You are on page 1of 136

Qo..

:::)
_µ..

.. ..
ru,Jl..w�
‫النقد األديب‬
‫‪96‬‬
‫مجانًا مع العدد (‪ )139‬من مج َّلة «الدوحة» ‪ -‬مايو ‪2019 -‬‬
‫ُي َوزَّع ّ‬

‫عنوان الكتاب‪ :‬النقد األديب‬


‫املؤلف‪ :‬كارلوين وفيلو‪ .‬ترجمة‪ :‬كيتي سامل‬

‫النارش‪ :‬وزارة الثّقافة والرياضة ‪ -‬دولة قطر‬


‫رقم اإليداع بدار الكتب القطرية‪:‬‬
‫الرتقيم الدويل (ردمك)‪:‬‬

‫الفنّي ‪ -‬مج ّلة الدوحة‬


‫اإلخراج والتصميم‪ :‬القسم َ‬
‫صورة الغالف‪Jean Tinguely (Swiss,1925 -1991), Elément Détaché III :‬‬

‫هذا الكتاب‪:‬‬
‫عب عن آراء مؤ ِّلفه‪ ،‬وال ُي ِّ‬
‫عب ‪-‬بالرضورة‪ -‬عن رأي وزارة الثّقافة والرياضة أو مج ّلة الدوحة‬ ‫ُي ِّ‬
‫كارلوني وفيلو‬

‫النقد األدبي‬
La Critique Littéraire
Jean-Claude Carloni et Jean-Claude Filloux

‫ترجمة‬
‫كيتي سالم‬

‫مراجعة‬
‫جورج سالم‬
‫مقدمة‬
‫ِّ‬

‫نعـرف النقـد األديب فهـذا يعنـي تحديـد األهـداف التـي‬


‫ّ‬ ‫إذا أردنـا أن‬
‫أوالً‪ -‬بالقـول‬ ‫ِ‬
‫يضعهـا النقـد لذاتـه‪ ،‬واملناهـج التـي يسـتخدمها‪ .‬فلنكتـف‪َّ -‬‬
‫إن النقـد األديب يعتمـد على فحـص املؤلَّفـات واملؤلِّفين؛ القدمـاء‪ ،‬أو‬
‫املعارصيـن‪ ،‬لتوضيحهـم ورشحهـم وتقديرهـم‪.‬‬
‫نسـتطيع أن نـدرس الن ّقـاد بفحـص مضمـون مؤلَّفاتهـم ومـدى دقّـة‬
‫أحكامهـم أو عمقهـا‪ ،‬أو املوهبـة التـي يبسـطونها يف التحليـل‪ ،‬ويف‬
‫الحديـث‪ ،‬ويف فـن املجادلـة‪...‬‬
‫لكـن هـذا ليـس بقصدنا األسـايس‪ .‬إننا سـنحرص‪ ،‬قبـل كلّ يشء‪ ،‬عىل‬
‫الخاصـة‪ ،‬ودراسـة املؤلَّفات‬
‫ّ‬ ‫أدبيـ ًا لـه قوانينـه‬
‫دراسـة النقـد باعتبـاره نوعـ ًا ّ‬
‫ضمنيـاً‪ ،‬وينجـم عـن هـذا‬
‫ّ‬ ‫النقديـة التـي ميكـن أن تكشـف نهجـ ًا رصيحـ ًا أو‬
‫نتائـج كثيرة تتعلَّـق مبوضـوع كتابنـا هـذا‪ ،‬وحدوده‪.‬‬
‫‪ - 1‬لقـد عمدنـا‪ ،‬قبـل كلّ يشء‪ ،‬إىل دراسـة كلّ مـن الن ّقـاد املرموقين‬

‫‪5‬‬
‫يف كتاباتهـم النظريـة‪ّ ،‬إل أننـا حاولنـا‪ -‬قـدر اإلمـكان‪ -‬أن نقابـل النظريـة‬
‫بالتطبيـق‪ .‬ذلـك أن النقـد‪ -‬بوصفه ف ّنـاً‪ -‬يحتوي عىل كثري مـن االلتباس‪ ،‬مل‬
‫يسـتطع حتـى كبار الن ّقاد أن ينجـوا منه‪ :‬فقد يخفي ناقـد يعنى بالنظريات‪،‬‬
‫يف إِ َهابِـه‪ ،‬ناقـد ًا انطباعيـ ًا بالـغ االقتنـاع‪ ،‬أو أن َين ُتـج أفضـل يشء يـأيت بـه‬
‫متحمـس ملذهبـه‪ ،‬عن عـدم إخالصـه ملذهبـه املزعوم‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ناقـد‬
‫سـنتحدث عنهم يجـب أن يعتربوا‪ ،‬قبل‬‫َّ‬ ‫على كلّ حـال‪ ،‬إن الن ّقاد الذين‬
‫العامـة التـي طرحهـا املنهـج يف النقـد‬
‫ّ‬ ‫كلّ يشء‪ ،‬منـاذج ُتظهـر املشـاكل‬
‫يبرر لنـا هـذا الثغـرات الكثيرة يف هـذا الكتـاب‪ .‬إذا أردنـا‬
‫ربـا‪ِّ -‬‬ ‫األديب؛ و‪َّ -‬‬
‫(وخاصـة املعارصيـن)‪ ،‬فـإن هـذا يقودنـا إىل أن نقيـم‬
‫ّ‬ ‫نعـدد كلّ الن ّقـاد‬
‫ِّ‬ ‫أن‬
‫مجـرد جـدول دون مدلول‪.‬‬ ‫َّ‬
‫أهمها هي املشـكلة التي تطرح‬ ‫‪ - 2‬من بني مشـاكل املنهج‪ ،‬يبدو لنا أن ّ‬
‫األسـئلة اآلتيـة‪ :‬هـل يسـتطيع الناقد‪ ،‬يك يرشح أثـر ًا أدبي ًا ويحكـم عليه‪ ،‬أن‬
‫يبحـث عـن أسـس ومقاييـس موضوعية يف عقيـدة أو يف علـم؟ وهل يجب‬
‫عليـه ذلـك؟ أو هـل ينبغي‪ -‬عىل عكس ذلـك‪ -‬أن يبقى محصـور ًا يف َّ‬
‫ذاتيته‪،‬‬
‫أي تعيين حقيقـي؟ وهـل‬ ‫يتوصـل إىل ّ‬
‫َّ‬ ‫ويعترف بـأن النقـد ال يسـتطيع أن‬
‫ميكـن تجـاوز هـذه املعضلـة املغلقـة؟ إن األجوبـة املختلفـة عـن هـذه‬
‫األسـئلة هـي التـي تشـكِّل مخطَّ طنا الذي سـيكون منطقي ًا أكرث منـه تاريخياً‪.‬‬
‫إن بعضـ ًا مـن هـذه األجوبـة‪ ،‬وبعضـ ًا مـن هـذه املناهـج‪ ،‬تسـتند إىل‬
‫حـد مـا؛ لهـذا فسـندخل يف تفاصيـل طويلـة بعـض‬ ‫خاصـة‪ ،‬إىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫أسـاليب‬
‫الشيء‪ ،‬لنعرضهـا‪ ،‬ونرجـو املعـذرة عـن األخطـاء التـي تنتـج عـن تفـاوت‬
‫فاألهم ّيـة النسـبية التـي أعطيناهـا لـكلّ مذهـب ال تتعلَّـق بفائدتـه‬
‫ِّ‬ ‫طولهـا؛‬
‫الحقيقيـة‪ ،‬إمنـا تعتمـد على تعقُّـده‪.‬‬
‫يسـميه تيبوديه‬
‫ِّ‬ ‫‪ - 3‬مثّـة نـوع مـن النقـد‪ ،‬مل نطرقـه بوصفه ف ّنـاً‪ ،‬وهو ما‬
‫«نقـد الحركـة»‪ :‬إنـه نقـد «الدعايـة األدبيـة» التـي يقودهـا‪ -‬عـادةً‪ -‬كُ ّتـاب‬
‫يحرضـون عىل نشر أفكارهـم الجديدة‪ ،‬وذلـك بإقامة هجـوم عنيف‬ ‫شـباب ِّ‬
‫على كلّ مـا هـو ليـس مـن «جامعتهـم»‪ ،‬سـواء يف الحـارض ويف املايض‪،‬‬
‫وي َع َّبر عـن هـذا النقـد يف‬
‫الخاصـة أو آلثـار رفاقهـم‪ُ ،‬‬
‫ّ‬ ‫أو بالدعايـة آلثارهـم‬

‫‪6‬‬
‫نشر يف مجلاّ ت حديثـة‪.‬‬
‫ومقدمـات ومقـاالت ُت َ‬
‫ِّ‬ ‫مناشير‬
‫وهكـذ‪ ،‬نشـأ نقـد رومنسي‪ ،‬ونقـد رمـزي‪ ،‬ونقـد طبيعـي‪ ،...‬ثم تلا ذلك‬
‫نقـد يعتمـد عىل «إعادة اكتشـاف األثر»‪ ،‬يشـبه النقد السـابق‪ ،‬وهو يعطي‪،‬‬
‫متميـزة‪ ،‬لكنها جديـدة‪ ،‬وغالبـ ًا ما تكون‬ ‫ِّ‬ ‫مـن خلال الـذوق املعارص‪ ،‬رؤيـة‬
‫ً‬
‫(ظلما) يف‬ ‫خصبـة لك ّتـاب مشـهورين يف املـايض‪ ،‬أو تبعـث كُ َّتابـ ًا وقعـوا‬
‫النسـيان‪ .‬وهكـذا‪ ،‬تختلـف دراسـة براسـيالخ عـن كـورين كثير ًا عـن دراسـة‬
‫النسـيون‪ ،‬وإن موريـس سـيڤ املغمـور‪ ،‬وجـد نفسـه‪ ،‬فجـأةً‪ ،‬بعـد ليـل‬
‫أهم ّيـة فائقـة‪ .‬وهنـاك ‪-‬أخيراً‪ -‬النقـد الصحـايف املحـض‬ ‫طويـل‪ ،‬وقـد أُ ِ‬
‫عطـي ِّ‬
‫يهتـم باألخبـار األدبيـة كاهتاممـه باألخبـار السياسـية واالقتصاديـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الـذي‬
‫اليعنـي هـذا أن نوعـ ًا كهـذا من النقـد‪ ،‬يبدو لنا عديـم الجدوى‪ .‬فهـو‪ ،‬إن كان‬
‫عملية البحث‬
‫ّ‬ ‫مهما يف الحيـاة األدبية ‪ ،‬يـأيت بقليل من العنـارص يف‬‫ً‬ ‫يلعـب دور ًا‬
‫مضطـرون إىل دراسـة املؤلَّفـات النقديـة التـي تنشر عىل‬
‫ّ‬ ‫عـن منهـج؛ لـذا فإننـا‬
‫شـكل مجلـدات أو مجموعـة مقـاالت‪ ،‬عندمـا تكشـف عـن موقـف وعـن منهـج‪،‬‬
‫خاص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لهما طابـع‬
‫‪ - 4‬إننـا مل نبـدأ دراسـتنا النظاميـة ّإل اعتبـار ًا مـن القـرن التاسـع عشر‪.‬‬
‫وبالفعـل‪ ،‬إن النقـد األديب مل ينشـأ‪ -‬بوصفـه نوعـ ًا أدبيـاً‪ّ -‬إل قريـب مطلـع هـذا‬
‫القـرن‪ .‬كتـب تيبوديـه يقـول‪« :‬قبـل القرن التاسـع عشر كان هناك ن ّقـاد‪ ،‬لكن مل‬
‫يكـن هنـاك نقـد»‪.‬‬
‫نقـدم ملحـة تاريخيـة رسيعـة‪ ،‬نتابـع‪ -‬خاللهـا‪،‬‬ ‫ويبـدو مـن الضروري أن ِّ‬
‫شـيئ ًا فشـيئاً‪ -‬ظهـور أنـواع النقـد وعمليـة النقـد يف القـرن التاسـع عشر‪ّ .‬إل أننـا‬
‫ابتـداء مـن القـرن السـادس عشر‪ ،‬وسـنقترص‪ -‬كما يف‬ ‫ً‬ ‫سـنفتتح هـذه الدراسـة‬
‫بقيـة الكتـاب‪ -‬على املجـال الفرنسي‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪7‬‬
‫األول‬
‫الفصل َّ‬
‫قبل أن يبدأ النقد‬

‫فنـون شـعرية‪ ،‬أم مقـاالت؟‪ :‬إن مـا نرشه الفرنسـيون‪ ،‬إثـر اإليطاليني‪،‬‬
‫يف القـرن السـادس عشر‪ ،‬مـن رشوح عديـدة ألرسـطو‪ ،‬لهـي أقـلّ صلـةً‬
‫خاص ًا‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫قسما‬ ‫نخصص‬‫ِّ‬ ‫بالنقـد األديب منهـا بعلـم الجمال‪ .‬لكـن‪ ،‬يجـب أن‬
‫لبعـض الفنـون الشـعرية ذات موضـوع أقـلّ إبهامـ ًا عما يبـدو للوهلـة‬
‫األوىل‪ ،‬وهـي النماذج األوىل لنقـد املنازعـات‪ ،‬وأشـهرها «دفـاع عـن‬
‫اللّغـة الفرنسـية‪ ،‬ومتجيدها»‪ ،‬الـذي كتبه‪ ،‬عام ‪ ،1949‬جواشـيم دو بيليه‬
‫«الفن الشـعري» لتوماس‬ ‫ّ‬ ‫ِاسـم رفاقـه «يف الفرقـة»‪ ،‬ليجيـب عىل كتـاب‬‫ب ْ‬
‫سـيبيليه الـذ ي ظهـر يف السـنة السـابقة‪:‬‬
‫إننـا نجـد فيـه نقـد ًا عنيفـ ًا للشـعراء الفرنسـيني القدمـاء‪ ،‬وكذلـك‬
‫نقـدي هجـايئ‪ ،‬باإلضافـة إىل أشـياء‬
‫ّ‬ ‫لشـعراء مدرسـة مـارو‪ ،‬فهـو كتـاب‬
‫تضم َنهـا‪ ،‬وهـو‪ -‬أيضـاً‪ -‬نقد يدعم املدرسـة الناشـئة‪ ،‬لكـن األحكام‬
‫َّ‬ ‫أخـرى‬

‫‪9‬‬
‫الح ِم ّيـة‬
‫خاصـة‪ -‬يف َ‬
‫ّ‬ ‫الـواردة فيـه مجملـة‪ ،‬وتكمـن قيمـة هـذا األثـر‪-‬‬
‫والحامسـة اللتين يبديهما املؤلِّـف فيـه‪.‬‬
‫شرت يف أواخر‬ ‫كما أن بعـض صفحـات مـن مقـاالت مونتـاين‪ ،‬التـي ُن ِ‬
‫ال عـن النقـد اإلنطباعـي‪ .‬يف فصلـه «عـن الكتـب»‪،‬‬ ‫القـرن‪ ،‬تعطـي مثـا ً‬
‫يعترف مونتـاين بأنـه عاجـز عـن العلـم الحقيقـي؛ وذلـك بسـبب الكسـل‬
‫ذاتيـة‬
‫ّ‬ ‫الطبيعي ْين‪ ،‬وال يسـعى ّإل يك يعطـي انطباعـات‬
‫َّ‬ ‫وعـدم التلاؤم‬
‫محضـة‪ ،‬تركتهـا لـه الكتـب التـي قرأهـا‪ .‬فهـو يظهـر كقـارئ هـاو للـذات‪،‬‬
‫ين معـاً‪ ،‬يبحـث يف القـراءة عـن املتعـة وعـن املعرفـة العميقـةً‬ ‫وإنسـا ّ‬
‫لذاتـه ولإلنسـان‪ ،‬يقـول‪« :‬إننـي ال أبحـث يف الكتـب ّإل عما يعطينـي‬
‫لـذّ ة‪ ،‬مـن خلال تسـلية رشيفـة‪ ،‬أو إذا درسـت فـإين ال أطلـب ّإل العلـم‬
‫حسـن املـوت‪،‬‬
‫َ‬ ‫الـذي يبحـث يف معرفـة النفـس‪ ،‬والـذي يعلِّمنـي أن أُ‬
‫حسـن العيـش»‪ .‬وهو يشير‪ ،‬يف هاتين املقولتين‪ ،‬إىل املؤلَّفات التي‬ ‫َ‬ ‫وأُ‬
‫مبينـ ًا أسـباب اختيـاره‪ .‬إن هـذا النمـوذج مـن النقد‪ ،‬الـذي ّ‬
‫ميدنا‬ ‫يفضلهـا‪ِّ ،‬‬
‫ّ‬
‫عمـن ينقـد أكثر مما يعلمنا عن األثـر الذي ُينقَ ـد‪ ،‬قد وجد‪-‬‬ ‫باملعلومـات َّ‬
‫منـذ القديـم‪ -‬أنـه يذكّ رنـا بـكلٍّ مـن‪ :‬بجـول لومتر‪ ،‬وأناتـول فرانـس‪ ،‬مـع‬
‫أما‬
‫بأي عمـل نقدي‪ّ .‬‬ ‫مهـم بالنسـبة إىل مونتـاين الذي ال يقـوم‪ ،‬هنا‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫فـارق‬
‫أن ي َّتخـذ مونتـاين‪ ،‬مـن النقـد أو مـن سـواه‪ ،‬مهنـة‪ ،‬فـذاك أبعـد مـا يكـون‬
‫عـن ذهنه‪.‬‬
‫يـأت بشيء‬ ‫نسـتطيع‪ ،‬إذن‪ ،‬أن نقـول‪ :‬إن القـرن السـادس عشر مل ِ‬
‫مهـم إيجـايب‪ ،‬يف املجـال الـذي يهمنـا‪ ،‬ألن هـذه الفترة قـد شـغلت‬ ‫ّ‬
‫أراض جديـدة‪ ،‬فلدينـا‪ ،‬مـع ماليرب‬ ‫ٍ‬ ‫عـن النقـد بالخلـق والعمـل وارتيـاد‬
‫أمـا بوصفه كتاب ًا‬
‫«وتعليقـه على ديسـبورت»‪ ،‬الفحـص النقدي ألثر أديب‪ّ .‬‬
‫نظريـات ماليرب‬
‫ّ‬ ‫جـداً‪ ،‬وركيـك أيضـاً‪ .‬إنـه يخربنـا عـن‬
‫نقديـاً‪ ،‬فهـو هزيـل ّ‬ ‫ّ‬
‫مـادة اللّغـة والعـروض‪ ،‬أكثر بكثير مما يخربنـا عـن مزايا ديسـبورت‬ ‫يف ّ‬
‫واملآخـذ التـي أُ ِخـذت عليـه‪.‬‬
‫أمـا يف القرن السـابع عرش فقـد انتظمت الحياة‬ ‫مقـاالت وخصومـات‪ّ :‬‬
‫األدبيـة‪ ،‬وبـدأ وضـع الكاتـب يتبلـور‪ ،‬ويصبـح لـه مهنـة مسـتقلّة أكرث مام‬

‫‪10‬‬
‫كان عليـه فيما مضى؛ إذ سـيطرت مشـكلة القواعـد عىل النقـد حتى عام‬
‫‪ ،1660‬تقريبـاً‪ .‬إن الن ّقـاد املحرتفين والكُ ّتـاب أنفهسـم كانـوا على ا ّتفاق‬
‫توصل إليه القدمـاء‪ ،‬إذا ما طُ ِّبقت بعض‬ ‫ال مثاليـاً ثابت ًا ّ‬ ‫على أن هنـاك جام ً‬
‫مفسيه اإليطاليين وغريهم‪،‬‬ ‫القوانين التـي نجدهـا لدى أرسـطو أو لـدى ِّ‬
‫حين يعبرون‪ ،‬عىل هذا النحو‪ ،‬يف مقاالتهـم العلمية‪ ،‬عن أفكار عقائدية‬
‫املقدمـات والكتـب النظريـة لهـؤالء «النظاميين»‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ضيقـة قاسـية‪ .‬وإن‬ ‫ِّ‬
‫باسـم القواعـد على قيمـة‬ ‫ْ‬ ‫الحكـم‬ ‫ميكـن‬ ‫ولكـن‪،‬‬ ‫ـة‪.‬‬ ‫نقدي‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ا‬ ‫آثـار‬ ‫إال‬ ‫ليسـت‬
‫املرسحيـات التـي تظهـر‪ .‬ومبـا أنهـم مل يكونـوا م َّتفقين على‬ ‫ّ‬ ‫الكتـب أو‬
‫تطبيـق القواعـد‪ ،‬فقـد نتـج عن ذلـك مشـاحنات عنيفة‪ ،‬وا َّتخـذ النقد‪ ،‬يف‬
‫«السـيد»‬
‫ِّ‬ ‫مرسحية‬
‫ّ‬ ‫وتعد الخصومـة حول‬ ‫ّ‬ ‫أغلـب األحيـان‪ ،‬شـكل الهجـاء‪.‬‬
‫مـن أشـهر هـذه املعـارك‪ّ .‬إل أن خصومـات أخـرى قـد نشـبت‪ :‬خصومات‬
‫يدعـون املعرفـة‪ ،‬أتاحـت املجـال لظهـور مجموعـة مـن‬ ‫مضحكـة ملـن َّ‬
‫األهاجـي‪ ،‬حيـث اختلطـت اإلهانـات الشـخصية بالشـواهد العلميـة‪ّ .‬إل‬
‫خاصـ ًا ملقـاالت كورنـاي‪ ،‬ودراسـته عـام ‪،1660‬‬ ‫ّ‬ ‫أننـا يجـب أن نفـرد مكانـ ًا‬
‫مهمـة‪ ،‬ميكـن لناقـد حديـث‬ ‫حيـث يفسـح الدفـاع الشـخيص مكانـ ًا آلراء ّ‬
‫أن يسـتفيد منهـا حتـى اآلن‪ .‬إننـا نجـد فيها دراسـة تقنيـة للأمسـاة‪ ،‬كتبها‬
‫رجـل ضليـع عـرف املشـاكل الواقعية التـي يطرحهـا ف ّنه‪.‬‬
‫النقـد النزيـه‪ :‬نسـتطيع أن نقـول‪ :‬لقـد ُو ِجـد ن ّقاد‪ ،‬بالرغـم من عيوبهم‬
‫حدة‬
‫وتصلُّبهـم وعـدم خربتهـم؛ فبعـد عـام ‪ 1660‬وجد كثير منهم‪ ،‬لكـن ّ‬
‫الحقيقيين األكثر رهافـة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الكالسـيكيني‬
‫ِّ‬ ‫«النظاميين» سـيفتنها ذوق‬
‫ِّ‬
‫وهكـذا سـي َّتجهون نحـو نقـد ال ينحـو‪ ،‬بقسـوة‪ ،‬نحـو «اإلطلاق» حيـث‬
‫«فـن اإلرضـاء» والـذوق الرفيـع والـذي «ال أعـرف ما هـو» املرتبة‬
‫ّ‬ ‫سـيحتلّ‬
‫األوىل‪ ،‬وسـتفقد الخصومـات األدبيـة تحذلقهـا‪ ،‬مـرور ًا بحلقـة الفقهـاء‬
‫العامـة والصالونـات‪ ،‬وسـيطلب الكُ ّتاب‬
‫ّ‬ ‫الخاصـة‪ ،‬حتـى معـرض السـاحة‬ ‫ّ‬
‫املشـهورون حكـم الجمهـور الواعـي‪.‬‬
‫مقدمـة مرسحيـة «املرافعين»‪ ،‬يسـخر مـن الذيـن‬ ‫ِّ‬ ‫إن راسين‪ ،‬يف‬
‫«خافـوا ّأل يضحكـوا وفـق القوانين»‪ .‬هكـذا نشـأ ومنـا‪ ،‬يف الصالونـات‪،‬‬

‫‪11‬‬
‫«نقـد شـفهي»‪ ،‬ونقـد «مدرسـة النسـاء» يعطينـا فكـرة عنـه‪.‬‬
‫يتحـول إىل هجـاء‬
‫َّ‬ ‫منهجيـةً ‪ ،‬حين ال‬
‫ّ‬ ‫يبقـى النقـد املكتـوب أكثر‬
‫اء أكرث‬
‫هج ً‬‫شـخيص‪ .‬وبوالو‪ ،‬يف األقسـام األدبيـة لكتابه «الهجاء»‪ ،‬يبـدو َّ‬
‫منـه ناقـداً‪ ،‬فهـو نفسـه يعترف أنـه مل يقـرأ بعـض املؤلَّفـات التـي أدانها‬
‫ويتغير اسـم ضحايـاه مـن طبعـة إىل أخـرى‪ ،‬حسـب‬ ‫َّ‬ ‫بقسـوة شـديدة‪.‬‬
‫مزاجـه؛ وإذا كان قـد اعتبر «فاريـه» يشـبه دعامـة حانـة‪ ،‬فذلـك بسـبب‬
‫املبررات‪ ،‬و‪ -‬على العكـس‪ -‬إن‬ ‫ّ‬ ‫القافيـة‪ ،‬وغالبـ ًا مـا تحتـاج أحكامـه إىل‬
‫دراسـته لــ «حـوار أبطال الروايـات»‪ ،‬و(دراسـته للجوكونـدا)‪ ،‬حيث يدافع‬
‫ضـد الشـاعر بويـون‪ ،‬يعتبران نقـد ًا حقيقيـاً‪ .‬يبنـي‬‫ّ‬ ‫بوالـو عـن الفونتين‬
‫بوالـو حكمـه على نظرية ميليهـا عليه الذوق السـليم‪ .‬إن القبول الشـامل‬
‫لهـو ضمان أكيـد يف النقـد‪ ،‬كما أن املوهبـة رضوريـة للكاتـب كضرورة‬
‫القواعـد؛ ويجـب أن تراعـى قوانني اللياقـة‪ ،‬واملحتمـل‪ ،‬وأن يبقى األديب‬
‫أمينـ ًا للعقـل وللطبيعـة‪ .‬على وجـه العمـوم‪ ،‬على هـذه املبـادئ (وهـي‬
‫«فن الشـعر» وهو‬ ‫ليسـت بجديدة بالنسـبة إىل هذه الفرتة) يسـتند كتاب ّ‬
‫عامـة مبؤلَّـف نقـدي‪ :‬إن كلّ مـا ميكـن اسـتخالصه‬ ‫ليـس حصيلـة أفـكار ّ‬
‫جـد ًا امللطَّ خة باألخطـاء واملمزوجة‬ ‫منـه‪ ،‬لهـو بعض املعـارف املجملة ّ‬
‫بتاريـخ األدب ومبديـح ملوليير‪ ،‬باهـت يف أعيننـا‪.‬‬
‫أهـم حـدث جديـد‪ ،‬يف تلـك الفترة‪ ،‬هـو اختراع الجرائـد‪ .‬بـدأ قبل‬‫ّ‬ ‫إن‬
‫ذلـك شـابالن‪ ،‬وغيـه دو بلـزاك الصحافـة األدبيـة برسـائلهام‪ ،‬ونشـأت‬
‫أسسـها‪ ،‬عـام‬ ‫الصحافـة األدبيـة املحـض مـع جريـدة «العلماء» التـي َّ‬
‫حـد مـا‪ ،‬عـن‬
‫‪ ،1665‬دونيـز دو سـالو‪ ،‬حيـث نجـد تقاريـر موضوعيـة‪ ،‬إىل ّ‬
‫الكتـب الحديثـة‪ .‬كما كتـب لوريـه يف جريدتـه املق ّفـاة التـي تحمل اسـم‬
‫«املُلهمـة التاريخيـة»‪« ،‬أصداء» عن املؤلَّفات املأسـوية األوىل‪ .‬وأخرياً‪،‬‬
‫ظهـرت‪ ،‬عـام ‪ ،1672‬جريـدة «املركـور كاالن ‪.»le mercure galant -‬‬
‫قـررت‪ -‬إىل جانـب شـعارات أخـرى‪« -‬أن‬ ‫لصاحبهـا دونـو دو فيـزه‪ ،‬وقـد َّ‬
‫تحكـم على كلّ ملهـاة جديـدة‪ ،‬وعلى كلّ كتـاب يصـدر يف الغـزل»‪.‬‬
‫وهكـذا‪ ،‬ظهـر النقـد الصحـايف الـذي يخلـق حيـاة النقـد‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫الـروح «الحديثـة»‪ :‬إن الخصومـة بين القدمـاء واملحدثين التـي‬
‫مهم‪ ،‬ال يف التاريخ األديب فحسـب بل يف‬ ‫ّ‬ ‫انفجـرت عـام ‪ ،1687‬هي حدث‬
‫تاريـخ النقـد‪ .‬فعالً‪ ،‬إننا نجد‪ ،‬إىل جانب األحـكام املتناقضة التي أصدرها‬
‫كلٌّ مـن الطرفين‪ ،‬يف حجـج أنصـار املحدثين‪ ،‬أفـكار ًا تحمـل بـذور ُّ‬
‫تغي‬
‫التقـدم وعمومية العقل‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫النقـد(((‪ .‬إن النظريـة الحديثـة تسـتند إىل فكـرة‬
‫متفوقـون على األقدمين‪ ،‬فقط‪ ،‬ألننا أتينا بعدهـم‪ ،‬وأن الفكر‬
‫ِّ‬ ‫‪ - 1‬إننـا‬
‫الفنيـة التـي تسـتند‬
‫ّ‬ ‫مسـتمر‪ ،‬و‪ -‬كذلـك‪ -‬ألن الطـرق‬
‫ّ‬ ‫اإلنسـاين يف تقـدم‬
‫مسـتمر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تحسـن‬
‫ُّ‬ ‫عليهـا الفنون يف‬
‫وتعسـفي‪ ،‬ويجب ّأل نأخذ نزواتـه بعني االعتبار‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫متغير‬
‫ِّ‬ ‫‪ - 2‬إن الـذوق‬
‫عـام‬
‫ّ‬ ‫بـل‪ -‬على العكـس‪ -‬يجـب أن نصغـي إىل صـوت العقـل الـذي هـو‬
‫ومطلـق‪ ،‬فالعقـل‪ ،‬إذن‪ ،‬يديـن القدمـاء‪ ،‬وإن أوىل هـذه األفـكار تشـكِّ ل‬
‫الفـن تابعـة‬
‫ّ‬ ‫منطلقـ ًا سـينتهي‪ ،‬مـع الزمـن‪ ،‬بـأن ِّ‬
‫يغير النقـد‪ :‬إن أشـكال‬
‫للعصر الـذي تتف َّتـح فيه‪ ،‬وال ميكـن الحكـم بطريقة واحدة على مؤلَّفات‬
‫مـن عصـور مختلفـة‪ ،‬وإننـا نجـد‪ ،‬عنـد فونتنيـل‪ ،‬فكـرة تأثير املنـاخ على‬
‫أدت‬ ‫إنتـاج الفكـر اإلنسـاين‪ ،‬وإن ملـن املؤسـف أن الفكـرة األوىل قـد َّ‬
‫إىل نتائـج متعارضـة‪ :‬لقـد اقتصرت على تبديـل العقائديـة القامئـة على‬
‫السـلطة بعقائديـة عقالنيـة‪ ،‬ميكـن الحكـم‪ ،‬مـن خاللهـا‪ ،‬على األعمال‬
‫مجـردة ومطلقـة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫األدبيـة‪ ،‬وفـق نظريـة للجمال‬
‫ين كفونتنيـل‪ ،‬لكنـه ف ّنـان‪ ،‬وهـو‪-‬‬ ‫إن بوالـو‪ ،‬بطـل القدمـاء‪ ،‬عقلا ّ‬
‫لذلـك‪ -‬يدافـع عـن قيـم للـذوق‪ ،‬مل يحسـب لهـا فونتنيـل حسـاباً‪ّ .‬إل أنه‪-‬‬
‫حجـة السـلطة‬ ‫اضطـر إىل أن يلجـأ إىل ّ‬
‫ّ‬ ‫نظريتـه‪-‬‬
‫َّ‬ ‫مـع األسـف‪ ،‬يك يدعـم‬
‫القدميـة قائلاً ‪« :‬ليـس هنـاك ّإل إعجـاب األجيـال اآلتيـة التـي ميكـن أن‬
‫تفـي املؤلَّفـات ح ّقهـا»‪ .‬هنـاك‪ ،‬إذن‪ ،‬ذوق سـليم صالح لـكلّ الناس ولكلّ‬
‫األزمنـة‪ .‬ويكفـي يك تعـرف‪ -‬إن كنـت تحكـم وفـق الـذوق السـليم‪ -‬أن ترى‬

‫((( انظر‪ :‬فونتنيل‪« ،‬استطراد عن القدماء واملحدثني»‪ .‬وانظر‪ :‬برير «موازنة بني القدماء واملحدثني»‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫إن كان حكمـك ي َّتفـق مـع حكـم األجيـال السـابقة‪ ،‬باإلجماع‪ .‬وهكـذا‪ ،‬إن‬
‫القدمـاء واملحدثين قـد ا َّتفقـوا ليصلـوا إىل مقيـاس موضوعـي للحكـم‪.‬‬
‫وينحـي كلّ ما له عالقـة بالخيال‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يجـد فونتيـل هـذا املقيـاس يف العقل‪،‬‬
‫العـام)‪ ،‬وتقتصر مشـكلة هـذا‬‫ّ‬ ‫التقبـل‬
‫ُّ‬ ‫السـيام الشـعر‪( ،‬يجـده بوالـو يف‬
‫ّ‬
‫صحتـه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ليثبـت‬ ‫الالزمـة‬ ‫ة‬‫املـد‬
‫ّ‬ ‫معرفـة‬ ‫على‬ ‫املقيـاس‬
‫مـع ذلـك‪ ،‬ابتـدأت العقائديـة تنهـزم أمـام غـزارة األفـكار التـي طبعت‬
‫نهايـة حكـم لويـس الرابـع عشر‪ ،‬ولقـد أظهـر البرويير‪ ،‬وهـو مـن أنصـار‬
‫األول مـن كتابـه‬
‫َّ‬ ‫القدمـاء‪ ،‬يف مقالـه عـن تيوفراسـت‪ ،‬ويف الفصـل‬
‫تفه ً‬
‫ما مـن بوالو‪ ،‬كما أن الفكر‬ ‫«الطبائـع»‪ ،‬كالسـيكية أكثر مرونـةً وأكثر ُّ‬
‫تطـور اللّغـة‬
‫ُّ‬ ‫بخاصـة‪ ،‬فنحـن نجـد عنـده معنـى‬
‫ّ‬ ‫التاريخـي قـد توفَّـر لديـه‬
‫والـذوق واملشـاعر‪.‬‬
‫حـس‬
‫ّ‬ ‫ورغـم اعتقـاد البرويير بوجـود ذوق شـامل ومطلـق‪ ،‬لديـه‬
‫يقـدر مؤلّفـي القرون الوسـطى والقرن السـادس‬
‫بالنسـبية‪ ،‬يسـمح لـه أن ِّ‬
‫عشر‪ ،‬بإنصـاف أكثر مـن سـابقيه‪ .‬وليسـت أحكامـه نظريـة محضـة‪ ،‬بـل‬
‫والبـد مـن أن نشير‪ ،‬أخيراً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إنهـا تقـوم على انطباعـات شـخصية عفويـة‪،‬‬
‫إىل أنـه يحـرص على أن يشرح أكثر مـن أن يحكـم‪.‬‬
‫إن رسـالة فينيلـون لألكادمييـة (التـي طبعت عـام ‪ ،)1716‬تعطينا مثا ً‬
‫ال‬
‫آخـر على كالسـيكية أرحـب‪ .‬فمخطَّ ـط املؤلـف عقائـدي‪ّ ،‬‬
‫بالشـك؛ إذ كان‬
‫يسـعى‪ ،‬بين أشـياء أخـرى‪ ،‬إىل أن يضـع الخطـوط العريضـة للبالغـة‬
‫وللشعر‪ ،‬كام أن هناك مقاالت عن املأساة وامللهاة والتاريخ‪ .‬وهكذا‪ ،‬إن‬
‫األحـكام عـن مؤلَّفات دميوسـتني‪ ،‬وشـيرشون‪ ،‬وفرجيـل‪ ،‬وهومريوس‪...‬‬
‫عامة عـن مختلف‬ ‫وغريهـم‪ ،‬أُعطيـت‪ ،‬عىل سـبيل املثـال‪ ،‬لتشرح نظرية ّ‬
‫األنـواع األدبيـة‪ .‬وال يحتـوي الفصـل عـن التاريـخ ّإل تعـداد ًا لألخطـاء‬
‫مؤرخـي املسـتقبل‬‫مؤرخـو املـايض‪ ،‬والتـي يجـب على ِّ‬ ‫التـي وقـع فيهـا ِّ‬
‫أن يتج َّنبوهـا؛ فاملوضـوع يـدور‪ ،‬إذن‪ ،‬حـول «نقـد األخطـاء»‪ ،‬وهـو نقـد‬
‫عقيـم‪ ،‬ركـد فيـه عـدد كبري مـن الن ّقـاد الفرنسـيني أمـد ًا طويلاً ‪ .‬لكن هذه‬
‫العقائديـة الظاهريـة ال ميكـن إرجاعهـا ّإل إىل عـادات العصر‪ ،‬والظروف‬

‫‪14‬‬
‫نفسـها التـي رافقـت هـذه الرسـالة‪ .‬يف الواقـع‪ ،‬إن نظريـة فينليـون (التي‬
‫ـي «البسـاطة» و«الطبيعـة») ليسـت ّإل تعبير ًا عام‬ ‫ميكـن تلخيصهـا بكلم َت ّ‬
‫يؤثـر فينيلـون شـخصياً‪ ،‬إنهـا ال تسـتند إىل السـلطة‪ ،‬وال إىل أ ّي مذهـب‬
‫عـام؛ فاألحـكام التـي أصدرهـا‪ ،‬وهـي أحـكام تـدلّ على ذوق مشـوب‬ ‫ّ‬
‫قوي بالشـعر‪ ،‬قـد ُعرِضت كسلسـلة‬ ‫ّ‬ ‫إحسـاس‬ ‫وعىل‬ ‫الحيـاء‪،‬‬ ‫مـن‬ ‫بشيء‬
‫انطباعـات ذاتيـة‪ .‬إن فينيلـون قـد َم ّثل‪ ،‬إذن‪ ،‬عىل غـرار البرويري‪ ،‬وإىل َح ّد‬
‫نقد املسـتقبل‪.‬‬
‫مـا‪َ ،‬‬
‫بعقالنيتهـا وبتفضيلهـا الفكـر على‬
‫َّ‬ ‫كانـت الحركـة الحديثـة تسـعى‪،‬‬
‫الفـن‪ ،‬إىل أن تنفـي الشـعر‪ ،‬وتجعـل مـن العقـل الحاكـم الوحيـد يف‬ ‫ّ‬
‫موضـوع النقـد األديب‪ .‬وكتـاب «الخواطـر النقديـة» لدوبـوس (‪)1719‬‬
‫ردة فعـل ناجحـة لخلـق النقـد الـذي يعتمـد على الشـعور‪ .‬إن‬ ‫يحـوي ّ‬
‫العمـل الف ّنـي‪ ،‬بالنسـبة إىل املؤلِّـف‪ ،‬ال ميكـن الحكـم عليـه بالعقـل بـل‬
‫«بالقلـب»‪.‬‬
‫وهكـذا‪ ،‬عـادت املكانـة األوىل‪ ،‬يف الشـعر‪ ،‬إىل الشـكل؛ ذلـك ألن‬
‫أوالً‪ -‬يف الحواس‪ .‬هكذا‪ ،‬يلتقي‬‫الصـور واأللحـان والتناغم هي التي تؤ ِّثـر‪َّ -‬‬
‫تحدثـوا قبله عن «هـذا الذي‬
‫دوبـوس مـع بوالـو والكالسـيكيني الذيـن قـد َّ‬
‫يسـمى»‪ ،‬وأفـردوا يف النقـد مكانـة ممتـازة ملفهـوم الـذوق‪،‬‬ ‫ال ميكـن أن ّ‬
‫الحق بتربير األحـكام العفوية التي‬
‫ّ‬ ‫فهـو‪ -‬مثلهـم‪ -‬يعطي للعقل وللتقليـد‬
‫اطلقهـا الشـعور‪ ،‬لكنـه يـأىب أن ميـوه نقـد الـذوق هـذا مبظاهـر عقائديـة‬
‫حـد مـا‪ ،‬وهكـذا يجعـل االنطباعيـة تنترص‪.‬‬ ‫متالحمـة إىل ٍّ‬
‫عقالنيـة أم نسـبية؟‪ :‬نسـتطيع أن نسـتخلص‪ ،‬مـن املحدثين ومـن‬
‫تطـور النقـد‪ :‬مفهـوم «الشـعور»‪ ،‬ومفهـوم‬
‫ُّ‬ ‫مفهوم ْين يالمئـان‬
‫َ‬ ‫دوبـوس‪،‬‬
‫جـد ًا يف القـرن‬
‫قويـة ّ‬
‫«النسـبية»‪ ،‬و‪ -‬مـع ذلـك‪ -‬كانـت عـادات العقائديـة ّ‬
‫عامة‪ -‬عىل إنشـاء منهج عـن الجامل أكرث‬
‫الثامـن عشر‪ .‬إنهم يحرصـون‪ّ -‬‬
‫يعبروا‪« -‬بسـذاجة»‪ ،‬عما يعتقـدون‪ ،‬يف مؤلَّف أو كتـاب‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫مـن أن ّ‬
‫إن الراهـب ديفونتين بـات أصـدق مثـال على ذلـك‪ ،‬يف كتابـه «إعـادة‬
‫الفنـون إىل مبـدأ واحـد»‪ .،‬واملوضـوع الرئيسي الـذي طُ ـرِح‪ ،‬يف هـذا‬

‫‪15‬‬
‫األبحـاث واملقـاالت‪ ،‬هـو معرفـة املوضـوع اآليت‪ :‬هـل ينبغـي أن تعطـى‬
‫للفـن‪ ،‬لإللهـام أم للخبرة؟ فديـرو‪ ،‬يف كتابـه‬
‫املكانـة األوىل للموهبـة أم ّ‬
‫«خواطـر عـن تريانس»‪ ،‬ويف «مديحه لريشاردسـون»‪ ،‬يدافـع عن الرأيني‬
‫العامة التـي يحكم من‬
‫ّ‬ ‫بح ِم ّيـة‪ ،‬والنظريـات‬
‫متحمـس‪ ،‬يحكـم َ‬
‫ِّ‬ ‫معـاً‪ ،‬فهـو‬
‫خاللهـا ليسـت‪ ،‬يف الحقيقـة‪ّ ،‬إل تعبير ًا عـن طبعـه وذوقـه الشـخيص‪.‬‬
‫إن األهـواء التـي أثارتهـا املشـاحنات الفكريـة‪ ،‬باإلضافـة إىل الـروح‬
‫املجـرد‪ ،‬فقـد كان الن ّقـاد ينزعـون‪ -‬غالبـاً‪-‬‬
‫َّ‬ ‫أرضت بالنقـد‬
‫املنهجيـة‪ ،‬قـد َّ‬
‫إىل أن يحكمـوا ألسـباب ليـس لهـا عالقـة بـاألدب‪ .‬وهـذا واضـح بالنسـبة‬
‫كتـاب «مالحظـات» للراهب (‪ ،)1725‬و«السـنة‬ ‫َ ْ‬ ‫إىل الصحافـة الدوريـة‪ :‬إن‬
‫األدبيـة» لفريـرون (‪ )1754‬تسـيطر عليهما األهـواء الشـخصية أو األهـواء‬
‫وضد) (‪،)1733‬‬
‫ّ‬ ‫الطائفيـة‪ .‬يقـول النسـون‪ :‬إن الراهب بريفو‪ ،‬يف كتابـه (مع‬
‫ال عن الفضـول غري‬ ‫الصحافيين الذيـن يعطـون مثـا ً‬
‫ِّ‬ ‫«لهـو واحـد مـن أنـدر‬
‫املتحيـز»‪ ،‬وقـد أسـهمت الصحيفـة األجنبيـة (‪ )1754‬اسـهام ًا كبير ًا يف‬ ‫ِّ‬
‫التعريـف بـاآلداب األجنبيـة‪.‬‬
‫يسـتطيع فولتير((( أن ميثِّـل النقـد الحقيقـي‪ ،‬وحتـى النقـد؛ بوصفـه‬
‫وخاصـةً طبيعتـه األصليـة؛‬‫ّ‬ ‫مهنـة‪ .‬كان كلّ يشء يعـده لهـذا العمـل‪،‬‬
‫بوصفـه أديبـاً‪ ،‬وكان واعيـ ًا متـام الوعـي للـدور الـذي عىل الناقـد أن يلعبه‬
‫مـع جمهوريـة األدب‪ ،‬ونسـتطيع أن نعـرف مؤلَّفاتـه يف النقـد األديب‪ ،‬من‬
‫الخـاص‪ ،‬أكرث مـن املناهـج التي ا َّتبعهـا‪ .‬وهذا‬
‫ّ‬ ‫حـدده لنقـده‬‫الـدور الـذي َّ‬
‫الـدور ذو أبعـاد ثالثـة‪:‬‬
‫حب‬
‫ـد ما‪ -‬دور اكتشـاف ونرش‪ .‬ومجال ّ‬ ‫‪ - 1‬نسـتطيع أن نعتبره‪ -‬إىل َح ّ‬
‫جـداً‪ .‬وإن صفحـات الرسـائل‬
‫ومتنـوع ّ‬
‫ِّ‬ ‫االسـتطالع‪ ،‬لـدى فولتير‪ ،‬واسـع‬
‫الفلسـفية‪ ،‬حيـث يتكلَّـم عىل األدب اإلنكليزي‪ ،‬ليسـت مببتكـرة أو عميقة‬

‫مقدمات مختلفة‪ ،‬ويف مقاالت كثرية يف «املعجم‬‫((( إننا نجد نقد ًا أدبي ًا منشور ًا يف مؤلَّفات فولتري‪ :‬كام يف ِّ‬
‫الفلسفي»‪ ،‬ويف كتابه «عرص لويس الرابع عرش»‪ ،‬وجدوله‪ ،‬ويف الرسائل الفلسفية‪ ،‬ويف رسائله‪ ...‬وكذلك يف‬
‫خصصت للنقد‪.‬‬ ‫مقال عن لشعر امللحمي‪ ،‬ومعبد الذوق‪ ،‬تعليقه عىل كورين‪ .‬كلّ هذه املؤلّفات قد ِّ‬

‫‪16‬‬
‫جـداً‪ ،‬وليسـت خاليـة مـن األخطـاء أو املالبسـات يف كلّ حين‪ ،‬لكنهـا‬‫ّ‬
‫أسـهمت كثيراً؛ وذلـك بفضـل أسـلوب فولتير الرشـيق‪ ،‬بنشر الرغبـة يف‬
‫معرفـة الشـعراء اإلنكليـز العظـام يف فرنسـا‪.‬‬
‫‪ - 2‬إنـه‪ ،‬قبـل كلّ يشء‪ ،‬دور صيانـة‪ .‬وهـذا مـا يقودنـا إىل التفكير‪،‬‬
‫مسـبقاً‪ ،‬بنيـزار‪ ،‬وبرونتيير‪ .‬لقـد أنتـج عرص لويـس الرابع عشر‪ ،‬يف نظره‬
‫األدب ْين‪:‬‬
‫َ‬ ‫كما يف نظـر كثير مـن معارصيـه‪ ،‬أدبـ ًا كالسـيكي ًا ثالثـ ًا بعـد‬
‫توصلـوا إىل ذوره‬
‫اليونـاين‪ ،‬والرومـاين‪ .‬وإن بعـض كُ ّتـاب هـذا العرص قـد ّ‬
‫الكمال يف الـذوق؛ فيجـب‪ ،‬إذن‪ ،‬أن ننتقـي‪ ،‬من نتاج القرن السـابع عرش‬
‫األديب‪ ،‬مـا هـو جديـر‪ -‬ح ّقـاً‪ -‬بالخلـود‪.‬‬
‫ضـد كلّ ما ميكن أن‬‫ّ‬ ‫يجـب‪ ،‬بعـد ذلـك‪ ،‬أن نناضل‪ ،‬يف اإلنتـاج األديب‪،‬‬
‫يزحـزح االنتصارات املجيدة للمذهب الكالسـييك ومبادئـه العظيمة التي‬
‫هـي الصفـاء والطبيعـة؛ مـن هنـا تـأيت إداتنـه ملاريفـو الـذي ميثِّـل رضبـ ًا‬
‫مـن التص ُّنـع الجديد‪.‬‬
‫‪ - 3‬أخيراً‪ ،‬هـو دور دعـم‪ ،‬وهنـا ي َّتخذ نقـد فولتري هدفاً؛ هـو أن يواصل‬
‫جـداً‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫التقليـد بإغنائـه ومبحاولـة تجديـده‪ ،‬وهـي محاولـة خجولة ّ‬
‫يرقـى راسين يف مجـال املأسـاة‪ ،‬إىل الكمال‪ ،‬بإضافة جرعـة خفيفة من‬
‫شكسري ‪.‬‬
‫أمـا مـا يؤخـذ على هـذا النقـد فهـو أنـه‪ ،‬يف معظـم األحيـان‪« ،‬نقـد‬‫ّ‬
‫عيـوب»‪ ،‬وينتـج هـذا عـن وجهـة النظـر العقائديـة‪ .‬ويف كتابـه «معبـد‬
‫يتفضـل فولتير ‪ -‬بطريقة مزعجة قليلاً ‪ -‬بإسـداء النصائح (ناظر ًا‬
‫َّ‬ ‫الـذوق»‬
‫جـداً‪،‬‬
‫إىل املـايض) ملوليير‪ ،‬وبوسـويه‪ ،‬وإن تعليقـه على كورنـاي هزيـل ّ‬
‫يف أغلـب األحيـان‪ .‬إنـه نقـد معلِّـم يشير إىل األخطـاء‪ ،‬على الهامـش‪،‬‬
‫بالقلـم األحمـر‪.‬‬

‫ظهـور النقـد‪ :‬أحـرز الفكـر التاريخـي‪ ،‬رغـم كلّ يشء‪ُّ ،‬‬


‫تقدمـاً؛ وهـذا‬
‫سـيحول العقائدية نفسـها‪ ،‬فـ«الهارب» العقائدي‪ ،‬بعد أن أكَّ د يف‬
‫ّ‬ ‫التقدم‬
‫ُّ‬

‫‪17‬‬
‫مقـال لـه((( أن «الجمال هـو نفسـه يف كلّ األزمنـة‪ ،‬ألن الطبيعـة والعقل‬
‫يتغيرا‪ ،‬يسـتخلص مـن هـذا أنـه ميكـن تحويـل اإلحسـاس‬ ‫ال ميكـن أن ّ‬
‫القـراء»؛ فهـو‪-‬‬
‫ّ‬ ‫الفـن مـع «تفهيـم‬
‫ّ‬ ‫بالجمال إىل منهـج‪ ،‬وأن يخضـع لـه‬
‫ً‬
‫تعميما تاريخيـاً‪.‬‬ ‫بذلـك‪ -‬يتبـع‬
‫ّإل أن فكـرة منـوذج الجمال ليسـت فريدة؛ ذلك أن هنـاك عالقات بني‬
‫وعبقريـة الشـعوب‪ ،‬وهـذا ما يجب‬
‫ّ‬ ‫املؤلَّفـات األدبيـة والعـادات والنظـم‬
‫أن نجـده‪ -‬ح ّقـاً‪ -‬عنـد مـدام دوسـتال‪ ،‬وشـاتوبريان؛ ال يشء مـن حصيلـة‬
‫الفكـر يف القـرن الثامـن عرش‪ ،‬وستسـمح هذه الفكرة للنقـد بأن يجد‪ ،‬يف‬
‫القـرن الثامـن عشر‪ ،‬طرقـ ًا أكرث ثباتـاً‪ ،‬ومناهج أكثر إنتاجاً‪.‬‬
‫إن كتـاب مـدام دوسـتال‪ ،‬الـذي ظهـر عـام ‪ ،1800‬تحـت عنـوان «عـن‬
‫بحـد ذاتـه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫جـداً‪،‬‬
‫األدب يف عالقاتـه مـع النظـم االجتامعيـة»‪ ،‬لهـو بليـغ ّ‬
‫تقـول الكاتبـة‪« :‬لقـد قصـدت أن أختبر مـدى تأثير الديـن والعـادات‬
‫والقوانين يف األدب؛ ومـدى تأثري األدب يف الديـن والعادات والقوانني»‪،‬‬
‫وإن فكـرة هـذه العالقـات القامئة بين مختلف فروع النشـاط االجتامعي‪،‬‬
‫لشـعب‪ ،‬ليسـت بجديـدة؛ فمنـذ املحدثين ومنـذ دوبـوس‪ ،‬طبقـت هـذه‬
‫التقـدم غير‬
‫ُّ‬ ‫النظريـة يف األدب‪ .‬كذلـك‪ ،‬تعيـد مـدام دوسـتال فكـرة‬
‫لكن أحـد ًا مل يدفع‪ّ ،‬قـط‪ ،‬نتائج هذه‬ ‫املحـدود للفكـر اإلنسـاين منتجاته‪َّ ،‬‬
‫تعسـفية تدفـع الكاتـب‬ ‫ُّ‬ ‫املبـادئ إىل أبعـد مـن هـذا املـدى‪ .‬إنهـا أفـكار‬
‫نظريتـه‪ ،‬و‪ -‬مـع ذلـك‪-‬‬‫َّ‬ ‫يزورهـا‪ ،‬ليثنيهـا فـوق‬
‫إىل أن يختلـق الحـوادث أو ِّ‬
‫تـؤدي‬
‫ِّ‬ ‫أهميتهـا كبيرة يف التاريـخ األديب‪ ،‬وكذلـك يف النقـد؛ فهـي‬ ‫َّ‬ ‫إن‬
‫نسـميها‬
‫ّ‬ ‫أزليـة‪،‬‬
‫ملاهيـات ّ‬
‫ّ‬ ‫إىل اعتبـار املؤلَّفـات األدبيـة ليسـت انبثاقـات‬
‫امللحمـة أو املأسـاة‪ ..‬بـل كظواهـر ميكن دراسـة أسـبابها ونتائجهـا‪ .‬إنها‬
‫تقـود إىل الحكـم على الكتـب‪ ،‬وذلـك باعتبار الظـروف التي ظهـرت فيها‪،‬‬
‫وعامـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ال وفـق مقاييـس ثابتـة‬

‫((( الهارب (‪ :)1853 - 1739‬املعهد أو دروس يف األدب القديم والحديث (‪ .)1805 - 1799‬‬

‫‪18‬‬
‫«عبقرية املسـيحية»‪ ،‬عـام ‪ ،1802‬ليس حدث ًا‬ ‫ّ‬ ‫كذلـك‪ ،‬إن ظهـور كتاب‬
‫أهميـةً ؛ فشـاتوبريان‪ ،‬وقـد أراد أن يظهر أن الديانة املسـيحية ‪ -‬وهي‬ ‫أقـلّ ّ‬
‫تقـدم الفنـون واآلداب ‪ -‬قـد سـاعدت‬ ‫أبعـد مـا تكـون عـن أن تسيء إىل ُّ‬
‫على ازدهارهـا‪ .‬وقـد انتهى به األمر‪ ،‬هـو‪ -‬أيضاً‪ -‬إىل أن ينشـئ عالقات بني‬
‫الحجة‬ ‫ّ‬ ‫األدب والدين‪ ،‬وليسـت هذه الفكرة بجديدة؛ فقد اسـتعملت هذه‬
‫مرده‬‫تفـوق املحدثني ّ‬ ‫خلال الخصـام بني القدمـاء واملحدثني‪ ،‬وهـي أن ُّ‬
‫الوثنيين‪ .‬لكـن شـاتوبريان يسـتثمر‪-‬‬ ‫ِّ‬ ‫تفـوق ديانتهـم على القدمـاء‬
‫إىل ُّ‬
‫الخاصـة؛ مـن هنـا‬ ‫ّ‬ ‫بعبقريتـه‬
‫َّ‬ ‫بعمـق ومنهجيـة‪ -‬هـذه الفكـرة‪ ،‬ويغنيهـا‬
‫املهمـة يف تاريـخ النقـد‪ :‬مل يعدالنقـد نقـد األديـب الـذي‬ ‫ّ‬ ‫تـأيت مكانتهـا‬
‫يتعهد‬‫َّ‬ ‫يحكـم مـع أنداده وأسلافه‪ ،‬أو البسـتاين الذي‪ -‬على غرار فولتير‪-‬‬
‫حديقـة اآلداب الجميلـة؛ ين ّقيهـا مـن الحشـائش الرديئـة‪ ،‬ويحميهـا مـن‬
‫الغـزوات األجنبيـة‪ .‬إنـه العبقـري الـذي يشـعر بالعبقرية ألنه مسـا ٍو لها‪.‬‬
‫مل يعـد يسـعى النقـد إىل البحـث عن العيوب‪ ،‬ومل يعـد عمله أن يفحص‬
‫املؤلَّفـات الفكريـة فحصـ ًا تافهـ ًا وهزيلاً ‪ ،‬يف بعـض األحيان‪ .‬إنه‪ -‬حسـب‬
‫تعبري شـاتوبريان‪ -‬نفسـه «نقـد َمواطن الجمال» لقد أنشـئت‪ ،‬اعتبار ًا من‬
‫ذلك الحني‪ ،‬األسـس العقائدية للنقد األديب‪ ،‬ويف الوقت نفسـه سـيخلق‬
‫والتطـور االجتامعـي أوضاعـاً مالمئـة لنشـأة النقـد‬ ‫ُّ‬ ‫التطـور السـيايس‬
‫ُّ‬
‫خـاص‪ ،‬بـل أبعد مـن ذلـك؛ باعتبـاره مهنـة‪ .‬إن ما‬ ‫ّ‬ ‫فـن‬
‫الحقيقـي على أنـه ّ‬
‫خاصـة يف الحيـاة‬ ‫ّ‬ ‫العامـة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كان ينقصـه‪ -‬حسـب رأي تيبوديـه‪ -‬يف الحيـاة‬
‫أهم َّيتهام يف القرن التاسـع عرش‪:‬‬ ‫األدبيـة‪ ،‬وجـود جهازيـن كبريين تـزداد ِّ‬
‫جهـاز الصحافيين‪ ،‬وجهاز األسـاتذة‪ .‬وقد أخـذت الصحافة‪ّ ،‬إبـان الثورة‪،‬‬
‫مظهـر ًا مياثـل مـا نعرفـه اآلن‪ ،‬كما أنشـأ نابوليـون الجامعـة‪ .‬ولقـد ابتدأ‪-‬‬
‫فعلاً ‪ -‬عرص النقـد‪ ،‬حيث رشع الصحافيون واألسـاتذة‪ ،‬بعد االسـتبدادية‬
‫الحر ّيـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلمرباطوريـة‪ ،‬بالتفكير والتكلُّـم والكتابـة يف يشء مـن‬

