You are on page 1of 420

‫الدين واإلنسان والعامل‬

‫قراءات يف أفكار إسالمية معاصرة‬


‫الدين واإلنسان والعامل "قراءات يف أفكار إسالمية معاصرة"‬
‫أمحد عبد اجلواد زايدة‪ ،‬أمحد نصر‪ ،‬إسالم أمحد‪ ،‬مجيلة تِلوت‪ ،‬رجب عز الدين‪ ،‬ساي ِرس مكجولدريك‪ ،‬حممد العريب‬
‫حممد املراكيب‪ ،‬حممد عفان‪ ،‬مدحت الليثي‪ ،‬معتز اخلطيب‪ ،‬هشام فهمي‪ ،‬ايسني اليحياوي‪ ،‬يوسف راموس‬

‫حترير‪ :‬هبة رءوف عزت‬


‫____________________‬
‫تنسيق داخلي‪ /‬أمين عبد املعطي‬ ‫تصميم غالف‪ /‬أمل حامد‬ ‫مراجعة لغوية‪ /‬أمحد مسنة‬
‫____________________‬
‫‪ 24×16.5‬سم‬ ‫‪ 416‬صفحة‬ ‫الطبعة الثانية‪ ،‬القاهرة ‪2018‬‬
‫رقم اإليداع بدار الكتب املصرية‪2017/23398 :‬‬
‫الرتقيم الدويل‪978-977-85330-5-7 :‬‬
‫تدمك‪9789778533057 /‬‬
‫‪ :2‬الفلسفة اإلسالمية‬ ‫‪ :1‬اإلسالم – مبادئ عامة‬
‫ب ‪ -‬رءوف‪ ،‬هبة (حمرر)‬ ‫أ – عبد اجلواد‪ ،‬زايدة (مؤلف مشارك)‬
‫‪211/2027‬‬
‫____________________‬

‫مجيع احلقوق حمفوظة للناشر‪ :‬دار املرااي لإلنتاج الثقايف‬

‫تليفاكس‪+ 20223961548 :‬‬


‫الربيد اإللكرتوين‪elmaraya@elmaraya.net :‬‬
‫العنوان‪ 23 :‬ش عبد اخلالق ثروت‪ ،‬الطابق الثاين‪ ،‬شقة ‪ ،17‬القاهرة‪ ،‬ج م ع‬
‫____________________‬
‫صدر هذا الكتاب بالتعاون مع مؤسسة روزا لوكسمبورج ‪ -‬مكتب شمال أفريقيا‬

‫____________________‬

‫اآلراء الواردة ابلكتاب تعرب فقط عن رأي املؤلفني وال تعرب ابلضرورة عن رأي‬
‫دار املرااي لإلنتاج الثقايف أو مؤسسة روزا لوكسمبورج‬
‫الدين واإلنسان والعامل‬
‫قراءات يف أفكار إسالمية معاصرة‬

‫أمحد عبد اجلواد زايدة‪ ،‬أمحد نصر‪ ،‬إسالم أمحد‪ ،‬مجيلة تِلوت‪ ،‬رجب عز الدين‬
‫ساي ِرس مكجولدريك‪ ،‬حممد العريب‪ ،‬حممد املراكيب‪ ،‬حممد عفان‪ ،‬مدحت الليثي‬
‫معتز اخلطيب‪ ،‬هشام فهمي‪ ،‬ايسني اليحياوي‪ ،‬يوسف راموس‬

‫حترير‪ :‬هبة رءوف عزت‬

‫دار املرااي لإلنتاج الثقايف‬


‫احملتوايت‬
‫استهالل‬
‫‪7‬‬
‫هبة رءوف عزت‬
‫‪9‬‬ ‫ال ُكتّاب املشاركون‬
‫الباب األول‪:‬‬
‫‪13‬‬
‫املفاهيم‬
‫الفصل األول‪:‬‬
‫‪15‬‬ ‫يف مفهوم الدين‬
‫مدحت ماهر الليثي‬
‫الفصل الثاين‪:‬‬
‫‪47‬‬ ‫قراءة يف تصورات الزمن واملستقبل يف املخيال اإلسالمي املعاصر‬
‫حممد العريب‬
‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫‪85‬‬ ‫مفهوم املصلحة‬
‫أمحد عبد اجلواد زايدة‬
‫الفصل الرابع‪:‬‬
‫اإلسالمي املُعاصر‬
‫ّ‬ ‫تصورات العدل يف الفكر‬
‫‪115‬‬
‫هشام فهمي‬
‫أمحد نصر‬
‫الفصل اخلامس‪:‬‬
‫‪161‬‬ ‫اإلسالميون وإشكالية الدولة‬
‫حممد عفان‬
‫الفصل السادس‪:‬‬
‫‪183‬‬ ‫اجلهاد والعنف ومأزق الدولة‬
‫معتز اخلطيب‬
‫الباب الثاين‪:‬‬
‫‪213‬‬
‫الشخصيات‬
‫الفصل األول‪:‬‬
‫‪215‬‬ ‫استعادة التفلسف‪ :‬معامل املشروع الفكري لطه الرمحن‬
‫مجيلة تِلوت‬
‫الفصل الثاين‪:‬‬
‫‪253‬‬ ‫الفكر التأسيسي للسيد حممد نقيب "العطاس"‬
‫يوسف راموس‬
‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫‪275‬‬ ‫اإلسالم واإلنسان "أفق العاملية يف فكر املسريي وبيجوفيتش"‬
‫رجب عز الدين‬
‫الفصل الرابع‪:‬‬
‫‪305‬‬ ‫وائل حالق بني الغرب والشرق‪ :‬قراءة يف تطور نظرايته الفقهية والفكرية‬
‫حممد املراكيب‬
‫الفصل اخلامس‪:‬‬
‫‪337‬‬ ‫عن مركزيّة األخالق واجلمال يف اإلسالم‪ :‬دراسة يف فكر خالد أبو الفضل‬
‫إسالم أمحد‬
‫الفصل السادس‪:‬‬
‫‪365‬‬ ‫ص ِّديقي‪ :‬نضاالت العاملية اإلسالمية‬
‫كليم ِ‬
‫ساي ِرس مكجولدريك‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫‪387‬‬ ‫إنتاج مفاهيم جديدة إلصالح الفكر اإلسالمي‪ :‬دراسة يف مشروع طارق رمضان‬
‫ايسني اليحياوي‬

‫‪6‬‬
‫استهالل‬
‫مير الواقع العاملي الراهن أبزمات ضخمة‪ ،‬تتنوع صيغها‬
‫وتتفاوت وطأهتا‪ ،‬لكنها ال تدع موضعًا دون أن متسه وال‬
‫جمتمعًا دون أن ختترب متاسكه وقدراته‪.‬‬
‫والعامل العريب واإلسالمي –ومساحات اجلنوب عامة– جزء من العامل األمشل‪ ،‬ولكن آاثر‬
‫احلقبة االستعمارية ما زالت تدفعه يف اجتاهات شىت‪ .‬وما بني مساعي التحرير والتغيري مير‬
‫اجلنوب بدورات من الصعود واهلبوط يف زمخه النضايل‪ ،‬وترتاوح درجات وعي الشعوب‬
‫ابلواقع‪ ،‬وتتفاوت متانة الفهم وقوة العمل على هنج االنعتاق من اإلمربايلية املتجددة‬
‫والنخب التابعة‪.‬‬
‫تعرض له اخلطاب اإلسالمي من عداوات وال ما أصاب احلركات‬ ‫وال خيفى على املتابع ما ّ‬
‫اليت حتمله من إخفاقات يظنها البعض نتاج التقدير السياسي اخلاطئ أو احلساابت‬
‫الربامجاتية النفعية‪ ،‬ويراها البعض اآلخر حمض تعبري عن فقر يف الفكر وتقصري يف االجتهاد‪.‬‬
‫وقد صدر سيل من الكتاابت عن احلركات والتنظيمات اإلسالمية خالل العقود املاضية‬
‫بلغات شىت‪ ،‬بعضها لغته ابلغة الصعوبة تستخدم مصطلحات علمية ونظرايت فلسفية‬
‫تستعصي على القارئ املهتم‪ ،‬وبعضها شديد اخلصومة مع التنظيمات اإلسالمية أو ابلغ‬
‫العداوة لإلسالم نفسه‪ ،‬هذا خبالف ما صدر عن أنصار تلك احلركات الذي يتفقد بعضه‬
‫ظالال لتربير أو رغبة يف تثبيت خصومة مع العامل‬
‫الصرامة العلمية أو يلحظ القارئ فيه إما ً‬
‫كثريا يف اخلروج من املأزق السياسي الذي تواجهه جمتمعاتنا ابجتاهاهتا الفكرية‬
‫ال تفيد ً‬
‫وأطيافها الثقافية‪ ،‬وال تنهض ابإلسالم واجملتمعات الساعية للعدل والكرامة‪.‬‬
‫حني رِ‬
‫اقرتح على احملررة موضوع الكتاب من دار املرااي ابلتعاون مع مؤسسة روزا لوكسمبورج‪،‬‬
‫صا سهل القراءة‪ ،‬يقدم خريطة مبدئية لبعض املفاهيم املركزية يف‬
‫كان تصورها أن يكون نَ ً‬
‫التصور اإلسالمي ولرؤى جمموعة من العقول املعاصرة اليت تعترب اإلسالم مرجعيتها‬
‫نصا يستعرض تصورات هؤالء بشأن دور اإلسالم يف حترير اإلنسان ورؤيتهم‬ ‫األساسية؛ ً‬
‫أتسيسا على مرجعيتهم استشراف مستقبل‬ ‫ً‬ ‫للعامل (منذ مطلع القرن العشرين) وكيف مت‬
‫أفضل لإلنسانية‪.‬‬
‫وقد حكم حجم الكتاب والوقت املخصص للعمل به اخلريطة اليت يقدمها‪ ،‬فهناك العديد‬
‫ونظرا مل يتضمنها الكتاب‪ ،‬منها مفهوم الفطرة‬ ‫وأتصيال ً‬
‫ً‬ ‫من املفاهيم اليت تستحق عناية‬
‫والطبيعة اإلنسانية‪ ،‬ومفهوم املكان وحدود اخلاص والعام وفلسفة التمدن‪ ،‬وهي مفاهيم‬
‫أنمل تناوهلا يف كتاب قادم‪ .‬كما أن اختيار املفكرين الذين تناقش الفصول رؤاهم حكمه‬
‫الرتكيز على أهل الفكر –وإن رعرف عن بعضهم االخنراط املدين– لتعريف القارئ أبمساء‬
‫ختتلف عن تلك اليت يتم تناوهلا عادة من دوائر احلركات والتنظيمات الذين خيتلط إسهامهم‬
‫فرد هلم كتاب مستقل‪.‬‬ ‫الفكري خبرباهتم احلركية‪ ،‬والذين نرى أهنم يستحقون أن ير َ‬
‫أوال أن تشارك عقول شابة‪،‬‬ ‫وكان هناك حرص واضح عند تشكيل جمموعة املسامهني ً‬
‫بعضهم سيتعرف عليها القارئ ألول مرة‪ ،‬واثنيًا أن يكون اقرتاب التناول مسحيًا يعطي‬
‫صورة ابنورامية عن خريطة املفهوم أو مالمح رؤية املفكر حمل البحث دون استطراد‪ ،‬وأن‬
‫ندعو املسامهني للكتابة بروح تتابع اجملرايت فال يغرق الباحث يف التنظري‪ ،‬مع حرص على‬
‫متسعا‪.‬‬
‫املقارنة بني األفكار واملفاهيم ما وجد لذلك ً‬
‫وكما غطت الفصول أمساء ملفكرين معاصرين من غري العرب‪ ،‬كذلك استكتبنا ابحثني‬
‫معا‪.‬‬
‫من الشباب غري العريب‪ ،‬سعيًا لتنوع األقالم واملضمون ً‬
‫هذا كتاب يسعى للخروج من التسييس املفرط لتناول املفاهيم اإلسالمية واإلسهامات‬
‫الفكرية بعد أن ساد يف األعوام املاضية مناخ الرتصد السياسي والتأويل اإليديولوجي‪ ،‬وهو‬
‫رؤى سامهت يف تشكيل التصورات اإلسالمية من داخل العامل العريب‬ ‫يقدم للقارئ العريب ً‬
‫وخارجه يف مرحلة اترخيية مل تعد األفكار فيها أسرية اجلغرافيا وال اللغة‪ .‬وهو كذلك إطاللة‬
‫نقداي‬ ‫ِ‬
‫تبني تنوع مسارات الفكر اإلسالمي املعاصر‪ .‬إذ سيجد القارئ يف الفصول ح ًسا ً‬
‫بدون استسالم هليمنة تنازعات السياسة على أجندة البحث الرصني‪ .‬ونتطلع أن يكون‬
‫خطوة يف استعادة مسار النقاشات النظرية اليت تعرضت للتسفيه واالستخفاف يف ظل‬
‫أمال يف أن تظل املعرفة مفتاحاً للنهضة‪.‬‬
‫الرتاشق السياسي والتنازع السلطوي‪ً ،‬‬
‫وعلى هللا قَصد السبيل‪.‬‬
‫هبة رءوف عزت‬

‫‪8‬‬
‫ال ُكتّاب املشاركون‬

‫أمحد عبد اجلواد زايدة‪ :‬مدرس مساعد بكلية احلقوق ابجلامعة الربيطانية ابلقاهرة‪.‬‬ ‫•‬
‫حاصل على درجة املاجستري يف القانون من جامعة اإلسكندرية ويرعد هبا رسالة‬
‫الدكتوراه‪ .‬حصل على ليسانس شريعة وقانون من جامعة األزهر‪.‬‬
‫أمحد نصر‪ :‬ابحث ماجستري بقسم العلوم السياسية بكلية االقتصاد جبامعة القاهرة‪.‬‬ ‫•‬
‫إسالم أمحد‪ :‬طالب ماجستري يف العلوم السياسية يف معهد الدوحة‪ /‬قَطر‪ .‬حاصل‬ ‫•‬
‫بكالوريوس العلوم السياسية والعالقات الدولية ‪ 2015‬مث ختصص الفلسفة ‪2016‬‬
‫من جامعة إسطنبول شهري‪.‬‬
‫اضرة جامعية من املغرب‪ .‬حاصلة على شهادة املاجستري يف‬ ‫مجيلة تِلوت‪ :‬رحم ِ‬ ‫•‬
‫الدراسات اإلسالمية من دار احلديث احلَ َسنية ابلرابط‪ ،‬والدكتوراه يف الفقه وأصوله‬
‫ومقاصد الشريعة‪ ،‬وهتتم ابلربط بينه ختصصها والعلوم اإلنسانية‪ .‬من كتاابهتا‪" :‬مقاصد‬
‫األسرة يف القرآن من اإلنسان إىل العمران"‪" ،‬إشكالية العالقة بني الدين والسياسة‬
‫عند طه عبد الرمحن"‪" ،‬مرتبة العفو"‪ ،‬وغريها‪.‬‬
‫رجب عز الدين‪ :‬ابحث وصحفي‪ .‬حاصل على ماجستري يف العلوم السياسية ويرعد‬ ‫•‬
‫حاليًا رسالة الدكتوراه بكلية االقتصاد والعلوم السياسية جبامعة القاهرة‪.‬‬
‫ساي ِرس مكجولدريك‪ :‬حاصل على بكالوريوس دراسات الشرق األوسط من جامعة‬ ‫•‬
‫كولومبيا ابلوالايت املتحدة األمريكية‪ .‬يعد حاليًا رسالة املاجستري يف الدراسات‬
‫احلضارية مبعهد حتالف احلضارات إبسطنبول‪/‬تركيا‪.‬‬
‫حممد العريب‪ :‬ابحث مبركز الدراسات االسرتاتيجية مبكتبة اإلسكندرية وابحث زائر‬ ‫•‬
‫مبعهد الدراسات املستقبلية وتقييم التكنولوجيا بربلني‪ ،‬وزميل أحباث مبعهد الدراسات‬
‫املستقبلية ببريوت‪ .‬له العديد من الدراسات واألوراق البحثية املنشورة‪ ،‬أمهها "بناء‬
‫السيناريوهات املستقبلية‪ :‬دليل نقدي"‪" ،‬الربوابغندا اجلهادية‪ :‬إعالم داعش وآليات‬
‫عمله"‪ .‬ساهم يف ترمجة عدة عناوين حول املستقبليات إىل العربية‪ .‬وينتهي حاليًا من‬
‫إعداد رسالة املاجستري يف الشؤون الدولية ابجلامعة األمريكية يف القاهرة‪.‬‬
‫حممد املراكيب‪ :‬ابحث دكتوراه يف الدراسات اإلسالمية جبامعة إدنربة‪ ،‬اململكة‬ ‫•‬
‫املتحدة‪ .‬من حبوثه السابقة‪" :‬أتثري القيم احلداثية يف صناعة الفتوى‪ :‬دراسة‬
‫أنثروبولوجية"‪" ،‬مقاصد الشريعة واحلداثة‪ :‬تغريات يف النسق املعريف الفقهي"‪" ،‬اجملال‬
‫العام اإلسالمي‪ :‬حنو سردية خمتلفة"‪.‬‬
‫حممد عفان‪ :‬حاصل على بكالوريوس الطب واجلراحة وحيمل درجة املاجستري يف‬ ‫•‬
‫العلوم الطبية من جامعة عني مشس‪ ،‬مث ماجستري العلوم السياسية من اجلامعة األمريكية‬
‫ابلقاهرة‪ .‬هو حاليا ابحث دكتوراه مبعهد الدراسات العربية واإلسالمية جبامعة ِ‬
‫إكسرت‪/‬‬ ‫ً‬
‫بريطانيا‪ .‬نرشر له كتاب "الوهابية واإلخوان‪ :‬الصراع حول مفهوم الدولة وشرعية‬
‫السلطة" عن دار جسور‪ ،‬ببريوت ‪.2016‬‬
‫مدحت الليثي‪ :‬حاصل على ماجستري العلوم السياسية من كلية االقتصاد‪/‬جامعة‬ ‫•‬
‫القاهرة‪ ،‬ويرعد رسالة الدكتوراه هبا‪ .‬ابحث أول واملدير التنفيذي ملركز احلضارة‬
‫للدراسات السياسية ابلقاهرة‪ ،‬وحمرر احلولية اليت تصدر عنه حتت عنوان "األمة يف‬
‫عام"‪ .‬صدر له‪" :‬العالقة بني الديين والسياسي‪ ..‬مصر والعامل‪ :‬رؤى متنوعة وخربات‬
‫(حمَ ِرر) عن مكتبة الشروق الدولية ابلقاهرة ‪ ،2007‬وكتاب "فقه الواقع يف‬‫متعددة" ر‬
‫الرتاث السياسي اإلسالمي" عن الشبكة العربية لألحباث والنشر ببريوت ‪.2015‬‬
‫معتز اخلطيب‪ :‬ولد يف مدينة دمشق‪ ،‬ماجستري ودكتوراه يف ر‬
‫السنّة وعلوم احلديث‪،‬‬ ‫•‬
‫حيمل إجازة يف اللغة العربية من جامعة األزهر ابلقاهرة‪ .‬عمل كباحث زائر يف مركز‬
‫الدراسات الشرقية (‪ ،)2006‬مث يف مركز الدراسات العابرة لألقاليم يف برلني‬
‫(‪ .)2012‬يعمل حالياً أستاذا ملادة املنهجية واألخالق ‪ /‬كلية الدراسات اإلسالمية‬
‫جبامعة محد بن خليفة ب َقطر‪ .‬صدرت له العديد من الكتب والدراسات منها‪:‬‬
‫"الغضب اإلسالمي‪ :‬تفكيك العنف (دار الفكر بدمشق ‪ )2007‬و"العنف‬
‫املستَباح‪ :‬الشريعة يف مواجهة األمة والدولة (دار املشرق ببريوت ‪ ،)2016‬و"مأزق‬
‫الردولة بني اإلسالميني والعلمانيني" كمحرر (دار جسور ببريوت ‪.)2016‬‬

‫‪10‬‬
‫هبة رءوف عزت‪ :‬أستاذة جامعية من مصر يف جمال الفكر والنظرية السياسية‪ .‬عملت‬ ‫•‬
‫ائرا يف‬
‫منذ عام ‪ 1987‬بقسم العلوم السياسية يف جامعة القاهرة‪ ،‬وكانت أستا ًذا ز ً‬
‫الفرتة من ‪ 2006‬إىل ‪ 2013‬يف اجلامعة األمريكية ابلقاهرة‪ .‬وعملت كباحث زائر‬
‫وحماضر يف جامعات ويستمنسرت وأكسفورد وجورجتاون وبريكلي ولندن وماسرتخيت‪،‬‬
‫وكزميل زائر بوحدة اجملتمع املدين واألمن اإلنساين جبامعة لندن يف ‪.2017-2014‬‬
‫ألفت وحررت العديد من الكتب منها "املرأة والعمل السياسي‪ :‬رؤية إسالمية‬
‫(القاهرة‪ :‬املعهد العاملي للفكر اإلسالمي‪ )1995 ،‬و"املرأة والدين واألخالق"‬
‫(دمشق‪ :‬دار الفكر‪/‬سلسلة حوارايت لقرن جديد‪ ،‬احملاور اآلخر املخالف يف احلوار‬
‫كان نوال السعداوي‪ )2000 ،‬و"العوملة‪ :‬حنو رؤى مغايرة" (القاهرة‪ :‬قسم العلوم‬
‫السياسية جبامعة القاهرة‪ .)2002 ،‬وهلا مسامهات عديدة يف كتب أكادميية صادرة‬
‫ابإلجنليزية خاصة إصدار "حولية اجملتمع املدين العاملي" الصادرة منذ ‪ 2001‬عن‬
‫كلية االقتصاد جبامعة لندن‪ .‬ختصصت منذ إهناء رسالة الدكتوراه يف الكتابة عن‬
‫كتااب من جزأين عن املواطَنة املصرية صدر عن‬‫نظرايت املواطنة وحررت يف ‪ً 2004‬‬
‫مركز البحوث السياسية جبامعة القاهرة‪ .‬شاركت يف فريق احملررين يف "موسوعة‬
‫أوكسفورد لإلسالم واملرأة" يف ‪ .2013‬وسامهت يف ‪ 2010‬يف أتسيس دبلوم حقوق‬
‫الطفل والسياسات العامة بكلية االقتصاد جامعة القاهرة ابلتعاون مع املفوضية‬
‫األوروبية واليونيسيف و‪ 7‬جامعات إقليمية ودولية‪ ،‬وحصلت ‪ 2013‬على جائزة‬
‫هيئة التبادل العلمي األملاين يف القاهرة لدعم التعاون العلمي بني البلدين‪ .‬تشرف على‬
‫سلسلة إصدارات الفقه االسرتاتيجي اليت ترعىن برؤى للعامل ومستقبل اإلسالم واليت‬
‫صدر ضمنها ترمجات جمموعة كتب احلداثة السائلة لزجيمونت ابومان‪ .‬أحدث‬
‫إصداراهتا "اخليال السياسي لإلسالميني‪ :‬ما قبل الدولة وما بعدها" و"حنو عمران‬
‫جديد" (القاهرة‪ :‬الشبكة العربية لألحباث والنشر‪.)2015 ،‬‬
‫هشام فهمي‪ :‬ابحث يف العلوم السياسية‪ .‬حاصل على بكالوريوس العلوم السياسية‬ ‫•‬
‫من كلية االقتصاد جبامعة القاهرة‪.‬‬
‫ايسني اليحياوي‪ :‬ابحث يف اتريخ األداين والفكر اإلسالمي‪ .‬حاصل على الدكتوراه‬ ‫•‬
‫من جامعة سيدي حممد بن عبد هللا بفاس‪/‬املغرب‪.‬‬
‫يوسف راموس‪ :‬حاصل على بكالوريوس يف التكنولوجيا الطبية من جامعة‬ ‫•‬
‫األدفينتيست مبندانو‪ /‬الفلبني وماجستري يف الكيمياء احليوية من جامعة ويستمنسرت‬
‫بلندن‪ .‬يعد حاليًا املاجستري يف الدراسات احلضارية مبعهد حتالف احلضارات‬
‫إبسطنبول‪/‬تركيا‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫الباب األول‬
‫املفاهيم‬
‫األول‪:‬‬
‫الفصل ّ‬
‫يف مفهوم الدين‬
‫مدحت ماهر الليثي‬
‫يتنامى االهتمام مبفهوم الدين خالل العقود األخرية‪ ،‬عرب دوائر‬
‫خمتلفة‪ :‬معرفية وعملية‪ .‬فقد برز اهتمام كبري يف الفلسفة‬
‫والعلوم االجتماعية ابلدين مفهومًا وقضيةً ورؤيةً للعامل‬
‫خاصة بعدما تبدد الكثري من مسلمات احلداثة‪ ،‬وأعلنت‬
‫هنايتها العديد من أزمات النهاايت (هناية التاريخ‪ ،‬وهناية‬
‫احلداثة‪ ،‬وهناية الفلسفة‪ ،)...‬واملوت (موت اإلنسان‪،‬‬
‫وموت اإلله‪ ،‬وموت الفن‪ ،)...‬واملابعدايت‪ ،‬ومظاهر‬
‫السيولة الفكرية والشعورية واحلياتية بصفة عامة (‪ .)1‬ويف‬
‫الوقت الذي ينظر فيه كثري من احلركيني والدعاة الدينيني‬
‫إىل مفهوم الدين ابعتباره أمراً بدهيًّا ال إشكال فيه‪ ،‬فإن‬
‫ساحة الفكر مل ختلر حلظة من معارك كربى حول الدين‬
‫مفهومًا ودوراً وفاعليةً‪ ،‬وابألخص الدين اإلسالمي‪.‬‬
‫للدين يف الفكر اإلسالمي موضع الروح والقلب والعقل بل الكيان كله؛ إما أبصله املنزل‬
‫من السماء ويسمى الدين‪ ،‬وإما بتفصيله وأتويله احملقق يف األرض ويسمى التدين‪ .2‬يقول‬
‫د‪ .‬طه عبد الرمحن إن‪" :‬التدين يف حق املسلم ليس جمرد سلوك تعبدي يلجأ إليه لكي‬
‫تسكن به نفسه‪ ،‬وميأل به فراغ قلبه‪ ،‬وإمنا هو طريقة حتقيق ذاته نفسها يف الوجود‪ ،‬حبيث‬

‫جياين فاتيمو‪ ،‬هناية احلداثة‪ :‬الفلسفات العدمية والتفسريية‪ :‬يف ثقافة ما بعد احلداثة‪ ،‬ترمجة‪ :‬فاطمة‬ ‫‪1‬‬

‫اجليوشي‪( ،‬دمشق‪ :‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،)1998 ،‬ص ‪.200-183 ،73-59 ،55-37‬‬
‫فهما وتنز ًيال‪ ،‬جزآن‪ ،‬سلسلة كتاب األمة‪ ،‬العددان‪( ،23 ،22 :‬الدوحة‪:‬‬
‫عبد اجمليد النجار‪ ،‬يف فقه التدين ً‬
‫‪2‬‬

‫وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية‪ ،‬األول‪ :‬احملرم ‪1410‬هـ‪ ،‬والثاين‪ :‬مجادى األوىل ‪1410‬هـ)‪.‬‬
‫يوجد املسلم يف الدين وجوده يف العامل‪ ،‬بل ال عامل للمسلم غري دينه؛ وإذا صح أن‬
‫الدين هو عامل وجود املسلم‪ ،‬صح معه ً‬
‫أيضا أن سلوكه العقلي إمنا هو جزء من هذا العامل‬
‫الديين‪ ،‬ومعلوم أن اجلزء ال يكون أسا ًّسا ينبين عليه الكل‪ ،‬فيلزم أن العقل مهما اتسعت‬
‫أطرافه وتقلبت أطواره يظل واح ًدا من عناصر أخرى يشتمل عليها هذا العامل الديين‬
‫الفسيح الذي ال تنفد حقائقه"‪.3‬‬
‫نظرا‬
‫ومن هذه احلقيقة تتأكد صعوبة تقدمي تعريف دقيق ملفهوم الدين يف العقل املسلم؛ ً‬
‫لسعة األمر ودخوله يف الكليات العقلية والنفسية ويف اجلزئيات السلوكية واالجتماعية‬
‫فضال عن التنوع الكبري لدى مفكري اإلسالم يف تعبريهم عن‬ ‫مجيعا ومن سبل شىت‪ً ،‬‬ ‫ً‬
‫‪4‬‬
‫الدين عامة واإلسالم خاصة ؛ األمر الذي حناول الوقوف على خريطة مبسطة له أببعادها‬
‫النظرية والواقعية‪.‬‬
‫ولقد كان ملفهوم الدين لدى اإلسالميني جولة اترخيية ذات خصوصية منذ برز مشروع‬
‫احلداثة وحماوالت إعادة تعريف الدين حبيث ينتقل من موقع املرجعية الكلية الشاملة‬
‫لشؤون احلياة العامة واخلاصة‪ ،‬لكي يصبح هو جزءًا من احلياة اخلاصة ابملنطق العلماين‪،‬‬
‫وينتقل من موضع احلاكم على احلياة ملوضع اخلادم ملن شاء وفق مبدأ متت صياغته بلسان‬
‫"احلرية الدينية"‪.‬‬
‫وميكن أن نتخري منعطف القرن الرابع عشر اهلجري‪/‬اإلسالمي (الربع األخري من القرن‬
‫التاسع عشر امليالدي‪/‬الغريب)‪ ،‬نقطة استهالل لتتبع تطور مفهوم الدين لدى مفكري‬
‫نظرا‬
‫املسلمني (املعلنني انتساهبم ملرجعية اإلسالم) وألكثر من قرن من الزمان حىت اليوم؛ ً‬
‫الرتباط األفكار وتراكبها وتراكمها‪ .‬ففي تلك الفرتة بدأت بذور التنازع والتدافع بني‬
‫مفاهيم للدين ‪-‬وخاصة اإلسالم‪ -‬وبني عدد كبري من األوضاع واملفاهيم األخرى الوافدة‬

‫‪ 3‬طه عبد الرمحن‪ ،‬من اإلنسان األبرت إىل اإلنسان الكوثر‪ ،‬مجع وتقدمي‪ :‬رضوان مرحوم‪( ،‬بريوت‪ :‬املؤسسة‬
‫العربية للفكر واإلبداع‪ ،‬ط‪ ،)2016 ،2‬ص ‪.26‬‬
‫‪ 4‬انظر حماولة يف هذا الصدد‪ :‬حممد حشمت إبراهيم سعدة‪ ،‬نظرية الدين والتدين‪ :‬دراسة حتليلية نقدية‪،‬‬
‫رسالة ماجستري غري منشورة‪ ،‬إشراف‪ :‬د‪.‬سيكو مارافا أبو بكر توري‪( ،‬ميديو‪-‬ماليزاي‪ :‬جامعة املدينة العاملية‪،‬‬
‫كلية العلوم اإلسالمية‪.)2017 ،‬‬
‫‪16‬‬
‫على داير اإلسالم؛ يف بالد العرب‪ ،‬واهلند‪ ،‬وإيران‪ ،‬وتركيا‪ ،‬وأفريقيا املسلمة‪ .‬واشتهر يف‬
‫الكتاابت املختلفة أن هذا الصراع الفكري دار بني ثالثة اجتاهات ابرزة؛ األول‪ :‬احملافظة‬
‫على املفهوم املعهود واملوروث للدين‪ ،‬والثاين‪ :‬الدعوة ملفهوم جديد للدين حيمل وجهة‬
‫متأثرا بتجربة مسيحية غربية ذات خصوصية معرفية واترخيية‪ ،‬والثالث‪ :‬اجتاه‬ ‫علمانية ً‬
‫التوفيق والتوسط بني احملافظة والتغريب مع الدعوة لتجديد شقي املسألة‪ :‬الدين والدنيا‪.‬‬
‫ومع مرور العقود شهد القرن األخري تفاقمات وتشظيات يف كل من هذه االجتاهات ويف‬
‫سائر شؤون اإلسالم وأحوال أمته‪ ،‬وفرض الصراع السياسي طرقًا متباينة للتعبري عن ذلك‬
‫فكرًاي وثقافيًا‪.‬‬
‫املصدر العقدي‬
‫َ‬ ‫وإمجاال قبل التفصيل‪ ،‬قام مفهوم احملافظني للدين على معىن كونه‬ ‫ً‬
‫والتشريعي ذا الكفاية والقادر على اإلجابة اجلاهزة عن كل سؤال قدمي أو مستحدث دون‬
‫ووصوال إىل أسئلة التقدم أمام الوافد‬
‫ً‬ ‫احلاجة الجتهاد جديد؛ بدءًا من سؤال اهلوية‬
‫(الغرب)‪ .‬فالدين ‪-‬وفق هذا التصور وعلى حنو ما كان املمثل له مدرسيني يف األزهر‬
‫وصوال إىل ديوبند يف اهلند‪ ،‬ووهابيني يف اخلليج واجلزيرة‪ ،‬ومهدويني‬
‫والزيتونة والقرويني وقرم ً‬
‫وسنوسيني‪ ،‬وفقهاء عثمانيني‪ -‬هو الذي حيدد موقف اإلنسان من العامل ومن نفسه ومن‬
‫الزمان (الدنيا واآلخرة)‪ ،‬وفق عقيدة التوحيد‪ ،‬ومبدأ االتباع للكتاب املنزل والنيب املرسل‪،‬‬
‫وهو الذي يضبط حركة اإلنسان املسلم‪ ،‬ويعصمه من الزلل عن حدود هللا‪ .‬وتقدم الدين‬
‫والدنيا يكون ابلتدين؛ فمىت متسك به املسلمون فإهنم آنذاك أيخذون أبسباب التقدم‬
‫ومنافسة اآلخر األجنيب أو العدو‪ .‬ومن مثَّ فال حاجة ألخذ شيء عن الغرب اللهم إال ما‬
‫رحيتاج إليه من عامل األشياء واآلالت مع احلذر مما خيتلط هبا من أفكار ختالف العقيدة‪.5‬‬
‫أما املتغربة ‪-‬كانوا هم الطائفة املستجدة على الفكر اإلسالمي كما تقدم‪ -‬فقد رأوا الدين‬
‫كال‪ ،‬وذا أمهية لكنه فردي واختياري‪ ،‬وهناك مساحة كبرية للعقل واالجتهاد‬ ‫جزءًا ال ًّ‬

‫انظر يف ذلك على سبيل املثال‪ :‬مصطفى صربي‪ ،‬موقف العقل والعلم والعامل من رب العاملني وعباده‬ ‫‪5‬‬

‫املرسلني‪( ،‬بريوت‪ :‬دار إحياء الرتاث العريب‪ ،‬ط‪1401 ،2‬هـ‪1981/‬م)‪ ،‬ص ‪ .70-3‬وهو يدخل يف معركة‬
‫عقدية كبرية ليس فقط مع الغرب واملتغربني‪ ،‬ولكن مع كثري من الشيوخ واإلسالميني الذين يتكلمون بلغة وسيطة‬
‫بني صريح العقيدة ومفاهيم الثقافة احلديثة اليت تدور حول مفهومني للعلم والعقل ينعزالن عن الدين‪ ،‬كل الدين‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫العلمي والعملي الدنيوي والبشري خارج نطاق الدين؛ واملقصد هو حتقيق اهلدف الدنيوي‬
‫األوىل ابلعناية‪ :‬التقدم املادي (احلضاري وما يتطلبه من ثقايف)‪ .‬وهذا النطاق إنساين‬
‫وليس دينيًا؛ ومن مثَّ يصح ‪-‬بل ينبغي‪ -‬أخذ أسباب التقدم عن األمم األخرى اليت‬
‫حققت التقدم‪ ،‬ليس فقط أدواته املادية‪ ،‬بل ما يستلزمه من أفكار وفلسفات تؤسس له‬
‫ماداي وثقافيًا؛ مثل‪:‬‬
‫وحتفزه‪ .‬وقد تَ َشارك هذا الرأي حكام ومشاهري جدد هبرهم الغرب ً‬
‫اخلديو إمساعيل ومصطفى النحاس وأمحد لطفي السيد يف مصر‪ ،‬ومدحت ابشا يف تركيا‬
‫(على اختالف يف تقدير فكره) ومصطفى كمال أاتتورك وجمموعته‪ ،‬وأمحد خان يف اهلند‪،‬‬
‫وعدد من الكتاب يف العراق والشام ‪ -‬أغلبهم من املسيحيني يف البداية‪.6‬‬
‫وأقرت الفئة الوسط أبصل التعريف األول‪ :‬أن الدين أصل اثبت وكلٌّ ال يتجزأ‪ ،‬مع القول‬
‫أبن من ضمن تعاليمه األخذ أبسباب الدنيا والقوة ولو كانت من خمالِف يف العقيدية‬
‫أَّن وجدها فهو أوىل هبا"‪ .‬ومن مثَّ فالدين‬
‫عمال ابألثر‪" :‬احلكمة ضالة املسلم َّ‬
‫الدينية‪ً ،‬‬
‫لتقدم يطمس اهلوية وال قيمة ٍ‬
‫هلوية تعيق التقدم‪ .‬وقد برزت يف‬ ‫أصالة ومعاصرة‪ ،‬وال معىن ٍ‬
‫ً‬
‫ظالل تلك الفئة مدرسة األفغاين وحممد عبده‪ ،‬ورشيد رضا والكواكيب‪ ،‬وخري الدين‬
‫التونسي والطاهر بن عاشور‪ ،‬وعبد احلميد بن ابديس والبشري اإلبراهيمي‪ ،‬وعالل الفاسي‪،‬‬
‫وأمري علي‪ ،‬ومن اتبعهم ‪-‬يف أحناء كثرية‪ -‬إىل يومنا هذا‪.7‬‬

‫راجع مناذج منهم لدى‪ :‬أمحد أمني‪ ،‬زعماء اإلصالح يف العصر احلديث‪( ،‬بريوت‪ :‬دار الكتاب العريب‪،‬‬ ‫‪6‬‬

‫مثال‪ :‬السيد أمحد خان ص ‪ .138-122‬وانظر‪ :‬السيد أمحد فرج‪ ،‬جذور العلمانية‪ :‬اجلذور‬
‫د‪.‬ت)‪ ،‬خاصة ً‬
‫التارخيية للصراع بني العلمانية واإلسالم يف مصر منذ البداية وحىت عام ‪1948‬م‪( ،‬املنصورة‪-‬مصر‪ :‬دار‬
‫الوفاء للطباعة والنشر‪ ،‬ط‪1413 ،5‬هـ‪1993/‬م)‪ ،‬ص ‪.86-78‬‬
‫وانظر‪ :‬طه حسني‪ ،‬مستقبل الثقافة يف مصر‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار املعارف‪ ،‬ط‪1996 ،2‬م)‪ ،‬ص ‪.45-18‬‬
‫‪ 7‬ويسميه شارل سان برو ابلتيار اإلصالحي السلفي‪ ،‬بينما يصف املتغربة ابملتفرجنني‪ ،‬انظر‪ :‬شارل سان برو‪،‬‬
‫ترمجة وتقدمي‪ :‬أسامة نبيل‪ ،‬حركة اإلصالح يف الرتاث اإلسالمي‪( ،‬القاهرة‪ :‬املركز القومي للرتمجة‪ ،‬عدد ‪،2148‬‬
‫كثريا من كتاابت هذا التيار وحققها فيما عرف‬
‫ط‪ ،)2013 ،1‬ص ‪ .136-108‬وقد مجع د‪ .‬حممد عمارة ً‬
‫بسلسلة "األعمال الكاملة"‪ ،‬وقصدهم رميوند بيكر يف كتابه "إسالم بال خوف" ابمتداداهتم يف مصر على يد‬

‫‪18‬‬
‫وليس بثابت اترخييًّا ترتيب بني االجتاهني األخريين‪ ،‬فاملدقق يلحظ أن املتغربة‪- 8‬وفكرهتم‬
‫عن الدين‪ -‬ظهرت ابلتدريج بعد أن برزت الفكراتن اإلسالميتان‪ :‬احملافظة والتوفيقية‪ ،‬مع‬
‫املواجهة األوىل لسؤال التأخر والتقدم‪ ،‬واستغرقتا القرن التاسع عشر يف معظمه‪.‬‬
‫ومن املعلوم أن مثة نواةً ملفهوم "الدين" مبعىن اإلميان والعبادة‪ ،‬ال خيتلف عليها الفكر‬
‫اإلسالمي فيما بني روافده‪ ،‬وال خيتلف عليها مع االجتاه العلماين املفارق‪ .‬ولكن وقع‬
‫االختالف حول قيمة هذا املستوى من الدين ودوائره وجتلياته املؤسسية والقانونية‬
‫والسياسية‪ /‬املرجعية‪ ،‬فهناك من عد ذلك األصل الدين كله ومن مثَّ مل جيعل لبناء نظم‬
‫مكمال ال‬
‫عنصرا ً‬ ‫احلياة االجتماعية صلة ابلدين‪ ،‬وهذا االجتاه غالبًا علماين ويعد الدين ً‬
‫األصل الثابت لشجرةٍ هلا فروعها و ً‬
‫أساسا لبناء أكرب‬ ‫َ‬ ‫مرجعية مؤسسة‪ ،‬وهناك من اعتربه‬
‫كال وأجزاء‪-‬‬‫وأمشل‪ ،‬وأن الدين جمموع التصورات والرتتيبات املتعلقة ابحلياة الدنيا ‪ًّ -‬‬
‫أخريا هناك من نظر إىل العبادات والشعائر ابعتبارها اجلانب األقل أمهية مقارنة‬
‫وابآلخرة‪ .‬و ً‬
‫معتربا ذلك جوهر الدين وغاية تسمو فوق‬ ‫جبانب العمل يف احلياة واملعاملة مع الناس ً‬
‫الشعائر‪.‬‬
‫أيضا‪،‬‬
‫وكما تقدم‪ ،‬تفرعت من هذه االجتاهات خارطة فكرية كبرية‪ ،‬كان هلا جتلياهتا احلركية ً‬
‫وشهد القرن الرابع عشر اهلجري (العشرون امليالدي)‪ ،‬بروز متفلسفة‪ ،‬وأدابء‪ ،‬ومثقفني‪،‬‬
‫ومفكرين‪ ،‬وشيوخ فقهاء‪ ،‬جبانب أكادمييني من أبناء التعليم غري الديين ‪ -‬اخنرطوا يف إعادة‬
‫تعريف الدين غالبًا حتت الفتة "التجديد الديين‪/‬اإلسالمي"‪.9‬‬

‫الغزايل والقرضاوي والبشري وعمارة والعوا وفهمي هويدي وأمثاهلم‪ ،‬وراجع كتاب‪" :‬رؤية إسالمية" ألمحد كمال‬
‫أبو اجملد معربًا عنهم منذ مطلع الثمانينيات‪ .‬وانظر‪ :‬أمحد أمني‪ ،‬املرجع السابق‪.‬‬
‫‪ 8‬املتغربة هنا وصف لتوجههم الفكري جغرافيًا للغرب‪ ،‬وليس نعتًا لألشخاص‪.‬‬
‫حممد عمارة‪ ،‬مستقبلنا بني التجديد اإلسالمي واحلداثة الغربية‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة الشروق الدولية)‪ .‬و‪:‬‬ ‫‪9‬‬

‫سيف الدين عبد الفتاح‪ ،‬بني التجديد والتحديث‪ ،‬سلسلة التنوير اإلسالمي (‪( ،)70‬القاهرة‪ :‬هنضة مصر‪،‬‬
‫‪ .)2006‬و‪ :‬عدانن حممد أمامة‪ ،‬التجديد يف الفكر اإلسالمي‪( ،‬السعودية‪-‬الدمام‪ :‬دار ابن اجلوزي‪ ،‬رجب‬
‫‪1424‬هـ)‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫يف هذه الورقة حناول اإلطالل على الدالالت املختلفة اليت عرب عنها الفكر اإلسالمي‬
‫احلديث عرب قرن ملفهوم "الدين" من خالل عدد من نصوص هذا الفكر املعتربة واملعتمدة‪.‬‬
‫من الثابت أن الدين ‪-‬ابملعىن الشامل‪ -‬مل يكن ميثل مشكلة فكرية واضحة يف العامل‬
‫اإلسالمي قبل بروز الفكرة العلمانية اليت أرادت إعادة موضعة اإلسالم خارج اجملال العام‬
‫مدعوا لإلجابة عن أسئلة عملية‪ :‬حضارية‬ ‫وخارج قضااي العلم والتقدم‪ ،‬بقدر ما بدا ً‬
‫جيدا احلالة الفكرية اإلسالمية يف هناية القرن التاسع‬
‫واجتماعية وسياسية‪ .‬ومن يتذكر ً‬
‫منفردا‬
‫احدا من أملع عناوينها املثارة‪ً ،‬‬
‫عشر امليالدي يلحظ بيسر كيف كان لفظ "الدين" و ً‬
‫أيضا أنه غالبًا ما وضع إبزاء الدين مفهوم كلي أو قضية جزئية‬
‫مقروان بغريه‪ ،‬ويلحظ ً‬
‫أو ً‬
‫أخرى؛ مثل‪ :‬العلم احلديث‪ ،‬التقدم‪ ،‬التطور‪ ،‬العقل‪ ،‬احلياة العصرية‪ ،‬السياسة‪ ،‬احلرية‪،‬‬
‫الثقافة املعاصرة‪ ،‬التمدن واألخالق املدنية‪ ،‬الرتبية احلديثة‪ ،‬املرأة اجلديدة‪ ،‬والوطنية‬
‫والقومية‪.10‬‬
‫وقد انربى املفكرون اإلسالميون يدافعون عن كلية الدين ومركزيته يف احلياة يف مواجهة‬
‫ألهداف العلمانية يف حتجيمه أو تقزميه؛ فدفعوا أبنه مبثابة فلسفة حميطة ابلكليات‬
‫واجلزئيات‪ ،‬وأنه قادر على احتواء الظواهر الفكرية واملادية‪ ،‬والفردية واجلماعية كافَّةً‪ ،‬وله‬
‫جواب عما استجد من أسئلة العصر احلديث‪ ،‬وأن حماوالت االنتقاص من صالحيته إمنا‬
‫هي خيارات متعسفة وراءها فلسفات إحلادية‪ ،‬أو أغراض سياسية على رأسها خدمة‬
‫االستعمار وتكريس التبعية اإلسالمية للغرب‪ .‬ويف طيات ذلك السياق تبلورت مقوالت‬

‫‪ 10‬وقد استمرت حماوالت اإلسالميني يف معظم العامل اإلسالمي لإلجابة عن تلك الثنائيات واإلشكاليات‬
‫عددا من اجملالت اليت ختصصت يف ذلك؛ مثل‪ :‬جملة املسلم‬
‫ملنتهى القرن العشرين‪ ،‬انظر على سبيل املثال‪ً :‬‬
‫املعاصر وجملة املنار اجلديد (القاهرة)‪ ،‬جملة االجتهاد (بريوت)‪ ،‬جملة التسامح (مسقط)‪ ،‬جملة رؤى (ابريس)‬
‫وغريها‪ .‬وانظر قراءة يف جملة املنار اجلديد‪ :‬هبة رءوف‪ ،‬اخليال السياسي لإلسالميني‪ ،‬وانظر‪ :‬مشروع دار الفكر‬
‫بدمشق‪ :‬حوارات لقرن جديد‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫املفكرين اإلسالميني عن فهمهم ملوقع الدين من احلياة؛ وابألخص‪ :‬اإلسالم‪ ،11‬وميكن‬
‫دائما يف تلك املناظرات كلها‪.‬‬
‫بيسر مالحظة أن مفهوم الدين كان على احملك ً‬
‫ويف هذا اإلطار التارخيي أخذ تعريف الدين مسارات عديدة لدى مفكري اإلسالم‪ ،‬كل‬
‫مسار منها عرب عن جزء من سؤال العصر وواجب الوقت كما رأته كل طائفة من هؤالء‬
‫وإمياان يتعرض هلجمة إحلاد وتشكيك تزعزع أركانه‬‫املفكرين‪ .‬فطائفة رأت اإلسالم عقيدة ً‬
‫خاصا‬
‫ومنظورا ً‬
‫ً‬ ‫وفكرا ورؤية للعامل‬
‫وجيب صدها‪ ،‬وقريب منها طائفة رأت الدين فلسفة ً‬
‫مشروعا سياسيًا الستعادة جمد‬
‫ً‬ ‫لإلنسان واحلياة وسائر الكليات املعرفية‪ ،‬واثلثة رأت الدين‬
‫األمة ووحدهتا يف أشكال خمتلفة ال تقتصر على الصورة التارخيية للخالفة واإلمامة الكربى‪،‬‬
‫بواي‪ .‬وآخرون عرفوا الدين أبنه‬‫تنمواي أو تر ً‬
‫هنضواي أو ً‬
‫ً‬ ‫مشروعا‬
‫ً‬ ‫وكان هناك من أبرز الدين‬
‫ثقافة أمة وجمتمعاهتا مبا تشتمل عليه من هوية وأمناط فكر وسلوك متميزة وعرضة للضعف‬
‫وللبعث من جديد‪ ،‬فالدين حضارة ال تقتصر على العقيدة ولكنها تتشعب منها لبناء‬
‫سائر جماالت احلياة الواسعة وفق صبغتها‪ ،‬ومن مثَّ فإن اإلسالم مير مبعرتك وجودي كبري‬
‫بديال حضارًاي جململ ما يقدمه الغرب اليوم‪ .‬ومنهم من رأى الدين يف صورة الشريعة‪،‬‬ ‫وميثل ً‬
‫وجتديده وحتقيقه يكون بتطبيق تلك الشريعة مع االختالف يف تصور تلك الشريعة بني‬
‫شامال‪ ،‬أو يركز بعضهم على القانون‬ ‫نظاما قانونيًا قضائيًا ً‬
‫كوهنا منظومة أخالقية وقيمية أو ً‬
‫اجلنائي املتعلق ابلعقوابت ضمن مقولة احلدود‪ ،‬فيكون الدين ساعتها تلك الزواجر املوجهة‬
‫مشروعا‬
‫ً‬ ‫للمجرمني واملنحلني الذين يهدمون اجملتمع اإلسالمي‪ .‬وبعضهم يرى الدين‬
‫إنسانيًا عامليًا وينقسمون إىل وجهتني‪ :‬مشروع استيعاب وفق املشرتك اإلنساين وآلية‬
‫التعاون‪ ،‬ومشروع متكني وفق املواجهة احلتمية وآلية االنتصار على العدو‪.‬‬

‫‪ 11‬يف مصر على سبيل املثال‪ ،‬جرت حوارات القرن العشرين حول هذا املعىن‪ .‬انظر‪ :‬عماد الدين شاهني‪،‬‬
‫من حوارات القرن‪ :‬دراسة حالة مصر؛ (يف)‪ :‬اندية مصطفى وآخرون‪ ،‬األمة يف قرن‪ :‬عدد خاص من حولية‬
‫أميت يف العامل‪ ،‬الكتاب الثاين‪ :‬خربة العقل املسلم خربات وتطورات وحوارات‪( ،‬القاهرة‪ :‬مركز احلضارة‬
‫للدراسات السياسية‪ ،‬مكتبة الشروق الدولية‪2002 ،‬م)‪ ،‬ص ‪ .511-461‬وانظر‪ :‬السيد أمحد فرج‪ ،‬مرجع‬
‫سابق‪ ،‬ينقل عن حسن البنا‪ " :‬إننا ندعو إىل اإلسالم الذي جاء به حممد صلى هللا عليه وسلم واحلكومة جزء‬
‫منه‪ ،‬واحلرية فريضة من فرائضه‪ ،‬فإن قيل لكم هذه سياسة فقولوا هذا هو اإلسالم‪ ،‬وحنن ال نعرف هذه األقسام"‪،‬‬
‫ص ‪.89‬‬
‫‪21‬‬
‫هذه الفسيفساء الواسعة متعددة األلوان قد تتداخل لدى بعض املتابعني فريوهنا فوضى ال‬
‫انظم هلا‪ ،‬بينما احلقيقة أن مشول اإلسالم يقبل ذلك كله‪ ،‬وقد اجتمعت كلمة اإلسالميني‬
‫هتديدا‪ ،‬يقول‬
‫احملدثني على هذه اخلاصة يف اإلسالم وعلى حماربة فكرة جتزيئه واعتبارها ً‬
‫شفيق منري‪" :‬إن اإلسالم يشكل منظومة متكاملة تتماسك أجزاؤها وتتفاعل فيما‬
‫بينها لتشكل وحدة عضوية متحركة حيوية ال جتعل من املمكن أن يفهم أي جزء على‬
‫ِح َدة إمنا ضمن وضعه يف اإلطار العام أو من خالل عالقته ابلوحدة الكلية أي‬
‫ابألجزاء األخرى جمتمعة ويف آن واحد‪ .‬وهذا ما يفهم من القرآن حني يُ ِدين الذين‬
‫أيخذون بعض الكتاب ويرتكون بعضه‪ ،‬أو حني يؤكد املسلمون على القاعدة اليت‬
‫تقول "أبخذ اإلسالم كله أو تركه كله"‪ .‬ويتوسع شفيق يف شرح هذه السمة للدين‬
‫اإلسالمي وشواهدها وفوائدها ال سيما يف حتصني اإلسالم من هجمات خصومه الذين‬
‫حيرصون على جتزئته ونقضه جزءًا جزءًا‪.12‬‬
‫طبق املفكرون اإلسالميون نظريتهم عن الدين على اإلسالم فبدت نظرية مثالية مهمتها‬
‫اإلثبات والتثبيت‪ ،‬وطبقوها على األداين األخرى فإذا هي نظرية نقدية لبيان حتريف طال‬
‫الدايانت األخرى وحفظ دين اإلسالم‪ ،‬وغلب عليهم الدفاع عن إمياهنم‪ .‬وميكن اإلشارة‬
‫إىل دالالت الدين عندهم على النحو اآليت‪:‬‬
‫الدين‪ :‬تصور كلي ورؤية للعامل‬
‫حمتدما حول صالحية الدين ملواكبة العصر وأداء وظائفه االجتماعية‬
‫بينما كان اجلدل ً‬
‫واحلضارية‪ ،‬كتب حممد إقبال "جتديد التفكري الديين يف اإلسالم" ً‬
‫جتميعا حملاضرات ألقاها‬
‫جديدا‪ ،‬جيمع بني املأثور من فلسفة‬
‫يف ربوع اهلند لبناء الفلسفة الدينية اإلسالمية بناءً ً‬
‫‪13‬‬
‫معتربا حلظته التارخيية ساعتها مناسبة هلذا ‪ .‬ويرى‬
‫اإلسالم واملتطور من املعرفة اإلنسانية‪ً ،‬‬

‫‪ 12‬منري شفيق‪ ،‬اإلسالم يف معركة احلضارة‪( ،‬الناشر والرباق للطباعة والنشر‪ ،)1981 ،‬ص ‪.32-28‬‬
‫وراجع حممد الغزايل‪ ،‬الدعوة اإلسالمية يف القرن احلايل‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،)1998 ،‬ص ‪.59-57‬‬
‫‪ 13‬حممد إقبال‪ ،‬جتديد التفكري الديين يف اإلسالم‪ ،‬ترمجة‪ :‬عباس حممود‪ ،‬مراجعة‪ :‬عباس املراغي‪ ،‬مهدي عالم‪،‬‬
‫(القاهرة‪ :‬دار اهلداية للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪1421 ،2‬هـ‪2000/‬م)‪ ،‬ص ‪.4‬‬

‫‪22‬‬
‫عرف للدين‬ ‫إقبال غلبة التفكري الفلسفي الواقعي على العصر‪ ،‬لكنه يواجهه بضرورة أن ير َ‬
‫مقامه "وعندما تتهيأ الفلسفة للحكم على الدين ال تستطيع أن تفرد له مرتبة دنيا‬
‫جمردا فحسب‪ ،‬وال‬ ‫فكرا ً‬‫أمرا جزئيًا‪ ،‬ليس ً‬
‫بني املوضوعات اليت تتناوهلا‪ .‬فالدين ليس ً‬
‫جمردا‪ ،‬بل هو تعبري عن اإلنسان كله‪ ،‬وهلذا جيب على الفلسفة‬ ‫عمال ً‬
‫جمردا‪ ،‬وال ً‬ ‫شعورا ً‬
‫ً‬
‫عند تقديرها للدين أن تعرتف بوضعه األساسي‪ ،‬وال مناص هلا من التسليم أبن له‬
‫شأًن جوهرًاي يف التأليف بني ذلك كله أتلي ًفا يقوم على التفكري"‪ .14‬ومن املهم أن نقارن‬
‫ً‬
‫بني نظرة إقبال هذه يف مطلع القرن وجهود اتلية لدى عدد من أعمدة النظر الفلسفي يف‬
‫أواخر القرن مثل إمساعيل راجي الفاروقي‪ ،‬وعبد الوهاب املسريي‪ ،‬وروجيه جارودي‪،‬‬
‫وسيد حسني نصر‪ ،‬وأيب يعرب املرزوقي‪ ،‬وطه عبد الرمحن‪.‬‬
‫حتديدا؛ "والدين يف هذا املعىن يسمى‬
‫لكن إقبال ركز من معىن الدين على التجربة الروحية ً‬
‫ابلتصوف‪ ،‬وهو اسم سيئ احلظ؛ إذ يفرتض يف التصوف أنه نزعة للعقل تزهد يف احلياة‪،‬‬
‫متاما النظرة التجريبية اليت هي أساس التفكري يف زماننا‬‫وجتانب الواقع‪ ،‬معارضة بذلك ً‬
‫أيضا التفلسف من عهد‬ ‫هذا"‪ .‬وعقب اسرتساله يف نقد التجريبية الغربية املعاصرة‪ ،‬ينتقد ً‬
‫وصوال إىل أسلوب الصوفية املعاصر ‪-‬وهو األسلوب‬ ‫كانط إىل علم النفس التحليلي ً‬
‫الذي برأي إقبال تطورت ومنت به احلياة الدينية يف أمسى صورها يف الشرق والغرب‪-‬‬
‫و"الذي أصبح اآلن يف حكم الفاشل"‪ ،‬فقد أصبح "أبعد ما يكون عن تدعيم قوى احلياة‬
‫نوعا من‬
‫النفسانية عند الرجل العادي حبيث تعده للمشاركة يف موكب التاريخ‪ ،‬فعلّمه ً‬
‫الزهد الزائف‪ ،‬وجعله يقنع جبهله وِرقّه الروحي قناعة اتمة"؛ لينهى كتابه ابلتعبري عن مبتغاه‬
‫من الدين والتجربة والتصوف "احلق" أبنه "عمل حيوي يعمق من كيان الذات كله ويشحذ‬
‫إرادهتا بتأكيد مبدع أبن العامل ليس شيئًا جملرد الرؤية أو أنه شيء يعرف ابلتصور‪ ،‬وإمنا هو‬
‫شيء يبدأ ويرعاد ابلعمل املستمر‪ .‬واللحظة اليت تعرف فيها الذات ذلك هي اللحظة اليت‬
‫تستشعر فيها السعادة العظمى وجتتاز أكرب امتحان هلا"‪.15‬‬
‫ويف الوقت الذي كانت اجلامعات واملدارس اجلديدة يف عامل اإلسالم تر َد ِّرس علوم الغرب‬
‫وكتبه‪ ،‬ويقوم على التدريس فيها مستشرقون ومتغربون يكرسون النظرة الغربية الوضعية‬

‫‪ 14‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.9‬‬


‫‪ 15‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.232-214‬‬
‫‪23‬‬
‫العلمانية عن الدين‪ ،‬كتب د‪ .‬حممد عبد هللا دراز كتابه "الدين‪ :‬حبوث ممهدة يف اتريخ‬
‫األداين"‪ ،‬كاش ًفا عن تشوش معىن الدين لدى مفكري الغرب واختالطه ابلعديد من‬
‫نظرا لتعدد زوااي النظر بال ضابط‪ ،‬وليقدم هو رؤية إسالمية‬
‫املفاهيم غري املرادفة له؛ ً‬
‫موضوعية لتعريف الدين تعري ًفا يصلح لدراسة سائر األداين ‪-‬وليس اإلسالم فقط‪ -‬ومييزها‬
‫عما خيالطها من مناهج فكر وأمناط سلوك وثقافات‪ ،‬ويف الوقت ذاته ال حيصرها يف نطاق‬
‫احدا هو‬
‫معبودا و ً‬
‫األداين الصحيحة‪ ،‬املستندة إىل الوحي السماوي‪( ،‬وهي اليت تتخذ ً‬
‫اخلالق املهيمن على كل شيء)‪ ،‬فالدايانت الطبيعية ‪-‬وفق دراز‪ -‬املستندة إىل حمض‬
‫العقل‪ ،‬والدايانت اخلرافية اليت هي وليدة اخلياالت واألوهام‪ ،‬وكل داينة تقوم هي ‪-‬أو‬
‫جانب منها‪ -‬على عبادة التماثيل أو عبادة احليوان أو النبات أو الكواكب أو اجلن أو‬
‫موضعا مبقتضى هذه التعاريف الغربية (اليت سردها د‪ .‬دراز‬
‫ً‬ ‫املالئكة‪ ...‬إخل‪ ،‬ال جتد هلا‬
‫ونقدها)‪" ،‬مع أن القرآن قد مساها كذلك حيث يقول‪" :‬لكم دينكم ويل دين"‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫"ومن يبتغ غري اإلسالم دينا‪-"..‬اآلية"‪.16‬‬
‫ويصل دراز إىل تعريف كلمة الدين اليت تستعمل يف اتريخ األداين‪" :‬هلا معنيان ال غري‪:‬‬
‫أحدمها هذه احلالة النفسية اليت نسميها التدين‪ ،‬واآلخر تلك احلقيقة اخلارجية اليت ميكن‬
‫الرجوع إليها يف العادات اخلارجية أو اآلاثر اخلالدة‪ ،‬أو الرواايت املأثورة‪ ،‬ومعناها مجلة‬
‫وعمال"‪ ،‬ليجمع بني ذلك والتعريف املوروث‬‫اعتقادا ً‬
‫ً‬ ‫املبادئ اليت تدين هبا أمة من األمم‪،‬‬
‫يف الكتب اإلسالمية ‪ -‬من أن الدين هو وضع إهلي سائق لذوي العقول السليمة‬
‫ابختيارهم إىل الصالح يف احلال والفالح يف املآل ‪ -‬إىل تعريفه هو للدين أبنه‪" :‬وضع‬

‫حممد عبد هللا دراز‪ ،‬الدين‪ :‬حبوث ممهدة لدراسة اتريخ األداين‪( ،‬القاهرة والكويت‪ :‬دار القلم للنشر‬ ‫‪16‬‬

‫والتوزيع‪ ،‬ط‪1424 ،5‬هـ‪2003/‬م)‪ ،‬ص ‪ .66-61‬وابلطبع مل يكن دراز أول من كتب تعري ًفا للدين من‬
‫مفكري املسلمني احملدثني‪ ،‬فقد ضمنه مجال الدين األفغاين يف رده على الدهريني وابألخص يف مناظرته مع‬
‫إرنست رينان‪ ،‬وحممد عبده يف رسالة التوحيد وتفسري املنار ويف مناظراته مع هانوتو ومع فرح أنطون يف "اإلسالم‬
‫بني العلم واملدنية"‪ ،‬وكذلك فعل رشيد رضا والبشري اإلبراهيمي والطاهر بن عاشور وغريهم‪ .‬وميكن اإلشارة إىل‬
‫السفر الضخم للشيخ مصطفى صربي عن "موقف العقل والعلم والعامل من رب العاملني وعباده املرسلني"‪ ،‬وقد‬
‫حتليال لقضية الدين‪ .‬ولكن دراز يتميز عن كل ما سبق‬ ‫وإثباات حلقيقة الدين واإلميان أكثر منه ً‬
‫دفاعا ً‬ ‫كان ً‬
‫بتخصيص كتابه هذا لبناء نظرية عن الدين بعامة ومبا يصلح لألداين كافَّةً‪ ،‬مع إشارات إىل اإلسالم عند احلاجة‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫إهلي يرشد إىل احلق يف االعتقادات وإىل اخلري يف السلوك واملعامالت"‪ .17‬ولقد أطرت‬
‫هذه الثنائية (االعتقادات واملعامالت) نظرة اإلسالميني من بعد عرب بقية القرن‪ :‬عقيدة‬
‫وشريعة‪ ،‬وركز بعضهم على هذا واآلخرون على ذلك‪ ،‬مث اتسع التفصيل داخل كل شق‬
‫منهما‪.‬‬
‫ومن هذا اخليط‪ ،‬وعلى غري حتديد د‪ .‬دراز للدين فيما هو إهلي عبادي‪ ،‬ظهرت يف وسط‬
‫القرن وجهة لدى اإلسالميني تتوسع يف معىن "الدين" ومعاين املفاهيم املقابلة له ليشمل‬
‫خمتلف االعتقادات ومناهج الفكر واملذاهب اإلنسانية واالجتماعية اليت تررشَّح لكي تكون‬
‫نظاما للحياة‪ .‬وبرز يف هذا املضمار كثريون مثل حممود شاكر وأيب األعلى املودودي وسيد‬
‫ً‬
‫فمثال كتب سيد قطب يف "املستقبل هلذا الدين"‬ ‫ً‬ ‫وغريهم‪.‬‬ ‫الندوي‪،‬‬ ‫احلسن‬ ‫أيب‬‫و‬ ‫قطب‬
‫فصال بعنوان "كل دين منهج حياة" قال فيه‪" :‬هنالك ارتباط وثيق بني طبيعة النظام‬ ‫ً‬
‫االجتماعي وطبيعة النظام االعتقادي‪ ..‬بل هناك ما هو أكرب من االرتباط الوثيق‪،‬‬
‫هنالك االنبثاق احليوي‪ :‬انبثاق النظام االجتماعي من التصور االعتقادي ‪-‬حىت‬
‫يقول‪ -‬إن كل دين هو منهج للحياة مبا أنه تصور اعتقادي‪ ..‬أو بتعبري أدق‪ :‬مبا أنه‬
‫يشمل التصور االعتقادي وما ينبثق منه من نظام اجتماعي‪ ..‬بل هو منهج حيكم كل‬
‫نشاط اإلنسان يف هذه احلياة الدنيا‪ .‬كذلك عكس هذه العبارة صحيح‪ ..‬إن كل‬
‫منهج للحياة هو دين‪ .‬فدين مجاعة من البشر هو املنهج الذي يصرف حياة هذه‬
‫اجلماعة"‪.18‬‬
‫وقريبًا منه يقول حممود شاكر‪" :‬ورأس كل "ثقافة" هو "الدين" مبعناه العام‪ ،‬والذي هو‬
‫فطرة اإلنسان؛ أي دين كان ‪-‬أو ما كان يف معىن الدين‪ ،-‬وبقدر مشول هذا الدين‬

‫‪ 17‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.33-32‬‬


‫‪ 18‬سيد قطب‪ ،‬املستقبل هلذا الدين ‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار القارئ العريب‪ ،‬ط‪ .‬االحتاد اإلسالمي العاملي للمنظمات‬
‫الطالبية‪1412 ،‬هـ‪ ،)1991/‬ص ‪.14-13‬‬

‫‪25‬‬
‫جلميع ما يكبح مجوح النفس اإلنسانية‪ 19‬وحيجزها عن أن تزيغ عن الفطرة السوية‬
‫قادرا على ضبط األهواء‬
‫تغلغال جيعل صاحبها ً‬
‫العادلة‪ ،‬وبقدر تغلغله إىل أغوار النفس ً‬
‫اجلائرة‪ ،‬ومري ًدا هلذا الضبط ‪ -‬بقدر هذا الشمول وهذا التغلغل يف بنيان اإلنسان‬
‫تكون قوة العواصم اليت تعصم صاحبها من كل عيب قادح يف مسرية "ما قبل املنهج"‪،‬‬
‫مث يف مسرية "املنهج" الذي ينشعب من شطره الثاين؛ وهو "شطر التطبيق"‪ .‬وهذا‬
‫خاصا أبمة بل هو شأن كل جيل من الناس وكل أمة من‬ ‫الذي حدثتك عنه ليس ً‬
‫األمم‪.20"...‬‬
‫ومن الواضح مدى أتثر هذه املدرسة واملرحلة بنزعة األيديولوجيا الشاملة أو الشمولية اليت‬
‫اثرت يف الغرب وعلى رأسها الشيوعية والقومية يف مطلع القرن العشرين‪ ،21‬يقول قطب‬
‫يف السياق نفسه‪" :‬واحملدثون من أصحاب املذاهب والنظرايت والفلسفات االجتماعية‬
‫مل يعودوا ُحيجمون أو يتحرجون من التصريح هبذه احلقيقة؛ وهي أهنم إمنا يقررون‬
‫عقائد‪ ،‬ويريدون أخذ الناس هبا يف واقع احلياة‪ ،‬وأهنم يريدون إحالل هذه العقائد‬
‫االجتماعية أو الوطنية أو القومية حمل العقيدة الدينية‪ ..‬فالشيوعية ليست جمرد نظام‬
‫اجتماعي‪ ،‬إمنا هي كذلك تصور اعتقادي‪ ،‬تصور يقوم على أساس مادية هذا الكون‪،‬‬
‫ووجود املتناقضات يف هذه املادية‪ ،‬هذه املتناقضات املؤدية إىل كل التطورات‬
‫واالنقالابت فيه؛ وهو ما يعرب عنه ابملادية اجلدلية ‪-‬حىت يقول‪ -‬وكذلك سائر مناهج‬
‫احلياة وأنظمتها الواقعية‪ ،‬يسميها أصحاهبا عقائد ويقولون‪ :‬عقيدتنا االجتماعية أو‬

‫‪ 19‬ميكن اإلشارة يف هذا الصدد إىل‪ :‬سيجموند فرويد‪ ،‬قلق يف احلضارة‪ ،‬ترمجة جورج طرابيشي‪( ،‬بريوت‪ :‬دار‬
‫الطليعة للطباعة والنشر‪ ،‬ط‪ ،)1996 ،4‬ص ‪ .25-19‬وفيه رؤية للدين شديدة السلبية والقتامة على النقيض‬
‫من السائد يف الفكر اإلسالمي‪.‬‬
‫‪ 20‬حممود حممد شاكر‪ ،‬رسالة يف الطريق إىل ثقافتنا‪( ،‬القاهرة‪ :‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،)1997 ،‬ص‬
‫‪.31‬‬
‫‪ 21‬انظر‪Paul Salem, Bitter Legacy: Ideology and Politics in the :‬‬
‫‪Arab World, (Syracuse: Syracuse University Press, 1994).‬‬

‫‪26‬‬
‫عقيدتنا الوطنية أو عقيدتنا القومية‪ ..‬وكلها تعبريات صادقة يف تصوير حقيقة األمر؛‬
‫وهو أن كل منهج للحياة أو كل نظام للحياة هو "دين" هذه احلياة"‪.22‬‬
‫وعلى هذا املنوال الكل ِّي يف النظر إىل الدين تواترت كتاابت الحقة ملفكرين كثر من أمثال‬
‫الدين جبرملة املفاهيم الكلية‬
‫عرف هذه الطبقة َ‬ ‫بيجوفيتش‪ ،‬والفاروقي‪ ،‬وأوغلو‪ ،‬واملسريي‪ .‬وتر ِّ‬
‫للوجود ويف قلبها اإلنسان واحلرية والتجاوز للمادة والطبيعة‪ ،‬وأصل الكون‪ :‬خلق أو تطور‬
‫وجوداي حبيث‬
‫ً‬ ‫أو انفجار فوضوي‪ ،‬بل يعرف بعضها اإلنسان وتلك املفاهيم ابلدين تعري ًفا‬
‫ال يثبت وجودها إال إبثبات الدين‪.‬‬
‫فيعرف علي عزت بيجوفيتش "الفلسفة اإلنسانية" ابلدين‪ ،‬ويصل إىل أن الدين هو‬
‫اإلنسانية احلرة‪ ،‬املميزة لإلنسان عن احليوانية والشيئية املادية‪" :‬إن قضية اخللق [يف مقابل‬
‫التطور املادي أو احليواين اجملرد] هي ‪-‬يف احلقيقة‪ -‬قضية احلرية اإلنسانية‪ .‬فإذا قبلنا فكرة‬
‫أن اإلنسان ال حرية له‪ ،‬وأن مجيع أفعاله حمددة ساب ًقا ‪-‬إما بقوى جوانية أو برانية‪ -‬ففي‬
‫هذه احلالة ال تكون األلوهية ضرورية لتفسري الكون وفهمه‪ .‬ولكن إذا سلمنا حبرية اإلنسان‬
‫ومسؤوليته عن أفعاله‪ ،‬فإننا بذلك نعرتف بوجود هللا إما ضمنًا أو صراحة‪ .‬فاهلل وحده هو‬
‫حرا‪ .‬فاحلرية ال ميكن أن توجد إال بفعل اخللق‪ .‬احلرية ليست‬‫القادر على أن خيلق خملوقًا ًّ‬
‫إنتاجا للتطور‪ ،‬فاحلرية وذلك اإلنتاج فكراتن متعارضتان‪ .‬إن هللا ال ينتج وال‬‫نتيجة وال ً‬
‫يشيّد‪ ،‬إن هللا خيلق‪ ،‬وقد اعتاد الناس أن ينسبوا إىل رجال الفن فكرة اخللق‪ .‬ولكن الفنان‬
‫الذي يشيد ال يقوم خبلق شخصية وإمنا صورة إلنسان‪ .‬فالشخصية ال ميكن تشييدها‪.‬‬
‫عاجال‪،‬‬
‫آجال أو ً‬ ‫وأان ال أعرف ماذا ميكن أن تعين الصورة بدون هللا‪ .‬قد يتمكن اإلنسان ً‬
‫خالل هذا القرن أو بعد مليون سنة من احلضارة املتصلة‪ ،‬قد ينجح اإلنسان يف تشييد‬
‫صورة مقلدة من نفسه‪ ،‬نوع من اإلنسان اآليل أو مسخ‪ ،‬شيء قريب الشبه بصانعه‪ .‬هذا‬
‫قادرا على أن يعمل فقط ما متت‬ ‫ابإلنسان‪ ،‬لن تكون له حرية‪ ،‬إنه سيكون ً‬ ‫املسخ الشبيه‬
‫‪23‬‬
‫برجمته عليه‪. "...‬‬

‫‪ 22‬سيد قطب‪ ،‬املستقبل هلذا الدين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.15‬‬


‫‪ 23‬علي عزت بيجوفيتش‪ ،‬اإلسالم بني الشرق والغرب‪ ،‬ترمجة‪ :‬حممد يوسف عدس‪( ،‬ميونخ‪-‬أملانيا‪ :‬مؤسسة‬
‫ابفاراي للنشر واإلعالن‪ ،‬ط‪ ،)1997 ،2‬ص ‪.83-82‬‬
‫‪27‬‬
‫ويقول بصورة أوضح‪" :‬بدون الدين وبدون فكرة اجلهاد الروحي املتصل لإلنسان كما تقرر‬
‫يف احلدث التمهيدي ابجلنة‪ ،‬ال يوجد إميان حقيقي ابإلنسان ابعتباره قيمة عليا‪ .‬بدون‬
‫ذلك ينتفي اإلميان إبمكانية إنسانية اإلنسان‪ ،‬أو أبنه موجود على احلقيقة‪ .‬إن القول‬
‫مبذهب إنساين ملحد هو ضرب من التناقض؛ ألنه إذا انتفى وجود هللا انتفى ابلتايل وجود‬
‫اإلنسان‪.24"...‬‬
‫وقريبًا منه يقول املسريي يف معرض تفكيكه وتفنيده للعلمانية وخاصة يف صيغتها الشاملة‪:‬‬
‫"يدور اإلميان الديين احلق حول اإلميان أبن مثة إهلًا خال ًقا للكون هو مركز العامل (اإلنسان‬
‫والطبيعة) وهو مركز مفارق له‪ .‬وهذا اإلله خلق العامل لغرض وهدف‪ ،‬ومل يهجره‪ ،‬وإمنا‬
‫يشمله برعايته وحكمته ورمحته‪ ،‬وال يرتك مسار التاريخ يتحرك بدون عطفه ورعايته‪ ،‬وهذا‬
‫اإلله هو مصدر متاسك العامل ووحدته‪ ،‬وهو (وكل ما يوحي إلينا به من نظم معرفية‬
‫وأخالقية ومجالية) املرجعية النهائية املتجاوزة‪ .‬ووجود اخلالق املفارق يؤدي إىل ظهور ثنائية‬
‫أساسية؛ وهي ثنائية اخلالق واملخلوق‪ ،‬اليت يرتدد صداها يف الكون على هيئة ثنائيات‬
‫خمتلفة‪ ،‬أمهها ثنائية اإلنسان والطبيعة‪ ،‬اليت تعين أن اإلنسان خمتلف عن الطبيعة‪ ،‬متجاوز‬
‫هلا‪ .‬فكأن ثنائية اخلالق واملخلوق (النامجة عن وجود اإلله املفارق) ضمان للوجود‬
‫اإلنساين"‪.25‬‬
‫أساسا للدين يف تكوين اإلنسان حبيث يصعب على اإلنسان‬ ‫وهنا يربز مفهوم "الفطرة" ً‬
‫املتحقق إبنسانيته أن يتعايش مع غياب الدين مطل ًقا يف نفسه أو يتفهم اإلحلاد من منطلق‬
‫عقلي إذا أخذان بتعريف طه عبد الرمحن للعقالنية أبهنا ال تستبعد البرـ ْعد الروحي‪ /‬القليب‬
‫وال هدي الوحي‪ ،26‬يقول سيد حسني نصر واص ًفا رؤية الغالبية العظمى من املسلمني‬

‫‪ 24‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.89‬‬


‫‪ 25‬عبد الوهاب املسريي‪ ،‬العلمانية اجلزئية والعلمانية الشاملة‪ ،‬اجلزء الثاين‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫‪1426‬هـ‪2005/‬م)‪ ،‬ص ‪.119-118‬‬
‫‪ 26‬راجع‪ :‬حممد أمحد الصغري علي‪ ،‬عقالنية احلداثة املؤيدة‪ :‬استقراءات يف تفكيك أعمال طه عبد الرمحن‪،‬‬
‫أيضا يف تعريف مفهوم الفطرة يف‪ :‬طه عبد‬
‫(إربد‪ /‬األردن‪ :‬دار عامل الكتب احلديث‪ ،‬ط‪ .)2014 ،1‬وانظر له ً‬
‫الرمحن‪ ،‬روح الدين‪ :‬من ضيق العلمانية إىل سعة االئتمانية‪( ،‬الدار البيضاء‪ :‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫‪ ،)2012‬ص ‪.61-51‬‬
‫‪28‬‬
‫كما يتصور‪" :‬ومن وجهة النظر اإلسالمية‪ ،‬فإن الدين هو يف طبيعة اإلنسان وفطرته‪،‬‬
‫وليس شيئًا مضافًا إليه ابلصدفة‪ .‬وهو ليس ترفًا بل هو علة وجود اإلنسان‪ .‬والدين‬
‫وحده هو الذي يسبغ على احلياة البشرية كرامتها‪ ،‬اليت تتيح لإلنسان أن حييا كامل‬
‫احلقيقة أو الفطرة‪ ،‬الطبيعة‪ ،‬اليت أسبغها هللا تعاىل عليه‪ ،‬واليت وحدها توفر املعىن‬
‫الغائي للحياة البشرية‪ .‬والدين يف نظر اإلسالم يعترب ضرورة للوجود اإلنساين‪ ،‬ودونه‬
‫إنساًن بصورة عرضية‪ .‬وال يستطيع اإلنسان أن حيقق‬‫يعيش اإلنسان دون ذاته ويكون ً‬
‫كلي إال ابإلميان ابلدين‪ ،‬وبقبول امليثاق األصلي املعقود بني اإلنسان وهللا‬
‫ذاته بشكل ٍّّ‬
‫تعاىل‪ .‬ومن الصعب جدًّا على العقلية اإلسالمية أن تتفهم اإلحلاد‪ ،‬وأن تتفهم كيف‬
‫ميكن للبشر أن يعيشوا دون دين‪ ،‬وأن تستوعب كيف ميكن للبشر أن يواصلوا حياهتم‬
‫على مداها دون أن يشعروا حبضور احلقيقة السامية اليت هي هللا تعاىل‪ .‬ومن هذا‬
‫كثريا على املسلمني أن يروا الناس يف العصر احلديث يف الغرب خارج‬ ‫املنطلق يصعب ً‬
‫نطاق التصنيف كمسيحيني أو يهود أو أتباع غري متدينني لدايًنت أخرى‪ ،‬وأن يروهم‬
‫كأًنس ال يدينون أبي دين على اإلطالق‪ .‬فالغالبية العظمى من املسلمني مستمرة يف‬
‫اسخا للحياة البشرية"‪.27‬‬
‫رؤيتها للدين ابعتباره ركنًا أساسيًا ر ً‬
‫وهذا ما يؤكده اترخييًا مفكر مثل علي شريعيت يف مستهل أطروحته "دين ضد الدين" أبن‬
‫دوما كان الدين ضد‬ ‫تصور أن الدين كان عرب التاريخ ضد الكفر تصور ساذج؛ ألنه ً‬
‫ختل من دين‬‫الدين السائد أو املناوئ‪" :‬وذلك أن اجملتمعات البشرية يف مجيع مراحلها مل ر‬
‫أبدا؛ أي إن التاريخ مل حيدثنا عن جمتمع عاش بدون دين‪ ،‬يف أي مرحلة من مراحل التطور‬
‫ً‬
‫االجتماعي‪ ،‬ويف أي نقطة على وجه األرض‪ .‬صحيح أننا رمبا نصطدم يف القرون املتأخرة‬
‫‪-‬حيث منت مظاهر املدنية والفكر والفلسفة‪ -‬أبشخاص ينكرون وجود اخلالق أو املعاد‪.‬‬
‫غري أن هؤالء األشخاص مل حيدث يف وقت من األوقات‪ ،‬أن يرتقوا إىل مستوى طبقة أو‬
‫فئة اجتماعية معتد هبا"‪ .‬وعليه يعرف شريعيت مفهوم الكفر أبنه دين‪" :‬وعليه‪ ،‬فالكفر‬
‫أيضا‪ ،‬يطلقه أهل األداين عادة على من ال ينتحل حنلتهم وال يدين‬ ‫نوع من الدين ً‬

‫‪ 27‬السيد حسني نصر‪ ،‬دليل الشباب املسلم يف العامل احلديث‪ ،‬ترمجة‪ :‬فاروق جرار‪ ،‬صادق عودة‪( ،‬القاهرة‪:‬‬
‫مكتبة الشروق الدولية‪ ،‬ط‪1424 ،1‬هـ‪2004/‬م)‪ ،‬ص ‪.17‬‬

‫‪29‬‬
‫بداينتهم‪ .‬وهلذا قد تتقابل اإلطالقات ما بني أهل داينتني فيعترب كل منهم الفريق اآلخر‬
‫كافرا"‪.28‬‬
‫ً‬
‫أي إن شريعيت يقدم بـر ْع ًدا يتجاوز رؤى الصراع املعاصر بني الدين والعلمانية ليناقش الصراع‬
‫بني صورتني للدين‪ :‬دين ثوري (هو دين التوحيد)‪ ،‬ودين تربيري (هو النسخة املستلبة‬
‫واملزورة للدين)‪" :‬الدين الثوري هو دين يغذي أتباعه ومعتنقيه برؤية نقدية حيال كل ما‬
‫شعورا ابملسؤولية جتاه الوضع القائم جيعلهم‬
‫حييط هبم من بيئة مادية أو معنوية أو يكسبهم ً‬
‫دائما إىل "تربير الوضع‬
‫يفكرون بتغيريه"؛ وذلك خبالف ماهية الدين التربيري الذي يسعى ً‬
‫القائم عرب ترويج املعتقدات ذات الصلة مبا وراء الطبيعة ويسعى إىل حتريف االعتقاد ابملعاد‬
‫واملقدسات والقوى الغيبية ويشوه املبادئ العقائدية والدينية ليقنع الناس أبن وضعهم الراهن‬
‫هو الوضع األمثل الذي جيب أن يرضوا به؛ ألنه مصدر إلرادة هللا تعاىل وهو املصري احملتوم‬
‫الذي كتبه هللا عليهم‪ .29"...‬وسنجد الفكرة نفسها يف كتابه "التشيع الصفوي والتشيع‬
‫العلوي"‪.‬‬
‫وابلرغم من االلتباس يف عبارة شريعيت األخرية‪ ،‬فقد أكد كثريون هذا التعريف "الثوري"‬
‫للدين ال سيما اإلسالم والذي يواجه هيمنة التأويل والتوظيف السلطوي للدين‪ ،‬يقول‬
‫أيضا عاجز عن الثورة‪ .‬والبالد اليت متارس‬
‫بيجوفيتش‪" :‬إن اجملتمع العاجز عن التدين هو ً‬
‫نوعا من املشاعر الدينية احلية‪ ،‬وأن مشاعر األخوة والتضامن‬ ‫احلماس الثوري متارس ً‬
‫والعدالة هي مشاعر دينية يف صميم جوهرها‪ ،‬وإمنا موجهة يف ثورة لتحقيق العدالة واجلنة‬
‫كال من الثورة والدين يعيشان يف خماض من األمل واملعاانة وحيتضران يف‬
‫على األرض‪ .‬إن ً‬
‫الرخاء والرفاهية والرتف‪ .‬حياة الدين والثورة تدوم بدوام النضال واجلهاد‪ ،‬حىت إذا حتققا‪،‬‬
‫يبدأ املوت يتسرب إليهما‪ ..‬إىل قوله‪ :‬فإذا وجدان خصومة للثورة يف نطاق الدين‪ ،‬فهم‬

‫‪ 28‬علي شريعيت‪ ،‬دين ضد الدين‪ ،‬ترمجة‪ :‬حيدر جميد‪( ،‬العراق‪ -‬النجف األشرف‪ :‬دار الفكر اجلديد‪ ،‬ومؤسسة‬
‫العطار الثقافية‪ ،‬ط‪1423 ،1‬هـ‪2003/‬م)‪ ،‬ص ‪ ،24-23‬ص ‪.27‬‬
‫وانظر رؤية مقاربة جدًّا لـ‪ :‬مالك بن نيب‪ ،‬الظاهرة القرآنية‪( ،‬القليوبية‪-‬مصر‪ :‬دار الوطن للطبع والنشر والتوزيع‪،‬‬
‫‪2016‬م)‪ ،‬ص ‪.83-80‬‬
‫‪ 29‬علي شريعيت‪ ،‬دين ضد الدين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.42-40‬‬

‫‪30‬‬
‫خصوم ينتمون إىل الدين الرمسي فقط‪ ،‬أي إىل الكنيسة ونظامها اإلداري اهلرمي‪ ،‬أو الدين‬
‫املؤسسي الزائف‪ .‬وعلى العكس‪ ،‬فإن الثورة الزائفة أي الثورة اليت حتولت إىل مؤسسة وإىل‬
‫أيضا إىل مؤسسة وإىل بريوقراطية‪.‬‬
‫دائما حليفها يف الدين الذي حتول هو ً‬‫بريوقراطية‪ ،‬جتد ً‬
‫‪30‬‬
‫يدا بيد" ‪.‬‬‫فما إن تبدأ الثورة تكذب وختدع نفسها حىت متضي مع الدين املزيف ً‬
‫وكذلك يعرف بيجوفيتش الدين من خالل التأمل يف مفاهيم وقيم كاملساواة واإلخاء‬
‫واألخالق‪" :‬إن املساواة بني الناس واإلخاء ممكن‪ ،‬فقط‪ ،‬إذا كان اإلنسان خملوقًا هلل‪.‬‬
‫فاملساواة اإلنسانية خصوصية أخالقية وليست حقيقة طبيعية أو مادية أو عقلية ‪-‬إىل‬
‫قوله‪ -‬ويف مقابل ذلك‪ ،‬إذا نظران إىل الناس من الناحية املادية أو الفكرية أو ككائنات‬
‫اجتماعية أو أعضاء يف جمموعة أو طبقة أو جتمع سياسي أو أممي‪ ،‬فالناس يف كل هذا‬
‫دائما غري متساوين‪ .‬ذلك ألننا إذا جتاهلنا القيمة الروحية ‪-‬وهي حقيقة ذات صبغة‬ ‫ً‬
‫دينية‪ -‬يتالشى األساس احلقيقي الوحيد للمساواة اإلنسانية"‪31‬؛ أي حبكم الواقع أو‬
‫الطبيعة إذا حكمنامها‪.‬‬
‫وقد تطور مع الوقت عند املفكرين اإلسالميني ما أصبح يعرف بتيار فلسفة الدين أو‬
‫الفلسفة الدينية ومل يعد جمرد كتاابت متفرقة‪ ،‬وبرز مفكرو الشيعة يف إيران ومن اتصل هبم‬
‫من العراق ولبنان يف هذا املضمار منذ الثمانينيات‪ .‬وتبحث هذه الكتاابت يف عالقات‬
‫املقدس والبشري‪ ،‬وهل هي عالقات ِعلية توليدية‪ ،‬أو عالقات جدلية سجالية ‪-‬على‬
‫روايتني فلسفيتني‪ -‬لتصل كما يقول شفيق جرادي إىل "إنشاء معاجلة إسالمية معرفية‪،‬‬
‫موضوعية‪ ،‬حبثية‪ ،‬جادة للدين‪ ،‬تعرب عن فلسفة خاصة انبعة من صميم القناعة اإلسالمية‬
‫دون إلصاق أي هتمة ابلتضليل املعريف أو عدم اجلدية أو املوضوعية حبقها‪ .32"...‬ومن مثَّ‬

‫‪ 30‬علي عزت بيجوفيتش‪ ،‬اإلسالم بني الشرق والغرب‪ ،‬مرجع سابق ص ‪.115‬‬
‫‪ 31‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.86-85‬‬
‫‪ 32‬شفيق جرادي‪ ،‬مقارابت منهجية يف فلسفة الدين‪( ،‬بريوت‪ :‬مركز احلضارة لتنمية الفكر اإلسالمي‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ ،)2010‬ص ‪.63‬‬

‫‪31‬‬
‫عرف جرادي فلسفة الدين أبهنا "البحث احلر يف مناشئ ومقومات وطبيعة النظرة اليت‬ ‫ير ِّ‬
‫‪33‬‬
‫حيملها الدين؛ من موقع معريف هو أقرب للتوصيف احليادي منه لالحنياز املؤدجل" ‪.‬‬
‫مهما‬
‫مرجعا ً‬
‫ويعد كتاب مصطفى ملكيان "العقالنية واملعنوية‪ :‬مقارابت يف فلسفة الدين" ً‬
‫يف التأسيس هلذا اجملال وحدوده‪ ،‬واقرتاح املباحث األساسية فيه؛ واليت ختلص إىل مدلول‬
‫مشروعا إنسانيًّا لتجديد املعرفة والفلسفة والفكر واحلضارة‪.34‬‬
‫ً‬ ‫للدين ابعتباره‬
‫ويف هذا الصدد قدم د‪ .‬عبد اجلبار الرفاعي ومركز دراسات فلسفة الدين "موسوعة فلسفة‬
‫الدين" إلسالميني حمدثني وغربيني‪ ،‬ويف موضوعات عدة تدور حول مفهوم الدين وطرائق‬
‫دراسته والتأمل فيه‪ ،‬ختلص إىل املعىن السابق لفلسفة الدين‪ ،‬وتشري عرب بعض مقالتها إىل‬
‫مفهوم الدين الفلسفي؛ الذي هو مذهب لفهم الدين عرب الفلسفة يرنسب ملا بعد هتافت‬
‫مفهوما فلسفيًّا للدين أشبه مبفهوم‬
‫ً‬ ‫الفالسفة للغزايل‪ .35‬ويف هذا اإلطار يقدم حممد خامتي‬
‫حممد إقبال اجلامع بني تطهري الباطن اإلنساين ومواجهة املستَ َجد العصري‪.36‬‬
‫ر‬
‫أيضا اإلشارة إىل جهدين مهمني يف املدرسة املغاربية؛ األول يقوم عليه د‪ .‬أبو‬
‫ومن املهم ً‬
‫حقيقيت كل من الفلسفة والدين ضد "املتعاملني هبما" كما‬
‫َْ‬ ‫يعرب املرزوقي الذي يدافع عن‬
‫يصف‪ ،‬ممن يسميهم حزيب الباطنية والظاهرية يف احلقلني‪ ،‬فيقول‪" :‬فرغنا من أمر الفكر‬

‫‪ 33‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.263‬‬


‫‪ 34‬مصطفى ملكيان‪ ،‬العقالنية واملعنوية‪ :‬مقارابت يف فلسفة الدين‪ ،‬ترمجة عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬وحيدر‬
‫جنف‪( ،‬بريوت‪ :‬دار اهلادي للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪1426 ،1‬هـ‪2005/‬م)‪.‬‬
‫‪ -‬وملخص مهم له يف‪ :‬عبد اجلبار الرفاعي (إعداد وحترير)‪ ،‬متهيد لدراسة فلسفة الدين‪ ،‬موسوعة فلسفة‬
‫الدين (‪( ،)1‬بغداد‪ :‬مركز دراسات فلسفة الدين‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر‪ ،‬ط‪2014 ،1‬م)‪ ،‬ص ‪-245‬‬
‫‪ . 257‬وانظر كذلك‪ :‬عبد اجلبار الرفاعي (إعداد)‪ :‬املشهد الثقايف يف إيران‪ :‬علم الكالم اجلديد وفلسفة الدين‪،‬‬
‫(بريوت‪ :‬دار اهلادي للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪1423 ،1‬هـ‪2002/‬م)‪.‬‬
‫‪ 35‬انظر‪ :‬فضل الرمحن‪ ،‬الفلسفة الدينية أو الدين الفلسفي‪ ،‬ترمجة حسون السراي؛ يف‪ :‬عبد اجلبار الرفاعي‬
‫(إعداد وحترير)‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.39-25‬‬
‫‪ 36‬حممد خامتي‪ ،‬الدين يف العامل املعاصر‪ ،‬ترمجة‪ :‬حيدر جنف؛ يف‪ :‬عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‬
‫‪.244-223‬‬

‫‪32‬‬
‫الديين الذي رحِّرف بصورة ال تكاد تقبل اإلصالح‪ :‬مل يعد الدين إال أداة سياسية وقشور‬
‫تعبدية عند كال احلزبني الظاهري والباطين وكادت التجارب الدينية احلية تزول (يف ِملة‬
‫غلب على خنبها التَقية فكانت شر بَلية) كما وصفهم ابن خلدون عند الكالم على مثرات‬
‫إجيااب‬
‫االستبداد السياسي والرتبوي‪ .‬وحنن اليوم يف أفق للتفكري يدعي أصحابه أنه فلسفي ً‬
‫لكنه يقبل التعريف بكونه أف ًقا دينيًا سلبًا‪ ،‬ونكاد نصل إىل نفس احلال يف الفكر الفلسفي‬
‫الذي حرف بصورة ال تكاد تقبل اإلصالح‪ :‬فحزابه كالمها أصبح ينتحل الفلسفة ويهاجم‬
‫متاما كما كان احلزابن الدينيان يف األفق السابق [أي زمن الغزايل] ينتحالن الدين‬
‫الدين ً‬
‫‪37‬‬
‫ويهامجان الفلسفة‪. "...‬‬
‫وواضح ما يف هذا املشروع من كفاحية فلسفية تتكامل روحيًا مع املشروع اآلخر (مشروع‬
‫د‪ .‬طه عبد الرمحن) الذي جيهد إلعادة تعريف املفاهيم الكربى حول الدين نفاذًا إليه؛‬
‫من زاوية النظرة األخالقية على سبيل املثال األبرز عنده‪ .‬فاإلنسان الذي يتخلق مبعىن‬
‫"الفتوة املنتفضة" ميثل عنده "كمال التدين" على اعتبار "أن التدين يف ال َفىت ممارسة‬
‫ضرورية‪ ،‬بينما هو يف اإلنسان ممارسة اختيارية؛ فاإلنسان قد يتجاهل واقع الدين اإلهلي‬
‫من حوله أو يشكك يف قيمته أو ينكر مصدره أو ميتنع كليًا عنه‪ ،‬ذاهبًا إىل حد وضع‬
‫دين من عنده بدله‪ ،‬ال يتوسل يف ذلك إال بفكره اجملرد؛ والشاهد على ذلك ما يعرف‬
‫منذ مطلع العصر احلديث ابسم النزعة اإلنسانية‪ ،‬فاملقصود االصطالحي منها هو ابلذات‬
‫النزعة اليت تقصر مهها على اإلنسان ابعتباره مستغنيًا بذاته يف وجوده وأفعاله‪ ،‬فال حيتاج‬
‫إىل اعتبار خالق هلذا اإلنسان أو التماس دين منه‪ .‬أما ال َف َىت‪ ،‬فإنه جيد يف ممارسة اجلني‬
‫اإلهلي املصدر األول الذي ينبغي أن أيخذ منه أخالقه‪ ،‬مع العلم أبن األخالق هي ‪-‬‬
‫على ما تقدم‪ -‬املقوم األساسي للهوية"‪ .38‬فالذي مييز الفتوة هو اهلِمة والسعي‪ ،‬ومن‬
‫ذلك يعتين مبفهوم "روح الدين" الذي يعتمد على قدرة ملكات اإلنسان على التجاوز‪،‬‬

‫صوًن للفلسفة والدين‪( ،‬دمشق‪ :‬دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪،)2007 ،1‬‬
‫أبو يعرب املرزوقي‪ً ،‬‬
‫‪37‬‬

‫أيضا‪ :‬فلسفة الدين من منظور الفكر اإلسالمي‪( ،‬بريوت‪ :‬دار اهلادي للطباعة والنشر‬
‫ص ‪ .8‬وانظر له ً‬
‫والتوزيع‪ ،‬ط‪1427 ،1‬هـ‪2006/‬م)‪.‬‬
‫‪ 38‬طه عبد الرمحن‪ ،‬احلق العريب يف االختالف الفلسفي‪( ،‬الدار البيضاء‪ :‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬ط‪،)2009 ،2‬‬
‫ص ‪.178-176‬‬

‫‪33‬‬
‫وتشكل حياته ابزدواج املرئي ابلغريب‪ ،‬ومبدأ الفطرة‪ ،‬ليصل إىل قراءة روح السياسي ‪-‬ال‬
‫سيما املستبد الظاهر أو الكامن‪ -‬وما فيه من تغييب وختويف على غرار األداين‪" :‬والقول‬
‫اجلامع يف هذا للمقام الثاين هو أن مبدأ السلطان ميكن الفاعل السياسي من ممارسة‬
‫التغييب على الوجه األكمل؛ إذ ال يلبث أن يرتقي بنسبته إىل رتبة التسيد‪ ،‬ومبلكه إىل‬
‫خالعا على سلطانه صفيت اإلطالق والقداسة‪،‬‬ ‫رتبة امللكوت‪ ،‬وبقوته إىل رتبة اجلربوت‪ً ،‬‬
‫‪39‬‬
‫وعلى شخصه صفيت األلوهية والوحدانية‪. "...‬‬
‫وتواىل هذا اخلط األشبه ابلفلسفي يف تعريف اإلسالميني للدين عامة‪ ،‬والدين اإلسالمي‬
‫وجودا‬
‫خاصة ينسب إىل الدين سائر الكليات ابعتبار الكليات دينية ومثبتة لضرورة الدين ً‬
‫نظام‬
‫وقيمة‪ .‬وعلى هذا األساس تدعمت الوجوه األخرى لتعريف الدين؛ وخاصة كونه َ‬
‫حياةٍ ً‬
‫شامال‪.‬‬
‫الدين نظام حياة شامل‪ :‬مشول الشريعة‬
‫تقدم تعريف الدين ‪-‬كل دين‪ -‬أبنه منهج حياة شامل‪ ،‬وأنه على هذا املعىن التقت كلمة‬
‫اإلسالميني بتوجهاهتم كافَّةً‪ .‬واملقصود ابلشمول هنا هو الشريعة بَعد العقيدة املشار إليها‬
‫(وحتديدا اإلسالم) مستويني متكاملني‪ :‬مستوى ركلي‬
‫ً‬ ‫أعاله‪ ،‬وقد اختذ هذا التعريف للدين‬
‫أو إمجايل يرعىن ابخلصائص العامة للشريعة اإلسالمية وكوهنا تتسم ابلكمال واإلحاطة‬
‫بكليات احلياة وجزئياهتا‪ ،‬ومستوى جزئي أو تفصيلي يشرح كيف يتفرع عن هذه الشريعة‬
‫نظم قانونية ودستورية‪ ،‬وسياسية‪ ،‬واقتصادية‪ ،‬واجتماعية‪ ،‬وإقليمية وعاملية‪ ،‬ونظام معرفة‬
‫جم غفري‬
‫وفلسفة علم‪ ،‬ونظام ثقايف مبفاهيمه وأفكاره‪ .‬واشرتك يف هذا التعريف التفصيلي ٌّ‬
‫فضال عن مفكرين وفقهاء رعنوا ابملستوى األول‬‫من سائر التخصصات العلمية والعملية‪ً ،‬‬
‫الكلي‪.‬‬
‫يقول حسن البنا يف رسائله عن معىن "إسالمية" دعوته‪" :‬دعوتنا دعوة أمجع ما توصف‬
‫به أهنا (إسالمية)‪ ،‬وهلذه الكلمة معىن واسع غري ذلك املعىن الضيق الذي يفهمه‬
‫مجيعا‪ ،‬ويفيت يف كل‬
‫فإًن نعتقد أن اإلسالم معىن شامل ينتظم شؤون احلياة ً‬ ‫الناس‪ ،‬ا‬
‫حمكما دقي ًقا‪ ،‬وال يقف مكتوفًا أمام املشكالت احليوية‬
‫نظاما ً‬
‫شأن منها ويضع له ً‬

‫‪ 39‬طه عبد الرمحن‪ ،‬روح الدين‪ :‬من ضيق العلمانية إىل سعة االئتمانية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.131‬‬
‫‪34‬‬
‫والنظم اليت ال ب اد منها إلصالح الناس‪ .‬فهم بعض الناس خطأ أن اإلسالم مقصور‬
‫على ضروب من العبادات أو أوضاع من الروحانية‪ ،‬وحصروا أنفسهم وأفهامهم يف‬
‫هذه الدوائر الضيقة من دوائر الفهم احملصور‪ .‬ولكنا نفهم اإلسالم على غري هذا‬
‫واسعا ينتظم شؤون الدنيا واآلخرة‪ ،‬ولسنا ندعي هذا ادعاء أو‬
‫فسيحا ً‬‫ً‬ ‫فهما‬
‫الوجه ً‬
‫نتوسع فيه من أنفسنا‪ ،‬وإمنا هو ما فهمناه من كتاب هللا وسرية املسلمني األولني" ‪.‬‬
‫‪40‬‬

‫وقد كرس كثري من مفكري اإلسالميني مشروعاهتم الفكرية والدعوية والفقهية إلثبات هذه‬
‫الفكرة ودفعها للتطبيق ابسم تطبيق الشريعة‪ .‬وكانت بالد اإلسالم ‪-‬منذ النصف األول‬
‫من القرن العشرين‪ -‬جمربًة على االختيار صورًاي بني الشيوعية (أو االشرتاكية) والرأمسالية‪،‬‬
‫وانربى اإلسالميون يواجهون الواقع العلماين الوافد والفكر املروج له يف وقت جيددون فيه‬
‫مثال الشيخ حممد الغزايل‪ ،‬الذي‬‫تعريف الدين أمام دعوات إزاحته أو إزالته‪ .‬ويربز يف ذلك ً‬
‫يؤلف يف السنوات العشر اليت سبقت حركة ‪ 23‬يوليو ‪ 1952‬كتبًا منها‪ :‬اإلسالم‬
‫وأوضاعنا االقتصادية‪ ،‬واإلسالم واملناهج االشرتاكية‪ ،‬واإلسالم املفرتى عليه بني الشيوعيني‬
‫ردا على‬‫والرأمساليني‪ ،‬واإلسالم واالستبداد السياسي‪ ،‬قبل أن يكتب‪" :‬من هنا نعلم" ًّ‬
‫األستاذ خالد حممد خالد ودعوته العلمانية قبل أن يرجع عنها‪ .‬ويف كتابه "اإلسالم املفرتى‬
‫عليه"‪ ،‬يقول‪" :‬ألفت هذه الرسالة ورتبت فصوهلا احملدودة لغاية واحدة؛ هي إعطاء القارئ‬
‫صورة صادقة عن الفكرة الذاتية للدين‪ ،‬والروح العامة ملبادئه‪ ...‬وحاشاي هبذا الكالم أن‬
‫أقحم الدين فيما ليس له‪ ،‬أو أن أمحله من اآلراء ما ال شأن له به‪ .41"...‬وقد أسهم‬
‫الغزايل بعشرات الكتب واملقاالت يف النقاشات اجلارية على الساحة الثقافية واإلسالمية‬
‫داعيًا لتطبيق الدين بني من رآهم يسيئون فهمه سواء من العلمانيني أو املتدينني‬
‫دعواي)؛ ليؤكد أن الدين ال يكون بغري التطبيق والعمل‪،‬‬
‫اإلسالميني‪( ،‬ومن مثَّ كان مشروعه ً‬
‫وكأنه مياهي بني الدين والتدين‪" :‬ليس هناك جهد إسالمي واضح خلدمة الرسالة اخلامتة‬
‫وتبصرة الناس ملا فيها من حق وخري‪ ..‬إىل قوله‪ ..‬يف عامل يبحث عن احلرية نرصور اإلسالم‬

‫‪ 40‬حسن البنا‪ ،‬رسائل البنا‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الدعوة‪.)1999 ،‬‬


‫‪ 41‬حممد الغزايل‪ ،‬اإلسالم املفرتى عليه بني الشيوعيني والرأمساليني‪( ،‬القاهرة‪ :‬هنضة مصر‪ ،‬ط‪ ،6‬أغسطس‬
‫‪ ،)2005‬ص ‪.8‬‬

‫‪35‬‬
‫دين استبداد‪ ،‬ويف عامل حيرتم التجربة ويتبع الربهان نرصور الدين غيبيات مستوردة من عامل‬
‫اجلن‪ ،‬وهتاويل مبتوتة الصلة بعامل الشهادة‪.42"...‬‬
‫ويقول الشيخ الغزايل مبينًا طبيعة الدين كنظام حياة‪" :‬إن هللا تعاىل أيىب أن يكون جممل‬
‫صلته خبلقه حلظات هدوء أو مناجاة يف هذه البيوت اليت أقيمت ابمسه‪ ،‬مث ينطلق الناس‬
‫بعدها يف جنبات األرض حييون كيف يشتهون ويتعاملون مبا يتواضعون عليه من قوانني‬
‫وتقاليد؛ ذلك أن هللا تعاىل قد نظم للناس شؤوهنم اخللقية واالجتماعية والسياسية‪ ،‬وأراد‬
‫أن يسريوا على ما شرع هلم‪ ،‬ال داخل جدران املعابد وحدها‪ ،‬بل يف تقلبهم آانء الليل‬
‫مجيعا"‪ ،‬ويشرح دور الفرد‬
‫وأطراف النهار‪ ..‬يف أحناء الرب والبحر‪ ،‬ويف ممارسة شؤون احلياة ً‬
‫واجملتمع والدولة أو احلكومة يف تطويع احلياة للدين حىت يقول‪" :‬وتطويع احلياة خلدمة‬
‫الدين عمل شعيب وحكومي يف آن واحد‪ ،‬وهو حيتم توجيه النشاط الفردي واجلماعي‬
‫خلدمة الرسالة العامة وحتقيق غاايهتا‪ ...‬إن الكدح هلل هنا يتجاوز املسجد ليتناول احلقل‪،‬‬
‫واملصنع‪ ،‬واملرصد‪ ،‬والدكان‪ ،‬والديوان‪ ،‬والرب‪ ،‬والبحر‪ ،‬وما يكتب‪ ،‬وما يسمع‪ ،‬وقد يتناول‬
‫خطرات النفس وأحالم النيام‪ ..‬اإلسالم رسالة توجب على معتنقيها أن جيعلوا جمتمعهم‬
‫أجدر ابحلياة‪ ،‬وأقدر على النجاح‪ ،‬وكل ما يعني على ذلك فهو دين‪ ،‬أو كما يقول علماء‬
‫األصول‪ :‬ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب"‪.43‬‬
‫ومن ابب التداخل بني الدين والتدين أو وجوب أن يتحقق الدين تدينًا‪ ،‬يكتب فريد‬
‫سريا إىل هللا يف مواكب اجلمال‪ ...‬وإهنا‬
‫األنصاري "مجالية الدين"‪" :‬فليكن الدين إذن ً‬
‫للطافة كرمية أن جيمع احلق سبحانه يف مفهوم الدين من خالل هذه الكلمات النورانية‬
‫بني مجالني‪ :‬مجال الدين ومجال الدنيا‪{ :‬قل هي للذين آمنوا يف احلياة الدنيا خالصة يوم‬
‫القيامة كذلك نفصل اآلايت لقوم يعلمون} ليكون ذلك كله هو صفة املسلم"‪.44‬‬
‫ويواصل‪" :‬إنه الدين مبا هو منبع اجلمال يف اإلسالم‪ ،‬ومبا هو أساس أتطري احلياة اجلمالية‪،‬‬

‫‪ 42‬حممد الغزايل‪ ،‬مهوم داعية‪( ،‬القاهرة‪ :‬هنضة مصر‪ ،‬ط‪ ،6‬يناير ‪ ،)2006‬ص ‪.5 -4‬‬
‫‪ 43‬حممد الغزايل‪ ،‬مشكالت يف طريق احلياة اإلسالمية‪( ،‬القاهرة‪ :‬هنضة مصر‪ ،‬ط‪ ،7‬أكتوبر ‪ ،)2005‬ص‬
‫‪.11-3‬‬
‫‪ 44‬فريد األنصاري‪ ،‬مجالية الدين‪ ،‬معارج القلب إىل حياة الروح‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار السالم للطباعة والنشر‬
‫والتوزيع والرتمجة‪.)2009 ،‬‬
‫‪36‬‬
‫يف شىت جتليات احلضارة‪ ،‬املعنوية واملادية‪ .‬أي من الرتتيل إىل التشكيل‪ ،‬أو بعبارتنا‬
‫املنهجية‪ :‬من القرآن إىل العمران"‪.‬‬
‫ومع صحوة السبعينيات ظهرت االجتهادات العلمية املتخصصة للجواب عن سؤال تطبيق‬
‫الدين‪ ،‬وبرز يف ذلك املضمار شيوخ وفقهاء‪ ،‬وأكادمييون دارسون للعلوم االجتماعية‪،‬‬
‫ومؤسسات حبثية واستشارية عديدة‪ .‬وهنا نالحظ صعود جانب الشريعة والفقه واالجتهاد‬
‫يف التعريف ابلدين اإلسالمي‪ ،‬فكتب القرضاوي‪" :‬الشريعة اإلسالمية صاحلة لكل زمان‬
‫ومكان"‪ ،‬وقدم مناذج لتطبيقها يف االقتصاد والسياسة واالجتماع والفن‪ ...‬ومسى ذلك‬
‫املشروع ابحلل اإلسالمي ابعتباره البديل للمشروعات املفروضة أو املعروضة أو املستوردة‪:‬‬
‫"إن معىن احلل اإلسالمي أن يكون اإلسالم هو املوجه والقائد للمجتمع يف كل امليادين‬
‫وكل اجملاالت مادية ومعنوية‪ .‬معىن احلل اإلسالمي أن تتجه احلياة كلها وجهة إسالمية‪،‬‬
‫وأن تصبغ ابلصبغة اإلسالمية‪ .‬معىن احلل اإلسالمي أن تكون عقيدة اجملتمع إسالمية‪،‬‬
‫وشعاراته إسالمية‪ ،‬ومفاهيمه وأفكاره إسالمية‪ ،‬ومشاعره ونزعاته إسالمية‪ ،‬وأخالقه‬
‫أخريا أن تكون قوانينه وتشريعاته‬
‫إسالمية‪ ،‬وتربيته إسالمية‪ ،‬وتقاليده وآدابه إسالمية‪ ،‬و ً‬
‫إسالمية‪ .‬وبعبارة أخرى‪ :‬احلل اإلسالمي هو الذي يربز به اجملتمع اإلسالمي إىل حيز‬
‫الوجود بكل مقوماته ودعائمه وبكل خصائصه ومميزاته‪ ،‬دون إهدار لشيء منها‪.45"...‬‬
‫ويفصل القرضاوي يف معامل هذا احلل اإلسالمي؛ لكي يشمل الدين يف التطبيق االجتماعي‬
‫والعام النواحي‪ :‬الروحية واألخالقية‪ ،‬والرتبوية والثقافية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬واالقتصادية‪،‬‬
‫والعسكرية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬والتشريعية؛ أي جوانب احلياة احلديثة كافَّةً‪ .46‬ولكن من أهم‬
‫شروط حتقيق ذلك احلل‪ :‬ضرورة الدولة اإلسالمية (حاجة اإلسالم إىل دولة)‪ ،‬مث املرجعية‬
‫اإلسالمية (االستمداد من اإلسالم)‪ ،‬وال َّ‬
‫بد من أن يؤخذ الدين كله بال جتزئة‪ ،‬وأن يكون‬
‫اضحا ال متوارًاي‪ ،‬وأن يكون غاية منشودة ال أداة وسيطة‪ .47‬ومن هذا البيان تتفرع‬
‫عنو ًاان و ً‬
‫مدلوالت اجتماعية وسياسية وثقافية وعاملية للدين (وابألخص اإلسالم)‪ .‬ونشري إىل‬
‫مالحظة تبدو مهمة يف هذا املقام‪ ،‬ففي هذا املستوى يبدو أن مفهوم الدين عند‬

‫‪ 45‬يوسف القرضاوي‪ ،‬احلل اإلسالمي فريضة وضرورة‪( ،‬بريوت‪ :‬مؤسسة الرسالة‪1974 ،‬م)‪ ،‬ص‪.47-46‬‬
‫‪ 46‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.85-49‬‬
‫‪ 47‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.120-86‬‬
‫‪37‬‬
‫اإلسالميني ال يتسع لغري الدين اإلسالمي‪ ،‬بل إن اإلسالم يشمل معىن للدين ومع غريه‬
‫(الدنيا‪ ،‬الدولة‪ ،‬العلم‪ ،)..‬يقول القرضاوي‪" :‬ال جمال يف اإلسالم لدعوى التعارض أو‬
‫العداوة بني الدين والعلم‪ ،‬فالدين يف اإلسالم علم‪ ،‬والعلم فيه دين‪ ..‬يقول العالمة هورتن‪:‬‬
‫يف اإلسالم وحده جتد احتاد الدين والعلم‪ ،‬فهو الدين الوحيد الذي يوحد بينهما‪ .‬فنجد‬
‫ماثال متمكنًا يف دائرة العلم وترى وجهة الفلسفة ووجهة العلم متعانقتني‪ ،‬فهما‬ ‫فيه الدين ً‬
‫‪48‬‬
‫واحدة ال اثنتان" ‪ .‬ويعتمد يف حل إشكال موقع الدين والعلم من اإلسالم على د‪.‬‬
‫اعتمادا أساسيًا‪.49‬‬
‫ً‬ ‫حممد عبد هللا دراز‬
‫وهبذا يبدو الدين ذا مستويني من الداللة‪ :‬مستوى أعلى وأوسع‪ ،‬وهو الذي تواجه به‬
‫الفلسفات والرؤى الكلية؛ ومستوى أضيق حيتويه اإلسالم ويتعلق ابجلانب النظري من‬
‫الدين (اإلسالم) وتقابله اجلوانب التطبيقية‪ ،‬أو اجلانب اخلاص ابإلهلي يف مقابل البشري‪،‬‬
‫والوحي يف مقابل العقل والوجود أو الواقع‪ ،‬والتشريع يف مقابل جماالت التطبيق‪ .‬وعلى‬
‫هذا األساس جاءت تفصيالت املشروع الديين العملي لإلسالميني‪ ،‬املعروف ابملشروع‬
‫اقتصاداي وأخالقيًّا وحضارًّاي ومعرفيًّا‬
‫ًّ‬ ‫اإلسالمي أو احلل اإلسالمي‪ :‬سياسيًّا واجتماعيًّا و‬
‫وعامليًّا‪ .‬وميكن اإلشارة إىل دالالت الدين يف كل فرع من هذه الفروع‪.‬‬
‫منظورا معرفيًا وعلميًا‪:‬‬
‫ً‬ ‫الدين‬
‫ومن أهم أطروحات الفكر اإلسالمي احلديث اليت دارت حول إعادة تعريف الدين‬
‫والديين‪ ،‬الطرح احلضاري‪ ،‬الذي جرت عليه إشارات يف سجاالت حممد عبده مع غربيني‬
‫مثل هانوتو أو متغربني مثل فرح أنطون أو شبلي مشيل‪ ،‬أو برز يف تفسريه املنار وإشاراته‬
‫كثريا‬
‫إىل املعاين القيمية واملقاصدية يف عقيدة اإلسالم وشريعته‪ .‬لكن هذا املنحى يتطور ً‬
‫مع مشروع مالك بن نيب‪ ،‬مث مدرسة الفكر اإلسالمي اجلديد‪.‬‬
‫ويف هذا اإلطار مثة طرح معريف وأكادميي متخصص متثله مدرسة املنظور احلضاري‬
‫اإلسالمي يف العلوم االجتماعية واإلنسانية اليت هي تطوير متميز ألطروحة إسالمية‬

‫‪ 48‬يوسف القرضاوي‪ ،‬بينات احلل اإلسالمي‪( ،‬القاهرة‪ :‬املطبعة الفنية‪ ،‬ط‪ ،)1993 ،2‬ص ‪.22-21‬‬
‫‪ 49‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.27-24‬‬

‫‪38‬‬
‫املعرفة‪ .50‬يقوم هذا الطرح على توسيع دالالت الدين وما ينضوي حتته من مفاهيم العقيدة‬
‫والشريعة والقيم واملقاصد والسنن واألمة واحلضارة‪ ،‬وموضوعات املعرفة ومصادرها‪ ،‬والعلم‬
‫ومنهجه العام‪ ،‬والسياسي واملدين واجملال العام والرتبية املدنية والدولة القومية والتمكني‬
‫اجملتمعي‪ ،‬والتغيري بني اإلصالح والثورة‪ ،‬والتجدد احلضاري‪ ،‬وحوار احلضارات‪ ،‬واإلرادة‬
‫العامة بني ثقافة األمة واخليار الدميقراطي والتوافق الشعيب والنخبوي‪ ،‬والرسالة الكفاحية‬
‫لعلماء األمة‪ :‬علماء الشريعة‪ ،‬وعلماء االجتماع ابملعىن األوسع‪ .‬ويهتم هذا اللون الفكري‬
‫‪ -‬احلضاري ‪ -‬خبصائص الدين املتعلقة ابلفاعلية واجلامعية والواقعية املثالية‪.51‬‬
‫فعاال حني تكتسي مكوانته الكربى ابلفاعلية‪ :‬عقيدة دافعة‪ ،‬وشرعة رافعة‪،‬‬
‫فيبدو الدين ً‬
‫وقيم حاكمة‪ ،‬ومقاصد حافظة‪ ،‬وسنن قاضية‪ ،‬وأمة جامعة‪ ،‬وحضارة فاعلة‪ ،‬على النحو‬
‫الذي صاغه فيه د‪ .‬سيف الدين عبد الفتاح‪ ،‬وأشار إىل أن أصول الفقه احلضاري هذه‬
‫ليس الواجب فقط وجودها‪ ،‬ولكن فعلها يف الفرد واجملتمع واألمة واإلنسانية‪ :‬دافعة‪،‬‬
‫رافعة‪...‬إخل‪.52‬‬
‫وكذلك حيرص هذا املشروع على اخلروج من الفصام بني قسائم احلياة اإلنسانية اليت‬
‫صدرهتا النظرة الوضعية والواقعية الغربية يف صورة ثنائيات متضاربة متصارعة‪ :‬الدين والدنيا‪،‬‬
‫الدين والعلم‪ ،‬الدين والسياسة‪ ،‬الفرد واجملتمع‪ ،‬اجملتمع والدولة‪ ،‬األمة والعامل‪ ،‬الغيب‬
‫والشهادة‪ ،‬العلم واإلميان‪ ،‬الدنيا واآلخرة‪ ،‬املادي واملعنوي‪ ،‬املصاحل والقيم‪ ،‬القوة‬
‫وبدال من هذا يؤكد هذا اللون الفكري (احلضاري) على الرؤية اجلامعة بني‬ ‫والقيمة‪...‬إخل‪ً .‬‬

‫إمساعيل الفاروقي‪ ،‬إسالمية املعرفة‪ :‬املبادئ العامة ‪ -‬خطة العمل ‪ -‬اإلجنازات‪( ،‬بريوت‪ :‬دار اهلادي‬ ‫‪50‬‬

‫للطباعة والنشر والتوزيع‪.)2001 ،‬‬


‫طارق البشري (افتتاحية)‪ ،‬اندية مصطفى ومدحت ماهر (تقدمي) املشروع احلضاري اإلسالمي‪ :‬األزمة‬ ‫‪51‬‬

‫واملخرج‪ ،‬أميت يف العامل‪ ،‬العدد ‪( ،13‬القاهرة‪ :‬مركز احلضارة للدراسات السياسية‪.)2017 ،‬‬
‫‪ 52‬سيف الدين عبد الفتاح إمساعيل‪ ،‬مدخل القيم‪ :‬إطار مرجعي لدراسة العالقات الدولية يف اإلسالم؛ يف‪:‬‬
‫اندية حممود مصطفى (إشراف عام)‪ ،‬مشروع العالقات يف اإلسالم؛ اجلزء الثاين‪( ،‬القاهرة‪ :‬املعهد العاملي‬
‫للفكر اإلسالمي‪.)1996 ،‬‬

‫‪39‬‬
‫هذه املفاهيم واألفكار والعناصر احلياتية يف خيط انظم عماده الدين ابملعىن األوسع‪:‬‬
‫مرجعية قيمية‪.53‬‬
‫ومن مثَّ جيري التأكيد على اجلمع بني واقعية الدين وأن الدين للواقع‪ ،‬ومثالية احلياة‪ ،‬وأن‬
‫لب الدين وجوهر اإلنسانية‪ ،‬واملركب‬ ‫الواقع ال قيمة له بغري الواجب‪ ،‬وأن هذا اجملموع هو ُّ‬
‫احلافز لتجدد احلضارة‪.54‬‬
‫ومن املهم أن نشري يف هذا املقام إىل طرح آخر مييل إىل اجلانب العملي ابسم الدين‬
‫(اإلسالم) احلضاري التنموي‪ ،55‬وقد برز يف مراحل ومواضع عديدة؛ ميكن إرجاع‬
‫مثال إىل حماولة الوزير خري الدين التونسي يف أواخر القرن التاسع عشر التجديد‬
‫إرهاصاته ً‬
‫من منظور إسالمي منفتح على العامل كما يف مقدمة كتابه "أقوم املسالك يف معرفة أحوال‬
‫املمالك"‪ ،‬الذي أراد فيه الربط بني العرفان والعمران‪ ،‬وبني اإلسالم والزمان واملكان‪ ،‬من‬
‫منظور سياسي ومقاصدي‪ ،‬لكنه ابألساس تطبيقي؛ حيث حاول تطبيقه يف تونس والدولة‬
‫العثمانية‪.56‬‬
‫وقد تصدر بعض احلركيني من اإلسالميني املعاصرين ملثل هذه األطروحة‪ ،‬ولعل أبرزهم‬
‫مهاتري حممد رئيس وزراء ماليزاي‪ ،‬الذي يقول‪" :‬رمبا ال نطبق يف ماليزاي ما تنص عليه‬
‫الشريعة يف كل حالة‪ ،‬وإمنا نطبق قوانني أخرى‪ ،‬لكننا نتبع تعاليم اإلسالم بدفاعنا عن‬

‫اندية مصطفى‪ ،‬سيف الدين عبد الفتاح‪ ،‬ماجدة إبراهيم (حمررون)‪ ،‬التحول املعريف والتغري احلضاري‪:‬‬ ‫‪53‬‬

‫قراءة يف منظومة فكر د‪ .‬مىن أبو الفضل‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار البشري للثقافة والعلوم‪ ،‬مركز احلضارة للدراسات‬
‫السياسية‪ ،‬ط‪.)2011 ،1‬‬
‫مدحت ماهر الليثي‪ ،‬حنو تصور أساس يف املشروع اإلسالمي احلضاري‪ ،‬أميت يف العامل (‪ :)13‬املشروع‬ ‫‪54‬‬

‫احلضاري اإلسالمي‪ :‬األزمة واملخرج‪( ،‬القاهرة‪ :‬مركز احلضارة للدراسات السياسية‪1438 ،‬هـ‪ ،)2017/‬ص‬
‫‪.135-115‬‬
‫‪ 55‬عبد احلميد أبو سليمان (تقدمي)‪ ،‬األمة وأزمة الثقافة والتنمية‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار السالم طباعة والنشر والتوزيع‬
‫والرتمجة‪ ،)2007 ،‬جملدان‪.‬‬
‫‪ 56‬خري الدين التونسي‪ ،‬أقوم املسالك يف معرفة أحوال املمالك‪ ،‬تقدمي‪ :‬حممد احلداد‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الكتاب‬
‫املصري‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الكتاب اللبناين‪ ،)2012 ،‬ص ‪.75-3‬‬

‫‪40‬‬
‫توفري العدالة للجميع يف هذا البلد املتعدد األداين‪ ،‬وإبقائنا األمة بعيدة عن الصراع وانعدام‬
‫أيضا‪ .‬ويف‬
‫األمن‪ .‬وابملثل‪ ،‬بتساحمنا مع األداين األخرى نكون ملتزمني بتعاليم اإلسالم ً‬
‫الواقع‪ ،‬متسكت احلكومة ابملبادئ اإلسالمية يف مجيع أعماهلا‪ .‬لذلك‪ ،‬لدينا كل احلق يف‬
‫وصف ماليزاي أبهنا دولة إسالمية‪ ،‬واإلسالم وأسلمة اإلدارة املاليزية مل يكوان حمل نزاع من‬
‫قبل‪ .‬واحلقيقة هي أنه يف الفرتة اليت تبنت فيها ماليزاي القيم اإلسالمية وأعلنت أهنا دولة‬
‫إسالمية‪ ،‬ساد السالم واالستقرار وتطورت البالد ومنت على حنو مل يسبق له مثيل"‪.57‬‬
‫وقد شرح مهاتري حممد ذلك املفهوم بسعة يف مواضع أخرى من موسوعته‪ ،‬خاصة اجمللد‬
‫األول منها بعنوان "اإلسالم واألمة اإلسالمية"‪ ،‬وتدل عناوين فقراته على ذلك املعىن‬
‫احلضاري العملي للدين ولإلسالم خباصة‪ :‬كرامة األمة اإلسالمية يف خطر‪ ،‬اإلسالم‬
‫والعوملة‪ ،‬القوانني اإلسالمية يف العامل املعاصر‪ ،‬مستقبل املسلمني يف القرن احلادي‬
‫والعشرين‪ ،‬أمهية احلج ومغزاه احلقيقي‪ ،‬التجربة املاليزية‪ :‬دروس وعرب لألمة اإلسالمية‪،‬‬
‫االرتقاء مبفهوم اإلسالم وتعزيزه لدى وسائل اإلعالم‪ ،‬دور الدين يف جمتمع متعدد األداين‪،‬‬
‫دور اإلسالم يف تشجيع التسامح وتعزيزه‪ ،‬التعاون إلحداث التنمية بني األمم اإلسالمية‪،‬‬
‫مستقبل األمم اإلسالمية‪ ،‬اإلسالم ال يعوق التطور‪ ،‬اإلسالم‪ :‬الدين الذي أسيء فهمه‪،‬‬
‫اإلسالم وحركة الدعوة العاملية‪ ،‬حمنة األمة اإلسالمية‪ ،‬العودة إىل القرآن‪ ،‬دور اجلامعة‬
‫اإلسالمية العاملية يف ماليزاي‪ ،‬اإلسالم والعدالة‪ ،‬العدالة اإلسالمية‪ ،‬اإلسالم والتصنيع‪...‬‬
‫الفكر اإلسالمي واحلضارة‪ .‬وقريب من ذلك مشروعات فكرية عملية لقيادات إسالمية‬
‫مثل‪ :‬علي عزت بيجوفيتش‪ ،‬وحممد خامتي‪ ،‬وأمحد داوود أوغلو‪.58‬‬
‫ويف هذا السياق‪ ،‬مثة دراسات تتعمد أن ختلط بني الدين والتدين فرتكز على الدين يف‬
‫الواقع ابعتباره الدين احلقيقي‪ ،‬بدأت نواهتا مع طرح إميل دوركامي لفكرة أن الدين ظاهرة‬

‫‪ 57‬مهاتري حممد‪ ،‬طبيب يف رائسة الوزراء‪ :‬مذكرات الدكتور مهاتري حممد‪ ،‬ترمجة‪ :‬أمني األيويب‪( ،‬بريوت‪:‬‬
‫الشبكة العربية لألحباث والنشر‪ ،)2014 ،‬ص ‪.566‬‬
‫‪ 58‬انظر يف ذلك على سبيل املثال‪ :‬أمحد داوود أوغلو‪ ،‬العمق االسرتاتيجي‪ :‬موقع تركيا ودورها يف الساحة‬
‫الدولية‪ ،‬ترمجة‪ :‬حممد جابر ثلجي وطارق عبد اجلليل‪ ،‬ومراجعة‪ :‬بشري انفع وبرهان كوروغلو‪( ،‬الدوحة‪ :‬مركز‬
‫اجلزيرة للدراسات‪ ،‬الدار العربية للعلوم انشرون‪ ،‬ط‪ ،)2011 ،2‬خاصة ص ‪.300-278‬‬

‫‪41‬‬
‫اجتماعية ال غري‪ ،‬األمر الذي فتح اجملال أمام دراسات سوسيولوجيا الدين‪ ،‬وأنثروبولوجيا‬
‫الدين‪ ،‬وجغرافيا الدين‪ ،‬وقد حظي اإلسالم بنصيب وافر من اهتمام هذه املنظورات‪ .‬فربز‬
‫منظور ما يسمى بـ "أنثروبولوجيا اإلسالم" جبناحيه‪ :‬االستشراقي والنقدي‪ ،‬حيث حاول‬
‫تطبيقه مستشرقون حمدثون مثل إرنست جلنر يف كتابه "جمتمع مسلم"‪ ،‬وطوره ونقده‬
‫مفكرون إسالميون من مدرسة نقد االستشراق مثل طالل أسد خاصة يف مقالته الشهرية‬
‫"فكرة أنثروبولوجيا اإلسالم"‪ .59‬ودارت جداالت طويلة حول تصنيفات لإلسالم من‬
‫املنظور السوسيولوجي كتلك اليت برزت مع كتاب ابتريك هايين "إسالم السوق" ونقده‬
‫للممارسات التلفيقية للمسلمني واإلسالميني اجلدد ابسم االشتباك وااللتقاء اإلسالمي‬
‫مع احلداثة واالستهالكية والربح والغلبة السياسية واالجتماعية يف حقبة العوملة منذ مطلع‬
‫تسعينيات القرن املاضي‪ .60‬ويف السياق ذاته برزت صيحات وحماوالت حتييث اإلسالم‬
‫قوميًا أو جغرافيًا ابسم اإلسالم اآلسيوي أو األفريقي أو العريب أو املصري أو‬
‫الوهايب‪/‬اخلليجي أو الرتكي‪ ،‬أو حتييثه يف بعض روافد تطبيقه كاإلسالم الصويف مقابل‬
‫السلفي واإلسالم السين مقابل الشيعي‪ ..‬وهكذا‪.61‬‬
‫الدين أيديولوجيا سياسية ومرجعية حكم‬
‫عقب جتديده فهمه لإلسالم من كونه يدعو إىل دولة أو حكومة دينية إىل كونه يدعو إىل‬
‫بعيدا عما توحي به كلمة الدولة الدينية الغربية‪ ،‬جدَّد خالد‬
‫دولة إسالمية مرجعيتها الدين ً‬
‫حممد خالد طباعة كتابه "الدين للشعب"‪ ،‬وسجل قصة هذا التحول الفكري يف مقدمته‪،‬‬
‫لكي يعلن مانيفستو للدولة اإلسالمية قوامه‪" :‬حقوق اإلنسان من حقوق هللا‪ ،‬ليس يف‬
‫دين هللا إقطاع‪ ،‬حق الشعب يف أن حيكم نفسه بنفسه ولنفسه‪ ،‬حق الشعب يف احلرية‬

‫‪ 59‬طالل أسد‪ ،‬فكرة أنثروبولوجيا اإلسالم‪ ،‬تعريب سامر رشواين‪ ،‬االجتهاد‪ ،2001 ،‬ص ‪.169-139‬‬
‫وهو حماضرة ألقاها أسد يف مركز الدراسات العربية املعاصرة‪ ،‬جبامعة جورج اتون بواشنطن‪ ،‬يف عام ‪،1985‬‬
‫ونشرت مارس ‪.1986‬‬
‫‪ 60‬ابتريك هايين‪ ،‬إسالم السوق‪ ،‬نقله إىل العربية‪ :‬عومرية سلطاين‪ ،‬تقدمي د‪ .‬هبة رءوف عزت‪( ،‬القاهرة‪:‬‬
‫مدارات لألحباث والنشر‪.)2015 ،‬‬
‫‪ 61‬مدحت ماهر الليثي‪ ،‬حنو تصور أساس يف املشروع اإلسالمي احلضاري‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫معا حىت ال تنتحر‬
‫والسالم‪ ،‬حق الشعب يف املساواة‪ ،‬حق الشعب يف املعارضة واملقاومة‪ً ..‬‬
‫البشرية‪ ،‬الثروة القومية من شعائر هللا‪ ،‬االستعمار إحلاد‪ ،‬الناس إخوة‪ ،‬اجلماعة والفرد‪ ،‬كل‬
‫شيء لإلنسان‪ ،‬يف العالقات االجتماعية‪ ،‬احرتام اإلنسان‪.62"...‬‬
‫وقد اتسع هذا املدلول حىت لقد غلب على معىن الدين لدى القطاع العريض من‬
‫اإلسالميني ال سيما مع صعود املعركة السياسية بني اإلسالمية والدميقراطية من جهة‪،‬‬
‫والعلمانية أبطيافها واالستبداد من جهة أخرى‪.63‬‬
‫وقد تنوع التفسري السياسي للدين بني املدخل الفقهي الذي أخذ صورة "السياسة‬
‫الشرعية" اترة و"النظام السياسي اإلسالمي أو يف اإلسالم" اترة أخرى‪ ،‬والدولة اإلسالمية‬
‫اترة اثلثة‪ ..‬ويف هذا اإلطار تعد السياسة دينًا‪ٍ ،‬‬
‫مبعان متداخلة ومتباينة‪ :‬فالعمل السياسي‬
‫دين وعبادة وقربة إىل هللا تعاىل ابستدعاء "النية"؛ أي أن يبتغى به التقرب إىل هللا تعاىل‪،‬‬
‫وهو دين ‪-‬اثنيًا‪ -‬ألنه يلتزم يف ممارساته السياسية أحكام الدين‪ ،‬أو بصورة أعم أن يتم‬
‫وفق مرجعية الدين اليت أدانها أال خيالف الدين وأعالها أال يصدر إال عن فقه شرعي‪،‬‬
‫وهو دين ‪-‬اثلثًا‪ -‬مبعىن التزام قيم العمل السياسي وأخالقه املنبثقة عن فهم ديين‪ ،‬أو التزام‬
‫مقاصده‪ ،‬أو ضمن دائرة والء وانتماء ومتيز ديين أو حضاري (أو كليهما) هي "األمة"‪،‬‬
‫أو وفق منظور سياسي يعيد بناء مفاهيم السياسة من مرجعية معرفية إسالمية‪ .‬هذه الزوااي‬
‫كثريا ما قدمها الفكر اإلسالمي يف صيغة أخرى؛ هي‬ ‫الكثرية لتكييف السياسي دينيًا‪ً ،‬‬
‫إعادة تعريف الدين لكي يهيمن على السياسي كله‪ .‬وغالبًا ادعى اإلسالميون أن الدين‬
‫يف السياسة هو هذا كله على سبيل اإلمجال‪ ،‬لكن عند التفصيل توزعوا على تلك‬
‫املداخل؛ كل يدعي أن الدين يتجلى من مدخله ال غريه‪.64‬‬

‫‪ 62‬خالد حممد خالد‪ ،‬الدين للشعب‪( ،‬القاهرة‪ :‬املقطم للنشر والتوزيع‪.)1994 ،‬‬
‫‪ 63‬حسن الرتايب‪ ،‬املصطلحات السياسية يف اإلسالم‪( ،‬بريوت‪ :‬دار الساقي‪ ،‬ط‪،)2000 ،1‬‬
‫‪ -‬أمحد سامل (حترير وتقدمي)‪ ،‬جدل الدين والسياسة (مناظرات)‪( ،‬بريوت‪ :‬الشبكة العربية لألحباث والنشر‪،‬‬
‫‪.)2015‬‬
‫‪ 64‬انظر يف عرض وجهات نظر متنوعة ليست ابلضرورة للكاتبني‪:‬‬
‫‪ -‬حممد سليم العوا‪ ،‬يف النظام السياسي للدولة اإلسالمية‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪.)2007 ،‬‬

‫‪43‬‬
‫جهودا جبارة‪ :‬أتصيلية‪ ،‬وتفعيلية‪ ،‬كلية‬
‫أكثر اإلسالميون يف هذه املساحة‪ ،‬وأخذت منهم ً‬
‫‪65‬‬
‫وجزئية‪ ،‬لكنها يف األغلب كانت‪ :‬سجالية؛ ملواجهة املقولة واحلالة العلمانية ‪.‬‬
‫تفسريا سياسيًا كليًا‪ ،‬حىت مل يعد يف الدين‬
‫ولقد غلب على البعض منهم تفسري الدين كله ً‬
‫شيء إال ومت تضمينه يف معىن سياسي فيما رعرف ابملشروع اإلسالمي الذي قصد به‬
‫أصحابه املشروع السياسي‪ ،‬وغالبًا ما وقعت الدولة ‪ -‬ال األمة ‪ -‬يف قلبه‪ ،‬وأعاد إنتاج‬
‫كثريا من أفكار احلداثة ونظمها بوعي أو بغري وعي‪.‬‬
‫الدولة القومية و ً‬
‫الدين مشروع روحي أخالقي‪ :‬من الفردي إىل العاملي‬
‫كبريا من الفكر والدعوة اإلسالمية احلديثة ركز يف فهمه ملفهوم الدين‬
‫قطاعا ً‬
‫وواضح أن ً‬
‫مشروعا إلعادة تصور اإلنسان‪ ،‬أو ابألحرى‬
‫ً‬ ‫على الوجه الروحي مث األخالقي؛ ابعتباره‬
‫إعادة تشكيله هو والعامل احلديث‪ .‬ويقوم هذا املشروع ‪ -‬وفق كتاابت بيجوفيتش واملسريي‬
‫وشريعيت وقطب وغريهم ممن تقدم ذكرهم ‪ -‬على إعادة تعريف اإلنسان فيما بعد ماديته‬
‫وما يشرتك به مع الطبيعة؛ وكذلك تعريف "احلياة"‪ ،‬واعتبار أن ذلك املميز هو الروح‬
‫(خاصا‬
‫ً‬ ‫بواي‬
‫دعواي (للوعظ والتوعية)‪ ،‬وتر ً‬
‫واألخالق‪ .‬وأيخذ هذا املشروع غالبًا منحى ً‬
‫أيضا فلسفيًا‪ .‬ويعد هذا املشروع من أكثر مشروعات‬ ‫وعاما للمجتمعات)‪ ،‬و ً‬ ‫للفرد ً‬
‫منوا على أرض الواقع؛ ومنه يعظم رصيدهم يف املسارات األخرى‪:‬‬ ‫اإلسالميني فاعلية و ً‬
‫السياسي واأليديولوجي والتنموي‪.‬‬

‫‪ -‬حممد عمارة‪ ،‬الدولة اإلسالمية بني العلمانية والسلطة الدينية‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪.)2007 ،‬‬
‫‪ -‬وائل حالق‪ ،‬الدولة املستحيلة‪ :‬اإلسالم والسياسة ومأزق احلداثة األخالقي‪( ،‬بريوت‪ :‬املركز العريب‬
‫لألحباث ودراسة السياسات‪.)2014 ،‬‬
‫‪ -‬هبة رءوف عزت‪ ،‬اخليال السياسي لإلسالميني‪ :‬ما قبل الدولة وما بعدها‪( ،‬بريوت‪ :‬الشبكة العربية لألحباث‬
‫والنشر‪ ،‬ط‪.)2015 ،2‬‬
‫‪ -‬نوح فريدمان‪ ،‬سقوط الدولة اإلسالمية وهنوضها‪( ،‬بريوت‪ :‬الشبكة العربية لألحباث والنشر‪.)2014 ،‬‬
‫‪ 65‬سيف الدين عبد الفتاح إمساعيل‪ ،‬يف النظرية السياسية من منظور إسالمي‪ :‬منهجية التجديد السياسي‬
‫وخربة الواقع العريب املعاصر‪( ،‬القاهرة‪ :‬املعهد العاملي للفكر اإلسالمي‪.)1998 ،‬‬
‫‪44‬‬
‫قدرا من التسامح مع هذا‬‫وعلى الرغم من وجود علمانية جزئية يف العامل اإلسالمي تظهر ً‬
‫فكرا ودعوة‪ -‬على الوصل بينه وبني املشروع السياسي‬
‫املشروع‪ ،‬فإن إصرار اإلسالميني ‪ً -‬‬
‫بديال للمشروع الغريب والتغرييب‪ ،‬جيعل املشروع‬
‫والدعوة ملشروع حضاري يناهض أو يقوم ً‬
‫أيضا عرضة للسجال واالحرتاب‪ ،‬على ما هو جلي يف السنوات األخرية‪،‬‬ ‫الدعوي الرتبوي ً‬
‫ويدفع العلمانيني ‪-‬ال سيما املرتبطني ابلسلطة‪ -‬إىل البحث عن مشروع تربوي بديل وبثه‬
‫يف الشعوب‪.‬‬
‫ومن انحية أخرى‪ ،‬استوعب مسار من الفكر اإلسالمي ذلك النوع من العلمانية اجلزئية‬
‫اليت تفصل بني املؤسستني الدينية والسياسية ‪-‬كما يف التجربة الغربية‪ -‬أو بني الدين‬
‫والدولة كما يوسعه البعض‪ ،‬دون الشاملة اليت تفصل القيم عن احلياة‪ ،‬وفق تسمية د‪ .‬عبد‬
‫جناحا يف تفكيك العلمانية‪:‬‬
‫الوهاب املسريي الذي يعد من أبرز املفكرين اإلسالميني ً‬
‫‪66‬‬
‫ومشروعا يف عامل اإلسالم ‪ ،‬وتفاعلت بعض من‬ ‫ً‬ ‫اقعا‬
‫مفهوما وفكرة وفلسفة واترخيًا وو ً‬
‫ً‬
‫احلركات والروافد اإلسالمية مع العلمانية من ابب االلتقاء عند جزء منها ال تتسع الستبعاد‬
‫كل القيم وال كل املعىن املرجعي للدين من احلياة ولو على سبيل أنه ثقافة سائدة‪ ،‬على‬
‫حنو ما هو مشهود يف التجربة الرتكية الراهنة على سبيل املثال‪.‬‬
‫ومن اجلدير ابلذكر أن املنحى األخالقي للدين قد دخل يف صياغة فلسفية مهمة ضمن‬
‫مشروعا الستعادة احلقيقة‬
‫ً‬ ‫مشروع الدكتور طه عبد الرمحن‪ ،‬الذي جعل من األخالق‬
‫الوجودية واملعرفية لإلنسان من جهة‪ ،‬ولتقدمي الدين من جهة أخرى فلسفة للحياة‬
‫بفروعها‪ :‬الوجود واملعرفة والقيم‪ ،‬ضمن السجال الدائب مع الفلسفة الغربية‪.67‬‬

‫‪ 66‬عبد الوهاب املسريي‪ ،‬العلمانية اجلزئية والعلمانية الشاملة‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،‬ط‪،)2002 ،1‬‬
‫جملدان‪.‬‬
‫‪ 67‬طه عبد الرمحن‪ ،‬سؤال األخالق‪ :‬مسامهة يف النقد األخالقي للحداثة الغربية‪( ،‬الدار البيضاء‪ :‬املركز‬
‫الثقايف العريب‪ ،‬ط‪ ،)2006 ،3‬ص ‪.55-29‬‬

‫‪45‬‬
‫ومن هذا خرجت أطروحات السياسة اإلسالمية من خالل املنظور األخالقي‪ ،‬كما عرب‬
‫‪68‬‬
‫أيضا ضمن حماولة حترير الدينية اإلسالمية‬
‫عنها طرح "الدولة املستحيلة" لوائل حالق ‪ً ،‬‬
‫من أسر القومية الوضعية الغربية‪ .‬وكشف اجلدل الفكري الذي أاثره كتاب حالق عن‬
‫ثالثة منطلقات حية لبناء العالقة بني السياسة واألخالق فكرًاي أو بني السياسي‬
‫والدعوي‪/‬الرتبوي عمليًا ضمن مفهوم اإلسالميني للدين وما حييط به من مفاهيم‪ :‬الدين‬
‫مشروعا أخالقيًا‪ ،‬والدين هو األخالق اثنيًا ومنها ينبث معىن‬
‫ً‬ ‫أوال ويستتبع‬
‫هو السياسة ً‬
‫السياسي اإلسالمي املباين‪ ،‬واثلثها أن الواجب يف حتقيق الدين يف اجملتمع احلديث هو‬
‫اجلمع املتوازي بني القسيمني‪ :‬السياسي واألخالقي‪ ،‬لكن ال يبدو أن اإلسالميني قد‬
‫قدموا صيغة انظمة لذلك واضحة‪.‬‬
‫وأخريا‪ ،‬فإن ذلك العرض ملفهوم الدين عند بعض املفكرين اإلسالميني ال يدعي ٍ‬
‫حبال‬ ‫ً‬
‫متاما‪ ،‬وإمنا هو متثيل وهو انتقاء ألطايب من فهم خنبهم البارزة‪ ،‬ولفهم‬
‫ً‬ ‫معرب‬ ‫أو‬ ‫شامل‬ ‫أنه‬
‫يضا بينهم‪ .‬فليست تلك هي الصورة كلها‪ ،‬ولعل يف اإلشارة ما يقوم مقام العبارة‪.‬‬ ‫شائع أ ً‬
‫فثمة مفهومات للدين عند قطاع من مفكري اإلسالم احملدثني متضاربة وتدافعات كربى‬
‫بني الطيف الفكري واحلركي اإلسالمي حول دالالت الدين‪ ،‬وجتلياته يف جماالت احلياة‬
‫الفكرية والعملية‪ ،‬ولكن ما أشران إليه إمنا يدل على ثراء وخصوبة وتطور وتنوع وتعدد‪،‬‬
‫مثمرا وقابل ألن يكون غري ذلك‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫قابل ألن يكون ً‬

‫‪ 68‬وائل ب‪ .‬حالق‪ ،‬الدولة املستحيلة‪ :‬اإلسالم والسياسة ومأزق احلداثة األخالقي‪ ،‬ترمجة‪ :‬عمرو عثمان‪،‬‬
‫(بريوت‪ :‬املركز العريب لألحباث ودراسة السياسات‪ ،‬أكتوبر ‪ ،)2014‬خاصة ص ‪ ،187-147‬ص ‪-275‬‬
‫‪.295‬‬
‫‪46‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬‬
‫قراءة يف تصورات الزمن واملستقبل‬
‫يف املخيال اإلسالمي املعاصر‬
‫حممد العريب‬
‫‪.I‬مقدمة‪:‬‬
‫البحث يف الزمن من أعقد القضااي اليت قد يضطلع هبا‬
‫الباحث‪ ،‬ليس فقط ألنه حبث ختتلط فيه امليتافيزيقا‬
‫ابلفيزايء ابلثقافة بغريها من مشارب العلم اإلنساين؛ ولكن‬
‫أيضًا ألن الزمن صعب أن يدرك‪ ،‬فهو كما ذهب أفلوطني‬
‫السكندري "كل شـيء وال شـيء"‪ ،‬والعقل اإلنساين إن‬
‫أحاط ببعض جوانبه يستحيل عليه أن يدرك أبعاده كافَّةً‪.‬‬
‫ومع ذلك يبقى البحث يف الزمن واالهتمام به‪ ،‬ثقافيًا‬
‫وفلسفيًا‪ ،‬مهمة شائقة تقرتن ابلكثري من اجلوانب الوجودية‬
‫يف ثقافة أو فكر ما‪.1‬‬
‫فالزمن مستودع الوعي اإلنساين ومؤشر إدراك كل مجاعة بشرية على وجودها ومسار‬
‫تطورها ومصريها‪ .‬وعلى عكس الفكر اإلسالمي التقليدي‪ ،‬الذي شكلته تيارات فقهية‬

‫‪ 1‬راجع على سبيل املثال‪:‬‬


‫ميىن طريف اخلويل‪ ،‬الزمان يف الفلسفة والعلم‪( ،‬اهليئة العامة املصرية للكتاب‪ ،‬القاهرة‪.)1999 ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫كولن ولسون وجون جرانت‪ ،‬فكرة الزمان عرب التاريخ‪ ،‬ترمجة فؤاد كامل‪( ،‬سلسلة عامل املعرفة‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫عدد ‪.)1992 ،159‬‬
‫‪Stephen Hawkins, A Brief History of Time, N.Y.: Bantam,‬‬ ‫‪-‬‬
‫)‪2011.(10th anniversary edition‬‬
‫وفلسفية وكالمية وصوفية شتـى‪ ،‬والذي اهتم ابلزمن وفهمه‪ ،‬قلما جند يف الفكر اإلسالمي‬
‫يعرب عنه ثالثة تيارات هي‪ :‬التيار الدينـي التقليدي‪ ،‬وتيار اإلسالم‬ ‫احلديث الذي ّ‬
‫اهتماما كافيًا ابلزمن ثقافيًا وفلسفيًا‪ .‬وذلك‬
‫ً‬ ‫السياسـي‪ ،‬والتيار الثقايف واألكادميي ‪-‬‬
‫عموما‪ ،‬وارتكازه على إعادة بناء‬
‫ألسباب شتـى تتعلق ابحنسار التنوع يف الفكر الدينـي ً‬
‫الشريعة وتعريفها كإطار قانوين يف مواجهة التحديث الغريب‪ ،‬مبا قدم أسئلة االشتباك مع‬
‫اآلين الستكمال شروط التقنني على فهم الزمن يف امتداده بني األزل واألبد يف التصور‬
‫انعكاسا لالنشغال مببحث السياسة على ما عداه من‬ ‫ً‬ ‫األصلي لإلسالم‪ ،‬والذي كان‬
‫مباحث يف إطار وضعية الصراع اليت طغت على الفكر اإلسالمي لقرون منذ منتصف‬
‫القرن التاسع عشر مث بعد سقوط الدولة العثمانية‪.‬‬
‫ال أدل على هذا التهميش لسؤال الزمن فلسفيًّا من ندرة البحث يف املستقبل يف الفكر‬
‫اإلسالمي‪ .‬فاملستقبل ابألساس ظاهرة زمانية‪ ،‬والتفكري فيه تدليل على الوعي ابلزمن‪ .‬وإذا‬
‫كان التفكري يف الزمن له أبعاد فلسفية ووجودية‪ ،‬فإن التفكري يف املستقبل له دالالت‬
‫متص َور من خالل‬
‫وجتليات واقعية اجتماعية وسياسية‪ ،‬تتعلق بكيفية حتقيق مستقبل ما َ‬
‫إعادة بناء الواقع‪ ،‬وتفعيل أو تغييب القدرة اإلنسانية على إعادة صياغة احلاضر ومن َمثَّ‬
‫صورا‬
‫تبشرياي يقدم ً‬
‫ً‬ ‫املستقبل‪ .‬واالهتمام ابملستقبل يف الفكر اإلسالمي املعاصر‪ ،‬كان غالبًا‬
‫غائمة عن انتصار لإلسالم أو َم ْن حيملون تصوراته على َم ْن عداهم يف الداخل واخلارج‬
‫يف صيغة حماكاة لتاريخ اإلسالم املاضي الذي حيتل مساحةً من اخلطاب أكرب من مساحة‬
‫القادم بكثري‪ ،‬ودون تقدمي خارطة لتحقيق هذا "االنتصار" ومعامله وضوابطه‪ .‬وتشكل‬
‫اإلجابة على سؤال املستقبل استجابةً لتحدايت افتقر الفكر اإلسالمي يف عموم روافده‬
‫املعاصرة إىل من جييب عليها أو من ميلك اخليال الكايف لالضطالع هبا‪ .‬أهم هذه‬
‫التحدايت كان جتديد الفكر الدينـي‪ ،‬وموقع اإلسالم يف العامل ودوره يف إعادة بنائه يف‬
‫أثناء االستعمار وبعده (وحاليًا يف ظالل العوملة والفوضـى الكونية)‪ ،‬وكذلك تعثر مسار‬
‫حركات اإلصالح يف اجملتمعات اإلسالمية‪.‬‬
‫جتادل هذه الورقة أبن نزعتني هيمنتا على الفكر اإلسالمي احلديث‪ ،‬وسامهتا يف تغييب‬
‫االهتمام بسؤال املستقبل‪ ،‬ومها‪ :‬املاضوية‪ ،‬والتسيس‪ .‬وتذهب املاضوية إىل االنشغال‬
‫ابملاضـي "املتصور" وإعادة إنتاج معاركه الفقهية والكالمية واملذهبية مبا يعوق اجملتمعات‬
‫يعرب عن تطلعاهتا للخروج من احلاضر املأزوم؛ أما التسيس‪،‬‬‫اإلسالمية عن صوغ مستقبل ّ‬
‫‪48‬‬
‫فيشري إىل الولع ابلدولة على حن ٍو اختزل اإلسالم إىل أيديولوجيا ونزع منه إمكاانته التحررية‬
‫والروحانية اليت كان من شأهنا أن متنح جمتمعاته قدرةً أكرب على األخذ بناصية حاضرها‬
‫ومستقبلها على أرضية أكثر ثقة وأفضل يف جتاوهبا مع العامل‪ .‬وللربهنة على هذا االفرتاض‪،‬‬
‫منوذجا لتيار اإلحياء‬
‫ً‬ ‫تدرس الورقة جتليات الزمن واملستقبل عند حممد إقبال ابعتباره‬
‫اإلسالمي ورافده اإلصالحي قبل بزوغ اإلسالم السياسـي؛ مث تتناول املفهوم عند سيد‬
‫أهم مصادر األصول الفكرية لتيار اإلسالموية األكثر غلبة‬ ‫قطب الذي تعترب كتاابته َّ‬
‫وانقدا‬
‫ائدا للفكر املستقبلي يف الغرب ً‬ ‫أخريا عند ضياء الدين ساردار ابعتباره ر ً‬‫وسيادة؛ و ً‬
‫ثقافيًا يسعى نظرًاي وعمليًا لبناء رؤية ملستقبل اإلسالم يعمل على تطويرها منذ عدة عقود‪.‬‬
‫شامل أو ينطبق على كل روافد الفكر اإلسالمي‬ ‫ال تدعي هذه الورقة أن افرتاضها السابق ٌ‬
‫بلداان وثقافات فرعية تتجاوز‬
‫احلديث‪ ،‬فهو يتسع لقرن من الزمن‪ ،‬ورمبا أكثر ويشمل ً‬
‫حدود العامل اإلسالمي‪ .‬ورمبا منعتنا املركزية الثقافية يف العامل العريب وتقيدها ابلتعاطي شبه‬
‫احلصري مع الثقافة الغربية وما تفرضه من أجندة من االطالع على مناذج ميكن هلا أن‬
‫أسا على عقب‪ .‬وكل افرتاض على كل حال هو اجتهاد انقص ولو‬ ‫تقلب هذا االفرتاض ر ً‬
‫ثبتت صحته‪ .‬وما اختياران للنماذج الفكرية الثالثة على تنوعها وتبانيها إال حماولة للتأكيد‬
‫على ما حيمله الفكر اإلسالمي املعاصر من إمكانيات حيوية للتفكري يف الزمن وتصور‬
‫املستقبل ‪ -‬وهو االجتاه الذي نتمىن أن نساهم فيه ما وسعنا اجلهد‪.‬‬
‫‪.II‬املستقبل املفقود‪ :‬املاضوية والتسييس‬
‫يعرب عنه مفكروه‪ -‬غائبًا عما سيكون‬
‫اليوم يبدو اإلسالم ‪-‬كنطاق ثقايف وحضاري‪ ،‬وكما ّ‬
‫عليه العامل يف املستقبل‪ .‬فاملطالعة البسيطة اليت تقارن ما يشغل العامل اليوم حول املستقبل‪،‬‬
‫وما يشغل الفكر اإلسالمي توضح مظاهر هذا الغياب‪ .‬فال أحد يف نطاق الفكر‬
‫اإلسالمي‪ ،‬يتناول قضااي من قبيل االحتباس احلراري وتداعياته االجتماعية والوجودية على‬
‫العمران البشري‪ ،‬ورمبا مل خيطر ببال أحدهم أن يوسع احلديث عن أثر التكنولوجيا يف‬
‫إعادة تعريف اإلنسان‪ ،‬وموقع الدين والثقافة يف هذا التعريف‪ ،‬الذي قد يعيد بدوره ما‬
‫توافقت البشرية على اإلشارة إليه من ظواهر مثل "اإلنسان" و"الدين" و"احلضارة"‬
‫خياال علميًا ورفاهية‬
‫و"القيم"‪ .‬وقد تبدو ظواهر مثل الذكاء االصطناعي والواقع االفرتاضي ً‬
‫تضيق هبا األفهام املنشغلة بقضااي املذهبية والصراع على الدولة والتفسريات السياسية‬

