You are on page 1of 180

‫محمد العربي أبو حزم‬

‫‪Mohamed Elarbi Abouhazm‬‬

‫‪www.abouhazm.com‬‬
‫‪www.twitter.com/abouhazm‬‬
‫‪www.facebook.com/abouhazm‬‬
‫‪www.youtube.com/abouhazm‬‬
‫‪abouhazm@yahoo.fr‬‬

‫الكتاب‪ :‬في الحاجة إلى صحبة رجل ‪ -‬الصحبة والجماعة عند اإلمام عبد السالم ياسيـن رحمه هللا‬
‫املؤلف‪ :‬محمد العربي أبو حزم‬
‫الطبعة األولى‪1440 :‬ه ‪2019 -‬م‬
‫رقم اإليداع القانوني‪2019MO1136 :‬‬
‫رد مك‪978-9920-37-206-0 :‬‬
‫مطبعة‪Rapidexe Imprimerie :‬‬
‫ٱلر ۡح َٰمن َّ‬ ‫ۡ َّ‬
‫ٱلل ِه َّ‬
‫ٱلر ِح ِيم‬ ‫ِ‬ ‫ِبس ِم‬

‫***‬

‫ً‬ ‫ْ ّ‬
‫‪1‬‬
‫«بقيت ُسنة هللا في التابع واملتبوع قائمة وستظل إلى يوم القيامة»‬

‫***‬

‫‪ - 1‬اإلمام عبد السالم ياسيـن رحمه هللا‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪( .196 :‬موسوعة سراج ‪.)siraj.net -‬‬
‫مقدمة‬

‫الحمــد هلل رب العاملي ــن‪ ،‬والصــاة والســام علــى ســيد املرسلي ــن‪ ،‬وآلــه‬
‫الطيبي ــن وصحبــه األكرمي ــن‪ ،‬ومــن تبعهــم بإحســان إلــى يــوم الدي ــن‪.‬‬
‫أما بعد؛ فقد عرض أستاذنا املرشد وإمامنا املجدد سيدي عبد السالم‬
‫ياسيـن رضـي هللا عنه‪ ،‬في كتبه كلها على مدى أربعيـن عاما‪ ،‬قضية «اإلحسان»‬
‫ابتداء من كتابه «اإلســام بي ــن الدعوة والدولة» (‪1972‬م)‪ ،‬وفي رســائله ابتداء‬
‫مــن رســالة «جماعــة اإلرشــاد» (‪1973‬م)‪ ،‬وفــي أعــداد مجلــة «الجماعــة» ابتــداء‬
‫من عددها األول (‪1979‬م)‪ ،‬وفي دروسه السمعية ابتداء من أول دروس املنهاج‬
‫النبــوي األربعي ــن (‪1980‬م)‪ ،‬وفــي مجالســه املرئيــة ابتــداء ب ـ ـ ــ«أحاديــث فــي العــدل‬
‫واإلحســان» (‪1989‬م)‪ ،‬و«مجالــس تنوي ــر املؤمنــات» (‪2001‬م)‪ ،‬و«حــوارات‬
‫حــول املنهــاج النبــوي» (‪2009‬م) مــرورا ب ــزياراته فــي ربــوع البــاد وبمجالــس األحــد‬
‫َ‬
‫بعــد رفــع الحصــار (‪2000‬م)‪ ...‬أضــف إليهــا ل َه َجــه بهــذه القضيــة مــع كل مــن جمــع‬
‫بي ــنه وبي ــنه جامع ســواء أكان في مجلس ثابت أو في زيارة عاب ــرة‪...‬‬
‫كان‪ ،‬رحمــه هللا ورحمنــا ونفعنــا بــه‪ ،‬يحمــل قضيــة «اإلحســان» فــي قلبــه‬
‫ومهجتــه وعقلــه‪ ،‬فــي حركاتــه وســكناته‪ ،‬حت ــى إنــه ال يــكاد ي ــنبس ببنــت شــفة إال‬
‫َ‬ ‫ََ ً‬
‫كانت عنوانا لها ونفسا وموضوعا وأرضـية ومقصدا‪ ،‬وال ُيرى صامتا إال ش َّع ِم ْن‬
‫صموته على َم ْن حوله ِم ْن جليل وجميل األنوارما يدل على معاني «اإلحسان»‬ ‫ُ‬
‫وعلــى خب ــر «اإلحســان» وعلــى مبتــدإ «اإلحســان» وعلــى منته ــى «اإلحســان»‪.‬‬
‫وكانــت الصحبــة فــي مشــروع إمامنــا الجليــل وفــي مي ـراثه جوهـ َـر هــذا‬
‫َ‬
‫ـطة عقــده و ُر َ‬ ‫ُ‬ ‫ُُْ َ‬ ‫َ َ‬
‫وح روحــه الت ــي‬ ‫اإلحســان ونــواة ذ َّرتــه وبؤبــؤ عي ــنه ولـ َّـب ثمرتــه وواسـ ِ‬
‫‪7‬‬
‫َب َّث َها فيـنا وأثبتها وأكدها على صعيد التصور وعلى صعيد املمارسة معا؛ نقصد‬
‫«صحبــة رجــل» كمــا كان عليــه الحــال عنــد رســل هللا عليهــم وعلــى املصحــوب‬
‫األعظــم والنب ــي األكــرم ســيدنا محمــد أطيــب الصــاة وأز ـكـى الســام‪ ،‬وكمــا كان‬
‫وكمــا يكــون عنــد أهــل هللا العارفي ــن بــه الوارثي ــن لســره السائري ــن علــى ســنته إلــى‬
‫َّ‬
‫يــوم القيامــة‪ .‬فألــف حولهــا قلــوب تالمذتــه وظــل يل ــح عليهــا ويوص ــي بهــا ويشي ــر‬
‫إليهــا بمــا هــي املــاذ الــذي انحجبــت عنــه الحركــة اإلســامية املعاصــرة قبــل عامــة‬
‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫النــاس‪ ،‬وال َتف َتـ ْـت وتاهــت وشــردت‪ .‬وحت ــى تلــك الجــذوة الت ــي شـ َّـع ْت مــن قلــب‬
‫َ‬
‫اإلمــام حســن البنــا رحمــه هللا وبوركــت بهــا يــده َوب َرقـ ْـت بي ــن عي ــنيه فجذبــت إليــه‬
‫أفئدة من الناس في «فلتة» سابقة من تاريخ الحركة اإلسالمية املعاصرة‪ ،‬حتـى‬
‫ُ‬
‫تلــك الجــذوة امل َنـ َّـورة طالهــا نســيان ورثــة البنــا أو غفلتهــم‪ ،‬فلــم يكــن فــي وســع باقــي‬
‫التنظيمــات اإلســامية الت ــي كانــت تــدور فــي فلــك اإلخــوان املسلمي ــن أن تنتبــه إلــى‬
‫الجوهرالذي تناساه أولى الناس به‪ .‬بل هانحن نرى اليوم بأم أعيـننا‪ ،‬واأسفاه‪،‬‬
‫ـض أطيــاف الحركــة اإلســامية‬ ‫بعــد مــا ســمي بالربيــع العربــي‪ ،‬كيــف تســتثقل بعـ ُ‬
‫العمــل الت ــربوي‪ ،‬وتســتخف بــه حت ــى بــات ال يمثــل عندهــا مجــرد «جانــب» مــن‬
‫عملهــا ورســالتها فحســب‪ ،‬بــل فصلتــه عنهــا أو انفصلــت هــي عنــه واســتقالت منــه‬
‫وتــكاد تســتغفرمنــه وتتب ـرأ! وال حــول وال قــوة إال بــاهلل العلــي العظيــم‪.‬‬
‫ُ ْ‬
‫حاولنــا فــي هــذا البحــث أن ن َدنـ ِـد َن حــول موضــوع «الصحبــة والجماعــة»‬
‫عنــد اإلمــام عبــد الســام ياسي ــن رحمــه هللا مــن زاويــة البحــث املتجــرد مــن أي‬
‫اعتبــار يمكــن أن يؤث ــر فــي منطلقــه أو منهجيتــه أو وجهتــه أو نتائجــه‪ ،‬كالســياق‬
‫العــام الحاضــر أو طبيعــة األط ـراف املعنيــة باملوضــوع اجتماعيــا أو حركيــا‪،‬‬
‫قاصديـن الحقيقة خالصة حتـى نصل منها عند إمامنا املجدد إلى شاطئ أمانه‪،‬‬
‫َ‬
‫ونـ ِـر َد حيــاض علمــه بثبــات وطمأني ــنة ويقي ــن‪ ،‬متوسلي ــن إلــى ذلــك بمــا تقتضيــه‬
‫‪8‬‬
‫قواعــد البحــث مــن اســتعراض أمي ــن للنصــوص‪ ،‬ومــن مقارنــة بي ــن دالالتهــا‪ ،‬مــع‬
‫اســتحضارمجالها املوضوعي وأفقها الفكري وســياقها الزمني ومحيطها الحركي‬
‫الخــاص بهــا‪ ،‬ومــن معالجــة ال تت ــرك منطقــة ظــل إال ســلطت عليهــا الضــوء مهمــا‬
‫كان الذعــا للعي ــن الدغــا‪.‬‬
‫لقــد تبي ــن أســتاذنا‪ ،‬عنــد بحثــه املضن ــي فــي تـراث أهــل هللا‪ ،‬حي ــن فاجأتــه‬
‫أزمتــه الروحيــة منتصــف ستي ــنيات القــرن املاض ــي‪ ،‬أنــه ال فــكاك مــن أســرأزمتــه‬
‫إال عب ــر بــاب الصحبــة وبمفتــاح الصحبــة‪ ،‬فاضطــر‪ ،‬عمليــا‪ ،‬وهللا وحــده يعلــم‬
‫حجــم وقــوة وم ـرارة وآالم مخــاض ذلــك االضط ـرار‪ ،‬إلــى طلــب «صحبــة رجــل»‪،‬‬
‫فوجدهــا تحــت ظــل الحــاج العبــاس رض ــي هللا عنــه‪ ،‬فكانــت‪ ،‬كمــا ق ـرأ وبحــث‬
‫و َر َجــا‪ ،‬البـ َ‬
‫ـاب واملفتـ َ‬
‫ـاح الــذي فتحــه هللا لــه بــه‪.‬‬
‫ترس ــخ لــدى إمامنــا العظيــم‪ ،‬بقــوة الفكــرة َت َ‬
‫صـ ُّـو ًرا‪ ،‬أن البــاب هــو‬ ‫وبهــذا ّ‬
‫ً‬ ‫وترس ــخ لديــه‪ ،‬بقــوة النمــوذج ُ‬
‫وبن ُجوعــه ممارســة‪ ،‬أن املفتــاح‬ ‫«صحبــة رجــل»‪ّ .‬‬
‫هــو «صحبــة رجــل»‪ .‬وبقوتهمــا وبقــوة مــا فتــح هللا لــه بــه وفيــه وبقــوة نموذجــه هــو‬
‫ً‬ ‫رض ــي هللا عنــه أصبــح بـ ُ‬
‫ـاب ومفتــاح «صحبــة رجــل»‪ ،‬مبــدأ فــي الفهــوم ويقي ــنا فــي‬
‫القلــوب ومنهاجــا فــي الســلوك ال غنــاء عنــه لبنــاء أســس وقواعــد وأركان املنهــاج‬
‫النبــوي فــي الت ــربية وفــي التنظيــم وفــي الزحــف‪.‬‬
‫ونحــن حي ــن نتحــدث فــي هــذا البحــث عــن «صحبــة رجــل»‪ ،‬إنمــا نقصــد‬
‫صاحبهــا الطعـ َ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫ـام ويمش ــي فــي األســواق‪ ،‬ال‬ ‫صحبــة رجــل حـ ّ ٍـي حيــاة بيولوجيــة يــأكل‬
‫حيــاة ب ــرزخية يكــون صاحبهــا مــن ُع ّمــاراآلخــرة‪.‬‬
‫دفعنــا إلــى هــذا البحــث مــا ن ـراه مــن تخبــط غي ــر مفهــوم فــي فهــم خصلــة‬
‫«الصحبــة والجماعــة»‪ ،‬وفــي فهــم وظيفــة «الصحبــة» ووظيفــة «الجماعــة»‪ .‬هــي‬
‫‪9‬‬
‫ط ٌّ‬‫ّ ٌ‬
‫كل منها في ذاته وليست فهما واحدا‪ ،‬ولكن نتيجتها تصب‬ ‫متخب‬
‫فهوم كثيـرة ِ‬
‫فــي مصــب واحــد وتنــدرج تحــت عنــوان واحــد هــو «الصحبــة فــي الجماعــة»‪ ،‬وهــو‬
‫ُ‬
‫عنــوان حــق ومفهــوم حــق ال جــدال‪ ،‬ولكنــه ُي َسـ َّـوق داخــل الصــف بداللــة َح َّيـ َـدت‬
‫َّ‬ ‫الرجـ َـل املصحــوب الحـ َّـي مــن هــذه الخصلــة ّ‬
‫األم وانت ــزعت منــه وظيفتــه وســل َمتها‬
‫َّ‬
‫إلــى الجماعــة أو َبث ْت ـ َـها فيهــا‪.‬‬
‫نتحــدث عــن التخبــط مــادام أنــه ليــس هنالــك ولــو ُرُبـ ُـع دليــل يؤيد النتيجة‬
‫املتخبــط فيهــا الت ــي تحدثنــا عنهــا‪ .‬وقــد قــال لــي أحــد األصحــاب إنــه لــم يخرجــه‬ ‫َّ‬
‫َ‬
‫مــن حي ــرته هــو فــي فهــم «الصحبــة فــي الجماعــة»‪ ،‬بالداللــة املسـ َّـوقة فــي الصــف‪،‬‬
‫ُ‬
‫ولــم يــزرع فــي قلبــه الطمأني ــنة إلــى مضمونهــا إال فــان الــذي يحيلنــا إليــه كل مــن‬
‫استفتيـناهم في هذه القضية ممن نثق في فهمهم‪ .‬فقلت لصاحبي‪ :‬إنك مدحت‬
‫وذ َم ْمـ َـت مــن يحيلــون إليــه؛ فهــل اســتع�صى الخــوض فــي هــذه القضيــة َ‬ ‫َ‬
‫وعـ َّـز‬ ‫فالنــا‬
‫ُ َ ّ َُ‬ ‫َ‬
‫ف ْه ُم َهــا علــى أولئــك األحبــاب إلــى الدرجــة الت ــي ال يدركهــا وال يحســن يب ِلغهــا إال فــرد‬
‫َّ ُ‬
‫عامــة‬ ‫واحــد‪ ،‬وقــد عرضهــا ورثــة األنبيــاء وعرضهــا إمامنــا املجــدد بمــا يفهمــه حت ــى‬
‫العامــة‪« :‬وال ُبـ َّـد لــك فــي الطريــق مــن دليـ ٍـل يدلــك علــى هللا‪ ،‬ورفقـ ٍـة ي ــربط هللا عــز‬
‫وجــل بمثالهــم واســتقامتهم فــي السي ــر َ‬
‫قلبــك»‪1‬؟‬
‫ّ‬
‫نحتــاج أن نذكــر فــي هــذه املقدمــة أننــا نبحــث فــي موضــوع «الصحبــة‬
‫والجماعــة»‪ ،‬و«الصحبــة فــي الجماعــة» عنــد إمامنــا املجــدد‪ .‬وال َمالمــة علــى مــن‬
‫ْ‬
‫أبدى رأيه الخاص في القضية‪ ،‬إال أن َينسـ َـب إليه رحمه هللا ما لم يقله أو ليس‬
‫لديــه عليــه دليــل مكتــوب أو مســموع أو مرئــي‪ ،‬أو ُيـ َـؤ ّو َل كالمــه تأويــا َّ‬
‫متعســفا‬ ‫ِ‬
‫متخبطا‪ ،‬أو ال تحتمله أو ال تستســيغه أو ال تقبله قواعد اللغة العربية‪ ،‬أو‬ ‫فيه ّ‬
‫ّ ً‬ ‫َ ْ َ‬
‫متفلتــا مــن كل‬ ‫يخـ ُـرج بــه عــن مجالــه وأفقــه وســياقه ومحيطــه إلــى حيــث يحقــق‪ِ ،‬‬
‫ً‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬املنهاج النبوي ‪ -‬تربية وتنظيما وزحفا»‪ ،‬ص‪.138 :‬‬
‫‪10‬‬
‫القواعــد‪ ،‬مأربــا ال يتحقــق إال فيــه‪َ ،‬ق َ‬
‫صـ َـد ذلــك أم لــم يقصــده‪.‬‬
‫إن القارئ املتمعن في كتابات اإلمام املجدد ال يجد فيما كتبه رحمه هللا‬
‫اضطرابــا فــي املضامي ــن أو تضاربــا فــي األفــكارأو تخبطــا فــي املفاهيــم‪ ،‬خاصــة حي ــن‬
‫يتعلق األمربالقضايا التـربوية التـي تعتبـرثوابت لديه‪ .‬فكل ذلك َيصدرعنه من‬
‫ّ‬
‫مشكاة واحدة هي مشكاة املنهاج النبوي الخالد‪ .‬وعلى الرغم من ذلك نذكرهنا‬
‫ببعــض عناصــراملنهجيــة الت ــي قــد نحتاجهــا ويحتاجهــا قــارئ كتــب اإلمــام ومتابــع‬
‫مرئياتــه ومســموعاته إلــى اعتمادهــا إذا بــدا لــه أن هنــاك تضاربــا فــي مضامي ــن‬
‫بعض النصوص املكتوبة أو املرئية أو املســموعة في شــأن القضية الواحدة من‬
‫قضايــا املنهــاج النبوي‪:‬‬
‫‪ -1‬املقارنــة بي ــن نصــوص اإلمــام املجــدد املكتوبــة‪ ،‬وترجيــح بعضهــا علــى‬
‫بعــض‪ ،‬أو اعتبــاربعضهــا ناس ــخا لبعــض‪ ،‬يكــون بحســب تاريــخ كتابتهــا ال بحســب‬
‫تاريخ صدورها؛ ذلك أن منها ما صدربعد عشري ــن أو ثالثي ــن أو أربعي ــن عاما أو‬
‫أكث ــرمــن تاريــخ كتابتهــا‪.‬‬
‫‪ -2‬النــص املكتــوب أقــوى فــي مضمونــه مــن املســموع أو املرئــي؛ بالنظــرإلــى‬
‫البنــاءة ي ــنشئها صاحبهــا‪ ،‬فــي األصــل‪ ،‬وهــو يســتحضر أنــه‬ ‫املؤسســة َّ‬‫أن الكتابــة ّ‬
‫ِ‬
‫يوجــه كالمــه فــي الزمــان وفــي املــكان وفــي النــاس إلــى مــا هــو أبعــد وأعمــق وأدق ممــا‬
‫ّ‬
‫يتوجــه إليــه حديــث مرئــي أو مســموع فــي جلســة طارئــة أو موقــف عاب ــر‪ ،‬اللهـ ّـم إال‬
‫إذا تدخلــت فــي هــذا عناصــرأخــرى ترفــع الوثيقــة املســموعة أو املرئيــة إلــى درجــة‬
‫ْ‬
‫وقــوة الوثيقــة املكتوبــة ال ـ ُـم ْع َت َم َدة‪.‬‬
‫ضهمــا‪ ،‬فاملتأخــرة‬ ‫‪ -3‬إذا كانــت الوثيقتــان مــن طبيعــة واحــدة وبــدا تعا ُر ُ‬
‫منهمــا زمنيــا تنس ــخ املتقدمــة‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫‪ -4‬النــص املفصــل أقــوى مــن املجمــل أو املختصــر‪َ .‬وب َد ِهـ ٌّـي أن تفصيـ َـل‬
‫صاحــب الــكالم ملضمــون كالمــه وتفسي ـ َـره أولــى مــن تفصيــل غي ــره وتفسي ــره‬
‫وتخمي ــنه‪.‬‬
‫ُّ ً‬
‫تذوقــا وعلمــا وإنشــاء وحديثــا‪،‬‬ ‫علــى أننــا أمــام رجــل خبي ــر بلغــة الق ـرآن‪،‬‬
‫ولهذا سنحتاج في فهمنا لنصوصه رحمه هللا إلى اعتماد ما تمليه علي ــنا قواعد‬
‫اللغــة العربيــة الفصحــى‪ .‬أمــا مــا ســوى هــذا ممــا فتــح هللا للرجــل فيــه‪َ ،‬وي ْق ُعـ ُـد‬
‫بنــا العجــز عــن مجاراتــه أو مطاولتــه ويتفــاوت النــاس فــي درجــة إدراكــه‪ ،‬فلســنا‬
‫مخولي ــن أن نغــوص فــي بواطــن بحــاره ونحــن يعوزنــا العلــم والقــدرة والخب ــرة‬ ‫َّ‬
‫َ َ‬ ‫َّ َ‬
‫والنفــس والتوفيــق وإن أ ْسـ َـعف َنا مــن الرغبــة مــا أســعفنا‪.‬‬
‫نســأل هللا تعالــى أن يكــون لنــا عونــا فــي هــذا البحــث‪ ،‬وأن يدلنــا منــه علــى‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫فهــم عقولنــا ُويطمئ ــن قلوبنــا ويـني ــرطريقنــا ُوي ْق ِد ُرنــا علــى العمــل بمقتضــاه‪.‬‬ ‫ُ‬
‫مــا ي ِ‬
‫ونســأله‪ ،‬وهــو املجيــب ســبحانه‪ ،‬أن يطهــربواطننــا ويخلــص بواعثنــا ومقاصدنــا‬
‫ُ ْ َ‬ ‫ُوي َ‬
‫صبِـ َـرنا‬ ‫صـ ّ ِـو َب أعمالنــا ويســتخلصنا للحــق ويؤيدنــا فــي طلبــه وي ــنصرنا بأهلــه وي‬
‫علــى االستمســاك بــه‪ .‬آمي ــن‪.‬‬
‫محمد العربي أبو حزم‬
‫الدارالبيضاء ليلة ‪ 28‬جمادى األولى ‪1440‬ه‬
‫املوافق لـ ـ ـ ‪ 4‬فبـرايـر ‪2019‬م‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫الفصل األول‬
‫القطيعة مع “صحبة رجل”‪ ..‬متى؟!‬

‫نجــد مــن الــازم اإلشــارة إلــى أننــا ســننقل فــي هــذا البحــث نصوصــا‪ 1‬كثي ــرة‬
‫ّدبجها اإلمام رحمه هللا في مراحل مختلفة من مساره التـربوي الفكري الجهادي‪.‬‬
‫ولهذا فال عجب إن وجدناه يتحدث في املتقدم منها حديثا مفعما بمفردات من‬
‫قاموس الصوفية‪ ،‬خاصة إبان وجوده في رحاب الزاوية البوتشيشية ُوب َع ْي َد َها‪.‬‬
‫ومــا أفعمتــه تلــك األجــواء إلــى الدرجــة الت ــي ي ــنساق فيهــا وهــو يكتــب فــي قامــوس‬
‫الصوفيــة دون وعــي‪ ،‬بــل كان واعيــا تمــام الوعــي أنهــا كانــت مرحلــة مؤقتــة كان هــو‬
‫َْ‬
‫مضطـرا فيهــا إلــى الغـ ْـرف منــه ريثمــا يؤصــل جهــازه املفاهيمــي الخــاص بــه تأصيــا‬
‫كامــا‪ .‬هاهــو فــي «اإلســام غــدا» (‪1973‬م) يشي ــرإلــى هــذا إذ يقــول‪:‬‬
‫«ونرجــو مــن القــارئ أن يت ــريث فــي قراءتــه‪ ،‬فلعلــه يجــد كلمــات لــم يألفهــا‬
‫َ‬
‫وأسلوبا فرضهما عليـنا أن النظراإلسالمي ل َّـما يكسب َب ْع ُد آلية من التصورات‬
‫َ‬
‫واملفاهيــم الدقيقــة‪ ،‬فنحــن نكتــب ونصــوغ تصــورات إســامية ن ْع ُب ـ ُـر بهــا ميــدان‬
‫الفلســفة واالجتمــاع والسياســة واالقتصــاد‪ ،‬وإلــى هللا املوئــل واملعــاد»‪.2‬‬
‫الن ـ َـه َل املؤقــت مــن‬ ‫وهــا هــو يب ــرر‪ ،‬فــي رســالة «اإلســام‪ ..‬أو الطوفــان!» َّ‬
‫القامــوس الصوفــي‪ ،‬إذ يعتب ــر أن ذلــك ضمانــة مرحليــة للحفــاظ علــى جوهــر‬
‫‪ -1‬اعتمدنا في توثيق نصوص اإلمام املرشد رحمه هللا املوسوعة اإللكت ــرونية «سراج» ‪ .siraj.net -‬كما أننا‬
‫َ‬
‫وضعنــا أمــام كل كتــاب مــن كتبــه تاريــخ تأليفــه‪ ،‬وأمــام كل وثيقــة مرئيــة تاريــخ تســجيلها‪ ،‬كلمــا وجدنــا حاجــة‬
‫إلــى ذلك‪.‬‬
‫‪ -2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم غدا‪-‬العمل اإلسالمي وحركية املنهاج النبوي في زمن الفتنة»‪ ،‬ص‪.10-9 :‬‬
‫‪13‬‬
‫التصــوف‪ .‬وهــو نفســه جوهــرالدي ــن الديــن الــذي جــاء بــه الرســل واألنبيــاء وســار‬
‫علــى أثرهــم فيــه ورثتهــم مــن العارفي ــن واألوليــاء؛ الصحبــة‪:‬‬
‫«كان عمــر بــن عبــد العزيــز يصحــب األخيــار‪ ،‬وكان رجـ ُـاء لــه شــيخا إن‬
‫اســتعملنا اصطــاح الصوفيــة‪ .‬وكل اصطــاح يفــرق وال يجمــع‪ .‬فمــا أزهدنــا فــي‬
‫ُ‬ ‫تقاليــد الصوفيــة ومصطلحاتهــم متــى ُ‬
‫ضمــن لنــا هــذا املبــدأ املهــم األساس ــي وهــو‬
‫مبــدأ الصحبــة»‪.1‬‬
‫َ‬
‫لحظتها فيقول‪:‬‬ ‫ويؤكد نفوره من القاموس الصوفي واضطراره إليه‬
‫«ومــا أحــب أن يبقــى هــذا االصطــاح املفــرق‪ ،‬لكن ــي أحــرص عليــه اآلن‬
‫لكيــا تضيــع حقيقــة احتضنهــا قــوم ُعرفــوا باســم معي ــن»‪.2‬‬
‫كان هــذا قبــل أن يشــب عمــرو عــن الطــوق‪ ،‬كمــا قــال هــو رحمــه هللا‬
‫عــن نفســه‪ .‬فهاهــو يعيــد األمــر إلــى نصابــه فــي كتابــه النفيــس الجليــل العظيــم‬
‫«اإلحســان» (‪1988‬م)‪:‬‬
‫االســم والشــكل ألنــي ال أجدهمــا‬
‫«لســت أدعــو إلــى التصــوف‪ ،‬وال أحــب ِ‬
‫فــي كتــاب هللا وســنة رســوله بعــد أن اخت ــرت جــوار القـرآن والجلــوس عنــد منب ــر‬
‫الحبيــب املصطفــى صلــى هللا عليــه وســلم‪ .‬ال‪ ،‬وال حاجــة لــي باملصطلحــات‬
‫املحدثــة‪ ،‬فلــي غن ــى عنهــا بلغــة الق ـرآن وبيــان إمــام أهــل اإلحســان‪ .‬لكــن الحــق‬
‫الــذي مــع الصوفيــة‪ ،‬حــق حــب هللا تعالــى وابتغــاء وجهــه وإرادة الوصــول إليــه‬
‫والتمــاس الطريــق ملعرفتــه ومــا يكــرم بــه الحنــان املنــان املصطفي ــن مــن عبــاده‪،‬‬
‫حــق ثابــت فــي الق ـرآن والســنة‪ ،‬ثابــت فــي حيــاة مــن تعــرض لنفحــات هللا وصــدق‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪ ،‬رسالة «اإلسالم‪ ..‬أو الطوفان! رسالة مفتوحة إلى ملك املغرب»‪ ،‬ص‪.81 :‬‬
‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.118 :‬‬
‫‪14‬‬
‫فــي هللا وذكــر هللا وســار إلــى هللا‪ .‬ذاك حــق شــهد بــه الرجــال تحدثــا بنعمــة هللا‬
‫عليهــم‪ ،‬وأنــا أســعد النــاس إن كان لشــهادتي ســامعون واعــون هبــوا مــن ســبات‬
‫الغفلــة لصرخت ــي هــذه الهادئــة‪ ،‬وتيقظــوا يقظــة القلــب‪ ،‬وتجافــوا عــن الحيــاة‬
‫ً‬
‫الدنيــا‪ ،‬وفزعــوا إلــى مــن يدلهــم علــى هللا حت ــى يعرفــوا هللا‪ .‬أنــا أســعد النــاس إذا‬
‫إن حصــل فــي مي ـزان حســناتي أفــواج مــن املحسني ــن كنــت لهــم صوتــا يقــول‪ :‬مــن‬
‫هنــا الطريــق‪ ،‬مــن هنــا البدايــة»‪.1‬‬
‫ُ‬
‫قصدنــا األساس ــي مــن هــذا البحــث الخلــوص إلــى رأي أحــد فريقي ــن‬
‫ّ‬
‫مختلفي ــن َلت َب ِنيــه‪:‬‬
‫ُ‬
‫الفريــق األول يثبــت الصحبــة إلمامنــا املجــدد ثــم ملــن َي ْخل ُفــه‪ ،‬رجــا حيــا‬
‫بعــد رجــل‪ ،‬إلــى قيــام الســاعة‪.‬‬
‫الفريــق الثانــي أثبــت الصحبــة إلمامنــا فــي حياتــه‪ ،‬ثــم جعلها‪ ،‬بعد التحاقه‬
‫بالرفيق األعلى‪« ،‬في الجماعة»‪ .‬أي إن أصحاب هذا الرأي يجعلون «الجماعة»‬
‫سره ووظيف ِته في الداللة على هللا‪.‬‬ ‫هي وار َثة ّ‬

‫ويتحدث من يذهبون هذا املذهب عما يعتبـرونه تجديدا جاء به اإلمام‬


‫َ‬
‫وشـ َـم َل مفهــوم الصحبــة‪ ،‬فتحــول األمــر‪ ،‬فــي رأيهــم‪ ،‬مــن صحبــة رجــل وظيفتــه‬
‫الداللة على هللا‪ ،‬وهو ثابت تربوي سلوكي عند رجال التـربية أهل هللا العارفيـن‬
‫بــه علــى مــدى قــرون طويلــة‪ ،‬إلــى وراثــة الجماعــة لهــذه الوظيفــة الجليلــة تحــت‬
‫مــا بــات يســمى فــي صفــوف الجماعــة‪« :‬الصحبــة فــي الجماعــة»‪ .‬وهــو ُم َسـ ّـمى ســبق‬
‫ألســتاذنا حديــث عنــه ‪ -‬نتناولــه الحقــا ‪ -‬ولكــن بداللــة مختلفــة اختالفــا تامــا عمــا‬
‫يذهبــون إليــه‪.‬‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.23 :‬‬
‫‪15‬‬
‫َ‬
‫الفريق األول يؤكد أنه ما من ت َح ُّول أو تغييـرأو تجديد حصل في طبيعة‬
‫املصحــوب الــذي يقــوم بوظيفــة الداللــة علــى هللا؛ فقــد كان فــي رأيــه رحمــه هللا‬
‫رجــا وارثــا لهــذه الوظيفــة كاب ـرا عــن كاب ــر وســيظل إلــى قيــام الســاعة‪ .‬والفريــق‬
‫َ َ‬
‫الثانــي يقــول إن املصحــوب كان قبــل اإلمــام رجــا كمــا كانـ ُـه هــو‪ ،‬وأنــه صــاربعــده‬
‫َ‬
‫الجماعــة‪.‬‬
‫فدعونــا نتتبــع ونقــص آثــار هــذه القضيــة فــي مشــروع اإلمــام التغيي ــري‬‫ُ‬
‫الكبيـر (املنهاج النبوي) من أول ما افتتحه عام ‪1972‬م‪ ،‬إلى أن التحق بالرفيق‬
‫األعلــى عــام ‪2012‬م‪ ،‬عســانا نطلــع علــى مــا يوليــه للصحبــة مــن تعظيــم‪ ،‬ونقــف‬
‫علــى النقطــة الزمنيــة الت ــي حصــل عندهــا التغيي ــر و«التجديــد»‪ ،‬إن كان قــد‬
‫حصــل‪ ،‬مــن «الصحبــة والجماعــة» حيــث صحبــة رجــل حــي‪ ،‬إلــى «الصحبــة فــي‬
‫الجماعــة» بالداللــة الت ــي تعتب ــر أن املصحــوب هــو الجماعــة‪ ،‬أو هــو «الســر»‬
‫الــذي تركــه اإلمــام املجــدد فــي «الجماعــة»‪ ،‬أو هــو نفســه رحمــه هللا املصحــوب‬
‫حت ــى مــع انتفــاء شــرط الحيــاة‪.‬‬
‫ولعلــك تقــول‪ ،‬ولعلـ ِـك تقولي ــن‪ ،‬إن مــا ّدبجتــه أنامــل اإلمــام فــي كتابيــه‬
‫«اإلســام بي ــن الدعــوة والدولــة» (‪1972‬م) و«اإلســام غــدا» (‪1973‬م) حــول‬
‫الصحبــة ‪ -‬صحبــة رجــل ‪ -‬وضرورتهــا‪ ،‬إبــان انتســابه إلــى الزاويــة البوتشيشــية‪،‬‬
‫قــد نس ــخه بعــد أن فــارق أهلهــا وغــادررحابهــا وغي ــراتجاهــه إلــى مــا لــم يعــد يمـ ُّـت‬
‫إليها وإليهم بصلة على صعيد التصور واملمارسة‪ ،‬ولهذا فال عبـرة بالحديث عن‬
‫صحبــة رجــل‪ ،‬وإنمــا العب ــرة باملعادلــة الجديــدة للداللــة علــى هللا والت ــي انتقلــت‬
‫بموجبهــا وظيفــة الصحبــة مــن اإلمــام املرشــد إلــى الجماعــة تحــت الفهــم الجديــد‬
‫ل ــ«الصحبــة فــي الجماعــة»!‬

‫‪16‬‬
‫َ‬
‫وال يســعنا إال أن نـ َـد َع لكمــا‪ ،‬أخــي وأخت ــي‪ ،‬حريــة اختيــارالنقطــة الزمنيــة‬
‫الت ــي حصــل فيهــا هــذا «التجديــد» املفت ــرض‪ ،‬فــي الشــريط الزمن ــي إلصــدارات‬
‫اإلمــام املجــدد مــن ‪1972‬م إلــى ‪1997‬م فــي مرحلــة أولــى‪.‬‬
‫اإلسالم بيـن الدعوة والدولة (‪1972‬م)‬
‫َي ْن ُقـ ُـد أســتاذنا فــي باكــورة مشــروعه املنهاج ــي غفلــة الشــهيد ســيد قطــب‬
‫رحمــه هللا عــن نقطــة البــدء فــي حركــة اإلســام األولــى فيؤكــد لنــا «أنــه رحمــه هللا‬
‫ال يذكــرنقطــة البــدء فــي حركــة اإلســام األولــى علــى كث ــرة مــا كتــب‪ ،‬أال وهــي لقــاء‬
‫اإلنســان بنــور الهدايــة فــي ش ــخص حامــل الهدايــة»‪.1‬‬
‫ويتحــدث عــن تأثي ــر املصحــوب «حامــل الطاقــة النورانيــة الــذي يحــول‬
‫ص ِح َبـ ُـه كمــا تتحــول األجســام بتأثي ــرالفاعــل الكيمــاوي»‪ ،2‬وكيــف أن نقطــة‬ ‫َمـ ْـن َ‬
‫َ ُ ّ‬ ‫َّ‬
‫وحدهــا‪ ،‬ت َم ِكـ ُـن بمــا يصحبهــا‬ ‫االنطــاق «وهــي صحبــة الولــي العــارف َّ‬
‫املؤيــد املوفــق‬
‫مــن نورانيــة ســماها أعــداء األنبيــاء واألوليــاء س ــحرا‪ ،‬مــن تحويــل أمــة بكاملهــا بمــا‬
‫يشــبه املوجــة العميقــة الت ــي ال تقــاوم»‪.3‬‬
‫بــل إن أســتاذنا يجعــل «الســمة األولــى ألتبــاع الرســل األولي ــن وهــي‬
‫الصحبــة‪.4 »...‬‬
‫ويصــف منهـ َ‬
‫ـاج الت ــربية داخــل الجماعــة ومنهــاج العمــل الشــامل لألمــة‬
‫املنبعثــة بأنــه «املنهــاج النبــوي الخالــد علــى الصحبــة والجماعــة والذكــر»‪ ،5‬وأنــه‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم بيـن الدعوة والدولة ‪ -‬املنهاج النبوي لتغييـراإلنسان»‪ ،‬ص‪.18 :‬‬
‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.49 :‬‬
‫‪ - 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.297 :‬‬
‫‪ - 4‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم بيـن الدعوة والدولة»‪ ،‬ص‪.326 :‬‬
‫‪ - 5‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.338-337 :‬‬
‫‪17‬‬
‫«املنهــاج النبــوي كمــا عاشــه الرســول ْ‬
‫وصح ُبــه»‪ .1‬انبعــاث يتوقــف فــي مشــروعه‬
‫ُ‬
‫علــى التجربــة الش ــخصية الت ــي «ال ت ْم ِكـ ُـن إال مــع الصحبــة»‪ .2‬ويقصــد بالصحبــة‬
‫فــي الكتــاب كلــه «صحبــة رجــل» ســواء أكان نبيــا أم وليــا‪.‬‬
‫وطــرح أســتاذنا ســؤاال مهمــا جــدا جــدا جــدا‪ ،‬يجــدر بنــا أن نقــف عنــد‬
‫جوابه عنه مليا لنستخلص املستخلصات الكفيلة بتنويـررؤانا إلى قضية هذا‬
‫البحث‪ ،‬فيـنتقل في جوابه بأفهامنا من إثبات الصحبة (صحبة رجل) في منهاج‬
‫األنبيــاء عليهــم الســام إلــى إثباتهــا فــي ورثتهــم كاب ـرا عــن كاب ــر «إلــى قيــام الســاعة»؛‬
‫فيتســاءل‪:‬‬
‫«ما هي الصحبة املتجددة‪ ،‬وكيف تتجدد التجربة الشخصية الروحية‬
‫وما هي نتائجها؟»‪.3‬‬
‫أســئلة يؤكــد أن جوابهــا «فــي شــهادات أوليــاء هللا الذي ــن خب ــروا الســلوك‬
‫الصوفي وعلمونا الطريق»‪ ،4‬قبل أن يطرح ما يمكن أن يطرحه البعض من أن‬
‫«الصحبــة ال تتجــدد وهــي لألنبيــاء والرســل خاصــة»‪ ،5‬فيؤكــد أن الجــواب «فــي‬
‫َ ُ َ‬
‫﴿و ِلــك ِ ّل قـ ۡـو ٍم َهـ ٍـاد﴾ (الرعــد‪ )7،‬وفــي قــول الرســول صلــى هللا عليــه‬ ‫قولــه تعالــى‪:‬‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫وســلم‪« :‬املــرء علــى دي ــن خليلــه‪ ،‬فلي ــنظرأحدكــم مــن يخالــل» فأ ْر َســل َك لتبحــث‬
‫عن خليل مؤمن‪ ،‬ونجد في كالم اإلمام علي كلمة الهادي كما جاءت في القرآن‪،‬‬
‫ونجــده كــرم هللا وجهــه يجعــل النجــاة فــي صحبــة الهــادي واالعتصــام بــه‪ ،‬يقــول‪:6‬‬

‫‪- 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم بيـن الدعوة والدولة»‪ ،‬ص‪.338 :‬‬
‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.339 :‬‬
‫‪ - 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.346 :‬‬
‫‪ - 4‬نفسه‪ ،‬ص‪.346 :‬‬
‫‪ - 5‬نفسه‪ ،‬ص‪.346-345 :‬‬
‫‪« - 6‬زهراآلداب»‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.41 :‬‬
‫‪18‬‬
‫بح ْجـ َـزة هـ ٍـاد‬
‫ودعــي إلــى الرشــاد فدنــا‪ ،‬وأخــذ ُ‬ ‫«رحــم هللا عبــدا ســمع فوعــى‪ُ ،‬‬
‫فنجــا»‪ .‬وقــد كان رض ــي هللا عنــه رجــل دعــوة‪ ،‬فانظــر‪ :‬كيــف رتــب مراحــل الدعــوة‬
‫مــن االســتماع الواعــي إلــى الدنــو مــن الداعــي إلــى النجــاة بالتمســك بقــوة بالهــادي‪،‬‬
‫بح ْج َزِتـ ِـه فقــد تعلقـ َـت بــه تعلقــا كامــا»‪.1‬‬ ‫ومــن أمسـ َ‬
‫ـكته ُ‬

‫ويحســم األســتاذ املرشــد فــي أمــرالطريــق إلــى معرفــة هللا بأنهــا «هــي املنهــاج‬
‫النبــوي املبن ــي أوال علــى الصحبــة»‪.2‬‬
‫اإلسالم غدا (‪1973‬م)‬
‫يلح أستاذنا في «اإلسالم غدا» على أنه «من الصحبة تبدأ األمة املشتتة‬
‫مسي ــرتها فــي اقتحــام العقبــة‪ ،‬وال تأليــف وال توحيــد يمكــن فــي قطــرمــن أقطارنــا‬
‫إال بصحبــة قويــة ســاطعة بأنــوار الهدايــة»‪ ،3‬وأن التجربــة اإلســامية الت ــربوية‬
‫الخالدة «تبدأ دائما بالصحبة صحبة الرســول والنبي املجدد أو صحبة الشــيخ‬
‫املربــي الصوفــي»‪ ،4‬وأنــه مــن أجــل أن يحبــك هللا‪ ،‬فيكــون لــك ســمعا وبصـرا ويــدا‬
‫ورجــا‪ ،‬فتت ــرشح للكمــال واللحــاق ب ــركب النــور مــع النبيئي ــن والصديقي ــن‬
‫والشهداء والصالحيـن‪« ،‬ال بد لك من صحبة فهي أول املنهاج وآخره‪ ،‬والصحبة‬
‫دعوتنــا للعالــم»‪ .5‬كمــا أن «صعــود مقامــات املع ـراج يقتض ــي أن يكــون للداعــي‬
‫صحبــة بهــا اهتــدى وعلــى نموذجهــا تربــى»‪.6‬‬
‫ُ‬
‫ويحفزنــا أســتاذنا املرشــد للتعــرض لنصيبنــا ومــا قســم لنــا مــن مي ـراث‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم بيـن الدعوة والدولة»‪ ،‬ص‪.346 :‬‬


‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.351 :‬‬
‫‪ - 3‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم غدا»‪ ،‬ص‪.53-52 :‬‬
‫‪ - 4‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.46 :‬‬
‫‪ - 5‬نفسه‪ ،‬ص‪.943 :‬‬
‫‪ - 6‬نفسه‪ ،‬ص‪.53 :‬‬
‫‪19‬‬
‫النبــوة فيمــا هــو أرقــى مــن مقــام اإلســام ومقــام اإليمــان أال وهــو مقــام اإلحســان‬
‫عنــد مــن يبــدأ تحــت ظلــه انبعــاث اإلســام‪:‬‬
‫«إن مي ـراث رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم والنبيئي ــن حــق مقســم‬
‫لــك منــه نصيــب إن تعرضــت‪ .‬ومــا تتعــرض بعبادتــك وحدهــا وعلمــك إال ملقــام‬
‫اإلســام واإليمــان‪ ،‬أمــا اإلحســان فاطلبــه عنــد داع إلــى هللا صاحــب بصي ــرة‪ .‬فمــن‬
‫هــذا الداعــي ومنــك نفســك يبــدأ بعــث اإلســام»‪.1‬‬
‫رسالة جماعة اإلرشاد (‪1973‬م)‬
‫وهنــا يوضــح إمامنــا أن «الطريقــة الصوفيــة املبنيــة علــى صحبــة الشــيخ‬
‫املقدم املتبوع كما يسميه الغزالي هي طريقة تهذيب النفس ورفعها‬ ‫الحي املربي َّ‬
‫عن مستوى طغيانها حتـى تصبح روحانية متطهرة ثم طاهرة متطهرة ال تنـي»‪.2‬‬
‫ويزيــد األمــر توضيحــا إذ يبي ــن أن «هدايــة البشــر للبشــر واهتــداء الخلــق‬
‫هللا تعالــى‬ ‫َ ْ‬
‫بمتبــوع ماثــل بي ــن ظهرانيهــم هــو مجلــى املحمديــة‪ ،‬هــو مصــداق جعـ ِـل ِ‬
‫َ‬
‫هدايتــه علــى يــد الدعــاة مــن املومني ــن»‪ .3‬وهــذا فــي رؤيتــه رحمــه هللا هــو «املنهــاج‬
‫الفطــري منهــاج الصحبــة واالتبــاع‪ ،‬صحبــة رجــل قــدوة حــي يــأكل الطعــام ويم�شــي‬
‫فــي األســواق»‪.4‬‬
‫ويحدثنا هنا عن سرالصحبة الذي اكتشفه هوبصحبة الحاج العباس‬
‫رض ــي هللا عنــه وعــن إحــدى وظائفهــا وعــن ثمراتهــا وعــن بعــض أســباب انحجــاب‬
‫ُم ْن ِكريهــا عنهــا فيقول‪:‬‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم غدا»‪ ،‬ص‪.789-788 :‬‬
‫‪ - 2‬ياسي ــن‪ ،‬عبــد الســام‪ ،‬رســالة «جماعــة اإلرشــاد»‪ ،‬ص‪( .41 :‬رســالة مكتوبــة بخــط يــده‪ ،‬فــي ‪ 153‬صفحــة‪،‬‬
‫وجههــا إلــى شــيخ الزاويــة البوتشيشــية حمــزة بــن الحــاج العبــاس صيــف ‪1973‬م)‪.‬‬
‫‪ - 3‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.46 :‬‬
‫‪ - 4‬نفسه‪ ،‬ص‪.46 :‬‬
‫‪20‬‬
‫«أمــا املحمديــة الربانيــة فتتــم بلقــاء التائــب الــذي ي ــريد وجــه هللا ب ــرجل‬
‫مومــن محســن يلزمــه ويصحبــه ويأخــذ عنــه الســنة حيــة نابضــة غضــة كمــا‬
‫أخذهــا تابــع عــن متبــوع مــن املعي ــن الخالــد النمــوذج الكامــل صلــى هللا عليــه‬
‫ّ‬
‫وســلم َوم َّجــد وعظــم‪ .‬ي ــنكركثي ــرمــن النــاس هــذه املحمديــة الفطريــة وي ــنكرون‬
‫الصحبــة وي ــنكرون الت ــربية لرمــد فــي العيــون خلفتــه الن ـزاعات املذهبيــة وافتتــان‬
‫النــاس بالصوفيــة الطاهري ــن‪ ،‬معهــم أو عليهــم‪ .‬وزاد األمــرقتامــة وانبهامــا مبالغــة‬
‫املبالغي ــن وتقصي ــراملقصري ــن‪ .‬ونحن ال نحب الجدل‪ ،‬وإنما نتحدث بما أكرمنا‬
‫هللا بــه مــن اكتشــاف ســرالصحبــة وندعــو ونتحــدى بفضــل هللا علي ــنا ال بجهودنــا‬
‫الضعيفــة»‪.1‬‬
‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫ويشرح لنا رحمه هللا كيف ت َز َاو ُل التـربية بيـن ك َنفي الصحبة والجماعة‪:‬‬
‫«وتتــم الصحبــة بالت ـزام الجماعــة وفــي حضــن املتبــوع واألصحــاب يمكــن‬
‫للت ــربية الخلقيــة أن ُتـ َـز َاو َل‪ ،‬ويمكــن لألخــاق الزكيــة أن ُت َت َبـ َ‬
‫ـادل فيجــد الــوارد‬
‫طيبها كما يجد جليس العطارريح املسك‪ ،‬وهذا مثال ورد في الحديث الشريف!‬
‫وهــو يشي ــرلــك أن املحمديــة‪ ،‬محمديــة الصحبــة‪ ،‬هــي الشــرط األساس ــي للت ــربية‬
‫الخلقية‪ ،‬والتـربية الخلقية على أساس التطهيـرالروحي يسميها القرآن تـزكية»‪.2‬‬
‫فمــاذا نجــد تحــت كنــف الصحبــة؟ ومــاذا نجــد تحــت كنــف الجماعــة؟‬
‫وبعبــارة أخــرى‪ :‬مــا هــي وظيفــة الصحبــة؟ ومــا هــي وظيفــة الجماعــة؟‬
‫يجيب رحمه هللا بأن «الصحبة تعطيك البالغ والروحانية العالية الت ــي‬
‫تصلــك بالق ـرآن ومعانيــه‪ ،‬والجماعــة الت ـزام بقــوة اإلرادة الواعيــة‪ ،‬وبهمــا تجــد‬

‫‪ - 1‬نفسه‪ ،‬ص‪.46 :‬‬


‫‪ - 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.47 :‬‬
‫‪21‬‬
‫َّ َ‬
‫نفســك مصونــا بالوازعي ــن الشريفي ــن وازع القـرآن ووازع املبايعــة‪﴿ .‬لقـ ۡـد َر ِض ـ َـي‬
‫ََ‬ ‫ُُ‬ ‫َّ ُ َ ۡ ُ ۡ َ ۡ ُ َ ُ َ َ َ ۡ َ َّ َ َ َ َ َ َ‬
‫وب ِهـ ۡـم فأنـ َـز َل‬‫ٱللــه عـ ِـن ٱلؤ ِم ِني ــن ِإذ يب ِايعونــك تحــت ٱلشج ــر ِة فع ِلــم مــا ِفــي قل ِ‬
‫َّ َ َ َ‬
‫ٱلس ِكي ــنة َعل ۡي ِهــم﴾‪.2»1‬‬
‫اإلسالم‪ ..‬أو الطوفان! (‪1974‬م)‬
‫كانــت هــذه الرســالة التاريخيــة قطيعــة جذريــة مــع الزاويــة علــى كل‬
‫املســتويات‪ ،‬كمــا أكــد اإلمــام نفســه‪:‬‬
‫«كان انفصالــي عــن الزاويــة انفصــاال لي ــنا ولطيفــا‪ .‬عندمــا كتبــت رســالة‬
‫«اإلسالم أو الطوفان» لم أستشرفيها أحدا من أهل الزاوية بتاتا‪ ،‬فلما خرجت‬
‫مــن الزاويــة اعتب ــروها هــم وثيقــة انفصــال‪ ،‬وكانــت واقعيــا انفصــاال جذريــا علــى‬
‫مســتوى الفكــر‪ ،‬وعلــى مســتوى املوقــف السياس ــي‪ ،‬وعلــى كل مســتوى؛ فهم ــي‬
‫للحاضــر واملســتقبل واملاض ــي‪ .‬وانته ــى األمــر»‪.3‬‬
‫كانــت الرســالة نقطــة انفصــال مــع الزاويــة علــى كل املســتويات‪ ،‬إال مــا‬
‫كان مــن الجوهــرالــذي حافــظ عليــه الصوفيــة علــى مــدى قــرون طويلــة‪ ،‬أال وهــو‬
‫«الصحبــة»‪ .‬ولهــذا لــم تكــن قضيــة «الصحبــة» فــي هــذه امللحمــة أقــل وضوحــا‬
‫وبيانــا ممــا عرضنــاه آنفــا؛ هاهــو يؤكدهــا هنــا‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫«كانــت صحبــة األخيــار أم ـرا معلومــا ال جــدال عليــه‪ .‬ولــم ي ــنشأ الجــدل‬
‫فــي صحبــة األفاضــل إال بعــد أن اختلــط النــاس‪ ،‬وتمايــز رجــال زهــدوا فــي الفتنــة‬
‫بأســرها‪ ،‬وبحثــوا عــن الصفــاء‪ ،‬واعت ـزلوا فــي صحبــة رجــل خي ــر يـني ــر لهــم الطريــق‬

‫‪ -1‬الفتح ‪( .18‬اعتمدنا في توثيق اآليات القرآنية على رواية حفص عن عاصم)‪ .‬‬
‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪ ،‬رسالة «جماعة اإلرشاد»‪ ،‬ص‪.47 :‬‬
‫‪ - 3‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬حوارشامل مع األستاذ املرشد عبد السالم ياسيـن»‪ ،‬ص‪.21-20 :‬‬
‫‪22‬‬
‫ً‬
‫َسـ َّـم ْو ُه شــيخا‪ .‬وسـ ّـماهم النــاس صوفيــة»‪.1‬‬
‫ثــم هاهــو أســتاذنا املرشــد يؤصــل لنــا «الصحبــة» مــن كالم املصحــوب‬
‫األعظــم‪ ،‬مشي ـرا إلــى أحــد مقاييــس معرفــة وارث نب ــي هللا ورســول هللا صلــى هللا‬
‫عليــه وســلم‪:‬‬
‫«قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬العلماء ورثة األنبياء» وميـراثه‬
‫صلــى هللا عليــه وســلم كمــا قــال أبــو هري ــرة هــو قـرآن هللا يتلــى فــي املســاجد‪ .‬فمــن‬
‫يســتحق أن يســمى وارثــا؟ كل حامــل أســفار؟ أم كل قــارئ ق ـرآن فــي املس ــجد؟‬
‫ً‬
‫ظاهــرة واحــدة هــي الت ــي يمكــن اتخاذهــا معيــارا ملعرفــة الش ــخص الــوارث‪ ،‬هــي أن‬
‫ُ‬ ‫صحبتــه مؤث ــرة فــي النــاس‪ُ ،‬‬‫ُ‬
‫وكالمــه وقدوتــه»‪.2‬‬ ‫تكــون‬
‫والوراثة نوعان؛ كاملة وجزئية‪:‬‬
‫«كل من أثـرت صحبته ووعظه وهديه على علم وسنة واتباع واستقامة‬
‫علــى الهــدى فهــو وارث بنســبة مــن النســب‪ .‬وهــؤالء األش ــخاص النورانيــون هــم‬
‫اســتمرار النبــوة فــي األرض‪ ،‬إذ هــم ورثــة األنبيــاء‪ .‬ومــا كان األنبيــاء عليهــم الســام‬
‫إال رجــاال يدعــون إلــى هللا مؤيدي ــن بالوحــي‪ ،‬مؤيدي ــن بالطاقــة النورانيــة الت ــي‬
‫ً‬
‫تجعلهــم موضــع محبــة النــاس‪ ،‬ونموذجــا ســلوكيا للنــاس‪ ،‬وهــداة إلــى الحــق‪ .‬وقــد‬
‫ارتفعــت النبــوة وختمــت بنبي ــنا عليــه الصــاة والســام‪ ،‬وبقــي الوارثــون‪ .‬فمــن‬
‫ً‬
‫وجدنــاه متبعــا يدعــو إلــى هللا علــى بصي ــرة وتأتــي دعوتــه بصــاح الجماعــة فــذاك‬
‫ََ ۠‬ ‫َ ْ َ َّ َ‬ ‫َٰ‬
‫﴿هـ ِـذ ِهۦ َسـ ِـب ِيل ٓي أ ۡد ُعـ ٓـوا ِإلــى ٱللـ ِ ۚـه َعلـ ٰـى َب ِصي ـ َـر ٍة أنــا‬ ‫وارث‪ .‬أمــر هللا نبيــه أن يقــول‪:‬‬
‫َّ‬
‫َو َمـ ِـن ٱت َب َعنِـ ۖـي﴾»‪.3‬‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪ ،‬رسالة «اإلسالم‪ ..‬أو الطوفان!»‪ ،‬ص‪.81-80 :‬‬
‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.131 :‬‬
‫‪ - 3‬النفسه‪ ،‬ص‪.132-131 :‬‬
‫‪23‬‬
‫شعب اإليمان (‪1975‬م)‬
‫وحتـى وهو وراء القضبان بعد رسالة «اإلسالم‪ ..‬أو الطوفان!»‪ ،‬حيث ال‬
‫يعرف املرء إن كان سيـرى الشمس ثانية أم ال‪ ،‬كان كمن يغرس فسيلته ساعة‬
‫قيــام الســاعة‪ ،‬ولــم يكــن يمـ ُّـل مــن اإللحــاح علــى «الصحبــة»‪ .‬قــال رحمــه هللا عــن‬
‫مصنفه «شــعب اإليمان»‪:‬‬ ‫معادلة «الصحبة والجماعة» في َّ‬
‫ٌ‬
‫داع مــن أبوي ــن ُومـ َـر ٍ ّب‪ ،‬وجماعــة حاضنــة‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫«الصحبــة والجماعــة‪ :‬صاحــب ٍ‬
‫يتســرب اإليمــان مــن قلــب لقلــب‪ ،‬مــن القلــب الني ــر الحــي إلــى القلــب املتعطــش‬
‫الصــادق مــن جيــل لجيــل تســربا يحافــظ علــى الفطــرة ويحددهــا‪ .‬ال يكــون املومــن‬
‫ّ‬
‫ـاغ ُم َب ِلـ ٍـغ‪ ،‬بــاغ تربــوي يتــم باملعاشــرة واملخاللــة‪.‬‬
‫مومنــا حقــا‪ ،‬مومنــا أساســا‪ ،‬إال ببـ ِ‬
‫وال يقــوى إيمــان املومــن إال فــي ِحضــن جماعــة املومني ــن‪ .‬واملنعــزل قــد يكــون‬
‫مومنــا لكنــه مومــن ضعيــف»‪.1‬‬
‫املنهاج النبوي (‪1981‬م)‬
‫إلــى حــدود هــذه النقطــة الزمنيــة‪ ،‬وبحســب مــا عرضنــاه مــن مكتوبــات‬
‫إمامنــا رحمــه هللا لــم يغي ــر الرجــل موقفــه ورأيــه ونظرتــه إلــى «الصحبــة» وإلــى‬
‫وظيفتهــا‪ .‬فــي هــذه النقطــة مــن مســاراإلمــام بــدت قطيعتــه مــع القامــوس الصوفــي‬
‫ْ‬ ‫جلية بعد أن اكتمل جهازه املفاهيمي وأضحى َّ‬
‫الن َه ُل من ال َـمعيـن القرآني النبوي‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫دأبــه وديدنــه‪.‬‬
‫نحــن نعــرف الســياق الخــاص الــذي كتــب فيــه اإلمــام كتابــه «املنهــاج‬
‫النبــوي ‪ -‬تربيــة وتنظيمــا وزحفــا»‪ ،‬وهــو ســياق جهــوده مــن أجــل جمــع أطيــاف‬
‫الحركــة اإلســامية علــى مشــروع إســامي فيــه «حــد أدنــى» مــن مشــروعه‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬شعب اإليمان»‪ ،‬ص‪.17 :‬‬


‫‪24‬‬
‫الت ــربوي‪ .‬ولهــذا تجــد لــه فــي هــذا الكتــاب أســلوبا فــي الكتابــة ال يحيــد عــن ثوابتــه‬
‫الت ــربوية‪ ،‬ولكنــه يتمـ ّـوج َوي َت َمـ َّـر ُن (مــن املرونــة) بي ــن خفــض «الصحبــة» َ‬
‫جناحهــا‬
‫لـ«الجماعة» املرجوة عند الحديث عن بعض وظائف الصحبة‪ ،‬وهوأمرواضح‬
‫إذ املصحــوب مــع الجماعــة وفــي وســط الجماعــة‪ ،‬وبي ــن محاولــة إي ــناس تلــك‬
‫األطيــاف اإلســامية فــي ذلــك الســياق الخــاص الدقيــق ببعــض األســماء َ‬
‫املجمــع‬
‫عليهــا فــي األمــة ولــدى الحركــة اإلســامية كالجيالنــي والبنــا وقطــب رحمهــم هللا‪.‬‬
‫َ‬
‫فلمــا حصــل مــا رأي ــناه مــن صــدود تلــك األطيــاف وت َب ـ ُّـر ِمها مــن الرجــل أخــذ حقــه‬
‫وتوســع فــي عــرض مشــروعه إلــى حــدوده القصــوى‪ .‬وحــدوده القصــوى ال تتجــاوز‪،‬‬
‫ـاب هللا وســنة نبيــه صلــى هللا عليــه وســلم‪.‬‬ ‫بالطبــع‪ ،‬كتـ َ‬
‫َ‬
‫وخ َفـ َ‬
‫ـض فيــه الجنــاح لـ«الجماعــة» املرجــوة‬ ‫وممــا التمــس فيــه الحكمــة‬
‫قولــه رحمــه هللا‪:‬‬
‫«الت ــربية اإلســامية تخاطــب أعمــق مــا فــي اإلنســان وهــو شــعوره بالخــواء‬
‫والعبــث مــا دام بعيــدا عــن هللا‪ .‬ثــم ترفعــه فــي صحبــة املؤمني ــن املتواصي ــن‬
‫الصابـري ــن املتـراحمي ــن إلــى طلــب أســمى غايــة وهــي وجــه هللا واالســتواء مــع‬
‫أصحــاب امليمنــة»‪.1‬‬
‫وي ــنسب الرجــل بعــض ثم ـرات «الصحبــة» إلــى «الجماعــة» ترغيبــا فــي‬
‫االجتمــاع واالنجمــاع علــى هللا فــي مشــروع طلــب وجــه هللا‪:‬‬
‫«رأي ــنا أن اإليمــان يتجــدد باإلكثــارمــن قــول ال إلــه إال هللا‪ ،‬فعندمــا تكــون‬
‫الصحبــة صالحــة‪ ،‬رجــا صالحــا وجماعــة صالحــة‪ ،‬ويقبــل الــكل علــى ذكــر‬
‫الكلمــة الطيبــة النورانيــة حت ــى يخرجــوا عــن الغفلــة‪ ،‬ي ــنشأ جــو إيمانــي مشــع‪،‬‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬املنهاج النبوي»‪ ،‬ص‪.13 :‬‬
‫‪25‬‬
‫ي ــنشأ فــي الجماعــة فيــض إلهــي‪ ،‬رحمــة‪ ،‬نــور تســتمد منــه القلــوب بعضهــا ببعــض‪.‬‬
‫فتلــك هــي الطاقــة اإليمانيــة‪ ،‬الجــذوة األولــى الت ــي تحــرك القلــوب والعقــول لتلقــي‬
‫القـرآن بنيــة التنفيــذ كمــا كان يقــول ســيد قطــب رحمــه هللا»‪.1‬‬
‫ثــم يخلــص بالحكمــة نفســها إلــى أنــه «ال جماعــة إال بتحــاب فــي هللا‬
‫وصحبة فيه»‪ .2‬‬
‫كان ذاك خطابــا حكيمــا ر َّ‬
‫صــع بــه كلماتــه فــي كتــاب املنهــاج النبــوي‪ .‬وفيــه‬
‫رفــع الســتارشــيئا قليــا عــن الجوهــرالــذي حملــه فــي قلبــه عمــره كلــه فقــال‪:‬‬
‫«الخطــوة األولــى علــى طريــق الت ــربية والتنظيــم‪ ،‬علــى طريــق املنهــاج‬
‫املــؤدي إلــى هللا عــز وجــل بالنســبة للمؤمــن‪ ،‬وإلــى الخالفــة بالنســبة لألمــة وإلــى‬
‫ســيادة الحضــارة اإلســامية بالنســبة للعالــم هــي الصحبــة والجماعــة‪ ،‬هــي لقــاء‬
‫رجــل ي ــربيك وجماعــة مؤمنــة تؤويــك وتحضنــك‪ ،‬حت ــى يســري بصحبــة املربــي‬
‫والجماعــة إلــى قلبــك وســلوكك أول ســلك مــن أســاك نــور اإليمــان‪ ،‬وأول نفحــة‬
‫مــن عبي ــره‪ ،‬وأول فيــض مــن مائــه»‪.3‬‬
‫ثم يـرفعه أكثـرقليال فيقول‪:‬‬
‫«وإنمــا ي ــنفع هللا عــزوجــل املؤمــن الصــادق الجــاد فــي اإلقبــال علــى ربــه‬
‫أول ما ي ــنفعه بصحبة رجل صال ــح‪ ،‬ولي مرشــد‪ ،‬يقيضه له‪ ،‬ويقذف في قلبه‬
‫حبــه‪ .‬ومتــى كان املصحــوب وليــا هلل حقــا والصاحــب صادقــا فــي طلبــه وجــه هللا‬
‫ظهــرت ثمــرة الصحبــة‪ .‬قــال رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم فــي مــا رواه أبــو داود‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬املنهاج النبوي»‪ ،‬ص‪.52 :‬‬


‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.79 :‬‬
‫‪ - 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.119 :‬‬
‫‪26‬‬
‫والتـرمذي بإسناد صحيح وقال فيه التـرمذي‪ :‬حديث حسن‪« :‬الرجل على ديـن‬
‫خليله‪ ،‬فلي ــنظرأحدكم من يخالل»‪ ،‬واآليات واألحاديث املشي ــرة إلى الصحبة‬
‫والحاثــة عليهــا كثي ــر‪ ،‬وكل تاريــخ اإليمــان يشــهد بــأن قلــب الداعــي إلــى هللا علــى‬
‫بصي ــرة‪ ،‬نبيــا كان أو وليــا‪ ،‬هــو النبــع الروحــي الــذي اغت ــرفت منــه أجيــال‬
‫الصالحي ــن بالصحبــة‪ ،‬واملالزمــة‪ ،‬واملحبــة‪ ،‬والتلمــذة‪ ،‬واملخاللــة»‪.1‬‬
‫فــا غــرو إن جعــل الرجــل خصلــة «الصحبــة والجماعــة» املدخـ َـل إلــى باقــي‬
‫الخصــال‪ ...‬فــي كل زمــان‪« ،‬فقــد أتبــع هللا عــزوجــل فــي اآليــة بعثــة محمــد صلــى هللا‬
‫عليه وسلم بذكراملعية له‪ ،‬فهي أولى صفات املؤمنيـن‪ ،‬في ذلك الزمان وفي هذا‬
‫وفي سائراألزمنة‪ ،‬والرحمة بيـنهم مرآة لتلك املعية‪ ،‬ومن كان مع رسول هللا فهو‬
‫مــع هللا‪ ،‬ومــن بايــع رســول هللا فقــد بايــع هللا‪ ،‬ومــن أحــب رســول هللا فقــد أحــب‬
‫هللا»‪.2‬‬
‫ً‬
‫وال عجب إن امتدت «الصحبة» وراثة من قلب إلى قلب إلى يوم الديـن‪:‬‬
‫«كان رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم يقــول كلمــا ارتحــل فــي ســفره‪:‬‬
‫«اللهم أنت الخليفة في األهل والصاحب في السفر»‪ .3‬فلقوة تعلقه صلى هللا‬
‫عليــه وســلم ب ــربه عــزوجــل ســرت مــن قلبــه الطاهــرمــادة اإليمــان إلــى مــن صحبــه‪،‬‬
‫ثم امتدت الصحبة وراثة فكانت رحمة بيـن الصحابة والتابعيـن ومن تبعهم‬
‫بإحسان إلى يوم الدي ــن‪ ،‬تسري من قلب لقلب‪ ،‬ومن جيل لجيل‪ ،‬بالصحبة‬
‫واملحبــة والتلمــذة»‪.4‬‬