‫‪19‬‬
‫الفصل الثاين‬

‫محاولة إيجاد نقد مطلق‬

‫يهـدف النقـد إىل أن يبـدي رأيـه يف قيمـة املؤلَّفـات‪ ،‬ألن ميزتـه هـي اعتبار‬
‫ما‪ .‬ولكـن‪ ،‬هـل ينتـج عـن ذلـك أن النقـد يعنـي الحكـم‪ ،‬وأن‬ ‫قي ً‬ ‫األدب مجـا ً‬
‫ال ِّ‬
‫مجـرد يشء ال ميكـن‬‫َّ‬ ‫مجـرد الحكـم هـو الهـدف األسـايس للنقـد‪ ،‬ال‬ ‫َّ‬ ‫يكـون‬
‫أي متهيـد مسـبق‬ ‫تج ُّنبـه؟ وهـل يقضي هـذا بـأن يكـون الحكـم مبـارشاً‪ ،‬دون ّ‬
‫قويـة‬
‫مجـرد تعليـق؟ على كلّ حـال‪ ،‬هنـاك محاولـة ّ‬ ‫َّ‬ ‫للشرح وللفهـم‪ ،‬ولـو‬
‫تعرفاً‪ ،‬والحكم على النتاج‬‫ال من أن يكـون ُّ‬ ‫لجعـل الحكـم مرسـوم ًا مطلقاً‪ ،‬بـد ً‬
‫األديب على ضـوء القواعـد العقائديـة‪ ،‬عوضـ ًا عـن شـكله الحقيقـي‪ :‬هكـذا‪،‬‬
‫ام مسـبق ًا أكرث مما يطلق‬ ‫ميكـن تعريـف هـذا النـوع مـن النقد بأنـه يحكـم حك ً‬
‫قبلية مطلقة‪ ،‬وهي‪ -‬بذلك‪-‬‬‫أحكامـاً‪ ،‬ويطرح‪ -‬تحت سـتار املوضوعية‪ -‬معايير ّ‬
‫تسـهل التقديـر األديب‪ ،‬وهـي ليسـت عقائديـة من هـذه الناحية‪ ،‬فحسـب؛ ألن‬ ‫ِّ‬
‫نسـبي‪ ،‬لكنـه ذو فلسـفة‬ ‫ً‬
‫هنـاك أنواعـا أخـرى للعقائديـة‪ ،‬كما سنرى‪ ،‬أحدهـا‬
‫ّ‬
‫مطلقـة؛ ذلـك أن الناقـد يحكـم مـن عـلٍ ‪ ،‬وفـق معايير بالغـة القسـوة‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫مادة‬
‫قـدم ّ‬ ‫ميكننـا‪ -‬مبعنـى مـا‪ -‬أن نعتبر أن «املذهـب» الكالسـييك قـد ّ‬
‫لفلسـفة مطلقـة يف النقـد‪ .‬وعـدا أنـه مـن الصعـب التكلُّـم‪ ،‬حينئـذ‪ ،‬عـن‬
‫كفـن مل يكـن لـه وجـود‪ ،‬إن الفلسـفة املطلقـة ليسـت الهـدف‬ ‫ّ‬ ‫النقـد ألنـه‬
‫الوحيـد؛ ذلـك أن النقـد‪ -‬كما نعلـم‪ -‬كان يقيـم توازنـ ًا بين االنطباعيـة‬
‫القـوة تتيـح لـه أن‬
‫ّ‬ ‫خاصـة أنـه مل يبلـغ مرحلـة مـن‬
‫ّ‬ ‫والذاتيـة املتخفِّيتين‪،‬‬
‫خاصـة‪ .‬وهكـذا‪ ،‬إن هـذه القسـوة قـد عملـت‪ ،‬بالرغم من‬ ‫ّ‬ ‫يأخـذ فيهـا هيئـة‬
‫التطـور الـذي ذكرناه قبـل اآلن‪ ،‬يف ا ِّتجـاه وجهة نظر تاريخيـة‪ ،‬وموضوعية‬‫ُّ‬
‫نسـبية‪ ،‬يف فترة اإلصلاح والحكم املطلق لعهد متـوز‪ .‬ميكننا أن نجد فيها‬
‫ضـد الرومانسـية‪ ،‬وهي ذات‬ ‫أسـباب ًا أدبيـة بحتـة‪ :‬إن النظريـة الرسـمية هـي ّ‬
‫طابـع كالسـييك متأ ِّثـر بفولتري‪ ،‬ولكنها سياسـية‪ ،‬أيضاً‪ :‬النظـام البورجوازي‬
‫األمة‪ ،‬وهي تربوية‪ :‬إن دراسـة األدب‬‫يجـب أن يحكـم يف األدب كما هـو يف ّ‬
‫مهمة الن ّقاد‬
‫يجـب أن تعطـي للشـباب عادات يف النظـام والووضح‪ .‬وتقـوم ّ‬
‫فـن الكتابة‪.‬‬
‫على أن يعطـوا للشـباب والك ّتـاب أنفسـهم نصائـح عـن ّ‬
‫إن النقـد املطلـق‪ ،‬مـن ناحيـة نظريـة‪ ،‬ال ميكـن فصلـه عـن النظريـة‪،‬‬
‫والـذي يظهر كنتيجة لها‪ ..‬وهذه النظرية ميكن تسـميتها بفلسـفة جاملية‪،‬‬
‫إذا ا َّتفقنـا‪ -‬مـن جهـة‪ -‬على أنهـا فلسـفة جامليـة قبليـة‪ ،‬وأنهـا‪ -‬مـن جهـة‬
‫ام مطلقـة ومضمون ًا‬ ‫بالحـق‪ ،‬والخري‪ ،‬والجمال‪ ،‬قي ً‬
‫ّ‬ ‫تتميـز‬
‫أخـرى‪ -‬ميكـن أن َّ‬
‫كل ّّيـاً‪ .‬ذلـك أن كلّ فلسـفة مطلقة تنشـئ عالقات رضورية بين القيم‪ ،‬فتار ًة‬
‫تعتبر األخلاق‪ ،‬وطـور ًا الحقيقـة‪ ،‬رشطـ ًا للجمال وعالمـة لـه‪ .‬وفعلاً إن‬
‫جـد ًا عنـد معظـم ن ّقـاد املدرسـة املطلقة‪،‬‬
‫النقـد وعلـم الجمال مرتبطـان ّ‬
‫حتـى أنهما يختلطـان‪ ،‬أحياناً‪ ،‬كام لـو كان الحكم النقـدي‪ -‬بالرضورة‪ ،‬ويف‬
‫الوقـت نفسـه‪ -‬نظريـة مبنتهـى التأكيـد‪ ،‬بالنسـبة إىل األدب‪.‬‬
‫ين لهـذه النزعـة‬
‫منوذجي ْ‬
‫َّ‬ ‫إن نظـرة إىل املـايض‪ ،‬نلقيهـا على َمثَلين‬
‫يـؤد بهـا طموحهـا‪ ،‬على كلّ حـال‪ ،‬إىل يشء‪،‬‬
‫الخاصـة التـي مل ّ‬
‫ّ‬ ‫املنهجيـة‬
‫خاصـةً إىل «نيـزار»‪ ،‬و«سـان مـارك‬
‫ّ‬ ‫تقودنـا إىل «الهـارب»‪ ،‬وهـي تقودنـا‪-‬‬
‫جيراردان»‪ ،‬إىل جانـب «نيبوموسين لومرسـيه»‪.‬‬
‫ونحـن‪ ،‬إذا أوجزنـا الكالم عن هـؤالء اآلخرين‪ ،‬بجانب اإلنصاف‪ ،‬بالنسـبة‬

‫‪22‬‬
‫مموه ًا وراء النقَّاد «التقليديني»‬
‫إىل النقد املطلق الذي سـيعود‪ ،‬فيام بعد‪َّ ،‬‬
‫اعتبـار ًا مـن أتبـاع «برونتري» حتـى «دوميك» حتى لدى أتباع «مـورا»‪ ،‬أيضاً‪.‬‬
‫«نيـزار ‪ »Nisard -‬مب ّشر بالحقيقـة‪ :‬كتـب األسـتاذ «نيـزار»(((‪ ،‬يف كتابـه‬
‫جيـدة‬
‫«شـعراء التينيـون»‪« :‬إن مـا نطلبـه مـن ك ّتـاب النقـد هـو أحـكام ِّ‬
‫ونظريـات صحيحـة‪ ..‬وإن مبـاديئ لهـي مانعـة أكرث منها انتقائيـة»‪ ،‬فام هي‬
‫ّ‬
‫يشـكل وحـدة‬
‫أوالً‪ :‬إن «الفكـر اإلنسـاين» مبـا يتعلَّـق بالقوميـة‪ّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫مبـاديئ؟‬
‫مـع «الفكـر الفرنسي»‪ ،‬يليـه الجمال الخالـد‪ ،‬وهـو حقيقـة كلّـه‪.‬‬
‫نقـاء للفكر‬
‫ً‬ ‫أتعـرف إىل الصـورة األكثر كماالً‪ ،‬واألكرث‬ ‫ّ‬ ‫«لقـد تعلَّمـت أن‬
‫اإلنسـاين يف املجموعـة الرائعـة لتحف الفكر الفرنسي»‪ .‬وهكذا‪ ،‬كلّ كتب‬
‫«ضـد أوهام العصر وخدعاته»؛‬ ‫ّ‬ ‫«نيـزار» هـي‪ -‬مـن جهة‪« -‬دفـاع» عن ذوقه‬
‫املخصصـة إلثـارة اإلعجـاب‪ ،‬نقـد‬ ‫َّ‬ ‫يهتـم ّإل باآلثـار‬
‫ّ‬ ‫و‪ -‬فعلاً ‪ -‬إن نقـده ال‬
‫الحر ّية ملأى باملخاطر والضالل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مقاومـة وإكـراه‪ ،‬محافظ وآمر معـاً‪« :‬إن‬
‫القـوة الحقيقيـة ما نزعـه من قوى طائشـة ومفتعلة»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويضيـف النظـام إىل‬
‫و‪ -‬مـن جهـة أخـرى‪ -‬ال يريـد أن يعـرف ّإل «الجماالت الخالـدة»؛ وإن أثـر ًا‬
‫تحدهـا ّأيـة حـدود‬ ‫ـرض‪ ،‬بلغـة كاملـة‪ ،‬حقائـق ال ّ‬ ‫اليبـدو لـه جميلاً ّإل إذا َع َ‬
‫مـن حـدود املـكان أو الزمـان‪ ،‬والتـي هي كجوهـر العقل اإلنسـاين‪.‬‬
‫نتـج عـن ذلـك عقالنيـة وعدائيـة‪ .‬لقـد قالـوا‪ ،‬غالبـاً‪ :‬إن النصـب الـذي‬
‫أقامـه «نيـزار» ملجـد الفكـر القومـي‪ ،‬أي ملجـد القـرن السـابع عشر‪ ،‬يف‬
‫الحقيقـة‪ ،‬والـذي اخرتعـه من كلّ مرسحيـة‪ ،‬يكمن هذا النصـب يف تجميد‬
‫ضيقـة‪ّ ،‬إل أنه مل يحقِّـق ما يصبو‬
‫هـذا الفكـر الكالسـييك الغزيـر يف وحـدة ّ‬
‫إليـه ّإل خلال فترة قصيرة لتـوازن رسيـع االختالل‪.‬‬
‫يدعـي أنـه «علـم دقيـق»‪ ،‬ميتـاز‬‫أضـف إىل ذلـك أن منهـج نيـزار الـذي َّ‬
‫الفـن‪ ،‬الواحـد تلـو اآلخـر‪ ،‬ويـرى‪ ،‬مبقارنتـه مـع‬
‫ّ‬ ‫بصالبـة مطلقـة‪ .‬إنـه يأخـذ‬
‫ذوقـه املثـايل‪ ،‬الخسـائر مـن قـرن إىل آخـر‪ .‬وال يكتفـي (تاريـخ األدب)‬

‫((( «نيزار» (‪ :)1888 - 1806‬منشور ضد األدب السهل (‪ ،)1833‬الشعراء الالتينني يف فرتة االنحطاط (‪،)1834‬‬
‫تاريخ األدب (‪.)1849 - 1844‬‬

‫‪23‬‬
‫التطـور املمكنـة يف األدب‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫أي حسـاب لفكـرة‬ ‫الـذي ألَّفـه بأنـه ال يحسـب ّ‬
‫بـل يعتبر كلّ بـادرة مـن بـوادر الحركـة هـي‪ -‬أيضـاً‪ -‬إشـارة انحطـاط‪ ...‬وقد‬
‫ال للفكـر اإلنسـاين‪ ،‬وللعبقرية الفرنسـية‪،‬‬‫وضـع‪ ،‬بعـد أن أقـام لنفسـه مثـا ً‬
‫وسـجل مـا‬
‫ّ‬ ‫وللّغـة الفرنسـية «كلّ مؤلّـف‪ ،‬وكلّ كتـاب تجـاه هـذا املثلَّـث‪،‬‬
‫جيـداً‪ ،‬ومـا يبتعـد عنـه؛ فـذاك هـو الـرديء»‪.‬‬
‫يشـابهه» فاعتبره ِّ‬
‫الحـق والجمال‬
‫ّ‬ ‫الحـظ نيـزار بـأن كان‬
‫ّ‬ ‫يـا لهـا مـن سـذاجة! وكـم سـاعد‬
‫يتشـدق‬
‫َّ‬ ‫املطلـق‪،‬‬ ‫الحاكـم‬ ‫يكـون‬ ‫أن‬ ‫لـه‬ ‫أزليـاً‪ ،‬وقـد أُعطـي‬
‫هكـذا مرتبطين‪ّ ،‬‬
‫بأحـكام بلا اسـتئناف (ألن أسـلوب هـذا الرجـل ليـس باألسـلوب البسـيط)‪.‬‬
‫الحق‬
‫ّ‬ ‫سـان مـارك جيراردان‪ :‬منشـد الفضيلـة‪ :‬ولكن‪ ،‬علينـا ّأل ننىس أن‬
‫والجمال‪ ،‬يف كلّ فلسـفة مطلقـة‪ ،‬كالمهما مرتبطـان بالخير‪ ،‬وأن النقـد‪،‬‬
‫وهـو أبعـد مـا يكـون عـن بحث نظـري عديـم الفائـدة‪ ،‬لهـو واجـب أخالقي‪،‬‬
‫بقـدر مـا هـو واجـب أديب‪ .‬إن نيـزار وقد أعاد نيبوميسين لومرسـيه(((‪ ،‬الذي‬
‫كان قـد كتـب أن «واجـب الكتـاب هـو نقـل فلسـفة صحيحـة‪ ،‬والدفـاع‪ ،‬يف‬
‫الخاصـة‪ ،‬وقضية‬
‫ّ‬ ‫العامة واألخلاق‬
‫ّ‬ ‫محكمـة الشـعور‪ ،‬عـن حقـوق األخلاق‬
‫الفضائـل املطعومـة»‪ ،‬يريـد أن يحـوي األدب «على كثير مـن التعليـم‬
‫سـيئ‪ ،‬ويفقـد الكثيرون املعنـى‬ ‫للسـلوك يف الحيـاة» ألن «هـذا العصر ِّ‬
‫األخالقـي بقـراءة كتابنـا»؛ على ذلـك إننـا نجـد‪ -‬خاصـة لـدى سـان مـارك‬
‫جيراردان((( ‪ -‬أن النقـد املطلـق يطالـب الك ّتـاب «بتهذيـب أنفسـنا» جاعلاً‬
‫املحـددة بقسـوة‪ ،‬الشـعار واملقيـاس للجمال نفسـه‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫مـن األخلاق‬
‫إن سـان مـارك جيراردان يشرح‪ ،‬يف مقاالته‪ ،‬أن الناقـد يجب أن يهدف‬
‫ً‬
‫تعليما أخالقياً؛ لهذا فإنـه يدرس يف مختلف‬ ‫إىل أن يسـتخلص مـن اآلداب‬
‫متجـد‬
‫الفنـون واآلداب‪ :‬املعـارصة‪ ،‬والقدميـة‪ ،‬واألجنبيـة‪ ،‬الطريقـة التـي َّ‬
‫فيهـا الفضائـل الرئيسـية‪ .‬إنـه يحـاول‪ ،‬وقـد أخـذ‪ -‬على التتابـع‪ -‬مواضيـع‬
‫والوطنيـة‪ ،‬والشـعور الدينـي‪ ،‬وغريهـا‪ ،‬وهـي مواضيـع‬
‫ّ‬ ‫كاملحبـة األبويـة‪،‬‬
‫ّ‬
‫كانـت الدوافـع للمآيس‪ ،‬واملالهـي‪ ،‬والدرامـا‪ ،‬وحـاول أن يسـتخلص منها‬

‫((( نيبوميسني لومرسيه (‪ :)1840 - 1771‬درس يف األدب‪.)1814 - 1811( ،‬‬


‫((( سان مارك جرياردان (‪ .)1873 - 1801‬دروس يف األدب الدرامي‪ ،1843 ،‬مثاالت يف األدب واالخالق‪.1844 ،‬‬

‫‪24‬‬
‫تعليما مدرسـي ًا وأخالقيـاً؛ وهكـذا إن اآلدب الرومانسي هـو تعبير عـن‬
‫ً‬
‫تبدل رسـم املشـاعر برسـم الغرائز‪ ،‬وإن املأسـاة املعارصة «تفسد‬ ‫ماد ّية ِّ‬
‫ِّ‬
‫العقـل بالسفسـطة‪ ،‬والقلـب باالنفعـال»‪ ،‬أضـف إىل ذلـك أن سـان مـارك‬
‫جيراردان يف دروسـه‪ ،‬يحـذِّ ر الشـبيبة مـن أوهـام األخلاق والتباسـها التي‬
‫كانـت تنرشهـا «كتـب العرص»‪.‬‬
‫أحـكام وأحـكام مسـبقة‪ :‬مـاذا تجـدي املتابعـة؟ حين نريـد أن نحكـم‪،‬‬
‫ام مسـبقاً‪ ،‬ونعلِّق على مبادئ يجب أن يخضـع لها كلّ‬ ‫نكتفـي بـأن نطلـق حك ً‬
‫املهمـة يف منتهى السـهولة‪ ،‬فيكفي أن نقارن األثر باملبادئ‪،‬‬‫ّ‬ ‫نتـاج أديب‪ .‬إن‬
‫املهمـة‬
‫ّ‬ ‫وإل قضينـا عليـه‪ ،‬لكـن هـذه‬ ‫فـإن كان أمينـ ًا لهـا‪ ،‬اعتربنـاه ِّ‬
‫جيـداً‪ّ ،‬‬
‫لرشطـي األدب‪ ،‬ليسـت العمـل الحقيقـي للناقـد؛ فاإلخضـاع للقوانين ليس‬ ‫ّ‬
‫معنـاه الحكـم‪ ،‬فتحريـر املحـارض مل يكـن‪ ،‬قـط‪ ،‬مرادفـ ًا للفهم‪.‬‬
‫ُس ّـلامت‪ ،‬مل يربهن‬‫بالفعل‪ ،‬إن املوقف املطلق يسـتند عىل عدد من امل َ‬
‫أزليـة‪ ،‬وأن كلّ حقيقـة تنبثق عـن العقل‪ ،‬وأن‬‫عليهـا‪ :‬أن يكـون هنـاك حقائـق ّ‬
‫بحـد ذاتـه‪ ،‬و«طبيعـة إنسـانية»‪ ،‬وأن يكون الخير واحد ًا‬ ‫ّ‬ ‫يكـون هنـاك جمال‬
‫جد ّيـة‪ ،‬ثـم إن‬
‫يف كلّ األمكنـة وكلّ األزمنـة‪ ..‬كلّ هـذا ال يثبـت أمـام دراسـة ِّ‬
‫بحـد ذاته‪ ،‬بوصفه‬‫أي مـكان‪ ،‬أن يدرس األثر األديب ّ‬ ‫هـذا النقـد ال يحـاول‪ ،‬يف ّ‬
‫إبداعـ ًا وأثـر ًا إنسـانياً‪ :‬إنـه يحلِّـل اآلثـار‪ ،‬ألنه ال يحـاول‪ ،‬أبداً‪ ،‬معرفـة ّ‬
‫النيات‪.‬‬
‫وهكـذا‪ ،‬إن أصحـاب مدرسـة نيـزار يتكلَّمـون‪ ،‬بطريقـة متناقضـة‪ ،‬عـن‬
‫اآلثـار‪ ،‬كما لـو كانـوا يجهلونهـا‪.‬‬
‫لهـذا السـبب‪ ،‬مل يكـن النقـد املطلـق نقـد ًا الب ّتـة‪ ،‬مبقـدار ما كان سـعي ًا‬
‫مسـتمر مـع فلسـفة جامليـة قبليـة‪ ،‬ال يسـتطيع‪ -‬عىل كل حـال‪ -‬أن‬ ‫ّ‬ ‫القتراح‬
‫ً‬
‫يكـون نقـدا مجديـاً‪ .‬ولكي يكـون هكـذا‪ ،‬عليه‪ -‬على األقـلّ ‪ -‬أن يأتينـا مبعارف‬
‫قلم‬ ‫مل تكـن لدينـا‪ ،‬وأن يعـرض علينـا رؤيـة‪ .‬وإنـه ملن املـؤمل أن نفكِّـر بأنه ّ‬
‫مدعين‪ ،‬كما كانـوا عليـه آنـذاك‪ ،‬واثقني مـن أنه مبنجـى عن كلّ‬ ‫كان الن ّقـاد ّ‬
‫احتامل للخطأ‪ .‬إننا سنرى أن من فضال سـانت بوف أنه قد قام باسـتخالص‬
‫دافـع إىل االقرتاب‬‫ٌ‬ ‫النقـد مـن الحفـرة؛ وذلك بـأن فتح له طريقـ ًا صعباً‪ ،‬لكنه‬
‫السر األديب؛ وهـذا مـا مل يهتمـوا به كثيراً‪ ،‬حتى ذلـك الحني‪.‬‬‫ّ‬ ‫مـن‬

‫‪25‬‬
Charles Augustin Sainte Beuve
‫شارل أوغستان سانت بوف‬
1804 - 1869
‫الفصل الثالث‬

‫سانت بوف‬

‫أول‬
‫ميثِّـل «سـانت بـوف» ‪ ،‬املعـارص لنيـزار‪ ،‬وسـان مـارك جيراردان‪َّ ،‬‬
‫(((‬

‫جـدي للتخلُّـص‪ -‬بشـجاعة‪ -‬مـن النقـد املنطلـق‪ ،‬ومن جمـل البالغة‬


‫جهـد ّ‬
‫الفصيحـة والجوفـاء معـاً‪ .‬كان يحـرص على أن يصـف أكثر مـن أن يطلـق‬
‫بـود‪ -‬من شـخصية أكرث من أن يرجـع إىل عقيدة‪ .‬لقد‬
‫يتقـرب‪ّ -‬‬
‫َّ‬ ‫أحكامـاً‪ ،‬وأن‬
‫وفضـل عليهـم الصحـايف‬
‫عـارض‪ ،‬بعنـف‪ ،‬املرشعين‪ ،‬صانعـي األنظمـة‪َّ ،‬‬
‫يكـرس نفسـه للجميـع‪ ،‬مف ّتشـ ًا يف كلّ مـكان‪ ،‬دون أن‬
‫ال ّ‬ ‫الـذي كان رسـو ً‬

‫((( سانت بوف (‪ :)1868 - 1804‬لوحة تاريخية ونقدية للشعر الفرنيس وللمرسح الفرنيس يف القرن السادس‬
‫عرش‪ ،)1828( ،‬صور أدبية (‪ - )1839 - 1836‬صور النساء (‪ -)1844‬صور معارصة (‪ -)1846‬بور رويال (‪- 1804‬‬
‫‪ ،)1809‬أحاديث االثنني (‪ - )1857 - 1851‬أحاديث االثنني الجديدة ‪ ،1870 - 1863‬شاتوبريان وجامعته األدبية‬
‫‪ ،1861‬ودراسة عن فرجيل‪.)1857( ،‬‬

‫‪27‬‬
‫خـاص بـه‪ ،‬بـل يفكِّ ـر على‬
‫ّ‬ ‫أي مـكان‪ ،‬والـذي ليـس لـه أسـلوب‬ ‫يتوقَّـف يف ّ‬
‫الحبر الـذي يريـد أن‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫العكـس بأنـه «يجـب أن يأخـذ مـن محبرة كلِّ كاتـب‬
‫ممهـد لنقـد توافـق‬
‫أول َّ‬ ‫يرسـمه بـه»‪ .‬إن «سـانت بـوف» هـو‪ -‬يف الحقيقـة‪َّ -‬‬
‫مهمتـه أن يجـد نفسـاً‪ ،‬ويرسـمها‪ ،‬وإن كان قـد امتـاز‪ ،‬يف مظاهـر مختلفة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫بـأن يعلـن ويجمـع يف نفسـه كلّ أشـكال النقـد‪ ،‬تقريبـاً‪ ،‬التـي سـتزدهر‬
‫بعـده؛ وهـو امتيـاز وخطر يف آن واحد‪ ،‬طبعاً‪ ،‬ألن «سـانت بـوف»‪ ،‬غالب ًا ما‬
‫الخاصـة تكمـن يف أنـه قـد أراد أن يعطي‬
‫ّ‬ ‫عبقريتـه‬
‫َّ‬ ‫كان يجـزئ كثيرا‪ّ ،‬إل أن‬
‫للنقـد بعـد ًا إبداعياً‪.‬‬
‫شـاعر أم ناقـد؟‪ :‬ذلـك أنـه قـد حلـم طويلاً بـأن يصبـح شـاعر ًا وروائيـاً‪،‬‬
‫اضطـره فشـل مؤلَّفاته إىل أن يلجـأ إىل النقد‪ ،‬وهو فن اعتبره‪ ،‬دامئاً‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وقـد‬
‫عب‪ -‬بواسـطته‪ -‬عن الشـاعر‬ ‫بشيء مـن الضغينـة‪« ،‬كأردأ ما يكـون»‪ ،‬لكنه ّ‬
‫املؤرخ‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الـذي كان كلَّمنـا فيـه ح ّقـاً‪ ،‬وعـن عـامل األخالق‪ ،‬وعـن‬
‫الشـاب الـذي يعمـل يف جريـدة «كلـوب»‪ ،‬والـذي‬ ‫ّ‬ ‫كان الصحـايف‬
‫كان صديقـ ًا لـ«فيكتـور هيجـو»‪ ،‬وناقـد ًا ملجلّـة «باريـس» ّ‬
‫يـود أن يحصـل‬
‫الشـبان املوهوبين‬
‫ّ‬ ‫على املجـد عـن طريـق الشـعر‪ ،‬وأن يكـون منافـس‬
‫يؤد‬
‫الرومنطيقيين الذيـن كان يعجب بهم‪ .‬إن هذا امليـل ألدب اإلبداع‪ ،‬مل ِّ‬
‫ِّ‬
‫ّإل إىل بعـض كتـب رديئـة‪ :‬حيـاة وشـعر وأفكار جوزيـف دولـورم‪ -‬التعازي‪-‬‬
‫اللـذة‪ ..‬كانـت عليـه أن ينحنـي أمـام هـذا اإلخفـاق‪ :‬مل يعـد «سـانت بوف»‪،‬‬
‫بعـد ذلـك‪ّ ،‬إل ناقـداً‪ ،‬واكتفـى بـأن يعبر عـن ذاتـه مـن خلال فكـر اآلخرين‬
‫ومواهبهـم‪.‬‬
‫متميز َت ْين عنـده‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫أمل تكـن البعقريـة النقديـة‪ ،‬والعبقريـة اإلبداعيـة‬
‫رديئين‪ ،‬مـن جهـة‪ ،‬هـو‬ ‫َ ْ‬ ‫متامـاً ؟ بالفعـل‪ ،‬إن مـا يجعـل شـعره وروايتـه‬
‫يعب‪-‬‬
‫ال من أن ِّ‬ ‫الصفـات النقديـة التـي يظهرها فيهام‪ .‬إن «سـانت بوف»‪ ،‬بـد ً‬
‫ال مـن أن يفصـح بالشـعر أو‬ ‫مبـارشةً‪ -‬عـن نفسـه‪ ،‬فإنـه يحلِّـل نفسـه‪ ،‬وبـد ً‬
‫مجـرداً؛ وإن دواوينه‬‫َّ‬ ‫النثر عن مشـاعره وانفعاالته وقلقه‪ ،‬يعطيها تفسير ًا‬
‫مهمته بوصفـه ناقداً‪ ،‬حتى‬ ‫الشـعرية هـي‪ -‬يف الواقـع‪ -‬مختلطة بأفـكار عن َّ‬
‫َّ‬
‫شـك فيه‬ ‫أننـا نجـد فيهـا نقـد ًا منظومـاً‪ ،‬و‪ -‬بالعكـس‪ -‬إن مـا أعطـى بريقـ ًا ال‬

‫‪28‬‬
‫للنقـد‪ ،‬مل يكـن يتم َّتـع بـه مـن قبـل‪ ،‬هـو طموحـه الدائـم بوصفه شـاعر ًا أو‬
‫والسـيام عندمـا يجـد الشـاعر نفسـه يف‬
‫َّ‬ ‫مبدعـاً‪ ،‬والـذي يبلـوره يف النقـد‪،‬‬
‫حي ًا‬
‫العمـل النقـدي‪ .‬إن «سـانت بـوف» يعطينـا‪ ،‬يف أفضـل الحـاالت‪ ،‬نقـد ًا ّ‬
‫وتفسهـا‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫لطيفـاً‪ ،‬تشـعر فيـه «بنفـس أدبيـة» أخـرى يف أعامقهـا‪،‬‬
‫ال فريـد ًا لشـعر‬
‫وتعطينـا آثـار «سـانت بـوف»‪ ،‬مـن هـذه الناحيـة‪ ،‬مثـا ً‬
‫شـعري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫نقـدي أو لنقـد‬
‫ّ‬
‫الخلقـة‬
‫ّ‬ ‫ومجمـل القـول أن سـانت بـوف قـد وضـع مجموعـة مواهبـه‬
‫يف خدمـة النقـد الـذي أصبـح منـذ ذاك الوقـت‪ ،‬ليـس مهنـة فحسـب‪ ،‬بـل‬
‫اختصاصـ ًا مـن الدرجـة الثانيـة‪ ،‬لكنه يلتقـي باملجاالت األخرى للأدب‪ :‬إنه‬
‫يعرب عن نفسـه كل ّّيـاً‪ ،‬فقد أصبـح النقد‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫يسـمح لإلنسـان الـذي ميارسـه أن‬
‫أدبيـ ًا كغيره مـن الفنون‪.‬‬
‫بفضلـه‪ ،‬ف ّنـ ًا ّ‬
‫املبشر بالرومنطيقيـة‪ :‬لقـد مـارس سـانت بـوف‪ ،‬يف البـدء‪ ،‬بشـكل‬‫ِّ‬
‫«مبشراً» جاعلاً من نفسـه الداعيـة للمدرسـة الرومنطيقية‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫خـاص‪ ،‬نقـد ًا‬
‫ّ‬
‫يبـدي «سـانت بـوف»‪ ،‬يف املقالين اللذيـن ظهـرا يف جريـدة «الكلوب»‬
‫(‪ ،)1872‬عـن «األناشـيد والقصائـد» (بالرغم من إعجابه) كثير ًا من التحفُّظ‬
‫تجـاه أخطـاء املؤلِّـف‪ ،‬مـن حيـث الـذوق‪ ،‬و‪ -‬على نقيـض ذلـك‪ -‬جعل من‬
‫عامـي (‪ ،)1830 - 1827‬بعـد‬‫نفسـه دعامـة املدرسـة الجديـدة‪ ،‬وذلـك بين َ‬
‫أن هـداه هيجـو إىل الـرو منطيقيـة‪ ،‬وراح يسـعى إليجـاد أسلاف لـه يف‬
‫املـايض‪ ،‬وهـذا مـا يتجىل يف كتابـه «الجدول»‪ ،‬وكذلـك يف مقاالته ملجلّة‬
‫«باريـس»‪ ،‬باحثـاً‪ -‬لـدى الكالسـيكيني‪ ،‬أيضـاً‪ -‬عـن أسلاف أو عـن خصـوم‬
‫للرومنطيقيـة‪ ،‬أو برتويـج مؤلَّفـات أصدقائـه‪.‬‬
‫التحيـز‪ ،‬لكنـه‬
‫ُّ‬ ‫إن األحـكام التـي أصدرهـا مل تكـن‪ -‬طبعـاً‪ -‬خاليـة مـن‬
‫أما إذا كان قـد قبل برضورة إعادة النظـر يف بعض قيمنا‬ ‫قومهـا‪ّ .‬‬
‫رسعـان مـا ّ‬
‫األدبيـة التقليديـة‪ ،‬فألنـه يؤكِّ ـد أنـه يجـب القيـام بذلـك يف حـذر‪ .‬هكـذا‪،‬‬
‫احتفـظ ببعـض املوضوعيـة يف أحكامه عن الحـدث‪ ،‬إن مل يكن يف أحكامه‬
‫عـن القيمـة‪ .‬إن هذه الطريقـة الجديدة التي درس بها مدام «دو سـيفينيه»‪،‬‬

‫‪29‬‬
‫و«موليير»‪ ،‬و«الفونتين»‪ ،‬و«راسين» قـد أفادتـه كثير ًا بـأن نفضـت عـن‬
‫وجددت لهم شـبابهم‪ .‬أضف إىل‬ ‫َّ‬ ‫هـؤالء الكالسـيكيني القدمـاء غبار الزمـن‪،‬‬
‫يهمنـا ‪ -‬قد وجـد طريقتـه‪ ،‬طريقـة «الصورة‬
‫ذلـك أن سـانت بـوف ‪ -‬وهـذا مـا ّ‬
‫سـيهتم بـه اآلن ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الفـن الذي‬
‫ّ‬ ‫األدبيـة»؛ وهـو اسـم أطلقـه على‬
‫املـؤرخ‪ ،‬وصانـع الصـور‪ :‬ظهـرت مقـاالت «سـانت بـوف» النقديـة‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫فعلاً ‪ ،‬تحـت عنـوان «الصور قبـل أحاديث اإلثنين»‪ ،‬ويجـب أن نضيف إليها‬
‫املحـارضات التـي ألقاهـا يف لـوزان‪ ،‬عـن «بـور رويـال»‪ ،‬حيـث اعتمـد عىل‬
‫املنهـج نفسـه‪.‬‬
‫«املبشر»‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫النقـد‬
‫َ‬ ‫تـرك «سـانت بـوف»‪ ،‬منـذ عـام ‪ ،1830‬شـيئ ًا فشـيئاً‪،‬‬
‫جـد ًا عليـه‪ .‬مل يعـد هـدف‬
‫وراح يتخلَّـص مـن حـدود املدرسـة القاسـية ّ‬
‫النقـد الحكـم‪ ،‬إذن‪ ،‬بـل تعريـف الك ّتـاب‪ ،‬ورسـم صـور نفسـية‪ ،‬وأخالقيـة‪،‬‬
‫وأدبيـة لهـم‪.‬‬
‫إن تأليـف هـذه الصـورة يختلـف بحسـب األحـوال؛ فـ«سـانت بـوف»‬
‫عامـة‪ -‬بجمـع عـدد كبير مـن الحكايـات عـن الكاتـب؛‬ ‫يبـدأ‪ -‬بصـورة ّ‬
‫موضـوع البحـث‪ .‬فتـارةً‪ ،‬يبحـث عـن أصـل البطـل‪ ،‬ويف َّأيـة ظـروف منا‪،‬‬
‫شـخصيته‪ ،‬أو ميسـك املؤلِّـف يف اللحظة التي خلق‬
‫َّ‬ ‫حتـى يجد «عقدة»‬
‫أول أثـر ممتـاز لـه‪ ،‬وطـور ًا يبعثه‪ّ -‬‬
‫مرة أخـرى‪ -‬أمام أعيننـا‪ ،‬يف فرتة‬ ‫فيهـا ّ‬
‫معبرة‪ .‬وهكـذا‪ ،‬تنتظـم الصـورة‬
‫ّ‬ ‫بعـدة تفاصيـل حياتيـة‬
‫ّ‬ ‫نضجـه‪ ،‬وذلـك‬
‫«نحاتـاً»‪،‬‬ ‫شـيئ ًا فشـيئاً؛ ألن «سـانت بـوف» ال يريـد أن يكـون ِّ‬
‫مؤرخـاً‪ ،‬بـل ّ‬
‫إنـه ال يريـد أن يعمـل «ترجمـة حيـاة نفسـية»‪ ،‬بـل يطمـح إىل أن يؤلّـف‬
‫صـورة األديـب؛ موضـوع البحـث‪.‬‬
‫وهكـذا‪ ،‬إن األبحـاث الوثائقية‪ ،‬والثورة عىل التحليـل‪ ،‬ال تكفيان للناقد‪،‬‬
‫بـل يلزمـه‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬لكي يجـد الوحـدة االجامليـة للوصـف‪ ،‬أن يسـتعمل‬
‫حدسـه بوصفـه شـاعراً‪ ،‬وموهبته على التجـاوب‪ .‬ويصبح النقـد‪ -‬مبفهومه‬
‫مسـتمريْن»‪.‬‬
‫َّ‬ ‫هـذا‪« -‬خلق ًا وابتـكار ًا‬
‫اضطـر «سـانت بـوف»‪ ،‬يف كثير مـن األحيـان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫«نحـات العظماء»‪ :‬لقـد‬
‫ّ‬

‫‪30‬‬
‫إىل أن يخـرج مـن أطـر النقـد األديب‪ ،‬مبعناهـا الحقيقـي؛ وذلـك بعمـل‬
‫نفسـياتهم‪ ،‬لكنهـم مل يكونـوا ك ّتابـ ًا ّإل‬
‫ّ‬ ‫تهمـه‬
‫وصـف لرجـال ونسـاء‪ ،‬كانـت ّ‬
‫أدبيـ ًا محضـاً‪ ،‬مـن الوجهـة النظريـة‪:‬‬ ‫يف املناسـبات‪ .‬مـع ذلـك‪ ،‬كان هدفـه ّ‬
‫يهيـئ الجمهـور لقـراءة املؤلِّفين‪ ،‬وذلـك بربـط املظاهـر املختلفـة‬ ‫أن ِّ‬
‫واملتتابعـة لنتـاج أديب‪ ،‬و‪ -‬بكلمـة موجـزة‪« -‬أن يعلَـم اآلخـرون كيـف‬
‫ومحـب اآلداب‪ ،‬ظهـر‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬لكنـه كان‬ ‫ّ‬ ‫يقـرأون»‪ .‬فرجـل الـذوق الرفيـع‬
‫يبحـث‪ ،‬يف الكتـب‪ ،‬عـن يشء آخـر غير االنفعـاالت الجامليـة؛ أال وهـو‬
‫مجـرد‬
‫َّ‬ ‫املدلـول األخالقـي ملؤلّـف أو لعصر‪ .‬فـ«بـور رويـال»‪ -‬مثلاً ‪ -‬ليسـت‬
‫تردد «سـانت‬ ‫تاريـخ‪ ،‬بل ليسـت سلسـلة دراسـات نفسـية‪ ،‬وأدبيـة‪ ،‬إنه ينقل ُّ‬
‫بـوف» نفسـه ومخاوفـه‪ ،‬وهـو‪ ،‬إذ يتخلَّـص‪ -‬شـيئ ًا فشـيئاً‪ -‬مـن سـيطرة‬
‫النفـوس الدينيـة العظيمـة‪ ،‬يعنـي أكثر فأكرث أنـه ينتمـي إىل أرسة مونتني‪،‬‬
‫ما‪ ،‬وهنـا نـرى‪-‬‬ ‫تأملات أخالقيـة أو ِحكَ ً‬‫ولقـد نشر‪ ،‬يف كثير مـن املقـاالت‪ُّ ،‬‬
‫أيضـاً‪ -‬الطابـع الشـخيص‪ ،‬الصميمـي الـذي يحلـم بـه نقد سـانت بـوف‪ ،‬وما‬
‫أوسـع مجالـه!‬
‫إن نقـده قـد جعـل نَفَ سـه تاريخيـ ًا أيضـاً‪ ،‬لكـن مواهـب سـانت بـوف يف‬
‫هـذا املجـال‪ ،‬محـدودة أكثر‪ ،‬وذلك بسـبب اإلطـار الضعيف الذي يشـغله‬
‫يـدرس التاريخ لذاته‪:‬‬
‫مقـال يف صحيفـة‪ ،‬وحتى يف كتابـه «بور رويال»‪ ،‬مل ُ‬
‫لكـن عنـدي زوايـا تاريخيـة»‪ .‬وهكـذا‪ ،‬يسـعى أن‬
‫ّ‬ ‫مؤرخـاً ح ّقـاً‪،‬‬
‫«إين لسـت ِّ‬
‫«يضـع» «ال مرتين» يف تاريـخ العاطفـة الدينيـة‪ ،‬وأن يضع «الرو شـفوكو»‬
‫يف «تاريـخ اللغـة الكالسـيكية‪ ،‬وأدبها»‪.‬‬
‫المـة‪ :‬إن منهـج النقـد يف «أحاديـث االثنين» ويف «أحاديث‬ ‫املحِّـدث الع ّ‬
‫يتعدل بشـكل محلوظ‪ ،‬لكن بعض مالمحه‬ ‫َّ‬ ‫االثنين الجديـدة» التي تلتها‪ ،‬مل‬
‫تحـددت‪ :‬لقـد ا َّتخـذ أسـلوب ًا أكثر ِّ‬
‫حر ّيـة‪ ،‬وأكثر معرفـة؛ ميـل ال ّتخـاذ‬ ‫َّ‬ ‫قـد‬
‫موقـف «علمـي»‪ ،‬لكنـه‪ -‬يف الوقـت نفسـه‪ -‬إلحـاح على إصـدار األحكام‪.‬‬
‫أمـد «سـانت بـوف»‪ ،‬منـذ عـام ‪ 1849‬وحتـى عـام ‪ ،1861‬كلّ اثنني‪،‬‬
‫لقـد ّ‬
‫الصحيفـة الدسـتورية‪ ،‬ثـم صحيفـة «املرشـد»‪ ،‬مبسلسـل أديب‪ .‬وهكـذا‪،‬‬
‫نشـأت «مقـاالت االثنين»‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫تظهـر هـذه «األحاديـث»‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬تحت شـكل الوصف‪ ،‬لكنهـا ذات هيئة‬
‫يتحـدث فيهـا املؤلِّـف‪ ،‬مـع القـارئ‪ ،‬عـن اكتشـافاته‬
‫َّ‬ ‫حر ّيـة أيضـاً‪.‬‬
‫أكثر ِّ‬
‫وخواطـره‪ ،‬ويشـاركه ميولـه وطرائفـه‪ ،‬ويلهـو‪ ،‬أحيانـاً‪ ،‬بتأليـف واحـدة‬
‫مـن األجـزاء الجريئـة التـي أعطانـا‪ ،‬يف «بـور رويـال»‪ ،‬بعـض أمثلـة عنهـا‪.‬‬
‫إنـه يسـتعمل‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬األسـلوب التصويـري نفسـه‪ ،‬واألسـلوب الشـعري‪،‬‬
‫الحـرة يف التأليـف‪ ،‬والتـي‬
‫ّ‬ ‫اللـف والـدوران‪ ،‬هـذه الطريقـة‬
‫ّ‬ ‫والجمـل ذات‬
‫تبـدو كأنهـا تذهـب كيفام تشـاء‪ ،‬تحسـن نقـل طبعـه‪ ،‬بوصفه هاويـاً‪ ،‬لكنها‬
‫تترك‪ ،‬أحيانـاً‪ ،‬انطباعـ ًا غامضـ ًا بعـض الشيء‪.‬‬
‫إن هـذه األحاديـث هـي‪ -‬على كلّ حـال‪ -‬حصيلـة أسـبوع طويـل‪ ،‬أمضـاه‬
‫وخصصـه‪ ،‬بكاملـه‪ ،‬لقـراءات غزيـرة‪ ،‬ولعمـل‬ ‫َّ‬ ‫«سـانت بـوف» يف العزلـة‪،‬‬
‫تنـوع املواضيع املدروسـة وغزارة‬ ‫جـداً‪ ،‬نسـبياً؛ من هنا يـأيت ُّ‬
‫وثائقـي دقيـق ّ‬
‫املعلومـات التـي نجدهـا مـن كلّ نـوع‪ .‬إن علـم «سـانت بـوف» الواسـع‬
‫جـداً‪ ،‬وإن كان يعـرف كيـف يحـذر‪ ،‬وكيف يتج َّنـب‪ -‬بفضل‬ ‫بالتاريـخ الواقعـي ّ‬
‫يتسرع يف الحكـم‪ ،‬أحيانـاً‪،‬‬
‫َّ‬ ‫حدسـه‪ -‬أخطـاء العلـم يف عصره‪ ،‬هـذا العلـم‬
‫ألنـه ال يريـد أن يكون نقـده قامئ ًا عىل العلم‪ ،‬وإن كان على االطِّ الع باألعامل‬
‫التـي تظهـر‪ ،‬فـإن هـذه املعلومـات ليسـت‪ ،‬بالنسـبة إليه‪ ،‬غري أسـاس‪ .‬كتب‬
‫يقـول‪« :‬أريد سـعة العلم‪ ،‬عىل أن يسـيطر عليهـا الحكم‪ ،‬وينظَّ مهـا الذوق»‪.‬‬
‫إن مفهومـه عـن هـذا الـذوق هو الذي أوقفـه عىل طريق النقـد الوضعي‬
‫«العلمـي» الذي اسـتهواه‪ ،‬مـع ذلك‪ ،‬فام أكثر ما قال‪:‬‬
‫أود أن تنفع كلّ هذه الدراسـات‬ ‫أديب‪ّ ...‬‬‫ّ‬ ‫طبيعي‬
‫ّ‬ ‫«إن مـا أعمـل هو تاريـخ‬
‫األدبيـة‪ ،‬ذا ت يـوم‪ ،‬لتقيـم تصنيفـ ًا لألذهـان»‪ ،‬ولطاملـا صفَّـق ملطامـح‬
‫«تين‪ ،»Taine -‬ومت ّنـى أن تتحقَّـق هـذه املطامح يومـ ًا (ألن هذا املرشوع‪،‬‬
‫بالرغـم مما يفكِّ ـر فيـه «تين» يبقى‪ ،‬سـابق ًا ألوانـه)((( ‪.‬‬

‫((( انظر املقال املشهور عن شاتوبريان‪ ،‬الذي كتب عام ‪ ،1862‬ونرش يف «أحاديث االثنني الجديدة»‪ ،‬والذي‬
‫أخذت منه الجملة السابقة‪ ،‬ففيه نجد نوع ًا من «البيان العام» الذي يكون جواب ًا عىل «تني»‪ ،‬ودفاع ًا عن نهج‬
‫سانت بوف معاً‪ ،‬لكنه‪ -‬بشكل خاص‪ -‬عرض ألساس منهجه النقدي كام كان يفهمه‪ ،‬حينئذ‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫إن فلسـفته الحقيقيـة هـي يف أحـد «أحاديـث االثنين» األوىل‪ ،‬حيـث‬
‫متفه ً‬
‫ما‪ ،‬وهـذا النقـد‪ ،‬إذ «يـأيت مـن النفـس‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫يتم ّنـى‪ -‬على العكـس‪ -‬نقـد ًا‬
‫ميضي إىل النفـس»‪ .‬إنـه يبقـى‪ -‬بالرغـم مـن املحـاوالت العلميـة‪ -‬املفكّ ر‬
‫املتعمـد ذلـك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلنسـاين‬
‫إن كتابه «الصور» يفسـح‪ ،‬أخرياً‪ ،‬مكان ًا صغري ًا لألحكام‪ .‬يسـعى «سـانت‬
‫بـوف»‪ ،‬يف كتابـه «أحاديـث االثنين»‪ ،‬إىل أن يغطّ ـي هذا النقـص‪« :‬اعتقدت‬
‫أن هنـاك مجـاالً‪ ،‬تـزداد فيـه جـرأة اإلنسـان‪ ،‬دون أن يخرج عـن اللياقة‪ ،‬وأن‬
‫يقـول‪ -‬أخيراً‪ ،‬برصاحـة‪ -‬مـا يبـدو يل حقيقـة عـن املؤلَّفـات واملؤلِّفين»‪.‬‬
‫الشـخيص الذي هو‪ -‬يف‬
‫ّ‬ ‫ِاسـم ذوقه‬‫أوالً‪ ،‬ب ْ‬
‫أي يشء سـيحكم؟ َّ‬ ‫ِاسـم ّ‬
‫ولكن‪ ،‬ب ْ‬
‫متحررة من كلّ‬‫ِّ‬ ‫كالسـيكيته واسـعة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫األصل‪ -‬ذو طابع كالسـييك‪ ،‬وإن كانت‬
‫عقائديـة‪ ،‬لكنهـا‪ -‬يف الحقيقـة‪ -‬ال تخلـو‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬من يشء مـن البهرجة‪ :‬إنه‬
‫يعترف بـأن قـراءة كتـاب «بـول وفرجينـي» تجعلـه يسـكب الدمـوع‪ ...‬ثـم‪،‬‬
‫وهنـا تطرح املشـكلة الشـهرية لألخطـاء التي ارتكبها سـانت بوف يف الحكم‬
‫خاص‪ ،‬بسـبب بعـض التنافـر يف املزاج الـذي يجعله‬ ‫ّ‬ ‫على معارصيـه بنـوع‬
‫ضـد شـخصية أحدهـم‪ :‬مل يفهـم‪ ،‬مطلقـاً‪« ،‬بلـزاك»‪ ،‬كما رفع‬ ‫ضـد األثـر أو ّ‬
‫ّ‬
‫بحـق‬
‫ّ‬ ‫القمـة ك ّتابـ ًا سـقطوا‪ ،‬اليـوم‪ ،‬يف عـامل النسـيان‪ ،‬كما أجحـف‬‫ّ‬ ‫إىل‬
‫«شـاتوبريان» إجحافـ ًا كبيراً‪ .‬فليـس مثـة ناقـد مبنحـى عـن األخطـاء‪ ،‬لكـن‬
‫مـا يزعـج‪ ،‬لدى «سـانت بـوف»‪ ،‬هو فظاظـة بائسـة‪ ،‬حقـودة‪ ،‬ومكروهة عىل‬
‫كلّ وجـه‪ .‬ويف كثير مـن الحـاالت‪ ،‬إن أحكامـه‪ ،‬وإن مل تـرض عنهـا األجيال‬
‫عبقرية‬
‫ّ‬ ‫تعـرف إىل كلّ‬
‫التـي تلتهـا‪ ،‬ليسـت خالية مـن الذكاء‪ :‬إن مل يكـن قد َّ‬
‫حـدد‪ -‬على األقلّ ‪ -‬معـامل آثارهـم‪ ،‬بجالء‪.‬‬ ‫«سـتاندال» أو «فلوبير»‪ ،‬فقـد َّ‬
‫فطنـة كئيبـة‪ :‬ذلـك أن الوضـوح هـو امليـزة األساسـية لنقـد «سـانت‬
‫بـوف»‪ ،‬لكـن‪ ،‬ملـاذا ال يرضينـا دامئـاً؟ ميكننـا أن نجـد الجـواب عـن ذلـك؛‬
‫فهنـاك‪ ،‬قبـل كلّ يشء‪ ،‬أسـباب تعـود إىل شـخصية «سـانت بـوف» غير‬
‫املشـوقة‪ ،‬فقـد قال عن نفسـه‪« :‬أخذت املوهبـة الكئيبة للحيـاة الثاقبة»‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫يحب الناس‪ ،‬رغم دعوته‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫أنه‬ ‫إىل‬ ‫ها‬‫مرد‬
‫ّ‬ ‫يكـن‬ ‫مل‬ ‫إن‬ ‫«كئيبة»؟‬ ‫ملـاذا‬ ‫لكـن‪،‬‬
‫يحب‪ -‬فقط‪ -‬اآلثـار املطبوعة التي‬‫ّ‬ ‫إىل نقـد يقـوم على التعاطف‪ ،‬فقـد كان‬

‫‪33‬‬
‫أدبيـاً‪ ،‬و‪ -‬بالرغم مـن الصيغ‪ -‬إن‬
‫حبـه مل يكـن ّإل ّ‬
‫يرتكونهـا يف طريقهـم‪ :‬إن ّ‬
‫جداً‪ ،‬وذات نقـاء فكري بحت‪ .‬ثم إن الشـخص‬ ‫محبتـه كانـت‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬بـاردة ّ‬
‫َّ‬
‫الـذي جعـل مـن النقـد إبداعـاً‪ ،‬مل يسـبقه إليـه أحـد‪ ،‬تقريبـاً‪ ،‬يجـب أن‬
‫سـجل‪ ،‬بـدء ًا منـه‪« ،‬عقـدة النقـد» التـي كان هـو مصابـ ًا بها‪.‬‬
‫ُت َّ‬
‫الحـق‪ ،‬وهـذه الطبيعة‬ ‫فهـذا النقـص يف اإلحسـاس باملعنى اإلنسـاين ّ‬
‫الحق‬
‫ّ‬ ‫مبنـي على التعاطف‬ ‫ّ‬ ‫ـموا إىل نقـد‬
‫الغيـورة‪ ،‬مل يكـن بإمكانهما أن َي ْس َ‬
‫كما سـيزدهر‪ ،‬فيما بعـد‪ ،‬عنـد «دوبـوس»‪ّ .‬إل أن النقـد قـد ا َّتخـذ ا ِّتجاهـ ًا‬
‫مفسر ًا وب ّنـاء معـاً؛ هـذا النقـد الـذي يختلـف عـن العنـف العقائـدي‪ ،‬أو‬
‫يتدخـل «سـانت بـوف» يف‬ ‫َّ‬ ‫تشـدق «نيـزار»‪ .‬ولكـن‪ ،‬يف هـذه الحالـة‪ ،‬أمل‬ ‫ُّ‬
‫حـد ما‪ ،‬و«عـامل» دون أن يؤمـن بذلك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إىل‬ ‫لكن‬ ‫ّمـة‪،‬‬
‫ال‬ ‫ع‬ ‫إنـه‬ ‫كثيرة؟‬ ‫أشـياء‬
‫يجـب أن يكون كذلك‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬وحتى «جامعـي» عندما ألقى‬ ‫ّ‬ ‫انطباعـي‪ ،‬ألنـه‬
‫املتجـول‬
‫ِّ‬ ‫محـارضات يف «لـوزان»‪ ،‬و«لييـج» أو يف شـارع «إيلـم»‪ ..‬هـذا‬
‫الفطـن‪ ،‬قـد اعتبر الناقد الذي بـدا وكأنه رضب من اإللـه «بروتيه»‬ ‫ِ‬ ‫املرتـاب‬
‫محدد‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الـذي يأخـذ‪ -‬على التتابع‪ -‬كلّ األشـكال‪ ،‬دون أن يتوقَّف عىل شـكل‬
‫ينج منه «سـانت‬ ‫أي شـكل‪ ،‬وهـو خطر مل ُ‬ ‫وهنـا‪ ،‬يكمـن الخطـر؛ أن ال يجيـد ّ‬
‫حـرة أمـام «تين»‪ ،‬وأمـام‬ ‫بـوف» دامئـاً‪ .‬وقـد تـرك‪ -‬على كل حـال‪ -‬الطريـق ّ‬
‫«ماغيـه»‪ ،‬و«النسـون»‪.‬‬
‫بقـي عليـه أن يربهـن مبثالـه ‪-‬وإن أحـدث ذلـك (عقـدة)‪ -‬أن النقـد‬
‫الحقيقـي يصعـب أن يكـون نشـاط ًا منفصلاً ؛ إن مؤلِّـف كتـاب «اللـذّ ة» هـو‬
‫الـذي صنـع سـانت بـوف على كل حـال‪ ،‬إن الجمـع بين النقـد والحكـم‬
‫والفهـم‪ ،‬يف آن واحـد‪ ،‬ذلـك هـو الـدرس الذي يجـب أن نسـتخلصه‪ ،‬ال من‬
‫مضمـون نقـد «سـانت بـوف»‪ ،‬بـل من «سـانت بـوف»‪ ،‬الـذي كان يقـول عن‬
‫هـوى حقيقـي وحيـد‪ ،‬هـو الهـوى األديب‪.‬‬ ‫نفسـه بأنـه ليـس لديـه ّإل ً‬

‫‪34‬‬
Ferdinand Brunetière
‫فرديناند برونتيير‬
1906 - 1849
‫الفصل الرابع‬

‫«علمية»‬
‫ّ‬ ‫موضوعية‬
‫ّ‬ ‫البحث عن‬

‫وادعاءاته‪،‬‬ ‫رد فعـل «سـانت بوف» عىل نقائـص النقد املطلـق‪ِّ ،‬‬ ‫ال يـزال ّ‬
‫بحجـة‬
‫ّ‬ ‫محتفظـ ًا بكامـل قيمتـه‪ ،‬لكـن مل يلبـث بعضهـم أن ا َّتهمـه بأنـه‪،‬‬
‫يت‬
‫املحافظـة على النقـد مـن الدغامتيـة‪ ،‬قـد فتـح الطريـق أمـام نقـد ذا ّ‬
‫يتوصـل‪،‬‬
‫َّ‬ ‫خطير‪ ،‬واسـتنتاجات غير أكيـدة‪ .‬بالفعـل‪ ،‬إن «سـانت بـوف» مل‬
‫لشـخصية الكتاب الحقيقيـة التي كان‬ ‫ّ‬ ‫قـط‪ ،‬إىل هـذه املعرفـة املوضوعية‬ ‫ّ‬
‫يدعـي‪:‬‬ ‫يبحـث عنهـا‪ ،‬ومل يكـن ح ّقـ ًا العـامل الطبيعـي للنفـوس‪ ،‬كما كان ّ‬
‫الخاص (وهـي إمكانات‬ ‫ّ‬ ‫لقـد اكتفـى‪ ،‬يف معظـم األحيان‪ ،‬بإمكانات حدسـه‬
‫محـدودة‪ ،‬كما رأينا)‪ .‬يـرى فيلامن‪ ،‬وتين‪ ،‬وهينكان‪ ،‬وبورجيـه‪ ،‬وكذلك كلّ‬
‫دعـاة النقـد الوصفـي‪ ،‬أنـه ال ميكـن الحصـول على موضوعيـة يف النقـد‪،‬‬
‫فالبد مـن موقف‬ ‫َّ‬ ‫بواسـطة قـراءة األثـر‪ ،‬والبحـث الدائـب يف سيرة الحيـاة‪.‬‬
‫تفسر قبل أن تحكـم‪ ،‬والتي تهدف‪-‬‬ ‫املـادة التي تريد أن ّ‬
‫ّ‬ ‫«علمـي» مـن هـذه‬
‫ّ‬

‫‪37‬‬
‫خاصـةً ‪ -‬إىل أن تكشـف‪ ،‬بواسـطة التحليـل‪ ،‬العالقـة التـي تربـط األثـر‬
‫ّ‬
‫نسـبيته الجوهريـة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫بظروفـه‪ ،‬وتعطيـه‬
‫التطـور املدهش‬‫ُّ‬ ‫إننـا‪ -‬بالفعـل‪ -‬يف منتصـف القـرن التاسـع عرش‪ ،‬مـع‬
‫للعلـوم الفيزيائيـة الكيميائيـة بفضـل اسـتعامل منهـج جديـد يف الشرح‪،‬‬
‫حتميـة قاسـية تديـر العامل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يذهـب مـن الوقائـع إىل القوانين‪ ،‬ويـدرك أن‬
‫وسـيطبق الن ّقـاد‪ ،‬إذن‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ويعطينـا‪ -‬فجـأةً‪ -‬ثقـة بلا حـدود‪ ،‬باإللـه (الشرح)‪.‬‬
‫بتسرع‪ ،‬منهـج التوضيـح العلمـي على املؤلَّفـات األدبيـة؛‬ ‫ُّ‬ ‫بجـرأة بـل‬
‫أوالً‪ -‬أن األثـر هـو حـدث محتمـل‪ ،‬إنتـاج اإلنسـان التاريخـي‪،‬‬ ‫وهـذا يعنـي‪َّ -‬‬
‫والنفسي‪ ،‬واالجتامعـي‪ ،‬ويعنـي‪ -‬ثانيـاً‪ -‬أن هـذا الحدث يجـب أن يتل ّقى من‬
‫النقـد تفسيراً‪ ،‬كما يعنـي‪ -‬ثالثـاً‪ ،‬وأخيراً‪ -‬أن الحكـم النقـدي ال ميكـن أن‬
‫حكما موضوعيـاً‪ُ ،‬ت َّتخـذ معاييره من التفسير نفسـه‪ .‬إنـه موقف‬ ‫ً‬ ‫يكـون ّإل‬
‫يعـود إىل «مـدام دوسـتال» وإىل «بارانـت»‪ ،‬لكنـه ال يصبـح نظاميـ ًا ّإل مـع‬
‫املمهـد املبـارش لـ«تين»‪ ،‬و«بورجيـه»‪ .‬هكـذا‪ ،‬يبـدو الطريـق‬ ‫َّ‬ ‫«فيلمان»‬
‫مفتوحـ ًا لرؤيـة جديـدة للنقـد‪.‬‬
‫ولكـن‪ ،‬حـذارِ‪ .‬فكلمـة العلـم ميكـن أن تخفـي الكثير مـن الدغامتيـة‬
‫يهيـئ ملـن يعـرف كيـف‬ ‫والكثير مـن األخطـاء‪ .‬إن العلـم يسـتطيع أن ِّ‬
‫املقـرر قبليـاً‪« ،‬عقيدةً»‬
‫َّ‬ ‫يسـتخدمه‪ ،‬وذلـك بسـبب عـدم وجـود «املطلـق»‬
‫شـك؛ كم هم‬ ‫ّ‬ ‫العامة مـن أن يضعوها موضع‬ ‫ّ‬ ‫مسـها‪ ،‬وقـد يخجـل‬
‫ال ميكـن ّ‬
‫مخيب اضطرارنا أن نضيف‪ ،‬إىل قامئة «الن ّقاد العلميني»‪ ،‬اسـم «برونتيري»‬ ‫ِّ‬
‫ادعاءاته املتعلّقة بالنقد النسـبي ّإل متويه ًا ماهر ًا لعقائدية‬
‫الـذي مل تكـن ِّ‬
‫ً‬
‫علما ّإل بتجاوز‬ ‫هجوميـة‪ .‬مـن جهـة أخـرى‪ ،‬ال ميكـن أن نجعـل مـن النقـد‬
‫املجال األديب‪ :‬ال رشح بال تفسير‪ ،‬وال تفسير بال تغيري سجلّ ‪ ،‬أي االنتقال‬
‫ِ‬
‫املشترط‪ ،‬ويف هـذا كلّـه خـروج عـن النقـد‪ .‬وإن تجاوز ًا‬ ‫املشترط إىل‬
‫َ‬ ‫مـن‬
‫كهـذا يقتضي اسـتعامل معلومـات تاريخيـة‪ ،‬ونفسـية‪ ،‬واجتامعيـة تتعلَّق‬
‫صحـة النقـد الجديـد‪ .‬ففـي عصر الفلسـفة العلميـة‪،‬‬ ‫بسلامتها‪ -‬مبـارشةً‪ّ -‬‬
‫مل تكـن العلـوم اإلنسـانية ّإل يف طورهـا الطفـويل‪ ،‬ومفاهيمهـا األساسـية‬
‫ليسـت ّإل مثـرة األبحـاث املتتالية أكثر منها مالحظات دقيقـة؛ أي تنقصها‬

