Professional Documents
Culture Documents
95
مجانًا مع العدد ( )138من مج َّلة «الدوحة» -أبريل 2019 -
ُي َوزَّع ّ
هذا الكتاب:
عب عن آراء مؤ ِّلفه ،وال ُي ِّ
عب -بالرضورة -عن رأي وزارة الثّقافة والرياضة أو مج ّلة الدوحة ُي ِّ
أحمد الصفريوي
صندوق العجائب
ترجمة
رشيد مرون
رواية
تقديم
5
ومـن املفارقـة الكاشـفة أن القـدر األكبر مـن النقـد واالهتمام
والشـهرة (والرتجمـة أيضـاً) كان مـن نصيـب إدريـس الرشايبـي ،بسـبب
التمـرد السـيايس واالجتامعـي الـذي حفلـت بـه روايـة «املايض ُّ شـحنة
السـلطوية الذكوريـة وللعقليـات ُّ البسـيط» يف نقدهـا للعالقـات
املحافظـة داخـل املجتمـع التقليـدي ،يف حين ذهـب مجموعـة مـن
ال ُن َّقـاد إىل اتهـام روايـة الصفريـوي «صنـدوق العجائـب» باإلفـراط يف
تقديـم الجوانـب اإلثنوغرافيـة النمطية عن البيئـة املحل ِّّية ألعني القارئ
املتشـوق لصـورة عـامل رشقـي منكفئ عىل نفسـه ،وفـق الرؤية ِّ الغـريب
االسـترشاقية املعروفـة.
والحقيقـة أن مثـل هـذه األحـكام بعيـد ٌة عـن الصـواب مجانبـةٌ
النـص
ّ للحقيقـة ،بـل وظاملـةٌ لروايـة «صنـدوق العجائـب» ،هـذا
ُؤسـس للروايـة املغربيـة ،الذي كُ تب يف سـنة ،1952وصـدر عن دار امل ِّ
النشر الباريسـية العريقـة (لوسـوي) سـنة ،1954سـنتني قبل اسـتقالل
رس القيمـة الف ِّن ّيـة املغـرب سـنة .1956لـذا يجـدر بنـا أن نتسـاءل عـن ّ
ُتفـردة التـي مكَّ نـت هـذه الرواية مـن عبور مسـافة زمنية ،تزيـد اليوم امل ِّ
الشـعرية
ّ خمـس وسـتني سـنة ،محتفظـة بقـد ٍر عالٍ مـن النضـارة ٍ على
متجـددة مـن متعـة ِّ ُهتمين شـحنةً والنفسـية ،لتمنـح امل ِّ
ّ والبرصيـة
ّ
اكتشـاف جوانـب من حيـاة املجتمع التقليـدي داخل أسـوار مدينة مثل
فـاس العريقـة بتاريخهـا وتقاليدهـا وعمقهـا الحضـاري املبهـر للقـارئ
رس هـذه النضـارة الف ِّن ّيـة
والغـريب كليهما .ويف تقديرنـا ،فـإن ّ ّ العـريب
ّ
املكونـات التـي شـكَّ لت الخلطـة السـحرية ِّ مـن كبير ٍ
عـدد على يتـو َّزع
ُؤسـس ،والتـي سـنحاول لفـت النظر األديب امل ِّ
ّ النـص
ّ الكامنـة وراء هـذا
املكونـات هـي كونهـا: ِّ هنـا ملجموعـة محـدودة منهـا ،ولعـلّ أوىل هـذه
6
النسـاء ،وقبولـه يف رحـاب املجتمـع التقليـدي الذكوري بطبعـهّ .إل أن
عـرفالنـص ،املنتمـي إىل نطـاق مـا أصبـح ُي َ
ّ ذلـك يكشـف أيضـ ًا أن هـذا
نـص يحكي عـن حيـاة النسـاء يف الحقـاً بالتخييـل الـذايت ،إمنـا هـو ٌّ
املجتمـع املغـريب التقليدي يف ذلك الزمـن املُبكِّ ر خالل النصف َّ
األول
مـن القـرن العرشيـن .إضافـة إىل البطـل الصغير الـذي يتوفَّـر ،حسـب
تعبيره ،على «ذاكرة من شـمع رهيف تنطبع عليها األحـداث يف صور ال
تنمحـي بعـد ذلـك أبـداً» ،فإن الروايـة تتمحور حـول حياة وجوه نسـائية
مؤ ِّثـرة ذات حضـو ٍر إنسـاين ونفسي بديـع .وهـذه الشـخصيات هـي ّ
األم
اللـة زبيـدة ،وصديقتهـا اللـة عائشـة ،وجاراتها فاطمـة ،ورحمـة وكنزة،
نتعـرف على حياتهـن اليوميـة ومشـاكلهن وأحالمهـن، َّ وغريهـن .نسـاء
وعقلياتهـن السـاذجة البسـيطة املنسـجمة مـع مجتمـع يحكمـه
املـوروث الشـفوي ،وعـادات األسلاف ،التـي كانـت سـائدة لحظتهـا .إذ
نتخيـل أن األحـداث تـدور يفَّ ـد سـنة ،1915وميكننـا أن إن الكاتـب ُو ِل َ
زمـن طفولتـه يف العرشينيـات من القـرن املايض .إضافة لذلك ،ترسـم
«ذاكرة الشـمع» صور ًا ومالمح نفسـية للنسـوة املذكورات تجعل منهن
بـأول روايـة مغربية مـن الناحيـة الزمنية،فعلاً ،ورغـم أن األمـر يتعلَّـق َّ
الخاصـة،
ّ وتتطـور بفعـل تناقضاتهـا
َّ شـخصيات روائيـة إشـكالية تعيـش
تعثر أحالمهـا عىل صخر الواقع ،دون السـقوط يف تبسـيط وتعـاين مـن ُّ
كاريكاتيري لتهميـش املـرأة وتسـلُّط الرجـل يف إطـار مجتمـع ذكـوري
تقليـدي .على العكـس مـن ذلـك ،يرسـم السـارد صـورة حضـور نسـايئ
يتحـول إىل قـو ٍة جارفـة بفعـل غيـاب الرجل ،وسـعي املـرأة إىل النجاح َّ
يف الكسـب والحـب واسـتقرار عـش الزوجية كأبـرز هاجس يراود نسـاء
متوسلات إىل ذلـك مبـا تعـارف عليـه أنـاس ذلـك ِّ املجتمـع التقليـدي،
العرافين
َّ تتضمـن اللجـوء لخدمـات َّ الزمـن مـن معتقـدات خرافيـة
والعرافـات ،وزيـارة األرضحـة واملقامـات ،وتقديـم النـذور والتشـفُّع َّ
مبقامـات األوليـاء والصلحـاء.
ويبـدو أن جـزء ًا كبير ًا من متعـة القـراءة ينتج عن قدرة السـارد عىل
نقـل القـارئ إىل داخـل العـامل الحرميـي التقليـدي املغلـق يف وجهه،
7
ليكتشـف كيـف عـاش املجتمع النسـايئ يف هـذه الفرتة موضـوع الحب
ً
ناظما ألحالمـه ،كيف عاىن واشـتىك من «غـدر الرجال»، وجعلـه خيطـ ًا
ولكـن أيضـ ًا كيـف َّ
أحبـت املـرأة التقليديـة رجلهـا ودافعـت عنـه يف
لحظـات ضعفـه وهوانـه النفسي واملـادي واالجتامعـي ،إىل درجـة أن
أهـم مـن دوره يف رعاية عـش األرسة وحاميتها من
ّ لعبـت ،أحيانـاً ،دور ًا
نوائـب الدهـر وغـدر الزمان.
وإذا كان «صنـدوق العجائـب» يجترح عالقـة جديـدة مـع نسـاء
العـريب التقليـدي ،فـإن مـن شـأن ذلـك أن ينعكـس على ّ املجتمـع
يقدمـه عـن الرجـل األب أيضـاً .واملفارقة هنا هي إسـدال التصـور الـذي ِّ
ُّ
عالمـات القـوة على الشـخصيات النسـوية مـن ِق َبـل البطـل الرئيسي
الطفـل الصغير سـيدي محمـد ذي السـت سـنوات ،مقابـل تصويـر
ُتعـددة .وهكـذا يعـاين الولـد مـن تسـلُّط
حـاالت الضعـف الذكـوري امل ِّ
األم زبيـدة وإدمانهـا على النميمـة والشـجار مـع الجـارات ،مقابـل لـوذ ّ
األب بالصمـت والغيـاب .وبغـض النظـر عـن النطـاق األرسي الداخلي،
العرافـة
َّ نجـد الثنائيـة تنطبـق على حضـور شـخصيتني أخريين هما
العـرايف» .نجد الطفـل محمد َّ والعـراف الشـيخ الرضيـر «سـيدي َّ كنـزة،
ووالدتـه زبيـدة يرتاحـان لتوقُّعـات الشـيخ الرضير ،ألنهام يلمسـان نوع ًا
مـن االعتراف بالضعـف اإلنسـاين مـن ِق َبلـه ،بينما يرتابان من شـخصية
كنـزة القويـة التـي «تشـبه لبـؤة» ،وتقيـم عالقات شـيطانية مـع عفاريت
تحـرك كوابيـس يف خيـال الصبـي الصغير .لعـلّ ِّ الجـن إىل درجـة أنهـا
الضعـف نفسـه يعتري أيض ًا شـخصية مـوالي العـريب الذي يصبـح مثار
سـخرية النسـاء ،ألنـه «ال ميلـك إمكانيـات إرضـاء نـزوات زوجتـه الثانية
تزوجهـا بحثـ ًا عـن «إنجـاب
الحلاق عبـد الرحمـن ،التـي َّ َّ الشـابة» بنـت
ذريـة وليدفـئ عظامـه املُسـ َّنة يف خريـف عمره» ،قبـل أن يعـود صاغراً
إىل حضـن زوجتـه األوىل البدينـة امل ِّ
ُتقدمة يف العمر ،اللة عائشـة التي
تصبـح نوعـ ًا مـن املعادل للأم املبالغـة يف احتضان هـذا الطفل الكبري
خاصـة وأنهـا ت َّتصـف بالكـرم املـادي وبتحدرها
ّ إىل درجـة خنقـه رمزيـاً،
ٍ
حسـب ونسـب. مـن عائلـة عريقـة ذات
8
والصراع املفترض بين الطفـل إن شـخصية األب الذكـر املهيمـن ِّ
واألب تتـوارى إىل الخلـف ،على عكـس ما جـرت العادة عليـه يف تقاليد
الروايـة الغربيـة .وال تجـد تجسـيد ًا لهـا ّإل يف البعـد االجتامعـي الـذي
النـص ،عبر مالمـح شـخصية الباشـا ّ يتخلَّـل ،يف فترات نـادرة ،ثنايـا
يتسـببون يف إفالس مـوالي العريب، َّ الظـامل والقضـاة الفاسـدين الذيـن
يف تقلبـات القـدر الـذي يجعـل أب الطفـل السـارد يفقـد ،مبحـض
الصدفـة ،رأس مالـه يف السـوق ويضطر للمغـادرة ،بعدما خرس مكانته
نسـاج وصـار مضطـر ًا للعمـل أجير ًا لـدى األغيـار. االجتامعيـة كمعلـم ّ
بـل كـم نجـد مؤثـرة بضعفهـا ووفائهـا شـخصية إدريـس األقـرع الشـاب
الفقير اليتيـم الذي يظـلّ وحده ،دون باقـي أهل الحرفة ،وفيـ ًا ومخلص ًا
النسـاج يف محنتـه ،وال ميكنه
ّ لرئيسـه يف العمـل املعلّـم عبـد السلام
ّإل أن يلـوذ بزبيـدة التـي متنحـه ،على فقرهـا ،طعامـ ًا يقيـم أوده ،يف
إطـار مامرسـتها لـدور ّ
األم املهيمنـة.
لنـص أحمـد الصفريـوي ت َّتضـح منـذ البداية، ّ إن الحمولـة الشـاعرية َّ
واع مـن البطل-السـارد الـذي يعيـش ،منـذ ٍ غير أو واع
ٍ اختيـار هـي بـل
طفولتـه الباكـرة ،نوعـ ًا مـن العزلـة عـن أقرانـه يف الكُ َّتـاب ومعارفـه يف
الحـارة ،وينتصـب «ذاكـرة شـمع رهيـف» يف مواجهـة العـامل املحيـط
بـه .يفشـل يف نسـج عالقـات حقيقيـة مـع معارفـه فيلوذ بعـامل الخيال
الرحـب الشاسـع ،بأحالمه وكوابيسـه وبروايـات الكبار .كما يفهم مبكر ًا
أن «كلمات األغـاين ليـس مـن الضرورة أن يكـون لهـا معنـى واضـح»،
بـل ويعتـزم كتابـة أغـانٍ .وبفعـل عمليـة اسـتبعاد اآلخـر ،يتـم إبـراز
النـص هـو البحـث يف مسـار تشـكّ ل الذَّ ات ّ مكونـات
مكـون أسـايس مـن ِّ ِّ
ً
ومنوهـا انطالقا مـن تفاعلها مـع العوامل ِّ تطورهـا
الحميمـة ،يف مراحـل ُّ
فمكونـات «صنـدوق العجائـب»، ِّ الواقعيـة والرمزيـة املحيطـة بهـا.
تتلخص يف أصداف ُفضلة عند الطفل-السـارد ،التـي َّ اللعبـة الفرديـة امل َّ
مهملـة تلعـب دور ًا ال يقـلّ شـأناً
َ ملونـة وبضعـة مسـامري منمقـة وأزرار َّ َّ
عما يدرسـه الصبـي يف الكُ َّتاب .كما أن الحكايـات العجائبيـة لعبد الله ّ
العـرايف توفـر بدورها مـاد ًة الكتشـاف العامل َّ الب ّقـال ،ونبـوءات سـيدي
9
املحيـط ،ال تقل شـأن ًا عـن ثرثرات النسـوة داخل غرفهـن وولعهن بتتبع
أخبـار العائلات وأرسار البيـوت يف مدينـة تقليديـة «ال يخفـى فيهـا خرب
املكونـات التـي يصوغهـا السـارد يف ِّ أحـد على أحـد» .هـذه إذن هـي
ِّ
حكيـه ،فتسـاهم كلّهـا يف منـو وعيـه املتوثـب الـذي يسـجل مالحظاتـه
حولهـا ليضفـي عليهـا طابعـ ًا حواريـ ًا واضحـ ًا يبرز التمكُّ ـن مـن ِّ
مكونات
فـن الروايـة ،ويبني الشـخصيات ،الرئيسـية منهـا والثانويـة ،واألحداث، ّ
ِّ
اليسيرة منهـا واملُؤثـرة ،وفـق وتيرة تصاعديـة تفضي إىل ُعقـد وأزمات
متزامنـة تتجلى يف غيـاب والـد الطفـل محمـد والـزواج الثـاين ملـوالي
العـريب الـذي هـو مبثابـة غياب ثـانٍ ،ومـرض االبن-السـارد الـذي يبعده
ال للأب املـريب، عـن الكُ َّتـاب وعـن شـخصية الفقيـه التـي تشـكِّ ل معـاد ً
العقـد جميعـ ًا بتـوا ٍز مـع زيـارةمما يشـكِّ ل غيابـ ًا ثالثـاً .إىل أن يتـم حـلّ ُ
العـرايف وكلامتـه ونبوءاتـه الحكيمـة ،وجلسـة الفضفضـة التـي َّ سـيدي
يعقدهـا بحضـور الطفـل ووالدتـه وصديقتهـا األقـرب .مبعنـى أن عقـدة
الروايـة ال تجـد لهـا حلاً يف الواقـع ،ولكـن يف كالم الشـيخ الرضيـر
والنص
ّ الـذي يفعـل فعـل السـحر يف النفـوس واألبـدان ،يجعـل اللُّغـة
والحمولـة الشـاعرية والرمزيـة هـي أسـاس تصالـح املـرأة مـع غيـاب
الرجـل ،والطفـل مع كوابيـس الواقـع ،واملُبدع مع انفلات خيط الرسد
مـن بين يديه.
هكـذا نجـد أن املُؤلِّـف ،أحمد الصفريـوي ،ال يجد غضاضـة يف اتباع
الخاصـة يف قيـادة خيـط السرد بعيـد ًا عـنّ ُتفـرد ورؤيتـه
إحساسـه امل ِّ
الطـرق املألوفـة النمطيـة والسـائدة ،يجتهـد يف ابتـكار رؤيـة غنائيـة
متحـررة مـن
ِّ شـاعرية لألشـياء واألشـخاص وللعالقـات االجتامعيـة
النـص نوعـ ًا مؤكَّ ـد ًا مـن األصالـة
ّ القوالـب الجاهـزة ،وهـو مـا يعطـي
العـريب التقليدي من
ّ اإلبداعيـة عبر تقديـم العالقـات داخـل املجتمـع
عما درجت عليـه الثقافة الغربيـة الحديثة يف هذه وجهـة نظـر مختلفة َّ
املرحلـة التاريخيـة.
امل ِ
ُرتجم
10
صندوق العجائب
األول
الفصل َّ
13
عرافة مشـهورة يف الحـارة .زارتها نسـاء من أحياءالسـفيل لنفـس املنـزل َّ
بعيـدة ومـن فئـات اجتامعيـة متباينـة .امتهنـت قـراءة الطالـع ،ومارسـت
متفرقـة مـن السـحر والشـعوذة .كانـت مـن محبـي طائفـة ِّ أحيانـ ًا أنواعـ ًا
وتعودت أن تسـتضيف شـهري ًا حفلةَّ اغنـاوة (النـاس القادمـون مـن غينيا)،
للموسـيقى والرقـص الزنجـي يعبـق الفضـاء خاللهـا برائحـة البخـور ،فيما
متنعنـا أصـوات الطبـول الهـادرة والقيثـارات اإلفريقيـة مـن النـوم حتـى
صبـاح اليـوم املوايل.
مل أفهـم أيامهـا شـيئ ًا مـن الطقـوس املُعقَّـدة التـي كانـت تتـم يف
الطابـق السـفيل .مـن نافذتنـا الواقعـة يف الطابـق الثـاين مـن البنايـة،
كنـت أشـاهد ،عبر دخـان البخـور ،متايـل األجسـاد املرتاقصة على وقع
آالت موسـيقية غريبـة األشـكال .كنـت أسـمع زغاريـد ،فيام تتراوح ألوان
مالبـس الراقصين بني األزرق الناصـع واألحمر القاين ،مـرور ًا إىل األصفر
الفاقـع .طغـى على الصباحـات التـي تعقـب هذه الحفلات هـدوء حزين
للتوجه
ُّ توجب عيلَّ االسـتيقاظ باكـر ًا
فبـدت أثقـل على القلـب من غريهـاَّ .
خطـوات قليلة مـن منزلنا ،بينما كان صدى ٍ إىل الكُ َّتـاب الواقـع على بعـد
مسـتمرة
ّ رضبـات الطبـول مسـتمر ًا داخـل رأيس ،ورائحـة البخـور الن ّفاذة
الحضـور يف خياشـيمي ،فيما تحوم حويل عفاريت سـود مـن الجن الذي
بهيـاج يقـارب الهذيـان .أكاد أحـس ٍ العرافـة رفقـة جلسـائها
َّ تسـتدعيه
بالعفاريـت تلمسـني بأصابعهـا املحرقـة ،وأسـمع جلجلـة ضحكاتهـا
ثـم أضـع سـبابتي يف أذين كـدوي الرعـد يف األيـام املطيرة العاصفـةّ ،
مـردد ًا بأعلى صـوت اآليـات املسـطرة عىل لوحي الخشـبي ِّ وأرفـع صـويت
بلكنـة يداخلهـا القنـوط.
العرافـة يف الغرفتين اللتين تشـكِّ الن الطابـق السـفيل،
َّ سـكنت
األول إدريـس
وبذلـك كانـت املكرتيـة الرئيسـية .فيما سـكن الطابـق َّ
ٍ
بسـنة واحـدة .كانـت العـواد رفقـة زوجتـه رحمـة وابنتـه التـي تكبرين
َّ
سـمى زينـب ،ومل أحبهـا قط .قطنـت األرسة كلّها غرفةً واحـدة ،وكانت ُت َّ
األم تقـوم بأشـغال الطبـخ على عتبـة املسـكن الصغري .فيام اقتسـمت ّ
14
أرسيت مـع فاطمـة البزيويـة كلّ الطابـق الثـاين ،كانـت نوافذنـا متقابلة،
وتطـل جميعهـا على فنـاء الـدار ،الفنـاء املتقـادم الـذي فقـد زلّيجـه
بريـق ألوانـه منذ زمـنٍ بعيد ،فأصبح يبـدو كام لو كان مرصوفـ ًا بالطوب.
العرافـة على رش أرضيتـه باملـاء وكنسـه كلّ يـوم .فالشـك أن َّ درجـت
عفاريـت الجـن تحـب النظافـة ،كام أن املنظـر الرائق منـح زبونات قارئة
الطالـع شـعور ًا باالرتيـاح منـذ ولوجهـن الـدار ،شـعور ًا بالنقـاء والهدوء
العرافـة عىل قراءة
َّ يدعـو لالستسلام والفضفضـة ،وهي عنارص تسـاعد
ٍ
بدقـة أكرب. املسـتقبل
مل تزرهـا الزبونـات كلّ يـوم .رغـم أن األمـر يبـدو صعب ًا على التصديق،
ٍ
كسـاد طويـل دون فقـد كان يحـلّ بتجارتهـا بين الفينـة واألخـرى موسـم
سـابق إنـذار .فجـأة تتوقـف النسـاء عن طلب إكسير الحب ،وعـن االهتامم
مبـا تحملـه األيام القادمة ،والقلق من املسـتقبل ،مـن آالم الكُ ىل ،والكتف
والبطـن ،تتوقـف العفاريـت عن مضايقتهـن وإلحـاق األذى بهن.
العرافـة لعلاج صحتهـا
َّ تتفـرغ
َّ خلال هـذه الفترة مـن ركـود األعمال،
ِ
الخاصـة التي ال ق َبـل للعلم بفهـم دواخلها .تبدأ
ّ ومـداواة أوجاعهـا الذاتيـة
العفاريـت يف التعبير عـن رغبـات مذهلـة ومتطلّبـة حـول ألـوان القفاطني
يتوجـب عليهـا ارتداؤهـا ،حـول أوقـات ذلـك ،وأنـواع البخـور التـي َّ التـي
العرافـة تتنهد
َّ يتوجـب أن تحرقهـا يف هـذه املناسـبة أو تلـك .وهكـذا تظـل
ُتنوعـة داخـل غيمـة مـن دخـان البخـور ،يف وتتـأوه ،تصـدع بشـكاواها امل ِّ
َّ
عتمـة غرفتهـا الكبيرة املفروشـة مبرتبـات مغلَّفـة بالقماش.
كنـت يف السادسـة مـن العمـر تقريبـاً ،كانـت ذاكـريت مثـل قطعـة مـن
شـمع رهيـف تنطبـع على صفحتهـا األحـداث ،صغريهـا وكبريهـا ،يف صور ٍ
ألبـوم حافل من الصـور التي تؤنس
ٌ ال تنمحـي بعـد ذلـك أبـداً .لذا تبقَّـى يل
اليـوم عزلتـي وتذكِّ ـرين أننـي ما زلـت يف عـامل األحياء.
ربا كنت تعيسـ ًا
عانيـت مـن العزلة وأنـا بعد يف السادسـة من العمرَّ ،
أيضـاً .لكننـي مل أمتلـك لحظتهـا نقـط ارتـكاز متكننـي مـن فهـم عزلتـي
وتعاسـتي.
15
أكـن سـعيد ًا وال تعيسـاً .كنـت فقـط طف ً
ال منعـزالً ،هذا يف الحقيقـة مل ْ
ال للعزلـة بطبيعتـي ،فقـد حاولت ميـا ً أكـن َّ
هـو الشيء الوحيـد األكيـد .مل ْ
ِمـرار ًا نسـج عالقـات مـع زملايئ يف الكُ َّتـاب ،لكنهـا صداقـات مل تطـل
ميـا ً
ال بطبيعتي للحلـم .بدا كثيراً .كنـا ننتمـي لعـوامل متباعـدة ،فقـد كنـت َّ
يل العـامل مكانـاً عجائبيـ ًا مليئـ ًا بالعفاريـت والسـاحرات اللـوايت تربطهـن
خفية غري مرئية .رغبت يف اكتشـاف أرسار الكائنات عالقـات جـوار مع قوى َّ
غير املرئيـة فيما اكتفـى زملايئ الصغـار يف الكُ َّتـاب مبـا هـو محسـوس،
خاصـة إذا اتخـذت املحسوسـات شـكل حلويـات زرقـاء أو ورديـة بلـون ّ
غـروب الشـمس يقضمـون منهـا بانتشـاء .كما داوم زملايئ على مامرسـة
ثم
العـراك باأليـدي ،حيـث يقبـض بعضهـم أعناق بعـضّ ، ألعـاب يتخلَّلهـا ِ
نظـرات قاسـية ليقلِّدوا أصـوات آبائهم ،وشـتائم مقذعـة مقلِّدين ٍ يتبادلـون
الجيران ،وأوامـر صارمـة تذكِّ ـر بفقيـه الكُ َّتـاب!
أكن أهوى التقليد ،بل االستكشاف.
لكنني مل ْ
روى يل عبـد اللـه البقَّـال حكايـة ملـك عجيـب عـاش يف ٍ
بلـد بعيـد مـن
ضيـاء وورد وعطـر وراء بحـر الظلمات والسـور العظيـم .فرغبـت يف عقـد
اتفـاق مـع الكائنـات غير املرئيـة لتحملنـي إىل مـا وراء بحـر الظلمات
والسـور العظيـم ،ألعيـش يف بلـد العطـر والـورد.
أوالً .كما
حدثنـي والـدي عـن الجنـة ،لكـن لندخلهـا علينـا أن منـوت َّ َّ
وأن َم ْن يقتل نفسـه ال يدخل
ّ مـة،ُحر
َّ مل ا الكبائر مـن النفـس قتـل أن
أضـاف ّ
يتبـق يل ّإل االنتظـار ،انتظـار أن أصبـح رجلاً ّ
ثـم َ مملكـة الجنـان .لـذا مل
ألبعـث قـرب نهـر السلسـبيل .االنتظـار! االنتظـار هـو الوجـود .مل أمـوت ُ
تخفنـي فكـرة املـوت لحظتهـا .كنـت أصحـو مـن النـوم وأفعـل مـا ُيطلـب
منـي أن أفعـل .ويف املسـاء تغرب الشـمس فأعـود للنوم بانتظـار الصباح
ألفعـل نفـس الشيء .كنـت أعلـم أن يومـ ًا قـد انضـاف آلخـر ،أن تـوايل
األيـام يفضي لرتاكـم الشـهور والفصـول واألعـوام .عمـري سـت سـنوات،
ثم العـارشة .ويف العارشة يصبح ثـم سـأبلغ السـابعة والثامنة والتاسـعةّ ، ّ
املـرء رجلاً .يف سـن العـارشة سـيمكنني التجـوال وحيـد ًا يف كلّ الحـارة،
16
سـأتجاذب أطـراف الحديـث مـع الباعـة ،سـأتعلَّم الكتابـة ،كتابـة اسـمي
العرافات لقـراءة طالعي ،سـأتعلَّم
َّ األقـل ،سـأمتكن من زيـارة إحـدى
على ّ
ٍ
كلمات سـحرية وأصنـع طالسـم.
بانتظـار كلّ ذلـك ،كنـت يف الكُ َّتـاب وحيـد ًا يف جوقـة مـن الـرؤوس
الحليقـة واألنـوف الرطبـة وسـط طوفـان عارم مـن األصـوات املرتفعة التي
قـرر اليـوم مـن اآليـات.
تقـرأ ُم َّ
ال نحيف ًا بلحية سـوداء
«النوالـة» .كان الفقيـه طوي ً
ّ ُيوجـد الكُ َّتـاب بـدرب
ونظـرات يقـدح منهما الشرر والغضـب .كان يسـكن درب الجيـف .عرفـت
ً
مظلما يفيض آخـره إىل جيـداً .عرفـت أنـه يشـبه مرصانـ ًا رطبـ ًا
هـذا الـدرب ّ
بـاب واطئـة تخـرج منهـا طـوال النهـار أصـوات لغـط نسـاء وبـكاء أطفـال. ٍ
مـرة ،شـهقت بالبـكاء ألننـي ظننتهـا ألول ّ
عندمـا سـمعت هـذه األصـوات َّ
أصـوات جهنـم ،كما وصفهـا أيب ذات مسـاء!
هدأت والديت من روعي قائلةً :
َّ
َّ
للحمام العمومـي غـداً ،سـأعطيك برتقالـة وبيضـة -سترافقني
مسـلوقة ،وسـتجد الفرصـة لتلعـب وتنهـق مثـل حمار!
واصلت شهيقي قائالً:
-ال أريد الذهاب إىل جهنم!
رفعت والديت عينيها إىل السامء ،وقد أذهلتها سذاجتي.
مل أدخـل بعدهـا إىل حمام عمومي قـط ،منذ طفولتي .منعني إحسـاس
غير واضـح بالرهبـة والضيـق على الـدوام مـن تخطـي عتبتـه .يف الحقيقـة
ال أحـب الحاممـات العموميـة املغربيـة .تبعـدين عنهـا الزحمـة والصفاقـة
يتصرف بعضهم بهـا يف مثل هذه األماكن .حتـى وأنا طفل، َّ والالمبـاالة التـي
كنـت أشـم يف األجسـاد املبلّلـة ،داخـل عتمة الحاممـات ،رائحـة الخطيئة.
خاصة يف الوقت الـذي كان بإمكاين فيه أن أرافق والديت
ّ كان شـعور ًا عامئـاً،
إىل حمام النسـاء ،لكنـه إحسـاس كان ُيثير لـدي نوع ًا مـن القلق.
17
مبجـرد وصولنـا صعدنـا على مصطبـة فسـيحة مفروشـة بحصائـر. َّ
التعـري
ِّ بدأنـا ً،
ام سـنتي وسـبعني خمسـة الدخـول، واجـب ينـا أد
َّ وبعدمـا
وسـط جلبـة أصـوات حادة وحركات ال تنتهي لنسـاء نصـف عاريات تخرجن
(((
مـن رصر كبيرة قفاطين ومنصوريـات((( ورساويـل وقمصانـ ًا وأحيكـة
ناصعـة البيـاض .كانـت النسـوة يتكلَّمـن بنبر ٍة مرتفعـة ،يرفقـن الحديـث
ٍ
سـبب ظاهـر. بحـركات تنـم عـن التوتـر ،ويرصخـن دومنـا
يـدي عىل بطني
ّ نزعـت مالبسي وبقيت منبهـر ًا باملشـهد ،واضع ًا كلتا
ٍ
نقـاش مـع صديقـة لقيتها بالصدفـة .كان بجـوار والـديت التـي دخلـت يف
باملـكان أطفـال آخـرون بـدوا مرتاحين للجـو العـام فركضـوا غير مبالني
بعريهم!
وقـت مضى ،وكنـت يف غايـة االقتنـاع أن ٍ شـعرت بالعزلـة أكثر مـن أي
هـذا املـكان ال ميكـن أن يكـون ّإل جهنـم .كادت الغـرف املعتمة السـاخنة
العامـرة ببخـار املـاء والحـرارة الشـديدة أن تفقـدين الوعـي .جلسـت
عما تفعـلالح َّمـى والخـوف .تسـاءلت ّ يف أحـد أركان املـكان أرتعـد مـن ُ
كلّ هـؤالء النسـوة اللـوايت تتجولـن يف أرجـاء املـكان وتركضـن يف كلّ
ـد الغليـان ،والـذي االتجاهـات حاملات سـطو ً
ال مـن املـاء السـاخن إىل َح ِّ
كانـت تطالنـي منـه قطـرات متطايـرة محرقـة لـدى مرورهن مبحـاذايت .أمل
يأتين لالسـتحامم؟ جلسـت واحـدة أو اثنتـان منهـن على األرض ميشـطن
سـوالفهن ويرفعـن الصـوت باالحتجـاج ،لكـن األخريـات مل يعرنهـن أي
اهتمام وواصلـن تجوالهـن املسـتمر حاملات السـطول الخشـبية .بين
الفينـة واألخـرى تـأيت والـديت التـي جرفهـا تيـار الحركـة الدائبـة بعدمـا
توجه يل
اختفـت وسـط غابـة مـن األرجـل واأليـادي ،تبرز لهنيهـة قصيرةِّ ،
ثـم تختفـي مـن جديـد .كان أمـر ًا أو كلمـة تقريـع ال أمتكَّ ـن مـن سماعهاّ ،
بالقـرب منـي سـطلٌ فـارغ يوجـد بـه مشـط وقـدح مـن نحـاس المـع وبضع
18
ثـم أكلـت منهـا
وقشتهـاّ ،
برتقـاالت وبيضـات مسـلوقة .تناولـت برتقالـة َّ
على مهـل بتلـذُّ ذ ،بينما تاهـت نظـرايت يف العتمة .بـدأت أفقد اإلحسـاس
ثم نسـيتبالخجـل مـن جسـدي الـذي غطّ تـه قطـرات غليظـة مـن العـرقّ ،
وجـود النسـوة وحركاتهـن املحمومـة ،سـطولهن الخشـبية وتجوالهن غري
علي والـديت فجـأة وأغرقتنـي يف
ّ انقضـت
ّ املفهـوم يف أرجـاء املـكان.
سـطل مـاء ،غطّ ـت رأيس مبحلـول طينـي ذي رائحـة نفـاذة رغـم رصاخـي
ودموعـي .أغرقتنـي يف سـيلٍ من نا ٍر وشـتائم .أخرجتني من السـطل وألقت
ركـن مـن أركان املـكان مثـل حزمـة بضائع قبل أن تختفـي من جديد يب يف ٍ
ُتحركـة .مل يطل إحسـايس بالضيق .أدخلت يدي يف سـطل الدوامـة امل ِّ
يف َّ
املأكـوالت وأخرجـت منـه بيضـة مسـلوقة ،فقـد كنـت أعشـق هـذا النـوع
مـن الطعـام .بينما مل أُ ّ
تـم بعـد صفـار البيضـة ،عـادت والـديت مـن جديـد
شلا ً
ال مـن املاء الحـارق وآخر شـديد البرودة ،قبل علي بالتنـاوب ّوألقـت ّ
أن تل ّفنـي يف فوطـة وتحملنـي نصـف ميت إىل حيث يوجـد الهواء املنعش
مبصطبـة املالبـس .سـمعتها تخاطـب عاملـة التحصيـل:
-اللـة فطومـة ،أتـرك عنـدك ولـدي الصغير .أرجـو أن تهتمـي بـه ،مل
أحصـل بعـد على قطـرة مـاء واحـدة مـن أجـل االغتسـال!
ثم التفتت إيلَّ:
ّ
-البس ثيابك يا رأس البصلة! هاك برتقالة لتزجية الوقت.
وجدت نفيس وحيد ًا فأرخيت يدي عىل بطني السـاخن ،شـعرت بنفيس
وقـت آخـر وسـط كلّ هـؤالء النسـوة الغريبـات ورصرٍ غبـاء مـن أي
ً أكثر
ثم
ثيابهـن الضخمـة .ارتديـت مالبيس .جـاءت والديت ،فركـت رأيس بفوطة ّ
وجهـت يل كلّ أنـواع التعليمات قبـل أن
ل ّفتهـا حولـه وعقدتهـا عنـد ذقنـيَّ ،
تختفـي مـن جديـد يف البـاب املفضي للغرف السـاخنة ،الباب الـذي تخرج
منـه أنـواع مـن الهـرج واملـرج .مكثـت فـوق املصطبـة إىل حلـول املسـاء
صـداع حاد.
ٍ قبـل أن تلحـق يب والـديت منهكـة القـوى ،شـاكيةً مـن
الحـظ أن الذهـاب لالغتسـال يف الحمام كان يتـم يف
ّ مـن ُحسـن
19
أمـي أن يضايقهـا وجـود الطفـل األخـرق الـذيمناسـبات نـادرة .مل ترغـب ّ
كنتـه .ويف غيابهـا كنـت أرخـي العنـان لخيـايل الخجـول .أركـض حافيـ ًا
يف زقاقنـا مقلِّـد ًا وتيرة عـدو الخيـول ،أصهـل بخيلاء وأرفـس بين الفينـة
واألخـرى .وكنـت أُفـرغ أحيانـ ًا صندوق عجائبـي عىل األرض قبـل أن أُحيص
التأمـل فيـه قبـل أن أداعبـه
ُّ زر مـن خـزف ،أُطيـل كنـوزهُ .يثير حـوايس ٌّ
عنصر ال ميكـن إدراكـه بالعين وال باللمـس،
ٌ الـزر
ِّ بأصابعـي .كان يف هـذا
جمال مبهـر يسـتعيص على كلّ تعبير ،إىل درجـة أنني أحسسـت بالعجز
مكوناتـه .أكاد أبكي عندمـا أحـس بحضـور هـذا ِّ عـن االسـتمتاع بكامـل
الشيء غير املـريئ الـذي ال ميكـن ملسـه وال إدراكـه ،الذي ما كان بوسـع
زر من خزف مجـرد ٍّ
َّ َّ
وتجلى كلّ هـذا يف تذوقـه رغـم ذوقـه اللذيـذ.اللسـان ُّ
صـار لـه ،بالنسـبة يل ،روح وخصائـص طلسـم غامـض.
تضمـن صنـدوق العجائـب مجموعـة مـن األشـياء املتباينـة امتلكـت َّ
لـدي وحـدي معنـى معروفـاً :كـرات مـن زجـاج ،حلقـات مـن نحـاس ،قفل ّ
مذهبـة الـرؤوس ،محابـر فارغـة ،أزرار
صغير قديـم دون مفتـاح ،مسـامري َّ
زجـاج شـفاف وأخرى مـن معدن ٍ مزينـة وأخـرى غير مصبوغـة .أشـياء مـن
َّ
ٍ
حدثتنـي كلّ قطعـة منهـا بلغـة مختلفـة .عالقـايت مـع هـذهأو مـن صـدفَّ .
عالقـات أخـرى،
ٌ لـدي بالطبـع
ّ األشـياء كانـت صداقـايت الوحيـدة .كانـت
يف عـامل الخيـال ،مـع أمـراء شـجعان وعاملقـة طيبـي القلـوب .لكـن
أمـا كـرايت
هـذه املخلوقـات كانـت تسـكن يف مناطـق خبيئـة مـن خيـايلّ .
الزجاجيـة وأزراري ومسـامريي فكانـت موجـودة هنـا ،مسـتلقية يف علبتهـا
املسـتطيلة ،ومسـتعدة لنجـديت يف لحظـات الحـزن والعزلـة.
تعـودت والـديت ،يف اليـوم املـوايل لذهابهـا إىل الحمام العمومـي، َّ
أن تحكي لجميـع سـكان الـدار تفاصيـل مـا جـرى بـه مـن طرائـف .تقلّـد
طريقـة كالم إحـدى النسـوة املعروفـات يف الحـي أو طريقة مشي جارة ال
الحمم وتشـتمّ تحبهـا .تكيـل املدائـح للمكلَّفـة باسـتخالص واجـب دخول
املدلِّـكات ،فهـن أصـل الـداء ومصدر كلّ أنواع املشـاكل .بطبيعـة الحال،
كان الحمام العمومـي مكانـ ًا ملامرسـة النميمـة بامتيـاز ،ميكـن أن تلتقـي
20
املـرأة فيـه بنسـاء الحارات البعيـدة .ذهبت إليه النسـاء لالغتسـال ،ولكن
لتقصي األخبـار حـول مـا يجـري ويـدور .غ َّنـت فيـه إحداهـن أحيانـ ًا
ّ أيضـ ًا
أغنيـة رسعـان مـا تلقَّـف الجميـع كلامتهـا وأصبحـت على كلّ لسـان يف
الحـارة كلّها .حدثت أحيان ًا معارك بني النسـاء تنتف فيها شـعور السـوالف
وتنـدر طيلـة األيـام
ُّ ومناديـل الـرأس ،فوجـدت فيهـا والـديت فرصـة تنكيـت
املواليـة مـن األسـبوع بدارهـا أمـام صديقاتهـا وزائراتهـا العابـرات .كانـت
بتقديـم عـام لشـخصيات املعركـة النسـائية واصفـةً كلّ واحـدة مـن ٍ تبـدأ
خلال نبرات صوتهـا وعيوب جسـدها وطريقة نظرتهـا وكالمها قبـل أن متر
وتضخمهـا قبل نهايتهـا بالدموع أو ّ املشـادة
ّ تتبـع وقوع
لعقـدة األحـداثّ ،ُ
بتبـادل املصافحـة والعنـاق.
أعجبـت الجـارات كثير ًا بحكايات والديت .لكنني مل أحـب ّ
قط هذا النوع
التبجـح واالسـتعراض .بالنسـبة يل ،كان للفرحـة املفرطـة لوالـديت ُّ مـن
يتحـول حامسـها الصباحـي ،ال محالـة ،يف املسـاء إىل
َّ نتائـج مزعجـة .إذ
ملشـادة أو بكاء.
ّ سـبب
متأخـر ًا إىل الـدار ،ونـادر ًا مـا وجـد األرسة
ِّ درج والـدي على العـودة
قصـة مزعجـة مـنيتحمـل غالبـ ًا سماع ّ
َّ مبـزاج رائـق .كان عليـه أن
ٍ تنتظـره
طـرف والـديت التـي امتلكـت موهبـة تحويـل خرب يومـي عارض إىل ما يشـبه
كارثـة عظمـى.
قـررت الجـارة رحمة أن تنرش غسـيلها يـوم االثنني، وذلـك مـا حـدث عندما َّ
بينما كان هـذا اليـوم مخصصـ ًا حرصيـ ًا لوالـديت .احتلَّـت رحمـة الفنـاء منـذ
الصبـاح الباكر وعمرته بقطع الحطب ،بأحواض تسـتخدمها كمغاسـل للثياب،
ال وقفطانـ ًا متهالكين
بسـطول وأكـوام مـن املالبـس املتسـخة .ارتـدت رسوا ً
محركـة محتوى األحـواض بقصبة ورشعـت يف إحـراق الحطـب لتسـخني املاء ِّ
طويلـة ،العنـة رداءة الحطـب الـذي يعطـي دخانـ ًا أكثر مـن السـخونة ،العنـة
الغشاشين ،داعيـة عليهـم بالويـل والثبور. ّ باعـة الصابـون األسـود
ومـدت الحبال يف
ّ مل يكفهـا الفناء ملامرسـة نشـاطها فقصدت السـطح
ثم عـادت لتثري زوابع
كلّ اتجـاه ،أعلتهـا بقضبـان مـن أغصان شـجر التـوتّ ،
21
فقاعـات الصابـون يف الفنـاء .أرسـلتني والديت هذا اليـوم إىل الكُ َّتاب مرتدي ًا
فقـط قميصـ ًا تحـت جلبـايب ،تقريبـ ًا دون وجبـة إفطـار ،مـا عـدا قطعـة مـن
خبـز مدهونـة بسـمنٍ مالـح وثلاث زيتونـات .فقـدت غرفتنـا أيضـ ًا مظهرهـا
واملخـدات دون أغلفتهـا القامشـية َّ العـادي .كانـت املرتبـات دون أغطيـة،
املعهـودة ،وبـدت النافـذة عاريـةً مـن دون سـتارها ذي الـوردات الحمراء.
ومتده عىل
ّ خصصـت والـديت األمسـية لرتتيـب املالبس .تأخـذ قميصـاً َّ
ثـم تطويـه بعدمـا وجهـت ّ نظافتـه، مـن للتأكـد فيـه النظـر ِّـق
ق تد ركبتهـا،
ً
كميـه إىل داخلـه يف حركـة دقيقـة متوازنة .رتقـت أحيانا بعـض الثياب .مل َّ
تحرك مندفهـا أو تدير فضل ،بـدوري ،أن أراها ِّ ُ
تحـب الخياطـة قـط ،وكنـت أ ّ ّ
آلـة الغـزل .كانـت اإلبـرة أداة مدينيـة متثل بالنسـبة يل عالمة مـن عالمات
الخمـول .توارثـت عائلتـي فكـرة كـون املهنـة النبيلـة الوحيـدة الصالحـة
للمـرأة هـي غـزل الصـوف .وكان اسـتعامل اإلبـرة يكاد يعـادل التنكُّ ـر لهذه
ننـس أبـد ًا جذورنا
َ املهنـة .أصبحنـا مـن أهـل فاس فقـط بالصدفـة ،لذا مل
الجبليـة كسـادة للبادية.
مشـاداتها مـع
َّ مل تفلـت والـديت فرصـة للتذكير بهـذه الجـذور خلال
ٍ
نسـب جاراتهـا .وتجـرأت على االدعـاء أمـام الجـارة رحمـة أننـا ننحـدر مـن
نبـوي رشيـف!
ٍّ
-هنـاك وثائـق تثبـت عراقـة نسـبنا ،أوراق يحتفـظ بهـا إمـام قريتنا حتى
ـن تكونين؟ زوجـة صانـع محاريـث بلا أصـل وال فصـل فم ْ
أمـا أنـت َ
اليـومّ .
تتجـرأ عىل نرش غسـيل مالبسـها املليئـة بالقمل قرب غسـييل الذي نظّ فته
شـغالة حافيـة األقـدام وسـخة
مجـرد متسـولةّ ، َّ ـن تكونين،
للتـو؟ أعـرف َم ْ
ـن يكـون زوجـك! هـذا املخلوق ومقملـة تلحـس األطبـاق وال تشـبع أبـداً! َم ْ
ّ
الذميـم الذي تـأكل العثة لحيته وينهق مثل حامر! ماذا تقولني؟ تشـكونني
ِ
ليـأت وسـأريه مـا تسـتطيع أن تفعل به لزوجـك؟ وهـل أخـاف مـن زوجـك؟
أمـا أنـت فاصمتي واجمعـي أطامرك مـن هنا. امـرأة عريقـة األصـول مثليّ .
كلّ الجـارات سيشـهدن لصالحـي ،أنـت البادئـة ،ولسـت فتاة صغيرة حتى
أسـمح لسـاقطة مثلك أن تشـتمني!
22
مـن نافـذة غرفتنـا يف الطابـق الثـاين كنـت أتتبـع املشـهد فيام تسـجل
الجمـل العنيفة.
ذاكـريت الشـمعية ُ
يف ذات املسـاء سـمعت ُخطـى والـدي تطـرق درجـات سـلَّم املنـزل
وتوجـه صـوب الحشـيةَّ بينما يثقـل النـوم أجفـاين .دخـل على عادتـه
أعـدت والـديت طعـام العشـاء ووضعـت الطبـق املوضوعـة على األرضَّ .
إىل جنـب الخبـز على املائـدة املسـتديرة.
كان مثّة إحساس عام يف الجو بأنها متوترة.
رشع والـدي يف األكل دون أن يطـرح أي سـؤال .واصلت والديت التعبري
ثـم رفعت صوتها فجـأة قائلةً :
عـن غضبهـا الصامتّ ،
للسـب ،وأن يشـتم
ِّ نتعـرض
َّ -ال يهمـك أن يتـم متريغنـا يف الوحـل ،أن
أجدادنـا الذيـن كانـوا سـادة القبائـل! ال يهمـك أن يحـاول حقـراء النسـب
تضـم يف موتاهـا الفرسـان الشـجعان والقـادة
ّ تلطيـخ اسـم عائلتنـا التـي
واألوليـاء والعلماء!
واصل والدي األكل صامت ًا دون أن ُيبايل بها.
تتعـرض زوجتـك لإلهانـة ،بـل وتظـلّ شـهيتك مفتوحـة كما
َّ -ال يهمـك أن
والغم ما سـيمنعني مـن األكل بقية حيايت!
ّ الهم
أمـا أنـا ففي قلبي من ّ
العـادة! ّ
غطّ ـت والـديت وجههـا بكفيهـا وانخرطـت يف نوبـة بـكاء .بـدأت تنـدب
بصـوت حزيـن الكـوارث التـي ٍ وتتـأوه وتخبـط بيديهـا على أحضانهـا و ُتعـدد
َّ
حلَّـت بهـا يف هـذا اليـوم .الشـتائم والنعـوت القدحيـة التـي تلقَّتهـا مذكِّ ر ًة
بشـجرة نسـبها الطويلـة وأجدادهـا الذيـن تل ّقـوا ،بـذات املناسـبة ،إهانةً ال
تليـق مبقامهم!
تنـاول والـدي جرعـة مـاء ومسـح شـواربه بعدما أنهى عشـاءه .أمسـك
ثـم خاطبها:
مخـدة اتـكأ عليهـا ّ
مجدداً؟
َّ -مع َم ْن تشاجرت
23
فعلـت جملتـه مفعـول السـحر بوالـديت التـي توقَّفـت يف الحين عـن
البكاء.
األول ،زوجة صانـع املحاريث! -مـع هـذه اللئيمـة السـاكنة يف الطابـق َّ
وسـخت مالبسي النظيفـة بأطامرهـا التـي تحمـل هـذه املخلوقـة املقـززة َّ
رائحـة اإلسـطبل .إنها ال تغتسـل أبـد ًا يف العادة ،تلبس الثياب نفسـها ثالثة
ُخصـص يل أشـهر متواصلـة! لكـن لتفتعـل معركـة ،تختـار يـوم االثنين امل َّ
لتخـرج ثيابهـا الباليـة .أنـت تعـرف مـدى صبري .أبتعـد دامئ ًا عن املشـاكل
وألتـزم بقواعـد اللياقـة .ورثـت ذلـك عـن عائلتـي ،فنحـن جميعـ ًا معروفـون
بالدماثـة واألخلاق! النـاس الذيـن يحاولـون اسـتفزازنا يضيعـون وقتهـم
املقملة!
ّ فحسـب .نحـن نعـرف كيف نحافظ على هدوئنا ووقارنا ،لكن هـذه
الفضاء فجأةً:
َ صوت رحمة
ُ شق
ّ
مقملـة! أتسـمعون أيهـا السـكان؟ مل يكفهـا النهـار لتسـبني يف
-أنـا ّ
الليـل أيضـاً! والرجـال موجـودون اآلن يف الـدار ويسـتطيعون أن يشـهدوا
ـن منـا االثنتين جـاوزت حـدود األدب...
َم ْ
أصـوات حـادة متواصلـة ،سـباب
ٌ ال ميكـن وصـف مـا حـدث بعدهـا.
الصراع
وعويـل غير منسـجم وغير مفهـوم .كانـت كلّ واحـدة مـن طـريف ِّ
وتلـوح بيديهـا يف الفـراغ ،تلقـي وابلاً مـن سـباب ال
ِّ تطـل مـن نافذتهـا
يفهمـه أحـد ،تنتف شـعرها مـن الغضـب ،وتأيت بحـركات متشـنجة غريبة.
خـرج جميـع الجيران مـن غرفهـم وامتـزج صياحهـم بأصـوات الغرميتني.
سـمعت أصـوات الرجـال الغليظـة تدعـو للهـدوء ،تصـب اللعنـات على
إبليـس الرجيـم ،سـبب املشـاكل والخالفـات! لكـن نصائـح الرجـال مل تزد
تحمـل الضوضـاء .أصبح األمر أشـبه بعاصفة أوتعـذر ُّاملرأتين ّإل هياجـاً َّ .
حـرر قـوى غامضـة مـن عقالهـا فانهـار الكـون على رؤوس سـاكنيه! زلـزال َّ
تحمـل الرصخات تحمـل الصخـب .مل تعـد أذين تقـوى عىل ُّ
مل أسـتطع ُّ
ضـج صـدري بنبضـات قلبـي العنيفـة املتوترة وهـي تكاد
َّ املتشـنجة ،فيما
تالمـس أضالعـي .خنقنـي البكاء فسـقطت عند أقدام والديت فاقـد ًا الوعي.
24
الفصل الثاين
كان مقـدم يـوم الثالثـاء نذيـر شـؤم على تالميـذ الكُ َّتـاب إىل درجـة أنـه
كان يترك يف فمـي بقيـةً مـن مـرارة .كلّ أيـام الثالثـاء كانـت بلـون الرمـاد
بالنسـبة يل.
اللسـع وعمـرت ليلتـي الكوابيـس املريعـة التـي شـاهدت حـلَّ البرد ّ
عينـي ويكلـن يل أقـذع أنـواع
ّ فيهـا نسـاء منفوشـات الشـعر يهـددن بفـقء
الشـتائم .تحملنـي إحداهـن أحيانـ ًا وتلقـي يب مـن النافـذة نحـو األسـفل
ـدة ،لكـن يـد ًا حانيـة تلمـس جبهتـي. فأغـرق يف الفـراغ .أرصخ ِ
بح ّ
توجهـت إىل الكُ َّتـاب على عـاديت يف الصبـاح .كانـت نظـرات الفقيـهَّ
تعـودت أن تكـون عليـه كلّ يـوم ثالثـاء :ال رحمـة وال شـفقة.
َّ مشـابهة ملـا
أمسـكت لوحـي وبـدأت أقـرأ اآليـات املكتوبـة عليـه.
يف السادسـة مـن العمر كنت واعي ًا بهشاشـتي وبقسـوة العامل .عرفت
مـرار ًا الخـوف واألمل الجسـدي املرتتـب عن رضبـات عصا السـفرجل .كان
25
جسـدي الصغير يرتعـد يف مالبسـه الرقيقـة أكثر مـن اللزوم .كنـت أخاف
ُخصصـة السـتظهار مـا حفظناه. نهايـة دوامنـا يف الكُ َّتـاب ،وهـي الفترة امل َّ
علي ،حسـب العـادة ،أن أسـتظهر عشـية كلّ يـوم ثالثـاء ،جميـع َّ كان
أحـزاب املصحـف الرشيـف التي حفظتها منـذ التحاقي بالكُ َّتاب .يف سـاعة
الغـداء أعطـاين الفقيـه إشـارة اإلذن باالنرصاف فعلَّقت لوحـي عىل الجدار
وخرجـت إىل البـاب ،حيـث ارتديـت خ ّفـي وعبرت الزقاق.
صداع شـديد .لتعالج
ٍ اسـتقبلتني والـديت ببرود ،فقـد كانت تعاين مـن
آالمهـا وضعـت على وجنتيهـا مجموعـة مـن دوائـر الـورق األزرق مدهونـة
بالطحين املبلـل .تناولنـا غـداء مرتجلاً وبـدأ سـخان املـاء يصفـر فـوق
املوقد.
قدمـت جارتنـا السـابقة اللة عائشـة لزيارتنا .اسـتقبلتها والديت شـاكية
ميـر
ـن ّ كم ْ
صـوت ضعيفـة ٍَ مـن آالمهـا الجسـدية والروحيـةُ ،متص ِّنعـة نبرة
بفترة نقاهـة ،مشيرة إىل أطـراف جسـدها التي تعـاين مـن األمل املزعوم،
شـد منديـل رأسـها .أسـدت لهـا اللـة عائشـة كلّ أنـواع النصـح ومحكمـة ّ
وأشـارت عليهـا مبراجعـة أحـد الفقهـاء يف حـار ٍة بعيـدة ،فقيـه يجترح
املجربة .كنت جالسـاً بخجل وصمت َّ املعجـزات بفضـل تعاويـذه ومتامئه
ركـن مـن أركان الغرفـة ،فالحظـت الزائـرة الصفـرة التـي تعلـو مالمـحيف ٍ
وجهـي وسـألت:
ٍ
مرض ما؟ -هل يعاين ابنك من
الح َّسـاد كثيرة هنا .وهي تطفئ نور هـذا الوجه الذي كان متألِّق ًا
-عيـون ُ
مثـل ربطـة ورود .هـل تتذكريـن كيف كانـت وجنتـاه قرمزيتين يف البداية؟
ورموشـه الطويلـة سـوداء مثـل أجنحة الغراب؟ حسـبي الله ونعـم الوكيل
الح َّسـاد!
من أعني ُ
-سأسـدي لـك نصيحـة مناسـبة ،لنذهـب ثالثتنا اليـوم بعد الـزوال إىل
رضيـح سـيدي أبـو غالـب .لـن يتحمـل الولـد العـودة إىل الكُ َّتـاب وهـو عىل
هـذه الحـال .وإذا رشب مـن مـاء الرضيـح سيسترجع نشـاطه وفرحتـه!
26
ٍ
بإسـهاب عـن آالم تـرددت والـديت قليلاً .لكـن اللـة عائشـة َّ
حدثتهـا َّ
املفاصـل التـي أنهكتهـا ،عـن ركبتيهـا املتعبتين ويديهـا الثقيلتين
كالرصـاص ،وصعوبـة التقلُّـب يف الفـراش والليـايل البيضـاء التـي قضتهـا
متألِّمـة صابـرة صبر سـيدنا أيـوب ،كلّ هـذه اآلالم اختفـت بفضـل بـركات
والحجامين!
َّ يل األطبـاء
سـيدي علي أبـو غالـب و ّ
-اللـة زبيـدة ،إن اللـه أرسـلني ألرشـدك إىل طريـق العلاج .إننـي أحبك
يف اللـه أنـت وابنـك ،ولـن يطيـب يل مأكل وال مشرب إذا تركتـك تعانني ما
تعانني!
وعدتهـا والـديت أن تـزور رضيـح سـيدي علي أبـو غالـب بعـد الـزوال
ثـم صعـدت يف نفـس اليـوم .قضـت املرأتـان وقتـ ًا طويلاً يف الرثثـرةّ .
أمـي لسـطح الـدار وعـادت بقبضـة مـن النباتـات العطريـة التـي تزرعهـا ّ
يف مجموعـة مـن األواين املتقادمـة والطناجـر املثقوبـة .عطّ ـرت شـايها
باللويـزاء والحبـق .اقرتحـت على اللـة عائشـة أن تضـع ورقـة مـن أوراق
النعنـاع يف كأسـها ،لكـن هـذه األخيرة اعتـذرت عـن ذلـك بلباقـة قائلـة إن
تعـودت أن تضع يف شـايها كلّ
َّ هـذا الشـاي معطَّ ـر مبـا فيـه الكفاية ،وإنهـا
ـر ًا فترشبه
ال لدرجة يصبح الشـاي ُم ّ النباتـات العطريـة وترتكهـا تختمر طوي ً
لعلاج نوبـات مغصهـا.
فغيرت قميصهـا وقفطانهـا .بحثـت يف قاع
اسـتعدت والـديت للخـروج َّ
خزانـة عـن حـزام قديـم باهت الخضرة ،وجدت حجابـ ًا من القطـن األبيض
ثـم التحفـت بحايكهـا األبيـض الوقـور الذي غسـلته أمس.
ّ
كان يومـ ًا مشـهود ًا أُتيـح يل فيـه أن أرتدي جلبايب األبيـض الجديد ،بد ً
ال
مـن نظيره الرمـادي املتسـخ الباهـت املبقَّـع ببقايـا الطعـام والحبر الذي
دأبـت عىل اسـتعامله.
وجدت اللة عائشة صعوبةً يف النهوض.
حافظـت ذاكـريت منـذ الطفولـة إىل اليـوم على صـورة هـذه املـرأة.