‫‪ - 1‬نفسه‪ ،‬ص‪.123-124 :‬‬


‫‪ - 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.122 :‬‬
‫‪ - 3‬رواه اإلمام أحمد ومسلم وغيـرهما‪.‬‬
‫‪ - 4‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬املنهاج النبوي»‪ ،‬ص‪.122 :‬‬
‫‪27‬‬
‫ليـرفع الستارأكثـرفأكثـرويقول بالعربي الفصيح‪:‬‬
‫«فمــن كتــب هللا ســبحانه لــه ســابقة خي ــريســره لصحبــة دليــل رفيــق‪،‬‬
‫ولــي مرشــد»‪.1‬‬
‫َ‬
‫شـ َّـق عليــه رحمــه هللا رفــع الســتار‪ ،‬إلــى منتهــاه‪ ،‬عــن معانــي اإلحســان وعــن‬
‫ضــرورة الصحبــة واملصحــوب الــدال علــى هللا كمــا فعــل فــي «اإلحســان»‪ ،‬فتلكــم‬
‫ّ‬
‫املعانــي ال يســتطيع أن يعرفهــا حــق معرفتهــا وال َي ْقـ ِـد ُر ُي َع ِظ ُم َهــا إال رجــل ذو همــة‬
‫عاليــة ونفــس مضطــرة إلــى هللا االضطـرارالكلــي كمــا اضطــرأســتاذنا إبــان أزمتــه‬
‫الروحية‪ .‬ولهذا اعتبـررحمه هللا أن الحديث مع بعض الناس بهذا املوضوع هو‬
‫ـدام العاســفة َد ْوســا‪:‬‬
‫حرم َت َهــا األقـ ُ‬ ‫أشــبه بنث ــرنعمــة هللا فــي قارعــة الطريــق تــدوس َ‬

‫ِ«ل ُنـ ْـد َر ِة الهمــم العاليــة املتشــوفة إلــى معرفــة هللا‪ ،‬اليائســة مــن كل ش ــيء‬
‫دون هللا‪ ،‬املضطــرة االضط ـرار الكلــي إليــه ســبحانه‪ ،‬الظمــأى إلــى مــورد قربــه‪،‬‬
‫يعــز علي ــنا نث ــر الحديــث عــن اإلحســان وطريقــه أكث ــر ممــا فعلنــا‪ ،‬فيتخطــاه‬
‫النــاس وهــو حرمــة مــن حــرم هللا»‪.2‬‬
‫رجال القومة واإلصالح (‪1983-1982‬م)‬
‫فــي هــذا الكتــاب‪ ،‬فــي الفصــل الســابع منــه املعنــون بـ ــ«العلمــاء املربــون»‪،‬‬
‫وفــي فقــرة «العارفــون بــاهلل»‪ ،‬يقــول اإلمــام املجــدد رض ــي هللا عنــه‪:‬‬
‫«كان الفقيــه يفت ــي فــي النــوازل‪ ،‬وكان املحــدث منكبــا علــى العلــم يخــدم‬
‫ســنة رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‪ .‬وكال الوظيفتي ــن حيــوي لحيــاة األمــة‪.‬‬

‫لكـ َّـن املشــايخ العارفي ــن بــاهلل اختصــوا بتنوي ــر القلــوب‪ ،‬وتقريــب العبــاد‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬املنهاج النبوي»‪ ،‬ص‪.124 :‬‬
‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.126 :‬‬
‫‪28‬‬
‫إلــى خالقهــم‪ ،‬بحملهــم علــى االســتقامة‪ ،‬وتســليكهم بمجاهــدة النفــس‪ ،‬ودوام‬
‫صــروا فــي الجملــة فــي نشــر العلــم وبــث‬‫الذكــر‪ ،‬ومراقبــة الحــق عــز وجــل‪ .‬ولــم ُي َق ّ‬
‫ِ‬
‫الفضيلــة فــي األمــة‪ ،‬إذ تتعــدى تربيتهــم الخاصــة مــن تالمذتهــم إلــى العامــة‪ .‬وكانــوا‬
‫إلــى جانــب هــذا ُيـ ْـؤ ُوو َن البائسي ــن‪.1»...‬‬
‫ثم يضيف‪:‬‬
‫ً ُ‬
‫«أال وإن هللا عــزت قدرتــه‪ ،‬وجلــت ِم َّن ُتـ ُـه‪ ،‬قيــض لهــذه األمــة رجــاال ك َّمــا‪،‬‬
‫َ‬
‫يــا مــن يتنســم معن ــى للكمــال! كانــوا وال يزالــون وســيبقون إن شــاء هللا ورثــة‬
‫األنبيــاء وخلفـ َـاء رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم فــي أمتــه‪ .‬جامعي ــن بي ــن‬
‫األقــوال واألفعــال واألحــوال»‪.2‬‬
‫إمامة األمة (‪1983‬م)‬
‫وتحت عنوان‪« :‬اصحب شيخا مرشدا»‪ ،‬قال إمامنا املرشد إن «مفتاح‬
‫الطريق وضمان الســلوك صحبة رجل»‪.3‬‬
‫اإلسالم والقومية العلمانية (‪1985‬م)‬
‫َ‬ ‫وهنــا يقيــس ُ‬
‫إمامنــا موقفنــا علــى املوقــف إبــان البعثــة النبويــة‪ ،‬ليخلــص‬
‫إلــى شــدة حاجتنــا اآلن إلــى الوظيفــة الت ــي اضطلعـ ْـت بهــا الصحبــة حي ــنئذ‪:‬‬
‫«شــبيه موقفنــا بموقــف البعثــة النبويــة‪ ...‬لهــذا الشــبه‪ ،‬ولوحــدة الهدف‪،‬‬
‫ال يصلح أمرالتجديد اإلسالمي إال بما صلح به أمرالتأسيس اإلسالمي‪ .‬وحسن‬
‫الصحبــة مفتــاح املوقــف اليــوم وغــدا كمــا كان فــي العهــد األول‪ .‬حســن الصحبــة‬
‫يعن ــي حســن الت ــربية‪ ،‬يعنــي أولويتهــا‪ ،‬يعن ــي أخــذ الفــرد باإلحســان‪ ،‬واكتنافــه‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬رجال القومة واإلصالح»‪ ،‬ص‪.93 :‬‬
‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.96 :‬‬
‫‪ - 3‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬إمامة األمة»‪ ،‬ص‪.146 :‬‬
‫‪29‬‬
‫بالصحبــة‪ ،‬ورفعــه مــع الجماعــة‪ ،‬وصونــه فــي محضنهــا‪ ،‬وإش ـراكه فــي حيويتهــا‬
‫اإليمانية‪ ،‬وأخذه عاطفيا وعمليا‪ ،‬وقلبيا وعقليا‪ .‬في السفرالجماعي من أرضـية‬
‫االنتمــاء إلــى ســماويته‪ ،‬مــن قطريــة القوميــة ومحليتهــا إلــى عامليــة اإلســام»‪.1‬‬
‫سنة هللا (‪1988-1987‬م)‬
‫أمــا فــي «ســنة هللا»‪ ،‬فيكفي ــنا أن نتفــق علــى ثبــوت الصحبــة لألنبيــاء‬
‫فــي أتباعهــم‪ ،‬ولنبي ــنا صلــى هللا عليــه وســلم فــي أصحابــه‪ ،‬لنكــون قــد خطونــا‪،‬‬
‫بالضمــن‪ ،‬خطــوات حاســمة نحــو الفريــق األول و«صحبــة رجــل»‪ ،‬إيمانــا بهــذه‬
‫الصحبــة لــوارث النبــوة فــي الجماعــة‪ ،2‬وملــن يخلفــه فيهــا إلــى قيــام الســاعة‪.‬‬
‫فهاهــو رحمــه هللا يؤكــد أن الصحبــة (صحبــة رجــل) ممتــدة إلــى زمــن نــزول‬
‫عي�ســى عليه الســام‪ ،‬فيقول بالوضوح الكامل‪:‬‬
‫ُْ‬
‫«ننظــرإلــى موعــود هللا ورســوله‪ ،‬نتقلــب فــي سـ َّـراء بشــارته غي ــراملخلفــة‪،‬‬
‫ال يغرنــا تقلــب الذي ــن كفــروا فــي البــاد‪ ،‬وال تقعدنــا البشــارة والثقــة بمــا أوحــى هللا‬
‫إلــى رســوله عــن اتخــاذ األســباب لنخــرج باألمــة مــن الغثائيــة املوروثــة‪ ،‬واضعي ــن‬
‫أمام أعيـننا نزول عي�سى عليه السالم‪ ،‬نكون يومئذ خلفا له عن حوارييه‪ ،‬وهي‬
‫مرتبــة صحبــة األنبيــاء‪ .‬جعلنــا هللا معهــم»‪.3‬‬
‫اإلحسان (‪1988‬م)‬
‫النــص الســابق مــن «ســنة هللا» يؤكــده إمامنــا فــي «اإلحســان» علــى لســانه‬
‫وعلى لســان الجيالني إذ يقول‪:‬‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم والقومية العلمانية»‪ ،‬ص‪.144-143 :‬‬
‫‪ - 2‬أربــأ بالقــارئ الكريــم أن يحســب «الجماعــة» فــي أدبيــات اإلمــام املرشــد ذلــك التنظيــم املنغلــق بقواني ــنه‬
‫املنظمــة علــى نفســه؛ إنمــا مفهــوم «الجماعــة» يتجــاوزه إلــى مدلــوالت أخــرى لعــل أرقاهــا مفهــوم «جماعــة‬
‫املسلمي ــن»‪ ،‬فــي رؤيــة مســتقبلية تســتوعب أطيافــا مــن التوجهــات مختلفــة‪.‬‬
‫‪ - 3‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬سنة هللا»‪ ،‬ص‪.320 :‬‬
‫‪30‬‬
‫«إنهــا ســنة إلهيــة ماضيــة إلــى يــوم القيامــة أن يكــون فــي سلســات الواليــة‬
‫تابــع ومتبــوع‪ .‬قــال الشــيخ عبــد القــادر الجيالنــي قــدس هللا روحــه‪« :‬إن هللا عــز‬
‫وجــل أجــرى العــادة بــأن يكــون فــي األرض شــيخ ومريــد‪ ،‬صاحــب ومصحــوب‪ ،‬تابــع‬
‫ومتبــوع مــن لــدن آدم إلــى أن تقــوم الســاعة«‪.1‬‬
‫العدل ‪ -‬اإلسالميون والحكم (‪1990‬م)‬
‫يقول إمامنا املرشد‪:‬‬
‫«صحبــة «مــن» يبعثــه هللا عــز وجــل ليجــدد الدي ــن‪ .‬جــاء فــي حديــث رواه‬
‫أبــو داود والبيهقــي والحاكــم بســند صحيــح عــن أبــي هري ــرة رض ــي هللا عنــه أن‬
‫أس كل‬‫رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم قــال‪« :‬إن هللا يبعــث لهــذه األمــة علــى ر ِ‬
‫مائــة ســنة مــن يجــدد لهــا دي ــنها»‪.‬‬
‫ـ«مـ ْـن» ال تتقيــد ب ــزمان‪ ،‬فاملــرء علــى دي ــن خليلــه كمــا أخب ــر‬ ‫َ‬
‫وصحبــة ال ـ ـ َ‬
‫الصــادق األمي ــن»‪.2‬‬
‫«تنويـراملؤمنات» (‪1993‬م)‬
‫وفــي التنوي ــرتنوي ـ ٌـر وتنوي ــروتنوي ــرلقضيتنــا فــي هــذا البحــث‪ ،‬نكتفــي منــه‬
‫بهــذا النــص‪:‬‬
‫«نعــود ثــم نعــود إلــى رأس الحكمــة‪ :‬وهــي‪« :‬الصحبــة أو ُل الطريــق»‪ .‬مــا‬
‫كانــوا صحابــة إال ألنهــم أحبــوا‪ .‬وتركــوا في ــنا الوصيــة بالصحبــة كمــا ســمعوها مــن‬
‫رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬وكمــا ذاقــوا هــم املحبــة‪ ،‬وكمــا أدركــوا أهميتهــا‬
‫القصوى‪ .‬قال سيدنا عبد هللا بن عمررضـي هللا عنهما كما أخبـرمجاهد ونقله‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.198 :‬‬


‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬العدل ‪ -‬اإلسالميون والحكم»‪.65 ،‬‬
‫‪31‬‬
‫الواليــة إال بذلــك‪ ،‬وال تجــد طعــم اإليمــان حت ــى تكــون‬ ‫ّ‬
‫املنــاوي‪« :‬فإنــك ال تنــال ِ‬
‫كذلــك»‪ .‬يعن ــي الحــب فــي هللا والبغــض فــي هللا‪ .‬وهللا ولــي املؤمني ــن»‪.1‬‬
‫«حوارمع الفضالء الديمقراطييـن» (‪1993‬م)‬
‫وتكفيـنا من هذا الكتاب هذه العبارة‪:‬‬
‫«ومــن الصحبــة وبالصحبــة وفضــل هللا علــى املؤمني ــن بالصحبــة يبــدأ‬
‫التغيي ــر»‪.2‬‬
‫محنة العقل (‪1993‬م)‬
‫وتكفيـنا من هذا قوله رحمه هللا‪:‬‬
‫َّ‬
‫«علم النبي الرسول املعلم الوالد صلى هللا عليه وسلم بالقدوة الحسنة‪.‬‬
‫والصحبة في املنهاج النبوي هي املدخل الضروري للتـربية»‪.3‬‬
‫رسالة تذكيـر (‪1994‬م)‬
‫َ‬
‫ويمكــن أن نفهــم ممــا َح َّدث َنــا بــه إمامنــا املجــدد مــن أمــرالصحبــة آنفــا أن‬
‫املصحــوب «رجـ ٌـل»‪ .‬كمــا يمكــن أن نفهــم أن املصحــوب «الجماعــة»‪ .‬ولهــذا فهــو‬
‫يفـ ّـرق بوضــوح بي ــن وظيفــة «الصحبــة» ووظيفــة «الجماعــة»‪ُ ،‬‬
‫فيفهمنــا بمــا ال‬
‫يــدع مجــاال للخلــط أو للشــك أن «الصحبــة فــي هللا محبــة فــي هللا وتـ ٍ‬
‫ـآخ وتراحــم‬
‫يـرتفع بها الوافد عليـنا في درجات حب هللا وحب رسول هللا‪ .‬والجماعة تنظيم‪.‬‬
‫ال يمكــن أن تجابــه قــوى الكفــروالظلــم وأنــت شــتات ورفــات‪ .‬ويختصــم التنظيــم‬
‫وضوابطــه ومســؤولياته مــع ليونــة تأليــف القلــوب فــا يثبــت فــي امليــدان إال كل‬
‫قــوي اإليمــان‪ ،‬يمنعــه مــن التســاقط الثقــة بــاهلل‪ ،‬وحســن الظــن بعبــاد هللا‪،‬‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬تنويـراملؤمنات»‪ ،‬ص‪.340 :‬‬
‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬حوارمع الفضالء الديمقراطييـن»‪ ،‬ص‪.99 :‬‬
‫‪ - 3‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬محنة العقل املسلم بيـن سيادة الوحي وسيطرة الهوى»‪ ،‬ص‪.49 :‬‬
‫‪32‬‬
‫والصب ــر علــى أذى اإلخــوة واألعــداء فــي ذات هللا»‪.1‬‬
‫اإلسالم والحداثة (‪1997‬م)‬
‫ويخاطــب اإلمــام أخــاه الرجــل وأختــه املـرأة أنــه «وبعــد أن تجتــازوحــدك‬
‫امتحــان الفـراق ال بــد لــك مــن لقــاء‪ .‬ال بــد أن تتجــه نحــو صحبــة أخــرى تتخــذ لــك‬
‫مكانــا بي ــنها‪ .‬ال بــد أن تتكيــف مــع وســط آخــر يتبنــاك‪ .‬ال بديــل لــك حي ــنئذ عــن‬
‫صحبــة روحيــة‪ ،‬ألن الصحبــة مفهــوم مركــزي فــي اإلســام»‪.2‬‬
‫خالصة‪..‬‬
‫اســتعرضنا معــك ممــا كتبــه اإلمــام املجــدد علــى مــدى خمســة وعشري ــن‬
‫عامــا‪ ،‬مــن أول مــا كتــب فــي املشــروع اإلســامي عــام ‪1972‬م إلــى عــام ‪1997‬م‪ ،‬مــا‬
‫يــدل علــى مركزيــة مفهــوم الصحبــة فــي اإلســام وفــي منهــاج النبــوة‪ .‬الصحبــة بمــا‬
‫تعنيــه مــن «صحبــة رجــل قــدوة حــي يــأكل الطعــام ويمش ــي فــي األســواق»‪.‬‬
‫َ‬
‫وقــد بــدا جليــا أن موقــف اإلمــام مــن الصحبــة بمــا هــي «صحبــة رجــل»‪،‬‬
‫َ‬
‫ونظرتــه إليهــا وإلــى وظيفتهــا‪ ،‬لــم تتغي ــر قيــد أنملــة علــى مــدى كل هــذه املرحلــة‬
‫الطويلــة‪.‬‬
‫ولعــل بعضنــا يتفــق مــع هــذه الخالصــة‪ ،‬ولكنــه يتحفــظ علــى إطالقهــا‬
‫وتعميمها على املرحلة التالية‪ ،‬بيـن عام ‪1997‬م وعام ‪2012‬م وهو تاريخ رحيل‬
‫إمامنــا والتحاقــه بالرفيــق األعلــى‪.‬‬
‫ويظهــرأننــا ســنحتاج إلــى تتبــع كالم إمامنــا فــي هــذه املرحلــة لن ــرى إن كان‬
‫قــد َجـ َّـد بــه فــي القضيــة أي جديــد ي ــنسخ الخالصــة الت ــي انتهي ــنا إليهــا ْ‬
‫نس ــخا‪.‬‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬رسالة تذكيـر»‪ ،‬ص‪.13 :‬‬


‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم والحداثة»‪ ،‬ص‪.242-241 :‬‬
‫‪33‬‬
‫ولكننــا قبــل أن نســتأنف بحثنــا فــي مــا قالــه أســتاذنا حــول الصحبــة فيمــا‬
‫كتبــه بي ــن عــام ‪1997‬م وعــام ‪2012‬م‪ ،‬نــرى لزامــا علي ــنا أن نقــف للضــرورة‬
‫وقفتي ــن فــي الفصــل التالــي‪ ،‬نحــاول فــي أوالهمــا الفصــل بي ــن مــا ال ي ــنفصل عنــد‬
‫البعــض‪ ،‬فيحصــل لديــه خلــط وتداخــل تصعــب معــه متابعــة بحثنــا هــذا‪ .‬نقصد‬
‫َ‬
‫الفصل بيـن وظيفتيـن ُم َب َّجل َت ْين اضطلع بهما إمامنا املجدد‪ .‬ونحاول في ثانيتهما‬
‫النظرإن كانت وظيفة الداللة على هللا قد انتقلت‪ ،‬بعد التحاق نبيـنا صلى هللا‬
‫َّ‬
‫عليــه وســلم ب ــربه‪ ،‬إلــى جماعــة الصحابــة فانبثــت فــي مجموعهــم كلهــم ال فــي رجــل‬
‫فيهــم بعي ــنه‪ ،‬أم ورثهــا منهــم رجــل بعــد رجــل حت ــى وصلــت إلي ــنا بالســند املتصــل‬
‫كاب ـرا عــن كاب ــر‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫ََ‬
‫الوظيفتان ال ُـم َب َّجلتان‬

‫ُ‬
‫ال تــكاد تطــرح قضيــة «الصحبــة» و«املصحــوب» و«مــن يخلــف اإلمــام‬
‫االســتفهام اإلنكاري الكبي ــرالثقيل‬ ‫املجدد» رحمه هللا حت ــى يســبق إلى أســماعنا ِ‬
‫املحي ــر‪ :‬وأي رجــل ذاك الــذي يســتطيع َو ْحـ َـده حمــل مي ـراث اإلمــام وهــو مــن ثقلــه‬
‫ّ‬
‫ي ــنوء ُ‬
‫بالع ْ‬
‫ص َبــات أولــي القــوة؟‬
‫وهو استفهام ُم َت َح ٍّد ليس له إال جواب واحد‪ :‬ال أحد‪.‬‬
‫ص به رحمه‬‫ص ُل وال َي ْف ِص ُل بيـن ما ُخ َّ‬
‫وهو جواب صحيح‪ ،‬لوال أنه ال ُي َف ّ‬
‫ِ‬
‫هللا فضال من هللا ونعمة‪ ،‬وبيـن ما يشتـرك فيه مع السابقيـن ويشتـرك معه فيه‬
‫الالحقون من ورثة األنبياء‪.‬‬
‫‪ -1‬التجديد األعظم‪..‬‬
‫مجرد استئناس ليس إال‪ ،‬بكالم للمفكراإلسالمي الكبيـر‬ ‫َ‬ ‫نستأنس هنا‪،‬‬
‫أبي األعلى املودودي رحمه هللا يتحدث فيه عن الخصائص التـي ال ُب َّد أن يتصف‬
‫بهــا املجــدد‪ ،‬ويحددهــا فــي «الذهــن الصافــي‪ ،‬والبصــر ّ‬
‫النفــاذ‪ ،‬والفكــر املســتقيم‬
‫َ‬
‫بــا عــوج‪ ،‬والقــدرة النــادرة علــى ت َب ُّي ــن ســبيل القصــد بي ــن اإلف ـراط والتفريــط‬
‫ومراعاة االعتدال بيـنهما‪ ،‬والقوة على التفكيـراملجرد من تأثيـراألوضاع الراهنة‬
‫والعصبــات القديمــة الراســخة علــى طــول القــرون‪ ،‬والش ــجاعة والج ـرأة علــى‬
‫مزاحمــة سي ــرالزمــان املنحــرف‪ ،‬واألهليــة املوهوبــة للقيــادة والزعامــة والكفــاءة‬

‫‪35‬‬
‫ّ‬
‫مطمئنــا‬ ‫الفــذة لالجتهــاد وألعمــال البنــاء واإلنشــاء‪ ،‬ثــم كونــه ‪ -‬مــع ذلــك كلــه ‪-‬‬
‫قلبــه بتعاليــم اإلســام وكونــه مســلما حقــا فــي وجهــة نظــره وفهمــه وشــعوره‪ ،‬يمي ــز‬ ‫ُ‬
‫بي ــن اإلســام والجاهليــة حت ــى فــي جزئيــات األمــور ويبي ــن الحــق ويفصلــه عــن ركام‬
‫املعضالت الت ــي أتت عليها القرون فهذه هي الخصائص الت ــي ال يمكن أن يكون‬
‫َ ً‬
‫أحــد مجــددا بدونهــا‪ ،‬وهــي هــي الصفــات الت ــي تكــون فــي األنبيــاء واملرسلي ــن ُمك َّب ـ َـرة‬
‫مضاعفــة!»‪.1‬‬
‫ويمي ــز املــودودي بي ــن «املجــدد الجزئــي» (يقصــد بــه «املجــدد املائــوي»‪،‬‬
‫أس كل مائــة ســنة مــن‬ ‫الــذي ورد فــي حديــث‪« :‬إن هللا يبعــث لهــذه األمــة علــى ر ِ‬
‫تجديده «شعبة بعيـنها أوبضع شعب من الديـن»‪،)3‬‬ ‫ُ‬ ‫يجدد لها ديـنها»‪ ،2‬ويتناول‬
‫وبيـن «املجدد الكامل» الذي يدل النظرفي التاريخ اإلسالمي‪ ،‬في رأيه‪« ،‬على أنه‬
‫َ‬
‫لم يولد‪ 4‬في األمة املسلمة مجدد كامل حتـى اآلن‪ .‬وال ريب أ ْن كان الخليفة عمر‬
‫بــن عبــد العزيــزأوشــك أن يبلــغ هــذه املن ـزلة الســامية إال أنــه عاجلتــه املنيــة دون‬
‫بلوغــه الغايــة فــي مســعاه‪ .‬والذي ــن جــاؤوا مــن بعــده مــن املجددي ــن قــام كل منهــم‬
‫بعمل التجديد في شعبة بعيـنها أو بضع شعب من الديـن ال غيـر‪ ،‬ولذلك ال يزال‬
‫موضـ ُـع املجــدد الكامــل املســتوفي الشــروط غي ـ َـر مشــغول بعــد»‪.5‬‬

‫‪ - 1‬املــودودي‪ ،‬أبــو األعلــى‪« ،‬موجــزتاريــخ تجديــد الدي ــن وإحيائــه»‪ ،‬دارالفكــرالحديــث‪ ،‬لبنــان‪ ،‬ط‪1386 ،2‬ه ـ‬
‫‪1967‬م‪ ،‬ص‪.52-53 :‬‬
‫‪ - 2‬رواه أبو داود والبيهقي والحاكم بسند صحيح عن أبي هريـرة رضـي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ - 3‬املودودي‪ ،‬أبو األعلى‪« ،‬موجزتاريخ تجديد الديـن وإحيائه»‪ ،‬ص‪.57 :‬‬
‫َ ْ‬
‫‪ - 4‬كان األولــى باملــودودي رحمــه هللا أن يقــول‪« :‬لـ ْـم َيظ َهـ ْـر» بـ َـد َل «لــم يولــد»‪ ،‬فقــد يكــون املولــود قــد ُوِلـ َـد ولــم‬
‫يكــن قــد ظهــرمــن شــأنه بعـ ُـد مــا يلفــت إليــه األنظــار‪ .‬فمــا أدراه أنــه حي ــن نشــركتابــه هــذا علــى شــكل مقالــة فــي‬
‫مجلــة «الفرقــان» فــي مدي ــنة ب ــريلي بالهنــد عــام ‪1940‬م كان املجــدد الكامــل الــذي نفــى والدتــه إبــان كتابتهــا قــد‬
‫أتــم مــن عمــره اثنــي عشــرعامــا وأتــم معهــا حفظــه للقـرآن الكريــم بأحــد كتاتيــب حــي بــاب دكالــة بمدي ــنة مراكش‬
‫باملغــرب األقص ــى!‬
‫‪ - 5‬املودودي‪ ،‬أبو األعلى‪« ،‬موجزتاريخ تجديد الديـن وإحيائه»‪ ،‬ص‪.57 :‬‬
‫‪36‬‬
‫أمــا إمامنــا املرشــد فيتحــدث أوال عــن «االجتهــاد املطلــق» بــإزاء «االجتهــاد‬
‫الجزئي» حيث «قرر علماؤنا أن االجتهاد يتبعض‪ ،‬كانوا يسمون مجتهدا مطلقا‬
‫مــن بلغــت أدواتــه العلميــة أن يســتقي مباشــرة مــن كتــاب هللا وســنة رســوله وآثــار‬
‫اإلجماع‪ ،‬وتحقيق صالحية القياس لكل األحكام الشرعية الفقهية»‪ .1‬ويتجاوز‬
‫الكالم عن التجديد املائوي الذي لم يوضع له منهاج علمي‪ ،‬ولم ُي َج ْب فيه عن‬ ‫َ‬
‫ســؤال‪« :‬مــن؟» و«مــا؟» و«كيــف؟»‪:‬‬
‫«أمــا التجديــد فقــد حصــل قطعــا علــى رأس كل مائــة ســنة لكــن حصــل‬
‫دون أن يوضع له منهاج علمي‪ ،‬ودون أن يتفق السلف الصالح على تعييـن هذا‬
‫العامــل البشــري ‪ -‬فــردا أو جماعــة ‪ -‬الــذي جــدد وال مــا جــدد وال كيــف جــدد»‪.2‬‬
‫يتجاوزه إلى «فقه التجديد» و«الفقه الشامل»‪:‬‬
‫َ‬
‫«و ِفقــه التجديــد فقــه شــامل ال ُي ْعن ــى بالجزئيــات العباديــة والجهاديــة‬
‫واالقتصادية والتـربوية لتحقيق أحكامها معزوال بعضها عن بعض‪ ،‬لكنه يعنى‬
‫بجمــع هــذه األحــكام كلهــا فــي نظــرة شــمولية‪ ،‬ووضــع كل منهــا موضعهــا فــي البنيــة‬
‫اإلســامية الســليمة سياســيا واجتماعيــا واقتصاديــا وعامليــا»‪.3‬‬
‫ثم يتواضع عند الحديث عن هذا الفقه الذي اكتشــفه هو ورفع أركانه‬
‫في ــنسبه رحمــه هللا إلــى األجيــال الت ــي جــاءت بعــده واســتنارت وتستني ــربنب ـراسه‪،‬‬
‫ويضيــف إليــه تجديـ َـد «الخالفــة الثانيــة علــى منهــاج النبــوة»‪ ،‬الت ــي كشــف لنــا هــو‬
‫طريقهــا‪ ،‬فبشــربهــا ورفــع قواعدهــا‪ ،‬ويســميه «التجديــد األعظــم»‪:‬‬

‫‪ - 1‬ياسي ــن‪ ،‬عبــد الســام‪« ،‬العقــل والنقــل واإلرادة»‪ ،‬مجلــة «الجماعــة»‪ ،‬ع‪ ،5‬ربيــع األول‪ /‬ربيــع اآلخــر‪،‬‬
‫‪1400‬ه‪ ،‬ص‪.51 :‬‬
‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.51 :‬‬
‫‪ - 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.51 :‬‬
‫‪37‬‬
‫«ولعــل هللا ســبحانه ادخــرلهــذه األجيــال املتأخــرة فــي الزمــن مزيــة ونعمــة‬
‫القيــام بهــذا التجديــد األعظــم‪ ،‬التجديــد الــذي ي ــنتقل باألمــة مــن امللــك الجب ــرية‬
‫والفرقــة إلــى الخالفــة والوحــدة والقيــام بالقســط والشــهادة هلل فــي األرض»‪.1‬‬
‫املبجلتيـن‪ ،‬إذن‪ ،‬هي التجديد األعظم‪ ،‬تجديد الخالفة‬ ‫أولى الوظيفتيـن َّ‬
‫علــى منهــاج النبــوة‪ .‬وإذا كان التجديــد املائــوي يحصــل‪ ،‬بنــص الحديــث الــذي‬
‫ســقناه آنفــا‪ ،‬مــرة كل مائــة عــام‪ ،‬فــإن التجديــد األعظــم ال يحصــل‪ ،‬بنــص حديــث‬
‫ّ‬
‫الخالفــة علــى منهــاج النبــوة‪ ،‬إال مــرة واحــدة فــي التاريــخ‪ .‬ونذكــر هنــا بنــص هــذا‬
‫الحديــث الــذي يقــول فيــه صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬فيمــا رواه اإلمــام أحمــد رحمــه‬
‫هللا بســنده الصحيــح‪ ،‬عــن النعمــان بــن بشي ــر رض ــي هللا عنــه‪« :‬تكــون النبــوة‬
‫فيكــم مــا شــاء هللا أن تكــون‪ ،‬ثــم ي ــرفعها هللا إذا شــاء أن ي ــرفعها‪ ،‬ثــم تكــون‬
‫خالفــة علــى منهــاج النبــوة‪ ،‬فتكــون مــا شــاء هللا أن تكــون‪ ،‬ثــم ي ــرفعها إذا شــاء‬
‫أن يـرفعها‪ .‬ثم تكون ُملكا عاضا فيكون ما شاء هللا أن يكون‪ ،‬ثم يـرفعها إذا‬
‫شــاء هللا أن ي ــرفعها‪ .‬ثــم تكــون ملــكا جب ــريا‪ ،‬فتكــون مــا شــاء هللا أن تكــون‪ ،‬ثــم‬
‫ي ــرفعها إذا شــاء أن ي ــرفعها‪ .‬ثــم تكــون خالفــة علــى منهــاج النبــوة»‪ .‬ثــم ســكت‪.‬‬
‫هــي‪ ،‬إذن‪ ،‬خالفـ ٌـة مجـ َّـددة علــى منهــاج النبــوة ثانيـ ٌـة تتلــو امللـ َـك الجب ــري‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الــذي َعقـ َـب امللــك العــاض الــذي َعقـ َـب الخالفــة األولــى علــى منهــاج النبــوة الت ــي‬
‫إمامنــا املجــدد إلــى اكتشــافه وإلــى‬ ‫َت َلــت النبــوة‪ .‬وهــو تجديـ ٌـد أعظـ ُـم َوأوحـ ُـد ســبق ُ‬
‫التبشي ــر بــه وإلــى وضــع خططــه وإلــى رفــع قواعــده فــي مشــروع عنوانــه «املنهــاج‬
‫النبــوي»‪ .‬وهــو‪ ،‬إذن‪ ،‬مقــام واحــد ال يتســع إال ملجــدد أعظــم واحــد‪.‬‬
‫هذه هي الوظيفة املبجلة األولى‪ .‬أما الثانية فهي الداللة على هللا‪.‬‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬العقل والنقل واإلرادة»‪ ،‬ص‪.51 :‬‬


‫‪38‬‬
‫‪ -2‬الداللة على هللا‪..‬‬
‫ـليك عبــاد هللا إليــه‬‫الوظيفــة املبجلــة الثانيــة هــي الداللـ ُـة علــى هللا وتسـ ُ‬
‫عــز وجــل ليطلبــوا وجهــه فيعرفــوه ويحبــوه‪ .‬وهــذه يتوارثهــا أهــل هللا العارفــون‬
‫بــه الوارثــون لنبيــه صلــى هللا عليــه وســلم بالســند املتصــل كاب ـرا عــن كاب ــرإلــى يــوم‬
‫القيامــة‪.1‬‬
‫يتحدث إمامنا رضـي هللا عنه في كتاب «اإلحسان» عن الشرط األساسـي‬
‫لســلوك الطريــق إلــى هللا عــزوجــل‪ ،‬وهــو «أن يكــون الشــيخ قــد تعلــم بالصحبــة‬
‫مــن شــيخ أخــذ عــن شــيخ صحــب مــن صحــب‪ ...‬إلــى أن ي ــنتهي الســند إلــى رســول‬
‫هللا صلــى هللا عليــه وســلم»‪.2‬‬
‫ّ‬
‫متبنيــا إيــاه‬
‫ثــم يضيــف‪ ،‬رحمنــا هللا ونفعنــا بــه‪ ،‬معلقــا علــى هــذا الشــرط ِ‬
‫ومؤكدا أن «هذا شرط جوهري يـنفيه ويتجاهله ويـرفضه من ال يدري وال ِيحب‬
‫أن يعتـرف بأنه ال يدري‪ ،‬ففاته نصف العلم‪ ،‬بل فاته العلم كله‪ ،‬والخيـركله»‪.3‬‬
‫ويزيد األمرتأكيدا في ممرآخرمن «اإلحسان»‪:‬‬
‫لكامل من األولياء املرشديـن شرط مفروغ من أهميته‬ ‫ٍ‬ ‫«إن الصحبة‬
‫ـئت قلــت‬ ‫الحيويــة عنــد الســادة الصوفيــة أهــل املعرفــة بمــا هــي الطريــق‪ .‬وإن شـ َ‬
‫باختصــار‪ :‬الطريــق هــي الشــيخ الواصــل املوصــل الحبـ َـل بالســند املتصــل‪.‬‬
‫ُ‬
‫فمــا يبقــى إال شــرط الصــدق عنــد الطالــب‪ ،‬وشــرط الصب ــرمــع املرشــد‪ ،‬وشــرط‬
‫االســتقامة علــى الســنة‪ ،‬وشــرط االجتهــاد حت ــى يــأذن هللا ســبحانه ملــن يشــاء بمــا‬
‫يشــاء‪ ،‬مــع دوام الذكــروالدعــاء‪.‬‬
‫‪« - 1‬إلى يوم القيامة»‪ ،‬هذه‪ ،‬نثبتها هنا في انتظارأن تؤكدها لنا أو تنفيها خالصات هذا البحث‪.‬‬
‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.410 :‬‬
‫‪ - 3‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.410 :‬‬
‫‪39‬‬
‫أمــا املتفــرج مــن خــارج امليــدان‪ ،‬الــذي لــم يشـ َّـم شــمة مــن االضط ـرار إلــى‬
‫ُ‬ ‫هللا‪ ،‬وال له صبـر َّ‬
‫ليتعقب وصايا أهل هللا بالصحبة‪ ،‬فهو يـرفض مبدأ الصحبة‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫قبل كل نقاش ويسخرمن السند الروحي‪ ،‬ويكذب بالوالدة الروحية‪ ،‬ويـرى كل‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫هــذا ُهـر ًاء ُومبالغــة وخ ْبطــا وغلـ ّـوا فــي الدي ــن»‪.1‬‬
‫أمــا وظيفــة هــذا املصحــوب الكامــل الولــي املرشــد فيقــول عنهــا علــى لســان‬
‫الشــيخ عبــد القــادرالكيالنــي‪:‬‬
‫««اصحبوا شيخا عاملا بحكم هللا عزوجل وعلمه يدلكم عليه‪ .‬من ال‬
‫َْ‬ ‫ُ‬
‫ي ــرى املفل ــح ال يفل ــح! من ال يصحب العلماء العمال فهو من نب ِ‬
‫ض الت ـراب ال أب‬
‫لــه وال أم‪ .‬اصحبــوا مــن لــه صحبــة مــع الحــق عــزوجل»»‪.2‬‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.441 :‬‬


‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،201 :‬نقال عن «الفتح الرباني»‪ ،‬ص‪.269 :‬‬
‫‪40‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫بيـن الصحبة األصيلة والصحبة الطارئة‬

‫يتحــدث بعضنــا فــي أمــر «الصحبــة والجماعــة» عــن نقطتي ــن ال نســتطيع‬
‫تجاوز ثانيتها دون محاورته في شأنها‪ .‬فهو يقول في األولى بأن «الصحبة الفردية‬
‫املختصــرة فــي «ثنائيــة شــيخ ومريــد» هــي صحبــة طارئــة ظهــرت نتيجــة انفصــال‬
‫الدعــوة عــن الدولــة‪ .‬ونظ ـرا لطــول مــدة هــذا االنفصــال النكــد‪ ،‬منــذ تحولــت‬
‫الخالفــة إلــى ملــك عــاض إلــى اليــوم‪ ،‬أصبحــت وكأنهــا هــي األصــل»‪.‬‬
‫اللهم نعم‪.1‬‬
‫ويضيــف فــي الثانيــة أن «األصــل هــو «الصحبــة والجماعــة» كمــا كان فــي‬
‫عهــد الحبيــب املصطفــى صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬ثــم «الصحبــة فــي الجماعــة» كمــا‬
‫كان األمــرفــي عهــد الخالفــة الراشــدة إذ لــم يكــن هـ ّـم الخــاص الفــردي منفصــا‬
‫عن هم األمة‪ ،‬ولم يكن الذكرمنفصال عن الجهاد»‪ .‬فنحن هنا‪ ،‬تبعا ملا ورد في‬
‫النقطــة الثانيــة‪ ،‬أمــام أصلي ــن ال أصــل واحــد‪ .‬األصــل األول خــاص بمرحلــة نبــوة‬
‫ســيدنا محمــد صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬واألصــل الثانــي خــاص بمرحلــة الخالفــة‬
‫الراشــدة‪.‬‬
‫‪ - 1‬نعــم؛ الصحبــة الفرديــة املختصــرة فــي ثنائيــة «شــيخ ومريــد» هــي صحبــة طارئــة‪ ،‬وإن كان لهــا بعــض أصــل‬
‫حي ــن مي ــزأســتاذنا بي ــن «وارث النبــوة» وبي ــن «وارث الرســالة والنبــوة معــا»‪ .‬جــاء هــذا فــي «اإلســام غــدا» ص‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ 789-788‬حي ــن قــال رحمــه هللا‪« :‬فــإن كان الداعــي وارث نبــوة َدلـ َـك علــى خالصــك الفــردي وأوصلــك إلــى مقــام‬
‫الرجــال‪ ،‬وإن كان وارث رســالة ونبــوة معــا أهــاب بــك إلــى الربــاط لتجاهــد فــي ســبيل هللا وتمــوت موتــة معنويــة‬
‫تحــررك لتكــون فــي الدنيــا حامــل رســالة رســولك صلــى هللا عليــه وســلم‪ ».‬فوراثــة الرســالة والنبــوة معــا‪ ،‬بنــاء‬
‫علــى مــا ســلف مــن كالم أســتاذنا‪ ،‬هــي الوراثــة الكاملــة‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫َ‬
‫ويقيــس متحدثنــا مرحلــة وجــود اإلمــام بي ــن ظهراني ــنا علــى مرحلــة النبــوة‪،‬‬
‫فيجعلهــا «صحبــة وجماعــة»‪ ،‬ويقيــس مرحلــة غيــاب اإلمــام علــى مرحلــة الخالفــة‬
‫«سـ ّـر النبــوة»‬
‫الراشــدة‪ ،‬فيجعلهــا «صحبــة فــي جماعــة»‪ ،‬لنفهــم مــن الــكالم أن ِ‬
‫ْ َّ‬
‫ان َبــث مــن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم بعــد وفاتــه فــي عمــوم الصحابــة‪ ،‬وأن‬
‫ْ َّ‬
‫«سـ ّـر الصحبــة» ان َبــث مــن اإلمــام املرشــد‪ ،‬بوفاتــه‪ ،‬فــي عمــوم تالمذتــه مــن أبنــاء‬
‫ِ‬
‫َ ْ َ َّ‬
‫الجماعة ولم ينبث في جوف أحدهم حصرا‪ ،‬فيما يعتبـره محدثنا أحد مظاهر‬
‫«التجديــد» الــذي جــاء بــه رحمــه هللا‪.‬‬
‫فهــل األمــر علــى مــا اعتب ــره محدثنــا؟ وهــل مــن دليــل أو حجــة أو ب ــرهان‬
‫َ‬
‫عليــه؟ أم هــو ف ْهـ ٌـم ط ـرأ فيمــا يط ـرأ هكــذا دون أن يكــون لــه أصــل يقــوم عليــه؟‬
‫يســتأنف محدثنــا حديثــه فيقــول إن «العــدل واإلحســان أمـران أوجبهمــا‬
‫ـان﴾‪.1‬‬ ‫اللـ َـه َي ْأ ُمـ ُـر ب ْال َعـ ْـدل َو ْ ْ َ‬
‫َّ َّ‬
‫الحسـ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿إن‬
‫هللا علــى املسلمي ــن فــي الذكــر الحكيــم‪ِ :‬‬
‫ولــن يتحققــا إال ب ـ ــ«صحبــة جماعيــة» جهاديــة‪ .‬فالســعي إلقامــة العــدل فــي غيــاب‬
‫الصحبــة (…) لــن يفض ــي إلــى تحقيــق الغايــة اإلحســانية‪ .‬والصحبــة الفرديــة فــي‬
‫غيــاب مشــروع جهــادي لــن يت ــرتب عليهــا إقامــة العــدل»‪.‬‬
‫ولكن ما املقصود ب ـ ــ«الصحبة الجماعية»؟‬
‫ـال عنــد الصحابــة بعــد‬ ‫املقصــود عنــد املتحــدث هــو مــا يعتب ــرأنــه كان الحـ َ‬
‫أن التحــق املصحــوب األعظــم صلــى هللا عليــه وســلم بالرفيــق األعلــى‪ ،‬أي أن‬
‫ـص بــه منهــم رجــل‪.‬‬‫منبثــا فيهــم جماعـ ًـة مــن غي ــرأن ُي َخـ َّ‬
‫ّ‬
‫مي ـراث النبــوة كان‬
‫ُ‬
‫لــو اتفقنــا‪ ،‬مــن بدايــة هــذا البحــث‪ ،‬أن يدلــي ك ٌّل ب ـرأيه الخــاص فــي هــذه‬
‫ّ‬
‫ملقلــد إمامــه مثلــي‪،‬‬
‫ـكل‪ ،‬وليــس ِ‬ ‫القضيــة الت ــربوية الســلوكية التاريخيــة َل َحـ َّـل لـ ّ‬
‫ٍ‬
‫‪ -1‬النحل‪.90 :‬‬
‫‪42‬‬
‫ً‬
‫أن يقــول مــا َعـ َّـن لــه قـراءة وتحليــا للنصــوص القرآنيــة والحديثيــة والتاريخيــة‪،‬‬
‫مرجعنــا فــي ق ـراءة النصــوص‬‫َ‬ ‫ولكننــا نلتمــس هنــا موقــف مرشــدنا باعتبــاره‬
‫وفهمهــا‪ ،‬ونطلــب مرمــى نظــره هــو فــي هــذه القضيــة‪ ،‬ال موقـ َـع نظــري أو نظــر مــن‬
‫يدلــون بآرائهــم فــي القضيــة علــى مــا لهــم فــي القلــب مــن محبــة وتقديــر وتعظيــم‪.‬‬
‫فهل انتهى عهد «املصحوب الرجل» بعد الحبيب صلى هللا عليه وسلم؟‬
‫ص َل من صدور الصحابة جميعا‬ ‫ُ‬
‫وح ّ‬
‫وكيف انتقل ذلك امليـراث النبوي العظيم ِ‬
‫ليصبح بي ــن عشية وضحاها في صدررجل واحد ورثه منه رجل بعد رجل حت ــى‬
‫وصلنا عبـرسلسلة نورانية مباركة؟‬
‫الصديقية وارثة النبوة‪..‬‬
‫نســتمع بتمعــن إلــى جــواب نفيــس واضــح َي ُحـ ُّـل بــه أســتاذنا رض ــي هللا عنــه‬
‫َ َ‬
‫فهمنــا الت ــي أ ْملـ ْـت علــى بعضنــا فكــرة «الصحبــة الجماعيــة» و«الســلوك‬ ‫عقــدة ْ‬
‫الجماعــي» حيــث ال «صحبــة رجــل» هنالــك‪ .‬يقــول أســتاذنا ومرشــدنا وإمامنــا‬
‫رض ــي هللا عنــه فــي كتابــه النفيــس «اإلحســان»‪:‬‬
‫«إث ــر وفــاة رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم وقعــت للصحابــة رض ــي هللا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫عنهــم دهشــة لخب ــرعظــم عليهــم‪ ،‬حت ــى شـ َـه َر عمــربــن الخطــاب ســيفه ُيهـ ِّـد ُد مــن‬
‫ً‬
‫وبقيـ ْـت دهشــة غيــاب الش ــخص الكريــم‪.‬‬ ‫ـدا قــد مــات‪ .‬ثــم رجــع عمــر َ‬ ‫زعــم أن محمـ‬
‫روى الت ــرمذي عــن أنــس بإســناد حســن قــال‪« :‬ملــا كان اليــوم الــذي دخــل فيــه‬
‫ضنــا‬ ‫ســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم املدي ــنة أضــاء منهــا كل ش ــيء‪ .‬ومــا َنف ْ‬
‫ر‬
‫ْ َ َْ‬ ‫َ‬
‫األيدي من دفن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وإنا لفي دفنه‪ ،‬حتـى أنكرنا‬
‫قلوبنــا«‪.1‬‬

‫‪ -1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ .196 :‬‬


‫‪43‬‬
‫ويعلق رحمه هللا‪:‬‬
‫ٌ َ َ‬
‫ـاب ذ ِهلـ ْـت لــه القلــوب‪ .‬مــا قبــل التبليــغ‬ ‫«حضـ ٌ‬
‫ـور أضــاء لــه ُّ‬
‫كل ش ــيء‪ ،‬وغيـ‬
‫الق ُ‬ ‫تتعرف عليها القلوب وتحبها‪ُ ،‬وتنكر ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫لوب‬ ‫نورانية‬ ‫اللساني وما بعده وما وراءه‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫قلوبها لغياب شخص وضع هللا له غاية القبول في األرض»‪.1‬‬
‫ثم يفصل اإلمام املجدد بيـن املختصميـن في قضية الصحبة بعد غياب‬
‫املصحوب األعظم فيقول بمنتهى الوضوح وغايته ومداه‪:‬‬
‫«بعــد ذلــك أفــاق الصحابــة مــن الذهــول‪ ،‬وانتخبــوا خليفــة رســول هللا‬
‫َّ‬
‫الصديقيــة منذئــذ مــا كانــت‬ ‫ـأدت‬‫صلــى هللا عليــه وســلم أبــا بكــر الصديــق‪ ،‬فـ َّ‬
‫تؤديه النبوة من وظيفة الحضور والشــهادة بي ــن الناس والهداية والداللة‪،‬‬
‫ُ‬
‫وكان التبليــغ العلم ــي اللســاني العقلــي جــزءا مــن املســألة ال ك َّل املســألة‪ .‬بقيــت‬
‫جوهر الديـن‪ .‬بقيت سنة هللا‬ ‫َ‬ ‫الوراثة القلبية والتحاب في هللا بيـن املؤمنيـن‬
‫فــي التابــع واملتبــوع قائمــة وســتظل إلــى يــوم القيامــة»‪.2‬‬
‫َ‬
‫كالم واض ــح ال يحتمــل تأويــا يلــوي ُع ُنقــه‪ :‬الصديقيــة وارثــة النبــوة فــي‬
‫وظيفة الحضور والشهادة بي ــن الناس والهداية والداللة‪ .‬وما الهداية والداللة‬
‫إال إحــدى وظائــف ورثــة النبــوة الت ــي تحدثنــا عنهــا آنفــا‪ :‬الداللــة علــى هللا‪.‬‬
‫الفاروق من حديث الفاروق‪..‬‬
‫ويحدثنــا محــدث ثـ ٍـان بــأن «ســر الصحبــة ســيظل فــي الجماعــة وداخلهــا‬
‫إن شــاء هللا تعالــى كمــا كان علــى عهــد جماعــة املسلمي ــن فــي عهــد التن ــزيل»‪ .3‬ثــم‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.196 :‬‬
‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.196 :‬‬
‫‪ - 3‬لعــل املتحــدث أخطــأ‪ ،‬وهــو يقصــد «فــي عهــد الخالفــة الراشــدة» ال «فــي عهــد التن ــزيل»‪ .‬فعهــد التن ــزيل هــو‬
‫َ‬
‫عهــد الوحــي الــذي كان فيــه صلــى هللا عليــه وســلم بي ــن ظهرانــي صحابتــه يــأكل الطعــام ويمش ــي فــي األســواق‪.‬‬
‫‪44‬‬
‫استشــهد مــن أجــل التدليــل علــى مــا ذهــب إليــه مــن انتقــال وظائــف «الصحبــة»‬
‫مــن اإلمــام‪ ،‬بعــد رحيلــه‪ ،‬إلــى «الجماعــة»‪ ،‬فلــم يعــد هنالــك‪ ،‬فــي نظــرمحدثنــا‪ِ ،‬مــن‬
‫«صحبــة رجــل»‪ ،‬فيمــا أصبــح التفسي ـ َـر الوحيـ َـد لعبــارة «الصحبــة فــي الجماعــة»‪،‬‬
‫استشهد بحديث رواه اإلمام البخاري عن املسور بن مخرمة قال‪ :‬ملا طعن عمر‬
‫جعــل يألــم‪ ،‬فقــال لــه ابــن عبــاس‪ ،‬وكأنــه يجزعــه‪« :‬يــا أمي ــراملؤمني ــن‪ ،‬ولئ ــن كان‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ـحبت رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم فأحســنت ص ــحبته‪ ،‬ثــم‬ ‫ذاك‪ ،‬لقــد ص ـ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فارقتــه وهــو عنــك راض‪ ،‬ثــم ص ــحبت أبــا بكــرفأحســنت صحبتــه‪ ،‬ثــم فارقتــه‬
‫ص ـ َـح َب َت ُه ْم فأحســنت ُ‬ ‫َ‬
‫ـحبت َ‬
‫ص ــحبتهم‪ ،‬ولئ ــن فارقتهــم‬ ‫وهــو عنــك راض‪ ،‬ثــم ص ـ‬
‫لتفارقنهــم وهــم عنــك راضــون»‪ .‬قــال‪« :‬أمــا مــا ذكــرت مــن ص ــحبة رســول هللا‬
‫صلــى هللا عليــه وســلم ورضــاه فإنمــا ذاك ِمـ ْـن َمـ ِ ّـن هللا تعالــى َمـ َّـن بــه علــي‪ .‬وأمــا‬
‫ما ذكرت من صـحبة أبي بكرورضاه فإنما ذاك ِم ْن َم ِ ّن هللا جل ذكره َم َّن به‬
‫علــي‪ .‬وأمــا مــا تــرى مــن جزع ــي فهــو مــن أجلــك وأجــل أص ــحابك‪ .‬وهللا لــو أن لــي‬
‫طــاع األرض ذهبــا الفتديــت بــه مــن عــذاب هللا عــزوجــل قبــل أن أراه»‪.‬‬
‫ومــن َع َجـ ٍـب أن يســوق املتحــدث هــذا الحديــث للداللــة علــى «الصحبــة‬
‫ص َح َب َت ُهـ ْـم‬ ‫ص ــح ْب َت َ‬ ‫َ‬
‫الجماعيــة» اعتمــادا علــى العبــارة الــواردة فــي الحديــث‪« :‬ثــم ِ‬
‫َ‬ ‫فأحســنت ُ‬
‫ص ــحبتهم»‪ ،‬ثــم يغفــل الجملــة الت ــي ســبقتها‪« :‬ثــم ص ــحبت أبــا بكــر‬
‫َ ُ َ‬
‫ص ـ ْـح َبته»‪ .‬مــع أن تسلســل الســياق يشي ــر إلــى عكــس مــا ذهــب إليــه‬ ‫فأحســنت‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫املتحدث‪« :‬لقد َ‬
‫ص ِـح ْبت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فأحسنت صـحبته‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ثم فارقته وهو عنك راض‪ ،‬ثم صـحبت أبا بكرفأحسنت صحبته‪ ،‬ثم فارقته‬
‫وهــو عنــك راض»‪ .‬فيمــا يمكــن فهــم املقصــود بحســن الصحبــة فــي جملــة‪« :‬ثــم‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ص ــحبتهم» علــى أنــه رض ــي هللا عنــه أحســن أداء‬ ‫ـنت ُ‬ ‫ص ـ َـح َب َت ُه ْم فأحسـ‬
‫ـحبت َ‬ ‫صـ‬
‫وظيفــة وأمانــة هــذه «الصحبــة» الت ــي تحملهــا فــي الصحابــة رضــوان هللا عليهــم‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫ونتجاوز هذا إلى فصل الخطاب الواضح الحاسم في فهم حديث سيدنا‬
‫عمــرالفــاروق رض ــي هللا عنــه‪ .‬فقــد أورد اإلمــام املرشــد هــذا الحديــث فــي فقــرة‪:‬‬
‫ثان للبخاري جاء‬ ‫«اإلمام املصحوب» من كتاب املنهاج النبوي‪ ،‬وأتبعه بحديث ٍ‬
‫فيــه أن عثمــان رض ــي هللا عنــه قــال‪« :‬أمــا بعــد فــإن هللا بعــث محمــدا صلــى هللا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫عليــه وســلم بالحــق‪ ،‬فكنــت ممــن اســتجاب هلل ولرســوله‪ ،‬وآمنــت بمــا بعــث‬
‫وصحبت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫به‪ ،‬وهاجرت الهجرتيـن كما قلت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وبايعته‪ .‬فوهللا ما عصيته وال غششته حت ــى توفاه هللا‪ ،‬ثم أبو بكرمثله‪ ،‬ثم‬
‫عمــرمثله»‪.‬‬
‫ثــم علــق اإلمــام علــى الحديثي ــن مســتخلصا شــيئا آخــرغي ــرمــا اســتخلصه‬
‫محدثنــا آنفــا‪ .‬قــال رض ــي هللا عنــه وأرضــاه‪:‬‬
‫«نــرى أن الصحابــة رض ــي هللا عنهــم كانــوا ُين ـزلون خليفــة رســول هللا صلــى‬
‫هللا عليه وسلم منـزلته في حسن الصحبة والطاعة‪ ،‬ويـرون رضا األميـرمن رضا‬
‫هللا‪ ،‬لم تكن العالقة بيـن أميـراملؤمنيـن ورعيته عالقة سلطة فقط‪ ،‬بل كانت‬
‫عالقة كلية ال يـنفصل فيها الحب واإلخالص عن الطاعة واالمتثال‪.‬‬
‫ُ‬
‫فــكان األمي ــر مصحوبــا ترجــى ب ــركته‪ ،‬ورئيســا يطــاع أمــره‪ .‬كانــت طاعــة‬
‫أولي األمرالحقة بطاعة هللا ورسوله منشقة منها‪ ،‬وكانت محبة األميـرمن محبة‬
‫هللا ورســوله»‪.1‬‬
‫ِول ـ َـم ْن لــم يقنعــه ولــم ُيطمئنــه كالم إمامنــا املرشــد‪ ،‬نضــع بي ــن يديــه كالم‬
‫حجــة اإلســام الغزالــي‪ ،‬رحمهمــا هللا‪:‬‬
‫َ‬ ‫ـيخ مرشــد مــرب ُلي ْخــرج األخـ َ‬‫«فاعلــم أنــه ي ــنبغي للســالك َشـ ٌ‬
‫ـاق الســيئة‬ ‫ِ‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬املنهاج النبوي»‪ ،‬ص‪.132-131 :‬‬
‫‪46‬‬
‫َ َّ‬ ‫َ‬
‫منــه بت ــربيته‪ ،‬ويجعــل مكانهــا خلقــا حســنا‪ .‬ومعن ــى الت ــربية ُيشــبه فعــل الفــاح‬
‫الــذي َي ْق َلـ ُـع الشــوك‪ )...( .‬وال بــد للســالك مــن َشـ ْـيخ ّ‬
‫يؤدبــه وي ــرشده إلــى ســبيل هللا‬
‫ِ‬
‫تعالــى‪ ،‬ألن هللا أرســل للعبــاد رســوال لإلرشــاد إلــى ســبيله‪ ،‬فــإذا ارتحــل صلــى هللا‬
‫َّ‬
‫عليــه وســلم فقــد خلــف الخلفـ َـاء فــي مكانــه حت ــى ُيرشــدوا إلــى هللا تعالــى»‪.1‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قال‪« :‬خلف الخلفاء» ولم يقل «خلف الصحابة»!‬
‫اإلمــام املجــدد واإلمــام الغزالــي ي ــنفيان‪ ،‬إذن‪ ،‬مــا يقــول بــه البعــض مــن‬
‫أن األمــركان بعــد التحــاق نبي ــنا صلــى هللا عليــه وســلم بالرفيــق األعلــى «صحبــة‬
‫جماعيــة» أو «صحبــة فــي جماعــة» أو «ســلوكا جماعيــا»‪ .‬وكال اإلمامي ــن‪ ،‬رض ــي‬
‫هللا عنهمــا‪ ،‬يثبــت أن األمــر كان فــي عهــد الصحابــة «صحبــة وجماعــة»‪ ،‬بوجــود‬
‫مصحــوب رجــل حـ ّ ٍـي يــأكل الطعــام ويمش ــي فــي األســواق وجماعــة صاحبــة‪.‬‬
‫ولعل قائال يقول‪:‬‬
‫كيف يقوم أحد الصحابة مقام املصحوب فيهم وهم قرناء على صعيد‬
‫صحبتهــم لرســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬بــل وفيهــم «مدي ــنة العلــم» ســيدنا‬
‫علــي بــن أبــي طالــب ومــا وصلنــا نــور الصحبــة بالســند املتصــل عب ــر السلســلة‬
‫َّ‬
‫النورانيــة إال منــه كــرم هللا وجهــه عــن الوالــد األرحــم واملصحــوب األعظــم والنب ــي‬
‫األكــرم ســيدنا محمــد صلــى هللا عليــه وســلم؟‬
‫ََ َ َْ‬
‫ودأ َب الصحابــة رض ــي هللا عنهــم‪ ،‬ليتعلــم‬ ‫والجــواب أن هــذا كان أدب‬
‫التابــع لهــم بإحســان كيــف يكــون مــع مصحوبــه‪ .‬وهــذا كان َ‬
‫أدب اإلمــام املجــدد‬
‫حي ــن التحــق الحــاج العبــاس رض ــي هللا عنــه بالرفيــق األعلــى‪ ،‬فقــد َ‬
‫عامــل ُ‬
‫إمامنــا‬
‫َ‬
‫الشــيخ حمــزة البوتشيش ــي رحمــه هللا معاملــة الصاحــب ملصحوبــه والتابــع‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬إمامة األمة»‪ ،‬ص‪ ،147-146 :‬نقال عن‪« :‬أيها الولد املحب»‪ ،‬ص‪.63 :‬‬
‫‪47‬‬
‫َ‬
‫ِل ـ ُـمق َّد ِمه‪ ،‬ليعلمنــا نحــن كذلــك كيــف نكــون مــع املصحــوب في ــنا بعـ َـده‪ ،‬أدبــا‬
‫َ‬
‫واتباعــا ونصيحــة‪ ،‬حت ــى ِوإ ْن بــدا لبعضنــا أنهــم وإيــاه قرنــاء علــى صعيــد الغنــاء‬
‫والســابقة والحــظ مــن هللا وأهليـ ِـة الداللــة علــى هللا‪.‬‬
‫يحكــي إمامنــا قــدس هللا ســره مــا ي ــنم عــن الت ـزامه الكامــل وتصديقــه‬
‫وتســليمه بمــا تقتضيــه الصحبــة ويقتضيــه الوفــاء للصحبــة‪:‬‬
‫«قبل وفاة سيدي العباس رحمه هللا‪ ،‬كتب وصية جاء فيها أنه إذا مات‬
‫هو أن يخلفه ابنه حمزة‪ ،‬وكنت أنا وسيد آخر (الحاج محمد اشماعو) كبي َـر ْي‬
‫جماعــة الفقـراء‪ .‬أتــوا هــذا الســيد بالوصيــة لإلمضــاء عليهــا فرفــض‪ ،‬وأتونــي أنــا‬
‫بالوصيــة فأمضيتهــا‪ ،‬ألنــه ليــس عنــدي شــك فــي ســيدي العبــاس رحمــه هللا ألن‬
‫«كالمــه غــادي»‪ ،1‬ثــم عــاد الســيد اآلخــرفأمض ــى علــى الوصيــة»‪.2‬‬

‫ـاج العبــاس فــي «اإلســام بي ــن الدعــوة‬ ‫وذاك‪ ،‬كذلــك‪ ،‬حي ــن َنعَــى الحـ َ‬
‫ََ‬
‫والدولــة» (‪1972‬م) معزيــا نفســه بخلفــه فــي مقــام الصحبــة‪:‬‬
‫«وقــد انتقــل (الحــاج العبــاس) إلــى ربــه عــن هــذه الدنيــا‪ ،‬وذهبــت تلــك‬
‫اليــد الكريمــة الت ــي أحيتن ــي مــن مــوات تغمــده هللا ب ــرحمته‪ ،‬وجــازاه عــن أبنائــه‬
‫الروحيي ــن خي ــرالجـزاء‪ ،‬وإنمــا ســاني وســا إخوانــي عــن فقــدان الشــبح الت ـرابي‬
‫بي ــننا أنــه رحمــه هللا مــا ذهــب حت ــى تــرك لنــا رجــا رجــا (الشــيخ حمــزة)‪ ،‬أجلســه‬
‫بــاإلذن فــي الت ــربية‪ ،‬وأخب ــرنا أن خلفــه رض ــي هللا عنــه أوســع منــه باعــا فــي هدايــة‬
‫الخلق وتربية املريديـن‪ ،‬فنحن اليوم بيـن يدي درة يتيمة عارف باهلل كامل‪ ،‬هو‬
‫الســميذع األديــب وهــو الطبيــب األريــب الحبيــب‪ ،‬متعنــا هللا بصحبتــه ومحبتــه‪،‬‬
‫‪ -1‬يفهــم مــن صيغــة عبــارة «كالمــه غــادي» الدارجــة‪ ،‬ومــن إشــارة يــده فــي الوثيقــة املصــورة تصديقــه الكامــل‬
‫للحــاج العبــاس‪.‬‬
‫‪ -2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪ .‬انظر‪ :‬أبو حزم‪ ،‬محمد العربي‪« ،‬عبد السالم ياسيـن ‪ -‬اإلمام املجدد»‪ ،‬ص‪.307 :‬‬
‫‪48‬‬
‫فــا نـزال عليــه عاكفي ــن وببابــه واقفي ــن‪ ،‬وأتــم هللا لنــا نورنــا بب ــركته وجعلنــا مــن‬
‫الواصلي ــن إلــى حضرتــه»‪.1‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ومنــه ت َجـ ُّـر ُده فــي رســالة «جماعــة اإلرشــاد» (‪1973‬م) مــن غنائــه وأهليتــه‪،‬‬
‫متأدبــا بــأدب الصحبــة مــع قري ــنه باألمــس‪ ،‬علــى مــا بلغــه هــو تحــت ظــل شــيخه‬
‫العبــاس‪:‬‬
‫«أفرأيــت املنهــاج مــن عنوانــه‪ ،‬مســتمدا مــن كتــاب هللا وســنة رســول هللا؟‬
‫ومن مشــكاة الوالية اقتبســت وتقتبس «جماعة اإلرشــاد» ملا س ــخرهللا لها عبدا‬
‫مــن عبــاده‪ ،‬وليــا مرشــدا‪ ،‬شــيخا صوفيــا مــن أهــل هللا رجــال الطريــق‪ ،‬رجــال‬
‫املحجــة البيضــاء‪ .‬فمنــه نبــع الخي ــروإليــه ي ــرجع الفضــل‪ ،‬إذ هــو جامــع الجماعــة‬
‫ومربيهــا‪ ،‬وعلــى يــده الكريمــة أفــاض هللا علــى هــذه القلــوب املومنــة نــور الهدايــة‬
‫و َر ْو َح املحبــة‪ ،‬حت ــى أصبحــوا بنعمــة هللا إخوانــا‪ .‬وال ي ـزال شــيخنا الســند الــذي‬
‫إليــه نرجــع‪ ،‬ومــن قلبــه الطاهــر نســتلهم معانــي الخي ــر ومعانــي الرفــق ومعانــي‬
‫املحبــة الشــاملة لخلــق هللا‪ ،‬فهــو صاحــب اإلذن‪ ،‬وال تكــون الدعــوة إلــى هللا كاملــة‬
‫إال مــن ذي روحانيــة كاملــة‪ ،‬فــإن نطــق التلميــذ املريــد ودعــا إلــى هللا فإنمــا يتكلــم‬
‫بلســان إمامــه‪.2»...‬‬
‫فما أحوجنا إلى استيعاب هذا الدرس العملي الجليل في الوفاء للصحبة‪.‬‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم بيـن الدعوة والدولة»‪ ،‬ص‪.395 :‬‬


‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪ ،‬رسالة «جماعة اإلرشاد»‪ ،‬ص‪.2-1 :‬‬
‫‪49‬‬
50
‫الفصل الرابع‬
‫الوصية ‪2002 -‬م‬