‫‪49‬‬
‫للدين‪ ،‬وأولوية التجديد أو اإلصالح الديين يف نطاق سياسـي‪ ،‬وخطورة األصولية والفكر‬
‫املتطرف‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬ليس لإلسالم دور منظور يف صياغة العامل اجلديد‪ ،‬إال مبا قد‬
‫يطرحه من أزمات ال من حلول أو بدائل للتفكري يف مستقبل العامل‪ ،‬وينعكس هذا يف‬
‫حضور "صور" العنف والتطرف اليت ختتزل اإلسالم يف عامل اليوم يف "إشكالية"‪ ،‬كما‬
‫يتضح مأزق وقوع الفكر اإلسالمي على مدار عقود يف فخي املاضوية والتسيس‪.2‬‬
‫املاضوية‪ :‬وليست املاضوية رديفة األصالة‪ ،‬وإن اختلطا من حيث‬ ‫‪-1‬‬
‫املدلول‪ ،‬تشري األصالة إىل ذلك البحث عن الذات الـذي حياول من خالله الفاعل‬
‫االجتماعي ‪"-‬الفرد" أو "اجلماعة"‪ -‬جتاوز ذاته املصنعة أو املفروضة‪ ،‬تلك اليت‬
‫يعتربها "غري أصيلة" وتعوقه عن التحقق‪ ،‬وتدفعه حنو االغرتاب‪ .‬أما املاضوية فتمثل‬
‫فضا للذات وواقعها من خالل استعارة ذات ماضية وإعادة فرضها‬ ‫يف جوهرها ر ً‬
‫على املستقبل‪ .3‬لقد ارتبط البحث عن األصالة ابحلداثة وما أفرزته عملياهتا من‬
‫قلق وجودي عميق‪ ،‬حيث أدت الفردانية ونزع السحر عن العامل والبريوقراطية إىل‬
‫حاالت من التشظي وانعدام املعنـى وانسحاق الفرد أمام البريوقراطية وبناها‬‫ٍ‬
‫السياسية واالجتماعية‪ .‬وعلى الرغم من أن هذه املصادر حققت إجنازات ملموسة‬
‫أصبحت مصدر تطل ٍع للثقافات األخرى‪ ،‬فإهنا أودت حبياة اإلنسان إىل ٍ‬
‫ضيق‬ ‫َ‬
‫تعبريا عن حماولة الفرد لالنعتاق من ذاته‬
‫وفقر يف املعنـى؛ لذا كانت األصالة ً‬
‫حممد العريب‪ ،‬نقد خطاب اإلصالح الدينـي من منظور مستقبلي‪( ،‬موقع حكمة‪ ،‬أبريل ‪)2016‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪https://goo.gl/T2Fpfj‬‬
‫‪ 3‬جدير ابلنظر يف هذا السياق أفكار الفيلسوف املغريب طه عبد الرمحن يف االهتمام مبفهوم اإلبداع الذي مييزه‬
‫عن البدعة‪ ،‬فهو يرى أن فهم التاريخ مث بناء رؤية للمستقبل تعي تشابكات النموذج "االئتماين" للرؤية اإلسالمية‬
‫املسدد حيتاج إىل الوحي مث عليه السعي‪ .‬ورغم‬ ‫ومتايزاته عن الفلسفات األخرى يفتح أفق اإلبداع‪ ،‬وأن العقل َ‬
‫أنه ال يفرد مبحثًا للزمن‪ ،‬فإن أفكاره متس صلب التجديد العقلي من منظور يغلب عليه التجربة الصوفية‪ ،‬لكن‬
‫هذا من انحية يدفع حنو التفاعل مع ما حنن بصدده وهو تعامل العقل مع املفاهيم املركزية‪ ،‬وقد يقود إىل التعامل‬
‫مع مستوايت من الزمن يف إعادة تعريف العقل والتجربة اإلميانية تسمح ابجتهاد جديد يشتبك مع املاضوية‬
‫والتسييس من انحية أخرى؛ لذا جند أفكاره ذات أمهية تستحق اإلشارة هنا‪.‬‬
‫راجع‪ :‬طه عبد الرمحن‪ ،‬العمل الديين وجتديد العقل‪( ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املركز الثقايف العريب ‪.)2004‬‬

‫‪50‬‬
‫تعبريا عن حماوالت‬
‫املصنعة‪ ،‬وكانت الكثري من الفلسفات الوجودية والنقدية ً‬
‫االنعتاق تلك‪ ،‬أما األصالة يف الفكر اإلسالمي احلديث فهي تعبري ثقايف وحضاري‬
‫"وجوداي" أو مسعى فردانيًا إلعادة بناء تصورات الذات يف‬ ‫ً‬ ‫وديين‪ ،4‬أكثر منه‬
‫زمنها اآلين‪.‬‬
‫لقد أتسس اإلحياء اإلسالمي يف هناية القرن التاسع عشر على أساس إعادة‬
‫التعريف أبصول الدين والشريعة مبا يتجاوز الرتسبات االجتماعية اليت تسببت يف‬
‫مشوشا لدى‬‫ً‬ ‫خلط الدين ابلتقاليد االجتماعية على حنو جعل فهم الدين‬
‫اجملتمعات اإلسالمية احلديثة‪ .‬بيد أن هذا املبدأ جعل الفكر اإلسالمي يف املراحل‬
‫التالية عبارة عن جدلية كربى بني ثنائيتني مها‪ :‬األصالة والتجديد‪ ،‬أو املعاصرة أو‬
‫احلداثة‪ .‬ويف حني انتصر آابء اإلحياء اإلسالمي األوائل لفكرة املواءمة بني التقاليد‬
‫الدينية والثقافية يف عمومها مع حركة احلداثة اليت بدا وأن غزوها للعامل اإلسالمي‬
‫حتمي‪ ،‬جند أنه يف الفرتات التالية خاصة مع مرحلة ظهور احلركات اإلسالمية‬ ‫أمر ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫السياسية مث تطورها الالحق سياسيًّا واجتماعيًّا أصبح التغليب للتقليد مع رفض‬
‫احلداثة كفكرة مع قبول التعامل الذرائعي مع أدواهتا‪ .‬وهنا انتقل الفكر اإلسالمي‬
‫من االرتكاز على األصالة إىل املاضوية؛ حيث أصبحت "اهلوية" حمل تساؤل‬
‫ابعتبار أهنا يف خطر‪ ،‬وأن استعادة املاضـي وإعادة فرضه هو السبيل الوحيد لدحر‬
‫هذا اخلطر‪ .‬ومع املاضوية‪ ،‬دخل الفكر اإلسالمي يف جدال خصامي بني ثنائياته‪.‬‬
‫املشكل يف هذه الثنائيات املهيمنة ‪-‬ضمن ثنائيات أخرى على الفكر اإلسالمي‬
‫املعاصر‪ ،‬وعلى رأسها التقليد واحلداثة‪ -‬أهنا جعلت قضااي املاضـي على اتساعه‬
‫األفقي املكاين والرأسـي الزماين على رأس أولوايت املفكرين املسلمني املعاصرين‬
‫طاغ يتجاوز اإلمكانيات اليت من املفرتض أن حيملها الرتاث إلانرة السبيل‬
‫بشكل ٍ‬
‫ومعينًا إلثراء النقاش حول‬
‫موردا َ‬
‫أمام أبناء احلاضر‪ ،‬حبيث أصبح عبئًا أكثر منه ً‬
‫ما يستجد من موضوعات‪ .‬لقد أصبح أبناء القرن اخلامس عشر اهلجري يتجادلون‬
‫فيما كان يتجادل فيه أسالفهم يف قرون خلت‪ ،‬مستخدمني اللغة نفسها‪،‬‬

‫‪ 4‬راجع‪ :‬فهمي جدعان‪ ،‬أسس التقدم عند مفكري اإلسالم يف العامل العريب احلديث‪( ،‬بريوت‪ :‬الشبكة‬
‫العربية لألحباث والنشر‪.)2010 ،‬‬

‫‪51‬‬
‫ومستلهمني احلجج نفسها‪ ،‬ومتغافلني عن الكثري من القضااي اليت تؤرق حاضرهم‬
‫وهتدد مستقبلهم‪.5‬‬
‫أيضا هبيمنة النصوصية على الفكر اإلسالمي‪ ،‬وأعنـي هبا أن‬‫وارتبطت املاضوية ً‬
‫جدليات الفكر اإلسالمي الكربى وقضاايه إمنا هي صراع حمض بني نصوص‬
‫ونصوص‪ ،‬وقلما انفتح هذا الفكر على التغريات احلادثة يف اجملتمعات اإلسالمية‬
‫املعاصرة‪ ،‬وإن حدث فإنه إمنا يتناوهلا من حتيزات مسبقة تفرضها النصوص على‬
‫كبريا‬
‫حنو جعل اهلوة تتسع بني النص واالجتماع‪ .‬ومن الصعب إنكار أن جزءًا ً‬
‫من كتاابت املفكرين اإلسالميني دفعتها حوادث وحتوالت وضغوطات اجتماعية‬
‫وسياسية لذلك‪ ،‬غري أن هذا حال بني الفكر اإلسالمي يف عمومه وفهم التحوالت‬
‫احلادثة يف جمتمعاته‪.‬‬
‫ورمبا يشري تعامل اإلسالميني مع مفهوم السنن اإلهلية إىل هذا العجز عن التعامل‬
‫مع متغريات الواقع االجتماعي؛ وكذلك الفشل يف التعامل مع معطيات حركة‬
‫التاريخ‪ .‬تشري السنن اإلهلية إىل ذلك النظام اإلهلي الذي حيكم سلوك البشر يف‬
‫انضباط واطراد‪6‬؛ أي تلك النواميس والقوانني اليت جتسد مفاعيل اإلرادة اإلهلية‬
‫على حركة البشر‪ .‬ويزخر القرآن الكرمي والسنة النبوية بتلك السنن اليت يستخلصها‬
‫النص الدينـي من قصص األولني‪ .‬لقد دار فهم املسلمني األوائل للسنن اإلهلية‬
‫حول مفهوم "االعتبار" الذي أتسست عليه فلسفة كتابة التاريخ اإلسالمي الذي‬
‫امتدادا لألخبار القرآنية والنبوية عن األمم الغابرة‪ ،‬وانتهى إىل استخالص‬
‫ً‬ ‫جاء‬
‫"قوانني االجتماع والعمران البشري" كما قدمها ابن خلدون يف مقدمته واترخيه‪.‬‬
‫وذهب البعض إىل القول إن ضرورة "االعتبار" جتعل من النظر يف السنن اإلهلية‬

‫‪ 5‬راجع‪ :‬إبراهيم بن علي الوزير‪ ،‬على مشارف القرن اخلامس عشر اهلجري‪ :‬دراسة للسنن اإلهلية واملسلم‬
‫املعاصر‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ،)1989 ،4‬ص ‪.155-125‬‬
‫‪ 6‬رمضان مخيس زكي‪ ،‬مفهوم السنن الرابنية‪ :‬دراسة يف ضوء القرآن الكرمي‪( ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة الشروق الدولية‪،‬‬
‫‪ ،)2006‬ص ‪.4‬‬

‫‪52‬‬
‫نظرا ألوامر النظر واالعتبار مبن خلوا والتفكري يف آاثر الذاهبني‬
‫فريضة وضرورة؛ ً‬
‫‪7‬‬
‫اليت وردت يف القرآن الكرمي ‪.‬‬
‫ومن مثَّ‪ ،‬كان للسنن اإلهلية وظيفة مركزية يف تشكيل تصور اإلسالم حول حركة‬
‫التاريخ‪ ،‬ابعتباره يسري وف ًقا لقوانني بثها اخلالق يف الزمان والعمران‪ ،‬بيد أن هذه‬
‫القوانني ليست "حديدية"؛ فوظيفتها "اعتبار أ ِ‬
‫رويل األبصار"‪ ،‬ومن مثَّ اختيار‬
‫اجملتمعات البشرية السبيل الذي تسلكه وف ًقا هلا‪ ،‬وهو املعنـى املقصود من تكرار‬
‫قَصص األمم اخلالية‪ .‬والسنن بطبيعتها عاملية ال ختتص بقوم دون آخرين‪ .‬وقد‬
‫حاول الفكر اإلحيائي أن يتعاطى مع الفارق احلضاري املتسع بني اإلسالم والغرب‬
‫من خالل مفهوم السنن‪ ،‬فذهب إىل أن هذا الفارق أحدثه أخذ الغرب أبسباب‬
‫النهوض اليت أخذ هبا املسلمون من قبلهم مث تركوها‪ .8‬ومن هنا‪ ،‬كان الفكر السننـي‬
‫أيضا دراسة اجملتمعات‬
‫دافعا لدراسة اجملتمعات الغربية وأسباب هنوضها‪ ،‬و ً‬ ‫ً‬
‫تعرب‬
‫اإلسالمية وأسباب تعثرها احلضاري‪ ،‬وهو ما يتضح يف العناوين الكثرية اليت ّ‬
‫عن تلك اجملهودات‪.‬‬
‫أما الفكر اإلسالموي‪ ،‬فتعامل مع السنن مبنطق احلتمية التارخيية مبا يناسب وضعية‬
‫التفكري األيديولوجي‪ .‬وهي وضعية تقتضـي التأكيد على صراع وانتصار هنائي‬
‫للحق على الباطل‪ .‬وابلتايل‪ ،‬فَـ َق َد االعتبار معناه الذي يقتضـي دراسة اجملتمع‬
‫يل عنق النصوص كي تفسر الواقع املركب مبقوالت ختدم‬ ‫ومعرفة تعقيداته‪ ،‬ومت ّ‬
‫كثريا ما تستدعي احلديث عن السنن بغرض "التسلية‬ ‫العاطفة الصراعية اليت ً‬
‫يعرب أحد نقاد احلركة اإلسالمية املعاصرة ببالغة عن‬‫واحلشد" ال الفهم والتدقيق‪ّ .‬‬
‫قائال‪" :‬وأغلب اإلسالميني يتعاملون مع‬
‫هذا التعامل املقلوب مع مفهوم السنن‪ً ،‬‬
‫الواقع "املركب" بفقه انطباعي ال خيضع ال لالستبيان وال لإلحصاء؛ فلغة اإلحصاء‬
‫لديهم مهدورة‪ ،‬وغالبًا ما تقوم النظرة األيديولوجية الضيقة لديهم واستصحاب‬

‫املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.35‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪ 8‬انظر على سبيل املثال‪ :‬شكيب أرسالن‪ ،‬ملاذا أتخر املسلمون وتقدم غريهم؟‪( ،‬اإلسكندرية‪ :‬مكتبة‬
‫اإلسكندرية‪ ،‬سلسلة يف الفكر النهضوي اإلسالمي‪.)2011 ،‬‬

‫‪53‬‬
‫أحاديث الفنت واملالحم مقام البحث واإلحصاء والسرب وتدبر فقه السنن الرابنية‬
‫متاما‬
‫مغايرا ً‬
‫اقعا ً‬ ‫املطردة يف األمم واحلضارات واجلماعات والدول‪ ،‬فريمسون و ً‬
‫الع َمه املظلم"‪.9‬‬
‫للحقيقة من حمض ختيالهتم وما يشتهون‪ ،‬يعرتيه َ‬
‫فكرا وحركة عن النزعة املاضوية‪10‬؛ إذ إهنا حتاول‬‫عربت اإلسالموية ً‬
‫وهبذا املعىن ّ‬
‫ماض اترخيي‬‫القفز على حتوالت اجملتمعات اإلسالمية وصراعاهتا يف حماولة لبناء ٍ‬
‫"متصور" تصوغه هي‪ ،‬وال توجد إمكانياته أو دواعيه وال سبل حتقيقه‪ ،‬فتخرج‬
‫مرجعية التاريخ من تلمس "السنن" واالقتداء إىل احملاكاة التامة‪ ،‬كما أهنا حتاول‬
‫إعادة تشكيل احلاضر عرب فهم حمدد للنصوص الدينية دون أن تدرك معامل الواقع‬
‫قسرا‪ .‬لقد راحت‬ ‫الذي أنتج النصوص أو الواقع الذي حتاول إعادة تشكيله ً‬
‫األصوليات الدينية تستثمر يف األزمات البنيوية اليت تعاين منها اجملتمعات‬
‫اإلسالمية‪ ،‬واليت جعلت منها فريسة لالستعمار واالستعمار اجلديد‪ ،‬فأصبحت‬
‫تعكس االرتباط العضوي بني البنية غري العادلة للنظامني الدويل واإلقليمي وفشل‬
‫اجملتمعات اإلسالمية يف إصالح بناها ونظمها الداخلية‪ .‬وميكننا القول إن هناك‬
‫عالقة عكسية بني صعود تلك األصولية اليت نقصدها كتجسيد سياسـي وعنفي‬
‫مباشرا) للنزعة املاضوية من انحية‪ ،‬وعدم قدرة الفكر‬
‫(سواء كان العنف هيكليًا أم ً‬
‫اإلسالمي املعاصر على جتاوز صراعات املاضـي واحلاضر وبناء تصور عن مستقبل‬
‫اإلسالم كدي ٍن وحضارة وجمتمعات من انحية أخرى‪.‬‬

‫‪ 9‬عباس شريفة‪ ،‬االستشراف السياسـي عند اإلسالميني‪( ،‬مدوانت اجلزيرة‪ 3 ،‬يوليو ‪.)2017‬‬
‫‪https://goo.gl/QZDMou‬‬
‫‪ 10‬عرب شرياز ماهر عن العالقة بني األصولية واملاضوية بقوله إن احلركات السلفية املعاصرة بشقيها املوادع‬
‫والعنيف (أي السلفية اجلهادية) تقوم على فلسفة تؤمن ابلتقدم عرب الرجوع إىل الوراء‪ .‬فلن تتحقق احلياة السليمة‬
‫إال من خالل إحياء إسالم القرون الثالث األوىل‪ .‬ويرقد م تراث السلف الصاحل على اعتبار أنه معيار الصحة‬
‫(بعيدا عن اجلدل حول‬
‫والنقاء‪ ،‬وهو التطبيق العملي للسلفية املعاصرة‪ .‬وابلتبعية‪ ،‬فرسالة السلفية كحركات ً‬
‫املنهج) هي إحيائية مبعىن السعي إىل إعادة املسلمني إىل إسالم األجيال األوىل "الصحيح" و"النقي"‪ .‬انظر‪:‬‬
‫‪Shiraz Maher, Salafi-Jihadism: A History of an Idea, London: C.‬‬
‫‪Hurst & Co Publishers, 2016, p.7.‬‬
‫‪54‬‬
‫التسيس‪ :‬ونعنـي هبذا غلبة مبحث السياسة على ما سواه من مباحث‬ ‫‪-2‬‬
‫يف الفكر اإلسالمي املعاصر‪ ،‬فعلى الرغم من أن اإلحياء اإلسالمي قد بدأ يف‬
‫ظل حقبة االستعمار وإدراك خنب العامل اإلسالمي الثقافية أن اهلوة بني جمتمعاهتم‬
‫واجملتمعات الغربية تتسع لصاحل األخرية‪ ،‬فإن رواد اإلحياء اإلسالمي مل خيتزلوا‬
‫جهدهم الفكري يف الدخول يف صراعات سياسية أو حماولة التأسيس النظري‬
‫لنظام سياسـي إسالمي‪ .‬لقد بدأ التحول الفعلي حنو ارتكاز الفكر اإلسالمي على‬
‫السياسة وحدها مع ظهور "حركات" اإلسالم السياسـي‪ ،‬والقائم على إعادة‬
‫متصورة ملا يسمى‬
‫أتسيس التنظيم السياسـي يف اجملتمعات اإلسالمية على خطوط َ‬
‫الدولة اإلسالمية وبعث اخلالفة على صورهتا التارخيية‪ ،‬وفرض اإلسالم وشريعته‬
‫بقوة دولة‪ ،‬حبيث حتل الدولة املركزية احلديثة حمل كل الوظائف القدمية اليت كان‬
‫يقوم هبا اجملتمع اإلسالمي ‪ -‬وذلك هو أخطر املزالق اليت وقعت فيها تلك‬
‫احلركات‪ ،‬وهو يف احلقيقة وثيق الصلة مبفهومهم عن الزمن‪.‬‬
‫وعلى قدر ما ينطلق اإلسالم السياسـي من حديث عن مشولية اإلسالم و"ال‬
‫زمانية" الشريعة وإمكانية تطبيقها يف كل زمان ومكان‪ ،‬فإنه خيتزل اإلسالم إىل‬
‫جمرد أيديولوجيا تتساوى مع غريها من رؤى دنيوية متصارعة حول مركز السلطة‬
‫السياسية اهلائلة اليت تتمتع هبا الدولة املركزية احلديثة‪ ،‬حبيث تصبح الدولة وسلطتها‬
‫هي مركز الدين ومناط الشريعة ال الفرد وال اجملتمع‪ ،‬وهو املأزق الذي أوقع‬
‫اإلسالموية يف تناقض وأدى الختزال مشروعهم الفكري القائم على استعادة‬
‫اإلسالم إىل برامج حركية وأيديولوجية تستبطن يف جوهرها حداثة التصورات اليت‬
‫وصوال للعوملة‪ .11‬لقد طغت‬
‫حكمت اجملتمع إابن االستعمار مث بعد االستقالل ً‬
‫هذه الرؤية على مباحث الفكر اإلسالمي األخرى الذي اخترزل بدوره إىل جمموعة‬
‫من الثنائيات اليت ولدهتا اإلسالموية وسامهت يف تقسيم اجملتمعات والنخب‬
‫الفكرية فيها‪ ،‬وابلتايل توارى احلديث عن التجديد الثقايف واإلصالح االجتماعي‬
‫وما يرتبط به من قضااي لصاحل احلديث عن التمكني السياسـي وإقامة دولة اإلسالم‬

‫‪ 11‬راجع‪ :‬هبة رءوف عزت‪ ،‬اخليال السياسي لإلسالميني‪ :‬ما قبل الدولة وما بعدها‪( ،‬بريوت‪ :‬الشبكة العربية‬
‫لألحباث والنشر‪.(2015 ،‬‬

‫‪55‬‬
‫وشعاراهتا‪ ،12‬واألهم أن اجملهود الفكري للنخب اإلسالمية انصب على التصارع‬
‫حتداي أمام اجملتمعات‬
‫حول ما يرعرف بسياسات اهلوية‪ ،‬حيث وضعت اإلسالموية ًّ‬
‫إسالما‬
‫اإلسالمية اليت جعلت تتشكك يف هويتها احلقيقية وما إذا كان إسالمها ً‬
‫صحيحا‪ ،‬وما إذا كانت القوميات الفرعية تتعارض مع االنتماء لإلسالم كجماعة‬
‫ً‬
‫وأمة‪ ،‬وما إذا كانت علمانية الدولة تتناقض مع إسالم اجملتمع‪ .‬ومع فشل النظم‬
‫احلاكمة يف حتقيق هنضة فعلية وآتكل مشروعيتها‪ ،‬أصبحت مجاعات اإلسالم‬
‫السياسـي تتغذى فعليًّا على فشل الدول احلديثة‪.‬‬
‫اخلالصة أن برانمج اإلسالم السياسـي على تنويعاته‪ ،‬سواء كانت السلمية املؤمنة‬
‫ابلدميقراطية أو تلك اجلهادية املسلحة واملقاتلة‪ ،‬هو برانمج ماضوي ابمتياز‪ ،‬يتصور‬
‫أن التاريخ سيعيد نفسه وأن هنايته لن أتيت إال إبقامة دولة خالفة عاملية تغزو العامل‬
‫وختضعه‪ .‬كما أن الصراعات املتولدة عن النزعة املاضوية جتد ترمجة هلا يف متثيالت‬
‫اإلسالم السياسـي‪ ،‬ويف حني انشغلت غالبية الكتاابت بنقض اإلطار واالفرتاضات‬
‫هتتم هذه القراءة هنا بكشف العلل ومكامن اخللل يف التصور‪.‬‬
‫لقد محل الفكر اإلسالمي منذ عهد اإلحياء ‪-‬منذ منتصف القرن الثامن عشر يف‬
‫بذورا لبناء تصورات حول املستقبل‪ ،13‬ورؤى أكثر عم ًقا عن‬ ‫تقدير البعض‪ً -‬‬
‫التفكري يف الزمن وحركة التاريخ البشري‪ ،‬وقدرة على التفاعل البنَّاء واإلجيايب مع‬
‫العامل‪ ،‬غري أن تبيان هذه الرؤى سيستدعي البدء بتبيان تصور اإلسالم للزمن‬
‫واملستقبل ابعتبار أن هذا التصور هو اجلذور اليت استقتها التيارات الفكرية‬
‫اإلسالمية املعاصرة‪.‬‬

‫انظر على سبيل املثال‪ :‬نقد د‪ .‬فريد األنصاري أحد رموز احلركة اإلسالمية املغربية‪ ،‬الذي اختار الدعوة‬ ‫‪12‬‬

‫والتزكية وفارق التنظيم وكتب يف أخطاء احلركة اإلسالمية يف املغرب‪ :‬فريد األنصاري‪ ،‬األخطاء الستة للحركة‬
‫اإلسالمية ابملغرب‪ :‬احنراف استصنامي يف الفكر واملمارسة‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الكلمة‪.)2007 ،‬‬
‫‪ 13‬راجع‪ :‬بيرت جران‪ ،‬اجلذور اإلسالمية للرأمسالية يف مصر ‪ ،1840-1760‬ترمجة رءوف عباس‪( ،‬القاهرة‪:‬‬
‫دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع‪.)1979 ،‬‬
‫‪56‬‬
‫‪.III‬الزمن واملستقبل يف التصور اإلسالمي‬
‫تتعدد صور رؤية اإلسالم للزمن بتعدد طبقات التصور اإلسالمي يف عمومه‪ ،‬فهذا التصور‬
‫يتشكل من طبقات متعددة تدور نواهتا حول القرآن الكرمي‪ ،‬فيما حيتوي على رؤية العرب‬
‫قبل اإلسالم عن الزمن وكذلك رؤية الفالسفة والفقهاء للزمن وطبيعته‪ .‬ومن مثَّ مل ينشأ‬
‫عربت فلسفة املسلمني عن الزمن عن تطورهم احلضاري‬ ‫كامال مع الوحي‪ ،‬بل ّ‬ ‫هذا التصور ً‬
‫مرورا ابلوحي مث ابختالطهم ابلشعوب والفلسفات القدمية‬ ‫والروحي منذ ما قبل اإلسالم ً‬
‫عربت رؤية العرب قبل اإلسالم عن الزمن عن عالقتهم ابملساحة‬ ‫وبتعقد االجتماع‪ّ .‬‬
‫الشاسعة من الصحراء؛ فصوروا الزمان كقوة خفية تفعل فعلها يف األشياء ويف البشر‪،‬‬
‫وغالبًا ما نسبت هلا أنواع الشرور اليت يزخر هبا العامل واملوت احملدق هبذه احلياة‪ ،‬وأطلقوا‬
‫على هذه القوة اخلفية اسم الدهر‪.14‬‬

‫أما القرآن الكرمي‪ ،‬فعلى الرغم من أنه مل حي ِو بني طياته لفظتـي الزمن أو الزمان‪ ،‬فإنه ّ‬
‫عرب‬
‫عنهما بتعبريات أكثر خصوبة سامهت يف إثراء الرؤية اإلسالمية التالية على الوحي حول‬
‫عرب القرآن عن الزمن أبلفاظ مثل‪" :‬كالدهر‪ ،‬واحلني‪ ،‬واآلن‪ ،‬والوقت‪ ،‬والعصر‪،‬‬ ‫الزمن‪ّ .‬‬
‫واملدة‪ ،‬واليوم‪ ،‬واألجل‪ ،‬واألمد‪ ،‬والسرمد‪ ،‬واألبد‪ ،‬واخللد‪ ،‬وغريها"‪ .‬وتشري هذه األلفاظ‬
‫إىل أن التصور القرآين قد دمج بني الزمن اإلنساين املتناهي والزمن الكوين الالمتناهي‪ ،‬بل‬
‫فمثال‪ ،‬أصبح على املسلم أن يضبط به عباداته ومعامالته يف هذه‬ ‫إنه خلق رابطًا بينهما‪ً .‬‬
‫الدنيا اليت يسودها الزمان النسيب املتناهي‪ ،‬ويتهيأ فيه للدار اآلخرة اليت يسودها الزمان‬
‫موقوات‪ ،‬والصيام أايم معدودات‪،‬‬
‫كتااب ً‬ ‫املطلق الالمتناهي‪ .‬فالصالة كانت على املؤمنني ً‬
‫واألهلة مواقيت للناس واحلج‪ ،‬واحلج أشهر معلومات‪ ،‬واليوم اآلخر ال ريب فيه‪ ،‬والساعة‬
‫املوعودة آتية "قل لكم ميعاد يوم ال تستأخرون عنه ساعة وال تستقدمون"‪.15‬‬

‫‪ 14‬راجع‪ :‬حممد الرمحوين‪ ،‬مفهوم الدهر‪ :‬يف العالقة بني املكان والزمان يف الفضاء العريب القدمي‪( ،‬بريوت‪:‬‬
‫الشبكة العربية لألحباث والنشر‪.)2009 ،‬‬
‫‪ 15‬إبراهيم العاين‪ ،‬الزمان وجتلياته يف الفكر اإلسالمي‪( ،‬جريدة احلياة‪ ،‬العدد ‪،)13909‬‬
‫‪https://goo.gl/rcwYZ6‬‬
‫‪57‬‬
‫لقد ساهم القرآن هبذا يف نقل تفكري العرب من الدهر كقوة خفية إىل بـر ْع ٍد وجودي ميكن‬
‫التفاعل معه والتحكم به من خالل األعمال اإلنسانية‪ .‬كما أن هذا التصور وضع بذور‬
‫التفلسف اإلسالمي خبصوص الزمن والذي شهد تنويعات عديدة بتنوع التيارات الفلسفية‬
‫والكالمية‪ .‬فربط املتكلمون بني الزمان والفعل ومل ينظروا إليه ككيان منفصل عن جمرى‬
‫احلوادث‪ ،‬كما أهنم مل يبحثوا يف الطبيعة العامة للزمان وحقيقته‪ ،‬بل ركزوا على طبيعته‬
‫النسبية؛ لذا يقول أبو اهلذيل العالف أحد أعالم املعتزلة‪" :‬الوقت هو الفرق بني األعمال‪،‬‬
‫وهو مدى ما بني عمل إىل عمل‪ ،‬وإنه حيدث مع كل وقت فعل"‪ .16‬أما الفالسفة‪ ،‬فقد‬
‫عربوا عن الزمن من خالل احلركة‪ ،‬فيقول ابن سينا إن الزمان "مقدار احلركة من جهة‬ ‫ّ‬
‫املتقدم واملتأخر"‪" ،‬وال ميكن تصور الزمان إال مع احلركة‪ ،‬ومىت مل حيس حبركة مل حيس بزمان‬
‫مثل ما قيل يف قصة أصحاب الكهف"‪ .‬ومبا أن احلركة موضوع الزمان‪ ،‬واملتحرك مادة‬
‫دافعا‬
‫احلركة؛ كان للزمان وجود موضوعي مادي‪ .‬لقد كان هذا االرتباط الوثيق ابحلركة ً‬
‫للبعض مثل أيب حامد الغزايل أن يقول إن الزمن عرض للحركة ال جوهر هلا‪ ،‬وهو ال‬
‫يرعرف بذاته بل بغريه‪ ،‬وابلرغم من وجود متقدم ومتأخر فيه فإنه ال ميكن اإلحساس بذلك‬
‫دون اقرتانه مبتقدم ومتأخر احلركة‪ ،‬فالزمان عنده مشروط بوجود النفس اليت حتس‬
‫ابحلركة‪ .17‬وجند صدى هلذه اآلراء يف العصر احلديث‪ ،‬حيث أدى تعقد االستكشاف‬
‫الفيزايئي للزمن إىل استدعاء جوانب إدراكه امليتافيزيقية والشعورية واليت أخذت يف طرح‬
‫موجودا أم ال‪.‬‬
‫ً‬ ‫تساؤالت حول ما إذا كان الزمن‬
‫ودائما ما مت‬
‫أما ابلنسبة إىل املستقبل‪ ،‬فهو جزء من نسيج املفهوم القرآين حول الزمن‪ً .‬‬
‫التعبري عنه ابملآل‪ ،‬أي املصري اإلنساين‪ .‬يرى عاصم حسن يف دراسته القيمة عن‬
‫االستشراف يف الثقافة اإلسالمية "أن النظر إىل املستقبل واستشرافه يف الثقافة اإلسالمية‬
‫أوسع بداللته الشرعية والكونية من جمرد تقصي أحداث حمددة أو حساب ملتغريات الرفاه‬
‫املطلوبة يف احلياة الدنيا‪ ،‬بل يتجاوز إىل ما بعد احلياة الدنيا‪ ،‬وهي املآل املستقبلي األخري‬

‫‪ 16‬جميد حسون‪ ،‬الزمن يف التصوير اإلسالمي‪ ،‬حبث منشور على (موقع جامعة اببل‪ ،‬العراق‪ ،‬بدون اتريخ)‪،‬‬
‫‪https://is.gd/utqOtp‬‬
‫‪ 17‬املرجع السابق‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫الذي يعمل له من حلظة تكليفه"‪ .18‬وميكن القول إن اإلسالم قد تعامل مع املستقبل‬
‫على مستويني‪ .‬يتمثل املستوى األول يف الرؤية اليت وضعها جلوهر الوجود اإلنساين‬
‫وعالقته ابلغيب واإلميان‪ .‬فاإلنسان صائر إىل خالقه وال حيدد مصريه إال فعله‪ .‬فالقرآن‬
‫حني خيرب عن يوم القيامة‪ ،‬فهو يضعه يف علم الغيب‪ ،‬وليس لإلنسان جتاه الغيب إال‬
‫اإلميان به والتصديق عليه ابلعمل‪ .‬وحيمل هذا التفسري إعالءً لإلرادة اإلسالمية ال تناقض‬
‫اإلرادة اإلهلية اليت حتدد الغيب‪ .‬أما املستوى الثاين‪ ،‬فظهر من خالل التعاطي الفقهي‬
‫مع املستقبل من خالل "اعتبار املآل"‪ ،‬وهو مبدأ أصويل يشري إىل املوازنة بني ظاهر الدليل‬
‫الشرعي واملصاحل واملفاسد املرتتبة على الفعل الذي حيرمه أو يبيحه يف املستقبل‪ .‬وهذا‬
‫املبدأ كان من شأنه أن يوازن بني املسار والغاية والصريورة واهلدف واحلاضر واملستقبل‪.19‬‬
‫ومن هذا االستعراض السريع‪ ،‬جند أن الرتاث اإلسالمي قد أثري مبفاهيم متنوعة عن كل‬
‫من الزمن واملستقبل فرضها تعدد التجربة احلضارية يف اإلسالم وتنوعها‪ .‬وال يعنـي هذا‬
‫مستقبلي بطبيعته‪ ،‬فهذا أمر يتوقف على تعاطي اجملتمع‬
‫ٌ‬ ‫القول إن "اإلسالم كاجتماع"‬
‫واألفراد مع النصوص يف سياقات زمانية ومكانية خمتلفة‪ .‬فاملستقبل يف العصور الوسطى‬
‫حمدودا للغاية بسبب‬ ‫ٍ‬
‫موضع عناية كبرية‪ ،‬فالاليقني البشري كان ً‬
‫َ‬ ‫يف الشرق والغرب مل يكن‬
‫حمدودية املعرفة وقدرة اإلميان على التعامل مع القلق اإلنساين‪ ،‬وهو الوضع الذي انقلب‬
‫مع احلداثة‪ .‬بيد أن الشاهد هو أن الرتاث اإلسالمي تعامل مع الزمن على حنو مركب‬
‫بذورا‬
‫يتجاوز الرتكيز على السياسـي‪ ،‬الذي كان بدوره هامشيًّا‪ .‬كما أن هدا الرتاث محل ً‬
‫كان ميكن أن تؤسس لفلسفة إسالمية معاصرة قادرة على التعاطي مع أسئلة مثل الزمان‬
‫وعالقته ابإلنسان‪ .‬لقد كان حممد إقبال‪ ،‬الذي استوعب النسيج املركب للزمن يف الرتاث‬
‫ائدا يف إعادة إنتاج التصور اإلسالمي عن الزمن على ضوء الفلسفة والعلم‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ر ً‬
‫احلديثني‪.‬‬

‫عاصم حممد حسن‪ ،‬استشراف املستقبل من منظور إسالمي‪ :‬مداخل أساسية‪( ،‬سلسلة أوراق العدد‬ ‫‪18‬‬

‫‪ ،18‬مكتبة اإلسكندرية‪ ،)2015 ،‬ص ‪.12‬‬


‫‪ 19‬إلياس بلكا‪ ،‬التأصيل الستشراف املستقبل من منظور إسالمي‪( ،‬جملة استشراف‪ ،‬العدد ‪ ،1‬املركز العريب‬
‫ألحباث السياسات‪.)2016 ،‬‬
‫‪59‬‬
‫‪.IV‬إقبال‪ :‬الزمن وحرية الذات اإلنسانية‬
‫من املفارقات اليت جتعل استدعاء حممد إقبال عند حبث مفهوم الزمن واملستقبل يف الفكر‬
‫اإلسالمي املعاصر منطل ًقا ضرورًاي‪ ،‬هي أنه عند تعرضه للذات اإلنسانية والزمن فلسفيًا‪،‬‬
‫فقد بدأ ابنتقاد َم ْن سبقه من اإلسالميني الذين أضاعوا فرصة إلعادة النظر يف الروح‬
‫اجلديدة اليت حيتاجها اإلسالم لتجديد فكره‪ ،‬وعلى رأسهم مجال الدين األفغاين‪ ،‬والذي‬
‫كفيال أبن جيعله وصلة حيَّة بني ماضـي اإلسالم‬
‫توفر لديه من الفرص واخلربات ما كان ً‬
‫وجه طاقته اليت ال تعرف الكلل إلعادة تصور اإلسالم وحده‬ ‫ومستقبله لو كان قد َّ‬
‫‪20‬‬
‫كمنظومة متكاملة من العقيدة اإلهلية والسلوك اإلنساين ‪ .‬ورمبا كان هذا هو االجتاه‬
‫جل الفكر اإلسالمي وما استتبعه من حركة من بعد إقبال؛‬ ‫اخلاطئ الذي انصب فيه ُّ‬
‫االستغراق يف التسيس وإعادة إنتاج املاضـي وصراعاته وأتسيس شرعية احلركة عليها‪،‬‬
‫واهلروب من التجديد احلقيقي للذات اإلسالمية بشحذ الطاقات حنو االستدعاء الصراعي‬
‫لآلخر‪.‬‬
‫ورمبا كان إقبال نفسه هو ضحية هلذا االجتاه؛ إذ إن غلبة القراءة السياسية له ابلرتكيز على‬
‫دعوته لتأسيس دولة ملسلمي اهلند‪ ،‬تلك اليت أتسست بعد وفاته بتسع سنني حتت اسم‬
‫ابكستان‪ ،‬أدت إىل التغافل عن تراثه الفكري والفلسفي الذي كان من شأن االهتمام به‬
‫انفتاحا وثقة ابلذات وتعم ًقا يف إرثها‬
‫ً‬ ‫جتديد أصول احلركات اإلسالمية على أساس أكثر‬
‫ويف ثقافة اآلخر الغريب‪ .‬يف الوقت الذي حاول فيه إقبال نقد أسس احلضارة الغربية اليت‬
‫تشرهبا‪ ،‬فقد دافع يف الوقت نفسه عن املشاركة املتبادلة بني اإلسالم والغرب من أجل بناء‬
‫عامل أفضل وخلق مساحة تقدم رؤية بديلة للحداثة املأزومة أخالقيًا وروحيًا‪ .‬حيث اعتقد‬
‫إقبال أن لدى اإلسالم طاقةً على النهوض للقيام بدور يف حل أزمات العامل‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫مرهوان هبـذا‬
‫ً‬ ‫أزمات املستعمرين أنفسهم‪ .21‬ومن مثَّ‪ ،‬كان مستقبل اإلسالم ابلنسبة إليه‬

‫‪ 20‬حممد إقبال‪ ،‬جتديد الفكر الديين يف اإلسالم‪ ،‬ترمجة حممد يوسف عدس‪( ،‬اإلسكندرية‪ ،‬مكتبة اإلسكندرية‪:‬‬
‫سلسلة يف الفكر النهضوي اإلسالمي‪ ،)2011 ،‬ص ‪.161‬‬
‫‪ 21‬كرميو حممد‪ ،‬اإلصالح اإلسالمي يف اهلند‪ :‬الدولة يف فكر حممد إقبال وشرياغ علي وأيب األعلى‬
‫املودودي‪ ،‬ترمجة حممد العريب وهند مسعد‪( .‬بريوت‪ ،‬دار جداول للنشر‪ ،)2016 ،‬ص ‪.151‬‬

‫‪60‬‬
‫الدور‪ ،‬االشتباك مع العامل وتغيريه‪ .‬وهو مستقبل لن يقوم إال مبوازاة التقاليد اإلسالمية‬
‫ابملعارف الغربية‪.‬‬
‫ومن هنا أكد إقبال على أن املهمة اجلسيمة أمام املسلم املعاصر‪ ،‬هي "إعادة النظر من‬
‫جديد يف منظومة اإلسالم ككل دون أن يقطع صلته ابملاضـي"‪ .22‬وهي املهمة اليت‬
‫يتصدى هلا يف جممل كتابه "جتديد الفكر الدينـي يف اإلسالم"‪ ،‬وذلك من خالل "االقرتاب‬
‫من املعرفة احلديثة بنزعة االحرتام وروح االستقالل‪ ،‬وتقييم الفكر اإلسالمي يف ضوء هذه‬
‫املعرفة حتـى لو خالفنا بذلك املتقدمني"‪ .23‬أما موضوع هذا التجديد فلم يكن يف البداية‬
‫الدولة أو الكياانت األوسع‪ ،‬ال بل الذات اإلنسانية ابعتبارها مناط الرسالة اإلهلية وحمور‬
‫االعتقاد‪ ،‬وهي منطلقه للتعامل مع إشكالية الوجود الكربى‪ ،‬وعلى رأسها مفهوم الزمن‪.‬‬
‫تعرب عن‬
‫يف مفهوم الزمن لدى إقبال جتتمع عناصر فلسفية وعلمية حديثة وعرفانية وأدبية ّ‬
‫منفردا‪ ،‬بل هو مبحث يتناوله‬
‫اتساع أفق تكوينه الثقايف والفلسفي‪ .‬وهو ال يناقش الزمن ً‬
‫يف مناقشته ملفهوم األلوهية وحرية الذات اإلنسانية وخلودها‪ ،‬فيستدعي الرتاث اإلسالمي‬
‫ويوازيه مبفردات الفلسفة والعلم الغربيني مع إقامة مسافة نقدية مع كل منهما‪ .‬لقد كان‬
‫مهما ملدى أتثري الثورة‬
‫انعكاسا ًّ‬
‫ً‬ ‫تناول الزمن فلسفيًّا وعلميًّا يف ثالثينيات القرن العشرين‬
‫الكم يف نظرة اإلنسان للكون ولنفسه‪،‬‬
‫اليت أحدثتها النظرية النسبية آلينشتاين ونظرايت ّ‬
‫وهو ما جند له صدى عند إقبال الذي أدرك أنه من غري املمكن للمسلمني االخنراط يف‬
‫العامل اجلديد دون فهمه‪ ،‬وفهم أبعاده الكلية وما يكتنفها من انقالابت على الرؤى السائدة‬
‫حول العامل والطبيعة واإلله‪.‬‬
‫ابلنسبة إىل إقبال ال ميكن اإلحاطة ابلزمن دون فهم للذات‪ .‬وهنا جيري التفريق بني الزمن‬
‫املطلق ومناطه الذات اإلهلية املطلقة‪ ،‬والزمن النسيب ومناطه الذوات اإلنسانية واليت انبثقت‬
‫يعرب عن ذات هللا املطلقة‪ ،‬فإن هناك‬ ‫من الذات اإلهلية‪ .‬وإذا كان كل ما يف الوجود ّ‬
‫درجات يف هذا التعبري‪" :‬فالذاتية تتدرج يف سلم الوجود حتـى تبلغ كماهلا يف اإلنسان‪.‬‬

‫‪ 22‬حممد إقبال‪ ،‬جتديد الفكر الديين يف اإلسالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.163‬‬
‫‪ 23‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.163‬‬

‫‪61‬‬
‫وهذا هو السبب يف إعالن القرآن الكرمي أن الذات املطلقة أقرب إىل اإلنسان من حبل‬
‫الوريد"‪.24‬‬
‫بلغة كالمية‪ ،‬يثبت إقبال أن هللا قدمي كما أن زمنه مطلق‪ ،‬مث يقرتب من مذهب املتصوفة‬
‫يعرب عن نفسه يف اخللق‬‫اإلسالميني يف مضاهاة هللا ابلدهر‪ .‬إال أن هذا اإلطالق والقدم ّ‬
‫املستمر للذوات ولآلايت الكونية كما أثبتها األشاعرة قدميًا‪ .‬لقد كان األشاعرة ‪-‬حبسب‬
‫تتابعا‬
‫إقبال‪ -‬أول من حاول من املسلمني فهم الزمن فلسفيًّا‪ ،‬فكان حسب نظريتهم ً‬
‫لآلنيات الفردية‪ ،‬وهو ما يستتبعه القول بوجود فراغات يف الزمن بني كل آنني فرديني أو‬
‫بني حلظات الزمن‪ ،‬وهي نظرة ختتلف مع مذهب نيوتن الذي تصور أبنه يتدفق تدف ًقا‬
‫متساواي‪ ،‬وهي نظرة ال تؤدي إىل إدراك فعلي حلدود الزمن وبدايته وهنايته‪ .‬إال أن كلتا‬
‫ً‬
‫النظريتني تشكل حماولة موضوعية لفهم الزمن‪ ،‬رمبا تتفق مع تطور العلم احلديث إال أهنا‬
‫الذري‪ ،‬ذلك الذي ميكن تقسيمه إىل أجزاء‪ ،25‬وتفتقد اجلانب‬ ‫ّ‬ ‫ال ختربان إال عن الزمن‬
‫الذايتّ‪ ،‬أي ذلك الذي يضفي معنـًى على الزمن‪ ،‬وابلتايل تفصل بني إدراكنا للزمن وللذات‬
‫اإلهلية‪.‬‬
‫يرى إقبال أن السبيل الصحيح لفهم طبيعة الزمن‪ ،‬هو التحليل النفسـي للتجربة الشعورية‬
‫اإلنسانية‪ .‬وهو يضع جانبني لتلك النفس من خالهلما يدرك الزمن وحركته‪ ،‬ومها جانبا‪:‬‬
‫"املعرفة‪ ،‬والفاعلية‪ .‬فالنفس العارفة حتيا يف دميومة حبتة أي تغري بدون تعاقب‪ ،‬وحياة‬
‫النفس تتحقق يف حركتها من املعرفة إىل الفاعلية‪ ،‬من احلدس إىل العقل"‪ .26‬هذه احلركة‬
‫هي اليت توفق بني الدميومة والتغري وتفتح الباب أمام انكشاف الذات املطلقة من خالل‬
‫احلركة اخلالقة للذات‪ .‬هذا التأكيد على اإلدراك الذايت للزمن كتجربة شعورية‪ ،‬أدى إبقبال‬
‫إىل التأكيد على فرادة الذات اإلنسانية؛ حيث يستخلص املفهوم القرآين عن الذات‬
‫حرًة ومسؤولةً‪ ،‬وهي صفات ال تتوفر يف الذوات األخرى املخلوقة‪.‬‬‫اإلنسانية ابعتبارها َّ‬

‫‪ 24‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.133-132‬‬


‫‪ 25‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.126‬‬
‫‪ 26‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.130‬‬
‫‪62‬‬
‫حر‪.‬‬
‫عند إقبال‪ ،‬فإن اإلنسان مسؤول عما هو انتج عن جهده الشخصـي وابلتايل هو ٌّ‬
‫ويقوم هذا الربط بني مسؤولية اإلنسان وحريته على التصور القرآين لإلنسان أبنه‪:‬‬
‫‪ .1‬املختار الذي اصطفاه هللا‪.‬‬
‫‪ .2‬واإلنسان رغم كل أخطائه أرريد له أن يكون خليفةً هلل يف أرضه‪.‬‬
‫مستأم ٌن على شخصية حرة تقـبَّلها ومحل مسؤوليتها‪.27‬‬
‫َ‬ ‫‪ .3‬إن اإلنسان‬
‫وهذه الذات احلرة واملسؤولة هلا قدرة على جتاوز حدودها املادية من خالل احلاالت العقلية‬
‫اليت ال توجد منعزلة عن بعضها البعض‪ ،‬وهي توجد كأوجه ملركب وشامل هو العقل الذي‬
‫يتجاوز احلدود املكانية‪ .‬ومن مثَّ‪ ،‬فإن الذات ليست متقيدة ابملكان كما يتقيد اجلسد؛‬
‫كما أن زمان الذات خيتلف عن زمان األحداث املادية؛ فمدة احلادثة املادية ممتدة يف‬
‫املكان كحقيقة حاضرة‪ .‬أما مدة املدة الزمانية للذات فمتمركزة فيها ومرتبطة حباضرها‬
‫ومستقبلها على حنو فريد‪ .‬فالذات وحدها هي اليت تضفي معنـى حقيقيًا على مرور‬
‫‪28‬‬
‫متفردا عن اآلخر‪.‬‬
‫الزمن ‪ .‬كما أن الذات هلا خصوصية جوهرية جتعل كل إنسان ً‬
‫يدفع هذا الرأي يف الذات اإلنسانية إقبال إىل رفض املذهب القدمي القائل ابستاتيكية‬
‫جوهر الذات اإلنسانية الذي قال به فالسفة اإلسالم وعلى رأسهم الغزايل‪ .‬وهنا يبدو‬
‫متأثرا بكانط ومدرسة التحليل النفسـي‪ ،‬حيث مييل إىل تعددية التجارب الشعورية‬ ‫ً‬
‫ابعتبارها تيارات من الفكر تتدفق يف تفاعل الذات احلركي مع البيئة‪" .‬فحياة الذات هي‬
‫نوع من التوتر الناتج من غزو الذات للبيئة وغزو البيئة للذات‪ ،‬وال تقف الذات خارج‬
‫احللبة اليت يتم فيها الغزو املتبادل؛ فهي حاضرة يف قلبها كطاقة موجهة‪ ،‬وهي تتشكل‬
‫وتتهذب بتجربتها اخلاصة"‪ .29‬يقرتب مفهوم إقبال عن الذات احلرة واملسؤولة‪ ،‬املتولد عن‬
‫رؤيته للزمن‪ ،‬من املفهوم االعتزايل القدمي الذي يؤكد على حرية العقل يف االختيار‪ ،‬بيد‬
‫نظرا ألنه‬
‫أن أمهية هذا املفهوم تزداد يف سياق التواجه احلضاري بني اإلسالم والغرب؛ ً‬

‫‪ 27‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.158-157‬‬


‫‪ 28‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪165‬‬
‫‪ 29‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪170‬‬
‫‪63‬‬
‫امتدادا ملفهوم "الفاعلية اإلنسانية ‪ "Human Agency‬ذلك املفهوم الذي‬ ‫يعترب ً‬
‫شكل أساس كثري من الفلسفات النقدية احلديثة بداية من عصر التنوير حتـى يومنا هذا‪.‬‬
‫وعلى الرغم من غموض هذا املفهوم‪ ،‬فإن أملع اإلشارات إليه جاءت يف مقالة إميانويل‬
‫كانط الشهرية "ما التنوير؟"‪ ،‬حيث أجاب عن السؤال املطروح ابلقول إهنا قدرة اإلنسان‬
‫على االنعتاق من عجزه الذايت والذي يدفعه لالعتماد يف تفكريه على اآلخرين‪ .30‬وهو‬
‫املعنـى الذي تطور الح ًقا ليدرس تلك العالقة املتوترة بني الفعل والفكر اإلنساين للذات‪،‬‬
‫دائما تشكيل سلوكه وأفكاره وقيمه حسب النظام‬ ‫يف مواجهة البنية املوضوعية اليت حتاول ً‬
‫االجتماعي والسياسـي‪.‬‬
‫تناقض هذه النظرة الفعالة للذات مذاهب القدرية اليت سادت العامل اإلسالمي لقرون‪.‬‬
‫بث قوى احلياة يف الذات واجملتمع‪ ،‬إال أن‬ ‫يرى إقبال أن لدى اإلسالم قدرةً فائقةً على ِّ‬
‫الوهن بسبب‬
‫هذه القوة اليت كشفت عن نفسها يف بداايت اإلسالم سرعان ما أصاهبا ر‬
‫نوع رديء من القدرية اليت حجمت من قدرة اإلنسان واجملتمع على احلركة الفاعلة‪،‬‬ ‫سيادة ٍ‬
‫أيضا‬
‫وقيدت من الطاقة احليوية اليت بثها اإلسالم يف التعامل مع الكون‪ .‬وكانت سيادهتا ً‬
‫بسبب املنافع الشخصية واالنتهازية السياسية اليت بثها احلكام يف جمتمع اإلسالم بداية‬
‫من األمويني الذين أرادوا ‪-‬كما أراد من تالهم‪ -‬أن يعلقوا جرائمهم على مسمار من‬
‫القول ابجلربية كنوع من فرض األمر الواقع وحماولة لقمع االجتاهات املناوئة‪ .‬وملا كان‬
‫املسلمون قد اعتمدوا القرآن كمرجع لتحكيم نزاعاهتم‪ ،‬وهو ما كان على حساب تدبر‬
‫معانيه الواضحة؛ فإن التأويل القدري قد غلب عليه‪ ،‬ومن مثَّ أثر سلبًا يف حركة اجملتمعات‬
‫اإلسالمية‪.31‬‬
‫وخيلص إقبال إىل ما أكد عليه من فاعلية الذات يف تفاعلها مع الزمن والطبيعة‪ ،‬حيث‬
‫هناك خلق دائم ومستمر للذات اإلنسانية‪ ،‬فيقول‪" :‬احلياة واحدة ومستمرة‪ .‬واإلنسان‬
‫دائما إىل األمام كي يتلقى جتليات األنوار اإلهلية من احلق الال متناهي‪ ،‬الذي‬
‫ميشـي ً‬

‫‪ 30‬انظر‪ :‬إميانويل كانط‪" ،‬إجابة عن سؤال‪ :‬ما هو التنوير؟!"‪ ،‬ترمجة إبراهيم املشوح‪( ،‬موقع حكمة ‪ 9‬يونيو‬
‫‪https://goo.gl/d3L8mj ،)2015‬‬
‫‪ 31‬حممد إقبال‪ ،‬جتديد الفكر الديين يف اإلسالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.182-181‬‬

‫‪64‬‬
‫يتبدى كل حلظة يف جالل جديد‪ .‬وليس املتلقي إلشراقات األنوار اإلهلية جمرد ٍ‬
‫متلق‬
‫جديدا‪ ،‬وهبذا يقدم املزيد من الفرص للتجلّي‬
‫سلبـي‪ .‬فإن كل فعل للذات احلرة خيلق موق ًفا ً‬
‫َّ‬
‫اخلالق"‪.32‬‬
‫بيد أن إقبال ال يثبت احلركة والفاعلية على الذات وحدها‪ ،‬بل ميدها على خطوط‬
‫االجتماع الذي يتصوره اإلسالم والذي رأى أنه يقوم على مبدأين يؤسسان هلذه الفاعلية‪،‬‬
‫ومها مبدآ‪ :‬التوحيد‪ ،‬واحلركة‪ .‬يرى إقبال أن اإلسالم كحركة ثقافية يرفض النظرة االستاتيكية‬
‫القدمية للكون‪ ،‬ويتبىن نظرة ديناميكية يتسم فيها الكون ابحلركة والتغري‪ .33‬إال أن هذه‬
‫احلركة والتغري املستمرين يقومان على أساس مبدأ اثبت مستقر ال يتغري‪ ،‬وهو مبدأ التوحيد‬
‫الذي أتى اإلسالم كدستور لتفعيله يف حياة البشر العملية والوجدانية‪ .‬ومن مثَّ‪ ،‬فإن هذا‬
‫يعرب عن نفسه يف التنوع والتغري‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن اجملتمع الذي يتوخى هذا‬ ‫املبدأ الثابت إمنا ّ‬
‫معا‪" .‬وينبغي أن يكون له مبادئ أبدية‬ ‫املبدأ إمنا يوفق يف حياته بني عوامل الدوام والتغري ً‬
‫كي تنظم حياته اجلماعية؛ وذلك ألن الثابت األبدي يثبت أقدامنا يف عامل التغري‬
‫املستمر"‪.34‬‬
‫يعرب مبدأ التوحيد عن نفسه يف اإلسالم من خالل االجتهاد الذي أدى تعطيله إىل اجلمود‬‫ّ‬
‫والركود احلضاري يف القرون اخلمسة األخرية‪ .‬لقد كانت املفارقة الكربى يف اتريخ اإلسالم‬
‫احلق الكامل من االجتهاد يف التشريع‪ .‬وهو‬
‫‪-‬حبسب إقبال‪ -‬هي أن اإلسالم منح الفرد َّ‬
‫املذهب الذي أقرته املذاهب السنية نظرًّاي‪ ،‬إال أهنا يف الوقت نفسه أحاطت االجتهاد‬
‫بشروط أصبح من املستحيل توافرها يف فرد واحد‪ ،‬وهو ما خلق موق ًفا شديد الغرابة‬
‫ابلنسبة إىل اإلسالم "كنظام قانوين قائم على أساس أرضية مهدها القرآن بتجسده لرؤية‬
‫للحياة ذات ديناميكية يف جوهرها"‪ .35‬وقد أيدت السلطة السياسية هذا املوقف الذي‬
‫توجس من تفشي احلركات العقالنية يف اجملتمع اإلسالمي‪ ،‬مثل حركات املعتزلة اليت رأوا‬
‫بذورا لالحنالل واالنشقاق خاصة مع تصاعد اجلدل العقلي وما اجتلبه من خالفات‬ ‫فيها ً‬

‫‪ 32‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.202‬‬


‫‪ 33‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.244‬‬
‫‪ 34‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.246‬‬
‫‪ 35‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.249-248‬‬
‫‪65‬‬
‫مريرة‪ .‬وهي اخلالفات اليت دفعت إىل بروز التصوف والذي كان يف أحد جوانبه ثورة على‬
‫التخرجيات العقلية واألالعيب اللفظية للمتكلمني‪.‬‬
‫لقد أدى تراكم هذه االجتاهات‪ ،‬إىل جانب التدمري احلضاري الذي تعرض له اإلسالم‬
‫على يد الغزو الترتي الذي وصف بروح متشائمة ومقهورة حول مستقبل اإلسالم ‪ -‬إىل‬
‫أيضا أمهيةً‬
‫تكريس النزعة املعادية لالجتهاد العقلي‪ .‬لذلك أوىل الفقهاء ورمبا الساسة ً‬
‫قصوى للحفاظ على "منط موحد للحياة االجتماعية جلميع الناس" من خالل رفض كل‬
‫التجديدات املبتدعة يف أحكام الشريعة كما وضعها الفقهاء األوائل‪ .‬يقول إقبال إهنم رمبا‬
‫قد أصابوا احلق يف بعض اجلوانب‪ ،‬إال أهنم مل يدركوا ‪-‬كما مل يدرك الفقهاء احملدثون‪ -‬أن‬
‫"املصري النهائي لشعب من الشعوب ال يتوقف على التنظيم االجتماعي بقدر ما يتوقف‬
‫على قيمة وقوة الرجال كأفراد‪ .‬فاجملتمع الذي حيكمه التنظيم املفرط ينسحق فيه الفرد‬
‫ويتالشـى من الوجود‪ .‬وقد يكسب [هذا اجملتمع] كل ما يف الفكر االجتماعي من ثراء‬
‫تبجيال زائ ًفا وبعثه‬
‫ولكنه يفقد روحه اخلاصة؛ ذلك ألن تبجيل التاريخ املاضـي وتبجيله ً‬
‫انجعا ألمة تنهار"‪.36‬‬
‫عالجا ً‬
‫مصطنعا ال يشكل ً‬ ‫ً‬ ‫بعثًا‬
‫نظاما‬
‫تقول املستشرقة األملانية آن ماري مشيل إن إقبال مل يرد ببحثه يف الزمن أن يضيف ً‬
‫يدا إىل التفسريات العلمية السائدة حول هذه اإلشكالية األعقد‪ ،‬بل إنه هدف إىل‬ ‫جد ً‬
‫احلي‪ .‬فمن خالل إعادة‬ ‫جذب اهتمام العامل اإلسالمي مرة أخرى إىل التواصل مع اخلالق ّ‬
‫القيمة إىل الطبيعة املزدوجة للزمن‪ ،‬أراد إقبال أن تتحقق هذه الغاية املنسية يف احلياة الدينية‬
‫يف اإلسالم‪ .37‬إال أننا رأينا من خالل ما سبق أن تصور إقبال عن الزمن مل خيدم غاية‬
‫الهوتية فحسب‪ ،‬بل أيضا كان له دالالت متعلقة ابإلسالم كحركة ثقافية ٍ‬
‫وبناء اجتماعي‬ ‫ً‬
‫وسياسـي‪ .‬احناز إقبال ملفهوم دينامي للزمن من خالل ربطه ابلذات اإلنسانية وفاعليتها‬
‫الوجدانية والعقالنية‪ ،‬وانتهى إىل ضرورة تكريس رؤية اإلسالم للوجود على أنه حركة‬
‫مستمرة تستند على دميومة مبدأ التوحيد‪.‬‬

‫‪ 36‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.253‬‬


‫‪Riffat Hassan, The Concept of Time in Iqbal"s Thought. 37‬‬
‫‪available at: https://is.gd/6rVn8p‬‬
‫‪66‬‬
‫حمددا عن مستقبل اإلسالم‪ ،‬إال يف إشارات تفاءل فيها أن يقوم‬ ‫تصورا ً‬
‫مل يقدم إقبال ً‬
‫العلماء بتعميق املنظور الفلسفي احلركي لإلسالم من خالل إعادة صياغة أصوله على‬
‫ضوء الفلسفة والعلم احلديثني‪ ،‬ومن خالل تفعيل االجتهاد الذي يرى أنه يلخص مبدأ‬
‫احلركة يف بناء اإلسالم‪ .‬بيد أن خطورة ما قدمه من اجتهاد فلسفي تكمن يف أتكيده‬
‫الفريد على فاعلية الذات اإلنسانية يف تفاعلها مع الزمن‪ ،‬ومن مثَّ حركة التاريخ‪ .‬ومن مثَّ‪،‬‬
‫ال ميكن هلذه الذات احلرة بطبيعتها كما خلقها الباري أن تكون أسريةً للماضـي أو‬
‫حدودها املكانية وتصوراهتا الزمانية‪ .‬وهو األمر نفسه الذي أراد إقبال أتكيده على الذات‬
‫اجلماعية؛ أي اجملتمعات اإلسالمية‪ ،‬واليت ما كان هلا أن تصوغ مستقبلها دون امتالك‬
‫انصية االجتهاد احلر‪ ،‬والتحرر من التصورات اجلامدة للتاريخ واالخنراط يف العامل بفاعلية‪.‬‬
‫‪.V‬سيد قطب‪ :‬الزمن الدائري واملستقبل الطوابوي‬
‫تصورا عن مستقبل اإلسالم يبشر‬ ‫إذا انتقلنا من إقبال إىل سيد قطب سنجده حيمل ً‬
‫بـ"اخلالص"‪ ،‬وبتداعي جاهلية العامل احلديث‪ ،‬واليت سيثبت اهنيارها صحةَ التصور‬
‫تصورا‬
‫اإلسالمي ذي األصول اإلهلية وسيبطل كل تصور آخر‪ .‬وال تقدم كتاابت قطب ً‬
‫حمددا عن الزمن مبفهومه الفلسفـي وطبيعته حبركة اجملتمعات البشرية وموقع الذات اإلنسانية‬
‫ً‬
‫مشغوال بتجديد أصول الفكر اإلسالمي ومقابلتها‬‫ً‬ ‫منه‪ .‬فعلى النقيض من إقبال الذي كان‬
‫نقدا وبناءً‪ ،‬انطلق قطب من موقف دفاعي عن اإلسالم الذي خياله يف‬ ‫ابألصول الغربية ً‬
‫صراع مع العامل‪ ،‬وكذلك كان موقفه هجوميًا على زيف هذا العامل وزيف تصوراته االعتقادية‬
‫نكدا" والذي أدى إىل انفصال املنهج اإلهلي عن‬ ‫فصاما ً‬
‫املختلفة والقائمة على ما أمساه " ً‬
‫احلياة الدينية‪ ،‬واحنصار الدين يف املشاعر الوجدانية واألخالق التهذيبية والشعائر‬
‫التعبدية‪ .38‬إال أن هذا ال يعنـي أن قطب يف خضم معركته مع جاهلية العامل احلديث مل‬
‫مهموم للغاية مبصري البشرية اليت‬
‫ٌ‬ ‫منشغال ابألسئلة الوجودية الكربى‪ ،‬بل يبدو أنه‬
‫ً‬ ‫يكن‬
‫يرى أهنا تقف على حافة اهلاوية؛ "بسبب إفالسها يف عامل "القيم" اليت ميكن أن تنمو يف‬
‫صحيحا"‪ .39‬بل إن قطب ينتقد احلضارة احلديثة بسبب‬ ‫ً‬ ‫سليما وترتقى ترقيًا‬
‫منوا ً‬‫ظالهلا ً‬
‫فشلها يف تقدمي إجاابت عن "صحيح الوجود‪ ،‬وموقع اإلنسان فيه"‪ .‬لذلك يركز قطب‬

‫‪ 38‬سيد قطب‪ ،‬املستقبل هلذا الدين‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،)2005 ،‬ص ‪.19‬‬
‫‪ 39‬سيد قطب‪ ،‬معامل يف الطريق‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ،)1979 ،6‬ص ‪.3‬‬
‫‪67‬‬
‫جهده على إجالء التصور اإلسالمي يف جمال القيم دون أن يتطرق إىل سؤال الزمن أو‬
‫الذات اإلنسانية أو احلركة التارخيية للمجتمعات‪ .‬ورمبا يعود هذا الغياب إىل أن قطب مل‬
‫منشغال بقضية اإلصالح أو التجديد الدينـي‪ ،‬فالتصور اإلسالمي كامل ومكتمل ال‬ ‫ً‬ ‫يكن‬
‫غبار عليه‪ ،‬وأزمة العامل ال تطال اإلسالم‪ ،‬فهي أزمة احلضارة املادية الغربية اليت جنحت يف‬
‫نقل أمراضها إىل عامل اإلسالم وجمتمعاته‪.‬‬
‫يبدو قطب ‪-‬مبعايري فلسفية‪ -‬مثاليًا‪ ،‬يرى أن اجملتمعات جيب أن تستقيم وتربنـى على‬
‫يواي"‪ .‬يقول‬
‫تصور اعتقادي حمدد حيكم منهج حياهتا‪ ،‬من خالل ما أمساه "انبثاقًا ح ً‬
‫قطب‪" :‬هناك ارتباط وثيق بني طبيعة (النظام االجتماعي) وطبيعة (التصور االعتقادي)‪..‬‬
‫بل إن هناك ما هو أكرب من االرتباط الوثيق‪ .‬هناك االنبثاق احليوي‪ :‬انبثاق النظام‬
‫االجتماعي من التصور االعتقادي‪ ..‬فالنظام االجتماعي بكل خصائصه هو أحد‬
‫حيواي وفطرًاي ويتكيف بعد ذلك تكي ًفا‬
‫نباات ً‬
‫انبثاقات التصور االعتقادي؛ إذ هو ينبت ً‬
‫اتما ابلتفسري الذي يقدمه ذلك التصور للوجود وملركز اإلنسان يف هذا الوجود ولغاية‬‫ً‬
‫الوجود اإلنساين‪ ...‬وهذا االنبثاق مث التكيف هو الوضع الصحيح لألمور بل هو الوضع‬
‫الوحيد" ومن مثَّ‪ ،‬يسبق املثال على الواقع والنص على االجتماع‪ ،‬فالنظام االجتماعي ال‬
‫خيتار تصوراته بل إن التصور هو الذي خيلق النظام االجتماعي‪ .‬وال يرتك قطب مساحة‬
‫لنوع آخر خمالف للعالقة بني املثال واالجتماع‪ ،‬فريى أن "كل نظام يقوم على غري هذا‬
‫األساس‪ ،‬هو نظام غري طبيعي‪ ،‬نظام متعسف ال يقوم على جذوره الفطرية‪ ..‬وال أمل يف‬
‫طويال"‪.40‬‬
‫أن تعمر مثل هذه النظم ً‬
‫إن أزمة النظم االجتماعية والسياسية املعاصرة‪ ،‬حبسب قطب‪ ،‬منبعها أهنا ابتدعت لنفسها‬
‫تصورات اعتقادية أحلتها حمل النهج اإلهلي الذي كان من املفرتض به أن حيكم بناءها‬
‫وحركتها املخالفة للفطرة‪ .‬وهو املعنـى املقصود ابجلاهلية‪ ،‬ذلك املصطلح الذي يقع يف‬
‫القلب من البناء الفكري لقطب‪ ،‬وهو ما انبنت عليه أصولية مذهبه السياسـي‬
‫واالجتماعي‪ .‬تشري اجلاهلية عند قطب إىل "االعتداء على سلطان هللا يف األرض‪ ،‬وعلى‬
‫أخص خصائص األلوهية‪ ..‬وهي احلاكمية‪ ..‬إهنا تسند احلاكمية إىل البشر فتجعل بعضهم‬
‫اباب لبعض‪ ،‬ال يف الصورة البدائية الساذجة اليت عرفتها اجلاهلية األوىل‪ ،‬ولكن يف صورة‬
‫أر ً‬

‫‪ 40‬سيد قطب‪ ،‬املستقبل هلذا الدين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.9‬‬


‫‪68‬‬
‫ادعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانني واألنظمة واألوضاع‪ ،‬مبعزل عن منهج‬
‫هللا للحياة وفيما مل أيذن ابهلل‪ ..‬وما ظلم األفراد والشعوب بسيطرة رأس املال واالستعمار‬
‫يف النظم الرأمسالية إال أثر من آاثر االعتداء على سلطان هللا‪ ،‬وإنكار الكرامة اليت أقرها‬
‫هللا لإلنسان"‪.41‬‬
‫يشرح قطب يف "املستقبل هلذا الدين" املالبسات التارخيية اليت أنتجت جاهلية العامل‬
‫مفهوما دائرًاي حلركة التاريخ‬
‫ً‬ ‫املعاصر وكيف انتقلت إىل العامل اإلسالمي‪ .‬وهو يتبنـى‬
‫اإلنساين‪ ،‬الذي خيتصره يف اتريخ الغرب واإلسالم‪ .‬فالعامل‪ ،‬وف ًقا لرؤيته التارخيية‪ ،‬كان قد‬
‫هاداي‬
‫تلقى يف األصل املنهج اإلهلي يف شكل الدين الذي أوحى به هللا لألنبياء‪ ،‬ليكون ً‬
‫ومرشدا يف كل مناحي احلياة‪ ،‬مث كان االحنراف عن هذا املنهج ابختزاله إىل تشريعات‬ ‫ً‬
‫ضيقة أو ممارسات تعبدية‪ ،‬كما حدث مع اليهودية واملسيحة‪ ،‬وهو ما خلق اجلاهلية‬
‫األوىل تلك اليت ساد فيها الشرك والبعد عن الرابنية اليت جاء اإلسالم ليبددها‪ .‬مث إن‬
‫العامل قد استدار دورة كاملة لتعود اجلاهلية مرة أخرى على النحو الذي اقتبسناه أعاله‪.‬‬
‫ووف ًقا هلذا املنطق التارخيي‪ ،‬يبدو أن عود َة املنهج اإلهلي يف شكل التصور االعتقادي‬
‫نظرا إلفالس كل النظم التصورية اإلنسانية السائدة‪ .‬يقول قطب يف‬ ‫حتمي؛ ً‬
‫ٌ‬ ‫وانتصاره‬
‫موضع آخر‪" :‬واألرض قد عرفت جاهليات كثرية‪ .‬عرفتها يف دورات مكررة‪ .‬ففي كل فرتة‬
‫من فرتات التاريخ البشرية كانت تتنزل من هللا رسالة‪ ،‬حيملها من عند هللا رسول‪ .‬وكانت‬
‫ممثال يف العبودية هلل وحده‪ ،‬وتقوم على‬ ‫كل رسالة تضيء ما حوهلا‪ ،‬وتقدم للناس اإلسالم ً‬
‫هذا اإلسالم مجاعة كثرية‪ ،‬أو قليلة‪ ،‬ويدمر هللا على املكذبني‪ ،‬وأيخذهم بذنوهبم‪ ،‬وخيلي‬
‫وجه األرض منهم"‪.42‬‬
‫وف ًقا هلذه الرؤية الدائرية اليت يسري التاريخ البشري وف ًقا هلا‪ ،‬يرتقي التصور االعتقادي‬
‫اإلسالمي على حركة التاريخ‪ ،‬فهو ظاهرة ال اترخيية تتسم مقوماهتا أبهنا "اثبتة غري قابلة‬
‫للتعديل‪ ،‬وغري قابلة للتطوير ألنه هبا أيخذ مالحمه املستقلة‪ ،‬اليت جاء ليطبعها على التاريخ‬
‫اإلنساين‪ ،‬وليعلن هبا ميالد "اإلنسان اجلديد" إذ يعلمه إلغاء عبودية اإلنسان لإلنسان‪،‬‬

‫‪ 41‬سيد قطب‪ ،‬معامل يف الطريق‪ ،‬مرجع سابق ص ‪.8‬‬


‫‪ 42‬سيد قطب‪ ،‬مقومات التصور اإلسالمي وخصائصه‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ،)1995 ،5‬ص ‪.25‬‬

‫‪69‬‬
‫كما يعلمه إلغاء عبودية اإلنسان لألشياء واألحياء‪ .‬مث ليقرر املوازين اليت يرجع إليها البشر‬
‫يف هذا كله‪ ،‬وال يرجعون إىل غريها يف شأن واحد من شؤون احلياة اإلنسانية إىل آخر‬
‫الزمان"‪ .43‬ومن مثَّ‪ ،‬يبدو هذا التصور االعتقادي حمرًكا للدورات التارخيية وخارج نطاق‬
‫قواعد االجتماع والتغري التارخيي‪.‬‬
‫ويرتتب على ال اترخيية التصور االعتقادي أن ليس للذات اإلنسانية القدرة على حتديده‬
‫أو إعادة تشكيله‪ ،‬فهو إهلي مطلق‪ .‬ويذهب قطب إىل أن العقل البشري يف تعامله مع‬
‫هذا التصور اإلهلي‪ ،‬كما يبيِّنه املنهج القرآين‪ ،‬ليس عليه إال التلقي دون أن يتفاعل إال يف‬
‫حدود اإلدراك الداليل الذي ال يولد معاين جديدة لألصل الرابين‪ .‬فالعقل اإلنساين غري‬
‫قادر على صناعة هذه املقومات‪ ،‬وعليه أن "يتلقاها وهو متجرد من أية "مقررات" سابقة‬
‫يف هذا الباب‪ ،‬سواء من مقوالته الذاتية أو من مقوالت العقائد احملرفة [أي األداين‬
‫السابقة على اإلسالم] ولو كان هلا أصل رابين‪ .‬وعليه أن يتقيد فيما يتلقاه من ذلك‬
‫املصدر الصحيح ابملدلول اللغوي أو االصطالحي للنص الذي وردت فيه هذه املقومات‬
‫حكما يف‬
‫كما‪ ...‬فـ[العقل البشري] ليس ً‬ ‫[وهو القرآن الكرمي] بدون أتويل ما دام رْحم ً‬
‫صحة املدلول أو عدم صحته يف عامل احلقيقة والواقع؛ إمنا هو حكم فقط يف فهم داللة‬
‫النص على مدلوله وفق املفهوم اللغوي أو االصطالحي للنص‪ .‬وما دل عليه النص فهو‬
‫صحيح‪ ،‬وهو احلقيقة‪ ،‬سواء كان من مألوفات هذا العقل ومسلماته‪ ،‬أم مل يكن‪.44"...‬‬
‫وأيسا من إمكانية العقل البشري من التوصل‬
‫جزعا ً‬‫يف الواقع‪ ،‬يبدي سيد قطب يف كتاابته ً‬
‫إىل احلقيقة سواء عن طريق العلم أو الفلسفة‪ ،‬ومها أهم جتليات العقل البشري الذي يقع‬
‫من ابحلقيقة‬
‫التصور اإلسالمي‪ /‬الرابين يف جزء منه خارج إدراكه‪ .‬وف ًقا لقطب‪ ،‬فإن هللا َّ‬
‫على البشر من خالله هدايته إايهم ابملنهج الرابين‪ .‬ومن مثَّ‪ ،‬ال جدوى من البحث عنها‬
‫بطرق أخرى؛ كما حيدث يف الفلسفة اليت ال هتدي إال حلقائق جزئية عن الوجود‪ٍ ،‬‬
‫وتيه‬
‫يف جداالت ال جدوى هلا‪ .‬وليست حماوالت بعض املعتقدين خلط عقيدهتم ابلفلسفة‬
‫قصورا‪ ،‬فالعقيدة هتدي الفلسفة والفلسفة تضل العقيدة؛ فـ"حيثما أخذت الفلسفة‬ ‫إال ً‬

‫‪ 43‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.15‬‬


‫‪ 44‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.45‬‬

‫‪70‬‬
‫من العقيدة أفادت واهتدت إىل بعض جوانب احلقيقة‪ .‬وحيثما أخذت العقيدة من‬
‫الفلسفة خسرت وأصيبت ابلتخبط واالحنراف والتعقيد"‪ .45‬ومن مثَّ‪ ،‬يشجب قطب ما‬
‫صورا كابية معقدة وكئيبة‪ ،‬واليت كانت عليها "الفلسفة اإلسالمية"‪ ،‬أو "علم الكالم"‬
‫يراه ً‬
‫أو "علم التوحيد" البعيدة عن التصور اإلسالمي‪ ،‬وعن طبيعة املنهج اإلسالمي‪ .‬ذلك‬
‫عندما شاء انس من "املسلمني" أن خيلطوا التصور اإلسالمي مبقوالت الفلسفة‪ ،‬وأن‬
‫يعقدوا املنهج اإلسالمي مبنهج الفلسفة‪46.‬ويف موضع آخر‪ ،‬ميد قطب هذا العجز البشري‬
‫"بعيدا عن املنهج الرابين"‪ ،‬ويرى أن‬
‫إىل التجارب اإلنسانية الرامية إىل بناء اجملتمعات ً‬
‫مصريها الفشل؛ إذ إهنا "تدور يف حلقة مفرغة وداخل هذه احللقة ال تتعداها؛ حلقة‬
‫التصور البشري والتجربة البشرية واخلربة البشرية املشوبة ابجلهل والنقص والضعف‬
‫واهلوى"‪ .47‬لذا ال يعول على هذه التجارب البشرية والعقل اإلنساين يف حتقيق اخلالص‪،‬‬
‫وال يعول على الذات اإلنسانية أخذ انصية مصريها‪.‬‬
‫يشكل مفهوم "اخلالص" حجر الزاوية يف مفهوم املستقبل لدى سيد قطب‪ .‬فهو غاية‬
‫التاريخ اإلنساين الذي يتحرك دائرًاي‪ ،‬وليس اخلالص إال إخراج العباد من عبادة العباد إىل‬
‫عبادة رب العباد‪ ،‬أي حتقيق احلاكمية اإلهلية‪ ،‬وإهناء اجلاهلية‪ .‬بيد أن الوصول إىل اخلالص‬
‫منهجا رابنيًا قد قردر له الصراع‬
‫ال مير إال عرب صراع‪ ،‬حيث يرى قطب أن اإلسالم ابعتباره ً‬
‫مع ما سواه من تصورات بشرية تكرس للجاهلية والعبودية لغري هللا‪ .‬وبسبب رؤيته الدائرية‬
‫أبدي وحلقاته مستمرة‪ ،‬فليس االستعمار احلديث وما جلبه‬ ‫للتاريخ‪ ،‬يرى أن هذا الصراع ٌّ‬
‫امتدادا للصراعات اليت تولدت مع الفتوحات اإلسالمية مع بقااي‬ ‫ً‬ ‫من حداثة إال‬
‫اإلمرباطورية الرومانية يف املشرق‪" ،‬ولكن الرومان والشعوب األوروبية اليت ورثت‬
‫اإلمرباطورية الرومانية‪ ،‬والشعوب األمريكية املتولدة من املهاجرين األوروبيني‪ ،‬دخلت يف‬
‫معركة حامية الوطيس مع اإلسالم منذ واقعة الريموك إىل اللحظة احلاضرة‪ .‬ووجدت‬
‫خططها مع خطط اليهود (الصهيونية العاملية) يف الكيد اخلفي واحلرب الظاهرية هلذا‬
‫الدين‪ .‬ومل تكن احلروب الصليبية‪ ،‬وال مذابح األندلس الوحشية وال االستعمار احلديث‪..‬‬

‫‪ 45‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.48‬‬


‫‪ 46‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.48‬‬
‫‪ 47‬سيد قطب‪ ،‬املستقبل هلذا الدين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.4‬‬

‫‪71‬‬
‫قمما للموجات العاتية يف خضم احلرب الشاملة اليت أعلنها أهل الكتاب جبملتهم‬ ‫إال ً‬
‫على هذا الدين وأهله‪ ..‬هدفهم األول واألظهر منها سحق هذا الدين وأهله‪ ،‬وردهم عن‬
‫دينهم إن استطاعوا‪ ..‬بل مل تكن كارثة التتار يف هجومهم على بغداد وتدمري اخلالفة فيها‬
‫إال من كيد اليهود والنصارى املستمتعني يف دار اإلسالم بكل الضماانت!"‪.48‬‬
‫قد يسهل رمي هذه الرؤية ابلتآمرية‪ ،‬اليت حتولت يف خطاب احلركات اإلسالمية منذ عصر‬
‫الصحوة إىل مظلومية مشوبة ٍ‬
‫بتعال إمياين يشابه تعايل الشعوب املضطهدة اترخييًا‪ ،‬وترى‬
‫يف اضطهادها وكيد األغيار هلا دليل مسوها‪ .‬بيد أن أهم ما توحي به هو أن قطب يتبنـى‬
‫رؤية جوهرانية حلركة التاريخ‪ ،‬فاإلسالم جوهر مل يتغري‪ ،‬وكذلك الغرب أو اآلخر الكتايب‪.‬‬
‫أبدي؛ وألنه صراع عقدي على معاين العبودية واأللوهية واحلاكمية‪،‬‬
‫لذلك فالصراع بينهما ٌّ‬
‫فليس لإلسالم أن يهادن اآلخر‪ ،‬أو أن يصل يف صراعه معه إىل املنتصف‪ .‬فخالص‬
‫البشرية معقود على قدرة اإلسالم على االنتصار على كل أشكال اجلاهلية وتصوراهتا‪،‬‬
‫سواء يف شكل الغرب الرأمسايل أو الشرق االشرتاكي أو النظم العسكرية احلاكمة يف العامل‬
‫اإلسالمي أو احلضارة املادية احلديثة يف عمومها‪ .‬ويرسم قطب يف "معامل يف الطريق"‬
‫وصوال إىل حتقيق احلاكمية‪.‬‬
‫مالمح هذا الصراع املرير‪ ،‬والذي يقول إنه لن يكون هينًا‪ً ،‬‬
‫بفعل هذه الرؤية اجلوهرانية للتاريخ‪ ،‬تغيب عن كتاابت قطب أية حماوالت لفهم اجملتمعات‬
‫اإلسالمية القدمية أو احلديثة على السواء‪ ،‬فهو يلغي الصراع بداخلها من أجل أتبيد‬
‫صراعها مع اجلاهلية السائدة فيها ويف العامل‪ .‬ولكي يتحقق اخلالص من رحم هذا الصراع‪،‬‬
‫بد من عودة الطليعة اليت حتمل املنهج الرابين بل ومتثله‪ ،‬كما مثل جيل الصحابة هذا‬ ‫ال َّ‬
‫املنهج مع بداية اإلسالم‪ .‬وهو يطلق على هذه الطليعة "اجليل القرآين الفريد" الذي لن‬
‫استمتاعا‪،‬‬
‫ً‬ ‫تعبدا وال‬
‫وعمال وتكوينًا‪ ،‬ال ً‬
‫أييت إال عن طريق تشرب القرآن كمنهج تنفي ًذا ً‬
‫‪49‬‬
‫والعزلة الشعورية مع رواسب اجلاهلية احمليطة داخل اجملتمع وخارجه ‪ .‬ورمبا تتوافق هذه‬
‫القراءة للتاريخ‪ ،‬وللمسار املستقبلي للصراع مع اجلاهلية‪ ،‬مع تصور قطب عن الذات‬
‫اإلنسانية وتلقيها واستجابتها التلقائية للتصور الرابين‪ .‬فاجليل القرآين الفريد‪ ،‬كما تصور‬
‫جيل الصحابة مل تنل منه النوازع اإلنسانية أو مل يفسد التأويل العقلي أو التكييف النسـبـي‬

‫‪ 48‬سيد قطب‪ ،‬مقومات التصور اإلسالمي وخصائصه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.114‬‬
‫‪ 49‬سيد قطب‪ ،‬معامل يف الطريق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.19-11‬‬
‫‪72‬‬
‫زمانيًا ومكانيًا تلقيه الذي مكنه من هزمية اجلاهلية األوىل‪ ،‬واألمر نفسه حيكم تصوره‬
‫للعصبة املؤمنة اليت ستعبّد الطريق إىل اخلالص‪.‬‬
‫لذلك حيمل قطب رؤية خالصة وتبشريية حول مستقبل اإلسالم يف هذا العامل‪ .‬وهو‬
‫مستقبل حتكمه غاية واحدة‪ ،‬هي حتقيق اخلالص وهزمية اجلاهلية‪ .‬إال أن هناك صمتًا‬
‫مطب ًقا عند قطب حول الصورة الـيت سيكون عليها جمتمع اإلسالم يف مرحلة ما بعد‬
‫الصراع‪ .‬فهو على العكس من املفكرين الطوابويني أصحاب اإلسهام األول منذ أفالطون‬
‫وبناء تصورات حول اجملتمعات الطوابوية "اليوتوبيا" ‪-‬مل جيهد ذهنه برسم حدود هذا‬
‫أيضا يف كتاابت‬
‫اجملتمع الرابين‪ ،‬وكيفية إدارته وف ًقا للمنهج الرابين‪ .‬لقد ساد هذا الصمت ً‬
‫اإلسالميني من بعد قطب‪ .‬وتبدو هذه املهمة‪ -‬مهمة بناء تصور عملي وواقعي ورمبا‬
‫أيضا عن جمتمع اإلسالم يف املستقبل ‪ -‬حتتاج إىل مستوايت من اخليال تتجاوز بناء‬‫مثايل ً‬
‫قضية إثبات حول أحقية املنهج الرابين ومسوه وتعاليه على مناهج البشر االعتقادية أو‬
‫األيديولوجية األخرى‪ .‬لقد ظلت اليوتوبيا اإلسالمية أهم األجزاء املفقودة يف بناء تصور‬
‫أيديولوجي متماسك لدى اإلسالميني‪ ،‬يف الوقت الذي مل تسعفهم حتركاهتم العملية اليت‬
‫حادت يف كثري منها عن تصوراهتم األيديولوجية األوىل توقًا إىل السياسة والدولة مشاركة‬
‫ومغالبة يف بناء تصور حقيقي عن املستقبل‪.‬‬
‫‪.VI‬ضياء الدين ساردار‪ :‬جتديد اإلسالم من خالل املستقبل‬
‫ال ينتمي ضياء الدين ساردار إىل تقاليد الفكر اإلسالمي احلديث برافديه الرئيسني‪ :‬الفكر‬
‫الدينـي التقليدي‪ ،‬والفكر اإلسالمي السياسـي‪ .‬إال أنه ينتمي إىل تقاليد أوسع تقوم على‬
‫ختوم ثقافية يقع اإلسالم يف القلب من جداالهتا‪ .‬متثل هذه التخوم الدراسات الثقافية‬
‫النقدية ما بعد الكولونيالية‪ ،‬والدراسات املستقبلية وفلسفة العلم احلديثة‪ ،‬اليت ميثل ساردار‬
‫إمياان‬
‫أحد أعالمها يف الغرب‪ .‬لقد مكنه موقعه كناقد ثقايف غريب ينتمي إىل اإلسالم ً‬
‫وحضارًة من بناء رؤية أكثر تركيبًا ملستقبل اإلسالم تتجاوز املستقبل الذي يبشر به اإلسالم‬
‫انفتاحا‬
‫ً‬ ‫تنوعا من املستقبل الذي ترمسه القوى الغربية الرأمسالية‪ ،‬وأكثر‬
‫السياسـي‪ ،‬وأكثر ً‬
‫على العامل؛ فمستقبل اإلسالم مرهون بقدرته على املسامهة يف تكوين مستقبالت العامل‪.‬‬
‫واألهم أن هذه الرؤية أكثر عملية وقدرة على االخنراط مع الواقع املتنوع للمجتمعات‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وميكن أن جتتذب األفراد واجلماعات على السواء‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫احدا‪ ،‬أو ابألحرى‬‫ابعتباره أحد رواد الدراسات املستقبلية‪ ،‬يرى ساردار أن الزمن ليس و ً‬
‫فإن الزمن هو خزان الوعي البشري الذي خيتلف من ثقافة ألخرى‪ ،‬ورمبا عرب الثقافة‬
‫الواحدة‪ .‬فعلى الرغم من سيادة النظرة اخلطية للزمن اليت تقوم عليها احلياة احلديثة‬
‫وتستبطنها الرؤية احلداثية للعامل‪ ،‬فإن هناك ثقافات عديدة أخرى غري تلك الغربية اليت‬
‫تتبىن وجهات نظر أخرى للزمن‪ ،‬فالعامل قدميًا رأى الزمن يف شكل دوائر أبدية‪ ،‬وهناك‬
‫أخرى ال تسع لغاهتا كلمات تصف املاضـي واملستقبل‪ ،‬فاحلاضر موجود فحسب‪ .50‬أما‬
‫نسيجا يتالحم فيه الزمن األرضـي النسيب مع‬‫اإلسالم كرؤية ثقافية فريى "الزمن ابعتباره ً‬
‫السماوي املطلق يف نسيج واحد‪ ...‬فاآلخرة هي حياة اخللود‪ ،‬حيث تتجاوز فيها حدود‬
‫املكان والزمان والسببية‪ .‬وال تنتهي حياة اإلنسان مبجرد وفاته وسيستمر أتثري عمله فيه‬
‫يف احلياة اآلخرة‪ .‬إن الزمن املستقبلي‪ ،‬والذي يقع جزء منه يف هذا العامل وبقيته يف اآلخرة‪،‬‬
‫هو وقت احلساب‪ .‬وسيلقي املؤمن‪ /‬املؤمنة ما صنعت يداه‪ /‬يداها يف احلياة الدنيا أو يف‬
‫احلياة اآلخرة"‪.51‬‬
‫يضع ساردار نفسه ضمن ما يعرف ابلتقاليد النقدية للدراسات املستقبلية‪ ،‬تلك اليت تقوم‬
‫على أتكيد تعددية املستقبل وتنوعه‪ ،‬وتصر على أن العامل بقدر ما هو متنوع‪ ،‬عليه أن‬
‫يستوعب وجود أكثر من مستقبل يؤكد هذا التنوع حتت مظلة اإلنسانية‪ .‬يتحدى هذا‬
‫التنوع اهليمنة الغربية ودفعها العامل عرب القوى الرأمسالية وغريها إىل مستقبل واحد‪ ،‬وهو ما‬
‫يشري إليه ساردار ابستعمار املستقبل‪ .‬فكما استعمر الغرب أبدواته العسكرية والثقافية‬
‫ماضـي الشعوب اآلسيوية واجلنوبية‪ ،‬يسعى إىل استعمار مستقبلها بفرض رؤية واحدة‪،‬‬

‫‪Ziauddin Sardar, Future: All that matters, (London, Hodor 50‬‬


‫‪publishers, 2014), p. 24.‬‬
‫‪ 51‬ضياء الدين ساردار‪ ،‬ماذا نعنـي ابملستقبليات اإلسالمية؟‪ ،‬ترمجة حممد العريب‪( ،‬مكتبة اإلسكندرية‪ ،‬سلسلة‬
‫أوراق‪ ،)2014 ،‬ص ‪.40‬‬

‫‪74‬‬
‫حت ّد من إمكاانت الفعل واحلركة لدى مثل هذه الثقافات‪ .‬لذلك‪ ،‬من املمكن أن يساهم‬
‫اإلسالم كبديل ثقايف فاعل يف تشكيل مستقبالت العامل‪.52‬‬
‫بيد أن اإلسالم يف وضع ال يسمح له ثقافيًا وال سياسيًا للقيام هبذه املهمة‪ ،‬بسبب أزمته‬
‫احلضارية‪ .‬لذا يعمد ساردار إىل نقد الفكر اإلسالمي على أساس توضيح التعددية اليت‬
‫يتضمنها اإلسالم‪ .‬ينقد ساردار الفكر اإلسالمي‪ ،‬بشقيه الرتاثي واحلديث‪ ،‬من منظور‬
‫يقوم على اإلميان ابلتعددية اليت ميثلها اإلسالم والتعددية ابعتبارها احلالة الطبيعية اليت‬
‫أوجد هللا البشر عليها‪ .‬لقد سامهت الروافد الفكرية الثرية اليت شكلت فكر ساردار يف‬
‫أتطري هذا النقد‪ .‬تبدأ هذه الرؤية ابلنظر إىل اإلسالم ابعتباره رؤيةً كونية "كطريقة للنظر‬
‫للعامل وتشكيله‪ ،‬ونظام للمعرفة والوجود والفعل"‪ .‬إن املعىن احلريف لإلسالم هو اخلضوع‬
‫طوعا إلرادة هللا الواحد الرمحن الرحيم القدير‪،‬‬
‫مسلما يعين أن ختضع ً‬ ‫والسالم‪ ،‬وأن تكون ً‬
‫وأن جتد السالم يف هذا اخلضوع‪ .‬إن هذا السالم يتحقق من خالل مفاهيم وقيم خالدة‬
‫عرب عنها القرآن الكرمي وسنة النيب‪ .‬إن املفهوم األساسي الذي شكل رؤية اإلسالم للعامل‬ ‫ّ‬
‫أيضا على أنه وحدة اجلنس‬ ‫ً‬ ‫تفسريه‬ ‫ميكن‬ ‫لكن‬‫و‬ ‫اخلالق‪،‬‬ ‫اإلله‬ ‫وحدة‬ ‫يعين‬ ‫الذي‬ ‫التوحيد‬ ‫هو‬
‫رجاال ونساءً متساوين أمام‬
‫البشري والطبيعة‪ .‬وهبذا اإلطار اجلامع للتوحيد‪ ،‬يصبح اخللق ً‬
‫اخلالق‪ ،‬دومنا اعتبار للون والعرق والعقيدة‪ ،‬مسؤولني عنها وهم خلفاء عليها‪ ،‬وسيحاسب‬
‫كل فرد على أفعاله يف اآلخرة‪ .‬وتتحقق مسؤولية البشر عن األمانة على أساس مفهومني‬
‫إسالميني آخرين‪ ،‬مها‪ :‬العلم‪ ،‬والعدل‪ .‬إن أفعال خليفة هللا وأفكاره ليست قائمة على‬
‫إميان أعمى ولكن على معرفة‪ .‬وهذه األفعال واألفكار وظيفتها الوحيدة هي إقامة العدل‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ويتحقق كلٌّ من العلم والعدالة على قاعدة اإلمجاع والشورى واملصلحة العامة‪ .‬يف هذا‬
‫اإلطار القيمي‪ ،‬فإن كل أشكال املعرفة والوجود والفعل هي حالل‪ ،‬وخارج هذه األوضاع‬
‫األخالقية يكمن احلرام‪ .‬إن التحدي القائم أمام أي جمتمع إسالمي‪ ،‬هو أن يؤطر احلالل‬
‫طوعا هذا التحدي ويعملون‬ ‫مبا يتناسب مع مرحلته التارخيية‪ .‬وهؤالء األفراد الذين يقبلون ً‬

‫‪ 52‬حممد العريب‪ ،‬ضياء الدين ساردار‪ :‬مطارحة اإلسالم واملستقبل‪( ،‬موقع جدلية‪ 21 ،‬أكتوبر ‪،)2014‬‬
‫‪https://goo.gl/PcfZ4y‬‬

‫‪75‬‬
‫من أجل هذه الغاية على أساس هذه الشبكة من املفاهيم والقيم‪ ،‬هم مرتابطون يف مجاعة‬
‫واحدة؛ هي األمة‪.53‬‬
‫يبتعد ساردار هبذه الرؤية الكلية القيمية للدين عن الرؤى االختزالية اخلرافية غري التارخيية‬
‫اليت ختتزل اإلسالم إىل عبادات أو اليت تضعه يف مقام التشريعات اجلامدة؛ فهذه الرؤية‬
‫يعرب عنها اإلسالم حمل الفعل واحلركة؛ حبيث يتحول اإلسالم‬ ‫حتاول أن تضع القيم اليت ّ‬
‫إىل "حضارة عاملية تقوم على حكم تشاركي وعدالة اجتماعية وكمجتمع قائم على املعرفة‬
‫وملتزم بعبادة هللا ويقوم إبنتاج املعرفة الفلسفية والتكنولوجية والعلمية اليت حتسن من حياة‬
‫اإلنسانية كلها وليس فقط أفراد األمة"‪ .‬هذه الرؤية ال ميكن وصفها ابإلسالمية اخلالصة‬
‫بقدر ما هي إنسانية جامعة‪ ،‬وتسعى إىل إعادة النظر يف كل مفردات العامل املعاصر من‬
‫احلداثة وما بعدها والرأمسالية ونظامها‪ .‬ويرى ساردار أن إعادة البناء حلضارة اإلسالم‬
‫ستكون عملية مؤملة وتدرجيية؛ إذ إهنا تشتمل على إعادة بناء كل جوانب احلياة‪ ،‬وتتطلب‬
‫شجاعة فكرية‪ ،‬وهي عبء تقوم به أجيال متعاقبة وسيكون هلا جناحاهتا وإخفاقاهتا‪.54‬‬
‫يرى ساردار أن أزمة احلضارة اإلسالمية قد بدأت مع إغالق ابب االجتهاد الفكري‬
‫والفقهي‪ ،‬لقد أدى هذا اجلمود الفكري إىل ما يسميه "الكوارث امليتافيزيقية الثالث" يف‬
‫اتريخ الفكر اإلسالمي‪ .‬وتتمثل يف تصعيد الشريعة إىل مرتبة املقدس اإلهلي‪ ،‬وإلغاء السلطة‬
‫عن املؤمنني‪ ،‬ومساواة اإلسالم ابلدولة‪ .‬يقول ساردار‪" :‬إنه ال يوجد ما هو مقدس يف‬
‫الشريعة‪ ،‬والشيء الوحيد املقدس يف اإلسالم هو القرآن الكرمي‪ ،‬أما الشريعة فهي بناء‬
‫إنساين وحماولة لفهم اإلرادة اإلهلية يف سياقات معينة‪ .‬إن الشريعة يف جزئها األكرب هي‬
‫فقه‪ ،‬وال يعدو إال أن يكون آراءً شرعية للمشرعني القدامى "الفقهاء"‪ .‬ومل يكن الفقه قبل‬
‫عرب الفقه عن الروح‬
‫بدعا؛ حيث متت صياغته وتقنينه‪ .‬ويف هذه املرحلة‪ّ ،‬‬‫العصر العباسي ً‬
‫التوسعية لدى املسلمني‪ ،‬وعلى سبيل املثال استمدت أحكام الفقه فيما يتعلق ابلردة من‬
‫هذا املنطق (التوسعي) ال من القرآن‪ .‬ويف هذا السياق الذي تطور فيه الفقه كان العامل‬

‫‪Ziauddin Sardar, Editor’s Introduction: Islam and the Future, 53‬‬


‫‪Futures 23, no. 3 April 1991: 223–230‬‬
‫‪ 54‬حممد العريب‪ ،‬ضياء الدين ساردار‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫بسيطًا‪ ،‬وميكن تقسيمه بسهولة إىل ما هو أبيض وأسود‪ .‬وابلتايل‪ ،‬ظهر يف الفقه مفهوما‪:‬‬
‫دار احلرب‪ ،‬ودار اإلسالم‪ .‬كما أن الفقهاء مل يكونوا يف موضع السلطة يف اجملتمع‪ ،‬فظلت‬
‫اجتهاداهتم حبيسة مدوانهتم ونظرايت ال ميكن تعديلها؛ إذ مل يستطع الفقهاء أن يتعرضوا‬
‫للتجربة العملية اليت تظهر أخطاء نظرايهتم‪ ،‬وتستدعي إعادة التفكري فيها‪ .‬ومن انحية‬
‫أخرى‪ ،‬تطور الفقه اإلسالمي على قاعدة االنقسامات السياسية"‪.55‬‬
‫وتؤدي هذه الكارثة إىل كارثة أخرى؛ حيث تنزع الفاعلية عن املؤمنني طاملا أن القانون‬
‫الفقهي "الشريعة" معطى مقدس فال جمال للتفكري والنقد‪ ،‬وهنالك يصبح املؤمن جمرد‬
‫متلق سليب ال فائدة من حبثه ملا تقتضيه مصلحته‪ .‬يؤكد ساردار أن الشريعة يف أحسن‬ ‫ٍ‬
‫وقيما تسرتشد هبا اجملتمعات اإلسالمية‪ ،‬إهنا منهاجية حلل‬
‫مبادئ ً‬
‫َ‬ ‫األحوال ليست إال‬
‫جهدا وأن‬
‫قانوان ينبغي اتباعه‪ .‬ويتطلب هذا من املؤمنني أن يبذلوا ً‬
‫املشكالت وليست ً‬
‫‪56‬‬
‫يعيدوا أتويل القرآن ابستمرار ‪.‬‬
‫أما الكارثة األخرية املرتتبة على ما سبق من اختزال لإلسالم‪ ،‬فهي مساواة اإلسالم‬
‫تعرب عنها مجاعات اإلسالم السياسي‪ .‬يقول ساردار‪" :‬إن هذا‬ ‫ابلدولة‪ ،‬وف ًقا للرؤية اليت ّ‬
‫اختزال آخر لإلسالم يضعه يف مقام األيديولوجيا‪ ،‬ويضع هذه األيديولوجيا داخل بنية‬
‫الدولة القومية وذلك لتحويلها إىل دولة إسالمية‪ .‬إن كل هذه الدول املسماة ابإلسالمية‬
‫قائمةٌ على افرتاضات سخيفة‪ .‬واألخطر من هذا أن اإلسالم بكل ما يشتمله من حقائق‬
‫عندما يتحول إىل أيديولوجيا حركية حتملها مجاعة معينة‪ ،‬فإنه يفقد إنسانيته‪ ،‬ويصبح‬
‫ساحة للصراع السياسي الذي تتم فيه التضحية ابألخالق والعقل والعدالة"‪ ،‬تقوم هذه‬
‫األيديولوجيا التواتليتارية ‪ Totalitarianism‬عند ساردار على جعل الدولة املتحكم‬
‫يف كل شيء ابسم الدين‪ ،‬وتبين برامج سياسية بال معىن‪ ،‬وجتعل من كل ٍ‬
‫فعل سياسي‬
‫إسالميًّا كما هو احلال يف إيران‪ .‬إن هذه االختزالية ليست ابحلالة اجلديدة‪ ،‬ولكنها وصلت‬

‫‪Ziauddin Sardar, "Rethinking Islam", in Sohail Inayatullah and Gail 55‬‬


‫‪Boxwell, Islam, Postmodernism and other Futures: A Ziauddin‬‬
‫‪Sardar Reader (London: Pluto Press, 2003), 28-29‬‬
‫‪Ibid, p. 2956‬‬

‫‪77‬‬
‫حاليًا ابلعامل اإلسالمي وجمتمعاته إىل حالة من العبثية والتدهور كما أشارت إىل ذلك‬
‫جتارب تطبيق الشريعة حتت حكم طالبان يف أفغانستان ويف السودان‪ ،‬وليست إيران‬
‫بعيدا‬
‫والسعودية أبحسن حال يف هذا الصدد‪ .‬لقد دفعت هذه احلالة جمتمعات اإلسالم ً‬
‫عن القيم اإلنسانية اليت حيملها‪.57‬‬
‫هتن بقدرة املسلمني على عالج داء األصولية‬ ‫إن مستقبل اإلسالم ‪-‬وف ًقا لساردار‪ -‬مر ٌ‬
‫واجلمود الفكري‪ ،‬وذلك من خالل جتديد األصول اليت يرتكز عليها اإلسالم كرؤية كونية‪.‬‬
‫هذا التجديد ال يعين رفض الرتاث والتقليد‪ ،‬فهو يؤكد ‪ -‬على خطى أشيس انندي‪،‬‬
‫املفكر اهلندي ‪ -‬أنه تقليدي نقدي ال يقبل التقاليد بشكل أعمى؛ فالتقاليد جيب أن‬
‫تبتدع وخترتع ابستمرار‪ ،‬وال يعين أن هذه التقاليد اليت قد جنحت يف احلفاظ على أمناط‬
‫حياة الشعوب اإلسالمية وهويتها لقرون تعترب مقدسةً جملرد أهنا اترخييةٌ‪ .‬ومن هنا نستطيع‬
‫تصور فهمه للشريعة كبناء اترخيي إنساين‪ .‬أما القرآن فهو ما جيسد استمرارية اإلسالم‬
‫وجوهره الوحيد املقدس‪ ،‬غري أن تفسريه وإعادة أتويله جيب أن يتم حسب كل سياق‬
‫وبفهم جديد حسب كل عصر ملقتضى آايته‪ .‬إن هذا يعين أن الدين نفسه جيب أن جيدد‬
‫فهمه طاملا تغريت ظروف البشر وحياهتم‪ .‬هذا التجديد يقتضي أن تتحطم كل سلطة‬
‫تدعي احتكار تفسري القرآن والدين‪ ،‬فهو مسؤولية كل مسل ٍم قادر على الفهم‬
‫واالستيعاب‪.58‬‬
‫حاول ساردار يف أكثر من عمل تطوير منظور علمي لدراسة مستقبل اإلسالم كحضارة‬
‫وثقافة من خالل إعادة تفعيل أسسه‪ ،‬أطلق على هذا املنظور "املستقبليات اإلسالمية"‪،‬‬
‫ويقول إن هدفها هو "وضع طريق للخروج من املأزق احلايل‪ ،‬وتطوير رؤى لإلدارة وبدء‬
‫التغيري‪ ،‬ووضع خطط بديلة مستقبلية مرغوبة لألمة اإلسالمية‪ .‬يتطلب مشروع‬
‫املستقبليات اإلسالمية قطيعة فاصلة مع الفكر اإلسالمي التقليدي واملعتمد على التقليدية‬
‫فهما جريئًا‬
‫أيضا ً‬
‫املتصلبة والفهم أحادي البعد للعاملني احلداثي وما بعد احلداثي‪ ،‬ويتطلب ً‬
‫ومبدعا للتحدايت اليت تواجه األمة اإلسالمية"‪ .59‬ونقطتا االنطالق يف هذا املشروع‪،‬‬
‫ً‬

‫‪Ibid, p. 29-3057‬‬
‫‪ 58‬حممد العريب‪ ،‬ضياء الدين ساردار‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬
‫‪ 59‬ضياء الدين ساردار‪ ،‬ماذا نعنـي ابملستقبليات اإلسالمية؟ مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫‪78‬‬
‫أيضا اإلميان‬
‫مها‪ :‬دراسة األحوال املرتدية للعامل اإلسالمي‪ ،‬ودراسة أسباب تقدمه واهنياره‪ .‬و ً‬
‫ابلفرص والتحدايت اليت تطلقها عملية العوملة املستمرة واليت ال فكاك منها‪ ،‬وال سبيل‬
‫أمام مسلمي العامل إال االخنراط فيها إبجيابية‪ ،‬وبثقة‪ .‬يقول ساردار إن التعددية هي أهم‬
‫جوهري االستمرار يف الطبيعة‪ ،‬لكنهما‬
‫مسات عصر العوملة‪ ،‬فالتعددية والتنوع ليسا فقط َ‬
‫حجرا األساس للمجتمعات املستقرة والثقافات احليوية‪ .‬فالثقافات األحادية ليس‬ ‫أيضا َ‬ ‫ً‬
‫‪60‬‬
‫هلا مكان يف املستقبل ‪.‬‬
‫قارة يف نصوصه األصلية ويف‬ ‫واإلسالم ‪-‬كما يراه ساردار‪ -‬ذو نزعة مستقبلية جندها َّ‬
‫تراثه‪ ،‬فيقول‪" :‬إن اإلسالم بطبيعته رؤية كونية متوجهة حنو املستقبل؛ فالقرآن أيمر املؤمنني‬
‫ني أَيْ ِدي رك ْم َوَما َخ ْل َف رك ْم‬
‫يل َهلررم اتَّـ رقوا َما بَْ َ‬
‫أبن يكونوا واعني بتارخيهم كما مبستقبلهم ِ ِ‬
‫"وإ َذا ق َ‬
‫َ‬
‫فكريت املستقبل واحملاسبة مرتبطتان يف اإلسالم‬ ‫لَ َعلَّ رك ْم ترـْر َمحرو َن" (سورة يس‪ :‬اآلية ‪ .)45‬إن َ‬
‫ئيس ْني‪ ،‬مها‪ :‬اآلخرة‪ ،‬واخلالفة‪ ،‬أي‪ :‬األمانة اليت محلها اإلنسان"‪ .61‬ويضيف‪:‬‬ ‫مبفهوم ْني ر َ‬
‫َ‬
‫أيضا على ضرورة‬ ‫ً‬ ‫كد‬ ‫يؤ‬ ‫لكنه‬ ‫و‬ ‫فحسب‪،‬‬ ‫ابملستقبل‬ ‫املؤمنني‬ ‫وعي‬ ‫على‬ ‫اإلسالم‬ ‫كد‬ ‫يؤ‬ ‫"ال‬
‫أن يقوم املؤمنون بتشكيل مستقبلهم بفاعلية‪ .‬وبسبب طبيعة معتقدهم‪ ،‬فإن املسلمني‬
‫مطالبون ابالخنراط يف العامل وتغيريه؛ إن القرآن حيث املسلمني ابستمرار على النضال من‬
‫وسالما‬
‫ً‬ ‫مكاان أكثر عدالة‬ ‫أجل تغيري أنفسهم‪ ،‬وابلنضال من أجل تغيري العامل حىت يصبح ً‬
‫ف يـرَرى‪ ،‬رمثَّ رْجيَزاهر‬ ‫َن َس ْعيَهر َس ْو َ‬ ‫"وأَن لَّْيس لِْإلنسان إَِّال َما َس َعى‪َ ،‬وأ َّ‬
‫ومساواة لإلنسانية‪َ .‬‬
‫َ‬
‫اجلََزاء ْاأل َْو ََف" (سورة النجم‪ .)39:41 ،‬وهلذا‪ ،‬جند أن جوهر الشريعة هو االجتهاد والذي‬ ‫ْ‬
‫‪62‬‬
‫أساسا بتشكيل وإعادة تشكيل املستقبل" ‪.‬‬ ‫يتعلق ً‬

‫‪ 60‬حممد العريب‪ ،‬ضياء الدين ساردار‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬


‫‪ 61‬ضياء الدين ساردار‪ ،‬ماذا نعنـي ابملستقبليات اإلسالمية؟ مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.40‬‬
‫‪ 62‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.41‬‬
‫‪79‬‬
‫وعلى هذا األساس يستخلص ساردار مبادئ منظور املستقبليات اإلسالمية‪ ،63‬وهي‪:‬‬
‫• اخنراط اإلسالم يف العامل املعاصر ابعتباره نظرةً عامليةً تعمل شبكتها املفاهيمة‬
‫كمنهجية لعالج املشكالت وإنتاج إمكاانت وخيارات مستقبلية من أجل‬
‫اجملتمعات املسلمة‪.‬‬
‫• امتزاج املسلمني يف حضارة واحدة جتمع مواردهم حلل أزمات بلداهنم وحتقيق‬
‫األهداف املشرتكة‪ ،‬وهبذا سيصبح املسلمون قادرين على جتاوز االهتمامات‬
‫وحي‬
‫الضيقة للدول القومية املفتتة‪ ،‬والتهميش البالغ حنو تكوين مستقبل حيوي ّ‬
‫ألنفسهم‪.‬‬
‫• تعددية اإلسالم وتنوعه مها حجرا الزاوية لتشكيل حضارة إسالمية حيوية‬
‫ومزدهرة يف املستقبل‪.‬‬
‫يرى ساردار أن هذه املبادئ هي الوجه الثاين لنقد الفكري اإلسالمي املعاصر‪ ،‬حيث‬
‫يقول‪" :‬من الواضح أن مبادئ املستقبليات اإلسالمية هي عن املستقبل بقدر ما هي نقد‬
‫للفكر اإلسالمي احلايل‪ .‬عندما حتمل اهتمامات املستقبل على املواقف املعاصرة‪ ،‬فغالبًا‬
‫ما يتولد نقد‪ ،‬هذا النقد يف حد ذاته يصبح برانجمًا للحركة"‪ .64‬إال أن هذه املبادئ ال‬
‫تقتصر مهمتها على نقد الفكر اإلسالمي وحتسني واقع اجملتمعات اإلسالمية فقط‪ ،‬بل‬
‫هلا وظيفة متعلقة بدور اإلسالم يف التعاطي مع عا َمل متسارع التغري‪" :‬إن مهمة مبادئ‬
‫املستقبليات اإلسالمية هي متكني اجملتمعات اإلسالمية من اإلدارة اخلالقة خلصائص‬
‫عصران العاملية؛ وهي‪ :‬التغري‪ ،‬والتعقد‪ ،‬والتناقض‪ ،‬والتصارع‪ .‬إن عملية إدارة هذه‬
‫اخلصائص واليت حتسن احلاضر‪ ،‬ترتبط بتفعيل هذه املبادئ اليت سوف تشكل املستقبليات‬
‫احملتملة واملرغوبة لألمة اإلسالمية‪ .‬ويتطلب الواقع احلايل القيام مبجموعة من اخلطوات‬
‫الربمجاتية األولية؛ فيجب تطوير فهم جديد ومعاصر لإلسالم مبا حيوله من إميان جمرد‪،‬‬
‫على النحو الذي اختزل إليه‪ ،‬ليصبح رؤيةً عاملية متكاملة ذات شبكة من املفاهيم‬
‫والتحليالت األخالقية‪ .‬على الدول اإلسالمية أن تعيد بناء أنفسها وتتغري شيئًا فشيئًا إىل‬

‫‪ 63‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.52-44‬‬


‫‪ 64‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.53‬‬

‫‪80‬‬
‫حضارة دينامية معاصرة وعاملية‪ ."65‬وتبدو رؤية ساردار حول مستقبل اإلسالم أكثر تركيبًا‬
‫وكذلك أكثر عملية من غريها‪ ،‬ورمبا يرتبط هذا بتعدد الروافد اليت حياول دجمها يف رؤيته؛‬
‫حيث جيمع بني إعادة تعريف املفاهيم الثقافية والدينية يف اإلسالم وحماولة إعادة دجمها‬
‫ِ‬
‫يكتف‬ ‫يف عص ٍر متسارع التغري والفوضـى والاليقني‪ .‬لذا‪ ،‬على العكس من إقبال‪ ،‬مل‬
‫ساردار ابلرتكيز على املفاهيم الفلسفية للزمن وتكوينها لصورة مستقبل اإلسالم‪ ،‬بل جتاوز‬
‫تلك الرؤية الفلسفية لوضع أسس ميكن أن تشكل أدوات لنقد الفكر واالجتماع‬
‫منظورا لرؤية مستقبل اإلسالم يف العامل‪ .‬ويبدو هذا الفارق طبيعيًّا؛‬
‫ً‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬وتكون‬
‫طاغ ابلنسبة إىل الفكر اإلنساين‬‫ففي الثالثينيات‪ ،‬مل يكن تغري العامل مسألة ذات حضور ٍ‬
‫الذي كان حتـى ذلك احلني يف أواخر أطوار حبثه عن احلقيقة بني الفلسفة والدين والعلم‪،‬‬
‫وكانت أعظم املخاطر اليت يتعامل معها هي احلروب‪ .‬أما اآلن‪ ،‬فأصبح تغري العامل هو‬
‫أكثر ما يشغل الفكر اإلنساين مع اتساع نطاق التحوالت اليت حتدثها التكنولوجيا‬
‫واملخاطر اليت أصبحت احلروب أقلها‪ ،‬وأصبحت هتدد الوجود اإلنساين‪.‬‬
‫إن نقطة التالقي األهم بني ساردار وإقبال‪ ،‬على اختالف اقرتاهبما من الزمن واملستقبل‪،‬‬
‫هي أتكيدمها على الفاعلية اإلنسانية؛ أي حرية الذات اإلنسانية ومسؤوليتها‪ ،‬وابلتايل‬
‫قدرهتا على حتديد مصريها‪ .‬وهي رؤية تزداد أمهيتها يف عصران احلايل مع األخذ يف االعتبار‬
‫ما يفرضه التحديث والعوملة واألصولية من حتدايت على الذات الفردية‪ .‬ويستتبع هذا‬
‫حمددا سل ًفا بل هو جمال مفتوح للفعل واحلركة‬
‫التأكيد عند ساردار‪ ،‬أن املستقبل ليس ً‬
‫وضوحا‬
‫ً‬ ‫ويتحدد مبقدار تفاعلنا اإلجيايب والسليب معه‪ ،‬ويبدو هنا اجلانب اجلماعي أكثر‬
‫لدى ساردار‪ ،‬حيث إن حتليله ينصب على اجملتمعات اإلسالمية‪.‬‬
‫على العكس من هذه الرؤية التفاعلية مع الزمن والعامل‪ ،‬تقف رؤية سيد قطب للزمن‬
‫واملستقبل‪ .‬فاإلسالم قد حتدد مستقبله منذ نشأته؛ حيث إن الزمن يدور لتحقيق غاية‬
‫يعرب عنه اإلسالم يف املرحلة النهائية من حياة‬
‫واحدة وهي إعالء املنهج الرابين الذي ّ‬
‫البشر‪ .‬والوصول إىل هذه الغاية لن يتحقق إال من خالل الصراع بني هذا املنهج وأتباع‬
‫تعرب إال عن اجلاهلية‪ .‬ومن مثَّ‪ ،‬ليس على املؤمنني ابإلسالم إال‬
‫غريه من مناهج بشرية ال ّ‬
‫التعاطي مع حركة التاريخ تلك ابالنصياع للمنهج الرابين‪ ،‬فهم غري خمريين أمام حركة‬

‫‪ 65‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.53‬‬


‫‪81‬‬
‫التاريخ‪ .‬لقد كان هلذه الرؤية الال اترخيية أتثري عميق يف الفكر اإلسالمي منذ عصر‬
‫الصحوة‪ ،‬خاصة مع انتقاله إىل برامج للحركة تتخذ من اجلهاد أو األسلمة عناوين هلا‪،‬‬
‫وأفضت يف النهاية إىل الكوارث امليتافيزيقية الثالث اليت حتدث عنها ساردار‪ .‬ومن املفارقة‪،‬‬
‫أننا جند أن أصداء التصور اإلسالمي حول الزمن واملستقبل الذي استعرضناه يف بداية‬
‫الورقة يرتدد بقوة لدى إقبال‪ ،‬حبكم تكوينه الديين‪ ،‬ولدى ضياء الدين ساردار على الرغم‬
‫متاما لدى سيد قطب أكرب منظري اإلسالم السياسـي‪ .‬رمبا‬ ‫من حسه النقدي‪ ،‬وخيفت ً‬
‫تعيد هذه املالحظة فتح النقاش حول مدى حداثة اإلسالم السياسـي وأسسه الفكرية‪،‬‬
‫مفهوما هيجليًّا للتاريخ يدور حول غاية االنتصار لقيمة ما‬
‫ً‬ ‫خاصة أن سيد قطب يتبنـى‬
‫(الرابنية عند قطب‪ ،‬احلرية‪ /‬روح الشعب عند هيجل) من خالل الصراع (بني أطروحة‬
‫وأطروحة مضادة) ابلنسبة إىل االثنني‪.‬‬
‫‪.VII‬خامتة‪ :‬حنو بناء عقل اترخيي‪/‬مستقبلي‬
‫رمبا ال يعكس الفكر اإلسالمي املعاصر الثراء الذي كان عليه التصور اإلسالمي عن الزمن‬
‫خيل هذا الفكر من حماوالت لبناء تصورات‬ ‫وعالقته ابملكان واإلنسان‪ ،‬ومع ذلك مل ر‬
‫"أصيلة" تتجاوز املفاهيم والتعريفات اجملردة إىل بناء تصورات هلا دالالت حضارية وثقافية؛‬
‫كتلك احملاوالت اليت قام هبا إقبال ويستكملها ساردار يف الوقت احلايل‪ .‬ومن هنا تبدو‬
‫احلاجة ماسة إىل تفلسف عملي حول الزمن وعالقته ابإلنسان كذات فاعلة وابالجتماع‬
‫اإلسالمي يف سياق العامل‪ .‬ويبدو التفكري املستقبلي اسرتاتيجية فاعلة يف حتقيق هذه الغاية‪،‬‬
‫وأهم ما حتمله هذه االسرتاتيجية من إمكاانت‪ :‬أهنا تعيد تعريف الدين ال ابعتباره وظيفة‬
‫عضوية ألي جتمع إنساين هتدف إىل تكييف األفراد يف سياق اجملتمع كما تنظر التيارات‬
‫املادية الوظيفية إىل الدين على حنو إجيايب أو سلبـي‪ ،‬أو ابعتباره السبيل األوحد للخالص‬
‫األخروي على النحو الذي يرتكز عليه اخلطاب الدعوي أو التبشريي؛ بل هو نطاق‬
‫حيوي من القيم اليت متنح اإلنسان األمل للتطلع إىل املستقبل كما رجاء اخلالص يف‬
‫اآلخرة‪ .‬يقول املفكر املغريب الراحل وعامل املستقبليات الكبري الدكتور املهدي املنجرة‪" :‬إن‬
‫أوال وقبل كل شيء رؤيةٌ ومشروع اجتماعي ونظام لقيم جمتمعية ثقافية‪."...‬‬ ‫اإلسالم ً‬
‫ومن هنا تعاد قراءة مشولية اإلسالم وعاملية قيمه يف سياق أوسع من عمليتـي التسييس‬
‫والتوظيف‪ ،‬حبيث ميكن إعماهلا لصناعة جمتمعات أفضل وفاعلة يف صياغة مستقبل الوجود‬

‫‪82‬‬
‫اإلنساين‪ .‬وهبذا املعنـى تتجاوز فكرة اإلصالح الدينـي أو جتديد اخلطاب جمرد الصراع على‬
‫النصوص وعلى احتكار تفسريها‪ ،‬سواء كانت هذه التفسريات تقدمية أم رجعية‪ ،‬بل‬
‫يصبح مرتبطًا إبصالح اجتماعي أمشل وأعمق قادر على حتفيز اإلمكاانت التحررية يف‬
‫الدين حبيث يسبق االجتماع ومقتضياته على النص وقراءاته‪.‬‬
‫كذلك حيفز التفكري املستقبلي على إطالق "العقل التارخيي"‪ ،‬وهو العقل الالزم لقبول‬
‫تغري العامل واختالف اجملتمعات‪ ،‬وابلتايل تعدد البدائل املتاحة أمام اإلنسان يف حاضره‬
‫ومستقبله على حنو يغنيه عن اهلروب إىل املاضـي أو استعارة النماذج التارخيية اليت مل يعد‬
‫هلا مكان يف عامله احلاضر أو مستقبله املأمول‪ .‬ووف ًقا هلذه االسرتاتيجية الفكرية تصبح‬
‫اجملتمعات اإلسالمية‪ ،‬كما الفرد‪ ،‬على إميان بقدرهتا على صناعة مستقبلها من خالل‬
‫إعادة تشكيل حاضرها‪ .‬وهبذا تتضمن املستقبلية نظرتني متالزمتني‪ :‬األوىل إىل املستقبل‬
‫املرغوب‪ ،‬والثانية إىل احلاضر املتغري‪.‬‬
‫وف ًقا هلذا املعنـى‪ ،‬هناك العديد من املشروعات الفكرية اليت تقرتب من هذا املفهوم‬
‫املستقبلي لإلصالح الدينـي بشكل أو آبخر‪ ،‬إال أهنا ولألسف الشديد القت تضيي ًقا من‬
‫التيار العام للثقافة اإلسالمية عززه االستبداد السياسـي والتخلف االجتماعي‪.‬‬
‫أيضا شهدت صحوة يف املشروعات الفكرية التحررية اليت تعاجل‬ ‫إال أن العقود األخرية ً‬
‫أزمات اإلسالم على حنو يتجاوز الثنائيات القاتلة والتفكري املاضوي واملسيس‪ ،‬ومن بينها‬
‫مشروع محيد داابشـي عن الهوت التحرير اإلسالمي والذي يعاجل على نفس خطوط‬
‫علي شريعتـي اإلمكانية التحررية يف الثقافة اإلسالمية وإمكانية تالمحها مع النضال العاملـي‬
‫اقتصاداي‪ ،‬وكذلك مشروع عامل االجتماع‬
‫ًّ‬ ‫يف مواجهة عدم عدالة النظام الدويل ثقافيًّا و‬
‫اإليراين آصف بيات عن ما بعد اإلسالموية الذي يقوض من خالله األسس االجتماعية‬
‫املنتجة لعملية تسييس اإلسالم‪ ،‬ويف الوقت نفسه حياول صياغة مشروع فكري يؤسس‬
‫جهدا‬
‫السرتاتيجية واعية "لتخطي اإلسالموية يف اجملاالت الفكرية والسياسية‪ ،‬إهنا متثل ً‬
‫لدمج التدين بثقافة احلقوق‪ ،‬واإلميان ابحلرية‪ ،‬واإلسالم ابحلرية الفردية‪ .‬إهنا حماولة لقلب‬
‫بدال من الواجبات‪ ،‬والتعددية‬
‫أسا على عقب ابلتأكيد على احلقوق ً‬ ‫مبادئ اإلسالموية ر ً‬
‫بدال من املاضي‪.‬‬‫بدال من النصوص اجلامدة‪ ،‬واملستقبل ً‬ ‫بدال من األحادية‪ ،‬والتارخيانية ً‬
‫ً‬

‫‪83‬‬
‫وعلى الرغم من تفضيلها للدولة املدنية غري الدينية‪ ،‬فإهنا تسعى إلدراج دور للدين يف‬
‫اجملال العام"‪.‬‬
‫خرا واليت تواكبت‬
‫ال ريب أن حالة الفوران الفكري اليت تشهدها اجملتمعات اإلسالمية مؤ ً‬
‫مع االضطراابت الثورية والتغريات السياسية احلادة والعنف واحلروب األهلية يف العديد من‬
‫طويال‬
‫البلدان اإلسالمية‪ ،‬أصبحت تتعامل مع األسئلة اليت تغافل عنها الفكر اإلسالمي ً‬
‫حاضرا خاصة يف النقاشات العامة ولو على حنو‬
‫ً‬ ‫على حنو أكثر جدية‪ ،‬وأصبح املستقبل‬
‫خجول‪ ،‬وقد يكون الصعود العنيف لألصولية واملذهبية الطائفية ليس إال طفرات أخرية‬
‫أيضا للفعل‪ ،‬وهو‬
‫جماال لألمل فقط بل ً‬ ‫للماضوية وإرثها الثقيل‪ .‬إال أن املستقبل ليس ً‬
‫بقدر ما يثري ختوفات تعمق من الصراع‪ ،‬بقدر ما مينح من فرص للفعل واحلركة والتعاون‪،‬‬
‫بعد‪ .‬لذا ال ميكن فصل التوجهات املستقبلية يف الفكر‬
‫فاملستقبل هو األرض اليت مل رحتتل ر‬
‫تغيريا جذرًاي يف أجندة الفكر اإلسالمي‬
‫اإلسالمي عن توجهات احلركة‪ .‬وهو ما يستدعي ً‬
‫ابستدعاء العلوم اليت تتناول الواقع وتغرياته‪ ،‬وكذلك املوضوعات اليت هتم اجملتمعات‬
‫اإلسالمية ال تلك اليت يرتخيل أن املستقبل معقود عليها‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫مفهوم املصلحة‬
‫أمحد عبد اجلواد زايدة‬
‫يعترب مدخل التعامل مع الشريعة اإلسالمية من خالل‬
‫نظرية املصلحة الشرعية من أهم املنظورات وأكثرها فعالية‬
‫وحركية‪ ،‬ليس فقط من حيث نسق النظرية اجملرد والعام‪،‬‬
‫وإمنا اعتباراً ملا يقدمه من أنساق التفاعل بني مضامني الفقه‬
‫وخريطة تضاريسه‪ ،‬وهو مدخل مل أيخذ حظَّه من االنتشار‬
‫يف أوساط الباحثني الشرعيني ابعتباره النسق النهائي‬
‫للشريعة الذي ال يصل إليه الدراس إال بعد استواء عوده‬
‫جلّ ابحثي العلوم‬ ‫العلمي‪ ،‬وال كذلك انتشر يف أوساط ِ‬
‫االجتماعية املعاصرين؛ ومن مثَّ فإن تفعيله املعاصر وتفاعله‬
‫مع النظرايت القانونية والسياسية املعاصرة مل أيخذ كذلك‬
‫حقَّه كما كان ينبغي أن يكون‪.‬‬
‫دائما أن يلقب نظرية املصلحة الشرعية ‪-‬مبا تتضمنه من قواعد فقهية‬ ‫يستحسن الباحث ً‬
‫ومقاصدية وأصول فلسفية‪ -‬بعلم هندسة الفقه الذي يفرتض أن تتم من خالله القدرة‬
‫على هندسة اجملتمع ‪-‬وليس ضبطه‪ ،-‬بل هندسة املساحات والعالقات واألبنية فيه‪ .‬فإن‬
‫كان كبار فالسفة القانون يعربون أبن مهمة القانون املثلى والسامية هي هندسة اجملتمع‬
‫ابلقدر الذي حيدث التوازن بني مصاحل طبقاته وفئاته‪ ،‬وبني طبقاته وبني الدولة‪ ،‬فإن هذا‬
‫الدور هو ما تسعى كل منظومة فلسفية إىل حتقيقه عرب منظومتها التشريعية والتفصيلية‪.‬‬
‫وهو ما عرب عنه الباحث علي اباي يف ورقته البحثية اليت عنوهنا بعنوان "الفقيه ابعتباره‬
‫مهندسا"‪.‬‬
‫ً‬
‫ال ميكن كذلك فصل نظرية ومفهوم املصلحة عن عدة أبواب ‪-‬أو قل روافد‪ -‬من العلوم‬
‫اإلسالمية‪ ،‬فهي نظرية ومفهوم تشارك يف تشكيله العديد من مساحات العلوم‪ ،‬فنظرية‬
‫املصلحة يدخل فيها علم أصول الفقه‪ ،‬وكذلك علم الفقه ابعتباره املساحة التطبيقية اليت‬
‫أيضا علم الكالم من حيث أصوهلا‬ ‫تتجلى فيها تطبيقات قواعد النظرية‪ ،‬ويدخل فيها ً‬
‫الفلسفية‪ ،‬وهي هبذا التكوين العلمي من داخل تراث العلوم اإلسالمية ذات تفاعل مع‬
‫املدارس القانونية املعاصرة يف مساحات التشريع ‪-‬يف أغلب ما قدم من أطروحات‪ ،-‬ويف‬
‫مساحات التفاعل مع فلسفة القانون ومفامهيه املركزية ‪ -‬وهي املساحة البحثية األقل‬
‫وطرحا‪ .‬ومن مثَّ فإن تصنيف نظرية املصلحة أو تناوهلا يف ضوء أفكار املفكرين‬
‫تناوال ً‬ ‫ً‬
‫مفهوما فكرًاي فقط‪ ،‬وإمنا هو‬
‫ً‬ ‫املعاصرين أمر غري ذي جدوى؛ إذ إن مفهوم املصلحة ليس‬
‫مفهوم فكري وفقهي وأصويل‪ ،‬أضف إليه ما يقابله من مساحات العلوم األخرى حني‬
‫يتفاعل معها على أرضيتها وخلفيتها الفلسفية‪ ،‬أعين‪ :‬تفاعل نظرية املصلحة يف التصور‬
‫الشرعي مع النظرية السياسية بتفصيلها‪ ،‬وكذلك مع نظرايت العالقات الدولية واخلارجية‪،‬‬
‫واألمن الداخلي‪ ،‬وسياسات الدفاع‪ ،‬وماذا سينتج حني نقوم بتفعيل هذه األداة املنهجية‬
‫واملفاهيمية ‪-‬يف آن واحد واليت جتسد أرقى مستوايت التنظري يف الشريعة‪ -‬يف هذه احلقول؛‬
‫معا؟‬
‫املعرفية وامليدانية ً‬
‫الفرع األول‪ :‬تعريف املصلحة‬
‫املصلحة من اجلذر اللغوي‪ :‬صلح‪ ،‬وهي على وزن مفعلة من الصالح‪ ،‬والصالح ضد‬
‫الفساد‪ ،‬ويقال‪ :‬رجل صاحل يف نفسه من قوم صلحاء‪ ،‬ومصلح يف أعماله وأموره‪ ،‬وقد‬
‫أصلحه هللا‪ ،‬ورمبا كنوا ابلصاحل عن الشيء الذي هو إىل الكثرة‪ .‬واإلصالح نقيض‬
‫(‪)1‬‬
‫وفعال‪ ،‬مبعىن أن املصلحة تطلق‬
‫اإلفساد ‪ .‬فهي تطلق على ما هو نقيض املفسدة وص ًفا ً‬
‫على املنفعة ذاهتا كما تطلق على الفعل الذي حيصل به النفع والصالح‪ ،‬وكذلك املفسدة‬
‫تطلق على املضرة ذاهتا وعلى الفعل الذي حيصل به الضرر والفساد‪.‬‬

‫انظر‪ :‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪( ،‬بريوت‪ :‬دار صادر‪ ،)2479/4 ،‬مادة صلح‪ ،‬وراجع ً‬
‫أيضا مادة فسد‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪3412/5‬؛ وابن فارس‪ ،‬معجم مقاييس اللغة‪ ،‬حتقيق عبد السالم هارون‪( ،‬بريوت‪ :‬دار الفكر‪،)1979 ،‬‬
‫مادة صلح؛ وانظر كذلك‪ :‬أبو منصور األزهري‪ ،‬هتذيب اللغة‪.243/4 ،‬‬
‫‪86‬‬
‫اصطالحا أبهنا‪" :‬عبارة يف األصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ويعرفها اإلمام الغزايل‬
‫ولسنا نعين به ذلك‪ ،‬فإن جلب املنفعة ودفع املضرة مقاصد اخللق‪ ،‬وصالح اخللق يف‬
‫حتصيل مقاصدهم‪ ،‬لكننا نعين ابملصلحة احملافظة على مقصود الشرع‪ ،‬ومقصود الشرع‬
‫من اخللق مخسة‪ :‬وهو أن حيفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم وماهلم‪ ،‬فكل ما‬
‫يتضمن حفظ هذه األصول اخلمسة فهو مصلحة‪ ،‬وكل ما يفوت هذه األصول فهو‬
‫مفسدة ودفعه مصلحة"(‪.)2‬‬
‫أما اإلمام الطاهر ابن عاشور فقد عرف املصلحة أبهنا‪" :‬وصف للفعل حيصل به الصالح‪،‬‬
‫دائما أو غالبًا للجمهور أو لآلحاد"‪.‬‬
‫أي النفع منه ً‬
‫"دائما" يشري إىل املصلحة اخلالصة أو املطردة‪ .‬وقوله‪" :‬أو غالبًا" يشري إىل املصلحة‬
‫وقوله‪ً :‬‬
‫الراجحة يف غالب األحوال‪ .‬وقوله‪" :‬للجمهور أو لآلحاد" إشارة إىل أقسامها كما سيأيت‪.‬‬
‫دائما‬
‫املصلحة‪ ،‬وهي وصف للفعل حيصل به الفساد‪ ،‬أي الضر ً‬ ‫أما املفسدة فهي ما قابل‬
‫(‪)3‬‬
‫أو غالبًا للجمهور أو لآلحاد ‪.‬‬
‫(‪)4‬‬
‫الفرع الثاين‪ :‬تقسيمات املصلحة‬
‫تنقسم املصلحة ابعتبار الشرع هلا إىل ثالثة أقسام‪ :‬مصاحل معتربة‪ ،‬مصاحل ملغاة‪ ،‬مصاحل‬
‫مرسلة‪.‬‬
‫وتنقسم املصلحة ابعتبار آاثرها يف قوام أمر األمة إىل ثالثة أقسام‪ :‬ضرورية‪ ،‬وحاجية‪،‬‬
‫وحتسينية‪.‬‬
‫وتنقسم ابعتبار تعلقها بعموم األمة أو مجاعاهتا أو أفرادها إىل‪ :‬كلية وجزئية‪.‬‬

‫‪ 2‬أبو حامد الغزايل‪ ،‬املستصفى يف علم األصول‪( ،‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪1413 ،‬هـ‪1993/‬م)‪،‬‬
‫ص‪.174‬‬
‫‪ 3‬الطاهر بن عاشور‪ ،‬مقاصد الشريعة اإلسالمية‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار السالم‪ ،‬ط‪2012 ،5‬م)‪ ،‬ص ‪.278‬‬
‫‪ 4‬انظر يف هذا‪ :‬حممد كمال الدين إمام‪ ،‬املصلحة يف املصطلح املقاصدي‪ :‬رؤية وظيفية‪( ،‬لندن‪ :‬مؤسسة‬
‫الفرقان للرتاث اإلسالمي‪.)2011 ،‬‬
‫‪87‬‬
‫وتنقسم ابعتبار درجة دليلها وقوته إىل‪ :‬قطعية‪ ،‬أو ظنية‪ ،‬أو ومهية‪.‬‬
‫التقسيم األول‪ :‬ابعتبار الشرع هلا‪:‬‬
‫أوال‪ :‬املصاحل املعتربة‬
‫ً‬
‫وهي اليت قام الدليل الشرعي على رعايتها‪ ،‬ووضع من األحكام ما يوصل إليها‪ ،‬كاحملافظة‬
‫على النفس والعقل‪ ،‬ودفع املشقة واحلرج عن املكلفني‪ ،‬وهذه املصاحل ينبغي التعليل هبا‪،‬‬
‫وترتب األحكام عليها‪ ،‬ومن هذا مجيع املصاحل اليت حققتها األحكام الشرعية ضرورية‬
‫كانت أو حاجية أو حتسينية‪ ،‬واملصاحل املعتربة يستدل هبا ويقاس عليها‪.‬‬
‫واملصاحل املعتربة قسمان‪:‬‬
‫ووجد نص‬ ‫أ‪ -‬مصلحة معتربة ابلنوع‪ :‬وهي مصلحة شهد الشرع لنوعها‪ ،‬ر‬
‫شرعي يدل على احلكم الذي توجبه املصلحة‪ ،‬ال يف الواقعة املعروضة؛ بل يف‬
‫واقعة أخرى متاثلها‪ ،‬ومثال ذلك‪ :‬املصلحة احلاصلة من حترمي النبيذ وإن مل يدل‬
‫عليه نص بعينه؛ فقد وجد النص الذي يدل على هذه احلرمة ابلنسبة إىل شرب‬
‫اخلمر‪.‬‬
‫ب‪ -‬مصلحة معتربة ابجلنس‪ :‬وهي مصلحة شهد الشرع جلنسها‪ ،‬أي‪ :‬تدخل‬
‫حتت قاعدة أو أصل شهدت له ودلت عليه عدة نصوص شرعية‪ ،‬ومن أمثلة‬
‫هذه املصلحة‪ :‬مجع القرآن؛ فإنه مصلحة شهد الشرع جلنسها‪ ،‬وألهنا تدخل‬
‫حتت أصل حفظ الدين‪.‬‬
‫اثنيًا‪ :‬املصلحة امللغاة‬
‫وهي اليت شهد الدليل الشرعي على بطالهنا‪ ،‬ووضع من األحكام ما يدل على بطالهنا‪،‬‬
‫كمصلحة شارب اخلمر يف التخفيف عن متاعب احلياة‪ ،‬ومصلحة اجلبان يف عدم خوض‬
‫املعركة‪ ،‬ومصلحة آكل الراب يف زايدة ثروته‪ ،‬ومصلحة املريض امليؤوس يف شفائه من املوت‬
‫انتحارا‪ ،‬أو املوت بدافع الشفقة‪ ،‬وغري ذلك من املصاحل الفردية اليت ترتتب على أوصاف‬
‫ً‬
‫شهد الشارع إبلغائها‪ ،‬وقد اتفق العلماء على أن هذه املصاحل ال يصح التعليل هبا أو‬
‫ابتناء األحكام عليها‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫اثلثًا‪ :‬املصلحة املرسلة‬
‫وهي مصلحة تدخل يف مقاصد الشرع ولكن ال يقوم دليل خاص على إلغائها أو إبقائها‪،‬‬
‫ومسيت مرسلة ألهنا مطلقة عن دليل اعتبارها أو إلغائها من قبل الشارع‪ ،‬عكس املصلحة‬
‫املعتربة اليت جاء الدليل املباشر على رعايتها‪.‬‬
‫واملصلحة املرسلة إذا قصد هبا اليت ميتنع حكمها ال جتوز يف الشرع‪ ،‬ولعل هذا هو ما عناه‬
‫اإلمام الغزايل "ابستحالة خلو واقعة عن حكم هللا؛ إذ إن كل مصلحة تتخيل يف كل‬
‫وغفال ال‬
‫مهمال ً‬
‫بد وأن تشهد األصول لردها أو قبوهلا‪ ،‬فأما تقدير جرايهنا ً‬ ‫واقعة‪ ،‬ال َّ‬
‫أصال فمحال ختيله"‪ .5‬وفكرة الغزايل تقوم على استحالة خلو واقعة عن حكم‬ ‫تالحظ ً‬
‫هللا تعاىل ابعتبار النقل أو العقل‪ ،‬خاصة وقد كمل الدين وانقطع الوحي؛ ولكن املصلحة‬
‫املرسلة ليست املصلحة اليت ميتنع حكمها‪ ،‬وإمنا هي مصلحة هلا حكم‪ ،‬ولكن الوصف‬
‫الذي يرتتب عليه احلكم ليس له أصل يشهد ابعتباره أو بطالنه‪ .‬فيستنبطه الفقيه من‬
‫مقاصد الشريعة العامة ومبادئها الكلية‪.‬‬
‫التقسيم الثاين‪ :‬ابعتبار آاثرها يف قوام األمة‬
‫أوال‪ :‬املصاحل الضرورية‬
‫ً‬
‫هي اليت تكون األمة مبجموعها وآحادها يف ضرورة إىل حتصيلها حبيث ال يستقيم النظام‬
‫ٍ‬
‫وتالش‪ ،‬واليت من دوهنا ال تقوم أمور‬ ‫ابختالهلا‪ ،‬فإذا اخنرمت تؤول حالة األمة إىل فساد‬
‫الدنيا‪ ،‬وتفوت مصاحل اآلخرة‪ .‬ومثال هذا ما مثَّل به اإلمامان الغزايل والشاطيب‪" :‬حفظ‬
‫الدين والنفس والعقل واملال والنسل"(‪ .)6‬وحفظ هذه املصاحل كما يقول اإلمام الشاطيب‬
‫عرب هو رضي هللا عنه أبمرين‪:‬‬
‫يكون كما َّ‬

‫‪ 5‬أبو حامد الغزايل‪ ،‬املستصفى يف علم األصول‪ ،‬مرجع سابق‪.420/1 ،‬‬


‫‪ 6‬إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطيب‪ ،‬املوافقات يف أصول الشريعة‪ ،‬حتقيق عبد هللا دراز‪( ،‬بريوت‪ :‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬ط‪ .8/2 ،)2004 ،1‬وانظر كذلك‪ :‬أبو حامد الغزايل‪ ،‬املستصفى يف علم األصول‪ ،‬مرجع سابق‪،‬‬
‫‪.416/1‬‬

‫‪89‬‬
‫أحدمها‪ :‬ما يقيم أصل وجودها‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬ما يدفع عنها االختالل الذي يعرض هلا(‪.)7‬‬
‫اثنيًا‪ :‬املصاحل احلاجية‬
‫وهي ما حتتاج األمة إليه القتناء مصاحلها وانتظام أمورها على وجه حسن‪ ،‬حبيث لوال‬
‫مراعاته لفسد النظام‪ ،‬ولكان على حالة غري منتظمة؛ فلذلك ال يبلغ مبلغ الضروري‪.‬‬
‫وأساسها رفع احلرج عن األمة‪ ،‬فال تضيع األمة ابنتفائها ولكنها تضيق‪ ،‬وال ختتل األمور‬
‫بفقداهنا ولكن غياهبا يزيد املشقة وجيلب العسر‪ .‬ومثَّل له األصوليون ابلبيوع واإلجيارات‬
‫والقراض واملساقاة‪ ،‬وكرخصة قصر الصالة للمسافر واإلفطار للمريض وعقد السلم يف‬
‫املعامالت(‪.)8‬‬
‫اثلثًا‪ :‬املصاحل التحسينية‬
‫ما كان هبا كمال حال األمة يف نظامها حىت تعيش آمنة مطمئنة وهلا هبجة منظر اجملتمع‬
‫مرغواب يف االندماج فيها أو يف التقرب‬
‫يف مرأى بقية األمم‪ ،‬حىت تكون األمة اإلسالمية ً‬
‫مدخال يف ذلك سواء كانت عادات عامة كسرت العورة‪ ،‬أم‬‫ً‬ ‫منها‪ ،‬فإن حملاسن العادات‬
‫خاصة ببعض األمم كخصال الفطرة‪ ،‬واحلاصل أهنا ما تراعى فيها املدارك الراقية‬
‫للبشرية(‪.)9‬‬
‫التقسيم الثالث‪ :‬ابعتبار تعلقها بعموم األمة أو مجاعتها أو أفرادها‬
‫أوال‪ :‬املصاحل الكلية‬
‫ً‬
‫عائدا على مجاعة عظيمة من‬
‫متماثال‪ ،‬وما كان ً‬
‫ً‬ ‫عودا‬
‫عائدا على عموم األمة ً‬
‫هي ما كان ً‬
‫األمة أو قرطر‪ .‬مثل‪ :‬محاية البيضة‪ ،‬وحفظ اجلماعة من التفرق‪ ،‬وحفظ الدين من الزوال‪،‬‬

‫‪ 7‬أبو حامد الغزايل‪ ،‬املستصفى يف علم األصول‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬


‫‪ 8‬املرجع السابق‪.‬‬
‫‪ 9‬إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطيب‪ ،‬املوافقات يف أصول الشريعة‪ ،‬مرجع سابق‪.11/2 ،‬‬
‫‪90‬‬
‫ومحاية احلرمني من أن يقعا يف غري أيدي املسلمني‪ ،‬وحفظ القرآن من التالشي العام أو‬
‫معا‪.‬‬
‫التغري العام ابنقضاء حفاظه وتلف مصاحفه ً‬
‫اثنيًا‪ :‬املصاحل اجلزئية اخلاصة‬
‫هي مصلحة الفرد أو األفراد القليلة‪ ،‬وهي أنواع ومراتب قد تكفلت حبفظها أحكام‬
‫الشريعة يف املعامالت‪.‬‬
‫التقسيم الرابع‪ :‬ابعتبار حتقق احلاجة إىل جلبها أو دفع الفساد عن أن حييق هبا‪:‬‬
‫تنقسم إىل‪:‬‬
‫أوال‪ :‬املصاحل القطعية‬
‫ً‬
‫ات‬‫ت بَيِّنَ ٌ‬ ‫آاي ٌ‬ ‫ِِ‬ ‫هي اليت دلَّت عليها أدلة من قبيل النص الذي ال حيتمل ً‬
‫أتويال‪ ،‬حنو‪ :‬فيه َ‬
‫اع إِلَْي ِه‬
‫استَطَ َ‬ ‫ااس ِح ُّج الْبـ ْي ِ‬
‫ت َم ِن ْ‬
‫آمنا ۗ وِاِ‬
‫َلِل َعلَى الن ِ‬ ‫ِ‬ ‫م َق ِ ِ‬
‫َ‬ ‫يم ۖ َوَم ْن َد َخلَهُ َكا َن ً َ‬ ‫ام إبْـ َراه َ‬
‫َ ُ‬
‫ني [آل عمران‪.]97 :‬‬ ‫ِ‬
‫ين َع ِن ال َْعالَم َ‬ ‫َسبِ ًيال ۚ َوَم ْن َك َف َر فَإن ا‬
‫اَلِلَ غَ ِ ٌّ‬ ‫ا‬ ‫ِ‬
‫ين ِمن قَـ ْبلِ ُك ْم‬ ‫اِ‬
‫ب َعلَى الذ َ‬
‫ِ‬
‫ام َك َما ُكت َ‬ ‫ب َعلَْي ُك ُم ِّ‬
‫الصيَ ُ‬
‫ِ‬
‫آمنُوا ُكت َ‬‫ين َ‬
‫اِ‬
‫وقوله تعاىل‪َ :‬اي أَيُّـ َها الذ َ‬
‫لَ َعلا ُك ْم تَـتاـ ُقو َن [البقرة‪.]183 :‬‬
‫وما تظاهرت األدلة الكثرية عليه مما مستنده استقراء الشريعة‪ ،‬مثل الكليات الضرورية‬
‫ضرا‬ ‫املتقدمة‪ ،‬أو ما َّ‬
‫عظيما أو يف حصول ضده ً‬ ‫صالحا ً‬
‫ً‬ ‫دل العقل على أن يف حتصيله‬
‫عظيما على األمة‪ ،‬مثل قتال مانعي الزكاة يف زمن أيب بكر رضي هللا عنه‪.‬‬
‫ً‬

‫‪91‬‬
‫اثنيًا‪ :‬املصاحل الظنية‬
‫ما اقتضي العقل ظنه‪ ،‬مثل اختاذ كالب احلراسة يف الدور يف احلضر يف زمن اخلوف يف‬
‫ني‬ ‫ضي الْ َق ِ‬
‫اضي بَ ْ َ‬ ‫دل عليه دليل ظين من الشرع‪ ،‬مثل حديث‪َ « :‬ال يـ ْق ِ‬
‫القريوان‪ ،‬أو ما َّ‬
‫َ‬
‫ضبَا ُن»(‪.)10‬‬ ‫اثْـنَ ْ ِ‬
‫ني َو ُه َو غَ ْ‬
‫اثلثًا‪ :‬املصاحل الومهية‬
‫هي اليت يرتخيل فيها صالح وخري وهو عند التأمل ضر؛ خلفاء ضره مثل تناول املخدرات‬
‫من األفيون واحلشيشة والكوكايني واهلريوين‪.‬‬
‫االجتاهات البحثية يف دراسات املقاربة واملقارنة بني نظرية املصلحة الشرعية وبني‬
‫النظرية املعاصرة‪:‬‬
‫تعترب نظرية (املصلحة) وأوجه االستدالل هبا‪ ،‬أحد األمثلة البارزة على منهجية مدارس‬
‫البحث واالقرتاب اليت تتناول قضااي النظرية السياسية احلديثة من منظور مقارن مع تراث‬
‫السياسة الشرعية‪ ،‬وابلنظر يف مناذج االستدالل هبا وتطبيقاهتا نرى بوضوح االقرتاب‬
‫املنهجي لكل مدرسة؛ وذلك من خالل ما تطلقه من مقوالت أو فتاوى يف مواقف "هي‬
‫ابألخص سياسية" تتعلق بشؤون األمة العامة واألوطان‪ .‬كما تظهر بوضوح األخطاء‬
‫واإلشكاالت املتعلقة مبسؤولية تقدير املصلحة‪ ،‬ومدى تعلقها ابملساحة الشرعية النصية‪،‬‬
‫أو ابملساحة التدبريية التجريبية‪ .‬غري أن هذه االجتاهات البحثية ال تقتصر فقط على‬
‫(نظرية املصلحة) ‪-‬وإن كانت النظرية أبرز األمثلة وأوضحها ولو من حيث التطبيق‪،-‬‬
‫وإمنا تتجاوز هذا للمنظور الكلي يف التعامل مع كل ما يتصل ابلنظرية السياسية احلديثة‬
‫ومفاهيمها وعناصرها املختلفة ‪-‬كاملصلحة‪ ،‬والدولة‪ ،‬والسلطة‪ ،‬واألحزاب‪ ،‬والدميقراطية‪-‬‬
‫ومع ما هو تراثي متعلق ابلسياسة الشرعية وفلسفة احلكم وتراث األمة‪.‬‬

