـدرس األثـر مـن وجهـة نظـر التقنيـة
84
األدبيـة ،ويختـم بحثـه بحكم ذوقي رسيع .لكن نقـد «تيبوديه» أكرث خصباً،
شـك ،كما يالحـظ «غلـورس» ّ يطبـق على «سـتندال» أو «فلوبير» بلاحين َّ
ذلـك ،ألن الـذكاء النقـدي عالٍ لدى هذيـن الكاتبني .وهكـذا ،إن «تيبوديه»
يسـاويهام بسـهولة ،وكذلـك إن مـا كتبـه عـن «بودلير» ،وعن «رامبـو» لهو
أقـلّ قيمـةً من دراسـاته عـن «ماالرميـه» ،و«فاليري» .ولكن ،هـل ميكن أن
عم يحسـن فهمـه؟ إن كلّ الن ّقـاد ،مهام كان نلـوم ناقـد ًا إن أحسـن الـكالم ّ
منهجهـم ،يقفـون هنا.
نسـتطيع أن نقـول ،أخيراً ،إن نقـده هـو صـورة ناجحـة عـن النقـد
التقليـدي والنقـد الجديـد الـذي أعلـن عـن ظهـوره :لقـد جمـع الحـدس
لتـذوق اآلداب نفسـها،
ُّ والتعاطـف بالـذكاء النقـدي ،والحـرص الفلسـفي
لقـد عـرف أن يستسـلم إىل عـامل األثـر الـذي يدرسـه ليفهمـه مـن الباطن،
محتفظـ ًا بأبعـاده ،ليدخـل فيهـا نظامـ ًا وإرشاقـاً ،كما نجـح يف أن يحافـظ
على الحـدود التـي قـد تكـون رضوريـة بين النقـد واإلبـداع.
((( بول فالريي ( :)1945 - 1871كتاباته النقدية عديدة ،وان كانت موزعة هنا وهناك ،من نصوصه املشهورة عن
ماالوميه ،وليوناردر دافينيش ،وديكارت ،حتى وصفه ألناتول فرانس ،وستاندال ،وفلوبري ..وغريهم ..مراجعة
كتاب «املتنوعات» ،األجزاء :األول ،والثاين ،والثالث ،والرابع.
((( موريس بيمول ،املنهج النقدي لبول فالريي.)1950( ،
85
النقديـة يف هـذا الجهـد الهـادف نحو معرفة مـا هو الفكر .إنـه من الصعب
يهتـم بالك ّتـاب« ،باآلخرين»،
ّ العـام :إنـه
ّ أن نفصـل غايـة نقـده عـن موقفـه
يك يعلـو عليهـم ،ويسـيطر على مؤلَّفاتهـم بالبحـث عـن أرسار صنعهـا
وسيرها ،ألن املشـكلة األساسـية هـي إعـادة بنـاء سير الفكر.
يتوصـل إىل تحويـل َّ إعـادة بنـاء ذكاء :إن نقـد «فاليري» ،وقـد أراد أن
للجوهـر ،وإىل اكتشـاف القانـون الباطنـي للشـخصية الفكريـة ،قـد ا َّتخـذ،
كمنهـج ،أن يعيد يف نفسـه عمل املبدع ،وذلك بواسـطة جهـد عنيد للخيال
نتخيـل فكـراً؟ كيـف ميكـن أن يكـون «ديـكارت»؟
َّ املجـرد :كيـف نسـتطيع أن
َّ
أي نفـع ،فاألحداث إن املنهـج الـذي يعتمـد عىل سيرة ليـس له ،هنـاّ ،
الخـاص»
ّ قـد تكـون خاطئـة .أضـف إىل ذلـك أن سيرة الحيـاة تـدرك «األنـا
أكثر مـن «األنـا العميـق» -وأخيراً -وفـق نظريـة فالرييـة بحتـة ،إن املؤلف
ليـس هـو سـبب األثـر ،إمنـا األثـر هـو الـذي يخلـق املؤلِّـف؛ هكـذا «فإنـه
نوجـه أنظارنـا نحـو األثـر املكتـوب».
يجـب أن ِّ
ُـدم للناقـد ،يجب أن ال نقترص على تحليله :يجب أن نضع إن األثـر الـذي ق ِّ
أنفسـنا -بشـكل مـا -يف ظـروف اإلبـداع نفسـها ،يك ال نكتشـف ،فقـط ،مبـدأ
اآلثـار املكتوبـة ،بـل اآلثـار املمكنـة ،أيضـاً« .إن محاولـة إعـادة ترتيـب األثـر
مـن جديـد ،تعنـي محاولـة ترتيـب جديـدة إلمكانيـة آثـار غير آثـاره ،مـا ميكن
عامـة كهـذه ،فإن فرضيـة ّ
ّ للمؤلِّـف وحـده أن ينتجهـا ،إذا أراد .إذن ،يك نقيـم
الوسـيلة الوحيـدة هي أن ندخل ذواتنا ،أي ندعو «الذاتيـة النقدية» والقياس،
نتوصـل إىل فهـم العقـول األخـرى ّإل يف ذواتنـا ،ومـن َّ ألننـا ال نسـتطيع أن
خلال ذواتنـا« .إن فكـرة موجـزة تجعلنا نعـرف أنه ال يوجد موقـف آخر ميكننا
أن ن َّتخـذه» .ال يهمـل «فاليري» -مطلقـاً -دراسـة األزمـات التي أثَّـرت يف حياة
املؤلّـف ،أي األزمـات الفكريـة ،التـي تشـكِّل منعطف ًا يف سير فكـره ،كام هي
مهمة بالنسـبة
الحال.لـدى «ديـكارت» ،و«وفير هارين»؛ إن دراسـة التأثريات ّ
عـام للعقـول» ،هـذا اال ِّتحـاد الـذي
ّ الحسـاس «تجـاه ا ِّتحـاد
ّ إىل «فاليري»
ال «ماديـاً» بتأثير كاتـب يف كاتـب آخر. يأخـذ شـك ً
مقاييـس الحكـم :إننـا ،حين ننظـر إىل أنفسـنا ،وقـد رشعنـا يف إعـادة
86
نتوصـل -حينئـذ -إىل حكـم :ويـرى «فاليري» أن النقـد -بتحليـل َّ بنـاء األثـر
حساسـ ًا «بنقـاء» األثر
أخير -يعنـي الحكـم .هكـذا ،سـيكون نقـد «فاليري» َّ
مـن خلال مخطَّ طـات املؤلِّـف بالنسـبة إىل القـارئ :هـل يكتـب الكاتـب
دجـال صادر عن جمهـور ما؟ إنه ملجـرد الكتابـة ،أم أنـه يسـتجيب الهتامم ّ
َّ
يقـدر اآلثـار مـن خالل العمـل الروحي الذي توحـي به ،ألنه ِّ أن ً-
ا أيضـ يلـزم-
«يوجـد آثـار يطيـب للذهـن ،يف أثنائهـا ،أن يكـون بعيـد ًا عـن ذاتـه ،وهنـاك
آثـار أخـرى يـروق لـه ،بعدهـا ،أن يجـد نفسـه ،ثانيةً ،بعيـد ًا ّ
جداً ،بشـكل مل
يسـبق لـه مثيل».
87
وخاصـة «دو بـوس»((( ،على مـا نعتقـد ،ذروة النقـد االنعـكايس،
ّ جالـو(((،
والتوحيـدي.
هل النقد تفسير «موسـيقى»؟ :وهكذا ،إن «جالو» أمام اآلخرين ،شـأنه
سـيفك كتابة موسـيقية ،ويجعلها خالدة :وسـيكون ّ املوسـيقي الذي
ّ شـأن
التفسير ممتـاز ًا بقـدر ما يبدي من شـخصية وأمانـة ،يف آن واحد .إذن ،هو
تحـول ال شـعورية كما يف قوله« :حين أجد نفيس ّ يقـول :إن لديـه موهبـة
أمـام أحـد مـا فأنـا موجـود -ح ّقاً -يف حرضتـه؛ فال أهتـم ّإل به ،أغـور يف ما
ويتـم هذا باستسلام حقيقي لنفيس». ّ سـيكونه ،عاطفيـ ًا وفكرياً،
ّ
إن مقـدر ًة كهـذه «لإلصابـة» على حسـابه ،كما يصـاب اإلنسـان بنزلـة
بـرد ،بحيـاة نفسـية غريبـة هـي التـي تسـاعد على انصهـار الشـخص خارج
الخاصة ،وتشـكِّ ل نـواة نقـده .إن العمل
ّ إياهـا حياتـه
الحـدود التـي متنحـه ّ
النقـدي يقتصر -بالنسـبة إىل «جالـو» ،قبـل كلّ يشء ،على التعبير عـن
مسـاهمته الكاملـة مـع املوضوع الذي يشـغله ،وهذه املسـاهمة هي -يف
الوقـت نفسـه -مغامرته الشـخصية.
هـل يعنـي النقـد أن «نقيـم» «األثـر» «باالقتراب منـه»؟ :هنـاك ،عنـد
أشـد غ ًنـى مـا دامـت حيـاة النفـوس الداخلية
ّ «دوبـوس» ،معنـى للكائنـات
هـي التـي تثير اهتاممـه أكثر مـن سـيكولوجية الشـخص الخارجيـة .فهـو
يحبهـم والذين يثيرون إعجابه ،إنـه ال يدينهم ،بل اليتحـدث ّإل عـن الذيـن ُّ
َّ
تام ًا فإن «دو
ّ يكـون أن ميكن ال الفهم هـذا أن ومبـا يفهمهـم. أن إىل يسـعى
يسـميه (التقديـر التقريبـي).
ِّ بـوس»
لذاتيـة الناقـد بقـدر
ّ يصبـح التقديـر ،حينئـذ ،هـذا الجـواب التدريجـي
مـا تسـتحوذ عليـه ،وتـأيت ،مـن هنـا ،التحليلات الدؤوبـة التـي تسـتعمل
((( إدمون جالو ( :)1949 - 1878مراجعة روح الكتب ،مخططات وشخصيات ،ريلكه ،غوته ،الفصول األدبية..
وغريها ..مراجعة :ي.دوليتان -تارديف ،وإدمون جالو (.)1947
((( شارل دو بوس :)1939 - 1882( :فمقاربات؛ 7أجزاء ُن ِشت من عام 1922إىل عام .1937مراجعة غوهيه:
شارل دو بوس (.)1951
88
التلميحـات ،والتشـابية واإلميـاءات ،وتجمـع التفاصيـل لتقترن أكثر
وتعبر عـن الحـدس الربغسـوين البحـت للّغـز اإلنسـاين.
ّ باملوضـوع،
- 4نقد «الرتكيب»
«جريودو» و«تريي مولنيه»
أدت -يف إن عـدم الثبـات يف محـاوالت «دو بـوس» ،و«جالـو» ،قـد َّ
مما يجـب :ففـي الوقـت الـذي يتبـع فيـه تـام أكثر ّ
تبـدل ّالنهايـة -إىل ُّ
يـؤدي األمـر ،بالنقـد ،يف
ّ مغامراتـه الشـخصية ،باحتكاكـه مـع اآلخـر،
يتخلى عـن ذاتـه.
ّ نـوع مـن املفارقـة( ،كما يعترف بهـذا «جالـو») إىل أن
إن «جيرودو» ،و«تيري مولنيـه» ،بفنـون وأسـاليب مختلفـة كثيراً ،يهربـان
كل منهما يضـع نفسـه أمـام اآلخرين ،ال أكثر فأكثر مـن هـذه العقبـة :إن ّ ً
يوديها ،بل كمم ّثـل أمام «دور تأليـف» يصنعه.كعـازف بيـان أمـام معزوفـة ّ
وضـع «جـان جيرودو»((( ،يف نقـده ،الخيـال املبـدع نفسـه الـذي
يقـدم لنـا «الفونتين» كما لـو كان ميكـن
وضعـه يف نتاجـه الـروايئ .إنـه ِّ
الحـظ! إلـه ي َّتخـذ سيرة الحيـاة نفسـها
ّ أن يكـون ،و«راسين» كما أراده
براقـة ،ولكنهـا يف
ألول وهلـةّ -
والتاريـخ نفسـه كذريعـة العتبـارات تبـدوَّ -
منتهـى البعـد عـن الواقـع .يظهـر نقـده كروايـة سـحرية للأدب الفرنسي،
حيـث تبـدو كلّ زخرفـة كواقـع بديهـي ،وحيـث تظهـر املصادفـات األكثر
سـحراً ،وكذلـك املفارقـات األكرث غرابـةً ،يف منتهى الطبيعـة ،وحيث يبدو
النـاس واألشـياء خاضعين ،بعذوبـة رائعـة ،لنـزوة املؤلِّـف .ولكـن ،يجب
توصـل «جيرودو» ،فعلاً ،بواسـطة حـدس ّأل ُن َغ ّـر بهـذه املظاهـر؛ فقـد َّ
جـداً ،إىل أن يسـتعيد القانـون الداخلي للك ّتـاب ،وعلى ّأيـة رضورة
عميـق ّ
صميميـة تجيـب مؤلَّفاتهـم ،إذ كتـب عـن الناحيـة املأسـوية ،عند راسين،
مثلاً ،صفحـات ذات دقّـة عظيمـة ومقـدرة مدهشـة ،وذلك بفضـل تجربته
89
وتأملـه العميـق يف مشـاكل علـم الجمال.
الشـخصية ُّ
متحيـز ًا أول وهلـة- تيري مولنيـه :يظهـر نقـد «تيري مولنيـه»َّ -
(((
ّ
قدم الشـعراء وانفعاليـاً ،وذلـك يف املفارقة التاريخية التي قام بها عندما َّ
ّ
الفرنسـيني ،وكذلـك يف املكانـة املمتازة التـي منحها لـ«راسين»؛ ذلك أن
للفـن تدين كثري ًا
ّ أحكامـه تسـتند إىل فلسـفة جامليـة ،وإىل نظريـة ضمنية
إىل فرتة ما قبل الرومنطيقية املوراسية ،كام تدين لـ«فالريي» بالكالسيكية
ضـد الرومنطيقيـة، ّ الجديـدة .إن نقـده هـو دفـاع عنيـف عـن الكالسـيكية
ضد ضد الحماس غري املراقب ،وعـن الصفاء األريسـتوقراطي ّ الفـن ّ
ّ وعـن
االبتـذال الشـعبي .مـع ذلـك ،إنـه ال يعنـي ،هنـا ،عقائديـة جديـدة .وغايـة
«تيري مولنيـه» األساسـية هـي أن يفهـم أكثر مـن أن يحكـم .إنـه يريـد «أن
يصـل إىل جوهـر» ،فـن «راسين» نفسـه؛ فهـو يحـاول ،يف سـبيل ذلك ،أن
ملرسحياتـه املأسـوية ،باملعنـى املرسحـي للكلمـة.