‫كان آخـ َـر مــا كتــب اإلمــام املرشــد‪ ،‬بعــد كتــاب «اإلســام والحداثــة»‬
‫وصي ُته التـي ّدبجها ُبيمناه ليلة األحد ‪ 25‬ذي الحجة ‪1422‬ه توافقها‬ ‫(‪1997‬م)‪ّ ،‬‬
‫ليلــة ‪ 10‬مــارس ‪2002‬م‪ ،‬ووثقهــا بصوتــه فــي آخــرليلــة مــن ذي الحجــة ‪1422‬ه‪،‬‬
‫توافقهــا ليلــة ‪ 15‬مــارس ‪2002‬م‪ .‬ومــا يهمنــا منهــا‪ ،‬فــي ســياقنا هــذا‪ ،‬هــو مــا ورد فيهــا‬
‫َ‬
‫مــن ذكــرلعبارتــي «الصحبــة والجماعــة» و«الصحبــة فــي الجماعــة»‪ .‬ولهــذا نحاول‬
‫فــي الســطور التاليــة فهـ َـم مقصــوده بهمــا فــي هــذه الوصيــة الشــريفة‪ ،‬والنظـ َـر إن‬
‫«سـ ُّـر الصحبــة»‪ ،‬بحســب مــا يمكــن أن ُي ْف َهـ ُـم ممــا ورد فيهــا‪ ،‬قــد انتقــل منــه‪،‬‬
‫كان ِ‬
‫بعــد التحاقــه بالرفيــق األعلــى‪ ،‬إلــى «الجماعــة»‪ ،‬علــى حــد ظــن البعــض‪.‬‬
‫وصلة املحبة‪..‬‬
‫بيـن ِصلة الداللة ِ‬
‫بعــد أن جعــل اإلمــام أولــى مقاصــد وصيتــه أن يقــف عليهــا مومــن وتقــف‬
‫عليهــا مومنــة يســمعانها بصوتــه مس ــجلة أو يقرآنهــا مســطورة فيت ــرحمان «علــى‬
‫ثاو في قبـره أسيـرلذنبه راج عفو ربه»‪ ،1‬أشارإلى القصد الثاني وهو «أن يتذكر‬ ‫ٍ‬
‫متذكــر خالصــة مــا إليــه دعونــا ملــا كنــا مــن ســكان أرض الدنيــا عابـري ــن إلــى دار‬
‫داع فتلتئم أواصرالصلة ويتحقق التـزاور‬ ‫َ‬
‫البقاء‪ .‬وصية ليتذكرمتذكرويدعو ٍ‬
‫ازخ املــوت»‪.2‬‬ ‫فــي هللا والتحــاب فــي هللا عب ــراأل مــان‪ .‬ال تحبــس الصلـ َـة ب ـر ُ‬
‫ز‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬وصيتي»‪ ،‬ص‪.9 :‬‬


‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.10-9 :‬‬
‫‪51‬‬
‫ماذا يقصد اإلمام بهذه «الصلة» التـي «ال تحبسها بـرازخ املوت»؟‬
‫أهي صلة «داللة على هللا» أم هي مجرد صلة محبة في هللا؟‬
‫الداللة على هللا‪..‬‬
‫وقبــل أن نحــاول ق ـراءة معن ــى «الصحبــة والجماعــة» و«الصحبــة فــي‬
‫الجماعــة» فــي هــذه الوصيــة‪ ،‬نــرى لزامــا علي ــنا االســتهالل بحديــث مقتضــب عــن‬
‫الداللــة علــى هللا وعــن صحبــة الســلوك وصحبــة التب ــرك‪ ،‬لحاجتنــا إليــه فــي هــذه‬
‫الق ـراءة‪.‬‬
‫فقــد حســم أســتاذنا فــي هويــة املصحــوب الـ ّ‬
‫ـدال علــى هللا‪ ،‬شــأنه فــي هــذا‬
‫شــأن أهــل هللا العارفي ــن بــه‪ ،‬فقــال فــي «اإلحســان» بلغــة واضحــة ال تحتمــل إال‬
‫تأويــا واحــدا‪:‬‬
‫«واملصحــوب رجــل حــي ســلك املراحــل إلــى هللا وتقــرب حت ــى أحبــه هللا‬
‫وجعــل قلبــه مشــكاة ونب ـراسا وس ـراجا َو ّهاجــا»‪.1‬‬
‫ّ‬
‫يعرفها اإلمام‪ ،‬في نص من‬ ‫ّ‬
‫أما إن كان املصحوب ميتا فهي صحبة تبـرك ِ‬
‫باكورة كتبه‪ ،‬بإزاء صحبة السلوك فيقول‪:‬‬
‫«ويسـ َّـمى التعلــق بالشــيخ بعــد وفاتــه فــي اصطــاح الصوفيــة تب ــركا فــي‬
‫مواجهــة الســلوك الصوفــي‪ ،‬ســلوك املقامــات والرقــي إلــى الكماليــات‪ ،‬الــذي ال‬
‫يكــون إال علــى يــد شــيخ ُمـ َـر ٍ ّب حــي مــأذون إذن الت ــربية»‪.2‬‬
‫وفــي ســياق حديــث اإلمــام عــن تجرب ِتــه الش ــخصية وبح ِثــه عــن املفتــاح‬
‫الذي يفتح باب املعرفة يؤكد قدس هللا سره أنه وجد أن أهلها «مجمعون على‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.246 :‬‬
‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم بيـن الدعوة والدولة»‪ ،‬ص‪.374 :‬‬
‫‪52‬‬
‫أنه‪« :‬من ال شيخ له فال مدخل له في أمرنا هذا»‪ ،‬ويلحون على أن صحبة امليت‬
‫ال تكفــي‪.1»...‬‬
‫وصحبة الســلوك ال تحصل «بإجازة تب ــركية‪ ،‬وال باالنضواء تحت جناح‬
‫عظيــم مــن عظمــاء األمــة‪ ،‬عــدا املعصــوم صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬قبلـ ِـة القلــوب‪،‬‬
‫ـوب الــرب جــل وعــا»‪.2‬‬
‫رحمـ ِـة العاملي ــن‪ ،‬محبـ ِ‬
‫ما يحصل السلوك إلى هللا بالتبـرك‪ ،‬إذن‪ ،‬حتـى لو كان تحت ظل اإلمام‬
‫املجدد األعظم نفسه‪! 3‬‬
‫ومــا كالم اإلمــام فــي «اإلحســان» إال تأكيــد ملــا ورد فيمــا ســبقه مــن كتــب‬
‫حــول هــذه القضيــة‪:‬‬
‫«ال بــد أن نحــرر نقطــة البدايــة لــذا نكــرر مــا عرضنــاه تكـرارا‪ ،‬هــذا الربانــي‬
‫رجــل صحــب املحسني ــن وأحبهــم وذكــر ربــه فشــرح هللا صــدره وفتــح لــه مغالــق‬
‫قلبــه وآتــاه فقهــا فــي قرآنــه فلــه أســوة فــي رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‪ ...‬فهــو‬
‫بذلــك مثــال ماثــل شــاهد يمــأ العي ــن ويمــأ مجــال الفكــروالعمــل بتؤدتــه وســمته‬
‫ونورانيته‪ .‬وهذا يعني أنه يـربي بالقدوة أول شـيء كما يـربي األنبياء‪ .‬وإنه ما بعث‬
‫ُ‬
‫هللا األنبياء إال َلي ْمثلوا أمام الناس نماذج شاهدة غيـرغائبة لإليمان والتقوى‪...‬‬
‫فالربانــي نمــوذج ماثــل‪ ،‬وجهــاده تربيــة ثــم تريبــة ثــم تربيــة‪ ،‬ونفهــم الت ــربية باملعن ــى‬
‫الشــامل املتعــدي وظيفــة للربانــي املجاهــد الداعــي إلــى هللا»‪.4‬‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪ ،‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.387 :‬‬
‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.246 :‬‬
‫ص َح َبـ ِـة الســابق وفيمــن جــاء بعدهــم‪،‬‬
‫‪ - 3‬ال نريــد الخــوض فــي النقــاش حــول وظيفــة املصحــوب الالحــق فــي َ‬
‫صحبــة مــن أراده هللا كمــا كان دأب وأدب‬ ‫إن كانــت تذكي ــرية أم تكميليــة أم‪ ...‬ويســع الصاحــب أن يحســن ُ‬
‫الصحابــة رض ــي هللا عنهــم‪ ،‬وكمــا كان دأب وأدب اإلمــام املجــدد رحمــه هللا‪.‬‬
‫‪ - 4‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم غدا»‪ ،‬ص‪.311-310 :‬‬
‫‪53‬‬
‫وبنــاء علــى مــا ســبق مــن كالم اإلمــام نفســه‪ ،‬فإنــه رحمــه هللا التحــق‬
‫بالرفيــق األعلــى و«انقطــع عملــه إال مــن الثــاث املرجــوة»‪ ،1‬فانتفــى شــرط‬
‫«الحياة» املشروط في التسليك والداللة على هللا‪ ،‬وهي الحياة التـي يـراها عامة‬
‫الناس فيمن حولهم بأعي ــن رؤوسهم‪ .‬ولكنها حياة ضرورية ليسلك الناس هذه‬
‫ّ‬
‫الطريــق؛ فـ«الســلوك سي ــرقلب ــي‪ ،‬واملشــايخ املسـ ِـلكون أطبــاء فــي تصفيــة القلــوب‪.‬‬
‫ص ْحبتهــم‬ ‫ليــس ط ُّبهــم مــن قبيــل وصــف الــدواء مــن بعيــد‪ ،‬بــل هــم أنفســهم دواء‪ُ ،‬‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ومجالســتهم ومحبتهــم ومخاللتهــم ت َعـ ُّـر ٌ‬
‫ض مباشــرلإلشــعاع القلب ــي الشــافي بــإذن‬
‫ُ‬
‫هللا الــذي يودعــه هللا عــزوجــل فــي قلــوب أوليائــه» ‪ .‬ولهــذا كان وجــود املصحـ ِ‬
‫‪2‬‬
‫ـوب‬
‫الطبيعـ ُّـي البيولوجـ ُّـي الحـ ُّـي املاثـ ُـل أمــام أعي ــن النــاس ضروريــا ليتعرضــوا ألنــواره‪،‬‬
‫ويتداووا بإذن ربهم بفيض أسـراره‪ .‬وجود لم يستســغه املشــركون في رســول هللا‬
‫َ َ ُ ْ َ َٰ َ َّ ُ َ ۡ ُ ُ َّ‬
‫ٱلط َعـ َ‬
‫ـام َو َي ۡم ِش ــي ِفــي‬ ‫صلــى هللا عليــه وســلم‪﴿ :‬وقالــوا مـ ِـال هــذا ٱلرســو ِل يــأكل‬
‫ٱلســواق﴾‪.3‬‬
‫َۡۡ َ‬

‫ـور هللا بشـ ٌـر مثلهــم يشت ــرك معهــم فــي طبيعتهــم‬ ‫لــم يستســيغوا أن يحمــل نـ َ‬
‫ّ‬
‫املبلــغ عــن ربــه‪ ،‬أو ممــا يتخذونــه‬ ‫البشــرية مــع مــا يســتتبعها ممــا ي ــرونه نقائــص فــي ِ‬
‫َ ٓ‬ ‫ۡ‬ ‫ٓ‬ ‫َ َ َ َ َ َّ َ َ ۡ ُ ۡ‬
‫ْ‬
‫ـاس أن ُيؤ ِمنـ ٓـوا ِإذ َجا َء ُهـ ُـم ٱل ُهــد ٰى‬ ‫ذريعــة لصــده ورد مــا جــاء بــه‪﴿ :‬ومــا منــع ٱلنـ‬
‫ۡ َ ۡ َ َٰٓ َ ٌ َ ۡ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ ٓ َ َ ُ ٓ ْ َ َ َ َ َّ ُ َ َ ً َّ ُ ً ُ َّ ۡ َ‬
‫ض مل ِئكــة يمشــون‬ ‫ِإل أن قالــوا أبعــث ٱللــه بشــرا رســول قــل لــو كان ِفــي ٱلر ِ‬
‫ُ ۡ َ ّ َ َ َ َّ ۡ َ َ َ ۡ ّ َ َّ َ ٓ َ َ ً ُ ً‬
‫مطم ِئ ِني ــن لنزلنــا علي ِهــم ِمــن ٱلســما ِء ملــكا َّرســول﴾‪.4‬‬
‫ً‬
‫مــا فهمــوا أن حكمــة هللا اقتضــت أن يكــون الرســو ُل «تعبي ـرا» عــن‬
‫املرسـ ِـل إليهــم‪ .‬ف ــ«ال بــد للمصحــوب الداعــي إلــى هللا‬ ‫الرســالة مــن جنــس وطبيعــة َ‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬وصيتي»‪ ،‬ص‪.9 :‬‬
‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.382-381 :‬‬
‫‪ - 3‬الفرقان‪ .7 :‬‬
‫‪ - 4‬اإلسراء‪ .95-94 :‬‬
‫‪54‬‬
‫على بصيـرة أن يكون له من رسوله ميـراث يؤهله ليكون تعبيـرا بشريا للثقليـن‬
‫كتــاب هللا وســنة نبيــه»‪.1‬‬
‫َ‬
‫وقــد جحــد أولئــك بآيــات رســولهم بتلــك الذريعــة الت ــي ف َّن َد َهــا الوحـ ُـي فكانــوا كمــا‬
‫ً َ ُ ْ ٰ َ‬ ‫َُٰ‬ ‫ٓ‬ ‫ََ‬
‫قال هللا تعالى عن قوم موس ــى‪﴿ :‬فل َّما َجا َء ۡت ُه ۡم َء َايتنا ُم ۡب ِص َرة قالوا َهذا ِس ـ ۡـح ٌر‬
‫ُ ۚ‬ ‫ُۡ‬ ‫ُّ ٌ َ َ َ ُ ْ َ َ ۡ َ َ َ ٓ َ ُ‬
‫ٱســت ۡيقن ۡت َها أنف ُسـ ُـه ۡم ظل ًمــا َو ُعلـ ًّـوا﴾‪ .2‬وهــذا مــا يفعلــه إنــكار‬ ‫م ِبي ــن وجحــدوا ِبهــا و‬
‫َّ‬
‫األعــاء‪.‬‬ ‫الحــق مــع العلــم بــه فــي قلــوب ِ‬
‫«ثم إن من طبع البشراالعتـراف باملوتى‪ ،‬واالعتـراف بالوالية واختصاص‬
‫أشرت إلى شخص بعي ــنه َح ّ ٍي يسعى‪ ،‬وقفت النفس‬ ‫َ‬ ‫هللا بفضله من يشاء‪ ،‬فإذا‬
‫واستعلت»‪.3‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫وأنكرت‬ ‫األمارة بالسوء‬
‫مستور عن األبصار‪ ،‬أنه مريض؟!‬ ‫ٌ‬ ‫عليل القلب‪ ،‬وداؤه‬ ‫يعتـرف ُ‬ ‫َ‬
‫و«كيف ِ‬
‫َ‬
‫الع ْجــب يمنعــه عــن االعت ـراف‪ .‬أم كيــف يقصــد رجــا مثلــه يــأكل الطعــام‬ ‫داء ُ‬
‫وسوء الظن يمنعان من ذلك»‪.4‬‬ ‫ُ‬ ‫ويم�شي في األسواق يقول له‪ :‬داوني؟! الكب ُ‬
‫ـرياء‬
‫قد كان اإلمام املجدد مثاال عظيما في طلب الصحبة الدالة على هللا‪ ،‬إذ‬
‫لــم يبــال بمــا كان ي ــرتع فيــه مــن الصــدارة العلميــة واالمتيــازات املهنيــة والوجاهــة‬
‫االجتماعيــة‪ ،‬بعــد أزمتــه الروحيــة‪ ،‬وجلــس بي ــن يــدي شــيخ «مــا كان معــه مــن‬
‫القـ ّـراء املهــرة الحاذقي ــن إال زاد متواضــع مــن حفــظ الق ـرآن والتفقــه‬‫مؤهــات ُ‬
‫فــي الدي ــن»‪ .5‬ولهــذا فهــو أدرى النــاس باملعيــار الــذي تقــاس بــه فائــدة الصحبــة‪،‬‬
‫وهــو «أن تســتحيل األنانيــة الفرديــة غي ــرية وعطــاء ومحبــة‪ ،‬أن تنكســر شــوكة‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم غدا»‪ ،‬ص‪.785-784 :‬‬
‫‪ - 2‬النمل‪.13-14 :‬‬
‫‪ - 3‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم بيـن الدعوة والدولة»‪ ،‬ص‪.355-354 :‬‬
‫‪ - 4‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.382 :‬‬
‫‪ - 5‬املصدرالسابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.8 :‬‬
‫‪55‬‬
‫العقالنيــة الثائــرة بنــور اإليمــان فيتلقــى املؤمــن غيــب ربــه ويهتــدي تبعــا لذلــك‬
‫بقرآنــه‪ ،‬وتنكســر شــوكة الغرائــز العاديــة فتصفــو الفطــرة ويتحــرر اإلنســان‬
‫فيصبــح محســنا ي ـراقب هللا ويعمــل عمــا إســاميا بهــدى هللا»‪ .1‬ولهــذا فــإن مــن‬
‫أشــد مــا يمنــع العبــد مــن أن يقصــد مصحوبــا رجــا حيــا يدلــه علــى هللا الكب ــر‬
‫واألنانيــة والعقالنيــة‪ ،‬وهــي مــن جنــس املوانــع الت ــي حالــت بي ــن املشركي ــن وبي ــن‬
‫َ ۡ َ ُ ّ َ َٰ َ ۡ ُ ۡ َ ُ َ‬
‫ان َعلـ ٰـى َر ُجـ ٍـل‬ ‫اإليمــان بالنبــوة والرســالة وصاحبهــا فقالــوا‪﴿ :‬لــول نـ ِـزل هــذا ٱلقــرء‬
‫ّ َ َۡ ََۡ َ‬
‫منكـرا لضــرورة صحبــة رجــل حــي فــي الســلوك‬ ‫ِمــن ٱلق ۡريتي ـ ِـن ع ِظيـ ٍـم﴾‪ .2‬وال تجــد ِ‬
‫العجــب أو حــب الرئاســة‬ ‫إلــى هللا إال وكان لــه مــن األنانيــة أو العقالنيــة الثائــرة أو ُ‬
‫حــظ فــي نفســه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ال تحبس الصلة بـرازخ املوت‪..‬‬
‫فماذا يقصد اإلمام في وصيته الشــريفة املنيفة بالصلة الت ــي ال تحبســها‬
‫ب ـرازخ املــوت؟ أهــي صلــة داللــة علــى هللا أم صلــة محبــة فــي هللا؟‬
‫نستطيع أن نجزم باطمئنان أن الصلة التـي يقصدها اإلمام هنا ال تعني‬
‫البتــة‪ .‬ودليلنــا األول هــو أنــه رحمــه هللا سـ ّـماها «صلــة»‬ ‫صحبــة الداللــة علــى هللا ّ‬
‫يسمها «صحبة»‪ ،‬ودليلنا اآلخرأنه أشارإلى القصد الثاني من الوصية وهو‪:‬‬ ‫ولم ّ‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫داع»‪ ،3‬وهــو تذكـ ٌـر ودعـ ٌـاء يحصــل مــن ِق َبـ ِـل الصاحــب‬ ‫«ليتذكــر متذكــر ويدعــو ٍ‬
‫ٌ‬ ‫َ ْ‬
‫«ف َتل َت ِئــم أواصـ ُـر الصلــة»‪ ،4‬والفـ ُـاء هنــا َسـ َـب ِب َّية‪ ،‬ويتحقــق املقصــود وهــو «الت ـزاور‬
‫فــي هللا والتحــاب فــي هللا عب ــراأل مــان‪ .‬ال تحبــس الصلـ َـة ب ـر ُ‬
‫ازخ املــوت»‪.5‬‬ ‫ز‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم غدا»‪ ،‬ص‪.54-53 :‬‬


‫‪ -2‬الزخرف‪.31 :‬‬
‫‪ - 3‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬وصيتي»‪ ،‬ص‪.10-9 :‬‬
‫‪ - 4‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.10-9 :‬‬
‫‪ - 5‬نفسه‪ ،‬ص‪.10-9 :‬‬
‫‪56‬‬
‫هــي صلــة ت ـزاور فــي هللا وتحــاب فيــه‪ ،‬إذن‪ ،‬ال صلــة داللــة علــى هللا‪ .‬ونزيــدك‬
‫ً‬
‫مــن ِعقــد كالم اإلمــام ُد َّرة‪ ،‬فنــورد لــك حديثــه فــي كتــاب «املنهــاج النبــوي» عــن‬
‫ُ‬
‫إلحاحه‬ ‫َ‬
‫إلحاحه عليه إال‬ ‫الثمرة املرجوة من دعاء الرابطة‪ ،‬الذي لم يكن يفوق‬
‫علــى حفــظ القـرآن الكريــم وترتيلــه وتدب ــره والعمــل بــه‪ .‬يقــول‪ ،‬ي ــرحمه هللا‪:‬‬
‫«بهــذا (بدعــاء الرابطــة) يستشــعراملؤمــن انتمــاءه إلــى املوكــب النورانــي‬
‫‪ -‬موكــب اإليمــان والجهــاد ‪ -‬مــن لــدن آدم إلــى يــوم القيامــة فيدخــل فــي ب ــركة أمــة‬
‫الخي ــرالت ــي توالهــا هللا‪ .‬ويــزداد صلــة إيمانيــة ومحبــة بمــن يدعــولهــم عــن ظهــر‬
‫غيــب مــن إخوتــه»‪.1‬‬
‫فه ــي إذن «صلــة إيمــان ومحبــة مــن لــدن آدم إلــى يــوم القيامــة»‪ ،‬غايتهــا‬
‫استشــعار املؤمــن «انتمــاءه إلــى املوكــب النورانــي» وتحقيــق «الت ـزاور فــي هللا‬
‫والتحــاب فــي هللا»‪ ،‬ال صلــة «داللــة علــى هللا»‪ .‬وهــي الصلــة الت ــي يحققهــا دعــاء‬
‫الرابطــة‪ ،‬ولهــذا جعلهــا رحمــه هللا آخــر مــا أوص ــى بــه إذ قــال‪:‬‬
‫ّ‬
‫«أو�صــي بدعــاء الرابطــة ال ُي َب ِط ْئنــا عنــه مبطــئ وال يشــغلنا عنــه شــاغل‪ .‬وال‬
‫تنسونا من دعائكم أحسن هللا إليكم وأستودع هللا إيمانكم وخواتم أعمالكم‪.‬‬
‫والسالم عليكم ورحمة هللا وبـركاته»‪.2‬‬
‫ويل ــح إمامنــا علــى أن هــذه الصلــة ليســت أبــدا صلــة داللــة علــى هللا‪ ،‬فــي‬
‫ســياق تبيانــه ملــا يســتفيده الصاحــب مــن «مصحوبــه املقبــور» فــي هــذه الصلــة‬
‫التـي «ال تحبسها بـرازخ املوت»‪ ،‬مؤكدا في اآلن ذاته قاعدة سلوكية فيما سماها‬
‫ســنة هللا فــي الكــون‪:‬‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬املنهاج النبوي»‪ ،‬ص‪.127 :‬‬


‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬وصيتي»‪ ،‬ص‪.23 :‬‬
‫‪57‬‬
‫«ويســرى مــن املصحــوب املقبــور لتابعــه نوارنيــة وال شــك‪ ،‬إال أنهــا ال تبلــغ‬
‫أبــدا أن تعطيــه امليــاد الروحــي الــذي يوجــدك فــي عالــم ال تولــد فيــه إن لــم تكــن‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫لــك أبــوة‪ ،‬وإن لــم تــزرع فــي أرض نفســك فحولــة األب الروحــي بــذرة الحيــاة»‪.1‬‬
‫نورانيــة تســري مــن املصحــوب امللتحــق ب ــربه‪ ،‬وهــو فــي دار الحــق‪ ،‬إلــى‬
‫صاحبــه وهــو بعـ ُـد فــي دنيــاه‪ .‬هــي صلــة محبــة ونــور‪ ،‬ال صحبــة داللــة علــى هللا‪ ،‬إذ‬
‫تقتض ــي هــذه‪ ،‬كمــا رأي ــنا مــن قبــل‪ ،‬أن يكــون املصحــوب حيــا‪.‬‬
‫ازخ املــوت»‪2‬؛ أال تريــان‪،‬‬‫وتأمــا معــي عبــا ة اإلمــام‪« :‬ال تحبــس الصلـ َـة ب ـر ُ‬
‫ّ‬
‫ر‬
‫أخــي وأخت ــي‪ ،‬أن صيغتهــا لطيفــة خفيفــة»؟ فأي ــن هــي مــن صياغا ِتــه رحمــه هللا‬
‫الكثي ــرة الوفي ــرة القويــة املؤكــدة ّ‬
‫امللحــة املشــددة َم ْبن ـ ًـى َوم ْعن ـ ًـى علــى ضــرورة‬ ‫ِ‬
‫الصحبــة واملصحــوب كالت ــي يقــول فيهــا‪« :‬وال بــد لــك فــي الطريــق مــن دليــل يدلــك‬
‫علــى هللا‪ ،‬ورفقــة ي ــربط هللا عــزوجــل بمثالهــم واســتقامتهم فــي السي ــرقلبــك»‪3‬؟‬
‫املدد الدائم‪..‬‬
‫َ‬
‫وظيفتــان‪َ ،‬م َّرتــا بنــا‪ ،‬اجتمعتــا فــي إمامنــا املجــدد‪ .‬أوالهمــا تجديــد أعظــم‬
‫َ‬ ‫ُخـ َّ‬
‫ـص بــه فضــا مــن هللا ونعمــة‪ ،‬فوارثــه فيــه وخليفتــه مــن َي َتك َّتـ ُـب مــن األجيــال‬
‫تحــت لوائــه لتنــال فضــل الكي ــنونة مــع ُب َنـ ِـاة صــرح الخالفــة الثانيــة علــى منهــاج‬
‫النبــوة‪ .‬أمــا ثانيــة الوظيفتي ــن فهــي الداللــة علــى هللا‪ ،‬وهــي وظيفــة األنبيــاء‬
‫واملرسليـن التـي ورثها عنهم العارفون باهلل بالسند املتصل إلى الجناب الشريف‬
‫كاب ـرا عــن كاب ــر‪ .‬وفضــل هللا علــى الرجــل فــي هــذا أعظــم مــن أن َي ْع ُقـ َـم في ــنقطع‬
‫نســله الروحــي بالتحاقــه بالرفيــق األعلــى‪.‬‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم غدا»‪ ،‬ص‪.785 :‬‬


‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬وصيتي»‪ ،‬ص‪.10 :‬‬
‫‪ - 3‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬املنهاج النبوي»‪ ،‬ص‪.138 :‬‬
‫‪58‬‬
‫غي ــر أن ّأمتنــا أصابتهــا آفتــان كادتــا تذهبــان ب ــروحها‪ ،‬أوالهمــا كانــت فــي‬
‫مهــد تاريــخ املسلمي ــن إبــان االنكســارالتاريخــي الــذي فصــل القـر َآن عــن الســلطان‬
‫ـان عــن العــدل‪ .‬وقــد تجنــد‬ ‫والذكـ َـر عــن الجهــاد والصحبـ َـة عــن الجماعــة واإلحسـ َ‬
‫إمامنــا علــى مــدى عش ـرات السني ــن علــى أرض امليــدان وفــي عش ـرات املؤلفــات‬
‫بــل فــي كل حركاتــه وســكناته لجمــع مــا انفصــل مــن الدي ــن‪ ،‬وهــو وجــه مــن أوجــه‬
‫التجديــد األعظــم الــذي جــاء بــه رحمــه هللا‪ .‬وأخراهمــا هــي مــا َع ِلـ َـق بجوهــرالدي ــن‬
‫فح َّيـ َـد رحمــه هللا‬‫مــع الزمــن ممــا ليــس مــن منهــاج نبي ــنا صلــى هللا عليــه وســلم‪َ ،‬‬
‫العلــوق بإرجــاع األمــرإلــى أصلــه مــن منهــاج النبــوة‪ ،‬مســتخلصا هــذا الجوهــر‬ ‫هــذا ُ‬
‫النفيــس‪ ،‬الــذي ســماه الحديــث الشــريف إحســانا‪ ،‬مــن ركام التاريــخ‪ ،‬فدعــا إلــى‬
‫العودة به إلى مقامه كما كان على عهد النبوة والخالفة الراشدة‪ ،‬ووضع قطار‬
‫الســلوك علــى ســكته النبويــة املؤديــة إلــى الخــاص الفــردي علــى درجــات اإلســام‬
‫ً‬
‫فاإليمــان فاإلحســان‪ ،‬وإلــى الخــاص الجماعــي خالفــة ثانيــة علــى منهــاج النبــوة‪.‬‬
‫اج التجديد األعظم املا�ضي أث ـ ُـره إلى أن يتحقق موعود‬ ‫وعلى هذا األســاس َف َخ َر ُ‬
‫َ‬
‫وخـ َـر ُ‬
‫اج الجهــاد املضنــي لوضــع‬ ‫نبــي هللا بقيــام الخالفــة الثانيــة علــى منهــاج النبــوة‪،‬‬
‫قاطــرة وظيفــة الداللــة علــى هللا علــى الســكة النبويــة ليسي ــرعليهــا َمـ ْـن بعــده ِمـ ْـن‬
‫يج َب ــى إليــه ال شــك‪ .‬ولنذكــرمقالتــه رض ــي هللا عنــه‪:‬‬ ‫ورثــة النبــوة‪ ،‬خراجهمــا ْ‬
‫ً‬
‫«أنا أسعد الناس إذا ِإ ْن حصل في ميـزان حسناتي أفواج من املحسنيـن‬
‫كنت لهم صوتا يقول‪ :‬من هنا الطريق‪ ،‬من هنا البداية»‪.1‬‬ ‫ُ‬

‫َومـ ْـن هــؤالء املحســنون إال الســالكون منهــاج النبــوة علــى إث ــره‪ ،‬الوارثــون‬
‫ّ‬
‫املبلغــون منهـ َ‬ ‫ْ‬
‫ـاج النبــوة تحــت ظلــه‪،‬‬ ‫لسـ ّـره ِمــن بعــده‪ ،‬العارفــون بــاهلل بقــوة ِه َّم ِتــه‪ِ ،‬‬
‫الدالــون علــى هللا مــن طريقــه‪ ،‬الداعــون النــاس إلــى مائدتــه ومأدبتــه؟!‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.23 :‬‬
‫‪59‬‬
‫ومائــدة اإلمــام ومأدبتــه همــا خـراج الوظيفتي ــن اللتي ــن ال ي ــنفد بــإذن هللا‬
‫تكســف أنوارهمــا إلــى يــوم‬‫رزقهمــا وال تنقطــع خي ـراتهما وال تنحســر ب ــركاتهما وال ِ‬
‫القيامــة‪.‬‬
‫وقــد تحدثنــا عــن صلــة الداللــة وضرورتهــا لكــي يترق ــى العبــد فــي درجــات‬
‫اإليمــان واإلحســان وتســمى صحبــة ســلوك‪ ،‬وعــن صلــة املحبــة فاقتبســنا مــن‬
‫كالمــه رحمــه هللا مــا يفيــد بــأن النورانيــة تســري مــن املصحــوب امللتحــق بربــه‬
‫ُ‬
‫لتابعه وتفيض عليه ببـركاتها وتغمره بنفحاتها وتعرف بصحبة التبـرك‪ .‬وجوهر‬
‫ُ‬
‫السالك من‬ ‫الصحبتيـن إن تأملنا هو املحبة‪ .‬فجوهرصحبة السلوك أن يحب‬
‫يدلــه علــى هللا حت ــى يســري إلــى قلبــه نــور يت ــرقى بــه فــي درجــات اإليمــان واإلحســان‪.‬‬
‫ُ َّ‬
‫«والصحبــة حي ــن تتعمــق وتصفــو وتصبــح رابطــة روحيــة تسم ــى خلــة‪ .‬وعندئــذ‬
‫يكــون الخليــل علــى ديــن خليلــه أي أن بركــة الصحبــة تصعــد باألدنــى ف ــي إيمانــه‬
‫إلــى درجــة املتمكــن‪ .‬وذاك معن ــى قــول الرســول الكريــم‪« :‬املــرء علــى ديــن خليلــه‪،‬‬
‫فلينظــرأحدكــم مــن يخالــل»‪ .1‬وجوهــرصحبــة التب ــرك هــو ُحـ ُّـب التابــع لوالــده‬
‫الروحــي فــي عالــم اإليمــان واإلحســان‪ .‬وتصــل إلــى الصاحــب مــن املصحــوب‪ ،‬فــي‬
‫ُ ََ‬
‫قلبه وتت َن َّدى روحه‪ .‬وأرزاق إمامنا املجدد‪،‬‬ ‫الحالتيـن‪ ،‬أرزاق معنوية يقتات منـها‬
‫رحمــه ورحمنــا هللا ونفعنــا بــه‪ ،‬وأنــواره وبركاتــه ال يحيــط بهــا تعبي ــر‪ .‬ولقلــب كل‬
‫ُ‬
‫ـور يفيــض عليــه بمــا قســم لــه‪ ،‬بحســب درجتــه‬ ‫مــن صحبــه رض ــي هللا عنــه منهــل نـ ٍ‬
‫ُ‬
‫فــي مقامــات اإليمــان واإلحســان‪ ،‬وبحســب خلــوص محبتــه وصــدق وفائــه ودرجــة‬
‫ُ ُ‬ ‫ّ‬
‫ِاتباعــه‪ .‬ومــن أعظـ ِـم األرز ِاق املعنويـ ِـة الت ــي يرزقهــا الصاحــب‪ ،‬واألنـ ِ‬
‫ـوار الربانيــة‬
‫ْ‬
‫الت ــي ُيكـ َـر ُم بهــا بب ــركة صلــة الوالــد الروحــي وهــوبي ــن يــدي ربــه فــي الــداراآلخــرة‪ ،‬مــا‬
‫يفيــض عليــه بمــدد وبب ــركة وبفضــل وبنــور العمــل بوصيتــه‪:‬‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم بين الدعوة والدولة»‪ ،‬ص‪.68 :‬‬
‫‪60‬‬
‫ال مدخل لك إال بصحبة‪..‬‬
‫وبعــد جملــة مــن الوصايــا النفيســة‪ ،‬أعاننــا هللا تعالــى علــى تحقيقهــا فــي‬
‫ذوات أنفسنا وفيمن معنا‪ ،‬أوصـى رضـي هللا عنه «أن العدل قريـن اإلحسان في‬
‫كتاب رِّبنا وفي اسم جماعتنا‪ ،‬فال ُيلهنا الجهاد املتواصل إلقامة دولة العدل في‬
‫أمتنــا عــن الجهــاد الحثيــث ِلبلــوغ مراتــب اإلحســان‪ .‬اإلحســان أن تعبــد هللا كأنــك‬
‫تـر ُاه‪ ،‬وال مدخــل لـ َـك فــي هــذا يــا أخــي‪ ،‬وال مدخــل لـ ِـك يــا أخت ــي فــي هــذا املضمــارإال‬
‫وأمامك املغالق وتحدو بـركبك إلى عالم النور والرقائق»‪.1‬‬ ‫ِ‬ ‫بصحبة تفتح أمامك‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫وهاهنــا نحتــاج أن ن َتن َّبـ َـه لكالمــه رحمــه هللا ت َن ُّبهــا‪ .‬فهــو يؤكــد مــا ألــح عليــه‬
‫فــي عشـرات الكتــب ومئــات املجالــس واملســموعات واملرئيــات علــى مــدى عشـرات‬
‫ُ ُّ‬
‫الجوهر ول ُّب الل ّب‪ :‬الصحبة‪ .‬أال وإنه ال أوضح من هذا‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫جوهر‬ ‫السنيـن‪ ،‬أال وهو‬
‫النــص فــي نفــي أي مدخــل لــي ولـ َـك ولـ ِـك فــي مضمــاراإلحســان وميدانــه وطريقــه إال‬
‫بصحبــة وظيفتهــا أن «تفتــح أمامـ َـك وأمامـ ِـك املغالــق»‪.2‬‬
‫وأربــأ بكمــا‪ ،‬أخــي وأخت ــي‪ ،‬أن يتســلل إلــى ذهنكمــا أن املصحــوب املقصــود‬
‫وتلفظه وتستبعده تتمة كالم اإلمام‬ ‫هنا «جماعة» ال «رجل»‪ ،‬فهذا فهم تطرده ِ‬
‫حيـن يجعل من وظائف الصحبة أن «تحدو بـركبك إلى عالم النور والرقائق»‪.3‬‬
‫ُ‬ ‫والحـ ْـد ُو فــي كتــاب ّ‬
‫َ‬
‫الصحــاح فــي اللغــة‪َ :‬سـ ْـوق اإلبــل وال ِغنـ ُـاء لهــا‪ ،‬وتجــده‬
‫ِ‬
‫فــي أدبيــات اإلمــام ألفــواج املحسني ــن «صوتــا يقــول‪ :‬مــن هنــا الطريــق‪ ،‬مــن هنــا‬
‫ٌَْ ُ َ َ‬
‫العشرة فما‬ ‫البداية»‪ .4‬و«الركب» في «لسان العرب» عن األخفش‪« :‬جمع وهم‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬وصيتي»‪ ،‬ص‪.18 :‬‬


‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.18 :‬‬
‫‪ - 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.18 :‬‬
‫‪ - 4‬نفسه‪ ،‬ص‪.18 :‬‬
‫‪61‬‬
‫َ‬
‫فوق ُهــم»‪ .1‬وهــو فــي أدبيــات اإلمــام «املوكــب» تــارة‪ُّ ،‬‬
‫و«الرفقــة» تــارة‪ ،‬و«الجماعــة»‬
‫تارة وتارة وتارة‪ .‬فيتحدث رحمه هللا‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬عن العارف باهلل الكامل‬
‫أنــه «هــو الشــخص األمثــل لقيــادة الركــب»‪ .2‬ولهــذا «الركــب» معن ــى «املوكــب» فــي‬
‫دعائــه رحمــه هللا‪« :‬اللهــم فاجعــل ألوليائــك العارفي ــن بــك املحسني ــن املقربي ــن‬
‫املحبوبيـن َد ْولة ليقودوا موكب اإليمان وكتائب اإلحسان‪ .‬أخرجهم من غربتهم‪.‬‬
‫آمي ــن»‪ .3‬ولـ«املوكــب» معن ــى «الرفقــة» فــي تأكيــده أنــه «ال بــد لــك فــي الطريــق مــن‬
‫دليل يدلك على هللا‪ ،‬ورفقة يـربط هللا عزوجل بمثالهم واستقامتهم في السيـر‬
‫قلبك»‪.4‬‬
‫فـ«الركــب»‪ ،‬إذن‪ ،‬و«املوكــب» و«الرفقــة» مــا هــي إال مرادفــات‬
‫ُ‬ ‫لـ«الجماعــة»‪ .‬وعليــه فاملقصـ ُ‬
‫ـود بـ«الركــب» فــي الوصيــة «الجماعــة»‪ .‬وعلــى هــذا‬
‫األســاس فإمامنــا يقصــد ب«الصحبــة» الت ــي «تفتــح أمامـ َـك وأمامـ ِـك املغالــق»‬
‫ـف الذكــر‪ ،‬أنــه‬ ‫ََ َْ َ‬
‫«مصحوبــا فــردا» ال «جماعــة»‪ ،‬وإال لصبــح معن ــى النــص‪ ،‬آنـ ِ‬
‫«ال مدخــل لــك فــي مضمــار اإلحســان إال بجماعــة تفتــح أمامــك املغالــق وتحــدو‬
‫ٌَْ َْ ُ ٌ ُ‬ ‫بجماعتــك إلــى عالــم النــور والرقائــق»‪َ ،‬و َل َبـ َ‬
‫ـوج ن َن ـ ّ ِـز ُه إمامنــا‬ ‫ـات فــي املعن ــى لغــو ممجـ‬
‫عنــه‪ ،‬وهــو املعلــم واألســتاذ والخبي ــروالحجــة والثقــة والقــدوة والدليــل فــي دروب‬
‫ً‬
‫اللغــة ومســالك الت ــربية معــا‪.‬‬
‫ومباشــرة بعد قوله رض ــي هللا عنه أنه ال مدخل لك في مضماراإلحســان‬
‫«إال بصحبــة تفتــح أمامــك وأمامـ ِـك املغالــق وتحــدو ب ــركبك إلــى عالــم النــور‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.23 :‬‬


‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.250 :‬‬
‫‪ - 3‬نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.343 :‬‬
‫‪ - 4‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬املنهاج النبوي»‪ ،‬ص‪.138 :‬‬
‫‪62‬‬
‫والرقائــق»‪ ،1‬جــاء إيصــاؤه «بالصحبــة والجماعــة» و«بالصحبــة فــي الجماعــة»‪:‬‬
‫ِ«لذا أو�صي بالصحبة والجماعة‪ ،‬بالصحبة في الجماعة‪.‬‬
‫أو�صي بالصحبة والجماعة‪ ،‬بالصحبة في الجماعة‪.‬‬
‫أو�صي بالصحبة والجماعة‪ ،‬بالصحبة في الجماعة»‪.2‬‬
‫فكيف نفهم إيصاءه «بالصحبة والجماعة‪ ،‬وبالصحبة في الجماعة»؟‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫يثي ــرنا هنا تكراراإلمام للصيغتي ــن معا ثالث مرات‪ ،‬وهو ما يعن ــي ت َب ِّن ِيه َما‬
‫ً‬
‫معــا فيمــا ال يمكــن ْأن ُي ْف َهـ َـم إال أن الصيغــة الثانيــة منهمــا وجــه مــن وجــوه األولــى‬
‫أو تذكيـربـركن مهم من أركانها‪ ،‬كالركن الذي ألـح عليه رحمه هللا دائما وهو أن‬
‫ُ ً‬ ‫َ ً‬
‫صو ِف َّيــة خار َجهــا‪.‬‬ ‫تكــون صحبتنــا للمصحــوب ن َب ِو َّيــة فــي الجماعــة ال‬
‫أمــا «الصحبــة والجماعــة»‪ ،‬بعطــف «الجماعــة» علــى «الصحبــة»‪ ،‬فــا‬
‫خــاف علــى مدلولهــا‪ .‬إنمــا الخــاف علــى مدلــول «الصحبــة فــي الجماعــة» مــع‬
‫حــرف الجــر «فـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي» بي ــنهما‪.‬‬
‫فهل حرف الجر «ف ـ ـ ـ ـ ـ ــي» حرف ظرفية‪ ،‬كما في قوله سبحانه‪َ :‬‬
‫﴿و ِف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٓـي‬
‫َ‬ ‫َ ُ ُ ۚ َ ََ ُ‬
‫أنف ِسك ۡم أفل ت ۡب ِص ُرون﴾‪3‬؟‬
‫َ َ ُُ ْ‬ ‫ُ‬
‫ـال ۡٱدخلــوا‬ ‫أم تـراه حــرف مصاحبــة (بمعن ــى مــع) كمــا فــي قولــه تعالــى‪﴿ :‬قـ‬
‫َ ُ‬ ‫ُ َ ََ ۡ‬
‫ِف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٓـي أ َمـ ٍـم قـ ۡـد خلــت ِمــن ق ۡب ِلكــم﴾‪4‬؟ أم هــو ش ــيء آخــريفيــد مــا يقـ ّـوي نظــرمــن‬
‫يقــول بانتقــال ِسـ ّ ِـر ووظائــف «الصحبــة» إلــى «الجماعــة»؟‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬وصيتي»‪ ،‬ص‪.18 :‬‬
‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.18 :‬‬
‫‪ - 3‬الذاريات‪.21 :‬‬
‫‪ - 4‬األعراف‪.38 :‬‬
‫‪63‬‬
‫ُ‬
‫لنستأنس بآيات من كتاب هللا ت َن ّ ِور لنا الطريق إلى الحقيقة في القضية؛‬
‫ان َم ۡي ًتــا َف َأ ۡح َي ۡي َٰنـ ُـه َو َج َع ۡل َنــا َلـ ُ ۥـه ُنـ ً‬‫ََ َ َ َ‬
‫ـورا‬ ‫يقــول جــل وعــا فــي كتابــه العزيــز‪﴿ :‬أو مــن ك‬
‫ۚ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ٱلنــاس َك َمــن َّم َث ُلـ ُ ۥـه فــي ٱلظل َمـ ِـت ليـ َ‬
‫ٰ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫ـس ِبخـ ِـار ٍج ِّمن َهــا﴾‪ .1‬إن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َي ۡم ِش ــي ِبـ ِـهۦ ِف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي‬
‫حرف الظرفية هنا «ف ـ ـ ـ ـ ـ ــي» «يدل على عمق تأثيـراملؤمنيـن فيمن حولهم ْ‬
‫وغز ِو‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫قلوبهــم‪ ،‬وتجاو ِزهــم بهــدى هللا تعالــى أســماع النــاس وظواهرهــم‪ ،‬إلــى بواطنهــم‬
‫وأعمــاق أفئدتهــم»‪.2‬‬
‫إن الــذي أحيــاه هللا تعالــى مــن مــوات‪ ،‬علــى يــد محســن عــارف بــاهلل دال‬
‫َ‬
‫علــى هللا‪ ،‬فــورث هــذه الوظيفــة الشــريفة‪ ،‬ل َي ْم ِش ــي فــي النــاس بنــور هللا عــزوجــل‬
‫َ َۡ ْ َ‬ ‫َ‬
‫ٱعل ُمـ ٓـوا أ َّن‬‫علــى خطــى مــن خاطــب ســبحانه وتعالــى الصحابــة فــي شــأنه قائــا‪﴿ :‬و‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ِفيكـ ۡـم َر ُســو َل ٱللـ ِ ۚـه﴾‪.3‬‬
‫وإن حرف الجر «ف ـ ـ ـ ـ ـ ــي» من عبارة‪« :‬الصحبة في الجماعة»‪ ،‬ال يستقيم‬
‫أن يتقمص معنـى املصاحبة (مع) بالنظرإلى ما ل ــ«الصحبة» من عظيم الفضل‬
‫ً‬ ‫َ ً‬
‫علــى «الجماعــة» ُع ْمـ َـق تأثي ـ ٍـر فــي أبنائهــا وغـ ْـزوا لقلوبهــم وتجــاوزا بهــدى هللا تعالــى‬
‫وظواهرهــم إلــى بواطنهــم وأعمــاق أفئدتهــم‪ .‬كمــا أن تقمــص «فـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي»‬ ‫ِ‬ ‫ـماعهم‬
‫ألسـ ِ‬
‫َ‬
‫ملعن ــى املصاحبــة (مــع) ال يعطــي الصحبــة حقهــا املســتحق بمــا هــي املفتــاح والبــاب‬
‫والدليــل الهــادي إلــى معرفــة هللا ومحبتــه ومحبوبيتــه‪ ،‬والــذي تســتمد الجماعــة‬
‫منــه نورهــا‪ ،‬وتتفيــأ بظاللــه‪ ،‬وتتوســل إلــى هللا عــزوجــل بقلبــه‪.‬‬
‫لقــد كان لعبــارة «الصحبــة فــي الجماعــة» فــي حيــاة اإلمــام رحمــه هللا معن ــى‬

‫‪ - 1‬األنعام‪.122 :‬‬
‫‪ - 2‬الخضــري‪ ،‬محمــد األمي ــن‪« ،‬مــن أسـرارحــروف الجــرفــي الذكــرالحكيــم»‪ ،‬مطبعــة األمانــة‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1409‬ه‪1989-‬م‪ ،‬ص‪.129 :‬‬
‫‪ - 3‬الحجرات‪.7 :‬‬
‫‪64‬‬
‫َّ‬
‫واضح َدل َنا عليه رضـي هللا عنه وأوصانا به‪ ،‬نعرفه جميعا وسمعناه منه جميعا‬
‫مصحوب َنــا‬
‫َ‬ ‫وتداولنــاه بي ــننا جميعــا وتواصي ــنا بــه جميعــا‪ ...‬أال وهــو أن نصحــب‬
‫َْ ً‬ ‫َ َّ‬
‫ودال َنــا علــى هللا فــي الجماعــة ال خــارج أســوارها وال بعيــدا عــن رحابهــا وال نأيــا‬
‫َ‬ ‫َ َ ُّ‬
‫«خ ْرق ِته»‪ .‬أال وهو أن يكون بيـن‬ ‫ص ِ‬ ‫بأنفسنا عن تكاليف صحبته وضريبة تقم ِ‬
‫ُ‬
‫كل فــرد منــا وبي ــنه رحمــه هللا صلــة صحبـ ٍـة تدلنــا علــى هللا‪ ،‬وأن يكــون فيمــا بي ــننا‬
‫ُ‬
‫نحن صلة محبة وأخوة تربط بيـن قلوبنا فتصبرعلي وأصبرعليك ونتعاون على‬
‫ً‬
‫الب ــروالتقــوى وعلــى الجهــاد فــي ســبيله وعلــى تن ــزيل مشــروعه علــى األرض خالفــة‬
‫ً‬
‫ثانية على منهاج االنبوة‪ .‬وعلى من يقول بغي ــرهذا‪ ،‬إن بقي هنالك من يقول به‬
‫بعــد مــا ســبق مــن حج ــج وبـراهي ــن علــى طــول هــذا البحــث وعرضــه‪ ،‬أال يســتعجل‬
‫قبــل أن نســوق مــن النصــوص الواضحــة فــي هــذا الشــأن مــا يزيــد األمــرحســما فــي‬
‫اتجــاه مــا ذهــب إليــه الفريــق األول‪.‬‬
‫َ ُ‬
‫ولعلنا نجد بغيتنا التـي تريح منا الدماغ وتطمئـن القلب في النص التالي‬
‫ْ َ‬
‫مــن مقدمــة «املنظومــة الوعظيــة» (‪1996‬م)‪ِ ،‬إذ تـ ِـر ُد صيغــة‪« :‬الصحبــة فــي‬
‫مثبتة الصحبة باملعنـى الذي‬ ‫الجماعة»‪ ،‬للمرة الوحيدة في كتابات اإلمام كلها‪ِ ،‬‬
‫َم َّر بنا آنفا وتبناه رضـي هللا عنه من أول ما كتب عام ‪1972‬م‪ .‬ذاك حيـن يقول‬
‫رحمــه هللا ورحمنــا ونفعنــا بــه إن «الت ــربية اإليمانيــة اإلحســانية تبتــدئ بصحبــة‬
‫فــي جماعــة وتأخــذ إلــى الجهــاد فــي ســبيل هللا طامعــة أن يكتبهــا هللا فــي كتــاب‬
‫السابقي ــن املقربي ــن فــي مقعــد الصــدق عنــده‪ .‬تبتــدئ مــن وتأخــذ إلــى‪ ،‬متخلقــة فــي‬
‫محطــات ســلوكها وعروجهــا املعنــوي األخالقــي اإليمانــي بأخــاق البــذل‪ ،‬وفضائــل‬
‫العلــم‪ ،‬وعزائــم العمــل‪ ،‬وتميــز الســمت‪ ،‬وثبــات التــؤدة‪ ،‬وصب ــر االقتصــاد‪،‬‬
‫واالســتعداد الدائــم للجهــاد فــي ســبيل هللا»‪.1‬‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬املنظومة الوعظية»‪ ،‬ص‪.24 :‬‬
‫‪65‬‬
‫تربية إيمانية إحسانية تبتدئ ب ـ ــ«صحبة في جماعة» وتأخذ بيد التلميذ‬
‫الوافــد الــوارد الســالك إلــى الجهــاد فــي ســبيل هللا مــع املؤمني ــن وبي ــن املؤمني ــن‬
‫ووســط املؤمني ــن‪.‬‬
‫وحدة وتالزم الصحبة والجماعة‪..‬‬
‫يقول إمامنا قدس هللا سره في وصيته‪:‬‬
‫َ َ‬
‫«كان َمـ ْـن ق ْبل َنــا رحمهــم هللا‪ ،‬ورفــع درجاتهــم يتفــرد منهــم الطالــب الراغــب‬
‫الســائر تأخــذ بيــده يـ ُـد فــرد نـ َّـور هللا قلبــه مــن العارفي ــن بــاهلل مشــايخ الت ــربية‪.‬‬
‫وملســتقبل دعوتنــا نرجــو مــن هللا نــور الســماوات واألرض ســبحانه أن ُيفيــض‬
‫رحمتــه علــى أف ـراد أوليائــه وأن يلهمهــم التعــاون علــى الب ــر والتقــوى‪ ،‬ب ـ ّ ِـر هدايــة‬
‫الخلــق بصحبــة ُتؤلــف القلــوب‪ ،‬ال يضي ــرها أن كان ُحـ ُّـب زيــد لعمــرو أرج ـ َـح مــن‬
‫حبــه لخالــد‪ .‬الرجــاء مــن امللــك الوهــاب أن تكــون الصحبــة والجماعــة متالزمي ــن‬
‫تالزم العدل واإلحسان‪ ،‬نرجو من هللا عزوجل امللك الوهاب أن تكون الصحبة‬
‫والجماعــة متالزمي ــن فــي جماعــة العــدل واإلحســان تــازم العــدل واإلحســان فــي‬
‫كتــاب هللا عــزوجــل وفــي شــعارنا‪ ،‬ال تطــغ جذبــة ســابح فــي األنــوارعلــى شــريعة قــول‬
‫ََۡ ُ ْ ََۡ ُ َ ۡ ُ ۖ‬
‫وف﴾‪.2»1‬‬ ‫هللا عــز وجــل‪﴿ :‬وأت ِمــروا بينكــم ِبمعــر ٍ‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫تال ُزم الشيئيـن معناه أن يتعلق أحدهما بالثاني تعلقا شديدا ال انفكاك‬
‫معه‪.‬‬
‫ُ َ َ َ‬ ‫َ ْ‬
‫الح ّم ــى»‪ ،‬أي أنهــا‬ ‫وجــاء فــي «لســان العــرب»‪ :‬والعــرب تقــول‪« :‬أغ َي ـ ُـر مــن‬
‫لبعلهــا‪ ...‬ورجــل ُل َز َمـ ٌـة‪َ :‬ي ْلـ َـزم الش ـ َ‬
‫ـيء فــا يفا ِرقــه‪.‬‬
‫َ ُ ََ َ َ‬
‫الغ ُيــور ْ‬ ‫ُ‬
‫تــا ِزم املحمــوم مالزمــة‬

‫‪ - 1‬الطالق‪.6 :‬‬
‫‪ -2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬وصيتي»‪ ،‬ص‪.19-18 :‬‬
‫‪66‬‬
‫ونســتأنس بــل نســتند فيمــا يلــي علــى نصــوص مــن كتــب اإلمــام نفســه َيـ ِـر ُد‬
‫فيهــا مفهــوم التــازم باملعن ــى اللغــوي واالصطالحــي الواض ــح وبالداللــة القاطعــة‬
‫حج َتنــا فــي فهــم مقصــوده منــه‪.‬‬
‫بمــا يقــوي َّ‬

‫ففي «املنهاج النبوي» ورد «التالزم» بيـن طرفيـن بصيغ مختلفة‪:‬‬


‫«اإلسالم األناني املنعزل ال تدخل في معادلته محبة املؤمنيـن‪ ،‬ومعاملتهم‬
‫بالب ــر‪ ،‬والتعــاون معهــم‪ .‬ومــن ثــم يتناقــض مــع محبــة هللا ورســوله‪ ،‬إذ محبــة هللا‬
‫ورســوله ومحبــة املؤمني ــن متالزمتــان»‪( .‬ص‪« .)181 :‬واألمـران متالزمــان‪ :‬فــاح‬
‫املؤمــن فــي طريقــه إلــى هللا تعالــى‪ ،‬وفــاح جنــد هللا فــي إح ـراز النصــر وإقامــة دي ــن‬
‫هللا فــي األرض»‪( .‬ص‪« .)363-364 :‬همــا عــدالن متالزمــان‪ :‬عــدل الحكــم وعــدل‬
‫القســمة»‪( .‬ص‪« .)250 :‬فنحــن نبحــث عــن املنهــاج النبــوي املتصــل ســندا علمــا‬
‫وعمــا‪ ،‬تربيــة وتوفيقــا‪ ،‬نبحــث عــن املنهــاج النبــوي الكفيــل بالفتحي ــن‪ ،‬فتــح‬
‫بصي ــرة املؤمــن الســالك‪ ،‬وفتــح النصــر‪ .‬ســلوكان متالزمــان كمــا كان ســلوك‬
‫الصحابــة األب ـرار»‪( .‬ص‪« .)366 :‬الفقــروالكفــرتوأمــان متالزمــان»‪( .‬ص‪.)421 :‬‬
‫«إنها مسألة تالزم الفقروالكفر»‪( .‬ص‪« .)425 :‬واملؤمن كغيـره معرض ملغريات‬
‫الســلطان واملــال‪ ،‬وهمــا متالزمــان أبــدا»‪( .‬ص‪.)353 :‬‬
‫وأورد اإلمام املرشد في «اإلحسان» التالزم مرادفا للصحبة وملقتضياتها‪.‬‬
‫ذاك حي ــن ي ــنقل عــن اإلمــام الشــاطبي ذكــره لفوائــد «صحبــة العلمــاء ومالزمتهــم‬
‫حي ــن يقــول‪« :‬فهــذا مــن فوائــد املالزمــة واالنقيــاد للعلمــاء والصب ــر عليهــم فــي‬
‫مواطــن اإلشــكال حت ــى الح الب ــرهان للعيــان»‪( .‬ج‪ ،1‬ص‪ .)86 :‬وحي ــن يقــول بأنــه‬
‫«الت ــزم التابعــون فــي (صحبــة) الصحابــة سي ــرتهم مــع النبــي صلــى هللا عليــه وســلم‬
‫حت ــى فقهــوا ونالــوا ذروة الكمــال فــي العلــوم الشــرعية‪ .‬وحســبك مــن صحــة هــذه‬

‫‪67‬‬
‫القاعــدة (أي تلقــي جيــل عــن جيــل باملالزمــة والصحبــة واألخــذ والصب ــر) أنــك ال‬
‫تجــد عاملــا اشــتهرفــي النــاس األخــذ عنــه إال ولــه قــدوة اشــتهرفــي قرنــه بمثــل ذلــك»‪.‬‬
‫(ج‪ ،1‬ص‪ .)87 :‬وحي ــن يقــول إنــه «ليســت الصحبــة تطبيقــا مجــردا للنصــوص‬
‫وامتثــاال جافــا عســكريا لألوامــر‪ ،‬إنمــا هــي محبــة تثبــت وترســخ وتنمــو وتتجــذرفــي‬
‫القلــوب باملالزمــة واملخالطــة واملعايشــة والتلمــذة حت ــى يملــك حــب املصحــوب‬
‫علــى الصاحــب كيانــه كلــه»‪( .‬ج‪ ،1‬ص‪ .)101 :‬ثــم حي ــن يقــول إنــه «كان الجـ ُـار‬
‫وعائل األسرة مربيـن على قدرما ورثوا بالصحبة واملالزمة‬ ‫ُ‬ ‫للجار ُ‬
‫وإمام املسجد‬
‫ملــن قبلهــم مــن تقــوى هللا‪( .»...‬ج‪ ،1‬ص‪.)23 :‬‬
‫وفــي النــص التالــي يمهــد اإلمــام املرشــد لــكالم نفيــس لإلمــام الرفاعــي حــول‬
‫الصحبة والذكر‪ ،‬مؤكدا تالزمهما‪ .‬وما يسري على تالزم الصحبة والذكريسري‬
‫َ‬
‫اغتصاب‬ ‫على تال م الصحبة والجماعة دون أن يعنـي َ‬
‫ذوبان أحدهما في الثاني أو‬ ‫ز‬
‫هــذه لوظيفــة تلــك‪ ،‬فيؤكــد أن «الصحبــة والذكــر‪ ،‬مــع الصــدق واإلخــاص مــن‬
‫َ‬
‫جا ِنبـ ِي الصاحب واملصحوب‪ ،‬هما الركنان األساسيان‪ ،‬والشرطان املتالزمان‪،‬‬
‫َ ْ‬
‫في رفع األقدام ووضعها في الخطو على الطريق»‪( .‬ج‪ ،2‬ص‪.)425 :‬‬
‫ويضيــف بعــد صفحــة مشــرقة مــن كالم الرفاعــي رض ــي هللا عنــه (مــع‬
‫ََ‬ ‫َّ َ‬
‫االنتبــاه ملــا َســط ْرنا تحتــه بعــد لفظــة «تل ُز َم َهــا» ون ـراه تفسي ـرا وشــرحا لهــا)‪:‬‬
‫تلخـ ُ‬‫ّ‬
‫ـص الشــروط الثالثــة األساســية فــي الســلوك‪:‬‬ ‫«هــذه الصفحــة ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الصحبــة والذكــر والصــدق‪ .‬فــي هــذه الصفحــة الرائعــة تق ـرأ تلز َم َهــا َوت َســاند َها‬
‫وانتقاض بعضها بانتقاض بعض»‪( .1‬ج‪ ،2‬ص‪.)426 :‬‬ ‫َ‬ ‫وبناء بعضها على بعض‪،‬‬ ‫َ‬