‫‪ 10‬أخرجه البخاري يف صحيحه‪ ،‬كتاب األحكام‪ ،‬ابب هل يقضي القاضي أو يفيت وهو غضبان‪ ،‬برقم‬
‫(‪)7158‬؛ ومسلم يف صحيحه‪ ،‬كتاب األقضية‪ ،‬ابب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان‪ ،‬برقم (‪)1717‬؛‬
‫وابن ماجه يف سننه‪ ،‬كتاب األحكام‪ ،‬ابب ال حيكم احلاكم وهو غضبان‪ ،‬برقم (‪ ،)2316‬واللفظ له‪ ،‬من‬
‫حديث أيب بكرة رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪92‬‬
‫حاول الباحث بلورة منظور املدارس املعاصرة املتعاطية مع نظرية املصلحة يف إطارها‬
‫اعتمادا ملبدأ اجلمع بني عقلييت املدارسة واملمارسة‪ ،‬ومن مثَّ‬
‫ً‬ ‫النظري‪ ،‬وامليداين التطبيقي‪،‬‬
‫معا ويف ضوء إطا ٍر جيمع معايريمها‪ ،‬وهو التقسيم ذاته الذي ينطبق‬
‫كان التقييم مرتبطًا هبما ً‬
‫على التفاعل بني الرتاث اإلسالمي والنظرايت املعاصرة‪ ،‬فالناظر واملدقق يف اإلنتاج املعريف‬
‫املعاصر حول العالقة بني النظرية السياسية احلديثة بشكل عام‪ ،‬ونظرايت الرتاث السياسي‬
‫اضحا متايز هذه‬
‫اإلسالمي ورؤاه بشكل خاص‪" ،‬والوحي‪/‬الغيب" بشكل عام ‪ -‬جيد و ً‬
‫األطروحات إىل مدارس أربع‪ ،‬متثل أربع منهجيات للتناول البحثي‪:‬‬
‫املدرسة األوىل‪ :‬مدرسة اإلنكار‬
‫فضال عن املقاصد‪ -‬وبني السياسة‪،‬‬‫تنكر هذه املدرسة البحثية وجود أي صلة بني الوحي ‪ً -‬‬
‫وترفض تدخل الشريعة يف العمل السياسي؛ حيث يرى متبنوها أن السياسة "فعل مدنس"‪،‬‬
‫يف حني أن الشريعة والوحي "أمر مقدس"‪ ،‬واملقدس وغريه ال يلتقيان‪ .‬وال يعنينا هنا‬
‫االستطراد يف ذكر حجج ودعاوى هذه املدرسة؛ ألن الباحث جتاوز فرضية سؤال "هل‬
‫مثة صلة بني الشريعة مبقاصدها ونظرايهتا الفقهية وبني السياسة؟"‪ ،‬إىل احلديث واقعيًا‬
‫وحبثيًا عن العالئق والصالت وحدود املساحات بينهما‪ ،‬ليس على سبيل املقارنة واملقاربة‬
‫التقليدية؛ وإمنا حماولة متواضعة الستكشاف السبل الواصلة واجلامعة بني اجملالني‪ .‬وما‬
‫حنتاجه‪ ،‬هو ذكر بعض خصائص ومعامل هذه املدرسة؛ إذ إنه يساعد يف بناء وتوضيح‬
‫احلجج اليت نعتمد عليها يف استشكاف وبناء ما نطمح إىل إيضاحه من مفاهيم‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫أهم ما تعتمد عليه هذه املدرسة من مقومات(‪:)11‬‬
‫‪ -1‬الفصل التام بني مفهوم ما هو "ديين" وبني ما هو "دنيوي"‪ :‬حيث تستمد‬
‫هذه املدرسة مفاهيمها وأصوهلا الفلسفية من مفاهيم الصراع القدمي الذي خاضته‬
‫التجربة الغربية يف الصراع بني الدين والكنيسة من جهة‪ ،‬وبني العلم واجملتمع من‬
‫جهة أخرى‪ .‬وهو صراع مل نشهده يف اتريخ جمتمعنا اإلسالمي ويف اتريخ مسار‬
‫العلم عند املسلمني‪ .‬فافرتاض مفارقة "الديين" لـ"الدنيوي" قائم وبشدة يف‬
‫تصوراهتم؛ حيث ِّ‬
‫يعرب الديين عن الالهوت الغييب منبت الصلة ابإلنسان وحياته‬
‫ومصاحله‪ ،‬وميثل الدنيوي كل ما هو متصل ابلعلم واملعرفة والتقدم والتحرر‬
‫واإلنسان أحادي األبعاد‪.‬‬
‫‪ -2‬أحادية مفهوم "الدين" يف تصوراهتم‪ :‬فالدين لديهم دين واحد‬
‫‪ Religion‬بتصور واحد فقط؛ هو التصور الناتج عن الصراع الكنسي التارخيي‬
‫يف اتريخ التجربة املسيحية األوروبية‪ .‬واملتتبع ألفكار هذه املدرسة وتصوراهتا‪ ،‬جيد‬
‫أن تصورهم عن الدين إمنا هو تصور الديين علماين ذايت‪ ،‬غري قائم على أسس‬
‫علمية موضوعية من أدبيات ومصدرايت األداين ذاهتا‪ .‬حبيث يصبح الدين عندهم‬
‫جمردا من أي أسس تقدمية أو إصالحية أو إنسانية‪ ،‬ويغدو مصدر كل جهل‬ ‫ً‬
‫وختلف ورجعية‪.‬‬
‫وبت صلتها عن‬ ‫‪ -3‬انتفاء التفسري والتوظيف املتجاوز للقيم واألخالق‪ّ ،‬‬
‫األداين والغيب وكل ما هو متجاوز للواقع‪ :‬فإن تعريف األخالق والقيم ال خيرج‬
‫عن نطاق ما خيدم املصاحل الضيقة والنفعية والذاتية لألشخاص وما يضمن اطّرادها‬

‫يراجع‪" :‬العلمانية اجلزئية والعلمانية الشاملة" للدكتور عبد الوهاب املسريي‪ ،‬وكذلك مناظرته مع عزيز‬ ‫‪11‬‬

‫العظمة بعنوان "العلمانية"‪ ،‬يف حوارات القرن‪( ،‬من إصدار دار الفكر العريب بدمشق)‪ ،‬و"الغلو الديين والغلو‬
‫الالديين" للدكتور حممد عمارة‪ ،‬وكتاابت‪ :‬مراد وهبة‪ ،‬وأمحد علي‪ :‬أدونيس‪ ،‬ونوال سعداوي‪ ،‬وفرج فودة‪ ،‬وجابر‬
‫عصفور‪ ..‬إخل‪.‬‬
‫كبريا من التيار العلماين يتبىن هذا املوقف من زاوية مقابلة ترتفع هبذه العلوم‬
‫قطاعا ً‬
‫لكن من املهم اإلشارة إىل أن ً‬
‫على الديين وتعترب الوصل بينهما حيلة سياسية ألغراض تتعلق ابلصراع على السلطة‪.‬‬
‫‪94‬‬
‫واستمرارها‪ .‬والناظر يف تعريفهم للقيم واألخالق سيجدها أخالقًا مادية علمانية‬
‫اضطروا إىل اللجوء إليها ألجل ضمان توافر احلد األدَّن من استمرار احلياة وضمان‬
‫بقاء مقوماهتا‪.‬‬
‫ومن مثَّ فإن رؤية هذه املدرسة للمصلحة إمنا هي املصلحة الذاتية النفعية (الربمجاتية)‪،‬‬
‫املتعقلة مبصاحل الفرد الذاتية الضيقة هنا‪ ،‬واآلن‪ ،‬أو مصاحل القومية العنصرية‪ ،‬يف حيز‬
‫الزمان واملكان الضيقني‪ ،‬املنفصلني عن املآل‪ ،‬واآلخر‪ ،‬واجملموع‪ .‬وكذلك‪ ،‬وهو األهم‬
‫هنا‪ ،‬فإن هذه املدرسة تنفي صلة (املصلحة) بـ (القيم) و(األخالق) و(الدين‪/‬الغيب)‪ .‬بل‬
‫إهنا تعتربها على النقيض هلا‪ ،‬حيث ال ميكن هلما أن جيتمعا‪( :‬املصلحة)‪ ،‬و(القيم)‪.‬‬
‫ويتجلى أثر هذه املدرسة يف املمارسة السياسية ويف حقل العالقات الدولية‪ ،‬حيث ال يؤبه‬
‫(قيما) و(حقوقًا)‪ ،‬بقدر ما يتغيا حتقيق (املصاحل) اليت ال يتفق البشر على‬
‫ملا يسمى ً‬
‫(‪)12‬‬
‫تعريفها وال على وضع معايري هلا ‪.‬‬
‫منوذجا متطرفًا يف تصور العالقة حمل الدراسة‪ ،‬ولكن‬
‫وال شك أن هذه املدرسة متثل ً‬
‫التطورات الفكرية وحالة اجلداالت العلمية العاملية أصبحت تتجاوز هذه املقوالت وتعتربها‬
‫فتئاات على الواقع وعلى األداين؛ ومن مثَّ تتفاعل مع مدارس أخرى ال جتمد على موقف‬‫ا ً‬
‫"اإلنكار"‪.‬‬

‫انظر‪ :‬عبد الوهاب املسريي‪ ،‬العلمانية الشاملة والعلمانية اجلزئية‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪)2009 ،‬؛‬ ‫‪12‬‬

‫وفوزي خليل‪ ،‬مفهوم املصلحة العامة يف الرتاث السياسي اإلسالمي‪ :‬دراسة تطبيقية على فرتة اخلالفة‬
‫الراشدة‪( ،‬كلية االقتصاد والعلوم السياسية‪)1998 ،‬؛ وأمحد داود أوغلو‪ ،‬الفلسفة السياسية‪( ،‬مكتبة الشروق‬
‫أيضا األمة اإلسالمية يف مهب التحوالت احلضارية‪( ،‬مكتبة الشروق الدولية‪ ،‬يناير‬
‫الدولية‪1999)،‬؛ ً‬
‫‪)2006‬؛ وعلي عزت بيجوفيتش‪ ،‬اإلسالم بني الشرق والغرب‪( ،‬دار الشروق‪ .)2010 ،‬ويف العالقات‬
‫الدولية‪ :‬د‪ .‬اندية حممود مصطفى‪ ،‬العدالة والدميقراطية‪ :‬التغيري العاملي من منظور حضاري إسالمي‪( ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪)2015‬؛ ود‪ .‬سيف عبد الفتاح‪ ،‬مدخل القيم‪ :‬إطار مرجعي لدراسة العالقات الدولية يف اإلسالم‪ ،‬يف‪ :‬اندية‬
‫حممود مصطفى (إشراف عام)‪ ،‬مشروع العالقات يف اإلسالم‪ ،‬اجلزء الثاين‪( ،‬القاهرة‪ :‬املعهد العاملي للفكر‬
‫اإلسالمي‪.)1996 ،‬‬
‫‪95‬‬
‫املدرسة الثانية‪ :‬مدرسة الرفض(‪:)13‬‬
‫ال يعتمد منهج هذه املدرسة البحثي على إنكار الصلة بني املقاصد ونظرايت الفقه‬
‫املتعددة وبني علوم السياسة احلديثة‪ ،‬بل يعتمد على رفض دخول العلوم اإلنسانية‬
‫واالجتماعية (والسياسة بعلومها وأدواهتا يف قلبها) يف املنظور الفقهي ومعاجلة القضااي‬
‫العامة والكلية‪ ،‬أو على األقل االستفادة منها‪ .‬وتتسم هذه املدرسة غالبًا بعدم معرفتها‬
‫فضال عن أتثريها يف الواقع وحتكمها‬
‫وإدراكها ل ركنه هذه العلوم وماهيتها‪ ،‬وإدراك فحواها‪ً ،‬‬
‫يف صياغة متثالته وجتليها يف مؤسساته وصيغ العالقات احلاكمة واملهيمنة على تصرفات‬
‫اتما دون استيعاهبا ونقدها ‪ -‬أو نقضها إذا لزم األمر ‪ ،-‬وال تقف‬
‫رفضا ً‬
‫اجملتمع‪ ،‬فرتفضها ً‬
‫فقط عند النظر الفلسفي؛ بل تتجلى بوضوح يف رفض سائر املفردات السياسية احلديثة؛‬
‫كالدميقراطية‪ ،‬والدولة‪ ،‬واألحزاب‪ ،‬والنظام الدويل‪ ،‬وصناعة السياسات‪ ،‬اليت هي من‬
‫أدوات السياسة احلديثة‪ ،‬وكذلك ترفض أي مشاركة سياسية أو ٍ‬
‫تعاط مع الشأن العام من‬
‫هذه الزاوية‪.‬‬
‫وعلى طريق املدرسة السابقة‪ ،‬خفت صوت كثري من ممثلي هذه املدرسة حتت ضغط الواقع‬
‫العاملي واحمللي‪ ،‬وإجباره هلم على املمارسة‪ ،‬ولو كانت تلك املمارسة تتم دون مدارسة‬

‫افدا من اآلخر ومعربًا‬ ‫‪13‬‬


‫وهي غالبًا أصوات تنتسب إىل الدين والشرع‪ ،‬وترفض املنتج احلديث برمته ابعتباره و ً‬
‫عن عقائده وفلسفاته ومصاحله وأهدافه‪ ،‬املخالفة واملعادية ابلضرورة لإلسالم واملسلمني‪ .‬وتغفل هذه املدرسة‬
‫عن أن أصل علوم الواقع واألمة والعمران البشري واالجتماع اإلنساين مطلب شرعي لفقه الواقع وتنزيل هدي‬
‫الشرع عليه‪ .‬ومن مثَّ فهي ذات موقف أيديولوجي تعميمي‪ ،‬ال ميايز ما بني هذا األصل املطلوب‪ ،‬واملنتوج‬
‫احلضاري املخالف الذي ينبغي فصله وتقييمه لرفضه أو قبوله‪ .‬وال شك أنه موقف متأثر ابهلجمة احلضارية‬
‫واالستعمارية على العامل اإلسالمي لقرون من قبل احلضارة املنتجة هلذه العلوم االجتماعية واإلنسانية ومنها العلوم‬
‫السياسية‪ .‬وتنتسب أكثر مقوالت هذه املدرسة إىل بعض املصادر فيما يسمى ابلتيار السلفي‪ ،‬وبعض التيار‬
‫الدفاعي‪.‬‬
‫وراجع‪ :‬ضياء الدين سردار‪ ،‬أسلمة العلوم أم تغريب اإلسالم‪( ،‬جملة الفكر العريب الصادرة عن معهد اإلمناء‬
‫أيضا‪ :‬سامر رشواين‪ ،‬قراءة يف دراسات‬
‫العريب ببريوت‪ ،‬العدد ‪ 75‬شتاء ‪ ،)1994‬ص ‪ .116-104‬وراجع ً‬
‫نقدية خلطاب إسالمية املعرفة‪ ،‬يف كتاب‪ :‬يف جتديد العلوم االجتماعية‪( ،‬القاهرة‪ :‬مركز احلضارة‪.)2016 ،‬‬
‫‪96‬‬
‫حبكم "الضرورة" وفق تعبريهم‪ ،‬وهذا مثال ظاهر على استخدام غري صحيح لـ "نظرية‬
‫الضرورة" ويف غري حمله‪.‬‬
‫أهم ما تعتمد عليه هذه املدرسة من مقومات‪:‬‬
‫‪ -1‬إنكار الصلة بني العلوم االجتماعية وبني علوم الشريعة (املقصود‪:‬‬
‫املرحلة األبرز يف مرحلة تنزيل األحكام يف الواقع)‪ ،‬حيث ال تعرتف هذه‬
‫املدرسة أبي دور لفهم هذه العلوم كأدوات يف فهم الواقع مبستوايته وتعقيداته‬
‫فضال عن التأثري يف تنزيل األحكام الشرعية (يف مستوى احلكم الوضعي)‪ ،‬ال‬
‫ً‬
‫سيما أن هذا الواقع هو الذي ستتنزل فيه األحكام‪ .‬ومن مثَّ فإن فهم الواقع‬
‫وفهم مساراته اليت ستتنزل فيها األحكام شبه غائب يف كثري من أدبيات هذه‬
‫املدرسة‪ .‬وهو ما يؤدي إىل اإلضرار مبقاصد الشريعة يف كثري من املمارسات‬
‫مآال‪.‬‬
‫اليت تغفل الواقع فتتسبب يف حتقيق كثري من املفاسد ً‬
‫‪ -2‬ضعف اإلملام ابلعلوم اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬وإمهال الفلسفة؛ مما‬
‫عدو ما جيهل‪.‬‬
‫يؤدي إىل عدم معرفة حقيقية هبذه العلوم‪ ،‬واإلنسان ُّ‬
‫‪ -3‬التهوين واالستخفاف بنظرايت (املصلحة واملفسدة) و(املآل) و(فقه‬
‫املقاصد) وكل ما يندرج حتت مسمى (فقه الواقع)‪ ،14‬وعدم اعتبار داللة‬
‫ما يؤيد هذه النظرايت من نصوص شرعية معضدة‪ ،‬واهتام متبنيها ابلتسيُّب‪.‬‬
‫ومن مثَّ نفي أي دور إنساين مؤثر يف فهم داللة النص‪ ،‬أو يف تطوير تطبيقه‬
‫وتنزيله وف ًقا لالستطاعة يف الزمان واملكان املتغريين‪ .‬وهو ما يؤدي بدوره إىل‬
‫قراءة نصوص الشريعة مبنهج متعنت حيرف الشرع عن حتقيق صحيح مقاصده‬
‫اليت يتغياها‪.‬‬
‫‪ -4‬الفصل بني الشريعة وعلومها وبني مسؤولية حتقيق الدور احلضاري‬
‫والنهضة والعمران املنشود يف اجملتمع والعامل‪ ،‬ويعود هذا ملنهج هذه املدرسة‬

‫‪14‬حوار مع الشيخ عبد هللا بن جربين على (موقع إسالم ويب) هاجم فيه مفهوم "فقه الواقع"‪ ،‬وراجع حماضرة‬
‫الشيخ األلباين ابلعنوان ذاته صدرت يف كتيب صغري‪ ،‬خبالف "فقه الواقع" للدكتور انصر العمر‪.‬‬
‫‪97‬‬
‫يف فهم الشريعة ككل‪ ،‬من حيث طريقة تعاطيهم مع الكليات الشرعية ودورها‬
‫التشريعي‪ ،‬وكذلك إنكارهم أو تقليلهم من فقه الواقع ونظرايت املصلحة‬
‫واملفسدة واملآل واملقاصد‪ ،‬ومن مثَّ ال توجد لديهم أية تصورات لتحريك‬
‫الشريعة وتنزيلها وتفعيلها يف عامل مركب ومعقد‪ ،‬حيث يتعاملون بتصورات‬
‫طهرانية فيها نقاء التطبيق الكامل الذي استحالته الشريعة يف تنزيل أحكامها‬
‫وتطبيقها‪ ،‬واملخالف لكثري من القواعد الفقهية وما تنص عليه‪ .‬ومن مثَّ ال‬
‫يتبقى هلا سوى الصدام على صعيد كل املستوايت‪ ،‬الداخلية واخلارجية‪ ،‬مع‬
‫عددا غري قليل من أتباع هذه املدرسة وهذا النهج‬
‫اجملتمع ومع العامل‪ .‬ولذا ترى ً‬
‫يتولون هنج الصدام حتت اسم (اجلهاد) فيدخلون يف صراع مع اجلميع؛‬
‫فيصفون الغرب أبنه كافر‪ ،‬واجملتمع أبنه جاهلي‪ .‬وصحيح أن الغرب فيه كفر‬
‫كما أن الشرق فيه كفر‪ ،‬وصحيح أن اجملتمع يعاين من عادات جاهلية‪ ،‬لكنها‬
‫ك‬‫جاهلية ال ختلو منها جمتمعات‪ ،‬وقد قال صلى هللا عليه وسلم أليب ذر‪« :‬إِنا َ‬
‫اهلِياةٌ»(‪ ،)15‬كما أن منهج النيب صلى هللا عليه وسلم يف التعامل‬
‫يك ج ِ‬ ‫ِ‬
‫ْام ُرٌؤ ف َ َ‬
‫مع (اخلارج) بعد الفرتة املكية مل يكن الصراع والصدام مع اجلميع؛ بل عاهد‬
‫وهادن وحارب‪ .‬ولكل موازينه وقواعده احلاكمة والضابطة‪.‬‬
‫ومن مثَّ فإن رؤية هذه املدرسة للمصلحة‪ ،‬من حيث التجريد‪ ،‬هي التسليم أبن الشريعة‬
‫هتدف إىل حتقيق املصلحة‪ .‬ولكن عند التنزيل‪ ،‬فإن خصائص هذه املدرسة ومنهجها‬
‫ومنظورها السابق ذكره‪ ،‬يؤدي إىل نتيجتني على طريف نقيض؛ َّإما أن يؤدي هبم إىل إنكار‬
‫تطبيقات املصلحة يف الواقع املتحرك واملتغري وعدم التسليم مبا متليه القواعد الفقهية املوجهة‬
‫وإما أن يؤدي هبم إىل القبول الكامل ببعض تطبيقات‬ ‫للموازنة بني املصاحل واملفاسد‪َّ ،‬‬
‫املصلحة غري املقبولة ابالعتبار الشرعي‪ ،‬اليت حتقق على املآل مفاسد حقيقية ال ميكن‬
‫تداركها‪ .‬واجلامع بني طريف هذين النقيضني هو رفض التعاطي مع أدوات املعرفة‬

‫‪ 15‬أخرجه البخاري يف صحيحه‪ ،‬كتاب اإلميان‪ ،‬ابب املعاصي من أمر اجلاهلية‪ ،‬وال يكفر صاحبها ابرتكاهبا‬
‫إال ابلشرك‪ ،‬برقم (‪)30‬؛ ومسلم يف صحيحه‪ ،‬كتاب اإلميان‪ ،‬ابب إطعام اململوك مما أيكل‪ ،‬وإلباسه مما يلبس‪،‬‬
‫وال يكلفه ما يغلبه‪ ،‬برقم (‪.)1661‬‬

‫‪98‬‬
‫االجتماعية واإلنسانية ودورها يف فهم الشريعة‪ ،‬بل وما حتتويه الشريعة من منظور يعطي‬
‫مؤثرا يف فهم داللة النص ويف تنزيله‪.‬‬
‫للدور اإلنساين بـر ْع ًدا ً‬
‫(‪)16‬‬
‫املدرسة الثالثة‪ :‬مدرسة التأييد‬
‫يرجع هلذه املدرسة كثري من الفضل يف بذل جهود ال تنكر على مستوى التنظري يف الفقه‬
‫مكنت َمن‬‫الشرعي والسياسي‪ ،‬وكذا التقدم خطوات متميزة يف اجلهد املعريف ملساحات َّ‬
‫جاء بعدهم للبناء عليها ولو ابلنقد والتحسني‪ ،‬وكذلك على مستوى الواقع وتوجيه اجلهود‬
‫وترشيدها‪ .‬تقوم هذه املدرسة على فكرة شرعنة حمتوى العلوم االجتماعية واإلنسانية‬
‫ومنتجاهتا وتكييفها بتصورات شرعية كلية وحتت غاية املقاصد‪ ،‬ويف القلب منها تكييف‬
‫أحياان إىل بعض درجات‬ ‫ً‬ ‫منوذج السياسة احلديث ابلتصور اإلسالمي تكيي ًفا يصل‬
‫"التلفيق"(‪)17‬؛ فتسقط يف أزمة "التلفيق" حتت دعوى "التوفيق" عرب إلباس املضمون ‪ -‬أو‬
‫نقدا جذرًاي‪ ،‬ومقارنته ابألسس الفلسفية‬
‫األداة ‪ -‬بلباس شرعي دون نقد حمتواه وفلسفته ً‬
‫اليت يعتمد عليها بنيان التصور اإلسالمي‪ ،‬ومن مثَّ يتم استحضار واقع الرتاث مبفاهيمه‬
‫عما عليه واقع اليوم مث تنزيلها على هذا الواقع‬
‫متاما َّ‬
‫ونظرايته وأدواته اليت كانت خمتلفة ً‬
‫متاما عن الواقع الذي يتحدث عنه الرتاث السياسي‬ ‫اجلديد أبدواته اجلديدة املتباينة ً‬
‫اإلسالمي‪ ،‬فيتم إلصاقه بتصور آخر ال صلة له هبذا احلكم على الوجه األدق‪.‬‬
‫ومن هذا إظهار التأييد التام لنموذج الدميقراطية الغربية آبلياته ووسائله (مع التنويه حيال‬
‫الكتابة البحثية أنه ترستثىن األخطاء اليت ترتكب ابسم الدميقراطية هنا وهناك)‪ ،‬وأن التطبيق‬

‫‪ 16‬يقصد ابلتأييد‪ :‬غلبة أتييد منجزات احلداثة الغربية ومنتجاهتا السياسية كالدميقراطية واألحزاب والتعددية‬
‫السياسية‪...‬إخل‪ ،‬دون القيام بتجاوزها إىل أتسيس نقد فلسفي هلا يتبع بتقدمي تصور لبدائل سياسية منطلقة من‬
‫النسق الفلسفي اإلسالمي‪ ،‬حتت دعوى االستصالح واملوافقة احلذرة‪ .‬انظر‪ :‬الشيخ يوسف القرضاوي‪ ،‬من فقه‬
‫الدولة يف اإلسالم‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،‬ط‪.)2005 ،3‬‬
‫‪ 17‬يقصد ابلتلفيق‪ :‬التلفيق السياسي ومضاهاته ابلتصورات الفقهية القدمية‪ ،‬فيضاهى مفهوم الدولة املعاصر‬
‫مبفهوم الدولة يف التجربة التارخيية اإلسالمية‪ ،‬وكذلك اإلمام برئيس الدولة‪ ،‬وكذلك قياس األحزاب السياسية‬
‫املعاصرة (اليت قد تكون مرجعية بعضها ليربالية أو يسارية) على املذاهب الفقهية (اليت ال خترج يف حدها األدَّن‬
‫عن أصول املرجعية اإلسالمية)‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫حاكم‪ ،‬وهذا فيه قدر من الصحة بال‬‫خيتلف ابختالف السياق‪ ،‬وأن سياق التجارب ٌ‬
‫قدرا من التبسيط ال خيفى‪ ،‬واألمر ذاته يف منوذج األحزاب‪ ،‬وأداة‬
‫أيضا ً‬‫لكن فيه ً‬
‫شك‪َّ ،‬‬
‫الدولة؛ فالشورى هي الدميقراطية‪ ،‬ودستور الدولة احلديثة هو دستور املدينة منذ ألف‬
‫وأربعمائة عام(‪ ،)18‬واملؤسسات القضائية اليوم هي مؤسسة القضاء عرب اتريخ املسلمني‪،‬‬
‫والفقه هو القانون‪...‬إخل‪ ،‬مما حييد عن جانب الدقة العلمية بدرجة كبرية‪.‬‬
‫تقييما‬
‫ولعل هذه املدرسة ‪-‬من حيث استعراض أدبياهتا وخصائص منهجها وتقييمها ً‬
‫علميًا منص ًفا مث تقوميها‪ ،‬مث بناء البحث على نقد بعض سلبياهتا‪ ،‬والبناء عليها‪ -‬من أهم‬
‫مرتكزات البحث‪ ،‬ابإلضافة إىل املدرسة والتناول املنهجي القادم‪.‬‬
‫جهودا متفاعلة يف التعاطي‬
‫ومتتد هذه املدرسة لفقهاء اإلحياء ومرحلة النهضة اليت بذلت ً‬
‫مع احلداثة واستيعاهبا‪ ،‬من حممد عبده ورشيد رضا وخري الدين التونسي ومن حلقهم بعد‬
‫ذلك من فقهاء أجيال متالحقة يف املدرسة األزهرية املصرية واملدرسة العلمائية يف املغرب‬
‫العريب بشكل عام‪ ،‬بتفاوت يف التعاطي مع مستوايت التحديث واستيعاب (صدمة‬
‫رويدا‪ ،‬وعلى املستويني الفكري والفقهي‪ ،‬والسياسي املمارسي (احلالة‬ ‫رويدا ً‬
‫احلداثة) ً‬
‫منوذجا)‪.‬‬
‫منوذجا؛ واحلالة املغربية‪ :‬سعد الدين العثماين ً‬
‫التونسية‪ :‬راشد الغنوشي ً‬
‫وتكمن أزمة هذه املدرسة‪ :‬يف عدم استيعاب "ما وراء األداة" و"ما خلف الوظيفة" و"ما‬
‫قبل املظهر‪ ..‬اجلوهر"؛ فيأخذون الدميقراطية على أهنا هي الشورى‪ ،‬ويقومون بتفس ٍري‬
‫للدميقراطية قد رخيرج يف احلقيقة الدميقراطيةَ عن دميقراطية من اخرتعوها‪ ،‬أو ابألدق‪ ،‬عن‬
‫منوذج الدميقراطية الليربالية السائد؛ إذ إهنا ليست دميقراطية واحدة بل هي دميقراطيات‪.‬‬
‫واألمر ذاته يف منوذج "الدولة‪/‬األحزاب"‪ ،‬فالدولة احلديثة اليت نشأت قبل مائيت عام يف‬
‫نظر البعض هي اليت كانت أايم اخلالفة اإلسالمية والتاريخ اإلسالمي‪ ،‬مع البون الشاسع‬
‫فاسدا؛‬
‫قياسا ً‬
‫بينهما‪ ،‬فيتم تنزيل أحكام هذه على تلك‪ ،‬وهو "قياس مع الفارق"‪ ،‬فيكون ً‬
‫فالدولة ليست هي الدولة‪ ،‬واألحزاب السياسية املعاصرة الناشئة عن الفكرة الغربية ليست‬
‫هي املذاهب الفقهية الناجتة عن منهجية التفكري اإلسالمية وتفاعل علماء املسلمني مع‬

‫‪ 18‬ينظر‪ :‬يوسف القرضاوي‪ ،‬خطابنا اإلسالمي يف عصر العوملة‪( ،‬دار الشروق‪.)2004 ،‬‬
‫‪100‬‬
‫أدلة االجتهاد مع واقع املسلمني‪ ،‬مما يكون جغرافيا للتمدن مصوغة من تصور حلياة الناس‬
‫وحركة جمتمعاهتم داخليًا وخارجيًا يف فرتة زمنية معينة‪.‬‬
‫وميكن تلخيص مقومات وأبرز خصائص هذه املدرسة فيما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬يتميز االقرتاب البحثي هلذه املدرسة بنضج فقهي وأصويل رفيع‪ ،‬فهم من‬
‫إنتاجا‬
‫أبرز علماء الشريعة ومتخصصيها يف العامل اإلسالمي‪ ،‬ومن الذين يقدمون ً‬
‫أطروحات علميةً على مستوى الرؤى‪ ،‬وكذلك الفتاوى ذات الصلة احلقيقية‬ ‫ٍ‬ ‫و‬
‫حلوال تكون ذات أثر وفعالية‪ .‬فهم يقدمون‬ ‫ابلواقع اليت تفهم مهومه وتقدم له ً‬
‫فقها وأطروحات متحركة‪ ،‬ال ساكنة‪.‬‬ ‫ً‬
‫‪ -2‬اخلصيصة الثانية األبرز واملكملة للخصيصة األوىل‪ ،‬هي ضعف املعرفة‬
‫العلمية السياسية على مستوى النظرية السياسية والفلسفة السياسية وشىت فروع‬
‫علم السياسة احلديث‪ ،‬إضافة إىل فلسفة العلوم االجتماعية واإلنسانية بشىت‬
‫فروعها كذلك؛ مما جيعلهم يتعاملون مع هذه األدوات‪ ،‬والظواهر‪ ،‬على غري‬
‫حقيقتها‪ ،‬وعلى غري ما أريد ووضع هلذه األدوات والظواهر‪ ،‬مما يوقعهم يف‬
‫تناقضات‪ ،‬ويؤثر يف مستوى املآالت‪ .‬ففي الوقت الذي حياولون فيه تربير‬
‫الدميقراطية على أهنا منجز من إجنازات احلداثة الغربية‪ ،‬وابألدق احلداثة الليربالية‪،‬‬
‫خترج من الغرب أصوات تنتقد هذه الدميقراطية وتدعو لتطويرها على مستوايت‬
‫متعددة‪ ،‬فلسفيًا وتطبيقيًا‪ ،‬وذلك يف ضوء تصويب إشكاالت ممارستها يف‬
‫التجربة الدميقراطية الغربية‪.‬‬
‫واألمر ذاته على مستوى الدولة‪ ،‬واألحزاب‪ ،‬والسياسات‪ .‬ولك أن تنظر يف بعض‬
‫املراجع‪ 19‬اليت يعتمد عليها كثري من املتخصصني الشرعيني‪ ،‬علماء وأساتذة وابحثني‪،‬‬
‫لتدرك مدى ضعفهم يف تواصلهم مع أدبيات السياسة الغربية واألكادمييات السياسية بوجه‬
‫عام‪ ،‬وجتد أن غالبيتهم يتعاملون مع مراجع هي أشبه مبعاجم مصطلحات العلوم التعريفية‪،‬‬

‫‪ 19‬بفحص املراجع اليت اعتمد عليها الشيخ يوسف القرضاوي ‪ً -‬‬


‫مثال‪ -‬يف كتابه "من فقه الدولة يف اإلسالم"‬
‫وكتابه "السياسة الشرعية"؛ وجد الباحث أن أغلبها مستقى من موسوعة الكويت للعلوم السياسية‪ ،‬وهي‬
‫موسوعة أولية ال تتضمن اجلدل الفلسفي الغريب حول القضااي حمل البحث والدراسة‪.‬‬
‫‪101‬‬
‫أو مداخلها اليت تقدم للمبتدئني‪ ،‬وهو أمر ال يكفي أبي حال لبناء تصور دقيق يتيح‬
‫عمال ابلقاعدة املعروفة‬
‫وحكما‪ً ،‬‬
‫ً‬ ‫للفقيه التعامل مع هذه املساحات توصي ًفا وتكيي ًفا‬
‫(احلكم على الشيء فرع عن تصوره)‪.‬‬
‫تقدما على مستوى التنظري م ّكن العديد‬
‫وهذا الطرح بال شك‪ ،‬كما ذكرت ساب ًقا‪ ،‬أحدث ً‬
‫ممن جاء بعدهم من البناء على ما قدموه والقيام ابلرتشيد والتوجيه‪ ،‬ولوال هؤالء ما كان‬
‫أولئك‪ .‬وكذلك على مستوى التطبيق؛ فبهذه االجتهادات وتلك األطروحات الفكرية‬
‫حدثت إصالحات سياسية وقامت دعوات إصالحية ملزيد من احلرايت وحفظ حقوق‬
‫نقدا ملستوى معني من طبيعة التناول‬
‫اإلنسان والكرامة اإلنسانية‪ ،‬فالباحث وإن كان يوجه ً‬
‫والطرح املنهجي هلذه املدرسة‪ ،‬إال أن مستوى دور هذه املدرسة يف مواجهة املفاسد‬
‫االجتماعية والسياسية واالقتصادية ال خيفى على منصف على مستوى التنظري والتفعيل‪،‬‬
‫إال أهنا كانت كمن يتخذ خطوة لكسر قيود القفص‪ ،‬لكن ما إن انكسر حىت أصبح أمام‬
‫حتد صعب لبناء صرح جديد‪.‬‬‫ٍ‬

‫وأتيت أمهية دراسة أطروحات الباحثني الشرعيني خالل العقود املاضية ‪-‬أو ما توافر منها‪-‬‬
‫ومثاال ملسرية العقل الفقهي ومناهج تفكريه‪ ،‬وطرائق تفاعله مع نصوص‬
‫منوذجا ً‬
‫يف إعطائها ً‬
‫العلوم االجتماعية‪ ،‬ومقاربته جلدلية العالقة بني الوحي والواقع مبستوايته املتعددة‬
‫واملتداخلة‪ ،‬مما ميكننا من رصد هذه املسرية وتقوميها مبيزان‪ ،‬مث بناء تصورات الستشراف‬
‫وختصصا‪.20‬‬
‫ً‬ ‫املستقبل ببدائل أكثر متاس ًكا‬
‫ومن مثَّ فإن رؤية هذه املدرسة للمصلحة‪ ،‬من حيث التجريد والتنزيل‪ ،‬هي التسليم هبا‬
‫واعتمادها كأداة منهجية يف التفكري واالجتهاد والتدبري السياسي‪ ،‬لكن يؤخذ عليها‬
‫التوسع يف تطبيقها دون حتقيق ملناط الواقع حمل التدبري؛ مما يؤدي إىل عدم إحداث الغربلة‬

‫‪ 20‬انظر كذلك يف هذا‪ :‬إنتاج األستاذ الدكتور أمحد الريسوين يف القضااي السياسية‪ ،‬حيث إنه يشرتك مع‬
‫مالحظات الشيخ القرضاوي يف املنهج الذي تبناه‪ ،‬رغم وجود أفكار متثل نواة ميكن البناء عليها‪ ،‬مثل حديثه‬
‫عن أسبقية األمة على الدولة‪ ،‬وأن األمة هي األصل‪.‬‬
‫انظر‪ :‬األمة هي األصل‪ ،‬قضااي الدميقراطية والفن وحرية التعبري‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الكلمة‪ .)2014 ،‬وكذلك‪،‬‬
‫الفكر اإلسالمي وقضاايًن السياسية املعاصرة‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الكلمة ‪.)2014‬‬

‫‪102‬‬
‫املطلوبة يف البحث للتحقق من املصاحل احلقيقية العائدة‪ ،‬واملفاسد اليت قد تتسرت حتت‬
‫غطاء املصلحة‪ ،‬وتظهر يف مآل التطبيق على الصعيد السياسي واالجتماعي واالقتصادي‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫املدرسة الرابعة‪ :‬مدرسة التمحيص‬
‫وتفسريا‪،‬‬
‫ً‬ ‫شرحا‪،‬‬
‫يتميز اقرتاب هذه املدرسة البحثي إبدراك النماذج الغربية بعمق شديد‪ً ،‬‬
‫ونقدا‪ ،‬ابستيعاب ٍ‬
‫اتم‪ ،‬مع إملام ابلكليات الشرعية والنموذج املعريف والفلسفي‬ ‫وحتليال‪ً ،‬‬
‫ً‬
‫اإلسالمي‪ ،‬والعالقة بني املساحات املختلفة ومدى تداخل كل منهما ابآلخر‪ ،‬وإدراك‬
‫واستيعاب النظرايت السياسية اليت كتبها األئمة الكبار يف الرتاث السياسي اإلسالمي‬
‫ومعرفة الوظائف السياسية للحاكم ومكوانت الدولة ومقاصد األدوات ووظائفها‪ ،‬ولو مل‬
‫يرلموا بكل اجلزئيات الفقهية والنظر اجلزئي اخلاص بصنعة استنباط األحكام ‪-‬وهذا بال‬
‫شك حمل نقد معترب‪ -‬لكن أثره يف اجملال السياسي والنظرايت السياسية أخف وطأة ممن‬
‫غاب عنه النظر الكلي وانشغل فقط ابلنظر اجلزئي‪ ،‬فما استطاع قراءة جزئيات غريه من‬
‫فضال عن مقاربته من خالل منظوره املقاصدي‪.22‬‬‫خالل منظوره الكلي‪ً ،‬‬

‫‪ 21‬للمزيد حول هذه املدرسة‪ ،‬انظر أطروحات‪:‬‬


‫الدكتورة هبة رءوف عزت‪ ،‬حنو عمران جديد‪( ،‬بريوت‪ :‬الشبكة العربية لألحباث والنشر‪ ،‬ط‪.)2016 ،1‬‬
‫املستشار طارق البشري‪ ،‬التجدد احلضاري‪( ،‬بريوت‪ :‬الشبكة العربية لألحباث والنشر‪ ،‬ط‪ .)2016 ،1‬أيضا‬
‫لنفس املؤلف‪ :‬املالمح العامة للفكر السياسي اإلسالمي يف التاريخ املعاصر‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫‪ .)2005‬و الوضع القانوين بني الشريعة واإلسالمية والقانوين الوضعي‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫‪ .)2005‬ومنهج النظر يف النظم السياسية املعاصرة لبلدان العامل اإلسالمي‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫‪.)2007‬‬
‫الدكتور أمحد داود أوغلو‪ ،‬العامل اإلسالمي يف مهب التحوالت احلضارية‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة الشروق الدولية‪،‬‬
‫ط‪ ،1‬يناير ‪.)2006‬‬
‫‪ 22‬انظر على سبيل املثال‪ :‬ما نبه عليه املستشار طارق البشري من عدم دقة املقارانت "اجلزئية" لنظم تعددية‬
‫مثال‪ -‬يقول‪:‬‬‫إسالمية أبخرى غربية‪ ،‬دون اعتبار للنسق العام وللمعىن الوظيفي هلذه النظم اجلزئية‪ ،‬حيث كتب ‪ً -‬‬
‫"وجه املشكل يتأتى من أننا نطرح سؤ ًاال يقارن جزئيات جبزئيات‪ ،‬وحنن إذ نفعل ذلك‪ ،‬قد ال نتنبه إىل املغايرة‬
‫احلادثة بني النسق الكلي الذي يدور فيه كل من طريف املقارنة‪ .‬فنظام "تعدد األحزاب"‪ ،‬هو نظام جزئي مرتبط‬

‫‪103‬‬
‫واحلقيقة أننا أصبحنا نعيش يف واقع ليس واقعنا وال من فكران وال من صناعتنا؛ بل هو‬
‫نتاجا لتفاعالته ومناذجه اخلاصة‪ ،‬مث مت تصديره لنا قبل االستعمار‬
‫وتكون ً‬
‫غريان‪َّ ،‬‬
‫واقع أنشأه ر‬
‫متغوال واثبتًا حىت‬
‫بقليل على الصعيد القضائي واملؤسسي‪ ،‬مث أصبح بعد االستعمار ً‬
‫أصبحنا نعيش فيه ويعيش فينا‪ ،‬وهو واقع ليس وليد احلضارة اإلسالمية بل هو وليد‬
‫أمرا ابلغ‬
‫حضارات أخرى؛ لذا كان التمحيص والنقد ابملقاربة مع فلسفة املقاصد الشرعية ً‬
‫األمهية‪.‬‬
‫وجدير ابلذكر أن العالقة واملسافة بني املدرستني الثالثة والرابعة ليست حدية فاصلة‪ ،‬بل‬
‫مر من‬
‫هناك نقاط يتوافق عليها الطرفان‪ ،‬بل قد نقول‪ :‬إن املدرسة الثالثة هي احملطة اليت َّ‬
‫خالهلا أهل املدرسة الرابعة‪ .‬وحني يتم تبادل املعارف فثمة اتفاقات تتولد‪ .‬بل هناك من‬
‫هو من أهل مدرسة الرفض التام‪ ،‬ورفض املنجزات الغربية‪ ،‬والنموذج السياسي احلديث‪،‬‬
‫وتفصيال‪ ،‬ألسباب قد يرتفق معه يف بعضها‪ ،‬وميكن البناء عليها؛ إال أن عدم هضمه‬
‫ً‬ ‫مجلة‬
‫واستيعابه للنموذج الغريب وتطوراته ومراحله مل ميكنه من فهم واقعه الذي يعيش فيه‪ ،‬فهو‬
‫منوذجا‬
‫عاجزا أن يبين ً‬‫حماصرا به ً‬
‫يف احلقيقة أصبح يعيش يف واقع آخر غري واقعه‪ ،‬فأصبح ً‬
‫عوضا عن النموذج الذي ينتقده‪ ،‬واختار العزلة واهلروب من مواجهة اإلجابة على‬ ‫آخر ً‬
‫أسئلة التحدايت احلضارية الكربى والتارخيية‪.‬‬
‫ويتميز هذا االقرتاب املنهجي خبصيصتني رئيستني‪:‬‬
‫أوال‪ :‬إدراك واستيعاب اإلطار احلاكم والنموذج التفسريي‪ ،‬بل النماذج التفسريية‪ ،‬اليت‬ ‫ً‬
‫قامت عليها احلضارة واحلداثة الغربية‪ ،‬وفهم سياقاهتا االجتماعية والسياسية‬
‫فهما دقي ًقا وعلميًا ملا حولنا من أدوات ومساحات‬
‫والثقافية‪/‬الدينية‪ ،‬ومن مثَّ فهم ميتلكون ً‬
‫سياسية‪ ،‬مل حي َظ كثري من الشرعيني إبدراكها واإلملام هبا‪ ،‬ومن مثَّ فهم من حيث امتالك‬
‫التصور السياسي احلديث أصحاب خربة وختصص‪.‬‬
‫اثنيًا‪ :‬عدم إدراك كثري منهم لتفاصيل الفقه وفلسفة أحكامه‪ ،‬وفهم سياقاته االجتماعية‬
‫والسياسية يف حينه‪ ،‬فيقع كثري منهم يف أسر مأزقني‪:‬‬

‫ابلتكوين الكلي الذي تقوم به الدولة يف النظام الغريب احلديث"‪ .‬طارق البشري‪ ،‬املالمح العامة للفكر السياسي‬
‫اإلسالمي يف التاريخ املعاصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.69‬‬
‫‪104‬‬
‫أوهلما‪ :‬التعميم واإلطالق قبل االستقراء‪ ،‬واالنطباع قبل االطالع‪.‬‬
‫اثنيهما‪ :‬قراءة هذا الرتاث الفقهي بكل فروعه‪ ،‬مبا فيها السياسي‪ ،‬بعني الواقع املعاصر‬
‫وأدواته وعلومه؛ فيقعون يف خطأ منهجي‪ ،‬وهو احلكم على تراث ومنهج أبدوات واقع‬
‫وبنيواي‪ .‬فقليل من هؤالء الباحثني واملتخصصني ‪-‬من‬ ‫ً‬ ‫ومنهج آخر خمتلف عنه فلسفيًا‬
‫ذوي هذا االقرتاب‪ -‬قد قام ابستقراء ما كتب يف الرتاث السياسي اإلسالمي‪ ،‬ويف‬
‫تضاريس الفقه وجغرافيته‪ ،‬وما يطلقون عليه ‪-‬ويكأنه عيب‪" -‬التفاصيل اجلزئية"‪ ،‬إضافة‬
‫إىل أهنم أيخذون بعض هذه التفاصيل اجلزئية للفقه ابقتطاعها من سياقاهتا‪ ،‬ويتورطون يف‬
‫أحكام متسرعة‪ ،‬متناسني أن العلوم إمنا هي نسق متكامل ومتناغم‪ ،‬إذا فات عن فهمك‬
‫بعض أجزائه؛ اختل ميزان الفهم يف األجزاء املتبقية‪.‬‬
‫واحلقيقة أن ذوي هذا االقرتاب متفاوتون يف درجة حتقق هذه اخلصيصة الثانية‪ ،‬فعدد ليس‬
‫فهما حقيقيًا للفقه ولو يف صورته الكلية‪ ،‬وكذلك على مستوى‬ ‫ابلقليل منهم جتد لديه ً‬
‫املساحات اجلزئية العامة‪ ،‬على مستوى أبواب الفقه وفصوله‪ .‬وسلبيات هذا االقرتاب‬
‫نتيجة للخصيصة الثانية‪ ،‬قلما تظهر يف كثري من مسائل العلم السياسي املعاصر‪ ،‬إال لو‬
‫امتدت األداة البحثية إىل مساحات دقيقة‪ ،‬أو قطعت أشواطًا من البحث بعيدة فيتم‬
‫التطرق إىل ما شابه من املسائل اخلالفية‪ ،‬وهو أمر اندر ليس ابملنتشر‪.‬‬
‫ومن مثَّ فإن رؤية هذه املدرسة للمصلحة وتطبيقاهتا تعد من أفضل املدارس السابقة‪،‬‬
‫نظرا لتمكنهم من‬
‫واملنهجيات املتبعة على الصعيد السياسي واالجتماعي واالقتصادي؛ ً‬
‫اإلطار الكلي‪ ،‬وإمكانية حتقيق املقارابت وقياس املآالت وإدراك الفوارق واالختالفات‪،‬‬
‫مما يساعدهم يف حتقيق املناط وضبط التصورات‪ .‬ويساعدهم ختصصهم على إدراك ما‬
‫يدخل يف املصلحة املعتربة وما ال يدخل فيها‪ ،‬كما تتجلى هلم أوجه املفاسد اليت قد ختفى‬
‫على غري أهل االختصاص(‪.)23‬‬

‫‪ 23‬انظر‪ :‬هبة رءوف عزت‪ ،‬حرية التعبري والتعددية يف التصور اإلسالمي‪( ،‬جملة رؤى‪ ،‬السنة الثالثة‪ ،‬عدد‬
‫‪ ،14‬شتاء ‪ .)2012‬وانظر كذلك حبثها حول ( تفكيك العلمانية من املواجهة لالشتباك ملا بعد الدولة)‪،‬‬
‫(جملة رؤى‪ ،‬العدد ‪ ،24/23‬سنة ‪.)2004‬‬
‫‪105‬‬
‫الفرع الثالث‪ :‬مصادر املصلحة‪ ..‬من أين نعرف املصلحة ونستنتجها؟‬
‫يعد هذا السؤال من أهم األسئلة اخلالفية اليت من خالهلا ميكن استظهار أوجه اخلالف‬
‫واملقارنة بني نظرية املصلحة يف التصورين اإلسالمي والوضعي‪ ،‬فمن أين نقرر كون هذا‬
‫األمر مصلحيًا من عدمه؟ وهل هو تفكري عقلي مادي حبت يعتمد ما تبدو أهنا مصاحل‬
‫وإن كان ابطنها أهنا مصاحل موهومة؟ وهل العقل فقط هو ما حيدد كون هذا األمر‬
‫مصلحيًا أم ال؟ وإن كان العقل وحده ‪-‬وله يف االعتبار الشرعي تقدير كبري‪ -‬فأي عقل‬
‫نقصد؟ وما هو مفهوم العقل يف أذهاننا؟ هل هو العقل اجملرد عن القيم واألسس األخالقية‬
‫واألبعاد املتجاوزة للواقع؟ فنقيس املصاحل مبعيار ضيق وحمدود يف حدود املرئي واملتجسد‬
‫والضيق؟ أم إن العقل كما قصد اإلمام الغزايل حني وصف الوحي أبنه عقل من اخلارج‪،‬‬
‫والعقل أبنه وحي من الداخل‪ ،‬يف تشبيه متماسك لعدم استقاللية العقل دون توجيه‬
‫الوحي‪ ،‬ويف الوقت ذاته عن تعزيز قيمة العقل ودوره احملوري يف االستنباط واالجتهاد‪،‬‬
‫دائما كانت التكامل‬
‫جلي لعدم تعارض العقل والوحي‪ ،‬حيث إن العالقة بينهما ً‬ ‫وإبظهار ٍّ‬
‫مؤخرا‪ ،‬حيث إن مقابل‬
‫وليس التعارض أو التقابل كما شاع عند كثري من النخب الثقافية ً‬
‫العقل اجلنون‪ ،‬وليس النص‪ .‬وإمنا مقابل النص هو املنهج‪ ،‬أي‪ :‬منهج االستنباط والفهم‬
‫والتنزيل‪.‬‬
‫وحول اإلجابة عن هذا السؤال‪ ،‬يقول األستاذ الدكتور حممد كمال الدين إمام‪" :‬للمعرفة‬
‫مصادر ثالثة أساسية هي‪ :‬الوحي والعقل واحلس؛ الوحي الذي يسدد الفطرة‪ ،‬والعقل‬
‫الذي يستنبط الفكرة‪ ،‬واحلس الذي ينظم اخلربة‪ .‬واملصلحة أتخذ من الوحي احلِل واحلرمة‪،‬‬
‫ومن العقل الصواب واخلطأ‪ ،‬ومن احلس ما هو انفع وما هو ضار‪ ،‬ويف هذه الثالثية‬
‫تتجلى جدلية النص والواقع‪ ،‬وتفاعل الكلي واجلزئي‪ ،‬وكما يقول الشاطيب فإن‪ :‬كل أصل‬
‫مالئما لتصرفات الشرع‪ ،‬ومأخو ًذا معناه من أدلته فهو‬
‫مل يشهد له نص معني‪ ،‬وكان ً‬
‫مقطوعا به‪..‬‬
‫ً‬ ‫صحيح يبىن عليه‪ ،‬ويرجع إليه إذا كان هذا األصل قد صار مبجموع أدلته‬
‫كلي‪ ،‬واألصل الكلي إذا كان‬ ‫فإنه وإن مل يشهد للفرع أصل معني‪ ،‬فقد شهد له أصل ٌّ‬
‫قطعيًا قد يساوي األصل املعني‪ ،‬وقد يريب عليه حبسب قوة األصل املعني أو ضعفه‪.‬‬
‫واألصل الكلي هو الذي جيمع املتفرقات‪ ،‬ويربط بني عناصر املقاصد الثالثة‪ :‬التعليل‬
‫واملصلحة ومآالت األفعال‪ ،‬والتعليل على مستوى التجريد يقني إمياين؛ ألننا ندين هلل أبن‬
‫أحكام الشريعة كلها تنطوي على حكم ومصاحل ومنافع‪ ،‬وعلى قدر فهم النصوص يكون‬
‫‪106‬‬
‫العلم ابملصاحل على تعدد مفاتيحها‪ ،‬وتنوع مسالكها‪ ،‬وهكذا تتحرر املصاحل من إسار‬
‫املعجم إىل عامل املعاين وآفاق السياق‪ .‬وعندما يتحرك النص يدور مع مصاحله تنز ًيال‪،‬‬
‫حيث تصبح قاعدة ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب ً‬
‫إذان ابلتطبيق لوجود احملل‪ ،‬أو‬
‫امتناعا عن التطبيق لغياب احملل‪ ،‬وغياب احملل ال يعين غياب اخلطاب الذي له حضوره‬‫ً‬
‫اإلمياين يف كل حلظة‪ ،‬وحضوره التشريعي بتعني وقائعه وأوصافه؛ ذلك ألن األفعال ‪-‬كما‬
‫يقول الشاطيب‪ -‬ال تقع يف الوجود مطلقة‪ ،‬وإمنا تقع معينة مشخصة احلكم‪ ،‬فال يكون‬
‫احلكم عليها إال بعد املعرفة أبن هذا املعني يشمل ذلك املطلق أو ذلك العام وهذا هو‬
‫حتقيق املناط الذي تدق معامله وقد تستغلق عندما نتجاهل الصلة الوثيقة بينه وبني خطاب‬
‫الوضع وما يفرضه من أسباب وموانع وشروط؛ ألن دائرة خطاب الوضع هي امليدان‬
‫األصيل الجتهاد حتقيق املناط حىت يتعني إنزال النص‪ ،‬أو يصبح عدم تنزيله متعينًا"(‪.)24‬‬
‫ويعترب الباحث أن املصاحل واملقاصد بينهما تقاطع يصل يف بعض املساحات إىل التماهي‬
‫والتطابق‪ ،‬مع االعتبار أبن املصاحل هي أهم وأعظم مكوانت املقاصد‪ ،‬ولكن الباحث‬
‫يعترب أن مجيع املقاصد مصاحل‪ ،‬وأن كل املصاحل مقاصد‪ ،‬وإن كانت املقاصد أعلى رتبة‪،‬‬
‫يدا‪ ،‬ومبثابة البوصلة للمصاحل اليت حتاول أن تتشكل هبا وتتكون من خالهلا؛‬
‫وأكثر جتر ً‬
‫ولذا‪:‬‬
‫أ‪ -‬فإن املقاصد تعترب من أهم مصادر املصلحة ووسائل معرفتها‪.‬‬
‫ب‪ -‬كما أن الوحي كذلك من أول هذه املصادر جبميع ما يشتمل عليه من‬
‫مقاصد وأحكام وفلسفة وسنن وقيم‪.‬‬
‫ج‪ -‬وكذلك التجريد والتجربة واختبار السعادات وسننها ومعرفة الصاحل والضار‪،‬‬
‫وهو ما عرب عنه العز بن عبد السالم بقوله‪" :‬وأما مصاحل الدنيا وأسباهبا‪،‬‬
‫التجارب والعادات و ِ‬
‫الظنون‬ ‫ِ‬ ‫ومفاسدها وأسباهبا‪ ،‬فمعروفةٌ ابلضرورات و‬
‫ومرجوحها‪،‬‬ ‫اجحها‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫وم ْن أراد أن يعرف املناسبات واملصاحل واملفاسد‪ ،‬ر َ‬
‫املعتربات‪َ ...‬‬
‫فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع مل يَِرْد به‪ ،‬مث يبين عليه األحكام‪ ،‬فال‬

‫‪ 24‬حممد كمال الدين إمام‪ ،‬املصلحة يف املصطلح املقاصدي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.50-49‬‬

‫‪107‬‬
‫حكم منها خيرج عن ذلك‪ ،‬إال ما تعبَّد هللار به عباده‪ ،‬ومل يَِق ْف رهم على مصلحته‬
‫يكاد ٌ‬
‫(‪)25‬‬
‫أو مفسدته" ‪.‬‬
‫د‪ -‬مث أييت دور العقل ويتقاطع مع مجيع هذه الدوائر‪ ،‬دائرة النص والوحي‪ ،‬فيكون‬
‫تفسريا مصلحيًا(‪ ،)26‬وكذلك إدراك السنن واتباعها‬
‫للعقل دور يف تفسري النصوص ً‬
‫ابستخالصها والنظر يف جتارب األمم وما جرى عليه مصاحل قيامها وأسباب‬
‫جدال وهي دور العقل يف تقدير املصاحل ومدى‬‫سقوطها‪ .‬مث أتيت النقطة األكثر ً‬
‫إدراكه هلا‪ ،‬وهي املسألة املعروفة يف علم الكالم ابلتحسني والتقبيح‪ .‬وهو ما‬
‫سنتناوله يف الفرع التايل‪.‬‬
‫الفرع الرابع‪ :‬املدارس العقدية يف التحسني والتقبيح‬
‫أتسست مدارس ثالث حول إدراك املصاحل ابلعقل (مسألة التحسني والتقبيح)‪ :‬املدرسة‬
‫األشعرية‪ ،‬واملدرسة املاتدريدية‪ ،‬واملدرسة املعتزلية‪.‬‬
‫وتعتمد املدرسة األشعرية أنه ال يوجد شيء حسن إال بتحسني الشرع له‪ ،‬وال يوجد شيء‬
‫قبيح إال بتقبيح الشرع له‪ .‬أما دون حتسني الشرع وتقبيحه فال رحسن وال قبح‪ ،‬وكل األمور‬
‫على حد سواء‪ .‬وميكن النظر يف هذا ملا ورد عند اإلمام الشاطيب حيث يقرر يف املقدمة‬
‫العاشرة أنه‪" :‬إذا تعاضد النقل والعقل على املسائل الشرعية‪ ،‬فعلى شرط أن يتقدم النقل‬
‫اتبعا‪ ،‬فال يسرح العقل يف جمال النظر إال بقدر ما‬
‫متبوعا‪ ،‬ويتأخر العقل فيكون ً‬
‫فيكون ً‬
‫(‪)27‬‬
‫يسرحه النقل" ‪ .‬مث استدل على ذلك أبدلة منها‪" :‬ما تبني يف علم الكالم واألصول‪،‬‬
‫من أن العقل ال حيسن وال يقبح"(‪ ،)28‬مبعىن أنه ال يقدر ‪-‬وال ميلك احلق‪ -‬على أن حيكم‬
‫على األشياء واألفعال أبهنا حسنة أو قبيحة أي أبهنا مصلحة أو مفسدة‪.‬‬

‫‪ 25‬عز الدين ابن عبد السالم‪ ،‬قواعد األحكام يف مصاحل األًنم‪ ،‬حتقيق نزيه محاد وعثمان ضمريية‪( ،‬دمشق‪:‬‬
‫دار القلم‪ ،‬ط‪.14-13/1 ،)2010 ،4‬‬
‫‪ 26‬انظر‪ :‬أمحد الريسوين‪ ،‬نظرية املقاصد عند الشاطيب‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الكلمة‪ ،)2010 ،‬ص ‪.224‬‬
‫(‪ )27‬إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطيب‪ ،‬املوافقات يف أصول الشريعة‪ ،‬مرجع سابق‪.87/1 ،‬‬
‫(‪ )28‬املرجع السابق‪.‬‬
‫‪108‬‬
‫وأما ملاذا كان العقل غري قادر على التحسني والتقبيح‪ ،‬فألن األشياء ‪-‬حسب النظرة‬
‫األشعرية‪ -‬ليست حسنة وال قبيحة يف ذاهتا‪ .‬فكيف يدرك العقل شيئًا (غري موجود) أعين‬
‫حسن األشياء وقبحها‪ ،‬أي صالحها وفسادها‪ .‬ويعضد هذا اإلمام الشاطيب بقوله‪:‬‬
‫"كون املصلحة مصلحة تقصد ابحلكم‪ ،‬واملفسدة مفسدة كذلك‪ ،‬مما خيتص ابلشارع‪ ،‬ال‬
‫جمال للعقل فيه‪ ،‬بناء على قاعدة نفي التحسني والتقبيح‪ ،‬فإذا كان الشارع قد شرع احلكم‬
‫عقال‪ -‬أال تكون كذلك‪ .‬إذ‬‫ملصلحة ما‪ ،‬فهو الواضع هلا مصلحة‪ ،‬وإال فكان ميكن ‪ً -‬‬
‫األشياء كلها ابلنسبة إىل وضعها األول متساوية ال قضاء للعقل فيها حبسن وال قبح‪.‬‬
‫فإذن‪ ،‬كون املصلحة مصلحة هو من قبل الشارع‪ ،‬حبيث يصدقه العقل وتطمئن إليه‬
‫النفس"(‪.)29‬‬
‫ويؤكد هذا املعىن يف سياق آخر‪ ،‬وبشكل أوضح‪ ،‬فيقول‪" :‬األفعال والرتوك ‪-‬من حيث‬
‫عقال‪ ،‬ابلنسبة إىل ما يقصد هبا؛ إذ ال حتسني للعقل وال‬
‫هي أفعال وتروك‪ -‬متماثلة ً‬
‫تقبيح"(‪.)30‬‬
‫َأما املعتزلة فريون ‪-‬وف ًقا لتعريف الدكتور أمحد الريسوين‪ -‬أن احلسن والقبح ذاتيان‬
‫عقليان‪ ،‬أي إن األشياء واألفعال والرتوك موصوفة ابلصالح والفساد قبل أن أييت حكم‬
‫الشرع بذلك‪ ،‬وأن العقل يدرك ذلك ويثبته‪ .‬ولكنهم مل يقفوا عند هذا احلد‪ ،‬بل ذهبوا إىل‬
‫أن اإلنسان العاقل مكلف مبقتضى عقله عند عدم وجود احلكم الشرعي‪ ،‬ما دام احلسن‬
‫والقبح عقليني‪ .‬ومعىن هذا أن احلكم الشرعي يثبت ابلعقل كما يثبت ابلسمع‪.‬‬
‫و َأما املاتريدية ومن وافقهم أو وافقوه من أهل التحقيق واإلنصاف ‪-‬والكالم ال يزال‬
‫للدكتور أمحد الريسوين‪ ،-‬فقد أثبتوا كون احلسن والقبح ذاتيني عقليني‪ .‬ولكنهم مل يرتبوا‬
‫على ذلك ما رتبه املعتزلة‪ ،‬ومل يعتربوا أن التكاليف واألحكام الشرعية تثبت مبجرد العقل‪،‬‬
‫بل ال َّ‬
‫بد لذلك من السمع‪ .‬ويعترب املاتريدية الفرقة الوسط بني األشاعرة واملعتزلة يف مسألة‬
‫‪31‬‬
‫احلسن والقبح والتكليف وعالقة الشرع هبما ‪.‬‬

‫‪ 29‬املرجع السابق‪.315/2 ،‬‬


‫‪ 30‬املرجع السابق‪.333/2 ،‬‬
‫‪ 31‬أمحد الريسوين‪ ،‬نظرية املقاصد عند اإلمام الشاطيب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.237-236‬‬
‫‪109‬‬
‫ومما يؤخذ على بعض أئمة املدرسة األشعرية أنه يف سياق التدافع مع تطرف املدرسة‬
‫دفاعا وغرية على الدين والشريعة‪ ،‬وهو ما‬
‫املعتزلية دفعهم هذا إىل إنكار بعض البدهيات ً‬
‫حدا ببعض أئمة األشعرية إىل التلميح هلذا‪ ،‬والتلميح ابالنتصار ملذهب املاتريدية ‪ -‬وهو‬
‫مذهب احلنفية الكالمي‪ .‬فهذا إمام احلرمني اجلويين‪ ،‬يقول‪" :‬ولسنا ننكر أن العقول‬
‫تقتضي من أرابهبا اجتناب املهالك وابتدار املنافع املمكنة‪ ،‬على تفصيل فيها ‪-‬وجحد‬
‫هذا خروج عن املعقول‪ -‬ولكن ذلك يف حق اآلدميني‪ .‬والكالم يف مسألتنا مداره على‬
‫(‪)32‬‬
‫أيضا إضافة إىل اإلمام اجلويين عدد‬
‫ما حيسن أو يقبح يف حكم هللا تعاىل" ‪ .‬ويوجد ً‬
‫من أئمة الشافعية ‪-‬وهم أشاعرة بطبيعة احلال‪ -‬قد عرفوا مبخالفتهم الصرحية للنظرة‬
‫األشعرية يف مسألة التحسني والتقبيح‪ ،‬وانتصروا إلثبات احلسن والقبح الذاتيني والتحسني‬
‫والتقبيح العقليني‪ .‬قال ابن القيم‪" :‬واختاره من أئمة الشافعية اإلمام أبو بكر حممد بن‬
‫علي بن إمساعيل القفال الكبري‪ ،‬وابلغ يف إثباته‪ ،‬وبىن كتابه "حماسن الشريعة" عليه‪،‬‬
‫وأحسن فيه ما شاء‪ .‬وكذلك اإلمام سعيد بن علي الزجناين‪ ،‬ابلغ يف إنكاره على أيب‬
‫احلسن األشعري القول بنفي التحسني والتقبيح‪ ،‬وأنه مل يسبقه إليه أحد‪ .‬وكذلك أبو‬
‫القاسم الراغب‪ ،‬وكذلك أبو عبد هللا احلليمي‪ ،‬وخالئق ال حيصون"(‪.)33‬‬
‫ويوجد كذلك اإلمام العز بن عبد السالم‪ ،‬حيث يقول‪" :‬معظم مصاحل الدنيا ومفاسدها‬
‫معروفة ابلعقل‪ ،‬وكذلك معظم الشرائع؛ إذ ال خيفى على عاقل ‪ -‬قبل ورود الشرع ‪ -‬أن‬
‫حممود َح َس ٌن‪...‬‬
‫حتصيل املصاحل احملضة‪ ،‬ودرءَ املفاسد احملضة عن نفس اإلنسان وعن غريه ٌ‬
‫واتفق احلكماء على ذلك‪ .‬وكذلك اتفقت الشرائع على حترمي الدماء واألبضاع واألموال‬
‫واألعراض‪ ...‬وإن اخترلِف يف ذلك‪ ،‬فالغالب أن ذلك ألجل االختالف يف الرجحان‬
‫والتساوي"(‪.)34‬‬
‫ويعلق الدكتور أمحد الريسوين على هذا ً‬
‫قائال‪" :‬على أن إنكار ما يف األفعال من صالح‬
‫خروجا‬
‫وفساد‪ ،‬ومن نفع وضرر وأن العقول تدرك من ذلك الشيء الكثري‪ ،‬ليس فحسب ً‬

‫‪ 32‬أبو املعايل اجلويين‪ ،‬الربهان يف أصول الفقه‪( ،‬قطر‪ :‬وزارة األوقاف‪ ،‬ط‪1399 ،1‬هـ)‪.91/1 ،‬‬
‫‪ 33‬ابن قيم اجلوزية‪ ،‬مفتاح دار السعادة ومنشور والية العلم واإلرادة‪( ،‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية)‪.42/2 ،‬‬
‫‪ 34‬عز الدين ابن عبد السالم‪ ،‬قواعد األحكام يف مصاحل األًنم‪ ،‬مرجع سابق‪.8-7/1 ،‬‬

‫‪110‬‬
‫عن املعقول‪ ،‬وإمنا هو جتاهل وتعطيل للدالالت الصرحية لكثري جدًّا من النصوص‬
‫الشرعية"‪.35‬‬
‫فقد أمر القرآن الكرمي بفعل اخلري والصالح واملعروف وهنى عن الشر والفساد واملنكر‪،‬‬
‫وأمر ابلعدل واإلحسان‪ ،‬وهنى عن الفحشاء والبغي‪ ،‬وأخرب أنه أحل الطيبات وحرم‬
‫اخلبائث‪.‬‬
‫فلوال أن هلذه املأمورات وهذه املنهيات معاينَ يعرفها املخاطبون ملا كان ملخاطبتهم هبا‬
‫فائدة‪ .‬فمن يستطيع أن ينكر أن الناس كانوا يوم خوطبوا هبا على إدراك واضح حملتواها‬
‫ومعناها؟ وأهنم خوطبوا على أساس ذلك اإلدراك؟ بل إهنم كانوا يقدروهنا قدرها؛ وهلذا‬
‫عرفوا أن من أيمر هبذا اخلري وهبذا الصالح‪ ،‬وينهى عن هذا الشر وهذا الفساد‪ ،‬وال‬
‫كاذاب‪ ،‬ومن هنا ابدر عدد من فضالء العرب إىل اإلسالم‬
‫يتجاوزمها‪ ،‬ال ميكن أن يكون ً‬
‫جملرد تقديرهم ملا دعا إليهم من حق وصالح‪ ،‬وما هنى عنه من ضالل وفساد‪.‬‬
‫ومن ذلك ما رواه ابن ماجه عن علي رضي هللا عنه‪ ،‬قال‪" :‬أمر هللا نبيه أن يعرض نفسه‬
‫على قبائل العرب‪ ،‬فخرج فوقف على جملس قوم من شيبان بن ثعلبة يف املوسم‪ ،‬فدعاهم‬
‫إىل اإلسالم وأن ينصروه‪ .‬فقال مفروق بن عمرو ‪ -‬منهم ‪ :-‬إالم تدعوان أخا قريش؟‬
‫ان َوإِيتَ ِاء ِذي‬
‫اإلحس ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫فتال عليهم النيب صلى هللا عليه وسلم‪{ :‬إِ ان ا‬
‫اَلِلَ َأي ُْم ُر ابل َْع ْدل َو ِْ ْ َ‬
‫ش ِاء َوال ُْمن َك ِر َوالْبَـغْ ِي ۚ يَ ِعظُ ُك ْم لَ َعلا ُك ْم تَ َذ اك ُرو َن} [النحل‪.]90 :‬‬
‫الْ ُق ْرَ َٰب َويَـ ْنـ َه ٰى َع ِن الْ َف ْح َ‬
‫فقال‪ :‬دعوت وهللا إىل مكارم األخالق وحماسن األعمال‪ .‬ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا‬
‫عليك"(‪.)36‬‬
‫وكذلك ما قالته أم املؤمنني السيدة خدجية رضي هللا عنها‪ ،‬يف القصة الواردة يف بدء‬
‫الوحي‪ ،‬حيث عاد إليها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وقد أصابه من هول الوحي ما‬
‫يت علَى نَـ ْف ِسي"‪ ،‬فَـ َقالَت خ ِدجيةر‪َ " :‬ك اال و اِ‬
‫اَلِل‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫فقص عليها اخلرب وقال‪" :‬لََق ْد َخ ِش ُ َ‬
‫أصابه‪َّ ،‬‬

‫‪ 35‬أمحد الريسوين‪ ،‬نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاهتا يف العلوم اإلسالمية‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الكلمة‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1997‬م)‪ ،‬ص ‪.239‬‬
‫(‪ )36‬عن تفسري العالمة الطاهر بن عاشور‪ ،‬التحرير والتنوير‪.259/14 ،‬‬

‫‪111‬‬
‫وم‪َ ،‬وتَـ ْق ِري‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اَلِل أَب ًدا‪ ،‬إِنا َ ِ‬ ‫َما خيُْ ِز َ‬
‫ب املَْع ُد َ‬
‫ك لَتَص ُل ال ارح َم‪َ ،‬وَحتْم ُل ال َك ال‪َ ،‬وتَكْس ُ‬ ‫يك اُ َ‬
‫ب احلَِّق"(‪.)37‬‬‫ني َعلَى نَـ َوائِ ِ‬ ‫الضاي َ ِ‬
‫ف‪َ ،‬وتُع ُ‬ ‫ْ‬
‫والتأمل يف هذا املوقف‪ ،‬ويف هذا القول‪ ،‬ينبغي أن يوجه إىل ثالثة جوانب منهما‪ ،‬كلها‬
‫تشهد ابحلسن والقبح الذاتيني العقليني‪:‬‬
‫‪ -1‬الرسول صلى هللا عليه وسلم كان متخل ًقا هبذه األخالق قبل الوحي وقبل البعثة‪،‬‬
‫مستسحنًا إايها بعقله السليم وفطرته النقية‪.‬‬
‫أيضا هذه الفعال الكرمية‪ ،‬وترتضيها‬‫‪ -2‬السيدة خدجية رضي هللا عنها‪ ،‬تستحسن ً‬
‫من زوجها‪ ،‬وتعتربها من مكارمه وفضائله‪ .‬وليست مستند ًة يف هذه إىل أي‬
‫حكم شرعي‪.‬‬
‫‪ -3‬السيدة خدجية توقن أن هذه األفعال ال ميكن أن تلقى من هللا إال الرضى واحملبة‪،‬‬
‫وال ميكن أن يلقى صاحبها من هللا إال الرعاية والتكرمي واجلزاء احلسن‪.‬‬
‫عددا من األشياء واألفعال ابحلسن والقبح؛‬
‫إضافة إىل أن هللا سبحانه وتعاىل قد وصف ً‬
‫كوصفه اخلمر وامليسر واألنصاب واألزالم أبهنا (رجس)‪ ،‬وكوصفه الزَّن أبنه (كان فاحشة‬
‫سبيال)‪ ،‬وكوصفه أبنه (أذى)‪ .‬فهل كانت هذه املواصفات قبيحة فاسدة قبل جميء‬ ‫وساء ً‬
‫النص؟ ومنذ مىت كانت؟ أم إهنا مل تتصف ابلضرر واألذى إال بعد أن جعلها النص‬
‫رجسا‪ ،‬وأن الزَّن قد‬
‫كذلك؟ حيث إن هللا تعاىل مل خيربان أبن اخلمر وامليسر قد صارت ً‬
‫صار فاحشة‪ ،‬وأن احمليض قد أصبح أذى‪ ،‬بل خيربان وينبهنا على ما هي عليه‪ ،‬لريتب‬
‫على ذلك التحرمي والتحذير‪.‬‬
‫وقدًميا تعلل املشركون ‪ -‬فيما كانوا عليه من فواحش ‪ -‬بكوهنا من فعل أسالفهم‪ ،‬وأن هللا‬
‫آاب َء ًَن َو ا‬ ‫أمر بذلك‪ ،‬فزجرهم هللا تعاىل بقوله‪ :‬وإِ َذا فَـعلُوا فَ ِ‬
‫اَلِلُ‬ ‫شةً قَالُوا َو َج ْد ًَن َعلَْيـ َها َ‬
‫اح َ‬ ‫َ َ‬
‫اَلِل َما َال تَـ ْعلَ ُمو َن )‪ (28‬قُ ْل‬ ‫ِ‬‫ش ِاء ۖ أَتَـ ُقولُو َن َعلَى ا‬ ‫أ ََم َرًَن ِهبَا ۗ قُ ْل إِ ان ا‬
‫اَلِلَ َال َأي ُْم ُر ِابلْ َف ْح َ‬
‫ِ‬ ‫وه ُكم ِعن َد ُك ِل مس ِج ٍّد وا ْد ُعوهُ ُُمْلِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ين ۚ َك َما‬
‫ني لَهُ ال ّد َ‬ ‫صَ‬ ‫َّْ َ‬ ‫يموا ُو ُج َ ْ‬ ‫أ ََم َر َرِّيب ِابلْق ْسط ۖ َوأَق ُ‬

‫(‪ )37‬أخرجه البخاري يف صحيحه‪ ،‬كتاب بدء الوحي‪ ،‬برقم (‪)3‬؛ ومسلم يف صحيحه‪ ،‬كتاب اإلميان‪ ،‬ابب‬
‫بدء الوحي إىل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬برقم (‪ ،)160‬من حديث عائشة رضي هللا عنها‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫ودو َن)‪[ (29‬األعراف‪ .]29 ،28 :‬قال اإلمام ابن تيمية‪" :‬فإنه أخرب عن‬ ‫بَ َدأَ ُك ْم تَـ ُع ُ‬
‫نفسه يف سياق اإلنكار عليهم أنه ال أيمر ابلفحشاء‪ ...‬فعلم أنه ال جيوز عليه األمر‬
‫ابلفحشاء وذلك ال يكون إال إذا كان الفعل نفسه سيئًا‪ ...‬وهذا قول من يثبت لألفعال‬
‫يف نفسها صفات احلسن والسوء‪ ،‬كما يقول أكثر العلماء"(‪.)38‬‬
‫فصوال بديعة وحامسة يف املوضوع‪ ،‬وذلك يف اجلزء الثاين‬ ‫ولقد كتب اإلمام ابن قيم اجلوزية ً‬
‫من كتابه "مفتاح دار السعادة ومنشور والية العلم واإلرادة"‪ .‬ومن بني األدلة الكثرية اليت‬
‫ايب ْاأل ُِّم اي الا ِذي‬
‫ول النِ ا‬ ‫ين يَـتابِ ُعو َن ال ار ُس َ‬ ‫اِ‬
‫أفاض يف ذكرها وبيان داللتها‪ ،‬قوله عز وجل‪ :‬الذ َ‬
‫اه ْم َع ِن ال ُْمن َك ِر‬ ‫ِ‬
‫يل َأي ُْم ُرُهم ِابل َْم ْع ُروف َويَـ ْنـ َه ُ‬ ‫واب ِعن َد ُه ْم ِيف التـ ْاوَراةِ َو ِْ‬
‫اإل ِجن ِ‬ ‫َجي ُدونَهُ َمكْتُ ً‬
‫ِ‬
‫ت‬ ‫ص َرُه ْم َو ْاألَ ْغ َال َل الاِيت َكانَ ْ‬‫ض ُع َع ْنـ ُه ْم إِ ْ‬ ‫ث َويَ َ‬ ‫اخلَبَائِ َ‬
‫ات َوُحيَ ِّرُم َعلَْي ِه ُم ْ‬ ‫وُِحي ُّل َهلُم الطايِب ِ‬
‫ُ َّ‬ ‫َ‬
‫ك ُه ُم‬ ‫ِ‬
‫ئ‬‫َ‬‫ٰ‬
‫ل‬‫ُو‬
‫أ‬ ‫ۙ‬ ‫ه‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ز‬‫ِ‬ ‫ُن‬‫أ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬
‫ذ‬ ‫ا‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ُّور‬‫ن‬ ‫ال‬ ‫وا‬ ‫ع‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ا‬
‫ـ‬ ‫ت‬‫ا‬‫و‬ ‫وه‬ ‫ر‬ ‫ص‬ ‫ن‬‫و‬ ‫وه‬ ‫ر‬ ‫ز‬‫ا‬ ‫ع‬‫و‬ ‫ِ‬
‫ه‬ ‫ِ‬‫ب‬ ‫ا‬‫و‬ ‫ن‬ ‫آم‬ ‫ين‬ ‫ذ‬‫ِ‬ ‫ا‬
‫ل‬ ‫ا‬‫َ‬‫ف‬ ‫ۚ‬ ‫م‬‫ه‬‫ِ‬ ‫ي‬‫َ‬‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ََُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ ُ ََ َُ ُ َ َ ُ‬ ‫َ َُ‬ ‫َْ ْ‬
‫ال ُْم ْفلِ ُحو َن [األعراف‪ .]157 :‬قال‪" :‬فهذا صريح يف أن احلالل كان طيبًا قبل حلّه‪،‬‬
‫ِ‬
‫وأن اخلبيث كان خبيثًا قبل حترميه‪ .‬ومل يستفد طيب هذا وخبث هذا من نفس احلل‬
‫والتحرمي لوجهني اثنني‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬أن هذا علم من أعالم نبوته اليت احتج هبا على أهل الكتاب‪ ،‬فقال‪ :‬فلو كان‬
‫الطيب واخلبيث إمنا استفيد من التحرمي والتحليل‪ ،‬مل يكن يف ذلك دليل‪ .‬فإنه مبنزلة أن‬
‫أيضا ابطل‪ ،‬فإنه ال فائدة‬ ‫يقال‪ :‬حيل هلم ما حيل هلم‪ ،‬وحيرم عليهم ما حيرم عليهم وهذا ً‬
‫فيه‪ .‬وهو الوجه الثاين فثبت أنه أحل ما هو طيب يف نفسه قبل احلل‪ .‬فصار منشأ طيبه‬
‫معا‪ .‬فتأمل هذا املوضع حق التأمل‪ ،‬يرطلعك على أسرار الشريعة ويشرفك‬ ‫من اجلهتني ً‬
‫على حماسنها وكماهلا‪ ،‬وهبجتها وجالهلا‪ ،‬وأنه من املمتنع يف حكمة أحكم احلاكمني أن‬
‫ترد خبالف ما وردت به‪ .‬وأن هللا تعاىل يتنزه عن ذلك كما يتنزه عن سائر ما ال يليق به‪.‬‬
‫ش َما ظَ َه َر ِم ْنـ َها َوَما بَطَ َن َو ِْ‬
‫اإل ْمثَ‬
‫ِ‬
‫ومما يدل على ذلك قوله تعاىل‪ :‬قُ ْل إِ امنَا َح ارَم َرَِّيب الْ َف َواح َ‬
‫َلِل ما َمل يـنـ ِز ْل بِ ِه س ْلطَ ًاًن وأَن تَـ ُقولُوا علَى اِ‬ ‫ِ‬
‫اَلِل َما َال‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َوالْبَـ ْغ َي بِغَ ِْري ا ْحلَ ِّق َوأَن تُ ْش ِرُكوا ِاب ا َ ْ ُ َ ّ‬

‫‪ 38‬ابن تيمية‪ ،‬جمموع الفتاوى‪ ،‬حتقيق عبد الرمحن بن حممد بن قاسم‪( ،‬املدينة املنورة‪ :‬جممع امللك فهد لطباعة‬
‫املصحف الشريف‪.8/15 ،)1995 ،‬‬

‫‪113‬‬
‫تَـ ْعلَ ُمو َن [األعراف‪ ،]33 :‬وهذا دليل على أهنا فواحش يف نفسها‪ ،‬ال تستحسنها‬
‫العقول فتعلق التحرمي هبا لفحشها"(‪.)39‬‬
‫ويعلق الدكتور أمحد الريسوين على هذا ً‬
‫قائال‪" :‬واحلقيقة أن الذين تورطوا من األشاعرة‬
‫يف إنكار احلسن والقبح الذاتيني وإنكار التحسني والتقبيح العقليني‪ ،‬إمنا اجنروا إىل ذلك‬
‫بفعل الصراع اجلديل الطويل مع خصومهم املعتزلة‪ .‬ومعلوم أن اإلمام أاب احلسن األشعري‬
‫‪-‬وهو أول قائل هبذا‪ -‬قد خترج ‪-‬مث خرج‪ -‬من حلقة املعتزلة‪ .‬وهبذا فإن األشعرية ولدت‬
‫من الصراع‪ ،‬ونبتت يف الصراع‪ .‬ومل تزد األايم‪ ،‬بل القرون‪ ،‬بعد ذلك هذا الصراع إال‬
‫استفحاال وتغالبًا‪ .‬وأصبح "رد الفعل" ضد املعتزلة مسة ابرزة ‪ -‬بل طاغية ‪ -‬يف الفكر‬
‫ً‬
‫(‪)40‬‬
‫األشعري" ‪.‬‬

‫(‪ )39‬ابن قيم اجلوزية‪ ،‬مفتاح دار السعادة ومنشور والية العلم واإلرادة‪ ،‬مرجع سابق‪.7-6/2 ،‬‬
‫(‪ )40‬انظر‪ :‬أمحد الريسوين‪ ،‬نظرية املقاصد عند الشاطيب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.244‬‬
‫‪114‬‬
‫الفصل الرابع‪:‬‬
‫اإلسالمي املُعاصر‬
‫ّ‬ ‫تصورات العدل يف الفكر‬
‫هشام فهمي‬
‫أمحد نصر‬

‫مقدمة‪ :‬العدل يف اللغة واالصطالح والتصور القرآينّ‬


‫يتناول هذا البحث احملطات الرئيسة يف تصور املفكرين‬
‫اإلسالميني عن مفهوم "العدل‪/‬العدالة" منذ سقوط اخلالفة‬
‫اإلسالمية عام ‪1924‬م وحىت اندالع الثورات العربية يف‬
‫حماوال تقدمي خريطة عامة لتصورهم عن‬ ‫عام ‪2011‬م؛ ً‬
‫املفهوم‪ ،‬والوقوف على بعض القضااي اليت تطرحها‬
‫خريطتهم املفاهيمية‪ .‬مث حماولة الوصول إىل فتح أبواب‬
‫التفكري بشأن العدالة يف االجتماع اإلسالميّ‪.‬‬
‫اللغوي للعدالة‪ ،‬سنجد أنه جاء ذكر العدل يف لسان العرب البن منظور‬ ‫ّ‬ ‫مبرطالعة األصل‬
‫يف مادة (ع‪-‬د‪-‬ل)‪":‬العدل ما قام يف النفوس أنه مستقيم وهو ضد اجلور"‪ ،1‬مث ذكر‬
‫االستخدامات اللغوية ملادة عدل واليت تدور يف حبث اسم هللا العدل ومسائل عدالة الوالة‬
‫عدل أو‬
‫أخريا وصف الناس؛ فيروصف الرجل واملرأة أبهنما ٌ‬ ‫وعدالة القضاة واحلكم ابحلق‪ ،‬و ً‬
‫ذوا ٍ‬
‫معدلة أي بكوهنما َِ‬
‫مقبويل الشهادة يف القضاء واملنازعة‪ .‬ابإلضافة إىل دالالت عدة‪:‬‬
‫االستقامة مبا حيمي من االعوجاج وامليل حنو اهلوى‪ ،‬واالتزان مبا مينع التأرجح‪ ،‬واملساواة‬
‫يف الدرجة بني الناس واألشياء؛ فيرقال إن عديل املرء هو شريكه ومساويه‪ ،‬ومن عدل ابهلل‬
‫شيئًا فقد أشرك به‪.‬‬

‫‪ 1‬أبو الفضل ابن منظور املصري‪ ،‬لسان العرب‪( ،‬بريوت‪ :‬طبعة دار صادر‪ ،‬اجمللد احلادي عشر)‪ ،‬ص‪-430‬‬
‫‪.431‬‬
‫وقد ذركر لفظ العدل يف القرآن يف مقام الشهادة والفصل يف املنازعة فقال هللا تعاىل‪:‬‬
‫وف َوأَ ْش ِه ُدوا ذَ َو ْي َع ْد ٍّل‬ ‫وف أَو فَا ِرقُوه ان ِمبَعر ٍّ‬ ‫"فَِإذَا بـلَغْن أَجلَه ان فَأَم ِس ُكوه ان ِمبَعر ٍّ‬
‫ُ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ُْ‬ ‫َ َ َ ُ ْ‬
‫َلِل َوالْيَـ ْوِم ْاآل ِخ ِر َوَم ْن يَـتا ِق‬
‫ظ بِ ِه من َكا َن يـ ْؤِمن ِاب اِ‬
‫ُ ُ‬ ‫اد َة َ ُ ْ ُ َ ُ َ ْ‬
‫وع‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ِ‬
‫ل‬ ‫ذ‬ ‫ِ‬‫ا‬‫ِ‬
‫َلِل‬ ‫يموا ال ا‬
‫ش َه َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن ُك ْم َوأَق ُ‬
‫اَلِلَ َْجي َع ْل لَهُ َُمَْر ًجا"[الطالق‪ ]2 :‬يف معرض احلديث عن مسألة الطالق وما يكون‬ ‫ا‬
‫فيها من أم ٍر ابملعروف‪ .‬يقول الشيخ حممد الطاهر ابن عاشور يف هذا املعىن يف تفسريه‬
‫التحرير والتنوير‪ " :‬فاملعروف يف اإلمساك‪ :‬حسن اللقاء واالعتذار هلا عما فرط والعود إىل‬
‫حسن املعاشرة‪ ،‬واملعروف يف الفراق‪ :‬كف اللسان عن غيبتها وإظهار االسرتاحة منها"‪،2‬‬
‫مث ما يتبع ذلك من إشهاد العدول من الناس على ما نتج من اإلمساك أو املفارقة‪ .‬يذكر‬
‫سيد قطب يف تفسري الظالل معىن قريبًا آخر يف مسألة الطالق ينطلق من بيان السنن‬
‫قائال‪" :‬وقد تضمنت هذه السورة بيان الوقت الذي ميكن أن يقع فيه‬ ‫اإلهلية يف الكون ً‬
‫‪،3‬‬
‫مدهوشا أمام هذا‬ ‫ً‬ ‫الطالق الذي يقبله هللا وجيري وفق سنته" مث يركمل‪" :‬يقف اإلنسان‬
‫احلشد من احلقائق الكونية الكربى يف معرض احلديث عن الطالق أمام هذا االحتفال‬
‫‪4‬‬
‫ومراعاة دقة احلكم‬ ‫واالهتمام "‪ .‬وقد اجتمعت يف اآلية معاين العدل مقرتنة ابلرتوي ر‬
‫حاكما‬
‫ً‬ ‫متمثل يف‪ :‬شهادة أهل العدل‬ ‫ٌ‬ ‫واتزانه واقرتانه املعروف واملبادرة به؛ وكأن العدل‬
‫وشاهدا على احلال وما يرتتب عليه‪ ،‬واملظلة اليت جيتمع حتتها حىت املتخاصمون‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫"ومم َّْن َخلَ ْقنَا أ َّرمةٌ‬ ‫ِ‬
‫واملرمسكون واملفارقون‪ .‬وقد جاء العدل بصيغة الفعل يف قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫يَـ ْه ردو َن ِاب ْحلَ ِّق َوبِِه يَـ ْع ِدلرو َن" [األعراف‪ ،]181 :‬وقال ابن جريج‪" :‬ذكر لنا أن نيب هللا‬
‫ضون"‪.5‬‬ ‫أيخذون ويعطون ويَـ ْق ُ‬ ‫صلى هللا عليه وسلم قال‪ :‬هذه أميت! قال‪ :‬ابحلق ُ‬

‫‪ 2‬حممد الطاهر ابن عاشور‪ ،‬تفسري التحرير والتنوير‪ ،‬سورة الطالق‪ ،‬ص‪،308.-307‬‬
‫‪https://goo.gl/RLYEfK‬‬
‫‪ 3‬سيد قطب‪ ،‬يف ظالل القرآن‪ ،‬ص ‪https://is.gd/sUm7nx ،3592‬‬
‫‪ 4‬املرجع السابق ‪ ،‬تفسري سورة الطالق‪ ،‬وفيه أدب نفيس عن األسرة وما يرتتب على صالحها من االستقامة‬
‫يف اجملتمع‪.‬‬
‫‪ 5‬لالطالع على تفسري اآلية‪https://is.gd/3ktyBD :‬‬

‫‪116‬‬
‫اصطالحا عند الفقهاء واحملدثني فـرتجع إىل معىن واحد‪ ،‬وهو أهنا‪" :‬ملكة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وأما "العدالة"‬
‫‪6‬‬
‫أي‪ :‬صفة راسخة يف النفس‪ ،‬حتمل صاحبها على مالزمة التقوى واملروءة "‪ .‬واملعىن نفسه‬
‫ذكره الدكتور فوزي خليل عن الصالحية األخالقية املؤهلة للقيام بدور احلل والعقد أو‬
‫العدالة ابعتبارها قيمة ضابطة للحركة واملمارسة‪ 7‬يف أثناء حديثه عن عنصري تصور العدل‬
‫يف الفقه السياسي اإلسالمي ودور عدول أهل احلل والعقد يف بناءات العدل يف اإلسالم‪،‬‬
‫اء ِابل ِْق ْس ِط َوَال‬ ‫املستنبط من قوله تعاىل‪" :‬اي أَيُّـها الا ِذين آمنوا ُكونُوا قَـ او ِام ِ ِ‬
‫ني اَلِل ُش َه َد َ‬‫َ‬ ‫َ َُ‬ ‫َ َ‬
‫اَلِلَ َخبِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍّ‬
‫ري‬
‫ٌ‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫ن‬ ‫إ‬ ‫َْجي ِرَمنا ُك ْم َشنَآ ُن قَـ ْوم َعلَ ٰى أ اَال تَـ ْع ُ ْ ُ ُ َ َ ُ ْ َ ٰ َ ُ َ‬
‫ا‬
‫اَلِل‬ ‫وا‬ ‫ق‬ ‫ا‬
‫ـ‬ ‫ت‬‫ا‬‫و‬ ‫ى‬ ‫و‬ ‫ق‬‫ـ‬‫ا‬‫ت‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ْر‬‫ـ‬ ‫ق‬‫َ‬‫أ‬ ‫و‬‫ه‬ ‫وا‬ ‫ل‬‫د‬ ‫ع‬‫ا‬ ‫وا‬ ‫ل‬‫د‬
‫ِمبَا تَـ ْع َملُو َن"[املائدة‪ .]8 :‬أو كما يقول حامد ربيع يف حبثه عن العدالة كقيمة سياسية‬
‫وأخالقية‪" :‬إن العدالة يف حقيقتها عالقة ابآلخرين‪ ،‬وهي هبذا املعىن نوع من أنواع التعامل‬
‫أو منطلق ملفهوم النربل يف احلركة أساسه األول هو أن العالقة عالقةٌ إنسانية"‪ .‬وابلرغم من‬
‫وضوح املعىن املتواتر يف اللغة واالصطالح الذي ال يفارق مدلوالت االستقامة والتوسط‬
‫غموضا يف املفهوم‪ ،‬ويرى حامد ربيع أن‪" :‬التعريف‬ ‫ً‬ ‫واتباع احلق واملداومة عليه‪ ،‬فإن هناك‬
‫ابلعدالة حىت هذه اللحظة ميثل إحدى املهام الصعبة اليت مل يستطع أن يواجهها الفقه‬
‫السياسي بصراحة ووضوح"‪ .8‬وعليه‪ ،‬تظهر الصعوبة يف التعريف حني يدخل املفهوم إىل‬
‫حيز املسألة االجتماعية بتعقداهتا وتشابكاهتا مع القيم واإلجراءات ومنطق املصاحل‬
‫ستخدما من كال‬ ‫ً‬ ‫واملواءمات يف حلظات الصراع؛ حني يظهر مفهوم العدل مرتب ًكا رم‬
‫نفصال عن مدلوله‪.‬‬ ‫داال رم ً‬ ‫املتصارعني وكأنه أصبح لفظًا ً‬
‫حماوال الوقوف على تصور املفكرين اإلسالميني عن مفهوم‬ ‫أييت هذا البحث ً‬
‫العدل‪/‬العدالة‪ .‬والسعي إىل خط خريطة عامة لألنساق اإلسالمية على طول الفرتة املشار‬

‫عماد السيد الشربيين‪ ،‬عدالة الصحابة رضي هللا عنهم يف ضوء القرآن الكرمي والسنة النبوية ودفع‬ ‫‪6‬‬

‫الشبهات‪( ،‬مصر‪ :‬دار اإلميان للطبع والنشر التوزيع‪ ،)2006 ،‬ص ‪.16‬‬
‫د‪ .‬فوزي خليل‪ ،‬دور أهل احلل والعقد يف النموذج اإلسالمي لنظام احلكم‪( ،‬املعهد العاملي للفكر‬ ‫‪7‬‬

‫اإلسالمي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬سلسلة الرسائل اجلامعية ‪ ،)28‬ص ‪.236‬‬


‫‪ 8‬د‪ .‬حامد ربيع‪ ،‬نظرية القيم السياسية‪( ،‬دفاتر مركز احلضارة للدراسات السياسية‪ ،‬كتاب غري منشور)‪،‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬نظرية القيم التابعة‪.‬‬
‫‪117‬‬
‫إليها والوقوف على بعض تداعياهتا‪ .‬وقد قرسم البحث إىل‪ :‬مقاربة‪ ،‬وأربعة مباحث رئيسة‪،‬‬
‫يتناول كل منها حمطة مهمة يف تلك األنساق‪ ،‬مث خامتة‪.‬‬
‫يتناول املبحث األول الفرتة منذ سقوط اخلالفة اإلسالمية عام ‪1924‬م حىت أربعينيات‬
‫كزا على مفهوم "العدل" عند رواد تلك الفرتة‪ .‬وأما املبحث الثاين فيتناول‬
‫القرن العشرين مر ً‬
‫كزا على مفهوم "العدالة‬ ‫فرتة األربعينيات حىت أواخر ستينيات القرن العشرين مر ً‬
‫االجتماعية" وتداعيته‪ .‬وأما املبحث الثالث فيتناول موضوع "االقتصاد اإلسالمي" وبروز‬
‫كمفهوم جديد يف العالقات الدولية‪ ،‬وكيفية االشتباك مع مفهوم العدل يف تلك‬ ‫ٍ‬ ‫العوملة‬
‫السياقات‪ .‬وأما املبحث الرابع فيتناول مفهوم "العدالة االنتقالية" ملا أاثره من جدل مع‬
‫الثورات العربية يف عام ‪2011‬م وما تاله‪.‬‬
‫املقاربة‪:‬‬
‫يسعى البحث إىل الوقوف على خرائط تصور اإلسالميني عن مفهوم العدل‪/‬العدالة بدءًا‬
‫من سقوط اخلالفة اإلسالمية‪ .‬ويعد الوقوف على هذه اخلرائط أو لنقل األنساق الفكرية‬
‫حموري يف الفكر اإلسالمي؛ مفهوم له عالقة‬
‫ٌ‬ ‫مفهوم‬
‫ٌ‬ ‫نظرا ألن مفهوم العدل‬
‫ذا أمهية؛ ً‬
‫‪9‬‬
‫شديدة الصلة ابلتصور عن إدارة الشأن االجتماعي والسياسي ‪ .‬وستكون مقاربة البحث‬
‫هي استكشاف األنساق الفكرية يف نصوص اإلسالميني املكتوبة واملعاشة من خالل‬
‫ر‬ ‫قراءة حاملة إلمكانية النظر يف حتوالت األنساق وفهمها‪.‬‬
‫إن حتليل النصوص‪ ،‬وف ًقا للمدارس واملقارابت املعاصرة‪ ،‬ميكن اختصاره يف سؤال‪ :‬السياق‬
‫‪10‬‬
‫ونظرا ألن البحث حياول أن الوقوف على خريطة األنساق الفكرية حول‬ ‫أم املؤلف ؟ ً‬
‫مفهوم العدل‪ ،‬كما حماولة فهم تلك األنساق؛ كان لز ًاما أن تكون املقاربة جامعة بني‬

‫‪ 9‬د‪ .‬جميد خدوري‪ ،‬مفهوم العدل يف اإلسالم‪ ،‬ترمجة دار احلصاد‪( ،‬دمشق‪ :‬دار احلصاد للنشر والتوزيع ودار‬
‫الكلمة للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة األوىل)‪ ،‬ص‪.20-17‬‬
‫‪See: Intertextuality: Theories and Practices, ed. Michael 10‬‬
‫‪Worton and Judith Still, (UK: Manchester University press, 1990),‬‬
‫‪pp: 1-33‬‬

‫‪118‬‬
‫السياق واملؤلف‪ ،‬بصورة جتعل كالمها يف عالقة حوارية واسرتجاعية‪ .‬يدفع هذا إىل تبين‬
‫وضا عن األخذ مبقاربة أرحادية؛ هي‪" :‬املبدأ احلواري للغة"‬ ‫ِ‬
‫جمموعة من املفاهيم املدخلية ع ً‬
‫مليخائيل ابختني‪ ،‬و"التعايل النصي" جلريارد جينيت‪ ،‬و"املفاهيم املتنازع عليها" لوالرت جايل‪.‬‬
‫أما املبدأ احلواري للغة ‪ ،Dialogism‬فهو مفهوم قدمه ميخائيل ابختني ً‬
‫حماوال به‬
‫بعيدا عن بنيتها النحوية اجملردة‪ .11‬فاللغة عنده ينطقها إنسان‪،‬‬
‫مدخال لفهم اللغة ً‬
‫أن يتخذ ً‬
‫وهذا اإلنسان حييا يف سياق اجتماعي‪ ،‬وعن طريق تفاعالت كثرية يظل هذا السياق يف‬
‫حامال لعالقات بني‬
‫وتداخل مركب؛ األمر الذي جيعل فعل التلفظ أبي كلمة ً‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حترك‬
‫ومتوقعا لكلمة‬ ‫دوما استجابةً لكلمة تسبقه‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫خماطـب وخماطَب؛ كما‪12‬أن هذا التلفظ أييت ً‬
‫أتيت بعده كاستجابة له ‪ .‬فهنا تظهر الكلمة اإلنسانية على أهنا داخلة يف سياق أوسع‬
‫من جمرد بنيتها اللغوية الساكنة‪ .13‬والنصوص‪ ،‬مبختلف أنواعها‪ ،‬ال تشذ عن تلك الطبيعة‬
‫أيضا داخلةٌ يف ٍ‬
‫سياق أوسع من تلك البنية النحوية اجملردة‪.14‬‬ ‫احلوارية عند ابختني؛ فهي ً‬
‫تغليب اتمٌّ "لوفاة املؤلف" وذوابنه يف‬
‫ٌ‬ ‫لكن‪ ،‬على الرغم مما قد يبدو للوهلة األوىل أنه‬
‫السياق‪ ،15‬فإن ابختني نفسه أقر أن املؤلف إبمكانه أن "خيتار" كيف يعكس السياق‪،‬‬

‫‪ 11‬تزيفتان تودوروف‪ ،‬ميخائيل ابختني‪ :‬املبدأ احلواري‪ ،‬ترمجة‪ :‬فخرية صاحل‪( ،‬بريوت‪ :‬املؤسسة العربية‬
‫للدراسات والنشر‪ ،)1996 ،‬ص ‪.16‬‬
‫‪Graham Allen, Intertextuality, New York: Routledge, the 12‬‬
‫‪edition of Taylor & Francis e-library, 2006, pp:16-19‬‬
‫لكل من‪ :‬ابخينت وتودوروف‪ .‬حيث يراين أن آدم هو أول من‬ ‫تبعا ٍ‬‫نستخدم مصطلح "الكلمة اإلنسانية" ً‬
‫‪13‬‬

‫تعامل مع األشياء مبوضوعية اتمة؛ حبيث أعطى كل شيء امسه‪ .‬لكن "بعد هبوط آدم إىل هذا العامل مل تعد‬
‫هناك أشياء بال أمساء‪ ،‬أو كلمات غري مستعملة"‪ ،‬مبعىن أن بعد آدم صارت "الكلمة" داخلة يف عالقة متشابكة‬
‫ال ميكن احلكم عليها مبوضوعية اتمة‪ .‬انظر‪ :‬تودوروف‪ ،‬ميخائيل ابختني‪ :‬املبدأ احلواري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪،16‬‬
‫و‪p.21 Allen, Intertextuality,:‬‬
‫‪Allen, Intertextuality, pp: 21-3314‬‬
‫‪ "15‬وفاة املؤلف" هي عبارة أطلقها روالند ابرت يف ٍ‬
‫مقال له عام ‪ 1968‬حيمل االسم نفسه؛ انظر ‪:‬‬
‫‪Roland Barthes, The Death of the Author, in: Roland Barthes,‬‬

‫‪119‬‬
‫ِ‬
‫نصه‪ .16‬إن هذه الرؤية تفتح أف ًقا لقراءة النص على‬
‫ومن ورائه املبدأ احلواري نفسه‪ ،‬داخل ّ‬
‫نص يف حالة من احلوار مع نصوص سبقته‪ ،‬ومع نصوص يتوقع منها أن أتيت ٍ‬
‫كرد‬ ‫أنه ٌّ‬
‫ر‬
‫أيضا أن للمؤلف‬
‫عليه‪ .‬كذلك فهي تؤكد أن حالة النص ليست مبعزل عن السياق‪ ،‬وتؤكد ً‬
‫دورا‪.‬‬
‫ً‬
‫وعلى الرغم من اختالف املنطلقات املعرفية بني ابختني وجريارد جينيت‪ ،‬فإن هلذا األخري‬
‫مفهوم "التعايل‬
‫َ‬ ‫مفهوما رميكن ضمه إىل املبدأ احلواري سابق الذكر‪ .‬فقد قدم جينيت‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫كمفهوم عام لقراءة العالقة بني‬ ‫النصي" ‪Textual Transcendence‬‬
‫وفرع جينيت منه هذا املفهوم عدة عالقات تقوم بني النصوص‪ ،18‬خنص‬ ‫‪17‬‬
‫النصوص ‪َّ .‬‬
‫ابلذكر منها العالقة "النصية املا ورائية" ‪Meta-Textuality‬؛ وعىن هبا جينيت‪:‬‬
‫وجود عالقة توحد نصني عرب عملية من التعليقات واالستدراكات دون ذكر أحدمها‬
‫لآلخر‪ .19.‬وألن البحث يف األنساق الفكرية قد يؤدي إىل وجود أكثر من نص مرجعي‬

‫‪Image, Music, Text, ed. and trans. Stephen Heath, (London,‬‬


‫‪.Fontana Press, 1977), p.142‬‬
‫وقد خضعت هذه العبارة لعدة أتويالت‪ ،‬لكن ما جيمعها هو‪ :‬توكيد ابرت أن "املؤلف" ال ميلك أي سيطرة‬
‫احدا وإمنا هو تداخالت عدة بني نصوص‬‫حال من األحوال؛ فأصل أي نص ليس مؤل ًفا و ً‬ ‫على نصه أبي ٍ‬
‫وكلمات وسياقات‪ .‬انظر‪Allen, Intertextuality,p.72. :‬‬
‫‪ً 16‬‬
‫فمثال‪ :‬يرى ابختني أن فيودور ديستيوفسكي أقام رواايته بطريقة تقوم فيها كل شخصية بعكس رؤية حمددة‬
‫عن الواقع‪ ،‬يف حني عزل ديستيوفسكي نفسه عن إبراز إحدى الرؤى على أهنا متفوقة على سائر تلك الرؤى؛‬
‫فهنا اختار املؤلف بنفسه كيف يصيغ روايته متاشيًا مع املبدأ احلواري‪ ،‬وكان من املمكن أن يصيغها بطريقة‬
‫متاما‪ .‬انظر‪24 .Allen, Intertextuality, p :‬‬
‫أحادية ً‬
‫‪Gerard Genette, Paratexts: Thresholds of Interpretation, trans. 17‬‬
‫‪Jane Lewin, New York: Press Syndicate of the University of‬‬
‫‪Cambridge, 1997, XVIII‬‬
‫‪Ibid.18‬‬
‫‪Ibid., p: 319‬‬

‫‪120‬‬
‫أيضا مفهوم "املعمار النصي" ‪ ،Archi-textuality‬الذي عىن‬ ‫ما ورائي‪ ،‬فنذكر ً‬
‫به جينيت‪ :‬الشبكة الكلية من اخلطاابت وأشكال التعبري والتصنيفات اليت تساهم يف‬
‫إنتاج نص ما‪ .20‬وقد تتعدد شبكة النصوص املاورائية تلك عند اإلسالميني سواء كانت‬
‫نصوصا قرآنية حاكمة أو أخرى متأثرة بسياقات اترخيية أو ثقافية حيث تتجاور مجيعها‬
‫ً‬
‫يف بنية النص املعمارية‪.‬‬
‫وهنا تبدأ اخليوط يف التشابك؛ إذ لسنا أنخذ من جينيت سوى هذا املستوى التحليلي‬
‫للعالقة بني النصوص ‪-‬سواء بني نص ونص مرجعي بعينه‪ ،‬أو بني نص وشبكة من‬
‫النصوص املرجعية‪ -‬الذي رميكن أن نضيفه إىل مستوى العالقة بني النصوص السابقة‬
‫حتديدا؛ ألهنا يف هذه‬
‫والتالية اليت أشار إليها ابختني‪ ،‬مع الرتكيز على النصوص السابقة ً‬
‫نصوصا‪ ،‬فهي نصوص حاكمة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫املقاربة رمتثل أكثر من كوهنا‬
‫وتوفر هذه املقاربة املزدوجة للنص ولعالقته مبؤلفه‪ ،‬ومن ورائه السياق ككل‪ ،‬إمكانيةً‬
‫للنظر يف اخلريطة الفكرية للنسق اإلسالمي املراد حبثه‪ ،‬بصورة رمت ِّكـن من‪ :‬ربط النص‬
‫بنصوص مرجعية‪ ،‬ومن ربط النص بسياقه‪ .‬ر‬ ‫ٍ‬
‫واباللتفات إىل مفهوم العدل‪ ،‬جند أن تضمينه يف تلك املقاربة ميكن أن أييت عرب مفهوم‬
‫آخر قدمه والرت جايل حول طبيعة املفاهيم األساسية‪ .21‬حيث يرى جايل أن هناك ثرلة‬
‫تنازعة ال تقبل تسوية‬
‫من املفاهيم املفتوحة لتأويالت متعددة حتمل يف جوهرها طبيعةً رم َ‬
‫وفق شبكة معقدة من التفاعالت‬ ‫هنائية‪ .‬هي ذات املفاهيم القيمية‪ ،‬واليت رحيكم عليها َ‬
‫املفاهيمية‪ ،‬ويربز أحد مكوانهتا دون اآلخر مىت روضعت حمل التنفيذ‪ ،‬واليت تقبل إدخال‬
‫وهجوما‪.22‬‬
‫ً‬ ‫دافعا‬
‫تعديالت فيها‪ ،‬وترستخدم ً‬

‫‪Ibid.20‬‬
‫‪W.B. Gallie, Essentially Contested Concepts, Proceedings of 21‬‬
‫‪the Aristotelian Society, New Series, Vol. 56, (1955-1956), pp: 167-‬‬
‫‪198‬‬
‫‪Ibid., 180-18822‬‬
‫‪121‬‬
‫وبتضمني تلك الرؤية النفتاح املفاهيم يف املقاربة الثنائية سالفة الذكر‪ ،‬يظهر مفهوم‬
‫العدل‪/‬العدالة على أنه مفهوم أتى يف سياق معني عن طريق مؤلفني هلم دور‪ :‬فهو مفهوم‬
‫مرتبط بسياقه‪ ،‬ومرتبط بشبكة من العالقات النصية املاورائية‪ ،‬مما ميكن من الوقوف على‬
‫سالسل التغريات واالنقطاعات والتكامالت اليت تعرض هلا‪ ،‬مث إمكانية اإلشارة إىل‬
‫السياق الذي ساهم يف تلك السلسلة‪.‬‬
‫البداايت‪" :‬العدل" إابن وبعد سقوط اخلالفة اإلسالمية عام ‪1924‬م‬
‫دائرا حول‬
‫بدايةً‪ ،‬كان مناط اخلطاب حول العدل يف صدر اإلسالم بعد وفاة الرسول ً‬
‫سؤال الشرعية ‪Legitimacy‬؛ فلمن شرعية احلكم؟ هذا السؤال أجج اخلالفات‬
‫الطوال يف تلك الفرتة وما تالها‪ .‬ويف القلب من سؤال الشرعية ظهر مفهوم "العدل"‪.‬‬
‫فوف ًقا جمليد خدوري‪ ،‬انربى كل من أهل السنة والشيعة إىل القول أبن اإلمامة واجبة‪،‬‬
‫ولكي تصح اإلمامة يَلزم اإلمام أن يتصف ابلعدل‪ ،‬مث اختلف كل منهما يف تعيني مناط‬
‫العدل‪. 23‬املهم أن بداية التصورات التأصيلية عن العدل خرجت من رحم أزمة سياسية‪.‬‬
‫ويف هذا املبحث الذي يتناول املفهوم بعد سقوط اخلالفة‪ ،‬جند السياق املأزوم الذي مجع‬
‫بني‪ :‬االستبداد‪ ،‬واالستعمار‪ ،‬وسقوط الدولة العثمانية الذي أعلن االنتهاء العملي للخالفة‬
‫اإلسالمية ومعها عدد من املمارسات والبىن االجتماعية‪ .24‬إن هذه اخللفية هي األساس‬
‫يف رؤية املشاريع الفكرية‪ ،‬أو حىت النظرات العامة لإلسالميني منذ ذلك الوقت‪ .‬ولتبيان‬
‫النسق الفكري الناظم ملفهوم العدل يف تلك الفرتة‪ ،‬وقع االختيار على عدة مفكرين وهم‪:‬‬
‫حممد رشيد رضا‪ ،‬وعبد احلميد بن ابديس‪ ،‬وحممد البشري اإلبراهيمي‪ ،‬وشكيب أرسالن‪،‬‬
‫ابإلضافة إىل بديع الزمان النورسي‪.‬‬

‫‪ 23‬د‪ .‬جميد خدوري‪ ،‬مفهوم العدل يف اإلسالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.20-19‬‬
‫‪See: Iza Hussin, The Politics of Islamic Law: Local Elites, 24‬‬
‫‪Colonial Authority, and The Making of The Muslim State,‬‬
‫‪Chicago: University of Chicago Press, 2016.‬‬

‫‪122‬‬
‫ونبدأ مبحمد رشيد رضا (‪1865‬م‪1935-‬م)؛ إذ يعد من أنبه تالمذة األستاذ اإلمام‬
‫حممد عبده (‪1849‬م‪1905-‬م)‪ ،‬وقد اتبعه يف كثري من املسائل وخالفه يف غريها‪ ،‬لكن‬
‫بلب املشروع اإلصالحي حملمد عبده‪ ،‬ولعل املساحة األبرز لتداول‬ ‫ِ‬
‫مجع بينهما متسك رضا ّ‬
‫أفكار رضا كانت جملة املنار اليت أنشأها مبعاونة حممد عبده‪ ،‬ولكن طرحه عن العدل‬
‫واحلكومة اإلسالمية بلغ ذروة اتساقه يف موضع آخر وهو "تفسري املنار"‪ ،25‬األمر الذي‬
‫استوجب التوقف عند ِّ‬
‫نص التفسري ال اجمللة‪.‬‬
‫يــبدأ رشيد رضا بتأكيد ما ذهب إليه حممد عبده من أن العدل له عدة مصاديق‪ :‬فهناك‬
‫العدل يف الدين‪ ،‬والعدل يف الكون‪ ،‬والعدل يف املعامالت الدنيوية‪ .‬فأما العدل يف الدين‬
‫فحدُّه أن اإلسالم جاء "وسطًا" بني طرفني‪ :‬النفي التام لإلله‪ ،‬وتعدد اآلهلة‪ ،‬كذلك بني‪:‬‬
‫املادية‪ ،‬والروحانية؛ فاإلسالم قدم اإلله على أنه واح ٌد بال مثنوية‪ ،‬وعلى أن أمته أمةٌ‬
‫ط‪ .26‬وأما العدل الكوين‪ ،‬أو الطبيعي كما أمسياه‪ ،‬فهو وضع اإلله الواحد لسنن تتبع‬ ‫َو َس ٌ‬
‫احدا وتضبط كل شيء حبيث ترشري إىل وجوده يف األخري؛ فنظام الكون يقضي‬ ‫ظما و ً‬ ‫نَ ً‬
‫‪27‬‬
‫احدا وهو متام العدل ‪ .‬وأما عدل املعامالت فهو ما وقع فيه التفصيل؛‬ ‫أبن له خال ًقا و ً‬
‫إذ له ركنان‪ :‬ركن يوجب على احلاكم معرفة احلكم الشرعي ليحكم به‪ ،‬وركن يوجب على‬
‫احلاكم انعدام امليل واهلوى وضرورة حتري فهم دعاوى املدعي واملدعى عليه‪.28‬‬
‫إن عدل املعامالت ينبين على رؤية شاملة للوضع اإلنساين‪ .‬وميكن مجع أطراف تلك‬
‫الرؤية كالتايل‪ :‬إن من عدل هللا وضعه لسنن يف الطبيعة تدل عليه ويهتدي هبا خلقه‪ ،‬ومن‬
‫مؤهال ليكون ذا قدرة ومشيئة‪ ،29‬وأن السنن‬
‫ضمن هذه السنن أمران‪ :‬أن اإلنسان رخلق ً‬

‫‪ 25‬حممد رشيد رضا‪ ،‬تفسري القرآن احلكيم (املشتهر ابسم تفسري املنار لألستاذ اإلمام حممد عبده)‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫دار املنار‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1947 ،‬ويقع يف اثين عشر جزءًا‪ .‬ويشري رضا إىل أن منهجه يف أتليف الكتاب هو‬
‫إمامـه‪ .‬انظر‪ :‬اجلزء األول‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫تدوين دروس حممد عبده‪ ،‬مث االستدراك عليها مىت خالف فيها َ‬
‫‪ 26‬املرجع السابق‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬ص ‪ ،5‬واجلزء الثالث‪ ،‬ص ‪.256‬‬
‫‪ 27‬املرجع السابق‪ ،‬اجلزء الثالث‪ ،‬ص ‪.256‬‬
‫‪ 28‬املرجع السابق‪ ،‬اجلزء الثالث‪ ،‬ص ‪ ،256‬واجلزء اخلامس‪ ،‬ص ‪.175-172‬‬
‫‪ 29‬املرجع السابق‪ ،‬اجلزء الثامن‪ ،‬ص ‪.178‬‬

‫‪123‬‬
‫‪30‬‬
‫حر‪ .‬ومن جهة أخرى‪،‬‬ ‫تسري على املسلم وغريه ‪ ،‬وعلى هذا األصل ينبين أن اإلنسان ٌّ‬
‫فهناك سنة اجتماعية تدفع البشر ليجروا التعامالت بني بعضهم البعض‪ ،‬مما يوجب أن‬
‫ترنظم هذه املعامالت بطريقة تضمن عدم غلبة أحد على آخر‪31‬؛ وهذه الطريقة الناظمة‬
‫هي "عدل املعامالت"‪ .‬ويصبح هنا حد العدل بني البشر أن يوصلوا احلق لصاحبه أبقرب‬
‫الطرق‪ :‬وهي معرفة حكم الشريعة‪ ،‬وحتري الفهم‪ ،‬وانعدام اهلوى؛ وكل ما خيرج عن هذا‬
‫هو ظلم‪.32‬‬
‫إن هذه الرؤية على تقصيها معظم مناحي العدل مفاهيميًا‪ ،‬إال أن تركيزها انصب على‬
‫عدل املعامالت أكثر من غريه‪ .‬وهلذا ما يفسره‪ :‬فإن شغل اجملتمع آنذاك كان االستبداد‬
‫فج يف مناحي احلياة املصرية‪ ،‬بل واإلسالمية كافَّةً‪ .‬وقد اختذ‬
‫واالستعمار وعملهما بشكل ٍّ‬
‫كأساس للقول أبن "احلكومة اإلسالمية"‬ ‫ٍ‬ ‫رشيد رضا‪ ،‬ومن قبله حممد عبده‪ ،‬هذه الرؤية‬
‫أصبحت مفقودة‪ ،33‬وابلتايل ميكن إعادة النظر فيما ميكن أن تكون عليه تلك احلكومة‬
‫يف عصرمها‪ ،‬أو الذي يليه‪.‬‬
‫ومن التصور العام هذا ننتقل إىل تصور حركي لدى عبد احلميد بن ابديس (‪1889‬م‪-.‬‬
‫‪1940‬م) وهو من أقطاب علماء اجلزائر‪ ،‬ويرعد رائد النهضة اإلسالمية هبا‪ ،‬وله جهود‬
‫كبرية يف مقاومة االستعمار الفرنسي‪ .34‬ولعل هذه املواجهة املباشرة مع االستعمار اليت‬
‫خلقت حالة "استثنائية" فرضت من خالهلا سيادة فرنسا على بىن االجتماع اجلزائري هي‬
‫طور‬
‫مفهوما عن العدل‪ ،‬وال ّ‬
‫ً‬ ‫مفتاح قراءة نصوص ابن ابديس‪ .‬إن ابن ابديس مل يق ّدم‬
‫كمسلَّمة ميكن‬
‫خاص عن العدل‪ ،‬وإمنا جاء العدل ر‬ ‫ٍّ‬ ‫شبكة مفاهيمية تفضي لتصور‬

‫‪ 30‬املرجع السابق‪ ،‬اجلزء التاسع‪ ،‬ص ‪.580-573‬‬


‫‪ 31‬املرجع السابق‪ ،‬اجلزء الثامن‪ ،‬ص ‪.64-60‬‬
‫‪ 32‬املرجع السابق‪ ،‬اجلزء اخلامس‪ ،‬ص ‪ 175-172‬واجلزء السادس‪ ،‬ص ‪.273‬‬
‫‪ 33‬املرجع السابق‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬ص ‪.340‬‬
‫‪ 34‬مالك بن نيب‪ ،‬مقدمة لكتاب آاثر ابن ابديس‪ ،‬يف‪ :‬آاثر ابن ابديس‪ ،‬إعداد‪ :‬د‪ .‬عمار الطاليب‪( ،‬اجلزائر‪:‬‬
‫الشركة اجلزائرية‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،)1997 ،‬ص ‪.14-9‬‬

‫‪124‬‬
‫الكشف عن معناها ابلنظر يف عدة مقاالت له رمجعت يف كتاب "آاثر ابن ابديس"‪ ،‬ويف‬
‫تفسريه لبعض اآلايت كما جاء يف كتابه "يف جمالس التذكري من كالم احلكيم اخلبري"‪.‬‬
‫بدايةً‪ ،‬يروي ابن ابديس قصةً عن حاكم قتله رعيته ألنه "ظامل"‪ ،‬وقد َّ‬
‫حد الظلم يف تلك‬
‫القصة القصرية أبنه اخلروج عن أحكام اإلسالم‪ .35‬ميكن استنباط عدة أشياء هنا حول‬
‫تصوره عن العدل‪ ،‬لكن لندع االستنباط املتسرع جانبًا ولنأخذ مبا قدمه هو يف تفسريه‪.‬‬
‫يرى ابن ابديس يف تفسريه أن احلكم‪ ،‬أو "امللك" وف ًقا لتعبريه‪ ،‬واليةٌ على اجملتمع تقتضي‬
‫العدل مناط امللك‬
‫عموم النظر ومشول التصرف لتسيري اجملتمع حنو غاية السعادة‪ .‬مث جيعل َ‬
‫القومي‪ ،‬ويضع له عدة شروط على رأسها‪ :‬العلم‪ ،‬واملساواة‪ .‬فيجب على احلاكم أن يكون‬
‫عليما مبوضوع حكمه‪ ،‬مث عليه أن يتحرى املساواة بني الكل بال تفرقة على أساس دين‪،‬‬ ‫ً‬
‫جنس‪ ،‬لغة‪...‬إخل‪ .‬فالعدل‪ ،‬وف ًقا له‪ ،‬هو وسط بال ميل‪ .36‬ويرذكران هذا بتصور عدل‬
‫نظرا ألن ابن ابديس كان من أشد‬ ‫عجب من ذلك؛ ً‬ ‫املعامالت عند رشيد رضا‪ ،‬وال‬
‫‪37‬‬
‫املتأثرين مبحمد عبده ورشيد رضا ‪.‬‬
‫نظرا ملعاانة اجلزائر وقتها من‬
‫حتديدا وعدم امليل أييت ً‬
‫وتشديد ابن ابديس على املساواة ً‬
‫سياسات فرنسا االستعمارية اليت رسخت لعدم املساواة بني الفرنسي واجلزائري‪ ،‬وف ًقا البن‬
‫ابديس نفسه‪ .38‬ولعل تصوره عن العدل النابع من جتربته مع االستعمار هو ما أفضى به‬
‫حق‬
‫للحديث عن شروط الوالية الصحيحة اليت تدور كلها حول‪ :‬وجوب أن يكون لألمة ُّ‬

‫‪ 35‬ابن ابديس‪" ،‬مصرع ظامل"‪ ،‬قصة قصرية بتاريخ ‪1939‬م‪ ،‬يف‪ :‬آاثر ابن ابديس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬اجمللد الرابع‪،‬‬
‫ص ‪.291-290‬‬
‫‪ 36‬عبد احلميد بن ابديس‪ ،‬يف جمالس التذكري من كالم احلكيم اخلبري‪ ،‬مجع وترتيب‪ :‬حممد شاهني وحممد‬
‫رمضان‪( ،‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،)2003 ،‬ص ‪.250 -249‬‬
‫‪ 37‬عمار الطاليب‪ ،‬مدخل إىل احلياة العقلية والنهضة الفكرية ابجلزائر‪ ،‬يف‪ :‬آاثر ابن ابديس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‬
‫‪.45-44‬‬
‫مثال‪ :‬ابن ابديس‪ ،‬حقوق اليأس بعد الرجاء‪ ،‬مقال يف‪ :‬آاثر ابن ابديس‪ ،‬اجمللد الرابع‪ ،‬ص ‪.369‬‬
‫‪ 38‬انظر ً‬

‫‪125‬‬
‫اختيار أكفأ أبنائها للوالية‪ ،‬مث تقوم األمة مبراقبته وتقوميه‪ ،‬ويقوم هو حبفظ احلقوق وإقامة‬
‫شرعها حىت حتقق األمة سعادهتا‪.39‬‬
‫وابالنتقال من ابن ابديس إىل رفيقه حممد البشري اإلبراهيمي (‪1889‬م‪1965-‬م)‪ ،‬جند‬
‫أن العدل املقصود هو ابلفعل "عدل املعامالت"‪ ،‬وأن ابعثه وهدفه مقاومة االستعمار‪.‬‬
‫ففي عدة مقاالت لإلبراهيمي حتت عنوان "حدثوان عن العدل فإننا نسيناه" نرشرت يف‬
‫أيضا تكشف عن تصور ابن ابديس عن‬ ‫عام ‪1950‬م‪ ،‬جنده يوضح عدة أمور‪ ،‬لعلها ً‬
‫العدل‪ ،‬ومنها أنه ال قوام للعدل إال أبسس اجتماعية‪ ،‬ويف مقدمتها‪ :‬وجود عالقة حب‬
‫ومصلحة مشرتكة بني احلاكم واحملكوم‪ ،‬مث تلك العالقة ستدفع ابحلاكم يف آخر املطاف‬
‫مساواي له‪ ،‬وسريى احملكوم نفسه أنه من أتى ابحلاكم؛ فالعدل يبدأ‬
‫ً‬ ‫كي يرى احملكوم‬
‫‪40‬‬
‫بشعور مودة ينتهي إىل إقرار ابملساواة ‪ .‬ويصل هذا التصور ذروته مىت رأى اإلبراهيمي‬
‫أن الضامن الوحيد لعدم انفالت احلاكم وظلمه يف عصره مها‪ :‬النيابة‪ ،‬والصحافة‪ .41‬مث‬
‫كال منهما يعمالن يف خدمة االستعمار؛ أي إن أدوات ضبط‬ ‫ذهب ليوضح كيف أن ً‬
‫‪42‬‬
‫العدل مالت إىل جهة دون أخرى ‪.‬‬
‫إن تصور ابن ابديس واإلبراهيمي على ما حيمله من دوافع ملواجهة سيادة االستعمار‪،‬‬
‫أيضا رمسلَّمة أعمق‪ ،‬لعلها موجودة ً‬
‫أيضا يف رؤية رشيد رضا‪ .‬تلك املسلمة‬ ‫إال أنه حيمل ً‬
‫هي أن هناك جهتني للنزاع‪ ،‬بل وللحوار‪ ،‬يف عصرهم‪ :‬االستبداد واالستعمار من جهة‪،‬‬
‫وجراء ظفر اجلهة األوىل مبقومات السلطان‪ ،‬فإن اجلهة‬
‫واألمة اإلسالمية من جهة أخرى‪ّ .‬‬
‫الثانية صارت مغلوبة على أمرها؛ وهذا عني انعدام املساواة‪ .‬لكن يف األخري‪ ،‬ال تزال‬
‫هناك "أمة إسالمية" يف ذلك الوجدان‪ ،‬والسعي هو حنو حماولة إجياد صيغة متكن هذه‬
‫األمة من اسرتداد "حقها" مرة أخرى‪.‬‬

‫‪ 39‬ابن ابديس‪ ،‬شروط الوالية يف اإلسالم‪ ،‬مقال يف‪ :‬آاثر ابن ابديس‪ ،‬اجمللد الرابع‪ ،‬ص‪.405-401‬‬
‫‪ 40‬حممد البشري اإلبراهيمي‪" ،‬حدثوان عن العدل فإننا نسيناه"‪ ،‬يف‪ :‬آاثر اإلمام حممد البشري اإلبراهيمي‪ ،‬مجع‬
‫أمحد اإلبراهيمي‪( ،‬بريوت‪ :‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬الطبعة األوىل‪1997 ،‬م‪ ،‬اجمللد الثالث)‪ ،‬ص ‪.374-362‬‬
‫‪ 41‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.365‬‬
‫‪ 42‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.374-366‬‬
‫‪126‬‬
‫وبني كل من‪ :‬رشيد رضا وابن ابديس ورفيقه اإلبراهيمي‪ ،‬جند املفكر اللبناين شكيب‬
‫أرسالن (‪1869‬م‪1946-‬م) وحماولته استقصاء معامل أتخر املسلمني وتقدم الغرب‪ .‬فهو‬
‫يقدم رؤية ألسباب أتخر املسلمني حتمل كل أركان تصور رضا وابن ابديس واإلبراهيمي‬
‫عن العدل‪ .‬إذ يرى أن التأخر وقع نتيجة لـ‪ :‬أ) علم املسلمني الناقص‪ ،‬ب) فساد اخللق‬
‫بعامة‪ ،‬وفساد احلكام بشكل خاص حىت ظنوا أن األمة ملك هلم‪ ،‬ج) غياب الرقابة على‬
‫احلكام‪ ،‬د) احلرص على الدنيا‪ ،‬هـ) ترك العمل ابلسنن‪ .‬مث يعقب على ذلك أبن متام‬
‫عدل هللا هو جمازاة املسلمني بتأخرهم‪ .43‬فالعدل هنا متاشى مع تصور رشيد رضا عن‬
‫السننية‪ ،‬ومع ضرورة الرقابة كما عند ابن ابديس واإلبراهيمي؛ فإسهام أرسالن مبثابة اجلسر‬
‫الذي ربط تصور ابن ابديس ورفيقه بتصور رشيد رضا‪.‬‬
‫مث ‪-‬ويف مقر اخلالفة العثمانية برتكيا‪ -‬يربز مشروع بديع الزمان سعيد النورسي‬
‫(‪1877‬م‪1960-‬م) وهو الذي وقف بعد هزمية الدولة العثمانية يف احلرب العاملية األوىل‬
‫حيث املسلمني على "اجلهاد"‪ ،‬مث وقف أمام مشروع كمال أاتتورك الساعي حنو إقامة‬
‫‪44‬‬
‫فكرا وحرا ًكا "إصالحيًا"‬
‫قومية تركية و"أتميم اإلسالم" ‪.‬ففي حني شهدت تلك الفرتة ً‬
‫يف املناطق العربية ‪-‬كمصر‪ ،‬والشام‪ ،‬واملغرب العريب‪ -‬متاشى مع خط برز فيه‪ :‬سيد أمحد‬
‫خان (‪1817‬م‪1898-‬م)‪ ،‬وخري الدين التونسي (‪1820‬م‪1890-‬م)‪ ،‬ومجال الدين‬
‫األفغاين (‪1838‬م‪1897-‬م)‪ ،‬وحممد عبده‪ ،‬مث استكمله تالمذهتم‪ ،‬وعلى رأسهم‪ :‬رشيد‬
‫رضا؛ جند أن يف معقل اخلالفة العثمانية خطًا موازًاي لإلصالح أطلقه النورسي‪ ،45‬األمر‬
‫الذي يستدعي إلقاء الضوء عليه‪.‬‬
‫مفهوم يستدعي مباشرًة البنيان املفاهيمي الكامل عنده؛ ولذا‬‫إن تصور النورسي عن أي ٍ‬
‫جاء تصوره عن العدل مرتابطًا‪ .‬فيبدأ أبن هللا هو اخلالق األوحد‪ ،‬وأن قرآنه مفسر للعامل‬

‫‪ 43‬شكيب أرسالن‪ ،‬ملاذا أتخر املسلمون وملاذا تقدم غريهم؟‪( ،‬قطر‪ :‬وزارة الثقافة والفنون والرتاث‪ ،‬سلسلة‬
‫كتاب الدوحة‪ ،‬طبعة ‪ ،)2015‬ص ‪.73-53‬‬
‫‪ 44‬للوقوف على ترمجة بديع الزمان النورسي‪ ،‬راجع‪ :‬شكران واحدة‪ ،‬اإلسالم يف تركيا احلديثة‪ :‬بديع الزمان‬
‫سعيد النورسي‪ ،‬ترمجة‪ :‬حممد فاضل‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار سوزلر للنشر‪.)2007 ،‬‬
‫‪ 45‬إبراهيم حممد أبو ربيع‪" ،‬مقدمة"‪ ،‬يف‪ :‬اإلسالم يف تركيا احلديثة‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.12-7‬‬

‫‪127‬‬
‫يتبق لنا سوى حماولة فك أسرار القرآن‬‫أبسره‪ ،‬ويف قرآنه أكد هللا أنه هو "العدل"؛ فلم َ‬
‫لنقف على جتلي هذا االسم يف كتاب العامل‪ .‬إن العدل ميزان كل شيء‪ ،‬والعدل يف القرآن‬
‫هو جميء كل حرف على موضعه وف ًقا حلاجته وحكمة منزله؛ وابلتايل فالعدل يف العامل‬
‫هو أن كل جزء من أجزائه رخلق لغاية وحكمة وارتبط ابألجزاء األخرى بشكل متوازن‪،‬‬
‫حق حقه وفق استعداده‪.46‬‬ ‫ويتفرع عن هذا ‪ -‬عنده ‪ -‬أن العدل يصبح‪ :‬إعطاء كل ذي ٍّ‬
‫ع فيه‬ ‫ِ‬
‫ويرى النورسي أن اإلنسان وحده هو القادر على اخلروج على دستور العدل مبا أرود َ‬
‫من حرية؛ ولذا ينشأ عن اإلنسان املفاسد اليت هي عني الظلم‪ .47‬ولكن الظلم اإلنساين‬
‫وقت مقدر لتوقفه فال يتمادى ويفسد نظام‬ ‫دوما ما يكون حمكوما هبداية إهلية تتدخل يف ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الكون أبكمله‪ .48‬وقضت حكمة هللا أال يتوقف هذا اجلدل بني إمكانية إفساد اإلنسان‬
‫وبني العناية اإلهلية يف الدنيا؛ فالدنيا قاصرة عن شهود املثال التام للعدل الذي ال يتخلله‬
‫إفساد‪ ،‬مما أوجب احلاجة للدار اآلخرة‪.49‬‬
‫وقد أشار النورسي إىل أن الشريعة اليت اشتمل عليها القرآن ما هي إال مثال العدل‬
‫دوما على عدم امليل إىل اإلفساد؛ فال عدل ممكن يف الدنيا إال‬
‫الدنيوي الذي ‪50‬حيث متبعه ً‬
‫ابتباع الشريعة ‪ .‬وداخل هذه الشريعة نوعان للعدالة‪ :‬عدالة مطلقة‪ ،‬وعدالة إضافية‪.‬‬
‫كل‪ ،‬وأما اإلضافية‪ :‬فتقع مىت‬ ‫جزء لصاحل أي ٍ‬‫فأما املطلقة‪ :‬فعدم جواز التضحية أبي ٍ‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫امتنعت العدالة املطلقة‪ ،‬وتكون بذلك إمكانية التضحية ابجلزء من أجل ِّ‬
‫الكل ممكن ًة‪.51‬‬
‫وعلى هذا التصور العام بىن النورسي نقده "للمدنية الدنيوية" اليت تتبعها أورواب ومن سار‬
‫على أثرها‪ :‬فهي يف نظره مدنية برنيت على أن اإلنسان ما يسعى إال للقوة‪ ،‬وأن النزاع‬

‫بديع الزمان سعيد النورسي‪ ،‬رسائل النور‪ ،‬ترمجة‪ :‬إحسان قاسم الصاحلي‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار سوزلر للنشر‪،‬‬ ‫‪46‬‬

‫الطبعة الثالثة‪ ،)2001 ،‬اجمللد األول‪ ،‬ص ‪.64-63‬‬


‫‪ 47‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.64-62‬‬
‫‪ 48‬املرجع السابق‪.‬‬
‫‪ 49‬املرجع السابق‪.‬‬
‫‪ 50‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.188‬‬
‫‪ 51‬املرجع السابق‪ ،‬اجمللد الثاين‪ ،‬ص ‪.71-67‬‬

‫‪128‬‬
‫والتدافع جمبوالن فيه؛ األمر الذي يعين أنه مىت سنحت فرصة للخروج عن العدل لتحقيق‬
‫املصلحة‪ ،‬فإهنا سترـستَــغل‪.52‬‬
‫تالق كثريًة مع اخلط اإلصالحي لعل أمهها‪ :‬أن العدل شامل‪،‬‬ ‫إن لرؤية النورسي نقا َط ٍ‬
‫وأنه ابلشريعة ويف الشريعة‪ .‬لكن انصب تركيز النورسي بشكل أكرب على إيضاح كيف أن‬
‫العدل ال خيتلف مصداقه ابختالف املوضوع قيد النظر؛ فال خيتلف العدل بني الناس عنه‬
‫بني املخلوقات ككل‪ ،‬عن عدل هللا جتاه البشر مىت التزم اإلنسان ابلشريعة وأقامها‪.‬‬
‫احد تركا مساحة لتخيل نظام حك ٍم مبين على‬ ‫إن هذين اخلطني اجملتمعني يف جذر و ٍ‬
‫الشريعة؛ فبما أن العدل أساس انضباط الوجود البشري‪ ،‬وأنه ال سبيل للعدل إال الشريعة؛‬
‫فيصبح نظام احلكم األمثل ابلشريعة وفيها‪ .‬ولعل هذا رخيترب بشكل واضح يف اجلدل الذي‬
‫أاثره كتاب "اإلسالم وأصول احلكم" لعلي عبد الرازق عام ‪1925‬م‪ .‬إذ تقوم حجته على‬
‫أن الشريعة ال يوجد فيها نظام للحكم‪ ،‬مما يصادم النسق اإلسالمي سابق الذكر‪ .53‬وقد‬
‫رد على الكتاب عدة إسالميني منهم‪ :‬رشيد رضا‪ ،‬وحممد خبيت املطيعي (‪1854‬م‪-‬‬ ‫َّ‬
‫‪1935‬م)‪ ،‬وحممد الطاهر ابن عاشور (‪1879‬م‪ .)1973-‬وسنقف هنا مع رد الطاهر‬
‫أوال‪ :‬متثيله للتصور اإلسالمي املوضح ساب ًقا‪ ،‬واثنيًا‪ :‬كونه‬
‫بن عاشور جلمعه بني أمرين؛ ً‬
‫تنوعا للنص ويثريه‪.‬‬
‫مفكرا تونسيًا يضيف ً‬ ‫ً‬
‫يوضح ابن عاشور أن البشر حمتاجون إىل خطة إلدارة شأهنم؛ فاإلنسان مدين ابلضرورة‪.‬‬
‫دوما كانت قاصرة‬ ‫وقد قامت احلضارات كلها مبحاولة تقدمي رابطة جتمع البشر‪ ،‬لكنها ً‬
‫ومل تكتمل إال ابإلسالم‪ .‬فرابطة اإلسالم تضم كل الروابط السابقة عليها‪ ،‬مث تنظمها وفق‬
‫لرابطة الدين الشاملة؛ مما يعين أهنا مفتوحة للجميع بال متييز‪ .54‬ويف نظره تقوم هذه الرابطة‬
‫بفنـَّْيـن‪ :‬فن القوانني الضابطة للمعامالت‪ ،‬وفن رعاية األمة وردع عدوها؛ ويف كليهما يظهر‬

‫‪ 52‬املرجع السابق‪ ،‬اجمللد السابع‪ ،‬ص ‪.381-376‬‬


‫‪ 53‬عمار علي حسن‪" ،‬تقدمي للكتاب"‪ ،‬يف‪ :‬علي عبد الرازق‪ ،‬اإلسالم وأصول احلكم‪( ،‬اإلسكندرية‪ :‬مكتبة‬
‫اإلسكندرية‪ ،‬طبعة ‪ ،)2011‬ص ‪.26‬‬
‫‪ 54‬حممد الطاهر ابن عاشور‪ ،‬أصول النظام االجتماعي يف اإلسالم‪( ،‬تونس‪ :‬الشركة التونسية ابالشرتاك مع‬
‫املؤسسة الوطنية للكتاب ابجلزائر‪ ،‬الطبعة الثانية‪1985 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.115-104‬‬

‫‪129‬‬
‫العدل على أنه أساس حموري‪ .55‬فالعدل يف الفن األول هو ملكة متنع صاحبها من اقرتاف‬
‫طوعا‪ ،56‬والعدل يف الفن الثاين هو‬
‫حق حقه ً‬‫كبائر ما حرم هللا وتدفعه إلعطاء كل ذي ٍّ‬
‫‪57‬‬
‫أصال إال ابلشريعة‪ .‬وهذه األفكار‬
‫متكني صاحب احلق حبقه ‪ .‬فال سبيل لتحقيق العدل ً‬
‫تتجلى حني يرد ابن عاشور على علي عبد الرازق مبا يفيد أن الدين يسعى إلصالح‬
‫العاجل واآلجل‪ ،‬وأن اخلالفة خطة مقصدها تدبري العاجل واآلجل حبكم الشرع حىت‬
‫تصل األمة إىل سعادهتا‪.58‬‬
‫ويظهر من تصور ابن عاشور‪ ،‬الذي هو يف حقيقته امتداد خلط اإلسالميني يف ذلك‬
‫ضمين لنسق الفكر اإلسالمي على امتداده‪ .‬فكتاابت عاشور‪ ،‬ومعها‬ ‫الوقت‪ ،‬استدعاءٌ ٌ‬
‫اخلط اإلسالمي يف ذلك الوقت‪ ،‬ترى نفسها يف مرآة نص‪-‬ما ورائي ‪Meta-text‬؛‬
‫دوما حول العدل‪ ،‬ويف‬ ‫يرظهر نفسه يف التأكيد على الثوابت اإلسالمية اجملمع عليها ً‬
‫فمثال‪ ،‬ابلرغم‬
‫التعليق الضمين أو املعلن على نصوص علماء اإلسالم على امتداد اترخيه‪ً .‬‬
‫من مالحظة عدد من الناقدين أن مفهوم العدل يف النظرية السياسية احلديثة اقرتن بتصور‬
‫ميتافيزيقي معني عن احلرية‪ ،‬وأن اقرتان العدل ابحلرية هو اقرتان حديث‪/‬معاصر خال منه‬
‫التصور اإلسالمي "التقليدي"‪59‬؛ فإن العدل قد ارتبط منذ تشكله مفاهيميًا يف التاريخ‬
‫اإلسالمي إبشكالييت القضاء والقدر واحلرية؛ اليت تدخل يف التصور اإلسالمي عن العدل‬

‫‪ 55‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.122‬‬


‫‪ 56‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.132‬‬
‫‪ 57‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.190-185‬‬
‫‪ 58‬حممد الطاهر ابن عاشور‪ ،‬نقد علمي لكتاب اإلسالم وأصول احلكم‪( ،‬القاهرة‪ :‬املطبعة السلفية‪1344 ،‬‬
‫هـ)‪ ،‬ص‪.12-11‬‬
‫مثال‪ :‬فهمي جدعان‪" ،‬العدالة يف حدود ديونطولوجيا عربية"‪ ،‬يف‪ :‬جمموعة مؤلفني‪ ،‬ما العدالة؟‬
‫انظر ً‬ ‫‪59‬‬

‫معاجلات يف السياق العريب‪( ،‬بريوت‪ :‬املركز العريب لألحباث ودراسة السياسات‪ ،)2014 ،‬ص ‪.59‬‬

‫‪130‬‬
‫على مدار اترخيه‪ ،‬لكن بصورة مغايرة للتصور احلديث‪ .60‬وهذا االقرتان بني العدل‬
‫والقضاء والقدر وجد طريقه يف كتاابت اإلسالميني يف تلك الفرتة كما بيَّنا سل ًفا‪.‬‬
‫لكن على جهة أخرى‪ ،‬هناك نقطة توتر يف العالقة بني نصوص إسالميي تلك املرحلة‬
‫عن العدل وبني النص اإلسالمي التقليدي احلاكم‪ ،61‬كالتايل‪ :‬إن النص اإلسالمي‬
‫"التقليدي" كان ابن بيئته؛ فهو يتحدث عن خالفة ونظام اجتماعي قائمني ابلفعل‪،‬‬
‫وحىت التهديدات اليت يتعرض هلا مل تكن هتديدات مشولية تسعى القتالع كل أثر يرشم‬
‫منه رائحة اإلسالم‪ .‬أما احلالة مع االستبداد واالستعمار‪ ،‬ابإلضافة إىل املمارسات‬
‫االجتماعية احلديثة املختلفة‪ ،‬فقد وصلت ابخلالفة وبكثري من املمارسات االجتماعية‬
‫اإلسالمية إىل األفول‪ .62‬وهنا يظهر اخلط اإلسالمي لتلك الفرتة ً‬
‫حماوال أتكيد والئه لنسقه‬
‫حماوال إجياد قدم يف هذا الواقع املضطرب‪ .‬وجند أن‬
‫املاورائي التقليدي‪ ،‬ويف الوقت نفسه ً‬
‫احلديث عن احلكومة اإلسالمية يغدو حديثًا عما ينبغي له أن يكون ابستمرار مع عدم‬
‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫إمكانية تقدمي حلول عملية من شأهنا التغلب على وطأته‪ .‬وقد يتطور اخلطاب‬
‫‪-‬كما حدث بعد ذلك يف ستينيات القرن املاضي‪ -‬يف تلك احلالة من الوقوع يف التسييس‬
‫التام‪ ،‬أو إىل االلتجاء إىل خطاب الدعوة املهزومة كما يف حالة رفاعي سرور‪.63‬‬

‫انظر‪ :‬د‪ .‬جميد خدوري‪ ،‬مفهوم العدل يف اإلسالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ .45-40‬وكان حلامد ربيع ٌ‬
‫تصور‬ ‫‪60‬‬

‫عن قيميت العدالة واحلرية‪ ،‬ابعتبار األوىل قيمة اتبعة عن احلررية‪ ،‬سيتم احلديث عنه يف اخلامتة‪.‬‬
‫‪ 61‬يرقصد ابلـ"نص اإلسالمي التقليدي احلاكم"‪ :‬جمموع نصوص علماء اإلسالم على مداره بدايةً من اجلداالت‬
‫بني السنة والشيعة عقب وفاة رسول اإلسالم‪ ،‬وحىت القرن اخلامس عشر اهلجري‪ .‬انظر يف ذلك‪ :‬د‪ .‬جميد‬
‫خدوري‪ ،‬مفهوم العدل يف اإلسالم‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬
‫‪See: Iza Hussein, The Politics of Islamic Law: Local Elites, 62‬‬
‫‪Colonial Authority, and The Making of the Muslim State,‬‬
‫‪Chicago: Chicago University Press, 2916; Brinkley Messick, The‬‬
‫‪Calligraphic state: textual domination and history in a Muslim‬‬
‫‪society, Berkeley: University of California Press, 1992.‬‬
‫‪ 63‬راجع كتاب أصحاب األخدود للشيخ رفاعي سرور‪ ،‬دون دار نشر ودون اتريخ‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫ويظهر هذا أشد ما يظهر يف التعامل مع مطالب الشريعة‪ ،‬فبالرغم من التأكيد على أن‬
‫العدل ال قوام له إال ابلشريعة‪ ،‬جند أن مقاربة هذا النسق للشريعة مقاربةٌ متوترة؛ فهو‬
‫ط واضح املعىن ويكتفي ابإلشارة إىل وجوب "العودة" إليها‪ .‬هذه‬ ‫يرعاملها كأهنا كلٌّ مرتاب ٌ‬
‫الرؤية املتوترة حول ماهية الشريعة جعلت من كثري من مفكري هذه املرحلة‪ ،‬ومن قبلهم‬
‫حتديدا‪ ،‬يقبلون بتقنني الشريعة ويسعون حملاولة "إصالحها" متاشيًا مع‬‫ً‬ ‫حممد عبده‬
‫‪64‬‬
‫املمارسات احلديثة الواردة على اجملتمع ‪ ،‬وهو األمر الذي أدى يف األخري إىل اإلخالل‬
‫مبنطق الشريعة نفسها‪.65‬‬
‫من "العدل" إىل "العدالة االجتماعية"‪:‬‬
‫خالل الفرتة من أربعينيات إىل ستينيات القرن العشرين ظهر جبوار اخلطاب حول العدل‬
‫ونظرا الرتباط هذا املفهوم بواقعه‪ ،‬وبنصوص سبقته؛ حناول‬
‫مفهوم‪ :‬العدالة االجتماعية‪ً .‬‬
‫استكشاف معامل هذه االرتباطات ابلرتكيز على مفهومني اثنويني ملفهوم العدالة‬
‫االجتماعية ظهرا منذ بداايت "اإلصالح اإلسالمي"‪ ،‬وبلغا ذروتيهما يف اخلمسينيات‬
‫والستينيات ممهدين املساحة لظهور مفهوم "العدالة االجتماعية"؛ ومها مفهوما‪ :‬املصلحة‪،‬‬
‫والتعاون‪.‬‬

‫مثال‪ :‬حممد عبده‪" ،‬تقرير إصالح احملاكم الشرعية"‪ ،‬يف‪ :‬األعمال الكاملة لإلمام حممد عبده‪ ،‬حتقيق‪:‬‬
‫‪ 64‬انظر ً‬
‫حممد عمارة‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،)1993 ،‬اجمللد الثاين‪ ،‬ص ‪ .283 :97‬وانظر تعليق‬
‫طالل أسد يف‪ :‬تشكالت العلمانية يف املسيحية واإلسالم واحلداثة‪ ،‬ترمجة‪ :‬دينا فرختو‪( ،‬بريوت‪ :‬جسور‬
‫للرتمجة والنشر‪ ،)2016 ،‬ص ‪ ،312-310‬وص‪.338-334‬‬
‫‪ 65‬انظر يف ذلك‪ :‬نوح فيلدمان‪ ،‬سقوط الدولة اإلسالمية وهنوضها‪ ،‬ترمجة‪ :‬الطاهر بوساحية‪( ،‬بريوت‪ :‬الشبكة‬
‫العربية لألحباث والنشر‪ ،)2014 ،‬ص‪ . 121-93‬ففي ذلك اجلزء يوضح فيلدمان كيف أثر تقنني الشريعة‬
‫قياسا‪.‬‬
‫جر حتليله على الفرتة حمل البحث يف هذا املبحث ً‬
‫يف عالقات القوة يف اجملتمع اإلسالمي‪ ،‬وميكن ُّ‬

‫‪132‬‬
‫حامال نزعة رأمسالية صناعية‪ ،66‬وق ّدم نفسه من خالل‬‫أتى االستعمار للعامل اإلسالمي ً‬
‫‪67‬‬
‫خمرتعاته اليت سلبت ألباب الكثريين حىت وصفها اجلربيت ابلــ"عجائب" من جهة ‪ ،‬ومن‬
‫جهة أخرى فقد قدم االستعمار إىل العامل اإلسالمي ثلة من األفكار واملمارسات‬
‫االجتماعية هددت الروابط االجتماعية التقليدية‪ .68‬وفرضت هذه األوضاع على‬
‫اإلسالميني أن حياولوا الوصول إىل مقارابت تساعدهم على التفرقة بني‪ :‬النتائج "املبهرة"‬
‫هلذه االخرتاعات وبعض من األفكار واملمارسات من جهة‪ ،‬واألسس الفلسفية واألخالقية‬
‫مفهومي‪:‬‬
‫َ‬ ‫هلا من جهة أخرى‪ .‬وعن هذه النقطة صدر عدد من املفكرين مستخدمني‬
‫"املصلحة" حملاولة االستفادة من مثار املخرتعات‪ ،‬و"التعاون" لدفع األسس الفلسفية‬
‫واألخالقية اليت رأوها رمهلكة يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫فأما "املصلحة"‪ ،‬فيمكن الكشف عنها ابلنظر يف كتاب شكيب أرسالن "ملاذا أتخر‬
‫املسلمون؟"‪ ،‬إذ يستهل أرسالن تقدميه ملفهوم املصلحة بقوله‪" :‬وال أظن شيئًا يفيد اجملتمع‬
‫اإلسالمي يكون خمال ًفا للدين املبين على إسعاد العباد"‪ ،‬واختذ أرسالن هذا املبدأ ليربر أن‬
‫املخرتعات احلديثة مبا أهنا ذات نف ٍع‪ ،‬فهي مقبولة إسالميًا‪ ،‬بل هي واجبة‪ .69‬ليس أرسالن‬

‫‪Charles Tripp, Islam and Moral Economy: The Challenge of 66‬‬


‫‪Capitalism, New York: Cambridge University Press, 2006, pp. 21-‬‬
‫‪22.‬‬
‫‪ 67‬عبد الرمحن اجلربيت‪ ،‬عجائب اآلاثر يف الرتاجم واألخبار‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد العزيز مجال الدين‪( :‬مكتبة مدبويل‪،‬‬
‫‪.)1997‬‬
‫‪ 68‬حول هت ديد األسس الرأمسالية الصناعية للروابط االجتماعية‪ ،‬انظر‪On Barak, On Time: :‬‬
‫‪Technology and Temporality in Modern Egypt, Los Angeles:‬‬
‫‪University of California Press, 2013; Also see: Auguste Comte, The‬‬
‫‪Crisis of Industrial Civilization, ed. Ronald Fletcher ,London:‬‬
‫‪Heinemann Educational,1974.‬‬
‫‪ 69‬شكيب أرسالن‪ ،‬ملاذا أتخر املسلمون وملاذا تقدم غريهم؟‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.93-92‬‬