ّ يعطـي تفسيرات
يؤديه.إن موقـف القـارئ أمـام كتـاب هو نفسـه موقف ممثِّـل أمـام دور ِّ
ويكـون الناقـد أشـبه يشء باملخـرج الـذي يـدلّ القـارئ على الـروح التـي
يجـب أن يضـع نفسـه فيهـا ،لينفـذ إىل أثـ ِر حتـى أعامقـه .وهكـذا ،إن كتابـ ًا
(أو مرسحيـة) ليـس بشيء جامـد أو نهايئ حين يضع املؤلِّف فيـه النقطة
يتـم بالنقد.
النهائيـة .إنـه ّ
والشـك يف أن صيغـة التفسير التـي أعطاهـا «تيري مولنيـه» ليسـتّ
وحدهـا املمكنـة ،بالرغـم مـن أنـه شـديد االقتنـاع بأنـه ال يعـرف صيغـة
أخـرى صالحـة .فكما أنـه يوجـد «فيـدر» ،حسـب «سـاره برنـار» ،ويوجـد
«فيـدر» حسـب «مـاري بيـل» ،كذلـك هنـاك «راسين» عـذب ،و«راسين»
رقيق« ،راسين» بـرأي «لوميرت» ،و«راسين» وفق «مولنيـه» ،أو «جريودو».
نفرس مطلقـاً ،وأن نعطي،
ِّ أهم ّية ،وهذا أفضل مـن أن ال
ولكـن ،ليـس لهـذا ِّ
عـن «راسين» ،صـورة نزعـم أنها حياديـة ،وهـي -يف الواقع -غير أمينة .إن
90
الناقـد ،حين يعـي واجبـه «كرتكيب» ،يصبـح ،حينئـذ( ،إن مل نقـل مبدعاً)
مشـاركاً -على األقـلّ -يف اإلبـداع.
ومجمـل القـول أن النقـد املبـدع ،يف مظاهـره كافّة ،يجيب عىل سـعة
الضيقـة لـ«تني».
ِّ العلـم ،كما أن االنطباعيـة تجيب على الوضعية
ففضلـه ،كذلـك ،وبطريقـة أمثـل ،أنـه يهـدف إىل الجوهـرّ ،إل أنـه
يترك ،جانبـاً ،مبنهجيـة عنيفة ،املعطيـات التاريخية والحياتيـة ،و -بكلمة
مختصرة -كلّ األدوات اإليجابيـة للتحقيـق .إن ثقتـه بالحـدس الفـردي قـد
ال مـن أنتـؤدي إىل بعـض االزدراء ،وقـد وجـد أكثر مـن واحـد نفسـه ،بـد ًّ
يصـل إىل اآلخـر .وبالرغـم مـن الثـورة املجدية التـي أىت بها النقـد املبدع،
ظهـرت اإللحاحيـة لبعضهـم ،على أنهـا تجديـد للمناهـج الوضعيـة.
يهتـم كثير ًا بالحكـم ،أو هـو ال يحكم ّإل
ّ مـن جهـة أخـرى ،هـذا النقـد ال
تحـدث
َّ كمـرور عابـر (وال يظهـر الحكـم ،أحيانـاًّ ،إل يف اختيـار األثـر الـذي
عنـه الناقـد) ،دون أن يعطـي -بالفعـل -الدوافـع ،وسـيظهر تعاطـف أكثر
فلسـفيةً ،يحـرص أكثر فأكثر على البحـث عـن مقاييـس. ّ تسـلُّح ًا أو أكثر
أخيراً ،يظهـر املؤلِّفـون لهـذا النقد كعـوامل صغرية« ،ضامئـر» مغلقة
على نفسـها ،ال تسـعى أن تـدرك العالقـات مـع العـامل الـذي تقيـم فيـه،
الجنـاح السـائد يف النقـد الحـايل.
ُ وهـذا مـا سيسـعى إىل أن يقـوم بـه
91
Sigmund Freud
سيغموند فرويد
1939 - 1856
الفصل الثامن
مجدد
ِّ وضعي
ّ نقد
هـل ميكـن أن تنفـع األداة العلميـة يف إعـداد نقـد ب ّنـاء مبـدع ،ال على
ومفسرة ،مـا أمكن؟ يجـب ،عىلّ أسـس حدسـية ،بـل على أسـس إيجابيـة
ـد أدىن :يجـب أن تكـون الوسـائل التقنيـة التي كح ّ
كلّ حـال ،توفُّـر رشطين َ
جيـداً ،ومل يكـن األمـر هكـذا يف الفترة ـدة إعـداد ًا ّ
نحـاذي بهـا األثـرُ ،م َع ّ
الذهبيـة للنقـد العلمـي ،ثـم إن التفسير العلمـي ،حين ال يتجـاوز أنظمته
األدائيـة ،يقـع وسـط حركـة تحـرص عىل كشـف مدلـول األثر ،وهـي رضورة
مل َي ْبـد «بورجيـه» نفسـه شـاعر ًا بهـا .ويبـدو أن هذيـن الرشطين قـد توفَّـرا
منـذ ازدهـار السـيكولوجية التحليليـة ،سـواء أكانـت تابعـة «لفرويـد» أم
متعصبـة لـه ،ومنـذ إظهـار قيمـة املخطَّ طـات املاركسـية ،لـدى كلّ ِّ غير
الذيـن يريـدون إعـداد نقـد «حديـث» ذي أسـاس سـيكولوجي -اجتامعـي،
جـدي ،يف ا ِّتجـاه يهـدف إىل «فلسـفة إنسـانية» .قـد أو اجتامعـي -نفسي ّ
يتسـاءل البعـض ،مـع ذلك :هـل تسـتبعد كلّ عقائدية ،لصالـح موضوعية
93
أي مـدى ميكـن أن يكـون الحكـم -وهـو الهـدف الضروري لكلّ
ح ّقـة؟ ،وإىل ّ
وبأيـة طريقـة؟.
نقـد -ممكنـاً؟ ّ
((( للحصول عىل مزيد من التفاصيل ،مراجعة :جان س.فيللو يف كتابه« :الالشعور» ،مسلسلة «ماذا أعرف؟»
رقم .1947 - 385
94
األهم ّيـة األساسـية للطفولـة األوىل ،يف تاريـخ تكويـن الشـخصية،
ِّ -
تحـت التأثير املـزدوج للميـول (أو للنزعـات) الغريزيـة ،ولبنيـة املوقـف
تتكـون األبعـاد املختلفة للشـخصية،
َّ السـيكولوجي ،واالجتامعـي« :هكـذا
الـ«هـو» (مجموعـة الغرائـز والدوافـع الالشـعورية)« :األنـا» (مجموعـة
وظائـف الوعـي واإلدراك «األنـا العليـا» (اسـتجابات الشـعور بالذنـب،
والـروادع).
سـيام
املهـم الـذي تلعبـه الرصاعـات النفسـية الداخليـة ،ال ّ
ّ -الـدور
عامـةً ّ -
حلا لهـذه الرصاعـات ،وذلـك بواسـطة اإلحبـاط؛ يحقِّـق السـلوكّ -
آليـات ،كالتحويـل ،واإلشـباع ،والتصعيـد ،والتربيـر ..وغريهـا.
-أخيراً ،الالشـعور الـذي يجـد فيـه الفـرد نفسـه ،يف آن واحـد عرضـة
للرصاعـات املسـيطرة واملتطلَّبـات الراهنـة؛ فهـو ال يعـي ّإل النتائـج.
ينتـج عـن هـذا كلّـه أن «فعـل الكتابـة» ،وهـو سـلوك ،يكـون اإلبـداع
خاصـة ميكـن تحليلهـا ،وتفكيكهـا كغريهـا .إن كل ّ األديب ليـس ّإل حالـة
أثـر هـو حصيلـة سـبب سـيكولوجي ،ويحتـوي على «مضمـون ظاهـر»،
و«مضمـون مسـترت» ،كالحلـم ،متامـاً :إنـه «إضفـاء» للحيـاة النفسـية
للمؤلِّـف ،ولدوافـع غالبـ ًا مـا تكـون بعيـدة عـن أن يعيهـا حين يكتـب .إن
يحـدد -بدقّـة -التحليـل النفسي األديب.
ّ تحليـل املضمـون املسـترت ألثـر
التحليـل النفسي األديب :لكـن ،حـذار :فـإن «فرويـد» فرويـد نفسـه،
يف مالحظـات منفـردة تتعلَّـق بـ«شكسـبري» ،ومبقالـه عـن «دستويفسكي
وجرميـة قتـل األب» ،وكذلـك تلميـذه «رانـك» ،والدكتـور «الفـورك»،
تعمدوا أن
َّ
(((
و«مـاري بونابـرت» ،يف دراسـتهم عـن «بودلير» ،و«إدغار بـو»
يظهـروا كيـف ميكن اسـتخدام إنتاج أديب كأداة تسـمح بالتنقيب يف أعامق
التوصـل إىل إمكانـات
ُّ املؤلِّـف السـيكولوجية أكثر مـن أن يطمحـوا إىل
95
أفضـل يف التنقيـب والحكـم :إن هدفهـم هـو تحليـل املصابين بالعصاب،
بواسـطة األثـر ،ال أن ينتهـوا إىل تقديـر نقدي! إن نقدهم هـو تحليل نفيس،
مجـرد نقـد أديب.
َّ وليـس
وعلى العكـس ،أصبـح موضـوع التحليـل النفسي األديب منـذ مؤلَّفات
«بـودوان»((( يهـدف -بـذكاء أكثر -إىل اكتشـاف عنـارص تفسير وتقديـر
جديـدة ،مـن خالل التوضيح السـيكولوجي .يقترص منهج «بـودوان» ،الذي
للمادة
ّ تب ّنـاه «مـورون»((( على اللعـب -يف آن واحـد -على دراسـة دقيقـة
واألثـر ،وعلى املعطيات الحياتيـة ،ليبني ،من جديد ،املركَّ بات األساسـية
الباطنيـة؛ إن النقـد الـذي يسـتعمله «غاسـتون باشلار»((( ،مـن جهتـه ،يف
املتنوعـة التي
ِّ تخيـل العنـارص ،يقترص على إيجـاد املركَّ بـات
أعاملـه عـن ُّ
تعطـي الوحـدة ملوضـوع أديب ،مـن خلال مؤلَّفـات كثير مـن الشـعراء
والك ّتـاب .وعلى كلّ حـال ،إن األثـر هـو مـا ميكـن أن نقـدر ،ونشرح؛ ولهذا
إذا كانـت إحـدى حـركات التحليـل األديب تذهب من األثر إىل اإلنسـان ،فإن
حركـة أخـرى تفضي ،دامئـاً ،إىل العـودة الرضوريـة إىل األثـر.
يجـب ّأل نعتبر تحليلاً كهـذا يقلِّل من قيمتـه ،ألن النقـد إذا كان يضع،
باسـتمرار ،العنـارص البدائيـة ،الطفوليـة ،والجنسـية مـع تف ُّتـح القلـب،
األوليـة.
يدعـي إرجـاع هـذه الحـوادث األخيرة إىل َّ والفـن ،فهـو ال َّ
ّ والـذكاء
ال يقـول ،أبـداً ،املحلِّـل النفسي لظاهـرة« :ليسـت بشيء ّإل .»..يقـول
«مـورون» ،بوضـوح :إنـه إذا زعـم الناقـد ،باعتبـاره عاملـ ًا نفسـي ًا يشرح
فـن ،فإنه
أهم ّيـة ،وباعتبـاره هاوي ّ
أثـراً ،أن مـا يوجـد يف الباطـن هـو األكثر ِّ
يبحـث ،يف بنيـة املضمـون املسـترت ،عـن الوحـدة املعبرة عـن العنـارص
الظاهـرة .بعـد أن نكـون قـد توصلنا إىل املركز الالشـعوري ،يجـب ،أن نرى
فيـه الرابـط الذي يعطي ،للنصوص ،النربة اإلنسـانية والصادقة ،فحسـب؛
((( شارل بودوان ،الرمز لدى فريهارن ()1924؛ التحليل النفيس لفيكتور هيغو (..)1943
((( شارل مورون ،مدخل إىل التحليل النفيس ( .)1950
((( غاستون باشالر ،لوتريامون ( ،)1938التحليل النفيس للنار ،)1938( ،املاء واألحالم ( ،)1941الهواء
واملنامات ( ،)1943األرض وأحالم اليقظة للراحة ()1948؛ األرض وأحالم اليقظة لإلرادة (.)1948
96
فحين يرينـا «بـودوان» «هيغـو» متم ِّزقـ ًا بين املتطلَّبـات املتناقضـة
للعدائيـة وللشـعور بـاألمل ،أو حين يرينـا «مـورون» «ماالرميـه» قـد تأثَّـر،
ميتة ،فهما ال يريدان أن يقوال إن هذين الشـاعرين إىل األبـد ،بذكـرى أخـت ّ
ليسـا ّإل هـذا ،بـل إن هذيـن الشـاعرين ما كانـا ليكتبا ما كتبا ،مـن غري هذا.
يسـمح التحليـل النفسي ،إذن ،بـأن يجمـع عنـارص قـد تبدو متناثـرة .أفال
توحـي القصائـد واملؤلَّفـات الخيالية ،يف أغلـب األحيان ،ومن تلقاء نفسـها،
بفكـرة شـبكة مـن الصـور التـي تجـذب ،وتسـتوحي الواحـدة األخـرى بطريقـة
محددة مسـيطرة َّ متكـرراً؟ وإذا أمكـن ربـط هـذه الصور بنقـاط
ِّ ُت ِ
حـدث توافقـ ًا
واقعيـة سـيكولوجية عميقـة ،فـإن هـذه النقـاط الثابتـة تجمـع صـور ًا ّ متلـك
ال ميكـن تفسيرها ،للوهلـة األوىل .إن مفهـوم «املعنـى املـزدوج» ميكـن
الخفـي ،لـدى
ّ امليتـة
للنـص :وهكـذا ،إن تسـلُّط األخـت ِّ
ّ أن يغنـي تفسيرها
«مالرميـه» ،يوحـي باختيـار الصور ،وهـذا واقع بني الواقع الحـايل والحاجات
نصـ ًا يف كلّ
الالشـعورية؛ ولهـذا مـن املالئـم -بديهيـاً -أن نفحـص ،بعمـقّ ،
جزئياتـه« ،السـطحية منهـا» ألن كلّ يشء ميكـن أن يكـون أداة للكشـف. ّ
وهكـذا ،تظهـر مقاييـس للتقديـر «باطنيـة» جوهريـة .وبالفعـل ،إن
األثـر يكـون «أصيلاً » حين تغـوص جـذوره يف غنى باطنـي عاشـه املؤلِّف،
وميكـن أن ي َّتصـل بـه القـارئ ،وإن األثـر ليكلِّمنـا على قـدر مـا ي َّتفـق مـع
جـداً ،وال ميكـن أن ي َّتفـق معنـا ّإل إذا كان ينجـم هـو نفسـه
الرس ّيـة ّ
ِّ ميولنـا
مـن عنـارص صادقـة عاشـها املؤلِّـف ،ح ّقـاً.