‫‪38‬‬
‫الرزانـة العلميـة‪ .‬لقـد أدركـوا‪ ،‬منذ ذلـك الحني‪ ،‬أن التفسيرات التـي ُبنيت‬
‫على مفاهيـم كهـذه قـد تل ّقـت‪ ،‬بالوراثـة‪ ،‬العطـب الرسيع‪.‬‬

‫‪ - 1‬فيلامن ‪Villemain‬‬
‫جـد ًا للنقـد الحديـث؛‬‫إننـا نجـد‪ ،‬لـدى «فيلمان» ‪ ،‬مفهومـا واضحـ ًا ّ‬
‫(((‬

‫يقـدس «املوضوعيـة»؛ إن الناقـد‬ ‫فهـو‪ -‬باعتبـاره تلميـذ «مـدام دوسـتال»‪ِّ -‬‬


‫تـام‪« :‬يجـب أن يكـون شـأنه‬ ‫تحيـز» ّ‬‫يجـب أن يحكـم بالطبـع‪ ،‬ولكـن «بعـدم ُّ‬
‫شـأن التاريـخ‪ ،‬بعيـد ًا عـن كلّ هـوى‪ ،‬ومصلحـة‪ ،‬وحـزب‪ .‬يجـب أن يحكـم‬
‫يتقـدم النقد‬
‫َّ‬ ‫العامـة‪ ..‬يجـب أن‬
‫ّ‬ ‫على املواهـب أكثر مـن حكمـه على اآلراء‬
‫العـام»‪ .‬إن األثـر لهـو مشـكلة‪ ،‬ال يظهـر حلُّهـا ّإل‬
‫ّ‬ ‫املتحيـز على الـرأى‬
‫ِّ‬ ‫غير‬
‫بتحليـل األوسـاط والبلـد والحضارة‪ ،‬كلّ هـذه العوامل التي عاينت نشـأتها؛‬
‫مهمـة األدب ال تقتصر‪ ،‬فقـط‪ ،‬على‬ ‫أوالً‪ -‬أن ّ‬
‫فلتوضيـح أثـر يجـب أن نتذكَّ ـر‪َّ -‬‬
‫نقـل تقاليـد املجتمـع‪ ،‬بـل تتعلَّـق‪ -‬أيضـاً‪ ،‬وفق فنونـه‪ -‬ببعض حـوادث هذا‬
‫ال كبيراً‪ ،‬يف نقده‪ ،‬لآلداب‬ ‫املجتمـع»‪ .‬أخيراً‪ ،‬فـإن «فيلامن» قد أفسـح مجا ً‬
‫رواد تاريـخ األدب‪ ،‬واألدب املقارن‪.‬‬ ‫األجنبيـة‪ ،‬وميكـن أن نعتربه واحـد ًا من ّ‬
‫ولكـن‪ ،‬إذا كانـت مفاهيـم «فيلمان» جديـرة باالهتمام‪ ،‬فـإن تطبيقهـا‬
‫مخفـق؛ ففيهـا إفـراط يف البالغـة‪ ،‬واللمعـان‪ ،‬واللوحـات القامئـة على‬
‫ـح‪ ،‬فهو‪ -‬عىل‬‫االفرتاضـات‪ .‬أضـف إىل ذلـك أن منهجـه ليـس بدقيـق وال ُب ِل ّ‬
‫خلاف «سـانت بـوف»‪ -‬ال يلتـزم بسيرة الكُ ّتـاب‪ ،‬وال بدراسـتهم النفسـية‪،‬‬
‫الحـق‪ .‬ومجمـل القـول أن نقـده ي َّتصـف‬‫ّ‬ ‫وال بتحليـل البيئـة االجتامعيـة‬
‫بإيديولوجيـة نسـبية‪ ،‬ولكـن بـدون مالحظـة دؤوبـة ومجديـة‪.‬‬

‫‪ - 2‬تني ‪Taine‬‬
‫إننـا نجـد هـذا الـدأب القائـم على التجربـة واملنهجيـة لـدى مـن طبـع‬

‫((( فيلامن (‪ )1867 - 1790‬مقال يف محسنات النقل ومساوئه ‪1814‬؛ دروس ًا يف األدب الفرنيس (‪.)1829 - 1828‬‬

‫‪39‬‬
‫بطابعـه‪ ،‬يف نظـر بعضهـم‪ ،‬كلّ نقـد القـرن التاسـع عشر‪ ،‬ويظهـر ذلـك‪،‬‬
‫بصيغـة واضحـة‪ ،‬يف هـذه الجملة‪« :‬يقترص املنهـج الحديث‪ ،‬الذي أحرص‬
‫خـاص‪ -‬كوقائـع ونتاجات‪،‬‬‫ّ‬ ‫على ا ِّتباعـه‪ ،‬على اعتبـار اآلثار اإلنسـانية بنـوع‬
‫تحـدد سماتها‪ ،‬وتبحـث أسـبابها‪ ،‬ال أكثر‪ .‬إن العلم‪ -‬بحسـب هذا‬ ‫ِّ‬ ‫يجـب أن‬
‫املفهـوم‪ -‬ال يديـن وال يسـامح‪ :‬إنـه يعايـن ويشرح‪ ..‬إنـه يفعـل مثـل عامل‬
‫النبـات الـذي يـدرس باالهتمام نفسـه شـجرة الربتقـال وشـجرة الصنوبـر‪،‬‬
‫وكذلـك شـجرة الغـار وشـجرة البتولـة‪ :‬إن هـذا العلـم هـو نفسـه نـوع مـن‬
‫علـم النبـات التطبيقـي‪ ،‬ال على النبـات‪ ،‬بـل على املؤلَّفـات اإلنسـانية»‪.‬‬
‫وبالفعـل‪ ،‬إن «هيبوليـت تين»((( قـد نجح أكرث من غيره يف تربير وجود‬
‫النقـد العلمـي‪ ،‬ويف رسـم مبادئـه‪ .‬يجـب أن ّل نحكـم ّإل باسـم مقاييـس‬
‫موضوعيـة‪ ،‬وأن نبحـث‪ -‬بلا كلـل‪ -‬عـن امليـزات واألسـباب‪ ،‬ومـع ذلـك مل‬
‫نظاميـ ًا قليـل القدرة عىل‬
‫ّ‬ ‫نظريـ ًا‬
‫ّ‬ ‫مثاليـ ًا مشـغوف ًا بالتجريـد‪ ،‬وفكـر ًا‬
‫ّ‬ ‫يكـن إال‬
‫املالحظـة الدؤوبـة الدقيقـة‪ ،‬وال نجـد يف نقـده‪ -‬بالرغـم مـن الظواهـر‪-‬‬
‫جـدي عـن السـببية‬
‫أي مفهـوم ّ‬ ‫مجـد بالسـببية االجتامعيـة‪ ،‬وال ّ‬ ‫أي إملـام ٍ‬ ‫َّ‬
‫آليـة باليـة‪ ،‬مرتبطـة‪-‬‬
‫ّ‬ ‫روحانيـة‬ ‫إىل‬ ‫النهايـة‪،‬‬ ‫يف‬ ‫يشء‪،‬‬ ‫كلّ‬ ‫ـرد‬
‫ُ ّ‬ ‫ي‬ ‫النفسـية؛‬
‫ملخيلـة فلسـفية‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ـة‬ ‫الفتي‬
‫ِّ‬ ‫بالثمار‬ ‫بشـدة‪-‬‬
‫ّ‬
‫االدعـاءات الفلسـفية‪ :‬لقـد كان «تين» أديبـ ًا من باب املصادفـة‪ .‬إن ّ‬
‫رد‬ ‫ِّ‬
‫الفعـل السـيايس‪ ،‬واالجتامعي‪ ،‬للسـنوات (‪ ،)1852 - 1850‬وقد أبعده عن‬
‫يحضهـا‪ ،‬قـد أجبره على أن يكتـب أطروحـة‬ ‫ِّ‬ ‫دكتـوراه الفلسـفة التـي كان‬
‫طبـق فيهـا منهـج تحليـل‪ ،‬ناتجـاً‪ -‬مبـارشةً‪ -‬مـن‬‫عـن «الفونتين» حيـث َّ‬
‫مفاهيمـه النظريـة‪ ،‬هـذه املفاهيـم التـي نشـأت مـن ا ِّتصاله «بأسـاتذته يف‬
‫الفلسـفة»‪ ،‬ومنهـم «سـبينوزا»‪ ،‬و«هيجـل»‪ .‬تنادي هـذه املفاهيم بعقالنية‬
‫مطلقـة؛ إن الكـون هـو مظهـر لفكـرة منطقيـة‪ ،‬والواقـع «الذي هـو املنطق‬
‫تبعية شـديدة‪ ،‬لكنهـا مرشقة‪،‬‬‫ّ‬ ‫الحـي» ي َّتحـد مـع املعقـول؛ ينتج عـن ذلك‬
‫ّ‬

‫((( تني (‪ :)1893 - 1828‬مقال عن الفونتني (‪ ،)1853‬مقال عن تيت ليف (‪ ،)1856‬مقاالت يف النقد والتاريخ‬
‫الفن (‪ ،)1882‬مقاالت جديدة يف النقد والتاريخ‪ ،‬وهو كتاب‬
‫ّ‬ ‫(‪ ،)1858‬تاريخ األدب اإلنجليزي (‪ ،)1863‬فلسفة‬
‫ُن ِش بعد وفاته‪ ،‬عام (‪.)1893‬‬

‫‪40‬‬
‫التامـة ملمكنـة‪ ،‬ويجـب‬
‫ّ‬ ‫يجـب أن نجـد‪ ،‬مـن جديـد‪ ،‬ترابطَ هـا‪ .‬إن املعرفـة‬
‫أن تسـعى هـذه املعرفـة لرتسـيخ سلسـلة اسـتنتاجية عقليـة‪ ،‬بلا نقطـاع‪،‬‬
‫الخاصـة بقانـون واحـد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وذلـك بإيضـاح نهـايئ لـكلّ الوقائـع وكلّ القوانين‬
‫ميكـن أن يسـتخرج منـه‪ -‬بالضرورة‪ -‬كلّ أشـكال الكائـن‪ .‬ولكـن‪ ،‬إذا كان‬
‫هنـاك تعـادل بين التسلسـل املثـايل للمقتضيـات‪ ،‬والعالقـة الواقعيـة‬
‫للحـوادث‪ ،‬بين روابـط املفاهيـم وبين املوجـودات‪ ،‬فإنـه من املسـتحيل‬
‫مجردة كما حاول «هيجل»‪ :‬يجـب أن ننطلق‬ ‫َّ‬ ‫إعـادة بنـاء كلّ يشء بطريقـة‬
‫مـن الوقائـع‪ ،‬وأن نجـد‪ ،‬مـن خاللها‪ ،‬األسـباب التي «تدعمها»‪ .‬إن التفسير‬
‫تعرب عن الوقائـع‪ ،‬أو‪ -‬مبا أن‬
‫ِّ‬ ‫للامهيات التـي‬
‫ّ‬ ‫يعنـي‪ ،‬حينئـذ‪ ،‬أن نجـد نظامـ ًا‬
‫العامـة التي تتعلَّق‬
‫ّ‬ ‫والعـام ال يشـكالن ّإل واحـداً‪ -‬أن نجـد الوقائع‬
‫ّ‬ ‫الجوهـر‬
‫العامـة على وقائـع‬
‫ّ‬ ‫الخاصـة‪ ،‬وأن نجـد روابـط هـذه الوقائـع‬ ‫ّ‬ ‫بهـا الوقائـع‬
‫عامـة أخرى‪.‬‬
‫ّ‬
‫ويتوصـل العلم‪ ،‬بواسـطة القوانني‬
‫َّ‬ ‫يقـول «تين»‪ :‬هكـذا يعمل العـامل‪،‬‬
‫التـي يكتشـفها‪ ،‬إىل األسـباب الواقعيـة؛ هكـذا يجـب أن نـدرك العـامل‬
‫اإلنسـاين‪ .‬سـواء أكان موضـع البحـث إنسـاناً‪ ،‬أو عصراً‪ ،‬أو أثـراً‪ ،‬أو‬
‫أدبـاً‪ ،‬ينبغـي أن نسـتخلص العالقـات التـي تفضي إىل السـبب الجوهـري‬
‫خاصـة‪ ،‬وإىل «الظـروف» أي إىل الجواهـر األخـرى‬ ‫ّ‬ ‫ملجموعـة وقائـع‬
‫التـي ارتبـط بهـا السـبب األسـايس‪ .‬وت َّتفـق هـذه املتطلَّبـات النظريـة مـع‬
‫جـداً‪« :‬امللكـة الرئيسـية»‪ ،‬مـن جهـة‪ ،‬و«العـرق‬ ‫ّ‬ ‫املواضيـع املعروفـة‬
‫والبيئـة والزمـان»‪ ،‬مـن جهـة أخـرى‪.‬‬

‫هـل هـو نقـد نفسي؟ «امللكـة الرئيسـية»‪ :‬إن املفهوم َّ‬


‫األول‪ ،‬الذي نرى‪،‬‬
‫هكـذا‪ ،‬أصلـه النظري البحت‪ ،‬يشير إىل «جوهر من النـوع النفيس»‪ ،‬يعترب‬
‫واقعـ ًا تحـت سـلوك الفـرد وآثـاره‪ ،‬إذا كان كاتبـاً‪ .‬إنـه «شـكل مـن أشـكال‬
‫املهمـة لإلنسـان‪ ،‬واألثـر»‬
‫ّ‬ ‫الفكـر األصلي‪ ،‬حيـث تنتـج عنـه كلّ الخصـال‬
‫ومهمـة النقـد النفسي األساسـية هـي اكتشـاف هـذه امللكـة الرئيسـية‬ ‫ّ‬
‫وامللحـة‪ ،‬بطريقـة «تعطـي‬
‫ّ‬ ‫املسـيطرة‬ ‫النفسـية‬ ‫الحالـة‬ ‫هـذه‬ ‫للكاتـب‪،‬‬
‫مشـهد الضرورات الرائعة التـي تربط فيام بينها الخيـوط التي ال حرض لها‪،‬‬

‫‪41‬‬
‫ذات الفروق الدقيقة واملتشـابكة‪ ،‬للكائن اإلنسـاين»‪ .‬ال يكفي أن «نرسـم»‬
‫الخاصة إىل حدث‬
‫ّ‬ ‫كما فعـل «سـانت بوف»‪ ،‬بـل أن نعرف إرجـاع الحـوادث‬
‫«مـؤرخ وخطيب»‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫يضمهـا‪ ،‬وهكـذا إن «تيـف ليـف» هو ‪ -‬يف األسـاس‪-‬‬
‫ِّ‬ ‫عـام‬
‫ّ‬
‫وتنتـج عـن هـذه الصفـة‪ -‬عـن طريـق املنطـق‪ -‬كلّ صفاته األخـرى وصفات‬
‫مؤلَّفاته‪.‬‬
‫يهتـم بالجـذور النفسـية‬ ‫ّ‬ ‫هكـذا‪ ،‬رغـب «تين» يف أن يضـع قواعـد لنقـد‬
‫للعمـل األديب‪ ،‬و‪ -‬مـع األسـف‪ -‬إن هـذه الطريقة النفسـية البحـت يف فهم‬
‫العالقـات‪ ،‬يف كلّ املجـاالت املعقـدة بين النزعـة النفسـية والتعبير‬
‫األديب‪ ،‬قـد قادته إىل صيغ ذات سـذاجة ال تسـتطيع الصمـود‪ ،‬و‪ -‬بالفعل‪-‬‬
‫مهتـم بالحقيقة‬
‫ّ‬ ‫نفيس‬
‫ّ‬ ‫مل‬
‫إن املنهـج الـذي اسـتعمله ليس‪ ،‬أبـداً‪ ،‬منهج عا ٍ‬
‫مبهمـة ملء اإلطـار الفـارغ والنظري‬ ‫ّ‬ ‫العلميـة؛ ذلـك أنـه يعهـد إىل حدسـه‬
‫الناتـج عـن حرصـه‪ ،‬بوصفـه عاملـ ًا عـامل يف املنطـق‪ .‬يلزمه سـبع أو مثاين‬
‫صيـغ‪ ،‬ترتبـط بصيغة أكرث جوهرية كسلسـلة معلقة بسماء‪ ،‬وكل واحدة‪-‬‬
‫«تلقائيـاً»‪ ،‬بينما يقـرأ آثـار‬
‫ّ‬ ‫كما يقـول هـو نفسـه‪ -‬يجـب أن تـايت إىل الناقـد‬
‫خاصة‪ّ -‬أل‬
‫ّ‬ ‫هـذا الشـاعر أو ذاك الـروايئ‪ ،‬وهو ممسـك قلمـه بيده؛ ويجـب‪-‬‬
‫تفوتـه «هـذه الدقّـة الكبيرة يف الرؤيـة»‪ ،‬وال «عـادة اختراق املشـاعر التي‬
‫تحـت الكلمات»؛ بكلمـة مختصرة‪ :‬أن يقـود الحـدس الترشيح‪.‬‬
‫حسـناً‪ .‬لكـن‪ ،‬يف هـذه الحالـة‪ ،‬مـا هـي امللكـة الرئيسـية؟ هـل هي غري‬
‫املجـردة ملجموعة انطباعات مسـيطرة؟ أليسـت‪ ،‬عىل وجه ما‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫العالقـات‬
‫جد ّيـة؟ إن هـذا النقـد لَهـو نقـد انطباعـي‬
‫اإلنتـاج الناضـج لدراسـة نفسـية ِّ‬
‫ادعـاء فلسـفي عـا ٍر مـن كلّ َّأبهـة نفسـية‪ ،‬ومـن كلّ موقـف ثابـت مـن‬
‫ذو ّ‬
‫نصدق أن‬
‫ّ‬ ‫البد من سـذاجة توفيقية لكي‬ ‫مشـكلة التشـخيص النفسي‪ .‬كان ّ‬
‫مختلـف الخطـوط النفسـية والنشـاطات لفـرد‪ -‬سـواء أكانت أكاذيـب أدبية‬
‫أم مل تكـن‪ -‬ترتبـط مبصـدر واحـد‪ ،‬وواضـح‪.‬‬
‫أهـو نقـد اجتامعـي؟ «العـرق» و«البيئـة» و«الزمـان»‪ :‬أمل ِ‬
‫يـأت «تين»‬
‫األوليـة لعلـم اجتماع تاريخي يف األدب؛ بسـبب عـدم توفُّر نقد‬ ‫بالخطـوط َّ‬
‫ٍ‬
‫بسـيكولوجي ُم ْجـد؟ إن «األشـياء الخلقيـة ليـس لهـا‪ ،‬فقـط‪« ،‬تواقـع»‪ ،‬بـل‬
‫ّ‬
‫‪42‬‬
‫ال مبتكـر ًا للفكـر»‪ ،‬ال يظهـر ّإل يف عالقتـه‬‫لهـا‪ -‬أيضـاً‪« -‬ظـروف»؛ إن «شـك ً‬
‫أوليـة هـي العـرق‪ ،‬والبيئـة‪،‬‬
‫مجـردات أخـرى َّ‬‫َّ‬ ‫مـع ظـروف أكثر شـموالً‪ ،‬مـع‬
‫والزمـان‪ :‬هـل يصبـح النقـد‪ ،‬إذن‪ ،‬اجتامعيـاً؟ ال ميكننـا أن ننكـر أن «تين»‬
‫يفتـح الطريـق نحـو النقـد االجتامعـي‪ ،‬لكنـه يفلسـفه فـوراً‪ ،‬حين يتعلَّـق‬
‫فلنر ذلـك‪ -‬بالفعـل‪ -‬عـن كثـب‪.‬‬ ‫األمـر بـه‪َ .‬‬
‫«مقدمـة األدب اإلنكليـزي» أن العوامـل الثالثـة التي‬
‫ّ‬ ‫إننـا نقـرأ يف كتابـه‬
‫عامـة يف التفكري‪ ،‬ويف الشـعور» إنها‬‫هـي موضـع بحث‪ ،‬هـي «بعض طـرق ّ‬
‫«حـاالت للفكـر»‪ .‬إن العرق هو «مجموعة اسـتعدادات سـيكولوجية فطرية‬
‫عامـة‪ -‬إىل ميـزات تتأثَّـر باملـزاج والبنيـة الجسـمية‪.‬البيئة‬
‫وراثيـة» تضـاف‪ّ -‬‬
‫هـي «مجموعـة الظـروف التـي يخضـع لهـا شـعب»‪ ،‬وال ميكـن فصلهـا عـن‬
‫الزمـان الـذي هـو باعـث مكتسـب «دفعـة مـن املـايض إىل الحـارض‪ ،‬هـو‬
‫فكـر شـعب يف صريورته»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نقطـة يصـل إليهـا‬
‫إن العاملين‪ :‬االجتامعـي‪ ،‬والتاريخـي يعـودان‪ ،‬إذن‪ ،‬إىل العامـل‬
‫السـيكولوجي‪ ،‬إذا كانـت‪ -‬بالفعـل‪« -‬هـذه القـوى العظيمـة ليسـت ّإل‬
‫العامـة املسـتعملة‬‫ّ‬ ‫وقابلياتهـم»‪ .‬وإن األلفـاظ‬
‫ّ‬ ‫حصيلـة ميـول األفـراد‬
‫هـي «تعابير جامعيـة نجمـع‪ ،‬بواسـطتها‪ ،‬بنظـرة مـن نظراتنـا‪ ،‬عرشيـن أو‬
‫والفعالـة يف اال ّتجاه نفسـه»‪ ..‬هل‬ ‫ّ‬ ‫ثالثين مليونـاً مـن النفـوس املتعاطفـة‬
‫فرديـ ًا كان أم‬
‫ّ‬ ‫منطقيـاً‪ ،‬هنـا‪ ،‬مع نفسـه؟ إن جوهـر ًا «إنسـانياً»؛‬
‫ّ‬ ‫يبـدو «تين»‬
‫جامعيـاً ‪ ،‬ال يسـتطيع‪ ،‬وفـق منهجـه‪ ،‬أن يكـون ّإل مـن النـوع «األخالقـي»‪.‬‬
‫حينئـذ‪ ،‬بالنوعيـة االجتامعيـة؟ كتـب «تين»‪ ،‬فيما بعد‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫لكـن‪ ،‬مـاذا يحـلّ ‪،‬‬
‫«إن التاريـخ هـو‪ ،‬يف الحقيقـة‪ ،‬مشـكلة سـيكولوجية»‪ ،‬و‪ -‬بكلمـة أخـرى‪-‬‬
‫يجب دراسـة الفلسـفة والديـن والفنون واألرسة والدولـة‪ ،‬يف عرص ما‪ ،‬من‬
‫خلال منظـار العـامل النفسي‪ ،‬ألنهـا «تأخـذ ميزاتهـا مـن َهيـل‪ ،‬أو موهبـة‬
‫وتصرف»‪.‬‬
‫َّ‬ ‫مسـيطرة؛ إنـه الفكـر ذاتـه‪ ،‬والقلـب نفسـه الـذي فكَّ ـر‪ ،‬ورجـا‪،‬‬
‫بالفعـل‪ ،‬إن «تين» يربـط العاملين‪ :‬االجتامعـي‪ ،‬والتاريخـي بالعامـل‬
‫يتحـدد باملوهبة الرئيسـية‪،‬‬
‫َّ‬ ‫السـيكولوجي‪ ،‬ومبـا أن العامـل السـيكولوجي‬
‫سـواء أكانـت فرديـة أم جامعيـة‪ ،‬فـإن نقـده ينتهـي إىل تعميمات حدسـية‬

‫‪43‬‬
‫الضيقـة التـي ينـادي بهـا تنتهـي إىل رؤيـة‬
‫ِّ‬ ‫وفرضيـات مبدعـة‪ ،‬والحتميـة‬
‫ّ‬
‫مجـردة للفكـر‪.‬‬
‫َّ‬
‫النظريـة الجامليـة‪ :‬مـع ذلـك‪ ،‬يعـود فضلـه إىل أنـه بحـث عـن رشوط‬
‫«حكـم مـن خلال الوقائـع» الـذي يلازم‪ ،‬على نحـو مـا‪ ،‬تفسير الوقائـع؛‬
‫ميهـد للنقـد الـذي سـيعنى باألصالـة والتعبير‪.‬‬
‫فهـو‪ -‬بذلـك‪ّ -‬‬
‫ال يف رشوط الحكم‬‫ولكـن‪ ،‬كان ينبغـي عىل «تني» أن يكون قـد فكَّ ر طوي ً‬
‫ومهمته هام‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الجمايل الوضعـي‪ ،‬الـذي ال يتحقَّـق إذا أدركنـا أن دور األدب‬
‫قبـل كل يشء‪« ،‬أن يعطـي مع ًنـى» لإلنسـان‪ ،‬بنـوع مـا‪ .‬يبقـى «تين» إذن‪،‬‬
‫أمينـ ًا لوجهـة النظـر التقليديـة التـي تقـول إن األدب يجب‪ ،‬قبـل كلّ يشء‪،‬‬
‫فعليـاً‪ -‬عن نظريـة جاملية‬
‫ّ‬ ‫«أن يخلـق الجمال»‪ :‬وهكـذا‪ ،‬إن أحكامـه تنتـج‪-‬‬
‫تكـون‪ ،‬أحيانـاً‪ ،‬ال شـعورية (وهكـذا‪ ،‬يبـدو أنـه أخـذ بالقـدرة على اإلنعـاش‬
‫والحيـاة والحركـة التـي يصادفهـا لـدى الفونتين‪ ،‬وبلزاك‪ ،‬وسـتندال)‪ .‬عىل‬
‫الفن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫منهجـي يف فلسـفته يف‬
‫ّ‬ ‫كل حـال‪ ،‬إنـه‬
‫يقبـل «تين»‪ ،‬اعتبـار ًا مـن كتابـه عـن «الفونتين»‪ ،‬نظريـة للجمال‬
‫الحس للفكرة»‪.‬‬‫ّ‬ ‫مسـتوحاة‪ ،‬مبـارشة‪ ،‬من «هيجل»‪« :‬الجامل‪ ،‬هو التجلي‬
‫حس ّـياً‪ ،‬وذلـك بإبـراز‬
‫الفـن هـو ترجمـة للطبيعـة‪ ،‬يجعـل معنـى الواقـع ِّ‬ ‫ّ‬ ‫إن‬
‫عامـة‪ ،‬وقـد أصبحـت‬ ‫«طابـع‪ ،‬جوهـري للموضـوع»‪ ،‬فهـو‪ ،‬إذن‪« ،‬فكـرة ّ‬
‫جـد ًا قـدر اإلمـكان»‪ .‬لقـد سـعى «تين»‪ ،‬وفـق هـذه الشروط‪ ،‬إىل‬ ‫خاصـة ّ‬‫ّ‬
‫الفـن)‪ ،‬وأن يرسـم مبـدأ‬ ‫ّ‬ ‫(فلسـفة‬ ‫كتابـه‬ ‫يف‬ ‫الفنـون‬ ‫أسـباب‬ ‫على‬ ‫يقيـم‬ ‫أن‬
‫علـم جمال «حديـث وتاريخـي‪ ،‬وليـس بعقائـدي»‪ ،‬ولقـد انتهـى بـه األمـر‬
‫يدعـي‬‫ِاسـم املقاييـس التـي ّ‬ ‫يتردد‪ -‬ب ْ‬
‫َّ‬ ‫إىل أن يصـوغ أحكامـ ًا مطلقـة‪ .‬إنـه ال‬
‫أنهـا «موضوعيـة» ناتجـة عـن الواقـع‪ -‬أن يطـرح املقاييـس املعروفـة التي‬
‫تسـمح بقيـاس القيمـة النسـبية للمؤلَّفـات‪:‬‬
‫املتميـز (مـا نـوع ودرجـة القـدرة على التعبير‬
‫ِّ‬ ‫أهم ّيـة الطابـع‬
‫‪ -‬درجـة ِّ‬
‫والتفسير املوجـودة يف األثـر؟ ومـا درجتهـا؟)‪.‬‬
‫مبعدة‪ ،‬عـن االنطباع‬
‫فعالة أو َ‬
‫‪ -‬تقـارب النتائـج (هـل هنـاك عوامل غير ّ‬

‫‪44‬‬
‫الوحيـد الذي يجـب أن ينتج؟)‪.‬‬
‫‪ -‬نفـع الخصائـص (هـل يسـعى األثـر إىل زيـادة املعرفـة‪ ،‬والطاقـة‪،‬‬
‫والحـب؟ هـل هـو مـؤذ أم مفيـد؟)‪.‬‬
‫ّ‬
‫إن هـذه النظريـة الجاملية تصـل‪ ،‬يف النهايـة‪ ،‬إىل التأكيد الرصيح عىل‬
‫الفـن باألخلاق»‪ .‬ويف عـام ‪ ،1862‬يعلـن «تين» أنـه‪ -‬باسـتعامله‬
‫ّ‬ ‫«عالقـة‬
‫طريقـة النقـد الوضعي‪« -‬كان بيـده‪ ،‬دون أن يعلم‪ ،‬أداة أخـرى للقياس‪.»..‬‬
‫ومجمـل القـول أن «تين» مل ميلأ‪ ،‬أبـداً‪ ،‬الربنامج الذي كان قـد اختطَّ ه‬
‫لنفسـه‪ :‬إن موقفـه املنـادي بالنسـبية ليخفـي فلسـفة مطلقـة عميقة؛ وإن‬
‫هدفـه يبـدو كأنـه يريـد إصـدار األحـكام وفـق التفسير‪ ،‬ومن خاللـه‪ ،‬لكنه‪،‬‬
‫فرضيـات جامليـة‪ ،‬وأخالقية‪ ،‬و‪ -‬أخيراً‪ -‬إن‬‫ّ‬ ‫بالفعـل‪ ،‬كان يحكـم مـن خلال‬
‫معـراة مـن كلّ قيمـة‬
‫ّ‬ ‫خاصـة‪ ،‬ينتهـي إىل انطباعيـة‬ ‫ّ‬ ‫منهجـه يف الشرح‪،‬‬
‫يوضـح املوضـوع األسـايس للعالقـات بين األثـر‬ ‫موضوعيـة‪ .‬إن «تين» مل ِّ‬
‫واإلنسـان والجامعـات‪ ،‬ال مـن وجهـة نظـر الوقائـع‪ ،‬وال مـن وجهـة نظـر‬
‫معرفتهـا املمكنـة ‪ .‬لقـد كان أسير فلسـفة مثاليـة أبعدتـه عـن الفسـلفة‬
‫عب‬
‫الحـق‪ ،‬و‪ -‬مـع ذلـك‪ -‬ظهر «تني» كقائد مدرسـة؛ ذلـك أنه ّ‬ ‫ّ‬ ‫املوضوعيـة‬
‫متقـدم يف النقـد‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ً‬
‫رغما عنـه) عـن ا ِّتجـاه‬ ‫(ربـا‪،‬‬
‫َّ‬

‫‪ - 3‬برونتيري ‪Brunetière‬‬
‫ادعاءاتـه‪ ،‬ال يعتبر مم ِّثلاً جريئـ ًا لهـذا‬
‫إن «برونتييـز»‪ ،‬بالرغـم مـن ّ‬
‫ٍ‬
‫املتقـدم‪ .‬أمل ي َّتهـم «تين» بأنـه مل يحكـم بحـزم كاف‪ ،‬وأنـه نيس‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫اال ِّتجـاه‬
‫إىل درجـة كبيرة‪ ،‬وجهـة النظـر األدبيـة البحـت‪ ،‬حين قصر رشحـه على‬
‫العـرق‪ ،‬والبيئـة‪ ،‬والزمـان‪ ،‬وامللكة الرئيسـية؟ بالفعل‪ ،‬إن النقد ‪-‬بالنسـبة‬
‫إىل «برونتيير»‪ -‬هـو‪ ،‬قبـل كلّ يشء‪ ،‬أن يحكـم على أثـر‪ ،‬وأن يحكـم عليـه‬
‫باعتبـاره ينقـل جوهـراً‪ ،‬هـو الجوهـر «األديب»‪ .‬ولكـن‪ ،‬ال ينتـج عـن ذلـك ّأل‬
‫يكـون النقـد «موضوعيـاً»‪ ،‬بـل العكس‪ .‬إن هـدف «برونتيري» هـو ‪-‬عىل وجه‬
‫الدقّـة‪ -‬أن يعـارض أهـداف النقـد االنطباعـي و«الـذوق الفـردي»؛ وذلـك‬

‫‪45‬‬
‫بإقامـة «علـم نقـدي» ذي أُسـس موضوعيـة‪ .‬يكفـي ّأل يكون اإلنسـان عامل ًا‬
‫ليـدرك أن «برونتيير»((( يتالعـب باملعنـى املبهـم لكلمة «موضوعـي»‪ ،‬وأن‬
‫نقـده‪ ،‬يك ال يكـون «ذاتيـاً»‪ ،‬اليبلـغ درجـة النقـد العلمـي‪ ،‬وأنـه تحـت َّأبهة‬
‫ميـوه فلسـفة عقائديـة مسـهبة يف التقليديـة‪.‬‬ ‫الفلسـفة الوضعيـة‪ّ ،‬‬
‫االتِّجاهـات الوضعيـة‪ :‬إننـا نقـرأ‪ ،‬يف مقالـه الشـهري يف املوسـوعة‬
‫الكبيرة‪ ،‬أن «غايـة النقـد هـي الحكـم على األعمال األدبيـة‪ ،‬وتصنيفهـا‪،‬‬
‫ورشحهـا»‪ .‬تبـدو لنـا هـذه الصيغـة مبتذلـة إذا مل نبحـث عما تغطّ ي‪ ،‬عىل‬
‫وجـه الدقّـة‪ .‬إن وظيفـة الشرح لهـي «تحديد العالقـات بالنسـبة إىل األثر‪،‬‬
‫الخاصـة لف ّنـه‪ ،‬وبالبيئـة التـي ظهـر‬
‫ّ‬ ‫العـام للأدب‪ ،‬وبالقوانين‬ ‫ّ‬ ‫بالتاريـخ‬
‫فيهـا‪ ،‬وأخير ًا بكاتبـه‪ .‬إن الكلمـة الهامـة هنا هـي «النـوع األديب»؛ وبالفعل‬
‫أدبيـ ًا يعبر بطريقتـه عـن هـذا «الجوهـر األديب»‬
‫ّ‬ ‫فـإن األثـر باعتبـاره نوعـ ًا‬
‫الـذي ينبغـي على النقـد ّأل ينسـاه‪ .‬إذن‪ ،‬إن نقطـة مـن النقـاط األساسـية‬
‫يوصـف منهجـه بأنـه علمـي‪ ،‬هـي‬ ‫التـي يطالـب «برونتيير»‪ ،‬مبوجبهـا‪ ،‬بـأن َ‬
‫تتطـو ر وفـق قوانين‪ ،‬وأن «كلّ أثـر هـو فترة أو مرحلـة‬ ‫َّ‬ ‫أن األنـواع األدبيـة‬
‫تطـور نوعـه»‪ .‬وكذلـك األمـر بالنسـبة إىل األعـراق (وهـذا مـا يربهـن‬ ‫ُّ‬ ‫مـن‬
‫تقدميـة‪ ،‬وتعقيـد متزايـد‪ .‬هناك‬‫تتطـور وفـق مفاضلـة َّ‬
‫َّ‬ ‫عليـه دارويـن) التـي‬
‫وتتحول‪،‬‬
‫َّ‬ ‫وتتثبـت‪،‬‬
‫َّ‬ ‫مجـرد تغيير يف تاريـخ األنـواع‪ ،‬فهي تولـد‬ ‫َّ‬ ‫تتابـع وليـس‬
‫ويوجـد بين اآلثـار‪ ،‬التـي هـي من نـوع واحـد‪ ،‬روابـط تسلسـلية‪ ،‬يجب عىل‬
‫التطـوري» أن يجدهـا‪ .‬إن رشح أثـر ما يعني دراسـة مكانه‪ ،‬كنوع‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫«املنهـج‬
‫التطـور اإلديب؛ فدراسـة الظـروف الجغرافيـة‪ ،‬واالجتامعيـة ليسـت ّإل‬ ‫ُّ‬ ‫يف‬
‫املهـم هـو أن تحسـن وضـع األثـر يف الزمـن األديب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ثانويـة‪ ،‬ألن‬
‫مـا «التصنيـف»؟ ومـا «الحكـم»؟ إنهام بالنسـبة إىل برونتيير مترين يف‬
‫منتهـى املوضوعيـة إذا انتبهنـا مـن جهة إىل مـا هو «الجوهـر األديب» وإىل‬
‫دور النقـد ووظيفتـه من جهـة أخرى‪.‬‬

‫((( برونتيري (‪ :)1907 - 1849‬الرواية الطبيعية (‪ ،)1883‬التاريخ واألدب‪ ،‬يف ثالثة أجزاء (‪ ،)1886 - 1884‬دراسات‬
‫مادة «النقد» يف املوسوعة‬
‫عن األدب الفرنيس‪ ،‬يف مثانية أجزاء (‪ ،)1907 - 1884‬تطور النقد (‪ .)1890‬انظر ّ‬
‫الكبرية‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫التطوري يسـمح بإقامة تسلسـل األنواع «لألسـباب املامثلة‬ ‫ُّ‬ ‫إن املنهـج‬
‫(الفن‪ .‬النقد‬
‫ّ‬ ‫التـي تجعل من تسلسـل البنيات‪ ،‬الفقريات فوق الرخويـات»‬
‫االنطباعـي يف كتـاب «املقـاالت»)‪ .‬وكذلـك األمر يف كنف النـوع‪ ،‬فإن األثر‬
‫ميكـن أن «يبتعـد أو يقترب مـن كمال النـوع»‪ .‬على كل حال‪ ،‬إن من شـأن‬
‫يعبر‪ ،‬مبسـاعدة شـكل مـا‪ ،‬عـن الوظيفـة‬ ‫األثـر‪ ،‬كما مـن شـأن النـوع‪ ،‬أن ّ‬
‫األساسـية للأدب التـي هـي‪ ،‬بالنسـبة لربونتيير‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬أن تحقِّـق الجامل‪.‬‬
‫جـداً‪ ،‬إذ يربـط مفهـوم‬ ‫إنـه ي َّتخـذ عـن هـذا الجمال مفهومـ ًا كالسـيكي ًا ّ‬
‫تعبر أدبيـ ًا و«بعقـل»‬‫الجمال بفكـرة «طبيعيـة إنسـانية»‪ ،‬وظيفتهـا أن ّ‬
‫يتعـرف إليهـا‪ .‬وإن اآلثـار ال تقـوم هكـذا ّإل مبـا لهـا مـن عموميـة‪ ،‬وليـس‬ ‫َّ‬
‫بحقيقتهـا املوضوعيـة أو اآلنيـة‪ .‬يجب عىل النقـد‪ ،‬إذن‪ ،‬قبل كلّ يشء‪ ،‬ان‬
‫العـام‪ .‬عليه‪ ،‬وهو‬
‫ّ‬ ‫يبرز املكتسـبات الدامئـة التـي أغنى بهـا الكاتب التراث‬
‫يراعـي الشروط التـي ال ميكن لألثـر باعتباره «أدبيـاً»‪ ،‬أن يخالفها‪ ،‬أن يحكم‬
‫التطور األديب‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫على قيمتهـا مـن ناحية تصنيفها يف النـوع‪ ،‬وعىل النـوع يف‬
‫ال وتجريـداً‪ .‬إنه‬‫ألجـل هـذا يلجـأ إىل عقلـه‪ ،‬إىل ماهـو فيه أكثر ثبات ًا وشـمو ً‬
‫العام‬
‫ّ‬ ‫مفسر ًا للمتطلَّبـات املجـردة لإلنسـانية يدافـع عـن العـرف‬ ‫باعتبـاره ِّ‬
‫لإلنسانية‪.‬‬
‫نتعـرف‪ ،‬هنـا‪ ،‬بالفعـل‪ ،‬إىل السمات‬ ‫َّ‬ ‫العقائديـة‪ :‬كتـب يقـول‪ :‬إننـا‬
‫املميـزة للفلسـفة املطلقـة‪ ،‬وكتـب يقـول‪« :‬هنـاك حقبـة أدبيـة»؛ ولهـذا‬ ‫ِّ‬
‫يسـميه‬
‫ّ‬ ‫ملا‬ ‫الشـهري‬ ‫ِّل‬
‫ث‬ ‫املم‬ ‫هـذا‬ ‫وإن‬ ‫ممكنـة»‪،‬‬ ‫النقديـة‬ ‫املوضوعيـة‬ ‫«فـإن‬
‫«تيبوديـه» «نقـد األسـاتذة» يأمـر ويبنـي ويحكـم باسـم اإلنسـان والعقـل‬
‫والتقليـد والجمال‪ .‬قـد ال يسـتند على مطلـق ميتافيزيقـي «ولكـن على‬
‫يحـرم النقـد‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫يتلخـص بالفكـرة الربجوازيـة للتقليـد‪« :‬أن‬ ‫َّ‬ ‫مطلـق تاريخـي‪،‬‬
‫الحق يف‬
‫ّ‬ ‫الحـق يف أن ينتسـب إىل التقليد؛ هذا يعنـي حرمانه‬ ‫ّ‬ ‫ومينعـه مـن‬
‫الوجـود»‪ .‬مـن هنـا‪ ،‬يأيت اليقين الهادئ للـذي «يعرف» أنه يقني يسـمح له‬
‫فردياتهم الحقيرة‪ ،‬وأن يرفض‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ـاب الذين يـروون‬ ‫يعـرض للسـخرية الك ّت َ‬ ‫ِّ‬ ‫أن‬
‫للفـن»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫«الفـن‬
‫ّ‬ ‫باسـم اآلداب واألخلاق‪ ،‬نظريـة‬
‫املعتد بنفسـه!‬
‫ّ‬ ‫كـم مـن معايـب نجدهـا‪ ،‬يف النهاية‪ ،‬لـدى هـذا الرجل‬

‫‪47‬‬
‫لتطـور األنـواع‪ ،‬التـي ُنسـخت‪( ،‬ال نعـرف‬
‫ُّ‬ ‫تعسـف هـذه النظريـة‬ ‫ُّ‬ ‫أشـد‬
‫ّ‬ ‫ومـا‬
‫ملـاذا)‪ ،‬عـن فلسـفة «دراويـن» الفرضيـة! إننـا نعجـب ‪-‬أيضاً‪ -‬من أنـه‪ ،‬وقد‬
‫بحـد ذاته‪ ،‬قد‬
‫ّ‬ ‫تشـبع بنـوع مـن الوضعيـة‪ ،‬قد غاب عنـه أن موضـوع النقد‪،‬‬ ‫َّ‬
‫للفـن أم ال‪ ،‬بـد ً‬
‫ال مـن أن يقبلهـا‬ ‫ّ‬ ‫مطلـق‬ ‫حقائـق‬ ‫هنـاك‬ ‫كان‬ ‫إن‬ ‫معرفـة‬ ‫يكـون‬
‫ادعائـه‪ ،‬بعـد أن اكتشـفنا ‪-‬بطريقـة‬ ‫بلا براهين‪ .‬وأخيراً‪ ،‬إننـا نحكـم وفـق ِّ‬
‫تطـور النقـد‪ -‬تطابقـ ًا بين املوضـوع والوظيفـة‪ ،‬وأنه‬
‫ُّ‬ ‫متناقضـة‪ ،‬مـن خلال‬
‫كان هـو نفسـه الصيغـة التي شـعر النقد فيها ‪-‬أخيراً‪ ،‬وإىل األبـد‪ -‬بوجوده‬
‫وبطريقته‪.‬‬
‫أتبـاع الفلسـفة املطلقـة لربونتيير‪ :‬أسـهب تالميذ «برونتيير» يف ميوله‬
‫املطلقـة أكثر مـن إسـهابهم يف ا ِّتجاهاته العلميـة الغامضة‪.‬‬
‫وهكـذا‪ ،‬إن منظّ ـر ًا مثـل «ريـكاردو»((( قـد فضـح معايـب النقـد العلمي‪،‬‬
‫ال إمكانيـة النقـد العقائـدي وقواعـده‪ .‬على الناقـد أن يكـون‬ ‫مطـو ً‬
‫َّ‬ ‫ثـم حلَّـل‬
‫«الناطق باسـم اإلنسـانية»‪ ،‬وهذا يعني (العودة إىل نيزار)‪« ،‬ان عىل الناقد‬
‫ليعب‬‫ّ‬ ‫فرنسـيا ليكون إنسـانياً»‪ .‬إن األثر األديب «قـد ُو ِجد‬
‫ًّ‬ ‫الفرنسي أن يكـون‬
‫«الحـق هـو الشرط الضروري للجمال»‪ ،‬و«األخلاق هـي‬ ‫ّ‬ ‫عـن اإلنسـانية»‪،‬‬
‫العالمـة واملقيـاس لجمال األثـر»‪ .‬كذلك‪ ،‬إن على الذوق «أن يبـذل جهد ًا‬
‫ليتسـاوي مـع الحقيقـة والجمال والخري املطلـق»‪ ،‬وال يسـتطيع الناقد أن‬
‫متحيز»‪.‬‬
‫َّ‬ ‫إنسـاني ًا وغير‬
‫ّ‬ ‫«إل إذا أصبـح‪ ،‬بفضـل التقليد‪،‬‬ ‫حاكما كفـؤ ًا ّ‬
‫ً‬ ‫يكـون‬
‫يعـود «رنيـه دوميـك»(((‪ ،‬من خلال «بروننيير»‪ ،‬إىل «الهـارب» أكرث من‬
‫متحمسـاً عن الذوق الكالسـييك‪-‬‬
‫ِّ‬ ‫عودته إىل «نيزار»‪ .‬وهو ‪-‬باعتباره مدافع ًا‬
‫يعلـن عـداءه العنيـف لـكلّ تجديـد‪ ،‬يبـدو لـه متعارضـ ًا مـع وضـوح األدب‬
‫الفرنسي والقيـاس التقليدي‪.‬‬

‫((( ريكاردو‪ :‬كتاب النقد األديب ‪ ،‬دراسة فلسفية‪ :‬مقدمة عن برونتيري (‪.)1896‬‬
‫((( رنيه دوميك (‪ :)1937 - 1860‬دراسات يف األدب الفرنيس (‪.)1908 - 1896‬‬

‫‪48‬‬
‫‪ - 4‬هانكان((( ‪Hennequin‬‬
‫الجدي اعتبـار ًا مـن «هانكان»؛‬
‫ّ‬ ‫أخـذ مفهـوم «النقـد العلمـي» مضمونـة‬
‫الخاصـة بـه‪ .‬ومـن املؤسـف أن «هانـكان» كان‬‫ّ‬ ‫ومـن هنـا ظهـرت معضالتـه‬
‫منظِّ ـراً‪ ،‬ال مامرسـاً للنقـد ألنه قد غرق يف نهر السين‪ ،‬وهـو يف الثالثني من‬
‫عمـره‪ ،‬يف السـنة نفسـها التـي ظهر فيهـا كتابه «النقـد العلمـي»‪ .‬وبالفعل‬
‫إن النقـد العلمـي يطـرح مشـكلة الوظيفـة واملوضـوع‪ :‬هـل يعتبر األثـر‬
‫وسـيلة للوصـول إىل معـارف مـن النـوع التاريخـي‪ ،‬والنـوع السـيكولوجي‪،‬‬
‫والنـوع التاريخـي‪ ،‬أم ‪-‬على العكـس‪ -‬أن األثـر‪ ،‬وقـد اعتبر كنهايـة‪ ،‬ميكـن‬
‫أن نسـتعمل معـارف غير أدبيـة كأداة لتوضيحه؟ إنه يطرح ‪-‬أيضاً‪ -‬مشـكلة‬
‫املنهـج‪ :‬هـل ينبغـي أن نسـتخلص عنـارص التفسير السـيكولوجي مـن‬
‫مضمـون األثـر أم مـن سيرة الكاتـب؟ هـل ينبغـي أن نذهـب مـن األثـر إىل‬
‫اإلنسـان‪ ،‬أم مـن اإلنسـان إىل األثـر؟‪ّ ،‬إل أن لـ«هانـكان» مفهومـ ًا عـن النقد‬
‫يبشر مبناهـج‬ ‫نـواح كثيرة ِّ‬
‫ٍ‬ ‫يجيـب‪ ،‬بوضـوح‪ ،‬عـن هـذه األسـئلة‪ .‬إنـه مـن‬
‫حديثـه‪ ،‬وقـد أشير إىل تأثيره يف املحلِّـل النفسي «بـودوان»‪ ،‬أضـف إىل‬ ‫َ‬
‫ذلـك‪ ،‬تأثيره يف «بـول بورجيـه» الـذي كان شـديد القـرب منـه‪.‬‬
‫األثـر والقـارئ‪« :‬التحليـل االجتامعي»‪ :‬يبدأ «هانكان»‪ ،‬وقد أعلن نفسـه‬
‫نظريتـه الضعيقـة للسـببية التاريخيـة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫تلميـذ ًا لـ«تين»‪ ،‬بـأن يلومـه على‬
‫واالجتامعيـة؛ فالبيئـة والزمان ال ميكـن تحديدهام بطريقة بسـيطة‪ ،‬خالية‬
‫وإل حدثـت مامثلـة كاملـة يف اإلنتـاج األديب‪ ،‬فكـم مـن‬ ‫مـن التناقـض‪ّ ،‬‬
‫فنانين متناقضين مـع بيئتهـم! فليـس مـن املجـدي‪ ،‬إذن‪،‬أن ننطلق رأسـ ًا‬
‫والعامة‪ ،‬ألثر مـا‪ .‬إن التأثري االجتامعي‬
‫ّ‬ ‫املميـزة‪ :‬االجتامعية‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫مـن الطوابـع‬
‫يوجـد‪ ،‬طبعـاً‪ ،‬ولكـن لكي نجـده يجـب أن نأخـذ بعين االعتبـار مجموعـة‬
‫القـراء‪ ،‬واملعجبين باألثـر‪ ،‬وأن نسـعى لنعـرف إىل مـن ي َّتجـه‪ .‬هـذا هـو‬
‫ّ‬
‫التحليـل االجتامعـي الـذي يقرتحـه «هانـكان»‪.‬‬

‫((( هانكان (‪ :)1888 - 1858‬النقد العلمي (‪ ،)1888‬دراسات يف النقد العلمي (‪ ،)1888‬كتاب مفرنسون (‪.)1889‬‬

‫‪49‬‬
‫ميس‪ ،‬من‬ ‫ّ‬ ‫مـس‪ ،‬من ناحية‪ ،‬اإلنسـان الذي أبدعـه‪ ،‬فإنه‬ ‫«كل أثـر ف ّنـي‪ ،‬إن َّ‬
‫ناحيـة أخـرى‪ ،‬مجموعة النـاس الذين يؤ ِّثر فيهم»‪ .‬وهكـذا‪ ،‬إن الرواية ُتقَ َّدر‪ ،‬ال‬
‫تعبر عنها‪« ،‬ولكن بسـبب عدد مـن الناس‬ ‫بسـبب الحقيقـة املوضوعيـة التـي ِّ‬
‫وتعبر عـن أفكارهـم»‪« ،‬إن الذيـن‪ ،‬وهـم يقـرأون‬ ‫ّ‬ ‫تح ّقـق حقيقتهـم الذاتيـة‬
‫جـد ًا عليهم‪ ،‬هم‬ ‫كتابـاً‪ ،‬يهتـ ّزون نشـوةً‪ ،‬أن يجـدوا فيـه األفكار التي هـي غريزة ّ‬
‫أوالً‪ ،‬هـذه األفكار»‪.‬‬
‫اإلخـوة بالـروح لإلنسـان‪ ،‬الـذي تفتحت يف كتبـه‪َّ ،‬‬
‫«كما ميكـن لكاتـب ّأل يكـون متقاربـ ًا ّإل مـع «قسـم» مـن «الجسـم‬
‫يتردد يف أن‬
‫َّ‬ ‫ـدر ّإل بعـد موتـه‪ :‬إن «هانـكان» ال‬
‫االجتامعـي»‪ ،‬بـل قـد ال ُيقَ َّ‬
‫وتطورهـا عالقاتها‬
‫ُّ‬ ‫تنوع الطبقـات االجتامعية‪،‬‬ ‫ُيرجـع سـبب ذلك‪ ،‬هنـا‪ ،‬إىل ُّ‬
‫مبناطـق نجـاح األثـر‪.‬‬
‫األثـر واإلنسـان‪« :‬التحليـل السـيكولوجي»‪ :‬يبـدو لنـا املفهـوم الـذي‬
‫يعب عن‬ ‫ي َّتخـذه «هانـكان»‪ ،‬عـن النقـد السـيكولوجي‪ ،‬أقـلّ ابتـكاراً؛ فاألثـر ّ‬
‫كاتبه‪ ،‬ولسـنا بحاجة إىل سيرة حياة لنسـتطيع أن نعيد بناء بنيته العقلية‪.‬‬
‫«إن التحليـل السـيكولوجي» يقتصر ‪-‬بالفعـل‪ -‬على «الصعـود مـن الـدالّ‬
‫العـام‪ .‬وهكـذا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إىل املدلـول»؛ وذلـك باسـتعامل معطيـات علـم النفـس‬
‫التـام «بتالحم يف‬
‫ّ‬ ‫املكـون بفكـرة محسوسـة‪ ،‬والرتكيب‬ ‫ّ‬ ‫سـنفس األسـلوب‬
‫ِّ‬
‫قابليات‬
‫ّ‬ ‫وسنرجع نوع الشـخصيات واملوضـوع إىل‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ضيق ومتتابع»‬
‫األفـكار ِّ‬
‫الكاتـب ورغباتـه‪ ،‬واالنفعـاالت املوصوفـة إىل االنفعـاالت التـي شـعر بها‪.‬‬
‫موضـوع النقـد ووظيفتـه‪ :‬ينتـج عن ذلك أن «هانـكان» يعترب النقد ‪-‬بوجه‬
‫خـاص‪ -‬وسـيلة لتحليـل حـاالت نفـس لـدى فـرد أو يف بيئـة‪ .‬إننا نسـتطيع أن‬‫ّ‬
‫نتسـاءل لـو قبلنـا هذه النظـرة‪ :‬أال تسـمح املعرفة املسـبقة لظـروف األثر‪،‬‬
‫واقعيـة لألثـر األديب؟ على كلّ حـال‪ ،‬إن حركـة جدليـة قـد‬
‫ًّ‬ ‫بإيضـاح أكثر‪،‬‬
‫ميدنا باملعلومات‬
‫خاصـة أن األثر وحده ال يسـتطيع أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫تكـون أكثر منطقية‪،‬‬
‫عـن نفسـية الكاتـب‪ .‬إن علـم النفـس التحليلي قـد أدرك ذلـك‪ .‬وهنـاك كثري‬
‫مـن التحفُّظـات حـول علـم النفـس االجتامعـي الـذي ورثـه «هانـكان» عـن‬
‫يعب بهـا الكاتب عـن رؤية‬
‫تنـوع الطرائـق التـي ِّ‬
‫«تين»‪ ،‬والـذي منعـه أن يـرى ُّ‬
‫الحـي‪ ،‬والشـاهد عليها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الخـاص ملجموعـة من النـاس‪ ،‬هو رسـولها‬
‫ّ‬ ‫العـامل‬

‫‪50‬‬
‫‪ - 5‬بورجيه ‪Bourget‬‬
‫على كل حـال‪ ،‬أن يسـتخدم ‪-‬وفـق طريـق‬ ‫ّ‬ ‫لقـد حـاول بورجيـه(((‪،‬‬
‫منهجيـة‪ -‬تحليلاً اجتامعيـ ًا مامثلاً ملـا اختـاره «هانـكان»‪ ،‬لكـن مثّـة كثير ًا‬
‫مـن األحـكام املسـبقة املذهبيـة قـد أبعدته‪ ،‬يف البـدء‪ ،‬عن ا ِّتخـاذ موقف‬
‫وضعـي بحـت‪.‬‬
‫ّ‬
‫نـص يعـود إىل عـام ‪،1882‬‬ ‫املوقـف النسـبي‪ :‬نسـتطيع أن نقـرأ‪ ،‬يف ّ‬
‫مـا يـأيت‪« :‬ال يتحكَّ ـم الن ّقـاد باإلنتـاج األديب أكثر ّمما يتحكَّ ـم الفيزيائيـون‬
‫مقدمـة كتابـه (املقـاالت)‪ ،‬عـام ‪ ،1883‬أن‬ ‫بإنتاجـات الحيـاة»‪ .‬وكتـب يف ِّ‬
‫الفـن مل تحلّـل إال بقـدر مـا هـي إشـارات»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫«طوائـف‬
‫يدخـل نقـد «بورجيـه»‪ ،‬إذن‪ ،‬يف الحركـة العلميـة‪ .‬إنـه يقترب مـن‬
‫«هانـكان» أكثر مـن اقرتابـه مـن «تين»‪ .‬وبالفعـل‪ ،‬إن الحركـة التفسيرية‬
‫خاصـة‪ ،‬مـن األثـر إىل املعطيـات النفسـية‬ ‫ّ‬ ‫ت َّتجـه‪ ،‬يف نقـد «بورجيـه»‬
‫‪-‬خاصة‪-‬‬
‫ّ‬ ‫يهتـم‬
‫ّ‬ ‫االجتامعيـة؛ ولهـذا ال يكاد يشير إىل شـخصية الك ّتـاب‪ ،‬بل‬
‫«مـؤرخ الحياة األخالقية‬
‫ِّ‬ ‫يقيم نفسـه‬
‫بالقيمـة االجتامعية لألثر‪ :‬أمل يشـأ أن ِّ‬
‫خلال النصـف الثـاين من القرن التاسـع عرش»‪ .‬مبـا أن «اآلثار هي الوسـيلة‬
‫األكثر فاعلّيـة لنقـل اإلرث السـيكولوجي»؛ ففيها «قدرة عمل مسـتقلّة عن‬
‫الكاتـب نفسـه‪ ،‬تكمـن يف دعايـة فكريـة‪ ،‬وعاطفيـة‪ ،‬يختلـط فيهـا املنطـق‬
‫العميـق‪ ،‬إذا نحـن وضعنـا ‪-‬معـاً‪ -‬الكتـب التـي كانـت شـائعة خلال فترة‬
‫واحـدة؟»‪.‬‬
‫‪-‬عمليـاً‪ -‬هـذا املنهـج يف‬‫ّ‬ ‫مذهـب بورجيـه‪ :‬لقـد اسـتخدم «بورجيـه»‬
‫التحليـل النفسي االجتامعـي‪ ،‬ليكشـف (تأثير ًا واحـد ًا متشـامئ ًا عميقـ ًا‬
‫إمـا إىل االنفعالية‬‫ومسـتمراً» لـدى معارصيـه‪ ،‬وتعود أسـباب هذا التأثير؛ ّ‬
‫ّ‬
‫الحـب املعارص‪ ،‬وعجـزه تحت ضغط‬ ‫ّ‬ ‫فسـاد‬ ‫إىل‬ ‫أو‬ ‫الكونيـة‪،‬‬ ‫الحيـاة‬ ‫أو إىل‬

‫((( بول بورجيه (‪ :)1935 - 1852‬مقاالت عن علم النفس املعارص (‪ ،)1883‬علم اجتامع وأدب (‪ ،)1906‬صفحات‬
‫يف النقد واملذهب (‪ ،)1912‬دراسات وصور صفحات جديدة يف النقد واملذهب (‪.)1922‬‬

‫‪51‬‬
‫و‪-‬ربـا‪ -‬إىل الصراع‬
‫َّ‬ ‫الفكـر التحليلي‪ ،‬أو إىل التأثير الـذي أحدثـه العلـم‪،‬‬
‫بين الدميوقراطيـة وال ّثقافـة الرفيعـة‪ ،‬أخيراً‪ .‬فلنالحظ أنه ال يذهـب‪ ،‬أبداً‪،‬‬
‫إىل األسـباب العميقـة؛ أي األسـباب «االجتامعيـة» الحقيقيـة القامئـة يف‬
‫تلخـص‪ ،‬يف رأيـه مجموعـة‬ ‫«عـدم التوافـق بين اإلنسـان والبيئـة» التـي ّ‬
‫خاصة نحو هذا الكشـف‬ ‫َّ‬ ‫أسـباب هـذه «األزمة األخالقيـة»‪ .‬إن انتباهه م َّتجه‬
‫عـن «املـرض التشـاؤمي» باسـم أوضـاع روحيـة أو مسـيحية‪ ،‬قـد تنتـج عن‬
‫نقديـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وضعيـة‬
‫ّ‬ ‫عقائديـة أخالقيـة أكثر مما تنتـج عـن فلسـفة‬
‫على الناقـد أن «يبـذل جهـد ًا ليسـتخلص من التجربـة والتاريـخ قوانني‬
‫يـؤدي التحليـل األديب‪ ،‬إذن‪ ،‬إىل التحليـل‬ ‫ّ‬ ‫صحـة املجتمعـات»؛ وهكـذا‬ ‫ّ‬
‫يـؤدي‪ ،‬بـدوره‪ ،‬إىل «التحليـل السـيايس»‪ .‬وكذلـك «إن‬ ‫ِّ‬ ‫الـذي‬ ‫االجتامعـي‬
‫الديانـة املسـيحية هـي‪ ،‬يف الوقـت الحـارض‪ ،‬الشرط الوحيـد والضروري‬
‫للصحة والشـفاء»‪ ،‬وإن «بورجيه» الذي كان يسـعى‪ ،‬منذ عام ‪ ،1902‬ليأيت‬ ‫ّ‬
‫مـرب‬
‫ِّ‬ ‫يكونـوا‬ ‫أن‬ ‫ـاب‬ ‫ت‬
‫ّ‬ ‫الكُ‬ ‫مـن‬ ‫يطلـب‬ ‫التقليـدي»‪،‬‬ ‫املذهـب‬ ‫يف‬ ‫«مبشـاركة‬
‫الفكـر‪ ،‬وأن يب ّثـوا األفـكار الصحيحـة والحسـنة‪« :‬هـذه هـي الخدمـة التـي‬
‫نقدمهـا‪ »...‬و‪-‬أخيراً‪ -‬قـد يكـون هـذا نوعـ ًا مـن «النقـد امللتـزم»‪.‬‬
‫يجـب أن ِّ‬