كانـت أميـل إىل القصر منهـا إىل الطـول ،تحمـل رأسـ ًا يسـتقر مبـارش ًة
27
على جذعهـا وذراعين قصريتين ال تتوقفـان عـن الحركـة أبـداً .كان وجهها
املـدور الناعـم يثير يفَّ نوع ًا من مشـاعر القـرف .ال أحـب أن ِّ
تقبلني .وكلَّام َّ
تتحدر
َّ قدمـت لزيارتنـا كانـت والديت تجبرين عىل تقبيـل ظاهر يدها ،ألنهـا
نسـب رشيـف ،وألنهـا عاشـت يف بحبوحـة مـن ِ
الغنـى قبـل أن تتقلَّـب ٍ مـن
األحـوال ويغـدر بهـا الزمـانّ ،إل أنهـا ظلـت مـع ذلـك صابـر ًة محافظـة عىل
عالمـات الوجاهـة .كانـت العالقـة مع امرأة مثـل اللة عائشـة مدعاة للفخر
بالنسـبة لوالـديت.
يف النهايـة نـزل الجميـع درجـات سـلم املنـزل وبلغنـا الزقـاق .كانـت
املرأتـان متشـيان بتـؤدة ورفـق ،متيلان عىل بعضهما البعض ،بين الفينة
واألخـرى ،لتبـادل التعاليـق الهامسـة .كانـت أصواتهما تزعـزع الجـدران
تتحـول نفس األصواتَّ داخـل الـدار حني تحكيان أتفـه التفاصيل ،يف حني
خارجـ ًا إىل همسـات خجولـة مسـموعة بالـكاد .كنـت أرسع الخطـو أحيانـ ًا
بالتمهـل ،تغدقـان النصائـح والتعليمات يك ُّ فتمسـكان يب وتنصحـاين
ال أمشي بجـوار الجـدران فهـي متسـخة ميكـن أن تنتقـل أوسـاخها إىل
مطـرز معلَّـق يف عنقـي،
َّ علي مسـح أنفـي مبنديـلٍ جلبـايب الرائـع ،كان َّ
الحملين ،عـدم الوقـوف خلفهـا يك ال تركلني َّ تج ُّنـب االقتراب مـن حمير
عـض األطفـال الصغـار .خاطبتنـي ّ خاصـة،
ّ ٍ
وال أمامهـا ألنهـا تحـب ،بصفـة
والـديت:
-هات يدك ألمسكها!
ثم بعد خمس خطوات:
ّ
-اذهب أمامنا ،يدك عرقانة!
ثـم اقرتحـت اللـة عائشـة أن ملـدة محـدودةّ .ّ أخـذت حريتـي ،لكـن
متسـكني مـن يـدي لئلا أضيـع يف الزحمـة .كانـت تسير ببـطء وتحتـل
عب
املارة اتجاهنـا تعليقات ُت ِّ
ّ تكون اختناق مـروري .ألقى
مسـاحة معتبرةَّ .
التبرم ،غير أنهـم سـاعدونا .حملتنـي سـواعد مجهولـة فـوق الرؤوس ُّ عـن
ٍ
لحظـات قبل أن أملح ٍ
مسـاحة خاليـة ،انتظرت وأخرجتنـي مـن الزحمة إىل
28
متعـددة خاللِّ ٍ
مرات تكـرر نفس املشـهدالحايكين األبيضين الناصعينَّ .
رحلتنـا هـذه .عربنـا مجموعـة مـن األزقة املتشـابهة .كنـت منتبهـ ًا لنصائح
املرأتين ،حـذر ًا مـن الحمري ،لكنني أصطـدم أحيان ًا بأرجل املـارة ،ال أقطع
ثـم وصلنـا أخير ًا املقبرة املوجـودة بجـوار
حاجـز ًا ّإل اصطدمـت بآخـرّ .
رضيـح سـيدي علي أبـو غالـب فأحسسـت بالفـرح.
تزيـن ظاهرهـا زهـور املخمـل األحمر تعكس أشـعة كانـت القبـور التـي ِّ
ٍ
أهرامات مـن مثار شـمس النهـار .جلـس هنـا وهنـاك باعـة الربتقـال خلـف
فاكهتهـم .سـمعنا صـوت قـرع طبل صغري ملغنٍ شـعبي ،وصـوت نواقيس
سـقَّاء يبيـع املـاء .يف السـاحة الصغيرة ،جلـس قرويـون يبيعـون حطبـ ًا
فخـار وأطباقـ ًا لطبـخ الفطائـر .أثـارت
لتسـخني مـاء الغسـيل ومواقـد مـن ّ
تتضمـن ديـوك ًا وكتاكيـت مـن سـكّ ر
َّ انتباهـي سلال باعـة الحلويـات .كانـت
صفـراء اللـون تزينهـا خيـوط ورديـة ،على شـكل أوانٍ شـفافة وخفـاف
يتضمنه صنـدوق عجائبي. َّ ومنافـخ صغيرة .ذكّ رتنـي أشـكال الحلويات مبـا
سـبق أليب أن أهـداين بعضـاً مـن هـذه الحلويـات مـن قبـل ،غير أنهـا ذابت
مجـرد أكـوام رماديـة ال تسـتحق أن تدخـل َّ قبـل وصولنـا للـدار ،صـارت
صنـدوق كنـوزي ،لكنهـا كانـت جميلة هنا ،يف الشـمس بني لغـط الجمهور
وبسـطات الباعـة.
كان سـطح الرضيـح املغطـى بالقرميـد األخضر ينتصـب يف األفـق
اللازوردي الـذي ترقـص فيـه غيـوم بيضـاء وورديـة .جلسـت يف املدخـل
مجموعـة من النسـاء يتجاذبن أطراف الحديث وميضغـن العلكة املعطرة
وجهـات األوامـر ألطفالهـن الصغـار الذيـن يلعبـون يفتحـت حجابهـنُ ،م ِّ
اضطـرت النسـوة لالبتعـاد عـن املدخـل لنتمكَّ ن نحن مـن الولوج.
َّ التراب.
وجدنـا أنفسـنا بعدهـا يف سـاحة بـدت يل فسـيحة األرجـاء تتوسـطها
أربـع أوانٍ مـن الفخـار ممتلئـة باملـاء .ناولتنـي والـديت كأس مـاء طالبـة
ويـدي ،وهـي تتلـو ،يف أثنـاء ذلـك،
ّ ثـم بللـت وجهـي وركبتـي
منـي رشبـهّ ،
أدعيـة غير مفهومـة وتطالبنـي بلـزوم الصمـت قبـل أن تلتفـت نحـو اللـة
أتحمـل
َّ عائشـة وتذكّ رهـا ببعـض مـا شـاهدناه يف طريقنـا إىل هنـا .كنـت
29
هـذه الطقـوس بصبري املعهـود وبرصي شـاخص نحـو جيش مـن القطط
التـي تلهـو داخـل هـذا املقـام العجيب .بعد هذه السـاحة يوجـد الرضيح،
ُربعـة التي تؤوي قرب الـويل الصالح ،بابـان يقودان
يوجـد بابـان بالغرفـة امل َّ
للـزوار القادمني مـن أماكن بعيـد ٍة باحثني عن
َّ مخصصـةَّ نحـو غـرف إقامـة
العلاج مـن آالمهـم وأمراضهـم ،والذيـن يقيـم البعـض منهـم أيامـ ًا طويلة
هنـا بانتظار الشـفاء.
مبجـرد وصولنـا ،رشعـت اللة عائشـة ووالـديت يف طلب الربكـة والعون َّ
ٍ
بأصـوات جهوريـة .تجاهلـت كلّ منهما أدعيـة األخـرى مـن الـويل الصالـح
ورشعـت تسـتعرض آالمهـا ومشـاكلها الشـخصية الصغيرة ،بينما تتلمس
متأوهتين شـاكيتني داعيتين على أعدائهما ّ أيديهما خشـب الرضيـح
مقدس من قلـوب املرأتين .طفقتا بحماس يقـارب الهيـاج .متكَّ ـن هذيـان َّ ٍ
يل الصالـح مـن
تعـددان آالمهما ،تطلبـان العـون ،تسـتجديان انتقـام الـو ّ ِّ
ٍ
الخصـوم ،تعرتفـان بذنـوب صغيرة ،تطلبـان رحمـة اللـه وبركـة وعطـف
وليـه سـيدي علي أبـو غالـب .إىل أن توقفتـا بعدمـا تعبتـا .جاءت مسـؤولة ّ
عبتـا عنهـا ،ودعـت
َّ التـي والـورع التقـوى مظاهـر على أتهما ن
ّ فه الرضيـح
لهما بالصلاح قائلـة:
-سيسـتجيب اللـه لدعواتكما وسـيمكّنكام مما ترغبان فيه .الله واسـع
الضر ويـداوي الجـراح .رحمتـه وسـعت كلّ يشء وكلّ ّ كريـم ،يشـفي
مخلوق .أليس من عالمات رحمته أن بعث لنا الرسـل لينجونا من الضالل،
وليهدونـا إىل طريـق الفلاح والجنـة؟ إن مـن عالمـات رحمته أن أرسـل إلينا
الهـادي سـيدنا محمـد (صلى اللـه عليـه وسـلم) ،ليعلمنـا مـكارم األخالق:
وبـر الوالديـن واإلحسـان إىل كلّ الخالئـق .والذيـن ا َّتبعـوا الهـدى
الرتاحـم ّ
وسـاروا على درب الفضيلـة التامـة هـم أوليـاء اللـه الذيـن نرجـو بركتهـم.
ومـن هـؤالء األوليـاء سـيدي علي أبو غالـب .كان يحـب كلّ مخلوقـات الله
خاصة القطـط! لدينا منها اآلن أكرث من خمسين. ّ ويعطـف عليهـا جميعـاً،
يحمـل النـاس إلينـا القطـط املريضـة واملصابـة بالكسـور والجـرب .ومـا
مـدة قصيرة هنـا .تسترجع قوتهـا وفرحهـا. تلبـث أن ُتشـفَ ى بعـد قضائهـا ّ
30
ونحـن نطعمهـا ونعالجهـا ابتغـاء مرضـاة الله!
رشعـت والـديت يف البحـث بني تالبيب ثيابهـا وأخرجت منديلاً ذا عقدة
غليظـة .فسـخت العقـدة بصعوبـة مسـتعينة بأسـنانها بعدمـا مل تفلـح
األصابـع وحدهـا يف ذلـك .وشوشـت اللـة عائشـة بكلمـة غامضـة يف أذن
والـديت التـي أومـأت برأسـها وأخرجـت قطعتـي نقود مـن فئة فرنـك واحد،
أعطتهما ملسـؤولة الرضيـح قائلـةً :
-هذه القطعة يل ،وهذه نيابة عن الرشيفة التي ترافقني!
تلقَّـت املسـؤولة القطعتين النقديتين وبـدأت يف تلاوة دعـاء حـار.
التحقـت نسـوة أخريـات مبجموعتنـا يف هـذه اللحظـة لالسـتفادة من عبق
اللحظـة الروحانيـة التـي عطّ ـرت قلـوب الجميـع.
ممـدد ًا بجانـب
َّ انسـللت مـن جمـع النسـاء ببـطء وقصـدت قطـ ًا كبير ًا
أمسـد ظهـره ،لكنـه نظر باتجاهـي بعينيـه الصفراوين، الجـدار ،حاولـت أن ّ
سـدد يل رضبـة مخلـب قويـة ،سـال الـدم من يـدي .أطلقت ومـاء قبـل أن ُي ِّ
رصخـة أمل فاقرتبـت منـي والـديت برسعـة وهـي تدفـع النسـوة املحيطـات
بهـا وتـكاد تتعثر يف ثـوب حايكهـا املنشـور فـوق األرض.
آملنـي الجـرح فرشعـت يف البـكاء ،وبـدأت النسـوة محاولـة تهدئتـي.
أهدتنـي إحداهـن برتقالـة وسـمعت كلمات مـن نـوع :ولـد يشـبه وردة
صغيرة ،ربطـة الياسـمني ،قطعـة جبن أبيـض .أخافتنـي وجـوه النسـاء
يـد مبللة باملـاء عىل جبهتي ،مسـحتاسـتقرت ٌ
َّ الكثيرة فواصلـت البـكاء.
هـدأت بـرودة اليـد مـن روعـي فتوقَّفـت عـن الرصاخ.
دموعـي وخياشـيميَّ .
لكننـي مل أتوقـف عـن النحيـب املتقطع يف طريـق العودة ،ونامـت والديت
مبجـرد وصولنـا الـدار.
َّ
ـن يسـتيقظ يف الصبـاح .أشـاهد أول َم ْ
تعـود والـدي أن يكـون َّ
َّ
متعـددة حول خرصه ِّ اتملـر
َّ يلف وهو عائـم ٍ
بشـكل وقامتـه حركاتـه
ال مـن وبـر املاعـز ،يـدور حـول نفسـه ،يرفـع رجلاً حبلاً مجـدو ً
ويضعهـا قبـل أن يرفـع األخـرى .ينجـز حـركات واسـعة بيديـه ،ير ِّتب
31
ثـم يرتـدي جلبابـه ويغـادر الغرفـة بينما والـديت
أطـراف عاممتـهّ ،
مسـتمرة يف نومهـا.
يف هذا الصباح سمعته يهمس بأذنها قبل املغادرة:
-ال ترسليه إىل الكُ َّتاب فهو يبدو متعباً!
أومـأت والـديت برأسـها موافقة وغطسـت مـن جديد تحـت األغطية .مل
أي مـن سـكان الـدار .حـط طائـرا دوري على النافـذة املطلة
يسـتيقظ بعـد ٌّ
على الفنـاء وطفقـا يتقافـزان مـن ركـنٍ آلخـر ضاربين الهـواء بأجنحتهما
بولـع وحماس .كنـت أفهم لغتهما .كان األمـر يتعلَّق
ٍ القصيرة ،يتجـادالن
بحـوا ٍر بينهما ،دار كما ييل:
-أحب التني املُجفَّف!
-ملاذا تحب التني املُجفَّف؟
-الجميع يشتهي التني املُجفَّف!
-نعم! نعم! نعم!
-الجميع يشتهي التني املُجفَّف.
-التني املُجفَّف!
-التني املُجفَّف!
-التني املُجفَّف!
خفقـت األجنحـة وواصـل الدوريـان حوارهما قبـل أن يغـادرا باتجـاه
سـطوح أخـرى.
كنـت أفهـم لغـة العصافير ولغـات حيوانـات أخـرى غريهـا ،لكنهـا ال
مبجـرد اقترايب منهـا ،وكان ذلـك يحزننـي.
َّ وتفـر
ّ تـدرك ذلـك
فالعرافة
َّ ُسـمع يف الفنـاء صـوت ارتطام سـطول ببعضهـا البعـض.
أول َم ْـن يسـتيقظ لتطـرد العفاريـت ،لحسـن الحـظ! فخيـاالت الليـل
َّ
32
تتأخـر عـن املغـادرة وتواصـل التسـكّ ع حتـى هـذه اللحظـة
َّ وعفاريتـه
قـرب البئر واملراحيـض ويف املخـزن الكبير الـذي يغتسـل فيـه
القاطنـون.
وتكـف
ّ رش الجـن
العرافـة مطّ لعـة على التعاويـذ التـي تهـزم ّ
َّ كانـت
ورش قطـرات
ع ّنـا أذاهـا .وقـد درجـت على إحـراق البخـور بأرجـاء املـكان ّ
الحليـب ومـاء الزهـر وتلاوة تعويـذات طويلـة كلّ ليلـة خميـس.
ُسـمع رصيـر بـاب يفتـح .رشعـت زينـب بنـت الجـارة رحمـة يف البـكاء
فصفعتهـا والدتهـا صفعـةً قويـة وصلنـي صداها قبـل أن تكيل لهـا واب ً
ال من
الشتائم.
التبـول يف فراشـك كلّ ليلـة ،يف مثـل هـذه السـن؟!
ُّ -أال تخجلين مـن
علي أن أسـجنك يف إسـطبل بـد ً
ال مـن إعـداد فراشـك كلّ ليلـة! َّ
العرافة:
َّ قاطعتها
-صباح الخري يا رحمة!
نور الله صباحك يا سيديت!
َّ -
-كيف استيقظت؟ أكل يشء عىل ما يرام؟
-أحمـد اللـه على نعمتـه ،وأصبر عىل نقمتـه منـذ وهبني هـذه الطفلة
والضاء!
السراء َّالبوالـة يف الفـراش! أحمـد اللـه يف َّ
املنحوسـة َّ
-أبعـد اللـه عنـك كلّ مـا يكـدر العيـش! س ُتشـفى هـذه الطفلـة مـن
مشـكلتها وسـتكون سـندك يف هـذه الدنيـا الزائلـة!
-سمع الله دعاءك يا اللة! وحفظ أحبابك من كلّ مكروه!
وتنهـدت قبـل أن تجلـسَّ تحركـت والـديت تحـت أغطيتهـا ،سـعلتَّ
فـوق فراشـها .نهضت وفتحـت النافذة فتدفَّق الضوء الـذي آمل عيني.
سـمعت رصيـر مصاريـع نافـذة فاطمـة البزيويـة ُتفتـح .بـدأت والديت
ُوجهـة لجارتنا
النـص الطويـل لتحيتهـا الصباحية االعتياديـة امل َّ
ّ تلاوة
33
تكـن
ْ ٍ
عبـارات مشـابهة .مل تتضمـن
َّ ٍ
بتحيـة طويلـة مامثلـة ردت
التـي َّ
أي منهما تنصـت فعلاً لتحيـة األخـرى ،بـل كانتـا تتبـادالن الحديـث
املعهـود الـذي تطـرح كلّ منهما فيـه أسـئلة حـول األحـوال تعلـم
مسـبق ًا أجوبتهـا .ومنذ سـك ّنا مع ًا يف نفـس البناية قبل ثالث سـنوات،
غيتـا أحيانـ ًا كلمـةً مـا أو
ربـا ّتبادلتـا نفـس العبـارات كلّ صبـاحَّ .
أشـارت إحداهما إىل حـدث قريـب طرأ عىل سـكان الدار مؤخـراً ،لكن
تكرر نفس السـؤال كلّ صباح: ذلـك كان نـادر الحدوث .كانـت والديت ِّ
-كيف أصبحت؟ أمل تعاين من الصداع؟ هل كان نومك هادئاً؟
قبل أن تواصل:
يعوضها يشء!
األول يا أختي! ال ِّ
الصحة هي كنز الدنيا َّ
ِّ -
لكنها أضافت يف هذا اليوم:
-ولـدي ليـس على مـا يـرام اليـوم ،أنجـاك اللـه مـن كلّ رش َو َر ّد عنـك
وعـن أحبابـك عيـون الحسـاد!
العرافة من الطابق األريض:
َّ ثم ارتفع صوت
ّ
بالصحـة والعافية،
-صبـاح الخير يـا اللـة زبيدة! حفظـك الله ومتعـك ِّ
أنـت وأرستـك الصغرية!
أمي:
أجابت ّ
الصحـة
ونـور صباحـك! كيـف أصبحـت؟ رزقـك اللـه ِّ
-بـارك اللـه فيـك َّ
والسـعادة ،أنـت وأقربـاؤك.
العرافة:
َّ ردت
َّ
سيسـخر الله له أنصار ًا
ِّ -ال تقلقـي بشـأن ولدك ،أوليـاء الله يتعهدونه،
الخيرة .وعندماِّ مـن اإلنـس والجـن .اعلمـي أنـه محبـوب مـن لـدن األرواح
الحـق ،محارب ًا شـجاعاً ،وعسـل نحل يحب ِّ يكبر سـيصري سـيف ًا من سـيوف
الناس عطـره وطعمه!
34
ردت عليها والديت:
َّ
-جعـل اللـه العسـل والزبـد يسـيالن مـن فمـك الحلـو وعطَّ ـر أنفاسـك
برائحـة الجنـة!
ثم أضافت متحمسة رافعةً رأسها إىل السامء:
ّ
-أسـألك يـا ريب أن متطـر شـآبيب رضـاك على هـذه املـرأة الفاضلـة
يف الدنيـا واآلخـرة .لريزقهـا اللـه ِح َّجـ ًا مبرور ًا إىل األماكـن التـي نـزل فيهـا
الوحـي والرسـالة على نبيـك صىل الله عليـه وعىل آله وصحبـه! آمني يارب
العاملني!
ٍ
بصوت واحد: رددت جميع النسوة
َّ
-آمني!
خلال كلّ هـذا كنـت قـد نهضـت وارتديـت جلبايب .أحسسـت بصفري
يف أذين لكننـي مل أشـعر بالتعـب .أفرحنـي احتمال متضيـة النهـار
كلـه باملنـزل بعيـد ًا عـن عين الفقيـه وعـن عصـا السـفرجل الالسـعة
يف يـده .كنـا يف يـوم أربعـاء .وكان الخميـس يـوم عطلـة متتـد إىل مـا
مدة بعـد زوال الجمعـة .كان أمامـي يومـان ونصـف اليـوم مـن العطلـةّ ،
سـأنعم خاللهـا بالراحـة مثـل أمير .سـاعدتني والـديت على االغتسـال،
صـص لهـا كمطبـخ محا ِولـةً إيقـاد النـار. ثـم جلسـت يف الركـن الـذي ُخ ِّ
ّ
تعالـت يف أرجـاء الـدار التـي عمرتهـا شـمس ناصعـة الضـوء أصـوات
تتضمـن بيضـ ًا مقلي ًا
َّ املنافيـخ .نصبـت مائـدة الفطـور يف غرفتنـا ،كانـت
بزيـت الزيتـون وخبـز ًا فرشعنـا يف األكل .سـمعت صـوت عالّل البسـتاين
زوج فاطمـة يف مدخـل الـدار يـسـتــأذن:
-أال ُيوجد أحد؟ هل ميكنني املرور؟
ردت رحمة:
َّ
-ال ُيوجد أحد ،بإمكانك املرور.
35
سـمعت صـوت خطواتـه يف درجـات السـلم .اختفـى داخـل مسـكنه
وبعـد هنيهـة دخلـت زوجتـه إىل غرفتنـا حاملـةً طبقـ ًا مـن خـزف بـه فطائـر
«سـفنج»((( مقليـة كنـت أعشـق مذاقهـا.
تردد
أمـي السـتقبال زائرتهـا وقـد بدا عىل وجههـا الضيق ،وهـي ِّ
نهضـت ّ
عبـارات الشـكر والرتحيب املعتـادة يف مثل هذه املناسـبات.
-ملـاذا أزعجـت نفسـك .عندنـا والحمـد للـه مـا يكفـي للفطـور .فطريتا
«سـفنج»! هـذا كثير جـداً! ال ،لـن أقبلهام!
تردد والديت ،أمسكت يدها محتجة:
حاولت جارتنا أن تنهي ُّ
-رفـض هديتـي إهانة يل ،أعطي الفطريتني لسـيدي محمـد! عافاه الله!
هذا يشء بسيط!
أمي يف النهاية.
شكرتها ّ
ُخصص ألوليائه الصالحني!
-ليغدق عليك الله من طعام الجنة امل َّ
-ليفتح علينا الله جميعاً!
خرجـت فاطمـة ،عـادت لغرفتهـا وزوجهـا .دفعـت والـديت صحـن
الفطريتين اتجاهـي.
تتحمل الزيت!
َّ تحب الفطائر املقلية! معديت ال
ُّ -كُ لْ االثنتني ،فأنت
-تلذَّ ذت وحدي مبذاقهام الشهي.
متدرب كان يعمل يف مشـغل والـدي يناديه الجميع ِّ طـرق البـاب عامل
إدريـس األقـرع .طلـب ق ّفـة ليجلـب لنـا مشتريات .أوصتـه والـديت بصـوتٍ
لين امللمـس .كان والدي مرتفـع أن يختـار لحمـة دون عظـم وفـو ً
ال أخرض ّ
ٍ
حالـة مـن الرخـاء املـادي مكنتنا مـن تنـاول اللحم ثالث يعيـش آنـذاك يف
أو أربـع مرات يف األسـبوع.
36
تحـدر الوالـد مثـل الوالـدة مـن أصـولٍ جبلية .وبعدمـا غـادر قريته التي
َّ
تبعـد خمسين كيلومتر ًا عـن املدينـة الكبيرة ،تعـب بدايـةً يف الحصـول
يؤمـن له رزقـ ًا كافيـ ًا إلعالة زوجتـه .كان أهـايل قريتـه يحرتفون
على عمـل ِّ
ٍ
فتوجب احرتاف صنعة ما أو إنشـاءَّ أمـا يف املدينة
الزراعـة وقطـع الطـرقّ .
تجـارة بسـيطة .وكانت عائلتنا تنظـر للتجارة نظرة احتقار فلاذت بالصنعة.
تذكَّ ـر والـدي أنـه سـبق لـه قضـاء فترة تدريـب يف مشـغل خالـه الـذي
احترف صنعـة نسـج األغطيـة واألفرشـة الصوفيـة .لـذا اشترى عـدد ًا
محـدود ًا مـن أدوات الحرفـة ،اكرتى ركن ًا يف مشـغل وأصبح بدوره ّ
نسـاجاً.
وحسـن نوعيـة منتجاتـه فاشـتهرت بضاعتـه والقـت ّ عمـل بهمـة وإخلاص
رواجـ ًا مكَّ ـن األرسة الصغيرة مـن قـد ٍر معقـول مـن الرخـاء .وظّ ـف والـدي
مجربـاً كبير السـن يسـاعده على النـول ،فيام كلَّـف إدريـس األقرع
َّ عاملاً
بأعمال السـخرة.
درج إدريـس على القـدوم إىل منزلنـا مرتين يف اليـوم ،األوىل لشراء
األغـراض ،والثانيـة لتوصيـل الغـداء لرئيسـه يف العمـل .يتنـاول والـدي
شـكل ال بعد صالة العشـاء .فيام َّغـداءه يف املشـغل وال يعـود لداره ّإل لي ً
يؤدي
اسـتثناء ،فخالله يسـتمر بالعمل إىل منتصف الـزوالِّ ، ً يـوم الجمعـة
ليتغدى
َّ ثـم يقصـد املسـجد للصلاة قبل أن يعـود إىل الـدار أجـور َّ
عملـهّ ،
معنا .
ينـس األقـرع شـيئاً ،كما كانـت
َ حملاً باملقتنيـات .مل
عـاد إدريـس ُم َّ
اللحمـة ذات مظهـر طيـب والفـول يانعـاً ،الشيء الـذي أسـال لعابنـا.
تضمنـت القفـة ثومـ ًا وبقدونسـ ًا وكميـات مـن التوابـلّ .
أمـا الزيـت والفحـم َّ
ملـدة شـه ٍر كامـل.
ّ منـه يكفـي مـا لدينـا فـكان والدقيـق
الح َّسـاد كانـت تقصد ،من دون شـك، تحدثـت والـديت عـن عيون ُ
عندمـا َّ
ً
ثروتنـا الصغيرة هذه التـي أثارت بعضا من الحسـد لدى جاراتنـا األكرث فقراً.
أمي كانت تعرف تكـن الجـارات تجهلن شـيئ ًا مـن حقيقة أوضاعنا .كما أن ّ
مل ْ
الصعوبـات التـي عاىن منهـا الجميع :مداخيـل ومصاريـف كلّ أرسة والديون
توجـب على هـذا أو ذاك دفعها ،وحتـى ما يطبخـون من طعام. التـي َّ
37
طلبـت منـي والـديت أن أسـاعدها يف تقشير الفـول .وافقـت لكننـي
رسعـان مـا سـئمت مـن هـذا العمل .ذهبـت إللقاء نظـرة عىل غرفـة فاطمة
تجمعت الخضـار :لفت ـد كسكسـاً .يف أحـد األركان َّ البزيويـة فوجدتهـا ُت ِع ُّ
وجـزر وقـرع أخضر وبصل .كانـت هذه الجـارة تحبني حبـ ًا صادقـاً .توقَّفت
للحظـة عـن إعداد كسكسـها وف َّتشـت يف القفَّـة قبل أن تجـد فجلة حمراء
مثـل زمـردة وتعطينـي إياهـا .شـكرتها بابتسـامة ورشعـت يف ازدراد حبـة
الفجـل اللذيـذة .كان مذاقهـا قويـ ًا إىل درجـة أن الدمـع قـارب الخروج من
الحريـف .خرجـت وصعـدت ّ عينـي .مل أقـلْ لهـا شـيئ ًا عـن مـذاق الفجلـة
ّ
درجـات السـلم التـي تقـود إىل سـطح الـدار وألقيـت حبـة الفجـل الرائعـة
على سـطح املنـزل املجـاور الـذي ال يفصلـه ع ّنـا ّإل جـدار.
كانـت أشـعة الشـمس رائقة سـاخنة فيام اختـار قط جمـع يف لونه بني
ممدد ًا عىل طول جدار وعيناه نصف مغمضتني. األبيض واألسـود أن يرتاح َّ
مل اقترب منـه ،فمخالـب قط رضيح سـيدي عيل أبو غالـب علَّمتني أن ألزم
حـذري من هـذه املخلوقات إذا رأيتها متوء تحت الشـمس.
بصـوت عالٍ .أخـذت طريق ٍ تفطَّ نـت والـديت الختفـايئ ورشعـت تناديني
العـودة ،وقبـل أن أبـدأ يف الهبـوط سـمعت صـوت حركـة أرجـل حافيـة
ثـم ظهـرت رحمـة .كانـت والـديت تقاطعهـا منـذ يـوم ومالبـس تصعـدّ ،
يل االبتسـام يفيتوجب عملـه .هل ع َّ
َّ الخصومـة املعلومـة ،فلـم أعـرف مـا
وجههـا أو الفـرار منهـا .عندمـا اقرتبـت رحمـة منـي داعبـت وجنتـي بلطـف
وأعطتنـي شـيئ ًا بـارد ًا ناعـم امللمـس زرع يف قلبي شـعور ًا عارمـ ًا بالفرحة،
خاطبتنـي:
-إنه لك.
أمـي فيام كان الشيء البارد يف يدي .جلسـت جـب ،وركضـت نحـو ّمل أُ ْ
ركـن مـن أركان غرفتنـا .كان األمر يتعلَّق مبسمار زجاجي مزخرف كبرييف ٍ
شـك
ّ ُنقشـت جنباتـه على شـكل لؤلـؤة ،لعبـة عجيبـة غريبـة املصـدر ال
أنهـا قدمـت مـن قصر يقـع تحـت األرض تسـكنه العفاريـت غير املرئيـة.
هـل كانـت هـذه رسـالة من تلـك املاملـك البعيدة؟ هـل كانـت قطعة حجر
38
ملعـون أعطتنيهـا الجـارة العـدوة لتجلـب علينـا سـخط الجـن؟ ال يهمنـي
سـخط كلّ عفاريـت األرض!
سـأضمه إىل محتويـات
ّ قـدر بثمـنٍ
كنـت أمسـك يف يـدي شـيئ ًا ال ُي َّ
صنـدوق العجائـب خاصتـي واكتشـف مزايـاه السـحرية الحقـاً!
ضبطتني أمي أتفحص غنيمتي يف ركن الغرفة فخاطبتني:
-أحرضت قطعة زجاج أخرى! حاذر أن تجرح نفسك!
39
الفصل الثالث
مـر زمـن العطلـة األسـبوعية برسعـة :يومـان ونصـف اليـوم انقضيـا يف َّ
أرسع مـن ملـح البصر .ورسعـان ما وجـدت نفيس بعـد زوال يـوم الجمعة
املـوايل جالسـاً بين أقـراين يف الكُ َّتاب ،منحنيـاً عىل لوحي الخشـبي الذي
أرددها بأعلى صويت.
مقـرر اليـوم مـن اآليـات القرآنية التـي ِّ
َّ كُ ِت َ
ـب عليـه
فيتحرك معه شـعري يف كلّ االتجاهات بينام أنا مسـتغرق َّ حرك رأيسأُ ِّ
يف حفـظ درس اليـوم ،وأرضب على اللـوح بأصابعـي فتؤملنـي .كان كلّ
يتصرف بنفـس الطريقـة ويحفـظ بحماس ،بينما راود النـوم أجفان َّ تلميـذ
الفقيـه الـذي ميسـك عصـاه الطويلـة يف يـده .أتعبتنـي أصـوات زماليئ من
ٍ
بسـخونة غير معتادة يف التالميـذ ونقرهـم املسـتمر عىل األلواح .شـعرت
ين وأنـا أرمـق بقايـا بقعـة مـن ضـوء الشـمس وجنتـي وبصفير حـاد يف أذ ّ
ّ
ٍ
لبعـض على الجـدار املقابـل داخـل الك ّتـاب .اسـتيقظ الفقيـه فجـأ ًة وكال
مـن التالميـذ رضبـات عشـوائية بعصـاه الطويلة ،قبـل أن يغفو مـن جديد.
41
تناقص حجم بقعة الشمس عىل الجدار.
تحولـت أصـوات األطفـال إىل طوفانٍ هـادر ،إىل ما يشـبه صخب زوبعة
َّ
عاصفة.
اختفت بقعة ضوء الشمس.
تنبـه ،مـن بين كلّ األصـوات املتداخلة ،إىل اسـتيقظ الفقيـه وتثـاءبَّ .
ثم عاد فصحح لـه ّ
َّ كـون أحـد التالميـذ ينطق إحـدى اآليـات بطريقة خاطئـة
تنبـه الختفـاء ضـوء الشـمس مـن املـكان ففـرك للنـوم .لكنـه رسعـان مـا َّ
عينيـه واكتسى وجهـه شـعلة مـن نـور النشـاط فجـأة ،ودعانـا بعصـاه إىل
وشـدت األبصـار كلّهـا إىل مصطبـة
ّ االقتراب .توقفـت جميـع األصـوات
الفقيـه .دعانـا لتلاوة الفاتحـة التـي يحفظها عـن ظهر قلب صغـار التالميذ
وكبارهـم ،فقـد درجنـا أن ال نغادر الكُ َّتاب يف نهايـة اليوم قبل قراءتها .كام
ُخصصةتعودنـا أن نعقبهـا يـوم الجمعة مبجموعة من أذكار ابـن عارش امل َّ َّ
لفرائـض الوضـوء قبـل أن ندعـو لوالدينـا ومل ْ
َـن علَّمونـا ،األمـوات منهـم
واألحياء.
ك ّنـا نسـعد عندمـا نبدأ تلاوة األذكار واألدعيـة ،فذلك يعنـي أن االنتهاء
مـن تعـب الـدرس قـد قـارب ،وأن العـودة إىل منازلنـا ركضـ ًا عبر الـدروب
الرطبـة سـتتاح لنـا بعـد هنيهـة أو أقلّ .سـمح لنـا الفقيه باملغـادرة الواحد
تلـو اآلخـر .كان علينـا أن نذهـب إىل املصطبـة لتقبيـل يديـه قبـل الخـروج
مـن الكُ َّتاب.
42
أمي شمعةً كبرية وضعتها يف شمعدانٍ من نحاس.
أشعلت ّ
ضـوء مبهـر غري معتاد يف غرفة فاطمة البزيوية هذا املسـاء،
ٌ كان مثَّـة
فخاطبتها والديت:
-فاطمـة! مـا األمـر معك؟هـل تحتفلين بعـرس؟ ملـاذا أشـعلت الكثري
مـن الشـموع اليـوم؟ مـاذا تقولين؟ ملبـة! انتظرينـي! فأنا قادمـة ألرى...
توجهت والديت للغرفة املجاورة فتبعتها.
َّ
تتوسـط الجـدار .كان الضـوء
َّ يـا للعجـب! كانـت ملبـة بترول سـاطعة
األبيـض الهـادئ يتوسـط قمعـ ًا مـن زجـاج يشـبه يف شـكله آلـة كالرينيـت،
وتقويـه .نظرنـا
ّ بينما جعلـت مـرآة مـدورة خلـف الفتيـل لتعكـس الضـوء
لألمـر بدهشـة أنـا ووالـديت التـي قالـت:
خطـر؟ أال ميكـن أن تنفجـر؟ أن
ٌ جيـداً ،لكـن أليـس هنـاك
-ملبتـك ُتنير ّ
تشـعل حريقـاً؟ يقولـون إن رائحـة البترول كريهـة.
ٍ
بهدوء أقرب للخجل: ردت البزيوية
َّ
-ال أظـن يف األمـر خطـراً .العديـد من سـكان الحـارة يسـتعملون اليوم
هـذه اللمبـات وال يواجهـون معهـا مشـاكل ،أظـن أن عليـك اقتنـاء واحدة.
فالغرفـة تبـدو هكـذا مبهجـة أكرث.
أمـي ،إن اللمبـة أفضـل مـن الشـمعة ،لكنهـا تفتقـد
ردت ّ
حـقَّ ،
-معـك ّ
جمال شـمعدان النحـاس.
عدنـا إىل غرفتنـا بعدمـا أرضـت والديت فضولهـا .مل تقلْ شـيئاً ،بانتظار
مقـدم الوالـد .وضعـت املائـدة كام العادة ،جهزت العشـاء ِ
وع َّدة الشـاي.
مبجـرد مـا دخـل والـدي الغرفـة ذهبت السـتقباله فانبسـطت أسـاريره
َّ
وحملنـي قائالً:
-اكتسب الولد وزناًَّ ،
عم قريب سيصبح رجالً!
-نعـم أريـد أن أصير رج ً
ال حتى أحصل عىل لحية سـوداء! يف املوسـم
43
املـايض دعكـت ذقنـي ووجنتـي بعصير البطيـخ ،ورغـم ذلـك مل تنبـت يل
لحية !
وربـا تحصـل على نتيجـة،
-حـاول إذن يف موسـم البطيـخ القـادمَّ ،
على لحيـة جميلـة ناصعـة السـواد!
أما أنت فأظنك أصبحت شيخاً .لديك شعرتان بيضاوان يف لحيتك!
ّ -
-ال ،أنـا أتركهـا عمـداً .مـن األفضـل أن نترك قطـرة حليـب يف سـواد
اللحيـة ،عوضـ ًا عـن تينـة أو عنقـود عنـب فـوق األنـف!
الر ُّد ضحكايت.
أثار هذا َّ
عشـاء لذيـذ ًا كان مـن أكاليت املفضلـة :حمـص بأرجـل الغنـم،
ً تناولنـا
ثـم أتبعنـاه بكـؤوس الشـاي املنعنـع ،ورسدت الوالـدة على سـمع زوجهـا ّ
األحـداث البسـيطة التـي شـهدها النهـار .مل يعقـب والـدي على حديثهـا
ّإل نـادراً .ارتعـش ضـوء الشـمعة فجـأة فنظفـت والـديت فتيلتهـا بواسـطة
لتتحدث عن كون الشـموع املطروحة يف َّ مقـص صـدئ .واغتنمـت الفرصة
األسـواق أصبحـت مـن نوعيـة رديئة مكلّفة ،ألننا نسـتهلك شـمعة كلّ ثالث
أو أربـع ليـالٍ ،كما أن الغرفـة تبـدو حزينة بفعـل الضوء الخافـت والظالل
تتجمـع يف أركانهـا ،قبـل أن تضيف:
َّ التـي
-جميع الناس ُينريون منازلهم بالبرتول هذه األيام!
حافـظ والـدي على المباالتـه فيما برقـت عينـاي مـن الفضـول منتظـر ًا
أمي وطريقة عرضهـا للموضوع ،لكننـي أصبت بخيبة قـراره ،معجبـ ًا بـذكاء ّ
أمـل بعدمـا مل يعلِّـق الوالـد واسـتعد للنـوم كما العـادة .قصـدت فـرايش
ومنـت .ويف الليـل حلمـت بضـوء اللمبـة السـاطع يعمـر الغرفـة فأمسـكه
واسـجنه يف مسماري الزجاجـي املنحـوت مثـل لؤلـؤة.
غـد لتنـاول الغـداء ،فغمرتنـي فرحـة كبرىعـدت مـن الكُ َّتـاب يـوم ٍ
تتوسـط جـدار الغرفـة.
َّ عندمـا رأيـت ملبـة بترول مشـابهة للمبـة جارتنـا
أحرضهـا إدريـس األقـرع صبـاح نفـس اليـوم عندمـا جـاء ألخـذ ق ّفـة
44
املشتريات ،وأحضر -إضافـة لذلـك -قنينـةً مـن بترول وقمعـاً.
سـميناها «خالتـي كنزة» إىل الغرفة يك تكتشـف العرافـة التي َّ
َّ صعـدت
اللمبـة متم ِّنيـة لنـا مزيـد ًا من الرخـاء .كان وجه والديت يشـع مـن الفرحة.
أحسـت يف هـذه اللحظـة فقـط أن الحيـاة تسـتحق أن تعـاش وأن ّ ربـا
َّ
ً ً ٍ
العـامل مليء مبخلوقـات طيبـة .كانـت تغ ِّنـي ،تداعـب قطـا غريبـا عـن
ٍ
بسـبب أو بدونـه. املنـزل قصدنـا وتضحـك
كانـت لحظـات الفرحـة تقترن دومـاً ،عنـد والـديت ،بلحظـات ذرف
الدمـوع ،بنوبـات بـكاء تعرتيهـا بين الفينـة واألخـرى فتغتنمهـا «للتفريـج
عـن قلبهـا» .ورسعـان مـا سـتتاح لهـا فرصـة مناسـبة لذلـك يف هـذا اليوم.
خرجـت رحمـة ،زوجـة صانـع املحاريـث ،من الـدار صباح ًا رفقـة ابنتها
زينـب قاصـدة حـارة الخلخالين لحضـور حفـل عقيقـة ،لكنهـا رسعـان مـا
مبجـرد مـا ولجـت بـاب
َّ عـادت باكيـة ورشعـت يف العويـل ونـدب الخـدود
الدار:
-يـا ويلي ويـا مصيبتي! أنا أسـوأ األمهـات! املوت أهون مـن الحياة بعد
هذه املصيبة!
انهالـت األسـئلة من جميـع النوافذ .توقَّفت النسـوة عن مـا بني أيديهن
مـن أشـغال .كـن يرجونهـا أن تعلمهـن بطبيعـة املصيبـة التـي أملَّـت بهـا.
مقملـة ،شـحاذة بنـت شـحاذين، ّ مجـرد امـرأة
َّ نسـيت والـديت أن رحمـة
األول صائحـةً :
وسـارعت بالنـزول إىل الطابـق َّ
-مـاذا حـدث لـك يـا أختي املسـكينة؟ قـويل لنا مـاذا جرى لنسـاعدك،
بـكاؤك يقطع أنـواط قلوبنا!
أحاطـت النسـوة بالتعيسـة رحمـة التـي حكـت لهـن مـا جـرى بصعوبة:
ضاعـت منهـا طفلتهـا يف الزحـام ،بحثـت عنها يف جميـع األزقـة ،لكنها مل
تعثر لهـا على أثـر ،كأن األرض قـد انشـقَّت وابتلعتها!
شـاع خبر اختفـاء زينـب يف كلّ الحـارة برسعـة ،وقدمـت العديـد مـن
45
األم الحزينـة وحثها عىل الصبر .انخرطت النسـوة عبر السـطوح ملواسـاة ّ
النسـوة يف بـكاء جامعـي صاخـب .تذكَّ ـرت كلّ واحـدة منهـن ُمصابـ ًا جللاً
عصية على الحـلّ فانخرطت يف ّ حـلّ بهـا يف املـايض أو مشـكلة شـخصية
ٍ
نحيـب ال يتوقَّف.
كنـت جالسـ ًا بين أحضان النسـاء النائحات فرشعت بـدوري يف البكاء.
مل ينتبـه يل أحـد .يف الحقيقـة إننـي مـا كنـت أحـب زينـب قليلاً وال كثيراً،
الخفيـة ،لكنني كنت أبيك
ّ بـل إن اختفاءهـا أثـار يف نفيس نوعـ ًا من الفرحة
أسـباب أخـرى .أبكي ألن الجميـع يفعلـون ذلك ،فوجـدت أن من ٍ مـن أجـل
أمـي تبيك ،وألن بـاب األدب أن أشـاركهم فيما يفعلـون! كما كنت أبيك ألن ّ
رحمـة التـي أهدتنـي املسمار الزجاجـي الجميـل تحـس بـاألمل والحـزن.
ثـم توقَّفـت النسـوة عـنأمـيّ .
ربـا كان السـبب الحقيقـي هـو بـكاء ّ لكـن َّ
البـكاء ومسـحن دموعهـن باملناديـل أو بأكمام املالبس .وواصلـت البكاء
وحيـداً .حاولـت العديـد مـن الحـارضات تهدئتـي فلـم يفلحـن .وخاطبتنـي
والديت:
َّف عن البكاء يا سـيدي محمد! سـتؤذي
-سـنعرث على زينـب قريبـاً ،توق ْ
عينيـك بكلّ هـذه الدموع!
أجبتها منتحباً:
-ال يهمني أن تعرثي عىل زينب ،أنا أبيك ألنني جوعان!
وجرتني إىل خارج الغرفة.
َّ أمسكت يب والديت مغضبة
تناولـت طعـام الغـداء وعـدت إىل الكُ َّتـاب .قضيـت فرتة ما بعـد الزوال
ثـم
ُقـررة والنقـر على لوحـي الخشـبي كما العـادةّ ، يف حفـظ اآليـات امل َّ
قفلـت عائـد ًا إىل الـدار ،متوقعـ ًا أن أجـد حالـة الفـوىض مسـتمرة بهـا .غري
أننـي فوجئـت بـأن جميع النسـوة انتهين من بكائهـن وعدن إىل مشـاغلهن
املعتـادة مـن طبـخ وطحـن توابـل يف جـ ٍو مـن الهـدوء العـام .ومل أجـرؤ
أمـي حـول مصير زينـب ومغامراتها. على سـؤال ّ
عـاد والـدي على عادتـه بعـد صلاة العشـاء .تناولنـا الوجبـة املسـائية
46
أمـي َّ
عما شـهده النهـار مـن تحدثـت ّ
َّ بشـكلٍ عـادي ،وبعـد رفـع املائـدة
أحـداث:
دوامـة مـن القلـق
-لقـد قضـت هـذه املسـكينة رحمـة اليـوم يف َّ
والعـذاب ،وتأثرنـا جميعـ ًا مبـا حصـل لهـا!
سأل والدي:
-ما الذي حصل معها؟
-تعـرف علاّ ل عامـل الفـرن الـذي يسـكن يف حـارة الخلخالين؟ طبعـ ًا
تتذكـره! فهـو زوج خديجـة أخـت جارتنـا رحمة .قبل سـنة جاء هـو وزوجته
لقضـاء أسـبوع هنـا عنـد أقربائهما .إنهما زوجـان محرتمـان ،متدينـان
وخلوقـان ،لكـن مل يرزقهما الله ذريـة ،رغم أنهام كانا يرغبـان يف اإلنجاب
العشـابني والفقهاء
َّ منذ ثالث سـنوات .ألجل ذلك زارت املسـكينة خديجة
والعرافـات دون جدوى .منذ سـنة ،ولنفس الغـرض ،قاما بزيارة َّ والسـحرة
يل الصالـح سـيدي علي بورسغين .اغتسـلت خديجـة يف العين مقـام الـو ّ
الإن تحقَّق مرادهـا باإلنجاب ،وفع ً
يل ونـذرت أن تذبح له كبشـ ًا ْ
التابعـة للـو ّ
اسـتجاب اللـه لدعواتهـاُ .رزقـت بطفـل وغد ًا سـيقام حفـل العقيقة.
تجـرأ والـدي على إبـداء مالحظـة مختصرة حـول كـون هـذه األحـداث َّ
أمـي قاطعتـهّ لكـن وقلقهـا، رحمـة عـذاب يفسر
ِّ مـا ـنتتضم
َّ ال جميعهـا
رب مـن البدايةـدة واتهمتـه أنـه ال يسـتطيع أبد ًا أن يكمـل اإلصغاء إىل خ ٍ ِ
بح ّ
إىل النهايـة:
-انتظـر! فلا ميكننـي أن أكمـل القصـة وأنـت تقاطعنـي منـذ بدايتهـا!
تلقَّـت رحمـة دعـوة لحضـور حفـل العقيقة .اشترى لهـا زوجها باملناسـبة
متنوعـة األلـوان .أخرجـت ،خصيصـ ًا لهذه
ِّ ثوبـ ًا جميلاً يحمـل صـورة أزهـار
املناسـبة ،منديـل الـرأس الـذي لبسـته يوم زفافهـا ،املنديـل األحمر الذي
يحمـل صـور الطيور .ألبسـت ابنتها زينب ثوبـ ًا جديد ًا وذهبتـا لحضور حفل
والعواديـن...
َّ املشـاطني والصفَّاريـن
َّ مرتـا يف طرقهما بحـارة
العقيقـةّ .
تضايق أيب:
47
-ال ترسدي ع َّ
يل أسامء كلّ حارات فاس!
وجهتـا يل نظـرة حـادة
غلبتنـي نوبـة ضحـك ،لكـن عينين قاسـيتني ّ
فلزمـت الصمـت.
عندمـا وصلتـا إىل زقـاق الرصيـف كانـت جمـوع املـارة تسـد مجـال
السير وكان أحـد باعـة السـمك يبيـع بضاعتـه بفرنـك وخمسـة وسـبعني
للرطـل (بينما يف سـاحة الجوطيـة يبيعـون السـمك بفرنكين اثنين
اختنـاق
ٌ وخمسـة وعرشيـن) .تزاحـم النـاس لشراء السـمك وحـدث
مـروري .اسـتطاعت رحمـة أن تخـرج منـه بصعوبـة ،وبينما هـي تعيـد
ترتيـب حالـة ثـوب حايكهـا ،فوجئـت باختفـاء زينب .صاحـت ورشعت يف
وتجمـع الناس حـول املرأةَّ العويـل والبـكاء ،أوقـف بائـع السـمك عملـه
املسـكينة ملسـاعدتها ،لكنهـا مل تعثر على ابنتهـا إطالقـاً!
عـادت رحمـة باكيـة إىل الـدار فواسـيناها كما اسـتطعنا .ذهـب علاّ ل
الرباحني((( وقطعا
البسـتاين إلخبـار زوج رحمـة مبا جـرى .خرج اثنان مـن ّ
دروب وأحيـاء املدينـة كلهـا إلعطـاء أوصـاف الطفلـة الصغيرة التائهـة
ويعيدها لبيـت أهلها.
َـن يعثر عليهـا ُ
وتقديـم وعـود بتقديـم مكافـأة مل ْ
طـوال كلّ هـذا الوقـت مـاذا كان بإمكاننـا أن نفعـل؟ لسـنا ّإل نسـاء
األم املسـكينة التـي أصبحـت تعيـش يف القلـق ضعيفـات! لـذا واسـينا ّ
قررنـا الذهـاب أنـا وفاطمـة البزيوية
والعـذاب .بـدوري حـلّ الحـزن بقلبـيَّ .
إىل رضيـح مـوالي إدريـس ،ففـي املصائـب يجـدر باإلنسـان أن يلـوذ ببـاب
اللـه وبأوليائـه الصالحين .الحظـت امرأة ُمسـ َّنة حزننا فسـألتنا عن سـببه،
وعندمـا أعلمناهـا مبـا حـدث طلبـت م َّنـا مرافقتهـا إىل دار «القيطـون» ،دار
األدارسـة التـي تسـتقبل كلّ مـن ضـلَّ عن طريقـه يف أزقة املدينـة ،وهناك
وجدنـا الطفلـة زينـب .كانت مسـؤولة الدار قـد اسـتقبلتها وأطعمتها لوجه
ال كاملاً مكافـأ ًة لها وشـكرنا صنيعها .وهكذا اسـتعادت اللـه .أعطيناهـا ريـا ً
ٍ
بصوت مرتفع يف املدينة منادي عمومي مهمته نرش األخبار بتالوتها[ .املرتجم] (((
48
رحمـة فرحتهـا بعـد عـودة ابنتهـا زينب!
َر ّد والدي:
أعدي فراش النوم للولد ،فهو متعب ومحتاج للراحة.
-الحمد لله! ّ
أتخيـل شـكل دار األدارسـة بفنائهـا الكبير
َّ تحـت غطـاء النـوم طفقـت
وزلّيجهـا الباهـت األلـوان وأصـوات النسـاء التـي تجعلهـا مثـل خليـة نحـل
هـادرة .نسـاء مهددات بالطلاق ،فتيات تعيسـات وأطفال تاهـوا عن منازل
ذويهم...
كنـت بـدوري تائهـ ًا يف مدينـة خاليـة مـن السـكان أبحـث عن ملجـأ بها.
شـعرت بعزلتـي تـزداد ،تثقل وتخنقنـي .أطلقت صيحةً مدويـة ،جاء صوت
ثـم غرقـت يف ظلمـة
الحمـى التـي أصابتنـيّ .
َّ خافـت يواسـيني مـن حالـة
الليـل الحا ِلـك الهادئـة وانتظمـت وتيرة تنفيس.
نظمـت رحمـة حفـل عشـاء للفقـراء شـكر ًا للـهيـوم الخميـس املـوايل َّ
على عـودة ابنتهـا سـاملةً .سـاعدتها يف ذلك كلّ نسـاء الدار .غسـلت اللة
فطومـة، الشـوافة أرضيـة طابقهـا باملـاء مبسـاعدة تلميذتهـا الوفيـة ّ
ّ كنـزة
ثـم فرشـته بحصائـر وأبسـطة باليـة .تكفلـت رحمـة ووالـديت وفاطمـة ّ
البزيويـة بطبـخ الكسـكس على سـطح الـدار ،واسـتعملن الحطـب يف
طهيـه .كانـت إحداهن تنقـل املاء ،والثانيـة تقرش الخضـار ،والثالثة تطبخ
مبغرفة طويلة من الخشـب.ٍ وتحـرك املـرق الـذي يغيل يف قدور النحـاس
ِّ
قضيـت الوقـت مـع زينـب نعـدو يف درجات السلامل ،نصعد للسـطوح
ثـم
ونتلقَّـى سـحب دخـان الطبـخ يف عيوننـا مرفقـة باألوامـر والنواهـيّ ،
نعـود لالختبـاء غير مدركين ما ميكـن أن نفعـل ّ
بحر ّيتنا .كنا ننتظر بشـوق
ُتسـولني.
ِّ سـاعة العشـاء ومشـهد وصـول امل
عندمـا نضجـت أطباق الكسـكس سـقيت باملـرق واعتلتهـا أهرامات من
العواد إىل رضيـح موالي إدريس وإىل
ّ ثـم ذهب إدريس
الخضـار واللحـومّ ،
دار العميـان الواقعـة بريـاض جحـا إلحضار الضيـوف .وما لبثنا أن سـمعنا
مجموعـة مـن أصـوات الرجـال ووقـع عصيهـم على األرض .دخـل إدريـس
49
ال إىل الفنـاء متبوعـاً برجـلٍ رضيـر ذي لحيـة بيضـاء يقـوده صبي أو ً
العـواد َّ
ّ
ُتسـولني
ِّ صغير يف حـوايل العـارشة مـن العمـر .دخـل بعدها عـدد من امل
ُتسـوالت إىل سـاحة الـدار .كان الجميـع يأمتـرون بأمـر الشـيخ األعمى وامل ِّ
األول الـذي بدا أن له سـلطة مطلقة عليهـم .علمت الحق ًا أن لدار العميان، َّ
املوجـودة يف زقـاق ريـاض جحا ،رئيسـ ًا منتخب ًا وقانون ًا داخليـ ًا َّ
توجب عىل
جميـع النـزالء الخضـوع له ،تحـت طائلة الطـرد والحرمان.
ُتسولني وسط قبيلته.
كان األمر يتعلَّق إذن برئيس امل ِّ
جلسـوا جميعـ ًا عىل األبسـطة املتقادمـة ،وقبل أن تبدأ وجبة العشـاء
تتحـدث عـن مصير املُحسـنني الذيـن يطعمـون السـائل َّ تلـوا أذكار ًا
ثـم ختمـوا بأدعيـة تسـتجلب الربكـة واملحتـاج ويسـتقبلون ضيـوف اللـهّ .
على الـدار املضيفـة وسـكانها ،قبـل أن يرفعـوا أك ّفهـم ويقـرؤوا الفاتحـة.
بحماس ،ألننـي كنـت أحفظهـا عـن ظهـر قلـب. ٍ شـاركتهم يف قراءتهـا
بسم الله الرحمن الرحيم...
مالك يوم الدين.
ُتسـولون األرض
ِّ مررنـا أكفنـا على وجوهنـا ،الح الكسـكس ،اقتعـد امل ّ
حـول الصحـون وتداولـوا كؤوسـ ًا مـن الفخـار ُنقشـت عليهـا زخـارف بالقـار
مليئـة باملـاء .أكلـوا بتـؤدة دون عجلـة وال جلبـة .وعندمـا انتهـت الوجبـة
قطـع مـن القماش أُعـدتٍ لحسـوا بتلـذُّ ذ أصابعهـم قبـل أن ميسـحوها يف
لهـذا الغرض.
بعـد إشـارة مـن رئيسـهم ،بـدؤوا تلاوة حـزب مـن القـرآن الكريـم.
فترددت ،يف فضـاء منزلنـا الـذي طاملـا شـهد نغمات الطبـول والقيثارات َّ
ـراء
َّ قُ ال اختـار املباركـة. ـات اآلي
ُ ّ أصـداء افـة،العر
َّ تعشـقها التـي الزنجيـة
حـزب طويـل ر ّتلـوه بطريقـة جميلـة .شـكّ ل منظـر العميـان الذيـن ٍ تلاوة
يرتـدون أطمار ًا باليـة وير ّتلـون كالم اللـه مشـهد ًا نبيلاً وقور ًا ال ميكـن ّإل أن
ينطبـع يف املخيلـة.
بعـد موجـة أخيرة مـن األدعيـة التـي اُختتمـت بآمين ،نهـض العميـان
50
يـرددون
عصيهـم بالزلّيـج املتقـادم .خرجـوا ِّ
ّ وسـمعت أصـوات ارتطـام
عبـارات الشـكر املعتـادة.
دعـت رحمـة املبتهجـة مجموعـة مـن الجـارات القادمـات مـن املنازل
وقدمـت لهـن طبيـخ لحـم ممتـاز بالخرشـف وكسكسـ ًا املجـاورة لغرفتهـا َّ
بالحمـص ،مرفقـ ًا بسـلطات مـن قطـع الربتقـال التـي ُنثر عليهـا السـكر
أعـدت والـديت الشـاي املنعنـع ،بينما كانـت النسـوة يرثثـرن ّ والقرفـة.
مدويـة بين الفينـة واألخـرى .وقبـل تنـاول ّ وميزحـن ويطلقـن زغاريـد
وغيرن العشـاء كانـت والـديت وجاراتهـا قـد فتحـن خزاناتهـن الخشـبية َّ
ُطـرزة بأشـكال الزهـور ومناديـل
ُلونـة امل َّ
مالبسـهن فارتديـن القفاطين امل َّ
الـرأس الحريريـة .اسـتمر الحفـل إىل مغيـب الشـمس قبـل أن ينتهي فوق
السـطوح بزغاريـد وأدعيـة أخـرى ،ووعـود بلقـاءات وحفلات مشـابهة.
خلال هـذه األثنـاء مل ينتبـه يل أحـد .شـاركت زينـب الطعـام يف
طبـقٍ صغير كنـت أملكـه ،ألن والـدي أهـداين إيـاه مبناسـبة عيـد األضحـى
املـايض ،رشبنـا الشـاي بعدمـا صببنـاه يف إبريـق مـن تنـك يعـود لزينـب،
ثـم تشـاجرنا يف النهايـة.