خصصهـانقـد األصالـة عنـد «باشلار» :إن «باشلار» ،يف كتبـه التـي َّ
للصـور «الخياليـة» التـي نصنعها من «العنارص» األساسـية :املـاء ،والنار،
ألـح كثري ًا على الخيط املمتـاز للقيـادة الذي ميكن
والهـواء ،والتراب ،قـد َّ
نـص.
أن يقـوم عليـه التحليـل املركَّ ـب يف الحكـم على ّ
حقيقيـ ًا للصـور» .إنـه يشـعر ً
«ظمأ املـادة،
ّ بالفعـل ،إن لعقلنـا ،أمـام
ّ
«تقيـم» الصخـر
ّ يتخيلهـا وفـق نزعـات عميقـة :الصـور َّ بأفـراح عظيمـة
كاملـاء ،واللهـب كاملعجونـة التـي ننحتهـا .إن املركَّ بـات املرتبطـة بهـذه
الصـور تعطـي وحـدة «ملراكـز أحلام اليقظـة العفويـة» .إن «باشلار» وقد
97
أشـد
ّ َحلَّـل هكـذا «فـرح القطـع» (الحراثـة ،قطـع شـجرة) ،قـد كتـب« :مـا
تـؤدي ،يف
امتلاء حياتنـا بهـذه التجـارب الغريبـة التي نسـكت عنها ،والتي ّ
ال شـعورنا ،إىل أحلام يقظـة ال نهايـة لهـا!».
ّإل أنـه ،يك تصـل الصـور واالسـتعارات إىل القـارئ ،يجـب أن نغـوص
يف «حقيقـة حلميـة» فلكي يكلِّمنـا كهـف أديب صـادق يجـب أن يبعـث فينا
أفراحـ ًا غير محسوسـة مرتبطـة بأحلام يقظـة الكهـف ،النمـوذج العاملي؛
لهـذا يطلـب «باشلار» «تجديـد ًا للنقـد األديب» أي يريـد «نقـد ًا سـيكولوجي ًا
للمخيلـة» «لقيـاس القـوى الشـعرية ِّ يحيـي مـن جديـد ،الطابـع الفعلي
الفعالـة يف املؤلَّفـات األدبيـة».
ّ
يكون دور هذا النقد:
-أن يفضـح الزيـادات والزيـف والتربيـرات الرديئـة وخيانـات ثبـات
املتخيلـة.
ّ األنظمـة
متخيل.
َّ الجيدة» التي ت َّتفق مع واقع
ِّ مييز «الصور
-أن ِّ
-أن يسـاعد القـارئ على أن «يحيـا» الصـور األدبيـة ،بإعطائهـا «تعليقـ ًا
حيـاً» ،يختلـف كثير ًا عـن التعليـق العقلاين ألسـتاذ البالغـة ،وبدقـة أكثر،ّ
وحلمـي»؛
ّ أيديولوجـي
ّ التعليـق، مـزدوج منهـج «إىل «باشلار» دعـا فلقـد
الخاصة للحلم ّ املميـزات
ِّ وهكـذا ،إننـا إذا مارسـنا ،عن طريق الحلم ،معرفة
املتاهـي ،أمكننـا أن نحلـل منوذجـ ًا للشرح األديب آلثـار مختلفـة ّ
جـداً».
يجـب أن يكـون الناقـد ،يف ظروف كهـذه ،جدير ًا بـ«أن يحكـم من وجهة
التفهـم الـذي ينتظـره الكاتـب
ُّ نظـر الالشـعور» ،وذلـك بواسـطة نـوع مـن
الحـق ،بطريقـة غامضـة مـن القارئ .حينئـذ ،يسـتطيع أن يعلِّـم الكاتب أنّ
يتوصـل القـارئ إىل «أفـراح أدبيـة».
َّ يك ً»
ا ـد جي
ِّ «يحلـم
بـارت و«املواضيـع» :مـع أن غايـة «روالن بـارت»((( يف كتابـه الحديـث
98
«مقدمـة للنقـد»
ِّ «ميشـليه» ،ليـس أن يحكـم ،أو يقيـم نقـد ًا حقيقيـاً ،بـل
فحسـب ،فـإن حرصـه «أن يعيـد لإلنسـان ترابطـه» ،وأن «يجد ،مـن جديد،
وخاصـة محاولتـه أن يكشـف يف نتاجه عن ّ بنيـة وجـود» جديـرة بالتحليـل،
«وحـدة موضـوع ،وعـن شـبكة منظمة لفكـرة ثابتـة» تابعة لنقد «باشلار»:
أليـس لديـه ،باإلضافـة إىل ذلك ،الطموح يك «يعلِّمنا أن نقرأ «ميشـليه»»؛
ليـس فقـط باألعين ،بـل «بالذكـرى» ،أيضـاً ،وذلـك أن نعيـش مـن جديـد،
املـادة؟».
ّ بنـوع مـا ،مواقـف «ميشـليه» «بالنسـبة إىل بعـض ميزات
ّإل أنـه يهـرب ،يف آن واحـد ،مـن التحليـل النفسي لـ«باشلار» الـذي
يحـرص على أن يبقـى على مسـتوى الصـور الداعيـة ،عوضـ ًا عـن أن يذهب
إىل املدلـوالت الالشـعورية ،كما فعـل «مـورون» مثلاً ،وأن يسبر وحـدة
نقدر
اإلنسـان مـن خلال الصـور كما فعـل «باشلار» .على كلّ حـال ،إننـا ِّ
«مضرج بالدمـاء»،
َّ الصـورة التـي رسـمها عـن «ميشـليه» «آكل التاريـخ»
عاشـق «املـرأة اللطيفة املعشر» ،وقـد أراد أن يكون الرجـل الوصيفة.»..
يدعـي «جـ.ب.فيبري»، أبحـاث أخـرى تعتمـد املوضوعـات «التيامتيـة»َّ :
يف بحثـه عـن «املواضيـع» يف كتابـه «خلـق األثـر الشـعري» ،أنـه يجـد
(((
((( غاليامر ()1960؛ انظر كتاب «مجاالت املوضوعات ،غاليامر .1963إن هذا «النقد الجدير» قد هاجمه-
«الحر ّيات» بوفري .1965جواب جـ.ب.فيبري ،نقد
ّ بعنف -ر .بيكار يف «نقد جديد أم عصيان جديد» ،مجموعة
«الحر ّيات» بوفري ( .)1966جواب روالن بارت ،نقد وحقيقة (.)1966
ّ جديد وعلم النقد ،مجموعة
99
- 2النقد واملاركسية
إن تفسير األثـر األديب بواسـطة السـيكولوجية الفرديـة ،ولـو كان
التحيـز :فالعامـل النفسي مرتبـط بالعامـل ُّ جد ّيـاً ،ال يخلـو مـن
التفسير ِّ
يتـورع عـن الرجـوع إىل العامـل َّ االجتامعـي ،والتحليـل النفسي ال
االجتامعـي ،مـن وجهـة تأثير األرسة يف الشـخصية ،ومـن وجهـة األصداء
املتداخلـة بين املبـدع والقـارئ؛ إننـا نجـد ،عنـد بعضهـم مثـل «يونـغ»،
العـودة إىل «الشـعور جامعـي» وإىل «مركَّ بـات جامعيـة» ،ميكـن أن تكـون
أصـل اإلبداعـات األدبية املعطـاة .لكن السـيكولوجية االجتامعية للتحليل
خاصـاً ،هـو وحـده القـادر
ّ ضيقـة واصطالحيـة ،وإن علـم اجتماع النفسي ِّ
على أن يربـط األثـر ،مـن جديـد ،بطريقـة مجدية ،بظروفـه التابعـة للبيئة،
خاصـة -ليـس العـودة إىل ّ بواسـطة مفاهيـم مالمئـة .واملوضـوع ،هنـا-
مثاليـة «تين» ،و«برونتيير» ،و«هانـكان» ،و«بورجيـه» ،الذيـن مل يكـن
لديهـم مفهـوم واضـح عـن أصـل «العامـل االجتامعـي» ألنهـم أعـادوه إىل
«حالـة نفسـية جامعيـة» أي إىل عنـارص سـيكولوجية واجهـت ،بعـد ذلك،
الفـن والبيئـة؛ وهـذا ما قادهـم ،غالباً،
ّ مطابقـة سـاذجة للنمـط اآليل ،بين
وحر ّيـة الكاتـب.
ّ إىل أن يسـيئوا معرفـة دور الفرديـة املبدعـة،
وبالفعـل ،إن املفاهيـم املاركسـية هـي التـي تسـيطر على املحـاوالت
املجديـة للنقـد االجتامعـي ،وتؤ ِّثـر كثيراً -كما سنرى -يف اال ِّتجاهـات
الحاليـة للنقـد الفلسـفي ،ومبـا أنهـا ،غالبـ ًا مـا ُيسـاء فهمهـا وهـي أكثر
ّ
مما نعتقـد ،فمـن املالئـم إبرازهـا. (تلوينـات) ّ
املفهـوم املاركسي لـ«األيديولوجيـة» :هـذه بعـض نقـاط أساسـية
للتحليـل املاركسي:
املاد ّية».
ِّ -للحيـاة االجتامعيـة بنيـة تحتيـة ،قـد أقامهـا «إنتـاج الحيـاة
يعبر هـذا األخير ،عـن إحـدى مراحـل عالقـة اإلنسـان مـع الطبيعـة، ِّ
ويحدهـا ،ويظهـر البنيـات األساسـية (ليسـت الوحيـدة) للمجتمـع .إن ِّ
كلّ تعديـل القـوى املنتجـة يحـدث تعديلاً يف العالقـات االجتامعيـة،
100
والعالقـات االقتصاديـة.
يحـدد (الصراع الطبقـي) ،بشـكل أسـايس ،وال يسـتبعد العالقـات ِّ -
محـرك التاريـخ هـو -بالضبـط -هـذا الصراع،االقتصاديـة -االجتامعيـة ،وإن ِّ
الـذي يسـعى ،يف نهاية األمر ،إىل االسـتيالء على أدوات اإلنتاج .ما من مرقب
يحـدد ،يف فترة معطاة ،هـذه البنية يف حركتها الجدلية الراسـخة؛ هذا يعني ِّ
أن مجتمعـ ًا مـا ينتـج ،دامئـاً ،الظـروف االجتامعيـة -االقتصادية لظهـور طبقة
جديـدة (وقـد أحـدث النظـام اإلقطاعـي ،هكـذا ،الربجوازيـة ،فـإن الربجوازيـة
تنتـج طبقـة الربوليتاريـا) التـي تصبـح ،يف فترة مـا ،الطبقـة املسـيطرة.
-إن البنى السياسـية ،والدينية ،والثقافية تعلو هذه البنيات األساسـية؛
والسـيام الطبقـة التي تسـيطر عىل
ّ وقـد بنتهـا الطبقـات يف أثنـاء رصاعهـا،
وسـائل اإلنتـاج .إن الظواهـر (األيديولوجيـة) ،أي مجموعـة األفـكار التابعة
مهمـة ،وهي التي
للمشـاكل السياسـية ،واألخالقيـة ،والجامليـة ..وغريهاّ ،
تعطـي للطبقـة التـي تنتجهـا ترابطـ ًا ونظامـاً ،وميكـن أن تنفـذ إىل الطبقات
املنافسـة أو الهامشـية عـن طريـق (الحرمـان) .هنـاك ارتبـاط نسـبي بين
البنيـة الفوقيـة والبنيـة التحتية.
أسس النقد املاركيس :إن دعائم عمل النقد املاركيس هي(((:
-إن األثـر األديب ينتمـي إىل البنيـة الفوقيـة اإليديولوجيـة ،ويجـب أن
ُيـدرس ،إذن ،يف عالقاتـه الجدليـة مـع البنيـة التحتيـة .ليـس أكثر مـن
والخلق ملفكّ ر ،فإن
ّ التحليـل الـذايت الـذي يبالغ يف تقدير الطابع املبـدع
نظريـاً،
ّ التحليـل االجتامعـي علـی مسـتوى الوسـط االجتامعـي املختلـف،
101
ليـس مبطابـق :يجـب وضـع اإلنسـان واألثـر وسـط ميـزة الصراع الطبقـي.
-إن األثـر األديب ،باعتبـاره إيديولوجيـا ،لهـو تعبير عـن رؤيـة للعـامل،
وعـن وجهـة نظـر على مجمـل الواقـع ،الـذي ليـس هـو بحـدث فـردي ،بـل
هـو حـدث اجتامعـي -النظـام الفكـري الـذي ،يف ظـروف مـا يفـرض نفسـه
على جامعـة مـن النـاس ،على طبقـة :يفكِّ ـر الكاتـب بهـذه الرؤية ،يشـعر
العامـة» التـي ت َّتفـق مـع البنيـة
ّ ويعبر عنهـا .لـكلّ عصر «مواضيعـه
ّ بهـا،
الخاصـة بالطبقـات
ّ التجـرد،
ُّ االجتامعيـة ،كمواضيـع معارضـة الواقـع أو
الخاصـة بالطبقـات املسـيطرة، ّ املنهـارة ،ومواضيـع تربيـر الحـارض،
تعبر عـن صعـود الطبقـات الصاعـدة. ِّ ومواضيـع تجديـد وأمـل
متدنـا
ليسـت حيـاة املؤلِّـف هـي التـي ميكنهـا ،يف ظـروف كهـذه ،أن َّ
باملعلومـات؛ فإلقامـة موضـع األثـر يف الرتكيب االجتامعي ،يجب تفسير
املضمـون مـن خاللـه .وبالفعل ،إن الوسـط االجتامعي ،حيث ينشـأ األثر،
يعبر عنهـا ليسـا -بالضرورة -املـكان الـذي أمضى الكاتـبِّ والطبقـة التـي
قسما مرموقـ ًا مـن حياته.
ً فيـه شـبابه أو
وميكـن أن يحـدث تفـاوت بين األفـكار الفلسـفية ،واألفـكار السياسـية،
والنيـات الواعيـة للكاتـب ،والطريقـة التـي يشـعر بهـا أو يـرى -مـن خاللهـا- ّ
العـامل الـذي يخلقه .وهكذا ،إن «بلـزاك» ،مع كونه ملكيـ ًا ورجعياً ،وبالرغم
صح بهـا للطبقـة األرسـتقراطية ،قـد جعـل منهـا هدفـ ًا محبتـه التـي َ َّ
َّ مـن
الخاصـة بـه .ذلـك
ّ مصعـد ًا بذلـك أحكامـه املسـبقة
ِّ للسـخرية والهجـاء،
املعبر عنهـا ،والوسـط االجتامعـي.