‫‪52‬‬
Anatole France
‫أناتول فرانس‬
1924 – 1844
André Gide
‫أندريه جيد‬
1951 – 1869
‫الفصل الخامس‬

‫االنطباعية‬
‫ّ‬

‫ـي ‪ 1885‬و ‪،1914‬‬ ‫عام ْ‬


‫احتلَّـت كلمـة «األنطباعيـة» مكانـة كبيرة‪ ،‬بين َ‬
‫يف خصـام الن ّقـاد‪ .‬ومـع ذلـك‪ ،‬ليـس مـن اليسير تعريفهـا‪ ،‬فلنفـرض أن‬
‫يتوصلـوا إىل معرفـة موضوعيـة أو‬ ‫َّ‬ ‫العلماء والعقائديين قـد أرادوا أن‬
‫الخاصـة للناقـد‪ ،‬فـإن‬
‫ّ‬ ‫حكـم موضوعـي؛ أي مسـتقلِّني عـن وجهـة النظـر‬
‫االنطباعيين يريـدون ‪-‬على العكـس‪ -‬أن يقتصروا على تثبيـت التقـاء األثر‬
‫بذاتيتهـم‪ .‬إن كلمـة «انطبـاع» تعنـي‪ -‬بدقّة‪ -‬هـذا اللقاء اآلين والسـاذج بني‬ ‫َّ‬
‫النـص والقـارئ‪ ،‬والتبـادل الـذي ينتـج عـن ذلـك يف نفـس القـارئ‪ .‬هكـذا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫نظريـاً‪ ،‬إىل املفهـوم النقي والبسـيط لـردود فعل‬ ‫ّ‬ ‫يعـدو النقـد االنطباعـي‪،‬‬
‫الذاتيـة أمـام نتـاج أديب‪ .‬إنـه ملن البديهـي أن يبتعد بعـد ًا كبرياً‪ ،‬يف‬
‫ّ‬ ‫الناقـد‬
‫حددها «سـانت بـوف» للنقـد إن مل يكن قد‬ ‫هـذه الحالـة‪ ،‬عـن الغايـة التـي َّ‬
‫توصـل إليهـا؛ أال وهـي الوصول إىل النفس‪ ،‬وإىل ذاتيـة غريبة‪ّ .‬إل أن الناقد‬ ‫َّ‬
‫يحـب أن يعلـن أن غايتـه هـي ّأل يتكلَّـم ّإل على نفسـه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫االنطباعـي‬

‫‪55‬‬
‫تقص بأن‬‫ملَ هـذا املوقـف؟ لقـد رأينـا كيـف أن املوضوعيـة العلميـة ال ّ‬
‫مفسرة‪ ،‬ثقيلـة يف كثير مـن األحيـان‪ ،‬وأن تنتهـي بأوضـاع‬ ‫تعمـل بوسـائل ّ‬
‫االنطباعيين يكرهـون التص ُّنـع قبـل كلّ يشء‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫خاصـة‪ .‬غير أن‬
‫ّ‬ ‫عقائديـة‬
‫تجمعـت بصبر بـل ذكريـات مـن قـراءات‪،‬‬ ‫موادهـم ليسـت بطاقـات قـد َّ‬‫ّ‬ ‫إن‬
‫طيـب املعشر‪ .‬إن منهجهـم هـو ّأل‬ ‫احتفـظ بهـا ‪-‬بشـغف‪ -‬إنسـان مثقَّـف‪ِّ ،‬‬
‫االنطباعيين‬
‫ّ‬ ‫قبليـ ًا مريبـاً‪ .‬ثـم إن‬
‫يكـون لهـم منهـج‪ ،‬فـكلّ نظـام يبـدو لهـم ّ‬
‫يكرهـون ‪-‬أيضـاً‪ -‬الريـاء؛ إنهـم يقولـون‪ :‬لنكـن رصيحين‪ :‬أليـس كلّ نقـد‪-‬‬
‫‪-‬بحر ّيـة‪ -‬هـذا‬
‫ِّ‬ ‫بالفعـل‪ -‬انعكاسـ ًا لألثـر‪ ،‬مـن خلال النقـد؟ وملـاذا ال نقبـل‬
‫الوضـع؟‬
‫ويعبر «لوميتر» عن وجهـة النظر هذه‪ ،‬يف وضـوح‪« :‬إن النقد؛ منهجي ًا‬ ‫ِّ‬
‫يتوصـل ّإل إىل تعريـف‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫عاءاتـه‪،‬‬ ‫اد‬
‫ّ‬ ‫كانـت‬ ‫ومهما‬ ‫منهجـي‪،‬‬ ‫غير‬ ‫كان أم‬
‫دو َن الكاتب نفسـه‬
‫أثر ف ّني‪ ،‬فيه َّ‬ ‫االنطبـاع الـذي ُي ِ‬
‫حدثـه فينـا‪ ،‬ويف زمن مـا‪ٌ ،‬‬
‫االنطبـاع الـذي تل ّقـاه مـن العامل‪ ،‬يف سـاعة ما‪.‬‬
‫فلنحـب الكتـب التـي تـروق لنـا‪»..‬؛ ذلـك أن‬
‫ّ‬ ‫ومبـا أن النقـد هكـذا‪،‬‬
‫االنطباعيين ‪-‬وهـذا هو السـبب الثالـث‪ -‬اليريـدون أن يرفضوا لـذّ ة القراءة‪:‬‬
‫يضيـع معنـى املتعـة‬‫يفسر ويحكـم‪ ،‬قـد أوشـك أن ِّ‬ ‫إن النقـد‪ ،‬وقـد أراد أن ِّ‬
‫الجامليـة‪ ،‬وهـذه املتعـة جوهريـة‪ ،‬يف نظرهـم؛ من هنـا يأيت نـوع من لذّ ة‬
‫الحـواس‪ ،‬التـي هـي أسـاس النطباعيـة‪.‬‬
‫انطباعي متالحم؟‬
‫ّ‬ ‫ولكن‪ ،‬هل ميكن ‪-‬ح ّقاً‪ -‬أن يوجد موقف‬
‫نسـتطيع ّأل نقبـل تربيـر «لوميتر» الـذي ينطـوي على كثير مـن‬
‫السفسـطة‪ ،‬بـل نسـتطيع بـأن نجيبـه بـأن االنطباعيـة‪ ،‬وهـي أبعـد مـن أن‬
‫تكـون هوى سـاذجاً‪ ،‬تسـتخدم‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬مقاييس ورشائـع أو قوانني مقبولة‬
‫يف الوسـط األديب‪ ،‬أو االجتامعـي؛ وتلـك هـي خطيئـة بـارزة يف الخيانـة‪.‬‬
‫أضـف إىل ذلـك أن االنطباعيـة الكاملـة قد تصبـح مبالغة يف الدقَّـة‪ .‬إال أننا‬
‫(يتـم هـذا العمل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لنكـون منهـا وحدة‬
‫ّ‬ ‫بقـدر مـا نربـط االنطباعـات الدقيقـة‬
‫الحسـية‬
‫ِّ‬ ‫على كلّ حـال‪ ،‬عفويـ ًا أو عمـداً) ندخل وظيفة فكرية تتجاوز اللذّ ة‬
‫األدبيـة املحـض‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫ذاتيـ ًا بحتـاً‪ ،‬قـد ا َّتخـذ أشـكا ً‬
‫ال‬ ‫إن النقـد االنطباعـي‪ ،‬وقـد أراد أن يكـون ّ‬
‫سـنميز جانـب اللذّ ة‪ ،‬وجانـب التفرقة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫بعـدد األفـراد الذين ميارسـونه‪ .‬إننا‬
‫والبـد من أن‬
‫ّ‬ ‫و‪-‬أخيراً‪ -‬جانـب الرنجسـية ذات املظهـر الخالـد والضروري‪،‬‬
‫نقـر بذلك‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪ - 1‬نقد يعتمد عىل اللذّ ة‪:‬‬


‫جول لوميرت‪ ،‬وأناتول فرانس‬
‫فلسـفة ذاتيـة «أبيقوريـة»‪ :‬يقـول «جـول لوميتر»((( عـن مقاالتـه‪« :‬إن‬
‫ليسـت ّإل انطباعـات صادقـة‪ُ ،‬د ِّونـت بعنايـة»‪ .‬ويعلـن «أناتـول فرانس»(((‪،‬‬
‫مـن جانبـه‪« :‬إن النقـد ‪-‬كما أفهمـه‪ ،‬وهـو أشـبه يشء بالفلسـفة والتاريخ‪-‬‬
‫نـوع مـن الروايـة تسـتخدمه العقول الواعيـة السـاعية وراء املعرفـة‪ ،‬وإن‬
‫الجيـد هـو الـذي‬
‫ِّ‬ ‫ذاتيـة‪ ،‬والناقـد‬
‫حسـن فهمهـا هـي سيرة ّ‬ ‫كلّ روايـة‪ ،‬إذا أُ ِ‬
‫يـروي مغامـرات النفـس‪ ،‬وسـط روائـع املؤلَّفـات»‪.‬‬
‫إن اإلنطباعـات تسـتجيب‪ ،‬لديهما‪ ،‬إذن‪ ،‬بقناعـة تفيـد بـأن الناقـد‬
‫أي‬
‫الميكـن أن يخـرج عـن ذاتـه‪ ،‬حين يتكلَّـم عـن كتـب اآلخريـن‪ ،‬ومبـا أن ّ‬
‫ً‬
‫حكما نقديـاً؛ مـن هنـا‬ ‫يقين مسـتحيل‪ ،‬فلا ميكـن أن ننشـئ ‪-‬موضوعيـاً‪-‬‬
‫يـأيت عداؤهما لـ«برونتيير» الـذي يـرى فيـه «لوميتر» ناقـد ًا «يف منتهـى‬
‫الرشاسـة»‪ ،‬و«قاضيـ ًا فظّ ـاً»‪ ،‬ويصفـه «فرانـس» بأنـه قـادر عىل أن «يشـكِّ ل‬
‫دمـر‪ ،‬يـدوم عشر سـنوات»‪.‬‬ ‫نظامـ ًا ال ُي َّ‬
‫‪ -‬لقـد أصبـح النقـد‪ ،‬إذن‪ ،‬لديهام حديثـ ًا لطيف ًا بني رجـال مثقَّفني؛ فهو‬
‫تعسـفي‪ ،‬ويسـتند إىل فلسـفة أبيقورية‪،‬‬ ‫يهـرب مـن كلّ تحذلـق‪ ،‬وكلّ بناء ُّ‬

‫((( جول لوميرت (‪ :)1914 - 1853‬نرش عدد ًا كبري ًا من املقاالت التي جمعت تحت عنوان (املعارصون)‪ ،‬يف‬
‫خمسة مجلَّدات (‪ .)1899 - 1885‬ويف انطباعات عن املرسح ‪ 6‬مجلدات (‪ ،)1920 - 1888‬ومنذ عام (‪ )1907‬نرش‬
‫دراسات عن روسو‪ ،‬فينيلون‪ ،‬وراسني ‪ ..‬وغريهم‪.‬‬
‫((( أناتول فرانس (‪ :)1924 - 1844‬كتب لجريدة «الزمن» مقاالت جمعت يف أربعة مجلَّدات‪ ،‬تحت عنوان‬
‫«الحياة األدبية» (‪ .)1894 - 1888‬كام أن هناك دراسات نقدية شتى‪ُ ،‬جمعت يف كتاب «العبقرية الالتينية»‬
‫(‪.)1917‬‬

‫‪57‬‬
‫والفن‪ .‬يقول «أناتـول فرانس»‪« :‬إن اللـذّ ة التي يعطيها‬
‫ّ‬ ‫ويعتمـد على اللـذّ ة‬
‫األثر‪ ،‬هـي املقياس الوحيـد لقيمته»‪.‬‬
‫ندعـي تحويـل النقـد إىل‬ ‫خيانـات رضوريـة‪ :‬قـد يكـون مـن املجازفـة أن َّ‬
‫متفرقـة‪ ،‬دون نظريـة أو كيان‪ ،‬وإن «لوميتر» و«فرانس»‬ ‫ِّ‬ ‫مجموعـة عالمـات‬
‫مفسر‪ -‬يحكمان‪ -‬بالفعـل‪ -‬مـن خلال مجموعـة‬ ‫‪-‬وإن مل يكـن لهما نظـام ّ‬
‫األول‪ ،‬ارتبـاط بقيـم تقليديـة‬ ‫وظائـف مـن السـهل متييزهـا‪ .‬إنهـا‪ ،‬عنـد َّ‬
‫تقليديـة للـذوق الكالسـييك والفرنسي؛ هـذا الـذوق الـذي ميلي عليـه أن‬
‫أي‬ ‫ُيديـن «ايبسـن» وعـدد ًا كبير ًا آخر من كُ ّتاب الشمال‪ ،‬إذ مل يجـد لديهم ّ‬
‫الرمزيين وك ّتاب‬ ‫ِّ‬ ‫يشء جديـد يضيفونـه إىل األدب الفرنسي‪ ،‬أو نفـوره مـن‬
‫يهـددوا وزن الشـعر‬ ‫يتورعـوا عـن أن ِّ‬ ‫أواخـر القـرن التاسـع عشر الذيـن مل ّ‬
‫ُّ ً‬
‫وتقبلا لألفكار‬ ‫تحـرر ًا‬
‫ُّ‬ ‫أمـا «أناتـول فرانـس» فإنـه أكرث‬ ‫الفرنسي‪ ،‬وإرشاقـه‪ّ .‬‬
‫الرمزيين‪ ،‬يعتـذر عـن نقدهـم‬ ‫ِّ‬ ‫الجديـدة‪ ،‬فمـع أنـه مل يفهـم‪ ،‬هـو ‪-‬أيضـاً‪-‬‬
‫يدعـي‪،‬‬ ‫األقـل‪ ،‬وميتنـع عـن إدانتهـم‪ .‬إنـه يعطـي انطباعـه‪ ،‬دون أن ّ‬ ‫على َّ‬
‫أبـداً‪ ،‬أنـه على صواب‪ ،‬لكن مجمـل نقده يقوده ‪-‬بالرغم مـن كلّ يشء‪ -‬إىل‬
‫ضـد دعـاة‬ ‫الحـرص على الحفـاظ على القيـم الكالسـيكية وحقـوق الـذكاء ّ‬
‫تام ًا‬
‫املدرسـة الواقعيـة الجديـدة (مثل «روسـني»)الذين قد حرمـوا حرمان ًا ّ‬
‫مـن موهبـة القـدرة على التجريد»‪.‬‬
‫هنـاك رضورة أخـرى‪ ،‬باإلضافة إىل رضورة وجود نـوع من النظرية‪ ،‬وإن‬
‫كانـت ضمنيـة‪ ،‬هـي رضورة التأليـف‪ ،‬والتنظيـم‪ ،‬والتجريـد؛ مـن هنـا ينتـج‬
‫جليـاً‪ ،‬لـدى «جـول لوميتر»‬
‫االبتعـاد عـن االنطبـاع الصرف‪ ،‬ويظهـر هـذا‪ّ ،‬‬
‫الـذي ال يختلـف نقـده كثيراً‪ ،‬يف مخطَّ طـه ومنهجـه‪ ،‬عـن نقـد «النسـون»‪،‬‬
‫ويهـدف نقـده‪ ،‬يف الواقـع‪ ،‬إىل نـوع مـن املوضوعيـة يف وصـف اآلثـار‪.‬‬
‫أمـا بالنسـبة إىل «فرانـس» فإنه يبتعـد ‪-‬أيضاً‪ -‬عن املدرسـة االنطباعية‬
‫ّ‬
‫مجرد لذّ ة القراءة‪ ،‬وأن يجد يف‬
‫َّ‬ ‫من‬ ‫أبعـد‬ ‫إىل‬ ‫يذهب‬ ‫أن‬ ‫يف‬ ‫برغبتـه‬ ‫البحـت‪،‬‬
‫دراسـة الكتـاب أدا ًة لفهـم اإلنسـان على نحو أوسـع‪ ،‬وأن يبحـث يف الكتب‬
‫عـن «كلّ أنـواع األرسار الجميلـة‪ ،‬عـن الناس‪ ،‬وعن األشـياء»؛ يقول إنه من‬
‫الذيـن ليسـوا براضني‪ ،‬لكنهم قلقون بسـبب قراءاتهـم‪ .‬إن االنطباعية لديه‬

‫‪58‬‬
‫تهـدف إىل الفلسـفة اإلنسـانية‪ ،‬فهـو يأخـذ منهـا عمقـ ًا أكثر‪ ،‬لكنـه يخـون‬
‫نفسـه‪ ،‬يف الوقت ذاته‪.‬‬

‫‪ - 2‬انفصام أم تعاطف؟‪:‬‬
‫رميي دو غورمون‬
‫التحررية‪ ،‬واملدرسـة‬
‫ُّ‬ ‫يعتمد نقد «دو غورمون»((( عىل كلّ من املدرسـة‬
‫حـد سـواء‪ .‬لكـن مواقفـه أكثر إلحاحـاً‪ ،‬وهـي‬
‫االرتيابيـة‪ ،‬والنسـبية‪ ،‬على ّ‬
‫جذرية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تقـوده إىل اسـتنتاجات أكثر‬
‫حذره‬
‫َ‬ ‫أي يقين‪ ،‬بالنسـبة إليه‪ ،‬فهو َي ْحذر مـن كلّ يقني‬
‫يسـتحيل وجـود ّ‬
‫ادعـاء مبعرفـة يشء مـا؛ فهـو‪ ،‬إذن‪ ،‬يقبـل كلّ األفـكار مؤقتـاً‪ ،‬إىل‬
‫مـن كلّ ِّ‬
‫يـؤدي به أن يناقض نفسـه‪.‬‬
‫أن يظهـر حـدث جديد ّ‬
‫يتـذوق كلّ األفـكار‪ ،‬على نحـو متتـالٍ ‪ ،‬دون أن يتوقَّـف عند‬
‫َّ‬ ‫إنـه يريـد أن‬
‫إحداهـا؛ وهـذا يعنـي أن يدفـع بالفلسـفة االنطباعيـة إىل أقصى حدودها‪.‬‬
‫ّإل أنـه ‪-‬مـع ذلـك‪ -‬مل يـرد أن يكـون ناقـد ًا انطباعيـ ًا مـن نـوع «لوميتر»‪،‬‬
‫و«فرانـس» اللذيـن ي َّتهمهما بالسـطحية‪ .‬ويف الواقـع‪ ،‬إن نقـده ال يسـتند‬
‫يعرفـه بأنـه‬
‫الحس ّـية‪ :‬إن أثـاره متجيـد رصيـح للـذكاء الـذي ّ‬ ‫ِّ‬ ‫على اللـذّ ة‬
‫قـدرة على التمييـز‪ .‬فهـو يقترح لتج ُّنـب كلّ «يقين»‪ ،‬وكل لغـة سـاذجة‬
‫بحقيقـة مطلقـة‪ ،‬أن يفـكِّ ك التداعـي املألـوف الـذي يجري حـول الكلامت‪،‬‬
‫املهمة‬
‫ّ‬ ‫رشك العادة‪ .‬يقـول‪« :‬إن‬‫وأن يحـذف النظـام امل َّتفـق عليـه لتج َّنـب َ‬
‫السـامية للنقـد‪ ،‬ال تقتصر على زرع الشـكوك‪ ،‬فقـط‪ ،‬بـل يجـب أن تذهـب‬
‫إىل بعـد مـن ذلـك‪ ،‬يجـب أن تهـدم‪ ،‬وأن تحـرق‪ .‬إن الـذكاء هـو أداة ممتازة‬
‫للنفي»‪.‬‬

‫((( رميي دو غورمون (‪ :)1915 - 1858‬النزعات األدبية (‪ ،)1927 - 1904‬النزعات الفلسفية (‪ ،)1959 - 1905‬كتاب‬
‫االقنعة (‪ ،)1896‬انظر كتاب ج‪ .‬ربيس «رميي دو غورمون» (‪.)1940‬‬

‫‪59‬‬
‫إن هـذه‪ ،‬يف الحقيقـة‪ ،‬فكـرة من أفـكار الشـباب‪ ،‬وإن «دو غورمون» مل‬
‫‪-‬عامـة‪ -‬متثِّـل امليزات‬
‫ّ‬ ‫ميـارس‪ ،‬يف الواقـع‪ ،‬هـذا النقـد املحـرق‪ .‬فكتاباتـه‬
‫املألوفـة للمدرسـة االنطباعيـة؛ إنهـا مجابهـة كتـب مـع األنـا‪« :‬لنأخـذ هذا‬
‫ولنر‪ :‬هـل يـريض ذكاءنـا؟ وهـل يحملنـا على‬ ‫األثـر‪ ،‬حديثـ ًا كان أم قدميـاً‪َ ،‬‬
‫التفكير؟ وهـل يؤثّـر يف إحساسـنا‪ ،‬ويبعـث فينـا رغبـات وأحلام‪ ،‬ويـريض‬
‫مثلنـا األعلى يف الجمال؟»‪.‬‬
‫إن أصالـة «غورمـون» يف مـكان آخـر‪ ،‬فقـد اسـتخلص مـن فكـرة عـدم‬
‫يـر‬
‫وجـود جمال مطلـق‪ ،‬وأن كلّ يشء نسـبي‪ ،‬هـذه النتيجـة التـي مل َ‬
‫الخاصة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫«لوميتر» و«فرانـس» كلّ أبعادهـا‪ ،‬وهي أن لكلّ مؤلِّف شـخصيته‬
‫يكـون لنفسـه فكـرة شـخصية عـن الجمال‪ ،‬وأن النقـد ميكن‬ ‫وأن كلّ كاتـب ّ‬
‫تنبـأ «غورمـون»‪ ،‬حين أرجـع فكـرة‬ ‫أن ُيفهـم كتفسير َ‬
‫ملثَـل كلّ فـرد‪ .‬لقـد َّ‬
‫النسـبية للناقـد‪ ،‬عـن األثـر املـدروس‪ ،‬بالنقـد القائـم على الفهـم الـذي‬
‫يسـعى إىل إيجـاد القانـون الداخلي‪ ،‬وإدراك مركـز تعبير املؤلِّـف‪.‬‬

‫(((‬
‫‪ - 3‬نقد نرجيس‪ :‬أندريه جيد‬
‫وجـد «جيد» نفسـه مسـوق ًا إىل مامرسـة النقد اإلنطباعـي‪ ،‬وهو الداعي‬
‫إىل عبـادة الـذات‪ ،‬والخصـم اللدود لـروح النظام الذي طاملـا تنقَّل‪ ،‬حرص ًا‬
‫تعرضـ ًا‬
‫ُّ‬ ‫ٍ‬
‫موقـف إىل آخـر‪ ،‬ولقـد كان «جيـد» أقـلّ‬ ‫منـه على الصـدق‪ ،‬مـن‬
‫لخيانتـه مـن الذين سـبقوه‪.‬‬
‫و‪-‬بالفعـل‪ -‬يؤكِّ ـد هـو نفسـه‪ ،‬يف كتابـه «دستويفسكي» «أن هـذا‬
‫الخاصـة»‪ ،‬ويعلـن‬
‫ّ‬ ‫ليعبر عـن أفـكاره‬
‫ِّ‬ ‫الكتـاب ليـس ّإل ذريعـة ا َّتخذهـا‬
‫ربـا أمكننـا‬
‫أنـه كتـب «كتـاب نقـد‪ ،‬واعرتافـات معـاً»‪ .‬إنـه نقـد «مناسـبة» َّ‬

‫ادعاءات (‪- )1903‬ادعاءات جديدة (‪ ،)1911‬دستويفسيك (‪ ،)1923‬رحلة إىل‬ ‫((( أندريه جيد (‪ِّ :»)1951 - 1869‬‬
‫الكونغو (‪ ،)1927‬مقال عن مونتاين (‪ ،)1929‬لنكتشف هرني ميشو (‪ ،)1941‬الرجوع إىل مقدمات كثرية كتبها‬
‫خاص‪ ،‬فيجب مراجعة‬‫ّ‬ ‫أما عن نقد «جيد»‪ ،‬بشكل‬
‫(عن بودلري‪ ،‬وستندال‪ ،‬وتوماس مان‪ ،‬وشكسبري ‪ ..‬وغريهم)‪ّ .‬‬
‫كتاب «أندريه جيد»‪ ،‬ملؤلِّفه مارك بيكبدر (‪ .)1954‬صدر له منشورات عويدات كتاب «قوت األرض»‪ ،‬ورواية‬
‫«مزيفو النقود»‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫ليتوسـع يف فكـرة عزيـزة عليـه‪ ،‬والكتشـاف رؤيـة بعيـدة‬ ‫َّ‬ ‫القـول‪ :‬مناسـبة؛‬
‫املـدى‪ .‬وهكـذا‪ ،‬يجـدر بنا ّأل نطلب مـن «جيد» منهجاً‪ ،‬بـل غياب املنهج‪:‬‬
‫الشـجاعة يف أن ننسى‪ ،‬لفترة مـا‪ ،‬كلّ مـا نعـرف أو نعتقـد معرفتـه‪،‬‬
‫مـرة أخـرى‪ ،‬إىل املؤلَّفـات واملعضلات‪ ..‬وبديهـي أنـه أكثر‬ ‫وأن ننظـر‪ّ ،‬‬
‫عب‪ -‬ح ّقـاً‪ -‬عن مجموعـة من األحـكام‪ ،‬وأعاد‬ ‫يدعـي‪ .‬لقـد ّ‬
‫مما ّ‬ ‫موضوعيـة ّ‬
‫النظر فيها‪ ،‬يف كثري من األحيان‪ ،‬ونقَّحها مجازف ًا بأن يناقض نفسـه‪ ،‬وهي‬
‫أحـكام تتعلّـق بـاألدب املعـارص‪ ،‬بقدر تعلُّقهـا باألدب الكالسـييك واألدب‬
‫القديـم‪ ،‬وغالبـ ًا مـا تكـون على شـكل انطباعـات أو ليـس هـذا عالمـة على‬
‫«جيـد» أن نجـد أفـكار ًا شـديدة الحدة عـن «راسين» و«الفونتني»‬ ‫«حر ّيـة» ّ‬‫ّ‬
‫مـن خلال مالحظاتـه يف كتابـه املشـهور «رحلـة إىل الكونغـو»؟ ويبدو أن‬
‫عامـة‪ ،‬املنثورة هنـا وهناك‪ ،‬قيمـة موضوعية‪،‬‬ ‫«جيـد» قـد علَّـق عىل آرائـه ّ‬
‫خاصـة قد أوحت بهـا إليه‪ .‬عىل‬‫ّ‬ ‫وإن كان مثّـة مناسـبات شـخصية وأوضـاع‬
‫الفـن‪ ،‬وأن مفهومـه‬
‫ّ‬ ‫كل حـال‪ ،‬مـن الثابـت أن «جيـد» قـد أعـاد النظـر يف‬
‫الفـن ال ينسـخ الطبيعـة‪ ،‬وال أقبـل‬
‫ّ‬ ‫شـاء أم أىب‪ ،‬يف نقـده‪« .‬إن‬
‫َ‬ ‫لـه قـد أثَّـر‪،‬‬
‫الفـن أن يربهـن»‪« ،‬إن‬
‫ّ‬ ‫«الفـن» «ليـس هـدف‬
‫ّ‬ ‫ّإل شـيئ ًا واحـد ًا غير طبيعـي‪:‬‬
‫أولويـة‬
‫ّ‬ ‫الفـن اإلرغـام‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ال يكـون مغلقـاً»‪« ،‬يسـتوجب‬ ‫العمـل الف ّنـي يجـب أ ّ‬
‫الشـكل»‪ .‬إن كلّ هـذه الصيـغ هـي ‪-‬بالطبـع‪ -‬رضورة تقـود نقـده‪ .‬إننـا ال‬
‫ُندهـش‪ ،‬يف هـذه الظـروف‪ ،‬مـن أن تكون بعـض مقاالته‪ ،‬كالتـي نرشها يف‬
‫(املجلّـة البيضـاء)‪ ،‬دراسـات تتجـاوز املذهـب االنطباعـي البحـت‪.‬‬
‫ال قـد بقـي‪ ،‬فهـذه «املوضوعيـة»‪ ،‬أليسـت مظهـر ًا‬ ‫ال أن مثّـة شـك ً‬ ‫إ ّ‬
‫«جيـد»‪ ،‬سـواء مـن جوهـره أو مبدئـه‪ ،‬أن يعطـي لنفسـه ‪-‬حسـب‬ ‫أراد بـه ّ‬
‫ومتحيزاً‪ ،‬بـل أن يكون ‪-‬أيضاً‪-‬‬
‫ِّ‬ ‫الضرورة‪ -‬أن يكـون‪ ،‬ليـس‪ ،‬فقط‪ ،‬موضوعي ًا‬
‫متحيـزاً؟ يجـب أال ننسى‪ ،‬أخيراً‪ ،‬أن «جيـد» بـل مل يـرد‬‫ِّ‬ ‫نظاميـاً‪ ،‬قاسـياً‪،‬‬
‫وأل يـدرس مؤلَّفـات اآلخريـن‬‫ال لنفسـه‪ّ ،‬‬‫(نظريـاً‪ ،‬على األقـلّ ) إ ّ‬
‫ّ‬ ‫أن يكتـب‬
‫«ادعـاءات»‪،‬‬
‫ّإل ليبحـث عـن ذاتـه؛ لهـذا إن رسـائله لـ«أنجيـل» يف كتابـه ِّ‬
‫هـي ‪-‬بالفعـل‪ -‬سيرة حيـاة فكريـة‪ ،‬كتبهـا من خلال نقـده للكتـب؛ ولهذا‬
‫السـبب يجـد نقـد «جيـد» أفضل تربير لـه يف «املذكِّ ـرات»‪ ،‬ولكـن‪ :‬أليس‬
‫هـذا‪ ،‬إذن‪ ،‬نفيـ ًا للنقـد؟‬

‫‪61‬‬
‫‪ - 4‬االنطباعية الخالدة‬
‫التمسـك بالحرفيـة‪ ،‬فـإن اإلنطباعية هـي رضورة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫مهما كانـت صعوبـة‬
‫شـعر بهـا الن ّقـاد دامئـاً‪ ،‬فحين يكـون الناقـد مرسفـ ًا يف املنهجيـة ينتهـي‬
‫لتفسر‬
‫َّ‬ ‫بـه األمـر إىل أن يفلـت منـه الجوهـر‪ ،‬وينسى أن الكتـب مل تكتـب‬
‫مـن جهـة أسـبابها الخارجـة عنها‪ ،‬بـل لتو ِّفر انطباع لـذّ ة نفسـية أو فكرية؛‬
‫انطباعيـون‪ ،‬يف‬
‫ّ‬ ‫منهجيـةً ‪ ،‬هـم‬
‫ّ‬ ‫أشـدهم‬
‫ّ‬ ‫و‪-‬بالفعـل‪ -‬إن كلّ الن ّقـاد‪ ،‬حتـى‬
‫ناحيـة مـا‪ .‬ومهما كان األمـر‪ ،‬فـإن اإلنطباعيـة قـد أخـذت ا ِّتجاهين‪:‬‬
‫يلح عىل عدم‬ ‫الصحافيـون‪ :‬إن اإل ّتجـاه ّ‬
‫األول‪ ،‬وهـو اال ِّتجـاه الصحـايف‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫االدعـاء بإرسـاء أحكامـه وفـق نظرية‪ ،‬وتفسيراته‬ ‫جـدوى‪ ،‬بـل على خطـر ِّ‬
‫على ضـوء علـم أو معرفـة عميقـة‪ .‬إن نقـد «بـول سـوداي»((( كان مـن هـذا‬
‫جيد ًا عىل‬ ‫يقـدم مثا ً‬
‫ال ّ‬ ‫النمـط ‪ .‬ويسـتطيع األثـر النقدي لـ«كليرب هادنز» أن ِّ‬
‫(((‬

‫مؤرخـي‬
‫مقدمـة كتابـه عـن «ترفـال» هـي احتجـاج عنيـف على ِّ‬ ‫ذلـك‪ ،‬فـإن ِّ‬
‫رو ْوا ‪-‬بالتفصيـل‪-‬‬
‫الس َير الذيـن يعتقـدون أنهـم قامـوا بـكلّ يشء‪ ،‬حين َ‬ ‫ِ‬
‫يـدون تاريخـ ًا بـل تاريـخ‬
‫ِّ‬ ‫مغامـرات الشـاعر الغراميـة‪ .‬فهـو مل يشـأ أن‬
‫األدب الفرنسي‪ ،‬تاريخـه‪ ،‬حيـث يحـرص‪ ،‬يف مفارقـات كبيرة‪ ،‬مسـلِّية يف‬
‫أغلـب األحيـان‪ ،‬على كسر القوالـب التقليديـة التـي تحفـظ فيهـا األمجـاد‬
‫املقدسـة‪.‬‬
‫َّ‬
‫إن مقاالتـه يف الصحـف هـي حكمـه على الكتـب الحديثـة‪ ،‬ونـوع مـن‬
‫الخـاص بأفضـل مـا‬
‫ّ‬ ‫«الجـو»‬
‫ّ‬ ‫الوصـف الشـعري املرهـف الـذي يدخلنـا إىل‬
‫كتـب‪ ،‬يف آن واحـد‪.‬‬

‫كتـاب املقـاالت «آالن ‪ّ :»Alain‬‬


‫أمـا اال ّتجـاه االنطباعـي املختلـف كثري ًا‬
‫أهم َّيتهـا‪ .‬إن هـذا‬
‫الـذي ي َّتجـه نحـو املقـال‪ ،‬فإنـه يعطـي لذاتيـة الناقـد كلّ ِّ‬

‫((( بول سوداي (‪ :)1929 - 1869‬كتب العرص (‪ )1930 - 1929‬كاتب الصيغة الشهرية‪« :‬األدب هو ضمري‬
‫اإلنسانية؛ النقد هو ضمري األدب؛ أي يشء يسمو عليه؟»‪.‬‬
‫((( وكذلك صيغة «ليون بلوم»‪ ،‬التي أعيد اكتشافها‪ ،‬حديثاً‪ .‬انظر‪ :‬أثر ليون بلوم «النقد األديب» (‪.)1954‬‬

‫‪62‬‬
‫يتميـز عـن النقـد الحديس‪ ،‬ونقـد التعاطف‪ ،‬ونقد اإلطالـة‪ّ ،‬إل بأنه‬ ‫النقـد ال َّ‬
‫يرفـض أن يؤلّـف‪ ،‬وأن يفـرض على مؤلَّفـات الكُ ّتـاب نظامـاً‪ ،‬ال ميكـن ّإل أن‬
‫وخاصـةً‬
‫ّ‬ ‫يكـون قاسـياً‪ .‬إننـا نفكِّ ـر بكتـاب «مالحظـات» لـ«أندريـه سـواريز»‪،‬‬
‫كتـاب «عـن األدب آلالن» الـذي هـو سلسـلة مالحظـات صغيرة بلا ترابـط‪:‬‬
‫ليعب‬
‫ّ‬ ‫حجـة‬
‫اآلثـار‪ ،‬والكُ ّتـاب الذيـن ذُكـروا ليسـوا ‪-‬بالنسـبة إىل الناقـد‪ّ -‬إل ّ‬
‫والحق أنـه من الصعب‬ ‫ّ‬ ‫الخاصـة الفلسـفية‪ ،‬أو األخالقية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فيهـا عـن أفـكاره‬
‫تصنيـف «آالن»‪ .‬فلرنجـع إىل كتابـه عـن «سـتندال»‪ ،‬وكتابـه عـن «بلـزاك»‪:‬‬
‫إنـه يعطـي لفكرتـه «قالبـ ًا انطباعيـاً»‪ ،‬ولكـن تكمـن يف أعامقـه فلسـفة‬
‫روحيـة‪ ،‬وعقالنيـة‪ ،‬و‪ -‬بالعكـس‪ -‬إن هذه الفلسـفة ليسـت‪ ،‬أبـداً‪ ،‬مبنهجية‬
‫وال بجديـدة‪ ،‬لكنهـا تعتمـد على االختيـار‪ ،‬وتكـون‪ ،‬أحيانـاً‪ ،‬غامضـة؛ وهذا‬
‫و‪-‬ربـا‪ -‬كان نقـده األديب‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫االدخـار األيديولوجـي‪،‬‬
‫يقربنـا مـن نـوع مـن ِّ‬‫مـا ِّ‬
‫يتحـدث عنها‪،‬‬‫َّ‬ ‫يف البـدء‪ ،‬نتيجـة هـذه «السـعادة يف القـراءة التـي غالب ًا ما‬
‫وهـذه الصيـغ قـد متثِّـل وجهـة نظـره الحقيقيـة‪« :‬يجـب أن منضي سـنوات‬
‫يف الفهـم‪ ،‬قبـل أن نسـتطيع أن ننقـد»‪ ،‬ومتـى «وجـدت أنه ينبغـي أن نألف‬
‫الجيـدون‪ ،‬وذاك خير مـن أن نجهـد أنفسـنا كثير ًا يف‬ ‫ِّ‬ ‫مـا يقولـه الك ّتـاب‬
‫فهمهم»‪.‬‬
‫إن لالنطباعيـة أعظـم الفضـل يف أنهـا حفظـت‪ ،‬للنقـد‪ ،‬فتنـةً ولـذّ ة‪ ،‬مل‬
‫«الجد ّيين»‪ ،‬ولكـن‪ ،‬إىل جانـب ذلك ‪-‬كما رأينا‪ -‬هناك‬ ‫ِّ‬ ‫نألفهما لـدى الن ّقـاد‬
‫شـدته‪ ،‬وإننـا ملزمـون دامئ ًا ‪-‬شـئن ًا أم َأب ْينـا‪ -‬أن نخرج منه؛‬
‫وضـع عنيـف يف ّ‬
‫يـؤدي‪ ،‬غالبـاً‪ ،‬إىل نظـرة رسيعة وسـطحية للمؤلَّفات‪ .‬إن دراسـة تعتمد‬ ‫مـا ّ‬
‫الصبر واليقظـة‪ ،‬أو تعتمـد سـعة العلـم هـي‪ -‬بكلمـة مختصرة‪ -‬ال تظهـر‪،‬‬
‫إذن‪ ،‬عدميـة الفائـدة‪ ،‬كما قيـل عنها‪.‬‬

‫‪63‬‬
Albert Thibaudet
‫ألبرت تيبوديه‬
1936 - 1874
‫الفصل السادس‬

‫سعة العلم‬

‫سـجل النقـد العلمـي جهـداً‪ ،‬وهـو جهـد مخفـق يف كثير مـن‬ ‫َّ‬ ‫لقـد‬
‫إيجابيـةً ‪ ،‬كادت‬
‫ّ‬ ‫بحـد ذاتـه‪ ،‬ليدخـل‬
‫ّ‬ ‫األحيـان‪ّ ،‬إل أنـه جديـر بالثنـاء‪،‬‬
‫تامـاً‪ .‬وسـيكون علماء النقـد‪ ،‬كمـن سـبقهم‬ ‫االنطباعيـة تنفيهـا عنـه نفيـ ًا ّ‬
‫العلمويين‪ ،‬مولعين بالوقائـع‪ ،‬لكنهـم سـيكونون أقـلّ منهـم فه ً‬
‫ام يف‬ ‫ّ‬ ‫مـن‬
‫البحـث عـن أسـباب األحـداث األدبيـة يف الوقائـع النفسـية أو االجتامعيـة‬
‫التـي هـي زائـدة على األدب‪ .‬أضـف إىل ذلـك أنهـم سـيحذرون مـن مناهـج‬
‫يطبقـوا‪ ،‬يف‬
‫جـداً‪ ،‬سـتكون غايتهـم أكثر تواضعـاً‪ :‬أن ِّ‬ ‫املترسعـة ّ‬
‫ِّ‬ ‫التفسير‬
‫متجـرداً‪ ،‬وأن يجمعـوا كلّ املراجـع وكلّ‬
‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫دراسـة الكتـب‪ ،‬اهتاممـا دقيقـا‬
‫باطنـي للمؤلَّفـات‪ .‬وإذا‬
‫ّ‬ ‫املعلومـات التـي ميكـن أن تفيدهـم يف توضيـح‬
‫كانـوا يسـتخدمون معطيـات السيرة أو املعطيـات التاريخيـة‪ ،‬فإنهـم‬
‫يفعلـون ذلـك دون ا ّتبـاع رأي مسـبق أو روح التنظيم‪ ،‬بل ليحطيوا أنفسـهم‬
‫بضامنـات موضوعيـة‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫تحول النقد الجامعي‬
‫‪ُّ - 1‬‬
‫غيروا نقـد األسـاتذة‪ ،‬مـن خلال هذه‬ ‫إن الذيـن خلفـوا «برينوتيير» قـد ّ‬
‫الرؤيـة‪ .‬لقـد اسـتبدلوا باملنهجيـة التـي أرادوهـا خطابيـة يف املـايض‪،‬‬
‫الحـرص على الدقّـة والرصامـة‪ ،‬وهـي ميـزات أقـلّ بريقـاً‪ ،‬لكنهـا أكثر‬
‫صالبـة‪ ،‬مـع ذلـك لـن يحـدث التغيير دفعـة واحـدة‪ ،‬فما يـزال «فاغيـه»‬
‫ميثِّل الفلسـفة اإلنسـانية القدمية‪ ،‬وال يعري سـعة العلـم والتاريخ اهتامم ًا‬
‫كبيراً‪ .‬وعلى العكس مـن «فاغيه»‪ ،‬نجد «النسـون» ميتدح‪ ،‬وميـارس نقد ًا‬
‫يقـوم على الدراسـة الدقيقـة للوقائـع‪ ،‬دون أن ينسى أن دراسـة األدب‬
‫أوالً‪ -‬إىل تنميـة الفكـر والـذوق‪ .‬إن إصلاح التعليـم‪ ،‬عـام ‪،1902‬‬ ‫تهـدف‪َّ -‬‬
‫الـذي يسـعى إىل إحلال الـروح «العلميـة» محـلّ الـروح «البالغيـة» التـي‬
‫كان النقـد يعتمـد عليهـا‪ ،‬يف املـايض‪ ،‬قد خلَّد هـذه النزعـة الجديدة‪ ،‬من‬
‫وض ِمـن اسـتمرارها‪.‬‬
‫حيـث األنظمـة‪َ ،‬‬
‫مبـؤرخ‪ .‬إنـه رجـل‬
‫ِّ‬ ‫إميـل فاغيـه(((‪ :‬هـو‪ ،‬يف الحقيقـة‪ ،‬ليـس بعالّمـة وال‬
‫مثقَّـف‪ ،‬يسـتطيع أن يقـوم مبقارنـات مهما كان نوعها‪ ،‬وهو قـارئ كبري‪ :‬إنه‬
‫والعلميـون‪ ،‬وهو‪ ،‬حني‬
‫ّ‬ ‫ينـدد باألحكام املسـبقة التـي يطلقهـا العقائديون‬‫ِّ‬
‫يقدمون عن‬‫مما ِّ‬ ‫يقدمـون معلومات عـن أنفسـهم أكرث ّ‬ ‫يعترف بـأن الن ّقـاد ِّ‬
‫لالنطباعيين‪ .‬لكنـه‬
‫ِّ‬ ‫يتحدثـون عنهـم‪ ،‬يعطـي‪ -‬بذلـك‪ -‬أدلّـة‬ ‫َّ‬ ‫الك ّتـاب الذيـن‬
‫يتوصـل‪ ،‬دامئـاً ‪ ،‬إىل ذلـك ‪ -‬النزاهـة‪ ،‬وال يطمـح ّإل إىل «أن‬
‫َّ‬ ‫يدعـي ‪ -‬دون أن‬ ‫َّ‬
‫يرشـد القـارئ إىل وجهـة النظـر التـي ميكـن أن يضع نفسـه فيهـا‪ ،‬والتي قد‬
‫يكـون مـن املستحسـن أن يضـع نفسـه فيها‪ ،‬ليقـرأ أثـر ًا عظيامً»‪.‬‬
‫إن اختصاصـه يقـوم على تحليل األفـكار ومناهج الفـن‪ ،‬وأن يصنف كل‬
‫يقـدم صـورة واضحة‪ -‬مـا أمكن‪ -‬عـن كبار‬
‫ذلـك وفـق مخطـط منطقـي‪ ،‬وأن ِّ‬
‫الفرنسـيني‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الك ّتاب‬

‫((( أميل فاغيه (‪ :)1916 - 1847‬القرن السادس عرش (‪ )1893‬القرن السابع عرش (‪ -)1889‬القرن الثامن عرش‬
‫«سياسيو القرن التاسع عرش وفالسفته يف األخالق» (‪)1900 - 1891‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ -)1890‬القرن التاسع عرش (‪ ،)1887‬كتاب‬
‫‪ ...‬وغريها‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫يـأت نقـد «فاغيـه» بشيء جديـد‪ ،‬مـن ناحيـة املنهـج‪ ،‬لكـن نقـده‬ ‫مل ِ‬
‫ينتمـي إىل نـوع ال يـزال قامئـ ًا حتـى يومنـا هـذا‪ .‬إن «أندريـه بيللسـور»‪-‬‬
‫وحبـه للتحليل الواضـح‪ ،‬وحرصه أن يكون متعل ً‬
‫ِّما دون أن يظهر‬ ‫بإنسـانيته ِّ‬
‫حق‬
‫متحذلقـاً‪ -‬ميثِّـل هـذه النزعـة خير متثيـل‪ ،‬وهـو ينـادي بالحفـاظ على ّ‬
‫النقـد‪ ،‬حتـى الجامعـي منـه‪ ،‬يف أن يبقـى ف ّنـاً‪.‬‬
‫غوسـتاف النسـون((( ‪ :‬تأثـر «النسـون» تأثـر ًا كبير ًا بـ«تين» و«برونتيير»‪،‬‬
‫على خلاف «فاغيـه»‪ ،‬ولكنـه مل يأخـذ منهما ّإل أقـلّ األمـور صالحـ ًا‬
‫للمناقشـة‪ ،‬ومـا هـو علمـي‪ ،‬فعلاً ‪ ،‬فقـد أخذ عـن َّ‬
‫األول فكـرة البيئـة‪ ،‬بينام‬
‫أخـذ عـن الثـاين فكـرة التاريخ‪ ،‬وهـو يؤكّ د أنـه‪ ،‬ليك نـدرس األدب‪ ،‬يجب أن‬
‫(سـنعددها فيما بعـد) تهـدف إىل إبعاد‬‫ِّ‬ ‫نبـدأ بعـدد مـن األبحـاث العميقـة‬
‫كلّ أسـباب األخطـاء التـي تتعلَّـق بالحـوادث‪ ،‬لكـن هـذا‪ -‬بالنسـبة إليـه‪-‬‬
‫بحد ذاتهـا‪ .‬كتب يقول‪:‬‬‫ليـس ّإل نقطـة انطالق‪ ،‬فسـعة العلم ليسـت هدف ًا ّ‬
‫«إن الرياضيين‪ ،‬كما أعـرف بعضـ ًا منهـم‪ ،‬الذيـن يسـلّيهم األدب‪ ،‬والذيـن‬
‫لريوحـوا عـن أنفسـهم‪ ،‬هـم على‬ ‫يذهبـون إىل املسرح أو يأخـذون كتابـ ًا ّ‬
‫صـواب أكثر مـن األدبـاء (وأعـرف عـدد ًا منهـم) الذيـن ال يقـرؤون‪ ،‬ولكنهم‬
‫ـرون الك ّتـاب الذيـن يسـتولون عليـه‪ ،‬ظ ّنـ ًا منهـم أنهـم يحسـنون صنعـ ًا‬‫ُي َع ّ‬
‫بتحويلـه إىل بطاقـات»‪ .‬إن سـعة العلم ليسـت ّإل وسـيلة تسـمح‪ ،‬قبل كلّ‬
‫جيـدة‪.‬‬
‫يشء‪ ،‬أن نعـرف اآلثـار معرفـة ِّ‬
‫وكما أن األدب «هـو أداة ثقافـة داخليـة»‪ ،‬فـإن هـذه املعرفـة الجيـدة‬
‫نتـذوق الكتـب بطريقـة أفضـل‪ ،‬و‪ -‬مـن َث َّم‪ -‬نحسـن االسـتفادة‬
‫َّ‬ ‫تتيـح لنـا أن‬
‫املكونـة‪ .‬ال يسـتطيع الناقـد‪ ،‬إذن‪ ،‬أن يحكـم‪ ،‬وال ينبغـي عليه‬
‫ّ‬ ‫مـن قيمتهـا‬
‫أن يعفـي نفسـه مـن الحكـم‪ ،‬وهنا‪ -‬أيضاً‪ -‬تسـتطيع سـعة العلـم أن تنفع‪،‬‬
‫فالتاريـخ يسـمح لنـا‪ ،‬على سـبيل املثـال‪ ،‬أن نـدرك أن «كورناي» قد رسـم‬
‫النـاس كما كانـوا يف عصره‪ ،‬وتسـمح لنـا دراسـة «املصـادر» أن نحكـم‬

‫((( غوستاف النسون (‪ :)1934 - 1857‬تاريخ األدب الفرنيس (الطبعة األوىل ‪ ،)1894‬بوسويه (‪ ،)1890‬بوالو‬
‫(‪)1892‬؛ كورين (‪ ،)1898‬فولتري (‪ ،)1906‬كتيب عن سرية األدب الفرنيس الحديث (‪ ،)1914 - 1909‬مطبوعات‬
‫«تأمالت» لالمرتني‪.‬‬
‫نقدية عن الرسائل الفلسفية لفولتري (‪ ،)1909‬وعن كتاب ُّ‬

‫‪67‬‬
‫على إبـداع «المرتين»‪ .‬ولكـن سـعة العلـم وحدهـا‪ ،‬هـي أبعـد مـا تكـون‬
‫عـن النفـع‪ ،‬و‪ -‬بالفعـل‪ -‬إن الـذوق هـو الـذي يحكـم يف آخـر األمـر‪ّ .‬إل أن‬
‫يتغير وفـق النـاس‪ :‬إن «النسـون» مثـل‬
‫َّ‬ ‫هـذا الـذوق هـو‪ -‬يف األصـل‪ -‬ذايت‬
‫مقدمـة كتابـه «تاريـخ األدب الفرنيس»‪،‬‬‫يتعـرف بـه وينبئنـا‪ ،‬يف ِّ‬‫َّ‬ ‫«فاغيـه»‪،‬‬
‫أنـه يـأيت «بـاآلراء واالنطباعـات واألشـكال الشـخصية للفكـر والشـعور‪،‬‬
‫واملسـتمر باملؤلَّفـات»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حددهـا لديـه اال ِّتصـال املبـارش‬
‫التـي َّ‬
‫ّإل إننـا نجـد‪ ،‬حتـى يف أحكامه الشـخصية‪ ،‬شـيئ ًا مـن املوضوعية؛ فهو‬
‫«أل يكون‬
‫تحيـز‪ ،‬وبال رأي مسـبق‪ ،‬ويقـول إنه يأمـل ّ‬ ‫يجهـد يف أن يحكـم بلا ّ‬
‫ذم شـيئ ًا ّإل ألسـباب ذات طبيعـة أدبيـة»‪ ،‬وإذا مـا اعتقد‬‫أحـب شـيئ ًا أو ّ‬
‫َّ‬ ‫قـد‬
‫يتردد‪ ،‬يف الطبعات األخيرة لكتابه «تاريـخ األدب»‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أنـه قـد أخطـأ‪ ،‬فهـو ال‬
‫حـدة أحكامـه‪ .‬إن فضل‬ ‫أن يدخـل «مالحظـات نـدم أو ارتـداد» ليخفِّـف من ّ‬
‫«النسـون» ال يعـود إىل أنـه أدخـل مناهـج يف الدقّـة والصـواب‪ ،‬وجعل لها‬
‫األفضليـة‪ ،‬فحسـب‪ ،‬بـل إنـه‪ -‬بحرصـه أن يكـون مفكّر ًا إنسـانياً‪ -‬قـد تدارك‪،‬‬
‫يسـتحق كلّ تقدير على نزاهتـه الفكرية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مسـبقاً‪ ،‬بعـض األخطـاء؛ فهـو‬

‫‪ - 2‬مناهج سعة العلم‬


‫مل تبدأ سـعة العلم مع «النسـون»‪ ،‬وال يف القرن التاسـع عرش نفسـه‪،‬‬
‫أي ا ِّتصال مـع النقد‪ ،‬وغالب ًا‬
‫لكنهـا بقيـت‪ ،‬حتى مطلع القرن الحـارض‪ ،‬دون ّ‬
‫تـؤدي إىل ّأية فكرة‪.‬‬
‫مـا ركـدت يف التجميع البحـت‪ ،‬من غري أن ّ‬
‫اسـتمرتا طوي ً‬
‫ال بال‬ ‫َّ‬ ‫قـال النسـون‪« :‬إن النقـد وسـعة العلـم هما مهنتـان‬
‫مهمـة أفـراد‬
‫ا ِّتصـال أو ارتبـاط»‪ ،‬وسـتكون هـذه‪ ،‬يف القـرن التاسـع عشر‪ّ ،‬‬
‫مـن أرس (مرتـا‪ ،‬وبواسـيه‪ ،‬وبـاري‪ ،‬وبيديـه) أن يربطـوا ها َت ْين املهن َت ْين يف‬
‫دراسـة األدب القديـم‪ ،‬وأدب العصـور الوسـطى‪ ،‬يف انتظـار أن يأيت آخرون‬
‫ليفعلـوا ذلـك‪ ،‬بالنسـبة إىل األدب الفرنسي الحديـث‪ ،‬ويعـود بعـض‬
‫الفضـل‪ ،‬يف ذلـك‪ ،‬إىل الدفعـة التـي أعطاهـا النسـون‪ .‬ولعـلّ مـن املالئـم‬
‫عام‪ :‬ما هـي مناهج سـعة العلم هذه؟‬ ‫أن نفحـص‪ ،‬ثـم نسـأل اآلن‪ ،‬بشـكل ّ‬
‫ومبـا أن هـذه املناهـج تقتصر‪ ،‬يف األصل‪ ،‬على أن تدخل الـروح التاريخية‬

‫‪68‬‬
‫يف النقـد األديب‪ ،‬فعلينـا أن نـدرس مفهـوم «التاريـخ األديب» يف عالقاتـه‬
‫بحـد ذاته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مـع النقـد‪،‬‬
‫أوالً‪ -‬األعمال التفصيليـة‪ ،‬التـي تقتصر على سـعة‬ ‫إننـا سـنفحص‪َّ -‬‬
‫العلـم البحـت‪ ،‬ثـم كيفية اسـتعامل سـعة العلم هـذه يف أعمال تركيبية‪،‬‬
‫سـواء عـن تواريـخ أدبيـة أو عـن دراسـات عـن الك ّتـاب‪.‬‬
‫البحـث عـن التفاصيـل‪ :‬يجـب أن نبـدأ‪ ،‬لكي نـدرس كاتبـ ًا أو نقطـة يف‬
‫تاريـخ األدب‪ ،‬بعـدد مـن األبحـاث‪ ،‬وهذه األبحاث ليسـت نقديـة بل تقترص‬
‫على علـوم تسـاعد يف النقـد‪ ،‬ونتيجـة هـذه األبحـاث هـي طبعـات نقديـة‬
‫وتعليقيـة ومقـاالت يف املجلاّ ت العلميـة‪ ...‬وغير ذلـك‪.‬‬
‫النص الـذي نقـرأه‪ ..‬إن رضورة النقد الحرفية‬
‫ّ‬ ‫ال‪ -‬أن نتأكَّ ـد مـن‬
‫أو ً‬‫يجـب‪َّ -‬‬
‫لبديهـة بالنسـبة إىل اآلداب التـي سـبقت اختراع الطباعـة‪ .‬يجـب أن نقـارن‬
‫النـص الـذي يطابـق مـا كتبـه املؤلّـف وفـق أقـرب‬
‫ّ‬ ‫املخطوطـات‪ ،‬ونبنـي‬
‫االحتماالت إىل الواقـع‪ ،‬وهـذا العمـل رضوري أيضـاً بالنسـبة إىل األدب‬
‫النـص يف أفضل ما ي َّتفـق مع نوايات‬
‫ّ‬ ‫تقـدم‬
‫الحديـث‪ :‬إن الطبعـات النقديـة ِّ‬
‫املؤلِّـف الحقيقيـة (الطبعـة األوىل أو األخيرة التـي راجعهـا املؤلِّـف‪،‬‬
‫مثلاً )‪ ،‬ويف املالحظـات‪ ،‬والروايـات املختلفـة األساسـية التـي وجـدت يف‬
‫الطبعـات األخـرى أو املخطوطـة‪ ،‬إذا مـا وجـدت‪ .‬ويسـتطيع الناقـد‪ ،‬بعـد‬
‫وتطـوره‪ ...‬إىل غري‬
‫ُّ‬ ‫ذلـك‪ ،‬أن يحـاول اسـتخالص النتائـج عـن عمل الكاتـب‪،‬‬
‫ذلك‪.‬‬
‫النـص‪ ،‬يجـب أن نتأكَّ ـد مـن حسـن فهمـه؛ مـن هنـا‪ ،‬تأيت‬
‫ّ‬ ‫فـإذا مـا أُقيـم‬
‫رضورة دراسـات القواعـد واألسـلوب‪ ،‬التي تسـتند عىل القواعـد التاريخية‪،‬‬
‫والقواعـد اللغويـة‪ ،‬ودراسـات العروض واملفـردات‪ ..‬وغريهـا‪ ..‬إن طبعات‬
‫مفسرة مصحوبـة‪ ،‬أحيانـاً‪ ،‬مبفـردات الكاتـب وقواعـده تعطـي‪ ،‬يف بعـض‬ ‫ّ‬
‫امللحوظـات‪ ،‬تفسيرات عـن اإلشـارات التاريخيـة وسمات التقاليـد‪،‬‬
‫العامـة‪ ،‬و‪ -‬مبجمـل القـول‪ -‬عـن كلّ مـا ال يسـمح لنـا اختلاف‬
‫ّ‬ ‫واألنظمـة‬
‫األزمنـة أن نفهمـه بطريقـة مثلى‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫هنـاك مياديـن أخرى لسـعة العلـم‪ ،‬ترتبـط‪ -‬مبـارشةً‪ -‬بالنقـد؛ فلنذكر‪،‬‬
‫هنـا‪ ،‬بعضـ ًا منها‪:‬‬
‫‪ -‬نشر مؤلَّفـات مل تنشر‪ ،‬وغالبـاً مـا تضيء هـذه املؤلَّفات‪ ،‬مـن زاوية‬
‫جديـدة‪ ،‬املؤلَّفـات املعروفـة‪ ،‬بل شـخصية املؤلِّف نفسـها‪.‬‬
‫الخاصـة‪ ،‬التـي تسـمح للباحـث أن يجـد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫العامـة أو‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬السير الحياتيـة‪:‬‬
‫برسعـة‪ ،‬تعـداد كلّ الكتـب وكلّ املقـاالت التـي تتعلَّـق مبوضوعـه‪.‬‬
‫‪ -‬املشـاركات يف سيرة حيـاة الك ّتـاب؛ إن أقـلّ التفاصيـل عـن حيـاة‬
‫الك ّتـاب املشـهورين قـد فحصـت بدقّـة‪ ،‬وفـق أكثر مناهـج التاريـخ أمانـة؛‬
‫تتبـدد بعـض األسـاطري‪ ،‬وتعـرف النقـاط الغامضـة كما هـي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وهكـذا‬
‫‪ -‬تقتصر دراسـة املصـادر عىل البحث‪ ،‬سـواء يف اإلنتاج السـابق‪ ،‬ويف‬
‫سيرة حيـاة الكاتب‪ ،‬عن أصـل الفكرة والتعبير واملوضوع‪.‬‬
‫يشـكِّ ل هـذا نقطـة دقيقـة تدعـو إىل املناقشـة‪ .‬إن املسـألة بسـيطة‪،‬‬
‫نسـبي ًا (نظريـاً‪ ،‬على األقـلّ )‪ ،‬حين يتعلَّـق األمـر بالكاتـب الـذي َقل َ‬
‫َّـد‬
‫أمـا‪ ،‬بالنسـبة إىل اآلخريـن‪ ،‬فـإن‬
‫مبـؤرخ مـا‪ّ .‬‬
‫ِّ‬ ‫«كرولسـار» أو «شـينيه»‪ ،‬أو‬
‫الخطـر يكمـن بتقديـم مؤلَّفاتهـم كرسقـات لك ّتـاب سـابقني‪ .‬تظهـر مثاليـة‬
‫تتوصـل إىل أن نكتشـف‪ ،‬يف كلّ جملـة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫«النسـون» مسـتحيلة‪ ،‬وهـي «أن‬
‫حـرك خيالـه»‪ .‬إنـه مـن‬
‫الحـدث أو املوضـوع الـذي أثـار ذكاء الكاتـب أو ّ‬
‫الصعـب أن نحسـب حسـاب ًا ملـا هو أكيـد ومحتمل‪ ،‬وللشـعور والالشـعور‪،‬‬
‫السـيام أننـا ال نسـتطيع أن نعـرف‪ ،‬أبـداً‪ ،‬كلّ املصادر‪ .‬مع ذلـك‪ ،‬إن العمل‬
‫َّ‬
‫ليـس خلـو ًا مـن الفائـدة؛ فدراسـةاملصادر هـي إحدى الوسـائل األساسـية‬
‫عبقريته‪ ،‬لكنها تسـاعد‬
‫َّ‬ ‫تفسر‬
‫َّ‬ ‫للنفـاذ إىل مختبر الكاتـب‪ :‬إنها ال تسـمح أن‬
‫على أن نفهـم كيـف كان يعمـل‪ ،‬وأن نسـتخلص إبداعـه‪ ،‬وهـي‪ -‬على كلّ‬
‫يفسهـا ناقـد ذيك‪.‬‬
‫حـال‪ -‬ال تقتصر على نفسـها؛ إنهـا تطلـب أن ِّ‬
‫نحـدد مـا‬
‫ِّ‬ ‫إن دراسـة التأثيرات أكثر نفعـ ًا للتاريـخ األديب؛ فيجـب أن‬
‫الـذي كان وراء نجـاح املؤلّـف أو الكتـاب‪ ،‬ومـاذا كان كسـبه بعـد موتـه‪،‬‬
‫وأهم ّيته‬
‫ِّ‬ ‫عامة‪ -‬مكانتـة‬
‫الفـن‪ ،‬و‪ -‬بطريقـة ّ‬
‫ّ‬ ‫ودوره يف تاريـخ الفكـر أو أشـكال‬