ّ
بحلـول ظلام الليـل ،عـاد الهـدوء للـدار مـن جديـد فشـعرت بالحـزن
يدركنـي .أخرجـت صنـدوق عجائبـي وأفرغـت محتوياتـه على ركـن مرتبـة.
تأملـت كلّ قطعـة على مهـل .كانـت كلّ القطـع متجهمـة صامتـة يف ذلـك َّ
املسـاء ،فقـدت قدراتهـا السـحرية على الحركـة والـكالم وأصبحـت حذرة
ومبجـرد مـا َع ّم السـواد
َّ منطويـة على نفسـها .أغلقـت عليهـا بـاب العلبـة.
مـن جديـد صنـدوق العجائـب ،اسـتيقظت القطع وبـدأت ألعابهـا املُعقَّدة
الفاخـرة .كانـت تجهـل أن غطـاء الصنـدوق ال يصمـد أمـام قـدرايت على
يتمـدد ،يصبـح مبسـاحة قصر أحلام َّ التأمـل .كان مسماري الزجاجـيُّ
تتحول املسـامري واألزرار واملشـدات َّ الفاخرة. واألقمشـة الضـوء يزخرفـه
وصبيـات ،يعزفـون ألحانـ ًا هادئـة
ّ واللؤلـؤات إىل أميرات وعبيـد وصبيـة
جميلـة ،يأكلـون مـن أطبـاقٍ لذيـذة ،يلعبـون على أراجيـح ،يطيرون إىل
ثـم يرتقـون إىل عنـان السماء على أعلى األشـجار يك يقطفـوا فواكههـاّ ،
51
جنـاح الريـح باحثين عـن مغامـرات.
فتحـت العلبـة برفـق يك أشـاركهم عاملهـم ،غير أن كلّ يشء توقَّـف،
مل أجـد ّإل مسـامري وأزرار ًا بلا روح وال أرسار .آملنـي ذلـك فرشعـت يف
تحدثـت عن كـوين متعبـ ًا وحملتني إىل فـراش النوم.
أمـيَّ ،البـكاء .دخلـت ّ
52
الفصل الرابع
األيـام األوىل مـن الربيـع ،دعـوة لزيـارة اللـة عائشـة تلقينـا ،خلال ّ
وقضـاء يـوم كامـل يف ضيافتهـاّ .أيامـ ًا قبـل الزيـارةَّ ،
أعـدت والـديت حلوى
سـلو
ّ مـن السـميدة الرطبـة ،وهالليـات بحبات الينسـون ،وبعض ًا من حلوى
ُكونـة مـن الدقيـق املقلي ممزوجـ ًا بالعسـل وبتوابـل عطريـة أخـرى. امل َّ
ثـم لحق بنا إدريسحملني بكلّ هذه الحلوياتّ ، غادرنـا املنـزل مبكـر ًا ُم َّ
األقـرع إىل مقـر سـكنى صديقـة والـديت ،حيـث حمـل إلينـا ق ّفة مشترياتنا
محل وعلبة شـاي وقبضة ّ املعتـادة ،إضافـة إىل ديك حسـن الهيئـة وخبز
مـن أوراق النعناع.
احتجـت اللـة عائشـة على تبذيرنـا املـال بشـكلٍ غير معقـول إلحضار ّ
كلّ هاتـه الهدايـا ،ألنهـا كانـت تنتظـر زيارتنـا وقـد اقتنـت كلّ مـا يلـزم مـن
قبل .
سـكنت اللـة عائشـة دار ًا واطئـة البـاب تقـع يف الزقـاق املغلـق لزنقـة
53
الحجامين .وهـي دار تشـبه حالتهـا ،مـن بعـض الجوانـب ،حالـة اللـة ّ
عائشـة نفسـها .فكل مـن الدار وصاحبتهـا عرفتا يف املـايض أوقات ًا أفضل.
نـوع من الكرامـة وعلو
وبعدمـا دار الزمـن وتقلَّبـت األحـوال ،حافظتـا على ٍ
الهمـة ،رغـم تدهـور أوضاعهما.
َّ
سـكنت اللـة عائشـة يف غرفتين صغريتين مـن الطابـق الثـاين .تقودنـا
البلكونـة املطلـة عىل الفناء ،التـي يزينها درابازين مـن الحديد املنقوش،
إىل الغرفـة الرئيسـية .فيما كانـت الغرفـة الثانيـة تسـتعمل يف تخزيـن
مؤونـة الشـتاء .وكان لهـذه الغرفـة الرئيسـية نافذتـان تطـل إحداهما عىل
الحـي الصغير .كان طـول الغرفـة ّ الفنـاء والثانيـة على سـقف مسـجد
يضاعـف عرضهـا ،كما كانـت حسـنة النظافـة والرتتيـبُ ،غلفـت مرتباتهـا
مطـرزة األغلفـة هنـا وهنـاكُ .زينت
َّ تجمعـت وسـائد كبيرة
بالقماش ،كما َّ
ملونـة وضعت داخلهـا أوانٍ
كـوات مفتوحـة َّ الجـدران بخزانـات على شـكل ّ
مـن الخـزف األورويب :صحـون مزخرفـة بصـور الـورد وكـؤوس مسـتديرة.
خشـب غامق اللـون غنيـة بالنقوشٍ وتوسـطت الجـدار سـاعة حائطيـة مـن
ومثقلـة بديكـورات مختلفـة ،فيما فرشـت األرض بحصيرة اعتالهـا بسـاط
زاهـي األلوان.
ُكونـات يعطـي إحساسـ ًا بالراحـة واالسـتقرار كان مجمـوع هـذه امل ِّ
بعـش جميـلٍ
ٍ للـرايئ .ال يتعلَّـق األمـر طبعـاً بعالمـات الثراء ،لكنـه يذكّ ـر
أنيـق ُمحكَ ـم البنـاء يحمـي سـكانه مـن عصـف الريـاح.
ثم
قدمـت لنا اللة عائشـة الشـاي املنعنـع والحلوياتّ . مبجـرد دخولنـا َّ
َّ
جديد مـن آالم املفاصل التي تعـاين منها ،من ٍ اسرتسـلت يف الشـكوى من
الصـداع وآالم األسـنان التـي أملَّـت بهـا يف األسـبوع املـايض ،ومـن نقـص
الشـهية .طرحـت ألف سـؤال وسـؤال على والديت التـي أجابتهـا بتفصيل ال
وقصت مشـاهد حرضتها وقلَّدت هـذه املرأة ال ووقفـت عند نـوادر َّيقـل طـو ً
أو تلـك .كان موضـوع النميمـة طبعـ ًا هـو جرياننـاَّ .
تحدثـت عنهـم والـديت
شـبهت زوج رحمـة بحامر بغير حقـد ،لكـن مـع قـد ٍر كبير مـن السـخريةَّ .
أفـرط يف أكل الشـعري ،وزوج فاطمـة بالفـأر ،ومل يسـلم والـدي ،الـذي
54
دأبـت على اإلشـارة إليـه بقولهـا «الرجـل» ،مـن سلاطة لسـانها .فرسـمت
صـور ًا كاريكاتوريـة الرتفـاع قامته وقوته الجسـدية وصمته املسـتمر .كنت
كـن أليب حبـاً ممزوجـ ًا باإلعجـاب بسـبب وسـامته الظاهـرة ولـون برشتـه أُ ّ
ُذهب ،لحيته السـوداء ،شـفتيه الحمراوين ،وعينيه السـاكنتني األبيض امل ّ
العميقتين .كان كلّ يشء فيـه يعجبنـي .كان أيب على وجـه العمـوم ُمقلاً
للـكالم ُمكثر ًا للصلاة ،فيما كانـت والـديت ثرثـارة ال ّ
تصلي ّإل نـادراً .كانـت
يف الحقيقـة أكثر إثـار ًة للفرحـة والحبـور ،تعكـس عيونهـا املتوثبـة روح
متكبة ِّ تكـن
طفلـة حقيقيـة .رغـم بيـاض برشتهـا وجمال فمهـا وأنفهـا ،مل ْ
معجبـة بنفسـها وهي يف ع ّز شـبابها .على العكس من ذلـك ،حاولت دوم ًا
أن تبـدو أكبر مـن سـ ّنها .وبينما كانـت يف الثانيـة والعرشيـن مـن العمـر،
أرادت أن تبـدو كامـرأ ٍة كبيرة مجربـة.
فنوهـت بخصالهـن جميعـاً. حدثتنـا اللـة عائشـة بدورهـا عـن جاراتهـا َّ
َّ
عبرت عـن إعجابهـا بتواضـع وجمال إحداهـن ،عـن نظافـة أخـرى ،وعـن َّ
إتقـان ثالثـة لتدبير شـؤون البيت وفنـون الطبخ .وحسـب قولهـا ،كانت كلّ
جاراتهـا تتنافسـن يف الطيبوبة مـكارم األخالق :كأنهن من مالئكة السماء!
ثم
أمـي وتوشـوش لها حقيقـة رأيها يف الجـاراتّ ، قبـل أن تنحنـي على أذن ّ
ترفـع صوتهـا مـن جديد:
َّ
علي بسـكنى هـذه الـدار التـي تعيـش -الحقيقـة أن اللـه قـد أنعـم
الجـارات بهـا كأخـوات حقيقيـات!
تعبر عـن
أصـوات ِّ
ٌ صعـدت مـن الطابـق السـفيل ومـن جميـع الغـرف
فـردت هـذه األخيرة هـي ووالـديت
َّ شـكرها لاللـة عائشـة على مـا قالتـه.
بسـيلٍ ال ينقضي مـن عبـارات املجاملـة.
دعـاين أطفـال الـدار ملشـاركتهم اللعـب .كانـوا خمسـة صبيـان وثلاث
فتيـات مل أعـرف أسماءهم .مت َّتعـت بحاميـة أكربهـم ،وهـي طفلـة تبلـغ
التاسـعة مـن العمـر .صعدنـا فـوق السـطوح ونظّ منـا حفلـة اسـتقبال.
فرشـنا أبسـطة متقادمـة وجلود أكباش فـوق األرض باعتبارهـا أثاثاً ،وضعنا
مصبرات صدئـة فـوق ثالثـة أحجـار باعتبارهـا إبريـق مـاء ،بينما رتبنا
ّ علبـة
55
مجموعـة أحجـار أصغـر فـوق قطعـة ورق مثـل أكـواب شـاي .رشبنا شـاينا
نقـدم الشـكر ملضيفتنـا أكبر الخيـايل ،وأكلنـا حلوياتنـا الوهميـة قبـل أن ِّ
قررنـا أن نلعـب لعبـة العروسـة .اخرتنـا إحـدى الفتيـات ثـم َّ
الفتيـاتّ ،
لتلعـب دور العـروس فيما مثلـت الكبرى دور املاشـطة ونزلـت للبحـث
عـن أحمر شـفاه وبعـض الكحل وقطعة قماش السـتعاملها كمنديل رأس
ثـم بـدأت
للعـروس .أجلسـت العـروس على مخـدة وأطلقـت الزغاريـدّ ،
مهمـة تزيينهـا وإلباسـها كما هـي العـادة .ألبسـتها قطعـة مـن املاشـطة َّ
ودسـت يف شـعرها قطعـ ًا مـن الـورقملاءة بيضـاء باعتبارهـا ثـوب عـرس ّ
تأمـل إنجازهـا .حركـت الشـقاوة ثـم رشعـت يف ُّحليـاًّ ،
امللـون باعتبارهـا ّ
َّ
الغريزيـة نفـس أحـد الصبيـة فأمسـك حفنـة مـن تـراب وألقاهـا على رأس
شـبت فـوق السـطوح .بـدأت العـروس العـروس .ومـا لبثـت الحـرب أن َّ
وضيفاتهـا يف البـكاء والصراخ والركـض يف كلّ االتجاهـات ،بينام تلطَّ خت
ٍ
بصـوت عـالٍ مثـل الوجـوه بالدمـوع واملخـاط .رشعـت بـدوري يف البـكاء
الجميـع دون أعـرف ملـاذا ،وحاولت التخلُّـص من أيدي الفتـاة الكربى التي
متسـكت يب محاولـة تهدئتـي. َّ
صعـدت إحـدى نسـوة الـدار إىل السـطوح .و َّزعـت صفعـات وشـتائم
على األبريـاء واملذنبين دون متييـز ،وحملتني مثـل علبة ،نزلـت الدرجات
ال إضافيـ ًا مـن عبـارات التقريع قبل
وسـلمتني لوالـديت التـي أسـمعتني سـي ً
أن تهـددين بعـدم اصطحـايب إىل أي مـكان يف املسـتقبل.
رشعـت املرأتـان يف الحديـث مـر ًة أخـرى عـن رحمـة زوجـة صانـع
الشـوافة.
َّ املحاريـث ،عـن فاطمـة البزيويـة ،وعـن الخالـة كنـزة
األول ،حـدث فقـدان
قصـت والـديت حكايـة صلحهـا مـع جـارة الطابـق َّ َّ
تحسرت علىتسـولني العميـانَّ .
ِّ للم ُ
زينـب والعشـاء الخيري الـذي أقيـم ُ
التسرع التـي قادتهـا إىل املعركـة مـع رحمـة التي أصبحـت ،بقدرة
ُّ لحظـة
قـادر ،جـارة لطيفـة نزيهـة طيبة املعشر!...
ثم أضافت والديت:
ّ
56
التبسـم ،موفـورة
ُّ -إضافـة لـكلّ هـذا ،فهـي مبشـورة الوجـه ،دامئـة
النشـاط .أظن أن عىل زوجها أن يشـكر الله الذي منحه مثل هذه السـمراء!
أال يعجبـك لـون برشتها وعيونهـا الكبرية املبهجة؟ وفمهـا الجميل املزمم
الشفتني؟
تحرك رأسـها مبدية موافقتهـا عىل كلّ هذه
كانـت اللـة عائشـة مرسورة ِّ
املالحظات.
-جـاريت فاطمـة يف الغرفـة املقابلـة مل يحرمهـا اللـه مـن أفضالـه.
عينـان جميلتـان ناعمتـان ،حواجب متقنة االسـتدارة! بشرة خمرية! لكنني
ال أحـب كثير ًا الوشـم املوجـود على ذقنهـا.
أضافت اللة عائشة:
-إضافة إىل شبابها وغضاضة سنها.
كنـت قابعـ ًا يف ركـنٍ مـن أركان الغرفـة أنصـت لهـذا الحـوار واسـتغرب
السـن املُبكِّ ـرة،
ِّ مـن اعتراف والـديت بجمال جاراتنـا .فقـد كنـت ،يف تلـك
أالحـظ هـذا الجمال دون أن أمتلـك القـدرة على التعبير عنـه بالكلمات.
عبرت بوضوح عـن انطباعـات كانت لـذا أحسسـت باالمتنـان لوالـديت التـي َّ
تسـاورين بشـكلٍ عائـم غامـض ومتقطـع.
فمجرد ذكر اسـمها جعل املرأتين تتبادالن َّ أمـا بالنسـبة للخالة كنـزة،
ّ
الشـوافة من سلالة
َّ كنـزة كانـت يل، بالنسـبة مغـزى. ذات عميقـة نظـرات
أخـرى ،مـن سلالة ملكيـة مختلفـة .كانت جميع بنـات آوى تحـس بالنقص
ال ملكيـ ًا غامضـ ًا ال ينتمـي إىل العـامل
ا ِّتجـاه هاتـه اللبـؤة! إذ إن لهـا جما ً
املحسـوس ،عـامل الجـوع والشـهوة والطمـع ،بـل إىل عـامل امللـكات
اللـوايت تحملـن يف أجسـادهن شـعار العدالـة واملسـاواة!
كانـت عيونهـا الكبيرة والحمـرة الخمريـة لجلـد وجههـا تبهـر زبوناتهـا
عصي
ّ ٍ
بخـوف ـن ال يحبهـا .يف الحقيقـة أننـي كنـت أشـعر
وتثير احترام َم ْ
على التفسير منهـا .كنـت أربط يف أحالمـي بشـكلٍ وطيد بينها وبني سـادة
العـامل الالمـريئ .اعتقـدت جازمـ ًا أنهـا متلـك قـدرات سـحرية ال محـدودة
57
وارتحـت لكـوين أسـكن تحـت نفـس السـقف مـع شـخصية لهـا مثـل هـذا
النفـوذ وهـذه السـلطة الروحانيـة.
وصـل مـوالي العـريب زوج اللـة عائشـة فجـأة .سـمعناه ينطـق يف بـاب
الـدار بالجملـة املعتـادة قبـل أن يدخـل:
-أال يوجد أحد؟ أميكنني أن أمر؟
أجابته أصوات ثالث نساء:
-ادخل ،ادخل!
سـمعنا صـوت خطواتـه على السـلم ودخـل مبـارشة إىل الغرفـة
يكـن مـن الالئـق أن يلتقـي بوالـديت
ْ الصغيرة .كان على علـم بزيارتنـا ،ومل
أو يراهـا .ذهبـت اللـة عائشـة للقـاء زوجهـا ورشعـا يف الـكالم بأصـواتٍ
خافتـة مكتومـة .بقيـت مـع والـديت وحدنا ومل أجـد ما ميكن أن أنشـغل به
فحكيـت لهـا عـن لعبـة العـروس فـوق السـطوح وعن أصـل املشـكلة التي
التصرف مـع اآلخريـن.
ُّ عامـة حـول كيفيـة
حصلـت .أجابتنـي بنصائـح ّ
نهضـت وأطلَّـت مـن النافـذة .التقـت عيناها بعينـي جارة أخـرى ،تبادلتا
وتحدثتـا عـن بدايـة الربيـع التـي تكون دومـ ًا صعبة .انتهـزت الجارة
َّ التحيـة
الفرصـة للحديـث عـن نزهـة يف الباديـة شـاركت فيهـا قبـل سـنوات ،حيـث
كان عطـر الـورود يجتـاح الفضـاء املفتـوح ،والطيور تتحاور بني األشـجار،
بأقـدام حافيـة ويغنين ويلعبن يف مـاء ٍ
عين مجـاورة. ٍ والنسـاء يركضـن
لكـن عاصفـة قويـة ماطرة ثـارت بعد الـزوال فجمع الكل األبسـطة واألواين
التـي اُسـتقدمت باملناسـبة وعـادوا مرسعين .وانقسـمت آراء األرسة بين
مسـتبرش باملطـر والعـن للعاصفـة التـي أفسـدت النزهة.
كنـا يف وضعيـة مزريـة بعد عودتنـا .التصق الرتاب والوحل بنـا وبثيابنا.
كنـت ارتديـت للمناسـبة قفطانـ ًا رائعـ ًا بلـون املشـمش مـا عاد ُيخـاط مثله
مـزرر ًا بـورود أرجوانية...
َّ اليـوم ،وقميص ًا
جرت
عـادت اللـة عائشـة إلينـا وقـد بـدا التأثُّـر والحـزن على مالمحهـاّ .
58
أتفـرج وحدي من
َّ والـديت إىل أقصى ركـن يف الغرفـة وأكثره عتمة .بقيـت
أمـي
البلكونـة ،فانتظـرت املـرأة التـي تحكي عـن ذكريـات طفولتهـا عـودة ّ
تأخـرت ،رفعـت الجـارة رأسـها إىل
القصـة .ومبـا أن هـذه األخيرة َّ
ّ لتكمـل
التبرم مـن عـدم اإلنصـات لهـا ،وعـادت إىل عتمـةُّ السماء معبرة عـن
غرفتهـا بعدمـا اعتبرت أن صغـر سـن طفـلٍ مثلي ال يسـمح لهـا بـأن تكمل
الحديـث معـه حـول أثوابهـا النفيسـة.
واصلـت والـديت واللة عائشـة حوارهما الخافت ،وكنت أحاول استراق
تـردد اسـم
السـمع ّإل أننـي مل أفهـم الشيء الكثير .بيـد أننـي الحظـت ُّ
متعـددة يف الحـوار .كانـت هـذه الكلمـة تثير يف نفسي ِّ مـرات
«الباشـا» َّ
ـن هو الباشـا؟ تلك الشـخصية التي تأمـر بجلد الناس الفضـول والخـوفَ .م ْ
متـى مـا راق لهـا ذلـك؟ بسـجنهم يف زنازيـن صغيرة ال يذوقـون فيهـا ّإل
عامـة الشـعب،املـاء وخبـز الشـعري .كان الباشـا شـخص ًا رهيبـ ًا يف عيـون ّ
مرادفـ ًا للمشـاكل واآلالم والرصخـات والبـكاء .كانـوا يسـتدينون ليدفعـوا
رشـاوى ألذنـاب الباشـا ويتحملـون التقريـع واإلهانـات يف مجلـس الحكـم
وتتحول ،بسـحر سـاحر ،إىل اتهامات
َّ الـذي يعقـده ،يـرون حقوقهم ُتهضم
ضدهـم .مـع ذلـك مل يتوقَّفوا عن الشـجار من أجل أتفه األسـباب واإلرساع
لتقديم شـكاوى أمام نفس الباشـا .وغالب ًا ما خرجوا من مجلسـه مغضبني
مهانني.
بكـم ثوبهـا.
ّ بـكاء صامـت ومسـحت دموعهـا ٍ رشعـت اللـة عائشـة يف
واسـتها والـديت بعدمـا احتضنتهـا بين ذراعيهـا كما لـو تعلَّق األمـر بطفلة
صغيرة.
أثـار املنظـر اسـتغرايب .فهـا هـي اللـة عائشـة األكبر سـن ًا تحتـاج
أمـي التـي أصبحـت فجـأة تلعـب دور األخـت الكبرى.للمواسـاة مـن طـرف ّ
اجتاحتنـي رغبـة يف الضحـك ،لكننـي امتنعـت عـن ذلـك لخـويف مـن
إغضابهما .دفعنـي املشـهد الغريـب للخـروج إىل السلامل .وددت لـو
مجـدد ًا مـع الطفلـة التـي لعبـت دور املاشـطة لخـوض مغامـرات
َّ التقيـت
جديـدة وعجيبـة يف بلـدانٍ سـحرية ،لكـن العزلة كانت قدري ،مع األسـف!
59
ٍ
كلامت غير ذات معنى: جلسـت على إحدى درجات السـلم ورشعـت أغ ّني
أكل الباشا!
اللة عائشا!
يا ليل! يا ليل!
يا عيني
ابيك وحدك!
خاطبتنـي والـديت مـن داخـل الغرفة سـائلةً إذا ما كنت أنوي االسـتمرار
يف النهيـق لفترة أطـول .لـذت بالصمـت وا ّتـكأت على الجـدار ،ورسعان ما
سـيطر ع َّ
يل النوم.
سـمعت شـخص ًا مـا يوقظنـي وميسـكني مـن يـدي ،يسـحبني إىل داخل
غرفـة اللـة عائشـة التـي وضعـت بهـا املائدة .كنـت متعبـ ًا وبحاجـة للنوم.
يل والـديت تنـاول الطعام .مل أسـتطع ابتلاع أي يشء رغـم ذلـك فرضـت ع َّ
وبـدا يل الدجـاج املطبـوخ بالجـزر بطعـم التبن .لطّ خـت جلبـايب الجديـد
حـاد ًا من والـديتّ .
ثـم تركتني ّ بقطـرات مـن املـرق فسـمعت تقريعـ ًا ولومـ ًا
فتمـددت فـوق أحـد األفرشـة وبدأت يف الشـخري.َّ أنـام
جـاء والـدي لريافقنـا يف رحلـة العـودة إىل منزلنـا .نزلـت درجات السـلم
وقدمـاي تتعثران يف كلّ خطـوة .كانـت األزقـة مضـاءة ،إضافـة لذلـك حمـل
برشية
ّ ملونـة .طفقت قامـات
والـدي ملبـة مـن قصديـر مزخرفة بقطـع زجاج َّ
أتعرف متر بنا وتعبر لتختفي ،يبتلعها الظلام دون أن َّ
تخـرج مـن سـواد الليل ّ
على أي منهـا ،وال على األزقـة التـي نقطعهـا .أسـمع خطـى قادمـة مـن بعيد
ثـم يـذوب صداهـا .نبح كلب ،وسـمعت مشـادة طاحنة بين مجموعة تقترب ّ
مـن القطـط فـوق أحـد السـطوح .تواجـه الغرمـاء وصـاح كلّ منهـم اعتـزاز ًا
ثـم تباعد بقوتـه وشـجاعته .خرجـت موجـات رشر وغضب من أفـواه القططّ ،
صـدى رصخاتهـا وموائهـا .وحدهـا أصـوات خطواتنـا وأنفاسـنا املتسـارعة
واحتـكاك ثيابنـا بأجسـادنا كسرت هـدوء الليـل يف هـذه املدينـة امليتة.
60
مبجرد وصولنا آويت إىل فرايش وغططت يف النوم.
َّ
كان الغـد يـوم جمعـة ،فعـاد والـدي لتنـاول الغـداء معنـا ،وارتـدى
باملناسـبة جلبابـه الناصـع البيـاض وعاممتـه الجديـدة.
كانـت الوجبـة رائعـة ،أكلنـا خاللهـا لحمـة كبـش بخرشـوف وكسكسـ ًا
ثـم سـلطة لذيـذة مـن الربتقـال وزيـت الزيتـون.
بالسـكر والقرفـةّ ،
رشبنـا مجموعـة من كـؤوس الشـاي املنعنع بينام زينت صينية الشـاي
ثـم خاطبت
تنهدت والديتّ ،
وردتـان وضعتـا يف كـوب من الخـزف الصينـيَّ .
زوجها:
وأغنياء،
ً فقـراء
ً -إن القـدر ال يرحـم أحـداً ،واملصائـب تطـال الجميـع،
أخيـار ًا وأرشاراً .أنـا منقبضـة القلـب مـن أجـل مـا حصـل لاللـة عائشـة ،مل
أرغـب أن أزعجـك أمـس مبـا جـرى لهـا.
نظر والدي إليها منتبه ًا فواصلت:
ُسمى عبد القادر ابن فالن...
-تشاجر زوج اللة عائشة مع رشيكه امل َّ
ترفع رأسها إىل سقف الغرفة لتدعو عليه:
-اللهـم احفظنـا واحفـظ أوالدنـا وأوالد أوالدنـا مـن أوالد الحـرام الذيـن
يالقونـك باالبتسـامة على األسـنان والضغينـة يف القلـب :آمين! عبـد
يكـن ميلك حتى القـادر ،هـذا الوضيـع الـذي رضع من حليب الشـياطني مل ْ
قميصـ ًا نظيفـاً ،يـوم عطـف عليـه مـوالي العـريب ومنحـه عملاً يف مشـغله
فشـغله وأقرضـه بعـض املـال ،ودعاه ِمـرار ًا إىل
َّ باملشـاطني .عطـف عليـه
ّ
يعبر عـن امتنانـه ملـوالي العـريب. الغـداء والعشـاء .ويف البدايـة كان ّ
ُهـم اشـتغال مع ًا وكانـت األحذية والخفـاف التي يصنعها مـوالي العريب امل ّ
مثـار إعجـاب نسـاء فـاس .صار للمحل سـمعة طيبة يف كلّ األوسـاط .فكّر
عبـد القـادر يف الـزواج فشـجعه مـوالي العريب على هذا الطريـق ،خطبت
لـه اللـة عائشـة فتـاة شـابة يف املسـتوى .تعلـم أن حفلات الـزواج مكلفة
دامئـاً .ورغـم أن عبـد القـادر سـهر الليـايل يف العمـل فإنه عجز عـن توفري
61
مـرة ثانية ملـوالي العريب طالب ًا منـه أن يقرضه
مبلـغ املهـر لخطيبتـه فلجأ ّ
املـال اللازم .نجـح مـوالي العـريب يف جمـع مبلـغ أربعـة وعرشيـن ريـا ً
ال
كاملـة وأقرضهـا لعبـد القـادر دون أي وثيقـة تثبت القرض .وليسـاعده أكرث
تدبـر مدخـول إضـايف ،أدخلـه معـه كرشيك يف املشـغل. على ُّ
-أتعرف كيف جازى عبدالقادر هذا موالي العريب عىل أفضاله؟!
يخمن فواصلت:
يكن والدي يعرف .ومل ترتك له والديت فرصة أن ِّ
مل ْ
-لـن تسـتطيع التخمين! أوالد الحـرام ووضيعـو األصـول الذيـن ال
يراعـون حرمـة األخلاق سيحاسـبون يـوم لقـاء اللـه! أتعـرف مـاذا فعـل
عبـد القـادر؟ أنكـر هـذا الديـن جملـةً وتفصيلاً ،وزعـم أنـه رشيـك حقيقـي
ال ملـوالي العـريب مـن أجـل رشاء معـدات يف املشـغل وأنـه دفـع أمـوا ً
ذهبـة! مل يقبل الباشـا رواية أي مـن الطرفني ٍ
وخيـوط ُم َّ ٍ
جلـد املشـغل مـن
املتنازعين! كلّـف أحـد مسـاعديه بالتحقيـق يف القضيـة .مل يفعـل هـذا
ثـم طلـب منهام األخير أكثر مـن الدردشـة مـع االثنين دون نتيجـة ُتذكـرّ ،
أن يدفعـا لـه مبلغـ ًا معتبر ًا كتعويـض عن الوقـت الذي أضاعـه يف محاولة
إجـراء الصلـح بينهما! مل يجـدا بـد ًا مـن دفـع املـال املطلـوب! ّ
ثـم رفعـا
التجـار .كلّـف أحـد مسـاعديه بالتحقيـق فرفضـا َّ القضيـة إىل محتسـب
التحـدث إليـه .طلبـا أن ال يفصل بينهام ّإل لجنـة من أهل الحرفة .اجتمعت ُّ
ثـم قضت لصالح اللجنـة فحقَّقـت وواصلت التشـاور من الصباح للمسـاءّ .
عبـد القـادر .أي زمـان أصبحنـا نعيـش فيه؟ مـا عاد هنـاك عـدلٌ وال عدالةٌ !
أعـرف مـا سـتقول يل! كيـف للقضـاة أن يطّ لعوا على خبايا النفـوس ،وعىل
تفاصيـل ال يعرفونهـا يف كلّ قضيـة! لكـن هكـذا هـي الدنيا! البـد من وجود
ونصابين لكي يجـد كلّ مـن الطرفين عملاً .والنـاس املسـتقيمون قضـاة َّ
والنيـات الحسـنة هـم دامئـ ًا الضحايـا!َّ أهـل األخلاق
تدخل والدي:
-ليـس دامئـاً ،ولكـن القضـاة يخطئـون أحيانـاً .القضـاة بشر ،والبشر
خطـاءون بطبعهـم! سـبحان مـن ال ُيخطـئ!
62
أضافت والديت:
ـن ال يخطـئ ،الواحـد األحـد الـذي ال رشيـك لـه! لكـن كلّ -سـبحان َم ْ
هـذا أثّـر فينـا كثيراً ،وقـد بكت اللـة عائشـة طيلـة املسـاء وانتابتهـا أوجاع
حـاد.
ّ متعـددة وصـداع
ِّ
أعقب الصمت هذا الحوار.
سـمعت حبـات السـبحة تنسـاب بين أصابـع والـدي .يف نفـس الوقـت
كانـت رحمـة تتفقَّـد عجين خبزهـا وتتأكَّ ـد مـن أنـه أصبـح جاهـز ًا للطهـي.
إرضـاء
ً كانـت زينـب تلعـب مـع قطهـا األسـود الهزيـل الـذي تب َّنتـه األرسة
لنـزوة الطفلـة التـي أرادت أن تطعمـه سـمن ًا وعسلاً وحلويـات محشـية
وأفخـاذ دجـاج! أن تلبسـه ُبرنسـ ًا مـن قماش وعاممـة مـن حريـر!
طفلـة سـاذجة! منـذ متـى أصبحـت القطـط تـأكل العسـل! والقـط
متحركـة! إن فتـاة غبيـة مثـل زينـب ال ميكن
ِّ بالعاممـة سـيبدو مثـل مهزلـة
أن تجـد يف دماغهـا التافـه ّإل مثـل هـذه األفـكار .كنـت أعتقـد جازمـ ًا أنهـا
أما
نـوع مـن أنـواع اللعـب ،وأنهـا مدعـاة للسـخرية واالحتقـارّ . ال تجيـد أي ٍ
الخاصـة يب .أسـتطيع أن أهربّ أنـا فكنـت أملـك صنـدوق العجائـب الرائعة
يف ّأيـة لحظـة مـن هـذا العـامل املزعـج املليء بالباشـاوات ومسـاعديهم
والتجـار املتنازعين ألغـرق يف عاملـي السـحري العامـر َّ واملحتسـبني
قررتباألحلام واألغـاين .كان يل رفـاق خياليـون :فرسـان وأمـراء عادلـونَّ .
أكـن قـد
ْ أن أذهـب عنـد عبـد اللـه الب ّقـال لسماع حكايـة مـن فمـه .مل
تعرفـت عليـه بعـد ،لكننـي نسـبت لـه كلّ القصص رأيـت عبـد اللـه هـذا وال َّ
وجـود حقيقي يف ٌ العجيبـة التـي سـمعتها .رغم ذلك كان لهذه الشـخصية
خصـص والدي أمسـية كاملـة للحديـث مع والديت حـول عبد عاملنـا .وقـد َّ
اللـه وقصصـه العجيبـة .علـق حديـث والـدي حـول القصص املذكـورة يف
ذاكـريت وظـل حـارض ًا بهـا خلال كلّ سـنوات طفولتـي.
كان فصـل الخريـف قـد حـلّ ،والريـح تزمجـر يف درجـات السـلم،
ممـدد ًا واضع ًا رأيس فـوق ركبة والـدي الذي َّ
تحدث َّ وتصفـق األبـواب .منت
63
بهـدوء بصوتـه األجـش سـارد ًا القصـة التاليـة:
يحفـظ عبـد اللـه مجموعـة مـن الحكايـات التـي تنتهـي بطريقـة غريبـة
ومفاجئـة دون معنـى ظاهـر.
عبـد اللـه رجـل غريب األطوار مثـل حكاياته ،وهو ميلـك متجر ًا يف درب
الح ّفاريـن ،يف زقـاقٍ بـارد يف الصيـف ال ميـر بـه النـاس ّإل نـادر ًا يف جميـع
الفصول.
يخـزن عبـد اللـه يف متجـره مجموعـة مـن األشـياء املتهالكـة التـي
يهش
ّ يعلوهـا الغبـار ،ويقضي النهار جالسـ ًا عىل جلـد خروف أكلتـه العثة
مـدة طويلـة يف الحـارة.
على الذبـاب .زبائنـه قليلـون .فتـح متجـره قبـل ّ
الـدوم ،ق ّفات
متجـر غريـب كلّ رأسماله ال يتجـاوز مجموعـة مكانـس مـن ّ
مـن أحجـام مختلفـة ،علبـة خيـوط ومجموعـة علـب معدنيـة أغلـب الظـن
تتضمـن توابـل.
َّ أنهـا
ابيضـت لحيتـه ورغـم ذلـك
ّ وقـت طويـل على افتتـاح متجـره. ٌ مضى
مل ينقـص عـدد املكنسـات كثيراً .بـاع َأقـلّ مـن ثلـث بضاعتـه األوىل مـن
الق ّفـات .ومل يجـد يومـ ًا الوقـت الـكايف لفتـح علـب الخيـط والتوابـل!
يكـرر أبـد ًا
أمـا حكايـات عبـد اللـه فيبـدو أن معينهـا ال ينضـب .وهـو ال ِّ
ّ
الحكايـة نفسـها .يـروي قصصـ ًا عجيبـة للصغـار والكبـار ،لسـكّ ان املدينـة
وللقرويين ،ملعارفـه وللعابريـن.
يقـص عبـد اللـه حكاياتـه ،التـي تـدوم ربـع السـاعة أحيانـ ًا وصبيحـة
ُّ
يتغير ،وهـو
َّ ال الـذي النبرات الهـادئ بصوتـه أخـرى، أحيـانٍ يف كاملـة
يحرك يديـه ،يهش فقط جالـس ال يشرب مـاء ،وال يغريِّ هيأة جلوسـه ،وال ِّ
أحيانـ ًا مبذبتـه على الحشرات.
ال يسـتعمل العبـارات التي يبدأ بها الحكواتيـون العرب عاد ًة قصصهم.
إنـه يحكي عـن معـارك خرافيـة وعالقـات عشـق مؤ ِّثـرة ورحلات إىل بلدان
متشرد أو
ِّ مجـرد نـزاع بين صاحـب متجـر وجـاره ،مغامـراتَّ عجيبـة أو
تدبـر عشـاء يومـه!
متسـول يف ُّ
ِّ معانـاة
64
يعبروا لـه عـن حقيقـة
ِّ يحبـه البعـض ،ويكرهـه آخـرون دون أن
ّ
مشـاعرهم ،لكنهـم ينصتـون إليـه جميعـ ًا مسـحورين.
يبـدو عبـد اللـه مرت ِّفعـ ًا ال يأبـه مبحبـة وال بعـداوة اآلخريـن .يعتبره
أما أعـداؤه فريون
عرافـاًّ . ً
وحكيما مـن حكماء الزمـان ،بـل َّ أصدقـاؤه شـاعر ًا
فيـه كذابـ ًا منافق ًا ويتهمونه أحيان ًا بالسـحر والشـعوذة .لكن ما هي حقيقته؟
مجرد ب ّقال يروي قصصاً.
َّ إنه
طلـب أحـد األعيـان مـن مختـار الحـارة أن يصغـي لحكايـات عبـد اللـه،
ألنـه ملـس يف ثناياهـا مـا اعتبره تعريضـ ًا ُّ
بالسـلطات.
السـلطات هـي نفسـها تدفع أجـرة لهذا الب ّقـال الذي ال
زعـم آخـرون أن ُّ
يبيـع ّأيـة بضاعـة ،ليتكفَّـل بصرف اهتمام السـكّ ان إىل عـوامل الخيـال بد ً
ال
مـن الخوض يف شـؤون السياسـة.
انبهـر املختـار نفسـه بحكايـات عبـد اللـه ،فأصبـح يلازم مجلسـه
ويتحـدث عنـه باعتبـاره مـن العلماء .أجـاب عبـد اللـه
َّ ويكيـل لـه املدائـح
يسـتحق الذكـر ،وأن دور العلامء ليس
ّ بـأن مجمـوع علمـه ال يسـاوي شـيئ ًا
روايـة القصـص ،بـل قـول الحقيقـة وتدوينهـا .قـال عبـد اللـه:
-كتـب أحـد العلماء الحقيقيين كتابـ ًا ووضـع صفحاتـه املخطوطـة
عـام كامـل ،وعندمـا عـاد إليهـا وجـد
ملـدة ٍ ُرشفـة ّفـوق سـطح الكعبـة امل ِّ
تتغير ومل تتأثَّـر بريـح وال بشـمس وال مبطـر! كام أن
َّ الصفحـات المعـة مل
طريـ ًا على الـورق .فقـط بعـد هـذا االختبار ،قـام بطبـع الكتاب.
الحبر كان ّ
تتغير ،وال تنمحـي ،وال تتأثَّـر بشيء!.
َّ إنـه على صـواب ،فالحقيقـة ال
أضاف عبد الله:
-لست عاملاً ،تدخل الحكايات أذين من جه ٍة ،وتخرج من الجهة األخرى.
-هل ذلك صحيح؟ ال.
البرشيـة عىل الـدوام.
ّ قـدر حكايـات عبـد اللـه هو نفسـه قـدر حكايـات
65
ـن يكذِّ بهـا .هنـاك َم ْ
ـن يضحك منهـا ،وهنـاك َم ْن يصدقهـا ومثّـة َم ْ
ِّ ـن
مثّـة َم ْ
تبكيـه .بعضهـم يكتفـي بظاهـر القـول ،فيما يتمكَّ ـن آخـرون مـن تفسير
معانيهـا.
فرد هذا األخري:
روى عبد الله حكاية ألحد األطفالَّ ،
-قرأت قصة أجمل منها يف كتايب املدريس.
قال عبد الله:
-هـذا ممكـن ،لكن قصتك موجودة يف كتاب وكلّ زمالئك يف املدرسـة
ٍ
كتـاب واحـد القصـة التـي أرويهـا فلا توجـد ّإل يف
ّ أمـا
ميكنهـم قراءتهـاّ .
فريد.
وأشار بيده إىل قلبه.
يغلـق عبـد الله متجره كلّ مسـاء ويغـادر الحارة بخطـى وئيدة صغرية.
ال يعـرف أحـد مقر سـكناه .وحـده عبد النبي املعروف بنميمتـه قال إنه رأى
يـوم محـاو ً
ال أمـا حبيـب الـذي تبعـه ذات ٍالرجـل يدخـل إىل أحـد الفنـادقّ .
اكتشـاف مكان سـكناه فقال:
-عبد الله من أولياء الله .تبعته ذات يوم إىل أن وصل حارة الص ّفاحني
يف الضفـة األخـرى مـن وادي فـاس ،دخـل يف زقـاقٍ مغلـق ينتهـي بزاويـة
رضيـح مرصوصـة الجـدران بالزلّيـج األخضر .دخـل إليهـا ،انتظـرت دقيقة
كبرت وسـقطت ثـم تبعتـه ،لكننـي وجـدت املـكان فارغـ ًا ليـس بـه أحـدّ . ّ
الجهال عنه،
ّ يقولـه ما إىل ً
البـا لقيُ أ أعـد مل اليوم ذلـك منـذ . َّ
علي ً
ا مغشـي
ألننـي أعـرف أن أوليـاء اللـه لهم منـازل خفيـة ال يعلمهـا ّإل الله.
قال بعضهم:
حق!
-حبيب عىل ّ
رد عبد النبي:
َّ
-يبـدو أن حبيـب قـد سـمع مـن حكايـات عبـد اللـه أكثر مما ينبغـي،
66
وترصفات عبد
ُّ حتـى خالـط عقلـه الخبل .اللـه وحده عنـده علـم كلّ يشء،
التقـي .هـل رأيتمـوه يـؤدي الصلاة يومـاً؟
ّ ترصفـات املسـلم
اللـه ليسـت ُّ
هـل يغـادر حانوتـه يف سـاعات تنـاول الطعـام؟ هـل يقـول كالمـ ًا ِّ
يعبر عن
التقـوى والصلاح؟ إنـه مفسـد لألخلاق ،شـيطان بعاممـة ولحيـة بيضـاء
يعيـش يف األكاذيـب مثـل خنزيـر يف الوحـل!
واحمرت وجنتاه فرصخ يف عبد النبي:
َّ غضب حبيب الهادئ عادة
ام صالحـاً؟ صحيـح إنك تؤدي -وهـل تريـد أن يشـبهك حتـى يكون مسـل ً
صلواتـك يف وقتهـا ،تغـادر دكانـك يف أوقـات الوجبـات ،تـداوم على صالة
الجمعـة وعلى تكـرار اآليـات واألحاديـث يف كالمـك ،لكـن حديثـك يقطـر
بالنميمـة والحقـد على النـاس الذيـن تغتابهـم .حديثـك تفـوح منـه رائحـة
املـوت والعفـن مـن كثرة النميمـة .لـن تبلـغ حتـى درجـة الشـيطان ألن
يتمـرغ يف الدقيـق
َّ كلّ أعاملـك حقيرة الشـأن .لسـت ّإل فـأر مجـاري قـذرا
األبيـض ليخـدع النـاس! يظـن أن بيـاض الدقيـق سـيخفي حقيقتـه بينام هو
لـوث الدقيـق األبيض نفسـه!
قـد َّ
انقـض عبـد النبـي على حبيب محـاو ً
ال توجيه رضبـة له فأمسـك به هذا
ثم
كحـداد تجعل عضالتـه أقوى بكثيرّ .
ّ األخير بقـوة مـن سـاعديه ،مهنتـه
خاطبه:
-تريـد أن ترضبنـي! هـا أنتـم تـرون أن املنافقين وضعفـاء القلـوب
يلجـأون دومـ ًا للعنف! عضلايت ِّ
تطوع الحديـد وتواجه النار .لن أسـتعملها
لسـحق رصصـور مثلـك .ال أُدافع عـن عبد الله الب ّقال ،أحـاول فقط نصحك
يـا جاهـل! يـا متعـامل! لكـن دماغـك مثـل الصخـر وروحـك باليـة محنطـة.
أحـب ملـس الجيف!
ّ مجـرد جثـة ،وأنـا ال
َّ أنـت
ثـم غـادر.
طـوح حبيـب بجسـد عبـد النبـي يف ا ِّتجـاه الجـدار املقابـلّ ،
َّ
صـام ملـدّة أسـبوع كامـل ليك ّفـر عـن غضبتـه هـذه.
حـرك روى بعضهـم مـا حـدث لعبـد اللـه فظـلّ سـاكن ًا يف البدايـةّ ،
ثـم َّ
مذبتـه ،وروى حكايـة جديـدة.
67
الفصل الخامس
ً
مبتسما قبيـل تلـك الصبيحـة مل يسـبق يل أن شـاهدت فقيـه الكُ َّتـاب
مـن يـوم األربعـاء ،حيـث أصبحت العصـا املقطوعة من شـجر السـفرجل
مجـرد أداة زينـة زائـدة على الحاجـة ال تسـتعمل لرضب التالميـذ ،بل فقط
َّ
لتنشـغل بهـا األصابـع يف وقـت الفراغ.
استظهرت درس اليوم كام العادة فهنأين الفقيه:
69
والجديـة .لـذا فعلى كلّ م ّنـا أن يحضر مـن منزلـه مقـدار
ّ مـن البهجـة
يتوجـب
َّ سـلطانية مـن زيـت الزيتـون السـتعاملها يف ملبـات اإلنـارة ،كما
صباغـة جـدران الكُ َّتـاب بالجير األبيـض ،اسـتبدال حصائـر الكُ َّتـاب الباليـة
بأخـرى جديـدة ،وإخبـار آبائنـا باإلجـراءات الجديـدة التـي تعتمـد جميعها
على مسـاهامتهم املاديـة.
ويف النهايـة أعلـن أنـه مينحنـا عطلـةً يف فرتة ما بعـد الزوال .يـا له من
خبر مفـرح! ركضـت ألخبر والـديت باملوضـوع فوجدتهـا غـادرت املنـزل. ٍ
أخربتنـي فاطمـة البزيويـة إنهـا خرجـت قبيل سـاعة بعدمـا قدمـت لزيارتها
الشـك أن زيـارة اللة
ّ ثـم إىل قلـق.
تحولـت فرحتـي إىل حـزنّ ، اللـة عائشـةَّ .
عائشـة لهـا عالقـة مبـا حـدث لزوجهـا مـع هـذا املدعـو عبـد القـادر .هـل
حدثـت مشـكلة أخـرى بين موالي العـريب وهذا الشـيطان؟ أمل يتـم إيداعه
بيـد خفيـة يحركها الباشـا والقايضيف سـجنٍ مظلـم؟ إن املوضـوع يوحـي ٍ
وأعوانهام.
كانـت والـديت قـد تركـت مفتـاح الغرفـة يف بابهـا .دخلـت لتفاجئنـي
تغير مظهرهـا املعتـاد ،اكتسـت طابـع مخلوقـات األشـياء املعتـادة وقـد َّ
تحـدق يفّ ،تثير يف قلبـي الرعـب قبـل أن تعـود لطبيعتهـا
ّ خرافيـة رشيـرة
األوىل .جلسـت أنتظـر عـودة والـديت التـي سـتخلّصني مـن عـداوة األشـياء
ومر الوقت
ومقالـب العفاريـت التـي انفـردت يب .جفَّـت حنجريت من الريـق ّ
تجـر خطاهـا يف
ّ بتثاقـلٍ كبير إىل أن سـمعت صـوت حركـة والـديت وهـي
الطابـق السـفيل صاعـدةً .عندهـا فقـط عاد لألمـور طابعهـا االعتيـادي وأنار
الغرفـة شـعاع من ضوء الشـمس فبعث الحياة يف زلّيجهـا الباهت األلوان.
مبجـرد وصولهـا لطابقنا .كانـت فاطمـة البزيوية
َّ توقَّفـت والـديت الهثـة
ـد سـمك ًا ببـاب غرفتهـا فتوقَّفت عن ذلك ،غسـلت يديها ومسـحتهام يف ُت ِع ُّ
تفسر لها سـبب خروجها.ِّ مريلتهـا منتظـر ًة مـن والـديت أن
بالرس الذي ستسـمعه إىل أي مخلوق،
ِّ طلبـت منهـا والديت أن ال تفيض
قبـل أن تقترب منهـا وتبـدأ الوشوشـة يف أذنهـا ،مرفقـة حديثهـا ُّ
بتنهـدات
عميقـة وحـركات يـد وتغييرات يف تعابير الوجه وحـركات الرأس.
70
التنهـدات مبثلهـا ،وعلى حركات
ُّ أمـي مجيبـة عـن
تتبعـت فاطمـة كالم ّ
ـدة ،قبـل أن تضرب ِ
اليـد بأكبر منهـا ،وعلى تعابير الوجـه بأخـرى أكثر ح ّ
تحسة:
بيديهـا على فخذيهـا ُم ِّ
ـ الله! الله! الله!
ـ نعم ،كلّ هذا ُيدمي القلب! وال ميكن أن يتم َّنى اإلنسـان هذه املصيبة
التـي حلّـت باللـة عائشـة حتـى ألعـدى أعدائـه .هـذا مـا حصـل ،ولكـن عىل
والضاء!
السراء َّاملؤمـن أن يحمـد الله يف َّ
بعـد ذلـك فقـط انتبهـت والـديت إىل وجـودي فأدخلتنـي إىل الغرفـة.
ثـم خاطبتنـي:
نزعـت عنهـا ثـوب حايكهـا وخفيهـا األسـودين ّ
الشك أنك ميت من الجوع! تعال لتأكل!
ّ -
مصبر ًا لذيـذ ًا
ّ ً
لحما فتحـت والـديت ِقـدر ًا مـن الفخـار وأخرجـت منهـا
ُقـدد الـذي سـخنته حتـى أصبـح يسـبح يف سـائل مـن الشـحم املُملَّـح امل َّ َّ
ثـم نزلـت لتفضي كنـت أعشـق مذاقـه .أعطتنـي قطعـ ًا وافيـة منـه وخبـزاًّ .
متشـوق ًا
ِّ بالخبر الجديـد إىل الجـارة رحمـة طالبـة منهـا كتمان الرس .كنت
التحلي بالصبر أللتقـط ّ ملعرفـة مـاذا جـرى .وكنـت أعـرف أنـه مـا َّ
علي ّإل
املتفرقـة معـ ًا وأصل إىل ِّ كلمـة مـن هنـا وأخـرى مـن هنـاك ،ألركّ ـب النتـف
الحقيقـة يف النهايـة .أنهيـت األكل برسعة وتبعت والـديت إىل غرفة رحمة.
كانـت هـذه األخيرة جالسـة فـوق جلـد خـروف متشـط شـعرها األسـود
املسـدل على كتفيهـا وترطبـه بزيـت الزيتـون .توقَّفـت عـن التمشـيط
لتنصـت إىل والـديت:
-باعـت املـرأة املسـكينة كلّ مـا متلـك مـن أجلـه ،مل يعـد يف بيتها ما
ميكـن أن تقتـات منـه الفرئان!
-وفيم سيرصف املال؟
-املـال سـيرصف لشراء معـدات عمـل ملـوالي العـريب لفتح مشـغله
الجديد.
71
حركت رحمة رأسها داللةً عىل املوافقة قائلةً :
َّ
جيد!
-هذا ّ
تتحدر مـن أرسة عريقة ،وال ميكنها ّ -اللـة عائشـة امرأة رشيفة النسـب
تتخلى عـن زوجهـا لتنقـص مكانتـه بين نظرائـه مـن ُص َّنـاع األحذيـة، َّ أن
ال خاصـ ًا بـه! العديـد مـن أن يعمـل لـدى األغيـار بعدمـا كان ميلـك مشـغ ً
مجـرد اختبـار عليـه اجتيـازه.
َّ الصعـاب تواجـه املؤمـن يف الحيـاة ،ولكنهـا
ومـوالي العـريب رجـل صالح يسـتحق أن تضحي من أجله اللة عائشـة ببيع
حليهـا وجميـع أثـاث بيتها حتى ينقذ ماء الوجه أمام زمالئه .سـيجازيها ّ كلّ
يفـر املـرء مـن أخيـه ،ومـن صاحبتـه وبنيـه! يـوم ال اللـه على كرمهـا يـوم ّ
حكـم ّإل حكمـه! يـوم ال ينفـع ّإل العمـل الصالـح يف ميـزان الحسـنات!
رددت رحمة موافقة:
َّ
-ال حول وال قوة ّإل بالله! وال إله ّإل هو!
ٍ
مبشـط سـاد الصمـت مـن جديـد ،وعـادت رحمـة لتمشـيط شـعرها
تقليـدي مصنـوع من قـرون املاعز .نهضت والديت وأطلقـت تنهيدة عميقة:
-رافقت اللة عائشة يف كلّ ما قامت به ،وأشعر اآلن بالتعب والحزن.
السلَّم أنا ووالديت.
صعدنا درجات ُ
تعـاىل الصيـاح والبـكاء من املنـزل املالصـق ملنزلنا ،صعدنـا برسعة.
بعـد مـرور اللحظـات األوىل للمفاجأة انطلقـت األسـئلة يف كلّ ا ِّتجاه:
ويف؟م ْن ُتويف؟!
َ َ -م ْن ُت
تكونـت مجموعـات مـن النسـاء فوق سـطح منزلنـا واألسـطح املجاورة َّ
للـدار املالصقـة لنـا .قدمـت نسـوة أخريات مـن املنـازل املجـاورة .تدلّني
ام قصير ًا لالنتقـال
فـوق الجـدران الفاصلـة واسـتعملت بعـض منهـن سـل ً
مـن سـطح إىل سـطحُ .سـمع بـكاء وعويـل ،وبرز من بين األصـوات الباكية
ـد ًة وحزنـاً .ظهـرت وسـط النسـاء خادمـة سـوداء صـوت كان أكرثهـا ِح ّ
72
حركـت وجههـا ويديهـا اللتين كان باطنهما الـوردي يفتن مخيلتي
ُمسـ َّنةَّ ،
ثـم أعلنت الجارية
ويثير اسـتغرايب ،قبـل أن تفرض على الجميع الصمتّ ،
السـابقة العجوز:
الحلاق ،كان يرقـد
ّ -أعـرف مـن ُتـويف ،أنـه سـيدي محمـد بـن الطاهـر
على فـراش املـرض منـذ شـهرين.
سألت امرأة ترتدي منديل رأس أصفر:
-كان مريض ًا مباذا؟
-اللـه وحـده يعلـم! لكـن الشيء األكيـد هـو أن سـيدي محمـد بـن
الطاهـر قـد ُتـويف.
ظلّـت النسـاء صامتـات لربهـة ،اختفـى رأس الخادمة العجـوز .توقَّفت
ثم عـادت النسـوة إىل منازلهن.
حـركات األيـديّ ،
الحلاق شـخص ًا معروفـ ًا يف الحـارة
ّ كان سـيدي محمـد بـن الطاهـر
التسـوق حاملاً ق ّفـة مـن
ُّ بلباسـه األبيـض ولحيتـه الخفيفـة .يـداوم على
الحلفـاء .نشـاهده عابـر ًا األزقـة وقد مألها بخضار املوسـم وأحيانـ ًا بلحمة
وبصـل وثـوم.
سـاد املـكان صـوت بـكاء ونحيـب منتظـم مستسـلم ،مسـتمر وسـاذج
بـدا وكأنـه يخضـع إليقـاع موسـيقي معـروف خـاص باملناسـبة.
73
-أرغب يف البكاء! أرغب يف البكاء!
عاجلتني والديت بصفعة قائلةً :
بكاء حقيقياً! ِ
وابك ً -خذ هذه،
تدخلـت رحمـة وأقنعتهـا باصطحـايب إىل املأتـم .وافقـت والـديت بعـد َّ
تـردد .أعانتنـي املرأتـان على عبـور الجـدار الفاصـل بيننـا وبين الجيران.
ُّ
السـلَّم يف طريـق هبوطنا
ُ إىل وصلنا وعندمـا البـكاء، عـن لحظتهـا توقفـت
إىل دار املأتـم الواقعـة يف الطابـق السـفيل ،رشعـت أقفـز الدرجـات
ال الوصـول إىل مجلـس الباكيـات! ٍ
بحماس مسـتعج ً
جلـس باملـكان مـا يزيـد على عرشيـن مـن النسـاء ينشـجن وينتحبن
بأصـوات مرتفعـة .وكلّما انضمـت إليهـن أخريـات ارتفعـت األصـوات ٍ
وتصاعـدت الزفـرات ،وتزايـد منسـوب النـدب ورضب الصـدور! جلـس
الحلاق تضربّ الجميـع على أبسـطة ومرتبـات ،وجلسـت بينهـن أرملـة
وتتـأوه مبـرارة .شـاهدت املنظـر املثير
َّ بباطـن يدهـا وجههـا وفخذيهـا
بفضـول واسـتغراب إىل درجـة نسـيت معهـا الهـدف مـن زيـارة املـكان.
جئـت بقصـد البـكاء لكننـي ال أبكي .رأيـت امـرأة عجـوز ًا منفوشـة الشـعر
مـرددة:
ِّ تعـول وتنـوح
-كنت عامد بيتي!
كنت مظلتي ودرعي
وفاريس الشجاع!
دونك سيصبح منزيل مظل ً
ام
دونك ستصبح أشعة الشمس باردة
دونك ال أملك عيون ًا أرى بها
لن تتوقف عيوين عن ذرف الدموع
سأذرف دموع ًا من دم
74
ستجف عيوين وأتيه يف الظلامت!
رددت امـرأة شـابة غريبـة عـن أهـل املنـزل ملتحفـة بحايكهـا ،يف كلّ
َّ
مـرة توقَّفـت العجـوز عـن اإلنشـاد:
ّ
أمي! آ ٍه يا ّ
أمي املسكينة! -آ ٍه يا ّ
آ ٍه يا ّ
أمي! أحببتك أكرث من أي مخلوق فوق األرض!
كانـت مثَّـة نسـاء يبكين ،وأخريـات يرفعـن دعـوات للـه ،ويتشـفعن
تجمـع أطفـال يف ركـن
بنبيـه ،يسـتحرضن بركـة األوليـاء والصلحـاء .فيما َّ
مـن الغرفـة ورشعـوا بدورهـم يف البـكاء ،فاقرتبـت منهـم.
وجـدت زينـب بينهـم .كانـت تحـاول أن تقلِّدهـم يف بكائهـم ،تفـرك
ٍ
دمعـة واحـدة! كانـت عيونهـا وتحـاول دون جـدوى .مل تتمكَّ ـن مـن ذرف
عيونهـا جافـة متيقظـة المعـة مثلما تكونان حين تحدث فوىض مـا .نظرت
سـددت لهـا لكمـة وسـط األنـف مبـارشة! رشعـت الطفلـة إليهـا قليلاً ّ ،
ثـم َّ
وعمـت فـوىض عارمـة يف املـكان فانتهـزت الفرصةاملسـكينة يف الصراخ َّ
لل ِفـرار إىل السـطوح.