ّ أنـه ليـس مثّـة عالقـة آليـة بين الرؤيـة
يعبر الكاتـب ،أحيانـاً ،عـن الطبقـة املسـيطرة «ديـدرو» أو عـن الطبقة وقـد ِّ
املسـيطرة التـي هـي يف طريـق التدهـور «بروسـت» ،ولكـن غالبـ ًا مـا ينفصل
وخاصـة حين ال يبقى لديهـا مـن دور ّإل املحافظة ّ عـن الطبقـة املسـيطرة،
عىل بنيات بالية (نيتشـه ،ومالرو) .وقد يحدث أن كاتب ًا من الطبقة املسـيطَ ر
تخـص الطبقة املسـيطرة عليها، ّ بر -بالفعل -عـن رؤية للعامل عليهـا ،قـد َع َّ
تخـص الطبقـة املسـيطرة ،أو أن مؤلف ًا ما
ّ قـد عبر بالفعـل عن رؤيـة للعامل
أيديولوجيـات متناقضة (ولقد أثبت
ّ بر ،معاً ،يف مؤلفات مختلفـة ،عن قـد َع َّ
102
هـذا بالنسـبة إىل «غوتـه») ،و -أخيراً -إن الصيغـة املسـتخدمة تتعلَّـق هـي-
املحـددة ،وليسـت مبنفصلـة عـن املضمـون .ال
ّ أيضـاً -بالظـروف التاريخيـة
الخاصة.
ّ فـن قوانينـه
يوجـد شـكل مسـتقلّ ،ولـكلّ ّ
مـرة أخـرى ،قيـاساألصالـة ..حكـم نقـدي «وتطبيـق عملي» :إننـا نجـدّ ،
األصالـة لـدى املاركسـيني ،لكنـه ،هنا ،ليس مـن طراز سـيكولوجي .يكون األثر
أصيلاً حين يعكـس -ح ّقاً -مظهـر ًا ما ملرحلـة تاريخيـة ،أو املرحلـة التاريخية
التـي يعارصهـا على نحـو حقيقـي .إن أثـر ًا مجديـ ًا أو ّ ً
مهماِّ ،
يعمـق جـذوره يف
وغني.
ّ ويعبر عنـه بواسـطة عـامل مـن الشـخصيات مرتابـط ِّ وعـي عصر،
خاصـة؟ إنّ ولكـن ،أليسـت األصالـة هـي مـا للمؤلِّـف مـن عبقريـة
املاركسـية تنتهـي ،بطريقـة متناقضـة ،إىل أن تؤكِّ ـد أنـه كلَّما كان األثـر
ويفرس ،مبارشةً ،بواسـطة
ِّ مهما ،يحيـا على قدر ذلـك ،ويفهم من نفسـه، ًّ
فلسـفة مختلـف الطبقـات االجتامعيـة -ولكـن ،على قـدر مـا يكـون األثـر
البـد مـن شـخصية ذات قيمة، عظيما يكـون -شـخصياً -كذلـك :وبالفعـلّ ، ً
وغنيـة ،لتفكِّ ـر وتحيا رؤية العـامل ،وت َّتحد أفضـل مع الحياة ّ وفرديـة قـادرة
فعالـة ومبدعة. والقـوى األساسـية للوعـي االجتامعـي ،فيام لها مـن طاقة ّ
للمـرة األوىل ،عن
ّ يعربون،
ِّ أليـس الك ّتـاب األكثر إبداع ًا هـم ،غالباً ،الذيـن
عـامل يف فترة انتقـال ،وعـن مرحلـة انتقـال بين املرحل َت ْين ،ويعكسـون-
خـاص -القيـم الجديـدة التي توشـك أن تولـد ،أو يسترجعون القيم ّ بشـكل
اإلنسـانية والواقعيـة للمايض ،يف رؤيـة القـوى الجديـدة التـي تخلـق
تقدميـة».
املسـتقبل؟ كتـب «غولدمـان»« :إن العبقريـة هـي دامئـاًُّ ،
مـع ذلـك ،إن االقتصـار على ربـط الحكـم النقـدي باألصالـة ليـس
بـكاف ،فهـذا يعنـي أن ننسى «التطبيـق العملي» ،وهـو الربـاط األسـايس، ٍ
وعصـب املنهـج املاركيس ،بين الفكر والعمـل .كتب «كورنـو»« :إن النقد
املاركسي وقـد ا ّتجـه -أصلاً -نحو العمـل ،ا َّتخـذ موضوع ًا له -ليـس تقدير
تحـدده فقط،
ِّ امللـح إىل العالقـات الطبقيـة التـي
ّ مضمـون األثـر بالرجـوع
خاصة نحو املسـتقبل». ّ بـل مشـاركة ومسـاهمة اآلثار الجديـدة املتطلّعة
الفـن كان أداة لخدمـة الثـورة» .ألـن تكـون ،إذن،
ّ كتـب «لينين»« :إن
103
رسـالة األدب أن «تقـوّي األخلاق والوحـدة السياسـية للشـعب»؟ بالفعـل،
محـدد ًا مـن رؤيـة عـامل
َّ تنوعـاً ،ألنـه ،إذا كان الكمال
يجـب أن تكـون أكثر ُّ
نيـة قـدلتفهـم التعليـم أو الدعايـة ،وهـي ّ
ُّ نيـة
الكاتـب ،فـإن هـذا ينفـي كلّ ّ
الحـي والواقعـي للكائنـات واألشـياء :أن يكون اإلنسـان كاتب ًا
ّ تهـدم الطابـع
ميثِّـل طبقة الشـعب ،هـذا يع َن ْي أن يـرى خالئقه بعي َن ْي عامـل ،ال أن يربهن
الربوليتاريني
ِّ صحـة النظريـة الشـيوعية .مـن جهـة أخـرى ،إن الك ّتـاب عـن ّ
ليسـوا وحدهـم من يرىض عنهم املاركسـيون! وإذا كان «ديـدرو» برجوازي ًا
اإلعجـاب الـذي ميكـن أن نك ّنـه لـه .كتـب
َ يفسر ،يف يشء، فـإن هـذا ال ّ
يكـف عن كونة عنيفـ ًا وموضوعي ًاّ «لوفيفـر»« :إن النقـد املاركسي ،دون أن
أس ،ميكـن أن يتعاطـف مـع الرجـال العظـام». وذا ّ
104
متميـزة؛ مبعنـى أنهـا تفسـح املجـال ألحـكام أخـرى ،حدسـية ،أو
ِّ حـال-
ذات أسـاس فلسـفي أكثر شـموالً.
يتعمقـا كثير ًا
َّ - 5أخيراً ،إن التحليـل النفسي والتحليـل املاركسي مل
يف التحليـل الفكـري عـن فعـل الكتابـة ،املواجـه يف شـموله ،وهـو تحليل
يجـب أن يرافـق كلّ محاولـة لنقـد يسـعى ألن يهـرب من سـحر االنطباعية،
التبدل.
ُّ أو
Stendhal
ستندال
1842-1783
الفصل التاسع
النقد والفلسفة
تفهم أكرث
جليـاً -أن نزعـة تصعيـد النقـد تكمـن يف البحـث عـن ُّ يظهـرّ -
املتعثرة مـع «سـانت
ّ نفـاذ ًا لآلثـار والك ّتـاب املرموقين .إن هـذه النزعـة
املتحـررة بعـد «تيبوديه» ،قـد ازدهرت يف الفترة الحالية لدى كلّ
ِّ بـوف»،
حقيقيـ ًا لغالبيـة املناهـج النقدية
ّ الذيـن يحقِّقـون (وهـم كثيرون) تجـاوز ًا
التـي صادفناهـا يف طريقنـا ،و -بالفعـل -إنـه تجـاوز للنقـد القائـم على
التفسير العلمـي والنقـد التابـع لـ«تني» ،وكذلـك نقد التحليـل النفيس أو
التحليـل املاركسي.
«نغير النبرة» ،وأن نلتقـي مـع جوهـر األثـر يف
ِّ وذلـك حين نحـاول ّأل
لعمليـة الفهـم).
ّ الخـاص (وهـذا هـو التعريـف الدقيـق
ّ مرمـاه ،ويف هدفـه
مجـرد أداة لتحديد املضمون
َّ إنـه تجـاوز حني نعتبر املعلومات الواسـعة
دون أن نهمـل اسـتخدام هـذه املعلومـات ،وهـو -أخيراً -أكرث مـن تجاوز؛
107
إنـه امتـداد أصبـح -باملناسـبة -فلسـفة حقيقيـة للعمـل األديب إذا مـا
توصـل النقـد املبـدع والب ّنـاء ،بفضـل تقنيـة فلسـفية حقيقيـة ،إىل أن َّ
للتبدل،
ُّ يصعـد املظهـر الـذي غالبـ ًا ما يكـون مغرقـ ًا يف الفرديـة ،وعرضـةً
ويرفـض ،على كلّ حـال ،أن يقتصر هدفـه عىل أن يعكـس وعيـاً ،ويريد أن
يكـون يقظـاً ،ويصبـح ،قبـل كلّ يشء ،طريقـة تسـاؤل.
ذلـك أن النقـد ،شـأن القصـد الفلسـفي ،يحقِّـق جهـد ًا ليـدرك اإلنسـان
وليحـدد مكانـه بالنسـبة إىل وضعـه البشري .إن النقـد وقـد ِّ يف شـموله،
على حـرص أن يحـب األثـر يك يـدرك ،فينومينولوجيـاً ،مدلولـه الباطنـي،
خاصـة ،لكـن هدفه
بالشـك -منحـدر مـن رؤى «فاليري» ،أو «دوبـوس»ّ ، ّ هـو-
أكثر دقّـة؛ فهـو أبعـد مـن أن يكتفـي بـأن يفكِّـر يف فلسـفة ،يـدرك الكاتب (ال
على أنـه «نفـس» و«إنسـان داخلي» ،مغلـق على نفسـه) ،وملصيره الفردي
الخاصـة ،بـل كمظهر لوحـدة اإلنسـان -العامل التي ال تتفـكَّك ،و -من ّ قيمتـه
ـم -إنـه يضـع نفسـه وسـط أثر ،فهـذا يعنـي أن يجد (كما يريد املاركسـيون) َث َّ
مرمـى إىل العـامل ومركـز ًا ورؤى على عرص ،و -مبجمل القول -املسـافة التي ً
عاشـها الوعـي نحـو مـا هو ،عىل وجـه الدقّة ،وعـي .أضف إىل ذلـك أن النقد،
بشـدة ،وبوعي -بفترة أزمة حضارة ،مل يعد اسـتمرارها مضموناً، ّ وقـد ارتبط-
الخاصـة؛ فهـو يصـف الكاتـب على أنـه ملتـزم بنضـال،ّ نشـك بقيمتهـا ّ والتـي
ويعبر عـن قلقهـم وآمالهـم :لـه
ِّ وهـو يجيـب عـن التسـاؤل القلـق للنـاس،
املهمـة؟ إنهـا -باختصار -الفهـم ،املـورد الوحيد
ّ مهمـة يقـوم بهـا ،فما هـذه ّ
للتقديـر الـذي هـو إدراك وعـي يعكـس ،بطريقـة مجديـة أم غير مجديـة،
ومحـدداً ،تاريخيـاً ،لوعي يعيـش من خالل األثر الـذي يخلقهَّ عاملـاً ملموسـ ًا
وعالقاتـه مـع هـذا العـامل إذ يشـارك ،أخيراً ،بخلقـه مـن جديد.
عـدة صفحـات ،الـرؤى نخـط ،يف ّ ّ ندعـي أننـا
إنـه ملـن املبالغـة أن َّ
املختلفـة التـي سـار عليهـا هـذا النـوع مـن النقـد «الفلسـفي» ،والـذي
طبـع نشـوءه فترة مـا بعـد الحـرب .إننـا نجده عنـد «سـارتر» ،وكذلـك عند
«بيغـان» ،وعنـد «موريـس بالنشـو» ،وعنـد «جـورج بوليـه» ،و«جـان بيـار
ريشـار» .إن النقطـة املشتركة لـدى كلّ هـؤالء الن ّقـاد هـي أنهم يسـتندون
108
إىل فلسـفة واعيـة للأدب ،تعتبر متثيلاً للعـامل ،وخلقـه مـن جديـد ،يف
آن واحـد ،وأنهـم يدركـون اآلثـار من حيـث أنها أفعـال تضع العـامل موضع
بحـث ،وتفـرض تجربـة ميتافيزيقيـة أو اختيـار ًا وجوديـاً.
إنـه نقـد جديـد بعيـد كلّ البعد عن أن يكـون النقد الحـايل ،لكنه يعطي
لفن ،أصبحـت مكانته ،منذ اآلن ،عىل تخوم الفلسـفة. كرامـة جديـدة ّ
النقـد بوصفـه شـهادة والتزامـ ًا :إننـا ،قبـل كلّ يشء ،مل نعـد نقبـل
مهمته هـي خلق الجامل، ُس َّـلمة القدميـة التـي تقـول إن دور األدب؛ أي ّامل َ
خاصـاً؛ ففـي الحقيقـة يجـب أن نتسـاءل عـن دور ّ وأن يثير فينـا انفعـا ً
ال
ونوضحـه بواسـطة تحليـل تـالٍ ،وعـن سـبب األثـر األديب ،الـذي ِّ األدب،
خاصـ ًا
ّ جـدي .والجـواب هـو أن األدب يشـكِّ ل بعـد ًاهـو مدخـل لـكلّ نقـد ّ
مـن أبعـاد الوعـي اإلنسـاين :الفـردي ،والجامعـي معـاً ،يف عالقتـه ذات
املعنـى املـزدوج مع العـامل :إن الكاتب هـو الذي يذكّ ـر اآلخرين مبوضوع
عالقاتهـم ،فيما بينهـم ،ومـع األشـياء.
نص مشـهور لـ«سـارتر» بخصوص هذا املوضوع((( :ما هو األدب؟ هناك ّ
ثالثـة اسـئلة :ما الكتابـة؟ ملاذا نكتب؟ وملـن نكتب؟ إن «سـارتر» ،وقد فكَّ ر
نتصرف بطريقـة مـا ،حين نشير، َّ بالنثر ،يجيـب قائلاً :أن نكتـب يعنـي أن
حين نـدلّ ! لقـد اختـار الكاتـب عـامل عمـل ثانـوي« :عمـل إزاحـة النقاب»:
بقيـة النـاس»« ،لكي وخاصـة اإلنسـان بالنسـبةإىل ّ ّ إنـه يكشـف «العـامل،
مسـؤولياتهم».
ّ املعـرى -كامـل
ّ ي َّتخـذ اآلخـرون -وقـد واجهـوا املوضـوع
كمهمـة تتعلَّـق
ّ إن كلّ أثـر أديب هـو ،إذن ،نـداء ،ألنـه «يقترح العـامل
وحر ّيتـه» .كذلـك ،فـإن نتاجـ ًا فكريـ ًا مـا يسـتهدف ،دامئـاً،
ِّ مبـروءة القـارئ
يعبر عنـه بطريقة ما ،ويشـتمل هو نفسـه عىل صـورة عنه. خاصـ ًا ِّ
ّ جمهـور ًا
نسـتطيع ،مـن هنـا ،أن نقـول إن الجمهـور هـو الـذي يدعو الكاتـب ،ويطرح
((( إن اإلنتاج النقدي البحت لسارتر ،قد جمع يف مواقف .)1948 - 1947( 3 - 2 - 1انظر كتابه «ما هو األدب»
()1947؛ وانظر كتابه عن «بودلري» (.)1947
109
حر َّيتـه :إن كلّ أثـر هـو «معـرض» ،وغالبـ ًا مـا ال يفهـم خـارج
أسـئلة عـن ِّ
بعـض الظـروف التاريخيـة.