‫‪70‬‬
‫يف التاريـخ االجتامعـي‪ ،‬والتاريـخ األديب‪.‬‬
‫نتوصـل‬
‫َّ‬ ‫التاريـخ األديب‪ :‬يجـب أن تسـمح هـذه النقـاط التفصيليـة بـأن‬
‫إىل تركيبـات؛ إننـا سـنبدأ باألكثر سـعة‪ ،‬أي بتواريـخ األدب‪ .‬لكـن‪ ،‬ما تاريخ‬
‫األدب؟ إنـه ليـس مجموعـة دراسـات عـن ك ّتـاب كبـار‪ ،‬فحسـب؛ إذ يجـب‬
‫نطبـق‪ ،‬يف مجـال األدب‪ -‬أيضـاً ‪ -‬املناهـج املألوفـة يف التاريخ‪ :‬أن ِّ‬
‫منيز‬ ‫أن ِّ‬
‫ونحـدد‪ ،‬مـن خاللهـا‪ ،‬اال ِّتجاهـات املسـيطرة؛ أن نظهر تسلسـل‬
‫ِّ‬ ‫العصـور‪،‬‬
‫األحـداث‪ ،‬ونقيـم لـكلّ عنصر أو لكلّ نوع نـدرس عرصه‪ ،‬لوحـة تأخذ بعني‬
‫االعتبـار الصغـار‪ ،‬لنضـع الكبـار‪ ،‬مـن جديـد‪ ،‬وفـق الظـروف املرافقـة؛ أن‬
‫نقـدم‬
‫نربـط الحـوادث األدبيـة بوقائـع أخـرى للتاريـخ‪ ،‬ومجمـل القـول‪ :‬أن ِّ‬
‫األدب يف دميومتـه ويف اسـتمراره الحـي‪ ،‬وأن نحيـي مؤلَّفـات املـايض‬
‫القديـم أو القريـب‪ ،‬كما لـو ك ّنـا نعيـش زمـن ظهورهـا‪ ،‬ونحـن نفهمها عىل‬
‫نحـو أفضـل‪ ،‬ألننـا نعـرف النتيجة‪.‬‬
‫فلكتابـة تاريـخ األدب الفرنسي‪ ،‬مثلاً ‪ ،‬يف هـذه الـروح‪ ،‬مل يعـد يكفـي‬
‫رجـل واحـد للقيام بهذا العمل‪ .‬لقد جمـع «بويت دو جيلوفيل» و«كالفيه»‪،‬‬
‫يف املـايض‪ ،‬و«بيديـه» و«هـازار»‪ ،‬يف ّأيامنـا‪ -‬كلّ هـؤالء جمعـوا حولهـم‬
‫مختصين ليب ّتـوا يف كلّ هـذه املجموعـات‪ ،‬ومـن الضروري أن يوجـد‬ ‫ِّ‬
‫ً‬
‫بالقـرب منهـم آخـرون أقامـوا تأليفـا أقـلّ طموحـاً‪ ،‬ولكنـه أكثر دقّـة وأكثر‬
‫تفصيلاً ‪ ،‬وأن يكتبـوا تاريـخ قـرن أو تاريـخ ّ‬
‫فـن أديب أو تاريـخ مدرسـة أدبية‪.‬‬
‫يتجدد بال‬
‫َّ‬ ‫محـددة‪ ،‬كذلك التاريـخ األديب‬
‫َّ‬ ‫وكما أن التاريـخ ال يوصـف بصفة‬
‫انقطـاع‪ ،‬ألنـه حوادث جديدة تكتشـف دامئاً‪ ،‬كام أن تفسير هـذه الحوادث‬
‫والصحـة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الفـن ال يقتضي الدقّـة‬
‫ّ‬ ‫واسـتخدامها ال يعنـي يقينـ ًا مطلقـاً‪ ،‬وأن‬
‫فحسـب؛ بـل يلزمـه‪ -‬أيضـاً‪ -‬نـوع مـا مـن العبقرية‪.‬‬
‫مثّـة دراسـات تاريخيـة أخـرى تبتعـد أكثر فأكثر مـن وجهـة النظـر‬
‫النقديـة البحـت‪ ،‬وتعالـج هذه الدراسـات الواقعيـة األدبية على أنها حدث‬
‫مجـرد عن قيمتـه الجامليـة؛ من هنـا مل يعد مثّة‬
‫َّ‬ ‫اجتامعـي مامثـل لغيره‪،‬‬
‫منيـز الكبـار والصغـار‪ ،‬بـل‪ -‬على العكـس‪ -‬إن ك ّتـاب الدرجـة‬‫مجـال ألن ِّ‬
‫أهميـة أكبر يف تاريـخ الحـوادث االجتامعيـة‪.‬‬
‫الثانيـة لهـم‪ ،‬غالبـاً‪ِّ ،‬‬

‫‪71‬‬
‫وهكـذا‪ ،‬اقترح «النسـون» أن يكتـب‪ ،‬إىل جانب تاريـخ األدب الفرنيس‪،‬‬
‫(أي اإلنتـاج األديب) «تاريخـاً أدبيـاً لفرنسـا»‪ ،‬وكان يقصـد مـن هـذا «لوحـة‬
‫لألمـة‪ ،‬تاريـخ الثقافة ونشـاط الجامعة املغمـورة التي‬
‫عـن الحيـاة األدبيـة ّ‬
‫تقـرأ‪ ،‬شـأنها شـأن األفراد الشـهريين الذيـن كتبوا»‪ .‬وقد بـدأ بعضهم مبلء‬
‫هـذا الربنامـج‪ ،‬وذلـك بتوسـيعه أيضـاً‪ ،‬فقـد درس «دانيـل مورنـه» فكـرة‬
‫تقبل‬
‫بحـد ذاتهـا‪ ،‬فحسـب‪ ،‬بـل من ناحيـة ُّ‬‫ّ‬ ‫فالسـفة القـرن الثامـن عشر‪ ،‬ال‬
‫الجمهـور لهـذه الفكـرة‪ ،‬ويف تأثريهـا يف املعارصيـن‪ ،‬أيضـاً؛ فقـد أظهـر‪-‬‬
‫نعدهـا مـن أسـباب الثـورة‪ .‬ولقـد كتـب بعضهـم‪-‬‬ ‫مثلاً ‪ -‬أنـه ال ميكـن أن ّ‬
‫حـب الطبيعـة‪ ،‬يف القـرن الثامن‬
‫الحـب يف عصر مـا‪ :‬فتاريخ ّ‬ ‫ّ‬ ‫أيضـاً‪ -‬تاريـخ‬
‫ـد «روسـو» مـن بين الجامعـة املغمـورة يف عصره‪ ،‬ال‬ ‫عشر‪ ،‬سـمح أن ُي َع ّ‬
‫مـن الك ّتـاب‪ ،‬فحسـب‪ .‬إن مجموعـة «الحيـاة األدبيـة» التـي أرشف عليهـا‬
‫«أندريـه بيلي»‪ ،‬هدفـت إىل وصـف «حياة الك ّتاب يف األوسـاط التـي ناضلوا‬
‫فيهـا‪ .‬فاملوضـوع‪ ،‬إذن‪ ،‬قبـل كلّ يشء‪ ،‬هـو تاريخ اجتامعـي‪ ،‬هو فصل يف‬
‫تاريـخ التقاليـد»‪ .‬إن مؤلَّفـات كهـذه‪ ،‬تصف األوسـاط األدبيـة (الصالونات‪،‬‬
‫واملجامـع العلميـة)‪ ،‬وتراجـع مختلـف األنـواع األدبية املطروقـة‪ ،‬وتدرس‬
‫ظـروف الك ّتـاب الحياتية‪.‬‬
‫العـام‪ ،‬وليـس‬
‫ّ‬ ‫مجـرد فـرع يف التاريـخ‬
‫َّ‬ ‫ويصبـح تاريـخ األدب‪ ،‬حينئـذ‪،‬‬
‫عامـة‪ ،‬قـد ُج ِعـل ليسـمح لنـا بـأن‬‫خاصـة؛ فتاريـخ األدب‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫هـذا إال حالـة‬
‫نفهـم املؤلَّفـات العظيمـة بطريقـة أفضـل‪ ،‬وأن يخـرج الك ّتـاب الكبـار مـن‬
‫وأل نحكـم عليهـا يف املطلـق‪،‬‬ ‫رتكـون فيهـا‪ّ ،‬‬ ‫األوهـام املألوفـة التـي قـد ُي َ‬
‫دون أن نأخـذ بعين االعتبـار مـرور الزمـن‪ .‬يصبـح التاريـخ األديب‪ ،‬حينئـذ‪،‬‬
‫جذرياً‪ -‬عنه كام مت ّنـى «فاغيه»‪ ،‬مثالً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مسـاعد ًا للنقـد‪ ،‬وال ميكـن أن ِّ‬
‫منيـزه‪-‬‬
‫املجددون‬
‫ِّ‬ ‫دراسـة وافيـة عـن املؤلِّفين‪ :‬حني يكتب الن ّقـاد الجامعيون‬
‫دراسـة عـن كاتـب‪ ،‬يجـدون أنفسـهم أمـام املعضلات نفسـها التـي‬
‫خاصـة‪ -‬مبـا يضعـون مـن مواهـب‬ ‫ّ‬ ‫تتميـز أعاملهـم‪-‬‬
‫َّ‬ ‫اعرتضـت اآلخريـن‪.‬‬
‫قـو ًة وضعفـاً‪ ،‬و‪ -‬مـع ذلـك‪ -‬هنـاك نقطـة تجمـع بينهـم؛ هـي أنهـم‬
‫تتبايـن ّ‬
‫يواجهـون الكاتـب الـذي يدرسـون مـن وجهـة نظـر تاريخيـة رصفـة‪ ،‬و‪ -‬مـن‬

‫‪72‬‬
‫ويفسروا أكثر مـن أن يحكمـوا‪ُ .‬يـدرس‬
‫ِّ‬ ‫ـم‪ -‬يهدفـون إىل أن يلقـوا ضـوءاً‪،‬‬ ‫َث َّ‬
‫األثـر بارتباطـه بتاريـخ املؤلِّف‪ ،‬وبالتاريـخ األديب من خالل تاريـخ املؤلِّف‪،‬‬
‫تبـدد بعض‬‫تطور فكـره (وهكذا َّ‬
‫أوالً‪ ،‬أي مـن سيرة حياتـه‪ :‬يـدرس‪ ،‬حينئـذ‪ُّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫وتطـور ف ّنـه‪ ،‬والعالقـات بين األثـر واإلنسـان‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫شـات)‪،‬‬ ‫التشو‬
‫ُّ‬ ‫أو‬ ‫التناقضـات‬
‫اختص‬
‫ّ‬ ‫فقد‬ ‫وإبداعـه؛‬ ‫ّف‪،‬‬‫ل‬‫املؤ‬ ‫مصـادر‬ ‫د‬ ‫تحـد‬
‫َّ‬ ‫ً‪-‬‬
‫ا‬ ‫أيضـ‬ ‫األديب‪-‬‬ ‫فمـن التاريـخ‬
‫«مورنيـه»‪ ،‬مثلاً ‪ ،‬بشرح الك ّتـاب الكبـار‪ ،‬وبدراسـة املؤلِّفين مـن املرتبـة‬
‫الثانيـة‪ ،‬واملرتبـة الثالثـة‪ ،‬واملرتبـة العـارشة؛ إنـه يظهـر‪ -‬عىل هـذا النحو‪-‬‬
‫أن منافسي «راسين» قـد اختـاروا املواقـف نفسـها واملواضيـع نفسـها‬
‫التـي اختارهـا‪ ،‬وأن الفـرق الوحيـد (والشـائع) الـذي يفصلـه عـن غيره هـو‬
‫عبقريتـه؛ و‪ -‬على العكـس‪ -‬إننا ال نجـد يف عرص «موليري» ّأيـة ملهاة ميكن‬ ‫َّ‬
‫مبرسحياتـه‪ ،‬وسـندرس‪ -‬أيضـاً‪ -‬معنـى أفـكار املؤلِّـف‪ ،‬آخذيـن‬ ‫ّ‬ ‫مقارنتهـا‬
‫الجـو الفكـري الذي عـاش فيه‪ ،‬والظـروف الدقيقة لـكلّ أثر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بعين االعتبـار‬
‫تـؤدي‬
‫يخـرج هـذا املنهـج مـن الجامعـة‪ ،‬ليعـود إليهـا‪ ،‬والكتـب التـي ِّ‬
‫إليهـا تبـدأ مـن أطروحـات الدكتـوراه إىل الكتيـب املـدريس‪ ،‬وميكننـا أن‬
‫نص ِّنفهـا‪ ،‬إجماالً‪ ،‬بالطريقـة اآلتيـة‪:‬‬
‫خاصـة يف املنهـج التاريخـي؛‬
‫ّ‬ ‫ير األدبيـة هـي تطبيـق على حالـة‬ ‫الس َ‬
‫أ) ِّ‬
‫لهـذا نحـن نص ِّنفهـا هنـا‪ ،‬مـع أنهـا غالبـ ًا مـا تكـون عمـل ك ّتـاب غريبين عن‬
‫الجامعـة‪ ،‬ويقتصر موضـوع بعضهـا على رسد حيـاة رجـل شـهري ذي‬
‫شـخصية فريـدة؛ مـن هذا القبيـل كتابـات «أندريه موروا»‪ ،‬فهي قد تسـاعد‬
‫النقـد‪ ،‬لكنهـا ال تتعلّـق به مبارشةً‪ ،‬ويكـون بعضها دراسـات أدبية حقيقية‪،‬‬
‫بشـدة‪-‬‬
‫ّ‬ ‫وهـذا مـا يحـدث بالنسـبة إىل ِس َير الك ّتـاب وقـد ارتبطـت حيا ُتهـم‪-‬‬
‫سر الواحـدة باألخـرى‪ .‬وهكـذا‪ ،‬إن حيـاة كلّ مـن «بودلير»‬ ‫بآثارهـم‪ ،‬تُف َ َّ‬
‫و«فولين» التـي كتبها «فرنسـوا بورشـيه» هي تعليق حقيقي على أثر هذين‬
‫الشـاعرين‪.‬‬
‫عامـةً على مظهـر مـن أثـر الكاتـب‪،‬‬
‫ب) تقتصر أطروحـات الدكتـوراه ّ‬
‫وتفـرض السـعة والدقّـة املطلوبـة‪ ،‬يف هـذه األعمال‪ ،‬هـذا التحديـد‪ .‬إنهـا‬
‫أعمال ضخمـة أغنتهـا مجموعـة مـن املالحظـات الوثائقيـة‪ ،‬وقامئـة مـن‬

‫‪73‬‬
‫نص‬
‫املراجـع‪ ،‬وسيرة حياتيـة وافـرة‪ ،‬وال تقوم فيـه ّأية فكرة ال تسـتند عىل ّ‬
‫أو مرجـع‪ ،‬مـن غير أن يذكـر املصـدر‪ .‬وبالرغـم مـن مظهرهـا املتحذلـق‬
‫(إىل َح ّـد مـا)‪ ،‬غالبـ ًا ما تكون وسـائل عمل مثينـة للن ّقاد اآلخريـن مهام كان‬
‫الخـاص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫منهجهـم‬
‫خاص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫جــ) هنـاك أعامل أخـرى أكرث بسـاطة‪ُ ،‬ت َو َّجه إىل الطالب بشـكل‬
‫فمجموعـة الك ّتـاب الكبـار التـي صـدرت يف نهايـة القـرن التاسـع عشر ‪،‬‬
‫(((‬

‫تلتهـا مجلَّـدات مجلّـة «الـدروس واملحـارضات»(((‪ ،‬ثـم مجموعـة «كتـاب‬


‫الطالـب» (التـي أخـذت‪ ،‬بعـد ذلـك‪ ،‬عنـوان «معرفـة اآلداب»)‪ ،‬وغير ذلـك‬
‫يؤمـن املؤلَّفـون فيهـا للطالـب أو لإلنسـان املث ّقـف‪ -‬باإلضافـة إىل ما هو‬
‫‪ّ ..‬‬
‫أسـايس مـن املعلومـات الوثائقيـة الرضورية‪ -‬دراسـة عن الكاتـب موضوع‬
‫البحـث‪ ،‬وهـذه الدراسـة ينبغـي أن تكـون‪ ،‬بالنسـبة إىل القـارئ‪ ،‬نقطـة‬
‫انطلاق لعمـل شـخيص أعمـق‪ .‬إننـا ال نبحـث‪ ،‬هنـا‪ ،‬عـن إبـداع وجهـات‬
‫نهتـم‪ ،‬فقـط‪ ،‬بـأن نعطـي نوعـ ًا مـن‬
‫ّ‬ ‫النظـر‪ ،‬وعـن الربيـق يف العـرض‪ ،‬إمنـا‬
‫الوصـف لألثـر وبعـض عنـارص الشرح التاريخـي‪ .‬هنـاك بعض األعمال قد‬
‫صصـت لكتـاب واحـد أو ملرسحيـة واحـدة‪ :‬إنهـا مـن مجموعـة «روائـع‬ ‫ُخ ِّ‬
‫املفسر»‪ ،‬أو «تحليـل» قـد يصبـح‪ ،‬أحيانـاً‪ ،‬تعليقـ ًا مسـهباً‪ ،‬ويتلـو‬ ‫األدب ّ‬
‫عامـة‪ ،‬والكتـب التـي صـدرت يف‬ ‫عرضـ ًا لظـروف األثـر‪ ،‬تعقبـه ملحـات ّ‬
‫مجموعـة «األحـداث األدبيـة الكبرى»((( لهـا طابـع تاريخـي رصف‪.‬‬
‫عـدة سـنوات‪ ،‬بنشر مجموعـة مـن املؤلَّفـات‬ ‫د) وأخيراً‪ ،‬اب ُتـدئ‪ ،‬منـذ ّ‬
‫ولعامـة الشـعب‪ ،‬حيـث نجـد فيهـا‪ ،‬يف‬‫ّ‬ ‫املخصصـة للطلاَّ ب‪،‬‬
‫َّ‬
‫(((‬
‫الصغيرة‬
‫جوهـر مـا يجـب أن نعرفـه عـن الك ّتـاب الكبار‪،‬‬
‫َ‬ ‫شـكل مخطّ طـات وجـداول‪،‬‬
‫وتدلُّنـا على النقـاط التـي يجـب أن ننظـر‪ ،‬مـن خاللهـا‪ ،‬لنعـرف هـذه اآلثار‪،‬‬
‫أمـا بالنسـبة‬
‫ونقدرهـا‪ .‬إنهـا ابتـذال النقـد الـذي يعتمـد علي سـعة العلـم‪ّ .‬‬
‫ِّ‬

‫((( هاشيت‪.‬‬
‫((( بوافان‪.‬‬
‫((( ميلوتيه‪.‬‬
‫((( مالفري‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫املخصصـة للتدريـس يف املرحلـة الثانويـة‪ ،‬فهـي تسـعى إىل‬ ‫َّ‬ ‫إىل الكتـب‬
‫أهم ّيةً‬
‫أن تعطـي التاريـخ األديب واملقارنـات التاريخية‪ ،‬من شـ َّتى األنـواع‪ِّ ،‬‬
‫وتؤمـن‪ ،‬تحـت شـكل مخطَّ ـط‪ ،‬املراجعـة األساسـية الواسـعة‬ ‫ِّ‬ ‫متزايـدة‪،‬‬
‫املفيـدة يف الشرح املـدريس ‪.‬‬
‫(((‬

‫‪ - 3‬محاوالت جديدة‪:‬‬
‫التقنية األدبية‬
‫لقـد حقَّـق النقد نجاح ًا يف دراسـة اآلثار األدبية‪ ،‬ال مـن حيث «الغاية»‪،‬‬
‫يهتـم‪ ،‬اليـوم‪ ،‬أكثر فأكثر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بـل مـن حيـث «الكيفيـة»‪ .‬وهكـذا‪ ،‬إن النقـد‬
‫بفحـص تقنيـة الك ّتـاب الكبار‪.‬‬
‫وهكـذا‪ ،‬إن «جـان بريفـو»((( الـذي امتـاز بأنـه جمـع‪ ،‬إىل جانـب الدقّـة‬
‫يف املناهـج الجامعيـة‪( ،‬كتابـه «سـتندال» هـو أطروحه دكتـوراه ‪ -‬تجربته‬
‫مـر ًة أخـرى‪ -‬الطريقـة التـي كتب‬ ‫الشـخصية بوصفـه كاتبـاً) حـاول أن يجـد‪ّ -‬‬
‫رس اإلبداع‬
‫وحقَّـق بهـا كلّ من «سـتندال» و«بودلري» مؤلَّفاتهما‪ ،‬وأن يفهم ّ‬
‫الـروايئ‪ ،‬والشـعري‪ ،‬وأن يلقـي الضـوء بواسـطة مثال َْين ‪ -‬ومل يكـن هـذا‪،‬‬
‫بالنسـبة إليـه‪ّ ،‬إل بدايـة ‪ -‬على نفسـية الكاتـب‪ .‬وهكـذا‪ ،‬أعطـي لدراسـة‬
‫السير الحياتيـة والبحـث عـن املصـادر إنتاجـ ًا جديـداً‪ ،‬و‪ -‬مـن َّ‬
‫ثـم‪ -‬مع ًنـى‬
‫واسـعاً‪ ،‬وقـد رفـع النقـد‪ ،‬يف الوقـت نفسـه‪ ،‬إىل درجـة‪ ،‬نجحـت املناهـج‬
‫العلميـة يف رشحهـا‪ ،‬وهـي اإلبـداع األديب‪ .‬إن هـدف النقـد‪ ،‬بالنسـبة إليـه‪،‬‬
‫هـو‪ ،‬يف الواقـع‪ ،‬رشح كيفيـة القصيـدة‪ ،‬وأن يـرى‪ ،‬كما يقال‪ ،‬كيـف ُبنيت‪،‬‬
‫وأن «يفهـم ويشرح العمـل الشـعري بواسـطة سـبل مل يعرفهـا الشـاعر‬
‫مبارشة»‪.‬‬

‫((( هكذا‪ ،‬كتب مجموعة «ارشح يل‪( »...‬منشورات فوشيه)‪.‬‬


‫((( جان بريفو‪ :‬اإلبداع عند ستندال‪ ،‬مقال عن مهنة الكتابة ونفسية الكاتب (مركري دو فرانس) (‪ ،)1951‬بودلري‪:‬‬
‫مقال عن اإللهام الشعري‪ ،‬وإبداعه‪( .‬املرجع نفسه) (‪.)1953‬‬

‫‪75‬‬
‫لس َير الحيـاة‪ ،‬واملقـاالت السـيكولوجية‪ ،‬فائـدة عظيمـة يف مضامر‬‫إن ِ‬
‫دراسـة التقنيـة األدبيـة‪ .‬وكذلـك‪ ،‬بالنسـبة إىل البحـث عـن املصـادر‪،‬‬
‫تعـرض لها الكاتـب‪ .‬لكنه ال يأخذ من كلّ هـذه املراجع إال‬
‫َّ‬ ‫والتأثيرات التـي‬
‫مـا يسـمح لـه بـأن يـرى كيـف أن اإلنسـان‪ ،‬املبدع‪ ،‬قـد وجد طريقـه‪ ،‬وكيف‬
‫تكونـا‪ -‬شـيئ ًا فشـيئاً‪ -‬بفضـل ُّ‬
‫تخبطـات طويلـة‪،‬‬ ‫أن أسـلوبه وطريقتـه قـد ّ‬
‫وكيـف أن فكـرة‪ ،‬أُ ِخـذت مـن قـراءة‪ ،‬مـن حديـث‪ ،‬مـن مشـهد‪ ،‬قـد تبلـورت‬
‫وأدت إىل أثـر أديب‪.‬‬
‫شـخصيته رصفـاً‪ّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫يف نفسـه‪ ،‬حتـى أصبحـت‬
‫يحتـل النقـد الداخلي مقامـ ًا أقـلّ عنـد «جـان بريفـو»‪ ،‬فمؤلَّفـات‬
‫ّ‬ ‫ال‬
‫«سـتندال»‪ ،‬و«بودلير» قـد درسـت بدقَّـة‪ ،‬ومن خلال تفاصيـل القالب‪ .‬إنه‬
‫يسـتعمل‪ -‬مـا أمكـن ذلك‪ -‬الروايـات املتتالية للصفحة نفسـها أو للقصيدة‬
‫نفسـها‪ .‬إن النتائـج التـي يسـتخلصها مـن دراسـته عـن خلـق الشـخصيات‪،‬‬
‫جـداً‪ ،‬على وجـه العمـوم‪.‬‬
‫وعـن أسـلوب «بودلير»‪ ،‬إيحائيـة‪ ،‬ومقنعـة ّ‬
‫الخاصـة‬
‫ّ‬ ‫توصـل‪ ،‬هكـذا‪ ،‬إىل اكتشـاف البالغـة والنفحـة الشـعرية‬ ‫لقـد ّ‬
‫باملؤلِّـف الـذي درسـه‪ ،‬إىل جانـب املقارنـات الكثيرة التـي يقيمهـا مـع‬
‫يعبر عنهـا معتمـد ًا على‬
‫ِّ‬ ‫العامـة التـي‬
‫ّ‬ ‫مؤلِّفين آخريـن‪ ،‬واألفـكار الكثيرة‬
‫أهم ّيـة‬
‫تجربتـه الشـخصية‪ ،‬وعلى تجربـة معارصيـه التـي تعطـي لكتبـه ِّ‬
‫مجـرد معرفـة «سـتندال» أو «بودلير»‪.‬‬‫َّ‬ ‫قويـة تفـوق‬
‫ّ‬
‫إن أبحاثـ ًا كهـذه ليسـت‪ -‬مطلقـاً‪ -‬بجديـدة‪ .‬لكـن إبـداع «جـان بريفـو»‬
‫ـد‪ ،‬وأنـه طَ َّب َ‬
‫ـق‬ ‫تعمـق يف هـذه األبحـاث إىل أقصى َح ّ‬ ‫يكمـن يف أنـه قـد َّ‬
‫خاصـةً ‪ -‬يف فلسـفة راسـخة وواضحة‪ .‬إن‬ ‫ّ‬ ‫املناهـج العلميـة‪ ،‬وأنـه أقامهـا‪-‬‬
‫أوالً‪ -‬نقد‬ ‫هـذه الفلسـفة‪ ،‬التـي تديـن بالكثري إىل فكرة «بـول فالريي»‪ ،‬هـي‪َّ -‬‬
‫يدعـي أصحابهـا أنها تكفي لـكلّ يشء‪:‬‬ ‫ألسـطورة اإللهـام الرومانسـية التـي َّ‬
‫للعبقريـة الغامضـة‪ ،‬واإللهية التـي قد تخلق من العـدم؛ فاإلبداع ال يكمن‬
‫يف نقطة اإلنطالق‪ ،‬بل يف التنفيذ‪ .‬يجب ّأل تقترص الدراسـة السـيكولوجية‬
‫على اكتشـاف املشـابهات بين الحيـاة واألثـر‪ ،‬ودراسـة املصـادر على أن‬
‫تشير إىل املامثلات بين مطالعـات املؤلِّـف وكتاباتـه؛ إن االختالفـات هي‬
‫ضـد املقاومـات‪ ،‬وكمجموعـة مـن‬ ‫ّ‬ ‫تهـم‪ .‬يفهـم األثـر األديب كنضـال‬
‫ّ‬ ‫التـي‬

‫‪76‬‬
‫املصادفـات السـعيدة‪ ،‬عـرف املبـدع أن يسـتفيد منهـا‪ .‬إنهـا مثـرة إرادة‪،‬‬
‫سـاعدتها املصادفـة‪ .‬إنهـا تفترض‪ -‬إذن‪ ،‬مهنـة‪ .‬وهكـذا‪ ،‬إن عمـل الناقـد‬
‫رس ًا وحامسـة َّ‬
‫مقدسـة‪.‬‬ ‫ممكـن ومثمـر‪ ،‬ألنـه ليـس كلّ يشء ّ‬
‫لـو عـرف العلماء‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬أن يبقـوا أمينين على مبـادئ «النسـون»‬
‫وأل يعتبروا‬
‫وأل يدفنـوا أنفسـهم تحـت (كومـات) البطاقـات‪ّ ،‬‬ ‫الحقيقـة‪ّ ،‬‬
‫سـعة العلـم ّإل واسـطة وأداة‪ ،‬لتهـاوى‪ ،‬مـن تلقـاء نفسـه‪ ،‬كثري مـن النقد‬
‫يوجـه إليهـم‪ ،‬عـادةً‪.‬‬
‫الـذي َّ‬
‫مخيبـ ًا لألمـل‪ .‬إن مـا ينقـص منهجـم هـو أن‬
‫ِّ‬ ‫يبقـى موقفهـم‪ ،‬مـع ذلـك‪،‬‬
‫يعـي هـذا املنهـج‪ ،‬أكثر فأكثر‪ ،‬وسـائله‪ ،‬وأن تكـون له فلسـفة‪.‬‬
‫مل يعـد أحـد يؤمـن بنظريـة العـرق والبيئـة والزمـن؛ ولكـن اعتـاد كلّ‬
‫الناس أن يذعنوا لها‪ ،‬ويدرسـوا سلالة الك ّتاب حتى الجيل الثالث‪ ،‬ويصفوا‬
‫املشـهد حيـث خطـت عبقرية املسـتقبل خطواتها األوىل‪ .‬إنهـم يقترصون‬
‫على أن يضعـوا سيرة الحيـاة بجانـب الدراسـة النقديـة؛ لكـن‪ ،‬كيـف يجب‬
‫علينـا أن نفهـم‪ -‬بدقّـة‪ -‬العالقـات بين اإلنسـان ونتاجه؟ كيف نحلّ مشـكلة‬
‫أهم ّية‬
‫األدبية»؟ إننـا نعلِّق ِّ‬
‫ّ‬ ‫املصادر‪ ،‬ومشـكلة األسـباب يف «السـيكولوجيا‬
‫كبرى على التاريـخ؛ لكـن‪ ،‬مبـاذا يشـهد لنـا التاريخ؟ هـل ميكننـا أن نقول‪،‬‬
‫مثـل «رنـان»‪ ،‬إن اإلعجـاب الحقيقـي هـو تاريخـي؟ إن أجوبـة مثـل أجوبـة‬
‫متأخـرة‪ ،‬وقـد ال تحلّ املشـكلة حلاً ّ‬
‫تاماً‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫«جـان بريفـو» قـد أتـت‬
‫جداً‪،‬‬
‫مشرف ّ‬
‫ِّ‬ ‫ثـم‪ ،‬إن الثقـة بالنفـس تنقص هـؤالء الن ّقاد‪ .‬إن تواضعهم‬
‫لكنـه مينعـم مـن أن يحكمـوا‪ ،‬وحتـى أن يحملـوا‪ ،‬يف الشرح‪ ،‬هـذا الهـوى‬
‫يتعمقوا ح ّقـاً‪ :‬لقد فاتتهم‬
‫ّ‬ ‫يف أن يثبتـوا وجودهـم‪ ،‬الـذي بدونه ال ميكـن أن‬
‫روح املغامرة‪.‬‬

‫‪77‬‬
Paul Valéry
‫بول فاليري‬
1945 - 1871
‫الفصل السابع‬

‫نقد وإبداع‬

‫لقد أضاع الناس‪ ،‬منذ «سـانت بوف»‪ ،‬كثري ًا من روح املغامرة النقدية‪،‬‬
‫ومل يكـن علماء النقـد‪ ،‬وكذلـك أنصـار «تين» يف النقـد‪ ،‬واالنطباعيـون‪،‬‬
‫خلقـة‪ ،‬وهـي‪ -‬من َث َّم‪ -‬ليسـت‬
‫يشـعرون أنـه ميكـن أن يكـون للنقـد وظيفـة ّ‬
‫مجـردة مـن املجازفـات الفكريـة‪ .‬ويبـدو لنـا‬
‫َّ‬ ‫خاصـة‪ّ -‬أل تكـون)‬
‫ّ‬ ‫(ويجـب‪-‬‬
‫جليـاً‪ ،‬أنـه ميكننـا أن نجمـع‪ ،‬حول مفهـوم «اإلبـداع» هـذا‪ ،‬مجموعة كامل‬
‫ّ‬
‫الحـي‪ ،‬يف سـبلٍ ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مـن الن ّقـاد الذيـن مارسـوا نوعـ ًا مـن االلتـزام الشـخيص‬
‫غالبـ ًا مـا اختلفـت‪ ،‬ولكنها كانت‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬حريصة على أداء عمل مبدع‪ ،‬قد‬
‫يكـون اختياريـاً‪ ،‬واسـتمراراً‪ ،‬ورحلة‪.‬‬

‫يبررون‪ ،‬إذن‪ ،‬النقـد االنفعايل‪،‬‬


‫إن نظـرة كهـذه‪ ،‬نجدهـا عنـد الذيـن ِّ‬
‫وهـم يجـدون يف الكتـاب فرصـة املجابهـة والنضـال حـول اآلراء التـي‬

‫‪79‬‬
‫وخاصـةً لـدى الذيـن‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عامـة(((؛‬
‫يكونونهـا عـن الشـعر‪ ،‬والروايـة‪ ،‬واألدب ّ‬ ‫ّ‬
‫حيـة تختلـف عن فكرتهـم‪ ،‬يجهـدون‪ -‬بالرغم من‬ ‫ّ‬ ‫فكـرة‬ ‫مـع‬ ‫باحتكاكهـم‬
‫مفـر‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫والتـي‬ ‫األشـخاص‬ ‫بين‬ ‫الرضوريـة‬ ‫املسـافة‬ ‫حرصهـم على هـذه‬
‫ليتعرفـوا وحـدة األثـر‪ ،‬وليعيـدوا بناءهـا‪ .‬إنهم‪ ،‬جميعـاً‪ ،‬عىل كل‬
‫ّ‬ ‫منهـا‪-‬‬
‫مادة كما لو كانت «غـذاء» (ممثَّلـة‪ ،‬هنا‪ ،‬بكتب‬
‫حـال‪ ،‬وقـد انطلقـوا مـن ّ‬
‫بحـد ذاته؛ إنهم‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫ومجد‪،‬‬ ‫تأمـل وحيد‬‫اآلخريـن)‪ ،‬يجعلـون مـن ذلك وضع ُّ‬
‫يتوصلـون إىل أن يتجـاوزوا معضلـة (املوضوعيـة ‪ -‬الذاتيـة) بقدر ما هم‬ ‫َّ‬
‫شـخصيته ليصبح شـاهد ًا أو حاك ً‬
‫ام‬ ‫َّ‬ ‫واعون أن النقد ال ميكن تجريده من‬
‫مطلقـاً‪ .‬إنهـم ينـادون «بالذاتيـة» النقدية كحلّ موضوعـي‪ ،‬ويكون ذلك‪-‬‬
‫طبعـاً‪ -‬باال ِّتصـال مـع ذاتيـة أخـرى‪ ،‬ولكـن مبواجهتهـا كما لـو كانـت‬
‫تعبير ًا عن متهيد يسـعى نحـو الحقيقة‪ :‬فاملعرفـة املوضوعية ال تعني‬
‫املعرفـة الخارجيـة‪ ،‬لكنهـا تعني حدسـ ًا للحميمية‪ .‬هي إبـداع ذو مع ًنى‬
‫ثلايث؛ للبنـاء مـن جديد‪ ،‬وإلبـراز القيمـة‪ ،‬وملجابهة مثمـرة‪ .‬ولكن‪ ،‬هل‬
‫عامـة‪ ،‬كلَّ الفـرص للتقديـر‬
‫يعطـي اللجـوء املواجـه للحـدث الفـردي‪ّ ،‬‬
‫املجدي؟‪.‬‬
‫نقـد بودلير‪ :‬تعـود هـذه النزعـة النقديـة‪ ،‬يف الحقيقـة‪ ،‬إىل «سـانت‬
‫بـوف» وإىل «بودلير»((( الـذي يبدو أنه قـد حقَّق‪ -‬بطريقـة أفضل‪ -‬ماكان‬
‫يحلـم به «سـانت بـوف»‪ ،‬يف إخفاقـات غامضة‪.‬‬
‫فنيـة‪ .‬إن‬ ‫ً‬
‫علما‪ ،‬بـل هـو مسـاهمة ّ‬ ‫ليـس النقـد‪ ،‬يف عـرف «بودلير»‬
‫النقـد يهـرب مـن األنظمـة‪ ،‬ويخضـع لألثـر مـع هـذا التعاطـف الـذي هـو‬

‫يرتدد‬
‫َّ‬ ‫((( إنه ملن البديهي أال نعني بالنقد االنفعايل نقد منازعة أنصار «موراس» ونقد بائع الصحف الذي ال‬
‫الضيق يبعده عن موقف استقبايل‪،‬‬‫ِّ‬ ‫يف أن يسحق‪ ،‬بهراوته‪ ،‬كلّ الذين ال يفكِّ رون كام يجب‪ .‬إن موقفه القومي‬
‫صنعه االنفعال املبدع واملنفتح‪ .‬وعوض ًا عن هذا‪ ،‬نجد عودة إىل فلسفة مطلقة رثّة‪ .‬هذه هي املعادلة التي‬
‫ينادي بها «موراس» (مقال عن النقد عام ‪ )1896‬والذوق والكامل والعقل‪ ،‬والتقليد؛ وكل ما تبقى هو «بربرية»‪.‬‬
‫ونجد‪ ،‬يف مكان آخر‪« :‬هناك جامل خالد‪ ،‬كالسييك‪ ،‬عاقل»‪ ..‬وغري ذلك‪ .‬يجد «مورا»‪ ،‬شأنه شأن «السري»‪ ،‬كلّ‬
‫متحيز‪ ،‬ألنه جزيئ‪ ،‬نتاج رائع للسلبية‪ ،‬يف نضال مريب‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫متطرف‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫هذه املبتذالت‪ ،‬وباسمها يستسلم إىل نقد‬
‫وخاصة يف دراسة عن «غوتيه»‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الرومانيس»‪،‬‬ ‫«الفن‬
‫ّ‬ ‫ديوان‬ ‫يف‬ ‫لـ«بودلري»‬ ‫((( إننا سنجد اآلثار الرئيسية النقدية‬
‫حيث نجد الشاعر قد أدرك‪ -‬متاماً‪ -‬منهجه النقدي‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫أفضـل مسـاعد للـذكاء‪ ،‬وميكننـا أن نعتربه خضوعـ ًا رفيعاً؛ فبـد ً‬
‫ال من أن‬
‫خاصة‪ ،‬ويتبع‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يتبـع األثـر تبعية عبودية وتطفُّـل‪ ،‬يحيا بالقرب منه حيـاة‬
‫أحيانـاً‪ ،‬طريقـ ًا موازيـة يراقـب منهـا ويحكـم وفـق إيقـاع مسـتقلّ ‪ :‬ولكن‪،‬‬
‫يك يـدرك «بودلير» أغـوار نفسـه‪ ،‬يجـب عليـه‪ -‬وقـد أغلـق أذنيـه على‬
‫الضجـة التـي يف الخـارج‪ -‬أن يضع نفسـه وسـط األثر‪ ،‬ويحيـا من خالله‪.‬‬ ‫ّ‬
‫أليسـت هـذه‪ ،‬يف الواقـع‪ ،‬هي االزدواجية األساسـية للنقـد الصحيح؟ إن‬
‫«بودلير» على كلّ حـال‪ -‬يحيا هذا بشـغف؛ وهنا تكمن هـذه امليزة التي‬
‫كحـد فاصـل‪ ،‬ألنهـا هـي وحدهـا ميكـن أن تثير ا ِّتصـاالً‪ ،‬وأن تثير‬
‫ّ‬ ‫يقبلهـا‬
‫تحـب أو أن تكـره»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إمـا أن‬
‫معرفـة؛ «فالحكـم يعنـي‪ ،‬آنئـذ‪ّ ،‬‬
‫أولهـا الناحية الصوفية‪،‬‬‫هنـاك‪ ،‬طبعاً‪ ،‬عند «بودلير»‪ ،‬حدود غريبة‪َّ :‬‬
‫جـداً‪،‬‬
‫ويـأيت‪ -‬أيضـاً‪ -‬هـذا الجانـب الغنـايئ‪ ،‬هـذه الحساسـية املرهفـة ّ‬
‫التـي غالبـ ًا مـا تختـلّ وتصبـح خاضعـة ألخطـاء يف التقديـر‪ ،‬بسـبب‬
‫مفاجـآت القلـب وشـطحات الخيـال‪ .‬إن الشـاعر يبحـث عـن نفسـه أكرث‬
‫يفسهـا‪ ،‬أحياناً‪،‬‬
‫مما يجـب‪ ،‬يف اآلثـار التـي يحـاول أن ينفذ إليهـا يك ال ِّ‬
‫وفـق إمكاناتـه الشـخصية؛ حينئـذ‪ ،‬كـم مـن أفـكار قـد تخفـى عليه!‬
‫الخلق‪ ،‬والذي‬‫ّ‬ ‫نفرس حركة هـذا النقد‬
‫ِّ‬ ‫تغير أم منافسـة؟‪ :‬إذا أردنـا أن‬ ‫ُّ‬
‫يعيـد الخلـق مـن جديـد‪ ،‬يف آن واحـد‪ ،‬فـإن هـذه الحركـة التـي تكلَّمنـا‬
‫التغير‪ .‬إن تعاطفـ ًا‬
‫ُّ‬ ‫عليهـا يف هـذا الفصـل‪ ،‬وجـب علينـا أن نأخـذ صـورة‬
‫يوحـد النقـد مبوضوعـه‪ :‬يصبـح النقد‪ ،‬حينئـذ‪ ،‬هذا‬ ‫تبـد ً‬
‫ال ِّ‬ ‫تامـ ًا قـد يصبـح ُّ‬
‫ّ‬
‫املوضـوع‪ ،‬وال يبقـى نقـداً‪ .‬ولكـن‪ -‬على عكس ذلـك‪ -‬تترك مجموعة من‬
‫«التغي» رضوري‪،‬‬‫ّ‬ ‫وجهـات النظر الخارجية النقد غريبـ ًا عن موضوعه‪ .‬إن‬
‫ـد يجـب أن يذهب؟ إننا سنرى كيـف أن تيبوديه‪ ،‬وفالريي‪،‬‬ ‫أي َح ّ‬
‫ولكـن إىل ّ‬
‫ودو بـوس‪ ،‬وجالـو‪ ،‬وريفيير قـد سـاروا بعيـداً‪ ،‬على تفـاوت‪ ،‬وذلـك يف‬
‫مجال األسـلوب الفكري أو الشـعوري‪ ،‬وسنرى عمق هذا اال ِّتحاد؛ وكيف‬
‫أن «تيري مولنيـه» و«جيرودو»‪ ،‬وأنصارهام سيسـتخدمون قواهم بعنف‪،‬‬
‫تقـدم إليهـم‪ ،‬وقـد جعلـوا بينهـم‬ ‫َّ‬ ‫املـادة الروحيـة التـي‬
‫ّ‬ ‫يف نضـال مـع‬
‫موضحين أنفسـهم‪ ،‬وغريهم‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫وبينهـا مسـافة أكبر‪،‬‬

‫‪81‬‬
‫‪ - 1‬ألبري تيبوديه‬
‫لقـد شـعر ألبير تيبوديه(((‪ ،‬مسـبقاً‪ ،‬بـكلّ اال ّتجاهات النقديـة تقريب ًا يف‬
‫النقـد الحديـث (النقـد الـذي يسـتند عـإى التحليـل النفسي‪ ،‬والفلسـفي)‪،‬‬
‫محتفظـاً‪ ،‬يف الوقـت نفسـه‪ ،‬بأفضـل مـا ُو ِجـد مـن قبلـه؛ وهكـذا يكـون قـد‬
‫حقَّـق‪ ،‬يف عصره‪ ،‬نوعـاً مـن الرتكيـب الـذي نتـج عنـه أن َج َّن َبـه مخاطـر‬
‫تبـدالت أكثر شـموالً‪ ،‬كالتـي سـتجدها عنـد غيره‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫ذكاء وحـدس‪ :‬لقـد أراد «تيبوديـه»‪ ،‬قبـل كلّ يشء‪ّ ،‬أل يفصل املعرفة‬
‫الحدسـية عن املعرفة الشـاملة‪.‬‬
‫ففـي مقـال لـه‪ ،‬وضـع فيـه كتـاب «بلـزاك» لـ«كورتيـوس» األملـاين‬
‫توصـل القرن العرشيـن‪ ،‬بعد األحكام‬ ‫مقابـل كتـاب «بيلسـور» أعلـن‪« :‬لقد َّ‬
‫املتناقضـة يف املـايض‪ ،‬إىل تركيـب عنيـف‪ .‬إنه يدرك «بلـزاك»‪ ،‬يف وحدته‬
‫تحدهـا ّأية صيغـة‪ ،‬وهذه البعقريـة أحدثت‪،‬‬ ‫خلقـة ال ّ‬ ‫وشـموله‪ ،‬كعبقريـة ّ‬
‫املـادة املعطاة‬
‫ّ‬ ‫يف نظـام عظمـة خالـدة‪ ،‬صورة عن الكون واإلنسـانية من‬
‫يف زمـن مـا»‪ .‬إن النقـد الـذي مارسـه «كورتيـوس»‪ ،‬يف نظـره «يسـعى إىل‬
‫أن يسـتخلص مـن األثـر موضوعاتـه‪ ،‬وأن يبحـث عـن موسـيقى النفـوس‪،‬‬
‫بالطريقـة نفسـها التـي كان يبحـث فيهـا «سـانت بـوف» عـن تاريـخ طبيعـي‬
‫للنفـوس»‪ ،‬ويضيـف أن «الناقـد األملـاين قـد هـدف إىل «ميتافزيقيـة»‬
‫«سـيكولوجيته»‪ ،‬وإىل‬
‫َّ‬ ‫أمـا الناقـد الفرنسي فقـد سـعى إىل‬ ‫«بلـزاك»‪ّ ،‬‬
‫األول بالنـار الداخليـة‬‫«أخالقيتـه» وإىل االسـتفادة مـن «بلـزاك»‪ .‬يفكِّ ـر َّ‬
‫َّ‬
‫يغير مكانـه لينير‪ ،‬على التـوايل‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الـذي‬ ‫فبالنـور‬ ‫الثـاين‬ ‫ـا‬ ‫أم‬
‫ّ‬ ‫لـ«بلـزاك»‪،‬‬
‫ذكاء‪،‬‬
‫ً‬ ‫فرييـد‬ ‫اآلخر‬ ‫ـا‬ ‫أم‬
‫ّ‬ ‫ً‪،‬‬
‫ا‬ ‫حدسـ‬ ‫أحدهما‬ ‫يريـد‬ ‫الضخـم‪.‬‬ ‫البنـاء‬ ‫مجموعـات‬
‫يسـمى‬
‫ّ‬ ‫أو‪ -‬باألحـرى‪ -‬هـذا الشـكل مـن الـذكاء امل َّتحد بالحساسـية‪ ،‬والذي‬

‫((( ألبري تيبوديه (‪ :)1936 - 1874‬شعر ستيفان مالرميه (‪ُ .)1912‬ع ّدل سنة ‪ ،)1926‬فلويري (‪ ،)1922‬ثالثون عام ًا‬
‫لحياة فرنسية (‪ ،)1923 - 1920‬بول فالريي (‪ ،)1924‬ستندال (‪ ،)1931‬فيزيولوجية النقد (‪ .)1930‬وهناك قسم‬
‫أما كتاب تاريخ األدب الفرنيس‬ ‫كبري من املقاالت التي ظهرت يف ‪ ،N.R.F‬قد ُجمعت يف مجلّدات الخواطر؛ ّ‬
‫من عام ‪ 1789‬إىل أيامنا‪ ،‬فقد ظهر بعد موته سنة (‪.)1936‬‬

‫‪82‬‬
‫«الـذوق»‪ .‬إن «كورتيـوس» يصنـع مـن مقـال «هوغـو فـون هو فامنسـتال»‪،‬‬
‫هـذا املديـح الـذي يبـدو أنه «اليكتب عـن «بلزاك»‪ ،‬بـل يأخذ األفـكار منه»‪.‬‬
‫َ ّ‬
‫حـرف الجـر قـد يجديـان كصيغـة لهذيـن الناقديـن‪.‬‬ ‫إن‬
‫إن الـدور الـذي لعبتـه الفلسـفة‪ ،‬دون البحـث عن التأثيرات الخارجية‪،‬‬
‫أو نـوع مـن التكويـن الفلسـفي‪ ،‬على األقـلّ ‪ ،‬يف النقـد الفرنسي فيما بعد‬
‫جداً‪ .‬ولقد مارسـت فلسـفة «برغسـون»‪،‬‬ ‫معب ًا ّ‬
‫الحرب‪ ،‬قد بدا لـ«تيبوديه» ِّ‬
‫الخط‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عـودت األذهان على أن تضع‪ ،‬عىل طـول‬ ‫خاصـة‪ ،‬تأثير ًا كاملاً «بأن َّ‬
‫ّ‬
‫قيـم الحركـة بـدل القيـم الثابتـة»‪ .‬وهكـذا‪ ،‬ميكـن لنقـد جديـد أن يتشـكَّ ل‬
‫لـدى الفالسـفة‪ ،‬شـأنه شـأن النقـد القديـم‪ ،‬وقسـم مـن النقـد الحديـث‬
‫وهيأتهما الفلسـفة اإلنسـانية‪ ،‬واألنظمـة األدبيـة»‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫اللذيـن شـكَّ لَتهام‬
‫وخاصـة دعـاة الفلسـفة «اإليونيـة» الذيـن لديهـم‬ ‫ّ‬ ‫إن دعـاة «برغسـون»‪،‬‬
‫«االيليين» لنقد‬
‫ّ‬ ‫والتعدد‪ ،‬سـيكونون أحسـن اسـتعداد ًا من‬
‫ُّ‬ ‫التنـوع‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫معنـى‬
‫الفالسـفة هـذا‪ ،‬الـذي يسـعى إىل أن يـرى الك ّتـاب؛ ال على أنهـم أجـزاء من‬
‫العـامل (كما كان يفعـل «تين»)‪ ،‬بـل على أنهـم عـوامل‪.‬‬
‫حـد مـا(((‪ّ ،‬إل‬
‫إن هـذا النقـد الجديـد‪ ،‬قـد مارسـه «تيبوديـه» نفسـه إىل ّ‬
‫واف‪ ،‬فقـد أراد إضافة «بلسـور» إىل «كورتيـوس»‪ .‬وتبدو‬ ‫أنـه قـد بـدا له غري ٍ‬
‫مثاليتـه‪ ،‬مـن خالل املقال الذي ذكرناه سـابقاً‪ ،‬تنسـيق ًا ملناهـج كثرية‪ :‬إنه‬ ‫َّ‬
‫نقطـة انطلاق فلسـفية‪ ،‬كام عنـد «كورتيـوس»‪ ،‬ثم دراسـة لتقنيـة الرواية‪،‬‬
‫عامـة‪ ،‬وبتاريـخ الروايـة» (إن هـذا يذكِّ رنا‪ -‬مسـبقاً‪ -‬بـ«جان‬ ‫«مرتبطـة بتقنيـة ّ‬
‫بريفـو»)‪ ،‬يقـول‪« :‬ثـم إين أنهـي عملي يف مجـال التقاليـد والـذوق» مثـل‬
‫«بلسـور»‪ .‬إن هـذه املثاليـة يف التوفيـق تظهـر يف الف َّن ْين اللذَ يْـن ميكن أن‬
‫مجلت‬‫ّ‬ ‫منيزهما يف أثـر هـذا الكاتـب الـذي كان‪ -‬تـارةً‪ -‬أسـتاذاً‪ ،‬وطور ًا ناقـد‬
‫ِّ‬
‫وكاتـب مقـاالت يف التاريـخ األديب‪ ،‬والنقـد املحـض‪.‬‬
‫تاريـخ أديب ونقـد َب ّنـاء‪ :‬يف كتـاب «تاريـخ األدب» أراد «تيبوديـه» أن‬

‫((( مراجعة ألفريد غلورس‪ :‬ألبري تيبوديه والنقد املبدع (‪.)1952‬‬

‫‪83‬‬
‫املسـتمرة‪ ،‬الدميومة‬
‫ّ‬ ‫يظهـر (وهو مـن دعاة برغسـون املخلصين) الحركة‬
‫والسـياق غير املتقطِّ ـع‪ ،‬و‪ -‬مبجمـل القـول‪ -‬حيـاة األدب الفرنسي‪ ،‬بـد ً‬
‫ال‬
‫متميـزة؛ من هنـا يأيت املفهـوم الذي‬
‫َّ‬ ‫مـن أن يقطـع التاريـخ ِقطَ عـ ًا واضحـة‬
‫كالسـيكي ًا «لألجيـال»‪ ،‬الـذي ّ‬
‫حـل مـكان الفترات أو العصور‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أصبـح‪ ،‬اآلن‪،‬‬
‫إنـه «روايـة جمهوريـة اآلداب» التـي أراد أن يصنعهـا‪ .‬أضـف إىل ذلـك أنـه‪،‬‬
‫يدعـي (كام فعـل «برونتيري») أنـه ديكتاتور هـذه الجمهورية‬ ‫عوضـاً‪ ،‬عـن أن ّ‬
‫مسـمي ًا نفسـه‬
‫ّ‬ ‫ومتـذوق أبيقـوري للكتـب‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وحاميهـا‪ ،‬وضـع نفسـه كهـاو‪،‬‬
‫«مواطنـاً‪ ،‬برجوازيـاً‪ ،‬متسـكِّع ًا يف جمهوريـة اآلداب»‪.‬‬
‫طبـق‪ ،‬يف كتابـه عـن «فلوبير»‪ ،‬املناهـج التـي يربهـن عليهـا علـم‬ ‫لقـد َّ‬
‫جد ّية لحيـاة «فلوبري»‬
‫«النسـون» الواسـع؛ فهـذا الكتاب ينطلق من دراسـة ِّ‬
‫وكتاباتـه‪ ،‬وتعطينـا الطبعـة الثانيـة‪ ،‬مـع تصحيحاتهـا‪ ،‬الربهـان على دقَّته‪.‬‬
‫الخلاق يبدأ حيـث تلتهي سـعة العلم»‪ ،‬ففـي النقد‬ ‫ّ‬ ‫لكنـه يعـرف أن «النقـد‬
‫السـيام حين يكتب عن الشـعراء‪،‬‬‫َّ‬ ‫عبقريتـه املبدعـة‪ .‬إنـه‪ ،‬أحياناً‪،‬‬
‫َّ‬ ‫البحـت‬
‫وشـعرياً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ميارس نقـد ًا مبدعـ ًا ح ّقاً‪،‬‬
‫إنـه يتعلَّـق بنتـاج «ماالرميـه» أو «فاليري»‪ ،‬بطريقـة تجعلـه يفهمه من‬
‫الداخـل‪ ،‬ويتعاطـف‪ -‬بعمـق‪ -‬معـه‪ .‬وقـد يحـدث معـه‪ ،‬أحيانـاً‪ ،‬بالنسـبة‬
‫إىل «جيرودو»أو «لبيغـي»‪ ،‬أن يجـد صـور ًا لألسـلوب أو أشـكاله‪ ،‬قريبـة‬
‫يتحـدث عنهـم‪،‬‬
‫َّ‬ ‫جـد ًا مـن تلـك الصـور املألوفـة للك ّتـاب أنفسـهم‪ ،‬الذيـن‬ ‫ّ‬
‫جوهـم‪ .‬مـع ذلـك‪ ،‬يك يبقـى ناقـداً‪ ،‬إنـه يشـعر أن هـذا‬ ‫ويدخلنـا هكـذا يف ّ‬
‫املوقـف للبنـاء مـن جديـد‪ ،‬لإلبـداع الشـعري يف الدرجـة الثانيـة‪ ،‬ليـس‬
‫التبـدل؛ فينبغـي‪ -‬رغـم‬
‫ُّ‬ ‫ٍ‬
‫مبجـد‪ .‬الميكـن أن يكـون النقـد ّإل شـيئ ًا قريبـ ًا مـن‬
‫كلّ يشء‪ -‬أن نحافـظ على أبعادنـا‪ ،‬وهـذا مـا يفعلـه‪ -‬متامـاً‪ -‬حين يـدرس‬
‫روائيين‪ .‬ففصلـه عـن بلـزاك‪ ،‬يف كتابـه «تاريـخ األدب»‪ ،‬هو تطبيـق دقيق‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫إىل َحـد مـا‪ ،‬للمثاليـة التـي خطَّ هـا يف املقـال الـذي درسـه مـن قبـل‪ :‬إن‬
‫خـاص؛ فهو يحلِّل أسـس‬ ‫ّ‬ ‫«بلـزاك» املبـدع هـو الـذي يثير اهتاممـه بشـكل‬
‫املفتاح الفلسـفي‪،‬‬
‫َ‬ ‫اإلبـداع املختلفـة لدى هـذا الروايئ‪ ،‬ويعطـي‪ -‬مجمالً‪-‬‬
‫والجمايل للكوميديـا اإلنسـانية‪ ،‬ثـم يـدرس األثـر مـن وجهـة نظـر التقنيـة‬

‫‪84‬‬
‫األدبيـة‪ ،‬ويختـم بحثـه بحكم ذوقي رسيع‪ .‬لكن نقـد «تيبوديه» أكرث خصباً‪،‬‬
‫شـك‪ ،‬كما يالحـظ «غلـورس»‬ ‫ّ‬ ‫يطبـق على «سـتندال» أو «فلوبير» بلا‬‫حين َّ‬
‫ذلـك‪ ،‬ألن الـذكاء النقـدي عالٍ لدى هذيـن الكاتبني‪ .‬وهكـذا‪ ،‬إن «تيبوديه»‬
‫يسـاويهام بسـهولة‪ ،‬وكذلـك إن مـا كتبـه عـن «بودلير»‪ ،‬وعن «رامبـو» لهو‬
‫أقـلّ قيمـةً من دراسـاته عـن «ماالرميـه»‪ ،‬و«فاليري»‪ .‬ولكن‪ ،‬هـل ميكن أن‬
‫عم يحسـن فهمـه؟ إن كلّ الن ّقـاد‪ ،‬مهام كان‬ ‫نلـوم ناقـد ًا إن أحسـن الـكالم ّ‬
‫منهجهـم‪ ،‬يقفـون هنا‪.‬‬
‫نسـتطيع أن نقـول‪ ،‬أخيراً‪ ،‬إن نقـده هـو صـورة ناجحـة عـن النقـد‬
‫التقليـدي والنقـد الجديـد الـذي أعلـن عـن ظهـوره‪ :‬لقـد جمـع الحـدس‬
‫لتـذوق اآلداب نفسـها‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫والتعاطـف بالـذكاء النقـدي‪ ،‬والحـرص الفلسـفي‬
‫لقـد عـرف أن يستسـلم إىل عـامل األثـر الـذي يدرسـه ليفهمـه مـن الباطن‪،‬‬
‫محتفظـ ًا بأبعـاده‪ ،‬ليدخـل فيهـا نظامـ ًا وإرشاقـاً‪ ،‬كما نجـح يف أن يحافـظ‬
‫على الحـدود التـي قـد تكـون رضوريـة بين النقـد واإلبـداع‪.‬‬