رغـم إننـي ابتعدت عـن والديت ،كنت أعلـم أنها سـتواصل التنفيس عن
حزنهـا بالبـكاء دون أن تحفل مبـا يدور حولها.
سـمعت صـوت قـدوم حفظـة القـرآن ،املُكلَّفين بالقراءة على امليت،
واسـتمر نشـيجهن املكتوم .بدأ
ّ فصعـدت النسـاء جميعـ ًا إىل الـدور َّ
األول
املنشـدون تلاوة سـور طويلة مـن القـرآن الكريم.
يف النهايـة صعـدت والـديت إىل السـطوح ،سـاعدتني على القفـز عبر
ثـم هبطنـا إىل غرفتنـا .جـاءت فاطمـة الجـدار الفاصـل بين املنزلينّ ،
البزيويـة ،سـألت عـن األحـوال يف دار الجنـازة ،عـن النسـاء الحـارضات،
عـن أحـوال زوجـة امليـت َّ
وعما إذا كانـت أمـه ال تـزال على قيـد الحيـاة.
أمـي عـن أمل زوجـة الحلاّ ق ،عـن أسماء عـدد مـن الحارضات
أخربتهـا ّ
أم الحلاّ ق مـن عدمه.
واعرتفـت أنهـا تجهـل وجـود ّ
75
(الشـوافة)((( يف الحـوار حـول املوضـوع مـن الطابـقَّ شـاركت كنـزة
األريض .وبعـد حديـث طويـل ،خلصـت النسـوة إىل النتيجـة الفلسـفية
ـن على األرض سـيفنى ،وعاجلاً أم آجلاً يـأيت الـدور عىل املعروفـة :كلّ َم ْ
اإلنسـان ليغـادر إىل دار البقـاء.
سـمعنا صدى القـراءة واألذكار عرب الجدران لفتر ٍة طويلة .كان يقطعه
الحلق.
ّ بين الفينـة واألخـرى رصاخ وعويل حـاد طويل متأمل تطلقـه زوجة
مل أجـرؤ على اللعـب ،لـذا مل أخـرج مقتنيـايت مـن علبتهـا .وكيـف ميكنني
يـوم كهـذا غـادر فيـه سـيدي محمـد بـن الطاهـر ،الشـخصية ٍ اللهـو يف
املعروفـة يف زقاقنـا ،العالَـم إىل غير رجعـة؟ غـادر أرستـه وأصدقـاءه
وزبائنـه ومعارفـه إىل األبـد!
عما قليـل سـيتم تغسـيله ويـدرج يف كفنـه قبـل أن يحملـه الرجـال َّ
ثـم يرافقونـه إىل حيث على عواتقهـم فـوق نعـش مريـح من خشـب األرزّ ،
ثـم تنغلـق ،إىل األبـد ،على يدفـن يف األرض الرطبـة .ستنشـق األرض ّ
سـيدي محمـد بـن الطاهـر .كنـت أحلـم بكلّ هـذا متكئ ًا على شـباك نافذتنا
التمـدد على
ُّ فاجتاحنـي إحسـاس بالحـزن العميـق .اسـتأذنت والـديت يف
الحلق .رأيته ّ أتخيل عملية دفـن
َّ متـددت وطفقت
فراشـها الكبير فوافقتَّ .
الضيـق مسـافر ًا داخـل تابوته املُغطى فـوق بح ٍر مـن الرؤوس ِّ البسـاً كفنـه
ُعممـة التـي تنشـد أذكار ًا وأدعيـة .سـبق يل مـن قبـل أن شـاهدت مـرور امل َّ
يـردد أذكار ًا
عـدد مـن مواكـب الجنائـز قبالـة زقاقنـا .كان بعضهـا حاشـد ًا ِّ
ُمعقَّـدة ويسير ببـطء .كانـت مثَّـة جنائـز مرسعـة يحرضهـا عـدد قليـل من
املشـيعني يكتفـون برتديـد الشـهادتني جامعـة :ال إلـه ّإل اللـه ،محمـد
رسـول اللـه .كان مثَّـة أمـوات ميضـون إىل املقابـر رفقـة بضعـة أشـخاص
فقـط! ال يصاحبهـم أحـد وال يلـزم أحـد نفسـه مبشـقة تغطيـة جثامينهـم
جيـد ًا وهـي محمولـة فـوق األكتـاف! وجـدت األمـر محزنـاً.
ّ
العرافة .
َّ (((
76
فقص ع َّ
يل الحكاية التالية ملواسايت: َّ أفضيت لوالدي بأفكاري
يف أحـد األسـواق العامـرة التـي تقـع وسـط املدينـة كان يوجـد دكان
تقي ًا
سـيدي( ...نسـيت االسـم) .كان رجلاً طيبـ ًا محبوب ًا مـن الجميـع ،وكان ّ
ميـر بالسـوق موكـب جنـازة ّإل أغلـق املتجـر وتبعـه للمشـاركة يف ورعـ ًا ال ّ
متسـول فقير .حمـل التابـوت ِّ مـرت بـه جنـازة
األيـام ّ
تشـييعه .يف أحـد ّ
شـخصان فقـط مـن حفَّاري القبـور .وقف سـيدي ...وتنـاول خ ّفيـه ملرافقة
ثم عاد ملجلسـه املعتاد داخل دكانه. الجنـازة ،ولكنـه مـا لبث أن خلعهام ّ
ترصفـه مفتقـد ًا للياقة.
المـه بعـض ال ُت َّجـار املجاوريـن الذيـن وجـدوا ُّ
سمع سيدي ...كالم زمالئه من ال ُت َّجار فأجابهم مبا ييل:
فسر لكـم مـا حقيقـة مـا -أيهـا النـاس هـل أنتـم مؤمنـون؟ دعـوين أُ ِّ
خفـي ألشـارك يف
َّ شـاهدتم ومـا صـدر منـي :عندمـا رأيـت الجنـازة لبسـت
تشـييعها ،لكـن عندمـا اقرتبـت منهـا شـاهدت حولهـا طائفـة مـن رجـال
يخـرج مـن وجوههـم النـور ،طائفـة مـن مالئكـة الجنـة يحيطـون بالجنـازة!
كان الراحـل أحـد أوليـاء اللـه الفرحين بلقـاء ربهـم! وخجلـت ،أنـا العبـد
املذنـب الضعيـف ،إن اختلـط باملوكـب النـوراين! سـعدت ألنني رأيـت أخ ًا
وقـررت مواصلـة الجلـوس بين توابلي! لنـا يف اللـه يلقـى نهايـة سـعيدةَّ ،
مـرة لقيـت فيهـا جنـازة ال يتبعهـا أحـد رصت أدعو :لـك الله أيها
يف كلّ ّ
الغريب!
77
-مم تشكو؟ هل لسعتك حرشة؟ هل تشكو من مغص؟
واصلـت البـكاء لفترة طويلـة .امتنعـت عـن األكل .كانـت والـديت قـد
طبخـت عدسـ ًا بالطامطـم والبصـل ،وهـي وجبـة أحبهـا عـادةً ،ورغـم ذلـك
التمـدد فـوق الفـراش الكبري ،نشرت ع َّ
يل ُّ رفضـت تنـاول الطعـام .واصلـت
ٍ
صوف حريـري مقلَّـم الجوانـب باألحمر فاسـتغرقت يف غطـاء مـن
ً والـديت
النـوم إىل لحظـة قـدوم والـدي .قبلـت أن أرشب كوب حليبّ ،
ثـم عدت إىل
تحـت الغطاء.
78
حليها وأثـاث بيتها ،زوجها مـوالي العريب
مشـاكل اللـة عائشـة التي باعـت ّ
العلـوي يفتـح مشـغ ً
ال جديـداً ،والـديت تدعـو على النصابين واملخادعني
عدميـي األخلاق مـن أمثـال عبـد القـادر املجهـول النسـب...
تخيلـت مجموعـة مـن املالئكـة ينزلون من سـقف يف غضـون كلّ هـذاَّ ،
الغرفـة بأجنحتهـم الفضيـة ،رأيـت أحدهـم يأتينـي بصنـدوق عجائبـي
ويضعـه فـوق رسيـري .فجـأة كبر حجـم العلبـة واكتسـت شـكل تابـوت.
علي بابـه .كان الجـو داخلـه منعشـ ًا معطَّ ـر ًا مبـاء الـورد
َّ دخلتـه فأغلـق
ٍ
قصر رائـع مـن ورائحـة الربتقـال .طـار التابـوت بين الغيـوم ،وصـل إىل
زمـرد منحـوت .سـمعت جميـع العصافير تغ ِّنـي .ومنهـا الدوريـان اللـذان
يوقظـاين كلّ صبـاح .دار بينهما الحـوار التـايل:
-أحب التني املُجفَّف.
-ملاذا تحب التني املُجفَّف؟
-ألن الجميع يحب التني املُجفَّف!
-نعم! نعم! نعم!
-الجميع يحب التني املُجفَّف!
التني املُجفَّف!
التني املُجفَّف!
التني املُجفَّف!
جفنـي املغمضين .كان شـعاع ًا مـن ضـوء الشـمس، ّ ضايـق يشء مـا
سـمعت عصافير الـدوري فوق النافـذة تغ ِّني حـول منافع التين املُجفَّف.
قالت والديت:
الحمـى
َّ -صبـاح الخير يـا ولـدي ،تبـدو اليـوم أفضـل حـاالً! عانيـت مـن
ليلـة أمـس .عـدين أن تتوقَّـف عن شـقاواتك ،لـن تذهـب إىل الكُ َّتـاب اليوم!
79
أجبتها:
-لكنني لست مريضاً!
-أعلم! أعلم! العب هنا اليوم وخذ هذه السفنجة املقلية!
أمسكت السفنجة.
ثـم أوصـل املشتريات اليوميـة. نـادى إدريـس األقـرع مـن بـاب الـدارّ ،
نزلـت والـديت لتسـلُّمها .وسـمعت فاطمـة البزيويـة تقـول لهـا:
-وصل وقت بقل الخبيزة ،لونها أخرض رائع!
أجابتهـا والـديت بجملـة مل أسـمعها .عـادت رسيعـ ًا إىل الغرفـة .بـدأت
تحـرك األواين والقـدور واملنفـاخ وتطحـن التوابل يف هاون مـن نحاس .كانت ِّ
وتحـرك منفاخها بدورهـا .كان منفاخنا
ِّ طعامها ـد
ُّ ِ
ع ت
ُ غرفتها عتبـة على رحمـة
متهالـك ًا مـن القـدم .وعنـد الضغـط عليـه يبـدو كأنـه يخرج مـن فوهتـه كلمة:
ذباب!
ذباب!
ذباب!
يردد تارةً:
ينوع أغانيهِّ .
أما منفاخ الجارة رحمة فكان ِّ
ّ
-الجو حار!
الجو حار!
الجو حار!
ثم يغ ِّني بعدها:
-أعاين!
أعاين!
أعاين!
80
توقَّفـت عـن اإلنصـات لصـوت املنافـخ وأصخـت السـمع إىل الطابـق
يتردد صـوت يشـبه رشر الفحـم أو ارتطـام حبيبـات َّ السـفيل ،حيـث كان
بسـطح الزلّيـج القديـم الباهـت .كانـت فاطمـة البزيويـة تنقِّـي صوفهـا
الشـوافة((( تخاطـب إحـدى زبوناتهـا .سـمعت صـوت
َّ مـن الشـوائب وكنـزة
ضحكـة ،هديـل حاممتين فـوق السـطوح تتبـادالن حديثـ ًا جميلاً يفـرح
القلـب .كان مثَّـة ذبابتـان تتصارعـان يف الهـواء ،تلتقيـان وتفرتقـان قبل أن
تغـادرا نحـو مغامـرة جديـدة .قـرع أحدهـم البـاب بعنـف.
أجابته أصوات ِع ّدة من أهل الدار:
َ -م ْن الطارق؟
دفـق مـن
ٌ ـن الطـارق يف تلـك اللحظـة .كان
مـا كان يهمنـي أن أعـرف َم ْ
النـور يصلنـي عبر أشـعة الشـمس اللطيفـة .وكان صـوت اآلذان يرتفـع يف
السماء قادمـ ًا مـن مئذنـة بعيـدة:
-ال إله ّإل الله!
ويغرد فيه قبـل أن يختفي يف أرجائه
ِّ كان صـوت املُـؤذِّ ن يعبر الفضاء
ثم يعـود من جديد. الواسـعةّ ،
ثـم طـارت نحـو نافـذة غرفتنـا .اقتحمتهـا
دخلـت نحلـة ط ّنانـة الفنـاءّ ،
واتجهـت صـوب مـرآة اللمبة مرسعـة .صدمتها فعـادت إىل الخلـف من أثر
تفـر بأقىص رسعة مـن الغرفة .أضحكني املشـهد كثري ًا
املفاجـأة ،قبـل أن ّ
وأحـرك يدي.
ِّ فصرت أصفـق
رسعـان مـا سـئمت لعبـة التلصـص على أصـوات أهـل الـدار .جـاءت
َّ
علي والـديت لتطَّ لـع على أحـوايل فارتاحـت لعالمـات النشـاط الباديـة
وعـادت إىل أوانيهـا وتوابلهـا.
ألشـغل نفسي بـدأت اسـتظهار اآليـات القرآنيـة القليلـة التـي أحفظهـا
العرافة .
ّ (((
81
ثـم بـدأت أقـرأ كلمات
فكررتهـاّ ،
عـن ظهـر قلـب .رسعـان مـا انتهيـت منهـا َّ
خاصة يب تصعد منّ غير متناسـقة وال منسـجمة ابتكرتها ،اخرتعت قـراءة
جـو الغرفـة عرب أشـعة الشـمس اللطيفة إىل عنان السماء مثـل قافلة من
ملونة.
فراشـات ضوئيـة َّ
مجـدداً .نصحتني أن ال أُفرط يف الصياح
يل َّجـاءت والـديت لالطمئنان ع َّ
الحمـى .ناولتني سلسـلة صغرية منَّ حفاظـ ًا على حنجـريت يك ال تعـاودين
نحـاس منقـوش يقرتب لونهـا من األخرض الرمـادي ،قائلةً :
-أضف هذه إىل صندوق عجائبك!
قـررت تنظيف السلسـلة قبـل إضافتهـا للمقتنيات ،تحويل نحاسـها إىل ّ
السـن املُبكِّ ـرة.
ِّ تلـك يف بسـهولة أسـتطيعه كنـت يشء وهـو اق،بـر
ذهـب َّ
نخصصـه عـاد ًة لتنظيـف الطناجـر واملوائـد ِّ تناولـت حفنـة مـن تـراب كنـا
مـرات يف ـدة َّ وفركـت السلسـلة طويلاً إىل أن آملتنـي أصابعـي .غسـلتها ِع ّ
سـطل مـاء تعوم فيه مكنسـة مـن دوم قبل الوصـول إىل النتيجـة املبهرة.
ٍ
ذهبيـة ملّاعـة .جربتهـا كدملـج ٍ
حليـة تحولـت سلسـلة النحـاس إىل َّ
ثـم على صـدري ،فتحـت ّ رأيس، على وضعتهـا ملعانهـا، مـن للتأكـد
تحولـت
َّ صنـدوق العجائـب ،ونشرت كلّ محتوياتـه قبالتـي على غطـاء.
لحلي
ّ كلّ املسـامري واألزرار التـي أملكهـا ،بعمليـة سـحرية كنـت أتقنهـا،
متوهجـة.
ِّ وجواهـر
بتأمل ممتلكايت ،فلم أنتبه لدخول قط زينب إىل غرفتنا. كنت منشـغ ً
ال ُّ
مل أكـن أخـاف منـه .مـاء وطـاف يب ،أردت أن أحتفـي به ،أن أفتـح له أبواب
ومـد يده
َّ عاملـي السـحري ،أن أرشكـه يف اللعـب مبمتلـكايت .راقـه كالمـي
ملالمسـة أزراري وجواهـري .وضعـت السلسـلة الذهبيـة حـول عنقـه .راقه
يتمكـن مـن ذلـك
ْ األمـر يف البدايـة ،مشى متفاخـر ًا بهـا ،أراد نزعهـا فلـم
مبخالبـه .انتابـه الغضـب ،انتفـخ وبـره ،واسـتطال ذيلـه ،وملـع الشرر من
ففـر مني غاضبـاً .صعـد األدراج نحو
َّ عينيـه .رغبـت يف استرجاع سلسـلتي
السـطوح فاسـتغثت بوالـديت ،برحمـة وفاطمـة البزيويـة ،وحتـى بزينـب،
82
رغـم خصومتـي معهـا .حـارص الجميـع القـط الخائـف وحاولـوا القبـض
جـد ًا ال ميكـن
ّ عليـه .مل يفهـم سـبب الهجـوم عليـه فقفـز إىل جـدا ٍر عـالٍ
ألحـد الوصـول إليـه .واسـتني والـديت والجـارات .قلـن إن القـط سـيعود ال
محالـة يف املسـاء للـدار وإن زينـب سـتعيد يل سلسـلتي متـى عـاد.
زينـب ،هـذه املاكـرة هـي التـي كلَّفـت قطهـا أن يخدعنـي ويسرق
سلسـلتي الغاليـة! استشـطت غضبـ ًا منهـا وهجمـت عليهـا .يف أقـلّ مـن
رمشـة عين غرسـت أظافـري يف وجههـا ونتفـت شـعرها .دافعـت الطفلـة
شـدتني مـن أذين ووجهـت يل ركالت متتاليـة.العنيفـة عـن نفسـها بقـوةَّ .
فاجأتنـي رضباتهـا فسـقطت أرضـ ًا ومتكَّ نـت هـي مـن وضـع قدمهـا على
صـدري .حاولـت النسـوة الفصـل بين الغرميين املُتعاركين ،لكـن دون
جـدوى! تلقين رضبـات بالـرؤوس واأليـادي مـن كلينـا!
متكَّ نـت والـديت يف النهايـة مـن السـيطرة َّ
علي فحملتنـي إىل غرفتنـا
وغطَّ سـت رأيس يف سـطل مـاء .طلبـت مني أن أمسـح وجهـي وأصمت .مل
يحرك صـدري ويزرع فيـه خلجات عنيفة
أتوقَّـف عـن البـكاء الغاضب الذي ِّ
إىل أن أدركنـي النـوم.
83
الفصل السادس
تعين نـزول أربـع درجـات للدخـول إىل الكُ َّتـاب .وكانـت بنايتـه عبـارة
تتضمـن دور ًا علويـ ًا وضـع فيـه الفقيـه
َّ عـن غرفـة مسـتطيلة فقيرة الزينـة،
خصصهما لتخزين زيـت الزيتـون الذي يجلبـه التالميذ جرتين مـن الفخـار َّ َّ
مقـررة ،وكلَّـف أكبر التالميـذ بجمـع الزيـت مـن صغارهـم َّ يف مناسـبات
الجرتين.
َّ وصبـه يف
ّ
تيس
بالنسـبة لشراء الحصائـر الجديـدة ،سـاهم كلّ آبـاء التالميـذ مبا َّ
بحمـلفتبرع للكُ َّتـاب ِ
َّ لهـم .كان أحدهـم يعمـل يف فـرن لصناعـة الجير
حمار كامـل مـن الجير .صبيحـة االثنين الـذي سـبق يوم عاشـوراء بسـبع
وخزنت يف الدور العلوي ،وشـكَّ ل الفقيهليـالٍ ُ ،جمعـت الحصائر القدميـة ُ
مجموعـة مـن فـرق العمـل جعـل على رأس كلٍّ منهـا مسـؤوالً .اسـتلفنا
ال ومكانـس صغيرة مـن الدوم.سـطو ً
بـدأ العمـل يف جـ ٍو من املزاح والصيـاح والبكاء وتبادل الشـتائم والنط
85
والقفـز يف أرجـاء املـكان .أمسـك البعـض مبكنسـات طويلـة وتعاركـوا بهـا
طويلاً قبـل أن ينظِّ فوا السـقف من بيـوت العنكبوت والحشرات القاطنة به.
خلـط الجير باملـاء يف سـطلني كبرييـن ورشع التالميـذ يف صباغـة
جـدران الكُ َّتـاب.
ٍ
بحماس واسـتخفاف فريشـون غريهـم بنقـط كانـوا ميارسـون العمـل
الصباغين
َّ الجير ويبـدأ سـيل الشـتائم والقفـز والنـطُ .يصـاب بعـض مـن
بقطـرات الجير يف أعينهـم فيرتكـون أماكنهـم ،وهـم يفركـون عيونهـم،
ُهمـة .تنشـب رصاعـات وشـجارات ال تنتهـي ويصرخ آلخريـن يواصلـون امل َّ
ً
الجميـع يف وجـه الجميـع .أحيانـا يتدخـل الصـوت القـوي للفقيـه ليضـع
حـد ًا للجلبـة التـي تتوقَّـف للحظـات ،قبـل أن تعـود أقـوى مـن ذي قبـل.
ّ
بنيـة
نجحـت يف التحصـل على مكنسـة صغيرة ورشعـت يف الصباغـة ّ
أن أعلِّـم هـؤالء الصغـار كيـف يكـون العمـل .اصطدمت رسيعـ ًا بحاجز من
األيـادي الفوضويـة واألفـواه املفتوحـة والعيـون التي يقدح منهـا الغضب.
أحاطـوا يب مـن كلّ جانـب النتـزاع مكنسـتي الصغيرة فبـدأت ِ
العـراك
يكـن متكافئـ ًا فانتزعوهـا منـي ورمـوين أرضـاً.
ْ الصراع مل معهـم ،لكـن ِّ
سـقطت على بركـة من مـاء ،أصيـب رسوايل بالبلل فنهضـت وارمتيت عىل
دوى يف ال استرجاع املكنسـة .غير أن صـوت الفقيـه َّ املجموعـة محـاو ً
الصمـت.
فعـم َّ
َّ املـكان
86
أشـغالٍ أخـرى .تم تشـكيل فـرق جديدة للعمـل .رصت شـخصية َّ
مهمة ،إذ
ِّـف عرشون مـن التالميذ
ُجعلـت على رأس فريـق غسـل أرضيـة الكُ َّتـاب .كُ ل َ
بجلـب سـطول املـاء مـن الزاويـة التـي تبعـد خمسين خطوة عـن املكان،
والباقـون بفـرك وتنظيـف األرضيـة.
ٍ
بجـد ونشـاط .كانـت قدمـاي غارقتين يف املـاء إىل رشعـت يف العمـل
الكعبين وأنـا أفـرك األرضيـة مبكنسـتي ،إىل أن آملنـي ظهـري .شـعرت
بعضلات ذراعـي تؤملنـي بدورهـا .رغم ذلك كنت سـعيد ًا بالعمـل الجديد.
وداعـ ًا أيتهـا الـدروس اململـة! وداعـ ًا لسـاعات الحفـظ واالسـتظهار
الجامعـي الطويلة ،لأللواح الخشـبية القاسـية! ولنفرك األرضية املتسـخة
املتعرجـة مـن أوسـاخها بـكلّ فرحـة ونشـاط:
-آي! لقد رضبتني بكوعك عىل عيني!
-انتبه! لقد بللتني إىل منتصف قامتي!
-انظر إىل إدريس ،سقط يف السطل!
-سيغرق ،سيغرق!
جيد ًا أيها الكسول!
-افرك ّ
-أنت هو الكسول! انظر إىل الركن الذي فركناه ،إنه أنظف من ركنكم!
جففنا ومسحنا األرضية كلّها بخرق من خيش.
لوالـدي عـن عملنـا خلال
ّ ُعـدت إىل البيـت وقـد خـارت قـواي .حكيـت
تتقـدم لـوال دوري الحاسـم
َّ اليـوم وأقنعتهما بـأن األشـغال مـا كان لهـا أن
ألمـي :هـا قـد أصبـح رجلاً بحـق وحقيـقّ ،
ثـم فيهـا .سـمعت والـدي يقـول ّ
خلـدت إىل النـوم.
انتبهـت مـن نومـي ،جلسـت ورصخـت دون وعـي مبجموعـة مـن األوامـر
لرفاقـي مـن التالميـذ ،وزعت عليهم شـتائم أيضـاً .فهمت والديت أننـي أعاين من
كوابيـس فسـاعدتني عىل اسـتعادة الهـدوء بكلامتهـا الرقيقة وجملهـا الحانية.
87
للتوجـه إىل الكُ َّتـاب فمنعتني والديت
ُّ صبـاح الغـد بدأت يف االسـتعداد
مـن ذلـك .رشحـت يل أنهـا تحتاجنـي ملرافقتها لسـوق «القيسـارية» قصد
رشاء مالبـس العيـد .صفَّقـت من الفـرح والحامس:
ٍ
قميص جديد؟ -هل سأحصل عىل
ٍ
قميص جديد -نعم ستحصل عىل
-وهل سأحصل عىل صدا ٍر جديد بجدائل؟
-نعم ،صدا ٍر جديد بجدائل.
-هل سأرتدي جلبايب األبيض الجديد الذي وضعته يف الخزانة؟
-نعـم ،سـتلبس جلبابـك الجديـد وخ ّفين جديديـن بدأ مـوالي العريب
مطـرزة جميلة.
َّ زوج اللـة عائشـة يف صناعتهما ،إضافـة إىل حقيبة جلدية
أبـرزت صـدري وبـدأت يف رقصـات حامسـية ،يف إطلاق رصخـات ال
التحل
ّ أطلقهـا عـاد ًة ّإل يف مناسـبات الفرح الشـديد .فطلبت منـي والديت
بقـد ٍر أكبر مـن الرزانة.
ضحكـت فاطمـة البزيويـة مـن حـركايت فلـم أحفـل بهـا .كنـت سـعيد ًا
ٍ
بشـحنة من التسـامح والكرم مـع اآلخرين ،حتى ذلـك الصباح ،فأحسسـت
متعـددة .شـعرت بالتسـامح إزاءِّ تسـببت يل يف مشـاكلَّ مـع زينـب التـي
الرباقـة الرائعـة ،إزاء أيام
ضيـع سلسـلتي الذهبية َّ
قطهـا الـذي عـاد بعدما َّ
الثالثـاء الطويلـة التـي ال تنتهـي يف الكُ َّتـاب وعصـا السـفرجل التـي تلسـع
أذين ،وأيـام الغسـيل البـاردة الحزينـة ،إزاء العـامل أجمـع ،أو الجزء الذي
كنـت أعرفـه مـن العامل!
أمـي تواصـل االسـتعداد للخـروج ،وصعـدت إىل سـطح الـدار تركـت ّ
ٍ
فضـاء ال يراين فيـه أحد. مرسعـاً ألفـرغ الشـحنة الزائـدة مـن السـعادة يف
ركضـت ورضبـت الجـدران املحيطـة بعصـا صغيرة وجدتهـا باملـكان.
تخيلتهـا سـيف ًا أقطـع بـه رؤوس أعـداء وهميين ،أرضب أعنـاق الباشـا َّ
تحولـت العصـا إىل جـواد جامـح اعتليـه
واملحتسـب والحاكـم وأعوانهـمَّ .
88
فريكـض يف كلّ ا ِّتجـاه .أصبحـت الفـارس املُحـارب املرتدي جلبابـ ًا ناصع ًا
املطـرزة املليئـة
َّ وصـدار ًا بجدائـل ،فيما تثقـل كتفـي حقيبتـي الجلديـة
بالذخيرة .ورسعـان مـا ألقيـت العصا ونزلت درجات السـلم مرسعـ ًا بعدما
نادتنـي والـديت.
خمنـت أنها
أمـي تقرعنـي وتلومنـي على التأخيرَّ ... بعدمـا نزلـت بـدأت ّ
نادتنـي طويلاً دون أن انتبـه لهـا فثـارت ثائرتها كما يحدث دامئـاً .فهي تبدأ
بنـداءات جميلـة قبـل أن تغضـب وتسـلِّط ع َّ
يل شـتامئها:
-هل شبع الرشيف الصغري من اللعب؟
الرد عىل نداء والدته؟
-هل ال يرغب رشيفي يف ِّ
-انزل برسعة يا رشيفي!
-ماذا تنتظر لتنزل يا رأس البغل؟
-أال تسمعني يا وجه الحامر األسود؟
-ماذا حدث لك أيها الكلب األجرب؟
-سأصعد لتأديبك أيها الحقري!
منغمسـ ًا يف حامسـة اللعـب ،مل أسـمع كلّ العبارات منـذ البداية .مل
وصـف الكلب األجـرب ...اليشء الذي أعـادين برسعة إىل
ُ يصـل سـمعي ّإل
أرض الواقع.
أمي محتاط ًا بساعدي من احتامل تلقِّي صفعة.
نزلت نحو ّ
تجهـزت للخـروج والتحفـت حايكها
اكتفـت والـديت بتأنيبـي .كانـت قـد َّ
الناصـع البيـاض ،انتعلـت حذاءهـا األسـود ،ووضعـت لثامهـا على وجهها
فخرجنا.
طلبت منها الجارة رحمة أن تسـتعلم لها عن أمثان األقمشـة يف السـوق،
ُسـمى «بقدونـس» ،وعـن الثـوب الحريـري
خاصـة عـن ثـوب الشـاش امل َّ ّ
ُسـمى «باقـة السـلطان» ،الـذي كان على رأس قامئـة املوضـة آنـذاك.
امل َّ
89
الشـوافة .كانـت
َّ ك ّنـا قـد قاربنـا مغـادرة الزقـاق حين نادتنـا كنـزة
والـديت ال تريـد أن تقطع نفس املسـافة مـرة أخرى فسـألت كنزة بصوتٍ
لتجدد
ِّ العرافة أنها ترغـب يف رشاء أقمشـةَّ مرتفـع عـن مرادهـا .أجابـت
امللونـة التـي تسـتعملها يف إحياء ليايل الرقـص الغناوي .كانت
َّ الرايـات
محتاجـة لبضعـة أمتـار مـن قماش السـاتان األسـود إلرضـاء املـزاج
تحـس بـآالم
ّ املُتقلِّـب للجنـي املؤمـن امللـك «ابـن األحمـر» ،كما أنهـا
خفيـة يف جسـدها مصدرهـا غضـب «اللـة ميرة» تتطلَّـب تهدئتهـا رشاء
ثـوب أصفـر فاقـع .كان هنـاك أيضـ ًا الجنـي سـيدي مـوىس الـذي يحتـاج
رايـة زرقـاء اللـونّ ،إل أن ثوبـ ًا مـن السـنة املاضيـة ميكن أن يكفـي معه.
ردت والـديت: ّ
-ادفعي النقود الالزمة لرشاء مقتنياتك لولدي!
الشـوافة يك أسـتلم منها
َّ أمرتنـي والـديت بالعـودة إىل الـدار عنـد كنـزة
النقود.
العرافـة املـال ،وملـا تطلَّـب األمـر الدفـع مسـبق ًا تقلَّصـت
َّ منحتنـي
طلبياتهـا ومل تعـد ترغـب ّإل يف القماش األسـود! واصلنـا مسيرنا.
قرب باب رضيح سـيدي أحمد التيجاين اسـتوقفت والديت سـيدة أخرى.
فقبلتنـي عرب لثامها وشـكرت مبجـرد أن رأتنـا َّ
َّ بـدت عليهـا عالمـات الفرحـة
اللـه على الصدفـة التـي القتهـا بنـا .كانـت إحـدى جـارات اللـة عائشـة.
اسـتندت املرأتـان على جـدار الرضيـح وبدأتـا حديثـ ًا طويلاً مفصَّلاً حـول
مشـكلة مـوالي العـريب التـي عرفـت أخير ًا طريقهـا للحـلّ بفضـل تضحيـة
اللـة عائشـة وتفانيهـا .خلصتا إىل أن مـوالي العريب جدير بهـذه التضحية،
كاف سيشتري لاللـة فبمجـرد رشوع مشـغله يف العمـل وتحقيـق مكسـب ٍ َّ
حليـ ًا أخـرى ،وأثاثـاً ،وأغطيـة أفضل.
ّ عائشـة
غري أن الجارة أضافت جملةً غامضة قبل توديعنا:
ـن يسـتطيع أن يــأمن مكـر الرجـال! سـبق يل أن تزوجت ثالث
-ولكـن َم ْ
الهـم الوحيـد ألزواجـي االسـتيالء على املـال
ّ مـرة كان
مـرات ،ويف كلّ ّ ّ
90
القليـل الـذي كنـت أملكه .نسـأل الله أن ال يكـون زوج اللة عائشـة من هذه
الفصيلـة مـن األزواج!
ردت والديت:
َّ
-الله وحده يعلم بواطن األمور.
تركنـا الجـارة الرثثـارة لحالهـا .كانـت املدينـة تحمـل كلّ عالمـات
غاصـة باملـارة مـن سـكانها ومـن زوارها الريفيين الذين
العيـد ،فالشـوارع ّ
يتزاحمـون يف أزقـة باعـة التوابـل وسـاحة ك َّتـاب العـدل وسـوق الفواكـه
ُحملـة بأكيـاس
الحملـون يسـوقون حمريهـم الهزيلـة امل َّ َّ الجافـة .كان
السـكر والشـمع واألقمشـة وأواين الخـزف وبضائـع مختلفـة.
91
تبرم وال ضيـق ،إىل أن
متعـددة ،دون أدىن تعبير عـن ُّ
ِّ مـرات
وفتـح آخـر َّ
تجـد املـرأة ما يناسـبها.
تنقلنـا عبر خمسـة أو سـتة دكاكين مختلفة قبـل أن نشتري ثالثة أذرع
قماش صـويف أبيـض لخياطة قميص يل من نـوع «ثوب الحـوت» .أرانا ٍ مـن
البائـع فعلاً صـورة حـوت أزرق بـكلّ حراشـفه مطبوعة عىل امتـداد الثوب.
مل تتطلـب املسـاومة واالتفـاق على الثمـن الكثير من الوقـت ،عىل عكس
مـا حـدث عندما اشترينا الصـدار األحمـر ذا الجدائل.
توقفنـا عنـد أكثر مـن عشر دكاكين .عـرض علينـا الباعـة مجموعـات
كبيرة مـن الصـدارات التـي تناسـب حجمـي .عرضـوا كلّ درجـات اللـون
األحمـر املمكنـة ،لكـن مل يـرق أي منهـا لوالـديت .قبـل أن تختـار صـدار ًا
متعرجـة.
ِّ يتضمـن جدائـل غامقـة على شـكل ورود وخيـوط َّ كـرزي اللـون
طلبـت منـي خلـع جلبـايب لتجريـب الصـدار ،امتثلـت لذلـك ،قمـت
بارتدائـه ،طلبـت منـي أن أسـتدير ميينـ ًا ويسـاراً .فعلـت ،خلعـت الصـدار
وأعدتـه لوالـديت التـي أرجعتـه بدورهـا للتاجـر الـذي سـألها:
-هل أعجبكم؟
سيحدد املوضوع!
ِّ -الثمن هو الذي
-إذن سـأعد لكـم الصـدار ،أمنـح دامئـ ًا تخفيضـات للزبائـن الجاديـن.
أبيعـه بخمسـة ريـاالت ،لكننـي أوافـق على خصـم ريـال واحد مـن أجلكم.
-لننتهـي مـن الحديـث يف هـذه النقطـة سـأدفع مـن أجله ريالين اثنني
فقط !
-لكـن هـذا الثمـن ال يغطـي حتـى قيمـة رأس املـال ،لـن أبيعـه بهـذا
للتسـول مـن أجـل إطعـام أطفـايل يف هـذه الليلـة!
ُّ الثمـن ولـو اضطـررت
-اسـمع يـا سـيدي ،أنـا ربـة بيـت ال أملـك وقتـ ًا ألضيعـه يف املسـاومة،
سـأتحمل هـذه التضحيـة فقـط مـن أجـل طفلي َّ سـأمنحك ريالين وربـع.
الـذي يرغـب يف لبـس صـدار جديـد مبناسـبة عاشـوراء.
92
-مـن أجـل عيـون هـذا الطفـل سـأبذل مجهـود ًا إضافيـاً ،امنحيني فقط
ثلاث ريـاالت ونصـف ريال!
امسكت والديت بيدي واتجهنا للخروج من الدكان .خاطبتني:
أمثـان معقولـة! فليسـت الصـدارات
ٌ -لنذهـب إىل دكان آخـر توجـد بـه
هـي مـا ينقـص يف القيسـارية!
الرتجي:
ِّ ٍ
بصوت يحمل نربة رشع التاجر يف مناداتنا
-ارجعـي يـا اللـة! ارجعـي! ال أريـد أن أحـرم هـذا الطفـل مـن متعـة
ارتـداء الصـدار الـذي ناسـبه متامـاً! لـن تجـدي مثلـه أبـداً! توجـد بضاعـة
متنوعـة يف القيسـارية ،لكنهـا ال ترقـى إىل جـودة بضاعتـي .انظـري إىل ِّ
تصميمـه وتطريـزه وجـودة خياطتـه! طيـب! خـذي الصـدار وادفعـي الثمـن
نسـب رشيف! ادفعي مـا تريدين وال تنسـينيٍ الـذي يرضيـك! تبديـن يل مـن
مـن دعواتـك!
شـدة الفـرح عندمـا يناديهـا
كانـت والـديت عـاد ًة مـا تفقـد صوابهـا مـن ّ
أحدهـم بالرشيفـة أو يشـيد بنسـبها .لـذا اسـتدارت وأخرجـت مـن تالبيبهـا
مدتهما للبائـعثـم أخرجـت منـه ريالين ونصـفّ .منديلاً معقـود ًا فسـخته ّ
دون أن تنظـر إليـه .مل متنـح التاجـر فرصـة املطالبـة باملزيـد .حملـت
الصـدار املطـوي وخرجنـا مـن الـدكان.
واصلنـا التجـوال يف السـوق واسـتعلمت والـديت عـن أمثـان مجموعـة
مـن األقمشـة ،عـن تيـارات املوضـة السـائدة لحظتهـا ،وعـن داللـة هـذا
ٍ
ثـوب أو لبـاس. الرسـم أو ذاك على
ثـم غادرنـا عـامل الفخامة برسعـة لنجد أنفسـنا يف سـوق التوابل ،قرب ّ
مدرسـة العطّ اريـن .ذكّ ـرت والـديت بقطعـة ثـوب الشـاش التـي كلفتها اللة
الشـوافة رشاءهـا ،فهنأتنـي على ذاكـريت القوية ،وقفلـت راجعة إىل
َّ كنـزة
عرافـات األرض اللـوايت ال شـغل لهـن ّإل
محلات القماش وهـي تلعـن كلّ َّ
تسـميم حيـاة اآلخريـن بطلباتهـن ،وتتسـاءل ملـاذا ال تقـوم كنـزة بالذهاب
يخصهـا؟ وزاد الطين بلـة أنهـا نسـيت أين وضعـت نقودّ للسـوق لشراء مـا
93
العرافـة ،فبـدأت تقلِّـب جيوبهـا وثنايـا ثيابهـا تحـت الحايـك يف حالـة مـن
َّ
ـن جـرى مجراهـن إىل يوم وم ْ
َ وأتباعهـن افـات العر
َّ العنـة والضيـق الغضـب
الديـن! وبعـد طـول تفتيـش عرثت على نقود كنـزة أخير ًا معقـودة بإحكام
يف إحـدى ثنايـا قفطانها.
أول دكان يبيـع قامش الشـاش فطلبت املقـدار املطلوب منه،
دخلـت َّ
وأدت لـه الثمن دون مسـاومة قبل أن تخرج.
َّ
تقرعنـي
بعدمـا فقـدت والـديت مزاجهـا الرائـق دون مقدمـات ،صـارت ّ
ٍ
بسـبب وبدونـه إىل حين وصولنا الـدار .هناك سـلَّمت كنزة قطعة قامشـها
وتتـأوه يف كلّ واحدة
َّ تتنهد
ومـا تبقَّـى لهـا من فكّ ـة ،وصعدت للغرفة وهـي َّ
مـن درجات السـلم.
أمـي لزيارتهـا لتطلعهـا على
خرجـت رحمـة مـن غرفتهـا ودعـت ّ
ا ملقتنيـا ت .
امتدحـت رحمـة مشتريات والـديت وذوقهـا .وأعجبـت بصـداري الـذي
خاصـة مع حلول املسـاء
ّ بـدا لونـه غامقـ ًا ملكيـ ًا يقترب من لـون الحريـر،
وإسـداله سـتار ًا مـن العتمـة على جـو الغرفـة.
ُسـمت بحاجـز مـن كانـت غرفـة رحمـة بنفـس حجـم غرفتنـاّ ،إل أنهـا ق ِّ
فخصـص لتخزيـن املواد ِّ خشـب متهالـك قديـم فصـل حـوايل الربـع منهـا
الغذائيـة التـي تحتاجهـا األرسة يف فصـل الشـتاء :أرغفـة مالحـة وعناقيـد
تلخـص يف مرتبـات وحشـيات متقادمة بصـل .كان أثـاث الغرفـة متواضعـ ًا َّ
ُخصصـة للزينـة
وحصير مـن نبـات األسـل .كانـت القطعـة الوحيـدة امل َّ
عبـارة عـن خزانـة خشـبية امنحت آثـار الطلاء عليهـا ورتبت فوقهـا كؤوس
تزيـن وسـطهام صـور ديـوك مبهرجـة. مـن الخـزف وصحنـان ِّ
اقتعـدت زينـب ركنـ ًا مـن أركان الغرفـة تالعـب قطهـا .وضعـت قبالـة
عينيـه مـرآة صغيرة تعكـس صورته .كان الحيوان املسـكني ينظـر فيها إىل
وميـد رجله محاو ً
ال ملسـها غير أن مخالبه ّ تحـدق فيـه فيقلق
ِّ عين ضخمـة
مـرات اإلمسـاك بيشءـدة َّ ِ
تصطـدم باملـرآة وسـطحها الزجاجـي .حـاول ع ّ
94
مـا فلـم يفلـح واسـتدار باحثـ ًا وراء املـرآة ،مـن غير أن يجـد تفسير ًا للغز.
تفـوه بهـا بلغـة
فعبر عـن الغضـب بعبـارات َّأحـس أن يف األمـر خدعـة مـا َّ
َّ
ُ
كسـهم أطلـق مـن
ٍ وشـوك وبـره قبـل أن يغـادر مرسعـ ًا
َّ ذيلـه رفـع القطـط،
قـوس ،بينما كانـت زينـب تضحـك ملء شـدقيها.
أضمهـا لكنـوزي،
ّ مـدة طويلـة وأنـا أرغـب يف رشاء مـرآة صغيرة
منـذ ّ
بالتشـبه
ُّ لكننـي مل أجـرؤ أن أطلـب ذلـك مـن والـديت خـوف أن تتهمنـي
باإلنـاث..
كانـت رحمـة بصـدد االطّ لاع على مشتريات والـديت .هنأتهـا مجـدد ًا
تحـول لونـه
َّ على ذوقهـا واختياراتهـا إىل أن وصلـت للصـدار فأعجبهـا.
القـاين بنظـري إىل لـونٍ رائـع ملأين تيهـ ًا وفخـاراً ،لون سـحري عميق مليك
سألبسـه يـوم عاشـوراء .سـيعجب بـه أصدقـايئ ومعـارف أرستنـا .ومنـذ
يتوجبَّ باحرتام كبير .إذ
ٍ يحدثوين
سـيتعي عىل زمالء الكُ َّتـاب أن ِّ
َّ لحظتهـا
على الجميـع ،صغـار ًا وكبـاراً ،أن ِّ
يعبروا عـن تبجيلهـم ألمـراء األسـاطري.
ألـن أصبـح أمير ًا أسـطوري ًا بفضـل الصـدار الفخـم ،والقميـص الـذي
سـأخيطه مـن قماش «الحـوت األزرق» ،والخ ّفين اللذيـن سـيصنعهام من
أجلي مـوالي العـريب ،أفضـل صانـع أحذيـة جلديـة يف املدينـة بأرسهـا!
كانـت والـديت تهمـس يف إذن رحمـة مقرتبة منها إىل درجـة أنها قاربت
أن تلصـق شـفتيها بوجنـة الجـارة .مل يثر األمـر عنـدي أي حـب اسـتطالع.
ومل يهمنـي يشء يف حديـث املرأتين داخـل الغرفـة املعتمـة .فمثل هذا
الحديـث ال يثير فضـول األطفـال الصغـار الحاملين بـأن يصبحـوا أمـراء
أسـطوريني يلبسـون أقمشـة قرمزيـة فاخرة.
فكشت يف وجهها .بدأت يف الرصاخ:
كشت زينب يف وجهي ّ
ّ
أمي! سيدي محمد يكرش يف وجهي.
أمي! ّ
ّ -
رد تهمتها والدفاع عن نفيس.
حاولت ّ
-هي البادئة! البادئة هي!
95
مل يصدقنـي أحـد ،فبـدأت البـكاء .جذبتنـي والـديت مـن ذراعـي بعنـف
ـدة وتنـدب حظهـا العاثـر وقدرهـا وأعادتنـي إىل غرفتنـا وهـي تلومنـي ِ
بح ّ
الـذي منحهـا ابنـ ًا يذيقهـا العـذاب وال مينحها فرصـة التقاط األنفـاس أبداً.
ألثير كلّ هـذا الغضـب لـدى والـديتمل أفهـم قـط مـا الـذي فعلتـه ُ
فواصلـت االنتحـاب .تركتنـي والـديت يف ركـنٍ مـن أركان الغرفـة وغـادرت
إىل املطبـخ.
أصابنـي الجـوع مـن كثرة البـكاء الصامـت ،كما أن وقـت الغـداء قـد
تخيـل الوجبـة الباذخـة التـي فاتنـا .اسـتلقيت على ظهـري ورشعـت يف ُّ
سـأهديها لنظـرايئ يـوم أصري أمير ًا معروفـ ًا ومحرتماً .فكـرت للحظة وقلت
جيـد ًا يف قصورهـم .لـن أدعوهـم إذن لتنـاول إن األمـراء يأكلـون ّ
لنفسي ّ
ُتسـولني والفقـراء .سـأو ِّزع عليهم مالبس
ِّ وجبـة ،بـل سـأدعو الجوعى وامل
جميلـة :صـدارات حمـراء أنيقـة ،جالبيب ناصعـة البياض وخفافـ ًا من جلد
أصفـر ناعـم .سـأضيف كذلك عامئـم من قامش .وأقعـد بينهم مرتديـ ًا ثياب ًا
بيضـاء معتمـر ًا الطربـوش األحمـر املخروطـي الشـكل الخـاص بسـكان
البلاط والدراويـش .سيسـهر على تقديـم الغداء عبيد سـود يحملـون إلينا
الطعـام يف أطبـاق مـن البورسـلني...
-هل تريد أن تفيق من أجل تناول الغداء؟
جلسـت إىل املائـدة املسـتديرة التـي وضـع عليهـا الغـداء .كان طبـق
أكـن أحـب اللفـت .فكـرت يف رفـض الوجبـة ،غري لحما باللفـت .مل ْ ً اليـوم
أننـي كنـت أعلـم بـأن مـزاج والـديت ليـس على مـا ُيـرام وال أسـتطيع إثـارة
فحـول الجـوع الشـديد اللفـت َّ وتحمـل عواقبـه .رشعـت يف األكل
ُّ غضبهـا
طعـام سـائغ شـهي املـذاق.ٍ إىل
رشع أحدهـم يف الغنـاء فـوق سـطح الـدار .أدى أنشـودة وصلـت
ُتموج ،إىل أسماعنا .توقَّفت والديت
أصداؤهـا ،بفعـل ريح الربيع الناشـئ امل ِّ
عـن املضـغ .أصغـت لصـوت الغنـاء الـذي توقَّـف للحظـة قبـل أن يرتفع من
جديـد صادحـ ًا كعطـر صاعـد مـن مبخـرة ّ
يعبر عـن الحنين الدافـق.
96
ذهبت والديت للنافذة وأطلَّت منها.
-فاطمة البزيوية ،هل تعلمني َم ْن يغ ِّني هنا؟
العم عثامن.
ّ -إنها اللة خديجة ،زوجة
تزوجت رجلاً طاعن ًا يف
-ال أفهـم كيـف تغ ِّنـي تعبير ًا عن الفـرح بعدما َّ
السـ ّنش بعمر والدها!
العـم عثمان يلبـي جميـع طلباتهـا ،ويعاملهـا
ّ -ليسـت تعيسـة معـه!
متامـاً كابنتـه!
-وهي ،كيف تعامله هي؟
انفجرت ضحكات الجارات يف كلّ غرف الدار.
قالت رحمة:
-أعـرف كيـف تعاملـه! حكـت يل خادمتهما السـوداء ،األمـة السـابقة
لعثمان ،قصـة طريفـة حدثـت بينهما ،قصـة طويلـة ال أجـد اآلن وقتـ ًا
ـن.
ألحكيهـا لكُ َّ
ضجت الجارات:
َّ
-احكيها! احكيها لنا!
غنيـة .عندمـا ُتويف والـداه تركا
العـم عثمان فهـو مـن أرسة ّ
ّ -أنتن تعرفـن
لـه ثـروة معتبرة بذّ رهـا رسيعـ ًا فـأكل الربـح ورأس املـال .مل يعـد ميلـك ّإل
املنـزل الصغير املجاور لدارنا .وبقيـت معه األمة السـابقة «مباركة» يف أيام
مرات، تزوج يف السـابق ِع ّ
ـدة َّ العسر ،كما عاشـت يف داره أيـام الرخـاء .وقد َّ
أي مـن زوجاتـه يف السـيطرة عليـه حتـى جـاءت اللـة خديجـة لكـن مل تنجـح ٌّ
التـي ال يسـتطيع أن يرفـض لهـا طلبـ ًا وال أمـراً .صحيـح أن خديجـة مـن أرسة
فقيرة ،لكنهـا متلـك الصبا والجامل! انتظـرن! ها قد وصلـت إىل عقدة قصتي!
ألقيـت نظـرة مـن نافذتنـا .كانـت كلّ نسـوة الـدار متعلِّقـات بالنوافـذ
لإلصغـاء .يف حين فرشـت اللـة كنـزة بسـاط ًا صغير ًا على أرض الفنـاء
97
وجلسـت تصغـي للحكايـة على راحتهـا.
واصلت رحمة:
العـم عثمان باكـر ًا القتنـاء مشتريات.
ّ -يـوم الجمعـة املـايض ،خـرج
وحيـا جميـع مـن لقيهـم يف طريقـه بلباقتـه املعهـودة، ذهـب إىل السـوق ّ
فهـو معـروف يف الحـارة مـن طـرف الصغير والكبير .وصـل إىل سـوق
يحرك سـكاكينه
قصـاب واحـد :سـامل الزنجي ِّ يكـن هنـاك ّإل َّ
الجوطيـة ومل ْ
الكبيرة ويقطـع اللحمـة التـي يبيعهـا للنـاس املزدحمين حولـه .وقـف
يحـرك يديـه ورجليه مامزحـ ًا القصـاب .قال له
ِّ العـم عثمان خلـف الزحـام
ّ
عبـارات مـن نـوع« :ابتلـع سـكينك» أو« :تسـتحق علقـة سـاخنة» أو فقـط:
هـدده سـامل الزنجـي مـن بعيـد بسـكينه.«أعطنـي رجـل خـروف»َّ .
رست رحمـة بتقبلهـن حكايتهـا قبـل أن
كانـت كلّ النسـوة يضحكـنّ .
تواصل:
القصـاب الذي اسـتأنف عمله.
َّ العـم عثمان املـزاح ومضايقـة
ّ -واصـل
مـر كلـب مـن املـكان .رأى حـركات عثمان الصبيانيـة فاقترب منـه .رضبـه
ّ
الخف ورشع يف
ّ عثمان برجلـه لكن خ ّفـه أفلت من قدمـه .اختطف الكلـب
الخف!
ّ الركـض وعثمان يعدو خلفـه السـتعادة
كان الجميع يضحكون ،فواصلت رحمة:
-مل يدركـه ّإل فـوق جسر «بني املدن» البعيد .عندما قفل إىل السـوق
القصـاب نامئ ًا يف دكانه،
َّ ٍ
ووقـت طويل .وجد ٍ
جهـد جهيد مل يبلغـه ّإل بعـد
تعـود أن يجـود بها عىل القطـط! وجد
يتبـق لـه لحـم ،فقـط بعـض بقايا َّ
مل َ
تتبـق ّإل الضامـرة
َ الخضاريـن باعـوا كلّ مـا عرضـوا مـن خضـار طريـة ومل
َّ
الذابلـة منهـا ،مـع ثلاث ربطـات مـن الفجـل لـدى أحدهـم .خـاف مـن
العـودة دون مشتريات إىل املنـزل .كان يعلـم نـوع االسـتقبال العاصـف
سـتخصصه لـه اللـة خديجـة .طفـق يجـول منتظـر ًا حـدوث معجـزة
ّ الـذي
تنقـذ املوقـف .دخـل أحـد فنـادق املدينة ،حيـث كان بعضهم يبيع سـمك
الشـابل .كان الزحـام حولـه شـديداً .قنـط عثمان مـن االنتظـار ،وأحـس
98
بحكـة يف أنفـه الـذي اشـتاق للنشـوق .ذهـب لشراء التبـغ املطحـون مـن
تأخـر أيضـ ًا عنـد التاجـر املذكور ،وعنـد عودته وجد السـمك
أحـد ال ُت َّجـارَّ ،
قـد بِيـع عـن آخـره ،مل يجـد ما يشتري!
ٍ
بحماس ويطلبـون مـن رحمـة أن تواصـل كان الجميـع يضحكـون
الحكايـة.
أخره:
العـم عثامن ،وبـدأ يلعن تاجـر التبغ الـذي ّ
ِّ -مت َّكـن الغضـب مـن
«العجـوز امللعـون ،مـا دخلي أنـا بحكايـة زواج هـذا املغفل ،مبـوت أخته
وبخطبـة ابنتـه؟» .يف طريـق العـودة وجـد عنـد بائـع النعنـاع يف مفترق
الطـرق وردة كبيرة رائعـة .ف ّكـر يف إهـداء الـوردة لزوجتـه ليعتـذر لهـا عن
عودتـه للمنزل دون مشتريات .عـاد بالوردة ،دخل الباب ومـا لبث الجريان
العـم عثمان التـي طـارت مـن
ِّ أن رأوا الـوردة ُتلقـى خارجـاً ،تبعتهـا عاممـة
ثـم خـرج هـو حـارس الـرأس ،التقـط عاممتـه واعتمرهـا مـن جديـد، رأسـهّ .
حمـل الـوردة .كنـت واقفـة بالقـرب مـن بابنـا ،حرضت املشـهد بـأم عيني،
وقـرب وردتـه من
العـم عثمان بحضـوري ابتسـم يف وجهـي َّ ُّ وعندمـا شـعر
أنفـه كأنـه يشـم عطرها!
يتلوون من الضحك.
كان جميع الحارضين ُّ
واصلت رحمة:
-أثـار انتباهـي مشـهد العاممـة املُلقـاة والـوردة ،ويف نفـس اللحظـة
التقيـت مبباركـة التـي كانـت قادمـة فأخربتنـي كيـف تعامـل اللـة خديجـة
العـم عثمان!
ّ
امتـدح السـامعون جميعـ ًا الحكايـة التـي روتهـا رحمـة وقدرتها عىل
وضـع «امللـح» يف قصتها.
العم عثمان طيلة املسـاء ،إىل درجة
ِّ خيلتـي قصـة
سـيطرت على ُم ِّ
أننـي رأيت بعضـ ًا من مقاطعهـا يف املنام.
99
الفصل السابع
101
يف انتظـار اليـوم املعلـوم كانـت كلّ واحـدة مـن جاراتنـا تتمـرن على
ٍ
بكلمات مختلفـة يف غرفتهـا .فيما رشعت زينب العـزف والغنـاء ،وتدنـدن
يف الضرب بقـوة وصخـب على طبلـة صغيرة مـن النـوع الرخيـص .يـوم
أمـس أهداين والدي مزمار ًا بسـيط الشـكل من املعـدن األبيض .كنت أنفخ
فيـه بين الفينـة واألخـرى نفخـة قوية تذكِّ ـر برصخة حيـوان مـن الحيوانات
أمـا بالنسـبة ليـوم عاشـوراء نفسـه ،فكنـت أنتظر لعبـ ًا أخرى.
الضاريـةّ .
رغبـت يف الحصـول على طبـل مـن فخـار وسـاعة رمليـة وشخشـيخة
ـد اللحظة ،مبزمـاري الذي
لح ِّ
ملونـةّ .إل أننـي اكتفيـتَ ،تحمـل صـور زهـور َّ
أطلقـت منـه أصواتـ ًا منكـرة تعمـر الـدار وتذكِّ ـر بصفـارة إنـذار أو بحرشجـة
ميت !
طلبـت منـي والـديت أن أصعـد لسـطح الـدار وأنهـق كما يحلـو يل بـد ً
ال
مـن إزعاجها!
يجربـن دفوفهـن يف كلّ أرجـاء املدينـة فيعمـر الفضاء
كانـت النسـوة ّ
هديـر أصواتها.
شـدقي قبـل أن أطلقـه داخـل مزمـاري بـكلّ قـوة.
ّ جمعـت الهـواء يف
خـرج منـه صـوت صـارخ ظننتـه صـوت بـكاء رضيـع بـدأت أسـنانه للتـو يف
النمـو! كان قـط زينـب يتشـمس فـوق السـطوح ففاجـأه الصـوت وقفـز من
تعود أن يقضي فيه فرتةالهلـع إىل درجـة أنـه سـقط من أعىل السـور الذي َّ
قيلولتـه .تركنـي وحـدي فـوق السـطح واختفـى داخل مـزراب.
ثـم اختفى برسعة .سـمعت نداء
بـرز فجـأة رأس مـن الحائـط املجاورّ ،
والـديت فنزلت عندهـا ،خاطبتني:
-أحـد زمالئـك يف الكُ َّتـاب ينتظـرك يف فنـاء الـدار ،أرسـله الفقيـه يف
طلبـك ،ألنـه يحتاجـك يف أمـ ٍر مـا .البـس خ ّفيـك وانـزل إليـه!
تركـت مزمـاري بحسرة ونزلـت للقـاء رفيقـي يف الكُ َّتـاب الـذي أطلقنـا
«حمصة» ،بسـبب كونـه التلميـذ األضعف بنية يف قسـمنا .كان ّ عليـه كنيـة
بـرادة .طلـب منـي اإلرساع لتلبيـة أمـر الفقيه.
اسـمه الحقيقـي عـزوز ّ
102
كانـت إنـارة الكُ َّتـاب ليلـة عاشـوراء تتطلَّـب تعـاون الجميـع .لـذا نـودي
ال مـن تـريك أنفـخ يف مزمـاري على هـواي .جلسـت مـع مجموعـة علي بـد ً
ّ
كُ لِّفـت بتقطيـع وإعـداد فتائـل مـن بقايـا ثـوب ملاءة قطنيـة متهالكـة
األنسـجة .كان علينـا أن نقطعهـا ،فيما تكلَّفت مجموعة أخرى بغرسـها يف
مقوسـة مـن التنـك قبـل أن ُتوضـع يف ٍ
إنـاء بـه مزيـج مـن صفيحـة صغيرة َّ
املـاء وزيـت الزيتـون.