‫‪133‬‬
‫بِ ً‬
‫دعا يف استخدام مفهوم "املصلحة" هبذا املعىن‪ ،‬وإمنا هو مذكور يف كتاابت‪ :‬سيد أمحد‬
‫‪73‬‬ ‫‪72‬‬ ‫‪71‬‬ ‫‪70‬‬
‫خان ‪ ،‬وخري الدين التونسي ‪ ،‬ومجال الدين األفغاين ‪ ،‬وحممد عبده ‪.‬‬
‫وأما "التعاون"‪ ،‬فيمكن الكشف عنه من خالل كتاب رشيد رضا "اخلالفة"‪ ،‬ففي هذا‬
‫أصل واحد‪ :‬تدمري‬‫كال من االشرتاكية والرأمسالية جيتمعان على ٍ‬ ‫الكتاب يوضح رضا أن ً‬
‫‪74‬‬
‫األسس األخالقية الالزمة للفرد واجلماعة ‪ .‬وبني هذين النظامني‪ ،‬تظهر احلاجة إىل إجياد‬
‫صيغة أخالقية لالقتصاد متتثل لألسس اإلسالمية‪ ،‬وهي صيغة رآها رضا يف الشريعة‪ .‬هذه‬
‫الصيغة هي‪ :‬التعاون واألخوة فيما أمساه ابلـ "اشرتاكية املعتدلة"‪ ،75‬وهي مبنية على التكافل‬
‫وم ْن سايره مفهوم "املصلحة"‬ ‫ضم رضا َ‬‫بال إفراط وال تفريط‪ .‬وإىل جانب هذه النقطة‪َّ ،‬‬
‫مرة أخرى للحكم على املمارسات االجتماعية واملؤسسات؛ فصار املعيار هو مدى خدمة‬
‫املؤسسة أو املمارسة للصاحل العام للمجتمع‪ ،‬أخ ًذا يف االعتبار أن هذا الصاحل العام لن‬
‫يتحقق إال ابلتعاون‪.76‬‬
‫ومع بداايت احنسار املد االستعماري يف البلدان اإلسالمية‪ ،‬إضافةً إىل ظهور ٍ‬
‫حتد‬
‫للمعسكر الرأمسايل من املعسكر السوفييت‪ ،‬وصعود فكرة "دولة الرفاهة" يف ساحة الرأمسالية‬
‫ذاهتا عرب إسهامات جون كينز وتالمذته‪ ،‬سنحت فرصة لإلسالميني أن يبدأوا يف ختيل‬

‫‪J. M. Balijon, The Reforms and Religious Ideas of Sir Sayyid 70‬‬
‫‪Ahmad Khan, Indiana: Indiana University Press, 1949.‬‬
‫‪ 71‬انظر‪ :‬خري الدين التونسي‪ ،‬أقوم املسالك يف معرفة أحوال املمالك‪ ،‬تقدمي‪ :‬حممد احلداد‪( ،‬اإلسكندرية‪،‬‬
‫مكتبة اإلسكندرية‪ ،‬طبعة ‪ ،)2011‬اجمللد األول‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪Nikkie Kiddie, An Islamic Response to Imperialism: Political 72‬‬
‫‪And Religious Writing Of Sayyid Jamal Ad-Din Al-Afghani,‬‬
‫‪CA: University of California Press, 1983.‬‬
‫مثال‪ :‬حممد رشيد رضا‪ ،‬تفسري القرآن احلكيم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬اجلزء اخلامس‪ ،‬ص ‪.226 ،212 ،9‬‬
‫‪ 73‬انظر ً‬
‫‪ 74‬حممد رشيد رضا‪ ،‬اخلالفة‪ ،‬مصر‪ ،‬مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة‪ ،‬طبعة ‪2015‬م‪ ،‬ص ‪.95‬‬
‫‪ 75‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.75‬‬
‫‪ 76‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.72 ،66‬‬

‫‪134‬‬
‫نظام حكم من شأنه استبدال االستعمار‪ .77‬وابلطبع‪ ،‬محلت مالمح هذا النظام التصورات‬
‫سك مفاهيم جديدة مثل‬‫سابقة الذكر عن املصلحة والتعاون األخالقي والعدل‪ .‬بل وبدأ ُّ‬
‫"اشرتاكية اإلسالم"‪ ،78‬و"األخوة" وعليها برنيت أفكار مجاعة "اإلخوان املسلمني" يف‬
‫تلك العقود‪ .79‬كما ظهرت الدولة يف هذا اإلطار على أهنا حتمل إمكانية تطبيق تلك‬
‫املبادئ اإلسالمية‪ . 80‬هذه اخللفية مهدت لظهور مفهوم "العدالة االجتماعية" وكل ما‬
‫يدور يف فلكه من قضااي‪ .‬وللوقوف على النسق الفكري إلسالميي تلك املرحلة‪ ،‬نعرض‬
‫فيما يلي لبعض كتاابت‪ :‬أبو األعلى املودودي‪ ،‬سيد قطب‪ ،‬عبد القادر عودة‪ ،‬وحممد‬
‫ابقر الصدر‪.‬‬
‫يبدأ أبو األعلى املودودي (‪1903‬م‪1979-‬م) يف حماولة لتأسيس النظام االجتماعي‬
‫على أسس أخالقية تتجاوز حمض األساس االقتصادي‪ .81‬فهو يؤكد أن "العدل" كقيمة‬
‫عليا ال يعين ابلضرورة املساواة؛ فالبشر بفطرهتم متفاوتون‪ ،‬ولكنه يعين إقامة اإلسالم‬
‫بكليته‪ .82‬وإذا ما التفت إىل اجلانب االجتماعي للعدل‪/‬اإلسالم‪ ،‬أصبحت املفردة‬
‫أمة قدر ٍ‬
‫كاف من‬ ‫املستخدمة هي "العدالة"‪ :‬وهنا العدالة تعين أن يكون لكل ٍ‬
‫فرد وكل ٍ‬
‫ٌ‬
‫احلرية والسيادة الذاتية حىت ال يطغى أحد على أحد‪ ،‬واإلسالم يضمن هذه اخلطة‬
‫صوب حتجيم‬
‫َ‬ ‫اجتماعيًا بتوكيده على التعاون والتكافل بني البشر انطالقًا من حريتهم‬

‫‪Tripp, op.cit., p. 4677‬‬


‫‪ 78‬مصطفى السباعي‪ ،‬اشرتاكية اإلسالم‪( ،‬مصر‪ :‬الدار القومية للطباعة‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1960‬م)‪.‬‬
‫‪ 79‬انظر‪ :‬يوسف القرضاوي‪ ،‬الرتبية السياسية عند اإلمام حسن البنا‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة وهبة‪2007 ،‬م)‪ ،‬ص‬
‫‪.52-51‬‬
‫‪ 80‬لتحليل دقيق للعالقة بني تلك املفاهيم ودور الدولة‪ ،‬انظر‪Tripp, op.cit. ,pp: 80-92. :‬‬
‫‪ 81‬أبو األعلى املودودي‪ ،‬مسألة ملكية األرض يف اإلسالم‪ ،‬ترمجة‪ :‬حممد احلداد‪( ،‬الهور‪ ،‬دار العروبة للوحدة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬طبعة ‪1969‬م)‪ ،‬ص ‪.93-92‬‬
‫‪Sayyid Abul A’la al-Maududi, The Islamic Way of Life, Riyadh: 82‬‬
‫‪I.I.P.H, edition 1997, pp. 62-64‬‬

‫‪135‬‬
‫الطغيان‪ .83‬ويف نظره‪ ،‬إذا أرخذ اإلسالم بكليته‪ً ،‬‬
‫عدال وعدالةً؛ فإن امليزان املفقود سيرعثر‬
‫أخريا؛ فال الفرد يطغى على مصاحل اجملتمع‪ ،‬وال اجملتمع يسلب حرية الفرد‪.84‬‬
‫عليه ً‬
‫أما سيد قطب (‪1906‬م‪1966-‬م) جنده يرقدم أكثر األطروحات متاس ًكا حول‬
‫كتاب له ابالسم نفسه‪ .‬يبدأ قطب من أن اإلسالم‬ ‫"العدالة االجتماعية يف اإلسالم" يف ٍ‬
‫إمنا هو وحدة كلية؛ فإذا أراد أحدهم معرفة جزء منه‪ ،‬فعليه العودة لتلك الوحدة‪ ،‬ويسري‬
‫هذا على العدل‪/‬العدالة‪ .85‬فاإلسالم كوحدة معناه أن‪ :‬الكون صادر عن إرادة مطلقة‬
‫وحكيمة‪ ،‬هذه اإلرادة نظمت كل جزء من الكون بطريقة متوازنة حتفظ عليه وجوده‪،‬‬
‫جماال للصراع‪.‬‬
‫كذلك فالطبيعة اليت هي مهد احلياة محلت يف طياهتا االنتظام؛ فهي ليست ً‬
‫حر من أجزاء هذا الكون‪ ،‬فقد خصه هللا هبداية مستقلة جتعله يف‬ ‫ومبا أن اإلنسان جزءٌ ٌّ‬
‫توازن مع‪ :‬نفسه‪ ،‬الطبيعة‪ ،‬الكون أبكمله‪ .‬هذه اهلداية اخلاصة هي‪ :‬شريعة اإلسالم‪،‬‬
‫وفق حدود املنهج اإلهلي‪.86‬‬
‫وحدُّها "التعاون" َ‬
‫وعلى هذا‪ ،‬فالعدالة االجتماعية ليست فقط عدالة االقتصاد‪ ،‬وإمنا هي عدالة شاملة‬
‫لكل مناحي احلياة متجهة حنو صالح حال اإلنسانية كلها ومآهلا‪ .87‬وتقوم هذه العدالة‬
‫على أسس ثالثة؛ فأما األول فالتحرر الوجداين املطلق‪ :‬وهو حترر النفس من شهواهتا‬
‫وحرصها على احلياة والرزق واملكانة‪ ،88‬وأما الثاين فاملساواة اإلنسانية‪ :‬فاجلنس البشري‬
‫كله متسا ٍو أمام هللا وشريعته بال فضل ألحد على آخر‪ ،89‬وأما األخري فالتكافل‬

‫‪ 83‬أبو األعلى املودودي‪ ،‬مفاهيم أساسية حول الدين والدولة‪ ،‬ترمجة أمحد محدي‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار القلم‪ ،‬طبعة‬
‫إلكرتونية)‪ ،‬ص ‪.131-130‬‬
‫‪ 84‬أبو األعلى املودودي‪ ،‬احلكومة اإلسالمية‪ ،‬ترمجة‪ :‬أمحد إدريس‪( ،‬القاهرة‪ :‬املختار اإلسالمي للطباعة والنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬الطبعة الثانية‪1980 ،‬م)‪ ،‬ص ‪ ،133‬أنظر أيضا‪ :‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.137‬‬
‫‪ 85‬سيد قطب‪ ،‬العدالة االجتماعية يف اإلسالم‪( ،‬مصر‪ :‬دار الشروق‪ ،‬طبعة ‪1995‬م)‪ ،‬ص ‪.20‬‬
‫‪ 86‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.27-21‬‬
‫‪ 87‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.26‬‬
‫‪ 88‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.44-32‬‬
‫‪ 89‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.52-44‬‬

‫‪136‬‬
‫االجتماعي‪ :‬وهو وجود مصلحة عليا للمجتمع واإلنسانية والدين تنتهي عندها حرية‬
‫ضماان‬
‫ً‬ ‫األفراد؛ وللتوفيق بني احلرية واجملتمع هناك مبدأ التكافل بني األفراد واجلماعات‬
‫هلذا امليزان بني الفرد واجملتمع‪.90‬‬
‫لعل ما يقابل مشروع قطب يف كليته هو مشروع آخر قدمه املفكر حممد ابقر الصدر‬
‫(‪1935‬م‪1980-‬م)‪ ،‬وهو من أبرز مفكري شيعة العراق الذين امتد أتثريهم للمجال‬
‫الفكري السين‪ .‬فقد سعى ابقر الصدر يف كتابه "اقتصادان" إىل استجالء معامل ما ميكن‬
‫أن يرصطلح عليه ابلــ"نظرية االقتصادية اإلسالمية"؛ وهي نظرية هلا أركان ثالثة‪ :‬امللكية‬
‫املزدوجة‪ ،‬واحلرية االقتصادية يف نطاق حمدود‪ ،‬والعدالة االجتماعية‪ .91‬وقد اعترب قِوام‬
‫العدالة االجتماعية‪ :‬التكافل العام‪ ،‬والتوازن االجتماعي‪ .92‬مث استدرك ابقر الصدر وأكد‬
‫كل؛ فهي جزء من رؤية كلية تنبين على‪ :‬العقيدة‪،‬‬
‫‪93‬‬
‫أن هذه الرؤية االقتصادية جزءٌ من ٍّ‬
‫املفاهيم اليت تنبين على العقيدة‪ ،‬والعواطف اليت تفجرها تلك املفاهيم ‪ ،‬فكتابه "فلسفتنا"‬
‫يكمل رؤيته يف "اقتصادان"‪.‬‬
‫من هذا اخلط الفكري‪ ،‬على اختالفه املرجعي الظاهر بني سنة وشيعة‪ ،‬ننتقل إىل كتاابت‬
‫شتغل ابلقضاء‪.‬‬
‫وم ٌ‬ ‫عبد القادر عودة (‪1906‬م‪1954-‬م)‪ ،‬وهو صاحب فقه قانوينّ ر‬
‫ورأى عودة أن النظام اإلسالمي يقوم على‪ :‬املساواة التامة بني البشر‪ ،‬التقوى كمعيار‬
‫وحيد للتمايز‪ ،‬العدالة املطلقة اليت ال متيل وال حتايب‪ ،‬احلرية يف أوسع صورها‪ ،‬األخوة‬
‫كأساس للمجتمع اإلسالمي‪ ،‬االحتاد كخطوة إضافية لتحقيق كل اإلمكانيات الكامنة‬
‫يف األخوة‪ ،‬التعاون‪ ،‬االستخالف يف ملك هللا فاملال مال هللا وال حق ألحد أن يستأثر‬
‫حرصا على املصلحة العامة‪ ،‬تفتيت الثروات‪:‬‬
‫به؛ وللدولة احلق يف التدخل االقتصادي ً‬

‫‪ 90‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.66-52‬‬


‫‪ 91‬حممد ابقر الصدر‪ ،‬اقتصادًن‪( ،‬بريوت‪ :‬دار التعارف للمطبوعات‪ ،‬طبعة ‪2009‬م)‪ ،‬ص ‪.305‬‬
‫‪ 92‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪ .314‬ومل يرشر إىل تعريف واضح للمقصود بـ"التكافل العام"‪ ،‬وال "التوازن االجتماعي"‪.‬‬
‫‪ 93‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.321-319‬‬

‫‪137‬‬
‫ابملرياث والزكاة واالقتطاع من أموال األغنياء وحترمي االكتناز‪ ،‬واالستمساك ابلشورى‪.94‬‬
‫مستندا لنقد واقعه من كل جوانبه احلقوقية واالجتماعية‬
‫ً‬ ‫وقد اختذ عودة من هذه الرؤية‬
‫‪95‬‬
‫حبماسة صارخة‬
‫حمدودا يف "نظرية اإلسالم يف‬
‫ً‬ ‫ويف كتابه "املال واحلركم يف اإلسالم" يضع عودة مبحثا‬
‫ملكية املال" يرعطي فيه للدولة مساحة واسعة يف السيطرة على األموال لو ارأتت يف ذلك‬
‫منفعة عامة للجماعة لغرض حتقيق العدالة االجتماعية وتوزيع الثروة‪ ،‬حني يقول‪" :‬إن‬
‫للجماعة بواسطة رممثليها من احلركام وأهل الشورى أن ترفع يد مالك املنفعة عن املال إذا‬
‫تعويضا رمناسبًا‪ ."96‬يستهل‬
‫ً‬ ‫اقتضت ذلك مصلحة عامة‪ ،‬بشرط أن تعوضه عن ذلك‬
‫عودة وظيفة الدولة يف توزيع احلقوق يف "مال هللا" جبباية الزكاة‪ ،‬واإلنفاق؛ إنفاق التطوع‬
‫وإنفاق الفريضة‪ .‬أما إنفاق الفريضة فهو ما رميكن أن "أيخذه احلاكم ليصرفه يف مصارفه‪،‬‬
‫رضي عن ذلك املستخلف أم كره‪ ،"97‬أما اإلنفاق على ذوي احلاجة "فللحكومات احلق‬
‫أيضا يف أن أتخذ من أموال األغنياء ما يكفي حاجة الفقراء‪ ،"98‬واحلد العادي يف اإلنفاق‬‫ً‬
‫جيوز أن "أتخذه احلكومة اإلسالمية من فضول أموال األغنياء فرتدها إىل الفقراء ولو مل‬
‫يكونوا حباجة إليها إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة"‪ ،99‬ويوافقه سيد قطب يف ذلك‬
‫عندما يستند يف كتابه "العدالة االجتماعية يف اإلسالم" فتوى للشيخ حممد أيب زهرة على‬
‫أن الزكاة هي احلد األدَّن من املال الذي جيب أخذه من مال َم ْن عليه الزكاة‪ ،‬وأن الدولة‬
‫رميكن أن تستقطع من األموال ما يدفع املضار‪.‬‬

‫‪ 94‬عبد القادر عودة‪ ،‬اإلسالم وأوضاعنا القانونية‪( ،‬عمان‪ :‬دار أروقة للدراسات والنشر‪ ،‬طبعة ‪ ،)2012‬ص‬
‫‪.123-105‬‬
‫‪ 95‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.131-123‬‬
‫‪ 96‬عبد القادر عودة‪ ،‬املال واحلكم يف اإلسالم ‪( ،‬جدة‪ :‬الدار السعودية للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة الثالثة‬
‫‪1969‬م)‪ ،‬ص ‪.47‬‬
‫‪ 97‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪52‬‬
‫‪ 98‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪53‬‬
‫‪ 99‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.62‬‬

‫‪138‬‬
‫يرى سيد قرطب ‪-‬خالفًا لعودة‪ -‬أن "العدالة االجتماعية يف اإلسالم شيء أكرب من‬
‫حق للجماعة ابألصل"‪ 101‬مع "كراهة‬ ‫سياسة املال"‪ ،100‬ولكنه رأى ‪-‬كعودة‪ -‬أن "املال ٌّ‬
‫‪102‬‬
‫اعي يف نسخته‬
‫احنباس الثروة يف أيدي فئة قليلة يف اجلماعة "‪ .‬ولعل قضية اإلقطاع الزر ّ‬
‫املصرية كانت حاضرة يف أذهان قطب وعودة ابلشكل الذي جعلهما يستجيبان لتلك‬
‫القضية هبذا الشكل املتكرر خالل كتاابهتما‪ ،‬حيث إن النصني يتحاوران بشكل ماورائي‬
‫‪ Meta-textuality‬دون أن رحييل أحدمها إىل اآلخر بشكل مباشر‪ ،‬بينما جتمع‬
‫بينهما مرجعية النظرة إىل الواقع االجتماعي وآفاته‪ .‬ومحلت كتاابت قطب وعودة ميزة‬
‫قل أن روجدت يف كتاابت‬‫حماولة السعي يف سبيل تغيري موازين القوة اجملتمعية‪ ،‬وتلك ميزة َّ‬
‫املفكرين اإلسالميني بعد تلك الفرتة‪ .‬لكن اإلشكال احلقيقي يف تلك القضية‪ ،‬هو تعريف‬
‫"املصلحة" و"املصلحة العامة" ومىت يتوجب على احلكومة سياسة املال وأتميمه‪ ،‬خاصة‬
‫يف ظل هيكل دولة حديثة تقتات على آليات الضبط واملراقبة والعقاب‪.‬‬
‫آت على خلفية معقدة‬ ‫يبدو اخلط الفكري لتلك املرحلة شديد الرتكيب والتداخل؛ فهو ٍ‬
‫استشعر فيها اإلسالميون وجود فرصة للظفر يف عامل َعْرقَ َل التشكل الطبيعي للتجربة‬
‫ونظرا هلذا التعقيد والرتكيب‪ ،‬فإن هذا املبحث سينظر يف‬ ‫التارخيية بسبب االحتالل‪ً .‬‬
‫نص ماورائي حاكم‪ .‬وعلى هذا‪ ،‬خنرج‬ ‫"املعمار النصي" الذي يعكسه هذا النسق‪ ،‬ال يف ٍ‬
‫بعدة مالحظات حول هذا املعمار النصي جنملها يف اآليت‪:‬‬

‫أوال‪ :‬قد استبطن هذا النسق الفكري تر ً‬


‫كيزا على "املصلحة" كمعيار للحكم على مدى‬ ‫ً‬
‫حتاكما لنص‬
‫صالحية األمر حمل النظر‪ .‬إن املتعجل قد يظن أن يف قبول هذه الفكرة ً‬
‫ماورائي جيد تعبريه بشكل كامل يف مؤلفات كل من‪ :‬جنم الدين الطويف (ت‪716 :‬هـ)‪،‬‬
‫وتقي الدين أمحد ابن تيمية (ت‪728 :‬هـ)‪ ،‬وإبراهيم بن موسى الشاطيب (ت‪790 :‬هـ)‪.‬‬

‫‪ 100‬سيد قطب‪ ،‬العدالة االجتماعية يف اإلسالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.87‬‬


‫‪ 101‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.90‬‬
‫‪ 102‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.91‬‬

‫‪139‬‬
‫كلي وعام يضفي على سائر املبادئ قيمتها‬
‫فما بدأه هؤالء هو إدراج "املصلحة" كمبدأ ٍّ‬
‫‪103‬‬
‫القانونية من اجلهة الشرعية‪ ،‬ابلرغم من التباينات بينهم ‪.‬‬
‫مهما بني النسق اإلسالمي حمل البحث وبني النصوص اليت أنتجها‬ ‫لكن هناك فارقًا ً‬‫َّ‬
‫هؤالء‪ :‬ففي فقه املقاصد كما بيَّنه الشاطيب وابن تيمية ومن سار على دربيهما‪ ،‬يتطلب‬
‫الوقوف على املصلحة عملية معقدة من التحري الدائم بتوظيف ملكات اجتهادية بعينها‬
‫األصويل‪ .‬أما النسق اإلسالمي املعاصر‬
‫ّ‬ ‫قل أن تتوافر إال يف "العلماء" ابملعىن اإلسالمي‬
‫َّ‬
‫حمل البحث‪ ،‬فإن ما أنتجه االنقطاع عن الرتاث اإلسالمي من عالقة منهجية متوترة بني‬
‫العلوم الشرعية األصولية والعلوم االجتماعية احلديثة قد ترـ َو ِسع دائرة هؤالء العلماء لتشمل‪:‬‬
‫املفكرين وعلماء االجتماع والسياسة والتاريخ واالقتصاد وعلماء الطبيعة واألدابء‬
‫والصحافيني‪104.‬وال ميكن فهم تلك النقطة على وجهها إىل بعد إدراك أمرين‪ :‬تفكك‬
‫دور العلماء التقليدي بعد "اإلصالحات العثمانية"‪ ،‬وأتميم املؤسسة الدينية ابملعىن‬
‫احلديث كتاب ٍع للدولة يف خمتلف البلدان اإلسالمية‪ ،105‬واألمر الثاين‪ :‬حتول يف فهم‬
‫اتبعا هلا؛ مبعىن أن االجتهاد يف‬
‫"املصلحة" نفسها من كوهنا اتبعةً للشرع‪ ،‬لكون الشرع ً‬
‫أوال‪ ،‬بينما يف مرحلة النسق اإلسالمي‬ ‫املرحلة األوىل من التفكري املقاصدي اجته للشرع ً‬
‫‪106‬‬
‫حمال للمصلحة ؛‬ ‫أوال" لكونه ً‬
‫املرصود هنا فإن التوجه أصبح يف الغالب إىل "الواقع ً‬

‫مثال‪ :‬أرماندو سلفاتوري‪ ،‬اجملال العام‪ :‬احلداثة الليربالية والكاثوليكية واإلسالم‪ ،‬ترمجة‪ :‬أمحد زايد‪،‬‬
‫‪ 103‬انظر ً‬
‫أيضا‪Tripp, op.cit, :‬‬ ‫(القاهرة‪ :‬املركز القومي للرتمجة‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،)2012‬ص ‪ .295-270‬و ً‬
‫‪pp: 68-69‬‬
‫‪Ibid., pp:68-69104‬‬
‫‪ 105‬نوح فيلدمان‪ ،‬سقوط الدولة اإلسالمية وهنوضها‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.125-93‬‬
‫ونظرا خلصوصية احلالة املصرية‪ ،‬انظر‪Jakob Skovgaard-Petersen, Defining Islam :‬‬
‫ً‬
‫‪for the Egyptian State: Muftis and Fatwas of the Dâr al-Iftâ,‬‬
‫‪Social, Economic, and Political Studies of the Middle East and Asia‬‬
‫‪.(Leiden: E. J. Brill, 1997). pp. 431, Volume 31 Issue 2‬‬
‫‪ 106‬انظر‪ :‬حممد سعيد البوطي‪ ،‬ضوابط املصلحة يف الشريعة اإلسالمية‪( ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬طبعة ‪.)1973‬‬

‫‪140‬‬
‫وذلك راجع إىل غياب املعرفة األصولية والفقهية لدى دارسي العلوم االجتماعية‪ ،‬وغياب‬
‫التفكري السيسيولوجي عن الفقيه يف غالب األحوال‪ ،‬مما أنتج تشظيًا معرفيًا يف العقل‬
‫اإلسالمي املعاصر‪.‬‬
‫ّ ر‬
‫اثنيًا‪ :‬فتح هذا النسق ً‬
‫جماال لدور "الدولة" يف الشأن االجتماعي؛ وهو دور بلغ ابلكثريين‬
‫‪107‬‬
‫األخالقي ‪.‬فال يرى‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ومنهم عبد القادر عودة ‪ -‬إىل توسيع مهام الدولة يف الضبط‬
‫خلال يف اختصاصات الدولة اإلسالمية كما تصورها تسيطر على شؤون التعليم‬ ‫عودة ً‬
‫والتثقفيف اإلسالمي وترطبق ما أمساه "املبادئ اإلسالمية" يف االجتماع واالقتصاد واآلداب‬
‫‪108‬‬
‫كثريا عما رميكن أن‬
‫واألخالق وشؤون احلكم والسياسية ‪ ،‬وإن هذا التصور ال خيتلف ً‬
‫نفهم عليه الدولة احلديثة آبليات الضبط والعقاب اليت ابتكرهتا‪ ،‬حيث كل شيء رميكن يف‬
‫النهاية تسييسه وإخضاعه ملفهوم الدولة املتوغلة حىت يف العالقات اإلنسانية والرتبوية‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فقد رأى أن السبب يف شيوع املظامل هو االبتعاد عن الشريعة اإلسالمية وأخالقها‪،‬‬
‫وجها من الصحة فإنه يتجاوز احلوار املفاهيمي حول الدولة احلديثة‬‫وإن كان ذلك حيمل ً‬
‫ومناسبتها ألسلمة هياكلها‪ .‬وال ميكن ابلتايل هنا احلديث عن حاكمية نص إسالمي‬ ‫ر‬
‫تقليدي؛ ألن األمر يتعلق ابستبطان تصور عن الدولة يرقارب مفهوم "الدولة احلديثة" يف‬
‫صورته اهلوبزية‪.109‬‬
‫إن هذه التوترات يف النسق اإلسالمي حمل البحث ال ميكن عزوها إىل نص‪/‬نسق واحد‪،‬‬
‫وإمنا إىل شبكة معمارية من النصوص املاورائية متمثلة يف‪ :‬النص اإلسالمي التقليدي‪،‬‬
‫ونصوص ذات نزعة حداثية عن الدولة واجملتمع‪ ،‬نصوص حول دور الدولة االقتصادي‬
‫معا؛ على أن هذه االنتقادات استبطنت‬ ‫مستمدة من‪ :‬نقد أسس الرأمسالية واالشرتاكية ً‬
‫مفاهيما مستنبطة من التجربة احلداثية‪ .‬هذه الشبكة املعمارية ال ميكن هلا أن تنتج‬
‫ً‬ ‫أيضا‬
‫ً‬
‫اضحا تصل فيه مساحات الضبابية املفاهيمية إىل أدَّن صورها كما يرنتَظر‪.‬‬
‫ً‬ ‫و‬ ‫متكامال‬
‫ً‬ ‫ا‬ ‫ق‬
‫نس ً‬

‫‪ 107‬عبد القادر عودة‪ ،‬املال واحلكم يف اإلسالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.130-99‬‬
‫‪ 108‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.71‬‬
‫‪ 109‬حول استبطان النسق اإلسالمي ملفهوم الدولة مبعناه احلديث‪ ،‬انظر‪ :‬هبة رءوف عزت‪ ،‬اخليال السياسي‬
‫لإلسالميني ما قبل الدولة وما بعدها‪( ،‬بريوت‪ :‬الشبكة العربية لألحباث والنشر‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،)2015 ،‬ص‬
‫‪.91-71‬‬
‫‪141‬‬
‫لكن اتساع املساحة الضبابية ساق تلك املنظومة الفكرية إىل مرحلة قبول "البنوك‬
‫اإلسالمية" والسعي حنو إقامة "اقتصاد إسالمي" يف سبعينيات القرن العشرين‪ ،‬كما سنرى‪.‬‬
‫العدالة االجتماعية مرة أخرى‪:‬‬
‫قد انتهى املبحث السابق إىل أن مفهوم "العدالة االجتماعية"‪ ،‬وما اشتبك معه من سياق‬
‫مكـنت من قبول فكرة "االقتصاد اإلسالمي" و"البنوك‬‫ومفاهيم‪ ،‬أنتج مساحة ضبابية َّ‬
‫اإلسالمية"‪ .‬ميكن الوقوف على سياق سعي اإلسالميني إلقامة نظام اقتصاد إسالمي‬
‫ملعرفة التصور العام عن "العدل‪/‬العدالة" على طول الفرتة من أواخر تسعينيات القرن‬
‫العشرين وحىت الثورات العربية وتَبِعاهتا على عالقات القوة وفرص العدالة‪.‬‬
‫ففي أواخر الستينيات وبداايت السبعينيات بدت الدولة املتضخمة ‪overstated‬‬
‫الشعوب عليها ‪ -‬مبا فيهم‬ ‫‪-‬كما وصفها نزيه أيويب‪ -‬خميبة لآلمال اليت علقتها ر‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫اإلسالميون‪ .‬فقد ارتفعت نسب البطالة‪ ،‬وزادت مظاهر عدم قدرة هذه الدولة على توفري‬
‫حد الكفاف لقاطنيها‪ .110‬ومن جهة أخرى‪ ،‬بدأت الرأمسالية يف طوٍر جديد هلا أتخذ‬
‫معتمدا‬
‫ً‬ ‫شكال أكثر حدة‪111‬؛ األمر الذي جعل إمكانية إجياد بديل عملي عن الرأمسالية‬
‫ً‬
‫أيضا‬
‫أمرا غاية يف الصعوبة‪ .‬ويف الوقت نفسه‪ ،‬مل تعد وعود االشرتاكية قابلة ً‬
‫على الدولة ً‬
‫‪112‬‬
‫للتنفيذ يف ظل السياق العاملي ‪.‬خبالف انعدام وجود "برانمج فعلي إلمكانية تطبيق‬
‫"االشرتاكية اإلسالمية" اليت متاهت سل ًفا مع مفهوم "العدالة االجتماعية" بشكل واضح‪.‬‬

‫‪Tripp, op.cit, p. 103110‬‬


‫‪ 111‬حول قدرة الرأمسالية على التحول ألطوار أكثر حدة‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪Zygmunt Bauman, Capitalism Has Learned to Create Host‬‬
‫‪Organisms,‬‬ ‫‪The‬‬ ‫‪Guardian,‬‬ ‫‪October‬‬ ‫‪18,‬‬ ‫‪2011.‬‬
‫‪https://goo.gl/et1WnA‬‬
‫‪ 112‬حول السياق العاملي لتلك املرحلة والذي حتكمت فيه الرأمسالية‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪Richard Peet, The Unholy Trinity: the IMF, World Bank, and‬‬
‫‪WTO, Second Edition, New York: Zed Books, 2009.‬‬

‫‪142‬‬
‫ظلت الرأمسالية غري مقبولة األسس عند اإلسالميني نظرًاي‪ ،113‬واجتهوا إىل حماولة إجياد‬
‫بعيدا عن الدولة من‬
‫بديل فعلي حيقق "التوازن اإلسالمي" املرجو بني األسس والنتائج ً‬
‫جهة‪ ،‬وبشكل أكثر فعالية من االشرتاكية من جهة أخرى‪.114‬‬
‫نصا ميكن البناء عليه لتشكيل مساحة‬ ‫كان كتاب "اقتصادان" حملمد ابقر الصدر آنذاك ً‬
‫إسالمية تستطيع بناء تصور بديل عن الرأمسالية‪ .‬ففي وجهة نظر ابقر الصدر‪ ،‬ميكن‬
‫ٍ‬
‫كمذهب من املعتقدات‬ ‫التفرقة بني‪ :‬االقتصاد كعل ٍم خيلو من األحكام القيمية‪ ،‬واالقتصاد‬
‫واملفاهيم النابعة من جتربة معينة بقيم معني‪ .115‬وعليه‪ ،‬ميكن إقامة "اقتصاد إسالمي"‬
‫وإزاحة املعتقدات واملفاهيم والقيم الغربية‪ ،‬وإحالل مثيالهتا اإلسالمية‪ .‬وقد القت هذه‬
‫اسعا من عدد من الكتاب واملفكرين اإلسالميني الذين حاولوا أن يرقيموا‬ ‫ترحااب و ً‬
‫التفرقة ً‬
‫‪116‬‬
‫فضال عن مالءمة‬ ‫"علم اقتصاد إسالمي" ميكن أتصيله على خلفية إسالمية حبتة ‪ً ،‬‬
‫الفكرة لشرعية بعض األنظمة اليت رفعت شعارات اإلسالم واليت استثمرت يف صناعة هذه‬
‫األفكار وتبين بعض مناذج تطبيقها‪ ،‬وقد برنيت على هذه املقدمات واحملاوالت فكرة‬
‫"البنوك اإلسالمية" فيما بعد‪ .‬لكن‪ ،‬يف حني بدأت تلك البنوك اإلسالمية كمؤسسات‬
‫ذات طاب ٍع إسالمي خالص ختدم أهدافًا إسالمية بدورها‪ ،‬انتهت يف التسعينيات إىل‬
‫الدخول يف "السوق العاملية" لتصبح جمرد بنوك رأمسالية الطابع‪.117‬‬

‫‪ 113‬سيد قطب له كتاب صغري من املفيد قراءته يف هذا التحليل‪ ،‬بعنوان‪ :‬معركة اإلسالم والرأمسالية‪( ،‬القاهرة‪،‬‬
‫دار الشروق‪.)1993 ،‬‬
‫‪Tripp, op.cit, pp.103-105114‬‬
‫‪ 115‬حممد ابقر الصدر‪ ،‬اقتصادًن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.29-28‬‬
‫منهم‪ :‬حممود حممد نور‪ ،‬االقتصاد السياسي اإلسالمي املقارن‪( ،‬القاهرة‪ ،‬جامعة األزهر‪1978 ،‬م)؛‬ ‫‪116‬‬

‫يوسف كمال‪ ،‬أضواء على الفكر االقتصادي اإلسالمي املعاصر‪( ،‬مصر‪ :‬دار األنصار‪)1980 ،‬؛ حممد‬
‫الفنجري‪ ،‬ذاتية السياسة االقتصادية اإلسالمية وأمهية االقتصاد اإلسالمي‪( ،‬القاهرة‪ :‬اجمللس األعلى للشؤون‬
‫اإلسالمية‪.)1993 ،‬‬
‫‪Tripp, op.cit, p. 149117‬‬

‫‪143‬‬
‫ويف احلقيقة‪ ،‬فإن البنوك ليست أدوات للتنمية وإقامة العدل‪ ،‬ولكن أدوات تعبئة موارد‬
‫مالية واستثمار ابألصل‪ ،118‬وقد كان احلافز من إقامتها هو حماولة بناء تعامالت إسالمية‬
‫فرصا لالستثمار ابستخدام هياكل وقنوات مالية ربوية ابألساس قد تبدو‬
‫غري ربوية حتفظ ً‬
‫حتايال أخالقيًا على مفهوم الراب يف اإلسالم يعفي الذمم من مغبة السؤال‪.‬‬
‫ً‬
‫نظرا لتوقيتها مع‬
‫حتديدا ً‬
‫أمرا هينًا‪ً ،‬‬
‫مل تكن حماولة التجربة البنكية اإلسالمية لتقدمي بديل ً‬
‫بداية القرن احلادي والعشرين‪ .‬إذ بدت قوى السوق العاملية يف مفتتح هذا القرن إىل‬
‫نوعا من االستعمار اجلديد‬
‫جانب سياسات التكيف اهليكلي للمنظمات الدولية رمتثل ً‬
‫للعامل اإلسالمي‪ .119‬كذلك‪ ،‬بدأت فئات وشرائح اجتماعية جديدة تتشكل يف ظل‬
‫العوملة داخل العامل اإلسالمي حاملةً لقيم استهالكية‪ .120‬ابإلضافة إىل خطاب "مكافحة‬
‫برجي التجارة العامليني يف احلادي عشر من سبتمرب ‪2001‬م‬ ‫اإلرهاب" بعد حادث َ‬
‫والتضييقات األمنية على اإلسالميني داخل دوهلم‪ .‬ويف مثل هذا السياق‪ ،‬ميكن فهم كيف‬
‫الحظ‬
‫أعاد إسالميو هذه املرحلة‪ ،‬وحىت الثورات العربية‪ ،‬تصور "العدل‪/‬العدالة"‪ .‬إذ ير َ‬
‫خفوت احلديث عن "العدالة االجتماعية" من جهة‪ ،‬وكذلك يالحظ غياب تقدمي‬
‫تصورات جديدة عن العدل من جهة أخرى‪ .‬ويف هذا املبحث نقف مع عدة مفكرين‬

‫‪Principles of Islamic Banking, Albaraka Islamic Bank, 118‬‬


‫‪https://goo.gl/EmvQow‬‬
‫يرركز االقتصاد التقليدي الربوي على قاعدة اإلقراض والقدرة على الرد‪ ،‬بينما يرركز االقتصاد اإلسالمي على‬
‫قاعدة االستثمار ودرجة مناسبة املشروع وأخالقيته‪.‬‬
‫‪David Harvey, New Imperialism, Chicago: University of 119‬‬
‫‪Chicago Press,2003.‬‬
‫ِ‬
‫ومؤسس دعوة أهل السنة واجلماعة يف مصر‪،‬‬ ‫ِ‬
‫عبد اجمليد الشاذيل (‪ )1938-2013‬أحد مفكري التيار القطيب‬ ‫ِ‬
‫وعي خبطر دخول املنظمات التمويلية الدولية واالقرتاض منها وربط ذلك مبحاولة بناء نظام اقتصادي عادل‪.‬‬
‫ٌ‬
‫‪ 120‬انظر‪ :‬ابتريك هايين‪ ،‬إسالم السوق‪ ،‬ترمجة‪ :‬عومرية سلطاين‪( ،‬القاهرة‪ :‬مدارات لألحباث والنشر‪،‬‬
‫‪2015‬م)‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫الختبار تلك الفرضيات‪ ،‬وهم‪ :‬يوسف القرضاوي‪ ،‬حاكم املطريي‪ ،‬ابسم جرار‪ ،‬سليم‬
‫العوا‪ ،‬وحسني نصر‪.‬‬
‫بدايةً‪ ،‬أييت يوسف القرضاوي (‪1926‬م‪ )...-‬يف كتابه "خطابنا اإلسالمي يف عصر‬
‫وم ْن‬
‫كدا على أن حلول القضااي الشائكة موجودة يف اإلسالم‪ ،‬ويؤكد أن ه َ‬ ‫العوملة" مؤ ً‬
‫‪121‬‬
‫سار على هنجه وسار على هنجهم من اإلسالميني‪ ،‬لطاملا بيَّنوا حقيقة تلك القضااي ‪.‬‬
‫نظرا للواقع اجلديد املفروض على اإلسالميني‪ ،‬يرى القرضاوي أنه توجب تغيري‬ ‫لكن ً‬
‫مضمون بعض تلك القضااي‪ ،‬أو تعديل أسلوب بعضها‪ ،‬أو تغيري سلم أولوايت البعض‬
‫اآلخر‪ ،‬وف ًقا ملا يقتضيه الواقع ‪ -‬دون مساس بثوابت الدين‪ .122‬وقد جاء طرحه عن‬
‫العدالة غري مستفيض؛ األمر الذي يرشري إىل أنه ليس ابلقضية اليت يضغط الواقع إلعادة‬
‫ترتيب سلم أولوايت‪.‬‬
‫يف كتابيه "اجملتمع اإلسالمي الذي ننشده" و"الصحوة اإلسالمية ومهوم العامل العريب‬
‫مالمح هلذا التصور‪ .‬فالعدل عنده قيمة عليا من قيم اإلسالم‪ ،‬ومعناه‪:‬‬
‫َ‬ ‫واإلسالمي"‪ ،‬جند‬
‫إعطاء كل ذي ٍّ‬
‫‪123‬‬
‫حق حقه ‪ .‬ويتفرع عن هذا العدل‪ ،‬نوع آخر هو "العدل االجتماعي"‪،‬‬
‫وهو‪ :‬العدل يف توزيع الثروة‪ ،‬وتوفري الفرص املتكافئة للجميع‪ ،‬وإعطاء العامل مثرة عمله‪،‬‬
‫وتقريب الفوارق بني الطبقات‪ .‬وقد جعل عماد ذلك‪ :‬الزكاة‪ .‬وأما عن مصداق العدل يف‬
‫السياسة‪ ،‬فجاء أن الدولة اإلسالمية عادلة‪ ،‬دون تفصيل‪ .124‬ابلطبع ميكن اعتبار كتابه‬
‫الضخم عن الزكاة هو أطروحته املركزية عن هيكل العدل‪ ،‬لكن اإلشكالية يف أن ذلك‬

‫‪ 121‬يوسف القرضاوي‪ ،‬خطابنا اإلسالمي يف عصر العوملة‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،)2004 ،‬ص ‪.9‬‬
‫‪ 122‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪ 123‬يوسف القرضاوي‪ ،‬مالمح اجملتمع املسلم الذي ننشده‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة األسرة‪ ،)1993 ،‬ص ‪-192‬‬
‫‪.198‬‬
‫‪ 124‬يوسف القرضاوي‪ ،‬الصحوة اإلسالمية ومهوم الوطن العريب واإلسالم‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة وهبة‪،)1997 ،‬‬
‫ص ‪.73-70‬‬

‫‪145‬‬
‫مغلق ال يسوق آليات اإلزاحة واالستبدال املتاحة أو املمكنة للمنظومة الرأمسالية‬
‫اخلطاب ٌ‬
‫‪125‬‬
‫العاملية القائمة ‪.‬‬
‫أما سليم العوا (‪ )...-1942‬فينطلق من تقرير أن العدل مبدأ شامل‪ ،‬ال يقتصر على‬
‫نشاط إنساين دون آخر‪ ،‬أو فرد دون فرد‪ .‬ويقدم العوا مفهوم "العدل" دون بيان معناه‪،‬‬
‫سوى أنه انتفاء الظلم وامليل‪ .‬مث يذهب لتأكيد أن العدل يف النظرايت الغربية هو العدل‬
‫أيضا على البعد‬
‫لكل حقه‪ .‬ويؤكد ً‬ ‫القضائي فقط‪ ،‬أما يف اإلسالم فهو عدل أمشل يضمن ٍ‬
‫"اإلسالمي" الضامن لـ"حقوق اإلنسان"‪ ،126‬يف َغلبة للمنطق القانوين رغم ذلك‪ ،‬وغياب‬
‫لبيان طبيعة اجملتمع الذي حيقق العدل ما دام العدل ليس قضائيًا فحسب‪.‬‬
‫وجند بسام جرار )‪ (1948-...‬هو اآلخر متحد ًاث عن العدل دون حتديد تعريف له‪،‬‬
‫أيضا قيمة شاملة‪ .‬لكنه يستفيض يف شرح‬ ‫لكنه يردخله يف كل األنشطة اإلنسانية؛ فهو ً‬
‫اقتصاداي؛ فأصل املشكلة االقتصادية ‪ -‬عنده ‪ -‬هو ظلم اإلنسان‬
‫ً‬ ‫مدى أمهية تلك القيمة‬
‫ألخيه اإلنسان‪ ،‬وجور القوي على الضعيف‪ .‬أما اإلسالم فيعدل امليزان بني الطرفني أبن‬
‫يؤكد على‪ :‬أن اإلسالم أوجب تداول الثروة‪ ،‬ونفى فكرة "ندرة املوارد"؛ مما يعين أن‬
‫اقتصاداي أفاض فيه الفقهاء‪.127‬‬
‫ً‬ ‫عادال‬
‫نظاما ً‬
‫رسـخ ً‬‫اإلسالم ابلفعل َّ‬
‫أما حاكم املطريي (‪ ،)...-1964‬فلعله أعاد ترتيب سلم القيم يف اجملتمع اإلسالمي‬
‫على "احلرية" اليت هي يف متام الوفاق مع العدل عنده؛ فالغاية من الشريعة هي حتقيق‬
‫العدل بتحرير اإلنسان من كل شيء سوى هللا‪ .128‬وعلى هذا املبدأ أقام املطريي أحباثه‬

‫‪ 125‬د‪ .‬يوسف القرضاوي‪ ،‬فقه الزكاة‪ ،‬جزأين‪( ،‬بريوت‪ :‬مؤسسة الرسالة‪.)1973 ،‬‬
‫‪ 126‬حممد سليم العوا‪ ،‬يف النظام السياسي للدولة اإلسالمية‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،‬الطبعة الثانية‪2006 ،‬م)‪،‬‬
‫ص‪.206 ،205-201‬‬
‫‪ 127‬بسام جرار‪ ،‬الفكر اإلسالمي‪( ،‬فلسطني‪ :‬مركز نون للدراسات واألحباث القرآنية‪ ،)2006 ،‬ص ‪،150‬‬
‫‪.265 ،191 ،181‬‬
‫‪ 128‬حاكم املطريي‪ ،‬احلرية أو الطوفان‪( ،‬بريوت‪ :‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬الطبعة الثالثة‪،)2008 ،‬‬
‫ص ‪.272‬‬

‫‪146‬‬
‫دوما‪ ،‬وأن بغياهبا هتلك‬
‫حماوال إبراز كيف أن "احلرية‪-‬العدل" الزمت اإلسالم ً‬
‫التارخيية ً‬
‫األمم والشعوب‪.‬‬
‫ولو شئنا املقارنة سنجد أن ما قدمه الفيلسوف اإليراين األصل حسني نصر ‪(1933-‬‬
‫وضوحا من هذه احملاوالت‪ ،‬فقد بدأ بتقرير أن العدالة‬
‫ً‬ ‫)‪ ...‬بصدد العدل يكون أكثر‬
‫مبهما‪ .‬والعدالة اإلسالمية تبدأ بتوكيد‬
‫شعور فطري لدى اإلنسان‪ ،‬حىت وإن كان تعريفها ً‬
‫أن العدل حيتاج طرفني على األقل؛ فهو إعطاء كل ذي ٍّ‬
‫‪129‬‬
‫حق حقه ‪ .‬وأبرز قيمة يف سلم‬
‫العدالة اإلهلية هي امليزان؛ فقد خلق كل هللا كل شيء وفق ميزان حىت حييا كل خملوق مع‬
‫اآلخر بشكل متعادل‪ .130‬ويتفرع عن وجود عدالة إهلية وجود عدالة إنسانية‪ .‬هذه األخرية‬
‫أوال للقرآن والسنة‪ ،‬فإن مل جيد احلكم فعليه إبعمال عقله وفطرته‬
‫تعين أن يعمد اإلنسان ً‬
‫وف ًقا لكليات الشريعة‪ .‬ويؤكد نصر أن هذه الصورة عن العدالة ترلزم املسلم أبال يرضى‬
‫ابلظلم؛ مما جيعل اجلهاد فريضة مىت وجد الظلم‪.131‬‬
‫إن هذه التصورات عن العدل‪/‬العدالة هي تكرار لتصورات املرحلتني السابقتني دون تقدمي‬
‫شيء جديد بشكل جذري‪ ،‬ويرالحظ غلبة التربير والرغبة يف توكيد أصالة "التصور‬
‫اإلسالمي" على حماولة االشتباك مع الواقع وف ًقا ملفهوم العدل‪ ،‬خبالف ما حدث الح ًقا‬
‫يف مرحلة "العدالة االنتقالية"‪.‬‬
‫العدالة االنتقالية‪:‬‬
‫حمورا إلقامة‬
‫إن النصوص اإلسالمية حول مفهوم العدل‪ ،‬مبختلف مراحلها‪ ،‬جعلت منه ً‬
‫اجملتمع؛ ولذا ميكن أن نشري إىل أمهية مرحلة الثورات العربية للنسق اإلسالمي بشكل عام‪،‬‬
‫فهي مرحلة شهدت تغريات مجَّة على األصعدة االجتماعية والسياسية واالقتصادية كافَّةً‪،‬‬
‫من جهة‪ ،‬وكذلك هي مرحلة وجد فيها اإلسالميون فرصةً لدخول معرتك السلطة والبدء‬
‫وعمال إلجياد أرضية هلم يف واق ٍع بدا أنه قيد التشكل‪ ،‬من جهة أخرى‪.‬‬
‫فكرا ً‬
‫يف التحرك ً‬

‫‪ 129‬سيد حسني نصر‪ ،‬قلب اإلسالم‪ :‬قيم خالدة من أجل اإلنسانية‪ ،‬ترمجة‪ :‬داخل احلمداين‪( ،‬بريوت‪ :‬مركز‬
‫احلضارة لتنمية الفكر اإلسالمي‪ ،)2009 ،‬ص ‪.266-263‬‬
‫‪ 130‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.270-268‬‬
‫‪ 131‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.301-279‬‬
‫‪147‬‬
‫موفورا يف دعم العمل اخلريي واإلغاثي‬ ‫جهدا تنظيميًا ً‬
‫لقد أفرد اإلسالميون احلركيون ً‬
‫ونصا‬
‫والنشاط النقايب‪ .‬ورميكن اعتبار تلك اجلهود حالةً من املراجعة احلركية ملفهوم العدل‪ً ،‬‬
‫جتنيدي؛‬
‫ّ‬ ‫سياسي‬
‫ّ‬ ‫عاشا يف حماولة االشتباك معه رغم ما غلف تلك اجلهود من خطاب‬ ‫رم ً‬
‫كإدخال األعضاء اجلدد يف دائرة الربط العام أو الدعوة الفردية للحصول على دع ٍم وحشد‬
‫انتخايب كما يف حالة مجاعة اإلخوان املسلمني يف مصر‪ ،132‬وأصبحت حماولة بناء رأس‬ ‫ّ‬
‫مال اجتماعي من خالل شبكات العالقات االجتماعية اليت يكوهنا اإلسالميون دون‬
‫فكري ترتكز عليه خالل عملهم اجملتمعي اخلريي أو اإلغاثي أو حىت سيطرهتم على‬ ‫أساس ّ‬
‫االحتادات الطالبية وتقدميهم خدمات تعليمية للطالب يف السبعينيات‪ ،‬مث التنافس على‬
‫املناصب القيادية يف النقاابت املهنية والتعليمية يف الثمانينيات مث أدائهم املحاسيب والرقايب‬
‫دمات االجتماعية‬ ‫يف الربملاانت اليت تعاقبوا عليها مىت أرتيحت هلم الفرصة‪ ،‬أو حىت اخل ر‬
‫الشاملة اليت قدمتها اجلماعة إىل املهاجرين من الريف إىل املدينة‪ .133‬كل ذلك مت دون‬
‫حقيقي بضرورة تغيري موازين القوى على األرض لصاحل العدل االجتماعي‪ ،‬ودون‬ ‫ّ‬ ‫وعي‬
‫اإلسالمي املعاصر اليت أنتجتها احلداثة‬
‫ّ‬ ‫اشتباك مع القضااي العالقة يف قلب االجتماع‬
‫جديدا للحياة يتواءم فيه اإلسالم‬ ‫أبخالقها وما يتبعها من ثقافة استهالكية أنتجت منطًا ً‬
‫ومزاج السيولة الذي أنتجته تقنيات الذات ما بعد‬ ‫مع السوق ومنطق ال رفرجة واالستعراض ِ‬
‫اجع إىل غلبة السياسي‬
‫احلداثية اليت تعصف ابألخالق اإلسالمية‪ .‬ويف احلقيقة‪ ،‬إن ذلك ر ٌ‬
‫وتضخيمه على الدعوي‪ 134‬من انحية‪ ،‬والتعايل على املعرفة السوسيولوجية األكادميية يف‬
‫اليومي واملعاش يف خربة الدعوة الفردية‬ ‫ّ‬ ‫مقابل االهتمام ابملعرفة التقنية والتطبيقية لصاحل‬
‫ر‬
‫واحلشدية‪ ،‬من انحية أخرى‪ .‬فلم تكن رهناك فرصة حقيقية ملراجعة احلركي‪/‬اليومي لصاحل‬
‫جديدا من الوجود‬
‫ً‬ ‫خربة أكثر نظرية‪ ،‬وابلتايل أكثر تفسريية قد تعطى للحركة بـر ْع ًدا‬

‫‪Ziad Munson, Islamic Mobilization: Social Movement 132‬‬


‫‪Theory and the Egyptian Muslim Brotherhood, The‬‬
‫‪Sociological Quarterly, Volume 42, Number 4, pages 487–510.‬‬
‫‪133‬حسام متام‪ ،‬ترييف اإلخوان‪https://is.gd/rtaPis ،‬‬
‫‪ 134‬للمزيد حول تضخيم العمل السياسي يف التصور اإلسالموي املعاصر عموما‪ ،‬راجع‪ :‬فريد األنصاري‪ ،‬البيان‬
‫الدعوي وظاهرة التضخم السياسي ‪ -‬حنو بيان قرآين للدعوة اإلسالمية‪( ،‬سلسلة "من القرآن إىل العمران"‪،‬‬
‫الطبعة األوىل‪ ،‬دار السالم‪ ،‬القاهرة)‪.‬‬
‫‪148‬‬
‫ظ مفهوم العدالة ‪ -‬جبانب مفاهيم مركزية أخرى يف‬ ‫السياسي‪ .‬وابلتايل مل حي َ‬
‫ّ‬ ‫االجتماعي و‬
‫ّ‬
‫االجتماعي واملعاش‪.‬‬ ‫يف‬ ‫اإلسالميني‬ ‫خربة‬ ‫على‬ ‫ا‬‫اعتماد‬ ‫دقيق‬ ‫اإلسالمي ‪ٍ -‬‬
‫ببحث‬ ‫التصور‬
‫ر‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫وظل اإلسالميون يف مصر منخرطني يف اليومي احلركي على حساب القضااي‬
‫السوسيولوجية املهمة يف قضااي احلرايت العامة والفردية ومفردات العدل االجتماعي‪.‬‬
‫أوال‪ :‬نلحظ أن السياق العام‬ ‫وابحلديث عن العدالة االنتقالية‪ ،‬جيب اإلشارة إىل أمرين؛ ً‬
‫مناخا‬
‫حممال بعدد كبري من الرتاكمات السياسية واالجتماعية الىت مل تتح ً‬ ‫للثورات جاء ً‬
‫لتقدمي بديل حقيقي فهناك الضرابت األمنية اليت طاملا الحقت املعارضني‪ ،‬وخاصةً‬
‫اإلسالميني منهم‪ .‬وكذلك هناك العوامل االقتصادية مثل‪ :‬تبعية السوق احمللية للسوق‬
‫العاملية‪ ،‬وارتفاع نسب البطالة‪ ،‬والتفاواتت االقتصادية واالجتماعية الكبرية بني الطبقات؛‬
‫حىت وصل األمر للحديث عن "انداثر الطبقة الوسطى" حتت وطأة هذه الظروف‬
‫االقتصادية واالجتماعية‪. 135‬اثنيَا‪ :‬نلحظ أن الفاعل األبرز يف الثورات مل يكن جتمعات‬
‫ذات مرجعيات أيديولوجية أو طبقية موحدة‪ ،‬وإمنا كان شرائح متثل معظم ‪ -‬إن مل يكن‬
‫كل ‪ -‬فئات اجملتمع؛ وعليه ففي مرحلة بعد الثورات مل يكن هناك إمجاع على وجود ممثل‬
‫عن تلك الثورات‪ .‬هذه اخللفية السياقية تشي أبن الوقائع كانت متالحقة‪ ،‬يف وقت كان‬
‫حتديدا يواجه حالة من الركود النسيب رغم الزخم احلركي يف‬
‫الفكر اإلسالمي حول العدل ً‬
‫اجملالني االجتماعي والسياسي‪ .‬ولذلك حني ظهر مفهوم "العدالة االنتقالية" كان مرتبطًا‬
‫مباشرا‪ ،‬وحباجة اجلماهري بعد الثورات العربية إىل الشعور‬
‫ابحلراك اجملتمعي األوسع ارتباطًا ً‬
‫ابلعدالة يف الوقت الذي مل يكن لإلسالميني تصورات عنها رمتكنهم من إعطاء بديل له‪،‬‬
‫بل كان من الصعب معرفة األولوية اليت يوليها اإلسالميون لقيمة سياسية مثل احلرية أمام‬

‫‪James Gelvin, Conclusion: The Arab World at The Intersection 135‬‬


‫‪of The National and Transnational, in: The Arab Spring: Change‬‬
‫‪and Resistance In The Middle East, ed. Mark Haas and David‬‬
‫‪Lesch, (Philadelphia: Westview Press, 2013), pp: 238-252. Also:‬‬
‫‪Kristen Fisher and Robert Stewart, After Arab Spring: a new way of‬‬
‫‪transitional Justice? in: Transitional Justice and the Arab Spring,‬‬
‫‪ed. K. Fisher and R. Stewart, New York: Routledge, 2014, pp: 1-12‬‬
‫‪149‬‬
‫قيمة العدالة ال ابعتبارمها نقيضني‪ ،‬بل ابعتبار احلاجة إىل حتديد أولوية قيم ركربى كاحلرية‬
‫والعدالة‪ ،‬فقد ترتاتب يف أوقات التدافع الثوري حيث اإلسالميون ‪ -‬خاصة يف مصر‬
‫وتونس ‪ -‬يف الواجهة‪ .‬حىت قيمة العدالة اليت طاملا اندى هبا اإلسالميون كمركز ملنظومة‬
‫القيم اإلسالمية‪ ،‬بدت ابهتة يف وسط حتالفات سياسية برمجاتية‪ .‬فلم يربز مشروع فكري‬
‫حول العدالة االنتقالية من اإلسالميني؛ ولذلك نعرض لبعض االجتهادات مع هذا املفهوم‬
‫ومساعي دخوله حيز التنفيذ‪ ،‬وذلك يف التجارب اليت حدثت يف كل من املغرب‬
‫(‪ )2010-2003‬وتونس ومصر بعد ثوريتّ ‪ 14‬و‪ 25‬يناير ‪.2011‬‬
‫مهما يتعلق أبمهية فتح ابب التفكري‬
‫ويف احلقيقة‪ ،‬إن نظرية العدالة االنتقالية تستبطن معىن ً‬
‫يف العدالة االجتماعية واحلق يف التمثيل وتكافؤ الفرص كنقائض للظلم االجتماعي‬
‫والسياسي والتهميش االقتصادي يف خضم خطاب أيديولوجي‪/‬دوليت مناطه التربير حفاظًا‬
‫على الوضع الراهن دون تغي ٍري حىت مع إقرار فساده‪ .‬إن رواية املظلومني عن أنفسهم هي‬
‫انتصار حلقهم يف الوجود والتعبري واحلكي‪ ،‬كما هي انتصار للطبيعة اإلنسانية اجمللوبة على‬
‫االجتماع والتعاون أمام ظلم البىن السياسية احلديثة وعنفها الرمزي واملادي يف وجوه من‬
‫يبحثون عن تعريف ألنفسهم من خالل خطاب فردي رحر أو حىت بىن سياسية واجتماعية‬
‫متفردة‪ .‬وعلى جانب آخر‪ ،‬فإن العدالة االنتقالية هي اعرتاف ابملواطنة واحلق يف السؤال‬
‫والبوح ونفي اخلوف وتقدمي رواية فردية ‪-‬ما تلبث أن تتحول إىل سردية مجاعية‪-‬‬
‫لألحداث‪.‬‬
‫جتربة العدالة االنتقالية يف املغرب أتت مببادرة من امللك حممد السادس الذي نصب "هيئة‬
‫اإلنصاف واملصاحلة" يف يناير ‪ 2004136‬لبحث االنتهاكات اجلسيمة حلقوق اإلنسان‬
‫اليت حدثت يف الفرتة من ‪1961‬م إىل ‪1999‬م‪ ،‬واملتمثّلة يف االختفاء القسري واالعتقال‬
‫التعسفي والتعذيب واالعتداء اجلنسي‪...‬إخل‪ .‬وكانت جتربة جلسات االستماع العامة‬
‫خطوة مهمة يف سبيل حتقيق العدالة االجتماعية‪ ،‬وقد نتج عن توصيات تلك اهليئة إنشاء‬

‫‪ 136‬عبد الصبور عقيل‪ ،‬حراك الريف‪ :‬جبل األمل الذي طفا على السطح‪ ،‬السفري العريب‪،‬‬
‫‪https://is.gd/0wSaOW‬‬

‫‪150‬‬
‫عدد من الربامج ملتابعة حالة حقوق اإلنسان واملصاحلات بشىت أنواعها‪ .137‬وظلت‬
‫عالمات استفهام كبرية يف البحث يف قضااي ختص العدالة االنتقالية‪ ،‬منها قضية الريف‬
‫اقتصاداي وسياسيًا‪ .‬ويرفتح ملف العدالة االنتقالية من جديد يف خضم‬
‫ً‬ ‫املغريب‪ 138‬املهمش‬
‫االحتجاجات املتتابعة يف الريف املغريب اليت يتباين موقف اإلسالميني منها حسب درجة‬
‫السلطة‪ .‬انتهى مسار العدالة االنتقالية يف العام ‪ 2010‬دون أن تكون رهناك‬ ‫القرب من ر‬
‫ذراع قضائية ترعطي فرصة أخرى للعدالة يف املغرب؛ بسبب غياب اإلرادة السياسية اليت‬
‫تعمل حنو عدالة انجزة‪ ،‬واعتبار التحالفات السياسية يف املشهد السياسي املغريب اليت يف‬
‫ميكث اإلسالميون يف القلب منها‪.‬‬
‫أما تونس‪ ،‬فقد مرت جتربة العدالة االنتقالية يف تونس مبرنعطفات شىت‪ ،‬وأسهمت حركة‬
‫النهضة اإلسالمية ‪ -‬اليت حازت على النصيب األكرب من مقاعد اجمللس الوطين التأسيسي‬
‫‪ -‬يف إقرار مشروع للعدالة االنتقالية‪ ،139‬ومع تويل احلركة احلكم أرنشئت وزارة "العدل‬
‫وحقوق اإلنسان والعدالة االنتقالية"‪ ،‬مث يف ديسمرب ‪ 2013‬أرنشئت "هيئة احلقيقة‬
‫والكرامة" كهيئة مستقلة للنظر يف عناصر العدالة االنتقالية ومساحتها اليت أقرها الدستور‪،‬‬
‫كما تعاونت اهليئة مع هيئة األمم املتحدة للمرأة إلدماج ملف العدالة اجلندرية يف مسار‬
‫العدالة االنتقالية‪ 140‬لإلشراف على قضية العدالة االنتقالية‪ .‬ونص القانون على مشول‬
‫العدالة االنتقالية لكل من ملف حقوق اإلنسان واجلرائم اإلدارية وجرائم الفساد املايل‪،‬‬
‫وأرنشئت وف ًقا لذلك هيئة احلقيقة والكرامة‪ .‬وظل قضية العدالة االنتقالية يف تونس تسري‬

‫‪ 137‬عمرو السراج‪ ،‬جتربة العدالة االنتقالية يف املغرب‪ ،‬اهليئة السورية للعدالة االنتقالية‪ ،‬يناير ‪2014‬م‪ ،‬ص‬
‫‪.7-5‬‬
‫‪ 138‬من ذلك‪ :‬بيان مجاعة العدل واإلحسان ابحلسيمة حول احلراك الشعيب يف الريف‪ ،‬الصادر عن‪ :‬املوقع‬
‫الرمسي للحركة‪ ،‬بتاريخ‪ 17 :‬مايو ‪2017‬م‪https://goo.gl/W6ajgm .‬‬
‫‪ 139‬قانون العدالة االنتقالية ‪-‬تونس‪https://goo.gl/GYYzZW -‬‬
‫‪Dr. Kora Andrieu, Confronting the Dictatorial Past in 140‬‬
‫‪Tunisia: The Politicization of Transitional Justice, Justice Info,‬‬
‫‪August 31, 2015. url: https://is.gd/esfpH4‬‬

‫‪151‬‬
‫ببحث امللفات املقدمة واملظامل وبدء اجللسات العلنية للضحااي رغم املشكالت اإلدارية‬
‫اليت واجهت اهليئة‪ ،‬ومشكالت النفاذ إىل ملفات األرشيف احلكومي أو ما أمسته اهليئة بـ‬
‫"سلبية املؤسسات العمومية يف متكني اهليئة من النفاذ إىل األرشيف"‪ ،141‬وكما أوضحت‬
‫رئيسة اهليئة سهام بن سدرين‪ ،‬فإن تلك العرقلة يف الوصول إىل األرشيف الرائسي كانت‬
‫أيضا يف عهد الرئيس السابق ‪-‬شريك النهضة يف احلكم‪ -‬منصف املرزوقي‪ ،142‬والذي‬ ‫ً‬
‫اهتم النهضة بعد انتهاء واليته بتعطيل مسار العدالة االنتقالية‪ ،‬وتعطيل خروج ملفات‬
‫أرشيف الرائسة ملساعدة اهليئة‪.143‬‬
‫وابلرغم من الوضوح املؤسسي الذي قد يبدو يف أول نظرة لتلك اإلجراءات‪ ،‬فإن مشهد‬
‫العدالة االنتقالية املرتبط يفتح الباب أمام رؤية أحد أهم املفكرين اإلسالميني بتونس؛‬
‫راشد الغنوشي‪ ،‬مبا حيمله من ٍ‬
‫ثقل يف الفكر واحلركة اإلسالمية املعاصرة أمام تضخم احلركي‬
‫ر‬ ‫على حساب الفكري يف احلركة اإلسالمية يف مصر‪.‬‬
‫ففي تعليقه على مقرتح هذا املشروع عام ‪2015‬م‪ ،‬ميَّـز الغنوشي بني املصاحلات املالية‬
‫من جهة‪ ،‬وبني العدالة االنتقالية من جهة أخرى‪ .‬ويقع مدار العدالة االنتقالية عنده على‬
‫قضية حقوق اإلنسان بصورهتا الواسعة‪ ،‬واملتأسسة على احلقوق السياسية‪ ،‬االجتماعية‪،‬‬
‫االقتصادية‪...‬إخل‪ .144‬ويف يوليو ‪ ،2017‬قدم رئيس اجلمهورية الباجي السبسي مشروع‬
‫"قانون املصاحلة االقتصادية واملالية"‪ ،‬ويتأسس على حماولة املصاحلة على األموال املنهوبة‬
‫من املال العام من رجال األعمال‪ ،‬وهو ما يتداخل مع عمل هيئة احلقيقة والكرامة‪.‬‬

‫‪ 141‬تقرير هيئة احلقيقة والكرامة تونس عن سري أعماهلا‪https://is.gd/H78me5 ،‬‬


‫‪ 142‬خطاب رئيسة اهليئة أمام الربملان التونسي‪https://is.gd/cUyNKT ،‬‬
‫منصف املرزوقي‪ ،‬النهضة عطلت االنتقال الدميقراطي يف تونس‪https://is.gd/ib2dvR ،‬‬ ‫‪143‬‬

‫مقدسا" ‪, Youtube‬‬
‫ً‬ ‫قرآًن‬
‫" ‪ Shems FM,‬راشد الغنوشي‪ :‬مشروع قانون املصاحلة ليس ً‬
‫‪144‬‬

‫‪Video, Duration (5:11), Published: August 26, 2015. Url:‬‬


‫‪https://is.gd/A5BCfy‬‬

‫‪152‬‬
‫"تفاعال إجيابيًا مع مشروع القانون"‪ 145‬يف‬
‫ً‬ ‫وأبدى تكتل حركة النهضة يف الربملان ما رمسي‬
‫يفصل فيه الغنوشي بني العدالة االنتقالية واملصاحلة املالية‪ ،‬حيث العدالة‬ ‫الوقت الذي ِ‬
‫االنتقالية عنده متعلقة ابجلرائم السياسية وجرائم حقوق اإلنسان اليت حتتاج إىل وقت طويل‬
‫حلسمها‪ ،‬أما امللف املايل واجلرائم املتعلقة بسرقة املال العام فقضية ال حتتاج إىل أتجيل‪،146‬‬
‫وال تدخل يف نطاق تعريف العدالة االنتقالية واملصاحلة اليت تقوم على احملاسبة ال التفاوض‬
‫على ترك املظامل‪ .‬وقد أرقِر املشروع يف ‪ 17‬سبتمرب ‪ 2017‬حتت مسمى "قانون املصاحلة‬
‫اإلدارية"‪.147‬‬
‫يدفع كل هذا إىل مراجعة فكر الغنوشي عن حقوق اإلنسان ‪ -‬كمعىن جوهري يف‬
‫مسارات العدالة االنتقالية ‪ -‬كما جاء يف كتابه "الدميقراطية وحقوق اإلنسان يف اإلسالم"‪،‬‬
‫حيث يوضح الغنوشي أن "العدل" هو مدار السلطة يف اإلسالم‪ ،‬لكنه ال يوضح املقصود‬
‫مقررا أن "احلرية" هي القيمة األمسى للفرد املسلم‪ ،‬وهي اليت‬
‫بذلك العدل‪ .‬مث يستدرك ً‬
‫‪148‬‬
‫تفرض عليه الوصول لذلك العدل "املنشود" ‪ .‬وابلنظر يف مفهومه عن احلرية‪ ،‬ميكن‬
‫أن نفرق بني نقطتني‪ :‬األساس الفلسفي للحرية من جهة‪ ،‬ومظاهر تلك احلرية من جهة‬
‫أخرى‪ .‬فأما األساس فيؤكد الغنوشي أنه هللا‪ ،‬وأما املظاهر‪ :‬فهو يذهب ليؤكد أن اإلسالم‬
‫مجع وأوعى ومشل كل احلرايت املوجودة يف إعالانت حقوق اإلنسان العاملية‪ .149‬هذه‬
‫التفرقة جتعل الدميقراطية واحلرايت املرتبطة هبا يف األخري مقبولةً على شرط أن تؤسس‬
‫ضمنيًا على الشريعة اليت مستندها إىل هللا؛ فـ‪" :‬ليس يف تعاليم اإلسالم وال يف مقاصده‬

‫‪ 145‬ايسني نبيل‪ ،‬قانون املصاحلة‪ :‬املعارضة حتتج والنهضة متارس املساعدة الناعمة‪( ،‬نواة‪ 14 ،‬يوليو ‪،)2016‬‬
‫‪https://goo.gl/TZ9Be9‬‬
‫مقدسا‪ ،‬مرجع سابق‬
‫قرآًن ً‬
‫راشد الغنوشي‪ :‬مشروع قانون املصاحلة ليس ً‬
‫‪146‬‬

‫‪ 147‬يب يب سي عريب‪ ،‬هل يعزز قانون املصاحلة اقتصاد تونس؟‪ 14 ،‬سبتمرب ‪،2017‬‬
‫‪https://is.gd/EPRsZk‬‬
‫‪ 148‬راشد الغنوشي‪ ،‬الدميقراطية وحقوق اإلنسان يف اإلسالم‪( ،‬بريوت‪ :‬الدار العربية للعلوم انشرون ومركز‬
‫اجلزيرة للدراسات‪ ،‬الطبعة الثانيةـ ‪ ،)2012‬ص ‪.168 ،9‬‬
‫‪ 149‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.63‬‬

‫‪153‬‬
‫ما يتناَف مع مقومات الدميقراطية"‪ .150‬وحبمل هذا التصور على قضية العدالة االنتقالية‪،‬‬
‫تظهر جتربة حزب النهضة التونسي كتجربة خالية من االشتباك‪ .‬مبعىن أن املفهوم‪ ،‬وف ًقا‬
‫ملقتضى املسكوت عنه يف نصوص الغنوشي من انحية‪ ،‬ويف جتربة احلزب حيث مسار‬
‫العدالة االنتقالية من انحية أخرى‪ ،‬يبدو أنه حيوز أمهيته وفق التحالف السياسي وما دأبت‬
‫عليه النهضة ‪-‬كما مجاعة اإلخوان املسلمني يف مصر‪ -‬يف مسألة التسوية مع النظام‬
‫القدمي‪ .‬ابإلضافة إىل أن تصور اإلسالميني عن العدالة االنتقالية جاء من ابب أنه ال ضري‬
‫من استخدامه نفسه ابعتباره جمموعة من اإلجراءات الستعادة احلقوق وحفظها‪ ،‬ال بوصفه‬
‫مفهوما نظراي متشاب ًكا ذا طبيعة عالئقية‪.‬‬
‫ً‬
‫إن هذا القبول يستدعي القول أبن تصور اإلسالميني عن "العدالة االنتقالية" جاء مستبطنًا‬
‫نصا ما فوقيًا حيمل مسلمات عن‪ :‬طبيعة الدولة‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ ،‬والنظام السياسي‬ ‫ً‬
‫واالجتماعي أبكمله‪ .‬ولتوضيح ذلك جيب التوقف مع مفهوم "العدالة االنتقالية" ذاته‪.‬‬
‫فعلى الرغم من حماولة الغنوشي ربط حقوق اإلنسان والدميقراطية‪ ،‬ومن ورائهما الدولة‬
‫نفسها ابلنسق اإلسالمي‪ ،‬تظهر تلك احملاولة يف األخري على أهنا ال ترتبط بصورة مباشرة‬
‫مع نسق "إسالمي تقليدي" حول العدل أبي حال من األحوال‪.‬‬
‫يبدو أمر العدالة االنتقالية مرتب ًكا يف تونس رغم وضوح قوانينه وإجراءاته املعلومة واملتفق‬
‫عليها بعد ثورة ‪ 14‬يناير‪ ،‬وال تبدو حركة النهضة بريئة من ذلك االرتباك والتفريط يف‬
‫مسألة العدالة االنتقالية بتحالفها مع املنتمني إىل نظام احلكم السابق‪ ،‬واليت مل ختتلف عن‬
‫اإلخوان املسلمني يف مصر الذين سعوا إلعادة التسوية مع النظام القدمي‪ ،‬وخلت احلركة‬
‫من أي حماولة جدية لبحث العدالة االنتقالية‪ .‬ففي ظل وزارة عصام شرف ‪ 2011‬مت‬
‫أتسيس جلنة للمصاحلة كانت منصبة على إدارة النزاعات بني املسلمني واألقباط‪ ،‬مث أنشأ‬
‫اتبعا لرائسة اجلمهورية يتلقى فيه الشكاوى واملظامل كان يتعامل‬
‫حممد مرسي ديو ًاان للمظامل ً‬
‫مع قضااي النوبة وغريها‪ ،‬ومل يكن لدي الديوان صالحيات حقيقية متعلقة ابلعدالة‬
‫االنتقالية من معرفة احلقيقة وجرب الضرر واملالحقة القضائية أو ختليد الذكرى وحفظ‬
‫الذاكرة اجلماعية وال كانت تلك املعاين واردة رغم وجود احتياج لعملية مصاحلة وحماسبة‬
‫على جممل انتهاكات حقوق اإلنسان منذ التسعينات خاصة خالل املواجهات مع‬

‫‪ 150‬املرجع السابق‪.‬‬
‫‪154‬‬
‫مجاعات العنف يف الصعيد لكن ما مت كانت مراجعات اجلماعات يف السجون وليس‬
‫حماسبة األجهزة األمنية على ما شابه أداءها من انتهاكات وما مت رصده من تعذيب يف‬
‫السجون‪ ،‬وال شهدت مصر أي إجراءات مؤسسية معلومة لقنوات سري تلك املظامل يف‬
‫سبيل العدل‪ .‬ومل ترنشأ وزارة للعدالة االنتقالية ‪ -‬رغم عدم مناسبة العدالة االنتقالية ملعىن‬
‫الوزارة ‪ -‬إال بعد اإلطاحة ابإلخوان املسلمني يف يونيو‪ ،2014‬ومل تقم أبي دور‪ ،‬وسرعان‬
‫من مت إلغائها‪ ،‬مث تنامت االنتهاكات اجلسيمة حلقوق اإلنسان يف ظل مناخ حشد خلف‬
‫اهتماما‬
‫ً‬ ‫تلق‬
‫املؤسسة العسكرية وختوين للمخالف‪ .‬وابإلضافة إىل أن العدالة االنتقالية مل َ‬
‫حبجم أمهيتها املتعاظمة يف إدارة املشهد املصري بعد ‪ 25‬يناير وقت كانت مجاعة اإلخوان‬
‫ئيسا للجمهورية‬ ‫ر‬‫و‬ ‫ملانية‬
‫ر‬ ‫ب‬ ‫أغلبية‬ ‫متتلك‬ ‫العدالة)‬
‫و‬ ‫ية‬
‫ر‬ ‫احل‬ ‫(حزب‬ ‫سياسية‬ ‫ال‬ ‫املسلمني وذر ر‬
‫اعها‬
‫ً‬
‫على رسدة احلركم فإن تلك الفرتة مل تشهد أي إسهام فكري من قبل اجلماعة يف بناء‬
‫تصورات ملستقبل العدل‪ .‬ورغم الفارق يف الثقل الفكري إلسالميي تونس عن مصر‪ ،‬فإن‬
‫اجلميع وقعوا يف أزمة السياسة املعاصرة املتعلقة ابلتعامل مع الواقع الراهن كمعطى ٍ‬
‫عام‬ ‫ر‬
‫دون التفكري يف آفاق ما بعده أو رحماولة إجياد بديل هيكلي يكفل أتسيس منظومة مستقرة‬
‫للعدل على املدى البعيد‪.‬‬
‫اخلامتة‪:‬‬
‫أوىل األستاذ الدكتور حامد ربيع رائد النظرية السياسية بكلية االقتصاد والعلوم السياسية‬
‫يف جامعة القاهرة أمهية كبرية لبناء هيكل للمفاهيم وأولوايهتا يف احلركة السياسية‪ .‬وفيما‬
‫يتعلق ابلعدالة‪ ،‬فقد قسمها إىل نوعني‪ :‬عدالة وظيفية تعترب هدفًا للنظام واجلماعة‬
‫السياسية‪ ،‬وعدالة نظامية تتعلق ابإلجراءات والضماانت واملؤسسات اليت تعترب أساس‬
‫نظام قضائي‪ ،‬حيث "القضاء هو أداة الدولة يف تسيري مرفق العدالة"‪ ،151‬وال ينفصل‬ ‫كل ٍ‬
‫النوعان عن بعضهما‪ .‬وقدم ربيع مفهوم العدالة ابعتباره قيمة اتبعة‪ ،‬ورغم ذلك فإن تلك‬
‫التبعية ال تعين إلغاء القيم‪ ،‬بل إرجاءها مبا خيدم الفقه واحلركة السياسية اليت يتمثل منطقها‬
‫يف التطور الدميقراطي‪ .‬وترتبط تبعية مفهوم العدالة عند حامد ربيع مبا أمساه "الوظيفة‬
‫الكفاحية للنظرية السياسية" و"التضحية يف نطاق الوجود السياسي" مبا يعطي لقيمة احلررية‬

‫‪ 151‬د‪ .‬حامد ربيع‪ ،‬نظرية القيم السياسية ‪ ،‬كتاب غري منشور من دفاتر مركز احلضارة للدراسات السياسية‪،‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬نظرية القيم التابعة (العدالة)‪.‬‬
‫‪155‬‬
‫العليا الفردية يتبعها‬
‫أولويةً يف حلظة الصراع بينها وبني العدالة‪ ،‬فتكون احلررية هي القيمة ر‬
‫قيم اتبعة أخرى عديدة يرتكز مجيعها حول مبدأي العدالة واملساواة‪.‬‬
‫وبناءً على تلك الرتاتبية القيمية عند حامد ربيع‪ ،‬تبدو اخلريطة العامة لتصور اإلسالميني‬
‫عن العدل منذ عام ‪1924‬م وحىت الثورات العربية مرتبكةً‪ ،‬واتبعةً‪ .‬فأما كوهنا خريطة‬
‫مرتبكة‪ ،‬فيظهر ذلك من تبنيها عدة تصورات متناقضة دون حبث وتدقيق مثل‪:‬‬
‫مستقال‪ ،‬االقتصاد بوصفه جزءًا من‬
‫ً‬ ‫األمة‪/‬اجملتمع‪ ،152‬االقتصاد بوصفه منحى إنسانيًا‬
‫أوال‪ ،‬تبين مفهوم عن املصلحة يف ابطنه يعين ضرورة‬ ‫كل‪ ،‬وجوب اللجوء إىل الشريعة ً‬‫ٍّ‬
‫حتكيم الواقع ومسايرته مع عدم اإلخالل ابلـ"كليات"‪ .‬وأما كوهنا اتبعة‪ ،‬فيظهر من‬
‫حاجتها الدائمة للمقارنة مبا وصل إليه الغرب يف نطاق القيم واملمارسات السياسية‪،153‬‬
‫نصوصا ماورائية ‪- Meta-texts‬على حد مفهوم‬ ‫ً‬ ‫واستبطنت الكتاابت اإلسالمية‬
‫جينيت‪ -‬أخذت يف االستعاضة عن ذلك مبفاهيم حداثية أضرت أبصالة الفكرة‬
‫اإلسالمية‪.‬‬
‫"استعماال‬
‫ً‬ ‫وعليه‪ ،‬فيرمكن فهم سلوك اإلسالميني بعد الربيع العريب يف قضية العدل ابعتباره‬
‫جزئيًا لأليديولوجيا" اليت قصد هبا كارل ماهنامي مستوايت يف التعامل مع األيديولوجيا‬

‫‪ 152‬انظر‪Tripp, op.cit., pp:15-22 :‬‬


‫‪ 153‬ميكن الرتكيز على مساحة "العرف" ‪-‬على سبيل املثال‪ -‬لبيان حجم تبعية الفكر اإلسالمي ملا هو "غري‬
‫إسالمي"‪ .‬فقد الحظ لورنس روزن أن القضاء اإلسالمي ال يستلهم قواعد جامدة يف حكمه‪ ،‬وإمنا هي شبكة‬
‫متفاعلة من‪ :‬النصوص‪ ،‬القياسات العقلية‪ ،‬اإلمجاعات‪ ،‬احلس املشرتك‪ ،‬والعرف‪ .‬ويرى روزن أنه بناءً على تلك‬
‫الشبكة‪ ،‬فإن العدل يف املمارسة اإلسالمية للقضاء أييت عرب‪ :‬وجود موافقة بني القضاة والناس حول املفاهيم‬
‫اخلاصة ابلطبيعة اإلنسانية وكيفية تفاعلها من جهة‪ ،‬وبني وجود إمجاع على عدم األخذ مبمارسات غريبة عن‬
‫طبيعة اجملتمع من جهة أخرى‪ .‬ويضيف روزن أنه بناءً على ذلك التصور تصبح العدالة هي‪ :‬تطابق حكم‬
‫القاضي مع املفاهيم الثقافية والعالقات االجتماعية القائمة على تلك املفاهيم السائدة‪ .‬أي إن "العرف" ليس‬
‫عادال‪ .‬هذه‬
‫جمرد مصدر من مصادر الشريعة‪ ،‬ولكنه من الوسائل اليت يرجع هلا القاضي كي يكون حكمه ً‬
‫فمثال‪ ،‬كان ميكن االعتماد‬
‫املساحة من املمارسة للعدالة غائبة عن تصور اإلسالميني عن العدل بشكل كبري‪ً .‬‬
‫عليها لتقدمي مفهوم خاص حول "العدالة االنتقالية" أو العدل االجتماعي أو البحث حول احلرايت العامة‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫ترتاوح بني التحريف والتزييف والكذب املقصود‪ ،‬ينتهي ابلتمويه الال واعي املتمثل ابلتحيز‪.‬‬
‫أي إن اإلسالميني ‪ -‬حىت أصحاب املشاريع الفكرية منهم يف الوقت احلايل على األقل‬
‫املصلحي على‬
‫ّ‬ ‫ب عليهم من توسعة نطاق‬ ‫‪ -‬يستعملون ما يؤمنون به بشكل جزئي مبا غلر َ‬
‫‪/‬األخالقي‪ .‬وإن هذا التصرف يستبطن رؤية مادية‪/‬أرضية للعامل تقوم على التنافسية‬
‫ّ‬ ‫القيمي‬
‫ّ‬
‫الطوابوي الساعي إىل أشياء ليست‬
‫ّ‬ ‫التفكري‬ ‫ميوت‬ ‫حيث‬ ‫التأقلم‪،‬‬ ‫ومنطق‬ ‫الفرص‬ ‫اقتناص‬
‫و‬
‫موجودة يف الوضع القائم لصاحل التفكري األيديولوجي الذي يربر الوضع القائم على فساده‪،‬‬
‫األخالقي‬
‫ّ‬ ‫القيمي‬
‫ّ‬ ‫رغم أن األفكار والرؤى ختتلف وتتنافر مع هذا الوضع‪ .‬فيرصبح اخلطاب‬
‫يف جهة خمالفة لربمجاتية اخلطاب السياسي‪ ،‬فيقع الفرد ‪-‬كما احلركة اإلسالمية‪ -‬يف ارتباك‬
‫وتفريغ الستقامتها وخريهتا املفرتضة‪ ،‬ال من دون قصد بل بوعي واعرتاف‪ 154‬ابإلمعان يف‬
‫للدعوة للمشروع السياسي اإلسالمي‪ ،‬فتقف الدعوة يف خدمة‬ ‫التزاحم السياسي وإمهال ر‬
‫ّ‬
‫العمل السياسي وأتمينه ال العكس‪.‬‬
‫وجدير أن نذكر أن تلك التوصيفات ليست حالة دائمة يف الفكر اإلسالمي املعاصر‪،‬‬
‫لكنها يف احلقيقة ترتاوح بني الشدة والضعف حسب تفقه املفكر وقربه من الرتاث‬
‫اإلسالمي بسلسلة من التغريات‬
‫ّ‬ ‫مر الفكر‬
‫احلضاري الغريب‪ .‬فلقد َّ‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي أو أتثره ابملنتج‬
‫ّ‬
‫واالنقطاعات والتكامالت املعرفية واحلركية اليت تفرض نفسها يف كثري من األحيان يف‬
‫سياقات جغرافية خمتلفة على طول تنوع سوسيولوجيا اإلسالم بني الشرق والغرب‪.‬‬
‫اإلسالمي برمته هو السبيل‬
‫ّ‬ ‫ونعتقد أن احملور األخالقي الذي يندرج حوله التصور‬
‫الستعادة يوتوبيا إسالمية حقيقية‪ ،‬ال بوصفها مثالية‪ ،‬بل بوصفها حالة من حاالت‬
‫الكلي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التفاعل والتدافع مع الواقع والتفكري حملاولة تقريب مفاهيم اإلسالم إىل الواقع‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وأوهلا الدولة اليت تضخمت يف‬
‫ّ‬ ‫ابلتفكري خارج اإلطارات اخلانقة آلفاق الفكر‬
‫تصور اإلسالميني لدرجة عجزوا بعدها عن التفكري يف أي أولوية أخرى‪ .‬وقد يبدو‬

‫‪ 154‬وال أعجب من القول الذي انتشر بني السلفيني يف مصر بعد الثورة أن دخول الربملان أشبه أبكل امليتة‬
‫للمضطر‪ ،‬وقد أركلت امليتة حبق ملا خلطت الدعوة ابلسياسة ففسدت األخالق وفسدت الدعوة وبقيت السياسة‬
‫على حاهلا‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫األخالقي يف اإلسالم هو السبيل للتخلص من ديستوبيا غري أخالقية‬
‫ّ‬ ‫استعادة البعد‬
‫نظرا ملا يكتنفها من سري مع التيار دون مراجعة أخالقية ملا يكون وما ال يكون‪.‬‬
‫بطبيعتها‪ً ،‬‬
‫ولقد كان رهان اإلسالميني األساسي بعد الثورات على البعد اهلواييتّ يف احلياة العامة‬
‫دون اعتبار ألمهية فتح ابب التفكري يف قضااي سوسيولوجية مهمة كقضية العدالة‪ .‬وتبدو‬
‫كقضية كاشفة لكيف يتعامل اإلسالميون مع ما‬ ‫ٍ‬ ‫قضية العدالة االنتقالية يف مصر وتونس‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وحباجة إىل مراجعة حقيقية‪ ،‬خاصة بعد وقوع‬
‫ّ‬ ‫دوما من أخالقية احلل‬
‫اندوا به ً‬
‫اإلسالمي اآلن على درب التغري الثقايف للبىن االجتماعية اليت تكونت بفعل‬‫ّ‬ ‫اجملتمع‬
‫احلداثة‪ ،‬إىل مستوى آخر من التغري بفعل العوملة واألخالق ما بعد احلداثية اليت غزت‬
‫اإلسالمي‪ ،‬حيث ال تبدو األخالق اإلسالمية التقليدية اآلن بنفس درجة النفاذية‬
‫ّ‬ ‫اجملتمع‬
‫دوما ما راهن عليها اإلسالميون يف براجمهم‬
‫يف االجتماع اإلسالمي ابعتبار أصالتها اليت ً‬
‫االنتخابية يف اجلامعات والنقاابت والربملاانت‪ .‬تلك األصالة وتلك النفاذية قد ال تبدو‬
‫بنفس درجتها وأتثريها يف اجلماهري املسلمة اليوم‪ ،‬وخاصة بني األجيال اجلديدة املولودة‬
‫ملة رحقيقية ألمناط العيش‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫اقتصاد معريف مفتوح وعو ٍ‬
‫ّ‬ ‫يف رح ِم‬
‫وكما خرجت كتاابت حممد عبده ورشيد رضا وقطب وعودة وابن ابديس واإلبراهيمي من‬
‫اإلسالمي‪ ،‬فإن اإلسالميني احلركيني اليوم ينظرون إىل الواقع‬ ‫رح ِم ٍ‬
‫فساد يف االجتماع‬
‫ّ‬
‫ابعتباره رمعطى ال رميكن تغيريه بل ابلتعامل مع فساده والتأقلم مع هياكله‪ ،‬حيث متوت‬
‫السياسي عندما تفقد راديكاليتها وتتحول إىل فكرة أيدولوجية‬
‫ّ‬ ‫اليوتوبيا يف مغبة الصراع‬
‫خانقة‪ .‬وال عيب يف التنظيم بل فيما قد رخيلفه من دومجا أخالقية تربر للحركة السياسية‬
‫اإلسالمي الساعي لتقريب الواقع التارخيي من‬
‫ّ‬ ‫للمعطى القيمي يف التصور‬‫دون اعتبار ر‬
‫السياسي يف العامل كله‪،‬‬
‫ّ‬ ‫املفاهيم اإلسالمية‪ .‬وهناية التفكري الطوابوي مشكلة تواجه العمل‬
‫لكنها ال تعفي اإلسالميني من االخنراط وال تعفيهم من التفكري اجلاد بشأن بديل حقيقي‬
‫دوما‬
‫يزيد رحابة العامل أمام املقهورين واحملرومني واملسلوبة حقوقهم‪ .‬وميكن القول إن هناك ً‬
‫إمكانية إلعادة تفعيل عناصر جديدة ميكنها إنتاج تصورات أكثر صالبة عن مفهوم‬
‫العدل ابعتباره األكثر حمورية يف الفكر اإلسالمي على مدار اترخيه‪.155‬‬

‫‪ 155‬وهو توكيد ملا جاء يف املقاربة من تصور جايل حول انفتاح املفاهيم‪.‬‬
‫‪158‬‬
‫وخنلرص اآلن إىل عدة دوائر يف نطاق الفكر واحلركة تتعلق أبخالق احلركة اإلسالمية‬
‫وأولوايهتا النظرية ومشاركتها السياسية‪ ،‬ميكن أن نر ِ‬
‫دعم من خالهلا حركة إسالمية فعالة‪.‬‬
‫بديال إسالميًا قظ يعوض االخنراط يف‬
‫نين يف التاريخ بوصفه ً‬
‫الس ّ‬
‫أوال‪ :‬استعادة التفكري ر‬
‫ً‬
‫أبعادا أخرى من الوجود‬
‫أخالقي يكشف لإلسالميني ً‬
‫ّ‬ ‫العمل السياسي دون حساب‬
‫السياسي‪. 156‬‬
‫اثنيًا‪ :‬مراجعة ألولوايت احلركة اإلسالمية وتنظيمها للقيم اليت تشتبك معها يف حلظات‬
‫مفهوم ْني‬
‫الرمحة يف خضم احلديث عن العدالة َ‬ ‫التدافع والتفاوض‪ .‬وقد يبدو مفهوما الفطرة و‬
‫‪157‬‬
‫حيويَْني خيصان منظومة األخالق اإلسالمية ‪.‬‬
‫اثلثًا‪ :‬مراجعة أولوية التسييس يف احلركة اإلسالمية وخطورته على الدعوة اإلسالمية‪.‬‬
‫ابعا‪ :‬استعادة الفقه والفقيه يف احلركة السياسية‪.‬‬
‫رً‬
‫ويبقي السؤال األخري‪ :‬إىل أي مدي رميكن أن ينجح اإلسالميون يف بناء تصورات جديدة‬
‫عن العدالة داخل تلك الصورة من الدولة احلديثة املتوغلة‪ ،‬وداخل النفس اإلنسانية‬
‫احملاصرة ابحلداثة السائلة‪158‬؟‬

‫كثريا منذ أن دعا إليه حممد عبده أول مرة‪.‬‬ ‫‪156‬‬


‫نظري كبري أتخر ً‬ ‫حيتاج إىل جهد ّ‬
‫‪ 157‬قد أوىل سيد قرطب أولوية غري قليلة ملفهومي الفكرة والرمحة يف أطروحته عن العدالة االجتماعية يف اإلسالم‪،‬‬
‫ومها يف حاجة إىل ابحثني جادين‪.‬‬
‫‪ 158‬زجيموند ابومان‪ ،‬احلداثة السائلة‪ ،‬ترمجة د‪ .‬حجاج أبو‪( ،‬بريوت‪ :‬الشبكة العربية لألحباث والنشر‪،‬‬
‫‪.)2016‬‬
‫‪159‬‬
‫الفصل اخلامس‪:‬‬
‫اإلسالميون وإشكالية الدولة‬
‫حممد عفان‬

‫مل يتمتع موضوعٌ يف الفكر اإلسالمي املعاصر وعلى أجندة‬


‫احلركات اإلسالمية احلداثية ابألمهية واملركزية اليت متتع هبا‬
‫موضوع الدولة‪ ،‬ورمبا مل يكن هناك كذلك موضوعٌ جيسّد‬
‫تعثر هذا الفكر وإخفاقات هذه احلركات كما جسده‬
‫حتدي الدولة‪ ،‬وذلك على الرغم من جناحاهتما وإجنازاهتما‬
‫يف جماالت أخرى اجتماعية وثقافية بل وسياسية‪.‬‬
‫فعلى مستوى النظرية‪ ،‬مل ينجح الفكر اإلسالمي املعاصر أن يقدم أطروحات متماسكة‬
‫أو أصيلة‪ ،‬دون أن يرتهم ابالنتحال من الفكر السياسي الغريب‪ ،‬أو اجلمود على سوابق‬
‫اترخيية‪ ،‬أو تقدمي رؤى سطحية غري تفصيلية وشعارات غري عملية‪ ،‬واألهم من ذلك مل‬
‫أي من تلك النظرايت يف اكتساب القبول الواسع أو انتزاع الشرعية من خمتلف‬
‫تنجح ّ‬
‫فضال عن أن يكون هذا التوافق والقبول بني مجوع املسلمني‪.‬‬
‫تيارات اإلسالميني ً‬
‫وعلى املستوى احلركي التطبيقي‪ ،‬ومع اختالف السياقات‪ ،‬أخفقت احلركات والقوى‬
‫السياسية اإلسالمية يف إجناز مشروع "الدولة اإلسالمية"‪ ،‬سواء بعدم قدرهتا على حتقيق‬
‫مرض وحمل ٍ‬
‫انتقاد كما يف حال الدولة السعودية‬ ‫املشروع ذاته‪ ،‬أو أن ما أجنزته كان غري ٍ‬
‫شائها كما هو احلال يف جتربة‬
‫مسخا ً‬‫أحياان كان ً‬
‫أو اجلمهورية اإلسالمية يف إيران‪ ،‬بل و ً‬
‫تنظيم الدولة اإلسالمية يف العراق والشام‪.‬‬
‫وبناء على ذلك‪ ،‬فإن اهلدف من هذه الورقة هو مناقشة أسباب هذا التعثر وهذا اإلخفاق‬
‫على األخص على املستوى النظري‪ ،‬مبعىن ملاذا مل ينجح الفكر اإلسالمي املعاصر يف‬
‫اإلجابة على سؤال الدولة إجابة شافية رمرضية؟! وما هي املغالطات املنطقية واملوانع‬
‫العملية اليت حتول دون صياغة نظرية قابلة للتطبيق وحمل إمجاع ملا يعرف بـ"الدولة‬
‫موجزا ألهم األطروحات‬‫ً‬ ‫اضا‬
‫اإلسالمية"؟! بعد ذلك‪ ،‬سوف تقدم الورقة استعر ً‬
‫األيديولوجية اإلسالموية فيما خيص تصورها عن الدولة‪ ،‬بدءًا من الرؤية التقليدية‬
‫مرورا ابلرؤية شبه الثيوقراطية حلكم الفقهاء‪ ،‬والرؤية التحديثية الدميقراطية‪،‬‬
‫السلطوية‪ً ،‬‬
‫وانتهاء بنظرية احلاكمية اجملسدة للفلسفة املثالية اإلسالموية‪ ،‬لنخلص بعدها إىل بعض‬
‫املقرتحات اليت قد تفيد يف معاجلة إشكالية الدولة يف الفكر اإلسالمي املعاصر‪.‬‬
‫تديني السياسة‪:‬‬
‫تستخدم األدبيات اإلسالمية املعاصرة عدة مصطلحات للتعبري عن الكيان السياسي‬
‫املعرب عن اإلسالم بشكل مرتادف على الرغم من االختالفات الكبرية يف مدلوالهتا‪ ،‬مثل‬
‫اخلالفة اإلسالمية والدولة اإلسالمية واحلكومة اإلسالمية وغريها‪ ،‬وتعد اخلالفة أهم هذه‬
‫عرف يف كتاابت الفقهاء‬ ‫املصطلحات وأكثرها شرعية يف املخيلة اإلسالمية‪ .‬واخلالفة كما تر ّ‬
‫‪1‬‬
‫تقليداي هي "رائسة عامة يف أمر الدين والدنيا خالفة عن النيب صلى هللا عليه وسلم" ‪،‬‬ ‫ً‬
‫عرف املاوردي اإلمامة أبهنا "موضوعة خلالفة النبوة يف حراسة الدين وسياسة‬ ‫أو كما‪ّ 2‬‬
‫عرف تعري ًفا ذا‬ ‫ٍ‬
‫معا‪ ،‬كما أهنا تر ّ‬
‫سياسي ً‬
‫ٍّ‬ ‫الدنيا" ‪ ،‬وهنا تبدو اخلالفة سلطة ذات بعد ديين‬
‫داللة وظيفية وهي اإلمامة يف الدين والقيام على واجبات النبوة ومهامها‪ ،‬وهو ما أعطى‬
‫مقام اخلالفة مكانة مقدسة‪ ،‬دفعت بعض الفرق اإلسالمية مثل الشيعة االثنا عشرية إىل‬
‫القول أبنه مبا أن اإلمامة هي امتداد للنبوة‪ ،‬وأهنا استمرار لوظيفتها‪ ،‬فإهنا تعد مرتبة دينية؛‬
‫إذ إن حفظ الشرع من التحريف أو اخلطأ والزلل يف التطبيق يقتضي عصمة هذا املنصب‪،‬‬
‫والعصمة تقتضي النص والوصية‪ ،‬مبعىن أن يرنص على اإلمام من سلفه‪ ،‬وأن يوصي به من‬
‫بعده‪ ،‬وأن يكون نصبه من قبل هللا تعاىل؛ إذ ال ميكن القيام هبذه املهمة بغري املعصوم أو‬
‫الذي يررتك اختياره لرأي الناس وأهوائهم‪ ،‬وهبذا تكون اإلمامة لديهم دينية ثيوقراطية من‬

‫‪ 1‬عبد الرزاق السنهوري‪ ،‬فقه اخلالفة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية‪ ،‬ترمجة‪ :‬اندية عبد الرزاق السنهوري‪،‬‬
‫(اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،)2013 ،‬ص ‪.75‬‬
‫‪ 2‬أبو احلسن املاوردي‪ ،‬األحكام السلطانية والوالايت الدينية‪ ،‬حتقيق د‪ .‬أمحد مبارك البغدادي‪( ،‬مكتبة دار‬
‫ابن قتيبة‪ ،‬الكويت‪ ،‬ط‪ ،)1989 ،1‬ص ‪.3‬‬

‫‪162‬‬
‫‪3‬‬
‫أيضا إىل الفكر‬
‫حيث مشروعيتها ومن حيث وظيفتها ‪ ،‬كما تسربت هذه القداسة ً‬
‫اإلسالمي السين مع إعادة تصور منصب اخلالفة ووظيفتها على أهنا خالفة عن هللا‬
‫(وليست عن رسوله صلى هللا عليه وسلم) يف إقامة العدل يف األرض‪ ،‬وشيوع مقوالت‬
‫مثل "السلطان هو ظل هللا يف األرض‪ ،‬أيوي إليه كل مظلوم" يف كتاابت فقهاء السياسة‬
‫الشرعية‪.4‬‬
‫من املهم ذكر ذلك عند بداية تناولنا إشكالية الدولة يف الفكر اإلسالمي املعاصر؛ إذ إن‬
‫أثر ابل ٌغ يف املخيلة اإلسالمية املعاصرة‪ ،‬واليت صارت يف كثري من األحيان ‪-‬‬
‫هذا كان له ٌ‬
‫نتيجة ظروف ضاغطة كثرية ‪ -‬ال تقنع فقط أبن املمارسة السياسية جيب أن ترتكز على‬
‫املرجعية القيمية لإلسالم‪ ،‬أو أن على السلطة السياسية أن تقوم بوظائف ومهام دينية؛‬
‫بل اجنرفت ٍ‬
‫بشكل تلقائي إىل ما أطلق عليه برهان غليون "تديني السياسة"‪ ،‬وهو ما ميكن‬
‫يعرف على أنه مقاربة اجملال السياسي مبنطق وذهنية دينية‪ ،‬واليت تتسم عادة مبنطق‬ ‫أن ّ‬
‫التلقي والتسليم‪ ،‬وإضفاء شيء من القداسة على املمارسات البشرية والوقائع التارخيية‪،‬‬
‫كما تقوم كذلك على الثنائيات العقدية احلادة وامليل إىل خوض الصراعات بنزعة صفرية‬
‫احدا يف مواجهة أابطيل متعددة‪،‬‬‫ابعتبارها أهنا تعكس ح ًقا يف مواجهة ابطل‪ ،‬أو قل ح ًقا و ً‬
‫مثال يف تناول سيد قطب ملسألة احلاكمية كما سنرى الح ًقا؛‬ ‫وهي السمات اليت نراها ً‬
‫ولذلك فقد أشار غليون إىل أن املشكلة ليست يف وجود وظائف أو أدوار اجتماعية‬
‫وسياسية للدين‪ ،‬ولكن يف عملية تديني اجملاالت السياسية واالجتماعية‪:‬‬
‫خطرا على الدين أو السياسة‪ ،‬ولكن اخلطر‬ ‫"إن ارتباط الدين ابلسياسة ال ميثل إذن ً‬
‫يكمن يف حتويل السياسة إىل ممارسة مقدسة دينية‪ ،‬وإلغاء الفعل العقلي والنقدي فيها‪،‬‬
‫سواء حصل ذلك بعد استالم السلطة ابسم دولة هللا‪ ،‬أو قبل ذلك‪ ،‬داخل حزب هللا‪.‬‬
‫وليس اخلطأ يف تكوين أحزاب سياسية تستلهم القيم واملبادئ واألحكام اإلسالمية‪ ،‬ولكن‬

‫‪ 3‬علي فياض‪ ،‬نظرايت السلطة يف الفكر السياسي الشيعي املعاصر‪( ،‬مركز احلضارة لتنمية الفكر اإلسالمي‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪ ،)2010 ،2‬ص ‪.114-108‬‬
‫‪ 4‬أبو احلسن املاوردي‪ ،‬أدب الدنيا والدين‪ ،‬حتقيق حممد كرمي راجح‪( ،‬مكتبة دار اقرأ‪ ،‬بريوت‪ ،)1985 ،‬ص‬
‫‪.149‬‬

‫‪163‬‬
‫يف االنزالق من ذلك حنو ادعاء قدسية العقيدة السياسية املستمدة من القيم الدينية‬
‫وقدسية السلطة املرتبطة هبا"‪.5‬‬
‫إبسقاط هذه اإلشكالية على مسألة الدولة يف الفكر اإلسالمي املعاصر جند أن الدولة مل‬
‫تعد مسألة مصلحية أو أداتيه فقط‪ ،‬ترتبط بتحقيق بعض املصاحل أو أداء بعاض الوظائف‬
‫‪-‬ولو كان بعضها وظائف دينية‪-‬؛ بل أصبحت ‪-‬وفق الرؤية العضوية للدولة‪ -‬جمسدةً‬
‫حلقيقة ما‪ ،‬قد تكون وحدة األمة املسلمة‪ ،‬أو إقامة الدين على األرض‪ ،‬أو ما شابه ذلك‪،‬‬
‫أحياان‬
‫وكلها ابلطبع حقائق تتمتع بشيء من القداسة‪ ،‬وهو ما جيعل التفكري هبا ال خيضع ً‬
‫لقواعد املنطق وتقدير الواقع واإلمكان‪ ،‬بل ختضع ملقتضيات اإلميان والتسليم والتفكري‬
‫الدومجايت‪.‬‬
‫ما بني البشري واإلهلي‪ ،‬والتارخيي واملطلق‪:‬‬
‫أحد أبرز مظاهر تديني السياسة أو مقاربة السياسة مبنطق ديين هو عدم قدرة الفكر‬
‫السياسي اإلسالمي املعاصر يف بعض األحيان على التمييز بني البشري واإلهلي‪ ،‬والتارخيي‬
‫صرح‬
‫واملطلق يف اخلربة السياسية اإلسالمية‪ ،‬فبالرغم من أنه ميكن القول ابطمئنان ‪ -‬كما ّ‬
‫حممد أسد ‪ -‬إنه ال يوجد نص واضح تفصيلي حيدد طبيعة الدولة يف اإلسالم‪ ،‬وأن‬
‫للمسلمني يف كل حقبة أن يكتشفوا النمط األكثر مالءمة الحتياجاهتم‪ ،‬شريطة أن يكون‬
‫متاما مع األحكام القاطعة للشريعة‪،6‬‬
‫النمط الذي مت اختياره وأن تكون مؤسساته متوافقة ً‬
‫فإن اجتهادات الفقهاء األقدمني والسوابق التارخيية أتخذ حجية تشريعية يف كثري من‬
‫أصيال من النظام السياسي اإلسالمي ‪ -‬بتعريف األلف والالم‪.‬‬‫األحيان لتكون جزءًا ً‬
‫اإلشكالية األساسية هنا أن أحكام الشريعة يف جمملها ال تتنزل إال ابستنباط الفقهاء‬
‫واجتهادهم‪ ،‬وهي االجتهادات اليت تتشكل بصورة كبرية يف سياقات حمددة‪ ،‬وابألعراف‬
‫السائدة واإلمكاانت املتاحة هبا‪ ،‬لكنها يف الذهنية اإلسالمية املعاصرة تتجرد لتأخذ حكم‬
‫مثال اليت بنيت على تقدير العلماء ملصاحل‬ ‫املطلقات‪ ،‬فقاعدة كقاعدة إمامة املتغلب ً‬
‫ومفاسد مؤقتة يف سياقات حمددة‪ ،‬اكتسبت قيمة تشريعية مطلقة مبعزل عن التقديرات‬

‫‪ 5‬برهان غليون‪ ،‬نقد السياسة‪ :‬الدولة والدين‪( ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،)4‬ص ‪.461‬‬
‫‪ 6‬حممد أسد‪ ،‬منهاج اإلسالم يف احلكم‪ ،‬ترمجة منصور حممد راضي‪( ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪،)1978 ،‬‬
‫ص ‪.55‬‬
‫‪164‬‬
‫اخلاصة هبا‪ ،‬وكذلك آليات كآلية بيت املال لضبط توزيع الثروة ‪ -‬وهي اآللية املالئمة‬
‫لدولة اقتصادها غنائمي ابألساس ‪ -‬أصبحت هي اآللية االقتصادية "اإلسالمية" يف بعض‬
‫اجتهادا‬
‫ً‬ ‫التصورات‪ ،‬وكذلك تطبيق الشورى وفق آلية "أهل احلل والعقد" النخبوية مل تعد‬
‫بشرًاي وفق ظروف اجتماعية حمددة‪ ،‬بل البديل "اإلسالمي" األصيل لفكرة الربملان‬
‫الدميقراطية الغوغائية "غري الشرعية" و"املستوردة"‪.‬‬
‫وبتنزيل هذه اإلشكالية على مسألة الدولة جند أهنا أثرت يف كثري من تصورات الفكر‬
‫اإلسالمي املعاصر عن الدولة اإلسالمية‪ ،‬فنماذج احلكم يف اجملتمعات املسلمة ما قبل‬
‫احلداثية قد تسربت بشكل و ٍاع أو ال و ٍاع لتكون جزءًا ال يتجزأ من الشريعة يف املخيلة‬
‫اإلسالمية املعاصرة‪ .‬فبخالف الدولة احلديثة‪ ،‬امتازت الدول التقليدية ما قبل احلداثية أبن‬
‫السلطة كانت مركزية وغري مقسمة يف هيكلها‪ ،‬ومشخصنة (غري مؤسساتية) أبوية يف‬
‫طبيعتها‪7‬؛ لذلك ففي الكتاابت الرتاثية للفقهاء املسلمني تتمثل السلطة السياسية يف‬
‫منصب اخلليفة أو اإلمام‪ ،‬والذي يعد السلطة التنفيذية واإلدارية األعلى‪ ،‬والذي يتمتع‬
‫بصالحيات واسعة متضمنة‪ :‬مدد حكم غري مقيدة‪ ،‬سلطة مطلقة على الشؤون التنفيذية‬
‫واملالية‪ ،‬وتعيني الوظائف األساسية ابلدولة‪ ،8‬كما كانت العالقة بني احلاكم واحملكوم رعائية‬
‫يف طبيعتها‪ ،‬مبا جعل القراءة السائدة للفقهاء هي تكييف منصب اإلمامة ال على أنه‬
‫حق احملاسبة بل والعزل‪ ،‬بل على أهنا والية كوالية األب على‬ ‫وكالة عن األمة مبا يعطيها َّ‬
‫القصر‪ ،9‬كما بدت البيعة أقرب إىل العالقة بني شخص احملكوم واحلاكم‪ ،‬يبذل فيها‬ ‫أبنائه ّ‬
‫احملكوم الطاعة السياسية والوالء للحاكم يف مقابل تقيد هذا األخري بكتاب هللا وسنة‬
‫رسوله‪.‬‬

‫‪Bruce Charlton and Peter Andras, The Modernization 7‬‬


‫‪Imperative (Exeter, UK: Imprint Academic, 2003), 3-4.‬‬
‫‪Mohammad Hashim Kamali, Characteristics of the Islamic 8‬‬
‫‪State, Islamic Studies 32, 1 (1993): 31.‬‬
‫‪ 9‬حاكم املطريي‪ ،‬احلرية أو الطوفان‪( ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،)2008 ،2‬ص ‪.177‬‬

‫‪165‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن الفقهاء املسلمني مل يناقشوا موضوع الدولة اإلسالمية أو يصفوا هياكلها‬
‫بدال من ذلك‪ ،‬اهتموا ابلشرح الدقيق للمواصفات‬ ‫ووظائفها كمؤسسات ابألساس‪ ،‬بل ً‬
‫التفصيلية ملن يتوىل املناصب الرئيسة ابلدولة مثل اخلليفة أو الوالة أو القضاة ‪-‬وإن كانت‬
‫هذه املواصفات انطباعية ابألساس‪ ،-‬وهذا االهتمام ابلصفات والصالحيات الشخصية‬
‫‪-‬وف ًقا للبعض‪ -‬هو ما أثر ابلسلب يف تطور أي فكر أو أطروحات بشأن مؤسسات‬
‫الدولة اإلسالمية‪.10‬‬
‫هذا التصور الشخصاين غري املؤسسايت للسلطة جيسده ‪-‬على سبيل املثال‪ -‬منوذج طالبان‬
‫كما يصوره فهمي هويدي يف كتابه "طالبان‪ :‬جند هللا يف املعركة اخلطأ"‪ ،‬حني سأل بعض‬
‫قيادات احلركة عن كفاءهتم اليت تؤهلهم إلدارة الدولة مبختلف ختصصاهتا يف ظل كوهنم‬
‫جمموعة من طالب العلم فقط‪ ،‬فكانت إجابتهم مشخصنة‪ ،‬تركز على الورع الشخصي‬
‫قياسا على السوابق التارخيية اليت تتسم بـ "أن‬
‫والعلم الشرعي ملن يتقلد املناصب العامة‪ً ،‬‬
‫الوالة يف الدولة اإلسالمية كانوا خيتارون بناء على مقدار الثقة يف استقامتهم وورعهم‬
‫وإحاطتهم أبمور احلالل واحلرام‪ ،‬وليس بناء على ختصصاهتم العلمية وشهاداهتم"‪.11‬‬
‫تكيف الفكر اإلسالمي الرتاثي وتعثره‪:‬‬
‫تديني السياسة كما بدا يف مقاربة الفكر اإلسالمي املعاصر للتجربة التارخيية اإلسالمية‬
‫هو إشكالية مركبة يف حقيقة األمر؛ إذ من جهة تسربت الكثري من املمارسات‬
‫واالجتهادات البشرية الرتاثية إىل جوهر الشريعة وصار هلا حجيةٌ بل وشيء من قداسة يف‬
‫املخيلة اإلسالمية املعاصرة كما ذكران ساب ًقا‪ ،‬ومن جهة أخرى فإن التجربة الرتاثية ذاهتا‬
‫وما أفرزته من اجتهادات فقهية ورؤى فكرية اعرتاها أزمتان أساسيتان‪ :‬التكيف مع ضغوط‬
‫الواقع حني عجزت عن توجيهه وتقوميه‪ ،‬وحرماهنا من البيئة الصحية اليت تسمح هلا ابلتطور‬

‫‪Olivier Roy (trans. by Carol Volk), The Failure of Political 10‬‬


‫‪Islam (Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press, 2001),‬‬
‫‪43&62.‬‬
‫‪ 11‬فهمي هويدي‪ ،‬طالبان جند هللا يف املعركة الغلط‪( ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،)2001 ،2‬ص ‪-50‬‬
‫‪.52‬‬
‫‪166‬‬
‫والنمو‪ .‬فبالرغم من أن الفقهاء املسلمني قد متسكوا ابلقواعد املعيارية للحكم اإلسالمي‬
‫أيضا الستثناءات كان جيب أن تظل استثناءات حمدودة بظروفها‬ ‫قعدوا ً‬‫الراشد‪ ،‬فإهنم ّ‬
‫أصال رحيكى فيه اإلمجاع‪.‬‬
‫املقيدة‪ ،‬حىت صارت هذه االستثناءات ً‬
‫ففي مسألة حمورية يف التنظيم السياسي مثل املشروعية السياسية‪ ،‬نرى كيف أثرت‬
‫الصراعات اليت اندلعت يف أواخر احلقبة الراشدة وعلى مدى أربعة عقود تقريبًا يف الفكر‬
‫اإلسالمي الرتاثي والذي أعطى مسألة الفعالية والقدرة على محاية دار اإلسالم ومنع الفتنة‬
‫والتقاتل الداخلي أولويةً مقارنة ببعض القيم األخرى مثل الشورى‪ .‬فعلى الرغم من التأكيد‬
‫على أن الشورى هي قيمة مركزية يف التنظيم السياسي اإلسالمي‪ ،‬وأن املشروعية السياسية‬
‫تستند على قاعدة تعاقدية متمثلة يف البيعة‪ ،‬واليت ال تصبح معتربة إال إذا عربت عن إرادة‬
‫عقدا والعقود ال يعتد هبا إال إذا كانت عن رضا‪ ،12‬فإنه ‪ -‬كما‬‫األمة دون إجبار‪ ،‬لكوهنا ً‬
‫يذكر حاكم املطريي ‪ -‬قد نشأت عدة أمناط "منحرفة" من املشروعية السياسية‪ ،‬ومت‬
‫التأصيل هلا من قبل الفقهاء كأمر واقع‪:‬‬
‫أوال‪ :‬االستناد إىل شرعيات سياسية غري بيعة األمة يف طلب احلق يف احلكم‪ ،‬مثل النسب‬ ‫ً‬
‫إىل النيب صلى هللا عليه وسلم كما فعل العباسيون‪ ،‬أو اجلدارة "من أحق هبا منا؟!" كما‬
‫ادعى األمويون‪.‬‬
‫شكال من أشكال الشرعية السياسية‪ ،‬يغين عن بيعة األمة‪،‬‬ ‫اثنيًا‪ :‬اعتبار االستخالف ً‬
‫الدا)‪ ،‬دون الرجوع إىل رأي‬ ‫أخا أو و ً‬
‫يب اخلليفة (ابنًا أو ً‬
‫ف قر َ‬ ‫حىت وإن كان املرستخلَ ر‬
‫األمة‪ ،‬وتكمن أمهية هذا الرأي ‪ -‬كما هو ظاهر ‪ -‬يف أنه يعطي الشرعية الدينية للحكم‬
‫الوراثي واملمالك األسرية‪.‬‬
‫اثلثًا‪ :‬إضفاء الشرعية على قبض السلطة ابستخدام القهر أو الغلبة خوفًا من الفوضى‬
‫السياسية أو ما يعرف ابلفتنة‪ ،‬حىت وإن مل تكن شرعيته قائمة على اختيار أهل احلل‬
‫والعقد (املمثلني عن األمة) أو استخالف من قبله‪.13‬‬

‫‪ 12‬توفيق الشاوي‪ ،‬فقه الشورى واالستشارة‪( ،‬املنصورة‪ ،‬دار الوفاء‪ ،)1992 ،‬ص ‪.435-434‬‬
‫‪ 13‬حاكم املطريي‪ ،‬حترير اإلنسان وجتريد الطغيان‪( ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪،)2009 ،‬‬
‫ص ‪.577-561‬‬

‫‪167‬‬
‫وابحملصلة‪ ،‬فقد وضع الفقهاء املسلمون حدًّا أدَّن للمشروعية السياسية‪ ،‬فطاملا كان احلاكم‬
‫قادرا على الدفاع عن دار اإلسالم‪ ،‬وال مينع رعاايه املسلمني من دينهم‪ ،‬فهو حاكم‬ ‫ً‬
‫شرعي‪ ،‬ال جيوز اخلروج عليه‪ ،‬خوفًا من تفكك األمة‪ ،‬وانتشار الفوضى "الفتنة"‪ ،14‬وهذا‬
‫استثنائي يف فرتات االضطراابت (مثل النزعة السلطوية‬ ‫ٍ‬
‫كتوجه مؤقت و‬ ‫متفهما‬ ‫أمر يعد‬
‫ٍّ‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫لتوماس هوبز واليت تربرها االضطراابت اليت مرت إبجنلرتا يف منتصف القرن السابع عشر‬
‫أساسا يلغي عمليًا قيمة الشورى‬
‫مثال)‪ ،‬لكن املشكلة أن هذا االستثناء صار قاعدةً و ً‬ ‫ً‬
‫والرضا يف البيعة‪ ،‬وهو ما نرى آاثره يف التيارات السلفية املعاصرة‪ ،‬واليت ال ترى غضاضة‬
‫يف املمالك السلطوية واحلكم الوراثي من ابب حفظ النظام وخوف الفتنة‪ ،‬وهتمش قيمة‬
‫الشورى لتكون على شكل استشارات غري ملزمة ومقصورة على النخب العلمائية ووجهاء‬
‫الناس كما كانت يف اجملتمعات املسلمة التقليدية‪.‬‬
‫هذا املنحى التكيفي للفكر السياسي الرتاثي وشيوع منطق األمر الواقع حرمه من بيئة‬
‫صحيحة للنمو والتطور‪ ،‬فبخالف أفرع عديدة مثل علم الكالم أو فقه العبادات‬
‫واملعامالت أو فقه املواريث واألحوال الشخصية‪ ،‬جند أن اإلسهام الفكري والفقهي يف‬
‫كما‪ ،‬ويتجلى ذلك يف غياب اجتهادات وافية حتول‬ ‫قاصر كي ًفا و ًّ‬
‫اجلانب السياسي منها ٌ‬
‫القيم واملبادئ السياسية اإلسالمية من الشورى واحلق يف رقابة احلكام وحماسبتهم أو حىت‬
‫عزهلم وحنو ذلك إىل نظام واقعي له أدواته ومؤسساته الفعالة‪ .‬والح ًقا‪ ،‬تفاقمت هذه‬
‫اإلشكالية بعد القرن الثامن اهلجري مع توقف االجتهاد الفقهي كأحد املظاهر العامة‬
‫لتقهقر احلضارة اإلسالمية‪ ،‬وذلك يف الوقت ذاته الذي بدأت فيه األمة اإلسالمية تشهد‬
‫تغريات جذرية اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا‪ ،‬ومن هنا عندما برزت احلداثة يف اجملتمعات‬
‫مستعدا ملواكبة هذه التغريات غري املسبوقة‪.15‬‬
‫ً‬ ‫املسلمة املعاصرة مل جتد الفقه اإلسالمي‬

‫‪Mohammed Ayoob, The Many Faces of Political Islam: 14‬‬


‫‪Religion and Politics in the Muslim World (Singapore: NUS‬‬
‫‪Press, 2008), 11.‬‬
‫‪ 15‬سيد قطب‪ ،‬حنو جمتمع إسالمي‪( ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،)2013 ،‬ص ‪.49‬‬
‫‪168‬‬
‫التحدايت اليت فرضتها احلداثة على املفهوم التقليدي للحكم اإلسالمي‪:‬‬
‫مما سبق‪ ،‬فإن الفكر السياسي اإلسالمي املعاصر يعاين من إشكاليات متعددة أساسها‬
‫تديني السياسة‪ ،‬وهو ما جعل هنالك خلطًا يف تعامله ومتييزه بني اإلهلي والبشري‪ ،‬والتارخيي‬
‫واملطلق يف املوروث السياسي اإلسالمي‪ ،‬ومن جهة أخرى فإن الفكر واملمارسة السياسية‬
‫الرتاثية ‪-‬واليت تتمتع حبجية راسخة يف الفكر السياسي اإلسالمي املعاصر‪ -‬امتازت‬
‫صوصا يف حقبة تشكلها‪ ،‬كما أنه ‪-‬كما‬ ‫بتكيفها مع الظروف الضاغطة اليت مرت هبا خ ً‬
‫أسلفنا‪ -‬مل تتح هلا بيئة صحية تسهم يف النمو والتطور نتيجة سطوة منطق األمر الواقع‪،‬‬
‫مث نتيجة توقف االجتهاد كجزء من الرتاجع العام الذي أصاب احلضارة اإلسالمية يف‬
‫القرون األخرية‪.‬‬
‫لكن مما فاقم من إشكالية الفكر السياسي اإلسالمي هو ما محلته احلداثة عامة‪ ،‬ومنوذج‬
‫الدولة احلديثة على وجه اخلصوص من حتدايت للمفهوم التقليدي للحكم اإلسالمي‪،‬‬
‫شرعي للتجربة الغربية وتطوراهتا االجتماعية والسياسية‪ ،16‬وقد‬
‫ٌّ‬ ‫فالدولة احلديثة هي ولي ٌد‬
‫‪17‬‬
‫قسرا يف جتربتنا اإلسالمية مقطوعة عن سياقها ؛ مما أسفر عن تناقضات عدة‬ ‫نقلت ً‬
‫‪18‬‬
‫دفعت البعض إىل اعتبار أن احلكم اإلسالمي والدولة احلديثة غري متالئمني ابلضرورة ‪،‬‬
‫وسوف نستعرض يف هذا اجلزء مخسة من هذه التحدايت اليت محلتها احلداثة ومنوذجها‬
‫للدولة للرؤية التقليدية للحكم اإلسالمي‪:‬‬
‫أ‪ .‬اختالف اإلطار املرجعي احلاكم‪ :‬فاخلاصية األساسية املميزة للدولة‬
‫اإلسالمية هي التزامها بتطبيق الشريعة‪ ،‬واليت وصفها وائل حالق ابعتبارها‬

‫‪Kenneth Newton and Jan W Van Deth, Foundations of 16‬‬


‫‪Comparative Politics (New York: Cambridge University Press,‬‬
‫‪23-24. 2010),‬‬
‫‪ 17‬برهان غليون‪ ،‬نقد السياسة‪ :‬الدولة والدين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.561-560‬‬
‫‪Wael B. Hallaq, The Impossible State: Islam, Politics, and 18‬‬
‫‪Modernity's Moral Predicament (New York: Columbia‬‬
‫‪University Press, 2013), ix – xiv.‬‬

‫‪169‬‬
‫نظاما أخالقيًا يهدف إىل التأسيس حلياة منوذجية‪ ،‬وابعتبارها نطاقًا مركزًاي‬‫ً‬
‫ختضع له النطاقات االجتماعية امللحقة (السياسة واالقتصاد والتعليم‪...‬إخل)‬
‫كافَّةً وتتحاكم إليه‪ ,19‬وهلذا فإن الدولة اإلسالمية هلا دور تربوي خالص‪ :‬بناء‬
‫إنسان فاضل‪ .20‬وعلى النقيض‪ ،‬فإن الواجب األخالقي يف الدولة احلديثة‬
‫نحى ملرتبة اثنوية؛ ألهنا تشكلت وفق برادامي فلسفة التنوير‪ ،‬وهو الربادامي‬ ‫ير َّ‬
‫الذي يستهدف التقدم االقتصادي والتقين‪ ،‬ويؤكد على املنهجية العلمية‬
‫والرشادة‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإنه إذا كانت الدولة اإلسالمية تسرتشد ببارادامي أخالقي‬
‫متجاوز فإن الدولة احلديثة موجهة ابلبارادامي الوضعي العلماين‪ ،‬وإذا كانت‬
‫مهمة الدولة اإلسالمية هي تنشئة الفرد املسلم األخالقي فإن مهمة الدولة‬
‫احلديثة هي إنتاج املواطن املنتج واملنضبط‪.21‬‬
‫ب‪ .‬اختالف مفهوم السيادة‪ :‬وهو وجه آخر لعدم املواءمة بني الدولة احلديثة‬
‫واحلكم اإلسالمي ويرتبط مبا ذكرانه يف النقطة السابقة‪ ،‬ففي احلكم اإلسالمي‬
‫ال يرسمح بسيادة غري سيادة هللا‪ ،‬حيث هللا هو "احلكم" الذي ختضع ملشيئته‪،‬‬
‫النظم السياسية والتشريعية يف الدولة‪ ،‬أما الدولة احلديثة‬
‫ومتتثل ألوامره ونواهيه ر‬
‫فهي كيان ذو سيادة‪ ،‬ال يتقيد أبي سيادة عليا أو متجاوزة‪ ،‬فسيادهتا تعرب‬
‫عن تفاعل داخلي للتشكل الذايت؛ إذ إن الدولة تتشكل ابلسيادة وتشكلها‬
‫يف آن واحد‪.22‬‬
‫سم واملؤسسايت‪ :‬فبعكس منط السلطة‬ ‫جـ‪ .‬منط السلطة املراكب واملُق ا‬
‫التقليدية‪ ،‬واليت كانت مركزية يف شكلها‪ ،‬وأبوية يف منطها‪ ،‬مما أاتح تركز‬
‫السلطات السياسية والدينية يف يد اخلليفة أو رأس الدولة اإلسالمية‪ ،‬واعتباره‬
‫ليس فقط املسؤول عن إقامة احلكم اإلسالمي‪ ،‬بل الرمز الذي يتمثل فيه هذا‬
‫احلكم ‪ -‬بعكس منط هذه السلطة التقليدية نتج عن الدولة احلديثة واليت متتاز‬

‫‪ 19‬املرجع السابق‪.‬‬
‫‪Roy, The Failure of Political Islam, 63.20‬‬
‫‪Hallaq, The Impossible State, 5-12, 155-160.21‬‬
‫‪ 22‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.158-157‬‬
‫‪170‬‬
‫مبؤسساهتا املنفصلة ملمارسة السلطات املختلفة‪ ،‬واليت يشيع فيها مفهوم تقاسم‬
‫العمل االجتماعي ‪ ،Social Division of Labor‬كما يتعاظم هبا‬
‫الدور السياسي للشعب يف إكساب املشروعية السياسية‪ ،‬وإسهامه بدرجات‬
‫خمتلفة يف ممارسة السلطة السياسية ‪ -‬نتج عنها أن تفاقم التوتر يف العالقة بني‬
‫ثالثة أطراف‪ :‬احلاكم‪ ،‬األمة‪ ،‬العلماء على حنو ما سنذكر الح ًقا‪.‬‬
‫د‪ .‬التعارض بني مفهوم املواطنة كهوية مدنية يف الدولة احلديثة واألمة كهوية‬
‫وجها آخر من أوجه التناقض‬ ‫مجاعية دينية‪-‬سياسية يف الدولة اإلسالمية يعد ً‬
‫بني الكيانني‪ ،‬فالدولة اإلمرباطورية حبدودها غري احملددة‪ ،‬واملتجاوزة للعرقيات‬
‫واألقاليم‪ ،‬وبنمط مواطنتها الرعائي ‪ -‬كانت تقدم ح ًّال ملشكلة تطابق حدود‬
‫الدولة واألمة يف الفكر السياسي اإلسالمي‪ ،‬أما الدولة احلديثة حبدودها املرمسة‬
‫الثابتة‪ ،‬وبنمط مواطنتها القائم على تساوي احلقوق والواجبات بني خمتلف‬
‫األطياف العرقية والدينية داخل حدود الدولة‪ ،‬فتثري أزمة حقيقية حول تضارب‬
‫الوالءات واحلقوق الواجبات‪ ،‬وكيف حنقق واجبات األمة الواحدة ومقتضياهتا‬
‫يف ظل انقسامها إىل عشرات الوحدات السياسية‪ ،‬واليت تتشارك فيها األغلبية‬
‫املسلمة مع غريها من األقليات اليت تتساوى معها ‪-‬ولو نظرًاي‪ -‬يف حقوق‬
‫املواطنة وواجباهتا‪ ،‬وهلا األولوية عن كل من يقطن خارج حدود هذه الدولة‪.‬‬
‫أيضا كما يزعم‬
‫لذلك فإن املفهوم الغريب للقومية يعد غريبًا ‪-‬بل ومنافيًا ً‬
‫البعض‪ -‬لإلسالم ولعامليته‪ ،‬وتعد األيديولوجيا القومية لذلك عند بعض‬
‫اإلسالميني صورًة من صور اجلاهلية‪ .23‬وميكن إجياز التحدي الذي متثله قومية‬
‫الدولة احلديثة ملفهوم احلكم اإلسالمي يف أمرين‪:‬‬

‫‪Antony Black, The History of Islamic Political Thought: 23‬‬


‫‪From the Prophet to the Present (Edinburgh: Edinburgh‬‬
‫‪University Press, 2011), 342.‬‬

‫‪171‬‬
‫األول‪ :‬أن احلكم اإلسالمي ‪ -‬وف ًقا آلراء بعض الفقهاء والعلماء ‪ -‬جيب أن متتد والية‬
‫اخلليفة فيه إىل كامل دار اإلسالم‪ ،24‬وهو الشرط الذي يبدو غري مستطاع يف نظام الدول‬
‫القومية احلديثة‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬تعذر التوفيق بني حقوق املواطنة يف الدولة احلديثة‪ ،‬وأولوية حقوق األخوة الدينية‬
‫يف األمة املسلمة؛ إذ تعد الدولة احلديثة املستودع احلصري لوالء مواطنيها‪.25‬‬
‫هـ‪ .‬اختالف طبيعة النظام القانوين‪ :‬فكما أشار شريمان إيه‪ .‬جاكسون فإن‬
‫إحدى اخلصائص األساسية للدولة احلديثة هي الواحدية أو املركزية القانونية‬
‫واليت تعين أن القوانني كافَّةً جيب أن تصدر حصرًاي برعاية الدولة‪ ،‬وأن تكون‬
‫موحدة وأن ترطبق على مواطنيها كافَّةً ابلتساوي‪ ،‬وأن يكون هلا األولوية واهليمنة‬
‫على األمناط التنظيمية األخرى كافَّةً‪ .‬وهلذا فإن املواطنني يف الدولة احلديثة‬
‫يضطرون إىل التضحية جبوانب عدة من التزاماهتم اخلاصة ومناذجهم التنظيمية‬
‫اليت جيلّوهنا كثمن حتمي للمواطنة‪ .‬أما احلكم اإلسالمي التقليدي‪ ،‬فعلى‬
‫النقيض من هذه الواحدية القانونية غري املرنة‪ ،‬ميتاز ابلتعددية القانونية؛ إذ‬
‫تطبق الشريعة عادة بشكل متباين على املسلمني وغري املسلمني يف اجملتمع‬
‫نفسه‪ .‬فالفقهاء املسلمون مل جيدوا حر ًجا يف السماح لغري املسلمني أن يلتزموا‬
‫أيضا من العديد من أحكام الشريعة‬ ‫أبحكامهم الدينية‪ ،‬بل ويف إعفائهم ً‬
‫اإلسالمية مثل تطبيق بعض احلدود والتعزيرات‪ ،‬أو بعض االستثناءات ‪ -‬اليت‬
‫متييزا يف املزاج املعاصر ‪ -‬مثل اإلعفاء من اخلدمة العسكرية‪ .‬هذه‬ ‫قد تبدو ً‬
‫التعددية القانونية مل تعترب منافية ألي من السلطة الدينية أو سيادة الدولة يف‬
‫الدولة اإلسالمية ما قبل احلداثية‪ .‬ويعترب جاكسون أن هذا التناقض بني‬
‫واحدية النظام القانوين يف الدولة احلديثة وتعدديته يف الدولة اإلسالمية هو‬

‫‪ 24‬عبد الرزاق السنهوري‪ ،‬فقه اخلالفة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.238‬‬
‫‪Ayoob, The Many Faces of Political Islam, 32.25‬‬

‫‪172‬‬
‫السبب الذي جيعل حماوالت تقنني الشريعة اإلسالمية على هيئة قوانني وضعية‬
‫أمرا يتعذر حتقيقه‪.26‬‬
‫ً‬
‫اخلالفة كرابطة أممية‪:‬‬
‫كانت أوىل حماوالت التعامل مع حتدي احلداثة ونشأة الدولة احلديثة يف سياق اجملتمعات‬
‫املسلمة هي فكرة الرابطة األممية اليت اقرتحها عبد الرزاق السنهوري يف أعقاب سقوط‬
‫صحيح مل تكن فكرة اجلامعة اإلسالمية يف هذه اآلونة فكرة جديدة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫اخلالفة العثمانية‪.‬‬
‫عدد من دعاة اإلصالح يف العامل اإلسالمي يف الربع األخري من القرن‬ ‫بل لقد سبق إليها ٌ‬
‫التاسع عشر‪ ،‬وأوائل القرن العشرين‪ ،‬على رأسهم مجال الدين األفغاين‪ ،‬الذي دعا إىل‬
‫إيقاظ الشرق وهنضته‪ ،‬على أساس وحدة العقيدة والوحدة الوطنية اليت جتمع أبناء األداين‬
‫الشرقية الثالثة‪ ،‬وعلى أساس االلتفاف حول اخلالفة العثمانية لدعمها وجتديد قوهتا‪،‬‬
‫وعلى أساس من جتديد الفكر الديين وتطويره‪ ،27‬مث تعددت التوجهات داخل هذا التيار‬
‫الداعي للجامعة اإلسالمية‪ ،‬مثل التوجه العرويب املناهض للعثمانيني الذي تبناه عبد الرمحن‬
‫الكواكيب‪ ،‬والذي دعا إىل تدعيم الوحدة داخل العامل اإلسالمي‪ ،‬ولكن حتت قيادة العنصر‬
‫العريب‪ ،‬الذي رآه األقدر على أداء هذه املهمة‪ ،‬ويف املقابل كان السلطان عبد احلميد‬
‫الثاين يتبىن املشروع نفسه ولكن يف االجتاه املعاكس؛ اجتاه تقوية املركزية داخل دولة‬
‫اخلالفة‪ ،‬وإضعاف احلركات القومية املناهضة‪ ،‬ومنها القومية العربية‪ .28‬لكن اجلديد يف‬
‫طرح السنهوري أنه قدم اجلامعة اإلسالمية ‪-‬أو جامعة الشعوب الشرقية كما أمساها‪-‬‬
‫كبديل عن دولة اخلالفة‪ ،‬وليس كآلية إلصالحها وتقويتها كما حاول أسالفه‪.‬‬

‫‪Jackson, Islamic reform between Islamic law and the nation-26‬‬


‫‪state, in The Oxford handbook of Islam and Politics, 43-45.‬‬
‫‪ 27‬حممد عمارة‪ ،‬اجلامعة اإلسالمية والفكرة القومية‪ :‬منوذج مصطفى كامل‪( ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪،)1994 ،‬‬
‫ص ‪.59 - 52‬‬
‫‪ 28‬املرجع السابق‪.‬‬
‫‪173‬‬
‫ووف ًقا للسنهوري‪ ،‬فإن دولة اخلالفة لكي تكون "كاملة" جيب أن تتسم بصفات ثالث‪:‬‬
‫"أوهلا‪ :‬أن هذا النظام مبين على أساس تعاقدي‪ ،‬فاخلليفة الصحيح تكون واليته بناء على‬
‫متاما من نظام اخلالفة‬
‫عقد صحيح (وهو البيعة احلرة)‪ ...‬أما القوة أو العنف فمستبعدان ً‬
‫الصحيحة‪.‬‬
‫اثنيها‪ :‬أن من يرشح نفسه للحكم (اخلالفة) جيب أن تتوافر فيه شروط األهلية اليت تضمن‬
‫حسن سري احلكومة‪.‬‬
‫اثلثها‪ :‬فيما خيص عمل نظام اخلالفة الصحيحة وسريها‪ ،‬فإنه يشمل ثالثة عناصر‬
‫أساسية‪ ،‬هي‪:‬‬
‫أ‪ .‬يشمل عمل حكومة اخلليفة اختصاصات سياسية واختصاصات دينية‪.‬‬
‫ب‪ .‬يف ممارسة هذه االختصاصات تلتزم حكومة اخلليفة أبحكام الشريعة‬
‫اإلسالمية‪...‬‬
‫جـ‪ .‬والية اخلالفة عامة على دار اإلسالم لتضمن وحدة العامل اإلسالمي"‪.29‬‬
‫وابلتايل اعترب السنهوري أن أي إخالل بشرط من الشروط السابقة‪ ،‬مثل غياب شرط‬
‫البيعة احلرة‪ ،‬أو تعدد اخلالفات مبا ال حيقق وحدة األمة‪ ،‬إمنا هو من قبيل اخلالفة الناقصة‪،‬‬
‫واليت دعت إليها الضرورة بسبب عدم قدرة املسلمني على إقامة خالفة كاملة‪ .‬وانطالقًا‬
‫من هذه الضرورة‪ ،‬كانت دعوة السنهوري إلقامة خالفة انقصة ‪-‬ختتص ابلشؤون الدينية‬
‫فقط‪ -‬على أن تكون خالفة مؤقتة‪ ،‬حىت تتهيأ الظروف املواتية للخالفة الكاملة‪.30‬‬
‫وقد حاول السنهوري يف رابطته األممية التغلب على املشكالت الثالث اليت رآها يف منوذج‬
‫اخلالفة الناقصة‪ ،‬وفق مبدأ التمييز بني التنظيم الديين والسياسي للخالفة‪:‬‬

‫‪ 29‬عبد الرزاق السنهوري‪ ،‬فقه اخلالفة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.238 - 237‬‬
‫‪ 30‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.362 - 361‬‬
‫‪174‬‬
‫فأوال‪ :‬للتغلب على مشكلة هيمنة الوظيفة السياسية على الدينية يف دولة اخلالفة‪ ،‬اقرتح‬‫ً‬
‫إقامة تنظيم ديين على شكل هيئة متمايزة مستقلة‪ ،‬وهو التنظيم الذي مل تعرفه اخلربة‬
‫اإلسالمية ساب ًقا‪ ،‬وتتكون هيئة الشؤون الدينية هذه من‪:‬‬
‫‪ -‬مجعية عامة‪ ،‬تتشكل من مندوبني من الدول اإلسالمية‪.‬‬
‫‪ -‬وجملس أعلى‪ ،‬يضم مخس جلان خمتصة ابلتنظيم الداخلي وشؤون العبادات‪،‬‬
‫والشؤون املالية‪ ،‬واحلج‪ ،‬والتعليم والدعوة‪ ،‬والعالقات اخلارجية‪.‬‬
‫‪ -‬واخلليفة‪ ،‬وهو الذي يرنتخب من اجلمعية العامة‪ ،‬بناء على ترشيح اجمللس األعلى‪،‬‬
‫ممثال للعامل اإلسالمي‪ ،‬ويتوىل مسؤولية إدارة هذه اهليئة مبا حيقق التعاون‬
‫ويعترب ً‬
‫‪31‬‬
‫بني الشعوب املسلمة‪ ،‬لتباشر األمة نشاطها كجماعة واحدة ‪.‬‬
‫اثنيًا‪ :‬خبصوص مجود الفقه اإلسالمي عن جماراة التطورات السياسية واالجتماعية‪ ،‬فقد‬
‫دعا السنهوري ‪-‬كمرحلة أوىل أمساها املرحلة العلمية‪ -‬إىل القيام حبركة حبثية‪ ،‬فردية مث‬
‫مجاعية‪ ،‬لتطوير الشريعة اإلسالمية‪ ،‬على أساس الفصل بني الشق الديين واملدين أو‬
‫الدنيوي من جهة‪ ،‬والتمييز بني ما هو قواعد اثبتة‪ ،‬وما هو أحكام متغرية من جهة أخرى‪،‬‬
‫حبيث تستعيد الشريعة حيويتها ومرونتها بعد فرتة اجلمود اليت مرت هبا‪ ،‬مث السري بعد ذلك‬
‫حنو املرحلة الثانية ‪ -‬وهي مرحلة التشريع ‪ -‬بطريقة حذرة وتدرجيية‪ ،‬لتاليف إشكاليات‬
‫مثل موقف غري املسلمني‪ ،‬أو وجود تشريعات وقضاء أجنيب أرقحم على األعراف القانونية‬
‫يف هذه البالد‪.32‬‬
‫أما املشكلة الثالثة‪ ،‬واملتمثلة يف الوحدة السياسية لألمة‪ ،‬فتبىن السنهوري الرؤية التدرجية‬
‫نظرا لتنامي النزعة القومية والوطنية داخليًا من جهة‪ ،‬والتوجس اخلارجي‬‫احلذرة نفسها؛ ً‬
‫من أن تكون هذه الرابطة موجهة ابألساس ضد الغرب املسيحي من جهة أخرى؛ لذا‬
‫فقد اندى السنهوري أبن تسبق الوحدة القومية للشعوب الشرقية نشأة هذه الرابطة‪ ،‬حبيث‬
‫تصبح الوحدات القومية الوحدات األساسية هلذه الرابطة‪ ،‬وكذلك أال تكون الرابطة‬
‫بديال عن الرابطة األممية ‪ -‬عصبة األمم آنذاك ‪ ،-‬بل جيب أن تنضم الدول‬ ‫الشرقية ً‬

‫‪ 31‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.367 - 365‬‬


‫‪ 32‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.370 - 368‬‬

‫‪175‬‬
‫اإلسالمية املستقلة كافَّةً هلذا التنظيم الدويل‪ ،‬حبيث تصري العصبة‪33‬الشرقية ً‬
‫إطارا إقليميًا‬
‫يوفر املزيد من التعاون لتحقيق االستقرار الداخلي واألمن اخلارجي ‪.‬‬
‫أخريا‪ ،‬مل يقف السنهوري عند حدود هذا الشكل من اخلالفة الناقصة االضطرارية‪ ،‬بل‬ ‫و ً‬
‫أوضح أنه مىت جنحنا يف حتقيق هذه اخلطوات الثالث‪ :‬إقامة اهليئة الدينية‪ ،‬جتديد الفقه‬
‫اإلسالمي وتطوير الشريعة‪ ،‬إقامة الرابطة السياسية األممية؛ فقد بقيت إلقامة اخلالفة‬
‫ينصب اخلليفة (رئيس اهليئة‬‫الكاملة خطوة واحدة‪ ،‬وهي أن تتفق األمم الشرقية على أن َّ‬
‫معا‪ ،‬ولكن‬ ‫ئيسا ملنظمة األمم الشرقية‪ ،‬وبذلك جيمع السلطة السياسية والدينية ً‬
‫الدينية) ر ً‬
‫هاتني السلطتني ستؤداين هذه املرة بشكل مؤسسي عن طريق تنظيمني مستقلني‪ ،‬ومبرونة‬
‫نوعا من احلكم الذايت‪.34‬‬
‫بعيدة عن احلكم املركزي‪ ،‬أبن تعطى كل بلد ً‬
‫وابلرغم من هذا الطرح النظري الذي يبدو متماس ًكا‪ ،‬فإنه يظل ردة فعل أولية سريعة‬
‫ومبادرة شكالنية تستهدف ابألساس احلفاظ على وحدة األمة مع سقوط اخلالفة العثمانية‬
‫ويف ظل النزعات القومية وهيمنة إطار الدولة احلديثة‪ ،‬كما تستهدف اإلبقاء على رمزية‬
‫اخلالفة كسلطة سياسية ودينية حىت وإن كانت هذه السلطة شكلية و"بروتوكولية" إىل ح ٍّد‬
‫ما‪ .‬كما أن هذا الطرح ال يتناول بشكل تفصيلي اإلشكاليات سابقة الذكر املتعلقة هبيكل‬
‫السلطة ووظائفها‪ ،‬وطبيعة العالقة بني األقطاب الثالثة للتنظيم السياسي اإلسالمي‪:‬‬
‫احلاكم‪ ،‬والعلماء‪ ،‬واألمة‪.‬‬
‫النماذج األيديولوجية املعاصرة للدولة اإلسالمية‪:‬‬
‫ميكن تصنيف التصورات األيديولوجية اليت قدمها الفكر السياسي اإلسالمي املعاصر‬
‫اعتمادا على معيارين أساسيني‪:‬‬
‫ً‬ ‫بشأن الدولة‬
‫أوال‪ :‬هيكل التنظيم السياسي ومركزه‪ ،‬أو بعبارة أخرى إذا كانت الدولة اإلسالمية هي‬ ‫ً‬
‫املخولة هبذه املهمة واليت هلا القول‬
‫الدولة القائمة على تطبيق الشريعة‪ ،‬فما هي اجلهة ّ‬
‫جمسدا للسلطة السياسية‪ ،‬أم‬
‫النهائي يف تفسري وتطبيق ما هي الشريعة‪ :‬هل هو اإلمام ً‬
‫هي األمة كما تتجسد يف الربملان بصيغته الدميقراطية احلداثية أو حىت أهل احلل والعقد‬

‫‪ 33‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.376 - 371‬‬


‫‪ 34‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.381 - 378‬‬
‫‪176‬‬
‫بصيغتها النخبوية التقليدية‪ ،‬أم هم العلماء كما يف نظرية والية الفقيه الشيعية وما مياثلها‬
‫من جتارب حكم العلماء يف اخلربة السنية؟!‬
‫اثنيًا‪ :‬مدى تدخل الدولة يف عملية "أسلمة" النطاقات االجتماعية املختلفة‪ ،‬وطبيعة هذا‬
‫التدخل‪ ،‬مبعىن هل جمال عمل الدولة هو اجملال السياسي ابألساس أم أن دورها ميتد إىل‬
‫خمتلف اجملاالت االجتماعية األخرى االقتصادية والقانونية والثقافية وحنوها‪ ،‬أم أهنا ال‬
‫أيضا؟! وهل تتبىن‬
‫تنحصر فقط يف اجملال العام وهلا والية على اجملال الشخصي اخلاص ً‬
‫الدولة وفق هذا النموذج نسخة إسالموية ذات قالب أيديولوجي مرن برمجايت تعددي أم‬
‫مجودا وحتمية وواحدية؟!‬
‫أهنا تتبىن قالبًا مشوليًا أكثر ً‬
‫وبناء على هذين املعيارين ميكن تصنيف منوذج الدولة وفق خمتلف األيديولوجيات‬
‫السياسية إىل أربعة تصنيفات‪ ،‬ومن اجلدير ابلذكر هنا أن هذه التصنيفات إمنا هي مناذج‬
‫مثالية ‪ Ideal types‬ال تتواجد واقعيًا بشكلها النموذجي‪:‬‬
‫أ‪ .‬النموذج التقليدي السلطوي‪ :‬وهو النموذج الذي يكون فيه اإلمام هو‬
‫املسؤول عن تطبيق الشريعة‪ ،‬وابلتايل تكون السلطة شديدة املركزية يف هيكلها‬
‫مبا يتيح للحاكم صالحيات واسعة وغري قابلة للمحاسبة‪ ،‬وأبوية رعائية يف‬
‫طبيعتها‪ ،‬بل ومتجسدة يف شخص احلاكم‪ .‬ابملقابل‪ ،‬ال يتاح لألمة مساحة‬
‫ما للمشاركة السياسية‪ ،‬إال عن طريق العلماء الذين يكون هلم دور تقدمي‬
‫النصيحة للحكام وإبداء املشورة‪ ،‬وإن كانت هذه املشورة غري ملزمة‪.‬‬
‫هذا النموذج حاول أن حيافظ على الشكل التقليدي للتنظيم السياسي اإلسالمي‪ ،‬والذي‬
‫أيضا قد أمهل التطورات اليت‬
‫حتدثنا ساب ًقا عن إشكالياته‪ ،‬لكن عالوة على ذلك فإنه ً‬
‫طرأت على اجملتمعات املعاصرة‪ ،‬من حيث تعقد أبنيتها االجتماعية والسياسية‪ ،‬وتغري منط‬
‫أحياان مشوه من‬
‫السلطة هبا‪ ،‬وطبيعة الوظائف اليت تؤديها؛ مما أسفر عن شكل متناقض و ً‬
‫التنظيمات السياسية‪ ،‬كما نرى يف النموذج الوهايب وتطبيقه يف الدولة السعودية‪ ،‬اليت متزج‬
‫خصائص من التنظيمات السياسية ما قبل احلداثية مع بعض خصائص الدولة احلديثة؛‬

‫‪177‬‬
‫شوهة)‪ ،‬حيث‬‫(م ِّ‬
‫مما جعلها ‪ -‬وف ًقا لتعبري نوح فيلدمان ‪ -‬تبدو كصورة يف مرآة خادعة ر‬
‫‪35‬‬
‫كل العناصر املألوفة متواجدة‪ ،‬لكن أحجامها‪ ،‬وأماكنها‪ ،‬والعالقات بينها تبدو متغرية ‪.‬‬
‫ب‪ .‬النموذج الدميقراطي احلداثي‪ :‬وهذا النموذج يؤكد على أن األمة‬
‫اإلسالمية هي اخلليفة احلقيقي عن هللا‪ ،‬وأهنا هي مصدر السلطات والتشريع‪،‬‬
‫كيل عن‬
‫وهي املسؤولة عن إقامة الدين وتطبيق الشريعة‪ ،‬واحلاكم ما هو إال و ٌ‬
‫حق حماسبته بل وعزله إذا أخل‬
‫األمة وسلطته مستمدةٌ منها‪ ،‬وابلتايل فإن هلا َّ‬
‫ابلشروط املتفق عليها‪ .36‬وهلذا فكما أشار راشد الغنوشي‪ ،‬فإن ترتيب السيادة‬
‫يف التنظيم اإلسالمي هو (هللا ‪ -‬األمة ‪ -‬احلاكم) وليس (هللا ‪ -‬احلاكم ‪-‬‬
‫األمة)‪.37‬‬
‫يف هذا النموذج تكون السلطة مقسمة‪ ،‬مؤسساتية‪ ،‬ومقيدة ابلقانون وليست مشخصنة‪،‬‬
‫فعلى الرغم من أن الصورة التقليدية للحكم اإلسالمي كما تشري املمارسات التارخيية بل‬
‫وكما توحي بعض األحاديث واآلاثر النبوية تكون السلطة فيها مركزة ومتجسدة يف شخص‬
‫ويل األمر‪ ،38‬فإن اإلسالمويني التحديثيني الدميقراطيني يرون أن هذه السوابق التارخيية‬

‫‪Noah Feldman, The Fall and Rise of the Islamic State, 35‬‬
‫‪(Princeton and Oxford, Princeton University Press, 2008), 102.‬‬
‫‪ 36‬راشد الغنوشي‪ ،‬احلرايت العامة يف الدولة اإلسالمية‪ ،‬ج‪( ،1‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،)2012 ،‬ص ‪215‬‬
‫‪.217-‬‬
‫‪Azzam Tamimi, Rachid Ghannoushi: A Democrat within 37‬‬
‫‪256. Islamism (London: Oxford University Press, 2001),‬‬
‫‪Asad, The Principles of the State and Government in 38‬‬
‫‪Islam,52-58.‬‬
‫وانظر أيضا‪ :‬عبد الرزاق السنهوري‪ ،‬فقه اخلالفة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪،159‬‬
‫‪.189-175‬‬