‫‪ - 2‬فالريي ومغامرة الفكر‬


‫كان «بـول فاليري»((( ناقـد ًا واعيـ ًا لغاياتـه ولطرقـه‪ .‬إن نقـده(((‪ ،‬وقـد‬
‫ارتبـط ارتباطـ ًا وثيقـ ًا بفلسـفته «الفالرييـة»‪ ،‬يسـعى ألن يكـون كبنـاء‬
‫تبـدل ال يعتمد‬ ‫ملغامـرة روحيـة أُدركـت‪ ،‬مـن خلال األثـر‪ ،‬وذلك بواسـطة ُّ‬
‫على العاطفـة بـل على الذهـن‪ ،‬حيـث يضـع «فاليري» نفسـه بكل َِّّيتهـا‪.‬‬

‫النقـد و«الفالرييـة»‪ :‬كان جوهـر «الفالرييـة» الوصـول إىل نظريـة ّ‬


‫عامـة‬
‫ٍ‬
‫وقـاس‪ -‬أن يعـي اإلنسـان نفسـه؛ ألنه‬ ‫للفكـر‪ ،‬تتيـح‪ -‬بواسـطة جهـد طويـل‬
‫حين يعـي الفكرة وفكرتـه‪ ،‬فهذا يعنـي لـ«فاليري» وحدة‪ ،‬وتسـهم كتاباته‬

‫((( بول فالريي (‪ :)1945 - 1871‬كتاباته النقدية عديدة‪ ،‬وان كانت موزعة هنا وهناك‪ ،‬من نصوصه املشهورة عن‬
‫ماالوميه‪ ،‬وليوناردر دافينيش‪ ،‬وديكارت‪ ،‬حتى وصفه ألناتول فرانس‪ ،‬وستاندال‪ ،‬وفلوبري‪ ..‬وغريهم‪ ..‬مراجعة‬
‫كتاب «املتنوعات»‪ ،‬األجزاء‪ :‬األول‪ ،‬والثاين‪ ،‬والثالث‪ ،‬والرابع‪.‬‬
‫((( موريس بيمول‪ ،‬املنهج النقدي لبول فالريي‪.)1950( ،‬‬

‫‪85‬‬
‫النقديـة يف هـذا الجهـد الهـادف نحو معرفة مـا هو الفكر‪ .‬إنـه من الصعب‬
‫يهتـم بالك ّتـاب‪« ،‬باآلخرين»‪،‬‬
‫ّ‬ ‫العـام‪ :‬إنـه‬
‫ّ‬ ‫أن نفصـل غايـة نقـده عـن موقفـه‬
‫يك يعلـو عليهـم‪ ،‬ويسـيطر على مؤلَّفاتهـم بالبحـث عـن أرسار صنعهـا‬
‫وسيرها‪ ،‬ألن املشـكلة األساسـية هـي إعـادة بنـاء سير الفكر‪.‬‬
‫يتوصـل إىل تحويـل‬ ‫َّ‬ ‫إعـادة بنـاء ذكاء‪ :‬إن نقـد «فاليري»‪ ،‬وقـد أراد أن‬
‫للجوهـر‪ ،‬وإىل اكتشـاف القانـون الباطنـي للشـخصية الفكريـة‪ ،‬قـد ا َّتخـذ‪،‬‬
‫كمنهـج‪ ،‬أن يعيد يف نفسـه عمل املبدع‪ ،‬وذلك بواسـطة جهـد عنيد للخيال‬
‫نتخيـل فكـراً؟ كيـف ميكـن أن يكـون «ديـكارت»؟‬
‫َّ‬ ‫املجـرد‪ :‬كيـف نسـتطيع أن‬
‫َّ‬
‫أي نفـع‪ ،‬فاألحداث‬ ‫إن املنهـج الـذي يعتمـد عىل سيرة ليـس له‪ ،‬هنـا‪ّ ،‬‬
‫الخـاص»‬
‫ّ‬ ‫قـد تكـون خاطئـة‪ .‬أضـف إىل ذلـك أن سيرة الحيـاة تـدرك «األنـا‬
‫أكثر مـن «األنـا العميـق»‪ -‬وأخيراً‪ -‬وفـق نظريـة فالرييـة بحتـة‪ ،‬إن املؤلف‬
‫ليـس هـو سـبب األثـر‪ ،‬إمنـا األثـر هـو الـذي يخلـق املؤلِّـف؛ هكـذا «فإنـه‬
‫نوجـه أنظارنـا نحـو األثـر املكتـوب»‪.‬‬
‫يجـب أن ِّ‬
‫ُـدم للناقـد‪ ،‬يجب أن ال نقترص على تحليله‪ :‬يجب أن نضع‬ ‫إن األثـر الـذي ق ِّ‬
‫أنفسـنا‪ -‬بشـكل مـا‪ -‬يف ظـروف اإلبـداع نفسـها‪ ،‬يك ال نكتشـف‪ ،‬فقـط‪ ،‬مبـدأ‬
‫اآلثـار املكتوبـة‪ ،‬بـل اآلثـار املمكنـة‪ ،‬أيضـاً‪« .‬إن محاولـة إعـادة ترتيـب األثـر‬
‫مـن جديـد‪ ،‬تعنـي محاولـة ترتيـب جديـدة إلمكانيـة آثـار غير آثـاره‪ ،‬مـا ميكن‬
‫عامـة كهـذه‪ ،‬فإن‬ ‫فرضيـة ّ‬
‫ّ‬ ‫للمؤلِّـف وحـده أن ينتجهـا‪ ،‬إذا أراد‪ .‬إذن‪ ،‬يك نقيـم‬
‫الوسـيلة الوحيـدة هي أن ندخل ذواتنا‪ ،‬أي ندعو «الذاتيـة النقدية» والقياس‪،‬‬
‫نتوصـل إىل فهـم العقـول األخـرى ّإل يف ذواتنـا‪ ،‬ومـن‬ ‫َّ‬ ‫ألننـا ال نسـتطيع أن‬
‫خلال ذواتنـا‪« .‬إن فكـرة موجـزة تجعلنا نعـرف أنه ال يوجد موقـف آخر ميكننا‬
‫أن ن َّتخـذه»‪ .‬ال يهمـل «فاليري»‪ -‬مطلقـاً‪ -‬دراسـة األزمـات التي أثَّـرت يف حياة‬
‫املؤلّـف‪ ،‬أي األزمـات الفكريـة‪ ،‬التـي تشـكِّل منعطف ًا يف سير فكـره‪ ،‬كام هي‬
‫مهمة بالنسـبة‬
‫الحال‪.‬لـدى «ديـكارت»‪ ،‬و«وفير هارين»؛ إن دراسـة التأثريات ّ‬
‫عـام للعقـول»‪ ،‬هـذا اال ِّتحـاد الـذي‬
‫ّ‬ ‫الحسـاس «تجـاه ا ِّتحـاد‬
‫ّ‬ ‫إىل «فاليري»‬
‫ال «ماديـاً» بتأثير كاتـب يف كاتـب آخر‪.‬‬ ‫يأخـذ شـك ً‬
‫مقاييـس الحكـم‪ :‬إننـا‪ ،‬حين ننظـر إىل أنفسـنا‪ ،‬وقـد رشعنـا يف إعـادة‬

‫‪86‬‬
‫نتوصـل‪ -‬حينئـذ‪ -‬إىل حكـم‪ :‬ويـرى «فاليري» أن النقـد‪ -‬بتحليـل‬ ‫َّ‬ ‫بنـاء األثـر‬
‫حساسـ ًا «بنقـاء» األثر‬
‫أخير‪ -‬يعنـي الحكـم‪ .‬هكـذا‪ ،‬سـيكون نقـد «فاليري» َّ‬
‫مـن خلال مخطَّ طـات املؤلِّـف بالنسـبة إىل القـارئ‪ :‬هـل يكتـب الكاتـب‬
‫دجـال صادر عن جمهـور ما؟ إنه‬ ‫ملجـرد الكتابـة‪ ،‬أم أنـه يسـتجيب الهتامم ّ‬
‫َّ‬
‫يقـدر اآلثـار مـن خالل العمـل الروحي الذي توحـي به‪ ،‬ألنه‬ ‫ِّ‬ ‫أن‬ ‫ً‪-‬‬
‫ا‬ ‫أيضـ‬ ‫يلـزم‪-‬‬
‫«يوجـد آثـار يطيـب للذهـن‪ ،‬يف أثنائهـا‪ ،‬أن يكـون بعيـد ًا عـن ذاتـه‪ ،‬وهنـاك‬
‫آثـار أخـرى يـروق لـه‪ ،‬بعدهـا‪ ،‬أن يجـد نفسـه‪ ،‬ثانيةً ‪ ،‬بعيـد ًا ّ‬
‫جداً‪ ،‬بشـكل مل‬
‫يسـبق لـه مثيل»‪.‬‬

‫وأخيراً‪ ،‬إن نقـد ًا سـيكولوجي ًا لألسـلوب ممكن‪ ،‬وفق الـدور الذي ّ‬


‫يحمله‬
‫أو َعـوا ذلـك أم مل يعـوه‪ ،‬للكمات‪ ،‬وفـق املسـتوى الـذي‬
‫الك ّتـاب‪ ،‬سـواء َ‬
‫واع للُّغة‪.‬‬
‫يصلـون إليـه‪ ،‬والـذي هـو امتلاك ٍ‬
‫بالتبـدل الفكـري‪ ،‬يخلـق الفكـر نفسـه‬ ‫ُّ‬ ‫فبالحكـم النقـدي‪ ،‬وكذلـك‬
‫تـام‪،‬‬
‫خلقـة‪ ،‬وهـي وسـيلة لوعـي ّ‬ ‫شـاعر ًا بذاتـه‪ .‬لقـد أراد «فاليري» وحـدة ّ‬
‫وحجـر أىت بـه لبنـاء امللهـاة الفكريـة التـي كان يحلـم بهـا كأنهـا نـوع مـن‬
‫َ‬
‫مخطـط مللحمـة مأسـوية للفكـر اإلنسـاين‪ ،‬عبر تظاهراتـه الشـعرية‪،‬‬
‫عظيما؟ أمل تكن الطرق‬‫ً‬ ‫والفلسـفية‪ ،‬واألدبيـة‪ .‬لكـن‪ ،‬أمل يكن هـذا طموح ًا‬
‫جـداً‪ ،‬وهـي‪ :‬ذاتيـة قاسـية‪،‬‬
‫ضيقـة ّ‬ ‫ليتوصـل إىل ذلـك‪ِّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫التـي اسـتخدمها‪،‬‬
‫وسـيكولوجية باليـة‪ ،‬وقـد تكـون تابعـة ألفـكار «تين»‪ ،‬أحيانـاً‪ ،‬وأخير ًا هـي‬
‫يعبر‪ ،‬غالبـاً‪ ،‬عـن شـخصية فاليري؟‬ ‫إسـقاط ضعيـف اإلبهـام ِّ‬

‫‪ - 3‬دي بوس‪ ،‬جالو‪ ،‬والشغف باألشخاص‬


‫أن نجـد جوهـر الفكـر بتعاطـف فكـري بحـت‪ ،‬يعنـي شـيئاً‪ ،‬وأن نحاذي‪-‬‬
‫محـب‪ ،‬و‪ -‬مـن َث َّ‬
‫ـم‪ -‬عاطفـي‪ -‬كائنـ ًا يف كلّ تركيبـه املثير‬ ‫ّ‬ ‫عـن طريـق ا ّتحـاد‬
‫كل مـن جـاك ريفيير ‪ ،‬وإدمـون‬ ‫لالهتمام‪ ،‬يعنـي شـيئ ًا آخـر‪ .‬لقـد حقَّـق ٌّ‬
‫(((‬

‫((( جاك ريفيري (‪ :)1925 - 1886‬دراسات (‪.)1912‬‬

‫‪87‬‬
‫وخاصـة «دو بـوس»(((‪ ،‬على مـا نعتقـد‪ ،‬ذروة النقـد االنعـكايس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫جالـو(((‪،‬‬
‫والتوحيـدي‪.‬‬
‫هل النقد تفسير «موسـيقى»؟‪ :‬وهكذا‪ ،‬إن «جالو» أمام اآلخرين‪ ،‬شـأنه‬
‫سـيفك كتابة موسـيقية‪ ،‬ويجعلها خالدة‪ :‬وسـيكون‬ ‫ّ‬ ‫املوسـيقي الذي‬
‫ّ‬ ‫شـأن‬
‫التفسير ممتـاز ًا بقـدر ما يبدي من شـخصية وأمانـة‪ ،‬يف آن واحد‪ .‬إذن‪ ،‬هو‬
‫تحـول ال شـعورية كما يف قوله‪« :‬حين أجد نفيس‬ ‫ّ‬ ‫يقـول‪ :‬إن لديـه موهبـة‬
‫أمـام أحـد مـا فأنـا موجـود‪ -‬ح ّقاً‪ -‬يف حرضتـه؛ فال أهتـم ّإل به‪ ،‬أغـور يف ما‬
‫ويتـم هذا باستسلام حقيقي لنفيس»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫سـيكونه‪ ،‬عاطفيـ ًا وفكرياً‪،‬‬
‫ّ‬
‫إن مقـدر ًة كهـذه «لإلصابـة» على حسـابه‪ ،‬كما يصـاب اإلنسـان بنزلـة‬
‫بـرد‪ ،‬بحيـاة نفسـية غريبـة هـي التـي تسـاعد على انصهـار الشـخص خارج‬
‫الخاصة‪ ،‬وتشـكِّ ل نـواة نقـده‪ .‬إن العمل‬
‫ّ‬ ‫إياهـا حياتـه‬
‫الحـدود التـي متنحـه ّ‬
‫النقـدي يقتصر‪ -‬بالنسـبة إىل «جالـو»‪ ،‬قبـل كلّ يشء‪ ،‬على التعبير عـن‬
‫مسـاهمته الكاملـة مـع املوضوع الذي يشـغله‪ ،‬وهذه املسـاهمة هي‪ -‬يف‬
‫الوقـت نفسـه‪ -‬مغامرته الشـخصية‪.‬‬
‫هـل يعنـي النقـد أن «نقيـم» «األثـر» «باالقتراب منـه»؟‪ :‬هنـاك‪ ،‬عنـد‬
‫أشـد غ ًنـى مـا دامـت حيـاة النفـوس الداخلية‬
‫ّ‬ ‫«دوبـوس»‪ ،‬معنـى للكائنـات‬
‫هـي التـي تثير اهتاممـه أكثر مـن سـيكولوجية الشـخص الخارجيـة‪ .‬فهـو‬
‫يحبهـم والذين يثيرون إعجابه‪ ،‬إنـه ال يدينهم‪ ،‬بل‬ ‫اليتحـدث ّإل عـن الذيـن ُّ‬
‫َّ‬
‫تام ًا فإن «دو‬
‫ّ‬ ‫يكـون‬ ‫أن‬ ‫ميكن‬ ‫ال‬ ‫الفهم‬ ‫هـذا‬ ‫أن‬ ‫ومبـا‬ ‫يفهمهـم‪.‬‬ ‫أن‬ ‫إىل‬ ‫يسـعى‬
‫يسـميه (التقديـر التقريبـي)‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫بـوس»‬
‫لذاتيـة الناقـد بقـدر‬
‫ّ‬ ‫يصبـح التقديـر‪ ،‬حينئـذ‪ ،‬هـذا الجـواب التدريجـي‬
‫مـا تسـتحوذ عليـه‪ ،‬وتـأيت‪ ،‬مـن هنـا‪ ،‬التحليلات الدؤوبـة التـي تسـتعمل‬

‫((( إدمون جالو (‪ :)1949 - 1878‬مراجعة روح الكتب‪ ،‬مخططات وشخصيات‪ ،‬ريلكه‪ ،‬غوته‪ ،‬الفصول األدبية‪..‬‬
‫وغريها‪ ..‬مراجعة‪ :‬ي‪.‬دوليتان ‪ -‬تارديف‪ ،‬وإدمون جالو (‪.)1947‬‬
‫((( شارل دو بوس‪ :)1939 - 1882( :‬فمقاربات؛ ‪ 7‬أجزاء ُن ِشت من عام ‪ 1922‬إىل عام ‪ .1937‬مراجعة غوهيه‪:‬‬
‫شارل دو بوس (‪.)1951‬‬

‫‪88‬‬
‫التلميحـات‪ ،‬والتشـابية واإلميـاءات‪ ،‬وتجمـع التفاصيـل لتقترن أكثر‬
‫وتعبر عـن الحـدس الربغسـوين البحـت للّغـز اإلنسـاين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫باملوضـوع‪،‬‬

‫‪ - 4‬نقد «الرتكيب»‬
‫«جريودو» و«تريي مولنيه»‬
‫أدت‪ -‬يف‬ ‫إن عـدم الثبـات يف محـاوالت «دو بـوس»‪ ،‬و«جالـو»‪ ،‬قـد َّ‬
‫مما يجـب‪ :‬ففـي الوقـت الـذي يتبـع فيـه‬ ‫تـام أكثر ّ‬
‫تبـدل ّ‬‫النهايـة‪ -‬إىل ُّ‬
‫يـؤدي األمـر‪ ،‬بالنقـد‪ ،‬يف‬
‫ّ‬ ‫مغامراتـه الشـخصية‪ ،‬باحتكاكـه مـع اآلخـر‪،‬‬
‫يتخلى عـن ذاتـه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫نـوع مـن املفارقـة‪( ،‬كما يعترف بهـذا «جالـو») إىل أن‬
‫إن «جيرودو»‪ ،‬و«تيري مولنيـه»‪ ،‬بفنـون وأسـاليب مختلفـة كثيراً‪ ،‬يهربـان‬
‫كل منهما يضـع نفسـه أمـام اآلخرين‪ ،‬ال‬ ‫أكثر فأكثر مـن هـذه العقبـة‪ :‬إن ّ ً‬
‫يوديها‪ ،‬بل كمم ّثـل أمام «دور تأليـف» يصنعه‪.‬‬‫كعـازف بيـان أمـام معزوفـة ّ‬
‫وضـع «جـان جيرودو»(((‪ ،‬يف نقـده‪ ،‬الخيـال املبـدع نفسـه الـذي‬
‫يقـدم لنـا «الفونتين» كما لـو كان ميكـن‬
‫وضعـه يف نتاجـه الـروايئ‪ .‬إنـه ِّ‬
‫الحـظ! إلـه ي َّتخـذ سيرة الحيـاة نفسـها‬
‫ّ‬ ‫أن يكـون‪ ،‬و«راسين» كما أراده‬
‫براقـة‪ ،‬ولكنهـا يف‬
‫ألول وهلـة‪ّ -‬‬
‫والتاريـخ نفسـه كذريعـة العتبـارات تبـدو‪َّ -‬‬
‫منتهـى البعـد عـن الواقـع‪ .‬يظهـر نقـده كروايـة سـحرية للأدب الفرنسي‪،‬‬
‫حيـث تبـدو كلّ زخرفـة كواقـع بديهـي‪ ،‬وحيـث تظهـر املصادفـات األكثر‬
‫سـحراً‪ ،‬وكذلـك املفارقـات األكرث غرابـةً ‪ ،‬يف منتهى الطبيعـة‪ ،‬وحيث يبدو‬
‫النـاس واألشـياء خاضعين‪ ،‬بعذوبـة رائعـة‪ ،‬لنـزوة املؤلِّـف‪ .‬ولكـن‪ ،‬يجب‬
‫توصـل «جيرودو»‪ ،‬فعلاً ‪ ،‬بواسـطة حـدس‬ ‫ّأل ُن َغ ّـر بهـذه املظاهـر؛ فقـد َّ‬
‫جـداً‪ ،‬إىل أن يسـتعيد القانـون الداخلي للك ّتـاب‪ ،‬وعلى ّأيـة رضورة‬
‫عميـق ّ‬
‫صميميـة تجيـب مؤلَّفاتهـم‪ ،‬إذ كتـب عـن الناحيـة املأسـوية‪ ،‬عند راسين‪،‬‬
‫مثلاً ‪ ،‬صفحـات ذات دقّـة عظيمـة ومقـدرة مدهشـة‪ ،‬وذلك بفضـل تجربته‬

‫((( جان جريودو (‪ :)1944 - 1882‬أدب ‪ ،1941‬تجارب الفونتني الخمسة‪.)1938( ،‬‬

‫‪89‬‬
‫وتأملـه العميـق يف مشـاكل علـم الجمال‪.‬‬
‫الشـخصية ُّ‬
‫متحيـز ًا‬ ‫أول وهلـة‪-‬‬ ‫تيري مولنيـه ‪ :‬يظهـر نقـد «تيري مولنيـه»‪َّ -‬‬
‫(((‬
‫ّ‬
‫قدم الشـعراء‬ ‫وانفعاليـاً‪ ،‬وذلـك يف املفارقة التاريخية التي قام بها عندما َّ‬
‫ّ‬
‫الفرنسـيني‪ ،‬وكذلـك يف املكانـة املمتازة التـي منحها لـ«راسين»؛ ذلك أن‬
‫للفـن تدين كثري ًا‬
‫ّ‬ ‫أحكامـه تسـتند إىل فلسـفة جامليـة‪ ،‬وإىل نظريـة ضمنية‬
‫إىل فرتة ما قبل الرومنطيقية املوراسية‪ ،‬كام تدين لـ«فالريي» بالكالسيكية‬
‫ضـد الرومنطيقيـة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الجديـدة‪ .‬إن نقـده هـو دفـاع عنيـف عـن الكالسـيكية‬
‫ضد‬ ‫ضد الحماس غري املراقب‪ ،‬وعـن الصفاء األريسـتوقراطي ّ‬ ‫الفـن ّ‬
‫ّ‬ ‫وعـن‬
‫االبتـذال الشـعبي‪ .‬مـع ذلـك‪ ،‬إنـه ال يعنـي‪ ،‬هنـا‪ ،‬عقائديـة جديـدة‪ .‬وغايـة‬
‫«تيري مولنيـه» األساسـية هـي أن يفهـم أكثر مـن أن يحكـم‪ .‬إنـه يريـد «أن‬
‫يصـل إىل جوهـر»‪ ،‬فـن «راسين» نفسـه؛ فهـو يحـاول‪ ،‬يف سـبيل ذلك‪ ،‬أن‬
‫ملرسحياتـه املأسـوية‪ ،‬باملعنـى املرسحـي للكلمـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يعطـي تفسيرات‬
‫يؤديه‪.‬‬‫إن موقـف القـارئ أمـام كتـاب هو نفسـه موقف ممثِّـل أمـام دور ِّ‬
‫ويكـون الناقـد أشـبه يشء باملخـرج الـذي يـدلّ القـارئ على الـروح التـي‬
‫يجـب أن يضـع نفسـه فيهـا‪ ،‬لينفـذ إىل أثـ ِر حتـى أعامقـه‪ .‬وهكـذا‪ ،‬إن كتابـ ًا‬
‫(أو مرسحيـة) ليـس بشيء جامـد أو نهايئ حين يضع املؤلِّف فيـه النقطة‬
‫يتـم بالنقد‪.‬‬
‫النهائيـة‪ .‬إنـه ّ‬
‫والشـك يف أن صيغـة التفسير التـي أعطاهـا «تيري مولنيـه» ليسـت‬‫ّ‬
‫وحدهـا املمكنـة‪ ،‬بالرغـم مـن أنـه شـديد االقتنـاع بأنـه ال يعـرف صيغـة‬
‫أخـرى صالحـة‪ .‬فكما أنـه يوجـد «فيـدر»‪ ،‬حسـب «سـاره برنـار»‪ ،‬ويوجـد‬
‫«فيـدر» حسـب «مـاري بيـل»‪ ،‬كذلـك هنـاك «راسين» عـذب‪ ،‬و«راسين»‬
‫رقيق‪« ،‬راسين» بـرأي «لوميرت»‪ ،‬و«راسين» وفق «مولنيـه»‪ ،‬أو «جريودو»‪.‬‬
‫نفرس مطلقـاً‪ ،‬وأن نعطي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫أهم ّية‪ ،‬وهذا أفضل مـن أن ال‬
‫ولكـن‪ ،‬ليـس لهـذا ِّ‬
‫عـن «راسين»‪ ،‬صـورة نزعـم أنها حياديـة‪ ،‬وهـي‪ -‬يف الواقع‪ -‬غير أمينة‪ .‬إن‬

‫((( تريي مولنيه‪ :‬راسني (‪ ،)1936‬مدخل إىل الشعر الفرنيس (‪.)1939‬‬

‫‪90‬‬
‫الناقـد‪ ،‬حين يعـي واجبـه «كرتكيب»‪ ،‬يصبـح‪ ،‬حينئـذ‪( ،‬إن مل نقـل مبدعاً)‬
‫مشـاركاً‪ -‬على األقـلّ ‪ -‬يف اإلبـداع‪.‬‬
‫ومجمـل القـول أن النقـد املبـدع‪ ،‬يف مظاهـره كافّة‪ ،‬يجيب عىل سـعة‬
‫الضيقـة لـ«تني»‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫العلـم‪ ،‬كما أن االنطباعيـة تجيب على الوضعية‬
‫ففضلـه‪ ،‬كذلـك‪ ،‬وبطريقـة أمثـل‪ ،‬أنـه يهـدف إىل الجوهـر‪ّ ،‬إل أنـه‬
‫يترك‪ ،‬جانبـاً‪ ،‬مبنهجيـة عنيفة‪ ،‬املعطيـات التاريخية والحياتيـة‪ ،‬و‪ -‬بكلمة‬
‫مختصرة‪ -‬كلّ األدوات اإليجابيـة للتحقيـق‪ .‬إن ثقتـه بالحـدس الفـردي قـد‬
‫ال مـن أن‬‫تـؤدي إىل بعـض االزدراء‪ ،‬وقـد وجـد أكثر مـن واحـد نفسـه‪ ،‬بـد ً‬‫ّ‬
‫يصـل إىل اآلخـر‪ .‬وبالرغـم مـن الثـورة املجدية التـي أىت بها النقـد املبدع‪،‬‬
‫ظهـرت اإللحاحيـة لبعضهـم‪ ،‬على أنهـا تجديـد للمناهـج الوضعيـة‪.‬‬
‫يهتـم كثير ًا بالحكـم‪ ،‬أو هـو ال يحكم ّإل‬
‫ّ‬ ‫مـن جهـة أخـرى‪ ،‬هـذا النقـد ال‬
‫تحـدث‬
‫َّ‬ ‫كمـرور عابـر (وال يظهـر الحكـم‪ ،‬أحيانـاً‪ّ ،‬إل يف اختيـار األثـر الـذي‬
‫عنـه الناقـد)‪ ،‬دون أن يعطـي‪ -‬بالفعـل‪ -‬الدوافـع‪ ،‬وسـيظهر تعاطـف أكثر‬
‫فلسـفيةً ‪ ،‬يحـرص أكثر فأكثر على البحـث عـن مقاييـس‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تسـلُّح ًا أو أكثر‬
‫أخيراً‪ ،‬يظهـر املؤلِّفـون لهـذا النقد كعـوامل صغرية‪« ،‬ضامئـر» مغلقة‬
‫على نفسـها‪ ،‬ال تسـعى أن تـدرك العالقـات مـع العـامل الـذي تقيـم فيـه‪،‬‬
‫الجنـاح السـائد يف النقـد الحـايل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وهـذا مـا سيسـعى إىل أن يقـوم بـه‬

‫‪91‬‬
Sigmund Freud
‫سيغموند فرويد‬
1939 - 1856
‫الفصل الثامن‬

‫مجدد‬
‫ِّ‬ ‫وضعي‬
‫ّ‬ ‫نقد‬

‫هـل ميكـن أن تنفـع األداة العلميـة يف إعـداد نقـد ب ّنـاء مبـدع‪ ،‬ال على‬
‫ومفسرة‪ ،‬مـا أمكن؟ يجـب‪ ،‬عىل‬‫ّ‬ ‫أسـس حدسـية‪ ،‬بـل على أسـس إيجابيـة‬
‫ـد أدىن‪ :‬يجـب أن تكـون الوسـائل التقنيـة التي‬ ‫كح ّ‬
‫كلّ حـال‪ ،‬توفُّـر رشطين َ‬
‫جيـداً‪ ،‬ومل يكـن األمـر هكـذا يف الفترة‬ ‫ـدة إعـداد ًا ّ‬
‫نحـاذي بهـا األثـر‪ُ ،‬م َع ّ‬
‫الذهبيـة للنقـد العلمـي‪ ،‬ثـم إن التفسير العلمـي‪ ،‬حين ال يتجـاوز أنظمته‬
‫األدائيـة‪ ،‬يقـع وسـط حركـة تحـرص عىل كشـف مدلـول األثر‪ ،‬وهـي رضورة‬
‫مل َي ْبـد «بورجيـه» نفسـه شـاعر ًا بهـا‪ .‬ويبـدو أن هذيـن الرشطين قـد توفَّـرا‬
‫منـذ ازدهـار السـيكولوجية التحليليـة‪ ،‬سـواء أكانـت تابعـة «لفرويـد» أم‬
‫متعصبـة لـه‪ ،‬ومنـذ إظهـار قيمـة املخطَّ طـات املاركسـية‪ ،‬لـدى كلّ‬ ‫ِّ‬ ‫غير‬
‫الذيـن يريـدون إعـداد نقـد «حديـث» ذي أسـاس سـيكولوجي‪ -‬اجتامعـي‪،‬‬
‫جـدي‪ ،‬يف ا ِّتجـاه يهـدف إىل «فلسـفة إنسـانية»‪ .‬قـد‬ ‫أو اجتامعـي ‪ -‬نفسي ّ‬
‫يتسـاءل البعـض‪ ،‬مـع ذلك‪ :‬هـل تسـتبعد كلّ عقائدية‪ ،‬لصالـح موضوعية‬

‫‪93‬‬
‫أي مـدى ميكـن أن يكـون الحكـم‪ -‬وهـو الهـدف الضروري لكلّ‬
‫ح ّقـة؟‪ ،‬وإىل ّ‬
‫وبأيـة طريقـة؟‪.‬‬
‫نقـد‪ -‬ممكنـاً؟ ّ‬

‫‪ - 1‬التحليل النفيس والنقد‬


‫يهتـم ناقـد بالسـيكولوجية‪ ،‬فهـذا اليعنـي‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬أنه يكتـب نقد ًا‬
‫ّ‬ ‫حين‬
‫سـيكولوجياً‪ .‬وهكـذا‪ ،‬إن اإلطنـاب يف التعليـق على مشـاعر األشـخاص‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ودراسـة سيرة حيـاة املؤلِّـف كما هـو‪ ...‬إىل غير ذلـك‪ ..،‬ال تخضـع‪ ،‬أبداً‪،‬‬
‫لدراسـة مركَّ ـب اإلنسـان ‪ -‬األثـر يف غنـاه السـخي‪ .‬وبالفعـل‪ ،‬نحـن نديـن‬
‫للتحليـل النفسي الـذي يتجـاوز كثيراً‪ ،‬يف الوقـت الحـارض‪ ،‬نظريـة فرويد‬
‫فاعليتهـا يف نطـاق‬
‫َّ‬ ‫«البطوليـة» ‪ ،‬ولنقـل ذلـك برصاحـة‪ ،‬والـذي برهـن عـن‬
‫الطبيـة‪ ،‬بأنـه‬
‫ِّ‬ ‫تفهـم نظـري أفضـل لإلنسـان‪ ،‬كما يف مجـال االنتصـارات‬ ‫ُّ‬
‫قـدم لنـا مجموعـة مـن املفاهيـم األساسـية التـي تسـتطيع‪ ،‬وحدهـا‪ ،‬أن‬ ‫َّ‬
‫تـدرك هـذه العقـدة‪ ،‬حتـى بالنسـبة إىل اال ِّتجاهـات التـي تبـدو أكثر بعـد ًا‬
‫عـن التحليـل النفسي؛ كا ِّتجـاه «روالن بـارت» يف كتابـه «ميشـليه»؛ هـذه‬
‫اال ِّتجاهـات تنحـدر‪ ،‬بالبداهـة‪ ،‬مـن السـيكولوجية التحليليـة‪ .‬وهكـذا‪،‬‬
‫إننـا نحصر بحثنـا يف النتائـج املبـارشة أو البعيـدة‪ ،‬لندخلهـا يف العمـل‬
‫ذكرناهـم ببعـض املفاهيـم التحليلية‬ ‫القـراء إذا مـا ّ‬
‫ّ‬ ‫النقـدي‪ ،‬وسيسـامحنا‬
‫األساسـية‪.‬‬
‫املفاهيـم التحليليـة‪ :‬نسـتطيع أن ّ‬
‫نلخـص((( هكـذا املفاهيـم األساسـية‬
‫التـي يقبلهـا التحليـل النفسي كلّـه‪ ،‬رغـم اختلاف املدارس‪:‬‬
‫الضيـق «للسـلوك»‪ :‬إن أفـكار الفـرد ومشـاعره‪ ،‬واألعمال‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬التحديـد‬
‫التـي يقـوم بهـا‪ ،‬يف فترة مـا ترتبـط‪ -‬حصراً‪ -‬بتاريـخ دوافعـه الشـخصية‪،‬‬
‫وبالطريقـة التـي يـدرك بهـا املوقـف الـذي يحيـط بـه‪.‬‬

‫((( للحصول عىل مزيد من التفاصيل‪ ،‬مراجعة‪ :‬جان س‪.‬فيللو يف كتابه‪« :‬الالشعور»‪ ،‬مسلسلة «ماذا أعرف؟»‬
‫رقم ‪.1947 - 385‬‬

‫‪94‬‬
‫األهم ّيـة األساسـية للطفولـة األوىل‪ ،‬يف تاريـخ تكويـن الشـخصية‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫‪-‬‬
‫تحـت التأثير املـزدوج للميـول (أو للنزعـات) الغريزيـة‪ ،‬ولبنيـة املوقـف‬
‫تتكـون األبعـاد املختلفة للشـخصية‪،‬‬
‫َّ‬ ‫السـيكولوجي‪ ،‬واالجتامعـي‪« :‬هكـذا‬
‫الـ«هـو» (مجموعـة الغرائـز والدوافـع الالشـعورية)‪« :‬األنـا» (مجموعـة‬
‫وظائـف الوعـي واإلدراك «األنـا العليـا» (اسـتجابات الشـعور بالذنـب‪،‬‬
‫والـروادع)‪.‬‬
‫سـيام‬
‫املهـم الـذي تلعبـه الرصاعـات النفسـية الداخليـة‪ ،‬ال ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬الـدور‬
‫عامـة‪ً ّ -‬‬
‫حلا لهـذه الرصاعـات‪ ،‬وذلـك بواسـطة‬ ‫اإلحبـاط؛ يحقِّـق السـلوك‪ّ -‬‬
‫آليـات‪ ،‬كالتحويـل‪ ،‬واإلشـباع‪ ،‬والتصعيـد‪ ،‬والتربيـر‪ ..‬وغريهـا‪.‬‬
‫‪ -‬أخيراً‪ ،‬الالشـعور الـذي يجـد فيـه الفـرد نفسـه‪ ،‬يف آن واحـد عرضـة‬
‫للرصاعـات املسـيطرة واملتطلَّبـات الراهنـة؛ فهـو ال يعـي ّإل النتائـج‪.‬‬
‫ينتـج عـن هـذا كلّـه أن «فعـل الكتابـة»‪ ،‬وهـو سـلوك‪ ،‬يكـون اإلبـداع‬
‫خاصـة ميكـن تحليلهـا‪ ،‬وتفكيكهـا كغريهـا‪ .‬إن كل‬ ‫ّ‬ ‫األديب ليـس ّإل حالـة‬
‫أثـر هـو حصيلـة سـبب سـيكولوجي‪ ،‬ويحتـوي على «مضمـون ظاهـر»‪،‬‬
‫و«مضمـون مسـترت» ‪ ،‬كالحلـم‪ ،‬متامـاً‪ :‬إنـه «إضفـاء» للحيـاة النفسـية‬
‫للمؤلِّـف‪ ،‬ولدوافـع غالبـ ًا مـا تكـون بعيـدة عـن أن يعيهـا حين يكتـب‪ .‬إن‬
‫يحـدد‪ -‬بدقّـة‪ -‬التحليـل النفسي األديب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تحليـل املضمـون املسـترت ألثـر‬
‫التحليـل النفسي األديب‪ :‬لكـن‪ ،‬حـذار‪ :‬فـإن «فرويـد» فرويـد نفسـه‪،‬‬
‫يف مالحظـات منفـردة تتعلَّـق بـ«شكسـبري»‪ ،‬ومبقالـه عـن «دستويفسكي‬
‫وجرميـة قتـل األب»‪ ،‬وكذلـك تلميـذه «رانـك»‪ ،‬والدكتـور «الفـورك»‪،‬‬
‫تعمدوا أن‬
‫َّ‬
‫(((‬
‫و«مـاري بونابـرت»‪ ،‬يف دراسـتهم عـن «بودلير»‪ ،‬و«إدغار بـو»‬
‫يظهـروا كيـف ميكن اسـتخدام إنتاج أديب كأداة تسـمح بالتنقيب يف أعامق‬
‫التوصـل إىل إمكانـات‬
‫ُّ‬ ‫املؤلِّـف السـيكولوجية أكثر مـن أن يطمحـوا إىل‬

‫املحرمات يف الشعر والحكايات (‪)1911‬؛ «الفورك» سقوط بودلري (‪)1929‬؛ ماري‬


‫َّ‬ ‫((( رانك‪« ،‬موضوع ارتكاب‬
‫بونابرت‪ ،‬إدغار بو (‪.)1933‬‬

‫‪95‬‬
‫أفضـل يف التنقيـب والحكـم‪ :‬إن هدفهـم هـو تحليـل املصابين بالعصاب‪،‬‬
‫بواسـطة األثـر‪ ،‬ال أن ينتهـوا إىل تقديـر نقدي! إن نقدهم هـو تحليل نفيس‪،‬‬
‫مجـرد نقـد أديب‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وليـس‬
‫وعلى العكـس‪ ،‬أصبـح موضـوع التحليـل النفسي األديب منـذ مؤلَّفات‬
‫«بـودوان»((( يهـدف‪ -‬بـذكاء أكثر‪ -‬إىل اكتشـاف عنـارص تفسير وتقديـر‬
‫جديـدة‪ ،‬مـن خالل التوضيح السـيكولوجي‪ .‬يقترص منهج «بـودوان»‪ ،‬الذي‬
‫للمادة‬
‫ّ‬ ‫تب ّنـاه «مـورون»((( على اللعـب‪ -‬يف آن واحـد‪ -‬على دراسـة دقيقـة‬
‫واألثـر‪ ،‬وعلى املعطيات الحياتيـة‪ ،‬ليبني‪ ،‬من جديد‪ ،‬املركَّ بات األساسـية‬
‫الباطنيـة؛ إن النقـد الـذي يسـتعمله «غاسـتون باشلار»(((‪ ،‬مـن جهتـه‪ ،‬يف‬
‫املتنوعـة التي‬
‫ِّ‬ ‫تخيـل العنـارص‪ ،‬يقترص على إيجـاد املركَّ بـات‬
‫أعاملـه عـن ُّ‬
‫تعطـي الوحـدة ملوضـوع أديب‪ ،‬مـن خلال مؤلَّفـات كثير مـن الشـعراء‬
‫والك ّتـاب‪ .‬وعلى كلّ حـال‪ ،‬إن األثـر هـو مـا ميكـن أن نقـدر‪ ،‬ونشرح؛ ولهذا‬
‫إذا كانـت إحـدى حـركات التحليـل األديب تذهب من األثر إىل اإلنسـان‪ ،‬فإن‬
‫حركـة أخـرى تفضي‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬إىل العـودة الرضوريـة إىل األثـر‪.‬‬
‫يجـب ّأل نعتبر تحليلاً كهـذا يقلِّل من قيمتـه‪ ،‬ألن النقـد إذا كان يضع‪،‬‬
‫باسـتمرار‪ ،‬العنـارص البدائيـة‪ ،‬الطفوليـة‪ ،‬والجنسـية مـع تف ُّتـح القلـب‪،‬‬
‫األوليـة‪.‬‬
‫يدعـي إرجـاع هـذه الحـوادث األخيرة إىل َّ‬ ‫والفـن‪ ،‬فهـو ال َّ‬
‫ّ‬ ‫والـذكاء‬
‫ال يقـول‪ ،‬أبـداً‪ ،‬املحلِّـل النفسي لظاهـرة‪« :‬ليسـت بشيء ّإل‪ .»..‬يقـول‬
‫«مـورون»‪ ،‬بوضـوح‪ :‬إنـه إذا زعـم الناقـد‪ ،‬باعتبـاره عاملـ ًا نفسـي ًا يشرح‬
‫فـن‪ ،‬فإنه‬
‫أهم ّيـة‪ ،‬وباعتبـاره هاوي ّ‬
‫أثـراً‪ ،‬أن مـا يوجـد يف الباطـن هـو األكثر ِّ‬
‫يبحـث‪ ،‬يف بنيـة املضمـون املسـترت‪ ،‬عـن الوحـدة املعبرة عـن العنـارص‬
‫الظاهـرة‪ .‬بعـد أن نكـون قـد توصلنا إىل املركز الالشـعوري‪ ،‬يجـب‪ ،‬أن نرى‬
‫فيـه الرابـط الذي يعطي‪ ،‬للنصوص‪ ،‬النربة اإلنسـانية والصادقة‪ ،‬فحسـب؛‬

‫((( شارل بودوان‪ ،‬الرمز لدى فريهارن (‪)1924‬؛ التحليل النفيس لفيكتور هيغو (‪..)1943‬‬
‫((( شارل مورون‪ ،‬مدخل إىل التحليل النفيس (‪ .)1950‬‬
‫((( غاستون باشالر‪ ،‬لوتريامون (‪ ،)1938‬التحليل النفيس للنار‪ ،)1938( ،‬املاء واألحالم (‪ ،)1941‬الهواء‬
‫واملنامات (‪ ،)1943‬األرض وأحالم اليقظة للراحة (‪)1948‬؛ األرض وأحالم اليقظة لإلرادة (‪.)1948‬‬

‫‪96‬‬
‫فحين يرينـا «بـودوان» «هيغـو» متم ِّزقـ ًا بين املتطلَّبـات املتناقضـة‬
‫للعدائيـة وللشـعور بـاألمل‪ ،‬أو حين يرينـا «مـورون» «ماالرميـه» قـد تأثَّـر‪،‬‬
‫ميتة‪ ،‬فهما ال يريدان أن يقوال إن هذين الشـاعرين‬ ‫إىل األبـد‪ ،‬بذكـرى أخـت ّ‬
‫ليسـا ّإل هـذا‪ ،‬بـل إن هذيـن الشـاعرين ما كانـا ليكتبا ما كتبا‪ ،‬مـن غري هذا‪.‬‬
‫يسـمح التحليـل النفسي‪ ،‬إذن‪ ،‬بـأن يجمـع عنـارص قـد تبدو متناثـرة‪ .‬أفال‬
‫توحـي القصائـد واملؤلَّفـات الخيالية‪ ،‬يف أغلـب األحيان‪ ،‬ومن تلقاء نفسـها‪،‬‬
‫بفكـرة شـبكة مـن الصـور التـي تجـذب‪ ،‬وتسـتوحي الواحـدة األخـرى بطريقـة‬
‫محددة مسـيطرة‬ ‫َّ‬ ‫متكـرراً؟ وإذا أمكـن ربـط هـذه الصور بنقـاط‬
‫ِّ‬ ‫ُت ِ‬
‫حـدث توافقـ ًا‬
‫واقعيـة سـيكولوجية عميقـة‪ ،‬فـإن هـذه النقـاط الثابتـة تجمـع صـور ًا‬ ‫ّ‬ ‫متلـك‬
‫ال ميكـن تفسيرها‪ ،‬للوهلـة األوىل‪ .‬إن مفهـوم «املعنـى املـزدوج» ميكـن‬
‫الخفـي‪ ،‬لـدى‬
‫ّ‬ ‫امليتـة‬
‫للنـص‪ :‬وهكـذا‪ ،‬إن تسـلُّط األخـت ِّ‬
‫ّ‬ ‫أن يغنـي تفسيرها‬
‫«مالرميـه»‪ ،‬يوحـي باختيـار الصور‪ ،‬وهـذا واقع بني الواقع الحـايل والحاجات‬
‫نصـ ًا يف كلّ‬
‫الالشـعورية؛ ولهـذا مـن املالئـم‪ -‬بديهيـاً‪ -‬أن نفحـص‪ ،‬بعمـق‪ّ ،‬‬
‫جزئياتـه‪« ،‬السـطحية منهـا» ألن كلّ يشء ميكـن أن يكـون أداة للكشـف‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وهكـذا‪ ،‬تظهـر مقاييـس للتقديـر «باطنيـة» جوهريـة‪ .‬وبالفعـل‪ ،‬إن‬
‫األثـر يكـون «أصيلاً » حين تغـوص جـذوره يف غنى باطنـي عاشـه املؤلِّف‪،‬‬
‫وميكـن أن ي َّتصـل بـه القـارئ‪ ،‬وإن األثـر ليكلِّمنـا على قـدر مـا ي َّتفـق مـع‬
‫جـداً‪ ،‬وال ميكـن أن ي َّتفـق معنـا ّإل إذا كان ينجـم هـو نفسـه‬
‫الرس ّيـة ّ‬
‫ِّ‬ ‫ميولنـا‬
‫مـن عنـارص صادقـة عاشـها املؤلِّـف‪ ،‬ح ّقـاً‪.‬‬
‫خصصهـا‬‫نقـد األصالـة عنـد «باشلار»‪ :‬إن «باشلار»‪ ،‬يف كتبـه التـي َّ‬
‫للصـور «الخياليـة» التـي نصنعها من «العنارص» األساسـية‪ :‬املـاء‪ ،‬والنار‪،‬‬
‫ألـح كثري ًا على الخيط املمتـاز للقيـادة الذي ميكن‬
‫والهـواء‪ ،‬والتراب‪ ،‬قـد َّ‬
‫نـص‪.‬‬
‫أن يقـوم عليـه التحليـل املركَّ ـب يف الحكـم على ّ‬
‫حقيقيـ ًا للصـور»‪ .‬إنـه يشـعر‬ ‫ً‬
‫«ظمأ‬ ‫املـادة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بالفعـل‪ ،‬إن لعقلنـا‪ ،‬أمـام‬
‫ّ‬
‫«تقيـم» الصخـر‬
‫ّ‬ ‫يتخيلهـا وفـق نزعـات عميقـة‪ :‬الصـور‬ ‫َّ‬ ‫بأفـراح عظيمـة‬
‫كاملـاء‪ ،‬واللهـب كاملعجونـة التـي ننحتهـا‪ .‬إن املركَّ بـات املرتبطـة بهـذه‬
‫الصـور تعطـي وحـدة «ملراكـز أحلام اليقظـة العفويـة»‪ .‬إن «باشلار» وقد‬

‫‪97‬‬
‫أشـد‬
‫ّ‬ ‫َحلَّـل هكـذا «فـرح القطـع» (الحراثـة‪ ،‬قطـع شـجرة)‪ ،‬قـد كتـب‪« :‬مـا‬
‫تـؤدي‪ ،‬يف‬
‫امتلاء حياتنـا بهـذه التجـارب الغريبـة التي نسـكت عنها‪ ،‬والتي ّ‬
‫ال شـعورنا‪ ،‬إىل أحلام يقظـة ال نهايـة لهـا!»‪.‬‬
‫ّإل أنـه‪ ،‬يك تصـل الصـور واالسـتعارات إىل القـارئ‪ ،‬يجـب أن نغـوص‬
‫يف «حقيقـة حلميـة» فلكي يكلِّمنـا كهـف أديب صـادق يجـب أن يبعـث فينا‬
‫أفراحـ ًا غير محسوسـة مرتبطـة بأحلام يقظـة الكهـف‪ ،‬النمـوذج العاملي؛‬
‫لهـذا يطلـب «باشلار» «تجديـد ًا للنقـد األديب» أي يريـد «نقـد ًا سـيكولوجي ًا‬
‫للمخيلـة» «لقيـاس القـوى الشـعرية‬ ‫ِّ‬ ‫يحيـي مـن جديـد‪ ،‬الطابـع الفعلي‬
‫الفعالـة يف املؤلَّفـات األدبيـة»‪.‬‬
‫ّ‬
‫يكون دور هذا النقد‪:‬‬
‫‪ -‬أن يفضـح الزيـادات والزيـف والتربيـرات الرديئـة وخيانـات ثبـات‬
‫املتخيلـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫األنظمـة‬
‫متخيل‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الجيدة» التي ت َّتفق مع واقع‬
‫ِّ‬ ‫مييز «الصور‬
‫‪ -‬أن ِّ‬
‫‪ -‬أن يسـاعد القـارئ على أن «يحيـا» الصـور األدبيـة‪ ،‬بإعطائهـا «تعليقـ ًا‬
‫حيـاً»‪ ،‬يختلـف كثير ًا عـن التعليـق العقلاين ألسـتاذ البالغـة‪ ،‬وبدقـة أكثر‪،‬‬‫ّ‬
‫وحلمـي»؛‬
‫ّ‬ ‫أيديولوجـي‬
‫ّ‬ ‫التعليـق‪،‬‬ ‫مـزدوج‬ ‫منهـج‬ ‫«إىل‬ ‫«باشلار»‬ ‫دعـا‬ ‫فلقـد‬
‫الخاصة للحلم‬ ‫ّ‬ ‫املميـزات‬
‫ِّ‬ ‫وهكـذا‪ ،‬إننـا إذا مارسـنا‪ ،‬عن طريق الحلم‪ ،‬معرفة‬
‫املتاهـي‪ ،‬أمكننـا أن نحلـل منوذجـ ًا للشرح األديب آلثـار مختلفـة ّ‬
‫جـداً»‪.‬‬
‫يجـب أن يكـون الناقـد‪ ،‬يف ظروف كهـذه‪ ،‬جدير ًا بـ«أن يحكـم من وجهة‬
‫التفهـم الـذي ينتظـره الكاتـب‬
‫ُّ‬ ‫نظـر الالشـعور»‪ ،‬وذلـك بواسـطة نـوع مـن‬
‫الحـق‪ ،‬بطريقـة غامضـة مـن القارئ‪ .‬حينئـذ‪ ،‬يسـتطيع أن يعلِّـم الكاتب أن‬‫ّ‬
‫يتوصـل القـارئ إىل «أفـراح أدبيـة»‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يك‬ ‫ً»‬
‫ا‬ ‫ـد‬ ‫جي‬
‫ِّ‬ ‫«يحلـم‬
‫بـارت و«املواضيـع»‪ :‬مـع أن غايـة «روالن بـارت»((( يف كتابـه الحديـث‬

‫((( روالن بارت‪ ،‬ميشليه (‪.)1945‬‬

‫‪98‬‬
‫«مقدمـة للنقـد»‬
‫ِّ‬ ‫«ميشـليه»‪ ،‬ليـس أن يحكـم‪ ،‬أو يقيـم نقـد ًا حقيقيـاً‪ ،‬بـل‬
‫فحسـب‪ ،‬فـإن حرصـه «أن يعيـد لإلنسـان ترابطـه»‪ ،‬وأن «يجد‪ ،‬مـن جديد‪،‬‬
‫وخاصـة محاولتـه أن يكشـف يف نتاجه عن‬ ‫ّ‬ ‫بنيـة وجـود» جديـرة بالتحليـل‪،‬‬
‫«وحـدة موضـوع‪ ،‬وعـن شـبكة منظمة لفكـرة ثابتـة» تابعة لنقد «باشلار»‪:‬‬
‫أليـس لديـه‪ ،‬باإلضافـة إىل ذلك‪ ،‬الطموح يك «يعلِّمنا أن نقرأ «ميشـليه»»؛‬
‫ليـس فقـط باألعين‪ ،‬بـل «بالذكـرى»‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬وذلـك أن نعيـش مـن جديـد‪،‬‬
‫املـادة؟»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بنـوع مـا‪ ،‬مواقـف «ميشـليه» «بالنسـبة إىل بعـض ميزات‬
‫ّإل أنـه يهـرب‪ ،‬يف آن واحـد‪ ،‬مـن التحليـل النفسي لـ«باشلار» الـذي‬
‫يحـرص على أن يبقـى على مسـتوى الصـور الداعيـة‪ ،‬عوضـ ًا عـن أن يذهب‬
‫إىل املدلـوالت الالشـعورية‪ ،‬كما فعـل «مـورون» مثلاً ‪ ،‬وأن يسبر وحـدة‬
‫نقدر‬
‫اإلنسـان مـن خلال الصـور كما فعـل «باشلار»‪ .‬على كلّ حـال‪ ،‬إننـا ِّ‬
‫«مضرج بالدمـاء»‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الصـورة التـي رسـمها عـن «ميشـليه» «آكل التاريـخ»‬
‫عاشـق «املـرأة اللطيفة املعشر»‪ ،‬وقـد أراد أن يكون الرجـل الوصيفة‪.»..‬‬
‫يدعـي «جـ‪.‬ب‪.‬فيبري»‪،‬‬ ‫أبحـاث أخـرى تعتمـد املوضوعـات «التيامتيـة»‪َّ :‬‬
‫يف بحثـه عـن «املواضيـع» يف كتابـه «خلـق األثـر الشـعري» ‪ ،‬أنـه يجـد‬
‫(((‬

‫مفتـاح التحليـل النفسي للشـعراء؛ فكتـب يقـول‪« :‬إننـا نعنـي باملوضـوع‬


‫قادريْـن أن يظهـرا (بشـكل ال شـعوري‪ ،‬على وجـه‬ ‫َ‬ ‫حدثـ ًا أو موقفـ ًا طفوليـاً‪،‬‬
‫فنيـة‪ ..‬سـواء على نحـو رمـزي أم‬ ‫العمـوم) يف أثـر أو يف مجموعـة آثـار ّ‬
‫واضـح» وهكـذا‪( ،‬فـإن كلّ نتـاج «فيينـي» يتوقَّف عىل سـاعة هـي املوضوع‬
‫املسـيطر يف أدبـه)‪ ،‬وحـول هـذه «الصـورة ‪ -‬الرمـز» ينتظـم كلّ النتـاج‪،‬‬
‫ويفسر الربـاط بين اإلنسـان واألثـر‪ .‬يسـعى «جـ‪.‬ب‪.‬فيبري»‪ ،‬وقـد اقتنع أن‬ ‫ّ‬
‫يـؤدي‪ ،‬بالنقـد‬
‫ِّ‬ ‫أن‬ ‫املوضـوع‪،‬‬ ‫وحـدة‬ ‫طابـع‬ ‫ـة‬ ‫عام‬
‫ّ‬ ‫لهـا‬ ‫إنسـانية‬ ‫ـة‬ ‫فاعلي‬
‫ّ‬ ‫كلّ‬
‫هذا‪ ،‬إىل فلسفة جاملية بل إىل ميتافيزيقية‪.‬‬

‫((( غاليامر (‪)1960‬؛ انظر كتاب «مجاالت املوضوعات‪ ،‬غاليامر ‪ .1963‬إن هذا «النقد الجدير» قد هاجمه‪-‬‬
‫«الحر ّيات» بوفري ‪ .1965‬جواب جـ‪.‬ب‪.‬فيبري‪ ،‬نقد‬
‫ّ‬ ‫بعنف‪ -‬ر‪ .‬بيكار يف «نقد جديد أم عصيان جديد»‪ ،‬مجموعة‬
‫«الحر ّيات» بوفري (‪ .)1966‬جواب روالن بارت‪ ،‬نقد وحقيقة (‪.)1966‬‬
‫ّ‬ ‫جديد وعلم النقد‪ ،‬مجموعة‬

‫‪99‬‬
‫‪ - 2‬النقد واملاركسية‬
‫إن تفسير األثـر األديب بواسـطة السـيكولوجية الفرديـة‪ ،‬ولـو كان‬
‫التحيـز‪ :‬فالعامـل النفسي مرتبـط بالعامـل‬ ‫ُّ‬ ‫جد ّيـاً ‪ ،‬ال يخلـو مـن‬
‫التفسير ِّ‬
‫يتـورع عـن الرجـوع إىل العامـل‬ ‫َّ‬ ‫االجتامعـي‪ ،‬والتحليـل النفسي ال‬
‫االجتامعـي‪ ،‬مـن وجهـة تأثير األرسة يف الشـخصية‪ ،‬ومـن وجهـة األصداء‬
‫املتداخلـة بين املبـدع والقـارئ؛ إننـا نجـد‪ ،‬عنـد بعضهـم مثـل «يونـغ»‪،‬‬
‫العـودة إىل «الشـعور جامعـي» وإىل «مركَّ بـات جامعيـة»‪ ،‬ميكـن أن تكـون‬
‫أصـل اإلبداعـات األدبية املعطـاة‪ .‬لكن السـيكولوجية االجتامعية للتحليل‬
‫خاصـاً‪ ،‬هـو وحـده القـادر‬
‫ّ‬ ‫ضيقـة واصطالحيـة‪ ،‬وإن علـم اجتماع‬ ‫النفسي ِّ‬
‫على أن يربـط األثـر‪ ،‬مـن جديـد‪ ،‬بطريقـة مجدية‪ ،‬بظروفـه التابعـة للبيئة‪،‬‬
‫خاصـة‪ -‬ليـس العـودة إىل‬ ‫ّ‬ ‫بواسـطة مفاهيـم مالمئـة‪ .‬واملوضـوع‪ ،‬هنـا‪-‬‬
‫مثاليـة «تين»‪ ،‬و«برونتيير»‪ ،‬و«هانـكان»‪ ،‬و«بورجيـه»‪ ،‬الذيـن مل يكـن‬
‫لديهـم مفهـوم واضـح عـن أصـل «العامـل االجتامعـي» ألنهـم أعـادوه إىل‬
‫«حالـة نفسـية جامعيـة» أي إىل عنـارص سـيكولوجية واجهـت‪ ،‬بعـد ذلك‪،‬‬
‫الفـن والبيئـة؛ وهـذا ما قادهـم‪ ،‬غالباً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مطابقـة سـاذجة للنمـط اآليل‪ ،‬بين‬
‫وحر ّيـة الكاتـب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إىل أن يسـيئوا معرفـة دور الفرديـة املبدعـة‪،‬‬
‫وبالفعـل‪ ،‬إن املفاهيـم املاركسـية هـي التـي تسـيطر على املحـاوالت‬
‫املجديـة للنقـد االجتامعـي‪ ،‬وتؤ ِّثـر كثيراً‪ -‬كما سنرى‪ -‬يف اال ِّتجاهـات‬
‫الحاليـة للنقـد الفلسـفي‪ ،‬ومبـا أنهـا‪ ،‬غالبـ ًا مـا ُيسـاء فهمهـا وهـي أكثر‬
‫ّ‬
‫مما نعتقـد‪ ،‬فمـن املالئـم إبرازهـا‪.‬‬ ‫(تلوينـات) ّ‬
‫املفهـوم املاركسي لـ«األيديولوجيـة»‪ :‬هـذه بعـض نقـاط أساسـية‬
‫للتحليـل املاركسي‪:‬‬
‫املاد ّية»‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬للحيـاة االجتامعيـة بنيـة تحتيـة‪ ،‬قـد أقامهـا «إنتـاج الحيـاة‬
‫يعبر هـذا األخير‪ ،‬عـن إحـدى مراحـل عالقـة اإلنسـان مـع الطبيعـة‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫ويحدهـا‪ ،‬ويظهـر البنيـات األساسـية (ليسـت الوحيـدة) للمجتمـع‪ .‬إن‬ ‫ِّ‬
‫كلّ تعديـل القـوى املنتجـة يحـدث تعديلاً يف العالقـات االجتامعيـة‪،‬‬