مقدمـات((( «أندريـه مالـرو» ،الـذي يدافـع،ِّ إنهـا مفاهيـم نجدهـا يف
دامئـاً ،عـن اآلثـار التـي لهـا مدلـول ،حيـث يقترح الكاتـب ،على القـارئ،
جليـاً ،لـدى «بيـار دو بواديفـر»(((،
أن يأخـذ على عاتقـه -ونجـد هـذا أيضـاًّ ،
و«موريـس نـادو»((( ،و«كلـود روا»((( -ذكـر هـؤالء تحديـدا:
خاصـ ًا للأدب» قـد قـاده إىل أن «الف ّنـان الكامـل
ّ نـادو :إن «مفهومـ ًا
يعبر عـن العـامل وعـن نفسـه ،معـاً ،مـن هـو اإلنسـان الـذي يسـتطيع أن ّ
خلال إبـداع يف الزمـن ،لكنه خالـد ،مع ذلك ،قـادر -بدوره -على أن يوقظ
وترصفـات جديـدة».
ُّ أصـداء ،وأن يبعـث انفعـاالت ،وأفـكاراً،
أوالً« -يجعـل العـامل بيـار دو بواديفـر :إن األدب هـو «وسـاطة» ألنـهَّ -
إنسـانياً» :وسـط كلّ إبـداع أديب« ،رس الوجـود اإلنسـاين واندماجـه يف
الكـون الـذي يحيـط بـه»؛ وألنـه بعـد ذلـك «موضـع ا ِّتهـام لإلنسـان» :إن
الكاتـب يضـع «بالضرورة القـارئ يف مشـاركة».
روا« :إن األدب هـو األخلاق وهي تعمـل» .إن كتابة رواية ،أو قصيدة ،أو
مقال تعني طرح سـؤال ،أن يتسـاءل الكاتب ،ويسـأل».
مهمـة الناقـد ،يف هـذه الظـروف هـي -قبـل كلّ يشء -أن يشرح ّ إن
مسـتمرة أو مؤقَّتـة
ّ لقرائـه عـن بنيـة
خـاصّ ،
ّ الطريقـة التـي يعبر بهـا نتـاج
للعـامل اإلنسـاين ،فاملوضـوع هـو أن يظهـر النقـد كيـف حقَّـق كاتـب مـا،
مهمـة أن يشـهد« ،أن يكون لـه موقف». وخاصـة يف عرصنـاّ ،
ّ يف عصر مـا،
ـد مـا -عنيعبر -إىل َح ّ
ّ حينئـذ ،يظهـر مدلـول األثـر واضحـاً ،ويسـتطيع أن
مقدمات أ د.هـ .لورنس ،عشيق الليدي شاتريل ( ،)1932لوليام فوكرن «الحرم» (،)1933 ِّ ((( أندريه مالرو:
وخاصة ملانيس سبريبر« ،الخليج الضائع» (.)1952
ّ
((( بيار دو بواديفر :تبدل األدب ( ،)1953 - 1952أندريه مالرو (« ،)1954تاريخ َح ّي ألدب اليوم (.)1958
((( موريس نادو ،األدب الحارض ( ،)1952انظر كتابه ،أيض ًا «تاريخ الرسيالية» ( .)1945
((( كلود روا ،ستاندال ،تجارة الكالكسيكيني (.)1953
110
الحر ّيـة أو الظلـم.
ّ قسـم مـن املوقـف أو عـن مجملـه ،عـن
مجـرد «الوضـع يف املكان»،َّ إن رشحـاً واضحـ ًا كهـذا ،الـذي هـو أكثر من
يعب، لعلـم اجتامع ماركيس ،ليس -دامئاً -بالسـهل .وبالفعـل ،إن الكاتب ال ِّ
وفعال قد ي َّتجـه األثر نحوه .إن وجـود «املواضيع
فقـط ،عـن جمهـور واقعـي ّ
املشتركة» بين املؤلِّـف والقـارئ ليـس مقياسـ ًا كافيـ ًا لننتهي بوجـود متثيل
مييـز ،مـن بينللعـامل .يطلـب «سـارتر» ،يف كتابـه «مـا هـو األدب؟» ،أن ِّ
الجامهير الواقعيـة ،الجامهير املمكنـة ،التقديرية ألثر؛ وهكـذا يكتب كاتب
ويعبر
ِّ القـرن الثامـن عشر لجمهـور برجـوازي ليـس بـه ،بعـد ،إيديولوجيـة،
عـن آمـال هـذه الطبقة ،لكـن الطبقـة األرسـتقراطية تقرؤه.
يذكـر «غايتـان بيكـون»((( ،أن األثـر الـذي ليـس «شـيئاً» كام يظِّ نـه النقد
العلمـي ،غالبـاً ،وهـو «وعـي» ي ّتجـه ،يف معظـم األحيان« ،إىل مسـتمعني
صح أن الف ّنان ،وقد احتقره الجمهور املعارص، وخياليني»؛ فـإذا َّ
ِّ مثاليين،
ِّ
ـرف ذلـك أم مل يعـرف -حلـم أع
َ َ سـواء - سـه ويتلب
َّ املسـتقبل، على يراهـن
عنيـف بالنـاس املجهولين الذين سيكتشـفون نتاجـه ،ذات يوم.
ضيقـةيظـل وجهـة نظـر ِّإن االقتصـار على اعتبـار األثـر األديب كممثِّـلَّ ،
جـداً ،إذا ك ّنـا ،يف الوقـت نفسـه ،ال نـرى فيهـا كثافـة مـا للكينونـة ،التـي هيّ
أثـر تجربـة روحيـة فريـدة مـن نوعهـا ،مـن حيـث التعريـف :أن نـدرك العامل
تعبر عنـه ،أجـل ،لكن الذاتيـة التي تعيشـها -أيضـاً -تخلقه مـن جديد الـذي ِّ
مجـرد رؤيـة
َّ يوضـح
ـم -تختـاره؛ لهـذا ،ال يكتفـي النقـد الجديـد بـأن ِّ -مـن َث َّ
خـاص -منتبـه إىل كلّ ما هو يف األثـر ،متعلِّق
ّ بسـيطة للعـامل ،ولكنـه -بنوع
بااللتـزام ،ومـن خالل الشـهادة ،اختبار رؤيـة ،ومن خاللها الشيء املم ّثل.
ولكـن ،سـيزداد تعلُّـق البعـض باملظهـر الفكـري للتجربـة الباطنيـة للكاتب،
أي بنظـام الفكـر الكامـن ،وآخـرون سـيكونون أكثر إحساسـ ًا باملغامـرة
املحركـة للشـخص ،و -أخيراً -سـيبحث آخـرون عـن هـذه العالقـة األصيلـة ِّ
((( غ .بيكون ،األدب الفرنيس الجديد ( ،)1950الكاتب وظلّه ( .)1935انظر مالرو بقلمه ( ،)1953بلزاك وعامله،
صورة عن الفلسفات املعارصة (.)1957
111
مما تبقى ،يجمعون
تحدد غايـة األثر .وكلّهمّ ،
رد الفعـل ،والتي ِّالتـي تسـبق ّ
يتعرفـوا عليهـا كقيـم ّإل أصالـة املعيـش وارتباطـه بالتعبير.
َّ يك ال
النقـد واملدلـوالت امليتافيزيقيـة :ليـس «سـارتر» والك ّتـاب الذيـن
ذكرناهـم فحسـب ،بـل هنـاك ،أيضـاً :كلـود إدمونـد مـاين -ر.م .ألبيويـس،
ب .هـ .سـيمون -فرانسـيس جانسـون ،بعد كلٍّ من جان غرونيه ،وموريس
بالنشـو ،ي َّتفقـون على رضورة الكشـف عـن امليتافيزيقيـة واألخلاق
املتضمنـة يف النتـاج األديب ،وأن ينتزعوا منـه مجموع املدلوالت الفكرية.
َّ
كتـب «كلـود إدموند ماين»((( ،يف كتابه «حذاء أمبيدو كل»« :ليس الناقد
الجدي الـذي ليس األثـر األديب ،بالنسـبة إليه،
ّ شـيئ ًا آخـر سـوى هذا القـارئ
مجـرد تسـلية عابرة ،لكنـه انطباع ،وعالمة وشـهادة عن حياتـه الروحية التي َّ
تخل عنه «أمبيـدو كل» ،كام يروي، تركهـا الكاتب ،شـأنها هذا الحـذاء الذي ّ
على حافّـة بـركان اإلتنـا ،قبـل أن يرمـي بنفسـه يف مغامـرة أخيرة»ّ .إل أن
عامة -بواضحة ،أو مرتابطـة ،وأكرب برهان الفلسـفة الكامنـة للكاتب ليسـتَّ -
على ذلـك كونهـا باطنيـة .وكلَّام كانت «رسـالة» الكاتـب صعبـة ،وبعيدة عن
ـب على الكاتب نفسـه أن يعيها بوضـوح ،وإن كانت املتبـذل ،وجديـدةَ ،ص ُع َ
كلّ قـواه مشـدودة نحـو الوصـف الدقيـق للواقـع الـذي يحملـه يف نفسـه.
على الناقـد أن يتابـع أو يتجاوز هـذه التجربة ،وأن يكون ،كما يريده «نادو»،
علـو الف َّنـان ،وأن يقطـع معـه ،مـن جديـد،«وسـيط ًا يسـعى ألن يرتفـع إىل ّ
يلـح
«يجسـد أفضـل جمهـور ّ ِّ يـؤدي إىل اإلبـداع» ،جاهـد ًا أن
الطريـق الـذي ّ
عليـه ،بهـذا ،نتاجـه» .فـإذا كان األثـر اعرتافـاً ،فإنه اعرتاف محسـوب ،يرجع
إىل عـامل عالقـات شـخصية ،يجب الكشـف عنها.
إن لهـذا الكشـف فائدة مثلَّثة :لتوضيح األثـر وإلغنائه ،وأن تعطي لرؤية
قـوة مقنعة أكرب ،إذا مـا قاومت التحليـل ،وأخري ًا (وهـو الفائدة
عـامل األثـر ّ
التقليديـة لكلّ تفكير) أن «تعطي تراجعاً».
((( كلود إدموندماين ،حذاء امبيدو كل ( ،)1945مراجعة كتابه -أيضاً -عن تاريخ الرواية الفرنسية منذ (1918
.)1950 -
112
موريس بالنشـو« :إن الناقد وقد علّق الحركة التي يعطي ،بواسـطتها،
ال عنهـا عالقات مكتوبةوحر ّيـة لواقـع مركَّ ب من كلمات ،يضع بدي ً
ِّ مع ًنـى
جديـدة ،ومنهـج تعابير راسـخة غايتهـا تثبيت القـدرة التي هـي يف حركة
دامئـة لألثـر ،يف رؤيـة ،حيـث تقـف لتبـدو أكثر ظهـوراً ،وأ كثر وضوحـاً،
وأكرث بسـاطة((( .
إن املناهـج املسـتعملة ميكنهـا أن تكـون «تحليلاً لألبطـال» مقارنـةً
اآلثـار بواسـطة «تقنيـة إجامعيـة».
وهكـذا ،إن كلّ نقـد «ألبرييـس»((( هـو «نقـد أبطـال» :مـن هـم الذيـن
يختارهـم أبطـا ً
ال كلّ مـن مالـرو ،وبرنانـوس ،وأنـوي وجيرو دو؟ مـا عـامل
هـؤالء األبطـال؟ ليـس املوضـوع هنـا «سـيكولوجية مبتذلة للشـخصيات»
يعبرون عنـه تجـاه العـامل.
ِّ لكنـه بحـث عـن املوقـف امليتافيزيقـي الـذي
إنهـا تقنيـة ال تنفـي «منهـج تقـارب»؛ و -بالفعـل -سـيبحث «ألبرييـس»
يقرب بها
عـن «النقطـة املشتركة» ألبطال أدب القـرن العرشين ،بطريقـة ِّ
«النقطـة املشتركة» مـن فلسـفة أخلاق الك ّتـاب املرموقين (فـإذا كانـت
النقطـة األوىل هـي االبتـكار بلا معين ،واملغامـرة بلا انقطـاع ،بعيـد ًا عن
ضـد الريـاء،
ّ كلّ مصلحـة ماليـة أو غراميـة ،فـإن النقطـة الثانيـة سـتكون
وضـد العقائديـة ،وتبحـث عـن املعنـى امليتافيزيقـي لحضور اإلنسـان يف ّ
عامـة للأدب،العـامل) .سـيحلِّل ،مـن جهتـه« ،ب .هــ .سـيمون» «نزعـة ّ
(((
مـن خلال األحـداث» لينتهـي إىل الفلسـفات الباطنيـة للك ّتـاب الكبـار
وخاص ًـة« ،ارتدادهـم إىل اإلنسـانية» ،و«إعـادة البحـث،ّ املعارصيـن،
ليـس بالقيـم التقليديـة ،فحسـب ،بـل بإمكانيـة ُسـلَّم ِق َيـم» .إن «روبير
113
دو لوبيـه»((( ،وقـد درس نتـاج «كامـو» يك «يصفـه ويتسـاءل عـن ترابطـه»
توصـل «إىل بحـث أقـرب مـا ميكـن إىل الكمال» ،يك يجـد ثانيـةً «نفـسَّ
مـرة ،يف مظهـر مـن مظاهـره ،حيـث
ّ كلّ د، يتحـد
َّ الـذي األسـايس الحـدس
يفنـى بصـور جديـدة»...
مجد إذا اقترص عىل أن يعيد ٍ النقـد و«الشـخص»ّ :إل أن النقـد يكـون غري
يجسـده يف مواقـف وكائنـات، ِّ الكتابـة بلغـة فلسـفية مـا ،جهـد املؤلِّـف أن
مطـول لرؤيـة العـامل ،حـرص َّ وأن يقيـم نظـام أفـكار مطلـق ،ورشح أفـكار
ألـح كثري ًا
املؤلّـف على أن ينقلهـا بواسـطة الكتابـة األدبيـة .بالحقيقة (وقد َّ
على ذلـك مونيه ،وبيغـان ،والشـخصانيون) يجـب أن يكون النقد الفلسـفي
النيات العميقة ،وإن كانت أساسـية ،وبعد أقـلّ بحثـ ًا عن «األفـكار» منه عن ّ
مجـردة
َّ ذلـك ،إدراك امليتافيزيقيـة ليـس كمناقشـة عقيمـة حـول مفاهيـم
ـي للكاتـب ليعانق ،مـن الداخـل ،الوضع تفلـت مـن التجربـة ،بـل كجهـد َح ّ
البشري يف مجموعـه .إن النقـد ،وقـد التـزم هـذا الطريـق ،عاد نحـو األصل
املعيـش للتجربـة التـي يشـهد عليهـا األثر ،نحـو االختيارات األساسـية.
