You are on page 1of 208

‫صندوق العجائب‬

‫‪95‬‬
‫مجانًا مع العدد (‪ )138‬من مج َّلة «الدوحة» ‪ -‬أبريل ‪2019 -‬‬
‫ُي َوزَّع ّ‬

‫عنوان الكتاب‪ :‬صندوق العجائب‬


‫املؤلف‪ :‬أحمد الصفريوي ‪ -‬ترجمة‪ :‬رشيد مرون‬

‫النارش‪ :‬وزارة الثّقافة والرياضة ‪ -‬دولة قطر‬


‫رقم اإليداع بدار الكتب القطرية‪:‬‬
‫الرتقيم الدويل (ردمك)‪:‬‬

‫الفنّي ‪ -‬مج ّلة الدوحة‬


‫اإلخراج والتصميم‪ :‬القسم َ‬
‫لوحة الغالف‪( Guy ROSSEY :‬فرنسا)‬

‫هذا الكتاب‪:‬‬
‫عب عن آراء مؤ ِّلفه‪ ،‬وال ُي ِّ‬
‫عب ‪-‬بالرضورة‪ -‬عن رأي وزارة الثّقافة والرياضة أو مج ّلة الدوحة‬ ‫ُي ِّ‬
‫أحمد الصفريوي‬

‫صندوق العجائب‬

‫ترجمة‬
‫رشيد مرون‬

‫رواية‬
‫تقديم‬

‫املـكان‪ ،‬مدينـة فـاس املغربيـة‪ ،‬التـي يرجـع تاريـخ تأسيسـها إىل‬


‫سـنة ‪789‬م املوافـق لــ ‪ 172‬هــ‪ .‬الزمـان‪ :‬فترة االسـتعامر الفرنسي‬
‫للمغـرب مـن ‪ 1912‬إىل ‪ .1956‬مبوجـب ظـروف االحتلال التـي تطلَّبـت‬
‫تـم إنشـاء مـدارس فرنسـية مبـوازاة‬
‫تعزيـز اإلدارة مبوظفين محلِّيين‪ّ ،‬‬
‫مـع التعليـم الدينـي التقليدي الذي كان سـائد ًا يف البلاد‪ .‬من رحم هذه‬
‫االزدواجيـة‪ ،‬التـي فرضـت على مجموعـة مـن أبنـاء املغـرب األقصى‬
‫تل ّقـي تكويـن يقترص على اللُّغة األجنبية فقـط‪ُ ،‬ولدت الروايـة املغربية‬
‫املكتوبـة بالفرنسـية‪ .‬وصـدرت باكـورة هـذا اإلنتـاج يف سـنة ‪:1954‬‬
‫روايتـا «املايض البسـيط» إلدريـس الرشايبـي (‪ ،)2007-1926‬و«صندوق‬
‫العجائـب» ألحمـد الصفريـوي (‪ .)2004-1915‬كاتبـان مـن فـاس‪ ،‬مـن‬
‫الجيـل نفسـه تقريبـاً‪ ،‬هاجـر َّ‬
‫األول منهما إىل فرنسـا إىل أن مـات بهـا‪،‬‬
‫وظـلّ الثـاين باملغـرب‪ .‬كتـب كلّ منهما‪ ،‬وفـق منظـوره‪ ،‬عـن مدينتـه‬
‫العريقـة‪ ،‬ومجتمعهـا التقليـدي‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫ومـن املفارقـة الكاشـفة أن القـدر األكبر مـن النقـد واالهتمام‬
‫والشـهرة (والرتجمـة أيضـاً) كان مـن نصيـب إدريـس الرشايبـي‪ ،‬بسـبب‬
‫التمـرد السـيايس واالجتامعـي الـذي حفلـت بـه روايـة «املايض‬ ‫ُّ‬ ‫شـحنة‬
‫السـلطوية الذكوريـة وللعقليـات‬ ‫ُّ‬ ‫البسـيط» يف نقدهـا للعالقـات‬
‫املحافظـة داخـل املجتمـع التقليـدي‪ ،‬يف حين ذهـب مجموعـة مـن‬
‫ال ُن َّقـاد إىل اتهـام روايـة الصفريـوي «صنـدوق العجائـب» باإلفـراط يف‬
‫تقديـم الجوانـب اإلثنوغرافيـة النمطية عن البيئـة املحل ِّّية ألعني القارئ‬
‫املتشـوق لصـورة عـامل رشقـي منكفئ عىل نفسـه‪ ،‬وفـق الرؤية‬ ‫ِّ‬ ‫الغـريب‬
‫االسـترشاقية املعروفـة‪.‬‬
‫والحقيقـة أن مثـل هـذه األحـكام بعيـد ٌة عـن الصـواب مجانبـةٌ‬
‫النـص‬
‫ّ‬ ‫للحقيقـة‪ ،‬بـل وظاملـةٌ لروايـة «صنـدوق العجائـب»‪ ،‬هـذا‬
‫ُؤسـس للروايـة املغربيـة‪ ،‬الذي كُ تب يف سـنة ‪ ،1952‬وصـدر عن دار‬ ‫امل ِّ‬
‫النشر الباريسـية العريقـة (لوسـوي) سـنة ‪ ،1954‬سـنتني قبل اسـتقالل‬
‫رس القيمـة الف ِّن ّيـة‬ ‫املغـرب سـنة ‪ .1956‬لـذا يجـدر بنـا أن نتسـاءل عـن ّ‬
‫ُتفـردة التـي مكَّ نـت هـذه الرواية مـن عبور مسـافة زمنية‪ ،‬تزيـد اليوم‬ ‫امل ِّ‬
‫الشـعرية‬
‫ّ‬ ‫خمـس وسـتني سـنة‪ ،‬محتفظـة بقـد ٍر عالٍ مـن النضـارة‬ ‫ٍ‬ ‫على‬
‫متجـددة مـن متعـة‬ ‫ِّ‬ ‫ُهتمين شـحنةً‬ ‫والنفسـية‪ ،‬لتمنـح امل ِّ‬
‫ّ‬ ‫والبرصيـة‬
‫ّ‬
‫اكتشـاف جوانـب من حيـاة املجتمع التقليـدي داخل أسـوار مدينة مثل‬
‫فـاس العريقـة بتاريخهـا وتقاليدهـا وعمقهـا الحضـاري املبهـر للقـارئ‬
‫رس هـذه النضـارة الف ِّن ّيـة‬
‫والغـريب كليهما‪ .‬ويف تقديرنـا‪ ،‬فـإن ّ‬ ‫ّ‬ ‫العـريب‬
‫ّ‬
‫املكونـات التـي شـكَّ لت الخلطـة السـحرية‬ ‫ِّ‬ ‫مـن‬ ‫كبير‬ ‫ٍ‬
‫عـدد‬ ‫على‬ ‫يتـو َّزع‬
‫ُؤسـس‪ ،‬والتـي سـنحاول لفـت النظر‬ ‫األديب امل ِّ‬
‫ّ‬ ‫النـص‬
‫ّ‬ ‫الكامنـة وراء هـذا‬
‫املكونـات هـي كونهـا‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫هنـا ملجموعـة محـدودة منهـا‪ ،‬ولعـلّ أوىل هـذه‬

‫بلقطة ذات داللـة‪ :‬تكليف ّ‬


‫األم لولدها‬ ‫ٍ‬ ‫تنتهـي رواية أحمـد الصفريوي‬
‫البالـغ من العمر سـت سـنوات بتوصيل كؤوس الشـاي مـن مطبخها إىل‬
‫ُهمـة‬
‫«مجلـس الرجـال»‪ ،‬حيـث يسـتقبل األب ضيفـاً‪ .‬يقـوم الطفـل بامل ِّ‬
‫تدشـن أخير ًا ملرحلـة خروجه من بين تالبيب‬‫ربـا لوعيـه أنها ِّ‬
‫بخيلاء‪َّ ،‬‬

‫‪6‬‬
‫النسـاء‪ ،‬وقبولـه يف رحـاب املجتمـع التقليـدي الذكوري بطبعـه‪ّ .‬إل أن‬
‫عـرف‬‫النـص‪ ،‬املنتمـي إىل نطـاق مـا أصبـح ُي َ‬
‫ّ‬ ‫ذلـك يكشـف أيضـ ًا أن هـذا‬
‫نـص يحكي عـن حيـاة النسـاء يف‬ ‫الحقـاً بالتخييـل الـذايت‪ ،‬إمنـا هـو ٌّ‬
‫املجتمـع املغـريب التقليدي يف ذلك الزمـن املُبكِّ ر خالل النصف َّ‬
‫األول‬
‫مـن القـرن العرشيـن‪ .‬إضافـة إىل البطـل الصغير الـذي يتوفَّـر‪ ،‬حسـب‬
‫تعبيره‪ ،‬على «ذاكرة من شـمع رهيف تنطبع عليها األحـداث يف صور ال‬
‫تنمحـي بعـد ذلـك أبـداً»‪ ،‬فإن الروايـة تتمحور حـول حياة وجوه نسـائية‬
‫مؤ ِّثـرة ذات حضـو ٍر إنسـاين ونفسي بديـع‪ .‬وهـذه الشـخصيات هـي ّ‬
‫األم‬
‫اللـة زبيـدة‪ ،‬وصديقتهـا اللـة عائشـة‪ ،‬وجاراتها فاطمـة‪ ،‬ورحمـة وكنزة‪،‬‬
‫نتعـرف على حياتهـن اليوميـة ومشـاكلهن وأحالمهـن‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وغريهـن‪ .‬نسـاء‬
‫وعقلياتهـن السـاذجة البسـيطة املنسـجمة مـع مجتمـع يحكمـه‬
‫املـوروث الشـفوي‪ ،‬وعـادات األسلاف‪ ،‬التـي كانـت سـائدة لحظتهـا‪ .‬إذ‬
‫نتخيـل أن األحـداث تـدور يف‬‫َّ‬ ‫ـد سـنة ‪ ،1915‬وميكننـا أن‬ ‫إن الكاتـب ُو ِل َ‬
‫زمـن طفولتـه يف العرشينيـات من القـرن املايض‪ .‬إضافة لذلك‪ ،‬ترسـم‬
‫«ذاكرة الشـمع» صور ًا ومالمح نفسـية للنسـوة املذكورات تجعل منهن‬
‫بـأول روايـة مغربية مـن الناحيـة الزمنية‪،‬‬‫فعلاً ‪ ،‬ورغـم أن األمـر يتعلَّـق َّ‬
‫الخاصـة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وتتطـور بفعـل تناقضاتهـا‬
‫َّ‬ ‫شـخصيات روائيـة إشـكالية تعيـش‬
‫تعثر أحالمهـا عىل صخر الواقع‪ ،‬دون السـقوط يف تبسـيط‬ ‫وتعـاين مـن ُّ‬
‫كاريكاتيري لتهميـش املـرأة وتسـلُّط الرجـل يف إطـار مجتمـع ذكـوري‬
‫تقليـدي‪ .‬على العكـس مـن ذلـك‪ ،‬يرسـم السـارد صـورة حضـور نسـايئ‬
‫يتحـول إىل قـو ٍة جارفـة بفعـل غيـاب الرجل‪ ،‬وسـعي املـرأة إىل النجاح‬ ‫َّ‬
‫يف الكسـب والحـب واسـتقرار عـش الزوجية كأبـرز هاجس يراود نسـاء‬
‫متوسلات إىل ذلـك مبـا تعـارف عليـه أنـاس ذلـك‬ ‫ِّ‬ ‫املجتمـع التقليـدي‪،‬‬
‫العرافين‬
‫َّ‬ ‫تتضمـن اللجـوء لخدمـات‬ ‫َّ‬ ‫الزمـن مـن معتقـدات خرافيـة‬
‫والعرافـات‪ ،‬وزيـارة األرضحـة واملقامـات‪ ،‬وتقديـم النـذور والتشـفُّع‬ ‫َّ‬
‫مبقامـات األوليـاء والصلحـاء‪.‬‬
‫ويبـدو أن جـزء ًا كبير ًا من متعـة القـراءة ينتج عن قدرة السـارد عىل‬
‫نقـل القـارئ إىل داخـل العـامل الحرميـي التقليـدي املغلـق يف وجهه‪،‬‬

‫‪7‬‬
‫ليكتشـف كيـف عـاش املجتمع النسـايئ يف هـذه الفرتة موضـوع الحب‬
‫ً‬
‫ناظما ألحالمـه‪ ،‬كيف عاىن واشـتىك من «غـدر الرجال»‪،‬‬ ‫وجعلـه خيطـ ًا‬
‫ولكـن أيضـ ًا كيـف َّ‬
‫أحبـت املـرأة التقليديـة رجلهـا ودافعـت عنـه يف‬
‫لحظـات ضعفـه وهوانـه النفسي واملـادي واالجتامعـي‪ ،‬إىل درجـة أن‬
‫أهـم مـن دوره يف رعاية عـش األرسة وحاميتها من‬
‫ّ‬ ‫لعبـت‪ ،‬أحيانـاً‪ ،‬دور ًا‬
‫نوائـب الدهـر وغـدر الزمان‪.‬‬
‫وإذا كان «صنـدوق العجائـب» يجترح عالقـة جديـدة مـع نسـاء‬
‫العـريب التقليـدي‪ ،‬فـإن مـن شـأن ذلـك أن ينعكـس على‬ ‫ّ‬ ‫املجتمـع‬
‫يقدمـه عـن الرجـل األب أيضـاً‪ .‬واملفارقة هنا هي إسـدال‬ ‫التصـور الـذي ِّ‬
‫ُّ‬
‫عالمـات القـوة على الشـخصيات النسـوية مـن ِق َبـل البطـل الرئيسي‬
‫الطفـل الصغير سـيدي محمـد ذي السـت سـنوات‪ ،‬مقابـل تصويـر‬
‫ُتعـددة‪ .‬وهكـذا يعـاين الولـد مـن تسـلُّط‬
‫حـاالت الضعـف الذكـوري امل ِّ‬
‫األم زبيـدة وإدمانهـا على النميمـة والشـجار مـع الجـارات‪ ،‬مقابـل لـوذ‬ ‫ّ‬
‫األب بالصمـت والغيـاب‪ .‬وبغـض النظـر عـن النطـاق األرسي الداخلي‪،‬‬
‫العرافـة‬
‫َّ‬ ‫نجـد الثنائيـة تنطبـق على حضـور شـخصيتني أخريين هما‬
‫العـرايف»‪ .‬نجد الطفـل محمد‬ ‫َّ‬ ‫والعـراف الشـيخ الرضيـر «سـيدي‬ ‫َّ‬ ‫كنـزة‪،‬‬
‫ووالدتـه زبيـدة يرتاحـان لتوقُّعـات الشـيخ الرضير‪ ،‬ألنهام يلمسـان نوع ًا‬
‫مـن االعتراف بالضعـف اإلنسـاين مـن ِق َبلـه‪ ،‬بينما يرتابان من شـخصية‬
‫كنـزة القويـة التـي «تشـبه لبـؤة»‪ ،‬وتقيـم عالقات شـيطانية مـع عفاريت‬
‫تحـرك كوابيـس يف خيـال الصبـي الصغير‪ .‬لعـلّ‬ ‫ِّ‬ ‫الجـن إىل درجـة أنهـا‬
‫الضعـف نفسـه يعتري أيض ًا شـخصية مـوالي العـريب الذي يصبـح مثار‬
‫سـخرية النسـاء‪ ،‬ألنـه «ال ميلـك إمكانيـات إرضـاء نـزوات زوجتـه الثانية‬
‫تزوجهـا بحثـ ًا عـن «إنجـاب‬
‫الحلاق عبـد الرحمـن‪ ،‬التـي َّ‬ ‫َّ‬ ‫الشـابة» بنـت‬
‫ذريـة وليدفـئ عظامـه املُسـ َّنة يف خريـف عمره»‪ ،‬قبـل أن يعـود صاغراً‬
‫إىل حضـن زوجتـه األوىل البدينـة امل ِّ‬
‫ُتقدمة يف العمر‪ ،‬اللة عائشـة التي‬
‫تصبـح نوعـ ًا مـن املعادل للأم املبالغـة يف احتضان هـذا الطفل الكبري‬
‫خاصـة وأنهـا ت َّتصـف بالكـرم املـادي وبتحدرها‬
‫ّ‬ ‫إىل درجـة خنقـه رمزيـاً‪،‬‬
‫ٍ‬
‫حسـب ونسـب‪.‬‬ ‫مـن عائلـة عريقـة ذات‬

‫‪8‬‬
‫والصراع املفترض بين الطفـل‬ ‫إن شـخصية األب الذكـر املهيمـن ِّ‬
‫واألب تتـوارى إىل الخلـف‪ ،‬على عكـس ما جـرت العادة عليـه يف تقاليد‬
‫الروايـة الغربيـة‪ .‬وال تجـد تجسـيد ًا لهـا ّإل يف البعـد االجتامعـي الـذي‬
‫النـص‪ ،‬عبر مالمـح شـخصية الباشـا‬ ‫ّ‬ ‫يتخلَّـل‪ ،‬يف فترات نـادرة‪ ،‬ثنايـا‬
‫يتسـببون يف إفالس مـوالي العريب‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الظـامل والقضـاة الفاسـدين الذيـن‬
‫يف تقلبـات القـدر الـذي يجعـل أب الطفـل السـارد يفقـد‪ ،‬مبحـض‬
‫الصدفـة‪ ،‬رأس مالـه يف السـوق ويضطر للمغـادرة‪ ،‬بعدما خرس مكانته‬
‫نسـاج وصـار مضطـر ًا للعمـل أجير ًا لـدى األغيـار‪.‬‬ ‫االجتامعيـة كمعلـم ّ‬
‫بـل كـم نجـد مؤثـرة بضعفهـا ووفائهـا شـخصية إدريـس األقـرع الشـاب‬
‫الفقير اليتيـم الذي يظـلّ وحده‪ ،‬دون باقـي أهل الحرفة‪ ،‬وفيـ ًا ومخلص ًا‬
‫النسـاج يف محنتـه‪ ،‬وال ميكنه‬
‫ّ‬ ‫لرئيسـه يف العمـل املعلّـم عبـد السلام‬
‫ّإل أن يلـوذ بزبيـدة التـي متنحـه‪ ،‬على فقرهـا‪ ،‬طعامـ ًا يقيـم أوده‪ ،‬يف‬
‫إطـار مامرسـتها لـدور ّ‬
‫األم املهيمنـة‪.‬‬
‫لنـص أحمـد الصفريـوي ت َّتضـح منـذ البداية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إن الحمولـة الشـاعرية‬ ‫َّ‬
‫واع مـن البطل‪-‬السـارد الـذي يعيـش‪ ،‬منـذ‬ ‫ٍ‬ ‫غير‬ ‫أو‬ ‫واع‬
‫ٍ‬ ‫اختيـار‬ ‫هـي‬ ‫بـل‬
‫طفولتـه الباكـرة‪ ،‬نوعـ ًا مـن العزلـة عـن أقرانـه يف الكُ َّتـاب ومعارفـه يف‬
‫الحـارة‪ ،‬وينتصـب «ذاكـرة شـمع رهيـف» يف مواجهـة العـامل املحيـط‬
‫بـه‪ .‬يفشـل يف نسـج عالقـات حقيقيـة مـع معارفـه فيلوذ بعـامل الخيال‬
‫الرحـب الشاسـع‪ ،‬بأحالمه وكوابيسـه وبروايـات الكبار‪ .‬كما يفهم مبكر ًا‬
‫أن «كلمات األغـاين ليـس مـن الضرورة أن يكـون لهـا معنـى واضـح»‪،‬‬
‫بـل ويعتـزم كتابـة أغـانٍ ‪ .‬وبفعـل عمليـة اسـتبعاد اآلخـر‪ ،‬يتـم إبـراز‬
‫النـص هـو البحـث يف مسـار تشـكّ ل الذَّ ات‬ ‫ّ‬ ‫مكونـات‬
‫مكـون أسـايس مـن ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ً‬
‫ومنوهـا انطالقا مـن تفاعلها مـع العوامل‬ ‫ِّ‬ ‫تطورهـا‬
‫الحميمـة‪ ،‬يف مراحـل ُّ‬
‫فمكونـات «صنـدوق العجائـب»‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الواقعيـة والرمزيـة املحيطـة بهـا‪.‬‬
‫تتلخص يف أصداف‬ ‫ُفضلة عند الطفل‪-‬السـارد‪ ،‬التـي َّ‬ ‫اللعبـة الفرديـة امل َّ‬
‫مهملـة تلعـب دور ًا ال يقـلّ شـأناً‬
‫َ‬ ‫ملونـة وبضعـة مسـامري‬ ‫منمقـة وأزرار َّ‬ ‫َّ‬
‫عما يدرسـه الصبـي يف الكُ َّتاب‪ .‬كما أن الحكايـات العجائبيـة لعبد الله‬ ‫ّ‬
‫العـرايف توفـر بدورها مـاد ًة الكتشـاف العامل‬ ‫َّ‬ ‫الب ّقـال‪ ،‬ونبـوءات سـيدي‬

‫‪9‬‬
‫املحيـط‪ ،‬ال تقل شـأن ًا عـن ثرثرات النسـوة داخل غرفهـن وولعهن بتتبع‬
‫أخبـار العائلات وأرسار البيـوت يف مدينـة تقليديـة «ال يخفـى فيهـا خرب‬
‫املكونـات التـي يصوغهـا السـارد يف‬ ‫ِّ‬ ‫أحـد على أحـد»‪ .‬هـذه إذن هـي‬
‫ِّ‬
‫حكيـه‪ ،‬فتسـاهم كلّهـا يف منـو وعيـه املتوثـب الـذي يسـجل مالحظاتـه‬
‫حولهـا ليضفـي عليهـا طابعـ ًا حواريـ ًا واضحـ ًا يبرز التمكُّ ـن مـن ِّ‬
‫مكونات‬
‫فـن الروايـة‪ ،‬ويبني الشـخصيات‪ ،‬الرئيسـية منهـا والثانويـة‪ ،‬واألحداث‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ِّ‬
‫اليسيرة منهـا واملُؤثـرة‪ ،‬وفـق وتيرة تصاعديـة تفضي إىل ُعقـد وأزمات‬
‫متزامنـة تتجلى يف غيـاب والـد الطفـل محمـد والـزواج الثـاين ملـوالي‬
‫العـريب الـذي هـو مبثابـة غياب ثـانٍ ‪ ،‬ومـرض االبن‪-‬السـارد الـذي يبعده‬
‫ال للأب املـريب‪،‬‬ ‫عـن الكُ َّتـاب وعـن شـخصية الفقيـه التـي تشـكِّ ل معـاد ً‬
‫العقـد جميعـ ًا بتـوا ٍز مـع زيـارة‬‫مما يشـكِّ ل غيابـ ًا ثالثـاً‪ .‬إىل أن يتـم حـلّ ُ‬
‫العـرايف وكلامتـه ونبوءاتـه الحكيمـة‪ ،‬وجلسـة الفضفضـة التـي‬ ‫َّ‬ ‫سـيدي‬
‫يعقدهـا بحضـور الطفـل ووالدتـه وصديقتهـا األقـرب‪ .‬مبعنـى أن عقـدة‬
‫الروايـة ال تجـد لهـا حلاً يف الواقـع‪ ،‬ولكـن يف كالم الشـيخ الرضيـر‬
‫والنص‬
‫ّ‬ ‫الـذي يفعـل فعـل السـحر يف النفـوس واألبـدان‪ ،‬يجعـل اللُّغـة‬
‫والحمولـة الشـاعرية والرمزيـة هـي أسـاس تصالـح املـرأة مـع غيـاب‬
‫الرجـل‪ ،‬والطفـل مع كوابيـس الواقـع‪ ،‬واملُبدع مع انفلات خيط الرسد‬
‫مـن بين يديه‪.‬‬
‫هكـذا نجـد أن املُؤلِّـف‪ ،‬أحمد الصفريـوي‪ ،‬ال يجد غضاضـة يف اتباع‬
‫الخاصـة يف قيـادة خيـط السرد بعيـد ًا عـن‬‫ّ‬ ‫ُتفـرد ورؤيتـه‬
‫إحساسـه امل ِّ‬
‫الطـرق املألوفـة النمطيـة والسـائدة‪ ،‬يجتهـد يف ابتـكار رؤيـة غنائيـة‬
‫متحـررة مـن‬
‫ِّ‬ ‫شـاعرية لألشـياء واألشـخاص وللعالقـات االجتامعيـة‬
‫النـص نوعـ ًا مؤكَّ ـد ًا مـن األصالـة‬
‫ّ‬ ‫القوالـب الجاهـزة‪ ،‬وهـو مـا يعطـي‬
‫العـريب التقليدي من‬
‫ّ‬ ‫اإلبداعيـة عبر تقديـم العالقـات داخـل املجتمـع‬
‫عما درجت عليـه الثقافة الغربيـة الحديثة يف هذه‬ ‫وجهـة نظـر مختلفة َّ‬
‫املرحلـة التاريخيـة‪.‬‬
‫امل ِ‬
‫ُرتجم‬

‫‪10‬‬
‫صندوق العجائب‬
‫األول‬
‫الفصل َّ‬

‫يف املسـاء عندمـا يهجـع الخلـق جميعـاً‪ ،‬األغنيـاء منهـم تحـت‬


‫أغطيتهـم الدافئـة‪ ،‬والفقـراء على مداخـل الحوانيـت وعتبـات القصـور‪،‬‬
‫أعـاين وحـدي مـن األرق‪ .‬أُفكِّ ـر يف عزلتـي وأجدهـا ثقيلـة الوطء على قلبي‬
‫منـذ أوىل خطـوايت يف الحيـاة‪ ،‬فعزلتـي ليسـت وليـدة اليـوم‪.‬‬
‫ال يف السادسـة‬ ‫أملـح‪ ،‬يف عمـق زقـاق مغلـق ال تبلغه الشـمس أبـداً‪ ،‬طف ً‬
‫فخـ ًا ليقبـض على دوري‪ .‬لكـن الـدوري ال يـأيت أبـداً‪ .‬لدى‬ ‫مـن العمـر ينصـب َّ‬
‫الطفـل رغبـة جارفـة يف القبض عىل الطائـر الصغري‪ ،‬لكنـه ال يرغب يف أكله‬
‫بأقـدام حافية عىل الرتاب‬‫ٍ‬ ‫أو تعذيبـه‪ ،‬بـل يف اتخـاذه رفيقـ ًا له! يجري الطفل‬
‫الحملين تعبر‬ ‫َّ‬ ‫الرطـب ألرض الزقـاق حتـى مخـرج الـدرب ليشـاهد حمير‬
‫ثـم يعـود ليجلـس على عتبـة البيـت منتظـر ًا مجـيء الـدوري الذي‬ ‫الطريـق‪ّ ،‬‬
‫محمـر العينني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ال يـأيت‪ .‬وعندمـا يحـلُّ املسـاء‪ ،‬يعـود لداخـل الـدار حزينـ ًا‬
‫فخـه املصنـوع من أسلاك النحـاس يف يـده الصغرية‪.‬‬ ‫بينما يتأرجـح ُّ‬
‫العرافـة»‪ .‬وبالفعل قطنـت الطابق‬
‫َّ‬ ‫سـك ّنا أيامهـا منـز ً‬
‫ال حمل اسـم «دار‬

‫‪13‬‬
‫عرافة مشـهورة يف الحـارة‪ .‬زارتها نسـاء من أحياء‬‫السـفيل لنفـس املنـزل َّ‬
‫بعيـدة ومـن فئـات اجتامعيـة متباينـة‪ .‬امتهنـت قـراءة الطالـع‪ ،‬ومارسـت‬
‫متفرقـة مـن السـحر والشـعوذة‪ .‬كانـت مـن محبـي طائفـة‬ ‫ِّ‬ ‫أحيانـ ًا أنواعـ ًا‬
‫وتعودت أن تسـتضيف شـهري ًا حفلة‬‫َّ‬ ‫اغنـاوة (النـاس القادمـون مـن غينيا)‪،‬‬
‫للموسـيقى والرقـص الزنجـي يعبـق الفضـاء خاللهـا برائحـة البخـور‪ ،‬فيما‬
‫متنعنـا أصـوات الطبـول الهـادرة والقيثـارات اإلفريقيـة مـن النـوم حتـى‬
‫صبـاح اليـوم املوايل‪.‬‬
‫مل أفهـم أيامهـا شـيئ ًا مـن الطقـوس املُعقَّـدة التـي كانـت تتـم يف‬
‫الطابـق السـفيل‪ .‬مـن نافذتنـا الواقعـة يف الطابـق الثـاين مـن البنايـة‪،‬‬
‫كنـت أشـاهد‪ ،‬عبر دخـان البخـور‪ ،‬متايـل األجسـاد املرتاقصة على وقع‬
‫آالت موسـيقية غريبـة األشـكال‪ .‬كنـت أسـمع زغاريـد‪ ،‬فيام تتراوح ألوان‬
‫مالبـس الراقصين بني األزرق الناصـع واألحمر القاين‪ ،‬مـرور ًا إىل األصفر‬
‫الفاقـع‪ .‬طغـى على الصباحـات التـي تعقـب هذه الحفلات هـدوء حزين‬
‫للتوجه‬
‫ُّ‬ ‫توجب عيلَّ االسـتيقاظ باكـر ًا‬
‫فبـدت أثقـل على القلـب من غريهـا‪َّ .‬‬
‫خطـوات قليلة مـن منزلنا‪ ،‬بينما كان صدى‬ ‫ٍ‬ ‫إىل الكُ َّتـاب الواقـع على بعـد‬
‫مسـتمرة‬
‫ّ‬ ‫رضبـات الطبـول مسـتمر ًا داخـل رأيس‪ ،‬ورائحـة البخـور الن ّفاذة‬
‫الحضـور يف خياشـيمي‪ ،‬فيما تحوم حويل عفاريت سـود مـن الجن الذي‬
‫بهيـاج يقـارب الهذيـان‪ .‬أكاد أحـس‬ ‫ٍ‬ ‫العرافـة رفقـة جلسـائها‬
‫َّ‬ ‫تسـتدعيه‬
‫بالعفاريـت تلمسـني بأصابعهـا املحرقـة‪ ،‬وأسـمع جلجلـة ضحكاتهـا‬
‫ثـم أضـع سـبابتي يف أذين‬ ‫كـدوي الرعـد يف األيـام املطيرة العاصفـة‪ّ ،‬‬
‫مـردد ًا بأعلى صـوت اآليـات املسـطرة عىل لوحي الخشـبي‬ ‫ِّ‬ ‫وأرفـع صـويت‬
‫بلكنـة يداخلهـا القنـوط‪.‬‬
‫العرافـة يف الغرفتين اللتين تشـكِّ الن الطابـق السـفيل‪،‬‬
‫َّ‬ ‫سـكنت‬
‫األول إدريـس‬
‫وبذلـك كانـت املكرتيـة الرئيسـية‪ .‬فيما سـكن الطابـق َّ‬
‫ٍ‬
‫بسـنة واحـدة‪ .‬كانـت‬ ‫العـواد رفقـة زوجتـه رحمـة وابنتـه التـي تكبرين‬
‫َّ‬
‫سـمى زينـب‪ ،‬ومل أحبهـا قط‪ .‬قطنـت األرسة كلّها غرفةً واحـدة‪ ،‬وكانت‬ ‫ُت َّ‬
‫األم تقـوم بأشـغال الطبـخ على عتبـة املسـكن الصغري‪ .‬فيام اقتسـمت‬ ‫ّ‬

‫‪14‬‬
‫أرسيت مـع فاطمـة البزيويـة كلّ الطابـق الثـاين‪ ،‬كانـت نوافذنـا متقابلة‪،‬‬
‫وتطـل جميعهـا على فنـاء الـدار‪ ،‬الفنـاء املتقـادم الـذي فقـد زلّيجـه‬
‫بريـق ألوانـه منذ زمـنٍ بعيد‪ ،‬فأصبح يبـدو كام لو كان مرصوفـ ًا بالطوب‪.‬‬
‫العرافـة على رش أرضيتـه باملـاء وكنسـه كلّ يـوم‪ .‬فالشـك أن‬ ‫َّ‬ ‫درجـت‬
‫عفاريـت الجـن تحـب النظافـة‪ ،‬كام أن املنظـر الرائق منـح زبونات قارئة‬
‫الطالـع شـعور ًا باالرتيـاح منـذ ولوجهـن الـدار‪ ،‬شـعور ًا بالنقـاء والهدوء‬
‫العرافـة عىل قراءة‬
‫َّ‬ ‫يدعـو لالستسلام والفضفضـة‪ ،‬وهي عنارص تسـاعد‬
‫ٍ‬
‫بدقـة أكرب‪.‬‬ ‫املسـتقبل‬
‫مل تزرهـا الزبونـات كلّ يـوم‪ .‬رغـم أن األمـر يبـدو صعب ًا على التصديق‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كسـاد طويـل دون‬ ‫فقـد كان يحـلّ بتجارتهـا بين الفينـة واألخـرى موسـم‬
‫سـابق إنـذار‪ .‬فجـأة تتوقـف النسـاء عن طلب إكسير الحب‪ ،‬وعـن االهتامم‬
‫مبـا تحملـه األيام القادمة‪ ،‬والقلق من املسـتقبل‪ ،‬مـن آالم الكُ ىل‪ ،‬والكتف‬
‫والبطـن‪ ،‬تتوقـف العفاريـت عن مضايقتهـن وإلحـاق األذى بهن‪.‬‬
‫العرافـة لعلاج صحتهـا‬
‫َّ‬ ‫تتفـرغ‬
‫َّ‬ ‫خلال هـذه الفترة مـن ركـود األعمال‪،‬‬
‫ِ‬
‫الخاصـة التي ال ق َبـل للعلم بفهـم دواخلها‪ .‬تبدأ‬
‫ّ‬ ‫ومـداواة أوجاعهـا الذاتيـة‬
‫العفاريـت يف التعبير عـن رغبـات مذهلـة ومتطلّبـة حـول ألـوان القفاطني‬
‫يتوجـب عليهـا ارتداؤهـا‪ ،‬حـول أوقـات ذلـك‪ ،‬وأنـواع البخـور التـي‬ ‫َّ‬ ‫التـي‬
‫العرافـة تتنهد‬
‫َّ‬ ‫يتوجـب أن تحرقهـا يف هـذه املناسـبة أو تلـك‪ .‬وهكـذا تظـل‬
‫ُتنوعـة داخـل غيمـة مـن دخـان البخـور‪ ،‬يف‬ ‫وتتـأوه‪ ،‬تصـدع بشـكاواها امل ِّ‬
‫َّ‬
‫عتمـة غرفتهـا الكبيرة املفروشـة مبرتبـات مغلَّفـة بالقماش‪.‬‬
‫كنـت يف السادسـة مـن العمـر تقريبـاً‪ ،‬كانـت ذاكـريت مثـل قطعـة مـن‬
‫شـمع رهيـف تنطبـع على صفحتهـا األحـداث‪ ،‬صغريهـا وكبريهـا‪ ،‬يف صور‬ ‫ٍ‬
‫ألبـوم حافل من الصـور التي تؤنس‬
‫ٌ‬ ‫ال تنمحـي بعـد ذلـك أبـداً‪ .‬لذا تبقَّـى يل‬
‫اليـوم عزلتـي وتذكِّ ـرين أننـي ما زلـت يف عـامل األحياء‪.‬‬
‫ربا كنت تعيسـ ًا‬
‫عانيـت مـن العزلة وأنـا بعد يف السادسـة من العمر‪َّ ،‬‬
‫أيضـاً‪ .‬لكننـي مل أمتلـك لحظتهـا نقـط ارتـكاز متكننـي مـن فهـم عزلتـي‬
‫وتعاسـتي‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫أكـن سـعيد ًا وال تعيسـاً‪ .‬كنـت فقـط طف ً‬
‫ال منعـزالً‪ ،‬هذا‬ ‫يف الحقيقـة مل ْ‬
‫ال للعزلـة بطبيعتـي‪ ،‬فقـد حاولت‬ ‫ميـا ً‬ ‫أكـن َّ‬
‫هـو الشيء الوحيـد األكيـد‪ .‬مل ْ‬
‫ِمـرار ًا نسـج عالقـات مـع زملايئ يف الكُ َّتـاب‪ ،‬لكنهـا صداقـات مل تطـل‬
‫ميـا ً‬
‫ال بطبيعتي للحلـم‪ .‬بدا‬ ‫كثيراً‪ .‬كنـا ننتمـي لعـوامل متباعـدة‪ ،‬فقـد كنـت َّ‬
‫يل العـامل مكانـاً عجائبيـ ًا مليئـ ًا بالعفاريـت والسـاحرات اللـوايت تربطهـن‬
‫خفية غري مرئية‪ .‬رغبت يف اكتشـاف أرسار الكائنات‬ ‫عالقـات جـوار مع قوى َّ‬
‫غير املرئيـة فيما اكتفـى زملايئ الصغـار يف الكُ َّتـاب مبـا هـو محسـوس‪،‬‬
‫خاصـة إذا اتخـذت املحسوسـات شـكل حلويـات زرقـاء أو ورديـة بلـون‬ ‫ّ‬
‫غـروب الشـمس يقضمـون منهـا بانتشـاء‪ .‬كما داوم زملايئ على مامرسـة‬
‫ثم‬
‫العـراك باأليـدي‪ ،‬حيـث يقبـض بعضهـم أعناق بعـض‪ّ ،‬‬ ‫ألعـاب يتخلَّلهـا ِ‬
‫نظـرات قاسـية ليقلِّدوا أصـوات آبائهم‪ ،‬وشـتائم مقذعـة مقلِّدين‬ ‫ٍ‬ ‫يتبادلـون‬
‫الجيران‪ ،‬وأوامـر صارمـة تذكِّ ـر بفقيـه الكُ َّتـاب!‬
‫أكن أهوى التقليد‪ ،‬بل االستكشاف‪.‬‬
‫لكنني مل ْ‬
‫روى يل عبـد اللـه البقَّـال حكايـة ملـك عجيـب عـاش يف ٍ‬
‫بلـد بعيـد مـن‬
‫ضيـاء وورد وعطـر وراء بحـر الظلمات والسـور العظيـم‪ .‬فرغبـت يف عقـد‬
‫اتفـاق مـع الكائنـات غير املرئيـة لتحملنـي إىل مـا وراء بحـر الظلمات‬
‫والسـور العظيـم‪ ،‬ألعيـش يف بلـد العطـر والـورد‪.‬‬
‫أوالً‪ .‬كما‬
‫حدثنـي والـدي عـن الجنـة‪ ،‬لكـن لندخلهـا علينـا أن منـوت َّ‬ ‫َّ‬
‫وأن َم ْن يقتل نفسـه ال يدخل‬
‫ّ‬ ‫مـة‪،‬‬‫ُحر‬
‫َّ‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫الكبائر‬ ‫مـن‬ ‫النفـس‬ ‫قتـل‬ ‫أن‬
‫أضـاف ّ‬
‫يتبـق يل ّإل االنتظـار‪ ،‬انتظـار أن أصبـح رجلاً ّ‬
‫ثـم‬ ‫َ‬ ‫مملكـة الجنـان‪ .‬لـذا مل‬
‫ألبعـث قـرب نهـر السلسـبيل‪ .‬االنتظـار! االنتظـار هـو الوجـود‪ .‬مل‬ ‫أمـوت ُ‬
‫تخفنـي فكـرة املـوت لحظتهـا‪ .‬كنـت أصحـو مـن النـوم وأفعـل مـا ُيطلـب‬
‫منـي أن أفعـل‪ .‬ويف املسـاء تغرب الشـمس فأعـود للنوم بانتظـار الصباح‬
‫ألفعـل نفـس الشيء‪ .‬كنـت أعلـم أن يومـ ًا قـد انضـاف آلخـر‪ ،‬أن تـوايل‬
‫األيـام يفضي لرتاكـم الشـهور والفصـول واألعـوام‪ .‬عمـري سـت سـنوات‪،‬‬
‫ثم العـارشة‪ .‬ويف العارشة يصبح‬ ‫ثـم سـأبلغ السـابعة والثامنة والتاسـعة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫املـرء رجلاً ‪ .‬يف سـن العـارشة سـيمكنني التجـوال وحيـد ًا يف كلّ الحـارة‪،‬‬

‫‪16‬‬
‫سـأتجاذب أطـراف الحديـث مـع الباعـة‪ ،‬سـأتعلَّم الكتابـة‪ ،‬كتابـة اسـمي‬
‫العرافات لقـراءة طالعي‪ ،‬سـأتعلَّم‬
‫َّ‬ ‫األقـل‪ ،‬سـأمتكن من زيـارة إحـدى‬
‫على ّ‬
‫ٍ‬
‫كلمات سـحرية وأصنـع طالسـم‪.‬‬
‫بانتظـار كلّ ذلـك‪ ،‬كنـت يف الكُ َّتـاب وحيـد ًا يف جوقـة مـن الـرؤوس‬
‫الحليقـة واألنـوف الرطبـة وسـط طوفـان عارم مـن األصـوات املرتفعة التي‬
‫قـرر اليـوم مـن اآليـات‪.‬‬
‫تقـرأ ُم َّ‬
‫ال نحيف ًا بلحية سـوداء‬
‫«النوالـة»‪ .‬كان الفقيـه طوي ً‬
‫ّ‬ ‫ُيوجـد الكُ َّتـاب بـدرب‬
‫ونظـرات يقـدح منهما الشرر والغضـب‪ .‬كان يسـكن درب الجيـف‪ .‬عرفـت‬
‫ً‬
‫مظلما يفيض آخـره إىل‬ ‫جيـداً‪ .‬عرفـت أنـه يشـبه مرصانـ ًا رطبـ ًا‬
‫هـذا الـدرب ّ‬
‫بـاب واطئـة تخـرج منهـا طـوال النهـار أصـوات لغـط نسـاء وبـكاء أطفـال‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫مـرة‪ ،‬شـهقت بالبـكاء ألننـي ظننتهـا‬ ‫ألول ّ‬
‫عندمـا سـمعت هـذه األصـوات َّ‬
‫أصـوات جهنـم‪ ،‬كما وصفهـا أيب ذات مسـاء!‬
‫هدأت والديت من روعي قائلةً ‪:‬‬
‫َّ‬
‫َّ‬
‫للحمام العمومـي غـداً‪ ،‬سـأعطيك برتقالـة وبيضـة‬ ‫‪ -‬سترافقني‬
‫مسـلوقة‪ ،‬وسـتجد الفرصـة لتلعـب وتنهـق مثـل حمار!‬
‫واصلت شهيقي قائالً‪:‬‬
‫‪ -‬ال أريد الذهاب إىل جهنم!‬
‫رفعت والديت عينيها إىل السامء‪ ،‬وقد أذهلتها سذاجتي‪.‬‬
‫مل أدخـل بعدهـا إىل حمام عمومي قـط‪ ،‬منذ طفولتي‪ .‬منعني إحسـاس‬
‫غير واضـح بالرهبـة والضيـق على الـدوام مـن تخطـي عتبتـه‪ .‬يف الحقيقـة‬
‫ال أحـب الحاممـات العموميـة املغربيـة‪ .‬تبعـدين عنهـا الزحمـة والصفاقـة‬
‫يتصرف بعضهم بهـا يف مثل هذه األماكن‪ .‬حتـى وأنا طفل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫والالمبـاالة التـي‬
‫كنـت أشـم يف األجسـاد املبلّلـة‪ ،‬داخـل عتمة الحاممـات‪ ،‬رائحـة الخطيئة‪.‬‬
‫خاصة يف الوقت الـذي كان بإمكاين فيه أن أرافق والديت‬
‫ّ‬ ‫كان شـعور ًا عامئـاً‪،‬‬
‫إىل حمام النسـاء‪ ،‬لكنـه إحسـاس كان ُيثير لـدي نوع ًا مـن القلق‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫مبجـرد وصولنـا صعدنـا على مصطبـة فسـيحة مفروشـة بحصائـر‪.‬‬ ‫َّ‬
‫التعـري‬
‫ِّ‬ ‫بدأنـا‬ ‫ً‪،‬‬
‫ام‬ ‫سـنتي‬ ‫وسـبعني‬ ‫خمسـة‬ ‫الدخـول‪،‬‬ ‫واجـب‬ ‫ينـا‬ ‫أد‬
‫َّ‬ ‫وبعدمـا‬
‫وسـط جلبـة أصـوات حادة وحركات ال تنتهي لنسـاء نصـف عاريات تخرجن‬
‫(((‬
‫مـن رصر كبيرة قفاطين ومنصوريـات((( ورساويـل وقمصانـ ًا وأحيكـة‬
‫ناصعـة البيـاض‪ .‬كانـت النسـوة يتكلَّمـن بنبر ٍة مرتفعـة‪ ،‬يرفقـن الحديـث‬
‫ٍ‬
‫سـبب ظاهـر‪.‬‬ ‫بحـركات تنـم عـن التوتـر‪ ،‬ويرصخـن دومنـا‬
‫يـدي عىل بطني‬
‫ّ‬ ‫نزعـت مالبسي وبقيت منبهـر ًا باملشـهد‪ ،‬واضع ًا كلتا‬
‫ٍ‬
‫نقـاش مـع صديقـة لقيتها بالصدفـة‪ .‬كان‬ ‫بجـوار والـديت التـي دخلـت يف‬
‫باملـكان أطفـال آخـرون بـدوا مرتاحين للجـو العـام فركضـوا غير مبالني‬
‫بعريهم!‬
‫وقـت مضى‪ ،‬وكنـت يف غايـة االقتنـاع أن‬ ‫ٍ‬ ‫شـعرت بالعزلـة أكثر مـن أي‬
‫هـذا املـكان ال ميكـن أن يكـون ّإل جهنـم‪ .‬كادت الغـرف املعتمة السـاخنة‬
‫العامـرة ببخـار املـاء والحـرارة الشـديدة أن تفقـدين الوعـي‪ .‬جلسـت‬
‫عما تفعـل‬‫الح َّمـى والخـوف‪ .‬تسـاءلت ّ‬ ‫يف أحـد أركان املـكان أرتعـد مـن ُ‬
‫كلّ هـؤالء النسـوة اللـوايت تتجولـن يف أرجـاء املـكان وتركضـن يف كلّ‬
‫ـد الغليـان‪ ،‬والـذي‬ ‫االتجاهـات حاملات سـطو ً‬
‫ال مـن املـاء السـاخن إىل َح ِّ‬
‫كانـت تطالنـي منـه قطـرات متطايـرة محرقـة لـدى مرورهن مبحـاذايت‪ .‬أمل‬
‫يأتين لالسـتحامم؟ جلسـت واحـدة أو اثنتـان منهـن على األرض ميشـطن‬
‫سـوالفهن ويرفعـن الصـوت باالحتجـاج‪ ،‬لكـن األخريـات مل يعرنهـن أي‬
‫اهتمام وواصلـن تجوالهـن املسـتمر حاملات السـطول الخشـبية‪ .‬بين‬
‫الفينـة واألخـرى تـأيت والـديت التـي جرفهـا تيـار الحركـة الدائبـة بعدمـا‬
‫توجه يل‬
‫اختفـت وسـط غابـة مـن األرجـل واأليـادي‪ ،‬تبرز لهنيهـة قصيرة‪ِّ ،‬‬
‫ثـم تختفـي مـن جديـد‪ .‬كان‬ ‫أمـر ًا أو كلمـة تقريـع ال أمتكَّ ـن مـن سماعها‪ّ ،‬‬
‫بالقـرب منـي سـطلٌ فـارغ يوجـد بـه مشـط وقـدح مـن نحـاس المـع وبضع‬

‫((( لباس نسايئ مغريب تقليدي‪[ .‬املرتجم]‬


‫يتكون من قطعة‬
‫َّ‬ ‫منتصفه‬ ‫إىل‬ ‫العرشين‬ ‫القرن‬ ‫بداية‬ ‫يف‬ ‫املغربية‬ ‫التقليدية‬ ‫((( الحايك لباس الخروج يف األزياء‬
‫ثوب واحدة بيضاء تلف جسد املرأة‪[ .‬املرتجم]‬ ‫ٍ‬

‫‪18‬‬
‫ثـم أكلـت منهـا‬
‫وقشتهـا‪ّ ،‬‬
‫برتقـاالت وبيضـات مسـلوقة‪ .‬تناولـت برتقالـة َّ‬
‫على مهـل بتلـذُّ ذ‪ ،‬بينما تاهـت نظـرايت يف العتمة‪ .‬بـدأت أفقد اإلحسـاس‬
‫ثم نسـيت‬‫بالخجـل مـن جسـدي الـذي غطّ تـه قطـرات غليظـة مـن العـرق‪ّ ،‬‬
‫وجـود النسـوة وحركاتهـن املحمومـة‪ ،‬سـطولهن الخشـبية وتجوالهن غري‬
‫علي والـديت فجـأة وأغرقتنـي يف‬
‫ّ‬ ‫انقضـت‬
‫ّ‬ ‫املفهـوم يف أرجـاء املـكان‪.‬‬
‫سـطل مـاء‪ ،‬غطّ ـت رأيس مبحلـول طينـي ذي رائحـة نفـاذة رغـم رصاخـي‬
‫ودموعـي‪ .‬أغرقتنـي يف سـيلٍ من نا ٍر وشـتائم‪ .‬أخرجتني من السـطل وألقت‬
‫ركـن مـن أركان املـكان مثـل حزمـة بضائع قبل أن تختفـي من جديد‬ ‫يب يف ٍ‬
‫ُتحركـة‪ .‬مل يطل إحسـايس بالضيق‪ .‬أدخلت يدي يف سـطل‬ ‫الدوامـة امل ِّ‬
‫يف َّ‬
‫املأكـوالت وأخرجـت منـه بيضـة مسـلوقة‪ ،‬فقـد كنـت أعشـق هـذا النـوع‬
‫مـن الطعـام‪ .‬بينما مل أُ ّ‬
‫تـم بعـد صفـار البيضـة‪ ،‬عـادت والـديت مـن جديـد‬
‫شلا ً‬
‫ال مـن املاء الحـارق وآخر شـديد البرودة‪ ،‬قبل‬ ‫علي بالتنـاوب ّ‬‫وألقـت ّ‬
‫أن تل ّفنـي يف فوطـة وتحملنـي نصـف ميت إىل حيث يوجـد الهواء املنعش‬
‫مبصطبـة املالبـس‪ .‬سـمعتها تخاطـب عاملـة التحصيـل‪:‬‬
‫‪ -‬اللـة فطومـة‪ ،‬أتـرك عنـدك ولـدي الصغير‪ .‬أرجـو أن تهتمـي بـه‪ ،‬مل‬
‫أحصـل بعـد على قطـرة مـاء واحـدة مـن أجـل االغتسـال!‬
‫ثم التفتت إيلَّ‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬البس ثيابك يا رأس البصلة! هاك برتقالة لتزجية الوقت‪.‬‬
‫وجدت نفيس وحيد ًا فأرخيت يدي عىل بطني السـاخن‪ ،‬شـعرت بنفيس‬
‫وقـت آخـر وسـط كلّ هـؤالء النسـوة الغريبـات ورصر‬‫ٍ‬ ‫غبـاء مـن أي‬
‫ً‬ ‫أكثر‬
‫ثم‬
‫ثيابهـن الضخمـة‪ .‬ارتديـت مالبيس‪ .‬جـاءت والديت‪ ،‬فركـت رأيس بفوطة ّ‬
‫وجهـت يل كلّ أنـواع التعليمات قبـل أن‬
‫ل ّفتهـا حولـه وعقدتهـا عنـد ذقنـي‪َّ ،‬‬
‫تختفـي مـن جديـد يف البـاب املفضي للغرف السـاخنة‪ ،‬الباب الـذي تخرج‬
‫منـه أنـواع مـن الهـرج واملـرج‪ .‬مكثـت فـوق املصطبـة إىل حلـول املسـاء‬
‫صـداع حاد‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫قبـل أن تلحـق يب والـديت منهكـة القـوى‪ ،‬شـاكيةً مـن‬
‫الحـظ أن الذهـاب لالغتسـال يف الحمام كان يتـم يف‬
‫ّ‬ ‫مـن ُحسـن‬

‫‪19‬‬
‫أمـي أن يضايقهـا وجـود الطفـل األخـرق الـذي‬‫مناسـبات نـادرة‪ .‬مل ترغـب ّ‬
‫كنتـه‪ .‬ويف غيابهـا كنـت أرخـي العنـان لخيـايل الخجـول‪ .‬أركـض حافيـ ًا‬
‫يف زقاقنـا مقلِّـد ًا وتيرة عـدو الخيـول‪ ،‬أصهـل بخيلاء وأرفـس بين الفينـة‬
‫واألخـرى‪ .‬وكنـت أُفـرغ أحيانـ ًا صندوق عجائبـي عىل األرض قبـل أن أُحيص‬
‫التأمـل فيـه قبـل أن أداعبـه‬
‫ُّ‬ ‫زر مـن خـزف‪ ،‬أُطيـل‬ ‫كنـوزه‪ُ .‬يثير حـوايس ٌّ‬
‫عنصر ال ميكـن إدراكـه بالعين وال باللمـس‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫الـزر‬
‫ِّ‬ ‫بأصابعـي‪ .‬كان يف هـذا‬
‫جمال مبهـر يسـتعيص على كلّ تعبير‪ ،‬إىل درجـة أنني أحسسـت بالعجز‬
‫مكوناتـه‪ .‬أكاد أبكي عندمـا أحـس بحضـور هـذا‬ ‫ِّ‬ ‫عـن االسـتمتاع بكامـل‬
‫الشيء غير املـريئ الـذي ال ميكـن ملسـه وال إدراكـه‪ ،‬الذي ما كان بوسـع‬
‫زر من خزف‬ ‫مجـرد ٍّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وتجلى كلّ هـذا يف‬ ‫تذوقـه رغـم ذوقـه اللذيـذ‪.‬‬‫اللسـان ُّ‬
‫صـار لـه‪ ،‬بالنسـبة يل‪ ،‬روح وخصائـص طلسـم غامـض‪.‬‬
‫تضمـن صنـدوق العجائـب مجموعـة مـن األشـياء املتباينـة امتلكـت‬ ‫َّ‬
‫لـدي وحـدي معنـى معروفـاً‪ :‬كـرات مـن زجـاج‪ ،‬حلقـات مـن نحـاس‪ ،‬قفل‬ ‫ّ‬
‫مذهبـة الـرؤوس‪ ،‬محابـر فارغـة‪ ،‬أزرار‬
‫صغير قديـم دون مفتـاح‪ ،‬مسـامري َّ‬
‫زجـاج شـفاف وأخرى مـن معدن‬ ‫ٍ‬ ‫مزينـة وأخـرى غير مصبوغـة‪ .‬أشـياء مـن‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫حدثتنـي كلّ قطعـة منهـا بلغـة مختلفـة‪ .‬عالقـايت مـع هـذه‬‫أو مـن صـدف‪َّ .‬‬
‫عالقـات أخـرى‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫لـدي بالطبـع‬
‫ّ‬ ‫األشـياء كانـت صداقـايت الوحيـدة‪ .‬كانـت‬
‫يف عـامل الخيـال‪ ،‬مـع أمـراء شـجعان وعاملقـة طيبـي القلـوب‪ .‬لكـن‬
‫أمـا كـرايت‬
‫هـذه املخلوقـات كانـت تسـكن يف مناطـق خبيئـة مـن خيـايل‪ّ .‬‬
‫الزجاجيـة وأزراري ومسـامريي فكانـت موجـودة هنـا‪ ،‬مسـتلقية يف علبتهـا‬
‫املسـتطيلة‪ ،‬ومسـتعدة لنجـديت يف لحظـات الحـزن والعزلـة‪.‬‬
‫تعـودت والـديت‪ ،‬يف اليـوم املـوايل لذهابهـا إىل الحمام العمومـي‪،‬‬ ‫َّ‬
‫أن تحكي لجميـع سـكان الـدار تفاصيـل مـا جـرى بـه مـن طرائـف‪ .‬تقلّـد‬
‫طريقـة كالم إحـدى النسـوة املعروفـات يف الحـي أو طريقة مشي جارة ال‬
‫الحمم وتشـتم‬‫ّ‬ ‫تحبهـا‪ .‬تكيـل املدائـح للمكلَّفـة باسـتخالص واجـب دخول‬
‫املدلِّـكات‪ ،‬فهـن أصـل الـداء ومصدر كلّ أنواع املشـاكل‪ .‬بطبيعـة الحال‪،‬‬
‫كان الحمام العمومـي مكانـ ًا ملامرسـة النميمـة بامتيـاز‪ ،‬ميكـن أن تلتقـي‬

‫‪20‬‬
‫املـرأة فيـه بنسـاء الحارات البعيـدة‪ .‬ذهبت إليه النسـاء لالغتسـال‪ ،‬ولكن‬
‫لتقصي األخبـار حـول مـا يجـري ويـدور‪ .‬غ َّنـت فيـه إحداهـن أحيانـ ًا‬
‫ّ‬ ‫أيضـ ًا‬
‫أغنيـة رسعـان مـا تلقَّـف الجميـع كلامتهـا وأصبحـت على كلّ لسـان يف‬
‫الحـارة كلّها‪ .‬حدثت أحيان ًا معارك بني النسـاء تنتف فيها شـعور السـوالف‬
‫وتنـدر طيلـة األيـام‬
‫ُّ‬ ‫ومناديـل الـرأس‪ ،‬فوجـدت فيهـا والـديت فرصـة تنكيـت‬
‫املواليـة مـن األسـبوع بدارهـا أمـام صديقاتهـا وزائراتهـا العابـرات‪ .‬كانـت‬
‫بتقديـم عـام لشـخصيات املعركـة النسـائية واصفـةً كلّ واحـدة مـن‬ ‫ٍ‬ ‫تبـدأ‬
‫خلال نبرات صوتهـا وعيوب جسـدها وطريقة نظرتهـا وكالمها قبـل أن متر‬
‫وتضخمهـا قبل نهايتهـا بالدموع أو‬ ‫ّ‬ ‫املشـادة‬
‫ّ‬ ‫تتبـع وقوع‬
‫لعقـدة األحـداث‪ّ ،‬‬‫ُ‬
‫بتبـادل املصافحـة والعنـاق‪.‬‬
‫أعجبـت الجـارات كثير ًا بحكايات والديت‪ .‬لكنني مل أحـب ّ‬
‫قط هذا النوع‬
‫التبجـح واالسـتعراض‪ .‬بالنسـبة يل‪ ،‬كان للفرحـة املفرطـة لوالـديت‬ ‫ُّ‬ ‫مـن‬
‫يتحـول حامسـها الصباحـي‪ ،‬ال محالـة‪ ،‬يف املسـاء إىل‬
‫َّ‬ ‫نتائـج مزعجـة‪ .‬إذ‬
‫ملشـادة أو بكاء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫سـبب‬
‫متأخـر ًا إىل الـدار‪ ،‬ونـادر ًا مـا وجـد األرسة‬
‫ِّ‬ ‫درج والـدي على العـودة‬
‫قصـة مزعجـة مـن‬‫يتحمـل غالبـ ًا سماع ّ‬
‫َّ‬ ‫مبـزاج رائـق‪ .‬كان عليـه أن‬
‫ٍ‬ ‫تنتظـره‬
‫طـرف والـديت التـي امتلكـت موهبـة تحويـل خرب يومـي عارض إىل ما يشـبه‬
‫كارثـة عظمـى‪.‬‬
‫قـررت الجـارة رحمة أن تنرش غسـيلها يـوم االثنني‪،‬‬ ‫وذلـك مـا حـدث عندما َّ‬
‫بينما كان هـذا اليـوم مخصصـ ًا حرصيـ ًا لوالـديت‪ .‬احتلَّـت رحمـة الفنـاء منـذ‬
‫الصبـاح الباكر وعمرته بقطع الحطب‪ ،‬بأحواض تسـتخدمها كمغاسـل للثياب‪،‬‬
‫ال وقفطانـ ًا متهالكين‬
‫بسـطول وأكـوام مـن املالبـس املتسـخة‪ .‬ارتـدت رسوا ً‬
‫محركـة محتوى األحـواض بقصبة‬ ‫ورشعـت يف إحـراق الحطـب لتسـخني املاء ِّ‬
‫طويلـة‪ ،‬العنـة رداءة الحطـب الـذي يعطـي دخانـ ًا أكثر مـن السـخونة‪ ،‬العنـة‬
‫الغشاشين‪ ،‬داعيـة عليهـم بالويـل والثبور‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫باعـة الصابـون األسـود‬
‫ومـدت الحبال يف‬
‫ّ‬ ‫مل يكفهـا الفناء ملامرسـة نشـاطها فقصدت السـطح‬
‫ثم عـادت لتثري زوابع‬
‫كلّ اتجـاه‪ ،‬أعلتهـا بقضبـان مـن أغصان شـجر التـوت‪ّ ،‬‬

‫‪21‬‬
‫فقاعـات الصابـون يف الفنـاء‪ .‬أرسـلتني والديت هذا اليـوم إىل الكُ َّتاب مرتدي ًا‬
‫فقـط قميصـ ًا تحـت جلبـايب‪ ،‬تقريبـ ًا دون وجبـة إفطـار‪ ،‬مـا عـدا قطعـة مـن‬
‫خبـز مدهونـة بسـمنٍ مالـح وثلاث زيتونـات‪ .‬فقـدت غرفتنـا أيضـ ًا مظهرهـا‬
‫واملخـدات دون أغلفتهـا القامشـية‬ ‫َّ‬ ‫العـادي‪ .‬كانـت املرتبـات دون أغطيـة‪،‬‬
‫املعهـودة‪ ،‬وبـدت النافـذة عاريـةً مـن دون سـتارها ذي الـوردات الحمراء‪.‬‬
‫ومتده عىل‬
‫ّ‬ ‫خصصـت والـديت األمسـية لرتتيـب املالبس‪ .‬تأخـذ قميصـاً‬ ‫َّ‬
‫ثـم تطويـه بعدمـا وجهـت‬ ‫ّ‬ ‫نظافتـه‪،‬‬ ‫مـن‬ ‫للتأكـد‬ ‫فيـه‬ ‫النظـر‬ ‫ِّـق‬
‫ق‬ ‫تد‬ ‫ركبتهـا‪،‬‬
‫ً‬
‫كميـه إىل داخلـه يف حركـة دقيقـة متوازنة‪ .‬رتقـت أحيانا بعـض الثياب‪ .‬مل‬ ‫َّ‬
‫تحرك مندفهـا أو تدير‬ ‫فضل‪ ،‬بـدوري‪ ،‬أن أراها ِّ‬ ‫ُ‬
‫تحـب الخياطـة قـط‪ ،‬وكنـت أ ّ‬ ‫ّ‬
‫آلـة الغـزل‪ .‬كانـت اإلبـرة أداة مدينيـة متثل بالنسـبة يل عالمة مـن عالمات‬
‫الخمـول‪ .‬توارثـت عائلتـي فكـرة كـون املهنـة النبيلـة الوحيـدة الصالحـة‬
‫للمـرأة هـي غـزل الصـوف‪ .‬وكان اسـتعامل اإلبـرة يكاد يعـادل التنكُّ ـر لهذه‬
‫ننـس أبـد ًا جذورنا‬
‫َ‬ ‫املهنـة‪ .‬أصبحنـا مـن أهـل فاس فقـط بالصدفـة‪ ،‬لذا مل‬
‫الجبليـة كسـادة للبادية‪.‬‬
‫مشـاداتها مـع‬
‫َّ‬ ‫مل تفلـت والـديت فرصـة للتذكير بهـذه الجـذور خلال‬
‫ٍ‬
‫نسـب‬ ‫جاراتهـا‪ .‬وتجـرأت على االدعـاء أمـام الجـارة رحمـة أننـا ننحـدر مـن‬
‫نبـوي رشيـف!‬
‫ٍّ‬
‫‪ -‬هنـاك وثائـق تثبـت عراقـة نسـبنا‪ ،‬أوراق يحتفـظ بهـا إمـام قريتنا حتى‬
‫ـن تكونين؟ زوجـة صانـع محاريـث بلا أصـل وال فصـل‬ ‫فم ْ‬
‫أمـا أنـت َ‬
‫اليـوم‪ّ .‬‬
‫تتجـرأ عىل نرش غسـيل مالبسـها املليئـة بالقمل قرب غسـييل الذي نظّ فته‬
‫شـغالة حافيـة األقـدام وسـخة‬
‫مجـرد متسـولة‪ّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫ـن تكونين‪،‬‬
‫للتـو؟ أعـرف َم ْ‬
‫ـن يكـون زوجـك! هـذا املخلوق‬ ‫ومقملـة تلحـس األطبـاق وال تشـبع أبـداً! َم ْ‬
‫ّ‬
‫الذميـم الذي تـأكل العثة لحيته وينهق مثل حامر! ماذا تقولني؟ تشـكونني‬
‫ِ‬
‫ليـأت وسـأريه مـا تسـتطيع أن تفعل به‬ ‫لزوجـك؟ وهـل أخـاف مـن زوجـك؟‬
‫أمـا أنـت فاصمتي واجمعـي أطامرك مـن هنا‪.‬‬ ‫امـرأة عريقـة األصـول مثلي‪ّ .‬‬
‫كلّ الجـارات سيشـهدن لصالحـي‪ ،‬أنـت البادئـة‪ ،‬ولسـت فتاة صغيرة حتى‬
‫أسـمح لسـاقطة مثلك أن تشـتمني!‬

‫‪22‬‬
‫مـن نافـذة غرفتنـا يف الطابـق الثـاين كنـت أتتبـع املشـهد فيام تسـجل‬
‫الجمـل العنيفة‪.‬‬
‫ذاكـريت الشـمعية ُ‬
‫يف ذات املسـاء سـمعت ُخطـى والـدي تطـرق درجـات سـلَّم املنـزل‬
‫وتوجـه صـوب الحشـية‬‫َّ‬ ‫بينما يثقـل النـوم أجفـاين‪ .‬دخـل على عادتـه‬
‫أعـدت والـديت طعـام العشـاء ووضعـت الطبـق‬ ‫املوضوعـة على األرض‪َّ .‬‬
‫إىل جنـب الخبـز على املائـدة املسـتديرة‪.‬‬
‫كان مثّة إحساس عام يف الجو بأنها متوترة‪.‬‬
‫رشع والـدي يف األكل دون أن يطـرح أي سـؤال‪ .‬واصلت والديت التعبري‬
‫ثـم رفعت صوتها فجـأة قائلةً ‪:‬‬
‫عـن غضبهـا الصامت‪ّ ،‬‬
‫للسـب‪ ،‬وأن يشـتم‬
‫ِّ‬ ‫نتعـرض‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬ال يهمـك أن يتـم متريغنـا يف الوحـل‪ ،‬أن‬
‫أجدادنـا الذيـن كانـوا سـادة القبائـل! ال يهمـك أن يحـاول حقـراء النسـب‬
‫تضـم يف موتاهـا الفرسـان الشـجعان والقـادة‬
‫ّ‬ ‫تلطيـخ اسـم عائلتنـا التـي‬
‫واألوليـاء والعلماء!‬
‫واصل والدي األكل صامت ًا دون أن ُيبايل بها‪.‬‬
‫تتعـرض زوجتـك لإلهانـة‪ ،‬بـل وتظـلّ شـهيتك مفتوحـة كما‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬ال يهمـك أن‬
‫والغم ما سـيمنعني مـن األكل بقية حيايت!‬
‫ّ‬ ‫الهم‬
‫أمـا أنـا ففي قلبي من ّ‬
‫العـادة! ّ‬
‫غطّ ـت والـديت وجههـا بكفيهـا وانخرطـت يف نوبـة بـكاء‪ .‬بـدأت تنـدب‬
‫بصـوت حزيـن الكـوارث التـي‬ ‫ٍ‬ ‫وتتـأوه وتخبـط بيديهـا على أحضانهـا و ُتعـدد‬
‫َّ‬
‫حلَّـت بهـا يف هـذا اليـوم‪ .‬الشـتائم والنعـوت القدحيـة التـي تلقَّتهـا مذكِّ ر ًة‬
‫بشـجرة نسـبها الطويلـة وأجدادهـا الذيـن تل ّقـوا‪ ،‬بـذات املناسـبة‪ ،‬إهانةً ال‬
‫تليـق مبقامهم!‬
‫تنـاول والـدي جرعـة مـاء ومسـح شـواربه بعدما أنهى عشـاءه‪ .‬أمسـك‬
‫ثـم خاطبها‪:‬‬
‫مخـدة اتـكأ عليهـا ّ‬
‫مجدداً؟‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬مع َم ْن تشاجرت‬

‫‪23‬‬
‫فعلـت جملتـه مفعـول السـحر بوالـديت التـي توقَّفـت يف الحين عـن‬
‫البكاء‪.‬‬
‫األول‪ ،‬زوجة صانـع املحاريث!‬ ‫‪ -‬مـع هـذه اللئيمـة السـاكنة يف الطابـق َّ‬
‫وسـخت مالبسي النظيفـة بأطامرهـا التـي تحمـل‬ ‫هـذه املخلوقـة املقـززة َّ‬
‫رائحـة اإلسـطبل‪ .‬إنها ال تغتسـل أبـد ًا يف العادة‪ ،‬تلبس الثياب نفسـها ثالثة‬
‫ُخصـص يل‬ ‫أشـهر متواصلـة! لكـن لتفتعـل معركـة‪ ،‬تختـار يـوم االثنين امل َّ‬
‫لتخـرج ثيابهـا الباليـة‪ .‬أنـت تعـرف مـدى صبري‪ .‬أبتعـد دامئ ًا عن املشـاكل‬
‫وألتـزم بقواعـد اللياقـة‪ .‬ورثـت ذلـك عـن عائلتـي‪ ،‬فنحـن جميعـ ًا معروفـون‬
‫بالدماثـة واألخلاق! النـاس الذيـن يحاولـون اسـتفزازنا يضيعـون وقتهـم‬
‫املقملة!‬
‫ّ‬ ‫فحسـب‪ .‬نحـن نعـرف كيف نحافظ على هدوئنا ووقارنا‪ ،‬لكن هـذه‬
‫الفضاء فجأةً‪:‬‬
‫َ‬ ‫صوت رحمة‬
‫ُ‬ ‫شق‬
‫ّ‬
‫مقملـة! أتسـمعون أيهـا السـكان؟ مل يكفهـا النهـار لتسـبني يف‬
‫‪ -‬أنـا ّ‬
‫الليـل أيضـاً! والرجـال موجـودون اآلن يف الـدار ويسـتطيعون أن يشـهدوا‬
‫ـن منـا االثنتين جـاوزت حـدود األدب‪...‬‬
‫َم ْ‬
‫أصـوات حـادة متواصلـة‪ ،‬سـباب‬
‫ٌ‬ ‫ال ميكـن وصـف مـا حـدث بعدهـا‪.‬‬
‫الصراع‬
‫وعويـل غير منسـجم وغير مفهـوم‪ .‬كانـت كلّ واحـدة مـن طـريف ِّ‬
‫وتلـوح بيديهـا يف الفـراغ‪ ،‬تلقـي وابلاً مـن سـباب ال‬
‫ِّ‬ ‫تطـل مـن نافذتهـا‬
‫يفهمـه أحـد‪ ،‬تنتف شـعرها مـن الغضـب‪ ،‬وتأيت بحـركات متشـنجة غريبة‪.‬‬
‫خـرج جميـع الجيران مـن غرفهـم وامتـزج صياحهـم بأصـوات الغرميتني‪.‬‬
‫سـمعت أصـوات الرجـال الغليظـة تدعـو للهـدوء‪ ،‬تصـب اللعنـات على‬
‫إبليـس الرجيـم‪ ،‬سـبب املشـاكل والخالفـات! لكـن نصائـح الرجـال مل تزد‬
‫تحمـل الضوضـاء‪ .‬أصبح األمر أشـبه بعاصفة أو‬‫تعـذر ُّ‬‫املرأتين ّإل هياجـاً ‪َّ .‬‬
‫حـرر قـوى غامضـة مـن عقالهـا فانهـار الكـون على رؤوس سـاكنيه!‬ ‫زلـزال َّ‬
‫تحمـل الرصخات‬ ‫تحمـل الصخـب‪ .‬مل تعـد أذين تقـوى عىل ُّ‬
‫مل أسـتطع ُّ‬
‫ضـج صـدري بنبضـات قلبـي العنيفـة املتوترة وهـي تكاد‬
‫َّ‬ ‫املتشـنجة‪ ،‬فيما‬
‫تالمـس أضالعـي‪ .‬خنقنـي البكاء فسـقطت عند أقدام والديت فاقـد ًا الوعي‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫الفصل الثاين‬

‫كان مقـدم يـوم الثالثـاء نذيـر شـؤم على تالميـذ الكُ َّتـاب إىل درجـة أنـه‬
‫كان يترك يف فمـي بقيـةً مـن مـرارة‪ .‬كلّ أيـام الثالثـاء كانـت بلـون الرمـاد‬
‫بالنسـبة يل‪.‬‬
‫اللسـع وعمـرت ليلتـي الكوابيـس املريعـة التـي شـاهدت‬ ‫حـلَّ البرد ّ‬
‫عينـي ويكلـن يل أقـذع أنـواع‬
‫ّ‬ ‫فيهـا نسـاء منفوشـات الشـعر يهـددن بفـقء‬
‫الشـتائم‪ .‬تحملنـي إحداهـن أحيانـ ًا وتلقـي يب مـن النافـذة نحـو األسـفل‬
‫ـدة‪ ،‬لكـن يـد ًا حانيـة تلمـس جبهتـي‪.‬‬ ‫فأغـرق يف الفـراغ‪ .‬أرصخ ِ‬
‫بح ّ‬
‫توجهـت إىل الكُ َّتـاب على عـاديت يف الصبـاح‪ .‬كانـت نظـرات الفقيـه‬‫َّ‬
‫تعـودت أن تكـون عليـه كلّ يـوم ثالثـاء‪ :‬ال رحمـة وال شـفقة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫مشـابهة ملـا‬
‫أمسـكت لوحـي وبـدأت أقـرأ اآليـات املكتوبـة عليـه‪.‬‬
‫يف السادسـة مـن العمر كنت واعي ًا بهشاشـتي وبقسـوة العامل‪ .‬عرفت‬
‫مـرار ًا الخـوف واألمل الجسـدي املرتتـب عن رضبـات عصا السـفرجل‪ .‬كان‬

‫‪25‬‬
‫جسـدي الصغير يرتعـد يف مالبسـه الرقيقـة أكثر مـن اللزوم‪ .‬كنـت أخاف‬
‫ُخصصـة السـتظهار مـا حفظناه‪.‬‬ ‫نهايـة دوامنـا يف الكُ َّتـاب‪ ،‬وهـي الفترة امل َّ‬
‫علي‪ ،‬حسـب العـادة‪ ،‬أن أسـتظهر عشـية كلّ يـوم ثالثـاء‪ ،‬جميـع‬ ‫َّ‬ ‫كان‬
‫أحـزاب املصحـف الرشيـف التي حفظتها منـذ التحاقي بالكُ َّتاب‪ .‬يف سـاعة‬
‫الغـداء أعطـاين الفقيـه إشـارة اإلذن باالنرصاف فعلَّقت لوحـي عىل الجدار‬
‫وخرجـت إىل البـاب‪ ،‬حيـث ارتديـت خ ّفـي وعبرت الزقاق‪.‬‬
‫صداع شـديد‪ .‬لتعالج‬
‫ٍ‬ ‫اسـتقبلتني والـديت ببرود‪ ،‬فقـد كانت تعاين مـن‬
‫آالمهـا وضعـت على وجنتيهـا مجموعـة مـن دوائـر الـورق األزرق مدهونـة‬
‫بالطحين املبلـل‪ .‬تناولنـا غـداء مرتجلاً وبـدأ سـخان املـاء يصفـر فـوق‬
‫املوقد‪.‬‬
‫قدمـت جارتنـا السـابقة اللة عائشـة لزيارتنا‪ .‬اسـتقبلتها والديت شـاكية‬
‫ميـر‬
‫ـن ّ‬ ‫كم ْ‬
‫صـوت ضعيفـة َ‬‫ٍ‬ ‫مـن آالمهـا الجسـدية والروحيـة‪ُ ،‬متص ِّنعـة نبرة‬
‫بفترة نقاهـة‪ ،‬مشيرة إىل أطـراف جسـدها التي تعـاين مـن األمل املزعوم‪،‬‬
‫شـد منديـل رأسـها‪ .‬أسـدت لهـا اللـة عائشـة كلّ أنـواع النصـح‬ ‫ومحكمـة ّ‬
‫وأشـارت عليهـا مبراجعـة أحـد الفقهـاء يف حـار ٍة بعيـدة‪ ،‬فقيـه يجترح‬
‫املجربة‪ .‬كنت جالسـاً بخجل وصمت‬ ‫َّ‬ ‫املعجـزات بفضـل تعاويـذه ومتامئه‬
‫ركـن مـن أركان الغرفـة‪ ،‬فالحظـت الزائـرة الصفـرة التـي تعلـو مالمـح‬‫يف ٍ‬
‫وجهـي وسـألت‪:‬‬
‫ٍ‬
‫مرض ما؟‬ ‫‪ -‬هل يعاين ابنك من‬
‫الح َّسـاد كثيرة هنا‪ .‬وهي تطفئ نور هـذا الوجه الذي كان متألِّق ًا‬
‫‪ -‬عيـون ُ‬
‫مثـل ربطـة ورود‪ .‬هـل تتذكريـن كيف كانـت وجنتـاه قرمزيتين يف البداية؟‬
‫ورموشـه الطويلـة سـوداء مثـل أجنحة الغراب؟ حسـبي الله ونعـم الوكيل‬
‫الح َّسـاد!‬
‫من أعني ُ‬
‫‪ -‬سأسـدي لـك نصيحـة مناسـبة‪ ،‬لنذهـب ثالثتنا اليـوم بعد الـزوال إىل‬
‫رضيـح سـيدي أبـو غالـب‪ .‬لـن يتحمـل الولـد العـودة إىل الكُ َّتـاب وهـو عىل‬
‫هـذه الحـال‪ .‬وإذا رشب مـن مـاء الرضيـح سيسترجع نشـاطه وفرحتـه!‬

‫‪26‬‬
‫ٍ‬
‫بإسـهاب عـن آالم‬ ‫تـرددت والـديت قليلاً ‪ .‬لكـن اللـة عائشـة َّ‬
‫حدثتهـا‬ ‫َّ‬
‫املفاصـل التـي أنهكتهـا‪ ،‬عـن ركبتيهـا املتعبتين ويديهـا الثقيلتين‬
‫كالرصـاص‪ ،‬وصعوبـة التقلُّـب يف الفـراش والليـايل البيضـاء التـي قضتهـا‬
‫متألِّمـة صابـرة صبر سـيدنا أيـوب‪ ،‬كلّ هـذه اآلالم اختفـت بفضـل بـركات‬
‫والحجامين!‬
‫َّ‬ ‫يل األطبـاء‬
‫سـيدي علي أبـو غالـب و ّ‬
‫‪ -‬اللـة زبيـدة‪ ،‬إن اللـه أرسـلني ألرشـدك إىل طريـق العلاج‪ .‬إننـي أحبك‬
‫يف اللـه أنـت وابنـك‪ ،‬ولـن يطيـب يل مأكل وال مشرب إذا تركتـك تعانني ما‬
‫تعانني!‬
‫وعدتهـا والـديت أن تـزور رضيـح سـيدي علي أبـو غالـب بعـد الـزوال‬
‫ثـم صعـدت‬ ‫يف نفـس اليـوم‪ .‬قضـت املرأتـان وقتـ ًا طويلاً يف الرثثـرة‪ّ .‬‬
‫أمـي لسـطح الـدار وعـادت بقبضـة مـن النباتـات العطريـة التـي تزرعهـا‬ ‫ّ‬
‫يف مجموعـة مـن األواين املتقادمـة والطناجـر املثقوبـة‪ .‬عطّ ـرت شـايها‬
‫باللويـزاء والحبـق‪ .‬اقرتحـت على اللـة عائشـة أن تضـع ورقـة مـن أوراق‬
‫النعنـاع يف كأسـها‪ ،‬لكـن هـذه األخيرة اعتـذرت عـن ذلـك بلباقـة قائلـة إن‬
‫تعـودت أن تضع يف شـايها كلّ‬
‫َّ‬ ‫هـذا الشـاي معطَّ ـر مبـا فيـه الكفاية‪ ،‬وإنهـا‬
‫ـر ًا فترشبه‬
‫ال لدرجة يصبح الشـاي ُم ّ‬ ‫النباتـات العطريـة وترتكهـا تختمر طوي ً‬
‫لعلاج نوبـات مغصهـا‪.‬‬
‫فغيرت قميصهـا وقفطانهـا‪ .‬بحثـت يف قاع‬
‫اسـتعدت والـديت للخـروج َّ‬
‫خزانـة عـن حـزام قديـم باهت الخضرة‪ ،‬وجدت حجابـ ًا من القطـن األبيض‬
‫ثـم التحفـت بحايكهـا األبيـض الوقـور الذي غسـلته أمس‪.‬‬
‫ّ‬
‫كان يومـ ًا مشـهود ًا أُتيـح يل فيـه أن أرتدي جلبايب األبيـض الجديد‪ ،‬بد ً‬
‫ال‬
‫مـن نظيره الرمـادي املتسـخ الباهـت املبقَّـع ببقايـا الطعـام والحبر الذي‬
‫دأبـت عىل اسـتعامله‪.‬‬
‫وجدت اللة عائشة صعوبةً يف النهوض‪.‬‬
‫حافظـت ذاكـريت منـذ الطفولـة إىل اليـوم على صـورة هـذه املـرأة‪.‬‬
‫كانـت أميـل إىل القصر منهـا إىل الطـول‪ ،‬تحمـل رأسـ ًا يسـتقر مبـارش ًة‬