‫‪178‬‬
‫غري ملزمة‪ ،‬وأن مصلحة األمة تقتضي مثل هذا الفصل وذلك كنتيجة لتعقد اجملتمعات‬
‫احلديثة من جهة‪ ،‬وكأحد العالجات الناجعة لالستبداد السياسي من جهة أخرى‪.39‬‬
‫جـ‪ .‬النموذج شبه الثيوقراطي‪ :40‬ابلرغم من أنه يف النموذجني السلطوي‬
‫دور‬
‫التقليدي والدميقراطي التحديثي للدولة اإلسالمية‪ ،‬كان للعلماء والفقهاء ٌ‬
‫مهم يف تعريف ما هي الشريعة‪ ،‬ويف تفسريها وتطبيقها‪ ،‬فإن هذا الدور يف‬
‫دورا رقابيًا إشرافيًا‪ ،‬وهو عكس ما تقدمه هذه النظرية شبه‬ ‫جممله كان ً‬
‫الثيوقراطية‪ ،‬واليت ختضع السياسي للديين‪ ،‬وتعطي للعلماء والفقهاء السلطة‬
‫احلقيقة‪ ،‬سواء مبمارسة الفقهاء السلطة السياسية بذواهتم‪ ،‬أو هيمنتهم على‬
‫من ميارسها هيمنة اتمة‪ ،‬لتجعل من وظيفة هؤالء احلكام أقرب للوظيفة اإلدارية‬
‫عرب عن ذلك اإلمام جعفر الصادق بقوله‪" :‬امللوك حكام‬ ‫ال السياسية‪ ،‬كما َّ‬
‫‪41‬‬
‫على الناس‪ ،‬والعلماء حكام على امللوك" ‪ ،‬ويتجلى هذا النموذج يف أشهر‬
‫النظرايت السياسية الشيعية املعاصرة‪ ،‬نظرية والية الفقيه‪ ،‬ويف بعض تطبيقاهتا‬
‫السنية مثل حركة طالبان أو احملاكم الشرعية يف الصومال‪.‬‬
‫أيضا النموذج اإليراين ميزج بعض اخلصائص املا‬‫وكما يف النموذج السعودي للدولة‪ ،‬جند ً‬
‫قبل حداثية عن طريق املؤسسات العلمائية من جهة‪ ،‬وبعض خصائص احلداثية للنظم‬
‫اجلمهورية من جهة أخرى‪ ،‬كما أن يف هذا النموذج ‪ -‬كما يف النموذج التقليدي السلطوي‬
‫تدخال ملحوظًا للدولة يف النطاقات االجتماعية ليست فقط االقتصادية‬ ‫ً‬ ‫كذلك ‪-‬‬
‫والسياسية‪ ،‬أو حىت العلمية والثقافية وحنومها‪ ،‬بل واجملال اخلاص كذلك‪ ،‬عن طريق التدخل‬
‫يف بعض املمارسات اخلاصة مثل فرض شروط متعلقة ابلزي الالئق واملسموح به يف اهليئات‬
‫احلكومية وحنو ذلك‪.‬‬

‫‪ 39‬راشد الغنوشي‪ ،‬احلرايت العامة يف الدولة اإلسالمية‪ ،‬ج‪( ،2‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،)2012 ،‬ص ‪.57‬‬
‫احتكارا لتمثيل‬
‫ً‬ ‫‪ 40‬هي ليست ثيوقراطية كالسيكية ألهنا ال تزعم لرجال الدين أو للمؤسسات الدينية عصمة أو‬
‫الشريعة أو القانون اإلهلي‪.‬‬
‫‪ 41‬السيد روح هللا اخلميين‪ ،‬احلكومة اإلسالمية‪( ،‬منشورات املكتبة اإلسالمية‪ ،‬طهران)‪ ،‬ص ‪ .46‬وانظر أيضا‪:‬‬
‫فهمي هويدي‪ ،‬إيران من الداخل‪( ،‬مركز األهرام للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،)1991 ،4‬ص ‪.103‬‬
‫‪179‬‬
‫د‪ .‬النموذج املثايل الشمويل‪ :‬وهذا النموذج يتجلى يف مفهوم احلاكمية كما‬
‫عرب عنه سيد قطب‪ ،‬واملقصود ابملثايل هنا هو أتثره ابلفلسفة املثالية واليت ال‬
‫تعبري عن حقيقة فلسفية ما‪ ،‬وأن مسائل‬ ‫ترى للدولة وظيفة أداتية بل هي ٌ‬
‫احلكم ال ختضع لقضااي مصلحية أو خيارات األكثرية أو حنو ذلك من األفكار‬
‫الليربالية أو الدميقراطية‪ ،‬بل هي مرتبطة حبقائق وجودية حول نظام الكون‪،‬‬
‫صرح به سيد قطب يف كتابه "هذا الدين"‪ ،‬حيث يرى قطب‬ ‫وهو املعىن الذي ّ‬
‫ٍ‬
‫أن كل جزء من هذا الكون يف وحدة متكاملة ويف جتانس اتم مع الكل‪ ،‬وأن‬
‫الكون حيكمه قانون واحد يربط أجزاءه كافَّةً هبذا النظام املتجانس واملرتب‪،‬‬
‫وأن هذا الرتتيب املنظم إمنا هو نتاج إرادة حاكمية واحدة‪ ،‬ومن مثَّ نظَّر سيد‬
‫قطب لتفرد املنهج اإلسالمي‪ ،‬فهو املنهج الوحيد الذي يقوم نظام احلياة‬
‫البشرية فيه على أساس من التفسري الشامل للوجود‪ ،‬وهو الذي يتسق مع‬
‫نظام الكون كله‪" ،‬والتناسق بني منهج حياة اإلنسان ومنهج حياة الكون هو‬
‫بدال من‬
‫وحده الذي يكفل لإلنسان التعاون مع القوى الكونية اهلائلة‪ً ،‬‬
‫التصادم معها‪ ،‬وهو حني يصطدم معها يتمزق وينسحق"‪.42‬‬
‫أما املقصود ابلشمولية‪ ،‬فهو أن مفهوم الشريعة ومدلول "احلاكمية" ال ينحصر فقط يف‬
‫مسائل التشريع واألحكام القانونية‪ ،‬وال حىت يف أصول احلكم ونظامه‪ ،‬بل إهنا تتسع‬
‫لتشمل كل ما شرعه هللا لتنظيم احلياة البشرية‪ ،‬من االعتقاد والتصور‪ ،‬إىل األوضاع‬
‫السياسية واالجتماعية واالقتصادية‪ ،‬إىل التشريعات القانونية‪ ،‬إىل قواعد األخالق‬
‫والسلوك‪ ،‬بل واملعرفة بكل جوانبها‪ ،‬ويف أصول النشاط الفكري والفين‪" ،‬ويف هذا كله‪،‬‬
‫ال َّ‬
‫بد من التلقي عن هللا‪ ،‬كالتلقي يف األحكام الشرعية ‪ -‬مبدلوهلا الضيق املتداول ‪ -‬سواء‬
‫‪43‬‬
‫أساسا لدولة مشولية‪ ،‬ال هتيمن فقط على النطاقات‬
‫بسواء" ‪ .‬وهذا بشكل واضح يضع ً‬
‫االجتماعية على اتساعها‪ ،‬بل حىت على النطاق اخلاص لتستهدف االنضباط‬
‫األيديولوجي الداخلي‪.‬‬

‫‪ 42‬سيد قطب‪ ،‬هذا الدين‪( ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،)2001 ،‬ص ‪.26-24‬‬
‫‪ 43‬سيد قطب‪ ،‬معامل يف الطريق‪( ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،)1973 ،‬ص ‪.124-123‬‬
‫‪180‬‬
‫خامتة‪:‬‬
‫مما سبق يبدو كيف أنه على الرغم من جهود الفكر السياسي اإلسالمي املعاصر مع تنوع‬
‫مدارسه‪ ،‬وتعدد جتاربه التطبيقية‪ ،‬بل وجهاده املستميت من أجل إجناز مشروع "الدولة‬
‫اإلسالمية"‪ ،‬فإن مهمته ظلت غري منجزة‪ ،‬وقد اقتصران يف هذه الورقة على استعراض‬
‫اإلشكالية النظرية املرتبطة بغياب نظرية متكاملة ومتماسكة وأصيلة ‪ -‬غري منتحلة ‪-‬‬
‫للدولة يف الفكر السياسي اإلسالمي تتمتع ابلقبول الواسع بني املسلمني أو حىت بني‬
‫احلركات اإلسالمية‪ ،‬ومل نتطرق إىل اإلشكاليات العملية املتعلقة ابسرتاتيجيات هذه‬
‫احلركات اإلسالمية والتحدايت السياسية احمللية والدولية اليت واجهتها‪.‬‬
‫عددا من اإلشكاليات قد أعاقت الوصول إىل نظرية كهذه‪ ،‬بعض هذه‬ ‫وكما أسلفنا‪ ،‬فإن ً‬
‫اإلشكاليات يتعلق ابلفكر السياسي الرتاثي بتكيفه وتعثره من جهة‪ ،‬مث من جهة أخرى‬
‫يتعلق ابحلجية اليت يتمتع هبا هذا املوروث ‪ -‬بدرجة متفاوتة ‪ -‬يف الفكر السياسي املعاصر؛‬
‫أحياان بني التارخيي والبشري وبني املطلق اإلهلي يف التصورات عن‬
‫مما جعل األخري ال مييز ً‬
‫أيضا إىل اإلشكاليات اليت محلتها احلداثة ومنوذجها للدولة أمام‬ ‫الدولة‪ .‬كما أشران ً‬
‫التصورات التقليدية للحكم اإلسالمي نتيجة التباينات املتعلقة ابإلطار املرجعي احلاكم‪،‬‬
‫والسيادة‪ ،‬ومنط السلطة‪ ،‬واملواطنة‪ ،‬وطبيعة النظام القانوين‪ ،‬وحنو ذلك‪.‬‬
‫وقد تباينت األطروحات التنظريية اليت حاولت التغلب على هذه اإلشكاليات وحاولت‬
‫اإلجابة على سؤال الدولة اإلسالمية يف السياق املعاصر‪ ،‬بدءًا من فكرة عصبة األمم‬
‫الشرقية للسنهوري‪ ،‬أو ما تالها من أطروحات أخرى أمجلناها يف أربعة أمناط منوذجية‬
‫‪ :Ideal Types‬التقليدية السلطوية‪ ،‬الدميقراطية التحديثية‪ ،‬شبه الثيوقراطية‪ ،‬املثالية‬
‫الشمولية‪.‬‬
‫وحىت ال يظل سؤال الدولة اإلسالمية سؤ ًاال معل ًقا‪ ،‬تدور يف متاهاته الرؤى والنظرايت‪،‬‬
‫وتنشب يف سبيله الصراعات وتستنزف اجلهود؛ أرى أنه على الفكر اإلسالمي املعاصر‬
‫أن يتخلى عن مقاربة مسألة الدولة اإلسالمية مقاربة أيديولوجية‪ ،‬مبعىن أن التصور البسيط‬
‫قائما على الشريعة وأحكامها‪ ،‬خيتلف‬ ‫منوذجا أيديولوجيًا للدولة اإلسالمية‪ً ،‬‬‫أبن هناك ً‬
‫بشكل جذري عن مناذج الدول األخرى‪ ،‬وهو صاحلٌ لكل زمان ومكان ‪ -‬هو تصور‬
‫خاطئ ومضلل‪ ،‬فاإلسالم جملتمعاتنا املسلمة ميثل املرجعية ولكنه ال ميدان ابأليديولوجيا؛‬
‫‪181‬‬
‫ألن األيديولوجيا هي قولبة بشرية‪ ،‬ختتلف ابختالف األفهام‪ ،‬وأمناط االستنباط‪،‬‬
‫واالحنيازات القيمية‪ ،‬والوعي املكتسب من السياقات االجتماعية واألطر املعرفية السائدة‪،‬‬
‫وكما أسفرت هذه العوامل عن تعدد املذاهب الفقهية واملدارس الكالمية ساب ًقا‪ ،‬فقد‬
‫أسفرت يف عصوران احلديثة ‪-‬كما رأينا‪ -‬عن نزعات أيديولوجية متباينة‪ :‬سلطوية‬
‫سهم‬
‫ودميقراطية‪ ،‬حمافظة وثورية‪ ،‬مثالية وبرمجاتية‪ ،‬خنبوية وشعبوية‪ ،‬إىل غري ذلك‪ ،‬كلها هلا ٌ‬
‫ٍ‬
‫بدرجات متفاوتة‪ ،‬وحنن ‪ -‬املسلمني ‪ -‬ال‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬وكلها أصاب وأخطأ‬ ‫يف الفكر‬
‫ّ‬
‫خنتلف يف هذه النزعات األيديولوجية عن غريان من البشر‪ ،‬لكن الذي ستضيفه مرجعية‬
‫اإلسالم هو أهنا ستمدان أبدلة استنباط خمتلفة‪ ،‬ومنظومة قيم ومقاصد متمايزة‪ ،‬بل ولغة‬
‫خطاب وجدل خاصة‪ ،‬وابلتايل لن تتحقق "إسالمية" الدولة ‪ -‬إن صح هذا التعبري ‪-‬‬
‫عن طريق إقامة دولة أيديولوجية‪ ،‬لديها اإلجاابت اليقينية واحلل النهائي ملشكالت‬
‫كل من اجملاالت العامة واخلاصة‪ ،‬وتستخدم أدواهتا يف‬ ‫االجتماع اإلنساين‪ ،‬فتتغول على ٍّ‬
‫التنشئة االجتماعية الصارمة والتنميط؛ ألهنا ستكون يف هذه احلالة ‪ -‬وعلى أحسن‬
‫األحوال ‪ -‬ال تعرب إال عن إحدى القراءات األيديولوجية القائمة على تفسريات‬
‫وتفضيالت بشرية انتزعت لنفسها عنوة السمة اإلهلية‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫الفصل السادس‪:‬‬
‫اجلهاد والعنف ومأزق الدولة‬
‫معتز اخلطيب‬

‫فررض علينا حنن العرب واملسلمني ‪ -‬منذ السبعينيات من‬


‫القرن املاضي أن نغرق يف نقاش مطول حول مصطلحات‬
‫إشكالية كالعنف واجلهاد واإلرهاب والدولة‪ ،‬حىت إننا‬
‫ابترلينا بظهور "خرباء" يف اإلرهاب ومجاعات اإلسالم‬
‫العنيفة والسلمية بعضهم رجا رل أمن‪ ،‬وبعضهم صحفيون‬
‫زادرهم من مناهج العلوم االجتماعية والفكر اإلسالمي‬
‫حمدود للغاية؛ أي أن املسألة حتولت إىل مشكلة أمنية أو‬
‫إىل مصدر ٍ‬
‫كسب مبعىنَ من املعاين‪ ،‬وهو ما ساهم يف مزيد‬
‫من التشويش والبعد عن الفهم العلمي للمأزق الذي‬
‫تواجهه جمتمعاتنا ودولنا‪ ،‬خصوصًا مع سيادة الصراعات‬
‫األيديولوجية ودعوى احتكار الطهارة والشرعية والولع‬
‫إبدانة "اخلصوم" ونسبة كل الشرور إليهم‪.‬‬
‫أفعال ال تتم يف فراغ‪ ،‬وال ترناقَش مبعزل عن إطار أوسع‬
‫بيد أن العنف واإلرهاب واجلهاد ٌ‬
‫ٍ‬
‫مكوانت تراثية وهو‬ ‫يف الزمان واملكان واملفاهيم واألنساق‪ ،‬فالزمان ٌّ‬
‫ممتد ألنه يستصحب‬
‫يواجه مشكالت الزمن احلاضر‪ ،‬واملكان ‪ -‬كما يرراد تصويره ‪ -‬هو جغرافيا اإلسالم السين‬
‫حتديدا؛ بوصفه مولّ ًدا بذاته للعنف؛ مع جتاهل كامل حلركة التاريخ ولإلرث األورويب من‬
‫ً‬
‫احلروب اليت مل يَسلم منها اجملال اإلسالمي نفسه‪ ،‬ومع التغاضي عن واقع ممارسات‬
‫اإلمرباطورية األمريكية‪ ،‬والتعامي عن ممارسات الدول اليت تتشح بشعار العلمانية والقومية‬
‫فردا ومجاعةً كما‬
‫فادحا حلقوق اإلنسان ً‬‫وهتجريا قسرًّاي وانتها ًكا ً‬
‫ً‬ ‫جمازر وإابد ًة‬
‫وشهدت َ‬
‫حصل يف العراق وسوراي ومصر وليبيا وتونس وغريها من البلدان العربية منذ االستقالل‬
‫عن االستعمار التقليدي وحىت اليوم‪ .‬ألجل هذا كله ال ميكن جتاهل فكرة "الدولة احلديثة"‬
‫يف كل هذه النقاشات‪ ،‬كما ال ميكن جتاهل مأزق نشوء الدولة يف املنطقة اليت ترسمى‬
‫"الشرق األوسط"‪ ،‬أي "دولتنا" اليت تسمى اترة قومية وأخرى وطنية واثلثة حديثة وأميل‬
‫أليق حباهلا اليت تتسم ابهلر ْجنة‪،‬‬
‫إىل تسميتها "دولة ما بعد االستعمار"؛ ألن هذا التوصيف ر‬
‫وبغموض مرجعياهتا اليت أتسست عليها‪ ،‬ولشدة التباس ماهيتها ووظائفها داخليًّا‬
‫وخارجيًّا‪ ،‬ولتشوش عالئقها ابملواطنني والتاريخ واجلغرافيا‪ ،‬وملأزق الشرعية الذي رحييط هبا‬
‫من كل جانب‪.‬‬
‫سريكز هذا البحث على حتليل مفاهيم العنف واإلرهاب واجلهاد يف إطار فكرة الدولة‬
‫والتغريات اليت طرأت عليها من الدولة التارخيية إىل دول ما بعد االستعمار‪ ،‬ومأزق استعادة‬
‫تراث ما قبل الدولة يف "الدولة"‪ ،‬وكيف أنه ال ميكن فهم مسائل العنف املشروع وغري‬
‫املشروع من دون مساءلة مفهوم "الدولة" وحتديد شرعيتها أوالً‪ ،‬كما أنه ال ميكن جتاهل‬
‫أتثريات احلداثة يف توليد ظاهرة العنف اليت هي نتاج تفكيك الدولة التارخيية (اليت تَـبَلور‬
‫يف ظلها الرتاث واخلربة التارخيية اإلسالمية) ونتاج الفشل يف إنشاء "الدولة احلديثة" حىت‬
‫بتنا نعيش يف مرحلة "ما دون الدولة" ‪ ،1‬وعلى هذه القاعدة تربز ظواهر العنف واإلرهاب‬
‫والصراع على الدولة ومعها‪ ،‬وتدور لعبة "العنف املشروع" ويتعمق مأزق ممارسة اجلهاد يف‬
‫ظل هذه الدولة املفروضة اليت أضحت جزءًا من نظام دويل واسع‪.‬‬
‫بناء على ما سبق سنعاجل هنا مخسة حماور‪ :‬العنف املشروع‪ ،‬والعنف واحلداثة‪ ،‬واإلرهاب‬
‫مفهوما زئبقيًّا‪ ،‬واجلهاد يف املوروث الفقهي‪ ،‬مث اجلهاد ومأزق الدولة اليت تسمى‬
‫ً‬ ‫بوصفه‬
‫قومية وعجزت حىت عن أداء أبسط وظائفها وهي أن حتفظ حدودها ومجاعة مواطنيها‪.‬‬
‫العنف املشروع‪:‬‬ ‫‪.1‬‬
‫على خالف التفسري الشائع الذي يربط بني ظاهرة العنف والنص والرتاث ويرى أهنا‬
‫نقيض احلداثة‪ ،‬ال ميكن جتاهل أن حركات العنف إمنا ظهرت يف ظل الدولة القومية أو‬
‫الوطنية اليت تسعى الحتكار "العنف املشروع"‪ .‬ولكن فكرة "العنف املشروع" تستند يف‬
‫يعرب عن اإلرادة اجلماعية اليت يتنازل فيها األفراد عن جزء‬
‫األصل إىل مبدأ القانون الذي ّ‬
‫من حريتهم للسلطة اليت خيتاروهنا ومتثلها الدولة‪ ،‬ومن هنا تركتَسب هذه الشرعية احلصرية؛‬

‫شرحت هذه الفكرة يف مقدمة كتاب‪ :‬مأزق الدولة بني اإلسالميني والعلمانيني‪( ،‬بريوت‪ :‬دار جسور‪،‬‬
‫ر‬
‫‪1‬‬

‫‪.)2016‬‬
‫‪184‬‬
‫ألهنا مستندة إىل اإلرادة العامة والتمثيلية‪ ،‬و"املشروع" هنا يعين أنه يستند إىل معايري قومية‬
‫يتم من خالهلا فرض إرادة الدولة واحتكار العنف داخل سلطة القانون وليس خارجه‪،‬‬
‫أي أن احتكار "العنف املشروع" أييت لصيانة مصاحل اجلماعة‪ ،‬وشرعيته ترستَمد من‬
‫األسس اليت يعرب عنها واملتمثلة يف فكرة الدولة وطبيعتها وتركيبتها‪ .‬ومن َمثَّ ال ميكن الفصل‬
‫بني فكريت‪" :‬العنف املشروع" ومفهوم "الدولة"‪ ،‬وأي نقاش اليوم عن العنف والدولة جيب‬
‫حصرا‪.‬‬
‫أن يتم يف هذا اإلطار ً‬
‫ومبا أن "دولتنا" يف العامل العريب تنتمي إىل الدول الفاشلة وال تعكس اإلرادة العامة وال‬
‫متثل مجاعة املواطنني وال ترعى مصاهلم ‪ -‬ال منفردين وال جمتمعني ‪ -‬فستتحول فكرة‬
‫احتكارها "للعنف املشروع" إىل عنف عميم منفلت من أي معيار سوى أن شرعيته انبعة‬
‫من كونه صادرا عن هذا النظام املمسك بزمام الدولة‪ ،‬فتتحول فكرة "الدولة" إىل أداة‬
‫ض هلا وإلرادهتا السلطوية إىل "عنف غري مشروع"؛‬‫فعل معا ِر ٍ‬
‫قمعية ال غري‪ ،‬ويتحول كل ٍ‬
‫حبجة أهنا وحدها حتتكر العنف املشروع‪ ،‬وأهنا هي اليت تفرض الوضوح األخالقي فتحدد‬
‫معايري الشرعية‪.‬‬
‫وفكرةر احتكار "العنف املشروع" مبنية على افرتاض أن العالقة بني البشر قائمة على‬
‫نظرا لتعارض مصاحل األفراد واستئساد بعضهم على بعض‪،‬‬ ‫أساسا؛ ً‬
‫التنازع واالحرتاب ً‬
‫فرتض‬‫ومن هنا تتأسس شرعية وجود جهة واحدة خمولة ابحتكار هذا العنف التكويين ‪ -‬املر ََ‬
‫قدر اإلمكان وفق معايري تعكس إراد َة اجملموع ومصاحل اجلماعة‪ .‬فشرعية‬ ‫‪ -‬لتقليصه َ‬
‫مشروع جملرد أنه‬
‫ٌ‬ ‫العنف انجتة عن شرعية الدولة وقيامها بوظائفها املصلحية‪ ،‬ال أن العنف‬
‫صادر عن "دولة" سواءٌ اتصفت ابلشرعية أم ال‪ ،‬سواءٌ قامت بوظائفها أم ال‪ .‬فغياب‬ ‫ٌ‬
‫هذه الشرعية حيول عنف الدولة إىل عنف عا ٍر عن أي غطاء أخالقي‪ .‬وهلذا ال ميكن‬
‫حبث العنف أو فهم ظاهرته مبعزل عن حبث مسألة شرعية الدولة نفسها؛ فما يَصدر عنها‬
‫من ممارسات وسياسات ال يكتسب شرعيته األخالقية إال من شرعية اجلهة الصادرة عنه‬
‫أوالً ومن شكل هذه املمارسة ومدى احرتامها للمعايري اليت تعرب عن اجلماعة اثنيًا‪ ،‬ويف‬
‫حالة غياب الشرعية واملعايري نكون أمام عنف وعنف مضاد يدعي كلٌّ منهما الشرعية‬
‫ويكون اخلاسر األكرب فيه هو اجلماعة اليت تقع ضحية عنف مزدوج‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫ولكن هذا الربط بني الوسيلة واملقصد‪ ،‬أو بني شرعية السلطة وشرعية ممارساهتا‪ ،‬يضطران‬
‫فمن أَض َفوا الشرعية‬
‫إىل توضيح االنفصال الذي وقع مع شرعنة "احلاكم املتغلب" اترخييًّا‪َ .‬‬
‫على التغلب قاموا جبملة موازانت بني املصاحل واملفاسد‪ ،‬وانتهى هبم األمر يف سياق اترخيي‬
‫حمدد ويف "الدولة التارخيية" إىل إضفاء شرعية على وسيلة التغلب؛ حبصول الرضا والتسليم‬
‫هلذا املتغلب أبن يستتب له األمر وتنقاد له الناس ‪ ،2‬أي أن حالة اإلكراه صارت إىل‬
‫حالة رضا وتسليم من عموم اجلماعة‪ ،‬كما أن مقاومة الشوكة القاهرة اليت م ّكنت املتغلّب‬
‫ودفعت الناس إىل الرضا حمفوفةٌ مبخاطر الفتنة وسفك الدماء‪ .‬ولكن املسألة ال تقف عند‬
‫مطلق شرعية الوسيلة دون النظر إىل سياقها التارخيي‪ ،‬أي أن شرعنة التغلب كانت حالة‬
‫ضرورة واستثناء ‪ ،3‬وهذه الضرورة حمكومة لواقع حمدد فال ميكن أن تكتسب شرعيةَ املبدأ‪،‬‬
‫خصوصا أن درجة أخالقية الفعل ختتلف حبسب زمانه‪ :‬قبل وقوعه وبعده‪ .‬ومن مجلة‬ ‫ً‬
‫املصاحل اليت َحلَظها الفقهاء هنا أن يؤدي احلاكم املتغلب الوظائف اليت تصون مصاحل‬
‫اجلماعة‪ ،‬فالتغاضي عن طريق وصوله إىل السلطة مت ألجل احلفاظ على مقصد وحدة‬
‫اجلماعة ووحدة دار اإلسالم‪ ،‬فاملوازنة كانت تتم بني فقدان الوسيلة ورعاية املقصد‪ ،‬أي‬
‫أن شرعنة التغلب برنيت على مبدأ النفعية (املصاحل واملفاسد)‪ ،‬والعاقبة (مآالت األفعال)‪،‬‬
‫فلجأ هؤالء الفقهاء إىل املرونة يف "الوسيلة"‪ ،‬وارتكاب أدَّن املفسدتني يف سبيل احلفاظ‬
‫على املقصد‪.‬‬
‫وال بد من التنبه إىل السياق التارخيي هلذه املوازنة األخالقية وحيثياهتا‪ ،‬ذلك أن سلطة‬
‫الدولة التارخيية وأدواهتا يف الضبط والتحكم والقمع ليست هي سلطة الدولة احلديثة‪ ،‬ومن‬
‫أيضا‬
‫مث فقدرهتا على التغول كانت حمدودة‪ ،‬والعالقة بني الدولة واجملتمع كانت مغايرة ً‬
‫جلهة تشكيالت اجملتمع التقليدية وبرناه الذاتية اليت كانت مبعزل عن سلطان الدولة‬

‫‪ 2‬أبو احلسن املاوردي‪ ،‬األحكام السلطانية والوالايت الدينية‪ ،‬حتقيق أمحد البغدادي‪( ،‬الكويت‪ :‬دار ابن‬
‫قتيبة‪ ،)1989 ،‬ص‪.46-44‬‬
‫‪ 3‬قال املاوردي‪ :‬اإلمارة على ضربني‪" :‬إمارة استكفاء بعقد عن اختيار‪ ،‬وإمارة استيالء بعقد عن اضطرار"‪.‬‬
‫املاوردي‪ ،‬األحكام السلطانية‪ ،‬ص‪.40‬‬

‫‪186‬‬
‫(أصحاب األصناف‪ :‬احلرفيون والصناع وغريهم‪ ،‬واألوقاف وغريها) ‪ ،4‬كما أن الدولة‬
‫التارخيية مل حتظ هبذه القدرة اهلائلة على التنظيم والتغلغل يف تفاصيل حياة األفراد من‬
‫الوالدة حىت املمات عرب "قيد النفوس" وامللفات األمنية لكل فرد‪ ،‬ابإلضافة إىل أن طبيعة‬
‫التفكري واالنشغاالت والتحدايت كانت مغايرة‪.‬‬
‫فاإلشكال اليوم يقع يف املقايسة بني واقع الدولة االستبدادية القمعية وواقع الدولة التارخيية‬
‫اليت عرفها املسلمون‪ .‬فدولة ما بعد االستعمار االستبدادية فقدت شرعية الوسائل وشرعية‬
‫املقاصد والوظائف وامتلكت قدرات هائلة على الضبط والتحكم والقمع حمليًّا وإقليميًّا‬
‫ودوليًّا مدعومة بتقنيات واسعة‪ ،‬ومع كل ذلك تسعى إىل فرض إرادهتا القمعية ابلعنف‬
‫الذي تضفي عليه شرعية "العنف املشروع" للدولة احلديثة‪ ،‬فيتفاقم املأزق وتنشأ مجاعات‬
‫يف مواجهتها وتتعقد اإلشكالية فنجد أنفسنا أمام ظاهرة العنف املركبة‪ .‬أي أن إحالتها‬
‫إىل الرتاث أو التاريخ أو النص هو تَساوق أو متََاهٍ مع منطق االستبداد نفسه ومصادقة‬
‫وقصور عن فهم هذه اجلوانب الفكرية والتحوالت التارخيية‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫على عنفه املنفلت بال معايري‪،‬‬
‫رخيفق "مثقف السلطة" ‪ -‬أخالقيًّا ‪ -‬حني يستدعي فكرة "الدولة اليت حتتكر العنف‬
‫املفرتضني على "الشرعية"‬ ‫املشروع" لتسويغ استبداد األنظمة وإلدانة خصومها اخلارجني ‪ََ 5‬‬
‫املمثلة ابلدولة‪/‬النظام؛ ألنه يعزل الفكرة عن سياقها وأصوهلا ‪ ،‬وكذلك رخيفق "مفيت‬
‫السلطة" ‪ -‬أخالقيًّا ‪ -‬حني يستدعي "فقه الطاعة" التارخيي لقهر الناس بسلطان الدين‬
‫يف خدمة سلطان الدولة اليت تفتقر إىل شرعية الوسائل والوظائف والغاايت (تغييب إرادة‬
‫اجلماعة وغياب املعايري القومية اليت يتم االحتكام إليها)‪.‬‬
‫فجماعات العنف تنشأ يف هذا السياق ويف مواجهة عنف الدولة االستبدادية مدفوعةً‬
‫هبواجسها ومتمثلة ألفكارها‪ ،‬فالتنافس يقع بني الطرفني على احتكار "العنف املشروع"‬

‫‪ 4‬ملعرفة التشكيالت االجتماعية والدينية يف اتريخ اإلسالم انظر‪ :‬رضوان السيد‪ ،‬مفاهيم اجلماعات يف اإلسالم‪،‬‬
‫(بريوت‪ :‬دار املنتحب‪.)1993 ،‬‬
‫‪ 5‬راجع على سبيل املثال‪ :‬علي الدين هالل ومي جميب ومازن حسن‪ ،‬عودة الدولة‪ :‬تطور النظام السياسي‬
‫يف مصر بعد ‪ 30‬يونيو‪( ،‬القاهرة‪ :‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪.)2015 ،‬‬

‫‪187‬‬
‫والسعي إىل الضبط والتقنني يف غياب للجماعة ومصاحلها وللمعايري اليت تعرب عنها ‪،6‬‬
‫ولذلك مل يكن غريبًا أن يعترب "أوليفيه روا" تنظيم القاعدة واجلماعات املرتبطة به جزءًا من‬
‫حركة مناهضة العوملة حتت عنوان "اإلرهاب الديين"‪ ،‬وأن النظم العلمانية الشمولية يف‬
‫العامل اإلسالمي هي اليت ّفرخت الشباب الذين قاموا بعمليات العنف والتفجري ‪ .7‬وكذلك‬
‫وجود إرهاب‬
‫فعل جان بودراير الذي اعترب أن النظام العاملي املهيمن يقتضي ‪-‬ابلضرورة‪َ -‬‬
‫اطؤا‬
‫لكي يستمر يف العمل والسيطرة؛ ألنه من دون إرهاب سينهار هذا النظام‪ ،‬أي أن تو ً‬
‫عمي ًقا ينشأ بني اخلصمني فيستخدم أحدمها اآلخر‪ ،‬فنظام اهليمنة حيمل نقيضه ويرنتج‬
‫أيضا ‪ ،8‬أي أننا نتحدث‬ ‫عنفه‪ ،‬فالنظام الالأخالقي ينتج حركات عنيفة هي ال أخالقية ً‬
‫هنا عن غياب "العنف املشروع" املستند إىل معايري أخالقية واملعرب عن مصاحل اجلماعات‪.‬‬
‫مفهوما بعد هذا كله كيف تشتغل "لعبة اإلرهاب" اليت حيارهبا اجلميع اآلن‪ ،‬ويف‬
‫ً‬ ‫قد يبدو‬
‫بعضا ابإلرهاب؛ ألن املفهوم غري حمدد وال يرراد له أن‬
‫الوقت نفسه يتهم اجلميع بعضه ً‬
‫رحيدد‪ ،‬ألن طاقته يف غموضه ومرونته‪ ،‬وأمهيته يف سعته وانفتاحه على كل اخليارات واألزمنة‬
‫دليل َمكني على تغييب السياسة أو تقليصها منذ أحداث احلادي عشر‬ ‫واجلماعات‪ ،‬وهو ٌ‬
‫وإيثار للقمع ونفي أي‬
‫من سبتمرب‪ ،‬فإعادة إنتاج اإلرهاب هي إمعا ٌن يف رفض السياسة ٌ‬
‫فرتض به أن يعرب‬ ‫معارضة‪ ،‬ولذلك فقد مصطلح "اإلرهاب" املسحة األخالقية اليت كان ير َ‬
‫عنها‪ ،‬نتيجة زئبقيته وغموضه حىت ابت لعبة مبتذلة تعكس نسبية مفرطة تتبدل حبسب‬
‫املصاحل وحساابت الزمان واملكان!‬
‫العنف واحلداثة‪:‬‬ ‫‪.2‬‬
‫سبق لعدد من الكتاب أن أشاروا إىل هذا الربط بني حركات اإلسالم السياسي عامة‬
‫واحلداثة على عكس ما هو سائد من ربطها ابلرتاث أو أهنا معادية للحداثة‪ .‬ومن أوائل‬
‫من أشار إىل هذا الربط دالل البزري اليت أشارت إىل اقتباس هذه احلركات من احلداثة‬

‫‪ 6‬للتفصيل يف هذا املعىن ميكن مراجعة‪ :‬معتز اخلطيب‪ ،‬العنف املستباح‪ :‬الشريعة يف مواجهة األمة والدولة‪،‬‬
‫(القاهرة‪ :‬دار املشرق‪.)2017 ،‬‬
‫‪ 7‬انظر‪ :‬أوليفيه روا‪ ،‬عوملة اإلسالم‪ ،‬ترمجة الرا معلوف‪( ،‬بريوت‪ ،‬دار الساقي‪2003 ،‬م)‪ ،‬ص‪.22-21‬‬
‫‪ 8‬جان بودراير‪ ،‬روح اإلرهاب‪ ،‬ترمجة بدر الدين عرودكي‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة األسرة‪)2010 ،‬‬

‫‪188‬‬
‫وإىل مصادرة "اإلسالميني" لبرىن حداثية و"تعميدها" بصيغ إسالمية ‪ ،9‬مث بعد أحداث‬
‫ليد احلداثة السياسية‬
‫كتااب اعترب فيه تنظيم القاعدة و َ‬
‫سبتمرب ‪ 2001‬كتب جون غراي ً‬
‫من حيث كونه يستخدم الوسائل احلديثة وكونه منظمة أممية‪ ،‬ومن حيث أشكال التنظيم‬
‫اليت يتبعها‪ ،‬والتصورات األيديولوجية املضمرة واملعلنة‪ ،‬وأن توسله ابإلرهاب لتحقيق مآرب‬
‫سياسية ال خيتلف عن احلركات الثورية والفوضوية الغربية اليت تتحدى احتكار الدولة‬
‫الستعمال العنف‪ ،‬كما أن األهداف اليت اختارها تنظيم القاعدة يف ‪ 2001‬عكست‬
‫مصادر القوة والنفوذ يف عصر العوملة‪ ،‬وزاد "غري" على ذلك أن مناهج أتويلهم للتعاليم‬
‫والنصوص ليست بعيدة عن مناهج التأويل والتحليل احلديثة ‪.10‬‬
‫وكتب كيفن ماكدوانلد مقاالً بعنوان‪" :‬جهاديو تنظيم الدولة اإلسالمية ليسوا نتاج القرون‬
‫الوسطى ولكن نتاج الفلسفة الغربية"‪ ،‬دعا فيه إىل فهم تنظيم الدولة اإلسالمية انطالقًا‬
‫من التاريخ األورويب احلديث وليس ابلعودة إىل الرتاث اإلسالمي‪ ،‬فـ"الدولة اإلسالمية"‬
‫املستندة إىل فكرة "احلاكمية" (أي أن هللا هو احلاكم املطلق والسيد الفرد) تتأسس على‬
‫مفاهيم الدولة احلديثة اليت شهدها القرن السابع عشر واليت أسست لنظام وستفاليا سنة‬
‫‪1648‬م ‪.11‬‬
‫أما يورغن هابرماس فقد رأى يف حوار معه بعد أحداث عنف ابريس أن الدين ال مدخل‬
‫له يف ممارسات األصولية اجلهادية ابلرغم من أهنا تستخدم لغة دينية؛ ألنه ميكن هلا أن‬
‫تستعمل أي لغة دينية أخرى يف مواقف مغايرة‪ ،‬فاألداين الكربى يف العامل هلا جذور عميقة‬

‫‪ 9‬انظر‪ :‬دالل البزري‪ ،‬أخوات الظل واليقني‪ :‬إسالميات بني احلداثة واليقني‪( ،‬بريوت‪ ،‬دار النهار‪.)1996 ،‬‬
‫‪John Gray, Al Qaeda and What It Means to Be Modern, The 10‬‬
‫‪New Press, 2003.‬‬
‫‪Kevin McDonald, ISIS Jihadis Aren’t Medieval, They Are 11‬‬
‫‪Shaped by Modern Western Philosophy, The Guardian, 9‬‬
‫‪September 2014.‬‬

‫‪189‬‬
‫يف التاريخ‪ ،‬أما "اجلهادية فهي صيغة حديثة لرد الفعل على اقتالع سبل احلياة" ‪،12‬‬
‫وميكن أن جند مثل هذه األفكار يف كتاابت أخرى ككتاابت طالل أسد وغريه‪ ،‬كما أن‬
‫نقد طه عبد الرمحن لفكر وتصورات حركات اإلسالم السياسي السنية والشيعية عن الدين‬
‫والسياسة يعكس ضمنيًّا القول‪ :‬إهنا حركات حديثة أو متورطة يف احلداثة هبذا القدر أو‬
‫ذاك ‪.13‬‬
‫إن ربط مثل هذه احلركات ذات األيديولوجيا السياسية مبا قبل احلداثة أو القول‪ :‬إهنا‬
‫حركات ما قبل حديثة مفي ٌد يف شرعنة احلرب عليها أو إضفاء أبعاد تفسريية للحرب‬
‫عليها مبا أهنا من خارج "النظام" (‪ )the system‬وخارجة عليه يف اآلن نفسه‪ .‬ولكن‬
‫هذه احلركات اإلسالمية سلميةً كانت أم عنيفةً إمنا ظهرت يف األزمنة احلديثة؛ فهي‬
‫حركات ش ّكلت شكالً من أشكال التالؤم مع الدولة احلديثة وإن كان بعضها صرحيًا يف‬
‫العداء للحداثة‪ ،‬فالدولة احلديثة لديها نزوع دائم لتشكيل األفكار وإدارة الناس يف حياهتم‬
‫وموهتم‪ ،‬وأجزاء من هذا كانت من اختصاص جهات أخرى يف التاريخ اإلسالمي يف‬
‫مرحلة ما قبل الدولة احلديثة وتنظيماهتا الضابطة (الفقهاء والقضاة وأصحاب األصناف‬
‫والصنائع وتشكيالهتم‪ .)...‬وسبق يل أن رصدت ثالثة أشكال من االستجابة للحداثة‬
‫‪14‬‬
‫ممثلةً بفكرة الدولة‪ ،‬وهي ما أمسيته ابلفقيه التقليدي‪ ،‬والفقيه احلركي‪ ،‬وفقيه اجلهاد‬
‫حيث إن مجيعهم يراهن على الدولة بشكل مركزي كأساس للسلطة ومصدر للضبط‬
‫والتشريع واختاذ القرار بطرائق إما كانت غري مقننة قبل الدولة احلديثة أو كانت َمنوطة‬
‫أبطراف أخرى كالفقهاء واملفتني والقضاة وغريهم‪ ،‬فلما جاءت الدولة احلديثة استولت‬
‫على تفاصيل هذه الشؤون وجتاوبت معها تلك احلركات يف مشاريعها ورؤاها وإن اختلفت‬
‫مرجعياهتا وأفكارها‪.‬‬

‫‪Jurgen Habermas, The Paris Attack and Its Aftermath, 26 12‬‬


‫‪November 2015. https://is.gd/TR7G2n‬‬
‫‪ 13‬انظر نقده ذلك يف‪ :‬طه عبد الرمحن‪ ،‬روح الدين‪ :‬من ضيق العلمانية إىل سعة االئتمانية‪( ،‬بريوت‪ :‬املركز‬
‫الثقايف العريب‪.)2011 ،‬‬
‫‪ 14‬انظر‪ :‬معتز اخلطيب‪ ،‬مأزق الدولة بني اإلسالميني والعلمانيني‪( ،‬بريوت‪ :‬دار جسور‪.)2016 ،‬‬
‫‪190‬‬
‫بل إن مطلب حتكيم الشريعة ‪ -‬وهو القدر املشرتك بني عامة حركات اإلسالم السياسي‬
‫السلمية والعنيفة – هو أحد أبرز جتليات حداثة هذه احلركات اليت حولت الشريعة إىل ما‬
‫يشبه القانون يف الدولة احلديثة متجاوزًة يف ذلك التجربة اإلسالمية املديدة يف أن الشريعة‬
‫قانوان ابملعىن احلديث‪ ،‬فهي أبعد وأعمق من فكرة القانون القائم على سلطة القهر‬ ‫مل تكن ً‬
‫يدا من‬ ‫والضبط السلطوي ونظام العقوابت املادية‪ ،‬فالشريعة يف التجربة التارخيية ُّ‬
‫أشد تعق ً‬
‫ذلك‪ ،‬وال ميكن اختزاهلا يف األبعاد السلطوية والقهرية‪ ،‬فهي ‪-‬يف األساس‪ -‬تقوم على‬
‫فكرة االمتثال الطوعي‪ ،‬كما أهنا متحركة وممتزجة ابلتجربة التارخيية وليست فعل السلطة‬
‫بل فعل اجملتمع‪ ،‬وهي شديدة التنوع فال ميكن اختزاهلا بفكرة اإللزام القانونية‪ ،‬كما أهنا ال‬
‫ظاهرا وابطنًا هلل‪،‬‬
‫تسعى إىل ضبط ظواهر الناس وسلوكياهتم ولكنها تسعى إىل تعبيدهم ً‬
‫أي أن فكرة العقاب الدنيوي فيها اثنوية وال تتعلق إال مبنظومة احلقوق اليت هلا تَـ َعلق‬
‫ابلناس أو ابحلق العام‪/‬اجملتمع‪ ،‬ووفق فلسفة تشريعية خاصة ‪ .15‬وإذا كان البعد األخالقي‬
‫اثنواي يف قانون الدولة احلديثة فإن القانوين واألخالقي متالزمان يف الشريعة‪ ،‬وال ميكن‬ ‫ًّ‬
‫لألخالقي أن يتخلف أو يتأخر‪ ،‬ولذلك هي قائمة على فكرة األجر والثواب والعقاب‬
‫ومجاعات يف خاصة أنفسهم ويف عالقاهتم‬ ‫ٍ‬ ‫األخروي أصالةً‪ ،‬وختاطب أفعال املكلفني أفر ًادا‬
‫ّ‬
‫فيما بينهم ومبحيطهم إىل غري ذلك مما ال جمال لبسطه هنا‪.‬‬
‫فاحلركات اإلسالمية عامةً هي حركات حديثة من جهة املراهنة على الدولة كسلطة مركزية‪،‬‬
‫ومن جهة استعارة التقنيات والوسائل واملفاهيم والصيغ الفكرية‪ ،‬فعدد من مشروعاهتا‬
‫صحيح أن لديها مكوانت وإحاالت تراثية‬ ‫ٌ‬ ‫وافرتاضاهتا مأخوذ من السياسات احلديثة‪،‬‬
‫كثيفة ولكن استعادهتا لتلك املكوانت هي استعادة حديثة مبا هي استعادة أتويلية يف‬
‫حداثي ‪ ،16‬فاقتباساهتا وشواهدها وتصوراهتا هي نتاج عملية أتويل حديث وإن‬
‫ّ‬ ‫سياق‬

‫‪ 15‬انظر تفاصيل ذلك يف‪ :‬معتز اخلطيب‪ ،‬منظومة احلقوق ومقاصد الشريعة‪ ،‬جملة التفاهم‪( ،‬سلطنة عمان‪،‬‬
‫عدد ‪ ،39‬سنة ‪ ،)2013‬ص‪.48-27‬‬
‫‪ 16‬انظر‪ :‬معتز اخلطيب ‪ ،‬الفقيه والدولة‪ :‬معضلة الفقيه يف ظل الثورات العربية‪( ،‬جملة تبني‪ ،‬الدوحة‪ :‬املركز‬
‫العريب لألحباث ودراسة السياسات‪ ،‬عدد‪ ،)2013 ،6‬ص‪.84-63‬‬

‫‪191‬‬
‫ادعت أهنا وفية للتقليد أو أهنا تريد استعادته‪ ،‬ولكنها مفا ِرقة له بل خارجة عليه وهو ما‬
‫شرحته من خالل أطروحيت املركزية وهي فكرة "النظام الفقهي" ‪.17‬‬
‫هتن لكيفية حتديد مجلة من املفاهيم املركزية‪،‬‬
‫يبقى أن أي توصيف هلذه احلركات مر ٌ‬
‫نظري أم واقعة اترخيية واجتماعية‬
‫كمفاهيم‪ :‬الدين والتقليد واحلداثة‪ .‬فهل الدين مفهوم ٌّ‬
‫لتكون‬‫وهلا جوانب قانونية ووجوه حملية وسياسية واقتصادية‪( ...‬العناصر اليت يتم تركيبها ّ‬
‫"الدين") كما يرى األنثروبولوجي طالل أسد؟ وإذا كانت الدولة (الكائن السياسي‬
‫احلديث) ترى أن تعريف وحتديد الوجه العام املقبول للدين هو من صميم عملها‪ ،‬فإن‬
‫احلركات اإلسالمية السياسية السلمية والعنيفة تطمح إىل الشيء نفسه عرب حتويل الشريعة‬
‫إىل قانون كما سبق‪ .‬مث إن كنا سنحيل هذه احلركات إىل التقليد اإلسالمي التارخيي فهل‬
‫مفهوما نظرًّاي‬
‫ً‬ ‫جوهر ويصبح الدين هنا‬
‫التقليد اكتملت صياغته منذ زمن بعيد (أي أنه ٌ‬
‫اثبتًا) أم أنه جوهر متغري جيمع بني الثوابت واملتغريات واملقاصد والوسائل ومن مث فهو‬
‫خيضع على الدوام إىل عمليات التالؤم وإعادة التشكيل بوصفه ظاهرة اجتماعية هلا‬
‫جوانب متعددة ومركبة؟ وحني نقول‪ :‬إهنا حركات حديثةٌ فهل احلداثة مسار حتمي‬
‫اترخيي حمدد أم أهنا ظواهر مؤقتة؟ إن كل هذه‬ ‫ٌّ‬ ‫مستقيم لكل الناس أم أهنا حتقيب‬
‫التساؤالت واإلشكاالت تؤثر يف طريقة تشخيصنا لتلك احلركات وغريها وتلقي بثقلها‬
‫على عملية التحليل‪.‬‬
‫مفهوما زئبقيًّا‪:‬‬
‫ً‬ ‫اإلرهاب‬ ‫‪.3‬‬
‫يرستَخدم اليوم مصطلحا اإلرهاب واجلهاد على نطاق واسع لتسويغ سياسات وسياسات‬
‫مضادة‪ ،‬ومن الطريف أن مثة تشاهبًا بني املعسكرين‪ :‬معسكر املنتسبني إىل اجلهاد ومعسكر‬
‫رمدَّعي مكافحة اإلرهاب‪ ،‬فكالمها يبحث عن غطاء "أخالقي" ألفعاله وممارساته‬
‫الالأخالقية‪ ،‬وكالمها يقوم بتوظيف املفاهيم يف صراع سياسي ترستباح فيه خمتلف األدوات‬

‫انظر‪ :‬معتز اخلطيب‪ ،‬مأزق الدولة بني اإلسالميني والعلمانيني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،18‬وشرحت معىن‬ ‫‪17‬‬

‫النظام الفقهي يف‪ :‬معتز اخلطيب‪ ،‬العنف املستباح‪ :‬الشريعة يف مواجهة األمة والدولة‪ ،‬مرجع سابق‪،‬‬
‫ص‪.287-265‬‬
‫‪192‬‬
‫أحياان‪ ،‬وكالمها خيفق يف حتديد مفهوم دقيق وواضح للمصطلح الذي يرفعه وحدود املعركة‬
‫ً‬
‫اليت خيوضها!‬
‫فمصطلح اإلرهاب أاثر منذ أحداث احلادي عشر من سبتمرب ‪ 2001‬الكثري من اجلدل‬
‫مع صياغة بوش االبن لشعار "احلرب على اإلرهاب"‪ ،‬وعلى خطى بوش االبن سارت‬
‫مؤخرا حيث صاغت شعار "مكافحة اإلرهاب"‪ .‬أما مصطلح اجلهاد‬ ‫دول حصار قطر ً‬
‫فبات يشمل تشكيلة واسعة من اجلماعات تبدأ من فلسطني وتتسع لتشمل ليبيا وسوراي‬
‫والعراق وغريها‪.‬‬
‫ومشكلة املفاهيم مسألة مركزية فيما جرى وجيري‪ ،‬ولكن ال بد من الوعي أبن هذه املشكلة‬
‫ليست مفهومية حبتة‪ ،‬مبعىن أن املشكلة ال تَنتج فقط عن حالة التباس أو سوء فهم‪ ،‬فجزءٌ‬
‫منها يتصل بسطوة التسمية واسرتاتيجية الغموض كما هو احلال مع مصطلح "اإلرهاب"‬
‫أحياان خارج‬
‫ماداي ً‬‫معنواي بل ًّ‬
‫دول إلدانة أي خمالف هلا وتربير تصفيته ًّ‬‫الذي تستخدمه ٌ‬
‫مؤخرا أكثر من مرة؛ فـ"اإلرهايب" َحتَول إىل حكم‬
‫إطار القانون كما فعل نظام السيسي ً‬
‫عمل هبدف‬ ‫فرتض فيه البداهة فال تتم مساءلته أو البحث عن مسوغاته‪ ،‬أي أنه يرستَ َ‬
‫قيمة ير ََ‬
‫اإلرهاب؛ ألنه حتول يف بعض األحيان إىل لعبة سياسية!‪ .‬وال بد من التذكري أبن أمريكا‬
‫مصطلحا‬
‫ً‬ ‫منذ عهد بوش االبن رفضت وضع تعريف حمدد له؛ ألنه ال يرستَعمل هنا بوصفه‬
‫قانونيًّا يتم االتفاق على مدلوله وفرض عقوابت واضحة على مرتكبيه‪ ،‬كما أنه منذ‬
‫حمصورا يف حدود الدولة القومية‪ ،‬ولذلك متت صياغة مفهوم‬ ‫ً‬ ‫أحداث سبتمرب مل يَعد‬
‫"احلرب على اإلرهاب"؛ لإلمعان يف هذه السيولة اليت يتم تكييفها وفق مصاحل خمتلف‬
‫األطراف‪ ،‬ألننا ال نبحث يف مسألة قانونية كما أننا ال نناقش هنا يف مفهوم أخالقي وإمنا‬
‫نناقش يف معايري سائلة حتددها مصاحل الدول واجلماعات وموازين القوى اليت تسعى‬
‫لسحب شرعية أي معارضة أو احتجاج عرب وصمها ابإلرهاب‪.‬‬
‫فالتواطؤ على عدم وجود تعريف حمدد لإلرهاب ليس مسألة نظرية تتصل ابملفاهيم اجملردة‪،‬‬
‫بل تتعلق جبوهر املوقف العملي جتاه هذا السلوك أو ذاك مما يوصف أبنه إرهاب‪ ،‬ما يعين‬
‫أن املفهوم املرن والسائل لإلرهاب حيتوي يف ذاته على عوامل رمتده ابحليوية واحلركة‬
‫واالستمرارية‪ ،‬ومن مثّ فإن أي حديث عن حماربته ينطوي ‪-‬يف ذاته‪ -‬على فاعلية واستمرار‬
‫شن على مفهوم سائل ومتجدد وقابل للتشكيل حسب‬ ‫اإلرهاب؛ ألن تلك احلرب تر ّ‬
‫‪193‬‬
‫املصاحل والصراعات املتغرية‪ ،‬كما أن حديث األنظمة والقوى الدولية عن "مكافحة‬
‫اإلرهاب" أو احلرب عليه ينطوي على اعتقاد ممجوج برباءة النفس وطهارة تلك النظم من‬
‫ممارسة هذا النوع‪ ،‬ما يعين أن هذه احملاربة هي يف حقيقة األمر من أجل "احتكار" شرعية‬
‫ممارسته وليس نفيه ابملطلق‪.‬‬
‫أما مفهوم اجلهاد فمشكلته خمتلفة وإن تشابه موقف معسكري اجلهاد ومكافحة اإلرهاب‪.‬‬
‫صره على املعىن القتايل فقط؛‬‫ويرجع جزء من املشكلة إىل التباسات مفهومية حني يتم قَ ْ‬
‫ألن اجلهاد ابملصطلح القرآين أوسع من ذلك بكثري‪ ،‬اهتم الفقهاء ابملعىن القتايل فقط‬
‫(جماهدة العدو) ألنه يتصل بتخصصهم‪ ،‬واهتم املتصوفة جبانب آخر وهو (جماهدة النفس‬
‫والشيطان)‪ ،‬كما أن جزءًا آخر من املشكلة يتصل ابلتطورات اليت طرأت على املفهوم مع‬
‫اختالف األزمنة والسياقات كما فعلت اجلماعات املنتسبة للجهاد اليوم حني حولته من‬
‫مفهومه الوظيفي الفقهي إىل معىن ثوري انقاليب على األنظمة والعامل وعبأته مبضامني‬
‫جديدة مل تكن معهودة للفقهاء السابقني وجعلت منه ركنًا من أركان اإلسالم‪ .‬واجلهاد‬
‫مفهوم يقابل وال يساوي احلرب؛ ألن اجلهاد يستند إىل مقاصد وغاايت‬
‫يف مدلوله األصلي ٌ‬
‫فعل مشرو ٌط قبل وأثناء وبعد قتال العدو؛ خبالف احلرب اليت تقوم على‬ ‫أخالقية وهو ٌ‬
‫خصوصا مع تطور أدوات احلرب ووسائلها‬ ‫ً‬ ‫مصاحل الدول أو ما تراه هي مصاحلَ حيوية هلا؛‬
‫‪18‬‬
‫يف العصر احلديث واتساع قدرهتا على التدمري والتنكيل ‪.‬‬
‫فاإلشكال احلقيقي ينشأ من املمارسات احلديثة ملا يرسمى "اجلهاد" اليت تتصل وتلتبس‬
‫قائما يف ظل الصراع‬ ‫ابلعنف بفعل عوامل خمتلفة‪ ،‬ولكن هذا االلتباس سيبقى ً‬
‫واإلحباطات‪ ،‬ويف ظل فشل مشروع الدولة الوطنية والتعقيدات اليت أحاطت بتطبيق‬
‫مفهوم اجلهاد يف ظلها‪ ،‬مع االعرتاف أبن جزءًا من املشكلة قائم لدى فئة من الناس تريد‬
‫أن تعيد رسم العامل على صورة اجملتمع اإلسالمي األول يف املدينة املنورة قبل قرون‪ ،‬وتَعترب‬
‫دفاعا عن‬
‫اجلهاد الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك‪ ،‬أي أهنا حولت اجلهاد من فعل اجلماعة ً‬
‫وجودها وحقوقها إىل فعل جمموعات معزولة ضد اجلماعة املسلمة ولتحقيق أيديولوجيات‬
‫خاصة ابلقوة‪.‬‬

‫الفرق بني اجلهاد واحلرب على مستوى املفهوم واملمارسة انظر‪ :‬معتز اخلطيب‪ ،‬العنف‬
‫‪ 18‬للتوسع يف معرفة َ‬
‫املستباح‪ :‬الشريعة يف مواجهة األمة والدولة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.40-25‬‬
‫‪194‬‬
‫فالعنف إذن ظاهرةٌ حديثة تعكس مأزق الدولة التحديثية أوالً‪ ،‬وهي الدولة اليت حاولت‬
‫فرض احلداثة من أعلى وابلقوة فدمرت البىن التقليدية جملتمعاتنا ونتج عنها كل هذه‬
‫منظما أو‬
‫الفوضى‪ ،‬فاالنتقال من األزمنة الكالسيكية إىل األزمنة احلديثة مل يكن انتقاالً ً‬
‫عرب قَ ْسر وإكراهٍ وصراعات‪ .‬واثنيًا‪ :‬ترجع ظاهرة العنف إىل قمع "الدولة‬‫مدروسا وإمنا ْ‬
‫ً‬
‫العسكر خالل العقود املاضية واليت أتسست‬
‫ر‬ ‫عليها‬ ‫وسيطر‬ ‫االستعمار‬ ‫ثت‬ ‫ر‬‫و‬ ‫اليت‬ ‫الوطنية"‬
‫شرعيتها على االنقالابت العسكرية وقمع الناس؛ ألن نشوء هذه الدولة أصالً مل يكن‬
‫نتاج تطور داخلي يف جمتمعاتنا‪ ،‬وقد قامت مشاريع عديدة ملواجهة هذه الدولة بعضها‬
‫سياسي وبعضها عنيف‪ .‬اثلثًا‪ :‬إن اخلطاب احلايل للتقليد فشل يف الدفاع عن التقليد‬
‫الفقهي فلم تَـتَنبه الردود الفقهية والدينية على كتاابت العنف إىل أن املشروع اجلهادي‬
‫السياسي‪ ،‬ولذلك‬
‫ّ‬ ‫يرعيد اكتشاف اإلسالم ويتجاوز التقليد؛ شأنه شأن مجاعات اإلسالم‬
‫أخفقت يف اإلمساك جبوهر اإلشكال أو النموذج (‪ )Paradigm‬اجلهادي‪ ،‬كما أن‬
‫خطاب التقليد نفسه ابت حلي ًفا ألنظمة االستبداد وأداة من أدواهتا‪ .‬فمثالً كان هناك‬
‫رسالة مفتوحة وقعها (‪ )126‬شخصيةً إسالمية روجهت إىل أيب بكر البغدادي زعيم تنظيم‬
‫الدولة‪ ،‬وهي رسالة هزيلةٌ أخفقت يف اإلمساك ابإلشكال الرئيس لدى تنظيم الدولة‬
‫ومجاعات العنف وهو كيفية تعامل اجلهاديني ‪-‬عامة‪ -‬مع املوروث الديين والفقهي ومع‬
‫التقليد يف الزمن احلديث‪ ،‬وهو ما يتصل مبا تسميه الرسالة نفسها "فقه الواقع"‪ ،‬فمنظّرو‬
‫تنظيم الدولة يرون أنفسهم أدرى ابلواقع ويتبنون تصورات مغايرة عن هذا الواقع املع ّقد يف‬
‫تركيبته وصراعاته الطائفية والسياسية احمللية والدولية‪ ،‬وهو ‪-‬يف نظرهم‪ -‬واقع صراعي‪،‬‬
‫ئيس فيه‪ ،‬ويفتقر فيه املسلمون إىل العزة والكيان‬
‫احلرب على اإلسالم واملسلمني مكو ٌن ر ٌ‬‫ر‬
‫اجلامع واهلوية املميزة حتت وطأة العدو اخلارجي املقاتل على طول اخلط والعدو الداخلي‬
‫القاهر واملع ِطّل لشرع هللا واملعِني للعدو اخلارجي‪ ،‬واملسلمون ضحية عدوان خارجي وقهر‬
‫"أمر هللا" والعيش وفق هديه‪ .‬ومجاعات العنف ترى وفق هذه‬ ‫داخلي مينعهم من تنفيذ ر‬
‫مشروعا متكامالً ملعاجلة هذا الواقع املأزوم وهو أفضل من كل املشاريع‬
‫ً‬ ‫الرؤية أهنا متلك‬

‫‪195‬‬
‫رموز متحالفة مع دول االستبداد‬
‫األخرى املطروحة! ويف املقابل موقعو هذا اخلطاب هم ٌ‬
‫‪19‬‬
‫ومعاديةٌ للثورات كان من بينها علي مجعة وعبد هللا بن بيه ومحزة يوسف وآخرون ‪.‬‬
‫شكلت ظاهرة العنف منذ أحداث سبتمرب وحىت قيام الثورات عنو ًاان لسياسات دولية‪،‬‬
‫وتشكل اآلن عنوان املرحلة احلالية لصراع الثورة املضادة واألنظمة القمعية مع الثورات‬
‫وحركات االحتجاج واملعارضة‪ ،‬وإذا كانت مقاومة إسرائيل قد شكلت ذريعة لتعطيل كل‬
‫مشاريع اإلصالح والتنمية لعقود‪ ،‬فإن ذريعة العنف واإلرهاب ترستَخدم اليوم للقضاء على‬
‫جمددا وإخراج السياسة من ميدان‬
‫أي نزوع ثوري أو معارض وإلعادة متكني االستبداد ً‬
‫التداول واملمارسة‪ ،‬ولكن جذر املشكلة يكمن يف هذه الدولة اليت تسمى "وطنية" واليت‬
‫ئيسا يف ظهور العنف وتسهر على تغذيته؛ ألنه أساس شرعية بقائها‬ ‫كانت سببًا ر‬
‫‪ً 20‬‬
‫واستمرارها! ‪.‬‬
‫اجلهاد يف املوروث الفقهي‪:‬‬ ‫‪.4‬‬
‫يضا ملمارسات العنف يف مواجهة دولة ما بعد االستعمار‪ ،‬وهو‬ ‫اجلهاد ش ّكل عنو ًاان عر ً‬
‫كزي يف التفكري اإلسالمي دأب الفقهاء ‪ -‬عرب التاريخ ‪ -‬على الكتابة‬
‫كذلك مفهوم مر ّ‬
‫وعرفه حاجي خليفة أبنه "علم‬‫علما من العلوم اإلسالمية ّ‬
‫فيه وبيان أحكامه حىت رع ّد ً‬
‫يرعرف به أحوال احلرب‪ ،‬وكيفية ترتيب العسكر‪ ،‬واستعمال السالح‪ ،‬وحنو ذلك‪ ،‬وهو‬
‫ابب من أبواب الفقه يرذكر فيه أحكامه الشرعية‪ .‬وقد بينوا أحواله العادية‪ ،‬وقواعده‬
‫احلكمية يف كتب مستقلة‪ .‬ومل يذكره أصحاب املوضوعات بلفظ‪ :‬علم اجلهاد‪ ،‬لكنهم‬
‫ذكروه ضمن علوم‪ :‬كعلم ترتيب العسكر‪ ،‬وعلم آالت احلرب‪ ،‬وحنو ذلك" ‪ ،21‬أي أن‬

‫‪ 19‬للوقوف على تفاصيل حتليل خطاب تنظيم الدولة‪ ،‬وأوجه اإلشكال يف اخلطاب الذي مت توجيهه أليب بكر‬
‫البغدادي انظر‪ :‬معتز اخلطيب‪ ،‬العنف املستباح‪ :‬الشريعة يف مواجهة األمة والدولة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪-219‬‬
‫‪.252‬‬
‫‪ 20‬للوقوف على تشخيص مأزق الدولة انظر‪ :‬معتز اخلطيب‪ ،‬مأزق الدولة بني اإلسالميني والعلمانيني‪ ،‬مرجع‬
‫سابق‪ ،‬ص‪.19-7‬‬
‫حاجي خليفة‪ ،‬كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون‪( ،‬بغداد‪ :‬مكتبة املثىن‪ ،)1941 ،‬ج‪،1‬‬ ‫‪21‬‬

‫ص‪ ، 622‬وانظر‪ :‬بيان علم اآلالت احلربية وعلم ترتيب العساكر يف‪ :‬صديق بن حسن القنوجي‪ ،‬العربة مما جاء‬

‫‪196‬‬
‫موضوع اجلهاد وما يتصل به من أحكام وأدوات وتراتيب وغريها ش ّكل ما رمسي "الرتاث‬
‫ووضعت فيه آتليف كثرية ومتنوعة ال ميكن االكتفاء‬ ‫العسكري" يف اتريخ اإلسالم‪ ،‬ر‬
‫ابجلانب الفقهي منها املتعلق ابألحكام الشرعية وما يتصل ابجلهاد قبل وأثناء وبعد القتال‪،‬‬
‫لفات تصف اجلرندية والوقائع العسكرية واملغازي والفتوحات اإلسالمية وأحكام‬ ‫فهناك مؤ ٌ‬
‫احلرب واجلهاد وصفة اآلالت احلربية وصنوف األسلحة والسفن واملراكب واألساطيل‬
‫واأللفاظ واملصطلحات العسكرية وتشكيالت اجليوش والتخطيط العسكري ‪ ،22‬وحني‬
‫نتحدث عن اجلهاد فهو إمنا يشتغل ضمن منظومة متكاملة تتصل بذلك كله‪ ،‬وغياب‬
‫أوقع يف مشكالت عديدة يف الزمن احلاضر‪.‬‬ ‫هذا التصور َ‬
‫مل ينقطع التأليف يف اجلهاد منذ القرن الثاين اهلجري‪ ،‬وكان عبد هللا بن املبارك (‪181‬هـ)‬
‫‪23‬‬
‫جمددا يف العصر احلديث‬
‫أول َمن صنف فيه فيما نعلم ‪ ،‬وقد نشط التصنيف فيه ً‬
‫وخصوصا من أصحاب األيديولوجيات السياسية كأيب األعلى املودودي وحسن البنا‬ ‫ً‬
‫‪24‬‬
‫وسيد قطب‪ ،‬وقد رمجعت نصوصهم الح ًقا وطبعت يف كتاب واحد ‪ ،‬مث انصرفت‬
‫مجاعات العنف يف النصف الثاين من السبعينيات إىل الكتابة عن اجلهاد وكان كتاب‬

‫يف الغزو والشهادة واهلجرة‪ ،‬حتقيق حممد السعيد زغلول‪ ،‬ط‪( ، 2‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪،)1988 ،‬‬
‫ص‪.12-11‬‬
‫‪ 22‬انظر مثالً‪ :‬بدر الدين بن مجاعة (‪733‬هـ)‪ ،‬مستند األجناد يف آالت اجلهاد‪ ،‬وُمتصر يف فضل اجلهاد‪،‬‬
‫حتقيق أسامة انصر النقشبندي‪( ،‬دمشق‪ :‬دار الواثئق‪ ،)2008 ،‬ومجع كوركيس عواد مصادر الرتاث العسكري‬
‫عند العرب يف ثالثة جملدات مجع فيه حنو سبعة آالف عنوان‪.‬‬
‫‪ 23‬عبد هللا بن املبارك‪ ،‬اجلهاد‪ ،‬حتقيق نزيه محاد‪( ،‬تونس‪ :‬الدار التونسية‪ ،)1972 ،‬واهتم حمققو املصادر‬
‫املذكورة يف اهلوامش السابقة ِ‬
‫بذكر َمن صنف يف اجلهاد‪ ،‬وأحصاها أحدهم يف ‪ 68‬عنو ًاان‪ ،‬مث ذيّل عليه إايد‬
‫كتااب‪ .‬انظر‪ :‬العز بن عبد السالم‪ ،‬أحكام اجلهاد‬
‫كتااب إضافيًّا‪ ،‬يف حني أحصاها آخر يف ‪ً 328‬‬
‫الطباع بـ‪ً 59‬‬
‫وفضائله‪ ،‬حتقيق إايد خالد الطباع‪( ،‬دمشق‪ :‬دار الفكر‪ ،)1996 ،‬ص‪ ،18-9‬وابن املناصف‪ ،‬اإلجناد يف‬
‫ر‬
‫أبواب اجلهاد ‪ ،‬حتقيق مشهور بن حسن آل سلمان وحممد بن زكراي أبو غازي‪( ،‬بريوت‪ :‬مؤسسة الراين‪،‬‬
‫‪ ،)2005‬مقدمة التحقيق ص‪.126-83‬‬
‫‪ 24‬أبو األعلى املودودي‪ ،‬حسن البنا‪ ،‬سيد قطب‪ ،‬اجلهاد يف سبيل هللا‪( ،‬بريوت‪ :‬دار لبنان‪.)1967 ،‬‬

‫‪197‬‬
‫عددا من‬
‫"الفريضة الغائبة" حملمد عبد السالم فرج عالمة فارقة يف هذا االجتاه سنجد ً‬
‫أفكاره ترتدد يف منشورات مجاعة اجلهاد املصرية‪ .‬غري أنه ميكن إدراك فروق عديدة بني‬
‫كتاابت اجلهاد املتنوعة‪ ،‬فكتاابت اجلهاد يف األزمنة الكالسيكية تلتزم بذكر النصوص‬
‫املتعلقة ابجلهاد من القرآن والسنة واألحكام الفقهية على مذهب معني أو حتتفي بذكر‬
‫مذاهب الفقهاء واختالفاهتم على الرتتيب والشمول املعهود يف كتاابت الفقهاء األقدمني‪.‬‬
‫أبعادا‬
‫أضفت عليه ً‬ ‫منحى خمتل ًفا يف فهم اجلهاد و ْ‬
‫ً‬ ‫أما كتاابت القرن العشرين فقد َحنت‬
‫جديدة سنوضحها الح ًقا‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء يف القرنني األول والثاين اهلجريني حول رؤية اجلهاد وضروراته واحلاجة‬
‫نفل وهو قول الصحايب ابن عمر‪ ،‬وقول ابن‬ ‫إليه‪ ،‬فظهرت لدينا أربعة أقوال‪ :‬أوهلا‪ :‬أنه ٌ‬
‫‪25‬‬
‫فرض عني‪ ،‬وهو قول سعيد بن املسيَّب ‪ ،‬وكان‬ ‫الثوري‪ .‬واثنيها‪ :‬أنه ر‬
‫ّ‬ ‫رشربمة وسفيان‬
‫ِ‬
‫اجب عليكم‪ ،‬مث يقول‪ :‬إن شئتم‬ ‫مكحول يستقبل القبلة مث حيلف عشرة أَميان أن الغزو لو ٌ‬
‫ٌ‬
‫مروي عن داود بن أيب‬
‫اجب مرة يف العمر على املستطيع‪ ،‬وهو ٌّ‬ ‫زدتكم‪ .‬واثلثها‪ :‬أنه و ٌ‬
‫عاصم حيث قال‪" :‬الغزو واجب على الناس أمجعني غزوًة كهيئة احلج"‪ .‬ورابعها‪ :‬أنه‬
‫اجب الغزو على الناس كلهم؟ فقال‬ ‫واجب على الكفاية‪ ،‬فقد سأل ابن جريج عطاءً‪ :‬أو ٌ‬
‫هو وعمرو بن دينار‪ :‬ما َعلِمنا‪ .‬وعن ابن جريج قال‪ :‬أخربين داود بن أيب عاصم أن الغزو‬
‫‪26‬‬
‫فرضا على‬
‫فسكت ‪ ،‬وذركر عن عطاء أن اجلهاد إمنا كان ً‬ ‫ّ‬ ‫اجب على الناس أمجعني؟‬‫أو ٌ‬
‫فرض عني‪ ،‬فلما استقر الشرع صار‬ ‫الصحابة‪ .‬قال ابن املرناصف‪" :‬وهذا َحيتمل أن يريد َ‬
‫على الكفاية‪ ،‬وحيتمل أن يرذهب بذلك إىل قول َمن زعم أنه اآلن انفلةٌ يَعنون بعد فتح‬
‫مكة"‪ .‬وذكر ابن املناصف قول َمن قال‪ :‬إنه واجب مرة واحدة يف العمر وقول من قال‪:‬‬
‫نفل‪ ،‬ووصفهما ابلشذوذ‪ ،‬وقال‪ :‬إهنما حمجوجان ابلكتاب والسنة‪ ،‬واستدل لذلك‬ ‫ٌ‬ ‫إنه‬
‫جبملة من النصوص ‪.27‬‬

‫‪ 25‬انظر‪ :‬ابن قدامة‪ ،‬املغين‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة القاهرة‪ ،)1968 ،‬ج‪ ،9‬ص‪.196‬‬
‫‪ 26‬عبد الرزاق الصنعاين‪ ،‬املصنف‪ ،‬حتقيق حبيب الرمحن األعظمي‪( ،‬بريوت‪ :‬املكتب اإلسالمي‪،)1972 ،‬‬
‫ج‪ ،5‬ص‪.174 ،171‬‬
‫‪ 27‬انظر‪ :‬ابن املناصف‪ ،‬اإلجناد يف أبواب اجلهاد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.34-26‬‬
‫‪198‬‬
‫ولكن الذي استقر عليه رأي الفقهاء ‪ -‬فيما بعد ‪ -‬هو أنه من فروض الكفاية‪ ،‬قال ابن‬
‫املناصف‪" :‬هذا هو املشهور املعروف الذي عليه مجاعة أهل العلم"‪ .‬أي أنه إ ْن مل يَـ رقم به‬
‫َمن يكفي‪ ،‬أَِمث الناس كلهم‪ ،‬وإن قام به َمن يكفي سقط اإلمث عن سائر الناس‪ ،‬ولكنه‬
‫بلدا من بالد املسلمني أو استنفر‬ ‫يتحول إىل فرض عني إذا التقى الزحفان أو هاجم العدو ً‬
‫الناس للجهاد‪.‬‬
‫اإلمام َ‬
‫وال نعرف على وجه التحديد سياقات ومالبسات ذلك االختالف حول رؤية اجلهاد‬
‫واحلاجة إليه‪ ،‬ومن السهل القول‪ :‬إن املسألة راجعةٌ إىل االختالف يف أتويل النصوص‪،‬‬
‫ولكن املسألة تبدو أعقد من ذلك ورمبا هلا صلة بعالقة الفقهاء ابلدولة‪ ،‬فلعلها ارتبطت‬
‫وحتَوله إىل قوة كربى‬
‫برؤيتهم لتطورات الوضع السياسي يف الزمن األول‪ ،‬واستقرار اإلسالم َ‬
‫آمنة ومستقرة‪ ،‬وقد يتصل األمر ابختالف أفهامهم لوظيفة اجلهاد وهل هو دفاعي أو‬
‫هجومي وهل هو فعل الدولة أو فعل اجلماعة‪ ،‬ومن املؤكد أن االختالف بني الوجوب‬ ‫ّ‬
‫العيين زمن الصحابة والوجوب الكفائي الذي استقر فيما بعد عصر الصحابة يشري إىل‬
‫أمرين‪ :‬األول أثر التنظيمات اليت هنجتها السلطة منذ عصر اخللفاء الراشدين يف تصور‬
‫حكم اجلهاد ووجود خالف أو تَـَردد يف تَـ َقبلها‪ ،‬وهبذا حتول اجلهاد من واجب ديين يَتعبد‬
‫به األفراد (فرض عني) إىل واجب على اجلماعة ال على األعيان‪ ،‬أي أنه حتول إىل مسألة‬
‫تنظيمية حلفظ اجلماعة‪ ،‬والثاين‪ :‬أن تصورهم للحاالت اليت يتحول فيها اجلهاد إىل فرض‬
‫عيين رحييل إىل البعد التارخيي للحروب وآالهتا وشكل الدولة التارخيية‪ .‬وقد مت التسليم‬
‫اباب "يف اختاذ األجناد وإعدادهم‬
‫ً‬ ‫بتنظيم مسألة اجلهاد حىت أصبح من املألوف أن نقرأ‬
‫‪29‬‬
‫العَرفاء وهم رؤساء األجناد وقوادهم"‬ ‫ِ‬ ‫‪28‬‬
‫"اباب يف ذكر ر‬
‫وتفريغهم للقيام ب َفْرض اجلهاد" أو ً‬
‫رد شيخ األزهر جاد احلق علي‬ ‫يف كتب األحكام السلطانية والرتاتيب اإلدارية‪ .‬وحني ّ‬
‫جاد احلق على كتاب "الفريضة الغائبة" لفرج بىن على تلك الفكرة فقال‪" :‬مل يكن آنذاك‬

‫‪ 28‬ابن مجاعة‪ ،‬حترير األحكام يف تدبري أهل اإلسالم ‪ ،‬حتقيق فؤاد عبد املنعم‪( ،‬قطر‪ :‬دار الثقافة‪،)1988 ،‬‬
‫ص‪.94‬‬
‫‪ 29‬حممد عبد احلي الكتاين‪ ،‬الرتاتيب اإلدارية والعماالت والصناعات واملتاجر واحلالة العلمية اليت كانت‬
‫على عهد أتسيس املدنية اإلسالمية يف املدينة املنورة العلمية‪ ،‬حتقيق عبد هللا اخلالدي‪( ،‬بريوت‪ :‬دار األرقم‪،‬‬
‫د‪.‬ت)‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.205‬‬

‫‪199‬‬
‫ومن‬
‫نظامي متفرغ هلذه املهمة حىت إذا ما جيّش عمر بن اخلطاب َ‬
‫ٌّ‬ ‫إجباري وجيش‬
‫ٌّ‬ ‫جتني ٌد‬
‫ودون الدواوين مل يَعد هناك جمال هلذه البيعة على القتال خارج صفوف‬
‫بعده اجليوش ّ‬
‫جيش الدولة‪ ،‬وإال كان هؤالء الذين يبايعون على مثل هذا خارجني على مجاعة املسلمني‬
‫وتَـ َعني قتاهلم واألخذ على أيديهم" ‪.30‬‬
‫ومن مظاهر هذا التنظيم ملسألة اجلهاد أ ْن َربَطه الفقهاء إبذن اإلمام؛ قال ابن قدامة‪:‬‬
‫"وأمر اجلهاد موكول إىل اإلمام واجتهاده‪ ،‬ويَلزم الرعيةَ طاعتره فيما يراه من ذلك‪ .‬وينبغي‬
‫أن يبتدئ برتتيب قوم يف أطراف البالد يكفون َمن إبزائهم من املشركني‪ ،‬وأيمر بعمل‬
‫أمريا يقلّده أمر احلروب‬
‫ويؤمر يف كل انحية ً‬
‫حصوهنم وحفر خنادقهم ومجيع مصاحلهم‪ّ ،‬‬
‫وتدبري اجلهاد" ‪ .31‬وبدأ ابن مجاعة كتابه عن اجلهاد بباب "يف والة األمر من اخللفاء‬
‫والسالطني واألمراء وما عليهم من العدل وما هلم من الطاعة"‪ ،‬وتكلم عن اختاذ األجناد‬
‫وآالت احلرب وغري ذلك‪ ،‬كما ذهب مجهور الفقهاء إىل أنه "يرغزى مع أمري ٍ‬
‫جيش ولو‬
‫تكااب ألخف الضررين‪ ،‬وألن تَـْرك اجلهاد معه سوف يرفضي إىل قَطع اجلهاد‬ ‫جائرا؛ ار ً‬
‫كان ً‬
‫وظهور الكفار على املسلمني‪ ،‬واستئصاهلم وظهور كلمة الكفر‪ ،‬ونصرةر الدين واجبةٌ‪ .‬وكذا‬
‫مع ظامل يف أحكامه‪ ،‬أو فاسق جبارحة‪ ،‬ال مع غادر ينقض العهد" ‪ ،32‬أي أن اهلاجس‬
‫األكرب الذي كان يشغلهم هو حفظ وحدة الدار ووحدة اجلماعة ولذلك مسوا "أهل السنة‬
‫واجلماعة"‪.‬‬
‫وكانت العديد من كتب اجلهاد ترصنّف لألمراء والسالطني‪ ،‬أو بطلب منهم‪ ،‬أو يف سياق‬
‫كنوع من جهاد‬
‫الغزو واحلروب اليت ختوضها اخلالفة أو السلطنة مع أعدائها يف اخلارج ٍ‬
‫العلماء‪ ،‬وميكن أن نضرب العديد من األمثلة على ذلك‪ ،‬فابن امل ِ‬
‫ناصف (أبو عبد هللا‬
‫حممد بن عيسى القرطيب ‪620‬هـ) كتب كتابه "اإلجناد يف أبواب ر‬
‫اجلهاد" يف عهد الدولة‬
‫املوحدية استجابةً لطلب أمري بلنسية أيب عبد هللا حممد بن أيب حفص فهو الذي "أ َّ‬
‫َجد‬ ‫ّ‬
‫العزم وأحفى يف اإلرشاد على تقييد هذا اجملموع يف اجلهاد وأبوابه وتفصيل فرائضه وسننه‪،‬‬

‫‪ 30‬جاد احلق علي جاد احلق‪ ،‬نقض الفريضة الغائبة‪ :‬فتوى ومناقشة‪( ،‬القاهرة‪ :‬األزهر‪ ،)1993 ،‬ص‪.39‬‬
‫‪ 31‬ابن قدامة‪ ،‬املغين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،9‬ص‪.202‬‬
‫‪ 32‬املوسوعة الفقهية الكويتية‪( ،‬الكويت‪ :‬وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية)‪ ،‬ج‪ ،16‬ص‪.136‬‬

‫‪200‬‬
‫العال إدريس امللقب‬ ‫ِ‬
‫ابن األمري السابق أبو ر‬
‫وذكر رمجَل من آدابه ولواحق أحكامه"‪ ،‬مث أمر ر‬
‫ابلواثق ابهلل (املعروف أبيب دبوس‪ ،‬تَـغَلّب سنة ‪665‬هـ) بنسخ الكتاب عن نسخة املؤلف‪،‬‬
‫وكذلك كتب ابن كثري (‪774‬هـ) "االجتهاد يف طلب اجلهاد" تلبيةً لرغبة انئب السلطة‬
‫ابلشام األمري منجك بن عبد هللا سيف الدين اليوسفي (ت‪776‬هـ) ملا حاصر الفرنج‬
‫قلعة إايس‪ ،‬وذلك لرتغيب الناس يف الرابط على الثغور اإلسالمية ‪ ،33‬وكذلك فعل ابن‬
‫بذكر مستند‬‫مجاعة فقد قال يف مقدمته‪" :‬وقد تقدم من طاعته حتم‪ ،‬وامتثال إشارته غرْنم ِ‬
‫ٌ‬ ‫ر ٌ‬ ‫َ‬
‫الغزاة يف اختاذ ما تدعو حاجتهم إليه‪ ،‬وما يعولون يف آالت اجلهاد عليه‪ ،‬فجمعت هذا‬
‫املختصر" ‪ .34‬واستمر األمر كذلك يف عهد اخلالفة العثمانية‪ ،‬فقد صنف حسن البيطار‬
‫(‪1856‬م) كتابه "اإلرشاد يف فضل اجلهاد" يف سياق الصراع العثماين الروسي‪ ،‬وقال يف‬
‫مقدمته‪" :‬فلما كان أواخر سنة تسع وستني بعد املئتني واأللف ورد األمر الشاهاين أبن‬
‫طائفة روسيا الباغية والشرذمة القليلة الطاغية احنطت على بعض أطراف مملكة موالان‬
‫األعظم وسلطاننا األفخم صاحب العز والتمكني واملؤيد ابلنصر والفتح املبني حامي بيضة‬
‫اإلسالم ومشيد أركان شريعة خري األانم‪ ...‬السلطان الغازي عبد اجمليد خان‪ ...‬فاقتضى‬
‫ذلك نقض العهد والنداء عليهم ابلطرد والبعد فصدرت إشارة موالان املومى إليه ابلتوجه‬
‫لقتاهلم وإشعال احلرب فيهم واستئصاهلم فهتف يب هاتف اإلهلام أن أمجع نبذة من كالم‬
‫إرشادا للعباد يف فضل اجلهاد" ‪ ،35‬مث بعد وفاة السلطان عبد العزيز‬
‫بعض العلماء األعالم ً‬
‫القنَّوجي (‪1890‬م) كتابه‬ ‫خان وتَـويل عبد احلميد خان كتب حممد ص ّديق حسن خان ِ‬
‫َ‬
‫"العربة مما جاء يف الغزو والشهادة واهلجرة" (طربع يف اهلند ‪1877‬م) قائالً يف مقدمته‪:‬‬
‫"طاملا تواترت إلينا جوانب ما جرى يف هذه األزمان بني أقطار الدولة العثمانية وأمصار‬
‫الدولة الروسية‪ ...،‬وآل األمر آخر احلال على خالف آراء الدول والرجال إىل تصميم‬

‫‪ 33‬انظر‪ :‬ابن كثري‪ ،‬االجتهاد يف طلب اجلهاد‪ ،‬حتقيق عبد هللا عسيالن‪( ،‬بريوت‪ :‬مؤسسة الرسالة‪،)1981 ،‬‬
‫ص‪.61‬‬
‫‪ 34‬انظر‪ :‬بدر الدين بن مجاعة‪ ،‬مستند األجناد يف آالت اجلهاد‪ ،‬وُمتصر يف فضل اجلهاد‪ ،‬مرجع سابق‪،‬‬
‫ص‪.29‬‬
‫‪ 35‬حسن بن إبراهيم البيطار‪ ،‬اإلرشاد يف فضل اجلهاد ‪ ،‬حتقيق مسعد عبد احلميد‪( ،‬طنطا‪ :‬دار الصحابة‬
‫للرتاث‪1992 ،‬م)‪ ،‬ص‪.26-25‬‬

‫‪201‬‬
‫العزم على حرب الروس وجزم العزم ببذل ما عند كل رعويي الدولة العثمانية وغريها من‬
‫لس َفَرة‬
‫"س ْفرة الزاد َ‬
‫اآللوسي ر‬ ‫األموال والنفوس‪ ،36 "...‬كما كتب شهاب الدين حممود‬
‫أتييدا لنرفرة اجلهاد اليت قادها السلطان عبد اجمليد خان‪.37‬‬
‫اجلهاد" ً‬
‫هذه املعطيات كلها تفيد أن التصنيف كان أييت يف سياق تصور حمدد ملفهوم اجلهاد وهو‬
‫اجلهاد ضد األعداء يف اخلارج‪ ،‬ويف إطار عالقة حمددة مع السلطة القائمة هي عالقة‬
‫دار اإلسالم‪ ،‬أي أن الفقهاء أحالوا‬ ‫العون والتأييد يف وجه أي اعتداء خارجي يهدد َ‬
‫مسألة اجلهاد إىل الدولة وتنظيماهتا‪ ،‬فلم يكونوا يتصورون اجلهاد خارج حدود السلطة‬
‫حمصورا ابلقتال خارج حدود دار اإلسالم (مع الكفار‬‫ً‬ ‫القائمة أوالً‪ ،‬كما أن اجلهاد كان‬
‫ِ‬
‫احملاربني) اثنيًا؛ فقد استقر لديهم التسليم للحاكم والطاعة له ولو كان متغلّبًا ما دام يقوم‬
‫بوظائف حفظ الدين ومحاية دار اإلسالم‪ ،‬وقد عكس هذا التصور ملركزية السلطة‬
‫والسلطان يف مرحلة متأخرة جدًّا حممد صديق حسن القنوجي ابلقول‪" :‬والسلطان زمام‬
‫األمور ونظام احلقوق وقوام احلدود‪ ،‬واتج عروس الدهور‪ ،‬والقطب الذي عليه مدار الدنيا‬
‫والدين‪ ،‬ومركز دائرة اإلسالم واليقني‪ ،‬وهو ِمحى هللا يف بالده‪ ،‬وظله املمدود على عباده‪،‬‬
‫به ميتنع حرميهم وينتصر مظلومهم وينقمع ظاملهم وأيمن خائفهم‪.38 "...‬‬
‫اجلهاد ومعضلة الدولة القومية‪:‬‬ ‫‪.5‬‬
‫ولكن مع نشأة الدولة القومية واحلركات اإلسالمية اختلفت األمور‪ ،‬وأخذت الكتاابت‬
‫مغايرا للكتاابت السابقة‪ ،‬فاجلهاد عند أيب األعلى املودودي ش ّكل‬
‫منحى ً‬‫ً‬ ‫عن اجلهاد‬
‫الوسيلة لتحقيق اإلسالم الذي هو "فكرة انقالبية‪ ،‬ومنهاج انقاليب يريد أن يهدم نظام‬
‫العامل االجتماعي أبسره وأييت بنيانه من القواعد‪ ،‬ويؤسس بنيانه من جديد حسب فكرته‬
‫وصف للحزب االنقاليب العاملي‬
‫ٌ‬ ‫ومنهاجه العملي‪ .‬ومن هناك تعرف أن لفظ (املسلم)‬

‫‪ 36‬صديق حسن القنوجي‪ ،‬العربة مما جاء يف الغزو والشهادة واهلجرة‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد السعيد بن بسيوين‪( ،‬دار‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬طبعة ‪ )1985‬ص‪.9-8‬‬
‫‪ 37‬انظر‪ :‬حممود عبد هللا اآللوسي‪ ،‬سفرة الزاد لسفرة اجلهاد‪ ،‬خمطوط‪ ،‬مكتبة األزهر‪ ،‬رقم ‪ ،333507‬ورقة‬
‫‪.2‬‬
‫‪ 38‬صديق حسن القنوجي‪ ،‬العربة مما جاء يف الغزو والشهادة واهلجرة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.14‬‬

‫‪202‬‬
‫يكونه اإلسالم وينظم صفوفه‪ ،‬ليكون أداة يف إحداث ذلك الربانمج االنقاليب الذي‬ ‫الذي ّ‬
‫يرمي إليه اإلسالم ويطمح إليه ببصره‪ .‬واجلهاد عبارة عن الكفاح االنقاليب عن تلك احلركة‬
‫الدائبة املستمرة اليت يقام هبا للوصول إىل هذه الغاية‪ ،‬وإدراك هذا املبتغى"‪ ،‬إنه "يهدف‬
‫إىل إنقاذ النوع اإلنساين من الظلم واجلور والطغيان وذلك إبقامة اإلمامة الصاحلة" ‪،39‬‬
‫وهذا املعىن أخذه سيد قطب واحتفى به ونقل نقوالت عديدة من كتاب املودودي ‪،40‬‬
‫وأحل على "عمق عنصر اجلهاد وأصالته يف العقيدة اإلسالمية ويف النظام اإلسالمي ويف‬
‫املقتضيات الواقعية هلذا املنهج الرابين" ‪ ،41‬وأنه "السعي املتواصل والكفاح املستمر يف‬
‫سبيل إقامة نظام احلق ليس غري‪ .‬وهذا اجلهاد هو الذي جيعله القرآن ميزاانً يوزن به إميان‬
‫الرجل وإخالصه للدين" ‪ ،42‬ووصفه أبنه "مل يكن حركة دفاعية ‪ -‬ابملعىن الضيق الذي‬
‫يفهم اليوم من اصطالح «احلرب الدفاعية» ‪ -‬كما يريد املهزومون أمام ضغط الواقع‬
‫احلاضر وأمام هجوم املستشرقني املاكر أن يصوروا حركة اجلهاد يف اإلسالم ‪ -‬إمنا كان‬
‫حركة اندفاع وانطالق لتحرير اإلنسان يف األرض بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع‬
‫البشري ويف مراحل حمددة لكل مرحلة منها وسائلها املتجددة" ‪ .43‬كان سي ٌد واعيًا أبنه‬
‫رخيرج اجلهاد من سياقه الفقهي التقليدي فقد قال‪" :‬اللمحات الكاشفة يف هذا الدين إمنا‬
‫تتجلى للمتحركني به حركة جهادية لتقريره يف حياة الناس‪ ،‬وال تتجلى للمستغرقني يف‬
‫الكتب العاكفني على األوراق‪ .‬إن فقه هذا الدين ال ينبثق إال يف أرض احلركة‪ ،‬وال يؤخذ‬
‫عن فقيه قاعد حيث جتب احلركة" ‪.44‬‬

‫‪ 39‬أصدر املودودي كتابه عن اجلهاد للمرة األوىل سنة ‪1927‬م‪ ،‬وله يف ذلك قصة ترنظر يف‪ :‬أليف الدين‬
‫الرتايب‪ ،‬أبو األعلى املودودي‪ :‬حياته ودعوته‪( ،‬الكويت‪ :‬دار القلم‪ ،)1987 ،‬ص‪.222-221‬‬
‫سيد قطب‪ ،‬يف ظالل القرآن‪ ،‬ط‪( ،17‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،)1991 ،‬ج‪ ،3‬ص‪،1446-1444‬‬ ‫‪40‬‬

‫وعنه نقلنا النص السابق للمودودي‪.‬‬


‫‪ 41‬املرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.746‬‬
‫‪ 42‬املرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.1321‬‬
‫‪ 43‬املرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.1435‬‬
‫‪ 44‬املرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪ ،1735‬سيكرر املعىن نفسه الح ًقا أبو بكر انجي بصيغة شبيهة هبذا فيقول‪:‬‬
‫جيدا"‪ ،‬وهناك‬
‫"والذين يتعلمون اجلهاد النظري أي يتعلمون اجلهاد على الورق فقط لن يستوعبوا هذه النقطة ً‬

‫‪203‬‬
‫كان املودودي وقطب خيوضان معركة األفكار ويواجهان التحدايت اليت طرحتها األفكار‬
‫االستشراقية والتغريبية‪ ،‬ويتحداثن عن فلسفة ورؤى وتصورات‪ ،‬ولكن مجاعات اجلهاد‬
‫نقلت تلك الفلسفة اجلديدة إىل مستوى آخر عرب تنزيلها على األنظمة القائمة‪ ،‬ومحلتها‬
‫حوال اجلهاد إىل جزء من كينونة‬
‫إىل ميدان احلركة واملمارسة‪ ،‬فإذا كان املودودي وقطب قد ّ‬
‫اإلسالم ونظامه‪ ،‬بل كاد قطب جيعله ركنًا من أركان اإلسالم لوال حديث "برين اإلسالم‬
‫تعبدي كالصالة والصوم‪ ،‬كما أوضح‬
‫ّ‬ ‫عيين‬
‫على مخس"‪ ،‬فإن اجلهاديني حولوه إىل فرض ٍّ‬
‫ذلك حممد عبد السالم فرج يف رسالته‪ ،‬فقد رأى أن اجلهاد هو "السبيل الوحيد لعودة‬
‫ورفع صرح اإلسالم من جديد" عرب إقامة الدولة اإلسالمية‪ ،‬وزعم أنه قد "أمجع املسلمون‬
‫على فرضية إقامة اخلالفة اإلسالمية‪ ،‬وإعالن اخلالفة يعتمد على وجود النواة وهي الدولة‬
‫اإلسالمية"‪ .‬فإذا كان اجلهاد يف التصور الفقهي هو للدفاع عن دار اإلسالم‪ ،‬فإنه أصبح‬
‫فرضا إلقامة "الدولة اإلسالمية" مث "اخلالفة اإلسالمية" اليت جتسد اإلسالم‬
‫مع اجلهاديني ً‬
‫الغائب أو املغيَّب؛ ألن "األحكام اليت تعلو املسلمني اليوم هي أحكام الكفر‪ ،‬بل هي‬
‫ر‬
‫وضعها كفار" كما يقول عبد السالم فرج وعامة اجلهاديني‪.‬‬ ‫قوانني‬
‫وإذا كان اجلهاد يف التصور الفقهي يتوجه إىل الكفار احملاربني خارج دار اإلسالم فإن‬
‫اجلهاديني نقلوه إىل الداخل اإلسالمي ضد احلاكم وأعوانه والراضني حبكمهم أو اخلاضعني‬
‫هلم‪ ،‬إذ يرى فرج ومنظرو العنف أن "حكام العصر قد تعددت أبواب الكفر اليت خرجوا‬
‫هبا من ملة اإلسالم"‪ ،‬و"قتال العدو القريب أوىل من قتال العدو البعيد" وأن "أساس‬
‫وجود االستعمار يف بالد اإلسالم هم هؤالء احلكام"‪ ،‬مث أكد أمين الظواهري ومجاعة‬
‫"م َقدَّم على جهاد اليهود لسببني‪ :‬ال رقْرب‬
‫اجلهاد املعىن نفسه فقالوا‪ :‬إن جهاد احلكام ر‬
‫حتديدا سنشري إليه الح ًقا حبسب املناسبة‪ ،‬وحنوه عند أيب مصعب‬
‫أمثال هذا التناص أو النقل بني انجي وقطب ً‬
‫السوري الذي يقول‪" :‬إن النظرية اجلهادية ال تولد يف رؤوس املؤلفني واملفكرين فوق املكاتب األنيقة‪ ،‬وال من‬
‫خالل حياة الدعة املرحية‪ ،‬وال تنزل على أصحاهبا من قمة اهلرم التنظيمي حلركتهم بل تولد يف خنادق القتال‬
‫وساحات اإلعداد ومسار احملنة وأتوهنا‪ ،"...‬وهو ما يعين أن هؤالء متشبعون بروح سيد قطب أو يتقمصونه‪.‬‬
‫انظر‪ :‬أبو بكر انجي‪ ،‬إدارة التوحش‪ :‬أخطر مرحلة ستمر هبا األمة‪[( ،‬د‪.‬م]‪ :‬مركز الدراسات والبحوث‬
‫اإلسالمية)‪ ،‬ص‪ ،31‬وأبو مصعب السوري‪ ،‬دعوة املقاومة اإلسالمية العاملية‪( ،‬منشور على اإلنرتنت)‪،‬‬
‫ص‪.43‬‬

‫‪204‬‬
‫الرِّدة‪ ،‬بل إن اليهود ال يستقر هلم مقام بفلسطني إال يف كنف هؤالء احلكام الطواغيت‬‫و ِّ‬
‫‪45‬‬
‫املرتدين" ‪ ،‬أي أن اجلهاد حتول من جماهدة الكفار احملاربني إىل جماهدة من تراهم هذه‬
‫اجلماعات مرتدين‪ ،‬وهو املعىن الذي شرحته بتوسع يف كتايب "العنف املستباح" حيث‬
‫حللت البنية الفكرية لتنظيم الدولة ومجاعات العنف ‪ ،46‬فاجلهاد ش ّكل لدى املنتسبني‬
‫أحد أربع قضااي رئيسة إىل جانب اإلمامة‪/‬اخلالفة واحلاكمية‬
‫إليه من مجاعات العنف َ‬
‫ورؤية العامل‪.‬‬
‫مل يعد َمث معىن للحديث عن كون اجلهاد جزءًا من تنظيمات الدولة‪ ،‬وال عن ربطه بقرار‬
‫موضوعا للجهاد نفسه‪ ،‬وهبذا انتقل من مسألة‬
‫ً‬ ‫اإلمام؛ ألن الدولة القائمة أصبحت هي‬
‫لصيقة ابلدولة إىل فعل مجاعات وأفر ٍاد خارجني على الدولة ‪ ،‬فاإلمام قد انعدم ‪ -‬يف‬
‫‪47‬‬

‫نظرهم ‪ -‬ويف هذه احلالة رحييل عبد هللا عزام أمر اجلهاد إىل "أمري احلركة" إذ يقول‪" :‬فإذا‬
‫فرِقد اإلمام فإن العلماء يقومون مقام اإلمام أو الرؤساء املطاعون يف أقوامهم‪ ،‬ويصبح أمري‬
‫احلركة اإلسالمية والعلماء املهابون املطاعون الذين رعرفوا ابلتقوى والعلم وسادة األقوام هم‬
‫أولوا األمر" ‪ .48‬وهبذا ش ّكل التكفري املدخل الرئيس هلذه اجلماعات للنهوض ابجلهاد من‬
‫جديد واالستيالء على قراره وتنظيمه‪ ،‬عرب اقتباسات جمتزأة من املوروث الفقهي من دون‬
‫وبعيدا عن طرائق الفقهاء السابقني يف الكتابة عن اجلهاد‪ ،‬وكان‬ ‫التقيد مبذهب معني‪ً ،‬‬

‫‪ 45‬أمين الظواهري (إشراف)‪ ،‬الرد على شبهة خطرية للشيخ األلباين بشأن السكوت عن احلكام املرتدين‪،‬‬
‫ط‪( ،2‬منشورات مجاعة اجلهاد‪ ،‬النشرة الثامنة‪ ،)1991 ،‬ص‪.14‬‬
‫انظر‪ :‬معتز اخلطيب‪ ،‬العنف املستباح‪ :‬الشريعة يف مواجهة األمة والدولة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪-195‬‬ ‫‪46‬‬

‫‪.218‬‬
‫‪ 47‬فكرة اخلروج من منطق الدولة ال تقتصر على مجاعات العنف‪ ،‬فجماعات اإلسالم السياسي تقوم يف‬
‫تصوراهتا وعملها على احللول حمل "اإلمامة" السياسية اليت رحددت وظائفها يف الفقه اإلسالمي؛ بناء على‬
‫افرتاض غياب اإلمام‪ .‬انظر يف هذا‪ :‬معتز اخلطيب‪ ،‬مأزق الدولة بني اإلسالميني والعلمانيني‪ ،‬مرجع سابق‪،‬‬
‫ص‪.240-225‬‬
‫‪ 48‬عبد هللا عزام‪ ،‬إعالن اجلهاد‪ ،‬ضمن‪ :‬موسوعة الذخائر العظام فيما أُثر عن اإلمام اهلُمام الشهيد عبد هللا‬
‫عزام‪( ،‬بيشاور‪ :‬مركز الشهيد عبد هللا عزام‪ ،)1997 ،‬ج‪ ،1‬ص‪.152‬‬
‫‪205‬‬
‫كتاب "الفريضة الغائبة" مفتتح هذا التوجه الذي تردد صداه فيما بعد عند مجاعات‬
‫العنف املختلفة‪.‬‬
‫اجلهاد وأحكامه يف مأزق‪ ،‬فاجلهاد هو جزء من منظومة‬ ‫َ‬ ‫لقد وضع قيام الدولة القومية‬
‫العسكري‬ ‫لفقهي و‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫اخلالفة وال يشتغل إال من خالهلا وعلى هذا األساس صْيغ اإلرث ا ُّ‬
‫على مدار األزمنة الكالسيكية يف انسجام ومتاسك‪ ،‬ولكن األزمنة احلديثة اليت مثّلت‬
‫املعرب األمثل عنها أحدثت حتوالً جذرًّاي‪ ،‬فالدولة احلديثة قامت‬
‫فكرة الدولة احلديثة ذروهتا و ّ‬
‫على أربعة مبادئ كربى هي‪ :‬مرجعية العقل ومشوليته ومن هنا تراجع الديين إىل دائرة‬
‫الفردي‪ ،‬واحلق الطبيعي‪ ،‬والعقد االجتماعي الذي ينشأ بني املواطنني‪ ،‬واحلقوق‬ ‫اخلاص و ّ‬
‫واحلرايت الفردية‪ ،‬وعاد ًة ما رختتصر فكرة الدولة مبفهوم السيادة كمعرب رئيس عنها‪ ،‬ولذلك‬
‫انشغل اإلسالميون بفكرة احلاكمية كمعرب عن الدولة اإلسالمية كمقابل ملفهوم السيادة‪،‬‬
‫وأهم إجنازات الدولة احلديثة أهنا تولت تنظيم حياة األفراد واحتكرت ممارسة العنف املشروع‬
‫يف الداخل كما تولت قرار احلرب يف اخلارج للدفاع عن السيادة أو عما تراه مصاحل حيوية‬
‫دويل جديد خاضع لقوانني ومعاهدات تنظم عالقات‬ ‫واسرتاتيجية هلا‪ ،‬وهي جزءٌ من نظام ّ‬
‫الدول فيما بينها وختضع ملوازين القوة واهليمنة‪ .‬وينضاف إىل ذلك األنظمة االستبدادية‬
‫اليت تسلمت السلطة يف العامل اإلسالمي يف مرحلة ما بعد االستعمار وبعد سقوط اخلالفة‬
‫العثمانية‪ ،‬وهي اليت يرعرب عنها عاد ًة ابلدولة الوطنية أو الدولة القومية واليت أخذت عالقتها‬
‫ابلدين أشكاالً شىت ما بني العداء واالستتباع والتجاهل‪ ،‬ولكن األهم أن اجلهاد مل يعد‬
‫ينتمي إىل قاموسها‪.‬‬
‫وقد رولدت الدولة الوطنية يف عاملنا وهي تعاين من مأزق شرعية سواءٌ ابالستناد إىل اإلرث‬
‫اإلسالمي أم إىل اإلرث األورويب للدولة احلديثة‪ ،‬ولذلك كان على األنظمة احلاكمة أن‬
‫تواجه ‪ -‬ابستمرار ‪ -‬حركات معارضة واحتجاج‪ ،‬فقد واجه اإلسالميون صعوابت كربى‬
‫يف تقبل هذه الدولة امل ْح َدثة ومل يعرتفوا هبا بديالً عن اخلالفة املجهضة‪ ،‬ونشأت مقولة‬
‫املنشود للتعويض عن فكرة‬ ‫"الدولة اإلسالمية" يف رمواجهتها بوصفها تعبريا عن النموذج ر‬
‫ً‬
‫اخلالفة‪ .‬ونتيجة عنف واستبداد الدولة الوطنية والصراع معها وعليها نشأ العنف املسلح‬
‫حتت عنوان "اجلهاد" إلقامة الدولة اإلسالمية اليت تعوض اخلالفة وحتكم ابلشريعة‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫مل يقدم الفقه املعاصر تصورات مالئمة حول اجلهاد يف سياق الدولة‪ ،‬وهو الذي انشغل‬
‫كثريا بفقه النوازل يف جماالت عديدة‪ ،‬ففي حني انشغل اجلهاديون ابستعادة اجلهاد على‬ ‫ً‬
‫طريقتهم ومبفهومهم‪ ،‬انشغل فقهاء احلركة أبسلمة الدولة وتقنني الشريعة والعمل على‬
‫شرعنة وسائلها وأدواهتا‪ ،‬أي بذلوا جهدهم يف التفكري ابلدولة من الداخل ومل يفكروا يف‬
‫عالقاهتا مع اخلارج وكيفية عملها ضمن املنظومة الدولية يف العامل اجلديد‪ ،‬واكتفوا إبدانة‬
‫ومفتو الدولة إبعالن‬ ‫ممارسات احلركات اجلهادية العنيفة وتفنيد أطروحاهتا‪ .‬وقد تورطوا هم ر‬
‫اجلهاد والدعوة إليه ‪-‬مبعناه القدمي‪ -‬يف بعض األحيان‪ ،‬ولكنهم مل يتنبهوا إىل اإلشكاالت‬
‫أمرا بعيد املنال‪ ،‬كما أهنم مل يتنبهوا إىل‬
‫النامجة عن نشوء الدولة القومية اليت جعلت َحتققه ً‬
‫أهنم بدعوهتم تلك خرجوا عن إطار التقليد الفقهي اإلسالمي القدمي‪ .‬فالتحول التارخيي‬
‫املشار إليه أدى إىل عدد من اإلشكاالت يف استعارة املفاهيم الفقهية وتكييفها يف الواقع‬
‫فتم استحضار مفاهيم‪ ،‬وانتزاع تصورات تراثية من إطارها الكلي لتطبيقها على‬ ‫اجلديد؛ َّ‬
‫سياق اترخيي خمتلف كليًّا‪ .‬فإذا كان قرار اجلهاد يف الفقه بيد اإلمام؛ فإنه مع وجود الدولة‬
‫إعالان‬
‫القومية (العلمانية يف الغالب) أصبح الفقيه أو املفيت هو الذي يصدر فتوى أو ً‬
‫بوجوب اجلهاد ويوجهه إىل الناس‪ ،‬وإذا كان نـَ ْوط قرار اجلهاد ابإلمام‪/‬اخلليفة لكونه ميلك‬
‫األمر والسلطة؛ فإنه حتول مع املفيت إىل جمرد "إعالن"؛ ألنه ال ميلك من أمر السلطة‬
‫شيئًا‪ ،‬بل هو ‪-‬يف حالة املفيت الرمسي‪ -‬جزء من مؤسسة السلطة وموظف لديها أيمتر‬
‫أبمرها وال جنده إال حيث تريد هي‪.‬‬
‫وإذا كان جهاد الدفع املقصود به الدفاع عن دار اإلسالم (أرض اخلالفة)؛ فمع الدولة‬
‫كل منها على فكرة السيادة على‬‫القومية أصبحنا إبزاء جمموعة من الدول اليت تقوم ٌ‬
‫‪49‬‬
‫أراضيها وعلى مصاحلها القومية‪ ،‬أي أننا أصبحنا أمام ردور إسالم حترك كل واحدة‬

‫جتوزت إبطالق "دور إسالم"‬ ‫‪49‬‬


‫دار اإلسالم مفهوم اجتهادي‪ ،‬ومثة خالف يف حتديده بني الفقهاء‪ ،‬ومع ذلك ّ‬
‫‪-‬ابجلمع‪ -‬توصي ًفا ملا هو واقع العتبارات متعددة منها‪:‬‬
‫أن دار اإلسالم مبعايريها الفقهية الرتاثية (ظهور أحكام اإلسالم‪ ،‬أو يسكنها املسلمون وإن كان معهم غريهم‪،‬‬
‫أو فتحها املسلمون وأقروها بيد الكفار‪ )..‬متحققة يف كل الدول العربية واإلسالمية‪ ،‬ولكنها مع ذلك فقدت‬
‫يف سياساهتا وممارساهتا‪ ،‬بعضها جتاه بعض استحقاقات املفهوم نفسه‪ ،‬من وحدة النظام والقيم والوجود‪ ،‬ومن‬
‫مثّ مل يعد االعتداء على أي دولة من دول (دار اإلسالم الكبرية) اعتداء على الكل!‬

‫‪207‬‬
‫منها مصلحتها ال رقطرية‪ ،‬ومن الطبيعي أن تصطدم املصاحل (يف حالة احلرب على العراق‬
‫‪ 2003‬خذ مثالً الكويت وسوراي)‪.‬‬
‫وإذا كانت شؤون اجلهاد َمنروطة ابإلمام الذي جيمع بني "الديين والسياسي" يف نظام‬
‫سياسي؛ فإننا مع‬
‫ٌّ‬ ‫منصب ديين‬
‫ٌ‬ ‫اخلالفة اليت هي "حراسة الدين وسياسة الدنيا به" وهي‬
‫ظاهرا‪ ،‬ولذلك تشظت‬‫الدولة القومية أمام دولة علمانية تفصل بني الدين والسياسة ولو ً‬
‫الفتاوى الدينية كتشظي القرارات السياسية بني فقهاء الدولة وفقهاء احلركة اإلسالمية‬
‫ورد الفعل للمفيت (الذي ميثل‬
‫وفقهاء اجلهاد‪ .‬ومع املفتني الرمسيني انقلب الفعل للسياسي ّ‬
‫الديين يف الدولة القومية)‪ ،‬فيصعب الفصل بني الديين والسياسي حني يريد السياسي‬
‫توظيف الدين يف خدمة مصاحله السياسية‪( .‬أتمل مواقف علماء الكويت والعراق‪،‬‬
‫مثال من احلرب على العراق ‪.)2003‬‬‫وموقف مفيت سوراي ً‬
‫لقد فرضت الدولة القومية واملنظومة الدولية اجلديدة كل تلك اإلشكاالت وغريها‪ ،‬فهل‬
‫وخصوصا العيين منه‪ -‬يف ظل الدول العلمانية‬
‫ً‬ ‫ميكن حتقيق اجلهاد بتصوراته الفقهية اليوم ‪-‬‬
‫دون الوقوع فيما مساه الفقهاء قدميًا "الفتنة" واالحرتاب مع السلطان؟ والتطبيق هنا يتناول‬
‫تقليداي‪ ،‬وجتاوز احلدود‪ ،‬والتنظيم‪ ،‬وغري‬
‫ًّ‬ ‫اإلعداد واحلصول على السالح الذي مل يعد‬
‫ذلك‪ .‬وقد شكل تنظيم "القاعدة" وتطوراته الالحقة (تنظيم الدولة اإلسالمية) النموذج‬

‫كثريا من املفاهيم والنظم اليت مل يكن هلا اعتبار يف صياغة‬


‫أن النظام الدويل احلايل بعثر هذه الدول‪ ،‬وفرض ً‬
‫مفهوم "دار اإلسالم"‪ ،‬بدءًا من السيادة واجلنسية والتنقل‪ ،‬وكل مستتبعات "ال رقطرية" اليت جعلت املبادئ تدخل‬
‫يف إطار النسبية حبسب أولوايت وثوابت كل دولة قرطرية‪ ،‬وهذا دفع يف حاالت متعددة إىل اصطدام املصاحل‪،‬‬
‫وقيام حتالفات بني بعض دول اإلسالم مع العدو اإلسرائيلي (وهو نفسه دفع إىل تقدمي بعض الدول التسهيالت‬
‫وجيرمها وجيعل منها "خيانة" للنظام‬ ‫مفهوم "دار اإلسالم" رحرمتَه‪ ،‬بل ِّ‬
‫ر‬ ‫لغزو العراق)؛ األمر الذي يروجب‬
‫سوغ ‪-‬من وجهة نظري‪ -‬إطالق تعبري "دور‬ ‫اإلسالمي الذي يوحد األقاليم اليت جيمعها وصف الدار‪ .‬كل هذا َّ‬
‫صادم‬
‫أسوي بني مفهومي "الدار" و"الدولة"‪ ،‬لكن أقول‪ :‬إن مفهوم الدولة ال رقطرية تَ َ‬ ‫اإلسالم"‪ ،‬ومع ذلك فأان ال ِّ‬
‫مع مفهوم "دار اإلسالم" املتطابق مع "اخلالفة" مبا هي نظام سياسي‪.‬‬
‫صحيح أن الدولة مفهوم سياسي‪ ،‬بينما دار اإلسالم مفهوم ثقايف مرتبط ابألمة‪ ،‬لكن مفهوم "الدار" بتقسيماته‬
‫الثالثة ذو بعد سياسي الزم‪ ،‬وهو مع ذلك ال ينفك عن مفهوم "اخلالفة"‪ ،‬ويبدو أن هذا دفع بعض الفقهاء‬
‫املعاصرين إىل اعتبار املفهوم جزءًا من التاريخ‪.‬‬
‫‪208‬‬
‫األبرز لتجليات مفهوم اجلهاد املنظم خارج حدود الدولة القومية‪ ،‬وهو أحد إفرازات هذا‬
‫اإلشكال الذي نتحدث عنه‪.‬‬
‫حمصورا يف‬
‫ً‬ ‫إن تعقيدات الواقع اليت حتاصر تطبيق مفهوم اجلهاد بصورته الواسعة ليبقى‬
‫فلسطني (يعين أهنا أصبحت مسألة قرطرية داخلية ويف ظل غياب الدولة)‪ ،‬جعلت من‬
‫مفهوم "اجلهاد اهلجومي" جزءًا من التاريخ ابلرغم من وجود كتاابت عديدة يف سياق‬
‫األكادمييا ال تزال تدافع عن فكرة اجلهاد اهلجومي‪ ،‬دون أن تبحث يف إمكاانت وكيفيات‬
‫حتقيقه مع وجود القانون الدويل ومنظومة األمم املتحدة وجملس األمن الدويل والدول‬
‫الكربى ونظام احلروب احلديثة وأسلحتها‪.‬‬
‫واحلديث عن اجلهاد املنوط ابإلمام ارتبط بنظام اخلالفة‪ ،‬ولكن مع فكرة الدولة القومية‬
‫نشأ منصب الرئيس‪ ،‬وإذا كان فقهاء التقليد اليوم ال يرون فارقًا بني اإلمام التارخيي وبني‬
‫الرئيس يف الدولة القومية‪ ،‬فإن اجلهاديني واحلركيني يرون غياب اإلمام‪ ،‬ويف هذه احلالة هم‬
‫مطالبون بتحديد َمن حيق له ضبط موضوع اجلهاد القتايل‪ :‬مىت يبدأ؟ ومىت يقف؟ فغياب‬
‫"اإلمام" واملرجعية املن ِظّمة للجهاد كان أحد األسباب اليت دفعت إىل ظهور حالة‬
‫"القاعدة" وغريها من التنظيمات اليت متارس اجلهاد هنا وهناك على طريقتها اخلاصة‪،‬‬
‫وتدفع مبن خيالفها إىل الصف املعادي للجهاد أو القاعد عنه‪ .‬إن غياب "اإلمام" ليس‬
‫مقصورا على قضية "اإلعالن" وتنظيم أمور اجلهاد فقط‪ ،‬بل هو لصيق بغياب" اخلالفة"‬ ‫ً‬
‫كنظام جامع لدار اإلسالم؛ ما يعين أن مثة تطاب ًقا بني "اخلالفة" و"دار اإلسالم" (مع‬
‫مالحظة استكمال تقسيم العامل إىل‪ :‬دار كفر ودار عهد)‪ .‬ومع ظهور "الدولة" ال رقطرية‬
‫وجدان أنفسنا أمام نظام سياسي خمتلف كليًّا مبدؤه الربمجاتية‪/‬النفعية‪ ،‬وسقفه املصاحل‬
‫القومية ولو على حساب املبادئ اإلسالمية العليا حىت يف حالة "الدولة اإلسالمية" (إيران‬
‫والسعودية مثال)‪ .‬وهنا فقدت فكرة "الدار" مغزاها من جهة استحقاقاهتا الالزمة هلا‪،‬‬
‫وبقيت جزءًا من التاريخ‪ .‬وأبرز استحقاقات دار اإلسالم‪ :‬وجوب النصرة ورد العدوان‪،‬‬
‫عدا‬
‫وأهنا دار أمن وأمان‪ ،‬وإقامة احلدود الشرعية‪ ،‬وهذه كلها جتعل للمفهوم يف نظري بر ً‬
‫خصوصا مع ارتباطه مبفهوم "اخلالفة"‪.‬‬
‫ً‬ ‫الزما‪،‬‬
‫قانونيًّا وسياسيًّا ً‬
‫فمفهوم دار اإلسالم يف حلظة تطابقه مع "اخلالفة" كان يشكل –وفق التصور الفقهي‬
‫خالصا) ذا برعد رسايل يريد بسط سلطانه‬ ‫عقداي ً‬ ‫التارخيي‪ -‬فضاء قيميًّا وحضارًّاي (وليس ًّ‬

‫‪209‬‬
‫على العامل كنظام ال كعقيدة (الحظ تقسيم العامل إىل دار‪ :‬إسالم‪ ،‬حرب‪ ،‬عهد؛ فاجلهاد‬
‫مبعنييه الدفاعي واهلجومي قائم هنا) وجيسد وحدة الوجود اإلسالمي‪ ،‬ووحدة النظام‬
‫اإلسالمي يف األزمنة الكالسيكية‪.‬‬
‫واإلشكال األكثر أمهية ‪-‬مع ما سبق‪ -‬هو التحوالت اليت طرأت على مفهوم "العدو"‬
‫ومن َمث مفهوم "العدوان" الذي من صوره "التدخل" يف القرار السياسي لدولة ما‪ .‬فدول‬
‫ما بعد االستعمار مل تتحرر حقيقة بعد إعالن االستقالل‪ ،‬وإمنا خضعت ألشكال جديدة‬
‫من التبعية االقتصادية والسياسية وغريها‪ ،‬وهو ما رِمسّي بـ"االستعمار اجلديد"‪ ،‬وتتداخل‬
‫فيه السيطرة اخلارجية مع االستبداد السياسي‪ ،‬والقوى الدولية مع النخب احلاكمة يف‬
‫عالقات ومصاحل؛ وهو ما دفع اجلهاديني إىل القول بتداخل مفهومي اجلهاد‪ :‬اجلهاد ضد‬
‫معا‪ ،‬وهو إشكال‬
‫الداخل (النظام الذي يغيّب األمة وأهدافها العليا) واجلهاد ضد اخلارج ً‬
‫مطروح وإن اختلفنا مع طريقة اجلهاديني يف االستجابة له أو التعامل معه‪ ،‬ومن‬
‫ٌ‬ ‫حقيقي‬
‫هنا نشأت حركات مناهضة العوملة وغريها‪.‬‬
‫ونتيجة هذا املأزق املرّكب مل جيد الشيخ ابن عثيمني بردًّا من إسقاط حكم اجلهاد عرب‬
‫القول‪ :‬إن هللا عز وجل "مل يوجب القتال إال بعد أن صار لألمة اإلسالمية دولة وقوة‪...‬‬
‫وهكذا نقول يف الواقع اآلن؛ لعدم قدرة املسلمني على القتال ومواجهة الكفار‪ ...‬وهلذا‬
‫من احلمق أن يقول قائل‪ :‬إنه جيب على املسلمني اآلن أن يقاتلوا الكفار‪ ...‬وأهم قوة‬
‫نرعدها هي اإلميان والتقوى؛ ألن املسلمني ابإلميان والتقوى سوف يقضون على األهواء‬
‫وحمبة الدنيا‪ ،‬مث يَلي قوة اإلميان والتقوى أن يَتسلح املسلمون ويتعلموا كما تعلم غريهم‪.‬‬
‫قدر عليه فإننا غري مكلفني به‪ ،‬ونستعني ابهلل عز وجل على هؤالء‬ ‫والشيء الذي ال ير َ‬
‫األعداء" ‪.50‬‬

‫‪ 50‬ابن عثيمني‪ ،‬جمموع فتاوى ورسائل ابن عثيمني‪ ،‬مجع انصر السليمان‪( ،‬الرايض‪ :‬دار الوطن‪ ،‬ودار الثراي‪،‬‬
‫‪ ،)1992‬ج‪ ،25‬ص‪ .310-308‬ويف ج‪ ،25‬ص‪ 307‬يقول‪" :‬كل واجب ال بد فيه من شرط القدرة"‪،‬‬
‫ويف ج‪ ،25‬ص‪ 315‬يقول‪" :‬إذا مل يقدر املسلمون على غزو الكفار سقط عنهم"‪.‬‬
‫‪210‬‬
‫خامتة‪:‬‬
‫من الواضح أن جوهر املأزق يتمحور حول فكرة "الدولة" والتغريات اليت طرأت على طبيعة‬
‫السلطة وصيغ احلكم فيها‪ ،‬وأن هذا العبور من مرحلة الدولة التارخيية إىل االستعمار مث‬
‫دولة ما بعد االستعمار ترك أتثريات على البنية العميقة للتفكري اإلسالمي؛ ألنه أحدث‬
‫انقطاعا يف استمرارية التقليد اإلسالمي احلي الذي َو َسم اجملتمعات اإلسالمية اترخييًّا‬
‫ً‬
‫جلهتني‪ :‬اجلهة األوىل‪ :‬جهة اإلنتاج العلمي املتواصل الذي انتظم ضمن تشكيالت حمددة‬
‫تتسم ابلنظام واالنضباط وأهنا كانت تتم على َوقْع حركة اجملتمع ال مبعزل عنه‪ ،‬واجلهة‬
‫الثانية‪ :‬جهة تركيبة اجملتمع والسلطة وتفاعل العلماء وأدوارهم ووظائفهم يف العالقة ابجملتمع‬
‫معا‪ ،‬أي أن الفقه كان نتاج حركة هذا التفاعل احلي بني النص واجلماعة‬ ‫والسلطة ً‬
‫قانوان إسالميًّا بل‬
‫والسلطة‪ ،‬وكان يتداخل فيه األخالقي مع القانوين‪ ،‬والشريعة مل تكن ً‬
‫وجود سلطة إلزام هو اجلانب‬ ‫أوسع من ذلك‪ ،‬فاجلانب القانوين فيها الذي يقتضي َ‬
‫القضائي فقط‪ ،‬وفيما وراء ذلك كان مثة مرونة وحرية واسعة يتحرك فيها األفراد واجملتمعات‬
‫وحيققون فيها مصاحلهم وخياراهتم‪ ،‬فأي مقايسة بني منطق الدولة القائمة ومنطق الدولة‬
‫لكل من‬ ‫التارخيية هي مقايسة ال اترخيية وحتتوي على مغالطات تشوش الفهم العميق ٍّ‬
‫الدولة التارخيية والدولة القائمة‪.‬‬
‫والنص األخري البن عثيمني يعكس ‪-‬بعمق‪ -‬إحساس فقيه اليوم مبأزق استعادة الرتاث‬
‫الفقهي يف الزمن احلاضر‪ ،‬وهو ال ميلك له حالًّ إال اإلميان والتقوى واالستعانة ابهلل‪ ،‬ابلرغم‬
‫من أنه يشري إىل طلب العلم بكالم جممل دون بيان حقيقة العلم املطلوب وكيفية إحداثه‬
‫قدر عليه فإننا‬
‫للتغيري‪ .‬وإذا كان ابن عثيمني قد وقف عند حدود أن "الشيء الذي ال ير َ‬
‫غري مكلفني به"‪ ،‬فإن آخرين قد سلكوا طرقًا أخرى الستعادة تراث ما قبل الدولة يف‬ ‫ر‬
‫الدولة فنشأ لدينا اجتاه املنتسبني إىل اجلهاد‪ ،‬واجتاه حركات اإلسالم السياسي اليت حاولت‬
‫أن تزاوج بني اإلرث الفقهي وفكر الدولة احلديثة فخرجت بفكرة "الدولة اإلسالمية"‪.‬‬
‫وسبق يل أن رصدت أشكال االستجابة احلديثة ملأزق الدولة يف أربعة أشكال‪ :‬أوهلا فقيه‬
‫اجلهاد الذي يعلن احلرب على الدولة القائمة واجملتمع الراضي حبكمها‪ ،‬واثنيها‪ :‬فقيه‬
‫الدولة الذي التحق بدولة ما بعد االستعمار وانفح عنها وعن خياراهتا بوصفه جزءًا من‬
‫جهازها وموظ ًفا لديها وأسبغ عليها أوصاف اإلمام يف الفقه املوروث وأوجب هلا السمع‬
‫والطاعة من دون أن يوجب عليها أي واجبات أو أن حيدد هلا أي وظائف‪ ،‬واثلثها‪ :‬فقيه‬
‫‪211‬‬
‫احلركة الذي قام مشروعه على احللول حملها‪ ،‬ورابعها‪ :‬فقيه التقليد الفقهي الذي استمر‬
‫برتديد مقوالت الفقه املوروث غري عابئ مبتغريات السلطة ‪.51‬‬
‫وإذا كان الفقيه ينشغل ‪-‬حبكم وظيفته‪ -‬ابلواقع واملسائل العملية فهو ال ميتلك أدوات‬
‫البحث يف األنساق الكربى اليت هي وظيفة املفكر والفيلسوف‪ ،‬كما ال ميلك مناهج‬
‫العلوم السياسية واالجتماعية اليت جيب االستعانة هبا للخروج من هذا املأزق املركب‪،‬‬
‫ولتجاوز التفكري اجلزئي واملوضعي إىل التفكري يف النسق وإحداث التحول فيه للخروج من‬
‫مشكلة التكيف أو التالؤم اليت يتورط فيها أصحاب النظر املوضعي واآلين غري عابئني أو‬
‫غري مدركني حلجم التحوالت واملشكالت النامجة عن احللول الرتقيعية اليت تزاوج بني‬
‫مفاهيم متناقضة أو تبين على مقدمات يَلزم عنها إلزامات تعود على القيم األساسية‬
‫ابلنقض كما قد رأينا يف احلديث عن العنف املشروع مثالً أو يف استعادة اجلهاد يف الدولة‬
‫القومية‪.‬‬

‫‪ 51‬انظر‪ :‬معتز اخلطيب‪ ،‬مأزق الدولة بني اإلسالميني والعلمانيني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،19-15‬و‪-225‬‬
‫‪.240‬‬
‫‪212‬‬
‫الباب الثاين‬
‫الشخصيات‬
‫الفصل األول‪:‬‬
‫استعادة التفلسف‪ :‬معامل املشروع الفكري لطه عبد الرمحن‬
‫مجيلة تِلوت‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫يعترب طه عبد الرمحن أحد الفالسفة العرب البارزين أواخر‬
‫األلفية الثانية؛ فقد أثرت كتاابته‪ -‬املتعددة كمّا واملتنوعة‬
‫كيفًا‪ -‬يف مسار البحث يف قضااي الفلسفة والفكر يف العامل‬
‫العريب؛ إذ كتب الدكتور طه عبد الرمحن يف قضااي متشعبة‬
‫ومهمة‪ ،‬على رأسها‪" :‬مناهج الرتاث" "وفلسفة احلوار"‬
‫و"سؤال األخالق" و"املنطق" و"نقد احلداثة" و"فقه‬
‫الفلسفة" و"الدين والسياسة" و"علم النفس" و"إشكالية‬
‫العنف" وغريها من املواضيع الفكرية والقضااي املعرفية اليت‬
‫تناوهلا وفق هنج فلسفي متميز‪.‬‬
‫وقد مسح التكوين املتنوع لطه عبد الرمحن خبوض غمار هذه القضااي‪ ،‬إذ َدرس الرجل‬
‫الفلسفة واملنطق واللغة‪ ،‬وبدأ دراسته ابملغرب واستكملها جبامعة السوربون؛ فأعد دكتوراه‬
‫السلك الثالث سنة ‪ 1972‬يف موضوع‪" :‬اللغة والفلسفة‪ :‬رسالة يف البنيات اللغوية‬
‫ملبحث الوجود"‪ ،‬ودكتوراه الدولة سنة ‪ 1985‬يف موضوع‪" :‬االستدالل احلجاجي‬
‫ودرس املنطق والفلسفة بعد عودته للمغرب‪ ،‬وأسس منتدى احلكمة‬ ‫والطبيعي ومناذجه"‪ّ .‬‬
‫للمفكرين والباحثني‪ ،‬كما اشتغل طه عبد الرمحن على عدد من القضااي املتعلقة بروح‬
‫العصر‪ ،‬وخاض يف كتاابته سجاالت احلداثة والرتاث والدين مع مفكري العامل العريب‬
‫عموما واملغريب خصوصا كاجلابري والعروي وأركون ونصر حامد أبو زيد وغريهم‪.‬‬
‫لذلك فإن دراسة مشروع مفكر من طرازه ليس ابألمر اليسري؛ وعليه‪ ،‬فإين أصرح يف‬
‫مقدمة هذه الدراسة أنه يصعب اإلملام ابملشروع يف كليته‪ ،‬لكن هذا ال مينع من حماولة‬
‫النظر يف األسس املنهجية واخلارطة املعرفية ملشروعه الفكري‪ ،‬على عمومية ذلك واختزاله‬
‫أحياان‪ .‬وقد انتظمت هذه الورقة يف ثالثة حماور رئيسة؛ يعىن األول بتجلية بعض مقومات‬
‫استعادة التفلسف عند طه عبد الرمحن حنو جتديد العقل والتجربة الروحية‪ ،‬ويرتكز الثاين‬
‫على بيان اخلارطة الفكرية ملشروع طه عبد الرمحن واقتصرت على جماالت ثالث "الرتاث"‬
‫و" احلداثة" و"الفلسفة"‪ ،‬بينما يهتم احملور األخري ابلنظرية االئتمانية وجتلياهتا يف العمران‬
‫املعريف مقتصرة على اجملال السياسي أمنوذجا للتطبيق‪.‬‬
‫أوال‪ :‬مقومات استعادة التفلسف عند طه عبد الرمحن‬
‫يعرف كل عصر سؤاال معرفيا مييز حقبة أبسرها‪ ،‬وكان السؤال األبرز أواخر األلفية الثانية‬
‫هم واحد؛ وهو ختلف‬ ‫هو "ملاذا أتخر املسلمون وتقدم غريهم؟"‪ ،‬ويعرب هذا السؤال عن ّ‬
‫املسلمني والعرب عن ركب التقدم العاملي‪ ،‬وقد عرف هذا اهلم أوجه بعد نكسة ‪،1967‬‬
‫إذ جترعت الشعوب العربية واإلسالمية مرارة اهلزمية‪ ،‬وحينها تباينت مناهج املصلحني‬
‫واملفكرين يف وضع طريق لإلصالح والتغيري والنهوض؛‬
‫فمنهم من رأى األولوية يف اإلصالح للحقل السياسي‪ ،‬وهذا كان ديدن مجهور ابحثي‬
‫ومفكري احلركات اإلسالمية‪ ،‬إذ جعلوا حماربة االستبداد السياسي رأس النهوض‪ ،‬ومن‬
‫مثّ؛ تضخمت خطاابت االستبداد وسبل تفكيكه ملرحلة معينة‪ ،‬مث تنامى بعد ذلك‬
‫احلديث عن الدولة والدميقراطية من مدخل فقهي ينشغل خبطاابت التجويز والتحرمي‪ ،‬ليتم‬
‫االنتقال فرتة أخرى إىل احلديث عن ضرورة استنبات الدولة لتتطور معه خطاابت الدولة‬
‫اإلسالمية واملدنية من منظور ديين‪ ،‬وكانت هذه النقاشات‪ ،‬اليت جرت على مراحل‬
‫متباينة‪ ،‬تعرف تطورات حتديثية ملحوظة‪ ،‬مما آل إىل تضخم اإلصالح مبفهومه السياسي‬
‫هم فريق آخر‪ ،‬ابلدعوة إىل اإلصالح‬‫ابعتباره املدخل للنهوض مع فقر معريف وثقايف‪ ،‬بينما ّ‬
‫الثقايف وحماولة رسم طريق النهوض‪ ،‬وكان هذا سؤال مجع من املفكرين الذين بصموا اتريخ‬
‫األمة‪ ،‬على اختالف مناهجهم وتعارض مقارابهتم أحياان‪.‬‬
‫وينتمي طه عبد الرمحن إىل خانة املصلحني املفكرين؛ إذ جعل "التفلسف" آلة لإلصالح‬
‫الثقايف لواقع األمة العربية واإلسالمية‪ ،‬ابالرتكاز على ركنني أساسني‪ :‬أوهلما جتديد العقل‪،‬‬
‫واثنيهما التجربة الروحية‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫‪ -1‬جتديد العقل‬
‫محل طه عبد الرمحن مشعل اإلصالح الثقايف يف وقت مبكر‪ ،‬حيث أرجع السبب األول‬
‫لتخليه عن الشعر وتوجهه للفكر إىل ضرورة االخنراط يف األسئلة اليت رافقت هزمية‬
‫‪ ،1967‬إذ أصابته بزلزال شديد وهو ما زال طالبا يف اجلامعة‪ ،‬فرأى مسلكه يف الفكر‬
‫علي آنذاك سؤال‬‫أو الكتابة غري املسلك الذي كان ينبغي له‪ ،‬ليصرح قائال‪" :‬واستوىل ّ‬
‫عقل هذا الذي هزمنا وحنن أمة كثرية بعددها‪ ،‬راسخة يف‬ ‫أي ٍّ‬‫مصريي‪ ،‬وهو‪ّ " :‬‬
‫اترخيها؟"‪ ،‬فاختذت قراري أبن أتوقف عن الشعر ولسان حايل يقول‪" :‬اليوم ٌ‬
‫شعر وغدا‬
‫فكر"‪ ،‬إذ كنت أنسب هذه اهلزمية إىل خلل أصاب عقولنا‪ ،‬واعتربت أن هذا العقل‬
‫عقل ال بد من أنه ميتاز مبا جيعله أهال هلذا االنتصار‪ ،‬فكان‬
‫الذي هزم العرب واملسلمني ٌ‬
‫‪1‬‬
‫هذا هو السبب األول يف خروجي من الشعر إىل الفكر "‪ ،‬ونتج عن توجهه ابتداءً حنو‬
‫الفكر اهتمامه ابلعقل‪ ،‬فاشتغل ابملنطق تكوينا وتدريسا وتعريبا معتربا إايه املدخل إلحكام‬
‫املعرفة االستداللية‪.‬‬
‫فالنظر يف العقل عنده هو مدخل استعادة التفلسف‪ ،‬وهذا األمر‪ ،‬وإن كان يتم على‬
‫مدايت متوسطة وبعيدة‪ ،‬إال أن أثره فارق‪ ،‬إذ يعد التفلسف جوهر اإلصالح الثقايف‬
‫خصوصا أنه يرتبط بذهنية أمة ومتثالهتا يف واقع متغري‪ ،‬األمر الذي يستدعى خوض أسئلة‬
‫تناسب هذا الواقع اجلديد واملتحرك‪ ،‬وإجراء حتوالت فكرية على مستوى النهج واملشروع‬
‫واملستقبل‪ ،‬وقد كان التحول الفكري لطه عبد الرمحن مرتبطا بسؤال "النهضة" أو جتديد‬
‫اليقظة الدينية‪ ،‬وفق اصطالحه‪ ،‬ومن مثّ؛ فإن مشروعه هنضوي إصالحي ابألساس‪ ،‬إال‬
‫أنه خمتلف عن سائر مشاريع النهضة جوهراي‪ ،‬حيث جند مفكرين كبيغوفيتش وجارودي‬
‫والفاروقي وغريهم خاضوا يف قضااي "هنضوية" وفق لغة خاصة‪ ،‬لكن ال ميكن ومسهم‬
‫بكوهنم فالسفة متميزين‪ ،‬خالف عبد الرمحن الذي انطلق من إطار معريف فلسفي جدده‬
‫من منظور إسالمي بتعمقه يف املقاربة الروحية من معني مفاهيمي قرآين‪ ،‬وجعلها مركز‬
‫النظر يف قضااي الفكر والفلسفة‪.‬‬

‫‪ 1‬طه عبد الرمحن‪ ،‬احلوار أفقا للفكر‪( ،‬بريوت‪ :‬الشبكة العربية لألحباث والنشر‪ ،‬ط‪ .)2013 ،1‬ص‪-17‬‬
‫‪.18‬‬
‫‪217‬‬
‫ومن مثّ؛ فإن اإلصالح الثقايف هو بداية هنوض األمم وحتقيق يقظتها؛ ومن هذا املدخل‬
‫انطلق للحديث عن جتديد العقل‪ ،‬وقام بتقسيم جديد للعقالنية‪ ،‬ففي تصوره أن العقالنية‬
‫الغربية هي العقالنية التجريدية‪ ،‬بينما ذكر عقالنيتني إضافيتني‪ :‬العقالنية التسديدية‬
‫والعقالنية التأييدية‪ ،‬وانطلق يف جتديده للعقل من التجربة الروحية‪ ،‬وأرقى أضرب العقالنية‬
‫هي العقالنية التأييدية‪ ،‬ألهنا مؤيدة ابلتجربة الروحية‪ ،‬وما زال طه عبد الرمحن مرتكزا على‬
‫"املقاربة الروحية" حىت صارت هي أساس "النظرية االئتمانية" اليت تبلورت يف كتابه "دين‬
‫احلياء"‪.‬‬
‫‪ -2‬التجربة الروحية‬
‫إن من أكثر املصطلحات دوراان يف كتاابت الدكتور طه عبد الرمحن مصطلح اإلبداع‪ ،‬إذ‬
‫إنه بىن مشروعه‪ -‬كما أكد‪ -‬على حماربة التقليد بشقيه؛ الرتاثي أو احلداثي‪ ،‬منطلقا من‬
‫متيز املنظور اإلسالمي لإلنسان الذي ينظر للجانب الطيين والروحي معا‪ ،‬دون إلغاء‬
‫ألحدمها‪ ،‬إال أن طغيان "املادية" يف الفلسفة الوضعية غلّب االهتمام ب "اجلانب الطيين"‪،‬‬
‫فصران نتحدث عن "اإلنسان ذو البعد الواحد"‪، One Dimensional Man‬‬
‫وأتثرت كثري من أدبيات الفكر العريب مبخرجات هذا املنظور‪ ،‬لذلك جند طه عبد الرمحن‬
‫يوجه انتقاداته هلذه التصورات إبرجاع الروح للمعادلة اإلنسانية‪ ،‬فكأن مشروعه يف عمقه‬
‫الروحي اشتباك مع الطغيان لرؤية اجلانب املادي لإلنسان يف حماولة تناول قضااي األمة‪.‬‬
‫إن طه عبد الرمحن يف مقابل االنشغال السياسي ابلتجديد الذي شغل احلركات‬
‫االجتماعية بعد سقوط الدولة العثمانية قد وضع الرهان على فلسفة إسالمية جتعل األصل‬
‫يف جتديد األمة هو جتديد اإلنسان‪ ،‬وجتعل األصل يف جتديد اإلنسان هو جتديد الروح‪.2‬‬
‫وتعد التجربة الروحية مصدرا من مصادر املعرفة عند طه عبد الرمحن‪ ،‬إذ ما يلبث أن‬
‫يستدل هبا على أفكاره مدعما إايها ابحلجج املنطقية والعقلية‪ ،3‬إال أهنا جمرد مصدر من‬

‫طه عبد الرمحن‪ ،‬من اإلنسان األبرت إىل اإلنسان الكوثر‪ ،‬مجع وتقدمي‪ :‬رضوان مرحوم‪( ،‬بريوت‪ :‬املؤسسة‬ ‫‪2‬‬

‫العربية للفكر واإلبداع‪ ،‬ط‪ ،)2016 ،1‬ص‪.11‬‬


‫‪ 3‬انظر مثال‪ :‬طه عبد الرمحن‪ ،‬روح احلداثة‪ :‬املدخل إىل أتسيس احلداثة اإلسالمية‪( ،‬بريوت‪ :‬املركز الثقايف‬
‫العريب‪ ،‬ط‪ ،)2006 ،1‬ص‪.15‬‬
‫‪218‬‬
‫مصادر املعرفة لديه وليست "املصدر" الوحيد؛ إذ يعمد دوما إىل التسلح بعدة منهجية‬
‫وحجاجية لتدعيم رأيه‪.‬‬
‫لذلك فإن التفلسف عند طه عبد الرمحن يستند إىل "التجربة الروحية" أببعادها الروحية‬
‫واألخالقية‪ ،‬و"جتديد العقل" حىت يتمكن الفيلسوف من التوسل أبقوى املناهج العقلية‪،‬‬
‫معتربا أن أتسيس التجربة اإلميانية على التعقل سيفتح آفاقا جديدة‪ ،‬ويقيم فكرا إسالميا‬
‫‪4‬‬
‫جديد حيصن هذه اليقظة ومينع عنها تقول القائلني وحتامل املغرضني‪.‬‬
‫لكن هذا االختيار يف توسعة مصادر املعرفة وتعريف العقالنية كان حمل انتقاد شديد؛‬
‫ولعل هذا أحد األسباب الرئيسة يف إعراض كثري من املفكرين العرب عن كتاابته‪ ،‬إذ‬
‫يتهمها بعضهم ابالستغراق يف "الروحنة" اليت ختالف العقلية املؤسسة للمعرفة بناء على‬
‫التعارض بني العقل والروح الذي هيمن على الفكر العريب‪ ،‬يف حني أن االشتغال عند طه‬
‫عبد الرمحن منطقي‪ ،‬حىت إنه يغرق فيه أحياان ح ّد التجريد واإلغراب‪ ،‬ومن مثّ؛ فإن التفاعل‬
‫أو عدمه مع املشروع الفكري لطه عبد الرمحن جيب ّأال يتوقف عند حدود اعتبار التجربة‬
‫الروحية مصدرا من مصادر املعرفة‪ ،‬وإمنا جيد ربه –إن رأى فيه مشكال‪ -‬أن ينتقل مباشرة‬
‫للبناء املنطقي لفكر الرجل ويقيم احلجج والرباهني على ضعفه وهتافته‪.‬‬
‫اثنيا – اخلريطة الفكرية ملشروع طه عبد الرمحن‬
‫إن النظر يف مؤلفات طه عبد الرمحن سيجلي لنا اهتماماته الفكرية والفلسفية وكذا‬
‫جماالت اهتماماهتا يف ارتباطها ابلسياق‪ ،‬وسنرتكز يف هذا العرض التحليلي على‬
‫جماالت ثالث‪ :‬وهي‪" :‬الرتاث" و"الفلسفة"‪ ،‬و"نقد احلداثة"‪.‬‬
‫‪ -1‬سؤال الرتاث وتباين مناهج التقومي‬
‫لو أتملنا مؤلفات طه عبد الرمحن سنجد كتااب واحدا يضم عنوانه كلمة "الرتاث"‪ ،‬وهو‬
‫الكتاب الرائد "جتديد املنهج يف تقومي الرتاث"‪ ،‬إال أن "سؤال" الرتاث كان حاضرا بقوة‬
‫يف كتبه‪ ،‬مثل "اللسان وامليزان" و"أصول احلوار وجتديد علم الكالم" وغريها؛‬

‫‪ 4‬طه عبد الرمحن‪ ،‬العمل الديين وجتديد العقل‪( ،‬الرابط‪ :‬شركة اببل للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪،)1989 ،1‬‬
‫ص‪.18‬‬
‫‪219‬‬
‫فقد خاض طه عبد الرمحن جتربة اختبار آليات الرتاث "يف أصول احلوار وجتديد علم‬
‫الكالم"‪ ،‬والذي صدرت طبعته األوىل سنة ‪ ،1987‬فقام ابختبار منهج املناظرة واحلوار‬
‫كما ورد يف األدبيات الرتاثية‪ ،‬قائال بتعدد أقسام الرتاث‪ ،‬وقام بنقد فكرة تقومي الرتاث‬
‫بشكل مشويل وكلي؛ وتناول املمارسة احلوارية" يف الرتاث ليبني فضائلها وهتافت منتقديها‪.5‬‬
‫لذلك كان اشتغاله على املناظرة الرتاثية ضراب من االختبار الفعلي للرتاث وتفنيد أحكام‬
‫القيمة التعميمية واملطلقة‪ ،‬فهي أشبه بعينة التجربة لتعليل احلكم ومتحيصه‪.‬‬
‫ويعترب كتابه "يف جتديد املنهج يف تقومي الرتاث"‪ ،‬الذي صدرت طبعته األوىل سنة‬
‫‪ 1994‬زبدة البحث املنهجي يف الرتاث وفق خلفية سجالية غايتها هدم طروحات انقدي‬
‫كل الرتاث أو جزء منه يف السياق العريب واملغريب‪ ،‬وعلى رأسهم اجلابري مث العروي‪ ،‬وكان‬
‫اهلدف من كتابته إظهار مزااي الرتاث‪ ،‬ونقد القول ابلقطيعة اإلبستمولوجية كما راج يف‬
‫كثري من األدبيات والدراسات الفكرية‪ ،‬وتثبيت كونه جزءا من هوية األمة وكينونتها‪ ،‬كما‬
‫اعترب منتقدي الرتاث والداعني للقطيعة معه أهنم يـرْلقون أبنفسهم يف تراث غريهم‪.‬‬
‫أما يف كتاب" اللسان وامليزان أو التكوثر العقلي"‪ ،‬والذي صدر بعد أربع سنوات من‬
‫صدور جتديد املنهج من تقومي الرتاث‪ ،‬فقد كان هاجس الرتاث حاضرا بقوة‪ ،‬وخيتزن‬
‫الكتاب أفكارا رائدة‪ ،‬لكن يالحظ أن هذا الكتاب مل حيظ ابالهتمام الذي حظي به‬
‫"جتديد املنهج"‪ ،‬بل ال يدرج ضمن الكتب اليت عنت ابلرتاث‪ ،6‬علما أنه ليس ابلكتاب‬
‫السجايل من حيث العموم‪ ،‬فاشتغال طه يف التعامل مع الرتاث يف "اللسان وامليزان"‬

‫‪ 5‬طه عبد الرمحن‪ ،‬يف أصول احلوار وجتديد علم الكالم‪( ،‬بريوت‪ :‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬ط‪،)2007 ،3‬‬
‫ص‪.22‬‬
‫انظر مثال الئحة أعمال طه عبد الرمحن اليت قام هبا مشكورا د‪ .‬رضوان مرحوم يف "سؤال املنهج يف أفق‬ ‫‪6‬‬

‫التأسيس ألمنوذج فكري جديد‪ ،‬مقاالت لطه عبد الرمحن‪ ،‬مجع رضوان مرحوم‪( ،‬بريوت‪ :‬املؤسسة العربية‬
‫للفكر واإلبداع‪ ،‬ط‪ ،)2015 ،1‬إذ أدرج الكتاب ضمن جمال مناهج املنطق‪ ،‬وهذا ما يدرجه فيه كل من قرأان‬
‫هلم‪ ،‬لكن القارئ للكتاب يفهم أن هذه املناهج كانت تندرج ضمن إطار أكرب وهو تعميق آليات البحث يف‬
‫الرتاث‪ ،‬بل إنشاء تراث جديد كما ومسه طه عبد الرمحن‪.‬‬
‫‪220‬‬
‫منهجي ابمتياز‪ ،‬إذ ضعف هنج السجال‪ ،‬مصرحا أبطروحة متقدمة عما ذكره سابقا تتمثل‬
‫يف "الدعوة إىل إنشاء تراث جديد"‪.‬‬
‫ومن مثّ؛ تتعدد الكتب اليت تناولت "موضوع الرتاث" عند طه عبد الرمحن‪ ،‬إال أن‬
‫منهجيات التناول ختتلف‪ ،‬وإن غلب عليها يف معظمها اخللفية السجالية كما يظهر يف‬
‫"جتديد املنهج" بشكل واضح‪ ،‬وهذا راجع إىل مجلة اعتبارات على رأسها طبيعة املرحلة‬
‫وضغط األسئلة وحرج القضية وقوة االجتاهات اإليدلوجية اليت كانت ختتلف يف مقاربة‬
‫اإلشكاالت‪ ،‬وتتباين يف رسم مالمح النهوض بني اجتاهات متنافرة على رأسها القطب‬
‫احلداثي والقطب اإلسالمي‪ ،‬وبني هذين القطبني ضاعت الكثري من احلكمة‪.‬‬
‫أ‪ -‬االشتغال الرتاثي بني إشكال اآلليات وتقومي املضمون‬
‫من األسئلة امللحة اليت عرفتها أواخر األلفية الثانية سؤال املنهج يف التعامل مع‬
‫الرتاث‪ ،‬إذ كان الصراع شديدا بني أهل الفكر والثقافة يف تقومي الرتاث وفق‬
‫توجهات متباينة‪ ،‬كما سبق بيانه‪ ،‬وارتبطت يف جلها بنقاشات الذات واهلوية‬
‫واحلداثة والدين وغريها من األسئلة اليت أطرت مرحلة ما بعد االحتالل إىل‬
‫حدود هناية األلفية الثانية‪ ،‬وما أن كتب اجلابري سلسلته "نقد العقل العريب"‬
‫ومشروع "نقد الرتاث" حىت توالت الدراسات أتييدا أو نقدا‪ ،‬وقد عمل طه‬
‫عبد الرمحن على التفاعل النقدي مع مشروع اجلابري‪ ،‬إذ وسم منهجه ب‬
‫"التفاضلي"‪ ،‬واقرتح منهجا "تكامليا" أابن عن بعضه يف مقالته "كيف جندد‬
‫‪7‬‬
‫وعم َقها يف كتابه "جتديد املنهج يف تقومي الرتاث"‪ ،‬وموضوع‬
‫النظر يف الرتاث" ‪َّ ،‬‬
‫السجال كان خبصوص "آليات" االشتغال على الرتاث وتقوميه من جهة‪،‬‬
‫وأحكام تقييمه من جهة أخرى‪.‬‬
‫وخالصة القول يف "النظر اآلليايت" عند طه عبد الرمحن اعتباره املعرفة ابلرتاث تتحقق‬
‫ابملعرفة ابآلليات اليت تنتج مضامني الرتاث‪ ،‬ومن مث كانت ممارسته تندرج يف إطار‬
‫"املنهج"؛ إذ مل يعن كثريا مبضامني اإلنتاج الرتاثي مبقدر عنايته آبليات اشتغاله وإنتاجه‪،‬‬

‫‪ 7‬نشرت جملة أفكار‪ ،‬يناير‪ ،1996 ،‬ع‪ ،123‬من ص‪ 5‬إىل ‪ .23‬ينظر‪ :‬طه عبد الرمحن‪ ،‬سؤال املنهج يف‬
‫أفق التأسيس ألمنوذج فكري جديد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.41‬‬
‫‪221‬‬
‫وميز يف هذا اإلطار بني اآلليات األصيلة اليت تندرج ضمن املمارسة الرتاثية‪ ،‬واآلليات‬
‫املنقولة ‪-‬ممحصا إايها وفق منهج "التداولية"‪ ،‬ويقصد به أن احلضارة اإلسالمية كانت‬
‫دائما تستوعب الوافد عليها أو املنقول إليها استيعااب خيضعه للقيم املعرفية والقيم اللغوية‬
‫والقيم العقدية اخلاصة هبا‪.‬‬
‫أما النظر "التقوميي" للرتاث‪ ،‬فيقوم على اعتبار الرؤية التكاملية للرتاث بدل الرؤية‬
‫التفاضلية‪ ،‬والكلية بدل التجزيئية‪ .‬وهذا الضرب من التحليل مرتبط خبلفية الناظر للرتاث‪،‬‬
‫فكان بذلك نتيجة حتمية للنظر اآلليايت؛ إذ اخلالف يف اآلليات املتوسل هبا أوقع ابلضرورة‬
‫يف االختالف يف تقومي الرتاث‪ ،‬ومن مثّ؛ يتلخص التقومي الرتاث عند طه عبد الرمحن يف‬
‫ربطه آبليات إنتاجه وحماكمته وفْـ َقها؛ "فال ميكن أن حياكم أبدوات مل ترنتج مضمونه إال‬
‫أن يكون على سبيل املقارنة"‪ ،8‬كما يقول طه عبد الرمحن‪.‬‬
‫لكن السؤال هنا‪ :‬هل تقومي الرتاث يتوقف عند اآلليات واملناهج؟ أال يلزم االنطالق من‬
‫هذه اآلليات للنظر يف قضاايه وتقومي مضامينه؟ وأين يتجلى جهده يف التقومي املضموين؟‬
‫هذا ما يزال خافتا يف مشروع طه عبد الرمحن يف جتديد املنهج إال إذا اعتربان دعوته ل‬
‫"تراث جديد" ضراب من جتاوز املضامني الرتاثية‪ ،‬وهذا حكم يصعب اجلزم به‪.‬‬
‫ب‪ -‬حقيقة الرتاث بني التارخيية واإلبداعية‬
‫ابستقراء أقوال طه عبد الرمحن وحتليلها قد خنلص إىل موقف تقوميي شامل‬
‫للرتاث‪ ،‬ال ينطلق من جمرد النظر اآلليايت‪ ،‬كما يكرر دوما يف كتاابته‪ ،‬وإمنا‬
‫جند تقوميات أخرى ذكرت ضامرة وخافتة‪ ،‬وتكتنز أحكام معيارية مهمة‪ ،‬يلزم‬
‫منهج جيمع بني روح الدين وروح العصر‪ ،‬فما‬‫تثويرها واملضي هبا قدما لتطوير ٍ‬
‫هي هذه التقوميات؟‬
‫‪ -‬اترخيية الرتاث‪ :‬اترخيية آليات أم قيم؟‬
‫يطور منظورا تقومييا مل يتم استيعابه واستثماره‪،‬‬
‫إن اشتغال طه عبد الرمحن ابلرتاث جعله ّ‬
‫إذ أن الدخول يف جدلية مع‪/‬ضد الرتاث كان غالبا على حلبة الصراع حول مفاهيم اهلوية‬