تكفَّـل األكرب سـن ًا م ّنـا بتعليق ثريات من حديد فوق نوافـذ الكُ َّتاب وعىل
الرثيـات الحديديـة بسـيطة التصميـمّ سـقفه بواسـطة سـلّم طويـل .كانـت
مكونـة مـن عـدد مـن اإلطـارات تلتصـق بهـا دوائـر توضـع فيهـا املصابيـح َّ
تتوسـطها فتيلة تسـبح يف الزيت.َّ باملاء لئتمُ عادية ٍ
أكـواب مـن لة ُشـك
َّ امل
للحصـول على منظـر جميل مـزج تالميـذ الكُ َّتاب املـاء بصباغـات مختلفة
األلوان.
عندمـا وصلـت الكُ َّتـاب كانـت الرثيـات ملقـاة على األرض ،واألكـواب
امللونة
َّ مرميـة يف سـطل بأحـد أركان قاعـة الـدرس ،فيما وضعـت املـواد
يف علـب صغيرة جمعـت بدورهـا قـرب خ ّفي الفقيـه ،وتوزعت قطـع التنك
بهمـة ونشـاط.
األبيـض يف أنحـاء املـكان .بدأنـا العمـل ّ
حمودة يده بقطعة تنك فذهب ليعالجها مبنزله وهو ينتحب.
جرح ّ
مكونة من
عمـل معظـم التالميذ بنشـاط وانضباط ،باسـتثناء مجموعـة َّ
خمسـة أو سـتة أطفـال ظلَّـت تنتقل بني الحلقـات املختلفة وتثري الشـغب
والضوضاء.
انتهينـا مـن عملنـا قبـل مغيـب الشـمس .وقبل مغـادرة الكُ َّتاب أنشـدنا
مجموعـة مـن األذكار الجامعيـة يف مـدح النبـي األكـرم ،قرأنـا مجموعـة
ُباركـة .دعـا الفقيـه اللـه أن يفتـح علينـا ،وأن ينـزل
مـن اآليـات القرآنيـة امل َ
ينـس الدعـاء
َ األمـة اإلسلامية قاطبـةً ،ومل
البركات على الدنيـا ،وعلى ّ
تحمـل شـدائد ُّ للسـلطان ،أمير املؤمنين ،بطـول العمـر والصبر على
السـلطنة ،ومشـاكل اململكـة ،ومسـؤولياتها الثقيلـة.
103
ثـم صمتنـا جميعـ ًا بانتظـار أن يصـدر الفقيـه األمـر باملغـادرة .بـدأ ّ
التالميـذ الخـروج مـن الكُ َّتـاب واحـد ًا تلـو اآلخـر ،ورسعـان مـا جـاء دوري
ثـم غـادرت.
فقبلـت يـد سـيدنا وانتعلـت خ ّفـي ّ ّ
لـدى وصـويل الـدار وجـدت والـديت يف مـأزقٍ كبير .فقـد نسـيت رشاء
سـتخدم يف اللمبـة .اقرتحـت عليهـا الذهـاب القتنائهَ بترول اإلنـارة الـذي ُي
العـواد راجع ًا
َّ غير أنهـا رفضـت .رسعـان مـا سـمعنا صـوت خطـى إدريـس
مـن عملـه .نزلـت والـديت عنـد زوجتـه رحمـة وهمسـت يف أذنهـا بكلمات.
مجـدد ًا القتناء البترول الـذي يلزمنا،
َّ ورسعـان مـا خـرج إدريـس من الـدار
مسـارع ًا إلسـداء هـذه الخدمـة لجريانه.
سـمعت مـن الشـارع رصاخ بائـع الشـمع وأعـواد الثقـاب يدعـو النـاس
خاصة بالفقراء
ّ إىل بضاعته .مل نعد نسـتعمل الشـمع ،فقد أصبح بضاعة
مزودة ،مـن وراءها ،مبرآة
الذيـن ال يسـتطيعون اقتنـاء ملبة بترول جميلة َّ
خاصة بالذيـن يخافون ملبـة البرتول
ّ تعكـس الضـوء .صار الشـمع بضاعـة
ويظنـون أنهـا سـتكون مصـدر انفجـارات خطيرة ودخـان ورائحـة كريهـة ال
مخيلتهم.
ِّ ُتوجـد ّإل يف
العـواد.
َّ نـزل الظلام برسعـة وانتظرنـا بفائـق الصبر عـودة إدريـس
سـمعنا صـوت خطواتـه وهـو يطلـب ،كالعادة ،إخلاء املمر لحظـة دخوله
الـدار .نزلـت والـديت عنـد رحمـة ،ورسعـان مـا عـادت بقنينة نصـف ممتلئة
مـن البترول .وعلى ضـوء شـمعة صغيرة فتحـت خـزان اللمبـة ،مألتـه
ثـم أشـعلته .قلـت لهـا:
ونظفـت الفتيـل مـن السـخامّ ،
-جعلها الله ليلةً مباركة!
أجابتني:
-ليبارك الله ليلتك!
سمعنا صوت اللة كنزة قادم ًا من الطابق األريض:
-اللة زبيدة مساء الخري ،هل ميكن أن متنحيني بضع وريقات من نعناع؟
104
-سيحملها إليك سيدي محمد.
أعطتنـي والـديت باقـة صغيرة مـن أوراق النعنـاع ،حملتهـا مزهـو ًا
للعرافـة .وجدتهـا واقفـة يف الفنـاء وقـد أثقلـت الهـواء بالبخـور واللبـان
َّ
أشـد االقتنـاع بـأن
ّ ً
الجـاوي وغريهما مـن الروائـح النفَّـاذة .كنـت مقتنعـا
عتمـة الفنـاء تشـهد يف هذه اللحظة اجتامع ًا حاشـد ًا لعفاريـت الجن التي
جلبتهـا الروائـح الخانقـة.
خمنـت أن هذه لتشـكرين ،أعطتنـي اللـة كنـزة حفنة من حبـوب الك ّتانَّ .
العرافـة على رشف العفاريـت َّ جـزء مـن املؤدبـة التـي نظمتهـا
ٌ الحبـوب
أر بأسـ ًا يف
جربـت ذوقهـا بحـذر فوجدتـه طيبـ ًا ومل َ املُتحلِّقـة حولهـاَّ .
تناولهـا .كانـت تعلـق بشـفتي ومبـا تحـت أنفـي فأتصيدهـا بلسـاين قـدر
املسـتطاع ،قبـل أن أنظـف مـا بقـي بأصابعـي.
ً
مظلما ،رغم ذلك مل أشـعر بالخـوف .فالفراغ الظاهر الذي السـلَّم
كان ُ
أراه عامـر ًا مبخلوقـات ال تـرى تفسـح يل مجـال املرور ،وستنكشـف لعيني
السـن املناسـبة.
َّ حاملا أبلغ
ٍ
بصوت جهري: أمي تقول
سمعت ّ
-الله أكرب
سألتها:
-هل نادى املؤذن لصالة العشاء؟
أصخـت السـمع طويلاً يف الظلام فلـم أسـمع صـوت اآلذانُ .يقـال إن
النسـاء ميلكـن سـمع ًا أكثر دقـة مـن الرجـال عـادةً.
مل يتأخر والدي عن العودة ،تناولنا طعام العشاء كام العادة.
قبـل النـوم أعلمنـي والدي أنه سيرافقني يوم ٍ
غد إىل السـوق يك أمتكن
مـن اختيـار لعبـي ،كما أننـا سـنزور بـاب رضيـح مـوالي إدريـس القتنـاء
شـمعة كبيرة أهديهـا للفقيـه ليلـة عاشـوراء.
105
يشء واحـد :مـا كان بإمـكاين أن
ٌ غمرتنـي السـعادة ومل يزعجنـي ّإل
الحلاق .فبعـد قليـل سـيصطحبني والـدي إىل الـدكان
ّ أفلـت مـن زيـارة
الحلاق.
ّ الشماعني ،حيـث يشـتغل السي عبـد الرحمـن ّ الضيـق بحـارة
ِّ
الحلق وال دكانه.
ّ مل أحب يوم ًا ال عبد الرحمن
أتخيـل مجموعـة مـن
َّ آوينـا للفـراش ،لكـن النـوم غـادر عينـي وطفقـت
الرباقة
امللونـة ،بالسـيوف َّ
َّ املزينـة بقطـع مـن الدانتيال
َّ الشـموع الضخمـة
املزينـة
َّ والطبـول على شـكل سـاعات شمسـية والشـمعدانات الحديديـة
ٍ
بأكـواب من كريسـتال.
املطولـة وال متعـة رشاء البضاعة
َّ فـن املسـاومة
يكـن والـدي يتقـن َّ
مل ْ
بثمـنٍ يقـلّ فلسـ ًا عـن الثمـن الـذي فُرض على بقية املشترين .بعـد تناول
تـدوي بأصواتاإلفطـار رافقنـي للتجـوال على باعة اللعـب .كانت الـدروب ِّ
قـرع الطبـول الصغيرة والشخشـيخات مـن التنـك واملزامير .حشـد
الباعـة بضائـع إضافيـة خـارج الدكاكين التـي ضاقـت مبحتوياتهـا فتدلَّـت
ُتسـوقون
ِّ ملونـة .عمـر امل
املعروضـات مـن أرجائهـا على شـكل عناقيـد َّ
األزقـة وتحلَّقـوا حـول املتاجر :رجال ونسـاء وصبية وفتيـات .كان بعضهم
يجـرب لعبـ ًا فيما يصفـق آخـرون ويرثثـرون ،بينما يسـاوم اآلبـاء ويتقافـز
ِّ
األبنـاء هنـا وهنـاك إىل درجـة أن البائـع يعجـز عـن الرتكيـز.
عمـرت أزقـة املدينـة حشـود غفيرة مـن القرويين الـذي نزلـوا إليهـا
التسـوق فاشتروا سـكر ًا وتوابـل وأقمشـة وآالت موسـيقية تقليديـة،
ُّ قصـد
ومـروا يسـحبون أكـوام بضائعهـم إىل درجـة أن ضـاق بهـم فضـاء الدروب.
َّ
ُتسـوقني ليفتح
ِّ القويـة بينام كان يشـق حشـود امل
ّ متسـكت بيـد والـدي
أمامنـا الطريـق .حصلـت بالنهاية عىل طبلٍ عىل شـكل سـاعة ترابية ،وعىل
عربـة خشـبية صغيرة عجيبة الشـكل ،ومزمار إضـايف جديد.
أدى الثمـن ناجـز ًا دون مسـاومة. ثـم َّ
تـرك يل والـدي حريـة االختيـارّ ،
كنـت أُلـح عليـه باألسـئلة والتعليقـات ،لكنـه نـادرا مـا يجيبنـي ،بـل يكتفـي
ً
ثم قصدنـا باب رضيح باالبتسـام أمـام حالـة الفـرح والهياج التـي انتابتنـيّ .
106
مـوالي إدريـس واشترينا شـمعة يبلـغ وزنهـا أوقيـة كاملـة .كانـت بـاب
ُلونـة وحوانيـت باعـة
الرضيـح تفضي ملحلات بيـع األحزمـة الجلديـة امل َّ
الفواكـه الجافـة.
الحلاق عبـد الرحمـن ،قـرب كرمـة قدمية قبالـة دكان
ّ هنـاك كان دكان
الحلقني مل يدخال قط يف ّأية منافسـة.
ّ حلاق آخـر ُيدعـى ابن عارشّ .إل أن
ّ
متنوعـة مـنِّ الحلقـون يف ذلـك الزمـان يقومـون مبجموعـة ّ كان
الوظائـف .فعنـد والديت لجـأ والـدي ،الـذي قـدم حديث ًا مـن قريتـه الجبلية
إىل املدينـة ،لخدمـات السي عبـد الرحمـن من أجـل استشـارته يف تنظيم
حفـل العقيقـة بشـكلٍ الئق .وكانـت نصائحه ّ
قيمـة يف هذا البـاب ،فهو َم ْن
قـام ،رفقـة اثنين مـن عاملـه ،بخدمـة املدعويـن يف الحفـل.
قيمة لوالـدي حول الرتبية.
وقـدم نصائح ّ
َّ أول من حلق شـعري كما أنـه َّ
كان الوالـد يقر بهذا النصـح ويعتز به.
مل أحـب السي عبـد الرحمـن أبـداً .كنـت أعلـم أنـه سـيتكفَّل بختـاين
عندمـا يحين وقـت ذلـك ،لـذا كان جلـدي يقشـعر مـن الخـوف كلما زرت
دكانـه أو شـاهدته يتنـاول مـوىس أو مقصـ ًا بيـده.
مد له رقبـة حليقة،
الحلاق بصـدد إجـراء عملية حجامة لزبـون ّ
ّ وجدنـا
بينما انحنـى هو على عنقه .أشـحت بوجهي يك ال أرى تفاصيل املشـهد.
ثـم اسـتدار
غـرس السي عبـد الرحمـن محجمين يف رأس الزبـونّ ،
ورحـب بنـا بطريقـة لبِقـة.
نحونـا َّ
-أرى أن هـذا الولـد املُدلـل قـد اشترى الكثري من اللعـب :طبل ومزمار
وعربـة رائعـة وشـمعة كبيرة .نعـم! الشـمعة مـن نصيـب الفقيـه ،ولكـن
يجـب أن تكـون العالقـة مـع الفقيـه طيبـة للنجـاة مـن عصا السـفرجل!
ضحـك كلّ الزبائـن الجالسين ،لكننـي استشـطت غضبـاً .فعصـا
رضبـوا
السـفرجل ليسـت موضـوع مـزاح! يبـدو أن هـؤالء الجالسين مل ُي َ
بهـا يومـ ًا على قـاع أقدامهم إىل درجـة أن عجـزوا عن امليش! لـذا ميكنهم
107
ـن يعرفهـا مشـاعر الهيبـة
الضحـك ،لكـن عصـا السـفرجل تثير لـدى َم ْ
واالحترام!
رفـع شـيخ ضعيـف البنيـة يحمـل لحيـة كبيرة وعاممـة أكبر سـتار باب
أول مقعد متأوهـ ًا عاجـز ًا عـن إلقاء السلامّ ،
ثم ارمتى على َّ الـدكان ودخـل ِّ
مواصلاً زفراتـه املتعبة:
حمد ،كيف ميكن أن أساعدك؟
-تبدو متعباً ،عمي ّ
-يس عبد الرحمن ،يبدو أنني سأموت!
-ال تنطـق مبثـل هـذا الـكالم الـذي ال يليـق مبسـلم ،اللـه وحـده يعلـم
أجـل الحيـاة واملـوت! مـا الـذي يؤملـك؟
-ال يؤملنـي يشء ،غير أننـي اختنـق ،يصعـب َّ
علي التنفـس يف الليـل،
اختنـق وينتفـخ قلبـي مـن القلق!
حماد! أعـرف وصفـة مجربـة سـأتلو عليـك
مقويـات يـا عمـي ّ
َّ -تلزمـك
مكوناتهـا ،هـل تسـتطيع تذكرهـا؟
ِّ
جيدة ،قلت لك إن قلبي هو الذي يؤملني ،هات الوصفة!
-ذاكريت ّ
جـداً ،اطلب مـن أهل بيتك أن يقلوا بصلـة بيضاء مقطّ عة
-إنهـا بسـيطة ّ
يف السـمن ،اخلـط هذا البصـل املقيل مع ملعقتني صغريتني من العسـل
وحبـوب الكتـان والينسـون ،أضـف إليـه بعضـ ًا مـن القرفـة والزنجبيـل.
عطّ ـر الـكلّ مبسـحوق القرنفـل .ابتلـع لقمـة مـن هـذا الخليـط كلّ صبـاح،
رب العاملين!
وسـتختفي كلّ آالمـك بقـدرة ّ
-يس عبـد الرحمـن ،جـازاك اللـه عنـي خير ًا ونفعـك بعملـك يف يـوم
الحسـاب األعظـم! كنـت أعرف أنـك سـتنفعني بعلمك وحكمتك ،سـأذهب
للتـو واللحظة!
ّ مكونـات الخلطـة
لشراء ِّ
تأوهاتـه
حماد بصعوبـة مـن مجلسـه ،غـادر وهـو يطلـق ُّ
العـم ّ
ُّ تحـرك
َّ
املعتـادة.
108
تفحـص السي عبـد الرحمـن مـدى التصـاق املحاجـم برقبـة زبونـه
َّ
ثـم رشح لنـا املوقـف:
الغامـضّ ،
األول ،وغـاب صبي املحلّ أيضـ ًا ألنه يقبع يف
تغيـب اليـوم مسـاعدي َّ
َّ -
السـجن مـن أجل سـبب ال أعلمه .لذا أشـتغل وحـدي اليوم.
متوجه ًا لوالدي:
ِّ ثم أضاف
ّ
علي قليلاً ريثما -لـذا أرجـوك ،أيهـا املعلـم عبـد السلام ،أن تصبر َّ
أنتهـي مـن حجامـة هـذا الرجـل .زارين باألمـس أحـد أصدقائـك مـن أجـل
الحجامـة أيضـاً :مـوالي العـريب صانـع األحذيـة .رجـل محترم ُمقـل يف
ربـا أن الحديـث والحـركات .ومـا يدهشـني هـو أنـه مل ينجـب أطفـاالًَّ .
متقدمـة يف السـن .يقولون إنه متـزوج من امرأة رشيفة النسـب .ال ِّ زوجتـه
شـك أن أهـل دارك يعرفونهـاُ .يقـال إنهـا امـرأة كرميـة ،وإن مـوالي العريب
ّ
تحسـنت
َّ اسـتطاع ،بفضل مالها ،أن ُيعيد إنشـاء مشـغله .أعرف أن أعامله
كثير ًا اليوم!
مر ًة
الحلاق الـذي انحنـى عىل رقبـة زبونـه ّ
ّ نظـر والـدي بالمبـاالة صـوب
أخـرى وجمـع بعضـ ًا مـن أدواتـه ووضعهـا يف درج صغري.
كنـت جالسـ ًا على كـريس مرتفـع جعـل قدمـي الصغريتين تتدليان يف
ُخصص لجلـوس الزبناء
أتأمـل كـريس الحالقـة الباهت األلـوان امل َّ
الهـواءَّ ،
واملقصـات
ّ يزيـن الجـدار ومجموعـة األمـواسوالبسـاط املتهالـك الـذي ِّ
واملرايـا اليدوية.
-أال تتفـق معـي أن عليـه أن يتخـذ زوجـةً ثانيـة .أعـرف أن الوقـت مل
يحـن بعـد ،لكننـي واثـق مـن كـون أعمال مـوالي العـريب سـتزدهر أكرث يف
املسـتقبل .إنـه يصنـع رشابيـل((( نسـائية جميلـة الصنعـة قويـة الخياطـة
والتطريـز بألـوان مبهجـة تحوز إعجاب النسـاء .التجارة مع النسـاء وحدها
((( جمع رشبيل وهو خف جلدي تقليدي خاص بالنساء يف املغرب[ .املرتجم]
109
مت ّكنـك مـن جنـي ثـروة! أو تبديدهـا! يقولـون إن النسـاء يف بعـض البلـدان
حلاق الرجـال لتصفيـف شـعرهن! يـا إلهـي ملـاذا مل أولـد يفيذهبن عنـد َّ
هـذه البلـدان الرائعة!
ثم أضاف:
تنهد اليس عبد الرحمنّ ،
َّ
ُفضل
الحلاق امل َّ
ّ -يف الحقيقـةَّ ،
علي أن أحمـد اللـه على نعمتـه .فأنـا
لـدى العديـد مـن األرس الراقيـة يف مدينتنـا .وهـم كرمـاء معـي ،جازاهـم
اللـه خيراً! الحمـد لله!
دخل الدكان زبون جديد:
-السالم عليكم.
رد اليس عبد الرحمن:
ّ
-وعليكم السالم ورحمة الله وبركاته.
حـرك والـدي شـفتيه هامسـ ًا ّ
بـرد السلام .سـعل الزبـون الجالـس عىل َّ
تجمد يف جلسـته .كنا نشـاهده من الخلف،َّ ثم
ّ مـرات ثالث قالحلا
ّ كـريس
كانـت نتـف لحيته تخـرج عن وجنتيـه ورقبته حمراء من أثر الشـمس .رجل
خمنـت مـن لـون رقبته أنـه يعمل يف الحقـول أو يف بعض البسـاتني مسـن َّ
وحولـت ناظـري صـوب
َّ املحيطـة مبدينـة فـاس .توقَّفـت عـن االهتمام بـه
الزبـون الجديـد .كان وجهـه شـديد البيـاض ،حاجبـاه كثيفـان ،ولحيتـه
شـديدة السـواد ،أشـد سـواد ًا مـن جناح غـراب ،فيام ظهـرت بـوادر اللطف
على كامـل محياه.
جلـس على مصطبـة مرتفعـة بعـض الشيء تقابـل البـاب .مل يتوقَّـف
والتودد له واالبتسـام
ُّ السي عبـد الرحمن املنشـغل بعمله عـن النظر إليه
يف وجهـه .بعدمـا جلـس الشـاب واسـتقر يف موضعه بادره بالسـؤال:
-كيـف حـال والـدك املوقَّـر حفظـه اللـه وبـارك لـه يف صحتـه ويف
تحسـنت حالتـه! الحمد لله! أسـعدين
َّ تجارتـه؟ أمـا زال يعـاين مـن ركبتـه؟
ذلـك كثيراً! إذن فقـد نفعه املرهم الـذي أعددته خصيص ًا مـن أجله! نفعه
110
أكثر مما كان يتوقَّـع هـو نفسـه؟! وأنـت كيـف أحوالـك يـا ولـدي؟ دعنـي
أمتنـى لـك السـعادة والتوفيـق .عرفـت الخبر مـن والـدك ،حـول الحـدث
السـعيد الـذي تنتظـره .أعلمنـي أنك سـتتزوج من ابنة السـيد عثمان كاتب
العدل.
خلال هـذا املونولـوج الطويـل ،حـاول الزبـون ،الـذي يحمـل اسـم
َّ
الحلاق ،لكـن هـذا األخير مل يترك لـه أحمـدِ ،مـرار ًا اإلجابـة عـن أسـئلة
َّ
الحلاق: الفرصـة ،بـل كان يجيـب نيابـة عنـه! واصـل
-السـيد عثمان رجـل مـن أهـل اللـه! يف زماننا هـذا ،الذي فسـدت فيه
األخلاق وانتشر الظلـم والرشـوة ،يجـب أن يفرح اإلنسـان لربـط عالقة مع
ٍ
شـخص محترم مثـل السـيد عثمان أو والـدك املوقّر الحـاج عيل!
ليقدم له الزبون الجديد:
ِّ َّ
الحلق نحو والدي استدار
-سـيدي أحمـد هـو ابـن الحاج عيل تاجر الشـاي املعـروف الذي يوجد
شـك أنك تعـرف دكانه!
الصياغني ،ال ّ
ّ محلـه بحارة
مـرات .ذهـب إىل حـج ثلاث َّ
شـك أنـك تعرفـه .لقـد ّ
ّ -أجـل! أجـل! ال
ُقدسـة ثلاث مـرات وملـس الحجـر األسـود .أسـأل اللـه أن األماكـن امل َّ
يحشرين يف الجنـة رفقـة الحـاج علي وأمثاله .السي أحمد سـيتزوج قريب ًا
مـن ابنـة السـيد عثمان كاتـب العـدل الـذي آتـاه اللـه العلـم والحكمـة
واللياقـة واألدب ،وآتـاه ،فضلاً عـن ذلـك ،العديـد مـن األملاك واألطيـان،
زاده اللـه خير ًا على خير!
ثم التفت إىل الشاب سيدي أحمد:
ّ
-وكيـف الحـال مـع أمور دراسـتك ،لقـد عرفتك منـذ كنت طفلاً رضيع ًا
وهـا أنـت اليـوم أصبحت عاملـ ًا جليالً!
-لست ّإل طالب علم كغريي من الطلبة!
ُثبتة َّ
الحلاق مبص أحد املحاجـم امل َّ اغتنـم الشـاب فرصة انشـغال فم
يف رقبـة زبونـه ليقول له:
111
مما أعلم أنا شـخصي ًا حول
شـك أكرث ّ
ّ -السي عبـد الرحمـن ،تعلـم وال
ـن يتكفَّل بـكلّ التفاصيـل ،ومل يأخـذ أحد رأيي
أمـور زواجـي! والـداي هام َم ْ
يف املوضوع!
-ومنـذ متى ُيستشـار الشـباب يف األمور الخطرية؟ إنهـم يعرفون بعض
األشـياء ويأخـذون العلـم عـن الكتـب والشـيوخ ،ولكـن علمهـم ال يغنيهـم
عـن خبرة كبـار السـن العارفين بتجـارب الحيـاة ومعـادن الرجـال .الزواج
مجـرد قضـاء الليـايل مع امـرأة جميلة وشـابة ،بـل إنشـاء روابط بني
َّ ليـس
أرستين وإنجـاب أبنـاء قادريـن عىل مسـاعدتنا يف وقت شـيخوختنا .إن يل
سـن الـزواج ،لـذا فصهـري سـيكون مبثابـة ابـن! بنتـ ًا وحيـدة بلغـت اليـوم َّ
ابـن ذكـر ،ولكـن إرادة اللـه هـي العليا!
طاملـا متنيـت أن يكـون يل ٌ
نـزع السي عبـد الرحمـن املحاجـم مـن رقبـة الزبـون وذهـب إلفراغهـا
الحمرة وضـع عليها
خلـف سـتار .بـدت على لحـم الزبون آثـار دوائـر قانيـة ُ
الحلاَّ ق قطنـاً والتفـت نحونا:
الشـك أنـه قانـط مـن جلوسـه
ّ ال شـعر هـذا الطفـل الـذيأو ً
-سـأحلق َّ
معنـا ويتم َّنـى أن يلعـب خارجـ ًا يف أزقـة املدينـة!
لف جذعي بفوطة حمراء وصفراء كبرية واسرتسل:
َّ
واملـارة
ّ أتفهمهـا! األزقـة بروائحهـا وضجيجهـا
َّ أتفهـم رغبتـه!
َّ -أنـا
العابـرون فيهـا ونداءاتهـم وهمسـاتهم! رصاخ وبـكاء وأهازيـج أطفـال!
األزقـة الواقعـة تحـت ظلال الكـروم وأشـجار الدلـب ،األزقـة الحاملـة
املغنيـة املتباعـدة...
رشع يف وضع الرغوة عىل رأيس ودهنها بباطن يديه مواص ً
ال حديثه:
-الزقـاق ،حيـث ميـر الحامر الصغري الرمادي اللـون ،والقطط املترشدة
امللـون! الزقاق الذي يشـهد مرور مواكب
َّ وعصافير الـدوري ،وزوج الحامم
ٍ
بـرداء يشـابه الحنـان األمومـي، األعـراس والجنـازات ،يحيـط مرتاديـه
ويكتسي مـن أجلهم بألـوانٍ نـادرة...
112
صاح سيدي أحمد:
-أقسـم باللـه أنـك شـاعر حقيقـي يـا يس عبـد الرحمـن! مل أقـرأ يومـ ًا
نصـ ًا عـن الشـارع أجمـل مما قلتـه اآلن!
-كيـف يل أن أكـون شـاعر ًا وأنـا أعـرف القـراءة والكتابـة بالـكاد! ال أنـا
متجـددة
ِّ فقـط عاشـق ملدينتنـا الجميلـة فـاس! والزقـاق فيهـا هـو فرجـة
على الـدوام!
قال والدي:
-إنك ُتحسن الحديث عنها.
-يا سـيد عبد السلام ،اإلنسـان يحسـن دامئ ًا التعبري عن األشـياء التي
يحول عاشـق األباريق إىل
مجـرد إبريـق عادي مـن الفخار ميكـن أن َّ
َّ يحبهـا.
سـميه سـيدي أحمد بالشاعر!
ما ُي ِّ
اختـار السي عبـد الرحمـن مـوىس ذات مقبـض مـن خشـب وشـحذها
لفترة على صخـر ٍة مدهونـة بالزيـت قبـل أن يشرع يف حالقـة رأيس.
ثـم مـال إىل جوانبه .آملتنـي املوىس قليلاً ،لكنني
بـدأ بأعلى الـرأسّ ،
علي الحـرارة املرتفعـة داخـل الـدكانَّ مل أجـرؤ على االحتجـاج .أثـرت
فاسـتغرقت يف النـوم .مـال رأيس على الشـفرة فجرحتني قليالً .اسـتفقت
َّ
الحلاق يتصبـب مـن رقبتـي وعنقـي ،فيما واصـل
َّ مـن نومـي وكان العـرق
ثرثرته.
توقَّـف أخير ًا ونفـض بقايـا الشـعر عـن رقبتـي وعـن عنقي قبـل أن َّ
يفك
ٍ
بتعـب يـكاد ُيقـارب الـدوار .بحثـت عـن جذعـي فوطتـه الكبيرة .شـعرت
بعينـي عـن والـدي الـذي سـارع لنجـديت.
-تعـال ،لنخـرج! فهـواء الزقـاق سينعشـك .يس عبـد الرحمـن ،أحتاج
حالقـة شـعري ،لكـن الولـد يبـدو متعبـاً ،سـأعود يف املسـاء .أسـتودعكم
اللـه يا سـادة!
113
وجدنـا أنفسـنا خارجـ ًا مـن جديـد ،وبـدا يل الزقـاق أجمـل مـن أي ٍ
وقت
مضى .شـعرت باالرتيـاح .وعنـد وصولنـا للمنـزل جلسـنا لتنـاول الطعـام،
فيما كانـت أصـداء أصـوات قـرع الطبـول الصغيرة تصلنـا مـن السـطوح
املجـاورة.
كانـت زينـب تقـرع على «طَ عريجتهـا»((( الطينيـة الرخيصـة الصغيرة
الحجـم فـوق سـطح الـدار .تناولـت الطعام برسعة شـديدة .كنـت راغب ًا يف
تدبـرت األمر للحصول إثـارة غيظهـا وحسـدها بطبيل الكبري ،لـذا رسعان ما َّ
ثـم رشعـت يف على قطعتـي عصـا صغريتين وعلَّقـت الطبـل على كتفـيّ ،
معزوفـة صاخبـة مـن تأليفـي ثقبـت آذان سـكان الزقـاق جميعاً.
جهـزت
فكَّ ـرت يف تنويـع موسـيقاي باسـتعامل أكثر مـن آلـة واحـدةَّ .
نفسي على شـاكلة رجـل -أوركسترا .وضعـت الطبـل أرضـ ًا على جنبـه
ركبتـي .لعبـت يـداي بقطعتـي العصـا بقـوة ونفخـت
َّ وحصرت البـوق بين
يف املزمـار ،يف الوقـت نفسـه ،بأقصى طاقـة .امتزجـت أصـوات الطبـل
بنفير املزمـار ُمحدثـةً جلبة منكرة مزعجـة لآلذان .انضافـت زينب لجوقتي
مسـاهمة يف ارتجـال أجمـل حفـل أوركسترايل شـهدته دارنـا.
ارتفعـت أصـوات النسـوة طالبة خفـض الصوت .مل تعجبهن موسـيقانا
فطلنب م َّنا أن نذهب للعزف يف بلكونة السـطح حتى يسـتمتع بها الجريان.
قبـل ذلـك أمرتني والديت بنـزع جلبايب وصداري القدميين ،فهي ترغب
تجـرب عيلَّ قمييص الجديد .ألبسـتني القميص.
ِّ أن
الخياطـة .كان القميـص طويلاً تصـل أطرافـه األرضّ أعجبهـا عمـل
مكون ًا من ِع ّ
ـدة طبقات يـدي الصغريتني .كان عنقـه َّ
َّ وتتجـاوز أكاممـه طـول
مـن الثـوب ويعقـد بواسـطة خيـط حريـري أبيـض.
مل يشـغل بـايل لحظتهـا ّإل طبلي فقنطـت مـن تجريـب املالبـس.
((( آلة إيقاعية شعبية تشبه الدربوكة أو الطبلة ،تصنع من فخار وجلد مدبوغ [املرتجم] .
114
رسعـان مـا عـاودت ارتـداء جلبـايب وصـداري القدميين وسـارعت لسـطح
الـدار مـن جديـد .كانـت زينـب بانتظـاري وقـد انضـاف إليهـا فتاتـان وطفـلٌ
آخـر مـن سـكان الـدور املجـاورة ،وحمـل كلّ منهـم آلتـه املوسـيقية .مل
يكـن الطفـل يتوفَّـر ّإل عىل طبـلٍ صغري وتعريجة مشـابهة لتلك التي تعزف
ْ
عليهـا الفتيـات ،فأمسـك مبزمـاري .كانـت لـه دراية أكبر بكيفيـة النفخ يف
املزمـار البسـيط املظهـر فأخـرج منـه زعيقـ ًا أكبر وأكثر صخبـ ًا ّ
مما كنت
أقـدر عليـه .اسـتلقينا يف بحـ ٍر مـن األصـوات املرحـة الصاخبـة.
115
-اسـتيقظ! إنهـا الثالثـة صباحـاً ،اسـتيقظ الرتـداء صـدارك وقميصـك
ُطـرز! افتـح عينيـك! اسـتيقظ!
الجديديـن وجرابـك امل َّ
عيني بأصابعـي .حاولت ِمرار ًا ٍ
بصـوت خافت ،فركـت رشعـت يف البـكاء
َّ
العـودة للنـوم ،غير أن والـديت كانـت صارمـة .بلَّلـت يدهـا باملـاء البـارد
عينـي فوجـدتَّ ومررتهـا فـوق وجهـي فتوقَّفـت أذنـاي عـن الهديـر .فتحـت َّ
والـدي واقفـ ًا مرتديـ ًا جلبابـ ًا مـن الصـوف الرقيـق .ابتسـم وقـال يل:
تشـجع
َّ -اسـتعد لالحتفـال بعاشـوراء يف الكُ َّتـاب رفقـة زمالئـك!
واسـتعد!
عينـي وفمـي وأنـا يف حالـة مـن النعـاس والخمـول.َّ نهضـت وغسـلت
بللـت أطـرايف باملـاء ومل أعـد لكامـل يقظتـي ّإل بعدمـا ألبسـتني والـديت
الثـوب املُتصلِّـب يـكاد يجـرح جلـدي .لبسـت
ُ القميـص الجديـد .كان
ُطرز عىل
صـداري األحمـر ذا الرسـوم املُعقَّـدة البـارزة ،وضعت جـرايب امل َّ
كتفـي وأنهيـت األمـور بلبـس جلبايب األبيـض الجديـد الذي كان يـراوح منذ
تشرب رائحـة مـاء الـورد وأوراق الربتقـال
مـدة يف خزانـة والـديت .كان قـد َّ ّ
أمـي يف خزانـة املالبـس. ّ تضعهـا التـي َّـف
ف ُج امل
هـا قـد رصت شـخص ًا آخر! كنـت مسـتفيق ًا ومنتبه ًا متاماً ،مسـتعداً ،بل
ومتشـوق ًا للذهـاب إىل الكُ َّتـاب .كانـت كلّ مالبسي جديـدة ،وكـذا حـذايئ.
ِّ
بثقـة وخيالء لـدى نزولنا درجات السـلم.ٍ تقدمـت والـدي
َّ
كان الضـوء يخـرج مـن كلّ نوافـذ غـرف الـدار الكبيرة ،إذ كان السـكان
ـن يلازم فـراش نومـه يف
وم ْ ٍ
بهمـة ونشـاطَ . متلهفين لبـدء العـام الجديـد
يـوم مثـل هذا سـيقيض شـهور السـنة بأكملهـا يف الكسـل والخمول. فجـر ٍ
متسـول يعبر الزقـاق يف هـذا الوقـت املُبكِّ ـر .سـمعت
ِّ وصلنـا صـوت
الشـك أنـه كان رضيـراً.
ّ صـوت ارتطـام عصـاه بـاألرض.
كان خ ّفـاي يفلتـان مـن رجلي أثنـاء سيرنا والثيـاب أكبر مـن مقـايس،
تعمـد والـداي رشاء مقاسـات أكبر منـي على الـدوام ألسـتعملها يف إذ َّ
ٍ
السـنوات املواليـة! رغـم ذلـك شـعرت بسـعادة بالغـة.
116
مبجـرد بلوغنـا الزقـاق منحنـي الوالـد قطعـة نقديـة مـن فئـة خمسـة
َّ
فرنـكات ،ووضـع تحـت إبطـي شـمعة كبيرة .كانـت تلـك هدايانـا لفقيـه
الكُ َّتـاب مبناسـبة مقـدم السـنة الجديـدة.
كان املـارة ينظـرون اتجاهـي ويبتسـمون .كانـت الحوانيـت مفتوحـة
واألزقـة مضـاءة .بذلـت جهـد ًا معتبر ًا لئلا يسـقط خ ّفـاي مـن قدمـي ،ومـا
لبثـت أن رأيـت نوافـذ الكُ َّتـاب.
كـدت أسـقط الشـمعة الكبيرة مـن يـدي تحـت تأثير املفاجـأة :كانـت
واجهـة الكُ َّتـاب القـرآين قـد اكتسـت حلـةً بهيجة مـن األضـواء بعدما جرت
العـادة أن تكـون بئيسـة غارقـة يف الغبـار على مـدار العـام .كانـت ملبـات
براقـة تصنـع عاملـ ًا مـن الفرحـة
متعـددة َّ
ِّ امللونـة تصـدر أضـواء
َّ الزيـت
والحبـور.
سـارعت الخطـى ،أصبحـت أصـوات التالميـذ أكثر وضوحـ ًا يف بـرودة
الصبـاح ،تنافـس يف حيويتهـا وفرحتهـا تراقـص األنـوار الصغيرة فـوق
خلطـة الزيـت واملـاء التي عكسـت ألـوان قوس قـزح داخل اللمبـات .تع َّزز
شـعوري بهـذا العيـد العجيـب بعدمـا دلفـت إىل مدخـل الكُ َّتـاب وتجاوزت
بابـه .مل أعـد األمير األنيـق الوحيـد ،بـل وجـدت نفسي وسـط مجموعـة
كبيرة من األسـياد الصغـار الذين يلبسـون أفضل الثياب وينشـدون األذكار
واألدعيـة تحـت لـواء أحـد ملـوك األسـاطري.
غـادر والـدي فسـلَّمت فقيـه الكُ َّتـاب الشـمعة التـي يبلـغ مثنهـا جنيهـ ًا
كاملاً وقطعـة النقـود مـن فئـة خمسـة فرنـكات .أفسـح يل زملايئ مكانـ ًا
بينهـم فجلسـت.
رفعـت عقيريت مثلهم بتلاوة اآليات فيما تواصل قـدوم تالميذ آخرين،
التضخـم .زادتُّ ورشعـت حزمـة الشـموع املوضوعـة جنـب الفقيـه يف
قـب جلبـايب مـن على رأيس .كان سـخونة الجـو حتـى صـار خانقـاً ،نزعـت ّ
ثـوب القميـص الجديـد يلتصـق بظهـري فيزعجنـي وخـزه ،غطـت حبـات
ٍ
برعاف فنزف أنفـه دم ًا وتلطَّ خت ويدي .أُصيب أحـد التالميذ
ّ العـرق جبهتـي
117
مالبسـه الجديـدة ببقـع حمـراء .رفعت رأيس نحو السـقف .كانت شـعالت
املصابيـح الصغيرة ترتاقـص وتصدر أحيانـ ًا رشارات زرقاء .لـذت بالصمت
سـبح بدورهـا للـه مثلما نفعـل محـاو ً
ال التقـاط أصـوات الشـعالت التـي ُت ِّ
أشـد االقتناع أنها
ّ نحـن .امتزجـت أصواتهـا بأصـوات التالميذ .كنت مقتنعـ ًا
تشـاركنا حفلنـا ،تتفاعـل معنـا وال تظـلّ حبيسـة األوعيـة الزجاجيـة التـي
تحضنها .
اكتسـت األشـياء املعتـادة واملخلوقـات األكرث بؤسـاً يف ذلـك الصباح
ترضعنـا لخالـق
ُّ نفـس حامسـنا ،وشـاركتنا حـرارة وصـدق عواطفنـا لـدى
األكـوان ملتمسين رحمتـه ورضـاه.
تيس من آيـات القرآن الكريم ،رشعنـا يف ترديد مجموعة بعـد تلاوة ما َّ
مـن األدعيـة واألذكار .شـاركنا يف أذكارنـا مجموعة من آبـاء التالميذ الذين
يكن لديهم عمـل يف هذا اليوم، جلسـوا إىل جنبنـا على أرضية الكُ َّتـاب .مل ْ
تعـودوا على
َّ فأحبـوا أن يحيـوا ذكـرى عاشـوراء بين جـدران الكُ َّتـاب مثلما
ذلك ّأيـام طفولتهم!
تحولـت أضـواء اللمبـات إىل اللـون األصفر مبـرور الوقـت واندحر غبش َّ
الفجر لدى اقرتاب ضوء النهار .تسـارعت خطى املارة يف الشـوارع خارجاً.
وتصايـح دوريـان قـرب املصابيح املُعلَّقة فوق سـتار نوافـذ الكُ َّتاب.
وجهـ ًا ناظريـه إىل
والتضرع للـه ُم ِّ
ُّ رفـع فقيـه الكُ َّتـاب ك ّفيـه بالدعـاء
لعامـة املسـلمني بالصلاح والرغـد والرخـاء وشـمل بدعائه ّ السـقف .دعـا
األحيـاء واألمـوات .كما دعـا اللـه أن يشـيع على ظهـر البسـيطة السـلم
يعـم األمـن والعـدل والتضامـن وجـه األرض. َّ واإلخـاء ،وأن
-آمني! آمني!
تخلى فيهـا الفقيه عـن عصا السـفرجل. املـرة األوىل التـي َّ
ّ كانـت تلـك
بـدا يل وسـيم الطلعـة يف جلبابـه األبيـض املُخطـط بالسـواد وبرنسـه
الجـوخ الرمـادي .منحنـا ثالثة ّأيـام من العطلـة ،ومبا أن اليـوم الثالث منها
قبلت يـد الفقيه قبـل االنرصاف، صـادف الخميـس أصبحـت أربعـة كاملـة! ّ
118
ٍ
دعـوات طيبة. لوالـدي ودعـا لهما
ّ طلـب منـي إبلاغ سلامه
أصبحـت األزقـة مزدحمـة بالعابريـن .ارتـدوا جميعـ ًا مالبـس جديـدة،
ـن كان عائـد ًا إىل داره من السـوق حاملاً مقتنياته داخـل ق ّفة من
ومنهـم َم ْ
الحلفـاء ،وقـد أبعدهـا قـدر املسـتطاع عـن رجليـه مخافـة أن تلطـخ ثيابه،
أمـي مـن خزانـة
حـدد .أخرجـت ّ ٍ
هـدف ُم َّ يتجـول دومنـا
َّ فيما كان بعضهـم
ٍ
مزينـة بخطوط صفـراء من حرير. ثيابهـا منصوريـة جميلـة رقيقـة الثـوب َّ
(((
119
كانت تعتمل داخيل رغبةٌ قوية يف الرضب عىل الطبل والنفخ بقوة يف
املزمـار ،وكنـت أعلـم أن والـديت لن تسـمح بذلـك يف مثل هذه املناسـبة.
لـذا لـذت بالصمـت منتظـر ًا قـدوم املسـاء إلحيـاء حفـلٍ موسـيقي صاخب
كنـت متعطشـ ًا لضجيجـه .جلسـت يف أحـد أركان الغرفـة منصتـ ًا لحديـث
ألمـي منـذ مقدمهـا أن بجعبتهـا أخبـار ًا طارئـة ،وهـو ما
زائرتنـا التـي أوحـت ّ
أثـار فضـول والديت ،دون أن ينسـيها واجبـات الضيافة .نفخـت عىل الفحم
السـخان ،غسـلت األكـواب وفتحـت علبـة مـن ّ وزادت مـن كميـة املـاء يف
مـرددة عبارات
ِّ القصديـر اسـتخرجت منها نصـف دزينة من حلوى السـميد
الرتحيب:
-اللـة عائشـة ،تفضلي بالجلوس عىل األريكة الكبرية .سـيكون الشـاي
جاهـز ًا بعـد هنيهة .ال! ال! ال! قلت على األريكة الكبرية! يف صدر املجلس!
أرجـوك أن تجليس يف كامل راحتك.
املخـدات وبـدأت
ّ جلسـت اللـة عائشـة فـوق األريكـة الكبيرة وسـط
حكايتهـا .مل يتعلَّـق األمـر يف الحقيقيـة بحكايـة واضحـة املعـامل ،بـل
مبجموعـة مـن األحداث املتداخلة التي ينعدم الرابـط بينها لدرجة أن اللة
عائشـة نفسـها تفلـت حبـل السرد يف بعـض األحيـان .يف تلـك اللحظـات
والغـم على وجـه اللـة عائشـة وداخـل عينيهـا ،ترتبك
ِّ تلـوح معـامل القلـق
ال قبل أن تعاود الكالم بوتريتها الهادئة ،تسترجع ابتسـامتها وتسرتسـلقلي ً
يف مونولوغهـا الطويـل.
كان وجـه والـديت يعكـس تعابير القلق نفسـها الصادرة مـن محدثتها،
ثـم نفـس العواطـف وعالمات االنفـراج .كانت تفغـر فاها أحيانـ ًا كأنها تريد
ّ
قـول يشء ،لكـن رسعـان ما تعاود إغالقـه إذا مل يسـعفها التعبري.
وجـدت يف اإلصغـاء إىل بعـض أطـراف حكايتهـا املهلهلـة املتشـعبة
متعـة كبرية.
وحسـب اللـة عائشـة ،فـإن املنـزل املجـاور لدارهـا يعـاين مـن كـون
جميـع النسـوة بـه يحملـن اسـم خديجـة .وللتمييـز بينهـن لجـأت إلضافـة
120
مهنـة الـزوج إىل اسـم الزوجـة :خديجـة زوجـة الب ّقـال ،خديجـة زوجـة
الخيـاط ،وخديجـة زوجـة بائـع البترول.
ّ
ثم أضافت:
َّ
الصمء، -مـن األفضـل أن نطلـق عليهـن ألقابـ ًا مـن ٍ
نـوع آخر :خديجـة
نتحدث!
َّ عمـن
خديجـة الحرفـاء وخديجـة السـوداء .هكذا سـيعرف الناس َّ
ضحكنـا مـن أعماق قلوبنـا مـن هـذا املـزاح .غابـت والـديت لهنيهـة
قبـل أن ُتقبـل حاملـة باقـة مـن النعنـاع والنباتـات العطرية الناعمـة .بدأت
تحضير شـاي املناسـبات املُعطّ ـر الكبير ،وبينما هـي تصبـه يف اإلبريـق
سـألت:
-كيـف أحـوال زوجـك؟ وكيـف هـي تجارته؟ هل وجـد رشيـك ًا جديد ًا أم
يعمـل وحده؟
-مل يعثر على رشيـك ،لكنـه ال يشـتغل وحـده .لديـه ثالثـة عمال.
األحذيـة النسـائية التـي يصنعهـا تجد إقبـا ً
ال كبيراً .وقد وعـدين أن يهديني
يف مطلـع الخريـف قفطـان الحريـر املشـميش اللـون الـذي كنـت أمتنـى
اقتنـاءه منـذ زمـان.
-الحمـد للـه! كلّ املشـاكل تجـد حلـو ً
ال مـع الوقـت ولحظـات األزمـة
تسـقط يف النسـيان!
أجابت اللة عائشة:
-أجل ،معك حق.
انتظـرت والـديت تفاصيـل إضافيـة غير أن ضيفتهـا صمتـت ،الشيء
الـذي أثـار قلقهـا.
-فيـم تفكريـن يـا اللـة عائشـة؟ تبديـن مهمومـة .أمتنـى أن كلّ يشء
على مـا ُيـرام يف أرستـك!
صبت والـديت قلي ً
ال من تنهـدت اللـة عائشـة دون أن تنبـس ببنت شـفةَّ .
َّ
121
صبـت
ثـم َّ
وعبرت عـن رضاهـا عـن املشروب السـاخنّ ، تذوقتـه َّ
الشـايَّ ،
كوبـ ًا لاللـة عائشـة وآخـر يل .وأخير ًا َّ
تحدثـت اللـة عائشـة! انحنـت على
والـديت وهمسـت يف أذنهـا:
مجـرد مخلوقـات ضعيفـة! لنـا الله .اللـه وحده
َّ -نحـن معشر النسـاء
سـندنا ووكيلنـا .لنحـذر مـن وضـع الثقة يف الرجـال! إنهـم ...إنهم...
مل تجـد اللـة عائشـة النعت املناسـب إلمتام جملتهـا فاكتفت بتحريك
يديهـا على مسـتوى كتفيها ورفع برصها إىل السماء.
سـمحت يل والـديت بالصعـود إىل سـطح الدار للعـب بالطبل .اسـتنتجت
رسي خطري تخشـيان من اطالع آذان
ٍّ أن املرأتين ترغبـان يف الخـوض يف أم ٍر
فضوليـة عليـه .اغتنمـت الفرصـة فصعـدت للسـطح ورشعـت يف قـرع طبلي
متوحشـة وإيقاعـات ِ
موغلـة يف ِّ بقـوة مـن كلتـا جهتيـه .كنـت أرتجـل ألحانـ ًا
الضجيـج العنيف إىل درجة أن أصـوات الطبل زعزعت الجدران املجاورة .يف
السري الطويل...
ّ أمي واللة عائشـة تواصلان حديثهما غضـون ذلـك كانـت ّ
يف ذلـك املسـاء ،صعـدت مجموعـات عديـدة مـن النسـاء الالبسـات
وتـردد فيهـا قـرع طبـول األطفـال
َّ أبهـى حللهـن فـوق سـطوح املدينـة
وصياحهـم وغناؤهـم ،فيما تجللت الشـمس بحمرة املغيب وسـكنت فوق
األفـق البعيـد مغرقـة كلّ املدينـة يف لـونٍ وردي باهـت وآخـر بنفسـجي
رقيـق .ظهـرت أوىل نجـوم الليـل .كانـت تلـك عالمـة على انصرام الوقـت
فودعـت اللـة عائشـة والـديت وانرصفـت إىل حـال سـبيلها.
َّ
تـم إيقـاد ملبـة البترول وك ّنـا نشـعر بالتعـب .وضعـت الطبـل والبـوق
ّ
جانبـ ًا بعدمـا قرفـت منهما .ارتديـت مـن جديد مالبسي القدميـة فرشعت
داخلـه أخير ًا بعـض
بالراحـة فيهـا .مل أسـتبقِ ّإل القميـص الجديـد الـذي َ
اللين ،بحكـم التصاقـه بجلـدي الدافـئ.
لكي أفلـت مـن ضجيـج الطبـل الـذي واصلـت أصـداؤه زعزعـة دماغي،
عينـي مـا يكفـي مـن
َّ يتبـق يف
َ فتحـت صنـدوق عجائبـي .لكـن ولألسـف ،مل
يقظـة ملشـاهدة محتوياتـه.
122
الفصل الثامن
123
البشر طريقـة ُمحقَّقـة مـن طـرق االنتحـار والخلاص الرسيع مـن آالم هذا
العـامل التعيـس.
يف خضـم ذلـك ،كان الذبـاب يتكاثـر يومـ ًا بعـد آخـر بطريقـة مذهلـة.
كانـت والـديت تطـرده كلّ صبـاح بواسـطة رضبـات خرقـة باليـة فيخـرج
غاضبـ ًا مزمجـر ًا مـن نافـذة الغرفـةّ .
ثـم نـديل السـتار فننجـو منـه ،غير أنه
يتبقَّـى منـه بضـع ذبابـات تـدور يف عتمـة غرفتنـا.
الحـر ،رفعـت والـديت حصيرة الـدوم مـن على
ّ يـوم مـن ّأيـام
أول ٍمنـذ َّ
أرضيـة املسـكن وطوتهـا قبـل أن تحرشهـا خلـف الرسيـر وتضـع املرتبـات
على األرضيـة التـي غسـلت باملـاء.
متـدد عـدد سـاعات النهـار وصـار جـو الكُ َّتـاب بالـغ الضيـق والحـرارة
َّ
فغادرنـاه ذات صبـاح إىل بنايـة مجـاورة تضاعفـه مسـاحة ،مصطحبين
ألواحنـا ومحابرنـا.
واحد من األوليـاء الصالحني يجهل ٍ مدفن
َ كانـت البنايـة الجديـدة تضم
التبرك بـه طلبـ ًا
ُّ تعـودن
َّ النـاس اسـمه ،غير أن فتيـات الحـارة العزبـاوات
ـن يقصدنه ويطفن به سـبع مرات كلّ لعريـس محتمـل خلال العـام ،لذا كُ َّ
ضمت بناية قبـور أخرى يف هـذه القاعة الكبيرةَّ .ٌ يـوم خميـس .وكانـت مثّة
الرضيـح كذلـك محرابـ ًا يتجـه إىل الشرق ،وعندمـا ُرفـع اآلذان منـذ اليـوم
األول السـتقرارنا بـه أمرنـا الفقيـه بالوضـوء يف النافـورة املوجـودة بركـنٍ
َّ
جانبي.
خلَّـف تغيير مـكان الـدرس أثر ًا طيبـ ًا عىل صحتي الجسـدية والنفسـية،
ربـا نجما أيضـ ًا عـن كـون الضـوء يغمـر املـكان بهمـة ونشـاط َّ
شـعرت َّ
فتقدمت بوتير ٍة أرسع
َّ الجديـد ،وعـن اللطـف الـذي أبـداه الفقيـه تجاهـي،
مـرة .تجاوبت ذاكريت مع
ألول ّ
يف الـدرس والتحصيـل .بـدأت أحـب الكُ َّتاب َّ
الحالـة الجديـدة فأصبحـت قـادر ًا عىل حفظ خمسـة عرش سـطر ًا يف اليوم
مـن اآليـات املكتوبـة عىل لوحي الخشـبي ،بعدما مل أمتكن يف السـابق ّإل
مـن حفـظ عرشة أسـطر.
124
مزهـو ًا بعدمـا التقـى فقيـه
ّ وذات يـوم جمعـة عـاد والـدي إىل الـدار
الكُ َّتـاب صدفـةً يف الشـارع فبشره هـذا األخير بـأن ابنـه قـد يصبـح عاملـ ًا
كبير ًا إن هـو واصـل التحصيـل مبثـل حامسـه وجديتـه الحاليـة.
لشيء مـن ذلـك .مـا كان يهمنـي ٍ أكـن أصبـو آنـذاك يف الحقيقـة مل ْ
ٍ
شـخص أن أصبـح عاملـاً .فصـورة العـامل يف مخيلتـي كانـت تتمثـل يف
بديـن غليـظ الوجـه كثيـف اللحيـة يرتـدي ثيابـ ًا بيضاء واسـعة وتعلو رأسـه
تكـن لـدي ّأيـة رغبة يف أن أشـبه هذه الصـورة من قريبْ عاممـة ثقيلـة .ومل
وال مـن بعيـد! كنـت جـاد ًا يف حفـظ دريس اليومـي ألننـي شـعرت مبحبـة
تقدمـي يف التحصيل ،وكذا ألن ذلـك مكَّ نني من أرسيت تتنامـى باطـراد مـع ُّ
تج ُّنـب الرضبـات الالسـعة للعصـا الطويلـة التـي كان سـيدنا يعبـث بها بني
أصابـع يـده .وضعـت برنامجـ ًا شـخصي ًا لعملي يف الكُ َّتاب .ذلـك أنني كنت
الظهرية،أمـا بعدهـا فـأرشد يف أحالمي
ّ أحفـظ بجـد مـن الصبـاح إىل وقـت
حـرك فمـي متظاهـر ًا برتديد ما ُ
ملـدة سـاعتني متواليتين ،بينما أ ِّالصغيرة ّ
يتلـوه الفقيه.
بفضـل هـذه الفسـحة مـن الحلـم حافظـت عىل حمايس ،ألنهـا يرست
يل ال ِفـرار مـن جـدران الكُ َّتـاب إىل عـامل الخيـال الفسـيح املمتـع الـذي ال
إكـراه .مل أقتصر يف هـذا العـامل الشاسـع على ٌ مل وال يخالطـه يشـوبه أ ٌ
لعـب دور األمير الصغير الـذي تخضـع لنزواتـه املخلوقات واألشـياء ،بل
لشـخص بالـغ ،للرجـل الـذي حلمـت أن أصيره الحقاً. ٍ أتحـول أحيانـ ًا
َّ كنـت
كنـت أتخيلنـي يف املسـتقبل رجلاً قـوي البنيـة يرتـدي لباسـ ًا مـن صـوف
نظـرات متو ِّثبـة وميلـك بين جوانحـه قلبـ ًا
ٌ حريـري ،ترتسـم على عيونـه
تفيـض منـه مشـاعر جياشـة.
واصلـت نفـس النـوع مـن األحلام ليلاً تحـت غطـاء النـوم فبنيـت
متعـددة مـن خلال مغامـرات وأعمال ِّ مـرات
مسـتقبيل ،وأعـدت بنـاءه َّ
بطوليـة تعرتضهـا عقبـات كبرية ،إىل حني بلـوغ الوقت الذي تبرز فيه جزر
سـوداء تـزرع الفـوىض األوليـة مـن جديـد يف عنـارص هـذا العامل الناشـئ.
تختلـط الـرؤى ،تتداخـل مـع بعضهـا البعـض وتنسـاب نحـو جـوف الظالم،
125
ثـم يجرفـه التيـار الذي
جـزء صغريّ ،
ٌ بينما يبرز منهـا بين الفينـة واألخـرى
مكونـات أحالمـي .ويف الصبـاح أعـود النشـغااليت
ِّ ميضي إىل البعيـد بـكلّ
املعهـودة مـن جديـد.
وذات يـوم اثنين عـاد والـدي مبكِّـر ًا إىل املنـزل على غري عادتـه ،تناول
عم أصبح يجـد من صعوبة يف بيـع الجالبيب وحدثنـا ّ
َّ معنـا طعـام الغـداء
(((
التحـول إىل خياطـة ثيـاب «الحايـك»
ُّ الصوفيـة الرجاليـة ،معلنـ ًا عزمـه
القطنيـة النسـائية بعدمـا منـا عليهـا الطلـب أكثر يف األسـواق .ذلـك أن
ثـوب رضوري ال ميكـن لنسـاء فـاس االسـتغناء عنـه يف حـر ٌ «الحايـك»
متوجهـ ًا لوالـديت:
ِّ ثـم أردف
الصيـف وال يف بـرد الشـتاءّ ،
الصياغين .تطلبني مـن زمان
ّ -سـوف ترافقيننـي أنـت والولـد إىل سـوق
أن أهديـك الدمالـج التـي تحمـل اسـم «شـمس وقمـر» املصنوعـة مـن
متفرغ ،توفيـت والدة العامل
ِّ الذهـب والفضـة .لنذهـب القتنائها اليوم! أنـا
الـذي يسـاعدين ،وقـد غـادر إىل الباديـة ليحضر جنازتهـا .ولـن نسـتأنف
العمـل ّإل غـداً.
أمي:
ردت ّ
ّ
ٍ
مرض ما؟ -وهل توفيت والدته نتيجة
السن ،رحمها الله.
ِّ أظن ،كانت طاعنة يف
-ال ّ
قلت لهام:
الصياغين،
ّ التغيـب عـن الكُ َّتـاب ملرافقتكما إىل سـوق
ُّ -ال ميكننـي
َّ
فعلي أن أحفـظ درس اليـوم.