‫وفــي «مقدمــات فــي املنهــاج» ورد «التــازم» مــع مرادفي ــن‪« :‬الت ـرابط»‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ .426 :‬‬
‫‪68‬‬
‫و«التعاضــد» حي ــن يؤكــد إمامنــا أن «وظيفــة املنهــاج النبــوي العلـ ُـم والعمـ ُـل‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫متـرابطي ــن‪ ،‬النـ ُ‬
‫ـداء واالســتجابة متالزمي ــن‪ ،‬الرحمــة والحكمــة متعاضدتي ــن‪.»...‬‬
‫(ص‪.)37 :‬‬
‫وبناء على كل ما سبق‪ ،‬فمعنـى أن «تكون الصحبة والجماعة متالزميـن‬
‫تــازم العــدل واإلحســان» ليــس هــو ذوبــان «الصحبــة» فــي «الجماعــة» أو انتقــال‬
‫وظائــف «الصحبــة» إلــى «الجماعــة» أو انبثــاث ِسـ ّ ِـر «الصحبــة» فــي «الجماعــة»‪،‬‬
‫َّ‬
‫بــل املعن ــى املقصــود أال تتحــرك «الجماعــة» أو تســكن إال مــع حركــة «الصحبــة»‬
‫وســكونها‪ ،‬وإال لجازأن يذوب أحد ِشـ َّـقي «العدل واإلحســان» في الثاني أو تنتقل‬
‫َّ‬
‫وظيفتــه إليــه أو َي ْن َبــث ِسـ ُّـر ُه فيــه إلــى غي ــر ِر ِج َعــة!‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫على أن اإلمام رحمه هللا باستعماله ملصدرفعل «تل َز َم»‪ ،‬وهو «تال ُزم»‪،‬‬
‫فــي محــل املفعــول املطلــق مــن العبــارة الت ــي نحــن بصددهــا‪ ،‬إنمــا أراد بــه بداللــة‬
‫ـان نــوع التــازم الــذي يقصــده وي ــرجو أن يتحقــق بي ــن‬ ‫وظيفــة املفعــول املطلــق بيـ َ‬
‫ُ‬
‫«الصحبــة» و«الجماعــة» مــن بعــده‪ ،‬وهــو التــاز ُم ذاتــه وعي ـ ُـنه ونفسـ ُـه الحاصــل‬
‫واملتحقق بي ــن «العدل» و«اإلحســان» في كتاب هللا وفي شــعارالجماعة‪ ،‬والذي‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫يضمــن لــكل شــق منهمــا وجـ َ‬
‫ووظيفتــه كمــا يضمــن الطائـ ُـر تحليقــه وتوازنــه فــي‬ ‫ـوده‬
‫ً‬
‫جــوالســماء بوجــود كل جنــاح مــن جناحيــه واســتقالليته مــع تكاملهمــا معــا‪ .‬تــاز ٌم‬
‫ُّ‬ ‫َ َ ُّ‬
‫نتيجتــه ت َعلـ ُـق «الصحبــة» و«الجماعــة» تعلقــا ال انفــكاك فيــه وال انفصــال‬ ‫تكــون‬
‫معــه وال انفصــام بعــده وال نهايــة لــه‪.‬‬
‫س العــدل‬ ‫س وظيفــة الصحبــة فــي الجماعــة لجــاز أن ُيـ َـد َّ‬ ‫ولــو جــاز أن ُتـ َـد َّ‬
‫إمامنا العدل واإلحسان بالطائر‬ ‫شبه ُ‬ ‫واإلحسان أحدهما في اآلخر‪ .‬وما أكثـرما ّ‬
‫الــذي ال يطي ــرإال بجناحي ــن اثني ــن‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫صـ َّـور عقــا أن يكــون ل ـ ــ«الصحبــة فــي الجماعــة» املعن ــى الــذي َي ْن ُقـ ُـد‬
‫وال ُي َت َ‬
‫َ‬ ‫ـنقض َ‬ ‫وي ُ‬
‫نفسه قبل أن ننقده وننقضه نحن في هذا البحث‪ ،‬ثم يتحدث إمامنا‬
‫َ‬
‫طبيعت ْيهمــا‬ ‫عــن تالزمهمــا‪ .‬إذ التــازم ال يكــون إال بي ــن عنصري ــن مختلفي ــن فــي‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫وظيفت ْي ِهمــا‪ ،‬تمامــا كمــا يختلــف العــدل واإلحســان فــي طبيعتيهمــا‬ ‫ـتقل ْي ِن فــي‬
‫مسـ ِ‬
‫ويســتقل كل منهمــا بوظيفتــه‪.‬‬
‫«مـ ْـن» و«فـ ــي»!‬
‫ِ‬
‫ثم قال إمامنا في وصيته الخالدة موجها الخطاب إلى عموم أحبابه‪:‬‬
‫«أو�صي أن َ‬
‫يدعو أحبابي إخواني رَّبنا عزوجل أن يمسك وحدة الصحبة‬
‫والجماعة كما يمسك السماوات واألرض أن تـزوال»‪.1‬‬
‫زوال الســماوات واألرض يعنــي قيــام الســاعة؛ فهــو رض ــي هللا عنــه يو�صــي‬
‫أحبابه أن َي ْد ُعوا ربهم أن يمسك وحدة «الصحبة والجماعة» إلى قيام الساعة‪.‬‬
‫َ‬
‫وهــو رجــاء فــي هللا عــزوجــل أال يصيــب األمــة انكسـ ٌـار ثـ ٍـان َيذهــب بتماســكها بعــد‬
‫االنكســارالتاريخي الذي حول الخالفة الراشــدة ُملكا عاضا فجب ــريا‪.‬‬
‫«م ـ ـ ـ ـ ْـن جماعة العدل واإلحسان»‪:‬‬ ‫ثم وجه اإلمام خطابه إلى أحبابه ِ‬
‫«أوص ــي أن يدعـ َـو أحبابــي‪ ،‬إخوانــي وأخواتــي ِمـ ـ ـ ـ ـ ْـن جماعــة العــدل‬
‫واإلحســان رَّبنــا عــزوجــل أن يمســك وحــدة الصحبــة والجماعــة فــي جماعتنــا كمــا‬
‫يمســك الســماوات واألرض أن ت ــزوال»‪.2‬‬
‫َ‬
‫ثــم وجــه رحمــه هللا الخطــاب ذاتــه إلــى أحبابــه « ِف ـ ـ ـ ــي جماعــة العــدل‬
‫واإلحســان»‪:‬‬
‫‪ -1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬وصيتي»‪ ،‬ص‪.19 :‬‬
‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.19 :‬‬
‫‪70‬‬
‫«أو�صــي أن يدعـ َـو أحبابــي‪ ،‬إخوانــي وأخواتــي ِف ـ ـ ـ ــي جماعــة العــدل‬
‫واإلحســان ربنــا عــزوجــل أن يمســك هللا عــزوجــل وحــدة الصحبــة والجماعــة فــي‬
‫جماعتنــا كمــا يمســك الســماوات واألرض أن ت ــزوال»‪.1‬‬
‫حرف‬ ‫َ‬
‫وما يثيـرانتباهنا هنا أن اإلمام أكد النص بتكراره ولكن مع تغييـر ٍ‬
‫نراه مقصودا منه رحمه هللا‪.‬‬
‫«مـ ـ ـ ـ ـ ْـن جماعــة‬
‫ذلــك أنــه فــي املــرة األولــى وجــه خطابــه إلــى إخوانــه وأخواتــه ِ‬
‫العــدل واإلحســان»‪ ،‬وفــي املــرة الثانيــة وجهــه إلــى إخوانــه وأخواتــه « ِف ـ ـ ـ ــي جماعــة‬
‫العــدل واإلحســان»‪ .‬ولعلــه أراد التأكيــد أن التكـرارمقصــود وليــس آليــا أو عفويــا‬
‫فأضــاف إليــه قولــه‪« :‬هللا عــزوجــل»‪.‬‬
‫«مـ ـ ـ ـ ـ ْـن» فــي املــرة األولــى تبعيضيــة‪ ،‬أي إنــه رض ــي هللا عنــه يقصــد‬ ‫ونــرى أن ِ‬
‫«بعضا من» جماعة العدل واإلحسان‪ ،‬وأن « ِف ـ ـ ـ ــي» الت ــي وردت في املرة الثانية‬
‫ُ‬
‫يقصــد بهــا «ك َّل» جماعــة العــدل واإلحســان‪.‬‬
‫َ‬
‫ـ«مـ ـ ـ ـ ـ ْـن»؟ َومـ ْـن ذاك «الــكل»‬
‫ولكــن مــن هــذا «البعــض» املخاطــب أوال بـ ـ ِ‬
‫َ ْ‬
‫َ‬
‫املخاطــب ثانيــا بـ ــ« ِف ـ ـ ـ ــي»؟‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وآفاق‬ ‫نكون مستهيـني ــن بالرجل وبمي ـراثه وبمشروعه إذا حصرنا نظرته‬
‫كتاباتــه فــي حاضــرضيــق محــدود‪ ،‬أو فــي مســتقبل ال يمتــد إلــى مشــروع الخالفــة‬
‫الثانيــة علــى منهــاج النبــوة‪ ،‬وهــو الــذي كان يؤكــد فــي كتاباتــه ومجالســه ودروســه‬
‫قرن الخالفة الثانية على منهاج النبوة‪،‬‬ ‫مطلع القرن الخامس عشرالهجري أنه ْ‬
‫وهــو الــذي كتــب حي ــنئذ فــي «مقدمــات ملســتقبل اإلســام» (‪1403‬ه‪1982-/‬‬
‫‪1983‬م) بمنته ــى الوضــوح‪:‬‬
‫‪ -1‬نفسه‪ ،‬ص‪.19 :‬‬
‫‪71‬‬
‫َََ‬
‫«فــأ ْن نرابــط فــي مســاجدنا تائبي ــن حامدي ــن ذاكري ــن تالي ــن مائــة ســنة‬
‫ـرة باســم اإلســام والقلـ ُ‬ ‫إيماننــا َف َيشـ َّـب َ ْ‬
‫ُ‬
‫ـوب‬ ‫ِ‬ ‫فيقـ َـوى خي ـ ٌـر مــن مغامـ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫حت ــى يولــد‬
‫ٌ‬
‫فارغــة إال مــن طلــب الســيف للتســلط علــى العبــاد»‪.1‬‬
‫علــى أن الرجــل كتــب وصيتــه لألجيــال املتعاقبــة بعــده ال ِل ـ َـم ْن عاصــره‬
‫َ ٌ‬ ‫َّ ُ َ‬
‫يصــة مــن خصائصهــا‬ ‫ـتقبلية خ ِص‬ ‫حص ـرا‪ ،‬وهــو شــأنه فــي كتاباتــه كلهــا‪ ،‬إذ املسـ‬
‫َ‬
‫وســمة مــن ســماتها َوم ْعلـ ٌـم مــن معاملهــا‪.‬‬
‫«مـ ـ ـ ـ ـ ْـن»‬
‫أمــا «بعــض» جماعــة العــدل واإلحســان الــذي تــدل عليــه ِ‬
‫ـود بــه «تنظيـ ُـم» جماعــة العــدل واإلحســان‬ ‫التبعيضيــة‪ ،‬فيبــدو لنــا أن املقصـ َ‬
‫ُ‬
‫القائـ ُـم علــى األرض فــي واقعنــا هــذا‪ ،‬والــذي يعرفــه القاص ــي والدانــي‪ .‬أمــا «ك ُّل»‬
‫جماعــة العــدل واإلحســان الــذي يــدل عليــه حــرف ظرفيــة « ِف ـ ـ ـ ــي»‪ ،‬فيبــدو لنــا أن‬
‫املقصــود بــه املشــروع األكب ــرلإلمــام وهــو «جماعــة املسلمي ــن» الت ــي ال ت ـزال فــي‬
‫ضمي ــرالغيــب‪ ،‬مرمـ ًـى لنظــره مــن أول مــا خــاض غمــارالعمــل اإلســامي قبــل مــا‬
‫يقــرب مــن نصــف قــرن‪ ،‬ورجـ ًـاء تكــون بــه جماعــة العــدل واإلحســان «الصغــرى»‬
‫نــواة وقلــب ومحــرك جماعــة املسلمي ــن «الكب ــرى»؟‬
‫لم نتطرق ملقطع من وصية اإلمام يقول فيه رحمه هللا‪:‬‬
‫قبلنا رحمهم هللا‪ ،‬ورفع درجاتهم يتفرد منهم الطالب الراغب‬ ‫«كان من َ‬
‫الســائر تأخــذ بيــده يـ ُـد فــرد نـ َّـور هللا قلبــه مــن العارفي ــن بــاهلل مشــايخ الت ــربية‪.‬‬
‫وملســتقبل دعوتنــا نرجــو مــن هللا نــور الســماوات واألرض ســبحانه أن ُيفيــض‬
‫رحمتــه علــى أف ـراد أوليائــه وأن يلهمهــم التعــاون علــى الب ــر والتقــوى‪ ،‬ب ـ ّ ِـر هدايــة‬
‫الخلــق بصحبــة ُتؤلــف القلــوب‪ ،‬ال يضي ــرها أن كان ُحـ ُّـب زيــد لعمــرو أرجـ َـح مــن‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬مقدمات ملستقبل اإلسالم»‪ ،‬ص‪ .45 :‬‬


‫‪72‬‬
‫حبــه لخالــد‪ .‬الرجــاء مــن امللــك الوهــاب أن تكــون الصحبــة والجماعــة متالزمي ــن‬
‫تــازم العــدل واإلحســان»‪.1‬‬
‫ُ‬
‫تــرى َمـ ْـن يقصــد أســتاذنا وإمامنــا بهــذا الطالــب املتفــرد «الراغــب الســائر‬
‫تأخــذ بيــده يـ ُـد فــرد نـ َّـور هللا قلبــه»؟ ومــن يقصــد ب ـ ــ«أف ـراد أوليائــه» وبالصحبــة‬
‫الت ــي «تؤلــف القلــوب» ومــاذا يقصــد ب ــ«زيــد» وب ـ َ‬
‫ـ«ع ْمــرو» وب ــ«خالــد»؟‬
‫نحــاول اإلجابــة عــن هــذه األســئلة إن شــاء هللا فــي مكانهــا املناســب مــن‬
‫فصــل «حــوار ‪2009‬م»‪.‬‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬وصيتي»‪ ،‬ص‪.19-18 :‬‬


‫‪73‬‬
74
‫الفصل الخامس‬
‫املعاهدة ‪2005 -‬م‬

‫ال بد من بعد‪..‬‬
‫ال نستطيع استئناف البحث في قضية الصحبة ووراثة وظيفة الصحبة‬
‫مــن غي ــرأن نتعــرض لقضيــة خالفــة اإلمــام املجــدد رحمــه هللا‪ .‬ولكــن هــل يمكننــا‬
‫أن ندرك كيف كان ي ــنظررحمه هللا إلى أمرخالفته؟‬
‫قوة وأمانة في تحمل‬ ‫كيف يمكن أن ندرك ذلك وبي ــن ما عرفنا عنه من ِ‬
‫تعلقــه ب ــربه وتوكلــه عليــه وحســن ظنــه بــه‬‫املســؤولية امللقــاة علــى كاهلــه‪ ،‬وبي ــن ِ‬
‫َْ ُ‬
‫وتوفيقــه حي ــن يعـ ِـزم األمـ ُـر‪ ،‬وتسـ ِ‬
‫ـليمه بمــا‬ ‫ِ‬ ‫ويقي ــنه الكامــل فــي وعــده ووعــد نبيــه‪،‬‬
‫يكتبــه تعالــى فــي قضائــه وقــدره فــي حياتــه وبعــد التحاقــه بربــه‪ ...‬كيــف ومــا بي ــن كل‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫هــذا وغي ــره غ ْيـ ٌـب ُمغ َّيـ ٌـب عنــا ال يعلمــه إال هللا؟ كيــف ووصيتــه الجليلــة املوثقــة‬
‫َ‬
‫بالقلــم والصــوت لــم ي ـ ِـر ْد فيهــا مــا يشي ــرمــن قريــب أو مــن بعيــد إلــى آليــة اختيــار‬
‫خلفــه؟ كيــف‪ ،‬وليــس بي ــن أيدي ــنا وثيقــة مكتوبــة أو مســموعة أو مرئيــة فــي هــذا‬
‫الشــأن‪ ،‬علــى مــا للمكتوبــة مــن قــوة االعتبــارإزاء املســموعة واملرئيــة؟‬
‫فهــل أحــال مرشـ ُـدنا هــذا الشــأن الجليــل إلــى أف ـراد مــن الجماعــة‪،‬‬
‫«مشــافهة»‪ ،‬بــأن َي ِتـ َّـم علــى طريقــة خاصــة لــم نعرفهــا نحــن؟‬
‫ُْ‬ ‫ُ‬
‫أم تـ َـراه تــرك لهــم األمــر يجتهــدون رأيهــم َليخلصــوا إلــى األســلوب األمثــل‬
‫واآلليــة األصــوب لتحقيقــه؟‬

‫‪75‬‬
‫نتحــدث عــن قــوة الوثيقــة املكتوبــة إزاء الوثيقــة املرئيــة أو املســموعة‪،‬‬
‫وتجنبنــا وتناسي ــنا وأهملنــا الحديــث عمــا يمكــن أن يكــون «توصيــة» شــفوية مــن‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫اإلمام‪َ .‬وب َد ِه ٌّي أال ن ُع ُّد التوصية الشفوية وثيقة‪ ،‬ال ضعف ثقة فيمن يمكن أن‬
‫ُ‬
‫ي ــنقلها إلي ــنا عــن اإلمــام مــن فــم ألذن‪ ،‬ولكــن لسببي ــن‪:‬‬
‫الســبب األول أن اإلمــام رحمــه هللا حت ــى فــي الســنوات الطويلــة الت ــي كان‬
‫يكابــد فيهــا قيــود الس ــجن الظالــم فــي ســنوات الجمــروالرصــاص‪ ،‬لــم يكــن يجــد‬
‫مشقة أوصعوبة في الحصول على القلم واألوراق لكتابة صغاراألمور وكبارها‪،‬‬
‫فكيــف يجــد هــذه الصعوبــة وتلــك املشــقة فــي الزمــن الــذي انضافــت إلــى األقــام‬
‫ـات الســمعية‬ ‫ـاءات الشــبكة العنكبوتيــة والتقنيـ ُ‬ ‫واألوراق والكرا يــس فضـ ُ‬
‫ر‬
‫البصريــة املتطــورة وهــو مســتقر فــي بيتــه وبي ــن يديــه حاسـ ُ‬
‫ـوبه‪ ،‬أثنــاء اإلقامــة‬
‫الجب ــرية ثــم علــى مــدى اثن ــي عشــرعامــا قبــل أن يلتحــق بالرفيــق األعلــى؟‬
‫الســبب الثانــي أنــه رحمــه هللا أكب ــر تقدي ـرا ملــا تمليــه عليــه املواقــف‬
‫الفاصلــة‪ ،‬وأشــد تعظيمــا لتبعــات األمانــة مــن أن َيـ ِـك َل أم ـرا جليــا يقــوم عليــه‬
‫مســتقبل الجماعــة إلــى توصيــة شــفوية مــن فــم ألذن‪.‬‬
‫بعــد رفــع اإلقامــة الجب ــرية عــن أســتاذنا‪ ،‬وكان قــد تجــاوز مــن العمــر‬
‫ُّ‬
‫سبعي ــن عامــا‪ ،‬أضحــى انتظـ ُـار موتــه والتكهـ ُّـن بمــن يخلفــه وترقـ ُـب تشــتت صــف‬
‫ُ‬ ‫الجماعــة مــن بعــده موضوعــا مثي ـرا تطــرق َ‬
‫أبوابــه أجهــزة اإلعــام فــي كل حي ــن‪.‬‬
‫كان يبــدو أن مــا ورد بدايــة الثماني ــنيات فــي كتــاب «املنهــاج النبــوي»‬
‫مــن بنــود تتنــاول آليــة خالفــة مرشــد الجماعــة قــد أصبــح متجـ َـاوزا بالنظــر إلــى‬
‫خصوصية السياق الذي كتب فيه الكتاب كما رأيـنا آنفا‪ .‬سياق وصفه اإلمام‬
‫فــي الوثيقــة الت ــي نحــن بصددهــا بأنــه «قصي ــر وضيــق وقريــب»‪.‬‬
‫‪76‬‬
‫فكيــف يعالــج الرجــل قضيــة حمــل هــذه «األمانــة» مــن بعــده؟ هــل يت ــركها‬
‫ً‬
‫في الجماعة قيادة جماعية ال رأس لها فال ُي ْد َرى ما تؤول إليه األمور بعدها؟ أم‬
‫ُْ‬ ‫ً‬
‫يجعلهــا طرقيــة صوفيــة ُي َع ِّي ـ ُـن هــو بموجبهــا مــن َيخل ُفـ ُـه مــن أهــل بيتــه كمــا تفعــل‬
‫ًّ‬
‫وعضــا فــي الدعــوة بــإزاء عــض الدولــة وقــد‬ ‫الطــرق الصوفيــة فيكــون األمــرتوريثــا‬
‫ُ‬
‫عــاش عمـ َـره ي ــنكره ويســتنكره؟ أم ت ـراه يختــارمــن مجلــس إرشــاد الجماعــة مــن‬
‫يـراه هو أهال للمهمة التاريخية الجليلة؟ أم يكل األمرإلى قيادات الجماعة لتـرى‬
‫رأيها من غيـرأن يوجهها بإشارات تعيـن على تجاوز أمرذي بال وهو املربي األول‬
‫والربــان الحريــص علــى ســامة السفي ــنة إلــى آخــرلحظــة فــي حياتــه وبعــد التحاقــه‬
‫بالرفيــق األعلــى إلــى أن ترســو علــى شــاطئ الخالفــة اآلمــن؟‬
‫أسئلة ال نجد بغيتنا من أجوبتها إال في وثيقة وحيدة واحدة مرئية توثق‬
‫املجلــس التاســع مــن مجالــس رابطــة كتبــة الجماعــة انعقــد بالــدارالعامــرة بســا‬
‫عــام ‪2005‬م‪ ،‬هيــأ بهــا األســتاذ املرشــد نفــوس تالمذتــه ومحبيــه لغيابــه الحتم ــي‬
‫وحمــل األجيــال املتعاقبــة أمانــة‬ ‫وح َّم َلهــم فيهــا َّ‬ ‫الــذي ال ر ّاد لــه ولــو بعــد حي ــن‪َ ،‬‬
‫ََ‬
‫التبليــغ‪ ،‬ووجههــم إلــى آليــة اختيــارخل ِفــه مــن بعــده‪.‬‬
‫قلنــا آنفــا إن اإلمــام رحمــه هللا أكب ــر مــن أن َيـ ِـك َل أم ـرا جليــا يقــوم عليــه‬
‫مســتقبل الجماعــة إلــى الطريقــة الشــفوية مــن فــم ألذن‪ ،‬ولهــذا الســبب خاطــب‬
‫اإلمام أعمدة الجماعة في الوثيقة املرئية التـي نتناولها في هذا الفصل‪ ،‬مباشرة‬ ‫ُ‬
‫بعــد االســتفتاح‪ ،‬فقــال‪:‬‬
‫«بمــا أن هــذا سيس ـ َّـجل‪ ،‬وبمــا أن هــذا سـ ُـيبث بعــد هــذه الجلســة فــي‬
‫مجلسكم املقبل‪ ...‬فقد ال نحتاج إلى من يـردد هذه الكلمات (!!!) التـي أرجو أن‬

‫‪77‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫تكــون مقتضبـ ًـة وإن كانــت هــذه الكلمـ ُ‬
‫ـات طويلــة‪ 1‬وكبي ــرة وعميقــة أحــب أن أبثهــا‬
‫إلــى إخوانــي وأخواتــي‪.2»...‬‬
‫كان مضمــون كالم الرجــل أعمــق معن ــى وأبعــد غايــة وأشــد دقــة وأوض ــح‬
‫ْ َ‬
‫حسما وأثقل في ميزان ما تحتاجه الجماعة في األجيال املتعاقبة‪ ،‬من أن ُيك َتفى‬
‫فيــه بــأن ي ــردده املــرددون شــفويا‪ ،‬مــن فــم ألذن‪ .‬ونحــن نعــرف مصي ــر الرســائل‬
‫الشــفوية الت ــي ضاعــت‪ ،‬علــى أهميتهــا‪ ،‬تحــت أقــدام التناس ــي أو النســيان‪ ،‬أو‬
‫َ‬
‫بي ــن أدراج اإلهمــال‪ ،‬أو فــي متاهــات التشــكك أو التشــكيك‪ ،‬أو بأ ْسـ َـواء الفهــوم‬
‫وأخالط التأويالت أو بحظوظ النفوس‪ ...‬ولهذا السبب اطمأن أستاذنا املرشد‬
‫وإمامنا املجدد إلى أن ما يبثه إلى إخوانه وأخواته في هذا املجلس قد ُ‬
‫ض ِم َن أنه‬
‫موثق بالصوت والصورة‪ ،‬وأنه سيصل إلى املعنييـن به ولو بعد حيـن‪ ،‬ورجا أن‬
‫تكــون كلمتــه تلــك مقتضبــة‪ ،‬وإن كان موضوعهــا يفــرض طــوال‪ ،‬وكب ـرا‪ ،‬وعمقــا‪.‬‬
‫وكل هذا يدل على جسامة ما توجه به إلى الجماعة في شخص أولئك الحضور‬
‫الشهود‪.‬‬
‫الوثيقــة مرئيــة متداولــة فــي الشــبكة العنكبوتيــة‪ ،‬ولكننــا لســنا نــدري إن‬
‫َ‬
‫املعتمــدة‪.‬‬ ‫كانــت ترقــى إلــى درجــة الوثيقــة املكتوبــة القويــة‬
‫ومــن أجــل إدراك مــدى قــوة هــذه الوثيقــة‪ ،‬ولقيــاس درجــة ســموها حت ــى‬
‫ص إليه‬ ‫معتمدة‪ ،‬ولالطمئنان إلى ما يمكن أن َن ْخ ُل َ‬
‫نعرف إن كانت تصلح وثيقة َ‬
‫بعــد قراءتهــا مــن مخرجــات قــد تكــون حاســمة فــي تاريــخ جماعــة العدل واإلحســان‬

‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫‪ - 1‬األصل أن تنصب «طويلة» وما ُع ِطف عليها باعتبارها خبـركان‪ ،‬ولكن اإلمام رفعها مباشرة بعد أن أنفذ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ‬
‫القاعــدة قبلهــا علــى «مقتضبــة» ممــا نســتبعد معــه الخطــأ العــارض‪ .‬وال نـراه رحمــه هللا إال أنــه خــرق القاعــدة‬
‫ً‬
‫النحوية ليـرفع من قدركلماته طوال وكبـرا وعمقا!‬
‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬املجلس التاسع لرابطة الكتبة»‪ 19 ،‬مارس ‪2005‬م‪( .‬فيديو)‪.‬‬
‫‪78‬‬
‫حاضرا ومستقبال‪ ،‬فإننا سننظرإليها من ثالث زوايا تمنحنا نظرة شاملة كاملة‪:‬‬
‫الزاوية األولى‪..‬‬
‫ننظــرمنهــا إلــى طبيعــة هــذا املجلــس التاســع مــن مجالــس رابطــة الكتبــة‪،‬‬
‫الذي عقد بالدارالعامرة بســا يوم الســبت ‪ 19‬مارس ‪2005‬م‪ ،‬فنجد أن األمر‬
‫نفســه‪ ،‬وأشــرف وحــرص علــى حضــور‬ ‫يتعلــق ب ـرابطة أسســها اإلمــام رحمــه هللا ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وإعدادها‬ ‫تأهيل أقالم الجماعة‬ ‫مجالسها وتوجيه الحضور فيها‪ .‬وكانت الغاية‬
‫ْ‬
‫ملــا كان ي ــنتظرها‪ ،‬وال ي ـزال‪ ،‬مــن جهــاد الكلمــة‪َ ،‬ول َن ُقـ ْـل ِمــن ترجمــة مضمــون‬
‫مكتوبــات مشــروع املنهــاج النبــوي إلــى النــاس بعــد َ«ت ْه ِو َي ِت َهــا»‪ ،‬كمــا كان يقــول‬
‫حمــه هللا‪ .‬ومقصــوده مــن هــذه «التهويــة» أن ي ــنقل ْال َك َت َبـ ُـة إلــى النــاس مشـ َ‬
‫ـروع‬ ‫ر‬
‫ومضمــون وروح ورســالة وأصالــة املنهــاج النبــوي واضحــة قويــة مؤث ــرة محفــزة ال‬
‫تشــوبها شــائبة‪ ،‬عب ــرالســهل املمتنــع مــن األســاليب والســهل املتيســر ّ‬
‫امليســرمــن‬
‫ِ‬
‫األشــكال‪.‬‬
‫وكان أستاذنا قد أعد كتيبا صغي ـرا بحجم كف يد اليافع تحت عنوان‪:‬‬
‫«حت ــى يغي ــروا مــا بأنفســهم ‪ -‬مشــروع سلســلة كتــب»‪ ،‬اقت ــرح فيــه علــى كتبــة‬
‫الجماعة التأليف في ثالثة وعشريـن موضوعا في قضايا التـربية والتاريخ والفكر‬
‫واملـرأة والطفولــة والشــباب والفــن والصحــة واالقتصــاد والجنــس‪...‬‬
‫وكان الحضــور فــي هــذا املجلــس يضمــون‪ ،‬إلــى جانــب بعــض قيــادات‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الجماعة وبعض الرموز من ذوي السابقة والغناء‪ ،‬الكتبة املتمرسي ــن والكتبة‬
‫َُّ‬
‫املرشحي ــن واملرشــحات للكتابــة باســم الجماعــة‪ .‬ويكفــي أن نذ ِكـ َـر بالصفــة الت ــي‬
‫ـور فــي ذلــك املجلــس لنقيــس درجــة دقــة املوقــف وحجــم‬ ‫ـام الحضـ َ‬
‫خاطــب بهــا اإلمـ ُ‬
‫قــوة مــا تضمنــه كالمــه حي ــن توجــه إليهــم بخطابــه الواض ــح الدقيــق قائــا‪:‬‬

‫‪79‬‬
‫ُ‬ ‫«أنتم َ‬
‫آل جماعة العدل واإلحسان‪ ...‬آلها بمعنـى أعمدتها»‪.‬‬
‫أنفسهم‪،‬‬ ‫والك َت َب َة َ‬
‫َ‬
‫مجلس رابطة الكتبة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫على أن الختياراألستاذ املرشد‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫للحديــث عــن قضيــة خطي ــرة فــي تاريــخ الجماعــة داللــة ال تخفــى‪ِ .‬فلك َت َبـ ِـة جماعــة‬
‫العدل واإلحســان املجتمعي ــن في ذلك املجلس‪ ،‬أو الالحقي ــن بهم مســتقبال جيال‬
‫ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫بعــد جيــل‪ ،‬صفــة الشــهود العــدول‪ ،‬بمــا يفت ــرض أن َيكونــوه وفــاء للمشــروع‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ولصاحبــه ومنافحــة عنهمــا‪ ،‬وإدراكا لتوجيهاتــه ووعيــا بمراميــه‪ ،‬وأمانــة وقــوة‬
‫وإرادة وقــدرة علــى التبليــغ األمي ــن ملخرجاتــه‪ ،‬وثباتــا علــى مــا َع ِهـ َـد بــه إليهــم أو‬
‫ْ‬
‫تعاهــدوا معــه عليــه وتعاقــدوا‪ .‬كمــا أنهــم أحــق أن تضطــرب قلوبهــم فــي ِجذ ِر َهــا‬
‫َ‬
‫ـف مــرة قبــل أن يســمحوا‪ ،‬وال ي ــنبغي لهــم‪ ،‬بــأن‬ ‫مــن أفئدتهــم فــي صدورهــم ألــف ألـ ِ‬
‫َ ٌّ‬
‫ـظ ُم ْغــر أو خــوف ُمـ ْـزر ُي ْر ِخـ ُ‬
‫ـص دماءهــم فــي شرايي ــنها‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫يتســرب إلــى مــداد أقالمهــم حـ‬
‫ُر ْخـ َ‬
‫ـص املــاء فــي حــارة السقائي ــن‪.‬‬
‫الزاوية الثانية‪..‬‬
‫نرصــد منهــا الحــدث اإلعالمــي الــذي كان منطلــق اإلمــام فــي حديثــه عــن‬
‫موضــوع خالفتــه‪ ،‬ذلــك أن قضيــة خالفتــه فــي مســؤوليته علــى رأس الجماعــة بــل‬
‫فــي قلبهــا كانــت مثــارأحاديــث متصاعــدة النب ــرة مــع تقدمــه فــي الســن‪ ،‬تجلــى فــي مــا‬
‫كل بباعــث خــط تحري ــره وألجــل غايتــه‪.‬‬ ‫كانــت تتناولــه املناب ــراإلعالميــة ٌّ‬
‫َ‬ ‫وكان هــذا املوضـ ُ‬
‫ـوع املضمــون الرئيس ــي لحــوار نشــره املوقــع الرســمي‬
‫للجماعــة‪ )aljamaa.net( 1‬فــي ‪ 7‬مــارس ‪2005‬م نقــا عــن أســبوعية «الجريــدة‬
‫األخرى»‪ ،‬أجراه الصحفي عبد الحق بلشكرمع عضو مجلس اإلرشاد الدكتور‬
‫عبــد الواحــد متــوكل‪.‬‬

‫‪/-1‬األستاذ‪-‬عبد‪-‬الواحد‪-‬املتوكل‪-‬في‪-‬استجواب‪https://www.aljamaa.net/ar/2005/03/07/‬‬
‫‪80‬‬
‫ننقــل هنــا الجــزء األول مــن الحــوار ملناســبته مــع موضــوع هــذا البحــث‪،‬‬
‫متجاوزي ــن مــا ال ي ــناسب ســياقنا علــى أهميــة القضايــا الت ــي تناولهــا‪.‬‬
‫جــاء فــي الســؤال األول أن «هنــاك اآلن أســئلة لــدى ال ـرأي العــام حــول‬
‫مســألة خالفــة الشــيخ ياسي ــن‪ ،‬فكمــا تعلمــون أن األعمــاربيــد هللا‪ ،‬والشــيخ يبلــغ‬
‫من العمر ‪ 77‬عاما‪ ،‬فهل ناقشتم في الجماعة هذه املسألة أم أنكم ستحتكمون‬
‫إلــى مــا هــو وارد فــي املنهــاج النبــوي؟»‪.‬‬
‫وأجــاب الدكتــور متــوكل أن «هــذا األمــر محســوم لدي ــنا ونحــن ال نطــرح‬
‫هذه القضية الت ــي أثارتها بعض وســائل اإلعالم وتحاول أن تصنع منها مشــكلة‪،‬‬
‫أما بالنسبة لنا داخل الجماعة فاألمرغيـرمطروح‪ .‬فالجماعة تتوفرعلى أناس‬
‫راشدي ــن وعقــاء مــن مختلــف الش ـرائح االجتماعيــة ولهــم مســتوى مــن النضــج‬
‫يجعلهم واعيـن بهذه القضية وأمثالها‪ .‬فالكل يعلم أن املوت حق وال بد أن يلبي‬
‫النــداء كل واحــد منــا اليــوم أو غــدا‪ .‬والعمــل الــذي أسســه األســتاذ عبــد الســام‬
‫ياسي ــن حفظــه هللا ال ي ــريد لــه أن ي ــنتهي بموتــه‪ ،‬إنمــا ي ــريد أن يســتمر ويمتــد‬
‫ليتواصــل الخي ــروالعطــاء ويتعاظــم األجــروالثــواب بــإذن هللا‪ .‬وبهــذا الوعــي وهــذه‬
‫النيــة يشــتغل أعضــاء العــدل واإلحســان‪ ،‬نســأل هللا الثبــات وحســن الخاتمــة»‪.‬‬
‫ويعقــب الصحفــي علــى جــواب عضــو مجلــس اإلرشــاد بســؤال يـنت ــزع ِمــن‬
‫فيــه التأكيــد الحاســم الــازم‪:‬‬
‫«إذن هذا أمرمحسوم داخليا؟»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َُ‬
‫ومرك ـزا‬
‫مختص ـرا ِ‬
‫ِ‬ ‫ويؤكــد عضــو مجلــس اإلرشــاد جوابــه بأربــع كل ْي َمــات‬
‫َ‬
‫ُومط ْم ِئنــا وحاســما أن «نعــم هــذا أمــر محســوم»‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫األمــر إذن «محســوم» و«غي ــر مطــروح»‪ .‬ولكــن ال يبــدو أنــه ُحســم علــى‬
‫صعيد مجلس شــورى الجماعة؛ إذ لو كان قد حصل لكان ُعرف‪ .‬ولعله ُحســم‬
‫على صعيد مجلس اإلرشاد‪ ،‬ويبقى نعرف ُب َع ْي َد حيـن إن كان قد ُحسم بحضور‬
‫املرشــد العــام أو فــي غيابــه؟‬
‫وجاء السؤال الثاني‪:‬‬
‫«قبــل قليــل قلتــم إن كثي ـرا مــن بنــود املنهــاج النبــوي التنظيميــة قــد‬
‫تجاوزتهــا الجماعــة‪ ،‬هــل يشــمل ذلــك البنــد الــذي يحــدد طريقــة اختيــاراملرشــد‬
‫حيث هناك إشارة واضحة إلى أن أمرالخالفة سيؤول إلى العضواألكبـرسنا؟»‪.‬‬
‫وأجاب متوكل جوابا واضحا‪:‬‬
‫«قلــت لــك إن كثي ـرا مــن األشــياء التنظيميــة قــد تــم تجاوزهــا ومــن ضمنهــا‬
‫طريقــة اختيــارمــن يخلــف املرشــد»‪.‬‬
‫َ‬
‫املتجاوزة‬ ‫ويأتي السؤال الثالث املستوضح عن اآللية البديلة من اآللية‬
‫الواردة في املنهاج النبوي الختيارخلف مرشد الجماعة بعد التحاقه بربه‪:‬‬
‫«وما هي الصيغة البديلة التـي أقررتموها الختيارالخليفة املحتمل؟‬
‫ويجيب متوكل موضحا‪:‬‬
‫«هنــاك مجلــس «شــورى إرشــاد»‪ ،‬وســتكون هنــاك انتخابــات لتحســم فــي‬
‫األمر»‪.‬‬
‫ولكننــا لــم نكــن نعــرف‪ ،‬قبــل طــرح الصحفــي لســؤاله ذاك‪ ،‬ماهيــة‬
‫َّ‬
‫«شــورى اإلرشــاد» أو وظيفتهــا أو عنوانهــا أو َم َحلهــا مــن هيــاكل الجماعــة‪ .‬نعــرف‬

‫‪82‬‬
‫«مجلــس إرشــاد الجماعــة»‪ ،‬ونعــرف «مجلــس شــورى الجماعــة»‪ ،‬ولكننــا لــم‬
‫نسمع ب ـ ــ«مجلس شورى اإلرشاد»‪ .‬ال نعرف إن كان املقصود به ‪ -‬كما قد يوحي‬
‫االســم ‪ -‬تركيبــة تجمــع بي ــن أعضــاء مجلــس اإلرشــاد وبعــض أعضــاء مجلــس‬
‫الشــورى (ال كل مجلــس الشــورى ألنــه لــو كذلــك لــكان هــو هــو مجلــس الشــورى‬
‫َ‬
‫نفســه)‪ ،‬أو املقصــود بــه مجلــس إرشــاد مصغــر‪ ،‬أو تركيبــة تجمــع بيــن هــذا وبي ــن‬
‫بعــض أعضــاء مجلــس الشــورى‪.‬‬
‫ـس‬‫وهــل كان الدكتــور متــوكل يقصــد بـ ـ ــ«مجلــس «شــورى إرشــاد»» مجلـ َ‬
‫الشورى ولكنه أخطأ التعبيـر؟ وهل كان يقصد أن ذلك املجلس كان منوطا به‬
‫مجرد اختيارآلية انتخاب خلف األستاذ املرشد أم أن اآللية كانت قد ُح ِس َم ْت‬ ‫ُ‬
‫فــي مــكان مــا علــى أن يتــم انتخـ ُ‬
‫ـاب املرشــد الجديــد فــي مــكان ثــان؟‬
‫ال نســتطيع اإلجابــة مــا دام أن األســتاذ املرشــد نفســه‪ ،‬بحســب مــا تــدل‬
‫عليــه الوثيقــة املرئيــة الت ــي نتناولهــا هنــا‪ ،‬لــم يكــن يملــك جوابــا‪.‬‬
‫كل الحوار‪ .‬وبقراءته وبالتمعن في مضمونه‬ ‫كان ذاك جزءا من الحوارال َّ‬
‫كلــه يمكــن أن نفهــم إشــارات األســتاذ املرشــد فــي املجلــس التاســع لرابطــة كتبــة‬
‫الجماعــة وهــو يعقــب عليــه ملمحــا إلــى بعــض مــا ورد فيــه مــن قريــب ومــن بعيــد‪.‬‬
‫الزاوية الثالثة‪..‬‬
‫نتنــاول مــن خاللهــا مضمــون املوضــوع الرئيس ــي لكلمــة اإلمــام فــي ذلــك‬
‫املجلــس التاريخــي‪ ،‬مــع إشــارات مقتضبــة مــن املوضوعــات الفرعيــة الت ــي تناولهــا‬
‫وتفتــل فــي حبلهــا وت ــزيدها قــوة إلــى قوتهــا‪ .‬ونعــرض الجــزء األول مــن هــذه الوثيقــة‬
‫املرئيــة‪ ،‬ونعلــق عليهــا‪ ،‬قبــل االنتقــال إلــى تتمتهــا‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫«أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم‪ .‬بسم هللا الرحمن الرحيم‪.‬‬
‫وصلى هللا وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم‪.‬‬
‫عشــية هــذا اليــوم املبــارك‪ ،‬يــوم الســبت ثامــن صفــرالخي ــر‪ ،‬ســنة ســت‬
‫وعشري ــن وأربــع مائــة وألــف‪ ،‬جعلــه هللا شــهرا مبــاركا وســنة مباركــة ومجلســا‬
‫مبــاركا‪ ،‬وجعــل مجالســكم جميعــا مجالــس مباركــة‪.‬‬
‫سيبث بعد هذه الجلسة في مجلسكم‬ ‫سيسجل‪ ،‬وبما أن هذا ُ‬ ‫َّ‬ ‫بما أن هذا‬
‫املقبــل عــن قريــب بعــد ثالثــة أســابيع‪ ،‬فقــد ال نحتــاج إلــى مــن ي ــردد هــذه الكلمــات‬
‫الت ــي أرجــو أن تكــون مقتضبــة وإن كانــت هــذه الكلمــات طويلــة وكبي ــرة وعميقــة‬
‫أحــب أن أبثهــا إلــى إخوانــي وأخواتــي‪ ...‬وقــد أتيــت معــي بمذكــرة لكــي ال أنس ــى ومــا‬
‫أســرع النســيان‪ .‬وال يســرع باإلنســان العمرإال ويســرع إليه النســيان وتســرع إليه‬
‫املــوت تنقــربابــه وتــدق عليــه وتقــول‪ :‬آن األوان يــا فــان‪.‬‬
‫أول ما أحدثكم عنه‪ :‬القرآن‪ .‬القرآن‪.‬‬
‫أصبحت مجالســكم مجالس لتذكي ــراإلخوان واألخوات بضرورة حفظ‬
‫القرآن‪.‬‬
‫َ‬
‫حفظ‪ .‬معنـى َح ِفظ يحفظ؟‬
‫بمفهوم عكسـي نفهم‪َ :‬‬
‫ض َّي َع‪.‬‬
‫هــل نضيــع القـرآن أو نحفظــه؟ وهــو عهــد مــن رســول هللا صلــى هللا عليــه‬
‫وســلم إلي ــنا جميعــا‪َ .‬ع ِهـ َـد إلي ــنا‪.‬‬
‫ً‬ ‫وأل يعاهد ُ‬ ‫َّ‬ ‫واألخوات أحيانا َّأل َّ‬ ‫َ‬
‫بعضهم بعضا‬ ‫يتعهدوا‬ ‫ِ‬ ‫اإلخوان‬ ‫قد أنهى‬

‫‪84‬‬
‫علــى حفــظ القـرآن‪ .‬ألن إذا عاهــد هــذا ش ــيء‪ ،‬وإذا َع ِهـ َـد إليــك هــذا أمــرآخــر‪ .‬فــإذا‬
‫ـدت معــه فقــد‬‫ضيعــت األمانــة‪ .‬أمــا إذا تعاقـ َ‬ ‫عتهــا فأنــت ّ‬ ‫َعهـ َـد إليــك أمانــة َّ‬
‫وضي َ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫تحالفتمــا وأصبــح األمــرخطي ـرا‪.‬‬
‫َع ِه َد إليـنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن نحفظ القرآن عندما قال‬
‫ّ‬ ‫ّ ُ‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪«َ :‬ب ِلغوا عني» ‪ -‬هذا أمر ‪«َ -‬ب ِلغوا عني ولو آية»‪.‬‬
‫هذا شـيء‪[ .‬هذا] أمر»‪.‬‬
‫تحــدث اإلمــام عــن أهميــة توثيــق هــذا املجلــس‪ .‬ثــم تحــدث عــن املــوت‬
‫القريــب‪ .‬ثــم تحــدث عــن أمانــة حفــظ الق ـرآن‪ .‬ثــم تحــدث عــن خطــورة خــرق‬
‫العهــود‪ .‬ثــم تحــدث عــن أمانــة التبليــغ ولــو كان آيــة مــن القـرآن‪ .‬ثــم ختــم كل هــذا‬
‫بقولــه‪:‬‬
‫«هذا شـيء‪[ .‬هذا] أمر»‪.‬‬
‫وكأنه يهيء بما سبق ألمرجلل‪...‬‬
‫إن هللا يأمركم‪...‬‬
‫ختــم اإلمــام الجــزء األول مــن كلمتــه فــي مجلــس رابطــة الكتبــة بإي ـراده‬
‫الحديث الشــريف الذي يأمرنا فيه الحبيب صلى هللا عليه وســلم بأن نبلغ عنه‬
‫َّ‬
‫ولــو آيــة‪ ،‬وامتثــل رحمــه هللا علــى الفــور لألمــرالنبــوي فبلــغ الحضــور فــي مســتهل‬
‫الجــزء الثانــي مــن كلمتــه آيــة قرآنيــة عظيمــة‪ ،‬وكل آيــات القـرآن عظيمــة‪ ،‬رابطــا‬
‫بي ــن مــا أل ــح عليــه مــن املعانــي فــي الجــزء األول وبي ــن مــا يقصــده فــي الجــزء الثانــي‪.‬‬
‫ومن يتابع الوثيقة املرئية لهذا املجلس يـرى في هذه النقطة بالذات لقطة يظهر‬
‫فيهــا األســتاذ املجاهــد ســيدي محمــد العلــوي رحمــه هللا متفاعــا منتبهــا مشــدوها‬

‫‪85‬‬
‫بقوة ما يسمع من كالم اإلمام‪ ،‬وهو‪ ،‬رحمه هللا‪ ،‬الذي كان يعرف ِم ْن مصحوبه‬
‫مــا ال نعــرف نحــن‪:‬‬
‫َّ َ ۡ ُ َ ُ َ ْ ۡ َ ٰ َٰ َ ٓ َ‬
‫﴿إ َّن ٱللــه َيأ ُم ُركـ ۡـم أن تــؤ ُّدوا ٱل َمنـ ِـت ِإلـ ٰـى أ ۡه ِل َهــا﴾‪.1‬‬
‫«يقــول هللا عــزوجــل‪ِ :‬‬
‫وكل جيــل منكــم‪ ،‬معاشــر اإلخــوان واألخــوات فــي جماعــة العــدل واإلحســان‪،‬‬
‫مكلــف أن يــؤدي أمانــة‪ ،‬وأن يبلغهــا إلــى مــن بعــده‪ ،‬وإلــى مــن حولــه‪ ،‬وإلــى مــن‬
‫يســأله‪ ،‬وإلــى مــن ال يســأله‪ ،‬ال ســيما أن تبلغــوا أمانــة العــدل واإلحســان كاملــة»‪.‬‬
‫بحســبنا أن يخاطبنــا اإلمــام املرشــد بهــذه اآليــة الجليلــة لت ــرتعد منهــا ومــن‬ ‫ْ‬
‫كل بحســب‬ ‫ائصنــا علــى مــا تحتهــا‪ٌّ ،‬‬ ‫ضريبتهــا ومــن تبعاتهــا فــي الدنيــا وفــي اآلخــرة فر ُ‬
‫درجــة قربــه مــن اإلمــام ومــدى ســابقة صحبتــه ومرتبــة الشــارة الت ــي يحملهــا علــى‬
‫ً‬
‫كتفه وعمق صدق محبته ملن أخرجه بإذن ربه من الظلمات إلى النور‪ ،‬إخوانا‬
‫ـوات‪ ،‬جيــا بعــد جيــل‪.‬‬ ‫وأخـ ٍ‬
‫الحمــل وتعظــم تبعــات التكليــف مــع مســؤولية تبليــغ األمانــة‬ ‫ويثقــل ِ‬
‫ألط ـراف كثي ــرة ال لطــرف واحــد‪ :‬وهــم َمـ ْـن َ‬
‫بعدنــا‪َ ،‬ومـ ْـن حولنــا‪َ ،‬ومـ ْـن يســألوننا‪،‬‬
‫ومــن ال يســألوننا‪ .‬املعنيــون منهــم بهــا وغي ـ ُـر املعنيي ــن‪.‬‬
‫ُ‬
‫ويزداد الحمل ثقال والتكليف والتبعات شدة مع تأكيد اإلمام على تبليغ‬
‫ُْ‬ ‫َْ َ‬
‫«أمانــة العــدل واإلحســان كاملــة» ال ُمثلــة بهــا وال ثل َمــة‪ .‬وكمــال أمانــة «العــدل‬
‫واإلحســان» فــي كمــال كل شــق منهمــا علــى حــدة‪ ،‬وفــي كمــال وحدتهمــا وتماســكهما‬
‫ً‬
‫وتالزمهمــا معــا‪.‬‬
‫ويستأنف إمامنا حديثه فيطرق موضوع خالفته ومن يخلفه‪:‬‬
‫«الناس يتـربصون بنا‪ ،‬وبعضهم يسخرويستهزئ ويقول‪:‬‬
‫‪ - 1‬النساء‪.58 :‬‬
‫‪86‬‬
‫‪« -‬ذلــك الشــيباني (األشــيب) ســوف يمــوت‪ ،‬ال نــدري مــن يكــون بعــده‪،‬‬
‫َ َ َ‬
‫وسيتشــتتون وســيتفرقون شــذ َر َمــذ َر‪.»...‬‬
‫س ــي عبــد الواحــد (متــوكل) موجــود معنــا هنــا أم ال؟ أي ــن هــو؟ ذهــب‬
‫واختبــأ‪( ...‬يبتســم اإلمــام ابتســامته املعهــودة)‪.‬‬
‫ســيدي عبد الواحد قال لجريدة‪« :‬إذا مات فالن فنحن قد َسـ َّـو ْي َنا هذا‬
‫املشكل»‪.‬‬
‫بمعنـى أن هذا املشكل ليس مطروحا‪.‬‬
‫ولكن هل املشــكل مطروح أم غي ــرمطروح؟ أنا أســألكم؛ هل املشــكل أو‬
‫الســؤال مطــروح أم غي ــرمطــروح؟ مــات فــان‪ ،‬مــن يخلفــه؟»‬
‫بطــرح الســؤال أمــام «آل جماعــة العــدل واإلحســان» يكــون األســتاذ‬
‫املرشــد رحمــه هللا قــد أعــاد األمــرإلــى نصابــه‪ ،‬وهــو أن يكــون هــؤالء «اآلل» َومــن‬
‫وراءهــم مــن أعضــاء الجماعــة علــى بي ــنة مــن أمرهــم فــي قضيــة خطي ــرة فــي ظــرف‬
‫دقيق من تاريخ الجماعة‪ .‬وفي استفهامه اإلنكاري َر ٌّد واضح على مضمون حوار‬
‫عضــو مجلــس اإلرشــاد‪.‬‬
‫ويســائل اإلمــام الحضــور‪ ،‬وفــي مســاءلته تذكي ــربمــا ي ــنبغي أن يكــون عليــه‬
‫املؤمــن الصــادق‪ ،‬وتحذي ــرممــا يدفــع إليــه حــب الرئاســة مــن مخاطــروتجــرإليــه‬
‫أهــواء النفــس مــن كــوارث‪:‬‬
‫«هــل يتصــارع النــاس وكل واحــد يقــول‪« :‬أنــا لهــا أنــا لهــا»؟ أم نســكت‬
‫ونستصغرأنفسنا ونقول‪ :‬نحن ال نستطيع أن نخطوخطوة في هذا [املضمار]؟‬
‫هــل يتســابق النــاس مــن بعــدي؟»‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫ويضــع اإلمــام أحبتــه أمــام حقيقــة موتــه الت ــي يطردونهــا مــن تفكي ــرهم‬
‫ال» (ليس‬ ‫ال ما ز ْ‬
‫والتـي ال بد منها طال الزمن أو قصر‪ ،‬ولكنه يطمئنهم أنه «ما ز ْ‬
‫بعــد)!!!‬
‫«وال بد من بعد‪ ،‬ال بد من بعد‪ ،‬ال بد أن يأتي بعد‪ .‬ليس بعد‪ ،‬ليس بعد‪،‬‬
‫ََ َ ْ َْ ٌ َ َْ‬
‫ـس َّمــاذا تك ِسـ ُـب‬‫ال تفزعــوا‪ .‬ليــس بعــد إن شــاء هللا‪ .‬وهللا أعلــم‪﴿ .‬ومــا تــد ِري نفـ‬
‫َ‬
‫غـ ًـدا﴾‪ .1‬ولكــن ليــس بعــد ليــس بعــد‪ .‬وإنمــا [أقــول هــذا] لنكــون يقظي ــن ونعــرف‬
‫أي ــن تتجــه األمــور‪ .‬طــال الزمــان أو قصــرال بــد مــن بعــد»‪.‬‬
‫وتحمــل عبــارة «بــاش نكونــو فايقي ــن وعارفي ــن في ــن غاديــة الوقــت»‬
‫(لنكــون يقظي ــن ونعــرف أي ــن تتجــه األمــور) معن ــى التحذي ــرمــن كل مــا يمكــن أن‬
‫ُي َنـ ّ ِـوم العزائــم أو يخــرم الذمــم أو يصــرف األنظــارعــن املســؤولية التاريخيــة الت ــي‬
‫يتحملهــا كل أعضــاء الجماعــة وال ســيما األعمــدة منهــم‪ ،‬فــردا فــردا‪ ،‬ال ُي ْسـ ِـل ُم‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫أحدهــم َ‬‫ُ‬
‫يقظتــه الت ــي ط ِلـ َـب إليــه حفظهــا حفــظ الجنــدي لســاحه‪.‬‬
‫آلية الحسم‪..‬‬
‫َ‬ ‫َوي ْخ ُلـ ُ‬
‫ـص اإلمــام إلــى املرجعيــة املعتب ــرة املعتمــدة وإلــى الشــرط املشــروط‬
‫في الحســم فيمن يخلفه ومضمونها أننا «نكون حســمنا األمرإذا رجعنا إلى قول‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬ما خاب من استخاروال ندم من استشار»‪.‬‬
‫ْ‬
‫فأم ُرنــا بي ــننا‪ ،‬نتشــاور‪ ،‬ونســأل هللا عــزوجــل أن يـني ــرلنــا الطريــق»‪.‬‬
‫اإلشارة اإللهية‪..‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ثــم يذكــراإلمــام أعمــدة الجماعــة بأصــل مــن أصــول املرجعية الت ــي تميزها‬
‫عن غي ــرها‪ ،‬لتتميزطريقة حســمها فيما َي ِج ُّد في ســاحتها من قضايا‪:‬‬

‫‪ - 1‬لقمان‪.34 :‬‬
‫‪88‬‬
‫«أال ترون أن جماعتكم هذه‪َ ،‬‬
‫آل جماعة العدل واإلحسان‪ ،‬يؤيدها هللا‬
‫عزوجل بما ال ُي ْس َم ُع إال نادرا وقليال‪ ،‬حتـى إنه تتواتررؤاكم ومشاهداتكم على‬
‫أمر؟ معناه أنها إشارة إلهية‪ ،‬أن ذلك األمرالذي تواترت عليه قلوبكم هذا هو‬
‫الصواب»‪.‬‬
‫ثم يعيد اإلمام حسم األمر‪:‬‬
‫«فــإذن‪ ،‬حســمنا األمــر‪ ،‬ســيدي عبــد الواحــد‪ ،‬باالســتخارة واالستشــارة‪.‬‬
‫أليــس كذلــك؟»‬
‫فيقرمتوكل‪:‬‬
‫«بلى سيدي»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫اختــاراإلمــام أن تكــون مرجعيــة الجماعــة فــي اختيــارخلفــه هــي الحديــث‬
‫الشريف الذي أورده رحمه هللا‪ .‬وال عجب أن يكون الحديث الشريف مرجعية‬
‫الرجــل‪ ،‬فمنهاجــه نبــوي‪ ،‬وســلوكه نبــوي‪ ،‬ومرجعيتــه نبويــة َوم َث ُلــه األعلــى سـ ُ‬
‫ـيد‬
‫الرســل واألنبيــاء‪ .‬اســتخارة واستشــارة أوص ــى أن تكونــا «واسعتي ــن»‪:‬‬
‫«مات فالن رحمه هللا مسكيـن‪ ،‬فبكيـنا عليه يوميـن أوساعتيـن‪ ،‬ودفناه‬
‫وترحمنا عليه وقرأنا عليه بعض الختمات القرآنية‪ ،‬وبعدها نجلس لننظرماذا‬
‫نفعل‪ .‬إذن االســتخارة واالستشــارة‪ ،‬اســتخارة واســعة واالستشــارة أيضا واســعة‬
‫حتـى تمتلئ وتعمرالقلوب»‪.‬‬
‫جعلها اإلمام استخارة واسعة واستشارة واسعة مبيـنا الغاية منهما‪:‬‬
‫«حتـى تمتلئ وتعمرالقلوب»‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫فمقصــوده رحمــه هللا أن يتحقــق املطلــوب‪ ،‬وهــو اختيــار مــن يخلفــه‪،‬‬
‫ولكــن علــى أن تبقــى القلــوب عامــرة باملحبــة‪.‬‬
‫أوص ــى رحمــه هللا باالســتخارة الواســعة واالستشــارة الواســعة‪ ،‬فهــل‬
‫تتحقــق ســعتهما فــي مجلــس شــورى الجماعــة حص ـرا؟‬
‫ََ َ‬
‫ألــم يكــن ممكنــا توســيع دائــرة مجلــس الشــورى الــذي اختــارخلــف اإلمــام‬
‫أيــام ‪ 23 - 22 - 21‬دجنب ــر ‪2012‬م لتشــمل ِمــن ذوي الســابقة والغنــاء والحــظ‬
‫مــن هللا مــن رجــال ونســاء الجماعــة َمــن لــم تتســع لهــم أبــواب القواني ــن املنظمــة‬
‫الختيارأعضائه ليكون لهم مكانهم ولو في بعض أركانه أو زواياه الستيعاب قوة‬
‫ً‬
‫ومســؤولية وجســامة موضــوع خالفــة اإلمــام اســتخارة واستشــارة؟‬
‫أال ي ــرقى أمــر خالفــة اإلمــام الجليــل فــي مســؤولياته علــى رأس الجماعــة‬
‫بــل فــي قلبهــا‪ ،‬إلــى درجــة الحــدث الجليــل الــذي يســتحق مــن توســعة االســتخارة‬
‫واالستشــاره مــا اســتحقه املوقــف التاريخــي الــذي وقفــه بعزمتــه الت ــي رجــع بنــاء‬
‫َ‬
‫عليهــا إلــى أعضــاء الجماعــة‪ ،‬فــي جمعــة ‪ 3‬غشــت ‪1990‬م‪ ،‬حي ــن َحـ َـز َب الجماعــة‬
‫أمـ ُـر اعتقــال أعضــاء مجلــس إرشــادها‪ ،‬فخــرق هــو الحصـ َـار الــذي كان مضروبــا‬
‫صفــر)‪ ،‬بمــا أضــاف إلــى‬ ‫عليــه‪ ،‬فــكان مــا ُعــرف ب ــ«الواجهــة الجديــدة» (قنــوت َ‬
‫رصيد الحركة اإلسالمية في العالم «من أسلوب مزدوج‪ :‬منهاج الرفق في مواجهة‬
‫النظــام العنفــي‪ ،‬ومنهــاج االســتقواء بــاهلل قنوتــا علــى الظاملي ــن شــهرا كامــا»‪1‬؟‬
‫أال يمكــن أن توجــد صيغــة تحقــق الشــورى بأوســع وأعمــق وأســمى مــا‬
‫يمكــن مــن األســاليب الت ــي تبلــغ بالجماعــة مــن درجــات التوفيــق مــا يوصلهــا إلــى‬

‫‪ - 1‬أبو حزم‪ ،‬محمد العربي‪« ،‬عبد السالم ياسيـن ‪ -‬اإلمام املجدد»‪ ،‬مطبعة أفريقيا الشرق‪ ،‬الدارالبيضاء‪،‬‬
‫ط‪1439 ،1‬ه‪2017/‬م‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.309 :‬‬
‫‪90‬‬
‫أعلــى درجــات االطمئنــان‪ ،‬ريثمــا تتســامى قواني ــننا علــى اآلليــات الحزبيــة الت ــي ال‬
‫تمي ــزبي ــن معــادن الرجــال؟‬
‫نتحدث عن االطمئنان املطلوب؛ والغيب أول أمداده‪.‬‬
‫َّ ُ‬
‫لئل ن ْح َرم‪...‬‬
‫يســتأنف اإلمــام املرشــد كلمتــه الطويلــة الكبي ــرة العميقــة فيســتدرك‬
‫ويوص ــي‪:‬‬
‫«ولكن أوصيكم جيدا‪ ،‬بأن اإلنسان إذا أراد أن ُي ْح َر َم فليتجه عكس ما‬
‫تشي ــرإليــه اإلشــارة اإللهيــة‪ .‬اتفقنــا علــى أمــرفــإذا بنــا نجعلــه قيــادة جماعيــة كمــا‬
‫فعل ستالي ــن مع أصحابه فبدأ بتصفيتهم واحدا واحدا ولم يبق غي ــره»‪.‬‬
‫وهذا نص يستحق منا وقفة وأي وقفة‪.‬‬
‫فقــد بلــغ األمــر باإلمــام قــدس هللا ســره مــن أجــل التحذي ــرمــن أي توجــه‬
‫يبتعــد بالجماعــة عــن مرجعيتهــا النبويــة‪ ،‬أنــه‪:‬‬
‫‪ -1‬استدرك في إيصائه بـ ـ ــ«لكن»‪.‬‬
‫‪ -2‬وحدد طبيعة توجيهه للجماعة وألعمدتها بأنه وصية «أوصيكم»‪.‬‬
‫‪ -3‬وأكد على إيصائه بالنائب عن املفعول املطلق «جيدا»‪.‬‬
‫َ‬
‫‪ -4‬وتجــاوز التوجيــه املباشــر املحــرج للمخاطــب عمــا بــأدب «مــا بــال‬
‫أقوام»‪ ،‬إلى الحديث عن «اإلنسان» الغائب‪ ،‬ولكنه بدل أن يستعمل الصيغة‬
‫التحذي ــرية العفويــة الت ــي تخطــر علــى البــال عفـ َـو الخاطــر‪ ،‬وهــي أن «الــذي‬
‫ـرم فــا يتجـ ْـه عكــس مــا تشي ــر إليــه اإلشــارة اإللهيــة»‪ ،‬اســتعمل‬
‫ال ُيريــد أن ُيحـ َ‬
‫صيغــة تحذي ــرية أقــوى وأشــد وأبلــغ مــن األولــى‪ ،‬وهــي أن «اإلنســان إذا أراد أن‬
‫‪91‬‬
‫ُي ْحـ َـر َم فليتجــه عكــس مــا تشي ــرإليــه اإلشــارة اإللهيــة»‪ .‬كأنــه يقــول لهــذا اإلنســان‪:‬‬
‫«إنــك إذا ســرت بقدميــك وبإرادتــك وبتصميمــك إلــى الحرمــان الــذي فيــه حتفــك‬
‫تحمــل تبعــات اختياراتــك أحــدا‬ ‫ونهايتــك‪ ،‬فــا تلومــن بعــد ذلــك إال نفســك‪ ،‬وال ّ‬
‫غي ــرك»‪.‬‬
‫‪ -5‬واعتب ــراإلمــام رحمــه هللا أن مــا ورد فــي هــذه الوصيــة هــو اتفــاق بي ــنه‬
‫وبي ــن أعمــدة الجماعــة‪:‬‬
‫«اتفقنــا علــى أمــر فــإذا بنــا‪ »...‬ولفظــة «االتفــاق» أشــد ليونــة بكثي ــر مــن‬
‫لفظتي «التعاهد» (إذا عاهد هذا شـيء) و«التعاقد» (إذا تعاقدت معه) اللتيـن‬
‫وردتــا فــي كالمــه حي ــن تحــدث عــن أمانــة حفــظ الق ـرآن وعــن عواقــب تضييــع‬
‫األمانــة‪ .‬ولهــذا فإننــا نعتب ــرأن مــا ورد فــي كلمــة اإلمــام هــو أكث ــرمــن مجــرد اتفــاق‪،‬‬
‫هــو معاهــدة ومعاقــدة‪ .‬فقــد قــال رحمــه هللا كمــا عرضنــا آنفــا‪:‬‬
‫«إذا عاهــد هــذا ش ــيء‪ ،‬وإذا َع ِهـ َـد إليــك هــذا أمــر آخــر‪ .‬فــإذا َع ِهـ َـد إليــك‬
‫ُ‬
‫تحالفتمــا‬ ‫ـدت معــه فقــد‬ ‫ضيعــت األمانــة‪ .‬أمــا إذا تعاقـ َ‬ ‫وضي َ‬
‫عتهــا فأنــت ّ‬ ‫أمانــة َّ‬
‫وأصبــح األمــر خطي ـرا»‪.‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ثــم حــذراملخاطبي ــن مــن السي ــرفــي النهــج الستالي ــني‪ ،‬القائــم علــى قيــادة‬
‫الرفــاق الجماعيــة فــي املرحلــة االنتقاليــة لـ ــ«األكتــاف املتســاوية»‪ ،‬أوال‪ ،‬واملنتهيــة‬
‫إلــى التصفيــة الجســدية أو املعنويــة أو الت ــرسيب والتهميــش التدريجــي‪ ،‬آخ ـرا‪.‬‬
‫وال يمكننــا وال نســتطيع وال ي ــنبغي وال يجــدر بنــا أن نأخــذ كالم اإلمــام‬
‫املجــدد فــي هــذه الوصيــة‪ ،‬بــل هــذه املعاهــدة الجليلــة‪ ،‬إال بأعلــى درجــات الجديــة‬
‫والقــوة الت ــي تعصمنــا مــن الوقــوع فيمــا حذرنــا منــه‪ .‬رحمــه هللا ورحمنــا ونفعنــا بــه‬
‫ورض ــي عنــه آمي ــن‪.‬‬
‫‪92‬‬
‫يبقى أن نتساءل عن هذه «اإلشارة اإللهية»؛ ما هي؟‬
‫ليــس لدي ــنا وقــت لنضيعــه مــع مــن يغــوص فــي تحليــل معن ــى «اإلشــارة‬
‫اإللهية» إلى ما دون مرحلة اليفاعة والتمييـز‪ ،‬ونتجه قاصديـن إلى املكان الذي‬
‫وردت فيــه هــذه العبــارة مــن هــذه الوثيقــة املرئيــة أول مــرة‪ .‬يقــول رحمــه هللا‪:‬‬
‫آل جماعــة العــدل واإلحســان‪ ،‬يؤيدهــا‬ ‫«أال تــرون أن جماعتكــم هــذه‪َ ،‬‬
‫هللا عــزوجــل بمــا ال ُي ْسـ َـم ُع إال نــادرا وقليــا‪ ،‬حت ــى إنــه تتواتــررؤاكــم ومشــاهداتكم‬
‫علــى أمــر؟ معنــاه أنهــا إشــارة إلهيــة أن ذلــك األمــرالــذي تواتــرت عليــه قلوبكــم هذا‬
‫هــو الصــواب»‪.‬‬
‫ً‬
‫إذن فقــد وردت عبــارة «اإلشــارة اإللهيــة» صفــة للرؤيــا وللمشــاهدة أو‬
‫تفسي ـرا لهمــا‪ .‬أي إن املقصــود أن مــن شــأن ســلوك نه ــج االســتخارة واالستشــارة‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫أصحابهمــا بتواتــر الــرؤى واملشــاهدات‪.‬‬ ‫الواســعتين أن ُيؤ َّيـ َـد‬
‫التأييد الغيبـي يا أخي ويا أختـي‪.‬‬
‫ّ‬
‫ونحتاج إلى أن نذكرأنفسنا بما نبهنا إليه أستاذنا املرشد وبما ربانا عليه‬
‫مــن منهــاج رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم فــي اإليمــان بالغيــب إيمانــا وإيقانــا‬
‫وتصديقــا مــع أدب الشــريعة الــازم‪ .‬فقــد أورد فــي كتابــه «املنهــاج النبــوي» فــي‬
‫هللا عبـ َـاده املجاهدي ــن بالغيــب» مــا جــاء‬
‫الشــعبة الثانيــة والخمسي ــن منــه «تأييــد ِ‬
‫في صحيح اإلمام مسلم في شأن غزوة بواط من أنه «شكا الناس إلى رسول هللا‬
‫صلــى هللا عليــه وســلم الجــوع فقــال‪« :‬عس ــى هللا أن يطعمكــم»‪ .‬فأتي ــنا ســيف‬
‫البحــر‪ .‬فزخــر البحــر زخــرة‪ .‬فألقــى دابــة‪ .‬فأوري ــنا علــى شــقها النــار‪ .‬فأطبخنــا‬
‫واشتوي ــنا وأكلنــا حت ــى شــبعنا»‪.1‬‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬املنهاج النبوي»‪ ،‬ص‪.257 :‬‬
‫‪93‬‬
‫ثم علق عليه رحمه هللا قائال‪:‬‬
‫«معج ـزات جــاءت فــي الشــدة ليؤيــد هللا جهــاد املؤمني ــن‪ ،‬وي ــربط علــى‬
‫قلوبهــم‪ ،‬ليعلمــوا أن لهــم ربــا ي ــنصرهم ملــا نصــروه‪ .‬وكذلــك نحــن عندمــا نعــدد‬
‫املهمــات الشــاقة أمامنــا‪ ،‬ال نفــزع لضخامتهــا‪ .‬فعــون هللا مضمــون إن شــاء هللا‬
‫ووفي ــنا مــا عاهدنــا هللا عليــه‪ .‬وهللا أكب ــر!»‪.1‬‬
‫وال شدة مرت بها الجماعة كانت أشد عليها من رحيل اإلمام املجدد‪ .‬وال‬
‫َّ َ َّ‬
‫شــدة بعدها أشـ ُّـد منها ِإل أل يكون للغيب حضور في اختيارخلفه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كانــت مــن اإلمــام وصيــة‪ ،‬بــل معاهــدة بينــه وبيــن تالمذتــه واضحــة ِّبينــة‬
‫َْ‬
‫جليــة قويــة بالغــة بليغــة أمــام أعمــدة الجماعــة الذي ــن يحفظــون خيمتهــا وتث ُبـ ُـت‬
‫هي بثبات قلوبهم وعلو هممهم وسمو إراداتهم وصالبة عزائمهم وبقوة ما بيـنهم‬
‫وبي ــن ربهــم مــن أس ـرار العبوديــة واملحبوبيــة وبشــدة مــا بي ــن أرواحهــم مــن رحــم‬
‫املحبــة والرحمــة والذلــة‪ ،‬ويحمــون أطرافهــا بأزاهــر أعمارهــم وأمــداد ُمهجهــم‬
‫وأقالمهم‪َ ،‬وي ْف ُدون حياضها بأرواحهم وأعي ــنهم‪ .‬وصية ومعاهدة صاغها اإلمام‬
‫َ‬
‫بأقــوى مــا يحقــق رجــاءه فــي ربــه وآمالــه فــي أبنائــه وبناتــه مــن العبــارات واإلشــارات‬
‫ُ‬
‫فن ْح َر َم ون ْحرم‬‫وأســاليب التوكيد والتحذي ــر َّأل نتوجه عكس «اإلشــا ة اإللهية» ُ‬
‫ر‬
‫ُ‬
‫الغيب على مدى األيام الثالثة التـي تم ّإبانها انتخاب‬ ‫ُ‬ ‫ونحرم‪ .‬فكيف وقد غ ِّي َب‬
‫أمي ــن عــام الجماعــة عــن فضــاء وأجــواء وأركان وزوايــا الــدارالعامــرة الت ــي أيدهــا‬
‫َّ‬ ‫وظ َّل َلهــا الغيــب َ‬‫َ‬
‫وح َماهــا الغيــب ورحمهــا الغيــب وعلمهــا‬ ‫الغيــب وباركهــا الغيــب‬
‫وفاض عليها الغيب بأسراره من أول ما وضع اإلمام املجدد قدمه فيها مع مطلع‬
‫القرن الخامس عشرالهجري‪ ،‬قرن الخالفة الثانية على منهاج النبوة التـي بشر‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬املنهاج النبوي»‪ ،‬ص‪. .257 :‬‬