إننـا لـن نعجـب ،بعـد ذلك ،مـن أن يسـعى النقـد ،يف بعـض الحاالت،
يك يصبـح تحليلاً نفسـي ًا لإلبـداع؛ لكنـه تحليل نفسي وليس سـيكولوجياً،
واألفضـل أن يقـال عنـه «فلسـفياً» يبحـث عـن دالالت موقف شـامل ،ال عن
اعرتافـات كبـت ما.
مـا معنـى (التحليـل النفسي الوجـودي) الشـهري ،الـذي حـاول أن
يحقِّقـه «سـارتر» يف كتابـه عـن «بودلير» ،سـوى أن يبحث عـن ّأية طريقة
يبنـي بهـا املؤلِّـف نفسـه ،تدريجيـاً ،وذلـك حين يعطـي -باختبـارات
متتاليـة -معنـى لحياته وللعـامل معاً .يظهر ،حينئذ ،األثر كنتيجة وسـبب
َّ
الخلقـة للـذات؟ لهـذه التجربـة
جيـداً -أيضـاً -لنقـد املوقـف عنـد «بيكـون» ،يف كتابـه إننـا نجـد مثـا ً
ال ّ
((( ر .دو لوبيه ،ألبري كامو ( ،)1952انظر -أيضاً -كتاب «النجاة بواسطة األدب» (.)1946
114
بحـد ذاتها،
ّ «مالـرو بقلمـه» ذلـك أن «بيكـون» يـدرس أقلّ رؤية عـن العامل
أو التعبير عـن مجتمـع مـن دراسـته للراسـب ،الـذي هـو الطريقـة التـي
عاشـها اإلنسـان ،بالفعل ،يف عالقتها بهذا العامل وهذا املجتمع .إن نتاج
«مالـرو» قـد درس ،باعتبـاره طريقـة للمؤلِّـف حقَّـق بهـا ذاته ،وقـد صنعت
انطالقـاً مـن تجربـة معيشـة طبعـاً ،ولكنـه قـد بحـث عنهـا ،و ُت ُع ِّمدت.
يجـب ،لتربيـر مبـادئ كهـذه ،أن نراهـن (وهـذا مـا سـنذكره) بـآن واحد،
على األثـر ،واملشـاركة املجـردة التـي ميكـن أن نقيمهـا عنهـا ،ومـا نعـرف
عـن املؤلّـف وحياتـه واعرتافاتـه والتوضيـح السـيكولوجي.
يبـدي «جانسـون»((( ،يف كتابـه عـن «مونتين» الحـرص نفسـه على أن
بتقـدم تجربـة للـذات) .وإن «إمانويـل مونيـه»((( (ال
ُّ (يلـم مـن خلال أثـر
ّ
مقدمـة الجـزء الثالـث لـ«مذكِّ ـرات عىل
ـد قـول مؤلِّـف ِّ يوقـف أبـداً ،على َح ّ
املتحركـة لشـخص؛إنه انتظار
ِّ املتفحصـة الحيـاة
ِّ الطريـق» ،تحـت نظرتـه
يهمـه أن يكتشـفه يك يسـتطيع أن يعجـب مبـا هـو ،دامئـاً، اآلخـر الـذي ّ
التصرف بـه .إذن ،مـا هـو رائـع يف قبـول هـذاُّ شـخص مطلـق ،ال ميكـن
مبراتـه األخيرة لقبـول الحيـاة».
اإلنسـان أو ذاك أن يحيـا ويف ِّ
وأخيراً ،أال يحـرص «ألبير بيغـان»((( ،يف كتابه عن «برنانـوس» ،يف نظرة
وتتمـم نظرة «دو بـوس» ،عىل ترابـط «برنانوس»التفهـم التـي تواصل ِّ
ُّ بالغـة
اإلنسـان وعـامل «برنانـوس» معاً؟ «كان هـذا الروايئ ميارس وظيفـة كهنوتية
نبي صـادرة عن رجل ح ّقـة بوسـائل كاتـب» .إن اسـتنكاراته كانت اسـتنكارات ّ
ينـدد بأكاذيـب عرصه ّإل ليشـهد بطريقة أكرث تأكيد ًا ملـا تحدثه هذه
مل يكـن ِّ
األكاذيـب مـن جـروح» .هنا ،توجد حيـاة األثر ووحدتـه الروحية.
النقـد و«القصـد» :ولـكلّ هـذا ،هـل يكفي -أيضـاً -إذا كان األدب شـهادة
115
ح ّقـة والتزامـاً ،أن نبحـث فيما وراء املدلـوالت امليتافيزيقيـة عـن املعنى
الروحـي لحيـاة؟ أال يجابـه الكاتـب نفسـه والعـامل ،بواسـطة اللغـة ،قبـل
كلّ يشء؟ أليـس على الناقـد ،يف هـذه الظـروف ،أن يكـون كلّ إحساسـه
منصبـ ًا على الزمـن املنتقـى ،حيـث ينعكـس اإلنسـان ووعيـه يف الفعـل. ّ
بحـد ذاته ،والذي ينكشـف، ّ األديب العمـل ننسى أل
ّ على نحـرص أن يجـب
جليـ ًا أن يف هذا اال ِّتجاه
يف وسـطه ،قصـد الوعي ومغامرة اإلنسـان .ويبدو ّ
نسـميه «القصـد األديب» -يرتكَّ ز ،حاليـاً ،جهد «جورج
ّ الثالـث -النقـد الذي
بوليـه» ،و«جـان بيار ريشـار».
على هـذا النحـو ،تابـع «جـورج بوليـه»((( ،يف سلسـلة مقـاالت مرموقة
جـد ًا عـن الك ّتـاب الفرنسـيني العظـام ،تجربـة نقديـة غايتهـا الكشـف عـن
ّ
الخاصـة ،حيـث
ّ نقطـة االلتقـاء بين الوعـي واألشـياء ،مـن خلال الفترة
الخاصـة عـن العـامل.
ّ تخلـق -أدبيـاً -رؤيتهـا
يصعـد اللحظـة ّ فـإذا كان «زوال» قـد سـعى ،حتـى يف أسـلوبه ،إىل أن
ليعطـي انطباعـ ًا عـن جريـان ال يرحـم؛ فذلـك ألن لديـه إدراك ًا للزمـن
يعبر األدب ،دامئـاً ،بالنسـبة
ِّ يحـدد مرشوعـه األسـايس.
ِّ املميـز ،الـذي
ّ
إىل «بوليـه» ،عـن تجربـة مـا للزمـن :تصبـح هـذه التجربـة ،حينئـذ ،نظـام
مرجـع ليسـتخلص املعطيـات امليتافيزيقيـة والشـخصية -معـاً -ألثـر،
أي ملجموعـة جمـل متالمئـة .إن الزمـن هـو نفسـه معبر عـن «املسـافة
الداخليـة» ،حيـث يتصـارع اإلنسـان مـع نفسـه ،ويلتـزم بعمـق يعيشـه،
ويبعـد -على الصعيـد األفقـي -مشـاعر وكلمات.
كتـب «جـان بيـار ريشـار»((( الـذي ال يخفـي إعجابـه بـ«باشلار» ،وال مبـا
يديـن بـه لـ«بوليـه»« :كان يبـدو يل أن األدب هـو واحـد مـن األماكـن التـي
ينفضـح فيهـا ،مـع كثير مـن البسـاطة بـل السـذاجة ،هـذا الجهـد للوعـي
ليـدرك الكائـن .وقـد بذلـت جهـدي يف الفهـم لي َّتجـه نحـو لحظـات اإلبداع
((( جورج بوليه« :دراسات عن الزمن اإلنساين» ،أجزاء إيلون ( ،)1968 - 1949املسافة الداخلية (.)1952
((( جان بيار ريشار ،أدب وإحساس ( ،)1954وشعر وعمق ( ،)1955العامل الخيايل ملاالرميه.
116
األديب األوىل :تلـك اللحظـة التـي يأخذ فيهـا العامل مع ًنى بواسـطة العمل
الـذي يصنعـه ،بواسـطة اللغـة التـي تومـئ إليـه ،وتحلّ مشـاكله على نحو
ماد ي.
ّ
وسـيعيش «ريشـار» مـع «سـتاندال ،وفلوبير ،وبودلير ،أو نرفال ،هذه
يخـط الكاتـب طريقـه ،وسـط ما هو إحسـاس، ّ املغامـرة التـي -بواسـطتها-
مقـدر ًا الكثافـات ،سـابر ًا الفراغـات ،سـاعي ًا إىل املوازنـات
ِّ شـاعر ًا باللقـاء،
أو اختلال التـوازن« .إن مثّـة مشـهداً ،أو لون ًا للسماء ،أو انعطافـ ًا لجملة،
حلما غامضـ ًا
ً تضيء هـذه األشـياء االختيـار األخالقـي اللتـزام مـا؛ إن
املاد ّيـة يلتقـي -بالعمـق -مـع النظـري األكثر تجريد ًا
ِّ الفعالـة أو
ّ للمخيلـة
ِّ
يف الفهـم .وتتحقَّـق بعـض املواضيـع األساسـية يف األشـياء ،بين الناس،
يف قلـب اإلحسـاس ،يف الرغبة أو يف اللقاء ،هـذه املواضيع التي تتناغم-
رس ّية.
تأمـل الزمـن أو املـوت األكثر ِّ أيضـاً -مـع ُّ
الحكـم النقـدي واملوقـف «الدعـايئ» :إن الناقـد ،سـواء أراد أن يكشـف
عـن مفهـوم للعـامل أم أن يقـرأ رسـالة ،لـن يسـتطيع أن يبقـى على الحياد.
يكونـه النقد الفلسـفي لذاته
وبالفعـل ،بقـدر مـا يكـون مفهـوم األدب الذي ِّ
حقيقيـاً ،فـإن الناقـد -باعتبـاره يكتب« -يشـهد» ،بكتاباته ،عـن رؤية للعامل
ّ
وهـو -شـأنه شـأن املؤلِّـف« -يف املعركـة» .وبالتأكيـد ،إنـه مـن «سـارتر»
أي
إىل «بيغـان» و«بوليـه» ،قـد أبعـدت كلّ عقائديـة؛ ولكن ،مل يعـد هناك ّ
وجوديـاً،
ّ بحـث عـن طأمنينـة أوملبيـة ،تعـرف أنهـا مسـتحيلة على الناقـد
متجرداً ،بلا «موقف» أو وضـع ،ولكنه «ملتـزم» ،دامئاً،
ِّ يبقـى الفـرد ،أبـداً،
وضع ماٍ شـاء ذلـك أم أىب .وحتـى لـو كتـب عـن املايض ،فإنـه يكتب باسـم
حـايل ،بالنسـبة إىل التاريـخ« .إن الرغبـة يف تجريـد الناقـد مـن تفضيالتـه
ّ
الشـخصية ،مـن ميولـه ،مـن ماضيـه ،مـن ثقافتـه ،و -أكثر مـن ذلـك -مـن
قيمتـه ،تعني -بالنسـبة إليه -الحكـم عليه بالبكم( .انظـر« :إدموند ماين»).
اضطـر
ّ املتفهـم ،إذا
ِّ التحيـز ال يعنـي الحكـم املطلـق .إن النقـد
ُّ ّإل أن
تحيز األصالة .إن النقـد هو رشح مثبت.
إىل مواجهـة األثـر فإنـه يكون لديـه ُّ
(يقـول «س.ر.مـاين»« :إن األدب ملحـق باملعرفـة اإلنسـانية يف مناطـق
117
جديـدة ،فـإن النقـد يبرز هـذه األرايض الجديـدة ويقيـم النجـاح« ،يخـزن
مباهيتـه -الكاتـب «يف قفـص
َّ وربـا يكـون متعمقـ ًا((( ،فيضـع -
الغلات»َّ ،
ّ
أي يشء؟ هـل هنـاك رسـالة؟ ومـا هي؟ اال ِّتهـام» :هـل يوجـد تعبير؟ وعـن ّ
أي يشء؟ إنـه آخـر األمـر ارتبـاط رؤيـة العـامل وباسـم ّ
ْ مـن ينـادي الكاتـب؟
املحـك .ولكـن ،فلنحـدد ذلـك ،فمـن
ّ مـع أصالـة الرسـالة التـي هـي حجـر
وجهـة نظـر أكثر سـعةً من وجهـة النظـر املاركسـية ،والتي تهتـم بالتعبري
بشـدة «سـواء أكان أصيلاً أم مل يكـن» عـن أيديولوجيـة طبقـة .هـل قـال
الكاتـب شـيئ ًا يطابـق املشـاكل التـي يطرحها الوضـع البرشي يف فترة ما؟
يجـب أن يجيـب عـن هـذا السـؤال .وينتـج عـن ذلـك ،مـن جهـة ،أن النقـد
يطلـب شـيئ ًا مـن األدب؛ شـهادة مجديـة ،ومن جهة أخـرى ليـس للنقد ّأية
مزيـة أدبيـة بحتة.
األول ،وقـد
إن «نـادو» ،و«روا» يصيغـان -بوضـوح -متطلَّباتهما .إن َّ
جهـد أن يعجـب بـ«األذهـان القـادرة عىل تجسـيد قلق بيئة وعصر وآمالها،
يسـعى إىل «نـوع مـن إثـارة للشـفقة» -هو مفعـم باالحتقـار للكتـاب الذين
أمـا بالنسـبة إىل
غـذاء بلا طعـم ،وال كثافـة وجـودّ . ً يقدمـون لجمهورهـمّ
ملجـرد أن يعنـى
َّ «كلـود روا»« ،فـإن األدب يجـب ّأل يكـون ف ّنـ ًا محتقـر ًا
بشيء آخـر ،ألنـه قد يحـدث أن يصبح فردوسـ ًا مصطنعاً ،وطريقة سـاخرة
بالوجـود يف مـكان آخـر ،وتقنيـة لتفكيـك التـآزر».
الفنية
ّ ـد مـا ،بالقيمـة
ولهـذا ،سـيكون النقـد الفلسـفي ال مباليـاً ،إىل َح ّ
للكتب ،وأحياناً ،كام يف حال بالنشـو ،الذي يعلمنا -مسـبقاً -أن النقد يقوم
على منتهـى الالمبـاالة .وقـد يحـدث -أيضـاً -أن التقنيـة واألسـلوب -رشط
بشـدة« ،مبشروع» ّ يل ،يف أدىن الحـدود -مرتبطـان، أن يتوفّـر كمال شـك ّ
خـاص م َّتخذ
ّ مجـرد تعبير ملوقـف َّ للفـن» هـو
ّ «الفـن
ّ املؤلِّـف .وهكـذا ،إن
أمـام الواقـع .إن مطابقـة األسـلوب مع تقنيـة التعبري والرسـالة هي األصل.
الخاص) باألثر:
ّ التقدم (الذي هو اإليقاع
ُّ ((( حينئذ ،يصبح للنقد -كام يقول ر .دو لوبيه -تجريباً ،بقدر ما يقرتن
«إنه يخترب ما إذا كان التجاوز ممكناً ،فيام وراء التجاوزات التي ُحقّقت».