أجاب والدي:
التغيب.
ُّ -ال تقلـق ،لقيـت الفقيـه يف طريـق عوديت واسـتأذنت لـك يف
ٍ
قطعة واحدة تلف املرأة فيه كامل جسدها فال يظهر منها ّإل أعىل يتكون من
َّ ((( ثوب نسايئ من القطن األبيض
الوجه[ .املرتجم]
126
أنـت تـدرس بجـد ونشـاط ،وال بـأس يف نصـف يـوم مـن الراحـة ،بـل اعتربه
ربـا ال ترغب يف مشـاهدة الحيل واملجوهـرات الجميلة مكافـأ ًة لـك .لكـن َّ
يف سـوق املزادات؟
-أحب مشاهدة املجوهرات التي تشبه...
سألني والدي:
-تشبه ماذا؟
ٍ
بصوت يشبه اإلفصاح عن رس: أطرقت خجالً ،وقلت
-املجوهرات الجميلة التي تشبه الورود!
أطلـق الوالـد والوالـدة ضحكـة صاخبة فشـعرت بأن رد فعلهما عىل ما
الشـك حول درجة الـذَّكاء عندهما كليهام.
ّ قلـت غير الئـق .راودين بعض
مبجرد االنتهاء من طعام الغداء ،خرجت وجلسـت عىل درجات سـلم َّ
الـدار منتظـر ًا سـاعة مـزاد املجوهـرات .وضعـت يـدي عىل ركبتـي وطفقت
والـدي قبـل قليـل .هـل تشـبيه املجوهرات
ّ أفكـر يف الحـوار الـذي دار مـع
يعبر عـن املوقـف الـذي يتخـذه
ّ بالـورود فكـرة غبيـة ح ّقـاً؟ إن ضحكهما
لـدي
َّ الكبـار عـادة متـى نطـق الصغـار بأقـوالٍ سـاذجة بسـيطة .بينما كان
تعبر عـن فكـرة أساسـية كان عليهام
إحسـاس بـأن املقارنـة التـي عقدتهـا ّ
أمـا ضحكهما عليهـا فـكان فضاضـة مـا أن يتلقياهـا بالصمـت على ا َ
ألقـلّ ! ّ
بعدهـا فضاضة!
كنـت أعـرف بعـض أنـواع الـورود :الخشـخاش الـذي يزهـر يف الربيـع
املكـورة ،األقحـوان الـذي يهـدي السماء قلبـه
ّ الحميضـة
ّ فـوق القبـور،
الذهبـي ،اللبلاب الـذي ينتصـب تحـت أقدامنا حين أرافق والـدي يف األيام
املشمسـة إىل هضـاب بـاب غويصة .وعىل سـطح منزلنا تنبـت يف أوانٍ من
فخـار نبتـة الراعـي والقرنفـل وورد أصفهـان.
الحلي أقـلّ شسـاعة .شـاهدت مـن قبـل
ّ كانـت معلومـايت يف بـاب
مجموعـة باذخـة منهـا ترتديها النسـاء والفتيات الصغريات يف املناسـبات
127
يل االسـتعامل اليومي تصـورت أنها تنقسـم صنفني متباينين :ح ّ َّ واألفـراح.
الرباقـة بالجواهـر
وحلي األعيـاد َّ
ّ الفضيـة املائـل لونهـا للزرقـة الباهتـة،
قصيـة غامضـة تحـتّ تتضمنهـا ،التـي صاغتهـا العفاريـت يف أماكـن َّ التـي
األرض بطريقـة عجيبـة جعلـت بريقهـا يعكـس باسـتمرار بقية مـن معدنها
البراق .بالنسـبة يل ،كانـت هـذهاألصلي ،مـن نـار الصائـغ ونـور الشـمس َّ
الحلي تـأيت من عوامل بعيدة سـحيقة القدم بعدما لبسـتها أمريات ينتمني ّ
لعـوامل الخيـال .كان املغفلـون وحدهم يثقون أن هذه األعامل الهندسـية
املبهـرة ،التـي تضـم األحجـار الكرميـة املتأللئـة يف أحضـان الذهـب ،قـد
ُصنعـت مـن طرف بعـض الحرفيني املجهولين يف عتمـة دكاكينهم مقابل
الحلي السـحرية نشـأت وحدهـاّ مقاديـر مـن مـالٍ تافـه .تخيلـت أن هـذه
ثـم جـاءت مـن تلقـاء نفسـها لتسـتقر فجـأة ،نبتـت بفعـل مشـاعر الحـبّ ،
فـوق شـعر وأجسـاد أميرات األسـاطري ،وتحـت أقـدام وخطـوات نفـس
األقـل بريقاً! امتدت
الحلي االعتيادية ّّ األميرات ُولـدت ،بطريقـة اعتباطية،
لحظتهـا أيضـ ًا حقـول الخشـخاش وتفتحـت براعـم الزنابـق ونثر السوسـن
والبنفسـج أريجهما يف األجـواء!
أتحـدث هكـذا عـن الحلي َّ بسـن السادسـة ،مـا كان بإمـكاين أن ِّ
واألزهـار ،ومـا كنـت قـادر ًا على ترتيـب أفـكاري حولهـا .كانـت لغتـي أفقر
وربا
يعـج بـه خاطري من صـور متداخلـةَّ . ّ عما
مـن أن تسـتطيع التعبير ّ
أن هـذا العجـز عـن تبليـغ األفـكار لآلخريـن هـو ما خلـق بداخلي نوع ًا من
عرضوين الكآبـة الخفيـة املؤملـة .كان بإمـكاين أن أصفـح عن الكبار متـى َّ
للتقريـع ،وللضرب أحيانـ ًا مـن أجـل أمـو ٍر بسـيطة ،لكننـي مل أغفـر لهـم
عجزهـم عـن فهمـي.
بالنسـبة لوالـديت ،كنـت ولـد ًا صالح ًا متـى ما التزمت بغسـل رجيل قبل
الدخـول إىل الغرفـة .بالنسـبة لوالـدي ،كنـت مثـار فخـره متـى مـا قلـدت
حركاتـه وسـكناته خلال االسـتعداد لصلاة الجمعـة .بالنسـبة للجيران
كنـت منوذجـ ًا للولـد الصالح ألنني ال أوسـخ جدران سـلّم الـدار ،وال أحدث
سـأتحول ألغبى إنسـان لو
َّ كثير ًا مـن الضجيـج خلال لعبي فوق السـطوح.
128
يتوجـب عمله
َّ أطلعتهـم على أرساري الخفيـة .فهمـت بطريقـة غريزيـة مـا
للعيـش مـع الرجـال والنسـاء مـن الكبـار الذيـن يحملـون شـخصياتهم
محمـل الجـد ،وميشـون يف األرض مزهويـن غافلين إىل درجـة الغـرور.
ركبتـي
ّ يـدي على
ّ مقرفصـ ًا على إحـدى درجـات ُسـلّم الـدار ،واضعـ ًا
ظللـت أُ ِّ
ردد:
يل تشبه الورود.
-الح ّ
ٍ
بصـوت كانـت والـديت وفاطمـة البزيويـة تتجاذبـان أطـراف الحديـث
أمـي عقريتها لطرد
خافـت على مدخل الطابـق .وبني الفينـة واألخرى ترفع ّ
قـط زينـب املزعـج الـذي يطـوف باملرأتين .خاطبته:
-اذهـب بعيـد ًا عنـي يـا فـأر املجاري الوسـخ! اذهب لنشر براغيثك يف
مـكانٍ آخر!
واصلـت الجارتـان حديثهما الخافـت ،تخللتـه ضحـكات مكتومـة
مـر والدي مبحاذايت.
وتنهيـدات عميقـة قبل أن تعود كلّ منهام ملسـكنهاّ .
-واصل اللعب! بعد صالة العرص سآيت الصطحابكام أنت وأمك!
وصلني صوت والديت:
-ماذا تفعل يف السالمل؟
أجبت بنرب ٍة منافقة:
-ألعب.
-أي لعبة تلعب؟
-لعبة امللك.
ردت والديت كام لو أنها تريد إسامع كلّ أهل الدار:
َّ
-أنـا مسـتعدة ألن أدفـع لـك مـا تريـد رشط أن تخبرين مـا الـذي ميكن
مللـك أن يفعلـه وهـو جالـس القرفصـاء على درجـات ُسـلّم املنزل؟
129
سـمعت ضحـكات الجـارات ،ووجـدت زوجـة صانع املحاريـث الفرصة
لتلقـي مالحظـة رشيرة:
-اللـة زبيـدة! سـيكون لولـدك مسـتقبل زاهر! يحسـب نفسـه ملـك ًا منذ
اآلن!
ظلّت جملتها التي حملت نرب ًة من الوقاحة دون جواب.
غرقـت يف أحالمـي مـن جديـد .إذا طـاب يل أن أصير ملـك ًا فما املانع؟
مـا الـذي تفهمـه زوجـة صانـع املحاريـث يف شـؤون امللـوك واألمـراء؟
والتحسر على أن مثـن ُّ فلتقتصر على تقشير خضارهـا وطحـن توابلهـا
الزيـت قـد زاد قرشـ ًا أو قرشين! مـن أيـن لهـا أن تكـون لهـا روح أميرة مـن
أن تسـتمتع بخريـر املـاء يف نوافير الرخـام! ال تسـتطع حتـى األميرات؟ ْ
الحلي والـورود! وتلبـس يف يدهـا دومـ ًا نفـس الخاتـم
ّ فهـم العالقـة بين
النحـايس الحقير الـذي تعلـوه قطعـة مـن زجـاج ،بينما تعلِّـق فـوق ثوبها
مجـرد خميسـة((( نحاسـية باهتـة قبيحـة النقوش .مسـاء اليوم يف األعيـاد َّ
سـوف تحصـل والـديت على دمالجهـا الجديـدة مـن فئـة «شـمس وقمـر»
تـردد طيلـة األيـام
وسـوف ميتقـع لـون رحمـة مـن الحسـد .سأسـمعها ِّ
القادمـة:
تزوجـت من صانـع محاريث حقير يسـتطيع بالكاد -يـا لحظـي العاثـر! َّ
أن يو ِّفـر لنـا الحبـل الـذي نربط به الدلو لسـقي املاء من البئر! ليس هناك
املسـتمر وشـظف العيش،
ّ عـدلٌ يف هـذه الدنيا التي فرضت علينا الشـقاء
والحلي مـن الذهـب
ّ الجيـد
ّ ِ
والغنـى واألكل ووهبـت أخريـات الرخـاء
والفضـة! يـا ريب! متـى تنتهى أحـزاين؟!
بتواضع ماكر:
ٍ ستجيبها والديت
-يـا أختـي ملـاذا تتحرسين عىل متاع الدنيـا؟ الله يـو ِّزع األرزاق بالعدل
130
ويعطـي ك ً
ال حسـب صفاء قلبه وسلامة طويته!
وتعقِّب باقي النساء:
-ال إله ّإل الله!
131
الرباقـة إىل
الحوانيـت العاليـة تتيـح ألعيننـا مشـاهدة بريـق املشـغوالت َّ
درجـة بـدت كما لـو سـكّ ت مـن التنـك :تيجـان وأحزمـة مـن الذهـب بالـغ
الصاغـة يف تنميـق نقوشـها حتـى كادت تفقـد بعضـ ًا من بريقهـا النبيل .مل
الحلي الـورود ومل تغلفهـا ّأيـة أرسار سـحرية .صنعتها
ّ أي مـن هـذه
يشـبه ٌّ
برشيـة دون حـب وال شـغف إلشـباع صلـف األثريـاء .كان أصحـاب ّ أصابـع
قـدروا أمثانهـا حسـب وزنهـا :متامـ ًا مثـل
الحوانيـت على صـواب حين َّ
التوابـل .آملنـي ذلـك .كان الزبائـن يتجولـون بني الحوانيـت بينام بدت عىل
مالمحهـم عالمـات الطمـع والرغبـة يف االقتنـاء ،بينام غالب نسـوة ورجال
آخـرون دموعهـم هنـا وهنـاك.
للتوجه إىل
ُّ فهمـت الحقـ ًا سـبب حزنهـم .فهمـت كيـف يضطـر اإلنسـان
حليـ ًا متثِّـل أع ّز ما ميلـك ،تذكّ ـره مباضيه الذي
سـوق الذهـب عارضـ ًا للبيـع ّ
الحلي يف األعيـاد واملناسـبات السـعيدة ،بينما يضطـر ّ ارتـدى فيـه هـذه
ويتفحصونهـا طويلاً قبل
ّ اليـوم لبيعهـا ملشترين يقلّبونهـا مـن كلّ جانـب
أن يعرضـوا عليـه نصـف مثنهـا الحقيقي.
الدللـون((( عارضين أنواعـ ًا مختلفـة مـنّ مبجـرد وصولنـا ،قصدنـا
َّ
يلـق والـدي ّإل نظـرات عابـرة عليهـا قبـل أن يومـئ املشـغوالت .مل ِ
بالرفـض ،بينما كانـت املرأتان متكئتني على جدار خلفنـا تتجاذبان أطراف
مـر وقـت طويل قبـل أن يقبل والدي من شـخص ناري الحديـث .بـدا يل أنـه ّ
النظـرات دملجين مزينين بجواهـر هرميـة أحدهما مـن فضـة واآلخـر مـن
ذهـب .ناولهما لوالـديت التـي تفحصتهما طويلاً وقلّبتهما ،ارتدتهما أربع
مـرات قبـل أن تطلـب مـن فاطمـة البزيويـة ارتداءهما أمامهـا أو خمـس َّ
ملـدة
تحدثـت حـول تفاصيـل النقـوش ّ لتتأمـل يف منظرهما على اليديـنَّ .
ربـع سـاعة مـع جارتهـا ،قبـل أن تعيدهما لوالدي الـذي كان يصغـي للبائع
والثمـن املطلـوب .اقترح والـدي مثنـ ًا أقـلّ وهـو ُيعيـد لـه الدملجين،
الـدلل وسـط الحشـود التي جـاء من بينهـا للتشـاور .مل نلمح ّإلّ فاختفـى
((( سامرسة أو وسطاء بني الباعة واملشرتين يدلّون عىل البضاعة بالصياح يف األسواق التقليدية [املرتجم]
132
يـده املرفوعـة حاملـة الدمالـج عاليـ ًا وهـي تتباعـد.
بـدت على والـدي عالمـات االسـتعجال .ظهر سمسـار املجوهـرات من
جديـد طالبـ ًا رفـع الثمـن .فـاوض والـدي ،وعـاد السمسـار لالختفـاء يف
زحمـة السـوق الهـادرة.
كانـت الزحمـة تتصاعد واألصـوات ترتفع والسمارسة يرفعون عقريتهم
باألمثـان املطلوبـة إىل درجـة الصيـاح ،ويرتاكضون مرسعين يف اتجاهات
مختلفـة قبـل أن ميسـك أحدهـم بـذراع زبـون ويقتـاده خلفـه إىل دكان ما.
وبين الفينـة واألخـرى تنشـب مناقشـات حـادة ال تخفـت ّإل لتتبعهـا أخرى
غري بعيـد عن سـابقتها.
مكونـة مـن رجـال
املـرات موجـات مـن النـاس َّ
َّ أحاطـت بنـا يف بعـض
متوتريـن ونسـاء يف حالـة أقـرب إىل الهسـترييا ،فاضطررنـا لاللتصـاق
ٍ
وجهـات أخـرى. بالحائـط حتـى مرورهـم نحـو
بتعـب كبير لفت نظـر والدي فحملنـي وضمنـي إىل كتفه .كان ٍ شـعرت
الـدلل ومـا يـأيت
ّ يتصبـب عرقـاً .رشعـت والـديت الغاضبـة يف لعـنَّ جبينـه
منـه والدعـاء عليـه بالعـذاب يف الدنيا واآلخرة ،متشـفعة بأسماء األولياء
والصالحين .عـار عليـه أن يعامـل النـاس مبثل هـذه الطريقة! مـا املؤامرة
التـي يحبـك خيوطهـا خلال غيابه الطويل؟ هل يحسـبنا من سـكان األرياف
املغفلين! نحـن نعـرف دواخـل األمـور ولـن ندفـع ّإل الثمـن املناسـب
للبضاعـة! لـن يتمكَّ ـن هـذا الكافـر باللـه مـن خداعنـا .لكـن «الكافـر» مل
يكلـف نفسـه عنـاء العـودة مـن جديد!
ٍ
وجهـة مجهولة. ثـم اختفى بـدوره يف الزحـام نحو
أنزلنـي والـدي فجـأة ّ
ارتفعـت رصخـات يف الجانـب اآلخـر مـن السـوق لفتـت أنظارنـا بسـبب
حدتهـا .تداخلـت موجـات مـن زحـام بشري وانفجـرت تعابير الغضـب
تتحـول إىل هديـ ٍر بعيـد.
َّ متفرقـة هنـا وهنـاك قبـل أن
ِّ
ٍ
وجهـة واحدة. ثـم بـدأت جمـوع مـن النـاس ترتاكـض يف السـوق نحـو
ّ
تـرددان« :يـا اللـه! يـا
أصيبـت والـديت وفاطمـة البزيويـة بالهلـع ورشعتـا ِّ
133
وتشـدان أطـراف ثوبهام حتـى ال يؤذيها تدافع الجمـوع املرتاكضة.
َّ اللـه! »
والـدلل وهما ميسـكان بخنـاق بعضهما وميشـيان،ّ وأخير ًا ظهـر والـدي
رواد السـوق .كانـت عيونهـا حمـراء مـن
بينما تتبعهما حشـود غفيرة مـن َّ
الـدلل بقعة من
ّ الغضـب ،وكان والـدي قـد فقـد عاممتـه بينام علـت وجنة
الدم.
ذهبا محاطني بجموع الطفيليني.
رشعـت املرأتـان يف العويـل والبـكاء فجاريتهما يف ذلـك ،وتبعنـا
الجمـوع بدورنـا كيفما اسـتطعنا إىل أن وجدنـا أنفسـنا يف سـوق الفواكـه
يكـن مثّة أثر للرجلني املتعاركين وال للجموع التي ترافقهام!
ْ الجافـة ،ومل
كنـت أتوقـع أن أجـد يف هـذا املـكان آثـار فـوىض ناجمـة عـن ِعـراك كبير،
لكـن خـاب توقعـي .كان النـاس يف املـكان يتجاذبـون أطـراف الحديـث،
يبيعـون ويشترون يف جـ ٍو مـن الهـدوء بينما ِّ
يـردد بعـض األطفال أناشـيد
كانـت ذائعـة يف ذلـك الزمـان.
فقـررت والـديت
َّ صـار حزننـ ًا خانقـ ًا يف هـذا الجـو وشـعرنا بالعزلـة،
العـودة إىل املنـزل قائلـةً :
-ال فائـدة مـن الجـري يف كلّ ا ِّتجـاه! لنعد إىل الـدار وننتظر ونبيك عىل
راحتنا!
ثـم
مبجـرد عودتنـا نزعـت والـديت عنهـا الحايـك وجلسـت على مرتبـةّ ، َّ
أول
َّ تلك كانـت طويل. ٍ
صامت ٍ
بـكاء يف ورشعت يديهـا بني وجههـا وضعـت
املـرة النوبات املعتـادة التي
ّ مـرة أحزننـي فيهـا بكاؤهـا .مل يشـبه يف هـذه
ّ
كانـت تبكي خاللهـا بصخب مـن أجل «إفـراغ قلبهـا» .كانت دموعها تسـيل
تتحـرك يف حالـة مـن
َّ على ذقنهـا وتهبـط إىل صدرهـا بينما هـي جامـدة ال
العزلـة الحزينـة املؤثرة.
متـددت فوق الفراش ناظـر ًا محدق ًا يف
رشعـت بـدوري يف البكاء بقوةَّ ،
فقصـة مـا جرى بالسـوق السـقف ومنتظـر ًا نتيجـة أحـداث اليـوم املقلقـةّ ،
تحدثـت والديت عـن االنتظـار ،فذلك مـا كانت
تتمـة .وعندمـا َّالبـد لهـا مـن ّ
134
شـك .رشع كلّ م ّنـا يف تنفيـذ برنامجـه الخـاص :والديت تبيك
ّ تقصـده دون
تعـودت عىل هـذا التمرين منـذ زمان. َّ وأنـا أنتظـر.
أسـدل املسـاء سـتار الظلمـة فأضـاءت املصابيـح غـرف سـكّ ان الـدار
اآلخريـن ،بينما بقينـا نحـن يف الظلام .تشـكَّ لت أمـام خيـايل الصغير
وتتحـول لشرارات
َّ تتكـون مـن جديـد،َّ ثـم
عفاريـت كبيرة مرعبـة تتفسـخّ ،
خضراء تـأيت لتالمـس جفـوين بأرشعتهـا البنيـة اللـون.
ويف النهايـة كسر صـوت والـدي عتمـة الغرفـة ،فاعتدلـت مـن حالـة
تردد يف درجاتالتمدد وجلسـت .كانت والديت تواصل نشـيجها املكتـومَّ .
ُّ
ثـم فتح بـاب غرفتنـا ودخل سـائالً:
السـلَّم صـدى وقـع خطـوات والـديّ ،
ُ
-ملاذا مل توقدوا اللمبة؟ أين أعواد الثقاب؟
ردت والديت:
َّ
-يف الخزانة الحائطية قرب علبة الشاي التنك البيضاء!
سأل والدي:
-هل نام سيدي محمد؟
-ال يا أيب! أنا هنا! .
أشعل أحد أعواد الثقاب ورفع اللمبة.
-ماذا تفعل يف الظالم؟
-كنت أنتظر عودتك.
مبجـرد أن أشـعل اللمبـة أبصر وجه والـديت فانتبه لعينيهـا الحمراوين
َّ
ولدموعها ونشـيجها فقال:
-ملـاذا تبكين؟ مل يحـدث لنـا مكـروه .كنـت فقـط أعاقـب ذلـك الكافـر
الـذي حـاول أن يوقعنـي يف مقلـب مـن مقالبـه .لكـن امليـاه عـادت إىل
مجاريهـا ،وهـا هـي الدمالـج!
135
وضع الدملجني عىل املرتبة ،قريباً ،حيث تجلس والديت فقالت:
الحلي املنحوسـة ،أشـعر أنها نذير شـؤم علينا .ال أرغب
ّ -ال أريـد هاتـه
يف ارتدائهـا .سـيدخل النحس دارنـا معها! أرجوك اذهـب لبيعها غداً!
-هـذه هـي الدمالـج التـي كنـت ترغبين فيها ،خذيهـا وال تنطقـي بكلمة
زائدة!
التقطـت والـديت الدمالـج دون حماس ،وضعتهـا يف خزنتهـا الصغرية
ثـم عقَّبت:
ّ
-سترى أن مـا أقولـه لـك هـو عين الصـواب! نعـم ،ليس عنـدي أي قدر
مـن الـذَّكاء ،لسـت ّإل امـرأة ضعيفـة ،ولكـن قلبـي ال يكـذب َّ
علي أبـداً،
عندمـا يهـرب قلبـي مـن يشء أو مـن مخلـوق ال تخيـب فراسـته! مل تدخـل
هـذه الدمالـج على قلبـي ّأيـة فرحـة! سـأعد طعـام العشـاء!
أكلنـا بشـهية ناقصـة وقمنـا للنوم بعـد قليل .سـأتذكَّ ر دوم ًا هـذه الليلة
التـي حارصتنـي فيهـا الكوابيـس ،الغيلان واملسـوخ الفظيعـة التـي تفـور
برشية كبرية
ّ مـن عيونهـا الدمـاء وهـي تطاردنا أنـا ووالدي ،مرفقـة بجمـوع
تركـض يف شـوارع املدينـة وراءنـا لتسرق مالنـا .كانـت الجمـوع ترغـب
بشـكلٍ خـاص يف رسقـة صنـدوق العجائـب خاصتـي .ظهـر والـدي معتليـ ًا
صهـوة حصـان أسـود ،حاملاً صنـدوق عجائبـي تحـت ذراعه يشـق الجموع
أيـاد تحـاول عرقلـة سيره .تخلّـص منهـا ونشر عـرف حصانـه ٍ بينما مثّـة
مثـل رايـة خفاقـة .وجـدت نفيس رفقـة والـديت وحيدين يف بادية شاسـعة
بصمـت بينام يغمر ضوء أشـعة الصيـف كثبان ٍ خاليـة .كانـت والـديت تبكي
ال والثـم بـدا والـدي فـوق هضبـة مقابلـة .كان راج ًرمـال املـكان وأحجـارهّ .
ثـم خاطبنـي:
أثـر لحصانـه معـه .لكنـه كان يتأبـط صنـدوق العجائـبّ ،
-لقد استنقذت منهم صندوق العجائب خاصتك ،خذه وافتحه إذن!
بحـرص وتأنٍ شـديدين .سـحرين املنظر:
ٍ وضعتـه على األرض وفتحتـه
حلي
ّ ورد مبهـج قُطـف حديثـ ًا يشـكّ ل أرضيتـه التـي وضعـت فوقهـا
أكـن شـاهدت نظير ًا لها من
ومشـغوالت مثينـة ترصعهـا أحجـار كرميـة مل ْ
136
لوالـدي« :انظـرا إىل كنـزي!»
ّ قبـل .رفعـت رأيس ألقـول
137
قلـب مـن الحجـر .سـأصبح بـدوري رجلاً يومـ ًا
ٌ الطبيعـي أن يكـون لرجـل
يترصف مـع األحـداث كام يجبَّ قلـب من حجـر .والـدي
ٌ مـا ،ولـن يكـون يل
يتصرف اإلنسـان الرزيـن املحافـظ على هدوئـه وتبصره ،بينما كانـت َّ أن
يتصرف مثلهـا ،أن يتوتـر ويقلـق ويشرع يف الصيـاح من
َّ والـديت ترغـب أن
ٍ
عـارض بسـيط. أي
ّ
يكن يب مرض وال غيره .ومع ذلك وفعلاً كان والـدي على صواب ،فلـم ْ
ممـدد ًا يف فـرايش طيلـة اليـوم .وبعـد االنتهاء من
َّ ألزمتنـي والـديت البقـاء
طعـام الغـداء ،جـاءت اللـة عائشـة لزيارتنـا بعـد طـول غيـاب مل نسـمع
خاللـه شـيئ ًا مـن أخبارهـا وال مـن أخبـار زوجهـا سـيدي العـريب صانـع
حضرت والـديت الشـاي قبـل أن تشرع يف رسد ما حصـل لها من الخفـافَّ .
مشـاكل يف الفترة األخرية .رسدت عىل أسماعها بالتفصيـل اململ حادثة
سـوق املجوهـرات ِ
والعـراك الـذي شـاب عمليـة اقتنـاء الدمالـج ،متوقفـة
والترضعـات،
ُّ بين الفينـة واألخـرى لـذرف الدمـوع والزفـرات والدعـوات
مجـددة نبوءتهـا السـابقة حـول كـون الدمالـج املنحوسـة نذيـر شـؤم
سيتسـبب ال محالـة يف اإلرضار بأرستنـا!
َّ
يف هـذه األثنـاء كانـت اللـة عائشـة تسـاير ،من بـاب املجاملـة ،كلّ ما
تتـأوه وتزفر وتلطـم بدورهـا وجنتيها.
تنطـق بـه والـديتَّ ،
وأخري ًا انتبهت والديت إىل الوضع فسألت صديقتها:
-وكيف أحوالك أنت؟ كيف أحوال منزلك وزوجك؟
مل تحـر اللـة عائشـة جوابـاً .خبـأت وجههـا بين راحتـي كفيهـا ورشعت
واسـتمرت يف النشـيج
َّ مـر .سـالت الدمـوع بين أصابعهـا بغـزارة ٍ
بـكاء ّ يف
التحسر واألمل الـذي كانُّ إىل أن رأيـت جسـدها يعتصر ويهتـز مـن فـورة
يخنـق صوتهـا الخافـت .عانقتهـا والـديت وشـاركتها يف بكائهـا .توقَّفت اللة
الحمـرة ،وعلى أنفهـاعائشـة أخير ًا عـن البـكاء فبـدت على وجنتيهـا آثـار ُ
بقايـا دموعها:
يبـق يل حبيـب وال قريـب يف هـذه الدنيـا يـا زبيـدة .أنـت صديقتـي
-مل َ
138
ضيعـت كلّأمـا ابـن الحـرام الـذي َّ
الوحيـدة وكلّ مـا تبقَّـى مـن أرسيتّ .
ثـرويت مـن أجـل مسـاعدته فقد هجـرين واتخذ َّ
علي زوجـة ثانيـة :ابنة عبد
َّ
الحلاق! الرحمـن
-الله! الله! يا أختي ،ما أفظع هذا الخرب!
وعادت املرأتان ألحضان بعضها وللبكاء من جديد.
تضافـرت حـرارة الجو ولـزوم الرسير واملشـاهد املؤملـة التي حرضتها
صـداع مـؤمل
ٌ دون أن أفهـم كلّ معانيهـا لتجعلنـي مريضـ ًا فعلاً .أصابنـي
وحمـى اعتصرت كلّ جسـدي ،تقيـأت عىل غطـايئ .جاءت والـديت مرسعة َّ
با ِّتجاهـي ورشعـت فجـأة يف الصياح:
-ولـدي ميـوت! ولـدي ميـوت! تعالين يـا صديقايت! يـا أخـوايت لنحاول
إنقـاذ الولد!
عينـي ومل أعـد أسـمع سـوى
ّ دلفـت الجـارات الغرفـة تباعـ ًا فأغمضـت
ٍ
صـوت رهيـب لطبـول ُتقـرع حتـى تـكاد تثقـب اآلذان.
139
الفصل التاسع
مل يـأكل شـيئ ًا منـذ غـداء أمـس .أيقظتنـي هـذه الجملـة التـي نطقتهـا
أمـي بنبرة متألِّمـة .كانت العتمـة الكثيفة قد خيمت عىل املـكان ،ووالديت ّ
أتبي مالمح وجهها ،ومل أسـمعَّ مل الغرفـة يف واقفة قامـة باتجـاه تهمـس
منهـا ّإل همهمـة غير واضحة بني الفينة واألخرى ،كلمات غري ذات معنى.
غـادرت املرأتـان الحجـرة .حاولـت الحركـة فلـم أسـتطع ،كان صـوت قـرع
الطبـول الـذي يعتمـل داخـل جمجمتـي يتعـاىل مـن جديـد ،ويختلـط مـع
مشـاهد رمـاد وغبـار أحمـر ُيحيـط وجهي بغيمـة مـن الشرارات امللتمعة.
تحـول املنظـر املحيـط يب إىل مشـهد خيـايل .انتشر األمل الصامـت يف َّ
الفتيـة فتصاعـدت زفرايت.
ّ عظامـي
ـدة دقائـق صمـت ِ
لع ّ ٍ عـادت والـديت ،اقرتبـت منـي وظلّـت تراقبنـي يف
مجـرد كتلـة سـوداء
َّ تحولـت إىل
إىل درجـة خلتهـا تو َّقفـت عـن التنفـسَّ ،
يتبـدد ويتناثـر يف الهـواء ،كما يحـدث عـاد ًة مـع
َّ مـن ريـش توقَّعـت أن
ُ
شـخصيات الكوابيـس التـي تـزورين يف ظلمـة الليـل عندمـا أعـاين األرق.
141
تنهدت وعادت إىل الوراء فقلت لها:
َّ
-أنا مستيقظ ،غري أنني أشعر باألمل!
توجه يل الكالم.
-حالتك تتحسن ،مبا أنك تستطيع أن ِّ
-ملاذا يوجد ظالم يف الغرفة؟
-ألن ظلام الليـل نـزل ومل أشـعل اللمبة يك ال أُزعج نومـك .عانيت من
الحمـى ليلـة أمس وصبـاح اليوم .ومل أتوقَّـف أنا عن البـكاء ،ولكن دموعي
َّ
مل تنفعك بيشء!
-أشعر بالجوع!
خرب رائع! سأحرض لك طبق حساء!
-هذا ٌ
غادرتنـي وعـادت بعـد هنيهـة .ظـلّ طبـق الحسـاء يف حضنـي كما هو،
تذوقـه ألحـت َّ
علي والـديت يف ُّ كانـت رائحـة الطعـام تشـعرين بالغثيـانّ .
ٍ
مخـدات إلجلايس .دارت حول رأيس جـدران الغرفة، وأسـندت ظهـري إىل
وسـبحت يف فضـاء خاضـع لقانـون حركـة الكواكـب والنيـازك .اسـتطاعت
ثـم
والـديت بالـكاد التقـاط طبـق الحسـاء قبـل أن ينقلـب على األغطيـةّ ،
مددتنـي يف فـرايش .كانـت أصـوات قـرع الطبـول الرهيبـة تتصاعـد وتشـتد
َّ
داخـل رأيس الصغير.
شـيئ ًا فشـيئ ًا توقَّـف الـدوار الـذي يغلِّـف أحاسـييس .كانـت والـديت
جالسـة بجـوار فـرايش على مرتبـة أقـلّ ارتفاعـاً .سـمعت زوجـة صانـع
املحاريـث تخاطبهـا:
شـك أنـه يعـاين مـن نزلـة
ّ -اللـة زبيـدة! كيـف حـال سـيدي محمـد؟ ال
جيـداً ،وأرشبيـه شـاي ًا سـاخن ًا بالنعنـاع.
بـرد .غطّ يـه ّ
سمعت صوت فاطمة البزيوية:
تعـرض لرضبـة شـمس .يجـب أن تحيطـي رأسـه بقشـور
َّ شـك أنـه
-ال ّ
الليمـون وأوراق النعنـاع.
142
الحـق يـا أخـوايت ،لكـن إذا مل يشـأ اللـه أن يشـفي ولـدي
ّ ربـا معكـن
َّ -
سـأجرب كلّ األدويـة املتو ِّفـرة لعالجـه.
ِّ فلا يشء سـينفع!
أعلـن والـدي مقدمـه قبـل ولـوج بـاب الـدار .عـاد باكـر ًا عىل غير عادته
فعم
ّ السـلَّم ،أشـعلت والـديت اللمبةهـذه املـرة .بينام كان يصعد درجات ُ
املـكان ضوؤهـا األصفـر .دخـل والـدي الغرفـة وانحنـى فوق فـرايش .بدت
يل عينـاه غائرتين مـن أثر اإلرهاق والتوتـر الباديني عىل وجهه الذي شـابته
ثـم اسـتدار دون أن ينبـس ببنت الصفـرة ،المـس جبهتـي بيـده وهـ َّز رأسـهّ ،
شفة .
وضعـت والـديت بعـض الطعـام على الطاولـة الواطئـة وتعشـيا معـاً.
ربـا كان هـذا أتعـس عشـاء تعشـياه يف كلّ حياتهما.
َّ
ُنمق فـوق املائدة دون مـن فـوق رسيري كنت أملح الطبـق الفخاري امل َّ
يتضمـن مرق ًا
َّ خمنـت مـن الرائحـة أنـهأن أمتكَّ ـن مـن تحديـد نـوع الطعـامَّ .
بالزعفـران وخضـار ًا ولحمـة .كانت رائحـة الزعفران تثري يفَّ إحساسـ ًا جارف ًا
بالغثيـان .كان الوالـد والوالـدة جالسين صامتين غارقين يف أفكارهما،
أي منهما يـده إىل الطبق.ومل ميـد ٌّ
فجـأة ولـج املـكان قـط زينـب ،اقترب مـن الطبـق ومـن الشـخصني
تعجبـه .ماء بخجـلٍ واسـتجداء وأدخل
عبر ًا عـن ُّ
الجامديـن حولـه ومـاء ُم ِّ
ذيلـه بين رجليـه ورأسـه بين كتفيـه .ضـاع صـوت موائـه يف عتمـة الغرفـة
كما لـو كان يسـقط يف حزمـة كامتة مـن القطن ،فتـح عينيه وأسـدل أذنيه
ثـم مـاء بقـوة وجـرى خارجـ ًا ال يلـوي على يشء.
خلفـاًّ ،
يحـرك والـداي سـاكن ًا وال نطقـا بيشء .كانت أجواء مشـابهة ألجواء
مل ِّ
نهايـة العـامل تسـيطر على نفسـيهام الحزينتين القلقتين .رشعـت يف
البـكاء فسـألني والـدي:
-أين تحس بآالم يا ولدي؟
تتحدثان؟
َّ بأية آالم ،لكن ملاذا ال
-ال أشعر ّ
143
-ال يوجد لدينا يشء لنقوله ،توقَّف عن البكاء!
أفاقـت والـديت فجـأة مـن سـكونها وحملت طبـق الطعـام إىل املطبخ،
ثـم عـادت بصينية الشـاي فوجـدت والـدي واقف ًا يتهيـأ للنوم.
ّ
-ألن ترشب شايك؟
-ال ،ومن اآلن فصاعد ًا ال تبالغي يف تبذير السكر!
-وهل كنت يوم ًا امرأة ُمبذِّ رة؟
تدبـر
ابتـداء مـن الغـد سـيصعب علينـا ُّ
ً -ال أقصـد قـول ذلـك! ولكـن
مصاريـف الشـاي والسـكر اليوميين!
عينـي حتـى ال أغفـل أي ًا من تفاصيل املشـهد .شـحب فجأة لون
ّ ف ّتحـت
والـديت .توقَّفـت مصعوقـة ووضعـت صينيـة الشـاي أرضـاً .نظـرت صـوب
ٍ
بصـوت منكرس: والـدي وسـألته
-أشعر أن مكروه ًا كبري ًا قد حلَّ بنا...
ظـلَّ والـدي واقفـ ًا مطأطأ الرأس مسـب ً
ال عينيـه نحو األرض .صـدر فجأة
عنـي صـوت التواء عضيل حـاد ومؤمل دفعنـي للقفز من فـرايش والرصاخ.
ثـم جلسـت على األرض باكيـة .سـارع والدي
بـدأت والـديت تلطـم خديهـاّ ،
ٍ
بلطـف وهدوء: إلمسـاك يديهـا قصـد منعهـا من نـدب وجنتيهـا ،وخاطبها
أال تخافين مـن سـخط اللـه يـا امـرأة؟ ضعـي ثقتـك يف الخالـق فلـن
يغفـل ع ّنـا وسـيتداركنا برحمتـه .مـا يحدث لنـا يحدث مع آالف املسـلمني
ابتلاء مـن اللـه :فقـدت يف غمـرة زحـام مـزاد
ٌ شـك،
ّ كلّ يـوم .هـذا ،وال
ثـوب الحايـك كلّ رأسمايل الضئيـل! وضعت النقـود يف منديل ويبـدو أنها
سـقطت منـي بينما كنـت أحـاول أن أدخلهـا يف جـرايب.
رفعـت والـديت رأسـها ،مل تنبـس ببنـت شـفة ،بينما واصـل والـدي
بصـوت خافـت:
والضاء!
الساء َّ
-ملاذا تنوحني؟ علينا أن نحمد الله يف َّ
144
خرجت والديت أخري ًا من صمتها:
-وماذا سنفعل اآلن؟
-سأحاول العثور عىل شغل!
-كم فقدت من مال؟
يتبـق يل حتـى مـا يلـزم ألداء أجـرة العامـل الـذي
-كل رأس املـال! مل َ
يسـاعدين ،وال واجـب كراء املشـغل! كنت أعتـزم أداء كلّ هذه املصاريف
ورشاء القطـن مـن املبلغ الـذي ضاع!
-أال ميكن للتجار أن يقرضوك؟ أنت معروف بنزاهتك!
التسـول واالقتراض مـن أولئـك اللصـوص! كما
ُّ -لـن أنحـدر إىل درجـة
ال أرغـب يف العمـل لفائـدة آخريـن .أنـا فلاح جبلي! موسـم الحصـاد عىل
حصادين .وسـوف أشـتغل بالحصـاد يف ريف فاس. األبـواب وهـم يوظفون ّ
-هل تجرؤ عىل مغادرتنا وطفلك مريض؟
-وهـل تريديـن أن أترككما تتضـوران جوعـاً؟ أن تصبحـي مثـار شـفقة
جاراتـك ومعارفـك؟ سـأكون على بعـد مسيرة يومين فقـط مـن فـاس.
حسـاء مـن النعناع
ً سـيكون سـيدي محمـد بخير صباح غـد .فقط أعدي له
ويشـفى .درجـة حرارتـه املرتفعـة نقصت
يتعـرق ُ
َّ جيـد ًا يك
البري .وغطيـه ّ
اليـوم عـن الليلـة املاضيـة.
-هـذا عقـاب مـن اللـه أصابنـا .أظ ّنـه مـن هـذه الدمالـج امللعونـة التـي
أدخلـت النحـس إىل دارنـا .ملـاذا ال تبيعهـا؟
-أنـوي فعلاً بيعهـا! سـأترك لكـم الثمـن املتحصـل منهـا لترصفـوا منه
وفيـ ًا لنـا .سـيزوركم
خلال فترة غيـايب .لقـد ظـلّ عاملي إدريـس األقـرع ّ
يوميـاً .أعطيـه النقـود يك يشتري حاجياتكـم مـن السـوق ،وامنحيـه مـا
يحتـاج مـن طعـام! فهـو يتيـم بلا أرسة وال أقـارب لـه يف فـاس!
التأمل:
ُّ ثم أضاف والدي وقد غلب عليه
ّ
145
ملدة شـهر .سـأحاول أن ال أرصف شـيئ ًا من الراتب.
-سـأترككم وحدكم ّ
مبجـرد عـوديت إىل
َّ وهكـذا سـيكون مبقـدوري تجهيـز مشـغيل مـن جديـد
الديار.
صمـت ثقيـل خانـق أسـود مثـل السـخام .شـعرت
ٌ ثـم ران على املـكان
ّ
باالختنـاق .وددت لـو أن جـارة مـن الجـارات كسرت الصمـت بصيحـة فرح
يشء خـارق مـا حتـى يتكسر الصمت .حاولـت الحديث، ٌ أو أمل ،أن يحـدث
شـفتي.
ّ النطـق بشيء مـا فلـم يصـدر عنـي ّإل آهـة مكتومـة مل تتجاوز
تحـوال إىل شـخصيات تنتمـي لعـامل َّ والـدي اللذيـن
ّ تجمـدت حركـة َّ
عينـي أكثر ألسـتبني مالمحهما فالحظـت أنهما ّ حـت ت
ّ ف الكوابيـس.
للمـرة األوىل يف
ّ شـعرت ً. ا دامسـ ً
ا سـواد وتكتسـيان تـزدادان غموضـ ًا
حيـايت بالخـواء املطلـق يغلِّـف ذايت وبالعزلـة القاصمـة تهـوي على
كلّ كيـاين الصغير .امتلأ قلبـي بالحـزن الثقيـل ،وجثمـت كـرة خانقـة
رئتـي .أغلقـت عينـي وصلّيـت بعمـق .شـعرت أننـي أصبحـت على ّ على
أنـس هـذاَ أنـس يومـ ًا هـذه اللحظـات! مل َ بوابـة الجحيـم ..يـا إلهـي ،مل
اإلحسـاس بالعزلـة الطاغيـة التي تشـبه يف امتدادها صحـارى الكواكب
يتبخـر فيهـا الصـدى دون أن يجـد لـه رجعـ ًا وال َّ غير املأهولـة ،التـي
أثـراً ،ومتتـد الظلال نحـو أغـوار القلـق واملـوت .والقلـب الـذي ينـزف
أملـاً دافقـاً ،أمل جسـدي الـذي سـحقه انقضـاض النحـس على منزلنـا
مجـرد طفـل صغير ال يعـرف أن َّ أكـن لحظتهـا ّإل
ْ الصغير .يـا إلهـي! مل
النهـار ُيولـد مـن الليـل ،أن األرض تهتـز وتربو بعـد نوم الشـتاء ،توقظها
وتغـرد فوقهـا
ِّ أشـعة الشـمس الدافئـة فتزهـر فيهـا الـورود والحشرات
الشـحارير.
راع
غـد دون حقيبـة سـفر ،مل يحمـل ّإل جـراب ٍ غادرنـا والـدي فجـر ٍ
ٍ
ثـوب قطنـي مـن الـدوم اشتراه أمـس ومنجلاً جديـد ًا وجرابـ ًا آخـر مـن
مغلـق بإحـكام خاطتـه والـديت وشـحنت فيه أغذيـة :زيتـون ،وتني جاف،
حلاة بالسـكر ،وخبـز معطـر بالينسـونن ومـاء الـورد ،وحباتوطحينـة ُم ّ
السمسـم.
146
زودتـه الوالـدة بنصائـح وأغرقـت كنـت مسـتيقظ ًا لحظـة غـادر والـديَّ .
وجههـا بين راحتـي كفيهـا بعـد خروجـه مـن الـدار .ظلّـت عاكفـة فـوق
تـم ال َّت ِّ
خلي ع ّنا، رسيرهـا على الوضـع نفسـه .داخلنـي اإلحسـاس بأنـه قد ّ
بأننـا رصنـا أيتامـاً.
علـم جميـع سـكّان الحـارة الحقـ ًا باملشـاكل املاديـة التـي نعـاين منها
ٍ
بشـفقة مغلَّفـة كان وقعها علينا ومبغـادرة والـدي ،فأصبحـوا ينظرون إلينا
سـند وال دفـاع ،فقـد كانٍ أشـد مـن االحتقـار الرصيـح .تركنـا الوالـد دون ّ
يكـن
ْ مل لهـا. خفيـة حاميـة ـر ف
ِّ يو أرستنـا مثـل أرسة يف ودوره األب وجـود
فمجـرد وجـوده مينـح األرسة توازن ًا
َّ مـن الضروري أن ميلـك مـا ً
ال وال ثـروة،
واحرتامـا ً وثقـةً يف النفـس ال ُغبـار عليهـا.
مخصصة
َّ ال يعـود والدي للدار ّإل مسـاء ،لكن أنشـطة اليوم كلّـه كانت
لالسـتعداد للحظـة عودتـه .لـذا فهمـت مـا الـذي يعـذِّ ب ّ
أمـي يف ذلـك
الصبـاح الباكـر والبـارد ،كانـت تعـرف أن مجمـل أنشـطة نهارهـا قـد صارت
بلا هـدف .لـن يدفـع زوجها بـاب الغرفـة يف املسـاء حاملاً رائحـة العمل
والعـامل الخارجـي الحافـل الـذي مل يربطنـا بـه ّإل هـذا األب.
جسـد والدي القوة واألمان .مل يسـبق له مغادرةوألميَّ ،
بالنسـبة يل ّ
املنـزل مـن قبل ،لـذا بدت لنا الظروف التـي اضطرتنا لفراقـه بالغة القبح
والقسوة.
حيـت الشـمس واسترجعت ضجتهـا اسـتيقظت الـدار شـيئ ًا فشـيئاًّ ،
بتحسـن ملمـوس يف صحتـي هـذا الصبـاح ُّ وأصواتهـا املعتـادة .شـعرت
فجلسـت فـوق رسيـري .أحسسـت أن رأيس اسـتعاد خ ّفتـه املعتـادة ،وأن
الحمـى مـا عـادت تعتصر أطـرايف.َّ
أمي ،هل يدوم الشهر الواحد طويالً؟
ّ -
حركـت وجهها مينـةً ويرسة كأنهـا تتحرى أفاقـت والـديت مـن غفوتهـاَّ .
متعجبة وسـألتني:
ِّ يل بنظـرة
ثم نظـرت إ َّ
املـكان ،حيـث توجـدّ ،
-هل قلت شيئ ًا يا سيدي محمد؟
147
مدة طويلة؟
-نعم أريد أن أعرف إذا كان الشهر ّ
-الشـهر يـدوم شـهراً ،لكـن بالنسـبة لنـا سـيكون الشـهر القـادم طويلاً
جد اً!
ّ
ربـا أنـك تعلِّمـت
-ال أطيـق االنتظـار ،أنـت ال تطيقين االنتظـار .أو َّ
االنتظـار يف املـايضّ ،ثـم نسـيته!
بهتت والديت من هذه الفكرة فسألتني:
-وماذا تنتظر؟
-أنتظر أن أصبح رجالً ،بينام ال تنتظرين أنت شيئاً ،ألنك امرأة كبرية!
سكتت لهنيهة قبل أن أضيف:
توجب
-عندمـا كنـت طفلـة صغرية مل يسـمحوا لـك بفعل ما تريديـنَّ .
عليـك أن تكبري وتصبحـي امـرأة لتحقيـق أحالمـك ومشـاريعك :رشاء
املالبـس التـي تريديـن ،الخـروج للنزهـة مـع اللـة عائشـة ،طبـخ األطبـاق
فيتوجـب َّ
علي أكل مـا تريديـن ،ال ميكننـي َّ أمـا أنـا
التـي يعجبـك تناولهـاّ .
الخـروج وحـدي ،وألبـس دامئـ ًا أقمصـة أكبر منـي!
التعجـب على مالمـح والديت فلم تحـر جواباً ،بـل اكتفت بنظرة
ُّ سـيطر
متفحصة.
-عندمـا أصبـح رجلاً سـألبس جالبيـب بيضاء تنظَّ ـف كلّ يوم ،سـأفطر
يوميـاً ،بنصـف كيلوغـرام مـن الفطائـر املقلية املدهونـة بالزبد والعسـل،
األقـل .سـأمتلك أربعني قطـ ًا مطيعـ ًا ال توسـخ أركان الـدار بفضالتها.
على ّ
تتوسـط سـاحته شـجرة الرنـج كبرية. َّ ال آخر فسـيح ًا
كما أننـا سنسـكن منز ً
أضاءت ابتسامة وجه والديت فعلَّقت:
-لن تقبل زوجتك أبد ًا رعاية قطيع القطط الذي تنوي تربيته!
-لن أتخذ زوجة ،أنت تحبني القطط وستقومني برعايتها!
148
مل تتاملـك والـديت نفسـها فغلبها الضحـك .عادت البهجـة إىل وجهها
بتحسـن صحتي وبـدأت أُصفق بيدي مـن الفرح.
ُّ فشـعرت للتـو واللحظـة
-ماذا سيقول عنك الجريان إذا سمعوك تضحك يف يوم سفر أبيك؟
-سيعود والدي قريب ًا ونصبح أغنياء من جديد!
يوم من األيام!
نكن أغنياء يف ٍ
-لكننا مل ْ
-نحـن أغنيـاء! أال نتنـاول طعام ًا كافياً؟ أليسـت غرفتنـا هي األجمل يف
الدار؟
-ارتـح يـا ولـدي ،مـا دمـت على قيـد الحيـاة لـن تجـوع أبـداً ،حتـى لـو
للتسـول مـن أجلـك!
ُّ اضطـررت
سـمعنا صـوت قـرع خفيـف على بـاب الغرفـة .نهضـت والـديت للقـاء
الطـارق .سـمعت همسـها وحديثها الخافـت لدقائق طويلة مـع زائرتها قبل
ملح. ٍ
بصـوت ّ أن تدعوهـا للدخـول
ادخلي يـا فاطمـة وأعطيـه ذلـك مـن يديـك .سيرفض أن يتسـلَّمه مني!
تعلمين كـم هـو عنيد!
دخلـت فاطمـة البزيويـة وهي تحمـل يف يدها طبق ًا يتصاعـد منه البخار
السـاخن .اقرتبت مني وسألتني:
-كيف هو حال فقيهنا اليوم؟
أرد على سـؤالها .مل أرغـب يف فتـح أي حـوار مـع هـذه املـرأة التـي
مل ّ
ترغـب يف خداعـي لترشبنـي محلـو ً
ال كريهـاً.
تذوقه؟ ّ
«تادف» ،أال ترغب يف ُّ -هيأت من أجلك حساء
ّ
«تـادف» عادةً ،هذا الحسـاء الذي يطبـخ من أوراق -كنـت أحـب تنـاول
النعنـاع البري .غير أننـي امتنعـت هـذه املـرة وأشـحت بوجهـي صـوب
الجـدار املقابـل ،مما دفـع والـديت للتدخـل ملسـاعدة جارتهـا.
149
وإن فعلت سـوف أرسـل
-ارشب الحسـاء ،أنا واثقة من أنه سـيعجبكْ ،
زينـب بعـد قليل لتشتري لك حبة سـفنج((( !
واصلـت املرأتـان محـاوالت إقناعـي إىل أن جلسـت فـوق رسيـري
وتناولـت الطبـق وقلـت لهما إننـي ال أحـب الطعـام الحريـف.
ذرة مـن األبـزار أو الفلفـل.
أكَّ ـدت يل والـديت أن الحسـاء ال يحـوي أي َّ
نظـرت إليهـا يف عينيهـا وسـألتها كيـف عرفـت ذلك وهـي مل تعد الحسـاء!
اضطربـت وتلجلجـت ،بحثـت عـن كلمات وعبارات فلـم تسـعفها بديهتها،
وعندمـا أحسـت بالحـرج غـادرت إىل املطبـخ .تدخلـت فاطمـة البزيوية:
-أؤكِّ د لك أنني مل أستعمل ّأية توابل يف إعداد هذا الحساء.
أعدت لها الطبق.
ّ
«تـادف» ال ُيـؤكل ّإل بالتوابـل ،تريديـن أن تسـتغيل -الجميـع يعلـم أن
مـريض وتجعلينـي آكل طبقـ ًا مـن الدقيـق املصبوغ؟
فقدت فاطمة صربها.
تذوق! أو ً
ال قبل أن تقول خزعبالت! َّ تذوقه َّ
جيد املذاقُّ ،
-أقول لك إنه ّ
علي ألقاب ًا مداهنة:
واصلـت الرفض فصـارت فاطمة أكرث ليونة .أطلقت َّ
محمضـة ،شـعريية بالحليـب ،جبن أبيـض صـايف .مل أسـتطع ّ حلـوى
الصمـود أكثر يف وجـه هـذه املداعبات واأللقـاب اللطيفـة فتناولت الطبق
الجيـد يف جرعـات رسيعـة.
ّ ورشبـت الحسـاء
طلبت بعدها من والديت أن تهتم بنظافتي .اسـتبدلت قمييص ولبسـت
جلبابـاً .أحسسـت بأننـي تعافيت ،لكـن ليس مبا يكفي للعـودة إىل الكُ َّتاب.
أيام أخـرى .أبرصتني رحمة مـن النافذةسأسـتمتع بعطلـة إضافيـة لبضعـة ٍ
فحيتني بحرارة.
َّ
150
-الحمـد للـه على شـفائك سـيدي محمـد! قلقنا عليـك كثير ًا يف ّ
األيام
املاضيـة! ِعدنـا أن ال تسـقط مريضـ ًا ّ
مـر ًة أخـرى! فحالتـك أفقدتنـي شـهية
الطعـام ،أقسـم على ذلـك باللـه وبأوليائـه الصالحني!
ردت والديت من مطبخها:
َّ
بالصحة والعافية!
-ليمتعك الله مع عائلتك ِّ
اتكأت رحمة عىل نافذتها تريد مواصلة الحوار:
-آمين يـا أختـي زبيـدة! هـل غـادر سـيدي عبـد السلام هـذا الصبـاح؟
السـلَّم فجـراً.
سـمعته ينـزل درجـات ُ
-نعم ،غادر.
-أعاده الله إليكم سامل ًا غامناً!
توجهت رحمة إىل باقي ساكنات الدار:
ثم َّ
ّ
-صـارت الحيـاة صعبـة بالنسـبة للفقـراء مثلنـا ،لكـن علينـا أن نشـكر
اللـه يف السراء والضراء!
تتلـق جوابـ ًا ّإل صـوت أحدهـم يعطـس يف الفنـاء .عطـس لثلاث
مل َ
ٍ
ثـم مسـح أنفـه بصـوت مسـموع .ذكـرين الصـوت القـوي مـرات متواليـةّ ،
َّ
أرنبتـي أنفـه بصـوت نفير بـوق رمضـان الـذي يعلـم النـاس
ّ مـن الصـادر
بلحظـة اإلمسـاك عـن الطعـام .أضحكنـي ذلـك.
بالتمدد.
ُّ أمسـكت يب والـديت مـن كتفـي ،أعادتني إىل رسيـري وأمرتنـي
أكـن بحالـة صحيـة تسـمح يل باملعانـدة .أمرتنـي بلـزوم الرسيـر مل ْ
بعـض مـن سـور القـرآن حتـى ال أنسى ما حفظـت منهـا ،وحتىٍ واسـتظهار
تحـل الربكـة على الـدار وعلى والـدي الـذي غـادر نحـو املجهـول.
أكن راغب ًا يف اسـتظهار اآليات وال يف
جلسـت على املرتبـة منزعجاً .مل ْ
ٍ
جهـد ُيذكـر .اكتفيت باإلصغاء للرثثرات املعتادة بني النسـاء دون بـذل أي
اهتمام وال تركيـز .رغـم الجـو املرشق وأشـعة الشـمس السـاطعة ،بدا يل
151
مظلما كئيبـاً .أحسسـت بالغثيـان مـن منظـر الحيطان
ً العـامل املحيـط يب
املتسـخة املقابلـة لنافـذة غرفتنا .وأخير ًا أحرضت والديت طعـام الغداء:
حلقتـان مـن السـفنج يل وحـدي ،سـمن مملـح ،وزيتـون أسـود ،وقبضـة
فجـل هديـة مـن جارتنـا البزيويـة ،أو باألحـرى من زوجها البسـتاين.
بـدأت بتنـاول السـفنج فشـعرت بأنـه عديـم الـذوق يف فمـي .مضغتـه
طويلاً قبـل أن أبتلعـه بغير متعـة .بعد رفـع املائدة ،وضعـت والديت عىل
تكن معتادة عىل اسـتعامله وكأسين دونالطاولـة إبريـق شـاي متهالك ًا مل ْ
تعودنـا على ذلـك خلال حصـة تناول الشـاي.صينيـة وال سـخان مـاء كما َّ
وحدهـا األرس الفقيرة كانـت ُت ِع ّ
ـد الشـاي بهـذه الطريقة.
أمـام دهشـتي أعلنـت والـديت أنهـا لـن تواصل تضييـع الوقت يف غسـل
الصينيـة والسـخان وإبريـق التنـك والكـؤوس يف كلّ مـرة .لكـن فيـم تعتزم
أتخيـل لهـا انشـغاالت أخـرى غير ما دأبـت عليه.
َّ إذن قضـاء وقتهـا؟ مل
بعـد الغـداء لبسـت والـديت حايكهـا وأوصتنـي بعـدم إحـداث فـوىض
خلال غيابهـا .ذهبـت لتفقُّـد أحـوال صديقتهـا اللة عائشـة ،فقـد كان لدى
املرأتين الكثير مما ميكـن أن ُيقـال.
أتذكـر إىل حـدود اليـوم تلـك السـاعات الكئيبـة التـي قضيتهـا بانتظـار
والـديت دون أن أجـرؤ على اإلطلال مـن نافـذة الغرفـة .كنـت أرغـب يف
السـلَّم وفوق السـطوح املشمسـة .ألقيـت نظرة عىل اللعـب على درجـات ُ
صنـدوق عجائبـي .مل يعـد صندوقـ ًا للعجائب ،بـل أصبح تابوتـ ًا يضم جثث
أحالمـي .كتمـت رغبتي يف البـكاء ألنني مل أرغب يف أن تشـاهدين الجارات
ومتـددت علىَّ يف مثـل هـذه الحـال .مسـحت أنفـي بقطعـة قماش باليـة
امللونـة مبـا يطبع الخشـب َّ األرض ناظـر ًا لسـقف الغرفـة ولثنايـا عوارضهـا
متحركـة
ِّ الطبيعـي عـاد ًة مـن أشـكالٍ وبقـع .كنـت أتخيلهـا يف املـايض
ترتاقـص مـن أجلي فأقضي السـاعات الطـوال متتبعـ ًا رقصهـا ،غير أنهـا
بقـع جامـدة ُتثير يفَّ اإلحسـاس بالغثيـان.