‫‪27‬‬
‫على جذعهـا وذراعين قصريتين ال تتوقفـان عـن الحركـة أبـداً‪ .‬كان وجهها‬
‫املـدور الناعـم يثير يفَّ نوع ًا من مشـاعر القـرف‪ .‬ال أحـب أن ِّ‬
‫تقبلني‪ .‬وكلَّام‬ ‫َّ‬
‫تتحدر‬
‫َّ‬ ‫قدمـت لزيارتنـا كانـت والديت تجبرين عىل تقبيـل ظاهر يدها‪ ،‬ألنهـا‬
‫نسـب رشيـف‪ ،‬وألنهـا عاشـت يف بحبوحـة مـن ِ‬
‫الغنـى قبـل أن تتقلَّـب‬ ‫ٍ‬ ‫مـن‬
‫األحـوال ويغـدر بهـا الزمـان‪ّ ،‬إل أنهـا ظلـت مـع ذلـك صابـر ًة محافظـة عىل‬
‫عالمـات الوجاهـة‪ .‬كانـت العالقـة مع امرأة مثـل اللة عائشـة مدعاة للفخر‬
‫بالنسـبة لوالـديت‪.‬‬
‫يف النهايـة نـزل الجميـع درجـات سـلم املنـزل وبلغنـا الزقـاق‪ .‬كانـت‬
‫املرأتـان متشـيان بتـؤدة ورفـق‪ ،‬متيلان عىل بعضهما البعض‪ ،‬بين الفينة‬
‫واألخـرى‪ ،‬لتبـادل التعاليـق الهامسـة‪ .‬كانـت أصواتهما تزعـزع الجـدران‬
‫تتحـول نفس األصوات‬‫َّ‬ ‫داخـل الـدار حني تحكيان أتفـه التفاصيل‪ ،‬يف حني‬
‫خارجـ ًا إىل همسـات خجولـة مسـموعة بالـكاد‪ .‬كنـت أرسع الخطـو أحيانـ ًا‬
‫بالتمهـل‪ ،‬تغدقـان النصائـح والتعليمات يك‬ ‫ُّ‬ ‫فتمسـكان يب وتنصحـاين‬
‫ال أمشي بجـوار الجـدران فهـي متسـخة ميكـن أن تنتقـل أوسـاخها إىل‬
‫مطـرز معلَّـق يف عنقـي‪،‬‬
‫َّ‬ ‫علي مسـح أنفـي مبنديـلٍ‬ ‫جلبـايب الرائـع‪ ،‬كان َّ‬
‫الحملين‪ ،‬عـدم الوقـوف خلفهـا يك ال تركلني‬ ‫َّ‬ ‫تج ُّنـب االقتراب مـن حمير‬
‫عـض األطفـال الصغـار‪ .‬خاطبتنـي‬ ‫ّ‬ ‫خاصـة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫وال أمامهـا ألنهـا تحـب‪ ،‬بصفـة‬
‫والـديت‪:‬‬
‫‪ -‬هات يدك ألمسكها!‬
‫ثم بعد خمس خطوات‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬اذهب أمامنا‪ ،‬يدك عرقانة!‬
‫ثـم اقرتحـت اللـة عائشـة أن‬ ‫ملـدة محـدودة‪ّ .‬‬‫ّ‬ ‫أخـذت حريتـي‪ ،‬لكـن‬
‫متسـكني مـن يـدي لئلا أضيـع يف الزحمـة‪ .‬كانـت تسير ببـطء وتحتـل‬
‫عب‬
‫املارة اتجاهنـا تعليقات ُت ِّ‬
‫ّ‬ ‫تكون اختناق مـروري‪ .‬ألقى‬
‫مسـاحة معتبرة‪َّ .‬‬
‫التبرم‪ ،‬غير أنهـم سـاعدونا‪ .‬حملتنـي سـواعد مجهولـة فـوق الرؤوس‬ ‫ُّ‬ ‫عـن‬
‫ٍ‬
‫لحظـات قبل أن أملح‬ ‫ٍ‬
‫مسـاحة خاليـة‪ ،‬انتظرت‬ ‫وأخرجتنـي مـن الزحمة إىل‬

‫‪28‬‬
‫متعـددة خالل‬‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫مرات‬ ‫تكـرر نفس املشـهد‬‫الحايكين األبيضين الناصعين‪َّ .‬‬
‫رحلتنـا هـذه‪ .‬عربنـا مجموعـة مـن األزقة املتشـابهة‪ .‬كنـت منتبهـ ًا لنصائح‬
‫املرأتين‪ ،‬حـذر ًا مـن الحمري‪ ،‬لكنني أصطـدم أحيان ًا بأرجل املـارة‪ ،‬ال أقطع‬
‫ثـم وصلنـا أخير ًا املقبرة املوجـودة بجـوار‬
‫حاجـز ًا ّإل اصطدمـت بآخـر‪ّ .‬‬
‫رضيـح سـيدي علي أبـو غالـب فأحسسـت بالفـرح‪.‬‬
‫تزيـن ظاهرهـا زهـور املخمـل األحمر تعكس أشـعة‬ ‫كانـت القبـور التـي ِّ‬
‫ٍ‬
‫أهرامات مـن مثار‬ ‫شـمس النهـار‪ .‬جلـس هنـا وهنـاك باعـة الربتقـال خلـف‬
‫فاكهتهـم‪ .‬سـمعنا صـوت قـرع طبل صغري ملغنٍ شـعبي‪ ،‬وصـوت نواقيس‬
‫سـقَّاء يبيـع املـاء‪ .‬يف السـاحة الصغيرة‪ ،‬جلـس قرويـون يبيعـون حطبـ ًا‬
‫فخـار وأطباقـ ًا لطبـخ الفطائـر‪ .‬أثـارت‬
‫لتسـخني مـاء الغسـيل ومواقـد مـن ّ‬
‫تتضمـن ديـوك ًا وكتاكيـت مـن سـكّ ر‬
‫َّ‬ ‫انتباهـي سلال باعـة الحلويـات‪ .‬كانـت‬
‫صفـراء اللـون تزينهـا خيـوط ورديـة‪ ،‬على شـكل أوانٍ شـفافة وخفـاف‬
‫يتضمنه صنـدوق عجائبي‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ومنافـخ صغيرة‪ .‬ذكّ رتنـي أشـكال الحلويات مبـا‬
‫سـبق أليب أن أهـداين بعضـاً مـن هـذه الحلويـات مـن قبـل‪ ،‬غير أنهـا ذابت‬
‫مجـرد أكـوام رماديـة ال تسـتحق أن تدخـل‬ ‫َّ‬ ‫قبـل وصولنـا للـدار‪ ،‬صـارت‬
‫صنـدوق كنـوزي‪ ،‬لكنهـا كانـت جميلة هنا‪ ،‬يف الشـمس بني لغـط الجمهور‬
‫وبسـطات الباعـة‪.‬‬
‫كان سـطح الرضيـح املغطـى بالقرميـد األخضر ينتصـب يف األفـق‬
‫اللازوردي الـذي ترقـص فيـه غيـوم بيضـاء وورديـة‪ .‬جلسـت يف املدخـل‬
‫مجموعـة من النسـاء يتجاذبن أطراف الحديث وميضغـن العلكة املعطرة‬
‫وجهـات األوامـر ألطفالهـن الصغـار الذيـن يلعبـون يف‬‫تحـت حجابهـن‪ُ ،‬م ِّ‬
‫اضطـرت النسـوة لالبتعـاد عـن املدخـل لنتمكَّ ن نحن مـن الولوج‪.‬‬
‫َّ‬ ‫التراب‪.‬‬
‫وجدنـا أنفسـنا بعدهـا يف سـاحة بـدت يل فسـيحة األرجـاء تتوسـطها‬
‫أربـع أوانٍ مـن الفخـار ممتلئـة باملـاء‪ .‬ناولتنـي والـديت كأس مـاء طالبـة‬
‫ويـدي‪ ،‬وهـي تتلـو‪ ،‬يف أثنـاء ذلـك‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ثـم بللـت وجهـي وركبتـي‬
‫منـي رشبـه‪ّ ،‬‬
‫أدعيـة غير مفهومـة وتطالبنـي بلـزوم الصمـت قبـل أن تلتفـت نحـو اللـة‬
‫أتحمـل‬
‫َّ‬ ‫عائشـة وتذكّ رهـا ببعـض مـا شـاهدناه يف طريقنـا إىل هنـا‪ .‬كنـت‬

‫‪29‬‬
‫هـذه الطقـوس بصبري املعهـود وبرصي شـاخص نحـو جيش مـن القطط‬
‫التـي تلهـو داخـل هـذا املقـام العجيب‪ .‬بعد هذه السـاحة يوجـد الرضيح‪،‬‬
‫ُربعـة التي تؤوي قرب الـويل الصالح‪ ،‬بابـان يقودان‬
‫يوجـد بابـان بالغرفـة امل َّ‬
‫للـزوار القادمني مـن أماكن بعيـد ٍة باحثني عن‬
‫َّ‬ ‫مخصصـة‬‫َّ‬ ‫نحـو غـرف إقامـة‬
‫العلاج مـن آالمهـم وأمراضهـم‪ ،‬والذيـن يقيـم البعـض منهـم أيامـ ًا طويلة‬
‫هنـا بانتظار الشـفاء‪.‬‬
‫مبجـرد وصولنـا‪ ،‬رشعـت اللة عائشـة ووالـديت يف طلب الربكـة والعون‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬
‫بأصـوات جهوريـة‪ .‬تجاهلـت كلّ منهما أدعيـة األخـرى‬ ‫مـن الـويل الصالـح‬
‫ورشعـت تسـتعرض آالمهـا ومشـاكلها الشـخصية الصغيرة‪ ،‬بينما تتلمس‬
‫متأوهتين شـاكيتني داعيتين على أعدائهما‬ ‫ّ‬ ‫أيديهما خشـب الرضيـح‬
‫مقدس من قلـوب املرأتين‪ .‬طفقتا‬ ‫بحماس يقـارب الهيـاج‪ .‬متكَّ ـن هذيـان َّ‬ ‫ٍ‬
‫يل الصالـح مـن‬
‫تعـددان آالمهما‪ ،‬تطلبـان العـون‪ ،‬تسـتجديان انتقـام الـو ّ‬ ‫ِّ‬
‫ٍ‬
‫الخصـوم‪ ،‬تعرتفـان بذنـوب صغيرة‪ ،‬تطلبـان رحمـة اللـه وبركـة وعطـف‬
‫وليـه سـيدي علي أبـو غالـب‪ .‬إىل أن توقفتـا بعدمـا تعبتـا‪ .‬جاءت مسـؤولة‬ ‫ّ‬
‫عبتـا عنهـا‪ ،‬ودعـت‬
‫َّ‬ ‫التـي‬ ‫والـورع‬ ‫التقـوى‬ ‫مظاهـر‬ ‫على‬ ‫أتهما‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫فه‬ ‫الرضيـح‬
‫لهما بالصلاح قائلـة‪:‬‬
‫‪ -‬سيسـتجيب اللـه لدعواتكما وسـيمكّنكام مما ترغبان فيه‪ .‬الله واسـع‬
‫الضر ويـداوي الجـراح‪ .‬رحمتـه وسـعت كلّ يشء وكلّ‬ ‫ّ‬ ‫كريـم‪ ،‬يشـفي‬
‫مخلوق‪ .‬أليس من عالمات رحمته أن بعث لنا الرسـل لينجونا من الضالل‪،‬‬
‫وليهدونـا إىل طريـق الفلاح والجنـة؟ إن مـن عالمـات رحمته أن أرسـل إلينا‬
‫الهـادي سـيدنا محمـد (صلى اللـه عليـه وسـلم)‪ ،‬ليعلمنـا مـكارم األخالق‪:‬‬
‫وبـر الوالديـن واإلحسـان إىل كلّ الخالئـق‪ .‬والذيـن ا َّتبعـوا الهـدى‬
‫الرتاحـم ّ‬
‫وسـاروا على درب الفضيلـة التامـة هـم أوليـاء اللـه الذيـن نرجـو بركتهـم‪.‬‬
‫ومـن هـؤالء األوليـاء سـيدي علي أبو غالـب‪ .‬كان يحـب كلّ مخلوقـات الله‬
‫خاصة القطـط! لدينا منها اآلن أكرث من خمسين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ويعطـف عليهـا جميعـاً‪،‬‬
‫يحمـل النـاس إلينـا القطـط املريضـة واملصابـة بالكسـور والجـرب‪ .‬ومـا‬
‫مـدة قصيرة هنـا‪ .‬تسترجع قوتهـا وفرحهـا‪.‬‬ ‫تلبـث أن ُتشـفَ ى بعـد قضائهـا ّ‬

‫‪30‬‬
‫ونحـن نطعمهـا ونعالجهـا ابتغـاء مرضـاة الله!‬
‫رشعـت والـديت يف البحـث بني تالبيب ثيابهـا وأخرجت منديلاً ذا عقدة‬
‫غليظـة‪ .‬فسـخت العقـدة بصعوبـة مسـتعينة بأسـنانها بعدمـا مل تفلـح‬
‫األصابـع وحدهـا يف ذلـك‪ .‬وشوشـت اللـة عائشـة بكلمـة غامضـة يف أذن‬
‫والـديت التـي أومـأت برأسـها وأخرجـت قطعتـي نقود مـن فئة فرنـك واحد‪،‬‬
‫أعطتهما ملسـؤولة الرضيـح قائلـةً ‪:‬‬
‫‪ -‬هذه القطعة يل‪ ،‬وهذه نيابة عن الرشيفة التي ترافقني!‬
‫تلقَّـت املسـؤولة القطعتين النقديتين وبـدأت يف تلاوة دعـاء حـار‪.‬‬
‫التحقـت نسـوة أخريـات مبجموعتنـا يف هـذه اللحظـة لالسـتفادة من عبق‬
‫اللحظـة الروحانيـة التـي عطّ ـرت قلـوب الجميـع‪.‬‬
‫ممـدد ًا بجانـب‬
‫َّ‬ ‫انسـللت مـن جمـع النسـاء ببـطء وقصـدت قطـ ًا كبير ًا‬
‫أمسـد ظهـره‪ ،‬لكنـه نظر باتجاهـي بعينيـه الصفراوين‪،‬‬ ‫الجـدار‪ ،‬حاولـت أن ّ‬
‫سـدد يل رضبـة مخلـب قويـة‪ ،‬سـال الـدم من يـدي‪ .‬أطلقت‬ ‫ومـاء قبـل أن ُي ِّ‬
‫رصخـة أمل فاقرتبـت منـي والـديت برسعـة وهـي تدفـع النسـوة املحيطـات‬
‫بهـا وتـكاد تتعثر يف ثـوب حايكهـا املنشـور فـوق األرض‪.‬‬
‫آملنـي الجـرح فرشعـت يف البـكاء‪ ،‬وبـدأت النسـوة محاولـة تهدئتـي‪.‬‬
‫أهدتنـي إحداهـن برتقالـة وسـمعت كلمات مـن نـوع‪ :‬ولـد يشـبه وردة‬
‫صغيرة‪ ،‬ربطـة الياسـمني‪ ،‬قطعـة جبن أبيـض‪ .‬أخافتنـي وجـوه النسـاء‬
‫يـد مبللة باملـاء عىل جبهتي‪ ،‬مسـحت‬‫اسـتقرت ٌ‬
‫َّ‬ ‫الكثيرة فواصلـت البـكاء‪.‬‬
‫هـدأت بـرودة اليـد مـن روعـي فتوقَّفـت عـن الرصاخ‪.‬‬
‫دموعـي وخياشـيمي‪َّ .‬‬
‫لكننـي مل أتوقـف عـن النحيـب املتقطع يف طريـق العودة‪ ،‬ونامـت والديت‬
‫مبجـرد وصولنـا الـدار‪.‬‬
‫َّ‬
‫ـن يسـتيقظ يف الصبـاح‪ .‬أشـاهد‬ ‫أول َم ْ‬
‫تعـود والـدي أن يكـون َّ‬
‫َّ‬
‫متعـددة حول خرصه‬ ‫ِّ‬ ‫ات‬‫ملـر‬
‫َّ‬ ‫يلف‬ ‫وهو‬ ‫عائـم‬ ‫ٍ‬
‫بشـكل‬ ‫وقامتـه‬ ‫حركاتـه‬
‫ال مـن وبـر املاعـز‪ ،‬يـدور حـول نفسـه‪ ،‬يرفـع رجلاً‬ ‫حبلاً مجـدو ً‬
‫ويضعهـا قبـل أن يرفـع األخـرى‪ .‬ينجـز حـركات واسـعة بيديـه‪ ،‬ير ِّتب‬

‫‪31‬‬
‫ثـم يرتـدي جلبابـه ويغـادر الغرفـة بينما والـديت‬
‫أطـراف عاممتـه‪ّ ،‬‬
‫مسـتمرة يف نومهـا‪.‬‬
‫يف هذا الصباح سمعته يهمس بأذنها قبل املغادرة‪:‬‬
‫‪ -‬ال ترسليه إىل الكُ َّتاب فهو يبدو متعباً!‬
‫أومـأت والـديت برأسـها موافقة وغطسـت مـن جديد تحـت األغطية‪ .‬مل‬
‫أي مـن سـكان الـدار‪ .‬حـط طائـرا دوري على النافـذة املطلة‬
‫يسـتيقظ بعـد ٌّ‬
‫على الفنـاء وطفقـا يتقافـزان مـن ركـنٍ آلخـر ضاربين الهـواء بأجنحتهما‬
‫بولـع وحماس‪ .‬كنـت أفهم لغتهما‪ .‬كان األمـر يتعلَّق‬
‫ٍ‬ ‫القصيرة‪ ،‬يتجـادالن‬
‫بحـوا ٍر بينهما‪ ،‬دار كما ييل‪:‬‬
‫‪ -‬أحب التني املُجفَّف!‬
‫‪ -‬ملاذا تحب التني املُجفَّف؟‬
‫‪ -‬الجميع يشتهي التني املُجفَّف!‬
‫‪ -‬نعم! نعم! نعم!‬
‫‪ -‬الجميع يشتهي التني املُجفَّف‪.‬‬
‫‪ -‬التني املُجفَّف!‬
‫‪ -‬التني املُجفَّف!‬
‫‪ -‬التني املُجفَّف!‬
‫خفقـت األجنحـة وواصـل الدوريـان حوارهما قبـل أن يغـادرا باتجـاه‬
‫سـطوح أخـرى‪.‬‬
‫كنـت أفهـم لغـة العصافير ولغـات حيوانـات أخـرى غريهـا‪ ،‬لكنهـا ال‬
‫مبجـرد اقترايب منهـا‪ ،‬وكان ذلـك يحزننـي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وتفـر‬
‫ّ‬ ‫تـدرك ذلـك‬
‫فالعرافة‬
‫َّ‬ ‫ُسـمع يف الفنـاء صـوت ارتطام سـطول ببعضهـا البعـض‪.‬‬
‫أول َم ْـن يسـتيقظ لتطـرد العفاريـت‪ ،‬لحسـن الحـظ! فخيـاالت الليـل‬
‫َّ‬

‫‪32‬‬
‫تتأخـر عـن املغـادرة وتواصـل التسـكّ ع حتـى هـذه اللحظـة‬
‫َّ‬ ‫وعفاريتـه‬
‫قـرب البئر واملراحيـض ويف املخـزن الكبير الـذي يغتسـل فيـه‬
‫القاطنـون‪.‬‬
‫وتكـف‬
‫ّ‬ ‫رش الجـن‬
‫العرافـة مطّ لعـة على التعاويـذ التـي تهـزم ّ‬
‫َّ‬ ‫كانـت‬
‫ورش قطـرات‬
‫ع ّنـا أذاهـا‪ .‬وقـد درجـت على إحـراق البخـور بأرجـاء املـكان ّ‬
‫الحليـب ومـاء الزهـر وتلاوة تعويـذات طويلـة كلّ ليلـة خميـس‪.‬‬
‫ُسـمع رصيـر بـاب يفتـح‪ .‬رشعـت زينـب بنـت الجـارة رحمـة يف البـكاء‬
‫فصفعتهـا والدتهـا صفعـةً قويـة وصلنـي صداها قبـل أن تكيل لهـا واب ً‬
‫ال من‬
‫الشتائم‪.‬‬
‫التبـول يف فراشـك كلّ ليلـة‪ ،‬يف مثـل هـذه السـن؟!‬
‫ُّ‬ ‫‪ -‬أال تخجلين مـن‬
‫علي أن أسـجنك يف إسـطبل بـد ً‬
‫ال مـن إعـداد فراشـك كلّ ليلـة!‬ ‫َّ‬
‫العرافة‪:‬‬
‫َّ‬ ‫قاطعتها‬
‫‪ -‬صباح الخري يا رحمة!‬
‫نور الله صباحك يا سيديت!‬
‫‪َّ -‬‬
‫‪ -‬كيف استيقظت؟ أكل يشء عىل ما يرام؟‬
‫‪ -‬أحمـد اللـه على نعمتـه‪ ،‬وأصبر عىل نقمتـه منـذ وهبني هـذه الطفلة‬
‫والضاء!‬
‫السراء َّ‬‫البوالـة يف الفـراش! أحمـد اللـه يف َّ‬
‫املنحوسـة َّ‬
‫‪ -‬أبعـد اللـه عنـك كلّ مـا يكـدر العيـش! س ُتشـفى هـذه الطفلـة مـن‬
‫مشـكلتها وسـتكون سـندك يف هـذه الدنيـا الزائلـة!‬
‫‪ -‬سمع الله دعاءك يا اللة! وحفظ أحبابك من كلّ مكروه!‬
‫وتنهـدت قبـل أن تجلـس‬‫َّ‬ ‫تحركـت والـديت تحـت أغطيتهـا‪ ،‬سـعلت‬‫َّ‬
‫فـوق فراشـها‪ .‬نهضت وفتحـت النافذة فتدفَّق الضوء الـذي آمل عيني‪.‬‬
‫سـمعت رصيـر مصاريـع نافـذة فاطمـة البزيويـة ُتفتـح‪ .‬بـدأت والديت‬
‫ُوجهـة لجارتنا‬
‫النـص الطويـل لتحيتهـا الصباحية االعتياديـة امل َّ‬
‫ّ‬ ‫تلاوة‬

‫‪33‬‬
‫تكـن‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫عبـارات مشـابهة‪ .‬مل‬ ‫تتضمـن‬
‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫بتحيـة طويلـة مامثلـة‬ ‫ردت‬
‫التـي َّ‬
‫أي منهما تنصـت فعلاً لتحيـة األخـرى‪ ،‬بـل كانتـا تتبـادالن الحديـث‬
‫املعهـود الـذي تطـرح كلّ منهما فيـه أسـئلة حـول األحـوال تعلـم‬
‫مسـبق ًا أجوبتهـا‪ .‬ومنذ سـك ّنا مع ًا يف نفـس البناية قبل ثالث سـنوات‪،‬‬
‫غيتـا أحيانـ ًا كلمـةً مـا أو‬
‫ربـا ّ‬‫تبادلتـا نفـس العبـارات كلّ صبـاح‪َّ .‬‬
‫أشـارت إحداهما إىل حـدث قريـب طرأ عىل سـكان الدار مؤخـراً‪ ،‬لكن‬
‫تكرر نفس السـؤال كلّ صباح‪:‬‬ ‫ذلـك كان نـادر الحدوث‪ .‬كانـت والديت ِّ‬
‫‪ -‬كيف أصبحت؟ أمل تعاين من الصداع؟ هل كان نومك هادئاً؟‬
‫قبل أن تواصل‪:‬‬
‫يعوضها يشء!‬
‫األول يا أختي! ال ِّ‬
‫الصحة هي كنز الدنيا َّ‬
‫‪ِّ -‬‬
‫لكنها أضافت يف هذا اليوم‪:‬‬
‫‪ -‬ولـدي ليـس على مـا يـرام اليـوم‪ ،‬أنجـاك اللـه مـن كلّ رش َو َر ّد عنـك‬
‫وعـن أحبابـك عيـون الحسـاد!‬
‫العرافة من الطابق األريض‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ثم ارتفع صوت‬
‫ّ‬
‫بالصحـة والعافية‪،‬‬
‫‪ -‬صبـاح الخير يـا اللـة زبيدة! حفظـك الله ومتعـك ِّ‬
‫أنـت وأرستـك الصغرية!‬
‫أمي‪:‬‬
‫أجابت ّ‬
‫الصحـة‬
‫ونـور صباحـك! كيـف أصبحـت؟ رزقـك اللـه ِّ‬
‫‪ -‬بـارك اللـه فيـك َّ‬
‫والسـعادة‪ ،‬أنـت وأقربـاؤك‪.‬‬
‫العرافة‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ردت‬
‫َّ‬
‫سيسـخر الله له أنصار ًا‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬ال تقلقـي بشـأن ولدك‪ ،‬أوليـاء الله يتعهدونه‪،‬‬
‫الخيرة‪ .‬وعندما‬‫ِّ‬ ‫مـن اإلنـس والجـن‪ .‬اعلمـي أنـه محبـوب مـن لـدن األرواح‬
‫الحـق‪ ،‬محارب ًا شـجاعاً‪ ،‬وعسـل نحل يحب‬ ‫ِّ‬ ‫يكبر سـيصري سـيف ًا من سـيوف‬
‫الناس عطـره وطعمه!‬

‫‪34‬‬
‫ردت عليها والديت‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬جعـل اللـه العسـل والزبـد يسـيالن مـن فمـك الحلـو وعطَّ ـر أنفاسـك‬
‫برائحـة الجنـة!‬
‫ثم أضافت متحمسة رافعةً رأسها إىل السامء‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬أسـألك يـا ريب أن متطـر شـآبيب رضـاك على هـذه املـرأة الفاضلـة‬
‫يف الدنيـا واآلخـرة‪ .‬لريزقهـا اللـه ِح َّجـ ًا مبرور ًا إىل األماكـن التـي نـزل فيهـا‬
‫الوحـي والرسـالة على نبيـك صىل الله عليـه وعىل آله وصحبـه! آمني يارب‬
‫العاملني!‬
‫ٍ‬
‫بصوت واحد‪:‬‬ ‫رددت جميع النسوة‬
‫َّ‬
‫‪ -‬آمني!‬
‫خلال كلّ هـذا كنـت قـد نهضـت وارتديـت جلبايب‪ .‬أحسسـت بصفري‬
‫يف أذين لكننـي مل أشـعر بالتعـب‪ .‬أفرحنـي احتمال متضيـة النهـار‬
‫كلـه باملنـزل بعيـد ًا عـن عين الفقيـه وعـن عصـا السـفرجل الالسـعة‬
‫يف يـده‪ .‬كنـا يف يـوم أربعـاء‪ .‬وكان الخميـس يـوم عطلـة متتـد إىل مـا‬
‫مدة‬ ‫بعـد زوال الجمعـة‪ .‬كان أمامـي يومـان ونصـف اليـوم مـن العطلـة‪ّ ،‬‬
‫سـأنعم خاللهـا بالراحـة مثـل أمير‪ .‬سـاعدتني والـديت على االغتسـال‪،‬‬
‫صـص لهـا كمطبـخ محا ِولـةً إيقـاد النـار‪.‬‬ ‫ثـم جلسـت يف الركـن الـذي ُخ ِّ‬
‫ّ‬
‫تعالـت يف أرجـاء الـدار التـي عمرتهـا شـمس ناصعـة الضـوء أصـوات‬
‫تتضمـن بيضـ ًا مقلي ًا‬
‫َّ‬ ‫املنافيـخ‪ .‬نصبـت مائـدة الفطـور يف غرفتنـا‪ ،‬كانـت‬
‫بزيـت الزيتـون وخبـز ًا فرشعنـا يف األكل‪ .‬سـمعت صـوت عالّل البسـتاين‬
‫زوج فاطمـة يف مدخـل الـدار يـسـتــأذن‪:‬‬
‫‪ -‬أال ُيوجد أحد؟ هل ميكنني املرور؟‬
‫ردت رحمة‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬ال ُيوجد أحد‪ ،‬بإمكانك املرور‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫سـمعت صـوت خطواتـه يف درجـات السـلم‪ .‬اختفـى داخـل مسـكنه‬
‫وبعـد هنيهـة دخلـت زوجتـه إىل غرفتنـا حاملـةً طبقـ ًا مـن خـزف بـه فطائـر‬
‫«سـفنج»((( مقليـة كنـت أعشـق مذاقهـا‪.‬‬
‫تردد‬
‫أمـي السـتقبال زائرتهـا وقـد بدا عىل وجههـا الضيق‪ ،‬وهـي ِّ‬
‫نهضـت ّ‬
‫عبـارات الشـكر والرتحيب املعتـادة يف مثل هذه املناسـبات‪.‬‬
‫‪ -‬ملـاذا أزعجـت نفسـك‪ .‬عندنـا والحمـد للـه مـا يكفـي للفطـور‪ .‬فطريتا‬
‫«سـفنج»! هـذا كثير جـداً! ال‪ ،‬لـن أقبلهام!‬
‫تردد والديت‪ ،‬أمسكت يدها محتجة‪:‬‬
‫حاولت جارتنا أن تنهي ُّ‬
‫‪ -‬رفـض هديتـي إهانة يل‪ ،‬أعطي الفطريتني لسـيدي محمـد! عافاه الله!‬
‫هذا يشء بسيط!‬
‫أمي يف النهاية‪.‬‬
‫شكرتها ّ‬
‫ُخصص ألوليائه الصالحني!‬
‫‪ -‬ليغدق عليك الله من طعام الجنة امل َّ‬
‫‪ -‬ليفتح علينا الله جميعاً!‬
‫خرجـت فاطمـة‪ ،‬عـادت لغرفتهـا وزوجهـا‪ .‬دفعـت والـديت صحـن‬
‫الفطريتين اتجاهـي‪.‬‬
‫تتحمل الزيت!‬
‫َّ‬ ‫تحب الفطائر املقلية! معديت ال‬
‫ُّ‬ ‫‪ -‬كُ لْ االثنتني‪ ،‬فأنت‬
‫‪ -‬تلذَّ ذت وحدي مبذاقهام الشهي‪.‬‬
‫متدرب كان يعمل يف مشـغل والـدي يناديه الجميع‬ ‫ِّ‬ ‫طـرق البـاب عامل‬
‫إدريـس األقـرع‪ .‬طلـب ق ّفـة ليجلـب لنـا مشتريات‪ .‬أوصتـه والـديت بصـوتٍ‬
‫لين امللمـس‪ .‬كان والدي‬ ‫مرتفـع أن يختـار لحمـة دون عظـم وفـو ً‬
‫ال أخرض ّ‬
‫ٍ‬
‫حالـة مـن الرخـاء املـادي مكنتنا مـن تنـاول اللحم ثالث‬ ‫يعيـش آنـذاك يف‬
‫أو أربـع مرات يف األسـبوع‪.‬‬

‫((( فطائر مقلية يف الزيت عىل شكل حلقة‪[ .‬املرتجم] ‬

‫‪36‬‬
‫تحـدر الوالـد مثـل الوالـدة مـن أصـولٍ جبلية‪ .‬وبعدمـا غـادر قريته التي‬
‫َّ‬
‫تبعـد خمسين كيلومتر ًا عـن املدينـة الكبيرة‪ ،‬تعـب بدايـةً يف الحصـول‬
‫يؤمـن له رزقـ ًا كافيـ ًا إلعالة زوجتـه‪ .‬كان أهـايل قريتـه يحرتفون‬
‫على عمـل ِّ‬
‫ٍ‬
‫فتوجب احرتاف صنعة ما أو إنشـاء‬‫َّ‬ ‫أمـا يف املدينة‬
‫الزراعـة وقطـع الطـرق‪ّ .‬‬
‫تجـارة بسـيطة‪ .‬وكانت عائلتنا تنظـر للتجارة نظرة احتقار فلاذت بالصنعة‪.‬‬
‫تذكَّ ـر والـدي أنـه سـبق لـه قضـاء فترة تدريـب يف مشـغل خالـه الـذي‬
‫احترف صنعـة نسـج األغطيـة واألفرشـة الصوفيـة‪ .‬لـذا اشترى عـدد ًا‬
‫محـدود ًا مـن أدوات الحرفـة‪ ،‬اكرتى ركن ًا يف مشـغل وأصبح بدوره ّ‬
‫نسـاجاً‪.‬‬
‫وحسـن نوعيـة منتجاتـه فاشـتهرت بضاعتـه والقـت‬ ‫ّ‬ ‫عمـل بهمـة وإخلاص‬
‫رواجـ ًا مكَّ ـن األرسة الصغيرة مـن قـد ٍر معقـول مـن الرخـاء‪ .‬وظّ ـف والـدي‬
‫مجربـاً كبير السـن يسـاعده على النـول‪ ،‬فيام كلَّـف إدريـس األقرع‬
‫َّ‬ ‫عاملاً‬
‫بأعمال السـخرة‪.‬‬
‫درج إدريـس على القـدوم إىل منزلنـا مرتين يف اليـوم‪ ،‬األوىل لشراء‬
‫األغـراض‪ ،‬والثانيـة لتوصيـل الغـداء لرئيسـه يف العمـل‪ .‬يتنـاول والـدي‬
‫شـكل‬ ‫ال بعد صالة العشـاء‪ .‬فيام َّ‬‫غـداءه يف املشـغل وال يعـود لداره ّإل لي ً‬
‫يؤدي‬
‫اسـتثناء‪ ،‬فخالله يسـتمر بالعمل إىل منتصف الـزوال‪ِّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫يـوم الجمعـة‬
‫ليتغدى‬
‫َّ‬ ‫ثـم يقصـد املسـجد للصلاة قبل أن يعـود إىل الـدار‬ ‫أجـور َّ‬
‫عملـه‪ّ ،‬‬
‫معنا ‪.‬‬
‫ينـس األقـرع شـيئاً‪ ،‬كما كانـت‬
‫َ‬ ‫حملاً باملقتنيـات‪ .‬مل‬
‫عـاد إدريـس ُم َّ‬
‫اللحمـة ذات مظهـر طيـب والفـول يانعـاً‪ ،‬الشيء الـذي أسـال لعابنـا‪.‬‬
‫تضمنـت القفـة ثومـ ًا وبقدونسـ ًا وكميـات مـن التوابـل‪ّ .‬‬
‫أمـا الزيـت والفحـم‬ ‫َّ‬
‫ملـدة شـه ٍر كامـل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫منـه‬ ‫يكفـي‬ ‫مـا‬ ‫لدينـا‬ ‫فـكان‬ ‫والدقيـق‬
‫الح َّسـاد كانـت تقصد‪ ،‬من دون شـك‪،‬‬ ‫تحدثـت والـديت عـن عيون ُ‬
‫عندمـا َّ‬
‫ً‬
‫ثروتنـا الصغيرة هذه التـي أثارت بعضا من الحسـد لدى جاراتنـا األكرث فقراً‪.‬‬
‫أمي كانت تعرف‬ ‫تكـن الجـارات تجهلن شـيئ ًا مـن حقيقة أوضاعنا‪ .‬كما أن ّ‬
‫مل ْ‬
‫الصعوبـات التـي عاىن منهـا الجميع‪ :‬مداخيـل ومصاريـف كلّ أرسة والديون‬
‫توجـب على هـذا أو ذاك دفعها‪ ،‬وحتـى ما يطبخـون من طعام‪.‬‬ ‫التـي َّ‬

‫‪37‬‬
‫طلبـت منـي والـديت أن أسـاعدها يف تقشير الفـول‪ .‬وافقـت لكننـي‬
‫رسعـان مـا سـئمت مـن هـذا العمل‪ .‬ذهبـت إللقاء نظـرة عىل غرفـة فاطمة‬
‫تجمعت الخضـار‪ :‬لفت‬ ‫ـد كسكسـاً‪ .‬يف أحـد األركان َّ‬ ‫البزيويـة فوجدتهـا ُت ِع ُّ‬
‫وجـزر وقـرع أخضر وبصل‪ .‬كانـت هذه الجـارة تحبني حبـ ًا صادقـاً‪ .‬توقَّفت‬
‫للحظـة عـن إعداد كسكسـها وف َّتشـت يف القفَّـة قبل أن تجـد فجلة حمراء‬
‫مثـل زمـردة وتعطينـي إياهـا‪ .‬شـكرتها بابتسـامة ورشعـت يف ازدراد حبـة‬
‫الفجـل اللذيـذة‪ .‬كان مذاقهـا قويـ ًا إىل درجـة أن الدمـع قـارب الخروج من‬
‫الحريـف‪ .‬خرجـت وصعـدت‬ ‫ّ‬ ‫عينـي‪ .‬مل أقـلْ لهـا شـيئ ًا عـن مـذاق الفجلـة‬
‫ّ‬
‫درجـات السـلم التـي تقـود إىل سـطح الـدار وألقيـت حبـة الفجـل الرائعـة‬
‫على سـطح املنـزل املجـاور الـذي ال يفصلـه ع ّنـا ّإل جـدار‪.‬‬
‫كانـت أشـعة الشـمس رائقة سـاخنة فيام اختـار قط جمـع يف لونه بني‬
‫ممدد ًا عىل طول جدار وعيناه نصف مغمضتني‪.‬‬ ‫األبيض واألسـود أن يرتاح َّ‬
‫مل اقترب منـه‪ ،‬فمخالـب قط رضيح سـيدي عيل أبو غالـب علَّمتني أن ألزم‬
‫حـذري من هـذه املخلوقات إذا رأيتها متوء تحت الشـمس‪.‬‬
‫بصـوت عالٍ ‪ .‬أخـذت طريق‬ ‫ٍ‬ ‫تفطَّ نـت والـديت الختفـايئ ورشعـت تناديني‬
‫العـودة‪ ،‬وقبـل أن أبـدأ يف الهبـوط سـمعت صـوت حركـة أرجـل حافيـة‬
‫ثـم ظهـرت رحمـة‪ .‬كانـت والـديت تقاطعهـا منـذ يـوم‬ ‫ومالبـس تصعـد‪ّ ،‬‬
‫يل االبتسـام يف‬‫يتوجب عملـه‪ .‬هل ع َّ‬
‫َّ‬ ‫الخصومـة املعلومـة‪ ،‬فلـم أعـرف مـا‬
‫وجههـا أو الفـرار منهـا‪ .‬عندمـا اقرتبـت رحمـة منـي داعبـت وجنتـي بلطـف‬
‫وأعطتنـي شـيئ ًا بـارد ًا ناعـم امللمـس زرع يف قلبي شـعور ًا عارمـ ًا بالفرحة‪،‬‬
‫خاطبتنـي‪:‬‬
‫‪ -‬إنه لك‪.‬‬
‫أمـي فيام كان الشيء البارد يف يدي‪ .‬جلسـت‬ ‫جـب‪ ،‬وركضـت نحـو ّ‬‫مل أُ ْ‬
‫ركـن مـن أركان غرفتنـا‪ .‬كان األمر يتعلَّق مبسمار زجاجي مزخرف كبري‬‫يف ٍ‬
‫شـك‬
‫ّ‬ ‫ُنقشـت جنباتـه على شـكل لؤلـؤة‪ ،‬لعبـة عجيبـة غريبـة املصـدر ال‬
‫أنهـا قدمـت مـن قصر يقـع تحـت األرض تسـكنه العفاريـت غير املرئيـة‪.‬‬
‫هـل كانـت هـذه رسـالة من تلـك املاملـك البعيدة؟ هـل كانـت قطعة حجر‬

‫‪38‬‬
‫ملعـون أعطتنيهـا الجـارة العـدوة لتجلـب علينـا سـخط الجـن؟ ال يهمنـي‬
‫سـخط كلّ عفاريـت األرض!‬
‫سـأضمه إىل محتويـات‬
‫ّ‬ ‫قـدر بثمـنٍ‬
‫كنـت أمسـك يف يـدي شـيئ ًا ال ُي َّ‬
‫صنـدوق العجائـب خاصتـي واكتشـف مزايـاه السـحرية الحقـاً!‬
‫ضبطتني أمي أتفحص غنيمتي يف ركن الغرفة فخاطبتني‪:‬‬
‫‪ -‬أحرضت قطعة زجاج أخرى! حاذر أن تجرح نفسك!‬

‫‪39‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫مـر زمـن العطلـة األسـبوعية برسعـة‪ :‬يومـان ونصـف اليـوم انقضيـا يف‬ ‫َّ‬
‫أرسع مـن ملـح البصر‪ .‬ورسعـان ما وجـدت نفيس بعـد زوال يـوم الجمعة‬
‫املـوايل جالسـاً بين أقـراين يف الكُ َّتاب‪ ،‬منحنيـاً عىل لوحي الخشـبي الذي‬
‫أرددها بأعلى صويت‪.‬‬
‫مقـرر اليـوم مـن اآليـات القرآنية التـي ِّ‬
‫َّ‬ ‫كُ ِت َ‬
‫ـب عليـه‬
‫فيتحرك معه شـعري يف كلّ االتجاهات بينام أنا مسـتغرق‬ ‫َّ‬ ‫حرك رأيس‬‫أُ ِّ‬
‫يف حفـظ درس اليـوم‪ ،‬وأرضب على اللـوح بأصابعـي فتؤملنـي‪ .‬كان كلّ‬
‫يتصرف بنفـس الطريقـة ويحفـظ بحماس‪ ،‬بينما راود النـوم أجفان‬ ‫َّ‬ ‫تلميـذ‬
‫الفقيـه الـذي ميسـك عصـاه الطويلـة يف يـده‪ .‬أتعبتنـي أصـوات زماليئ من‬
‫ٍ‬
‫بسـخونة غير معتادة يف‬ ‫التالميـذ ونقرهـم املسـتمر عىل األلواح‪ .‬شـعرت‬
‫ين وأنـا أرمـق بقايـا بقعـة مـن ضـوء الشـمس‬ ‫وجنتـي وبصفير حـاد يف أذ ّ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫لبعـض‬ ‫على الجـدار املقابـل داخـل الك ّتـاب‪ .‬اسـتيقظ الفقيـه فجـأ ًة وكال‬
‫مـن التالميـذ رضبـات عشـوائية بعصـاه الطويلة‪ ،‬قبـل أن يغفو مـن جديد‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫تناقص حجم بقعة الشمس عىل الجدار‪.‬‬
‫تحولـت أصـوات األطفـال إىل طوفانٍ هـادر‪ ،‬إىل ما يشـبه صخب زوبعة‬
‫َّ‬
‫عاصفة‪.‬‬
‫اختفت بقعة ضوء الشمس‪.‬‬
‫تنبـه‪ ،‬مـن بين كلّ األصـوات املتداخلة‪ ،‬إىل‬ ‫اسـتيقظ الفقيـه وتثـاءب‪َّ .‬‬
‫ثم عاد‬ ‫فصحح لـه ّ‬
‫َّ‬ ‫كـون أحـد التالميـذ ينطق إحـدى اآليـات بطريقة خاطئـة‬
‫تنبـه الختفـاء ضـوء الشـمس مـن املـكان ففـرك‬ ‫للنـوم‪ .‬لكنـه رسعـان مـا َّ‬
‫عينيـه واكتسى وجهـه شـعلة مـن نـور النشـاط فجـأة‪ ،‬ودعانـا بعصـاه إىل‬
‫وشـدت األبصـار كلّهـا إىل مصطبـة‬
‫ّ‬ ‫االقتراب‪ .‬توقفـت جميـع األصـوات‬
‫الفقيـه‪ .‬دعانـا لتلاوة الفاتحـة التـي يحفظها عـن ظهر قلب صغـار التالميذ‬
‫وكبارهـم‪ ،‬فقـد درجنـا أن ال نغادر الكُ َّتاب يف نهايـة اليوم قبل قراءتها‪ .‬كام‬
‫ُخصصة‬‫تعودنـا أن نعقبهـا يـوم الجمعة مبجموعة من أذكار ابـن عارش امل َّ‬ ‫َّ‬
‫لفرائـض الوضـوء قبـل أن ندعـو لوالدينـا ومل ْ‬
‫َـن علَّمونـا‪ ،‬األمـوات منهـم‬
‫واألحياء‪.‬‬
‫ك ّنـا نسـعد عندمـا نبدأ تلاوة األذكار واألدعيـة‪ ،‬فذلك يعنـي أن االنتهاء‬
‫مـن تعـب الـدرس قـد قـارب‪ ،‬وأن العـودة إىل منازلنـا ركضـ ًا عبر الـدروب‬
‫الرطبـة سـتتاح لنـا بعـد هنيهـة أو أقلّ ‪ .‬سـمح لنـا الفقيه باملغـادرة الواحد‬
‫تلـو اآلخـر‪ .‬كان علينـا أن نذهـب إىل املصطبـة لتقبيـل يديـه قبـل الخـروج‬
‫مـن الكُ َّتاب‪.‬‬

‫اسـتعاد كلّ م ّنـا خفَّـه املوضوع يف خزانة خشـبية أُ َّ‬


‫عـدت لهذا الغرض‬
‫ثم أطلـق الصبيان سـيقانهم للريح‪.‬‬‫ببـاب الكُ َّتـاب‪ّ ،‬‬
‫عندمـا وصلـت الـدار كان الظلام قـد أرخـى سـدوله على املدينـة‪.‬‬
‫وبانتظـار عـودة والـدي تناولـت قطعـة خبـز صغيرة وأخرجـت محتويـات‬
‫مسـتمر ًا‬
‫ّ‬ ‫أتأمـل كنـوزي‪ .‬كان املسمار الزجاجي‬
‫صنـدوق عجائبـي‪ ،‬طفقـت َّ‬
‫أتلمسـه وأنظـر إىل مادتـه الشـفافة‬
‫يف مامرسـة فتنتـه على كلّ حـوايس‪ّ .‬‬
‫قبـل أن ّ‬
‫أقربـه مـن وجنتـي‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫أمي شمعةً كبرية وضعتها يف شمعدانٍ من نحاس‪.‬‬
‫أشعلت ّ‬
‫ضـوء مبهـر غري معتاد يف غرفة فاطمة البزيوية هذا املسـاء‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫كان مثَّـة‬
‫فخاطبتها والديت‪:‬‬
‫‪ -‬فاطمـة! مـا األمـر معك؟هـل تحتفلين بعـرس؟ ملـاذا أشـعلت الكثري‬
‫مـن الشـموع اليـوم؟ مـاذا تقولين؟ ملبـة! انتظرينـي! فأنا قادمـة ألرى‪...‬‬
‫توجهت والديت للغرفة املجاورة فتبعتها‪.‬‬
‫َّ‬
‫تتوسـط الجـدار‪ .‬كان الضـوء‬
‫َّ‬ ‫يـا للعجـب! كانـت ملبـة بترول سـاطعة‬
‫األبيـض الهـادئ يتوسـط قمعـ ًا مـن زجـاج يشـبه يف شـكله آلـة كالرينيـت‪،‬‬
‫وتقويـه‪ .‬نظرنـا‬
‫ّ‬ ‫بينما جعلـت مـرآة مـدورة خلـف الفتيـل لتعكـس الضـوء‬
‫لألمـر بدهشـة أنـا ووالـديت التـي قالـت‪:‬‬
‫خطـر؟ أال ميكـن أن تنفجـر؟ أن‬
‫ٌ‬ ‫جيـداً‪ ،‬لكـن أليـس هنـاك‬
‫‪ -‬ملبتـك ُتنير ّ‬
‫تشـعل حريقـاً؟ يقولـون إن رائحـة البترول كريهـة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بهدوء أقرب للخجل‪:‬‬ ‫ردت البزيوية‬
‫َّ‬
‫‪ -‬ال أظـن يف األمـر خطـراً‪ .‬العديـد من سـكان الحـارة يسـتعملون اليوم‬
‫هـذه اللمبـات وال يواجهـون معهـا مشـاكل‪ ،‬أظـن أن عليـك اقتنـاء واحدة‪.‬‬
‫فالغرفـة تبـدو هكـذا مبهجـة أكرث‪.‬‬
‫أمـي‪ ،‬إن اللمبـة أفضـل مـن الشـمعة‪ ،‬لكنهـا تفتقـد‬
‫ردت ّ‬
‫حـق‪َّ ،‬‬
‫‪ -‬معـك ّ‬
‫جمال شـمعدان النحـاس‪.‬‬
‫عدنـا إىل غرفتنـا بعدمـا أرضـت والديت فضولهـا‪ .‬مل تقلْ شـيئاً‪ ،‬بانتظار‬
‫مقـدم الوالـد‪ .‬وضعـت املائـدة كام العادة‪ ،‬جهزت العشـاء ِ‬
‫وع َّدة الشـاي‪.‬‬
‫مبجـرد مـا دخـل والـدي الغرفـة ذهبت السـتقباله فانبسـطت أسـاريره‬
‫َّ‬
‫وحملنـي قائالً‪:‬‬
‫‪ -‬اكتسب الولد وزناً‪َّ ،‬‬
‫عم قريب سيصبح رجالً!‬
‫‪ -‬نعـم أريـد أن أصير رج ً‬
‫ال حتى أحصل عىل لحية سـوداء! يف املوسـم‬

‫‪43‬‬
‫املـايض دعكـت ذقنـي ووجنتـي بعصير البطيـخ‪ ،‬ورغـم ذلـك مل تنبـت يل‬
‫لحية !‬
‫وربـا تحصـل على نتيجـة‪،‬‬
‫‪ -‬حـاول إذن يف موسـم البطيـخ القـادم‪َّ ،‬‬
‫على لحيـة جميلـة ناصعـة السـواد!‬
‫أما أنت فأظنك أصبحت شيخاً‪ .‬لديك شعرتان بيضاوان يف لحيتك!‬
‫‪ّ -‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬أنـا أتركهـا عمـداً‪ .‬مـن األفضـل أن نترك قطـرة حليـب يف سـواد‬
‫اللحيـة‪ ،‬عوضـ ًا عـن تينـة أو عنقـود عنـب فـوق األنـف!‬
‫الر ُّد ضحكايت‪.‬‬
‫أثار هذا َّ‬
‫عشـاء لذيـذ ًا كان مـن أكاليت املفضلـة‪ :‬حمـص بأرجـل الغنـم‪،‬‬
‫ً‬ ‫تناولنـا‬
‫ثـم أتبعنـاه بكـؤوس الشـاي املنعنـع‪ ،‬ورسدت الوالـدة على سـمع زوجهـا‬ ‫ّ‬
‫األحـداث البسـيطة التـي شـهدها النهـار‪ .‬مل يعقـب والـدي على حديثهـا‬
‫ّإل نـادراً‪ .‬ارتعـش ضـوء الشـمعة فجـأة فنظفـت والـديت فتيلتهـا بواسـطة‬
‫لتتحدث عن كون الشـموع املطروحة يف‬ ‫َّ‬ ‫مقـص صـدئ‪ .‬واغتنمـت الفرصة‬
‫األسـواق أصبحـت مـن نوعيـة رديئة مكلّفة‪ ،‬ألننا نسـتهلك شـمعة كلّ ثالث‬
‫أو أربـع ليـالٍ ‪ ،‬كما أن الغرفـة تبـدو حزينة بفعـل الضوء الخافـت والظالل‬
‫تتجمـع يف أركانهـا‪ ،‬قبـل أن تضيف‪:‬‬
‫َّ‬ ‫التـي‬
‫‪ -‬جميع الناس ُينريون منازلهم بالبرتول هذه األيام!‬
‫حافـظ والـدي على المباالتـه فيما برقـت عينـاي مـن الفضـول منتظـر ًا‬
‫أمي وطريقة عرضهـا للموضوع‪ ،‬لكننـي أصبت بخيبة‬ ‫قـراره‪ ،‬معجبـ ًا بـذكاء ّ‬
‫أمـل بعدمـا مل يعلِّـق الوالـد واسـتعد للنـوم كما العـادة‪ .‬قصـدت فـرايش‬
‫ومنـت‪ .‬ويف الليـل حلمـت بضـوء اللمبـة السـاطع يعمـر الغرفـة فأمسـكه‬
‫واسـجنه يف مسماري الزجاجـي املنحـوت مثـل لؤلـؤة‪.‬‬
‫غـد لتنـاول الغـداء‪ ،‬فغمرتنـي فرحـة كبرى‬‫عـدت مـن الكُ َّتـاب يـوم ٍ‬
‫تتوسـط جـدار الغرفـة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫عندمـا رأيـت ملبـة بترول مشـابهة للمبـة جارتنـا‬
‫أحرضهـا إدريـس األقـرع صبـاح نفـس اليـوم عندمـا جـاء ألخـذ ق ّفـة‬

‫‪44‬‬
‫املشتريات‪ ،‬وأحضر‪ -‬إضافـة لذلـك‪ -‬قنينـةً مـن بترول وقمعـاً‪.‬‬
‫سـميناها «خالتـي كنزة» إىل الغرفة يك تكتشـف‬ ‫العرافـة التي َّ‬
‫َّ‬ ‫صعـدت‬
‫اللمبـة متم ِّنيـة لنـا مزيـد ًا من الرخـاء‪ .‬كان وجه والديت يشـع مـن الفرحة‪.‬‬
‫أحسـت يف هـذه اللحظـة فقـط أن الحيـاة تسـتحق أن تعـاش وأن‬ ‫ّ‬ ‫ربـا‬
‫َّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬
‫العـامل مليء مبخلوقـات طيبـة‪ .‬كانـت تغ ِّنـي‪ ،‬تداعـب قطـا غريبـا عـن‬
‫ٍ‬
‫بسـبب أو بدونـه‪.‬‬ ‫املنـزل قصدنـا وتضحـك‬
‫كانـت لحظـات الفرحـة تقترن دومـاً‪ ،‬عنـد والـديت‪ ،‬بلحظـات ذرف‬
‫الدمـوع‪ ،‬بنوبـات بـكاء تعرتيهـا بين الفينـة واألخـرى فتغتنمهـا «للتفريـج‬
‫عـن قلبهـا»‪ .‬ورسعـان مـا سـتتاح لهـا فرصـة مناسـبة لذلـك يف هـذا اليوم‪.‬‬
‫خرجـت رحمـة‪ ،‬زوجـة صانـع املحاريـث‪ ،‬من الـدار صباح ًا رفقـة ابنتها‬
‫زينـب قاصـدة حـارة الخلخالين لحضـور حفـل عقيقـة‪ ،‬لكنهـا رسعـان مـا‬
‫مبجـرد مـا ولجـت بـاب‬
‫َّ‬ ‫عـادت باكيـة ورشعـت يف العويـل ونـدب الخـدود‬
‫الدار‪:‬‬
‫‪ -‬يـا ويلي ويـا مصيبتي! أنا أسـوأ األمهـات! املوت أهون مـن الحياة بعد‬
‫هذه املصيبة!‬
‫انهالـت األسـئلة من جميـع النوافذ‪ .‬توقَّفت النسـوة عن مـا بني أيديهن‬
‫مـن أشـغال‪ .‬كـن يرجونهـا أن تعلمهـن بطبيعـة املصيبـة التـي أملَّـت بهـا‪.‬‬
‫مقملـة‪ ،‬شـحاذة بنـت شـحاذين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مجـرد امـرأة‬
‫َّ‬ ‫نسـيت والـديت أن رحمـة‬
‫األول صائحـةً ‪:‬‬
‫وسـارعت بالنـزول إىل الطابـق َّ‬
‫‪ -‬مـاذا حـدث لـك يـا أختي املسـكينة؟ قـويل لنا مـاذا جرى لنسـاعدك‪،‬‬
‫بـكاؤك يقطع أنـواط قلوبنا!‬
‫أحاطـت النسـوة بالتعيسـة رحمـة التـي حكـت لهـن مـا جـرى بصعوبة‪:‬‬
‫ضاعـت منهـا طفلتهـا يف الزحـام‪ ،‬بحثـت عنها يف جميـع األزقـة‪ ،‬لكنها مل‬
‫تعثر لهـا على أثـر‪ ،‬كأن األرض قـد انشـقَّت وابتلعتها!‬
‫شـاع خبر اختفـاء زينـب يف كلّ الحـارة برسعـة‪ ،‬وقدمـت العديـد مـن‬

‫‪45‬‬
‫األم الحزينـة وحثها عىل الصبر‪ .‬انخرطت‬ ‫النسـوة عبر السـطوح ملواسـاة ّ‬
‫النسـوة يف بـكاء جامعـي صاخـب‪ .‬تذكَّ ـرت كلّ واحـدة منهـن ُمصابـ ًا جللاً‬
‫عصية على الحـلّ فانخرطت يف‬ ‫ّ‬ ‫حـلّ بهـا يف املـايض أو مشـكلة شـخصية‬
‫ٍ‬
‫نحيـب ال يتوقَّف‪.‬‬
‫كنـت جالسـ ًا بين أحضان النسـاء النائحات فرشعت بـدوري يف البكاء‪.‬‬
‫مل ينتبـه يل أحـد‪ .‬يف الحقيقـة إننـي مـا كنـت أحـب زينـب قليلاً وال كثيراً‪،‬‬
‫الخفيـة‪ ،‬لكنني كنت أبيك‬
‫ّ‬ ‫بـل إن اختفاءهـا أثـار يف نفيس نوعـ ًا من الفرحة‬
‫أسـباب أخـرى‪ .‬أبكي ألن الجميـع يفعلـون ذلك‪ ،‬فوجـدت أن من‬ ‫ٍ‬ ‫مـن أجـل‬
‫أمـي تبيك‪ ،‬وألن‬ ‫بـاب األدب أن أشـاركهم فيما يفعلـون! كما كنت أبيك ألن ّ‬
‫رحمـة التـي أهدتنـي املسمار الزجاجـي الجميـل تحـس بـاألمل والحـزن‪.‬‬
‫ثـم توقَّفـت النسـوة عـن‬‫أمـي‪ّ .‬‬
‫ربـا كان السـبب الحقيقـي هـو بـكاء ّ‬ ‫لكـن َّ‬
‫البـكاء ومسـحن دموعهـن باملناديـل أو بأكمام املالبس‪ .‬وواصلـت البكاء‬
‫وحيـداً‪ .‬حاولـت العديـد مـن الحـارضات تهدئتـي فلـم يفلحـن‪ .‬وخاطبتنـي‬
‫والديت‪:‬‬
‫َّف عن البكاء يا سـيدي محمد! سـتؤذي‬
‫‪ -‬سـنعرث على زينـب قريبـاً‪ ،‬توق ْ‬
‫عينيـك بكلّ هـذه الدموع!‬
‫أجبتها منتحباً‪:‬‬
‫‪ -‬ال يهمني أن تعرثي عىل زينب‪ ،‬أنا أبيك ألنني جوعان!‬
‫وجرتني إىل خارج الغرفة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أمسكت يب والديت مغضبة‬
‫تناولـت طعـام الغـداء وعـدت إىل الكُ َّتـاب‪ .‬قضيـت فرتة ما بعـد الزوال‬
‫ثـم‬
‫ُقـررة والنقـر على لوحـي الخشـبي كما العـادة‪ّ ،‬‬ ‫يف حفـظ اآليـات امل َّ‬
‫قفلـت عائـد ًا إىل الـدار‪ ،‬متوقعـ ًا أن أجـد حالـة الفـوىض مسـتمرة بهـا‪ .‬غري‬
‫أننـي فوجئـت بـأن جميع النسـوة انتهين من بكائهـن وعدن إىل مشـاغلهن‬
‫املعتـادة مـن طبـخ وطحـن توابـل يف جـ ٍو مـن الهـدوء العـام‪ .‬ومل أجـرؤ‬
‫أمـي حـول مصير زينـب ومغامراتها‪.‬‬ ‫على سـؤال ّ‬
‫عـاد والـدي على عادتـه بعـد صلاة العشـاء‪ .‬تناولنـا الوجبـة املسـائية‬

‫‪46‬‬
‫أمـي َّ‬
‫عما شـهده النهـار مـن‬ ‫تحدثـت ّ‬
‫َّ‬ ‫بشـكلٍ عـادي‪ ،‬وبعـد رفـع املائـدة‬
‫أحـداث‪:‬‬
‫دوامـة مـن القلـق‬
‫‪ -‬لقـد قضـت هـذه املسـكينة رحمـة اليـوم يف َّ‬
‫والعـذاب‪ ،‬وتأثرنـا جميعـ ًا مبـا حصـل لهـا!‬
‫سأل والدي‪:‬‬
‫‪ -‬ما الذي حصل معها؟‬
‫‪ -‬تعـرف علاّ ل عامـل الفـرن الـذي يسـكن يف حـارة الخلخالين؟ طبعـ ًا‬
‫تتذكـره! فهـو زوج خديجـة أخـت جارتنـا رحمة‪ .‬قبل سـنة جاء هـو وزوجته‬
‫لقضـاء أسـبوع هنـا عنـد أقربائهما‪ .‬إنهما زوجـان محرتمـان‪ ،‬متدينـان‬
‫وخلوقـان‪ ،‬لكـن مل يرزقهما الله ذريـة‪ ،‬رغم أنهام كانا يرغبـان يف اإلنجاب‬
‫العشـابني والفقهاء‬
‫َّ‬ ‫منذ ثالث سـنوات‪ .‬ألجل ذلك زارت املسـكينة خديجة‬
‫والعرافـات دون جدوى‪ .‬منذ سـنة‪ ،‬ولنفس الغـرض‪ ،‬قاما بزيارة‬ ‫َّ‬ ‫والسـحرة‬
‫يل الصالـح سـيدي علي بورسغين‪ .‬اغتسـلت خديجـة يف العين‬ ‫مقـام الـو ّ‬
‫ال‬‫إن تحقَّق مرادهـا باإلنجاب‪ ،‬وفع ً‬
‫يل ونـذرت أن تذبح له كبشـ ًا ْ‬
‫التابعـة للـو ّ‬
‫اسـتجاب اللـه لدعواتهـا‪ُ .‬رزقـت بطفـل وغد ًا سـيقام حفـل العقيقة‪.‬‬
‫تجـرأ والـدي على إبـداء مالحظـة مختصرة حـول كـون هـذه األحـداث‬ ‫َّ‬
‫أمـي قاطعتـه‬‫ّ‬ ‫لكـن‬ ‫وقلقهـا‪،‬‬ ‫رحمـة‬ ‫عـذاب‬ ‫يفسر‬
‫ِّ‬ ‫مـا‬ ‫ـن‬‫تتضم‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫جميعهـا‬
‫رب مـن البداية‬‫ـدة واتهمتـه أنـه ال يسـتطيع أبد ًا أن يكمـل اإلصغاء إىل خ ٍ‬ ‫ِ‬
‫بح ّ‬
‫إىل النهايـة‪:‬‬
‫‪ -‬انتظـر! فلا ميكننـي أن أكمـل القصـة وأنـت تقاطعنـي منـذ بدايتهـا!‬
‫تلقَّـت رحمـة دعـوة لحضـور حفـل العقيقة‪ .‬اشترى لهـا زوجها باملناسـبة‬
‫متنوعـة األلـوان‪ .‬أخرجـت‪ ،‬خصيصـ ًا لهذه‬
‫ِّ‬ ‫ثوبـ ًا جميلاً يحمـل صـورة أزهـار‬
‫املناسـبة‪ ،‬منديـل الـرأس الـذي لبسـته يوم زفافهـا‪ ،‬املنديـل األحمر الذي‬
‫يحمـل صـور الطيور‪ .‬ألبسـت ابنتها زينب ثوبـ ًا جديد ًا وذهبتـا لحضور حفل‬
‫والعواديـن‪...‬‬
‫َّ‬ ‫املشـاطني والصفَّاريـن‬
‫َّ‬ ‫مرتـا يف طرقهما بحـارة‬
‫العقيقـة‪ّ .‬‬
‫تضايق أيب‪:‬‬

‫‪47‬‬
‫‪ -‬ال ترسدي ع َّ‬
‫يل أسامء كلّ حارات فاس!‬
‫وجهتـا يل نظـرة حـادة‬
‫غلبتنـي نوبـة ضحـك‪ ،‬لكـن عينين قاسـيتني ّ‬
‫فلزمـت الصمـت‪.‬‬
‫عندمـا وصلتـا إىل زقـاق الرصيـف كانـت جمـوع املـارة تسـد مجـال‬
‫السير وكان أحـد باعـة السـمك يبيـع بضاعتـه بفرنـك وخمسـة وسـبعني‬
‫للرطـل (بينما يف سـاحة الجوطيـة يبيعـون السـمك بفرنكين اثنين‬
‫اختنـاق‬
‫ٌ‬ ‫وخمسـة وعرشيـن)‪ .‬تزاحـم النـاس لشراء السـمك وحـدث‬
‫مـروري‪ .‬اسـتطاعت رحمـة أن تخـرج منـه بصعوبـة‪ ،‬وبينما هـي تعيـد‬
‫ترتيـب حالـة ثـوب حايكهـا‪ ،‬فوجئـت باختفـاء زينب‪ .‬صاحـت ورشعت يف‬
‫وتجمـع الناس حـول املرأة‬‫َّ‬ ‫العويـل والبـكاء‪ ،‬أوقـف بائـع السـمك عملـه‬
‫املسـكينة ملسـاعدتها‪ ،‬لكنهـا مل تعثر على ابنتهـا إطالقـاً!‬
‫عـادت رحمـة باكيـة إىل الـدار فواسـيناها كما اسـتطعنا‪ .‬ذهـب علاّ ل‬
‫الرباحني((( وقطعا‬
‫البسـتاين إلخبـار زوج رحمـة مبا جـرى‪ .‬خرج اثنان مـن ّ‬
‫دروب وأحيـاء املدينـة كلهـا إلعطـاء أوصـاف الطفلـة الصغيرة التائهـة‬
‫ويعيدها لبيـت أهلها‪.‬‬
‫َـن يعثر عليهـا ُ‬
‫وتقديـم وعـود بتقديـم مكافـأة مل ْ‬
‫طـوال كلّ هـذا الوقـت مـاذا كان بإمكاننـا أن نفعـل؟ لسـنا ّإل نسـاء‬
‫األم املسـكينة التـي أصبحـت تعيـش يف القلـق‬ ‫ضعيفـات! لـذا واسـينا ّ‬
‫قررنـا الذهـاب أنـا وفاطمـة البزيوية‬
‫والعـذاب‪ .‬بـدوري حـلّ الحـزن بقلبـي‪َّ .‬‬
‫إىل رضيـح مـوالي إدريـس‪ ،‬ففـي املصائـب يجـدر باإلنسـان أن يلـوذ ببـاب‬
‫اللـه وبأوليائـه الصالحين‪ .‬الحظـت امرأة ُمسـ َّنة حزننا فسـألتنا عن سـببه‪،‬‬
‫وعندمـا أعلمناهـا مبـا حـدث طلبـت م َّنـا مرافقتهـا إىل دار «القيطـون»‪ ،‬دار‬
‫األدارسـة التـي تسـتقبل كلّ مـن ضـلَّ عن طريقـه يف أزقة املدينـة‪ ،‬وهناك‬
‫وجدنـا الطفلـة زينـب‪ .‬كانت مسـؤولة الدار قـد اسـتقبلتها وأطعمتها لوجه‬
‫ال كاملاً مكافـأ ًة لها وشـكرنا صنيعها‪ .‬وهكذا اسـتعادت‬ ‫اللـه‪ .‬أعطيناهـا ريـا ً‬

‫ٍ‬
‫بصوت مرتفع يف املدينة منادي عمومي مهمته نرش األخبار بتالوتها‪[ .‬املرتجم] ‬ ‫(((‬

‫‪48‬‬
‫رحمـة فرحتهـا بعـد عـودة ابنتهـا زينب!‬
‫َر ّد والدي‪:‬‬
‫أعدي فراش النوم للولد‪ ،‬فهو متعب ومحتاج للراحة‪.‬‬
‫‪ -‬الحمد لله! ّ‬
‫أتخيـل شـكل دار األدارسـة بفنائهـا الكبير‬
‫َّ‬ ‫تحـت غطـاء النـوم طفقـت‬
‫وزلّيجهـا الباهـت األلـوان وأصـوات النسـاء التـي تجعلهـا مثـل خليـة نحـل‬
‫هـادرة‪ .‬نسـاء مهددات بالطلاق‪ ،‬فتيات تعيسـات وأطفال تاهـوا عن منازل‬
‫ذويهم‪...‬‬
‫كنـت بـدوري تائهـ ًا يف مدينـة خاليـة مـن السـكان أبحـث عن ملجـأ بها‪.‬‬
‫شـعرت بعزلتـي تـزداد‪ ،‬تثقل وتخنقنـي‪ .‬أطلقت صيحةً مدويـة‪ ،‬جاء صوت‬
‫ثـم غرقـت يف ظلمـة‬
‫الحمـى التـي أصابتنـي‪ّ .‬‬
‫َّ‬ ‫خافـت يواسـيني مـن حالـة‬
‫الليـل الحا ِلـك الهادئـة وانتظمـت وتيرة تنفيس‪.‬‬
‫نظمـت رحمـة حفـل عشـاء للفقـراء شـكر ًا للـه‬‫يـوم الخميـس املـوايل َّ‬
‫على عـودة ابنتهـا سـاملةً ‪ .‬سـاعدتها يف ذلك كلّ نسـاء الدار‪ .‬غسـلت اللة‬
‫فطومـة‪،‬‬ ‫الشـوافة أرضيـة طابقهـا باملـاء مبسـاعدة تلميذتهـا الوفيـة ّ‬
‫ّ‬ ‫كنـزة‬
‫ثـم فرشـته بحصائـر وأبسـطة باليـة‪ .‬تكفلـت رحمـة ووالـديت وفاطمـة‬ ‫ّ‬
‫البزيويـة بطبـخ الكسـكس على سـطح الـدار‪ ،‬واسـتعملن الحطـب يف‬
‫طهيـه‪ .‬كانـت إحداهن تنقـل املاء‪ ،‬والثانيـة تقرش الخضـار‪ ،‬والثالثة تطبخ‬
‫مبغرفة طويلة من الخشـب‪.‬‬‫ٍ‬ ‫وتحـرك املـرق الـذي يغيل يف قدور النحـاس‬
‫ِّ‬
‫قضيـت الوقـت مـع زينـب نعـدو يف درجات السلامل‪ ،‬نصعد للسـطوح‬
‫ثـم‬
‫ونتلقَّـى سـحب دخـان الطبـخ يف عيوننـا مرفقـة باألوامـر والنواهـي‪ّ ،‬‬
‫نعـود لالختبـاء غير مدركين ما ميكـن أن نفعـل ّ‬
‫بحر ّيتنا‪ .‬كنا ننتظر بشـوق‬
‫ُتسـولني‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫سـاعة العشـاء ومشـهد وصـول امل‬
‫عندمـا نضجـت أطباق الكسـكس سـقيت باملـرق واعتلتهـا أهرامات من‬
‫العواد إىل رضيـح موالي إدريس وإىل‬
‫ّ‬ ‫ثـم ذهب إدريس‬
‫الخضـار واللحـوم‪ّ ،‬‬
‫دار العميـان الواقعـة بريـاض جحـا إلحضار الضيـوف‪ .‬وما لبثنا أن سـمعنا‬
‫مجموعـة مـن أصـوات الرجـال ووقـع عصيهـم على األرض‪ .‬دخـل إدريـس‬

‫‪49‬‬
‫ال إىل الفنـاء متبوعـاً برجـلٍ رضيـر ذي لحيـة بيضـاء يقـوده صبي‬ ‫أو ً‬
‫العـواد َّ‬
‫ّ‬
‫ُتسـولني‬
‫ِّ‬ ‫صغير يف حـوايل العـارشة مـن العمـر‪ .‬دخـل بعدها عـدد من امل‬
‫ُتسـوالت إىل سـاحة الـدار‪ .‬كان الجميـع يأمتـرون بأمـر الشـيخ األعمى‬ ‫وامل ِّ‬
‫األول الـذي بدا أن له سـلطة مطلقة عليهـم‪ .‬علمت الحق ًا أن لدار العميان‪،‬‬ ‫َّ‬
‫املوجـودة يف زقـاق ريـاض جحا‪ ،‬رئيسـ ًا منتخب ًا وقانون ًا داخليـ ًا َّ‬
‫توجب عىل‬
‫جميـع النـزالء الخضـوع له‪ ،‬تحـت طائلة الطـرد والحرمان‪.‬‬
‫ُتسولني وسط قبيلته‪.‬‬
‫كان األمر يتعلَّق إذن برئيس امل ِّ‬
‫جلسـوا جميعـ ًا عىل األبسـطة املتقادمـة‪ ،‬وقبل أن تبدأ وجبة العشـاء‬
‫تتحـدث عـن مصير املُحسـنني الذيـن يطعمـون السـائل‬ ‫َّ‬ ‫تلـوا أذكار ًا‬
‫ثـم ختمـوا بأدعيـة تسـتجلب الربكـة‬ ‫واملحتـاج ويسـتقبلون ضيـوف اللـه‪ّ .‬‬
‫على الـدار املضيفـة وسـكانها‪ ،‬قبـل أن يرفعـوا أك ّفهـم ويقـرؤوا الفاتحـة‪.‬‬
‫بحماس‪ ،‬ألننـي كنـت أحفظهـا عـن ظهـر قلـب‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫شـاركتهم يف قراءتهـا‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم‪...‬‬
‫مالك يوم الدين‪.‬‬
‫ُتسـولون األرض‬
‫ِّ‬ ‫مررنـا أكفنـا على وجوهنـا‪ ،‬الح الكسـكس‪ ،‬اقتعـد امل‬ ‫ّ‬
‫حـول الصحـون وتداولـوا كؤوسـ ًا مـن الفخـار ُنقشـت عليهـا زخـارف بالقـار‬
‫مليئـة باملـاء‪ .‬أكلـوا بتـؤدة دون عجلـة وال جلبـة‪ .‬وعندمـا انتهـت الوجبـة‬
‫قطـع مـن القماش أُعـدت‬‫ٍ‬ ‫لحسـوا بتلـذُّ ذ أصابعهـم قبـل أن ميسـحوها يف‬
‫لهـذا الغرض‪.‬‬
‫بعـد إشـارة مـن رئيسـهم‪ ،‬بـدؤوا تلاوة حـزب مـن القـرآن الكريـم‪.‬‬
‫فترددت‪ ،‬يف فضـاء منزلنـا الـذي طاملـا شـهد نغمات الطبـول والقيثارات‬ ‫َّ‬
‫ـراء‬
‫َّ‬ ‫ق‬‫ُ‬ ‫ال‬ ‫اختـار‬ ‫املباركـة‪.‬‬ ‫ـات‬ ‫اآلي‬
‫ُ ّ‬ ‫أصـداء‬ ‫افـة‪،‬‬‫العر‬
‫َّ‬ ‫تعشـقها‬ ‫التـي‬ ‫الزنجيـة‬
‫حـزب طويـل ر ّتلـوه بطريقـة جميلـة‪ .‬شـكّ ل منظـر العميـان الذيـن‬ ‫ٍ‬ ‫تلاوة‬
‫يرتـدون أطمار ًا باليـة وير ّتلـون كالم اللـه مشـهد ًا نبيلاً وقور ًا ال ميكـن ّإل أن‬
‫ينطبـع يف املخيلـة‪.‬‬
‫بعـد موجـة أخيرة مـن األدعيـة التـي اُختتمـت بآمين‪ ،‬نهـض العميـان‬

‫‪50‬‬
‫يـرددون‬
‫عصيهـم بالزلّيـج املتقـادم‪ .‬خرجـوا ِّ‬
‫ّ‬ ‫وسـمعت أصـوات ارتطـام‬
‫عبـارات الشـكر املعتـادة‪.‬‬
‫دعـت رحمـة املبتهجـة مجموعـة مـن الجـارات القادمـات مـن املنازل‬
‫وقدمـت لهـن طبيـخ لحـم ممتـاز بالخرشـف وكسكسـ ًا‬ ‫املجـاورة لغرفتهـا َّ‬
‫بالحمـص‪ ،‬مرفقـ ًا بسـلطات مـن قطـع الربتقـال التـي ُنثر عليهـا السـكر‬
‫أعـدت والـديت الشـاي املنعنـع‪ ،‬بينما كانـت النسـوة يرثثـرن‬ ‫ّ‬ ‫والقرفـة‪.‬‬
‫مدويـة بين الفينـة واألخـرى‪ .‬وقبـل تنـاول‬ ‫ّ‬ ‫وميزحـن ويطلقـن زغاريـد‬
‫وغيرن‬ ‫العشـاء كانـت والـديت وجاراتهـا قـد فتحـن خزاناتهـن الخشـبية َّ‬
‫ُطـرزة بأشـكال الزهـور ومناديـل‬
‫ُلونـة امل َّ‬
‫مالبسـهن فارتديـن القفاطين امل َّ‬
‫الـرأس الحريريـة‪ .‬اسـتمر الحفـل إىل مغيـب الشـمس قبـل أن ينتهي فوق‬
‫السـطوح بزغاريـد وأدعيـة أخـرى‪ ،‬ووعـود بلقـاءات وحفلات مشـابهة‪.‬‬
‫خلال هـذه األثنـاء مل ينتبـه يل أحـد‪ .‬شـاركت زينـب الطعـام يف‬
‫طبـقٍ صغير كنـت أملكـه‪ ،‬ألن والـدي أهـداين إيـاه مبناسـبة عيـد األضحـى‬
‫املـايض‪ ،‬رشبنـا الشـاي بعدمـا صببنـاه يف إبريـق مـن تنـك يعـود لزينـب‪،‬‬
‫ثـم تشـاجرنا يف النهايـة‪.‬‬
‫ّ‬
‫بحلـول ظلام الليـل‪ ،‬عـاد الهـدوء للـدار مـن جديـد فشـعرت بالحـزن‬
‫يدركنـي‪ .‬أخرجـت صنـدوق عجائبـي وأفرغـت محتوياتـه على ركـن مرتبـة‪.‬‬
‫تأملـت كلّ قطعـة على مهـل‪ .‬كانـت كلّ القطـع متجهمـة صامتـة يف ذلـك‬ ‫َّ‬
‫املسـاء‪ ،‬فقـدت قدراتهـا السـحرية على الحركـة والـكالم وأصبحـت حذرة‬
‫ومبجـرد مـا َع ّم السـواد‬
‫َّ‬ ‫منطويـة على نفسـها‪ .‬أغلقـت عليهـا بـاب العلبـة‪.‬‬
‫مـن جديـد صنـدوق العجائـب‪ ،‬اسـتيقظت القطع وبـدأت ألعابهـا املُعقَّدة‬
‫الفاخـرة‪ .‬كانـت تجهـل أن غطـاء الصنـدوق ال يصمـد أمـام قـدرايت على‬
‫يتمـدد‪ ،‬يصبـح مبسـاحة قصر أحلام‬ ‫َّ‬ ‫التأمـل‪ .‬كان مسماري الزجاجـي‬‫ُّ‬
‫تتحول املسـامري واألزرار واملشـدات‬ ‫َّ‬ ‫الفاخرة‪.‬‬ ‫واألقمشـة‬ ‫الضـوء‬ ‫يزخرفـه‬
‫وصبيـات‪ ،‬يعزفـون ألحانـ ًا هادئـة‬
‫ّ‬ ‫واللؤلـؤات إىل أميرات وعبيـد وصبيـة‬
‫جميلـة‪ ،‬يأكلـون مـن أطبـاقٍ لذيـذة‪ ،‬يلعبـون على أراجيـح‪ ،‬يطيرون إىل‬
‫ثـم يرتقـون إىل عنـان السماء على‬ ‫أعلى األشـجار يك يقطفـوا فواكههـا‪ّ ،‬‬

‫‪51‬‬
‫جنـاح الريـح باحثين عـن مغامـرات‪.‬‬
‫فتحـت العلبـة برفـق يك أشـاركهم عاملهـم‪ ،‬غير أن كلّ يشء توقَّـف‪،‬‬
‫مل أجـد ّإل مسـامري وأزرار ًا بلا روح وال أرسار‪ .‬آملنـي ذلـك فرشعـت يف‬
‫تحدثـت عن كـوين متعبـ ًا وحملتني إىل فـراش النوم‪.‬‬
‫أمـي‪َّ ،‬‬‫البـكاء‪ .‬دخلـت ّ‬

‫‪52‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫األيـام األوىل مـن الربيـع‪ ،‬دعـوة لزيـارة اللـة عائشـة‬ ‫تلقينـا‪ ،‬خلال ّ‬
‫وقضـاء يـوم كامـل يف ضيافتهـا‪ّ .‬أيامـ ًا قبـل الزيـارة‪َّ ،‬‬
‫أعـدت والـديت حلوى‬
‫سـلو‬
‫ّ‬ ‫مـن السـميدة الرطبـة‪ ،‬وهالليـات بحبات الينسـون‪ ،‬وبعض ًا من حلوى‬
‫ُكونـة مـن الدقيـق املقلي ممزوجـ ًا بالعسـل وبتوابـل عطريـة أخـرى‪.‬‬ ‫امل َّ‬
‫ثـم لحق بنا إدريس‬‫حملني بكلّ هذه الحلويات‪ّ ،‬‬ ‫غادرنـا املنـزل مبكـر ًا ُم َّ‬
‫األقـرع إىل مقـر سـكنى صديقـة والـديت‪ ،‬حيـث حمـل إلينـا ق ّفة مشترياتنا‬
‫محل وعلبة شـاي وقبضة‬ ‫ّ‬ ‫املعتـادة‪ ،‬إضافـة إىل ديك حسـن الهيئـة وخبز‬
‫مـن أوراق النعناع‪.‬‬
‫احتجـت اللـة عائشـة على تبذيرنـا املـال بشـكلٍ غير معقـول إلحضار‬ ‫ّ‬
‫كلّ هاتـه الهدايـا‪ ،‬ألنهـا كانـت تنتظـر زيارتنـا وقـد اقتنـت كلّ مـا يلـزم مـن‬
‫قبل ‪.‬‬
‫سـكنت اللـة عائشـة دار ًا واطئـة البـاب تقـع يف الزقـاق املغلـق لزنقـة‬