‫طه عبد الرمحن‪ ،‬احلوار أفقا للفكر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.141‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪222‬‬
‫والذات واحلداثة انطالقا من املوقف من الرتاث‪ ،‬لكن لو أتملنا ما خطه طه عبد الرمحن‪،‬‬
‫الذي يصنف كأحد املنافحني عن الرتاث‪ ،‬فإنه ال يدافع عنه ابعتباره مضموان‪ ،‬وإمنا‬
‫ابعتباره منهجا مولدا للمعرفة‪ ،‬لذلك ومسه بكونه "حقيقة اترخيية"‪ ،‬وهذا ما مل يلتفت إليه‬
‫كثريا كموقف تقوميي‪ ،‬إذ إن هذا احلكم ال يقول ابلتعامل "املاضوي" املتجاوز للرتاث؛‬ ‫ً‬
‫أي االشتغال وفق منطق االستغناء‪ ،‬وإمنا ينظر إليه مبنطق االستمرار واإلغناء‪ ،‬مما يستلزم‬
‫التعامل معه كتاريخ ال ميكن االنفصال عنه‪ ،‬ويف نفس الوقت ال ميكن البقاء فيه‪ ،‬إذ‬
‫الرتاث ولو بدا يف الظاهر حقيقة ابئنة ومنفصلة حبكم ارتباطها ابلزمان املاضي‪ ،‬فهي يف‬
‫جوهرها حقيقة كائنة ومتصلة حتيط بنا من كل جانب وتنفذ فينا من كل جهة‪ ،‬فال سبيل‬
‫إىل االنقطاع عن العمل ابلرتاث يف واقعنا ألن أسبابه مشتغلة على الدوام فينا‪ ،‬آخذة‬
‫أبفكاران‪ ،‬وموجهة ألعمالنا‪ ،‬متحكمة يف حاضران ومستشرفة ملستقبلنا‪.9‬‬
‫ومن خمرجات القول بتارخيية الرتاث التفريق بني القيم احلية وامليتة يف الرتاث؛ لذلك جنده‬
‫يقسم الرتاث بني الروح واملقاصد اليت تتحكم يف الرتاث من جهة‪ ،‬وبني جتليات هذه‬
‫الروح وحتقيقات املقاصد من جهة أخرى؛ ويرى طه عبد الرمحن أن االنكباب على الرتاث‬
‫جيب أن ينصب يف استجالء هذه الروح احلاملة للمقاصد والقيم اليت عملت على توليد‬
‫الرتاث وتطويره‪ ،‬ومن خالل هذه الروح سيمكن استئناف العطاء واالتصال ابملعاصرة‬
‫والدخول للحداثة‪ ،‬ويكون هذا االتصال عن طريق توظيف اخلاصية التداولية‪ ،‬وذلك‬
‫إبخضاع اآلليات الوافدة واملضامني املنقولة ملقتضيات التداول اإلسالمي من قيم عقدية‬
‫ولغوية ومعرفية‪.10‬‬
‫ولو قاران طه عبد الرمحن ابجلابري سنجد أنه يشرتك مع اجلابري من حيث املبدأ وخيتلف‬
‫معه من حيث االستناد على مضامني الرتاث؛ إذ استند اجلابري على املضمون الفلسفي‬
‫املتجسد يف ابن رشد ‪-‬الذي يراه طه عبد الرمحن جمرد انقل لرتاث أرسطو ال مبدعا‪-‬‬
‫بينما ارتكز طه عبد الرمحن على املعرفة العِرفانية خصوصا إلعادة االعتبار للتجربة الروحية‬

‫‪ 9‬طه عبد الرمحن‪ ،‬يف أصول احلوار وجتديد علم الكالم‪ ،‬ص‪.19‬جتديد املنهج يف تقومي الرتاث‪( ،‬بريوت‪:‬‬
‫املركز الثقايف العريب‪ ،‬ط‪ ،)2007 ،3‬ص‪.19‬‬
‫‪ 10‬طه عبد الرمحن‪ ،‬احلوار أفقا للفكر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.139-138‬‬
‫‪223‬‬
‫ملصادر املعرفة اإلسالمية‪ ،‬وهو يف هذا التمييز كان مساجال أكثر منه مؤسسا‪ ،‬إذ ريرّد‬
‫على اجلابري الذي اعترب العِرفان أدَّن رتب املعرفة اإلسالمية يف حتليله لبنية العقل العريب‪.‬‬
‫‪ -‬حنو تراث جديد‪:‬‬
‫دعا طه عبد الرمحن بشكل صريح إىل إنشاء تراث جديد‪ ،‬وقد مسح له إمساكه بناصية‬
‫اآلليات الرتاثية جبرأة التصريح هبذا الرأي‪ ،‬منزها نفسه عن كل تصنيف منهجي يف التعامل‬
‫مع الرتاث؛ معتربا أن الرتاث اتريخ‪ ،‬والتاريخ ال يتجرد منه املرء كما يتجرد من ثيابه‪ ،‬وال‬
‫أنه يسرتجعه كما يسرتجع وديعته‪ .‬واملطلوب هو صنع خطاب جديد‪ ،‬أي بناء تراثنا‬
‫احلاضر كما بىن املتقدمون تراثهم املاضي؛ وبدهي أنه ال سبيل إىل بناء هذا الرتاث‬
‫احلي إال بتحصيل أسباب املعرفة على وجهها األوسع‪ ،‬وحتصيل أسباب العمل على‬
‫وجهها األنفع‪ ،‬مث التوسل بكل ذلك يف إنشاء خطاب يضاهي قيمة خطاب املتقدمني‬
‫اء خطاب املعاصرين‪.11‬‬ ‫كما يضاهي عط ً‬
‫وينطلق طه عبد الرمحن من معيار إصالحي إلنتاج املعرفة يتمثل يف النفع املعريف واإلصالح‬
‫العملي؛ "فإذا صار النفع املعريف واإلصالح العملي احلاضران احليان ال املاضيان امليتان‬
‫مها مقياس التقومي‪ ،‬فال مانع مينع من وجودمها عند من توسل أبسباب يف العلم والعمل‬
‫مأخوذة من الرتاث‪ ،‬كما ال مانع مينع من انتفائهما عند من توسل أبسباب يف املعرفة‬
‫والسلوك مأخوذة من احلداثة‪ ،‬مىت كان األول قد استثمر أسبابه مبا ينفع العلم ويصلح‬
‫العمل‪ ،‬وكان الثاين قد استثمر أسبابه مبا يضر املعرفة ويفسد السلوك"‪.12‬‬
‫ونلحظ يف هذا الصدد أن اهتمام الباحثني مبنهج طه عبد الرمحن يف تقومي الرتاث طغى‬
‫عليه الدخول يف السجاالت اليت خاضها هو‪ ،‬وصرف النظر عن كثري من األحكام‬
‫التقوميية املهمة؛ منها مثال القول بتارخيية الرتاث والدعوة لرتاث جديد‪ ،‬وهذا القول ال‬
‫يقتضي القطيعة اإلبستمولوجية مع الرتاث اليت روج هلا بعض املفكرين‪ ،‬وهو ما انتقده طه‬

‫‪ 11‬طه عبد الرمحن‪ ،‬اللسان وامليزان أو التكوثر العقلي‪( ،‬بريوت‪ :‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬ط‪،)2006 ،2‬‬
‫ص‪.406-405‬‬
‫‪ 12‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.406‬‬
‫‪224‬‬
‫عبد الرمحن‪ ،‬وإمنا هو اتريخ مستمر حيتاج االستئناف والتتميم الذي يتم ابلنظر يف اآلليات‬
‫املنهجية واملعرفية من أجل إبداع تراث جديد‪.‬‬
‫‪ -2‬سؤال احلداثة‪ :‬مقاربة نقدية أخالقية‬
‫يلحظ القارئ انطالقا من مقدمة كتاب "روح احلداثة" تصدر شاغل اإلبداع ابعتباره احلل‬
‫لتحرير العقل اإلسالمي من التقليد الذي نتج عنه ما أمساه ب "فتنة مفهومية"‪ ،‬ويرى طه‬
‫عبد الرمحن أن أول مدخل للخروج من حالة التيه تتمثل يف إبداع مفاهيم خاصة؛ إذ إن‬
‫"الواقع أن اجملتمع املسلم ما مل يهتد إىل إبداع مفاهيمه أو إعادة إبداع مفاهيم غريه‪ ،‬حىت‬
‫كأهنا من إبداعه ابتداء‪ ،‬فال مطمع يف أن خيرج من هذا التيه الفكري الذي أصاب العقول‬
‫فيه"‪.13‬‬
‫فالرتكيز على الفتنة املفهومية يوضح لنا املدخل املعريف لطه عبد الرمحن يف مواجهة‬
‫التحدايت‪ ،‬كما يبني لنا هذا البعد مالمح مشروعه الفكري القائم على اللغة‪ ،‬ابعتبار أن‬
‫الفكر ال ينفصل عن اللغة‪ ،‬فهي وسيلة الفكر ومادته األساس‪ ،‬فطه يرى أن أزمة األمة‬
‫أزمة مفاهيم يف العمق؛ واخلروج منها يكمن يف إبداع مفاهيم تنتمي لكينونة األمة وروحها‪.‬‬
‫أ‪ -‬روح احلداثة بني العقالنية واألخالقية‬
‫إن العالقة وثيقة بني "جتديد العقل" و"نقد احلداثة"؛ إذ إن سؤال العقل كان املدخل لنقد‬
‫واقع احلداثة‪ ،‬واستبدل طه عبد الرمحن "مشروع العقالنية" الذي قامت عليه احلداثة ب‬
‫"األخالقية" الذي أسس عليه روح احلداثة اليت يبتغيها‪ ،‬مث جعل ماهية اإلنسان قائمة‬
‫على األخالق ال العقل‪ ،‬خالف ما استقر يف الدرس الفلسفي‪ ،‬منتقدا كون العقالنية هي‬
‫احلد الفاصل بني اإلنسانية والبهيمية‪.‬‬

‫‪ 13‬طه عبد الرمحن‪ ،‬روح احلداثة‪ :‬املدخل إىل أتسيس احلداثة اإلسالمية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.11‬‬

‫‪225‬‬
‫قسم العقالنية إىل‪ :‬عقلية جمردة من "األخالقية"‪ ،‬ويشرتك فيها اإلنسان‬
‫ونظرا هلذا االعتبار ّ‬
‫مع البهيمة‪ ،‬وهي أخالقية "نظرية"‪ ،‬وعقالنية مسددة ب "األخالقية" وهي اليت خيص هبا‬
‫‪14‬‬
‫من دون سواه‪ ،‬وهي أخالقية عملية‪.‬‬
‫وجوهر التسديد األخالقي يكمن يف اتصال األخالق ابلدين؛ لذلك انتقد طه فصل‬
‫الفالسفة األخالق عن الدين‪ ،‬معتربا األخالق من غري دين "أخالقيات سطح"‪" ،‬وهي‬
‫عبارة عن األخالقيات اليت وضعها احلداثيون وما زالوا يضعوهنا من أجل دفع أسباب الشر‬
‫أو األذى الذي حلقهم وما زال يلحقهم مبا كسبت يد احلداثة [‪ ]...‬فال بد إذن من‬
‫طلب أخالقيات تنأى عن السطح الذي وقفت عنده احلداثة وتغوص يف أعماق احلياة‬
‫وأعماق اإلنسان‪ ،‬فال أعمق من حياة متتد من عاجلها إىل آجلها‪ ،‬وال أعمق من إنسان‬
‫يتصل ظاهره بباطنه‪ ،‬وأي املعاين اخللقية تستطيع استيعاب هذا االمتداد للحياة وهذا‬
‫االتصال لإلنسان من املعاين اليت ينطوي عليها الدين اإلهلي"‪.15‬‬
‫وتصحيحا ملسار احلداثة‪ ،‬وضع طه عبد الرمحن جمموعة من األصول األخالقية املركزية‪،‬‬
‫ميكن تلخيصها يف‪:‬‬
‫األخالق صفات ضرورية خيتل بفقدها نظام احلياة ال عرضية أو كمالية‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫القيمة األخالقية أسبق على غريها من القيم‪ ،‬فكل فعل أييت حتت التقومي‬ ‫‪-‬‬
‫األخالقي‬
‫ماهية اإلنسان حتدد ابألخالق ال العقل‪ ،‬حبيث يكون العقل اتبعا لألخالق‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫األخالق مستمدة من الدين املنزل‪ ،‬واإلنسان مبوجب أخالقيته ال يستطيع أن‬ ‫‪-‬‬
‫يتجرد كليا من حال التدين ولو سعى إىل ذلك ما سعى‪ ،‬ألنه‪ ،‬وإن أىب التدين‬
‫اختيارا ومن حيث يدري‪ ،‬فإنه يقع فيه اضطرارا ومن حيث ال يدري‪.‬‬
‫األخالق مراتب خمتلفة قد يتقلب بينها الفرد الواحد‪ ،‬وليست مرتبة واحدة جيمد‬ ‫‪-‬‬
‫عليها‪.‬‬

‫‪ 14‬طه عبد الرمحن‪ ،‬سؤال األخالق‪ :‬مسامهة يف النقد األخالقي للحداثة الغربية‪( ،‬بريوت‪ :‬املركز الثقايف‬
‫العريب‪ ،‬ط‪ .)2013 ،5‬ص‪.14‬‬
‫‪ 15‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.26‬‬
‫‪226‬‬
‫‪ -‬اهلمة األخالقية لإلنسان أقوى من األمر الواقع وأصلب من حتمية احلدث‪ ،‬ألن‬
‫الواقع القائم ال يستنفذ اإلمكان الذي يف يد اإلنسان‪ ،‬وال احلتمية املنسوبة إىل‬
‫التاريخ تستنفذ طاقته‪.‬‬
‫‪ -‬العقل اجملرد الذي اختار االنفصال عن العمل الديين ال تلبث أفعاله أن تنقلب‬
‫إىل نقيض مقصودها‪ ،‬حبيث تغدو آاثرها ضارة ابإلنسان حيث كان يتوقع أهنا‬
‫ستأتيه ابلنفع اخلالص‪.16‬‬
‫ب‪ -‬احلداثة اإلسالمية‪ :‬من حضارة اللوغوس إىل حضارة اإليتوس‬
‫إن تصحيح طه عبد الرمحن ملسار احلداثة استلزم القول بتعدد احلدااثت‪ ،‬مبينا أن بعض‬
‫املفكرين العرب اختاروا ضراب واحدا من أضرب احلداثة وألبسوها لبوسا كونيا‪ ،‬يف حني‬
‫أن تعدد احلدااثت سيسمح بتأسيس حداثة وفق تداولنا املعريف‪ ،‬جيمع بني روايف اخلصوصية‬
‫ومشرتكات الكونية‪.‬‬
‫وانطالقا من فكرة تعدد احلدااثت‪ ،‬قال بوجود حداثة إسالمية‪ ،‬إذ ال يعقل حسب قوله‪،‬‬
‫أن يتقرر يف األذهان أن احلداثة أتيت ابملنافع واخلريات اليت تصلح هبا البشرية‪ ،‬وأن تتحقق‬
‫هذه املنافع واخل ريات يف األعيان‪ ،‬مث ال يكون هذا اجلزء النافع منها متضمنا يف احلقيقة‬
‫اإلسالمية"‪" ،17‬وكما أن للحداثة الغربية أشكاال خمتلفة‪ ،‬فكذلك ينبغي أن تكون للحداثة‬
‫اإلسالمية أشكاال خمتلفة" معتربا "أن منافع احلداثة ال تتحقق يف اجملال التداويل اإلسالمي‬
‫فحسب‪ ،‬بل إهنا تتعدى ذلك إىل أن تنزل فيه رتبا أرقى من الرتب اليت كانت هلا يف اجملال‬
‫التداويل الغريب‪ ،‬هذا االرتقاء الذي يقيها ما تعرضت له من عثرات يف هذا اجملال‬
‫األخري"‪.18‬‬
‫وقد تساءل طه عبد الرمحن عن اهلوية اإلنسانية يف العامل اليوم متأمال حتديداهتا‪ ،‬مظهرا‬
‫أن احلضارة الغربية احلديثة هي حضارة "لوغوس"‪ ،‬أي العقل‪ ،‬ويرى أنه من الضروري‬

‫‪ 16‬طه عبد الرمحن‪ ،‬روح احلداثة‪ :‬املدخل إىل أتسيس احلداثة اإلسالمية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.16-15‬‬
‫‪ 17‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.17‬‬
‫‪ 18‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.19-18‬‬

‫‪227‬‬
‫"الشروع يف بناء حضارة جديدة ال يكون السلطان فيها ل "اللوغوس"‪ -‬أي العقل حسب‬
‫املعىن األشهر للكلمة‪ -‬وإمنا يكون فيها ل "اإليتوس" –أي اخللق‪ ،-‬حبيث تتحدد فيها‬
‫حقيقة اإلنسان‪ ،‬ال بعقله أو بقوله‪ ،‬وإمنا خبلقه أو فِعله؛ فال مناص إذن من أن هنيئ‬
‫‪19‬‬
‫اإلنسان حلضارة "اإليتوس"‪ ،‬مىت أردان أن يصلح يف العاجل ويفلح يف اآلجل"‪.‬‬
‫واإليتوس هو جوهر احلداثة‪ ،‬أو روح احلداثة بتعبري طه عبد الرمحن الذي يرى " أن‬
‫للمجتمع املسلم‪ ،‬مبوجب ضرورة اندماجه يف الفضاء املفهومي العاملي‪ ،‬تطبي َقه اخلاص‬
‫لروح احلداثة‪ ،‬إذ يسعى إىل أن يرتقي ابلفعل احلداثي مبا ال يرتقي به التطبيق احلداثي‬
‫الغريب"‪.20‬‬
‫لذلك فإن املدخل األخالقي هو جوهر نقد طه عبد الرمحن للحداثة الغربية‪ ،‬وهذا املدخل‬
‫ال خيتص فقط بنقد احلداثة‪ ،‬بل عممه حىت يف نقده للرتاث وحتليله لإلشكاالت املعرفية‬
‫املعاصرة‪ ،‬لذلك وصف طه عبد الرمحن ب"فيلسوف األخالق"‪ ،‬إذ وضع أسس "الفلسفة‬
‫األخالقية" يف السياق املعاصر مستندا إىل املقاصد القرآنية العالية‪ ،‬ومن مثّ كان خيط‬
‫هدما وبناءً‪.‬‬
‫األخالق هو الناظم يف عملية النقد عنده‪ً :‬‬
‫‪ -3‬فقه الفلسفة من مشروعية النقد إىل مسؤولية السؤال‪:‬‬
‫تراجع اإلبداع الفلسفي يف السياق العريب لسنوات عدة‪ ،‬وطغى على العطاء يف جمال‬
‫الفلسفة الرتمجة الظاهرة أو اخلفية للفلسفة الغربية وقضاايها‪ ،‬لذلك جند طه يشكو دوما‬
‫من التقليد الذي تعاين منه الفلسفة اإلسالمية منذ أن بدأت ابألخذ عن اليوانن إىل‬
‫عصران هذا‪ ،‬فكثري من املؤلفني يف الفلسفة‪ ،‬حبسب تقديره‪ ،‬هم ترامجة وليسوا فالسفة‪،‬‬
‫فإذا كان واقع الفلسفة ال يرضيه‪ ،‬فما هي مالمح مشروعه الفلسفي البديل؟‬

‫‪ 19‬طه عبد الرمحن‪ ،‬سؤال األخالق‪ :‬مسامهة يف النقد األخالقي للحداثة الغربية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.146‬‬
‫‪ 20‬طه عبد الرمحن‪ ،‬روح احلداثة‪ :‬املدخل إىل أتسيس احلداثة اإلسالمية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.275‬‬

‫‪228‬‬
‫أ‪ -‬فقه الفلسفة‪ :‬مقدمات وممهدات‬
‫يرى طه عبد الرمحن أن خالصة اشتغاله املعريف تكمن يف "حتصيل القدرة على اإلبداع‬
‫الفلسفي"‪ ،21‬لذلك قام بتأسيس ما أمساه ب "فقه الفلسفة"‪ ،‬ومدلول هذا املفهوم‪ ،‬كما‬
‫ح ّده طه عبد الرمحن هو "العلم بطرق الفلسفة يف اإلفادة وبطرق استثمارها يف إحياء‬
‫القدرة على التفلسف"‪ ،22‬فهو عبارة عن أصول فلسفة‪ ،‬والقصد هو" دراسة الفلسفة‬
‫بوصفها مجلة من الظواهر اليت هلا خصائصها وقوانينها الذاتية‪ ،‬مثلها يف ذلك مثل الظواهر‬
‫اإلنسانية األخرى اليت ننظر فيها‪ ،‬طلبا الستخراج أوصافها وأحكامها‪ ،‬متوسلني يف ذلك‬
‫إبجراءات منهجية حمددة ونظرايت علمية مقررة"‪ ،23‬مث يقول‪" :‬فيتعني علينا أن ننظر يف‬
‫العامل يف الظاهرة‪ ،‬رصدا ووصفا وشرحا؛ وأمر الفلسفة عندان‪ ،‬على‬ ‫الفلسفة كما ينظر ِ‬
‫خالف املشهور‪ ،‬ليس قوال فحسب‪ ،‬بل هو قول مزدوج ابلفعل‪ ،‬وخطاب مزدوج‬
‫ابلسلوك‪ ،‬فنحتاج إىل النظر فيها على هذا املقتضى‪ ،‬ومل يسعنا إال أن نسمي هذا الطريق‬
‫ابسم "فقه الفلسفة"‪ ،‬إذ ليس يف األلفاظ العربية لفظ اشتهر ابجلمع بني إفادة العلم وإفادة‬
‫العمل اشتهار لفظ "الفقه" به"‪.24‬‬
‫فوظيفة فقه الفلسفة تكمن يف ترشيد "املتفلسف على طريق الكشف عن األسباب اليت‬
‫تثوي وراء التصورات واألحكام الفلسفية‪ ،‬حىت يتبني كيفيات أتثريها يف وضع هذه‬
‫التصورات وبناء هذه األحكام‪ ،‬فيقتدر على استثمار ما يقابلها من األسباب يف جماله‬
‫التداويل‪ ،‬منشئا بذلك تصورات وأحكاما تنافس املنقول‪ ،‬استشكاال واستدالال؛ وهبذا‪،‬‬
‫ترجع منفعة فقه الفلسفة إىل إخراج املتفلسف عامة‪ ،‬واملتفلسف العريب خاصة‪ ،‬من اجلمود‬
‫على ظاهر املنقول الفلسفي إىل االجتهاد يف وضع ما يقابله‪ ،‬إن مثال أو ضدا‪ .‬فإن‬

‫‪ 21‬طه عبد الرمحن‪ ،‬فقه الفلسفة‪ ،‬ج‪ ،1‬الفلسفة والرتمجة‪( ،‬بريوت‪ :‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬ط‪.)1995 ،1‬‬
‫ص‪.507‬‬
‫املرجع السابق‪ ،‬ص‪.26‬‬ ‫‪22‬‬

‫املرجع السابق‪ ،‬ص‪.14‬‬ ‫‪23‬‬

‫‪ 24‬طه عبد الرمحن‪ ،‬فقه الفلسفة‪ ،‬القول الفلسفي كتاب املفهوم والتأثيل‪( ،‬بريوت‪ :‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫‪ .)2005‬ص‪.13‬‬

‫‪229‬‬
‫وافقت أسبابه أسباب املنقول‪ ،‬جاءت على شاكلته من غري احتذاء‪ ،‬وإن خالفت‬
‫األسباب األسباب‪ ،‬أصبح مبكنته التوسل هبا يف إبداع املعرفة الفلسفية والتجديد يف‬
‫أبواهبا‪ ،‬فتحيا روح التفلسف الصحيح يف جماله التداويل بعد أن مخدت فيه قروان‪ ،‬أو قل‪،‬‬
‫ابختصار‪ ،‬إن فقه الفلسفة يفيد العلم ابألسباب املوصلة إىل إنتاج الفلسفة"‪.25‬‬
‫ب‪ -‬إشكاالت التفلسف والسؤال املسؤول‬
‫قصد الدرس الفلسفي‬‫إن تصحيح مسار الفلسفة عند طه عبد الرمحن يبتدئ بتصحيح ِ‬
‫وأسئلته‪ ،‬إذ رأى أن النقد الذي هيمن على السؤال الفلسفي يلزم جتاوزه وابتغاء سؤال‬
‫معريف جديد "يناسب ما يلوح يف األفق من مآالت احلداثة‪ ،‬أي شكال أحدث؛ وهذا‬
‫الشكل األحدث هو ما يسمى ب "السؤال املسؤول""‪ ،26‬فالفيلسوف العريب اجلديد‪،‬‬
‫على وجه اخلصوص‪ ،‬ليس هذا الذي خيوض يف أي سؤال اتفق‪ ،‬وال ذاك الذي خيوض‬
‫يف كل سؤال خاض فيه غريه‪ ،‬تقليدا له‪ ،‬وإمنا هو الذي ال يسأل إال السؤال الذي يلزمه‬
‫وضعه ويلزمه اجلواب عنه –أي عليه مسؤولية وضعه ومسؤولية اجلواب عنه‪ -‬وال لزوم‬
‫للسؤال الفلسفي وال للجواب عنه يف وضعية هذا املتفلسف إال حيث تتعني احلاجة إىل‬
‫حترير القول الفلسفي العريب وفتح آفاق اإلبداع فيه"‪.27‬‬
‫ويرى طه عبد الرمحن "أن أحد وجوه املسؤولية اليت يتحملها الفيلسوف العريب هو أن‬
‫يشتغل بنقد هذا الفكر الواحد الذي أخذ يتغلغل بقوة بني بين قومه‪ ،‬ينزع عنهم مظاهر‬
‫التميز واخلصوصية‪ ،‬ويقطع عنهم ابلتايل أسباب العطاء واإلبداع‪ ،‬إذ ال عطاء بغري متيز‪،‬‬
‫وال إبداع بغري خصوصية"‪ ،28‬كما أن "أحد وجوه املسؤولية اليت يتحملها الفيلسوف‬
‫العريب هو أن يشتغل بنقد األمر الواقع الذي أخذ يفرض نفسه على قومه‪ ،‬يسلب‬

‫‪ 25‬طه عبد الرمحن‪ ،‬فقه الفلسفة‪ ،‬ج‪ ،1‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.24‬‬


‫طه عبد الرمحن‪ ،‬احلق العريب يف االختالف الفلسفي‪( ،‬بريوت‪ :‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬ط‪،)2006 ،2‬‬ ‫‪26‬‬

‫ص‪.14‬‬
‫‪ 27‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.16‬‬
‫‪ 28‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.17‬‬

‫‪230‬‬
‫عنهم إرادهتم وقوهتم‪ ،‬وابلتايل يقطع عنهم أسباب النهوض والتغيري‪ ،‬إذ ال هنوض بغري‬
‫إرادة‪ ،‬وال تغيري بغري قوة"‪.29‬‬
‫إن احلديث عن احلق يف االختالف الفلسفي هو يف العمق حديث عن النقد الفلسفي‪،‬‬
‫إذ قام املشروع الفلسفي لطه عبد الرمحن على ضرورة تغيري فلسفة االشتغال من النقد إىل‬
‫السؤال‪ ،‬وأن يتحلى هذا السؤال ابملسؤولية؛ وأوىل رهاانت املسؤولية احلرص على اإلبداع‬
‫وتثمني اخلصوصيات الثقافية‪ ،‬ومن مث أوجب نقد الفكر الذي يقطع التميز واخلصوصية‪،‬‬
‫وهو ما مساه ابلفكر املنقول أو الوافد الذي مل يراع اخلصوصيات‪.‬‬
‫‪ -4‬فلسفة الدين اإلطار العام الشتغال طه عبد الرمحن‬
‫يصعب وضع كتاابت طه عبد الرمحن حتت تصنيف معريف معني‪ ،‬لتنوع مواضيعها‪،‬‬
‫واختالف قضااي‪ ،‬وقد كفاان طه عبد الرمحن مؤونة هذا البحث‪ ،‬إذ أقر أن كتبه ال تندرج‬
‫ضمن حقل معريف حمدد‪ ،‬وإمنا يرى أهنا تنتمي إلطار عام وهو فلسفة الدين‪ ،‬فقد ختم‬
‫طه عبد الرمحن سؤال األخالق خبامتة عن فلسفة الدين ساءل فيها تصنيف كتابه هذا‬
‫"بيد أننا حنتاج إىل أن جنيب على سؤال قد خيطر ببال القارئ‬‫وكتبه األخرى؛ إذ قال‪ْ :‬‬
‫عند تصفحه هلذا الكتاب كما خطر بباله عندما اطلع على كتابنا املوضوع منذ ما ينيف‬
‫عن عشر سنوات‪ ،‬وهو‪" :‬العمل الديين وجتديد العقل"‪ ،‬وهذا السؤال هو كالتايل‪" :‬يف‬
‫أي ابب من أبواب التفكري الفلسفي يدخل حمتوى هذا الكتاب؟"‪.30‬‬
‫وقد أجاب عن هذا السؤال معتربا كتاابته تدخل يف ابب جديد من املمارسة الفلسفية‬
‫ظهرت يف القرن السابع عشر؛ أي يف فرتة اليقظة الغربية "عصر األنوار"‪ ،‬وقد أطلق على‬
‫هذا الباب الفلسفي اجلديد اسم "فلسفة الدين"‪ ،‬وهي ال تتوسل بسلطة املؤسسة‬
‫الكهنوتية‪ ،‬وإمنا بسلطة العقل‪ ،‬وال تتفكر يف ذات اإلله‪ ،‬وإمنا يف ذات اإلنسان يف عالقته‬
‫ابإلله؛ وبفضل استبدال فلسفة الدين سلطة العقل مكان سلطة الكهنوت واستبداهلا‬
‫النظر اإلنساين مكان النظر اإلهلي‪ ،‬فإهنا تكون عبارة عن مثرة من مثار حركة التحرر‬
‫الفكرية اليت اتصف هبا عصر األنوار‪.‬‬

‫‪ 29‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.18‬‬


‫‪ 30‬طه عبد الرمحن‪ ،‬سؤال األخالق‪ :‬مسامهة يف النقد األخالقي للحداثة الغربية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.223‬‬
‫‪231‬‬
‫كما أن فلسفة الدين ال تقصد الدفاع عن العقيدة ضد خصم معني‪ ،‬وإمنا جتديد الفهم‬
‫ملكوانهتا ومقتضياهتا يف سياق املستجدات الفكرية‪ ،‬وال تشتغل ابملسائل النظرية اجملردة‪،‬‬
‫وإمنا ابملسائل العملية املشخصة‪ ،‬ويفضل استبدال فلسفة الدين تقر َير العقيدة مكان‬
‫تفهيمها على املقتضى احلديث واستبداهلا االشتغال ابملسائل العملية مكان االشتغال‬
‫ابملسائل اجملردة‪ ،‬تكون عبارة عن مثرة من مثار حركة اليقظة الفكرية اليت يشهدها العامل‬
‫‪31‬‬
‫اإلسالمي يف عصران هذا‪.‬‬
‫ومن مث فإن اإلطار املعريف لفكر طه عبد الرمحن يندرج ضمن فلسفة الدين‪ ،‬وأقانيمه‬
‫الرئيسة هي‪:‬‬
‫• سؤال الرتاث وإشكالية املنهج‪.‬‬
‫• روح احلداثة وسؤال األخالق‪.‬‬
‫• فقه الفلسفة وحتقيق اإلبداع‪.‬‬
‫‪ -5‬يف تلقي فكر طه عبد الرمحن عربيا وغربيا‪:‬‬
‫التلقي العريب‪:‬‬ ‫أ‪-‬‬
‫يصعب حصر الكتب والدراسات واملقاالت اليت أجنزت عن فكر مفكر أو فيلسوف أو‬
‫عامل بعينه‪ ،‬سواء من أعالم الرتاث أو أعالم العصر‪ ،‬لكن ميكن أن نستشف من خالل‬
‫الدراسات املطبوعة اليت تصلنا بعض مالمح تلقي الفكر‪ ،‬وآليات مقاربته وتقوميه والبناء‬
‫عليه‪ ،‬وقدمت هبذا املقدمة ألين أروم التساؤل عن تلقي فكر طه عبد الرمحن انطالقا من‬
‫املتاح من الكتب والدراسات‪.‬‬
‫وإذا أتملنا املكتبة العربية سنجد كتاابت متعددة يف فكر طه عبد الرمحن‪ ،‬وهي تتوزع بني‪:‬‬
‫‪ -‬دراسات ذات طابع كلي‪ ،‬وهي يف جمملها عبارة عن قراءة لفكره‪ ،‬منها مثال‪:‬‬
‫"طه عبد الرمحن‪ :‬قراءة يف مشروعه الفكري" إلبراهيم مشروح (‪،)2009‬‬
‫و"مشروع اإلبداع الفلسفي العريب‪ :‬قراءة يف أعمال طه عبد الرمحن" ليوسف بن‬

‫‪ 31‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.225-224‬‬


‫‪232‬‬
‫عدي (‪" ،)2012‬فيلسوف يف املواجهة‪ :‬قراءة يف فكر طه عبد الرمحن" لعباس‬
‫ارحيلة (‪.)2013‬‬
‫‪ -‬دراسات ذات منحى جزئي‪ ،‬إذ تقارب قضية من القضااي اليت عاجلها طه عبد‬
‫الرمحن‪ ،‬من قبيل‪" :‬طه عبد الرمحن ونقد احلداثة" لعبد السالم بوزبرة (‪،)2011‬‬
‫و"منطق تدبري االختالف من خالل أعمال طه عبد الرمحن" حلمو النقاري‬
‫(‪" ،)2014‬عقالنية احلداثة املؤيدة‪ :‬استقراءات تفكيكية يف أعمال طه عبد‬
‫الرمحن" حملمد أمحد الصغري(‪ ،)2014‬و"عوائق اإلبداع الفلسفي العريب حسب‬
‫طه عبد الرمحن" حملمد الشبة (‪ ،)2016‬و"بني االئتمانية والدهرانية بني طه‬
‫عبد الرمحن وعبد هللا العروي" لعباس رحيلة‪ ،)2016( ،‬و"مدخل جتديد علم‬
‫األصول عند طه عبد الرمحن" ألمحد مونة (‪ ،)2017‬و"مفهوم الفطرة عند طه‬
‫عبد الرمحن" لعبد اجلليل الكور (‪.)2017‬‬
‫هذا فضال عن عدد من األطروحات اليت رامت دراسة فكره‪ ،‬أذكر منها على سبيل املثال‬
‫أطروحة مصطفى أمقذوف‪" :‬جتديد الفكر اإلسالمي عند طه عبد الرمحن‪ :‬دراسة يف‬
‫األصول املرجعية واألسس املنهجية"‪ ،‬نوقشت سنة ‪ 2017‬بكلية اآلداب والعلوم‬
‫اإلنسانية مبكناس‪ -‬املغرب‪.‬‬
‫وقد اقتصرت يف هذا السرد على الكتب اليت أفردت أعمال طه عبد الرمحن كلها أو جزءا‬
‫منها ابلتأليف املستقل‪ ،‬أما املقاالت املنشورة يف اجملالت أو امللقاة يف املؤمترات فكثرية‬
‫العدد‪.‬‬
‫ونلحظ أن جممل الكتاابت املذكورة آن ًفا حديثة التأليف‪ ،‬وعمرها أقل من عقد من الزمان‬
‫مما ينم عن اهتمام معاصر كبري بفكره بني الباحثني واملفكرين بعد أن استكمل مشروع‬
‫طه عبد الرمحن معامله الكربى‪ ،‬إضافة إىل وجود دور نشر هتتم مبشروع طه عبد الرمحن‪،‬‬
‫كما فعلت املؤسسة العربية للفكر واإلبداع‪ ،‬حيث أفردت جزءا من منشوراهتا لطه عبد‬
‫الرمحن وومست تلكم السلسلة بـ"مفاهيم من فلسفة طه عبد الرمحن"‪.‬‬
‫كما ترتاءى أمامنا مالحظة أخرى انطالقا من هذه العينة‪ ،‬وهي أن الكتاابت اليت أفردت‬
‫عن طه عبد الرمحن تنتمي جلغرافيا املغرب العريب‪ ،‬فإذا استثنينا دراسة الباحث املصري‬

‫‪233‬‬
‫"أمحد حممد الصغري"‪ ،‬فإن بقية الكتب هي لباحثني مغاربة‪ ،‬وبعضهم تتلمذ على يديه يف‬
‫اجلامعة‪ ،‬وهنا يتبادر أمامنا سؤال‪:‬‬
‫ملاذا مل يهتم الفكر املشرقي أبعمال طه عبد الرمحن خالف اهتمامه مثال ابجلابري والعروي؟‬
‫للجواب عن هذا اإلشكال يلزم اجلمع بني العوامل الذاتية واملوضوعية‪ ،‬وهي تتوزع بني‬
‫عوامل مذهبية وإيديولوجية ومنهجية ومعرفية‪.‬‬
‫فمن هذه العوامل‪:‬‬
‫• وعورة املنت‪ ،‬وذلك راجع إىل أن طه عبد الرمحن اختار مدخل اللغة لتجديد‬
‫الفكر‪ ،‬إال أنه توغل يف هذا املدخل حىت غاىل أحياان يف التشقيق والتفريع‬
‫اللغوي األمر الذي جعل متابعته صعبة لكثري من الباحثني املتخصصني فضال‬
‫عن غريهم‪ ،‬وقال أحدهم‪" :‬لطاملا عانيت‪ ،‬بدءا‪ ،‬من تشقيقاته للمفاهيم اليت‬
‫يشتغل عليها وتفريعاته‪ ،‬اقتداء مبنهجه الكالمي"‪ ،32‬وقال أيضا‪" :‬أوليس الظاهر‬
‫يوحي أن الرجل يكتب يف عصران ويف فكر عصران بكتابة ال توافق روح عصران‬
‫وفكر ال يوافق كنه عصران؟"‪.33‬‬
‫فلغة طه عبد الرمحن حتتاج إىل جهد وصرب‪ ،‬وميكن إرجاع هذا األمر إىل هاجس‬
‫التأسيس عند طه عبد الرمحن‪ ،‬حيث يرى أن أزمة الفكر تتمثل يف "الفتنة‬
‫دوما مبساءلة املفاهيم املنقولة‪ ،‬ويعمل على بناء مفاهيمه‬ ‫املفهومية"‪ ،‬فيقوم ً‬
‫اخلاصة انطالقا من جماله التداويل‪ ،‬األمر الذي جيعل آلته اللغوية غزيرة اإلنتاج‪،‬‬
‫إضافة إىل هنجه منهج املتقدمني يف الكتابة والتأليف‪ ،‬خصوصا أهل األصول‬
‫واملنطق‪ ،‬وهو منهج يتميز بكثرة التقسيم والتفريع‪ ،‬إال أن املغاالة يف "إنتاج‬
‫املفاهيم" واإلغراق يف "التفريع" جيعل متابعته واالستفادة منه ال تتأتى لكل قارئ‬
‫أو ابحث‪ ،‬وإمنا يلزم طول النفس واألانة‪ ،‬من أجل مجع املعاين املبثوثة بني ثنااي‬
‫املفاهيم والتقسيمات‪.‬‬

‫‪ 32‬وهو حممد الشيخ‪ ،‬وذكر ذلك يف كتابه‪ :‬مسألة احلداثة يف الفكر املغريب املعاصر‪( ،‬الرابط‪ :‬منشورات‬
‫الزمن‪ ،‬ط‪ ،)2004 ،1‬ص‪.148‬‬
‫‪ 33‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.149‬‬
‫‪234‬‬
‫• حدة النقاش‪ ،‬وهذا أمر الحظه عليه عدد من الباحثني‪ ،‬فقد صرح حممد‬
‫الشيخ أنه رغم حديثه عن احلوار ودعوته إليه ومتجيده لالختالف إال أن فيه‬
‫حدة‪" ،‬وما كف الرجل قط عن الدعوة إىل احلوار‪ ،‬حىت ألنك ال تكاد جتد‬
‫كتااب من كتبه إال وهو ال خيلو من دعوة إىل احلوار [‪ ]...‬فماذا فعل الرجل‬
‫مبحاوريه‪ ،‬احلال أنك ما أن حتاور الرجل حىت خييل إليك أن فكره تعرتيه سورة‬
‫من حدة‪ ،‬بل أتخذه يف بعض األحايني‪ ،‬وإن هي ندرت‪ ،‬محية وعصبية"‪.34‬‬
‫فهذه احلدة اليت يلمسها املخالف يف كتاابته كانت أحد أسباب إعراض كثري‬
‫من املثقفني العرب عن كتاابته‪ ،‬خصوصا أنه يستبطن نقدا لكثري منهم وإن مل‬
‫يذكرهم حنو العروي واجلابري وأركون مثال؛ إذ جند أنصار هؤالء‪ ،‬وهم كثر يف‬
‫املغرب واملشرق‪ ،‬يلحظون هذا األمر يف كتاابته‪ ،‬لذلك يسمونه ابلفقيه التقليدي‬
‫والرتاثي والعدمي يف عبارات سلبية قد تكون يف بعضها جمرد رد فعل على هذه‬
‫احلدة‪.‬‬
‫• إعالن التحيز الروحي‪ ،‬إذ أعلن طه عبد الرمحن منذ كتاابته األوىل انتماءه‬
‫الصويف‪ ،‬وهذا االنتماء هو الذي جعله حمط نقد من بعض احلداثيني ابهتامه‬
‫ابخلرافة‪ ،‬ومن بعض اإلسالميني بتبديعه‪ ،‬إال أن هذا الرأي مردود‪ ،‬ألن منت طه‬
‫عبد الرمحن يتميز ابلتأسيس املنطقي واملعريف للقضااي واألفكار‪ ،‬فهو وإن اعترب‬
‫التجربة الروحية مصدرا معرفيا‪ ،‬إال أنه ال يستقل هبا عن غريها‪ ،‬بل يقيم بناءً‬
‫منطقيا وحجاجيا جديرا ابلنقاش واالختالف وفق أسس عقلية ال مدخل فيها‬
‫للروحنة‪.‬‬
‫التلقي الغريب‪:‬‬ ‫ب‪-‬‬
‫إن التلقي الغريب لطه عبد الرمحن أضعف من التلقي العريب‪ ،‬نظرا ألن طه عبد الرمحن‬
‫يكتب ابلعربية‪ ،‬وأحياان بعربية صعبة‪ ،‬يعسر على من مل تكن العربية لغته األوىل متابعته‪،‬‬
‫إضافة إىل عدم ترمجة كتاابته للغات األجنبية مما جعل التلقي الغريب ضعيفا؛‬

‫‪ 34‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.152‬‬

‫‪235‬‬
‫لكن رغم ذلك جند إشادات بفكره‪ ،‬واستفادة بعض املفكرين منه يف وضع أفكارهم‬
‫الكربى‪ ،‬منهم مثال وائل حالق الذي أشاد برؤية طه عبد الرمحن األخالقية يف كتاب‪:‬‬
‫"الدولة املستحيلة"‪ .35‬والقارئ للكتاب ال خيفى عليه أن طه عبد الرمحن يعترب أحد‬
‫املراجع املهمة‪ ،‬بل إن الئحة املصادر واملراجع تؤكد هذا األمر؛ إذ جنده اعتمد مخسة‬
‫كتب لطه عبد الرمحن‪ ،‬وهي‪" :‬احلق اإلسالمي يف االختالف الفكري"‪" ،‬روح احلداثة"‪،‬‬
‫"سؤال األخالق"‪" ،‬العمل الديين وجتديد العقل"‪" ،‬فقه الفلسفة"‪ ،‬وقد اعتمده حالق يف‬
‫إبراز مركزية األخالق يف التصور اإلسالمي‪ ،‬حىت إن مرتجم الكتاب ذكر استفادة حالق‬
‫من طه عبد الرمحن صراحة يف مقدمة الرتمجة‪ ،36‬وسيصدر لوائل حالق قريبا كتاب عن‬
‫طه عبد الرمحن‪ ،‬يؤكد هذا االهتمام‪.‬‬
‫كما جند اهتماما من بعض الباحثني املغاربة وغريهم الذين كتبوا عن فكره ابللغات األجنبية‬
‫يف بعض املقاالت املتفرقة‪ ،‬فمن املنشور ابللغة اإلجنليزية ما كتبه حممد حصحاص‪" :‬نسق‬
‫االئتمانية يف فلسفة طه عبد الرمحان‪ :‬احلداثة الروحية واملسامهة‬
‫اإلسالمية يف تكوين حضارة أخالقية مبدعة وعاملية"‪ ،37‬وسيصدر لنفس الباحث قريبا‬
‫دراسة عنه بعنوان‪" :‬احلق العريب يف االختالف الفلسفي‪ :‬مفهوم الفتوة املنتفضة يف فلسفة‬
‫طه عبد الرمحان الفلسفية"‪.38‬‬

‫‪ 35‬وائل حالق‪ ،‬الدولة املستحيلة اإلسالم والسياسة ومأزق احلداثة األخالقي‪ ،‬ترمجة عمرو عثمان‪( ،‬الدوحة‪:‬‬
‫املركز العريب لألحباث ودراسة السياسات‪ ،‬ط‪ ،1‬أكتوبر ‪ ،)2014‬ص‪ ،295-294‬بتصرف‪ .‬وقد أحال يف‬
‫هذا املقام على طه عبد الرمحن‪.‬‬
‫املرجع السابق‪ ،‬ص‪.8‬‬ ‫‪36‬‬

‫‪Mohammed Hashas, Taha Abderrehmane’s Trusteeship -37‬‬


‫‪Paradigm: Spititual Modernity and the Islamic contribution to‬‬
‫‪the formation of a Renewed Universal Civilization of Ethos ,‬‬
‫‪Oriente Moderno 95, 2015. https://goo.gl/o7iWUs‬‬
‫‪- Mohammed Hashas, The Arab Right to Philosophical 38‬‬
‫‪Difference: The Concept of the Awakened Youth in the Political‬‬

‫‪236‬‬
‫ "األسس األخالقية‬:‫ومن الدراسات األخرى عن فكره ابللغة اإلجنليزية ما كتبه منري بريوك‬
‫ "احلوار األخالقي لطه عبد‬:‫ ومايكل بيفرز‬،39"‫والروحية للحوار عند طه عبد الرمحن‬
‫ وهذا الباحث حيضر أطروحته جبامعة اندايان ابلوالايت املتحدة‬،40"‫الرمحن مع الغرب‬
.‫األمريكية عن هابرماس وطه عبد الرمحن‬
"‫ "طه عبد الرمحن على خطى فالسفة الغرب اإلسالمي‬:‫ومن الدراسات ابللغة الفرنسية‬
‫ ودرس فيها مناذج أربع منها طه‬،‫ "الفكر العريب املعاصر" حملمد أوراي‬،41‫لشكري ميمون‬
.42‫عبد الرمحن‬
،‫فجل هذه املقاالت هي لباحثني عرب جلهم مغاربة يكتبون ابللغة اإلجنليزية أو الفرنسية‬
‫ ومرد ذلك كما ذكران آنفا هو غياب ترمجة كتاابت طه عبد‬،‫وليست لباحثني غربيني‬

Philosophy of Taha Abderrahmane," in Islam in International


Affairs: Politics and Paradigms, eds. Deina Abdel kader, Raffaele
Mauriello, and Nassef Manabilang Adiong (Routledge, Wordling
beyond the West book series, 2017) pp. 30.
Monir Birouk, Taha Abderrahman’s Moral and Spiritual - 39

Foundations of Dialogue, Global Media Journal: Canadian


Edition; 2016, Vol. 9 Issue 2, p. 115.
Bevers, Michael, Taha Abderrahman's Ethical Dialogue - 40

with the West, Global Media Journal: Canadian Edition; 2016, Vol.
9 Issue 2, p.121.
Chokri Mimouni, Taha Abderrahman dans la lignée des - 41

Musulman, Global Media Journal: philosophes de l'Occident


Canadian Edition. 2016, Vol. 9 Issue 2, p27-39. 13p.
Mohamed Ourya, La pensée arabe actuelle entre tradition et - 42
, Pensée Religieuse et Philosophique Arabe, "modernité
https://goo.gl/MUfwo8 .Octobre 2016
237
‫الرمحن‪ ،‬ووعورة كتابته العربية‪ ،‬األمر الذي جيعل عسريا على الباحث الغريب املطلع على‬
‫العربية الغوص يف مضامني كتاابته‪.‬‬
‫اثلثا‪ -‬النظرية االئتمانية وجتلياهتا يف العمران املعريف‪ :‬الفلسفة السياسية أمنوذجا‬
‫‪ -1‬النظرية االئتمانية‪ :‬معامل وجتليات‬
‫نظّر طه عبد الرمحن يف آخر مؤلفاته "روح الدين" و"دين احلياء" لإلنسان االئتماين‪،‬‬
‫منطلقا يف تفلسفه من اآلايت القرآنية‪ ،‬ومرتكزا على تعدد العوامل بني عامل امللك وعامل‬
‫امللكوت‪ ،‬ومستندا إىل تركيبية تكوين اإلنسان من جسد وروح‪ ،‬ومفلسفا مفهوم امليثاق‬
‫بني هللا واإلنسان يف عامل الذر‪ ،‬وجيمع امليثاق بني اإلشهاد واالئتمان؛ فهناك‪:‬‬
‫ميثاق اإلشهاد؛ أي أن يشهد اإلنسان هلل بربوبيته ملا جتلى له أبمسائه احلسىن‪ ،‬وقد استقى‬
‫آد َم ِمن ظُ ُهوِرِه ْم‬ ‫ك من بَِين َ‬
‫َخ َذ ربُّ َ ِ‬
‫طه عبد الرمحن هذا املعىن من قوله عز وجل‪َ " :‬وإِ ْذ أ َ َ‬
‫ذُ ِّرياـتَـ ُه ْم َوأَ ْش َه َد ُه ْم َعلَ ٰى أَن ُف ِس ِه ْم أَلَ ْس ُ‬
‫ت بَِربِّ ُك ْم ۖ قَالُوا بَـلَ ٰى ۛ َش ِه ْد ًَن ۛ أَن تَـ ُقولُوا يَـ ْوَم‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ني (‪[ ")172‬سورة األعراف] وهذه اآلية الكرمية هي مستند‬ ‫الْقيَ َامة إِ اًن ُكناا َع ْن َٰه َذا غَافل َ‬
‫طه عبد الرمحن يف بناء النظرية امليثاقية‪.‬‬
‫ميثاق االئتمان؛ الذي محل اإلنسان مبوجبه أمانة القيم اليت جتلت هبا هذه األمساء‪،‬‬
‫ض‬ ‫سماو ِ‬
‫ات َو ْاأل َْر ِ‬ ‫ويتأسس منظوره هنا على آية األمانة "إِ اًن َع َر ْ‬
‫ضنَا ْاأل ََمانَةَ َعلَى ال ا َ َ‬
‫وال"‬
‫وما َج ُه ً‬ ‫نسا ُن ۖ إِناهُ َكا َن ظَلُ ً‬ ‫ني أَن َْحي ِم ْلنَـ َها َوأَ ْش َف ْق َن ِم ْنـ َها َو َمحَلَ َها ِْ‬
‫اإل َ‬
‫وا ْجلِبَ ِ‬
‫ال فَأَبَ ْ َ‬ ‫َ‬
‫[األحزاب‪.]72:‬‬
‫وانطالقا من هذا املنظور يسأل طه عبد الرمحن اإلنسان‪ :‬هل أوَف ابمليثاق الذي عاهد به‬
‫هللا حىت ال يقع يف التنازع والتقاتل؟ فينقلب التواثق بني الناس من تواثق مدين إىل تواثق‬
‫روحي يتأسس على عالقة اإلنسان خبالقه وشهادته له ابلربوبية (ميثاق اإلشهاد) ويكون‬
‫هذا امليثاق هو الضابط لعالقات املؤمنني مع بعضهم وخالقهم‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫ونظرا لغياب "األمانة" يف االجتماع اإلنساين‪ ،‬يصف طه عبد الرمحن حالة اإلنسان‬
‫املعاصر اليوم حبالة "االختيان"؛ أي خيانة األمانة‪ ،‬ويرى ضرورة إرجاعه إىل حالة‬
‫"االئتمان"‪ ،‬عن طريق ما أمساه ب "الفقه االئتماين"‪.43‬‬
‫ويتأسس مفهوم االئتمان عنده على مفهوم اإليداع –من الوديعة‪ ،‬حبيث يكون كل ما‬
‫خلق هللا جل جالله‪ ،‬من أجل اإلنسان هو عبارة عن ودائع أودعها إايه‪ ،‬يتملكها كيف‬
‫يشاء‪ ،‬ويتحقق هبا كيف يشاء‪ ،‬شريطة أن يصون حقوقها‪.44‬‬
‫كما يقوم هذا االئتمان على مفهوم "االتصال الروحي"‪ ،‬حبيث جيعل ظاهر الصلة‬
‫ابإلنسان يزدوج بباطن الصلة ابهلل‪ ،‬وهذا االتصال هو الذي ميكنه من دفع االستعباد‬
‫اخلفي‪ 45،‬فيمكن القول إن‪:‬‬
‫معادلة االئتمان = إيداع إهلي ‪ +‬اتصال روحي‬
‫‪46‬‬
‫‪ -2‬املنظور االئتماين مدخال لفهم العالقة بني الدين والسياسة‬
‫يعد كتاب "روح الدين" تطبيقا للنظرية االئتمانية يف املسألة السياسية؛ حيث أعلن يف‬
‫مقدمته أنه سيعاجل إشكالية العالقة بني الدين والسياسة وفق مقاربة جديدة‪ ،‬خمتلفة عن‬
‫مقاربة اإلسالميني والعلمانيني بشىت طوائفهما‪ ،‬وومسها أبهنا مقاربة روحية‪.47‬‬

‫طه عبد الرمحن‪ ،‬دين احلياء‪ :‬من الفقه االئتماري إىل الفقه االئتماين‪ ،‬ج‪ :1‬أصول النظر االئتماين‪،‬‬ ‫‪43‬‬

‫(بريوت‪ :‬املؤسسة العربية للفكر واإلبداع‪ ،‬ط‪.)2017 ،1‬‬


‫العلمانية إىل َسعة االئتمانية‪( ،‬بريوت‪ :‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫طه عبد الرمحن‪ ،‬روح الدين‪ :‬من ضيق َ‬
‫‪44‬‬

‫‪ ،)2012‬ص‪.474‬‬
‫‪ 45‬ملزيد من التفصيل ينظر‪ :‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪ 474‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 46‬ملزيد من التفصيل يرجى االطالع على سلسلة دراسات أجنزهتا مبوقع منتدى العالقات العربية والدولية‬
‫موسومة بـ"إشكالية العالقة بني الدين والسياسة يف فكر طه عبد الرمحن" يف ثالثة أجزاء‪ ،‬بدءا من اتريخ‬
‫‪ 26‬أكتوبر ‪https://is.gd/GXkblA ،2014‬‬
‫العلمانية إىل َسعة االئتمانية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.13‬‬
‫طه عبد الرمحن‪ ،‬روح الدين‪ :‬من ضيق َ‬
‫‪47‬‬

‫‪239‬‬
‫وتنطلق جل األطروحات اإلسالمية والعلمانية من أن اجملال الديين غري اجملال السياسي‪،‬‬
‫وهو ما ميكن تسميته بـ"التع ّدد اجملايل"‪ ،‬لكن مقاربة طه عبد الرمحن جتاوزية يف هذا البعد‪،‬‬
‫حيث يرى أبن "الدين والسياسة ال يشكالن جمالني مستقلني من جماالت احلياة اإلنسانية‬
‫املعلومة‪ ،‬وإمنا مها طريقان متقابالن للفاعلية اإلنسانية يتوصل هبما إىل حتقيق أغراض كل‬
‫واحد من جماالت احلياة حتقيقا أيخذ بعني االعتبار العالقة بني العاملني؛ املرئي والغييب"‪،48‬‬
‫حبيث إن الدين يعمل على تنزيل قيم العامل الغييب إىل العامل املرئي "التشهيد"‪ ،‬بينما تعمل‬
‫السياسة على رفع العامل املرئي إىل آفاق "العامل الغييب" وهو ما أمساه ب "التغييب"‪ .‬وهذا‬
‫التصور للدين والسياسة ابعتبارمها طريقني متقابلني‪ ،‬ال جمالني مستقلني‪ ،‬يتفق مع‬
‫استعماالت متداولة هلذين اللفظني يف اللسان العريب‪ ،‬كما يقول طه عبد الرمحن‪.‬‬
‫وانطالقا من هذا املنظور انتقد التصور العلماين واإلسالمي؛ ويرى طه عبد الرمحن أن‬
‫"العلمانية"‪،‬‬ ‫ِ‬
‫التسمية الصحيحة ملبدأ الفصل بني الدين والسياسة ليست "العلمانية" وال َ‬
‫وإمنا هي "مبدأ الدنيوية"‪ ،‬أو "الدُّنيانية"‪ ،‬إذ يقضي ابلتعلق ابلدنيا واالهتمام هبا وحدها‬
‫دون االهتمام ابآلخرة"‪ ،49‬مث ما لبث طه عبد الرمحن أن طور استعمال مصطلح‬
‫"الدنيانية" يف "بؤس الدهرانية" ورأى أنه فصل للدين عن قطاعات احلياة؛ فالتفكري يف‬
‫الدنيا ينبغي أن يستقطب كل اهتمام احلداثي‪ ،‬وال يهمه أمر اآلخرة؛ بينما االهتمام‬
‫ابلدنيا‪ ،‬ابلنسبة للمسلم‪ ،‬هو مطية لالهتمام ابآلخرة‪ ،‬بل إن اهتمامه ابآلخرة هو خادم‬
‫‪50‬‬
‫"العلمانية"‬
‫حلياته الدنيوية ‪ ،‬وإذ ذاك‪ ،‬تتعدد صور الدنيانية بتعدد هذه الفصول‪ ،‬فتكون َ‬
‫(بفتح العني)‪ ،‬مثال‪ ،‬هي الصورة الدنيانية اليت اختصت بفصل السياسة عن الدين‪،‬‬
‫و"العِلمانية" (بكسر العني) هي الصورة الدنيانية اليت اختصت بفصل العلم عن الدين‪،51‬‬

‫‪ 48‬يستعمل طه التسيد يف مقابل التعبد‪ ،‬وهو مشتق من السيد‪ ،‬ووضع يف املقابلة لشيوع استعماله يف مقابل‬
‫العبد‪.‬‬
‫‪ 49‬طه عبد الرمحن‪ ،‬احلوار أفقا للفكر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.98‬‬
‫املرجع السابق‪ ،‬ص‪.99‬‬ ‫‪50‬‬

‫‪ - 51‬طه عبد الرمحن‪ ،‬بؤس الدهرانية‪ :‬النقد االئتماين لفصل األخالق عن الدين‪( ،‬بريوت‪ :‬الشبكة العربية‬
‫لألحباث والنشر‪ ،‬ط‪ ،)2014 ،1‬ص‪.11‬‬

‫‪240‬‬
‫العلمانية‪ ،‬فكل َعلمانية دنيانية وليس‬
‫فحسب اصطالح طه‪ ،‬فإن "الدنيانية" أعم من َ‬
‫العكس‪.‬‬
‫كما انتقد تصور اإلسالميني إلشكالية الدين والسياسة‪ ،‬وعدم متكنهم من أدوات البناء‬
‫املنطقي والنظري‪ ،‬إذ مل يستطيعوا القيام بنقد املفاهيم املنقولة عن العلماين أو حتديد‬
‫اخلصائص اإلجرائية الستعماالهتا‪ ،‬فضال عن إبداع مفاهيم جديدة تتجاوز املفاهيم‬
‫املنقولة‪ ،‬لذلك قاموا مبحاكاة العلمانيني يف اصطالحاهتم وتصوراهتم كيف اتفق‪ ،‬لدفع‬
‫هتمة مجود الفكر والتخلف عن العصر مما اضطرهم إىل التقية ابجلمع بني القدمي واحلديث‬
‫مجعا مشوها‪.52‬‬
‫وجتدر اإلشارة إىل أن طه عبد الرمحن بدأ نقده للتوجهات اإلسالمية يف العمل السياسي‬
‫يف بواكري كتبه "العمل الديين وجتديد العقل" رغبة منه يف توجيه مسار "اليقظة الدينية" أو‬
‫ما يسمى ب "الصحوة اإلسالمية"‪ ،‬وحينها أسس دعائم مشروع التزكية ابجلمع بني‬
‫التجربة اإلميانية احلية واالستناد على املناهج العقلية واملعايري العلمية‪ ،‬مث ما لبث أن وجه‬
‫سهام النقد حلركة "تسييس الدين" بتعبريه يف كتابه "سؤال األخالق"‪ ،53‬حيث رأى أن‬
‫مقارب ملقتضى الثقافات األجنبية العلمانية‪ ،‬ألنه يقتل يف النفس القيم‬
‫ٌ‬ ‫"تسييس الدين"‬
‫َ‬
‫اليت ترفع اهلمة ويستبدل مكاهنا قيما مادية ال مطمع يف اآلخرة من ورائها‪ ،‬ويف هذه‬
‫املرحلة‪ ،‬أي قبل أكثر من اثين عشرة سنة من أتليف كتاب "روح الدين"‪ ،‬أقر طه أبن‬
‫ضيِّ رق َ‬
‫أفق دعوة اإلحياء اإلسالمي مبا ال مزيد عليه‪ ،‬إن مل خيرج هبا‬ ‫اجتاه "تسييس الدين" ير َ‬
‫إىل نقيض مقصودها‪ ،‬ليقرر وقتها أن السياسة اليت جيوز أن توافق الدين ال تكون إال‬
‫السياسة األخالقية إلصالح فئات اجملتمع‪ ،‬وليست السياسة الال أخالقية حليازة‬
‫السلطة‪.54‬‬

‫العلمانية إىل َسعة االئتمانية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.326‬‬


‫طه عبد الرمحن‪ ،‬روح الدين‪ :‬من ضيق َ‬
‫‪52‬‬

‫‪ 53‬طه عبد الرمحن‪ ،‬سؤال األخالق‪ :‬مسامهة يف النقد األخالقي للحداثة الغربية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.78‬‬
‫‪ 54‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.79‬‬

‫‪241‬‬
‫‪ -3‬املقاربة التزكوية واخلروج من التسيد‪/‬التسلط‪:‬‬
‫يرى طه عبد الرمحن أن "العمل التزكوي" يعد اآللية األجنع للخروج من التسلط‪ ،‬نظرا ألن‬
‫الباعث الدفني الذي حيرك الفاعل السياسي؛ سواء العلماين أو اإلسالمي يف كل نشاطه‬
‫ونضاله‪ ،‬حسب رأيه‪ ،‬هو "طلب التسيد على الناس" والذي مساه املتقدمون "حب‬
‫الرائسة"‪ ،‬ومساه احملدثون "حب السلطة"‪ ،‬فكل فاعل سياسي هو مشروع تسيُّدي‪ ،55‬كما‬
‫يرى طه عبد الرمحن‪.‬‬
‫لذلك يلزم تفكيك التسلط‪ ،‬وتنقسم طرق جماهبته إىل طرق "قولية" وطرق "عملية"؛ وملا‬
‫كان الطريق القويل غري انجع‪ ،‬فإن البديل الذي يقرتحه طه يتحقق ابلتزكية الروحية‪ ،‬أو‬
‫"العمل التزكوي"‪ ،‬وهو االجتهاد يف التعبد هلل ابلقدر الذي يتوصل به إىل ختليص اإلنسان‬
‫‪56‬‬
‫من خمتلف أشكال االستعباد‪.‬‬
‫وتتلخص خصائص "العمل التزكوي"‪ 57‬يف أنه‪:‬‬
‫"عمل جذري"‪ ،‬فهو يتجاوز السطح إىل العمق‪ ،‬ويتجاوز ابطن الفرد إىل ابطن‬ ‫‪-‬‬
‫ابطنه؛‬
‫عمل كلي ال جزئي‪ ،‬إذ يتسع ليشمل ذات الفرد كاملة غري منقوصة‪ ،‬فيجعلها‬ ‫‪-‬‬
‫تتداعى ابليقظة والشعور؛‬
‫عمل حتويلي ال تغيريي إذ يسعى إىل أن حيصل التبدل إىل األحسن يف اجلوانب‬ ‫‪-‬‬
‫اجلوهرية للسلوك البشري‪ ،‬فهو يرتقي ابلفرد من حال إىل حال؛‬
‫عمل "تثويري ال تطويري"‪ ،‬إذ يقلب سلوكه رأسا على عقب؛‬ ‫‪-‬‬

‫العلمانية إىل َسعة االئتمانية‪ ،‬مرجع سابق‪.239 ،‬‬


‫طه عبد الرمحن‪ ،‬روح الدين‪ :‬من ضيق َ‬
‫‪55‬‬

‫‪ - 56‬طه عبد الرمحن‪ ،‬سؤال العمل‪ :‬حبث عن األصول العملية يف الفكر والعلم‪( ،‬بريوت‪ :‬املركز الثقايف‬
‫العريب‪ ،‬ط‪ ،)2012 ،1‬ص‪.160‬‬
‫‪ - 57‬ملزيد من التفصيل ينظر‪ :‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.159‬‬

‫‪242‬‬
‫‪ -‬عمل "متصل ال منقطع" فليست له مدة زمنية حمددة‪ ،‬فهو دائم بدوام احلياة‪،‬‬
‫فاألصل يف هذا العمل أن يصري صبغة للفرد ال تزول عنه‪58‬؛‬
‫‪ -‬عمل "تدرجي ال طَفري"‪ ،‬إذ يبدأ تكليف الفرد ابلقدر الذي تطيقه نفسه هذا‬
‫إذا استأنست نفسه انتقل به إىل تعبدات أخرى حىت يرتقي درجة أعلى يف مفارقة‬
‫شهواته ورذائله؛‬
‫‪ -‬عمل " ِسلمي ال رعنفي" فهو ال يقهر الفرد ابلقوة وال يرغمه على ممارسة معينة‪،‬‬
‫‪59‬‬
‫فاألصل فيه إرادة الفرد الدخول فيه عن طواعية‪.‬‬
‫وبفضل اجتماع هذه اخلواص السبع يصبح العمل التزكوي‪ ،‬كما يقول طه‪ ،‬قادرا على‬
‫انتزاع حب التسيد من قلب الفرد‪ ،‬ويثبت يف قلبه حب التعبد الذي يتوسل ابلتدين‪،‬‬
‫فهو‪ ،‬أي العمل التزكوي‪ ،‬يورث "حب التعبد" و"حب اإلميان" و"وازع احلياء"‪ .‬مث يتوغل‬
‫طه عبد الرمحن يف املعاين الصوفية للعمل التزكوي‪ ،‬معتمدا يف ذلك على كثري من مقاالت‬
‫"أهل التزكية"‪ ،‬ومستدال مبقاالت "ابن عريب"‪ ،‬فجعل العمل التزكوي ضراب من أضرب‬
‫االتصال بني املرئي والغييب‪ ،‬وذلك ابلشهود بعني الروح‪ ،‬مع نقد "للحلول واالحتاد" ألهنا‬
‫تقتضي "التحيز"‪.60‬‬
‫ومن مثّ؛ فإن طه عبد الرمحن عمل على أتصيل أسس تصور بديل عن التصورات العلمانية‬
‫واإلسالمية‪ ،‬ذلكم أنه وإن اختلفت نظرة العلمانيني واإلسالميني لطبيعة العالقة بني الدين‬
‫والسياسة‪ ،‬فإن آفتهما معا‪ ،‬حسب تصوره‪ ،‬خلومها من "العمل التزكوي"‪ ،‬وهذه التزكية‬
‫قائمة أساسا على ميثاق األمانة‪ ،‬ومن هذه اللفظة جاء اشتقاق مفهوم "االئتمان"‪ ،‬إذ‬
‫أن هللا عرض األمانة على املخلوقات فأبت واختارها اإلنسان‪ ،‬لذلك يرى أن الفطرة‪،‬‬
‫وهي ركيزة التزكية‪ ،‬تقوم على مبدأ "االختيار" و"حتمل األمانة"‪.‬‬

‫العلمانية إىل َسعة االئتمانية‪ ،‬مرجع سابق‪ 264 ،‬وما وراءها‪.‬‬


‫طه عبد الرمحن‪ ،‬روح الدين‪ :‬من ضيق َ‬
‫‪58‬‬

‫املرجع السابق‪ .268-267 ،‬أيضا‪ ،‬طه عبد الرمحن‪ ،‬سؤال األخالق‪ :‬مسامهة يف النقد األخالقي‬ ‫‪59‬‬

‫للحداثة الغربية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.164 :160‬‬


‫العلمانية إىل َسعة االئتمانية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.284: 276‬‬
‫طه عبد الرمحن‪ ،‬روح الدين‪ :‬من ضيق َ‬
‫‪60‬‬

‫‪243‬‬
‫وعليه؛ فإن طبيعة مقاربة طه عبد الرمحن بني الدين والسياسة ائتمانية؛ إذ تروم بناء‬
‫جمتمعات األمانة أو اإلنسان األمني‪ ،‬ومدخل هذه املقاربة روحي‪ ،‬ومن خصائص الروحي‬
‫يف تصور طه عبد الرمحن التفكر يف العوامل‪ ،‬فهي مقاربة تتذكر العوامل الغيبية وال تنساها‪،‬‬
‫فإذا كانت الدعوى العلمانية تقول ابلتضاد أو التباين بني الديين والسياسي‪ ،‬والدعوى‬
‫اإلسالمية تقول ابلتداخل أو التماثل بني الديين والسياسة‪ ،‬فإن تصور طه‪ ،‬واملتمثل يف‬
‫الدعوى االئتمانية‪ ،‬يقول بوجود أصل واحد ال اثين له وهو "األمانة"‪ ،‬حيث أرجع األمور‬
‫إىل ما قبل التفريق أصال وهو ما يسميه برتبة "الوحدة األصلية" اليت منشؤها العامل الغييب‪،‬‬
‫حتملها اإلنسان ب "اختيار" منه‪ ،‬فال تعارض بني التدبري والتعبد‪،‬‬ ‫وتتمثل يف األمانة اليت َّ‬
‫بل إن التدبري جماله العامل املرئي‪ ،‬والتعبد جماله العامل الغييب‪ ،‬فال فصل وال وصل بني "التعبد"‬
‫و"التدبري" يف األمانة‪ ،‬وهذه األمانة وديعة عند اإلنسان وحلفظها فهو متصل مبودعها‬
‫وهو هللا‪ .‬لذلك قام التصور االئتماين على مبدأي "اإليداع اإلهلي" لألمانة و"االتصال‬
‫الروحي" من أجل احلفاظ عليها‪ ،‬وهذا التصور هو الذي سيوسع آفاق الوجود اإلنساين‬
‫اليت تضيقها املبادئ العلمانية والداينية‪ ،‬حسب رأي طه عبد الرمحن‪.‬‬
‫‪ -4‬املقاربة االئتمانية للمسألة السياسية وإشكالية التلقي‪:‬‬
‫وقفات مع املقاربة االئتمانية‪:‬‬ ‫أ‪-‬‬
‫الناظر لقراءة طه عبد الرمحن إلشكالية الديين والسياسي جيد أهنا تنطلق من رؤيته الفلسفية‬
‫وحتيزه الروحي؛ حيث إن واجب الفيلسوف‪ ،‬كما يتصوره طه‪ ،‬عدم االهتمام ابخلوض يف‬
‫الواقع بقدر ما يهتم مبا ينبغي أن يكون عليه هذا الواقع؛ وهنا يكمن الفرق بينه وبني‬
‫السياسي يف نظره‪ :‬فالفيلسوف يتطلع إىل أن تصري األشياء إىل ما هو أفضل‪ ،‬وينظر إىل‬
‫املثال الذي ينبغي أن ترتقي إليه‪ ،‬يف حني أن السياسي يرى األشياء كما هي وينظر إىل‬
‫الواقع‪ ،‬ابحثا عن كيفية االستفادة من ظروفه‪.61‬‬
‫لكن اخلروج من اإلشكال هبذا التصور لوظيفة الفيلسوف‪ ،‬يظل قاصرا حني يكون املوضوع‬
‫يشرتك فيه التجريد ابلتجسيد‪ ،‬بل إن طه عاتب "أهل التحكيم"‪ ،‬أي القائلون ابحلاكمية‪،‬‬
‫أن مقاربتهم كانت جتريدية ال جتسيدية‪ ،‬وتصوره وإن قارب التجسيد يف شكل العمل‬

‫‪ 61‬طه عبد الرمحن‪ ،‬احلوار أفقا للفكر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.49‬‬


‫‪244‬‬
‫كاف نظرا لطبيعة‬‫التزكوي الذي يوجه التدبري الفردي ابلرتكيز على اإلنسان‪ ،‬إال أنه غري ٍ‬
‫التدبري السياسي يف الواقع املعاصر‪ ،‬فهو‪ ،‬بتصوره البديل‪ ،‬قد يفهم منه أنه يفرتض واقعا‬
‫جديدا يكون فيه "الواقع الباطين" أو "الواقع اخلفي" هو األصل ال "الواقع الظاهري" أو‬
‫"الواقع اجللي"‪ ،‬وهو حمل النزاع واخلالف‪ ،‬لذلك كان تنظريه فيه تشويش من جهة متثالته‬
‫يف احلقل السياسي‪ ،‬إذ هو أقرب لالنعزال عن السياسة مبعناها التدبريي الضيق‪ ،‬وإن‬
‫ادعى اخلوض فيها ابسم "التزكية"‪ ،‬وليس حديثي هنا عن اإلنسان وقابليته لالئتمان‪،‬‬
‫وإمنا عن واقع يغدو فيه االئتماين عنصرا مكينا وفعّاال يف التدبري مبختلف جتلياته‪.‬‬
‫كما يظَ ّل اإلشكال املتعلق بصعوبة التنزيل‪ ،‬والذي عمل طه على دحضه يف خامتته‪،‬‬
‫قائما‪ ،‬ألن التماسك املنطقي ال يلزم منه القوة املعرفية والنجاعة العملية‪ ،‬فعدم قوله بعدم‬
‫التعارض بني الدين والسياسة على حد قوله‪ ،‬جعله يركز على اجلانب التعبدي‪ ،‬أو على‬
‫اجلانب الديين‪ ،‬يف حني أن عنصر "السياسي" بتطويره واالرتقاء داخل النسق اجلديد كان‬
‫شبه غائب عن املعادلة‪ ،‬وإن ادعى طه إدراجه يف التصور االئتماين فعلى أساس التدبري‬
‫الفردي‪ ،‬ألن العمل التزكوي شأن فردي أساسا‪ ،‬ال مجاعيا‪ ،‬وإن تعدى نفعه للجماعة‬
‫على املدى املتوسط والبعيد‪.‬‬
‫إشكاالت التلقي بني االحتفاء واالزدراء‬ ‫ب‪-‬‬
‫إن إشكالية بعض الدراسات اليت تعاجل قضااي كربى خيتلط فيها املعريف ابملذهيب أهنا تلقى‬
‫احتفاء جتزيئيا‪ ،‬أو قل احتفاءً انتصارًاي؛ أي أن كل أيديولوجية أتخذ من األطروحة الفكرية‬
‫ما يدعم أساسها الفكري وما يقوض خمالفها‪.‬‬
‫قائما بني‬
‫فإذا كان اخلالف عربيا يف إشكالية حتديد معامل العالقة بني الدين والسياسة ً‬
‫اجتاهني‪ ،‬ومها‪ :‬االجتاه العلماين واالجتاه اإلسالمي‪ ،‬فإن االحتفاء ابلكتاب‪ ،‬يف كثري منه‪،‬‬
‫هم العلماين‪ ،‬ومن يقرتب منه‪ ،‬على االحتفاء ابلكتاب يف‬ ‫متيز ابالحتفاء التجزيئي؛ إذ ّ‬ ‫َ‬
‫نقده لتصور اإلسالميني‪ ،‬كما احتفى اإلسالمي‪ ،‬ومن حذا حذوه‪ ،‬ابلكتاب النتقاده‬
‫للعلمانيني‪.‬‬
‫وعكس االحتفاء سنجد ازدراء ملحوظا للكتاب من بعض التوجهات لنفس السبب؛ إذ‬
‫جند مثال بعض اإلسالميني ازدرى الكتاب وهون شأنه لنقده أطروحة "اإلسالم السياسي"‪،‬‬

‫‪245‬‬
‫والعكس صحيح‪ ،‬وسنضرب مناذج على االحتفاء واالزدراء ليتبني املقصود‪ ،‬وتتجلى‬
‫إشكالية التلقي‪.‬‬
‫وجتدر اإلشارة إىل أننا إن كنا يف مبحث سابق أشران إىل ضمور الدراسات املشرقية لفكر‬
‫طه عبد الرمحن‪ ،‬فإننا سنجد ابملقابل أن "روح الدين" عرف نقاشا مشرقيا واسعا‪ ،‬بسبب‬
‫خوضه يف نقاشات املذاهب العلمانية واحلركية اإلسالمية‪ ،‬وال خيفى أن هذه اإلشكالية‬
‫من القضااي احلساسة اليت تثري أية إيديولوجيا تتحسس من أي نقد أو تقومي‪.‬‬
‫رضوان السيد واالحتفاء بنقد اإلسالم السياسي‪:62‬‬ ‫‪-‬‬
‫إن املتأمل يف النقاشات اليت تلت "روح الدين"‪ ،‬على ضعفها ابملقارنة مع حجم الكتاب‪،‬‬
‫سيجد اختالفا ملحوظا يف تقييم النظرية االئتمانية يف تطبيقها السياسي‪ ،‬ففور صدور‬
‫الكتاب‪ ،‬كان هناك احتفاء خاص ابلكتاب من رضوان السيد الذي كتب فيه أكثر من‬
‫دراسة تنويهية يف عدد من اجملالت العربية‪ ،‬إذ عمل على تلخيصه وتقريب مضامينه‪،‬‬
‫وومسه ب "الكتاب الرائع" و"املهم" و"العظيم"‪ ،‬وقال عنه أيضا‪ " :‬لقد أذهلْتين مقاربة‬
‫األستاذ طه عبد الرمحن النقدية واليت مضت إىل ٍ‬
‫أبعاد ما بلغها أح ٌد من قبل"‪.‬‬
‫هذه العبارات وغريها تفيد أن تلقي رضوان السيد كان تلقيا إجيابيا وتنويهيًا واحتفائيًا‪ ،‬إذ‬
‫أعجب أبطروحة الكتاب‪ ،‬وإن انقشه جزئيا يف بعض القضااي املتعلقة ابلوالية‪ ،‬إال أهنا‬
‫تظل قضااي جزئية ال تشوش على أطروحة الكتاب املركزية‪.‬‬
‫وهنا نتساءل هل كان تلقي رضوان السيد جمرد احتفاء؟‬

‫‪ 62‬سنرتكز يف هذا املقام على ما جاء يف مقاالت ثالث‪:‬‬


‫الدولة والدين يف أزمنة التغيري‪ :‬املنظور النهضوي ومتطلباته‪ ،‬رضوان السيد‪ ،‬جملة التفاهم‪ ،‬ع‪،38‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪1433‬هـ‪2012/‬م‪.‬‬
‫طه عبد الرمحن يف "روح الدين" ومحاية الدين من "اإلسالم السياسي" يف أزمنة التغيري‪ ،‬رضوان السيد‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫(جريدة احلياة‪ ،‬اجلمعة ‪ 20‬يوليو ‪https://is.gd/skA7aG ،)2012‬‬
‫"روح الدين" لطه عبد الرمحن والقراءة األخرى‪ ..‬العالئق وإشكالياهتا بني الدين والشأن العام‪( ،‬جريدة‬ ‫‪-‬‬
‫الشرق األوسط‪ ،‬العدد ‪ 4 ،12334‬سبتمرب ‪https://is.gd/gOaap1 ،)2012‬‬
‫‪246‬‬
‫وإذا كان طه عبد الرمحن انتقد يف كتابه العلمانيني والداينيني‪ ،‬فألي فريق انتصر رضوان‬
‫السيد يف احتفائه؟‬
‫إذا مجعنا أقوال رضوان السيد سنلحظ أن كفة اهتمامه متيل دوما لبيان قوة الكتاب يف‬
‫نقده ل "اإلسالم السياسي"‪ ،‬مع إشارته الطفيفة لنقده العلمانيني‪ ،‬إال أن نصيب اإلسالم‬
‫السياسي حاز حصة األسد من حجم مقاالته؛ إذ رأى أن فائدة الكتاب تكمن يف إعادة‬
‫تصحيح تصور الدين وأخالقياته‪ ،‬حبيث "تعود السالسة ويعود التواصل يف الداخل الفردي‬
‫اإلنساين‪ ،‬وعلى مستوى اجلماعات والعامل‪ّ .‬أما على مستوى الدولة فإ ّن نظرية التسيّد‬
‫وممارساته تنكسر من طريق أخالقيات الدين [‪ ،"]...‬ليتساءل بعد ذلك‪" :‬ما هو‬
‫العام‪ ،‬والتن ّكر للعلمانية الفاصلة‪،‬‬
‫الضمان يف حالة انطالق التأثري الديين يف الشأن ّ‬
‫أن ال يتحول هذا التأثري إىل استيالئية من نوع ما؟ الضمان هو يف االئتمانية‪ ،‬أو‬
‫جمتمعات الثقة والطمأنينة اليت حيدثها الدين املستند إىل الفكرة‪ ،‬واملسلّم ابلوالية‬
‫وجل‪ .‬وهذا أمر جيد‪ ،‬وقد تتطور آليات داخلية‪ /‬اجتماعية للتصحيح‬ ‫عز ّ‬ ‫العليا هلل ّ‬
‫والتسديد ما دام االنفصال قد انتهى والتواصل داخل الفرد واجلماعة قد اكتمل‪.‬‬
‫حيول الدين إىل أداة سلطوية‪،‬‬
‫مث يقول‪" :‬ولدينا اليوم حت ّدي «اإلسالم السياسي» الذي ّ‬
‫تقل هوال يف مآالهتا على الدين واجملتمع من االنفصالية التسيّدية العلمانية‪ :‬فهل‬
‫ال ّ‬
‫ينجح املتدينون احلزبيون اجلدد يف النجاة من الرتبّب والتفرد اباللتزام األخالقي؟‬
‫لكن أكثر الناس ال يعلمون»"‪.63‬‬
‫«وهللا غالب على أمره‪ ،‬و ّ‬
‫فهنا ختم مقالته بتهويل مشروع اإلسالم السياسي مع اإلشارة للتسيد العلماين‪ ،‬وقال‬
‫بنحو هذا يف مقالته يف "التفاهم"‪ ،‬إذ ذكر فيها أن طه عبد الرمحن خيشى من العلمانية‬
‫ألهنا ُُترج الدين وأخالقَه وأتثرياته ليس من الدولة فقط؛ بل ومن اجملتمع أيضاً‪ .‬مث‬
‫"ولست أدري كيف يكو ُن ذلك ممكناً ما دام الدين‪ ،‬وما دامت منظومته القيمية‬
‫ُ‬ ‫قال‪:‬‬
‫وستظل مؤثّرةً بطرائق مباشرة‬
‫ُّ‬ ‫ُمدخلةً يف مسَْت األفراد واجلماعات واجملتمعات‪ ،‬وكانت‬
‫وغري مباشرة يف اجتماعنا اإلنساين والدويل‪ ،‬وال خوف عليها من العلمانية وسواها‬

‫رضوان السيد‪" ،‬روح الدين" لطه عبد الرمحن والقراءة األخرى‪ ..‬العالئق وإشكالياهتا بني الدين والشأن‬ ‫‪63‬‬

‫العام‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬


‫‪247‬‬
‫املسلك أو املسالك اليت ينتهجها‬‫َ‬ ‫من الدهرايت‪ ،‬إالّ إذا سلكْنا مع الدين واجملتمع‬
‫فلنخر ْج من اإلسالم السياسي‪ ،‬لتبقى إلسالمنا سكينته ووحدتره ووظائفه‬ ‫اإلسالميون‪ ،‬ر‬
‫الشعائرية والقيمية‪ ،‬فيبقى له سو رادهر األعظم‪ ،‬حبسب تعبري اإلمام أيب حنيفة‪ّ .‬أما مثقفوان‬
‫قضوا العقود اخلمسة األخرية وهم حياولون حتريران من‬ ‫الذين خيشون من اإلسالم‪ ،‬فقد َ‬
‫اإلسالم أو حتر َير اإلسالم منا"‪.64‬‬
‫لكن ما يلبث األستاذ رضوان السيد أن يشخصن األفكار‪ ،‬ويذكر أمساء كبار أعالم‬
‫احلركيني سواء من أهل الفكر أو السياسة من أجل حماكمتهم مبقتضى ما قاله طه عبد‬
‫الرمحن قائال‪" :‬فيا أيها األستاذ الكبري‪ :‬لو أ ّن حممد مرسي أو الغنوشي أو بنكريان أو‬
‫البشري‪..‬اخل قالوا لنا إهنم آتون للتدبري مبقتضى األخالق التزكوية اليت أورثهم إايها الرتيُّض‬
‫العام إالّ‬
‫بقيم اإلسالم‪ ،‬فهل يكون علينا القول بواليتهم؟! ال سلطة وال تدبري يف الشأن ّ‬
‫ِ‬
‫جلماعة املسلمني‪ّ .‬أما الدين وشريعته وأعرافه املستقرة فهي أمانةٌ لدى اجملتمع نفسه‪،‬‬
‫والشريعةر مطبَّقةٌ حبذافريها من خالل دخلنة اجملتمع لتعبدايهتا وحسبياهتا‪ ،‬وال حنتاج –حنن‬
‫أمة حممد‪ -‬إىل هذا أو ذاك ليفرض علينا تطبيقها!"‬
‫ورضوان السيد يف تقريره هذا يشري إىل مشروع "تطبيق الشريعة" الذي يعترب أحد األركان‬
‫املؤسسة لفكر اإلسالم السياسي يف املرحلة الراهنة‪ ،‬لكن ما يلبث رضوان السيد أن خيرج‬
‫عن معادلته املتكافئة يف حديثه عن العلمانيني واإلسالميني على حد سواء ليتوقف عند‬
‫شخصنة األفكار‪ ،‬مث التصريح أن اخلطر آت من اإلسالم السياسي ال الفكر العلماين يف‬
‫تصريح واضح ختم به مقالته‪" :‬ال خطر على الدين من العلمانية والعلمانيني وسائر‬
‫اب‬
‫املتدهرين اآلن‪ .‬وإمنا اخلطر من هذا التسييس للدين‪ ،‬والذي صارت له أحز ٌ‬ ‫ّ‬
‫اخرتعت نظرايت طويلة وعريضة طوال العقود املاضية‪ ،‬وكسبت مجهوراً عريضاً من‬
‫طريق املعارضة ألنظمة التسيُّد اخلالدة‪ .‬وها هي تربز يف أزمنة الثورات‪ ،‬وتكسب‬
‫ات ُمومهة وشعبوية‪ .‬فالذين عندها‬‫أصوات اجلمهور‪ ،‬وُمتعن يف استخدام الدين بشعار ٍّ‬
‫ُ‬

‫‪ 64‬رضوان السيد‪ ،‬الدولة والدين يف أزمنة التغيري‪ :‬املنظور النهضوي ومتطلباته‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫قائم على هذه األيديولوجيا‪ .‬وهذا َخطَ ٌل يتهدد الدين ووحدة‬
‫أيديولوجيا واملرشد ٌ‬
‫اجملتمعات أبش ّد األخطار"‪.65‬‬
‫فهذا ضرب من االحتفاء التجزيئي أبطروحة طه عبد الرمحن‪ ،‬وهو احتفاء له وجاهته‪ ،‬ألنه‬
‫يدعم نقد "اإلسالم احلركي" و"السياسي"‪ ،‬وابملقابل يبخس نقد "العلماين" كما جاء يف‬
‫الكتاب‪ ،‬وليس هذا جماال حملاكمة النيات‪ ،‬إذ االستدالل على الفكر مرغوب‪ ،‬وكل امرئ‬
‫يرغب أن يدعم مذهبه ابألدلة اليت تقويه‪ ،‬كما ليس مطلواب االتفاق الكلي مع أطروحة‬
‫طه عبد الرمحن‪ ،‬لكن هذا يكشف فقط عن بعض معامل التلقي التجزيئي ألطروحة‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫الشنقيطي وآفة االزدراء‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫أفرد حممد املختار الشنقيطي جمموعة من املقاالت املختصرة عن كتاب "الدولة املستحيلة"‬
‫فج بني أطروحيت وائل حالق وطه عبد‬ ‫لوائل حالق‪ ،‬ويف خضم هذا النقاش ربط بشكل ّ‬
‫الرمحن؛ مبينا أن كتاب وائل حالق "خيتزل رسالة اإلسالم ودوره يف مستقبل البشرية‪ ،‬يف‬
‫دروشة أيب حامد الغزايل من األقدمني‪ ،‬وطه عبد الرمحن من املعاصرين"‪ ،‬ومعتربا أن‬
‫الغزايل وطه عبد الرمحن عاشا مرحلتني حرجتني‪" ،‬وأن كال منهما انسحب من التدافع‬
‫الذي يوجبه القرآن‪ ،‬ويقتضيه الواجب األخالقي‪ ،‬واستغرق يف عامله الذهين وجتريداته‬
‫عدوها من الوريد إىل الوريد ال تعنيه يف شيء"‪.‬‬
‫الروحية‪ ،‬وكأن األمة اليت يذحبها ُّ‬
‫ويرى الشنقيطي أن طه يقف على احلياد يف املعركة الدائرة بني احلكام املتحكمني يف رقاب‬
‫ساعيني إىل "التسيُّد" واحلكم‬
‫ْ‬ ‫الشعوب ومعارضيهم من الساعني لتحريرها‪ ،‬ويعترب الطرفني‬
‫ابلقهر‪ ،‬يف سلبية أخالقية كاملة‪ ،‬لكن ابسم األخالق! [‪ "]...‬ويرى أن مشكلة طه عبد‬

‫‪ 65‬رضوان السيد‪ ،‬طه عبد الرمحن يف "روح الدين" ومحاية الدين من "اإلسالم السياسي" يف أزمنة التغيري‪،‬‬
‫مرجع سابق‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫الرمحن تكمن يف اندراجه ضمن ثقافة دينية مغشوشة‪ ،‬منبتَّة عن النبع القرآين واملنهاج‬
‫‪66‬‬
‫النبوي‪ ،‬وهي ثقافة الدروشة واخلمول املوروثة من الرهبنة املسيحية والبوذية‪".‬‬
‫إن إشكالية مثل هذه التصورات ال تنحصر فقط يف الرؤية العدمية لألطروحة الفكرية‬
‫املخالفة‪ ،67‬لكن اإلشكال يكمن يف أن هناك فرقا بني املساءلة العملية لألطروحة وبني‬
‫اعتبار أن الفلسفة السياسية جيب أن تكون عملية ابلضرورة؛ إذ إن كتاب طه عبد الرمحن‬
‫هو نقد معريف إبستمولوجي يناقش تراكما معرفيا يف املسألة‪ ،‬وهذا الرتاكم له آاثر عملية‬
‫وجب تقوميها وتصحيحها‪ ،‬فاألطروحة وإن بدت طوابوية يف بعض جوانبها‪ ،‬إال أهنا‬
‫تساءل النظري والعملي أيضا؛ فهل احلديث عن "احلاكمية" و"الوالية" و"التزكية" نقاش‬
‫نظري؟!‬
‫إن كثريا من القضااي املذكورة يف الكتاب هلا متثالت على أرض الواقع‪ ،‬وإن كنا خنتلف مع‬
‫بعض ما جاء فيها لعلة اإلغراق يف التنظري‪ ،‬إال أن املعرفة تقتضي ابلضرورة فك االرتباط‬
‫بني األساس املعريف للمسألة ومتثالهتا يف الوقع؛ ففي حالتنا هناك متثالت موجودة وهناك‬
‫أساس فكري سابق‪ ،‬ولتقومي املشاريع السياسية يف بعض "التمثالت‪/‬عامل األعيان"؛ وجب‬
‫مناقشة األسس العلمية اليت أنتجتها‪ ،‬أي "التصورات‪/‬عامل األذهان"‪ ،‬وال ريب أن هذا‬
‫العمل ال يندرج حصرا يف التدبري السياسي‪ ،‬وإمنا هو نقاش رصني يف الفلسفة السياسية‪،‬‬
‫حىت إن طه عبد الرمحن يرى كتاابته تندرج ضمن فلسفة الدين‪ ،‬لذلك فإن التهوين من‬
‫‪68‬‬
‫شأن النظري وهتويل الواقعي هو حمل النزاع‪.‬‬
‫إن مشكلة التيار اإلسالمي عموما تضخيم اإلصالح السياسي وتبخيس اإلصالح‬
‫الثقايف‪ ،‬كالذي هنض به طه عبد الرمحن وغريه من أهل الفكر؛ واعتبار التدبري السياسي‬

‫‪ 66‬حممد خمتار الشنقيطي‪ :‬أوراق الربيع (‪ )16‬الدولة العلمانية املستحيلة (د) مدوانت اجلزيرة‪،‬‬
‫‪https://goo.gl/6e9zTB‬‬
‫‪ 67‬علما أين لست يف هذا املقام للدفاع عن روح الدين وال عن أطروحة الكتاب‪ ،‬وإمنا فقط حماولة مساءلة‬
‫التلقي ومعرفة أسبابه ومنهجه لنرى دوافعه وآلياته‪ ،‬وسبق وأثرت حنو أسئلة الشنقيطي يف سلسلة مقاالت أجنزهتا‬
‫عن روح الدين مبنتدى العالقات العربية والدولية‪ ،‬وتساءلت عن جناعة األطروحة عمليا؟‬
‫‪ 68‬ليس غرضي انتقاد كالم الشنقيطي فهو كالم ممزوج ابلعاطفة‪ ،‬وطبيعة املقام الذي نشر فيه يسمح رمبا هبذا‬
‫النوع من اللغة اليت تقل فيها العلمية‪ ،‬ويكثر فيها حس االنتصار لأليديولوجيا‪.‬‬
‫‪250‬‬
‫هو أصل اإلصالح‪ ،‬وأن ما ارتبط به من قضااي جيب أن يكون تدبرياي‪ ،‬وهذه مفارقة‬
‫غريبة‪ ،‬إذ الكتابة يف "السياسة" ال تستلزم أن تكون "عملية" "تدبريية" "براغماتية"‪ ،‬وإمنا‬
‫ختتلف حبسب املقاربة واحلقل املعريف‪ ،‬وملا كان طه ينتمي حلقل "الفلسفة"‪ ،‬فإن كتابته‬
‫اصطبغت ابلفلسفة‪ ،‬وإن خاضت يف قضااي التدبري السياسي‪.‬‬
‫كما أن اإلصالح السياسي ال تكون له جناعة معرفية إال إذا أتطر بنسق ثقايف‪ ،‬والثقافة‬
‫تتمثل واقعيا عن طريق السياسة‪ ،‬فهي عالقة أتثري وأتثر متبادلة‪ ،‬لكن يظل املدخل الثقايف‬
‫مدخال تصحيحيا وتقومييا للمسار السياسي‪ ،‬أما االستغراق يف احلركية السياسية ففقر‬
‫يصري الثقافة فقه تسويغ ال فقه تقومي‪.‬‬
‫معريف ّ‬
‫لذلك فإن آفة التيارات املؤدجلة شخصنة اخلالف وامليل للجهة اليت تفيد يف ضرب اخلصم‬
‫اإليديولوجي‪ ،‬فتكون االستفادة من ابب تدعيم الرأي أساسا ال تصويبه أو تقوميه‪ ،‬وهذا‬
‫ما انله كتاب "روح الدين"؛ إذ كان التلقي جتزيئيا سواء يف شق "االحتفاء" أو "االزدراء"‪،‬‬
‫ألنه مسبوق هباجس االنتصار والغلبة للرأي ونقد املخالف‪ ،‬األمر الذي جيعلنا نسائل‬
‫فعل "التلقي" نفسه يف عالقته بـ"األطروحة األصل"‪.‬‬
‫خامتة‬
‫إن استعادة التفلسف مشروع حيتاج إىل استئناف من خمتلف التيارات الفكرية‪ ،‬حيث‬
‫حنتاج إىل "فلسفة" مسؤولة تعي حتدايت العصر وفق روح الدين‪ ،‬فليست الفلسفة انفصاال‬
‫عن الدين‪ -‬كما تبني من اشتغال طه عبد الرمحن‪ -‬بل هي حكمة تستمد وجودها من‬
‫مصادر كثرية على رأسها احلكمة الدينية وتستمر ابحلكمة اإلنسانية الساعية إىل تدبري‬
‫قضااي البشرية لرتقى هبا حنو "التأنس" وتنأى هبا عن "التوحش"‪.‬‬
‫إن جرأة طه عبد الرمحن املعرفية تتأتى من تصرحيه بتحيزه الروحي ومدده القرآين‪ ،‬يف ٍ‬
‫سياق‬
‫رسخ لفصل الفلسفة عن الدين‪ ،‬وروج لـ"خصوصية فلسفية غربية" ابسم الكونية‪ .‬إن‬
‫املطلع خلريطة مؤلفات طه عبد الرمحن سيتبني له أن التمكن من انصية الفلسفة الغربية‬
‫والتدعم ابلرؤية القرآنية هو الذي مكنه من استيعاب معريف مكنه من خوض القضااي‬
‫الفكرية املعاصرة من منظور جديد يدخل الدين إىل ساحة املعرفة واحلكمة‪ ،‬وجيعله أساسا‬
‫لبناء اإلنسان األمني وجمتمعات الثقة‪.‬‬

‫‪251‬‬
‫إن اشتغال طه عبد الرمحن دليل على عدم التعارض بني "الفلسفة" و"الدين"‪ ،‬إذ تبني‪،‬‬
‫من خالل مشروعه الفكري‪ ،‬أن النظر الفسيح يف "القرآن" ميد الفيلسوف بزاد معريف‬
‫"متعال"‪ ،‬وإذا كان الغرض من املعارف خدمة اإلنسان والكون‪ ،‬فإن االشتغال الفلسفي‬
‫املسؤول جعل النقاش املعريف لصيقا بقضااي اجملتمعات اإلنسانية يف اختالفها وتنوعها‪ ،‬مما‬
‫نتج عنه "عمل" فكري وواقعي‪ ،‬ومن مث؛ فإن التفلسف وفق منظور قرآين هو الذي جعل‬
‫طه عبد الرمحن يبلور النظرية "االئتمانية" املرتكزة على تعدد أبعاد الوجود البشري مؤسسا‬
‫بذلك لعمران معريف أخالقي متفرد‪.‬‬
‫ويف اخلتام‪ ،‬فإن املشروع الفكري لطه عبد الرمحن حيتاج إىل جهد تقرييب وتبسيطي جلمهور‬
‫املثقفني‪ ،‬إضافة إىل ضرورة تتميم التأسيس املعريف‪ ،‬حىت يكون مدخال لتجديد العلوم‬
‫اإلسالمية واإلنسانية لتتفاعل مع قضااي العصر وفق حكمة يتفاعل فيها روح الدين بعقل‬
‫اإلنسان وتغري السياق‪ ،‬عساان نسهم يف استئناف مسار "التفلسف" ليتفاعل مع املسائل‬
‫املتجددة يف كل عصر وحني خدمة لإلنسان والعمران‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫الفكر التأسيسي للسيد حممد نقيب "العطاس"‬
‫يوسف راموس‬

‫مقدمة‬
‫ميكن تعريف التعليم أبنه السعي وراء املعرفة‪ ،‬واليت بدورها‬
‫تصوغ تصوراتنا عن الذات واآلخر‪ .‬إذ تتش ّكل هوايتنا عن‬
‫طريق إدراكنا ألنفسنا وذواتنا يف عالقتنا بغريان‪ ،‬وذلك عرب‬
‫كال منا إىل‬
‫تدافع وجهات النظر املتعددة‪ ،‬وهذا يقود ً‬
‫خيارات خمتلفة ميكن أن تتسبب يف التوتر والصراع‪ ،‬أو‬
‫اهلوايت‬
‫حىت تفكك اجملتمع نفسه‪ .‬رمبا يكون إذن تنظيم ّ‬
‫مطلواب يف هذه احلالة؛‬
‫ً‬ ‫‪ -‬الذي يقوده تعليم مالئم ‪ -‬أمراً‬
‫ألن القوى املختلفة اليت تتصارع فيما بينها على السلطة‬
‫قد تتسبب يف هناية هذا اجملتمع الذي يضمّها‪ ،‬ما مل تكن‬
‫هوايت متناغمة‪.‬‬‫هنالك عملية رحمكمة لتشكيل ّ‬
‫وقد حاول العديد من املفكرين اإلسالميني يف العصر احلديث أن يصلوا إىل فهم ما‬
‫حتديدا‬
‫ً‬ ‫تسبّب يف تدهور احلضارة اإلسالمية واستالهبا‪ ،‬واتفقوا على أن التعليم ‪-‬أي‬
‫الطريقة اليت ينتج هبا املسلمون معارفهم‪ ،‬ويراكموهنا‪ ،‬وينشروهنا‪ -‬هو السبب األساسي‬
‫الزدهار احلضارة اإلسالمية‪ ،‬وأن إمهال التعليم ابلتايل كان السبب األساسي لالحندار‪.‬‬

‫خصيصا هلذا الكتاب‪ ،‬وترمجه من اإلجنليزية إىل العربية أمحد مجال سعد الدين‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ 1‬ركتب هذا النص‬
‫لقد سيطرت احلضارة الغربية على عامل ينحو ابجتاه العوملة ابستمرار‪ ،‬وهو ما جعل املسلمني‬
‫يتلقون املعارف بصورة أساسية ‪-‬أو ابلكامل‪ -‬عرب منوذج فكري تعليمي ينتمي إىل علوم‬
‫احلضارة الغربية‪ ،‬مما يعين ابلضرورة تش ّكل املسلمني عرب أنظمة تفكري وافدة‪.‬‬
‫وقد انقسم الباحثون اإلسالميون بشكل عام فيما يتعلق حبل هذه املعضلة إىل فريقني‪:‬‬
‫يشجع عملية تطويع اإلسالم للحداثة‪ ،‬وميكن وصف أفراده ابلليرباليني أو‬ ‫أحدمها ّ‬
‫ابحلداثيني؛ والفريق اآلخر حياول تطويع احلداثة لإلسالم‪ ،‬وهم من يوصفون ابحملافظني أو‬
‫أحياان طريقة وصف‬
‫التقليديني‪ .‬هذا التصنيف جاء من الغرب ابلدرجة األوىل‪ ،‬لكنه كان ً‬
‫الباحثني ألنفسهم‪ .‬وسنجد أن بعض املسلمني متاهى مع مدرسة من هاتني أو األخرى‪،‬‬
‫فيما شعر بعضهم ابحلرية‪ ،‬أو جتاهلوا اجلدل الدائر‪ ،‬ورفض البعض هذه الثنائية ابلكامل‪.‬‬
‫وعلى سبيل املثال‪ ،‬ينصح سيد حسني نصر املسلمني أبن يبحثوا عن الفهم احلقيقي يف‬
‫الرتاث الثقايف اإلسالمي‪:‬‬
‫"سواء كان األمر متعل ًقا ابلفلسفة‪ ،‬أو ابلعلم‪ ،‬أو اإلبستمولوجيا (نظرية املعرفة)‪ ،‬أو‬
‫ابألخالق‪ ،‬أو بفلسفة اللغة‪ ،‬أو ابلعالقة بني املرء وربه‪ ،‬أو كان األمر متعل ًقا ابإلرادة احلرة‬
‫أو ابجلرب أو ابلسببية‪ ،‬أو أي تساؤالت فلسفية أخرى تناوهلا الفالسفة األوروبيون‬
‫واألمريكان عرب القرون األخرية؛ فإن الرتاث الفكري اإلسالمي يق ّدم إجاابت ذات‬
‫صالحية مستمرة"‪.2‬‬
‫"مسلما أوروبيًا"‪ -‬أن هنالك فجوًة بني‬
‫ً‬ ‫ويرى طارق رمضان من انحية أخرى ‪-‬وبوصفه‬
‫الرتاث التقليدي‪ ،‬وبني املدخل اإلسالمي احلايل فيما يتعلق ابملواضيع التعليمية يف الغرب‪،‬‬
‫تشجع التعبري والتفكري النقدي‪،‬‬
‫وهذا يف تناقض واضح مع أنظمة املدارس العامة اليت ّ‬
‫والرؤية الذاتية‪:‬‬

‫‪Syed Hossain Nasr, A Young Muslim's Guide to Modern 2‬‬


‫‪World, Chicago: Kazi, 2003, p 84.‬‬

‫‪254‬‬
‫" […] ما يرطلق عليه اآلن "التعليم اإلسالمي" مقيّد بعملية حفظ الذاكرة آلايت القرآن‪،‬‬
‫وحتول تعلّم الطقوس إىل عملية ميكانيكية‬
‫النيب‪ ،‬ولقواعد خالية من أي برعد روحي‪ّ ،‬‬‫ولسرية ّ‬
‫‪3‬‬
‫متاما عن واقع األمريكيني واألوروبيني" ‪.‬‬
‫تعاليم منفصلةً ً‬
‫رتيبة ق ّدمت َ‬
‫ويشجع رمضان إصالح نظم التعليم اإلسالمية احلالية‪ ،‬لتواكب حاجات املسلمني الذين‬
‫ّ‬
‫يعيشون يف الغرب‪.‬‬
‫ورمبا تساعد أفكار سيد حممد نقيب العطاس‪ ،‬فيما يتعلّق بضرورة التأسيس لنظام تعليم‬
‫إسالمي‪ ،‬على َمد طريق بني أفكار نصر التارخيية وطرح رمضان‪ ،‬وهي األفكار اليت‬
‫سيجري عرضها يف هذا الفصل‪ ،‬واملقارنة وتوضيح الفروق بينها وبني مشروع أسلمة املعرفة‬
‫الذي كتب فيه ونَظّر له إمساعيل راجي الفاروقي‪ ،‬وعبد احلميد أبو سليمان‪ ،‬وضياء الدين‬
‫سردار‪.‬‬
‫يف أصول "أسلمة املعرفة"‪ :‬تفكيك العلمانية‬
‫نرشر كتاب "اإلسالم والعلمانية" لسيد حممد نقيب العطاس يف عام ‪ ،1978‬تاله كتاب‬
‫إمساعيل راجي "الفاروقي" "أسلمة املعرفة‪ :‬املشاكل‪ ،‬واملبادئ‪ ،‬والتطلعات" يف عام‬
‫‪ ،1982‬وكذلك كتاب "أسلمة املعرفة‪ :‬املبادئ العامة‪ ،‬وخطة العمل" يف عام ‪،1989‬‬
‫والذي حرره عبد احلميد أبو سليمان‪ ،‬دون اإلشارة ‪-‬للغرابة‪ -‬إىل عمل "العطاس" (وهو‬
‫ما أاثر حرية "العطاس" نفسه)‪ .‬مث نشر "العطاس" كتابه "مقدمات نقدية يف ماورائيات‬
‫اإلسالم" عام ‪ ،1993‬وهو تطوير ألعماله األوىل‪.‬‬
‫يف مقاله "من أسلمة املعرفة إىل توحيد املعرفة" ‪ ،2017‬استشهد ضياء الدين "سردار"‬
‫بكل من "الفاروقي" و"العطاس"‪ ،‬إال أنه نسب الفضل يف صك مصطلح أسلمة املعرفة‬
‫إىل "الفاروقي"‪ ،‬وخطة عمل أيب سليمان‪.‬‬

‫‪Tariq Ramadan, Western Muslims and the Future of Islam, 3‬‬


‫‪New York: Oxford University Press, 2005, p 125.‬‬

‫‪255‬‬
‫ويستطيع املرء عند قراءة أعمال السيد حممد جنيب "العطاس"‪ ،‬أن مييز بسهولة انغماس‬
‫عاما ‪ -‬يف قضااي املعرفة‪ .‬فقد درس‬
‫الرجل الشديد ‪ -‬عرب حياته اليت امتدت إىل ‪ً 85‬‬
‫علوما شىت بداية من علم الالهوت‪ ،‬والفلسفة‪ ،‬إىل علوم اللغوايت واألدب‪،‬‬
‫"العطاس" ً‬
‫‪4‬‬
‫وحىت العلوم احلربية ‪.‬‬
‫وينتمي "العطاس" إىل أسرة ذات مسعة يف منطقة املاليو‪ ،‬تعلّم هناك‪ ،‬وأمضى بعض الوقت‬
‫يف اجليش قبل أن يستكمل دراسته يف بريطانيا‪ ،‬وحيصل على الزمالة الربيطانية اليت وفرت‬
‫مكاان يف العديد من املعاهد احمللية والعاملية املهتمة ابلبحث والتعليم‪.‬‬
‫له ً‬
‫أتقن "العطاس" التعامل مع األكادمييا الغربية احلديثة‪ ،‬لكنه أبقى على أولوية القرآن‬
‫أصر على أن املسلمني لن يستطيعوا تقييم أوضاع‬ ‫النبوي كمقاييس للحقائق‪ ،‬و َّ‬
‫واحلديث ّ‬
‫التبصر مليًا وجبدية يف تصوراهتم عن‬
‫نقداي‪ ،‬إال من خالل ّ‬ ‫تقييما ً‬
‫ماضيهم وحاضرهم ً‬
‫شك يف أن عملية‬‫تصور ملا ينشدونه يف مستقبلهم‪ .‬هلذا مل يكن لديه ٌّ‬ ‫املعرفة‪ ،‬وتطوير ّ‬
‫تزييف املعرفة ‪ -‬أي الغزو املعريف الذي قامت به املرجعيات الغربية‪ ،‬والتصورات العاملية‬
‫غري اإلسالمية ‪ -‬هي سبب إرابك العقل املسلم‪ ،‬وهو ارتباك حمسوس يف كل درجة من‬
‫درجات حياته الفردية واالجتماعية‪ ،‬ورأى "العطاس" أن عملية التزييف هذه تتحدى‬
‫‪5‬‬
‫خصوصا اإلميان أبصالة اإلسالم ومبرجعيته وما يتعلق بدوره‬
‫تصور عاملية اإلسالم نفسه ‪ً 6 ،‬‬
‫يف تلبية احتياج اجملتمعات املسلمة ‪.‬‬

‫‪ 4‬كتب وان موهد نور وان داود سرية تفصيلية حلياة سيد حممد العطاس‪Wan Mohd. Nor Wan ،:‬‬
‫‪Daud, The Educational Philosophy and Practice of Syed‬‬
‫‪Muhammad Naquib Al-Attas: An Exposition of The Original‬‬
‫‪Concept of Islamization, Kuala Lumpur: Institute of Islamic‬‬
‫‪Thought and Civilization, 1998‬‬
‫‪Syed Muhammad Naquib Al-Attas, Islam and Secularism, Kuala 5‬‬
‫‪Lumpur: ISTAC, 1993, p 133.‬‬
‫‪Syed Muhammad Naquib Al-Attas, Prolegomena to the 6‬‬
‫‪Metaphysics of Islam: An Exposition of the Fundamental‬‬

‫‪256‬‬
‫عن اللغة واألسلمة وفك االرتباط ابلغرب‬
‫مثلت كتاابت "العطاس" رحلة كشف ‪ -‬شديدة التدقيق ‪ -‬للمبادئ اإلسالمية واحلضارة‬
‫الغربية اإلغريقية على قدم سواء‪ ،‬بداية من عام ‪( 1978‬والح ًقا يف عام ‪.)1993‬‬
‫ويعترب حتليل "العطاس" لدالالت ألفاظ املفاهيم يف اللغة العربية واللغات األخرى مسةً‬
‫أساسية شديدة التميّز يف كتاابته‪ ،‬وحجر أساس ملنهجه اجلَديل؛ إذ استطاع ربط املفاهيم‬
‫املتداولة عامليًا أبصوهلا‪ ،‬وعند تطوير رحججه التعامل معها فلسفيًا ومعرفيًا‪.‬‬
‫وقد شدد "العطاس" على أمهية التعامل مع املفاهيم يف سياق احلضارة املنتجة هلا ولغتها‬
‫اخلاصة؛ وذلك لوجود ٍ‬
‫معان كامنة يف الثقافة ال ميكن فصلها عن املفاهيم ذاهتا‪ .‬وهلذا‬
‫كانت جمهوداته يف تعريف املفاهيم عملية تتسم ابلدقة الشديدة‪ ،‬تكررت يف كل كتبه‬
‫ومقاالته‪ ،‬بغض النظر عن موضوعها‪ ،‬سواء كان حول املعرفة‪ ،‬أو فلسفة املعىن‪ ،‬أو األدب‪،‬‬
‫تكون‬
‫أو السعادة‪ ،‬أو احلرية‪ ،‬أو العدل‪ ،‬أو احلقيقة‪ ،‬أو الواقع‪ .‬وكلها مفاهيم مرتابطة ّ‬
‫أساسا ألفكاره‪ ،‬فيما ساهم وضوحه يف تعزيز متاسك جداله‪.‬‬
‫ً‬
‫وساعد اهتمام "العطاس" ابللغة على تدعيم التمييز الذي هنجه فكره بني النظم املنطقية‬
‫يف احلضارة اإلسالمية والغربية على حد سواء‪ ،‬ففي كتابه عن العلمانية ‪ -‬على سبيل‬
‫كامال للحديث عن داللة لفظ "علمانية" يف الغرب‪،‬‬ ‫فصال ً‬‫املثال ‪ -‬خصص "العطاس" ً‬
‫‪7‬‬
‫وكيف جيب تلقيه يف الرؤية العاملية اإلسالمية ‪.‬‬
‫وقد اتفق "الفاروقي" و"سردار" مع رؤية "العطاس" يف مدى أمهية رسم اخلطوط بدقة فيما‬
‫يتعلق ابملفاهيم اليت استخدمها علماء املصطلحات يف تعاملهم مع منظومة التعليم‬
‫اإلسالمي‪ .‬فكتب "سردار"‪" :‬إن اللغة هي األداة البارزة يف الثقافة‪ ،‬ومتلك اللغة اترخيًا له‬
‫شاسعا‪ ،‬كأهنا خمزن للمعاين املكتسبة عرب الزمن"‪ .‬ويف‬ ‫ً‬ ‫موقعا أثرًاي‬
‫طبقات كما لو كانت ً‬

‫‪Elements of the Worldview of Islam. Kuala Lumpur: International‬‬


‫‪Institute of Islamic Thought and Civilization, 1995, pp 5, 76.‬‬
‫‪Syed Muhammad Naquib Al-Attas, Islam and Secularism, 7‬‬
‫‪op.cit., pp.15-49‬‬

‫‪257‬‬
‫ما يتعلق بسياق إصالح التعليم كتب‪" :‬فهرس مصطلحات علمي وموجز هو ما سيساعد‬
‫يف تفادي سوء الفهم"‪.8‬‬
‫قاموسا معيارًاي لتدعيم عملية تنفيذ مشروع أسلمة املعرفة‪ ،‬إال‬
‫وحاول "الفاروقي" أن يضع ً‬
‫عرف‬‫أنه مل يضمنه سياقات أغلب املفاهيم واملصطلحات اليت استخدمها يف نَصه‪ ،‬ومل ير ّ‬
‫دائما بتفاصيل معرفيّة تفصيلية‪ ،‬مما تسبب يف بعض اإلهبام‪.‬‬
‫املشروع ً‬
‫وقد انقش كل مفكر إسالمي دور املعرفة يف التنوير الفكري للمسلمني من زاوية خمتلفة‪،‬‬
‫يفضل عليها‪" :‬فك االرتباط ابملعرفة‬
‫وصك "العطاس" عبارة "أسلمة املعرفة"‪ ،‬لكنه كان ّ‬
‫الغربية"‪ ،‬بينما استثمر كل من "الفاروقي" وأبو سليمان جمهوداهتما أكثر يف التعامل مع‬
‫مصطلح "أسلمة املعرفة"‪.‬‬
‫تساؤال‪ :‬لو كانت كل معارف اإلنسان معروفة عند هللا سل ًفا‪ ،‬فهل ميكن‬
‫وقد أاثر البعض ً‬
‫موضحا أبن‬
‫ً‬ ‫ابلتايل أن نطلق على كل املعارف صفة الـ"إسالمية"؟ جييب "العطاس"‬
‫السمات غري اإلسالمية يف املعرفة احلديثة‪ ،‬تعود إىل املاهية والوجود‪ ،‬وكذلك إىل نظرية‬
‫وحتديدا‪:‬‬
‫ً‬ ‫املعرفة ذاهتا‬
‫"االعتماد احلصري على سيادة املنطق البشري وحده‪ ،‬والتمسك بسراين الطبيعة الثنائية‬
‫للواقع واحلقيقة‪ ،‬والتأكيد على حقيقة اجلانب الزائل من الوجود مبا يعزز رؤية علمانية‬
‫عاملية‪ ،‬واعتناق املذهب اإلنساين كمرجعية‪ ،‬وحماكاة الطبيعة الكونية املزعومة للدراما‬
‫واملأساة يف الروحانيات واملتساميات‪ ،‬أو يف احلياة الداخلية لإلنسان"‪.9‬‬

‫‪Ziauddin Sardar, How Do You Know? Reading Ziauddin 8‬‬


‫‪Sardar on Islam, Science and Cultural Relations, London; Pluto‬‬
‫‪Press, 2006, pp 15-19.‬‬
‫‪Al-Attas, Islam and Secularism, p 137.9‬‬

‫‪258‬‬
‫ال تندرج هذه النقاط حتت بند "املعرفة احلقيقيّة"‪ ،‬لكن ابألحرى ترتبط بـ "خصائص‬
‫الصيغة اليت يتم عربها تل ّقي املعرفة وتقييمها وتفسريها مبا يتوافق مع الغاية املناسبة لنظرة‬
‫احلضارة الغربية عامليًا"‪.10‬‬
‫وميكن عزل هذه اخلصائص مبجرد تعريفها‪ ،‬وابلتايل محاية التصور العاملي اإلسالمي من‬
‫مقدسا‬ ‫التصور العاملي الغريب الذي "ال ميلك حقيقة واحدة يـرثَبِّت تصوراته عليها‪ ،‬وال ً‬
‫كتااب ً‬
‫صاحلا لقبول وتعزيز احلياة‪ ،‬وهو بال قدوة إنسانية واحدة ِ‬
‫مرشدة متلك كلماهتا وأعماله‬ ‫ً‬
‫القدرة على توفري منوذج لالقتدء يف احلياة"‪.11‬‬
‫ابلوصول إىل هذه النقطة‪ ،‬طرح "العطاس" سبعة مفاهيم كعناصر أساسية لنظام إسالمي‬
‫تعليمي‪:‬‬
‫‪ .1‬مفهوم الدين كغاية من التعلم‪.‬‬
‫‪ .2‬مفهوم اإلنسان كأساس جملال التعليم‪.‬‬
‫‪ .3‬مفهوم املعرفة (علم ومعرفة) كمحتوى تعليمي‪.‬‬
‫‪ .4‬مفهوم احلكمة كمعيار جملال التعليم‪ ،‬وكمعيار للمحتوى التعليمي‪.‬‬
‫‪ .5‬مفهوم العدل عندما يتعلق األمر بنشر هذه احلكمة‪.‬‬
‫‪ .6‬مفهوم العمل الصاحل عند احلديث عن منهجية كل ما سبق‪.‬‬
‫‪ .7‬مفهوم العاملية (الكلية اجلمعية) فيما يتعلق بتفعيل النموذج وعالقته بكل ما‬
‫سبق‪.12‬‬
‫مل يكن "الفاروقي" وأبو سليمان على الناحية األخرى‪ ،‬بنفس درجة التحديد يف شرح‬
‫طبيعة املعرفة الغربية‪ ،‬والسبب والكيفية اليت تتم الدعوة ألسلمتها‪ ،‬لكنهما قدما "مبادئ‬

‫‪Al-Attas, Islam and Secularism, p.138.10‬‬


‫‪Ibid, p.156.11‬‬
‫‪Ibid, p.160.12‬‬
‫‪259‬‬
‫أولية للمنهجية اإلسالمية يف أطروحاهتما‪ ،‬مشددين على مفاهيم مثل‪ :‬وحدة هللا‪ ،‬ووحدة‬
‫اخللق‪ ،‬ووحدة احلقيقة واملعرفة‪ ،‬ووحدة احلياة‪ ،‬ووحدة اإلنسانية‪ ،‬والطبيعة املتكاملة للوحي‬
‫والعقل؛ مستشهدين ابلقرآن واحلديث‪ ،‬جبانب التحليل السياسي والتارخيي‪ ،‬والفهم‬
‫العملي لتطبيق خطة العمل"‪ ،13‬إال أن اخلطة نفسها مل تتطرق لنسج املبادئ األولية‬
‫اخلاصة ابملنهجية املطروحة‪.‬‬
‫معىن املعرفة احلقيقية‬
‫تعريف "العطاس" للمعرفة احلقيقيّة هو أساس تفسريه للتعليم اإلسالمي املالئم‪ ،‬وتعريفه‬
‫للعديد من املفاهيم األخرى‪ .‬كتب "العطاس"‪" :‬إن املعرفة هي وصول املعىن إىل الروح‪،‬‬
‫بنفس القدر الذي تصل فيه الروح إىل املعىن"‪ ،14‬وكتب كذلك‪" :‬تتلقى الروح "املعىن"‬
‫عندما متيّز املكان الصحيح ألي شيء يف املنظومة؛ وهلذا فيجب على الروح أن متيّز وجود‬
‫منظومة مؤسسة وأن تدرك العالقة بني عناصرها"‪.‬‬
‫و"املكان" هو تعبري يسري على كل من البعدين الزماين واملكاين ‪ -‬كل ما ميكن لإلنسان‬
‫رؤيته أو مساعه‪ -‬وما هو جتريدي وخيايل ومتجاوز‪ .‬وتفهم الروح املعاين اليت تتجلّى‬
‫كعناصر للمعرفة واليت تكون ال هنائية من وجهة نظر اإلدراك البشري‪ ،‬وإن كان هنالك‬
‫ص َورة واحلواس اليت ترسم املعاين املستمدة مما جيري التعامل‬
‫حدود لكل من الكليات املرتَ َ‬
‫معها ابعتبارها عناصر للمعرفة‪.‬‬
‫وهبذا‪ ،‬تكون املعرفة احلقيقيّة هي‪" :‬املعرفة اليت متيّز حدود احلقيقة يف كل جوانبها"‪ ،‬وترتبط‬
‫وضعة‬
‫اتما أبماكنها يف منظومة الصالت‪ ،‬وحبسب هذه امل َ‬ ‫‪15‬رتباطًا ً‬
‫معاين جوانب احلقيقة ا‬
‫َ‬ ‫تتعاظم حدود أمهيتها ‪.‬‬

‫‪Ismail Raji Al-Faruqi, Islamisation of Knowledge: Problems, 13‬‬


‫‪Principles and Prospective. 1992, pp. 38-53.‬‬
‫‪Al-Attas, Prolegomena to the Metaphysics of Islam, p.14.14‬‬
‫‪Al-Attas, Prolegomena to the Metaphysics of Islam, p. 15.15‬‬
‫‪260‬‬
‫كذلك ميكن حتقيق فهم اإلنسان حملدودية احلقيقة يف كل عناصر املعرفة عن طريق كل‬
‫من املنطق السليم‪ ،‬أو من خالل احلكمة ‪ -‬األوىل وقت الوضوح‪ ،‬والثانية وقت اإلهبام‪.‬‬
‫ويرتب "العطاس" بعد ذلك املعرفة طب ًقا للنظرة اإلسالمية العاملية إىل قسمني‪:‬‬
‫‪" .1‬املعرفة"‪ :‬وهي أعلى املعارف‪ ،‬وهي ما أنعم هللا به على اجلنس البشري من‬
‫خالل الوحي بعد خضوع اإلنسان هلل‪ ،‬تساعد هذه املعرفة اإلنسان على فهم‬
‫روحه‪ ،‬وعالقته خبالقه‪.‬‬
‫‪ .2‬العلم‪ :‬وهو ما يتحصل عليه اإلنسان عرب مسعاه يف فهم جتربته ومالحظاته ‪.‬‬
‫‪16‬‬

‫والسعي إىل الـ"معرفة" وحتصيلها من حيث عالقتها ابلروح وإدراك اخلالق هو فرض عني‪،‬‬
‫يف حني أن حتصيل العلم هو فرض كفاية يتصدى له عدد من األفراد يف كل جمتمع‪.‬‬
‫وتكون كل املعارف املرتبطة ابلـ"معرفة" جيدة لإلنسان‪ ،‬بينما املعارف اليت ترتبط ابلعلم ال‬
‫يشرتط أن تكون كلها مفيدة‪ ،‬وتقدمي النوع األول من املعارف على الثاين يعين أن املعرفة‬
‫هي ما متيّز اإلنسان يف اإلسالم عن اإلنسان الغريب‪ .‬ويوضح "العطاس" كذلك أن للمعرفة‬
‫حدودا ومرجعية‪ ،‬بينما يعتمد الـ"علم" على تساؤل مستمر رمبا يقود اإلنسان إىل دائرة ال‬‫ً‬
‫تنتهي من الشك وعدم اليقني‪ .‬وهبذا يرى "العطاس" أن تقدمي السعي اخلاص ابلنوع الثاين‬
‫من املعرفة على حساب األول‪ ،‬هو حجر أساس يف نظام عقل احلضارة الغربية‪ ،‬حيث‬
‫حاول الغرب ختليص اإلنسان من حتكم الدين و"املاورائيات" ملصلحة العقل واللغة‪،17‬‬
‫ونزع القداسة عن قيمه وسياساته‪ ،18‬فيما يوفر الطرح الغريب عن "املوضوعية" (كنقيض‬
‫للذاتية يف حديث الوحي عن النفس) لإلنسان الشعور ابلفوقية‪ ،‬وكذلك يغرس فيه مهمة‬
‫"حتديث" ابقي العامل‪.‬‬

‫‪Ibid, pp 68-6916‬‬
‫‪Ibid, pp 68-6917‬‬
‫‪Ibid., 26.18‬‬

‫‪261‬‬
‫ال يتوافق هذا التصنيف الثنائي مع وجهة النظر اإلسالمية‪ ،‬فاملعرفة ضرورية لتأسيس أمهية‬
‫أمرا أساسيًا‬
‫مجيع العلوم‪ ،‬وهبذا يكون تبين نظرية املعرفة الغربية‪ ،‬والسعي إىل‪19‬العلم يف ذاته ً‬
‫يف االرتباك واالحندار الذي يعاين منه املسلمون يف هذا العصر ‪.‬‬
‫عن مسألة تطبيق العلوم‬
‫ضبط املطلقات املعيارية‬
‫يتفق "سردار" مع "العطاس" و"الفاروقي" يف أن العلم الغريب قد َ‬
‫وعرفها‪ ،20‬واقرتح أن جيري "تفكيك القوة‬ ‫يف اجملتمعات املسلمة احلديثة واستعمرها ّ‬
‫ِ‬
‫التعريفية للمعرفة احلديثة‪ ،‬وأن يرنتَج منوذج فكري رمنتج للمعرفة‪ ،‬أيخذ يف اعتباره اتريخ‬
‫اعتبارا أكثر إنسانية للعلوم‪ ،‬يعتمد على قيمة ما‬
‫اإلسالم‪ ،‬وتقاليده‪ ،‬وتعاليمه‪ ،‬و‪21‬أن يقدم ً‬
‫وتطورها" ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫يرش ّكل عملية التعليم ّ‬
‫وتطابِق نظرة "سردار" خمط َط "العطاس" لنظام التعليم اإلسالمي‪ ،‬الذي ينبغي تكوينه‬
‫‪22‬‬
‫كال من نظامي "العطاس"‬ ‫طب ًقا للمفاهيم اإلسالمية عن املعرفة ‪ ،‬إال أن "سردار" يرى أن ً‬
‫وفكرة "مركز التميّز" اليت نظّر هلا "الفاروقي"‪ ،‬غري قابلني للتحقق طاملا بقي العمل ابلنظام‬
‫الفكري العلماين املتعلق ابلعلوم الغربية‪ ،‬والذي يرى بشكل نقدي أنه قد أرعيد إنتاجهما‬
‫يف أعمال كال املفكرين السابقني؛ إذ يرى "سردار" أن "العطاس" كان مصيبًا يف مسألة‬
‫عدم توافق العلوم اإلسالمية والتصور الغريب عن املعرفة‪ ،‬لكنه ‪ -‬أي "العطاس" ‪ -‬أعاد‬
‫إنتاج تصور الطبيعة الثنائية لإلسالمي والعلماين يف حماولته لعزل األفكار ذات الطبيعة‬
‫االستعمارية يف النظام الغريب‪ .‬وأرجع "سردار" كذلك هذه الطبيعة الثنائية إىل جذور قدمية‬
‫"قسموا املعرفة إىل علوم دينية (القرآن‪،‬‬
‫يف أفكار الكندي‪ ،‬والفارايب‪ ،‬والغزايل‪ ،‬والذين ّ‬
‫والسنة‪ ،‬وما إىل ذلك)‪ ،‬وعلوم عقلية‪ ،‬وثقافية‪ ،‬وفلسفية (اإلنسان‪ ،‬الطبيعة‪ ،‬العلوم‬
‫أيضا أبن هذه القطيعة يف الواقع الراهن تفرض‬ ‫التكنولوجية والتطبيقية)"‪ ،‬لكنه جادل ً‬

‫‪Ibid., p. 1319‬‬
‫‪Sardar, Education Reform, op.cit., pp 7-8.20‬‬
‫‪Ibid,. p.9.21‬‬
‫‪Al-Attas, Islam and Secularism, op.cit., pp 156 – 159.22‬‬

‫‪262‬‬
‫التعامل مع العلوم الدينية كما لو أهنا أدَّن من العلوم األخرى‪ ،‬وهبذا تصبح هذه العلوم‬
‫جافةً‪ ،‬سواء جرى التعامل معها من مسلمني مثل "العطاس"‪ ،‬أو من الباحثني الغربيني‪.23‬‬
‫لكن تصور "سردار" الذي جيادل أبن "العطاس" ترك مساحة لتقدمي العلوم العقلية على‬
‫العلوم الدينية غري صحيح‪ ،‬فقد جادل "العطاس" نفسه بوضوح ضد تصورات غياب‬
‫العالقة بينهما‪ ،‬وبدًال من ذلك فإنه اعترب العلوم الدينية مبثابة مقياس للعلوم األخرى‪ ،‬وأن‬
‫معرفتها واجب شخصي جيب أن يستوعبه كل إنسان‪ ،24‬فتعزيز "العطاس" لفكرة وجود‬
‫فئتني من املعرفة استدعاء للفكر اإلسالمي الرتاثي والذي يرى ضرورة أن يكون اإلنسان‬
‫صاحلًا يف أثناء سعيه إىل املعرفة‪.25‬‬
‫نظرة العطاس لألدب والعدل‬
‫دائما‪ :‬جانب عقالين‪،‬‬
‫تصارعا ً‬
‫ً‬ ‫كتب "العطاس" أن للطبيعة البشرية جانبني متصارعني‬
‫وآخر جسدي ذو طبيعة حيوانية‪ ،‬وتتحدد نتيجة هذا الصراع ابلطريقة اليت يكتسب هبا‬
‫اإلنسان املعرفة ومعانيها‪.26‬‬
‫أما األدب فهو فعل الشيء الصحيح وهو رجممل معاين األخالق‪ ،‬وبناء على تعريف‬
‫"العطاس" للمعرفة واملعىن فإن النتيجة املباشرة لتمييز هذه املعرفة وهذا املعىن‪ ،‬تكون قدرة‬
‫اإلنسان على متييز املوضع الصحيح لألشياء يف نظام العالقات املعتمد على القرآن والسنة‬
‫النبوية‪ ،27‬ويتطلب األدب من اإلنسان أن مييّز بني داللة املعاين املتضمنة وحدودها‪،‬‬

‫‪Ziauddin Sardar, How Do You Know: Reading Ziauddin 23‬‬


‫‪Sardar on Islam, Science and Cultural Relations, London; Pluto‬‬
‫‪Press, 2006, pp 45-47.‬‬
‫‪Al-Attas, Islam and Secularism, op.cit., pp. 156-15924‬‬
‫‪Al-Attas, Prolegomena to the Metaphysics of Islam, op.cit., 25‬‬
‫‪pp 68-69.‬‬
‫‪Ibid., pp.17, 58-59, 92-9326‬‬
‫‪Ibid., pp 5, 78.27‬‬

‫‪263‬‬
‫وكذلك متييز مراتب العالقات‪ ،‬والتعامل بناء على هذا بشكل منطقي‪ ،‬وهتذيب الروح‬
‫لرتفض وسوسات امليول احليوانية‪ .28‬ويدفع األدب اإلنسا َن إذن إىل التشبع ابملعرفة بطريقة‬
‫تعزز من نظام املعرفة اإلسالمي‪ .‬وهبذا يكون التعليم هو غرس األدب‪ ،‬وإعداد خيَار‬
‫الناس ‪ -‬انس األدب ‪ -‬جملتمع َخِّري‪.‬‬
‫والعدل ابلتايل هو تطبيق األدب‪ ،‬حبيث يكون كل شيء يف مكانه الصحيح يف عالقته‬
‫أفعاال إدراكية‪ ،‬وهذه األفعال اإلدراكية هي األدب‬‫مع النفس واجملتمع‪ ،‬ويتطلّب العدل ً‬
‫بعينه‪.‬‬
‫ولكي حنصل على أشخاص عادلني‪ ،‬وجمتمع عادل؛ جيب على اإلنسان أن حيقق وجوده‬
‫وتقديرا لدالالت املعىن وحدوده (املعرفة‬
‫ً‬ ‫فهما‬
‫يف املكان الصحيح (العدل)‪ ،‬والذي يتطلّب ً‬
‫احلقيقيّة)‪ ،‬بناء على موقعها الصحيح ونسبتها ألي شيء يف شبكة العالقات املوجودة يف‬
‫الرؤية العاملية اإلسالمية‪ .‬واالحنراف عن هذا هو عني الظلم‪ ،‬حني يرفض اإلنسان وجوده‬
‫خملخال عالقات املعاين يف هذا النظام‪ ،‬مما يتسبب يف فساد املعرفة‬
‫ً‬ ‫يف املكان الصحيح‪،‬‬
‫احلقيقيّة‪ .‬ويف هذه احلالة‪ ،‬ختضع اجلوانب العقالنية يف روح اإلنسان إىل ميوله احليوانية‪.‬‬
‫فهم املعرفة احلقيقيّة‪ ،‬واألفعال‬
‫واخلالصة‪ :‬جيب على اإلنسان الذي يرغب يف إمتام دينه ر‬
‫الصحيحة‪ ،‬والعدل‪ ،‬وأن ميارسهم ممارسة فعّالة‪.‬‬
‫نظرات يف معىن الدين‬
‫ويرى "العطاس" أنه يتوجب على املسلمني الوعي أبن املعتقدات املتعلقة ابلقداسة والدين‬
‫يف أي نظام اعتقادي‪ ،‬ال تتشابه وال تتوافق أبي معىن مع وجهة النظر اإلسالمية؛ وذلك‬
‫نتيجة لتشابه بعض اخليارات يف املعتقدات عن هللا يف أداين خمتلفة‪ ،‬واالعتقاد بوجود إله‬
‫كوين واحد لإلنسان‪ .29‬يرد "العطاس" على ذلك أبن التشابه ال يعاين تطاب ًقا يف فهم‬
‫الذات اإلهلية بني البشر‪ ،‬وأن االختالفات عميقة بقدر عمق العقالنية التأسيسية وبقدر‬

‫‪Syed Muhammad Naquib Al-Attas, Islamic Philosophy: An 28‬‬


‫‪Introduction. Journal of Islamic Philosophy, 2005, pp. 21-22.‬‬
‫‪Al-Attas, Prolegomena to the Metaphysics of Islam, op.cit., 29‬‬
‫‪p.7.‬‬
‫‪264‬‬
‫عمق املفاهيم (مثل املعرفة‪ ،‬واألفعال الصحيحة‪ ،‬والعدل‪ ،‬واحلرية)‪ .‬وكل دين ميلك رؤيته‬
‫اخلاصة؛ وهلذا فمن املنطقي أن تتناقض وجهات النظر هذه‪.‬‬
‫يوصف اإلسالم أبنه "دين املسلمني" يف اللغة اإلجنليزية‪ ،‬لكن معىن كلمة "الدين" يف‬
‫الغرب خيتلف عن معناها يف اإلسالم‪ ،‬وجيب استيعاب هذا الفرق عن طريق الفهم العميق‬
‫عددا من‬
‫ملعىن مفهوم الدين يف املصادر اإلسالمية ابللغة العربية؛ إذ ميلك لفظ "الدين" ً‬
‫املعاين والعالقات‪ ،‬لكن عند استخدامه للتعبري عن معىن اإلسالم‪ ،‬فإن هنالك أربع‬
‫دالالت أساسية‪ :‬املديونية‪ ،‬اخلضوع‪ ،‬القوة احلكيمة‪ ،‬وامليول الطبيعية‪.30‬‬
‫وبربط هذه الدالالت‪ ،‬يؤكد "العطاس" على أن النظرة اإلسالمية للدين تنص على‪)1( :‬‬
‫ملتزم بعهده مع هللا وجبميع شروط‬
‫كمدين هلل ٌ‬ ‫أن على اإلنسان َدينًا لربه‪ ،‬وأن اإلنسان َ‬
‫ٍ‬
‫كمالك لـلقوة‬ ‫هذا العهد‪ ،‬وهذا يعين التعامل مع هللا ليس فقط كإله ٍّ‬
‫ورب‪ ،‬ولكن كذلك‬
‫احلكيمة املطلقة اليت تتطلب من اإلنسان فعل ما هو مطالب به‪ ،‬وما هو حمدد من هللا‬
‫لإلنسان كطريقة لالعرتاف ابهلل طب ًقا للعهود املنصوص عليها (اليت تتضمن الصالة‪،‬‬
‫وخصوصا أال يشرك مع هللا‬
‫ً‬ ‫والصوم‪ ،‬وإخراج الصدقات‪ ،‬واحلج‪ ،‬واتباع السنة النبوية‪،‬‬
‫ميال طبيعيًا لطاعة القوانني‪ ،‬وتنظيم اجملتمعات العادلة‪.‬‬
‫أخريا أن لإلنسان ً‬
‫معبودا آخر)‪ ،‬و ً‬
‫ً‬
‫وهلذا‪ ،‬يغطي الدين كذلك فكرة بناء عامل ذي صلة قوية بعهد اإلنسان وميثاقه مع ربه‪.‬‬

‫‪ 30‬انقش العطاس ‪ 4‬دالالت لكلمة "دين" عن طريق بيان دالالت هذه الكلمات اليت اشتقت من كلمة‬
‫وديْن‪ ،‬ودينونة‪،‬‬
‫"ديْن"‪ ،‬والكلمات ذات الصلة الوثيقة بكلمة "دين" مثل "دان‪َ ،‬‬ ‫"دين"‪ ،‬ومن جذرها األول َ‬
‫وداين‪ ،‬وَمدين‪ ،‬مدينة‪ ،‬ومدانة‪ ،‬ومت ّدن"‪ ،‬شرح العطاس أن مفهوم كلمة دين‪ ،‬يشري إىل حالة يكون فيها‬ ‫وإدانة‪ّ ،‬‬
‫(الدين)‪،‬‬
‫ـ"داين"‪ ،‬وهذه احلالة تقتضي من املديون أن يويف بدينه ويلتزم مبجموعة من التعاليم َ‬
‫اإلنسان مديناً إىل ال ّ‬
‫وتقدير مدى التزام املديون حنو الدائن يتطلب حكماً عليها (الدينونة)‪ ،‬واحلكم هو (اإلدانة)‪ .‬وتطبيق املفهوم‬
‫(داين)‬
‫اخلاص ابالقرتاض واالستدانة ميكن حتقيقه يف بيئة منظمة‪ ،‬مثل املدينة أو البلدة‪ ،‬حتت حكم حاكم ّ‬
‫ميلك قدرة على إصدار األحكام والقوانني إلحكام سطوة القانون‪ ،‬وكذلك لبناء احلضارة (املدانة)‪ ،‬لتعزيز ثقافة‬
‫اجملتمع‪ ،‬وكذلك تنقية احلضارة (التمدن)‪ .‬انظر العطاس‪Prolegomena to the :‬‬
‫‪Metaphysics of Islam, op.cit., p.42.‬‬

‫‪265‬‬
‫ومستشهدا ابلقرآن‪ ،‬يوضح "العطاس" أنه جيب على اإلنسان االعرتاف أبن أصله من‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫هللا‪ ،31‬وأن كل ما ميلكه هو ابألصل ملك هلل ‪ ،‬وأن اإلنسان مادة أرعريت وأرقرضت‬
‫‪32‬‬

‫للحياة يف الدنيا‪ ،‬وأن هللا سيسرتدها‪ .33‬ومبا أن اإلنسان استعار وجوده من هللا؛ فإنه‬
‫الدين‪ ،‬وهو أن يعيش ‪ -‬هو نفسه ‪ -‬طب ًقا لتعاليم هللا‪.34‬‬ ‫مطالب إبعادة ما اقرتضه‪ ،‬وبرد َ‬
‫مستعارا‪ ،‬فهو ابلتايل مؤقت‬‫ً‬ ‫ومن هنا جيب على اإلنسان أن يدرك أنه طاملا كان وجوده‬
‫يف هذا العامل‪ ،‬وأنه عائد إىل مالكه يوم احلساب (وهو بدوره مفهوم مرتبط ضمنيًا بفكرة‬
‫الدين)‪ ،35‬وأن اإلنسان عب ٌد هلل؛ ألن هللا ميلكه‪ ،‬وأن اإلنسان ملزم أبن يعبد هللا عن طريق‬
‫االلتزام الواعي والطوعي ابلتعاليم والعبادات املوجهة هلل‪ .36‬ويرتتب على ذلك أن أفعال‬
‫اإلنسان اليت يعبد هبا ربَّه‪ ،‬من أجل رد َدين وجوده ذاته‪ ،‬ولتحقيق التزامه كمديون ملدينَه‬
‫‪ -‬هي أفعال طبيعية متليها عليه فطرته‪ ،‬وهي جزء من النمط الذي خلق هللا على أساسه‬
‫كل شيء‪ .‬فالفطرة مثل الدين حتتم إدراك اإلنسان لعهده مع خالقه‪ ،‬وهو دين قائم‬
‫لألبد‪ ،37‬وجيب أن يكون التزام اإلنسان ابلقيام بواجباته حنو ربه التز ًاما طوعيًا وواعيًا‪،‬‬
‫ومستمرا عرب حياة اإلنسان كلها‪ ،‬وليس حلظيًا‪ ،‬وجيب أن يشعر اإلنسان هبذا يف قلبه‪،‬‬ ‫ً‬
‫وأن ينعكس هذا على سلوك عبادته وطاعاته‪ .38‬وابلتايل‪ ،‬لو أراد املتحدثون ابإلجنليزية‬
‫أن يستخدموا كلمة ‪ Religion‬للداللة على اإلسالم‪ ،‬فيجب عليهم أن يقصدوا تعبري‬
‫"الدين"‪ ،‬بكل معانيه ودالالته‪.‬‬

‫‪Al-Attas, Prolegomena to the Metaphysics of Islam, op.cit., 31‬‬


‫‪p. 45.‬‬
‫‪Ibid., 46.32‬‬
‫‪Ibid33‬‬
‫‪Ibid., p. 47.34‬‬
‫‪Ibid., p. 4935‬‬
‫‪Ibid., p 5136‬‬
‫‪Ibid..37‬‬
‫‪Ibid., p. 5238‬‬
‫‪266‬‬
‫تفكيك العلمانية‬
‫يرى "العطاس" بوضوح أن فساد املعرفة هو املعضلة األساسية اليت تواجه املسلمني هذه‬
‫األايم‪ .‬وكان للغزو اخلارجي ‪ -‬الذي تسبب فيه جهلهم ابلنظرة الصحيحة لإلسالم‪ ،‬وتبين‬
‫مدمر يف "األدب" و"العدل" يف العامل‬
‫وجهات نظر خارجية ال تتوافق مع دينهم ‪ -‬أتثري ّ‬
‫اإلسالمي‪ .‬فقد أثّرت عملية علمنة مفاهيمهم يف أصول معتقدات املسلمني‪ ،‬وشوشت‬
‫رؤيتهم للمستقبل بسبب التأثري الواضح لكل ما يتعلق ابلعلوم الغربية‪ ،‬واإلجنازات‬
‫التكنولوجية‪.39‬‬
‫فك ارتباط اإلسالم ابلسياسة‪ ،‬وجتريد الشؤون اخلارجية للمسلمني‬
‫ومن شروط العلمنة ُّ‬
‫من األخالق‪ ،‬وتعزيز انتهاك الغرب ألراضي املسلمني وعقوهلم‪.‬‬
‫عدم دقة ترمجة‬
‫وجيادل "العطاس" أبن قبول املسلمني للعديد من املفاهيم الغربية ساعده ‪ 40‬ر‬
‫سهل عملية العلمنة نفسها ‪.‬‬ ‫بعض الكلمات املرتبطة بكلمة "العلمنة"‪ ،‬مما ّ‬
‫وال يوجد مرادف دقيق يف العملية التارخيية للمسلمني ملعىن كلمة "علماين"‪ ،‬وال لكلمة‬
‫"علمانية" أو "علمنة" يف احلضارة الغربية‪ ،‬وال يوجد كذلك مكافئ لعملية رفض الدين‪،‬‬
‫كأساس للسياسات واألخالق‪.‬‬
‫ويشرح "العطاس" أن املعىن التأسيسي ملفهوم كلمة "‪ "Secular‬أو "علماين" املرتبط‬
‫ابجلذور التارخيية الالتينية‪-‬املسيحية "‪ ،"saeculum‬يطرح طبيعة ثنائية بني املق ّدس‬
‫واملدنّس‪ ،‬وأن تفضيل البرعد السماوي املق ّدس وازدراء البرعد الدنيوي املدنّس أدى إىل ِّ‬
‫احلط‬
‫من قدر العامل والطبيعة‪.‬‬

‫‪Al-Attas, Islam and Secularism op.cit,. pp.135-13939‬‬


‫‪ 40‬تعريفات العطاس‪" :‬علماين" تشري إىل "ليس من أسباب الفن أو احلرفة"‪ ،‬العلمانية‪ :‬االهتمام أبمر الدنيا‪،‬‬
‫"حول إىل غرض علماين أو دنيوي"‬ ‫ِ‬
‫أو االهتمام ابلعلمانية‪ ،‬أن يـر َعلمن ّ‬

‫‪267‬‬
‫أما ابلنسبة إىل املسلمني‪ ،‬فإن هذه الطبيعة الثنائية تسبّب بعض االرتباك؛ فاإلسالم مل‬
‫أبدا‪ .41‬وطرح "العطاس" ثالثة مقرتحات لرتمجة‬‫ط من قدر الطبيعة اإلنسانية الدنيوية ً‬
‫حي ّ‬
‫أدق لكلمات ‪ ،Secular‬و‪ ،Secularity‬و‪:To secularize‬‬

‫‪ -1‬مع أهنما ليسا متساويني يف املعىن ً‬


‫متاما‪ ،‬فإن تعبري الـ"حياة الدنيا" ‪ -‬ال "علماين"‬
‫‪ -‬هو أقرب مكافئ يرى "العطاس" استخدامه عند ترمجة كلمة ‪Secular‬؛‬
‫وذلك ابلنظر إىل الطريقة اليت تطور فيها هذا املصطلح من األصول املسيحية‬
‫الغربية‪ ،‬واليت اعتربت العاملني يف أي جمال غري دنيوي (غري مق ّدس) جهلةً‬
‫وأميني‪ ،‬مث عملية اإلصالح املضادة اليت قام هبا من حاولوا نزع الشرعية عن‬
‫كال من هذين املصدرين للتعامل مع هذا املفهوم يرسم‬ ‫الكنيسة الغربية‪ .‬وألن ً‬
‫فهما أوضح لتعبري‬
‫حياةً دنيوية؛ فإن استخدام كلمة "احلياة الدنيا" يوفّر ً‬
‫‪ .Secular‬ففي الفهم اإلسالمي لتعبري "احلياة الدنيا"‪ ،‬ترشتق كلمة الدنيا من‬
‫جذر"دان"‪.‬‬
‫ويعرف "العطاس" "احلياة الدنيا" أبهنا "آايت هللا اليت قرـّربت من جتربة ووعي اإلنسان"‪،‬‬
‫ّ‬
‫يوضح أن "احلياة حتدث فيها‪ ،‬ال يف العامل‪ ،‬وهبذا فإن العامل والطبيعة ال جيري‬
‫وهو مفهوم ّ‬
‫احلط من قدرمها كما هو مضمن يف مفهوم الـ"علمانية"‪.42‬‬
‫‪ -2‬الـ"هنا‪-‬اآلنية"‪ ،‬وهي كلمة مركبة‪ ،‬مشتقة من لفظيت "هنا" و"اآلن"‪ ،‬واليت‬
‫تتضمن تعبريا عن اللحظة اآلنية واحلالية‪ ،‬وتشتمل على ٍ‬
‫معان مؤكدة يف جوانب‬ ‫ً‬
‫من جوهر املفهوم العلماين‪" :‬هذا الوقت احلايل‪ ،‬يف هذا العامل"‪ .‬ابلنظر يف‬
‫مفهوم الـ"هنا‪-‬اآلنية" مع مصطلح الـ"واقعية"‪ ،‬ميكن أن حنصل على فهم أوضح‬

‫‪Al-Attas, Prolegomena to the Metaphysics of Islam, op.cit., 41‬‬


‫‪p.21.‬‬
‫‪Al-Attas, Prolegomena to the Metaphysics of Islam, op.cit., p 42‬‬
‫‪21.‬‬

‫‪268‬‬
‫ابملقارنة مع تعبري الـ"علمانية" الذي يعترب برانجمًا فلسفيًا ضد التدين مبعىن اعتبار‬
‫اليوم اآلخر‪ ،‬والذي يربز عالقة تضمينية ثنائية للزمان واملكان‪.43‬‬
‫مفهوما عن عامل وحياة خاليني من أي ميل إىل‬
‫ً‬ ‫عرف "العطاس" الـ"هنا‪-‬اآلنية" بوصفها‬ ‫وير ّ‬
‫وجهة نظر دينية‪ ،‬وهو مفهوم يرفض أي فائدة معرفية أتيت من أي عوامل أو أبعاد خارج‬
‫افضا أي قيمة حلقيقة أتيت إىل اإلنسان من املاضي‪ ،‬وهو مفهوم‬ ‫نطاق الواقع اإلنساين‪ ،‬ر ً‬
‫سياق بناء على الزمن احلاضر‪ ،‬مث صناعة مستقبل‬ ‫حيدد احلقيقة والواقع‪ ،‬ويضعهما يف ٍ‬
‫مفتوح الح ًقا ال يرتبط أبي وجهات نظر دومجائية غري الوعي بفكريت النسبية والسياق‪.‬‬
‫وهلذا‪ ،‬فإن استخدام الـ"هنا‪-‬اآلنية" يف العربية اإلسالمية‪ ،‬هو متثيل للمعىن الدقيق املتضمن‬
‫يف مفهوم العلمانية‪.‬‬
‫‪ -3‬املقرتح الثالث الذي قدمه "العطاس"‪ ،‬هو ببساطة كتابة كلمة ‪ Secular‬حبروف‬
‫عربية‪ ،‬فتصبح‪ِ :‬س ي رك َل ر‪ ،‬بكسرة على السني‪ ،‬وضمة على الكاف‪ ،‬وفتحة على‬
‫الالم؛ وذلك لتفادي دالالت مضللة جرى استخدامها ابلكلمة العربية الشائعة‪ ،‬واليت ال‬
‫ختلو فقط من املعاين اليت يقصدها املعىن الغريب ملفهوم كلمة ‪ ،Secular‬ولكنها كذلك‬
‫مسلما عن طريق قبول املعرفة املبنية على‬
‫تشوش أي حماولة للفهم؛ إذ لو كان الفرد املسلم ً‬ ‫ّ‬
‫معان تنتمي إىل نظام الرؤية اإلسالمية‪ ،‬واملبنية وحدها على الوحي‪ ،‬فإن قبول ترمجات‬ ‫ٍ‬
‫"ح ِّول إىل غرض" أو "عاملي"‬ ‫مثل "االهتمام أبمور الدنيا"‪ ،‬أو "االهتمام ابلعاملية"‪ ،‬أو ر‬
‫فصال بني السعي وراء بعض الغاايت‬ ‫أو "دنيوي" ‪ -‬كلها ترمجات غري دقيقة؛ ألهنا تتضمن ً‬
‫الدنيوية‪ ،‬وبني السعي لتحقيق الفوز يف اآلخرة‪.‬‬
‫فمحاوالت "العطاس" لتوضيح وحل مشكالت فهم كلمة ‪ Secular‬هي توضيح‬
‫للـ"أدب"‪ ،‬بوصفه معرفة ما هو خاطئ‪ ،‬وتعريفه‪ ،‬ومن مثَّ استخدام احلكمة لتصحيحه‪.‬‬
‫ويستطيع التعليم اجليّد وحده ‪ -‬املعرفة احلقيقيّة واألدب ‪ -‬أن يغالبا أتثري التغريب املعريف‪،‬‬
‫مكن إعادة أتهيل العقل املسلم‪.‬‬‫لي ِ‬
‫ر‬

‫‪Ibid, p.27.43‬‬
‫‪269‬‬
‫عن املستقبل والواقع‬
‫اعما أبن‪:‬‬
‫يلفت ضياء الدين "سردار" انتباهنا إىل "مستقبل إسالمي"‪ ،‬ز ً‬
‫نتاجا لوقتها‬
‫"مات امللك‪" :‬أسلمة املعرفة"‪ ،‬فكرة جتاوزها الزمن مثل كل األفكار‪ .‬كانت ً‬
‫وسياقها لكنها تركت مريا ًاث ال يقتصر على تبيني املخاوف من احلالة األليمة للفكر والتعليم‬
‫اإلسالمي‪ ،‬لكنه يتجاوزه إىل لفت النظر إىل طبيعة مركزية العلوم االجتماعية‪ ،‬واإلعالن‬
‫قدما اآلن حنو "تكامل املعرفة""‪.44‬‬
‫عن املبادئ األوىل‪ .‬نتحرك ً‬
‫لكن هل ميكن إعالن موت شيء مل يكن حيًّا من األصل؟‬
‫متجذرا ويؤثر يف‬
‫ً‬ ‫حيزا يف الواقع‪ ،‬وما زال نظام التعليم الغريب‬
‫فأسلمة املعرفة مل جتد هلا ً‬
‫املسلمني الذين يتجاهلون دعوات تكسري أغالل النظرة الغربية املهيمنة‪ .‬وقد تشوشت‬
‫وجهة النظر اإلسالمية‪ ،‬واحنرفت عن مبادئ النظرة اإلسالمية األساسية‪ :‬وحدانية احلقيقة‬
‫والواقع كما صاغها "العطاس"‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬ووحده "سردار" من‬
‫وقد شدد كل من "الفاروقي" وأيب سليمان على هذا األمر ً‬
‫يبدو راضيا عما يتعامل معه كنتيجة م ِ‬
‫رضية ملشروع أسلمة املعرفة‪ ،‬لدرجة أنه يدعو اآلن‬ ‫ر‬ ‫ً ّ‬
‫لالنتقال إىل تكامل املعرفة‪.‬‬
‫ويرى "سردار" أنه ما دام املسلمون حيملون يف عقوهلم فكرة "احلالة األليمة للفكر والتعليم‬
‫اإلسالمي"‪ ،‬وظلوا انقدين لـ"طبيعة مركزية العلوم االجتماعية"‪ ،‬وما داموا متمسكني مببادئ‬
‫"الفاروقي" اخلمسة عن أسلمة املعرفة؛ فسيكفل هذا محاية املسلمني يف أثناء حركتهم حنو‬
‫تكامل املعرفة لتحقيق النظام التعليمي اإلسالمي يف املستقبل‪ .‬إال أن كيفية تسكني التغيري‬
‫اضحا‪ ،‬ومبجرد إذابة ما هو مذاب‬ ‫أمرا و ً‬
‫واملستقبل يف وجهة النظر اإلسالمية ليست ً‬
‫ابلفعل يف عقلية املسلمني‪ ،‬فإن هذا "املستقبل اإلسالمي" سيكون ابلضرورة جمرد "مستقبل‬
‫غريب"‪.‬‬