118
تقـول «ك .و -مـاين» :إن الطريقـة الوحيـدة املجديـة لتقديـر مزايـا األثـر
األدبيـة ،ليسـت أن يـدع الناقـد نفسـه ،يهدهـده سـحر األسـلوب الخـادع،
بـل مجابهـة مـا عمل املؤلِّف مـع مـا أراد أن يعمله ،ويحكم عىل موسـيقى
تعبر عنـه» ،و -مبجمـل ِّ البحـد ذاتهـا بـل بالنسـبة إىل مـا تريـد أن
ّ جملـة،
متميزة عـن معضلة الشـكل :إن الكاتب ِّ القـول -ال يوجـد معضلـة مضمـون
الـرديء ،هـو ،دامئـاً ،إنسـان مل يكتمـل خلقه.
نقـد ،أم مفهـوم أدب؟ :وهكـذا ،تظهـر ،إذن ،املواضيـع الكبيرة لنقـد
متفهـم ومبـدع ودعـايئ معـاً ،نهـم للشـهادات واألصالـة يف مواجهـة عامل ِّ
مجردة؛
َّ مطلقـة لفلسـفة عميقة مقاييس عـن بعيـدون إننـا ل.يتبـد
َّ يفتـأ ال
يعبر عـن اإلنسـانية»، مل يعـد األمـر -بالنسـبة إىل الكاتـب -أن عليـه «أن ِّ
«يـرب النفـوس» باألخلاق ّ «إن الطبيعـة اإلنسـانية» هـي ،دامئـاً ،ذاتهـا ،أو
محد َديْن .إن
َّ املثلى التـي يقرتحهـا .إنـه «مسـؤول ،ولكـن يف مـكان وزمـن
ضد االغرتاب، مهمتـه أن يأتينـا بأخلاق ،ولكـن بقدر ما يوجد ،فقط ،نضـال ّ َّ
وألجـل العدالـة ،يتطلَّـب فلسـفة عمـل .إن األثـر الف ّنـي ال يجـد غايتـه يف
نفسـه» ،إنـه وسـيلة ا ِّتصال ،وهو وسـيلة عمـل لفرتة تطـول أو تقرص .لكن،
ضيـق
أليـس هنـاك خطـر مـن أن تنتهـي ،يف ظـروف كهـذه ،إىل مفهـوم ِّ
بشـدة -رضورات ارتبـاط األدب ّ أوالً -مفهومـاً َح َّددتـه-للأدب؟ ونعنـيَّ -
بعصر ،فمنـذ الثالثينيـات مـن هـذا العصر ،دخـل األدب يف أزمـة ،شـعر
الكاتـب -ثانيـةً -برضورة طرح مشـكلة اإلنسـان أمام فلسـفة إنسـانية بالية،
وأمـام احترام قيـم برجوازيـة أو فوضوية بشـكل برجوازي .ولقـد كان لدينا
أمثـال «مالـرو» ،و«بونانـوس» ،و«كامـو» :إنهـم يكتبـون روايـات مواقـف،
ويعبئـونِّ تعكـس قلـق اإلنسـان املعـارص ،وتعبر عـن مفارقـات السـاعة
كتبهـم بضامئـر نصف واعيـة ،ونصف غامضة؛ إنـه أدب «بروميثوس» ،وفق
املسـمى بالربجوازيـة،ّ ضـد الريـاء املشـدوه ّ تعبير «البرييـس» ،م َّتجـه
والرأسمالية ،وحتـى املسـيحية.
قـد يقـول بعضهـم :طبعـاً ..ولكـن ،إذا كان أدب ملتـزم التزامـ ًا عميقـ ًا
وقـد ُو ِلـد ،فهـل ينبغـي أن يكـون كلّ أدب ملتزمـاً .ونحـن نضيـف :إن األثـر
119
أي عمـل سـوى أن يوجـد؛ فإذا مـا أدىل بشـهادة ،فإن ليـس لـه ،يف البـدءّ ،
هـذا يكـون إضافـة عليـه ،ألنه يصبـح -بالضرورة -موضوعـ ًا اجتامعيـاً ،وأن
املجتمـع سيسـتخدمه بالشـكل الـذي يحتـاج فيـه إليـه.
إنـه ملـن املؤكَّ ـد ،بالنسـبة إىل نقـد يحكـم ،فقـط ،باسـم الرتابـط ،أو
لصحـة فكـرة كاتـب ،والـذي يرفض -مثالً -للشـعر كونه شـعراً ،والذي يكون، ّ
جـداً .وبالفعل،
ّ ً
ا قضي
ِّ النقـد هـذا يكـون أن تـه، عمومي
َّ كلّ على ً
ا غريبـ ً،
ا أخير
يدعي -مطلقاً -أن يكـون الطريق الوحيد َّ ال ً»
ا «فلسـفي سـم ْيناه
إن النقـد الذي َّ
املمكـن للوصـول إىل أثـر ،وال يدعي -أيضاً -أن كلّ أثـر ميكن أن يخضع لهذه
الطريقـة يف دراسـته .ولكـن ،على قـدر مـا يجمـع ويتجـاوز ،كما ذكرنـا يف
بدايـة هـذا الفصـل ،بعـض املناهـج األكثر غنـى للنقـد الحديـث ،يسـعى
أي وقت مضى ،من نبضات النقـد أن يكـون وعيـ ًا للأدب الذي يحيـا ،أكرث من ّ
ـم االتفـاق على أن الوعـي ،يف زمننـا هـذا ،إن مل اإلنسـانية نفسـها ،ولقـد َت َّ
يكـن كلّ النقـد ،فإنـه -على األقـلّ -جناحه السـائد.
120
Roland Barthes
روالن بارث
1980 – 1915
Gaston Bachelard
غاستون باشالر
1962 – 1884
خامتة
عامـة :هـل مـن املمكن أن نجمع عـدد ًا منعلينـا ،اآلن ،أن نلقـي نظـرة ّ
التأكيـدات املجديـة بالنسـبة إىل نـوع النقد ،وموضوعه ،وطرقـه ،وأن نبدأ
والحاليـة ،معاً؟(((.
ّ أو ً
ال بتلخيـص ا ِّتجاهاته األساسـية َّ
- 1هـل الناقـد َحكَ ٌ
ـم؟ أجـل :مبـا أننـا ا َّتفقنـا على أنـه ليس هـذا ،فقط،
وأنـه ذو صفـة أخـرى ،كذلـك ،فقلَّما نجـد ،اليـوم ،حكّامـ ًا مـن العصر
الذهبـي للنقـد املطلـق ،وإن «بانـدا»((( الـذي ح ّقـر النقـد إىل مسـتوى
الحكـم ،يبـدو مبظهـر مـارق ،لكـن يصعـب ّأل نحكـم ،حتـى لـو أردنـا ذلك.
أحـكام قيـم ،حتـى حين
َ يقـول لنـا «أندريـه ترييـف»« :إن كلّ نقـد يحمـل
يتظاهـر باالمتنـاع عـن ذلـك .لكـن النقـد ،على طريقـة «تيبوديـه» ،يجـري
يهتـم ّإل بالكتـب التي يستحسـنها العصر ،والحوادث ّ اختيـار ًا مسـبقاً ،وال
محددة بعناية» ،وبالفعل:
َّ الحالية ،و«الرأي العام» لبعض حلقات
123
إمـا أن يعتبر الناقـد أن مـن واجبـه ّأل يحكـم؛ نظـر ًا ألنـه ا َّتخـذ هـذا ّ -
يتمسـك بـه ،ويلخـص «كلـود روا» ذلـك، َّ املبـدأ؛ لكنـه يسـتحيل عليـه أن
بطريقـة ممتـازة ،فيقول :الحكـم؟ «يجب أال يحكم الناقـد ،بالرضورة ،لكنه
ال يسـتطيع أن يفعـل خلاف ذلـك ،على وجـه الدقّـة؛ فـإن لديـه سـ َّل ً
ام من
قـوي أو ضعيف، ّ القيـم ،قـد ُب ِنـي عليهـا فكـره ،وأنـه ليعـي ذلـك ،عىل نحـو
وأن يرفـض القيـم؛ فهـذا يعنـي قيمـة».
وإمـا أن يرفـض الناقـد أن يحكـم ،بدافـع مـن النزاهـة الفكريـة وعـدم ّ -
وجـود اليقين؛ فلا يكون وضعـه ،حينئـذّ ،إل مؤقَّتـ ًا (كأخالق ديـكارت) وغري
كل .إن عرصنا ال
مجـد ،وهـذا اعتراف «بيغان» بعدائـه للحكـم« :أن تحكـم؟ ّ ٍ
ميلك اليقينات املشتركة (االجتامعية ،واأليديولوجية) التي اسـتطاعت ،يف
أزمـان أخـرى ،أن تعطي السـلطة لنقد حكـم ملفوظ ،وال املبـادئ الجاملية،
تـؤدي إىل تسلسـل» .إننا
التـي ال ميكـن الجـدال فيهـا ،هـي التي تسـتطيع أن ّ
جيـداً ..ومـاذا لـو ملـك النقـد هذا اليقين ،وهـذه املبـادئ؟ و«بيغان» نفهـم ِّ
تشـف يف الناقد؟ّ اإلنسـان ،أمل تكـن لـه معتقداتـه ،التي
- 2هـل اإليضـاح «العلمـي» للمؤلَّفـات رضوري؟ مييـل الصحافيـون
عامـةً -انطباعيـون ،بحكـم الضرورة ،إىل القـول مـع «جـان الذيـن هـمّ -
جـاك غوتيـه»« :إن هـذا ال يـأيت بشيء» ،وهـذا خطـأ .هنـاك خطـر ،فقـط،
ـد ذاتهـا ،ال وسـيلة ،أو أن نخلـط غايـة هـو أن نعتبر الشرح كنهايـة يف َح ّ
جيـداً ،بالنسـبة إىل النقـد (وهـذا مـا فعـل باشلار) -مثلاً -
نحددهـا ّ
خاصـة ِّ
ّ
غائيتـه األساسـية .إن املناهـج العلميـة ممتـازة يف نوعهـا ،وأحـد هذهمـع َّ
املناهـج الـذي هـو سـعة العلـم ،مهما قيـل عنـه ،سـيظلّ ُم َّتبعـاً .وإذا مل
أي منهـج ،كما يقول «بيغـان»« ،يحـلّ محلّ الحـدس املبارش»، يكـن مثّـة ّ
فـإن كلّ واحـد ميكـن أن يسـمح ،يف درجـات مختلفـة ،وعلى مسـتويات
متنوعـة ،باالنتقـال مـن الحدس السـاذج إىل الحدس الناضـج ،و -مبجمل ِّ
التعـرف إىل
ُّ القـول -أن نضمـن املوضوعيـة ،ونقطـع ،على نقـاط جزئيـة،
124
جيـدة يف
ِّ
(((
وربـا تكـون محاولـة «إتيامبـل» ،و«غـي ميشـو»
األصالـةّ .
محاولـة دمـج صيـغ الفهـم هـذه.
بقـي أن «األثـر املكتـوب» هو الذي يجب أن يبقى موضـوع النقد األديب.
يدعـي رشح «وليـس خلقـه» «بانـدا» ،وإن َحـذَ َر «روا» مشروع «تجـاه نقـد َّ
أثـر ،ال أن يشرح مـا ال يوجـد يف هـذا األثر».
أوالً؟ فلنحـذر .إن الفهـم - 3أن ننقـد؛ أليـس هـذا يعنـي أن نفهـمَّ ،
أدبيـاً -يف األثـر
يتأرجـح بين هـذا الجهـد إلعـادة بنـاء شـخصية تنعكـسّ -
«دو يـوس» وبين عمـل البناء من جديد لفلسـفة باطنيـة «ك .أ .ماين» ،أن
ن َّتفـق مـع شـخص أو ندرك ،بواسـطة العقـل ،مركز منهـج .إن اإلفراط يف
كلّ مـن هذيـن الطريقَ ْين خطر .يقـول «جان غرونيه»« :إن اآلثـار هي أفكار
اختـارت أفـراد ًا مـا ،لتجـد وسـيلة ِّ
تعبر بهـا عـن نفسـها» .بالطبـع .ولكن،
مجردة،
َّ إذا أردنـا أن «ننقـل» املوقـف األسـايس للكاتـب عـن طريـق كتابـة
فإننـا نخـون األثـر ،و -بالعكـس -إن اال ِّتحـاد مـع «نفـس» فرديـة يفلت من
املوقـف النقـدي الـذي هـو بحكـم الضرورة «بعيـد» .وبالفعـل ،إن قـوام
نتوصـل إىل رؤيـةَّ مـرده إىل أن
ُّ املوهبـة ،يك ال تخـون األثـر وال النقـد،
خلقـة ،ال تخلـو مـن الشـعر. رسه بواسـطة طـرق ّ للعـامل ،وأن تشـارك يف ّ
إن «جـان بـوالن» ،الذي يظهر أثره كنوع من النقد السـامي فوق كلّ نشـاط
عم ميكن أن تكون عليه مقاييس الحكم ((( اتيامبل :سالمة اآلداب ،فصل «عن النقد» ( .)1952إنه يبحث ّ
النقدي ومناهجه ،ويف النهاية ال يجدها؛ لذلك «فإن النقد الوحيد هو نقد التفصيل» ومن جهة أخرى «إن النقد
والحواس.
ّ يدخل كلّ موارد الفكر
تو َّصل إىل حدس رئييس للمؤلّفات ،يجب ي
ُ َ يك أنه يرشح ()1950 واألدب» «العلم مقدمته «غي ميشو» ،يف
استخدام منهج جديل يدمج التحليل والرتكيبّ .إل أن ذلك غري ممكنّ ،إل إذا كانت «الرسائل» التي أمنها
ترصفه ،متاماً .من هنا ،تأيت فكرة (ونجد هذه الفكرة-
ُّ علم النفس وعلم االجتامع األديب قد وضعت تحت
أيضاً -لدى األمرييك «هيامن» ،الذي يريد نقد ًا يدمج كل صيغ املحاذاة املمكنة ألثر) «إقامة فرق حقيقية
مختلف أعامل االختصاصيني» .إنه ملن املؤسف أن يرى ميشو ُ للبحث» ،بشكل تكون فيه «مرتابطة ومر َّتبة
أن من الرضوري تأسيس هذه املفاهيم السليمة عىل مفهوم غامض لنقد جامعي» ذي اتِّجاهات صوفية،
الجدية .وإنه ملن املؤسف -أيضاً -أن علم النفس يرتبط ،عند هذا املؤلّف، ِّ موضوعه «الفلسفي» بعيد جد ًا عن
بـ«القدرات املتطابقة» ،أو بعلم طباع شطحي.