مجـرد ٍ
َّ أصبحـت اآلن
تصاعـدت دقـات قلبـي نابضـةً بإيقاعـات الخـوف والقلـق والغضـب.
152
ترسـخ فيـه إحسـاس عـارم بالخـوف رغـم أن أجـواء الـدار صـارت عامـرة َّ
بجلبـة األحاديـث واحتـكاك مكانـس الـدوم باألرضيـات .غرقـت يف النـوم
الحمى لزياريت.
َّ أمـي .عادتبعدمـا بكيت طويالً .مل أسـتيقظ ّإل بعد عودة ّ
وعندمـا الحظـت والـديت ارتفـاع حـراريت مـن جديـد ،رشعـت بدورهـا يف
البـكاء وهدهـديت برتديـد أغـانٍ خافتـة حزينـة.
مل ُت ِع ّـد طعـام العشـاء .نامـت باكر ًا فيام بقيت أتقلَّـب يف فرايش مينةً
ثـم دوت يف الغرفـة أصـداء قويـة لعاصفـة تهـب على مدينتنـا. ويسرةًّ .
ارتجـت البـاب والنوافـذ مـن أثـر الريـح والرعـد .تصاعـد صـوت العاصفـة ّ
ثـم انطلـق مـن بين زئريهـا فجـأة صـوت مزمـار صغير .كان صوتـ ًا القويـةّ ،
رقيقـ ًا يختلـف عـن صـوت املزامير املألوفـة عندنـا يف ذلـك الزمـان،
املصنوعـة مـن قصبـة تضـم سـبعة ثقـوب نعـزف عليهـا لرتقـص األشـباح
شـك ،صوتـ ًا صـادر ًا عـن مزمـا ٍر سـحريّ تحـت ضـوء النجـوم ،بـل كان ،وال
صنعـه عفريـت مـن الجـن أصابـه املـس ،صـوت يعبر تـار ًة بألحـانٍ مؤثـرة
لذيـذة شـيطانية متأملـة ،ويـزرع يف السـامع إحساسـ ًا عارمـ ًا بالحنين تار ًة
ورجـاء ،وضحـكات ضبـاع ورصخات ً نـداء ولومـ ًا
ً يتضمـن
َّ أخـرى .كان عزفـ ًا
ٍ
غضـب شـديد. حـب وجملاً تنـم عـن ّ أمل طويلـة وكلمات
ضحكـت موجـات الريـح لـدى تدفُّقهـا مـن ثقـوب األبـواب والنوافـذ
مـرات
بغضـب وعنـف .التقـاء رش هـذه القـوى الغامضـة ،قـرأت ثلاث َّ ٍ
َ
ثـم دفنـت وجهـي يف ـد» مرتعـد ًا مـن الخـوفّ ،
َّـه أ َح ٌ
ـو الل ُ
سـورة «قُـلْ ُه َ
املخـدة ،وغرقـت يف النـوم.
تـداول حيـايت تيـاران متوازيـان متناقضـان .كنت أخضع خالل سـاعات
النهـار إليقـاع التزامـات وإكراهـات ال أفهـم مغزاهـا ،فيما كان الليل فرصة
للدخـول إىل عـامل األشـباح واملخلوقـات الخياليـة .أغـرق آنـذاك يف
عواملهـا وأشـاهد فواكههـا الخيالية التـي ال يتيرس ليدي الصغيرة قطافها.
كانـت حيـاة مزدوجـة تتخلَّلهـا األحلام واألوهـام والعثرات والفخـاخ
تعـودت على وتريتهـا .مل أتحكَّ ـم يف مصيري ،بـل
َّ واملقالـب ،غير أننـي
يقـرره يل املحيـط .كانـت كلّ خطـوة على دروب تقبـل مـا ِّدرجـت على ُّ
153
تتضمـن قـدر ًا مـن األرسار مـا كان يتيسر يل أن أفهمـه .كانـت َّ الوقـت
اللحظـات تتـواىل وتحمـل يف ثناياهـا قـدر ًا معلومـ ًا مـن الفـرح واالبتهاج ال
بـأس بـهّ ،إل أنـه كان عابـر ًا رسعـان مـا يفضي إىل مـا يناقضـه مـن مشـاعر
الضيـق والحـزن والقنـوط الجـارح .فقـد كانـت أحـوايل متقلِّبـة تتفـاوت
حسـب مـزاج املحيطين يب مـن األشـخاص الكبـار ،فيما كان الليـل ملـك ًا
خالصـ ًا يل قـد أسـتمتع فيـه أحيانـ ًا بأحالمي وأوهامـي ،أو أعارك فيـه أحيان ًا
روح ُمعذَّ بـة منـذ األزل.
أخـرى الكوابيـس والعفاريـت ،مثـل ٍ
ولعـلّ ذلـك مـا أعطـاين رغبـةً يف املغامـرة والتجربـة :تجربـة املـوت.
فقـد كنـت أدخـل عـامل املـوىت واألشـباح مـع غـروب الشـمس وأعيش يف
عـامل الغيـب ،قبـل أن أُبعـث مـن جديـد إىل عـامل الشـهادة صبيحـة اليوم
املـوايل حين أبرص أشـعة الشـمس وأسـمع زقزقـة العصافير ،وآكل خبز
القمـح الشـهي وأرشب مـن مـاء البئر القريبـة .وكان خبز الطفولـة وماؤها
مبجرد وجودهما عىل مقربة َّ على درجـة مـن اللـذة ال توصف ،كنت أسـعد
ٍ
وتحـت املتنـاول ،بيـد أين كنـت أغـرق أحيانـ ًا يف أجـواء من الحـزن الكثيف
أشـد
ّ أشـد املرارة ،يابسـ ًا
ّ مر ًا
والعزلـة املقنطـة تجعـل طعـم نفـس الخبز ّ
اليبـاس ،وبـارد ًا جارحـ ًا لحنجـريت الصغيرة الهشـة التكوين.
عيفضلـت بالطبـع النهـار على الليـل .فالنهـارات تتواىل وفق نسـق ُم َّ َّ
يطبعـه يف الظاهـر الضبط والتنظيم ،بينام كانـت الليايل تعج باملخلوقات
األسـطورية واألماكـن واألحـداث التـي ال يربطهـا رابـط وال ينظـم تسلسـلها
منطـق رصيـح .كان والـداي وأصدقـايئ يف الكُ َّتـاب والفقيـه ذو العصـا
الطويلـة يسـكنون بالطبـع عـامل النهـار املُضـاء بضوء الشـمس ،غير أنني
لقيـت بعضهـم أحيانـ ًا يف أحالم الليـل وعوامله املعتمة وبلدانه السـحرية
تكـن عالقـايت بهـم يف أحلام املتعرجـة الـدروب واملسـالك .مل ْ
ِّ الخطيرة
الليـل شـبيهةً بحالتهـا خلال سـاعات النهـار .حاولـت تج ُّنـب صحبتهـم
ِمـراراً ،سـواء يف عـامل الليـل أو النهـار ،غير أنني فشـلت يف ال ِفـرار منهم.
وكنـت ألقـى منهـم معاملـةً حسـنةً أحيانـ ًا وسـيئةً أحيانـ ًا أخرى ،حسـب ما
يفـرض عليهـم مزاجهـم املتقلِّـب .ما كان بوسـعي أن أتقـي أذاهم ألنني مل
154
أكـن ّإل طفلاً صغير ًا قليل الحيلة مجرب ًا عىل مالزمة فراشـه منكمشـاً عىل
ْ
نفسـه ،يف حين كان الرجـال قـد مضوا إىل أعاملهم والنسـاء قد اغتسـلن
وبـارشن أشـغال البيت.
أيقظتني والديت:
-سـيدي محمد ،تنام يف وضعية غري مناسـبة ،اسـتيقظ قبل أن ُتصاب
بالتواء يف الرقبة!
ٍ
بصعوبة بالغة ،كان ضوء الشمس يعمر املكان. عيني فتحت
ّ
-انهض وتوضأ ،بينام سأقيل لك بيضة لتتناول فطورك!
-أحب البيض املقيل يف الزيت مع الفلفل األحمر والبقدونس!
-أعـرف ذلـك ،سـأضع لك الفلفـل األحمـر والبقدونس ،وحتـى الكمون
يف البيضة!
مل تفلـت هـذه الجملـة مـن مسـامع رحمـة التـي رصخـت عبر نافـذة
غرفتهـا:
جداً!
سمي هذه األكلة األومليت اليهودية ،إنها لذيذة ّ
ُ -ن ِّ
ردت عليها والديت:
َّ
-سيدي محمد ما زال مريض ًا ولديه رغبات تشبه وحم املرأة الحامل!
شـاركت كلّ الجـارات يف النقـاش .ضحكـت بعضهـن ومتنـت أخريـات
العرافـة على مسـامعنا حكاية َّ يل الشـفاء العاجـل .وقصـت الخالـة كنـزة
مـرت بالقـرب مـن دكان بائـع جبن أبيـض عجيبـة .ذلـك أن امـرأة حاملاً َّ
الجبـان البخيـل فرفـض .بعـد
َّ واشـتهت قطعـة صغيرة منـه .طلبتهـا مـن
مـدة وضعـت حملهـا ،برز عىل بطن الطفل وشـم أبيض يشـبه كثير ًا قطعة ّ
الجبن .وشـاهدت الخالـة كنـزة الوشـم على بطـن الرضيـع بـأم عينيهـا.
علَّقت إحدى الجارات ساخرة:
155
-من حسن حظّ ه أن الوشم مل يظهر عىل وجهه أو فوق جبهته.
نـادى إدريـس األقـرع مـن بـاب الـدار .طلبـت منـه والـديت أن ينتظـر
قليلاً .ذهبـت إىل مطبخهـا لتعـد لـه طعامـاً :دهنـت قطعـة خبـز كبيرة
بالسـمن البلـدي ول ّفـت زيتونـ ًا أسـود يف قطعـة ورق ونزلـت للقائـه .قبـل
ال مـن الخالـة كنـزة مألتـه مـنالسـلَّم اسـتلفت سـط ً
صعودهـا درجـات ُ
الجـرة الخزفيـة
َّ صبتـه يفالبئر ،حملتـه مبشـقة إىل بـاب غرفتنـا ،حيـث َّ
نخصصهـا ملـاء الشرب، ِّ تعودنـا أن
الكبيرة املوضوعـة باملدخـل التـي ّ
ثـم خاطبتنـي:
ّ
-اسـتعد للخـروج ،سـنذهب اليـوم للنزهـة رفقـة اللـة عائشـة التـي
تنتظرنـا .سـأرافقك إىل حيـث تلتقـي شـخص ًا مل تعرفـه مـن قبـل ،ألسـت
سـعيد ًا بالخـروج للنزهـة؟ أعـدك أن نذهـب إىل مـكانٍ بعيـد...
عدلـت مـن وضعيـة لثامهـا
تحدثنـيَّ .
ِّ تدثّـرت بحايكهـا بينما كانـت
ونفضـت الغبـار عـن خ ّفيهـا.
ضيقـة
-هـل تعـرف حـارة الخلخالين؟ إنهـا حـارة جميلـة ذات دروب ِّ
تتضمـن أيضـ ًا شـجريت تين نابتتين يف
َّ ملونـة السـقوف ،وهـي
ومنـازل َّ
جـدار .امسـح أنفـك! أيـن هـو منديلـك؟ امسـح أنفـك!
التفتـت باحثـ ًا عـن منديلي ،عثرت عليـه تحـت مخـدة وقـد صـار
منكمشـ ًا مبللاً .فتحتـه باحثـ ًا عـن مسـاحة نظيفـة كافيـة .مسـحت أنفـي
بقـوة إىل درجـة أن املخـاط سـال على يـدي .ألقيـت املنديـل جانبـ ًا
ومسـحت أصابعـي يف جلبـايب.
تهيأنـا ملغـادرة الـدار ،ويف نفس اللحظة ظهـرت فاطمـة البزيوية التي
سـألت والديت:
-إىل أين تتوجهان؟
-عنـد اللـة عائشـة التـي دعتنـا لتقضيـة العشـية معهـا ،فهـي وحيـدة
كما تعلمين!
156
َّ
الحلاق -وكيـف هـي أحـوال زوجهـا سـيدي العـريب؟ أمل يطلّـق بنـت
بعـد؟
-ال ،ولكننـي أعلـم أن أصهـاره الجـدد يذيقونـه الحنظـل ،يتهمونـه
بالبخـل يف اإلنفـاق على ابنتهـم ،بأنـه ال يقتنـي حتـى كفايتها مـن الطعام!
إنـه يـذوق عاقبـة نكرانـه لجميـل اللـة عائشـة!
نزعـت والـديت عن وجههـا الخامر الـذي كان يعيق حديثهـا إىل فاطمة.
مـا ألـذّ أن يعـرف املـرء أكثر مما يعـرف جريانـه حـول ظـروف اآلخريـن
وكأن غـرف الـدار على رؤوسـها الطري من كرثة انتبـاه اآلذان إىل ّ وأحوالهـم!
أمـي التـي نزعـت خامرهـا وواصلـت الكالم لتري الجارات مـدى ثقة حديـث ّ
اللـة عائشـة فيهـا إىل درجـة مقاسـمتها أرسار بيتها! أوحت لهـن يف األخري
أن مـا بجعبتهـا كثير ال ينتهـي ،غير أنهـا تتحفَّـظ على إعالنـه حفاظـ ًا على
بتنـوع السـلع
ُّ أتقـدم والـديت مفتتنـ ًا
َّ التقاليـد .وأخير ًا غادرنـا الـدار .كنـت
التـي عرضهـا ال ُت َّجـار أمـام أبـواب حوانيتهـم ،وعندمـا وصلنـا إىل رضيـح
تقدمت والديت نحـو مكان وضع النـذور .كان عبارة سـيدي أحمـد التيجـاين َّ
منمـق بالزلّيج.
ثقـب مغطـى مبرشبيـة مـن الربونـز جعـل يف حائـط َّ ٍ عـن
مل ِ
تلـق والـديت شـيئ ًا داخل ثقب النذور ،بل اكتفـت بوضع يدها داخله
ومالمسـة اإلطـار الخشـبي املحيـط بـه بوجههـا وهـي تتلـو دعـوات خافتة.
قبلـت زلّيـج الجـدار
مل تسـمح يل قامتـي الصغيرة بالوصـول إىل الثقـبَّ ،
العفـوي عن
ّ أمـي عالمـات الرضـا إزاء تعبريي
بشـفتي .وظهـرت على وجـه ّ
ّ
توقيري لرضيـح الـويل الصالـح .خاطبتني:
-تعال يا ولدي ،وليحفظك الله من رش العني!
خرجنـا إىل الشـارع وقطعنـا بضعـة أمتـار قبـل أن نصـادف بائـع خضار
يعـرض طامطـم وفلفلاً كبير ًا للبيع على شـكل مجموعات تشـبه أهرامات
أمي:
صغيرة ،سـألته ّ
-بكم تبيع الطامطم؟
ثـم انحنـت على الخضـار وبـدأت تقلبهـا وتختار مـن بينهـا .خلطت بني
ّ
157
الخضـار مـن الفـوىض العارمـة التـي أحدثتهـا
ّ الفالفـل والطامطـم .اسـتاء
فـرد عليهـا مغضبـ ًا بـأن هـذه السـلعة ليسـت للبيـع لزبونـة
يف بضاعتـهّ ،
مزعجـة مثلها!
وردت أن عليـه أن يجمـع أزبالـه مـنرفعـت والـديت وجههـا مسـتاءة َّ
إن كان ال يبيعهـا! بأنـه ال ميكـن أن نسـمح للكسـاىل أمثالـه أن الشـارع ْ
يحتلـوا األرصفـة ويعرقلـوا مشي املـارة! كانـت بصـدد مواصلـة تهجمهـا
لـوال أننـي جذبتهـا مـن يدهـا وأجربتهـا أن تتبعنـي .تركنـا البائـع املسـكني
يغلي مـن الغضـب.
كانـت توجـد ،على اليسـار ،بوابـة كبيرة خشـبية مزينـة باملسـامري
معدنيـة وبقطعـة برونـز منقوشـة يسـتعملها الطـارق ليقـرع البـاب.
أمي! َم ْن صاحب هذه الدار الجميلة؟
ّ -
-هذه ليست داراً ،إنها مكتب من مكاتب النصارى.
-لكنني أشاهد مسلمني يدخلون من البوابة!
-هـم يعملـون مـع النصـارى ،النصـارى أغنيـاء يـا ولدي ،وهـم يدفعون
َن يعـرف لغتهم!أجـور ًا مجزيـة مل ْ
-وهل سأتكلَّم بدوري لغة النصارى عندما أكرب؟
-ليحفظـك اللـه يـا ولـدي مـن ّأيـة عالقـة مـع هـؤالء القـوم الذيـن ال
نعرفهـم!
الحجامين تقـع يسـارنا قبالـة سـوق النخاسـة القديـم. ّ كانـت زنقـة
رحبت بنامبجـرد ولوجنـا دار ًا كبيرة بهـا ،نـادت والـديت على اللـة عائشـةَّ .
َّ
مـن نافـذة غرفتهـا الواقعة يف الطابق الثـاين وطلبت م ّنـا أن نصعد نحوها.
كانـت بانتظارنـا وعينهـا على سـخان املـاء الـذي يتصاعـد مـن فمـه البخار
الحـارق .طغـت على غرفتهـا لحظتهـا عالمـات واضحـة توحي بالفقـر وقلّة
ذات اليـد .سـبق أن عرفنـا اللـة عائشـة يف أوقـات أفضـل .مل تعـد أغلفـة
تزيـن مرتباتهـا وال األبسـطة البهية األلـوان تتناثـر يف أرجاء
قماش القطـن ِّ
158
املنمقة،
َّ ضمـت األواين الخزفيـةغرفتهـا! اختفـت الخزانـة الخشـبية التـي َّ
تحـدد
ِّ كما تركـت السـاعة الحائطيـة مكانهـا فارغـ ًا ّإل مـن بقعـة بيضـاء
مكانهـا السـابق .مل تنقـص أعـداد املرتبـات غير أنهـا أصبحـت مـن النـوع
ال مـن الصـوف ،لـذا صـارت صلبـة مزعجة للجالسين. املحشـو بالتبن بـد ً
كانـت الغرفـة تبـدو بارد ًة موحشـةً توحي بالحـزن والقنوط ،بجـ ٍو من القلق
خيـم على جميـع سـكان هـذه الـدار املنزويـن يف األركان املعتمـة العـام َّ
مـن غرفهـم ومنعنـا مـن سماع أصواتهـم املكتومـة .فجـأة سـمعت مـواء
ـام
ألي ٍالشـك أنـه ظـلّ هنـاك مهملاً ّّ قـط صغير قادمـ ًا مـن سـطح الـدار.
طويلـة ،لـذا كان مـواؤه ضعيفـ ًا وحزينـاً.
قدمـت لنا اللة عائشـة الشـاي فـوق صينية صفـراء متهالكة من نحاس َّ
ٍ
امنحـت نقوشـه .قامـت بواجبـات الضيافـة بأنفـة رغـم مـا طـال بيتهـا مـن
وتغير يف األحوال.
ُّ تقلُّـب يف الظـروف
سـيطر الصمـت على ثالثتنـا .كان كلّ م ّنـا يسـبح يف شـواغل عاملـه
ثـم كسرت اللـة عائشـة السـكون بقولهـا: الخـاصّ ،
ُقـررة بالذهـاب إىل حـارة الص ّفاحين، -أقترح أن نسـتبدل وجهتنـا امل َّ
ففقيـه زقـاق الخلخالني سـافر إىل الجبـل ومل يعد بعد إىل فـاس .يبدو أن
العـرايف الذي سـنذهب لزيارته
َّ لـه أرسة يف قريـة مـن قـرى الجبل .سـيدي
خـدوج العلويـة التي راجعتـه أكرث
ّ شـيخ رضيـر ،ذلـك مـا أخربتنـي به اللـة
ٌ
مـرة وقرأ لهـا الطالع فأخربها بأمـو ٍر تح ّققت الحقاً .مـا زال عندي بقية
مـن ّ
مـن أمـل يـا زبيـدة! لسـنا ّإل نسـاء مهيضـات الجنـاح ،والسـعادة مخلـوق
هـش يصعـب الحفـاظ عليـه! ها أنت تنظريـن إىل عش أرسيت الـذي تكسَّ ،
ولـن يهنـأ يل بـال ّإل بعـودة األمـور إىل نصابها!
أمـي وهـي تهز رأسـها باملوافقـة ،فقلَّدتها ألنني كنـت أعرف أنه
تنهـدت ّ
َّ
الترصف متام ًا مثـل والديت يف مثل هذه املناسـبات.
ُّ علي
ينبغـي َّ
أمي:
ردت ّ
َّ
-اللـة عائشـة ،أنـا بـدوري محتاجـة لقـراءة الطالـع والحصـول على
159
النصيحـة .أخـاف على بيتـي ،على زوجـي وابنـي .وعندمـا ينزل غضـب الله
على مخلوقـات ضعيفـة مثلنـا فلا حـول وال قـوة ّإل باللـه! العارفـون بالله
العـرايف وصلـت كلّ أنحـاء
َّ ـن يسـتطيعون نجدتنـا .سـمعة سـيدي هـم َم ْ
شـك أنـه سيسـاعدنا يف تجـاوز هـذه املحنـة!ّ فـاس ،ال
-على العبـد أن يلتمـس الطـرق واألسـباب وأن يجعـل ثقتـه يف اللـه،
اللـه املعين!
نهضـت اللـة عائشـة مـن األرض بصعوبـة ،فهـي مل تفقـد الكثير مـن
ثـم تدثَّـرت بحايكهـا مسـتعدة للخـروج.
بدانتهـاّ ،
160
الفصل العارش
161
قبـل أن نضـع أقدامنـا ألن العتمـة كانت تسـيطر على املكان .وبين الفينة
أمي واللة عائشـة تتعوذان عندما تتعثر أقدامهام بقطعة واألخـرى ،كانـت ّ
شـاردة أو صخـرة ناتئـة مـن أرضيـة الـدار غري املسـتوية.
بضـوء طبيعـي سـاطعٍ أوصلنـا املمـر على اليسـار إىل فنـاء مغمـور
فتنفسـنا الصعـداء .كان بالفنـاء شـجرة عنـب باذخـة تصاعـدت عروشـها
على حائـط إىل أعلى ،وبـدت أوراقهـا يانعـة بالغـة االخضرار على خلفيـة
البيـاض الناصـع للجير الـذي صبغـت بـه جـدران الـدار .كان يتصاعـد مـن
هـدوء كنسي ،ال يؤثثه ّإل هديـل حامم وزقزقة طيور سـنونو .بحثت ٌ الفنـاء
الشـك
ّ دون جـدوى عـن مـكان هـذه الطيـور التـي اسـتقبلتنا بفرحة وحبور.
تتفـرج علينـا مـن مخابئهـا العامـرة بالظـلّ الرغيـد .لبثنـا يف الفنـاء
َّ أنهـا
ثم تجرأتيتوجب عملـهّ ،َّ دقائـق طويلـة دون أن نـرى مخلوقـاً .مل نعرف ما
والـديت أن تصرخ:
-يا أهل الدار!
ردض عليها صوت امرأة:
ّ
-تريدون لقاء َم ْن؟
العـرايف هنـا؟ نرغـب يف لقائـه والحصـول على
َّ -هـل يقطـن سـيدي
املشـورة منـه!
أطـلَّ علينـا رأس فتـاة زنجيـة صغرية مـن نافذة علوية ،أشـارت ُ
للسـلَّم
الـذي يوجـد عـن مييننا وقالـت لنا:
األول.
العرايف يسكن يف الطابق َّ
َّ -سيدي
صـوت يوحـي
ٌ مبجـرد أن تجاوزنـا أربعـة أدراج صـدر عـن اللـة عائشـة
َّ
بأنهـا تجـد صعوبـة يف التنفُّـس فخاطبتنـا:
أو ً
ال وانتظراين يف املدخل! -اصعدا أنتام َّ
ممـرات أخـرى وسلامل
ّ بعدمـا وصلنـا إىل املدخـل املفترض ،وجدنـا
162
تكن السلامل املتهرئةـدة .مل ْذات درجـات متهالكـة تقـود إىل ا ِّتجاهـات ِع ّ
ُهمـة على الزائـر املضطـر لصعودهـا .أخير ًا ويف نهايـة أحـد لتسـهل امل َّ
ّ
يتصدر بابها سـتار كبري بألوان
َّ العـرايف .كان
َّ سـيدي غرفة وجدنـا ات املمـر
ّ
صفـراء وحمـراء مينـع الناظـر مـن االطالع على مـا بداخلها.
تتصبـب عرقـ ًا وتتنفَّـس بصعوبـة وتتلـو
َّ لحقـت بنـا اللـة عائشـة وهـي
الدعـوات طالبـة املعونـة مـن اللـه .أزحـت السـتار بيـدي فنطقـت والديت:
العرايف؟
َّ -أهنا يسكن سيدي
العـرايف العبـد الفقير
َّ تقدمـوا وال تخافـوا يـا قادمين .أنـا
-نعـم هنـاَّ .
الرضيـر الـذي ال يرفـض أبـد ًا اسـتقبال ضيـوف اللـه!
خلعنـا أحذيتنـا ودخلنـا الواحـد تلـو اآلخـر .خاطبتـه اللـة عائشـة وهي
ٍ
كلمـة وأخرى: وتتنهـد بين كلّ
َّ تزفـر
-نحن ضيوف الله وضيوفك يا سيدنا!
163
وتلمس وجهـي بأصابعه، يـده .ابتسـم وجذبني إليه ،أجلسـني على ركبتيه َّ
تلمـس تقاسـيم وجهـي الصغري قبـل أن تتوقَّف أصابعه فـوق جبهتي وتنزل َّ
املـدة مل يتوقَّـف عـن القـول «عليـك بركة
ّ نحـو أذين ورقبتـي .وخلال هـذه
ومررها فـوق ظهري وهو
اللـه! عليـك بركـة الله!» .تناول سـبحة كانـت قربه َّ
وإن كان حفظـ ًا ناقص ًا يشـوبه بعض
يتلـو سـور ًا مـن القرآن كنـت أحفظهـاْ ،
ثـم خاطبني:االرتباكّ ،
شـك أنـك تحفـظ سـورة العـرش ،اتلهـا ِمـرار ًا فهـي سـتحفظك مـن
-ال ّ
كلّ رش!
العـرايف يلبـس جبـة واسـعة مـن قطـن ويعتمـر طربوشـ ًا َّ كان سـيدي
مر ًة ثانيـة وابتعدت
قبلـت يده ّ صوفيـ ًا باليـ ًا تقلَّـص حجمه من كرثة غسـلهَّ .
صبـت لنـا بعض ًا
ثـم خرجـت زوجتـه للرتحيـب بنـاَّ . عنـه إىل حيـث والـديتّ ،
جـرة طينيـة .شـعرت كأنني أعـرف وجـه هـذه املرأة. مـن مـاء الشرب مـن َّ
ربـا شـاهدتها مـن قبـل يف الحمام العمومـي .كان لـون وجههـا خمريـ ًا َّ
ٍ
تتحدث بلكنة توحـي بانتامئها ملنطقة َّ أقـرب إىل السـمرة منه إىل البيـاض.
ٍ
تنـم عـن أناقـة ووقار .ما زلـت أتذكَّ ـر ،إىل اليوم،
تافياللـت .كانـت حركاتهـا ّ
تفاصيـل وجههـا :عيناهـا املتقاربتان ،وأنفهـا الدقيق ،وشـفتاها الكبريتان.
أتذكَّ ـر أيضـ ًا أسـنانها الكبرية املغروسـة يف لثتها الحمـراء ،وقد بدت عليها
آثار السـواك.
العـرايف عالمات ِ
الغنـى .فاملرتبـات موضوعة َّ تبـد على دار سـيدي
مل ُ
فـوق بسـاط مـن الـدوم وأغطيتهـا باديـة القـدم رغـم نظافتهـا وحسـن
ترتيبهـا .كانـت الغرفـة تتضمـن خزانـة برفـوف وضـع فوقهـا وعـاء فريـد
مـن تنـك أبيـض ،مخصـص على مـا يبـدو لتخزيـن السـكر ،امنحت نقوشـه
ُذهبـة بفعـل تـوايل الشـهور واألعوام ،فيما كان جلباب سـيدي العرايف
امل َّ
معلَّقـاً فـوق رسيـره.
طلـب الرجـل مـن زوجتـه أن تحضر لـه ق ّفتـه ،ظللنـا سـاكنني قبالتـه.
وأصابتنـي حالـة مـن التوتـر املمـزوج بحـب االسـتطالع العتقـادي أننـا
سـنحرض بعـد قليـل أمـر ًا لـه أثـر عظيـم.
164
العـرايف قفـة مـن ضفـر دائريـة
َّ وضعـت الزوجـة بين يـدي سـيدي
مـد األعمـى يـده نحـو الغطـاء ورفعـه الشـكل يعلوهـا غطـاء مخروطـيَّ .
بالتوجس والخوف،
ُّ بتـؤدة ورفـق ،فمددت عنقي ألشـاهد ما تحته .شـعرت
وحـش خرايف أو سـحابة دخان تتبخر لتسـفر ٌ توقعـت أن يخـرج مـن الق ّفة
تتضمـن الق ّفـة أي يشء
َّ عـن عفريـت ينحنـي أمامنـا ليلبـي كلّ رغباتنـا .مل
خـارق .كان بهـا بخـور شـعبي ولبـان جـاوي .نظـرت إىل األشـياء التـي تتجه
العـرايف وابتسـمت.
َّ لقبضهـا يـد سـيدي
كانـت محتويـات الق ّفـة تذكّ ـرين مبـا جمعتـه يف صنـدوق العجائـب
خاصتـي .يبـدو أنـه مطلـع على «رسي» .جميـع النـاس يقولـون إنـه رجـل
عـامل ،والبـد لـكل عـامل مـن صنـدوق عجائـب! فهمـت لحظتهـا سـبب
فرحتـه وهدوئـه رغـم عماه .صحيـح أنـه ال ميكنـه رؤيـة الشـمس والـورود
والعصافير ،ولكـن أحالم ليله مليئـة باملخلوقات العجيبة التي يسـتدعيها
أتحـرك من مجليس ،غير أن نظرة
َّ مكونـات صندوقـه .كدت
مكـون مـن ِّ
ِّ كلّ
صارمـة مـن والـديت ألزمتنـي السـكون.
العـرايف أدعيـة وأوراد ًا طويلـة ،بينما كانـت يـداه تحلِّقـان
َّ قـرأ سـيدي
طائـر فـوق عشـه.
ٌ فـوق محتويـات الق ّفـة مثلما يحلِّـق
ثم توقَّف عن الحركة وخاطبنا:
-ال تنتظـروا منـي أن أكشـف لكـم عـن مكنـون الغيـب .املسـتقبل ال
يعلمـه ّإل اللـه املحيـط القديـر .هـذه املحـارات والتامئـم تسـاعدين يك
أتلمـس آالمكـم وهواجسـكم ،يك أقترب مـن قلوبكـم .وعندمـا أُ ِّ
حدثكـم َّ
فأنتـم تسـمعون حديـث قلبـي إىل قلوبكـم .سـيدي محمـد! أليـس هـذا هو
اسـم الولـد الصغير الـذي يرافقكـم؟
ٍ
بصوت خجول: ردت والديت
َّ
-نعم سيدي!
-سـيدي محمـد يعـرف صحـة مـا سـأقول لكـم ،فالطفـل البريء مـا
قبـس مـن نـور املالئكـة ال ِكـرام ،والحقيقـة ٌ
نـور يـراه الصغـار ٌ زال يف قلبـه
165
قبـل الكبـار .اقترب يا سـيدي محمـد ،اقرتب! واخرت شـيئ ًا من بني األشـياء
املوجـودة يف الق ّفـة بعـد أن تغمـض عينيـك!
زجـاج
ٍ نفَّـذت تعليامتـه حرفيـ ًا فوقعـت أصابعـي على كـرة مـن
ِ
راحـة يـدي .كانـت زرقـاء اللـون ،تفحصتها اسـتقرت يف
َّ بحجـم بيضـة،
تتضمـن داخلها فقاعـة هواء
َّ قبـل أن أسـلِّمها لـه .كانـت المعـة شـفَّافة
بأجـرام سماوية
ٍ مسـجونة تحيـط بهـا فقاعـات أصغـر بـدت شـبيهة
ٍ
كوكـب مـا. تسـبح حـول
العرايف كـرة الزجـاج البيضاوية طويلاً قبل أن
َّ تلمسـت أصابـع سـيدي
َّ
ِ
متباعـدة ،مهيبة من شـفتيه: بكلمات خرجـت متثا ِقلة،
ٍ ينطـق
ُبـارك وتذكَّ ـر دومـ ًا مـا سـأقول! إن حجـرة -اسـمع أيهـا الطفـل امل َ
سـمى اليتيمـة يف لغة العارفني ،ألنها وحيدة ال شـبيه لها ،وألن األملـاس ُت َّ
بقيـة األحجـار الكرميـة ال تشـابهها يف الجمال وال يف الصالبة .كلّ إنسـان
يتسـمى اليتيـم أو الوحيـد! مـن اآلن
َّ ميكـن أن يحمـل لقـب األملـاس ،أن
تخلى عنـك الخلـق فانظـر إىل داخـل الحـزن! إِ ْن َّ
َ فصاعـد ًا اطـرد مـن قلبـك
ـد مـن يتضمـن قـدر ًا ال يحيـط بـه َ
الع ّ َّ نفسـك .أتفهمنـي يـا ولـدي؟! قلبـك
العجائـب والغرائـب! عندمـا تعـزف عـن النظـر إىل كنـوزك تعتـلّ صحتـك
وتصبـح كاألهبـل! انظر لداخـل البيضة التـي ناولتني .بداخلهـا توجد صورة
الشـمس ،إنهـا هنـا يف حضرة نورانيـة مبأمن مـن الدنس .حـاولْ أن تكون،
وسـتنج مـن كلّ رش! بـركات الله عليك ُ فتـح اللـه عليـك ،مثل هـذه الصورة
قـرب جبهتك مـن شـفتي يك أُ ِّ
قبلها! يـا ولـدي! بـركات اللـه عليـك يا ولـدي! ِّ
دعاء من األدعية.
ً مرتفع
ٍ ٍ
بصوت قبل جبهتي وقرأنا مع ًا
َّ
شـعرت بعدهـا بتأثـر شـديد ودمعـت عينـاي .شـعرت كأننـي أسـبح يف
بحـ ٍر مـن السـكينة والهـدوء .وكان لهذا املشـهد فعل السـحر عىل والديت
العـرايف
َّ واللـة عائشـة ،فظلتـا واجمتين سـاكنتني بدورهما .أزاح سـيدي
قدمـت لـه املـاء يف
مـاءّ .
الق ّفـة مـن أمامـه وطلـب مـن زوجتـه أن تسـقيه ً
ٍ
بقطعـة مـن ثـم خرجـت مـن املـكان .مسـح الرضيـر شـفتيه ٍ
كـوب طينـيّ ،
166
قماش قبـل أن يضعهـا تحـت ركبتـه ويخاطـب املرأتين:
-ألهمكما اللـه أن تقصـدا هـذه الـدار ،ألن بقلبيكما جراحـ ًا مؤملـة!
لكننـي لسـت ّإل عبـد ًا ضعيفـ ًا أعطـاه اللـه بركـة ملسـاعدة إخوانـه وشـفاء
آالمهـم .اقرتبـا وافعلا كما فعـل هـذا الطفـل املبـارك ،لتختر كلّ منكما
شـيئ ًا مـن بين محتويـات الق ّفـة!
تنهـدت اللـة عائشـة وأدخلـت يدهـا يف القفـة لتخـرج محـارة ناولتهـا
َّ
العرايف إىل
َّ سـيدي أصابع بني لت تحو
َّ لكنهـا عادية، محـارة كانـت الفقيـه.
محـار ٍة ذات بيـاض سـاطع ،إىل حليـة صاغهـا فنـان خزف يف لحظـة إرشاقٍ
وسعادة!
-ما هو اسمك أيتها السيدة ذات القلب الفاضل؟
-عائشة ،يا شيخنا!
ُفضلـة لـدى رسـول اللـه صىل اللـه عليه وسـلم! لذا -اسـم الزوجـة امل َّ
أنصحـك أن تطـردي الحـزن مـن على وجهـك .نعـم لقـد قاسـيت ومـا زلـت
تقاسين كثيراً ،لـذا ال تعرييـن كالمـي كثير ًا مـن االنتبـاه .اسـمعيني ّ
جيداً:
جرحـك يبـدو عميقـاً ،لكن الشـفاء قريب! أتعلمين أيتها املـرأة أن االبتالء
متهد للعودة؟ يورث الهناء ،أن املوت يسـبق البعث والنشـور ،وأن الوحدة ِّ ِّ
عـودة أمـواج مـن الحنـان؟ اجتنبـي القنوط من رحمـة الله وتقلُّبـات األقدار
تقبل مشـيئةمجـرد ِعبـاد ضعـاف على هـذه األرض ،علينـا َُّّ ُقـدرة! نحـن امل َّ
بعشـك الصغير يف ظلامتهـا ،لكن بـإذن الله طوحـت العاصفـة ّ اللـه .لقـد َّ
وأزهار
ٌ ربيع جديـد
ويعـاد بنـاؤه! سـيكون هنـاك ٌ العـش إىل مكانـه ُ
ُّ سـيعود
جديـدة عىل أغصـان شـجرة اللوز!
ٍ
بـكاء طويـل. صـدرت عـن اللـة عائشـة تنهيـدة وشـهقة وانهمكـت يف
أخرجـت والـديت منديلهـا القماش لتمسـح الدمـوع مـن عينيهـا أيضـاً،
العـرايف أرضيـة
َّ والتجـدد .القـت كلمات سـيدي
ُّ شـعرت بـدوري بالراحـة
خصبـة فانغرسـت جذورهـا يف دمـاء عروقـي .وسـمعت الشـيخ يدنـدن
لنفسـه هـذه الدندنـة الغريبـة التـي مـا زالـت يف أذين إىل اليـوم:
167
«عىل وقع األيام
عىل وقع الليايل
تكر سبحة األقامر الجديدة
ّ
تحيص الفصول»..
ثم خاطب املرأتني كلتيهام:
ّ
تحولـت
-إن الدمـوع تفعـل فعـل النـدى على زهـر القلـوب ،لكـن إذا َّ
إىل مطـر تغـرق الزهـور فتمـوت .كفكفـا دموعكام ولنقـرأ الفاتحـة جميعاً!
قرأنا الفاتحة:
باسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العاملني
الرحمن الرحيم
مالك يوم الدين
إياك نعبد وإياك نستعني
اهدنا الرصاط املستقيم
رصاط الذين أنعمت عليهم
غري املغضوب عليهم وال الضالني
آمني...
العرايف
َّ مدت والـديت بدورها يدهـا إىل ق ّفة سـيديبعـد لحظـة صمـت َّ
أول يشء عثرت عليـه :كان عبـارة عـن جوهـرة سـوداء والتقطـت منهـا َّ
ملونـة صغيرة.
رسـمت عليهـا تصاويـر َّ
ابتسم الشيخ الرضير وسأل والديت عن اسمها.
-زبيدة!
168
تحول جسـدي من مـدة طويلـة فقـدت بصريَّ ، -يـا أختـي زبيـدة ،قبـل ّ
شـدة اليـأس والقنـوط إىل كتلـة رمـاد سـاخنة ال تجـد لهـا مكانـ ًا على ظهـر
ّ
األرض .بـدا يل أن كلَّ مـاء األرض لـن يـروي عطشي ،اختفـت الشـمس
واسـتحال الكـون بالنسـبة يل إىل خريـف مظلـم أبـدي ،فلجـأت إىل اللـه:
-شمس وماء يا إلهي!
شمس وماء يا إلهي!
اسـتجاب الخالـق لدعايئ ،فاسترجعت األرض ربيعهـا وحنانها .ذهبت
فـوق الهضبـة ألدفـئ عظامي البـاردة ،رويت مفاصيل يف عيـون ماء صافية
واسـتعاد حلقـي ،بعدمـا ارتوى ،لكنةَ املايض الذي نسـيته .يـا أختي! حذار
مـن اعتبـار مـا يحـدث معـك رش ًا مسـتطرياًَّ ،
تقبلي إرادة اللـه واعلمـي أن
أوليـاء اللـه الصالحين ،دفناء هـذه املدينة الطاهـرة ،مينحونـك بركاتهم.
تبريك بزيـارة أرضحتهـم ،واعلمـي أنـك حين ترفعني كـف الدعاء بسلامة َّ
الغائـب فـإن ملاكك الحارس يدعـو الله بدوره أن يجازيـك بنفس ما متنيت
للغائب ،أحضره الله!
العرايف كالمه بسورة التوحيد:
َّ ثم اختتم سيدي
ّ
« -قـل هـو اللـه أحـد ،اللـه الصمـد ،مل يلـد ومل يولد ،ومل يكـن له كفؤا
أحد».
مـرة أخـرى يف الصمـت والتفكير .مل أعـرف مـا هـو مصـدر غـرق الجميـع ّ
الشـعور العـارم الـذي دفعنـي لحظتهـا لالنقضـاض برسعـة على يـد سـيدي
العـرايف وتقبيلهـا .وكانـت تلـك نهايـة جلسـتنا معـه .نهضـت املرأتـان بتثاقل
َّ
العـرايف
َّ سـيدي كتـف على برفـق انحنتـا ثـم
ّ جديـد، مـن بحايكيهما وتدثرتـا
بتستر وخجـل قطعـة بسـيطة مـن النقـود يف باطـن ّ لتقبيلهـا قبـل أن يدلين
ومبجـرد أن
َّ يـد الشـيخ .غادرنـا الغرفـة نحو البـاب مرفوقين بدعوات الشـيخ.
عـبء ثقيل .بدا يل
ٌ ـن أُزيح عن كاهله
عتبـت الزقـاق الخارجـي شـعرت بخ ّفة َم ْ
الكـون يف حلّتـه القشـيبة األوىل املبهجة ،بدت يل أشـعة الشـمس مرتاقصة
بفرحـة فـوق جـدران األزقـة ومعروضـات املتاجر وعامئـم املـارة وجالبيبهم!
169
العـرايف سـتتحقَّق ال محالـة .لكن ّأية
َّ إن نبـوءات سـيديقلـت لنفسي ّ
نبـوءات؟ فالرجـل اكتفـى بتلميحـات غامضـة! هـل فهمـت قصـده فعلاً ؟
يبـدو أننـي كنـت أفهـم كلّ يشء بحرضتـه .ورغـم أننـا ابتعدنـا عـن داره،
بالحرية مل أعهده يف
ّ ٍ
إحسـاس عـارم تبقَّـى يف ذهنـي أثر حضوره يف صورة
تحولت كلامته إىل موسـيقى داخلية تعـزف يف عمق كياين قلبـي مـن قبـلَّ .
طاقـة فياضة فرشعت ٌ تبخـر شـعوري بالتعب ،ورست يف أوصايل الصغيرَّ .
يف الرقـص! مل تنتبـه كلٌّ مـن اللة عائشـة ووالديت إىل حـايل الجديد ،فقد
كانتـا متشـيان غارقتين يف أفكارهام.
أمـي. فجـأة توقَّفـت عـن الحركـة وجريـت محـاو ً
ال االختبـاء يف تالبيـب ّ
سألتني:
-ماذا بك؟ ملاذا تبدو خائفاً؟ تكلَّم يا ولد!
اعتصمت بالصمت.
تدخلت اللة عائشة قائلةً :
َّ
ٍ
مغص يف البطن؟ -ماذا أصاب الولد؟ ل ََعلَّه يشكو من
-ال يريـد أن يقـول شـيئاً! إنـه يرتعد مـن الخوف ،ماذا بـك؟ تكلَّم يا رأس
البغل!
غادرت تالبيب الحايك ،تنفَّست الصعداء أخري ًا وأجبتها:
-أشعر بالخوف!
مم ْن؟
َّ -
مير قريبـ ًا م ّنا ،ذهب يف ا ِّتجاه الزقاق عىل اليسـار،
-رأيـت فقيـه كُ َّتابنـا ّ
كاد يراين!
-وملاذا تخاف أن يراك؟ ألسـت مريضاً؟ ألسـت برفقة أمك؟ إن الطفل
بالتهرب من الدراسـة!
ُّ أمه ال ميكن أن يتهم
الـذي يرافـق ّ
-نعم لكن الطفل املريض ال يتنزه يف األزقة ،ولو كان برفقة أمه!
170
-لو كان الفقيه قربنا لرشحت له أنك رافقتني ليكشف عليك الطبيب.
بشـدة لدى عوديت
ّ -مـا كان ليصدقـك! سـيعتربه عـذر ًا كاذب ًا ويعاقبني
إىل الكُ َّتاب!
تنهدت والديت وقالت لاللة عائشة:
َّ
-مل يعـد بإمـكاين إعـادة هـذا الطفـل لجـادة الصـواب ،إنـه يجادلنـي
مثـل رجـلٍ كبير!
ردت صديقتها:
َّ
-ليبارك الله خطواته إذن!
واصلنـا السير يف صمـت .وعلى جسر «بين املـدن» شـاهدت بائـع
رمـان يقتعـد الرصيـف .كانـت حبات الرمـان متيل إىل االخضرار ومل تنضج
التحرك .فهمـت والديت القصد
ُّ ٍ
بعناد رافضـ ًا بعـد ،رغـم ذلك وقفت أمامـه
مـن وقفتـي فخاطبتنـي مـن بعيد:
-بإمكانـك البقـاء هنـا إىل يـوم غـد ،لـن أشتري لـك رمانـ ًا غير ناضـج،
فهـو ميـرض العيون.
ألتذوقها!
َّ -أريد واحدة فقط
تتذوق منها حتى حبة واحدة!
َّ -لن
جرتنـي مـن يـدي لرتغمني عىل مواصلة السير فرشعـت يف البكاء. ثـم َّ
ّ
ـم جلبـايب.
ثـم كفكفـت دموعـي ومسـحتها يف كُ ِّ ّ ، قليلاً واصلـت املسير
ورسعـان مـا نسـيت حـزين بفعل املشـاهد املبهجـة يف األزقة والشـوارع،
إيل فرحتـي فبـدأت الرثثـرة إىل أن وصلنـا الـدار.
عـادت َّ
العـرايف .فنحن نقطن َّ حـدث والـديت جاراتهـا عـن زيارتها لسـيدي
مل ُت ِّ
ال قبـل الذهـاب أو ً
عرافـة مشـهورة ،وكان على والـديت أن تقصدهـا َّ بجـوار َّ
ٍ
شـخص غريـب عـن الحـارة .غير أنهـا مل تثـق يومـ ًا يف مواهـب الخالـة إىل
كنـزة .وكنـت أشـاطر والـديت الـرأي ،فقـد كان يداخل أنشـطة كنـزة ،برأينا،
171
جانـب شـيطاين متطلـب يلزمـه اسـتعدادات ومصاريـف كثرية قبـل اللجوء
لخدماتهـا .مـا كان لدينـا أمـوالٌ كافيـة لشراء بخـور يناسـب أنـوف وأذواق
جوقـة الجـن التابعـة لكنـزة ،إضافـة الحتراز والـديت وخوفهـا أن تبـوح
العرافـة بأرسارهـا للجـارات .رغـم أن ال أحـد من جرياننـا كان يجهل حقيقة َّ
تتوهـم العكـس .قالـت للجـارات إنهـا ذهبت يف َّ كان والـديت فـإن وضعنـا،
نزهـة باتجـاه حـارة بعيـدة رفقـة اللـة عائشـة ،ألنـه مـا كان مبقدورهـا أن ال
العـرايف
َّ تقـول لهـن شـيئ ًا باملطلـق ،غير أنهـا تك َّتمـت على قصـة سـيدي
للتبرك
ُّ زاعمـةً أن هـدف النزهـة كان زيـارة أرضحـة األوليـاء والصلحـاء
البرشيـة ال تكفـي إذا مل
ّ واملسـاعدة يف شـفاء ابنهـا الوحيـد .فاألدويـة
ترفـق ببركات رجـال الله.
يـوم ٍ
غـد أخربتنـي والـديت أنهـا سـتعفيني مـن الذهـاب للكُ َّتـاب طيلـة
أولهما أن صحتـي ال تسـمح فترة غيـاب والـدي متعلِّلـة بسـببني وجيهينَّ :
بسـبب هـزال جسـدي وامتقـاع لـون وجهـي حتـى صـار يشـبه لـون الرمـان
ناقـص النضـج! وثانيهما أنهـا تحـس بالعزلـة وتكـره أن تلازم الـدار وحدها
فمجـرد وجـودي إىل جانبهـا ُيخفِّـف أحزانهـا.
َّ يف غيـاب زوجهـا،
قررت بغرض النزهة واسـتدرار بركات األولياء والصالحني عىل أرستناَّ ،
والـديت أن نـزور كلّ أسـبوع واحـد ًا مـن أرضحـة فـاس .فقـد كانـت مدينتنـا
ومؤسسي الزوايـا الصوفية ِّ تعـج مبدافـن املنحدرين من النسـب الرشيف
العامـة خـوارق وكرامـات .وكان لـكلٍّ منهـم
ّ والصلحـاء الذيـن تنسـب لهـم
معلـوم .يـوم االثنين ُيـزار رضيح سـيدي أحمـد بن يحيـى ،ويوم ٌ يـوم زيـارة
الثالثـاء سـيدي علي ذيـاب ،واألربعـاء سـيدي علي بـن أيب غالـب ...كنـت
ويقرونـه
ّ أعلـم كلّ هـذا ،كما كان كلّ النـاس يف ذلـك الزمـان يعلمـون بـه
ال مبـارك ًا مندوب ًا
ويعتربونـه شـيئ ًا عاديـ ًا ال غبـار عليـه وال حرج فيه ،بـل عم ً
أحـد أن ُيشـكِّ ك يف مـا جـرت عليه عادة األسلاف ٍ إليـه! مل يخطـر على بـال
أحد أن يجرتئ عىل السـخرية يف مثـل هـذه الزيـارات .ومل يخطـر عىل بـال ٍ
منظـم واضـح .بالنسـبة يل، ٌ منهـا .فقـد كان لرتاتـب األيـام وتواليهـا معنـى
محـددة .كان يوم االثنين عندي مقرونـ ًا بالرماديَّ ألـوان
ٌ كانـت لأليـام أيضـ ًا
172
املدخن ،فيما كان لون يـوم األربعاء َّ الفاتـح ،والثالثـاء بالرمـادي الغامـق
براقـاً مثـل ألـوان أمسـية ربيعيـة .وكان لـون الخميـس أزرق بـارد ًا مشـع ًا َّ
َّ
مناقضـ ًا لسـخونة وصفـرة يـوم الجمعـة .فيما اكتسى السـبت صفـر ًة
ألي كان أتحـدث ٍّ
َّ شـاحبة كانـت مقدمـة رضوريـة الخضرار يـوم األحـد .مل
عـن هـذا الرتتيـب الذهنـي الـذي ابتكرتـه لنفسي .ولـو كنـت امـرأة أو رجلاً
ثريـ ًا للبسـت لـكل يـوم لباسـ ًا باللـون الـذي يناسـبه ،لكانـت حيـايت أجمـل
أكـن امـرأة ،ومـا كان عندنـا مـالٌ يذكـر، ْ وأسـعد وأكثر توازنـاً ،لكننـي مل
خاصـة بعـد السـفر املفاجـئ الـذي اضطـر إليـه والـدي .أصبحـت وجباتنـا ّ
متكـررة ،وأصبحـت الوالـدة تعجـن خبزنـا مـن شـعري تخالطـه كميـة ِّ قليلـة
يسيرة مـن الحنطـة .مـا عـادت تضحـك كثيراً ،وال تـروي قصصـ ًا عجيبـة،
كما درجـت على ذلـك سـالفاً .لكـن تبقَّـت لنـا النزهـات الطويلـة التـي ك ّنـا
نقـوم بهـا مرتين أو ثالثـ ًا يف األسـبوع لزيـارة أرضحـة األوليـاء والصلحـاء،
حيـث كنـا نرفـع األدعيـة نفسـها ،وننشـد تحقيـق نفـس اآلمـال ،نبكي يف
مـرة مـن التأثّـر قبـل أن نقفل عائديـن إىل دارنـا .أتعبتني هـذه الزيارات كلّ ّ
املتكـررة ،ومـا كان بوسـعي أن أمتنـع عـن مرافقة الوالـدة إليها، ِّ املتواتـرة
ألنهـا تعتقـد اعتقـاد ًا راسـخ ًا أن حضـور طفـل بـريء إىل جوارهـا أدعـى
السـتجالب بركـة األوليـاء واسـتدرار عطفهـم عليهـا وعلى أرستهـا.
طـارق وسـأل أن كان هـذا مقـر سـكن
ٌ وذات صبـاح ،طـرق بـاب الـدار
رد عليـه الجيران باإليجـاب ،ونـادت كنـزة
النسـاجّ .
املعلـم عبـد السلام ّ
الشـوافة والـديت:
َّ
-زبيدة! زبيدة! مثّة شخص يسأل عنكم!
كانـت والـديت قـد سـمعت كلّ يشء مـن قبـل ،فوقفـت وسـط الغرفـة
متوجسـة واضعـة يدهـا على قلبهـا دون أن تنبس ببنت شـفة .هل ِّ محتـارة
هذا الشـخص بشير خري أم حامل ألخبار مشـؤومة؟ أم هو شـخص اقرتض
منـه والـدي مـا ً
ال ونسي أن يخربنا حـول املوضـوع؟ كان ما خلَّف لنـا الوالد
مـن مـالٍ قـد قـارب االنتهـاء ومل َ
تتبق منه ّإل فرنـكات معدودة ك ّنـا ننوي أن
نشتري بهـا فح ً
ام نطبـخ عليه.
173
أمي أخرياً:
ردت ّ
ّ
-إذا كان هـذا الغريـب يريـد مقابلـة زوجـي فقـويل لـه إنـه غائـب عـن
الدار!
رد عليهـا بحديث ٍ
بصوت مرتفـع للغريب الـذي ّ أمـي
نقلـت كنـزة جملـة ّ
نتبينـه ،فرتجمتـه لنا كنـزة بقولها:
مل َّ
-زبيـدة! هـذا الرجـل جـاء مـن الباديـة يحمـل لكـم أخبار ًا عـن املعلم
عبـد السلام .ويقـول إن لديـه مقتنيـات مرسـلة مـن طـرف زوجـك يريـد أن
يسـلِّمها لكم.
ٍ
بابتسـامة عريضـة .قالت استرجعت والـديت شـجاعتها وأرشق وجههـا
السـلَّم
توجهـت صوب درجات ُ ثم َّ
مخاطبـة نفسـها :ذلـك مـا كنت أتوقَّعـه! ّ
مـرة أرى فيهـا والـديت تجـري
أول ّ ٍ
برسعـة كبيرة .كانـت تلـك َّ ونزلـت عليهـا
باتجـا ٍه مـا .تبعتهـا مرسعـ ًا بـدوري دون أن أمتكَّ ـن مـن اللحاق بهـا .وعندما
ـق البـابتتحـدث إىل الغريـب مـن ِش ّ
َّ وصلـت إىل الطابـق األريض وجدتهـا
املُـوارب وهـو يقول:
-هـو على مـا ُيـرام ،يعمـل كثير ًا ويدخـر كلّ راتبـه ،يقـول لكـم أن ال
تقلقـوا بشـأنه ،وقـد كلَّفنـي أن أعطيكـم هـذا!
ألمـي ،لكن الحظـت أنها قبضت شـيئ ًا ما
مل أشـاهد بالضبـط مـا أعطـاه ّ
وشـدت عليـه بعناية بني أصابـع كفِّها.
َّ
أشياء أخرى قائالً:
ً سلَّمها
-كما أرسـل أيضـ ًا هـذه األغـراض ،وهـذا كلّ يشء .سـأغادر غـد ًا إىل
مبجرد وصـويل للقرية .هـل لديكم ما
َّ الباديـة وألتقـي املعلـم عبد السلام
تريـدون إبالغـه به؟
تحسنت!
َّ إن صحة سيدي محمد
-قُلْ له َّ
ال كثري ًا بهـذا املوضوع.
-الحمـد للـه! كان املعلـم عبد السلام منشـغ ً
174
أنـا ذاهـب ،أترككـم يف رعاية الله!
-لرتافقك السالمة يا بشري الخري!
أغلقت والديت الباب وصعدت إىل غرفتها مرسعة.
انطلقـت أسـئلة الجـارات بنفـس الرسعـة .أطلَّـت رحمـة مـن نافذتهـا
ووضعـت كنـزة سـطول املـاء جانب ًا فيما تخلَّت فاطمـة البزيوية عـن نولها
الـذي كانـت عاكفـةً عليـه .كانـت جميع النسـوة يسـألن والديت عـن أحوال
رد والـديت كان عامئ ًا غري أيب وعملـه الجديـد واملـكان الذي يوجد بـه .لكن ّ
ملح ًا ثقيالً،
واضـح تكثر فيـه عبارات املجاملة ،بينما كان فضول الجـارات ّ
تتعمد
َّ ـن يرغبن يف معرفـة مـاذا أرسـل لنـا الوالد .شـعرت أن والـديت إذ كُ َّ
شـاف .وعندمـا وصلـت إىل غرفتنا وجدت على املائدة ٍ ٍ
جـواب تركهـن دون
يتضمن سـمن ًا بلديـ ًا وقنينة
َّ املسـتديرة اثنتـي عشرة بيضة وقـدر ًا من ّ
فخار
مـن زيـت الزيتـون األخضر الغامـق اللـون .كان وجـه والـديت مرشقـ ًا مـن
الفـرح ،خاطبتني:
-انظـر مـا أرسـله لنـا أبـوك ،مل ينسـنا! رغم أنـه يف ٍ
بلد بعيد فهـو يفكِّر
فينـا! وأرسـل لنا أيضـ ًا نقوداً :انظـر! انظر!
فتحـت يديهـا فرأيـت ثلاث قطـع نقديـة فضيـة ناصعـة البيـاض تلمـع
عليهـا أشـعة جعلتهـا تشـبه وجـه القمـر.
رغـم أن كلمات والـديت كانـت خافتـة محتاطـةّ ،إل أن اآلذان الفضولية
املرتبصـة التقطـت كلمـة «نقـود» مـن هـذا املونولـوغ .وتداولـت الجارات
الكلمـة السـحرية بينهـن مـن أذنٍ ألخـرى .عـادت الجـارات إىل سـابق
أشـغالهن .كن يعلمن أن والديت لن تسـتطيع أن تكتم عنهن طوي ً
ال أخبارها
ربا يطالهاالسـعيدة ،بينما فكَّ ـرت أنا فقط يف جولتنـا نحو األرضحة التـي َّ
اإللغـاء .كنـت مرتاحـ ًا لفكـرة التخلـص مـن هـذه النزهـة الرتيبـة املتعبـة.