‫‪53‬‬
‫الحجامين‪ .‬وهـي دار تشـبه حالتهـا‪ ،‬مـن بعـض الجوانـب‪ ،‬حالـة اللـة‬ ‫ّ‬
‫عائشـة نفسـها‪ .‬فكل مـن الدار وصاحبتهـا عرفتا يف املـايض أوقات ًا أفضل‪.‬‬
‫نـوع من الكرامـة وعلو‬
‫وبعدمـا دار الزمـن وتقلَّبـت األحـوال‪ ،‬حافظتـا على ٍ‬
‫الهمـة‪ ،‬رغـم تدهـور أوضاعهما‪.‬‬
‫َّ‬
‫سـكنت اللـة عائشـة يف غرفتين صغريتين مـن الطابـق الثـاين‪ .‬تقودنـا‬
‫البلكونـة املطلـة عىل الفناء‪ ،‬التـي يزينها درابازين مـن الحديد املنقوش‪،‬‬
‫إىل الغرفـة الرئيسـية‪ .‬فيما كانـت الغرفـة الثانيـة تسـتعمل يف تخزيـن‬
‫مؤونـة الشـتاء‪ .‬وكان لهـذه الغرفـة الرئيسـية نافذتـان تطـل إحداهما عىل‬
‫الحـي الصغير‪ .‬كان طـول الغرفـة‬ ‫ّ‬ ‫الفنـاء والثانيـة على سـقف مسـجد‬
‫يضاعـف عرضهـا‪ ،‬كما كانـت حسـنة النظافـة والرتتيـب‪ُ ،‬غلفـت مرتباتهـا‬
‫مطـرزة األغلفـة هنـا وهنـاك‪ُ .‬زينت‬
‫َّ‬ ‫تجمعـت وسـائد كبيرة‬
‫بالقماش‪ ،‬كما َّ‬
‫ملونـة وضعت داخلهـا أوانٍ‬
‫كـوات مفتوحـة َّ‬ ‫الجـدران بخزانـات على شـكل ّ‬
‫مـن الخـزف األورويب‪ :‬صحـون مزخرفـة بصـور الـورد وكـؤوس مسـتديرة‪.‬‬
‫خشـب غامق اللـون غنيـة بالنقوش‬‫ٍ‬ ‫وتوسـطت الجـدار سـاعة حائطيـة مـن‬
‫ومثقلـة بديكـورات مختلفـة‪ ،‬فيما فرشـت األرض بحصيرة اعتالهـا بسـاط‬
‫زاهـي األلوان‪.‬‬
‫ُكونـات يعطـي إحساسـ ًا بالراحـة واالسـتقرار‬ ‫كان مجمـوع هـذه امل ِّ‬
‫بعـش جميـلٍ‬
‫ٍ‬ ‫للـرايئ‪ .‬ال يتعلَّـق األمـر طبعـاً بعالمـات الثراء‪ ،‬لكنـه يذكّ ـر‬
‫أنيـق ُمحكَ ـم البنـاء يحمـي سـكانه مـن عصـف الريـاح‪.‬‬
‫ثم‬
‫قدمـت لنا اللة عائشـة الشـاي املنعنـع والحلويات‪ّ .‬‬ ‫مبجـرد دخولنـا َّ‬
‫َّ‬
‫جديد مـن آالم املفاصل التي تعـاين منها‪ ،‬من‬ ‫ٍ‬ ‫اسرتسـلت يف الشـكوى من‬
‫الصـداع وآالم األسـنان التـي أملَّـت بهـا يف األسـبوع املـايض‪ ،‬ومـن نقـص‬
‫الشـهية‪ .‬طرحـت ألف سـؤال وسـؤال على والديت التـي أجابتهـا بتفصيل ال‬
‫وقصت مشـاهد حرضتها وقلَّدت هـذه املرأة‬ ‫ال ووقفـت عند نـوادر َّ‬‫يقـل طـو ً‬
‫أو تلـك‪ .‬كان موضـوع النميمـة طبعـ ًا هـو جرياننـا‪َّ .‬‬
‫تحدثـت عنهـم والـديت‬
‫شـبهت زوج رحمـة بحامر‬ ‫بغير حقـد‪ ،‬لكـن مـع قـد ٍر كبير مـن السـخرية‪َّ .‬‬
‫أفـرط يف أكل الشـعري‪ ،‬وزوج فاطمـة بالفـأر‪ ،‬ومل يسـلم والـدي‪ ،‬الـذي‬

‫‪54‬‬
‫دأبـت على اإلشـارة إليـه بقولهـا «الرجـل»‪ ،‬مـن سلاطة لسـانها‪ .‬فرسـمت‬
‫صـور ًا كاريكاتوريـة الرتفـاع قامته وقوته الجسـدية وصمته املسـتمر‪ .‬كنت‬
‫كـن أليب حبـاً ممزوجـ ًا باإلعجـاب بسـبب وسـامته الظاهـرة ولـون برشتـه‬ ‫أُ ّ‬
‫ُذهب‪ ،‬لحيته السـوداء‪ ،‬شـفتيه الحمراوين‪ ،‬وعينيه السـاكنتني‬ ‫األبيض امل ّ‬
‫العميقتين‪ .‬كان كلّ يشء فيـه يعجبنـي‪ .‬كان أيب على وجـه العمـوم ُمقلاً‬
‫للـكالم ُمكثر ًا للصلاة‪ ،‬فيما كانـت والـديت ثرثـارة ال ّ‬
‫تصلي ّإل نـادراً‪ .‬كانـت‬
‫يف الحقيقـة أكثر إثـار ًة للفرحـة والحبـور‪ ،‬تعكـس عيونهـا املتوثبـة روح‬
‫متكبة‬ ‫ِّ‬ ‫تكـن‬
‫طفلـة حقيقيـة‪ .‬رغـم بيـاض برشتهـا وجمال فمهـا وأنفهـا‪ ،‬مل ْ‬
‫معجبـة بنفسـها وهي يف ع ّز شـبابها‪ .‬على العكس من ذلـك‪ ،‬حاولت دوم ًا‬
‫أن تبـدو أكبر مـن سـ ّنها‪ .‬وبينما كانـت يف الثانيـة والعرشيـن مـن العمـر‪،‬‬
‫أرادت أن تبـدو كامـرأ ٍة كبيرة مجربـة‪.‬‬
‫فنوهـت بخصالهـن جميعـاً‪.‬‬ ‫حدثتنـا اللـة عائشـة بدورهـا عـن جاراتهـا َّ‬
‫َّ‬
‫عبرت عـن إعجابهـا بتواضـع وجمال إحداهـن‪ ،‬عـن نظافـة أخـرى‪ ،‬وعـن‬ ‫َّ‬
‫إتقـان ثالثـة لتدبير شـؤون البيت وفنـون الطبخ‪ .‬وحسـب قولهـا‪ ،‬كانت كلّ‬
‫جاراتهـا تتنافسـن يف الطيبوبة مـكارم األخالق‪ :‬كأنهن من مالئكة السماء!‬
‫ثم‬
‫أمـي وتوشـوش لها حقيقـة رأيها يف الجـارات‪ّ ،‬‬ ‫قبـل أن تنحنـي على أذن ّ‬
‫ترفـع صوتهـا مـن جديد‪:‬‬
‫َّ‬
‫علي بسـكنى هـذه الـدار التـي تعيـش‬ ‫‪ -‬الحقيقـة أن اللـه قـد أنعـم‬
‫الجـارات بهـا كأخـوات حقيقيـات!‬
‫تعبر عـن‬
‫أصـوات ِّ‬
‫ٌ‬ ‫صعـدت مـن الطابـق السـفيل ومـن جميـع الغـرف‬
‫فـردت هـذه األخيرة هـي ووالـديت‬
‫َّ‬ ‫شـكرها لاللـة عائشـة على مـا قالتـه‪.‬‬
‫بسـيلٍ ال ينقضي مـن عبـارات املجاملـة‪.‬‬
‫دعـاين أطفـال الـدار ملشـاركتهم اللعـب‪ .‬كانـوا خمسـة صبيـان وثلاث‬
‫فتيـات مل أعـرف أسماءهم‪ .‬مت َّتعـت بحاميـة أكربهـم‪ ،‬وهـي طفلـة تبلـغ‬
‫التاسـعة مـن العمـر‪ .‬صعدنـا فـوق السـطوح ونظّ منـا حفلـة اسـتقبال‪.‬‬
‫فرشـنا أبسـطة متقادمـة وجلود أكباش فـوق األرض باعتبارهـا أثاثاً‪ ،‬وضعنا‬
‫مصبرات صدئـة فـوق ثالثـة أحجـار باعتبارهـا إبريـق مـاء‪ ،‬بينما رتبنا‬
‫ّ‬ ‫علبـة‬

‫‪55‬‬
‫مجموعـة أحجـار أصغـر فـوق قطعـة ورق مثـل أكـواب شـاي‪ .‬رشبنا شـاينا‬
‫نقـدم الشـكر ملضيفتنـا أكبر‬ ‫الخيـايل‪ ،‬وأكلنـا حلوياتنـا الوهميـة قبـل أن ِّ‬
‫قررنـا أن نلعـب لعبـة العروسـة‪ .‬اخرتنـا إحـدى الفتيـات‬ ‫ثـم َّ‬
‫الفتيـات‪ّ ،‬‬
‫لتلعـب دور العـروس فيما مثلـت الكبرى دور املاشـطة ونزلـت للبحـث‬
‫عـن أحمر شـفاه وبعـض الكحل وقطعة قماش السـتعاملها كمنديل رأس‬
‫ثـم بـدأت‬
‫للعـروس‪ .‬أجلسـت العـروس على مخـدة وأطلقـت الزغاريـد‪ّ ،‬‬
‫مهمـة تزيينهـا وإلباسـها كما هـي العـادة‪ .‬ألبسـتها قطعـة مـن‬ ‫املاشـطة َّ‬
‫ودسـت يف شـعرها قطعـ ًا مـن الـورق‬‫ملاءة بيضـاء باعتبارهـا ثـوب عـرس ّ‬
‫تأمـل إنجازهـا‪ .‬حركـت الشـقاوة‬ ‫ثـم رشعـت يف ُّ‬‫حليـاً‪ّ ،‬‬
‫امللـون باعتبارهـا ّ‬
‫َّ‬
‫الغريزيـة نفـس أحـد الصبيـة فأمسـك حفنـة مـن تـراب وألقاهـا على رأس‬
‫شـبت فـوق السـطوح‪ .‬بـدأت العـروس‬ ‫العـروس‪ .‬ومـا لبثـت الحـرب أن َّ‬
‫وضيفاتهـا يف البـكاء والصراخ والركـض يف كلّ االتجاهـات‪ ،‬بينام تلطَّ خت‬
‫ٍ‬
‫بصـوت عـالٍ مثـل‬ ‫الوجـوه بالدمـوع واملخـاط‪ .‬رشعـت بـدوري يف البـكاء‬
‫الجميـع دون أعـرف ملـاذا‪ ،‬وحاولت التخلُّـص من أيدي الفتـاة الكربى التي‬
‫متسـكت يب محاولـة تهدئتـي‪.‬‬ ‫َّ‬
‫صعـدت إحـدى نسـوة الـدار إىل السـطوح‪ .‬و َّزعـت صفعـات وشـتائم‬
‫على األبريـاء واملذنبين دون متييـز‪ ،‬وحملتني مثـل علبة‪ ،‬نزلـت الدرجات‬
‫ال إضافيـ ًا مـن عبـارات التقريع قبل‬
‫وسـلمتني لوالـديت التـي أسـمعتني سـي ً‬
‫أن تهـددين بعـدم اصطحـايب إىل أي مـكان يف املسـتقبل‪.‬‬
‫رشعـت املرأتـان يف الحديـث مـر ًة أخـرى عـن رحمـة زوجـة صانـع‬
‫الشـوافة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫املحاريـث‪ ،‬عـن فاطمـة البزيويـة‪ ،‬وعـن الخالـة كنـزة‬
‫األول‪ ،‬حـدث فقـدان‬
‫قصـت والـديت حكايـة صلحهـا مـع جـارة الطابـق َّ‬ ‫َّ‬
‫تحسرت على‬‫تسـولني العميـان‪َّ .‬‬
‫ِّ‬ ‫للم‬ ‫ُ‬
‫زينـب والعشـاء الخيري الـذي أقيـم ُ‬
‫التسرع التـي قادتهـا إىل املعركـة مـع رحمـة التي أصبحـت‪ ،‬بقدرة‬
‫ُّ‬ ‫لحظـة‬
‫قـادر‪ ،‬جـارة لطيفـة نزيهـة طيبة املعشر!‪...‬‬
‫ثم أضافت والديت‪:‬‬
‫ّ‬

‫‪56‬‬
‫التبسـم‪ ،‬موفـورة‬
‫ُّ‬ ‫‪ -‬إضافـة لـكلّ هـذا‪ ،‬فهـي مبشـورة الوجـه‪ ،‬دامئـة‬
‫النشـاط‪ .‬أظن أن عىل زوجها أن يشـكر الله الذي منحه مثل هذه السـمراء!‬
‫أال يعجبـك لـون برشتها وعيونهـا الكبرية املبهجة؟ وفمهـا الجميل املزمم‬
‫الشفتني؟‬
‫تحرك رأسـها مبدية موافقتهـا عىل كلّ هذه‬
‫كانـت اللـة عائشـة مرسورة ِّ‬
‫املالحظات‪.‬‬
‫‪ -‬جـاريت فاطمـة يف الغرفـة املقابلـة مل يحرمهـا اللـه مـن أفضالـه‪.‬‬
‫عينـان جميلتـان ناعمتـان‪ ،‬حواجب متقنة االسـتدارة! بشرة خمرية! لكنني‬
‫ال أحـب كثير ًا الوشـم املوجـود على ذقنهـا‪.‬‬
‫أضافت اللة عائشة‪:‬‬
‫‪ -‬إضافة إىل شبابها وغضاضة سنها‪.‬‬
‫كنـت قابعـ ًا يف ركـنٍ مـن أركان الغرفـة أنصـت لهـذا الحـوار واسـتغرب‬
‫السـن املُبكِّ ـرة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫مـن اعتراف والـديت بجمال جاراتنـا‪ .‬فقـد كنـت‪ ،‬يف تلـك‬
‫أالحـظ هـذا الجمال دون أن أمتلـك القـدرة على التعبير عنـه بالكلمات‪.‬‬
‫عبرت بوضوح عـن انطباعـات كانت‬ ‫لـذا أحسسـت باالمتنـان لوالـديت التـي َّ‬
‫تسـاورين بشـكلٍ عائـم غامـض ومتقطـع‪.‬‬
‫فمجرد ذكر اسـمها جعل املرأتين تتبادالن‬ ‫َّ‬ ‫أمـا بالنسـبة للخالة كنـزة‪،‬‬
‫ّ‬
‫الشـوافة من سلالة‬
‫َّ‬ ‫كنـزة‬ ‫كانـت‬ ‫يل‪،‬‬ ‫بالنسـبة‬ ‫مغـزى‪.‬‬ ‫ذات‬ ‫عميقـة‬ ‫نظـرات‬
‫أخـرى‪ ،‬مـن سلالة ملكيـة مختلفـة‪ .‬كانت جميع بنـات آوى تحـس بالنقص‬
‫ال ملكيـ ًا غامضـ ًا ال ينتمـي إىل العـامل‬
‫ا ِّتجـاه هاتـه اللبـؤة! إذ إن لهـا جما ً‬
‫املحسـوس‪ ،‬عـامل الجـوع والشـهوة والطمـع‪ ،‬بـل إىل عـامل امللـكات‬
‫اللـوايت تحملـن يف أجسـادهن شـعار العدالـة واملسـاواة!‬
‫كانـت عيونهـا الكبيرة والحمـرة الخمريـة لجلـد وجههـا تبهـر زبوناتهـا‬
‫عصي‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫بخـوف‬ ‫ـن ال يحبهـا‪ .‬يف الحقيقـة أننـي كنـت أشـعر‬
‫وتثير احترام َم ْ‬
‫على التفسير منهـا‪ .‬كنـت أربط يف أحالمـي بشـكلٍ وطيد بينها وبني سـادة‬
‫العـامل الالمـريئ‪ .‬اعتقـدت جازمـ ًا أنهـا متلـك قـدرات سـحرية ال محـدودة‬

‫‪57‬‬
‫وارتحـت لكـوين أسـكن تحـت نفـس السـقف مـع شـخصية لهـا مثـل هـذا‬
‫النفـوذ وهـذه السـلطة الروحانيـة‪.‬‬
‫وصـل مـوالي العـريب زوج اللـة عائشـة فجـأة‪ .‬سـمعناه ينطـق يف بـاب‬
‫الـدار بالجملـة املعتـادة قبـل أن يدخـل‪:‬‬
‫‪ -‬أال يوجد أحد؟ أميكنني أن أمر؟‬
‫أجابته أصوات ثالث نساء‪:‬‬
‫‪ -‬ادخل‪ ،‬ادخل!‬
‫سـمعنا صـوت خطواتـه على السـلم ودخـل مبـارشة إىل الغرفـة‬
‫يكـن مـن الالئـق أن يلتقـي بوالـديت‬
‫ْ‬ ‫الصغيرة‪ .‬كان على علـم بزيارتنـا‪ ،‬ومل‬
‫أو يراهـا‪ .‬ذهبـت اللـة عائشـة للقـاء زوجهـا ورشعـا يف الـكالم بأصـواتٍ‬
‫خافتـة مكتومـة‪ .‬بقيـت مـع والـديت وحدنا ومل أجـد ما ميكن أن أنشـغل به‬
‫فحكيـت لهـا عـن لعبـة العـروس فـوق السـطوح وعن أصـل املشـكلة التي‬
‫التصرف مـع اآلخريـن‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫عامـة حـول كيفيـة‬
‫حصلـت‪ .‬أجابتنـي بنصائـح ّ‬
‫نهضـت وأطلَّـت مـن النافـذة‪ .‬التقـت عيناها بعينـي جارة أخـرى‪ ،‬تبادلتا‬
‫وتحدثتـا عـن بدايـة الربيـع التـي تكون دومـ ًا صعبة‪ .‬انتهـزت الجارة‬
‫َّ‬ ‫التحيـة‬
‫الفرصـة للحديـث عـن نزهـة يف الباديـة شـاركت فيهـا قبـل سـنوات‪ ،‬حيـث‬
‫كان عطـر الـورود يجتـاح الفضـاء املفتـوح‪ ،‬والطيور تتحاور بني األشـجار‪،‬‬
‫بأقـدام حافيـة ويغنين ويلعبن يف مـاء ٍ‬
‫عين مجـاورة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫والنسـاء يركضـن‬
‫لكـن عاصفـة قويـة ماطرة ثـارت بعد الـزوال فجمع الكل األبسـطة واألواين‬
‫التـي اُسـتقدمت باملناسـبة وعـادوا مرسعين‪ .‬وانقسـمت آراء األرسة بين‬
‫مسـتبرش باملطـر والعـن للعاصفـة التـي أفسـدت النزهة‪.‬‬
‫كنـا يف وضعيـة مزريـة بعد عودتنـا‪ .‬التصق الرتاب والوحل بنـا وبثيابنا‪.‬‬
‫كنـت ارتديـت للمناسـبة قفطانـ ًا رائعـ ًا بلـون املشـمش مـا عاد ُيخـاط مثله‬
‫مـزرر ًا بـورود أرجوانية‪...‬‬
‫َّ‬ ‫اليـوم‪ ،‬وقميص ًا‬
‫جرت‬
‫عـادت اللـة عائشـة إلينـا وقـد بـدا التأثُّـر والحـزن على مالمحهـا‪ّ .‬‬

‫‪58‬‬
‫أتفـرج وحدي من‬
‫َّ‬ ‫والـديت إىل أقصى ركـن يف الغرفـة وأكثره عتمة‪ .‬بقيـت‬
‫أمـي‬
‫البلكونـة‪ ،‬فانتظـرت املـرأة التـي تحكي عـن ذكريـات طفولتهـا عـودة ّ‬
‫تأخـرت‪ ،‬رفعـت الجـارة رأسـها إىل‬
‫القصـة‪ .‬ومبـا أن هـذه األخيرة َّ‬
‫ّ‬ ‫لتكمـل‬
‫التبرم مـن عـدم اإلنصـات لهـا‪ ،‬وعـادت إىل عتمـة‬‫ُّ‬ ‫السماء معبرة عـن‬
‫غرفتهـا بعدمـا اعتبرت أن صغـر سـن طفـلٍ مثلي ال يسـمح لهـا بـأن تكمل‬
‫الحديـث معـه حـول أثوابهـا النفيسـة‪.‬‬
‫واصلـت والـديت واللة عائشـة حوارهما الخافت‪ ،‬وكنت أحاول استراق‬
‫تـردد اسـم‬
‫السـمع ّإل أننـي مل أفهـم الشيء الكثير‪ .‬بيـد أننـي الحظـت ُّ‬
‫متعـددة يف الحـوار‪ .‬كانـت هـذه الكلمـة تثير يف نفسي‬ ‫ِّ‬ ‫مـرات‬
‫«الباشـا» َّ‬
‫ـن هو الباشـا؟ تلك الشـخصية التي تأمـر بجلد الناس‬ ‫الفضـول والخـوف‪َ .‬م ْ‬
‫متـى مـا راق لهـا ذلـك؟ بسـجنهم يف زنازيـن صغيرة ال يذوقـون فيهـا ّإل‬
‫عامـة الشـعب‪،‬‬‫املـاء وخبـز الشـعري‪ .‬كان الباشـا شـخص ًا رهيبـ ًا يف عيـون ّ‬
‫مرادفـ ًا للمشـاكل واآلالم والرصخـات والبـكاء‪ .‬كانـوا يسـتدينون ليدفعـوا‬
‫رشـاوى ألذنـاب الباشـا ويتحملـون التقريـع واإلهانـات يف مجلـس الحكـم‬
‫وتتحول‪ ،‬بسـحر سـاحر‪ ،‬إىل اتهامات‬
‫َّ‬ ‫الـذي يعقـده‪ ،‬يـرون حقوقهم ُتهضم‬
‫ضدهـم‪ .‬مـع ذلـك مل يتوقَّفوا عن الشـجار من أجل أتفه األسـباب واإلرساع‬
‫لتقديم شـكاوى أمام نفس الباشـا‪ .‬وغالب ًا ما خرجوا من مجلسـه مغضبني‬
‫مهانني‪.‬‬
‫بكـم ثوبهـا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بـكاء صامـت ومسـحت دموعهـا‬ ‫ٍ‬ ‫رشعـت اللـة عائشـة يف‬
‫واسـتها والـديت بعدمـا احتضنتهـا بين ذراعيهـا كما لـو تعلَّق األمـر بطفلة‬
‫صغيرة‪.‬‬
‫أثـار املنظـر اسـتغرايب‪ .‬فهـا هـي اللـة عائشـة األكبر سـن ًا تحتـاج‬
‫أمـي التـي أصبحـت فجـأة تلعـب دور األخـت الكبرى‪.‬‬‫للمواسـاة مـن طـرف ّ‬
‫اجتاحتنـي رغبـة يف الضحـك‪ ،‬لكننـي امتنعـت عـن ذلـك لخـويف مـن‬
‫إغضابهما‪ .‬دفعنـي املشـهد الغريـب للخـروج إىل السلامل‪ .‬وددت لـو‬
‫مجـدد ًا مـع الطفلـة التـي لعبـت دور املاشـطة لخـوض مغامـرات‬
‫َّ‬ ‫التقيـت‬
‫جديـدة وعجيبـة يف بلـدانٍ سـحرية‪ ،‬لكـن العزلة كانت قدري‪ ،‬مع األسـف!‬

‫‪59‬‬
‫ٍ‬
‫كلامت غير ذات معنى‪:‬‬ ‫جلسـت على إحدى درجات السـلم ورشعـت أغ ّني‬
‫أكل الباشا!‬
‫اللة عائشا!‬
‫يا ليل! يا ليل!‬
‫يا عيني‬
‫ابيك وحدك!‬
‫خاطبتنـي والـديت مـن داخـل الغرفة سـائلةً إذا ما كنت أنوي االسـتمرار‬
‫يف النهيـق لفترة أطـول‪ .‬لـذت بالصمـت وا ّتـكأت على الجـدار‪ ،‬ورسعان ما‬
‫سـيطر ع َّ‬
‫يل النوم‪.‬‬
‫سـمعت شـخص ًا مـا يوقظنـي وميسـكني مـن يـدي‪ ،‬يسـحبني إىل داخل‬
‫غرفـة اللـة عائشـة التـي وضعـت بهـا املائدة‪ .‬كنـت متعبـ ًا وبحاجـة للنوم‪.‬‬
‫يل والـديت تنـاول الطعام‪ .‬مل أسـتطع ابتلاع أي يشء‬ ‫رغـم ذلـك فرضـت ع َّ‬
‫وبـدا يل الدجـاج املطبـوخ بالجـزر بطعـم التبن‪ .‬لطّ خـت جلبـايب الجديـد‬
‫حـاد ًا من والـديت‪ّ .‬‬
‫ثـم تركتني‬ ‫ّ‬ ‫بقطـرات مـن املـرق فسـمعت تقريعـ ًا ولومـ ًا‬
‫فتمـددت فـوق أحـد األفرشـة وبدأت يف الشـخري‪.‬‬‫َّ‬ ‫أنـام‬
‫جـاء والـدي لريافقنـا يف رحلـة العـودة إىل منزلنـا‪ .‬نزلـت درجات السـلم‬
‫وقدمـاي تتعثران يف كلّ خطـوة‪ .‬كانـت األزقـة مضـاءة‪ ،‬إضافـة لذلـك حمـل‬
‫برشية‬
‫ّ‬ ‫ملونـة‪ .‬طفقت قامـات‬
‫والـدي ملبـة مـن قصديـر مزخرفة بقطـع زجاج َّ‬
‫أتعرف‬ ‫متر بنا وتعبر لتختفي‪ ،‬يبتلعها الظلام دون أن َّ‬
‫تخـرج مـن سـواد الليل ّ‬
‫على أي منهـا‪ ،‬وال على األزقـة التـي نقطعهـا‪ .‬أسـمع خطـى قادمـة مـن بعيد‬
‫ثـم يـذوب صداهـا‪ .‬نبح كلب‪ ،‬وسـمعت مشـادة طاحنة بين مجموعة‬ ‫تقترب ّ‬
‫مـن القطـط فـوق أحـد السـطوح‪ .‬تواجـه الغرمـاء وصـاح كلّ منهـم اعتـزاز ًا‬
‫ثـم تباعد‬ ‫بقوتـه وشـجاعته‪ .‬خرجـت موجـات رشر وغضب من أفـواه القطط‪ّ ،‬‬
‫صـدى رصخاتهـا وموائهـا‪ .‬وحدهـا أصـوات خطواتنـا وأنفاسـنا املتسـارعة‬
‫واحتـكاك ثيابنـا بأجسـادنا كسرت هـدوء الليـل يف هـذه املدينـة امليتة‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫مبجرد وصولنا آويت إىل فرايش وغططت يف النوم‪.‬‬
‫َّ‬
‫كان الغـد يـوم جمعـة‪ ،‬فعـاد والـدي لتنـاول الغـداء معنـا‪ ،‬وارتـدى‬
‫باملناسـبة جلبابـه الناصـع البيـاض وعاممتـه الجديـدة‪.‬‬
‫كانـت الوجبـة رائعـة‪ ،‬أكلنـا خاللهـا لحمـة كبـش بخرشـوف وكسكسـ ًا‬
‫ثـم سـلطة لذيـذة مـن الربتقـال وزيـت الزيتـون‪.‬‬
‫بالسـكر والقرفـة‪ّ ،‬‬
‫رشبنـا مجموعـة من كـؤوس الشـاي املنعنع بينام زينت صينية الشـاي‬
‫ثـم خاطبت‬
‫تنهدت والديت‪ّ ،‬‬
‫وردتـان وضعتـا يف كـوب من الخـزف الصينـي‪َّ .‬‬
‫زوجها‪:‬‬
‫وأغنياء‪،‬‬
‫ً‬ ‫فقـراء‬
‫ً‬ ‫‪ -‬إن القـدر ال يرحـم أحـداً‪ ،‬واملصائـب تطـال الجميـع‪،‬‬
‫أخيـار ًا وأرشاراً‪ .‬أنـا منقبضـة القلـب مـن أجـل مـا حصـل لاللـة عائشـة‪ ،‬مل‬
‫أرغـب أن أزعجـك أمـس مبـا جـرى لهـا‪.‬‬
‫نظر والدي إليها منتبه ًا فواصلت‪:‬‬
‫ُسمى عبد القادر ابن فالن‪...‬‬
‫‪ -‬تشاجر زوج اللة عائشة مع رشيكه امل َّ‬
‫ترفع رأسها إىل سقف الغرفة لتدعو عليه‪:‬‬
‫‪ -‬اللهـم احفظنـا واحفـظ أوالدنـا وأوالد أوالدنـا مـن أوالد الحـرام الذيـن‬
‫يالقونـك باالبتسـامة على األسـنان والضغينـة يف القلـب‪ :‬آمين! عبـد‬
‫يكـن ميلك حتى‬ ‫القـادر‪ ،‬هـذا الوضيـع الـذي رضع من حليب الشـياطني مل ْ‬
‫قميصـ ًا نظيفـاً‪ ،‬يـوم عطـف عليـه مـوالي العـريب ومنحـه عملاً يف مشـغله‬
‫فشـغله وأقرضـه بعـض املـال‪ ،‬ودعاه ِمـرار ًا إىل‬
‫َّ‬ ‫باملشـاطني‪ .‬عطـف عليـه‬
‫ّ‬
‫يعبر عـن امتنانـه ملـوالي العـريب‪.‬‬ ‫الغـداء والعشـاء‪ .‬ويف البدايـة كان ّ‬
‫ُهـم اشـتغال مع ًا وكانـت األحذية والخفـاف التي يصنعها مـوالي العريب‬ ‫امل ّ‬
‫مثـار إعجـاب نسـاء فـاس‪ .‬صار للمحل سـمعة طيبة يف كلّ األوسـاط‪ .‬فكّر‬
‫عبـد القـادر يف الـزواج فشـجعه مـوالي العريب على هذا الطريـق‪ ،‬خطبت‬
‫لـه اللـة عائشـة فتـاة شـابة يف املسـتوى‪ .‬تعلـم أن حفلات الـزواج مكلفة‬
‫دامئـاً ‪ .‬ورغـم أن عبـد القـادر سـهر الليـايل يف العمـل فإنه عجز عـن توفري‬

‫‪61‬‬
‫مـرة ثانية ملـوالي العريب طالب ًا منـه أن يقرضه‬
‫مبلـغ املهـر لخطيبتـه فلجأ ّ‬
‫املـال اللازم‪ .‬نجـح مـوالي العـريب يف جمـع مبلـغ أربعـة وعرشيـن ريـا ً‬
‫ال‬
‫كاملـة وأقرضهـا لعبـد القـادر دون أي وثيقـة تثبت القرض‪ .‬وليسـاعده أكرث‬
‫تدبـر مدخـول إضـايف‪ ،‬أدخلـه معـه كرشيك يف املشـغل‪.‬‬ ‫على ُّ‬
‫‪ -‬أتعرف كيف جازى عبدالقادر هذا موالي العريب عىل أفضاله؟!‬
‫يخمن فواصلت‪:‬‬
‫يكن والدي يعرف‪ .‬ومل ترتك له والديت فرصة أن ِّ‬
‫مل ْ‬
‫‪ -‬لـن تسـتطيع التخمين! أوالد الحـرام ووضيعـو األصـول الذيـن ال‬
‫يراعـون حرمـة األخلاق سيحاسـبون يـوم لقـاء اللـه! أتعـرف مـاذا فعـل‬
‫عبـد القـادر؟ أنكـر هـذا الديـن جملـةً وتفصيلاً ‪ ،‬وزعـم أنـه رشيـك حقيقـي‬
‫ال ملـوالي العـريب مـن أجـل رشاء معـدات‬ ‫يف املشـغل وأنـه دفـع أمـوا ً‬
‫ذهبـة! مل يقبل الباشـا رواية أي مـن الطرفني‬ ‫ٍ‬
‫وخيـوط ُم َّ‬ ‫ٍ‬
‫جلـد‬ ‫املشـغل مـن‬
‫املتنازعين! كلّـف أحـد مسـاعديه بالتحقيـق يف القضيـة‪ .‬مل يفعـل هـذا‬
‫ثـم طلـب منهام‬ ‫األخير أكثر مـن الدردشـة مـع االثنين دون نتيجـة ُتذكـر‪ّ ،‬‬
‫أن يدفعـا لـه مبلغـ ًا معتبر ًا كتعويـض عن الوقـت الذي أضاعـه يف محاولة‬
‫إجـراء الصلـح بينهما! مل يجـدا بـد ًا مـن دفـع املـال املطلـوب! ّ‬
‫ثـم رفعـا‬
‫التجـار‪ .‬كلّـف أحـد مسـاعديه بالتحقيـق فرفضـا‬ ‫َّ‬ ‫القضيـة إىل محتسـب‬
‫التحـدث إليـه‪ .‬طلبـا أن ال يفصل بينهام ّإل لجنـة من أهل الحرفة‪ .‬اجتمعت‬ ‫ُّ‬
‫ثـم قضت لصالح‬ ‫اللجنـة فحقَّقـت وواصلت التشـاور من الصباح للمسـاء‪ّ .‬‬
‫عبـد القـادر‪ .‬أي زمـان أصبحنـا نعيـش فيه؟ مـا عاد هنـاك عـدلٌ وال عدالةٌ !‬
‫أعـرف مـا سـتقول يل! كيـف للقضـاة أن يطّ لعوا على خبايا النفـوس‪ ،‬وعىل‬
‫تفاصيـل ال يعرفونهـا يف كلّ قضيـة! لكـن هكـذا هـي الدنيا! البـد من وجود‬
‫ونصابين لكي يجـد كلّ مـن الطرفين عملاً ‪ .‬والنـاس املسـتقيمون‬ ‫قضـاة َّ‬
‫والنيـات الحسـنة هـم دامئـ ًا الضحايـا!‬‫َّ‬ ‫أهـل األخلاق‬
‫تدخل والدي‪:‬‬
‫‪ -‬ليـس دامئـاً‪ ،‬ولكـن القضـاة يخطئـون أحيانـاً‪ .‬القضـاة بشر‪ ،‬والبشر‬
‫خطـاءون بطبعهـم! سـبحان مـن ال ُيخطـئ!‬

‫‪62‬‬
‫أضافت والديت‪:‬‬
‫ـن ال يخطـئ‪ ،‬الواحـد األحـد الـذي ال رشيـك لـه! لكـن كلّ‬ ‫‪ -‬سـبحان َم ْ‬
‫هـذا أثّـر فينـا كثيراً‪ ،‬وقـد بكت اللـة عائشـة طيلـة املسـاء وانتابتهـا أوجاع‬
‫حـاد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫متعـددة وصـداع‬
‫ِّ‬
‫أعقب الصمت هذا الحوار‪.‬‬
‫سـمعت حبـات السـبحة تنسـاب بين أصابـع والـدي‪ .‬يف نفـس الوقـت‬
‫كانـت رحمـة تتفقَّـد عجين خبزهـا وتتأكَّ ـد مـن أنـه أصبـح جاهـز ًا للطهـي‪.‬‬
‫إرضـاء‬
‫ً‬ ‫كانـت زينـب تلعـب مـع قطهـا األسـود الهزيـل الـذي تب َّنتـه األرسة‬
‫لنـزوة الطفلـة التـي أرادت أن تطعمـه سـمن ًا وعسلاً وحلويـات محشـية‬
‫وأفخـاذ دجـاج! أن تلبسـه ُبرنسـ ًا مـن قماش وعاممـة مـن حريـر!‬
‫طفلـة سـاذجة! منـذ متـى أصبحـت القطـط تـأكل العسـل! والقـط‬
‫متحركـة! إن فتـاة غبيـة مثـل زينـب ال ميكن‬
‫ِّ‬ ‫بالعاممـة سـيبدو مثـل مهزلـة‬
‫أن تجـد يف دماغهـا التافـه ّإل مثـل هـذه األفـكار‪ .‬كنـت أعتقـد جازمـ ًا أنهـا‬
‫أما‬
‫نـوع مـن أنـواع اللعـب‪ ،‬وأنهـا مدعـاة للسـخرية واالحتقـار‪ّ .‬‬ ‫ال تجيـد أي ٍ‬
‫الخاصـة يب‪ .‬أسـتطيع أن أهرب‬‫ّ‬ ‫أنـا فكنـت أملـك صنـدوق العجائـب الرائعة‬
‫يف ّأيـة لحظـة مـن هـذا العـامل املزعـج املليء بالباشـاوات ومسـاعديهم‬
‫والتجـار املتنازعين ألغـرق يف عاملـي السـحري العامـر‬ ‫َّ‬ ‫واملحتسـبني‬
‫قررت‬‫باألحلام واألغـاين‪ .‬كان يل رفـاق خياليـون‪ :‬فرسـان وأمـراء عادلـون‪َّ .‬‬
‫أكـن قـد‬
‫ْ‬ ‫أن أذهـب عنـد عبـد اللـه الب ّقـال لسماع حكايـة مـن فمـه‪ .‬مل‬
‫تعرفـت عليـه بعـد‪ ،‬لكننـي نسـبت لـه كلّ القصص‬ ‫رأيـت عبـد اللـه هـذا وال َّ‬
‫وجـود حقيقي يف‬ ‫ٌ‬ ‫العجيبـة التـي سـمعتها‪ .‬رغم ذلك كان لهذه الشـخصية‬
‫خصـص والدي أمسـية كاملـة للحديـث مع والديت حـول عبد‬ ‫عاملنـا‪ .‬وقـد َّ‬
‫اللـه وقصصـه العجيبـة‪ .‬علـق حديـث والـدي حـول القصص املذكـورة يف‬
‫ذاكـريت وظـل حـارض ًا بهـا خلال كلّ سـنوات طفولتـي‪.‬‬
‫كان فصـل الخريـف قـد حـلّ ‪ ،‬والريـح تزمجـر يف درجـات السـلم‪،‬‬
‫ممـدد ًا واضع ًا رأيس فـوق ركبة والـدي الذي َّ‬
‫تحدث‬ ‫َّ‬ ‫وتصفـق األبـواب‪ .‬منت‬

‫‪63‬‬
‫بهـدوء بصوتـه األجـش سـارد ًا القصـة التاليـة‪:‬‬
‫يحفـظ عبـد اللـه مجموعـة مـن الحكايـات التـي تنتهـي بطريقـة غريبـة‬
‫ومفاجئـة دون معنـى ظاهـر‪.‬‬
‫عبـد اللـه رجـل غريب األطوار مثـل حكاياته‪ ،‬وهو ميلـك متجر ًا يف درب‬
‫الح ّفاريـن‪ ،‬يف زقـاقٍ بـارد يف الصيـف ال ميـر بـه النـاس ّإل نـادر ًا يف جميـع‬
‫الفصول‪.‬‬
‫يخـزن عبـد اللـه يف متجـره مجموعـة مـن األشـياء املتهالكـة التـي‬
‫يهش‬
‫ّ‬ ‫يعلوهـا الغبـار‪ ،‬ويقضي النهار جالسـ ًا عىل جلـد خروف أكلتـه العثة‬
‫مـدة طويلـة يف الحـارة‪.‬‬
‫على الذبـاب‪ .‬زبائنـه قليلـون‪ .‬فتـح متجـره قبـل ّ‬
‫الـدوم‪ ،‬ق ّفات‬
‫متجـر غريـب كلّ رأسماله ال يتجـاوز مجموعـة مكانـس مـن ّ‬
‫مـن أحجـام مختلفـة‪ ،‬علبـة خيـوط ومجموعـة علـب معدنيـة أغلـب الظـن‬
‫تتضمـن توابـل‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أنهـا‬
‫ابيضـت لحيتـه ورغـم ذلـك‬
‫ّ‬ ‫وقـت طويـل على افتتـاح متجـره‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مضى‬
‫مل ينقـص عـدد املكنسـات كثيراً‪ .‬بـاع َأقـلّ مـن ثلـث بضاعتـه األوىل مـن‬
‫الق ّفـات‪ .‬ومل يجـد يومـ ًا الوقـت الـكايف لفتـح علـب الخيـط والتوابـل!‬
‫يكـرر أبـد ًا‬
‫أمـا حكايـات عبـد اللـه فيبـدو أن معينهـا ال ينضـب‪ .‬وهـو ال ِّ‬
‫ّ‬
‫الحكايـة نفسـها‪ .‬يـروي قصصـ ًا عجيبـة للصغـار والكبـار‪ ،‬لسـكّ ان املدينـة‬
‫وللقرويين‪ ،‬ملعارفـه وللعابريـن‪.‬‬
‫يقـص عبـد اللـه حكاياتـه‪ ،‬التـي تـدوم ربـع السـاعة أحيانـ ًا وصبيحـة‬
‫ُّ‬
‫يتغير‪ ،‬وهـو‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫الـذي‬ ‫النبرات‬ ‫الهـادئ‬ ‫بصوتـه‬ ‫أخـرى‪،‬‬ ‫أحيـانٍ‬ ‫يف‬ ‫كاملـة‬
‫يحرك يديـه‪ ،‬يهش فقط‬ ‫جالـس ال يشرب مـاء‪ ،‬وال يغريِّ هيأة جلوسـه‪ ،‬وال ِّ‬
‫أحيانـ ًا مبذبتـه على الحشرات‪.‬‬
‫ال يسـتعمل العبـارات التي يبدأ بها الحكواتيـون العرب عاد ًة قصصهم‪.‬‬
‫إنـه يحكي عـن معـارك خرافيـة وعالقـات عشـق مؤ ِّثـرة ورحلات إىل بلدان‬
‫متشرد أو‬
‫ِّ‬ ‫مجـرد نـزاع بين صاحـب متجـر وجـاره‪ ،‬مغامـرات‬‫َّ‬ ‫عجيبـة أو‬
‫تدبـر عشـاء يومـه!‬
‫متسـول يف ُّ‬
‫ِّ‬ ‫معانـاة‬

‫‪64‬‬
‫يعبروا لـه عـن حقيقـة‬
‫ِّ‬ ‫يحبـه البعـض‪ ،‬ويكرهـه آخـرون دون أن‬
‫ّ‬
‫مشـاعرهم‪ ،‬لكنهـم ينصتـون إليـه جميعـ ًا مسـحورين‪.‬‬
‫يبـدو عبـد اللـه مرت ِّفعـ ًا ال يأبـه مبحبـة وال بعـداوة اآلخريـن‪ .‬يعتبره‬
‫أما أعـداؤه فريون‬
‫عرافـاً‪ّ .‬‬ ‫ً‬
‫وحكيما مـن حكماء الزمـان‪ ،‬بـل َّ‬ ‫أصدقـاؤه شـاعر ًا‬
‫فيـه كذابـ ًا منافق ًا ويتهمونه أحيان ًا بالسـحر والشـعوذة‪ .‬لكن ما هي حقيقته؟‬
‫مجرد ب ّقال يروي قصصاً‪.‬‬
‫َّ‬ ‫إنه‬
‫طلـب أحـد األعيـان مـن مختـار الحـارة أن يصغـي لحكايـات عبـد اللـه‪،‬‬
‫ألنـه ملـس يف ثناياهـا مـا اعتبره تعريضـ ًا ُّ‬
‫بالسـلطات‪.‬‬
‫السـلطات هـي نفسـها تدفع أجـرة لهذا الب ّقـال الذي ال‬
‫زعـم آخـرون أن ُّ‬
‫يبيـع ّأيـة بضاعـة‪ ،‬ليتكفَّـل بصرف اهتمام السـكّ ان إىل عـوامل الخيـال بد ً‬
‫ال‬
‫مـن الخوض يف شـؤون السياسـة‪.‬‬
‫انبهـر املختـار نفسـه بحكايـات عبـد اللـه‪ ،‬فأصبـح يلازم مجلسـه‬
‫ويتحـدث عنـه باعتبـاره مـن العلماء‪ .‬أجـاب عبـد اللـه‬
‫َّ‬ ‫ويكيـل لـه املدائـح‬
‫يسـتحق الذكـر‪ ،‬وأن دور العلامء ليس‬
‫ّ‬ ‫بـأن مجمـوع علمـه ال يسـاوي شـيئ ًا‬
‫روايـة القصـص‪ ،‬بـل قـول الحقيقـة وتدوينهـا‪ .‬قـال عبـد اللـه‪:‬‬
‫‪ -‬كتـب أحـد العلماء الحقيقيين كتابـ ًا ووضـع صفحاتـه املخطوطـة‬
‫عـام كامـل‪ ،‬وعندمـا عـاد إليهـا وجـد‬
‫ملـدة ٍ‬ ‫ُرشفـة ّ‬‫فـوق سـطح الكعبـة امل ِّ‬
‫تتغير ومل تتأثَّـر بريـح وال بشـمس وال مبطـر! كام أن‬
‫َّ‬ ‫الصفحـات المعـة مل‬
‫طريـ ًا على الـورق‪ .‬فقـط بعـد هـذا االختبار‪ ،‬قـام بطبـع الكتاب‪.‬‬
‫الحبر كان ّ‬
‫تتغير‪ ،‬وال تنمحـي‪ ،‬وال تتأثَّـر بشيء!‪.‬‬
‫َّ‬ ‫إنـه على صـواب‪ ،‬فالحقيقـة ال‬
‫أضاف عبد الله‪:‬‬
‫‪ -‬لست عاملاً‪ ،‬تدخل الحكايات أذين من جه ٍة‪ ،‬وتخرج من الجهة األخرى‪.‬‬
‫‪ -‬هل ذلك صحيح؟ ال‪.‬‬
‫البرشيـة عىل الـدوام‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قـدر حكايـات عبـد اللـه هو نفسـه قـدر حكايـات‬

‫‪65‬‬
‫ـن يكذِّ بهـا‪ .‬هنـاك َم ْ‬
‫ـن يضحك منهـا‪ ،‬وهنـاك َم ْن‬ ‫يصدقهـا ومثّـة َم ْ‬
‫ِّ‬ ‫ـن‬
‫مثّـة َم ْ‬
‫تبكيـه‪ .‬بعضهـم يكتفـي بظاهـر القـول‪ ،‬فيما يتمكَّ ـن آخـرون مـن تفسير‬
‫معانيهـا‪.‬‬
‫فرد هذا األخري‪:‬‬
‫روى عبد الله حكاية ألحد األطفال‪َّ ،‬‬
‫‪ -‬قرأت قصة أجمل منها يف كتايب املدريس‪.‬‬
‫قال عبد الله‪:‬‬
‫‪ -‬هـذا ممكـن‪ ،‬لكن قصتك موجودة يف كتاب وكلّ زمالئك يف املدرسـة‬
‫ٍ‬
‫كتـاب واحـد‬ ‫القصـة التـي أرويهـا فلا توجـد ّإل يف‬
‫ّ‬ ‫أمـا‬
‫ميكنهـم قراءتهـا‪ّ .‬‬
‫فريد‪.‬‬
‫وأشار بيده إىل قلبه‪.‬‬
‫يغلـق عبـد الله متجره كلّ مسـاء ويغـادر الحارة بخطـى وئيدة صغرية‪.‬‬
‫ال يعـرف أحـد مقر سـكناه‪ .‬وحـده عبد النبي املعروف بنميمتـه قال إنه رأى‬
‫يـوم محـاو ً‬
‫ال‬ ‫أمـا حبيـب الـذي تبعـه ذات ٍ‬‫الرجـل يدخـل إىل أحـد الفنـادق‪ّ .‬‬
‫اكتشـاف مكان سـكناه فقال‪:‬‬
‫‪ -‬عبد الله من أولياء الله‪ .‬تبعته ذات يوم إىل أن وصل حارة الص ّفاحني‬
‫يف الضفـة األخـرى مـن وادي فـاس‪ ،‬دخـل يف زقـاقٍ مغلـق ينتهـي بزاويـة‬
‫رضيـح مرصوصـة الجـدران بالزلّيـج األخضر‪ .‬دخـل إليهـا‪ ،‬انتظـرت دقيقة‬
‫كبرت وسـقطت‬ ‫ثـم تبعتـه‪ ،‬لكننـي وجـدت املـكان فارغـ ًا ليـس بـه أحـد‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫الجهال عنه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يقولـه‬ ‫ما‬ ‫إىل‬ ‫ً‬
‫ال‬‫بـا‬ ‫لقي‬‫ُ‬ ‫أ‬ ‫أعـد‬ ‫مل‬ ‫اليوم‬ ‫ذلـك‬ ‫منـذ‬ ‫‪.‬‬ ‫َّ‬
‫علي‬ ‫ً‬
‫ا‬ ‫مغشـي‬
‫ألننـي أعـرف أن أوليـاء اللـه لهم منـازل خفيـة ال يعلمهـا ّإل الله‪.‬‬
‫قال بعضهم‪:‬‬
‫حق!‬
‫‪ -‬حبيب عىل ّ‬
‫رد عبد النبي‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬يبـدو أن حبيـب قـد سـمع مـن حكايـات عبـد اللـه أكثر مما ينبغـي‪،‬‬

‫‪66‬‬
‫وترصفات عبد‬
‫ُّ‬ ‫حتـى خالـط عقلـه الخبل‪ .‬اللـه وحده عنـده علـم كلّ يشء‪،‬‬
‫التقـي‪ .‬هـل رأيتمـوه يـؤدي الصلاة يومـاً؟‬
‫ّ‬ ‫ترصفـات املسـلم‬
‫اللـه ليسـت ُّ‬
‫هـل يغـادر حانوتـه يف سـاعات تنـاول الطعـام؟ هـل يقـول كالمـ ًا ِّ‬
‫يعبر عن‬
‫التقـوى والصلاح؟ إنـه مفسـد لألخلاق‪ ،‬شـيطان بعاممـة ولحيـة بيضـاء‬
‫يعيـش يف األكاذيـب مثـل خنزيـر يف الوحـل!‬
‫واحمرت وجنتاه فرصخ يف عبد النبي‪:‬‬
‫َّ‬ ‫غضب حبيب الهادئ عادة‬
‫ام صالحـاً؟ صحيـح إنك تؤدي‬‫‪ -‬وهـل تريـد أن يشـبهك حتـى يكون مسـل ً‬
‫صلواتـك يف وقتهـا‪ ،‬تغـادر دكانـك يف أوقـات الوجبـات‪ ،‬تـداوم على صالة‬
‫الجمعـة وعلى تكـرار اآليـات واألحاديـث يف كالمـك‪ ،‬لكـن حديثـك يقطـر‬
‫بالنميمـة والحقـد على النـاس الذيـن تغتابهـم‪ .‬حديثـك تفـوح منـه رائحـة‬
‫املـوت والعفـن مـن كثرة النميمـة‪ .‬لـن تبلـغ حتـى درجـة الشـيطان ألن‬
‫يتمـرغ يف الدقيـق‬
‫َّ‬ ‫كلّ أعاملـك حقيرة الشـأن‪ .‬لسـت ّإل فـأر مجـاري قـذرا‬
‫األبيـض ليخـدع النـاس! يظـن أن بيـاض الدقيـق سـيخفي حقيقتـه بينام هو‬
‫لـوث الدقيـق األبيض نفسـه!‬
‫قـد َّ‬
‫انقـض عبـد النبـي على حبيب محـاو ً‬
‫ال توجيه رضبـة له فأمسـك به هذا‬
‫ثم‬
‫كحـداد تجعل عضالتـه أقوى بكثير‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫األخير بقـوة مـن سـاعديه‪ ،‬مهنتـه‬
‫خاطبه‪:‬‬
‫‪ -‬تريـد أن ترضبنـي! هـا أنتـم تـرون أن املنافقين وضعفـاء القلـوب‬
‫يلجـأون دومـ ًا للعنف! عضلايت ِّ‬
‫تطوع الحديـد وتواجه النار‪ .‬لن أسـتعملها‬
‫لسـحق رصصـور مثلـك‪ .‬ال أُدافع عـن عبد الله الب ّقال‪ ،‬أحـاول فقط نصحك‬
‫يـا جاهـل! يـا متعـامل! لكـن دماغـك مثـل الصخـر وروحـك باليـة محنطـة‪.‬‬
‫أحـب ملـس الجيف!‬
‫ّ‬ ‫مجـرد جثـة‪ ،‬وأنـا ال‬
‫َّ‬ ‫أنـت‬
‫ثـم غـادر‪.‬‬
‫طـوح حبيـب بجسـد عبـد النبـي يف ا ِّتجـاه الجـدار املقابـل‪ّ ،‬‬
‫َّ‬
‫صـام ملـدّة أسـبوع كامـل ليك ّفـر عـن غضبتـه هـذه‪.‬‬
‫حـرك‬ ‫روى بعضهـم مـا حـدث لعبـد اللـه فظـلّ سـاكن ًا يف البدايـة‪ّ ،‬‬
‫ثـم َّ‬
‫مذبتـه‪ ،‬وروى حكايـة جديـدة‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫الفصل الخامس‬

‫ً‬
‫مبتسما قبيـل تلـك الصبيحـة‬ ‫مل يسـبق يل أن شـاهدت فقيـه الكُ َّتـاب‬
‫مـن يـوم األربعـاء‪ ،‬حيـث أصبحت العصـا املقطوعة من شـجر السـفرجل‬
‫مجـرد أداة زينـة زائـدة على الحاجـة ال تسـتعمل لرضب التالميـذ‪ ،‬بل فقط‬
‫َّ‬
‫لتنشـغل بهـا األصابـع يف وقـت الفراغ‪.‬‬
‫استظهرت درس اليوم كام العادة فهنأين الفقيه‪:‬‬

‫جيـد يا ولدي‪ ،‬سـتصبح إن شـاء اللـه طالب ًا ُم َّ‬


‫جدا يغـرف من بحار‬ ‫‪ -‬هـذا ّ‬
‫الله عليك!‬
‫العلـم‪ ..‬انهض فتـح ُ‬
‫قبـل أن ننهـي حصـة الصبـاح ونذهب لتنـاول الغـداء‪ ،‬طلب منـا الفقيه‬
‫ثـم َّ‬
‫حدثنـا عـن يـوم عاشـوراء الـذي يصـادف حفـل بدايـة‬ ‫لـزوم الصمـت‪ّ .‬‬
‫السـنة‪ .‬أعلمنـا أن أمامنـا خمسـة عشر يومـ ًا مـن االسـتعدادات لالحتفـال‬
‫ابتـداء مـن منتصـف الليـل حني‬
‫ً‬ ‫أن الكُ َّتـاب سـيضاء بالشـموع‬
‫باملناسـبة‪ّ ،‬‬
‫تحـلّ املناسـبة املذكـورة‪ ،‬وسيشـارك جميـع التالميـذ يف الحفـل يف جـ ٍو‬

‫‪69‬‬
‫والجديـة‪ .‬لـذا فعلى كلّ م ّنـا أن يحضر مـن منزلـه مقـدار‬
‫ّ‬ ‫مـن البهجـة‬
‫يتوجـب‬
‫َّ‬ ‫سـلطانية مـن زيـت الزيتـون السـتعاملها يف ملبـات اإلنـارة‪ ،‬كما‬
‫صباغـة جـدران الكُ َّتـاب بالجير األبيـض‪ ،‬اسـتبدال حصائـر الكُ َّتـاب الباليـة‬
‫بأخـرى جديـدة‪ ،‬وإخبـار آبائنـا باإلجـراءات الجديـدة التـي تعتمـد جميعها‬
‫على مسـاهامتهم املاديـة‪.‬‬
‫ويف النهايـة أعلـن أنـه مينحنـا عطلـةً يف فرتة ما بعـد الزوال‪ .‬يـا له من‬
‫خبر مفـرح! ركضـت ألخبر والـديت باملوضـوع فوجدتهـا غـادرت املنـزل‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫أخربتنـي فاطمـة البزيويـة إنهـا خرجـت قبيل سـاعة بعدمـا قدمـت لزيارتها‬
‫الشـك أن زيـارة اللة‬
‫ّ‬ ‫ثـم إىل قلـق‪.‬‬
‫تحولـت فرحتـي إىل حـزن‪ّ ،‬‬ ‫اللـة عائشـة‪َّ .‬‬
‫عائشـة لهـا عالقـة مبـا حـدث لزوجهـا مـع هـذا املدعـو عبـد القـادر‪ .‬هـل‬
‫حدثـت مشـكلة أخـرى بين موالي العـريب وهذا الشـيطان؟ أمل يتـم إيداعه‬
‫بيـد خفيـة يحركها الباشـا والقايض‬‫يف سـجنٍ مظلـم؟ إن املوضـوع يوحـي ٍ‬
‫وأعوانهام‪.‬‬
‫كانـت والـديت قـد تركـت مفتـاح الغرفـة يف بابهـا‪ .‬دخلـت لتفاجئنـي‬
‫تغير مظهرهـا املعتـاد‪ ،‬اكتسـت طابـع مخلوقـات‬ ‫األشـياء املعتـادة وقـد َّ‬
‫تحـدق يفّ ‪ ،‬تثير يف قلبـي الرعـب قبـل أن تعـود لطبيعتهـا‬
‫ّ‬ ‫خرافيـة رشيـرة‬
‫األوىل‪ .‬جلسـت أنتظـر عـودة والـديت التـي سـتخلّصني مـن عـداوة األشـياء‬
‫ومر الوقت‬
‫ومقالـب العفاريـت التـي انفـردت يب‪ .‬جفَّـت حنجريت من الريـق ّ‬
‫تجـر خطاهـا يف‬
‫ّ‬ ‫بتثاقـلٍ كبير إىل أن سـمعت صـوت حركـة والـديت وهـي‬
‫الطابـق السـفيل صاعـدةً‪ .‬عندهـا فقـط عاد لألمـور طابعهـا االعتيـادي وأنار‬
‫الغرفـة شـعاع من ضوء الشـمس فبعث الحياة يف زلّيجهـا الباهت األلوان‪.‬‬
‫مبجـرد وصولهـا لطابقنا‪ .‬كانـت فاطمـة البزيوية‬
‫َّ‬ ‫توقَّفـت والـديت الهثـة‬
‫ـد سـمك ًا ببـاب غرفتهـا فتوقَّفت عن ذلك‪ ،‬غسـلت يديها ومسـحتهام يف‬ ‫ُت ِع ُّ‬
‫تفسر لها سـبب خروجها‪.‬‬‫ِّ‬ ‫مريلتهـا منتظـر ًة مـن والـديت أن‬
‫بالرس الذي ستسـمعه إىل أي مخلوق‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫طلبـت منهـا والديت أن ال تفيض‬
‫قبـل أن تقترب منهـا وتبـدأ الوشوشـة يف أذنهـا‪ ،‬مرفقـة حديثهـا ُّ‬
‫بتنهـدات‬
‫عميقـة وحـركات يـد وتغييرات يف تعابير الوجه وحـركات الرأس‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫التنهـدات مبثلهـا‪ ،‬وعلى حركات‬
‫ُّ‬ ‫أمـي مجيبـة عـن‬
‫تتبعـت فاطمـة كالم ّ‬
‫ـدة‪ ،‬قبـل أن تضرب‬ ‫ِ‬
‫اليـد بأكبر منهـا‪ ،‬وعلى تعابير الوجـه بأخـرى أكثر ح ّ‬
‫تحسة‪:‬‬
‫بيديهـا على فخذيهـا ُم ِّ‬
‫ـ الله! الله! الله!‬
‫ـ نعم‪ ،‬كلّ هذا ُيدمي القلب! وال ميكن أن يتم َّنى اإلنسـان هذه املصيبة‬
‫التـي حلّـت باللـة عائشـة حتـى ألعـدى أعدائـه‪ .‬هـذا مـا حصـل‪ ،‬ولكـن عىل‬
‫والضاء!‬
‫السراء َّ‬‫املؤمـن أن يحمـد الله يف َّ‬
‫بعـد ذلـك فقـط انتبهـت والـديت إىل وجـودي فأدخلتنـي إىل الغرفـة‪.‬‬
‫ثـم خاطبتنـي‪:‬‬
‫نزعـت عنهـا ثـوب حايكهـا وخفيهـا األسـودين ّ‬
‫الشك أنك ميت من الجوع! تعال لتأكل!‬
‫ّ‬ ‫‪-‬‬
‫مصبر ًا لذيـذ ًا‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫لحما‬ ‫فتحـت والـديت ِقـدر ًا مـن الفخـار وأخرجـت منهـا‬
‫ُقـدد الـذي‬ ‫سـخنته حتـى أصبـح يسـبح يف سـائل مـن الشـحم املُملَّـح امل َّ‬ ‫َّ‬
‫ثـم نزلـت لتفضي‬ ‫كنـت أعشـق مذاقـه‪ .‬أعطتنـي قطعـ ًا وافيـة منـه وخبـزاً‪ّ .‬‬
‫متشـوق ًا‬
‫ِّ‬ ‫بالخبر الجديـد إىل الجـارة رحمـة طالبـة منهـا كتمان الرس‪ .‬كنت‬
‫التحلي بالصبر أللتقـط‬ ‫ّ‬ ‫ملعرفـة مـاذا جـرى‪ .‬وكنـت أعـرف أنـه مـا َّ‬
‫علي ّإل‬
‫املتفرقـة معـ ًا وأصل إىل‬ ‫ِّ‬ ‫كلمـة مـن هنـا وأخـرى مـن هنـاك‪ ،‬ألركّ ـب النتـف‬
‫الحقيقـة يف النهايـة‪ .‬أنهيـت األكل برسعة وتبعت والـديت إىل غرفة رحمة‪.‬‬
‫كانـت هـذه األخيرة جالسـة فـوق جلـد خـروف متشـط شـعرها األسـود‬
‫املسـدل على كتفيهـا وترطبـه بزيـت الزيتـون‪ .‬توقَّفـت عـن التمشـيط‬
‫لتنصـت إىل والـديت‪:‬‬
‫‪ -‬باعـت املـرأة املسـكينة كلّ مـا متلـك مـن أجلـه‪ ،‬مل يعـد يف بيتها ما‬
‫ميكـن أن تقتـات منـه الفرئان!‬
‫‪ -‬وفيم سيرصف املال؟‬
‫‪ -‬املـال سـيرصف لشراء معـدات عمـل ملـوالي العـريب لفتح مشـغله‬
‫الجديد‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫حركت رحمة رأسها داللةً عىل املوافقة قائلةً ‪:‬‬
‫َّ‬
‫جيد!‬
‫‪ -‬هذا ّ‬
‫تتحدر مـن أرسة عريقة‪ ،‬وال ميكنها‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬اللـة عائشـة امرأة رشيفة النسـب‬
‫تتخلى عـن زوجهـا لتنقـص مكانتـه بين نظرائـه مـن ُص َّنـاع األحذيـة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أن‬
‫ال خاصـ ًا بـه! العديـد مـن‬ ‫أن يعمـل لـدى األغيـار بعدمـا كان ميلـك مشـغ ً‬
‫مجـرد اختبـار عليـه اجتيـازه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الصعـاب تواجـه املؤمـن يف الحيـاة‪ ،‬ولكنهـا‬
‫ومـوالي العـريب رجـل صالح يسـتحق أن تضحي من أجله اللة عائشـة ببيع‬
‫حليهـا وجميـع أثـاث بيتها حتى ينقذ ماء الوجه أمام زمالئه‪ .‬سـيجازيها‬ ‫ّ‬ ‫كلّ‬
‫يفـر املـرء مـن أخيـه‪ ،‬ومـن صاحبتـه وبنيـه! يـوم ال‬ ‫اللـه على كرمهـا يـوم ّ‬
‫حكـم ّإل حكمـه! يـوم ال ينفـع ّإل العمـل الصالـح يف ميـزان الحسـنات!‬
‫رددت رحمة موافقة‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬ال حول وال قوة ّإل بالله! وال إله ّإل هو!‬
‫ٍ‬
‫مبشـط‬ ‫سـاد الصمـت مـن جديـد‪ ،‬وعـادت رحمـة لتمشـيط شـعرها‬
‫تقليـدي مصنـوع من قـرون املاعز‪ .‬نهضت والديت وأطلقـت تنهيدة عميقة‪:‬‬
‫‪ -‬رافقت اللة عائشة يف كلّ ما قامت به‪ ،‬وأشعر اآلن بالتعب والحزن‪.‬‬
‫السلَّم أنا ووالديت‪.‬‬
‫صعدنا درجات ُ‬
‫تعـاىل الصيـاح والبـكاء من املنـزل املالصـق ملنزلنا‪ ،‬صعدنـا برسعة‪.‬‬
‫بعـد مـرور اللحظـات األوىل للمفاجأة انطلقـت األسـئلة يف كلّ ا ِّتجاه‪:‬‬
‫ويف؟م ْن ُتويف؟!‬
‫َ‬ ‫‪َ -‬م ْن ُت‬
‫تكونـت مجموعـات مـن النسـاء فوق سـطح منزلنـا واألسـطح املجاورة‬ ‫َّ‬
‫للـدار املالصقـة لنـا‪ .‬قدمـت نسـوة أخريات مـن املنـازل املجـاورة‪ .‬تدلّني‬
‫ام قصير ًا لالنتقـال‬
‫فـوق الجـدران الفاصلـة واسـتعملت بعـض منهـن سـل ً‬
‫مـن سـطح إىل سـطح‪ُ .‬سـمع بـكاء وعويـل‪ ،‬وبرز من بين األصـوات الباكية‬
‫ـد ًة وحزنـاً‪ .‬ظهـرت وسـط النسـاء خادمـة سـوداء‬ ‫صـوت كان أكرثهـا ِح ّ‬

‫‪72‬‬
‫حركـت وجههـا ويديهـا اللتين كان باطنهما الـوردي يفتن مخيلتي‬
‫ُمسـ َّنة‪َّ ،‬‬
‫ثـم أعلنت الجارية‬
‫ويثير اسـتغرايب‪ ،‬قبـل أن تفرض على الجميع الصمت‪ّ ،‬‬
‫السـابقة العجوز‪:‬‬
‫الحلاق‪ ،‬كان يرقـد‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬أعـرف مـن ُتـويف‪ ،‬أنـه سـيدي محمـد بـن الطاهـر‬
‫على فـراش املـرض منـذ شـهرين‪.‬‬
‫سألت امرأة ترتدي منديل رأس أصفر‪:‬‬
‫‪ -‬كان مريض ًا مباذا؟‬
‫‪ -‬اللـه وحـده يعلـم! لكـن الشيء األكيـد هـو أن سـيدي محمـد بـن‬
‫الطاهـر قـد ُتـويف‪.‬‬
‫ظلّـت النسـاء صامتـات لربهـة‪ ،‬اختفـى رأس الخادمة العجـوز‪ .‬توقَّفت‬
‫ثم عـادت النسـوة إىل منازلهن‪.‬‬
‫حـركات األيـدي‪ّ ،‬‬
‫الحلاق شـخص ًا معروفـ ًا يف الحـارة‬
‫ّ‬ ‫كان سـيدي محمـد بـن الطاهـر‬
‫التسـوق حاملاً ق ّفـة مـن‬
‫ُّ‬ ‫بلباسـه األبيـض ولحيتـه الخفيفـة‪ .‬يـداوم على‬
‫الحلفـاء‪ .‬نشـاهده عابـر ًا األزقـة وقد مألها بخضار املوسـم وأحيانـ ًا بلحمة‬
‫وبصـل وثـوم‪.‬‬
‫سـاد املـكان صـوت بـكاء ونحيـب منتظـم مستسـلم‪ ،‬مسـتمر وسـاذج‬
‫بـدا وكأنـه يخضـع إليقـاع موسـيقي معـروف خـاص باملناسـبة‪.‬‬

‫نزلـت والـديت إىل غرفتهـا‪ ،‬التحفـت ثوبـ ًا وصعـدت إىل السـطوح ّ‬


‫مـرة‬
‫أخـرى‪ .‬قالـت لرحمـة‪:‬‬
‫‪ -‬سـأعرب السـطح عبر الجـدار‪ ،‬سـأذهب لـدار امليـت‪ ،‬فأنـا بحاجـة‬
‫للبـكاء!‬
‫أمي‪ ،‬دعيني أرافقك! أريد أن أبيك معك قليالً!‬
‫‪ّ -‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬مـا زلـت صغير ًا عىل ذلك‪ ،‬كام أنك ولد ولسـت بنتاً! بعد قليل سـيأيت‬
‫حفظـة القرآن للقـراءة عىل روح امليت‪ .‬آنذاك ميكنك أن تنضم إليهم!‬

‫‪73‬‬
‫‪ -‬أرغب يف البكاء! أرغب يف البكاء!‬
‫عاجلتني والديت بصفعة قائلةً ‪:‬‬
‫بكاء حقيقياً!‬ ‫ِ‬
‫وابك ً‬ ‫‪ -‬خذ هذه‪،‬‬
‫تدخلـت رحمـة وأقنعتهـا باصطحـايب إىل املأتـم‪ .‬وافقـت والـديت بعـد‬ ‫َّ‬
‫تـردد‪ .‬أعانتنـي املرأتـان على عبـور الجـدار الفاصـل بيننـا وبين الجيران‪.‬‬
‫ُّ‬
‫السـلَّم يف طريـق هبوطنا‬
‫ُ‬ ‫إىل‬ ‫وصلنا‬ ‫وعندمـا‬ ‫البـكاء‪،‬‬ ‫عـن‬ ‫لحظتهـا‬ ‫توقفـت‬
‫إىل دار املأتـم الواقعـة يف الطابـق السـفيل‪ ،‬رشعـت أقفـز الدرجـات‬
‫ال الوصـول إىل مجلـس الباكيـات!‬ ‫ٍ‬
‫بحماس مسـتعج ً‬
‫جلـس باملـكان مـا يزيـد على عرشيـن مـن النسـاء ينشـجن وينتحبن‬
‫بأصـوات مرتفعـة‪ .‬وكلّما انضمـت إليهـن أخريـات ارتفعـت األصـوات‬ ‫ٍ‬
‫وتصاعـدت الزفـرات‪ ،‬وتزايـد منسـوب النـدب ورضب الصـدور! جلـس‬
‫الحلاق تضرب‬‫ّ‬ ‫الجميـع على أبسـطة ومرتبـات‪ ،‬وجلسـت بينهـن أرملـة‬
‫وتتـأوه مبـرارة‪ .‬شـاهدت املنظـر املثير‬
‫َّ‬ ‫بباطـن يدهـا وجههـا وفخذيهـا‬
‫بفضـول واسـتغراب إىل درجـة نسـيت معهـا الهـدف مـن زيـارة املـكان‪.‬‬
‫جئـت بقصـد البـكاء لكننـي ال أبكي‪ .‬رأيـت امـرأة عجـوز ًا منفوشـة الشـعر‬
‫مـرددة‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫تعـول وتنـوح‬
‫‪ -‬كنت عامد بيتي!‬
‫كنت مظلتي ودرعي‬
‫وفاريس الشجاع!‬
‫دونك سيصبح منزيل مظل ً‬
‫ام‬
‫دونك ستصبح أشعة الشمس باردة‬
‫دونك ال أملك عيون ًا أرى بها‬
‫لن تتوقف عيوين عن ذرف الدموع‬
‫سأذرف دموع ًا من دم‬

‫‪74‬‬
‫ستجف عيوين وأتيه يف الظلامت!‬
‫رددت امـرأة شـابة غريبـة عـن أهـل املنـزل ملتحفـة بحايكهـا‪ ،‬يف كلّ‬
‫َّ‬
‫مـرة توقَّفـت العجـوز عـن اإلنشـاد‪:‬‬
‫ّ‬
‫أمي! آ ٍه يا ّ‬
‫أمي املسكينة!‬ ‫‪ -‬آ ٍه يا ّ‬
‫آ ٍه يا ّ‬
‫أمي! أحببتك أكرث من أي مخلوق فوق األرض!‬
‫كانـت مثَّـة نسـاء يبكين‪ ،‬وأخريـات يرفعـن دعـوات للـه‪ ،‬ويتشـفعن‬
‫تجمـع أطفـال يف ركـن‬
‫بنبيـه‪ ،‬يسـتحرضن بركـة األوليـاء والصلحـاء‪ .‬فيما َّ‬
‫مـن الغرفـة ورشعـوا بدورهـم يف البـكاء‪ ،‬فاقرتبـت منهـم‪.‬‬
‫وجـدت زينـب بينهـم‪ .‬كانـت تحـاول أن تقلِّدهـم يف بكائهـم‪ ،‬تفـرك‬
‫ٍ‬
‫دمعـة واحـدة! كانـت‬ ‫عيونهـا وتحـاول دون جـدوى‪ .‬مل تتمكَّ ـن مـن ذرف‬
‫عيونهـا جافـة متيقظـة المعـة مثلما تكونان حين تحدث فوىض مـا‪ .‬نظرت‬
‫سـددت لهـا لكمـة وسـط األنـف مبـارشة! رشعـت الطفلـة‬ ‫إليهـا قليلاً ‪ّ ،‬‬
‫ثـم َّ‬
‫وعمـت فـوىض عارمـة يف املـكان فانتهـزت الفرصة‬‫املسـكينة يف الصراخ َّ‬
‫لل ِفـرار إىل السـطوح‪.‬‬
‫رغـم إننـي ابتعدت عـن والديت‪ ،‬كنت أعلـم أنها سـتواصل التنفيس عن‬
‫حزنهـا بالبـكاء دون أن تحفل مبـا يدور حولها‪.‬‬
‫سـمعت صـوت قـدوم حفظـة القـرآن‪ ،‬املُكلَّفين بالقراءة على امليت‪،‬‬
‫واسـتمر نشـيجهن املكتوم‪ .‬بدأ‬
‫ّ‬ ‫فصعـدت النسـاء جميعـ ًا إىل الـدور َّ‬
‫األول‬
‫املنشـدون تلاوة سـور طويلة مـن القـرآن الكريم‪.‬‬
‫يف النهايـة صعـدت والـديت إىل السـطوح‪ ،‬سـاعدتني على القفـز عبر‬
‫ثـم هبطنـا إىل غرفتنـا‪ .‬جـاءت فاطمـة‬ ‫الجـدار الفاصـل بين املنزلين‪ّ ،‬‬
‫البزيويـة‪ ،‬سـألت عـن األحـوال يف دار الجنـازة‪ ،‬عـن النسـاء الحـارضات‪،‬‬
‫عـن أحـوال زوجـة امليـت َّ‬
‫وعما إذا كانـت أمـه ال تـزال على قيـد الحيـاة‪.‬‬
‫أمـي عـن أمل زوجـة الحلاّ ق‪ ،‬عـن أسماء عـدد مـن الحارضات‬
‫أخربتهـا ّ‬
‫أم الحلاّ ق مـن عدمه‪.‬‬
‫واعرتفـت أنهـا تجهـل وجـود ّ‬

‫‪75‬‬
‫(الشـوافة)((( يف الحـوار حـول املوضـوع مـن الطابـق‬‫َّ‬ ‫شـاركت كنـزة‬
‫األريض‪ .‬وبعـد حديـث طويـل‪ ،‬خلصـت النسـوة إىل النتيجـة الفلسـفية‬
‫ـن على األرض سـيفنى‪ ،‬وعاجلاً أم آجلاً يـأيت الـدور عىل‬ ‫املعروفـة‪ :‬كلّ َم ْ‬
‫اإلنسـان ليغـادر إىل دار البقـاء‪.‬‬
‫سـمعنا صدى القـراءة واألذكار عرب الجدران لفتر ٍة طويلة‪ .‬كان يقطعه‬
‫الحلق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بين الفينـة واألخـرى رصاخ وعويل حـاد طويل متأمل تطلقـه زوجة‬
‫مل أجـرؤ على اللعـب‪ ،‬لـذا مل أخـرج مقتنيـايت مـن علبتهـا‪ .‬وكيـف ميكنني‬
‫يـوم كهـذا غـادر فيـه سـيدي محمـد بـن الطاهـر‪ ،‬الشـخصية‬ ‫ٍ‬ ‫اللهـو يف‬
‫املعروفـة يف زقاقنـا‪ ،‬العالَـم إىل غير رجعـة؟ غـادر أرستـه وأصدقـاءه‬
‫وزبائنـه ومعارفـه إىل األبـد!‬
‫عما قليـل سـيتم تغسـيله ويـدرج يف كفنـه قبـل أن يحملـه الرجـال‬ ‫َّ‬
‫ثـم يرافقونـه إىل حيث‬ ‫على عواتقهـم فـوق نعـش مريـح من خشـب األرز‪ّ ،‬‬
‫ثـم تنغلـق‪ ،‬إىل األبـد‪ ،‬على‬ ‫يدفـن يف األرض الرطبـة‪ .‬ستنشـق األرض ّ‬
‫سـيدي محمـد بـن الطاهـر‪ .‬كنـت أحلـم بكلّ هـذا متكئ ًا على شـباك نافذتنا‬
‫التمـدد على‬
‫ُّ‬ ‫فاجتاحنـي إحسـاس بالحـزن العميـق‪ .‬اسـتأذنت والـديت يف‬
‫الحلق‪ .‬رأيته‬ ‫ّ‬ ‫أتخيل عملية دفـن‬
‫َّ‬ ‫متـددت وطفقت‬
‫فراشـها الكبير فوافقت‪َّ .‬‬
‫الضيـق مسـافر ًا داخـل تابوته املُغطى فـوق بح ٍر مـن الرؤوس‬ ‫ِّ‬ ‫البسـاً كفنـه‬
‫ُعممـة التـي تنشـد أذكار ًا وأدعيـة‪ .‬سـبق يل مـن قبـل أن شـاهدت مـرور‬ ‫امل َّ‬
‫يـردد أذكار ًا‬
‫عـدد مـن مواكـب الجنائـز قبالـة زقاقنـا‪ .‬كان بعضهـا حاشـد ًا ِّ‬
‫ُمعقَّـدة ويسير ببـطء‪ .‬كانـت مثَّـة جنائـز مرسعـة يحرضهـا عـدد قليـل من‬
‫املشـيعني يكتفـون برتديـد الشـهادتني جامعـة‪ :‬ال إلـه ّإل اللـه‪ ،‬محمـد‬
‫رسـول اللـه‪ .‬كان مثَّـة أمـوات ميضـون إىل املقابـر رفقـة بضعـة أشـخاص‬
‫فقـط! ال يصاحبهـم أحـد وال يلـزم أحـد نفسـه مبشـقة تغطيـة جثامينهـم‬
‫جيـد ًا وهـي محمولـة فـوق األكتـاف! وجـدت األمـر محزنـاً‪.‬‬
‫ّ‬

‫العرافة‪ .‬‬
‫َّ‬ ‫(((‬

‫‪76‬‬
‫فقص ع َّ‬
‫يل الحكاية التالية ملواسايت‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫أفضيت لوالدي بأفكاري‬
‫يف أحـد األسـواق العامـرة التـي تقـع وسـط املدينـة كان يوجـد دكان‬
‫تقي ًا‬
‫سـيدي‪( ...‬نسـيت االسـم)‪ .‬كان رجلاً طيبـ ًا محبوب ًا مـن الجميـع‪ ،‬وكان ّ‬
‫ميـر بالسـوق موكـب جنـازة ّإل أغلـق املتجـر وتبعـه للمشـاركة يف‬ ‫ورعـ ًا ال ّ‬
‫متسـول فقير‪ .‬حمـل التابـوت‬ ‫ِّ‬ ‫مـرت بـه جنـازة‬
‫األيـام ّ‬
‫تشـييعه‪ .‬يف أحـد ّ‬
‫شـخصان فقـط مـن حفَّاري القبـور‪ .‬وقف سـيدي‪ ...‬وتنـاول خ ّفيـه ملرافقة‬
‫ثم عاد ملجلسـه املعتاد داخل دكانه‪.‬‬ ‫الجنـازة‪ ،‬ولكنـه مـا لبث أن خلعهام ّ‬
‫ترصفـه مفتقـد ًا للياقة‪.‬‬
‫المـه بعـض ال ُت َّجـار املجاوريـن الذيـن وجـدوا ُّ‬
‫سمع سيدي‪ ...‬كالم زمالئه من ال ُت َّجار فأجابهم مبا ييل‪:‬‬
‫فسر لكـم مـا حقيقـة مـا‬ ‫‪ -‬أيهـا النـاس هـل أنتـم مؤمنـون؟ دعـوين أُ ِّ‬
‫خفـي ألشـارك يف‬
‫َّ‬ ‫شـاهدتم ومـا صـدر منـي‪ :‬عندمـا رأيـت الجنـازة لبسـت‬
‫تشـييعها‪ ،‬لكـن عندمـا اقرتبـت منهـا شـاهدت حولهـا طائفـة مـن رجـال‬
‫يخـرج مـن وجوههـم النـور‪ ،‬طائفـة مـن مالئكـة الجنـة يحيطـون بالجنـازة!‬
‫كان الراحـل أحـد أوليـاء اللـه الفرحين بلقـاء ربهـم! وخجلـت‪ ،‬أنـا العبـد‬
‫املذنـب الضعيـف‪ ،‬إن اختلـط باملوكـب النـوراين! سـعدت ألنني رأيـت أخ ًا‬
‫وقـررت مواصلـة الجلـوس بين توابلي!‬ ‫لنـا يف اللـه يلقـى نهايـة سـعيدة‪َّ ،‬‬
‫مـرة لقيـت فيهـا جنـازة ال يتبعهـا أحـد رصت أدعو‪ :‬لـك الله أيها‬
‫يف كلّ ّ‬
‫الغريب!‬