عم يجب أن يكون عليه تحليل الحواس وبناء األثر ،والبحث عن لكننا نستطيع أن نقدر أفكار «غي ميشو» ّ
حددت بعد «جان بريفو» ،للنقد الجامعي ،بطريقة مرموقة. مواضيع ..وغري ذلك ..وهي أفكار قد ّ
125
يتحـدث ،بدقّـة كبيرة ،عن «مشـاركة الرسّ» وعن «مشـاركةَّ أديب ونقـدي،
دقيقـة»(((؛ وبهـذا ،إن النقـد يتجـاوز تناقـض املنهجيـة والعلميـة .بكلمـة
التفهـم املبـدع ،يجـد تربيـره مـع كثري
ُّ مختصرة :يبـدو أن النقـد بواسـطة
مـن التحفُّـظ ،وإن مـن املالئـم أن نجيـب بـ(نعـم) عىل السـؤال املطروح.
كل ،وحتـى لـو كان - 4هـل ميكـن أن يكـون نقـد بلا «مقاييـس»؟ ّ
«رس» ،باملعنـى الـذي يقصـده ّ هدفـه -بتعبير دقيـق -هـو الكشـف عـن
يتدخـل .ويكـون املقيـاس ،عنـد بعضهـم، َّ حكما باطنيـ ًا
ً «بـوالن» فـإن
«الدليـل على انحراف شـخيص» ،أو الشـعور بكونه معلَّق ًا بواسـطة أثر -
هنـاك آثـار «تسـكن وتبقـى» فينا ،وهناك آثار ال تسـتطيع ذلـك -بعضهم
عما «إذا كان املؤلِّـف يعـرف مـا يريـد قولـه» ،و«إذا كان يتسـاءلون ّ
يعـرف كيـف يقولـه» «ترييـف» .بعضهـم يعتبر األسـلوب أكثر األشـياء
تعبير ًا عـن الشـخصية ،ويبحثون مثل «أندريه روسـو»((( «عـن الحقيقية
الباطنيـة» لك ّتـاب ُس ِبرت أغوارهـم من خلال رسـائلهم يف التعبري .ومن
البديهـي أن مقاييـس التقديـر التـي ال تكـون واعية ،يف الغالـب ،مرتبطة
جـد ًا بوجهـة نظـر الناقـد؛ لهـذا إن مقاييـس األصالـة قـد تكـون أكثر ّ
تقـدم النقد
قبـوالً -على العمـوم -يف الوقـت الحـارض ،وذلـك عائـد إىل ّ
املعارصيْـن.
َ العلمـي ،والنقـد الفلسـفي
أخيراً ،إن كلّ الذيـن ال يسـتطيعون أن يكشـفوا ،بطريقـة كاملـة ،هـذه
«األصالـة» التـي يصـل إليهـا ،فقـط ،الذيـن لديهـم فيما وراء التقنيـات يف
حـارة يف أن يعرفـوا مـا
تلـق» ورغبـة ّ
التنقيـب ،وفـق تعابير «بيغـان»« ،موقـف ّ
هـو املوضـوع ،ورغبـة يف اال ِّتصـال باألثر» .ويجد النقد نفسـه -بالنسـبة إليهم-
الحي الـذي ال يقاوم.»..
ّ الرسي،
ّ «رذيلـة مثـل الشـعر ،ويجيب عن نفس النـداء
ام يقـول إن مؤلّفـ ًا أدبي ًا
لكـن ،فلنحـذر مـن الخطـأ :أن يكـون الناقد حاك ً
((( فن مفاتيح الشعر :)1944( ،انظر ،أيضاً :أزهار تارب أو الرعب يف اآلداب ( ،)1941ف .ف .أو الناقد ،1945
مقدمة صغرية لكلّ نقد ( ،)1951وم .ج لوفري ،جان بوالن (.)1949
األول.
املقدمة يف الجزء َّ
ِّ ((( أندريه روسو ،أدب القرن العرشين (،)1949 - 1937
126
أوالً -أن يؤخـذ بعين االعتبـار« ،يوجـد» أو ال يوجـد ،وأن تكـون
يسـتحقَّ -
ّ
العلـوم التابعـة مضمونـ ًا ال ميكـن االسـتغناء عنـه ،وإن كانـت غير كافية؛
الحـي واالسـتقبايل؛ وأ -خيراً -أن
ّ التفهـم
ُّ وأن يكـون الهـدف األسـايس
يكـون لـكلّ نقـد مقاييسـه -إن كل هذه ليسـت ّإل اسـتنتاجات مـن الوقائع.
ٍ
كاف لتربيـره ولتأسيسـه. إن وجـود النقـد كنقـد ،يف كلّ أشـكاله ،غير
يسـتطيع ،فقـط ،نقـد النقـد الـذي هـو منـوذج «للمعرفـة املبهمـة» ،كما
يؤمـن لـه أساسـه الحقيقـي. يقـول «بـوالن» ،أن ِّ
لكـن ،وفـق ّأيـة معايير تنتقـد النقـد نفسـه؟ إننـا ننتهـي ،أخير ًا (وقـد
ال للنقاش) إىل إعادة جيداً -النقد الفلسـفي ،وإن كان كلّه قاب ً شـعر بذلكّ -
النظـر يف جوهـر العمـل األديب ،الـذي يشـكِّ ل العمـل النقـدي -بالنسـبة
ما بطريقـة فيهـا كثري من املفارقـة .كام يشـكِّ ل ،بنوع ما، متم ً
قسما ِّ ً إليـه-
رس الكلمات ،وإقامـة علـم موضحـة ّ ّ وعيـ ًا بـه .طـرح ملناقشـة متعاضـدة،
جمال ،ليـس قبليـاً ،بـل فينومينولوجيـ ًا رصفـاً .إن بريـس بـاران ،وروالن
(((
بـارت((( اللذيـن يـدرس أحدهما ظاهـرة التعبير ،ويبحـث اآلخر عـن أخالق
للغـة كامنـة يف كلّ أدب ،يسـهامن يف اإلجابـة عـن املعضلـة الرئيسـية.
يسـميه بالرعـب»ِّ وخاصـة حين ي َّتهـم «بـوالن» اللغـة واآلداب «وهـذا مـا ّ
أوالً ،كموضـوع للمعرفـة- َّ يأخـذ- أن ً،
ا يقينـ يقيـم أن قبـل نفسـه، برغـم
الوسـيلة نفسـها التـي تعـرف بها موضوعـاً ،وهـي الطريقة الوحيـدة لتج ُّنب
«املفارقـة» وتجـاوز التناقـض؛ وهكذا ،إنه يسـعى إىل تربير نقـده بنقد من
أوالً -أن املوضـوع معالـج ليحلَّـه بطريقة أفضل، الدرجـة الثانيـة يفترضَّ -
و -أخير ًا -إن محاولـة «غايتـان بيكون» يف كتابـه «الكاتب وظلّه» ،يف إقامة
الهويـة التـي كانـت تفهـم سـابقاً ،بين النقـدّ روابـط جدليـة على نقائـض
وعلـم الجمال «على النقد أن يتجاوز نفسـه يف مجال علـم الجامل ،ولكن
التوصـل إىل علـم الجمال ّإل انطالقـاً مـن النقـد» ،ذات فضـل يف ُّ ال ميكـن
شـك -مشـكلة فلسـفية. أن تهاجم -بوعي -مشـكلة «املاهية» التي هي -بال ّ
127
الفهرس
2011
عبد الرحمن الكواكبي طبائع االستبداد 1
غسان كنفاين برقوق نيسان 2
سليامن فياض األمئة األربعة 3
عمر فاخوري الفصول األربعة 4
عيل عبدالرازق اإلسالم وأصول الحكم -بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم 5
نبي
مالك بن ّ رشوط النهضة 6
محمد بغدادي صالح جاهني -أمري شعراء العامية 7
2012
أبو القاسم الشايب نداء الحياة -مختارات شعرية -الخيال الشعري عند العرب 8
سالمة موىس حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ
ّ 9
ميخائيل نعيمة الغربال 10
الشيخ محمد عبده واملدنية
ّ اإلسالم بني العلم 11
بدر شاكر السياب أصوات الشاعر املرتجم -مختارات من قصائده وترجامته 12
الطاهر حداد امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع 13
طه حسني الشيخان 14
محمود درويش ورد أكرث -مختارات شعرية ونرثية 15
توفيق الحكيم يوميات نائب يف األرياف 16
عباس محمود العقاد عبقرية عمر 17
عباس محمود العقاد الصديق
ّ عبقرية 18
عيل أحمد الجرجاوي/صربي حافظ رحلتان إىل اليابان 19
2013
ميخائيل الصقال لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية) 20
د .محمد حسني هيكل ثورة األدب 21
ريجيس دوبريه يف مديح الحدود 22
اإلمام محمد عبده السياسية
ّ الكتابات 23
عبد الكبري الخطيبي نحو فكر مغاير 24
روحي الخالدي تاريخ علم األدب 25
عباس محمود العقاد عبقرية خالد 26
خمسون قصيدة من الشعر العاملي أصوات الضمري 27
يحيى حقي مرايا يحيى حقي 28
عباس محمود العقاد عبقرية محمد 29
حوار أجراه محمد الداهي عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب 30
مجموعة مؤلفني العربية
ّ فتاوى كبار الك ّتاب واألدباء يف مستقبل اللّغة 31
2014
ترجمة :رشف الدين شكري عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد) 32
خالد النجار عامليني)
ّ ِساج ُّ
الرعاة (حوارات مع كُ تاب 33
ترجمة :مصطفى صفوان مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه) 34
د.بنسامل ِح ّميش سريت ابن بطوطة وابن خلدون
َ عن 35
ابن طفيل حي بن يقظان -تحقيق :أحمد أمني 36
ميشال سار اإلصبع الصغرية -ترجمة :د.عبدالرحمن بوعيل 37
محمد إقبال محمد إقبال -مختارات شعرية 38
ترجمة :محمد الجرطي (تأمالت يف الحضارة ،والدميوقراطية ،والغريية)
تزفيتان تودوروف ُّ 39
أحمد رضا حوحو مناذج برشية 40
د.زيك نجيب محمود الرشق الف ّنان 41
ترجمة :يارس شعبان تشيخوف -رسائل إيل العائلة 42
مختارات شعرية إلياس أبو شبكة «العصفور الصغري» 43
2015
األمري شكيب أرسالن ملاذا تأخر املسلمون؟ وملاذا تقدم غريهم؟ 44
عيل املك مختارات من األدب السوداين 45
ُجرجي زيدان رحلة إىل أوروبا 46
د.عبدالدين حمروش عباد يف سنواته األخرية باألرس
بن َّ
ُعتمد ُ
ُ امل 47
سالمة موىس تاريخ الفنون وأشهر الصور 48
إيدوي بلينيل -ترجمة :عبداللطيف القريش من أجل املسلمني 49
يوسف ذَ نّون زِينة املعنى (الكتابة ،الخط ،الزخرفة) 50
أحمد فارس الشدياق الواسطة يف معرفة أحوال مالطة 51
دُ .محسن املوسوي النخبة الفكرية واالنشقاق 52
إيزابيل إيربهاردت ياسمينة وقصص أخرى 53
ترجمة وتقديم :بوداود عمري آباي (كتاب األقوال) 54
ترجمة :عبدالسالم الغرياين مأساة واق الواق 55
2016
محمد محمود الزبريي والفن والحضارة)
ّ واملد (صفحات يف اللّغة واآلداب
ّ بني الج ْزر 56
مي زيادة ظلّ الذّ اكرة (حوارات ونصوص من أرشيف «الدوحة») 57
قسم التحرير «مجلّة الدوحة» املرصية ( )1932تحقيق :رشيد العفاقي
ّ الرحلة الف ّنية إىل الديار 58
أليكيس شوتان -تعريب :عبد الكريم أبو علو قيرص وكليوبرتا 59
إسامعيل مظهر الصني وفنون اإلسالم 60
ترجمة :مي عاشور (مختارات ِش ْع ّ
رية للكاتب الصيني وانغ جو جن) براعم األمل ُ
ُ 61
محمد العرويس املطوي ال ّتوت امل ُّر 62
غونار إيكليوف درب الغريب 63
أحمد حافظ بك من والد إىل ولده 64
بول ُبورجيه التلــــميذ 65
تقديم وترجمة :طه باقر ملحمة جلجا ِمش
َ 66
الشيخ مصطفى الغالييني أريج ال ّزهر
ُ 67
2017
محمد فريد سيالة
ّ اعرتافات إنسان 68
الطيب صالح مريود 69
عبدالله كنون املقاالت الصحفية 70
نجيب محفوظ قصص قصرية 71
إبراهيم الخطيب بول بولز -يوميات طنجة 72
سالمة موىس الحياة فن َ ّ 73
خري الدين التونيس ك ِف َم ْع ِرف َِة َأ ْح َوالِ ال َْم َم ِل ِ
ك َأق َْو ُم ال َْم َسا ِل ِ 74
أحمد أمني َ
األخلق كتاب 75
فدوى طوقان ر ِْحلَةٌ َج َب ِل َّيةٌ ر ِْحلَةٌ َص ْع َبة 76
مجموعة من الكتاب ري ُة ِف قَطَ ر)
ص َصةُ الْقَ ِ
ارات ِمن َا ْل ِق َّ
(مخ َت َ ْ
ـطاف ُ ِق 77
جول غابرييل فرين ،ترجمة :يوسف اليان رسكيس الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية (من رشقي إفريقية إىل غربيها) ج1 : 78
جول غابرييل فرين ،ترجمة :يوسف اليان رسكيس الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية .ج2 : 79
2018
إسحق موىس الحسيني مذكرات دجاجة 80
نورمان ج .فينكلستاين -ترجمة :أحمد زراقي ماذا يقول غاندي عن الالعنف واملقاومة والشجاعة؟ 81
د .نزار شقرون نشأة اللوحة املسندية يف الوطن العريب 82
إس .إس .بيو -ترجمة :يعقوب رصوف -فارس منر والعظَ َم ِء الق َُدماء ِمن ِس َي ا َ
ألبْطَ ال ُ 83
إغناطيوس كراتشكوفسيك العريب
ّ مقاالت ِف األدب ٌ 84
صوف
صموئيل ساميلز -ترجمةَ :يعقُوب َ ُّ ِ ُّ
س ال َّن َجاحِ 85
ُم َعاو َِية ُم َح َّمد ُنور ِم ْن آثَا ِر ُم َعاو َِية ُم َح َّمد ُنور 86
أحمد الهاشمي الع ْ ِ
ص َّية ات َ اء املُكَ ات ََب ِ
ِنش ُ
إ َ 87
ترجمة :عبدالرحمن الخمييس وآخرين السوفْيي ِّتي ارات ِم َن ِّ
الش ْع ِر ُّ أجراس أكتوبر ُ -م ْخ َت ٌ 88
اختارها وترجمها :جربا إبراهيم جربا حكايات من الفونتني 89
ألبريطو مانْغيل -ترجمة :إبراهيم الخطيب مع بورخيس 90
لوسيان جولدمان ،ناتايل ساروت ،آالن روب الرواية الجديدة والواقع 91
غرييه ،جينفياف مويلو .ترجمة :رشيد بنحدو
2019