‫‪Sardar, Education Reform: Islamisation of Knowledge to 44‬‬


‫‪Integration of Knowledge, op.cit,. p 29.‬‬
‫‪270‬‬
‫مشروع أسلمة املعرفة مصمموه األحياء‪ ،‬فإن املسلمني مل ينجحوا‬
‫َ‬ ‫ونرى أنه حىت لو هجر‬
‫يف أي من أسلمة املعرفة‪ ،‬وال يف فك ارتباطها ابحلضارة الغربية‪ .‬وهلذا ستستمر أفكار‬
‫اضحا يف أن اهلدف‬‫"العطاس" يف إرشاد من يسري على هذا النهج حنو الطريق؛ لكونه و ً‬
‫وتطورهم ال يتحول مع كل تغيري جمتمعي أو اجتماعي‪،‬‬
‫من تغيري املسلمني وكذلك تق ّدمهم ّ‬
‫نقي من الشوائب للقرآن وللسنة النبوية‪.‬‬
‫دائما‪ :‬أن يعود املسلمون إىل فهم ٍّ‬
‫لكن اهلدف ً‬
‫عن السعادة واليقني واحلرية‬
‫يظهر مفهوم اإلسالم عن السعادة يف هذا العامل واحلياة األخروية جليًّا يف الكلمة العربية‪،‬‬
‫ويبدأ تفسري "العطاس" ملعىن هذه الكلمة من تعريف نقيضها‪" :‬الشقاء"‪ ،‬وهو مصطلح‬
‫قرآين يشمل كل أشكال البؤس واملعاانة‪ ،‬مبا فيها النوائب‪ ،‬واملصائب‪ ،‬والقلق‪ ،‬واليأس‬
‫واملعاانة‪ .45‬وهنالك بعض الكلمات العربية اليت تعكس معاين الشقاء دون تداخلها مع‬
‫معاين السعادة‪ ،‬مثل‪" :‬اخلوف" (اخلوف من اجملهول‪ ،‬والوحدة‪ ،‬واملوت)‪ ،‬وكذلك الـ"حزن"‬
‫(الكآبة‪ ،‬قسوة القلب‪ ،‬الروح اليت تعصى هللا)‪ ،‬والـ"ضنك" (الضيق‪ ،‬األمل‪ ،‬انفعال القلب‬
‫املتشكك)‪ ،‬والـ"حسرة" (الندم‪ ،‬املرارة)‪ ،‬والـ"ضيق" (الكدر‪ ،‬القيد الذي ميسك القلب)‪،‬‬
‫ـ"غم" (املعاانة)‪ ،‬والـ"عسر" (الصعوبة‪ ،‬البالء)‪.46‬‬‫ـ"هم" (القلق‪ ،‬االضطراب)‪ ،‬وال ّ‬
‫وال ّ‬
‫أمرا وثيق‬
‫ومن وجهة إسالمية‪ ،‬فإن فهم اإلنسان وجتربته مع السعادة يف العامل احلايل تعترب ً‬
‫االرتباط غري قابل لالنفصال عن السعادة يف احلياة األخروية‪ ،‬وهو ما ميكن تضمينه يف‬
‫ثالث مراحل‪:47‬‬
‫املرحلة األوىل‪ :‬تتجلى يف العامل احلايل كـ"مشاعر وأحاسيس هي انعكاس ملراحل نفسية‬
‫وزمنية وهنائية تتحقق حني حيصل اإلنسان على رغباته واحتياجاته بوسائل مشروعة‬

‫‪Ibid., p.9845‬‬
‫‪Al-Attas, Prolegomena to the Metaphysics of Islam, op.cit., p 46‬‬
‫‪99.‬‬
‫‪Ibid., p.10847‬‬

‫‪271‬‬
‫وأخالقية"‪ .‬تنقسم الرغبات واالحتياجات إىل رغبات ذاتية (املعرفة‪ ،‬الشخصية اجليدة)‪،‬‬
‫وجسدية (صحة جيدة‪ ،‬األمان)‪ ،‬وخارجية (الثروة‪ ،‬والقوة)‪.48‬‬
‫املرحلة الثانية‪ :‬هي ما خيتربه اإلنسان يف العامل احلايل‪ ،‬وتتصف أبهنا روحية ومستمرة‪،‬‬
‫خصوصا عندما رختترب تصرفات اإلنسان‬
‫ً‬ ‫وعادة ما يشعر اإلنسان هبا بصورة مستمرة‪،‬‬
‫ملعرفة مدى إخالصها وثباهتا عرب كل من األوقات اجليّدة والتوترات العنيفة‪ ،‬وهتذيب‬
‫الرغبات يف وقت تلبية االحتياجات‪ .‬هذه املرحلة ضرورية من أجل بلوغ السعادة القصوى‬
‫يف املرحلة الثالثة‪ ،‬وهي رؤية هللا ً‬
‫عياان يف احلياة األخرى‪.‬‬
‫وابلتايل‪ ،‬فإن السعادة يف اإلسالم هي االرتباط الوثيق مبفهومي املعرفة واألفعال اخلريية‪،‬‬
‫فاملعرفة احلقيقيّة اليت تقود اإلنسان إىل األفعال الصحيحة املؤدية للعدالة هي ما يتسبب‬
‫يف سعادة اإلنسان‪ ،‬سعادة غري متطايرة‪ ،‬وغري مؤقتة‪ ،‬بل موثوق فيها ويف ثباهتا‪ ،‬سواء يف‬
‫هذه احلياة أو يف احلياة األخروية‪.‬‬
‫أخريا ابإلله‪ .‬يورد‬
‫احلقيقيّة اخلاصة ابلنفس‪ ،‬ومبجتمع الفرد‪ ،‬و ً‬ ‫و"اليقني" هو إدراك املعرفة‬
‫‪50‬‬ ‫‪49‬‬
‫القرآن ثالث مراحل من اليقني ‪ :‬علم اليقني‪ ،‬وهو التأكد من االستنتاج واالستقراء ؛‬
‫وعني اليقني‪ ،‬وهو التأكد بواسطة النظر املباشر‪51‬؛ وحق اليقني‪ ،‬وهو التأكد عن طريق‬
‫التجربة املباشرة‪ .52‬ويضيف "العطاس" كذلك أن هذه املراحل الثالث تنسجم مع نظرة‬
‫اإلسالم للمعرفة‪ ،‬سواء كانت خمفية أو معلنة أو مستنتجة‪ ،‬أو بشكل إمربيقي ابلتجربة‪،‬‬
‫سواء كان ما يتلقاها اجلسد أم الروح‪.‬‬

‫‪Ibid., p. 9148‬‬
‫‪Al-Attas, Prolegomena to the Metaphysics of Islam; op.cit., p. 49‬‬
‫‪86‬‬
‫‪The Noble Quran, Al-Takathur 102:550‬‬
‫‪Ibid., 102:751‬‬
‫‪The Noble Quran, Al-Haqqah 69:5152‬‬

‫‪272‬‬
‫وضحها "العطاس" عرب فكرة‬‫كذلك يعترب مفهوم احلرية من املفاهيم وثيقة الصلة‪ ،‬واليت ّ‬
‫حرية اإلنسان يف اختاذ قراراته‪( .‬االختيار) مفهوم مرتبط ابخلري‪ ،‬وهو فعل إدراكي للرتجيح‬
‫بني أمرين طب ًقا ملا متليه األخالق‪ ،‬واليت تبلغ ذروهتا يف عدل اإلنسان انحية نفسه‪ ،‬وهو‬
‫ممارسة مهمة للحرية‪.53‬‬
‫مي ّكن كل من احلرية واألدب اإلنسا َن من اختاذ أفضل خياراته‪ ،‬وهبذا تكون احلرية احلقيقية‬
‫حمررا الروح العاقلة من‬
‫هي أن يتصرف اإلنسان حبرية‪ ،‬لكن بتوجيه من املعرفة احلقيقية‪ً ،‬‬
‫سيطرة النوازع احليوانية‪ .‬فاخليار السيئ ليس فعل حر ٍية‪ ،‬لكنه فعل إنسان خاضع لنفسه‬
‫ٍ‬
‫الدنيئة‪ .54‬التأكد من اخلريية هو حال سعادة‪ ،‬وحترر من اخلوف‪ :‬حالة يطلق عليها اسم‬
‫الطمأنينة‪ .‬وهي وصول السالم واهلدوء إىل القلب‪ .‬وحيث إن وجهة النظر اإلسالمية‬
‫مصممة ابلكامل حول استيفاء واجباته حنو خالقه‪ ،‬فإن خضوعه وذاكرته وإميانه ‪-‬‬
‫ترشدهم املعرفة احلقيقيّة ‪ -‬هي ما تساعد اإلنسان لتحقيق حريته وسعادته‪.‬‬
‫جيب على مسلمي هذا العصر أن يقاوموا كل مغرايت السعادة املشوشة اليت تقدمها هلم‬
‫حرية زائفة‪ ،‬واليت تعد هبا وجهة النظر الغربية‪ ،‬وأن يتذكروا اهلدف احلقيقي من احلياة‪،‬‬
‫واملعىن احلقيقي للسعادة‪.‬‬
‫ختام‬
‫أوضحت هذه الورقة املفاهيم التأسيسية ألفكار السيد حممد نقيب العطاس الذي دعا‬
‫معاصريه والالحقني لعزل واستبعاد االستعمار الغريب للمعرفة‪ ،‬والعودة إىل اإلسالم عن‬
‫طريق وضع وجهة النظر اإلسالمية ابعتبارها أولوية مبنية على القرآن والسنة النبوية‪ .‬وهو‬
‫تفسريا يتيح لإلنسان أن يتغلب على نزعاته احليوانية ابحلكمة‬
‫يفسر الوحي واملعرفة والتعليم ً‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫والعقل‪ ،‬وأن يتصرف بعدل جتاه نفسه واآلخرين‪ ،‬وعندها سيجد احلرية‪ ،‬واليقني‪ ،‬والسعادة‬
‫املطلقة يف احلياة الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫‪Al-Attas, Prolegomena to the Metaphysics of Islam, op.cit., 53‬‬


‫‪pp.33-34‬‬
‫‪Ibid.54‬‬
‫‪273‬‬
‫إن اتساق "العطاس" الفكري القائم على دقة تعاريفه للمفاهيم اليت تصدى هلا‪ ،‬خيلق‬
‫هيكال ميكن من خالله حتليل املزاعم املتنازعة واحلكم عليها؛ وهلذا تبقى أعماله يف مرتبة‬
‫ً‬
‫أعلى من أعمال "الفاروقي" و"أيب سليمان"‪ ،‬اللذين اعتمدا على بعض مفاهيمه وإن‬
‫افتقدا اتساق أفكاره‪.‬‬
‫وال َّ‬
‫بد من االعرتاف ابإلسهامات اهلائلة اليت قدمها هؤالء الباحثون السابق ذكرهم يف ما‬
‫يتعلق ابلنقاش حول كيفية إعادة بناء احلضارة اإلسالمية من خالل نظام معرفة وتعليم‬
‫إسالمي‪ ،‬لكن تظل للعطاس رؤيته الشاملة عن عامل إسالمي يتمتع ابستقالل األرض‪،‬‬
‫وكرامة الذات‪ ،‬وحرية العقل‪.‬‬

‫‪274‬‬
‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫اإلسالم واإلنسان "أفق العاملية يف فكر املسريي وبيجوفيتش"‬
‫رجب عز الدين‬
‫متهيد‬
‫رغم اهتمام الرتاث ابلنظر الفلسفي واملعريف واملقاصدي جند‬
‫أن الفكر اإلسالمي املعاصر شغلته القضااي السياسية‪ ،‬ومل‬
‫جيد إال قلة من األقالم تكتب يف تطوير مقاصد الشريعة‬
‫خبطاب فكري خارج مدارس األصول اإلسالمية‪ ،‬مع ندرة‬
‫يف االلتفات املعاصر ملوضوعات اإلنسان واإلسالم والعامل‪،‬‬
‫مبا يصلح خلطاب يشتبك مع األجندة الفكرية العاملية‪.‬‬
‫ويعد املفكران عبد الوهاب املسريي (مصري) وعلي عزت بيجوفيتش (بوسين) من األعالم‬ ‫ُّ‬
‫النادرة يف جمال الفكر اإلسالمي املعاصر من انحية االهتمام إبعادة تقدمي اإلسالم إىل‬
‫استنادا على مفاهيمه املركزية املهمشة مثل‪ :‬التوحيد‪ ،‬والعاملية‪،‬‬
‫ً‬ ‫أهله وإىل العامل ابلتوازي‪،‬‬
‫واإلنسان‪ ،‬واالستخالف‪ ،‬والتسخري‪ ،‬والعمران‪ .‬كما تكتسب اجتهاداهتم الفكرية أمهية‬
‫نظرا لتبلورها يف سياق نقدي حضاري مقارن بني اإلسالم والغرب‪ ،‬األمر‬ ‫نوعية خمتلفة ً‬
‫ٍ‬
‫الذي منح أعماهلم العلمية قدرات تفسريية عاملية متجاوزة حلدود النظرة اإلقليمية الوطنية‬
‫أو القومية‪ ،‬كما تكتسب أطروحاهتم أمهية قصوى يف إطار اجلدل الدائر بني العرب‬
‫مدخل مهمش ذي‬ ‫ٍ‬ ‫نظرا العتمادها على‬
‫واملسلمني فيما يتعلق ابلنظر للغرب وحضارته؛ ً‬
‫قدرة تفسريية عالية يتمركز ابألساس حول مقولة اإلنسان يف مقابل مداخل أخرى سائدة‬
‫أقل تفسريية تعتمد على مقوالت مثل‪ :‬الطبقة أو الدين أو العرق أو الوطن‪.‬‬
‫وهتدف هذه اإلطاللة البحثية إىل تقدمي قراءة يف رؤى املسريي وبيجوفيتش لثالثية متشابكة‬
‫هي‪( :‬اإلنسان ‪ -‬اإلسالم ‪ -‬العامل)‪ ،‬ومعامل الرؤية اإلسالمية للمسريي وبيجوفيتش‪،‬‬
‫وكيف أتثرت مبقوالت الغرب اإلنسان والعامل أو متايزت‪ ،‬وكيف سعت إىل بناء خطاب‬
‫إنساين إسالمي عاملي وتطويره؟‬
‫أوال‪ :‬اإلسالم والعامل بني املسريي وبيجوفيتش‪:‬‬
‫ً‬
‫نفذ "عبد الوهاب املسريي"‪ 1‬و"علي عزت بيجوفيتش"‪ 2‬إىل قلب اإلسالم ومركزه املتمثل‬
‫يف مفهوم التوحيد‪ ،‬وراح كالمها ينسج رؤيته للعامل انطالقًا من هذا املفهوم املركزي‪،‬‬

‫‪ 1‬ولد الدكتور عبد الوهاب املسريي يف مدينة دمنهور مبحافظة البحرية‪ ،‬يف ‪ 8‬أكتوبر عام ‪ ،1938‬ونشأ يف‬
‫معيدا‬
‫وعني ً‬ ‫أسرة ريفية ثرية‪ ،‬وحصل على ليسانس اآلداب قسم إجنليزي من جامعة اإلسكندرية عام ‪ ،1955‬ر‬
‫فيها بعد خترجه‪ ،‬مث سافر إىل أمريكا فحصل على املاجستري والدكتوراه يف األدب اإلجنليزي واألمريكي املقارن‪.‬‬
‫من أشهر مؤلفاته‪ :‬موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية‪ :‬مدخل تفسريي جديد" اليت استغرق يف أتليفها أكثر‬
‫عمل موسوعي عريب خاص بدراسة الظاهرة الصهيونية واليهودية وحتليلها‪ ،‬ورغم ذيوع‬ ‫أول ٍ‬
‫عاما‪ ،‬وترعد َ‬
‫من ‪ً 25‬‬
‫اسم املسريي كمفكر يف جمال الدراسات الصهيونية‪ ،‬فإن إسهامه العلمي واألكادميي ميتد إىل أكثر من جمال‬
‫وتنظريا‪،‬‬ ‫أيضا ابالشتباك مع عامل السياسة كتابةً‬ ‫معريف‪ ،‬حبيث ميكن تصنيفه ابلعامل املوسوعي‪ .‬مل ِ‬
‫يكتف املسريي ً‬
‫ً‬
‫بل نشط يف املشاركة يف احلركات السياسية والتظاهرات االحتجاجية سواء يف مطلع حياته‪ ،‬حيث نشطت‬
‫األحزاب واجلماعات يف مقاومة االحتالل اإلجنليزي‪ ،‬وانضم املسريي ساعتها لإلخوان املسلمني مث ملنظمة حدتو‬
‫الشيوعية يف مخسينيات القرن املاضي‪ ،‬كما انضم يف منتصف التسعينيات إىل قائمة مؤسسي حزب الوسط‬
‫املصري‪ ،‬وهو حزب قائم على أسس دميقراطية من مرجعية إسالمية‪ ،‬وقام بدور أساسي يف صياغة مشروعه‬
‫تعبريا عن رؤيته يف فكرة احلداثة اإلسالمية‪ ،‬مث انضم إىل حركة التغيري املصرية‬
‫السياسي‪ ،‬ويعد ذلك املشروع ً‬
‫املشهورة حبركة "كفاية" عند أتسيسها عام ‪ ،2005‬مث ترأسها عام ‪ 2007‬حىت وفاته يف الثالث من يوليو عام‬
‫‪.2008‬‬
‫‪ 2‬ولد علي عزت بيجوفيتش عام ‪1925‬م يف مدينة بوساانكرواب مشال غرب البوسنة يف أسرة مسلمة‪ ،‬وتعلّم‬
‫يف مدارس مدينة سراييفو اليت أمضى حياته فيها‪ ،‬وحصل على الشهادة العليا يف القانون عام ‪ ،1950‬مث انل‬
‫شهادة الدكتوراه عام ‪ ،1962‬وشهادة عليا يف االقتصاد عام ‪ ،1964‬ويقرأ ويتحدث ويكتب ابللغات‬
‫األجنبية‪ :‬األملانية‪ ،‬والفرنسية‪ ،‬واإلجنليزية‪ ،‬مع إملام جيد ابلعربية‪ .‬ويف عام ‪1940‬م كان عمر بيجوفيتش ‪16‬‬
‫عاما‪ ،‬وابلرغم من حداثة سنِّه‪ ،‬فقد كان من املشاركني يف أتسيس مجعية "الشبان املسلمني"؛ وهي مجاعة دينية‬
‫ً‬
‫وسياسية أرسست على غرار مجاعة "اإلخوان املسلمني" مبصر‪ .‬وبعد ست سنوات‪ ،‬قامت احلكومة الشيوعية=‬

‫‪276‬‬
‫فاإلسالم لدى هذين املفكرين يتجاوز كونه عالقةً بني اإلنسان وربِّه إىل كونه رؤيةً كلية‬
‫اضحا يف طريقة حتليل‬
‫"منوذجا معرفيًا"‪ .‬ويبدو التشابه و ً‬
‫ً‬ ‫متكاملة لإلنسان والكون واحلياة‪،‬‬
‫كال املفكرين لإلسالم وعرضه‪ ،‬وإن اختلفت طريقة الوصول إليه كما هو احلال عند‬
‫نظرا ملروره بتجربة ذاتية حتول فيها من اإلسالم للماركسية مث عاد من األخرية إىل‬ ‫املسريي ً‬
‫عاما من عمره‪ ،‬بيد أن هناك اختالفًا يف مسارات‬ ‫اإلسالم مرة أخرى مستغرقًا ‪ً 25‬‬
‫طبيقي‪،‬‬
‫النظري على الت ّ‬‫ّ‬ ‫ئي‪ ،‬أو‬
‫الكلي على اجلز ّ‬
‫التحليل بني كال املفكرين ما بني ترجيح ّ‬
‫أقرب جملال الفلسفة‬
‫الديين‪...‬إخل؛ إذ يبدو حتليل املسريي لإلسالم َ‬ ‫ّ‬ ‫الفلسفي على‬
‫ّ‬ ‫أو‬
‫املقارنة من خالل تركيزه على دراسة التوحيد كمنظومة فلسفية مقابلة للفلسفات احللولية‪،‬‬
‫بينما يبدو حتليل بيجوفتيش أكثر تركيبًا؛ فتارة يقرتب بدراسته من جمال األداين املقارنة‬
‫عندما يعقد مقارانت بني اإلسالم واملسيحية واليهودية‪ ،‬واترة إىل الفلسفة عندما يعقد‬
‫مقارانت بني اإلسالم والفلسفات املادية احلديثة‪ ،‬واترة إىل العلم عندما يناقش نظرية‬
‫فضال‬
‫التطور الدارونية يف مقابل نظرية اخللق اإلهلي‪ ،‬واترة إىل جمال األخالق والقانون ً‬
‫عن جماالت الثقافة والفن والتاريخ واحلضارة‪ ،‬واترة أخرى يقرتب بيجوفيتش يف حتليله‬
‫ئي الناظر يف تعاليم اإلسالم وشعائره وأركانه‬ ‫لإلسالم إىل جمال املقاصد الكليّة والفقه اجلز ّ‬
‫بغية حتليلها وكشف ما تنطوي عليه من دالالت فلسفية تتجلى يف مفهومه "الوحدة‬

‫=ابعتقاله سنة ‪ 1946‬هو وصديقه جنيب شاكر بسبب مساعدهتما يف إصدار جريدة "اجملاهد" وسجنا ملدة‬
‫ثالث سنوات‪ .‬وبعد خروجهما من املعتقل‪َ ،‬ش َّن الشيوعيون محلة أخرى ضد "الشبان املسلمني"‪ ،‬ففي عام‬
‫‪1949‬م قدموا أربعة أعضاء من اجلماعة إىل احملاكمة اليت قضت يف النهاية إبعدامهم‪ .‬ويف عام ‪،1983‬‬
‫شااب من زمالئه ‪-‬بينهم شاعرة‬
‫وحكم عليه يف حمكمة سراييفو‪ ،‬مع أحد عشر ً‬ ‫اعترقل عزت بيجوفيتش مرة أخرى ر‬
‫عاما‪ ،‬بتهمة االحنراف حنو األصولية‪ ،‬مث رخفف احلكم لست سنوات ليطلق‬ ‫مسلمة‪ -‬ابلسجن أربعة عشر ً‬
‫سراحه يف عام ‪ .1988‬بعد تص ّدع األنظمة الشيوعية يف أورواب الشرقية‪ ،‬ويف االحتاد السوفييت ‪ ،1990‬اضطر‬
‫احلزب الشيوعي اليوغساليف إىل السماح ابلتعددية السياسية‪ ،‬فانتهز بيجوفيتش الفرصة وأسس حزب العمل‬
‫ئيسا جلمهورية البوسنة واهلرسك‬
‫الدميقراطي يف عام ‪ ،1989‬وشارك يف االنتخاابت الرائسية‪ ،‬وفاز فيها‪ ،‬وصار ر ً‬
‫يف نوفمرب ‪ ،1990‬مث أجرى استفتاءً شعبيًا على االستقالل عن االحتاد اليوغساليف‪ ،‬كما استقلت كرواتيا‬
‫وصوت الشعب البوسين على االستقالل أبكثرية ‪ %63‬فلم تعرتف به صربيا وكرواتيا وشنتا حرب‬ ‫وسلوفينيا‪ّ ،‬‬
‫وصوال التفاق "دايتون‬
‫إابدة على الشعب البوسين حتت رعاية غربية صامتة‪ ،‬واستمرت أكثر من ثالث سنوات‪ً ،‬‬
‫للسالم" يف عام ‪.1995‬‬
‫‪277‬‬
‫اإلسالمية ثنائية القطب"‪ .‬نستعرض يف هذا احملور معامل حتليل املسريي ملفهوم التوحيد من‬
‫انحية‪ ،‬ومعامل تناول بيجوفيتش ملفهوم الثنائية اإلسالمية وجتلياهتا يف حتليله لشعائر اإلسالم‬
‫وأركانه اخلمسة‪ ،‬من انحية أخرى‪.‬‬
‫مفهوم التوحيد عند املسريي‪ :‬من علم الكالم إىل رؤية العامل‬ ‫‪-1‬‬
‫ال ميكن تصور اإلسالم من دون التوحيد‪ ،‬فالتوحيد هو املفهوم املركزي الذي مييز اإلسالم‬
‫ونظرا ملركزية التوحيد يف الرؤية‬
‫عن غريه من العقائد واألداين والفلسفات األخرى‪ً ،‬‬
‫اإلسالمية فقد جعل اإلقرار به يف مقدمة أركان اإلسالم األساسية قبل أي شيء آخر‪،‬‬
‫وهو ما يتجلى يف لفظ الشهادة (أشهد أال إله إال هللا)‪ ،‬واليت متثل بوابة الدخول إىل‬
‫اإلسالم ابتداءً‪ ،،‬ورغم التسليم هبذه املركزية اليت اكتسبها مفهوم التوحيد‪ ،‬فإن تناوله يف‬
‫الدوائر العلمية اإلسالمية املعاصرة ال يزال يتسم ابلطابع السجايل جرًاي على عادة‬
‫املتكلمني القدامى وغريهم‪ ،‬عندما تعرضوا للتوحيد من الزاوية العقدية لصد الشبهات اليت‬
‫خاصا ابلتوحيد أطلقوا‬
‫علما ً‬ ‫انتشرت مع دخول غري العرب لإلسالم‪ ،‬وأسسوا يف ذلك ً‬
‫عليه "علم الكالم"‪ ،‬ومت حتديد موضوعاته ووظيفته من املدخل السجايل نفسه‪" :‬علم‬
‫يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية إبيراد احلجج ودفع الشبه‪ ،‬ومعىن إثبات العقائد‬
‫حتصيلها واكتساهبا‪ ،‬حبيث حيصل الرتقي من التقليد إىل التحقيق‪ ،‬أو إثباهتا على اآلخر‪،‬‬
‫حبيث يتمكن من إلزام املعاندين‪ ،‬أو إتقاهنا وإحكامها‪ ،‬حبيث ال تزلزهلا شبه املبطلني"‪.3‬‬
‫وعلى هذا جرى تناول التوحيد واختزاله يف مساحات الرد على املخالفني‪ ،‬وبيان بطالن‬
‫عقائد اآلخرين‪ ،‬وهو ما يقرتب اآلن مما يسمى "علم مقارنة العقائد واألداين"‪ ،‬وعلى هذا‬
‫حتددت وظائف علم الكالم يف وظيفتني رئيستني؛ األوىل‪ :‬إقناعية بنائية‪ ،‬والثانية‪ :‬دفاعية‬
‫ضا‬‫مفيدا أي ً‬
‫مالئما لعصر املتكلمني األوائل‪ ،‬ورمبا يكون ً‬‫تفكيكية‪ ،‬ورمبا كان هذا املسلك ً‬
‫يف عصران احلايل فيما يتعلق مبقارنة األداين وغريها من املذاهب والفلسفات الوجودية‪،‬‬

‫‪ 3‬سعد الدين التفتازاين‪ ،‬شرح املقاصد‪( ،‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ط‪ ،)2001 ،1‬ص ‪.29‬‬

‫‪278‬‬
‫لكن ما يغيب عن املدارس اإلسالمية هو النظر للتوحيد كمبحث يف رؤية العامل وليس‬
‫فقط كمبحث يف العقيدة واإلميان‪.4‬‬
‫جتاوز املسريي وغريه من الفالسفة التوحيديني أمثال‪ :‬إمساعيل راجي الفاروقي‪ ،‬املعىن‬
‫املتوارث عن املتكلمني‪ ،‬وراحوا يبحثون يف التجليات احلضارية للرؤية التوحيدية‪ ،‬وكيف‬
‫يتجلى التوحيد بوصفه قيمةً يف الوجود‪ ،‬واملعرفة‪ ،‬والقيم‪ ،‬وتفاصيل كل موضوع بتفريعات‬
‫نظرية ومفاهيمية خاصة‪ ،‬جعلته يشكل يف األخري فلسفةً مستقلة ذات رؤية متميزة للعامل‪.‬‬
‫مثة عدد كبري من الناس يؤمنون ابلتوحيد كنظرية فلسفية ‪ -‬دينية تعين فقط أن هللا واح ٌد‪،‬‬
‫وليس أكثر من واحد‪ .‬أما ابلنسبة إىل املسريي‪ ،‬فالتوحيد ‪-‬عالوة على ذلك‪ -‬يشكل‬
‫أيضا‬
‫كفرا ابهلل‪ -‬إال أنه يشكل ً‬ ‫رؤيةً متكاملة للعامل‪ ،‬كما أن الشرك ‪-‬عالوة على كونه ً‬
‫رؤيةً للعامل‪.‬‬
‫دخل املسريي إىل مفهوم التوحيد من مدخل الفيلسوف اجملرد الباحث عن مركز العامل‪،‬‬
‫فأخذ يتساءل كيف نرى العامل؟ هل هناك نقطة مرجعية تتجاوز هذا العامل؟ أين هذه‬
‫النقطة املرجعية؟ أين مركز الكون؟ هل يكمن هذا املركز فيه أم يتجاوزه؟ هل مرجعية العامل‬
‫كامنة أم متجاوزة؟‪ ،5‬وأيهما مينح العامل املعىن‪ :‬التجاوز أم الكمون؟ وأيهما حيقق لإلنسان‬
‫حريته‪ :‬املرجعية املتجاوزة أم الكامنة؟‬
‫ساقت هذه األسئلة (وغريها) املسريي إىل البحث املقارن يف مذاهب احللول ووحدة‬
‫الوجود والتوحيد من مدخل رؤيتها ملركز الكون (متجاوز أو كامن)‪ ،‬وانتهى إىل أن مثة‬
‫اضحا بني التوحيد واحللولية‪ ،‬فالتوحيد يتأسس على فلسفة التجاوز من خالل‬ ‫ـادا و ً‬
‫تض ً‬
‫اإلميان إبله و ٍ‬
‫احد متجاوز‪ ،‬قائ ٍم بذاته‪ ،‬رم َّنزهٍ عن الطبيعة والتاريخ واإلنسان‪ ،‬ابئ ٍن عن‬
‫خلقه‪ ،‬مغاي ٍر للحوادث‪ ،‬فهو مركز الكون املفارق له الذي مينحه التماسك‪ .‬فالتوحيد يف‬
‫وحيزا طبيعيًا‪ ،‬األمر الذي‬
‫حيزا إنسانيًا ً‬
‫النهاية هو الذي مينح الكون التماسك‪ ،‬وخيلق ً‬

‫احلاج بن أمحنة دواق‪" ،‬التوحيد‪ :‬رؤية للكون وإبستيمولوجيا بناء الوعي املتجاوز عند إمساعيل راجي‬ ‫‪4‬‬

‫الفاروقي"‪( ،‬بريوت‪ :‬جملة إسالمية املعرفية‪ ،‬العدد ‪https://is.gd/8I2wcW .)74‬‬


‫راجع‪ :‬عبد الوهاب املسريي‪ ،‬موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية‪ ،‬اجمللد النظري األول‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار‬ ‫‪5‬‬

‫الشروق‪ ،1999 ،‬ص ‪.58-55‬‬

‫‪279‬‬
‫ـتقالل عن سـائر املوجـودات واملقـدرة على االختيار وعلى جتاوز عامله‬
‫مينح اإلنسان االس َ‬
‫املادي وذاته الطبيعية املادية‪ ،‬ومن مثَّ فالتوحيد هو أساس استقالل اإلنسان وحريته‪ ،‬وهو‬
‫أرقى املنظومات الفلسفية حتقي ًقا إلنسانية اإلنسان‪ ،‬بل هو الضامن احلقيقي إلنسانية‬
‫اإلنسان‪ .6‬أما احللولية أو وحدة الوجود‪ ،7‬فهي اإلميان إبله ٍ‬
‫حال كام ٍن يف الطبيعة‬
‫كامن فيه‪ ،‬وهو حبلوله هذا يلغي أي حيز‪ ،‬إنسانيًا‬
‫واإلنسان والتار‪8‬يخ‪ ،‬أي إن مركز الكون ٌ‬
‫كان أم طبيعيًا ‪.‬‬
‫مفهوم الثنائية كمدخل لتحليل اإلسالم عند بيجوفيتش‪:‬‬ ‫‪-2‬‬
‫يتميز اإلسالم ‪-‬وف ًقا لبيجوفتيش‪ -‬بقدرته على اجلمع بني أطراف الثنائيات احل ّدية اليت‬
‫تشكل الرؤى األساسية للعامل‪ ،‬وابألخص ثنائية املادي والروحي‪ ،‬فهناك ثالث وجهات‬
‫نظر عن العامل وهي‪ :‬الرؤية املادية‪ :‬وترى العامل ابعتباره مادة حمضة‪ ،‬وهي فلسفة تنكر‬
‫خالصا‬
‫ً‬ ‫التطلعات الروحية لإلنسان‪ .‬واالشرتاكية مثال جيد على هذه الفلسفة‪ ،‬فهي تقدم‬
‫خارجيًا فقط من خالل االستهالك وحتسني مستوى الدخل أو تغيري البيئة االجتماعية‪...‬‬
‫إخل‪ .‬والرؤية الثانية هي‪ :‬الرؤية الدينية اجملردة أو الروحية اخلالصة‪ ،‬وهي رؤية للدين ابعتباره‬
‫جتربةً روحية فردية خاصة ال تذهب أبعد من العالقة الشخصية ابهلل‪ ،‬وهذه الرؤية تنكر‬
‫خالصا‬
‫ً‬ ‫االحتياجات املادية لإلنسان‪ .‬واملسيحية مثال جيد على هذه الرؤية‪ ،‬فهي تقدم‬
‫داخليًّا فحسب‪.‬‬
‫أما الرؤية الثالثة‪ :‬فتعرتف ابلثنائية اإلنسانية‪ ،‬وحتاول جتاوزها عن طريق توحيد الروح واملادة‪،‬‬
‫وهي الرؤية اإلسالمية‪ ،‬فاحلياة ‪-‬كما يقول بيجوڤيتش‪ -‬مزدوجة‪ ،‬وقد أصبح من املستحيل‬

‫‪ 6‬عبد الوهاب املسريي‪ ،‬اللغة واجملاز‪ :‬بني التوحيد ووحدة الوجود‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،‬الطبعة العاشرة‪،‬‬
‫‪ ،)2010‬ص ‪.134-132‬‬
‫‪ 7‬وحدة الوجود أو احللولية تعين أنه ليس هلذا العامل ٌّ‬
‫رب مباين له منفصل عنه‪ ،‬وأن هللا ‪-‬تعاىل‪ -‬ليس الواحد‬
‫إحلاداي حبتًا‪.‬‬
‫موان ًّ‬‫غريب َحي ِمل مض ً‬
‫مذهب ٌّ‬
‫ٌ‬ ‫الذي خيلق الوجود من خارج‪ ،‬وإمنا هو الوجود نفسه‪ ،‬وهو‬
‫‪ 8‬عبد الوهاب املسريي‪ ،‬موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية‪ ،‬اجمللد األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.62-60‬‬

‫‪280‬‬
‫نباات أو حيو ًاان‪،9‬‬
‫عمليًا أن حييا اإلنسان حيا ًة واحدة منذ اللحظة اليت توقف فيها أن يكون ً‬
‫واإلسالم خياطب كل ما يف اإلنسان ويتقبله وال يتعسف بتنمية خصال ال جذور هلا يف‬
‫طبيعة اإلنسان‪" ،‬إنه ال حياول أن جيعل منَّا مالئكة؛ ألن هذا مستحيل‪ ،‬بل مييل إىل‬
‫إنساان"‪ .10‬ففي اإلسالم قدر من الزهد‪ ،‬ولكنه مل حياول به أن يدمر احلياة‬‫جعل اإلنسان ً‬
‫أو الصحة أو األفكار أو حب االجتماع ابآلخرين‪ ،‬أو الرغبة يف السعادة واملتعة‪ .‬هذا‬
‫القدر من الزهد أريد به حتقيق التوازن يف غرائزان‪ ،‬أو توفري نوع من التوازن بني اجلسد‬
‫والروح‪ .‬إن القرآن يتناول الغرائز متف ِه ًما ال مت ِه ًما‪ ،‬وحلكمة ما سجدت املالئكة لإلنسان‪.‬‬
‫ويرى بيجوفيتش أن هذه الثنائية هي سبب سوء فهم العقل الغريب هلذا الدين‪ ،‬وهو سوء‬
‫مستمرا إىل هذا اليوم؛ فمن جانب الدين (الروحي اجملرد)‪ُّ ،‬اهتم اإلسالم أبنه‬
‫ً‬ ‫فهم ال يزال‬
‫أكثر لرصوقًا ابلطبيعة والواقع مما جيب‪ ،‬وأنه متكيف مع احلياة الدنيا‪ .‬و ُّاهتم من جانب‬
‫العلم أنه ينطوي على عناصر دينية وغيبية‪ .‬ويف احلقيقة هناك إسالم واحد وحسب‪ ،‬ولكن‬
‫شأنه شأن اإلنسان له روح وجسم‪ .‬فزعم التعارض فيه يتوقف على اختالف وجهة النظر‪،‬‬
‫"مييين"‪ ،‬بينما يراه املسيحيون‬
‫وغيب‪ ،‬أي‪ :‬اجتاه ٌّ‬ ‫دين ٌ‬ ‫فاملاديون ال يرون يف اإلسالم إال أنه ٌ‬
‫‪11‬‬
‫اجتاها "يسارًّاي" ‪.‬‬
‫حركةً اجتماعية سياسية فقط‪ ،‬أي‪ً :‬‬
‫استطاع بيجوفيتش أن يعقد مقارانت حتليلية عميقة لبيان معىن هذه الثنائية وجتلياهتا‬
‫الكامنة‪ ،‬سواء يف مقارنة اإلسالم ابملسيحية واليهودية أو يف حتليله ألركان اإلسالم‬
‫اخلمسة‪ ،‬فعلى املستوى األول عقد بيجوفيتش مقارنة بني قاموس املفردات املستخدمة يف‬
‫األانجيل وتلك اليت وردت يف القران‪ ،‬وخلص إىل أن مصطلحات األانجيل أكثر لصوقًا‬
‫وحتديدا وقرًاب من العامل يف صياغة القرآن‪ ،‬ومن مثَّ‬
‫ً‬ ‫بعامل الروح‪ ،‬بينما هي أكثر واقعية‬
‫‪12‬‬
‫فالقرآن مركب فريد استطاع أن جيمع بني واقعية "العهد القدمي" ومثالية "العهد اجلديد" ‪.‬‬

‫‪ 9‬علي عزت بيجوفيتش‪ ،‬اإلسالم بني الشرق الغرب‪ ،‬ترمجة يوسف عدس‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية‪ ،2013 ،‬ص ‪.50‬‬
‫‪ 10‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.297‬‬
‫‪ 11‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.56‬‬
‫‪ 12‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.62‬‬

‫‪281‬‬
‫كما أخذ يعقد مقارانت من املدخل نفسه بني املسجد والكنيسة‪ ،‬ليصل إىل النتائج‬
‫‪14 13‬‬
‫أيضا يف املقارنة اليت يعقدها علي عزت بيجوڤيتش بني‬
‫نفسها ‪ . -‬ويتضح االختالف ً‬
‫مبدأ العصمة البابوية من جهة‪ ،‬ومبدأ اإلمجاع اإلسالمي من جهة أخرى‪ ،15‬إضافة إىل‬
‫بكل من القراءة والكتابة ابعتبارمها أقوى ٍ‬
‫حمرك‬ ‫مقارانت أخرى تتعلق ابهتمام اإلسالم ٍ‬
‫تقليدا شفهيًا لفرتة طويلة من‬
‫للمجتمعات اإلنسانية على عكس األانجيل اليت بقيت ً‬
‫الزمن‪ .16‬انطالقًا من هذا التحليل املقارن لإلسالم واملسيحية‪ ،‬نظر بيجوفيتش إىل‬
‫الفلسفات الصوفية واملذاهب الباطنية املنكفئة على األمور الروحية البحتة نظرًة سلبية‬
‫حادة ابعتبارها تشكل منطًا من أكثر األمناط احنرافًا‪ ،‬بل اعتربها حماولة لـ"نصرنة‬
‫اإلسالم"‪.17‬‬
‫جتليات الثنائية يف األركان اخلمسة لإلسالم‪:‬‬ ‫أ‪-‬‬
‫كاان‪،‬‬
‫تزخر كتب الفقه اإلسالمي مبسائل تفصيلية حول الشعائر اإلسالمية شروطًا وأر ً‬
‫وبطالان‪ ،‬أداءً وقضاءً‪ ،‬إىل غري ذلك من األمور واملسائل التفصيلية اليت درج الفقهاء‬
‫ً‬ ‫صحة‬
‫على سلوكها وترتيبها‪ .‬يتجاوز بيجوفيتش هذه الطريقة املعهودة يف عرض أوليات اإلسالم‬
‫إىل ما هو أعمق‪ ،‬حيث الغوص يف البحث عن مقاصد العبادات والشعائر وطبيعتها‬
‫مدخال‬
‫التكوينية وأبعادها الزمانية واملكانية وفلسفتها االجتماعية والسياسية‪ ،‬ليقدم بذلك ً‬
‫اندرا يف االقرتاب من الشعائر والعبادات‪.‬‬
‫ً‬
‫أساس الرؤية‬
‫َ‬ ‫انطالقًا من ثنائية املادي والروحي اليت أسس هلا بيجوفيتش ابعتبارها‬
‫اإلسالمية لإلنسان والعامل‪ ،‬ذهب بيجوفتيش يف حماولة استقرائية واسعة ألجبدايت اإلسالم‬
‫لينتهي إىل كموهنا وتغلغلها يف كل جوانب اإلسالم مبا يف ذلك أركانه اخلمسة املتمثلة يف‬

‫‪ 13‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.271‬‬


‫‪ 14‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.297-295‬‬
‫‪ 15‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.289‬‬
‫‪ 16‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.273‬‬
‫‪ 17‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.275-274‬‬
‫‪282‬‬
‫الشهادتني والصالة والزكاة والصوم واحلج‪ ،‬بل ذهبت رؤيته إىل استحالة تطبيق اإلسالم‬
‫انطالقًا من مستوى بدائي أو واحدي‪ ،‬فثنائية املادي والروحي تقع يف صميمه‪.‬‬
‫صحيحا إال‬
‫ً‬ ‫فالصالة ‪ -‬على سبيل املثال ‪ -‬وهي نشاط روحي‪ ،‬ال ميكن أداؤها أداءً‬
‫من خالل إجراءات علمية بضبط الوقت واالجتاه يف املكان‪ ،‬فاملسلمون مع انتشارهم‬
‫مجيعا يف الصالة حنو الكعبة مكيفني‬ ‫على سطح الكرة األرضية عليهم أن يتوجهوا ً‬
‫أوضاعهم يف املكان على اختالف مواقعهم‪ .‬وحتديد مواقيت الصالة حتكمه حقائق علم‬
‫حتديدا دقي ًقا خالل أايم السنة‬
‫بد من حتديد هذه املواقيت للصلوات اخلمس ً‬ ‫الفلك‪ ،‬وال َّ‬
‫كلها‪ ،‬ويقتضي هذا حتديد موقع األرض يف مدارها الفلكي حول الشمس‪ .‬وال خيتلف‬
‫ودليل وحساب‪ ،‬وكذلك احلج الذي‬ ‫كثريا ابلنسبة إىل الزكاة اليت حتتاج إىل إحصاء ٍ‬
‫األمر ً‬
‫يتطلب اإلملام بكثري من احلقائق اليت يتطلبها املسافر إىل مسافات بعيدة‪ .‬ولعله بسبب‬
‫هذه الثنائية تطورت مجيع امليادين العلمية يف القرن األول اإلسالمي؛ إذ إهنا بدأت‬
‫مبحاوالت إقامة الفرائض اإلسالمية‪.18‬‬
‫فعل إسالمي‪ ،‬وهو عملية النطق ابلشهادتني الذي يعلن به‬ ‫كما تتبدى الثنائية يف أهم ٍ‬
‫بد أن يؤدى أمام الشهود؛ ألن الشخص الذي‬ ‫الشخص اعتناقه لإلسالم‪ .‬فالنطق ال َّ‬
‫رجال كان أو امرأة‪ -‬ينضم إىل مجاعة هلا جوانبها االجتماعية واالقتصادية‪،‬‬
‫يعتنق اإلسالم ‪ً -‬‬
‫وهو األمر الذي ترتتب عليه التزامات قانونية‪ ،‬وليس فقط التزامات أخالقية‪ .‬فاإلنسان‬
‫الذي يلحق بدي ٍن روحي جمرد ال يستلزم وجود شهود وال يتطلب اإلعالن‪ ،‬حيث إن هذه‬
‫متاما هبذا اخلصوص‪.‬‬ ‫عالقة بني اإلنسان وربِه‪ ،‬فمجرد عقد النية أو اختاذ قرار ابطين ٍ‬
‫كاف‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫جمردا؛ ولذا يصبح الشهود اإلعالن أمرين الزمني‪.19‬‬‫ولكن اإلسالم ليس ً ً‬
‫ا‬‫دين‬
‫الروحي‪،‬‬
‫املادي و ّ‬
‫األمر نفسه ينطبق على فريضة الزكاة اليت حتوي العنصرين الرباينّ واجلواينّ‪ّ ،‬‬
‫كثريا عن الضرائب اليت تفرضها الدولة العلمانية احلديثة؛ إذ إن الفقر ليس قضيةً‬
‫وختتلف ً‬
‫أيضا يف الشر الذي تنطوي عليه النفوس‬ ‫اجتماعية حبتة يرجع سببه إىل العوز فقط‪ ،‬وإمنا ً‬
‫البشرية‪ .‬فاحلرمان هو اجلانب اخلارجي للفقر‪ ،‬أما جانبه الباطين فهو اإلمث أو اجلشع‪ ،‬وإال‬
‫فكيف نفسر وجود الفقر يف اجملتمعات الثرية‪ .‬ومن مثَّ ال ميكن معاجلة الفقر ابالكتفاء‬

‫‪ 18‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.295-294‬‬


‫‪ 19‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.286-285‬‬
‫‪283‬‬
‫أيضا من خالل التضامن الشخصي‪ ،‬والقصد‪ ،‬والشعور‬ ‫بنقل ملكية بعض السلع‪ ،‬وإمنا ً‬
‫الودي‪ .‬فال شيء ميكن إجنازه على الوجه الصحيح مبجرد تغيري ملكية سلع العامل طاملا‬ ‫ّ‬
‫بقيت يف النفوس الكراهية واالستغالل واالستعباد‪ .‬وهذا هو السبب الذي يرجحه‬
‫مجيعا‪ ،‬فكل ٍّ‬
‫حل‬ ‫بيجوفيتش لتفسري إخفاق الثورات الدينية املسيحية‪ ،‬والثورات االشرتاكية ً‬
‫حال إنسانيًّا كان مصريه اإلخفاق يف حتقيق أحالمه يف العدالة‬ ‫اجتماعي مل يتضمن ًّ‬
‫واحلرية‪.20‬‬
‫مظهرا‬
‫الثنائية نفسها جندها يف حتليل بيجوفيتش للصوم خالل شهر رمضان والذي يعد ً‬
‫لروح اجلماعة بني املسلمني‪ .‬إذ الصيام ليس جمرد مسألة ٍ‬
‫إميان شخصية ختص الفرد وحده‪،‬‬
‫وإمنا هو التزام اجتماعي‪ ،‬وهذا التفسري للصيام كشعرية دينية غري مفهوم عند األداين‬
‫األخرى‪ ،‬كما إنه شعرية جتمع بني التنسك والسعادة ويشكل أكثر الوسائل التعليمية‬
‫طبيعية وقوة‪ ،‬فالصوم رميارس يف قصور امللوك ويف أكواخ الفالحني على السواء‪ ،‬يف بيت‬
‫الفيلسوف ويف بيت العامل‪.21‬‬
‫أما احلج فهو الركن اخلامس من أركان اإلسالم وينطوي على الثنائية املركبة نفسها‪ ،‬فهو‬
‫جتمع سياسي‪ ،‬ومعرض جتاري‪ ،‬ومؤمتر عام لألمة‪،‬‬ ‫أيضا ُّ‬
‫شعرية دينية وجتربة روحية‪ ،‬ولكنه ً‬
‫كما تظهر تلك الثنائية اإلسالمية يف النظر ملفهوم األمة‪ .‬فاإلسالم ليس جمرد أمة ابملعىن‬
‫الروحي اخلالص للكلمة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫العرقي‪ ،‬وليس حىت مجاعة دينية ابملعىن‬
‫اإلثين أو ّ‬‫لوجي أو ّ‬‫البيو ّ‬
‫وإمنا هو دعوة ألمة أتمر ابملعروف وتنهى عن املنكر‪ ،‬أي تؤدي رسالة أخالقية‪.‬‬
‫املكون السياسي لإلسالم وقصره‬
‫انطالقًا من ذلك يؤكد بيجوڤيتش أنه ال ميكن إغفال ّ‬
‫يسا صامتًا للتبعية والعبودية‪ .‬وال ميكن‬
‫على النزعة التصوفية الدينية؛ ألن يف هذا تكر ً‬
‫فضا صامتًا للقيام‬
‫املكون الديين الروحي يف اإلسالم؛ ألن يف هذا كذلك ر ً‬
‫كذلك إغفال ّ‬
‫ابألعباء األخالقية‪ .‬إن اإلسالم احلقيقي ليس جمرد دين روحي أو طريقة حياة فقط‪ ،‬بل‬
‫جاهزا‪ ،‬إنه املركب الذي يؤلف بني املبادئ‬
‫حال ً‬ ‫هو منهج ومبدأ لتنظيم الكون أكثر منه ًّ‬
‫املتعارضة‪ .‬إن اإلسالم ليس دينًا ودولة كما يقول البعض (الذين وقعوا يف فخ التعريفات‬

‫‪ 20‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.284-280‬‬


‫‪ 21‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.286‬‬

‫‪284‬‬
‫العلمانية الغربية‪ ،‬واليت تعطي مركزية هائلة للدولة)‪ ،‬بل هو دين ودنيا يتوجه للجانبني‬
‫الروحي واملادي يف اإلنسان‪.22‬‬
‫اثنيًا‪ :‬اإلسالم واإلنسان بني املسريي وبيجوفيتش‪:‬‬
‫ميتد التشابه بني عناصر الرؤية الكلية للمسريي وبيجوفيتش إىل مقولة اإلنسان اليت تشكل‬
‫املقولة املركزية الثانية يف فهم املنظومات الفكرية لكال املفكرين بعد مفهومي التوحيد‬
‫والثنائية‪ ،‬ويتفق املفكران يف تناوهلما ملسألة اإلنسان على عدة أمور أبرزها ثنائية تركيب‬
‫اإلنسان وتكوينه اجلامع بني املادي والروحي يف مقابل الرؤى الغربية املتأرجحة بني كونه‬
‫خالصا أو ما ميكن تسميته بـ "اإلنسان املركب" يف مقابل‬
‫خالصا أو روحيًا ً‬ ‫ماداي ً‬‫إنساان ً‬
‫ً‬
‫كتااب حتت‬
‫"اإلنسان ذو البعد الواحد" وف ًقا هلربرت ماريكوز املفكر اليساري الذي ألف ً‬
‫هذا العنوان ينتقد فيه النظرة املاركسية التقليدية لإلنسان ابعتبارها جمموعةً من احلاجات‬
‫املادية البيولوجية فحسب‪.23‬‬
‫إضافة إىل ذلك‪ ،‬اتفق املسريي وبيجوفيتش على مسألة النسب اإلنساين لإلله‪ ،‬فاإلنسان‬
‫مكرم سيِّد يف الكون مستخلَف يف األرض ألجله سخرت الكائنات ووظيفته‬ ‫إهلي َّ‬
‫خملوق ٌّ‬
‫اصا مبسألة اخللق عرب الدخول يف‬ ‫اهتماما خ ً‬
‫ً‬ ‫عمارة األرض‪ ،‬بيد أن بيجوفيتش قد أوىل‬
‫جمادالت علمية مفصلة مع نظرية التطور الدارونية وتفنيد أسانيدها اجلزئية وبيان هتافت‬
‫اهتماما مبسألة تركيب‬
‫ً‬ ‫الكلي الكامن وراءها‪ ،‬أما املسريي فقد أوىل‬
‫ّ‬ ‫الفلسفي‬
‫ّ‬ ‫النموذج‬
‫اإلنسان ونقد التصورات الغربية حول طبيعته وبيان مدى استبطان الفلسفات املعادية‬
‫لإلنسان ملفهوم الطبيعة البشرية أبشكال خمتلفة‪ ،‬ليصل كالمها لإلسالم يف هناية املطاف‬
‫ابعتباره الضامن احلقيقي حلرية اإلنسان‪ .‬نستعرض يف هذا احملور معامل الرؤية اإلسالمية‬
‫لإلنسان عند املسريي وبيجوفيتش‪.‬‬

‫‪ 22‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.26‬‬


‫‪ 23‬هاربرت ماريكوز‪ ،‬اإلنسان ذو البعد الواحد‪ ،‬ترمجة جورج طرابيشي‪( ،‬بريوت‪ ،‬دار اآلداب‪.)1988 ،‬‬
‫‪285‬‬
‫‪ -1‬إنسان املسريي بني الفلسفة واإلسالم‪:‬‬
‫حيواي يف فهم الظواهر االجتماعية والسياسية‬ ‫أساسا ً‬
‫تشكل املعرفة ابلطبيعة البشرية ً‬
‫وتفسريها‪ ،‬فمن احلقائق املعروفة أن كل نظرية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية‪ ،‬بل كل‬
‫رأي يف تنظيم جانب من حياة اإلنسان‪ ،‬يكمن وراءه تصور معني لإلنسان قد يعيه‬
‫صاحب الرأي أو النظرية فيقول به وقد يفرتضه وال يشعر به‪ .24‬انطلق عبد الوهاب‬
‫املسريي يف بناء رؤيته اإلنسانية من إدراك هذه املقدمة البسيطة‪ ،‬فأعاد االعتبار للجدل‬
‫الكالسيكي حول مفهوم الطبيعة البشرية أبسئلته التقليدية‪ :‬هل يوجد طبيعة اثبتة لإلنسان‬
‫معا)؟ كان‬
‫مم يرتكب اإلنسان (من املادة أم الروح أم كليهما ً‬ ‫أم ال‪ ،‬ما هذه الطبيعة؟ َ‬
‫للسؤال األخري أمهية كبرية عند املسريي‪ ،‬ومن مثَّ فقد انتقد النظرايت األحادية للطبيعة‬
‫البشرية‪ ،‬وانطلق يف رؤيته لإلنسان من نظرة مركبة تعرتف بثنائية تركيبه‪ ،‬يف مقابل الرؤية‬
‫أسس املسريي جمموعةً من التصنيفات حلاالت‬ ‫األحادية املادية‪ ،‬وبناءً على هذه الثنائية َّ‬
‫اإلنسان ومناذجه منها‪ :‬اإلنسان الطبيعي وتنوعايته املختلفة ممثلة يف اإلنسان االقتصادي‬
‫واجلسماين والوظيفي يف مقابل منوذج اإلنسان الرابين املستند إىل اخلالق‪.‬‬
‫نقد تصورات الغرب عن اإلنسان‪:‬‬ ‫أ‪-‬‬
‫يؤمن املسريي بوجود طبيعة بشرية اثبتة داخل اإلنسان متيزه عن احليوان وغريه من الكائنات‬
‫والظواهر الكونية‪ ،‬وبناءً على هذا فقد انتقد املدراس الغربية اليت مهشت الطبيعة البشرية‬
‫يف التحليل‪ ،‬حبجة أهنا غري موجودة‪ ،‬أو ألهنا ال تتسم بقدر من الثبات‪ ،‬وهو االفرتاض‬
‫الفلسفي الشائع يف الغرب‪ ،‬وقام بتفكيك حجج القائلني بذلك من مداخل خمتلفة‪ ،‬أمهها‬
‫أن االستسالم لفكرة تغري الطبيعة البشرية وعدم ثباهتا يعين نسف املشرتكات اإلنسانية‬
‫امللحوظة واحملسوسة بني البشر رغم اختالفاهتم الثقافية والعرقية والطبقية‪ .‬فإذا كانت‬
‫الطبيعة البشرية تتغري بتغري األزمنة واألمكنة والظروف‪ ،‬فمعىن هذا أن تتعدد املراكز والرؤى‬
‫والتطلعات والتوقعات وتسود النسبية املطلقة أو الشاملة‪ ،‬مما يقوض أي ٍ‬
‫أساس للحوار‬

‫‪ 24‬د‪ .‬جعفر شيخ إدريس‪ ،‬التصور اإلسالمي لإلنسان أساس لفلسفة اإلسالم الرتبوية‪( ،‬القاهرة‪ ،‬جملة املسلم‬
‫املعاصر‪ ،‬العدد ‪ ،)1397 ،12‬ص ‪.16‬‬
‫‪286‬‬
‫اإلنساين ولإلنسانية املشرتكة؛ إذ ستتمرتس كل مجاعة إنسانية داخل زماهنا ومكاهنا‪ ،‬األمر‬
‫الذي يهدد فكرة االجتماع اإلنساين يف جوهرها‪.‬‬
‫أبعادا يف اإلنسان تتميز ابلثبات وكذلك بعض أشكال املعرفة‬ ‫كما يرى املسريي أن هناك ً‬
‫ال ميكن أن تكون نسبية‪ ،‬ففكرة الضمري ‪-‬على سبيل املثال‪ -‬عند سقراط ال ميكن ردها‬
‫ألساسها التارخيي أو االجتماعي واجلغرايف‪ ،‬وكل املسلمني ال يزالون يؤمنون هبا وكذا غالبية‬
‫البشر يف هذا العصر؛ ولذا فاملذابح اليت حتدث حولنا تزيد امشئزازان‪ ،‬ومجال األعمال الفنية‬
‫ال ميكن رده للمادة املتشكلة منها أو إىل وضع الفنان التارخيي أو االجتماعي أو الطبقي‪،‬‬
‫أعماال كالسيكية كثرية‬
‫فنحن يف عصران هذا ال نزال نتمتع أبعمال إنسان الكهف‪ ،‬ونقرأ ً‬
‫مثل‪ :‬مسرحيات شكسبري‪ ،‬ولوحات ڤان جوخ؛ وكالسيكيات الرتاث اإلسالمي مثل‪:‬‬
‫ماداي‪ ،‬وفكرة‬
‫أساسا اترخييًا ً‬
‫وحي بن يقظان‪ .‬إن فكرة الضمري‪ ،‬رغم أن هلا ً‬ ‫كليلة ودمنة‪ّ ،‬‬
‫اجلمال‪ ،‬رغم أهنا تعرب عن نفسها من خالل املادة ‪ -‬تتخطيان املادة‪ ،‬وابلتايل تكتسبان‬
‫قيما عاملية اثبتة لصيقة بظاهرة اإلنسان‪ ،‬ومن مثَّ‬
‫استقالال‪ ،‬بل وتصبحان مبرور الزمن ً‬
‫ً‬
‫فإنسانيتنا املشرتكة تتسم بقدر كبري من الثبات‪.‬‬
‫وحينما حياول البشر أن يعيدوا صياغة أنفسهم وصورهتم‪ ،‬هل حياولون حماكاة صورة اآلهلة‬
‫أم صورة القرود؟ وهل نقبل البشر الذين حياولون حتقيق املثل العليا قبولنا ألولئك الذين‬
‫يسلكون مسلك القردة العليا؟ وحني ندير جمتمعاتنا اإلنسانية‪ ،‬هل نفعل ذلك متحررين‬
‫من كل أعباء أخالقية أو إنسانية‪ ،‬فإن خططنا لتشجري الكرة األرضية فهذا أمر مقبول‪،‬‬
‫متاما مثل التشجري؟‬
‫سبعا أو عشر مرات فهل التدمري أمر مقبول ً‬ ‫وإن خططنا لتدمريها ً‬
‫كما يتساءل املسريي هل ميكن أن منيز بني ما هو إنساين وغري إنساين دون افرتاض وجود‬
‫طبيعة بشرية وإنسانية مشرتكة؟ إن هذا اإلميان ابلتغري كمطلق ويقني أوحد وغاية وهدف‪،‬‬
‫أبدا دون هدف أو غاية أو هناية‪ ،‬قد يؤدي إىل ال شيء أو لعله قد‬‫دائما و ً‬
‫التغري الكامل ً‬
‫يؤدي إىل دمار اإلنسان والكون إن مل تتم عملية التغري داخل حدود‪ ،‬وإن مل يكن هلا عقل‬
‫وروح‪ ،‬وإن مل تفرتض مركزية اإلنسان يف الكون‪ ،‬واعتبار اإلنسان هو الغاية‪ ،‬وأن اهلدف‬

‫‪287‬‬
‫من وجودان يف هذا الكون هو حتقيق إمكانياتنا اإلنسانية اليت تتجاوز حدود املادة‬
‫املتغرية‪.25‬‬
‫ويرى املسريي أن حماولة إنكار وجود طبيعة بشرية اثبتة وإنسانية مشرتكة وتصور أن‬
‫احلديث عن الطبيعة البشرية هو نوع من أنواع امليتافيزيقا‪ ،‬تنطوي على حماولة واعية للهرب‬
‫أيضا حماولة‪ ،‬رمبا غري واعية للهرب من فكرة‬
‫من امليتافيزيقا واإلميان مبا وراء املادة‪ ،‬ولكنها ً‬
‫ٍ‬
‫معقول من الثبات‬ ‫احلدود واملسؤولية واألخالق‪ .‬فإن كانت الطبيعة البشرية تتسم بقدر‬
‫واالستمرارية‪ ،‬يصبح من املمكن توليد معايري أخالقية منها‪ .‬أما إذا كان التغري مطل ًقا‬
‫وشامال‪ ،‬فإنه يؤدي إىل غياب أي معايري‪ ،‬ومن مثَّ تصبح كل األمور نسبيةً وختتفي مع‬ ‫ً‬
‫النسبية أي معايري معرفية أو مجالية أو أخالقية‪ ،‬والفرق بني الواحد واآلخر يشبه الفرق‬
‫بد أن يرتجم‬ ‫بني اإلميان ابهلل واإلميان ابألطباق الطائرة‪ .‬فالضرب األول من اإلميان ال َّ‬
‫حتد للذات وحماولة لفرض حدود عليها‪.‬‬ ‫إمياان حقًّا‪ ،‬فهو ٍ‬
‫نفسه إىل أفعال فاضلة إن كان ً‬
‫جوهرا إنسانيًا ما‪،‬‬
‫إن أدرك اإلنسان أن مثة طبيعة بشرية تتسم بنوع من الثبات وأن مثة ً‬
‫يصبح من احملتم أن تتحول تلك الطبيعة إىل نقطة ارتكا ٍز فلسفية اثبتة ينبع منها نسق‬
‫خريا‪ ،‬وكل ما يبتعد عنها فهو‬‫أخالقي‪ ،‬حبيث إن كل ما حيقق هذه الطبيعة ويثريها يعد ً‬
‫شر‪ .‬أما الضرب الثاين من اإلميان فهو عملية تفريغ لشحنة نفسية‪ ،‬وتوتر داخلي يبحث‬
‫عن بؤرة‪ ،‬وهو ضرب من ضروب حتقيق الذات يصلح كميتافيزيقا من دون أعباء أخالقية‬
‫يتبناها اإلنسان االقتصادي واإلنسان النفعي الذي ال يؤمن إال ابملادة‪ ،‬وجيد صعوبة حقة‬
‫يف التسامي عليها وجتاوزها‪.26‬‬
‫احلنني إىل السماء‪ :‬ظالل الطبيعة البشرية يف العقل الغريب‪:‬‬ ‫ب‪-‬‬
‫اكتشف املسريي أن مفهوم الطبيعة البشرية ال يزال كامنًا يف العقل الغريب من خالل ما‬
‫مساه ظاهرة "اإلله اخلفي"‪ ،‬فرغم احملاوالت العديدة إلنكار مفهوم الطبيعة البشرية الثابتة‬
‫نوعا من أنواع‬
‫يف احلضارة الغربية احلديثة من تيارات فكرية وفلسفية خمتلفة ابعتبارها ً‬

‫‪ 25‬د‪ .‬عبد الوهاب املسريي‪ ،‬دراسات معرفية يف احلداثة الغربية‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة الشروق الدولية‪،)2008 ،‬‬
‫ص ‪.193-183‬‬
‫‪ 26‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.198-194‬‬
‫‪288‬‬
‫امليتافيزيقا اليت جيب جتنبها يف عملية التحليل‪ ،‬فإن هذا اإلنكار يتم على مستوى الوعي‬
‫والظاهر وحسب‪ .‬فكثري من املفكرين وغالبية البشر العاديني يتبنون مفهوم الطبيعة البشرية‬
‫اليت تتسم بقدر من الثبات واالستمرارية كأداة حتليلية بشكل كامن غري و ٍاع‪ .‬ومن خالل‬
‫ما مساه املسريي ظاهرة ("اإلله اخلفي"‪ ،)Hidden God‬وهو مصطلح قريب من‬
‫مصطلح "الضمري" ولكنه غري مرتادف معه‪ ،‬فالضمري يعين أن مثة شيئًا ما غري مادي‪،‬‬
‫كامنًا يف اإلنسان‪ ،‬يدفعه حنو اخلري‪ ،‬وهو إن مل يتجه حنو اخلري كما ميلي عليه ضمريه فإنه‬
‫يشعر ابلذنب وأنه أنكر بـر ْع ًدا أساسيًا من وجوده‪.27‬‬
‫ماداي وال ميكن رده إىل الطبيعة املادية‪ ،‬وإمنا‬
‫أمرا ً‬
‫والضمري شأنه شأن اإلله اخلفي ليس ً‬
‫يستند إىل عنصر ما يف اإلنسان (القبس اإلهلي والنزعة الرابنية) عنصر ال ميكن تفسريه‬
‫ماداي؛ ولذا ال مناص من أن نسميه "روحيًا"‪ .‬ولكن الضمري يرتبط يف ذهننا مبنظومة‬ ‫ً‬
‫أخالقية حمددة‪ ،‬من خالهلا يعرف اإلنسان الشر واخلري‪ ،‬أما مفهوم "اإلله اخلفي"‪ ،‬فرغم‬
‫أنه يشارك الضمري يف كثري من السمات‪ ،‬فإنه يشري إىل أن اإلنسان قد ال يكون مؤمنًا‬
‫بشكل و ٍاع وصريح لكل‬‫ٍ‬ ‫معاداي‬
‫أبي منظومة أخالقية أو معرفية أو دينية‪ ،‬بل قد يكون ً‬
‫متاما حىت أصبح‬ ‫القيم بال استثناء‪ ،‬وقد يؤمن بنموذج مادي إحلادي ويظن أنه استبطنه ً‬
‫جزءًا ال يتجزأ من رؤيته ووجوده‪ .‬ولكن هذا اإلنسان‪ ،‬مع هذا‪ ،‬تفضحه ‪-‬يف ظروف‬
‫بشكل غري مباشر وغري و ٍاع عن وجود شيء ما يف أعماق أعماقه‬ ‫ٍ‬ ‫معينة‪ -‬أقواله وأفعاله‬
‫يتناقض مع اإلطار املادي الواحدي الذي تبناه‪ .‬ورغم هذا‪ ،‬فإن مثل هذا اإلنسان قد ال‬
‫يتجه ابلضرورة حنو اختيار منظومة أخالقية بديلة‪ .‬وبذلك ميكن القول أبن اإلله اخلفي‬
‫هو ‪-‬يف واقع األمر‪ -‬البحث غري الواعي لإلنسان املادي عن املقدَّس بعد أن تصور أنه‬
‫قد قتل اإلله وأسس عاملا زمانيًا مكانيًا ال قداسة وال حمرمات وال حرمات فيه‪ .28‬ويذهب‬
‫بعيدا يف حتليله ًإىل أن فكرة اإلله اخلفي ال تزال كامنةً حىت يف كتاابت املفكرين‬ ‫املسريي ً‬
‫‪29‬‬
‫امللحدين‪ ،‬بل ويف النزعات الفلسفية الفوضوية احلديثة ‪.‬‬

‫‪ 27‬راجع مقالة عبد الوهاب املسريي بعنوان‪" :‬احلداثة املنفصلة عن القيمة واإلله اخلفي"‪ ،‬منشورة على موقعه‬
‫اإللكرتوين‪https://is.gd/zTL8j6 :‬‬
‫‪ 28‬املرجع السابق‪.‬‬
‫‪29‬د‪ .‬عبد الوهاب املسريي‪ ،‬دراسات معرفية يف احلداثة الغربية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.203-199‬‬
‫‪289‬‬
‫ج‪ -‬اإلنسان الرابين املركب يف مقابل اإلنسان ذي البعد الواحد‪:‬‬
‫مم يرتكب اإلنسان‪،‬‬ ‫ختتلف الفلسفات واملذاهب الفكرية املعاصرة يف اإلجابة عن سؤال‪َ :‬‬
‫من مادة فقط أم من روح فقط أم من مزيج بينهما؟‪ ،‬فعلم النفس احلديث يتحدث عن‬
‫احدا أحادي الرتكيب‪ ،‬هو ما تراه العني من أعضاء‪ ،‬وما يتكلم‬ ‫اإلنسان ابعتباره شيئًا و ً‬
‫عنه علم التشريح يف الطب من أجهزة داخلية حيتويها جسد اإلنسان‪ ،‬ولكن حينما تسأل‬
‫علم النفس عن األمراض النفسية‪ ،‬وعمليات التفكري واحلب والكره‪ ،‬والبخل والكرم‪،‬‬ ‫َ‬
‫والشجاعة واملروءة‪ ،‬اليت هي اإلنسان‪ ،‬فإنه يسندها إىل تراكيب يف اجلسم املرئي‪ .‬ولكن‬
‫هذا مل يقنع الكثريين من املفكرين ومن بينهم املفكر عبد الوهاب املسريي الذي ذهب‬
‫يؤسس رؤيته "للطبيعة البشرية"‪ 30‬من مدخل ثنائية الرتكيب (مادي‪-‬معنوي) (جسد‪-‬‬
‫روح)‪ ،‬وهذه الثنائية تنطلق من مقولة إن اإلنسان ظاهرة مركبة ال ميكن ردها إىل ما هو‬
‫دوهنا (املادة)‪ ،‬وال ميكن اختزاهلا يف بـر ْع ٍد واحد؛ فهي حتوي من األسرار والثغرات ما ال‬
‫حمضا‪ ،‬فاإلنسان عامل معقد يتشابك داخله احملدود مع الال‬ ‫ماداي ً‬
‫تفسريا ًّ‬
‫ً‬ ‫ميكن تفسريه‬
‫حمدود‪ ،‬واملعلوم مع اجملهول‪ ،‬واجلسد مع الروح‪ ،‬والرباينّ مع اجلواينّ‪ ،‬والسبب مع النتيجة‪،‬‬
‫والعقل مع القلب‪ ،‬وعامل الشهادة مع عامل الغيب‪ .31‬ويرى املسريي أن هذه الثنائية الرتكيبية‬
‫جتد صداها من خالل نـزعتني تتنازعان اإلنسان‪ ،‬مها‪ :‬النـزعة اجلنينية‪ ،‬والنـزعة الرابنية؛ ومها‬
‫طرفا الثنائية املركبة لإلنسان‪ .32‬فالطرف األول يف الثنائية هو اجلانب الطبيعي‪ ،‬أو ما‬
‫أحياان ابلنـزعة الرمحية نسبة إىل رحم األم‪ ،‬وهي‬ ‫عرب عنها ً‬ ‫يسميه املسريي النـزعة اجلنينية‪ ،‬وير ِّ‬
‫تعبري عن البرـ ْع ِد املادي يف اإلنسان بكل أبعاده‪ ،‬سواء يف نشأته وتكوينه أو يف ما ينشأ‬
‫عن هذا البرـ ْع ِد من نـزعات مادية‪ ،‬مبا يف ذلك حنينه الدائم إىل عامل الرباءة األوىل الذي‬

‫‪ 30‬يستخدم املسريي مصطلح الطبيعة البشرية لإلشارة إىل جوهر اإلنسان أو السمات األساسية اليت رمتيِّز‬
‫اإلنسان وتفصله عن غريه من الظواهر الكونية‪ ،‬ويرتبط هبذا املصطلح مفهوم "اإلنسانية الواحدة"‪ ،‬لكنه يفضل‬
‫بدال من "اإلنسانية الواحدة" لتفادي النزعة الغربية املركزية يف تعريف‬
‫استخدام مصطلح "اإلنسانية املشرتكة" ً‬
‫موحدا لإلنسانية‪.‬‬
‫معيارا ً‬
‫كل ما هو إنساين وفرض الرؤى الواحدة ابعتبارها ً‬
‫‪ 31‬عبد الوهاب املسريي‪ ،‬دفاع عن اإلنسان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.276‬‬
‫‪ 32‬راجع يف تفصيل النزعتني‪ :‬عبد الوهاب املسريي‪ ،‬موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‬
‫‪.73-68‬‬
‫‪290‬‬
‫ِ‬
‫فصل يف التكوين‬
‫وحتمل أعباء اهلوية‪ .‬غري أن املسريي ال ير ّ‬
‫يعفيه من املسؤوليات األخالقية ّ‬
‫الطبيعي املادي لإلنسان‪ ،‬بل يكتفي ابإلشارة إليه مثل قوله‪" :‬فثمة احتياجات طبيعية‬
‫مادية‪ ،‬مثل حاجة البشر إىل الطعام واهلواء والنوم والتناسل وتلبية كل ما يتعلق برتكيبهم‬
‫العضوي بغض النظر عن أماكن إقامتهم أو منط احلضارة الذي ينتمون إليه‪ .‬فاإلنسان‬
‫هنا موجود مادي متجسد يشارك بقية الكائنات يف بعض الصفات‪ ،‬فمن حيث هو‬
‫جسم‪ ،‬خيضع اإلنسان للقوانني الطبيعية وضرورات احلياة العضوية؛ إذ تسري عليه وعلى‬
‫بقية الكائنات جمموعةٌ من اآلليات واحلتميات؛ لذا ميكن رصد هذا اجلانب من وجوده‬
‫من خالل النماذج املستمدة من العلوم الطبيعية‪ِّ ،‬‬
‫ويعرب عن نفسه فيما نسميه النـزعة‬
‫اجلنينية"‪.33‬‬
‫أما الطرف الثاين يف الثنائية فهو البرعد الروحي‪ ،‬أو ما يسميه املسريي النـزعة الرابنية أو‬
‫القبس اإلهلي‪ ،‬وهو يف تعريف املسريي‪" :‬ذلك النور الذي يبثه اإلله الواحد املتجاوز يف‬
‫صدور الناس بل يف الكون أبسره‪ ،‬فيمنحه تركيبيته الالمتناهية‪ ،‬ويولِّد يف اإلنسان العقل‬
‫الذي يدرك من خالله أنه ليس إبله‪ ،‬وأنه ليس ابلكل‪ ،‬وأنه مكلف حبمل األمانة‪ ،‬وأن‬
‫وإطارا له" ‪ .‬كما ير ِّ‬
‫‪34‬‬
‫عرب عنه يف سياق آخر‬ ‫حدودا ً‬‫ً‬ ‫عليه أعباءً أخالقية وإنسانية تشكل‬
‫كرمه واستأمنه على العامل واستخلفه‬ ‫بقوله‪" :‬فاإلنسان قد خلقه هللا ونفخ فيه من روحه و َّ‬
‫‪35‬‬
‫فيه؛ أي إن اإلنسان أصبح يف مركز الكون بعد أن محل عبء األمانة واالستخالف" ‪،‬‬
‫فالروح أو القبس اإلهلي هو تعبري عن وجود عنصر غري مادي يف اإلنسان ورميثِّل جوهر‬
‫تركيبيته‪ ،‬ووجوده هو الذي يعطي اإلنسان معىن التجاوز؛ سواء فيما خيص عالقته ابهلل‪،‬‬
‫أو عالقته بنفسه‪ ،‬أو ابلطبيعة‪ .‬لذا‪ ،‬اتسم اإلنسان ابلرتكيب والتعقيد‪ ،‬حبيث ال ميكن أن‬
‫يـرَرَّد إىل بـر ْع ٍد واحد‪ .‬وقد فشلت احلضارة الغربية يف تفسري الظاهرة اإلنسانية‪ ،‬إلقصائها‬

‫انظر‪ :‬عبد الوهاب املسريي‪ ،‬الفلسفة املادية وتفكيك اإلنسان‪( ،‬دمشق‪ :‬دار الفكر‪ ،‬الطبعة الرابعة‪،‬‬ ‫‪33‬‬

‫‪ ،)2010‬ص ‪ . 12 -11‬وللتفصيل يف اجلانب املادي يف خلق اإلنسان ينظر‪ :‬الراغب األصفهاين‪ ،‬تفصيل‬
‫النشأتني وحتصيل السعادتني‪ ،‬حتقيق عبد اجمليد النجار‪( ،‬بريوت‪ :‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،)1988 ،‬ص ‪-72‬‬
‫‪.73‬‬
‫‪ 34‬عبد الوهاب املسريي‪ ،‬موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.81‬‬
‫‪ 35‬املسريي‪ ،‬الفلسفة املادية وتفكيك اإلنسان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.12-11‬‬
‫‪291‬‬
‫ماداي؛ إذ "ال‬
‫تفسريا ًّ‬
‫ً‬ ‫هذا البرعد الروحي يف اإلنسان؛ ذلك أنه ال ميكن تفسري هذا البرعد‬
‫وجد أعضاء تشرحيية أو غدد أو أمحاض أمينية تشكل األساس املادي هلذا اجلانب‬ ‫تر َ‬
‫الروحي أو الرابين يف وجود اإلنسان وسلوكه‪ .‬وهلذا‪ ،‬فهو يشكل ثغرة معرفية كربى يف‬
‫النسق الطبيعي املادي"‪ .‬فوجود هذا اجلانب الروحي هو الذي يعصم اإلنسان من السقوط‬
‫يف محأة املادية‪ .‬لذا‪ ،‬يضع املسريي اإلنسان الطبيعي املادي الذي يدور يف إطار النـزعة‬
‫اجلنينية‪ ،‬مقابل اإلنسان اإلنسان أو اإلنسان الرابين الذي يدور يف إطار النـزعة الرابنية‪.‬‬
‫دائما مبا يدل عليه يف الواقع‬
‫ويف حتليل املسريي للجانب الروحي يف اإلنسان‪ ،‬فإنه يربطه ً‬
‫من مظاهر ع ّدة‪ ،‬مثل‪ :‬النشاط احلضاري املتعدد اجلوانب (االجتماع‪ ،‬األخالق‪ ،‬اجلمال‪،‬‬
‫التدين)‪ ،‬وقدرة اإلنسان على اإلبداع؛ إذ ال يهتم املسريي هبذا القبس اإلهلي مىت روِجد‬
‫يف اإلنسان وكيف‪ .‬ولكن ابنعكاسه يف حياته؛ أي مبا ميكن لإلنسان أن يدركه بتجربته‬
‫الوجودية وإدراكه لذاته وواقعه اإلنساين‪ ،‬فاإلنسان كائن قادر على تطوير منظومات‬
‫أخالقية غري انبعة من الربانمج الطبيعي املادي‪ ،‬الذي حيكم جسده واحتياجاته املادية‬
‫أيضا على خرقها‪ ،‬وهو الكائن الوحيد الذي‬ ‫وغرائزه‪ ،‬وهو قادر على االلتزام هبا وقادر ً‬
‫طور نس ًقا من املعاين الداخلية والرموز اليت يدرك من خالهلا الواقع‪ .‬وهو النوع الذي ميلك‬
‫َّ‬
‫ونظاما رمزًاي أصبح جزءًا أساسيًا من كيانه‪ ،‬حىت إنه ميكن القول أبن اإلنسان‬
‫ذاكرة قوية ً‬
‫هو الكائن الوحيد الذي ال يستجيب مباشرةً للمثريات‪ ،‬وإمنا يستجيب إلدراكه هلذه‬
‫املثريات وما يرسقطه عليها من رموز وذكرايت‪ .‬واإلنسان هو النوع الوحيد الذي يتميَّز‬
‫كل فرد فيه خبصوصيات ال ميكن حموها أو جتاهلها‪.36‬‬
‫د‪ -‬احلل التوحيدي ملشكلة املركزية (االستخالف)‪:‬‬
‫ينتقل املسريي إىل إشكالية أزلية يف كل الفلسفات املعاصرة وتتعلق مبفهوم مركزية اإلنسان‪،‬‬
‫ويطرح يف إطارها مفهوم االستخالف املؤسس على مفهوم التوحيد‪ ،37‬وهو مفهوم يقدم‬
‫تفسرياي للعالقة بني حماور الوجود الثالثة الكربى‪ :‬هللا والعامل واإلنسان‪ ،‬وجييب عن‬
‫ً‬ ‫إطارا‬
‫ً‬

‫‪ 36‬عبد الوهاب املسريي‪ ،‬موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪ 37‬يشمل االستخالف النوع البشري كله‪ً ،‬‬
‫رجاال ونساء‪ .‬ومن األمور اجلديرة ابلذكر يف لغة القرآن‪ ،‬أن لفظ‬
‫"إنسان" ‪-‬وهو الواحد من بين آدم‪ -‬يذ ّكر ويؤنث‪ ،‬فيقال‪ :‬هو إنسان‪ ،‬وهي إنسان‪ ،‬واملرأة إنسان‪ ،‬وال يقال‪:‬‬
‫بشر‪ ،‬وهي بشر‪.‬‬
‫إنسانة‪ .‬كذلك‪ ،‬فإن لفظ "بشر" يذ ّكر ويؤنث‪ ،‬فيقال‪ :‬هو ٌ‬
‫‪292‬‬
‫اضحا‬
‫تصورا و ً‬
‫أسئلة املعىن الكلية املتعلقة بوجود اإلنسان ووظيفته يف الكون‪ .‬كما يقدم ً‬
‫ملشكلة املركزية اإلنسانية واملركزية اإلهلية‪ ،‬خيتلف كليًّا عن التصور الغريب الصراعي اإلحاليل‬
‫(اإلنسان مقابل اإلله)‪ ،‬فاالستخالف يعين أن هذا العامل ليس ملكنا وإمنا استرخلفنا فيه‪،‬‬
‫ومن مثَّ فاإلنسان وفق هذا املفهوم ليس سيد الكون ومركزه بل اإلله‪ .‬فاهلل هو خالق‬
‫معا‪ ،‬وهو مركز الكون ومعياره‪ ،‬بينما اإلنسان هو مركز املخلوقات خليفة‬ ‫الكون واإلنسان ً‬
‫‪38‬‬
‫هلل يف األرض‪ ،‬بعبارة أخرى هللا سيد (فوق) الكون‪ ،‬واإلنسان سيد (يف) الكون ‪ .‬ومن‬
‫هنا فقد حسم اإلسالم ثنائية هللا‪/‬اإلنسان منذ البداية‪ ،‬ومل يقع يف حالة التأرجح اليت وقع‬
‫وقابال للنقاش‬
‫حمسوم ً‬‫ٍ‬ ‫فيها الفكر الغريب‪ ،‬حيث أضحى سؤال املركزية لديهم سؤ ًاال غري‬
‫واجلدل املستمر‪ ،‬فتأرجحوا اترخييًا ‪ -‬وما زالوا ‪ -‬بني مركزايت متعددة (مركزية اإلله ‪-‬‬
‫مركزية اإلنسان ‪ -‬مركزية املادة) انتهت إىل نسف فكرة املركزية يف منوذج جديد ميكن‬
‫تسميته مبركزية الال مركز (مرحلة ما بعد احلداثة)‪.39‬‬
‫وتقوم فلسفة االستخالف على حماولة حتديد العالقة بني املستخلِف (هللا تعاىل)‪،‬‬
‫استنادا إىل املفاهيم القرآنية‬
‫ً‬ ‫واملستخلَف (اإلنسان)‪ ،‬واملستخلف فيه (الكون)‪ ،‬وذلك‬
‫سيدا يف الكون‬
‫الكلية (التوحيد واالستخالف والتسخري)‪ ،‬حيث ينظر لإلنسان ابعتباره ً‬
‫سيدا للكون ‪ ،-‬مستخل ًفا من هللا على الكون بكائناته وخملوقاته‪ ،‬والعامل ليس ملكه‪،‬‬ ‫‪ -‬ال ً‬
‫ومن مثَّ جيب أال نبدده إبسرافنا واستهالكاتنا‪ ،‬وإمنا جيب أن نعمره حىت ميكن لألجيال‬
‫املسلم ابالقتصاد ومراعاة االعتدال‬
‫القادمة أن تعمره وتستمتع خبرياته‪ ،‬وقد أمر اإلسالم َ‬
‫حىت يف العبادة من صالةٍ وصيام‪ ،‬بدءًا من التوجيه النبوي بعدم اإلسراف يف املاء ولو‬
‫مرورا ابلرمحة الواجبة ابحليواانت اليت قد تدخل اجلنة ونقيضها الذي قد يدخل‬ ‫للوضوء‪ً ،‬‬
‫راجع يف مسألة املركزية يف الرؤية اإلسالمية‪ :‬إمساعيل راجي الفاروقي‪" ،‬التوحيد‪ :‬مضامينه على الفكر‬ ‫‪38‬‬

‫واحلياة"‪ ،‬ترمجة السيد عمر‪( ،‬القاهرة‪ ،‬دار مدارات للنشر والتوزيع‪ ،)2014 ،‬ص ‪.34-33‬‬
‫راجع يف أزمة املركزية الغربية‪ :‬كتاب املفكر اإلسالمي د‪ .‬طارق رمضان‪The Quest for ،‬‬ ‫‪39‬‬

‫‪، Allen lane،Meaning: Developing a Philosophy of Pluralism‬‬


‫‪2010‬‬
‫أيضا‪ :‬كتاب عبد الرزاق الداوي‪ ،‬موت اإلنسان يف اخلطاب الفلسفي املعاصر‪( ،‬بريوت‪ ،‬دار الطليعة‪،‬‬
‫وراجع ً‬
‫‪.)1992‬‬

‫‪293‬‬
‫النار ‪-‬مع تسخريها لإلنسان لألكل واالنتفاع‪ ،-‬وأخريا ‪-‬وليس ِ‬
‫آخًرا‪ -‬ابلتواصل مع كل‬ ‫ً‬
‫مكوانت الكون النباتية بل واجلمادات اليت يؤمن اإلنسان أبهنا تسبح هلل‪ .‬وحيكم اإلنسان‬
‫يف كل موقف ميزان الضرر والنفع‪ ،‬يف احلال واملآل‪ .‬وبذلك ميكن للمنظومة اإلسالمية أن‬
‫تشكل نقطة انطالق للوقوف ضد االستهالكية اليت ثبت أهنا ستودي ابلعامل‪ ،‬فهي متنح‬
‫اإلنسان مركزيةً لكنها ليست مركزيةً مطلقة يستنزف فيها اإلنسان الطبيعة‪ ،‬وال هي مركزية‬
‫للطبيعة تساوي بني اإلنسان واملادة واإلنسان واحليوان‪ ،‬وتتجاهل خالق الكون ورسالة‬
‫البشر وأمانتهم املسؤولة يف الدنيا واليوم اآلخر‪.41-40‬‬
‫هـ ‪ -‬إله العاملني‪ :‬مدخل للخطاب اإلنساين العاملي‬
‫مل يشكل التوحيد رؤية فلسفية متجاوزة للعامل فقط (كما تناولنا يف حمور سابق)‪ ،‬بل امتد‬
‫ليقدم رؤية عاملية لإلنسانية كلها وليس لإلنسان املسلم فقط؛ وذلك بتقريره مبدأ وحدة‬
‫مجيعا‪ ،‬فالناس آلدم عليه السالم‪" ،‬وال فضل لعريب على عجمي‬ ‫اجلنس والنسب للبشر ً‬
‫وال أسود على أمحر إال ابلتقوى" (رواه البخاري)‪ .‬كما نفى اإلسالم أي شرعية لكل‬
‫دعاوى التعصب لألجناس أو األلوان أو األعراق‪ ،‬وعقيدة اإلسالم وحدها هي اليت تقرر‬
‫على هذا النحو ‪ -‬بوضوح وقطعية ‪ -‬وحدة اجلنس البشري يف إطار التنوع البنَّاء‪ .42‬إن‬
‫مقتضى الرؤية اإلسالمية للعامل ‪ -‬اليت تقوم كما أسلفنا على أساس وحدة البشرية ‪ -‬هـو‬
‫ِ ِ‬
‫ني﴾ (األنبياء‪،)107 :‬‬ ‫اك إِالَّ َر ْمحَةً لْل َعالَم َ‬
‫﴿وَما أ َْر َسْلنَ َ‬
‫أن تكون رسالة اإلسالم عاملية‪َ :‬‬
‫وليست قطرية أو إقليمية أو عرقية‪ .‬ويشكل مفهوم العاملية أحد أهم املفاهيم املركزية يف‬
‫الرؤية التوحيدية‪ ،‬وأحد أهم املفاهيم اليت نفذ املسريي من خالهلا إىل اإلسالم‪ ،‬يقول‬
‫املسريي‪" :‬إن مفهوم هللا الرحيم العادل من املفاهيم املركزية يف تصوري‪ ،‬وهو ليس إله‬

‫‪ 40‬د‪ .‬هبة رؤوف‪" ،‬البيئة‪ :‬من مركزية اإلنسان والطبيعة إىل االستخالف" دراسة منشورة على (موقع إسالم‬
‫أون الين)‪https://is.gd/t9xgnj ،‬‬
‫‪ 41‬عبد الوهاب املسريي‪ ،‬دفاع عن اإلنسان‪ :‬دراسة نظرية وتطبيقية يف النماذج املركبة‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار‬
‫الشروق‪ ،)2003 ،‬ص ‪.312-311‬‬
‫‪ 42‬د‪ .‬إبراهيم البيومي غامن‪ ،‬أصول الرؤية اإلسالمية للعامل والعالقة مع اآلخر‪( ،‬جملة حراء‪ ،‬العدد (‪،)21‬‬
‫‪https://is.gd/rEl1PX .)2010‬‬

‫‪294‬‬
‫العرب أو املسلمني أو قوم أو غريهم دون األقوام واألعراق األخرى‪ ،‬بل هو رب العاملني‬
‫مجيعا بعدله ورمحته‪ ،‬وبذلك يصبح اإلسالم من أكثر العقائد تساحمًا‬
‫أمجعني‪ ،‬يشملهم ً‬
‫‪43‬‬
‫وقبوال لآلخر‪ ،‬برغم أنه حيدد احلدود ويضع الفواصل" ‪.‬‬
‫ً‬
‫اثنيًا‪ :‬إنسان بيجوفيتش بني الشرق والغرب‪ :‬جدل اخللق مقابل التطور‬
‫ص ّدر املفكر "علي عزت بيجوفيتش"‪ ،‬كتابَه "اإلسالم بني الشرق والغرب" مبناقشة‬
‫كالسيكية حول مسألة أصل اإلنسان ابعتبارها حجر الزاوية لكل أفكار العامل‪ ،‬ورأى أن‬
‫بد أن أتخذان إىل الوراء حيث‬ ‫أي مناقشة تدور حول كيف ينبغي أن حييا اإلنسان‪ ،‬ال َّ‬
‫متطورا‬
‫ً‬ ‫مسألة "أصل اإلنسان"‪ ،‬وما إذا كان كائنًا خملوقًا من قبل هللا عز وجل أم كائنًا‬
‫هائما بال معىن أو هدف أو غاية‪.‬‬‫ابلصدفة العبثية اليت ألقته يف هذا الكون وتركته ً‬
‫ترجع كل املخلوقات ‪-‬حسب التصور الدارويين‪ -‬إىل األشكال البدائية للحياة (األميبا)‪،‬‬
‫واليت ظهرت بدورها نتيجة عملية طبيعية كيميائية مادية‪ .‬فاإلنسان وفق هذا املنظور ما‬
‫هو إال حيوان تطور من املادة إىل األميبا‪ ،‬واألميبا تطورت حىت وصلت إىل القردة العليا‪،‬‬
‫ومنها إىل اإلنسان الذي اجته حنو الكمال اجلسمي والفكري ومنه إىل الذكاء اخلارق‪.‬‬
‫هكذا ينظر العلم احلديث إىل أصل اإلنسان ابعتباره نتيجةً لعملية طويلة من التطور ابتداء‬
‫من أدَّن أشكال احلياة‪ ،‬حيث ال يوجد متيز واضح بني اإلنسان واحليوان سوى بعض‬
‫قائما‪ ،‬وصناعة األدوات‪ ،‬والتواصل بواسطة لغة منطوقة‬ ‫احلقائق املادية اخلارجية كاملشي ً‬
‫مفصلة‪ .‬وعلى اجلانب اآلخر‪ ،‬يتحدث الدين عن خلق اإلنسان‪ ،‬واخللق ليس عملية وإمنا‬
‫مستمرا وإمنا فعل مفاجئ ختلصه عبارة (كن فيكون)‪.‬‬‫ً‬ ‫فعل إهلي‪ ،‬ليس شيئًا‬
‫فبدال من أن حياول تفنيدها‬
‫تعامل بيجوفيتش مع نظرية التطور ومقوالهتا بطريقة فريدة‪ً ،‬‬
‫مقتصرا على علم البيولوجيا والعلوم الطبيعية كما يفعل بعض املعاصرين الناقدين للنظرية‪،‬‬
‫ً‬
‫فقد جلأ إىل اسرتاتيجية إضافية تقوم على بيان عجز النظرايت املادية‪ ،‬مبا يف ذلك نظرية‬
‫التطور الداروينية‪ ،‬عن تفسري البعد اإلنساين يف ظاهرة اإلنسان‪ ،‬وبذلك فقد اعترب نظرية‬

‫‪ 43‬عبد الوهاب املسريي‪ ،‬دفاع عن اإلنسان‪ :‬دراسة نظرية وتطبيقية يف النماذج املركبة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‬
‫‪.311‬‬
‫‪295‬‬
‫كل مبا جيعل نقده ملقوالهتا صاحلًا للتعميم على الفلسفات املادية كافَّةً‬
‫التطور جزءًا من ٍّ‬
‫اليت تشرتك معها يف اجلذر الفلسفي نفسه‪.‬‬
‫نفذ بيجوفيتش إىل قلب النظرية الدراونية وراح يفكك أسسها العلمية مبا استطاع من‬
‫مقوالت علمية مضادة للمختصني يف اجملاالت العلمية نفسها‪ ،‬كما راح يكشف عما‬
‫حتتويه من نظرايت فلسفية ال متت للعلم بصلة‪ ،‬ليكشف يف هناية املطاف عن عدد من‬
‫عددا من األسئلة املتجاوزة للنقاش‬
‫التلفيقات الفلسفية املسترتة بغطاء العلم‪ ،‬كما راح يطرح ً‬
‫العلمي التفصيلي حول النظرية‪ ،‬فسواء كان اإلنسان نتاج التطور أو كان خملوقًا‪ ،‬فإن‬
‫قائما‪ :‬ما هو اإلنسان؟ وهل اإلنسان جزء من العامل أو شيء خمتلف عنه‪44‬؟‬ ‫السؤال يظل ً‬
‫الفن يتحدى نظرية التطور‪ :‬إبداعات اإلنسان البدائي‬ ‫أ‪-‬‬
‫متتبعا األعمال الفنية املسجلة عن اإلنسان‬
‫جلأ بيجوفيتش إىل الفن يف إطار نقده للنظرية ً‬
‫البدائي‪ ،‬ليصل إىل أن شيئًا ما قد حدث لإلنسان جعله ال يقنع جبانبه الطبيعي املادي‬
‫دائما عن شيء آخر غري السطح املادي الذي تدركه‬ ‫احليواين‪ ،‬ودفعه إىل أن يبحث ً‬
‫احلواس‪ ،‬حبيث بدأ يفكر يف معىن حياته وفيما وراء الطبيعة‪ ،‬فيما وراء القبور‪ .‬يتساءل‬
‫حتسن من‬‫بيجوفيتش ما هذا الشيء الذي جعل اإلنسان ال يكتفي بصنع اآلالت اليت ّ‬
‫وبدال من ذلك بدأ يف صنع العبادات واألساطري واملعتقدات‬ ‫مقدرته على البقاء املادي‪ً ،‬‬
‫اخلرافية والغريبة والرقصات واألواثن والسحر وأفكاره عن الطهارة والنجاسة والسمو واللعنة‬
‫والربكة والقداسة واحملرمات واحملظورات األخالقية اليت تشمل حياته أبسرها؟ ما الذي جعل‬
‫اإلنسان ال يقنع ابلداللة املباشرة لألشياء‪ ،‬وإمنا يضيف هلا داللة متخيَّلة تكون أكثر أمهية‬
‫يف نظره من داللتها الواقعية؟‪ ،‬فبينما يذهب احليوان للصيد مباشرة ويوظف كل ذكائه يف‬
‫اصطياد الفريسة ويستجيب للمثريات املادية اليت من حوله بشكل مباشر‪ ،‬حييط اإلنسان‬
‫مثل هذا الفعل بطقوس وأحالم وصلوات‪ .‬وبينما كان احليوان يتابع فريسته مبنطق صارم‪،‬‬
‫كان اإلنسان يقدم الضحااي والقرابني ويقيم الصلوات والشعائر‪.45‬‬

‫‪ 44‬علي عزت بيجوفيتش‪ ،‬اإلسالم بني الشرق الغرب‪ ،‬ترمجة يوسف عدس‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية‪ ،)2013 ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪ 45‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.14-13‬‬
‫‪296‬‬
‫النقد الفلسفي للتطور‪ :‬أسطورة الصدفة‪:‬‬ ‫ب‪-‬‬
‫ينتقل بيجوفيتش بعد ذلك إىل نقد نظرية التطور من مدخل آخر ينحو حنو الفلسفة من‬
‫خالل نقد مقولة الصدفة اليت يروجها املاديون‪ ،‬يبدأ علي عزت بيجوڤيتش تقويضه‬
‫النظرايت املادية أبن ِّ‬
‫يبني أنه من املستحيل تصديق فكرة أن العامل قد ظهر نتيجة تفاعالت‬
‫كيمائية متت ابلصدفة وأدت إىل ظهور خالاي بسيطة مث تطورت إىل أن أصبحت اإلنسان‪.‬‬
‫يبني بيجوڤيتش‬‫وفرضية الصدفة هذه تقع يف صميم نظرية التطور وكل النظرايت املادية‪ِّ .‬‬
‫أن خلق العامل ابلصدفة هو جمرد افرتاض وختمني وليس حقيقة‪ .‬ومن أشهر االعرتاضات‬
‫على هذه الفرضية أن اإلميان هبا يعادل اإلميان ابحتمال أن يقوم فرد ابخلبط على آلة‬
‫كاتبة فيكتب لنا قصيدة رائعة‪ ،‬أو ابحتمال أن يلقي إنسان أو قرد ابلنرد وحيالفه احلظ‬
‫وأييت ‪ 6/6‬ليس مرة واحدة وال ألف مرة وإمنا ‪ 44‬ألف مرة متتالية! كما أن املصادفة‬
‫وحدها ال جتدي يف تفسري اخللق‪ ،‬فإن تكوين الكائنات من تلك الذرات اهلائمة يعين‬
‫ذهب‪ ،‬وإذا‬
‫يتكون منها ٌ‬ ‫أهنا كانت مصممةً‪ ،‬حبيث إهنا إذا اجتمعت هبذه الطريقة َّ‬
‫بد أن يسبق الصدفة‪.‬‬ ‫اجتمعت بتلك الطريقة يتكون منها ماء‪ ،‬وهكذا‪ ،‬أي إن التصميم ال َّ‬
‫ويواصل بيجوفتيش نقده هلؤالء الذين يرون أن املادة ‪ -‬من خالل الصدفة وحدها ‪ -‬قد‬
‫أدت إىل ظهور عناصر متجاوزة للمادة مثل اإلنسان والوعي والعقل والغائية؛ ذلك أهنم‬
‫يف هناية األمر ينسبون للمادة قردرات غري مادية‪ ،‬ومن مثَّ فإهنم يكونون قد خرجوا بذلك‬
‫خصوصا أن فرضياهتم ال تعدو كوهنا تكهنات عنيدة طفولية‬
‫ً‬ ‫عن مقاصد الفلسفة املادية‪،‬‬
‫تضمن هلم االستمرار يف ماديتهم البسيطة‪ ،‬وتضمن هلم يف الوقت نفسه تفسري ما حوهلم‬
‫من تركيب ووعي وغائية‪ .‬وينتهي بيجوڤيتش ابلتأكيد على أن فكرة الصدفة ليست فكرة‬
‫علمية أكيدة كما ي ّدعون‪ ،‬وإمنا فكرة ختمينية مل تنتج نتيجة عملية جتريبية أو مالحظة‬
‫علمية‪ ،‬وإمنا نتيجة عملية عقلية حمضة حتاول سد ثغرة يف النظام املادي وتدعي أهنا‬
‫علم‪.46‬‬

‫‪ 46‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.17-16‬‬


‫‪297‬‬
‫ج‪ -‬فشل الدارونية يف تفسري ظاهرة الثقافة‪:‬‬
‫حسما وهي توضيح العجز‬ ‫ً‬ ‫ال يكتفي بيجوڤيتش بذلك‪ ،‬بل يلجأ إىل طريقة أكثر‬
‫التفسريي الكامل لنظرية التطور يف تناوهلا للظواهر اإلنسانية‪ .‬وهو ينجز ذلك عن طريق‬
‫كال من العناصر املادية واإلنسانية‪ ،‬ويف هذه‬ ‫استخدام منوذج مركب أيخذ يف االعتبار ً‬
‫اهتماما كافيًا‬
‫ً‬ ‫السياق يلحظ بيجوفيتش مفارقة تتعلق أبن النظرية الداروينية مل تكرس‬
‫معلال ذلك أبن تلك الظواهر ليست نتاج التطور فهي تقف متعالية‬ ‫للظواهر الثقافية‪ً ،‬‬
‫عليه‪ ،‬مفارقة له وحتمل يف أثنائها إجاابت عن بعض األسئلة احلامسة عن الوجود اإلنساين‪.‬‬
‫خط متصل للتطور املادي يؤكد على الكفاءة واملنفعة وتسخري الطبيعة‬ ‫فإذا كان هناك ٌّ‬
‫متاما مل حيدث فيها‬ ‫خط موا ٍز للثقافة اإلنسانية يؤكد على قيم خمتلفة ً‬
‫واآلالت‪ ،‬فهناك ٌّ‬
‫تقدم أو تطور مثل‪ :‬التضحية والضمري واخلوف من املوت واجملهول‪ ،‬وعلى نشاطات‬
‫إنسانية خمتلفة مثل‪ :‬الفن والدين واألخالق والفلسفة‪ .‬وهذه القيم والنشاطات اإلنسانية‬
‫فرع ساللة واحدة تشري إىل وجود عامل آخر إىل جانب عامل الطبيعة‪ ،‬وهي ال تعرف التقدم‬
‫كثريا‪،‬‬
‫أو التطور‪ .‬وتقف نظرية التطور عن تفسري كيف مل يتغري اتريخ البشر اجلرّواينّ ً‬
‫فاإلنسان أبخطائه‪ ،‬وفضائله‪ ،‬وشكوكه‪ ،‬وخطاايه‪ ،‬وكل ما يشكل وجوده اجلرّواينّ يربهن‬
‫على عدم قابليته للتغيري‪ ،‬وتفيد دراسة رسوم إنسان "نياندراتل" يف فرنسا أن احلياة النفسية‬
‫قليال جدًّا عن احلياة النفسية لإلنسان املعاصر‪.47‬‬
‫لإلنسان البدائي ال ختتلف إال ً‬
‫د‪ -‬اإلنسان احلر‪ :‬املخلوق اإلهلي ال الدارويين‬
‫يقوض من خالهلا نظرية التطور‪ ،‬وهي‬ ‫يركز علي عزت بيجوڤيتش على مسة إنسانية أخرى ّ‬
‫وجودا‬
‫مقدرة اإلنسان على االختيار‪ ،‬أي قضية احلرية‪ .‬ففي عامل املادة توجد األشياء ً‬
‫خاضعا لقوانني موضوعية صارمة‪ .‬فاألرض تدور حول الشمس سواء عرفنا أم‬ ‫ً‬ ‫موضوعيًا‪،‬‬
‫مل نعرف‪ ،‬شئنا أم أبينا‪ .‬مثة حتمية مادية تسيطر على عامل احلقائق املوضوعية‪ ،‬وهو ما ال‬
‫ميكن وصفه ابخلري أو ابلشر‪ ،‬فنحن يف هذا العامل ال نفعل ما نريد أن نفعله‪ ،‬بل ما علينا‬
‫أن نفعله‪ .‬مثة جانب فينا خاضع للحتميات املادية‪ ،‬ولكن اإلنسان ال يعيش يف عامل املادة‬
‫تعرب عن نفسها يف النوااي واإلرادة‪ .‬أما خارج‬
‫جواينّ قوامه احلرية اليت ّ‬
‫وحسب‪ ،‬فهناك عامل ّ‬
‫اإلطار املادي فثمة حيز لإلنسان يتحرك فيه حبيث ميكنه االختيار بني بدائل خمتلفة‪،‬‬

‫‪ 47‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.79‬‬


‫‪298‬‬
‫مثال أن يتجاوز الربانمج الطبيعي احلتمي ويقوم ٍ‬
‫بفعل قد يبدو غري عملي وغري‬ ‫فيختار ً‬
‫مفيد من الناحية املادية‪ ،‬مثل أن يدافع عن كرامته أو يرفض الظلم‪ .‬واإلنسان الذي ينطلق‬
‫من الرؤية املادية قادر وال شك على االختيار واحلرية والبذل والعطاء‪ ،‬ولكنه بذلك يكون‬
‫قد سلك بطريقة تتناقض وماديته املزعومة‪ ،‬فقد جتاوز قوانني املادة‪ .‬فهو إن ضحى بنفسه‬
‫مثال‪ -‬فإنه ال ميكنه إخضاع هذا الفعل للنموذج املادي‪.‬‬‫من أجل ابنه القعيد ‪ً -‬‬
‫إن قضية اخللق ‪-‬كما يؤكد بيجوڤيتش‪ -‬هي يف احلقيقة‪ ،‬قضيةر احلرية اإلنسانية‪ .‬فإذا‬
‫قبلنا فكرة أن اإلنسان ال حرية له‪ ،‬وأن مجيع أفعاله حمددة ساب ًقا ‪-‬إما بقوى مادية داخله‬
‫أو خارجه‪ -‬ال تكون األلوهية ضروريةً يف هذه احلالة لتفسري الكون وفهمه‪ .‬ولكننا إذا‬
‫سلمنا حبرية اإلنسان ومسؤوليته عن أفعاله‪ ،‬فإننا بذلك نعرتف بوجود هللا إما ضمنًا وإما‬
‫حرا‪ ،‬فاحلرية ال ميكن أن توجد إال‬‫صراحةً‪ .‬فاهلل وحده هو القادر على أن خيلق خملوقا ًّ‬
‫نتاجا للتطور‪ ،‬فاحلرية واإلنتاج فكراتن متعارضتان‪.‬‬
‫بفعل اخللق‪ .‬احلرية ليست نتيجة وال ‪ً 48‬‬
‫فاهلل ال ينتج وال يشيد‪ ..‬إن هللا خيلق ‪.‬‬
‫يطلق بيجوفيتش العنان خلياله يف تصور ما ستكون عليه البشرية يف ظل التقدم العلمي‬
‫والتكنولوجي املزعوم من قبل احلضارة الغربية وتداعيات ذلك على مسألة حرية اإلنسان‪،‬‬
‫عاجال ‪-‬خالل هذا القرن أو بعد مليون سنة من‬ ‫آجال أو ً‬‫فيقول‪" :‬قد ينجح اإلنسان ً‬
‫احلضارة املتصلة‪ -‬يف تشييد صورة مقلدة من نفسه‪ ،‬نوع من اإلنسان اآليل أو مسخ‪،‬‬
‫قادرا‬
‫شيء قريب الشبه بصانعه‪ .‬وهذا املسخ الشبيه ابإلنسان لن تكون له حرية‪ ،‬سيكون ً‬
‫فقط على أن يتحرك يف إطار ما بررمج عليه‪ .‬وهنا تتجلى عظمة اخللق اإلهلي‪ ،‬الذي ال‬
‫ميكن تكراره أو مقارنته أبي شيء حدث من قبل أو سيحدث من بعد يف هذا الكون‪.‬‬
‫يف حلظة زمنية من األبدية‪ ،‬بدأ خملوق حر يف الوجود‪ ،‬بينما مل يكن ممكنًا أن يتحول‬
‫نتيجة التطور (بدون تلك اللمسة اإلهلية) إىل اإلنسان‪ .‬إن التطور‪ ،‬بدون تلك اللمسة‪،‬‬
‫تطورا‪ ،‬حيو ًاان مثاليًا‪ ،‬أو كائنًا جبسم إنسان‬
‫كان سينتج ‪-‬على األرجح‪ -‬حيو ًاان أكثر ً‬
‫وذكائه‪ ،‬ولكن بدون قلب وال حياة رج ّوانية‪ .‬ذكاء متحرر من وخز الضمري واألخالق‪،‬‬
‫ورمبا كان أكثر كفاءة‪ ،‬ولكن أشد قسوة يف الوقت نفسه"‪.49‬‬

‫‪ 48‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.98-97‬‬


‫‪ 49‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.98‬‬
‫‪299‬‬
‫اثلثًا‪ :‬خامتة من منظور نقدي مقارن‬
‫للمفكريْن حمل الدراسة لإلسالم واإلنسان‬
‫َ‬ ‫من خالل ما سبق عرضه من حتليل الرؤى الكلية‬
‫يتبني لنا عدة مالحظات نوردها كالتايل‪:‬‬
‫والعامل‪َّ ،‬‬
‫‪ -1‬مثة تقارب شديد يصل إىل حد التشابه يف مساحات الرؤية الكلية العامة لدى‬
‫كال املفكرين (املسريي ‪ -‬بيجوفتش) ال سيما يف مساحات الرؤية لإلنسان‬
‫إن أحدهم أتثر ابآلخر‬ ‫والنظر الفلسفي إىل اإلسالم‪ ،‬إىل حد ميكن القول معه َّ‬
‫شديدا‪ ،‬وهو ما حدث ابلفعل؛ فقد صرح املسريي حبالة أتثره بنظريه البوسين‬ ‫أتثرا ً‬‫ً‬
‫ونوه إىل ذلك مر ًارا وتكر ًارا‪ ،‬سواء يف كتاابته الفلسفية أو يف حماضراته العامة‪،‬‬
‫َّ‬
‫بل إنه شارك مبقدمة طويلة استهلت النسخة العربية املرتمجة من كتاب بيجوفيتش‬
‫كثريا يف أثناء إعداد هذه الورقة‪ ،‬كما عقد املسريي ندوة عامة‬ ‫واستفدان منها ً‬
‫ملناقشة هذا الكتاب ابملعهد العاملي للفكر اإلسالمي ابلقاهرة‪ ،‬وطالب بعقد‬
‫مزيد من الدورات ملناقشة كل حماور الكتاب وجزئياته املشتبكة مع جماالت‬
‫معرفية عديدة؛ كالفلسفة‪ ،‬واألخالق‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬واألداين‪ ،‬واللغة‪ ،‬والعلوم‬
‫احلديثة‪.50‬‬
‫الكلي املتعلق ابلرؤية لإلسالم‬
‫ّ‬ ‫‪ -2‬رغم تشابه أطروحات املفكرين على املستوى‬
‫واإلنسان‪ ،‬فإن طرق وصوهلما إليها قد اختلفت‪ ،‬فقد سلك املسريي طريقه إىل‬
‫هللا من خالل اإلنسان‪ ،‬بينما سلك بيجوفيتش طريقه إىل اإلنسان من خالل‬
‫هللا‪ ،‬ولعل هذا ما دفعنا إىل تقدمي وأتخري بعض املفردات يف عناوين املباحث‬
‫مراعاة هلذا االعتبار‪.‬‬
‫‪ -3‬مثة اختالف آخر يف طرق الوصول إىل اإلسالم‪ ،‬ويتعلق أبن األول قد دخل يف‬
‫وصوال‬
‫جتربة فلسفية مرت مبراحل من الشك واالرتياب استغرقت ربع قرن تقريبًا ً‬
‫إىل حالة االستقرار اليت مساها "من ضيق املادية إىل رحابة اإلميان"‪ ،‬بينما الثاين‬
‫مل مير بتلك التجربة بل كتب أحد كتبه الشهرية "هرويب إىل احلرية"‪ 51‬وهو يف‬

‫‪ 50‬حماضرة املسريي عن بيجوفيتش يف املعهد العاملي للفكر اإلسالمي ابلقاهرة‪،‬‬


‫‪https://is.gd/PYRYHI‬‬
‫‪ 51‬عزت بيجوفيتش‪ ،‬هرويب إىل احلرية‪ ،‬ترمجة إمساعيل أبو البندورة‪( ،‬بريوت‪ ،‬دار الفكر املعاصر‪.)2002 ،‬‬
‫‪300‬‬
‫السجن حتت نظام شيوعي‪ ،‬األمر الذي يضفي على جتربته ملسة مقاومة واضحة‬
‫َس ِر‬
‫تشبه حالة سيد قطب يف مصر‪ ،‬ففي الوقت الذي عاَّن فيه املسريي من أ ْ‬
‫َس ِرها للجسد‪.‬‬‫األفكار املاركسية للعقل كان بيجوفيتش يعاين من أ ْ‬
‫‪ -4‬مثة اختالف جيمع بني املسريي وبيجوفيتش ويتعلق ابلشيوعية‪ ،‬فينما املسريي‬
‫نظرا وسعيًا‪ ،‬كان بيجوفيتش من‬ ‫ميكن تصنيفه من العائدين من املاركسية ً‬
‫فكرا وسلوًكا‪ ،‬بل وقضى جزءًا من عمره يف السجن حتت نظام‬ ‫املقاومني هلا ً‬
‫حكم شيوعي‪ ،‬ورمبا يفسر ذلك حدته يف نقد املاركسية واليت ظهرت يف كتاب‬
‫"هرويب إىل احلرية"‪ ،52‬مقارنة برقة املسريي اليت خلصها يف إجابة على سؤال‬
‫أحدهم حول املتبقي من آاثر الفلسفة املاركسية بعد حتوله لإلسالم أم أنه وصل‬
‫إىل مرحلة من القطيعة الكاملة معها؟ فأجاب‪" :‬تبقَّى الكثري والقليل‪ ،‬كل شيء‬
‫تقريبًا‪ ،‬وال شيء على اإلطالق!"‪.53‬‬
‫‪ -5‬يالحظ الكاتب أن اقرتاب بيجوفيتش من اإلسالم أعمق وأثقل من الناحية‬
‫التحليلية مقارنة ابملسريي الذي يقرتب على حذر ورمبا على استحياء ألسباب‬
‫كثرية تعود إىل طريقة عودته لإلسالم وثقل املوروث الفلسفي الذي ظل عال ًقا‬
‫يف وجدانه وعقله إضافة إىل حصيلته املعرفية اإلسالمية املتواضعة اليت ع ّرب عنها‬
‫يف مناسبات خمتلفة‪ ،‬ولعل هذا ما يفسر املقارانت التحليلية القوية اليت عقدها‬
‫أيضا مقارابته‬
‫بيجوفيتش بني اإلسالم واملسيحية واليهودية‪ ،‬كما يفسر ذلك ً‬
‫االجتهادية املهمة حول عالقة الدين ابلدنيا واألخالق والقانون والفن والتاريخ‬
‫والفلسفة‪.‬‬
‫‪ -6‬يغلب على أطروحات املسريي الطابع التفكيكي ابألساس بينما تبدو أطروحات‬
‫نظريه البوسين تفكيكية بنائية؛ إذ يعمد األخري إىل تفكيك الظاهرة حمل الدراسة‬
‫سواء كانت يف األخالق أو الفلسفة أو األداين وذلك عن طريق نقد مقوالهتا‬

‫راجع تفاصيل نقده حتت عنوان فرعي‪" :‬الشيوعية والنازية بعض احلقائق اليت ال جيوز نسياهنا" يف "هرويب‬ ‫‪52‬‬

‫إىل احلرية"‪ ،‬ص ‪.369-335‬‬


‫‪ 53‬عبد الوهاب املسريي‪ ،‬رحليت الفكرية سرية غري ذاتية غري موضوعية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الشروق‪ ،2006 ،‬ص‬
‫‪.142‬‬

‫‪301‬‬
‫وبيان ضعف قدرهتا التفسريية‪ ،‬مث يلحق ذلك بطرح رؤيته البنائية املستقاة من‬
‫اإلسالم‪ ،‬ولعل هذا يظهر بوضوح يف مناقشته ملسألة "اإلحلاد األخالقي"‬
‫ليخلص يف النهاية إىل استحالة أتسيس أخالق بال دين‪.54‬‬
‫اهتماما مركزًاي مبسألة أصل اإلنسان وطبيعة تركيبه‪،‬‬
‫ً‬ ‫‪ -7‬أوىل بيجوفيتش واملسريي‬
‫كامال مع بيان ما حتمله من‬ ‫نقدا بنائيًا ً‬
‫فاألول قد انشغل بنقد نظرية التطور ً‬
‫جتليات تتعدى إطار مسألة اخللق األول لتصل إىل جممل أوجه احلياة االجتماعية‬
‫وقت مبكر من حياته‬ ‫واألخالقية والسياسية واالقتصادية‪ ،‬بينما اهتم الثاين يف ٍ‬
‫مبسألة اخلري والشر يف النفس البشرية لدرجة أن ترجيحه ألحدمها كان سببًا يف‬
‫إحلاده بينما كان ترجيحه لآلخر سببًا يف عودته لإلميان وهو ما يلخصه يف‬
‫مقولة‪" :‬قادين الشر يف الطبيعة البشرية إىل التحول للماركسية والبعد عن‬
‫اإلسالم‪ ،‬مث قادين اكتشاف اخلري يف الطبيعة البشرية إىل الرجوع لعامل اإلميان‬
‫واإلنسان مرة أخرى"‪.‬‬
‫‪ -8‬ميكن االستفادة من أطروحات املسريي وبيجوفيتش حول اإلسالم ورؤيته‬
‫لإلنسان والعامل يف بناء خطاب إنساين عاملي وتطويره‪ ،‬يشتبك مع مهوم اإلنسان‬
‫َس ِر الفلسفات العلمانية املادية‬
‫املعاصر ومشاكله‪ ،‬ويسعى إىل استنقاذه من أ ْ‬
‫املعادية جلوهره املتميز عن الطبيعة واحليوان‪.‬‬
‫‪ -9‬مثة مداخل سائدة يف الدوائر األكادميية العربية واإلسالمية لنقد الغرب فلسفةً‬
‫نظما وحضارةً‪ ،‬بعض هذه املداخل يستخدم مقوالت ماركسية يف‬ ‫وفكرا‪ً ،‬‬
‫ً‬
‫مواجهة ما يسميه الغرب الرأمسايل‪ ،‬بينما البعض اآلخر ينطلق من مقوالت دينية‬
‫يف مواجهة ما يسميه الغرب املسيحي أو امللحد‪،‬كما تنطلق اجتاهات أخرى‬
‫من مقوالت وطنية حملية يف مقابل الغرب العاملي أو العوملي‪ ،‬إضافة إىل مداخل‬
‫واقرتاابت أخرى متعددة عادة ما تفشل يف تفسري أبعاد خمتلفة من احلضارة‬
‫الغربية‪ ،‬وميكن االستفادة من اجتهادات املسريي وبيجوفيتش يف بناء مدخل‬
‫إنساين جديد ذي قدرة تفسريية عاملية متجاوزة يساعدان يف فهم التشكيالت‬
‫احلضارية املختلفة للعامل على حنو أفضل‪.‬‬

‫‪ 54‬راجع مناقشته املستفيضة لتلك اجلزئية يف‪ :‬علي عزت بيجوفيتش‪ ،‬اإلسالم بني الشرق الغرب‪ ،‬ترمجة يوسف‬
‫عدس‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،)2013‬ص ‪.211-204‬‬
‫‪302‬‬
‫كما ميكن االستفادة من أطروحاهتما يف بناء مداخل علمية معاصرة‬ ‫‪-10‬‬
‫لدراسة اإلسالم وعقائده وعلومه وتعاليمه ونظمه وأحكامه‪ ،‬وتطويرها ومقارنتها‬
‫ابألداين األخرى من انحية والفلسفات احلديثة من انحية أخرى‪.‬‬

‫‪303‬‬
‫الفصل الرابع‪:‬‬
‫وائل حالق بني الغرب والشرق‪:‬‬
‫قراءة يف تطور نظرايته الفقهية والفكرية‬
‫‪1‬‬
‫حممد املراكيب‬
‫املقدمة‪:‬‬
‫حظي اتريخ الفقه اإلسالمي ابهتمام متزايد من املستشرقني‬
‫منذ منتصف القرن التاسع عشر امليالدي‪ ،‬وقد بدأت‬
‫الدراسات املخصصة للفقه يف العصر احلديث بكتاابت‬
‫إدوارد ساخاو (ت‪1930 :‬م) ‪Eduard Sachau‬‬
‫وسنوك هررخرونيه ‪Snouck Hurgronje‬‬
‫وصوال إىل إجناتس جولدتسيهر‬ ‫ً‬ ‫(ت‪1936:‬م)‬
‫(ت‪1921:‬م) ‪ Iganz Goldziher‬املستشرق‬
‫املعروف‪ ،‬والذي يرى هارلد موتسكي أن أحدًا مل يصل إىل‬
‫املستوى الذي بلغه يف نقد الدراسات الفقهية‪.2‬‬
‫وظلت تلك الدراسات تنمو وتزدهر حىت جاء جوزيف شاخت (ت‪1961 :‬م)‬
‫‪ Joseph Schacht‬فكتب كتابه "أسس الفقه احملمدي"‪ ،‬مث أتبعه بعد فرتة بكتابه‬

‫‪ 1‬الشكر موصول للدكتورة هبة رءوف عزت ملالحظاهتا على مسودة البحث‪ ،‬ولزوجيت آالء سلطان‪ ،‬وزميلي‬
‫أمحد مسنة على مراجعته‪.‬‬
‫‪Motzki, Harald. (2002). The Origins of Islamic Jurisprudence:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪Meccan Fiqh Before the Classical Schools. Leiden Boston: Brill.‬‬


‫"مقدمة للفقه اإلسالمي"‪ ،‬وقد مثلت كتاابت شاخت ذروة سنام الفكر االستشراقي‪،‬‬
‫قليال‪.3‬‬
‫وظل غالبية من أيتون بعده ينهلون من منهله ‪ -‬ال جياوزونه إال ً‬
‫ويف منتصف التسعينيات‪ 4‬من القرن العشرين برز على الساحة األكادميية الغربية كاتب‬
‫من أصل فلسطيين يردعى وائل حالق‪ .‬وقد ولد وائل هبجت حالق ألسرة مسيحية يف‬
‫الناصرة بفلسطني احملتلة سنة ‪ ،1955‬وحصل على درجته األوىل من جامعة حيفا‪ ،‬مث‬
‫حصل الح ًقا على درجة املاجستري من جامعة واشنطن‪ ،‬مث الدكتوراه من اجلامعة نفسها‬
‫سنة ‪ 1983‬عن رسالته "ابب االجتهاد‪ :‬دراسة يف اتريخ الفقه اإلسالمي"‪ .‬ويف عام‬
‫مساعدا جبامعة ماكجيل بكندا‪ ،‬مث حصل على درجة األستاذية سنة‬ ‫ً‬ ‫‪ 1985‬رعني أستاذًا‬
‫‪ 1994‬من اجلامعة نفسها‪ ،‬وهو يعمل حاليًا أستا ًذا يف جامعة كولومبيا ابلوالايت املتحدة‬
‫األمريكية‪.5‬‬

‫‪ 3‬للوقوف على مكانة شاخت يف الدراسات الفقهية‪ ،‬انظر‪:‬‬


‫‪Minhaji, A. (1992). Joseph Schacht's Contribution to the study‬‬
‫‪of Islamic Law. McGill: McGill University.‬‬
‫‪ 4‬وإن كان أول أحباثه املنشورة ‪-‬على حسب ما وقفت عليه‪ -‬يرجع لعام ‪ ،1984‬بعنوان‪Was the :‬‬
‫?‪gate of ijtihad closed‬‬
‫‪ 5‬انظر رسالته‪:‬‬
‫‪Hallaq, W. (1983). The Gate of Ijtihad: A Study in Islamic Legal‬‬
‫‪History. (Doctoral Dissertation). Retrieved on Oct. 2017 from,‬‬
‫‪https://is.gd/e9jH9w‬‬
‫وانظر تعريفه لنفسه يف مقدمة حبثه‪Hallaq, W. (1985-1986) The Logic of Legal :‬‬
‫‪Reasoning in Religious and Non-Religious Cultures: The Case‬‬
‫‪of Islamic Law and the Common. Law, 34 Clev. St. L. Rev. 79-‬‬
‫‪96‬‬
‫وانظر صفحته على موقع جامعة كولومبيا (زرهتا يف أكتوبر ‪https://is.gd/MNaG5R :)2017‬‬

‫‪306‬‬
‫وقد حاول حالق يف كتبه أن يزعزع اخلطاب االستشراقي يف كتاابت شاخت –حسب‬
‫تعبريه‪ -‬ومن شاكله من املستشرقني‪ ،‬ليعيد إىل الذاكرة جتربة مواطنه إدوارد سعيد والذي‬
‫ينته بعد يف كل من األكادميية الغربية والعربية‪ .‬فريى‬ ‫جدال مل ِ‬
‫أاثر بكتابه "االستشراق" ً‬
‫انقدا ملا يسميه النسق املعريف االستشراقي ‪orientalism‬‬ ‫حالق يف نفسه ً‬
‫‪ ،paradigmatic‬حيث يذهب إىل أن الدراسات الغربية املتعلقة ابلفقه على اختالفها‬
‫وتنوعها وتعدد نتائجها تبقى منطلقة من عقيدة استشراقية واحدة حبيث تشكل نس ًقا‬
‫اثبتًا‪ ،‬وهو املشروع الذي توارثه املستشرقون الدارسون للفقه اإلسالمي من جيل آلخر‪.6‬‬
‫ومع بدء قرن جديد كانت شهرة حالق قد ذاعت يف الدوائر األكادميية الغربية‪ ،‬وتررمجت‬
‫كثري من كتبه إىل األملانية والفرنسية واإليطالية والياابنية والرتكية والفارسية وابلطبع العربية‪،‬‬
‫ونشرا كتابه "الدولة املستحيلة"‪ ،‬والذي نشر بعد عام واحد من‬ ‫واليت كان آخرها ترمجةً ً‬
‫نشر نسخته اإلجنليزية‪.‬‬
‫بعض األفكار الرئيسة اليت قال هبا حالق‪ ،‬خاصة تلك‬ ‫وسنعرض يف هذه الورقة املوجزة َ‬
‫جدل كبري على الساحة الغربية والعربية‪ ،‬إما لنقدها لبعض اآلراء‬ ‫اليت كانت مثار ٍ‬
‫َ‬
‫معا يف الوقت ذاته‪.‬‬ ‫االستشراقية وإما لبعض اآلراء اإلسالمية التقليدية وإما رمبا لكليهما ً‬
‫عددا من الكتاابت وبيَّنا عالقتها اجلدلية بغريها من‬‫وقد ختريان من إنتاج حالق الضخم ً‬
‫الكتاابت السابقة والالحقة بقدر اإلمكان‪ ،‬وأتثريها يف املناخ األكادميي والثقايف بصفة‬
‫عامة وأتثرها به‪ ،‬مع روح نقدية ال ختلو منها الدراسة‪ .‬كما حرصنا على تتبع التطورات‬
‫اليت طرأت على أفكار حالق وعلى رصد التغريات ‪ -‬غري القليلة ‪ -‬يف بعض آرائه خالل‬
‫مراحل حياته العلمية‪ .‬وقد قسمنا البحث إىل أربعة حماور رئيسة‪ ،‬متثل أهم القضااي واحملاور‬
‫اليت تطرق هلا حالق يف حياته األكادميية‪ :‬األول منها هو نشأة الفقه اإلسالمي‪ ،‬والثاين‬
‫هو االجتهاد وتطور الفقه‪ ،‬والثالث هو الفقه اإلسالمي يف الواقع املعاصر‪ ،‬أما احملور‬
‫الرابع واألخري فكان عن الشريعة والدولة ونقد احلداثة‪ ،‬مع خامتة رْجت ِمل أبرز املالمح‬
‫العامة لفكر حالق‪.‬‬

‫‪Hallaq, W. (2011). On Orientalism, Self-Consciousness and‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪History. Islamic Law and Society, 18 387-439.‬‬


‫‪307‬‬
‫اجلدل حول نشأة الفقه اإلسالمي‪:‬‬
‫ظل التساؤل حول نشأة اإلسالم ميثل سؤ ًاال مركزًاي يف الكتاابت االستشراقية منذ أمد‬
‫قليال ابلفرتة الزمنية الوسيطة الواقعة بني النشأة والعصر‬
‫طويل‪ ،‬يف حني كان االهتمام ً‬
‫اقتباسا و"استعارة" ‪-‬‬
‫احلديث‪ .‬فقد كانت النظرة االستشراقية لإلسالم ترى فيه حتري ًفا و ً‬
‫على حد تعبري حالق‪ -‬ملا قبله من أداين وحضارات‪ ،‬فلم يرعن املستشرقون بدراسة شيء‬
‫من اإلسالم قدر عنايتهم ببداية القرآن وبداية احلديث وبداية الفقه‪ ،‬من حيث التوقيت‬
‫الزمين ومن حيث اعتمادها على ما كان حوهلا من حضارات‪ ،‬خاصة احلضارة الرومانية‬
‫دائما من هذه الدراسات هو الوقوف على "األصل" الذي‬ ‫كما رأوا‪ ،‬وكان الغرض ً‬
‫اقتبست منه هذه العلوم كما يقول حالق‪ .‬ويربط حالق بني هذه النزعة حنو دراسة‬
‫"أصل" اإلسالم وبني األهداف السياسية واأليديولوجية لالستعمار والذي كان يسعى‬
‫لزعزعة اهلوية املستقلة للشعوب وجعلها اتبعةً له وحلضارته املتقدمة منذ قدمي األمد‪.7‬‬
‫فنجد مستشرقًا مثل إجناتس جولدتسيهر ‪-‬على سبيل املثال‪ -‬يرى أن الفقه اإلسالمي‬
‫أتثر بقوة وعمق بكل من احلضارة اهليلنية بصفة عامة والقانون الروماين بصفة خاصة‪،‬‬
‫وقد حدث هذا التأثر أثناء اخلالفة األموية حني اختذت من دمشق عاصمةً هلا‪ ،‬وهناك‬
‫سائدا يف بالد الشام‪ ،‬وقد كان هذا التأثر‬
‫اقتبس اإلسالم من القانون الروماين الذي كان ً‬
‫‪8‬‬
‫هو السبب الرئيس يف تطور الفقه اإلسالمي إىل هذا النظام الذي نشهده اليوم ‪ .‬أما‬
‫يوِزف شاخت فيبدو أنه نقل نقطة التلقي واالستدانة إىل مكان آخر‪ ،‬فهو يرى يف العراق‬
‫‪-‬وليس الشام‪ -‬املكان الذي انتقل منه القانون الروماين إىل الفقه اإلسالمي‪ .‬تقول‬
‫تلميذته يف الفكر االستشراقي ابتريشا كرون‪:‬‬

‫‪Hallaq, W. (2002-2003). The Quest for Origins or Doctrine:‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪Islamic Legal Studies as Colonialist Discourse. UCLA Journal of‬‬


‫‪Islamic and Near Eastern Law. (2) 1-32‬‬
‫‪Goldziher, I. (1981). Introduction to Islamic theology and law. 8‬‬
‫‪New Jersey: Princeton University Press. P.5‬‬

‫‪308‬‬
‫"اعتقد شاخت أن كل العناصر األجنبية يف الفقه اإلسالمي إمنا اقتبسها اإلسالم من بالد‬
‫كثريا من‬
‫العراق‪ ،‬حيث ولد هناك الفقه اإلسالمي الكالسيكي‪ ،‬أما فيما يتعلق أبن ً‬
‫العناصر الرومانية تبدو يف ظاهرها غري رومانية‪ ،‬فهذا إمنا يرجع إىل التغريات اليت تعرض‬
‫هلا القانون الروماين يف فرتات زمنية طويلة قبل انتقاله لإلسالم"‪.9‬‬
‫مباشرا‪ ،‬وإمنا كان ذلك يف فرتة‬
‫أتثرا ً‬
‫وترى كرون أن التأثر مل يكن يف العراق كما مل يكن ً‬
‫حكم األمويني يف الشام حني جعلوا من دمشق عاصمةً هلم‪ ،‬وأن هذا االنتقال كان من‬
‫خالل اخللفاء أنفسهم والذين مثلوا السلطة الدينية العليا يف اإلسالم‪ .10‬وهو األمر الذي‬
‫يصفه حالق ‪ -‬يف ورقة خصصها لنقد أحد كتبها الذي بنته على هذه الفرضية ‪ -‬أن‬
‫كرون ال تدري ماذا تريد أن تقول يف كتاهبا ذاك‪ ،‬مع ضعف منهجيتها وختبط أقواهلا‪،‬‬
‫انهيك عن أن كتاهبا ال يرقى حىت ملستوى الفرضية العلمية مع خلوه من أي إضافة‬
‫حقيقية‪.11‬‬
‫ويرى حالق أن العرب يف اجلزيرة العربية كانوا قد وصلوا من التقدم والرقي قبل اإلسالم‬
‫موجودا يف‬ ‫نظاما رحم َك ًما من املؤسسات مشاهبًا ملا كان‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫إىل مكانة تؤهلهم أن ميتلكوا ً‬
‫احلضارة الرومانية والساسانية‪ ،‬وذلك حىت قبل قدوم اإلسالم بفرتة طويلة‪ ،‬فالغساسنة ‪-‬‬
‫وهم عرب سكنوا مشال اجلزيرة العربية ‪ -‬أخذوا الكثري من احلضارة الرومانية وكذلك فعل‬
‫اللخميون مع حلفائهم الساسانيني‪ .12‬وعلى هذا‪ ،‬فإن شبه اجلزيرة العربية مل تكن على‬

‫‪Crone, P. (1987). Roman, Provincial, and Islamic law: The‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪Origins of the Islamic Patronate. Cambridge: Cambridge‬‬


‫‪University Press. P.5‬‬
‫‪ 10‬املرجع السابق‪ .‬ص‪99‬‬
‫‪Hallaq, W. (1990). The Use and Abuse of Evidence: The‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪Question of Provincial and Roman Influences on Early Islamic‬‬


‫‪Law. Journal of the American Oriental Society, 110(1), 79-91. P.91‬‬
‫‪Hallaq, W. (2005). The Origins and Evolution of Islamic Law. 12‬‬
‫‪Cambridge, UK New York: Cambridge University Press. PP. 8-19‬‬

‫‪309‬‬
‫تلك الصورة املتخيلة من البداوة والعزلة عن ابقي احلضارات‪ ،‬بل كانت على اتصال مباشر‬
‫وغري مباشر حبضارات الساسانيني والبيزنطيني واملصريني وبالد احلبشة بل وابحلضارات‬
‫اهلندية والصينية كذلك‪ ،‬فكانت بذلك جزءًا ال يتجزأ من حضارة الشرق األوسط؛ ولذا‬
‫فإن املسلمني حني فتحوا بالد العراق والشام مل يكونوا خلو اليدين من الثقافة واحلضارة‪،‬‬
‫كثريا عن ما كان عليه األمر‬
‫بل كانوا متسلحني حبضارهتم وثقافتهم واليت كانت ال ختتلف ً‬
‫نظاما قانونيًا من غريهم‬
‫يف الدول احمليطة‪ ،‬فلم يكن املسلمون يف حاجة إىل أن يقتبسوا ً‬
‫‪13‬‬
‫من الدول فقد كان هلم نظامهم اخلاص الذي طوروه أبنفسهم‪ ،‬على حد قول حالق ‪.‬‬
‫أما فيما يتعلق ابملصادر التشريعية للفقه اإلسالمي‪ ،‬فقد ظل القرآن يف اعتبار املستشرقني‬
‫شر ًعا مل يبدأ يف نظرهم إال‬
‫كتااب رم ّ‬
‫مصدرا هامشيًا‪ ،‬عالوة على أن أتثريه القانوين واعتباره ً‬
‫ً‬
‫بعد موت النيب صلى هللا عليه وسلم بفرتة طويلة‪ ،‬فيقول شاخت ‪ -‬على سبيل املثال ‪-‬‬
‫‪" :‬إن القانون احملمدي مل يرقتبَس مباشرة من القرآن لكنه تطور‪ ...‬من املمارسات الشعبية‬
‫واإلدارية يف ظل حكم األمويني‪ ،‬وهذه املمارسات كانت يف الغالب متثل مفارقة مع‬
‫أهداف القرآن‪ ،‬بل ويف بعض األحيان مع نصه الظاهر"‪ ،14‬وال يكتفي هبذا بل يررجع‬
‫عالوة على ذلك بداية الدور القرآين إىل ما بعد القرن اإلسالمي األول‪ ،‬يف حني أن‬
‫كولسن ‪ Neol Coulson‬يررجع بداية الدور التشريعي القرآين إىل بعد وفاة النيب‬
‫صلى هللا عليه وسلم مباشرة‪ ،‬لكنه هو اآلخر يقلل من أتثريه بقوله إن اآلايت "القانونية"‬
‫فيه ال تتعدى ‪ 80‬آية‪.15‬‬

‫‪ 13‬املرجع السابق‪.‬‬
‫‪Hallaq, W. (2009). Groundwork of the Moral Law: A New‬‬ ‫‪14‬‬

‫‪Look at the Qur"ān and the Genesis of Sharī’a. Islamic Law and‬‬
‫‪Society, 16 239-79. P.241‬‬
‫واللفظ من ترمجيت للورقة لصاحل الشبكة العربية لألحباث والنشر ببريوت‪ ،‬وكذا جل االقتباسات التالية ما مل أشر‬
‫خلالف هذا‪.‬‬
‫‪ 15‬املرجع السابق‪.‬‬

‫‪310‬‬
‫أما حالق فيؤكد على أن الدور التشريعي للقرآن يرجع إىل منتصف الفرتة املدنية يف عهد‬
‫النيب وابلتحديد يف السنة اخلامسة للهجرة النبوية‪ ،‬وهي السنة اليت بدأ القرآن يتجه فيها‬
‫إىل ما يسميه حالق ابلنقلة التشريعية يف اتريخ الوحي‪ ،‬وهي النقلة اليت حدثت نتيجة‬
‫التهديد املعريف لليهود يف املدينة مما استدعى أن يسعى حممد إىل أن يكون له تشريع‬
‫مر مبرحلتني‪ :‬األوىل كان يرى النيب فيها‬
‫مستقل مناهض هلم‪ .‬وهو هنا يدعي أن اإلسالم َّ‬
‫أن اإلسالم هو تتمة واستمرار لألداين السابقة خاصة الداينة اليهودية واليت كان ألتباعها‬
‫وجود مؤثر يف املدينة‪ ،16‬مث حدثت هذه النقلة حني مل يستطع النيب إقناع اليهود بصحة‬
‫دينه التوحيدي‪ ،‬وهم كانوا سدنة التوحيد يف اجلزيرة العربية؛ ولذا مل جيد القرآن أمام هذا‬
‫التهديد املعريف من اليهود إال أن ينتقل من دوره العبادي إىل دور تشريعي جديد‪ ،‬وكانت‬
‫هذه هي املرحلة الثانية‪ .‬ويتبىن حالق هنا نظرية املستشرق اليهودي غويتني ‪Goitein‬‬
‫حبذافريها حول ما يسميه التحول القرآين املفاجئ حنو االهتمام ابجلانب التشريعي غري‬
‫الشعائري‪ .17‬وهي النظرية اليت سيرتاجع عنها حالق بصراحة‪ ،‬بل وينتقدها بقوة يف ورقة‬
‫أخرى سنتعرض هلا الحقا يف هذا البحث‪.‬‬
‫أما املصادر األخرى للتشريع يف صدر اإلسالم فيبدو أن أحد أهم هذه املصادر ابلنسبة‬
‫إىل حالق كانت أحكام القضاة األوائل‪ ،‬والذين كانوا غري متخصصني يف الفقه وإمنا كانوا‬
‫موظفني إداريني كما يرى حالق‪ ،‬ومن مثَّ فقد اعتمدوا يف الغالب على أساسني يف‬
‫"السنة املاضية" وهو يعين هبا عمل اخللفاء‬ ‫التشريع‪ :‬األول هو ما يسميه حالق ُّ‬
‫والصحابة‪ ،‬واألمر الثاين هو رأيهم الشخصي‪ .‬وحالق يصف أولئك القضاة أبهنم مل‬
‫للم َح ّكمني يف اجلاهلية‪ ،‬وأهنم مل يكونوا‬
‫امتدادا ر‬
‫ً‬ ‫يكونوا قضاة ابملعىن الدقيق وإمنا كانوا‬
‫متاما أبحكام القرآن يف قضاايهم ‪ -‬وإن كانوا على التزام مببادئه العامة ‪ -‬حىت‬ ‫ملتزمني ً‬

‫‪Hallaq, W. (2005). The origins and evolution of Islamic law. 16‬‬


‫‪Cambridge, UK New York: Cambridge University Press. PP. 19-20‬‬
‫‪ 17‬انظر‪:‬‬
‫‪Goitein, S. (1960). The Birth-Hour of Muslim Law? An Essay‬‬
‫‪in Exegesis. Muslim World, 5 (1) pp.23-29‬‬

‫‪311‬‬
‫إن بعضهم أجاز شرب اخلمر حسب دعوى حالق‪ .18‬وهذا يف رأيي ال خيتلف يف شيء‬
‫امتدادا لنظام "التحكيم" يف‬
‫عن كالم شاخت يف كون القضاة املسلمني األوائل إمنا كانوا ً‬
‫اجلاهلية ومل يكونوا قضاة على احلقيقة إال يف كون حالق قد أرجع ظهور القضاة إىل‬
‫العهد النبوي يف حني أجله شاخت ألواخر اخلالفة األموية‪ ،19‬وال اختلف كذلك عن‬
‫كالم كولسن الذي يرى أنه مل يكن هناك حدود العتماد القضاة على آرائهم الشخصية‬
‫يف إصدار األحكام‪.20‬‬
‫أما سنة النيب صلى هللا عليه وسلم فيقول حالق إهنا مل تظهر بقوة كسنة متمايزة ومستقلة‬
‫عن سنن الصحابة واخللفاء وما إىل ذلك إال يف النصف الثاين من القرن األول للهجرة‬
‫وأوائل الثاين‪ ،‬ويررجع حالق أتخر االهتمام ابلسنة النبوية ‪-‬على الرغم من إشارة القرآن‬
‫هلا‪ -‬إىل حاجة املسلمني للوقت والتدرج حىت يستطيعوا أن يتشربوا كل املبادئ اإلسالمية‬
‫الواردة يف القرآن‪ ،‬وهذا ال ينفي كما يقول حالق أنه كان مثة تقدير للسنة النبوية من‬
‫كسنة من ضمن سنن أخرى‪ .21‬ويف ورقة أخرى يذهب‬ ‫البداية إال أهنا كان ينظر هلا ر‬
‫حالق ‪-‬خالفًا لشاخت‪ -‬إىل أننا ال ميكن أن نقول إن األصل يف األحاديث اليت تنسب‬
‫إىل النيب أهنا أحاديث مكذوبة حىت يثبت العكس‪ ،‬ويعرتض على هذا احلكم املسبق‬
‫واملعمم‪ .‬وقد حاول حالق أن ِّ‬
‫يبني زيف املشكلة القائمة بني املسلمني واملستشرقني حول‬
‫صحة األحاديث‪ ،‬وأن املسلمني أنفسهم ال يعرتفون أبن كل ما نرسب للنيب من أحاديث‬
‫هو صحيح‪ ،‬بل منه الصحيح والضعيف واملوضوع املختلق على النيب‪ ،‬ويضيف حالق‬

‫‪ 18‬يبدو أن حالق مل يتنبه للكالم عن النبيذ عند أهل العراق‪ .‬انظر‪:‬‬


‫‪Hallaq, W. (2005). The Origins and Evolution of Islamic Law.‬‬
‫‪Cambridge, UK New York: Cambridge University Press. PP. 34-40‬‬
‫‪Schacht, J. (1964). An Introduction to Islamic Law. Oxford:‬‬ ‫‪19‬‬

‫‪Clarendon Press. P.16‬‬


‫‪Coulson, Noel. (2011). A History of Islamic Law. New 20‬‬
‫‪Brunswick, N.J: Aldine Transaction.‬‬
‫‪Hallaq, The Origins and Evolution of Islamic Law, op.cit. PP. 21‬‬
‫‪101-109‬‬

‫‪312‬‬
‫أن األصوليني يفرقون بني نوعني من األحاديث‪ :‬األول هو املتواتر‪ ،‬والثاين هو حديث‬
‫مقطوعا به‪ ،‬فإن الثاين ‪-‬وهو ميثل األغلبية العظمى من‬ ‫ً‬ ‫اآلحاد؛ وإذا كان األول‬
‫موضوعا حىت من املنظور اإلسالمي‬
‫ً‬ ‫صحيحا أو ضعي ًفا أو‬
‫ً‬ ‫األحاديث‪ -‬جيوز أن يكون‬
‫التقليدي‪ .‬ولذا فإن اإلشكالية املثارة بني املستشرقني والعلماء التقليديني هي مشكلة غري‬
‫مربرة؛ ألن علماء املسلمني أنفسهم قد وجدوا ًّ‬
‫حال هلذه املشكلة منذ قدمي األمد‪ ،‬وقرروا‬
‫صحيحا ابلضرورة‪ ،‬لكن اإلشكال هو أننا مل‬
‫ً‬ ‫أن كل ما نسب للنيب ال جيب أن يكون‬
‫جيدا على حسب قوله‪.22‬‬‫نستمع إليهم ً‬
‫ويبقى هنا السؤال عن مدى التوافق أو االختالف بني حالق وبني املستشرقني يف كل ما‬
‫سبق‪ .‬يقول ديفيد ابورز يف مراجعته لكتاب حالق عن نشأة الفقه اإلسالمي إن حالق‬
‫عناصر من الثقافة البيزنطية والرومانية قد دخلت للحجاز‪ ،‬لكن هذه‬ ‫َ‬ ‫يذهب إىل أن هناك‬
‫شربت"‪ ،‬مث يتساءل عن الفرق بني أن أيخذ العرب من‬ ‫العناصر مل "ترقتبس" لكنها "تر ِّ‬
‫احلضارات األخرى قبل مقدم اإلسالم أو بعد قدومه؟ أو بعبارة أخرى يتساءل عن الفرق‬
‫بني افرتاض حالق هذا وبني آراء املستشرقني قبله‪23‬؟ ولعل هذا االنتقاد رمبا هو ما دفع‬
‫حالق ليشري يف ورقة أخرى إىل سوء فهم ابورز لفكرته تلك‪ ،‬وليتحدث عن كيان شرق‬
‫أوسطي واحد كان العرب جزءًا ال يتجزأ منه‪ ،‬وجنحوا فيه كما جنح غريهم يف الوصول‬
‫كثريا‪ .24‬يقول حالق‪" :‬إن شبه اجلزيرة العربية‬
‫لقوانني متقدمة ال ختتلف عن قوانني جرياهنم ً‬
‫قبل اإلسالم قد أنتجت ثقافة شبيهة جدًّا بتلك اليت كانت موجودة يف املناطق األخرى"‪.‬‬
‫ويضيف‪" :‬لقد كان العرب دميوغرافيًا ودينيًا وجتارًاي‪ ،‬ورمبا نضيف سياسيًا وعسكرًاي جزءًا‬
‫ال يتجزأ من الشرق األدَّن األكرب وثقافته"‪.25‬‬

‫‪Hallaq, W. (1999). The Authenticity of Prophetic Hadith: A‬‬ ‫‪22‬‬

‫‪Pseudo-problem. Studia Islamica, 89 PP. 75-90‬‬


‫‪Powers, D. (2010). Wael B. Hallaq on the Origins of Islamic‬‬ ‫‪23‬‬

‫‪Law: A Review Essay. Islamic Law and Society, 17 126-157. P.15‬‬


‫‪Hallaq, W. (2011). On Orientalism, Self-Consciousness and‬‬ ‫‪24‬‬

‫‪History. Islamic Law and Society, 18 387-439. P.432‬‬


‫‪ 25‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.423‬‬
‫‪313‬‬
‫ويبدو هنا أن حالق يتبىن نظرة شبيهة ابلنظرة االستشراقية اليت انتقدها إدوارد سعيد حول‬
‫وجود كيان وجودي ومعريف واحد يسمى املشرق ‪- Orient‬وإن كان حبدود جغرافية‬
‫أصغر هذه املرة تشمل ما يسميه حالق مبصطلح معاصر‪ :‬الشرق األوسط ‪Middle‬‬
‫‪ ،East‬هذا الكيان متماثل يف طبيعته املعرفية ويف نظمه وعاداته وقوانينه‪ ،‬وهذا ابلطبع‬
‫ينسحب على نظرته لشبه اجلزيرة العربية أيضا على أهنا كيان واحد‪ ،‬فنجده يساوي بني‬
‫املمالك اليت قامت على أطراف اجلزيرة العربية وبني من كان يسكن الصحراء القاحلة يف‬
‫احلجاز وجند دون أن يبني لنا حالق أي نوع من الثقافة واحلضارة كانت لدى قبائل‬
‫العرب وما العلة اليت استخدمها للمساواة بني حضارة املمالك يف أطراف اجلزية العربية‬
‫وبني صحراء اجلزيرة حيث نشأ النيب صلى هللا عليه وسلم وحيث تواترت األدلة على أهنم‬
‫مل يكونوا أرابب حضارة وممالك‪ .‬ويبدو أن ما أجلأه إىل هذا هو احلاجة لتفسري الثروة‬
‫املعرفية والقانونية الضخمة اليت جاء هبا اإلسالم فجأة‪ ،‬وألن حالق حبكم خلفيته العقيدية‬
‫بد أن يسعى‬ ‫منزل من السماء؛ فإنه ال َّ‬
‫وحي َّ‬
‫ال يؤمن ‪ -‬كما يؤمن املسلمون ‪ -‬أبن هذا ٌ‬
‫خمرجا ما من هذه األزمة‪ ،‬واحلل الوحيد ابلنسبة إليه هو أن يقول بوجود حضارة‬ ‫ليجد ً‬
‫متقدمة يف شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬يف حماولة دفاع ضد دعوى االعتماد على "الغرب"‪.‬‬
‫كما أن تصور حالق ملفهوم االستشراق يبدو تصورا حمدودا نسبيًّا‪ ،‬فهو يركز على فكرة‬
‫اعتماد الشرق على الغرب يف تشكيل ثقافته وعلومه وقوانيه‪ ،‬وعلى الرغم من حمورية هذه‬
‫الفكرة يف الكتاابت االستشراقية فإن حصر االستشراق يف تلك الفكرة أو على األقل‬
‫تضخيم مكانتها يف مقابل هتميش ابقي األفكار االستشراقية قد أدى حبالق إىل أن يتبىن‬
‫أفكارا هي من صلب الرتاث االستشراقي‪ ،‬كما يف‬‫أحياان أخرى‪ً -‬‬‫بغري وعي ‪-‬ورمبا بوعي ً‬
‫فكرة التهديد املعريف لليهود اليت حتدثنا عنها‪.‬‬
‫ويف رد حالق على كالم ابورز‪ ،‬يستشهد حالق كيف أن ابورز يقول عنه إنه مل يستطع‬
‫كثريا عن أفكار شاخت ومن ماثله‪ ،‬مث يقول يف حمل آخر إن حالق يتعمد تبين‬ ‫أن يبتعد ً‬
‫نظرة على النقيض من أي رأي استشراقي‪ ،anti-orientalism‬وهو الكالم الذي‬
‫‪26‬‬
‫نوعا من‬
‫قال عنه حالق إنه دليل على تناقض ابورز ‪ ،‬لكن الواقع يبدي أن هناك ً‬
‫الصحة يف كالم ابورز "ابلنسبة إىل بعض القضااي على األقل"‪ ،‬ففكرة النقلة التشريعية‬

‫‪Hallaq, On Orientalism, op.cit., P.429 26‬‬


‫‪314‬‬
‫اليت حدثت للقرآن بسبب التهديد املعريف لليهود ‪-‬قبل أن يرتاجع عنها حالق‪ -‬والكالم‬
‫عن هتميش دور السنة النبوية يف التشريع اإلسالمي‪ ،‬انهيك عن القول بتجاهل القضاة‬
‫األوائل ألحكام معلومة من الدين ابلضرورة واعتمادهم على العقل ودور ذلك يف تطور‬
‫كثريا‪ -‬عن آراء املستشرقني‪ ،‬صحيح أن حالق قد‬ ‫الفقه‪ ،‬كل ذلك ال يبدو أنه اختلف ‪ً -‬‬
‫خطا يف كل تلك املسائل خطوات تبتعد كثريا أو قليال عن آراء من سبقه‪ ،‬لكن هذه ال‬
‫يعين ابلضرورة خروجه عن النسق الذي قال إنه حياول نقده يف تلك املسائل‪ ،‬فاملستشرقون‬
‫أنفسهم قد اختلفوا فيما بينهم يف مثل تلك التقديرات ومل يعن هذا خروجهم عن نسق‬
‫االستشراق حبال‪ .‬ويف املقابل جند حماولةً مثل القول بوجود حضارة متقدمة يف صحراء‬
‫شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬ومثل هتميش دور رسالة الشافعي على سبيل املثال يف أتسيس أصول‬
‫كتااب للحديث ال ألصول الفقه‪ ،27‬يف حماولة‬
‫الفقه‪ ،‬واحلديث عن كتابه "الرسالة" بوصفه ً‬
‫للهروب من الرتكيز االستشراقي على جهود الشافعي ودعواهم أن التنظري للفقه اإلسالمي‬
‫قد اكتمل وبلغ أوجه مع الشافعي‪ ،‬مما مكنهم من القول إن ابب االجتهاد قد أرغلق يف‬
‫بداية القرن الرابع اهلجري مبا أن فقهاء املسلمني مل جيدوا ما يضيفونه‪ ،‬يبدو هذا ابلفعل‬
‫كيزا على تبين نظرة على النقيض اآلخر من االستشراق ‪anti-orientalism‬‬ ‫تر ً‬
‫للهروب من بعض اإلشكاليات اليت يرى حالق أهنا قد تلزم عنها‪ .‬وابلطبع ليس هذا يف‬
‫مجيع املسائل اليت تناوهلا حالق ابلبحث‪ ،‬فليس ملنصف أن ينكر االنتقادات الكثرية اليت‬
‫وجهها حالق لألفكار االستشراقية‪ ،‬واليت إن مل تظهر بقوة يف هذا املبحث‪ ،‬لكننا‬
‫سنتعرض هلا يف املباحث األخرى‪.‬‬