‫وأضيـف يف نفسي‪ ،‬وأنـا أشـعر بسـعاد ٍة غامـرة‪ :‬هـو أيضـ ًا َّ‬


‫ربـا يكـون‬
‫محاطـ ًا مبوكـب مـن مالئكـة السماء!‬
‫تواصـل النحيـب والنـواح يف املنـزل املجـاور‪ ،‬تصاعـد لدرجـة بلـغ‬
‫أسماع كلّ سـكان منزلنـا‪ .‬ألقـت النسـوة مـا بأيديهـن مـن أشـغال البيـوت‬
‫وبكين جميعـ ًا بين القـدور والطناجـر والكـؤوس‪.‬‬
‫ربـا أزفـت لحظـة خـروج الجنازة مـن املنزل‪ .‬تصاعـد البـكاء وأصوات‬
‫َّ‬
‫القـراءة‪ .‬غطـت غيمـة الشـمس‪ ،‬حلَّـت بـاألرض غاممة من الحـزن‪ .‬رشعت‬
‫بالبـكاء فنسـيت والـديت كلّ يشء وجـاءت لالطمئنان على حالتي‪:‬‬

‫‪77‬‬
‫‪ -‬مم تشكو؟ هل لسعتك حرشة؟ هل تشكو من مغص؟‬
‫واصلـت البـكاء لفترة طويلـة‪ .‬امتنعـت عـن األكل‪ .‬كانـت والـديت قـد‬
‫طبخـت عدسـ ًا بالطامطـم والبصـل‪ ،‬وهـي وجبـة أحبهـا عـادةً‪ ،‬ورغـم ذلـك‬
‫التمـدد فـوق الفـراش الكبري‪ ،‬نشرت ع َّ‬
‫يل‬ ‫ُّ‬ ‫رفضـت تنـاول الطعـام‪ .‬واصلـت‬
‫ٍ‬
‫صوف حريـري مقلَّـم الجوانـب باألحمر فاسـتغرقت يف‬ ‫غطـاء مـن‬
‫ً‬ ‫والـديت‬
‫النـوم إىل لحظـة قـدوم والـدي‪ .‬قبلـت أن أرشب كوب حليب‪ّ ،‬‬
‫ثـم عدت إىل‬
‫تحـت الغطاء‪.‬‬

‫تطـور حالتـي‪ .‬المـس جبهتـي ووجنتـي ِع ّ‬


‫ـدة‬ ‫ُّ‬ ‫شـعر والـدي بالقلـق مـن‬
‫تتحـركان فعرفـت أنـه بصـدد قـراءة تعويـذة أو آيـة‬
‫َّ‬ ‫مـرات‪ .‬رأيـت شـفتيه‬
‫ّ‬
‫تسـاعد على الشـفاء‪.‬‬
‫ربـا أمـوت اليـوم وترافق نعشي طائفة من املالئكـة املرشقي‬‫فكـرت‪َّ :‬‬
‫َّ‬
‫الوجـوه بالنور!‬
‫تخيلـت موكـب جنـازيت‪ .‬بعـض مـن سـكان الحـارة‪ ،‬زملايئ يف الكُ َّتـاب‬
‫َّ‬
‫والفقيـه الذي سـيبدو يف هذه املناسـبة وقـور ًا أكرث من العـادة‪ ،‬وآالف من‬
‫مالئكـة يرتـدون ثيابـ ًا مـن حري ٍر أبيـض‪ .‬يف منزلنا سـتطلق والـديت رصخات‬
‫نـواح طويلـة ّأيامـ ًا وليايل‪ ،‬وتضطر النتظـار عودة والدي وحدها كلّ مسـاء‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أرفـض أن أموت!‬
‫اعتدلت فوق فرايش ورصخت‪:‬‬
‫‪ -‬أرفض أن أموت! أرفض أن أموت!‬
‫رصخـت بأقصى طاقـة حبـايل الصوتيـة‪ ،‬وقفـت فـوق الفـراش‪« :‬أرفض‬
‫للتمدد من جديـد‪ .‬قال يل كلامت‬
‫ُّ‬ ‫أن أمـوت!!»‪ ..‬أمسـك يب والـدي ودعـاين‬
‫محمرتان‪:‬‬‫َّ‬ ‫تـردد وعيناهـا‬
‫مهدئـة فيما ظلّـت والديت ِّ‬
‫ِّ‬
‫‪ -‬يا ولدي الصغري! يا ولدي الصغري!‬
‫اسـتعدت هـدويئ‪ .‬كانـت أذنـاي تصفـران‪ ،‬لكـن أمكننـي رغـم ذلـك أن‬
‫أسـمع والـديت تحكي أحـداث اليـوم‪ ،‬وفـاة وجنـازة محمـد بـن الطاهـر‪،‬‬

‫‪78‬‬
‫حليها وأثـاث بيتها‪ ،‬زوجها مـوالي العريب‬
‫مشـاكل اللـة عائشـة التي باعـت ّ‬
‫العلـوي يفتـح مشـغ ً‬
‫ال جديـداً‪ ،‬والـديت تدعـو على النصابين واملخادعني‬
‫عدميـي األخلاق مـن أمثـال عبـد القـادر املجهـول النسـب‪...‬‬
‫تخيلـت مجموعـة مـن املالئكـة ينزلون من سـقف‬ ‫يف غضـون كلّ هـذا‪َّ ،‬‬
‫الغرفـة بأجنحتهـم الفضيـة‪ ،‬رأيـت أحدهـم يأتينـي بصنـدوق عجائبـي‬
‫ويضعـه فـوق رسيـري‪ .‬فجـأة كبر حجـم العلبـة واكتسـت شـكل تابـوت‪.‬‬
‫علي بابـه‪ .‬كان الجـو داخلـه منعشـ ًا معطَّ ـر ًا مبـاء الـورد‬
‫َّ‬ ‫دخلتـه فأغلـق‬
‫ٍ‬
‫قصر رائـع مـن‬ ‫ورائحـة الربتقـال‪ .‬طـار التابـوت بين الغيـوم‪ ،‬وصـل إىل‬
‫زمـرد منحـوت‪ .‬سـمعت جميـع العصافير تغ ِّنـي‪ .‬ومنهـا الدوريـان اللـذان‬
‫يوقظـاين كلّ صبـاح‪ .‬دار بينهما الحـوار التـايل‪:‬‬
‫‪ -‬أحب التني املُجفَّف‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا تحب التني املُجفَّف؟‬
‫‪ -‬ألن الجميع يحب التني املُجفَّف!‬
‫‪ -‬نعم! نعم! نعم!‬
‫‪ -‬الجميع يحب التني املُجفَّف!‬
‫التني املُجفَّف!‬
‫التني املُجفَّف!‬
‫التني املُجفَّف!‬
‫جفنـي املغمضين‪ .‬كان شـعاع ًا مـن ضـوء الشـمس‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ضايـق يشء مـا‬
‫سـمعت عصافير الـدوري فوق النافـذة تغ ِّني حـول منافع التين املُجفَّف‪.‬‬
‫قالت والديت‪:‬‬
‫الحمـى‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬صبـاح الخير يـا ولـدي‪ ،‬تبـدو اليـوم أفضـل حـاالً! عانيـت مـن‬
‫ليلـة أمـس‪ .‬عـدين أن تتوقَّـف عن شـقاواتك‪ ،‬لـن تذهـب إىل الكُ َّتـاب اليوم!‬

‫‪79‬‬
‫أجبتها‪:‬‬
‫‪ -‬لكنني لست مريضاً!‬
‫‪ -‬أعلم! أعلم! العب هنا اليوم وخذ هذه السفنجة املقلية!‬
‫أمسكت السفنجة‪.‬‬
‫ثـم أوصـل املشتريات اليوميـة‪.‬‬ ‫نـادى إدريـس األقـرع مـن بـاب الـدار‪ّ ،‬‬
‫نزلـت والـديت لتسـلُّمها‪ .‬وسـمعت فاطمـة البزيويـة تقـول لهـا‪:‬‬
‫‪ -‬وصل وقت بقل الخبيزة‪ ،‬لونها أخرض رائع!‬
‫أجابتهـا والـديت بجملـة مل أسـمعها‪ .‬عـادت رسيعـ ًا إىل الغرفـة‪ .‬بـدأت‬
‫تحـرك األواين والقـدور واملنفـاخ وتطحـن التوابل يف هاون مـن نحاس‪ .‬كانت‬ ‫ِّ‬
‫وتحـرك منفاخها بدورهـا‪ .‬كان منفاخنا‬
‫ِّ‬ ‫طعامها‬ ‫ـد‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫ع‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫غرفتها‬ ‫عتبـة‬ ‫على‬ ‫رحمـة‬
‫متهالـك ًا مـن القـدم‪ .‬وعنـد الضغـط عليـه يبـدو كأنـه يخرج مـن فوهتـه كلمة‪:‬‬
‫ذباب!‬
‫ذباب!‬
‫ذباب!‬
‫يردد تارةً‪:‬‬
‫ينوع أغانيه‪ِّ .‬‬
‫أما منفاخ الجارة رحمة فكان ِّ‬
‫ّ‬
‫‪ -‬الجو حار!‬
‫الجو حار!‬
‫الجو حار!‬
‫ثم يغ ِّني بعدها‪:‬‬
‫‪ -‬أعاين!‬
‫أعاين!‬
‫أعاين!‬

‫‪80‬‬
‫توقَّفـت عـن اإلنصـات لصـوت املنافـخ وأصخـت السـمع إىل الطابـق‬
‫يتردد صـوت يشـبه رشر الفحـم أو ارتطـام حبيبـات‬ ‫َّ‬ ‫السـفيل‪ ،‬حيـث كان‬
‫بسـطح الزلّيـج القديـم الباهـت‪ .‬كانـت فاطمـة البزيويـة تنقِّـي صوفهـا‬
‫الشـوافة((( تخاطـب إحـدى زبوناتهـا‪ .‬سـمعت صـوت‬
‫َّ‬ ‫مـن الشـوائب وكنـزة‬
‫ضحكـة‪ ،‬هديـل حاممتين فـوق السـطوح تتبـادالن حديثـ ًا جميلاً يفـرح‬
‫القلـب‪ .‬كان مثَّـة ذبابتـان تتصارعـان يف الهـواء‪ ،‬تلتقيـان وتفرتقـان قبل أن‬
‫تغـادرا نحـو مغامـرة جديـدة‪ .‬قـرع أحدهـم البـاب بعنـف‪.‬‬
‫أجابته أصوات ِع ّدة من أهل الدار‪:‬‬
‫‪َ -‬م ْن الطارق؟‬
‫دفـق مـن‬
‫ٌ‬ ‫ـن الطـارق يف تلـك اللحظـة‪ .‬كان‬
‫مـا كان يهمنـي أن أعـرف َم ْ‬
‫النـور يصلنـي عبر أشـعة الشـمس اللطيفـة‪ .‬وكان صـوت اآلذان يرتفـع يف‬
‫السماء قادمـ ًا مـن مئذنـة بعيـدة‪:‬‬
‫‪ -‬ال إله ّإل الله!‬
‫ويغرد فيه قبـل أن يختفي يف أرجائه‬
‫ِّ‬ ‫كان صـوت املُـؤذِّ ن يعبر الفضاء‬
‫ثم يعـود من جديد‪.‬‬ ‫الواسـعة‪ّ ،‬‬
‫ثـم طـارت نحـو نافـذة غرفتنـا‪ .‬اقتحمتهـا‬
‫دخلـت نحلـة ط ّنانـة الفنـاء‪ّ ،‬‬
‫واتجهـت صـوب مـرآة اللمبة مرسعـة‪ .‬صدمتها فعـادت إىل الخلـف من أثر‬
‫تفـر بأقىص رسعة مـن الغرفة‪ .‬أضحكني املشـهد كثري ًا‬
‫املفاجـأة‪ ،‬قبـل أن ّ‬
‫وأحـرك يدي‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫فصرت أصفـق‬
‫رسعـان مـا سـئمت لعبـة التلصـص على أصـوات أهـل الـدار‪ .‬جـاءت‬
‫َّ‬
‫علي‬ ‫والـديت لتطَّ لـع على أحـوايل فارتاحـت لعالمـات النشـاط الباديـة‬
‫وعـادت إىل أوانيهـا وتوابلهـا‪.‬‬
‫ألشـغل نفسي بـدأت اسـتظهار اآليـات القرآنيـة القليلـة التـي أحفظهـا‬

‫العرافة‪ .‬‬
‫ّ‬ ‫(((‬

‫‪81‬‬
‫ثـم بـدأت أقـرأ كلمات‬
‫فكررتهـا‪ّ ،‬‬
‫عـن ظهـر قلـب‪ .‬رسعـان مـا انتهيـت منهـا َّ‬
‫خاصة يب تصعد من‬‫ّ‬ ‫غير متناسـقة وال منسـجمة ابتكرتها‪ ،‬اخرتعت قـراءة‬
‫جـو الغرفـة عرب أشـعة الشـمس اللطيفة إىل عنان السماء مثـل قافلة من‬
‫ملونة‪.‬‬
‫فراشـات ضوئيـة َّ‬
‫مجـدداً‪ .‬نصحتني أن ال أُفرط يف الصياح‬
‫يل َّ‬‫جـاءت والـديت لالطمئنان ع َّ‬
‫الحمـى‪ .‬ناولتني سلسـلة صغرية من‬‫َّ‬ ‫حفاظـ ًا على حنجـريت يك ال تعـاودين‬
‫نحـاس منقـوش يقرتب لونهـا من األخرض الرمـادي‪ ،‬قائلةً ‪:‬‬
‫‪ -‬أضف هذه إىل صندوق عجائبك!‬
‫قـررت تنظيف السلسـلة قبـل إضافتهـا للمقتنيات‪ ،‬تحويل نحاسـها إىل‬ ‫ّ‬
‫السـن املُبكِّ ـرة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫تلـك‬ ‫يف‬ ‫بسـهولة‬ ‫أسـتطيعه‬ ‫كنـت‬ ‫يشء‬ ‫وهـو‬ ‫اق‪،‬‬‫بـر‬
‫ذهـب َّ‬
‫نخصصـه عـاد ًة لتنظيـف الطناجـر واملوائـد‬ ‫ِّ‬ ‫تناولـت حفنـة مـن تـراب كنـا‬
‫مـرات يف‬ ‫ـدة َّ‬ ‫وفركـت السلسـلة طويلاً إىل أن آملتنـي أصابعـي‪ .‬غسـلتها ِع ّ‬
‫سـطل مـاء تعوم فيه مكنسـة مـن دوم قبل الوصـول إىل النتيجـة املبهرة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ذهبيـة ملّاعـة‪ .‬جربتهـا كدملـج‬ ‫ٍ‬
‫حليـة‬ ‫تحولـت سلسـلة النحـاس إىل‬ ‫َّ‬
‫ثـم على صـدري‪ ،‬فتحـت‬ ‫ّ‬ ‫رأيس‪،‬‬ ‫على‬ ‫وضعتهـا‬ ‫ملعانهـا‪،‬‬ ‫مـن‬ ‫للتأكـد‬
‫تحولـت‬
‫َّ‬ ‫صنـدوق العجائـب‪ ،‬ونشرت كلّ محتوياتـه قبالتـي على غطـاء‪.‬‬
‫لحلي‬
‫ّ‬ ‫كلّ املسـامري واألزرار التـي أملكهـا‪ ،‬بعمليـة سـحرية كنـت أتقنهـا‪،‬‬
‫متوهجـة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫وجواهـر‬
‫بتأمل ممتلكايت‪ ،‬فلم أنتبه لدخول قط زينب إىل غرفتنا‪.‬‬ ‫كنت منشـغ ً‬
‫ال ُّ‬
‫مل أكـن أخـاف منـه‪ .‬مـاء وطـاف يب‪ ،‬أردت أن أحتفـي به‪ ،‬أن أفتـح له أبواب‬
‫ومـد يده‬
‫َّ‬ ‫عاملـي السـحري‪ ،‬أن أرشكـه يف اللعـب مبمتلـكايت‪ .‬راقـه كالمـي‬
‫ملالمسـة أزراري وجواهـري‪ .‬وضعـت السلسـلة الذهبيـة حـول عنقـه‪ .‬راقه‬
‫يتمكـن مـن ذلـك‬
‫ْ‬ ‫األمـر يف البدايـة‪ ،‬مشى متفاخـر ًا بهـا‪ ،‬أراد نزعهـا فلـم‬
‫مبخالبـه‪ .‬انتابـه الغضـب‪ ،‬انتفـخ وبـره‪ ،‬واسـتطال ذيلـه‪ ،‬وملـع الشرر من‬
‫ففـر مني غاضبـاً‪ .‬صعـد األدراج نحو‬
‫َّ‬ ‫عينيـه‪ .‬رغبـت يف استرجاع سلسـلتي‬
‫السـطوح فاسـتغثت بوالـديت‪ ،‬برحمـة وفاطمـة البزيويـة‪ ،‬وحتـى بزينـب‪،‬‬

‫‪82‬‬
‫رغـم خصومتـي معهـا‪ .‬حـارص الجميـع القـط الخائـف وحاولـوا القبـض‬
‫جـد ًا ال ميكـن‬
‫ّ‬ ‫عليـه‪ .‬مل يفهـم سـبب الهجـوم عليـه فقفـز إىل جـدا ٍر عـالٍ‬
‫ألحـد الوصـول إليـه‪ .‬واسـتني والـديت والجـارات‪ .‬قلـن إن القـط سـيعود ال‬
‫محالـة يف املسـاء للـدار وإن زينـب سـتعيد يل سلسـلتي متـى عـاد‪.‬‬
‫زينـب‪ ،‬هـذه املاكـرة هـي التـي كلَّفـت قطهـا أن يخدعنـي ويسرق‬
‫سلسـلتي الغاليـة! استشـطت غضبـ ًا منهـا وهجمـت عليهـا‪ .‬يف أقـلّ مـن‬
‫رمشـة عين غرسـت أظافـري يف وجههـا ونتفـت شـعرها‪ .‬دافعـت الطفلـة‬
‫شـدتني مـن أذين ووجهـت يل ركالت متتاليـة‪.‬‬‫العنيفـة عـن نفسـها بقـوة‪َّ .‬‬
‫فاجأتنـي رضباتهـا فسـقطت أرضـ ًا ومتكَّ نـت هـي مـن وضـع قدمهـا على‬
‫صـدري‪ .‬حاولـت النسـوة الفصـل بين الغرميين املُتعاركين‪ ،‬لكـن دون‬
‫جـدوى! تلقين رضبـات بالـرؤوس واأليـادي مـن كلينـا!‬
‫متكَّ نـت والـديت يف النهايـة مـن السـيطرة َّ‬
‫علي فحملتنـي إىل غرفتنـا‬
‫وغطَّ سـت رأيس يف سـطل مـاء‪ .‬طلبـت مني أن أمسـح وجهـي وأصمت‪ .‬مل‬
‫يحرك صـدري ويزرع فيـه خلجات عنيفة‬
‫أتوقَّـف عـن البـكاء الغاضب الذي ِّ‬
‫إىل أن أدركنـي النـوم‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫الفصل السادس‬

‫تعين نـزول أربـع درجـات للدخـول إىل الكُ َّتـاب‪ .‬وكانـت بنايتـه عبـارة‬
‫تتضمـن دور ًا علويـ ًا وضـع فيـه الفقيـه‬
‫َّ‬ ‫عـن غرفـة مسـتطيلة فقيرة الزينـة‪،‬‬
‫خصصهما لتخزين زيـت الزيتـون الذي يجلبـه التالميذ‬ ‫جرتين مـن الفخـار َّ‬ ‫َّ‬
‫مقـررة‪ ،‬وكلَّـف أكبر التالميـذ بجمـع الزيـت مـن صغارهـم‬ ‫َّ‬ ‫يف مناسـبات‬
‫الجرتين‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وصبـه يف‬
‫ّ‬
‫تيس‬
‫بالنسـبة لشراء الحصائـر الجديـدة‪ ،‬سـاهم كلّ آبـاء التالميـذ مبا َّ‬
‫بحمـل‬‫فتبرع للكُ َّتـاب ِ‬
‫َّ‬ ‫لهـم‪ .‬كان أحدهـم يعمـل يف فـرن لصناعـة الجير‬
‫حمار كامـل مـن الجير‪ .‬صبيحـة االثنين الـذي سـبق يوم عاشـوراء بسـبع‬
‫وخزنت يف الدور العلوي‪ ،‬وشـكَّ ل الفقيه‬‫ليـالٍ ‪ُ ،‬جمعـت الحصائر القدميـة ُ‬
‫مجموعـة مـن فـرق العمـل جعـل على رأس كلٍّ منهـا مسـؤوالً‪ .‬اسـتلفنا‬
‫ال ومكانـس صغيرة مـن الدوم‪.‬‬‫سـطو ً‬
‫بـدأ العمـل يف جـ ٍو من املزاح والصيـاح والبكاء وتبادل الشـتائم والنط‬

‫‪85‬‬
‫والقفـز يف أرجـاء املـكان‪ .‬أمسـك البعـض مبكنسـات طويلـة وتعاركـوا بهـا‬
‫طويلاً قبـل أن ينظِّ فوا السـقف من بيـوت العنكبوت والحشرات القاطنة به‪.‬‬
‫خلـط الجير باملـاء يف سـطلني كبرييـن ورشع التالميـذ يف صباغـة‬
‫جـدران الكُ َّتـاب‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بحماس واسـتخفاف فريشـون غريهـم بنقـط‬ ‫كانـوا ميارسـون العمـل‬
‫الصباغين‬
‫َّ‬ ‫الجير ويبـدأ سـيل الشـتائم والقفـز والنـط‪ُ .‬يصـاب بعـض مـن‬
‫بقطـرات الجير يف أعينهـم فيرتكـون أماكنهـم‪ ،‬وهـم يفركـون عيونهـم‪،‬‬
‫ُهمـة‪ .‬تنشـب رصاعـات وشـجارات ال تنتهـي ويصرخ‬ ‫آلخريـن يواصلـون امل َّ‬
‫ً‬
‫الجميـع يف وجـه الجميـع‪ .‬أحيانـا يتدخـل الصـوت القـوي للفقيـه ليضـع‬
‫حـد ًا للجلبـة التـي تتوقَّـف للحظـات‪ ،‬قبـل أن تعـود أقـوى مـن ذي قبـل‪.‬‬
‫ّ‬
‫بنيـة‬
‫نجحـت يف التحصـل على مكنسـة صغيرة ورشعـت يف الصباغـة ّ‬
‫أن أعلِّـم هـؤالء الصغـار كيـف يكـون العمـل‪ .‬اصطدمت رسيعـ ًا بحاجز من‬
‫األيـادي الفوضويـة واألفـواه املفتوحـة والعيـون التي يقدح منهـا الغضب‪.‬‬
‫أحاطـوا يب مـن كلّ جانـب النتـزاع مكنسـتي الصغيرة فبـدأت ِ‬
‫العـراك‬
‫يكـن متكافئـ ًا فانتزعوهـا منـي ورمـوين أرضـاً‪.‬‬
‫ْ‬ ‫الصراع مل‬ ‫معهـم‪ ،‬لكـن ِّ‬
‫سـقطت على بركـة من مـاء‪ ،‬أصيـب رسوايل بالبلل فنهضـت وارمتيت عىل‬
‫دوى يف‬ ‫ال استرجاع املكنسـة‪ .‬غير أن صـوت الفقيـه َّ‬ ‫املجموعـة محـاو ً‬
‫الصمـت‪.‬‬
‫فعـم َّ‬
‫َّ‬ ‫املـكان‬

‫توقفنـا جميعـ ًا عـن الحركـة‪ّ ،‬‬


‫ثـم بـدأ كلّ م ّنـا يشرح للفقيـه أحقيتـه‬
‫باملشـاركة يف الصباغـة وشـكواه مـن حرمانـه مـن املسـاهمة يف العمـل‪.‬‬
‫الحجـج والشـكاوى‪.‬‬ ‫تداخلـت األصـوات واختلطـت ُ‬
‫طلـب م ّنـا الفقيـه أن التوقُّـف عـن الـكالم والصباغـة كليهما إىل حين‬
‫قـرر أن كبـار التالميـذ سـيتكفلون وحدهـم‬ ‫نـوع آخـر‪َّ .‬‬
‫ٍ‬ ‫تكليفنـا بعمـل مـن‬
‫بالصباغـة‪ ،‬وأمرنـا أن نجلـس يف ركـنٍ مـن أركان الكُ َّتـاب بانتظـار أن يسـند‬
‫ُهمـة البديلـة‪ .‬جلسـنا وواصلنا االنتظـار إىل نهاية اليـوم دون جديد‪.‬‬ ‫لنـا امل َّ‬
‫ويف اليـوم املـوايل وجدنـا الجـدران مصبوغـة فتوجـب املـرور إىل‬

‫‪86‬‬
‫أشـغالٍ أخـرى‪ .‬تم تشـكيل فـرق جديدة للعمـل‪ .‬رصت شـخصية َّ‬
‫مهمة‪ ،‬إذ‬
‫ِّـف عرشون مـن التالميذ‬
‫ُجعلـت على رأس فريـق غسـل أرضيـة الكُ َّتـاب‪ .‬كُ ل َ‬
‫بجلـب سـطول املـاء مـن الزاويـة التـي تبعـد خمسين خطوة عـن املكان‪،‬‬
‫والباقـون بفـرك وتنظيـف األرضيـة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بجـد ونشـاط‪ .‬كانـت قدمـاي غارقتين يف املـاء إىل‬ ‫رشعـت يف العمـل‬
‫الكعبين وأنـا أفـرك األرضيـة مبكنسـتي‪ ،‬إىل أن آملنـي ظهـري‪ .‬شـعرت‬
‫بعضلات ذراعـي تؤملنـي بدورهـا‪ .‬رغم ذلك كنت سـعيد ًا بالعمـل الجديد‪.‬‬
‫وداعـ ًا أيتهـا الـدروس اململـة! وداعـ ًا لسـاعات الحفـظ واالسـتظهار‬
‫الجامعـي الطويلة‪ ،‬لأللواح الخشـبية القاسـية! ولنفرك األرضية املتسـخة‬
‫املتعرجـة مـن أوسـاخها بـكلّ فرحـة ونشـاط‪:‬‬
‫‪ -‬آي! لقد رضبتني بكوعك عىل عيني!‬
‫‪ -‬انتبه! لقد بللتني إىل منتصف قامتي!‬
‫‪ -‬انظر إىل إدريس‪ ،‬سقط يف السطل!‬
‫‪ -‬سيغرق‪ ،‬سيغرق!‬
‫جيد ًا أيها الكسول!‬
‫‪ -‬افرك ّ‬
‫‪ -‬أنت هو الكسول! انظر إىل الركن الذي فركناه‪ ،‬إنه أنظف من ركنكم!‬
‫جففنا ومسحنا األرضية كلّها بخرق من خيش‪.‬‬
‫لوالـدي عـن عملنـا خلال‬
‫ّ‬ ‫ُعـدت إىل البيـت وقـد خـارت قـواي‪ .‬حكيـت‬
‫تتقـدم لـوال دوري الحاسـم‬
‫َّ‬ ‫اليـوم وأقنعتهما بـأن األشـغال مـا كان لهـا أن‬
‫ألمـي‪ :‬هـا قـد أصبـح رجلاً بحـق وحقيـق‪ّ ،‬‬
‫ثـم‬ ‫فيهـا‪ .‬سـمعت والـدي يقـول ّ‬
‫خلـدت إىل النـوم‪.‬‬
‫انتبهـت مـن نومـي‪ ،‬جلسـت ورصخـت دون وعـي مبجموعـة مـن األوامـر‬
‫لرفاقـي مـن التالميـذ‪ ،‬وزعت عليهم شـتائم أيضـاً‪ .‬فهمت والديت أننـي أعاين من‬
‫كوابيـس فسـاعدتني عىل اسـتعادة الهـدوء بكلامتهـا الرقيقة وجملهـا الحانية‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫للتوجـه إىل الكُ َّتـاب فمنعتني والديت‬
‫ُّ‬ ‫صبـاح الغـد بدأت يف االسـتعداد‬
‫مـن ذلـك‪ .‬رشحـت يل أنهـا تحتاجنـي ملرافقتها لسـوق «القيسـارية» قصد‬
‫رشاء مالبـس العيـد‪ .‬صفَّقـت من الفـرح والحامس‪:‬‬
‫ٍ‬
‫قميص جديد؟‬ ‫‪ -‬هل سأحصل عىل‬
‫ٍ‬
‫قميص جديد‬ ‫‪ -‬نعم ستحصل عىل‬
‫‪ -‬وهل سأحصل عىل صدا ٍر جديد بجدائل؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬صدا ٍر جديد بجدائل‪.‬‬
‫‪ -‬هل سأرتدي جلبايب األبيض الجديد الذي وضعته يف الخزانة؟‬
‫‪ -‬نعـم‪ ،‬سـتلبس جلبابـك الجديـد وخ ّفين جديديـن بدأ مـوالي العريب‬
‫مطـرزة جميلة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫زوج اللـة عائشـة يف صناعتهما‪ ،‬إضافـة إىل حقيبة جلدية‬
‫أبـرزت صـدري وبـدأت يف رقصـات حامسـية‪ ،‬يف إطلاق رصخـات ال‬
‫التحل‬
‫ّ‬ ‫أطلقهـا عـاد ًة ّإل يف مناسـبات الفرح الشـديد‪ .‬فطلبت منـي والديت‬
‫بقـد ٍر أكبر مـن الرزانة‪.‬‬
‫ضحكـت فاطمـة البزيويـة مـن حـركايت فلـم أحفـل بهـا‪ .‬كنـت سـعيد ًا‬
‫ٍ‬
‫بشـحنة من التسـامح والكرم مـع اآلخرين‪ ،‬حتى‬ ‫ذلـك الصباح‪ ،‬فأحسسـت‬
‫متعـددة‪ .‬شـعرت بالتسـامح إزاء‬‫ِّ‬ ‫تسـببت يل يف مشـاكل‬‫َّ‬ ‫مـع زينـب التـي‬
‫الرباقـة الرائعـة‪ ،‬إزاء أيام‬
‫ضيـع سلسـلتي الذهبية َّ‬
‫قطهـا الـذي عـاد بعدما َّ‬
‫الثالثـاء الطويلـة التـي ال تنتهـي يف الكُ َّتـاب وعصـا السـفرجل التـي تلسـع‬
‫أذين‪ ،‬وأيـام الغسـيل البـاردة الحزينـة‪ ،‬إزاء العـامل أجمـع‪ ،‬أو الجزء الذي‬
‫كنـت أعرفـه مـن العامل!‬
‫أمـي تواصـل االسـتعداد للخـروج‪ ،‬وصعـدت إىل سـطح الـدار‬ ‫تركـت ّ‬
‫ٍ‬
‫فضـاء ال يراين فيـه أحد‪.‬‬ ‫مرسعـاً ألفـرغ الشـحنة الزائـدة مـن السـعادة يف‬
‫ركضـت ورضبـت الجـدران املحيطـة بعصـا صغيرة وجدتهـا باملـكان‪.‬‬
‫تخيلتهـا سـيف ًا أقطـع بـه رؤوس أعـداء وهميين‪ ،‬أرضب أعنـاق الباشـا‬ ‫َّ‬
‫تحولـت العصـا إىل جـواد جامـح اعتليـه‬
‫واملحتسـب والحاكـم وأعوانهـم‪َّ .‬‬

‫‪88‬‬
‫فريكـض يف كلّ ا ِّتجـاه‪ .‬أصبحـت الفـارس املُحـارب املرتدي جلبابـ ًا ناصع ًا‬
‫املطـرزة املليئـة‬
‫َّ‬ ‫وصـدار ًا بجدائـل‪ ،‬فيما تثقـل كتفـي حقيبتـي الجلديـة‬
‫بالذخيرة‪ .‬ورسعـان مـا ألقيـت العصا ونزلت درجات السـلم مرسعـ ًا بعدما‬
‫نادتنـي والـديت‪.‬‬
‫خمنـت أنها‬
‫أمـي تقرعنـي وتلومنـي على التأخير‪َّ ...‬‬ ‫بعدمـا نزلـت بـدأت ّ‬
‫نادتنـي طويلاً دون أن انتبـه لهـا فثـارت ثائرتها كما يحدث دامئـاً‪ .‬فهي تبدأ‬
‫بنـداءات جميلـة قبـل أن تغضـب وتسـلِّط ع َّ‬
‫يل شـتامئها‪:‬‬
‫‪ -‬هل شبع الرشيف الصغري من اللعب؟‬
‫الرد عىل نداء والدته؟‬
‫‪ -‬هل ال يرغب رشيفي يف ِّ‬
‫‪ -‬انزل برسعة يا رشيفي!‬
‫‪ -‬ماذا تنتظر لتنزل يا رأس البغل؟‬
‫‪ -‬أال تسمعني يا وجه الحامر األسود؟‬
‫‪ -‬ماذا حدث لك أيها الكلب األجرب؟‬
‫‪ -‬سأصعد لتأديبك أيها الحقري!‬
‫منغمسـ ًا يف حامسـة اللعـب‪ ،‬مل أسـمع كلّ العبارات منـذ البداية‪ .‬مل‬
‫وصـف الكلب األجـرب‪ ...‬اليشء الذي أعـادين برسعة إىل‬
‫ُ‬ ‫يصـل سـمعي ّإل‬
‫أرض الواقع‪.‬‬
‫أمي محتاط ًا بساعدي من احتامل تلقِّي صفعة‪.‬‬
‫نزلت نحو ّ‬
‫تجهـزت للخـروج والتحفـت حايكها‬
‫اكتفـت والـديت بتأنيبـي‪ .‬كانـت قـد َّ‬
‫الناصـع البيـاض‪ ،‬انتعلـت حذاءهـا األسـود‪ ،‬ووضعـت لثامهـا على وجهها‬
‫فخرجنا‪.‬‬
‫طلبت منها الجارة رحمة أن تسـتعلم لها عن أمثان األقمشـة يف السـوق‪،‬‬
‫ُسـمى «بقدونـس»‪ ،‬وعـن الثـوب الحريـري‬
‫خاصـة عـن ثـوب الشـاش امل َّ‬ ‫ّ‬
‫ُسـمى «باقـة السـلطان»‪ ،‬الـذي كان على رأس قامئـة املوضـة آنـذاك‪.‬‬
‫امل َّ‬

‫‪89‬‬
‫الشـوافة‪ .‬كانـت‬
‫َّ‬ ‫ك ّنـا قـد قاربنـا مغـادرة الزقـاق حين نادتنـا كنـزة‬
‫والـديت ال تريـد أن تقطع نفس املسـافة مـرة أخرى فسـألت كنزة بصوتٍ‬
‫لتجدد‬
‫ِّ‬ ‫العرافة أنها ترغـب يف رشاء أقمشـة‬‫َّ‬ ‫مرتفـع عـن مرادهـا‪ .‬أجابـت‬
‫امللونـة التـي تسـتعملها يف إحياء ليايل الرقـص الغناوي‪ .‬كانت‬
‫َّ‬ ‫الرايـات‬
‫محتاجـة لبضعـة أمتـار مـن قماش السـاتان األسـود إلرضـاء املـزاج‬
‫تحـس بـآالم‬
‫ّ‬ ‫املُتقلِّـب للجنـي املؤمـن امللـك «ابـن األحمـر»‪ ،‬كما أنهـا‬
‫خفيـة يف جسـدها مصدرهـا غضـب «اللـة ميرة» تتطلَّـب تهدئتهـا رشاء‬
‫ثـوب أصفـر فاقـع‪ .‬كان هنـاك أيضـ ًا الجنـي سـيدي مـوىس الـذي يحتـاج‬
‫رايـة زرقـاء اللـون‪ّ ،‬إل أن ثوبـ ًا مـن السـنة املاضيـة ميكن أن يكفـي معه‪.‬‬
‫ردت والـديت‪:‬‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬ادفعي النقود الالزمة لرشاء مقتنياتك لولدي!‬
‫الشـوافة يك أسـتلم منها‬
‫َّ‬ ‫أمرتنـي والـديت بالعـودة إىل الـدار عنـد كنـزة‬
‫النقود‪.‬‬
‫العرافـة املـال‪ ،‬وملـا تطلَّـب األمـر الدفـع مسـبق ًا تقلَّصـت‬
‫َّ‬ ‫منحتنـي‬
‫طلبياتهـا ومل تعـد ترغـب ّإل يف القماش األسـود! واصلنـا مسيرنا‪.‬‬
‫قرب باب رضيح سـيدي أحمد التيجاين اسـتوقفت والديت سـيدة أخرى‪.‬‬
‫فقبلتنـي عرب لثامها وشـكرت‬ ‫مبجـرد أن رأتنـا َّ‬
‫َّ‬ ‫بـدت عليهـا عالمـات الفرحـة‬
‫اللـه على الصدفـة التـي القتهـا بنـا‪ .‬كانـت إحـدى جـارات اللـة عائشـة‪.‬‬
‫اسـتندت املرأتـان على جـدار الرضيـح وبدأتـا حديثـ ًا طويلاً مفصَّلاً حـول‬
‫مشـكلة مـوالي العـريب التـي عرفـت أخير ًا طريقهـا للحـلّ بفضـل تضحيـة‬
‫اللـة عائشـة وتفانيهـا‪ .‬خلصتا إىل أن مـوالي العريب جدير بهـذه التضحية‪،‬‬
‫كاف سيشتري لاللـة‬ ‫فبمجـرد رشوع مشـغله يف العمـل وتحقيـق مكسـب ٍ‬ ‫َّ‬
‫حليـ ًا أخـرى‪ ،‬وأثاثـاً‪ ،‬وأغطيـة أفضل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عائشـة‬
‫غري أن الجارة أضافت جملةً غامضة قبل توديعنا‪:‬‬
‫ـن يسـتطيع أن يــأمن مكـر الرجـال! سـبق يل أن تزوجت ثالث‬
‫‪ -‬ولكـن َم ْ‬
‫الهـم الوحيـد ألزواجـي االسـتيالء على املـال‬
‫ّ‬ ‫مـرة كان‬
‫مـرات‪ ،‬ويف كلّ ّ‬ ‫ّ‬

‫‪90‬‬
‫القليـل الـذي كنـت أملكه‪ .‬نسـأل الله أن ال يكـون زوج اللة عائشـة من هذه‬
‫الفصيلـة مـن األزواج!‬
‫ردت والديت‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬الله وحده يعلم بواطن األمور‪.‬‬
‫تركنـا الجـارة الرثثـارة لحالهـا‪ .‬كانـت املدينـة تحمـل كلّ عالمـات‬
‫غاصـة باملـارة مـن سـكانها ومـن زوارها الريفيين الذين‬
‫العيـد‪ ،‬فالشـوارع ّ‬
‫يتزاحمـون يف أزقـة باعـة التوابـل وسـاحة ك َّتـاب العـدل وسـوق الفواكـه‬
‫ُحملـة بأكيـاس‬
‫الحملـون يسـوقون حمريهـم الهزيلـة امل َّ‬ ‫َّ‬ ‫الجافـة‪ .‬كان‬
‫السـكر والشـمع واألقمشـة وأواين الخـزف وبضائـع مختلفـة‪.‬‬

‫كانـت ممـرات املدينـة العتيقـة تشـهد زحامـ ًا واختناقـات مروريـة ِع ّ‬


‫ـدة‪.‬‬
‫خفي خلعتهام‬ ‫ّ‬ ‫التجمعات الكثيفـة‪ .‬ليك ال أفقد‬
‫ُّ‬ ‫مـرة يف عبور‬
‫نجحنـا يف كلّ ّ‬
‫متتـد‬
‫توجهنـي لالنتبـاه يك ال ّ‬ ‫ووضعتهما يف ّقـب جلبـايب‪ .‬كانـت والـديت ّ‬
‫إليهما يـد ٍ‬
‫لـص مـا‪ .‬لذا كنـت منتبه ًا غايـة االنتباه خلال كلّ خطـوة أخطوها‪.‬‬
‫التجار‬
‫تعرفـت عليها بسـهولة‪ ،‬ألن َّ‬
‫بـدت لنـا متاجـر القامش مـن بعيد‪ّ .‬‬
‫تتـدل‬
‫ّ‬ ‫درجـوا على عـرض األثـواب واألنسـجة بشـكلٍ بـارز‪ ،‬مما يجعلهـا‬
‫مطـرزة ومالبس بهية‬
‫َّ‬ ‫مـن واجهـات الدكاكني‪ :‬أقمشـة من شـاش ومناديـل‬
‫جميلـة وأخـرى باهتـة األلوان‪.‬‬
‫بـدا يل سـوق القيسـارية‪ ،‬الذي كان ملتقى النسـاء األنيقـات باملدينة‪،‬‬
‫مزينـة‬
‫ملونـة غاليـة وصـدرات َّ‬ ‫شـبيه ًا بخزائـن سـليامن ابـن داود‪ :‬قفاطين َّ‬
‫قماش صـويف وبرانيـس فخمـة تجـاور أثوابـ ًا ذات‬ ‫ٍ‬ ‫بجدائـل وجالبيـب مـن‬
‫براقة‪.‬‬
‫متنوعـة َّ‬
‫ِّ‬ ‫تطريـز دقيـق وقطـع مناديـل مـن حريـر بألـوان‬
‫يكـن‬
‫ْ‬ ‫كانـت أصـوات النسـوة تعطـي للمـكان نوعـ ًا مـن الحميميـة‪ ،‬ومل‬
‫تجـار املـواد األخـرى‪ .‬كان أغلبهم شـباب ًا‬‫الباعـة هنـا يشـبهون غريهـم مـن َّ‬
‫وسـيمي الوجـوه حسـني املظهر لبقـي العبارة‪ .‬ال يغضبون أبـد ًا من طلبات‬
‫الزبونـات وال يجـدون غضاضـة يف تلبيتهـا‪ .‬يقلِّبـون أكوامـ ًا مـن األقمشـة‬
‫طيه وإرجاعه‬ ‫فتتفحصه وال يعجبها فيتـم ّ‬‫َّ‬ ‫ليعرضـوا أحدهـا عىل املشترية‬

‫‪91‬‬
‫تبرم وال ضيـق‪ ،‬إىل أن‬
‫متعـددة‪ ،‬دون أدىن تعبير عـن ُّ‬
‫ِّ‬ ‫مـرات‬
‫وفتـح آخـر َّ‬
‫تجـد املـرأة ما يناسـبها‪.‬‬
‫تنقلنـا عبر خمسـة أو سـتة دكاكين مختلفة قبـل أن نشتري ثالثة أذرع‬
‫قماش صـويف أبيـض لخياطة قميص يل من نـوع «ثوب الحـوت»‪ .‬أرانا‬ ‫ٍ‬ ‫مـن‬
‫البائـع فعلاً صـورة حـوت أزرق بـكلّ حراشـفه مطبوعة عىل امتـداد الثوب‪.‬‬
‫مل تتطلـب املسـاومة واالتفـاق على الثمـن الكثير من الوقـت‪ ،‬عىل عكس‬
‫مـا حـدث عندما اشترينا الصـدار األحمـر ذا الجدائل‪.‬‬
‫توقفنـا عنـد أكثر مـن عشر دكاكين‪ .‬عـرض علينـا الباعـة مجموعـات‬
‫كبيرة مـن الصـدارات التـي تناسـب حجمـي‪ .‬عرضـوا كلّ درجـات اللـون‬
‫األحمـر املمكنـة‪ ،‬لكـن مل يـرق أي منهـا لوالـديت‪ .‬قبـل أن تختـار صـدار ًا‬
‫متعرجـة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫يتضمـن جدائـل غامقـة على شـكل ورود وخيـوط‬ ‫َّ‬ ‫كـرزي اللـون‬
‫طلبـت منـي خلـع جلبـايب لتجريـب الصـدار‪ ،‬امتثلـت لذلـك‪ ،‬قمـت‬
‫بارتدائـه‪ ،‬طلبـت منـي أن أسـتدير ميينـ ًا ويسـاراً‪ .‬فعلـت‪ ،‬خلعـت الصـدار‬
‫وأعدتـه لوالـديت التـي أرجعتـه بدورهـا للتاجـر الـذي سـألها‪:‬‬
‫‪ -‬هل أعجبكم؟‬
‫سيحدد املوضوع!‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬الثمن هو الذي‬
‫‪ -‬إذن سـأعد لكـم الصـدار‪ ،‬أمنـح دامئـ ًا تخفيضـات للزبائـن الجاديـن‪.‬‬
‫أبيعـه بخمسـة ريـاالت‪ ،‬لكننـي أوافـق على خصـم ريـال واحد مـن أجلكم‪.‬‬
‫‪ -‬لننتهـي مـن الحديـث يف هـذه النقطـة سـأدفع مـن أجله ريالين اثنني‬
‫فقط !‬
‫‪ -‬لكـن هـذا الثمـن ال يغطـي حتـى قيمـة رأس املـال‪ ،‬لـن أبيعـه بهـذا‬
‫للتسـول مـن أجـل إطعـام أطفـايل يف هـذه الليلـة!‬
‫ُّ‬ ‫الثمـن ولـو اضطـررت‬
‫‪ -‬اسـمع يـا سـيدي‪ ،‬أنـا ربـة بيـت ال أملـك وقتـ ًا ألضيعـه يف املسـاومة‪،‬‬
‫سـأتحمل هـذه التضحيـة فقـط مـن أجـل طفلي‬ ‫َّ‬ ‫سـأمنحك ريالين وربـع‪.‬‬
‫الـذي يرغـب يف لبـس صـدار جديـد مبناسـبة عاشـوراء‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫‪ -‬مـن أجـل عيـون هـذا الطفـل سـأبذل مجهـود ًا إضافيـاً‪ ،‬امنحيني فقط‬
‫ثلاث ريـاالت ونصـف ريال!‬
‫امسكت والديت بيدي واتجهنا للخروج من الدكان‪ .‬خاطبتني‪:‬‬
‫أمثـان معقولـة! فليسـت الصـدارات‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬لنذهـب إىل دكان آخـر توجـد بـه‬
‫هـي مـا ينقـص يف القيسـارية!‬
‫الرتجي‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫بصوت يحمل نربة‬ ‫رشع التاجر يف مناداتنا‬
‫‪ -‬ارجعـي يـا اللـة! ارجعـي! ال أريـد أن أحـرم هـذا الطفـل مـن متعـة‬
‫ارتـداء الصـدار الـذي ناسـبه متامـاً! لـن تجـدي مثلـه أبـداً! توجـد بضاعـة‬
‫متنوعـة يف القيسـارية‪ ،‬لكنهـا ال ترقـى إىل جـودة بضاعتـي‪ .‬انظـري إىل‬ ‫ِّ‬
‫تصميمـه وتطريـزه وجـودة خياطتـه! طيـب! خـذي الصـدار وادفعـي الثمـن‬
‫نسـب رشيف! ادفعي مـا تريدين وال تنسـيني‬‫ٍ‬ ‫الـذي يرضيـك! تبديـن يل مـن‬
‫مـن دعواتـك!‬
‫شـدة الفـرح عندمـا يناديهـا‬
‫كانـت والـديت عـاد ًة مـا تفقـد صوابهـا مـن ّ‬
‫أحدهـم بالرشيفـة أو يشـيد بنسـبها‪ .‬لـذا اسـتدارت وأخرجـت مـن تالبيبهـا‬
‫مدتهما للبائـع‬‫ثـم أخرجـت منـه ريالين ونصـف‪ّ .‬‬‫منديلاً معقـود ًا فسـخته ّ‬
‫دون أن تنظـر إليـه‪ .‬مل متنـح التاجـر فرصـة املطالبـة باملزيـد‪ .‬حملـت‬
‫الصـدار املطـوي وخرجنـا مـن الـدكان‪.‬‬
‫واصلنـا التجـوال يف السـوق واسـتعلمت والـديت عـن أمثـان مجموعـة‬
‫مـن األقمشـة‪ ،‬عـن تيـارات املوضـة السـائدة لحظتهـا‪ ،‬وعـن داللـة هـذا‬
‫ٍ‬
‫ثـوب أو لبـاس‪.‬‬ ‫الرسـم أو ذاك على‬
‫ثـم غادرنـا عـامل الفخامة برسعـة لنجد أنفسـنا يف سـوق التوابل‪ ،‬قرب‬ ‫ّ‬
‫مدرسـة العطّ اريـن‪ .‬ذكّ ـرت والـديت بقطعـة ثـوب الشـاش التـي كلفتها اللة‬
‫الشـوافة رشاءهـا‪ ،‬فهنأتنـي على ذاكـريت القوية‪ ،‬وقفلـت راجعة إىل‬
‫َّ‬ ‫كنـزة‬
‫عرافـات األرض اللـوايت ال شـغل لهـن ّإل‬
‫محلات القماش وهـي تلعـن كلّ َّ‬
‫تسـميم حيـاة اآلخريـن بطلباتهـن‪ ،‬وتتسـاءل ملـاذا ال تقـوم كنـزة بالذهاب‬
‫يخصهـا؟ وزاد الطين بلـة أنهـا نسـيت أين وضعـت نقود‬‫ّ‬ ‫للسـوق لشراء مـا‬

‫‪93‬‬
‫العرافـة‪ ،‬فبـدأت تقلِّـب جيوبهـا وثنايـا ثيابهـا تحـت الحايـك يف حالـة مـن‬
‫َّ‬
‫ـن جـرى مجراهـن إىل يوم‬ ‫وم ْ‬
‫َ‬ ‫وأتباعهـن‬ ‫افـات‬ ‫العر‬
‫َّ‬ ‫العنـة‬ ‫والضيـق‬ ‫الغضـب‬
‫الديـن! وبعـد طـول تفتيـش عرثت على نقود كنـزة أخير ًا معقـودة بإحكام‬
‫يف إحـدى ثنايـا قفطانها‪.‬‬
‫أول دكان يبيـع قامش الشـاش فطلبت املقـدار املطلوب منه‪،‬‬
‫دخلـت َّ‬
‫وأدت لـه الثمن دون مسـاومة قبل أن تخرج‪.‬‬
‫َّ‬
‫تقرعنـي‬
‫بعدمـا فقـدت والـديت مزاجهـا الرائـق دون مقدمـات‪ ،‬صـارت ّ‬
‫ٍ‬
‫بسـبب وبدونـه إىل حين وصولنا الـدار‪ .‬هناك سـلَّمت كنزة قطعة قامشـها‬
‫وتتـأوه يف كلّ واحدة‬
‫َّ‬ ‫تتنهد‬
‫ومـا تبقَّـى لهـا من فكّ ـة‪ ،‬وصعدت للغرفة وهـي َّ‬
‫مـن درجات السـلم‪.‬‬
‫أمـي لزيارتهـا لتطلعهـا على‬
‫خرجـت رحمـة مـن غرفتهـا ودعـت ّ‬
‫ا ملقتنيـا ت ‪.‬‬
‫امتدحـت رحمـة مشتريات والـديت وذوقهـا‪ .‬وأعجبـت بصـداري الـذي‬
‫خاصـة مع حلول املسـاء‬
‫ّ‬ ‫بـدا لونـه غامقـ ًا ملكيـ ًا يقترب من لـون الحريـر‪،‬‬
‫وإسـداله سـتار ًا مـن العتمـة على جـو الغرفـة‪.‬‬
‫ُسـمت بحاجـز مـن‬ ‫كانـت غرفـة رحمـة بنفـس حجـم غرفتنـا‪ّ ،‬إل أنهـا ق ِّ‬
‫فخصـص لتخزيـن املواد‬ ‫ِّ‬ ‫خشـب متهالـك قديـم فصـل حـوايل الربـع منهـا‬
‫الغذائيـة التـي تحتاجهـا األرسة يف فصـل الشـتاء‪ :‬أرغفـة مالحـة وعناقيـد‬
‫تلخـص يف مرتبـات وحشـيات متقادمة‬ ‫بصـل‪ .‬كان أثـاث الغرفـة متواضعـ ًا َّ‬
‫ُخصصـة للزينـة‬
‫وحصير مـن نبـات األسـل‪ .‬كانـت القطعـة الوحيـدة امل َّ‬
‫عبـارة عـن خزانـة خشـبية امنحت آثـار الطلاء عليهـا ورتبت فوقهـا كؤوس‬
‫تزيـن وسـطهام صـور ديـوك مبهرجـة‪.‬‬ ‫مـن الخـزف وصحنـان ِّ‬
‫اقتعـدت زينـب ركنـ ًا مـن أركان الغرفـة تالعـب قطهـا‪ .‬وضعـت قبالـة‬
‫عينيـه مـرآة صغيرة تعكـس صورته‪ .‬كان الحيوان املسـكني ينظـر فيها إىل‬
‫وميـد رجله محاو ً‬
‫ال ملسـها غير أن مخالبه‬ ‫ّ‬ ‫تحـدق فيـه فيقلق‬
‫ِّ‬ ‫عين ضخمـة‬
‫مـرات اإلمسـاك بيشء‬‫ـدة َّ‬ ‫ِ‬
‫تصطـدم باملـرآة وسـطحها الزجاجـي‪ .‬حـاول ع ّ‬

‫‪94‬‬
‫مـا فلـم يفلـح واسـتدار باحثـ ًا وراء املـرآة‪ ،‬مـن غير أن يجـد تفسير ًا للغز‪.‬‬
‫تفـوه بهـا بلغـة‬
‫فعبر عـن الغضـب بعبـارات َّ‬‫أحـس أن يف األمـر خدعـة مـا َّ‬
‫َّ‬
‫ُ‬
‫كسـهم أطلـق مـن‬
‫ٍ‬ ‫وشـوك وبـره قبـل أن يغـادر مرسعـ ًا‬
‫َّ‬ ‫ذيلـه‬ ‫رفـع‬ ‫القطـط‪،‬‬
‫قـوس‪ ،‬بينما كانـت زينـب تضحـك ملء شـدقيها‪.‬‬
‫أضمهـا لكنـوزي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مـدة طويلـة وأنـا أرغـب يف رشاء مـرآة صغيرة‬
‫منـذ ّ‬
‫بالتشـبه‬
‫ُّ‬ ‫لكننـي مل أجـرؤ أن أطلـب ذلـك مـن والـديت خـوف أن تتهمنـي‬
‫باإلنـاث‪..‬‬
‫كانـت رحمـة بصـدد االطّ لاع على مشتريات والـديت‪ .‬هنأتهـا مجـدد ًا‬
‫تحـول لونـه‬
‫َّ‬ ‫على ذوقهـا واختياراتهـا إىل أن وصلـت للصـدار فأعجبهـا‪.‬‬
‫القـاين بنظـري إىل لـونٍ رائـع ملأين تيهـ ًا وفخـاراً‪ ،‬لون سـحري عميق مليك‬
‫سألبسـه يـوم عاشـوراء‪ .‬سـيعجب بـه أصدقـايئ ومعـارف أرستنـا‪ .‬ومنـذ‬
‫يتوجب‬‫َّ‬ ‫باحرتام كبير‪ .‬إذ‬
‫ٍ‬ ‫يحدثوين‬
‫سـيتعي عىل زمالء الكُ َّتـاب أن ِّ‬
‫َّ‬ ‫لحظتهـا‬
‫على الجميـع‪ ،‬صغـار ًا وكبـاراً‪ ،‬أن ِّ‬
‫يعبروا عـن تبجيلهـم ألمـراء األسـاطري‪.‬‬
‫ألـن أصبـح أمير ًا أسـطوري ًا بفضـل الصـدار الفخـم‪ ،‬والقميـص الـذي‬
‫سـأخيطه مـن قماش «الحـوت األزرق»‪ ،‬والخ ّفين اللذيـن سـيصنعهام من‬
‫أجلي مـوالي العـريب‪ ،‬أفضـل صانـع أحذيـة جلديـة يف املدينـة بأرسهـا!‬
‫كانـت والـديت تهمـس يف إذن رحمـة مقرتبة منها إىل درجـة أنها قاربت‬
‫أن تلصـق شـفتيها بوجنـة الجـارة‪ .‬مل يثر األمـر عنـدي أي حـب اسـتطالع‪.‬‬
‫ومل يهمنـي يشء يف حديـث املرأتين داخـل الغرفـة املعتمـة‪ .‬فمثل هذا‬
‫الحديـث ال يثير فضـول األطفـال الصغـار الحاملين بـأن يصبحـوا أمـراء‬
‫أسـطوريني يلبسـون أقمشـة قرمزيـة فاخرة‪.‬‬
‫فكشت يف وجهها‪ .‬بدأت يف الرصاخ‪:‬‬
‫كشت زينب يف وجهي ّ‬
‫ّ‬
‫أمي! سيدي محمد يكرش يف وجهي‪.‬‬
‫أمي! ّ‬
‫‪ّ -‬‬
‫رد تهمتها والدفاع عن نفيس‪.‬‬
‫حاولت ّ‬
‫‪ -‬هي البادئة! البادئة هي!‬

‫‪95‬‬
‫مل يصدقنـي أحـد‪ ،‬فبـدأت البـكاء‪ .‬جذبتنـي والـديت مـن ذراعـي بعنـف‬
‫ـدة وتنـدب حظهـا العاثـر وقدرهـا‬ ‫وأعادتنـي إىل غرفتنـا وهـي تلومنـي ِ‬
‫بح ّ‬
‫الـذي منحهـا ابنـ ًا يذيقهـا العـذاب وال مينحها فرصـة التقاط األنفـاس أبداً‪.‬‬
‫ألثير كلّ هـذا الغضـب لـدى والـديت‬‫مل أفهـم قـط مـا الـذي فعلتـه ُ‬
‫فواصلـت االنتحـاب‪ .‬تركتنـي والـديت يف ركـنٍ مـن أركان الغرفـة وغـادرت‬
‫إىل املطبـخ‪.‬‬
‫أصابنـي الجـوع مـن كثرة البـكاء الصامـت‪ ،‬كما أن وقـت الغـداء قـد‬
‫تخيـل الوجبـة الباذخـة التـي‬ ‫فاتنـا‪ .‬اسـتلقيت على ظهـري ورشعـت يف ُّ‬
‫سـأهديها لنظـرايئ يـوم أصري أمير ًا معروفـ ًا ومحرتماً‪ .‬فكـرت للحظة وقلت‬
‫جيـد ًا يف قصورهـم‪ .‬لـن أدعوهـم إذن لتنـاول‬ ‫إن األمـراء يأكلـون ّ‬
‫لنفسي ّ‬
‫ُتسـولني والفقـراء‪ .‬سـأو ِّزع عليهم مالبس‬
‫ِّ‬ ‫وجبـة‪ ،‬بـل سـأدعو الجوعى وامل‬
‫جميلـة‪ :‬صـدارات حمـراء أنيقـة‪ ،‬جالبيب ناصعـة البياض وخفافـ ًا من جلد‬
‫أصفـر ناعـم‪ .‬سـأضيف كذلك عامئـم من قامش‪ .‬وأقعـد بينهم مرتديـ ًا ثياب ًا‬
‫بيضـاء معتمـر ًا الطربـوش األحمـر املخروطـي الشـكل الخـاص بسـكان‬
‫البلاط والدراويـش‪ .‬سيسـهر على تقديـم الغداء عبيد سـود يحملـون إلينا‬
‫الطعـام يف أطبـاق مـن البورسـلني‪...‬‬
‫‪ -‬هل تريد أن تفيق من أجل تناول الغداء؟‬
‫جلسـت إىل املائـدة املسـتديرة التـي وضـع عليهـا الغـداء‪ .‬كان طبـق‬
‫أكـن أحـب اللفـت‪ .‬فكـرت يف رفـض الوجبـة‪ ،‬غري‬ ‫لحما باللفـت‪ .‬مل ْ‬ ‫ً‬ ‫اليـوم‬
‫أننـي كنـت أعلـم بـأن مـزاج والـديت ليـس على مـا ُيـرام وال أسـتطيع إثـارة‬
‫فحـول الجـوع الشـديد اللفـت‬ ‫َّ‬ ‫وتحمـل عواقبـه‪ .‬رشعـت يف األكل‬
‫ُّ‬ ‫غضبهـا‬
‫طعـام سـائغ شـهي املـذاق‪.‬‬‫ٍ‬ ‫إىل‬
‫رشع أحدهـم يف الغنـاء فـوق سـطح الـدار‪ .‬أدى أنشـودة وصلـت‬
‫ُتموج‪ ،‬إىل أسماعنا‪ .‬توقَّفت والديت‬
‫أصداؤهـا‪ ،‬بفعـل ريح الربيع الناشـئ امل ِّ‬
‫عـن املضـغ‪ .‬أصغـت لصـوت الغنـاء الـذي توقَّـف للحظـة قبـل أن يرتفع من‬
‫جديـد صادحـ ًا كعطـر صاعـد مـن مبخـرة ّ‬
‫يعبر عـن الحنين الدافـق‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫ذهبت والديت للنافذة وأطلَّت منها‪.‬‬
‫‪ -‬فاطمة البزيوية‪ ،‬هل تعلمني َم ْن يغ ِّني هنا؟‬
‫العم عثامن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬إنها اللة خديجة‪ ،‬زوجة‬
‫تزوجت رجلاً طاعن ًا يف‬
‫‪ -‬ال أفهـم كيـف تغ ِّنـي تعبير ًا عن الفـرح بعدما َّ‬
‫السـ ّنش بعمر والدها!‬
‫العـم عثمان يلبـي جميـع طلباتهـا‪ ،‬ويعاملهـا‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ليسـت تعيسـة معـه!‬
‫متامـاً كابنتـه!‬
‫‪ -‬وهي‪ ،‬كيف تعامله هي؟‬
‫انفجرت ضحكات الجارات يف كلّ غرف الدار‪.‬‬
‫قالت رحمة‪:‬‬
‫‪ -‬أعـرف كيـف تعاملـه! حكـت يل خادمتهما السـوداء‪ ،‬األمـة السـابقة‬
‫لعثمان‪ ،‬قصـة طريفـة حدثـت بينهما‪ ،‬قصـة طويلـة ال أجـد اآلن وقتـ ًا‬
‫ـن‪.‬‬
‫ألحكيهـا لكُ َّ‬
‫ضجت الجارات‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬احكيها! احكيها لنا!‬
‫غنيـة‪ .‬عندمـا ُتويف والـداه تركا‬
‫العـم عثمان فهـو مـن أرسة ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬أنتن تعرفـن‬
‫لـه ثـروة معتبرة بذّ رهـا رسيعـ ًا فـأكل الربـح ورأس املـال‪ .‬مل يعـد ميلـك ّإل‬
‫املنـزل الصغير املجاور لدارنا‪ .‬وبقيـت معه األمة السـابقة «مباركة» يف أيام‬
‫مرات‪،‬‬ ‫تزوج يف السـابق ِع ّ‬
‫ـدة َّ‬ ‫العسر‪ ،‬كما عاشـت يف داره أيـام الرخـاء‪ .‬وقد َّ‬
‫أي مـن زوجاتـه يف السـيطرة عليـه حتـى جـاءت اللـة خديجـة‬ ‫لكـن مل تنجـح ٌّ‬
‫التـي ال يسـتطيع أن يرفـض لهـا طلبـ ًا وال أمـراً‪ .‬صحيـح أن خديجـة مـن أرسة‬
‫فقيرة‪ ،‬لكنهـا متلـك الصبا والجامل! انتظـرن! ها قد وصلـت إىل عقدة قصتي!‬
‫ألقيـت نظـرة مـن نافذتنـا‪ .‬كانـت كلّ نسـوة الـدار متعلِّقـات بالنوافـذ‬
‫لإلصغـاء‪ .‬يف حين فرشـت اللـة كنـزة بسـاط ًا صغير ًا على أرض الفنـاء‬

‫‪97‬‬
‫وجلسـت تصغـي للحكايـة على راحتهـا‪.‬‬
‫واصلت رحمة‪:‬‬
‫العـم عثمان باكـر ًا القتنـاء مشتريات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬يـوم الجمعـة املـايض‪ ،‬خـرج‬
‫وحيـا جميـع مـن لقيهـم يف طريقـه بلباقتـه املعهـودة‪،‬‬ ‫ذهـب إىل السـوق ّ‬
‫فهـو معـروف يف الحـارة مـن طـرف الصغير والكبير‪ .‬وصـل إىل سـوق‬
‫يحرك سـكاكينه‬
‫قصـاب واحـد‪ :‬سـامل الزنجي ِّ‬ ‫يكـن هنـاك ّإل َّ‬
‫الجوطيـة ومل ْ‬
‫الكبيرة ويقطـع اللحمـة التـي يبيعهـا للنـاس املزدحمين حولـه‪ .‬وقـف‬
‫يحـرك يديـه ورجليه مامزحـ ًا القصـاب‪ .‬قال له‬
‫ِّ‬ ‫العـم عثمان خلـف الزحـام‬
‫ّ‬
‫عبـارات مـن نـوع‪« :‬ابتلـع سـكينك» أو‪« :‬تسـتحق علقـة سـاخنة» أو فقـط‪:‬‬
‫هـدده سـامل الزنجـي مـن بعيـد بسـكينه‪.‬‬‫«أعطنـي رجـل خـروف»‪َّ .‬‬
‫رست رحمـة بتقبلهـن حكايتهـا قبـل أن‬
‫كانـت كلّ النسـوة يضحكـن‪ّ .‬‬
‫تواصل‪:‬‬
‫القصـاب الذي اسـتأنف عمله‪.‬‬
‫َّ‬ ‫العـم عثمان املـزاح ومضايقـة‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬واصـل‬
‫مـر كلـب مـن املـكان‪ .‬رأى حـركات عثمان الصبيانيـة فاقترب منـه‪ .‬رضبـه‬
‫ّ‬
‫الخف ورشع يف‬
‫ّ‬ ‫عثمان برجلـه لكن خ ّفـه أفلت من قدمـه‪ .‬اختطف الكلـب‬
‫الخف!‬
‫ّ‬ ‫الركـض وعثمان يعدو خلفـه السـتعادة‬
‫كان الجميع يضحكون‪ ،‬فواصلت رحمة‪:‬‬
‫‪ -‬مل يدركـه ّإل فـوق جسر «بني املدن» البعيد‪ .‬عندما قفل إىل السـوق‬
‫القصـاب نامئ ًا يف دكانه‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫ووقـت طويل‪ .‬وجد‬ ‫ٍ‬
‫جهـد جهيد‬ ‫مل يبلغـه ّإل بعـد‬
‫تعـود أن يجـود بها عىل القطـط! وجد‬
‫يتبـق لـه لحـم‪ ،‬فقـط بعـض بقايا َّ‬
‫مل َ‬
‫تتبـق ّإل الضامـرة‬
‫َ‬ ‫الخضاريـن باعـوا كلّ مـا عرضـوا مـن خضـار طريـة ومل‬
‫َّ‬
‫الذابلـة منهـا‪ ،‬مـع ثلاث ربطـات مـن الفجـل لـدى أحدهـم‪ .‬خـاف مـن‬
‫العـودة دون مشتريات إىل املنـزل‪ .‬كان يعلـم نـوع االسـتقبال العاصـف‬
‫سـتخصصه لـه اللـة خديجـة‪ .‬طفـق يجـول منتظـر ًا حـدوث معجـزة‬
‫ّ‬ ‫الـذي‬
‫تنقـذ املوقـف‪ .‬دخـل أحـد فنـادق املدينة‪ ،‬حيـث كان بعضهم يبيع سـمك‬
‫الشـابل‪ .‬كان الزحـام حولـه شـديداً‪ .‬قنـط عثمان مـن االنتظـار‪ ،‬وأحـس‬

‫‪98‬‬
‫بحكـة يف أنفـه الـذي اشـتاق للنشـوق‪ .‬ذهـب لشراء التبـغ املطحـون مـن‬
‫تأخـر أيضـ ًا عنـد التاجـر املذكور‪ ،‬وعنـد عودته وجد السـمك‬
‫أحـد ال ُت َّجـار‪َّ ،‬‬
‫قـد بِيـع عـن آخـره‪ ،‬مل يجـد ما يشتري!‬
‫ٍ‬
‫بحماس ويطلبـون مـن رحمـة أن تواصـل‬ ‫كان الجميـع يضحكـون‬
‫الحكايـة‪.‬‬
‫أخره‪:‬‬
‫العـم عثامن‪ ،‬وبـدأ يلعن تاجـر التبغ الـذي ّ‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬مت َّكـن الغضـب مـن‬
‫«العجـوز امللعـون‪ ،‬مـا دخلي أنـا بحكايـة زواج هـذا املغفل‪ ،‬مبـوت أخته‬
‫وبخطبـة ابنتـه؟»‪ .‬يف طريـق العـودة وجـد عنـد بائـع النعنـاع يف مفترق‬
‫الطـرق وردة كبيرة رائعـة‪ .‬ف ّكـر يف إهـداء الـوردة لزوجتـه ليعتـذر لهـا عن‬
‫عودتـه للمنزل دون مشتريات‪ .‬عـاد بالوردة‪ ،‬دخل الباب ومـا لبث الجريان‬
‫العـم عثمان التـي طـارت مـن‬
‫ِّ‬ ‫أن رأوا الـوردة ُتلقـى خارجـاً‪ ،‬تبعتهـا عاممـة‬
‫ثـم خـرج هـو حـارس الـرأس‪ ،‬التقـط عاممتـه واعتمرهـا مـن جديـد‪،‬‬ ‫رأسـه‪ّ .‬‬
‫حمـل الـوردة‪ .‬كنـت واقفـة بالقـرب مـن بابنـا‪ ،‬حرضت املشـهد بـأم عيني‪،‬‬
‫وقـرب وردتـه من‬
‫العـم عثمان بحضـوري ابتسـم يف وجهـي َّ‬ ‫ُّ‬ ‫وعندمـا شـعر‬
‫أنفـه كأنـه يشـم عطرها!‬
‫يتلوون من الضحك‪.‬‬
‫كان جميع الحارضين ُّ‬
‫واصلت رحمة‪:‬‬
‫‪ -‬أثـار انتباهـي مشـهد العاممـة املُلقـاة والـوردة‪ ،‬ويف نفـس اللحظـة‬
‫التقيـت مبباركـة التـي كانـت قادمـة فأخربتنـي كيـف تعامـل اللـة خديجـة‬
‫العـم عثمان!‬
‫ّ‬
‫امتـدح السـامعون جميعـ ًا الحكايـة التـي روتهـا رحمـة وقدرتها عىل‬
‫وضـع «امللـح» يف قصتها‪.‬‬
‫العم عثمان طيلة املسـاء‪ ،‬إىل درجة‬
‫ِّ‬ ‫خيلتـي قصـة‬
‫سـيطرت على ُم ِّ‬
‫أننـي رأيت بعضـ ًا من مقاطعهـا يف املنام‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫الفصل السابع‬

‫اشترت كلّ نسـاء الـدار دفوفـ ًا وبناديـر وطبـو ً‬


‫ال صغرية‪ .‬كان لـكل منها‬
‫(((‬
‫متميـز وصـوت مختلـف‪ .‬كانـت بعـض الدرابيـك‬ ‫ِّ‬ ‫شـكل خـاص وزخـرف‬
‫ٍ‬
‫منمـق ُغلفـت قاعدتهـا بقطعـة من جلـد خـروف مدبوغ‪،‬‬ ‫طويلـة مـن خـزف َّ‬
‫فيما كانـت أخـرى بارزة البطـن مصنوعة من فخا ٍر بسـيط‪ ،‬يف حني ُصنعت‬
‫البناديـر مـن حلقـة خشـبية توسـطتها قطعـة جلـد حيواين‪.‬‬
‫جربتـه مطـو ً‬
‫ال‬ ‫اشترت والـديت دفـ ًا مـن هـذه الدفـوف ُي َّ‬
‫سـمى البنديـر‪ّ .‬‬
‫قبـل رشائـه‪ ،‬مزجـت نقرات حـادة قويـة بأخرى خفيفـة رقيقة فنطـق الدف‬
‫بلغـة قاسـية‪ :‬لغـة امتـزاج حـر الشـمس بريـح الجبـال العالية‪.‬‬
‫بقـي يومـان على إحيـاء ذكـرى عاشـوراء‪ ،‬الليلـة الكبرى التـي ترتفـع‬
‫خاللهـا األغـاين واألذكار مـن سـطوح املنازل ابتداء من بعـد صالة العرص‪.‬‬

‫مكونة من قمع فخاري مغطى بجلد مشدود‪ [ .‬املرتجم]‬


‫((( آلة موسيقية شعبية َّ‬

‫‪101‬‬
‫يف انتظـار اليـوم املعلـوم كانـت كلّ واحـدة مـن جاراتنـا تتمـرن على‬
‫ٍ‬
‫بكلمات مختلفـة يف غرفتهـا‪ .‬فيما رشعت زينب‬ ‫العـزف والغنـاء‪ ،‬وتدنـدن‬
‫يف الضرب بقـوة وصخـب على طبلـة صغيرة مـن النـوع الرخيـص‪ .‬يـوم‬
‫أمـس أهداين والدي مزمار ًا بسـيط الشـكل من املعـدن األبيض‪ .‬كنت أنفخ‬
‫فيـه بين الفينـة واألخـرى نفخـة قوية تذكِّ ـر برصخة حيـوان مـن الحيوانات‬
‫أمـا بالنسـبة ليـوم عاشـوراء نفسـه‪ ،‬فكنـت أنتظر لعبـ ًا أخرى‪.‬‬
‫الضاريـة‪ّ .‬‬
‫رغبـت يف الحصـول على طبـل مـن فخـار وسـاعة رمليـة وشخشـيخة‬
‫ـد اللحظة‪ ،‬مبزمـاري الذي‬
‫لح ِّ‬
‫ملونـة‪ّ .‬إل أننـي اكتفيـت‪َ ،‬‬‫تحمـل صـور زهـور َّ‬
‫أطلقـت منـه أصواتـ ًا منكـرة تعمـر الـدار وتذكِّ ـر بصفـارة إنـذار أو بحرشجـة‬
‫ميت !‬
‫طلبـت منـي والـديت أن أصعـد لسـطح الـدار وأنهـق كما يحلـو يل بـد ً‬
‫ال‬
‫مـن إزعاجها!‬
‫يجربـن دفوفهـن يف كلّ أرجـاء املدينـة فيعمـر الفضاء‬
‫كانـت النسـوة ّ‬
‫هديـر أصواتها‪.‬‬
‫شـدقي قبـل أن أطلقـه داخـل مزمـاري بـكلّ قـوة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫جمعـت الهـواء يف‬
‫خـرج منـه صـوت صـارخ ظننتـه صـوت بـكاء رضيـع بـدأت أسـنانه للتـو يف‬
‫النمـو! كان قـط زينـب يتشـمس فـوق السـطوح ففاجـأه الصـوت وقفـز من‬
‫تعود أن يقضي فيه فرتة‬‫الهلـع إىل درجـة أنـه سـقط من أعىل السـور الذي َّ‬
‫قيلولتـه‪ .‬تركنـي وحـدي فـوق السـطح واختفـى داخل مـزراب‪.‬‬
‫ثـم اختفى برسعة‪ .‬سـمعت نداء‬
‫بـرز فجـأة رأس مـن الحائـط املجاور‪ّ ،‬‬
‫والـديت فنزلت عندهـا‪ ،‬خاطبتني‪:‬‬
‫‪ -‬أحـد زمالئـك يف الكُ َّتـاب ينتظـرك يف فنـاء الـدار‪ ،‬أرسـله الفقيـه يف‬
‫طلبـك‪ ،‬ألنـه يحتاجـك يف أمـ ٍر مـا‪ .‬البـس خ ّفيـك وانـزل إليـه!‬
‫تركـت مزمـاري بحسرة ونزلـت للقـاء رفيقـي يف الكُ َّتـاب الـذي أطلقنـا‬
‫«حمصة»‪ ،‬بسـبب كونـه التلميـذ األضعف بنية يف قسـمنا‪ .‬كان‬ ‫ّ‬ ‫عليـه كنيـة‬
‫بـرادة‪ .‬طلـب منـي اإلرساع لتلبيـة أمـر الفقيه‪.‬‬
‫اسـمه الحقيقـي عـزوز ّ‬

‫‪102‬‬
‫كانـت إنـارة الكُ َّتـاب ليلـة عاشـوراء تتطلَّـب تعـاون الجميـع‪ .‬لـذا نـودي‬
‫ال مـن تـريك أنفـخ يف مزمـاري على هـواي‪ .‬جلسـت مـع مجموعـة‬ ‫علي بـد ً‬
‫ّ‬
‫كُ لِّفـت بتقطيـع وإعـداد فتائـل مـن بقايـا ثـوب ملاءة قطنيـة متهالكـة‬
‫األنسـجة‪ .‬كان علينـا أن نقطعهـا‪ ،‬فيما تكلَّفت مجموعة أخرى بغرسـها يف‬
‫مقوسـة مـن التنـك قبـل أن ُتوضـع يف ٍ‬
‫إنـاء بـه مزيـج مـن‬ ‫صفيحـة صغيرة َّ‬
‫املـاء وزيـت الزيتـون‪.‬‬
‫تكفَّـل األكرب سـن ًا م ّنـا بتعليق ثريات من حديد فوق نوافـذ الكُ َّتاب وعىل‬
‫الرثيـات الحديديـة بسـيطة التصميـم‬‫ّ‬ ‫سـقفه بواسـطة سـلّم طويـل‪ .‬كانـت‬
‫مكونـة مـن عـدد مـن اإلطـارات تلتصـق بهـا دوائـر توضـع فيهـا املصابيـح‬ ‫َّ‬
‫تتوسـطها فتيلة تسـبح يف الزيت‪.‬‬‫َّ‬ ‫باملاء‬ ‫لئت‬‫م‬‫ُ‬ ‫عادية‬ ‫ٍ‬
‫أكـواب‬ ‫مـن‬ ‫لة‬ ‫ُشـك‬
‫َّ‬ ‫امل‬
‫للحصـول على منظـر جميل مـزج تالميـذ الكُ َّتاب املـاء بصباغـات مختلفة‬
‫األلوان‪.‬‬
‫عندمـا وصلـت الكُ َّتـاب كانـت الرثيـات ملقـاة على األرض‪ ،‬واألكـواب‬
‫امللونة‬
‫َّ‬ ‫مرميـة يف سـطل بأحـد أركان قاعـة الـدرس‪ ،‬فيما وضعـت املـواد‬
‫يف علـب صغيرة جمعـت بدورهـا قـرب خ ّفي الفقيـه‪ ،‬وتوزعت قطـع التنك‬
‫بهمـة ونشـاط‪.‬‬
‫األبيـض يف أنحـاء املـكان‪ .‬بدأنـا العمـل ّ‬
‫حمودة يده بقطعة تنك فذهب ليعالجها مبنزله وهو ينتحب‪.‬‬
‫جرح ّ‬
‫مكونة من‬
‫عمـل معظـم التالميذ بنشـاط وانضباط‪ ،‬باسـتثناء مجموعـة َّ‬
‫خمسـة أو سـتة أطفـال ظلَّـت تنتقل بني الحلقـات املختلفة وتثري الشـغب‬
‫والضوضاء‪.‬‬
‫انتهينـا مـن عملنـا قبـل مغيـب الشـمس‪ .‬وقبل مغـادرة الكُ َّتاب أنشـدنا‬
‫مجموعـة مـن األذكار الجامعيـة يف مـدح النبـي األكـرم‪ ،‬قرأنـا مجموعـة‬
‫ُباركـة‪ .‬دعـا الفقيـه اللـه أن يفتـح علينـا‪ ،‬وأن ينـزل‬
‫مـن اآليـات القرآنيـة امل َ‬
‫ينـس الدعـاء‬
‫َ‬ ‫األمـة اإلسلامية قاطبـةً ‪ ،‬ومل‬
‫البركات على الدنيـا‪ ،‬وعلى ّ‬
‫تحمـل شـدائد‬ ‫ُّ‬ ‫للسـلطان‪ ،‬أمير املؤمنين‪ ،‬بطـول العمـر والصبر على‬
‫السـلطنة‪ ،‬ومشـاكل اململكـة‪ ،‬ومسـؤولياتها الثقيلـة‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫ثـم صمتنـا جميعـ ًا بانتظـار أن يصـدر الفقيـه األمـر باملغـادرة‪ .‬بـدأ‬ ‫ّ‬
‫التالميـذ الخـروج مـن الكُ َّتـاب واحـد ًا تلـو اآلخـر‪ ،‬ورسعـان مـا جـاء دوري‬
‫ثـم غـادرت‪.‬‬
‫فقبلـت يـد سـيدنا وانتعلـت خ ّفـي ّ‬ ‫ّ‬
‫لـدى وصـويل الـدار وجـدت والـديت يف مـأزقٍ كبير‪ .‬فقـد نسـيت رشاء‬
‫سـتخدم يف اللمبـة‪ .‬اقرتحـت عليهـا الذهـاب القتنائه‬‫َ‬ ‫بترول اإلنـارة الـذي ُي‬
‫العـواد راجع ًا‬
‫َّ‬ ‫غير أنهـا رفضـت‪ .‬رسعـان مـا سـمعنا صـوت خطـى إدريـس‬
‫مـن عملـه‪ .‬نزلـت والـديت عنـد زوجتـه رحمـة وهمسـت يف أذنهـا بكلمات‪.‬‬
‫مجـدد ًا القتناء البترول الـذي يلزمنا‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ورسعـان مـا خـرج إدريـس من الـدار‬
‫مسـارع ًا إلسـداء هـذه الخدمـة لجريانه‪.‬‬
‫سـمعت مـن الشـارع رصاخ بائـع الشـمع وأعـواد الثقـاب يدعـو النـاس‬
‫خاصة بالفقراء‬
‫ّ‬ ‫إىل بضاعته‪ .‬مل نعد نسـتعمل الشـمع‪ ،‬فقد أصبح بضاعة‬
‫مزودة‪ ،‬مـن وراءها‪ ،‬مبرآة‬
‫الذيـن ال يسـتطيعون اقتنـاء ملبة بترول جميلة َّ‬
‫خاصة بالذيـن يخافون ملبـة البرتول‬
‫ّ‬ ‫تعكـس الضـوء‪ .‬صار الشـمع بضاعـة‬
‫ويظنـون أنهـا سـتكون مصـدر انفجـارات خطيرة ودخـان ورائحـة كريهـة ال‬
‫مخيلتهم‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ُتوجـد ّإل يف‬
‫العـواد‪.‬‬
‫َّ‬ ‫نـزل الظلام برسعـة وانتظرنـا بفائـق الصبر عـودة إدريـس‬
‫سـمعنا صـوت خطواتـه وهـو يطلـب‪ ،‬كالعادة‪ ،‬إخلاء املمر لحظـة دخوله‬
‫الـدار‪ .‬نزلـت والـديت عنـد رحمـة‪ ،‬ورسعـان مـا عـادت بقنينة نصـف ممتلئة‬
‫مـن البترول‪ .‬وعلى ضـوء شـمعة صغيرة فتحـت خـزان اللمبـة‪ ،‬مألتـه‬
‫ثـم أشـعلته‪ .‬قلـت لهـا‪:‬‬
‫ونظفـت الفتيـل مـن السـخام‪ّ ،‬‬
‫‪ -‬جعلها الله ليلةً مباركة!‬
‫أجابتني‪:‬‬
‫‪ -‬ليبارك الله ليلتك!‬
‫سمعنا صوت اللة كنزة قادم ًا من الطابق األريض‪:‬‬
‫‪ -‬اللة زبيدة مساء الخري‪ ،‬هل ميكن أن متنحيني بضع وريقات من نعناع؟‬