أُصبـت بعـدوى الفـرح الغامـر الـذي سـيطر على والـديت وفكَّ ـرت أن كلّ ما
يحيـط يب يعبـق باألناشـيد ،بأننـا أصبحنا أغنيـاء ،بعدما كان الفقر ميسـك
أسـبوع واحـد فقـط ،يطـل علينـا مـن سـقف غرفتنـا ،ويرشـحٍ بتالبيبنـا قبـل
175
مـن ثنايـا مالبسـنا ومـن أثاثنا البسـيط .وهـا قد ظهـر املبعـوث الغريب يف
اله ِّم والقلق ،وسـمح لنـا أن نتطلع
حياتنـا صبـاح اليـوم ،فـأزاح عنهـا سـتار َ
إىل املسـتقبل ٍ
بثقـة وهـدوء وأمل!
أمي:
خاطبتني ّ
-سـيدي محمـد ،اصعـد للسـطوح لتلعـب هنـاك .عندي اليوم أشـغال
كثيرة ال تسـمح يل مبرافقتـك إىل رضيـح سـيدي علي املـزايل .سـنزور
الرضيـح يف األسـبوع القـادم إن شـاء اللـه ،أو يف األسـابيع التـي تليـه!
لـدي رغبـة يف الصعـود فـوق السـطوح التـي تصـب عليهـا ّ تكـن
مل ْ
الشـمس الالمعـة أشـعتها لتخلـق بهـا حـرارة ال ُتطـاق .أطللـت مـن نافـذة
الغرفـة ،كانـت الخالـة كنـزة تواصـل تنظيـف األرضيـة قـرب البئر ،وقـط
تتحدث
َّ زينـب قـد أرهقـه الحر فنام يف ركنٍ مـن أركان الفناء .سـمعت ّ
أمي
توجهت نحـو غرفة
لفاطمـة البزيويـة على عتبـة الغرفـة .شـكرتها فاطمـةَّ .
الشـوافة وثرثرت
َّ رحمـة وظلَّـت معهـا لفتر ٍة أطول ،نزلت إىل مسـكن كنـزة
معهـا إىل حـدود نهايـة الصبـاح.
يتبـق على طاولـة أكلنا املسـتديرة ّإل سـت بيضات ،فقد اقتسـمتها مل َ
ـد أن فمـي يتبلَّـل ريق ًا
والـديت مـع جاراتهـا .وكنـت أحـب أكل البيـض إىل َح ِّ
عنـد رؤيـة واحـد ٍة منـه .وقبـل أن تشرع يف إعـداد طعـام الغـداء صعـدت
والـديت إىل السـطوح وثرثـرت مـع املـرأة الزنجيـة التـي تقطـن فـوق الـدور
العلـوي مـن املنـزل املجـاور .وبحلول املسـاء ،كان أهل الحـارة عن بكرة
أبيهـم قـد علمـوا بخرب مقـدم مبعوث والـدي ،وباألغـراض واملقتنيات التي
أحرضهـا لنا!
زارتنـا اللـة عائشـة زيـار ًة مفاجئـة ،مل أسـتغرب مـن حضورهـا ،فقـد
ُهمـة التي تعيشـها أرستنا.
كانـت صورتهـا ترافـق كلّ األحـداث العائليـة امل َّ
ومـا كانـت فرحـة والـديت لتتـم دون أن تشـاركها فيهـا صديقتهـا القدميـة.
مـر ًة واحدة
وضحـت بالبيضات السـت ّ
َّ وضعـت والـديت طعـام الغـداء،
قصت عىل مسـامعنا خالل الوجبة تفاصيـل حدث اليوم.فأكلناهـا مقليـةّ .
176
وصفـت مبعـوث والـدي وصفـ ًا دقيقـاً ،رغـم أنهـا مل تلمحـه ّإل لدقيقـة أو
تحدثـت عـن
ـق البـاب املُـوارب يف مدخـل الـدار املعتـم! َّ دقيقتين مـن ِش ِّ
األول قبـل أن تحمـد اللـه على نعمته.تخوفهـا َّ
أثـر املفاجـأة وعـن ِّ
-وكيف أحوالك أنت يا اللة عائشة؟
-الحمـد للـه! الحمـد للـه! تعـايل غـد ًا لزيـاريت وسـتعلمني بالخبر
السـار!
-هل عاد زوجك أخري ًا إليك؟
سـببه يل
-ليـس بعـد ،ولكنـه على الطريق الصحيـح .إنه يدفع مثن ما َّ
مـن آالم! تعـايل غـد ًا وسـأخربك بالتفاصيـل .جئـت فقـط لدعوتـك لزياريت
غد اً.
ثم تدثَّرت اللة عائشة من جديد بحايكها وغادرت إىل دارها.
ّ
177
الفصل الحادي عرش
179
مخـدة يف ركـنٍ مـا ،وما يقترب أن منهـا منديل اللة
ّ املعهـود ،فتنـزل على
عائشـة حتـى ترتفـع إىل سـقف الحجـرة وتقـوم بطلعـات جويـة دائرية قبل
أن تحـط مـن جديـد يف مـكانٍ آخـر عىل الرسيـر أو على مرتبة.
توقَّفـت اللـة عائشـة عـن حربهـا ،واتجهـت نحـو املطبـخ إلحضـار
السـخان النحـايس ،فيما كانـت الصينيـة موضوعـة مـن قبـل فـوق املائدة
ّ
بثوب شـفاف مكَّ نني من رؤيـة الكؤوس وإبريق الشـاي .وأخري ًا
ٍ وقـد غطيـت
بـدأت والـديت واللة عائشـة الحديث مبا تبدأ به النسـاء عاد ًة من استفسـار
الصحة واألرسة ،رغـم أنهام التقتا أمـس وطرحتا عىل بعضهام عـن أحـوال ِّ
نفـس األسـئلة وتلقتـا نفـس األجوبـة ،مـع بعـض الفـروق البسـيطة ،حيث
إن اللـة عائشـة عانـت أمـس مـن األرقّ ،إل أنها انتبهت ألن ذلـك يعود فقط
غيرت املرتبـة بأخـرى ومبجـرد مـا َّ
َّ نـوم صلـب غليـظ،
السـتعاملها فـراش ٍ
أكثر نعومـة غرقـت يف النـوم كام تنام صخـرة يف املاء .سـألتهام متظاهر ًا
بالسذاجة:
أمي؟
-هل تنام الصخور يا ّ
-اسكت أو اطرح أسئلة معقولة!
أمي بحادثة إسـقاط بنت جارتنا زينـب لحج ٍر ثقيل
ذكَّ ـرت هـذه الواقعـة ّ
اليمنى.
على األصبع الكبير لرجلها ُ
مدة طويلة من مغادريت داركم؟
-يا الله! وهل حدث ذلك بعد ّ
-ال ،حـدث هـذا قبـل سـنتني ،لكننـي أتذكَّ ـره كام لو حـدث أمس ،كنت
ال يف سـطح الـدار عندما سـمعت بكاء الطفلـة الصغرية... أفـرم بقو ً
دوى يف الـدار صـوت بكاء رضيع .اندهشـنا من هذه
يف نفـس اللحظـة َّ
عينـي دمعتا .سـمعنا
ّ الصدفـة وغرقنـا يف نوبـة مـن الضحـك إىل درجـة أن
صوت ًا رجوليـ ًا يقول:
-الحمد لله! الحمد لله! الضحك نعمة من نعم الله!
اسـتدرت ألشـاهد الرجـل الـذي تجـرأ على دخـول غرفـة ترثثـر فيهـا
180
امرأتـان ال متتـان لـه بقرابـة ،لكننـي فُوجئـت بامـرأة واقفة يف بـاب الغرفة.
تبد عليهما عالمة
أمـي واللة عائشـة ،غري أنـه مل ُنظـرت على التـوايل نحـو ّ
الدهشـة .بـادرت اللـة عائشـة الزائـرة الجديـدة بالقـول:
-مرحب ًا بك يا َّ
سلمة!
أمـي يف سـؤالها عن أحـوال الصحة والـزوج واألطفال .علمت ورشعـت ّ
يكـن لهـا زوج وال أطفـال ،وبأنهـا تعمـل «خاطبة» .اسـتدارت
ْ الحقـاً أنـه مل
اللـة عائشـة صـوب والديت وقالـت لها:
-هذه هي املفاجأة التي كلَّمتك عنها!
وقـت طويل منذ آخـر مرة التقيـت فيها
ٌ مـر
-يـا لهـا مـن مفاجـأة طيبـة! ّ
سلامة ،وكان ذلـك يف عـرس إحـدى بنـات عـم اللـة عائشـة ،زوجـة تاجـر َّ
األبسـطة .كان عرسـ ًا رائعاً.
جيدة؟ هل تخمنني أخبار َم ْن؟
أخبار ّ
ٌ -لدى َّ
سلمة اليوم
-ال! يف الحقيقة ال أدري!
جيـداً ،فهـي ال تقـول ّإل أنصـاف الحقائـق .مل تلـقِ
كنـت أعـرف والـديت ّ
باملـرة .كنـت أصغـر مـن أن ألفـت ّ سلامة بـاالً ،ومل تعـرين اهتاممـا ًإيل َّ
َّ
نظرهـا .وفاقـم األمـر أنهـا كانـت تنتمـي لسلالة العاملقـة األسـطوريني.
جلسـت يف صـدر املجلـس واضعـة يديهـا على ركبتيهـا مثل متثـال صلب
تتحـرك عضلـة مـن شـفتيهاَّ جامـد مـن الصخـر ومل تنبـس ببنـت شـفة .مل
تحـدق يف محتويـات الغرفـة .شـعرت إزاءهـا ِّ الغليظتين بينما رشعـت
بالخـوف املمـزوج بالفضـول .الحظـت وجـود بقيـة شـوارب خفيفـة فـوق
تتحـدث إىل درجـة أننـي مل أنتبـه إىل مـا كان َّ شـفتها العليـا .انتظـرت أن
يـدور لحظتهـا بين اللـة عائشـة ووالـديت .نطقـت أخير ًا بصوتهـا الرجويل،
ثـم
قالـت إنهـا سـتخرب أخواتهـا بالجديـد بعـد االنتهـاء مـن رشب الشـايّ ،
أضافـت:
ٍ
أحداث كبرية سنشهدها قريباً! -أستطيع أن أؤكد لكن أننا بصدد
181
صـدرت عـن اللـة عائشـة ضحكـة صغيرة تنـم عـن حالـة مـن الفـرح
الجـارف ،ضحكـة شـابة طريـة ربيعيـة إىل درجـة أن املـرأة خجلـت مـن
نفسـها فاكتسى وجههـا بحمـرة خفيفـة ،نهضـت على عجـل ،ذهبـت
إلحضـار السـكر والنعنـاع.
تحدثت عـن ذكرياتها حـول األعراس التي انطلقـت والـديت يف الـكالمَّ ،
حرضتهـاُ .حضر الشـاي يف زمـنٍ قيـايس ،مألت اللة عائشـة الكـؤوس ومل
متنحنـي ّإل نصـف كأس مـن الشـاي فاحتججـت على األمـر مطالبـ ًا بـكأس
تعـودت على ذلـك يف منزلنـا .نظـرت والـديت َّ مملـوءة عـن آخرهـا ،مثلما
وعضـت بقواطـع فكِّ هـا العلـوي على شـفتها ُ
السـفىل محـذر ًة َّ نحـوي شـزر ًا
سلامة إىل وجـودي فتبسـمت يف وجهـي .كانـت إيـاي .وأخير ًا انتبهـت َّ
أسـنانها صفـراء ،غير أنهـا مغروسـة بقـوة يف فكيهـا ..قالـت:
-أعطيـا الولـد كأس شـاي كاملـة ،سـأمنحه حلـوى .قلَّبـت بين تالبيـب
قفطانهـا قبـل أن تسـتخرج منهـا منديلاً معقـود ًا فسـخته وأخرجـت منـه
كعكتين وقطعـة مـن حلـوى كعـب الغـزال .حصلـت على كعـب الغـزال
وتقاسـمت النسـاء الكعكتين.
بعـد لحظـة صمـت أخـرى ،زاد منسـوب الفضـول عنـد والـديت واللـة
عائشـة فنطقتـا معـ ًا يف الوقـت نفسـه:
-هايت أخبارك يا َّ
سلمة! ال ترتكينا ننتظر!
-نعـم سـأبدأ الـكالم ،لكـن هـل تسـتطيعان أن تصبرا قليلاً وأن ال
تقاطعاننـي حتـى أنتهـي مـن حديثـي؟
نتوسل إليك!
َّ تحديث! احيك لنا ما جرى!
َّ -
-أنـا أعـرف أن قلبكما أبيـض متسـامح ،وقبـل أن أبـدأ ،هـل تعديـن بأن
تسـامحيني على مـا صـدر منـي اتجاهك يـا اللة عائشـة؟
تنهـدت
تنهـدت والـديت كذلـكَّ .
وتنهـدتَّ ،
أشـارت اللـة عائشـة بيدهـا َّ
الترصف
ُّ تنهدت بدوري مقلِّد ًا النسـوة ،ألنني شـعرت أن ع َّ
يل َّ
سلامة أيضاًَّ ،
182
مثـل الجميـع .لكـن يبـدو أن أحـد ًا مل يلـقِ إ َّ
يل باالً .كانت سلامة قد رشعت
يف الحديث:
-شـاء اللـه (وكلّ مـا يحـدث لنـا إمنـا هـو مبشـيئة العليـم القديـر) أن
ترضرت
أكـون الوسـيطة يف هـذا الـزواج الـذي أصابنا الضرر منه جميعنـاَّ .
وتضررتَّ أنـت يـا اللـة عائشـة ألنـك فقـدت محبـة زوجـك لفترة قصيرة،
اللـة زبيـدة ألنهـا صديقتـك املخلصـة ويؤملهـا ما يؤملـك .اكتشـف موالي
وسـبب لنفسـه مشـاكل كان يف ِغنـى عنهاّ .
أما َّ العـريب أنه ع ّقد أمور حياته
عما قريـب امـرأة مطلقـة قـد ال تجدفتضررت ألنهـا سـتصبح َّ َّ ابنـة الحلاَّ ق
لهـا زوجـ ًا يف املسـتقبل ،لكـن مـا العمـل؟ هـذه مشـيئة اللـه ،مل يخلقنـا
على وجـه األرض ّإل البتالئنـا!
مر ًة ثانية ،قبل أن تواصل َّ
سلمة: تنهد الجميع ّ
َّ
-بـدأ كلّ يشء عندمـا كلَّفتنـي «الكبيرة» ابنـة معلمـي الفاضـل مـوالي
ومبجـرد مـا دخلت السـوق َّ عبـد السلام أن أشتري لهـا ِح َّنـاء مـن السـوق.
ربـت أحدهـم برفـق على كتفـي ،اسـتدرت ففوجئـت مبـوالي العـريب واقف ًا
تحدثنـا عـن األجـواء مبتسما كعادتـه .تبادلنـا التحيـة كالعـادةَّ ،ً قبالتـي
املاطـرة التـي كانـت تعـم املدينـة لحظتهـا ،والتـي امتـدت طيلـة شـه ٍر
يل أن أمـورك بخري، رد ع َّ كامـل ،بعدهـا سـألته عن أحوالـك يا اللة عائشـةَّ .
غير أنـه طأطـأ رأسـه ونظـر إىل األرض يف حـالٍ مـن القنـوط...
تخبئ عني شـيئ ًا مـن أمور
-مـاذا يحـدث معـك يـا سـيدي العـريب؟ هل ِّ
أهـل بيتك؟
-ال أخبـئ عنـك شـيئاً ،لكنـك قـد تحزريـن أنني أعيـش معذَّ بـ ًا يف بيتي،
وإذا تفضلـت ،ميكـن أن تسـاعديني!
كما تتصـورون ،مل أفهـم متامـ ًا القصد من كالمه .يف نفـس اللحظة َّ
مر
محمـل بالسـكر ،اسـتندت إىل جانب جـدار ،وطلبت مـن موالي َّ بيننـا حمار
العـريب أن يقترب منـي .ا َّتجـه نحـوي فاصطـدم بـه أحـد املـارة عـن غير
ليحدثني عن شـواغله.
ّ قصـد ،تبـادل معـه بعض الشـتائم قبل أن يلحـق يب
183
-كما تعلمين ،أمـور تجـاريت تسير على مـا يـرام .بإمـكاين أن أفتـح
بيتين .أكبر مـا يؤملنـي هـو عـدم توفُّري على ذريـة ،عىل ٍ
ولـد يرثنـي .نعم
شـك نفس
ّ أنـا أُ ِّ
قـدر كثير ًا زوجتـي الحاليـة اللـة عائشـة ،وهـي تبادلنـي وال
الشـعور ،لكـن ال ميكننـي البقـاء دون أطفـال.
رد ع َّ
يل علاج لـدى األطبـاء ،غير أنـه َّ
ٍ قاطعتـه ونصحتـه أن يبحـث عـن
ٍ
بجـواب قاطع:
جيـد ًا أننـي ال أثـق باألطبـاء وال بأدويتهـم ،وتعلمين أن هـذا
-تعلمين ّ
دواء واحـد متو ِّفـر لديـك إذا أردت أن تسـاعديني! ٌ األمـر لـه
عيني من الدهشة وتظاهرت أنني ال أفهم قصده ،فواصل:
ّ فتحت
-الحلّ يكمن يف العثور عىل زوجة ثانية!
-ال ميكننـي أبـد ًا أن أفعـل ذلك يا سـيدي العريب ،أنـت تعلم أنني أحب
كثير ًا اللة عائشـة ،وال أرغـب يف القيام مبا يؤملها!
-اللـة عائشـة ال متانـع يف هذا األمـر ،هي أيض ًا تريد أن تـراين أب ًا لطفل
تحدثيها يف األمر حفاظ ًا عىل شـعورها! صغير! لكـن أرجوك أن ال ّ
ودس يف يـدي قطعـة نقدية مـن الفضة ،طلب منـي أن أُفكر َّ قـال ذلـك
جيـد ًا يف األمـر وأن أزوره يف مشـغله قبل نهاية األسـبوع...
ّ
تتمـة القصـة ،لكنني شـعرت بحاجة كنـت أغلي مـن الفضـول ملعرفـة َّ
ملحـة للذهـاب إىل املرحـاض ،فاسـتأذنت والـديت يف النـزول إىل الطابـق
التحتي.
أغضـب تدخلي والديت التـي رصخت يف وجهـي أن أتوقَّف عن مقاطعة
النسـوة وأذهـب إىل حيـث أشـاء .خرجـت مـن الغرفـة ونزلـت إىل الطابـق
السـفيل ،حيـث الحمام يف ركـنٍ مـن أركانـه .دفعت بابـه فوجدتـه مغلقاً،
توجب االنتظار ،بدأت يف البـكاء .أخري ًا خرج
شـخص كان بداخلـهَّ ،
ٌ تنحنـح
ً
ثم خرجـت منه مرسعـا للعودة هـذا الشـخص فاندفعـت لداخـل الحمامّ ،
مبجرد مـا وضعت رجيل َّ إىل فـوق وسماع بقيـة قصـة مـوالي العريب ،لكـن
184
الس َّـلم سـمعت صـوت امـرأة يخاطبني بغضب:
يف الدرجـة األوىل من ُ
-يـا لـك مـن ٍ
ولـد قليـل األدب! أال تسـتطيع إغلاق بـاب الحمام بعـد
مجـرد ضيـف.
َّ اسـتعامله؟ اغلـق البـاب! أنـت لسـت يف منزلكـم هنـا! أنـت
وعلى الضيـوف أن يتحلَّـوا بـاألدب يف منـازل اآلخريـن!
ثم ذهبت إلغالق الباب.
طأطأت رأيس غاضباًّ ،
مجـرد زائـر هنـا! أنا ابن اللـة زبيدة صديقة اللة عائشـة .واعتقد
َّ -لسـت
أن اللـة عائشـة لـن يعجبها أنك وصفتني بكوين ولـد ًا قليل األدب!
-أنـت فعلاً قليـل األدب ،وسـافل ومتسـخ! هـل تظننـي أخـاف من اللة
عائشـة؟ إذا واصلـت النظـر نحـوي بوقاحـة سـأحرض مقص ًا واقطـع أذنيك!
رصخت بقوة:
-ماما! اللة عائشة! هذه املرأة تريد أن تقطع أذين! آ ٍه! أذين! أذين!
أطلت اللة عائشة من النافذة:
-ما الذي يجري؟ ما الذي يجري؟
حاولـت امـرأة الطابـق السـفيل أن تشرح لهـا مـاذا جـرى بالضبـط،
لكننـي كنـت أبكي وأزعق بأقىص ما تسـتطيع حبـايل الصوتية ،وهـو ما منع
صوتهـا مـن الوصـول إىل فـوق .أشـارت يل بيديهـا يك أتوقَّـف عـن الضجيج
غير أننـي واصلـت الصيـاح .خرجـت والـديت إىل حيـث كانـت اللة عائشـة،
خرجـت باقـي نسـاء الطابـق السـفيل ملسـاندة جارتهـن ،لكـن َّ
سلامة
حسـمت املوضـوع عندمـا تكلَّمـت:
-هـذا طفـل صغير ليـس ّإل .ال ميكـن أن ُيلام على خطـ ٍأ أو نسـيان،
ٍ
بسـيط مثـل هـذا .سـيدي ٍ
بسـبب وليـس مـن املعقـول أن ينشـب خصـام
محمـد اصعـد فـوراً! وجـدت يف قفطـاين قطعـة أخـرى مـن حلـوى كعـب
ً
حتما! الغـزال ،سـتعجبك
السلَّم بخيالء.
مسحت وجهي يف جلبايب وصعدت ُ
185
مبجـرد
َّ عـادت النسـاء لسـابق أشـغالهن ،وعـاد الهـدوء إىل الـدار.
إيل والـديت شـزراً .كانـت نظـرة طويلـة
دخـويل غرفـة اللـة عائشـة نظـرت َّ
ذات معنـى ،وكنـت أخـاف مـن عواقبها أكرث مـن أي يشء آخـر .كانت نظرة
ملـدة طويلـة.
ّ كفيلـة بإسـكايت
أمي .ابتسـمت يف وجهي ،وكانت دافعـت َّ
سلامة عنـي وج َّنبتني عقـاب ّ
قطعـة كعـب الغـزال بانتظاري فوق الصينية .أمسـكتها ،لكننـي عجزت عن
أكلها.
مخدتين ناظر ًا
َّ بـدأت اللـة عائشـة يف تحضير شـاي آخر .جلسـت بين
َّ
تتوجه بالكالم إىل سلمة:
َّ نحو األرض يك تنسـاين النسـوة .سـمعت والديت
جيدة؟
-وما املشكل مع هذه اللحمة؟ أمل تكن طرية أو ّ
جيـدة ،لكن
-حسـب نـاس الحـارة أجمعين ،كانـت اللحمـة مـن نوعية ّ
ٍ
جهة، بنـت عبـد الرحمـن كانـت تبحث فقط عن سـبب الفتعال شـجار .مـن
ٍ
جهـة أخـرى فهـو ال ميلـك مـوالي العـريب يـكاد يكـون بعمـر والدهـا ،ومـن
اإلمكانيـات لتلبيـة كلّ نزواتهـا .قلـت لـك مـن قبل إن هـذه الفتـاة مجنونة،
زوجـي دمالج
ّ حلاق تفـرض على زوجهـا أن يقتني لهـا منـذ متـى رأينـا ابنـة َّ
مـن ذهـب ،أن مينحهـا النقـود يف يدها لتشتري تفاهـات ،أن تنظِّ م حفالت
ٍ
وقـت وحني؟ شـاي السـتقبال صديقاتهـا ،وأن تلعـب بالطبـل يف كلّ
قاطعتها اللة عائشة:
-لكن يقولون إنها تعمل؟ أليس لديها صنعة يف يدها؟
مطـرزة توضع عىل ظهـر األحذية النسـائية التي َّ -إنهـا تخيـط تنميقـات
يصنعهـا مـوالي العـريب عـادةً .فعلاً ،كلَّفهـا بإنجـاز عمـل أو اثنين ،لكنهـا
طرزتهـا بطريقـة معيبـة ،ويف النهايـة، تأخـرت كثير ًا يف إمتـام العمـلَّ .َّ
ُطـرزات أحذيـة النسـاء .توقَّـف
طلبـت ضعـف األجـرة التـي متنـح عـاد ًة مل ِّ
مـوالي العـريب عـن منحهـا عملاً ،غير أنها غضبـت منـه واتهمتـه بعالقات
غير الئقـة مـع نسـاء الحـارات البعيـدة اللـوايت يدفـع لهـن إلنجـاز هـذا
الجـزء مـن صناعتـه.
186
الجميـع يعـرف طبعـ ًا أن مـوالي العـريب رجلٌ وقـور ال يقـوم مبثل هذه
األفعـال ،هـذه اتهامـات فتـاة غبيـة وغيورة ليـس ّإل .كلّ هـذا يجوز وميكن
تحملـه ،لـوال أن والدتهـا دخلـت على الخـط وبـدأت تزورهـا ثلاث أو أربـع ُّ
مـرات يف األسـبوع .تحشر أنفهـا يف كلّ شـاذة وفـاذة مـن أمـور الزوجين َّ
وتدفـع ابنتهـا ألن تصبـح متطلبـة أكثر فأكثر ،توهمهـا أنهـا متلـك حسـن ًا
مسـن تفـوح منـه رائحـة العـرق والجلـد
ٌّ خارقـ ًا ال يجـوز أن يتمتـع بـه ٌ
زوج
املدبـوغ ،وال يسـتطيع أن ُيدلِّـل زوجتـه الشـابة كما يجـب!
انعكسـت آثـار هذه النصائح عىل املسـكني مـوالي العريب! حاله اليوم
ال تسر عـدو ًا وال صديقـاً ،مل يجـد يف هذه الزيجـة ّإل املشـاكل والعذاب.
أعلـم أنـه يـأيت لزيارتـك نادر ًا يـا اللة عائشـة ،ذلك ألنه يحـس بالذنب حول
ينـس مـا فعلـت مـن أجلـه يف محنتـه .مـا كانـت
َ ترصفـه معـك .وهـو مل ُّ
تعـرض لهـا مثلما سـاندته أنـت
َّ التـي املصيبـة يف لتسـانده أختـه وال ـه أم
ّ
بكرمـك ،لكـن مـاذا تريديـن؟ الرجـال مخلوقـات ضعيفة!
حلـم واحـد :أن يدفـئ
ٍ تحسـنت أحـوال تجارتـه مل يصبـح لـه غير َّ منـذ
عظامـه املُسـ َّنة بزوجـة تؤنـس خريـف أيامـه البـاردة وتنسـيه التعـب
والكـدح ،لكـن حـال بنـات اليـوم أصبح عجيبـ ًا غريبـاً! ما عدن كما قبل من
ٍ
شـباب حمقى يف مثل سـنهن جهـة القناعـة والحيـاء ،يفضلـن الـزواج مـن
ليتحكَّ مـن بهـم كما يشـأن.
مـوالي العـريب رجـل وقـور بحـق وحقيـق ،وتلزمـه امـرأة رزينـة تليـق
بـه .وهـذه املـرأة هـي أنـت يـا اللـة عائشـة! وقـد أخطـأ عندمـا غفـل عـن
هـذا األمر!
اتجهـت كلّ األنظـار لبـاب الغرفـة .سـمعنا همهمـة خافتة تصـدر منه،
فقالـت اللة عائشـة:
-من بالباب؟
-قريب.
-هذه أنت يا زهور! ادخيل! تفضيل بالدخول!
187
أطلَّت زهور بوجهها الصغري الذي حمل الكثري من املاكياج.
-هل ميكنك أن متنحيني قلي ً
ال من النعناع؟
أو ً
ال وتناويل معنا كأس شاي. -تفضيل ها هو النعناع! لكن ادخيل َّ
-شكراً ،لكنني ال أستطيع ،ألن زوجي سيعود قريباً.
-إذن فهـو مل يعـد بعـد لحـدود السـاعة! اجلسي معنـا ولـو للحظـة
قصيرة!
دخلـت زهـور ،كانت شـابة جميلـة الوجه تفيض حيويـة وترتدي مالبس
وسلامة .متنيـت أن تجلـس بجـواري، َّ بألـوانٍ مبهجـة ،صافحـت والـديت
وذلـك مـا كان .كما أنهـا داعبـت وجنتـي بأصابـع يدهـا الصغيرة .اندمجت
ـن يعلمن أن موالي العـريب قد قام فع ً
ال يف حديـث النسـوة وسـألتهن إِ ْن كُ َّ
ردت النسـوة باإلنـكار ،غير أن زهور بادرتهـن بقولها: بتطليـق ابنـة الحلاَّ قَّ .
سلامة ال ميكـن أن يفوتهـا يشء مـن أمـور هـذه الزيجـة! -الوالـدة َّ
لكـن لباقتهـا املعهـودة متنعهـا مـن الخـوض يف بعـض التفاصيـل .كلّ
سـكان حـارة «العـدوة» يعلمـون ما يالقيـه موالي العـريب يومي ًا مـع زوجته
الشـابة ،يبـدو أن هـذه الفتـاة حمقـاء أو ُمصابـة مبـس .إنهـا تهـدد أرستهـا
ألتفـه األسـباب بتكسير األثـاث واالنتحـار بإلقـاء نفسـها مـن السـطوح.
سـمعت هـذه األخبـار مـن مصـادر موثوقـة.
مثلاً ،الجمعـة املاضيـة طلبـت مـن زوجهـا أن يقتنـي لهـا ،يف نفـس
أهـداب طويلـة .عـاد مـوالي العـريب بعـد ٍ اليـوم ،منديلاً غطـاء رأس ذا
يتضمـن تطريـز ًا جميلاً .ألقـت بنـت الحلاَّ ق
َّ سـاعتني مبنديـل قرمـزي رائـع
وطوحت به يفَّ ثم أمسـكته بأطـراف أصابعهـا على املنديـل نظـرة احتقارّ ،
ثـم قالـت لزوجهـا:
فنـاء الـدارّ ،
-هـل تحسـبني امـرأة ريفيـة؟ كيـف تجـرؤ أن تقتنـي يل منديلاً بهـذه
شـك أنـك اشتريته بثمـنٍ بخس! اعلم أن عىل الشـيخاأللـوان السـوقية؟ ال ّ
السـن مثلـك ،الـذي يرغـب يف زوجـة يف عمـر ابنتـه ،أن يريض
ِّ الطاعـن يف
188
كلّ رغباتهـا ،وأن ال يهديهـا ّإل الثيـاب النفيسـة .أمنحـك شـبايب وجمايل
وتأتينـي مبنديـلٍ ال يليـق !...
غضـب مـوالي العـريب غضبـ ًا شـديد ًا وبـدأ يقرعهـا بعنـف .أمسـكت
بنـت الحلاَّ ق بـكأس وكرستـه على حافـة النافـذة وحاولـت أن تقطـع أوردة
عنقهـا بقطعـة زجـاج حـادة تبقَّـت يف يدهـا مـن الكأس املكسـورة .سـارع
تتخبط وتبيك و ُتشـهد
َّ مـوالي العـريب لتجريدهـا مـن قطعة الزجاج فبـدأت
الجيران أنـه يعتـدي عليهـا بالضرب! وتصرخ شـاكيةً مـن أنـه ال يحضر
طعامـ ًا كافيـ ًا لبيته وال يشتري لها ّإل مالبس مرقَّعة بسـبب بخله الشـديد!
تكن عىل علم بهذه الواقعة. اعرتفت َّ
سلمة أنها مل ْ
وم ْن أخربك بذلك يا أُ َّ
خيتي؟ َ -
ٍ
أحـد على أحـد! كما علمـت خبر
-بعـض النـاس! ويف فـاس ال يخفـى ُ
خاصـة ،بآفـة الكسـل .وهـي ال تغادر
ّ أيضـ ًا أن ابنـة الحلاَّ ق مصابـة ،بصفـة
فراشـها أبـد ًا قبـل الـزوال .عندما يقيض مـوالي العريب الليلـة عندها يغادر
صباحـ ًا دون إفطـار ،دون أن يـذوق كأس شـاي .كما أن اللحـم والخضـار
َّ
الحلق بطهيها! مـوالي العريب تنتظـر حلـول املسـاء يك تتفضل اللة بنـت
ملـدة أطـول .أصبـح يفضـل قضـاء الليلتحمـل هـذه الحيـاة ّلـن يسـتطيع ُّ
أحيانـ ًا يف مشـغله عوض املبيت عند زوجته الشـابة .كما أن خجله مينعه
مـن الحديـث حـول هـذه األمـور عنـد اللـة عائشـة التـي أصبحـت تسـتقبله
ببرود ،كما يحـق لهـا أن تفعل ،منـذ زواجـه الثاين!
ثـم
رست همهمـة بين املسـتمعات ،حاولـت والـديت أن تقـول شـيئاًّ ،
تنهـدت باقـي النسـوة.
تنهـدت وتراجعـت عنـهَّ ،
َّ
مل يعد لدى زهور ما تضيفه فصمتت.
وفجـأة بـدأت النسـوة يف الحديـث يف نفـس الوقـت عـن بنـت الحلاَّ ق،
الحلق نفسـه ،عـن زوجته وعن املرحومـة والدته (أغـرق الله عظامها َّ عـن
رشفـة حـول هـذه يف نـار جهنـم!) .تذكَّ ـرن قصصـ ًا وأحداثـ ًا كثيرة غير ُم ِّ
يتخيـل املـرء أن َّ
الحلاق وزوجتـه وبنتـه يشـكِّ لون َّ األرسة .عنـد سماعهن
189
معـ ًا حثالـة املجتمـع ،وبـأن الـكالب نفسـها لـن تكلِّـف نفسـها عنـاء نهـش
إن تركـت يف العـراء بعـد موتهم .كانـوا بالكاد ينتمـون إىل الجنسجثثهـم ْ
أمـة ِ
ومحـال أن يحسـبوا يف عـداد املسـلمني! ومبـا أنـه ال توجـد ّالبشريُ ،
ّ
على وجـه األرض أكثر كرمـ ًا وتسـامح ًا مـن أمـة سـيدنا محمد (عليـه أزىك
الصلاة والسلام) ،فإن مثل هذه األرسة ال يجـوز أن تدخل يف ِعداد جمهور
األمـة ،وال أن تعيـش بين اليهـود والنصـارى الذيـن لـن يقبلوهـا حت ً
ما بين ّ
ظهرانيهم!
واحتـدت حناجرهـن .وكان صوت
َّ ارتفـع ضجيـج النسـوة بهذا الحديـث
سلامة يهـدر مثـل الرعـد ،وأصـوات األخريـات ترافقـه فيما يشـبه عصـف َّ
الريـح أو انحـدار ميـاه السـيول الجارفـة وتطويـح العواصف بأوراق الشـجر
يف بدايـة الخريـف.
مخيلتـي دون أن يترك عليهـا أثراً.
ِّ كان كلّ مـا يقلنـه ينزلـق على سـطح
فما كنـت أفهـم معـاين جميـع كالمهـن .ومـا كان يهمنـي أن أفهمهـا ،بـل
ينصـب على طريقـة النطـق عندهـن وإيقاعـه وموسـيقاه ّ كان كلّ تركيـزي
التـي أخـذت بهـا إىل درجـة أننـي نسـيت أننـي أمسـك كأس شـاي يف يـدي
ركبتـي .لحظتهـا توقَّـف الحديـث بين النسـوة
ّ فانزلـق منـي وأهرقتـه على
صمـت مخيـف .كانـت املفاجـأة والغضـب ٍ فنظـرن جميعهـن باتجاهـي يف
علي .فكَّ رت يف البحث عـن عذ ٍر مقبول
يغليـان يف جميـع العيـون املركِّ زة َّ
على فعلتـي فلـم أجد شـيئاً ،أدركـت أن البكاء نفسـه لن ينفعنـي ،فرفعت
وجهـي إىل السـقف وزفـرت زفـر ًة قويـة.
190
الفصل الثاين عرش
191
الـورد ُتشـكِّ ل عنـدي معنـى ملموسـ ًا أقـرب للفهـم .توصلـت ،بعـد طـول
يتوجـب على كلامت األغـاين أن يكون لهـا معنى واضح. َّ تفكير ،إىل أنـه ال
وعقـدت العـزم على أن أكتـب أغـاين الحقـاً ،طاملـا أن األمر يبدو بسـيطاً.
أتحـدث ،يف
َّ قـدرت أننـي أعـرف كلمات كافيـة قد تفـي بالغـرض .نويت أن
ين املسـتقبلية ،عـن الليـل ووجـه يشـبه جمال القمـر ،وأسـنان مثـل أغـا َّ
جواهـر معقـودة يف خيـط مـن حريـر ،وشـفاه ورد أو مرجـان .تطلَّب األمر
العثـور على اسـم امـرأة أنسـب لهـا كلّ هـذه األوصـاف ،فما هـو اسـم
إن اخرتت اسـم عائشـة املـرأة الالئـق لذلـك؟ فكَّ رت طويلاً يف املوضوعْ ،
فسـتبدو بالضرورة امـرأة بدينـة وثرثـارة مثل اللة عائشـة صديقـة والديت.
كانـت رحمـة تقطـن معنـا الـدار نفسـه ،ومـا كانـت توحـي يل بإمكانيـة
ربا بوصـف مـن هذه األوصاف .زبيدة هو اسـم والـديت ،لكن ٍَّ تحلِّيهـا يومـ ًا
يكـن مـن الالئـق أن يضـع اإلنسـان اسـم والدتـه يف أغنيـة .زينـب ُتثير مل ْ
أمـا رحمـة فأبرصها من النافـذة تعجن خبزها ،وال ميكـن أن يتغ َّنى حنقـي! ّ
اإلنسـان بامـرأة منحنيـة تعجـن الخبـز داخـل إنـاء فخـاري على األرض!
ربـا يحسـن يب أن أختـار اسـم زهـور أو خديجـة ،وزهـور هـو االسـم
َّ
األفضـل:
مخيلتي!
ِّ ذكرى صورتها الجميلة تراود
وفم جميل البسمة!
مزين صبوح ٌ
وجه َّ
ٌ
مبجرد تذكُّ ر أن يديها قد المستهام!
َّ تحمران
َّ وجنتاي
كانـت صـورة زهـور ،التـي تعـرف الكثير عـن أرسار بنـت الحلاَّ ق سـيدي
مخيلتـي.
ِّ عبـد الرحمـن ،تسـكن
رشعـت رحمـة يف الغنـاء أيضـاً .كانـت كلمات أغنيتهـا تسـتدر عطـف
تكـن هزيلـة وال عانـت يومـ ًا مـن
ْ األوليـاء وتشـكو مـن األرق والهـزال .ومل
األرق! بـل كانـت تغـط يف النـوم ومتلأ غرفتهـا شـخري ًا إىل َح ِّ
ـد أن األطبـاق
الخزفيـة تتزعـزع يف مطبخهـا ،مـن فـرط شـخري صاحبتهـا!
ٍ
شـخص ما تشـبه نجوم ًا تتحدث عن عيون
َّ تتمـة أغنيتهـا التـي
مل أفهـم َّ
192
مقوسـة مثل السـيوف.
تعلوها حواجب َّ
الشـوافة ورحمـة زوجـة صانـع املحاريـث قـد فتحتـا بـاب َّ كانـت كنـزة
الغنـاء فتبعتهما إليـه فاطمـة البزيويـة .وانضـاف للجوقـة صـوت والـديت
تقـوى شـيئ ًا فشـيئاً ،قبـل أن ميلأ الـدارَّ .
قـررت أن ثـم َّ الـذي بـدا خجـو ً
ال ّ
خاصة وأن األمـر ال يتط َّلب رشوطـاً وال قواعد،
ّ أشـارك يف اإلنشـاد بـدوري،
يتلخـص يف عبارتين« :يـا ليـل! يا
كان كلّ ينشـد مـا يروقـه .وكان مـا أغنيـه َّ
قمر!».
بغـض النظـر عـن محدوديـة الكلمات ،فإننـي أقسـم بأغلـظ اإلميـان
أن التنويعـات التـي أضفيتهـا عليـه تسـتحق أن تبقـى يف األذهـان ،رغـم
البشري العـادي أن يسـجل مجمـوع التغييرات
ّ أنـه يصعـب على العقـل
املزاجيـة والشـقلبات اإليقاعيـة املفاجئـة التـي أنتجتهـا يف تلـك اللحظـة
ُتحـررة مـن الهذيـان الغنـايئ!
امل ِّ
وسـط هـذا الجـدل العـام الـذي عـززه الطقـس الربيعـي الدافـئ تحـت
شـمس أبريـل ،سـمعنا فجـأة طرقـ ًا قويـ ًا على بـاب الـدار .صاحـت رحمـة:
ـن الطارق؟
َم ْ
أجابهـا صـوت طفـويل رقيـق يـكاد يشـبه مـواء قطـة .توثَّبـت مـن أثـر
الفضـول ،امتقـع لـوين وأطللـت مـن نافذتنـا .دعـت الخالـة كنـزة الطفـل
للدخـول إىل الفنـاء .بعـد هنيهة ،حسـبتها دهراً ،دخل املـكان طفلٌ بعمر
الثانيـة عشرة .إنـه علال اليعقـويب ،زميلي يف الكُ َّتـاب .أُصبـت بالهلـع،
وقفـزت أبحـث عـن مخبـأ خلـف الرسيـر .كانـت أوصـايل ترتعـد وأسـناين
تصطـك داخـل فمـي من الفـزع ،والبرودة تغىش صـدري الصغير وتغلِّفه
تحدثـت والـديت للطفـل الزائر، كأنهـا تنـوي أن تسـتقر بـه إىل أبـد اآلبديـنَّ .
سـمعتها تقـول لـه:
تحسـنت صحتـه ،اشـكر الفقيـه على اهتاممـه بتلميـذه ،لكـن أرجـو َّ -
أن تخبره أن حالـة سـيدي محمـد ال تسـمح لـه بعـد بالعـودة إىل مقاعـد
أبـواب العلـم!
َ الـدرس ،اذهـب يـا ولـدي ،فتـح اللـه لـك
193
نادتني والديت:
-سيدي محمد ،أين أنت؟
مل أجبها فتو َّترت أعصابها:
-أين أنت يا ابن الكلب؟ ِل َم ال تجيب؟
كنت عاجز ًا عن الجواب فلذت بالصمت.
بـدأت والـديت يف رفـع عقريتهـا باللـوم والتقريـع ،شـاكية مـن عنـادي،
وداعية أهل الدار ،وسـكان الحارة ،وجمهور املسـلمني ،أن يكونوا شـهود ًا
عىل مـا تقاسـيه معي!
-مـا أقسى القـدر الـذي يفـرض على امـرأة مسـكينة أن تعيـش دون
زوجهـا رفقـة ولـد لـه رأس بغـل عنيـد .ال سـلَّط اللـه مثـل هـذا القـدر على
عـدو ،ولـو كان يهوديـ ًا أو نرصانيـاً! مـاذا جنيت حتى أسـتحق هـذا العناء يا
اللـه! ارحمنـي يـا اللـه مـن هـذا الحال!
194
-توقَّفي عن قول ما ال تعرفني أيتها الكذَّ ابة الصغرية!
-رأيـت ّبـا عبـد السلام يف الشـارع قـرب بائـع الدقيـق ،غير بعيـد عـن
ويتحـدث مـع رجـلٍ
َّ جامـع شـجرة الالرنـج .كان يحمـل يف يـده دجاجتين
ٍ
وجـه طويـل مثـل إبريـق... ريفـي ذي
ضحكت كنزة من داخل غرفتها وقالت:
-إذا كان مـا تحكيـه زينـب صحيحـاً ،فنحـن سـعداء بعـودة املعلـم
عبدالسلام ونتم َّنـى لـه مقامـ ًا طيبـاً.
تقـل والـديت شـيئاً ،بـل عـادت إىل غرفتهـا وقـد انتابتهـا حالـة مـن
مل ْ
السرور أعجزتهـا عـن الحركـة والنطـق ،كانـت تسـبح يف الهنـاء.
السـلَّم دون أن أدري فعلاً إىل أيـن اتجـه .وما إن
ارمتيـت نحـو درجـات ُ
قطعـت عشر ًا مـن الدرجـات حتـى سـمعت صـوت والـدي يرتفـع نحونا من
الطابق السـفيل:
-أيوجد أحد يف املدخل؟هل بإمكاين املرور؟
الشوافة:
َّ ردت كنزة
َّ
ردك الله
-تفضـل بالدخـول أيهـا املعلم عبد السلام ،هذا يوم مبـارك َّ
فيه سـامل ًا إىل أرستك ،شـكر ًا للـه عىل عودتك!
أجاب والدي:
-بارك الله فيك عىل متمنياتك الطيبة.
عـدت أدراجـي مرسعـاً ،كنـت أريـد رؤيتـه يدخـل الغرفـة علينـا .بدا يل
معتما غير مناسـب ألن يسـتقبل فيه اإلنسـان أبـاه بعد هذه ً السـلَّم مكانـ ًا
ُ
تتحـرك
َّ مل الغرفـة مـن مكانهـا نفـس يف والـديت وجـدت الطويلـة. الغيبـة
أكـن بكامـل اللياقـة.
مل مـا ،بـدوري مل ْ منـه .بـدا يل كما لـو أنهـا تحـس بـأ ٍ
تـردد صوتيـداي قليالًَّ .
ّ سـالت على جبهتـي قطـرات عرق بـارد واضطربـت
ثـم أغلق ظلُّـه بـاب الغرفة:
خطـوات والـدي على أرضيـة طابقنـاّ ،
195
-السالم عليكم.
ردت الوالدة:
َّ
-وعليكم السالم ،هل كانت رحلة مريحة؟
-كانـت رحلـة طيبـة وموفقـة بحمـد اللـه! تعـال هنـا ألراك عن قـرب يا
سـيدي محمد!
اقرتبـت مـن والـدي فوضـع الدجاجتين أرضـاً ،كانـت أقدامهما مربوطة
برشيـط مـن دوم فبدأتـا يف الصيـاح لشـعورهام بالذعـر .بـدت يل صـورة
الفخـار ،وهو
َّ متغيرة عـن سـابق حالتهـا .كان وجهـه قد اكتىس لـون ِّ والـدي
مـا أثـار اسـتغرايب .كانـت تفـوح مـن جلبابـه روائح التراب والعـرق وفضالت
مـرر يديـه تحـت إبطـي ورفعنـي ألصبـح مبواجهـة عاممتـه البهائـم .عندمـا َّ
استرجعت ثقتـي يف نفسي وبـدأت بالضحـك .خرجـت والـديت بدورهـا مـن
حالـة الجمـود وضحكـت .حملـت الدجاجتين إىل املطبـخ ،عـادت لتسـاعد
يتضمـن بيضـاً .أفرغـت خراجـه مـن آنيـة َّ قبـه الـذي كانوالـدي على إفـراغ ّ
زبـد بلـدي وقنينـة زيت زيتـون وقطعة فطائر قرويـة من سـميد .انتابتها فورة
وتتحـرك مينة ويرسة َّ مـن النشـاط فبـدأت تر ِّتـب املقتنيـات ،تنفخ عىل النـار
وتتحـدث دون انقطـاع .كنـت جالسـ ًا على ركبـة الوالـد أحكي له مـا مررنا به َّ
أحـداث جسـام خالل غيابـه .كنت أحيك ذلـك بطريقتـي ،دون ترتيب وال ٍ مـن
تسلسـل ،وال خضـوع لحقيقـة الوقائـع ،دون املنطـق الـذي يجعـل روايـات
ٍ
حـدث آلخر، األشـخاص الكبـار رتيبـة فاقـدة للنكهـة والحس .كنـت أقفز من
أضخـم تفاصيـل وأصنـع أخرى عند الحاجـة ،وعندما تحـاول والديت التدخل ِّ
لتصويـب يشء مـا يف روايتـي يطلـب الوالـد منهـا أن ترتكنـا لحالنـا.
سـمعنا أصـوات الجيران تتم َّنى لنا اسـتمرار سـعادتنا ،وزغردت نسـوة
أخريـات مـن قاطنات الدور املجاورة للتعبري عن مشـاركة فرحتنا ،شـكرت
والـديت الجميـع بعباراتها املعتادة.
العـواد مـن عملـه فأخربتـه زوجتـه بحـدث اليـوم .نادانـا
َّ عـاد إدريـس
مـن غرفتـه:
196
-سعدنا كثري ًا بعودتك إىل أهلك أيها املعلم عبد السالم!
-اصعد إلينا يا إدريس!
سـن والدي ،فكالهما قارب نهايةكان إدريـس صانـع املحاريث بنفس ِّ
األربعينـات .وكانـت بين الرجلين عرش ٌة قدميـة ،كام كانا يتبادالن مشـاعر
العـواد إىل غرفتنا.
االحترام .صعد إدريس َّ
بعـد التحيـة املتعـارف عليهـا تجـاذب الرجلان أطـراف الحديـث.
خاضـا يف مواضيـع عـن جـودة محاصيـل العام ،عن أسـعار املـواد وأخبار
األصدقـاء املشتركني.
قال إدريس لوالدي:
وربـا أن أهـل دارك ال يعرفـون أيضـ ًا
-هـا قـد عـدت للتـو إىل فـاسَّ ،
بالخبر ،ولكـن طلاق موالي العـريب من بنت الحلاَّ ق فد نطق بـه يوم أمس
أمـام كاتبـي العدل!
-الحمـد للـه! سـيتم َّكن مـوالي العـريب أخير ًا مـن اسـتعادة الراحـة
والهـدوء .عرفـت منـذ البدايـة أنهـا ليسـت ّإل نـزوة عابـرة .أليـس جنونـ ًا أن
ٍ
وقـت واحـد؟ فاإلنسـان م ّنـا يعتقـد الرجـل أنـه يسـتطيع قيـادة ركابين يف
يسـتطيع بالـكاد التفاهـم مـع زوجة واحـدة .لقد خاض مـوالي العريب هذه
ُـرة ،وأظ ُّنهـا سـتنفعه ،هـا قـد عاد إىل رشـده ليصبـح من جديد التجربـة امل َّ
مثـل النـاس العاديين ،لنحمـد اللـه على ذلك!
سمعت صوت والديت:
-سيدي محمد! تعال لتحمل صينية الشاي إىل مجلس الرجال!
ذراعـي الصغريتين من
ّ نفـذت أوامرهـا وحملـت الصينيـة الثقيلـة على
املطبـخ إىل حيـث يجلـس الرجلان .شـعرت بالزهـو من قدريت على ذلك.
صـب والدي الشـاي.
َّ
تحـول إىل همهمـة غير
َّ اسـتمر الحديـث بين والـدي وضيفـه .لكنـه
ّ
197
مفهومـة بالنسـبة يل .اجتـاح التعـب أطرايف ،شـعرت بالحـزن والعزلة .ال!
ال أريـد النـوم ،ال أريـد البـكاء .فلي ،أنـا أيضـاً ،أصدقـاء كثر يسـتطيعون
مشـاركتي الفرحـة .أخرجـت صنـدوق العجائـب من تحـت الرسيـر ،فتحته
متنوعـة مـن األحلام تنتظـرين داخلـه.
ِّ بتـؤدة وإجلال ،كانـت أشـكال
198
الفهرس
201
صدر يف سلسلة
2011
عبد الرحمن الكواكبي طبائع االستبداد 1
غسان كنفاين برقوق نيسان 2
سليامن فياض األمئة األربعة 3
عمر فاخوري الفصول األربعة 4
عيل عبدالرازق اإلسالم وأصول الحكم -بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم 5
نبي
مالك بن ّ رشوط النهضة 6
محمد بغدادي صالح جاهني -أمري شعراء العامية 7
2012
أبو القاسم الشايب نداء الحياة -مختارات شعرية -الخيال الشعري عند العرب 8
سالمة موىس حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ
ّ 9
ميخائيل نعيمة الغربال 10
الشيخ محمد عبده واملدنية
ّ اإلسالم بني العلم 11
بدر شاكر السياب أصوات الشاعر املرتجم -مختارات من قصائده وترجامته 12
الطاهر حداد امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع 13
طه حسني الشيخان 14
محمود درويش ورد أكرث -مختارات شعرية ونرثية 15
توفيق الحكيم يوميات نائب يف األرياف 16
عباس محمود العقاد عبقرية عمر 17
عباس محمود العقاد الصديق
ّ عبقرية 18
عيل أحمد الجرجاوي/صربي حافظ رحلتان إىل اليابان 19
2013
ميخائيل الصقال لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية) 20
د .محمد حسني هيكل ثورة األدب 21
ريجيس دوبريه يف مديح الحدود 22
اإلمام محمد عبده السياسية
ّ الكتابات 23
عبد الكبري الخطيبي نحو فكر مغاير 24
روحي الخالدي تاريخ علم األدب 25
عباس محمود العقاد عبقرية خالد 26
خمسون قصيدة من الشعر العاملي أصوات الضمري 27
يحيى حقي مرايا يحيى حقي 28
عباس محمود العقاد عبقرية محمد 29
حوار أجراه محمد الداهي عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب 30
مجموعة مؤلفني العربية
ّ فتاوى كبار الك ّتاب واألدباء يف مستقبل اللّغة 31
2014
ترجمة :رشف الدين شكري عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد) 32
خالد النجار عامليني)
ّ ِساج ُّ
الرعاة (حوارات مع كُ تاب 33
ترجمة :مصطفى صفوان مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه) 34
د.بنسامل ِح ّميش سريت ابن بطوطة وابن خلدون
َ عن 35
ابن طفيل حي بن يقظان -تحقيق :أحمد أمني 36
ميشال سار اإلصبع الصغرية -ترجمة :د.عبدالرحمن بوعيل 37
محمد إقبال محمد إقبال -مختارات شعرية 38
ترجمة :محمد الجرطي (تأمالت يف الحضارة ،والدميوقراطية ،والغريية)
تزفيتان تودوروف ُّ 39
أحمد رضا حوحو مناذج برشية 40
د.زيك نجيب محمود الرشق الف ّنان 41
ترجمة :يارس شعبان تشيخوف -رسائل إيل العائلة 42
مختارات شعرية إلياس أبو شبكة «العصفور الصغري» 43
2015
األمري شكيب أرسالن ملاذا تأخر املسلمون؟ وملاذا تقدم غريهم؟ 44
عيل املك مختارات من األدب السوداين 45
ُجرجي زيدان رحلة إىل أوروبا 46
د.عبدالدين حمروش عباد يف سنواته األخرية باألرس
بن َّ
ُعتمد ُ
ُ امل 47
سالمة موىس تاريخ الفنون وأشهر الصور 48
إيدوي بلينيل -ترجمة :عبداللطيف القريش من أجل املسلمني 49
يوسف ذَ نّون زِينة املعنى (الكتابة ،الخط ،الزخرفة) 50
أحمد فارس الشدياق الواسطة يف معرفة أحوال مالطة 51
دُ .محسن املوسوي النخبة الفكرية واالنشقاق 52
إيزابيل إيربهاردت ياسمينة وقصص أخرى 53
ترجمة وتقديم :بوداود عمري آباي (كتاب األقوال) 54
ترجمة :عبدالسالم الغرياين مأساة واق الواق 55
2016
محمد محمود الزبريي والفن والحضارة)
ّ واملد (صفحات يف اللّغة واآلداب
ّ بني الج ْزر 56
مي زيادة ظلّ الذّ اكرة (حوارات ونصوص من أرشيف «الدوحة») 57
قسم التحرير «مجلّة الدوحة» املرصية ( )1932تحقيق :رشيد العفاقي
ّ الرحلة الف ّنية إىل الديار 58
أليكيس شوتان -تعريب :عبد الكريم أبو علو قيرص وكليوبرتا 59
إسامعيل مظهر الصني وفنون اإلسالم 60
ترجمة :مي عاشور (مختارات ِش ْع ّ
رية للكاتب الصيني وانغ جو جن) براعم األمل ُ
ُ 61
محمد العرويس املطوي ال ّتوت امل ُّر 62
غونار إيكليوف درب الغريب 63
أحمد حافظ بك من والد إىل ولده 64
بول ُبورجيه التلــــميذ 65
تقديم وترجمة :طه باقر ملحمة جلجا ِمش
َ 66
الشيخ مصطفى الغالييني أريج ال ّزهر
ُ 67
2017
محمد فريد سيالة
ّ اعرتافات إنسان 68
الطيب صالح مريود 69
عبدالله كنون املقاالت الصحفية 70
نجيب محفوظ قصص قصرية 71
إبراهيم الخطيب بول بولز -يوميات طنجة 72
سالمة موىس الحياة
فن َّ 73
خري الدين التونيس ك ِف َم ْع ِرف َِة َأ ْح َوالِ ال َْم َم ِل ِ
ك َأق َْو ُم ال َْم َسا ِل ِ 74
أحمد أمني َ
األخلق كتاب 75
فدوى طوقان ر ِْحلَةٌ َج َب ِل َّيةٌ ر ِْحلَةٌ َص ْع َبة 76
مجموعة من الكتاب ري ُة ِف قَطَ ر)
ص َصةُ الْقَ ِ
ارات ِمن َا ْل ِق َّ
(مخ َت َ ْ
ـطاف ُ ِق 77
جول غابرييل فرين ،ترجمة :يوسف اليان رسكيس الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية (من رشقي إفريقية إىل غربيها) ج1 : 78
جول غابرييل فرين ،ترجمة :يوسف اليان رسكيس الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية .ج2 : 79
2018
إسحق موىس الحسيني مذكرات دجاجة 80
نورمان ج .فينكلستاين -ترجمة :أحمد زراقي ماذا يقول غاندي عن الالعنف واملقاومة والشجاعة؟ 81
د .نزار شقرون نشأة اللوحة املسندية يف الوطن العريب 82
إس .إس .بيو -ترجمة :يعقوب رصوف -فارس منر والعظَ َم ِء الق َُدماء ِمن ِس َي ا َ
ألبْطَ ال ُ 83
إغناطيوس كراتشكوفسيك العريب
ّ مقاالت ِف األدب ٌ 84
صوف
صموئيل ساميلز -ترجمةَ :يعقُوب َ ُّ ِ ُّ
س ال َّن َجاحِ 85
ُم َعاو َِية ُم َح َّمد ُنور ِم ْن آثَا ِر ُم َعاو َِية ُم َح َّمد ُنور 86
أحمد الهاشمي الع ْ ِ
ص َّية ات َ اء املُكَ ات ََب ِ
ِنش ُ
إ َ 87
ترجمة :عبدالرحمن الخمييس وآخرين السوفْيي ِّتي ارات ِم َن ِّ
الش ْع ِر ُّ أجراس أكتوبر ُ -م ْخ َت ٌ 88
اختارها وترجمها :جربا إبراهيم جربا حكايات من الفونتني 89
ألبريطو مانْغيل -ترجمة :إبراهيم الخطيب مع بورخيس 90
لوسيان جولدمان ،ناتايل ساروت ،آالن روب الرواية الجديدة والواقع 91
غرييه ،جينفياف مويلو .ترجمة :رشيد بنحدو
2019