‫‪100‬‬
‫والعالقـات االقتصاديـة‪.‬‬
‫يحـدد (الصراع الطبقـي)‪ ،‬بشـكل أسـايس‪ ،‬وال يسـتبعد العالقـات‬ ‫ِّ‬ ‫‪-‬‬
‫محـرك التاريـخ هـو‪ -‬بالضبـط‪ -‬هـذا الصراع‪،‬‬‫االقتصاديـة ‪ -‬االجتامعيـة‪ ،‬وإن ِّ‬
‫الـذي يسـعى‪ ،‬يف نهاية األمر‪ ،‬إىل االسـتيالء على أدوات اإلنتاج‪ .‬ما من مرقب‬
‫يحـدد‪ ،‬يف فترة معطاة‪ ،‬هـذه البنية يف حركتها الجدلية الراسـخة؛ هذا يعني‬ ‫ِّ‬
‫أن مجتمعـ ًا مـا ينتـج‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬الظـروف االجتامعيـة ‪ -‬االقتصادية لظهـور طبقة‬
‫جديـدة (وقـد أحـدث النظـام اإلقطاعـي‪ ،‬هكـذا‪ ،‬الربجوازيـة‪ ،‬فـإن الربجوازيـة‬
‫تنتـج طبقـة الربوليتاريـا) التـي تصبـح‪ ،‬يف فترة مـا‪ ،‬الطبقـة املسـيطرة‪.‬‬
‫‪ -‬إن البنى السياسـية‪ ،‬والدينية‪ ،‬والثقافية تعلو هذه البنيات األساسـية؛‬
‫والسـيام الطبقـة التي تسـيطر عىل‬
‫ّ‬ ‫وقـد بنتهـا الطبقـات يف أثنـاء رصاعهـا‪،‬‬
‫وسـائل اإلنتـاج‪ .‬إن الظواهـر (األيديولوجيـة)‪ ،‬أي مجموعـة األفـكار التابعة‬
‫مهمـة‪ ،‬وهي التي‬
‫للمشـاكل السياسـية‪ ،‬واألخالقيـة‪ ،‬والجامليـة‪ ..‬وغريها‪ّ ،‬‬
‫تعطـي للطبقـة التـي تنتجهـا ترابطـ ًا ونظامـاً‪ ،‬وميكـن أن تنفـذ إىل الطبقات‬
‫املنافسـة أو الهامشـية عـن طريـق (الحرمـان)‪ .‬هنـاك ارتبـاط نسـبي بين‬
‫البنيـة الفوقيـة والبنيـة التحتية‪.‬‬
‫أسس النقد املاركيس‪ :‬إن دعائم عمل النقد املاركيس هي(((‪:‬‬
‫‪-‬إن األثـر األديب ينتمـي إىل البنيـة الفوقيـة اإليديولوجيـة‪ ،‬ويجـب أن‬
‫ُيـدرس‪ ،‬إذن‪ ،‬يف عالقاتـه الجدليـة مـع البنيـة التحتيـة‪ .‬ليـس أكثر مـن‬
‫والخلق ملفكّ ر‪ ،‬فإن‬
‫ّ‬ ‫التحليـل الـذايت الـذي يبالغ يف تقدير الطابع املبـدع‬
‫نظريـاً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التحليـل االجتامعـي علـی مسـتوى الوسـط االجتامعـي املختلـف‪،‬‬

‫املادية الجدلية وتاريخ األدب يف مجلة امليتافيزيك واألخالق (‪)1950‬؛‬


‫ِّ‬ ‫((( انظر حول املبادئ‪ :‬غولدمان‪،‬‬
‫كورنو‪ ،‬مقال عن النقد املاركيس (‪ )1951‬وبني األعامل الفرنسية‪ :‬جان فونفيل يف زوال؛ لوفيغر يف ديدرو‬
‫خاص‪ -‬مقاالت ماركس وإنجلز املجموعة تحت عنوان «حول األدب‬ ‫ّ‬ ‫(‪)1949‬؛ جـ الرتاك يف جورج اند‪ ،‬و‪ -‬بشكل‬
‫والفن» عام (‪ )1954‬من ِق َبل جان فريفيل؛ أراغون يف تاريخ بيل كانتو (‪ ،)1947‬وكذلك كثري من املقاالت التي‬
‫ّ‬
‫وخاصة‪ ،‬من قبل جـ الرتاك يف‬
‫ّ‬ ‫ُنرشت يف مجلّة الفكر‪ ،‬ويف مجلّة النقد الجديد‪ ،‬ويف مجلّة اآلداب الفرنسية‪،‬‬
‫الخارج‪ ،‬باإلضافة إىل بعض دراسات لينني عن تولستوي‪ ،‬والصفحات املشهورة لجوانوف عن األدب والفلسفة‬
‫واملوسيقى (‪)1948 - 1934‬؛ كولدويل‪ ،‬أوهام وواقع‪ :‬دراسات عن مناهل الشعر ‪1938‬؛ نركاش تاريخ األدب‬
‫األملاين‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫ليـس مبطابـق‪ :‬يجـب وضـع اإلنسـان واألثـر وسـط ميـزة الصراع الطبقـي‪.‬‬
‫‪ -‬إن األثـر األديب‪ ،‬باعتبـاره إيديولوجيـا‪ ،‬لهـو تعبير عـن رؤيـة للعـامل‪،‬‬
‫وعـن وجهـة نظـر على مجمـل الواقـع‪ ،‬الـذي ليـس هـو بحـدث فـردي‪ ،‬بـل‬
‫هـو حـدث اجتامعـي ‪ -‬النظـام الفكـري الـذي‪ ،‬يف ظـروف مـا يفـرض نفسـه‬
‫على جامعـة مـن النـاس‪ ،‬على طبقـة‪ :‬يفكِّ ـر الكاتـب بهـذه الرؤية‪ ،‬يشـعر‬
‫العامـة» التـي ت َّتفـق مـع البنيـة‬
‫ّ‬ ‫ويعبر عنهـا‪ .‬لـكلّ عصر «مواضيعـه‬
‫ّ‬ ‫بهـا‪،‬‬
‫الخاصـة بالطبقـات‬
‫ّ‬ ‫التجـرد‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫االجتامعيـة‪ ،‬كمواضيـع معارضـة الواقـع أو‬
‫الخاصـة بالطبقـات املسـيطرة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫املنهـارة‪ ،‬ومواضيـع تربيـر الحـارض‪،‬‬
‫تعبر عـن صعـود الطبقـات الصاعـدة‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ومواضيـع تجديـد وأمـل‬
‫متدنـا‬
‫ليسـت حيـاة املؤلِّـف هـي التـي ميكنهـا‪ ،‬يف ظـروف كهـذه‪ ،‬أن َّ‬
‫باملعلومـات؛ فإلقامـة موضـع األثـر يف الرتكيب االجتامعي‪ ،‬يجب تفسير‬
‫املضمـون مـن خاللـه‪ .‬وبالفعل‪ ،‬إن الوسـط االجتامعي‪ ،‬حيث ينشـأ األثر‪،‬‬
‫يعبر عنهـا ليسـا‪ -‬بالضرورة‪ -‬املـكان الـذي أمضى الكاتـب‬‫ِّ‬ ‫والطبقـة التـي‬
‫قسما مرموقـ ًا مـن حياته‪.‬‬
‫ً‬ ‫فيـه شـبابه أو‬
‫وميكـن أن يحـدث تفـاوت بين األفـكار الفلسـفية‪ ،‬واألفـكار السياسـية‪،‬‬
‫والنيـات الواعيـة للكاتـب‪ ،‬والطريقـة التـي يشـعر بهـا أو يـرى‪ -‬مـن خاللهـا‪-‬‬ ‫ّ‬
‫العـامل الـذي يخلقه‪ .‬وهكذا‪ ،‬إن «بلـزاك»‪ ،‬مع كونه ملكيـ ًا ورجعياً‪ ،‬وبالرغم‬
‫صح بهـا للطبقـة األرسـتقراطية‪ ،‬قـد جعـل منهـا هدفـ ًا‬ ‫محبتـه التـي َ َّ‬
‫َّ‬ ‫مـن‬
‫الخاصـة بـه‪ .‬ذلـك‬
‫ّ‬ ‫مصعـد ًا بذلـك أحكامـه املسـبقة‬
‫ِّ‬ ‫للسـخرية والهجـاء‪،‬‬
‫املعبر عنهـا‪ ،‬والوسـط االجتامعـي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أنـه ليـس مثّـة عالقـة آليـة بين الرؤيـة‬
‫يعبر الكاتـب‪ ،‬أحيانـاً‪ ،‬عـن الطبقـة املسـيطرة «ديـدرو» أو عـن الطبقة‬ ‫وقـد ِّ‬
‫املسـيطرة التـي هـي يف طريـق التدهـور «بروسـت»‪ ،‬ولكـن غالبـ ًا مـا ينفصل‬
‫وخاصـة حين ال يبقى لديهـا مـن دور ّإل املحافظة‬ ‫ّ‬ ‫عـن الطبقـة املسـيطرة‪،‬‬
‫عىل بنيات بالية (نيتشـه‪ ،‬ومالرو)‪ .‬وقد يحدث أن كاتب ًا من الطبقة املسـيطَ ر‬
‫تخـص الطبقة املسـيطرة عليها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بر‪ -‬بالفعل‪ -‬عـن رؤية للعامل‬ ‫عليهـا‪ ،‬قـد َع َّ‬
‫تخـص الطبقـة املسـيطرة‪ ،‬أو أن مؤلف ًا ما‬
‫ّ‬ ‫قـد عبر بالفعـل عن رؤيـة للعامل‬
‫أيديولوجيـات متناقضة (ولقد أثبت‬
‫ّ‬ ‫بر‪ ،‬معاً‪ ،‬يف مؤلفات مختلفـة‪ ،‬عن‬ ‫قـد َع َّ‬

‫‪102‬‬
‫هـذا بالنسـبة إىل «غوتـه»)‪ ،‬و‪ -‬أخيراً‪ -‬إن الصيغـة املسـتخدمة تتعلَّـق هـي‪-‬‬
‫املحـددة‪ ،‬وليسـت مبنفصلـة عـن املضمـون‪ .‬ال‬
‫ّ‬ ‫أيضـاً‪ -‬بالظـروف التاريخيـة‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فـن قوانينـه‬
‫يوجـد شـكل مسـتقلّ ‪ ،‬ولـكلّ ّ‬
‫مـرة أخـرى‪ ،‬قيـاس‬‫األصالـة‪ ..‬حكـم نقـدي «وتطبيـق عملي»‪ :‬إننـا نجـد‪ّ ،‬‬
‫األصالـة لـدى املاركسـيني‪ ،‬لكنـه‪ ،‬هنا‪ ،‬ليس مـن طراز سـيكولوجي‪ .‬يكون األثر‬
‫أصيلاً حين يعكـس‪ -‬ح ّقاً‪ -‬مظهـر ًا ما ملرحلـة تاريخيـة‪ ،‬أو املرحلـة التاريخية‬
‫التـي يعارصهـا على نحـو حقيقـي‪ .‬إن أثـر ًا مجديـ ًا أو ّ ً‬
‫مهما‪ِّ ،‬‬
‫يعمـق جـذوره يف‬
‫وغني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ويعبر عنـه بواسـطة عـامل مـن الشـخصيات مرتابـط‬ ‫ِّ‬ ‫وعـي عصر‪،‬‬
‫خاصـة؟ إن‬‫ّ‬ ‫ولكـن‪ ،‬أليسـت األصالـة هـي مـا للمؤلِّـف مـن عبقريـة‬
‫املاركسـية تنتهـي‪ ،‬بطريقـة متناقضـة‪ ،‬إىل أن تؤكِّ ـد أنـه كلَّما كان األثـر‬
‫ويفرس‪ ،‬مبارشةً‪ ،‬بواسـطة‬
‫ِّ‬ ‫مهما‪ ،‬يحيـا على قدر ذلـك‪ ،‬ويفهم من نفسـه‪،‬‬ ‫ًّ‬
‫فلسـفة مختلـف الطبقـات االجتامعيـة ‪ -‬ولكـن‪ ،‬على قـدر مـا يكـون األثـر‬
‫البـد مـن شـخصية ذات قيمة‪،‬‬ ‫عظيما يكـون‪ -‬شـخصياً‪ -‬كذلـك‪ :‬وبالفعـل‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫وغنيـة‪ ،‬لتفكِّ ـر وتحيا رؤية العـامل‪ ،‬وت َّتحد أفضـل مع الحياة‬ ‫ّ‬ ‫وفرديـة قـادرة‬
‫فعالـة ومبدعة‪.‬‬ ‫والقـوى األساسـية للوعـي االجتامعـي‪ ،‬فيام لها مـن طاقة ّ‬
‫للمـرة األوىل‪ ،‬عن‬
‫ّ‬ ‫يعربون‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫أليـس الك ّتـاب األكثر إبداع ًا هـم‪ ،‬غالباً‪ ،‬الذيـن‬
‫عـامل يف فترة انتقـال‪ ،‬وعـن مرحلـة انتقـال بين املرحل َت ْين‪ ،‬ويعكسـون‪-‬‬
‫خـاص‪ -‬القيـم الجديـدة التي توشـك أن تولـد‪ ،‬أو يسترجعون القيم‬ ‫ّ‬ ‫بشـكل‬
‫اإلنسـانية والواقعيـة للمايض‪ ،‬يف رؤيـة القـوى الجديـدة التـي تخلـق‬
‫تقدميـة»‪.‬‬
‫املسـتقبل؟ كتـب «غولدمـان»‪« :‬إن العبقريـة هـي دامئـاً‪ُّ ،‬‬
‫مـع ذلـك‪ ،‬إن االقتصـار على ربـط الحكـم النقـدي باألصالـة ليـس‬
‫بـكاف‪ ،‬فهـذا يعنـي أن ننسى «التطبيـق العملي»‪ ،‬وهـو الربـاط األسـايس‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وعصـب املنهـج املاركيس‪ ،‬بين الفكر والعمـل‪ .‬كتب «كورنـو»‪« :‬إن النقد‬
‫املاركسي وقـد ا ّتجـه‪ -‬أصلاً ‪ -‬نحو العمـل‪ ،‬ا َّتخـذ موضوع ًا له‪ -‬ليـس تقدير‬
‫تحـدده فقط‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫امللـح إىل العالقـات الطبقيـة التـي‬
‫ّ‬ ‫مضمـون األثـر بالرجـوع‬
‫خاصة نحو املسـتقبل»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بـل مشـاركة ومسـاهمة اآلثار الجديـدة املتطلّعة‬
‫الفـن كان أداة لخدمـة الثـورة»‪ .‬ألـن تكـون‪ ،‬إذن‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كتـب «لينين»‪« :‬إن‬

‫‪103‬‬
‫رسـالة األدب أن «تقـوّي األخلاق والوحـدة السياسـية للشـعب»؟ بالفعـل‪،‬‬
‫محـدد ًا مـن رؤيـة عـامل‬
‫َّ‬ ‫تنوعـاً‪ ،‬ألنـه‪ ،‬إذا كان الكمال‬
‫يجـب أن تكـون أكثر ُّ‬
‫نيـة قـد‬‫لتفهـم التعليـم أو الدعايـة‪ ،‬وهـي ّ‬
‫ُّ‬ ‫نيـة‬
‫الكاتـب‪ ،‬فـإن هـذا ينفـي كلّ ّ‬
‫الحـي والواقعـي للكائنـات واألشـياء‪ :‬أن يكون اإلنسـان كاتب ًا‬
‫ّ‬ ‫تهـدم الطابـع‬
‫ميثِّـل طبقة الشـعب‪ ،‬هـذا يع َن ْي أن يـرى خالئقه بعي َن ْي عامـل‪ ،‬ال أن يربهن‬
‫الربوليتاريني‬
‫ِّ‬ ‫صحـة النظريـة الشـيوعية‪ .‬مـن جهـة أخـرى‪ ،‬إن الك ّتـاب‬ ‫عـن ّ‬
‫ليسـوا وحدهـم من يرىض عنهم املاركسـيون! وإذا كان «ديـدرو» برجوازي ًا‬
‫اإلعجـاب الـذي ميكـن أن نك ّنـه لـه‪ .‬كتـب‬
‫َ‬ ‫يفسر‪ ،‬يف يشء‪،‬‬ ‫فـإن هـذا ال ّ‬
‫يكـف عن كونة عنيفـ ًا وموضوعي ًا‬‫ّ‬ ‫«لوفيفـر»‪« :‬إن النقـد املاركسي‪ ،‬دون أن‬
‫أس‪ ،‬ميكـن أن يتعاطـف مـع الرجـال العظـام»‪.‬‬ ‫وذا ّ‬

‫‪ - 3‬التحليل النفيس واملاركسية‬


‫ليسـت غايتنـا أن نناقـش إذا كان التفسير املاركسي والتفسير الـذي‬
‫متنافريْـن أو متوافقَ ْين‪ :‬فلنقـل‪ -‬ببسـاطة‪-‬‬
‫َ‬ ‫يسـتند على التحليـل النفسي‬
‫الغني ْين للدراسـة‬
‫َّ‬ ‫الوحيديْـن‬
‫َ‬ ‫املنهج ْين‬
‫َ‬ ‫إنهما بالنسـبة إلينـا يشـكِّ الن‬
‫بعلمي بحـت‪ .‬فلنذكر حول موضوعهام‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫العلميـة املجديـة يف طريق ليس‬
‫أداتيـاً ‪ ،‬وعليهما أن يخلقـا‪ ،‬دون أن‬
‫ّ‬ ‫‪ - 1‬إن دورهما ال ميكـن ّإل أن يكـون‬
‫أي يشء داخيل‪.‬‬‫ـدرك ّ‬‫يكونـا بديلاً ‪ ،‬نوعـ ًا مـن الحـدس‪ ،‬بدونه ال ميكـن أن ُي َ‬
‫«نظريـات»‪ ،‬ميكـن أن تفسـح‬
‫ّ‬ ‫يقدمـان‬
‫‪ - 2‬إن خطرهما يكمـن يف أنهما ِّ‬
‫مجـا ً‬
‫ال ملنهجيـة جديـدة‪ ،‬نسـبية وليسـت‪ -‬أبـداً‪ -‬مبطلقـة؛ ّإل أنـه يجـب ّأل‬
‫ننسى أن املواضيـع التي تسـتند إىل التحليل النفيس تحفـظ‪ ،‬دامئاً‪ ،‬طابع‬
‫الفرضيـات‪ ،‬وأن املاركسـية ليسـت بفلسـفة مغلقة‪ ،‬ولكنهـا منهج مفتوح‪.‬‬‫ّ‬
‫يوضحـان‪ -‬بصعوبـة‪-‬‬
‫األسـلوب ْي يف التفسير‪ ،‬أكان هـذا أم ذاك‪ِّ ،‬‬
‫َ‬ ‫‪ - 3‬إن‬
‫بحـد ذاته‪ ،‬على مسـتوى «األدب» الرصف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الحـدث الجمايل‬
‫‪ - 4‬إن أحـكام األصالـة‪ ،‬وقـد خلقـت مـن رؤيـة مختلفـة‪ ،‬سـواء أكانـت‬
‫سـيكولوجية «فرويـد» أو «باشلار» أو التقديـر املاركسي‪ ،‬هـي‪ -‬على كل‬

‫‪104‬‬
‫متميـزة؛ مبعنـى أنهـا تفسـح املجـال ألحـكام أخـرى‪ ،‬حدسـية‪ ،‬أو‬
‫ِّ‬ ‫حـال‪-‬‬
‫ذات أسـاس فلسـفي أكثر شـموالً‪.‬‬
‫يتعمقـا كثير ًا‬
‫َّ‬ ‫‪ - 5‬أخيراً‪ ،‬إن التحليـل النفسي والتحليـل املاركسي مل‬
‫يف التحليـل الفكـري عـن فعـل الكتابـة‪ ،‬املواجـه يف شـموله‪ ،‬وهـو تحليل‬
‫يجـب أن يرافـق كلّ محاولـة لنقـد يسـعى ألن يهـرب من سـحر االنطباعية‪،‬‬
‫التبدل‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫أو‬
Stendhal
‫ستندال‬
1842-1783
‫الفصل التاسع‬

‫النقد والفلسفة‬

‫تفهم أكرث‬
‫جليـاً‪ -‬أن نزعـة تصعيـد النقـد تكمـن يف البحـث عـن ُّ‬ ‫يظهـر‪ّ -‬‬
‫املتعثرة مـع «سـانت‬
‫ّ‬ ‫نفـاذ ًا لآلثـار والك ّتـاب املرموقين‪ .‬إن هـذه النزعـة‬
‫املتحـررة بعـد «تيبوديه»‪ ،‬قـد ازدهرت يف الفترة الحالية لدى كلّ‬
‫ِّ‬ ‫بـوف»‪،‬‬
‫حقيقيـ ًا لغالبيـة املناهـج النقدية‬
‫ّ‬ ‫الذيـن يحقِّقـون (وهـم كثيرون) تجـاوز ًا‬
‫التـي صادفناهـا يف طريقنـا‪ ،‬و‪ -‬بالفعـل‪ -‬إنـه تجـاوز للنقـد القائـم على‬
‫التفسير العلمـي والنقـد التابـع لـ«تني»‪ ،‬وكذلـك نقد التحليـل النفيس أو‬
‫التحليـل املاركسي‪.‬‬
‫«نغير النبرة»‪ ،‬وأن نلتقـي مـع جوهـر األثـر يف‬
‫ِّ‬ ‫وذلـك حين نحـاول ّأل‬
‫لعمليـة الفهـم)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الخـاص (وهـذا هـو التعريـف الدقيـق‬
‫ّ‬ ‫مرمـاه‪ ،‬ويف هدفـه‬
‫مجـرد أداة لتحديد املضمون‬
‫َّ‬ ‫إنـه تجـاوز حني نعتبر املعلومات الواسـعة‬
‫دون أن نهمـل اسـتخدام هـذه املعلومـات‪ ،‬وهـو‪ -‬أخيراً‪ -‬أكرث مـن تجاوز؛‬

‫‪107‬‬
‫إنـه امتـداد أصبـح‪ -‬باملناسـبة‪ -‬فلسـفة حقيقيـة للعمـل األديب إذا مـا‬
‫توصـل النقـد املبـدع والب ّنـاء‪ ،‬بفضـل تقنيـة فلسـفية حقيقيـة‪ ،‬إىل أن‬ ‫َّ‬
‫للتبدل‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫يصعـد املظهـر الـذي غالبـ ًا ما يكـون مغرقـ ًا يف الفرديـة‪ ،‬وعرضـةً‬
‫ويرفـض‪ ،‬على كلّ حـال‪ ،‬أن يقتصر هدفـه عىل أن يعكـس وعيـاً‪ ،‬ويريد أن‬
‫يكـون يقظـاً‪ ،‬ويصبـح‪ ،‬قبـل كلّ يشء‪ ،‬طريقـة تسـاؤل‪.‬‬
‫ذلـك أن النقـد‪ ،‬شـأن القصـد الفلسـفي‪ ،‬يحقِّـق جهـد ًا ليـدرك اإلنسـان‬
‫وليحـدد مكانـه بالنسـبة إىل وضعـه البشري‪ .‬إن النقـد وقـد‬ ‫ِّ‬ ‫يف شـموله‪،‬‬
‫على حـرص أن يحـب األثـر يك يـدرك‪ ،‬فينومينولوجيـاً‪ ،‬مدلولـه الباطنـي‪،‬‬
‫خاصـة‪ ،‬لكـن هدفه‬
‫بالشـك‪ -‬منحـدر مـن رؤى «فاليري»‪ ،‬أو «دوبـوس»‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫هـو‪-‬‬
‫أكثر دقّـة؛ فهـو أبعـد مـن أن يكتفـي بـأن يفكِّـر يف فلسـفة‪ ،‬يـدرك الكاتب (ال‬
‫على أنـه «نفـس» و«إنسـان داخلي»‪ ،‬مغلـق على نفسـه)‪ ،‬وملصيره الفردي‬
‫الخاصـة‪ ،‬بـل كمظهر لوحـدة اإلنسـان ‪ -‬العامل التي ال تتفـكَّك‪ ،‬و‪ -‬من‬ ‫ّ‬ ‫قيمتـه‬
‫ـم‪ -‬إنـه يضـع نفسـه وسـط أثر‪ ،‬فهـذا يعنـي أن يجد (كما يريد املاركسـيون)‬ ‫َث َّ‬
‫مرمـى إىل العـامل ومركـز ًا ورؤى على عرص‪ ،‬و‪ -‬مبجمل القول‪ -‬املسـافة التي‬ ‫ً‬
‫عاشـها الوعـي نحـو مـا هو‪ ،‬عىل وجـه الدقّة‪ ،‬وعـي‪ .‬أضف إىل ذلـك أن النقد‪،‬‬
‫بشـدة‪ ،‬وبوعي‪ -‬بفترة أزمة حضارة‪ ،‬مل يعد اسـتمرارها مضموناً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وقـد ارتبط‪-‬‬
‫الخاصـة؛ فهـو يصـف الكاتـب على أنـه ملتـزم بنضـال‪،‬‬‫ّ‬ ‫نشـك بقيمتهـا‬ ‫ّ‬ ‫والتـي‬
‫ويعبر عـن قلقهـم وآمالهـم‪ :‬لـه‬
‫ِّ‬ ‫وهـو يجيـب عـن التسـاؤل القلـق للنـاس‪،‬‬
‫املهمـة؟ إنهـا‪ -‬باختصار‪ -‬الفهـم‪ ،‬املـورد الوحيد‬
‫ّ‬ ‫مهمـة يقـوم بهـا‪ ،‬فما هـذه‬ ‫ّ‬
‫للتقديـر الـذي هـو إدراك وعـي يعكـس‪ ،‬بطريقـة مجديـة أم غير مجديـة‪،‬‬
‫ومحـدداً‪ ،‬تاريخيـاً‪ ،‬لوعي يعيـش من خالل األثر الـذي يخلقه‬‫َّ‬ ‫عاملـاً ملموسـ ًا‬
‫وعالقاتـه مـع هـذا العـامل إذ يشـارك‪ ،‬أخيراً‪ ،‬بخلقـه مـن جديد‪.‬‬
‫عـدة صفحـات‪ ،‬الـرؤى‬ ‫نخـط‪ ،‬يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫ندعـي أننـا‬
‫إنـه ملـن املبالغـة أن َّ‬
‫املختلفـة التـي سـار عليهـا هـذا النـوع مـن النقـد «الفلسـفي»‪ ،‬والـذي‬
‫طبـع نشـوءه فترة مـا بعـد الحـرب‪ .‬إننـا نجده عنـد «سـارتر»‪ ،‬وكذلـك عند‬
‫«بيغـان»‪ ،‬وعنـد «موريـس بالنشـو»‪ ،‬وعنـد «جـورج بوليـه»‪ ،‬و«جـان بيـار‬
‫ريشـار»‪ .‬إن النقطـة املشتركة لـدى كلّ هـؤالء الن ّقـاد هـي أنهم يسـتندون‬

‫‪108‬‬
‫إىل فلسـفة واعيـة للأدب‪ ،‬تعتبر متثيلاً للعـامل‪ ،‬وخلقـه مـن جديـد‪ ،‬يف‬
‫آن واحـد‪ ،‬وأنهـم يدركـون اآلثـار من حيـث أنها أفعـال تضع العـامل موضع‬
‫بحـث‪ ،‬وتفـرض تجربـة ميتافيزيقيـة أو اختيـار ًا وجوديـاً‪.‬‬
‫إنـه نقـد جديـد بعيـد كلّ البعد عن أن يكـون النقد الحـايل‪ ،‬لكنه يعطي‬
‫لفن‪ ،‬أصبحـت مكانته‪ ،‬منذ اآلن‪ ،‬عىل تخوم الفلسـفة‪.‬‬ ‫كرامـة جديـدة ّ‬
‫النقـد بوصفـه شـهادة والتزامـ ًا‪ :‬إننـا‪ ،‬قبـل كلّ يشء‪ ،‬مل نعـد نقبـل‬
‫مهمته هـي خلق الجامل‪،‬‬ ‫ُس َّـلمة القدميـة التـي تقـول إن دور األدب؛ أي ّ‬‫امل َ‬
‫خاصـاً؛ ففـي الحقيقـة يجـب أن نتسـاءل عـن دور‬ ‫ّ‬ ‫وأن يثير فينـا انفعـا ً‬
‫ال‬
‫ونوضحـه بواسـطة تحليـل تـالٍ ‪ ،‬وعـن سـبب األثـر األديب‪ ،‬الـذي‬ ‫ِّ‬ ‫األدب‪،‬‬
‫خاصـ ًا‬
‫ّ‬ ‫جـدي‪ .‬والجـواب هـو أن األدب يشـكِّ ل بعـد ًا‬‫هـو مدخـل لـكلّ نقـد ّ‬
‫مـن أبعـاد الوعـي اإلنسـاين‪ :‬الفـردي‪ ،‬والجامعـي معـاً‪ ،‬يف عالقتـه ذات‬
‫املعنـى املـزدوج مع العـامل‪ :‬إن الكاتب هـو الذي يذكّ ـر اآلخرين مبوضوع‬
‫عالقاتهـم‪ ،‬فيما بينهـم‪ ،‬ومـع األشـياء‪.‬‬
‫نص مشـهور لـ«سـارتر» بخصوص هذا املوضوع(((‪ :‬ما هو األدب؟‬ ‫هناك ّ‬
‫ثالثـة اسـئلة‪ :‬ما الكتابـة؟ ملاذا نكتب؟ وملـن نكتب؟ إن «سـارتر»‪ ،‬وقد فكَّ ر‬
‫نتصرف بطريقـة مـا‪ ،‬حين نشير‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫بالنثر‪ ،‬يجيـب قائلاً ‪ :‬أن نكتـب يعنـي أن‬
‫حين نـدلّ ! لقـد اختـار الكاتـب عـامل عمـل ثانـوي‪« :‬عمـل إزاحـة النقاب»‪:‬‬
‫بقيـة النـاس»‪« ،‬لكي‬ ‫وخاصـة اإلنسـان بالنسـبةإىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫إنـه يكشـف «العـامل‪،‬‬
‫مسـؤولياتهم»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املعـرى ‪ -‬كامـل‬
‫ّ‬ ‫ي َّتخـذ اآلخـرون ‪ -‬وقـد واجهـوا املوضـوع‬
‫كمهمـة تتعلَّـق‬
‫ّ‬ ‫إن كلّ أثـر أديب هـو‪ ،‬إذن‪ ،‬نـداء‪ ،‬ألنـه «يقترح العـامل‬
‫وحر ّيتـه»‪ .‬كذلـك‪ ،‬فـإن نتاجـ ًا فكريـ ًا مـا يسـتهدف‪ ،‬دامئـاً‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫مبـروءة القـارئ‬
‫يعبر عنـه بطريقة ما‪ ،‬ويشـتمل هو نفسـه عىل صـورة عنه‪.‬‬ ‫خاصـ ًا ِّ‬
‫ّ‬ ‫جمهـور ًا‬
‫نسـتطيع‪ ،‬مـن هنـا‪ ،‬أن نقـول إن الجمهـور هـو الـذي يدعو الكاتـب‪ ،‬ويطرح‬

‫((( إن اإلنتاج النقدي البحت لسارتر‪ ،‬قد جمع يف مواقف ‪ .)1948 - 1947( 3 - 2 - 1‬انظر كتابه «ما هو األدب»‬
‫(‪)1947‬؛ وانظر كتابه عن «بودلري» (‪.)1947‬‬

‫‪109‬‬
‫حر َّيتـه‪ :‬إن كلّ أثـر هـو «معـرض»‪ ،‬وغالبـ ًا مـا ال يفهـم خـارج‬
‫أسـئلة عـن ِّ‬
‫بعـض الظـروف التاريخيـة‪.‬‬
‫مقدمـات((( «أندريـه مالـرو»‪ ،‬الـذي يدافـع‪،‬‬‫ِّ‬ ‫إنهـا مفاهيـم نجدهـا يف‬
‫دامئـاً ‪ ،‬عـن اآلثـار التـي لهـا مدلـول‪ ،‬حيـث يقترح الكاتـب‪ ،‬على القـارئ‪،‬‬
‫جليـاً‪ ،‬لـدى «بيـار دو بواديفـر»(((‪،‬‬
‫أن يأخـذ على عاتقـه ‪-‬ونجـد هـذا أيضـاً‪ّ ،‬‬
‫و«موريـس نـادو»(((‪ ،‬و«كلـود روا»((( ‪ -‬ذكـر هـؤالء تحديـدا‪:‬‬
‫خاصـ ًا للأدب» قـد قـاده إىل أن «الف ّنـان الكامـل‬
‫ّ‬ ‫نـادو‪ :‬إن «مفهومـ ًا‬
‫يعبر عـن العـامل وعـن نفسـه‪ ،‬معـاً‪ ،‬مـن‬ ‫هـو اإلنسـان الـذي يسـتطيع أن ّ‬
‫خلال إبـداع يف الزمـن‪ ،‬لكنه خالـد‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬قـادر‪ -‬بدوره‪ -‬على أن يوقظ‬
‫وترصفـات جديـدة»‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫أصـداء‪ ،‬وأن يبعـث انفعـاالت‪ ،‬وأفـكاراً‪،‬‬
‫أوالً‪« -‬يجعـل العـامل‬ ‫بيـار دو بواديفـر‪ :‬إن األدب هـو «وسـاطة» ألنـه‪َّ -‬‬
‫إنسـانياً»‪ :‬وسـط كلّ إبـداع أديب‪« ،‬رس الوجـود اإلنسـاين واندماجـه يف‬
‫الكـون الـذي يحيـط بـه»؛ وألنـه بعـد ذلـك «موضـع ا ِّتهـام لإلنسـان»‪ :‬إن‬
‫الكاتـب يضـع «بالضرورة القـارئ يف مشـاركة»‪.‬‬
‫روا‪« :‬إن األدب هـو األخلاق وهي تعمـل»‪ .‬إن كتابة رواية‪ ،‬أو قصيدة‪ ،‬أو‬
‫مقال تعني طرح سـؤال‪ ،‬أن يتسـاءل الكاتب‪ ،‬ويسـأل»‪.‬‬
‫مهمـة الناقـد‪ ،‬يف هـذه الظـروف هـي‪ -‬قبـل كلّ يشء‪ -‬أن يشرح‬ ‫ّ‬ ‫إن‬
‫مسـتمرة أو مؤقَّتـة‬
‫ّ‬ ‫لقرائـه عـن بنيـة‬
‫خـاص‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫الطريقـة التـي يعبر بهـا نتـاج‬
‫للعـامل اإلنسـاين‪ ،‬فاملوضـوع هـو أن يظهـر النقـد كيـف حقَّـق كاتـب مـا‪،‬‬
‫مهمـة أن يشـهد‪« ،‬أن يكون لـه موقف»‪.‬‬ ‫وخاصـة يف عرصنـا‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫يف عصر مـا‪،‬‬
‫ـد مـا‪ -‬عن‬‫يعبر‪ -‬إىل َح ّ‬
‫ّ‬ ‫حينئـذ‪ ،‬يظهـر مدلـول األثـر واضحـاً‪ ،‬ويسـتطيع أن‬

‫مقدمات أ د‪.‬هـ‪ .‬لورنس‪ ،‬عشيق الليدي شاتريل (‪ ،)1932‬لوليام فوكرن «الحرم» (‪،)1933‬‬ ‫ِّ‬ ‫((( أندريه مالرو‪:‬‬
‫وخاصة ملانيس سبريبر‪« ،‬الخليج الضائع» (‪.)1952‬‬
‫ّ‬
‫((( بيار دو بواديفر‪ :‬تبدل األدب (‪ ،)1953 - 1952‬أندريه مالرو (‪« ،)1954‬تاريخ َح ّي ألدب اليوم (‪.)1958‬‬
‫((( موريس نادو‪ ،‬األدب الحارض (‪ ،)1952‬انظر كتابه‪ ،‬أيض ًا «تاريخ الرسيالية» (‪ .)1945‬‬
‫((( كلود روا‪ ،‬ستاندال‪ ،‬تجارة الكالكسيكيني (‪.)1953‬‬

‫‪110‬‬
‫الحر ّيـة أو الظلـم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قسـم مـن املوقـف أو عـن مجملـه‪ ،‬عـن‬
‫مجـرد «الوضـع يف املكان»‪،‬‬‫َّ‬ ‫إن رشحـاً واضحـ ًا كهـذا‪ ،‬الـذي هـو أكثر من‬
‫يعب‪،‬‬ ‫لعلـم اجتامع ماركيس‪ ،‬ليس‪ -‬دامئاً‪ -‬بالسـهل‪ .‬وبالفعـل‪ ،‬إن الكاتب ال ِّ‬
‫وفعال قد ي َّتجـه األثر نحوه‪ .‬إن وجـود «املواضيع‬
‫فقـط‪ ،‬عـن جمهـور واقعـي ّ‬
‫املشتركة» بين املؤلِّـف والقـارئ ليـس مقياسـ ًا كافيـ ًا لننتهي بوجـود متثيل‬
‫مييـز‪ ،‬مـن بين‬‫للعـامل‪ .‬يطلـب «سـارتر»‪ ،‬يف كتابـه «مـا هـو األدب؟»‪ ،‬أن ِّ‬
‫الجامهير الواقعيـة‪ ،‬الجامهير املمكنـة‪ ،‬التقديرية ألثر؛ وهكـذا يكتب كاتب‬
‫ويعبر‬
‫ِّ‬ ‫القـرن الثامـن عشر لجمهـور برجـوازي ليـس بـه‪ ،‬بعـد‪ ،‬إيديولوجيـة‪،‬‬
‫عـن آمـال هـذه الطبقة‪ ،‬لكـن الطبقـة األرسـتقراطية تقرؤه‪.‬‬
‫يذكـر «غايتـان بيكـون»(((‪ ،‬أن األثـر الـذي ليـس «شـيئاً» كام يظِّ نـه النقد‬
‫العلمـي‪ ،‬غالبـاً‪ ،‬وهـو «وعـي» ي ّتجـه‪ ،‬يف معظـم األحيان‪« ،‬إىل مسـتمعني‬
‫صح أن الف ّنان‪ ،‬وقد احتقره الجمهور املعارص‪،‬‬ ‫وخياليني»؛ فـإذا َّ‬
‫ِّ‬ ‫مثاليين‪،‬‬
‫ِّ‬
‫ـرف ذلـك أم مل يعـرف ‪ -‬حلـم‬ ‫أع‬
‫َ َ‬ ‫سـواء‬ ‫‪-‬‬ ‫سـه‬ ‫ويتلب‬
‫َّ‬ ‫املسـتقبل‪،‬‬ ‫على‬ ‫يراهـن‬
‫عنيـف بالنـاس املجهولين الذين سيكتشـفون نتاجـه‪ ،‬ذات يوم‪.‬‬
‫ضيقـة‬‫يظـل وجهـة نظـر ِّ‬‫إن االقتصـار على اعتبـار األثـر األديب كممثِّـل‪َّ ،‬‬
‫جـداً‪ ،‬إذا ك ّنـا‪ ،‬يف الوقـت نفسـه‪ ،‬ال نـرى فيهـا كثافـة مـا للكينونـة‪ ،‬التـي هي‬‫ّ‬
‫أثـر تجربـة روحيـة فريـدة مـن نوعهـا‪ ،‬مـن حيـث التعريـف‪ :‬أن نـدرك العامل‬
‫تعبر عنـه‪ ،‬أجـل‪ ،‬لكن الذاتيـة التي تعيشـها‪ -‬أيضـاً‪ -‬تخلقه مـن جديد‬ ‫الـذي ِّ‬
‫مجـرد رؤيـة‬
‫َّ‬ ‫يوضـح‬
‫ـم‪ -‬تختـاره؛ لهـذا‪ ،‬ال يكتفـي النقـد الجديـد بـأن ِّ‬ ‫‪ -‬مـن َث َّ‬
‫خـاص‪ -‬منتبـه إىل كلّ ما هو يف األثـر‪ ،‬متعلِّق‬
‫ّ‬ ‫بسـيطة للعـامل‪ ،‬ولكنـه‪ -‬بنوع‬
‫بااللتـزام‪ ،‬ومـن خالل الشـهادة‪ ،‬اختبار رؤيـة‪ ،‬ومن خاللها الشيء املم ّثل‪.‬‬
‫ولكـن‪ ،‬سـيزداد تعلُّـق البعـض باملظهـر الفكـري للتجربـة الباطنيـة للكاتب‪،‬‬
‫أي بنظـام الفكـر الكامـن‪ ،‬وآخـرون سـيكونون أكثر إحساسـ ًا باملغامـرة‬
‫املحركـة للشـخص‪ ،‬و‪ -‬أخيراً‪ -‬سـيبحث آخـرون عـن هـذه العالقـة األصيلـة‬ ‫ِّ‬

‫((( غ‪ .‬بيكون‪ ،‬األدب الفرنيس الجديد (‪ ،)1950‬الكاتب وظلّه (‪ .)1935‬انظر مالرو بقلمه (‪ ،)1953‬بلزاك وعامله‪،‬‬
‫صورة عن الفلسفات املعارصة (‪.)1957‬‬

‫‪111‬‬
‫مما تبقى‪ ،‬يجمعون‬
‫تحدد غايـة األثر‪ .‬وكلّهم‪ّ ،‬‬
‫رد الفعـل‪ ،‬والتي ِّ‬‫التـي تسـبق ّ‬
‫يتعرفـوا عليهـا كقيـم ّإل أصالـة املعيـش وارتباطـه بالتعبير‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يك ال‬
‫النقـد واملدلـوالت امليتافيزيقيـة‪ :‬ليـس «سـارتر» والك ّتـاب الذيـن‬
‫ذكرناهـم فحسـب‪ ،‬بـل هنـاك‪ ،‬أيضـاً‪ :‬كلـود إدمونـد مـاين‪ -‬ر‪.‬م‪ .‬ألبيويـس‪،‬‬
‫ب‪ .‬هـ‪ .‬سـيمون‪ -‬فرانسـيس جانسـون‪ ،‬بعد كلٍّ من جان غرونيه‪ ،‬وموريس‬
‫بالنشـو‪ ،‬ي َّتفقـون على رضورة الكشـف عـن امليتافيزيقيـة واألخلاق‬
‫املتضمنـة يف النتـاج األديب‪ ،‬وأن ينتزعوا منـه مجموع املدلوالت الفكرية‪.‬‬
‫َّ‬
‫كتـب «كلـود إدموند ماين»(((‪ ،‬يف كتابه «حذاء أمبيدو كل»‪« :‬ليس الناقد‬
‫الجدي الـذي ليس األثـر األديب‪ ،‬بالنسـبة إليه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫شـيئ ًا آخـر سـوى هذا القـارئ‬
‫مجـرد تسـلية عابرة‪ ،‬لكنـه انطباع‪ ،‬وعالمة وشـهادة عن حياتـه الروحية التي‬ ‫َّ‬
‫تخل عنه «أمبيـدو كل»‪ ،‬كام يروي‪،‬‬ ‫تركهـا الكاتب‪ ،‬شـأنها هذا الحـذاء الذي ّ‬
‫على حافّـة بـركان اإلتنـا‪ ،‬قبـل أن يرمـي بنفسـه يف مغامـرة أخيرة»‪ّ .‬إل أن‬
‫عامة‪ -‬بواضحة‪ ،‬أو مرتابطـة‪ ،‬وأكرب برهان‬ ‫الفلسـفة الكامنـة للكاتب ليسـت‪َّ -‬‬
‫على ذلـك كونهـا باطنيـة‪ .‬وكلَّام كانت «رسـالة» الكاتـب صعبـة‪ ،‬وبعيدة عن‬
‫ـب على الكاتب نفسـه أن يعيها بوضـوح‪ ،‬وإن كانت‬ ‫املتبـذل‪ ،‬وجديـدة‪َ ،‬ص ُع َ‬
‫كلّ قـواه مشـدودة نحـو الوصـف الدقيـق للواقـع الـذي يحملـه يف نفسـه‪.‬‬
‫على الناقـد أن يتابـع أو يتجاوز هـذه التجربة‪ ،‬وأن يكون‪ ،‬كما يريده «نادو»‪،‬‬
‫علـو الف َّنـان‪ ،‬وأن يقطـع معـه‪ ،‬مـن جديـد‪،‬‬‫«وسـيط ًا يسـعى ألن يرتفـع إىل ّ‬
‫يلـح‬
‫«يجسـد أفضـل جمهـور ّ‬ ‫ِّ‬ ‫يـؤدي إىل اإلبـداع»‪ ،‬جاهـد ًا أن‬
‫الطريـق الـذي ّ‬
‫عليـه‪ ،‬بهـذا‪ ،‬نتاجـه»‪ .‬فـإذا كان األثـر اعرتافـاً‪ ،‬فإنه اعرتاف محسـوب‪ ،‬يرجع‬
‫إىل عـامل عالقـات شـخصية‪ ،‬يجب الكشـف عنها‪.‬‬
‫إن لهـذا الكشـف فائدة مثلَّثة‪ :‬لتوضيح األثـر وإلغنائه‪ ،‬وأن تعطي لرؤية‬
‫قـوة مقنعة أكرب‪ ،‬إذا مـا قاومت التحليـل‪ ،‬وأخري ًا (وهـو الفائدة‬
‫عـامل األثـر ّ‬
‫التقليديـة لكلّ تفكير) أن «تعطي تراجعاً»‪.‬‬

‫((( كلود إدموندماين‪ ،‬حذاء امبيدو كل (‪ ،)1945‬مراجعة كتابه‪ -‬أيضاً‪ -‬عن تاريخ الرواية الفرنسية منذ (‪1918‬‬
‫‪.)1950 -‬‬

‫‪112‬‬
‫موريس بالنشـو‪« :‬إن الناقد وقد علّق الحركة التي يعطي‪ ،‬بواسـطتها‪،‬‬
‫ال عنهـا عالقات مكتوبة‬‫وحر ّيـة لواقـع مركَّ ب من كلمات‪ ،‬يضع بدي ً‬
‫ِّ‬ ‫مع ًنـى‬
‫جديـدة‪ ،‬ومنهـج تعابير راسـخة غايتهـا تثبيت القـدرة التي هـي يف حركة‬
‫دامئـة لألثـر‪ ،‬يف رؤيـة‪ ،‬حيـث تقـف لتبـدو أكثر ظهـوراً‪ ،‬وأ كثر وضوحـاً‪،‬‬
‫وأكرث بسـاطة((( ‪.‬‬
‫إن املناهـج املسـتعملة ميكنهـا أن تكـون «تحليلاً لألبطـال» مقارنـةً‬
‫اآلثـار بواسـطة «تقنيـة إجامعيـة»‪.‬‬
‫وهكـذا‪ ،‬إن كلّ نقـد «ألبرييـس»((( هـو «نقـد أبطـال»‪ :‬مـن هـم الذيـن‬
‫يختارهـم أبطـا ً‬
‫ال كلّ مـن مالـرو‪ ،‬وبرنانـوس‪ ،‬وأنـوي وجيرو دو؟ مـا عـامل‬
‫هـؤالء األبطـال؟ ليـس املوضـوع هنـا «سـيكولوجية مبتذلة للشـخصيات»‬
‫يعبرون عنـه تجـاه العـامل‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫لكنـه بحـث عـن املوقـف امليتافيزيقـي الـذي‬
‫إنهـا تقنيـة ال تنفـي «منهـج تقـارب»؛ و‪ -‬بالفعـل‪ -‬سـيبحث «ألبرييـس»‬
‫يقرب بها‬
‫عـن «النقطـة املشتركة» ألبطال أدب القـرن العرشين‪ ،‬بطريقـة ِّ‬
‫«النقطـة املشتركة» مـن فلسـفة أخلاق الك ّتـاب املرموقين (فـإذا كانـت‬
‫النقطـة األوىل هـي االبتـكار بلا معين‪ ،‬واملغامـرة بلا انقطـاع‪ ،‬بعيـد ًا عن‬
‫ضـد الريـاء‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كلّ مصلحـة ماليـة أو غراميـة‪ ،‬فـإن النقطـة الثانيـة سـتكون‬
‫وضـد العقائديـة‪ ،‬وتبحـث عـن املعنـى امليتافيزيقـي لحضور اإلنسـان يف‬ ‫ّ‬
‫عامـة للأدب‪،‬‬‫العـامل)‪ .‬سـيحلِّل‪ ،‬مـن جهتـه‪« ،‬ب‪ .‬هــ‪ .‬سـيمون» «نزعـة ّ‬
‫(((‬

‫مـن خلال األحـداث» لينتهـي إىل الفلسـفات الباطنيـة للك ّتـاب الكبـار‬
‫وخاص ًـة‪« ،‬ارتدادهـم إىل اإلنسـانية»‪ ،‬و«إعـادة البحـث‪،‬‬‫ّ‬ ‫املعارصيـن‪،‬‬
‫ليـس بالقيـم التقليديـة‪ ،‬فحسـب‪ ،‬بـل بإمكانيـة ُسـلَّم ِق َيـم»‪ .‬إن «روبير‬

‫وخاصةً كتابه الفسحة األدبية (‪.)1953‬‬


‫ّ‬ ‫((( موريس بالنرش‪ :‬لو تريلمون وساد يف زلّة قدم (‪،)1943‬‬
‫((( رينه‪ -‬ماويل البرييس‪ ،‬ثورة ك ّتاب اليوم (‪ ،)1949‬املغامرة يف القرن العرشين (‪)1950‬؛ األوديسة ألندريه‬
‫جيد (‪ ،)1951‬سارتر (‪..)1953‬‬
‫((( ب‪ .‬هـ‪ .‬سيمون‪ :‬اإلنسان امل َّتهم (‪ ،)1950‬محاكمة األبطال (‪)1951‬؛ موريال (‪ ،)1953‬تاريخ األدب الفرنيس‬
‫املعارص (‪.)1957‬‬

‫‪113‬‬
‫دو لوبيـه»(((‪ ،‬وقـد درس نتـاج «كامـو» يك «يصفـه ويتسـاءل عـن ترابطـه»‬
‫توصـل «إىل بحـث أقـرب مـا ميكـن إىل الكمال»‪ ،‬يك يجـد ثانيـةً «نفـس‬‫َّ‬
‫مـرة‪ ،‬يف مظهـر مـن مظاهـره‪ ،‬حيـث‬
‫ّ‬ ‫كلّ‬ ‫د‪،‬‬ ‫يتحـد‬
‫َّ‬ ‫الـذي‬ ‫األسـايس‬ ‫الحـدس‬
‫يفنـى بصـور جديـدة»‪...‬‬
‫مجد إذا اقترص عىل أن يعيد‬ ‫ٍ‬ ‫النقـد و«الشـخص»‪ّ :‬إل أن النقـد يكـون غري‬
‫يجسـده يف مواقـف وكائنـات‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الكتابـة بلغـة فلسـفية مـا‪ ،‬جهـد املؤلِّـف أن‬
‫مطـول لرؤيـة العـامل‪ ،‬حـرص‬ ‫َّ‬ ‫وأن يقيـم نظـام أفـكار مطلـق‪ ،‬ورشح أفـكار‬
‫ألـح كثري ًا‬
‫املؤلّـف على أن ينقلهـا بواسـطة الكتابـة األدبيـة‪ .‬بالحقيقة (وقد َّ‬
‫على ذلـك مونيه‪ ،‬وبيغـان‪ ،‬والشـخصانيون) يجـب أن يكون النقد الفلسـفي‬
‫النيات العميقة‪ ،‬وإن كانت أساسـية‪ ،‬وبعد‬ ‫أقـلّ بحثـ ًا عن «األفـكار» منه عن ّ‬
‫مجـردة‬
‫َّ‬ ‫ذلـك‪ ،‬إدراك امليتافيزيقيـة ليـس كمناقشـة عقيمـة حـول مفاهيـم‬
‫ـي للكاتـب ليعانق‪ ،‬مـن الداخـل‪ ،‬الوضع‬ ‫تفلـت مـن التجربـة‪ ،‬بـل كجهـد َح ّ‬
‫البشري يف مجموعـه‪ .‬إن النقـد‪ ،‬وقـد التـزم هـذا الطريـق‪ ،‬عاد نحـو األصل‬
‫املعيـش للتجربـة التـي يشـهد عليهـا األثر‪ ،‬نحـو االختيارات األساسـية‪.‬‬
‫إننـا لـن نعجـب‪ ،‬بعـد ذلك‪ ،‬مـن أن يسـعى النقـد‪ ،‬يف بعـض الحاالت‪،‬‬
‫يك يصبـح تحليلاً نفسـي ًا لإلبـداع؛ لكنـه تحليل نفسي وليس سـيكولوجياً‪،‬‬
‫واألفضـل أن يقـال عنـه «فلسـفياً» يبحـث عـن دالالت موقف شـامل‪ ،‬ال عن‬
‫اعرتافـات كبـت ما‪.‬‬
‫مـا معنـى (التحليـل النفسي الوجـودي) الشـهري‪ ،‬الـذي حـاول أن‬
‫يحقِّقـه «سـارتر» يف كتابـه عـن «بودلير»‪ ،‬سـوى أن يبحث عـن ّأية طريقة‬
‫يبنـي بهـا املؤلِّـف نفسـه‪ ،‬تدريجيـاً‪ ،‬وذلـك حين يعطـي‪ -‬باختبـارات‬
‫متتاليـة‪ -‬معنـى لحياته وللعـامل معاً‪ .‬يظهر‪ ،‬حينئذ‪ ،‬األثر كنتيجة وسـبب‬
‫َّ‬
‫الخلقـة للـذات؟‬ ‫لهـذه التجربـة‬
‫جيـداً‪ -‬أيضـاً‪ -‬لنقـد املوقـف عنـد «بيكـون»‪ ،‬يف كتابـه‬ ‫إننـا نجـد مثـا ً‬
‫ال ّ‬

‫((( ر‪ .‬دو لوبيه‪ ،‬ألبري كامو (‪ ،)1952‬انظر‪ -‬أيضاً‪ -‬كتاب «النجاة بواسطة األدب» (‪.)1946‬‬

‫‪114‬‬
‫بحـد ذاتها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫«مالـرو بقلمـه» ذلـك أن «بيكـون» يـدرس أقلّ رؤية عـن العامل‬
‫أو التعبير عـن مجتمـع مـن دراسـته للراسـب‪ ،‬الـذي هـو الطريقـة التـي‬
‫عاشـها اإلنسـان‪ ،‬بالفعل‪ ،‬يف عالقتها بهذا العامل وهذا املجتمع‪ .‬إن نتاج‬
‫«مالـرو» قـد درس‪ ،‬باعتبـاره طريقـة للمؤلِّـف حقَّـق بهـا ذاته‪ ،‬وقـد صنعت‬
‫انطالقـاً مـن تجربـة معيشـة طبعـاً‪ ،‬ولكنـه قـد بحـث عنهـا‪ ،‬و ُت ُع ِّمدت‪.‬‬
‫يجـب‪ ،‬لتربيـر مبـادئ كهـذه‪ ،‬أن نراهـن (وهـذا مـا سـنذكره) بـآن واحد‪،‬‬
‫على األثـر‪ ،‬واملشـاركة املجـردة التـي ميكـن أن نقيمهـا عنهـا‪ ،‬ومـا نعـرف‬
‫عـن املؤلّـف وحياتـه واعرتافاتـه والتوضيـح السـيكولوجي‪.‬‬
‫يبـدي «جانسـون»(((‪ ،‬يف كتابـه عـن «مونتين» الحـرص نفسـه على أن‬
‫بتقـدم تجربـة للـذات)‪ .‬وإن «إمانويـل مونيـه»((( (ال‬
‫ُّ‬ ‫(يلـم مـن خلال أثـر‬
‫ّ‬
‫مقدمـة الجـزء الثالـث لـ«مذكِّ ـرات عىل‬
‫ـد قـول مؤلِّـف ِّ‬ ‫يوقـف أبـداً‪ ،‬على َح ّ‬
‫املتحركـة لشـخص؛إنه انتظار‬
‫ِّ‬ ‫املتفحصـة الحيـاة‬
‫ِّ‬ ‫الطريـق»‪ ،‬تحـت نظرتـه‬
‫يهمـه أن يكتشـفه يك يسـتطيع أن يعجـب مبـا هـو‪ ،‬دامئـاً‪،‬‬ ‫اآلخـر الـذي ّ‬
‫التصرف بـه‪ .‬إذن‪ ،‬مـا هـو رائـع يف قبـول هـذا‬‫ُّ‬ ‫شـخص مطلـق‪ ،‬ال ميكـن‬
‫مبراتـه األخيرة لقبـول الحيـاة»‪.‬‬
‫اإلنسـان أو ذاك أن يحيـا ويف ِّ‬
‫وأخيراً‪ ،‬أال يحـرص «ألبير بيغـان»(((‪ ،‬يف كتابه عن «برنانـوس»‪ ،‬يف نظرة‬
‫وتتمـم نظرة «دو بـوس»‪ ،‬عىل ترابـط «برنانوس»‬‫التفهـم التـي تواصل ِّ‬
‫ُّ‬ ‫بالغـة‬
‫اإلنسـان وعـامل «برنانـوس» معاً؟ «كان هـذا الروايئ ميارس وظيفـة كهنوتية‬
‫نبي صـادرة عن رجل‬ ‫ح ّقـة بوسـائل كاتـب»‪ .‬إن اسـتنكاراته كانت اسـتنكارات ّ‬
‫ينـدد بأكاذيـب عرصه ّإل ليشـهد بطريقة أكرث تأكيد ًا ملـا تحدثه هذه‬
‫مل يكـن ِّ‬
‫األكاذيـب مـن جـروح»‪ .‬هنا‪ ،‬توجد حيـاة األثر ووحدتـه الروحية‪.‬‬
‫النقـد و«القصـد»‪ :‬ولـكلّ هـذا‪ ،‬هـل يكفي‪ -‬أيضـاً‪ -‬إذا كان األدب شـهادة‬

‫((( فرانس جانسون‪ :‬مونتني (‪.)1951‬‬


‫((( إمانويل مونيه‪ :‬أمل اليائسني‪ ،‬مذكِّ رات عىل الطريق‪ ،‬الجزء الثالث (‪.)1953‬‬
‫((( ألبري بيغان‪ :‬برنانوس (‪ .)1954‬انظر كتابه أيض ًا عن بسكال (‪ .)1953‬يف هذه املجموعة «الك ّتاب الخالدون»‬
‫ربا‪ -‬أكرث تعبرياً‪.‬‬
‫حيث نرشت مؤلَّفات للنقد الب ّناء التي هي‪َّ -‬‬

‫‪115‬‬
‫ح ّقـة والتزامـاً‪ ،‬أن نبحـث فيما وراء املدلـوالت امليتافيزيقيـة عـن املعنى‬
‫الروحـي لحيـاة؟ أال يجابـه الكاتـب نفسـه والعـامل‪ ،‬بواسـطة اللغـة‪ ،‬قبـل‬
‫كلّ يشء؟ أليـس على الناقـد‪ ،‬يف هـذه الظـروف‪ ،‬أن يكـون كلّ إحساسـه‬
‫منصبـ ًا على الزمـن املنتقـى‪ ،‬حيـث ينعكـس اإلنسـان ووعيـه يف الفعـل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫بحـد ذاته‪ ،‬والذي ينكشـف‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األديب‬ ‫العمـل‬ ‫ننسى‬ ‫أل‬
‫ّ‬ ‫على‬ ‫نحـرص‬ ‫أن‬ ‫يجـب‬
‫جليـ ًا أن يف هذا اال ِّتجاه‬
‫يف وسـطه‪ ،‬قصـد الوعي ومغامرة اإلنسـان‪ .‬ويبدو ّ‬
‫نسـميه «القصـد األديب» ‪ -‬يرتكَّ ز‪ ،‬حاليـاً‪ ،‬جهد «جورج‬
‫ّ‬ ‫الثالـث ‪ -‬النقـد الذي‬
‫بوليـه»‪ ،‬و«جـان بيار ريشـار»‪.‬‬
‫على هـذا النحـو‪ ،‬تابـع «جـورج بوليـه»(((‪ ،‬يف سلسـلة مقـاالت مرموقة‬
‫جـد ًا عـن الك ّتـاب الفرنسـيني العظـام‪ ،‬تجربـة نقديـة غايتهـا الكشـف عـن‬
‫ّ‬
‫الخاصـة‪ ،‬حيـث‬
‫ّ‬ ‫نقطـة االلتقـاء بين الوعـي واألشـياء‪ ،‬مـن خلال الفترة‬
‫الخاصـة عـن العـامل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تخلـق‪ -‬أدبيـاً‪ -‬رؤيتهـا‬
‫يصعـد اللحظـة‬ ‫ّ‬ ‫فـإذا كان «زوال» قـد سـعى‪ ،‬حتـى يف أسـلوبه‪ ،‬إىل أن‬
‫ليعطـي انطباعـ ًا عـن جريـان ال يرحـم؛ فذلـك ألن لديـه إدراك ًا للزمـن‬
‫يعبر األدب‪ ،‬دامئـاً ‪ ،‬بالنسـبة‬
‫ِّ‬ ‫يحـدد مرشوعـه األسـايس‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫املميـز‪ ،‬الـذي‬
‫ّ‬
‫إىل «بوليـه»‪ ،‬عـن تجربـة مـا للزمـن‪ :‬تصبـح هـذه التجربـة‪ ،‬حينئـذ‪ ،‬نظـام‬
‫مرجـع ليسـتخلص املعطيـات امليتافيزيقيـة والشـخصية‪ -‬معـاً‪ -‬ألثـر‪،‬‬
‫أي ملجموعـة جمـل متالمئـة‪ .‬إن الزمـن هـو نفسـه معبر عـن «املسـافة‬
‫الداخليـة»‪ ،‬حيـث يتصـارع اإلنسـان مـع نفسـه‪ ،‬ويلتـزم بعمـق يعيشـه‪،‬‬
‫ويبعـد‪ -‬على الصعيـد األفقـي‪ -‬مشـاعر وكلمات‪.‬‬
‫كتـب «جـان بيـار ريشـار»((( الـذي ال يخفـي إعجابـه بـ«باشلار»‪ ،‬وال مبـا‬
‫يديـن بـه لـ«بوليـه»‪« :‬كان يبـدو يل أن األدب هـو واحـد مـن األماكـن التـي‬
‫ينفضـح فيهـا‪ ،‬مـع كثير مـن البسـاطة بـل السـذاجة‪ ،‬هـذا الجهـد للوعـي‬
‫ليـدرك الكائـن‪ .‬وقـد بذلـت جهـدي يف الفهـم لي َّتجـه نحـو لحظـات اإلبداع‬