‫‪104‬‬
‫‪ -‬سيحملها إليك سيدي محمد‪.‬‬
‫أعطتنـي والـديت باقـة صغيرة مـن أوراق النعنـاع‪ ،‬حملتهـا مزهـو ًا‬
‫للعرافـة‪ .‬وجدتهـا واقفـة يف الفنـاء وقـد أثقلـت الهـواء بالبخـور واللبـان‬
‫َّ‬
‫أشـد االقتنـاع بـأن‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫الجـاوي وغريهما مـن الروائـح النفَّـاذة‪ .‬كنـت مقتنعـا‬
‫عتمـة الفنـاء تشـهد يف هذه اللحظة اجتامع ًا حاشـد ًا لعفاريـت الجن التي‬
‫جلبتهـا الروائـح الخانقـة‪.‬‬
‫خمنـت أن هذه‬ ‫لتشـكرين‪ ،‬أعطتنـي اللـة كنـزة حفنة من حبـوب الك ّتان‪َّ .‬‬
‫العرافـة على رشف العفاريـت‬ ‫َّ‬ ‫جـزء مـن املؤدبـة التـي نظمتهـا‬
‫ٌ‬ ‫الحبـوب‬
‫أر بأسـ ًا يف‬
‫جربـت ذوقهـا بحـذر فوجدتـه طيبـ ًا ومل َ‬ ‫املُتحلِّقـة حولهـا‪َّ .‬‬
‫تناولهـا‪ .‬كانـت تعلـق بشـفتي ومبـا تحـت أنفـي فأتصيدهـا بلسـاين قـدر‬
‫املسـتطاع‪ ،‬قبـل أن أنظـف مـا بقـي بأصابعـي‪.‬‬
‫ً‬
‫مظلما‪ ،‬رغم ذلك مل أشـعر بالخـوف‪ .‬فالفراغ الظاهر الذي‬ ‫السـلَّم‬
‫كان ُ‬
‫أراه عامـر ًا مبخلوقـات ال تـرى تفسـح يل مجـال املرور‪ ،‬وستنكشـف لعيني‬
‫السـن املناسـبة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫حاملا أبلغ‬
‫ٍ‬
‫بصوت جهري‪:‬‬ ‫أمي تقول‬
‫سمعت ّ‬
‫‪ -‬الله أكرب‬
‫سألتها‪:‬‬
‫‪ -‬هل نادى املؤذن لصالة العشاء؟‬
‫أصخـت السـمع طويلاً يف الظلام فلـم أسـمع صـوت اآلذان‪ُ .‬يقـال إن‬
‫النسـاء ميلكـن سـمع ًا أكثر دقـة مـن الرجـال عـادةً‪.‬‬
‫مل يتأخر والدي عن العودة‪ ،‬تناولنا طعام العشاء كام العادة‪.‬‬
‫قبـل النـوم أعلمنـي والدي أنه سيرافقني يوم ٍ‬
‫غد إىل السـوق يك أمتكن‬
‫مـن اختيـار لعبـي‪ ،‬كما أننـا سـنزور بـاب رضيـح مـوالي إدريـس القتنـاء‬
‫شـمعة كبيرة أهديهـا للفقيـه ليلـة عاشـوراء‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫يشء واحـد‪ :‬مـا كان بإمـكاين أن‬
‫ٌ‬ ‫غمرتنـي السـعادة ومل يزعجنـي ّإل‬
‫الحلاق‪ .‬فبعـد قليـل سـيصطحبني والـدي إىل الـدكان‬
‫ّ‬ ‫أفلـت مـن زيـارة‬
‫الحلاق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الشماعني‪ ،‬حيـث يشـتغل السي عبـد الرحمـن‬ ‫ّ‬ ‫الضيـق بحـارة‬
‫ِّ‬
‫الحلق وال دكانه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مل أحب يوم ًا ال عبد الرحمن‬
‫أتخيـل مجموعـة مـن‬
‫َّ‬ ‫آوينـا للفـراش‪ ،‬لكـن النـوم غـادر عينـي وطفقـت‬
‫الرباقة‬
‫امللونـة‪ ،‬بالسـيوف َّ‬
‫َّ‬ ‫املزينـة بقطـع مـن الدانتيال‬
‫َّ‬ ‫الشـموع الضخمـة‬
‫املزينـة‬
‫َّ‬ ‫والطبـول على شـكل سـاعات شمسـية والشـمعدانات الحديديـة‬
‫ٍ‬
‫بأكـواب من كريسـتال‪.‬‬
‫املطولـة وال متعـة رشاء البضاعة‬
‫َّ‬ ‫فـن املسـاومة‬
‫يكـن والـدي يتقـن َّ‬
‫مل ْ‬
‫بثمـنٍ يقـلّ فلسـ ًا عـن الثمـن الـذي فُرض على بقية املشترين‪ .‬بعـد تناول‬
‫تـدوي بأصوات‬‫اإلفطـار رافقنـي للتجـوال على باعة اللعـب‪ .‬كانت الـدروب ِّ‬
‫قـرع الطبـول الصغيرة والشخشـيخات مـن التنـك واملزامير‪ .‬حشـد‬
‫الباعـة بضائـع إضافيـة خـارج الدكاكين التـي ضاقـت مبحتوياتهـا فتدلَّـت‬
‫ُتسـوقون‬
‫ِّ‬ ‫ملونـة‪ .‬عمـر امل‬
‫املعروضـات مـن أرجائهـا على شـكل عناقيـد َّ‬
‫األزقـة وتحلَّقـوا حـول املتاجر‪ :‬رجال ونسـاء وصبية وفتيـات‪ .‬كان بعضهم‬
‫يجـرب لعبـ ًا فيما يصفـق آخـرون ويرثثـرون‪ ،‬بينما يسـاوم اآلبـاء ويتقافـز‬
‫ِّ‬
‫األبنـاء هنـا وهنـاك إىل درجـة أن البائـع يعجـز عـن الرتكيـز‪.‬‬
‫عمـرت أزقـة املدينـة حشـود غفيرة مـن القرويين الـذي نزلـوا إليهـا‬
‫التسـوق فاشتروا سـكر ًا وتوابـل وأقمشـة وآالت موسـيقية تقليديـة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫قصـد‬
‫ومـروا يسـحبون أكـوام بضائعهـم إىل درجـة أن ضـاق بهـم فضـاء الدروب‪.‬‬
‫َّ‬
‫ُتسـوقني ليفتح‬
‫ِّ‬ ‫القويـة بينام كان يشـق حشـود امل‬
‫ّ‬ ‫متسـكت بيـد والـدي‬
‫أمامنـا الطريـق‪ .‬حصلـت بالنهاية عىل طبلٍ عىل شـكل سـاعة ترابية‪ ،‬وعىل‬
‫عربـة خشـبية صغيرة عجيبة الشـكل‪ ،‬ومزمار إضـايف جديد‪.‬‬
‫أدى الثمـن ناجـز ًا دون مسـاومة‪.‬‬ ‫ثـم َّ‬
‫تـرك يل والـدي حريـة االختيـار‪ّ ،‬‬
‫كنـت أُلـح عليـه باألسـئلة والتعليقـات‪ ،‬لكنـه نـادرا مـا يجيبنـي‪ ،‬بـل يكتفـي‬
‫ً‬
‫ثم قصدنـا باب رضيح‬ ‫باالبتسـام أمـام حالـة الفـرح والهياج التـي انتابتنـي‪ّ .‬‬

‫‪106‬‬
‫مـوالي إدريـس واشترينا شـمعة يبلـغ وزنهـا أوقيـة كاملـة‪ .‬كانـت بـاب‬
‫ُلونـة وحوانيـت باعـة‬
‫الرضيـح تفضي ملحلات بيـع األحزمـة الجلديـة امل َّ‬
‫الفواكـه الجافـة‪.‬‬
‫الحلاق عبـد الرحمـن‪ ،‬قـرب كرمـة قدمية قبالـة دكان‬
‫ّ‬ ‫هنـاك كان دكان‬
‫الحلقني مل يدخال قط يف ّأية منافسـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حلاق آخـر ُيدعـى ابن عارش‪ّ .‬إل أن‬
‫ّ‬
‫متنوعـة مـن‬‫ِّ‬ ‫الحلقـون يف ذلـك الزمـان يقومـون مبجموعـة‬ ‫ّ‬ ‫كان‬
‫الوظائـف‪ .‬فعنـد والديت لجـأ والـدي‪ ،‬الـذي قـدم حديث ًا مـن قريتـه الجبلية‬
‫إىل املدينـة‪ ،‬لخدمـات السي عبـد الرحمـن من أجـل استشـارته يف تنظيم‬
‫حفـل العقيقـة بشـكلٍ الئق‪ .‬وكانـت نصائحه ّ‬
‫قيمـة يف هذا البـاب‪ ،‬فهو َم ْن‬
‫قـام‪ ،‬رفقـة اثنين مـن عاملـه‪ ،‬بخدمـة املدعويـن يف الحفـل‪.‬‬
‫قيمة لوالـدي حول الرتبية‪.‬‬
‫وقـدم نصائح ّ‬
‫َّ‬ ‫أول من حلق شـعري‬ ‫كما أنـه َّ‬
‫كان الوالـد يقر بهذا النصـح ويعتز به‪.‬‬
‫مل أحـب السي عبـد الرحمـن أبـداً‪ .‬كنـت أعلـم أنـه سـيتكفَّل بختـاين‬
‫عندمـا يحين وقـت ذلـك‪ ،‬لـذا كان جلـدي يقشـعر مـن الخـوف كلما زرت‬
‫دكانـه أو شـاهدته يتنـاول مـوىس أو مقصـ ًا بيـده‪.‬‬
‫مد له رقبـة حليقة‪،‬‬
‫الحلاق بصـدد إجـراء عملية حجامة لزبـون ّ‬
‫ّ‬ ‫وجدنـا‬
‫بينما انحنـى هو على عنقه‪ .‬أشـحت بوجهي يك ال أرى تفاصيل املشـهد‪.‬‬
‫ثـم اسـتدار‬
‫غـرس السي عبـد الرحمـن محجمين يف رأس الزبـون‪ّ ،‬‬
‫ورحـب بنـا بطريقـة لبِقـة‪.‬‬
‫نحونـا َّ‬
‫‪ -‬أرى أن هـذا الولـد املُدلـل قـد اشترى الكثري من اللعـب‪ :‬طبل ومزمار‬
‫وعربـة رائعـة وشـمعة كبيرة‪ .‬نعـم! الشـمعة مـن نصيـب الفقيـه‪ ،‬ولكـن‬
‫يجـب أن تكـون العالقـة مـع الفقيـه طيبـة للنجـاة مـن عصا السـفرجل!‬
‫ضحـك كلّ الزبائـن الجالسين‪ ،‬لكننـي استشـطت غضبـاً‪ .‬فعصـا‬
‫رضبـوا‬
‫السـفرجل ليسـت موضـوع مـزاح! يبـدو أن هـؤالء الجالسين مل ُي َ‬
‫بهـا يومـ ًا على قـاع أقدامهم إىل درجـة أن عجـزوا عن امليش! لـذا ميكنهم‬

‫‪107‬‬
‫ـن يعرفهـا مشـاعر الهيبـة‬
‫الضحـك‪ ،‬لكـن عصـا السـفرجل تثير لـدى َم ْ‬
‫واالحترام!‬
‫رفـع شـيخ ضعيـف البنيـة يحمـل لحيـة كبيرة وعاممـة أكبر سـتار باب‬
‫أول مقعد‬ ‫متأوهـ ًا عاجـز ًا عـن إلقاء السلام‪ّ ،‬‬
‫ثم ارمتى على َّ‬ ‫الـدكان ودخـل ِّ‬
‫مواصلاً زفراتـه املتعبة‪:‬‬
‫حمد‪ ،‬كيف ميكن أن أساعدك؟‬
‫‪ -‬تبدو متعباً‪ ،‬عمي ّ‬
‫‪ -‬يس عبد الرحمن‪ ،‬يبدو أنني سأموت!‬
‫‪ -‬ال تنطـق مبثـل هـذا الـكالم الـذي ال يليـق مبسـلم‪ ،‬اللـه وحـده يعلـم‬
‫أجـل الحيـاة واملـوت! مـا الـذي يؤملـك؟‬
‫‪ -‬ال يؤملنـي يشء‪ ،‬غير أننـي اختنـق‪ ،‬يصعـب َّ‬
‫علي التنفـس يف الليـل‪،‬‬
‫اختنـق وينتفـخ قلبـي مـن القلق!‬
‫حماد! أعـرف وصفـة مجربـة سـأتلو عليـك‬
‫مقويـات يـا عمـي ّ‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬تلزمـك‬
‫مكوناتهـا‪ ،‬هـل تسـتطيع تذكرهـا؟‬
‫ِّ‬
‫جيدة‪ ،‬قلت لك إن قلبي هو الذي يؤملني‪ ،‬هات الوصفة!‬
‫‪ -‬ذاكريت ّ‬
‫جـداً‪ ،‬اطلب مـن أهل بيتك أن يقلوا بصلـة بيضاء مقطّ عة‬
‫‪ -‬إنهـا بسـيطة ّ‬
‫يف السـمن‪ ،‬اخلـط هذا البصـل املقيل مع ملعقتني صغريتني من العسـل‬
‫وحبـوب الكتـان والينسـون‪ ،‬أضـف إليـه بعضـ ًا مـن القرفـة والزنجبيـل‪.‬‬
‫عطّ ـر الـكلّ مبسـحوق القرنفـل‪ .‬ابتلـع لقمـة مـن هـذا الخليـط كلّ صبـاح‪،‬‬
‫رب العاملين!‬
‫وسـتختفي كلّ آالمـك بقـدرة ّ‬
‫‪ -‬يس عبـد الرحمـن‪ ،‬جـازاك اللـه عنـي خير ًا ونفعـك بعملـك يف يـوم‬
‫الحسـاب األعظـم! كنـت أعرف أنـك سـتنفعني بعلمك وحكمتك‪ ،‬سـأذهب‬
‫للتـو واللحظة!‬
‫ّ‬ ‫مكونـات الخلطـة‬
‫لشراء ِّ‬
‫تأوهاتـه‬
‫حماد بصعوبـة مـن مجلسـه‪ ،‬غـادر وهـو يطلـق ُّ‬
‫العـم ّ‬
‫ُّ‬ ‫تحـرك‬
‫َّ‬
‫املعتـادة‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫تفحـص السي عبـد الرحمـن مـدى التصـاق املحاجـم برقبـة زبونـه‬
‫َّ‬
‫ثـم رشح لنـا املوقـف‪:‬‬
‫الغامـض‪ّ ،‬‬
‫األول‪ ،‬وغـاب صبي املحلّ أيضـ ًا ألنه يقبع يف‬
‫تغيـب اليـوم مسـاعدي َّ‬
‫‪َّ -‬‬
‫السـجن مـن أجل سـبب ال أعلمه‪ .‬لذا أشـتغل وحـدي اليوم‪.‬‬
‫متوجه ًا لوالدي‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫ثم أضاف‬
‫ّ‬
‫علي قليلاً ريثما‬ ‫‪ -‬لـذا أرجـوك‪ ،‬أيهـا املعلـم عبـد السلام‪ ،‬أن تصبر َّ‬
‫أنتهـي مـن حجامـة هـذا الرجـل‪ .‬زارين باألمـس أحـد أصدقائـك مـن أجـل‬
‫الحجامـة أيضـاً‪ :‬مـوالي العـريب صانـع األحذيـة‪ .‬رجـل محترم ُمقـل يف‬
‫ربـا أن‬ ‫الحديـث والحـركات‪ .‬ومـا يدهشـني هـو أنـه مل ينجـب أطفـاالً‪َّ .‬‬
‫متقدمـة يف السـن‪ .‬يقولون إنه متـزوج من امرأة رشيفة النسـب‪ .‬ال‬ ‫ِّ‬ ‫زوجتـه‬
‫شـك أن أهـل دارك يعرفونهـا‪ُ .‬يقـال إنهـا امـرأة كرميـة‪ ،‬وإن مـوالي العريب‬
‫ّ‬
‫تحسـنت‬
‫َّ‬ ‫اسـتطاع‪ ،‬بفضل مالها‪ ،‬أن ُيعيد إنشـاء مشـغله‪ .‬أعرف أن أعامله‬
‫كثير ًا اليوم!‬
‫مر ًة‬
‫الحلاق الـذي انحنـى عىل رقبـة زبونـه ّ‬
‫ّ‬ ‫نظـر والـدي بالمبـاالة صـوب‬
‫أخـرى وجمـع بعضـ ًا مـن أدواتـه ووضعهـا يف درج صغري‪.‬‬
‫كنـت جالسـ ًا على كـريس مرتفـع جعـل قدمـي الصغريتين تتدليان يف‬
‫ُخصص لجلـوس الزبناء‬
‫أتأمـل كـريس الحالقـة الباهت األلـوان امل َّ‬
‫الهـواء‪َّ ،‬‬
‫واملقصـات‬
‫ّ‬ ‫يزيـن الجـدار ومجموعـة األمـواس‬‫والبسـاط املتهالـك الـذي ِّ‬
‫واملرايـا اليدوية‪.‬‬
‫‪ -‬أال تتفـق معـي أن عليـه أن يتخـذ زوجـةً ثانيـة‪ .‬أعـرف أن الوقـت مل‬
‫يحـن بعـد‪ ،‬لكننـي واثـق مـن كـون أعمال مـوالي العـريب سـتزدهر أكرث يف‬
‫املسـتقبل‪ .‬إنـه يصنـع رشابيـل((( نسـائية جميلـة الصنعـة قويـة الخياطـة‬
‫والتطريـز بألـوان مبهجـة تحوز إعجاب النسـاء‪ .‬التجارة مع النسـاء وحدها‬

‫((( جمع رشبيل وهو خف جلدي تقليدي خاص بالنساء يف املغرب‪[ .‬املرتجم]‬

‫‪109‬‬
‫مت ّكنـك مـن جنـي ثـروة! أو تبديدهـا! يقولـون إن النسـاء يف بعـض البلـدان‬
‫حلاق الرجـال لتصفيـف شـعرهن! يـا إلهـي ملـاذا مل أولـد يف‬‫يذهبن عنـد َّ‬
‫هـذه البلـدان الرائعة!‬
‫ثم أضاف‪:‬‬
‫تنهد اليس عبد الرحمن‪ّ ،‬‬
‫َّ‬
‫ُفضل‬
‫الحلاق امل َّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬يف الحقيقـة‪َّ ،‬‬
‫علي أن أحمـد اللـه على نعمتـه‪ .‬فأنـا‬
‫لـدى العديـد مـن األرس الراقيـة يف مدينتنـا‪ .‬وهـم كرمـاء معـي‪ ،‬جازاهـم‬
‫اللـه خيراً! الحمـد لله!‬
‫دخل الدكان زبون جديد‪:‬‬
‫‪ -‬السالم عليكم‪.‬‬
‫رد اليس عبد الرحمن‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬وعليكم السالم ورحمة الله وبركاته‪.‬‬
‫حـرك والـدي شـفتيه هامسـ ًا ّ‬
‫بـرد السلام‪ .‬سـعل الزبـون الجالـس عىل‬ ‫َّ‬
‫تجمد يف جلسـته‪ .‬كنا نشـاهده من الخلف‪،‬‬‫َّ‬ ‫ثم‬
‫ّ‬ ‫مـرات‬ ‫ثالث‬ ‫ق‬‫الحلا‬
‫ّ‬ ‫كـريس‬
‫كانـت نتـف لحيته تخـرج عن وجنتيـه ورقبته حمراء من أثر الشـمس‪ .‬رجل‬
‫خمنـت مـن لـون رقبته أنـه يعمل يف الحقـول أو يف بعض البسـاتني‬ ‫مسـن َّ‬
‫وحولـت ناظـري صـوب‬
‫َّ‬ ‫املحيطـة مبدينـة فـاس‪ .‬توقَّفـت عـن االهتمام بـه‬
‫الزبـون الجديـد‪ .‬كان وجهـه شـديد البيـاض‪ ،‬حاجبـاه كثيفـان‪ ،‬ولحيتـه‬
‫شـديدة السـواد‪ ،‬أشـد سـواد ًا مـن جناح غـراب‪ ،‬فيام ظهـرت بـوادر اللطف‬
‫على كامـل محياه‪.‬‬
‫جلـس على مصطبـة مرتفعـة بعـض الشيء تقابـل البـاب‪ .‬مل يتوقَّـف‬
‫والتودد له واالبتسـام‬
‫ُّ‬ ‫السي عبـد الرحمن املنشـغل بعمله عـن النظر إليه‬
‫يف وجهـه‪ .‬بعدمـا جلـس الشـاب واسـتقر يف موضعه بادره بالسـؤال‪:‬‬
‫‪ -‬كيـف حـال والـدك املوقَّـر حفظـه اللـه وبـارك لـه يف صحتـه ويف‬
‫تحسـنت حالتـه! الحمد لله! أسـعدين‬
‫َّ‬ ‫تجارتـه؟ أمـا زال يعـاين مـن ركبتـه؟‬
‫ذلـك كثيراً! إذن فقـد نفعه املرهم الـذي أعددته خصيص ًا مـن أجله! نفعه‬

‫‪110‬‬
‫أكثر مما كان يتوقَّـع هـو نفسـه؟! وأنـت كيـف أحوالـك يـا ولـدي؟ دعنـي‬
‫أمتنـى لـك السـعادة والتوفيـق‪ .‬عرفـت الخبر مـن والـدك‪ ،‬حـول الحـدث‬
‫السـعيد الـذي تنتظـره‪ .‬أعلمنـي أنك سـتتزوج من ابنة السـيد عثمان كاتب‬
‫العدل‪.‬‬
‫خلال هـذا املونولـوج الطويـل‪ ،‬حـاول الزبـون‪ ،‬الـذي يحمـل اسـم‬
‫َّ‬
‫الحلاق‪ ،‬لكـن هـذا األخير مل يترك لـه‬ ‫أحمـد‪ِ ،‬مـرار ًا اإلجابـة عـن أسـئلة‬
‫َّ‬
‫الحلاق‪:‬‬ ‫الفرصـة‪ ،‬بـل كان يجيـب نيابـة عنـه! واصـل‬
‫‪ -‬السـيد عثمان رجـل مـن أهـل اللـه! يف زماننا هـذا‪ ،‬الذي فسـدت فيه‬
‫األخلاق وانتشر الظلـم والرشـوة‪ ،‬يجـب أن يفرح اإلنسـان لربـط عالقة مع‬
‫ٍ‬
‫شـخص محترم مثـل السـيد عثمان أو والـدك املوقّر الحـاج عيل!‬
‫ليقدم له الزبون الجديد‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫الحلق نحو والدي‬ ‫استدار‬
‫‪ -‬سـيدي أحمـد هـو ابـن الحاج عيل تاجر الشـاي املعـروف الذي يوجد‬
‫شـك أنك تعـرف دكانه!‬
‫الصياغني‪ ،‬ال ّ‬
‫ّ‬ ‫محلـه بحارة‬
‫مـرات‪ .‬ذهـب إىل‬ ‫حـج ثلاث َّ‬
‫شـك أنـك تعرفـه‪ .‬لقـد ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬أجـل! أجـل! ال‬
‫ُقدسـة ثلاث مـرات وملـس الحجـر األسـود‪ .‬أسـأل اللـه أن‬ ‫األماكـن امل َّ‬
‫يحشرين يف الجنـة رفقـة الحـاج علي وأمثاله‪ .‬السي أحمد سـيتزوج قريب ًا‬
‫مـن ابنـة السـيد عثمان كاتـب العـدل الـذي آتـاه اللـه العلـم والحكمـة‬
‫واللياقـة واألدب‪ ،‬وآتـاه‪ ،‬فضلاً عـن ذلـك‪ ،‬العديـد مـن األملاك واألطيـان‪،‬‬
‫زاده اللـه خير ًا على خير!‬
‫ثم التفت إىل الشاب سيدي أحمد‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬وكيـف الحـال مـع أمور دراسـتك‪ ،‬لقـد عرفتك منـذ كنت طفلاً رضيع ًا‬
‫وهـا أنـت اليـوم أصبحت عاملـ ًا جليالً!‬
‫‪ -‬لست ّإل طالب علم كغريي من الطلبة!‬
‫ُثبتة‬ ‫َّ‬
‫الحلاق مبص أحد املحاجـم امل َّ‬ ‫اغتنـم الشـاب فرصة انشـغال فم‬
‫يف رقبـة زبونـه ليقول له‪:‬‬

‫‪111‬‬
‫مما أعلم أنا شـخصي ًا حول‬
‫شـك أكرث ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬السي عبـد الرحمـن‪ ،‬تعلـم وال‬
‫ـن يتكفَّل بـكلّ التفاصيـل‪ ،‬ومل يأخـذ أحد رأيي‬
‫أمـور زواجـي! والـداي هام َم ْ‬
‫يف املوضوع!‬
‫‪ -‬ومنـذ متى ُيستشـار الشـباب يف األمور الخطرية؟ إنهـم يعرفون بعض‬
‫األشـياء ويأخـذون العلـم عـن الكتـب والشـيوخ‪ ،‬ولكـن علمهـم ال يغنيهـم‬
‫عـن خبرة كبـار السـن العارفين بتجـارب الحيـاة ومعـادن الرجـال‪ .‬الزواج‬
‫مجـرد قضـاء الليـايل مع امـرأة جميلة وشـابة‪ ،‬بـل إنشـاء روابط بني‬
‫َّ‬ ‫ليـس‬
‫أرستين وإنجـاب أبنـاء قادريـن عىل مسـاعدتنا يف وقت شـيخوختنا‪ .‬إن يل‬
‫سـن الـزواج‪ ،‬لـذا فصهـري سـيكون مبثابـة ابـن!‬ ‫بنتـ ًا وحيـدة بلغـت اليـوم َّ‬
‫ابـن ذكـر‪ ،‬ولكـن إرادة اللـه هـي العليا!‬
‫طاملـا متنيـت أن يكـون يل ٌ‬
‫نـزع السي عبـد الرحمـن املحاجـم مـن رقبـة الزبـون وذهـب إلفراغهـا‬
‫الحمرة وضـع عليها‬
‫خلـف سـتار‪ .‬بـدت على لحـم الزبون آثـار دوائـر قانيـة ُ‬
‫الحلاَّ ق قطنـاً والتفـت نحونا‪:‬‬
‫الشـك أنـه قانـط مـن جلوسـه‬
‫ّ‬ ‫ال شـعر هـذا الطفـل الـذي‬‫أو ً‬
‫‪ -‬سـأحلق َّ‬
‫معنـا ويتم َّنـى أن يلعـب خارجـ ًا يف أزقـة املدينـة!‬
‫لف جذعي بفوطة حمراء وصفراء كبرية واسرتسل‪:‬‬
‫َّ‬
‫واملـارة‬
‫ّ‬ ‫أتفهمهـا! األزقـة بروائحهـا وضجيجهـا‬
‫َّ‬ ‫أتفهـم رغبتـه!‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬أنـا‬
‫العابـرون فيهـا ونداءاتهـم وهمسـاتهم! رصاخ وبـكاء وأهازيـج أطفـال!‬
‫األزقـة الواقعـة تحـت ظلال الكـروم وأشـجار الدلـب‪ ،‬األزقـة الحاملـة‬
‫املغنيـة املتباعـدة‪...‬‬
‫رشع يف وضع الرغوة عىل رأيس ودهنها بباطن يديه مواص ً‬
‫ال حديثه‪:‬‬
‫‪ -‬الزقـاق‪ ،‬حيـث ميـر الحامر الصغري الرمادي اللـون‪ ،‬والقطط املترشدة‬
‫امللـون! الزقاق الذي يشـهد مرور مواكب‬
‫َّ‬ ‫وعصافير الـدوري‪ ،‬وزوج الحامم‬
‫ٍ‬
‫بـرداء يشـابه الحنـان األمومـي‪،‬‬ ‫األعـراس والجنـازات‪ ،‬يحيـط مرتاديـه‬
‫ويكتسي مـن أجلهم بألـوانٍ نـادرة‪...‬‬

‫‪112‬‬
‫صاح سيدي أحمد‪:‬‬
‫‪ -‬أقسـم باللـه أنـك شـاعر حقيقـي يـا يس عبـد الرحمـن! مل أقـرأ يومـ ًا‬
‫نصـ ًا عـن الشـارع أجمـل مما قلتـه اآلن!‬
‫‪ -‬كيـف يل أن أكـون شـاعر ًا وأنـا أعـرف القـراءة والكتابـة بالـكاد! ال أنـا‬
‫متجـددة‬
‫ِّ‬ ‫فقـط عاشـق ملدينتنـا الجميلـة فـاس! والزقـاق فيهـا هـو فرجـة‬
‫على الـدوام!‬
‫قال والدي‪:‬‬
‫‪ -‬إنك ُتحسن الحديث عنها‪.‬‬
‫‪ -‬يا سـيد عبد السلام‪ ،‬اإلنسـان يحسـن دامئ ًا التعبري عن األشـياء التي‬
‫يحول عاشـق األباريق إىل‬
‫مجـرد إبريـق عادي مـن الفخار ميكـن أن َّ‬
‫َّ‬ ‫يحبهـا‪.‬‬
‫سـميه سـيدي أحمد بالشاعر!‬
‫ما ُي ِّ‬
‫اختـار السي عبـد الرحمـن مـوىس ذات مقبـض مـن خشـب وشـحذها‬
‫لفترة على صخـر ٍة مدهونـة بالزيـت قبـل أن يشرع يف حالقـة رأيس‪.‬‬
‫ثـم مـال إىل جوانبه‪ .‬آملتنـي املوىس قليلاً ‪ ،‬لكنني‬
‫بـدأ بأعلى الـرأس‪ّ ،‬‬
‫علي الحـرارة املرتفعـة داخـل الـدكان‬‫َّ‬ ‫مل أجـرؤ على االحتجـاج‪ .‬أثـرت‬
‫فاسـتغرقت يف النـوم‪ .‬مـال رأيس على الشـفرة فجرحتني قليالً‪ .‬اسـتفقت‬
‫َّ‬
‫الحلاق‬ ‫يتصبـب مـن رقبتـي وعنقـي‪ ،‬فيما واصـل‬
‫َّ‬ ‫مـن نومـي وكان العـرق‬
‫ثرثرته‪.‬‬
‫توقَّـف أخير ًا ونفـض بقايـا الشـعر عـن رقبتـي وعـن عنقي قبـل أن َّ‬
‫يفك‬
‫ٍ‬
‫بتعـب يـكاد ُيقـارب الـدوار‪ .‬بحثـت‬ ‫عـن جذعـي فوطتـه الكبيرة‪ .‬شـعرت‬
‫بعينـي عـن والـدي الـذي سـارع لنجـديت‪.‬‬
‫‪ -‬تعـال‪ ،‬لنخـرج! فهـواء الزقـاق سينعشـك‪ .‬يس عبـد الرحمـن‪ ،‬أحتاج‬
‫حالقـة شـعري‪ ،‬لكـن الولـد يبـدو متعبـاً‪ ،‬سـأعود يف املسـاء‪ .‬أسـتودعكم‬
‫اللـه يا سـادة!‬

‫‪113‬‬
‫وجدنـا أنفسـنا خارجـ ًا مـن جديـد‪ ،‬وبـدا يل الزقـاق أجمـل مـن أي ٍ‬
‫وقت‬
‫مضى‪ .‬شـعرت باالرتيـاح‪ .‬وعنـد وصولنـا للمنـزل جلسـنا لتنـاول الطعـام‪،‬‬
‫فيما كانـت أصـداء أصـوات قـرع الطبـول الصغيرة تصلنـا مـن السـطوح‬
‫املجـاورة‪.‬‬
‫كانـت زينـب تقـرع على «طَ عريجتهـا»((( الطينيـة الرخيصـة الصغيرة‬
‫الحجـم فـوق سـطح الـدار‪ .‬تناولـت الطعام برسعة شـديدة‪ .‬كنـت راغب ًا يف‬
‫تدبـرت األمر للحصول‬ ‫إثـارة غيظهـا وحسـدها بطبيل الكبري‪ ،‬لـذا رسعان ما َّ‬
‫ثـم رشعـت يف‬ ‫على قطعتـي عصـا صغريتين وعلَّقـت الطبـل على كتفـي‪ّ ،‬‬
‫معزوفـة صاخبـة مـن تأليفـي ثقبـت آذان سـكان الزقـاق جميعاً‪.‬‬
‫جهـزت‬
‫فكَّ ـرت يف تنويـع موسـيقاي باسـتعامل أكثر مـن آلـة واحـدة‪َّ .‬‬
‫نفسي على شـاكلة رجـل‪ -‬أوركسترا‪ .‬وضعـت الطبـل أرضـ ًا على جنبـه‬
‫ركبتـي‪ .‬لعبـت يـداي بقطعتـي العصـا بقـوة ونفخـت‬
‫َّ‬ ‫وحصرت البـوق بين‬
‫يف املزمـار‪ ،‬يف الوقـت نفسـه‪ ،‬بأقصى طاقـة‪ .‬امتزجـت أصـوات الطبـل‬
‫بنفير املزمـار ُمحدثـةً جلبة منكرة مزعجـة لآلذان‪ .‬انضافـت زينب لجوقتي‬
‫مسـاهمة يف ارتجـال أجمـل حفـل أوركسترايل شـهدته دارنـا‪.‬‬
‫ارتفعـت أصـوات النسـوة طالبة خفـض الصوت‪ .‬مل تعجبهن موسـيقانا‬
‫فطلنب م َّنا أن نذهب للعزف يف بلكونة السـطح حتى يسـتمتع بها الجريان‪.‬‬
‫قبـل ذلـك أمرتني والديت بنـزع جلبايب وصداري القدميين‪ ،‬فهي ترغب‬
‫تجـرب عيلَّ قمييص الجديد‪ .‬ألبسـتني القميص‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫أن‬
‫الخياطـة‪ .‬كان القميـص طويلاً تصـل أطرافـه األرض‬‫ّ‬ ‫أعجبهـا عمـل‬
‫مكون ًا من ِع ّ‬
‫ـدة طبقات‬ ‫يـدي الصغريتني‪ .‬كان عنقـه َّ‬
‫َّ‬ ‫وتتجـاوز أكاممـه طـول‬
‫مـن الثـوب ويعقـد بواسـطة خيـط حريـري أبيـض‪.‬‬
‫مل يشـغل بـايل لحظتهـا ّإل طبلي فقنطـت مـن تجريـب املالبـس‪.‬‬

‫((( آلة إيقاعية شعبية تشبه الدربوكة أو الطبلة‪ ،‬تصنع من فخار وجلد مدبوغ [املرتجم]‪ .‬‬

‫‪114‬‬
‫رسعـان مـا عـاودت ارتـداء جلبـايب وصـداري القدميين وسـارعت لسـطح‬
‫الـدار مـن جديـد‪ .‬كانـت زينـب بانتظـاري وقـد انضـاف إليهـا فتاتـان وطفـلٌ‬
‫آخـر مـن سـكان الـدور املجـاورة‪ ،‬وحمـل كلّ منهـم آلتـه املوسـيقية‪ .‬مل‬
‫يكـن الطفـل يتوفَّـر ّإل عىل طبـلٍ صغري وتعريجة مشـابهة لتلك التي تعزف‬
‫ْ‬
‫عليهـا الفتيـات‪ ،‬فأمسـك مبزمـاري‪ .‬كانـت لـه دراية أكبر بكيفيـة النفخ يف‬
‫املزمـار البسـيط املظهـر فأخـرج منـه زعيقـ ًا أكبر وأكثر صخبـ ًا ّ‬
‫مما كنت‬
‫أقـدر عليـه‪ .‬اسـتلقينا يف بحـ ٍر مـن األصـوات املرحـة الصاخبـة‪.‬‬

‫أطلَّـت علينـا مجموعـة مـن النسـوة وقـد لبسـن أثوابـ ًا َّ‬


‫ملونـة أنيقـة‬
‫بكلامت طيبـة ضاعت يف‬‫ٍ‬ ‫مبهجـة‪ .‬أثـار منظرنـا إعجابهـن فقمن بتشـجيعنا‬
‫املـدوي الـذي يصـدر عـن جوقتنـا‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫غمار الصخـب‬
‫واصلنـا العـزف والغنـاء إىل مغيـب الشـمس‪ .‬عندهـا صعـدت والـديت‬
‫توجب العودة‬ ‫قائلـة إننـي لعبت مبا يكفي بالنسـبة لليوم‪ .‬لـذا َّ‬
‫ً‬ ‫السترجاعي‬
‫لتنـاول وجبـة العشـاء والخلـود للنـوم‪ ،‬فهـي تعتـزم إيقاظي باكـر ًا للذهاب‬
‫إىل الكُ َّتـاب واسـتهالل العـام الـدرايس الجديـد بتحصيـل العلـم وتلاوة‬
‫اآليـات املباركـة‪ .‬حملتنـي إىل املطبـخ‪ ،‬حيـث كان الحـوض الكبير الـذي‬
‫شـدة السـخونة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫مبـاء يفـور مـن ّ‬ ‫تسـتخدمه عـاد ًة لغسـيل الثيـاب مملـوء ًا‬
‫ال يف‬ ‫عرتنـي وغمرتنـي كام ً‬
‫أضافـت عليـه سـطل مـاء بـارد ليصبـح معتـدالً‪َّ .‬‬
‫التخبط‬
‫ُّ‬ ‫الحـوض حتـى انقطعت أنفـايس تحت املاء‪ .‬انتفضـت ورشعت يف‬
‫ٍ‬
‫بثوب‬ ‫بعدمـا بـدأت فـرك جسـدي بقـوة بقطعـة مـن لحـاء الفلين أحيطـت‬
‫غمـس يف‬ ‫بالـغ الخشـونة‪ .‬بعـد الحمام‪ ،‬أكلـت بضـع لقيمات مـن خبـز ِّ‬
‫محلى بنكهـة الليمـون‪ .‬اسـتلقيت على إحـدى املرتبـات‪ .‬ألقت‬ ‫ّ‬ ‫مـرق لحـم‬
‫غطاء سـاخن ًا فغططـت يف النوم‪ ،‬نوم متلـؤه فتيات صغريات‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫علي والـديت‬
‫مشـاغبات وحالقـون يبالغـون يف الرثثـرة‪.‬‬
‫انتشـلني صـوت والـديت مـن أعماق سـبايت‪ .‬سـبحت لهنيهـة يف ثنيـات‬
‫عيني‪ .‬ورسعان‬ ‫ثم فتحـت‬ ‫ٍ‬
‫ضـوء أحمـر تعمره الشرارات والكواكب التائهة‪ّ ،‬‬
‫َّ‬
‫مـا عـاودت إغالقهما بحث ًا عـن ظلمة النـوم املريحة املنعشـة‪ .‬صار صوت‬
‫أمي أكثر إلحاحاً‪:‬‬
‫ّ‬

‫‪115‬‬
‫‪ -‬اسـتيقظ! إنهـا الثالثـة صباحـاً‪ ،‬اسـتيقظ الرتـداء صـدارك وقميصـك‬
‫ُطـرز! افتـح عينيـك! اسـتيقظ!‬
‫الجديديـن وجرابـك امل َّ‬
‫عيني بأصابعـي‪ .‬حاولت ِمرار ًا‬ ‫ٍ‬
‫بصـوت خافت‪ ،‬فركـت‬ ‫رشعـت يف البـكاء‬
‫َّ‬
‫العـودة للنـوم‪ ،‬غير أن والـديت كانـت صارمـة‪ .‬بلَّلـت يدهـا باملـاء البـارد‬
‫عينـي فوجـدت‬‫َّ‬ ‫ومررتهـا فـوق وجهـي فتوقَّفـت أذنـاي عـن الهديـر‪ .‬فتحـت‬ ‫َّ‬
‫والـدي واقفـ ًا مرتديـ ًا جلبابـ ًا مـن الصـوف الرقيـق‪ .‬ابتسـم وقـال يل‪:‬‬
‫تشـجع‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬اسـتعد لالحتفـال بعاشـوراء يف الكُ َّتـاب رفقـة زمالئـك!‬
‫واسـتعد!‬
‫عينـي وفمـي وأنـا يف حالـة مـن النعـاس والخمـول‪.‬‬‫َّ‬ ‫نهضـت وغسـلت‬
‫بللـت أطـرايف باملـاء ومل أعـد لكامـل يقظتـي ّإل بعدمـا ألبسـتني والـديت‬
‫الثـوب املُتصلِّـب يـكاد يجـرح جلـدي‪ .‬لبسـت‬
‫ُ‬ ‫القميـص الجديـد‪ .‬كان‬
‫ُطرز عىل‬
‫صـداري األحمـر ذا الرسـوم املُعقَّـدة البـارزة‪ ،‬وضعت جـرايب امل َّ‬
‫كتفـي وأنهيـت األمـور بلبـس جلبايب األبيـض الجديـد الذي كان يـراوح منذ‬
‫تشرب رائحـة مـاء الـورد وأوراق الربتقـال‬
‫مـدة يف خزانـة والـديت‪ .‬كان قـد َّ‬ ‫ّ‬
‫أمـي يف خزانـة املالبـس‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تضعهـا‬ ‫التـي‬ ‫َّـف‬
‫ف‬ ‫ُج‬ ‫امل‬
‫هـا قـد رصت شـخص ًا آخر! كنـت مسـتفيق ًا ومنتبه ًا متاماً‪ ،‬مسـتعداً‪ ،‬بل‬
‫ومتشـوق ًا للذهـاب إىل الكُ َّتـاب‪ .‬كانـت كلّ مالبسي جديـدة‪ ،‬وكـذا حـذايئ‪.‬‬
‫ِّ‬
‫بثقـة وخيالء لـدى نزولنا درجات السـلم‪.‬‬‫ٍ‬ ‫تقدمـت والـدي‬
‫َّ‬
‫كان الضـوء يخـرج مـن كلّ نوافـذ غـرف الـدار الكبيرة‪ ،‬إذ كان السـكان‬
‫ـن يلازم فـراش نومـه يف‬
‫وم ْ‬ ‫ٍ‬
‫بهمـة ونشـاط‪َ .‬‬ ‫متلهفين لبـدء العـام الجديـد‬
‫يـوم مثـل هذا سـيقيض شـهور السـنة بأكملهـا يف الكسـل والخمول‪.‬‬ ‫فجـر ٍ‬
‫متسـول يعبر الزقـاق يف هـذا الوقـت املُبكِّ ـر‪ .‬سـمعت‬
‫ِّ‬ ‫وصلنـا صـوت‬
‫الشـك أنـه كان رضيـراً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫صـوت ارتطـام عصـاه بـاألرض‪.‬‬
‫كان خ ّفـاي يفلتـان مـن رجلي أثنـاء سيرنا والثيـاب أكبر مـن مقـايس‪،‬‬
‫تعمـد والـداي رشاء مقاسـات أكبر منـي على الـدوام ألسـتعملها يف‬ ‫إذ َّ‬
‫ٍ‬
‫السـنوات املواليـة! رغـم ذلـك شـعرت بسـعادة بالغـة‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫مبجـرد بلوغنـا الزقـاق منحنـي الوالـد قطعـة نقديـة مـن فئـة خمسـة‬
‫َّ‬
‫فرنـكات‪ ،‬ووضـع تحـت إبطـي شـمعة كبيرة‪ .‬كانـت تلـك هدايانـا لفقيـه‬
‫الكُ َّتـاب مبناسـبة مقـدم السـنة الجديـدة‪.‬‬
‫كان املـارة ينظـرون اتجاهـي ويبتسـمون‪ .‬كانـت الحوانيـت مفتوحـة‬
‫واألزقـة مضـاءة‪ .‬بذلـت جهـد ًا معتبر ًا لئلا يسـقط خ ّفـاي مـن قدمـي‪ ،‬ومـا‬
‫لبثـت أن رأيـت نوافـذ الكُ َّتـاب‪.‬‬
‫كـدت أسـقط الشـمعة الكبيرة مـن يـدي تحـت تأثير املفاجـأة‪ :‬كانـت‬
‫واجهـة الكُ َّتـاب القـرآين قـد اكتسـت حلـةً بهيجة مـن األضـواء بعدما جرت‬
‫العـادة أن تكـون بئيسـة غارقـة يف الغبـار على مـدار العـام‪ .‬كانـت ملبـات‬
‫براقـة تصنـع عاملـ ًا مـن الفرحـة‬
‫متعـددة َّ‬
‫ِّ‬ ‫امللونـة تصـدر أضـواء‬
‫َّ‬ ‫الزيـت‬
‫والحبـور‪.‬‬
‫سـارعت الخطـى‪ ،‬أصبحـت أصـوات التالميـذ أكثر وضوحـ ًا يف بـرودة‬
‫الصبـاح‪ ،‬تنافـس يف حيويتهـا وفرحتهـا تراقـص األنـوار الصغيرة فـوق‬
‫خلطـة الزيـت واملـاء التي عكسـت ألـوان قوس قـزح داخل اللمبـات‪ .‬تع َّزز‬
‫شـعوري بهـذا العيـد العجيـب بعدمـا دلفـت إىل مدخـل الكُ َّتـاب وتجاوزت‬
‫بابـه‪ .‬مل أعـد األمير األنيـق الوحيـد‪ ،‬بـل وجـدت نفسي وسـط مجموعـة‬
‫كبيرة من األسـياد الصغـار الذين يلبسـون أفضل الثياب وينشـدون األذكار‬
‫واألدعيـة تحـت لـواء أحـد ملـوك األسـاطري‪.‬‬
‫غـادر والـدي فسـلَّمت فقيـه الكُ َّتـاب الشـمعة التـي يبلـغ مثنهـا جنيهـ ًا‬
‫كاملاً وقطعـة النقـود مـن فئـة خمسـة فرنـكات‪ .‬أفسـح يل زملايئ مكانـ ًا‬
‫بينهـم فجلسـت‪.‬‬
‫رفعـت عقيريت مثلهم بتلاوة اآليات فيما تواصل قـدوم تالميذ آخرين‪،‬‬
‫التضخـم‪ .‬زادت‬‫ُّ‬ ‫ورشعـت حزمـة الشـموع املوضوعـة جنـب الفقيـه يف‬
‫قـب جلبـايب مـن على رأيس‪ .‬كان‬ ‫سـخونة الجـو حتـى صـار خانقـاً‪ ،‬نزعـت ّ‬
‫ثـوب القميـص الجديـد يلتصـق بظهـري فيزعجنـي وخـزه‪ ،‬غطـت حبـات‬
‫ٍ‬
‫برعاف فنزف أنفـه دم ًا وتلطَّ خت‬ ‫ويدي‪ .‬أُصيب أحـد التالميذ‬
‫ّ‬ ‫العـرق جبهتـي‬

‫‪117‬‬
‫مالبسـه الجديـدة ببقـع حمـراء‪ .‬رفعت رأيس نحو السـقف‪ .‬كانت شـعالت‬
‫املصابيـح الصغيرة ترتاقـص وتصدر أحيانـ ًا رشارات زرقاء‪ .‬لـذت بالصمت‬
‫سـبح بدورهـا للـه مثلما نفعـل‬ ‫محـاو ً‬
‫ال التقـاط أصـوات الشـعالت التـي ُت ِّ‬
‫أشـد االقتناع أنها‬
‫ّ‬ ‫نحـن‪ .‬امتزجـت أصواتهـا بأصـوات التالميذ‪ .‬كنت مقتنعـ ًا‬
‫تشـاركنا حفلنـا‪ ،‬تتفاعـل معنـا وال تظـلّ حبيسـة األوعيـة الزجاجيـة التـي‬
‫تحضنها ‪.‬‬
‫اكتسـت األشـياء املعتـادة واملخلوقـات األكرث بؤسـاً يف ذلـك الصباح‬
‫ترضعنـا لخالـق‬
‫ُّ‬ ‫نفـس حامسـنا‪ ،‬وشـاركتنا حـرارة وصـدق عواطفنـا لـدى‬
‫األكـوان ملتمسين رحمتـه ورضـاه‪.‬‬
‫تيس من آيـات القرآن الكريم‪ ،‬رشعنـا يف ترديد مجموعة‬ ‫بعـد تلاوة ما َّ‬
‫مـن األدعيـة واألذكار‪ .‬شـاركنا يف أذكارنـا مجموعة من آبـاء التالميذ الذين‬
‫يكن لديهم عمـل يف هذا اليوم‪،‬‬ ‫جلسـوا إىل جنبنـا على أرضية الكُ َّتـاب‪ .‬مل ْ‬
‫تعـودوا على‬
‫َّ‬ ‫فأحبـوا أن يحيـوا ذكـرى عاشـوراء بين جـدران الكُ َّتـاب مثلما‬
‫ذلك ّأيـام طفولتهم!‬
‫تحولـت أضـواء اللمبـات إىل اللـون األصفر مبـرور الوقـت واندحر غبش‬ ‫َّ‬
‫الفجر لدى اقرتاب ضوء النهار‪ .‬تسـارعت خطى املارة يف الشـوارع خارجاً‪.‬‬
‫وتصايـح دوريـان قـرب املصابيح املُعلَّقة فوق سـتار نوافـذ الكُ َّتاب‪.‬‬
‫وجهـ ًا ناظريـه إىل‬
‫والتضرع للـه ُم ِّ‬
‫ُّ‬ ‫رفـع فقيـه الكُ َّتـاب ك ّفيـه بالدعـاء‬
‫لعامـة املسـلمني بالصلاح والرغـد والرخـاء وشـمل بدعائه‬ ‫ّ‬ ‫السـقف‪ .‬دعـا‬
‫األحيـاء واألمـوات‪ .‬كما دعـا اللـه أن يشـيع على ظهـر البسـيطة السـلم‬
‫يعـم األمـن والعـدل والتضامـن وجـه األرض‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫واإلخـاء‪ ،‬وأن‬
‫‪ -‬آمني! آمني!‬
‫تخلى فيهـا الفقيه عـن عصا السـفرجل‪.‬‬ ‫املـرة األوىل التـي َّ‬
‫ّ‬ ‫كانـت تلـك‬
‫بـدا يل وسـيم الطلعـة يف جلبابـه األبيـض املُخطـط بالسـواد وبرنسـه‬
‫الجـوخ الرمـادي‪ .‬منحنـا ثالثة ّأيـام من العطلـة‪ ،‬ومبا أن اليـوم الثالث منها‬
‫قبلت يـد الفقيه قبـل االنرصاف‪،‬‬ ‫صـادف الخميـس أصبحـت أربعـة كاملـة! ّ‬

‫‪118‬‬
‫ٍ‬
‫دعـوات طيبة‪.‬‬ ‫لوالـدي ودعـا لهما‬
‫ّ‬ ‫طلـب منـي إبلاغ سلامه‬
‫أصبحـت األزقـة مزدحمـة بالعابريـن‪ .‬ارتـدوا جميعـ ًا مالبـس جديـدة‪،‬‬
‫ـن كان عائـد ًا إىل داره من السـوق حاملاً مقتنياته داخـل ق ّفة من‬
‫ومنهـم َم ْ‬
‫الحلفـاء‪ ،‬وقـد أبعدهـا قـدر املسـتطاع عـن رجليـه مخافـة أن تلطـخ ثيابه‪،‬‬
‫أمـي مـن خزانـة‬
‫حـدد‪ .‬أخرجـت ّ‬ ‫ٍ‬
‫هـدف ُم َّ‬ ‫يتجـول دومنـا‬
‫َّ‬ ‫فيما كان بعضهـم‬
‫ٍ‬
‫مزينـة بخطوط صفـراء من حرير‪.‬‬ ‫ثيابهـا منصوريـة جميلـة رقيقـة الثـوب َّ‬
‫(((‬

‫كما غطـت رأسـها مبنديـل أسـود طويـل مخطـط بألـوان زاهية‪.‬‬


‫السـخان‪ ،‬كان والـداي ينتظـران عـوديت مـن‬
‫ّ‬ ‫تصاعـد بخـار املـاء مـن‬
‫الكُ َّتـاب لتناول اإلفطار‪ .‬طبخت والديت محشـي ًا ودهنت أوراقه بعسـل وزبد‬
‫طـري‪ .‬كانـت وجبـة شـهية أرفقتهـا بكوبين كبريين مـن الشـاي املنعنع‪.‬‬
‫ناقـش والـداي‪ ،‬أثنـاء الوجبـة‪ ،‬تفاصيـل برنامـج يومنـا‪ .‬خلال الصبـاح‬
‫ومؤسسـها‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫سـأرافق والـدي لزيـارة رضيـح مـوالي إدريـس دفين املدينـة‬
‫ثـم أرافـق والديت‬
‫بعـد صلاة الجامعـة نعـود للـدار لتنـاول طعـام الغـداء‪ّ .‬‬
‫حـق اصطحـاب مزمـاري خلال هذه‬ ‫لزيـارة صديقتهـا اللـة عائشـة‪ُ .‬منحـت ّ‬
‫تعين تـرك الطبـل املصنـوع مـن الفخـار الهـش باملنـزل‬‫الزيـارات‪ ،‬بينما َّ‬
‫يتعـرض للكسر‪.‬‬
‫َّ‬ ‫مخافـة أن‬
‫لكـن حسـن طالعـي ر َّتـب يل برنامجـ ًا آخـر‪ .‬بعـد مسـا ٍر طويـلٍ متعـب‬
‫يف األزقـة املزدحمـة رفقـة والـدي‪ ،‬ورشاء صحـن مـن الخـزف األزرق مـن‬
‫الفخـارون مصنوعاتهـم يف املناسـبات‬ ‫ّ‬ ‫سـاحة العـدول‪ ،‬حيـث يعـرض‬
‫واألعيـاد‪ ،‬دخلنـا رضيـح مـوالي إدريـس‪ ،‬حيـث أدينـا صلاة التحيـة قبـل‬
‫أن نعـود لتنـاول طعـام الغـداء يف املنـزل‪ .‬وهنـا فاجأتنـا اللـة عائشـة‬
‫ٍ‬
‫فرحـة كبرية‬ ‫عبرت والديت عن‬ ‫مبجـرد انتهائنـا مـن تنـاول وجبتنا‪َّ .‬‬
‫َّ‬ ‫بزيارتهـا‬
‫مبقدمهـا‪ .‬تبادلـت املرأتـان التحيـات والقبلات واملجامالت‪ ،‬فترك والدي‬
‫املـكان وغـادر خارجـاً‪.‬‬

‫((( ثوب نسايئ مغريب يقرتب شكله من القفطان‪[ .‬املرتجم] ‬

‫‪119‬‬
‫كانت تعتمل داخيل رغبةٌ قوية يف الرضب عىل الطبل والنفخ بقوة يف‬
‫املزمـار‪ ،‬وكنـت أعلـم أن والـديت لن تسـمح بذلـك يف مثل هذه املناسـبة‪.‬‬
‫لـذا لـذت بالصمـت منتظـر ًا قـدوم املسـاء إلحيـاء حفـلٍ موسـيقي صاخب‬
‫كنـت متعطشـ ًا لضجيجـه‪ .‬جلسـت يف أحـد أركان الغرفـة منصتـ ًا لحديـث‬
‫ألمـي منـذ مقدمهـا أن بجعبتهـا أخبـار ًا طارئـة‪ ،‬وهـو ما‬
‫زائرتنـا التـي أوحـت ّ‬
‫أثـار فضـول والديت‪ ،‬دون أن ينسـيها واجبـات الضيافة‪ .‬نفخـت عىل الفحم‬
‫السـخان‪ ،‬غسـلت األكـواب وفتحـت علبـة مـن‬ ‫ّ‬ ‫وزادت مـن كميـة املـاء يف‬
‫مـرددة عبارات‬
‫ِّ‬ ‫القصديـر اسـتخرجت منها نصـف دزينة من حلوى السـميد‬
‫الرتحيب‪:‬‬
‫‪ -‬اللـة عائشـة‪ ،‬تفضلي بالجلوس عىل األريكة الكبرية‪ .‬سـيكون الشـاي‬
‫جاهـز ًا بعـد هنيهة‪ .‬ال! ال! ال! قلت على األريكة الكبرية! يف صدر املجلس!‬
‫أرجـوك أن تجليس يف كامل راحتك‪.‬‬
‫املخـدات وبـدأت‬
‫ّ‬ ‫جلسـت اللـة عائشـة فـوق األريكـة الكبيرة وسـط‬
‫حكايتهـا‪ .‬مل يتعلَّـق األمـر يف الحقيقيـة بحكايـة واضحـة املعـامل‪ ،‬بـل‬
‫مبجموعـة مـن األحداث املتداخلة التي ينعدم الرابـط بينها لدرجة أن اللة‬
‫عائشـة نفسـها تفلـت حبـل السرد يف بعـض األحيـان‪ .‬يف تلـك اللحظـات‬
‫والغـم على وجـه اللـة عائشـة وداخـل عينيهـا‪ ،‬ترتبك‬
‫ِّ‬ ‫تلـوح معـامل القلـق‬
‫ال قبل أن تعاود الكالم بوتريتها الهادئة‪ ،‬تسترجع ابتسـامتها وتسرتسـل‬‫قلي ً‬
‫يف مونولوغهـا الطويـل‪.‬‬
‫كان وجـه والـديت يعكـس تعابير القلق نفسـها الصادرة مـن محدثتها‪،‬‬
‫ثـم نفـس العواطـف وعالمات االنفـراج‪ .‬كانت تفغـر فاها أحيانـ ًا كأنها تريد‬
‫ّ‬
‫قـول يشء‪ ،‬لكـن رسعـان ما تعاود إغالقـه إذا مل يسـعفها التعبري‪.‬‬
‫وجـدت يف اإلصغـاء إىل بعـض أطـراف حكايتهـا املهلهلـة املتشـعبة‬
‫متعـة كبرية‪.‬‬
‫وحسـب اللـة عائشـة‪ ،‬فـإن املنـزل املجـاور لدارهـا يعـاين مـن كـون‬
‫جميـع النسـوة بـه يحملـن اسـم خديجـة‪ .‬وللتمييـز بينهـن لجـأت إلضافـة‬

‫‪120‬‬
‫مهنـة الـزوج إىل اسـم الزوجـة‪ :‬خديجـة زوجـة الب ّقـال‪ ،‬خديجـة زوجـة‬
‫الخيـاط‪ ،‬وخديجـة زوجـة بائـع البترول‪.‬‬
‫ّ‬
‫ثم أضافت‪:‬‬
‫َّ‬
‫الصمء‪،‬‬ ‫‪ -‬مـن األفضـل أن نطلـق عليهـن ألقابـ ًا مـن ٍ‬
‫نـوع آخر‪ :‬خديجـة‬
‫نتحدث!‬
‫َّ‬ ‫عمـن‬
‫خديجـة الحرفـاء وخديجـة السـوداء‪ .‬هكذا سـيعرف الناس َّ‬
‫ضحكنـا مـن أعماق قلوبنـا مـن هـذا املـزاح‪ .‬غابـت والـديت لهنيهـة‬
‫قبـل أن ُتقبـل حاملـة باقـة مـن النعنـاع والنباتـات العطرية الناعمـة‪ .‬بدأت‬
‫تحضير شـاي املناسـبات املُعطّ ـر الكبير‪ ،‬وبينما هـي تصبـه يف اإلبريـق‬
‫سـألت‪:‬‬
‫‪ -‬كيـف أحـوال زوجـك؟ وكيـف هـي تجارته؟ هل وجـد رشيـك ًا جديد ًا أم‬
‫يعمـل وحده؟‬
‫‪ -‬مل يعثر على رشيـك‪ ،‬لكنـه ال يشـتغل وحـده‪ .‬لديـه ثالثـة عمال‪.‬‬
‫األحذيـة النسـائية التـي يصنعهـا تجد إقبـا ً‬
‫ال كبيراً‪ .‬وقد وعـدين أن يهديني‬
‫يف مطلـع الخريـف قفطـان الحريـر املشـميش اللـون الـذي كنـت أمتنـى‬
‫اقتنـاءه منـذ زمـان‪.‬‬
‫‪ -‬الحمـد للـه! كلّ املشـاكل تجـد حلـو ً‬
‫ال مـع الوقـت ولحظـات األزمـة‬
‫تسـقط يف النسـيان!‬
‫أجابت اللة عائشة‪:‬‬
‫‪ -‬أجل‪ ،‬معك حق‪.‬‬
‫انتظـرت والـديت تفاصيـل إضافيـة غير أن ضيفتهـا صمتـت‪ ،‬الشيء‬
‫الـذي أثـار قلقهـا‪.‬‬
‫‪ -‬فيـم تفكريـن يـا اللـة عائشـة؟ تبديـن مهمومـة‪ .‬أمتنـى أن كلّ يشء‬
‫على مـا ُيـرام يف أرستـك!‬
‫صبت والـديت قلي ً‬
‫ال من‬ ‫تنهـدت اللـة عائشـة دون أن تنبـس ببنت شـفة‪َّ .‬‬
‫َّ‬

‫‪121‬‬
‫صبـت‬
‫ثـم َّ‬
‫وعبرت عـن رضاهـا عـن املشروب السـاخن‪ّ ،‬‬ ‫تذوقتـه َّ‬
‫الشـاي‪َّ ،‬‬
‫كوبـ ًا لاللـة عائشـة وآخـر يل‪ .‬وأخير ًا َّ‬
‫تحدثـت اللـة عائشـة! انحنـت على‬
‫والـديت وهمسـت يف أذنهـا‪:‬‬
‫مجـرد مخلوقـات ضعيفـة! لنـا الله‪ .‬اللـه وحده‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬نحـن معشر النسـاء‬
‫سـندنا ووكيلنـا‪ .‬لنحـذر مـن وضـع الثقة يف الرجـال! إنهـم‪ ...‬إنهم‪...‬‬
‫مل تجـد اللـة عائشـة النعت املناسـب إلمتام جملتهـا فاكتفت بتحريك‬
‫يديهـا على مسـتوى كتفيها ورفع برصها إىل السماء‪.‬‬
‫سـمحت يل والـديت بالصعـود إىل سـطح الدار للعـب بالطبل‪ .‬اسـتنتجت‬
‫رسي خطري تخشـيان من اطالع آذان‬
‫ٍّ‬ ‫أن املرأتين ترغبـان يف الخـوض يف أم ٍر‬
‫فضوليـة عليـه‪ .‬اغتنمـت الفرصـة فصعـدت للسـطح ورشعـت يف قـرع طبلي‬
‫متوحشـة وإيقاعـات ِ‬
‫موغلـة يف‬ ‫ِّ‬ ‫بقـوة مـن كلتـا جهتيـه‪ .‬كنـت أرتجـل ألحانـ ًا‬
‫الضجيـج العنيف إىل درجة أن أصـوات الطبل زعزعت الجدران املجاورة‪ .‬يف‬
‫السري الطويل‪...‬‬
‫ّ‬ ‫أمي واللة عائشـة تواصلان حديثهما‬ ‫غضـون ذلـك كانـت ّ‬
‫يف ذلـك املسـاء‪ ،‬صعـدت مجموعـات عديـدة مـن النسـاء الالبسـات‬
‫وتـردد فيهـا قـرع طبـول األطفـال‬
‫َّ‬ ‫أبهـى حللهـن فـوق سـطوح املدينـة‬
‫وصياحهـم وغناؤهـم‪ ،‬فيما تجللت الشـمس بحمرة املغيب وسـكنت فوق‬
‫األفـق البعيـد مغرقـة كلّ املدينـة يف لـونٍ وردي باهـت وآخـر بنفسـجي‬
‫رقيـق‪ .‬ظهـرت أوىل نجـوم الليـل‪ .‬كانـت تلـك عالمـة على انصرام الوقـت‬
‫فودعـت اللـة عائشـة والـديت وانرصفـت إىل حـال سـبيلها‪.‬‬
‫َّ‬
‫تـم إيقـاد ملبـة البترول وك ّنـا نشـعر بالتعـب‪ .‬وضعـت الطبـل والبـوق‬
‫ّ‬
‫جانبـ ًا بعدمـا قرفـت منهما‪ .‬ارتديـت مـن جديد مالبسي القدميـة فرشعت‬
‫داخلـه أخير ًا بعـض‬
‫بالراحـة فيهـا‪ .‬مل أسـتبقِ ّإل القميـص الجديـد الـذي َ‬
‫اللين‪ ،‬بحكـم التصاقـه بجلـدي الدافـئ‪.‬‬
‫لكي أفلـت مـن ضجيـج الطبـل الـذي واصلـت أصـداؤه زعزعـة دماغي‪،‬‬
‫عينـي مـا يكفـي مـن‬
‫َّ‬ ‫يتبـق يف‬
‫َ‬ ‫فتحـت صنـدوق عجائبـي‪ .‬لكـن ولألسـف‪ ،‬مل‬
‫يقظـة ملشـاهدة محتوياتـه‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫الفصل الثامن‬

‫بعـد بهجـة االحتفـاالت بيـوم عاشـوراء‪ ،‬عـادت الحيـاة إىل سـابق‬


‫إيقاعهـا‪ ،‬أي لتـوايل أيامهـا الرتيـب الكئيـب‪ .‬ارتفعت حـرارة الطقس فغزت‬
‫ـق النائم‬
‫الب ّ‬
‫كتائـب الذبـاب املنـزل ومألتـه بطنينهـا وبقايـا فضالتهـا‪ .‬خـرج َ‬
‫يف الخشـب املتهالـك مـن مخابئـه بعدما أنهكـه صومه الطويـل خالل برد‬
‫الشـتاء‪ .‬كان قـد اكتسى لونـ ًا بنيـ ًا مغبر ًا وهـزل كأمنـا أفـرغ مـن دمـه‪.‬‬
‫ـق مزدهـرة كثيفة‬‫الب ّ‬
‫مـرة‪ ،‬كانـت مجموعـات َ‬ ‫ألول ّ‬
‫عندمـا سـك ّنا غرفتنـا َّ‬
‫األعـداد‪ ،‬فأعلنـت والـديت عليهـا حرب ًا رضوسـ ًا شـاملة اسـتعملت فيها كلّ‬
‫الوسـائل‪ ،‬الرصيحـة املبارشة منهـا واملاكرة املخادعة‪ :‬الجير‪ ،‬الكربيت‪،‬‬
‫الرقـى واألحجبـة واألدعيـة واملسـاحيق السـحرية التـي‬ ‫ثـم ُ‬‫غـاز اإلنـارة‪ّ ،‬‬
‫تنـج ّإل فئـة‬
‫يدعـي إتيـان املعجـزات يف هـذا البـاب‪ .‬مل ُ‬ ‫اقتنتهـا مـن عطـا ٍر ّ‬
‫مشـوهون‬
‫َّ‬ ‫ـق‪ ،‬أفـراد معـدودون‬
‫الب ّ‬
‫قليلـة مـن املذبحـة التـي طالـت قبيلـة َ‬
‫ـق عـن مواصلـة التوالـد‪ ،‬وكان‬ ‫الب ّ‬
‫الذوا بدعامـات سـقف الغرفـة‪ .‬عجـز َ‬
‫إن غـادر أعـايل الغرفـة إىل أسـفلها‪ .‬كان اقرتابـه مـن أيـادي‬
‫مصيره القتـل ْ‬

‫‪123‬‬
‫البشر طريقـة ُمحقَّقـة مـن طـرق االنتحـار والخلاص الرسيع مـن آالم هذا‬
‫العـامل التعيـس‪.‬‬
‫يف خضـم ذلـك‪ ،‬كان الذبـاب يتكاثـر يومـ ًا بعـد آخـر بطريقـة مذهلـة‪.‬‬
‫كانـت والـديت تطـرده كلّ صبـاح بواسـطة رضبـات خرقـة باليـة فيخـرج‬
‫غاضبـ ًا مزمجـر ًا مـن نافـذة الغرفـة‪ّ .‬‬
‫ثـم نـديل السـتار فننجـو منـه‪ ،‬غير أنه‬
‫يتبقَّـى منـه بضـع ذبابـات تـدور يف عتمـة غرفتنـا‪.‬‬
‫الحـر‪ ،‬رفعـت والـديت حصيرة الـدوم مـن على‬
‫ّ‬ ‫يـوم مـن ّأيـام‬
‫أول ٍ‬‫منـذ َّ‬
‫أرضيـة املسـكن وطوتهـا قبـل أن تحرشهـا خلـف الرسيـر وتضـع املرتبـات‬
‫على األرضيـة التـي غسـلت باملـاء‪.‬‬
‫متـدد عـدد سـاعات النهـار وصـار جـو الكُ َّتـاب بالـغ الضيـق والحـرارة‬
‫َّ‬
‫فغادرنـاه ذات صبـاح إىل بنايـة مجـاورة تضاعفـه مسـاحة‪ ،‬مصطحبين‬
‫ألواحنـا ومحابرنـا‪.‬‬
‫واحد من األوليـاء الصالحني يجهل‬ ‫ٍ‬ ‫مدفن‬
‫َ‬ ‫كانـت البنايـة الجديـدة تضم‬
‫التبرك بـه طلبـ ًا‬
‫ُّ‬ ‫تعـودن‬
‫َّ‬ ‫النـاس اسـمه‪ ،‬غير أن فتيـات الحـارة العزبـاوات‬
‫ـن يقصدنه ويطفن به سـبع مرات كلّ‬ ‫لعريـس محتمـل خلال العـام‪ ،‬لذا كُ َّ‬
‫ضمت بناية‬ ‫قبـور أخرى يف هـذه القاعة الكبيرة‪َّ .‬‬‫ٌ‬ ‫يـوم خميـس‪ .‬وكانـت مثّة‬
‫الرضيـح كذلـك محرابـ ًا يتجـه إىل الشرق‪ ،‬وعندمـا ُرفـع اآلذان منـذ اليـوم‬
‫األول السـتقرارنا بـه أمرنـا الفقيـه بالوضـوء يف النافـورة املوجـودة بركـنٍ‬
‫َّ‬
‫جانبي‪.‬‬
‫خلَّـف تغيير مـكان الـدرس أثر ًا طيبـ ًا عىل صحتي الجسـدية والنفسـية‪،‬‬
‫ربـا نجما أيضـ ًا عـن كـون الضـوء يغمـر املـكان‬ ‫بهمـة ونشـاط َّ‬
‫شـعرت َّ‬
‫فتقدمت بوتير ٍة أرسع‬
‫َّ‬ ‫الجديـد‪ ،‬وعـن اللطـف الـذي أبـداه الفقيـه تجاهـي‪،‬‬
‫مـرة‪ .‬تجاوبت ذاكريت مع‬
‫ألول ّ‬
‫يف الـدرس والتحصيـل‪ .‬بـدأت أحـب الكُ َّتاب َّ‬
‫الحالـة الجديـدة فأصبحـت قـادر ًا عىل حفظ خمسـة عرش سـطر ًا يف اليوم‬
‫مـن اآليـات املكتوبـة عىل لوحي الخشـبي‪ ،‬بعدما مل أمتكن يف السـابق ّإل‬
‫مـن حفـظ عرشة أسـطر‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫مزهـو ًا بعدمـا التقـى فقيـه‬
‫ّ‬ ‫وذات يـوم جمعـة عـاد والـدي إىل الـدار‬
‫الكُ َّتـاب صدفـةً يف الشـارع فبشره هـذا األخير بـأن ابنـه قـد يصبـح عاملـ ًا‬
‫كبير ًا إن هـو واصـل التحصيـل مبثـل حامسـه وجديتـه الحاليـة‪.‬‬
‫لشيء مـن ذلـك‪ .‬مـا كان يهمنـي‬ ‫ٍ‬ ‫أكـن أصبـو آنـذاك‬ ‫يف الحقيقـة مل ْ‬
‫ٍ‬
‫شـخص‬ ‫أن أصبـح عاملـاً‪ .‬فصـورة العـامل يف مخيلتـي كانـت تتمثـل يف‬
‫بديـن غليـظ الوجـه كثيـف اللحيـة يرتـدي ثيابـ ًا بيضاء واسـعة وتعلو رأسـه‬
‫تكـن لـدي ّأيـة رغبة يف أن أشـبه هذه الصـورة من قريب‬‫ْ‬ ‫عاممـة ثقيلـة‪ .‬ومل‬
‫وال مـن بعيـد! كنـت جـاد ًا يف حفـظ دريس اليومـي ألننـي شـعرت مبحبـة‬
‫تقدمـي يف التحصيل‪ ،‬وكذا ألن ذلـك مكَّ نني من‬ ‫أرسيت تتنامـى باطـراد مـع ُّ‬
‫تج ُّنـب الرضبـات الالسـعة للعصـا الطويلـة التـي كان سـيدنا يعبـث بها بني‬
‫أصابـع يـده‪ .‬وضعـت برنامجـ ًا شـخصي ًا لعملي يف الكُ َّتاب‪ .‬ذلـك أنني كنت‬
‫الظهرية‪،‬أمـا بعدهـا فـأرشد يف أحالمي‬
‫ّ‬ ‫أحفـظ بجـد مـن الصبـاح إىل وقـت‬
‫حـرك فمـي متظاهـر ًا برتديد ما‬ ‫ُ‬
‫ملـدة سـاعتني متواليتين‪ ،‬بينما أ ِّ‬‫الصغيرة ّ‬
‫يتلـوه الفقيه‪.‬‬
‫بفضـل هـذه الفسـحة مـن الحلـم حافظـت عىل حمايس‪ ،‬ألنهـا يرست‬
‫يل ال ِفـرار مـن جـدران الكُ َّتـاب إىل عـامل الخيـال الفسـيح املمتـع الـذي ال‬
‫إكـراه‪ .‬مل أقتصر يف هـذا العـامل الشاسـع على‬ ‫ٌ‬ ‫مل وال يخالطـه‬ ‫يشـوبه أ ٌ‬
‫لعـب دور األمير الصغير الـذي تخضـع لنزواتـه املخلوقات واألشـياء‪ ،‬بل‬
‫لشـخص بالـغ‪ ،‬للرجـل الـذي حلمـت أن أصيره الحقاً‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫أتحـول أحيانـ ًا‬
‫َّ‬ ‫كنـت‬
‫كنـت أتخيلنـي يف املسـتقبل رجلاً قـوي البنيـة يرتـدي لباسـ ًا مـن صـوف‬
‫نظـرات متو ِّثبـة وميلـك بين جوانحـه قلبـ ًا‬
‫ٌ‬ ‫حريـري‪ ،‬ترتسـم على عيونـه‬
‫تفيـض منـه مشـاعر جياشـة‪.‬‬
‫واصلـت نفـس النـوع مـن األحلام ليلاً تحـت غطـاء النـوم فبنيـت‬
‫متعـددة مـن خلال مغامـرات وأعمال‬ ‫ِّ‬ ‫مـرات‬
‫مسـتقبيل‪ ،‬وأعـدت بنـاءه َّ‬
‫بطوليـة تعرتضهـا عقبـات كبرية‪ ،‬إىل حني بلـوغ الوقت الذي تبرز فيه جزر‬
‫سـوداء تـزرع الفـوىض األوليـة مـن جديـد يف عنـارص هـذا العامل الناشـئ‪.‬‬
‫تختلـط الـرؤى‪ ،‬تتداخـل مـع بعضهـا البعـض وتنسـاب نحـو جـوف الظالم‪،‬‬

‫‪125‬‬
‫ثـم يجرفـه التيـار الذي‬
‫جـزء صغري‪ّ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫بينما يبرز منهـا بين الفينـة واألخـرى‬
‫مكونـات أحالمـي‪ .‬ويف الصبـاح أعـود النشـغااليت‬
‫ِّ‬ ‫ميضي إىل البعيـد بـكلّ‬
‫املعهـودة مـن جديـد‪.‬‬
‫وذات يـوم اثنين عـاد والـدي مبكِّـر ًا إىل املنـزل على غري عادتـه‪ ،‬تناول‬
‫عم أصبح يجـد من صعوبة يف بيـع الجالبيب‬ ‫وحدثنـا ّ‬
‫َّ‬ ‫معنـا طعـام الغـداء‬
‫(((‬
‫التحـول إىل خياطـة ثيـاب «الحايـك»‬
‫ُّ‬ ‫الصوفيـة الرجاليـة‪ ،‬معلنـ ًا عزمـه‬
‫القطنيـة النسـائية بعدمـا منـا عليهـا الطلـب أكثر يف األسـواق‪ .‬ذلـك أن‬
‫ثـوب رضوري ال ميكـن لنسـاء فـاس االسـتغناء عنـه يف حـر‬ ‫ٌ‬ ‫«الحايـك»‬
‫متوجهـ ًا لوالـديت‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫ثـم أردف‬
‫الصيـف وال يف بـرد الشـتاء‪ّ ،‬‬
‫الصياغين‪ .‬تطلبني مـن زمان‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬سـوف ترافقيننـي أنـت والولـد إىل سـوق‬
‫أن أهديـك الدمالـج التـي تحمـل اسـم «شـمس وقمـر» املصنوعـة مـن‬
‫متفرغ‪ ،‬توفيـت والدة العامل‬
‫ِّ‬ ‫الذهـب والفضـة‪ .‬لنذهـب القتنائها اليوم! أنـا‬
‫الـذي يسـاعدين‪ ،‬وقـد غـادر إىل الباديـة ليحضر جنازتهـا‪ .‬ولـن نسـتأنف‬
‫العمـل ّإل غـداً‪.‬‬
‫أمي‪:‬‬
‫ردت ّ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫مرض ما؟‬ ‫‪ -‬وهل توفيت والدته نتيجة‬
‫السن‪ ،‬رحمها الله‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫أظن‪ ،‬كانت طاعنة يف‬
‫‪ -‬ال ّ‬
‫قلت لهام‪:‬‬
‫الصياغين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التغيـب عـن الكُ َّتـاب ملرافقتكما إىل سـوق‬
‫ُّ‬ ‫‪ -‬ال ميكننـي‬
‫َّ‬
‫فعلي أن أحفـظ درس اليـوم‪.‬‬
‫أجاب والدي‪:‬‬
‫التغيب‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫‪ -‬ال تقلـق‪ ،‬لقيـت الفقيـه يف طريـق عوديت واسـتأذنت لـك يف‬

‫ٍ‬
‫قطعة واحدة تلف املرأة فيه كامل جسدها فال يظهر منها ّإل أعىل‬ ‫يتكون من‬
‫َّ‬ ‫((( ثوب نسايئ من القطن األبيض‬
‫الوجه‪[ .‬املرتجم] ‬

‫‪126‬‬
‫أنـت تـدرس بجـد ونشـاط‪ ،‬وال بـأس يف نصـف يـوم مـن الراحـة‪ ،‬بـل اعتربه‬
‫ربـا ال ترغب يف مشـاهدة الحيل واملجوهـرات الجميلة‬ ‫مكافـأ ًة لـك‪ .‬لكـن َّ‬
‫يف سـوق املزادات؟‬
‫‪ -‬أحب مشاهدة املجوهرات التي تشبه‪...‬‬
‫سألني والدي‪:‬‬
‫‪ -‬تشبه ماذا؟‬
‫ٍ‬
‫بصوت يشبه اإلفصاح عن رس‪:‬‬ ‫أطرقت خجالً‪ ،‬وقلت‬
‫‪ -‬املجوهرات الجميلة التي تشبه الورود!‬
‫أطلـق الوالـد والوالـدة ضحكـة صاخبة فشـعرت بأن رد فعلهما عىل ما‬
‫الشـك حول درجة الـذَّكاء عندهما كليهام‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قلـت غير الئـق‪ .‬راودين بعض‬
‫مبجرد االنتهاء من طعام الغداء‪ ،‬خرجت وجلسـت عىل درجات سـلم‬ ‫َّ‬
‫الـدار منتظـر ًا سـاعة مـزاد املجوهـرات‪ .‬وضعـت يـدي عىل ركبتـي وطفقت‬
‫والـدي قبـل قليـل‪ .‬هـل تشـبيه املجوهرات‬
‫ّ‬ ‫أفكـر يف الحـوار الـذي دار مـع‬
‫يعبر عـن املوقـف الـذي يتخـذه‬
‫ّ‬ ‫بالـورود فكـرة غبيـة ح ّقـاً؟ إن ضحكهما‬
‫لـدي‬
‫َّ‬ ‫الكبـار عـادة متـى نطـق الصغـار بأقـوالٍ سـاذجة بسـيطة‪ .‬بينما كان‬
‫تعبر عـن فكـرة أساسـية كان عليهام‬
‫إحسـاس بـأن املقارنـة التـي عقدتهـا ّ‬
‫أمـا ضحكهما عليهـا فـكان فضاضـة مـا‬ ‫أن يتلقياهـا بالصمـت على ا َ‬
‫ألقـلّ ! ّ‬
‫بعدهـا فضاضة!‬
‫كنـت أعـرف بعـض أنـواع الـورود‪ :‬الخشـخاش الـذي يزهـر يف الربيـع‬
‫املكـورة‪ ،‬األقحـوان الـذي يهـدي السماء قلبـه‬
‫ّ‬ ‫الحميضـة‬
‫ّ‬ ‫فـوق القبـور‪،‬‬
‫الذهبـي‪ ،‬اللبلاب الـذي ينتصـب تحـت أقدامنا حين أرافق والـدي يف األيام‬
‫املشمسـة إىل هضـاب بـاب غويصة‪ .‬وعىل سـطح منزلنا تنبـت يف أوانٍ من‬
‫فخـار نبتـة الراعـي والقرنفـل وورد أصفهـان‪.‬‬
‫الحلي أقـلّ شسـاعة‪ .‬شـاهدت مـن قبـل‬
‫ّ‬ ‫كانـت معلومـايت يف بـاب‬
‫مجموعـة باذخـة منهـا ترتديها النسـاء والفتيات الصغريات يف املناسـبات‬