‫‪94‬‬
‫بهــا‪ ،‬فأخــرج منهــا إلــى األمــة صــرح العــدل واإلحســان البالــغ مــداه إلــى قيــام الســاعة‬
‫بــإذن ربــه‪ .‬وهللا غالــب علــى أمــره ولكــن أكث ــرالنــاس ال يعلمــون؟‬
‫وكيفمــا كانــت البواعــث أو املحاذي ــر‪ ،‬وقــد وجدنــا فــي كل منهــا ثغ ـرات‬
‫تنســفها‪ ،‬فإنــه لــم يكــن هنالــك مــا يب ــرر التغييـ َـب املذهـ َـل للغيـ ِـب فــي أشــد ظــرف‬
‫وإمــداده‪ ،‬فضــا عــن أنــه وصيــة‬ ‫كانــت تحتــاج فيــه الجماعــة إلــى َمـ َـد ِده َوأ ْمــداده ْ‬
‫َ‬
‫اإلمــام املرشــد بــل معاهدتــه الت ــي كانــت تفــرض إمضاءهــا وإنفاذهــا كمــا هــي‪.‬‬
‫من أراده هللا‪ ...‬من؟‬
‫ثم َيخلص إمامنا إلى قلب املوضوع‪:‬‬
‫«فــإذن‪ ،‬مــن أراده ُ‬
‫هللا ســبحانه تعالــى‪ ،‬مــن ظهــر نـ ُ‬
‫ـوره‪ ،‬فنحــن نتفيــأ‬
‫بظاللــه‪ ،‬ونتوســل إلــى هللا عــز وجــل بقلبــه»‪.‬‬
‫املؤيدتي ــن باإلشــارة اإللهيــة‬‫وبعــد االســتخارة واالستشــارة الواســعتين َّ‬
‫املتواتــرة‪ ،‬يكــون االختيــارملــن ســبق فــي علــم هللا واختارتــه إرادة هللا‪ ،‬فظهــرنــوره‬
‫وكان قمي ــنا بــأن يســتظل بظلــه املســتظلون ويتوســلوا بقلبــه إلــى ربهــم‪ .‬وهــذه‬
‫مؤهــات أســمى مــن أن تســتوعبها هــذه املراتــب التنظيميــة الت ــي تعارفنــا عليهــا‪،‬‬
‫ّ‬
‫مهمــا عــا شــأنها ووش ــحت نياشي ـ ُـنها صــدور أصحابهــا‪ ،‬مــع مــا لهــم فــي القلــب مــن‬
‫حــب وتقدي ــر وتعظيــم‪ ،‬ومــا لهــم مــن ســابقة وغنــاء وحــظ مــن هللا‪ .‬وإنمــا هــي‬
‫مؤهالت ال تكون إال ملن اختاره هللا تعالى وأراده ليقوم بوظيفة األنبياء وورثتهم‪:‬‬
‫الداللــة علــى هللا‪ ،‬كمــا قــام بهــا أســتاذنا املرشــد وإمامنــا املجــدد رض ــي هللا عنــه‬
‫ـوره‪،‬‬‫ورحمــه وقــدس ســره‪ .‬وعلــى هــذا األســاس ال يمكــن فهــم عبــارة‪« :‬مــن ظهــرنـ ُ‬
‫فنحن نتفيأ بظالله‪ ،‬ونتوسل إلى هللا عزوجل بقلبه» إال أن املقصود بـها صفة‬
‫ـدال علــى هللا‪ ،‬ال صفــة املســؤول التنظيم ــي‪.‬‬‫الخليفــة الــوارث املصحــوب الـ ّ‬

‫‪95‬‬
‫ولكــي نتأكــد‪ ،‬أخــي وأخت ــي‪ ،‬مــن طبيعــة وظيفــة مــن يخلــف اإلمــام إن كانت‬
‫َ َ‬
‫وظيفــة تنظيميــة أم أنهــا وظيفــة تربويــة بــل أســمى وظيفــة تربويــة‪ ،‬قا ِرنــا بي ــن‬
‫الصيغــة الت ــي جــاءت فــي كالم اإلمــام حي ــن وصــف خليفتــه فــي هــذه الوثيقــة التــي‬
‫ـوره‪،‬‬ ‫نحــن بصددهــا (‪2005‬م) بأنــه‪« :‬مــن أراده ُ‬
‫هللا ســبحانه تعالــى‪ ،‬مــن ظهــر نـ ُ‬
‫فنحــن نتفيــأ بظاللــه‪ ،‬ونتوســل إلــى هللا عــز وجــل بقلبــه»‪ ،‬وبي ــن الصيغــة التــي‬
‫جــاءت فــي كالمــه ر�ضــي هللا عنــه عــن الشــيخ حمــزة رحمــه هللا بعــد رحيــل الحــاج‬
‫العبــاس إلــى رحمــة هللا (‪1972‬م)‪ ،‬حي ــن قــال‪« :‬فــا نـزال عليــه عاكفي ــن وببابــه‬
‫واقفي ــن‪ ،‬وأتــم هللا لنــا نورنــا بب ــركته وجعلنــا مــن الواصلي ــن إلــى حضرتــه»‪ .1‬ثــم‬
‫حيـن قال فيه في رسالة «جماعة اإلرشاد» (‪1973‬م)‪« :‬وال يزال شيخنا السند‬
‫الــذي إليــه نرجــع‪ ،‬ومــن قلبــه الطاهــرنســتلهم معانــي الخي ــر‪ .2»...‬أليــس هنــاك‬
‫تطابق بيـن‪« :‬من ظهرنوره» من جهة وبيـن‪« :‬أتم هللا لنا نورنا ببـركته» من جهة‬
‫ثانية‪ ،‬ثم بي ــن‪« :‬نتفيأ بظالله» وبي ــن‪« :‬فال نزال عليه عاكفي ــن وببابه واقفين»‪،‬‬
‫ثم بيـن «نتوسل إلى هللا عزوجل بقلبه» وبيـن «من قلبه الطاهرنستلهم معاني‬
‫الخيـر»؟‬
‫الص َيغ واملفردات إلى تطابق الوظيفة املقصودة؟‬ ‫أال يحيلنا تطابق ّ‬
‫ِ‬
‫ثــم ي ــنسف أســتاذنا املرشــد بعــض مــا كان ي ــروج أيامهــا مــن اســتحقاق‬
‫«فــان» لخالفتــه‪ ،‬وي ــنسف مــا فــي كتــاب املنهــاج النبــوي مــن أمــور تنظيميــة‬
‫أصبحــت متجــاوزة‪:‬‬
‫ُ‬
‫«ودعكــم ممــا ي ــنشربأنــه فــان كــذا وكــذا وكــذا‪ .‬ودعكــم ممــا كان نشــرفــي‬
‫املنهــاج النبــوي مــن أمــور تنظيميــة فيهــا أنــه بعــد املرشــد يكــون أكب ــرهم ســنا‪ .‬هــذا‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم بيـن الدعوة والدولة»‪ ،‬ص‪.395 :‬‬
‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪ ،‬رسالة «جماعة اإلرشاد»‪ ،‬ص‪.2 :‬‬
‫‪96‬‬
‫كتبنــاه فــي وقــت كان أفقنــا قصي ـرا وضيقــا وقريبــا‪ .‬الجانــب التنظيم ــي فــي املنهــاج‬
‫فاتــه الركــب ولــم نطبــق منــه إال قليــا‪ .‬ال ُيلتفــت إليــه‪ .‬كنــت نتذاكــر مــع بعــض‬
‫اإلخوان في مجلس اإلرشاد؛ هل نكتب ملحقا أو كتيبا مستقال نقول فيه إنه ما‬
‫ُ‬
‫كان مــن األمــور التنظيميــة هــذا ش ــيء ف ْت َنــاه وســبقناه‪.»...‬‬
‫ثــم يحي ــن ختــام الجــزء الثانــي مــن كلمــة اإلمــام فــي هــذا املجلــس التاريخــي‪،‬‬
‫«آل الجماعة»‪ ،‬و«أعمدة الجماعة»‪،‬‬ ‫فيتوجه بالخطاب إلى الحضور بصفتهم َ‬
‫ويحملهــم ج ـراء هــذه الصفــة مســؤولية كب ــرى فــي الحفــاظ علــى أمانــة العــدل‬ ‫ّ‬
‫واإلحسان وفي تبليغها‪ ،‬ويحذرهم من العدو املتـربص بهم حيث ال يظنون‪ :‬حب‬
‫الرئاسة‪:‬‬
‫«آل»؟ آل البيــت‪ :‬أهــل‬ ‫آل جماعــة العــدل واإلحســان‪ .‬مــا هــي َ‬ ‫«أنتــم َ‬
‫البيــت‪ُ ...‬‬
‫وآل‪ :‬جمــع آلــة‪ .‬وكان العــرب ي ــنصبون الخيــام بـ ٍـآل مــن خشــب‪ ...‬وأنتــم‬
‫ُ‬
‫أعمــدة هــذه الجماعــة‪ .‬أنتــم أعمــدة هــذه الجماعــة‪ .‬آلهــا بمعن ــى أعمدتهــا‪ .‬فــإذن‬
‫مسؤوليتكم كبي ــرة ب ـزاف ب ـزاف ب ـزاف ب ـزاف‪ .‬والذي يت ــربص بكم في الزوايا وفي‬
‫املنعرجــات هــو حــب الرئاســة نعــوذ بــاهلل يــا لطيــف‪ ،‬حــب الظهــور الــذي يقصــم‬
‫الظهــور»‪.‬‬
‫ْ ْ َ‬
‫ال ـ ُـم ــثـ ــلة‪..‬‬
‫وفــي جــزء تـ ٍـال مــن املجلــس أورد اإلمــام رحمــه هللا حديثــا عــن ســيدنا أنــس‬
‫بــن مالــك رض ــي هللا عنــه أخرجــه اإلمــام أحمــد وأبــو يعلــى والدارقطن ــي والب ـزار‬
‫والطب ـراني قــال فيــه‪ :‬مــا خطبنــا رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم خطبــة إال قــال‪:‬‬
‫«ال إيمــان ملــن ال أمانــة لــه وال دي ــن ملــن ال عهــد لــه»‪.‬‬
‫ثم علق اإلمام على الحديث قائال‪:‬‬

‫‪97‬‬
‫«في كل خطبة‪ .‬من اللوازم»‪.‬‬
‫ثــم است ــرسل مؤكــدا أنــه «حي ــن يأمرنــا النبــي صلــى هللا عليــه وســلم بش ــيء‬
‫يخاطــب بــه الصحابــة رض ــي هللا عنهــم ويخاطبنــا بــه دائمــا‪ ،‬فمعنــاه أنــه أمــرمهــم‪.‬‬
‫َ‬
‫ل ـ َّـما يقــول صلــى هللا عليــه وســلم‪« :‬أكث ــروا مــن قــول ال إلــه إال هللا» فمعنــاه أنــه‬
‫ش ــيء مهم‪« .‬أكث ــروا من ذكرهادم اللذات»‪ ،‬فمعناه أنه ش ــيء مهم‪ .‬كان يكث ــر‬
‫أن يســأل أصحابــه «مــن رأى منكــم رؤيــا»‪ ،‬ش ــيء مهــم أيضــا»‪.‬‬
‫رسالتان نلتقمهما من ِف ـ ّ ِـي اإلمام رضـي هللا عنه‪:‬‬
‫األولــى أن مــا ي ــنوي أن يحـ ّـدث بــه أعمــدة الجماعــة أمــرمهــم جــدا‪ .‬والثانيــة‬
‫أن الغيب «أمرمهم أيضا» من خالل إشارته إلى حديث‪« :‬من رأى منكم رؤيا»‪.‬‬
‫كأنــه ي ــريد هنــا تأكيــد مــا يوليــه املنهــاج النبــوي للرؤيــا وللغيــب عمومــا‪ ،‬ومــا ي ــنبغي‬
‫إيالؤه من اهتمام ل ــ«اإلشارة اإللهية» خصوصا‪ ،‬في معرض حديثه عن موضوع‬
‫خالفته‪.‬‬
‫ويستأنف اإلمام حديثه‪:‬‬
‫«‪ ...‬إال قال‪« :‬ال إيمان ملن ال أمانة له وال ديـن ملن ال عهد له»‪.‬‬
‫قبيــل قليــل تحدثنــا عمــا َع ِهـ َـد إلي ــنا رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‬
‫عندمــا قــال‪« :‬بلغــوا عن ــي ولــو آيــة»‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫وحديــث عــن ســيدنا َسـ ُـم َرة رض ــي هللا عنــه قــال‪َ :‬مــا خط َب َنــا َر ُســو ُل اللـ ِـه‬
‫ْ َْ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬ ‫َّ ُ ْ ً َّ َ َ‬ ‫َ َّ َّ َ‬
‫الص َدقـ ِـة‪َ ،‬و َن َهانــا َعـ ْـن ال ـ ُـمثل ِة»»‪.‬‬ ‫صلــى اللـ ُـه َعل ْيـ ِـه َو َســل َم خط َبــة إل أ َم َرنــا ِب‬
‫ّ‬
‫ثم علق رحمه هللا على الحديث قائال‪:‬‬

‫‪98‬‬
‫«الصدقة ِم َّم؟‬
‫الصدقــة مــن كل مــا نملــك مــن مــال وجهــد وشــباب وعلــم وابتســامة‬
‫ومســاعدة للنــاس‪ .‬صدقــة‪ .‬وأنتــم كلكــم تعرفــون الحديــث‪« :‬وتبســمك فــي وجــه‬
‫أخيــك صدقــة»‪.‬‬
‫ْ َْ‬
‫«ويـنهانا عن ال ُـمثلة»»‪.‬‬
‫ثم توجه اإلمام إلى الحضور سائال إياهم‪:‬‬
‫«ما هي املثلة؟»‬
‫وبعدمــا أجابــه بعضهــم بــأن املثلــة هــي مــا يقــوم بــه البعــض فــي الحــرب مــن‬
‫عقــب رحمــه هللا وقــال‪:‬‬ ‫تمثيــل بجثــت القتلــى‪ّ ،‬‬

‫نشوه شيئا محت ـ َـرما في الدي ــن‪ .‬اإلنسان محت ـ َـرم ولو كان كافرا‬ ‫«املثلة أن ّ‬
‫فقتلته‪ ...‬النب ــي صلى هللا عليه وسلم قال لك إنها الصورة اآلدمية فال تقطع ال‬ ‫َ‬
‫يديــه وال أنفــه وال‪ ...‬فمــا بالــك بش ــيء أعظــم حرمــة مــن الش ــخص‪ ،‬وهــو دي ــن هللا‬
‫عــزوجل»‪.‬‬
‫ّ‬
‫ثم قال اإلمام بنبـرة قوية محذرة منذرة‪:‬‬
‫ّ‬
‫«وأذكربشـيء قلته مرارا وأكرره لكي ال ُين�سى‪:‬‬
‫كــم مــن دعــوة بــدأت بالصفــاء النبــوي والســنة الصافيــة الخاليــة مــن كل‬
‫َ‬
‫ش ْو ٍب ومن كل َد َر ٍن ومن كل خلط ومن كل‪ ...‬وتم�ضي األجيال‪ ،‬فإذا ب َـزْي ٍد يبتدع‬
‫ـرو يبتــدع كــذا ويزيــد يقــول هــذه ســنة وهــذه كــذا‪ ...‬ويجتهــد فــان‪...‬‬
‫كــذا‪ ،‬وإذا بعمـ ٍ‬
‫إلــى غي ــرذلــك‪ ...‬بي ــن هاللي ــن بي ــن قوسي ــن‪ ...‬في ــزيدون فــي الدي ــن مــا ليــس فيــه‪،‬‬

‫‪99‬‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫فــإذا نحــن فــي خطـ ٍـل (اضطـراب) وخـ َـو ٍاء (فـراغ) وغـ َـرر (خطــر)‪ ،‬هــذه هــي ِال ـ ُـمثلة‬
‫القبيحــة ب ـ ّـزاف»‪.‬‬
‫ماذا يقصد اإلمام بالزيادة في الديـن؟‬
‫ال شــك أن فــي الدي ــن ممــا ال يجــوز الزيــادة فيــه أو النقصـ ُ‬
‫ـان كثي ـرا وكثي ـرا‪.‬‬
‫والدي ــن إســام وإيمــان وإحســان‪ .‬والرؤيــا جــزء مــن ســتة وأربعي ــن جــزءا مــن‬
‫النبــوة‪ ،‬وقــد روى الشــيخان والت ــرمذي وأبــو داود عــن ســمرة بــن جنــدب قــال‪:‬‬
‫كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذا صلى الصبح أقبل عليهم بوجهه فقال‪:‬‬
‫«هــل رأى أحــد منكــم البارحــة رؤيــا؟»‪ ،‬زاد أبــو داود‪« :‬إنــه لــم يبــق بعــدي مــن‬
‫النبــوة إال الرؤيــا الصالحــة»‪ ،‬وهــي مــن الغيــب‪ ،‬واإليمــان بالغيــب أصــل مــن‬
‫أصــول اإليمــان‪ ،‬والصحبــة ركــن مــن أركان أعلــى درجــات الدي ــن‪ :‬اإلحســان‪ ،‬بــل‬
‫هــي بابــه ومفتاحــه‪.‬‬
‫أما إيـراد اإلمام للحديث الشريف‪« :‬ال إيمان ملن ال أمانة له وال ديـن ملن‬
‫ال عهــد لــه»‪ ،‬فقــد ظهــرواض ــحا إلحاحــه فــي هــذا املجلــس علــى ضــرورة الوفــاء بمــا‬
‫ُع ِه َد إلى أعمدة الجماعة به من أمرالصحبة‪ ،‬وبما تعاهدوا مع إمامهم عليه من‬
‫الوفــاء بعهــد املصحــوب‪ .‬ووصيتــه رحمــه هللا َع ْهـ ٌـد َع ِهـ َـد بــه إليهــم‪ ،‬وتعاهــدوا معــه‬
‫عليــه وتعاقــدوا‪ .‬وأول بنــد فــي هــذه املعاهــدة‪ :‬االســتخارة الواســعة واالستشــارة‬
‫الواســعة والتوجه في اتجاه «اإلشــارة األلهية» من غي ــرتعطيل أو تحريف‪.‬‬
‫ومــا يمكــن أن نســتخلصه مــن خــال االســتهالل الــذي اســتهل بــه اإلمــام‬
‫هــذا املجلــس‪:‬‬
‫بإشارته إلى أنه أتى معه بمذكرة بها رؤوس أقالم كلمته لكي ال ينسـى‪...‬‬

‫‪100‬‬
‫وبحديثــه عــن انتفــاء الحاجــة إلــى مــن ي ــردد مضمونــه شــفويا مــن فــم‬
‫ألذن مــا دام موثقــا بالصــوت والصــورة‪ ،‬حرصــا منــه رحمــه هللا علــى أن يصــل إلــى‬
‫تامــا موثقــا بأقــوى مــا يمكــن مــن تقنيــات ُلي ْب َنــى عليــه مقتضــاه‪.‬‬
‫املعنيي ــن بــه كامــا ّ‬
‫ُ‬
‫وبتذكي ــره عمــوم الحضــور باملــوت مشي ـرا إلــى ُدنـ ّ ِـو األجــل‪ ،‬أجلــه هــو‬
‫رحمــه هللا‪ ،‬بالــذات (آن األوان يــا فــان)‪ ،‬وهــي إشــارة إلــى أن مضمــون كالمــه‬
‫ُ‬
‫«وصيــة» تطلــب إنفاذهــا وإمضاءهــا كمــا ي ــنبغي أن تم�ضــى الوصايــا فــي شــرع هللا‪،‬‬
‫ـف بهــا‪.‬‬ ‫َ‬
‫و«معاهــدة» ال دي ــن ملــن لــم يـ ِ‬
‫وبحديثــه عــن الق ـرآن وعــن أمانــة حفــظ الق ـرآن‪ ،‬وتحذي ــره مــن مغبــة‬
‫تضييعــه‪ ،‬وهــي أولــى وصايــاه فــي هــذه الوثيقــة‪ ،‬وتلميحــه تلميحــا بليغــا فــي ســياق‬
‫َ‬
‫حديثــه عــن التعاهــد علــى حفــظ الق ـرآن إلــى خطــورة تضييــع األمانــة املتعاقــد‬
‫عليهــا‪ ،‬تلميحــا يــكاد يبلــغ التصريــح املباشــرملــا أتــى بعــده مــن حديــث عــن التعاقــد‬
‫علــى تبليــغ أمانــة العــدل واإلحســان!‬
‫ومن خالل حوارالدكتور عبد الواحد متوكل املنشور قبل أيام من ذلك‬
‫فــي موقــع الجماعــة‪ ،‬ومــن خــال القضايــا الت ــي تناولهــا ذلــك الحــوار‪ ،‬وعلــى رأســها‬
‫خالفة مرشد الجماعة‪ ،‬ومن طبيعة كليات وجزئيات األجوبة التـي وردت فيه‪.‬‬
‫ومــن خــال مضمــون كلمــة اإلمــام املرشــد فــي هــذا املجلــس الــذي اعتب ــر‬
‫الحاضريــن فيــه «أعمــدة الجماعــة»‪...‬‬
‫ما يمكن أن نستخلصه من هذا كله هوأن الوثيقة املصورة التـي تحمل‬
‫مضمون املجلس التاسع لرابطة كتبة الجماعة الذي عقد بالدارالعامرة بزنقة‬
‫الخيـزران بحي السالم بسال يوم السبت ‪ 19‬مارس ‪2005‬م‪ ،‬واملمتدة على ثالث‬
‫وثالثيـن دقيقة‪ ،‬جاءت‪ ،‬فيما هوأكثـرمن مجرد رد أوتعقيب على حوارعارض‪،‬‬
‫‪101‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ً‬
‫مؤسســة ومذكــرة‪ ،‬وتـ َّـم فيهــا مــا هــو أعظــم مــن مجــرد وصيــة عاب ــرة وهــو التعاهــد‬
‫ِ‬
‫والتعاقد على أمرمهم هو مسطرة وآلية اختيارخليفة مرشد الجماعة‪.‬‬
‫علــى أننــا‪ ،‬لألســباب املذكــورة فــي هــذا الفصــل‪ ،‬نعتب ــر أن الوثيقــة الت ــي‬
‫اســتعرضناها فيــه هــي أهــم وثيقــة مرئيــة فــي تاريــخ جماعــة العــدل واإلحســان‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫الفصل السادس‬
‫حوار ‪2009‬م‬

‫يســتند مــن يتبنــون مفهــوم «الصحبــة فــي الجماعــة» ‪ -‬بالفهــم الــذي ي ــنفي‬
‫«صحبــة رجــل» ويجعلهــا «صحبــة جماعيــة» ‪ -‬إلــى مــا ورد فــي الحلقــة األولــى مــن‬
‫َ‬
‫اإلمام فيها أخونا‬ ‫بـرنامج «حوارات حول املنهاج النبوي» (‪2009‬م)‪ ،‬والتـي حاو َر‬
‫العزيــزالدكتــور محمــد باســك (منــار)‪.‬‬
‫ونجــد الوقــوف علــى هــذه الحلقــة بالــذات مهمــا جــدا وضروريــا‪ ،‬ألنهــا تــكاد‬
‫تكــون الحجــة املعتمــدة األساســية ألصحــاب ذلــك الفهــم‪ ،‬مــن أجــل تس ــجيل‬
‫بعــض املالحظــات فــي الفكــرة وفــي الشــكل وفــي املضمــون قبــل أن نقرأهــا ق ـراءة‬
‫متفحصــة متأنيــة‪.‬‬
‫في الفكرة‪..‬‬
‫نتســاءل أوال عــن اإلضافــة املرجــوة حي ــنذاك مــن هــذا البرنامــج الحــواري‬
‫َ‬ ‫بحلقاتــه الســت أو الســبع‪ ،‬ثــم ّ‬
‫نخمــن‪ ،‬بحســب مضموهــا‪ ،‬أن الهــدف املرجــو لــم‬
‫ـور املســتهدف لــم يكــن محـ ّـددا بدقــة مــن ِق َبــل فريــق‬‫يكــن واضحــا كفايــة‪ ،‬والجمهـ َ‬
‫اإلعــداد‪ .‬أمــا الغايــة عنــد اإلمــام‪ ،‬علــى الرغــم ممــا أحــاط بإعــداد هــذا الب ــرنامج‪،‬‬
‫مؤســس فــي األصــل‪ ،‬ومــا كانــت‬ ‫فكانــت تذكي ــرية‪ .‬مــا كانــت الغايــة تأسيســية ملــا هــو َّ‬
‫تغيي ـرا فــي أحــد ثوابتــه أو تعديــا أو تنقيحــا أو إضافــة‪ .‬ونســوق دليلنــا علــى هــذا‬
‫الحقا‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫ونتســاءل ثانيــا‪ :‬كيــف كان يكــون الحــال لــو لــم يعقــد هــذا الحــوار؟ هــل‬
‫«التغيي ــرالجــذري» ألهــم ثابــت مــن ثوابــت املنهــاج النبــوي‪ ،‬وهــو «صحبــة رجــل»‬
‫ب ـ ـ ــ«الصحبــة فــي الجماعــة»‪ ،‬كان ســيذهب أدراج الريــاح كأنــه مــا كان هنالــك مــن‬
‫ســبيل وال مــن مجــال وال مــن فرصــة لإلمــام لطــرح «تجديــده املفت ــرض» إال مــن‬
‫ذلــك الحــوار‪ ،‬وكأن الرجــل الــذي كانــت الوصيــة عــام ‪2002‬م آخــرمكتوباتــه‪ 1‬لــم‬
‫َ‬
‫الوقت‬ ‫يكن يجد على مدى سبع سنوات إلى حدود إجراء الحوارسنة ‪2009‬م‪،‬‬
‫أو القــدرة أو القلــم أو األوراق أو أي وســيلة توثيقيــة أخــرى لتوثيــق وإثبــات ذلــك‬
‫«التجديــد»؟!‬
‫في الشكل‪..‬‬
‫أوال‪ -‬تمتد املدة الزمنية لهذه الحلقة زهاء نصف ساعة (‪30‬د و‪37‬ث)‪،‬‬
‫وهــي املــدة الت ــي يفت ــرض أنهــا عرضــت «التجديــد» الجــذري فــي خصلــة «الصحبــة‬
‫والجماعة» بوضوح تام على لسان صاحبه‪ ،‬وأنها قد أسعفتنا بأجوبة واضحة‬
‫ودقيقــة ومحــددة عــن ســؤال «الصحبــة» بعــد رحيلــه عــن هــذه الدنيــا! فكيــف‬
‫يمكــن أن تتســع نصــف ســاعة لبســط التغيي ــرالجــذري فــي طبيعــة حامــل وظيفــة‬
‫ـتوعب ُ‬
‫بعضنــا َ‬
‫داللتهــا األصليــة بعــد أكث ــرمــن أربعي ــن عامــا‬ ‫«الصحبــة» ولَـ َّـما يسـ ْ‬
‫مــن التآليــف واملقــاالت واملجالــس والتســجيالت؟‬
‫ثانيــا‪ -‬حامــت أســئلة املحـ ِـاور حــول القضيــة َح َو َم ًانــا‪ ،‬وتنوعــت مداخلــه‬
‫إليهــا دون أن تسي ــرفــي ّ‬
‫كل منهــا إلــى منتهاهــا الــذي يشــبعها بيانــا وإيضاحــا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫َ‬
‫ثالثــا‪ -‬لــم َيـ ْـرق مســتوى إدارة الحــوارإلــى مــا كان منتظ ـرا منــه بالنظــرإلــى‬

‫‪ - 1‬اقتصراإلمام‪ ،‬في الكتابة بعد الوصية على جمع ما ُيعرف باملختارات‪ ،‬وهي كتيبات صغيـرة بحجم كف‬
‫اليــد‪ ،‬عبــارة عــن نصــوص لغي ــره مــن العلمــاء ومــن أهــل هللا‪ ،‬جمعهــا ودأب علــى نشــرها رحمــه هللا وال يـزال منهــا‬
‫رصيد ضخم تنشره الجماعة بيـن الفيـنة واألخرى خاصة في بعض املناسبات‪.‬‬
‫‪104‬‬
‫خطــورة املوضــوع وحساســيته‪ .‬ولعــل أحــد أســباب ذلــك يعــود إلــى أن فريــق‬
‫اإلعــداد لــم يســتعد باالطــاع الــازم علــى بعــض القضايــا فــي مؤلفــات الضيــف‬
‫ففوجــئ املحـ ِـاور ببعــض األجوبــة الت ــي تناولــت جوانــب مــن تلــك القضايــا ممــا‬
‫أســقطه فــي ســوء فهــم ُم ْرِبــك كان لــه أث ــر سلب ــي علــى شــكل ومضمــون الحــوار‪.‬‬
‫أضــف إلــى ذلــك أســلوب «سي ــن ‪ -‬جيــم» الــذي ال يليــق ال مــع املوضــوع وال مــع‬
‫الضيــف‪ .‬أمــا مقاطعتــه فكانــت الســمة األب ــرز فــي الحــوارإذ تكــررت أكث ــرمــن ‪10‬‬
‫م ـرات‪ ،‬حصــل بعضهــا بعــد شــروع اإلمــام فــي اإلجابــة ب‪ 11‬ثانيــة وفــي نقــط مــن‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫اإلجابــات حاســمة قطــع معهــا حبـ ُـل األفــكار قطعــا‪.‬‬
‫ْ‬
‫رابعــا‪ -‬لــو عددنــا ال ـ ُـمدد الزمنيــة ألجوبــة اإلمــام لالحظنــا أنهــا بلغــت درجــة‬
‫القصــر ال تتناســب بتاتــا وأهميــة املوضــوع الخطي ــر الــذي ســعى الحــوار إلــى‬ ‫مــن ِ‬
‫تبيانــه‪ ،‬وت ـراوحت بي ــن ‪ 11‬ثانيــة ودقيقتي ــن و‪ 14‬ثانيــة‪ .‬فكيــف يمكــن أن ُي َف ّ‬
‫صـ َـل‬‫ِ‬
‫اإلمــام املجــدد فــي جوانــب وأوجــه «التجديــد املفت ــرض» الــذي جــدد بــه فــي نظــر‬
‫البعــض قضيــة الصحبــة‪ ،‬فــي ُمــدد زمنيــة لــم تتجــاوز أطولهــا دقيقتي ــن وربــع‬
‫الدقيقــة‪ ،‬بي ــنما لــم يتجــاوز بعضهــا عتبــة الثوانــي اإلحــدى عشــرة؟!‬
‫ولــوال الرغبــة فــي تنــاول كل الوثائــق املتعلقــة بالقضيــة فــي هــذه املرافعــة‬
‫َ‬
‫َسـ ًّـدا ألي َم ْنفـ ٍـذ يدخــل منــه أدنــى قــدر مــن التشــكيك فــي نتائــج البحــث إن هــو‬
‫تجاهل هذه الحلقة التـي يعتبـرها البعض حجته الدامغة في إثبات «التجديد»‬
‫الجديــد‪ ،‬لــوال ذلــك َل َط َع َّنــا فــي صالحيتهــا للعــرض والنقــاش بســبب مــا َشـ َ‬
‫ـاب‬
‫ً‬
‫ـاحات معتب ــرة منهــا مــن نقائــص‪ ،‬بســبب الضعــف الظاهــر فــي اإلعــداد‪،‬‬ ‫مسـ ٍ‬
‫والتخبــط فــي سي ــراألفــكارالت ــي حــاول املحــاور تثبيتهــا‪ ،‬ومحاولــة ضغــط الحجــم‬
‫الكبي ــر للقضايــا املطروحــة فــي َح ِّي ـ ٍـز صغي ــر جــدا مــن املــدة الزمنيــة للب ــرنامج‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫في املضمون‪..‬‬
‫ّ‬
‫أثرشكل الحلقة األولى من البـرنامج وأسلوب إدارة الحوارفيها والنقص‬
‫الظاهرفي إعدادها واالضطراب الواضـح في أسئلة املـحاور على َخ َر ِاج املضمون‬
‫الــذي بــدا مشــتتا‪ .‬ولهــذا نتســاءل عــن الكيــف الــذي َي ْخ ُلـ ُ‬
‫ـص بــه عضـ ُـو الجماعــة‬
‫ْ‬
‫إلــى ُزْب َدتــه َبلـ َـه املتابـ ُـع العــادي‪.‬‬
‫السلوك الجهادي‪..‬‬
‫حمــل الســؤال األول استفســارا مــن املحــاور عــن «عبــارة تــرددت كثي ـرا‬
‫فــي كتــاب اإلحســان‪ ،‬أال وهــي «الســلوك الجهــادي»؛ مــاذا تقصــدون أســتاذ بهــذه‬
‫العبــارة ‪ -‬عبــارة الســلوك الجهــادي؟»‪ .‬ثــم شــرع اإلمــام‪ ،‬بعــد ديباجتــه املعهــودة‪،‬‬
‫فــي اإلجابــة بحســب مــا تقتضيــه مــن مدخــل أولــي‪:‬‬
‫«أقصــد أوال أن يتمي ــزفــي األذهــان‪ ،‬وفــي ســلوك النــاس‪ ،‬وفــي ســلوك هــذا‬
‫الشــباب املقبــل علــى ربــه‪ ،‬الراغــب فــي القــرب منــه ســبحانه وتعالــى بالجهــاد فــي‬
‫ســبيله‪ .‬أريــد أن يتميــزلنــا املطلبــان األساســيان اللــذان يحملهمــا عنــوان «العــدل‬
‫واإلحســان»‪ ،‬وهمــا خصلتــان أمــر هللا عــز وجــل بهمــا فــي كتابــه العزيــز فــي قولــه‬
‫ـان﴾‪ .1‬كيــف نجمــع بي ــن‬ ‫ـ‬‫س‬‫اللـ َـه َي ْأ ُمـ ُـر ب ْال َعـ ْـدل َو ْال ْح َ‬
‫َّ َّ‬
‫﴿إن‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫تعالــى فــي ســورة النحــل‪ِ :‬‬
‫مطلبي ــن دون أن يكــون بي ــنهما تنافــر‪ ،‬ودون أن يكــون أحدهمــا عائقــا لآلخــر؟»‬
‫وهنــا يمنحنــا اإلمــام تفسي ـرا آخــر لـ ــ«التــازم» الــذي تحدثنــا عنــه عنــد‬
‫تعرضنــا للوصيــة األولــى‪ ،‬واملطلــوب بي ــن «العــدل» وبي ــن «اإلحســان»‪ ،‬يفيدنــا فــي‬
‫فهم العالقة املطلوبة بي ــنهما وفي فهم العالقة املطلوبة كذلك بي ــن «الصحبة»‬
‫وبي ــن «الجماعــة» بحكــم أنــه رحمــه هللا َر َجــا أن تتــازم الصحبــة والجماعــة تــازم‬

‫‪ - 1‬النحل‪.90 :‬‬
‫‪106‬‬
‫العدل واإلحسان‪ .‬تفسيـرنفهم منه أن املطلوب كذلك أن ال يحصل تنافربيـن‬
‫«الصحبــة» وبي ــن «الجماعــة» وأال يكــون أحدهمــا عائقــا لآلخــر‪ .‬وال يكــون أحـ ٌـد‬
‫َ‬
‫عائقا لآلخربالذوبان فيه أو بتســليمه وظائفه الخاصة‪ ،‬بل بالتكامل بي ــنهما مع‬
‫حفــظ ّ‬
‫كل منهمــا الســتقالليته‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ويستأنف اإلمام جوابه‪:‬‬
‫«فــإن مــن النــاس مــن يكــون طلبــه وجــه هللا‪ ،‬فــي نظــره وفــي تخيلــه‪ ،‬هــو‬
‫ـزواء فــي ركــن ركي ــن وطــرح مــا ســوى ذلــك بمــا فيــه شــأن األمــة وحاضرهــا‬ ‫االنـ ُ‬
‫ومســتقبلها‪ .‬ومــن النــاس مــن يومــن بــاهلل وباليــوم اآلخــرويشــتغل بإصــاح األمــة‬
‫وإصــاح النــاس دون أن يلتفــت إلــى نفســه ليشي ــرإليهــا بأصبــع االتهــام ليقــول لهــا‪:‬‬
‫وأنـ ِـت الت ــي تريدي ــن أن تصلحــي النــاس‪ ،‬هــل أصلحــت شــأنك مــع هللا عــزوجــل؟‬
‫هــل طلبــت وجــه هللا عــزوجــل؟ هــل أحســنت مــا يجــب أن تحســنيه مــن عبادتــك‬
‫الشــخصية؟ إذا فعلـ ِـت‪.»...‬‬
‫ـام مقاطعتــه األولــى ســائال إيــاه عــن «ما‬‫فــي هــذه النقطــة قاطــع املحــاو ُر اإلمـ َ‬
‫يميزالســلوك الجهادي عن غي ــره»‪ .‬وهو ســؤال لم يكن له أي داع ما دام اإلمام‬
‫كان قــد شــرع فعــا فــي اإلجابــة عنــه‪ .‬فمــا كان مــن اإلمــام إال عقــب عليــه (‪ )...‬قائــا‪:‬‬
‫«هــذا كنــت آتيــا إليــه قاصــدا‪ .‬الســلوك عنــد بعــض النــاس هــو أن يـن ــزوي‬
‫اإلنســان عــن املجتمــع‪ ،‬ويطــرح مــن حســابه كل مــا يعن ــي النــاس‪ ،‬فيشــتغل‬
‫بخويصة نفسه‪ .‬فهؤالء يـريدون أن يسلكوا إلى هللا عزوجل عن طريق التـزهد‪،‬‬
‫عــن طريــق نبــذ الدنيــا‪ .‬فــإذا نبذنــا الدنيــا ولــم نقبــل علــى هللا عــزوجــل مــن خــال‬
‫إصــاح ذواتنــا أوال ُلنصل ــح بعــد ذلــك مــا فــي قلــوب النــاس‪ ،‬ألن االنــزواء يــؤدي إلــى‬
‫الدروشــة ويــؤدي إلــى الخمــول ويــؤدي إلــى تــرك مــا يشــتغل فيــه اآلخــرون بفاعليــة‬
‫‪107‬‬
‫وبتأثي ــرفــي املجتمــع‪ .‬يأتــي اآلخــرون الذي ــن ال يؤمنــون بــاهلل واليــوم اآلخــرفيزعمــون‬
‫أنهــم ي ــريدون الخي ــر لألمــة‪ ،‬ي ــريدون أن يقودوهــا لصالحهــا وفالحهــا ونجاحهــا‬
‫ونصرها على اليهود الغاصبيـن في غزة وفي بقاع األرض‪ ،‬فيـنضوي بعض الناس‬
‫تحــت هــذا اللــواء املشــبوه‪ ،‬لــواء الدعــاة إلــى السياســة أو إلــى اإلســام الفكــري‪،‬‬
‫فيتلخــص عندهــم اإلســام واإليمــان فــي فكــرنقدمــه ونهضمــه ونعــاود الكــرة عليه‬
‫ونقرأ الكتب‪ ،‬ما كتب الناس عن اإلسالم‪ ،‬فيخيل إلي ــنا بعد ذلك أننا مومنون‬
‫ومجاهــدون وســالكون‪ ،‬وهــذا كلــه خطــأ‪.»...‬‬
‫الصحبة والجماعة‪..‬‬
‫َ‬
‫اإلمام عن «شروط السلوك الجهادي كي يعرف اإلنسان‬ ‫وسأل املحاو ُر‬
‫أنه فعال يسلك في طريق السلوك الجهادي»‪ ،‬فيجيب رحمه هللا أنه‪:‬‬
‫«لكــي يعــرف أنــه يســلك فــي طريــق الســلوك الجهــادي ي ــنبغي أن يكــون‬
‫القرآن الكريم وأمرهللا عزوجل حاضرا في ذهنه‪ ،‬ماثال بي ــن عي ــنيه‪ ،‬ال يفرق في‬
‫أمــرهللا عــزوجــل الــذي يبتــدئ بتوبــة العبــد املومــن فــردا وي ــنتهي بالجهاد جماعة‪.‬‬
‫لذلــك تجدنــا عندمــا نعــدد خصــال اإليمــان نبــدأ ونقــول‪« :‬الصحبــة والجماعــة»‪،‬‬
‫وهمــا مطلبــان ال يفت ــرقان‪ .‬فلــو قلنــا «الصحبــة» (يقصــد رحمــه هللا أننــا لــو قلنــا‬
‫َ ْ‬ ‫ْ‬
‫«الصحبــة» وحدهــا دون جماعــة) فقــد بعثنــا النــاس وأرســلنا النــاس وط َّيشـ َـنا‬
‫النــاس إلــى الزهــادة الفرديـ ِـة‪.»...‬‬
‫ـام للمــرة الثالثــة عنــد نقطــة مــن الجــواب جــد‬ ‫وهنــا يقاطــع املحــاو ُر اإلمـ َ‬
‫حساســة لــم يكــن يجــدر بــه أن يقاطعــه عندهــا‪ .‬ذلــك أن إجابــة اإلمــام كانــت‬
‫متجهــة لطــرح فكــرة مــن شطري ــن‪:‬‬
‫فأمــا الشــطر األول فحي ــن أكــد أن الصحبــة والجماعــة «مطلبــان ال‬

‫‪108‬‬
‫يفت ــرقان»‪ ،‬وهــو املعن ــى ذاتــه الــذي تفيــده العبــارة الت ــي مــرت بنــا فــي وصيتــه حي ــن‬
‫أحبابــه «رَّبنــا عــز وجــل أن يمســك وحــدة الصحبــة والجماعــة‬ ‫أو�صــى أن يدعـ َـو ُ‬
‫ـود عي ـ ُـنه حي ــن‬
‫كمــا يمســك الســماوات واألرض أن ت ــزوال»‪ .1‬وهــو املعن ــى املقصـ ُ‬
‫َر َجا من هللا عزوجل «أن تكون الصحبة والجماعة متالزميـن في جماعة العدل‬
‫واإلحســان تــازم العــدل واإلحســان فــي كتــاب هللا عــزوجــل وفــي شــعارنا»‪.2‬‬
‫وأمــا الشــطرالثانــي مــن الفكــرة الــذي كان قاصــدا إليــه فهــو مــا لــم يت ــرك‬
‫لــه املحــاور الفرصــة إلتمامــه‪ .‬يــدل علــى هــذا قولــه رحمــه هللا فــي مســتهل الشــطر‬
‫َ ْ‬ ‫ْ‬
‫األول‪« :‬فلــو قلنــا «الصحبــة» فقــد بعثنــا النــاس وأرســلنا النــاس وط َّيشــنا النــاس‬
‫إلــى الزهــادة الفرديـ ِـة»‪ ،‬بمــا كان يقت�ضــي أن يطــرح الشــطراملقابــل إلتمــام فكرتــه‬
‫بشــطريها وهــو قولــه املفت ــرض‪ :‬ولــو قلنــا «الجماعــة» (أي «الجماعــة» وحدهــا‬
‫دون «صحبــة») فقــد‪ !»...‬وأنتمــا‪ ،‬أخــي وأخت ــي‪ ،‬إن كنتمــا ُم َّط َ‬
‫لع ْي ــن علــى كتابــات‬
‫َ ً‬
‫اإلمام‪ ،‬تعلمان ماذا كانت ستكون بقية كالمه رحمه هللا‪ .‬بقية نجد لها ش َبها في‬
‫كثي ــرمــن كتاباتــه رحمــه هللا‪ ،‬كهــذه الت ــي وردت فــي «اإلســام غــدا»‪:‬‬
‫«الذي يحيـرهو أن جماعة اإلخوان املسلميـن‪ ،‬بعد وفاة السيد الكريم‬
‫(حســن البنا) نســوا‪ ،‬كثي ـ ٌـر منهم‪ ،‬انتماءهم الصوفي للشــيخ‪ ،‬واحتفظوا بالفكر‬
‫واملبدإ السياسـي الذي َع َّمى عليهم املبدأ التـربوي‪ .‬وفكرالشيخ رحمه هللا ضئيل‬
‫إذا قسناه بفكراألستاذ املودودي مثال‪ ،‬أو بفكرالشهيد سيد قطب رحمه هللا‪.‬‬
‫ال جــرم أن يصبــح تنظيــم اإلخــوان بعــد الشــيخ تنظيمــا فكريــا أول ش ــيء‪ ،‬وال‬
‫جــرم أن تميــل الجماعــة وتتنكــرللصحبــة‪ ،‬فتلــك ثغــرة كبي ــرة فــي تربيــة الشــيخ‬
‫َ‬
‫رحمه هللا‪ ،‬مردها إلى أنه َع َّرف الجماعة بأنها جمعية ثقافية‪ ،‬وتنظيم سياسـي‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬وصيتي»‪ ،‬ص‪ .19 :‬‬
‫‪ -2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪ .18-19 :‬‬
‫‪109‬‬
‫س الصحبــة والذكــر ّ‬
‫دســا يخــاف أن‬ ‫و ِفرقــة رياضيــة وجماعــة صوفيــة‪ .‬فكأنــه َد َّ‬
‫َي ْن َفـ َّ‬
‫ـض ِمــن حولــه النــاس لعــدم ثقتهــم بالصوفيــة»‪.1‬‬
‫قلنا إن املحاور قاطع اإلمام للمرة الثالثة‪.‬‬
‫قاطعه مستفهما‪« :‬إذن هي صحبة وجماعة؟»‪.‬‬
‫فأجاب اإلمام‪:‬‬
‫«وجماعة»‪.‬‬
‫ثم استأنف املحاور مستوضحا‪:‬‬
‫«نعــم؛ الصحبــة والجماعــة كمــا قلـ ُـت فــي البدايــة تولونهــا أهميــة قصــوى‬
‫وأهميــة خاصــة جــدا‪ ،‬وتجعلونهــا أول شــرط مــن شــروط الت ــربية‪ .‬لكــن أســتاذ‪،‬‬
‫نســمع مــن حي ــن آلخــر حديثــك عــن «الصحبــة فــي الجماعــة» و«الصحبــة‬
‫للجماعــة» و«الصحبــة مــع الجماعــة»‪ ،‬هــل مــن توضيــح؟»‪.‬‬
‫وهنــا يوض ــح اإلمــام القضيــة الت ــي نناقشــها فــي هــذا البحــث بمــا ال يــدع‬
‫ُ‬
‫للغبــش موضــع أنملــة؛ يقــول قــدس هللا ســره‪:‬‬
‫«التوضيــح فــي هــذه املســألة‪« :‬الصحبــة والجماعــة» يمكــن أن نمددهــا‬
‫أفقيــا وعموديــا إلــى أعلــى؛ «الصحبــة فــي الجماعــة»»‪.‬‬
‫فعبارتــا «الصحبــة والجماعــة» و«الصحبــة فــي الجماعــة» كالهمــا‪ ،‬إذن‪،‬‬
‫َّ‬
‫مقصودتــان فــي حديــث اإلمــام عــن تمديدهمــا أفقيــا وعموديــا‪َ .‬وب َد ِهـ ٌّـي أل نحتــاج‬
‫ّ‬
‫أن نذكــر أن التمديــد األفقــي مقصــود بــه «الجماعــة» وأن التمديــد العمــودي‬
‫مقصــود بــه «الصحبــة»‪.‬‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم غدا»‪ ،‬ص‪.793 :‬‬
‫‪110‬‬
‫ُُ‬
‫ثــم يضيــف بــأن «ذلــك («ذلــك» اســم إشــارة يشي ــر بــه اإلمــام إلــى أف ِق َّيــة‬
‫وعموديــة «الصحبــة والجماعــة» و«الصحبــة فــي الجماعــة») لكــي ال ي ــنفرد‬ ‫ّ‬
‫أحدهــم (الــام حــرف جــر‪ ،‬و« ـكـي» حــرف نصــب للتعليــل‪ .‬أي حت ــى ال ي ــنفرد‬
‫أي رجــل مــن الصادقي ــن‪ ،‬أحــب هــذا‬ ‫أحدهــم ويقــول)‪ :‬أنــا أحــب هــذا الرجــل‪َّ ،‬‬
‫الرجــل وال أريــد غي ــره»»‪.‬‬
‫والواضــح أن مقصــود اإلمــام بـ ـ ــ«أحدهــم» مــزدوج؛ فهــو مــن ناحيــة أولــى‬
‫ذاك الــذي ي ــريد أن يصحــب املصحــوب «عموديــا» دون أن يلت ــزم بمقتضيــات‬
‫الكي ــنونة فــي الجماعــة «أفقيــا»‪ .‬وهــذه هــي «الصحبــة الصوفيــة» ُ‬
‫ذاتهــا‪ ،‬والت ــي‬
‫َ‬
‫قاطرتهــا إلــى ســكتها النبويــة وإلــى أصلهــا‬ ‫جــاء اإلمــام ليصح ــح مســا َرها ويعيــد‬
‫النبــوي وإلــى مرجعيتهــا النبويــة‪« :‬الصحبــة والجماعــة» (عموديــا وأفقيــا فــي آن‬
‫واحــد)‪ .‬ومــن ناحيــة ثانيــة هــو ذاك الــذي يريــد أن يبقــى وفيــا ملصحوبــه األول‪،‬‬
‫املؤسس‪ ،‬ظنا منه أن الوفاء له يفرض عليه عدم االعتـراف بمن يخلفه‪ .‬وهذا‬
‫مــا أشــارإليــه اإلمــام الحقــا حيــن تحــدث عــن الفــرق بيــن الســلوك التب ــرك‪.‬‬
‫ً‬
‫ثــم يصــف إمامنــا رض ــي هللا عنــه هــذا الــذي ي ــريدها صحبــة دون جماعــة‬
‫ومن غي ــرجماعة وفي غي ــرجماعة بأن «هذا ال يصلح لجهاد‪ .‬ال يصل ــح لجماعة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫إذا كان ال يصلح للجماعة فإنه ال يصلح للسلوك الجماعي‪ ،‬للسلوك الجهادي‪.‬‬
‫الســلوك الجهــادي ي ــنبغي أن يقبــل فيــه اإلنســان مــن أول خطــوة يضعهــا فــي‬
‫امليــدان أنــه ســائربعــد املراحــل الت ــربوية «الصحبــة والجماعــة» ثــم «الذكــر» [ثــم‬
‫الصــدق] ثــم «البــذل» ثــم ثــم ثــم‪ ...‬لكــي ننتهــي إلــى الجهــاد‪.»...‬‬
‫ويقاطــع املحــاو ُر األســتاذ املرشــد مزكيــا كالمــه‪ ،‬واصفــا إيــاه بأنــه «كالم‬
‫دقيــق جــدا»» ومضيفــا أن «هــذا الــكالم لــه أهميتــه فــي املســتقبل‪ ،‬فــي األجيــال‬

‫‪111‬‬
‫املتالحقــة فــي هــذه الدعــوة‪ ،‬دعــوة العــدل واإلحســان‪ .‬بمعن ــى تقــول اآلن‪ :‬إذا ظهــر‬
‫أحــد وقــال أنــا أريــد صحبــة فــان وليــس فــان فهــذا ال يصل ــح للســلوك الجهــادي‬
‫الــذي تحدثــت عنــه»‪.‬‬
‫ويستأنف اإلمام جوابه قائال‪:‬‬
‫«هذا ال يصلح تماما؛ ألن في ذلك نقضا ملبدإ «الجماعة»‪ .‬إذا كان يحب‬
‫هــذا وال يحــب ذاك‪ :‬كنــت أحــب فالنــا فقض ــى (مــات) ومض ــى‪ ،‬واآلن أنــا ال أحــب‬
‫اآلخــر‪ ،‬أحــب هــذا دون هــذا‪.»...‬‬
‫صحبة السلوك‪..‬‬
‫َ‬
‫اإلمام رحمه هللا‪:‬‬ ‫وهنا يسأل املحاو ُر‬
‫«لكــن كيــف يجمــع هــذا بي ــن حرصــه علــى الجماعــة والجهــاد فــي جماعــة‬
‫املؤمني ــن وحرصــه فــي نفــس اآلن علــى الصحبــة‪ ،‬الصحبــة الت ــي تعن ــي أن يكــون‬
‫هنــاك مصحــوب يصحبــه؟»‬
‫وهنــا يبــدأ مسلســل االرتبــاك لــدى املحـ ِـاور ويبتســم اإلمــام ابتســامة‬
‫املتعجب من ســؤاله‪ ،‬ويطلق عبارة نضيفها إلى أربعي ــن عاما من العبارات الت ــي‬
‫أكــد فيهــا إمامنــا فــي كتبــه علــى ضــرورة ومبدئيــة «صحبــة رجــل فــرد حـ ّـي»‪:‬‬
‫«أن تصحــب فــردا هــذا مبدئيــا وفــي أول الخطــوات يضعهــا املــرء فــي‬
‫املجال ال بد منه‪ .‬البد أن نحب؛ ألن املرء مع من أحب‪ .‬وال يكون املومن مومنا‬
‫إال إذا أحــب املــرء ال يحبــه إال هلل»‪.‬‬
‫«مـ ْـن يأتــي بعــده»‪ ،‬ويسم ــي‬
‫وهنــا يســتدرك علــى مــن يســتنكف عــن صحبــة َ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫صحبة األموات على جاللة قدرهم «تبـركا»‪ُ ،‬وي ْف ِه ُمنا ِل َم نحتاج إلى صحبة الحي‪:‬‬

‫‪112‬‬
‫«لكــن أن يبقــى مــع ش ــخص فــإذا مــات ذلــك الش ــخص بقــي‪ ،‬بدعــوى‬
‫اإلخــاص للمبــدإ واإلخــاص للبــادئ واإلخــاص للبادئي ــن وللجيــل األول‪ ،‬إذا‬
‫بقــي يتعلــق باملاضي ــن فهــذا مــا يســمى بالتب ــرك‪ .‬يكــون التب ــرك باألمــوات ال يكــون‬
‫التب ــرك باألحيــاء‪ .‬األحيــاء يســاعدونك أن تتقــدم خطــوة خطــوة فــي طريقــك إلــى‬
‫هللا عــزوجــل‪ .‬أمــا أن تتب ــرك باألمــوات أو ببعــض األحيــاء دون بعــض فمعن ــى‬
‫هــذا أنــك ال تريــد أن تشــتمل عليــك الجماعــة وأن تدخــل أنــت فــي الجماعــة‬
‫وأن تنخــرط فــي الجماعــة وأن تنخــرط فــي مشــروعها‪ .‬تريــد أن تنتحــي ناحيــة‬
‫وتؤســس لنفســك شــيئا آخــر غي ــر جماعــة العــدل واإلحســان‪.»...‬‬
‫وهــذا هــو املعن ــى الصحيــح املقصــود بعبــارة «الصحبــة فــي الجماعــة»‪ ،‬أن‬
‫تصحــب مصحوبــك فــي رحــاب الجماعــة‪ ،‬ال أن تصحبــه صحبــة عموديــة ال مــكان‬
‫معهــا للصحبــة األفقيــة‪ .‬لسـ َـت هنالــك إذن‪.‬‬
‫ْ‬
‫وأكــد اإلمــام فــي هــذا النــص أن «األحيــاء يســاعدونك»‪ ،‬يقصــد أن «ال َحـ َّـي‬
‫َّ‬
‫يســاعدك»‪ ،‬تمامــا كمــا قصــد فــي «اإلحســان» إذ ُيذ ِكــرأنــه «مــن عظمــاء اإلســام‬
‫كثي ــر لجــأوا مثــل الغزالــي‪ ،‬قبلــه وبعــده‪ ،‬إلــى مربي ــن يســاعدونهم علــى جــواز‬
‫العقبــات»‪ .1‬يقصــد مربيــا؛ ألن الغزالــي مــا ســاعده علــى جــوازالعقبــات غي ــررجــل‬
‫مفــرد‪.‬‬
‫َ َ‬
‫وإذ يل ــح أنــه «مــن ســاعدته الســعادة فوجــد شــيخا كمــا ذكرنــا‪ ،‬وق ِبلـ ُـه‬
‫الشــيخ‪ ،‬ي ــنبغي أن يحت ــرمه ظاه ـرا وباطنــا»‪.2‬‬
‫وأكيد أن الشــيخ ال يقبل من يطلب صحبته ْإذ َيقبله وال ي ـ ُّ‬
‫ـرده إذا َر َّد إال‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.56 :‬‬


‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.236 :‬‬
‫‪113‬‬
‫وهــو َ‬
‫«حـ ّـي»‪ ،‬يــأكل الطعــام ويمش ــي فــي األســواق كمــا َمـ َّـر بنــا آنفــا وكمــا أجمــع أهــل‬
‫التربية‪.‬‬
‫َْ ٌ َ‬
‫رو وزيد وخالد‪..‬‬ ‫«الصحبة» مستقبال ‪ -‬عم‬
‫َ‬
‫ثم يسأل أخونا ضيفه‪:‬‬
‫«هــذا تحدثـ َـت عنــه كثي ـرا بوضــوح فــي كتــاب اإلحســان‪ .‬بمعن ــى أن جماعــة‬
‫العــدل واإلحســان ال تنه ــج صحبــة التب ــرك وإنمــا تنهــج صحبــة ســلوك‪ .‬ســؤالي‪:‬‬
‫هــذه الدعــوة ال شــك ممتــدة إن شــاء هللا فــي الزمــن‪ ،‬فــي األجيــال املتالحقــة‪ ،‬هــذا‬
‫الرجــل وهــذه املـرأة اللــذان يجاهــدان فــي جماعــة العــدل واإلحســان والحاضـران‬
‫فــي الجماعــة‪ ،‬كيــف يحســمون مســألة املصحــوب؟ كيــف يحققــون هــذا األمــر‬
‫األساس ــي فــي الت ــربية؟»‬
‫فيجيب اإلمام‪:‬‬
‫«مــن طبيعــة البشــر ومــن طبيعــة النــاس أن تميــل قلوبهــم إلــى بعــض‬
‫املومني ــن دون بعــض‪ ،‬هــذا ش ــيء طبيعــي‪ ،‬لكــن أن يكــون ميلــك إلــى فــان عنوانــه‬
‫وشــرطه أن تعــادي فالنــا‪ ،‬إذا كان هــذا شــقا فــي الجماعــة أنــا أحــب فالنــا لكــن ال‬
‫أريــد أن أســمع فــان وال أن أراه»‪.‬‬
‫وهنــا نعــود إلــى الوصيــة (‪2002‬م) لنســتقرئ مقطعــا منهــا ُمه ّمـ ًـا كنــا ّ‬
‫أجلنــا‬ ‫ِ‬
‫قراءتــه إلــى هــذا الســياق‪ ،‬ولنحــاول َحـ َّـل معادلــة مــن الدرجــة الثالثــة‪ ،‬املجهولــون‬
‫لدي ــنا فيهــا ثالثــة‪َ :‬‬
‫«ع ْمـ ٌـرو» و«زيــد» و»خالــد»‪.‬‬
‫يقول إمامنا املرشد في وصيته الخالدة‪:‬‬
‫َ َ‬
‫«كان َمـ ْـن ق ْبل َنــا رحمهــم هللا‪ ،‬ورفــع درجاتهــم يتفــرد منهــم الطالــب الراغــب‬

‫‪114‬‬
‫الســائر تأخــذ بيــده يـ ُـد فــرد نـ َّـور هللا قلبــه مــن العارفي ــن بــاهلل مشــايخ الت ــربية‪.‬‬
‫وملســتقبل دعوتنــا نرجــو مــن هللا نــور الســماوات واألرض ســبحانه أن ُيفيــض‬
‫رحمتــه علــى أف ـراد أوليائــه وأن يلهمهــم التعــاون علــى الب ــر والتقــوى‪ ،‬ب ـ ّ ِـر هدايــة‬
‫الخلــق بصحبــة ُتؤلــف القلــوب‪ ،‬ال يضي ــرها أن كان ُحـ ُّـب زيــد لعمــرو أرج ـ َـح مــن‬
‫حبــه لخالــد‪ .‬الرجــاء مــن امللــك الوهــاب أن تكــون الصحبــة والجماعــة متالزمي ــن‬
‫تالزم العدل واإلحسان‪ ،‬نرجو من هللا عزوجل امللك الوهاب أن تكون الصحبة‬
‫والجماعــة متالزمي ــن فــي جماعــة العــدل واإلحســان تــازم العــدل واإلحســان فــي‬
‫كتــاب هللا عــزوجــل وفــي شــعارنا‪ ،‬ال تطــغ جذبــة ســابح فــي األنــوارعلــى شــريعة قــول‬
‫ََۡ ُ ْ ََۡ ُ َ ۡ ُ ۖ‬
‫وف﴾‪.2»1‬‬ ‫هللا عــز وجــل‪﴿ :‬وأت ِمــروا بينكــم ِبمعــر ٍ‬
‫أول مــا يثي ــر انتباهنــا أن اإلمــام تحــدث عــن السابقي ــن قبلــه فقــال إنــه‬
‫َ َ‬
‫«كان َم ْن ق ْبل َنا رحمهم هللا‪ ،‬ورفع درجاتهم يتفرد منهم الطالب الراغب السائر‬
‫تأخــذ بيــده يـ ُـد فــرد نـ َّـور هللا قلبــه مــن العارفي ــن بــاهلل مشــايخ الت ــربية»‪.3‬‬
‫وتحــدث عــن الالحقي ــن بعــده فقــال إنــه «وملســتقبل دعوتنــا نرجــو مــن‬
‫هللا نــور الســماوات واألرض ســبحانه أن ُيفيــض رحمتــه علــى أفــراد أوليائــه وأن‬
‫ُ‬
‫يلهمهم التعاون على البـروالتقوى‪ ،‬ب ِّـر هداية الخلق بصحبة تؤلف القلوب»‪.4‬‬
‫ولكنــه لــم يتحــدث عــن حاضــره هــو بي ــن السابقي ــن والالحقي ــن‪ ،‬بي ــن‬
‫َُْ‬ ‫َ ْ‬
‫فيذكـ َـر نفســه فيــه؟‬ ‫املاض ــي واملســتقبل‪ِ .‬لـ َـم لـ ْـم َيذكــر الحاضــر‬
‫الحاضــر الحقيقــي بالنســبة لنــا هــو الزمــن الــذي نعيشــه اآلن ونحــن‬

‫‪ - 1‬الطالق‪. 6 :‬‬
‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬وصيتي»‪ ،‬ص‪ .18-19 :‬‬
‫‪ - 3‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪ .18 :‬‬
‫‪ - 4‬نفسه‪ ،‬ص‪ .18 :‬‬
‫‪115‬‬
‫نســتقرئ هــذه الوصيــة النفيســة بعــد التحــاق صاحبهــا بالرفيــق األعلــى‪ ،‬ويعيشــه‬
‫كل جيــل وهــو يقرأهــا‪ ،‬والت ــي كتبهــا مــن أجــل «أن يتذكــرمتذكــرخالصــة مــا إليــه‬
‫دعونــا ملــا كنــا مــن ســكان أرض الدنيــا عابـري ــن إلــى دار البقــاء»‪ .1‬فاعتب ــر نفســه‬
‫رحمــه هللا ماضيــا‪ ،‬مــن شــدة تواضعــه‪ ،‬ولســنا نــرى ذلــك الطالــب املتفـ ّـرد الــذي‬
‫تحــدث عنــه و«الراغــب الســائرتأخــذ بيــده يـ ُـد فــرد نـ َّـور هللا قلبــه مــن العارفي ــن‬
‫َ َ َ‬
‫بــاهلل مشــايخ الت ــربية»‪ 2‬إال هــو رض ــي عنــه‪ ،‬وهــو الــذي أخــذ ْت بيــده اليـ ُـد الت ــي‬
‫تحــدث عنهــا فــي «اإلســام بي ــن الدعــوة والدولــة» حي ــن نعــى شــيخه َ‬
‫ومربيــه الحــاج‬
‫العبــاس رض ــي هللا عنــه‪:‬‬
‫«وقــد انتقــل إلــى ربــه عــن هــذه الدنيــا‪ ،‬وذهبــت تلــك اليــد الكريمــة الت ــي‬
‫أحيتنــي مــن مــوات تغمــده هللا ب ــرحمته‪ ،‬وجــازاه عــن أبنائــه الروحيي ــن خي ــر‬
‫الجــزاء»‪.3‬‬
‫إمامنــا‪ ،‬ر�ضــي هللا عنــه‪ ،‬املتفـ ّـر ِد ماضيــا وحاض ـرا ومســتقبال‪،‬‬
‫فمــا بــال ِ‬
‫فضــا مــن هللا ونعمــة‪ ،‬يســتحضرفــي حديثــه املاض ــي بطالبــه املتفـ ّـرد ذاك‪ ،‬بــإزاء‬
‫املســتقبل الذي يقول عنه إنه «وملســتقبل دعوتنا نرجو من هللا نور الســماوات‬
‫واألرض سبحانه أن ُيفيض رحمته على أفراد أوليائه وأن يلهمهم التعاون على‬
‫ُ‬
‫الب ــروالتقــوى‪ ،‬ب ـ ِّـر هدايــة الخلــق بصحبــة تؤلــف القلــوب»‪4‬؟‬
‫ََ‬
‫املاض ـ َـي الــذي تفـ َّـر َد فيــه «طالــب‬
‫ال نــرى أن إمامنــا عليــه رحمــة هللا وضــع ِ‬
‫ََ‬ ‫َ‬
‫راغــب ســائر» إزاء مســتقبل قــد ال َي َتفـ َّـر ُد فيــه أحــد‪ ،‬إال لكــي يضعنــا أمــام تحــدي‬
‫ّ‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬وصيتي»‪ ،‬ص‪.9 :‬‬


‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪ .18 :‬‬
‫‪ - 3‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم بيـن الدعوة والدولة»‪ ،‬ص‪.395 :‬‬
‫‪ - 4‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬وصيتي»‪ ،‬ص‪ .18 :‬‬
‫‪116‬‬
‫«مســتقبل دعوتنــا» الصعــب‪ ،‬حيــث تتســاوى أكتــاف «أفـراد أوليائــه»‪ ،‬فيصعــب‬
‫ُ‬
‫معهــا تعاونهــم علــى «ب ـ ّ ِـر هدايــة الخلــق» بصحبـ ٍـة ِمــن بي ــنهم «تؤلــف القلــوب»‪.‬‬
‫ـرو أرج ـ َـح مــن حبــه لخالــد»‪.1‬‬ ‫ُ‬
‫صحبــة «ال يضي ــرها أن كان حـ ُّـب زيــد لعمـ ٍ‬
‫ولكن هانحن قد عرفنا من يكون ذلك الطالب املتفرد الراغب السائر‪،‬‬
‫فماذا يقصد إمامنا ب ـ ــ«مستقبل الدعوة»؟‬
‫نرى أن اإلمام يقصد املستقبل الذي تخرج فيه «جماعة املسلميـن» من‬
‫ضمي ــرالغيــب إلــى أرض الشــهادة‪ ،‬حيــث تلتئــم جهــود املخلصي ــن لتوحيــد العمــل‬
‫ّ‬
‫في جماعة واحدة هي «جماعة املسلميـن»‪ ،‬والتـي تتسع «قشابتها» للجميع‪.‬‬
‫ولهذا َر َجا رحمه هللا «من هللا نور السماوات واألرض سبحانه أن ُيفيض‬
‫ـكل منهــم تنظيـ ٌـم أو جماعــة أو جمعيــة وتاريــخ‬‫رحمتــه علــى أف ـراد أوليائــه»‪ ،2‬ولـ ّ‬
‫ٍ‬
‫ومحبون ومريدون أو أتباع وتالمذة‪ ،‬ومن بيـنها جماعة العدل واإلحسان‪« ،‬وأن‬
‫ُ‬
‫يلهمهم التعاون على الب ــروالتقوى‪ ،‬ب ـ ّ ِـر هداية الخلق بصحبة تؤلف القلوب»‪.3‬‬
‫يقصــد صحبــة جامعــة تؤلــف بي ــن قلوبهــم فــي «جماعــة املسلمي ــن» املرجــوة‬
‫فتتألــف قلــوب الجميــع تحــت ظلهــا‪.‬‬
‫صحبــة جامعــة «ال يضي ــرها أن كان ُحـ ُّـب زيــد لعمــرو أرجـ َـح مــن حبــه‬
‫لخالــد»‪ .4‬ونفهــم داللــة التوحيــد املرجـ ّ ِـو فــي هــذه العبــارة مــن الوصيــة مــن ســياق‬
‫مماثــل فــي كتــاب «اإلحســان» وردت فيــه هــذه عبــارة‪« :‬ال يضي ــره» فــي ســياق‬
‫ََ‬
‫ـس تعبي ــري وروحــي يــكاد يكــون متطابقــا‬ ‫حديــث اإلمــام عــن املعن ــى نفســه‪ِ ،‬بنفـ ٍ‬
‫‪ - 1‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪ .18-19 :‬‬
‫‪ - 2‬نفسه‪ ،‬ص‪ .18 :‬‬
‫‪ - 3‬نفسه‪ ،‬ص‪ .18 :‬‬
‫‪ - 4‬نفسه‪ ،‬ص‪ .18 :‬‬
‫‪117‬‬
‫بي ــن املصدري ــن‪ .‬ذاك حي ــن يقــول إنــه «لــن يصل ــح آخــر هــذه األمــة إال بمــا صلــح‬
‫بــه أولهــا‪ .‬والخالفــة الثانيــة علــى منهــاج النبــوة لــن تكــون كذلــك إال إن قادهــا‬
‫الربانيــون أوليــاء هللا‪ .‬وفــي انتظــار أن يفتــح هللا بالفهــم علــى العاملي ــن نتضــرع‬
‫إليــه ســبحانه أن يـن ــزل رحمتــه مــن خلــوات التبتــل إلــى ميادي ــن الجهــاد‪ .‬فــي انتظــار‬
‫موحـ ٌـد مــن حيــاة العاملي ــن‬
‫أن يكــون لقـران الصحبــة والجماعــة معن ــى موصــو ٌل َّ‬
‫ِِ ِ‬
‫ننــادي أوليــاء هللا العارفي ــن بــاهلل أن يتوجهــوا بجنــد هللا مــن صادقــي املريدي ــن‬
‫وعامــة املستـرشدي ــن نحــو توحيــد الجماعــات‪ ،‬فتوحيــد الجهــد‪ ،‬فتوحيــد األمــة‬
‫فــي أقطارهــا ومذاهبهــا ومدارســها ومشــاربها‪ ،‬حت ــى يكــون املشـ ُ‬
‫ـرب محمديــا قرآنيــا‬
‫ُســنيا محـ َّـررا مــن كل عالقــات عصــور االنــزواء والخمــول واالنكمــاش‪.‬‬
‫توحيــد تربــوي يســمو بالــكل‪ ،‬ال يضي ــره التنــوع التنظيمــي الفكــري‬
‫االجتهــادي املتعــدد»‪.1‬‬
‫ً‬
‫أي إن َع ْمـرا وزيــدا وخالــدا مــا هــم ســوى رمــوز لعناوي ــن حركيــة أو روحيــة‬
‫ُي ْر َجــى أن يتوحــدوا تحــت صحبــة واحــدة ومظلــة واحــدة هــي «جماعــة املسلمي ــن»‪.‬‬
‫صحبة جامعة تتالزم معها الصحبة والجماعة «تالزم العدل واإلحسان‬
‫فــي كتــاب هللا عــزوجــل وفــي شــعارنا‪ ،‬ال تطــغ جذبــة ســابح فــي األنــوارعلــى شــريعة‬
‫ََۡ ُ ْ ََۡ ُ َ ۡ ُ ۖ‬
‫وف﴾‪.3»2‬‬ ‫قــول هللا عــزوجــل‪﴿ :‬وأت ِمــروا بينكــم ِبمعــر ٍ‬
‫تعدد الصحبات‪..‬‬
‫نعــود إلــى «حــوار ‪2009‬م» الــذي توقفنــا فيــه عنــد جــواب اإلمــام وقولــه‬
‫رحمــه هللا‪:‬‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ .251-252 :‬‬
‫‪ - 2‬الطالق‪ .6 :‬‬
‫‪ - 3‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬وصيتي»‪ ،‬ص‪ .19 :‬‬
‫‪118‬‬
‫«مــن طبيعــة البشــر ومــن طبيعــة النــاس أن تميــل قلوبهــم إلــى بعــض‬
‫املومني ــن دون بعــض‪ ،‬هــذا ش ــيء طبيعــي‪ ،‬لكــن أن يكــون ميلــك إلــى فــان عنوانــه‬
‫وشــرطه أن تعــادي فالنــا‪ ،‬إذا كان هــذا شــقا فــي الجماعــة أنــا أحــب فالنــا لكــن ال‬
‫أريــد أن أســمع فــان وال أن أراه‪.»...‬‬
‫عندهــا يســأل املحــاور اإلمــام إن كان ُي ْف َهـ ُـم مــن جوابــه أن الصحبــة «فــي‬
‫املســتقبل ســتكون صحبــات فــي الجماعــة؟»‬
‫فيجيــب اإلمــام أن «هــذا ال بــأس بــه إذا كانــت ال تتنافــى وال تتعــارض وال‬
‫تتقاتــل‪ ،‬ال بــأس بذلــك هــذا طبيع ــي»‪.‬‬
‫هذا طبيعي‪ .‬ولكن املحاو َر ذهب بفهمه أبعد مما قصد اإلمام! الصحبة‬
‫ص ْحبــات‪ .‬نعــم‪ .‬صحبــات‪ .‬منهــا «صحبــة وتلمــذة بي ــن عامــة املؤمني ــن‬
‫عنــد اإلمــام ُ‬
‫وأميـرهم باإلحسان‪ ،‬بها يتعرضون جميعا لر�ضى هللا‪ ،‬وصحبة أخوية بيـن رجل‬
‫ورجل على شرط التلمذة والتوقيـروالطاعة‪ ،‬كما رأيـنا في صحبة مو�سى للخضر‬
‫عليهما الصالة والسالم‪ ،‬والجمع بيـن الصحبتيـن في املجتمع اإلسالمي املتجدد‪،‬‬
‫في التنظيم الدعوي قبل قيام الدولة اإلسالمية وبعدها‪ ،‬سنة مرغوب فيها»‪.1‬‬
‫ومرجعه في ذلك أنه «قد آخى النبي صلى هللا عليه وسلم بيـن املهاجريـن‬
‫واألنصار‪ ،‬فعيـن لألنصاري أخا له من املهاجريـن ليصحب هذا الحديث العهد‬
‫باإلسالم أخا له سبقه باإليمان فيـنتفع بمالزمته (أفقيا)‪ ،‬في نفس الوقت الذي‬
‫يصحــب فيــه االثنــان رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم (عموديــا)‪ ،‬في ــنتفعان‬
‫بتلــك الصحبــة النبويــة املباركــة»‪.2‬‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬املنهاج النبوي»‪ ،‬ص‪ .133 :‬‬


‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪ .134-133 :‬‬
‫‪119‬‬
‫وي ــنبهنا أنــه «لــم تكــن الصحبتــان متنافيتي ــن (الص ــحبة األفقيــة فيمــا‬
‫بي ــن الصحابــة‪ ،‬والصحبــة العموديــة للنب ــي صلــى هللا عليــه وســلم)‪ ،‬بــل كانتــا‬
‫متكاملتي ــن‪ ،‬ونرجــو هللا عــزوجــل أن يقيــض لجماعــة املؤمني ــن فــي أطــوارتألفهــا‬
‫فــي غــد اإلســام أوليــاء لــه ي ــربون األجيــال الطاهــرة فــي وجهــة الجمــع والتأليــف‬
‫الجهــادي ال حســب صحبــة االعت ـزال والخلــوة‪ .‬فــإن كان هــذا األســلوب الفـراري‬
‫مالئما أيام كان اإلسالم في ضمور وتقلص‪ ،‬فال مكان له غدا إن شاء هللا ‪ -‬وقد‬
‫بدأ هذا الغد األغروالحمد هلل ‪ -‬واإلسالم في إقبال‪ ،‬وداعي هللا في القلوب يـنادي‬
‫حــي علــى الجهــاد»‪.1‬‬
‫ثم يســائل املحاور إمامنا قدس هللا ســره مســتوضحا إن كان هذا «يعني‬
‫أن تكــون صحبـ ٌـة لفــان وصحبــة لفــان وصحبــة لفــان‪ ،‬لكــن الشــرط الضــروري‬
‫واألساس ــي هو أن يكون كل ذلك في إطارالحب في هللا عزوجل»‪.‬‬
‫وهــذه ال ـ ــ«فــي إطــارالحــب فــي هللا عــزوجــل»‪ .‬عبــارة فضفاضــة ال محــل لهــا‬
‫فــي الفهــم يجــدي‪ ،‬ولهــذا اســتدرك اإلمــام بالعبــارة الواضحــة الدقيقــة الالزمــة‪:‬‬
‫«فــي إطــار جماعــة مجاهــدة‪ ،‬فــي إطــار جماعــة تتقــدم بــك خطــوة خطــوة‬
‫لتكــون مــن املجاهدي ــن‪[ .‬يبتــدئ األمــر] فــي أول خصلــة مــن خصــال منهــاج النب ــي‬
‫صلــى هللا عليــه وســلم الصحبــة والجماعــة وي ــنتهي األمــربالجهــاد؛ هــو تهي ــيء‪ ،‬هــي‬
‫تربية‪ ،‬هي تهيئة للنفوس لكي‪ ،‬أوال‪ ،‬تبذل وتحتقركل ما سوى هللا عزوجل وكل‬
‫مــا يقربــك إلــى هللا عــزوجــل‪ ،‬ثــم تســوق فــي ذلــك وتصب ــرعليــه وتسي ــرفــي دربــه دون‬
‫أن تلتفــت يمنــة أو يســرة‪ .‬هــذا شــرط»‪.‬‬
‫(نحتفظ بهذه العبارة‪« :‬هذا شرط»‪ ،.‬لحاجتنا إليها الحقا)‪.‬‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬املنهاج النبوي»‪ ،‬ص‪ .134 :‬‬
‫‪120‬‬
‫ونســتطيع فهــم هــذا النــص مــن كالم اإلمــام فــي «حــوار ‪2009‬م» فهمــا‬
‫يحسم الداللة الحقيقية لـ ـ ــ«الصحبة في الجماعة»‪ ،‬إن كانت تحتاج إلى حسم‬
‫بعـ ُـد‪ ،‬إذا وضعناهــا بــإزاء نــص آخــرمــن مقدمــة «املنظومــة الوعظية» (‪1996‬م)‪،‬‬
‫تناولنــاه ســابقا‪:‬‬
‫«الت ــربية اإليمانيــة اإلحســانية تبتــدئ بصحبــة فــي جماعــة وتأخــذ إلــى‬
‫الجهــاد فــي ســبيل هللا طامعــة أن يكتبهــا هللا فــي كتــاب السابقي ــن املقربي ــن فــي‬
‫مقعــد الصــدق عنــده‪ .‬تبتــدئ مــن وتأخــذ إلــى‪ ،‬متخلقــة فــي محطــات ســلوكها‬
‫وعروجهــا املعنــوي األخالقــي اإليمانــي بأخــاق البــذل‪ ،‬وفضائــل العلــم‪ ،‬وعزائــم‬
‫العمــل‪ ،‬وتميــز الســمت‪ ،‬وثبــات التــؤدة‪ ،‬وصب ــر االقتصــاد‪ ،‬واالســتعداد الدائــم‬
‫للجهــاد فــي ســبيل هللا»‪.1‬‬
‫ويتحــدث اإلمــام املجــدد فــي العــدد الســابع مــن مجلــة «الجماعــة» الت ــي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ت ْحي ــي هــذا العــام ذكراهــا األربعي ــن عــن أن «الش ــخصية الربانيــة نتيجــة تربيــة‪.‬‬
‫وكل تربيــة إنمــا تبــدأ بلقــاء فصحبــة فتمثــل للنمــوذج الحــي القائــم‪ ،‬عب ــرالتشــرب‬
‫النفس ــي العاطفــي والفكــري والســلوكي»‪.2‬‬
‫هذا واضح‪ ،‬ولكنه يضيف ما يزيد به الداللة الحقيقية ملعنـى «الصحبة‬
‫في الجماعة» توضيحا وتبيانا‪ .‬يقول رحمه هللا‪:‬‬
‫«البــد إذن مــن تربيــة الش ــخصية الربانيــة املجاهــدة ابتــداء مــن الصحبة‬
‫وســط الجماعــة وانتهــاء بب ــروزاملؤهــات الجهاديــة فــي امليــدان‪ .‬لذلــك جعلنــا أول‬
‫خصــال اإليمــان الصحبــة والجماعــة وآخرهــا الجهــاد»‪.3‬‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬املنظومة الوعظية»‪ ،‬ص‪.24 :‬‬
‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪ ،‬مجلة «الجماعة»‪ ،‬ع‪ ،7‬ص‪.17-16 :‬‬
‫‪ - 3‬املصدرالسابق‪ ،‬ع‪ ،7‬ص‪.17-16 :‬‬
‫‪121‬‬
‫كان ســوء الفهــم مــن املحــاور ملقصــود اإلمــام مــن تعــدد الصحبــات ســببا‬
‫أساســيا فــي االرتبــاك الــذي جعلــه يخلــط بي ــن شيئي ــن مختلفي ــن فــي ش ــيء واحــد‪،‬‬
‫فيطــرح جـراء ذلــك ســؤاال ي ــنم عــن هــذا التخبــط واالرتبــاك‪:‬‬
‫«أنت تؤكد‪ ،‬وهذا من األمور الهامة واألساســية‪ ،‬تؤكد على أن الســلوك‬
‫إلى هللا عزوجل يحتاج ضروري إلى مرب‪ ،‬كيف هذا األمرفي ظل الجماعة؟»‬
‫ويجيــب اإلمــام رض ــي هللا عنــه بأننــا «إذا قبلنــا الشــرط األول‪ ،‬وهــو أنــه إذا‬
‫مــات فــان فقــد ذهــب إلــى ربــه‪ ،‬ويبقــى ســرالجماعــة في الجماعة»‪.‬‬
‫ويتخــذ الفريــق الثانــي هــذه العبــارة‪« :‬إذا مــات فــان فقــد ذهــب إلــى ربــه‪،‬‬
‫ويبقــى ســر الجماعــة فــي الجماعــة»‪ .‬ســندا لفكــرة «الصحبــة فــي الجماعــة»‬
‫بفهمهــم الخــاص لهــا‪ .‬بيــد أنهــا حجــة عليهــم ال لهــم‪ .‬فاإلمــام لــم يقــل‪:‬‬
‫«ويبقــى ســر الصحبــة فــي الجماعــة»‪ ،‬أو‪« :‬ويبقــى ســر املصحــوب فــي‬
‫الجماعــة»‪ .‬ولــوقالهــا اللتمســنا لهــم العــذرفيمــا فهمــوه منهــا‪ .‬ولكنــه قال‪« :‬ويبقى‬
‫ســر [الجماعــة «‪ ]»1‬فــي [الجماعــة «‪ .»]»2‬فلمــاذا نفســر [الجماعــة «‪ ]»1‬علــى‬
‫أنهــا «الصحبــة» ونفســر [الجماعــة «‪ ]»2‬علــى أنهــا «الجماعــة»؟‬
‫وأكد ما اعتب ــره شــرطا أول‪« :‬ويبقى ســرالجماعة في الجماعة»‪ .‬أي إنه‬
‫يتحــدث عــن الخصلــة األولــى مــن الخصــال العشــروهــي نفســها الشــرط األول مــن‬
‫شــروط الت ــربية‪« :‬الصحبــة والجماعــة»‪ .‬بدليــل أن املحــاور قــال إن «الســلوك‬
‫إلــى هللا عــز وجــل يحتــاج ضــروري إلــى ُمـ َـر ٍ ّب» وتســاءل «كيــف هــذا األمــر فــي ظــل‬
‫الجماعــة؟»‪ ،‬فأجابــه اإلمــام ذلــك الجــواب الواضــح‪ .‬أي إن أي فهــم يمكــن أن‬
‫يخطــرعلــى بالنــا ي ــنبغي أال يتجــاوز هــذا الشــرط األول مــن شــروط الت ــربية‪ ،‬وهــو‬
‫خصلة «الصحبة والجماعة» بمعناها األصلي األصيل الخالد إلى قيام الساعة‪.‬‬
‫‪122‬‬
‫ويســتأنف اإلمــام جوابــه ضاربــا فيــه مثــاال يقـ ّـرب إلي ــنا أحــد املعانــي الت ــي‬
‫قصدهــا فــي هــذا الحــوارالشــائك‪:‬‬
‫«فــإذا كنــت أنــا نحلــة‪ ،‬إذا كنــت نحلــة‪ ،‬فإنن ــي أطلــب الرحيــق حيــث‬
‫الرحيق‪ ،‬آخذ الرحيق من هذه الوردة ومن هذه النوارة ومن هذا ال ـ ــ‪ ...‬إذا كنت‬
‫نحلــة‪ .‬أمــا إذا كنــت ذبابــة تتقــذرالصالحي ــن ‪ -‬الذبــاب ال يقبــل الش ــيء الطيــب ‪-‬‬
‫إذا كنــت ذبابــة فإنــي أســتقذرهــذا وأعــرض عــن هــذا وال أحــب ذاك‪ .‬نكــون نحــا‬
‫يطلــب الرحيــق حيــث الرحيــق‪ ،‬والرحيــق أي ــن؟ فــي قلــوب املومني ــن جميعــا‪ ،‬إذا‬
‫كانــوا قــد ســلكوا هــم الطريــق‪ ،‬إذا كانــت قلوبهــم قــد صفــت مــن غبــش التعلــق‬
‫بغي ــرهللا عــزوجــل‪ ،‬وأصبــح لــكل واحــد منهــم مطلــب عنــد هللا عــزوجــل‪ :‬هــل تريــد‬
‫شــيئا؟ أريــد وجــه هللا‪ .‬هــل أتبــع مــا أوحــى هللا إلــى رســوله؟ أتبــع ســنة رســوله صلــى‬
‫هللا عليه وسلم؟ إذا كان الجواب إيجابيا عن هذيـن السؤاليـن فالقلب مستعد‬
‫لكــي يعطــي‪ ،‬لكــي يعطــي‪.»...‬‬
‫والواض ــح الــذي ال يحتــاج إيضاحــا أكث ــرهــو أن اإلمــام رحمــه هللا بضربــه‬
‫املثــل بالــوردة والنــوارة يقصــد صحبــة األخــوة فــي هللا‪ ،‬الصحبــة األفقيــة‪ ،‬وال‬
‫يقصــد بتاتــا الصحبــة العموديــة‪ ،‬صحبــة الداللــة علــى هللا‪ ،‬الت ــي هــي وظيفــة‬
‫الرجــل املصحــوب الحــي‪.‬‬
‫وهنا يقاطع املحاور اإلمام قبل أن يكمل فكرته‪ ..‬يقول‪« :‬سيدي‪.»...‬‬
‫ويحاول اإلمام إتمام الفكرة فيقول‪« :‬لكي تأخذ منه النحلة رحيقها‪.»...‬‬
‫ولكن املحاور يقاطعه مرة أخرى‪ .‬وفي هذه يطرح وجهة نظره هو‪:‬‬
‫«نعــم ســيدي هــذا أمــرهــام جــدا لكــن املســألة فــي نظــري ال تتعلــق فقــط‬

‫‪123‬‬
‫بمــن يصحبــون‪ ،‬ولكــن مســألة هــذه نفــوس ســيدي أعن ــي نحــن نعلــم أنــه حت ــى‬
‫صحابــة رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم بعــد وفــاة رســول هللا صلــى هللا عليــه‬
‫وســلم اختلفــوا فيمــا بعــد‪ .‬املســألة تتطلــب نضجــا تربويــا كبي ـرا حت ــى فــي صفــوف‬
‫أولئك املربي ــن وأولئك املصحوبي ــن‪ .‬يعن ــي كيف ال تحدث خالفات أو اختالفات‬
‫بيـن املصحوبيـن أنفسهم؟ وكما قلت فاألمريعني هو أمرمستقبلي أمرنفوس»‪.‬‬
‫وهنــا يأخــذ اإلمــام بيــد محــاوره مشــفقا عليــه ونائيــا بــه عــن حقــل األلغــام‬
‫ـاف الصحابــة رض ــي هللا عنهــم بعــد‬ ‫الــذي دخلتــه قدمــاه بســؤاله‪ ،‬وهــو حقـ ُـل خـ ِ‬
‫التحــاق ســيد الخلــق بالرفيــق األعلــى‪ .‬ي ــنأى اإلمــام بمحــاوره عــن هــذا الحقــل‬
‫امللغــوم الــذي ليــس لغي ــرأهلــه أن يغامــربالسي ــرفيــه مخافــة املــوت املحقــق مــع‬
‫ص ْح َب ِت ِهـ ْـم ألكــرم‬
‫أي خطــوة يخطوهــا فيــه‪ .‬حقـ ُـل مــا للصحابــة الكـرام مــن حرمــة ُ‬
‫ِ‬
‫ّ‬
‫الخلــق‪ ،‬والت ــي يعظمهــا اإلمــام فــي صحابــة رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم أيمــا‬
‫تعظيم‪ ،‬وهو أدرى الناس بما تعنيه الصحبة الدالة على هللا‪ ،‬وال سيما صحبة‬
‫ـاهللا َ‬
‫هللا فــي‬ ‫النب ــي األكــرم والرســول األعظــم صلــوات ربــي وســامه عليــه‪ ...‬فـ َ‬
‫أصحابــه صلــى هللا عليــه وســلم‪:‬‬
‫قال رحمه هللا‪:‬‬
‫«أمــرمســتقبلي نكلــه إلــى هللا عــزوجــل‪ ،‬فــإن النفــوس البشــرية ال تمــوت‪،‬‬
‫دائمــا تأتــي تلــك النفــس الخبيثــة قري ــنة الشــيطان‪ ،‬فت ــزعم لنفســها أنهــا هــي هــي‪،‬‬
‫وتتصــدر األنانيــة الفرديــة لكــي تقض ــي علــى الجماعــة‪ ،‬علــى الــروح الجماعيــة‪.‬‬
‫فــإذا كنــت أنــا قــد امتــأ بطن ــي مــن الطيبــات‪ ،‬يعن ــي إذا امتــأ قلب ــي الباطن ــي مــن‬
‫حــب هللا وحــب رســول هللا وحــب املومني ــن‪ ،‬وكنــت علــى يقي ــن مــن قــول الرســول‬
‫صلــى هللا عليــه وســلم‪« :‬والــذي نفس ــي بيــده ال تدخلــوا الجنــة حت ــى تومنــوا وال‬

‫‪124‬‬
‫تومنوا حتـى تحابوا»‪ ،‬فكنت أحب املومنيـن جميعا‪ ،‬فأنا إلى صالح وإلى رشد‪،‬‬
‫أمــا إذا كنــت ذبابــة تســتقذرهــذا‪ ،‬وتحــط هنالــك‪ ،‬وال‪ ...‬فهــذه ليســت‪ ..‬ال يخــرج‬
‫مــن بطونهــا شـراب مختلــف ألوانــه فيــه شــفاء للنــاس‪ ،‬بــل يخــرج مــن بطونهــا‪ ،‬أي‬
‫مــن قلوبهــا الضــرر‪ .‬يخــرج مــن بطونهــا املــرض‪ ،‬يخــرج مــن قلوبهــا االنشــقاق وشــق‬
‫العصــا وشــق عصــا الصالحي ــن»‪.‬‬
‫ومن منطلق السؤال عن الشرمخافة الوقوع فيه يسأل املحاور‪:‬‬
‫«أســأل عــن الشــر كمــا كان الصحابــي رض ــي هللا عنــه يســأل عــن الشــر‬
‫مخافة أن يقع فيه‪ .‬فمشروع العدل واإلحسان هو مشروع واسع ومشروع أتى‬
‫بجديــد فــي الحركــة اإلســامية وفــي الفكــراإلســامي‪ .‬قــد يكــون هنــاك مصحوبــون‬
‫فــي جماعــة العــدل واإلحســان قــد تظهــر اختالفــات فــي ق ـراءة هــذا املشــروع‪ ،‬فــي‬
‫تن ــزيل هــذا املشــروع‪ ،‬فــي تأويــل هــذا املشــروع‪ ،‬كيــف يمكــن أن نتفــادى مثــل هــذه‬
‫االختالفــات؟»‪.‬‬
‫ويجيــب اإلمــام رحمــه هللا أنــه «إذا وقعــت اختالفــات ال يمكــن أن نلــم‬
‫شــعثها‪ ،‬فــإذن نرجــع إلــى الخانــة األولــى‪ ،‬إلــى املنطلــق األول‪ ،‬هــؤالء املتخاصمــون‬
‫هــل يطلبــون وجــه هللا عــزوجــل حقــا وحقيقــة؟ أم أنهــم يطلبــون الشــفوف علــى‬
‫األق ـران والظهــور واملــس الخفيــف اللطيــف علــى األنانيــة‪ ،‬علــى أنانيتهــم؟»‬
‫واملنطلق األول والخانة األولى هي شروط التـربية‪ ،‬وال سيما الصدق‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫«إذا كان هنــاك خــاف ال يمكــن أن ُيلـ َّـم شــعثه فن ــرجع إلــى الخانــة األولــى‪،‬‬
‫نقــول‪ :‬هــؤالء النــاس لــم يتلقــوا تربيــة‪ ،‬وليســوا أهــا جميعــا‪ ،‬يكــون مجموعهــم‬
‫غي ــرمؤهــل لكــي يكــون النحلــة‪ ،‬لكــي ال يكــون النــوارة الت ــي تعطــي رحيقــا‪ ،‬تكــون‬
‫مرضــا يعطــي املــرض‪.»...‬‬
‫‪125‬‬
‫َّ َ‬
‫والطامــة الكب ــرى واملصيبــة العظمــى فيمــا َحذ َرنــا منــه إمامنــا املرشــد‪ ،‬أن‬
‫الخــاف إذا وصــل إلــى تلــك الدرجــة مــن األنانيــة والشــفوف علــى األقـران وحــب‬
‫الظهــور والرياســة واألنانيــة‪ ،‬فإنــه ال يبقــى مــن املختلفي ــن مــن يصل ــح ال ألن يكــون‬
‫َْ‬
‫نحلــة تطلــب الرحيــق حيــث الرحيــق‪ ،‬وال ألن يكــون نـ ّـوارة ُيطلـ ُـب لديهــا ذلــك‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫الرحيــق‪ .‬والرحيــق األنـ َـدرواأل َعـ ُّـز مــن الكب ــريت األحمــرفــي هــذه الحالــة هــو صــدق‬
‫الطلــب!‬
‫ثم يسأل املحاور إمامنا رحمه هللا‪:‬‬
‫«تؤكــد كثي ـرا أســتاذ فــي ســلوكك وفــي الســلوك العــام لجماعــة العــدل‬
‫واإلحســان الهويــة اإلحســانية إن صــح هــذا التعبي ــر‪ ،‬الهويــة اإلحســانية علمــا‬
‫وعمــا باعتبارهــا العمــود الفقــري ألي خــاص فــردي أو جماعــي‪ .‬أســتاذي‪،‬‬
‫كيــف يمكــن الحفــاظ علــى هــذه الهويــة اإلحســانية؟ كيــف يمكــن الحفــاظ عليهــا‬
‫قائمــة فاعلــة؟ ومــا املطلــوب مــن أبنــاء وبنــات الجماعــة حت ــى تت ــرسخ هــذه الهويــة‬
‫اإلحســانية عنــد أجيــال الصحــوة اإلســامية عمومــا؟»‬
‫ويتجــاوز اإلمــام اإلجابــة عــن هــذا الســؤال ويعــود إلــى الــذي قبلــه وقاطعــه‬
‫َ َُ ُ‬
‫محــاوره وهــو يجيــب عنــه‪ .‬وي ــرفع رحمــه هللا التحــدي أمامنــا أن ن ْبلــغ ُعشـ َـر مــا‬
‫بلغه الصحابة الذيـن ال نعظم حرمة صحبتهم لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫فنل ــج مــن حماهــم مــا ال ي ــنبغي لنــا‪ .‬قــال رحمــه هللا‪:‬‬
‫«املطلوب هوأن نتـريث‪ ،‬أن يتـريث كل واحد منا حتـى يسأل نفسه وحتـى‬
‫يحث اآلخريـن على طرح هذا السؤال على أنفسهم‪ :‬هل لك إلى هللا حاجة؟ فإذا‬
‫كان الجــواب إيجابيــا‪ ،‬نعــم‪ ،‬لــي إلــى هللا حاجــة‪ ،‬فعندئــذ أقــول‪ :‬إذا كانــت لــك عنــد‬
‫هللا حاجة فانظرإلى قلوب إخوانك‪ ،‬وانظرإلى إخوانك بالتعظيم والتوقيـرلكي‬
‫‪126‬‬
‫تستمد منهم‪ ،‬فتكون كالنحلة التـي اتخذت لنفسها مجاال ملص الرحيق‪ .‬أما إذا‬
‫ُ‬
‫كنــت تعــرض عــن إخوانــك فبئــس مــا تفعــل‪ ،‬فإنمــا تبتعــد عــن هللا عــزوجــل‪ .‬إن‬
‫ّ ّ‬
‫الحديــث عــن املحبــة وهــي شــأن قلبــي قلمــا قلمــا يتســع اللفــظ لــه وتتســع األلفــاظ‬
‫والكلمــات لــه‪ .‬فهــو أمــر قلبــي‪ .‬وفــي األمــور القلبيــة يكمــن الشــيطان‪ ،‬الشــيطان‪،‬‬
‫يكمــن الشــيطان‪ ،‬الشــيطان والهــوى‪ ،‬يقــول‪ :‬أنــا إنمــا أريــد اإلصــاح‪ ،‬إنمــا أريــد‬
‫اإلصالح‪ ،‬وهو ال يـريد إال صالح أنانيته وصالح حاله مع الناس‪ ،‬فيكون منافقا‪.‬‬
‫ُ‬
‫فــإذا كنــا بلغنــا ُعشـ َـر مــا بلغــه صحابــة رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم الذي ــن‬
‫كانــوا يتهمــون أنفســهم‪ ،‬فيســأل ســيدنا عمــر بــن الخطــاب‪ ،‬الفــاروق‪ ،‬الفــاروق‬
‫الــذي فــرق هللا بــه بي ــن الحــق والباطــل‪ ،‬يســأل حذيفــة رض ــي هللا عنــه يقــول‪ :‬هــل‬
‫أنا باهلل عليك هل أنا منافق؟ يتهم نفسه‪ .‬إذا كنا نحن نتهم أنفسنا بالتقصيـر‪،‬‬
‫وننظرإلى اآلخريـن‪ ،‬إلى إخواننا بالتعظيم والتوقيـر‪ ،‬فأخلق بنا أن نستمد منهم‬
‫كل طيــب‪ ،‬وأن نســتمد مــن قلوبهــم كل خي ــروكل النــور‪ .‬وإذا كنــا ال نتصــف بهــذه‬
‫الصفــات فســام علــى الدنيــا»‪.‬‬
‫ثم يسأل املحاور‪:‬‬
‫«املطلــوب الجمــع بي ــن حقــوق الصحبــة وحقــوق الجماعــة‪ ،‬تحقيــق هــذا‬
‫األمــرمــاذا يتطلــب؟»‪.‬‬
‫فيجيــب اإلمــام بــأن األمــر «يتطلــب قلوبــا طاهــرة مــن حــب الدنيــا‪ .‬واعلــم‬
‫بــأن أصــل هــذه اآلفــات حــب العاجلــة وتــرك اآلخــرة‪ .‬إذا كنــا ال نعمــل آلخرتنــا‪ ،‬ال‬
‫نعمــل إلرضــاء ربنــا‪ ،‬فــكل املصائــب تت ــرصد بنــا وتنتظرنــا فــي كل منعــرج طريــق‪.‬‬
‫هنالــك إبليــس فــي هــذه الزاويــة وإبليــس آخــر فــي الزاويــة األخــرى‪ ،‬فهــو ســلوك‪،‬‬
‫ُ‬
‫والسلوك ال يأتي ب ـ ـ ـ ‪ ...‬هوصراط‪ ،‬هو عقبة‪ .‬تقتحم العقبة‪ .‬بدأنا بهذا في أول ما‬

‫‪127‬‬
‫ّ‬
‫كنا نكتب‪ ،‬اقتحام العقبة‪ .‬يوطن اإلنســان نفســه على اقتحام‪ ،‬وكلمة اقتحام‬
‫تــؤدي معن ــى الجهــد ومعن ــى الصب ــرومعن ــى املصاب ــرة ومعن ــى املواصلــة‪ .‬اقتحــام‬
‫عقبــة النفــس أوال‪ ،‬وهنالــك عقبــات أخــرى‪ ،‬عقبــة الشــيطان‪ ،‬وعقبــة الهــوى‪،‬‬
‫وعقبة اآلخريـن‪ ،‬وعقبة‪ ...‬كثيـركثيـرجدا‪ .‬كل ما نهى هللا عزوجل عنه هو عقبة‬
‫تقــف فــي الطريــق‪ .‬فــإذا لــم تكــن لــي مــن قــوة اإليمــان وقــوة طلــب وجــه هللا عــزوجــل‬
‫مــا يدفعن ــي مــا يعيـنن ــي علــى االقتحــام فأنــا حابــط ال محالــة‪ ،‬اليــوم أو غــدا»‪.‬‬
‫ثــم يســأل املحــاور عــن عالقــة الصاحــب باملصحــوب الت ــي «يصورهــا‬
‫بعــض النــاس بأنهــا مثــل عالقــة املريــد بالشــيخ‪.»...‬‬
‫فيجيب اإلمام رضـي هللا عنه‪:‬‬
‫«املريــد بالشــيخ‪ ،‬مســألة الحديــث عــن املريــد وعــن الشــيخ‪ ،‬اســتعمال‬
‫مصطلحــات الصوفيــة هــذا ال يصل ــح لنــا بتاتــا‪ .‬نرجــع إلــى القـرآن الكريــم ومــا جــاء‬
‫بــه وإلــى الت ــربية النبويــة‪ ،‬فاملريــد مــع الشــيخ ي ــنبغي‪ ،‬إذا جئنــا إلــى كتــب القــوم‬
‫رض ــي هللا عنهــم‪ ،‬نحــن ال نتهــم أحــدا وال نتعالــى علــى أحــد‪ ،‬بــل نطلــب هللا عــزوجــل‬
‫أن يحشــرنا فــي زمــرة الصالحي ــن‪ ،‬إذا كنــا نقــول نبــدأ باســتعمال مصطلحــات‬
‫الصوفيــة فإننــا لــن نخــرج مــن هــذا املــأزق أبــدا‪ ،‬ألن هنالــك مشــايخ لهــم كرامــات‪،‬‬
‫والكرامــات تجلــب بســرعة األنظــار‪ ،‬فيقولــون لــه كرامــات واآلخــرال كرامــات لــه‬
‫ليســت لــه كرامــات‪ ،‬فأنــا أريــد هــذا الــذي لــه كرامــات‪ .‬قــد يكــون مــا يظهــرلــك أنــت‬
‫أنــه كرامــات تالعبــا للشــيطان ومصيــدة للشــيطان‪ ،‬فتنطــرح بي ــن يــدي مشــعوذ‪،‬‬
‫هــذا كاي ــن‪ ،‬هــذا مــن األخطــارفــي الطريــق‪ .‬فإنمــا الكرامــة الكب ــرى هــو االســتقامة‬
‫على سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ .‬من الناس من يزعم أنه يستطيع أن‬
‫يســلك إلــى هللا عــزوجــل الطريــق القويــم دون أن يلتفــت إلــى الســنة‪ ،‬لذلــك أكتــب‬

‫‪128‬‬
‫كلما كتبت عن أهل الحديث أقول وأنا أقول اآلن‪ :‬جزاهم هللا عنا كل خيـرفهم‬
‫محصــوا لنــا األحاديــث النبويــة وأتونــا ب ــزبدتها‪ ،‬أتونــا ب ــزبدة الدي ــن‪ ،‬فــكل مــا ص ــح‬
‫عــن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم نفعلــه‪ ،‬وكل مــا لــم يص ــح عــن رســول هللا‬
‫صلــى هللا عليــه وســلم ال نفعلــه‪ .‬ثــم إن الحديــث عــن الصوفيــة وعــن التصــوف‬
‫هذا يطلب جلسات ويطلب أعمارا‪ ،‬ويتنافس الناس في تفسيـره يقول أنا أعرف‬
‫وأنــا كان لــي ذوق وأعــرف هــذا وال يعــرف اآلخــرون‪ .‬ال ندخــل فــي هــذه‪.»...‬‬
‫ويسأل املحاور اإلمام‪:‬‬
‫«أســتاذي بعيــدا عــن هــذا األمــر‪ ،‬أمــر املصطلحــات‪ ،‬أدقــق شــيئا مــا‪:‬‬
‫مضمون العالقة التـي يـنبغي أن تكون في إطارالصحبة داخل الجماعة هي مثل‬
‫عالقــة الشــيخ باملريــد أم تختلــف عنهــا أم‪»...‬؟‬
‫وكان جواب اإلمام‪:‬‬
‫«مــن شــروطهم‪ ،‬مــن شــروط القــوم رض ــي هللا عنهــم‪ ،‬إذا وجــد اإلنســان‬
‫ذلــك الكب ــريت األحمــر‪ ،1‬كمــا يقولــون‪ ،‬هــذا تعبي ــرهم‪ ،‬إذا وجــد اإلنســان ذلــك‬
‫الكب ــريت األحمــر ُ‬
‫فيطلــب إليــه أن يكــون بي ــن يديــه كامليــت بي ــن [يــدي] غاســله‪،‬‬
‫معنــاه أنــه يستســلم ملــا يقولــه شــخص‪ ،‬وكل مــا يقــول األش ــخاص مــا دون رســول‬
‫هللا صلــى هللا عليــه وســلم فهــو لغــو ومطــروح ومكــروه وغي ــرمقبــول‪ .‬نحــن نتبــع‬
‫ســنة رســول هللا صلــى هللا‪ .‬مــن النــاس مــن يســتعمل مصطلحــا مزدوجــا مركبــا‬
‫يقــول‪ :‬التصــوف الســني‪ ،‬هــذا اصطــاح هجي ــن‪ .‬التصــوف الســني‪ ،‬كلمــة تصــوف‬
‫َْ‬
‫‪ - 1‬يقــال فــي املثــل‪« :‬أنـ َـد ُر مــن الكب ــريت األحمــر»‪ .‬ويقــول اإلمــام املجــدد رحمــه هللا فــي «اإلســام بي ــن الدعــوة‬
‫َْ‬
‫«فمن أي ــن للطالب الغ ِري ــر (الذي ال تجربة له) أن يعث ــرعلى الكب ــريت األحمر والروح املطهرالذي‬ ‫والدولة»‪ِ :‬‬
‫يأخذ بيده إلى هللا؟» ص‪ .357 :‬يقصد املصحوب الدال على هللا‪ .‬ثم يقول في الكتاب نفسه‪« :‬الذي هو أعز‬
‫مــن الكب ــريت األحمــر ليــس الشــيخ املربــي وإنمــا هــو صــدق الطلــب»! ص‪.417 :‬‬
‫‪129‬‬
‫ال نقرؤهــا فــي الق ـرآن وال فــي الســنة‪ .‬هــي كلمــة طارئــة واصطــاح طــارئ نطرحــه‬
‫مــع مــا نطــرح‪ .‬الت ــزكية‪ ،‬وي ــرحم هللا أب ـ ـ ــو الحســن النــدوي رحمــه هللا الــذي بـ ـ ــذل‬
‫َ ََۡ‬
‫مجهـ ـ ـ ــودا لكي يط ـ ــرح جانبـ ـ ــا كل املصـ ــطلحـ ـ ــات‪ ،‬ي ـ ـق ـ ـ ــول الـ ـ ـ ـت ــزكية‪﴿ ،‬ق ـ ـ ـ ۡـد أفل ـ َـح‬
‫ٌ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َ َۡ‬ ‫َ َّ‬
‫َم ـ ـ ـ ـ ــن زك ٰى َهــا﴾‪﴿ ،1‬ق ـ ـ ـ ۡـد أفل ـ َـح َمــن زك ٰى َهــا﴾‪ .‬فكلمــة تـزكيـ ـ ــة كلمــة زكيــة‪ ،‬كلمــة‬
‫زكيــة‪ ،‬اللفــظ يــدل علــى الــزكاة‪ ،‬علــى الريــح الطيــب‪ .‬والجليــس الصال ــح‪ ،‬كمــا جــاء‬
‫عــن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬الجليــس الصالــح تأخــذ منــه ريحــا طيبــة‬
‫أو يحــذوك وتشــم منــه الروائــح الطيبــة‪ .‬وإذا صاحبــت نافــخ الكي ــريحــرق ثيابــك‬
‫أو‪.»...‬‬
‫ويسأل املحاور عن سلوك الجماعة في حركتها الجهادية التغييـرية‪:‬‬
‫«عندنــا الصحبــة مــن جهــة وعندنــا املؤسســات مــن جهــة أخــرى‪ ،‬فكيــف‬
‫املوازنــة بي ــن هذي ــن االثني ــن؟»‬
‫فيجيب اإلمام‪:‬‬
‫«أجيبك من القرآن الكريم‪ ،‬من قول هللا عزوجل يخاطب رسوله صلى‬
‫هللا عليــه وســلم‪ ،‬ومــا خاطــب بــه عــزوجــل رســوله يصل ــح خطابــا للصالحي ــن فــي‬
‫َ ۡ َ‬
‫﴿و ِإن أ َحـ ٌـد ِّمـ َـن‬ ‫كل زمــان ومــكان‪ .‬قــال هللا تعالــى لنبيــه صلــى هللا عليــه وســلم‪:‬‬
‫َ َٰ َّ‬ ‫َ ۡ َ َ ََ‬ ‫ُۡ ۡ‬
‫ٱســت َجا َرك فأ ِجـ ۡـر ُه َح َّتـ ٰـى َي ۡسـ َـم َع كلـ َـم ٱللـ ِـه﴾‪ ،2‬ألنــه مــا دامــت األصــوات‬ ‫ٱلش ِر ِكي ــن‬
‫املتنافــرة تغــزو َسـ ْـم َع ْي ِه فإنــه لــن يســمع كالم هللا‪ ،‬بــل يســمع كالم فــان وكالم‬
‫فــان يمثلــه اعت ـراض فــان‪ .‬وهــذا مجــال السياســة‪ .‬السياســة مــن شــأنها هــذا‬
‫الدخــول فــي معمعــان الحزبيــة والتناطــح ومــا يســمونه اآلن التدافــع‪ .‬فــإذا لــم يكــن‬
‫‪ - 1‬الشمس‪ .9 :‬‬
‫َ ۡ َ َ َ َ َ َ ۡ ُ َ َّ ٰ َ ۡ َ َ َ َٰ َ َّ‬
‫ٱللــه ُثــمَّ‬ ‫َ ۡ َ َ ٌ ّ َ ُۡ ۡ‬
‫ـص الكا َمــل َّلآليــة‪﴿ َ :‬و ِإ َن أحــد ِمــن ٱلش ِر ِكي ــن ٱســتجارك فأ ِجــره حت ــى يســمع كلــم ِ‬ ‫َ‪ۡ - 2‬التوبۡــة‪َٰ .6 َ :‬والنـ َ‬
‫أ ۡب ِلغـ ُـه َمأ َمنـ ُ ۥۚـه ذ ِلـ َـك ِبأ َّن ُهـ ۡـم قـ ۡـو ٌم ل َي ۡعل ُمــون﴾‪.‬‬
‫‪130‬‬
‫َ‬
‫لإلنســان طلــب وجــه هللا عــزوجــل‪ ،‬وإذا لــم يكــن قــد طــرح جانبــا‪ ،‬قــد طــرح وراءه‬
‫َ ۡ َ‬ ‫ُۡ ۡ‬ ‫َ ۡ َ‬
‫ٱست َجا َر َك‬ ‫﴿و ِإن أ َح ٌد ِّم َن ٱلش ِر ِكيـن‬ ‫ظهريا أنانيته وحبه لذاته‪ ،‬قال هللا تعالى‬
‫ََ‬
‫فأ ِجـ ۡـر ُه﴾‪ ،‬معن ــى أجــره؟ اجعلــه فــي جــوارك وفــي حمايتــك وفــي أمانــك تحــت أمانــك‬
‫حت ــى يطمئ ــن‪ ،‬حت ــى تطمئ ــن نفســه املضطربــة‪ ،‬ألن االضطـراب النفس ــي هــذا ال‬
‫يصل ــح معــه ســلوك‪ .‬إذا كنــت لــم أصمــم‪ ،‬أســأل هللا عــز وجــل العافيــة‪ ،‬إذا لــم‬
‫أكــن قــد حظيــت بفضــل مــن هللا عــزوجــل بهــذا الطلــب القاصــد الصامــد لوجــه‬
‫ُ‬
‫هللا عزوجل‪ ،‬فإنني كالفراشة الت ــي تحت ــرق‪ ،‬تذهب إلى نور هنا وش َم ْي َع ٍة هنالك‬
‫ومصبــاح هنالــك فتحت ــرق فتكــون‪.»...‬‬
‫وبشــكر اإلمــام يســدل املحــاور الســتار علــى حلقــة ب ــرنامجه الــذي اتخــذ‬
‫ابتــداء مــن الحلقــة التاليــة شــكال مختلفــا غــاب هــو عنــه‪.‬‬
‫كان ســوء الفهــم ملقصــود اإلمــام املجــدد مــن حديثــه العــارض فــي «حــوار‬
‫الصحبــات» ســببا أساســيا ليــس فــي االرتبــاك والتخبــط‬‫ْ‬ ‫‪2009‬م» عــن «تعــدد‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫والخلط الذي وقع فيه املحاور فحسب‪ ،‬بل في التأسيس ال ْـم ُبتدع الذي أصبح‬
‫َ‬
‫ومفهوم «الصحبة في الجماعة» والذي َت َب َّن ْت ُه الجماعة لسنا ندري‬ ‫َ‬ ‫داللة ومعنـى‬
‫كيف! وما كنا نحب أن يطول َمجرى مرافع ِتنا هذه أكثـرمن الالزم‪ ،‬ولكن رأيـنا‬
‫لزامــا علي ــنا توضيــح جزئيــة فــي قضيــة ذلــك «التعــدد» الــوارد فــي الحــوار‪.‬‬
‫َ‬
‫إن ما ظ َّنه املحاور إقرارا من اإلمام رحمه هللا ب ـ ــ«تعدد الصحبات» داخل‬
‫تنظيــم جماعــة العــدل واإلحســان بعــد التحاقــه بالرفيــق األعلــى‪ ،‬إن هــذا الظــن‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ُي ْسـ ِـقط َمــن ُي َسـ ِـل ُم بــه فيمــا اجتهــد لتفاديــه وهــو الصحبــة العموديــة‪« :‬صحبــة‬
‫رجــل»‪ .‬ذلــك أن وجــود صحبــات متعــددة معنــاه ميــول قلــوب كل مجموعــة مــن‬
‫األعضاء إلى «مصحوب» ُم َع َّين‪ ،‬وهو ما يـرجع بنا‪ ،‬نظريا‪ ،‬إلى املربع األول‪ ،‬مربع‬

‫‪131‬‬
‫«صحبــة رجــل»‪ ،‬وهــومــا يتنافــى مــع الداللــة الرائجــة فــي الصــف ملفهــوم «الصحبــة‬
‫فــي الجماعــة»‪ ،‬ويذهــب بنــا عمليــا‪ ،‬فــي غيــاب املصحــوب الجامــع‪ ،‬إلــى التنــازع‬
‫يوك َل بها تعالى «قوما ليسوا بها بكافريـن»‬ ‫َّ َ ُّ‬
‫القلبي فالتفتت التنظيمي ومنه إلى أن ِ‬
‫نعــوذ بــاهلل مــن الحرمــان‪.‬‬
‫فــي الرســم التالــي تبيــان لعالقــة الصحبــة والجماعــة‪ ،‬عموديــا وأفقيــا‪ ،‬فــي‬
‫حــاالت أربــع‪ ،‬اثنتــان منهمــا ثابتتــان مطلوبتــان مرغوبتــان‪ ،‬واثنتــان ملفوظتــان‬
‫منبوذتــان‪.‬‬
‫الحالــة األولــى‪« :‬الصحبــة والجماعــة (‪ ،»)1‬وهــي الحالــة األصــل الســارية‬
‫ُ‬
‫إلــى قيــام الســاعة‪ ،‬وتتمثــل فيهــا الصحبــة العموديــة (الفرديــة) بي ــن كل فــرد فــرد‬
‫ُ‬
‫مــن أعضــاء الجماعــة وبي ــن املصحــوب‪ ،‬والصحبــة األفقيــة (الجماعيــة) فيمــا‬
‫بيـنهم‪.‬‬
‫الحالــة الثانيــة‪« :‬الصحبــة والجماعــة (‪ ،»)2‬عنــد التوحيــد (جماعــة‬
‫املسلمي ــن)‪ ،‬وفيهــا ثبــات ألصــل «الصحبــة والجماعــة» فــي كل جماعــة علــى حــدة‬
‫(عموديا وأفقيا) وفي «جماعة املسلميـن» الجامعة لهذه الجماعات على األصل‬
‫واملبــدإ نفســه (عموديــا وأفقيــا)‪.‬‬
‫الحالــة الثالثــة‪« :‬الصحبــة ف ــي الجماعــة (‪ ،»)1‬وهــي الصحبــة الجماعيــة‬
‫(األفقية) التـي ال وجود فيها لصحبة عمودية (صحبة رجل)‪ ،‬وتعيشها الجماعة‬
‫منــذ رحيــل اإلمــام املجــدد رحمــه هللا (‪2012‬م) وإلــى غايــة مراجعــة هــذه الســطور‬
‫(‪ 4‬فبـراي ــر ‪2019‬م)‪.‬‬
‫الحالة الرابعة‪« :‬الصحبة فـي الجماعة (‪ ،»)2‬وهـي الحالة التـي يتحدث‬
‫عنهــا البعــض «نظريــا»‪ ،‬ويكــون فــي الجماعــة الواحــدة بمقتضاهــا «مصحوبــون»‬
‫‪132‬‬
‫كل منهــم مجموعــة مــن األعضــاء مــن‬ ‫(صحبــات عموديــة متعــددة) يلتــف حــول ّ‬
‫ٍ‬
‫غيرأن يجمع هؤالء «املصحوبيـن» مصحوب جامع تلتف قلوب الجميع نحوه‪.‬‬
‫وقــد تجــد الجماعــة نفســها‪ ،‬عفويــا وعمليــا‪ ،‬منخرطــة فــي هــذه الحالــة علــى مــا‬
‫تعنيــه مــن تفتــت مــع مــرورالوقــت‪ .‬والعيــاذ بــاهلل‪.‬‬
‫الحالة الرابعة‬ ‫الحالة الثالثة‬ ‫الحالة الثانية‬ ‫الحالة األولى‬

‫الصحبة في الجماعة‬ ‫الصحبة في الجماعة‬ ‫الصحبة والجماعة‬ ‫الصحبة والجماعة‬


‫(‪)2‬‬ ‫(‪)1‬‬ ‫(‪)2‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫***‬
‫تعدد الصحبات في «املنهاج النبوي» (‪1982‬م)‪..‬‬
‫جهــد بســيط فــي تصفــح أدبيــات اإلمــام املجــدد يضعنــا أمــام رؤيتــه رحمــه‬
‫َْ‬
‫هللا لتعدد الصحبات في مستقبل الدعوة حيـن ُيطل ُب إلى العامليـن أن يتوحدوا‬
‫تحــت مظلــة واحــدة‪ .‬ولننتبــه إلــى أن اإلمــام حي ــن يتحــدث عــن «الجماعــة» فــي‬
‫سياق مستقبل الدعوة وفي سياق التوحيد‪ ،‬إنما يقصد «جماعة املسلمي ــن»‪،‬‬
‫ال هــذا التنظيــم أو ذاك‪ .‬يقــول رض ــي هللا عنــه فــي «املنهــاج النبــوي»‪:‬‬
‫«ننظرإلى مستقبل اإلسالم‪ ،‬ونحن على يقيـن من أن الخالفة على منهاج‬
‫النبــوة وعــد مــن هللا ورســوله غي ــرمكــذوب‪ ،‬وعــد هللا حقــا‪ ،‬ومــن أصــدق مــن هللا‬
‫قيال‪ .‬ولن يصلح آخرهذه األمة إال بما صلح به أولها‪ ،‬فال بد من أن يتولى تربية‬
‫جنــد هللا صالحــو األمــة مــن أوليــاء هللا‪ .‬فــإذا اعتب ــرنا أن مــن أوليــاء هللا مــن ال‬
‫‪133‬‬
‫وعــي لــه بحاضــراإلســام وال بمســتقبله‪ ،‬وال كفــاءة لــه لتنظيــم الجهــاد وقيادتــه‬
‫مع وجود فضله وعلمه‪ ،‬ومع ظهور كرامة هللا له‪ ،‬ب ــرز لنا مشكل ليس بالسهل‬
‫حله‪.‬‬
‫ذلــك أن تعــدد الصحبــة‪ ،‬وتعــدد «املتبوعي ــن املقدمي ــن» كمــا يعب ــر‬
‫الغزالي‪ ،‬قد يكون سببا في صدع وحدة الجماعة‪ .‬فإن أولياء هللا العارفيـن به ما‬
‫هــم فــي درجــة الصحابــة رض ــي هللا عنهــم‪ ،‬فهــم أكث ــرتعرضــا للخــاف منهــم‪ .‬وال هــم‬
‫معصومون‪ .‬فنخش ــى أن ي ــنشأ عن تفرقهم تفرق األمة من حيث نسعى للجمع‪.‬‬
‫فكيف نجمع بيـن صحبة مشايخ يدلوننا على طريق معرفة هللا فيـربون‬
‫لنــا رجــاال محسني ــن هــم علــى كل حــال صلــب الجماعــة وقوامهــا‪ ،‬مــع االحتفــاظ‬
‫بنظــام الجماعــة ووحدتهــا؟»‪.1‬‬
‫يجيب رحمه هللا بإضافة شرط لم يعهده تاريخ العارفيـن‪:‬‬
‫«فطــرهللا عــزوجــل هــذا اإلنســان علــى األنانيــة والدعــوى‪ ،‬فقـ َّـل مــا تجــد‬
‫بش ـرا ال يحــدث نفســه بالرئاســة علــى األمثــال حت ــى ولــو كان مــن املؤمني ــن‪ .‬قــال‬
‫أحــد الصالحي ــن‪ :‬آخــرمــا يخــرج مــن قلــب العارفي ــن بــاهلل حــب الرئاســة‪.‬‬
‫فنـزيد على ما درج عليه سلفنا الصالح من شروط الوالية وأهلية التـربية‬
‫‪ -‬وقــد ذكرنــا بعضهــا علــى لســان الجيالنــي ‪ -‬شــرطا نعتب ــره أساســيا للحفــاظ علــى‬
‫وحدة الصف‪.‬‬
‫نعتبـرشيخا ومربيا صالحا للجهاد من آتاه هللا من فضله‪ ،‬زيادة على ما‬
‫يؤتي أحباءه من فتح‪ ،‬ومعرفة ب ــربه‪ ،‬وتقوى‪ ،‬واتباع لســنة رســول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬مزية ال تعدلها ‪-‬بالنسبة ملستقبل األمة‪ -‬مزية‪ ،‬خصلة من خصال‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬املنهاج النبوي»‪ ،‬ص‪.128 :‬‬
‫‪134‬‬
‫اإليمــان ال تعدلهــا خصلــة بالنســبة ملســتقبل األمــة‪ ،‬أال وهــي جمــع الجماعــة‬
‫والحفــاظ علــى وحدتهــا»‪.1‬‬
‫شــرط جديــد فــي أهليــة أوليــاء هللا املربي ــن العتــاء منب ــر الت ــربية أضافــه‬
‫أســتاذنا املرشــد‪ .‬وبتحقــق هــذا الشــرط يســود االطمئنــان بي ــن أطيــاف «جماعــة‬
‫املسلمي ــن» مــن ناحيــة‪ ،‬وتســري فيمــا بي ــنها معانــي التحــاب والتالقــح الضروريــة‬
‫لبنــاء الوحــدة‪:‬‬
‫«يشجع جند هللا على صحبة من ظهرفضله من صالحي األمة وعلمائها‬
‫العامليـن بشرط‪ ،‬هوأن ال تتنافى تلك الصحبة مع الجماعة‪ ،‬أي ال يغلب جانب‬
‫التأمــل‪ ،‬والذكــراملنفــرد‪ ،‬والتقــوى االنعزاليــة والخلــوة القاعــدة‪ ،‬جانــب التحــرك‬
‫والجهاد إلقامة الدولة اإلسالمية والخالفة على منهاج النبوة»‪.2‬‬
‫تعدد الصحبات في إمامة األمة (‪1983‬م) ‪..‬‬
‫ويتحــدث اإلمــام فــي «إمامــة األمــة» عــن ذاك العــارف الــذي يوحــد هللا‬
‫تحــت ظلــه العارفي ــن فــي جماعــة املسلمي ــن‪:‬‬
‫ُ‬
‫«فإذا ظهر العارف املربي بفضل صحبته على من صحبه من املؤمنيـن‪،‬‬
‫ْ َ ُ‬ ‫ُ‬
‫معدن الربانية‪ ،‬ال ـ ُـمش َّرف في الحضرة‬ ‫وصدق فراسته‪ ،‬فهو‬ ‫ِ‬ ‫بنورانية أحواله‪،‬‬
‫اإللهيــة‪ .‬إن شــاء هللا عــز وجــل أن ي ــنفع بــه أهـ َـل عصــره هيــأه وهيــأ لــه‪ ،‬فمــا‬
‫ُي ْجـ ِـدي أن نكتــب كيــف تصحبــه الجماعــة وكيــف يجــب توظيفــه فــي الجماعــة‪.‬‬
‫لكننــا نرجــو هللا عــز وجــل أن يجمــع املؤمني ــن مــن بعــد الشــتات‪ ،‬فتكــون ِجمــاع‬
‫املسلمي ــن هــي جماعــة العارفي ــن بــاهلل‪ ،‬ي ــرعونها‪ ،‬وي ــربونها بمنهــاج واحــد‪ ،‬وعلــى‬
‫ـإن مــن لــوازم‬‫كلمــة واحــدة‪ ،‬ولغايــة تســليك العبــاد‪ ،‬وعـ ّـز األمــة وتوحيدهــا‪ .‬فـ َّ‬
‫ِ‬
‫‪ - 1‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.129 :‬‬
‫‪ - 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.129 :‬‬
‫‪135‬‬
‫التشــتت‪ ،‬كمــا أظهـ َـره هللا بذنوبنــا فــي تاريــخ العــض والجب ــر‪ ،‬أن انعــزل العارفــون‬
‫ْ ْ‬
‫ـكل منهــم مدرســة وأســلوب‪ .‬ال يعنيهــم‪ ،‬وهــم ال ـ ُـمل َه ُمون‪،‬‬ ‫عــن املجتمــع‪ ،‬فــكان لـ ّ‬
‫ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫بعــد إيصــال العبــاد إلــى ربهــم فــردا فــردا‪ ،‬مــا تعانيــه األمــة مــن قــد ِر هللا القــوي‬
‫العزيــز‪ .‬وكيــف يعاكســون القـ َـد َر وهــم بي ــن يــدي رب العــزة خاضعــون أذلــة ال‬
‫حــول لهــم وال قــوة؟»‪.1‬‬
‫إفضاء الصحبة إلى الجماعة‪..‬‬
‫جمــع اإلمــام رحمــه هللا بي ــن الرؤيــة الواقعيــة لحاضــر اختــاف وتعــدد‬
‫الوالءات التـربوية والتنظيمية‪ ،‬وبيـن الرؤية االستشرافية املستبشرة املتجاوزة‬
‫بحكمتها لهذا الواقع املريـر‪ ،‬البانية لجسور التوحيد‪ ،‬مسبقا‪ ،‬املقتـرحة لسبل‬
‫التوحيــد املرجـ ّـو‪ .‬يقــول رحمــه هللا‪:‬‬
‫«وممــا يفــرق وال يجمــع وجــود صحبــات ال تف�ضــي لجماعــة‪ .‬ووجــود تقــوى‬
‫ال تتفتــح علــى جهــاد‪.‬‬
‫يكون هذا حتـى بيـن أولياء هللا الصادقيـن أهل النور والفتح»‪.2‬‬
‫وإفضــاء الصحبــة إلــى الجماعــة ليــس شــرطا فــي مــا ُينتظــر مــن مســتقبل‬
‫َ‬
‫الدعــوة فحســب‪ ،‬بــل هــي‪ ،‬كذلــك‪َ ،‬م ْعلـ ٌـم مهــم مــن معالــم الطريــق فــي حركــة‬
‫َ‬
‫الجماعــة تتأكــد بحضــوره فيهــا أنهــا ال تنحــرف وال تنجــرف باملشــروع مــن ن َب ِو َّي ِتــه‬
‫إلــى نهايتــه ال قـ ّـدر هللا‪:‬‬
‫«جعلنــا ال ــخصلة األولــى ذات طرفي ــن لنل ــح علــى معن ــى وجــوب أن تفض ــي‬
‫الصحبــة والت ــربية الروحيــة إلــى بنــاء الجماعــة‪ .‬املؤمــن الفــردي قــد يكــون لــه ذكــر‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬إمامة األمة»‪ ،‬ص‪.154-155 :‬‬


‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬املنهاج النبوي»‪ ،‬ص‪.128 :‬‬
‫‪136‬‬
‫وصــدق وبــذل ومــا إلــى ذلــك مــن الخصــال التســع‪ ،‬لكــن جهــاده ال يعــدو الجهــاد‬
‫َّ‬
‫مصغــرة مــن املريدي ــن أو بي ــن جــدران خلــوة فــي أعلــى الجبــل‬ ‫الباطن ــي فــي حلقــة‬
‫وذلــك جهــاد مــع أوهــام النفــس وأحالمهــا‪ .‬لكــن ليــس الجهــاد األكب ــرخلــوة الــذي‬
‫رجع إليه الرسول ملا عاد من إحدى غزواته‪ ،‬الجهاد األكبـرجهاد النفس وسط‬
‫الجماعــة ومعهــا لهــدف بنائهــا والصب ــرمعهــا والتواص ــى بالحــق واملرحمــة»‪.1‬‬
‫الصحبة دواء األنانية‪..‬‬
‫إن مما كان وراء صدود كثيـرين عن صحبة اإلمام حيـن دعا إلى مشروع‬
‫منهــاج النبــوة الــذي ال مدخــل إليــه إال عب ــربــاب الصحبــة وبمفتــاح الصحبــة‪ ،‬إن‬
‫ممــا كان وراء ذلــك اإلع ـراض محــض أنانيــة تســتنكف عــن صحبــة رجــل ربمــا‬
‫بــدا لهــا أقــل اســتحقاقا للوجاهــة والرياســة منهــا‪ ،‬أو أكث ــرتشــددا فــي مواجهــة مــا‬
‫ي ــرونه واقعــا قاســيا ال ي ــنفع معــه إال «فــن املمكــن»‪ ،‬أو أن الزمــن هــو زمــن هــؤالء‬
‫الشباب العارفيـن بخبايا السياسة وكواليس صناعة القرارودواليب التغييـر‪...‬‬
‫اســتنكاف هــو مــن أهــم أســباب فرقــة التنظيمــات الت ــي ال تجــد فــي مبــادئ أكث ــرها‬
‫أنانيات رؤوسها‪ .‬يقول‬ ‫ُ‬ ‫تأويالت وتبـريـرات ور َاءها‬ ‫ما يبـرر فرقتها إال ما تجده من‬
‫ٍ‬
‫رحمــه هللا إنــه «لــو آمــن املســلمون جميعــا بمــا جاءهــم مــن بشــارة هللا فيــه إيمــان‬
‫الفطــرة ال يؤولونــه تأويــا النمحــت الخالفــات‪ ،‬لكــن يحــول بي ــن النــاس والفطــرة‬
‫عقبــة األنانيــة والعقــل املتألــه والعــادة املوروثــة أو املســتحدثة‪ ،‬فمــا بـ ّـد مــع ذلــك‬
‫مــن الدخــول إلــى اإلســام مــن املدخــل املنهاجــي وهــو الصحبــة»‪.2‬‬
‫ويقول رحمه هللا‪:‬‬
‫«الصحبــة تذهــب األنانيــة املتحجــرة وتفتــح قابليــات العمــل الجماعــي بمــا‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم غدا»‪ ،‬ص‪.54 :‬‬
‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.575 :‬‬
‫‪137‬‬
‫تبــذره مــن بــذور املحبــة لخلــق هللا»‪ .1‬ويقــول إن بنــاء الجماعــة اإلســامية بنــاء‬
‫إســاميا عضويــا يقت�ضــي «أن تتأســس الجماعــة بعــد ذهــاب أنانيــة أفرادهــا‬
‫بالصحبــة املربيــة فــي تنظيــم للحريــات واالجتهــادات‪ ،‬وهــو مــا يعب ــر عنــه الق ـرآن‬
‫بالتواص ــي بالصب ــر وال ــحق واملرحمــة ونجمعــه فــي لفــظ قرآنــي هــو النصيحــة»‪.2‬‬
‫أمــا «إن طغــت عليــك أنانيتــك وعقالنيتــك وعادتــك فمــا تعلــم أي جحيــم‬
‫تعيــش فيــه فــي الدنيــا قبــل اآلخــرة‪ ،‬ولــن تعلمــه حت ــى تصحــب كامــا كمــا صحبنــا‪،‬‬
‫وهلل املنــة ولــه الحمــد»‪.3‬‬
‫إن كان إلحــاح اإلمــام علــى الصحبــة بمــا هــي الــدواء الناجــع لألنانيــة‬
‫وأخواتهــا ومشــتقاتها‪ ،‬فكيــف يمكــن أن تــذوب هــذه األنانيــة البغيضــة وســط‬
‫نفس تأنف من أن‬ ‫جماعة ال «صحبة رجل» فيها ُت ْم َت َح ُن بيـن يديه وتحت ظله ٌ‬
‫تســتلقي علــى سري ــرالتطبيــب ألنهــا كيــت وكيــت وكيــت؟‬
‫«قــال موس ــى عليــه الســام لعبــد هللا الــذي آتــاه هللا رحمــة وعلمــه مــن لدنــه‬
‫ۡ‬ ‫ّ‬ ‫َ َ ُ ّ‬ ‫َ َ‬
‫﴿هـ ۡـل أ َّت ِب ُعـ َـك َعل ـ ٰٓـى أن ت َع ِل َمـ ِـن ِم َّمــا ُع ِل ۡمـ َـت ُرشـ ًـدا﴾‪ .4‬نب ــي هللا املعصــوم‬ ‫علمــا‪:‬‬
‫يطلــب صحبــة عبــد مــن عبــاد هللا يتعلــم منــه‪ ،‬فمــا بــال مــن ليــس نبيــا يأنــف مــن‬
‫صحبة عباد هللا الصالحيـن؟ إنها فيما يبدو تلك النفس الطاغوت كما تحدثنا‬
‫عنهــا‪ ،‬وال دواء لهــا إال املنهــاج املحمــدي الربانــي»‪.5‬‬
‫وبنــاء علــى كل مــا ســبق فــي هــذا الفصــل‪ ،‬يمكــن أن نجــزم أنــه لــم يكــن‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم غدا»‪ ،‬ص‪.55 :‬‬


‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.56-55 :‬‬
‫‪ - 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.788 :‬‬
‫‪ -4‬الكهف ‪.65‬‬
‫‪ - 5‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪ ،‬رسالة «جماعة اإلرشاد»‪ ،‬ص‪.47-46 :‬‬
‫‪138‬‬
‫هنالــك مــن جديــد فــي حلقــات الب ــرنامج ي ــرقى إلــى درجــة االهتمــام واالهتبــال‬
‫اللذي ــن يســتحقهما تغيي ـ ٌـر جوهــري ألهــم ثوابــت مشــروع املنهــاج النبــوي‪ .‬ويمكــن‬
‫أن نجــزم ونحســم مطمئني ــن غايــة االطمئنــان أن األســتاذ املرشــد لــو شــاء أن‬
‫يطرح جديدا يغيـربه أهم أسس مشروعه التغييـري الذي هو «صحبة رجل»‪،‬‬
‫والــذي كتبــه وأكــده وأثبتــه وأل ــح عليــه فــي عشـرات الكتــب واملقــاالت حت ــى صــار‬
‫ـاب واملفتـ َ‬
‫ـاح‪ ،‬لــو شــاء ذلــك ملــا َّ‬
‫توســل إليــه فــي جلســة‬ ‫وظــل ومــا زال ومــا يـزال البـ َ‬
‫حواركان يمكن أال يجري! بل الختار‪ ،‬وهو الرجل الحكيم الحصيف‪ ،‬أن يطرح‬
‫«التغييـراملفتـرض» بالوسيلة عيـنها وباإللحاح نفسه وبالروح ذاتها التـي نفخها‬
‫فــي تلــك الكتــب واملقــاالت واملجالــس علــى مــدى أربعي ــن عامــا‪ .‬كمــا أن مــا ُيطــرح‬
‫من «تجديد مفت ــرض» في قضية الصحبة يعد انقالبا عظيما في تاريخ السلوك‬
‫والت ــربية والت ــزكية يســتحق حجمــا وشــكال وأســلوبا ومنب ـرا فــي التوضيــح والبيــان‬
‫والتفصيــل أكب ــرمــن مجــرد حــوارعاب ــر‪.‬‬
‫ولتقريــب الفكــرة‪ ،‬ليــس إال‪ ،‬نضــرب مثــا بصاحــب النظريــة النســبية؛‬
‫فلــو أنــه غي ــرفــي أواخــرحياتــه مفهــوم الزمــن فــي نظريتــه فجعلــه مطلقــا‪ ،‬بعــد أن‬
‫استدل على نسبيته وأكدها وألح عليها في كتبه ومقاالته‪ ،‬ود َّرسها في الجامعات‬
‫العامليــة وتبناهــا ونقلهــا عنــه آالف اآلالف مــن العلمــاء والباحثي ــن والطلبــة‪،‬‬
‫وحملــت مضامي ـ َـنها الكتـ ُـب واملجــات واملطبوعــات‪ ،‬وصــارت أساســا مهمــا فيمــا‬
‫ُ‬
‫ف ِتـ َـح للبشــرية بهــا مــن أبــواب كل ش ــيء‪ ...‬ثــم صــرح فــي حــوارعاب ــر‪ ،‬كان يمكــن أال‬
‫َ‬
‫يجري أصال‪ ،‬أنه غ َّي ـ َـر طبيعة ذلك املفهوم الجوهري في نظريته من نسبيته إلى‬
‫َّ َ‬
‫الكرة فيعيد إقناع كل‬ ‫إطالقه‪ ،‬أكان يمكن أن ُي ْق َب َل منه هذا من غيـرأن يعيد‬
‫تلــك األقــوام بمــا توصــل إليــه مــن نتائــج جديــدة؟‬

‫‪139‬‬
‫جبــار ال يعــرف َ‬
‫هللا وال اليــوم‬ ‫ال ُيعقــل أن يصــدر هــذا مــن صاحــب عقــل ّ‬
‫اآلخر‪ ،‬فكيف يصدرمثله من صاحب عقل جباريزكيه ويؤيده قلب معلق بـربه‬
‫وباليــوم اآلخــر‪ ،‬يعلــم مــا تعنيــه مســؤولية التبليــغ والبيــان فــي شــأن جوهــرالدي ــن‬
‫ولبــه وروحــه‪ ،‬ويعلــم تبعــات النكــوص عنهــا كذلــك‪.‬‬
‫وانظ ـرا أخــي وأختــي إلــى مــا كتبــه اإلمــام املجــدد رحمــه هللا فــي قضيــة‬
‫الحكــم والعالقــة بي ــن الدعــوة والدولــة فــي «اإلســام بي ــن الدعــوة والدولــة»‬ ‫ُ‬
‫(‪1972‬م) و«اإلســام غــدا» (‪1973‬م) و«اإلســام‪ ...‬أو الطوفــان!» (‪1974‬م) ثــم‬
‫فــي «املنهــاج النبــوي» (‪1981‬م) وسلســلة «دولــة الق ـرآن» (‪1983-1982‬م)‪ ...‬ثــم‬
‫ُ‬
‫غي ــررحمــه هللا موقفــه وتصــوره مــن بعــض جوانــب القضيــة ق َب ْيـ َـل‬ ‫َّ‬
‫تأمــا كيــف َّ‬
‫انهيــاراالتحــاد الســوفييتي (‪1991‬م)‪ ،‬فــي كتابــه الضخــم «العــدل ‪ -‬اإلســاميون‬
‫والحكــم» (‪1990‬م)‪ .‬مــن حقكمــا أن تتســاءال‪ :‬كيــف يخصــص األســتاذ املرشــد‬
‫كتابــا ضخمــا مــن ‪ 700‬صفحــة لتبيــان وتفصيــل التغيي ــرالجديــد الــذي طـرأ علــى‬
‫تصــوره لجوانــب مــن قضيــة العــدل‪ ،‬ثــم ال يكتــب صفحــة واحــدة عــن التجديــد‬
‫ُ‬
‫املزعوم في جوهراألمروهو أمرالصحبة‪ ،‬في أ ِ ّم القضايا وهي قضية اإلحسان؟!‬

‫‪140‬‬
‫الفصل السابع‬
‫فصل الخطاب‬

‫هاهــو اإلمــام رض ــي هللا عنــه‪ ،‬بعــد الوصيــة (‪2002‬م)‪ ،‬وبعــد «معاهــدة‬
‫‪2005‬م»‪ ،‬يوجهنا في موضوع السلوك وشرطه الضروري إلى كتابه «اإلحسان»‬
‫بمــا هــو املرجــع املعتمــد‪ ،‬فــي حلقــة مــن ب ــرنامج «حــوارفــي املنهــاج النبــوي» فــي ‪14‬‬
‫أب ــريل ‪2009‬م س ــجلت بعــد «حــوار ‪2009‬م»‪ .‬وهــو مــا يعن ــي أنــه رحمــه هللا لــم‬
‫يـنسخ ثوابت التـربية والسلوك إلى هللا التـي أثبتها على مدى عشرات األعوام وفي‬
‫مقدمتهــا وعلــى رأســها وفــي صميــم قلبهــا ضــرورة «صحبــة رجــل»‪ .‬يقــول رحمــه هللا‪:‬‬
‫«إن الحديــث عــن طلــب وجــه هللا عــز وجــل فــي حديــث شــفوي هكــذا‬
‫ْ‬
‫مرتجــل يمض ــي ُوين َس ــى‪ ،‬ومــن النــاس مــن يســتقر هــذا فــي ذهنــه وفــي قلبــه وفــي‬
‫شغاف قلبه‪ ،‬ومنهم من تفرج في محاضرة متلفزة وانتهى األمر‪ .‬لكن من ي ــريد‪،‬‬
‫الــذي ي ــريد‪ ،‬أن يعمــق صلتــه بــاهلل عــزوجــل‪ ،‬لهــذا مــكان آخــرغي ــرالتلفزيــون‬
‫وغي ــراملحاضــرات وغي ــر‪ ...‬ي ــنبغي أن يبحــث عــن رجــل‪ ،‬عــن إنســان يدلــه علــى‬
‫هللا عــزوجــل‪ .‬فصحبــة املفلـحي ــن شــرط ضــروري‪ .‬وفــي انتظــارهــذا‪ ،‬مــن أراد‬
‫أن يعمــق اطالعــه علــى ضــرورة الصحبــة فــي هللا بالنظــرفيمــا كتبنــاه فــي كتــاب‬
‫«اإلحســان» مثــا‪ .‬كتــاب عنوانــه «اإلحســان»‪ ،‬وأظــن أنــه فــي موقــع الجماعــة‬
‫يوجــد بجزأيــه الكبيـري ــن‪ .‬مــن أراد أن يطلــع علــى هــذا يبحــث فيــه‪ .‬لكــن البحــث‬
‫الفكــري ش ــيء‪ ،‬والفضــول الفكــري ش ــيء‪ ،‬والحاجــة امللحــة والتحــرق والتأســف‬
‫ش ــيء آخريعطيه هللا ملن يشــاء‪ .‬ومن الناس من يعيش ســنوات؛ خمسي ــن ســنة‬
‫‪141‬‬
‫أربعي ــن ســنة سبعي ــن ســنة‪ ،‬ال يخطــرهــذا ببالــه‪ .‬ال يخطــرببالــه أبــدا أنــه يمكــن‬
‫أن يحــب هللا وأن يحبــه هللا وال يهتــدي إلــى ذلــك ســبيال إال أن يدلــه غي ــره ويكــون‬
‫هــو مســتعدا ليســمع‪ .‬يســمع‪ .‬وأكــرر كثي ـرا قولــه عــزوجــل فــي كتابــه العزيــزيوص ــي‬
‫ُۡ ۡ‬ ‫َ ۡ َ‬
‫﴿و ِإن أ َحـ ٌـد ِّمـ َـن ٱلش ِر ِكي ـ َـن‬ ‫بهــا رســو َل هللا صلــى هللا عليــه وســلم ويوصي ــنا معــه‪:‬‬
‫ۡ َ َ‬
‫ٱســت َجا َرك﴾‪1‬؛ شــرط أول؛ أن يأتــي إليــك خاضعــا‪ .‬يطلــب حمايتــك‪ .‬يطلــب‬
‫َ َٰ َّ‬ ‫َّ‬ ‫ََ‬
‫جــوارك‪ .‬اســتجارك‪﴿ .‬فأ ِجـ ۡـر ُه َحت ـ ٰـى َي ۡسـ َـم َع كلـ َـم ٱللـ ِـه﴾‪ .‬ألنــه مــا دامــت نفســه فــي‬
‫هيجــان وفــي خمــول الخــوف والتنكــرللنــاس والتوجــس خيفــة مــن النــاس هــذا ال‬
‫ََ‬
‫يســمع شــيئا‪﴿ .‬فأ ِجـ ۡـر ُه﴾‪ ،‬وأجــره هــذه‪ ،‬تطبيقيــا‪ ،‬هــي الرباطــات‪ .‬والحمــد هلل؛ مــن‬
‫حضرفي رباطاتنا خاصة الذي وصل إلى درجة أن يبقى مع اإلخوان ‪ -‬واألخوات‬
‫أيضا لهن رباطهن ‪ -‬أن يبقى معهم أربعيـن يوما في صالة وصيام وقيام ال يشبع‬
‫ْ‬
‫مــن هــذا ي ــريد أن يست ــزيد‪ .‬فهــذه مدرســة لكــي يذهــب فــي هــذا ال ـ َـم ْه َيع (الطريــق)‪،‬‬
‫طلـ ِـب جــه هللا عــزوجــل»‪.2‬‬
‫وما كالم اإلمام هنا إال نفس ما دبجه في «اإلسالم بيـن الدعوة والدولة»‬
‫فمــا بعــده‪ .‬وفيــه يحــث الباحــث عــن الطريــق إلــى «أن يبحــث عــن رجــل يدلــه علــى‬
‫هللا»‪ ،‬ويحيــل «مــن أراد أن يعمــق اطالعــه علــى ضــرورة الصحبــة» إلــى كتابــه‬
‫تحو ٌل أو تغييـرأو‬‫«اإلحسان» (‪1988‬م) بجزأيه‪ .‬ولو كان في أمر «صحبة رجل» ُّ‬
‫تراجــع ألشــارإليــه فــي كالمــه النفيــس ذاك‪.‬‬
‫وماذا في «اإلحسان» مما دل عليه ُ‬
‫إمامنا الباحثيـن؟‬
‫فيــه أنــه «أخب ــر رســو ُل هللا صلــى هللا عليــه وســلم بتسلســل املــدد القلب ـ ّ ِـي‬

‫‪ - 1‬التوبة‪.6 :‬‬
‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬حوارات حول املنهاج النبوي»‪« ،‬التوازن التـربوي عند جماعة العدل واإلحسان»‪،‬‬
‫من الدقيقة ‪ 26‬والثانية ‪ 36‬إلى الدقيقة ‪ 29‬والثانية ‪ 14 ،58‬أبـريل ‪2009‬م‪.‬‬
‫‪142‬‬
‫الح ّب ـ ّـي مــن بعــده حي ــن قــال‪« :‬يأتــي علــى النــاس زمــان يغــزو فيــه ف َئـ ٌ‬
‫ـام‬ ‫ّ ُ‬
‫ِ‬ ‫الفتح ـ ِـي ِ ِ‬
‫مــن النــاس )جماعــات( فيقولــون‪ :‬هــل فيكــم مــن صاحــب رســول هللا صلــى‬
‫فيفتــح لهــم‪ .‬ثــم يأتــي علــى النــاس زمــان‪،‬‬ ‫هللا عليــه وســلم؟ فيقولــون‪ :‬نعــم! ُ‬
‫فيغــزو ِفئــام مــن النــاس فيقــال‪ :‬هــل فيكــم مــن صاحــب أصحــاب رســول هللا‬
‫فيفتــح لهــم‪ .‬ثــم يأتــي علــى النــاس زمــان‬ ‫صلــى هللا عليــه وســلم؟ فيقولــون نعــم! ُ‬
‫فيغــزو فئــام مــن النــاس فيقــال‪ :‬هــل فيكــم مــن صاحــب مــن صاحــب أصحــاب‬
‫فيفتــح لهــم»‪ .‬رواه البخــاري‬ ‫ل هللا صلــى هللا عليــه وســلم؟ فيقولــون نعــم! ُ‬
‫رســو‬
‫ومســلم والت ــرمذي عــن أبــي ســعيد الخــدري رض ــي هللا عنــه»‪.1‬‬
‫ّ‬
‫ويعلق قدس هللا سره على هذا الحديث الجليل‪:‬‬
‫َ‬
‫«ب ــركة متسلســلة‪ ،‬وفــاح ونصــر‪ .‬وإن التابعي ــن ف َمــن بعدهــم إلــى يــوم‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫أرواحهــم نسـ َ‬ ‫َ ُ‬
‫ـيم الحــب والقــرب مــن ِعشـ َـرة أصحــاب القلــوب‬ ‫القيامــة لتشــم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الني ــرة الخي ــرة‪ ،‬وتحــوم حولهــا‪ ،‬وتقتبــس منهــا نــورا ومحبــة و َر ْوحــا»‪.2‬‬
‫وفيــه أنــه «كان أمنـ ُـاء الرســالة‪ ،‬ورثــة الحــب فــي هللا املقـ ّ ِـر ِب إلــى هللا مــن‬
‫بعــد أصحــاب رســول هللا‪ ،‬أوليـ َـاء هللا الذي ــن أحبهــم هللا بعدمــا تقربــوا إليــه‬
‫بالفــرض والنفــل حت ــى أكرمهــم بذلــك الســمع والبصــر واليــد والرجــل والســؤال‬
‫ّ‬ ‫ل فــي األ ض‪ .‬تابـ ٌـع ومتبـ ٌ‬
‫ـوع بإســناد قلبــي متصــل إلــى‬ ‫ر‬ ‫املســتجاب واإلعــاذة والقبــو‬
‫يــوم القيامــة‪ .‬وال واليــة لــك أيهــا الفقيــه فــي األحــكام الظاهــرة علــى هــذا املوضــوع‬
‫ُ‬
‫لتتكلــم فيــه‪ ،‬وت ْفتِــي بأنــه َز ْعـ ٌـم مرفــوض مرفــوض مرفــوض!»‪.3‬‬
‫والفقهاء أشكال وألوان!‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.198-197 :‬‬
‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.198 :‬‬
‫‪ - 3‬نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.198 :‬‬
‫‪143‬‬
‫الصحبة والجماعة‪..‬‬
‫«الصحبــة والجماعــة» أولــى خصــال منهاجنــا وأولــى شــروط الت ــربية فيهــا‪،‬‬
‫وداللتهــا فــي هــذا املنهــاج النبــوي العظيــم أنــه ال خــاص فــردي ُي ْر َجــى وال خــاص‬
‫ـوب وار ٍث حـ ّ ٍـي حولــه تلتــف‬ ‫جماعــي لألمــة إال بوجــود رجــل ّ‬
‫دال علــى هللا مصحـ ٍ‬ ‫ٍ ٍ‬
‫َ‬
‫الجماعــة املجاهــدة الحاملــة ملشــروع املنهــاج النبــوي‪ ،‬فمنــه تســتمد النــور فــي‬
‫َْ‬ ‫َ‬
‫طريقهــا إلــى هللا عــز وجــل‪ ،‬والرحمــة بي ــن أفرادهــا وبالخلــق‪ ،‬وبــه ُيخــرج زر ُعهــا‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫﴿م َح َّم ٌد َّر ُســو ُل ٱلل ِ ۚه‬
‫ـطأه‪ ،‬ومعه يشــتد عودها‪ .‬تماما كما ورد في قوله تعالى‪ُّ :‬‬ ‫شـ‬
‫ُ َ‬ ‫ۖ‬ ‫ٓ‬ ‫ٓ َ ۡ‬ ‫َ‬
‫َو َّٱل ِذي ـ َـن َم َعـ ُـهۥٓ أ ِشـ َّـدا ُء َعلــى ٱل ُك َّفـ ِـار ُر َح َمــا ُء َب ۡي َن ُهـ ۡـم َت َر ٰى ُهـ ۡـم ُر َّك ًعــا ُسـ َّـج ًدا َي ۡب َتغــون‬
‫َُ‬ ‫ُّ ُ ۚ َٰ‬ ‫ّ ۡ ََ‬ ‫َ ۡ ً ّ َ َّ َ ۡ َٰ ً ۖ َ ُ ۡ ُ ُ‬
‫ود ذ ِلـ َـك َمثل ُهـ ۡـم‬ ‫وه ِهــم ِمــن أثـ ِـر ٱلس ــج ِ‬ ‫فضــا ِمــن ٱللـ ِـه و ِرضونــا ِســيماهم ِفــي وج ِ‬
‫ظ َف ۡ‬ ‫َ َۡ َ ۡ َ َ َ ۡ ُ َ ََ ُ َ ۡ َ َۡ َ‬ ‫َّ ۡ َ ٰ ۚ َ َ َ ُ ُ ۡ ۡ‬
‫ٱسـ َـت َو ٰى‬ ‫ـط ۥَٔه ‍فَٔازر ۥه فٱســتغل‬ ‫يل كزر ٍع أخرج شـ ‍‬ ‫نج ِ‬ ‫ِفي ٱلتورى ِة ومثلهم ِفي ِ‬
‫ٱل ِ‬
‫ُ ْ‬ ‫ۡ ُ َّ ۗ َ َّ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َعلـ ٰـى ُســو ِق ِهۦ ُي ۡع ِجـ ُـب ٱلـ ُّـز َّراع ِل َي ِغيــظ ِب ِهـ ُـم ٱلكفـ َـار َو َعــد ٱللـ ُـه ٱل ِذي ـ َـن َء َامنــوا‬
‫يمــا﴾‪ .1‬وكمــا ورد فــي قولــه تعالــى‪﴿ :‬‬ ‫ٱلصل َٰحــت م ۡن ُهــم َّم ۡغفـ َـر ًة َو َأ ۡجـ ًـرا َعظ َۢ‬ ‫َ َ ُ ْ َّٰ‬
‫وع ِملــوا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ۡ ۡ َ ۡ َ َ َ َ َّ َ َ ۡ ُ َ َ َّ ُ ۡ َ َ ٰ َ ۡ َ ّ ُ ُ َ َ ۡ َ ُ َ َ‬
‫وٱص ِب ــر نفســك مــع ٱل ِذي ــن يدعــون ربهــم ِبٱلغــدو ِة وٱلع ِش ـ ِـي ي ِريــدون وجهــهۥۖ ول‬
‫َ ۡ ََۡ َۡ‬ ‫َ ۡ ُ َ ۡ َ َ َ ۡ ُ ۡ ُ ُ َ َ ۡ َ َ ٰ ُّ ۡ ۖ َ ُ‬
‫ٱلدن َيــا َول ت ِطـ ۡـع َمـ ۡـن أغفلنــا قل َبـ ُ ۥـه َعــن‬ ‫تعــد عينــاك عنهــم ت ِريــد ِزي ــنة ٱلحيــو ِة‬
‫ُ ً‬ ‫َ َ َ‬ ‫ۡ َ َّ‬
‫ِذك ِرنــا َوٱت َبـ َـع َه َو ٰىـ ُـه َوكان أ ۡمـ ُـر ُ ۥه ف ُرطــا﴾‪.2‬‬
‫تحريـر«الصحبة في الجماعة»‪..‬‬
‫اضطررنــا فيمــا مض ــى مــن صفحــات إلــى تنقيــة مفهــوم «الصحبــة فــي‬
‫ْ َ َّ‬ ‫َ َ‬
‫اغه‬‫الجماعة» مما ع ِلق به على مداربضع سنوات من الفهم ال ـ ُـموجه‪ ،‬وإلى إفر ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ ْ‬
‫ممــا أشـ ِـرَبه ُمك َرهــا ممــا ال أصــل لــه فــي املنهــاج النبــوي وال ســند‪ .‬ونعــود هنــا مــن‬
‫أجل تحريـرهذا املفهوم الجليل وإعادة فهمه إلى أصله من القرآن الكريم‪ ،‬وإلى‬

‫‪ - 1‬الفتح‪.29 :‬‬
‫‪ - 2‬الكهف‪.28 :‬‬
‫‪144‬‬
‫نصابــه مــن الســنة الشــريفة‪ .‬فــإن «الصحبــة فــي الجماعــة»‪ ،‬بمعناهــا املنهاجــي‬
‫وبداللتها النبوية‪ ،‬وبعمقها في تاريخ موكب املحسنيـن َ‬
‫أنبياء وأولياء‪ ،‬لهي أعظم‬
‫ُ‬
‫وأجـ ّـل وأقــدس مــن أن ت َتـ َـد َاو َل بداللــة تقطعهــا عــن أصلهــا وتحبســها عــن منبعهــا‬
‫بمفهــوم ليــس أكث ــرمــن صـ ً‬
‫ـدى ملــا ي ــردده وي ــنقله بعــض عــن بعــض دون أن يــدرك‬
‫ََ‬
‫العقــل مبنــاه أو أن تت َنـ َّـدى الــروح معنــاه‪.‬‬
‫تتأمــا مــا يلحــق مــن آيــات قرآنيــة نســتدل‬ ‫وأدعوكمــا‪ ،‬أخــي وأخت ــي‪ ،‬إلــى أن َّ‬
‫بهــا فــي هــذا املوضــوع‪ .‬فحــرف الظرفيــة «فـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي» الــذي تناولنــاه فــي الفصــل الرابــع‬
‫مــن هــذا البحــث‪ ،‬والــذي يتوســط مفهــوم «الصحبــة فــي الجماعــة»‪ ،‬ال معن ــى لــه‬
‫فــي اآليــات الت ــي نوردهــا ُب َع ْيـ َـد حي ــن إال ب ــ«حيــاة» َج َسـ ِـد املص ــحوب الــوارد ذكــره‬
‫فيهــا فــي الدنيــا‪ .‬وقــد وضعنــا ســطرا تذكي ــريا تحــت الصيــغ القرآنيــة الت ــي ورد فيهــا‬
‫مفهــوم «الصحبــة فــي الجماعــة»‪( :‬وفيكــم رســوله‪ ،‬فيكــم رســول هللا‪ ،‬بعــث فيهــم‬
‫رســوال‪.)...‬‬
‫َ‬
‫َو َر َد معن ــى «الصحبــة فــي الجماعــة» فــي القـرآن الكريــم فــي صيغــة ت ْع َجـ ُـب‬
‫مــن انســياق املؤمني ــن وراء أهــل الكتــاب علــى مــا ُيتلــى عليهــم مــن آيــات وعلــى مــا‬
‫َٰٓ َ ُّ َ َّ َ َ َ ُ ٓ ْ ُ ُ ْ َ ً‬
‫يعــوا ف ِريقــا‬ ‫أكرمهــم بــه مــن وجــود املصحــوب فيهــم‪﴿ :‬يأيهــا ٱل ِذي ــن ءامنــوا ِإن ت ِط‬
‫َ‬
‫َ َ َُۡ َ ُ‬ ‫ُ َٰ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ ْ ۡ َٰ‬ ‫َّ‬
‫ِّمـ َـن ٱل ِذي ـ َـن أوتــوا ٱل ِكتـ َـب َي ُر ُّدوكــم َب ۡعــد ِإ َٰيم ِنكـ ۡـم ك ِف ِري ـ َـن َوك ۡيــف تكفـ ُـرون َوأنتـ ۡـم‬
‫َ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ٰ‬ ‫ُ َ َ ُ‬
‫ت ۡتلـ ٰـى َعل ۡيكـ ۡـم َء َايـ ُـت ٱللـ ِـه َو ِفيكـ ۡـم َر ُســول ُهۥۗ َو َمــن َي ۡعت ِصــم ِبٱللـ ِـه فقـ ۡـد ُهـ ِـد َي ِإل ـ ٰـى‬
‫َ‬
‫ِصـ َٰـر ٍط ُّم ۡســت ِق ٍيم﴾‪.1‬‬
‫وورد معن ــى «الصحبــة والجماعــة» فــي ســياق تذكي ــر الصحابــة أن‬
‫املصحــوب هــو عاصمهــم مــن املشــقة‪ ،‬وهــو مجلبــة اإليمــان الــذي حببهــم فيــه‬

‫‪ -1‬آل عمران‪.101 :‬‬


‫‪145‬‬
‫َ ۡ َ ُ ٓ ْ َ َّ ُ ۡ َ ُ َ َّ ۚ َ ۡ ُ ُ ُ‬
‫يعكـ ۡـم ِفــي‬ ‫ســبحانه وزي ــنه فــي قلوبهــم‪﴿ :‬وٱعلمــوا أن ِفيكــم رســول ٱللـ ِـه لــو ي ِط‬
‫ّ َ ۡ َ ۡ َ َ ُّ ۡ َ َٰ َّ َّ َ َ َّ َ َ ۡ ُ ُ ۡ َٰ َ َ َ َّ َ ُ ُ ُ ُ َ‬ ‫َ‬
‫وبكـ ۡـم َوكـ َّـر َه‬
‫ٱليمــن وزينــهۥ ِفــي قل ِ‬ ‫ك ِثي ـ ٍـر ِمــن ٱلمـ ِـر لع ِنتــم ول ِكــن ٱللــه حبــب ِإلٰٓيكــم ِ‬
‫َ‬ ‫َ ۡ ُ ُ ۡ ُ ۡ َ َ ۡ ُ ُ َ َ ۡ ۡ َ َۚ ُ ْ َ َ ُ ُ َّٰ‬
‫ٱلر ِشـ ُـدون﴾‪.1‬‬ ‫ِإليكــم ٱلكفــر وٱلفســوق وٱل ِعصيــان أول ِئــك هــم‬
‫وجــاءت «الصحبــة فــي الجماعــة» فــي ســياق َم ِّنــه تعالــى علــى جماعــة‬
‫املؤمنيـن بصحبة املصحوب األعظم صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬املبعوث فيهم مزكيا‬
‫ُۡ ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ً‬ ‫ۡ َ‬ ‫َّ َ ۡ ُ‬ ‫ََ‬
‫ومعلمــا‪﴿ :‬لقـ ۡـد َمـ َّـن ٱللـ ُـه َعلــى ٱل ۡؤ ِم ِني ـ َـن ِإذ َب َعــث ِف ِيهـ ۡـم َر ُســول ِّمـ ۡـن أنف ِسـ ِـه ۡم َيتلــوا‬
‫َ َ‬ ‫َ ُ ْ‬ ‫ۡ ۡ َ‬ ‫ۡ َٰ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬
‫َعل ۡي ِهـ ۡـم َء َاي ِتـ ِـهۦ َو ُي َز ِك ِيهـ ۡـم َو ُي َع ِل ُم ُهـ ُـم ٱل ِكتـ َـب َوٱل ِحك َمــة َو ِإن كانــوا ِمــن ق ۡبـ ُـل ل ِفــي‬
‫َ َٰ‬
‫ضلـ ٍـل ُّم ِبي ـ ٍـن﴾‪.2‬‬
‫وتــرد «الصحبــة فــي الجماعــة»‪ ،‬والصحبــة فيهــا حاضــرة قائمــة بوظيفتهــا‬
‫الســماوية فــي الصــاة وهــي أرقــى وأقــرب مــا يكــون العبــد مــن ربــه‪ ،‬وبوظيفتهــا تحــت‬
‫َ َ ُ َ ۡ َ َ َ ۡ َ َ ُ ُ َّ َ َ َ ۡ َ ُ‬
‫ٱلصلـ ٰـوة فلتقـ ۡـم‬ ‫ظــال الســيوف تثبيتــا وتحفي ـزا‪﴿ :‬و ِإذا كنــت ِف ِيهــم فأقمــت لهــم‬
‫ۖ‬ ‫ۡ ۡ ُ ُ َْ‬ ‫َٓ َ ٌ‬
‫طا ِئفــة ِّم ۡن ُهــم َّم َعـ َـك َول َيأخــذ ٓوا أ ۡسـ ِـل َح َت ُه ۡم‪.3﴾...‬‬
‫وال قيــام لجماعــة املؤمني ــن إال واملصحــوب فيهــم هــو ضمانــة أمانهــم مــن‬
‫َ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ َ َ َّ‬
‫﴿و َمــا كان ٱللـ ُـه ِل ُي َع ِذ َب ُهـ ۡـم َوأنــت‬ ‫العــذاب إن ذكــروا ربهــم فلــم ي ــنسوا أنفســهم‪:‬‬
‫َ ۡ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫ۚ‬
‫ِف ِيهـ ۡـم َو َمــا كان ٱللـ ُـه ُم َع ِذ َب ُهـ ۡـم َو ُهـ ۡـم َي ۡســتغ ِف ُرون﴾‪.4‬‬
‫ُ‬
‫كانــت «الصحبــة فــي الجماعــة»‪ ،‬وســتظل‪ ،‬معن ــى قدســيا يز ـكـي ويعضــد‬
‫معن ــى «الصحبــة والجماعــة» الــذي ال يقــوم إال بصحبــة رجــل حــي قائــم ّ‬
‫دال علــى‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫هللا سي ـرا علــى ســنة هللا فــي التابــع واملتبــوع إلــى يــوم القيامــة‪ ،‬خالــدة وظيفتــه‬

‫‪ -1‬الحجرات‪.7 :‬‬
‫‪ -2‬آل عمران‪.164 :‬‬
‫‪ -3‬النساء‪.102 :‬‬
‫‪ -4‬األنفال‪33 :‬‬
‫‪146‬‬
‫ـوره‬‫بالوراثــة عــن النب ــي األمي ــن صلــى هللا عليــه وســلم كاب ـرا عــن كاب ــر‪ ،‬ممتـ ّـد ًا نـ ُ‬
‫ُ‬
‫إلــى األجيــال الت ــي لــم تلحــق باأل ِّم ِّيي ــن الذي ــن ســعدوا وتشــرفوا وفــازوا بالصحبــة‬
‫َ ُۡ‬ ‫ُ َّ‬
‫﴿ه َو ٱل ِذي َب َعث ِفي ٱل ِّم ِّي‍ َۧن‬ ‫العظمى واملصحوب األعظم صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫َ ُ ً ّ ۡ ُ ۡ َ ۡ ُ ْ َ َ ۡ ۡ َ َٰ َ ُ َ ّ ۡ َ ُ َ ّ ُ ُ ُ ۡ َٰ َ َ ۡ ۡ َ َ َ َ ُ ْ‬
‫رســول ِمنهــم يتلــوا علي ِهــم ءاي ِتـ ِـهۦ ويز ِك ِيهــم ويع ِلمهــم ٱل ِكتــب وٱل ِحكمــة و ِإن كانوا‬
‫يم‬
‫َ َ َ َ ۡ ُ ۡ َ َّ َ ۡ َ ُ ْ‬
‫وا به ۡۚم َو ُه َو ۡٱل َعز ُيز ۡٱل َحك ُ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ه‬‫ن‬ ‫م‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ي‬
‫ر‬ ‫اخ‬ ‫ء‬‫و‬ ‫ـن‬ ‫ض َٰلل ُّ‬
‫َ‬ ‫َۡ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ق‬ ‫ـح‬
‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِمن قبل ل ِفي ٍ ِ ٍ‬
‫ـ‬ ‫ي‬‫ب‬ ‫م‬
‫َٰ َ َ ۡ ُ َّ ُ ۡ َ َ َ ٓ ُۚ َ َّ ُ ُ ۡ َ ۡ ۡ‬
‫ضـ ِـل ٱل َع ِظيـ ِـم﴾‪.1‬‬ ‫ذ ِلــك فضــل ٱللـ ِـه يؤ ِتيـ ِـه مــن يشــاء وٱللــه ذو ٱلف‬
‫ً‬
‫ولــم يكــن رســول هللا ِب ْدعــا مــن الرســل فــي حمــل وفــي توريــث معانــي‬
‫«الصحبــة فــي الجماعــة»‪ ،‬فقــد ســار عليــه الصــاة والســام علــى ُسـ َّـنة َمـ ْـن كان‬
‫قبلــه مــن الرســل عليهــم وعلــى رســولنا أز ـكـى الصــاة والســام‪ .‬أثبــت عــزوجــل هــذه‬
‫َ َ َ ۡ َ َ ۡ َ ُ ّ ُ َّ َّ ُ ً َ ۡ ْ َّ َ‬
‫ٱع ُبـ ُـدوا ٱللــه‬ ‫الســنة حي ــن قــال عــزمــن قائــل‪﴿ :‬ولقــد بعثنــا ِفــي ك ِل أمـ ٍـة رســول أ ِن‬
‫ۚ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫ٱللـ ُـه َوم ۡن ُهــم َّمـ ۡـن َح َّقـ ۡـت َع َل ۡيــه َّ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ۡ َ ْ َّٰ ُ َۖ َ‬
‫ٱلضللــة﴾‪.2‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٱجت ِن ُبــوا ٱلطغــوت ف ِم ۡن ُهــم َّمـ ۡـن َهــدى‬‫و‬
‫هــذه ســنة هللا فــي األنبيــاء واملرسلي ــن ال ســيما أولــي العــزم منهــم‪ .‬فعلــى‬
‫ً‬
‫الرغــم مــن أن «الصحبــة فــي الجماعــة» كانــت أطــول مــدة فــي نبــوة ورســالة ســيدنا‬
‫َََ ۡ َۡ َ َۡ ُ ً َ َ‬
‫وحــا ِإلـ ٰـى ق ۡو ِمـ ِـهۦ‬ ‫نــوح عليــه الســام‪ ،‬فمــا آمــن معــه إال قليــل‪﴿ :‬ولقــد أرســلنا ن‬
‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫ُّ َ ُ‬ ‫ََ َ َ‬ ‫َ ۡ َ َ َّ َ‬ ‫ََ َ‬
‫فل ِبــث ِف ِيهـ ۡـم ألــف َســن ٍة ِإل خ ۡم ِسي ـ َـن َع ًامــا فأخذ ُهـ ُـم ٱلطوفــان َوهـ ۡـم ظ ِل ُمــون﴾‪.3‬‬
‫ُ‬
‫َ‬
‫وكانــت «الصحبــة فــي الجماعــة» دعــوة ســيدنا إب ـراهيم إذ ي ــرفع القواعــد‬
‫ٰ‬ ‫ُۡ ْ َ‬ ‫ً‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫مــن البيــت وإســماعيل‪َ ﴿ :‬رَّبنــا َو ۡٱب َعــث ِف ِيهـ ۡـم َر ُســول ِّم ۡن ُهـ ۡـم َيتلــوا َعل ۡي ِهـ ۡـم َء َاي ِتـ َـك‬
‫ۡ‬ ‫ۡ ۡ َ ّ ۖ َّ َ َ ۡ‬ ‫ۡ َٰ‬ ‫ّ‬
‫َو ُي َع ِل ُم ُهـ ُـم ٱل ِكتـ َـب َوٱل ِحك َمــة َو ُي َز ِك ِيهـ ۡـم ِإنـ َـك أنــت ٱل َع ِزيـ ُـز ٱل َح ِكيـ ُـم﴾‪.4‬‬

‫‪ -1‬الجمعة‪.2-4 :‬‬
‫‪ -2‬النحل‪.36 :‬‬
‫‪ -3‬العنكبوت ‪.14‬‬
‫‪ -4‬البقرة‪.129 :‬‬
‫‪147‬‬
‫َ ۡ‬
‫﴿و ِإذ‬ ‫وكانــت «الصحبــة فــي الجماعــة» تذكي ـ َـر ســيدنا موس ــى لقومــه‪:‬‬
‫ُ َۢ ٓ‬ ‫َ َّ َ ُ ۡ‬ ‫ُۡ ْ‬ ‫َٰ‬ ‫َ َ ُ َ َ‬
‫وس ـ ٰـى ِلق ۡو ِمـ ِـهۦ َيقـ ۡـو ِم ٱذكـ ُـروا ِن ۡع َمــة ٱللـ ِـه َعل ۡيكـ ۡـم ِإذ َج َعـ َـل ِفيكـ ۡـم أن ِب َيــا َء‬ ‫قــال م‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫َو َج َعلكــم ُّملــوكا َو َءات ٰىكــم َّمــا لـ ۡـم ُيــؤ ِت أ َحــدا ِّمــن ٱل َعل ِمي ــن﴾‪.1‬‬
‫َ ً‬
‫وكانت «الصحبة في الجماعة» شــهادة ســيدنا عيس ــى في قومه ت َب ـ ُّـرءا من‬
‫َ ُ ۡ ُ َ َّ ٓ‬ ‫َّ َ‬
‫﴿مــا قلــت ل ُهـ ۡـم ِإل َمــا‬ ‫وأمــه ِإل َه ْيـ ِـن مــن دون هللا‪:‬‬ ‫ـاس أن يتخــذوه‬ ‫أن يكــون دعــا النـ َ‬
‫ۖ‬ ‫ُ‬
‫يدا َّمــا ُد ۡمــت ِف ِيهـ ۡـم‬ ‫َ ۡ ُ ُ ْ َّ َ َ ّبــي َو َر َّب ُكـ ۡۚـم َو ُكنـ ُـت َع َل ۡيهـ ۡـم َشــه ً‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أ َم ۡرت ِن ــي ِبـ ِـهۦٓ أ ِن ٱعبــدوا ٱللــه ر‬
‫يد﴾‪.2‬‬ ‫ٱلرقيـ َـب َع َل ۡيهـ ۡۚـم َو َأنـ َـت َع َلـ ٰـى ُك ّل َش ـ ۡـيء َشــه ٌ‬ ‫َف َل َّمــا َت َو َّف ۡي َتن ــي ُكنـ َـت َأنـ َـت َّ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بل حتـى هذا الكون من حولنا يتجلى لنا فيه ما يلخص وظيفة «الصحبة‬
‫في الجماعة» مشهدا تراه عيـنا الرأس إن َع ِم َي ْت عنه عيـنا القلب‪:‬‬
‫َۡ‬ ‫ً‬ ‫ٰ‬ ‫َّ‬ ‫ََ َ ْ َ َ ََ‬
‫﴿ألـ ۡـم تـ َـر ۡوا ك ۡيــف خلـ َـق ٱللـ ُـه َسـ ۡـب َع َسـ َٰـم َو ٍت ِط َباقــا َو َج َعـ َـل ٱلق َمـ َـر ِف ِيهـ َّـن‬
‫ُ ً َ َ َ َ َّ ۡ َ‬
‫س سـ َـر ً‬
‫اجا﴾‪.3‬‬ ‫نــورا وجعــل ٱلشــم ِ‬
‫مشــهد يمثــل بالصــورة الت ــي تراهــا العي ــن املجــردة حقيقــة املصحــوب فــي‬
‫ً‬
‫جماعتــه‪ ،‬نــورا وسـراجا وهاجــا يـني ــرالطريــق للسالكي ــن داللــة علــى هللا‪.‬‬
‫وهكــذا كان صلــى هللا عليــه وســلم وهكــذا كان ويكــون ورثتــه إلــى قيــام‬
‫الســاعة‪ ،‬يجمعــون بي ــن خصائــص نــور القمــر وخصائــص ضيــاء الشــمس‪،‬‬
‫َ‬
‫ولهــذا جمــع هللا تعالــى هتي ــن الخصيصتي ــن فــي رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‪،‬‬
‫ََ‬ ‫َٰٓ َ ُّ َ َّ َّ ٓ َ َ ۡ َٰ َ َٰ ً َ ُ َ ّ َ َ‬
‫اع ًيــا‬
‫وبالوراثــة فــي ورثتــه‪﴿ :‬يأيهــا ٱلنبِـ ُّـي ِإنــا أ ۡرســلنك شـ ِـهدا ومب ِشـ ًـرا ون ِذي ـ ًـرا ود ِ‬
‫َ َّ‬
‫ٱللــه بإ ۡذنــهۦ َوسـ َـر ً‬
‫اجا ُّم ِني ـ ًـرا﴾‪.4‬‬ ‫ِإلــى ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫‪ -1‬املائدة‪.20 :‬‬
‫‪ -2‬املائدة‪.117 :‬‬
‫‪ -3‬نوح‪.16-15 :‬‬
‫‪ -4‬األحزاب‪.46-45 :‬‬
‫‪148‬‬
‫وكمــا تجلــت معانــي «الصحبــة فــي الجماعــة» فــي املرسلي ــن ال ســيما فــي‬
‫أولــي العــزم منهــم‪ ،‬وفــي املالئكــة الك ـرام بــل حت ــى فــي الســماوات‪ ،‬تتجلــى معانــي‬
‫«الصحبة في الجماعة» في كل منور وارث يم�شي بنور ربه في الناس يدلهم عليه‪:‬‬
‫َُ‬ ‫َّ َ‬ ‫ََ َ َ َ‬
‫ان َم ۡي ًتا َف َأ ۡح َي ۡي َٰن ُه َو َج َع ۡل َنا َل ُ ۥه ُن ً‬
‫اس ك َمن َّمثل ُ ۥه ِفي‬‫ِ‬ ‫ٱلن‬ ‫ي‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫ۦ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ي‬
‫ٰ ِ ِ‬‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ورا َي ۡ‬
‫م‬ ‫﴿أو من ك‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۚ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ٱلظ ُل َٰمـ ِـت ليـ َ‬
‫ُّ‬
‫ـس ِبخـ ِـار ٍج ِّمن َهــا كذ ِلــك زِّيــن ِللك ِف ِري ــن َمــا كانــوا ي ۡع َملــون﴾‪.1‬‬
‫هــذه بعــض معانــي «الصحبــة فــي الجماعــة» مؤصلــة مــن كتــاب ربنــا جـ َّـل‬
‫ْ‬
‫وعــا‪ .‬أمــا الحديــث الشــريف فحـ ِّـدث عنــه ومنــه وبــه وحــدث وحــدث‪ ...‬غي ــرأننــا‬
‫نكتفــي بحديثي ــن عظيمي ــن جليلي ــن أو ردهمــا إمامنــا املبجــل رض ــي هللا عنــه فــي‬
‫كتابــه النفيــس «اإلحســان»‪ .‬بــل إن أول الحديثي ــن هــو الزمــة الرجــل فــي منهاجــه‬
‫النبــوي‪ ،‬وهــو معتمــده فــي مشــروعه التغيي ــري‪ ،‬وهــو دليلــه ونب ـراسه إلــى موعــود‬
‫ربــه جــل وعــا‪.‬‬
‫الحديــث األول يقــول فيــه صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬فيمــا رواه اإلمــام أحمــد‬
‫رحمــه هللا بســنده الصحيــح‪ ،‬عــن النعمــان بــن بشي ــر رض ــي هللا عنــه‪« :‬تكــون‬
‫النبــوة فيكــم مــا شــاء هللا أن تكــون‪ ،‬ثــم ي ــرفعها هللا إذا شــاء أن ي ــرفعها‪ ،‬ثــم‬
‫تكــون خالفــة علــى منهــاج النبــوة‪ ،‬فتكــون مــا شــاء هللا أن تكــون‪ ،‬ثــم ي ــرفعها‬
‫إذا شــاء أن ي ــرفعها‪ .‬ثــم تكــون ُملــكا عاضــا فيكــون مــا شــاء هللا أن يكــون‪ ،‬ثــم‬
‫ي ــرفعها إذا شــاء هللا أن ي ــرفعها‪ .‬ثم تكون ملكا جب ــريا‪ ،‬فتكون ما شــاء هللا أن‬
‫تكــون‪ ،‬ثــم ي ــرفعها إذا شــاء أن ي ــرفعها‪ .‬ثــم تكــون خالفــة علــى منهــاج النبــوة»‪.‬‬
‫ثــم ســكت‪.‬‬
‫مــا أكث ــرمــا حدثنــا أســتاذنا املرشــد بهــذا الحديــث فــي مجالســه ودروســه‬

‫‪ -1‬األنعام‪.122 :‬‬
‫‪149‬‬
‫ألح عليـنا رحمه هللا لنتدبـره ولنستنيـربه ولنتخذه شعارا لنا‬ ‫وكتبه‪ .‬وما أشد ما َّ‬
‫ُ‬
‫ومشــعال نقـرأ علــى ضوئــه سي ــرالتاريــخ فنفهــم ونعتب ــرون ِعـ ُّـد ونســتعد‪.‬‬
‫هــذا الحديــث الشــريف ي ــنسف نســفا مــا ذهــب إليــه البعــض مــن مفهــوم‬
‫ل ــ«الصحبــة فــي الجماعــة» يجعلهــا «صحبــة جماعيــة» فيســلب أولــى الخصــال‬
‫ونورهــا وروحهــا وهــي «صحبــة رجــل»‪.‬‬ ‫املنهاجيــة وأولــى شــروط الت ــربية ُل َّبهــا َ‬
‫َ‬ ‫َْ َ‬
‫صحابتــه أن النبــوة تكــون فيهــم مــا شــاء هللا أن‬ ‫أن َبــأ صلــى هللا عليــه وســلم‬
‫تكون ثم ي ــرفعها هللا إذا شاء أن ي ــرفعها‪ .‬ونسجل هنا إشارتي ــن مهمتي ــن‪:‬‬
‫اإلشــارة األولــى‪ :‬أن حــرف الظرفيــة «فـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي» الــوارد فــي الحديــث (فيكــم)‬
‫َ ْ‬
‫والــذي ت َح َّدث َنــا عنــه آنفــا فــي هــذا البحــث‪ ،‬ال داللــة لــه فــي هــذا الحديــث إال بحيــاة‬
‫النب ــي ‪ -‬صلــى هللا عليــه وســلم ‪ -‬الت ــي كان‪ ،‬بتحققهــا فيــه‪ ،‬يــأكل الطعـ َ‬
‫ـام ويمش ــي‬
‫فــي األســواق‪.1‬‬
‫اإلشــارة الثانيــة‪ :‬أن النبــوة ُرفعــت بالتحاقــه صلــى هللا عليــه وســلم‬
‫بالرفيق األعلى‪ ،‬بحسب مفهوم وداللة هذا الحديث‪ .‬ومعنـى هذا أنه ال ُي َت َ‬
‫ص َّو ُر‬
‫أن تقــوم النبــوة بوظيفتهــا إال بالحيــاة «البيولوجيــة» للنب ــي ‪ -‬صلــى هللا عليــه‬
‫وســلم ‪ -‬ولهــذا قــال إمامنــا املرشــد إنــه بعــد التحــاق ســيدنا رســول هللا صلــى هللا‬
‫الصديقية منذئذ ما كانت تؤديه النبوة من‬ ‫َّ‬ ‫«أدت‬‫عليه وسلم بالرفيق األعلى َّ‬
‫وظيفة الحضور والشهادة بيـن الناس والهداية والداللة»‪ .2‬ولو كانت النبوة‬
‫ـض‬ ‫مبثوثــة فــي جماعــة الصحابــة‪ ،‬بمفهــوم «الصحبــة فــي الجماعــة» الــذي ْان َت َقـ َ‬
‫فــي هــذا البحــث‪ ،‬ملــا كانــت هــذه النبــوة قــد ُر ِف َعـ ْـت لتحتــاج إلــى أن تنتقــل وظيفتهــا‬

‫‪ - 1‬لنميزبيـن حياة عامة الناس في دنياهم‪ ،‬وبيـن حياته صلى هللا عليه وسلم وهو في ضريحه الشريف‪.‬‬
‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.196 :‬‬
‫‪150‬‬
‫إلــى الخلفــاء الراشدي ــن‪ .‬ولهــذا قــال صلــى هللا عليــه وســلم‪« :‬ثــم تكــون خالفــة‬
‫علــى منهــاج النبــوة»‪ ،‬أي علــى منــوال النبــوة‪ .‬ومــا النبــوة إال «صحبــة وجماعــة»‪،‬‬
‫و«صحبة في جماعة»‪ ،‬و«مصحوب حي وجماعة» و«مصحوب حي في جماعة»‪.‬‬
‫والحديــث الثانــي تتمــة سلســلة الوراثــة والفتــح بعــد النبــوة والخالفــة‬
‫األولى‪ ،‬يخبـرنا فيه صلى هللا عليه وسلم أنه «يأتي على الناس زمان يغزو فيه‬
‫ـام مــن النــاس )جماعــات( فيقولــون‪ :‬هــل فيكــم مــن صاحــب رســول هللا‬ ‫ف َئـ ٌ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫صلى هللا عليه وسلم؟ فيقولون‪ :‬نعم! فيفتح لهم‪ .‬ثم يأتي على الناس زمان‪،‬‬
‫فيغــزو ِفئــام مــن النــاس فيقــال‪ :‬هــل فيكــم مــن صاحــب أصحــاب رســول هللا‬
‫صلــى هللا عليــه وســلم؟ فيقولــون نعــم! ُ‬
‫فيفتــح لهــم‪ .‬ثــم يأتــي علــى النــاس زمــان‬
‫فيغــزو فئــام مــن النــاس فيقــال‪ :‬هــل فيكــم مــن صاحــب مــن صاحــب أصحــاب‬
‫فيفتــح لهــم»‪ .‬رواه البخــاري‬ ‫ل هللا صلــى هللا عليــه وســلم؟ فيقولــون نعــم! ُ‬
‫رســو‬
‫ومســلم والت ــرمذي عــن أبــي ســعيد الخــدري رض ــي هللا عنــه»‪.1‬‬
‫َي ِر ُد معنـى «الصحبة في الجماعة» في هذا الحديث بالصيغة التـي تحمل‬
‫حرف الظرفية «ف ـ ـ ـ ـ ـ ــي» (هل فيكم من صاحب؟)‪ ،‬والتـي وردت في سابقه وفي‬
‫اآليــات الت ــي أوردناهــا آنفــا‪ .‬وفــي هــذا الحديــث يبــدو جليــا أن جــوازمــرورالجماعــة‬
‫ص ِحـ َـب» (صحبــة رجــل) فــي حلقتهــا مــن‬ ‫«مـ ْـن َ‬
‫بــل جــوازالفتــح للجماعــة هــو وجــود َ‬
‫سلســلة النســب النوراني الوارث من النبوة وظيفتها‪.‬‬
‫الجماعة في الصحبة‪..‬‬
‫تناولنــا فــي الفقــرة األولــى معن ــى «الصحبــة والجماعــة»‪ ،‬وتناولنــا فــي الثانية‬
‫معن ــى «الصحبــة فــي الجماعــة»‪ ،‬وهمــا‪ ،‬علــى أيــة حــال‪ ،‬معنيــان متـ َ‬
‫ـداوالن بي ــننا‪،‬‬

‫‪ - 1‬املصدرالسابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.198-197 :‬‬


‫‪151‬‬
‫متداول‪ ،‬ورد بصيغ مختلفة في مكتوبات إمامنا املجدد‬ ‫َ‬ ‫ونتناول هنا معنـى غي َـر‬
‫ومنهاجنــا الخالــد فــي فقــه‬
‫ِ‬ ‫ال ســيما فــي «اإلحســان»‪َ ،‬م ْر ِج ِع َنــا الثابــت فــي الت ــربية‬
‫الســلوك‪ ،‬حيــث يضــع رض ــي هللا عنــه أصبعــه علــى أهــم مواصــل بنــاء الجماعــة‬
‫علــى اإلطــاق‪ ...‬علــى اإلطــاق‪ ...‬علــى اإلطــاق‪ ...‬يتحــدث قــدس هللا ســره عــن‬
‫األبعــاد الثالثــة للخصلــة األولــى مــن خصــال املنهــاج النبــوي فيقــول‪:‬‬
‫«وهنــا نضــع األصبــع علــى مفصــل‪ ،‬بــل موصــل‪ ،‬مــن أهــم مواصــل بنــاء‬
‫الجماعــة‪ ،‬بــل هــو أهمهــا إطالقــا‪ :‬أال وهــو التواصــل القلب ــي‪ .‬الصحبــة فــي هللا‬
‫ُ‬
‫ومعادهــا‪ .‬وكل ذلــك‬ ‫املؤديــة إلــى جماعــة فــي هللا هــي مبــدأ الحركــة ووســطها‬
‫رزق ُيلقيه هللا عز وجل على املرحوميـن‪ ،‬له عالئم ظاهرة‪ ،‬وأسباب مشروعة‪،‬‬
‫وحكمــة ورحمــة يضعهــا هللا فــي قلــوب العبــاد»‪.1‬‬
‫والصحبــة فــي هللا الت ــي يقصــد إمامنــا هــي صحبــة رجــل فــرد‪ ،‬وهــي غي ــر‬
‫املنتقــض‪ ،‬وإال ملــا‬
‫«الصحبــة الجماعيــة» أو «الصحبــة فــي الجماعــة» باملعن ــى ِ‬
‫قــال‪« :‬املؤديــة إلــى جماعــة فــي هللا»‪ ،‬وإال فكيــف تــؤدي الصحبــة الجماعيــة إلــى‬
‫نفســها‪ ،‬وهــي هــي ُ‬
‫ذاتهــا‪ ،‬وهــي هــي عي ـ ُـنها!‬ ‫جماعــة فــي هللا وهــي هــي ُ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الصحبــة إذن مبــدأ الحركــة؛ ِإذ منهــا تصــدر وحولهــا تلتــف وبهــا تلتحــق‬
‫ُ‬
‫الجماعــة (الصحبــة والجماعــة)‪ .‬والصحبــة وســط الحركــة؛ إذ الصحبــة قلــب‬
‫الجماعــة ومحــرك دواليبهــا ومضخــة النــور الــذي يســري منهــا إلــى الجماعــة الحيــاة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫(الصحبــة فــي الجماعــة)‪ .‬والصحبــة مـ ُ‬
‫ومعادهــا ومالذهــا‬ ‫ـآل حركــة الجماعــة‬
‫ودرعهــا الواقــي وحصنهــا الحصي ــن الــذي تتحصــن فيــه وتحتم ــي (الجماعــة فــي‬
‫الصحبــة)‪.‬‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.189 :‬‬


‫‪152‬‬
‫وفي «اإلسالم غدا» يقول رحمه هللا ورحمنا ونفعنا به‪:‬‬
‫«ال بــد لــك مــن صحبــة فه ــي أول املنهــاج وآخــره‪ ،‬والصحبــة دعوتنــا‬
‫للعا لــم» ‪.1‬‬
‫ويتحــدث عــن الخالفــة علــى منهــاج النبــوة أنهــا تتــدرج مــن األهــداف‬
‫اإلســامية للمقاصــد اإليمانيــة فالغايــات اإلحســانية مــن نقطــة البــدء «وهــي‬
‫الصحبــة والجماعــة‪ ،‬والجماعــة بصحبــة»‪ ،2‬مــا يعن ــي أنــه ال غنــاء لتحقيــق‬
‫األهــداف واملقاصــد والغايــات الســامية عــن «الصحبــة والجماعــة»‪ ،‬بــل ال غنــاء‬
‫لبنــاء الجماعــة عــن الصحبــة وال قيــام للجماعــة إال بالصحبــة‪.‬‬
‫ويتجســد هــذا املعن ــى‪ ،‬معن ــى أن الصحبــة معــاد الجماعــة ومالذهــا‪ ،‬فيمــا‬
‫رواه مســلم عــن الب ـراء رض ــي هللا عنــه أنــه قــال‪ :‬كنــا إذا اشــتد البــأس‪ ،‬وحم ــي‬
‫اسـ َـت ْق َب ْل َنا القـ َ‬
‫ـوم بوجــه رســول صلــى هللا عليــه وســلم‪  .‬وفــي روايــة‪ :‬كنــا‬ ‫الوطيــس‪ْ ،‬‬
‫إذا احمـ ّـر البــأس‪ ،‬أي اشــتد‪ ،‬اتقي ــنا ب ــرسول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬وإن‬
‫الش ــجاع منــا الــذي يحاذيــه‪.‬‬
‫وروى اإلمــام أحمــد والنســائي عــن علــي رض ــي هللا عنــه أنــه قــال‪ :‬كنــا إذا‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫حمــي البــأس‪ ،‬وفــي روايــة‪ :‬إذا اشــتد البــأس واحمــرت ال َحـ َـد ُق (جمــع َح َدقــة وهــي‬
‫الســواد َ‬
‫املستدي ــروســط العي ــن) اتقي ــنا ب ــرسول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬فمــا‬ ‫َّ‬
‫يكن أحد أقرب إلى العدو منه‪ ،‬ولقد رأيتنا يوم بدر‪ ،‬ونحن نلوذ بالنبي صلى هللا‬
‫ً‬
‫عليــه وســلم وهــو أقربنــا إلــى العــدو‪ ،‬وكان مــن أشــد النــاس يومئــذ بأســا‪.‬‬
‫مــن معانــي «الصحبــة فــي الجماعــة» أن يكــون املصحــوب فــي املومني ــن‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم غدا»‪ ،‬ص‪.943 :‬‬


‫‪ - 2‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.493 :‬‬
‫‪153‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ َۡ ْ َ‬
‫ٱعل ُمـ ٓـوا أ َّن ِفيكـ ۡـم َر ُســو َل ٱللـ ِ ۚـه﴾‪.1‬‬‫نــورا ي ــنورهم ويباركهــم ويدلهــم علــى هللا‪﴿ :‬و‬
‫ومعن ــى «الجماعة في الصحبة» أن تتوجه قلوب ال ــجماعة إلى مركزالنور‪ ،‬وهو‬
‫املنور‪ ،‬لتستمد منه وتستظل به وتحتمـي فيه وترجع إليه في فراسته وفي‬ ‫القلب َّ‬
‫َ ٌ َّ َ َ‬ ‫َّ ُ ٌ‬ ‫ََ َ َ َُ‬
‫عزمته وفي توكله على ربه‪﴿ :‬لق ۡد كان لك ۡم ِفي َر ُسو ِل ٱلل ِه أ ۡس َوة َح َسنة ِلن كان‬
‫َ َ َّ َ َ‬ ‫ۡٓ‬ ‫ْ َّ َ ۡ‬
‫َي ۡر ُجــوا ٱللــه َوٱل َيـ ۡـو َم ٱل ِخـ َـر َوذكـ َـر ٱللــه ك ِثي ـ ًـرا﴾‪.2‬‬
‫عزمة املصحوب‪..‬‬
‫ســألت أحــد إخواننــا الذي ــن أثــق فــي نضجهــم عــن رأيــه فــي التخبــط الثالثــي‬
‫الحاصــل بي ــن مــن ي ــرى أن «الصحبــة مبثوثــة فــي الجماعــة ال فــي رجــل بعي ــنه»‪،‬‬
‫وبي ــن مــن يعتب ــر «اإلمــام املجــدد مصحوبــا يــدل علــى هللا» اســتنادا إلــى مــا ورد فــي‬
‫ازخ املــوت»‪ ،‬وبي ــن مــن يعتب ــر‪ ،‬نجــوى بي ــنه‬ ‫الوصيــة مــن أنــه «ال تحبــس الصلـ َـة ب ـر ُ‬
‫وبي ــن نفســه أو تلميحــا فــي بعــض مجالــس النصيحــة‪ ،‬أن األمي ــن العــام للجماعــة‬
‫حفظــه هللا «هــو وارث وظيفــة الصحبــة‪ :‬الداللــة علــى هللا»‪ ،‬حت ــى مــع شــكلية‬
‫وضبابيــة الصالحيــات املمنوحــة لهــذه املرتبــة التنظيميــة‪ .‬فأجابن ــي وفاجأنــي‬
‫وأوجعن ــي وفجعن ــي فيمــا عرفتــه فيــه قائــا بطمأني ــنة وسكي ــنة وهــدوء‪:‬‬
‫«وملــاذا تريــد أنــت أن ُت َح ـ ّـج َر مــا تركــه اإلمــام واســعا؟ فليخت ـ ْـر ٌّ‬
‫كل منــا منــه‬ ‫ِ‬
‫ما يطمئ ــن إليه قلبه!»‪.‬‬
‫ال وصف نصف به هذا الكالم وال جواب‪.‬‬
‫وإنمــا أوردنــا مــا أوردنــاه مــن كالم األخ العزيــز لنشي ــر إشــارة عاب ــرة إلــى‬
‫األصــداء األولــى لنغمــة «الصحبــة فــي الجماعــة» فــي الصــف‪ .‬أمــا األصــداء الت ــي‬
‫تنتظرنــا إن أصررنــا علــى هــذه النغمــة فــا تســتطيع ال اآلذان وال القلــوب تحملهــا‬
‫‪ -1‬الحجرات‪.7 :‬‬
‫‪ - 2‬األحزاب‪.21 :‬‬
‫‪154‬‬
‫إن ظــل الحــال علــى مــا عليــه الحــال‪.‬‬
‫وننتقــل أخــي وأخت ــي إلــى الحديــث عــن واحــدة مــن أهــم وظائــف املصحــوب‬
‫ْ‬
‫الــدال علــى هللا الت ــي إن غــاب صاحبهــا ُو ِكل َنــا إلــى أفكارنــا وتحليالتنــا وقراءاتنــا‬
‫األرض ــية فانحجبنــا عمــا وراء مــا يحدثــه هللا فــي خلقــه وعلــى أرضــه‪.‬‬
‫يتحــدث إمامنــا فــي كتــاب «جماعــة املسلمي ــن ورابطتهــا» عــن حــوارلــه مــع‬
‫موضوعــه مــدى إلزاميــة الشــورى إلمــام املســلمين مــن‬ ‫َ‬ ‫بعــض رجــال الدعــوة كان‬
‫ُ‬
‫عدمهــا وكيفيــة اتخــاذ القـرارات‪ .‬ومــا يهمنــا مــن املوضــوع هــو حديثــه عــن أن هللا‬
‫َ‬
‫تعالــى أعطــى خليفــة رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم حـ َّـق العزمــة فــي قولــه عــز‬
‫َ َ ُ ْ َ َ ْ ُ َ َ ًّ َ َ ْ َ ْ َ َ ُّ ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ضوا‬ ‫وجــل‪﴿ :‬ف ِب َمــا َر ْح َمـ ٍـة ِّمـ َـن اللـ ِـه ِلنــت لهــم‪ .‬ولــو كنــت فظــا غ ِليــظ القلـ ِـب النف‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ َ ْ َ َ ْ ُ َ ُْ ْ َ ْ َ ْ ْ َ ُ ْ َ َ‬
‫ـاو ْر ُه ْم ِفــي األ ْمـ ِـر‪ .‬فـ ِـإذا َع َز ْمــت‬
‫ِمــن حو ِلــك‪ .‬فاعــف عنهــم واســتغ ِفر لهــم و ِ‬
‫ـ‬‫ش‬
‫َُْ ّ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ َ َّ َ َّ‬
‫فتـ َـوك ْل َعلــى اللـ ِـه‪ِ .‬إ َّن اللــه ُي ِحـ ُّـب الت َو ِك ِلي ـ َـن﴾‪.1‬‬
‫ََ‬
‫فصل ْت الحدود‬ ‫يقول إمامنا رحمه هللا إن «هذه اآلية الكريمة الجامعة‬
‫بي ــن الفظاظــة والعنــف وبي ــن الليونــة واللطــف‪ .‬فبالعفــو الــدال علــى ســامة‬
‫القلب‪ ،‬وباالستغفارإلخواننا الدال على والئنا إياهم في هللا‪ ،‬وبالشورى في األمر‬
‫ُُ ُ َ َ ّ ً‬
‫طيبا‬‫الدالة على الرغبة في التعلم وإشراك إخواننا في أمرنا يـنفسح أفق الوالية ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ودودا‪ .‬لكنها امليوعة إن غابت لحظة العزم وصرامة القرارتتبعهما الطاعة‪.2»...‬‬
‫ْ ً‬
‫أسـ َـوة ب ــرسول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‪،‬‬ ‫إلــى أن يقــول «أن اإلمــام‪،‬‬
‫يستشي ــرفــي بعــض األمــربعــض النــاس‪ .‬وتبقــى لــه العزمــة الحاســمة‪ ،‬يتبـ ُـع أهــل‬
‫ال ـرأي إن كان إجمــاع أو أغلبيــة واضحــة‪ ،‬وإن حصــل العنــت‪ ،‬وهــو التعــب‪...‬‬