‫((( جورج بوليه‪« :‬دراسات عن الزمن اإلنساين»‪ ،‬أجزاء إيلون (‪ ،)1968 - 1949‬املسافة الداخلية (‪.)1952‬‬
‫((( جان بيار ريشار‪ ،‬أدب وإحساس (‪ ،)1954‬وشعر وعمق (‪ ،)1955‬العامل الخيايل ملاالرميه‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫األديب األوىل‪ :‬تلـك اللحظـة التـي يأخذ فيهـا العامل مع ًنى بواسـطة العمل‬
‫الـذي يصنعـه‪ ،‬بواسـطة اللغـة التـي تومـئ إليـه‪ ،‬وتحلّ مشـاكله على نحو‬
‫ماد ي‪.‬‬
‫ّ‬
‫وسـيعيش «ريشـار» مـع «سـتاندال‪ ،‬وفلوبير‪ ،‬وبودلير‪ ،‬أو نرفال‪ ،‬هذه‬
‫يخـط الكاتـب طريقـه‪ ،‬وسـط ما هو إحسـاس‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫املغامـرة التـي‪ -‬بواسـطتها‪-‬‬
‫مقـدر ًا الكثافـات‪ ،‬سـابر ًا الفراغـات‪ ،‬سـاعي ًا إىل املوازنـات‬
‫ِّ‬ ‫شـاعر ًا باللقـاء‪،‬‬
‫أو اختلال التـوازن‪« .‬إن مثّـة مشـهداً‪ ،‬أو لون ًا للسماء‪ ،‬أو انعطافـ ًا لجملة‪،‬‬
‫حلما غامضـ ًا‬
‫ً‬ ‫تضيء هـذه األشـياء االختيـار األخالقـي اللتـزام مـا؛ إن‬
‫املاد ّيـة يلتقـي‪ -‬بالعمـق‪ -‬مـع النظـري األكثر تجريد ًا‬
‫ِّ‬ ‫الفعالـة أو‬
‫ّ‬ ‫للمخيلـة‬
‫ِّ‬
‫يف الفهـم‪ .‬وتتحقَّـق بعـض املواضيـع األساسـية يف األشـياء‪ ،‬بين الناس‪،‬‬
‫يف قلـب اإلحسـاس‪ ،‬يف الرغبة أو يف اللقاء‪ ،‬هـذه املواضيع التي تتناغم‪-‬‬
‫رس ّية‪.‬‬
‫تأمـل الزمـن أو املـوت األكثر ِّ‬ ‫أيضـاً‪ -‬مـع ُّ‬
‫الحكـم النقـدي واملوقـف «الدعـايئ»‪ :‬إن الناقـد‪ ،‬سـواء أراد أن يكشـف‬
‫عـن مفهـوم للعـامل أم أن يقـرأ رسـالة‪ ،‬لـن يسـتطيع أن يبقـى على الحياد‪.‬‬
‫يكونـه النقد الفلسـفي لذاته‬
‫وبالفعـل‪ ،‬بقـدر مـا يكـون مفهـوم األدب الذي ِّ‬
‫حقيقيـاً‪ ،‬فـإن الناقـد‪ -‬باعتبـاره يكتب‪« -‬يشـهد»‪ ،‬بكتاباته‪ ،‬عـن رؤية للعامل‬
‫ّ‬
‫وهـو ‪ -‬شـأنه شـأن املؤلِّـف‪« -‬يف املعركـة»‪ .‬وبالتأكيـد‪ ،‬إنـه مـن «سـارتر»‬
‫أي‬
‫إىل «بيغـان» و«بوليـه»‪ ،‬قـد أبعـدت كلّ عقائديـة؛ ولكن‪ ،‬مل يعـد هناك ّ‬
‫وجوديـاً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بحـث عـن طأمنينـة أوملبيـة‪ ،‬تعـرف أنهـا مسـتحيلة على الناقـد‬
‫متجرداً‪ ،‬بلا «موقف» أو وضـع‪ ،‬ولكنه «ملتـزم»‪ ،‬دامئاً‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫يبقـى الفـرد‪ ،‬أبـداً‪،‬‬
‫وضع ما‬‫ٍ‬ ‫شـاء ذلـك أم أىب‪ .‬وحتـى لـو كتـب عـن املايض‪ ،‬فإنـه يكتب باسـم‬
‫حـايل‪ ،‬بالنسـبة إىل التاريـخ‪« .‬إن الرغبـة يف تجريـد الناقـد مـن تفضيالتـه‬
‫ّ‬
‫الشـخصية‪ ،‬مـن ميولـه‪ ،‬مـن ماضيـه‪ ،‬مـن ثقافتـه‪ ،‬و‪ -‬أكثر مـن ذلـك‪ -‬مـن‬
‫قيمتـه‪ ،‬تعني‪ -‬بالنسـبة إليه‪ -‬الحكـم عليه بالبكم‪( .‬انظـر‪« :‬إدموند ماين»)‪.‬‬
‫اضطـر‬
‫ّ‬ ‫املتفهـم‪ ،‬إذا‬
‫ِّ‬ ‫التحيـز ال يعنـي الحكـم املطلـق‪ .‬إن النقـد‬
‫ُّ‬ ‫ّإل أن‬
‫تحيز األصالة‪ .‬إن النقـد هو رشح مثبت‪.‬‬
‫إىل مواجهـة األثـر فإنـه يكون لديـه ُّ‬
‫(يقـول «س‪.‬ر‪.‬مـاين»‪« :‬إن األدب ملحـق باملعرفـة اإلنسـانية يف مناطـق‬

‫‪117‬‬
‫جديـدة‪ ،‬فـإن النقـد يبرز هـذه األرايض الجديـدة ويقيـم النجـاح‪« ،‬يخـزن‬
‫مباهيتـه ‪ -‬الكاتـب «يف قفـص‬
‫َّ‬ ‫وربـا يكـون متعمقـ ًا(((‪ ،‬فيضـع ‪-‬‬
‫الغلات»‪َّ ،‬‬
‫ّ‬
‫أي يشء؟ هـل هنـاك رسـالة؟ ومـا هي؟‬ ‫اال ِّتهـام»‪ :‬هـل يوجـد تعبير؟ وعـن ّ‬
‫أي يشء؟ إنـه آخـر األمـر ارتبـاط رؤيـة العـامل‬ ‫وباسـم ّ‬
‫ْ‬ ‫مـن ينـادي الكاتـب؟‬
‫املحـك‪ .‬ولكـن‪ ،‬فلنحـدد ذلـك‪ ،‬فمـن‬
‫ّ‬ ‫مـع أصالـة الرسـالة التـي هـي حجـر‬
‫وجهـة نظـر أكثر سـعةً من وجهـة النظـر املاركسـية‪ ،‬والتي تهتـم بالتعبري‬
‫بشـدة «سـواء أكان أصيلاً أم مل يكـن» عـن أيديولوجيـة طبقـة‪ .‬هـل قـال‬
‫الكاتـب شـيئ ًا يطابـق املشـاكل التـي يطرحها الوضـع البرشي يف فترة ما؟‬
‫يجـب أن يجيـب عـن هـذا السـؤال‪ .‬وينتـج عـن ذلـك‪ ،‬مـن جهـة‪ ،‬أن النقـد‬
‫يطلـب شـيئ ًا مـن األدب؛ شـهادة مجديـة‪ ،‬ومن جهة أخـرى ليـس للنقد ّأية‬
‫مزيـة أدبيـة بحتة‪.‬‬
‫األول‪ ،‬وقـد‬
‫إن «نـادو»‪ ،‬و«روا» يصيغـان‪ -‬بوضـوح‪ -‬متطلَّباتهما‪ .‬إن َّ‬
‫جهـد أن يعجـب بـ«األذهـان القـادرة عىل تجسـيد قلق بيئة وعصر وآمالها‪،‬‬
‫يسـعى إىل «نـوع مـن إثـارة للشـفقة»‪ -‬هو مفعـم باالحتقـار للكتـاب الذين‬
‫أمـا بالنسـبة إىل‬
‫غـذاء بلا طعـم‪ ،‬وال كثافـة وجـود‪ّ .‬‬ ‫ً‬ ‫يقدمـون لجمهورهـم‬‫ّ‬
‫ملجـرد أن يعنـى‬
‫َّ‬ ‫«كلـود روا»‪« ،‬فـإن األدب يجـب ّأل يكـون ف ّنـ ًا محتقـر ًا‬
‫بشيء آخـر‪ ،‬ألنـه قد يحـدث أن يصبح فردوسـ ًا مصطنعاً‪ ،‬وطريقة سـاخرة‬
‫بالوجـود يف مـكان آخـر‪ ،‬وتقنيـة لتفكيـك التـآزر»‪.‬‬
‫الفنية‬
‫ّ‬ ‫ـد مـا‪ ،‬بالقيمـة‬
‫ولهـذا‪ ،‬سـيكون النقـد الفلسـفي ال مباليـاً‪ ،‬إىل َح ّ‬
‫للكتب‪ ،‬وأحياناً‪ ،‬كام يف حال بالنشـو‪ ،‬الذي يعلمنا‪ -‬مسـبقاً‪ -‬أن النقد يقوم‬
‫على منتهـى الالمبـاالة‪ .‬وقـد يحـدث‪ -‬أيضـاً‪ -‬أن التقنيـة واألسـلوب ‪ -‬رشط‬
‫بشـدة‪« ،‬مبشروع»‬ ‫ّ‬ ‫يل‪ ،‬يف أدىن الحـدود‪ -‬مرتبطـان‪،‬‬ ‫أن يتوفّـر كمال شـك ّ‬
‫خـاص م َّتخذ‬
‫ّ‬ ‫مجـرد تعبير ملوقـف‬ ‫َّ‬ ‫للفـن» هـو‬
‫ّ‬ ‫«الفـن‬
‫ّ‬ ‫املؤلِّـف‪ .‬وهكـذا‪ ،‬إن‬
‫أمـام الواقـع‪ .‬إن مطابقـة األسـلوب مع تقنيـة التعبري والرسـالة هي األصل‪.‬‬

‫الخاص) باألثر‪:‬‬
‫ّ‬ ‫التقدم (الذي هو اإليقاع‬
‫ُّ‬ ‫((( حينئذ‪ ،‬يصبح للنقد‪ -‬كام يقول ر‪ .‬دو لوبيه‪ -‬تجريباً‪ ،‬بقدر ما يقرتن‬
‫«إنه يخترب ما إذا كان التجاوز ممكناً‪ ،‬فيام وراء التجاوزات التي ُحقّقت»‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫تقـول «ك‪ .‬و ‪ -‬مـاين»‪ :‬إن الطريقـة الوحيـدة املجديـة لتقديـر مزايـا األثـر‬
‫األدبيـة‪ ،‬ليسـت أن يـدع الناقـد نفسـه‪ ،‬يهدهـده سـحر األسـلوب الخـادع‪،‬‬
‫بـل مجابهـة مـا عمل املؤلِّف مـع مـا أراد أن يعمله‪ ،‬ويحكم عىل موسـيقى‬
‫تعبر عنـه»‪ ،‬و‪ -‬مبجمـل‬ ‫ِّ‬ ‫البحـد ذاتهـا بـل بالنسـبة إىل مـا تريـد أن‬
‫ّ‬ ‫جملـة‪،‬‬
‫متميزة عـن معضلة الشـكل‪ :‬إن الكاتب‬ ‫ِّ‬ ‫القـول‪ -‬ال يوجـد معضلـة مضمـون‬
‫الـرديء‪ ،‬هـو‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬إنسـان مل يكتمـل خلقه‪.‬‬
‫نقـد‪ ،‬أم مفهـوم أدب؟‪ :‬وهكـذا‪ ،‬تظهـر‪ ،‬إذن‪ ،‬املواضيـع الكبيرة لنقـد‬
‫متفهـم ومبـدع ودعـايئ معـاً‪ ،‬نهـم للشـهادات واألصالـة يف مواجهـة عامل‬ ‫ِّ‬
‫مجردة؛‬
‫َّ‬ ‫مطلقـة‬ ‫لفلسـفة‬ ‫عميقة‬ ‫مقاييس‬ ‫عـن‬ ‫بعيـدون‬ ‫إننـا‬ ‫ل‪.‬‬‫يتبـد‬
‫َّ‬ ‫يفتـأ‬ ‫ال‬
‫يعبر عـن اإلنسـانية»‪،‬‬ ‫مل يعـد األمـر‪ -‬بالنسـبة إىل الكاتـب‪ -‬أن عليـه «أن ِّ‬
‫«يـرب النفـوس» باألخلاق‬ ‫ّ‬ ‫«إن الطبيعـة اإلنسـانية» هـي‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬ذاتهـا‪ ،‬أو‬
‫محد َديْن‪ .‬إن‬
‫َّ‬ ‫املثلى التـي يقرتحهـا‪ .‬إنـه «مسـؤول‪ ،‬ولكـن يف مـكان وزمـن‬
‫ضد االغرتاب‪،‬‬ ‫مهمتـه أن يأتينـا بأخلاق‪ ،‬ولكـن بقدر ما يوجد‪ ،‬فقط‪ ،‬نضـال ّ‬ ‫َّ‬
‫وألجـل العدالـة‪ ،‬يتطلَّـب فلسـفة عمـل‪ .‬إن األثـر الف ّنـي ال يجـد غايتـه يف‬
‫نفسـه»‪ ،‬إنـه وسـيلة ا ِّتصال‪ ،‬وهو وسـيلة عمـل لفرتة تطـول أو تقرص‪ .‬لكن‪،‬‬
‫ضيـق‬
‫أليـس هنـاك خطـر مـن أن تنتهـي‪ ،‬يف ظـروف كهـذه‪ ،‬إىل مفهـوم ِّ‬
‫بشـدة‪ -‬رضورات ارتبـاط األدب‬ ‫ّ‬ ‫أوالً‪ -‬مفهومـاً َح َّددتـه‪-‬‬‫للأدب؟ ونعنـي‪َّ -‬‬
‫بعصر‪ ،‬فمنـذ الثالثينيـات مـن هـذا العصر‪ ،‬دخـل األدب يف أزمـة‪ ،‬شـعر‬
‫الكاتـب‪ -‬ثانيـةً ‪ -‬برضورة طرح مشـكلة اإلنسـان أمام فلسـفة إنسـانية بالية‪،‬‬
‫وأمـام احترام قيـم برجوازيـة أو فوضوية بشـكل برجوازي‪ .‬ولقـد كان لدينا‬
‫أمثـال «مالـرو»‪ ،‬و«بونانـوس»‪ ،‬و«كامـو»‪ :‬إنهـم يكتبـون روايـات مواقـف‪،‬‬
‫ويعبئـون‬‫ِّ‬ ‫تعكـس قلـق اإلنسـان املعـارص‪ ،‬وتعبر عـن مفارقـات السـاعة‬
‫كتبهـم بضامئـر نصف واعيـة‪ ،‬ونصف غامضة؛ إنـه أدب «بروميثوس»‪ ،‬وفق‬
‫املسـمى بالربجوازيـة‪،‬‬‫ّ‬ ‫ضـد الريـاء املشـدوه‬ ‫ّ‬ ‫تعبير «البرييـس»‪ ،‬م َّتجـه‬
‫والرأسمالية‪ ،‬وحتـى املسـيحية‪.‬‬
‫قـد يقـول بعضهـم‪ :‬طبعـاً‪ ..‬ولكـن‪ ،‬إذا كان أدب ملتـزم التزامـ ًا عميقـ ًا‬
‫وقـد ُو ِلـد‪ ،‬فهـل ينبغـي أن يكـون كلّ أدب ملتزمـاً‪ .‬ونحـن نضيـف‪ :‬إن األثـر‬

‫‪119‬‬
‫أي عمـل سـوى أن يوجـد؛ فإذا مـا أدىل بشـهادة‪ ،‬فإن‬ ‫ليـس لـه‪ ،‬يف البـدء‪ّ ،‬‬
‫هـذا يكـون إضافـة عليـه‪ ،‬ألنه يصبـح‪ -‬بالضرورة‪ -‬موضوعـ ًا اجتامعيـاً‪ ،‬وأن‬
‫املجتمـع سيسـتخدمه بالشـكل الـذي يحتـاج فيـه إليـه‪.‬‬
‫إنـه ملـن املؤكَّ ـد‪ ،‬بالنسـبة إىل نقـد يحكـم‪ ،‬فقـط‪ ،‬باسـم الرتابـط‪ ،‬أو‬
‫لصحـة فكـرة كاتـب‪ ،‬والـذي يرفض‪ -‬مثالً‪ -‬للشـعر كونه شـعراً‪ ،‬والذي يكون‪،‬‬ ‫ّ‬
‫جـداً‪ .‬وبالفعل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ا‬ ‫ق‬‫ضي‬
‫ِّ‬ ‫النقـد‬ ‫هـذا‬ ‫يكـون‬ ‫أن‬ ‫تـه‪،‬‬ ‫عمومي‬
‫َّ‬ ‫كلّ‬ ‫على‬ ‫ً‬
‫ا‬ ‫غريبـ‬ ‫ً‪،‬‬
‫ا‬ ‫أخير‬
‫يدعي‪ -‬مطلقاً‪ -‬أن يكـون الطريق الوحيد‬ ‫َّ‬ ‫ال‬ ‫ً»‬
‫ا‬ ‫«فلسـفي‬ ‫سـم ْيناه‬
‫إن النقـد الذي َّ‬
‫املمكـن للوصـول إىل أثـر‪ ،‬وال يدعي‪ -‬أيضاً‪ -‬أن كلّ أثـر ميكن أن يخضع لهذه‬
‫الطريقـة يف دراسـته‪ .‬ولكـن‪ ،‬على قـدر مـا يجمـع ويتجـاوز‪ ،‬كما ذكرنـا يف‬
‫بدايـة هـذا الفصـل‪ ،‬بعـض املناهـج األكثر غنـى للنقـد الحديـث‪ ،‬يسـعى‬
‫أي وقت مضى‪ ،‬من نبضات‬ ‫النقـد أن يكـون وعيـ ًا للأدب الذي يحيـا‪ ،‬أكرث من ّ‬
‫ـم االتفـاق على أن الوعـي‪ ،‬يف زمننـا هـذا‪ ،‬إن مل‬ ‫اإلنسـانية نفسـها‪ ،‬ولقـد َت َّ‬
‫يكـن كلّ النقـد‪ ،‬فإنـه‪ -‬على األقـلّ ‪ -‬جناحه السـائد‪.‬‬

‫‪120‬‬
Roland Barthes
‫روالن بارث‬
1980 – 1915
Gaston Bachelard
‫غاستون باشالر‬
1962 – 1884
‫خامتة‬

‫عامـة‪ :‬هـل مـن املمكن أن نجمع عـدد ًا من‬‫علينـا‪ ،‬اآلن‪ ،‬أن نلقـي نظـرة ّ‬
‫التأكيـدات املجديـة بالنسـبة إىل نـوع النقد‪ ،‬وموضوعه‪ ،‬وطرقـه‪ ،‬وأن نبدأ‬
‫والحاليـة‪ ،‬معاً؟(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أو ً‬
‫ال بتلخيـص ا ِّتجاهاته األساسـية‬ ‫َّ‬
‫‪ - 1‬هـل الناقـد َحكَ ٌ‬
‫ـم؟ أجـل‪ :‬مبـا أننـا ا َّتفقنـا على أنـه ليس هـذا‪ ،‬فقط‪،‬‬
‫وأنـه ذو صفـة أخـرى‪ ،‬كذلـك‪ ،‬فقلَّما نجـد‪ ،‬اليـوم‪ ،‬حكّامـ ًا مـن العصر‬
‫الذهبـي للنقـد املطلـق‪ ،‬وإن «بانـدا»((( الـذي ح ّقـر النقـد إىل مسـتوى‬
‫الحكـم‪ ،‬يبـدو مبظهـر مـارق‪ ،‬لكـن يصعـب ّأل نحكـم‪ ،‬حتـى لـو أردنـا ذلك‪.‬‬
‫أحـكام قيـم‪ ،‬حتـى حين‬
‫َ‬ ‫يقـول لنـا «أندريـه ترييـف»‪« :‬إن كلّ نقـد يحمـل‬
‫يتظاهـر باالمتنـاع عـن ذلـك‪ .‬لكـن النقـد‪ ،‬على طريقـة «تيبوديـه»‪ ،‬يجـري‬
‫يهتـم ّإل بالكتـب التي يستحسـنها العصر‪ ،‬والحوادث‬ ‫ّ‬ ‫اختيـار ًا مسـبقاً‪ ،‬وال‬
‫محددة بعناية»‪ ،‬وبالفعل‪:‬‬
‫َّ‬ ‫الحالية‪ ،‬و«الرأي العام» لبعض حلقات‬

‫تفضلوا باإلجابة عن األسئلة التي‬


‫((( لهذا‪ ،‬قمنا بتحقيق بني النقّاد املعارصين املرموقني‪ .‬ونحن نشكر الذين َّ‬
‫خاص‪ ،‬يف الصفحات التالية‪ ،‬يجب أن ُتعترب كنخبة من‬ ‫ّ‬ ‫وجهناها إليهم‪ ،‬والشواهد التي ليست ذات مرجع‬ ‫َّ‬
‫الرسائل الشخصية‪.‬‬
‫((( جوليان باندا‪ ،‬يف كتابه «ما هو النقد؟» «عدد من ‪ ،»N. R. F‬أيار‪ .1954 ،‬وانظر للكاتب نفسه «فرنسا‬
‫البيزنطية» (‪ ،)1945‬مثال النقد العنيف واملنهجي وغري النافذ‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫إمـا أن يعتبر الناقـد أن مـن واجبـه ّأل يحكـم؛ نظـر ًا ألنـه ا َّتخـذ هـذا‬ ‫‪ّ -‬‬
‫يتمسـك بـه‪ ،‬ويلخـص «كلـود روا» ذلـك‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫املبـدأ؛ لكنـه يسـتحيل عليـه أن‬
‫بطريقـة ممتـازة‪ ،‬فيقول‪ :‬الحكـم؟ «يجب أال يحكم الناقـد‪ ،‬بالرضورة‪ ،‬لكنه‬
‫ال يسـتطيع أن يفعـل خلاف ذلـك‪ ،‬على وجـه الدقّـة؛ فـإن لديـه سـ َّل ً‬
‫ام من‬
‫قـوي أو ضعيف‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫القيـم‪ ،‬قـد ُب ِنـي عليهـا فكـره‪ ،‬وأنـه ليعـي ذلـك‪ ،‬عىل نحـو‬
‫وأن يرفـض القيـم؛ فهـذا يعنـي قيمـة»‪.‬‬
‫وإمـا أن يرفـض الناقـد أن يحكـم‪ ،‬بدافـع مـن النزاهـة الفكريـة وعـدم‬ ‫‪ّ -‬‬
‫وجـود اليقين؛ فلا يكون وضعـه‪ ،‬حينئـذ‪ّ ،‬إل مؤقَّتـ ًا (كأخالق ديـكارت) وغري‬
‫كل‪ .‬إن عرصنا ال‬
‫مجـد‪ ،‬وهـذا اعتراف «بيغان» بعدائـه للحكـم‪« :‬أن تحكـم؟ ّ‬ ‫ٍ‬
‫ميلك اليقينات املشتركة (االجتامعية‪ ،‬واأليديولوجية) التي اسـتطاعت‪ ،‬يف‬
‫أزمـان أخـرى‪ ،‬أن تعطي السـلطة لنقد حكـم ملفوظ‪ ،‬وال املبـادئ الجاملية‪،‬‬
‫تـؤدي إىل تسلسـل»‪ .‬إننا‬
‫التـي ال ميكـن الجـدال فيهـا‪ ،‬هـي التي تسـتطيع أن ّ‬
‫جيـداً‪ ..‬ومـاذا لـو ملـك النقـد هذا اليقين‪ ،‬وهـذه املبـادئ؟ و«بيغان»‬ ‫نفهـم ِّ‬
‫تشـف يف الناقد؟‬‫ّ‬ ‫اإلنسـان‪ ،‬أمل تكـن لـه معتقداتـه‪ ،‬التي‬
‫‪ - 2‬هـل اإليضـاح «العلمـي» للمؤلَّفـات رضوري؟ مييـل الصحافيـون‬
‫عامـةً ‪ -‬انطباعيـون‪ ،‬بحكـم الضرورة‪ ،‬إىل القـول مـع «جـان‬ ‫الذيـن هـم‪ّ -‬‬
‫جـاك غوتيـه»‪« :‬إن هـذا ال يـأيت بشيء»‪ ،‬وهـذا خطـأ‪ .‬هنـاك خطـر‪ ،‬فقـط‪،‬‬
‫ـد ذاتهـا‪ ،‬ال وسـيلة‪ ،‬أو أن نخلـط غايـة‬ ‫هـو أن نعتبر الشرح كنهايـة يف َح ّ‬
‫جيـداً‪ ،‬بالنسـبة إىل النقـد (وهـذا مـا فعـل باشلار)‪ -‬مثلاً ‪-‬‬
‫نحددهـا ّ‬
‫خاصـة ِّ‬
‫ّ‬
‫غائيتـه األساسـية‪ .‬إن املناهـج العلميـة ممتـازة يف نوعهـا‪ ،‬وأحـد هذه‬‫مـع َّ‬
‫املناهـج الـذي هـو سـعة العلـم‪ ،‬مهما قيـل عنـه‪ ،‬سـيظلّ ُم َّتبعـاً‪ .‬وإذا مل‬
‫أي منهـج‪ ،‬كما يقول «بيغـان»‪« ،‬يحـلّ محلّ الحـدس املبارش»‪،‬‬ ‫يكـن مثّـة ّ‬
‫فـإن كلّ واحـد ميكـن أن يسـمح‪ ،‬يف درجـات مختلفـة‪ ،‬وعلى مسـتويات‬
‫متنوعـة‪ ،‬باالنتقـال مـن الحدس السـاذج إىل الحدس الناضـج‪ ،‬و‪ -‬مبجمل‬ ‫ِّ‬
‫التعـرف إىل‬
‫ُّ‬ ‫القـول‪ -‬أن نضمـن املوضوعيـة‪ ،‬ونقطـع‪ ،‬على نقـاط جزئيـة‪،‬‬

‫‪124‬‬
‫جيـدة يف‬
‫ِّ‬
‫(((‬
‫وربـا تكـون محاولـة «إتيامبـل»‪ ،‬و«غـي ميشـو»‬
‫األصالـة‪ّ .‬‬
‫محاولـة دمـج صيـغ الفهـم هـذه‪.‬‬
‫بقـي أن «األثـر املكتـوب» هو الذي يجب أن يبقى موضـوع النقد األديب‪.‬‬
‫يدعـي رشح‬ ‫«وليـس خلقـه» «بانـدا»‪ ،‬وإن َحـذَ َر «روا» مشروع «تجـاه نقـد َّ‬
‫أثـر‪ ،‬ال أن يشرح مـا ال يوجـد يف هـذا األثر»‪.‬‬
‫أوالً؟ فلنحـذر‪ .‬إن الفهـم‬‫‪ - 3‬أن ننقـد؛ أليـس هـذا يعنـي أن نفهـم‪َّ ،‬‬
‫أدبيـاً‪ -‬يف األثـر‬
‫يتأرجـح بين هـذا الجهـد إلعـادة بنـاء شـخصية تنعكـس‪ّ -‬‬
‫«دو يـوس» وبين عمـل البناء من جديد لفلسـفة باطنيـة «ك‪ .‬أ‪ .‬ماين»‪ ،‬أن‬
‫ن َّتفـق مـع شـخص أو ندرك‪ ،‬بواسـطة العقـل‪ ،‬مركز منهـج‪ .‬إن اإلفراط يف‬
‫كلّ مـن هذيـن الطريقَ ْين خطر‪ .‬يقـول «جان غرونيه»‪« :‬إن اآلثـار هي أفكار‬
‫اختـارت أفـراد ًا مـا‪ ،‬لتجـد وسـيلة ِّ‬
‫تعبر بهـا عـن نفسـها»‪ .‬بالطبـع‪ .‬ولكن‪،‬‬
‫مجردة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫إذا أردنـا أن «ننقـل» املوقـف األسـايس للكاتـب عـن طريـق كتابـة‬
‫فإننـا نخـون األثـر‪ ،‬و‪ -‬بالعكـس‪ -‬إن اال ِّتحـاد مـع «نفـس» فرديـة يفلت من‬
‫املوقـف النقـدي الـذي هـو بحكـم الضرورة «بعيـد»‪ .‬وبالفعـل‪ ،‬إن قـوام‬
‫نتوصـل إىل رؤيـة‬‫َّ‬ ‫مـرده إىل أن‬
‫ُّ‬ ‫املوهبـة‪ ،‬يك ال تخـون األثـر وال النقـد‪،‬‬
‫خلقـة‪ ،‬ال تخلـو مـن الشـعر‪.‬‬ ‫رسه بواسـطة طـرق ّ‬ ‫للعـامل‪ ،‬وأن تشـارك يف ّ‬
‫إن «جـان بـوالن»‪ ،‬الذي يظهر أثره كنوع من النقد السـامي فوق كلّ نشـاط‬

‫عم ميكن أن تكون عليه مقاييس الحكم‬ ‫((( اتيامبل‪ :‬سالمة اآلداب‪ ،‬فصل «عن النقد» (‪ .)1952‬إنه يبحث ّ‬
‫النقدي ومناهجه‪ ،‬ويف النهاية ال يجدها؛ لذلك «فإن النقد الوحيد هو نقد التفصيل» ومن جهة أخرى «إن النقد‬
‫والحواس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يدخل كلّ موارد الفكر‬
‫تو َّصل إىل حدس رئييس للمؤلّفات‪ ،‬يجب‬ ‫ي‬
‫ُ َ‬ ‫يك‬ ‫أنه‬ ‫يرشح‬ ‫(‪)1950‬‬ ‫واألدب»‬ ‫«العلم‬ ‫مقدمته‬ ‫«غي ميشو»‪ ،‬يف‬
‫استخدام منهج جديل يدمج التحليل والرتكيب‪ّ .‬إل أن ذلك غري ممكن‪ّ ،‬إل إذا كانت «الرسائل» التي أمنها‬
‫ترصفه‪ ،‬متاماً‪ .‬من هنا‪ ،‬تأيت فكرة (ونجد هذه الفكرة‪-‬‬
‫ُّ‬ ‫علم النفس وعلم االجتامع األديب قد وضعت تحت‬
‫أيضاً‪ -‬لدى األمرييك «هيامن»‪ ،‬الذي يريد نقد ًا يدمج كل صيغ املحاذاة املمكنة ألثر) «إقامة فرق حقيقية‬
‫مختلف أعامل االختصاصيني»‪ .‬إنه ملن املؤسف أن يرى ميشو‬ ‫ُ‬ ‫للبحث»‪ ،‬بشكل تكون فيه «مرتابطة ومر َّتبة‬
‫أن من الرضوري تأسيس هذه املفاهيم السليمة عىل مفهوم غامض لنقد جامعي» ذي اتِّجاهات صوفية‪،‬‬
‫الجدية‪ .‬وإنه ملن املؤسف‪ -‬أيضاً‪ -‬أن علم النفس يرتبط‪ ،‬عند هذا املؤلّف‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫موضوعه «الفلسفي» بعيد جد ًا عن‬
‫بـ«القدرات املتطابقة»‪ ،‬أو بعلم طباع شطحي‪.‬‬
‫عم يجب أن يكون عليه تحليل الحواس وبناء األثر‪ ،‬والبحث عن‬ ‫لكننا نستطيع أن نقدر أفكار «غي ميشو» ّ‬
‫حددت بعد «جان بريفو»‪ ،‬للنقد الجامعي‪ ،‬بطريقة مرموقة‪.‬‬ ‫مواضيع‪ ..‬وغري ذلك‪ ..‬وهي أفكار قد ّ‬

‫‪125‬‬
‫يتحـدث‪ ،‬بدقّـة كبيرة‪ ،‬عن «مشـاركة الرسّ» وعن «مشـاركة‬‫َّ‬ ‫أديب ونقـدي‪،‬‬
‫دقيقـة»(((؛ وبهـذا‪ ،‬إن النقـد يتجـاوز تناقـض املنهجيـة والعلميـة‪ .‬بكلمـة‬
‫التفهـم املبـدع‪ ،‬يجـد تربيـره مـع كثري‬
‫ُّ‬ ‫مختصرة‪ :‬يبـدو أن النقـد بواسـطة‬
‫مـن التحفُّـظ‪ ،‬وإن مـن املالئـم أن نجيـب بـ(نعـم) عىل السـؤال املطروح‪.‬‬
‫كل‪ ،‬وحتـى لـو كان‬ ‫‪ - 4‬هـل ميكـن أن يكـون نقـد بلا «مقاييـس»؟ ّ‬
‫«رس»‪ ،‬باملعنـى الـذي يقصـده‬ ‫ّ‬ ‫هدفـه‪ -‬بتعبير دقيـق‪ -‬هـو الكشـف عـن‬
‫يتدخـل‪ .‬ويكـون املقيـاس‪ ،‬عنـد بعضهـم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫حكما باطنيـ ًا‬
‫ً‬ ‫«بـوالن» فـإن‬
‫«الدليـل على انحراف شـخيص»‪ ،‬أو الشـعور بكونه معلَّق ًا بواسـطة أثر ‪-‬‬
‫هنـاك آثـار «تسـكن وتبقـى» فينا‪ ،‬وهناك آثار ال تسـتطيع ذلـك‪ -‬بعضهم‬
‫عما «إذا كان املؤلِّـف يعـرف مـا يريـد قولـه»‪ ،‬و«إذا كان‬ ‫يتسـاءلون ّ‬
‫يعـرف كيـف يقولـه» «ترييـف»‪ .‬بعضهـم يعتبر األسـلوب أكثر األشـياء‬
‫تعبير ًا عـن الشـخصية‪ ،‬ويبحثون مثل «أندريه روسـو»((( «عـن الحقيقية‬
‫الباطنيـة» لك ّتـاب ُس ِبرت أغوارهـم من خلال رسـائلهم يف التعبري‪ .‬ومن‬
‫البديهـي أن مقاييـس التقديـر التـي ال تكـون واعية‪ ،‬يف الغالـب‪ ،‬مرتبطة‬
‫جـد ًا بوجهـة نظـر الناقـد؛ لهـذا إن مقاييـس األصالـة قـد تكـون أكثر‬ ‫ّ‬
‫تقـدم النقد‬
‫قبـوالً‪ -‬على العمـوم‪ -‬يف الوقـت الحـارض‪ ،‬وذلـك عائـد إىل ّ‬
‫املعارصيْـن‪.‬‬
‫َ‬ ‫العلمـي‪ ،‬والنقـد الفلسـفي‬
‫أخيراً‪ ،‬إن كلّ الذيـن ال يسـتطيعون أن يكشـفوا‪ ،‬بطريقـة كاملـة‪ ،‬هـذه‬
‫«األصالـة» التـي يصـل إليهـا‪ ،‬فقـط‪ ،‬الذيـن لديهـم فيما وراء التقنيـات يف‬
‫حـارة يف أن يعرفـوا مـا‬
‫تلـق» ورغبـة ّ‬
‫التنقيـب‪ ،‬وفـق تعابير «بيغـان»‪« ،‬موقـف ّ‬
‫هـو املوضـوع‪ ،‬ورغبـة يف اال ِّتصـال باألثر»‪ .‬ويجد النقد نفسـه‪ -‬بالنسـبة إليهم‪-‬‬
‫الحي الـذي ال يقاوم‪.»..‬‬
‫ّ‬ ‫الرسي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫«رذيلـة مثـل الشـعر‪ ،‬ويجيب عن نفس النـداء‬
‫ام يقـول إن مؤلّفـ ًا أدبي ًا‬
‫لكـن‪ ،‬فلنحـذر مـن الخطـأ‪ :‬أن يكـون الناقد حاك ً‬

‫((( فن مفاتيح الشعر‪ :)1944( ،‬انظر‪ ،‬أيضاً‪ :‬أزهار تارب أو الرعب يف اآلداب (‪ ،)1941‬ف‪ .‬ف‪ .‬أو الناقد ‪،1945‬‬
‫مقدمة صغرية لكلّ نقد (‪ ،)1951‬وم‪ .‬ج لوفري‪ ،‬جان بوالن (‪.)1949‬‬
‫األول‪.‬‬
‫املقدمة يف الجزء َّ‬
‫ِّ‬ ‫((( أندريه روسو‪ ،‬أدب القرن العرشين (‪،)1949 - 1937‬‬

‫‪126‬‬
‫أوالً‪ -‬أن يؤخـذ بعين االعتبـار‪« ،‬يوجـد» أو ال يوجـد‪ ،‬وأن تكـون‬
‫يسـتحق‪َّ -‬‬
‫ّ‬
‫العلـوم التابعـة مضمونـ ًا ال ميكـن االسـتغناء عنـه‪ ،‬وإن كانـت غير كافية؛‬
‫الحـي واالسـتقبايل؛ وأ‪ -‬خيراً‪ -‬أن‬
‫ّ‬ ‫التفهـم‬
‫ُّ‬ ‫وأن يكـون الهـدف األسـايس‬
‫يكـون لـكلّ نقـد مقاييسـه‪ -‬إن كل هذه ليسـت ّإل اسـتنتاجات مـن الوقائع‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كاف لتربيـره ولتأسيسـه‪.‬‬ ‫إن وجـود النقـد كنقـد‪ ،‬يف كلّ أشـكاله‪ ،‬غير‬
‫يسـتطيع‪ ،‬فقـط‪ ،‬نقـد النقـد الـذي هـو منـوذج «للمعرفـة املبهمـة»‪ ،‬كما‬
‫يؤمـن لـه أساسـه الحقيقـي‪.‬‬ ‫يقـول «بـوالن»‪ ،‬أن ِّ‬
‫لكـن‪ ،‬وفـق ّأيـة معايير تنتقـد النقـد نفسـه؟ إننـا ننتهـي‪ ،‬أخير ًا (وقـد‬
‫ال للنقاش) إىل إعادة‬ ‫جيداً‪ -‬النقد الفلسـفي‪ ،‬وإن كان كلّه قاب ً‬ ‫شـعر بذلك‪ّ -‬‬
‫النظـر يف جوهـر العمـل األديب‪ ،‬الـذي يشـكِّ ل العمـل النقـدي‪ -‬بالنسـبة‬
‫ما بطريقـة فيهـا كثري من املفارقـة‪ .‬كام يشـكِّ ل‪ ،‬بنوع ما‪،‬‬ ‫متم ً‬
‫قسما ِّ‬ ‫ً‬ ‫إليـه‪-‬‬
‫رس الكلمات‪ ،‬وإقامـة علـم‬ ‫موضحـة ّ‬ ‫ّ‬ ‫وعيـ ًا بـه‪ .‬طـرح ملناقشـة متعاضـدة‪،‬‬
‫جمال‪ ،‬ليـس قبليـاً‪ ،‬بـل فينومينولوجيـ ًا رصفـاً‪ .‬إن بريـس بـاران ‪ ،‬وروالن‬
‫(((‬

‫بـارت((( اللذيـن يـدرس أحدهما ظاهـرة التعبير‪ ،‬ويبحـث اآلخر عـن أخالق‬
‫للغـة كامنـة يف كلّ أدب‪ ،‬يسـهامن يف اإلجابـة عـن املعضلـة الرئيسـية‪.‬‬
‫يسـميه بالرعـب»‬‫ِّ‬ ‫وخاصـة حين ي َّتهـم «بـوالن» اللغـة واآلداب «وهـذا مـا‬ ‫ّ‬
‫أوالً‪ ،‬كموضـوع للمعرفـة‪-‬‬ ‫َّ‬ ‫يأخـذ‪-‬‬ ‫أن‬ ‫ً‪،‬‬
‫ا‬ ‫يقينـ‬ ‫يقيـم‬ ‫أن‬ ‫قبـل‬ ‫نفسـه‪،‬‬ ‫برغـم‬
‫الوسـيلة نفسـها التـي تعـرف بها موضوعـاً‪ ،‬وهـي الطريقة الوحيـدة لتج ُّنب‬
‫«املفارقـة» وتجـاوز التناقـض؛ وهكذا‪ ،‬إنه يسـعى إىل تربير نقـده بنقد من‬
‫أوالً‪ -‬أن املوضـوع معالـج ليحلَّـه بطريقة أفضل‪،‬‬ ‫الدرجـة الثانيـة يفترض‪َّ -‬‬
‫و‪ -‬أخير ًا ‪ -‬إن محاولـة «غايتـان بيكون» يف كتابـه «الكاتب وظلّه»‪ ،‬يف إقامة‬
‫الهويـة التـي كانـت تفهـم سـابقاً‪ ،‬بين النقـد‬‫ّ‬ ‫روابـط جدليـة على نقائـض‬
‫وعلـم الجمال «على النقد أن يتجاوز نفسـه يف مجال علـم الجامل‪ ،‬ولكن‬
‫التوصـل إىل علـم الجمال ّإل انطالقـاً مـن النقـد»‪ ،‬ذات فضـل يف‬ ‫ُّ‬ ‫ال ميكـن‬
‫شـك‪ -‬مشـكلة فلسـفية‪.‬‬ ‫أن تهاجم‪ -‬بوعي‪ -‬مشـكلة «املاهية» التي هي‪ -‬بال ّ‬

‫((( بريس باران‪ ،‬أبحاث عن طبيعة اللغة ووظيفتها‪.‬‬


‫((( روالن بارت‪ ،‬الدرجة الصفر من الكتابة (‪.)1953‬‬

‫‪127‬‬
‫الفهرس‬

‫‪5‬‬ ‫مقدمة ‪...................................................................‬‬


‫ِّ‬

‫‪9‬‬ ‫األول‪ :‬قبل أن يبدأ النقد ‪......................................‬‬


‫الفصل َّ‬
‫(فنـون شـعرية‪ ،‬أم مقـاالت؟ ‪ -‬مقـاالت وخصومـات ‪ -‬النقـد النزيـه ‪ -‬الـروح‬
‫الحديثـة ‪ -‬عقالنيـة أم نسـبية؟ ‪ -‬ظهـور النقـد)‬

‫‪21‬‬ ‫الفصل الثاين‪ :‬محاولة إيجاد نقد مطلق ‪.............................‬‬


‫مبشر بالحقيقـة ‪ -‬سـان مـارك جرياردان ‪ ..‬منشـد الفضيلة ‪-‬‬
‫(نيـزار ‪ّ ..Nisard -‬‬
‫أحكام وأحكام مسـبقة)‬

‫‪27‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬سانت بوف ‪............................................‬‬


‫نحـات‬
‫املـؤرخ وصانـع الصـور ‪ّ -‬‬
‫ِّ‬ ‫املبشر بالرومنطيقيـة ‪-‬‬
‫ِّ‬ ‫(شـاعر أم ناقـد؟ ‪-‬‬
‫املحـدث العالّمـة ‪ -‬فطنـة كئيبـة)‬
‫ِّ‬ ‫العظماء ‪-‬‬

‫‪37‬‬ ‫«علمية» ‪......................‬‬


‫ّ‬ ‫موضوعية‬
‫ّ‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬البحث عن‬
‫‪ - 1‬فيلامن ‪Villemain‬‬
‫(االدعـاءات الفلسـفية ‪ -‬هـل هـو نقـد نفسي؟ ‪ -‬أهو نقد‬‫ِّ‬ ‫‪ - 2‬تين ‪:Taine‬‬
‫اجتامعـي؟ ‪ -‬النظريـة الجاملية)‬
‫‪ - 3‬برونتيير ‪( :Brunetière‬االتِّجاهـات الوضعيـة ‪ -‬العقائديـة ‪ -‬أتبـاع‬
‫الفلسـفة املطلقـة لربونتيري)‬
‫‪ - 4‬هانـكان ‪( :Hennequin‬األثـر والقـارئ‪ ..‬التحليـل االجتامعـي ‪ -‬األثر‬
‫واإلنسـان‪ ..‬التحليـل السـيكولوجي ‪ -‬موضوع النقـد ووظيفته)‬
‫‪ - 5‬بورجيه ‪( :Bourget‬املوقف النسبي ‪ -‬مذهب بورجيه)‬

‫‪55‬‬ ‫االنطباعية ‪..........................................‬‬


‫ّ‬ ‫الفصل الخامس‪:‬‬
‫‪ - 1‬نقـد يعتمـد على اللـذّ ة‪ ..‬جـول لوميتر وأناتـول فرانـس‪( :‬فلسـفة ذاتيـة‬
‫أبيقوريـة ‪ -‬خيانـات رضوريـة)‬
‫‪ - 2‬انفصام أم تعاطف؟‪( ..‬رميي دو غورمون)‬
‫‪ - 3‬نقد نرجيس‪( ..‬أندريه جيد)‬
‫‪ - 4‬االنطباعية الخالدة‪( :‬الصحفيون ‪ -‬كتاب املقاالت)‬
‫‪65‬‬ ‫الفصل السادس‪ :‬سعة العلم ‪.........................................‬‬
‫تحول النقد الجامعي‪( :‬إميل فاغيه ‪ -‬غوستاف النسون)‬ ‫‪ُّ - 1‬‬
‫‪ - 2‬مناهـج سـعة العلـم‪( :‬البحـث عـن التفاصيـل ‪ -‬التاريـخ األديب ‪-‬‬
‫دراسـة وافيـة عـن املؤلِّفين)‬
‫‪ - 3‬محاوالت جديدة‪( :‬التقنية األدبية)‬

‫‪79‬‬ ‫الفصل السابع‪ :‬نقد وإبداع ‪............................................‬‬


‫تغي أم منافسة؟‬ ‫نقد بودلري ‪ُّ -‬‬
‫‪ - 1‬ألبري تيبوديه‪( :‬ذكاء وحدس ‪ -‬تاريخ أديب ونقد َب ّناء)‬
‫‪ - 2‬فالريي ومغامرة الفكر‪( :‬النقد والفالريية ‪ -‬إعادة بناء ذكاء ‪ -‬مقاييس الحكم)‬
‫‪ - 3‬دي بـوس‪ ،‬جالـو‪ ،‬والشـغف باألشـخاص‪( :‬هـل النقـد تفسير‬
‫موسـيقي؟ ‪ -‬هـل يعنـي النقـد أن نقيـم األثـر باالقتراب منـه؟)‬
‫‪ - 4‬نقد الرتكيب‪( :‬جريودو ‪ -‬تريي مولنيه)‬

‫‪93‬‬ ‫مجدد ‪...................................‬‬


‫ِّ‬ ‫وضعي‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثامن ‪ -‬نقد‬
‫‪ - 1‬التحليـل النفسي والنقـد‪( :‬املفاهيـم التحليليـة ‪ -‬التحليـل النفيس األديب ‪-‬‬
‫نقـد األصالـة عنـد باشلار ‪ -‬بارت واملواضيـع ‪ -‬املوضوعـات التيامتية)‬
‫‪ - 2‬النقـد واملاركسـية‪( :‬املفهـوم املاركسي لــ األيديولوجيـة ‪ -‬أسـس‬
‫النقـد املاركسي ‪ -‬األصالـة‪ ..‬حكـم نقـدي وتطبيـق عملي)‬
‫‪ - 3‬التحليل النفيس واملاركسية‬

‫‪107‬‬ ‫الفصل التاسع‪ :‬النقد والفلسفة ‪......................................‬‬


‫(النقـد بوصفـه شـهادة والتزامـ ًا ‪ -‬نـادو ‪ -‬بيـار دو بواديفـر ‪ -‬النقـد‬
‫واملدلـوالت امليتافيزيقيـة ‪ -‬موريس بالنشـو ‪ -‬النقد والشـخص ‪ -‬النقد‬
‫والقصـد ‪ -‬الحكـم النقـدي واملوقـف الدعـايئ ‪ -‬نقـد‪ ،‬أم مفهـوم أدب؟)‬

‫‪123‬‬ ‫خامتة ‪....................................................................‬‬


‫صدر يف سلسلة‬

‫‪2011‬‬
‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫طبائع االستبداد‬ ‫‪1‬‬
‫غسان كنفاين‬ ‫برقوق نيسان‬ ‫‪2‬‬
‫سليامن فياض‬ ‫األمئة األربعة‬ ‫‪3‬‬
‫عمر فاخوري‬ ‫الفصول األربعة‬ ‫‪4‬‬
‫عيل عبدالرازق‬ ‫اإلسالم وأصول الحكم ‪ -‬بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم‬ ‫‪5‬‬
‫نبي‬
‫مالك بن ّ‬ ‫رشوط النهضة‬ ‫‪6‬‬
‫محمد بغدادي‬ ‫صالح جاهني ‪ -‬أمري شعراء العامية‬ ‫‪7‬‬
‫‪2012‬‬
‫أبو القاسم الشايب‬ ‫نداء الحياة ‪ -‬مختارات شعرية ‪ -‬الخيال الشعري عند العرب‬ ‫‪8‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ‬
‫ّ‬ ‫‪9‬‬
‫ميخائيل نعيمة‬ ‫الغربال‬ ‫‪10‬‬
‫الشيخ محمد عبده‬ ‫واملدنية‬
‫ّ‬ ‫اإلسالم بني العلم‬ ‫‪11‬‬
‫بدر شاكر السياب‬ ‫أصوات الشاعر املرتجم ‪ -‬مختارات من قصائده وترجامته‬ ‫‪12‬‬
‫الطاهر حداد‬ ‫امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع‬ ‫‪13‬‬
‫طه حسني‬ ‫الشيخان‬ ‫‪14‬‬
‫محمود درويش‬ ‫ورد أكرث ‪ -‬مختارات شعرية ونرثية‬ ‫‪15‬‬
‫توفيق الحكيم‬ ‫يوميات نائب يف األرياف‬ ‫‪16‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية عمر‬ ‫‪17‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫الصديق‬
‫ّ‬ ‫عبقرية‬ ‫‪18‬‬
‫عيل أحمد الجرجاوي‪/‬صربي حافظ‬ ‫رحلتان إىل اليابان‬ ‫‪19‬‬
‫‪2013‬‬
‫ميخائيل الصقال‬ ‫لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية)‬ ‫‪20‬‬
‫د‪ .‬محمد حسني هيكل‬ ‫ثورة األدب‬ ‫‪21‬‬
‫ريجيس دوبريه‬ ‫يف مديح الحدود‬ ‫‪22‬‬
‫اإلمام محمد عبده‬ ‫السياسية‬
‫ّ‬ ‫الكتابات‬ ‫‪23‬‬
‫عبد الكبري الخطيبي‬ ‫نحو فكر مغاير‬ ‫‪24‬‬
‫روحي الخالدي‬ ‫تاريخ علم األدب‬ ‫‪25‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية خالد‬ ‫‪26‬‬
‫خمسون قصيدة من الشعر العاملي‬ ‫أصوات الضمري‬ ‫‪27‬‬
‫يحيى حقي‬ ‫مرايا يحيى حقي‬ ‫‪28‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية محمد‬ ‫‪29‬‬
‫حوار أجراه محمد الداهي‬ ‫عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب‬ ‫‪30‬‬
‫مجموعة مؤلفني‬ ‫العربية‬
‫ّ‬ ‫فتاوى كبار الك ّتاب واألدباء يف مستقبل اللّغة‬ ‫‪31‬‬
‫‪2014‬‬
‫ترجمة‪ :‬رشف الدين شكري‬ ‫عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد)‬ ‫‪32‬‬
‫خالد النجار‬ ‫عامليني)‬
‫ّ‬ ‫ِساج ُّ‬
‫الرعاة (حوارات مع كُ تاب‬ ‫‪33‬‬
‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬ ‫مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه)‬ ‫‪34‬‬
‫د‪.‬بنسامل ِح ّميش‬ ‫سريت ابن بطوطة وابن خلدون‬
‫َ‬ ‫عن‬ ‫‪35‬‬
‫ابن طفيل‬ ‫حي بن يقظان ‪ -‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني‬ ‫‪36‬‬
‫ميشال سار‬ ‫اإلصبع الصغرية ‪ -‬ترجمة‪ :‬د‪.‬عبدالرحمن بوعيل‬ ‫‪37‬‬
‫محمد إقبال‬ ‫محمد إقبال ‪ -‬مختارات شعرية‬ ‫‪38‬‬
‫ترجمة‪ :‬محمد الجرطي‬ ‫(تأمالت يف الحضارة‪ ،‬والدميوقراطية‪ ،‬والغريية)‬
‫تزفيتان تودوروف ُّ‬ ‫‪39‬‬
‫أحمد رضا حوحو‬ ‫مناذج برشية‬ ‫‪40‬‬
‫د‪.‬زيك نجيب محمود‬ ‫الرشق الف ّنان‬ ‫‪41‬‬
‫ترجمة‪ :‬يارس شعبان‬ ‫تشيخوف ‪ -‬رسائل إيل العائلة‬ ‫‪42‬‬
‫مختارات شعرية‬ ‫إلياس أبو شبكة «العصفور الصغري»‬ ‫‪43‬‬
‫‪2015‬‬
‫األمري شكيب أرسالن‬ ‫ملاذا تأخر املسلمون؟ وملاذا تقدم غريهم؟‬ ‫‪44‬‬
‫عيل املك‬ ‫مختارات من األدب السوداين‬ ‫‪45‬‬
‫ُجرجي زيدان‬ ‫رحلة إىل أوروبا‬ ‫‪46‬‬
‫د‪.‬عبدالدين حمروش‬ ‫عباد يف سنواته األخرية باألرس‬
‫بن َّ‬
‫ُعتمد ُ‬
‫ُ‬ ‫امل‬ ‫‪47‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫تاريخ الفنون وأشهر الصور‬ ‫‪48‬‬
‫إيدوي بلينيل ‪ -‬ترجمة‪ :‬عبداللطيف القريش‬ ‫من أجل املسلمني‬ ‫‪49‬‬
‫يوسف ذَ نّون‬ ‫زِينة املعنى (الكتابة‪ ،‬الخط‪ ،‬الزخرفة)‬ ‫‪50‬‬
‫أحمد فارس الشدياق‬ ‫الواسطة يف معرفة أحوال مالطة‬ ‫‪51‬‬
‫د‪ُ .‬محسن املوسوي‬ ‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬ ‫‪52‬‬
‫إيزابيل إيربهاردت‬ ‫ياسمينة وقصص أخرى‬ ‫‪53‬‬
‫ترجمة وتقديم‪ :‬بوداود عمري‬ ‫آباي (كتاب األقوال)‬ ‫‪54‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبدالسالم الغرياين‬ ‫مأساة واق الواق‬ ‫‪55‬‬
‫‪2016‬‬
‫محمد محمود الزبريي‬ ‫والفن والحضارة)‬
‫ّ‬ ‫واملد (صفحات يف اللّغة واآلداب‬
‫ّ‬ ‫بني الج ْزر‬ ‫‪56‬‬
‫مي زيادة‬ ‫ظلّ الذّ اكرة (حوارات ونصوص من أرشيف «الدوحة»)‬ ‫‪57‬‬
‫قسم التحرير «مجلّة الدوحة»‬ ‫املرصية (‪ )1932‬تحقيق‪ :‬رشيد العفاقي‬
‫ّ‬ ‫الرحلة الف ّنية إىل الديار‬ ‫‪58‬‬
‫أليكيس شوتان ‪-‬تعريب‪ :‬عبد الكريم أبو علو‬ ‫قيرص وكليوبرتا‬ ‫‪59‬‬
‫إسامعيل مظهر‬ ‫الصني وفنون اإلسالم‬ ‫‪60‬‬
‫ترجمة‪ :‬مي عاشور‬ ‫(مختارات ِش ْع ّ‬
‫رية للكاتب الصيني وانغ جو جن)‬ ‫براعم األمل ُ‬
‫ُ‬ ‫‪61‬‬
‫محمد العرويس املطوي‬ ‫ال ّتوت امل ُّر‬ ‫‪62‬‬
‫غونار إيكليوف‬ ‫درب الغريب‬ ‫‪63‬‬
‫أحمد حافظ بك‬ ‫من والد إىل ولده‬ ‫‪64‬‬
‫بول ُبورجيه‬ ‫التلــــميذ‬ ‫‪65‬‬
‫تقديم وترجمة‪ :‬طه باقر‬ ‫ملحمة جلجا ِمش‬
‫َ‬ ‫‪66‬‬
‫الشيخ مصطفى الغالييني‬ ‫أريج ال ّزهر‬
‫ُ‬ ‫‪67‬‬
‫‪2017‬‬
‫محمد فريد سيالة‬
‫ّ‬ ‫اعرتافات إنسان‬ ‫‪68‬‬
‫الطيب صالح‬ ‫مريود‬ ‫‪69‬‬
‫عبدالله كنون‬ ‫املقاالت الصحفية‬ ‫‪70‬‬
‫نجيب محفوظ‬ ‫قصص قصرية‬ ‫‪71‬‬
‫إبراهيم الخطيب‬ ‫بول بولز ‪ -‬يوميات طنجة‬ ‫‪72‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫الحياة‬ ‫فن َ‬ ‫ّ‬ ‫‪73‬‬
‫خري الدين التونيس‬ ‫ك ِف َم ْع ِرف َِة َأ ْح َوالِ ال َْم َم ِل ِ‬
‫ك‬ ‫َأق َْو ُم ال َْم َسا ِل ِ‬ ‫‪74‬‬
‫أحمد أمني‬ ‫َ‬
‫األخلق‬ ‫كتاب‬ ‫‪75‬‬
‫فدوى طوقان‬ ‫ر ِْحلَةٌ َج َب ِل َّيةٌ ر ِْحلَةٌ َص ْع َبة‬ ‫‪76‬‬
‫مجموعة من الكتاب‬ ‫ري ُة ِف قَطَ ر)‬
‫ص َ‬‫صةُ الْقَ ِ‬
‫ارات ِمن َا ْل ِق َّ‬
‫(مخ َت َ‬ ‫ْ‬
‫ـطاف ُ‬ ‫ِق‬ ‫‪77‬‬
‫جول غابرييل فرين‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف اليان رسكيس‬ ‫الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية (من رشقي إفريقية إىل غربيها) ج‪1 :‬‬ ‫‪78‬‬
‫جول غابرييل فرين‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف اليان رسكيس‬ ‫الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية‪ .‬ج‪2 :‬‬ ‫‪79‬‬
‫‪2018‬‬
‫إسحق موىس الحسيني‬ ‫مذكرات دجاجة‬ ‫‪80‬‬
‫نورمان ج‪ .‬فينكلستاين‪ -‬ترجمة‪ :‬أحمد زراقي‬ ‫ماذا يقول غاندي عن الالعنف واملقاومة والشجاعة؟‬ ‫‪81‬‬
‫د‪ .‬نزار شقرون‬ ‫نشأة اللوحة املسندية يف الوطن العريب‬ ‫‪82‬‬
‫إس‪ .‬إس‪ .‬بيو ‪ -‬ترجمة‪ :‬يعقوب رصوف ‪ -‬فارس منر‬ ‫والعظَ َم ِء الق َُدماء‬ ‫ِمن ِس َي ا َ‬
‫ألبْطَ ال ُ‬ ‫‪83‬‬
‫إغناطيوس كراتشكوفسيك‬ ‫العريب‬
‫ّ‬ ‫مقاالت ِف األدب‬ ‫ٌ‬ ‫‪84‬‬
‫صوف‬
‫صموئيل ساميلز ‪ -‬ترجمة‪َ :‬يعقُوب َ ُّ‬ ‫ِ ُّ‬
‫س ال َّن َجاحِ‬ ‫‪85‬‬
‫ُم َعاو َِية ُم َح َّمد ُنور‬ ‫ِم ْن آثَا ِر ُم َعاو َِية ُم َح َّمد ُنور‬ ‫‪86‬‬
‫أحمد الهاشمي‬ ‫الع ْ ِ‬
‫ص َّية‬ ‫ات َ‬ ‫اء املُكَ ات ََب ِ‬
‫ِنش ُ‬
‫إ َ‬ ‫‪87‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبدالرحمن الخمييس وآخرين‬ ‫السوفْيي ِّتي‬ ‫ارات ِم َن ِّ‬
‫الش ْع ِر ُّ‬ ‫أجراس أكتوبر ‪ُ -‬م ْخ َت ٌ‬ ‫‪88‬‬
‫اختارها وترجمها‪ :‬جربا إبراهيم جربا‬ ‫حكايات من الفونتني‬ ‫‪89‬‬
‫ألبريطو مانْغيل ‪ -‬ترجمة ‪ :‬إبراهيم الخطيب‬ ‫مع بورخيس‬ ‫‪90‬‬
‫لوسيان جولدمان‪ ،‬ناتايل ساروت‪ ،‬آالن روب‬ ‫الرواية الجديدة والواقع‬ ‫‪91‬‬
‫غرييه‪ ،‬جينفياف مويلو‪ .‬ترجمة‪ :‬رشيد بنحدو‬
‫‪2019‬‬

‫إميل الوست ‪ -‬ترجمة‪ :‬إدريس امللياين‬ ‫أمازيغية)‬


‫َّ‬ ‫شعبية‬
‫َّ‬ ‫(حكايات‬
‫ٌ‬ ‫غزالن الليل‬ ‫‪92‬‬
‫املؤلف‪ :‬جورج النغالن ‪ -‬ترجمة‪ :‬خليفة ه ّزاع‬ ‫ابةُ‬
‫الذُّ َب َ‬ ‫‪93‬‬
‫عبد اللطيف الوراري‬ ‫ترجمة النفس (السرية الذاتية عند العرب)‬ ‫‪94‬‬
‫أحمد الصفريوي ‪ -‬ترجمة‪ :‬رشيد مرون‬ ‫‪ 95‬صندوق العجائب‬
‫من إصدارات سلسلة كتاب الدوحة‬

You might also like