‫‪127‬‬
‫يل االسـتعامل اليومي‬ ‫تصـورت أنها تنقسـم صنفني متباينين‪ :‬ح ّ‬ ‫َّ‬ ‫واألفـراح‪.‬‬
‫الرباقـة بالجواهـر‬
‫وحلي األعيـاد َّ‬
‫ّ‬ ‫الفضيـة املائـل لونهـا للزرقـة الباهتـة‪،‬‬
‫قصيـة غامضـة تحـت‬‫ّ‬ ‫تتضمنهـا‪ ،‬التـي صاغتهـا العفاريـت يف أماكـن‬ ‫َّ‬ ‫التـي‬
‫األرض بطريقـة عجيبـة جعلـت بريقهـا يعكـس باسـتمرار بقية مـن معدنها‬
‫البراق‪ .‬بالنسـبة يل‪ ،‬كانـت هـذه‬‫األصلي‪ ،‬مـن نـار الصائـغ ونـور الشـمس َّ‬
‫الحلي تـأيت من عوامل بعيدة سـحيقة القدم بعدما لبسـتها أمريات ينتمني‬ ‫ّ‬
‫لعـوامل الخيـال‪ .‬كان املغفلـون وحدهم يثقون أن هذه األعامل الهندسـية‬
‫املبهـرة‪ ،‬التـي تضـم األحجـار الكرميـة املتأللئـة يف أحضـان الذهـب‪ ،‬قـد‬
‫ُصنعـت مـن طرف بعـض الحرفيني املجهولين يف عتمـة دكاكينهم مقابل‬
‫الحلي السـحرية نشـأت وحدهـا‬‫ّ‬ ‫مقاديـر مـن مـالٍ تافـه‪ .‬تخيلـت أن هـذه‬
‫ثـم جـاءت مـن تلقـاء نفسـها لتسـتقر‬ ‫فجـأة‪ ،‬نبتـت بفعـل مشـاعر الحـب‪ّ ،‬‬
‫فـوق شـعر وأجسـاد أميرات األسـاطري‪ ،‬وتحـت أقـدام وخطـوات نفـس‬
‫األقـل بريقاً! امتدت‬
‫الحلي االعتيادية ّ‬‫ّ‬ ‫األميرات ُولـدت‪ ،‬بطريقـة اعتباطية‪،‬‬
‫لحظتهـا أيضـ ًا حقـول الخشـخاش وتفتحـت براعـم الزنابـق ونثر السوسـن‬
‫والبنفسـج أريجهما يف األجـواء!‬
‫أتحـدث هكـذا عـن الحلي‬ ‫َّ‬ ‫بسـن السادسـة‪ ،‬مـا كان بإمـكاين أن‬ ‫ِّ‬
‫واألزهـار‪ ،‬ومـا كنـت قـادر ًا على ترتيـب أفـكاري حولهـا‪ .‬كانـت لغتـي أفقر‬
‫وربا‬
‫يعـج بـه خاطري من صـور متداخلـة‪َّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫عما‬
‫مـن أن تسـتطيع التعبير ّ‬
‫أن هـذا العجـز عـن تبليـغ األفـكار لآلخريـن هـو ما خلـق بداخلي نوع ًا من‬
‫عرضوين‬ ‫الكآبـة الخفيـة املؤملـة‪ .‬كان بإمـكاين أن أصفـح عن الكبار متـى َّ‬
‫للتقريـع‪ ،‬وللضرب أحيانـ ًا مـن أجـل أمـو ٍر بسـيطة‪ ،‬لكننـي مل أغفـر لهـم‬
‫عجزهـم عـن فهمـي‪.‬‬
‫بالنسـبة لوالـديت‪ ،‬كنـت ولـد ًا صالح ًا متـى ما التزمت بغسـل رجيل قبل‬
‫الدخـول إىل الغرفـة‪ .‬بالنسـبة لوالـدي‪ ،‬كنـت مثـار فخـره متـى مـا قلـدت‬
‫حركاتـه وسـكناته خلال االسـتعداد لصلاة الجمعـة‪ .‬بالنسـبة للجيران‬
‫كنـت منوذجـ ًا للولـد الصالح ألنني ال أوسـخ جدران سـلّم الـدار‪ ،‬وال أحدث‬
‫سـأتحول ألغبى إنسـان لو‬
‫َّ‬ ‫كثير ًا مـن الضجيـج خلال لعبي فوق السـطوح‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫يتوجـب عمله‬
‫َّ‬ ‫أطلعتهـم على أرساري الخفيـة‪ .‬فهمـت بطريقـة غريزيـة مـا‬
‫للعيـش مـع الرجـال والنسـاء مـن الكبـار الذيـن يحملـون شـخصياتهم‬
‫محمـل الجـد‪ ،‬وميشـون يف األرض مزهويـن غافلين إىل درجـة الغـرور‪.‬‬
‫ركبتـي‬
‫ّ‬ ‫يـدي على‬
‫ّ‬ ‫مقرفصـ ًا على إحـدى درجـات ُسـلّم الـدار‪ ،‬واضعـ ًا‬
‫ظللـت أُ ِّ‬
‫ردد‪:‬‬
‫يل تشبه الورود‪.‬‬
‫‪ -‬الح ّ‬
‫ٍ‬
‫بصـوت‬ ‫كانـت والـديت وفاطمـة البزيويـة تتجاذبـان أطـراف الحديـث‬
‫أمـي عقريتها لطرد‬
‫خافـت على مدخل الطابـق‪ .‬وبني الفينـة واألخرى ترفع ّ‬
‫قـط زينـب املزعـج الـذي يطـوف باملرأتين‪ .‬خاطبته‪:‬‬
‫‪ -‬اذهـب بعيـد ًا عنـي يـا فـأر املجاري الوسـخ! اذهب لنشر براغيثك يف‬
‫مـكانٍ آخر!‬
‫واصلـت الجارتـان حديثهما الخافـت‪ ،‬تخللتـه ضحـكات مكتومـة‬
‫مـر والدي مبحاذايت‪.‬‬
‫وتنهيـدات عميقـة قبل أن تعود كلّ منهام ملسـكنها‪ّ .‬‬
‫‪ -‬واصل اللعب! بعد صالة العرص سآيت الصطحابكام أنت وأمك!‬
‫وصلني صوت والديت‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تفعل يف السالمل؟‬
‫أجبت بنرب ٍة منافقة‪:‬‬
‫‪ -‬ألعب‪.‬‬
‫‪ -‬أي لعبة تلعب؟‬
‫‪ -‬لعبة امللك‪.‬‬
‫ردت والديت كام لو أنها تريد إسامع كلّ أهل الدار‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬أنـا مسـتعدة ألن أدفـع لـك مـا تريـد رشط أن تخبرين مـا الـذي ميكن‬
‫مللـك أن يفعلـه وهـو جالـس القرفصـاء على درجـات ُسـلّم املنزل؟‬

‫‪129‬‬
‫سـمعت ضحـكات الجـارات‪ ،‬ووجـدت زوجـة صانع املحاريـث الفرصة‬
‫لتلقـي مالحظـة رشيرة‪:‬‬
‫‪ -‬اللـة زبيـدة! سـيكون لولـدك مسـتقبل زاهر! يحسـب نفسـه ملـك ًا منذ‬
‫اآلن!‬
‫ظلّت جملتها التي حملت نرب ًة من الوقاحة دون جواب‪.‬‬
‫غرقـت يف أحالمـي مـن جديـد‪ .‬إذا طـاب يل أن أصير ملـك ًا فما املانع؟‬
‫مـا الـذي تفهمـه زوجـة صانـع املحاريـث يف شـؤون امللـوك واألمـراء؟‬
‫والتحسر على أن مثـن‬ ‫ُّ‬ ‫فلتقتصر على تقشير خضارهـا وطحـن توابلهـا‬
‫الزيـت قـد زاد قرشـ ًا أو قرشين! مـن أيـن لهـا أن تكـون لهـا روح أميرة مـن‬
‫أن تسـتمتع بخريـر املـاء يف نوافير الرخـام! ال تسـتطع حتـى‬ ‫األميرات؟ ْ‬
‫الحلي والـورود! وتلبـس يف يدهـا دومـ ًا نفـس الخاتـم‬
‫ّ‬ ‫فهـم العالقـة بين‬
‫النحـايس الحقير الـذي تعلـوه قطعـة مـن زجـاج‪ ،‬بينما تعلِّـق فـوق ثوبها‬
‫مجـرد خميسـة((( نحاسـية باهتـة قبيحـة النقوش‪ .‬مسـاء اليوم‬ ‫يف األعيـاد َّ‬
‫سـوف تحصـل والـديت على دمالجهـا الجديـدة مـن فئـة «شـمس وقمـر»‬
‫تـردد طيلـة األيـام‬
‫وسـوف ميتقـع لـون رحمـة مـن الحسـد‪ .‬سأسـمعها ِّ‬
‫القادمـة‪:‬‬
‫تزوجـت من صانـع محاريث حقير يسـتطيع بالكاد‬ ‫‪ -‬يـا لحظـي العاثـر! َّ‬
‫أن يو ِّفـر لنـا الحبـل الـذي نربط به الدلو لسـقي املاء من البئر! ليس هناك‬
‫املسـتمر وشـظف العيش‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عـدلٌ يف هـذه الدنيا التي فرضت علينا الشـقاء‬
‫والحلي مـن الذهـب‬
‫ّ‬ ‫الجيـد‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫والغنـى واألكل‬ ‫ووهبـت أخريـات الرخـاء‬
‫والفضـة! يـا ريب! متـى تنتهى أحـزاين؟!‬
‫بتواضع ماكر‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ستجيبها والديت‬
‫‪ -‬يـا أختـي ملـاذا تتحرسين عىل متاع الدنيـا؟ الله يـو ِّزع األرزاق بالعدل‬

‫مكونة من خمسة أصابع‪[ .‬املرتجم] ‬


‫((( حلية عىل شكل يد َّ‬

‫‪130‬‬
‫ويعطـي ك ً‬
‫ال حسـب صفاء قلبه وسلامة طويته!‬
‫وتعقِّب باقي النساء‪:‬‬
‫‪ -‬ال إله ّإل الله!‬

‫سمعت صوت املؤذِّ ن ِّ‬


‫يردد عالياً‪ :‬ال إله ّإل الله‪ ،‬فسألت والديت‪:‬‬
‫‪ -‬ماما‪ ،‬هل هذا آذان العرص؟‬
‫‪ -‬نعـم وسـيعود والـدك بعـد قليـل‪ .‬البـس جلبابـك الجديـد اسـتعداد ًا‬
‫للخـروج‪ ،‬فالـذي عليـك مليء بالبقـع!‬
‫توقَّفـت مكنسـة الـدوم عـن االحتـكاك بأرضيـة غرفـة فاطمـة البزيويـة‬
‫التـي قدمـت نحونـا‪ ،‬أدخلـت رأسـها عبر بـاب غرفتنـا وسـألت‪:‬‬
‫‪ -‬وهل أستعد أنا أيضاً؟‬
‫أشـارت لهـا والـديت باملوافقة فعـادت إىل غرفتها‪ ،‬ورسعان ما سـمعنا‬
‫صـوت خزنة خشـبية تفتح‪.‬‬
‫سـمعت صـوت والـدي يف مدخـل الـدار وهو ينطـق بجملتـه االعتيادية‬
‫لـدى عودتـه مـن الخارج‪ :‬هـل بإمـكاين املرور؟‬
‫أجابـه صـوت الخالـة كنـزة الغائـر يف غرفتهـا املعتمـة املليئـة بدخان‬
‫البخور‪:‬‬
‫‪ -‬تفضل باملرور أيها املعلم عبد السالم!‬
‫السـلّم صاعـد ًا فولجت الغرفة مـن أجل تغيري‬
‫تـردد صـدى خطواته يف ُ‬
‫َّ‬
‫مالبيس‪.‬‬
‫الصياغين حافلاً بالنشـاط مثـل بـاب خليـة منـل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كان مدخـل سـوق‬
‫تزاحـم النـاس بـه ماضين إىل وجهـات متباينـة‪ ،‬ومل يبـد على أحدهـم‬
‫عالمـة ميكـن أن توضـح وجهتـه‪ .‬كانـت والـديت وفاطمـة البزيويـة تتبعاننـا‬
‫ٍ‬
‫بخطـوات صغرية وقـد تدثّرتا بحايكين أبيضني‪ .‬كانـت واجهات‬ ‫أنـا ووالـدي‬

‫‪131‬‬
‫الرباقـة إىل‬
‫الحوانيـت العاليـة تتيـح ألعيننـا مشـاهدة بريـق املشـغوالت َّ‬
‫درجـة بـدت كما لـو سـكّ ت مـن التنـك‪ :‬تيجـان وأحزمـة مـن الذهـب بالـغ‬
‫الصاغـة يف تنميـق نقوشـها حتـى كادت تفقـد بعضـ ًا من بريقهـا النبيل‪ .‬مل‬
‫الحلي الـورود ومل تغلفهـا ّأيـة أرسار سـحرية‪ .‬صنعتها‬
‫ّ‬ ‫أي مـن هـذه‬
‫يشـبه ٌّ‬
‫برشيـة دون حـب وال شـغف إلشـباع صلـف األثريـاء‪ .‬كان أصحـاب‬ ‫ّ‬ ‫أصابـع‬
‫قـدروا أمثانهـا حسـب وزنهـا‪ :‬متامـ ًا مثـل‬
‫الحوانيـت على صـواب حين َّ‬
‫التوابـل‪ .‬آملنـي ذلـك‪ .‬كان الزبائـن يتجولـون بني الحوانيـت بينام بدت عىل‬
‫مالمحهـم عالمـات الطمـع والرغبـة يف االقتنـاء‪ ،‬بينام غالب نسـوة ورجال‬
‫آخـرون دموعهـم هنـا وهنـاك‪.‬‬
‫للتوجه إىل‬
‫ُّ‬ ‫فهمـت الحقـ ًا سـبب حزنهـم‪ .‬فهمـت كيـف يضطـر اإلنسـان‬
‫حليـ ًا متثِّـل أع ّز ما ميلـك‪ ،‬تذكّ ـره مباضيه الذي‬
‫سـوق الذهـب عارضـ ًا للبيـع ّ‬
‫الحلي يف األعيـاد واملناسـبات السـعيدة‪ ،‬بينما يضطـر‬ ‫ّ‬ ‫ارتـدى فيـه هـذه‬
‫ويتفحصونهـا طويلاً قبل‬
‫ّ‬ ‫اليـوم لبيعهـا ملشترين يقلّبونهـا مـن كلّ جانـب‬
‫أن يعرضـوا عليـه نصـف مثنهـا الحقيقي‪.‬‬
‫الدللـون((( عارضين أنواعـ ًا مختلفـة مـن‬‫ّ‬ ‫مبجـرد وصولنـا‪ ،‬قصدنـا‬
‫َّ‬
‫يلـق والـدي ّإل نظـرات عابـرة عليهـا قبـل أن يومـئ‬ ‫املشـغوالت‪ .‬مل ِ‬
‫بالرفـض‪ ،‬بينما كانـت املرأتان متكئتني على جدار خلفنـا تتجاذبان أطراف‬
‫مـر وقـت طويل قبـل أن يقبل والدي من شـخص ناري‬ ‫الحديـث‪ .‬بـدا يل أنـه ّ‬
‫النظـرات دملجين مزينين بجواهـر هرميـة أحدهما مـن فضـة واآلخـر مـن‬
‫ذهـب‪ .‬ناولهما لوالـديت التـي تفحصتهما طويلاً وقلّبتهما‪ ،‬ارتدتهما أربع‬
‫مـرات قبـل أن تطلـب مـن فاطمـة البزيويـة ارتداءهما أمامهـا‬ ‫أو خمـس َّ‬
‫ملـدة‬
‫تحدثـت حـول تفاصيـل النقـوش ّ‬ ‫لتتأمـل يف منظرهما على اليديـن‪َّ .‬‬
‫ربـع سـاعة مـع جارتهـا‪ ،‬قبـل أن تعيدهما لوالدي الـذي كان يصغـي للبائع‬
‫والثمـن املطلـوب‪ .‬اقترح والـدي مثنـ ًا أقـلّ وهـو ُيعيـد لـه الدملجين‪،‬‬
‫الـدلل وسـط الحشـود التي جـاء من بينهـا للتشـاور‪ .‬مل نلمح ّإل‬‫ّ‬ ‫فاختفـى‬

‫((( سامرسة أو وسطاء بني الباعة واملشرتين يدلّون عىل البضاعة بالصياح يف األسواق التقليدية [املرتجم] ‬

‫‪132‬‬
‫يـده املرفوعـة حاملـة الدمالـج عاليـ ًا وهـي تتباعـد‪.‬‬
‫بـدت على والـدي عالمـات االسـتعجال‪ .‬ظهر سمسـار املجوهـرات من‬
‫جديـد طالبـ ًا رفـع الثمـن‪ .‬فـاوض والـدي‪ ،‬وعـاد السمسـار لالختفـاء يف‬
‫زحمـة السـوق الهـادرة‪.‬‬
‫كانـت الزحمـة تتصاعد واألصـوات ترتفع والسمارسة يرفعون عقريتهم‬
‫باألمثـان املطلوبـة إىل درجـة الصيـاح‪ ،‬ويرتاكضون مرسعين يف اتجاهات‬
‫مختلفـة قبـل أن ميسـك أحدهـم بـذراع زبـون ويقتـاده خلفـه إىل دكان ما‪.‬‬
‫وبين الفينـة واألخـرى تنشـب مناقشـات حـادة ال تخفـت ّإل لتتبعهـا أخرى‬
‫غري بعيـد عن سـابقتها‪.‬‬
‫مكونـة مـن رجـال‬
‫املـرات موجـات مـن النـاس َّ‬
‫َّ‬ ‫أحاطـت بنـا يف بعـض‬
‫متوتريـن ونسـاء يف حالـة أقـرب إىل الهسـترييا‪ ،‬فاضطررنـا لاللتصـاق‬
‫ٍ‬
‫وجهـات أخـرى‪.‬‬ ‫بالحائـط حتـى مرورهـم نحـو‬
‫بتعـب كبير لفت نظـر والدي فحملنـي وضمنـي إىل كتفه‪ .‬كان‬ ‫ٍ‬ ‫شـعرت‬
‫الـدلل ومـا يـأيت‬
‫ّ‬ ‫يتصبـب عرقـاً‪ .‬رشعـت والـديت الغاضبـة يف لعـن‬‫َّ‬ ‫جبينـه‬
‫منـه والدعـاء عليـه بالعـذاب يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬متشـفعة بأسماء األولياء‬
‫والصالحين‪ .‬عـار عليـه أن يعامـل النـاس مبثل هـذه الطريقة! مـا املؤامرة‬
‫التـي يحبـك خيوطهـا خلال غيابه الطويل؟ هل يحسـبنا من سـكان األرياف‬
‫املغفلين! نحـن نعـرف دواخـل األمـور ولـن ندفـع ّإل الثمـن املناسـب‬
‫للبضاعـة! لـن يتمكَّ ـن هـذا الكافـر باللـه مـن خداعنـا‪ .‬لكـن «الكافـر» مل‬
‫يكلـف نفسـه عنـاء العـودة مـن جديد!‬
‫ٍ‬
‫وجهـة مجهولة‪.‬‬ ‫ثـم اختفى بـدوره يف الزحـام نحو‬
‫أنزلنـي والـدي فجـأة ّ‬
‫ارتفعـت رصخـات يف الجانـب اآلخـر مـن السـوق لفتـت أنظارنـا بسـبب‬
‫حدتهـا‪ .‬تداخلـت موجـات مـن زحـام بشري وانفجـرت تعابير الغضـب‬
‫تتحـول إىل هديـ ٍر بعيـد‪.‬‬
‫َّ‬ ‫متفرقـة هنـا وهنـاك قبـل أن‬
‫ِّ‬
‫ٍ‬
‫وجهـة واحدة‪.‬‬ ‫ثـم بـدأت جمـوع مـن النـاس ترتاكـض يف السـوق نحـو‬
‫ّ‬
‫تـرددان‪« :‬يـا اللـه! يـا‬
‫أصيبـت والـديت وفاطمـة البزيويـة بالهلـع ورشعتـا ِّ‬

‫‪133‬‬
‫وتشـدان أطـراف ثوبهام حتـى ال يؤذيها تدافع الجمـوع املرتاكضة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫اللـه! »‬
‫والـدلل وهما ميسـكان بخنـاق بعضهما وميشـيان‪،‬‬‫ّ‬ ‫وأخير ًا ظهـر والـدي‬
‫رواد السـوق‪ .‬كانـت عيونهـا حمـراء مـن‬
‫بينما تتبعهما حشـود غفيرة مـن َّ‬
‫الـدلل بقعة من‬
‫ّ‬ ‫الغضـب‪ ،‬وكان والـدي قـد فقـد عاممتـه بينام علـت وجنة‬
‫الدم‪.‬‬
‫ذهبا محاطني بجموع الطفيليني‪.‬‬
‫رشعـت املرأتـان يف العويـل والبـكاء فجاريتهما يف ذلـك‪ ،‬وتبعنـا‬
‫الجمـوع بدورنـا كيفما اسـتطعنا إىل أن وجدنـا أنفسـنا يف سـوق الفواكـه‬
‫يكـن مثّة أثر للرجلني املتعاركين وال للجموع التي ترافقهام!‬
‫ْ‬ ‫الجافـة‪ ،‬ومل‬
‫كنـت أتوقـع أن أجـد يف هـذا املـكان آثـار فـوىض ناجمـة عـن ِعـراك كبير‪،‬‬
‫لكـن خـاب توقعـي‪ .‬كان النـاس يف املـكان يتجاذبـون أطـراف الحديـث‪،‬‬
‫يبيعـون ويشترون يف جـ ٍو مـن الهـدوء بينما ِّ‬
‫يـردد بعـض األطفال أناشـيد‬
‫كانـت ذائعـة يف ذلـك الزمـان‪.‬‬
‫فقـررت والـديت‬
‫َّ‬ ‫صـار حزننـ ًا خانقـ ًا يف هـذا الجـو وشـعرنا بالعزلـة‪،‬‬
‫العـودة إىل املنـزل قائلـةً ‪:‬‬
‫‪ -‬ال فائـدة مـن الجـري يف كلّ ا ِّتجـاه! لنعد إىل الـدار وننتظر ونبيك عىل‬
‫راحتنا!‬
‫ثـم‬
‫مبجـرد عودتنـا نزعـت والـديت عنهـا الحايـك وجلسـت على مرتبـة‪ّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫أول‬
‫َّ‬ ‫تلك‬ ‫كانـت‬ ‫طويل‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫صامت‬ ‫ٍ‬
‫بـكاء‬ ‫يف‬ ‫ورشعت‬ ‫يديهـا‬ ‫بني‬ ‫وجههـا‬ ‫وضعـت‬
‫املـرة النوبات املعتـادة التي‬
‫ّ‬ ‫مـرة أحزننـي فيهـا بكاؤهـا‪ .‬مل يشـبه يف هـذه‬
‫ّ‬
‫كانـت تبكي خاللهـا بصخب مـن أجل «إفـراغ قلبهـا»‪ .‬كانت دموعها تسـيل‬
‫تتحـرك يف حالـة مـن‬
‫َّ‬ ‫على ذقنهـا وتهبـط إىل صدرهـا بينما هـي جامـدة ال‬
‫العزلـة الحزينـة املؤثرة‪.‬‬
‫متـددت فوق الفراش ناظـر ًا محدق ًا يف‬
‫رشعـت بـدوري يف البكاء بقوة‪َّ ،‬‬
‫فقصـة مـا جرى بالسـوق‬ ‫السـقف ومنتظـر ًا نتيجـة أحـداث اليـوم املقلقـة‪ّ ،‬‬
‫تحدثـت والديت عـن االنتظـار‪ ،‬فذلك مـا كانت‬
‫تتمـة‪ .‬وعندمـا َّ‬‫البـد لهـا مـن ّ‬

‫‪134‬‬
‫شـك‪ .‬رشع كلّ م ّنـا يف تنفيـذ برنامجـه الخـاص‪ :‬والديت تبيك‬
‫ّ‬ ‫تقصـده دون‬
‫تعـودت عىل هـذا التمرين منـذ زمان‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫وأنـا أنتظـر‪.‬‬
‫أسـدل املسـاء سـتار الظلمـة فأضـاءت املصابيـح غـرف سـكّ ان الـدار‬
‫اآلخريـن‪ ،‬بينما بقينـا نحـن يف الظلام‪ .‬تشـكَّ لت أمـام خيـايل الصغير‬
‫وتتحـول لشرارات‬
‫َّ‬ ‫تتكـون مـن جديـد‪،‬‬‫َّ‬ ‫ثـم‬
‫عفاريـت كبيرة مرعبـة تتفسـخ‪ّ ،‬‬
‫خضراء تـأيت لتالمـس جفـوين بأرشعتهـا البنيـة اللـون‪.‬‬
‫ويف النهايـة كسر صـوت والـدي عتمـة الغرفـة‪ ،‬فاعتدلـت مـن حالـة‬
‫تردد يف درجات‬‫التمدد وجلسـت‪ .‬كانت والديت تواصل نشـيجها املكتـوم‪َّ .‬‬
‫ُّ‬
‫ثـم فتح بـاب غرفتنـا ودخل سـائالً‪:‬‬
‫السـلَّم صـدى وقـع خطـوات والـدي‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬ملاذا مل توقدوا اللمبة؟ أين أعواد الثقاب؟‬
‫ردت والديت‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬يف الخزانة الحائطية قرب علبة الشاي التنك البيضاء!‬
‫سأل والدي‪:‬‬
‫‪ -‬هل نام سيدي محمد؟‬
‫‪ -‬ال يا أيب! أنا هنا! ‪.‬‬
‫أشعل أحد أعواد الثقاب ورفع اللمبة‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تفعل يف الظالم؟‬
‫‪ -‬كنت أنتظر عودتك‪.‬‬
‫مبجـرد أن أشـعل اللمبـة أبصر وجه والـديت فانتبه لعينيهـا الحمراوين‬
‫َّ‬
‫ولدموعها ونشـيجها فقال‪:‬‬
‫‪ -‬ملـاذا تبكين؟ مل يحـدث لنـا مكـروه‪ .‬كنـت فقـط أعاقـب ذلـك الكافـر‬
‫الـذي حـاول أن يوقعنـي يف مقلـب مـن مقالبـه‪ .‬لكـن امليـاه عـادت إىل‬
‫مجاريهـا‪ ،‬وهـا هـي الدمالـج!‬

‫‪135‬‬
‫وضع الدملجني عىل املرتبة‪ ،‬قريباً‪ ،‬حيث تجلس والديت فقالت‪:‬‬
‫الحلي املنحوسـة‪ ،‬أشـعر أنها نذير شـؤم علينا‪ .‬ال أرغب‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ال أريـد هاتـه‬
‫يف ارتدائهـا‪ .‬سـيدخل النحس دارنـا معها! أرجوك اذهـب لبيعها غداً!‬
‫‪ -‬هـذه هـي الدمالـج التـي كنـت ترغبين فيها‪ ،‬خذيهـا وال تنطقـي بكلمة‬
‫زائدة!‬
‫التقطـت والـديت الدمالـج دون حماس‪ ،‬وضعتهـا يف خزنتهـا الصغرية‬
‫ثـم عقَّبت‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬سترى أن مـا أقولـه لـك هـو عين الصـواب! نعـم‪ ،‬ليس عنـدي أي قدر‬
‫مـن الـذَّكاء‪ ،‬لسـت ّإل امـرأة ضعيفـة‪ ،‬ولكـن قلبـي ال يكـذب َّ‬
‫علي أبـداً‪،‬‬
‫عندمـا يهـرب قلبـي مـن يشء أو مـن مخلـوق ال تخيـب فراسـته! مل تدخـل‬
‫هـذه الدمالـج على قلبـي ّأيـة فرحـة! سـأعد طعـام العشـاء!‬
‫أكلنـا بشـهية ناقصـة وقمنـا للنوم بعـد قليل‪ .‬سـأتذكَّ ر دوم ًا هـذه الليلة‬
‫التـي حارصتنـي فيهـا الكوابيـس‪ ،‬الغيلان واملسـوخ الفظيعـة التـي تفـور‬
‫برشية كبرية‬
‫ّ‬ ‫مـن عيونهـا الدمـاء وهـي تطاردنا أنـا ووالدي‪ ،‬مرفقـة بجمـوع‬
‫تركـض يف شـوارع املدينـة وراءنـا لتسرق مالنـا‪ .‬كانـت الجمـوع ترغـب‬
‫بشـكلٍ خـاص يف رسقـة صنـدوق العجائـب خاصتـي‪ .‬ظهـر والـدي معتليـ ًا‬
‫صهـوة حصـان أسـود‪ ،‬حاملاً صنـدوق عجائبـي تحـت ذراعه يشـق الجموع‬
‫أيـاد تحـاول عرقلـة سيره‪ .‬تخلّـص منهـا ونشر عـرف حصانـه‬ ‫ٍ‬ ‫بينما مثّـة‬
‫مثـل رايـة خفاقـة‪ .‬وجـدت نفيس رفقـة والـديت وحيدين يف بادية شاسـعة‬
‫بصمـت بينام يغمر ضوء أشـعة الصيـف كثبان‬ ‫ٍ‬ ‫خاليـة‪ .‬كانـت والـديت تبكي‬
‫ال وال‬‫ثـم بـدا والـدي فـوق هضبـة مقابلـة‪ .‬كان راج ً‬‫رمـال املـكان وأحجـاره‪ّ .‬‬
‫ثـم خاطبنـي‪:‬‬
‫أثـر لحصانـه معـه‪ .‬لكنـه كان يتأبـط صنـدوق العجائـب‪ّ ،‬‬
‫‪ -‬لقد استنقذت منهم صندوق العجائب خاصتك‪ ،‬خذه وافتحه إذن!‬
‫بحـرص وتأنٍ شـديدين‪ .‬سـحرين املنظر‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫وضعتـه على األرض وفتحتـه‬
‫حلي‬
‫ّ‬ ‫ورد مبهـج قُطـف حديثـ ًا يشـكّ ل أرضيتـه التـي وضعـت فوقهـا‬
‫أكـن شـاهدت نظير ًا لها من‬
‫ومشـغوالت مثينـة ترصعهـا أحجـار كرميـة مل ْ‬

‫‪136‬‬
‫لوالـدي‪« :‬انظـرا إىل كنـزي!»‬
‫ّ‬ ‫قبـل‪ .‬رفعـت رأيس ألقـول‬

‫نظرا مع ًا إىل محتوى الصندوق ّ‬


‫ثم قالت والديت‪:‬‬
‫يل الجميلة تجلب النحس عىل َم ْن ميلكها!‬
‫‪ -‬الح ّ‬
‫شعرت بالربد وأغلقت الصندوق باكياً‪.‬‬
‫‪ -‬سـيدي محمـد! سـيدي محمـد ملـاذا تبكي؟ اسـتيقظ مـن النـوم!‬
‫اسـتيقظ!‬
‫تحركهـا‬
‫ِّ‬ ‫كان ضـوء النهـار يغمـر الغرفـة وأصـوات ِدالء املـاء التـي‬
‫النسـوة يف فنـاء الـدار تصلنـا بوضـوح‪ ،‬بينما يد والـدي تتحسـس جبهتي‪،‬‬
‫عينـي وسـمعت والـدي يعلـن‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ثـم فتحـت‬
‫ّ‬
‫حمى‪ ،‬يشكو فقط من كوابيس‪.‬‬
‫‪ -‬ال ليس عنده ّ‬
‫ردت والديت وهي جالسة يف رسيرها‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬إنـه مريـض بعـد كلّ انفعـاالت األمـس ومـا شـاهده يف سـوق‬
‫املجوهـرات‪ ،‬ألنـك أرصرت عليـه أن يرافقنـا‪ .‬لذا ال تسـتغرب أن ميرض من‬
‫هـول مـا رأى!‬
‫ربـا مـن بعـض التعـب فقـط‪ .‬لـن يذهـب‬
‫‪ -‬الولـد ال يشـكو مـن يشء‪َّ ،‬‬
‫إىل املدرسـة إذن!‬
‫‪ -‬يـا إلهـي عاقبنـي فأنـا السـبب يف كلّ ما حصـل! أنا املذنبة فلا تبتلني‬
‫يف ولـدي الصغير! يـا رجـل‪ ،‬أقـول لـك مجـددا إننـي مـا عـدت أرغـب يف‬
‫االحتفـاظ بهـذه الدمالـج‪ ،‬سـتدخل النحـس إىل منزلنـا!‬
‫اتجه والدي صوب باب الغرفة ورشع يف ارتداء خ ّفيه‪:‬‬
‫إن بقيت هنا!‬
‫‪ -‬سأخرج‪ ،‬أشعر أنني سأفقد صربي ْ‬
‫قلب من الحجر!‬
‫‪ -‬اذهب فأنت رجل‪ ،‬ومن الطبيعي أن يكون لك ٌ‬
‫أمـي أن تقـول أليب مثل هـذا الـكالم‪ .‬فليس من‬
‫فكـرت أنـه مـا كان على ّ‬

‫‪137‬‬
‫قلـب مـن الحجـر‪ .‬سـأصبح بـدوري رجلاً يومـ ًا‬
‫ٌ‬ ‫الطبيعـي أن يكـون لرجـل‬
‫يترصف مـع األحـداث كام يجب‬‫َّ‬ ‫قلـب من حجـر‪ .‬والـدي‬
‫ٌ‬ ‫مـا‪ ،‬ولـن يكـون يل‬
‫يتصرف اإلنسـان الرزيـن املحافـظ على هدوئـه وتبصره‪ ،‬بينما كانـت‬ ‫َّ‬ ‫أن‬
‫يتصرف مثلهـا‪ ،‬أن يتوتـر ويقلـق ويشرع يف الصيـاح من‬
‫َّ‬ ‫والـديت ترغـب أن‬
‫ٍ‬
‫عـارض بسـيط‪.‬‬ ‫أي‬
‫ّ‬
‫يكن يب مرض وال غيره‪ .‬ومع ذلك‬ ‫وفعلاً كان والـدي على صواب‪ ،‬فلـم ْ‬
‫ممـدد ًا يف فـرايش طيلـة اليـوم‪ .‬وبعـد االنتهاء من‬
‫َّ‬ ‫ألزمتنـي والـديت البقـاء‬
‫طعـام الغـداء‪ ،‬جـاءت اللـة عائشـة لزيارتنـا بعـد طـول غيـاب مل نسـمع‬
‫خاللـه شـيئ ًا مـن أخبارهـا وال مـن أخبـار زوجهـا سـيدي العـريب صانـع‬
‫حضرت والـديت الشـاي قبـل أن تشرع يف رسد ما حصـل لها من‬ ‫الخفـاف‪َّ .‬‬
‫مشـاكل يف الفترة األخرية‪ .‬رسدت عىل أسماعها بالتفصيـل اململ حادثة‬
‫سـوق املجوهـرات ِ‬
‫والعـراك الـذي شـاب عمليـة اقتنـاء الدمالـج‪ ،‬متوقفـة‬
‫والترضعـات‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫بين الفينـة واألخـرى لـذرف الدمـوع والزفـرات والدعـوات‬
‫مجـددة نبوءتهـا السـابقة حـول كـون الدمالـج املنحوسـة نذيـر شـؤم‬
‫سيتسـبب ال محالـة يف اإلرضار بأرستنـا!‬
‫َّ‬
‫يف هـذه األثنـاء كانـت اللـة عائشـة تسـاير‪ ،‬من بـاب املجاملـة‪ ،‬كلّ ما‬
‫تتـأوه وتزفر وتلطـم بدورهـا وجنتيها‪.‬‬
‫تنطـق بـه والـديت‪َّ ،‬‬
‫وأخري ًا انتبهت والديت إىل الوضع فسألت صديقتها‪:‬‬
‫‪ -‬وكيف أحوالك أنت؟ كيف أحوال منزلك وزوجك؟‬
‫مل تحـر اللـة عائشـة جوابـاً‪ .‬خبـأت وجههـا بين راحتـي كفيهـا ورشعت‬
‫واسـتمرت يف النشـيج‬
‫َّ‬ ‫مـر‪ .‬سـالت الدمـوع بين أصابعهـا بغـزارة‬ ‫ٍ‬
‫بـكاء ّ‬ ‫يف‬
‫التحسر واألمل الـذي كان‬‫ُّ‬ ‫إىل أن رأيـت جسـدها يعتصر ويهتـز مـن فـورة‬
‫يخنـق صوتهـا الخافـت‪ .‬عانقتهـا والـديت وشـاركتها يف بكائهـا‪ .‬توقَّفت اللة‬
‫الحمـرة‪ ،‬وعلى أنفهـا‬‫عائشـة أخير ًا عـن البـكاء فبـدت على وجنتيهـا آثـار ُ‬
‫بقايـا دموعها‪:‬‬
‫يبـق يل حبيـب وال قريـب يف هـذه الدنيـا يـا زبيـدة‪ .‬أنـت صديقتـي‬
‫‪ -‬مل َ‬

‫‪138‬‬
‫ضيعـت كلّ‬‫أمـا ابـن الحـرام الـذي َّ‬
‫الوحيـدة وكلّ مـا تبقَّـى مـن أرسيت‪ّ .‬‬
‫ثـرويت مـن أجـل مسـاعدته فقد هجـرين واتخذ َّ‬
‫علي زوجـة ثانيـة‪ :‬ابنة عبد‬
‫َّ‬
‫الحلاق!‬ ‫الرحمـن‬
‫‪ -‬الله! الله! يا أختي‪ ،‬ما أفظع هذا الخرب!‬
‫وعادت املرأتان ألحضان بعضها وللبكاء من جديد‪.‬‬
‫تضافـرت حـرارة الجو ولـزوم الرسير واملشـاهد املؤملـة التي حرضتها‬
‫صـداع مـؤمل‬
‫ٌ‬ ‫دون أن أفهـم كلّ معانيهـا لتجعلنـي مريضـ ًا فعلاً ‪ .‬أصابنـي‬
‫وحمـى اعتصرت كلّ جسـدي‪ ،‬تقيـأت عىل غطـايئ‪ .‬جاءت والـديت مرسعة‬ ‫َّ‬
‫با ِّتجاهـي ورشعـت فجـأة يف الصياح‪:‬‬
‫‪ -‬ولـدي ميـوت! ولـدي ميـوت! تعالين يـا صديقايت! يـا أخـوايت لنحاول‬
‫إنقـاذ الولد!‬
‫عينـي ومل أعـد أسـمع سـوى‬
‫ّ‬ ‫دلفـت الجـارات الغرفـة تباعـ ًا فأغمضـت‬
‫ٍ‬
‫صـوت رهيـب لطبـول ُتقـرع حتـى تـكاد تثقـب اآلذان‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫الفصل التاسع‬

‫مل يـأكل شـيئ ًا منـذ غـداء أمـس‪ .‬أيقظتنـي هـذه الجملـة التـي نطقتهـا‬
‫أمـي بنبرة متألِّمـة‪ .‬كانت العتمـة الكثيفة قد خيمت عىل املـكان‪ ،‬ووالديت‬ ‫ّ‬
‫أتبي مالمح وجهها‪ ،‬ومل أسـمع‬‫َّ‬ ‫مل‬ ‫الغرفـة‬ ‫يف‬ ‫واقفة‬ ‫قامـة‬ ‫باتجـاه‬ ‫تهمـس‬
‫منهـا ّإل همهمـة غير واضحة بني الفينة واألخرى‪ ،‬كلمات غري ذات معنى‪.‬‬
‫غـادرت املرأتـان الحجـرة‪ .‬حاولـت الحركـة فلـم أسـتطع‪ ،‬كان صـوت قـرع‬
‫الطبـول الـذي يعتمـل داخـل جمجمتـي يتعـاىل مـن جديـد‪ ،‬ويختلـط مـع‬
‫مشـاهد رمـاد وغبـار أحمـر ُيحيـط وجهي بغيمـة مـن الشرارات امللتمعة‪.‬‬
‫تحـول املنظـر املحيـط يب إىل مشـهد خيـايل‪ .‬انتشر األمل الصامـت يف‬ ‫َّ‬
‫الفتيـة فتصاعـدت زفرايت‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عظامـي‬
‫ـدة دقائـق‬ ‫صمـت ِ‬
‫لع ّ‬ ‫ٍ‬ ‫عـادت والـديت‪ ،‬اقرتبـت منـي وظلّـت تراقبنـي يف‬
‫مجـرد كتلـة سـوداء‬
‫َّ‬ ‫تحولـت إىل‬
‫إىل درجـة خلتهـا تو َّقفـت عـن التنفـس‪َّ ،‬‬
‫يتبـدد ويتناثـر يف الهـواء‪ ،‬كما يحـدث عـاد ًة مـع‬
‫َّ‬ ‫مـن ريـش توقَّعـت أن‬
‫ُ‬
‫شـخصيات الكوابيـس التـي تـزورين يف ظلمـة الليـل عندمـا أعـاين األرق‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫تنهدت وعادت إىل الوراء فقلت لها‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬أنا مستيقظ‪ ،‬غري أنني أشعر باألمل!‬
‫توجه يل الكالم‪.‬‬
‫‪ -‬حالتك تتحسن‪ ،‬مبا أنك تستطيع أن ِّ‬
‫‪ -‬ملاذا يوجد ظالم يف الغرفة؟‬
‫‪ -‬ألن ظلام الليـل نـزل ومل أشـعل اللمبة يك ال أُزعج نومـك‪ .‬عانيت من‬
‫الحمـى ليلـة أمس وصبـاح اليوم‪ .‬ومل أتوقَّـف أنا عن البـكاء‪ ،‬ولكن دموعي‬
‫َّ‬
‫مل تنفعك بيشء!‬
‫‪ -‬أشعر بالجوع!‬
‫خرب رائع! سأحرض لك طبق حساء!‬
‫‪ -‬هذا ٌ‬
‫غادرتنـي وعـادت بعـد هنيهـة‪ .‬ظـلّ طبـق الحسـاء يف حضنـي كما هو‪،‬‬
‫تذوقـه‬ ‫ألحـت َّ‬
‫علي والـديت يف ُّ‬ ‫كانـت رائحـة الطعـام تشـعرين بالغثيـان‪ّ .‬‬
‫ٍ‬
‫مخـدات إلجلايس‪ .‬دارت حول رأيس جـدران الغرفة‪،‬‬ ‫وأسـندت ظهـري إىل‬
‫وسـبحت يف فضـاء خاضـع لقانـون حركـة الكواكـب والنيـازك‪ .‬اسـتطاعت‬
‫ثـم‬
‫والـديت بالـكاد التقـاط طبـق الحسـاء قبـل أن ينقلـب على األغطيـة‪ّ ،‬‬
‫مددتنـي يف فـرايش‪ .‬كانـت أصـوات قـرع الطبـول الرهيبـة تتصاعـد وتشـتد‬
‫َّ‬
‫داخـل رأيس الصغير‪.‬‬
‫شـيئ ًا فشـيئ ًا توقَّـف الـدوار الـذي يغلِّـف أحاسـييس‪ .‬كانـت والـديت‬
‫جالسـة بجـوار فـرايش على مرتبـة أقـلّ ارتفاعـاً‪ .‬سـمعت زوجـة صانـع‬
‫املحاريـث تخاطبهـا‪:‬‬
‫شـك أنـه يعـاين مـن نزلـة‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬اللـة زبيـدة! كيـف حـال سـيدي محمـد؟ ال‬
‫جيـداً‪ ،‬وأرشبيـه شـاي ًا سـاخن ًا بالنعنـاع‪.‬‬
‫بـرد‪ .‬غطّ يـه ّ‬
‫سمعت صوت فاطمة البزيوية‪:‬‬
‫تعـرض لرضبـة شـمس‪ .‬يجـب أن تحيطـي رأسـه بقشـور‬
‫َّ‬ ‫شـك أنـه‬
‫‪ -‬ال ّ‬
‫الليمـون وأوراق النعنـاع‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫الحـق يـا أخـوايت‪ ،‬لكـن إذا مل يشـأ اللـه أن يشـفي ولـدي‬
‫ّ‬ ‫ربـا معكـن‬
‫‪َّ -‬‬
‫سـأجرب كلّ األدويـة املتو ِّفـرة لعالجـه‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫فلا يشء سـينفع!‬
‫أعلـن والـدي مقدمـه قبـل ولـوج بـاب الـدار‪ .‬عـاد باكـر ًا عىل غير عادته‬
‫فعم‬
‫ّ‬ ‫السـلَّم‪ ،‬أشـعلت والـديت اللمبة‬‫هـذه املـرة‪ .‬بينام كان يصعد درجات ُ‬
‫املـكان ضوؤهـا األصفـر‪ .‬دخـل والـدي الغرفـة وانحنـى فوق فـرايش‪ .‬بدت‬
‫يل عينـاه غائرتين مـن أثر اإلرهاق والتوتـر الباديني عىل وجهه الذي شـابته‬
‫ثـم اسـتدار دون أن ينبـس ببنت‬ ‫الصفـرة‪ ،‬المـس جبهتـي بيـده وهـ َّز رأسـه‪ّ ،‬‬
‫شفة ‪.‬‬
‫وضعـت والـديت بعـض الطعـام على الطاولـة الواطئـة وتعشـيا معـاً‪.‬‬
‫ربـا كان هـذا أتعـس عشـاء تعشـياه يف كلّ حياتهما‪.‬‬
‫َّ‬
‫ُنمق فـوق املائدة دون‬ ‫مـن فـوق رسيري كنت أملح الطبـق الفخاري امل َّ‬
‫يتضمـن مرق ًا‬
‫َّ‬ ‫خمنـت مـن الرائحـة أنـه‬‫أن أمتكَّ ـن مـن تحديـد نـوع الطعـام‪َّ .‬‬
‫بالزعفـران وخضـار ًا ولحمـة‪ .‬كانت رائحـة الزعفران تثري يفَّ إحساسـ ًا جارف ًا‬
‫بالغثيـان‪ .‬كان الوالـد والوالـدة جالسين صامتين غارقين يف أفكارهما‪،‬‬
‫أي منهما يـده إىل الطبق‪.‬‬‫ومل ميـد ٌّ‬
‫فجـأة ولـج املـكان قـط زينـب‪ ،‬اقترب مـن الطبـق ومـن الشـخصني‬
‫تعجبـه‪ .‬ماء بخجـلٍ واسـتجداء وأدخل‬
‫عبر ًا عـن ُّ‬
‫الجامديـن حولـه ومـاء ُم ِّ‬
‫ذيلـه بين رجليـه ورأسـه بين كتفيـه‪ .‬ضـاع صـوت موائـه يف عتمـة الغرفـة‬
‫كما لـو كان يسـقط يف حزمـة كامتة مـن القطن‪ ،‬فتـح عينيه وأسـدل أذنيه‬
‫ثـم مـاء بقـوة وجـرى خارجـ ًا ال يلـوي على يشء‪.‬‬
‫خلفـاً‪ّ ،‬‬
‫يحـرك والـداي سـاكن ًا وال نطقـا بيشء‪ .‬كانت أجواء مشـابهة ألجواء‬
‫مل ِّ‬
‫نهايـة العـامل تسـيطر على نفسـيهام الحزينتين القلقتين‪ .‬رشعـت يف‬
‫البـكاء فسـألني والـدي‪:‬‬
‫‪ -‬أين تحس بآالم يا ولدي؟‬
‫تتحدثان؟‬
‫َّ‬ ‫بأية آالم‪ ،‬لكن ملاذا ال‬
‫‪ -‬ال أشعر ّ‬

‫‪143‬‬
‫‪ -‬ال يوجد لدينا يشء لنقوله‪ ،‬توقَّف عن البكاء!‬
‫أفاقـت والـديت فجـأة مـن سـكونها وحملت طبـق الطعـام إىل املطبخ‪،‬‬
‫ثـم عـادت بصينية الشـاي فوجـدت والـدي واقف ًا يتهيـأ للنوم‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬ألن ترشب شايك؟‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬ومن اآلن فصاعد ًا ال تبالغي يف تبذير السكر!‬
‫‪ -‬وهل كنت يوم ًا امرأة ُمبذِّ رة؟‬
‫تدبـر‬
‫ابتـداء مـن الغـد سـيصعب علينـا ُّ‬
‫ً‬ ‫‪ -‬ال أقصـد قـول ذلـك! ولكـن‬
‫مصاريـف الشـاي والسـكر اليوميين!‬
‫عينـي حتـى ال أغفـل أي ًا من تفاصيل املشـهد‪ .‬شـحب فجأة لون‬
‫ّ‬ ‫ف ّتحـت‬
‫والـديت‪ .‬توقَّفـت مصعوقـة ووضعـت صينيـة الشـاي أرضـاً‪ .‬نظـرت صـوب‬
‫ٍ‬
‫بصـوت منكرس‪:‬‬ ‫والـدي وسـألته‬
‫‪ -‬أشعر أن مكروه ًا كبري ًا قد حلَّ بنا‪...‬‬
‫ظـلَّ والـدي واقفـ ًا مطأطأ الرأس مسـب ً‬
‫ال عينيـه نحو األرض‪ .‬صـدر فجأة‬
‫عنـي صـوت التواء عضيل حـاد ومؤمل دفعنـي للقفز من فـرايش والرصاخ‪.‬‬
‫ثـم جلسـت على األرض باكيـة‪ .‬سـارع والدي‬
‫بـدأت والـديت تلطـم خديهـا‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫بلطـف وهدوء‪:‬‬ ‫إلمسـاك يديهـا قصـد منعهـا من نـدب وجنتيهـا‪ ،‬وخاطبها‬
‫أال تخافين مـن سـخط اللـه يـا امـرأة؟ ضعـي ثقتـك يف الخالـق فلـن‬
‫يغفـل ع ّنـا وسـيتداركنا برحمتـه‪ .‬مـا يحدث لنـا يحدث مع آالف املسـلمني‬
‫ابتلاء مـن اللـه‪ :‬فقـدت يف غمـرة زحـام مـزاد‬
‫ٌ‬ ‫شـك‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كلّ يـوم‪ .‬هـذا‪ ،‬وال‬
‫ثـوب الحايـك كلّ رأسمايل الضئيـل! وضعت النقـود يف منديل ويبـدو أنها‬
‫سـقطت منـي بينما كنـت أحـاول أن أدخلهـا يف جـرايب‪.‬‬
‫رفعـت والـديت رأسـها‪ ،‬مل تنبـس ببنـت شـفة‪ ،‬بينما واصـل والـدي‬
‫بصـوت خافـت‪:‬‬
‫والضاء!‬
‫الساء َّ‬
‫‪ -‬ملاذا تنوحني؟ علينا أن نحمد الله يف َّ‬

‫‪144‬‬
‫خرجت والديت أخري ًا من صمتها‪:‬‬
‫‪ -‬وماذا سنفعل اآلن؟‬
‫‪ -‬سأحاول العثور عىل شغل!‬
‫‪ -‬كم فقدت من مال؟‬
‫يتبـق يل حتـى مـا يلـزم ألداء أجـرة العامـل الـذي‬
‫‪ -‬كل رأس املـال! مل َ‬
‫يسـاعدين‪ ،‬وال واجـب كراء املشـغل! كنت أعتـزم أداء كلّ هذه املصاريف‬
‫ورشاء القطـن مـن املبلغ الـذي ضاع!‬
‫‪ -‬أال ميكن للتجار أن يقرضوك؟ أنت معروف بنزاهتك!‬
‫التسـول واالقتراض مـن أولئـك اللصـوص! كما‬
‫ُّ‬ ‫‪ -‬لـن أنحـدر إىل درجـة‬
‫ال أرغـب يف العمـل لفائـدة آخريـن‪ .‬أنـا فلاح جبلي! موسـم الحصـاد عىل‬
‫حصادين‪ .‬وسـوف أشـتغل بالحصـاد يف ريف فاس‪.‬‬ ‫األبـواب وهـم يوظفون ّ‬
‫‪ -‬هل تجرؤ عىل مغادرتنا وطفلك مريض؟‬
‫‪ -‬وهـل تريديـن أن أترككما تتضـوران جوعـاً؟ أن تصبحـي مثـار شـفقة‬
‫جاراتـك ومعارفـك؟ سـأكون على بعـد مسيرة يومين فقـط مـن فـاس‪.‬‬
‫حسـاء مـن النعناع‬
‫ً‬ ‫سـيكون سـيدي محمـد بخير صباح غـد‪ .‬فقط أعدي له‬
‫ويشـفى‪ .‬درجـة حرارتـه املرتفعـة نقصت‬
‫يتعـرق ُ‬
‫َّ‬ ‫جيـد ًا يك‬
‫البري‪ .‬وغطيـه ّ‬
‫اليـوم عـن الليلـة املاضيـة‪.‬‬
‫‪ -‬هـذا عقـاب مـن اللـه أصابنـا‪ .‬أظ ّنـه مـن هـذه الدمالـج امللعونـة التـي‬
‫أدخلـت النحـس إىل دارنـا‪ .‬ملـاذا ال تبيعهـا؟‬
‫‪ -‬أنـوي فعلاً بيعهـا! سـأترك لكـم الثمـن املتحصـل منهـا لترصفـوا منه‬
‫وفيـ ًا لنـا‪ .‬سـيزوركم‬
‫خلال فترة غيـايب‪ .‬لقـد ظـلّ عاملي إدريـس األقـرع ّ‬
‫يوميـاً‪ .‬أعطيـه النقـود يك يشتري حاجياتكـم مـن السـوق‪ ،‬وامنحيـه مـا‬
‫يحتـاج مـن طعـام! فهـو يتيـم بلا أرسة وال أقـارب لـه يف فـاس!‬
‫التأمل‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫ثم أضاف والدي وقد غلب عليه‬
‫ّ‬

‫‪145‬‬
‫ملدة شـهر‪ .‬سـأحاول أن ال أرصف شـيئ ًا من الراتب‪.‬‬
‫‪ -‬سـأترككم وحدكم ّ‬
‫مبجـرد عـوديت إىل‬
‫َّ‬ ‫وهكـذا سـيكون مبقـدوري تجهيـز مشـغيل مـن جديـد‬
‫الديار‪.‬‬
‫صمـت ثقيـل خانـق أسـود مثـل السـخام‪ .‬شـعرت‬
‫ٌ‬ ‫ثـم ران على املـكان‬
‫ّ‬
‫باالختنـاق‪ .‬وددت لـو أن جـارة مـن الجـارات كسرت الصمـت بصيحـة فرح‬
‫يشء خـارق مـا حتـى يتكسر الصمت‪ .‬حاولـت الحديث‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫أو أمل‪ ،‬أن يحـدث‬
‫شـفتي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫النطـق بشيء مـا فلـم يصـدر عنـي ّإل آهـة مكتومـة مل تتجاوز‬
‫تحـوال إىل شـخصيات تنتمـي لعـامل‬ ‫َّ‬ ‫والـدي اللذيـن‬
‫ّ‬ ‫تجمـدت حركـة‬ ‫َّ‬
‫عينـي أكثر ألسـتبني مالمحهما فالحظـت أنهما‬ ‫ّ‬ ‫حـت‬ ‫ت‬
‫ّ‬ ‫ف‬ ‫الكوابيـس‪.‬‬
‫للمـرة األوىل يف‬
‫ّ‬ ‫شـعرت‬ ‫ً‪.‬‬ ‫ا‬ ‫دامسـ‬ ‫ً‬
‫ا‬ ‫سـواد‬ ‫وتكتسـيان‬ ‫تـزدادان غموضـ ًا‬
‫حيـايت بالخـواء املطلـق يغلِّـف ذايت وبالعزلـة القاصمـة تهـوي على‬
‫كلّ كيـاين الصغير‪ .‬امتلأ قلبـي بالحـزن الثقيـل‪ ،‬وجثمـت كـرة خانقـة‬
‫رئتـي‪ .‬أغلقـت عينـي وصلّيـت بعمـق‪ .‬شـعرت أننـي أصبحـت على‬ ‫ّ‬ ‫على‬
‫أنـس هـذا‬‫َ‬ ‫أنـس يومـ ًا هـذه اللحظـات! مل‬ ‫َ‬ ‫بوابـة الجحيـم‪ ..‬يـا إلهـي‪ ،‬مل‬
‫اإلحسـاس بالعزلـة الطاغيـة التي تشـبه يف امتدادها صحـارى الكواكب‬
‫يتبخـر فيهـا الصـدى دون أن يجـد لـه رجعـ ًا وال‬ ‫َّ‬ ‫غير املأهولـة‪ ،‬التـي‬
‫أثـراً‪ ،‬ومتتـد الظلال نحـو أغـوار القلـق واملـوت‪ .‬والقلـب الـذي ينـزف‬
‫أملـاً دافقـاً‪ ،‬أمل جسـدي الـذي سـحقه انقضـاض النحـس على منزلنـا‬
‫مجـرد طفـل صغير ال يعـرف أن‬ ‫َّ‬ ‫أكـن لحظتهـا ّإل‬
‫ْ‬ ‫الصغير‪ .‬يـا إلهـي! مل‬
‫النهـار ُيولـد مـن الليـل‪ ،‬أن األرض تهتـز وتربو بعـد نوم الشـتاء‪ ،‬توقظها‬
‫وتغـرد فوقهـا‬
‫ِّ‬ ‫أشـعة الشـمس الدافئـة فتزهـر فيهـا الـورود والحشرات‬
‫الشـحارير‪.‬‬
‫راع‬
‫غـد دون حقيبـة سـفر‪ ،‬مل يحمـل ّإل جـراب ٍ‬ ‫غادرنـا والـدي فجـر ٍ‬
‫ٍ‬
‫ثـوب قطنـي‬ ‫مـن الـدوم اشتراه أمـس ومنجلاً جديـد ًا وجرابـ ًا آخـر مـن‬
‫مغلـق بإحـكام خاطتـه والـديت وشـحنت فيه أغذيـة‪ :‬زيتـون‪ ،‬وتني جاف‪،‬‬
‫حلاة بالسـكر‪ ،‬وخبـز معطـر بالينسـونن ومـاء الـورد‪ ،‬وحبات‬‫وطحينـة ُم ّ‬
‫السمسـم‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫زودتـه الوالـدة بنصائـح وأغرقـت‬ ‫كنـت مسـتيقظ ًا لحظـة غـادر والـدي‪َّ .‬‬
‫وجههـا بين راحتـي كفيهـا بعـد خروجـه مـن الـدار‪ .‬ظلّـت عاكفـة فـوق‬
‫تـم ال َّت ِّ‬
‫خلي ع ّنا‪،‬‬ ‫رسيرهـا على الوضـع نفسـه‪ .‬داخلنـي اإلحسـاس بأنـه قد ّ‬
‫بأننـا رصنـا أيتامـاً‪.‬‬
‫علـم جميـع سـكّان الحـارة الحقـ ًا باملشـاكل املاديـة التـي نعـاين منها‬
‫ٍ‬
‫بشـفقة مغلَّفـة كان وقعها علينا‬ ‫ومبغـادرة والـدي‪ ،‬فأصبحـوا ينظرون إلينا‬
‫سـند وال دفـاع‪ ،‬فقـد كان‬‫ٍ‬ ‫أشـد مـن االحتقـار الرصيـح‪ .‬تركنـا الوالـد دون‬ ‫ّ‬
‫يكـن‬
‫ْ‬ ‫مل‬ ‫لهـا‪.‬‬ ‫خفيـة‬ ‫حاميـة‬ ‫ـر‬ ‫ف‬
‫ِّ‬ ‫يو‬ ‫أرستنـا‬ ‫مثـل‬ ‫أرسة‬ ‫يف‬ ‫ودوره‬ ‫األب‬ ‫وجـود‬
‫فمجـرد وجـوده مينـح األرسة توازن ًا‬
‫َّ‬ ‫مـن الضروري أن ميلـك مـا ً‬
‫ال وال ثـروة‪،‬‬
‫واحرتامـا ً وثقـةً يف النفـس ال ُغبـار عليهـا‪.‬‬
‫مخصصة‬
‫َّ‬ ‫ال يعـود والدي للدار ّإل مسـاء‪ ،‬لكن أنشـطة اليوم كلّـه كانت‬
‫لالسـتعداد للحظـة عودتـه‪ .‬لـذا فهمـت مـا الـذي يعـذِّ ب ّ‬
‫أمـي يف ذلـك‬
‫الصبـاح الباكـر والبـارد‪ ،‬كانـت تعـرف أن مجمـل أنشـطة نهارهـا قـد صارت‬
‫بلا هـدف‪ .‬لـن يدفـع زوجها بـاب الغرفـة يف املسـاء حاملاً رائحـة العمل‬
‫والعـامل الخارجـي الحافـل الـذي مل يربطنـا بـه ّإل هـذا األب‪.‬‬
‫جسـد والدي القوة واألمان‪ .‬مل يسـبق له مغادرة‬‫وألمي‪َّ ،‬‬
‫بالنسـبة يل ّ‬
‫املنـزل مـن قبل‪ ،‬لـذا بدت لنا الظروف التـي اضطرتنا لفراقـه بالغة القبح‬
‫والقسوة‪.‬‬
‫حيـت الشـمس واسترجعت ضجتهـا‬ ‫اسـتيقظت الـدار شـيئ ًا فشـيئاً‪ّ ،‬‬
‫بتحسـن ملمـوس يف صحتـي هـذا الصبـاح‬ ‫ُّ‬ ‫وأصواتهـا املعتـادة‪ .‬شـعرت‬
‫فجلسـت فـوق رسيـري‪ .‬أحسسـت أن رأيس اسـتعاد خ ّفتـه املعتـادة‪ ،‬وأن‬
‫الحمـى مـا عـادت تعتصر أطـرايف‪.‬‬‫َّ‬
‫أمي‪ ،‬هل يدوم الشهر الواحد طويالً؟‬
‫‪ّ -‬‬
‫حركـت وجهها مينـةً ويرسة كأنهـا تتحرى‬ ‫أفاقـت والـديت مـن غفوتهـا‪َّ .‬‬
‫متعجبة وسـألتني‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫يل بنظـرة‬
‫ثم نظـرت إ َّ‬
‫املـكان‪ ،‬حيـث توجـد‪ّ ،‬‬
‫‪ -‬هل قلت شيئ ًا يا سيدي محمد؟‬

‫‪147‬‬
‫مدة طويلة؟‬
‫‪ -‬نعم أريد أن أعرف إذا كان الشهر ّ‬
‫‪ -‬الشـهر يـدوم شـهراً‪ ،‬لكـن بالنسـبة لنـا سـيكون الشـهر القـادم طويلاً‬
‫جد اً!‬
‫ّ‬
‫ربـا أنـك تعلِّمـت‬
‫‪ -‬ال أطيـق االنتظـار‪ ،‬أنـت ال تطيقين االنتظـار‪ .‬أو َّ‬
‫االنتظـار يف املـايض‪ّ ،‬ثـم نسـيته!‬
‫بهتت والديت من هذه الفكرة فسألتني‪:‬‬
‫‪ -‬وماذا تنتظر؟‬
‫‪ -‬أنتظر أن أصبح رجالً‪ ،‬بينام ال تنتظرين أنت شيئاً‪ ،‬ألنك امرأة كبرية!‬
‫سكتت لهنيهة قبل أن أضيف‪:‬‬
‫توجب‬
‫‪ -‬عندمـا كنـت طفلـة صغرية مل يسـمحوا لـك بفعل ما تريديـن‪َّ .‬‬
‫عليـك أن تكبري وتصبحـي امـرأة لتحقيـق أحالمـك ومشـاريعك‪ :‬رشاء‬
‫املالبـس التـي تريديـن‪ ،‬الخـروج للنزهـة مـع اللـة عائشـة‪ ،‬طبـخ األطبـاق‬
‫فيتوجـب َّ‬
‫علي أكل مـا تريديـن‪ ،‬ال ميكننـي‬ ‫َّ‬ ‫أمـا أنـا‬
‫التـي يعجبـك تناولهـا‪ّ .‬‬
‫الخـروج وحـدي‪ ،‬وألبـس دامئـ ًا أقمصـة أكبر منـي!‬
‫التعجـب على مالمـح والديت فلم تحـر جواباً‪ ،‬بـل اكتفت بنظرة‬
‫ُّ‬ ‫سـيطر‬
‫متفحصة‪.‬‬
‫‪ -‬عندمـا أصبـح رجلاً سـألبس جالبيـب بيضاء تنظَّ ـف كلّ يوم‪ ،‬سـأفطر‬
‫يوميـاً‪ ،‬بنصـف كيلوغـرام مـن الفطائـر املقلية املدهونـة بالزبد والعسـل‪،‬‬
‫األقـل‪ .‬سـأمتلك أربعني قطـ ًا مطيعـ ًا ال توسـخ أركان الـدار بفضالتها‪.‬‬
‫على ّ‬
‫تتوسـط سـاحته شـجرة الرنـج كبرية‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ال آخر فسـيح ًا‬
‫كما أننـا سنسـكن منز ً‬
‫أضاءت ابتسامة وجه والديت فعلَّقت‪:‬‬
‫‪ -‬لن تقبل زوجتك أبد ًا رعاية قطيع القطط الذي تنوي تربيته!‬
‫‪ -‬لن أتخذ زوجة‪ ،‬أنت تحبني القطط وستقومني برعايتها!‬

‫‪148‬‬
‫مل تتاملـك والـديت نفسـها فغلبها الضحـك‪ .‬عادت البهجـة إىل وجهها‬
‫بتحسـن صحتي وبـدأت أُصفق بيدي مـن الفرح‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫فشـعرت للتـو واللحظـة‬
‫‪ -‬ماذا سيقول عنك الجريان إذا سمعوك تضحك يف يوم سفر أبيك؟‬
‫‪ -‬سيعود والدي قريب ًا ونصبح أغنياء من جديد!‬
‫يوم من األيام!‬
‫نكن أغنياء يف ٍ‬
‫‪ -‬لكننا مل ْ‬
‫‪ -‬نحـن أغنيـاء! أال نتنـاول طعام ًا كافياً؟ أليسـت غرفتنـا هي األجمل يف‬
‫الدار؟‬
‫‪ -‬ارتـح يـا ولـدي‪ ،‬مـا دمـت على قيـد الحيـاة لـن تجـوع أبـداً‪ ،‬حتـى لـو‬
‫للتسـول مـن أجلـك!‬
‫ُّ‬ ‫اضطـررت‬
‫سـمعنا صـوت قـرع خفيـف على بـاب الغرفـة‪ .‬نهضـت والـديت للقـاء‬
‫الطـارق‪ .‬سـمعت همسـها وحديثها الخافـت لدقائق طويلة مـع زائرتها قبل‬
‫ملح‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بصـوت ّ‬ ‫أن تدعوهـا للدخـول‬
‫ادخلي يـا فاطمـة وأعطيـه ذلـك مـن يديـك‪ .‬سيرفض أن يتسـلَّمه مني!‬
‫تعلمين كـم هـو عنيد!‬
‫دخلـت فاطمـة البزيويـة وهي تحمـل يف يدها طبق ًا يتصاعـد منه البخار‬
‫السـاخن‪ .‬اقرتبت مني وسألتني‪:‬‬
‫‪ -‬كيف هو حال فقيهنا اليوم؟‬
‫أرد على سـؤالها‪ .‬مل أرغـب يف فتـح أي حـوار مـع هـذه املـرأة التـي‬
‫مل ّ‬
‫ترغـب يف خداعـي لترشبنـي محلـو ً‬
‫ال كريهـاً‪.‬‬
‫تذوقه؟‬ ‫ّ‬
‫«تادف»‪ ،‬أال ترغب يف ُّ‬ ‫‪ -‬هيأت من أجلك حساء‬
‫ّ‬
‫«تـادف» عادةً‪ ،‬هذا الحسـاء الذي يطبـخ من أوراق‬ ‫‪ -‬كنـت أحـب تنـاول‬
‫النعنـاع البري‪ .‬غير أننـي امتنعـت هـذه املـرة وأشـحت بوجهـي صـوب‬
‫الجـدار املقابـل‪ ،‬مما دفـع والـديت للتدخـل ملسـاعدة جارتهـا‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫وإن فعلت سـوف أرسـل‬
‫‪ -‬ارشب الحسـاء‪ ،‬أنا واثقة من أنه سـيعجبك‪ْ ،‬‬
‫زينـب بعـد قليل لتشتري لك حبة سـفنج((( !‬
‫واصلـت املرأتـان محـاوالت إقناعـي إىل أن جلسـت فـوق رسيـري‬
‫وتناولـت الطبـق وقلـت لهما إننـي ال أحـب الطعـام الحريـف‪.‬‬
‫ذرة مـن األبـزار أو الفلفـل‪.‬‬
‫أكَّ ـدت يل والـديت أن الحسـاء ال يحـوي أي َّ‬
‫نظـرت إليهـا يف عينيهـا وسـألتها كيـف عرفـت ذلك وهـي مل تعد الحسـاء!‬
‫اضطربـت وتلجلجـت‪ ،‬بحثـت عـن كلمات وعبارات فلـم تسـعفها بديهتها‪،‬‬
‫وعندمـا أحسـت بالحـرج غـادرت إىل املطبـخ‪ .‬تدخلـت فاطمـة البزيوية‪:‬‬
‫‪ -‬أؤكِّ د لك أنني مل أستعمل ّأية توابل يف إعداد هذا الحساء‪.‬‬
‫أعدت لها الطبق‪.‬‬
‫ّ‬
‫«تـادف» ال ُيـؤكل ّإل بالتوابـل‪ ،‬تريديـن أن تسـتغيل‬ ‫‪ -‬الجميـع يعلـم أن‬
‫مـريض وتجعلينـي آكل طبقـ ًا مـن الدقيـق املصبوغ؟‬
‫فقدت فاطمة صربها‪.‬‬
‫تذوق!‬ ‫أو ً‬
‫ال قبل أن تقول خزعبالت! َّ‬ ‫تذوقه َّ‬
‫جيد املذاق‪ُّ ،‬‬
‫‪ -‬أقول لك إنه ّ‬
‫علي ألقاب ًا مداهنة‪:‬‬
‫واصلـت الرفض فصـارت فاطمة أكرث ليونة‪ .‬أطلقت َّ‬
‫محمضـة‪ ،‬شـعريية بالحليـب‪ ،‬جبن أبيـض صـايف‪ .‬مل أسـتطع‬ ‫ّ‬ ‫حلـوى‬
‫الصمـود أكثر يف وجـه هـذه املداعبات واأللقـاب اللطيفـة فتناولت الطبق‬
‫الجيـد يف جرعـات رسيعـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ورشبـت الحسـاء‬
‫طلبت بعدها من والديت أن تهتم بنظافتي‪ .‬اسـتبدلت قمييص ولبسـت‬
‫جلبابـاً‪ .‬أحسسـت بأننـي تعافيت‪ ،‬لكـن ليس مبا يكفي للعـودة إىل الكُ َّتاب‪.‬‬
‫أيام أخـرى‪ .‬أبرصتني رحمة مـن النافذة‬‫سأسـتمتع بعطلـة إضافيـة لبضعـة ٍ‬
‫فحيتني بحرارة‪.‬‬
‫َّ‬

‫((( فطرية مقلية يف الزيت عىل شكل حلقة‪[ .‬املرتجم] ‬

‫‪150‬‬
‫‪ -‬الحمـد للـه على شـفائك سـيدي محمـد! قلقنا عليـك كثير ًا يف ّ‬
‫األيام‬
‫املاضيـة! ِعدنـا أن ال تسـقط مريضـ ًا ّ‬
‫مـر ًة أخـرى! فحالتـك أفقدتنـي شـهية‬
‫الطعـام‪ ،‬أقسـم على ذلـك باللـه وبأوليائـه الصالحني!‬
‫ردت والديت من مطبخها‪:‬‬
‫َّ‬
‫بالصحة والعافية!‬
‫‪ -‬ليمتعك الله مع عائلتك ِّ‬
‫اتكأت رحمة عىل نافذتها تريد مواصلة الحوار‪:‬‬
‫‪ -‬آمين يـا أختـي زبيـدة! هـل غـادر سـيدي عبـد السلام هـذا الصبـاح؟‬
‫السـلَّم فجـراً‪.‬‬
‫سـمعته ينـزل درجـات ُ‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬غادر‪.‬‬
‫‪ -‬أعاده الله إليكم سامل ًا غامناً!‬
‫توجهت رحمة إىل باقي ساكنات الدار‪:‬‬
‫ثم َّ‬
‫ّ‬
‫‪ -‬صـارت الحيـاة صعبـة بالنسـبة للفقـراء مثلنـا‪ ،‬لكـن علينـا أن نشـكر‬
‫اللـه يف السراء والضراء!‬
‫تتلـق جوابـ ًا ّإل صـوت أحدهـم يعطـس يف الفنـاء‪ .‬عطـس لثلاث‬
‫مل َ‬
‫ٍ‬
‫ثـم مسـح أنفـه بصـوت مسـموع‪ .‬ذكـرين الصـوت القـوي‬ ‫مـرات متواليـة‪ّ ،‬‬
‫َّ‬
‫أرنبتـي أنفـه بصـوت نفير بـوق رمضـان الـذي يعلـم النـاس‬
‫ّ‬ ‫مـن‬ ‫الصـادر‬
‫بلحظـة اإلمسـاك عـن الطعـام‪ .‬أضحكنـي ذلـك‪.‬‬
‫بالتمدد‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫أمسـكت يب والـديت مـن كتفـي‪ ،‬أعادتني إىل رسيـري وأمرتنـي‬
‫أكـن بحالـة صحيـة تسـمح يل باملعانـدة‪ .‬أمرتنـي بلـزوم الرسيـر‬ ‫مل ْ‬
‫بعـض مـن سـور القـرآن حتـى ال أنسى ما حفظـت منهـا‪ ،‬وحتى‬‫ٍ‬ ‫واسـتظهار‬
‫تحـل الربكـة على الـدار وعلى والـدي الـذي غـادر نحـو املجهـول‪.‬‬
‫أكن راغب ًا يف اسـتظهار اآليات وال يف‬
‫جلسـت على املرتبـة منزعجاً‪ .‬مل ْ‬
‫ٍ‬
‫جهـد ُيذكـر‪ .‬اكتفيت باإلصغاء للرثثرات املعتادة بني النسـاء دون‬ ‫بـذل أي‬
‫اهتمام وال تركيـز‪ .‬رغـم الجـو املرشق وأشـعة الشـمس السـاطعة‪ ،‬بدا يل‬

‫‪151‬‬
‫مظلما كئيبـاً ‪ .‬أحسسـت بالغثيـان مـن منظـر الحيطان‬
‫ً‬ ‫العـامل املحيـط يب‬
‫املتسـخة املقابلـة لنافـذة غرفتنا‪ .‬وأخير ًا أحرضت والديت طعـام الغداء‪:‬‬
‫حلقتـان مـن السـفنج يل وحـدي‪ ،‬سـمن مملـح‪ ،‬وزيتـون أسـود‪ ،‬وقبضـة‬
‫فجـل هديـة مـن جارتنـا البزيويـة‪ ،‬أو باألحـرى من زوجها البسـتاين‪.‬‬
‫بـدأت بتنـاول السـفنج فشـعرت بأنـه عديـم الـذوق يف فمـي‪ .‬مضغتـه‬
‫طويلاً قبـل أن أبتلعـه بغير متعـة‪ .‬بعد رفـع املائدة‪ ،‬وضعـت والديت عىل‬
‫تكن معتادة عىل اسـتعامله وكأسين دون‬‫الطاولـة إبريـق شـاي متهالك ًا مل ْ‬
‫تعودنـا على ذلـك خلال حصـة تناول الشـاي‪.‬‬‫صينيـة وال سـخان مـاء كما َّ‬
‫وحدهـا األرس الفقيرة كانـت ُت ِع ّ‬
‫ـد الشـاي بهـذه الطريقة‪.‬‬
‫أمـام دهشـتي أعلنـت والـديت أنهـا لـن تواصل تضييـع الوقت يف غسـل‬
‫الصينيـة والسـخان وإبريـق التنـك والكـؤوس يف كلّ مـرة‪ .‬لكـن فيـم تعتزم‬
‫أتخيـل لهـا انشـغاالت أخـرى غير ما دأبـت عليه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫إذن قضـاء وقتهـا؟ مل‬
‫بعـد الغـداء لبسـت والـديت حايكهـا وأوصتنـي بعـدم إحـداث فـوىض‬
‫خلال غيابهـا‪ .‬ذهبـت لتفقُّـد أحـوال صديقتهـا اللة عائشـة‪ ،‬فقـد كان لدى‬
‫املرأتين الكثير مما ميكـن أن ُيقـال‪.‬‬
‫أتذكـر إىل حـدود اليـوم تلـك السـاعات الكئيبـة التـي قضيتهـا بانتظـار‬
‫والـديت دون أن أجـرؤ على اإلطلال مـن نافـذة الغرفـة‪ .‬كنـت أرغـب يف‬
‫السـلَّم وفوق السـطوح املشمسـة‪ .‬ألقيـت نظرة عىل‬ ‫اللعـب على درجـات ُ‬
‫صنـدوق عجائبـي‪ .‬مل يعـد صندوقـ ًا للعجائب‪ ،‬بـل أصبح تابوتـ ًا يضم جثث‬
‫أحالمـي‪ .‬كتمـت رغبتي يف البـكاء ألنني مل أرغب يف أن تشـاهدين الجارات‬
‫ومتـددت على‬‫َّ‬ ‫يف مثـل هـذه الحـال‪ .‬مسـحت أنفـي بقطعـة قماش باليـة‬
‫امللونـة مبـا يطبع الخشـب‬ ‫َّ‬ ‫األرض ناظـر ًا لسـقف الغرفـة ولثنايـا عوارضهـا‬
‫متحركـة‬
‫ِّ‬ ‫الطبيعـي عـاد ًة مـن أشـكالٍ وبقـع‪ .‬كنـت أتخيلهـا يف املـايض‬
‫ترتاقـص مـن أجلي فأقضي السـاعات الطـوال متتبعـ ًا رقصهـا‪ ،‬غير أنهـا‬
‫بقـع جامـدة ُتثير يفَّ اإلحسـاس بالغثيـان‪.‬‬
‫مجـرد ٍ‬
‫َّ‬ ‫أصبحـت اآلن‬
‫تصاعـدت دقـات قلبـي نابضـةً بإيقاعـات الخـوف والقلـق والغضـب‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫ترسـخ فيـه إحسـاس عـارم بالخـوف رغـم أن أجـواء الـدار صـارت عامـرة‬ ‫َّ‬
‫بجلبـة األحاديـث واحتـكاك مكانـس الـدوم باألرضيـات‪ .‬غرقـت يف النـوم‬
‫الحمى لزياريت‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أمـي‪ .‬عادت‬‫بعدمـا بكيت طويالً‪ .‬مل أسـتيقظ ّإل بعد عودة ّ‬
‫وعندمـا الحظـت والـديت ارتفـاع حـراريت مـن جديـد‪ ،‬رشعـت بدورهـا يف‬
‫البـكاء وهدهـديت برتديـد أغـانٍ خافتـة حزينـة‪.‬‬
‫مل ُت ِع ّـد طعـام العشـاء‪ .‬نامـت باكر ًا فيام بقيت أتقلَّـب يف فرايش مينةً‬
‫ثـم دوت يف الغرفـة أصـداء قويـة لعاصفـة تهـب على مدينتنـا‪.‬‬ ‫ويسرةً‪ّ .‬‬
‫ارتجـت البـاب والنوافـذ مـن أثـر الريـح والرعـد‪ .‬تصاعـد صـوت العاصفـة‬ ‫ّ‬
‫ثـم انطلـق مـن بين زئريهـا فجـأة صـوت مزمـار صغير‪ .‬كان صوتـ ًا‬ ‫القويـة‪ّ ،‬‬
‫رقيقـ ًا يختلـف عـن صـوت املزامير املألوفـة عندنـا يف ذلـك الزمـان‪،‬‬
‫املصنوعـة مـن قصبـة تضـم سـبعة ثقـوب نعـزف عليهـا لرتقـص األشـباح‬
‫شـك‪ ،‬صوتـ ًا صـادر ًا عـن مزمـا ٍر سـحري‬‫ّ‬ ‫تحـت ضـوء النجـوم‪ ،‬بـل كان‪ ،‬وال‬
‫صنعـه عفريـت مـن الجـن أصابـه املـس‪ ،‬صـوت يعبر تـار ًة بألحـانٍ مؤثـرة‬
‫لذيـذة شـيطانية متأملـة‪ ،‬ويـزرع يف السـامع إحساسـ ًا عارمـ ًا بالحنين تار ًة‬
‫ورجـاء‪ ،‬وضحـكات ضبـاع ورصخات‬ ‫ً‬ ‫نـداء ولومـ ًا‬
‫ً‬ ‫يتضمـن‬
‫َّ‬ ‫أخـرى‪ .‬كان عزفـ ًا‬
‫ٍ‬
‫غضـب شـديد‪.‬‬ ‫حـب وجملاً تنـم عـن‬ ‫ّ‬ ‫أمل طويلـة وكلمات‬
‫ضحكـت موجـات الريـح لـدى تدفُّقهـا مـن ثقـوب األبـواب والنوافـذ‬
‫مـرات‬
‫بغضـب وعنـف‪ .‬التقـاء رش هـذه القـوى الغامضـة‪ ،‬قـرأت ثلاث َّ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬
‫ثـم دفنـت وجهـي يف‬ ‫ـد» مرتعـد ًا مـن الخـوف‪ّ ،‬‬
‫َّـه أ َح ٌ‬
‫ـو الل ُ‬
‫سـورة «قُـلْ ُه َ‬
‫املخـدة‪ ،‬وغرقـت يف النـوم‪.‬‬
‫تـداول حيـايت تيـاران متوازيـان متناقضـان‪ .‬كنت أخضع خالل سـاعات‬
‫النهـار إليقـاع التزامـات وإكراهـات ال أفهـم مغزاهـا‪ ،‬فيما كان الليل فرصة‬
‫للدخـول إىل عـامل األشـباح واملخلوقـات الخياليـة‪ .‬أغـرق آنـذاك يف‬
‫عواملهـا وأشـاهد فواكههـا الخيالية التـي ال يتيرس ليدي الصغيرة قطافها‪.‬‬
‫كانـت حيـاة مزدوجـة تتخلَّلهـا األحلام واألوهـام والعثرات والفخـاخ‬
‫تعـودت على وتريتهـا‪ .‬مل أتحكَّ ـم يف مصيري‪ ،‬بـل‬
‫َّ‬ ‫واملقالـب‪ ،‬غير أننـي‬
‫يقـرره يل املحيـط‪ .‬كانـت كلّ خطـوة على دروب‬ ‫تقبـل مـا ِّ‬‫درجـت على ُّ‬