‫‪ - 1‬آل عمران‪.159 :‬‬


‫‪ - 2‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬جماعة املسلميـن ورابطتها»‪ ،‬ص‪.110-109 :‬‬
‫‪155‬‬
‫ال بــأس مــن تك ـرار هــذه الحقائــق لتســتقر‪ .‬ومناسـ ُـبتها هنــا أهميــة طاعــة اإلمــام‬
‫ُ‬
‫الرم َّيــات»‪.1‬‬
‫وأهميــة عزمتــه لكــي تم�ضــي الطليعــة القياديــة كالســهم تخـ ِـرق ِ‬
‫َ‬
‫ونحيــل إلــى سي ــرة الصديق ْي ـ ِـن أبــي بكــر وعمــر فــي تأســيهما باملصحــوب‬
‫األعظــم فــي عزماتــه‪ .‬وأنتمــا تعرفــان فــي سي ــرة الصديــق عزمتــه فــي قتــال مــن فــرق‬
‫بي ــن الصــاة والــزكاة حت ــى قــال الفــاروق‪« :‬فــوهللا مــا هــو إال أن رأيــت هللا شــرح‬
‫صــدرأبــي بكــرللقتــال‪ ،‬فعرفــت أنــه الحــق»‪ .2‬ومــا رآه عمــربــن الخطــاب شــرحا‬
‫لصــدرأبــي بكــرإنمــا هــو نــور العزمــة يهبــه تعالــى ألولــي العــزم مــن الرســل ولورثتهــم‬
‫مــع مــا يهبهــم مــن مي ـراث‪.‬‬
‫وهكــذا كان اإلمــام املجــدد فــي عزماتــه‪ .‬نذكــرمنهــا عزمــة رســالة «اإلســام‪..‬‬
‫َ‬ ‫أو الطوفان!» (‪1974‬م)‪ ،‬التـي ّ‬
‫جنبت البالد الويالت إذ بعث تعالى في وليه منقذ‬
‫البــاد مــن املهالــك املوشــكة‪ .‬وعزمــة «حــل الجماعــة» (‪1990‬م)‪ ،‬حيــث َج َّنــب‬
‫إمامنا أبناء الجماعة الويالت التـي كان النظام ُي ِع ُّدها لهم‪ ،‬بما قذف هللا تعالى‬
‫فــي قلبــه مــن نــور الحكمــة‪ .‬وعزمــة «قنــوت صفــر» (‪1990‬م)‪ ...‬هكــذا كان رحمــه‬
‫منهاجــه فــي كل ش ــيء‪ ،‬مســؤوال متحمــا لتبعــات مســؤوليته علــى رأس‬ ‫هللا نبويــا ُ‬
‫الجماعــة وفــي قلبهــا‪ ،‬يعــزم فيتــوكل علــى هللا‪.‬‬
‫وهــذا مــا ّنبهنــا اإلمــام لبعضــه فــي ختــام الــدورة الثامنــة للمجلــس القطــري‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للدائــرة السياســية (م‪-‬ق‪-‬د‪-‬س‪2003 /‬م)‪ّ ،‬‬
‫ومحمــا املســؤولية‪:‬‬
‫ِ‬ ‫موجهــا ومذكـرا‬
‫«تم�ضي األيام وتم�ضي الليالي ويم�ضي العمر‪ ،‬ويخلف في هذه الجماعة‬
‫بعــد كل ســلف خلــف‪ ،‬وكل خلــف إن شــاء هللا يكــون أحســن مــن الســلف إلــى‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬جماعة املسلميـن ورابطتها»‪ ،‬ص‪.110 :‬‬


‫‪ - 2‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪156‬‬
‫يــوم القيامــة‪ ،‬شــرط ذلــك أن يتمســك الخلــف بمــا أثلــه الســلف‪ ،‬ال بــد مــن هــذا‬
‫االتبــاع‪ ،‬شــرط ذلــك أن يتمســك الخلــف بمــا أثلــه وأسســه الســلف‪ ،‬ويقت�ضــي‬
‫هــذا أن نفهــم بعــض مفاتيــح الفهــم‪.‬‬
‫أنتــم فــي الدائــرة السياســية قــد يســتفزكم مــا يفعلــه النــاس ومــا تفعلــه‬
‫األح ـزاب السياســية‪ ،‬وأنتــم دائــرة سياســية‪ .‬مــا يفعلــه النــاس ويخــوض فيــه‬
‫النــاس ي ــنبغي أن ال يلزمنــا بمواقــف‪ ،‬وي ــنبغي أن ال يلزمنــا بصيــغ مــن التنظيــم‪...‬‬
‫األمــرتربيــة قبــل كل ش ــيء وتربيــة بعــد كل ش ــيء وتربيــة مــع كل ش ــيء‪ .‬فالت ــربية‬
‫َ‬
‫ليســت أمـرا ُي ْرت َجـ ُـل‪ ،‬والصفــات الت ــربوية ي ــنبغي أن تظهــروأن تبطــن فــي القيــادة‪.‬‬
‫هــذا ش ــيء ال ُيرتجــل‪ ،‬وش ــيء ال يأتــي بي ــن عشــية وضحاهــا‪ ،‬وإنمــا َيب ــرز الربانيــون‬
‫بعــد تجربــة ومــن محــك البــاء واالبتــاء وعلــى مــرالسني ــن واألعــوام‪ .‬فــإذا لــم يكــن‬
‫هنالــك عنصــر ثبــات فــي الجماعــة وتنظيمهــا فيوشــك أن تتنــازل الجماعــة عــن‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مبادئها جيال بعد جيل‪ ،‬ومجلسا بعد مجلس‪ ،‬منتخبا بعد منتخب‪ ،‬حتـى يؤول‬
‫َ‬
‫السـ ِـاب ُقون‬ ‫﴿و َّ‬ ‫األمــرإلــى مس ــخ‪ .‬ولن ــرجع إلــى القـرآن الكريــم؛ يقــول هللا عــزوجــل‪َ :‬‬
‫ـان َر ِض ـ َـي‬ ‫َ َّ َ َّ َ ُ ُ ْ ْ َ‬ ‫َ َ ْ َْ َ‬ ‫ْ َ َّ ُ َ َ ْ ُ َ‬
‫اج ِري ــن والنصـ ِـار﴾‪ ،‬ثــم‪﴿ :‬وال ِذي ــن اتبعوهــم ِب ِإحسـ ٍ‬ ‫الولــون ِمــن اله ِ‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ َ ْ ُ ْ َ َ ُ َ ْ ُ َ َ َ َّ َ ُ ْ َ َّ َ‬
‫ـات ت ْجـ ِـري ت ْح َت َهــا ال ْن َهـ ُـار خ ِال ِدي ـ َـن ِف َيهــا‬
‫اللــه عنهــم ورضــوا عنــه وأعــد لهــم جنـ ٍ‬
‫يم﴾‪ ...1‬بعضنا عندما يقوم ليخطب يـن�سى اللب‪ ،‬يـن�سى‬ ‫َأ َب ًدا َذل َك ْال َف ْو ُز ْال َعظ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الرســالة الت ــي ي ــنبغي أن يصرفهــا إلــى النــاس وأن يقدمهــا إلــى النــاس‪ ،‬في ــنشغل‬
‫باأللفــاظ وبالكلمــات وبالتنميــق‪ ...‬بي ــنما نحــن ي ــنبغي أن نتكلــم بــكل بســاطة‬
‫وأن نتعــرض لألمــور الجزئيــة‪ ،‬ولألمــور البســيطة الت ــي يتخطاهــا بعــض النــاس‬
‫ويظنــون أنهــا ثانويــة وهــي أساســية»‪.2‬‬
‫‪ -1‬التوبة‪.100 :‬‬
‫‪ -2‬ياسي ــن‪ ،‬عبــد الســام‪ ،‬كلمــة توجيهيــة فــي ختــام الــدورة ‪ 8‬لـ«مقــدس»‪ 28 ،‬دجنب ــر ‪2003‬م‪ ،‬نقــا عــن‪ :‬أبــو‬
‫حــزم‪ ،‬محمــد العربــي‪« ،‬عبــد الســام ياسي ــن ‪ -‬اإلمــام املجــدد»‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.450-449 .:‬‬
‫‪157‬‬
‫هــذا هــومنهــاج النبــوة‪ ،‬منهــاج العزمــة النبويــة الت ــي ي ــرى صاحبهــا بنــور هللا‬
‫متجاوزا ُم ْخ َر َجات التحليالت السياســية الت ــي ي ــناطح بعضها بعضا على ُّ‬
‫الركح‬
‫بيـنما وراء الستارما وراءه وفي الكواليس ما فيها مما ال خبـرلكما أخي وأختـي به!‬
‫هــذه العزمــة مــن أي ــن لنــا بهــا وهــي ال حــظ ألحــد فيهــا إال إن كان قــد صحــب‬
‫من صحب من صحب بالسند الصحيح كابـرا عن كابـررجال عن رجل فيـرثها مع‬
‫ما يـرثه من وظائف الصحبة؟‬
‫َ ْ‬
‫نــكاد نضطــرب ونتيــه ونشـ ُـر ُد بغي ــر دليــل فــي الطريــق‪ ،‬وتتكالــب علي ــنا‬
‫األعداء بما فيها تلك التـي تبتسم في وجهنا ابتسامة الثعلب تستدرجنا للمحرقة‪.‬‬
‫ويحم ــى الوطيس فال نجد من ظهرنحتم ــي به كما يحتم ــي الص ــحب باملصحوب‬
‫الــذي يســعفنا بالعزمــة النبويــة املنقــذة‪.‬‬
‫ـور الكشــف ور ِوح‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فمت ــى وأي ــن وكيــف نجــد العزمــة وصاحبهــا؛ صاحــب نـ ِ‬
‫َ‬
‫العلــم وتوفيـ ِـق هللا عــز وجــل‪ ،‬العــارف الكامــل‪ ،‬مــن معــه رأس األمــر كلــه‪ ،‬وقــد‬
‫ذوبناهــا فــي أحماضهــا حت ــى إنــه لــم يكــد يبقــى‬ ‫َد َس ْســنا الصحبــة فــي الجماعــة بــل َّ‬
‫َ‬ ‫ٌ ّ‬
‫ـاهد يذكرنــا بهــا ف َن ِحـ ّـن إليهــا بي ــن الحي ــن والحي ــن؟‬‫منهــا مــا يوضــع عليــه شـ‬

‫‪158‬‬
‫الفصل الثامن‬
‫ماذا بعد؟‬

‫وبعد أربعيـن عاما‪..‬‬


‫مــاذا بقــي مــن «الصحبــة والجماعــة» بعــد أربعي ــن عامــا مــن تن ــزيل اإلمــام‬
‫رحمــه هللا ملشــروع املنهــاج النبــوي إلــى أرض العمــل؟ ومــاذا بقــي منهــا بعــد ســبع‬
‫سني ــن مــن التحاقــه رض ــي هللا عنــه بالرفيــق األعلــى؟‬
‫كنــا فــي هــذا البحــث أمــام بحــر طـ ٍـام مــن النصــوص الخاصــة بقضيــة‬
‫«الصحبــة فــي الجماعــة» تحاصــر أي فكــرة تحــاول الشــرود عــن املعن ــى األصلــي‬
‫ـديد‬
‫ـوة حالــه وسـ ِ‬ ‫األصيــل القدس ــي الخالــد األبــدي الــذي ظــل اإلمــام يؤكــده بقـ ِ‬
‫ـس أنفاســه‪ ،‬فــي‬ ‫مقالــه وعميـ ِـق إشــاراته وواض ـ ِـح عباراتــه وثاقـ ِـب نظراتــه ونفيـ ِ‬
‫مكتوباتــه ومســموعاته ومرئياتــه ومجالســه وزياراتــه علــى مــدى أكث ــرمــن أربعي ــن‬
‫عامــا‪ .‬رحمــه هللا وج ـزاه عنــا وعــن األمــة خي ــر الج ـزاء‪.‬‬
‫احتجنــا إلــى نــوع مــن رد االعتبــار إلــى مدخــل املضمــار الــذي دلنــا إمامنــا‬
‫املرشــد علــى طريقــه وبدايتــه وبابــه ومفتاحــه‪ ،‬أال وهــو الصحبــة الت ــي بــدت وكأن‬
‫طيفهــا بــات يتــوارى خلــف غب ـراء التنظيــم‪ ،‬وكأن صوتهــا بــدأ يخفــت تحــت‬
‫اعهــا َت ْ‬
‫ض ُمــر ور َ‬
‫وحهــا‬ ‫ضوضــاء النغمــة الجديــدة لـ ــ«الصحبــة فــي الجماعــة»‪ ،‬وذر َ‬
‫تــذوب فــي محرقــة العمــل الحر ـكـي السياس ــي امليدانــي‪.‬‬
‫ٌ‬
‫وباعث آخردفعنا إلى ما قرأتما وهو أن «الصحبة في الجماعة»‪ ،‬بالفهم‬

‫‪159‬‬
‫ُ‬ ‫السالب من الديـن َ‬
‫روحه ومن اإلحسان ل َّبه‪ ،‬والذي نقدناه ونقضناه على طول‬
‫ـذر بالويــل والثبــور وبعظائــم األمــور علــى املشــروع الــذي تقــوم‬ ‫هــذه املرافعــة‪ ،‬املنـ ِ‬
‫ُّ‬
‫فيــه الصحبــة مقــام القلــب والــروح بــل مقــام الــك ِل مــن الجســد‪ ...‬لــو كان أســتاذنا‬
‫ومعلمنــا الجليــل عــرض «الصحبــة فــي الجماعــة» بهــذا الفهــم الســالب‪ ،‬مطلــع‬
‫َ‬
‫الثمانيـنيات من القرن املا�ضي‪ ،‬ل َـما كان أحجم عدد معتبـرمن أطياف الحركة‬
‫اإلســامية‪ ،‬بــل حت ــى ِمـ ْـن بعــض َمـ ْـن صحبــوه فــي الطريــق أعوامــا علــى مضــض‬
‫متحفظي ــن علــى «الصحبــة» ومــا يأتــي منهــا ومــا تــؤدي إليــه قبــل أن يغــادروا‬
‫السفي ــنة‪ ...‬لــو كان ملــا كانــوا أحجمــوا عــن التجــاوب معــه كل ذلــك اإلحجــام‪.‬‬
‫ـداء‬ ‫ُ‬
‫وتلبيتــه نـ َ‬ ‫لقــد كان رحيـ ُـل اإلمــام عبــد الســام ياسي ــن قــدس هللا ســره‬
‫ربــه صبيحــة الخميــس ‪ 13‬دجنب ــرســنة ‪2012‬م‪ ،‬حدثــا مذهــا‪ ،‬اهت ــزلــه املشــهد‬
‫الشعبي والسياسـي والدعوي بما تجلى في اليوم التالي أحد مظاهره حيـن تشييع‬
‫جثمانــه إلــى مثــواه األخي ــر‪ ،‬رحمــه هللا ونفعنــا بــه آمي ــن‪ .‬ولكــن الذهــول والصدمــة‬
‫أشد وأقوى في محل ثان؛ في قلوب عموم تالمذته أعضاء جماعة ومدرسة‬ ‫كانا َّ‬
‫العــدل واإلحســان‪ ،‬الذي ــن أصابهــم مــا نظــن أن الزمــن امتــد بــه إلــى غايــة كتابــة‬
‫هــذه الســطور أوائــل عامنــا هــذا (‪2009‬م)‪.‬‬
‫ُ‬
‫ـتاذ املعلــم‪،‬‬‫األب الروحــي‪ ،‬واملرشـ ِـد املربــي‪ ،‬واألسـ ِ‬ ‫ال يعــرف مــا يعنيــه فقــد ِ‬
‫ـيد الجليــل‪ ،‬واليـ ِـد‬ ‫واإلمــام املجــدد‪ ،‬والقائـ ِـد َ‬
‫امللهــم‪ ،‬والرائـ ِـد الخبي ــر‪ ،‬والسـ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـؤاد املشــع‪،‬‬ ‫ـدر الجامــع‪ ،‬والفـ ِ‬ ‫ـدم الراســخة فــي املعرفــة‪ ،‬والصـ ِ‬ ‫املباركــة‪ ،‬والقـ ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫والقلـ ِـب املنــور‪ ،‬واملصحــوب الــدال علــى هللا‪ ...‬ال يعــرف مــا يعنيــه فقــده إال مــن‬
‫كابــده‪ ،‬ال بمــا تركــه هــذا الفقــد مــن فـراغ فــي أفئــدة املحبي ــن فحســب‪ ،‬بــل كذلــك‬
‫ْ َ ْ‬ ‫ّ‬
‫ـوة تخفــف مــن‬ ‫بمــا يحتاجــه إرث اإلمــام العظيــم الــذي خلفــه في ــنا ِمــن أخـ ٍـذ بقـ ٍ‬

‫‪160‬‬
‫ثقلــه علــى كواهلنــا‪ ،‬ومــن أمانــة ْيبلــغ بهــا غايتــه دون التفــات أو انح ـراف أو زيــغ‬
‫أو نكــوص‪ ،‬ومــن حفــظ يضمــن الوفــاء ملشــروعه مهمــا اســتهدفته الضربــات أو‬
‫واجهتــه العقبــات‪ ،‬ومــن علــم بمــن هــو الدليــل وبمــا هــي الخطــة والطريــق‪ ،‬وبمــا‬
‫هــي األهــداف واملقاصــد والغايــات‪ ،‬حت ــى ال تضطــرب بالسفي ــنة الريــاح العاتيــة‬
‫واألمــواج املتالطمــة املحيطــة بهــا مــن جهاتهــا الســت‪.‬‬
‫كان رحيل اإلمام املجدد املؤسس امتحانا عصيبا‪ ،‬وال يزال‪ ،‬فيما نزعم‬
‫ً ً‬
‫أنــه األشــد فــي تاريــخ جماعتنــا املباركــة‪ ،‬وليــس شــدة َه ِّي َنــة مــا يتصاعــد مــن مــآالت‬
‫الحي ــرة الداخليــة املزمنــة مــع مــا يتوســع النقــاش حولــه يومــا بعــد يــوم مــن قضيــة‬
‫«الصحبــة» ومــن ســؤال‪« :‬مــن نصحــب»؟‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ومكمــن الشــدة فــي هــذا االمتحــان هــذه الحي ــرة املتصاعــدة إزاء أو ِل ثابــت‬
‫مــن ثوابــت منهاجنــا النبــوي‪ ،‬وأعظـ ِـم درس مــن دروســه‪ .‬نقصــد ثابــت «الصحبــة»‬
‫ودرس «صحبــة رجــل»‪ .‬وأفتــك مــا يصيــب الخليــة فــي مقتــل أن يتســرب الخلــل إلــى‬
‫وظائــف نواتهــا وصبغياتها بالذات‪.‬‬
‫ولعل اإلمام املرشد ْام َت َح َن َنا وما زال‪ ،‬منذ رحيله في ذلك اليوم العصيب‬
‫االمتحان األصعب في مضمون ذلك الثابت العظيم والدرس األول من‬ ‫َ‬ ‫املظلم‪،‬‬
‫نفســه‬ ‫ُ‬
‫دروس منهاجــه النبــوي‪« ،‬الصحبــة»‪ .‬وهــو الــدرس ذاتــه الــذي امتحـ َـن هــو ُ‬
‫ِ‬
‫َ َ‬
‫فيــه ّإبــان أزمتــه الروحيــة‪ ،‬وأ َّول ـ َـما انضــوى تحــت جنــاح ذلــك الرجــل العظيــم‪،‬‬
‫ُ‬
‫الحاج العباس البوتشي�شي رضـي هللا عنه‪ ،‬شتاء عام ‪1966‬م‪ ،‬فتجاوز أستاذنا‬
‫ـان بتفــوق كبي ــرإذ تجـ ّـرد فــي طلبــه للحــق مــن أي اعتبــارات نفســية ذاتيــة‬ ‫االمتحـ َ‬
‫أو مهنيــة أو اجتماعيــة‪ ،‬فاقتحــم عقباتهــا وهاجــر هجرتــه اإليمانيــة اإلحســانية‬
‫ـاح بــاب فالحــه‪ .‬وال شــك لدي ــنا أنــه اآلن‪ ،‬وهــو فــي‬‫نجاحــه فيــه مفتـ َ‬
‫الكب ــرى‪ ،‬وكان ُ‬

‫‪161‬‬
‫ونجاحنــا فــي تحقيــق مشــروع املنهــاج النبــوي العظيــم‬ ‫َ‬ ‫دار الحــق‪ ،‬ي ــربط َ‬
‫فالحنــا‬
‫التام الكامل في امتحان «الصحبة» وفي درس «صحبة رجل» بالذات‪.‬‬ ‫بنجاحنا ّ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ليــس أم ـرا ّ‬
‫هينــا أن تعيــد الجماعــة الصحبــة إلــى نصابهــا وتحفظهــا كمــا‬
‫ـرد فــي هــذا مــن كل االعتبــارات كمــا‬ ‫طلبهــا وحفظهــا مرشــدها مــن قبــل‪ ،‬فتتجـ َ‬
‫َ‬
‫تجــرد هــو رحمــه هللا‪ .‬وليــس يسي ـرا عليهــا أن تتجــاوز تاريخهــا الحافــل‪ ،‬وإنجازاتهــا‬
‫العظيمــة‪ ،‬ومكانهــا مــن املشــهد الدعــوي والشــعبي والسياس ــي واإلعالمــي‪ ،‬ومــا‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫ترتــب علــى عــدم إنفــاذ اآلليــة واملســطرة الت ــي أوص ــى بهــا رحمــه هللا‪ ،‬فتعت ــرف‬
‫فيمــا بي ــنها وبي ــن ذاتهــا‪ ،‬نقصــد فيمــا بي ــن قيادتهــا وبي ــن عمــوم أعضائهــا‪ ،‬أنهــا فــي‬
‫غمرة الدهشة العظمـى التـي أصابها بها رحيل إمامها ومرشدها ومصحوبها‪ ،‬لم‬
‫ُْ‬ ‫لّ‬
‫َي َسـ ْـع َها أن تــرى فــي غي ــره مصحوبــا دا علــى هللا َيخل ُفـ ُـه فــي وظيفــة الداللــة عليــه‬
‫َ َ‬
‫عزوجل‪ ،‬ولم يـنهضم عندها أنه يمكن أن يكون لها مصحوب بعده‪ ،‬فذ ِهل ْت ‪-‬‬
‫بغــض النظــرعــن األســباب واملالبســات والبواعــث والذرائــع ‪ -‬عــن طلــب الصحبــة‬
‫وع ِه َد وتعاهد معنا وتعاهدنا معه‪.‬‬ ‫واملصحوب رجال حيا داال على هللا كما أوصـى َ‬

‫هللا ومــع كل اســتغفاري ــردد كلمــة‬ ‫اعت ـراف يقــول كلمــة واحــدة‪ ،‬ويســتغفر َ‬
‫واحــدة‪ :‬أخطأنــا‪ .‬وهــي الكلمــة املفتــاح فــي هــذا املوقــف الدقيــق‪ .‬أخطأنــا‪.‬‬
‫كان اإلمــام املجــدد منهاجــا نبويــا يمش ــي علــى قدمي ــن‪ ،‬ولهــذا كان تحصيـ َـل‬
‫حاصــل أن تكــون آليــة ومســطرة اختيــار خلفــه علــى رأس الجماعــة وفــي قلبهــا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫منهاجية نبوية عدلية إحســانية متوســلة بإمداد الغيب وأســباب الشــهادة معا‪،‬‬
‫هي أمثل أن تحفظ األمانة كاملة وتؤديها كاملة إلى أهلها‪ .‬ولكن‪ ،‬هل يبقى لهذه‬
‫األمانة من كمال إن غاب عنها اإلحسان؟ وهل يبقى لإلحسان َب ْع ُد من معن ًـى إن‬
‫َ‬
‫ُج ّ ِوف ِم َن الصحبة‪ِ ...‬م ْن «صحبة رجل حي يأكل الطعام ويم�شي في األسواق»؟‬

‫‪162‬‬
‫ـام الظاهــر علــى الســطح اآلن مطلــع عــام ‪2019‬م ُحيــال‬ ‫إن الهــدوء العـ ّ‬
‫ّ‬
‫ومالذ «صحبة رجل»‪ ،‬ال يعني أال‬ ‫وفريضة «صحبة رجل» ِ‬ ‫ِ‬ ‫ثابت «صحبة رجل»‬ ‫ِ‬
‫َ ً‬ ‫َ‬
‫حي ــرة تـ ِـد ُّب تحتــه دبيبــا جني ــنيا عفويــا ســاريا فــي أحشــاء التنظيــم يتســاءل‪« :‬مــن‬
‫َ ٌ‬ ‫نصحــب؟»‪ .‬ولــن يطــول الوقـ ُـت إذن‪ ،‬قبــل أن َت ْف ِقـ َ‬
‫ـدوء ُسـ َّـنة مــن ســنن‬
‫ـس هــذا الهـ‬
‫هللا املاضيــة فــي خلقــه‪.‬‬
‫إن كلفة تصحيح املسارومراجعة الوجهة والعودة إلى مرجعيتنا األصيلة‬
‫له ــي أقــل كلفــة مــن ضريبــة التضــارب الــذي أحدثــه التوظيــف الخاطــئ والفهــم‬
‫الســالب ل ـ ــ«الصحبــة فــي الجماعــة»‪ ،‬والــذي نسي ــر معــه إلــى أن يصبــح مشـ ُ‬
‫ـروع‬
‫اإلمــام املجــدد‪ ،‬مشـ ُ‬
‫ـروع املنهــاج النبــوي الخالــد‪ ،‬الــذي بــذل صاحبــه وبذلــت فيــه‬
‫«أصل تجاري» كما يحصل مع هذه‬ ‫َ‬
‫مجرد‬ ‫أجيالنا ما بذلت من جهود عظيمة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ُ‬
‫بعضها عناوي ــن وشــعارات إســامية‪.‬‬‫الدكاكي ــن السياســية الت ــي تحمل مرجعية ِ‬
‫صاحب الشأن رحمه هللا؛‬ ‫َ‬ ‫عن الصحبة والجماعة استفتـى هذا البحث‬
‫عن العلم بجوهرالقضية التـي حملها في قلبه وعقله ومهجته وكيانه كله فقام‬
‫وو�صى وتعاهد‪ ،‬وعن العلم بما َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ َّ‬
‫دل عليه‬ ‫على نورها ودعا وربى وبنـى وبلغ وأكد‬
‫فــي تآليفــه وأل ــح عليــه فــي مجالســه وزرعــه فــي قلــوب وعقــول تالمذتــه علــى مــدى‬
‫َّ َ‬ ‫َ‬
‫وترس ــخ ثابتا من الثوابت ال يتغي ــر‪.‬‬ ‫عشرات األعوام‪ ،‬حت ــى َر َس ــخ فيها‬
‫إن كالم بعضنا عن أن ما تبناه اإلمام املرشد ر�ضي هللا عنه من ضرورة‬
‫َ َ‬
‫«صحبــة رجــل»‪ ،‬قــد ن َس ــخه بالصحبــة الجماعيــة املفهومــة عندهــم مــن عبــارة‬
‫«الصحبــة فــي الجماعــة»‪ ...‬كالم بعضنــا هــذا علــى الـرأس والعي ــن‪ ،‬وأصحابــه فــي‬
‫صميــم القلــب محبــة وتقدي ـرا وتعظيمــا لحظهــم مــن هللا ولســابقتهم ولغنائهــم‪...‬‬
‫ولكــن‪...‬‬

‫‪163‬‬
‫ولكــن كيــف إن تبي ــن‪ ،‬بــل كيــف وقــد تبي ــن لــدى هــذا البحــث علــى األقــل‪،‬‬
‫أن نغمــة «الصحبــة فــي الجماعــة» بذلــك الفهــم‪ ،‬إنمــا كانــت نغمــة نشــازفي ترنيمة‬
‫املنهــاج النبــوي الخالــد‪ ،‬وأن تســويقها داخــل الصــف بتلــك الداللــة يــكاد يكــون‬
‫َ‬
‫قاصمــة ظهــرندعــو هللا عــزوجــل أن يحفــظ الجماعــة ِمـ ْـن ن ْز ِع َهــا؟‬
‫ـرة والقابلــة بــأن جوهــر ُولـ َّـب ور َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫وح‬ ‫كيــف يمكــن أن نقنــع أجيالنــا الحاضـ‬
‫َّ‬
‫املشــروع التجديــدي الــذي َبثــه اإلمــام رض ــي هللا عنــه فــي كتبــه علــى مــدى أربعي ــن‬
‫عامــا‪ ،‬مــا بي ــن صفــاء السـ ّـر فــي أجــواف خلواتــه ب ــربه‪ ،‬وحوالــك الليالــي فــي س ــجون‬
‫القهــرالظاملــة‪ ،‬وخلــف أســوارالحصــارالغاشــم‪ ،‬وفــي غب ـراء املدافعــة امليدانيــة‬
‫لالســتبداد وأعوانــه‪ ،‬وفــي مجالــس اإليمــان وهــو فــي تالمذتــه ومحبيــه يدلهــم علــى‬
‫الطريــق وعلــى مبدئــه ومــداه وغايتــه‪ ...‬كيــف نقنعهــم بعــد كل هــذا أن إمامنــا قــد‬
‫َ‬
‫غ َّي َـر جوهرولب وروح مشروعه‪ ،‬وهو «صحبة رجل حي»‪ ،‬في نقطة زمنية لسنا‬
‫ندري مكانها في تلك األربعيـن‪ ،‬ثم َع َم َد إلى وظيفة الداللة على هللا‪ ،‬وهي وظيفة‬
‫األنبيــاء املرسلي ــن ووظيفتــه ووظيفــة رجــال هللا العارفي ــن مــن قبلــه‪ ،‬الذي ــن‬
‫فحـ َّـول هــذه الوظيفــة الفرديــة الثابتــة‬ ‫َعهـ َـد تعالــى إليهــم بأمانتهــا رجــا إث ــررجــل‪َ ...‬‬
‫ِ‬
‫القائمة كما هي‪ ،‬منذ آدم عليه الســام‪ ،‬إلى وظيفة جماعية في اســتثناء ال نجد‬
‫ْ‬
‫لــه أصــا فــي سي ــرة وســلوك العارفي ــن َبلـ َـه املصحــوب األعظــم والعــارف األكــرم‬
‫ســيدنا محمــد صلــى هللا عليــه وســلم؟‬
‫كيف نقنعهم‪ ،‬إن استطعنا أن نقنع أنفسنا أوال؟‬
‫إن كان اإلمام قد جدد في طبيعة الصحبة حتـى انتقلت من صحبة رجل‬
‫حي إلى صحبة جماعية فإن هذا «التجديد» املفتـرض ُي َع ُّد انقالبا عظيما ليس‬
‫ٍ‬
‫ّ‬
‫في تاريخ سلوك أهل التـربية وأربابها رضـي هللا عنهم‪ ،‬فحسب‪ ،‬بل في سلوك رسل‬

‫‪164‬‬
‫هللا عليهــم الصــاة والســام عمومــا وفــي منهــاج رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‬
‫على الخصوص‪ .‬وهو ما كان يوجب ويفرض عليه توضيحا وبيانا وتفصيال لهذا‬
‫التجديــد املزعــوم كمــا عودنــا فــي تناولــه للقضايــا الكب ــرى فــي مشــروعه التغيي ــري‪.‬‬
‫ْ‬
‫وإنــه رض ــي هللا عنــه إذ لــم يفعــل‪ ،‬فإننــا نجــزم مطمئني ــن تمــام االطمئنــان أن مــا‬
‫يطرحــه البعــض مــن وراثــة الجماعــة لوظيفــة الداللــة علــى هللا‪ ،‬كيفمــا كانــت‬
‫تخريجــات هــذا البعــض املتخبطــة‪ ،‬ال ســند لهــا ال نقــا وال نصــا وال منطقــا وال‬
‫واقعا‪.‬‬
‫إننــا حي ــن نتحــدث عــن املنظومــة الت ــربوية لــدى اإلمــام املجــدد إنمــا‬
‫نتحــدث عــن ثوابــت املنهــاج النبــوي الت ــي ظلــت ثابتــة املضامي ــن قطعيــة الــدالالت‬
‫من باكورة كتبه رحمه هللا إلى منتهاها‪ ،‬ومن أول تسجيالته السمعية والبصرية‬
‫س آخروارث‬ ‫إلى آخرها‪ .‬أما الصحبة فهي‪ ،‬قطعا ودائما وأبدا وحت ــى ي ــنقطع َن َف ُ‬
‫وص َي ِغــه وأســاليبه‪ ،‬وبأحـ ِّـد مــا َو َهـ َـب‬
‫لهــذه األمانــة‪ ،‬وبــكل حــروف التأكيــد وأدواتــه ِ‬
‫ُ‬
‫هللا تعالــى بشـرا مــن نب ـرات‪ ...‬الصحبــة هــي واســطة ِعقــد هــذه الثوابــت‪ ...‬نقصــد‬
‫صحبــة رجــل حــي‪.‬‬
‫لئال تأثم قلوبنا‪..‬‬
‫تحــت هــذا العنــوان قــدم أســتاذنا رحمــه هللا شــهادته هلل ثــم لألمــة‬
‫وألجيالهــا املتعاقبــة وللتاريــخ فــي «اإلســام بي ــن الدعــوة والدولــة» عــام ‪1972‬م‪.‬‬
‫ْ ُ َ َّ‬ ‫َّ َ‬ ‫ََ َ ْ ُ‬
‫﴿ول تكت ُمــوا الشـ َـه َادة‪َ .‬و َمــن َيكت ْم َهــا ف ِإنـ ُـه‬ ‫عنــوان يفيــض مــن جــال قولــه تعالــى‪:‬‬
‫َ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َْ‬
‫آ ِثـ ٌـم قل ُبـ ُـه‪َ .‬واللـ ُـه ِب َمــا ت ْع َملــون َع ِليـ ٌـم﴾‪ .1‬يقــول رض ــي هللا عنــه‪:‬‬
‫«أخب ــرهللا عــزوجــل فــي كتابــه أن مــن كتــم الشــهادة‪ ،‬الشــهادة الشــرعية‬

‫‪ - 1‬البقرة‪.283 :‬‬
‫‪165‬‬
‫الت ــي تت ــرتب عليهــا حقــوق النــاس‪ ،‬فإنــه آثــم قلبــه‪ ،‬والشــهادة هلل أســمى مــن هــذه‬
‫َ‬
‫الشــهادة الشــرعية‪ ،‬ولـ َـد َّي شــهادة أؤديهــا أخش ــى أن يأثــم قلبــي‪ ،‬وأتأثــم مــن‬
‫الكتمــان فــي زماننــا هــذا الــذي طغــت فيــه الفتنــة وتالطمــت فيــه أمــواج الضــاالت‬
‫والخرافــات واألوهــام الفلســفية والشــبه علميــة‪ ،‬أتأثــم مــن الكتمــان ألن رســول‬
‫هللا صلــى هللا عليــه وســلم توعــد بالنــار مــن كتــم علمــا كان عنــده‪ ،‬واملســلمون‬
‫تحرج أن يقول على‬ ‫اليوم يجهلون ديـنهم‪ ،‬وحتـى من كان على مسكة من إيمان ّ‬
‫مــإ مــن النــاس‪ :‬إنــي آمنــت بــاهلل وبغيبــه‪ ،‬ومالئكتــه وجنــه‪ ،‬وجنتــه ونــاره»‪.1‬‬
‫ومــا كان الرجــل ليشــهد الشــهادة الت ــي لــم تت ــرك لــه صديقــا‪ ،‬وأضح ــى فــي‬
‫عيون الخاص والعام‪ ،‬وقد كان من صفوة القوم وعقالئهم ومن نخبة مثقفيها‪،‬‬
‫َ ً‬
‫ُمخ ّ ِرفــا أحمــق مجنونــا‪ ،‬مــا كان ليجــدد شــهادته املبثوثــة فــي عش ـرات الكتــب‬
‫والتس ــجيالت السمعية والبصرية‪ ،‬الشهادة الت ــي أساسها ضرورة صحبة رجل‬
‫حــي ملــن رام ســلوك طريــق املعرفــة‪ ...‬طريــق املحبــة‪ ...‬طريــق املحبوبيــة‪ ...‬مــا كان‬
‫ً‬
‫ليشــهد هــذه الشــهادة العظيمــة بتلــك القــوة ثــم يتحــول عنهــا‪َ ،‬ز ْعمــا‪ ،‬ويغي ــررأيــه‬
‫ُ‬
‫فيهــا فــي تس ــجيل مرئــي عاب ــرواحــد‪ ،‬أو فــي نــص مــن الوصيــة أســيئت قراءتــه مــع مــا‬
‫َُ‬
‫تغ َّيـ ُـب قراءتــه مــن منهــاج النبــوة‪.‬‬
‫ويضيف رحمه هللا في شهادته‪:‬‬
‫«أكرمن ــي هللا تعالــى بصحبــة ولــي مــن أوليائــه عــارف بــاهلل غن ــي بــه بضــع‬
‫ســنوات‪ ،‬وبعــد صحبتــه ب ــزمان عث ــرت فــي بعــض كتــب القــوم علــى وصــف الشــيخ‬
‫الكامــل‪ .‬نعتــوه بأنــه ال يدعــي مقامــا وال صالحــا وال تظهــر عليــه الكرامــة وال‬
‫الكشف إال إن أذن له في إظهارذلك‪ .‬وقد كان وهللا شيخي األول املرحوم بكرم‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلسالم بيـن الدعوة والدولة»‪ ،‬ص‪.385 :‬‬


‫‪166‬‬
‫هللا الصامـ َـت الناطــق املسكي ــن الــذي كان يطلــب دعــاء الخي ــر مــن الب ــروالفاجــر‬
‫َ‬
‫ُح ْسـ َـن ظـ ٍ ّـن بــاهلل وعبــاد هللا‪ .‬ولــوال أن هللا تعالــى جعــل علــى يــده هــذه الهدايــة‬
‫الشــاملة لــكل مــن اتصــل بــه وأحبــه‪ ،‬وأظهــر عليهــم الكرامــات والفتوحــات‬
‫الباهــرة ملــا عرفــه أحــد ولبقــي س ـرا مــن أس ـرار هللا وكن ـزا مــن كنــوزه الخفيــة»‪.1‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫كانــت تلكــم شــهادة اإلمــام فــي شــيخه الــذي دلــه علــى هللا‪ .‬فكيــف يحفــظ‬
‫ُ َ‬ ‫ُ‬
‫أعمــدة الجماعــة في ــنا عهـ َـد الص ــحبة ُوي ْدلــون بشــهادتهم إلــى األجيــال الالحقــة‬
‫ّ‬ ‫ن ُ َ‬
‫الع ْه َدة واألمانة كاملة ويبلغونها‪ ،‬ال ســيما أمانة‬ ‫كما أدلى بها هو؟ وكيف يؤدو‬
‫َّ‬
‫العــدل واإلحســان‪ ،‬كمــا أداهــا هــو وبلغهــا رحمــه هللا؟‬
‫أخوف املخاوف‪..‬‬
‫َ‬
‫محاصري ــن‬ ‫إن أخــوف مــا نخافــه أن نكــون اآلن‪ ،‬مطلــع عــام ‪2019‬م‪،‬‬
‫باألســئلة الصعبــة الت ــي توقعهــا معلمنــا وأســتاذنا وإمامنــا ومرشــدنا قبــل ثالثي ــن‬
‫عامــا فــي «اإلحســان»‪ .‬يقــول رض ــي هللا عنــه‪:‬‬
‫«مــا العمــل إذا ُوجــدت جماعــة فيهــا أف ـراد مــن املؤمني ــن واملؤمنــات‬
‫ّ ُ‬
‫يصدقــون بخب ــرالســلوك‪ ،‬ويتوقــون إلــى الســلوك‪ ،‬وي ــرجون الكمــال والقــرب مــن‬ ‫ِ‬
‫هللا‪ ،‬ولــم يوجــد شــيخ باملؤهــات املوصوفــة؟‬
‫العملي عن تساؤالت الشباب اإلسالمي «تحت إلحاح فطرته‬ ‫ُّ‬ ‫ما الجواب‬
‫اإلســامية الظامئــة‪ :‬كيــف الســبيل إلــى أن أسـ ُـم َو علــى نف�ســي وأهوائهــا فــي هــذه‬
‫األزمنــة العصيبــة وســط هــذه املغريــات املتأججــة؟ كيــف الســبيل إلــى أن أشـ ُـع َر‬
‫بلــذة املناجــاة للخالــق إذا وقفــت بي ــن يديــه فــي صــاة أوجلســت أقـرأ قرآنــا؟ كيــف‬
‫أصنــع ألرقــي مشــاعري إلــى الرتبــة الت ــي أعبــد هللا فيهــا كأننــي أراه؟ كيــف أجعـ ُـل‬

‫‪ - 1‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.395 :‬‬


‫‪167‬‬
‫محبــة هللا مـ َ‬
‫ـلء كيانــي حت ــى ال أحــب مــع هللا ســواه؟ وكيــف أجعــل املخافــة منــه‬
‫مــلء شــعوري حت ــى يــذوب مــن قلبــي الخــوف مــن كل مــا عــداه؟»‪.‬‬
‫هــذه األســئلة الت ــي عب ــر عنهــا الشــيخ األســتاذ الدكتــور ســعيد رمضــان‬
‫ـس كل الشــباب اإلســامي املنتظــم فــي جماعــات غلــب عليهــا‬ ‫البوطــي هــي اآلن هاجـ ُ‬
‫ُ‬
‫الفكــر والحركيــة أو َه َو ِسـ َّـية اإلشــارة بأصابــع االتهــام إلــى النــاس»‪.1‬‬
‫َ ْ ً‬
‫إن شــطرا ممــا نعيشــه بعــد اإلمــام املرشــد مــن روحانيــة فــي مجالســنا‬
‫ورباطاتنــا‪ ،‬ومــا نســبح فيــه مــن أنوارهــا ومــا يفيــض علي ــنا مــن نفحاتهــا ومــا يغمرنــا‬
‫من بـركاتها إن هوإال بعض زاد وبقية مخزون مما ترك رضـي هللا عنه في «رصيدنا‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ َّ َ‬
‫االحتياطــي» َلنت َبلــغ بــه ريثمــا ن ْن ِفــذ وصيتــه وعهــده الشريفي ــن ون ْمضيهمــا فنتوجــه‬
‫ص ْو َب اإلشارة اإللهية بعد االستخارة الواسعة واالستشارة الواسعة‪ ،‬أو ريثما‪،‬‬ ‫َ‬
‫إن ِت ْه َنــا عــن املقصــود‪ ،‬نعــي بالحاجــة إلــى صحبــة رجــل حــي‪ ...‬فمــا العمــل إن طــال‬
‫ُْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫البلغــة وال َمــدد‪ ،‬وش ـ َّـح‬ ‫علي ــنا األمــد وال ُج ْهــد‪ ،‬وانقضــت املهلــة وال فـ ْـو َت‪ ،‬ون ِفـ َـدت‬
‫الزيــت وال نجــم ُي ْه َتـ َـدى بــه فــي ظلمــات الب ــروالبحــر؟‬
‫امللحة املستعجلة إلى صحبة رجل أم ليس بعد؟‬ ‫فهل وعيـنا بالحاجة ّ‬

‫«مــا الجــواب العملــي عــن حاجــة الصادقي ــن فــي إرادة هللا والســلوك إليــه‬
‫وعــن حاجــة املتطهري ــن طــاب التقــوى واالســتقامة؟ هنــا جماعــة منظمــة لهــا‬
‫ضوابطهــا وهياكلهــا وأجهزتهــا وب ـرامجها‪ .‬وهنــاك خـ َ‬
‫ـارج الجماعــة شــيخ ربانــي فمــا‬
‫العمل؟ أن يـنخرط الشيخ في الجماعة أم تنخرط الجماعة كما هي في الشيخ؟‬
‫َ‬ ‫أيـ ّ‬
‫ـؤدي لــه األفـراد الطالبــون لــه البيعــة الصوفيــة أم يــؤدي هــو للجماعــة البيعــة‬
‫الجهاديــة؟ وإذا تعارضــت تعاليــم الشــيخ مــع أوامــرالجماعــة وب ـرامجها أنضحــي‬
‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.248 :‬‬
‫‪168‬‬
‫بالت ــربية ونطــرد الطبيــب أم نضحــي بالجماعــة وندعهــا تتفتــت وتنــدرج فــي ســلك‬
‫َ‬
‫ِنق َابـ ٍـة صوفيــة أو طرقيــة َموصوفــة؟»‪.1‬‬
‫فهال َأ ْس َع ْف َت َنا بالجواب الشافي يا أيها اإلمام َّ‬
‫املبجل؟‬
‫ـدي أجوبــة جاهــزة عــن هــذه األســئلة‪ .‬وعندمــا ي ــرتفع مســتوى‬ ‫«ليســت لـ َّ‬
‫ُ‬
‫الفهــم لهــذه القضيــة الكب ــرى فــي صفــوف الجماعــات وتــد َرك ضــرورة اجتمــاع‬
‫األ ِز َّمــة فــي يــد واحــدة ال فــي أيــد متعــددة‪ ،‬هنــاك تنظيــم وهنــاك تربيــة‪ ،‬تتســع لديهــا‬
‫ّ‬
‫الســبيل للجمــع بي ــن وظيفتي ــن فــا تجــد إال أن يخضــع الظاهــرللباطــن‪ ،‬أن يتبــع‬
‫َ‬
‫التنظيـ ُـم الت ــربية‪ ،‬أن تكــون الدعــوة أمي ــرة علــى اإلدارة والدولــة‪ .‬ال ي ـزال تصــور‬
‫العاملي ــن فــي الجماعــات لوظيفتهــم الدعويــة فيمــا بي ــنهم وفيمــا يلــي الشــعب‬
‫الظامـ َـئ لإلســام تصــورا غامضــا‪ .‬ال ي ـزال كثي ــرمــن العاملي ــن يظــن أن دواليــب‬
‫الدولــة‪ ،‬بعــد اســتخالصها‪ ،‬تنتظــركل زيــد وعمــرو مــن الشــباب امللتحــي الصــادق‪.‬‬
‫تصــور يف�ضــي بالذوبــان اإلرادي للجماعــة فــي الجمهــور‪ ،‬للدعــوة فــي الدولــة»‪.2‬‬
‫ْ‬
‫كيــف نســتنقذ أنفســنا مــن أوحــال التنظيــم ببنائــه الــذي خنقنــا ال ـ ُـمقام‬
‫فــي ُح َج ْيراتــه وأنهكنــا التــآكل فــي ممراتــه‪ ،‬ومــن رمــال العمــل السياس ــي املتحركــة فــي‬
‫ُ‬
‫امليــدان الــذي ن ْسـ َـت ْد َر ُج إليــه اســتدراجا ال يخفــى علــى لبيــب ونوشــك أن نســقط‬
‫َ‬ ‫ْ ْ‬
‫فــي محرقتــه‪ ،‬ومــن األمــواج العاتيــة للواقــع املري ــرال ـ ُـمخ ِذل الــذي يمتحــن إيماننــا‬
‫ويقي ــننا وثقتنــا ب ــربنا وبمنهاجنــا النبــوي‪ ،‬إن لــم تتداركنــا رحمــة هللا وعنايتــه؟‬
‫«لتفادي ذوبان التـربية في التنظيم وغرقها فيه‪ ،‬ولتفادي ذوبان الدعوة‬
‫فــي الدولــة ال بــد مــن قيــادة واحــدة‪ ،‬قيــادة رجــال تحــرروا مــن كل ش ــيء وخلصــوا‬

‫‪ - 1‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪.249 :‬‬


‫‪ - 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.250-249 :‬‬
‫‪169‬‬
‫ّ‬
‫ـنورها علمــه‪ .‬إذا‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫هلل وحــده‪ .‬قلبهــم يعمــره حبــه‪ ،‬وكيانهــم يمــأه ذكــره‪ ،‬وعقولهــم ي ـ ِ‬
‫كانــت القيــادة مغــروزة فــي الواقــع الجــاري العاتــي املتالطــم األمــواج‪ ،‬لــم تتجــرد‬
‫َ‬
‫عنــه لتشــرف عليــه مــن أعــاه‪ ،‬وتتحكـ َـم فيــه بأمــرهللا‪ ،‬فكفيــل أن تكــون معركــة‬
‫الدعــوة املحمولــة علــى غي ــر ّبينـ ٍـة ور َّ‬
‫بانيـ ٍـة مــع الباطــل َّ‬
‫املجهــز بأحكــم الوســائل‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ـبة مــا ي ــنقص الجماعــة وقيادتهــا مــن تعلــق بــاهلل‪ ،‬وقــرب مــن‬ ‫معركــة مخذولــة بنسـ ِ‬
‫هللا‪ ،‬وواليــة هلل»‪.1‬‬
‫فما املخرج يا إمام؟ ومن املنقذ يا إمام؟ وما العمل يا إمام؟‬
‫«الوصلــة الصحيحــة بي ــن الصحبــة والجماعــة قيــادة رّبانيــة واحــدة‪ .‬فــإن‬
‫ارتفــع مســتوى الفقــه الدي ــني للجماعــة حت ــى تعــرف أن الدي ــن إســام وإيمــان‬
‫وإحســان‪ ،‬وحت ــى تعــرف‪ ،‬ولــو بالتســليم والتصديــق‪ ،‬معن ــى املعرفــة والكمــال‬
‫والســلوك والــوالدة القلبيــة والوجــود الثانــي والنشــأة األخــرى الت ــي يعجلهــا املولــى‬
‫الكريــم ملــن شــاء مــن أحبابــه‪ ،‬فعندئــذ يكــون العــارف بــاهلل الكامـ ُـل هــو الشــخص‬
‫األمثــل لقيــادة الركــب‪ .‬قــد يكــون هــذا العــارف قاص ـرا فــي مظهــر مــا مــن مظاهــر‬
‫الكفــاءة‪ ،‬كأن يكــون غي ــره أفصــح منــه لســانا‪ ،‬أو أصــح منــه بنيــة‪ ،‬أو أقــدرعلــى‬
‫املعانــاة الطويلــة ملســائل الجماعــة وجزئيــات تنظيمهــا‪ .‬لكــن العــارف الكامــل معه‬
‫رأس األمركله كما يعبـرالشيخ الرفاعي‪ ،‬معه نور الكشف وروح العلم وتوفيق‬
‫هللا عزوجل‪ .‬فكيف يستغني حزب هللا‪ ،‬يوم يـرتفع مستوى فهمهم لديـنهم‪ ،‬عن‬
‫‪2‬‬ ‫ْ ً‬ ‫قيــادة البصي ــر ِل ُي َق ِّلـ ُـدوا َ‬
‫أمرهــم ُعشــوانا أو ُعميانــا!»‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬اإلحسان»‪ ،‬ص‪.250 :‬‬


‫‪ - 2‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.250 :‬‬
‫‪170‬‬
‫ختامه مسك‬

‫نتـ ّـوج هــذا البحــث بمثــل مــا يتــوج بــه إمامنــا املرشــد فقــرات كتابــه‬
‫النفيــس «اإلحســان»؛ بمــا يفيــض بــه شــعره مــن حكمــة‪ ،‬بعــد أن أفاضهــا‬
‫علي ــنا نث ــرا‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫يقول رحمه هللا ورحمنا ونفعنا به‪ ،‬في قطوفه الشعرية التـي نظ َم َها بيـن‬
‫‪ 6‬مــاي ‪1989‬م و ‪ 13‬شتنب ــر ‪1989‬م‪ ،‬وبــدأت فــي الصــدور ابتــداء عــام ‪2000‬م‪،‬‬
‫ّ‬
‫وصدرهــا بإهدائــه الخالد‪:‬‬
‫«إلى أحبابي شباب العدل واإلحسان إلى آخرالزمان»‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ّ‬
‫ملخصــا مــا ن َاول َنــا إيــاه مــن ِحكــم فــي هــذا البحــث‪،‬‬ ‫يقــول رض ــي هللا عنــه ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ـاب األفخــم‪ ،‬والنب ــي‬ ‫الحكــم‪ ،‬الجنـ ِ‬ ‫وخاتمــا بالصــاة علــى ســيد الك ِلــم‪ ،‬ومنبــع ِ‬
‫األكــرم‪ ،‬واملصحــوب األعظــم‪:1‬‬
‫ُ ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫صـ ـ ـ ـ َـو ْب‬ ‫األ ْ‬ ‫َم ـ ـ ـ َـن ـ ـ ـ ِـاه ـ ـ ــجـ ـ ـ ــه ِهــي‬ ‫اللــه أ ْح ـ ـ ـ َـم ـ ـ ـ ُـدنـ ـ ـ ــا‬ ‫ح ـ ـ ـ ِـب ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ُـب ِ‬
‫َ‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫ُ‬
‫َو ُحـ ـ ـ ـ ِ ّـب ن ـ ـ ـ ِـب ـ ـ ـ ِّـيـ ـ ـ ـ ِـه األقـ ـ ـ ـ َـر ْب‬ ‫ص ـ ـ ــانـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫هللا أو‬ ‫ِبـ ـ ـ ـ ـ ــحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ ّـب ِ‬
‫َ َ‬
‫َو َعـ ـ ـ ـ ْـن َم ـ ـ ـ ْـوال ُه ال ُي ْحـ ـ ـ َـجـ ـ ـ ـ ْـب‬ ‫ص ـ ـ ـ ـ ْـح ـ ـ َـب ِة َعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ِر ٍف ِخ ـ ـ ـ ـ ٍ ّـل‬ ‫َو ُ‬
‫ََ‬ ‫َ َّ ُ‬ ‫ُ ُ ُ َ َ َ َ‬
‫وت ال تـ ـ ـ ـ ْـر َه ْب‬ ‫ِم ـ ـ ــن الطـ ـ ــاغ ِ‬ ‫ـاع ٍة تـ ـ ـ ـ ْـبـ ـ ـ ـ ِن ــي‬ ‫لـ ـ ـ ـ ــزوم جـ ـ ــم ـ ـ ـ‬
‫َ‬ ‫ُ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ً ُ‬ ‫َ‬
‫َون ْع َم ـ ـ ـ ُـل َح ْي ـ ـ ــثـ ـ ـ ـ َـما ن ـ ـ ــذه ـ ـ ـ ـ ْـب‬ ‫َونـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ُـد ُق ِه ـ ـ ـ َّـم ـ ـ ـ ــة وتـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ًـى‬
‫َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِب ـ ـ ـ ِـمـ ـ ـ ْـن ـ ـ ـ ـ َـب ِر ِعـ ـ ـ ـ ّـزنـ ـ ـ ــا ُيخـ ـ ــطـ ـ ـ ـ ْـب‬ ‫ن ـ ـ ـ ـ ِع ـ ـ ـ ـ ـ ُّـد ِجـ ـ ـ ـ َـهـ ـ ـ ـ َـادن ـ ـ ـ ــا ِل ـ ـ ــغ ـ ـ ـ ـ ٍـد‬
‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َفـ ـ ـ ـ َ‬
‫ص ـ ــاة الـ ـ َّـن ـ ْـف ـ َـحـ ـ ـ ِـة األط َي ـ ـ ْـب‬ ‫ـصـ ـ ـ ـ ِ ّـل َع ـ ـ ـ ــلى ُمـ ـ ـ ـ َـح ـ ـ ـ َّـم ـ ـ ـ ـ ِـدنا‬

‫‪ - 1‬ياسيـن‪ ،‬عبد السالم‪« ،‬قطوف ‪ ،»2‬قطف‪ ،98 :‬ص‪.27 :‬‬


‫‪171‬‬
‫رّبنا‬

‫ً َّ َ َ‬ ‫وب َنا َب ْع َد إ ْذ َه َد ْي َت َنا َو َه ْب َل َنا من َّل ُد َ‬ ‫﴿ َرَّب َنا َل ُتز ْغ ُق ُل َ‬


‫نك َر ْح َمة ِإن َك أنت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ‪1‬‬
‫َّ َّ َ َ ُ ْ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َّ‬ ‫ْ َ َّ ُ َ َّ َ َّ َ َ ُ َّ‬
‫اس ِليو ٍم ل ريب ِف ِيه ِإن الله ل يخ ِلف ِاليعاد﴾ ‪.‬‬ ‫الوهاب‪ .‬ربنا ِإنك ج ِامع الن ِ‬
‫َ َ ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫﴿ َّرَّبنا ِإ َّننا َس ِم ْعنا ُمن ِاد ًيا ُين ِادي ِل ِل َيم ِان أ ْن ِآم ُنوا ِب َرِّبك ْم ف َآم َّنا‪َ .‬رَّبنا فاغ ِف ْر‬
‫َّ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ َّ َ‬ ‫ََ ُُ ََ َ ّ‬
‫وبنا َوك ِف ْر َع َّنا َس ِّي َئا ِتنا َوت َوفنا َم َع ال ْب َر ِار‪َ .‬رَّبنا َوآ ِتنا َما َو َعدتنا َعل ٰى‬ ‫لنا ذن‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ُر ُسلك َول تخزنا َي ْو َم الق َي َامة‪ .‬إنك ل تخلف ال َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يعاد﴾‪.2‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َّ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ُ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ ُ َ ًّ‬
‫وبنا ِغل‬ ‫ال ٌيم ِان‪ .‬ول تجعل ِفي قل ِ‬ ‫﴿ربنا اغ ِفر لنا و ِ ِلخوا ِننا ال ِذيـن سبقونا ِب ِ‬
‫يم﴾‪.3‬‬ ‫ّل َّلذي َـن َآم ُنوا‪َ .‬رَّب َنا إ َّن َك َر ُءوف َّرح ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫ّ َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َ‬ ‫َّ ُ َّ َ َ َّ َ َ َ ْ َ‬
‫ض‪َ ،‬ع ِال َم الغ ْي ِب َوالش َه َاد ِة‪ِ ،‬إ ِني أ ْع َه ُد ِإل ْي َك‬ ‫ال ْ‬
‫ات و ِ‬
‫ر‬ ‫اطر السمو ِ‬ ‫اللهم ف ِ‬
‫َ‬ ‫ُّ ْ َ َ ّ َ ْ َ ُ َ ْ َ َ َ لَّ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ‬ ‫ْ‬
‫ِفي َه ِذ ِه ال َح َي ِاة الدنيا أ ِني أشهد أن ل ِإله ِإ أنت‪ ،‬وحدك ل ش ِريك لك‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َ َ َّ ُ َ َّ ً َ ْ ُ َ َ َ ُ ُ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َ‬
‫�سي تق ِّرْب ِني ِم ْن الش ِّر‬ ‫وأن محمدا عبدك ورسولك‪ ،‬ف ِإنك ِإن ت ِكل ِني ِإلى نف ِ‬
‫اج َع ْل لي ع ْن َد َك َع ْهداً‬ ‫َو ُت َباع ْدني م ْن ْال َخ ْير‪َ ،‬وإ ّني َل َأث ُق إلَّ ب َر ْح َمت َك‪َ ،‬ف ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫‪4‬‬
‫تو ِفيـ ِن ِيه يوم ال ِقيام ِة‪ِ ،‬إنك ل تخ ِلف ِاليعاد‪.‬‬
‫ُ‬
‫ات الؤ ِم ِني َـن‪َ ،‬وذ ّ ِرَّي ِت ِه‬
‫ُْ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ص ّل َع َلى سيدنا ُم َح َّمد النبـي‪َ ،‬و َأ ْز َ‬ ‫َّ ُ َّ َ‬
‫اج ِه أ َّم َه ِ‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫ٍ‬ ‫«اللهم ِ‬
‫يد َمج ٌ‬ ‫يم إ َّن َك َحم ٌ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ ْ َ َ َ‬
‫يد»‪.5‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وأه ِل بي ِت ِه‪ ،‬كما صليت على ِآل سيدنا ِإبر ِاه ِ‬

‫‪ - 1‬آل عمران‪.8-9 :‬‬


‫‪ - 2‬آل عمران‪.194-193 :‬‬
‫‪ - 3‬الحشر‪.10 :‬‬
‫‪ - 4‬دعاء العهد‪ .‬أخرجه‪ ‬الحاكم‪ ‬في املستدرك موقوفا عن‪ ‬عبد هللا بن مسعود‪ ‬رضـي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ - 5‬رواه أبو داود عن أبي هريرة ر�ضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪172‬‬
‫الفهرس‬
‫مقدمة ‪7 ...............................................................................................‬‬
‫الفصل األول ‪ -‬القطيعة مع “صحبة رجل”‪ ..‬متى؟ ‪13....................................‬‬
‫اإلسالم بيـن الدعوة والدولة (‪1972‬م) ‪17.................................................................‬‬
‫اإلسالم غدا (‪1973‬م)‪19...........................................................................................‬‬
‫رسالة جماعة اإلرشاد (‪1973‬م) ‪20...........................................................................‬‬
‫اإلسالم‪ ..‬أو الطوفان! (‪1974‬م) ‪22............................................................................‬‬
‫شعب اإليمان (‪1975‬م)‪24........................................................................................‬‬
‫املنهاج النبوي (‪1981‬م)‪24.........................................................................................‬‬
‫رجال القومة واإلصالح (‪1983-1982‬م)‪28...............................................................‬‬
‫إمامة األمة (‪1983‬م)‪29.............................................................................................‬‬
‫اإلسالم والقومية العلمانية (‪1985‬م)‪29...................................................................‬‬
‫سنة هللا (‪1988-1987‬م)‪30......................................................................................‬‬
‫اإلحسان (‪1988‬م) ‪30................................................................................................‬‬
‫العدل ‪ -‬اإلسالميون والحكم (‪1990‬م)‪31.................................................................‬‬
‫«تنويـراملؤمنات» (‪1993‬م) ‪31...................................................................................‬‬
‫«حوارمع الفضالء الديمقراطييـن» (‪1993‬م) ‪32.....................................................‬‬
‫محنة العقل (‪1993‬م)‪32...........................................................................................‬‬
‫رسالة تذكيـر (‪1994‬م) ‪32.........................................................................................‬‬
‫اإلسالم والحداثة (‪1997‬م) ‪33..................................................................................‬‬
‫خالصة‪33...................................................................................................................‬‬
‫ََ‬
‫الفصل الثاني‪ -‬الوظيفتان ال ُـم َب َّجلتان‪35.....................................................‬‬
‫‪ -1‬التجديد األعظم‪35............................................................................................. ..‬‬
‫‪ -2‬الداللة على هللا‪39.................................................................................................‬‬

‫‪173‬‬
‫الفصل الثالث ‪ -‬بيـن الصحبة األصيلة والصحبة الطارئة ‪41.........................‬‬
‫الصديقية وارثة النبوة‪43..........................................................................................‬‬
‫الفاروق من حديث الفاروق‪44............................................................................... ..‬‬
‫الفصل الرابع ‪ -‬الوصية ‪2002 -‬م ‪51...........................................................‬‬
‫وصلة املحبة‪51..............................................................................‬‬ ‫بيـن ِصلة الداللة ِ‬
‫الداللة على هللا‪52......................................................................................................‬‬
‫َ‬
‫الصلة بـر ُ‬
‫ازخ املوت‪56..................................................................................‬‬ ‫ال تحبس‬
‫ال مدخل لك إال بصحبة‪61..................................................................................... ..‬‬
‫وحدة وتالزم الصحبة والجماعة‪66...........................................................................‬‬
‫«مـ ْـن» و«فـ ــي»! ‪70.......................................................................................................‬‬ ‫ِ‬
‫الفصل الخامس ‪ -‬املعاهدة ‪2005 -‬م ‪75......................................................‬‬
‫ال بد من بعد‪75........................................................................................................ ..‬‬
‫الزاوية األولى‪79........................................................................................................ ..‬‬
‫الزاوية الثانية‪80...................................................................................................... ..‬‬
‫الزاوية الثالثة‪83...................................................................................................... ..‬‬
‫إن هللا يأمركم‪85........................................................................................................‬‬
‫آلية الحسم‪88............................................................................................................‬‬
‫اإلشارة اإللهية‪88.......................................................................................................‬‬
‫َّ ُ‬
‫لئل ن ْح َرم‪91................................................................................................................‬‬
‫من أراده هللا‪ ...‬من؟‪95................................................................................................‬‬
‫ْ ْ َ‬
‫ال ـ ُـم ــثـ ــلة‪97..................................................................................................................‬‬
‫الفصل السادس ‪ -‬حوار ‪2009 -‬م‪103.........................................................‬‬
‫في الفكرة‪103..............................................................................................................‬‬
‫في الشكل‪104..............................................................................................................‬‬

‫‪174‬‬
‫في املضمون‪106..........................................................................................................‬‬
‫السلوك الجهادي‪106.................................................................................................‬‬
‫الصحبة والجماعة‪108..............................................................................................‬‬
‫صحبة السلوك‪112....................................................................................................‬‬
‫«الصحبة» مستقبال ‪ -‬عمرو وزيد وخالد‪114............................................................‬‬
‫تعدد الصحبات‪118...................................................................................................‬‬
‫تعدد الصحبات في «املنهاج النبوي» (‪1982‬م)‪133................................................. ..‬‬
‫تعدد الصحبات في إمامة األمة (‪1983‬م) ‪135...........................................................‬‬
‫إفضاء الصحبة إلى الجماعة‪136...............................................................................‬‬
‫الصحبة دواء األنانية‪137........................................................................................ ..‬‬
‫الفصل السابع ‪ -‬فصل الخطاب‪141...........................................................‬‬
‫الصحبة والجماعة‪144..............................................................................................‬‬
‫تحريـر «الصحبة في الجماعة»‪144.......................................................................... ..‬‬
‫الجماعة في الصحبة‪151............................................................................................‬‬
‫عزمة املصحوب‪154...................................................................................................‬‬
‫الفصل الثامن ‪ -‬ماذا بعد؟ ‪159..................................................................‬‬
‫وبعد أربعيـن عاما‪159.............................................................................................. ..‬‬
‫لئال تأثم قلوبنا‪165.....................................................................................................‬‬
‫أخوف املخاوف‪167....................................................................................................‬‬
‫ختامه مسك ‪171.....................................................................................‬‬
‫ّربنا ‪172...................................................................................................‬‬

‫‪175‬‬

You might also like