‫‪153‬‬
‫تتضمـن قـدر ًا مـن األرسار مـا كان يتيسر يل أن أفهمـه‪ .‬كانـت‬ ‫َّ‬ ‫الوقـت‬
‫اللحظـات تتـواىل وتحمـل يف ثناياهـا قـدر ًا معلومـ ًا مـن الفـرح واالبتهاج ال‬
‫بـأس بـه‪ّ ،‬إل أنـه كان عابـر ًا رسعـان مـا يفضي إىل مـا يناقضـه مـن مشـاعر‬
‫الضيـق والحـزن والقنـوط الجـارح‪ .‬فقـد كانـت أحـوايل متقلِّبـة تتفـاوت‬
‫حسـب مـزاج املحيطين يب مـن األشـخاص الكبـار‪ ،‬فيما كان الليـل ملـك ًا‬
‫خالصـ ًا يل قـد أسـتمتع فيـه أحيانـ ًا بأحالمي وأوهامـي‪ ،‬أو أعارك فيـه أحيان ًا‬
‫روح ُمعذَّ بـة منـذ األزل‪.‬‬
‫أخـرى الكوابيـس والعفاريـت‪ ،‬مثـل ٍ‬
‫ولعـلّ ذلـك مـا أعطـاين رغبـةً يف املغامـرة والتجربـة‪ :‬تجربـة املـوت‪.‬‬
‫فقـد كنـت أدخـل عـامل املـوىت واألشـباح مـع غـروب الشـمس وأعيش يف‬
‫عـامل الغيـب‪ ،‬قبـل أن أُبعـث مـن جديـد إىل عـامل الشـهادة صبيحـة اليوم‬
‫املـوايل حين أبرص أشـعة الشـمس وأسـمع زقزقـة العصافير‪ ،‬وآكل خبز‬
‫القمـح الشـهي وأرشب مـن مـاء البئر القريبـة‪ .‬وكان خبز الطفولـة وماؤها‬
‫مبجرد وجودهما عىل مقربة‬ ‫َّ‬ ‫على درجـة مـن اللـذة ال توصف‪ ،‬كنت أسـعد‬
‫ٍ‬
‫وتحـت املتنـاول‪ ،‬بيـد أين كنـت أغـرق أحيانـ ًا يف أجـواء من الحـزن الكثيف‬
‫أشـد‬
‫ّ‬ ‫أشـد املرارة‪ ،‬يابسـ ًا‬
‫ّ‬ ‫مر ًا‬
‫والعزلـة املقنطـة تجعـل طعـم نفـس الخبز ّ‬
‫اليبـاس‪ ،‬وبـارد ًا جارحـ ًا لحنجـريت الصغيرة الهشـة التكوين‪.‬‬
‫عي‬‫فضلـت بالطبـع النهـار على الليـل‪ .‬فالنهـارات تتواىل وفق نسـق ُم َّ‬ ‫َّ‬
‫يطبعـه يف الظاهـر الضبط والتنظيم‪ ،‬بينام كانـت الليايل تعج باملخلوقات‬
‫األسـطورية واألماكـن واألحـداث التـي ال يربطهـا رابـط وال ينظـم تسلسـلها‬
‫منطـق رصيـح‪ .‬كان والـداي وأصدقـايئ يف الكُ َّتـاب والفقيـه ذو العصـا‬
‫الطويلـة يسـكنون بالطبـع عـامل النهـار املُضـاء بضوء الشـمس‪ ،‬غير أنني‬
‫لقيـت بعضهـم أحيانـ ًا يف أحالم الليـل وعوامله املعتمة وبلدانه السـحرية‬
‫تكـن عالقـايت بهـم يف أحلام‬ ‫املتعرجـة الـدروب واملسـالك‪ .‬مل ْ‬
‫ِّ‬ ‫الخطيرة‬
‫الليـل شـبيهةً بحالتهـا خلال سـاعات النهـار‪ .‬حاولـت تج ُّنـب صحبتهـم‬
‫ِمـراراً‪ ،‬سـواء يف عـامل الليـل أو النهـار‪ ،‬غير أنني فشـلت يف ال ِفـرار منهم‪.‬‬
‫وكنـت ألقـى منهـم معاملـةً حسـنةً أحيانـ ًا وسـيئةً أحيانـ ًا أخرى‪ ،‬حسـب ما‬
‫يفـرض عليهـم مزاجهـم املتقلِّـب‪ .‬ما كان بوسـعي أن أتقـي أذاهم ألنني مل‬

‫‪154‬‬
‫أكـن ّإل طفلاً صغير ًا قليل الحيلة مجرب ًا عىل مالزمة فراشـه منكمشـاً عىل‬
‫ْ‬
‫نفسـه‪ ،‬يف حين كان الرجـال قـد مضوا إىل أعاملهم والنسـاء قد اغتسـلن‬
‫وبـارشن أشـغال البيت‪.‬‬
‫أيقظتني والديت‪:‬‬
‫‪ -‬سـيدي محمد‪ ،‬تنام يف وضعية غري مناسـبة‪ ،‬اسـتيقظ قبل أن ُتصاب‬
‫بالتواء يف الرقبة!‬
‫ٍ‬
‫بصعوبة بالغة‪ ،‬كان ضوء الشمس يعمر املكان‪.‬‬ ‫عيني‬ ‫فتحت‬
‫ّ‬
‫‪ -‬انهض وتوضأ‪ ،‬بينام سأقيل لك بيضة لتتناول فطورك!‬
‫‪ -‬أحب البيض املقيل يف الزيت مع الفلفل األحمر والبقدونس!‬
‫‪ -‬أعـرف ذلـك‪ ،‬سـأضع لك الفلفـل األحمـر والبقدونس‪ ،‬وحتـى الكمون‬
‫يف البيضة!‬
‫مل تفلـت هـذه الجملـة مـن مسـامع رحمـة التـي رصخـت عبر نافـذة‬
‫غرفتهـا‪:‬‬
‫جداً!‬
‫سمي هذه األكلة األومليت اليهودية‪ ،‬إنها لذيذة ّ‬
‫‪ُ -‬ن ِّ‬
‫ردت عليها والديت‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬سيدي محمد ما زال مريض ًا ولديه رغبات تشبه وحم املرأة الحامل!‬
‫شـاركت كلّ الجـارات يف النقـاش‪ .‬ضحكـت بعضهـن ومتنـت أخريـات‬
‫العرافـة على مسـامعنا حكاية‬ ‫َّ‬ ‫يل الشـفاء العاجـل‪ .‬وقصـت الخالـة كنـزة‬
‫مـرت بالقـرب مـن دكان بائـع جبن أبيـض‬ ‫عجيبـة‪ .‬ذلـك أن امـرأة حاملاً َّ‬
‫الجبـان البخيـل فرفـض‪ .‬بعـد‬
‫َّ‬ ‫واشـتهت قطعـة صغيرة منـه‪ .‬طلبتهـا مـن‬
‫مـدة وضعـت حملهـا‪ ،‬برز عىل بطن الطفل وشـم أبيض يشـبه كثير ًا قطعة‬ ‫ّ‬
‫الجبن‪ .‬وشـاهدت الخالـة كنـزة الوشـم على بطـن الرضيـع بـأم عينيهـا‪.‬‬
‫علَّقت إحدى الجارات ساخرة‪:‬‬

‫‪155‬‬
‫‪ -‬من حسن حظّ ه أن الوشم مل يظهر عىل وجهه أو فوق جبهته‪.‬‬
‫نـادى إدريـس األقـرع مـن بـاب الـدار‪ .‬طلبـت منـه والـديت أن ينتظـر‬
‫قليلاً ‪ .‬ذهبـت إىل مطبخهـا لتعـد لـه طعامـاً‪ :‬دهنـت قطعـة خبـز كبيرة‬
‫بالسـمن البلـدي ول ّفـت زيتونـ ًا أسـود يف قطعـة ورق ونزلـت للقائـه‪ .‬قبـل‬
‫ال مـن الخالـة كنـزة مألتـه مـن‬‫السـلَّم اسـتلفت سـط ً‬
‫صعودهـا درجـات ُ‬
‫الجـرة الخزفيـة‬
‫َّ‬ ‫صبتـه يف‬‫البئر‪ ،‬حملتـه مبشـقة إىل بـاب غرفتنـا‪ ،‬حيـث َّ‬
‫نخصصهـا ملـاء الشرب‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫تعودنـا أن‬
‫الكبيرة املوضوعـة باملدخـل التـي ّ‬
‫ثـم خاطبتنـي‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬اسـتعد للخـروج‪ ،‬سـنذهب اليـوم للنزهـة رفقـة اللـة عائشـة التـي‬
‫تنتظرنـا‪ .‬سـأرافقك إىل حيـث تلتقـي شـخص ًا مل تعرفـه مـن قبـل‪ ،‬ألسـت‬
‫سـعيد ًا بالخـروج للنزهـة؟ أعـدك أن نذهـب إىل مـكانٍ بعيـد‪...‬‬
‫عدلـت مـن وضعيـة لثامهـا‬
‫تحدثنـي‪َّ .‬‬
‫ِّ‬ ‫تدثّـرت بحايكهـا بينما كانـت‬
‫ونفضـت الغبـار عـن خ ّفيهـا‪.‬‬
‫ضيقـة‬
‫‪ -‬هـل تعـرف حـارة الخلخالين؟ إنهـا حـارة جميلـة ذات دروب ِّ‬
‫تتضمـن أيضـ ًا شـجريت تين نابتتين يف‬
‫َّ‬ ‫ملونـة السـقوف‪ ،‬وهـي‬
‫ومنـازل َّ‬
‫جـدار‪ .‬امسـح أنفـك! أيـن هـو منديلـك؟ امسـح أنفـك!‬
‫التفتـت باحثـ ًا عـن منديلي‪ ،‬عثرت عليـه تحـت مخـدة وقـد صـار‬
‫منكمشـ ًا مبللاً ‪ .‬فتحتـه باحثـ ًا عـن مسـاحة نظيفـة كافيـة‪ .‬مسـحت أنفـي‬
‫بقـوة إىل درجـة أن املخـاط سـال على يـدي‪ .‬ألقيـت املنديـل جانبـ ًا‬
‫ومسـحت أصابعـي يف جلبـايب‪.‬‬
‫تهيأنـا ملغـادرة الـدار‪ ،‬ويف نفس اللحظة ظهـرت فاطمـة البزيوية التي‬
‫سـألت والديت‪:‬‬
‫‪ -‬إىل أين تتوجهان؟‬
‫‪ -‬عنـد اللـة عائشـة التـي دعتنـا لتقضيـة العشـية معهـا‪ ،‬فهـي وحيـدة‬
‫كما تعلمين!‬

‫‪156‬‬
‫َّ‬
‫الحلاق‬ ‫‪ -‬وكيـف هـي أحـوال زوجهـا سـيدي العـريب؟ أمل يطلّـق بنـت‬
‫بعـد؟‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬ولكننـي أعلـم أن أصهـاره الجـدد يذيقونـه الحنظـل‪ ،‬يتهمونـه‬
‫بالبخـل يف اإلنفـاق على ابنتهـم‪ ،‬بأنـه ال يقتنـي حتـى كفايتها مـن الطعام!‬
‫إنـه يـذوق عاقبـة نكرانـه لجميـل اللـة عائشـة!‬
‫نزعـت والـديت عن وجههـا الخامر الـذي كان يعيق حديثهـا إىل فاطمة‪.‬‬
‫مـا ألـذّ أن يعـرف املـرء أكثر مما يعـرف جريانـه حـول ظـروف اآلخريـن‬
‫وكأن غـرف الـدار على رؤوسـها الطري من كرثة انتبـاه اآلذان إىل‬ ‫ّ‬ ‫وأحوالهـم!‬
‫أمـي التـي نزعـت خامرهـا وواصلـت الكالم لتري الجارات مـدى ثقة‬ ‫حديـث ّ‬
‫اللـة عائشـة فيهـا إىل درجـة مقاسـمتها أرسار بيتها! أوحت لهـن يف األخري‬
‫أن مـا بجعبتهـا كثير ال ينتهـي‪ ،‬غير أنهـا تتحفَّـظ على إعالنـه حفاظـ ًا على‬
‫بتنـوع السـلع‬
‫ُّ‬ ‫أتقـدم والـديت مفتتنـ ًا‬
‫َّ‬ ‫التقاليـد‪ .‬وأخير ًا غادرنـا الـدار‪ .‬كنـت‬
‫التـي عرضهـا ال ُت َّجـار أمـام أبـواب حوانيتهـم‪ ،‬وعندمـا وصلنـا إىل رضيـح‬
‫تقدمت والديت نحـو مكان وضع النـذور‪ .‬كان عبارة‬ ‫سـيدي أحمـد التيجـاين َّ‬
‫منمـق بالزلّيج‪.‬‬
‫ثقـب مغطـى مبرشبيـة مـن الربونـز جعـل يف حائـط َّ‬ ‫ٍ‬ ‫عـن‬
‫مل ِ‬
‫تلـق والـديت شـيئ ًا داخل ثقب النذور‪ ،‬بل اكتفـت بوضع يدها داخله‬
‫ومالمسـة اإلطـار الخشـبي املحيـط بـه بوجههـا وهـي تتلـو دعـوات خافتة‪.‬‬
‫قبلـت زلّيـج الجـدار‬
‫مل تسـمح يل قامتـي الصغيرة بالوصـول إىل الثقـب‪َّ ،‬‬
‫العفـوي عن‬
‫ّ‬ ‫أمـي عالمـات الرضـا إزاء تعبريي‬
‫بشـفتي‪ .‬وظهـرت على وجـه ّ‬
‫ّ‬
‫توقيري لرضيـح الـويل الصالـح‪ .‬خاطبتني‪:‬‬
‫‪ -‬تعال يا ولدي‪ ،‬وليحفظك الله من رش العني!‬
‫خرجنـا إىل الشـارع وقطعنـا بضعـة أمتـار قبـل أن نصـادف بائـع خضار‬
‫يعـرض طامطـم وفلفلاً كبير ًا للبيع على شـكل مجموعات تشـبه أهرامات‬
‫أمي‪:‬‬
‫صغيرة‪ ،‬سـألته ّ‬
‫‪ -‬بكم تبيع الطامطم؟‬
‫ثـم انحنـت على الخضـار وبـدأت تقلبهـا وتختار مـن بينهـا‪ .‬خلطت بني‬
‫ّ‬

‫‪157‬‬
‫الخضـار مـن الفـوىض العارمـة التـي أحدثتهـا‬
‫ّ‬ ‫الفالفـل والطامطـم‪ .‬اسـتاء‬
‫فـرد عليهـا مغضبـ ًا بـأن هـذه السـلعة ليسـت للبيـع لزبونـة‬
‫يف بضاعتـه‪ّ ،‬‬
‫مزعجـة مثلها!‬
‫وردت أن عليـه أن يجمـع أزبالـه مـن‬‫رفعـت والـديت وجههـا مسـتاءة َّ‬
‫إن كان ال يبيعهـا! بأنـه ال ميكـن أن نسـمح للكسـاىل أمثالـه أن‬ ‫الشـارع ْ‬
‫يحتلـوا األرصفـة ويعرقلـوا مشي املـارة! كانـت بصـدد مواصلـة تهجمهـا‬
‫لـوال أننـي جذبتهـا مـن يدهـا وأجربتهـا أن تتبعنـي‪ .‬تركنـا البائـع املسـكني‬
‫يغلي مـن الغضـب‪.‬‬
‫كانـت توجـد‪ ،‬على اليسـار‪ ،‬بوابـة كبيرة خشـبية مزينـة باملسـامري‬
‫معدنيـة وبقطعـة برونـز منقوشـة يسـتعملها الطـارق ليقـرع البـاب‪.‬‬
‫أمي! َم ْن صاحب هذه الدار الجميلة؟‬
‫‪ّ -‬‬
‫‪ -‬هذه ليست داراً‪ ،‬إنها مكتب من مكاتب النصارى‪.‬‬
‫‪ -‬لكنني أشاهد مسلمني يدخلون من البوابة!‬
‫‪ -‬هـم يعملـون مـع النصـارى‪ ،‬النصـارى أغنيـاء يـا ولدي‪ ،‬وهـم يدفعون‬
‫َن يعـرف لغتهم!‬‫أجـور ًا مجزيـة مل ْ‬
‫‪ -‬وهل سأتكلَّم بدوري لغة النصارى عندما أكرب؟‬
‫‪ -‬ليحفظـك اللـه يـا ولـدي مـن ّأيـة عالقـة مـع هـؤالء القـوم الذيـن ال‬
‫نعرفهـم!‬
‫الحجامين تقـع يسـارنا قبالـة سـوق النخاسـة القديـم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كانـت زنقـة‬
‫رحبت بنا‬‫مبجـرد ولوجنـا دار ًا كبيرة بهـا‪ ،‬نـادت والـديت على اللـة عائشـة‪َّ .‬‬
‫َّ‬
‫مـن نافـذة غرفتهـا الواقعة يف الطابق الثـاين وطلبت م ّنـا أن نصعد نحوها‪.‬‬
‫كانـت بانتظارنـا وعينهـا على سـخان املـاء الـذي يتصاعـد مـن فمـه البخار‬
‫الحـارق‪ .‬طغـت على غرفتهـا لحظتهـا عالمـات واضحـة توحي بالفقـر وقلّة‬
‫ذات اليـد‪ .‬سـبق أن عرفنـا اللـة عائشـة يف أوقـات أفضـل‪ .‬مل تعـد أغلفـة‬
‫تزيـن مرتباتهـا وال األبسـطة البهية األلـوان تتناثـر يف أرجاء‬
‫قماش القطـن ِّ‬

‫‪158‬‬
‫املنمقة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ضمـت األواين الخزفيـة‬‫غرفتهـا! اختفـت الخزانـة الخشـبية التـي َّ‬
‫تحـدد‬
‫ِّ‬ ‫كما تركـت السـاعة الحائطيـة مكانهـا فارغـ ًا ّإل مـن بقعـة بيضـاء‬
‫مكانهـا السـابق‪ .‬مل تنقـص أعـداد املرتبـات غير أنهـا أصبحـت مـن النـوع‬
‫ال مـن الصـوف‪ ،‬لـذا صـارت صلبـة مزعجة للجالسين‪.‬‬ ‫املحشـو بالتبن بـد ً‬
‫كانـت الغرفـة تبـدو بارد ًة موحشـةً توحي بالحـزن والقنوط‪ ،‬بجـ ٍو من القلق‬
‫خيـم على جميـع سـكان هـذه الـدار املنزويـن يف األركان املعتمـة‬ ‫العـام َّ‬
‫مـن غرفهـم ومنعنـا مـن سماع أصواتهـم املكتومـة‪ .‬فجـأة سـمعت مـواء‬
‫ـام‬
‫ألي ٍ‬‫الشـك أنـه ظـلّ هنـاك مهملاً ّ‬‫ّ‬ ‫قـط صغير قادمـ ًا مـن سـطح الـدار‪.‬‬
‫طويلـة‪ ،‬لـذا كان مـواؤه ضعيفـ ًا وحزينـاً‪.‬‬
‫قدمـت لنا اللة عائشـة الشـاي فـوق صينية صفـراء متهالكة من نحاس‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬
‫امنحـت نقوشـه‪ .‬قامـت بواجبـات الضيافـة بأنفـة رغـم مـا طـال بيتهـا مـن‬
‫وتغير يف األحوال‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫تقلُّـب يف الظـروف‬
‫سـيطر الصمـت على ثالثتنـا‪ .‬كان كلّ م ّنـا يسـبح يف شـواغل عاملـه‬
‫ثـم كسرت اللـة عائشـة السـكون بقولهـا‪:‬‬ ‫الخـاص‪ّ ،‬‬
‫ُقـررة بالذهـاب إىل حـارة الص ّفاحين‪،‬‬‫‪ -‬أقترح أن نسـتبدل وجهتنـا امل َّ‬
‫ففقيـه زقـاق الخلخالني سـافر إىل الجبـل ومل يعد بعد إىل فـاس‪ .‬يبدو أن‬
‫العـرايف الذي سـنذهب لزيارته‬
‫َّ‬ ‫لـه أرسة يف قريـة مـن قـرى الجبل‪ .‬سـيدي‬
‫خـدوج العلويـة التي راجعتـه أكرث‬
‫ّ‬ ‫شـيخ رضيـر‪ ،‬ذلـك مـا أخربتنـي به اللـة‬
‫ٌ‬
‫مـرة وقرأ لهـا الطالع فأخربها بأمـو ٍر تح ّققت الحقاً‪ .‬مـا زال عندي بقية‬
‫مـن ّ‬
‫مـن أمـل يـا زبيـدة! لسـنا ّإل نسـاء مهيضـات الجنـاح‪ ،‬والسـعادة مخلـوق‬
‫هـش يصعـب الحفـاظ عليـه! ها أنت تنظريـن إىل عش أرسيت الـذي تكسَّ ‪،‬‬
‫ولـن يهنـأ يل بـال ّإل بعـودة األمـور إىل نصابها!‬
‫أمـي وهـي تهز رأسـها باملوافقـة‪ ،‬فقلَّدتها ألنني كنـت أعرف أنه‬
‫تنهـدت ّ‬
‫َّ‬
‫الترصف متام ًا مثـل والديت يف مثل هذه املناسـبات‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫علي‬
‫ينبغـي َّ‬
‫أمي‪:‬‬
‫ردت ّ‬
‫َّ‬
‫‪ -‬اللـة عائشـة‪ ،‬أنـا بـدوري محتاجـة لقـراءة الطالـع والحصـول على‬

‫‪159‬‬
‫النصيحـة‪ .‬أخـاف على بيتـي‪ ،‬على زوجـي وابنـي‪ .‬وعندمـا ينزل غضـب الله‬
‫على مخلوقـات ضعيفـة مثلنـا فلا حـول وال قـوة ّإل باللـه! العارفـون بالله‬
‫العـرايف وصلـت كلّ أنحـاء‬
‫َّ‬ ‫ـن يسـتطيعون نجدتنـا‪ .‬سـمعة سـيدي‬ ‫هـم َم ْ‬
‫شـك أنـه سيسـاعدنا يف تجـاوز هـذه املحنـة!‬‫ّ‬ ‫فـاس‪ ،‬ال‬
‫‪ -‬على العبـد أن يلتمـس الطـرق واألسـباب وأن يجعـل ثقتـه يف اللـه‪،‬‬
‫اللـه املعين!‬
‫نهضـت اللـة عائشـة مـن األرض بصعوبـة‪ ،‬فهـي مل تفقـد الكثير مـن‬
‫ثـم تدثَّـرت بحايكهـا مسـتعدة للخـروج‪.‬‬
‫بدانتهـا‪ّ ،‬‬

‫‪160‬‬
‫الفصل العارش‬

‫العـرايف‪ .‬فقـد سـارع‬


‫َّ‬ ‫مل نجـد صعوبـة يف العثـور على منـزل سـيدي‬
‫أهـل حـارة الص ّفاحين ملسـاعدتنا‪ ،‬وبـدوا فخوريـن مبجاورة رجل مشـهور‬
‫تطـوع طفـل صغري ملرافقتنا عبر أزقة ضيقة ملتويـة معتمة وعامرة‬ ‫َّ‬ ‫مثلـه‪.‬‬
‫بالقـاذورات والقطـط املرتصـدة يف الزوايـا‪ ،‬قبـل أن نصل أخري ًا إىل سـاحة‬
‫صغرية تعمرها أشـعة الشـمس‪ .‬يف هذه السـاحة املفتوحة وجدنا مدخل‬
‫مطحنتين تعملان بتيـار املاء وثالثـة بيوت‪ ،‬وحفـرة رصف صحي مفتوحة!‬
‫كان مثَّـة غيـوم مـن غبـار وذبـاب يف الجـو وروائـح متباينـة تتصـارع‪ :‬روائح‬
‫مخلفـات منزليـة وبول حمير وبخور!‬
‫ثم حشر إصبعه‬ ‫أشـار الطفـل الـذي رافقنـا إىل بـاب املنـزل األوسـط‪ّ .‬‬
‫داخـل أنفـه وغـادر ال يلـوي على يشء‪ .‬فتـح البـاب وخرجـت منـه امـرأة‬
‫مغضنـة التقاسـيم تحمـل فوق رأسـها سـلة مـن قصب‪ .‬نظـرت إلينا‬ ‫ّ‬ ‫مسـنة‬
‫ثـم غـادرت باتجـاه نفـس الزقـاق املظلـم الـذي قدمنـا نحـن عبره‪.‬‬‫مليـاً‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ولجنـا الواحـد تلـو اآلخـر املمـر املـؤدي لداخـل الـدار‪ .‬تحسسـنا األرضية‬

‫‪161‬‬
‫قبـل أن نضـع أقدامنـا ألن العتمـة كانت تسـيطر على املكان‪ .‬وبين الفينة‬
‫أمي واللة عائشـة تتعوذان عندما تتعثر أقدامهام بقطعة‬ ‫واألخـرى‪ ،‬كانـت ّ‬
‫شـاردة أو صخـرة ناتئـة مـن أرضيـة الـدار غري املسـتوية‪.‬‬
‫بضـوء طبيعـي سـاطع‬‫ٍ‬ ‫أوصلنـا املمـر على اليسـار إىل فنـاء مغمـور‬
‫فتنفسـنا الصعـداء‪ .‬كان بالفنـاء شـجرة عنـب باذخـة تصاعـدت عروشـها‬
‫على حائـط إىل أعلى‪ ،‬وبـدت أوراقهـا يانعـة بالغـة االخضرار على خلفيـة‬
‫البيـاض الناصـع للجير الـذي صبغـت بـه جـدران الـدار‪ .‬كان يتصاعـد مـن‬
‫هـدوء كنسي‪ ،‬ال يؤثثه ّإل هديـل حامم وزقزقة طيور سـنونو‪ .‬بحثت‬ ‫ٌ‬ ‫الفنـاء‬
‫الشـك‬
‫ّ‬ ‫دون جـدوى عـن مـكان هـذه الطيـور التـي اسـتقبلتنا بفرحة وحبور‪.‬‬
‫تتفـرج علينـا مـن مخابئهـا العامـرة بالظـلّ الرغيـد‪ .‬لبثنـا يف الفنـاء‬
‫َّ‬ ‫أنهـا‬
‫ثم تجرأت‬‫يتوجب عملـه‪ّ ،‬‬‫َّ‬ ‫دقائـق طويلـة دون أن نـرى مخلوقـاً‪ .‬مل نعرف ما‬
‫والـديت أن تصرخ‪:‬‬
‫‪ -‬يا أهل الدار!‬
‫ردض عليها صوت امرأة‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬تريدون لقاء َم ْن؟‬
‫العـرايف هنـا؟ نرغـب يف لقائـه والحصـول على‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬هـل يقطـن سـيدي‬
‫املشـورة منـه!‬

‫أطـلَّ علينـا رأس فتـاة زنجيـة صغرية مـن نافذة علوية‪ ،‬أشـارت ُ‬
‫للسـلَّم‬
‫الـذي يوجـد عـن مييننا وقالـت لنا‪:‬‬
‫األول‪.‬‬
‫العرايف يسكن يف الطابق َّ‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬سيدي‬
‫صـوت يوحـي‬
‫ٌ‬ ‫مبجـرد أن تجاوزنـا أربعـة أدراج صـدر عـن اللـة عائشـة‬
‫َّ‬
‫بأنهـا تجـد صعوبـة يف التنفُّـس فخاطبتنـا‪:‬‬
‫أو ً‬
‫ال وانتظراين يف املدخل!‬ ‫‪ -‬اصعدا أنتام َّ‬
‫ممـرات أخـرى وسلامل‬
‫ّ‬ ‫بعدمـا وصلنـا إىل املدخـل املفترض‪ ،‬وجدنـا‬

‫‪162‬‬
‫تكن السلامل املتهرئة‬‫ـدة‪ .‬مل ْ‬‫ذات درجـات متهالكـة تقـود إىل ا ِّتجاهـات ِع ّ‬
‫ُهمـة على الزائـر املضطـر لصعودهـا‪ .‬أخير ًا ويف نهايـة أحـد‬ ‫لتسـهل امل َّ‬
‫ّ‬
‫يتصدر بابها سـتار كبري بألوان‬
‫َّ‬ ‫العـرايف‪ .‬كان‬
‫َّ‬ ‫سـيدي‬ ‫غرفة‬ ‫وجدنـا‬ ‫ات‬ ‫املمـر‬
‫ّ‬
‫صفـراء وحمـراء مينـع الناظـر مـن االطالع على مـا بداخلها‪.‬‬
‫تتصبـب عرقـ ًا وتتنفَّـس بصعوبـة وتتلـو‬
‫َّ‬ ‫لحقـت بنـا اللـة عائشـة وهـي‬
‫الدعـوات طالبـة املعونـة مـن اللـه‪ .‬أزحـت السـتار بيـدي فنطقـت والديت‪:‬‬
‫العرايف؟‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬أهنا يسكن سيدي‬
‫العـرايف العبـد الفقير‬
‫َّ‬ ‫تقدمـوا وال تخافـوا يـا قادمين‪ .‬أنـا‬
‫‪ -‬نعـم هنـا‪َّ .‬‬
‫الرضيـر الـذي ال يرفـض أبـد ًا اسـتقبال ضيـوف اللـه!‬
‫خلعنـا أحذيتنـا ودخلنـا الواحـد تلـو اآلخـر‪ .‬خاطبتـه اللـة عائشـة وهي‬
‫ٍ‬
‫كلمـة وأخرى‪:‬‬ ‫وتتنهـد بين كلّ‬
‫َّ‬ ‫تزفـر‬
‫‪ -‬نحن ضيوف الله وضيوفك يا سيدنا!‬

‫‪ -‬اقرتبـوا! اقرتبـوا! لدينـا مـاء طاهـر لترشبـوا وترطِّ بـوا حناجركـم ْ‬


‫إن‬
‫مسـكم العطـش‪ .‬عينـاي ال تبصران‪ ،‬ولكـن قلبـي يـرى أنكم من أهـل الخري‬ ‫َّ‬
‫والصلاح‪ .‬إن بينكـم طفلاً صغير ًا أسـمع صـوت أقدامـه فوق البسـاط‪ ،‬هل‬
‫هـو ولـد أم بنت؟‬
‫أمي وهي تخاطبني‪:‬‬
‫أجابت ّ‬
‫‪ -‬ولد! ق َِّبلْ يد الرشيف يا ولدي واطلب منه أن يدعو لك بالربكة!‬
‫َم ّد الشيخ الرضير ميناه يف الفراغ بيننا وبينه وقال‪:‬‬
‫تقـدم! اجلس إىل‬
‫‪ -‬بـارك اللـه فيـك يـا ولدي! بـارك اللـه فيك يا ولـدي! َّ‬
‫جانبي!‬
‫كانـت الطيبوبة تشـع مـن وجهه الطويل الضامر الذي شـابهت سـمرته‬
‫الشـديدة لـون الخبـز املحـروق‪ .‬ومل يفزعني البيـاض الحليبي الـذي يعمر‬
‫شـفتي فـوق ظاهر‬
‫ّ‬ ‫تقدمـت نحوه ووضعت‬ ‫عينيـه الخاليتين مـن بؤبؤيهما‪َّ .‬‬

‫‪163‬‬
‫وتلمس وجهـي بأصابعه‪،‬‬ ‫يـده‪ .‬ابتسـم وجذبني إليه‪ ،‬أجلسـني على ركبتيه َّ‬
‫تلمـس تقاسـيم وجهـي الصغري قبـل أن تتوقَّف أصابعه فـوق جبهتي وتنزل‬ ‫َّ‬
‫املـدة مل يتوقَّـف عـن القـول «عليـك بركة‬
‫ّ‬ ‫نحـو أذين ورقبتـي‪ .‬وخلال هـذه‬
‫ومررها فـوق ظهري وهو‬
‫اللـه! عليـك بركـة الله!»‪ .‬تناول سـبحة كانـت قربه َّ‬
‫وإن كان حفظـ ًا ناقص ًا يشـوبه بعض‬
‫يتلـو سـور ًا مـن القرآن كنـت أحفظهـا‪ْ ،‬‬
‫ثـم خاطبني‪:‬‬‫االرتباك‪ّ ،‬‬
‫شـك أنـك تحفـظ سـورة العـرش‪ ،‬اتلهـا ِمـرار ًا فهـي سـتحفظك مـن‬
‫‪ -‬ال ّ‬
‫كلّ رش!‬
‫العـرايف يلبـس جبـة واسـعة مـن قطـن ويعتمـر طربوشـ ًا‬ ‫َّ‬ ‫كان سـيدي‬
‫مر ًة ثانيـة وابتعدت‬
‫قبلـت يده ّ‬ ‫صوفيـ ًا باليـ ًا تقلَّـص حجمه من كرثة غسـله‪َّ .‬‬
‫صبـت لنـا بعض ًا‬
‫ثـم خرجـت زوجتـه للرتحيـب بنـا‪َّ .‬‬ ‫عنـه إىل حيـث والـديت‪ّ ،‬‬
‫جـرة طينيـة‪ .‬شـعرت كأنني أعـرف وجـه هـذه املرأة‪.‬‬ ‫مـن مـاء الشرب مـن َّ‬
‫ربـا شـاهدتها مـن قبـل يف الحمام العمومـي‪ .‬كان لـون وجههـا خمريـ ًا‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬
‫تتحدث بلكنة توحـي بانتامئها ملنطقة‬ ‫َّ‬ ‫أقـرب إىل السـمرة منه إىل البيـاض‪.‬‬
‫ٍ‬
‫تنـم عـن أناقـة ووقار‪ .‬ما زلـت أتذكَّ ـر‪ ،‬إىل اليوم‪،‬‬
‫تافياللـت‪ .‬كانـت حركاتهـا ّ‬
‫تفاصيـل وجههـا‪ :‬عيناهـا املتقاربتان‪ ،‬وأنفهـا الدقيق‪ ،‬وشـفتاها الكبريتان‪.‬‬
‫أتذكَّ ـر أيضـ ًا أسـنانها الكبرية املغروسـة يف لثتها الحمـراء‪ ،‬وقد بدت عليها‬
‫آثار السـواك‪.‬‬
‫العـرايف عالمات ِ‬
‫الغنـى‪ .‬فاملرتبـات موضوعة‬ ‫َّ‬ ‫تبـد على دار سـيدي‬
‫مل ُ‬
‫فـوق بسـاط مـن الـدوم وأغطيتهـا باديـة القـدم رغـم نظافتهـا وحسـن‬
‫ترتيبهـا‪ .‬كانـت الغرفـة تتضمـن خزانـة برفـوف وضـع فوقهـا وعـاء فريـد‬
‫مـن تنـك أبيـض‪ ،‬مخصـص على مـا يبـدو لتخزيـن السـكر‪ ،‬امنحت نقوشـه‬
‫ُذهبـة بفعـل تـوايل الشـهور واألعوام‪ ،‬فيما كان جلباب سـيدي العرايف‬
‫امل َّ‬
‫معلَّقـاً فـوق رسيـره‪.‬‬
‫طلـب الرجـل مـن زوجتـه أن تحضر لـه ق ّفتـه‪ ،‬ظللنـا سـاكنني قبالتـه‪.‬‬
‫وأصابتنـي حالـة مـن التوتـر املمـزوج بحـب االسـتطالع العتقـادي أننـا‬
‫سـنحرض بعـد قليـل أمـر ًا لـه أثـر عظيـم‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫العـرايف قفـة مـن ضفـر دائريـة‬
‫َّ‬ ‫وضعـت الزوجـة بين يـدي سـيدي‬
‫مـد األعمـى يـده نحـو الغطـاء ورفعـه‬ ‫الشـكل يعلوهـا غطـاء مخروطـي‪َّ .‬‬
‫بالتوجس والخوف‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫بتـؤدة ورفـق‪ ،‬فمددت عنقي ألشـاهد ما تحته‪ .‬شـعرت‬
‫وحـش خرايف أو سـحابة دخان تتبخر لتسـفر‬ ‫ٌ‬ ‫توقعـت أن يخـرج مـن الق ّفة‬
‫تتضمـن الق ّفـة أي يشء‬
‫َّ‬ ‫عـن عفريـت ينحنـي أمامنـا ليلبـي كلّ رغباتنـا‪ .‬مل‬
‫خـارق‪ .‬كان بهـا بخـور شـعبي ولبـان جـاوي‪ .‬نظـرت إىل األشـياء التـي تتجه‬
‫العـرايف وابتسـمت‪.‬‬
‫َّ‬ ‫لقبضهـا يـد سـيدي‬
‫كانـت محتويـات الق ّفـة تذكّ ـرين مبـا جمعتـه يف صنـدوق العجائـب‬
‫خاصتـي‪ .‬يبـدو أنـه مطلـع على «رسي»‪ .‬جميـع النـاس يقولـون إنـه رجـل‬
‫عـامل‪ ،‬والبـد لـكل عـامل مـن صنـدوق عجائـب! فهمـت لحظتهـا سـبب‬
‫فرحتـه وهدوئـه رغـم عماه‪ .‬صحيـح أنـه ال ميكنـه رؤيـة الشـمس والـورود‬
‫والعصافير‪ ،‬ولكـن أحالم ليله مليئـة باملخلوقات العجيبة التي يسـتدعيها‬
‫أتحـرك من مجليس‪ ،‬غير أن نظرة‬
‫َّ‬ ‫مكونـات صندوقـه‪ .‬كدت‬
‫مكـون مـن ِّ‬
‫ِّ‬ ‫كلّ‬
‫صارمـة مـن والـديت ألزمتنـي السـكون‪.‬‬
‫العـرايف أدعيـة وأوراد ًا طويلـة‪ ،‬بينما كانـت يـداه تحلِّقـان‬
‫َّ‬ ‫قـرأ سـيدي‬
‫طائـر فـوق عشـه‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫فـوق محتويـات الق ّفـة مثلما يحلِّـق‬
‫ثم توقَّف عن الحركة وخاطبنا‪:‬‬
‫‪ -‬ال تنتظـروا منـي أن أكشـف لكـم عـن مكنـون الغيـب‪ .‬املسـتقبل ال‬
‫يعلمـه ّإل اللـه املحيـط القديـر‪ .‬هـذه املحـارات والتامئـم تسـاعدين يك‬
‫أتلمـس آالمكـم وهواجسـكم‪ ،‬يك أقترب مـن قلوبكـم‪ .‬وعندمـا أُ ِّ‬
‫حدثكـم‬ ‫َّ‬
‫فأنتـم تسـمعون حديـث قلبـي إىل قلوبكـم‪ .‬سـيدي محمـد! أليـس هـذا هو‬
‫اسـم الولـد الصغير الـذي يرافقكـم؟‬
‫ٍ‬
‫بصوت خجول‪:‬‬ ‫ردت والديت‬
‫َّ‬
‫‪ -‬نعم سيدي!‬
‫‪ -‬سـيدي محمـد يعـرف صحـة مـا سـأقول لكـم‪ ،‬فالطفـل البريء مـا‬
‫قبـس مـن نـور املالئكـة ال ِكـرام‪ ،‬والحقيقـة ٌ‬
‫نـور يـراه الصغـار‬ ‫ٌ‬ ‫زال يف قلبـه‬

‫‪165‬‬
‫قبـل الكبـار‪ .‬اقترب يا سـيدي محمـد‪ ،‬اقرتب! واخرت شـيئ ًا من بني األشـياء‬
‫املوجـودة يف الق ّفـة بعـد أن تغمـض عينيـك!‬
‫زجـاج‬
‫ٍ‬ ‫نفَّـذت تعليامتـه حرفيـ ًا فوقعـت أصابعـي على كـرة مـن‬
‫ِ‬
‫راحـة يـدي‪ .‬كانـت زرقـاء اللـون‪ ،‬تفحصتها‬ ‫اسـتقرت يف‬
‫َّ‬ ‫بحجـم بيضـة‪،‬‬
‫تتضمـن داخلها فقاعـة هواء‬
‫َّ‬ ‫قبـل أن أسـلِّمها لـه‪ .‬كانـت المعـة شـفَّافة‬
‫بأجـرام سماوية‬
‫ٍ‬ ‫مسـجونة تحيـط بهـا فقاعـات أصغـر بـدت شـبيهة‬
‫ٍ‬
‫كوكـب مـا‪.‬‬ ‫تسـبح حـول‬
‫العرايف كـرة الزجـاج البيضاوية طويلاً قبل أن‬
‫َّ‬ ‫تلمسـت أصابـع سـيدي‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫متباعـدة‪ ،‬مهيبة من شـفتيه‪:‬‬ ‫بكلمات خرجـت متثا ِقلة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ينطـق‬
‫ُبـارك وتذكَّ ـر دومـ ًا مـا سـأقول! إن حجـرة‬ ‫‪ -‬اسـمع أيهـا الطفـل امل َ‬
‫سـمى اليتيمـة يف لغة العارفني‪ ،‬ألنها وحيدة ال شـبيه لها‪ ،‬وألن‬ ‫األملـاس ُت َّ‬
‫بقيـة األحجـار الكرميـة ال تشـابهها يف الجمال وال يف الصالبة‪ .‬كلّ إنسـان‬
‫يتسـمى اليتيـم أو الوحيـد! مـن اآلن‬
‫َّ‬ ‫ميكـن أن يحمـل لقـب األملـاس‪ ،‬أن‬
‫تخلى عنـك الخلـق فانظـر إىل داخـل‬ ‫الحـزن! إِ ْن َّ‬
‫َ‬ ‫فصاعـد ًا اطـرد مـن قلبـك‬
‫ـد مـن‬ ‫يتضمـن قـدر ًا ال يحيـط بـه َ‬
‫الع ّ‬ ‫َّ‬ ‫نفسـك‪ .‬أتفهمنـي يـا ولـدي؟! قلبـك‬
‫العجائـب والغرائـب! عندمـا تعـزف عـن النظـر إىل كنـوزك تعتـلّ صحتـك‬
‫وتصبـح كاألهبـل! انظر لداخـل البيضة التـي ناولتني‪ .‬بداخلهـا توجد صورة‬
‫الشـمس‪ ،‬إنهـا هنـا يف حضرة نورانيـة مبأمن مـن الدنس‪ .‬حـاولْ أن تكون‪،‬‬
‫وسـتنج مـن كلّ رش! بـركات الله عليك‬ ‫ُ‬ ‫فتـح اللـه عليـك‪ ،‬مثل هـذه الصورة‬
‫قـرب جبهتك مـن شـفتي يك أُ ِّ‬
‫قبلها!‬ ‫يـا ولـدي! بـركات اللـه عليـك يا ولـدي! ِّ‬
‫دعاء من األدعية‪.‬‬
‫ً‬ ‫مرتفع‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بصوت‬ ‫قبل جبهتي وقرأنا مع ًا‬
‫َّ‬
‫شـعرت بعدهـا بتأثـر شـديد ودمعـت عينـاي‪ .‬شـعرت كأننـي أسـبح يف‬
‫بحـ ٍر مـن السـكينة والهـدوء‪ .‬وكان لهذا املشـهد فعل السـحر عىل والديت‬
‫العـرايف‬
‫َّ‬ ‫واللـة عائشـة‪ ،‬فظلتـا واجمتين سـاكنتني بدورهما‪ .‬أزاح سـيدي‬
‫قدمـت لـه املـاء يف‬
‫مـاء‪ّ .‬‬
‫الق ّفـة مـن أمامـه وطلـب مـن زوجتـه أن تسـقيه ً‬
‫ٍ‬
‫بقطعـة مـن‬ ‫ثـم خرجـت مـن املـكان‪ .‬مسـح الرضيـر شـفتيه‬ ‫ٍ‬
‫كـوب طينـي‪ّ ،‬‬

‫‪166‬‬
‫قماش قبـل أن يضعهـا تحـت ركبتـه ويخاطـب املرأتين‪:‬‬
‫‪ -‬ألهمكما اللـه أن تقصـدا هـذه الـدار‪ ،‬ألن بقلبيكما جراحـ ًا مؤملـة!‬
‫لكننـي لسـت ّإل عبـد ًا ضعيفـ ًا أعطـاه اللـه بركـة ملسـاعدة إخوانـه وشـفاء‬
‫آالمهـم‪ .‬اقرتبـا وافعلا كما فعـل هـذا الطفـل املبـارك‪ ،‬لتختر كلّ منكما‬
‫شـيئ ًا مـن بين محتويـات الق ّفـة!‬
‫تنهـدت اللـة عائشـة وأدخلـت يدهـا يف القفـة لتخـرج محـارة ناولتهـا‬
‫َّ‬
‫العرايف إىل‬
‫َّ‬ ‫سـيدي‬ ‫أصابع‬ ‫بني‬ ‫لت‬ ‫تحو‬
‫َّ‬ ‫لكنهـا‬ ‫عادية‪،‬‬ ‫محـارة‬ ‫كانـت‬ ‫الفقيـه‪.‬‬
‫محـار ٍة ذات بيـاض سـاطع‪ ،‬إىل حليـة صاغهـا فنـان خزف يف لحظـة إرشاقٍ‬
‫وسعادة!‬
‫‪ -‬ما هو اسمك أيتها السيدة ذات القلب الفاضل؟‬
‫‪ -‬عائشة‪ ،‬يا شيخنا!‬
‫ُفضلـة لـدى رسـول اللـه صىل اللـه عليه وسـلم! لذا‬ ‫‪ -‬اسـم الزوجـة امل َّ‬
‫أنصحـك أن تطـردي الحـزن مـن على وجهـك‪ .‬نعـم لقـد قاسـيت ومـا زلـت‬
‫تقاسين كثيراً‪ ،‬لـذا ال تعرييـن كالمـي كثير ًا مـن االنتبـاه‪ .‬اسـمعيني ّ‬
‫جيداً‪:‬‬
‫جرحـك يبـدو عميقـاً‪ ،‬لكن الشـفاء قريب! أتعلمين أيتها املـرأة أن االبتالء‬
‫متهد للعودة؟‬ ‫يورث الهناء‪ ،‬أن املوت يسـبق البعث والنشـور‪ ،‬وأن الوحدة ِّ‬ ‫ِّ‬
‫عـودة أمـواج مـن الحنـان؟ اجتنبـي القنوط من رحمـة الله وتقلُّبـات األقدار‬
‫تقبل مشـيئة‬‫مجـرد ِعبـاد ضعـاف على هـذه األرض‪ ،‬علينـا ُّ‬‫َّ‬ ‫ُقـدرة! نحـن‬ ‫امل َّ‬
‫بعشـك الصغير يف ظلامتهـا‪ ،‬لكن بـإذن الله‬ ‫طوحـت العاصفـة ّ‬ ‫اللـه‪ .‬لقـد َّ‬
‫وأزهار‬
‫ٌ‬ ‫ربيع جديـد‬
‫ويعـاد بنـاؤه! سـيكون هنـاك ٌ‬ ‫العـش إىل مكانـه ُ‬
‫ُّ‬ ‫سـيعود‬
‫جديـدة عىل أغصـان شـجرة اللوز!‬
‫ٍ‬
‫بـكاء طويـل‪.‬‬ ‫صـدرت عـن اللـة عائشـة تنهيـدة وشـهقة وانهمكـت يف‬
‫أخرجـت والـديت منديلهـا القماش لتمسـح الدمـوع مـن عينيهـا أيضـاً‪،‬‬
‫العـرايف أرضيـة‬
‫َّ‬ ‫والتجـدد‪ .‬القـت كلمات سـيدي‬
‫ُّ‬ ‫شـعرت بـدوري بالراحـة‬
‫خصبـة فانغرسـت جذورهـا يف دمـاء عروقـي‪ .‬وسـمعت الشـيخ يدنـدن‬
‫لنفسـه هـذه الدندنـة الغريبـة التـي مـا زالـت يف أذين إىل اليـوم‪:‬‬

‫‪167‬‬
‫«عىل وقع األيام‬
‫عىل وقع الليايل‬
‫تكر سبحة األقامر الجديدة‬
‫ّ‬
‫تحيص الفصول»‪..‬‬
‫ثم خاطب املرأتني كلتيهام‪:‬‬
‫ّ‬
‫تحولـت‬
‫‪ -‬إن الدمـوع تفعـل فعـل النـدى على زهـر القلـوب‪ ،‬لكـن إذا َّ‬
‫إىل مطـر تغـرق الزهـور فتمـوت‪ .‬كفكفـا دموعكام ولنقـرأ الفاتحـة جميعاً!‬
‫قرأنا الفاتحة‪:‬‬
‫باسم الله الرحمن الرحيم‬
‫الحمد لله رب العاملني‬
‫الرحمن الرحيم‬
‫مالك يوم الدين‬
‫إياك نعبد وإياك نستعني‬
‫اهدنا الرصاط املستقيم‬
‫رصاط الذين أنعمت عليهم‬
‫غري املغضوب عليهم وال الضالني‬
‫آمني‪...‬‬
‫العرايف‬
‫َّ‬ ‫مدت والـديت بدورها يدهـا إىل ق ّفة سـيدي‬‫بعـد لحظـة صمـت َّ‬
‫أول يشء عثرت عليـه‪ :‬كان عبـارة عـن جوهـرة سـوداء‬ ‫والتقطـت منهـا َّ‬
‫ملونـة صغيرة‪.‬‬
‫رسـمت عليهـا تصاويـر َّ‬
‫ابتسم الشيخ الرضير وسأل والديت عن اسمها‪.‬‬
‫‪ -‬زبيدة!‬

‫‪168‬‬
‫تحول جسـدي من‬ ‫مـدة طويلـة فقـدت بصري‪َّ ،‬‬ ‫‪ -‬يـا أختـي زبيـدة‪ ،‬قبـل ّ‬
‫شـدة اليـأس والقنـوط إىل كتلـة رمـاد سـاخنة ال تجـد لهـا مكانـ ًا على ظهـر‬
‫ّ‬
‫األرض‪ .‬بـدا يل أن كلَّ مـاء األرض لـن يـروي عطشي‪ ،‬اختفـت الشـمس‬
‫واسـتحال الكـون بالنسـبة يل إىل خريـف مظلـم أبـدي‪ ،‬فلجـأت إىل اللـه‪:‬‬
‫‪ -‬شمس وماء يا إلهي!‬
‫شمس وماء يا إلهي!‬
‫اسـتجاب الخالـق لدعايئ‪ ،‬فاسترجعت األرض ربيعهـا وحنانها‪ .‬ذهبت‬
‫فـوق الهضبـة ألدفـئ عظامي البـاردة‪ ،‬رويت مفاصيل يف عيـون ماء صافية‬
‫واسـتعاد حلقـي‪ ،‬بعدمـا ارتوى‪ ،‬لكنةَ املايض الذي نسـيته‪ .‬يـا أختي! حذار‬
‫مـن اعتبـار مـا يحـدث معـك رش ًا مسـتطرياً‪َّ ،‬‬
‫تقبلي إرادة اللـه واعلمـي أن‬
‫أوليـاء اللـه الصالحين‪ ،‬دفناء هـذه املدينة الطاهـرة‪ ،‬مينحونـك بركاتهم‪.‬‬
‫تبريك بزيـارة أرضحتهـم‪ ،‬واعلمـي أنـك حين ترفعني كـف الدعاء بسلامة‬ ‫َّ‬
‫الغائـب فـإن ملاكك الحارس يدعـو الله بدوره أن يجازيـك بنفس ما متنيت‬
‫للغائب‪ ،‬أحضره الله!‬
‫العرايف كالمه بسورة التوحيد‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ثم اختتم سيدي‬
‫ّ‬
‫‪« -‬قـل هـو اللـه أحـد‪ ،‬اللـه الصمـد‪ ،‬مل يلـد ومل يولد‪ ،‬ومل يكـن له كفؤا‬
‫أحد»‪.‬‬
‫مـرة أخـرى يف الصمـت والتفكير‪ .‬مل أعـرف مـا هـو مصـدر‬ ‫غـرق الجميـع ّ‬
‫الشـعور العـارم الـذي دفعنـي لحظتهـا لالنقضـاض برسعـة على يـد سـيدي‬
‫العـرايف وتقبيلهـا‪ .‬وكانـت تلـك نهايـة جلسـتنا معـه‪ .‬نهضـت املرأتـان بتثاقل‬
‫َّ‬
‫العـرايف‬
‫َّ‬ ‫سـيدي‬ ‫كتـف‬ ‫على‬ ‫برفـق‬ ‫انحنتـا‬ ‫ثـم‬
‫ّ‬ ‫جديـد‪،‬‬ ‫مـن‬ ‫بحايكيهما‬ ‫وتدثرتـا‬
‫بتستر وخجـل قطعـة بسـيطة مـن النقـود يف باطـن‬ ‫ّ‬ ‫لتقبيلهـا قبـل أن يدلين‬
‫ومبجـرد أن‬
‫َّ‬ ‫يـد الشـيخ‪ .‬غادرنـا الغرفـة نحو البـاب مرفوقين بدعوات الشـيخ‪.‬‬
‫عـبء ثقيل‪ .‬بدا يل‬
‫ٌ‬ ‫ـن أُزيح عن كاهله‬
‫عتبـت الزقـاق الخارجـي شـعرت بخ ّفة َم ْ‬
‫الكـون يف حلّتـه القشـيبة األوىل املبهجة‪ ،‬بدت يل أشـعة الشـمس مرتاقصة‬
‫بفرحـة فـوق جـدران األزقـة ومعروضـات املتاجر وعامئـم املـارة وجالبيبهم!‬

‫‪169‬‬
‫العـرايف سـتتحقَّق ال محالـة‪ .‬لكن ّأية‬
‫َّ‬ ‫إن نبـوءات سـيدي‬‫قلـت لنفسي ّ‬
‫نبـوءات؟ فالرجـل اكتفـى بتلميحـات غامضـة! هـل فهمـت قصـده فعلاً ؟‬
‫يبـدو أننـي كنـت أفهـم كلّ يشء بحرضتـه‪ .‬ورغـم أننـا ابتعدنـا عـن داره‪،‬‬
‫بالحرية مل أعهده يف‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫إحسـاس عـارم‬ ‫تبقَّـى يف ذهنـي أثر حضوره يف صورة‬
‫تحولت كلامته إىل موسـيقى داخلية تعـزف يف عمق كياين‬ ‫قلبـي مـن قبـل‪َّ .‬‬
‫طاقـة فياضة فرشعت‬ ‫ٌ‬ ‫تبخـر شـعوري بالتعب‪ ،‬ورست يف أوصايل‬ ‫الصغير‪َّ .‬‬
‫يف الرقـص! مل تنتبـه كلٌّ مـن اللة عائشـة ووالديت إىل حـايل الجديد‪ ،‬فقد‬
‫كانتـا متشـيان غارقتين يف أفكارهام‪.‬‬
‫أمـي‪.‬‬ ‫فجـأة توقَّفـت عـن الحركـة وجريـت محـاو ً‬
‫ال االختبـاء يف تالبيـب ّ‬
‫سألتني‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا بك؟ ملاذا تبدو خائفاً؟ تكلَّم يا ولد!‬
‫اعتصمت بالصمت‪.‬‬
‫تدخلت اللة عائشة قائلةً ‪:‬‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫مغص يف البطن؟‬ ‫‪ -‬ماذا أصاب الولد؟ ل ََعلَّه يشكو من‬
‫‪ -‬ال يريـد أن يقـول شـيئاً! إنـه يرتعد مـن الخوف‪ ،‬ماذا بـك؟ تكلَّم يا رأس‬
‫البغل!‬
‫غادرت تالبيب الحايك‪ ،‬تنفَّست الصعداء أخري ًا وأجبتها‪:‬‬
‫‪ -‬أشعر بالخوف!‬
‫مم ْن؟‬
‫‪َّ -‬‬
‫مير قريبـ ًا م ّنا‪ ،‬ذهب يف ا ِّتجاه الزقاق عىل اليسـار‪،‬‬
‫‪ -‬رأيـت فقيـه كُ َّتابنـا ّ‬
‫كاد يراين!‬
‫‪ -‬وملاذا تخاف أن يراك؟ ألسـت مريضاً؟ ألسـت برفقة أمك؟ إن الطفل‬
‫بالتهرب من الدراسـة!‬
‫ُّ‬ ‫أمه ال ميكن أن يتهم‬
‫الـذي يرافـق ّ‬
‫‪ -‬نعم لكن الطفل املريض ال يتنزه يف األزقة‪ ،‬ولو كان برفقة أمه!‬

‫‪170‬‬
‫‪ -‬لو كان الفقيه قربنا لرشحت له أنك رافقتني ليكشف عليك الطبيب‪.‬‬
‫بشـدة لدى عوديت‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬مـا كان ليصدقـك! سـيعتربه عـذر ًا كاذب ًا ويعاقبني‬
‫إىل الكُ َّتاب!‬
‫تنهدت والديت وقالت لاللة عائشة‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬مل يعـد بإمـكاين إعـادة هـذا الطفـل لجـادة الصـواب‪ ،‬إنـه يجادلنـي‬
‫مثـل رجـلٍ كبير!‬
‫ردت صديقتها‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬ليبارك الله خطواته إذن!‬
‫واصلنـا السير يف صمـت‪ .‬وعلى جسر «بين املـدن» شـاهدت بائـع‬
‫رمـان يقتعـد الرصيـف‪ .‬كانـت حبات الرمـان متيل إىل االخضرار ومل تنضج‬
‫التحرك‪ .‬فهمـت والديت القصد‬
‫ُّ‬ ‫ٍ‬
‫بعناد رافضـ ًا‬ ‫بعـد‪ ،‬رغـم ذلك وقفت أمامـه‬
‫مـن وقفتـي فخاطبتنـي مـن بعيد‪:‬‬
‫‪ -‬بإمكانـك البقـاء هنـا إىل يـوم غـد‪ ،‬لـن أشتري لـك رمانـ ًا غير ناضـج‪،‬‬
‫فهـو ميـرض العيون‪.‬‬
‫ألتذوقها!‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬أريد واحدة فقط‬
‫تتذوق منها حتى حبة واحدة!‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬لن‬
‫جرتنـي مـن يـدي لرتغمني عىل مواصلة السير فرشعـت يف البكاء‪.‬‬ ‫ثـم َّ‬
‫ّ‬
‫ـم جلبـايب‪.‬‬
‫ثـم كفكفـت دموعـي ومسـحتها يف كُ ِّ‬ ‫‪ّ ،‬‬ ‫قليلاً‬ ‫واصلـت املسير‬
‫ورسعـان مـا نسـيت حـزين بفعل املشـاهد املبهجـة يف األزقة والشـوارع‪،‬‬
‫إيل فرحتـي فبـدأت الرثثـرة إىل أن وصلنـا الـدار‪.‬‬
‫عـادت َّ‬
‫العـرايف‪ .‬فنحن نقطن‬ ‫َّ‬ ‫حـدث والـديت جاراتهـا عـن زيارتها لسـيدي‬
‫مل ُت ِّ‬
‫ال قبـل الذهـاب‬ ‫أو ً‬
‫عرافـة مشـهورة‪ ،‬وكان على والـديت أن تقصدهـا َّ‬ ‫بجـوار َّ‬
‫ٍ‬
‫شـخص غريـب عـن الحـارة‪ .‬غير أنهـا مل تثـق يومـ ًا يف مواهـب الخالـة‬ ‫إىل‬
‫كنـزة‪ .‬وكنـت أشـاطر والـديت الـرأي‪ ،‬فقـد كان يداخل أنشـطة كنـزة‪ ،‬برأينا‪،‬‬

‫‪171‬‬
‫جانـب شـيطاين متطلـب يلزمـه اسـتعدادات ومصاريـف كثرية قبـل اللجوء‬
‫لخدماتهـا‪ .‬مـا كان لدينـا أمـوالٌ كافيـة لشراء بخـور يناسـب أنـوف وأذواق‬
‫جوقـة الجـن التابعـة لكنـزة‪ ،‬إضافـة الحتراز والـديت وخوفهـا أن تبـوح‬
‫العرافـة بأرسارهـا للجـارات‪ .‬رغـم أن ال أحـد من جرياننـا كان يجهل حقيقة‬ ‫َّ‬
‫تتوهـم العكـس‪ .‬قالـت للجـارات إنهـا ذهبت يف‬ ‫َّ‬ ‫كان‬ ‫والـديت‬ ‫فـإن‬ ‫وضعنـا‪،‬‬
‫نزهـة باتجـاه حـارة بعيـدة رفقـة اللـة عائشـة‪ ،‬ألنـه مـا كان مبقدورهـا أن ال‬
‫العـرايف‬
‫َّ‬ ‫تقـول لهـن شـيئ ًا باملطلـق‪ ،‬غير أنهـا تك َّتمـت على قصـة سـيدي‬
‫للتبرك‬
‫ُّ‬ ‫زاعمـةً أن هـدف النزهـة كان زيـارة أرضحـة األوليـاء والصلحـاء‬
‫البرشيـة ال تكفـي إذا مل‬
‫ّ‬ ‫واملسـاعدة يف شـفاء ابنهـا الوحيـد‪ .‬فاألدويـة‬
‫ترفـق ببركات رجـال الله‪.‬‬
‫يـوم ٍ‬
‫غـد أخربتنـي والـديت أنهـا سـتعفيني مـن الذهـاب للكُ َّتـاب طيلـة‬
‫أولهما أن صحتـي ال تسـمح‬ ‫فترة غيـاب والـدي متعلِّلـة بسـببني وجيهين‪َّ :‬‬
‫بسـبب هـزال جسـدي وامتقـاع لـون وجهـي حتـى صـار يشـبه لـون الرمـان‬
‫ناقـص النضـج! وثانيهما أنهـا تحـس بالعزلـة وتكـره أن تلازم الـدار وحدها‬
‫فمجـرد وجـودي إىل جانبهـا ُيخفِّـف أحزانهـا‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يف غيـاب زوجهـا‪،‬‬
‫قررت‬ ‫بغرض النزهة واسـتدرار بركات األولياء والصالحني عىل أرستنا‪َّ ،‬‬
‫والـديت أن نـزور كلّ أسـبوع واحـد ًا مـن أرضحـة فـاس‪ .‬فقـد كانـت مدينتنـا‬
‫ومؤسسي الزوايـا الصوفية‬ ‫ِّ‬ ‫تعـج مبدافـن املنحدرين من النسـب الرشيف‬
‫العامـة خـوارق وكرامـات‪ .‬وكان لـكلٍّ منهـم‬
‫ّ‬ ‫والصلحـاء الذيـن تنسـب لهـم‬
‫معلـوم‪ .‬يـوم االثنين ُيـزار رضيح سـيدي أحمـد بن يحيـى‪ ،‬ويوم‬ ‫ٌ‬ ‫يـوم زيـارة‬
‫الثالثـاء سـيدي علي ذيـاب‪ ،‬واألربعـاء سـيدي علي بـن أيب غالـب‪ ...‬كنـت‬
‫ويقرونـه‬
‫ّ‬ ‫أعلـم كلّ هـذا‪ ،‬كما كان كلّ النـاس يف ذلـك الزمـان يعلمـون بـه‬
‫ال مبـارك ًا مندوب ًا‬
‫ويعتربونـه شـيئ ًا عاديـ ًا ال غبـار عليـه وال حرج فيه‪ ،‬بـل عم ً‬
‫أحـد أن ُيشـكِّ ك يف مـا جـرت عليه عادة األسلاف‬ ‫ٍ‬ ‫إليـه! مل يخطـر على بـال‬
‫أحد أن يجرتئ عىل السـخرية‬ ‫يف مثـل هـذه الزيـارات‪ .‬ومل يخطـر عىل بـال ٍ‬
‫منظـم واضـح‪ .‬بالنسـبة يل‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫منهـا‪ .‬فقـد كان لرتاتـب األيـام وتواليهـا معنـى‬
‫محـددة‪ .‬كان يوم االثنين عندي مقرونـ ًا بالرمادي‬‫َّ‬ ‫ألـوان‬
‫ٌ‬ ‫كانـت لأليـام أيضـ ًا‬

‫‪172‬‬
‫املدخن‪ ،‬فيما كان لون يـوم األربعاء‬ ‫َّ‬ ‫الفاتـح‪ ،‬والثالثـاء بالرمـادي الغامـق‬
‫براقـاً مثـل ألـوان أمسـية ربيعيـة‪ .‬وكان لـون الخميـس أزرق بـارد ًا‬ ‫مشـع ًا َّ‬
‫َّ‬
‫مناقضـ ًا لسـخونة وصفـرة يـوم الجمعـة‪ .‬فيما اكتسى السـبت صفـر ًة‬
‫ألي كان‬ ‫أتحـدث ٍّ‬
‫َّ‬ ‫شـاحبة كانـت مقدمـة رضوريـة الخضرار يـوم األحـد‪ .‬مل‬
‫عـن هـذا الرتتيـب الذهنـي الـذي ابتكرتـه لنفسي‪ .‬ولـو كنـت امـرأة أو رجلاً‬
‫ثريـ ًا للبسـت لـكل يـوم لباسـ ًا باللـون الـذي يناسـبه‪ ،‬لكانـت حيـايت أجمـل‬
‫أكـن امـرأة‪ ،‬ومـا كان عندنـا مـالٌ يذكـر‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫وأسـعد وأكثر توازنـاً‪ ،‬لكننـي مل‬
‫خاصـة بعـد السـفر املفاجـئ الـذي اضطـر إليـه والـدي‪ .‬أصبحـت وجباتنـا‬ ‫ّ‬
‫متكـررة‪ ،‬وأصبحـت الوالـدة تعجـن خبزنـا مـن شـعري تخالطـه كميـة‬ ‫ِّ‬ ‫قليلـة‬
‫يسيرة مـن الحنطـة‪ .‬مـا عـادت تضحـك كثيراً‪ ،‬وال تـروي قصصـ ًا عجيبـة‪،‬‬
‫كما درجـت على ذلـك سـالفاً‪ .‬لكـن تبقَّـت لنـا النزهـات الطويلـة التـي ك ّنـا‬
‫نقـوم بهـا مرتين أو ثالثـ ًا يف األسـبوع لزيـارة أرضحـة األوليـاء والصلحـاء‪،‬‬
‫حيـث كنـا نرفـع األدعيـة نفسـها‪ ،‬وننشـد تحقيـق نفـس اآلمـال‪ ،‬نبكي يف‬
‫مـرة مـن التأثّـر قبـل أن نقفل عائديـن إىل دارنـا‪ .‬أتعبتني هـذه الزيارات‬ ‫كلّ ّ‬
‫املتكـررة‪ ،‬ومـا كان بوسـعي أن أمتنـع عـن مرافقة الوالـدة إليها‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫املتواتـرة‬
‫ألنهـا تعتقـد اعتقـاد ًا راسـخ ًا أن حضـور طفـل بـريء إىل جوارهـا أدعـى‬
‫السـتجالب بركـة األوليـاء واسـتدرار عطفهـم عليهـا وعلى أرستهـا‪.‬‬
‫طـارق وسـأل أن كان هـذا مقـر سـكن‬
‫ٌ‬ ‫وذات صبـاح‪ ،‬طـرق بـاب الـدار‬
‫رد عليـه الجيران باإليجـاب‪ ،‬ونـادت كنـزة‬
‫النسـاج‪ّ .‬‬
‫املعلـم عبـد السلام ّ‬
‫الشـوافة والـديت‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬زبيدة! زبيدة! مثّة شخص يسأل عنكم!‬
‫كانـت والـديت قـد سـمعت كلّ يشء مـن قبـل‪ ،‬فوقفـت وسـط الغرفـة‬
‫متوجسـة واضعـة يدهـا على قلبهـا دون أن تنبس ببنت شـفة‪ .‬هل‬ ‫ِّ‬ ‫محتـارة‬
‫هذا الشـخص بشير خري أم حامل ألخبار مشـؤومة؟ أم هو شـخص اقرتض‬
‫منـه والـدي مـا ً‬
‫ال ونسي أن يخربنا حـول املوضـوع؟ كان ما خلَّف لنـا الوالد‬
‫مـن مـالٍ قـد قـارب االنتهـاء ومل َ‬
‫تتبق منه ّإل فرنـكات معدودة ك ّنـا ننوي أن‬
‫نشتري بهـا فح ً‬
‫ام نطبـخ عليه‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫أمي أخرياً‪:‬‬
‫ردت ّ‬
‫ّ‬
‫‪ -‬إذا كان هـذا الغريـب يريـد مقابلـة زوجـي فقـويل لـه إنـه غائـب عـن‬
‫الدار!‬
‫رد عليهـا بحديث‬ ‫ٍ‬
‫بصوت مرتفـع للغريب الـذي ّ‬ ‫أمـي‬
‫نقلـت كنـزة جملـة ّ‬
‫نتبينـه‪ ،‬فرتجمتـه لنا كنـزة بقولها‪:‬‬
‫مل َّ‬
‫‪ -‬زبيـدة! هـذا الرجـل جـاء مـن الباديـة يحمـل لكـم أخبار ًا عـن املعلم‬
‫عبـد السلام‪ .‬ويقـول إن لديـه مقتنيـات مرسـلة مـن طـرف زوجـك يريـد أن‬
‫يسـلِّمها لكم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بابتسـامة عريضـة‪ .‬قالت‬ ‫استرجعت والـديت شـجاعتها وأرشق وجههـا‬
‫السـلَّم‬
‫توجهـت صوب درجات ُ‬ ‫ثم َّ‬
‫مخاطبـة نفسـها‪ :‬ذلـك مـا كنت أتوقَّعـه! ّ‬
‫مـرة أرى فيهـا والـديت تجـري‬
‫أول ّ‬ ‫ٍ‬
‫برسعـة كبيرة‪ .‬كانـت تلـك َّ‬ ‫ونزلـت عليهـا‬
‫باتجـا ٍه مـا‪ .‬تبعتهـا مرسعـ ًا بـدوري دون أن أمتكَّ ـن مـن اللحاق بهـا‪ .‬وعندما‬
‫ـق البـاب‬‫تتحـدث إىل الغريـب مـن ِش ّ‬
‫َّ‬ ‫وصلـت إىل الطابـق األريض وجدتهـا‬
‫املُـوارب وهـو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬هـو على مـا ُيـرام‪ ،‬يعمـل كثير ًا ويدخـر كلّ راتبـه‪ ،‬يقـول لكـم أن ال‬
‫تقلقـوا بشـأنه‪ ،‬وقـد كلَّفنـي أن أعطيكـم هـذا!‬
‫ألمـي‪ ،‬لكن الحظـت أنها قبضت شـيئ ًا ما‬
‫مل أشـاهد بالضبـط مـا أعطـاه ّ‬
‫وشـدت عليـه بعناية بني أصابـع كفِّها‪.‬‬
‫َّ‬
‫أشياء أخرى قائالً‪:‬‬
‫ً‬ ‫سلَّمها‬
‫‪ -‬كما أرسـل أيضـ ًا هـذه األغـراض‪ ،‬وهـذا كلّ يشء‪ .‬سـأغادر غـد ًا إىل‬
‫مبجرد وصـويل للقرية‪ .‬هـل لديكم ما‬
‫َّ‬ ‫الباديـة وألتقـي املعلـم عبد السلام‬
‫تريـدون إبالغـه به؟‬
‫تحسنت!‬
‫َّ‬ ‫إن صحة سيدي محمد‬
‫‪ -‬قُلْ له َّ‬
‫ال كثري ًا بهـذا املوضوع‪.‬‬
‫‪ -‬الحمـد للـه! كان املعلـم عبد السلام منشـغ ً‬

‫‪174‬‬
‫أنـا ذاهـب‪ ،‬أترككـم يف رعاية الله!‬
‫‪ -‬لرتافقك السالمة يا بشري الخري!‬
‫أغلقت والديت الباب وصعدت إىل غرفتها مرسعة‪.‬‬
‫انطلقـت أسـئلة الجـارات بنفـس الرسعـة‪ .‬أطلَّـت رحمـة مـن نافذتهـا‬
‫ووضعـت كنـزة سـطول املـاء جانب ًا فيما تخلَّت فاطمـة البزيوية عـن نولها‬
‫الـذي كانـت عاكفـةً عليـه‪ .‬كانـت جميع النسـوة يسـألن والديت عـن أحوال‬
‫رد والـديت كان عامئ ًا غري‬ ‫أيب وعملـه الجديـد واملـكان الذي يوجد بـه‪ .‬لكن ّ‬
‫ملح ًا ثقيالً‪،‬‬
‫واضـح تكثر فيـه عبارات املجاملة‪ ،‬بينما كان فضول الجـارات ّ‬
‫تتعمد‬
‫َّ‬ ‫ـن يرغبن يف معرفـة مـاذا أرسـل لنـا الوالد‪ .‬شـعرت أن والـديت‬ ‫إذ كُ َّ‬
‫شـاف‪ .‬وعندمـا وصلـت إىل غرفتنا وجدت على املائدة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫جـواب‬ ‫تركهـن دون‬
‫يتضمن سـمن ًا بلديـ ًا وقنينة‬
‫َّ‬ ‫املسـتديرة اثنتـي عشرة بيضة وقـدر ًا من ّ‬
‫فخار‬
‫مـن زيـت الزيتـون األخضر الغامـق اللـون‪ .‬كان وجـه والـديت مرشقـ ًا مـن‬
‫الفـرح‪ ،‬خاطبتني‪:‬‬
‫‪ -‬انظـر مـا أرسـله لنـا أبـوك‪ ،‬مل ينسـنا! رغم أنـه يف ٍ‬
‫بلد بعيد فهـو يفكِّر‬
‫فينـا! وأرسـل لنا أيضـ ًا نقوداً‪ :‬انظـر! انظر!‬
‫فتحـت يديهـا فرأيـت ثلاث قطـع نقديـة فضيـة ناصعـة البيـاض تلمـع‬
‫عليهـا أشـعة جعلتهـا تشـبه وجـه القمـر‪.‬‬
‫رغـم أن كلمات والـديت كانـت خافتـة محتاطـة‪ّ ،‬إل أن اآلذان الفضولية‬
‫املرتبصـة التقطـت كلمـة «نقـود» مـن هـذا املونولـوغ‪ .‬وتداولـت الجارات‬
‫الكلمـة السـحرية بينهـن مـن أذنٍ ألخـرى‪ .‬عـادت الجـارات إىل سـابق‬
‫أشـغالهن‪ .‬كن يعلمن أن والديت لن تسـتطيع أن تكتم عنهن طوي ً‬
‫ال أخبارها‬
‫ربا يطالها‬‫السـعيدة‪ ،‬بينما فكَّ ـرت أنا فقط يف جولتنـا نحو األرضحة التـي َّ‬
‫اإللغـاء‪ .‬كنـت مرتاحـ ًا لفكـرة التخلـص مـن هـذه النزهـة الرتيبـة املتعبـة‪.‬‬
‫أُصبـت بعـدوى الفـرح الغامـر الـذي سـيطر على والـديت وفكَّ ـرت أن كلّ ما‬
‫يحيـط يب يعبـق باألناشـيد‪ ،‬بأننـا أصبحنا أغنيـاء‪ ،‬بعدما كان الفقر ميسـك‬
‫أسـبوع واحـد فقـط‪ ،‬يطـل علينـا مـن سـقف غرفتنـا‪ ،‬ويرشـح‬‫ٍ‬ ‫بتالبيبنـا قبـل‬

‫‪175‬‬
‫مـن ثنايـا مالبسـنا ومـن أثاثنا البسـيط‪ .‬وهـا قد ظهـر املبعـوث الغريب يف‬
‫اله ِّم والقلق‪ ،‬وسـمح لنـا أن نتطلع‬
‫حياتنـا صبـاح اليـوم‪ ،‬فـأزاح عنهـا سـتار َ‬
‫إىل املسـتقبل ٍ‬
‫بثقـة وهـدوء وأمل!‬
‫أمي‪:‬‬
‫خاطبتني ّ‬
‫‪ -‬سـيدي محمـد‪ ،‬اصعـد للسـطوح لتلعـب هنـاك‪ .‬عندي اليوم أشـغال‬
‫كثيرة ال تسـمح يل مبرافقتـك إىل رضيـح سـيدي علي املـزايل‪ .‬سـنزور‬
‫الرضيـح يف األسـبوع القـادم إن شـاء اللـه‪ ،‬أو يف األسـابيع التـي تليـه!‬
‫لـدي رغبـة يف الصعـود فـوق السـطوح التـي تصـب عليهـا‬ ‫ّ‬ ‫تكـن‬
‫مل ْ‬
‫الشـمس الالمعـة أشـعتها لتخلـق بهـا حـرارة ال ُتطـاق‪ .‬أطللـت مـن نافـذة‬
‫الغرفـة‪ ،‬كانـت الخالـة كنـزة تواصـل تنظيـف األرضيـة قـرب البئر‪ ،‬وقـط‬
‫تتحدث‬
‫َّ‬ ‫زينـب قـد أرهقـه الحر فنام يف ركنٍ مـن أركان الفناء‪ .‬سـمعت ّ‬
‫أمي‬
‫توجهت نحـو غرفة‬
‫لفاطمـة البزيويـة على عتبـة الغرفـة‪ .‬شـكرتها فاطمـة‪َّ .‬‬
‫الشـوافة وثرثرت‬
‫َّ‬ ‫رحمـة وظلَّـت معهـا لفتر ٍة أطول‪ ،‬نزلت إىل مسـكن كنـزة‬
‫معهـا إىل حـدود نهايـة الصبـاح‪.‬‬
‫يتبـق على طاولـة أكلنا املسـتديرة ّإل سـت بيضات‪ ،‬فقد اقتسـمتها‬ ‫مل َ‬
‫ـد أن فمـي يتبلَّـل ريق ًا‬
‫والـديت مـع جاراتهـا‪ .‬وكنـت أحـب أكل البيـض إىل َح ِّ‬
‫عنـد رؤيـة واحـد ٍة منـه‪ .‬وقبـل أن تشرع يف إعـداد طعـام الغـداء صعـدت‬
‫والـديت إىل السـطوح وثرثـرت مـع املـرأة الزنجيـة التـي تقطـن فـوق الـدور‬
‫العلـوي مـن املنـزل املجـاور‪ .‬وبحلول املسـاء‪ ،‬كان أهل الحـارة عن بكرة‬
‫أبيهـم قـد علمـوا بخرب مقـدم مبعوث والـدي‪ ،‬وباألغـراض واملقتنيات التي‬
‫أحرضهـا لنا!‬
‫زارتنـا اللـة عائشـة زيـار ًة مفاجئـة‪ ،‬مل أسـتغرب مـن حضورهـا‪ ،‬فقـد‬
‫ُهمـة التي تعيشـها أرستنا‪.‬‬
‫كانـت صورتهـا ترافـق كلّ األحـداث العائليـة امل َّ‬
‫ومـا كانـت فرحـة والـديت لتتـم دون أن تشـاركها فيهـا صديقتهـا القدميـة‪.‬‬
‫مـر ًة واحدة‬
‫وضحـت بالبيضات السـت ّ‬
‫َّ‬ ‫وضعـت والـديت طعـام الغـداء‪،‬‬
‫قصت عىل مسـامعنا خالل الوجبة تفاصيـل حدث اليوم‪.‬‬‫فأكلناهـا مقليـة‪ّ .‬‬

‫‪176‬‬
‫وصفـت مبعـوث والـدي وصفـ ًا دقيقـاً‪ ،‬رغـم أنهـا مل تلمحـه ّإل لدقيقـة أو‬
‫تحدثـت عـن‬
‫ـق البـاب املُـوارب يف مدخـل الـدار املعتـم! َّ‬ ‫دقيقتين مـن ِش ِّ‬
‫األول قبـل أن تحمـد اللـه على نعمته‪.‬‬‫تخوفهـا َّ‬
‫أثـر املفاجـأة وعـن ِّ‬
‫‪ -‬وكيف أحوالك أنت يا اللة عائشة؟‬
‫‪ -‬الحمـد للـه! الحمـد للـه! تعـايل غـد ًا لزيـاريت وسـتعلمني بالخبر‬
‫السـار!‬
‫‪ -‬هل عاد زوجك أخري ًا إليك؟‬
‫سـببه يل‬
‫‪ -‬ليـس بعـد‪ ،‬ولكنـه على الطريق الصحيـح‪ .‬إنه يدفع مثن ما َّ‬
‫مـن آالم! تعـايل غـد ًا وسـأخربك بالتفاصيـل‪ .‬جئـت فقـط لدعوتـك لزياريت‬
‫غد اً‪.‬‬
‫ثم تدثَّرت اللة عائشة من جديد بحايكها وغادرت إىل دارها‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪177‬‬
‫الفصل الحادي عرش‬

‫وتوجه لـه اللوم كام لو‬


‫ِّ‬ ‫كانـت اللـة عائشـة تطـارد الذباب مبنديلٍ قديـم‬
‫برسب من أطفالٍ مشـاغبني‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫تعلَّـق األمر‬
‫‪ -‬هيـا اخرجـي أيتهـا الحشرات اللعينة‪ ،‬تنشرن القذارة على كلّ يشء‬
‫تلمسـنه‪ ،‬وعندمـا أرغـب يف النوم تزعجننـي بطنينكن!‬
‫فتجمـدت ذراعهـا يف الهـواء وأرشق‬
‫َّ‬ ‫انتبهـت لوجودنـا ببـاب مسـكنها‪،‬‬
‫وجهها باالبتسـام‪:‬‬
‫الحـر‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬مرحبـ ًا بكـم‪َّ ،‬‬
‫تفضلـوا بالدخـول‪ ،‬الذبـاب ال ُيطـاق مـع هـذا‬
‫والحـر عالمتان من عالمـات البالء الذي يسـلِّطه الله عىل‬
‫ّ‬ ‫الشـديد‪ .‬الذبـاب‬
‫تحـديث يـا زبيـدة! مـا ِ‬
‫لـك صامتـة؟‬ ‫َّ‬ ‫عبـاده‪،‬‬
‫كان بـود والـديت أن تبـدأ الـكالم‪ ،‬لكن كيف ميكن أن ُتكلِّـم امرأة أصابها‬
‫جنـون إبـادة الذبـاب فرشعـت تركـض بين أركان الغرفـة‪ ،‬تهـوي مبنديلهـا‬
‫بعنـف هنـا وهنـاك‪ .‬وكانـت أرساب الذبـاب تواجـه حـرب مضيفتنـا مبكرهـا‬ ‫ٍ‬

‫‪179‬‬
‫مخـدة يف ركـنٍ مـا‪ ،‬وما يقترب أن منهـا منديل اللة‬
‫ّ‬ ‫املعهـود‪ ،‬فتنـزل على‬
‫عائشـة حتـى ترتفـع إىل سـقف الحجـرة وتقـوم بطلعـات جويـة دائرية قبل‬
‫أن تحـط مـن جديـد يف مـكانٍ آخـر عىل الرسيـر أو على مرتبة‪.‬‬
‫توقَّفـت اللـة عائشـة عـن حربهـا‪ ،‬واتجهـت نحـو املطبـخ إلحضـار‬
‫السـخان النحـايس‪ ،‬فيما كانـت الصينيـة موضوعـة مـن قبـل فـوق املائدة‬
‫ّ‬
‫بثوب شـفاف مكَّ نني من رؤيـة الكؤوس وإبريق الشـاي‪ .‬وأخري ًا‬
‫ٍ‬ ‫وقـد غطيـت‬
‫بـدأت والـديت واللة عائشـة الحديث مبا تبدأ به النسـاء عاد ًة من استفسـار‬
‫الصحة واألرسة‪ ،‬رغـم أنهام التقتا أمـس وطرحتا عىل بعضهام‬ ‫عـن أحـوال ِّ‬
‫نفـس األسـئلة وتلقتـا نفـس األجوبـة‪ ،‬مـع بعـض الفـروق البسـيطة‪ ،‬حيث‬
‫إن اللـة عائشـة عانـت أمـس مـن األرق‪ّ ،‬إل أنها انتبهت ألن ذلـك يعود فقط‬
‫غيرت املرتبـة بأخـرى‬ ‫ومبجـرد مـا َّ‬
‫َّ‬ ‫نـوم صلـب غليـظ‪،‬‬
‫السـتعاملها فـراش ٍ‬
‫أكثر نعومـة غرقـت يف النـوم كام تنام صخـرة يف املاء‪ .‬سـألتهام متظاهر ًا‬
‫بالسذاجة‪:‬‬
‫أمي؟‬
‫‪ -‬هل تنام الصخور يا ّ‬
‫‪ -‬اسكت أو اطرح أسئلة معقولة!‬
‫أمي بحادثة إسـقاط بنت جارتنا زينـب لحج ٍر ثقيل‬
‫ذكَّ ـرت هـذه الواقعـة ّ‬
‫اليمنى‪.‬‬
‫على األصبع الكبير لرجلها ُ‬
‫مدة طويلة من مغادريت داركم؟‬
‫‪ -‬يا الله! وهل حدث ذلك بعد ّ‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬حـدث هـذا قبـل سـنتني‪ ،‬لكننـي أتذكَّ ـره كام لو حـدث أمس‪ ،‬كنت‬
‫ال يف سـطح الـدار عندما سـمعت بكاء الطفلـة الصغرية‪...‬‬ ‫أفـرم بقو ً‬
‫دوى يف الـدار صـوت بكاء رضيع‪ .‬اندهشـنا من هذه‬
‫يف نفـس اللحظـة َّ‬
‫عينـي دمعتا‪ .‬سـمعنا‬
‫ّ‬ ‫الصدفـة وغرقنـا يف نوبـة مـن الضحـك إىل درجـة أن‬
‫صوت ًا رجوليـ ًا يقول‪:‬‬
‫‪ -‬الحمد لله! الحمد لله! الضحك نعمة من نعم الله!‬
‫اسـتدرت ألشـاهد الرجـل الـذي تجـرأ على دخـول غرفـة ترثثـر فيهـا‬

‫‪180‬‬
‫امرأتـان ال متتـان لـه بقرابـة‪ ،‬لكننـي فُوجئـت بامـرأة واقفة يف بـاب الغرفة‪.‬‬
‫تبد عليهما عالمة‬
‫أمـي واللة عائشـة‪ ،‬غري أنـه مل ُ‬‫نظـرت على التـوايل نحـو ّ‬
‫الدهشـة‪ .‬بـادرت اللـة عائشـة الزائـرة الجديـدة بالقـول‪:‬‬
‫‪ -‬مرحب ًا بك يا َّ‬
‫سلمة!‬
‫أمـي يف سـؤالها عن أحـوال الصحة والـزوج واألطفال‪ .‬علمت‬ ‫ورشعـت ّ‬
‫يكـن لهـا زوج وال أطفـال‪ ،‬وبأنهـا تعمـل «خاطبة»‪ .‬اسـتدارت‬
‫ْ‬ ‫الحقـاً أنـه مل‬
‫اللـة عائشـة صـوب والديت وقالـت لها‪:‬‬
‫‪ -‬هذه هي املفاجأة التي كلَّمتك عنها!‬
‫وقـت طويل منذ آخـر مرة التقيـت فيها‬
‫ٌ‬ ‫مـر‬
‫‪ -‬يـا لهـا مـن مفاجـأة طيبـة! ّ‬
‫سلامة‪ ،‬وكان ذلـك يف عـرس إحـدى بنـات عـم اللـة عائشـة‪ ،‬زوجـة تاجـر‬ ‫َّ‬
‫األبسـطة‪ .‬كان عرسـ ًا رائعاً‪.‬‬
‫جيدة؟ هل تخمنني أخبار َم ْن؟‬
‫أخبار ّ‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬لدى َّ‬
‫سلمة اليوم‬
‫‪ -‬ال! يف الحقيقة ال أدري!‬
‫جيـداً‪ ،‬فهـي ال تقـول ّإل أنصـاف الحقائـق‪ .‬مل تلـقِ‬
‫كنـت أعـرف والـديت ّ‬
‫باملـرة‪ .‬كنـت أصغـر مـن أن ألفـت‬ ‫ّ‬ ‫سلامة بـاالً‪ ،‬ومل تعـرين اهتاممـا ً‬‫إيل َّ‬
‫َّ‬
‫نظرهـا‪ .‬وفاقـم األمـر أنهـا كانـت تنتمـي لسلالة العاملقـة األسـطوريني‪.‬‬
‫جلسـت يف صـدر املجلـس واضعـة يديهـا على ركبتيهـا مثل متثـال صلب‬
‫تتحـرك عضلـة مـن شـفتيها‬‫َّ‬ ‫جامـد مـن الصخـر ومل تنبـس ببنـت شـفة‪ .‬مل‬
‫تحـدق يف محتويـات الغرفـة‪ .‬شـعرت إزاءهـا‬ ‫ِّ‬ ‫الغليظتين بينما رشعـت‬
‫بالخـوف املمـزوج بالفضـول‪ .‬الحظـت وجـود بقيـة شـوارب خفيفـة فـوق‬
‫تتحـدث إىل درجـة أننـي مل أنتبـه إىل مـا كان‬ ‫َّ‬ ‫شـفتها العليـا‪ .‬انتظـرت أن‬
‫يـدور لحظتهـا بين اللـة عائشـة ووالـديت‪ .‬نطقـت أخير ًا بصوتهـا الرجويل‪،‬‬
‫ثـم‬
‫قالـت إنهـا سـتخرب أخواتهـا بالجديـد بعـد االنتهـاء مـن رشب الشـاي‪ّ ،‬‬
‫أضافـت‪:‬‬
‫ٍ‬
‫أحداث كبرية سنشهدها قريباً!‬ ‫‪ -‬أستطيع أن أؤكد لكن أننا بصدد‬

‫‪181‬‬
‫صـدرت عـن اللـة عائشـة ضحكـة صغيرة تنـم عـن حالـة مـن الفـرح‬
‫الجـارف‪ ،‬ضحكـة شـابة طريـة ربيعيـة إىل درجـة أن املـرأة خجلـت مـن‬
‫نفسـها فاكتسى وجههـا بحمـرة خفيفـة‪ ،‬نهضـت على عجـل‪ ،‬ذهبـت‬
‫إلحضـار السـكر والنعنـاع‪.‬‬
‫تحدثت عـن ذكرياتها حـول األعراس التي‬ ‫انطلقـت والـديت يف الـكالم‪َّ ،‬‬
‫حرضتهـا‪ُ .‬حضر الشـاي يف زمـنٍ قيـايس‪ ،‬مألت اللة عائشـة الكـؤوس ومل‬
‫متنحنـي ّإل نصـف كأس مـن الشـاي فاحتججـت على األمـر مطالبـ ًا بـكأس‬
‫تعـودت على ذلـك يف منزلنـا‪ .‬نظـرت والـديت‬ ‫َّ‬ ‫مملـوءة عـن آخرهـا‪ ،‬مثلما‬
‫وعضـت بقواطـع فكِّ هـا العلـوي على شـفتها ُ‬
‫السـفىل محـذر ًة‬ ‫َّ‬ ‫نحـوي شـزر ًا‬
‫سلامة إىل وجـودي فتبسـمت يف وجهـي‪ .‬كانـت‬ ‫إيـاي‪ .‬وأخير ًا انتبهـت َّ‬
‫أسـنانها صفـراء‪ ،‬غير أنهـا مغروسـة بقـوة يف فكيهـا‪ ..‬قالـت‪:‬‬
‫‪ -‬أعطيـا الولـد كأس شـاي كاملـة‪ ،‬سـأمنحه حلـوى‪ .‬قلَّبـت بين تالبيـب‬
‫قفطانهـا قبـل أن تسـتخرج منهـا منديلاً معقـود ًا فسـخته وأخرجـت منـه‬
‫كعكتين وقطعـة مـن حلـوى كعـب الغـزال‪ .‬حصلـت على كعـب الغـزال‬
‫وتقاسـمت النسـاء الكعكتين‪.‬‬
‫بعـد لحظـة صمـت أخـرى‪ ،‬زاد منسـوب الفضـول عنـد والـديت واللـة‬
‫عائشـة فنطقتـا معـ ًا يف الوقـت نفسـه‪:‬‬
‫‪ -‬هايت أخبارك يا َّ‬
‫سلمة! ال ترتكينا ننتظر!‬
‫‪ -‬نعـم سـأبدأ الـكالم‪ ،‬لكـن هـل تسـتطيعان أن تصبرا قليلاً وأن ال‬
‫تقاطعاننـي حتـى أنتهـي مـن حديثـي؟‬
‫نتوسل إليك!‬
‫َّ‬ ‫تحديث! احيك لنا ما جرى!‬
‫‪َّ -‬‬
‫‪ -‬أنـا أعـرف أن قلبكما أبيـض متسـامح‪ ،‬وقبـل أن أبـدأ‪ ،‬هـل تعديـن بأن‬
‫تسـامحيني على مـا صـدر منـي اتجاهك يـا اللة عائشـة؟‬
‫تنهـدت‬
‫تنهـدت والـديت كذلـك‪َّ .‬‬
‫وتنهـدت‪َّ ،‬‬
‫أشـارت اللـة عائشـة بيدهـا َّ‬
‫الترصف‬
‫ُّ‬ ‫تنهدت بدوري مقلِّد ًا النسـوة‪ ،‬ألنني شـعرت أن ع َّ‬
‫يل‬ ‫َّ‬
‫سلامة أيضاً‪َّ ،‬‬

‫‪182‬‬
‫مثـل الجميـع‪ .‬لكـن يبـدو أن أحـد ًا مل يلـقِ إ َّ‬
‫يل باالً‪ .‬كانت سلامة قد رشعت‬
‫يف الحديث‪:‬‬
‫‪ -‬شـاء اللـه (وكلّ مـا يحـدث لنـا إمنـا هـو مبشـيئة العليـم القديـر) أن‬
‫ترضرت‬
‫أكـون الوسـيطة يف هـذا الـزواج الـذي أصابنا الضرر منه جميعنـا‪َّ .‬‬
‫وتضررت‬‫َّ‬ ‫أنـت يـا اللـة عائشـة ألنـك فقـدت محبـة زوجـك لفترة قصيرة‪،‬‬
‫اللـة زبيـدة ألنهـا صديقتـك املخلصـة ويؤملهـا ما يؤملـك‪ .‬اكتشـف موالي‬
‫وسـبب لنفسـه مشـاكل كان يف ِغنـى عنها‪ّ .‬‬
‫أما‬ ‫َّ‬ ‫العـريب أنه ع ّقد أمور حياته‬
‫عما قريـب امـرأة مطلقـة قـد ال تجد‬‫فتضررت ألنهـا سـتصبح َّ‬ ‫َّ‬ ‫ابنـة الحلاَّ ق‬
‫لهـا زوجـ ًا يف املسـتقبل‪ ،‬لكـن مـا العمـل؟ هـذه مشـيئة اللـه‪ ،‬مل يخلقنـا‬
‫على وجـه األرض ّإل البتالئنـا!‬
‫مر ًة ثانية‪ ،‬قبل أن تواصل َّ‬
‫سلمة‪:‬‬ ‫تنهد الجميع ّ‬
‫َّ‬
‫‪ -‬بـدأ كلّ يشء عندمـا كلَّفتنـي «الكبيرة» ابنـة معلمـي الفاضـل مـوالي‬
‫ومبجـرد مـا دخلت السـوق‬ ‫َّ‬ ‫عبـد السلام أن أشتري لهـا ِح َّنـاء مـن السـوق‪.‬‬
‫ربـت أحدهـم برفـق على كتفـي‪ ،‬اسـتدرت ففوجئـت مبـوالي العـريب واقف ًا‬
‫تحدثنـا عـن األجـواء‬ ‫مبتسما كعادتـه‪ .‬تبادلنـا التحيـة كالعـادة‪َّ ،‬‬‫ً‬ ‫قبالتـي‬
‫املاطـرة التـي كانـت تعـم املدينـة لحظتهـا‪ ،‬والتـي امتـدت طيلـة شـه ٍر‬
‫يل أن أمـورك بخري‪،‬‬ ‫رد ع َّ‬ ‫كامـل‪ ،‬بعدهـا سـألته عن أحوالـك يا اللة عائشـة‪َّ .‬‬
‫غير أنـه طأطـأ رأسـه ونظـر إىل األرض يف حـالٍ مـن القنـوط‪...‬‬
‫تخبئ عني شـيئ ًا مـن أمور‬
‫‪ -‬مـاذا يحـدث معـك يـا سـيدي العـريب؟ هل ِّ‬
‫أهـل بيتك؟‬
‫‪ -‬ال أخبـئ عنـك شـيئاً‪ ،‬لكنـك قـد تحزريـن أنني أعيـش معذَّ بـ ًا يف بيتي‪،‬‬
‫وإذا تفضلـت‪ ،‬ميكـن أن تسـاعديني!‬

‫كما تتصـورون‪ ،‬مل أفهـم متامـ ًا القصد من كالمه‪ .‬يف نفـس اللحظة َّ‬
‫مر‬
‫محمـل بالسـكر‪ ،‬اسـتندت إىل جانب جـدار‪ ،‬وطلبت مـن موالي‬ ‫َّ‬ ‫بيننـا حمار‬
‫العـريب أن يقترب منـي‪ .‬ا َّتجـه نحـوي فاصطـدم بـه أحـد املـارة عـن غير‬
‫ليحدثني عن شـواغله‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قصـد‪ ،‬تبـادل معـه بعض الشـتائم قبل أن يلحـق يب‬

‫‪183‬‬
‫‪ -‬كما تعلمين‪ ،‬أمـور تجـاريت تسير على مـا يـرام‪ .‬بإمـكاين أن أفتـح‬
‫بيتين‪ .‬أكبر مـا يؤملنـي هـو عـدم توفُّري على ذريـة‪ ،‬عىل ٍ‬
‫ولـد يرثنـي‪ .‬نعم‬
‫شـك نفس‬
‫ّ‬ ‫أنـا أُ ِّ‬
‫قـدر كثير ًا زوجتـي الحاليـة اللـة عائشـة‪ ،‬وهـي تبادلنـي وال‬
‫الشـعور‪ ،‬لكـن ال ميكننـي البقـاء دون أطفـال‪.‬‬
‫رد ع َّ‬
‫يل‬ ‫علاج لـدى األطبـاء‪ ،‬غير أنـه َّ‬
‫ٍ‬ ‫قاطعتـه ونصحتـه أن يبحـث عـن‬
‫ٍ‬
‫بجـواب قاطع‪:‬‬
‫جيـد ًا أننـي ال أثـق باألطبـاء وال بأدويتهـم‪ ،‬وتعلمين أن هـذا‬
‫‪ -‬تعلمين ّ‬
‫دواء واحـد متو ِّفـر لديـك إذا أردت أن تسـاعديني!‬ ‫ٌ‬ ‫األمـر لـه‬
‫عيني من الدهشة وتظاهرت أنني ال أفهم قصده‪ ،‬فواصل‪:‬‬
‫ّ‬ ‫فتحت‬
‫‪ -‬الحلّ يكمن يف العثور عىل زوجة ثانية!‬
‫‪ -‬ال ميكننـي أبـد ًا أن أفعـل ذلك يا سـيدي العريب‪ ،‬أنـت تعلم أنني أحب‬
‫كثير ًا اللة عائشـة‪ ،‬وال أرغـب يف القيام مبا يؤملها!‬
‫‪ -‬اللـة عائشـة ال متانـع يف هذا األمـر‪ ،‬هي أيض ًا تريد أن تـراين أب ًا لطفل‬
‫تحدثيها يف األمر حفاظ ًا عىل شـعورها!‬ ‫صغير! لكـن أرجوك أن ال ّ‬
‫ودس يف يـدي قطعـة نقدية مـن الفضة‪ ،‬طلب منـي أن أُفكر‬ ‫َّ‬ ‫قـال ذلـك‬
‫جيـد ًا يف األمـر وأن أزوره يف مشـغله قبل نهاية األسـبوع‪...‬‬
‫ّ‬
‫تتمـة القصـة‪ ،‬لكنني شـعرت بحاجة‬ ‫كنـت أغلي مـن الفضـول ملعرفـة َّ‬
‫ملحـة للذهـاب إىل املرحـاض‪ ،‬فاسـتأذنت والـديت يف النـزول إىل الطابـق‬
‫التحتي‪.‬‬
‫أغضـب تدخلي والديت التـي رصخت يف وجهـي أن أتوقَّف عن مقاطعة‬
‫النسـوة وأذهـب إىل حيـث أشـاء‪ .‬خرجـت مـن الغرفـة ونزلـت إىل الطابـق‬
‫السـفيل‪ ،‬حيـث الحمام يف ركـنٍ مـن أركانـه‪ .‬دفعت بابـه فوجدتـه مغلقاً‪،‬‬
‫توجب االنتظار‪ ،‬بدأت يف البـكاء‪ .‬أخري ًا خرج‬
‫شـخص كان بداخلـه‪َّ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫تنحنـح‬
‫ً‬
‫ثم خرجـت منه مرسعـا للعودة‬ ‫هـذا الشـخص فاندفعـت لداخـل الحمام‪ّ ،‬‬
‫مبجرد مـا وضعت رجيل‬ ‫َّ‬ ‫إىل فـوق وسماع بقيـة قصـة مـوالي العريب‪ ،‬لكـن‬

‫‪184‬‬
‫الس َّـلم سـمعت صـوت امـرأة يخاطبني بغضب‪:‬‬
‫يف الدرجـة األوىل من ُ‬
‫‪ -‬يـا لـك مـن ٍ‬
‫ولـد قليـل األدب! أال تسـتطيع إغلاق بـاب الحمام بعـد‬
‫مجـرد ضيـف‪.‬‬
‫َّ‬ ‫اسـتعامله؟ اغلـق البـاب! أنـت لسـت يف منزلكـم هنـا! أنـت‬
‫وعلى الضيـوف أن يتحلَّـوا بـاألدب يف منـازل اآلخريـن!‬
‫ثم ذهبت إلغالق الباب‪.‬‬
‫طأطأت رأيس غاضباً‪ّ ،‬‬
‫مجـرد زائـر هنـا! أنا ابن اللـة زبيدة صديقة اللة عائشـة‪ .‬واعتقد‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬لسـت‬
‫أن اللـة عائشـة لـن يعجبها أنك وصفتني بكوين ولـد ًا قليل األدب!‬
‫‪ -‬أنـت فعلاً قليـل األدب‪ ،‬وسـافل ومتسـخ! هـل تظننـي أخـاف من اللة‬
‫عائشـة؟ إذا واصلـت النظـر نحـوي بوقاحـة سـأحرض مقص ًا واقطـع أذنيك!‬
‫رصخت بقوة‪:‬‬
‫‪ -‬ماما! اللة عائشة! هذه املرأة تريد أن تقطع أذين! آ ٍه! أذين! أذين!‬
‫أطلت اللة عائشة من النافذة‪:‬‬
‫‪ -‬ما الذي يجري؟ ما الذي يجري؟‬
‫حاولـت امـرأة الطابـق السـفيل أن تشرح لهـا مـاذا جـرى بالضبـط‪،‬‬
‫لكننـي كنـت أبكي وأزعق بأقىص ما تسـتطيع حبـايل الصوتية‪ ،‬وهـو ما منع‬
‫صوتهـا مـن الوصـول إىل فـوق‪ .‬أشـارت يل بيديهـا يك أتوقَّـف عـن الضجيج‬
‫غير أننـي واصلـت الصيـاح‪ .‬خرجـت والـديت إىل حيـث كانـت اللة عائشـة‪،‬‬
‫خرجـت باقـي نسـاء الطابـق السـفيل ملسـاندة جارتهـن‪ ،‬لكـن َّ‬
‫سلامة‬
‫حسـمت املوضـوع عندمـا تكلَّمـت‪:‬‬
‫‪ -‬هـذا طفـل صغير ليـس ّإل‪ .‬ال ميكـن أن ُيلام على خطـ ٍأ أو نسـيان‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بسـيط مثـل هـذا‪ .‬سـيدي‬ ‫ٍ‬
‫بسـبب‬ ‫وليـس مـن املعقـول أن ينشـب خصـام‬
‫محمـد اصعـد فـوراً! وجـدت يف قفطـاين قطعـة أخـرى مـن حلـوى كعـب‬
‫ً‬
‫حتما!‬ ‫الغـزال‪ ،‬سـتعجبك‬
‫السلَّم بخيالء‪.‬‬
‫مسحت وجهي يف جلبايب وصعدت ُ‬

‫‪185‬‬
‫مبجـرد‬
‫َّ‬ ‫عـادت النسـاء لسـابق أشـغالهن‪ ،‬وعـاد الهـدوء إىل الـدار‪.‬‬
‫إيل والـديت شـزراً‪ .‬كانـت نظـرة طويلـة‬
‫دخـويل غرفـة اللـة عائشـة نظـرت َّ‬
‫ذات معنـى‪ ،‬وكنـت أخـاف مـن عواقبها أكرث مـن أي يشء آخـر‪ .‬كانت نظرة‬
‫ملـدة طويلـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كفيلـة بإسـكايت‬
‫أمي‪ .‬ابتسـمت يف وجهي‪ ،‬وكانت‬ ‫دافعـت َّ‬
‫سلامة عنـي وج َّنبتني عقـاب ّ‬
‫قطعـة كعـب الغـزال بانتظاري فوق الصينية‪ .‬أمسـكتها‪ ،‬لكننـي عجزت عن‬
‫أكلها‪.‬‬
‫مخدتين ناظر ًا‬
‫َّ‬ ‫بـدأت اللـة عائشـة يف تحضير شـاي آخر‪ .‬جلسـت بين‬
‫َّ‬
‫تتوجه بالكالم إىل سلمة‪:‬‬
‫َّ‬ ‫نحو األرض يك تنسـاين النسـوة‪ .‬سـمعت والديت‬
‫جيدة؟‬
‫‪ -‬وما املشكل مع هذه اللحمة؟ أمل تكن طرية أو ّ‬
‫جيـدة‪ ،‬لكن‬
‫‪ -‬حسـب نـاس الحـارة أجمعين‪ ،‬كانـت اللحمـة مـن نوعية ّ‬
‫ٍ‬
‫جهة‪،‬‬ ‫بنـت عبـد الرحمـن كانـت تبحث فقط عن سـبب الفتعال شـجار‪ .‬مـن‬
‫ٍ‬
‫جهـة أخـرى فهـو ال ميلـك‬ ‫مـوالي العـريب يـكاد يكـون بعمـر والدهـا‪ ،‬ومـن‬
‫اإلمكانيـات لتلبيـة كلّ نزواتهـا‪ .‬قلـت لـك مـن قبل إن هـذه الفتـاة مجنونة‪،‬‬
‫زوجـي دمالج‬
‫ّ‬ ‫حلاق تفـرض على زوجهـا أن يقتني لهـا‬ ‫منـذ متـى رأينـا ابنـة َّ‬
‫مـن ذهـب‪ ،‬أن مينحهـا النقـود يف يدها لتشتري تفاهـات‪ ،‬أن تنظِّ م حفالت‬
‫ٍ‬
‫وقـت وحني؟‬ ‫شـاي السـتقبال صديقاتهـا‪ ،‬وأن تلعـب بالطبـل يف كلّ‬
‫قاطعتها اللة عائشة‪:‬‬
‫‪ -‬لكن يقولون إنها تعمل؟ أليس لديها صنعة يف يدها؟‬
‫مطـرزة توضع عىل ظهـر األحذية النسـائية التي‬ ‫َّ‬ ‫‪ -‬إنهـا تخيـط تنميقـات‬
‫يصنعهـا مـوالي العـريب عـادةً‪ .‬فعلاً ‪ ،‬كلَّفهـا بإنجـاز عمـل أو اثنين‪ ،‬لكنهـا‬
‫طرزتهـا بطريقـة معيبـة‪ ،‬ويف النهايـة‪،‬‬ ‫تأخـرت كثير ًا يف إمتـام العمـل‪َّ .‬‬‫َّ‬
‫ُطـرزات أحذيـة النسـاء‪ .‬توقَّـف‬
‫طلبـت ضعـف األجـرة التـي متنـح عـاد ًة مل ِّ‬
‫مـوالي العـريب عـن منحهـا عملاً ‪ ،‬غير أنها غضبـت منـه واتهمتـه بعالقات‬
‫غير الئقـة مـع نسـاء الحـارات البعيـدة اللـوايت يدفـع لهـن إلنجـاز هـذا‬
‫الجـزء مـن صناعتـه‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫الجميـع يعـرف طبعـ ًا أن مـوالي العـريب رجلٌ وقـور ال يقـوم مبثل هذه‬
‫األفعـال‪ ،‬هـذه اتهامـات فتـاة غبيـة وغيورة ليـس ّإل‪ .‬كلّ هـذا يجوز وميكن‬
‫تحملـه‪ ،‬لـوال أن والدتهـا دخلـت على الخـط وبـدأت تزورهـا ثلاث أو أربـع‬ ‫ُّ‬
‫مـرات يف األسـبوع‪ .‬تحشر أنفهـا يف كلّ شـاذة وفـاذة مـن أمـور الزوجين‬ ‫َّ‬
‫وتدفـع ابنتهـا ألن تصبـح متطلبـة أكثر فأكثر‪ ،‬توهمهـا أنهـا متلـك حسـن ًا‬
‫مسـن تفـوح منـه رائحـة العـرق والجلـد‬
‫ٌّ‬ ‫خارقـ ًا ال يجـوز أن يتمتـع بـه ٌ‬
‫زوج‬
‫املدبـوغ‪ ،‬وال يسـتطيع أن ُيدلِّـل زوجتـه الشـابة كما يجـب!‬
‫انعكسـت آثـار هذه النصائح عىل املسـكني مـوالي العريب! حاله اليوم‬
‫ال تسر عـدو ًا وال صديقـاً ‪ ،‬مل يجـد يف هذه الزيجـة ّإل املشـاكل والعذاب‪.‬‬
‫أعلـم أنـه يـأيت لزيارتـك نادر ًا يـا اللة عائشـة‪ ،‬ذلك ألنه يحـس بالذنب حول‬
‫ينـس مـا فعلـت مـن أجلـه يف محنتـه‪ .‬مـا كانـت‬
‫َ‬ ‫ترصفـه معـك‪ .‬وهـو مل‬ ‫ُّ‬
‫تعـرض لهـا مثلما سـاندته أنـت‬
‫َّ‬ ‫التـي‬ ‫املصيبـة‬ ‫يف‬ ‫لتسـانده‬ ‫أختـه‬ ‫وال‬ ‫ـه‬ ‫أم‬
‫ّ‬
‫بكرمـك‪ ،‬لكـن مـاذا تريديـن؟ الرجـال مخلوقـات ضعيفة!‬
‫حلـم واحـد‪ :‬أن يدفـئ‬
‫ٍ‬ ‫تحسـنت أحـوال تجارتـه مل يصبـح لـه غير‬ ‫َّ‬ ‫منـذ‬
‫عظامـه املُسـ َّنة بزوجـة تؤنـس خريـف أيامـه البـاردة وتنسـيه التعـب‬
‫والكـدح‪ ،‬لكـن حـال بنـات اليـوم أصبح عجيبـ ًا غريبـاً! ما عدن كما قبل من‬
‫ٍ‬
‫شـباب حمقى يف مثل سـنهن‬ ‫جهـة القناعـة والحيـاء‪ ،‬يفضلـن الـزواج مـن‬
‫ليتحكَّ مـن بهـم كما يشـأن‪.‬‬
‫مـوالي العـريب رجـل وقـور بحـق وحقيـق‪ ،‬وتلزمـه امـرأة رزينـة تليـق‬
‫بـه‪ .‬وهـذه املـرأة هـي أنـت يـا اللـة عائشـة! وقـد أخطـأ عندمـا غفـل عـن‬
‫هـذا األمر!‬
‫اتجهـت كلّ األنظـار لبـاب الغرفـة‪ .‬سـمعنا همهمـة خافتة تصـدر منه‪،‬‬
‫فقالـت اللة عائشـة‪:‬‬
‫‪ -‬من بالباب؟‬
‫‪ -‬قريب‪.‬‬
‫‪ -‬هذه أنت يا زهور! ادخيل! تفضيل بالدخول!‬

‫‪187‬‬
‫أطلَّت زهور بوجهها الصغري الذي حمل الكثري من املاكياج‪.‬‬
‫‪ -‬هل ميكنك أن متنحيني قلي ً‬
‫ال من النعناع؟‬
‫أو ً‬
‫ال وتناويل معنا كأس شاي‪.‬‬ ‫‪ -‬تفضيل ها هو النعناع! لكن ادخيل َّ‬
‫‪ -‬شكراً‪ ،‬لكنني ال أستطيع‪ ،‬ألن زوجي سيعود قريباً‪.‬‬
‫‪ -‬إذن فهـو مل يعـد بعـد لحـدود السـاعة! اجلسي معنـا ولـو للحظـة‬
‫قصيرة!‬
‫دخلـت زهـور‪ ،‬كانت شـابة جميلـة الوجه تفيض حيويـة وترتدي مالبس‬
‫وسلامة‪ .‬متنيـت أن تجلـس بجـواري‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫بألـوانٍ مبهجـة‪ ،‬صافحـت والـديت‬
‫وذلـك مـا كان‪ .‬كما أنهـا داعبـت وجنتـي بأصابـع يدهـا الصغيرة‪ .‬اندمجت‬
‫ـن يعلمن أن موالي العـريب قد قام فع ً‬
‫ال‬ ‫يف حديـث النسـوة وسـألتهن إِ ْن كُ َّ‬
‫ردت النسـوة باإلنـكار‪ ،‬غير أن زهور بادرتهـن بقولها‪:‬‬ ‫بتطليـق ابنـة الحلاَّ ق‪َّ .‬‬
‫سلامة ال ميكـن أن يفوتهـا يشء مـن أمـور هـذه الزيجـة!‬ ‫‪ -‬الوالـدة َّ‬
‫لكـن لباقتهـا املعهـودة متنعهـا مـن الخـوض يف بعـض التفاصيـل‪ .‬كلّ‬
‫سـكان حـارة «العـدوة» يعلمـون ما يالقيـه موالي العـريب يومي ًا مـع زوجته‬
‫الشـابة‪ ،‬يبـدو أن هـذه الفتـاة حمقـاء أو ُمصابـة مبـس‪ .‬إنهـا تهـدد أرستهـا‬
‫ألتفـه األسـباب بتكسير األثـاث واالنتحـار بإلقـاء نفسـها مـن السـطوح‪.‬‬
‫سـمعت هـذه األخبـار مـن مصـادر موثوقـة‪.‬‬
‫مثلاً ‪ ،‬الجمعـة املاضيـة طلبـت مـن زوجهـا أن يقتنـي لهـا‪ ،‬يف نفـس‬
‫أهـداب طويلـة‪ .‬عـاد مـوالي العـريب بعـد‬ ‫ٍ‬ ‫اليـوم‪ ،‬منديلاً غطـاء رأس ذا‬
‫يتضمـن تطريـز ًا جميلاً ‪ .‬ألقـت بنـت الحلاَّ ق‬
‫َّ‬ ‫سـاعتني مبنديـل قرمـزي رائـع‬
‫وطوحت به يف‬‫َّ‬ ‫ثم أمسـكته بأطـراف أصابعهـا‬ ‫على املنديـل نظـرة احتقار‪ّ ،‬‬
‫ثـم قالـت لزوجهـا‪:‬‬
‫فنـاء الـدار‪ّ ،‬‬
‫‪ -‬هـل تحسـبني امـرأة ريفيـة؟ كيـف تجـرؤ أن تقتنـي يل منديلاً بهـذه‬
‫شـك أنـك اشتريته بثمـنٍ بخس! اعلم أن عىل الشـيخ‬‫األلـوان السـوقية؟ ال ّ‬
‫السـن مثلـك‪ ،‬الـذي يرغـب يف زوجـة يف عمـر ابنتـه‪ ،‬أن يريض‬
‫ِّ‬ ‫الطاعـن يف‬

‫‪188‬‬
‫كلّ رغباتهـا‪ ،‬وأن ال يهديهـا ّإل الثيـاب النفيسـة‪ .‬أمنحـك شـبايب وجمايل‬
‫وتأتينـي مبنديـلٍ ال يليـق ‪!...‬‬
‫غضـب مـوالي العـريب غضبـ ًا شـديد ًا وبـدأ يقرعهـا بعنـف‪ .‬أمسـكت‬
‫بنـت الحلاَّ ق بـكأس وكرستـه على حافـة النافـذة وحاولـت أن تقطـع أوردة‬
‫عنقهـا بقطعـة زجـاج حـادة تبقَّـت يف يدهـا مـن الكأس املكسـورة‪ .‬سـارع‬
‫تتخبط وتبيك و ُتشـهد‬
‫َّ‬ ‫مـوالي العـريب لتجريدهـا مـن قطعة الزجاج فبـدأت‬
‫الجيران أنـه يعتـدي عليهـا بالضرب! وتصرخ شـاكيةً مـن أنـه ال يحضر‬
‫طعامـ ًا كافيـ ًا لبيته وال يشتري لها ّإل مالبس مرقَّعة بسـبب بخله الشـديد!‬
‫تكن عىل علم بهذه الواقعة‪.‬‬ ‫اعرتفت َّ‬
‫سلمة أنها مل ْ‬
‫وم ْن أخربك بذلك يا أُ َّ‬
‫خيتي؟‬ ‫‪َ -‬‬
‫ٍ‬
‫أحـد على أحـد! كما علمـت‬ ‫خبر‬
‫‪ -‬بعـض النـاس! ويف فـاس ال يخفـى ُ‬
‫خاصـة‪ ،‬بآفـة الكسـل‪ .‬وهـي ال تغادر‬
‫ّ‬ ‫أيضـ ًا أن ابنـة الحلاَّ ق مصابـة‪ ،‬بصفـة‬
‫فراشـها أبـد ًا قبـل الـزوال‪ .‬عندما يقيض مـوالي العريب الليلـة عندها يغادر‬
‫صباحـ ًا دون إفطـار‪ ،‬دون أن يـذوق كأس شـاي‪ .‬كما أن اللحـم والخضـار‬
‫َّ‬
‫الحلق بطهيها! مـوالي العريب‬ ‫تنتظـر حلـول املسـاء يك تتفضل اللة بنـت‬
‫ملـدة أطـول‪ .‬أصبـح يفضـل قضـاء الليل‬‫تحمـل هـذه الحيـاة ّ‬‫لـن يسـتطيع ُّ‬
‫أحيانـ ًا يف مشـغله عوض املبيت عند زوجته الشـابة‪ .‬كما أن خجله مينعه‬
‫مـن الحديـث حـول هـذه األمـور عنـد اللـة عائشـة التـي أصبحـت تسـتقبله‬
‫ببرود‪ ،‬كما يحـق لهـا أن تفعل‪ ،‬منـذ زواجـه الثاين!‬
‫ثـم‬
‫رست همهمـة بين املسـتمعات‪ ،‬حاولـت والـديت أن تقـول شـيئاً‪ّ ،‬‬
‫تنهـدت باقـي النسـوة‪.‬‬
‫تنهـدت وتراجعـت عنـه‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫مل يعد لدى زهور ما تضيفه فصمتت‪.‬‬
‫وفجـأة بـدأت النسـوة يف الحديـث يف نفـس الوقـت عـن بنـت الحلاَّ ق‪،‬‬
‫الحلق نفسـه‪ ،‬عـن زوجته وعن املرحومـة والدته (أغـرق الله عظامها‬ ‫َّ‬ ‫عـن‬
‫رشفـة حـول هـذه‬ ‫يف نـار جهنـم!)‪ .‬تذكَّ ـرن قصصـ ًا وأحداثـ ًا كثيرة غير ُم ِّ‬
‫يتخيـل املـرء أن َّ‬
‫الحلاق وزوجتـه وبنتـه يشـكِّ لون‬ ‫َّ‬ ‫األرسة‪ .‬عنـد سماعهن‬

‫‪189‬‬
‫معـ ًا حثالـة املجتمـع‪ ،‬وبـأن الـكالب نفسـها لـن تكلِّـف نفسـها عنـاء نهـش‬
‫إن تركـت يف العـراء بعـد موتهم‪ .‬كانـوا بالكاد ينتمـون إىل الجنس‬‫جثثهـم ْ‬
‫أمـة‬ ‫ِ‬
‫ومحـال أن يحسـبوا يف عـداد املسـلمني! ومبـا أنـه ال توجـد ّ‬‫البشري‪ُ ،‬‬
‫ّ‬
‫على وجـه األرض أكثر كرمـ ًا وتسـامح ًا مـن أمـة سـيدنا محمد (عليـه أزىك‬
‫الصلاة والسلام)‪ ،‬فإن مثل هذه األرسة ال يجـوز أن تدخل يف ِعداد جمهور‬
‫األمـة‪ ،‬وال أن تعيـش بين اليهـود والنصـارى الذيـن لـن يقبلوهـا حت ً‬
‫ما بين‬ ‫ّ‬
‫ظهرانيهم!‬
‫واحتـدت حناجرهـن‪ .‬وكان صوت‬
‫َّ‬ ‫ارتفـع ضجيـج النسـوة بهذا الحديـث‬
‫سلامة يهـدر مثـل الرعـد‪ ،‬وأصـوات األخريـات ترافقـه فيما يشـبه عصـف‬ ‫َّ‬
‫الريـح أو انحـدار ميـاه السـيول الجارفـة وتطويـح العواصف بأوراق الشـجر‬
‫يف بدايـة الخريـف‪.‬‬
‫مخيلتـي دون أن يترك عليهـا أثراً‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫كان كلّ مـا يقلنـه ينزلـق على سـطح‬
‫فما كنـت أفهـم معـاين جميـع كالمهـن‪ .‬ومـا كان يهمنـي أن أفهمهـا‪ ،‬بـل‬
‫ينصـب على طريقـة النطـق عندهـن وإيقاعـه وموسـيقاه‬ ‫ّ‬ ‫كان كلّ تركيـزي‬
‫التـي أخـذت بهـا إىل درجـة أننـي نسـيت أننـي أمسـك كأس شـاي يف يـدي‬
‫ركبتـي‪ .‬لحظتهـا توقَّـف الحديـث بين النسـوة‬
‫ّ‬ ‫فانزلـق منـي وأهرقتـه على‬
‫صمـت مخيـف‪ .‬كانـت املفاجـأة والغضـب‬ ‫ٍ‬ ‫فنظـرن جميعهـن باتجاهـي يف‬
‫علي‪ .‬فكَّ رت يف البحث عـن عذ ٍر مقبول‬
‫يغليـان يف جميـع العيـون املركِّ زة َّ‬
‫على فعلتـي فلـم أجد شـيئاً‪ ،‬أدركـت أن البكاء نفسـه لن ينفعنـي‪ ،‬فرفعت‬
‫وجهـي إىل السـقف وزفـرت زفـر ًة قويـة‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫الفصل الثاين عرش‬

‫رست يف أرجـاء الـدار موجـةٌ مـن االبتهـاج املنعـش يف ذلـك اليـوم‬


‫الشـوافة املعروفـة‬
‫َّ‬ ‫مسـت حتـى قلـب كنـزة‬ ‫مسـت قلـوب قاطنيهـا‪ ،‬بـل َّ‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬
‫بصـوت‬ ‫فـرددت كلمات أغنيـة‪ ،‬كانـت رائجـة يف ذلـك الوقـت‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫بتحفظهـا‪،‬‬
‫مسـموع‪ .‬أنصتـت‪ ،‬مـن نافـذة غرفتنـا‪ ،‬لصوتهـا املبحـوح بعـض الشيء‪،‬‬
‫تبينـت رغـم ذلـك كلامت مثـل‪ :‬القلـب‪ ،‬عني الغـزال‪ ،‬شـفاه الورد‪.‬‬ ‫لكننـي َّ‬
‫مخيلتـي كأمنـا‬
‫ِّ‬ ‫رسـمت هـذه الكلمات معـاين أشـياء جديـدة وجميلـة يف‬
‫تـم اسـتخراجها‪ ،‬بعـد فترة طويلـة مـن السـبات‪ ،‬مـن تحـت بسـاط مغبر‬ ‫َّ‬
‫كان يغطيهـا‪ .‬كانـت تلـك الكلمات تتصاعـد يف سماء الصيـف البيضـاء‬
‫محركـة أجنحتهـا بخ ّفـة مفرحة تجعل العوالـق تتناثر منهـا‪ ،‬عوالق وبقايا‬ ‫ِّ‬
‫ال بعدها كلامت عني الغزال وشـفاه‬ ‫رددت مطـو ً‬ ‫َّ‬ ‫قدميـة‪.‬‬ ‫عنكبوتيـة‬ ‫خيـوط‬
‫أكـن أفهـم القصـد منهـا‬
‫ْ‬ ‫مل‬ ‫أننـي‬ ‫رغـم‬ ‫جميلـة‬ ‫الـورد‪ .‬حـزرت أنهـا كلمات‬
‫السـن املُبكِّ ـرة‪ .‬وما كنت أعـرف كيف تكون‬
‫ِّ‬ ‫وال معانيهـا الحقيقيـة يف تلـك‬
‫عين الغـزال‪ ،‬وال كنـت رأيـت الغـزال نفسـه مـن قبـل! فيما كانـت شـفاه‬

‫‪191‬‬
‫الـورد ُتشـكِّ ل عنـدي معنـى ملموسـ ًا أقـرب للفهـم‪ .‬توصلـت‪ ،‬بعـد طـول‬
‫يتوجـب على كلامت األغـاين أن يكون لهـا معنى واضح‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫تفكير‪ ،‬إىل أنـه ال‬
‫وعقـدت العـزم على أن أكتـب أغـاين الحقـاً‪ ،‬طاملـا أن األمر يبدو بسـيطاً‪.‬‬
‫أتحـدث‪ ،‬يف‬
‫َّ‬ ‫قـدرت أننـي أعـرف كلمات كافيـة قد تفـي بالغـرض‪ .‬نويت أن‬
‫ين املسـتقبلية‪ ،‬عـن الليـل ووجـه يشـبه جمال القمـر‪ ،‬وأسـنان مثـل‬ ‫أغـا َّ‬
‫جواهـر معقـودة يف خيـط مـن حريـر‪ ،‬وشـفاه ورد أو مرجـان‪ .‬تطلَّب األمر‬
‫العثـور على اسـم امـرأة أنسـب لهـا كلّ هـذه األوصـاف‪ ،‬فما هـو اسـم‬
‫إن اخرتت اسـم عائشـة‬ ‫املـرأة الالئـق لذلـك؟ فكَّ رت طويلاً يف املوضوع‪ْ ،‬‬
‫فسـتبدو بالضرورة امـرأة بدينـة وثرثـارة مثل اللة عائشـة صديقـة والديت‪.‬‬
‫كانـت رحمـة تقطـن معنـا الـدار نفسـه‪ ،‬ومـا كانـت توحـي يل بإمكانيـة‬
‫ربا‬ ‫بوصـف مـن هذه األوصاف‪ .‬زبيدة هو اسـم والـديت‪ ،‬لكن َّ‬‫ٍ‬ ‫تحلِّيهـا يومـ ًا‬
‫يكـن مـن الالئـق أن يضـع اإلنسـان اسـم والدتـه يف أغنيـة‪ .‬زينـب ُتثير‬ ‫مل ْ‬
‫أمـا رحمـة فأبرصها من النافـذة تعجن خبزها‪ ،‬وال ميكـن أن يتغ َّنى‬ ‫حنقـي! ّ‬
‫اإلنسـان بامـرأة منحنيـة تعجـن الخبـز داخـل إنـاء فخـاري على األرض!‬
‫ربـا يحسـن يب أن أختـار اسـم زهـور أو خديجـة‪ ،‬وزهـور هـو االسـم‬
‫َّ‬
‫األفضـل‪:‬‬
‫مخيلتي!‬
‫ِّ‬ ‫ذكرى صورتها الجميلة تراود‬
‫وفم جميل البسمة!‬
‫مزين صبوح ٌ‬
‫وجه َّ‬
‫ٌ‬
‫مبجرد تذكُّ ر أن يديها قد المستهام!‬
‫َّ‬ ‫تحمران‬
‫َّ‬ ‫وجنتاي‬
‫كانـت صـورة زهـور‪ ،‬التـي تعـرف الكثير عـن أرسار بنـت الحلاَّ ق سـيدي‬
‫مخيلتـي‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫عبـد الرحمـن‪ ،‬تسـكن‬
‫رشعـت رحمـة يف الغنـاء أيضـاً‪ .‬كانـت كلمات أغنيتهـا تسـتدر عطـف‬
‫تكـن هزيلـة وال عانـت يومـ ًا مـن‬
‫ْ‬ ‫األوليـاء وتشـكو مـن األرق والهـزال‪ .‬ومل‬
‫األرق! بـل كانـت تغـط يف النـوم ومتلأ غرفتهـا شـخري ًا إىل َح ِّ‬
‫ـد أن األطبـاق‬
‫الخزفيـة تتزعـزع يف مطبخهـا‪ ،‬مـن فـرط شـخري صاحبتهـا!‬
‫ٍ‬
‫شـخص ما تشـبه نجوم ًا‬ ‫تتحدث عن عيون‬
‫َّ‬ ‫تتمـة أغنيتهـا التـي‬
‫مل أفهـم َّ‬

‫‪192‬‬
‫مقوسـة مثل السـيوف‪.‬‬
‫تعلوها حواجب َّ‬
‫الشـوافة ورحمـة زوجـة صانـع املحاريـث قـد فتحتـا بـاب‬ ‫َّ‬ ‫كانـت كنـزة‬
‫الغنـاء فتبعتهما إليـه فاطمـة البزيويـة‪ .‬وانضـاف للجوقـة صـوت والـديت‬
‫تقـوى شـيئ ًا فشـيئاً‪ ،‬قبـل أن ميلأ الـدار‪َّ .‬‬
‫قـررت أن‬ ‫ثـم َّ‬ ‫الـذي بـدا خجـو ً‬
‫ال ّ‬
‫خاصة وأن األمـر ال يتط َّلب رشوطـاً وال قواعد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أشـارك يف اإلنشـاد بـدوري‪،‬‬
‫يتلخـص يف عبارتين‪« :‬يـا ليـل! يا‬
‫كان كلّ ينشـد مـا يروقـه‪ .‬وكان مـا أغنيـه َّ‬
‫قمر!»‪.‬‬
‫بغـض النظـر عـن محدوديـة الكلمات‪ ،‬فإننـي أقسـم بأغلـظ اإلميـان‬
‫أن التنويعـات التـي أضفيتهـا عليـه تسـتحق أن تبقـى يف األذهـان‪ ،‬رغـم‬
‫البشري العـادي أن يسـجل مجمـوع التغييرات‬
‫ّ‬ ‫أنـه يصعـب على العقـل‬
‫املزاجيـة والشـقلبات اإليقاعيـة املفاجئـة التـي أنتجتهـا يف تلـك اللحظـة‬
‫ُتحـررة مـن الهذيـان الغنـايئ!‬
‫امل ِّ‬
‫وسـط هـذا الجـدل العـام الـذي عـززه الطقـس الربيعـي الدافـئ تحـت‬
‫شـمس أبريـل‪ ،‬سـمعنا فجـأة طرقـ ًا قويـ ًا على بـاب الـدار‪ .‬صاحـت رحمـة‪:‬‬
‫ـن الطارق؟‬
‫َم ْ‬
‫أجابهـا صـوت طفـويل رقيـق يـكاد يشـبه مـواء قطـة‪ .‬توثَّبـت مـن أثـر‬
‫الفضـول‪ ،‬امتقـع لـوين وأطللـت مـن نافذتنـا‪ .‬دعـت الخالـة كنـزة الطفـل‬
‫للدخـول إىل الفنـاء‪ .‬بعـد هنيهة‪ ،‬حسـبتها دهراً‪ ،‬دخل املـكان طفلٌ بعمر‬
‫الثانيـة عشرة‪ .‬إنـه علال اليعقـويب‪ ،‬زميلي يف الكُ َّتـاب‪ .‬أُصبـت بالهلـع‪،‬‬
‫وقفـزت أبحـث عـن مخبـأ خلـف الرسيـر‪ .‬كانـت أوصـايل ترتعـد وأسـناين‬
‫تصطـك داخـل فمـي من الفـزع‪ ،‬والبرودة تغىش صـدري الصغير وتغلِّفه‬
‫تحدثـت والـديت للطفـل الزائر‪،‬‬ ‫كأنهـا تنـوي أن تسـتقر بـه إىل أبـد اآلبديـن‪َّ .‬‬
‫سـمعتها تقـول لـه‪:‬‬
‫تحسـنت صحتـه‪ ،‬اشـكر الفقيـه على اهتاممـه بتلميـذه‪ ،‬لكـن أرجـو‬ ‫َّ‬ ‫‪-‬‬
‫أن تخبره أن حالـة سـيدي محمـد ال تسـمح لـه بعـد بالعـودة إىل مقاعـد‬
‫أبـواب العلـم!‬
‫َ‬ ‫الـدرس‪ ،‬اذهـب يـا ولـدي‪ ،‬فتـح اللـه لـك‬

‫‪193‬‬
‫نادتني والديت‪:‬‬
‫‪ -‬سيدي محمد‪ ،‬أين أنت؟‬
‫مل أجبها فتو َّترت أعصابها‪:‬‬
‫‪ -‬أين أنت يا ابن الكلب؟ ِل َم ال تجيب؟‬
‫كنت عاجز ًا عن الجواب فلذت بالصمت‪.‬‬
‫بـدأت والـديت يف رفـع عقريتهـا باللـوم والتقريـع‪ ،‬شـاكية مـن عنـادي‪،‬‬
‫وداعية أهل الدار‪ ،‬وسـكان الحارة‪ ،‬وجمهور املسـلمني‪ ،‬أن يكونوا شـهود ًا‬
‫عىل مـا تقاسـيه معي!‬
‫‪ -‬مـا أقسى القـدر الـذي يفـرض على امـرأة مسـكينة أن تعيـش دون‬
‫زوجهـا رفقـة ولـد لـه رأس بغـل عنيـد‪ .‬ال سـلَّط اللـه مثـل هـذا القـدر على‬
‫عـدو‪ ،‬ولـو كان يهوديـ ًا أو نرصانيـاً! مـاذا جنيت حتى أسـتحق هـذا العناء يا‬
‫اللـه! ارحمنـي يـا اللـه مـن هـذا الحال!‬

‫ربـا أن أبـواب السماء كانـت مفتوحـة فعلاً حين فاهـت ّ‬


‫أمـي بهـذا‬ ‫َّ‬
‫الدعـاء‪ .‬ففـي نفـس اللحظـة دخلـت الصغيرة زينـب تعـدو الهثـةً وترصخ‬
‫مـن الزقـاق‪:‬‬
‫‪ -‬خالتي زبيدة! خالتي زبيدة! عندي لك خرب طيب!‬
‫‪ -‬خرب طيب؟‬
‫توقَّفـت والـديت عـن تقريعهـا ودعائهـا‪ .‬أطلَّـت على زينـب التـي وقفـت‬
‫وسـط الفنـاء الهثـةً عاجـزة عـن تفسير سـبب هياجهـا‪ .‬غـادرت النسـاء‬
‫أشـغالهن املعتـادة وأطللـن على الفناء‪ .‬غـادرت مخبأي فيما كانت زينب‬
‫وسـط الفنـاء تقـوم بحـركات متعبـة أذكـت فضـول الجميـع‪ .‬رفعـت أخير ًا‬
‫رأسـها صوبنـا وقالـت‪:‬‬
‫‪ -‬رأيت‪ ...‬يف الشارع‪ ...‬املعلم‪ ...‬عبد السالم!‬
‫أمها رحمة‪:‬‬
‫قطع الصمت جملة زينب قبل أن تخاطبها ّ‬

‫‪194‬‬
‫‪ -‬توقَّفي عن قول ما ال تعرفني أيتها الكذَّ ابة الصغرية!‬
‫‪ -‬رأيـت ّبـا عبـد السلام يف الشـارع قـرب بائـع الدقيـق‪ ،‬غير بعيـد عـن‬
‫ويتحـدث مـع رجـلٍ‬
‫َّ‬ ‫جامـع شـجرة الالرنـج‪ .‬كان يحمـل يف يـده دجاجتين‬
‫ٍ‬
‫وجـه طويـل مثـل إبريـق‪...‬‬ ‫ريفـي ذي‬
‫ضحكت كنزة من داخل غرفتها وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬إذا كان مـا تحكيـه زينـب صحيحـاً‪ ،‬فنحـن سـعداء بعـودة املعلـم‬
‫عبدالسلام ونتم َّنـى لـه مقامـ ًا طيبـاً‪.‬‬
‫تقـل والـديت شـيئاً‪ ،‬بـل عـادت إىل غرفتهـا وقـد انتابتهـا حالـة مـن‬
‫مل ْ‬
‫السرور أعجزتهـا عـن الحركـة والنطـق‪ ،‬كانـت تسـبح يف الهنـاء‪.‬‬
‫السـلَّم دون أن أدري فعلاً إىل أيـن اتجـه‪ .‬وما إن‬
‫ارمتيـت نحـو درجـات ُ‬
‫قطعـت عشر ًا مـن الدرجـات حتـى سـمعت صـوت والـدي يرتفـع نحونا من‬
‫الطابق السـفيل‪:‬‬
‫‪ -‬أيوجد أحد يف املدخل؟هل بإمكاين املرور؟‬
‫الشوافة‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ردت كنزة‬
‫َّ‬
‫ردك الله‬
‫‪ -‬تفضـل بالدخـول أيهـا املعلم عبد السلام‪ ،‬هذا يوم مبـارك َّ‬
‫فيه سـامل ًا إىل أرستك‪ ،‬شـكر ًا للـه عىل عودتك!‬
‫أجاب والدي‪:‬‬
‫‪ -‬بارك الله فيك عىل متمنياتك الطيبة‪.‬‬
‫عـدت أدراجـي مرسعـاً‪ ،‬كنـت أريـد رؤيتـه يدخـل الغرفـة علينـا‪ .‬بدا يل‬
‫معتما غير مناسـب ألن يسـتقبل فيه اإلنسـان أبـاه بعد هذه‬ ‫ً‬ ‫السـلَّم مكانـ ًا‬
‫ُ‬
‫تتحـرك‬
‫َّ‬ ‫مل‬ ‫الغرفـة‬ ‫مـن‬ ‫مكانهـا‬ ‫نفـس‬ ‫يف‬ ‫والـديت‬ ‫وجـدت‬ ‫الطويلـة‪.‬‬ ‫الغيبـة‬
‫أكـن بكامـل اللياقـة‪.‬‬
‫مل مـا‪ ،‬بـدوري مل ْ‬ ‫منـه‪ .‬بـدا يل كما لـو أنهـا تحـس بـأ ٍ‬
‫تـردد صوت‬‫يـداي قليالً‪َّ .‬‬
‫ّ‬ ‫سـالت على جبهتـي قطـرات عرق بـارد واضطربـت‬
‫ثـم أغلق ظلُّـه بـاب الغرفة‪:‬‬
‫خطـوات والـدي على أرضيـة طابقنـا‪ّ ،‬‬

‫‪195‬‬
‫‪ -‬السالم عليكم‪.‬‬
‫ردت الوالدة‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬وعليكم السالم‪ ،‬هل كانت رحلة مريحة؟‬
‫‪ -‬كانـت رحلـة طيبـة وموفقـة بحمـد اللـه! تعـال هنـا ألراك عن قـرب يا‬
‫سـيدي محمد!‬
‫اقرتبـت مـن والـدي فوضـع الدجاجتين أرضـاً‪ ،‬كانـت أقدامهما مربوطة‬
‫برشيـط مـن دوم فبدأتـا يف الصيـاح لشـعورهام بالذعـر‪ .‬بـدت يل صـورة‬
‫الفخـار‪ ،‬وهو‬
‫َّ‬ ‫متغيرة عـن سـابق حالتهـا‪ .‬كان وجهـه قد اكتىس لـون‬ ‫ِّ‬ ‫والـدي‬
‫مـا أثـار اسـتغرايب‪ .‬كانـت تفـوح مـن جلبابـه روائح التراب والعـرق وفضالت‬
‫مـرر يديـه تحـت إبطـي ورفعنـي ألصبـح مبواجهـة عاممتـه‬ ‫البهائـم‪ .‬عندمـا َّ‬
‫استرجعت ثقتـي يف نفسي وبـدأت بالضحـك‪ .‬خرجـت والـديت بدورهـا مـن‬
‫حالـة الجمـود وضحكـت‪ .‬حملـت الدجاجتين إىل املطبـخ‪ ،‬عـادت لتسـاعد‬
‫يتضمـن بيضـاً‪ .‬أفرغـت خراجـه مـن آنيـة‬ ‫َّ‬ ‫قبـه الـذي كان‬‫والـدي على إفـراغ ّ‬
‫زبـد بلـدي وقنينـة زيت زيتـون وقطعة فطائر قرويـة من سـميد‪ .‬انتابتها فورة‬
‫وتتحـرك مينة ويرسة‬ ‫َّ‬ ‫مـن النشـاط فبـدأت تر ِّتـب املقتنيـات‪ ،‬تنفخ عىل النـار‬
‫وتتحـدث دون انقطـاع‪ .‬كنـت جالسـ ًا على ركبـة الوالـد أحكي له مـا مررنا به‬ ‫َّ‬
‫أحـداث جسـام خالل غيابـه‪ .‬كنت أحيك ذلـك بطريقتـي‪ ،‬دون ترتيب وال‬ ‫ٍ‬ ‫مـن‬
‫تسلسـل‪ ،‬وال خضـوع لحقيقـة الوقائـع‪ ،‬دون املنطـق الـذي يجعـل روايـات‬
‫ٍ‬
‫حـدث آلخر‪،‬‬ ‫األشـخاص الكبـار رتيبـة فاقـدة للنكهـة والحس‪ .‬كنـت أقفز من‬
‫أضخـم تفاصيـل وأصنـع أخرى عند الحاجـة‪ ،‬وعندما تحـاول والديت التدخل‬ ‫ِّ‬
‫لتصويـب يشء مـا يف روايتـي يطلـب الوالـد منهـا أن ترتكنـا لحالنـا‪.‬‬
‫سـمعنا أصـوات الجيران تتم َّنى لنا اسـتمرار سـعادتنا‪ ،‬وزغردت نسـوة‬
‫أخريـات مـن قاطنات الدور املجاورة للتعبري عن مشـاركة فرحتنا‪ ،‬شـكرت‬
‫والـديت الجميـع بعباراتها املعتادة‪.‬‬
‫العـواد مـن عملـه فأخربتـه زوجتـه بحـدث اليـوم‪ .‬نادانـا‬
‫َّ‬ ‫عـاد إدريـس‬
‫مـن غرفتـه‪:‬‬

‫‪196‬‬
‫‪ -‬سعدنا كثري ًا بعودتك إىل أهلك أيها املعلم عبد السالم!‬
‫‪ -‬اصعد إلينا يا إدريس!‬
‫سـن والدي‪ ،‬فكالهما قارب نهاية‬‫كان إدريـس صانـع املحاريث بنفس ِّ‬
‫األربعينـات‪ .‬وكانـت بين الرجلين عرش ٌة قدميـة‪ ،‬كام كانا يتبادالن مشـاعر‬
‫العـواد إىل غرفتنا‪.‬‬
‫االحترام‪ .‬صعد إدريس َّ‬
‫بعـد التحيـة املتعـارف عليهـا تجـاذب الرجلان أطـراف الحديـث‪.‬‬
‫خاضـا يف مواضيـع عـن جـودة محاصيـل العام‪ ،‬عن أسـعار املـواد وأخبار‬
‫األصدقـاء املشتركني‪.‬‬
‫قال إدريس لوالدي‪:‬‬
‫وربـا أن أهـل دارك ال يعرفـون أيضـ ًا‬
‫‪ -‬هـا قـد عـدت للتـو إىل فـاس‪َّ ،‬‬
‫بالخبر‪ ،‬ولكـن طلاق موالي العـريب من بنت الحلاَّ ق فد نطق بـه يوم أمس‬
‫أمـام كاتبـي العدل!‬
‫‪ -‬الحمـد للـه! سـيتم َّكن مـوالي العـريب أخير ًا مـن اسـتعادة الراحـة‬
‫والهـدوء‪ .‬عرفـت منـذ البدايـة أنهـا ليسـت ّإل نـزوة عابـرة‪ .‬أليـس جنونـ ًا أن‬
‫ٍ‬
‫وقـت واحـد؟ فاإلنسـان م ّنـا‬ ‫يعتقـد الرجـل أنـه يسـتطيع قيـادة ركابين يف‬
‫يسـتطيع بالـكاد التفاهـم مـع زوجة واحـدة‪ .‬لقد خاض مـوالي العريب هذه‬
‫ُـرة‪ ،‬وأظ ُّنهـا سـتنفعه‪ ،‬هـا قـد عاد إىل رشـده ليصبـح من جديد‬ ‫التجربـة امل َّ‬
‫مثـل النـاس العاديين‪ ،‬لنحمـد اللـه على ذلك!‬
‫سمعت صوت والديت‪:‬‬
‫‪ -‬سيدي محمد! تعال لتحمل صينية الشاي إىل مجلس الرجال!‬
‫ذراعـي الصغريتين من‬
‫ّ‬ ‫نفـذت أوامرهـا وحملـت الصينيـة الثقيلـة على‬
‫املطبـخ إىل حيـث يجلـس الرجلان‪ .‬شـعرت بالزهـو من قدريت على ذلك‪.‬‬
‫صـب والدي الشـاي‪.‬‬
‫َّ‬
‫تحـول إىل همهمـة غير‬
‫َّ‬ ‫اسـتمر الحديـث بين والـدي وضيفـه‪ .‬لكنـه‬
‫ّ‬

‫‪197‬‬
‫مفهومـة بالنسـبة يل‪ .‬اجتـاح التعـب أطرايف‪ ،‬شـعرت بالحـزن والعزلة‪ .‬ال!‬
‫ال أريـد النـوم‪ ،‬ال أريـد البـكاء‪ .‬فلي‪ ،‬أنـا أيضـاً‪ ،‬أصدقـاء كثر يسـتطيعون‬
‫مشـاركتي الفرحـة‪ .‬أخرجـت صنـدوق العجائـب من تحـت الرسيـر‪ ،‬فتحته‬
‫متنوعـة مـن األحلام تنتظـرين داخلـه‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫بتـؤدة وإجلال‪ ،‬كانـت أشـكال‬

‫فاس ‪1952 /‬‬

‫‪198‬‬
‫الفهرس‬

‫‪5‬‬ ‫تقديم ‪..............................................................‬‬

‫‪13‬‬ ‫الفصل األول ‪.......................................................‬‬

‫‪25‬‬ ‫الفصل الثاين ‪......................................................‬‬

‫‪41‬‬ ‫الفصل الثالث ‪......................................................‬‬

‫‪53‬‬ ‫الفصل الرابع ‪......................................................‬‬

‫‪69‬‬ ‫الفصل الخامس ‪...................................................‬‬

‫‪85‬‬ ‫الفصل السادس ‪...................................................‬‬

‫‪101‬‬ ‫الفصل السابع ‪.....................................................‬‬

‫‪123‬‬ ‫الفصل الثامن ‪......................................................‬‬

‫‪141‬‬ ‫الفصل التاسع ‪.....................................................‬‬

‫‪161‬‬ ‫الفصل العارش ‪.....................................................‬‬

‫‪179‬‬ ‫الفصل الحادي عرش ‪..............................................‬‬

‫‪191‬‬ ‫الفصل الثاين عرش ‪................................................‬‬

‫‪201‬‬
‫صدر يف سلسلة‬

‫‪2011‬‬
‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫طبائع االستبداد‬ ‫‪1‬‬
‫غسان كنفاين‬ ‫برقوق نيسان‬ ‫‪2‬‬
‫سليامن فياض‬ ‫األمئة األربعة‬ ‫‪3‬‬
‫عمر فاخوري‬ ‫الفصول األربعة‬ ‫‪4‬‬
‫عيل عبدالرازق‬ ‫اإلسالم وأصول الحكم ‪ -‬بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم‬ ‫‪5‬‬
‫نبي‬
‫مالك بن ّ‬ ‫رشوط النهضة‬ ‫‪6‬‬
‫محمد بغدادي‬ ‫صالح جاهني ‪ -‬أمري شعراء العامية‬ ‫‪7‬‬
‫‪2012‬‬
‫أبو القاسم الشايب‬ ‫نداء الحياة ‪ -‬مختارات شعرية ‪ -‬الخيال الشعري عند العرب‬ ‫‪8‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ‬
‫ّ‬ ‫‪9‬‬
‫ميخائيل نعيمة‬ ‫الغربال‬ ‫‪10‬‬
‫الشيخ محمد عبده‬ ‫واملدنية‬
‫ّ‬ ‫اإلسالم بني العلم‬ ‫‪11‬‬
‫بدر شاكر السياب‬ ‫أصوات الشاعر املرتجم ‪ -‬مختارات من قصائده وترجامته‬ ‫‪12‬‬
‫الطاهر حداد‬ ‫امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع‬ ‫‪13‬‬
‫طه حسني‬ ‫الشيخان‬ ‫‪14‬‬
‫محمود درويش‬ ‫ورد أكرث ‪ -‬مختارات شعرية ونرثية‬ ‫‪15‬‬
‫توفيق الحكيم‬ ‫يوميات نائب يف األرياف‬ ‫‪16‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية عمر‬ ‫‪17‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫الصديق‬
‫ّ‬ ‫عبقرية‬ ‫‪18‬‬
‫عيل أحمد الجرجاوي‪/‬صربي حافظ‬ ‫رحلتان إىل اليابان‬ ‫‪19‬‬
‫‪2013‬‬
‫ميخائيل الصقال‬ ‫لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية)‬ ‫‪20‬‬
‫د‪ .‬محمد حسني هيكل‬ ‫ثورة األدب‬ ‫‪21‬‬
‫ريجيس دوبريه‬ ‫يف مديح الحدود‬ ‫‪22‬‬
‫اإلمام محمد عبده‬ ‫السياسية‬
‫ّ‬ ‫الكتابات‬ ‫‪23‬‬
‫عبد الكبري الخطيبي‬ ‫نحو فكر مغاير‬ ‫‪24‬‬
‫روحي الخالدي‬ ‫تاريخ علم األدب‬ ‫‪25‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية خالد‬ ‫‪26‬‬
‫خمسون قصيدة من الشعر العاملي‬ ‫أصوات الضمري‬ ‫‪27‬‬
‫يحيى حقي‬ ‫مرايا يحيى حقي‬ ‫‪28‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية محمد‬ ‫‪29‬‬
‫حوار أجراه محمد الداهي‬ ‫عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب‬ ‫‪30‬‬
‫مجموعة مؤلفني‬ ‫العربية‬
‫ّ‬ ‫فتاوى كبار الك ّتاب واألدباء يف مستقبل اللّغة‬ ‫‪31‬‬
‫‪2014‬‬
‫ترجمة‪ :‬رشف الدين شكري‬ ‫عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد)‬ ‫‪32‬‬
‫خالد النجار‬ ‫عامليني)‬
‫ّ‬ ‫ِساج ُّ‬
‫الرعاة (حوارات مع كُ تاب‬ ‫‪33‬‬
‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬ ‫مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه)‬ ‫‪34‬‬
‫د‪.‬بنسامل ِح ّميش‬ ‫سريت ابن بطوطة وابن خلدون‬
‫َ‬ ‫عن‬ ‫‪35‬‬
‫ابن طفيل‬ ‫حي بن يقظان ‪ -‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني‬ ‫‪36‬‬
‫ميشال سار‬ ‫اإلصبع الصغرية ‪ -‬ترجمة‪ :‬د‪.‬عبدالرحمن بوعيل‬ ‫‪37‬‬
‫محمد إقبال‬ ‫محمد إقبال ‪ -‬مختارات شعرية‬ ‫‪38‬‬
‫ترجمة‪ :‬محمد الجرطي‬ ‫(تأمالت يف الحضارة‪ ،‬والدميوقراطية‪ ،‬والغريية)‬
‫تزفيتان تودوروف ُّ‬ ‫‪39‬‬
‫أحمد رضا حوحو‬ ‫مناذج برشية‬ ‫‪40‬‬
‫د‪.‬زيك نجيب محمود‬ ‫الرشق الف ّنان‬ ‫‪41‬‬
‫ترجمة‪ :‬يارس شعبان‬ ‫تشيخوف ‪ -‬رسائل إيل العائلة‬ ‫‪42‬‬
‫مختارات شعرية‬ ‫إلياس أبو شبكة «العصفور الصغري»‬ ‫‪43‬‬
‫‪2015‬‬
‫األمري شكيب أرسالن‬ ‫ملاذا تأخر املسلمون؟ وملاذا تقدم غريهم؟‬ ‫‪44‬‬
‫عيل املك‬ ‫مختارات من األدب السوداين‬ ‫‪45‬‬
‫ُجرجي زيدان‬ ‫رحلة إىل أوروبا‬ ‫‪46‬‬
‫د‪.‬عبدالدين حمروش‬ ‫عباد يف سنواته األخرية باألرس‬
‫بن َّ‬
‫ُعتمد ُ‬
‫ُ‬ ‫امل‬ ‫‪47‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫تاريخ الفنون وأشهر الصور‬ ‫‪48‬‬
‫إيدوي بلينيل ‪ -‬ترجمة‪ :‬عبداللطيف القريش‬ ‫من أجل املسلمني‬ ‫‪49‬‬
‫يوسف ذَ نّون‬ ‫زِينة املعنى (الكتابة‪ ،‬الخط‪ ،‬الزخرفة)‬ ‫‪50‬‬
‫أحمد فارس الشدياق‬ ‫الواسطة يف معرفة أحوال مالطة‬ ‫‪51‬‬
‫د‪ُ .‬محسن املوسوي‬ ‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬ ‫‪52‬‬
‫إيزابيل إيربهاردت‬ ‫ياسمينة وقصص أخرى‬ ‫‪53‬‬
‫ترجمة وتقديم‪ :‬بوداود عمري‬ ‫آباي (كتاب األقوال)‬ ‫‪54‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبدالسالم الغرياين‬ ‫مأساة واق الواق‬ ‫‪55‬‬
‫‪2016‬‬
‫محمد محمود الزبريي‬ ‫والفن والحضارة)‬
‫ّ‬ ‫واملد (صفحات يف اللّغة واآلداب‬
‫ّ‬ ‫بني الج ْزر‬ ‫‪56‬‬
‫مي زيادة‬ ‫ظلّ الذّ اكرة (حوارات ونصوص من أرشيف «الدوحة»)‬ ‫‪57‬‬
‫قسم التحرير «مجلّة الدوحة»‬ ‫املرصية (‪ )1932‬تحقيق‪ :‬رشيد العفاقي‬
‫ّ‬ ‫الرحلة الف ّنية إىل الديار‬ ‫‪58‬‬
‫أليكيس شوتان ‪-‬تعريب‪ :‬عبد الكريم أبو علو‬ ‫قيرص وكليوبرتا‬ ‫‪59‬‬
‫إسامعيل مظهر‬ ‫الصني وفنون اإلسالم‬ ‫‪60‬‬
‫ترجمة‪ :‬مي عاشور‬ ‫(مختارات ِش ْع ّ‬
‫رية للكاتب الصيني وانغ جو جن)‬ ‫براعم األمل ُ‬
‫ُ‬ ‫‪61‬‬
‫محمد العرويس املطوي‬ ‫ال ّتوت امل ُّر‬ ‫‪62‬‬
‫غونار إيكليوف‬ ‫درب الغريب‬ ‫‪63‬‬
‫أحمد حافظ بك‬ ‫من والد إىل ولده‬ ‫‪64‬‬
‫بول ُبورجيه‬ ‫التلــــميذ‬ ‫‪65‬‬
‫تقديم وترجمة‪ :‬طه باقر‬ ‫ملحمة جلجا ِمش‬
‫َ‬ ‫‪66‬‬
‫الشيخ مصطفى الغالييني‬ ‫أريج ال ّزهر‬
‫ُ‬ ‫‪67‬‬
‫‪2017‬‬
‫محمد فريد سيالة‬
‫ّ‬ ‫اعرتافات إنسان‬ ‫‪68‬‬
‫الطيب صالح‬ ‫مريود‬ ‫‪69‬‬
‫عبدالله كنون‬ ‫املقاالت الصحفية‬ ‫‪70‬‬
‫نجيب محفوظ‬ ‫قصص قصرية‬ ‫‪71‬‬
‫إبراهيم الخطيب‬ ‫بول بولز ‪ -‬يوميات طنجة‬ ‫‪72‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫الحياة‬
‫فن َ‬‫ّ‬ ‫‪73‬‬
‫خري الدين التونيس‬ ‫ك ِف َم ْع ِرف َِة َأ ْح َوالِ ال َْم َم ِل ِ‬
‫ك‬ ‫َأق َْو ُم ال َْم َسا ِل ِ‬ ‫‪74‬‬
‫أحمد أمني‬ ‫َ‬
‫األخلق‬ ‫كتاب‬ ‫‪75‬‬
‫فدوى طوقان‬ ‫ر ِْحلَةٌ َج َب ِل َّيةٌ ر ِْحلَةٌ َص ْع َبة‬ ‫‪76‬‬
‫مجموعة من الكتاب‬ ‫ري ُة ِف قَطَ ر)‬
‫ص َ‬‫صةُ الْقَ ِ‬
‫ارات ِمن َا ْل ِق َّ‬
‫(مخ َت َ‬ ‫ْ‬
‫ـطاف ُ‬ ‫ِق‬ ‫‪77‬‬
‫جول غابرييل فرين‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف اليان رسكيس‬ ‫الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية (من رشقي إفريقية إىل غربيها) ج‪1 :‬‬ ‫‪78‬‬
‫جول غابرييل فرين‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف اليان رسكيس‬ ‫الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية‪ .‬ج‪2 :‬‬ ‫‪79‬‬
‫‪2018‬‬
‫إسحق موىس الحسيني‬ ‫مذكرات دجاجة‬ ‫‪80‬‬
‫نورمان ج‪ .‬فينكلستاين‪ -‬ترجمة‪ :‬أحمد زراقي‬ ‫ماذا يقول غاندي عن الالعنف واملقاومة والشجاعة؟‬ ‫‪81‬‬
‫د‪ .‬نزار شقرون‬ ‫نشأة اللوحة املسندية يف الوطن العريب‬ ‫‪82‬‬
‫إس‪ .‬إس‪ .‬بيو ‪ -‬ترجمة‪ :‬يعقوب رصوف ‪ -‬فارس منر‬ ‫والعظَ َم ِء الق َُدماء‬ ‫ِمن ِس َي ا َ‬
‫ألبْطَ ال ُ‬ ‫‪83‬‬
‫إغناطيوس كراتشكوفسيك‬ ‫العريب‬
‫ّ‬ ‫مقاالت ِف األدب‬ ‫ٌ‬ ‫‪84‬‬
‫صوف‬
‫صموئيل ساميلز ‪ -‬ترجمة‪َ :‬يعقُوب َ ُّ‬ ‫ِ ُّ‬
‫س ال َّن َجاحِ‬ ‫‪85‬‬
‫ُم َعاو َِية ُم َح َّمد ُنور‬ ‫ِم ْن آثَا ِر ُم َعاو َِية ُم َح َّمد ُنور‬ ‫‪86‬‬
‫أحمد الهاشمي‬ ‫الع ْ ِ‬
‫ص َّية‬ ‫ات َ‬ ‫اء املُكَ ات ََب ِ‬
‫ِنش ُ‬
‫إ َ‬ ‫‪87‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبدالرحمن الخمييس وآخرين‬ ‫السوفْيي ِّتي‬ ‫ارات ِم َن ِّ‬
‫الش ْع ِر ُّ‬ ‫أجراس أكتوبر ‪ُ -‬م ْخ َت ٌ‬ ‫‪88‬‬
‫اختارها وترجمها‪ :‬جربا إبراهيم جربا‬ ‫حكايات من الفونتني‬ ‫‪89‬‬
‫ألبريطو مانْغيل ‪ -‬ترجمة ‪ :‬إبراهيم الخطيب‬ ‫مع بورخيس‬ ‫‪90‬‬
‫لوسيان جولدمان‪ ،‬ناتايل ساروت‪ ،‬آالن روب‬ ‫الرواية الجديدة والواقع‬ ‫‪91‬‬
‫غرييه‪ ،‬جينفياف مويلو‪ .‬ترجمة‪ :‬رشيد بنحدو‬
‫‪2019‬‬

‫إميل الوست ‪ -‬ترجمة‪ :‬إدريس امللياين‬ ‫أمازيغية)‬


‫َّ‬ ‫شعبية‬
‫َّ‬ ‫(حكايات‬
‫ٌ‬ ‫غزالن الليل‬ ‫‪92‬‬
‫املؤلف‪ :‬جورج النغالن ‪ -‬ترجمة‪ :‬خليفة ه ّزاع‬ ‫ابةُ‬
‫الذُّ َب َ‬ ‫‪93‬‬
‫عبد اللطيف الوراري‬ ‫ترجمة النفس (السرية الذاتية عند العرب)‬ ‫‪94‬‬
‫من إصدارات سلسلة كتاب الدوحة‬

You might also like