‫‪Hallaq, W. (1993). Was al-Shafi'i the Master Architect of 27‬‬


‫‪Islamic Jurisprudence? International Journal of Middle East‬‬
‫‪Studies, 4 PP. 587-605. & Hallaq, W. (1997). A History of Islamic‬‬
‫‪Legal Theories: An Introduction to Sunnī Uṣūl Al-Fiqh.‬‬
‫‪Cambridge: Cambridge University Press.‬‬
‫‪315‬‬
‫االجتهاد وتطور الفقه اإلسالمي‪:‬‬
‫لعل هذا املبحث كان من أوائل املباحث الفقهية اليت عمل عليها وائل حالق‪ ،‬والذي‬
‫نشر أول ورقة عنه سنة ‪ ،281984‬ويرى حالق أن احلديث عن إغالق ابب االجتهاد‬
‫أمر ال دليل عليه‪ ،‬بل إن األدلة كلها قد تضافرت على دحضه‪،‬‬ ‫منذ القرن الرابع اهلجري ٌ‬
‫شائعا يف الفكر‬‫وهذا االعتقاد إبغالق ابب االجتهاد منذ القرن الرابع كان ‪-‬وما زال‪ً -‬‬
‫احملدثني‬
‫مثال أحد علماء األزهر َ‬
‫االستشراقي واإلسالمي احلديث على حد سواء‪ ،‬فنجد ً‬
‫كالشيخ حممد أيب زهرة يقول يف كتابه عن اتريخ املذاهب اإلسالمية‪" :‬كان لكل إمام‬
‫تالميذه‪ :‬اتبعوه وهنجوا هنجه مث جاء من بعدهم َم ْن درسوا تلك اآلراء املروية‪ ،‬وهكذا‬
‫أخذ االتباع يسود التفكري الفقهي‪ ،‬ومن وراء االتباع كان التقليد‪ ،‬فالتقليد صار من القرن‬
‫تقليدا كليًّا‬
‫تقليدا جزئيًا ابتداءً‪ ،‬مث أخذ نطاقه يتسع حىت صار ً‬
‫الرابع اهلجري لكنه كان ً‬
‫يف آخر العصور"‪ .29‬ويصف شاخت هذا فيقول‪:‬‬
‫"ببداية القرن الرابع اهلجري ظهرت فكرة انسداد ابب االجتهاد حني رأى الفقهاء أن كل‬
‫املسائل الضرورية قد رحبثت ابستفاضة واستقر القول فيها‪ ،‬كما بدأ اإلمجاع يتشكل تدرجييًا‬
‫فصاعدا َم ْن ميلك مقومات االجتهاد‪ ،‬ومن مثَّ فإن دور‬
‫ً‬ ‫حول أنه مل يعد هناك من اآلن‬
‫منحصرا يف الشرح والتنزيل واالكتفاء بتفسري األحكام الثابتة اليت أرساها‬
‫ً‬ ‫الفقهاء سيكون‬
‫الفقهاء األوائل واليت ما زالت ابقية ال تتغري يف أقصى تقدير‪ ،‬وهو األمر الذي عرف‬
‫"ابنسداد ابب االجتهاد" والذي عىن بدوره الدعوة للتقليد‪ ،‬وهذا املصطلح الذي كان‬
‫معتادا عليه يف‬
‫يستخدم يف األساس للداللة على عزو األمر إىل الصحابة‪ ،‬وهو ما كان ً‬

‫‪Hallaq, W. (1984). Was the Gate of Ijtihad Closed? International 28‬‬


‫‪Journal of Middle East Studies, 16(1) PP.3-41.‬‬
‫وكان يف األصل أطروحته لنيل درجة الدكتوراه‪.‬‬
‫‪29‬حممد أبو زهرة‪ ،‬اتريخ املذاهب اإلسالمي يف السياسة والعقائد واتريخ املذاهب الفقهية‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار‬
‫الفكر العريب)‪ ،‬بال اتريخ‪ .‬ص ‪.289‬‬

‫‪316‬‬
‫املذاهب الفقهية القدمية‪ ،‬يف حني صار معناه اآلن قبول آراء األئمة املعتربين واملذاهب‬
‫الفقهية املعتمدة دون نظر أو تفكري"‪.30‬‬
‫وليثبت حالق خطأ القول ابنسداد ابب االجتهاد يف القرن الرابع‪ ،‬فإنه يلجأ إىل إثبات‬
‫هذا من حيث التنظري والتطبيق‪ ،‬فبقراءة للكثري من كتب أصول الفقه اليت صنفت يف‬
‫ذلك العصر ال جيد حالق ما يشري إىل أن الشروط اليت وضعها األصوليون لالجتهاد من‬
‫الصعب توافرها انهيك عن استحالة ذلك‪ ،‬وأيخذ حالق يف عرض أقوال أيب احلسني‬
‫البصري مث الغزايل واآلمدي وغريهم من األصوليني‪ ،‬واليت تدور جلها حول معرفة آايت‬
‫األحكام‪ ،‬وأن يكون على اطالع ابألحاديث اليت حيتاج الوصول هلا ويقدر أن مييز بني‬
‫صحيحها وضعيفها‪ ،‬وأن يعلم كتب الفروع ومسائل اإلمجاع‪ ،‬وكيف يستنبط األدلة من‬
‫جل هذا ال تشرتط يف اجملتهد‬‫النصوص‪ ،‬وأن يعلم العربية‪ ،‬والناسخ واملنسوخ‪ ،‬وهي يف ِّ‬
‫أن يكون قد بلغ مبلغا كمبلغ سيبويه يف اللغة أو البخاري يف احلديث‪ .‬مث خيتم ذلك‬
‫بقوله‪" :‬ومن مثَّ فإنه سيكون من اجملاورة للصواب أن نفرتض أن شروط االجتهاد اليت‬
‫مستحيال‪ .‬فإن‬
‫ً‬ ‫أمرا‬
‫ذكرت يف مصنفات العلماء املسلمني قد أدت إىل جعل االجتهاد ً‬
‫إمجايل املعرفة املطلوبة من الفقهاء قد مكنت الكثريين من االجتهاد يف ابب من الفقه أو‬
‫آخر‪ ،‬كما سنرى الح ًقا‪ .‬بل إن الفقهاء قد سهلوا ابب االجتهاد أكثر حني قالوا برفع‬
‫أجرا عند هللا‪ ،‬أما لو أصاب فله أجران‪ .‬وإذا‬
‫اإلمث عن اجملتهد املخطئ‪ ،‬بل قالوا إن له ً‬
‫كان األمر كما ترى‪ ،‬فإن إبمكاننا أن نقول بنوع من الثقة إن من الصعوبة مبكان أن‬
‫حنمل النظرية الفقهية مبا تضمنته من شروط لالجتهاد املسؤوليةَ يف تضييق مساحة‬ ‫ّ‬
‫االجتهاد‪ ،‬انهيك عن إغالق اببه"‪.31‬‬
‫ويضيف حالق إىل ذلك دليال آخر وهو أن املدارس الفقهية ما إن أخذت يف االنتظام‬
‫وشرعت يف ترسيخ أصوهلا وقواعدها حىت بدأت تدرجييًا يف إقصاء املذهب الظاهري الذي‬
‫ينكر القياس ‪-‬وهو أحد أهم طرق االجتهاد‪ -‬إىل خارج دائرة أهل السنة واجلماعة‪ ،‬ومل‬
‫ِ‬
‫أيت القرن الرابع حىت كان الظاهرية قد أرخرجوا ابلفعل من حظرية أهل السنة واجلماعة‪،‬‬
‫صنفت يف االختالفات الفقهية يف القرنني الرابع واخلامس‬
‫حىت إن كتب االختالف اليت ر‬

‫‪Hallaq, Was the Gate of Ijtihad Closed, op.cit., P.330‬‬


‫‪ 31‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪317‬‬
‫اهلجريني قررت أن اإلمجاع ال ينخرق مبخالفة أهل الظاهر‪ .‬ويذكر ابن خلدون يف القرن‬
‫درس اليوم بدروس أئمته وإنكار اجلمهور على‬ ‫الثامن اهلجري أن "مذهب الظاهر َ‬
‫منتحله"‪ ،‬وهو دليل على أمهية االجتهاد يف ذلك العصر‪ ،‬حىت إن َم ْن ينكر القياس ‪-‬‬
‫وهو أهم سبل االجتهاد– قد أرخرج من دائرة أهل السنة‪.32‬‬
‫أما من الناحية العملية فذهب حالق إىل أن اجملتهدين يف القرنني الثالث والرابع اهلجريني‬
‫كانت هلم اجتهادات شخصية واضحة يف الفقه‪ ،‬سواء أكانوا جمتهدين مستقلني أم‬
‫جمتهدي مذهب‪ ،‬فنجد أمثلة واضحة جملتهدين مستقلني‪ :‬كابن سريج (ت‪306 :‬هـ)‪،‬‬
‫والطربي (ت‪310 :‬هـ)‪ ،‬وابن خزمية (ت‪311 :‬هـ)‪ ،‬وابن املنذر (ت‪316 :‬هـ)‪ .‬وقد‬
‫قرر ذلك السبكي يف القرن الثامن اهلجري حني ذكر أهنم وإن كانوا شافعية يف األصل إال‬
‫أهنم خالفوا الشافعي يف أقواله‪ ،‬بل إن الطربي تعدى ذلك كما هو معلوم ليكون له مذهبه‬
‫الفقهي املستقل‪ ،‬وكذا كان احلال يف القرن اخلامس اهلجري‪ :‬فابن عبد الرب (ت‪463 :‬هـ)‬
‫اباب يف إنكار التقليد ذكر فيه انعقاد اإلمجاع على بطالن التقليد واستشهد على هذا‬ ‫أفرد ً‬
‫آبايت كثرية‪ .‬وجاراه يف هذا‪ :‬اخلطيب البغدادي (ت‪463 :‬هـ)‪ ،‬واملاوردي (ت‪:‬‬
‫‪450‬هـ)‪ .33‬وأيخذ حالق يف تتبع اجملتهدين يف كل العصور ليثبت أهنم كانوا موجودين‬
‫وكانوا ميارسون االجتهاد ابلفعل يف أرض الواقع‪ ،‬ويصل يف هناية حبثه إىل أن اجلنوح للتقليد‬
‫مل يبدأ إال يف القرن العاشر اهلجري ال الرابع‪.‬‬
‫ويف ورقة أخرى يتحدث حالق عن آلية مهمة لتطور الفقه من الداخل‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫دمج الفتاوى يف كتب الفروع الفقهية‪ ،‬ويرى حالق أن الفتاوى "تضمنت أقدم وأحدث‬
‫القضااي املتعلقة ابحتياجات اجملتمع يف صورها املتبدلة واملتغرية بتغري األزمان‪ ،‬فهي مصدر‬
‫مستمر للفقه يستمد منها بنيته الدائمة التوسع"‪ .34‬فمن خالل العالقة اجلدلية بني الفتوى‬
‫دائما تتواكب مع التغريات االجتماعية والزمانية واملكانية حسب‬ ‫والواقع كانت الفتاوى ً‬

‫‪ 32‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.9-8‬‬


‫‪ 33‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.11-9‬‬
‫‪Hallaq, W. (1994). From Fatwās to Furūʿ: Growth and‬‬ ‫‪34‬‬

‫‪Change in Islamic Substantive Law. Islamic Law and Society,‬‬


‫‪P.55 1(1): 29–65.‬‬
‫‪318‬‬
‫قواعد الشريعة وأسسها‪ ،‬وإبدماج هذه الفتاوى يف كتب الفروع الفقهية انعكس هذا‬
‫التطور والتواكب على كتب الفقه نفسها‪ ،‬فصارت كتبًا متاوكبة مع العصر والزمان كما‬
‫الفتاوى‪ .‬ومن أجل إثبات ذلك‪ ،‬جند حالق مييز بني نوعني من الفتاوى‪ :‬األول هو‬
‫الفتاوى األصلية‪ :‬وهي اليت ظلت األسئلة واألجوبة فيها على شكلها وحمتواها األصلي‬
‫تقريبا‪ ،‬والثاين هو الفتاوى الثانوي‪ :‬وهي اليت وقع فيها تعديل لألسئلة واألجوبة من أجل‬
‫تنظيم الكتاب‪ ،‬ويدلّل حالق على أن الفتاوى األصلية هي جواب عن أسئلة حدثت يف‬
‫الواقع ابلفعل وليست من نتاج خميلة الفقهاء أبموٍر منها‪ :‬تضمنها ألمساء وتواريخ وأماكن‬
‫حمددة أو شخصيات معروفة‪ ،‬أو من خالل اشتماهلا على مسائل غري جتريدية كعملة‬
‫معينة أو وزن حمدد‪ ،‬أو أن تتعلق الفتوى بعقد من العقود غالبًا ما كان يرفق برقعة الفتوى‪،‬‬
‫أو أن تتضمن الفتوى صيغًا من قبيل‪ :‬تصفحت سؤالك ووقفت عليه‪...‬إخل‪ .‬ومن خالل‬
‫مناذج لعمليات دمج الفتاوى يف كتب الفروع‪ ،‬يتوصل حالق إىل أن الغالبية العظمى من‬
‫الفتوى كانت فتاوى أصليةً‪ ،‬وأن هذه الفتاوى اليت مل تتعارض مع اآلراء املقررة يف املذهب‬
‫قد ردجمت ابستمرار يف كتب الفروع‪ ،‬خاصة كتب الشروح مع خضوعها لعمليات حترير‬
‫وجتريد وتلخيص‪ .‬ومن مثَّ فإهنا "تعكس النمو والتغري الذي حدث يف املذهب‪ ،‬والذي‬
‫يعكس بدوره التغريات اجملتمعية اليت اضطر الفقه للتجاوب معها‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬فإن‬
‫الفتاوى واليت تتماشى مع ضرورات النظام االجتماعي كانت أداة مهمة يف عملية‬
‫التحديث املستمرة‪ ،‬وابلتأكيد يف تغري اآلراء الفقهية املعتمدة واملنصوص عليها يف كتب‬
‫الفروع"‪ .‬وإذا كان حالق قد وافق شاخت على أمهية عمل القضاة يف تشكل الفقه‬
‫اإلسالمي يف املرحلة األوىل للفقه على حد تعبريه واليت توقفت بعد القرن الثاين اهلجري‪،‬‬
‫فإنه يؤكد على أمهية املفيت ‪-‬والذي ال تدانيه أي وظيفة أخرى مبا يف ذلك اخلليفة‪ -‬يف‬
‫تطور الفقه اإلسالمي وبنائه يف مرحلة ما بعد التشكل‪ ،‬ويرى أن الفقه ‪-‬والذي يسميه‬
‫شاخت قانون الفقهاء‪ -‬من األصح أن نسميه قانون املفتني‪.35‬‬
‫فتحا لباب كبري من البحث عن‬‫وال شك أن كتاابت حالق عن االجتهاد والتقليد مثلت ً‬
‫وحافزا إلعادة النظر يف كل املسلَّمات السابقة‬
‫االجتهاد والتقليد يف األكادميية الغربية‪ً ،‬‬
‫عن التقليد واالجتهاد‪ ،‬فأرثري التساؤل من جديد عن مدى صحة املفارقة احلادة بني‬

‫‪Ibid. 35‬‬
‫‪319‬‬
‫االجتهاد والتقليد‪ ،‬وعن آليات االجتهاد داخل املذهب دون تعدي مبادئ التقليد يف‬
‫الوقت ذاته‪ ،‬وعن وسائل تطور الفقه عرب الزمن حىت يف تلك الفرتات اليت كانت تعترب‬
‫جامدة ومتصلبة‪ ،‬كما كثرت الدراسات املتعلقة ابلفتوى واملفتني ودورهم املهم يف الفقه‬
‫اإلسالمي‪.36‬‬
‫وال تكمن أمهية حبث حالق هنا عن الفتوى ‪-‬والذي يعتربه روبرت جليف أحد أهم‬
‫إنتاجات حالق يف جمال الدراسات الفقهية‪ -37‬يف حديثه عن مرونة الفقه وحمافظته على‬
‫أيضا يف تعلقها املباشر بنقد العديد من النظرايت‬
‫تواكبه مع الواقع فقط‪ ،‬ولكنها تكمن ً‬
‫اليت قامت على أساس املفارقة بني النظرية والتطبيق يف الفقه اإلسالمي‪ ،‬فقد كان االعتقاد‬
‫ئدا ‪-‬وما زال‪ -‬أبن كتب الفروع ‪-‬انهيك عن كتب أصول الفقه‪ -‬ختتلف عن‬ ‫سا ً‬
‫املمارسات القائمة ابلفعل يف الواقع مثل القضاء والفتوى‪ ،‬وأول َم ْن فتح الباب هلذا هو‬

‫‪ 36‬من الكتاابت األوىل اليت ظهرت يف هذا املوضوع بعد كتاابت حالق (وإن مل تكن ابلضرورة نتيجة مباشرة‬
‫هلا)‪:‬‬
‫‪Sherman. (1996). Islamic Law and the State: The Jackson,‬‬
‫‪Constitutional Jurisprudence of Shihāb al-Dīn al-Qarāfī.‬‬
‫‪Leiden: E. J. Brill; Fadel, Mohammad. (1996). The Social Logic of‬‬
‫‪Taqlīd and the Rise of the Mukhtaṣar. Islamic Law and Society‬‬
‫‪3(2) 193–233; Johansen, Baber. (1988). The Islamic Law on Land‬‬
‫‪Tax and Rent: The Peasants' Loss of Property Rights as‬‬
‫‪Interpreted in the Hanafite Legal Literature of the Mamluk and‬‬
‫‪Ottoman Periods. London: Croom Helm; Masud, M. K., Messick,‬‬
‫‪B. M., & Powers, D. (1996). Islamic legal interpretation Muftis‬‬
‫‪and their fatwas. London. Harvard University Press‬‬
‫‪Gleave, Robert. (2010). Introduction. In Imber, Colin. (Eds.) 37‬‬
‫‪Islamic Jurisprudence in the Classical Era. Cambridge:‬‬
‫‪Cambridge University Press.‬‬

‫‪320‬‬
‫ماكس فيرب بنظريته الشهرية عن عدالة القاضي ‪ ،Qadijustiz‬واليت يصور فيها فيرب‬
‫القضاءَ اإلسالمي على أنه قضاء غري عقالين ‪ irrational‬وقائم على االعتباطية يف‬
‫عرب عنها أحدهم بقوله إن القاضي جيلس حتت شجرة النخيل‬ ‫كثري من أحكامه‪ ،‬أو كما ّ‬
‫يف الصحراء العربية ليحك رأسه وخيرج ما هبا من أفكار فيحكم هبا‪ ،‬وقد تال ذلك كثري‬
‫من األحباث خاصة دراسات األنثروبولوجي لورانس روزن يف كتابه "عدالة اإلسالم" الذي‬
‫كثريا‪ ،‬وكذلك‬
‫ركز فيه على القضاء يف املغرب‪ ،‬والذي مل ختتلف نتائجه عن نظرية فيرب ً‬
‫دراسات ديفيد ابورز عن الفتاوى يف املغرب واليت وإن مل توافق على فكرة االعتباطية‬
‫أيضا خلصت إىل وجود مفارقة بني النظرية‬ ‫املوجودة يف كتاابت فيرب وانتقدهتا‪ ،‬إال أهنا ً‬
‫والتطبيق يف الفقه اإلسالمي‪ ،‬وأييت حبث حالق هنا كجزء من حماولة إعادة النظر يف هذه‬
‫القضية‪ ،‬وال نعلم هل قصد حالق إىل هذا ببحثه أم ال‪.38‬‬
‫الفقه اإلسالمي يف الواقع املعاصر‪:‬‬
‫يعد حالق رائد املدافعني عن حركية الفقه اإلسالمي ومرونته وقابليته للتغري على مر‬
‫التاريخ كما أوضحنا هذا يف املبحث الثاين املتعلق ابالجتهاد والتقليد يف فكر حالق‪،‬‬
‫لكننا مع هذا جند حالق يف حمل آخر غري راض عن حال الفقه اإلسالمي يف العصر‬
‫احلديث‪ .‬وخيصص حالق يف كتبه الكالم عن مدرستني رئيستني‪ :‬املدرسة األوىل يسميها‬

‫‪ 38‬انظر على سبيل املثال‪:‬‬


‫‪The Justice of Islam: Comparative 0020Rosen, Lawrence.‬‬
‫‪Perspectives on Islamic Law and Society. Oxford: Oxford‬‬
‫‪University Press. Bowen, John. (2006). Fairness and Law in‬‬
‫‪Indonesian Courts. In Dispensing Justice in Islam: Qadis and‬‬
‫;‪Their Judgments, (Eds.) Masud, Muhammad Khalid. Leiden: Brill‬‬
‫‪Powers, David. (1994). Kadijustiz or Qāḍī-Justice? A Paternity‬‬
‫‪Dispute from Fourteenth-Century Morocco. Islamic Law and‬‬
‫‪Society, Vol. 1, No. 3. pp. 332-366; The Calligraphic State:‬‬
‫‪Textual Domination and History in a Muslim Society.‬‬
‫‪Berkeley: University of California.‬‬
‫‪321‬‬
‫حالق ابملدرسة النفعية وهي املدرسة اليت وضع أسسها حممد عبده وأقام رشيد رضا‬
‫قواعدها‪ ،‬وقد نشأت هذه املدرسة كمحاولة ملواجهة النزعة العلمانية اليت استبدلت‬
‫القوانني الغربية أبحكام الشريعة‪ ،‬لتثبت أن الفقه اإلسالمي ما زال صاحلًا ملواكبة العصر‬
‫إذا أمكن إعادة إحيائه‪ ،‬وأن اإلشكال إمنا يكمن يف الفهم اجلامد للمدرسة املذهبية‬
‫التقليدية‪ .‬ويركز رشيد رضا ‪-‬على سبيل املثال‪ -‬على نظرية املصلحة‪ ،‬ويرى أهنا تستمد‬
‫مرجعيتها من داخل الشريعة ال من خارجها‪ ،‬لكن حالق يرى أن رشيد رضا يتساوى مع‬
‫من يقول هبدم أصول الفقه كلها‪ ،‬وذلك من خالل تضخيم مبدأ صغري وهامشي مثل‬
‫املصلحة ليطغى على اجلزء األكرب الباقي من املبادئ األصولية‪ .‬وجاء من بعده عبد‬
‫الوهاب خالف ليؤصل ألمهية االعتماد على العرف يف العصر احلديث‪ ،‬وهو يرى أن‬
‫العرف الذي يتعارض مع النصوص الشرعية ال يعمل به‪ ،‬لكنه يضع لذلك استثناء يسيغ‬
‫تغليب العرف على الشريعة‪ ،‬كما إذا كان هناك ضرورة تبيح تقدمي العرف‪ .‬ويرى حالق‬
‫جناح غري مكتمل لسببني‪ :‬األول أن هذه املدرسة أبقت على تلك‬ ‫أن جناح هذه املدرسة ٌ‬
‫النصوص اليت تراها قطعيةً كالراب واملرياث وتعدد الزوجات وما إىل ذلك دون جتديد‪ ،‬حيث‬
‫متاما كما جند‬
‫إن اللغة نفسها ال تسمح يف كثري من األحيان بتفسري راديكايل يغري املعىن ً‬
‫يف مثال إعطاء الذكر مثل حظ األنثيني‪ .‬والثاين أهنا ال تؤصل لقواعد حمددة وواضحة‬
‫تنظم عملية االستدالل ابملصلحة والعرف والضرورة وما إىل ذلك‪ ،‬فبقيت نظريتها عرضة‬
‫قائما حىت بعد‬
‫‪39‬ية للمصلحة ً‬ ‫للتخبط واالضطراب‪ ،‬وقد بقي هذا العجز عن وضع نظر‬
‫مرور نصف قرن على موت رشيد رضا كما يقول حالق‪.‬‬
‫أما املدرسة الثانية يف تصنيف حالق فهي مدرسة "الدين الليربايل" كما يسميها‪ ،‬وقد‬
‫قامت هذه املدرسة على جامع سليب جيمع بينها‪ ،‬وهو معاداهتا للتفسري احلريف للقرآن‬
‫بعيدا عن ضيق النظرية النفعية للمصلحة والضرورة‬ ‫وفتح اجملال لتفسري ليربايل منفتح ً‬
‫مثال بفكر حممد سعيد العشماوي الذي‬ ‫للمدرسة األوىل على حد تعبريه‪ ،‬ويضرب حالق ً‬
‫أكد على الفصل بني الدين كمفهوم إهلي معصوم وبني الفهم البشري القاصر للدين‬
‫واملتمثل يف نتاج العلماء يف القرون الوسطى على حد قوله‪ ،‬كما يؤكد على أمهية فهم‬

‫‪Hallaq, A history of Islamic Legal Theories, op.cit., PP. 207- 39‬‬


‫‪226‬‬
‫‪322‬‬
‫النصوص البشرية كنتاج اترخيي متأثر ابلظروف االجتماعية احمليطة به‪ ،‬فقطع يد السارق‬
‫مثال هو أمر يتماشى مع الثقافة العربية القدمية لكنه ال يتوافق مع العصر احلايل‪ ،‬وعلى‬
‫ً‬
‫هذا بىن العشماوي إنكاره جلهاد الطلب وإابحته شرب اخلمر ال بغرض السكر ولكن‬
‫مثال‪ ،‬ويف النهاية ينتقد حالق منهجية العشماوي هذه‬ ‫للتسلي عن مصيبة وقعت به ً‬
‫لكوهنا فشلت يف إجياد أي منهجية حقيقية قادرة على التعامل مع املناهج كافَّةً‪ ،‬كما أن‬
‫فهم العشماوي احلريف ملعىن اخلمر وعجزه عن إجياد وسيلة تفسريية قادرة على جتاوز املعىن‬
‫املباشر جيعل نظريته غري صاحلة للتطبيق‪ .‬واالهتام بغياب منهج حقيقي منضبط هو‬
‫‪40‬‬
‫اإلشكال نفسه الذي يعرتض به حالق على جمهودات املفكر الباكستاين فضل الرمحن‪.‬‬
‫ويف النهاية يدهش حالق القارئ إبشادته بنظرية املهندس السوري حممد شحرور اليت‬
‫يصفها حالق ابلنظرية الثورية املبتكرة‪ ،‬ويرى أن خلفيته اهلندسية كان هلا دور كبري يف‬
‫تفعيل قدراته التحليلية‪ ،‬ومصدر الدهشة أن شحرور يعترب مجيع املصادر الفقهية التقليدية‬
‫للتشريع اإلسالمي غري مالئمة للعصر‪ ،‬وجييب فيها شحرور عن وضع الشريعة يف العصر‬
‫احلديث بقوله إن هللا لو أراد تنظيم تلك القضااي الفقهية لكان قد قام بذلك‪ ،‬لكنه أراد‬
‫أن يرتك لنا احلرية يف وضع القوانني أبنفسنا‪ 41 .‬ومن الالفت أن حالق ترك كل املفكرين‬
‫"الليرباليني" ليتخري شحرور كنموذج انجح هلذه املدرسة‪ ،‬بل إنه كرر اإلشادة به يف ورقة‬
‫أخرى له‪ .42‬وهو أمر يبقى حمل تساؤل‪ ،‬خاصة ابلنسبة إىل مفكر مثل شحرور والذي‬
‫معتربا ‪ -‬بعيدا عن النقاش حول صحته كالمه أو خطئه ‪-‬‬ ‫ال يلقى فكره احرتاما علميا ً‬
‫حىت لدى مفكرين آخرين من املدرسة الليربالية نفسها‪.‬‬
‫ولعل حالق كان أكثر صراحة يف ورقة الحقة حني ذهب إىل القول إبن الشريعة اإلسالمية‬
‫مل تعد صاحلة هنا‪ ،‬وإن دعوات اإلسالميني لوجوب تطبيق الشريعة ورفعهم لشعار "وجوب‬
‫تطبيق الشريعة اإلسالمية" هو اختزال للواقع احلايل‪ ،‬فالشريعة ‪-‬حسب حالق‪ -‬قد القت‬

‫‪Ibid. PP.231-24540‬‬
‫‪Ibid. PP. 245-254 41‬‬
‫‪Hallaq, Wael. (2004). Can Shari'a be Restored. In (Eds) Haddad, 42‬‬
‫‪Y. Y., & Stowasser, B. F. Islamic law and the challenges of‬‬
‫‪modernity. Walnut Creek: Altamira press.‬‬
‫‪323‬‬
‫حتفها منذ أكثر من قرن‪ ،‬وأما ما يعيشه اإلسالميون اآلن فما هو إال حالة من إنكار‬
‫الذات ال أكثر؛ ولذا فإنه من غري املمكن أن نعيد تطبيق القوانني اإلسالمية اليت كانت‬
‫فتغري دور الدولة ومكانتها أحدث نقلة نوعية يف مكانة الفقه‬
‫سائدة قبل العصر احلديث‪ُّ ،‬‬
‫اإلسالمي‪ ،‬من انحية مؤسسية كما يف احتكار الدولة للتشريع وإقصاء العلماء‪ ،‬وظهور‬
‫بعيدا عن املدارس الشرعية‪ ،‬وختريج جمموعة من القضاة الذين مل‬ ‫نظم التعليم احلكومية ً‬
‫يتدربوا على منط الدراسات الشرعية التقليدية‪ ،‬انهيك عن مصادرة األوقاف ومن مثّ احلد‬
‫خلال مؤسسيًا فقط بل أدى‬ ‫من استقاللية العلماء‪ ،‬وهذا الدور اجلديد للدولة مل حيدث ً‬
‫مثاال كيف أن إحدى‬ ‫كذلك إىل حدوث قطيعة معرفية مع الفقه اإلسالمي‪ .‬وهو يعطي ً‬
‫أهم وسائل القضاء يف القانون احلديث يف املسائل اليت يفرتض أن يطبق فيها الشريعة مثل‬
‫مسائل الزواج قد برنيت على التخري من بني املذاهب‪ ،‬ويؤكد حالق على أن أمهية التقليد‬
‫كانت تكمن يف بقاء االتساق الذايت بني نظرايت املذهب ويف خلق إطار حمدد للمذهب‬
‫ال يرشذ عنها‪ ،‬وقد برين على أساس هذا جمموعة من املفاهيم والقواعد املركزية مثل‪ :‬مشهور‬
‫املذهب‪ ،‬والصحيح‪ ،‬واألصح‪ ،‬والراجح‪ ،‬وما عليه العمل‪ ،‬وما عليه الفتوى‪ ..‬إخل؛ واهلدف‬
‫من هذا كله هو الوصول للرأي الصحيح‪ ،‬وأن تقبل اخلالف االجتهادي السائغ بني‬
‫العلماء‪ ،‬والذي خلق مساحة من التسامح بني أتباع املذاهب املختلفة‪ ،‬نتج عنه اليوم نوع‬
‫من العشوائية واالنتقائية يف اإلفتاء بسبب التلفيق والتخري بني املذاهب‪ ،‬حبيث مل يعد‬
‫التطبيق االنتقائي يتماشى مع البنية النظرية للمذاهب‪ .‬وعدم االنسجام هذا بني التطبيق‬
‫واهلريمنيوطيقا والقانون هو نتيجة مباشرة لتغريات الواقع احلديث والذي جعل تطبيق الفقه‬
‫‪43‬‬
‫أمرا غري متسق يف النهاية‪.‬‬
‫اإلسالمي –هبذه الصورة‪ً -‬‬
‫وقد أاثرت تلك الورقة أمحد عاطف ليكتب كتابه "فتور الشريعة"‪ ،‬والذي تعرض فيه‬
‫لتاريخ احلديث عن خلو الزمان من اجملتهدين‪ ،‬سواء كانوا علماء أو ح ّك ًاما‪ ،‬وعن إمكانية‬
‫أيضا للورقة أمحد فكري‬‫فتور الشريعة وعدم صالحيتها يف وقت من األوقات‪ ،‬كما تعرض ً‬
‫إبراهيم يف كتابه عن الربمجاتية يف الفقه اإلسالمي والذي حاول فيه أن يثبت أن التلفيق‬
‫موجودا قبل هذا‬
‫ً‬ ‫أمرا‬
‫أمرا متعل ًقا ابلعصر احلديث فقط بل إنه كان ً‬ ‫وتتبع الرخص ليس ً‬

‫‪Ibid. 43‬‬

‫‪324‬‬
‫وكانت الشريعة قادرة على التواكب مع هذا‪ ،‬وذلك من خالل دراسته األرشيفية لسجالت‬
‫احملاكم يف مصر يف العصر العثماين‪.44‬‬
‫والح ًقا‪ ،‬أشار حالق يف أحد هوامش كتابه "الدولة املستحيلة" إىل أنه قد غري كثريا من‬
‫‪45‬‬
‫تغريا الفتًا‬
‫آرائه منذ أن كتب تلك الورقة اليت أحدثت كل هذا اللغط ‪ ،‬وهذا التغري يبدو ً‬
‫ابتعادا عن هذه الورقة وعن كثري مما تقدم من كالمه عن‬‫ومهما‪ ،‬ويظهر كما لو كان ً‬ ‫ً‬
‫ومهما ملفهوم احلركم يف‬
‫ً ً ً‬ ‫قواي‬ ‫ا‬
‫تنظري‬ ‫بعد‬ ‫فيما‬ ‫قدم‬ ‫حالق‬ ‫إن‬ ‫بل‬ ‫ايل‪،‬‬
‫رب‬ ‫اللي‬ ‫الدين‬ ‫سة‬ ‫مدر‬
‫اإلسالم‪ ،‬ففي إحدى الورقات اليت صدرت له مؤخرا‪ ،‬يتحدث حالق عن مفاهيم رئيسة‬
‫يقوم عليها القرآن مثل‪ :‬رحكم وأمر وعلم وحق‪ ،‬وهذه املفاهيم كانت حسب قوال حالق‬
‫جزءًا من البىن العميقة للرسالة القرآنية‪ ،‬ويؤكد حالق يف تلك الورقة على أن القرآن ربط‬
‫بقوة بني احلكم وبني التقاضي والذي هو أمر قانوين ابمتياز‪ ،‬وهذا ظاهر على سبيل املثال‬
‫يف قصة حتكيم داود وسليمان والذي وصف هللا قضاءمها يف قضية الغنم اليت نفشت يف‬
‫احلرث بقوله‪" :‬وداود وسليمان إذ حيكمان يف احلرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا‬
‫حلكمهم شاهدين" فسوى بني احلكم والقضاء‪.‬‬

‫‪ 44‬انظر يف هذا‪:‬‬
‫‪Ahmad, Ahmad Atif. (2012). The Fatigue of the Shari'a. New‬‬
‫‪York: Palgrave Macmillan; Burak, Guy. (2015). The Second‬‬
‫‪Formation of Islamic Law: The Hanafi School in the Early‬‬
‫‪Modern Ottoman Empire. Cambridge: Cambridge University‬‬
‫‪Press; Gerber, Haim. (1999). Islamic law and culture 1600-1840.‬‬
‫‪Leiden: Brill.‬‬
‫‪ 45‬وكذلك أخربين بعدم رضاه عن هذه الورقة يف مراسلة معه هذا العام‪.‬‬
‫انظر‪:‬‬
‫‪Hallaq, W. (2013). The Impossible State: Islam, Politics, and‬‬
‫‪Modernity"s Moral Predicament. New York: Columbia‬‬
‫‪University Pres., Footnote no.4, 2nd chapter.‬‬
‫‪325‬‬
‫قواي عن أن اإلسالم جاء منذ بدايته بنظرة تشريعية واضحة وصرحية مثله‬ ‫دفاعا ً‬
‫كما يقدم ً‬
‫رد على نظرية غويتني اليت تبناها ساب ًقا‪ ،-‬ولعله حيسن أن أقتبس‬ ‫ٍ‬
‫مثل ابقي األداين ‪-‬يف ّ‬
‫هنا كالم حالق بلفظه‪ ،‬يقول‪" :‬فاألمر كله ‪-‬كما هو احلكم‪ -‬إمنا هو هلل (إن األمر كله‬
‫هلل)‪ ،‬فلله األمر من قبل ومن بعد‪ .‬وكما قدمنا‪ ،‬فإن فكرة السيادة اإلهلية هي واحدة من‬
‫أهم املفاهيم البنيوية يف القرآن‪ .‬ونضيف هنا أهنا فكرة نسقية‪ ،‬مبعىن أهنا ليست فقط‬
‫الفكرة املركزية يف القرآن‪ ،‬بل هي فكرة حت ّدد كل األفكار القرآنية األخرى وتش ّكلها‬
‫وتصورها تقريبًا‪ .‬فكون هللا هو الواحد األحد يؤكد فكرة السيادة ويقويها‪ ،‬ويرفع أي لبس‬
‫قد يشكك يف قدرة هللا وحده املطلقة على األمر واحلركم والتشريع"‪ .‬وهو يتحدث هنا‬
‫متاما عن نرباته السابقة‪ ،‬بل إن حالق يذهب إىل أبعد من هذا فريى أن سيد‬ ‫بنربة ختتلف ً‬
‫قطب وأاب األعلى املودودي ظال غري قادرين على فهم عمق مفهوم "احلاكمية" يف القرآن‪،‬‬
‫فيقول‪" :‬ابلطبع ذهب أبو األعلى املودودي وسيد قطب بقوة إىل القول ابلسيادة اإلهلية‪...‬‬
‫لكنهما مل يصفا أو حيلال التطورات التارخيية خالل املرحلة التأسيسية لإلسالم‪ .‬ومن اجلدير‬
‫ابملالحظة أن قطب مير على قول هللا " ما كان لبشر أن يؤتيه هللا الكتاب واحلكم والنبوة‬
‫مث يقول للناس كونوا عبادا يل من دون هللا ولكن كونوا رابنيني مبا كنتم تعلمون الكتاب‬
‫ومبا كنتم تدرسون" مرور الكرام تقريبًا"‪.46‬‬
‫الشريعة والدولة ونقد احلداثة‪:‬‬
‫آخر ما نتطرق له يف هذا البحث هو كتاب حالق "الدولة املستحيلة"‪ .‬ومما ال شك فيه‬
‫أن حالق يقدم يف كتابه هذا أطروحة جريئة‪ ،47‬فالزم كالمه فيها أن احلكم اإلسالمي‬

‫‪Hallaq,‬‬ ‫‪W.‬‬ ‫‪Quranic Constitutionalism‬‬ ‫‪and‬‬ ‫‪Moral‬‬ ‫‪46‬‬

‫‪Governmentality: Further Notes on the Founding Principles‬‬


‫)‪of Islamic Society and Polity. Comparative Islamic Studies, 8(1-2‬‬
‫‪PP. 1-51 P. 23‬‬
‫‪ 47‬سبقت د‪ .‬هبة رءوف عزت وائل حالق ابحلديث عن إشكالية الدولة احلديثة والشريعة يف حبث هلا نشر‬
‫سنة ‪ 2004‬يف عمرو الشوبكي‪ .‬إسالميون ودميقراطيون‪ ..‬إشكاليات بناء تيار إسالمي دميقراطي‪( .‬القاهرة‪:‬‬
‫مؤخرا متضمنًا يف كتاهبا‪" :‬اخليال السياسي‬
‫مركز األهرام للدراسات السياسية واالسرتاتيجية)‪ .‬مث أعيد نشره ً‬
‫لإلسالميني‪ :‬ما قبل الدولة وما بعدها"‪( ،‬بريوت‪ :‬الشبكة العربية لألحباث والنشر‪.)2015 ،‬‬
‫‪326‬‬
‫جيدا أن حالق يفرق بني نظام احلكم اإلسالمي‬ ‫غري صاحل هلذا الزمان‪ .‬نعم من املفهوم ً‬
‫منصب على‬‫ٌّ‬ ‫ما قبل احلداثي‪ ،‬وبني الدولة احلداثية‪ ،‬ومن املفهوم كذلك أن نقده هنا‬
‫نظاما مثاليًا يف غالب‬‫الدولة احلديثة وليس على النظام اإلسالمي القدمي الذي يراه ً‬
‫األحيان‪ ،‬كما قال بذلك صراحة يف كتابه‪ .‬لكن حالق بكالمه عن استحالة الدولة‬
‫اإلسالمية احلديثة يضعنا يف احلقيقة أمام أحد خيارين‪ :‬فإما أن نرفض الدولة احلديثة‬
‫كياان اثبتًا صلبًا)‪ ،‬وإما أن نتبىن الدولة احلديثة ونرفض الشريعة‪ ،‬وما‬
‫(واليت يراها حالق ً‬
‫عدا ذلك فهو تنافض فج من وجهة نظر حالق‪ ،‬واالحتمال األول يقودان إىل منوذج يبدو‬
‫متاما؛ وهلذا ال يبدو لنا غريبًا‬
‫غري قابل للتطبيق‪ ،‬واالحتمال الثاين يقودان إىل منوذج حداثي ً‬
‫أن جند أحد قادة السلفية اجلهادية حيتفي ابلكتاب ويرى فيه شهادة غربية على فشل‬
‫مشروع اإلخوان املسلمني احلداثي‪ .48‬ولذا فإن أمهية هذا الطرح تكمن يف أنه يقود إىل‬
‫لزوم موت الشريعة احلاكمة يف هذا الزمن‪ ،‬وإن مل يقل حالق هبذا‪ ،‬وقدميًا قالوا‪ :‬الزم‬
‫املذهب ليس مبذهب‪ .‬وعلى الرغم من اجلدل الكبري الذي نشأ عن الكتاب يف الوطن‬
‫كثريا من التعليقات العربية ابلتأييد أو الرفض ظلت خارج إطار البحث العلمي‬ ‫العريب‪ ،‬فإن ً‬
‫اجلاد‪ ،‬مكتفية ابهتامات متبادلة وتعميمات جمملة مع خوض يف النيات ليس له حمل يف‬
‫جمال البحث العلمي احلقيقي‪ ،‬وسنعرض يف هذا املبحث للحديث إبمجال عن أهم‬
‫االعرتاضات اجلادة الواردة عليه‪.‬‬
‫وأول ما ميكن انتقاده هنا هو إشكالية املعيارية‪ ،‬واليت كانت من األسباب اليت أدت إىل‬
‫انتقال كثري من أقسام الدراسات اإلسالمية يف الغرب يف العقود األخرية لتدخل يف سلك‬
‫كليات العلوم االجتماعية والدراسات اإلقليمية يف حماولة لالبتعاد عن النزعة االستشراقية‬
‫وبعيدا عن‬
‫املعيارية ‪ normative‬إىل االكتفاء ابلدراسة من اخلارج يف غالب األحيان‪ً ،‬‬
‫مدى حتقق هذا األمر من عدمه يف األكادميية الغربية إال أن النظرية على أقل تقدير ‪-‬إن‬
‫مل يكن عدد ضخم من الدراسات واألحباث‪ -‬تتحدث عن نظرة تعددية لإلسالم ختتلف‬

‫‪ 48‬انظر مناقشة أيب قتادة املقدسي لكتاب "الدولة املستحيلة"‪https://is.gd/23wfsp :‬‬

‫‪327‬‬
‫عن النظرة القدمية القائمة على التأصيلية ‪ 49essentialism‬اليت تعطي لنفسها احلق‬
‫يف احلكم على األشياء من حيث الصحة واخلطأ ومن حيث األصل والفرع‪ ،‬لكن يبدو‬
‫للوهلة األوىل يف هذا الكتاب أن حالق مل يعترب التعدد يف نظام احلكم اإلسالمي‪ ،‬وذلك‬
‫أطرا اثبتة ومنوذجية لنظام احلكم يف اإلسالم‪ ،‬وابلطبع فإن حالق أفطن‬ ‫من خالل وضعه ً‬
‫من أن يقع يف إشكالية التأصيلية ‪essentialism‬واليت تعتربها األكادمية الغربية حاليًا‬
‫مشكلة جيب جتنبها؛ وإن مل تكن التأصيلية مشكلة يف احلقيقة إال أننا نتنزل مع حالق‬
‫بدال من ذلك‬ ‫حسب األطر احلاكمة له‪ .‬ومن أجل جتنب هذا اإلشكال فإن حالق جلأ ً‬
‫إىل تبين نظرية "كوهن" عن األنساق‪ ،50‬حبيث يعتمد على استقراء التاريخ استقراءً كافيًا‬
‫يصل به يف النهاية إىل رسم نسق عام ميثل املنظور اإلسالمي كله ويكون ما هو خارج‬
‫عنه هو جمرد استثناء ال يندرج يف احلكم العام‪ .51‬وهو ال خيتلف هنا كث ًريا عما اتبعه طالل‬
‫أسد على سبيل املثال يف نظريته عن التقليد اخلطايب‪،52 discursive tradition‬‬
‫مهما جينبنا الدخول يف دوامة النسبية املطلقة اليت ينادي هبا البعض‬
‫منهجا ً‬‫وهو إن كان ً‬
‫إال أن اإلشكال يبقى يف قدرة حالق على الوفاء ابستقراء حمكم يعكس حقيقة التصور‬
‫اإلسالمي كما سنرى‪.‬‬

‫‪ 49‬انظر‪Salvatore, Armando. (Sep. 1996). Beyond Orientalism? Max :‬‬


‫‪Weber and the Displacements of "Essentialism" in the Study of‬‬
‫‪Islam. Arabica 3. pp. 457-485.‬‬
‫‪ 50‬عن نظرية األنسقة‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪Hallaq, The Quranic constitutionalism, op.cit., P. 6-12.‬‬
‫‪Anjum, Ovamir. Hallaq's Challenge: Can the Shari'ah Save‬‬ ‫‪51‬‬

‫‪(unpublished draft) Us from Modernity‬‬


‫‪Anjum, Ovamir. (2007). Islam as a Discursive Tradition: Talal 52‬‬
‫‪Asad and His Interlocutors. Comparative Studies of South Asia,‬‬
‫‪Africa and the Middle East, 27 (3) PP. 656-672‬‬

‫‪328‬‬
‫واألمر نفسه جنده عند حالق حني حيدثنا عن الدولة احلديثة وعن أوجه اختالفها عن‬
‫احلكم اإلسالمي‪ ،‬فهو يذكر مخسة أسس رئيسة ال ختلو منها أي دولة ًّأاي كانت‬
‫أيديولوجياهتا‪ )1 :‬منوذج اترخيي أورويب‪ )2 ،‬سيادهتا ومرجعيتها املطلقة‪ )3 ،‬احتكارها‬
‫للتشريع‪ )4 ،‬مؤسساهتا البريوقراطية‪ )5 ،‬هيمنتها االجتماعية والثقافية على أفرادها‪ .‬وهذه‬
‫األسس ختتلف يف نظر حالق عن احلكم اإلسالمي‪ ،‬وهو أيخذ يف عرض أمثلة من‬
‫التاريخ اإلسالمي توضح هذه املفارقات‪ ،‬لكن لو ابتعدان عن عصر األمويني والعباسيني‬
‫الذين يضرب هبم حالق األمثلة يف الغالب سنجد أن هذه املفارقة ليست مطلقة‪ ،‬وسنجد‬
‫أوجه تشابه نسبية (وإن مل تكن متطابقة بطبيعة احلال) يف بعض من تلك األسس مع‬
‫مثال سنجدها كانت دولة‬‫فرتات أخرى من احلكم اإلسالمي‪ .‬فلو نظران للدولة العثمانية ً‬
‫بريوقراطية‪ ،‬كما أهنا كانت حتاول أن هتيمن على اجملال الثقايف ألفرادها وتغرس فيهم‬
‫آراءها‪ ،‬وكانت حتاول أن حتتكر التشريع من خالل تعيني مفتني وقضاة رمسيني‪ .‬ولعل من‬
‫األمثلة على ذلك حبث رودلف بيرتز عن املذهب الرمسي‪ ،53‬والذي رمبا كان نقطة انطالق‬
‫مؤخرا بعنوان‪" :‬النشأة الثانية للفقه اإلسالمي"‪ ،‬وهو‬
‫لكتاب جاي بوراك الذي صدر ً‬
‫يتحدث يف هذا الكتاب عن بداايت الدولة العثمانية يف القرن السادس عشر قبل ظهور‬
‫الدولة احلديثة يف أورواب‪ ،‬وهو يدخل هنا يف نقاش غري مباشر مع حالق ينفي فيه أن‬
‫بعض تلك الصفات إمنا نشأت فقط بفعل الغرب‪ ،‬بل هو يذهب إىل أهنا كانت موجودة‬
‫يف منوذج احلكم اإلسالمي العثماين قبل الدولة الغربية احلديثة‪ ،‬فنقرأ من مراجعة كتابه‪:‬‬
‫"أما فيما يتعلق ابلدولة العثمانية فمن املهم الوقوف على هيكلية املفتني فيها لفهم دور‬
‫الدولة يف املذهب احلنفي‪ .‬فقد ظهر منصب شيخ اإلسالم كمرجعية أوىل وكربى لكل‬
‫الشؤون الدينية يف الدولة العثمانية‪ .‬كما رعني مفتون يف األقاليم املختلفة واختريوا من‬
‫املدرسني يف املدارس الرتكية اليت بناها السالطني العثمانيون‪ .‬وقد حاول هؤالء املفتون أن‬

‫‪53‬‬ ‫‪Peters, Rudolph. (2005). What does it mean to be an official‬‬


‫‪madhhab: Hanafism and the Ottoman Empire. In: The Islamic‬‬
‫‪School of Law: Evolution, Devolution, and Progress. Ed. P.‬‬
‫‪Bearman, R. Peters, F. Vogel. Cambridge MA: Harvard University‬‬
‫‪Press. pp. 147-158.‬‬
‫‪329‬‬
‫يبسطوا سلطتهم يف وجه املفتني احملليني‪ ،‬فنجد فتوى من شيخ اإلسالم ابلتعزير البليغ ملن‬
‫يسخر من فتاوى املفتني املعينني‪ .‬كما أكد شيوخ اإلسالم يف فتاوى أخرى على إلزامية‬
‫فتاواهم للجميع مبا يف ذلك القضاة‪ .‬ففي فتوى لشيخ اإلسالم صنع هللا أفندي (‪)1612‬‬
‫قاض مل يلتزم بفتاواه‪ ،‬ويف فتوى أخرى لشيخ اإلسالم أيب السعود أفندي‬ ‫جنده يفيت إبقالة ٍ‬
‫مصحوبة بفرمان سلطاين جنده يؤكد على عدم جواز خمالفة شيخ اإلسالم‪ .‬ويف دراسة‬
‫للمحاكم يف األانضول يظهر أن فتاوى شيخ اإلسالم كانت ملزمة هلم وواجبة التنفيذ‪،‬‬
‫كما كان لفتاوى مفيت األقاليم وزن كبري يف احملاكم اإلقليمية‪ ،‬ويبدو أن املفتني الرمسيني‬
‫كانوا يتمتعون أبمهية أكرب لدى القضاة من املفتني غري الرمسيني‪.‬‬
‫أما عن العالقة بني شيخ اإلسالم والسلطان العثماين فقد كان شيخ اإلسالم يرعني بفرمان‬
‫مباشر من السلطان‪ ،‬ويف رسالة من السلطان حممد الرابع حرص السلطان على أن يذكر‬
‫رد أبن هللا هو من عيَّنه‬
‫شيخ اإلسالم جليب زاده أنه يدين مبنصبه له‪ ،‬لكن شيخ اإلسالم َّ‬
‫ال السلطان‪ .‬كما أنه منذ بداية القرن السادس عشر مل يكن منصب شيخ اإلسالم يرنظر‬
‫له على أنه منصب يستمر مدى احلياة‪ ،‬فقد أرقيل شيخ اإلسالم معلول زاده من منصبه‬
‫الهتامه إبصدار فتاوى خاطئة‪ ،‬كما أقيل شيخ اإلسالم مصطفى أفندي ألنه رفض إعدام‬
‫أحد الباشوات ونرفي إىل مصر عقب إقالته‪ .‬ومل يقف األمر عند هذا‪ ،‬بل جتاوزه إلعدام‬
‫بعض شيوخ اإلسالم‪ .‬وبعض املصادر العثمانية تصف منصب شيخ اإلسالم أبنه "خدمة"‬
‫دائما طوع أمر السلطان‪ ،‬فنجد‬ ‫ابلرتكية‪ .‬ولكن هذا ال يدل على أن شيخ اإلسالم كان ً‬
‫شيخ اإلسالم إسعاد أفندي ‪-‬على سبيل املثال‪ -‬ينكر على السلطان حممد الثاين إعدام‬
‫أخيه قبل توجهه للغزو يف أورواب‪ .‬ابختصار‪ ،‬إذا كان منصب املفيت يف عهد املماليك هو‬
‫"مكانة"‪ ،‬فقد صار منصب املفيت يف الدولة العثمانية "وظيفة""‪.54‬‬
‫وهذه الصورة للحكم اإلسالمي يف الدولة العثمانية تشكك يف تلك املفارقة املطلقة اليت‬
‫حكما بريوقراطيًا‪،‬‬
‫تبناها حالق يف كتابه‪ ،‬حني صور احلكم اإلسالمي على أنه مل يكن ً‬

‫‪Burak, Guy. (2015). The second Formation of Islamic Law:‬‬ ‫‪54‬‬

‫‪The Hanafi School in the Early Modern Ottoman Empire.‬‬


‫‪Cambridge: Cambridge University Press.‬‬
‫وانظر مراجعيت له على موقع مناء‪https://is.gd/di2GrU ،‬‬
‫‪330‬‬
‫وحني حتدث عن الفصل التام بني السلطات‪ ،‬وحني حتدث عن ضعف الدولة اإلسالمية‬
‫القدمية وهامشيتها وعدم قدرهتا على اهليمنة على أفرادها يف مقابل توغل كبري للمفتني‬
‫والقضاة يف احلياة االجتماعية بصفة عامة‪ .‬وإن كان هذا ال يعين بطبيعة احلال أن الدولة‬
‫احلديثة ال ختتلف عن احلكم اإلسالمي القدمي أو أن بريوقراطية الدولة احلديثة هي ذاهتا‬
‫نوعا من اإلسقاط التارخيي ‪،anachronism‬‬ ‫بريوقراطية الدولة العثمانية‪ ،‬فهذا سيكون ً‬
‫لكن تبقى تلك املفارقة ليست هبذا النوع من الضخامة اليت حتدث عنها حالق واليت ال‬
‫تتأتى إال إذا اخرتان فرتة معينة من التاريخ احلكم اإلسالمي تتماشى مع فكرة التباين املطلق‬
‫تلك يف مقابل جتاهل فرتات أخرى‪ ،‬وحنن ال هندف هنا إىل القول أبن منوذج الدولة‬
‫أبني تنوع التصور اإلسالمي لنموذج‬ ‫العثمانية هو النموذج اإلسالمي أو العكس‪ ،‬لكين ِّ‬
‫الدولة واختالفه على مر التاريخ حىت ابلنسبة إىل بعض ما يعتربه حالق أنسقة اثبتة ال‬
‫تتغري‪ ،‬ويبقى السؤال مفتوحا عن أي من هذه النماذج متثل النموذج اإلسالمي؟‬
‫أيضا من خالل حديثه عن‬ ‫وحالق يسحب موقفه الصلب كذلك على مفهوم الدولة ً‬
‫األسس اخلمسة الثابتة للدولة احلديثة واليت تقدم ذكرها‪ ،‬وهنا يكمن السؤال نفسه‪ :‬ملاذا‬
‫ينبغي أن نتبىن صورة واحدة للحداثة؟ وملاذا ال نتحدث عن احلداثة املتعددة كما يقول‬
‫أيزنشتات واليت ينشئ فيها كل ٍ‬
‫كيان حداثةً خاصة به تتماشى مع قيمه وتراثه ومبادئه إىل‬
‫حد ما؟‪ 55‬أو ملاذا ال نتحدث عن حدااثت متعاقبة ومتغرية أو سائلة كما يقول زجيمونت‬
‫ابوم‪ :56‬فهل كانت احلداثة اثبتة يف الغرب نفسه على مر اترخيه؟ وكما قلت آن ًفا فإن‬
‫أمهية الدراسات االجتماعية واألنثروبولوجية تكمن هنا يف إثباهتا أن احلداثة ليست واحدة‬
‫يف الغرب نفسه انهيك عن حداثة اهلند وحداثة الشرق‪ ،‬ففي كتابه عن "اإلسالم املدين"‬
‫مثال حيدثنا األنثروبولوجي األمريكي روبرت هفنر عن منوذج للمجتمع املدين الدميقراطي‬
‫ً‬
‫نشأ يف إندونيسيا وخيتلف عن مفهوم الدميقراطية اليت عرفها الغرب‪ ،‬ومع هذا فإن هفنر‬
‫مثاال لتنوعات احلداثة واختالفاهتا مبا تتواءم مع‬
‫يعترب ذلك النموذج الدميقراطي املختلف ً‬

‫‪Eisenstadt, S. N. (2003). Comparative Civilizations and‬‬ ‫‪55‬‬

‫‪Multiple Modernities. Leiden: Brill, P.45‬‬


‫‪ 56‬زجيمونت ابومن‪ ،‬احلداثة السائلة‪ ،‬ترمجة‪ :‬حجاج أوجرب وتقدمي هبة رءوف عزت‪( ،‬بريوت‪ :‬الشبكة العربية‬
‫لألحباث والنشر‪.)2016 ،‬‬

‫‪331‬‬
‫‪57‬‬
‫دفاعا عن كون احلداثة غربيةً أو غري غربية أو عن‬
‫كل جمتمع ‪ .‬وما نسوقه هنا ليس ً‬
‫كوهنا اثبتةً أو غري اثبتة‪ ،‬لكنها حماولة لفرض احتماالت أخرى قد خترج بنا من هذا‬
‫التصلب يف رسم النماذج املختلفة‪ ،‬سواء للحكم اإلسالمي أم للدولة احلديثة‪ .‬ومن‬
‫الالفت للنظر أن هذه احلداثة اليت ينتقدها حالق نفسه سريجع إليها فيما بعد ليؤكد‬
‫تفوق املنظومة اإلسالمية من خالل معايريها نفسها‪ ،‬فاملعايري اليت وضعها حالق لقياس‬
‫مدى كفاءة احلكم اإلسالمي هي معايري انبعة من احلداثة نفسها‪ ،‬فهو حينما حيدثنا عن‬
‫حكم القانون أو الفصل بني السلطات أو اجملتمع املنظم‪ ،‬فهو إمنا يقتبس آراءً حداثية‬
‫ويقيس على أساسها جودة النظام اإلسالمي‪ ،58‬وهذا يتجلى كذلك يف مواضع أخرى‬
‫غري كتاب "الدولة احلديثة"‪ ،59‬فما الذي جيعله يصف البريوقراطية ‪-‬على سبيل املثال‪-‬‬
‫أهنا أوروبية املنشأ جيب أن نتجنبها مث أييت فيتبىن الفصل بني السلطات على أنه منوذج‬
‫معياري حيكم به على املاضي؟‬
‫األمر اآلخر أن حالق جتاهل أصوات املفكرين اإلسالميني تقريبًا يف دراسته‪ ،‬ومل جند‬
‫إشارة مهمة ألي من املفكرين املعاصرين ‪ -‬خبالف إشارة عابرة لطه عبدا لرمحن‪ .60‬وقد‬

‫‪Hefner, R. W. (2000). Civil Islam: Muslims and 57‬‬


‫‪democratization in Indonesia. Princeton, NJ: Princeton‬‬
‫‪University Press.‬‬
‫‪March, Andrew. (2015). What Can the Islamic Past Teach Us‬‬ ‫‪58‬‬

‫‪about Secular Modernity, Political Theory, Vol.43 no 6. P.P: 838-‬‬


‫‪849.‬‬
‫‪Hallaq,‬‬ ‫‪W.‬‬ ‫‪Quranic‬‬ ‫‪Constitutionalism‬‬ ‫‪and‬‬ ‫‪Moral‬‬ ‫‪59‬‬

‫‪Governmentality: Further Notes on the Founding Principles‬‬


‫)‪of Islamic Society and Polity. Comparative Islamic Studies, 8(1-2‬‬
‫‪PP. 1-51 P. 46‬‬
‫خاصا بطه عبد الرمحن؛ ولذا أفرده ابلذكر‪ .‬ويعكف حالق حاليًا على كتابة‬
‫اهتماما ً‬
‫ً‬ ‫‪ 60‬يبدو أن حالق يويل‬
‫كتاب عن طه عبد الرمحن‪ ،‬رمبا يصدر يف عام ‪.2019‬‬

‫‪332‬‬
‫اكتفى حالق يف أول كتابه ابحلديث عن أن اإلسالميني تبنوا الدولة احلديثة كما هي دون‬
‫فعال على غري وعي ٍّ‬
‫أبي من‬ ‫أن يقدم أدلة على هذا‪ .‬فهل كان املفكرون اإلسالميون ً‬
‫تلك املشاكل اليت تكتنف الدولة احلديثة؟ وهل تبنوا فكرة الدولة احلديثة كما هي دون‬
‫أن يسعوا إىل أي تعديالت عليها؟ وهل يرى اإلسالميون أن الدولة هي املرجعية املطلقة‬
‫بعيدا عن الشريعة؟ بل حىت بعي ًدا عن فكرة احلاكمية‪ ،‬أال جند ‪-‬على‬ ‫واحلاكمية العامة ً‬
‫نقدا لتوغل الدولة احلديثة وهيمنتها املفرطة على نواحي احلياة كافَّةً؟‬
‫سبيل املثال‪ً -‬‬
‫يقول حسن الرتايب‪" :‬إن املؤسسة األوىل يف اإلسالم هي األمة‪ ،‬ومصطلح الدولة اإلسالمية‬
‫نفسه مصطلح غري دقيق‪ ،‬فالدولة هي جمرد بـر ْعد سياسي للعمل اجلماعي للمسلمني‪،‬‬
‫واجلزء القانوين الذي يعتمد على العقوابت اليت تفرضها سلطة الدولة هو جزء واحد من‬
‫قواعد اإلسالم‪ ،‬فتطبيق الشريعة يف معظمه مرتوك للوعي احلر للمسلمني‪ ،‬أو للوسائل غري‬
‫الرمسية للتحكم االجتماعي‪ ."...‬ويضيف‪" :‬واألفراد]يف الدولة اإلسالمية القدمية[ كانوا‬
‫كثريا؛‬
‫يتمتعون حبرية كبرية؛ ألن سلطة الدولة يف التشريع واجلوانب املالية كانت حمدودة ً‬
‫ولذا مل َنر ذلك القمع الرهيب يف ذلك الزمن‪ ...‬مل َنر هذا إال يف هذه العصور اليت أقصت‬
‫فيها احلكومات العلمانية الشريعة وازدادت سلطات الدولة‪ .61‬فهو هنا ينفي بوضوح‬
‫البعد املرجعي للدولة احلديثة الذي حتدث عنه حالق‪ ،‬تلك الدولة القائمة بذاهتا املتجاوزة‬
‫للحاكم واحملكوم‪ ،‬وال يراها أكثر من بـر ْعد سياسي ال ميثل الدور األكرب يف اإلسالم‪ ،‬كما‬
‫أنه على وعي على ما يبدو ابلتوغل الكبري الذي تقوم به الدولة احلديثة يف تنميط حياة‬
‫األفراد‪ ،‬ويرى أن الدولة اإلسالمية يف املاضي مل تكن متتلك هذه القدرة الكربى‪ ،‬وهذا‬
‫من إجيابيات الدولة اإلسالمية اليت تتعاىل هبا على منوذج الدولة احلديثة اليت أرتنا ويالت‬
‫القمع بسبب قدرهتا الكبرية على السيطرة على األفراد‪ ،‬فهو هنا يتوافق مع حالق يف‬
‫نقطتني مهمتني حول نقده للدولة احلديثة‪ ،‬وليس األمر كما يقول حالق من حيث إنه‬
‫تٍ‬
‫نب مطلق لنظام الدولة احلديثة بعجرها وجبرها‪.‬‬

‫‪Al-Turabi, Hasan. (1983). The Islamic State, in John Esposito (ed.) 61‬‬
‫‪Voices of Resurgent Islam. London: Oxford University Press, PP.‬‬
‫‪241–251.‬كان للدكتور فرانك بيرت الفضل يف إرشادي هلذا النص للرتايب‪.‬‬
‫‪333‬‬
‫إن هذا البحث ال ميكنه هنا إال أن يوجه بعض االنتقادات ألطروحة حالق – دون أن‬
‫يبخسها حقها ‪ -‬يف سبيل البحث عن نقاش علمي حقيقي حول آليات تطبيق الشريعة‬
‫يف العصر احلديث‪ ،‬لكن مما ال شك فيه أن األمر ما زال حباجة إىل الكثري من الدراسة‬
‫والبحث خاصة يف ضوء االستفادة من جتارب الربيع العريب‪ .‬ولعل أطروحة حالق هذه‬
‫أتت لتنبه الرمتاء التيار اإلسالمي احلركي املبالغ فيه يف ساحة الدولة واحلداثة‪ .‬ونقدان هذا‬
‫لبعض األجزاء من أطروحة حالق ال ينفي أهنا اشتملت على الكثري من النقاط املهمة‬
‫جيدا‪ ،‬وأن يتنبه ملخاطر احلداثة اليت‬
‫اليت ينبغي على التيار اإلسالمي احلركي أن يدرسها ً‬
‫جترفه دون وعي منه يف بعض األحيان‪ ،‬وبوعي يف أحيان أخرى‪ .‬ولعل أمجل ما يف هذه‬
‫األطروحة أهنا أعادت األمل ‪ -‬حىت وإن مل يرد حالق هذا ‪ -‬يف البحث عن منوذج‬
‫بعيدا عن التأثريات احلداثية احلالية‪ ،‬هذا املشروع الذي قد ال نعرف‬ ‫إسالمي خالص ً‬
‫وبعيدا عن‬
‫إيل ‪-‬على األقل ً‬ ‫حقيقةً مدى قابليته للتصور أو للتطبيق‪ ،‬لكنه يبدو ابلنسبة ّ‬
‫المعا يف وسط مساء النوستاجليا القدمية‪.‬‬
‫الكتابة األكادميية‪ً -‬‬
‫شبه خامتة‪:‬‬
‫ميكننا هنا أن نتحدث إبجياز عن ثالثة أمور مركزية تتعلق بقراءة املشروع الفقهي والفكري‬
‫لوائل حالق‪ :‬األول من هذه األمور‪ :‬هو العالقة املركبة مع النسق االستشراقي املعريف‪،‬‬
‫فكتاابت حالق ال ميكن أن تقرأ دون أن تكون الكتبات االستشراقية ظاهرة يف اخللفية‬
‫دائما‪ ،‬سواء كانت آراء حالق انقدة لتلك الكتاابت أو موافقة هلا أو على األعراف‪ ،‬كما‬
‫رأينا يف حديثه عن تطور الفقه اإلسالمي ومرونته وتفاعله مع الواقع ومكانة املفيت يف‬
‫الدراسات الفقهية‪ ،‬أو يف إرجاعه ملكانة السنة النبوية إىل مرحلة زمنية متأخرة أو غري ذلك‬
‫من مسائل‪ .‬وقد حرص حالق على تلك العالقة اجلدلية مع النسق االستشراقي ألنه يرى‬
‫أن نقد اخلطاب االستشراقي من خارجه لن يلتفت إليه أحد وسيكون مصريه أن يلقى‬
‫على طارحة الطريق كما فعل بنقد األعظمي لشاخت من قبل‪ .‬ولذلك فقد تبدو الرتمجات‬
‫العربية لبعض كتاابته اليت تتعلق بتلك اآلراء االستشراقية ‪-‬اليت مل تتسرب للساحة العربية‬
‫ومل تدخل علينا عاملنا الفكري‪ -‬يف غري موضعها‪ ،‬وال تزيد القارئ العريب العادي إال مزيدا‬
‫من اجلداالت اليت ليس له علم هبا‪ .‬األمر الثاين‪ :‬هو نقده للحداثة الغربية عامة وللدولة‬
‫احلديثة خاصة واهتمامه الكبري بتأثريها على تشكل األفكار يف الواقع املعاصر‪ ،‬وهذا‬
‫األمر شكل العامل األساس يف العديد من اآلراء اليت تبناها حالق‪ ،‬جند هذا جليا يف‬
‫‪334‬‬
‫نقده للدولة اإلسالمية احلداثية‪ ،‬ويف ختوفه من أتثر تيار مقاصد الشريعة احلايل بطغيان‬
‫الدولة فتكون مقاصد الدولة هي مقاصد الشريعة‪ ،‬وغري ذلك‪ .‬أما األمر الثالث‪ :‬فهو‬
‫أمهية القراءة الزمنية لكتاابت حالق‪ ،‬فالرجل على ما يبدو كثري املراجعة آلرائه‪ ،‬كما رأينا‬
‫يف تراجعه عن بعض ما جاء يف ورقته عن موت الشريعة وعن أتخر الدور التشريعي‬
‫للقرآن‪ ،‬وهذا وإن كان حيسب له إال أنه يضع القارئ أحياان يف حرية من أمره‪ .‬ولعلنا‬
‫نقف على املزيد من تلك املراجعات الصرحية يف الكتاب اجلديد عن االستشراق الذي‬
‫يرتوقَع نشره ربيع ‪.2018‬‬

‫‪335‬‬
‫الفصل اخلامس‪:‬‬
‫عن مركزيّة األخالق واجلمال يف اإلسالم‪:‬‬
‫دراسة يف فكر خالد أبو الفضل‬
‫إسالم أمحد‬
‫مق ّدمة‬
‫ولد خالد أبو الفضل يف الكويت عام ‪ 1963‬ألبـَوَين مصريّني‪.‬‬
‫وقد عاد أبو الفضل من الكويت بعد انتهائه من دراسة املرحلة‬
‫الثانويّة يف سبيعنيّات القرن املاضي ليلتحق ابجلامعة ويدرس الفقه‬
‫والشريعة والنحو والبالغة وغريها من العلوم العربيّة واإلسالميّة يف‬
‫الكويت ومصر‪ ،‬ومثل كثري من الشباب يف تلك الفرتة أتثّر‬
‫ابلتيارات الدينيّة اليت كانت متوج هبا البالد حينئذ؛ فانتمى إىل‬
‫مجاعة "التبليغ والدعوة"‪ ،‬مث إىل بعض التيّارات السلفيّة؛ إىل أن‬
‫أتثّر الحقًا خبطاب الشيخ حممد الغزايلّ وعقالنيّته‪ ،‬وقرأ الكثري من‬
‫اجعات انتهت عام ‪ 1982‬بتوصية‬ ‫كتاابته‪ ،‬فأنتج هذا األمر مر ٍ‬
‫من أحد معارف والده‪ ،‬وهو الدكتور أمحد كمال أبو اجملد‪،‬‬
‫ابلتواصل مع جامعة ييل ‪ Yale‬األمريكيّة؛ حيث حصل الحقًا‬
‫على البكالوريوس يف العلوم السياسيّة (‪ ،1986‬يف الربانمج‬
‫األكادمييّ ‪ ،)Scholar of the House‬وواصل تعليمه‬
‫ومساره األكادمييّ هناك؛ إذ حصل على دكتوراه القانون‪ JD‬من‬
‫جامعة بنسلڤانيا (‪ ،)1989‬مث املاجستري والدكتوراه يف الدراسات‬
‫اإلسالميّة من جامعة برنستون (‪.1)1999‬‬

‫‪UCLA, "Faculty Profiles - Khaled Abou-el-Fadl - Bibliography," in 1‬‬


‫‪UCLA Law School website, accessed July 04, 2017,‬‬
‫‪https://is.gd/buIeSa‬‬
‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫كرسي عمر وأزمريالد ألفي للقانون‬
‫يشغل خالد أبو الفضل اليوم منصب أستاذ ّ‬
‫يف جامعة كاليفورنيا‪ ،‬لوس أجنيليس ‪UCLA‬؛ حيث يقوم بتدريس مواد تتناول الشريعة‪،‬‬
‫الدويل؛ إىل جانب رائسة قسم‬
‫ّ‬ ‫القومي واألمن‬
‫ّ‬ ‫واهلجرة‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ ،‬وقوانني األمن‬
‫الدراسات اإلسالميّة منذ العام األكادميي (‪ ،)2010-2011‬وهو هبذا أول رئيس مسلم‬
‫لقسم الدراسات اإلسالميّة جبامعة أمريكيّة رائدة‪ .‬قبل انضمامه إىل جامعة كاليفورنيا عام‬
‫‪ 1998‬سبَ َق أليب الفضل التدريس يف جامعات تكساس‪ ،‬وييل‪ ،‬وبرنستون‪.‬‬
‫ويع ّد أبو الفضل اليوم أحد أبرز املتخصصني يف الشريعة والدراسات اإلسالميّة وحقوق‬
‫اإلنسان‪ .‬وقد تل ّقى العديد من اجلوائز والتكرمي يف هذا اجملال‪ ،‬منها جائزة جامعة أوسلو‬
‫يف حقوق اإلنسان (واليت تسمى جائزة ليو وليسل) عام ‪ ،2007‬كما اختري " ِ‬
‫عامل كارنيغي‬ ‫ّ‬
‫اإلسالمي" عام ‪ ،2005‬وهو العام ذاته الذي اختري فيه ضمن أهم ‪500‬‬ ‫ّ‬ ‫يف القانون‬
‫عضوا يف جلنة احلرّايت‬ ‫ٍ‬
‫كي جورج بوش االبن قد عيّنه ً‬ ‫حمام يف أمريكا‪ .‬وكان الرئيس األمري ّ‬
‫التامة لقبوهلا‪ ،‬وقد أصدر يف‬
‫الدينيّة ابلكونغرس‪ ،‬وهي العضويّة اليت اشرتطت االستقالليّة ّ‬
‫أثنائها تقارير عن االنتهاكات حبق األقليّات املسلمة أو حىت املسلمني يف البلدان اإلسالميّة‬
‫ذات النظم العلمانيّة‪ ،‬ولكن جتاهلتها اللجنة مث حاول البيت األبيض الضغط عليه‬
‫لالستقالة‪ .‬كان أبو الفضل كذلك أحد أعضاء جملس إدارة منظمة هيومان رايتس ووتش‬
‫‪ HRW‬احلقوقيّة‪ ،‬وكذلك أحد أعضاء اللجنة االستشاريّة يف ميدل إيست ووتش‪،‬‬
‫أحد أقسام ‪HRW‬؛ كما ال يزال على تعاون مع الكثري من اهليئات احلقوقيّة ومنها‬
‫منظمة العفو الدوليّة ‪ Amnesty International‬وهيومان رايتس فرست؛ إذ يع ّد‬
‫السياسي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫من اخلرباء يف جماالت ع ّدة تشمل حقوق اإلنسان‪ ،‬واإلرهاب‪ ،‬واللجوء‬
‫التجاري‪ .2‬وقد اختري أبو الفضل يف أعوام ‪ 2009‬و‪ 2016‬و‪2017‬‬ ‫ّ‬ ‫الدويل و‬
‫ّ‬ ‫والقانون‬
‫أتثريا عامليًّا يف تقرير "مسلمون ‪ "500‬الصادر‬
‫من بني ‪ 500‬شخصيّة مسلمة هي األكثر ً‬
‫امللكي للبحوث والدراسات اإلسالميّة (مبدأ) التابع ملؤسسة آل البيت للفكر‬ ‫ّ‬ ‫عن املركز‬

‫‪UCLA, Ibid.2‬‬

‫‪338‬‬
‫‪3‬‬
‫الوهايب‬
‫نقضا للفكر ّ‬ ‫عمان ‪ .‬ويعترب مشروع أيب الفضل ً‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬يف العاصمة األردنيّة ّ‬
‫واملتشدد‪ ،‬ويظهر هذا جليًّا يف كتابه الكالم ابسم هللا‪ :‬الشريعة‪ ،‬املرجعيّة‪ ،‬والنساء‪،‬‬
‫املنهجي الذي‬
‫ّ‬ ‫والذي قام خالله بنقض العديد من تلك األفكار والفتاوى‪ ،‬وأظهر اخللل‬
‫فضال عن أنه غري‬
‫شاب عملية إصدارها‪ .‬ولذا جند أن كتبه حمظورة يف اململكة السعوديّة‪ً ،‬‬
‫تعرضه حملاولة اغتيال عندما أرطلق‬
‫مرحب به يف العديد من بلدان الشرق األوسط؛ مع ّ‬ ‫ّ‬
‫عليه النار عند ابب بيته يف بلدة ڤان نويس مبدينة لوس أجنيليس‪ ،‬كاليفورنيا‪.‬‬
‫أليب الفضل العديد من الكتب والدراسات اليت تغطّي جماالت ع ّدة من حقوق اإلنسان‬
‫والشريعة إىل الدميقراطيّة واملرأة والتسامح والعنف واإلرهاب‪ .‬ومن أبرز هذه الكتب‪:‬‬
‫التمرد والعنف يف الشريعة‬
‫الكالم ابسم هللا‪ :‬الشريعة‪ ،‬املرجعيّة‪ ،‬والنساء (‪)2001‬؛ ّ‬
‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫اإلسالميّة (‪)2001‬؛ وهللا أعلم جبنده‪ :‬االستبداد واملرجعيّة يف اخلطاب‬
‫(‪)2002 ،2001 ،1997 ،1996‬؛ مكانة التسامح يف اإلسالم (‪)2002‬؛‬
‫اإلسالم وحت ّدي الدميقراطيّة (‪)2004‬؛ البحث عن اجلمال يف اإلسالم (‪)2005‬؛‬
‫السرقة الكربى‪ :‬انتزاع اإلسالم من املتش ّددين (‪)2005‬؛ التفكري مع هللا‪ :‬استعادة‬
‫الشريعة يف العصر احلديث (‪ .)2014‬وقد ِ‬
‫ترجم الكثري من كتبه إىل العربيّة وصدرت‬
‫عن مكتبة مدبويل يف القاهرة‪ ،‬إضافة إىل ترمجتها إىل لغات أخرى من بينها‪ :‬الفارسيّة‪،‬‬
‫والفرنسيّة‪ ،‬والنروجييّة‪ ،‬واهلولنديّة‪ ،‬واألمهريّة‪ ،‬والروسيّة‪ ،‬والياابنيّة‪ .4‬لكن يف هذا الفصل‬
‫اإلجنليزي من كتب أيب الفضل كمصدر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اعتمدت على األصل‬

‫‪S. Abdallah Schleifer, ed., The Muslim 500: The World’s 500 3‬‬
‫‪Most Influential Muslims (Amman: Royal Islamic Strategic Studies‬‬
‫‪Centre, 2016), 123.‬‬
‫‪UCLA, Ibid.4‬‬

‫‪339‬‬
‫وتسعى هذه القراءة لكتاابت خالد أيب الفضل إىل إلقاء الضوء على أبرز أطروحاته وأفكاره‬
‫عن القيم اجلوهريّة يف اإلسالم‪ ،‬واليت متثل يف نظره الركائز اليت تقوم عليها الرؤية اإلسالميّة‬
‫للحياة‪.5‬‬
‫قيمة اجلمال‬
‫عرف عن أيب الفضل تركيزه على قيمة اجلمال يف اإلسالم ومكانتها منه وأثرها يف حياة‬ ‫ير َ‬
‫املسلمني‪ .‬ويرى أبو الفضل أ ّن ما ق ّدمه املسلمون للعامل على مدار جتربتهم احلضاريّة كان‬
‫سائدا حينها‪ ،‬مما‬ ‫التحضر واجلمال تفوق ما كان ً‬‫قيما عليا من العدالة واإلنسانيّة و ّ‬ ‫ميثّل ً‬
‫‪6‬‬
‫جعل من اإلسالم طاقة أخالقيّة وحضاريّة واسعة االنتشار ‪.‬‬
‫يتمحور حديث أيب الفضل عن قيمة مفهوم اجلمال وأمهيّته يف الرؤية اإلسالميّة حول‬
‫حيب اجلمال"؛ حيث يعتقد أبو الفضل أ ّن هذا‬ ‫مجيل ُّ‬‫النبوي املعروف "إ ّن هللاَ ٌ‬
‫ّ‬ ‫احلديث‬
‫حس أخالقي ر ٍاق واعتبا ٍر ٍ‬
‫عال لقيمة اجلمال عند النيب‪ ،‬إ ْذ رخيربِ‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ينم ويرنبئ عن ّ‬‫احلديث ّ‬
‫انعكس من مثَّ على احلضارة‬‫عن هذا وكذلك عند املسلمني من بعده إذ اهتّموا هبذا اخلرب و َ‬
‫خطااب يقوم على ربط اجلمال ابملهام‬ ‫اإلسالميّة الح ًقا‪ ،‬حني أسسوا حول هذا احلديث ً‬
‫يعرب‬
‫خطااب كهذا ّ‬ ‫ً‬ ‫والتكليفات األخالقيّة املنوطة ابملسلمني‪ .‬كذلك يرى أبو الفضل أ ّن‬
‫يتطور هذا اخلطاب الذي سعى‬ ‫تنوع ثقايف زاخر لواله ما أمكن أن ّ‬ ‫ضمنيًّا عن ّ‬
‫الستكشاف اجلمال يف مناحي احلياة كافَّةً؛ وألجل هذا ينعى على املسلمني يف العصر‬
‫احلديث إغفا َهلم لألحاديث اليت على شاكلة هذا املعىن‪ ،‬والذي نتج عنه عجز عن تطوير‬
‫أساسي‬
‫ّ‬ ‫مجايل‪ .‬ولذا يعتقد أبو الفضل أ ّن العودة إىل هذه الصورة شر ٌط‬
‫أخالقي‪ّ -‬‬
‫ّ‬ ‫خطاب‬
‫الرقي األخالقي لإلنسانيّة؛ وذلك‬‫لتمهيد الطريق أمام أي حماولة إسالميّة لتقدمي إضافة إىل ّ‬
‫‪ 5‬ميكن االستزادة من أرشيف مقاالت أيب الفضل وحماضراته ومطالعة عناوين كتبه عرب هذا املوقع الذي يعمل‬
‫عليه بعض تالمذته وأصدقائه‪https://is.gd/wE49gA :‬‬
‫والنسخة األحدث ‪https://is.gd/sJStfo‬‬
‫‪Khaled Abou-el-Fadl, Reasoning with God: Reclaiming 6‬‬
‫‪Shari’ah in the Modern Age (Lanham, MD: Rowman & Littlefield,‬‬
‫‪2014), 272.‬‬

‫‪340‬‬
‫أل ّن التش ّوه والقبح الذي ارتبط يف أذهان الكثريين ابإلسالم نفسه إثر أفعال البعض من‬
‫السلفي الذي يراه أبعد التيارات عن إدراك‬
‫ّ‬ ‫املنتمني إليه ‪-‬وهنا يرّكز أبو الفضل على التيّار‬
‫اإلسالمي املعاصر‬
‫ّ‬ ‫التنوع يف اإلسالم‪ ،‬ويرى أ ّن سيطرته على اخلطاب‬
‫قيمة اجلمال ومعىن ّ‬
‫التشوه‬
‫احلضاري لإلسالم‪ -‬هذا ّ‬‫ّ‬ ‫األخالقي و‬
‫ّ‬ ‫متثّل عقبة من كربى العقبات أمام الدور‬
‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫والقبح وضعا الكثري من العوائق أمام إعادة موضعة قيمة اجلمال يف اخلطاب‬
‫لتعود إىل هذه املركزيّة اليت انلتها قدميًا وأسهمت حينها يف إبراز حضارة إنسانيّة تتّسم‬
‫ابلرقي واإلبداع والبهاء‪.7‬‬
‫ّ‬
‫يرى أبو الفضل أن جوهر اجلمال مطلق‪ ،‬وأ ّن التفضيالت الشخصية ال تؤثر يف وجوده‬
‫مثاال بتجربته يف مساع املوسيقى الكالسيكيّة‬
‫وقيمته اليت ال حتددها رؤية األفراد‪ .‬ويسوق ً‬
‫الغربيّة اليت كان هلا أثرها العميق يف نفسه؛ إذ ربطها ابحلكمة اليت هي "ضالّة املؤمن"‪،‬‬
‫أي مصد ٍر جاءت‪ ،‬وأ ّن اجلمال كذلك ‪-‬كأح ّد‬ ‫يبحث عنها أينما كانت وحيتفي هبا من ّ‬
‫جتلّيات هذه احلكمة‪ -‬ميكن رؤيته يف تفاصيل ومناذج وسياقات حضاريّة وثقافيّة أخرى‬
‫الفين‬
‫احلضاري و ّ‬
‫ّ‬ ‫وخمتلفة‪ ،‬ابلدرجة ذاهتا اليت يبحث فيها املسلمون عن اجلمال يف السياق‬
‫انبع من عامل آخر هو تكامل األجزاء‬ ‫لألمة اإلسالمية‪ .‬كذلك يؤّكد على أن اجلمال ٌ‬
‫لتؤدي‬
‫بتكون مرّكب متّسق من هذه األجزاء ّ‬ ‫وترابطها يف شكل متناسق ومتناغم يسمح ّ‬
‫ٍ‬
‫دوما أكرب وأمجل من مفردات غري‬ ‫الكل ً‬‫أمجل يف هذا الكون‪ ،‬وأ ّن ّ‬ ‫دورا أكرب وأعمق و‬
‫ً‬
‫مرتاكبة وغري متناسقة‪.8‬‬
‫على الصعيد املعاصر‪ ،‬يعترب أبو الفضل أن أثر احلداثة يف حياة املسلمني كان سلبيًّا؛ إذ‬
‫جاءهتم يف صورة قبيحة متثّلت يف العجز واالغرتاب وانعدام التمكني‪ .‬ولذا يرى أ ّن التغلّب‬
‫على هذا "احلديث القبيح" ‪ the modern ugly‬هو مناط العمل للمسلمني اليوم‬

‫‪Ibid., 273-275.7‬‬
‫‪Ibid., pp. 282-283.8‬‬

‫‪341‬‬
‫اإلسالمي؛ ويرى أ ّن اإلسالم يؤسس‬
‫األخالقي ‪ّ 9‬‬
‫ّ‬ ‫من أجل استعادة اجلوهر اجلميل يف الرتاث‬
‫لقيم وواجبات أخالقيّة‪ ،‬وأ ّن اجلمال هو أعلى املقاصد ‪.‬‬
‫املرأة واملتح ّدثون ابسم هللا‬
‫كرسه للعالقة‬
‫رغم طرح أيب الفضل لقضااي املرأة يف كثري من كتاابته‪ ،‬فإن كتابه األبرز الذي ّ‬
‫بني الشريعة واملرأة هو الكالم ابسم هللا‪ :‬الشريعة‪ ،‬املرجعيّة‪ ،‬والنساء؛ إذ يطرح قضيّة‬
‫اإلسالمي يف استخدام الشريعة وإساءة قراءهتا مبا جيور على‬
‫ّ‬ ‫تعسف السلطات يف العامل‬ ‫ّ‬
‫متاما مع‬
‫ً‬ ‫يتناقض‬ ‫الذي‬ ‫األمر‬ ‫أة؛‬
‫ر‬ ‫امل‬ ‫أسهم‬ ‫ر‬ ‫وعلى‬ ‫املسلمة‪،‬‬ ‫اجملتمعات‬ ‫يف‬ ‫نة‬‫معي‬
‫ّ‬ ‫فئات‬
‫اإلسالمي‪ .‬فالقضيّة األم يف هذا الكتاب هي إساءة‬‫ّ‬ ‫الفقهي‬
‫ّ‬ ‫للنظام‬ ‫ة‬‫ّ‬‫األخالقي‬ ‫املبادئ‬
‫توظيف املرجعيّة الشرعيّة اجتماعيًّا‪ ،‬فالكتاب ال يصنّف يف إطار دراسات اجلندر أو الفقه‬
‫ليوضح لنا كيف ترساء‬
‫االجتماعي ّ‬
‫ّ‬ ‫النسوي؛ وإمنا اختار أبو الفضل األمثلة املتعلّقة ابلنوع‬
‫ّ‬
‫أيضا أ ّن‬
‫ً‬ ‫والعتقاده‬ ‫اجملتمع؛‬ ‫على‬ ‫ة‬‫ّ‬‫ي‬
‫ر‬ ‫الذكو‬‫‪-‬‬ ‫ة‬‫ّ‬‫األبوي‬ ‫السلطة‬ ‫فرض‬ ‫أجل‬ ‫من‬ ‫يعة‬
‫ر‬ ‫الش‬ ‫قراءة‬
‫االجتماعي من أبرز وأصعب التح ّدايت اليت تطرح تزامنًا مع احلديث عن‬ ‫ّ‬ ‫قضااي النوع‬
‫‪10‬‬
‫دور الشريعة يف العصر احلديث ‪.‬‬
‫االجتماعي من حياة‬
‫ّ‬ ‫هذه األزمة يف تنزيل مبادئ الشريعة ومقاصدها‪ ،‬وخاصة يف اجلانب‬
‫الناس‪ ،‬يراها أبو الفضل أحد جتلّيات إرث احلقبة االستعماريّة ومعضلة احلداثة والتحديث‬
‫اإلسالمي‪ .‬فهذا اإلرث وتلك املعضلة أوراث املؤسسة الفقهيّة طبيعةً استبداديّة‬
‫ّ‬ ‫يف العامل‬
‫حادة وصارمة‪ .‬وألجل توضيح هذا األثر الذي تركته احلداثة واالستعمار يف النظريّة الفقهيّة‬
‫ّ‬
‫مفاهيمي يتناول‬
‫ّ‬ ‫اإلسالميّة‪ ،‬كان هذا الكتاب حماولةً من أيب الفضل ألجل طرح إطار‬

‫‪Khaled Abou-el-Fadl, The Ugly Modern and the Modern Ugly: 9‬‬
‫‪Reclaiming the Beautiful in Islam, in Progressive Muslims: On‬‬
‫‪Justice, Gender, and Pluralism, ed. Omid Safi (Oxford: Oneworld‬‬
‫‪Publications, 2008), 62.‬‬
‫‪Khaled Abou-el-Fadl, Speaking in God’s Name: Islamic Law, 10‬‬
‫‪Authority, and Women (London: Oneworld Publications, 2014),‬‬
‫‪x-xi.‬‬

‫‪342‬‬
‫امل اليت ّأدت إىل إساءة استخدامها يف‬
‫العو َ‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬و‬
‫ّ‬ ‫فكرة السلطة واملرجعيّة يف الفكر‬
‫‪11‬‬
‫الفقهي‪/‬القانوينّ يف اجملتمعات املسلمة ‪ .‬وفيه يناقش أبو الفضل ابلتحليل اآلراء‬
‫ّ‬ ‫السياق‬
‫والفتاوى واألحكام اليت تصدرها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء ‪-‬أو هيئة كبار‬
‫العلماء‪ -‬يف اململكة العربية السعودية‪.‬‬
‫يناقش أبو الفضل مخسة شروط يرى أ ّن على الفقيه‪/‬القاضي‪/‬املفيت التحلّي هبا ومراعاهتا‬
‫شرعي؛ وذلك كي ال يَِزّل وينزلق‬‫ّ‬ ‫عند مناقشة قضيّة فقهيّة ما أو إصدار فتوى أو حكم‬
‫من دور املرجعيّة الفقهيّة للعلماء إىل ممارسة االستبداد ابسم الشريعة‪ ،‬أو الكالم ابسم‬
‫هللا‪ .‬هذه الشروط هي‪ :‬األمانة‪ ،‬والنزاهة‪ ،‬واالجتهاد‪ ،‬ومشوليّة البحث‪ ،‬واملعقوليّة يف الطرح‪،‬‬
‫مث التواضع الذي يتجلّى يف أهبى صورة يف مقولة "وهللا أعلم"‪ .12‬يف مناقشته هلذه الشروط‬
‫الفقهي‪ ،‬يرى أبو الفضل أهنا هي الضمانة احلقيقيّة ضد النزوع‬ ‫ّ‬ ‫ومدى تطبيقها يف الواقع‬
‫دوما ما أييت مع انتهاك‬
‫الفقهي ‪ ،authoritarianism‬والذي ً‬ ‫ّ‬ ‫االستبدادي يف السياق‬
‫ّ‬
‫الفقهي على التحريف لألدلة أو‬ ‫ِ‬
‫شرط أو أكثر من هذه الشروط؛ ومن َمثَّ يقوم االستبداد‬
‫ّ‬
‫إخفاء أن هذه الشروط اخلمسة مل تتّبع بشكل صارم‪ ،‬مبا رخيفي مراحل عملية االستنباط‬
‫املرجعي‬
‫ّ‬ ‫ص َد َر هذا احلكم أو ذاك؛ وهذا هو حتويل الدور‬ ‫الفقهي اليت بناءً عليها َ‬
‫ّ‬
‫‪/‬سلطوي‬
‫ّ‬ ‫استبدادي‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫ر‬ ‫دو‬ ‫إىل‬ ‫للفقيه‪/‬القاضي‪/‬املفيت‬ ‫‪authoritative‬‬
‫‪ ،authoritarian‬ويصبح رأي الفقيه‪/‬املفيت مبثابة التعبري عن اإلرادة اإلهليّة‪ ،‬رغم ما‬
‫إخفاء لآلراء األخرى أو تغييب لشرح عملية االستنباط من مصادر التشريع‬ ‫ٍ‬ ‫شابَهر من‬
‫جل أمثلة الكتاب‪،‬‬ ‫األوليّة (القرآن والسنّة)‪ .‬األمثلة اليت يعرضها أبو الفضل هنا‪ ،‬كما يف ّ‬
‫تتعلّق ابملرأة أو قضااي الزواج واملرياث والعالقات بني اجلنسني ودور املرأة يف اجملال العام‪.‬‬
‫فهنا يستخدم مثال حجاب املرأة ويتناول آايت سورة النور اليت َوَرَد فيها أمر احلجاب؛‬
‫يتعمد البعض أن رخيفي عن‬ ‫مثاال الستبداديّة الفقيه‪ ،‬أو احلديث ابسم هللا‪ ،‬أبن ّ‬ ‫ويضرب ً‬
‫ِ‬
‫العامة آراءً فقهيّة خمالفة ال ترى هذا الوجوب ألمر احلجاب ‪ -‬مبعىن غطاء الرأس‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬
‫النقاب ‪ -‬بل تضعه حتت ابب الندب ومبحث األخالق والتعفف (وهو أمر ليس ابألقل‬
‫أمهية إسالميًّا)؛ مما يوقِع الفقيه‪/‬املفيت يف منزلق ادعاء وزعم متثيله إلرادة هللا‪ِ ،‬‬
‫ومن َمثَّ يطرح‬ ‫ّ‬ ‫ر‬

‫‪Ibid., ix.11‬‬
‫‪Ibid., 53-56.12‬‬
‫‪343‬‬
‫فضال عما ينطوي عليه هذا من خماطر‬‫متاحا لآلخرين البحث واالجتهاد‪ً ،‬‬ ‫رأيه وكأنّه ليس ً‬
‫اإلشراك ابهلل؛ إذ تتم تسوية رأي الفقيه ابإلرادة اإلهليّة ذاهتا‪ ،‬ال حمض حماولة ملعرفتها وأحد‬
‫االستبدادي يف اجلماعة الفقهيّة‬
‫ّ‬ ‫االحتماالت القائمة‪ .13‬ويعتقد أبو الفضل أن هذا النزوع‬
‫هو ما أنتج هذا القول الزاعم أب ّن ابب االجتهاد قد أرغلِق‪.‬‬
‫كما ذكرت آن ًفا‪ ،‬فإ ّن أاب الفضل يطرح يف هذا الكتاب العديد من األمثلة لتوضيح قضيّة‬
‫وحتول الفقيه‪/‬املفيت إىل متح ّدث ابسم هللا‪ .‬من‬
‫حتول املرجعيّة الفقهيّة إىل استبداد ابلرأي ّ‬ ‫ّ‬
‫هذا أنه يراجع أحاديث سجود املرأة لزوجها‪ ،‬ابعتبار وجوب طاعة املرأة ّإايه‪ ،‬واستخدام‬
‫يتبىن أبو الفضل الرأي‬‫بعض الفقهاء آلية القوامة كذلك للتدليل على هذا الوجوب‪ّ .‬‬
‫االجتماعي‬ ‫القوامة هنا قد يكون من معانيها احلماية والدعم وتوفري األمن‬ ‫القائل أب ّن ِ‬
‫ّ‬
‫آخر‬‫استخدمت يف القرآن لتعطي معىن َ‬ ‫َ‬ ‫ًّ‬
‫مستدال أب ّن الكلمة " ّقوامون" قد‬ ‫األسري؛‬
‫و ّ‬
‫{قوامون ابلقسط}‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫الف ما يقرره البعض عند احلديث عن عالقة الرجل واملرأة؛ ّ‬ ‫ِخ َ‬
‫أبعد من هذا‪ ،‬ويرى أ ْن لو كانت‬
‫حراس لقيمة العدالة يف اجملتمع‪ .‬بل يذهب أبو الفضل َ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫املادي‪ ،‬فإ ّن األمر يصبح أ ْن تتشارك املرأة القوامة مىت ما شاركت‬ ‫ابإلنفاق‬ ‫تبطة‬
‫ر‬ ‫م‬ ‫امة‬‫و‬ ‫ِ‬
‫الق‬
‫ّ‬
‫يف األعباء املاديّة لألسرة‪ ،‬كما هو احلال يف كثري من اجملتمعات املسلمة اليوم‪ ،‬وإذا ما‬
‫تلم ابلزوج‪،‬‬
‫صارت املرأة وحدها هي القائمة ابملهام االقتصاديّة يف البيت‪ ،‬ألي ظروف قد ّ‬
‫فيقرر أ ّن عالقة الزواج يف القرآن تقوم‬
‫انتقلت إليها هي القوامة‪ .‬رمثّ يعود أبو الفضل ّ‬
‫جرى وصف هذه العالقة أبهنا قد تكون‬ ‫ورمحَة}‪ ،‬ومل يرد إطالقًا أن َ‬‫{م َو ّدة َ‬
‫ابألساس على َ‬
‫ود وتشارك‬‫ومسود‪ ،‬وإمنّا عالقة ّ‬‫عالقة طاعة من الزوجة للزوج‪ ،‬فهي ليست عالقة سيّد َ‬
‫حديث السجود ذاتره‪ ،‬فهو‬‫ر‬ ‫و" َس َكن"‪ ،‬تقوم على التماثل والتكافؤ "من أنفسكم"‪ّ .‬أما‬
‫وإما حسن‪ ،‬وهو يف كل رواايته حديث آحاد‪ .‬وبعد نقاش‬ ‫حبسب احمل ّدثني ّإما ضعيف ّ‬
‫متاما‬
‫حول ماهيّة هذا الرواايت والسياق الذي جاءت فيه‪ ،‬يرى أبو الفضل أهنا تتناقض ً‬
‫مع إفراد هللا ابلوحدانيّة والعظمة والكربايء‪ ،‬وهي الصفات املنصوص عليها يف القرآن‪،‬‬
‫النيب؛ فبحسب تلك الرواايت فقد‬ ‫مستبعدا أن تصدر عن ّ‬
‫ً‬ ‫معت ًربا أن يف هذا شرًكا ابهلل‪،‬‬
‫وتوقريا‪ ،‬فكان هذا اجلواب‬
‫للنيب) احرت ًاما ً‬
‫النيب إ ْن كان من اجلائز أن يسجدوا له (أي ّ‬ ‫سئل ّ‬
‫جائزا‪ .‬ويقول أبو الفضل إ ّن السياق‬ ‫ِ‬
‫املوجه بسجود املرأة لزوجها‪ ،‬إن كان السجود لغري هللا ً‬ ‫ّ‬
‫‪Ibid., 142-144.13‬‬

‫‪344‬‬
‫ٍ‬
‫خبطاب كهذا يف حضرة الرجال فقط‪ ،‬وال مكانة الزوج‬ ‫يوجه الرسول‬
‫هنا ال حيتمل أن ّ‬
‫‪14‬‬
‫قارن هبا أو أتيت معها يف السياق ذاته ‪.‬‬
‫تقرتب من مكانة الرسول لتر َ‬
‫بني الشريعة والفقه‬
‫يقول أبو الفضل يف كتابه التفكري مع هللا‪ :‬استعادة الشريعة يف العصر احلديث إ ّن‬
‫اإلهلي اخلالد والثابت‪ ،‬وهي الطريق اهلادي إىل احلقيقة والفضيلة‬ ‫الشريعة هي القانون ّ‬
‫موضوعي وغري مشروط‪ ،‬كما ينبغي له أن يكون يف‬‫ّ‬ ‫والعدالة؛ فهي القانون األمثل بشكل‬
‫اإلسالمي ‪ Islamic Law‬فهو تراكم األحكام‬ ‫ّ‬ ‫اإلهلي‪ّ .‬أما الفقه أو القانون‬
‫ّ‬ ‫املراد‬
‫الفقهي على مدار الزمن وعرب خمتلف املدارس الفقهيّة من أجل "حتقيق‬ ‫ّ‬ ‫الشرعيّة والتفكري‬
‫‪15‬‬
‫العامة ‪ .‬ويرى أبو الفضل أ ّن هذا‬ ‫مصاحل العباد" ومعرفة مراد هللا من العباد‪ ،‬واملصلحة ّ‬
‫أساسي إىل االعرتاف مبحدوديّة القدرة البشريّة على معرفة‬
‫ّ‬ ‫مرده بشكل‬
‫املفاهيمي ُّ‬
‫ّ‬ ‫التمييز‬
‫جمرد حماولة الستكناه هذا املراد؛ ولذا فإ ّن هذا‬
‫حقيقة مراد هللا من شريعته‪ ،‬وإّمنا الفقه ّ‬
‫جمردة‪،‬‬
‫مثاال وقيمة ّ‬
‫التمييز يعكس الرؤية اإلسالميّة أب ّن الكمال هلل وحده‪ ،‬فالشريعة تع ّد ً‬
‫والفقه ليس إال حماولة لفهم ركْنه هذا املثال وتطبيقه على أرض الواقع‪ ،‬وحبكم كونه انجتًا‬
‫عن حماوالت بشريّة‪ ،‬فال ميكن أن يصل إىل الكمال الذي متتاز به الشريعة‪ ،‬وإّمنا يعرتيه‬
‫البشري واحتمال اخلطأ ال ير ِنقص من أجر الفقيه‬
‫ّ‬ ‫اخلطأ والنقصان‪ .‬هذا االعرتاف ابلعجز‬
‫حاليت اخلطأ والصواب‪ ،‬وإ ْن كان يف الثانية ِضعف األوىل‪،‬‬ ‫اجملتهد‪ ،‬فللمجتهد أجره يف َ‬
‫ومن أخطأ؛ بينما يقول اجتّاه آخر إ ّن االجتهاد كلّه صواب‬ ‫عرف َمن أصاب َ‬ ‫ويوم القيامة ير َ‬
‫عند هللا الذي سيحاسب الناس يف اآلخرة على نواايهم وإخالصهم يف البحث عن مراده‬
‫من شريعته ال على صوابيّة اجتهاداهتم الفقهيّة؛ فتلك النوااي والبحث الصادق هي حبد‬
‫ذاهتا قيمة أخالقيّة مطلوبة أبمر الشارع‪ .16‬لذا يعتقد أبو الفضل أ ّن أهم خصائص‬
‫اإلسالمي أن البشر عاجزون عن إدراك حقيقة مراد‬
‫ّ‬ ‫املعريف الذي يقوم عليه الفقه‬
‫النموذج ّ‬

‫‪Ibid., 210-217.14‬‬
‫‪Khaled Abou-el-Fadl, Reasoning with God, xxxii.15‬‬
‫‪Khaled Abou-el-Fadl, The Shari’ah, in The Oxford Handbook 16‬‬
‫‪of Islam and Politics, eds. John L. Esposito and Emad Shahin‬‬
‫‪(Oxford: Oxford University Press, 2013), 12-13.‬‬
‫‪345‬‬
‫هللا بصورة يقينيّة قطعيّة؛ ولذا تغلب على لغة الفقهاء اللغة الظنيّة (غلبة الظن‪ ،‬غالب‬
‫عوضا عن القطع واجلزم واليقني من الناحية القانونيّة‪ .‬وألجل هذا ابتكر‬ ‫ظنّنا‪ ..،‬إخل)‪ً ،‬‬
‫الفقهاء الرتجيح‪ ،‬وهو صيغة حتليليّة يف الفقه برغيَة الوصول إىل املبادئ املنهاجيّة اليت يربىن‬
‫فقهي حمدد ال غريه‪ .‬ألجل هذا‪ ،‬يرى أبو الفضل أ ّن الشريعة هي املبادئ‬ ‫اختيار ّ‬
‫ٌ‬ ‫عليها‬
‫التطور عرب الزمن‪،‬‬
‫اإلسالمي‪ ،‬والذي بدوره خيضع للتغيري و ّ‬‫ّ‬ ‫العامة اليت يدور حوهلا الفقه‬
‫ّ‬
‫التوجهات األصوليّة ‪ fundamentalist‬واملاهيّويّة ‪essentialistic‬‬ ‫بعكس ما ترى ّ‬
‫حتمي وميكنه احلكم يف قضااي الضمري واألخالق؛ فهذه الرؤية‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫من أ ّن الفقه‬
‫اإلسالمي‪ ،‬أو املذاهب الفقهيّة‪ ،‬واليت‬
‫ّ‬ ‫تتناقض مع إبستمولوجيا ومؤسسات تقليد القانون‬
‫مجيعا تصلح للتعبري عن مراد هللا من‬ ‫شجعت على وجود مدراس فكريّة متعددة‪ً ،‬‬ ‫طاملا ّ‬
‫‪17‬‬
‫أيضا ما يراه حممد هاشم َكمايل‪ ،‬إذ يعترب أ ّن الشريعة ذات ارتباط‬ ‫شرعه ‪ .‬هذا الرأي هو ً‬
‫البشري للعلماء‬
‫ّ‬ ‫تعبريا عن مقاصده ومراميه‪ ،‬بينما الفقه هو نتاج الفكر‬ ‫قوي ابلوحي‪ً ،‬‬ ‫ّ‬
‫املسلمني لتنزيل هذه املقاصد على أرض الواقع؛ فـ"الشريعة" هي الصراط والطريق‪ ،‬بينما‬
‫البشري لطبيعة هذا الصراط وكيفيّة سلوكه والسري فيه‪ .18‬لذا نرى‬ ‫ّ‬ ‫"الفقه" هو اإلدراك‬
‫‪/‬الفقهي‬
‫ّ‬ ‫تشاهبًا يف أتكيدمها على دور العقل (الفقه) والنقل (الشريعة) يف الرتاث القانوينّ‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫ّ‬
‫اقعي‬ ‫ٍ‬
‫البشري للوصول إىل فهم و ّ‬
‫ّ‬ ‫بشري؛ فهو السعي‬
‫وألن الفقه‪ ،‬يف مقابل الشريعة‪ ،‬قانون ّ‬
‫مثاال‬
‫نصت عليها الشريعة اإلهليّة كما هي يف مراد هللا ‪ -‬يذكر أبو الفضل ً‬ ‫للقيمة اليت ّ‬
‫على هذا ابلعالقة بني الرجل واملرأة‪ ،‬ابعتبار وضع املرأة يف اجملتمعات املسلمة من القضااي‬
‫مهما يف فكر أيب الفضل‪ .‬فيتساءل هنا عن القيمة اإلهليّة اليت حتكم هذه‬‫اليت تشغل حيّـًزا ًّ‬
‫ينص عليها عرب أتكيده على أنه ال تفرقة يف اإلسالم على‬ ‫العالقة‪ ،‬وهو يرى أ ّن القرآن ّ‬

‫‪Khaled Abou-el-Fadl, Reasoning with God, xxxix.17‬‬


‫‪Mohammad Hashim Kamali, Law and Society, in The Oxford 18‬‬
‫‪History of Islam, ed. John L. Esposito (Oxford: Oxford University‬‬
‫‪Press, 1999), 108.‬‬

‫‪346‬‬
‫أساس من النوع‪ ،‬العِْرق‪ ،‬أو الطبقة االجتماعيّة؛ فاجلميع أمام هللا متساوون يف املثوبة‬
‫ٍ‬
‫ورجاال‪ ،‬حملٌّ لتل ّقى رضوان هللا وإحسانه ونعمائه‪.‬‬
‫والعقوبة‪ ،‬واجلميع‪ ،‬نساءً ً‬
‫ألجل هذا املعىن‪ ،‬وألن الشريعة تضع اجلميع سواسيةً أمام هللا؛ فإ ّن مهمة الفقه ‪-‬والذي‬
‫غري قابل للتغيري حبسب‬ ‫هو نتاج العقل املسلم‪ِ ،‬‬
‫جامدا أو َ‬
‫ومن َمثَّ ال ميكن أن يكون ً‬
‫السياقات التارخييّة واالجتماعيّة واالقتصاديّة‪ -‬ينبغي أن تكون من أجل حتقيق هذه الغاية‬
‫اليت ترمسها الشريعة‪ ،‬وجعل واقع الناس أقرب ما يكون من هذا النموذج الذي ترتضيه‬
‫الشريعة اإلهليّة‪ .19‬ومبا أ ّن من غاايت الشريعة العدل واملساواة بني الواجبات واحلقوق‪،‬‬
‫تغريت الظروف‬ ‫مساواي ملرياث الرجل‪ ،‬إذا ّ‬
‫ً‬ ‫يرى أبو الفضل إمكانيّة أن ترث املرأة نصيبًا‬
‫قدرا من التناسب‬
‫احلياتيّة وأصبحت تشارك الرجل يف املهام املاليّة؛ ألن هذا يف رؤيته حيقق ً‬
‫بني احلقوق والواجبات املنوطة ابملرأة املسلمة يف الظروف االجتماعيّة اجلديدة اليت حتياها‪،‬‬
‫أيضا أقرب إىل مراد الشريعة وحتقيق العدالة واملساواة التامة بني العباد أمام‬‫وألن هذا ً‬
‫هللا‪20‬؛ وهي من بني الصفات اإلهليّة اليت عليها مدار العمران يف األرض الذي كلّف هللا‬
‫به بين آدم‪ ،‬ومنها صفات العدل والرمحة والشفقة واخلري واجلمال‪.21‬‬
‫ويستبق أبو الفضل التساؤالت اليت قد متر أبذهان ّقرائه‪ :‬أ ْن لو كانت هذه املثرل راسخة‬
‫يقررها القرآن مباشرة‪ ،‬دون حاجةر الستنباط‬ ‫وحقيقيّة‪ ،‬أمل يكن من األيسر واألوضح أن ّ‬
‫حصة متساوية يف املرياث؟ وجييب أبو الفضل أ ّن هذه املساواة‬ ‫بشري‪ ،‬فيعطي الرجل واملرأة ّ‬
‫ّ‬
‫التامة اجتماعيًّا وماليًّا مل تكن هي القيمة األبرز يف حياة اجملتمعات العربيّة‪ ،‬ومل تستدعها‬
‫ّ‬
‫الظروف االقتصاديّة واالجتماعيّة هنالك؛ إذ كانت املرأة يف رعاية أقرابئها الرجال‪ ،‬إ ْن ًأاب‬
‫أخا أو أبناء عمومة‪ ،‬مما ش ّكل هلا غطاءً من احلماية والرعاية االجتماعيّة اليت اهنارت‬ ‫أو ً‬
‫‪22‬‬
‫متاما يف ظل احلداثة ‪.‬‬
‫ً‬

‫‪Khaled Abou-el-Fadl, Reasoning with God, 380.19‬‬


‫‪Khaled Abou-el-Fadl, The Great Theft: Wrestling Islam from 20‬‬
‫‪the Extremists (London: HarperCollins, 2005), 264-268.‬‬
‫‪Ibid., 129.21‬‬
‫‪Khaled Abou-el-Fadl, Reasoning with God, 381.22‬‬

‫‪347‬‬
‫التطور الذي ينبغي أن متر به عمليّة االستنباط‬‫لكن أاب الفضل ال يزال يعتقد أن التغيري و ّ‬
‫الفقهي ال ميكن حبال أن ختضع لألهواء البشريّة أو احلسد والتباغض وغريها من أمراض‬ ‫ّ‬
‫النفوس‪ ،‬وإمنا لتحقيق املثرل العليا للشريعة اإلهليّة عرب استنتاجات فقهيّة وقانونيّة حتقق‬
‫هذه املثل يف حياة الناسر وواقعهم ومعيشتهم؛ ففي املثال املذكور آن ًفا‪ ،‬أييت هذا التغيري‬
‫لتحقيق التوازن بني واجبات املرأة املسلمة وحقوقها‪ ،‬وتوفري ظروف العدالة‪ ،‬واليت هي قيمة‬
‫رّابنيّة رعليا ‪ .‬ويؤّكد أبو الفضل أ ّن أي ٍّ‬
‫‪23‬‬
‫نص هو حباجة إىل أن تتم عملية قراءته وفق توازن‬
‫سيؤدي ال حمالة‬ ‫ِ‬
‫أي خلل يف هذا التوازن ّ‬ ‫النص ذاته والقارئ واملؤلّف‪ ،‬وأ ّن ّ‬
‫حقيقي بني ّ‬
‫الفكري؛ وهي احلالة اليت تشهدها عملية إصدار األحكام الشرعيّة‬ ‫كود‬‫الر‬ ‫من‬ ‫إىل ّ ٍ‬
‫حالة‬
‫ّ‬
‫النص‬
‫ّ‬ ‫كون‬ ‫و‬ ‫ة‪،‬‬ ‫اإلهلي‬
‫ّ ّ‬ ‫ة‬ ‫املرجعي‬ ‫توظيف‬ ‫جيري‬ ‫حني‬ ‫احلديث‪،‬‬ ‫العصر‬ ‫والفتوى لدى البعض يف‬
‫صادرا عن هللا‪ ،‬من أجل تربير األحكام السلطويّة والتسلّط ابسم الشريعة؛ إذ يزعم‬ ‫املق ّدس ً‬
‫هؤالء حينها أ ّهنم ليسوا ّإال يف حالة تعبري عن اإلرادة اإلهليّة وأ ّن هذا احلكم أو الفتوى‬
‫أيضا‬
‫حمل هللا؛ ويف هذا ما فيه من الشرك‪ ،‬وهو ً‬ ‫حكم هللا ذاتره‪ ،‬وهنا يضع املفيت نفسه ّ‬ ‫هو ر‬
‫رخمالِف ملنطق الفقه والشريعة القائ ِم على أ ّن املسلم إّمنا حيا ِول أن حييا وفق تعليمات هللا‪،‬‬
‫ِ‬
‫وال يعين هذا أنه ابلفعل يقوم هبذا‪ ،‬وتلك احملاولة هي إحدى القيم املهمة يف ِ‬
‫ذاهتا وهي‬ ‫ّ‬
‫ما حتفظ على هذه األوامر اإلهليّة حيويّتها واستمراريتها وصالحيتها عرب الزمان واملكان؛‬
‫تلخصه مقولة "وهللا‬ ‫كبريا من التواضع يف البحث عن العلم واملعرفة‪ّ ،‬‬ ‫قدرا ً‬
‫وهذا يتطلّب ً‬
‫أعلم"‪ ،‬إذ يـر َع ّد هذا التواضع أحد الشروط اخلمسة ‪-‬اليت ذكرهتا ساب ًقا‪ -‬للقيام بدور‬
‫هوة االستبداد ابسم الشريعة أو "احلديث ابسم‬ ‫‪ّ24‬ة الفقهيّة فقط دومنا انزالق إىل ّ‬ ‫املرجعي‬
‫هللا" ‪ .‬هذه الشروط اخلمسة ال تتوافر‪ ،‬برأي أيب الفضل‪ ،‬عند العقليّة السلفيّة‪-‬الوهابيّة‬
‫اليت تستخدم النص القرآينّ كسياط وأدوات قمعيّة من أجل تثبيت ديناميات السلطة‬
‫متحصنني بقداسة النص‪.25‬‬ ‫ّ‬ ‫الرجعيّة‪،‬‬

‫‪Ibid., 380-381.23‬‬
‫‪Khaled Abou-el-Fadl, Speaking in God’s Name, 264-265.24‬‬
‫‪Khaled Abou-el-Fadl, The Ugly Modern and the Modern Ugly: 25‬‬
‫‪Reclaiming the Beautiful in Islam, in Progressive Muslims: On‬‬

‫‪348‬‬
‫ويف رؤيته للدور الذي تلعبه السنّة النبويّة يف صياغة األحكام الشرعيّة ومكانتها يف الشريعة‬
‫املغريب سعد الدين العثماينّ‪ 26‬يف رؤيته لألدوار‬
‫اإلسالميّة‪ ،‬يتقاطع أبو الفضل مع املف ّكر ّ‬
‫يفرق‬
‫األمة اإلسالميّة‪ .‬فأبو الفضل ّ‬
‫اليت قام هبا رسول هللا يف تبليغ الرسالة وتشكيل مسار ّ‬
‫سكري‬
‫سياسي وع ّ‬ ‫ّ‬ ‫البشري يف اجملتمع كقائد‬
‫ّ‬ ‫النيب كمبلّغ للرسالة والوحي وبني دوره‬
‫بني دور ّ‬
‫وقاض؛ ويرى أ ّن دور الفقهاء يف هذا الشأن على مدار التاريخ كان يتمحور حول التفرقة‬ ‫ٍ‬
‫اعتيادي من األفعال‬
‫ٌّ‬ ‫شرعي‪ ،‬وبني ما هو‬
‫النيب بغرض صياغة تكليف ّ‬ ‫بني ما يصدر عن ّ‬
‫كنيب ال يقدر الناس على تقليده أو الزعم إبمكانيّة وصوهلم إىل هذا‬ ‫خيتص به ّ‬
‫أو ما ‪ّ 27‬‬
‫املستوى ‪.‬‬
‫اإلسالمي هو التفرقة األكيدة بني‬
‫ّ‬ ‫أخريا‪ ،‬فمن أهم ما يطرحه أبو الفضل يف رؤيته للفقه‬
‫و ً‬
‫اإلسالم كداينة ورؤية ميتافيزيقيّة‪ ،‬وبني رؤى الفقهاء املسلمني وأطروحاهتم؛ إذ إن أي‬
‫ينم عن نظرة جوهريّة ‪ ،essentialist‬فهو‬ ‫فضال عن كونه ّ‬‫خلط بني االثنني هو أمر ً‬
‫ابلكل‪ ،‬فالفقه ليس ّإال جزءًا من‬
‫ّ‬ ‫يسوي اجلزء‬‫خلال منهجيًّا حني ّ‬‫ط يعكس ً‬ ‫أيضا خل ٌ‬
‫ً‬
‫أيضا نتاج السياقات التارخييّة واالجتماعيّة اليت عاش فيها الفقهاء‪،‬‬
‫احلقيقة اإلسالميّة‪ ،‬وهو ً‬
‫‪28‬‬
‫الفكري ‪.‬‬
‫االجتماعي و ّ‬
‫ّ‬ ‫ويعرب عن دورهم‬
‫ومن مثَّ يعكس ظروفهم ّ‬

‫‪Justice, Gender, and Pluralism, ed. Omid Safi (Oxford: Oneworld‬‬


‫‪Publications, 2008), 58.‬‬
‫‪ 26‬سعد الدين العثماينّ‪ ،‬تصرفات الرسول ابإلمامة‪ :‬الدالالت املنهجية والتشريعية (الرابط‪ :‬منشورات الزمن‪،‬‬
‫‪.)2003‬‬
‫‪Khaled Abou-el-Fadl, The Shari’ah, in The Oxford Handbook 27‬‬
‫‪of Islam and Politics, eds. John L. Esposito and Emad Shahin‬‬
‫‪(Oxford: Oxford University Press, 2013), 10.‬‬
‫‪Khaled Abou-el-Fadl, Rebellion and Violence in Islamic Law 28‬‬
‫‪(Cambridge: Cambridge University Press, 2006), 21.‬‬
‫‪349‬‬
‫موضع األخالق يف الشريعة اإلسالميّة‬
‫األخالقي" منها‪ ،‬يرى أبو الفضل ‪-‬يف توافق مع‬‫ّ‬ ‫عند حديثه عن طبيعة الشريعة وموضع "‬
‫جمرد أحكام وأوامر ينبغي على املسلمني تنفيذها يف‬ ‫مدرسة املقاصد‪ -‬أ ّن الشريعة ليست ّ‬
‫حريف"‪ ،‬وإّمنا الواجب أن يكون هناك اهتمام أكرب بروحها وغاايهتا‪ .‬وهذا ما يفتح‬ ‫التزام " ّ‬
‫اسعا أمام إمكانيّة تنزيل الشريعة يف واقع الناس وحياهتم يف العصر احلديث؛ إذ‬ ‫اجملال و ً‬
‫يظهر يف هذا الطرح أ ّن هناك تواف ًقا بني روح الشريعة ومتطلّبات العصر‪.‬‬
‫متّف ًقا مع ما طرحه الفقهاء من قبل‪ ،‬يؤّكد أبو الفضل أن األحكام الصادرة يف ٍ‬
‫بلد ما‬
‫ٍ‬
‫وزمان ما ال ميكن حبال أن ترقى إىل املنزلة ذاهتا اليت حتظى هبا املثرل اليت أتت هبا الشريعة؛‬
‫أي قول‬‫البشري‪ ،‬و ّ‬
‫ّ‬ ‫إذ ال جمال لتحقيق هذه املثرل بشكل اتم وكامل‪ ،‬بسبب طبيعة رالنقص‬
‫األحكام اليت ين ّفذها احلاكم مع تلك املثرل ينطوي على قدر كبري‬ ‫خالف هذا‪ ،‬بتسوية ر‬
‫من الشرك‪ ،‬جبعل هذا احلاكم أو ذاك على القدر ذاته من ر‬
‫احلكمة واملعرفة اليت هلل تعاىل‪.‬‬
‫من هنا تنبع أمهيّة التفرقة بني القانون كصيغة وضعيّة لتنزيل غاايت الشريعة ومثلها وقيمها‬
‫األخالقيّة وبني تلك القيم ذاهتا‪ .‬فالشريعة‪ ،‬يف رأي أيب الفضل‪ ،‬ليست حمض أحكام‬
‫ومثرل عليا جيري تنزيلها على أرض الواقع يف صورة قوانني وأحكام‬ ‫ِ‬
‫وأوامر‪ ،‬وإّمنا هي قيَم ر‬
‫مصوغة وفق الظروف السياسيّة واالجتماعيّة اليت تتالءم واملكان والزمان الذي عليه مدار‬
‫التنزيل‪ .29‬فالقوانني واألحكام إذن ذات وظيفة آليّة لضمان إمكانيّة حتقيق هذه القيم‬
‫أي تع ٍّد أو جتاهل‪.‬‬‫واألخالقيّات يف ‪30‬احلياة اليوميّة للناس‪ ،‬ولضمان محاية هذه القيم من ّ‬
‫ذكرت آن ًفا ‪ ،‬فالشريعة تع ّد مبثابة صورة من اليوتوبيا للحياة اإلنسانيّة املنشودة اليت‬
‫وكما ر‬
‫البشري عن الوصول إىل كماهلا‬‫ّ‬ ‫ال سبيل ّإال إىل حماولة العيش وفقها‪ ،‬مع االعرتاف ابلعجز‬
‫سياج من األخالق حيمي اإلنسان من التفلّت إىل الدرك‬ ‫ونظامها يف الواقع املعيش؛ فهي ٌ‬
‫البهائمي‪ ،‬ويعمل على إبقاء اجلذوة اإلهليّة متقدة يف روحه‪ .‬فتلك القيم األخالقيّة واملعنويّة‬
‫ّ‬

‫‪Khaled Abou-el-Fadl, The place of ethical obligations in 29‬‬


‫‪Islamic law, UCLA Journal of Islamic & Near Eastern Law 4, no. 1‬‬
‫‪(2004): 19.‬‬
‫‪Khaled Abou-el-Fadl, Speaking in God’s Name, 265.30‬‬

‫‪350‬‬
‫اليت أتت هبا الشريعة هي اجلانب الثابت واخلالد منها‪ّ ،‬أما األحكام املشروطة بسياقات‬
‫التطور وفق ما جي ّد من ظروف‬
‫لتغري و ّ‬ ‫اترخييّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة معيّنة‪ ،‬فقد ختضع ل ّ‬
‫‪31‬‬
‫ومالبسات‪ ،‬وذلك برغيَةَ حتقيق هذه القيم األخالقيّة واملثرل العليا للشرع ‪ .‬هذه الرؤية‬
‫األخالقية املقاصديّة متنح الشريعة مرونةً وقدرة على رمواكبة االحتياجات اإلنسانيّة‬
‫املعاصرة‪.‬‬
‫كذلك تلتقي مقاربة أيب الفضل للعالقة بني الشريعة‪ ،‬والدولة‪ ،‬واألخالق يف اإلسالم مع‬
‫حالق يف كتابه األخري الدولة املستحيلة‪ :‬اإلسالم والسياسة ومأزق احلداثة‬ ‫رؤية وائل ّ‬
‫األخالقي؛ فالدولة يف رأي أيب الفضل ال ميكنها أن تفرض على مواطنيها مهامَّ أخالقيّة‬
‫األمة والقيام بواجب األمر‬
‫مهمة األفراد ومجوع ّ‬‫األخالقي‪ ،32‬وإّمنا هي ّ‬
‫ّ‬ ‫أو رؤية ما يف اإلطار‬
‫معوقات قيام الدولة‬ ‫حالق كذلك‪ ،‬فإ ّن أحد ّ‬ ‫ابملعروف والنهي عن املنكر ‪ .‬وعند ّ‬
‫للقوة واأليديولوجيا‬
‫اإلسالميّة احلديثة هو التعارض بني الرؤية احلداثية يف احتكار الدولة ّ‬
‫وبني املهام األخالقيّة املنوطة بكل فرد يف اجملتمع املسلم وابأل ّمة يف جمموعها‪.‬‬
‫مما ميتاز به أبو الفضل رؤيته للدور األخالقي ملفهوم "حقوق هللا" يف الشريعة اإلسالميّة‪،‬‬
‫السياسي للدولة يف الرؤية اإلسالميّة‪ .‬ألن هللا يتصف ابلقدرة‬
‫ّ‬ ‫وأثر هذا املفهوم يف الدور‬
‫تسمى حدود هللا‪ -‬ليست كحقوق العباد‪ ،‬اليت هي‬ ‫أحياان ّ‬
‫املطلقة‪ ،‬فإّن حقوق هللا ‪-‬و ً‬
‫مصاحلهم الشخصية ومنافعهم املاديّة‪ ،‬وإمنا هي ‪-‬أي حقوق هللا‪ -‬مبثابة احلدود األخالقيّة‬
‫القيَم اليت ينبغي على اجملتمع واألمة مراعاهتا واالنضباط وفْقها‪ .‬والدولة ال ميكنها أن تزعم‬‫وِ‬
‫أ ّهنا ال َقيِّم على رعاية هذه احلقوق أو صيانتها؛ ومن هنا خيتلف أبو الفضل مع بعض‬
‫اإلسالمي واليت تقول أب ّن حقوق هللا هي مبثابة‬
‫ّ‬ ‫االجتاهات اإلصالحيّة املعاصرة يف الفكر‬
‫أخالقي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫العامة ‪public interests‬؛ إذ يراها أبو الفضل ذات طبيعة ودور‬ ‫املصاحل ّ‬
‫فالدولة ال ميكن أن تزعم أهنا متثّل هللا يف األرض‪ ،‬ودور الدولة حمدود حبماية حقوق العباد‬
‫اعتمادا على ما ساقه الفقهاء قدميًا من رؤى تقول‬‫امللزمة به ابتداءً‪ .‬و ً‬
‫كأفراد‪ ،‬وهو الدور َ‬

‫‪Khaled Abou-el-Fadl, The place of ethical obligations in 31‬‬


‫‪Islamic law, UCLA Journal of Islamic & Near Eastern Law 4, no. 1‬‬
‫‪(2004): 13.‬‬
‫‪Khaled Abou-el-Fadl, Ibid., 18-19.32‬‬
‫‪351‬‬
‫أب ّن حدود هللا وحقوقه قد رجي ِزئ عنها توبة العباد مع تطبيق عقوابت أقل كالتعزير واحلبس‬
‫هي؛‬
‫شائعا يف التاريخ الفق ّ‬
‫أمرا ً‬
‫‪ -‬وهو السبب الذي جعلنا ال نرى تطبيق هذه احلدود ً‬
‫اإلهلي" يف تعريف هذه احلدود وعقوابهتا‪ ،‬وكذلك للكلفة العالية لتطبيق‬ ‫وذلك لدور " ّ‬
‫هذه احلدود ‪ -‬يستنتج أبو الفضل أ ّن هذه الرؤى الفقهيّة قد ّأدت إىل تقليص دور الدولة‬
‫أخالقي يف إطار الشريعة‪ ،‬وذلك أبن‬
‫ّ‬ ‫وسلطاهنا‪ ،‬وجعلت حقوق‪/‬حدود هللا مبثابة حارس‬
‫ويتعني من خالهلا القيم‬
‫صارت وكأهنا "حدود" أخالقيّة ومعايري ير َبىن عليها اجملتمع املسلم ّ‬
‫والتقاليد االجتماعيّة يف اجملال العام‪ .‬ولكن هذا ال يعين أن حدود هللا قد صارت تساوي‬
‫العامة؛ فاحلدود اليت تتعلّق حبقوق هللا (ال الفقهاء) ال ترستدعى الدولة لتطبيقها‪،‬‬
‫املصاحل ّ‬
‫اإلسالمي إذن ال يتيح أن‬
‫ّ‬ ‫وإّمنا يكون حضورها حلراسة ما يتعلّق حبقوق العباد‪ .‬فالفقه‬
‫تتصرف الدولة نيابة عن هللا؛ بل على العكس يضع الضوابط لسلطتها عرب إعالء قيمة‬ ‫ّ‬
‫سيادة القانون ‪.33rule of law‬‬
‫األخالقي املرتابط مع وظيفة سياسيّة‪ ،‬والذي ميكن أن‬
‫ّ‬ ‫من جهة أخرى‪ ،‬وعن املتطلّب‬
‫يرتبط ابلشريعة يف العصر الراهن‪ ،‬يتّفق أبو الفضل مع الشيخ يوسف القرضاوي يف أ ّن‬
‫سياسي مهم يقع حتقيقه على عاتق‬ ‫أخالقي‪-‬‬ ‫ٍ‬
‫وظيفة وأم ٍر‬ ‫الشريعة ذاهتا تنطوي على‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مجيعا‪ ،‬يتمثّل يف مناهضة الظلم واالستبداد‪ ،‬وتوفري شروط الكرامة اإلنسانيّة؛‬
‫املسلمني ً‬
‫كبريا للثورات العربيّة اليت اندلعت عام ‪ ،2011‬ابعتبارها‬
‫أتييدا ً‬
‫ولذا فقد أبدى أبو الفضل ً‬
‫مناقضا للفتاوى الوهابيّة‬
‫ً‬ ‫اجتاها‬
‫سريا يف هذا الطريق‪ .‬كما يبدو هنا‪ ،‬فإ ّن يف هذا ً‬ ‫مثّلت ً‬
‫وحترم‬
‫حترمها ّ‬‫العريب ضد التظاهرات‪ ،‬واليت زعمت أ ّن الشريعة ّ‬‫اليت ظهرت يف بداية الربيع ّ‬
‫استبداداي يف احلكم؛ األمر الذي يرعارضه أبو‬
‫ًّ‬ ‫منحى‬
‫عصيان احلاكم‪34‬وإن ظلَ َم وجار وحنا ً‬
‫الفضل بش ّدة ‪.‬‬

‫‪Khaled Abou-el-Fadl, The Shari’ah, in The Oxford Handbook 33‬‬


‫‪of Islam and Politics, eds. John L. Esposito and Emad Shahin‬‬
‫‪(Oxford: Oxford University Press, 2013), 17-19.‬‬
‫‪Ibid., 23.34‬‬
‫‪352‬‬
‫اإلسالمي ورسالته األخالقيّة‬
‫ّ‬ ‫تبعيّة العامل‬
‫فكرا يف موقف رد الفعل‬ ‫ٍ‬
‫ظل لعقود طوال ً‬ ‫اإلسالمي املعاصر ّ‬
‫ّ‬ ‫يؤّكد أبو الفضل أ ّن الفكر‬
‫اتبعا ألطروحات الغرب فيما يتعلّق ابلدميقراطيّة وحقوق اإلنسان؛ فال يرى‬ ‫‪ً ،reactive‬‬
‫ويقرره‬
‫نفسه وال يطرح آراءً حمددة يف هذا الصدد إال بقدر ما يقارن واقعه مبا يراه الغرب ّ‬
‫يف هذا الشأن أو ذاك‪ .‬يف هذا الصدد يعتقد أبو الفضل أن هذه التبعيّة الفكريّة نتجت‬
‫مجعي ابهلزمية السياسيّة اليت تبعها‪ ،‬أو سبقها كذلك‪،‬‬
‫تعويض شعور ّ‬ ‫َ‬ ‫عن حماوالت املسلمني‬
‫‪35‬‬
‫عزى‬‫وشعور كبري ابلعجز واالهنزام ‪ .‬إىل هذا الشعور ابلعجز قد ير َ‬
‫ٌ‬ ‫وفكري‬
‫ّ‬ ‫حضاري‬
‫ّ‬ ‫تراجع‬
‫السياسي؛ إذ تقوم يف جوهرها على رؤية‬ ‫ّ‬ ‫ظهور التيّارات اجلهاديّة يف إطار اإلسالم‬
‫استقطابيّة تنفي القيمة اإلنسانيّة عن اآلخر بعد شيطنته وحتميله مسؤوليّة الواقع السيئ‬
‫الذي حتياه الفئات املستضعفة‪ .‬لكن أاب الفضل ال يرى هذا‪ ،‬فإ ّن أحداث سبتمرب ‪2001‬‬
‫مطالب أو أهدافًا حمددة‬
‫َ‬ ‫وإ ْن كانت انجتة عن شعور كهذا‪ّ ،‬إال أهنا ال حتمل يف طيّاهتا‬
‫اإلسالمي‪.36‬‬
‫ّ‬ ‫لغاية تغيري هذا الواقع الذي حيياه العامل‬
‫ويتّفق هنا أبو الفضل يف هذا الطرح مع رأ ٍي مماثل يراه طارق رمضان بشأن التبعيّة اليت‬
‫اإلسالمي يف تكوين رؤاه وأفكاره اليوم‪ .‬فعلى سبيل املثال فيما يتعلّق بعقوبة‬
‫ّ‬ ‫يعيشها العامل‬
‫متسك املسلمني بـ"إسالميّة"‬‫اإلعدام وغريها من العقوابت البدنيّة األخرى‪ ،‬يرى رمضان أ ّن ّ‬
‫انبع بدرجة كبرية من كوهنا‬‫مقاصداي ‪ٌ -‬‬
‫ًّ‬ ‫هذه العقوابت ‪ -‬واليت يدعو هو إىل مراجعتها‬
‫مضادا للغرب بقدر ما تزداد "إسالميّته"‪ ،‬حبسب‬‫ض ّد الرؤية الغربيّة‪ ،‬فبقدر ما يكون األمر ً‬
‫السياسي" ال يرى يف اإلسالم ّإال‬
‫ّ‬ ‫هذه الرؤية؛ وحبسب أيب الفضل‪ ،‬فإ ّن "اإلسالم‬
‫القومي لآلخر؛ ولذا ال جند َمن يق ّدم اإلسالم على‬
‫ّ‬ ‫أيديولوجيا توظَّف يف سياق التح ّدي‬
‫أساس أنه رؤية أخالقيّة من أجل اإلنسانيّة‪ ،‬وإّمنا جيري اليوم تقدميه يف إطار مناقضة‬
‫إسالما يف جوهره‪ ،‬وإّمنا حمض‬
‫حىت ً‬ ‫مضادة ‪antithesis‬؛ وهبذا مل يعد ّ‬‫الغرب‪ ،‬كأطروحة ّ‬

‫‪ 35‬مقتبس يف‪ :‬اندر هامشي‪ ،‬اإلسالم والعلمانيّة والدميقراطيّة الليرباليّة‪ :‬حنو نظريّة دميقراطيّة للمجتمعات‬
‫املسلمة‪( ،‬بريوت‪ :‬الشبكة العربيّة لألحباث والنشر‪.271-270 ،)2016 ،‬‬
‫‪Khaled Abou-el-Fadl, Islam and the Theology of Power, 36‬‬
‫‪Middle East Report 221 (2001): 28.‬‬

‫‪353‬‬
‫نقيض الرؤية الغربيّة‪ .37‬إذن حىت يف سياق التح ّدي مع القوى الغربيّة‪ ،‬ما زال املسلمون‬
‫يف حالة تبعيّة‪ :‬يطرحون رؤاهم وأفكارهم يف إطار حمدود للعالقة مع آخر ذي هيمنة‬
‫السلفي يف الزعم أب ّن اإلسالم هو األطروحة املضادة للرؤية‬
‫ّ‬ ‫و َغلَبة‪ .‬وهذا ما يطرحه التيّار‬
‫غافال عن‬
‫روحا اهنزاميّة‪ً ،‬‬
‫ستعماري هو ما أورث املسلمني ً‬
‫ّ‬ ‫متذر ًعا أب ّن اإلرث اال‬
‫الغربيّة‪ّ ،‬‬
‫‪38‬‬
‫أ ّن هذا الطرح ذاته حيمل نفس صفات التبعيّة وارتباط األفكار املطروحة هنا ابلغرب ؛‬
‫بد من اعتبار األطروحة الغربية لفهم األطروحة املضادة‪ ،‬وكون اإلسالم حينئذ قد‬ ‫إذ ال َّ‬
‫رحي ّمل أبفكار ورؤى ال تلتصق به إال بقدر ما تناقض الغرب ال بقدر ما هي إسالميّة‬
‫أصيلة‪.‬‬
‫عاجال لتقدمي رؤية بديلة ملسار‬
‫حرجا يستدعي انعتاقًا ً‬‫وضعا ً‬ ‫هذه التبعيّة يراها أبو الفضل ً‬
‫األمة‬
‫اإلنسانيّة؛ رؤية أخالقيّة مبنيّة على جوهر الرسالة اإلسالميّة‪ ،‬وبغري هذه الرؤية فإ ّن ّ‬
‫رعرضة لالستبدال‪ ،‬أو "النسخ" بتعبري جودت سعيد‪ ،‬والذي يتّفق معه يف هذا أبو الفضل؛‬
‫إذ يرى الشيخان أ ّن جوهر الناسخ واملنسوخ الذي يعرضه القرآن يتع ّدى كونه متعلّ ًقا‬
‫آبايت القرآن ذاتِه وحسب‪ ،‬وإّمنا ينطبق كذلك على طرائق احلياة‪ ،‬وهو إشارة وداللة على‬
‫أ ّن اإلسالم قد جاء لنسخ طرائق احلياة اجلاهليّة وإرساء أساليب جديدة من األخالق‬
‫قوما غريكم"‬ ‫ِ‬
‫حتل حملّها‪ .‬ويرى أبو الفضل أ ّن القرآن حني يقول "وإ ْن تتولّوا يستبدل ً‬
‫والقيَم ّ‬
‫األمة إن مل تقم ابملهمة األخالقيّة وتبليغ تلك الرسالة املنوطة‬
‫وحتذيرا أن ّ‬
‫ً‬ ‫إنذارا‬
‫فإنّه يطرح ً‬
‫هبا تصبح ٍ‬
‫حينئذ تَـبَـ ًعا لألمم األخرى‪ ،‬حبسب درجات تق ّدم هذه األمم يف مدارج العمران‬
‫يتم نسخها‬ ‫األمة‪ 39‬مسوقةً خلف عادات اآلخرين مكانيًّا وزمانيًّا؛ أي ّ‬
‫واحلضارة‪ ،‬وتصبح ّ‬
‫أهدى ‪.‬‬‫أبمة أخرى هي َ‬ ‫ّ‬

‫‪ 37‬مقتبس يف‪ :‬اندر هامشي‪ ،‬اإلسالم والعلمانيّة والدميقراطيّة الليرباليّة‪ :‬حنو نظريّة دميقراطيّة للمجتمعات‬
‫املسلمة‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬
‫‪Khaled Abou-el-Fadl, The Ugly Modern and the Modern Ugly: 38‬‬
‫‪Reclaiming the Beautiful in Islam, in Progressive Muslims: On‬‬
‫‪Justice, Gender, and Pluralism, ed. Omid Safi (Oxford: Oneworld‬‬
‫‪Publications, 2008), 58.‬‬
‫‪ 39‬ورد ذلك يف "حلقة" علميّة حبضور الشيخ جودت سعيد‪https://is.gd/8jWrNF ،‬‬
‫‪354‬‬
‫اإلسالم وحت ّدي الدميقراطيّة‬
‫عند معاجلته للنظرة اإلسالميّة إىل مفهوم الدميقراطيّة‪ ،‬يقول أبو الفضل يف أطروحته‬
‫اإلسالم وحت ّدي الدميقراطيّة إن الدميقراطيّة متثّل حت ّد ًاي إلحدى القيم اإلسالميّة اجلوهريّة‪،‬‬
‫النهائي‬
‫ّ‬ ‫وهي التوحيد‪ .‬إذ تربز املعضلة الكربى يف كيفيّة التوفيق بني كون هللا هو املصدر‬
‫اطي‪ .‬ويعتقد أبو الفضل‬ ‫ألي تشريع وبني اعتبار األمة مصدر التشريع يف السياق الدميقر ّ‬ ‫ّ‬
‫حل هذه املعضلة‪ ،‬وإ ْن كانت صعبة للغاية‪ ،‬من األمهيّة مبكان‪ .‬أتيت صعوبة هذه‬ ‫أن َّ‬
‫السياسي يواجه‬
‫ّ‬ ‫مفاهيمي‪ .‬على اجلانب‬‫ّ‬ ‫سياسي واآلخر‬
‫ّ‬ ‫املعضلة من جانبني؛ أحدمها‬
‫عددا من التح ّدايت أبرزها السلطويّة واإلرث‬ ‫اطي يف البلدان اإلسالميّة ً‬ ‫التحول الدميقر ّ‬
‫ّ‬
‫اإلمرباييل وسيطرة الدولة على مفاصل احلياة االقتصاديّة واالجتماعيّة‪ ،‬مبا‬ ‫ّ‬ ‫‪-‬‬ ‫االستعماري‬
‫ّ‬
‫قوي‪ ،‬والذي يع ّد من ركائز العمليّة الدميقراطيّة‪ .‬أما على اجلانب‬ ‫ّ ّ‬ ‫مدين‬ ‫جمتمع‬ ‫ينفي وجود‬
‫اطي‪ ،‬وهو‬‫وتطور فيه النظام الدميقر ّ‬ ‫التارخيي الذي نشأ ّ‬
‫ّ‬ ‫املفاهيمي‪ ،‬فاألمر يتعلّق ابلسياق‬
‫ّ‬
‫الديين ‪( Reformation‬القرن‬ ‫ّ‬ ‫اإلصالح‬ ‫عد‬ ‫ب‬ ‫ما‬ ‫عصر‬ ‫يف‬ ‫املسيحي‬
‫ّ‬ ‫األورويب‬
‫ّ‬ ‫السياق‬
‫‪40‬‬
‫‪16‬م)‪ ،‬ويف إطار هيمنة السوق والقيم الرأمساليّة ‪.‬‬
‫اطي؛‬
‫اإلسالمي والفكر الدميقر ّ‬
‫ّ‬ ‫السياسي‬
‫ّ‬ ‫رغم ما يقرره أبو الفضل من التشابه بني الفكر‬
‫إذ يعتمد كالمها مبدأين مشرتكني مها‪ )1 :‬سيادة القانون‪ ،‬وإ ْن اختلفت ماهيّة هذا القانون‬
‫كل من الفكرين‪ )2 ،‬احل ّد من صالحيّات احلكومة؛ فإ ّن أاب الفضل ال يكتفي‬ ‫ومصدره يف ٍّ‬
‫اطي الطابع؛ وإّمنا يؤّكد على وجود‬ ‫السياسي يف اإلسالم دميقر ّ‬
‫ّ‬ ‫هبذا الشبه للقول أبن النظام‬
‫حتدايت ينبغي أن تؤخذ على حممل اجل ّد‪َ .‬فو ْج َها التشابه هذان ليسا ّإال عاملني فقط من‬ ‫ّ‬
‫أي‬
‫ّ‬ ‫يف‬ ‫افر‬
‫و‬ ‫تت‬ ‫أن‬ ‫ينبغي‬ ‫ة‬‫ّ‬‫أمهي‬ ‫أكثر‬ ‫أخرى‬ ‫امل‬
‫و‬ ‫ع‬ ‫هناك‬ ‫لكن‬ ‫‪.‬‬ ‫اطي‬
‫ّ‬ ‫ر‬ ‫الدميق‬ ‫احلكم‬ ‫امل‬ ‫عو‬

‫‪Khaled Abou-el-Fadl, Islam and the Challenge of Democracy, 40‬‬


‫‪(Princeton, NJ: Princeton eds. Joshua Cohen and Deborah Chasman‬‬
‫‪University Press, 2004), 3-5.‬‬

‫‪355‬‬
‫سياسي حىت ميكن أن أيخذ صفة الدميقراطيّة‪-‬الليرباليّة؛ وأبرزها عامالن أساسيّان‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫نظام‬
‫‪41‬‬
‫السياسي‪ )2 ،‬حرمة احلقوق الفرديّة ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ )1‬الشعوب هي مصدر التشريع والعمل‬
‫اطي من نقطتني أساسيّـتَني‪.‬‬ ‫ينطلق أبو الفضل يف رؤيته التوفيقيّة بني اإلسالم والنظام الدميقر ّ‬
‫أوالمها‪ :‬إمكانيّة توظيف الرؤية اإلسالميّة القائلة خبالفة اإلنسان هلل يف أرضه كركيزة حلماية‬
‫احلقوق الفرديّة وعدم انتهاكها‪ ،‬ابعتبار ِعظَم املهمة املوكلة لإلنسان وحاجته إىل احلريّة‬
‫التامة من أجل حتقيقها‪ .‬واثنيتهما‪ :‬هي أ ّن ما تق ّدمه الدميقراطيّة من مساواة يف احلقوق‬ ‫ّ‬
‫الفرديّة والسياسيّة قد يع ّد مبثابة نقطة انطالق لتحقيق هذه الوظيفة احليويّة املوكلة إىل‬
‫اإلنسان‪ ،‬وهي خالفة هللا يف األرض وإعمارها‪ .‬ورغم أن الدميقراطيّة ال تعين حتقيق العدالة‬
‫ابلضرورة‪ ،‬فإهنا توفّر املناخ املالئم للسعي حنو توفري شروط العدالة ومحاية الكرامة اإلنسانيّة‪،‬‬
‫وهي من املهام األوىل اليت أوكلها هللا لعباده حني استخلفهم يف األرض؛ وكذلك فإ ّن‬
‫البشري يف التشريع والتقرير جيعلها أكثر واقعيّة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اطي على العنصر‬ ‫اعتماد النظام الدميقر ّ‬
‫دون التساؤل عن مصدر املظامل والنقائص اليت تشوب احلياة اإلنسانيّة‪ ،‬دون تفكري يف أ ّن‬
‫تعاىل‪ -‬هو ذاته مصدر تلك النقائص واخللل يف حياة الناس‪ ،‬وإّمنا َمَرُّدها إىل النقص‬ ‫هللا ‪َ -‬‬
‫‪42‬‬
‫اإلنساينّ ‪.‬‬
‫السياسي صفة الدميقراطيّة‪-‬الليرباليّة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كان هذا عن العامل الثاين الذي به يستحق النظام‬
‫جهدا أكرب لتوفيق‬‫ّأما األول‪ ،‬وهو كون الشعب ذا سيادة ‪ sovereignty‬فقد تطلّب ً‬
‫الرؤيتَني‪ .‬فرغم إقراره أب ّن العدالة هي مراد هللا من عباده وهي الغاية من الشريعة اإلسالميّة‪،‬‬
‫البشري الذي ما‬
‫ّ‬ ‫الفقهي‪ ،‬وهو‬
‫ّ‬ ‫حصرا من خالل املرياث‬
‫فإ ّن حتديدها ال ميكن أن يكون ً‬
‫حمدودا بتقرير‬
‫زال يعرتيه النقص‪ .‬لذا يرى أبو الفضل أ ّن تعريف العدالة ال ميكن أن يكون ً‬
‫وفاق مع‬‫عدل فهو يف ٍ‬ ‫وشكل بعينه دون غريه‪ ،‬وإّمنا ما رحي ّسنه العقل أبنه ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫الشرع ألمر‬
‫‪43‬‬
‫مطلب الشرع من السعي حنو حتقيق العدالة بني اخللق ‪ .‬وهو قول شبيه يف بعض أوجهه‬

‫‪Khaled Abou-el-Fadl, Islam and the Challenge of Democracy, 41‬‬


‫‪3-5.‬‬
‫‪Ibid., 5-6.42‬‬
‫‪Ibid., 5-23.43‬‬

‫‪356‬‬
‫بقول ابن قيِّم اجلوزيّة‪" :‬إن هللا سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس ابلقسط‪ ،‬وهو‬
‫أبي‬
‫وجهه ّ‬
‫ات العدل وأس َفَر ر‬
‫العدل الذي قامت به األرض والسماوات‪ .‬فإذا ظهرت أمار ر‬
‫ع هللا ودينره؛ وهللا سبحانه أعلم وأحكم‪ ،‬وأعدل أن خيص طرق العدل‬‫طر ٍيق كان‪ ،‬فثَ َّم شر ر‬
‫وأماراته وأعالمه بشيء‪ ...‬فأي طر ٍيق استرخرِج هبا العدل والقسط فهي ِمن الدين وليست‬
‫خمالفةً له"‪ .44‬من هنا أمكن إاتحة اجملال أمام العقل البشري للبحث يف سبل حتقيق‬
‫العدالة وشروطها‪ ،‬ومن مثَّ ميكن احلديث عن سيادة الشعب‪.‬‬
‫القرضاوي أب ّن الدميقراطيّة‬
‫ّ‬ ‫ويف سياق آخر‪ ،‬يؤّكد أبو الفضل على االجتاه الذي يتبنّاه‬
‫شرعي‪ ،‬إذا ما فر ِه َمت مقاصد الشريعة بشكل أعمق‪ ،‬وأ ّن النظام‬ ‫ّ‬ ‫إسالمي‬
‫ّ‬ ‫مطلب‬
‫اطي تكون له األولويّة على أي نظام آخر للحكم‪ ،‬حىت ولو زعم تطبيق الوصااي‬ ‫الدميقر ّ‬
‫واألحكام الفقهيّة بصورة تقنيّة وآليّة‪ .‬هذه األولوية يف رأي القرضاوي‪ ،‬ويوافقه أبو الفضل‪،‬‬
‫عائدة إىل توقري الكرامة اإلنسانيّة ومن مثَّ تلبية متطلّبات الشريعة وحتقيقها‪ ،‬واليت هي أبعد‬
‫تظل قاصرة عن حتقيق شروطها‬ ‫من جمرد‪45‬تنفيذ بعض األحكام اليت قد حت ّقق العدالة أو ّ‬
‫ِ‬
‫جمرد أحكام وقوانني وإّمنا قيَم ومقاصد‪ ،‬والعدالة‬ ‫وظروفها ؛ فاألمر عند الشارع ليس ّ‬
‫والكرامة من أوىل هذه املقاصد والغاايت‪.‬‬
‫والتمرد والتسامح‬
‫ّ‬ ‫بني السلم واحلرب‪ :‬يف العنف‬
‫أسر تيّارات‬
‫يف هذا اجملال أتيت إحدى أهم أطروحات أيب الفضل لتحرير اإلسالم من ْ‬
‫كرس هلا الكثري من جهده‪ ،‬وألجل هذا كان كتابه‬ ‫املهمة اليت ّ‬
‫التطرف‪ ،‬وهي ّ‬ ‫الغلو و ّ‬
‫ّ‬
‫السرقة الكربى‪ :‬انتزاع اإلسالم من املتش ّددين‪ ،‬والذي يناقش فيه أزمة اإلسالم بني‬

‫‪ 44‬أبو عبد هللا حممد ابن أيب بكر ابن قيم اجلوزية‪ ،‬الطرق احلكميّة يف السياسة الشرعيّة (بريوت‪ :‬مكتبة‬
‫املؤيد‪.13 :)1989 ،‬‬
‫‪Khaled Abou-el-Fadl, The Shari’ah, in The Oxford Handbook 45‬‬
‫‪of Islam and Politics, eds. John L. Esposito and Emad Shahin‬‬
‫‪(Oxford: Oxford University Press, 2013), 23.‬‬

‫‪357‬‬
‫الغلو‪ ،47‬والفرق بني اجلهاد واإلرهاب‪ ،48‬إىل جانب‬‫ّ‬ ‫احلداثة والتشدد‪ ،46‬ونشأة تيّارات‬
‫قضااي املرأة وطبيعة دورها يف الرؤية اإلسالميّة‪ ،‬مفنّ ًدا الرؤى املتشددة جتاهها‪.49‬‬
‫وقد أهدى أبو الفضل هذا الكتاب إىل أساتذته الذين علّموه معاين اجلمال والشفقة‬
‫كأي‬
‫احلق هو إسالم االعتدال والوسطيّة‪ .‬وفيه يرى أ ّن األداين‪ّ ،‬‬ ‫والرمحة‪ ،‬وأ ّن اإلسالم ّ‬
‫وإما أن تصعد‬ ‫ٍ‬
‫جر الناس إىل هاوية من الكراهية ّ‬ ‫قناعة قويّة‪ ،‬متثّل ّقوة كربى إبمكاهنا ّإما ّ‬
‫قرتف ابسم‬ ‫ٍ‬
‫عما ير َ‬
‫هبم إىل آفاق غري مسبوقة من احملبّة والتنوير‪ .‬ولذا يرى أ ّن املسؤول ّ‬
‫البشري للنصوص‪ ،‬ال على النص ذاته أو مصدره‬ ‫ّ‬ ‫األداين يقع فقط على عاتق التفسري‬
‫صر يف القراءة البشريّة للنص القرآينّ‬
‫أرحب من أن رحت َ‬
‫(هللا) أو إر‪50‬ادة هللا‪ ،‬واليت هي أعظم و َ‬
‫النبوي ‪.‬‬
‫أو ّ‬
‫ويعتقد أبو الفضل أن اإلرهاب يستهدف السيطرة وبسط النفوذ عرب نشر اخلوف والرعب‬
‫إرهاب دو ٍلة تقوم به حكومات متشددة ‪-‬كما هو‬ ‫َ‬ ‫بني الناس؛ لكن سواء كان اإلرهاب‬
‫متطرفة‪ ،‬فإ ّن املتضرر والضحيّة‬
‫إرهااب متارسه مجاعات ّ‬
‫احلال يف بعض الدول العربيّة‪ -‬أو ً‬
‫املعنوي‬
‫ّ‬ ‫أيضا اإلسالم وتراثه‬
‫ليس فقط األبرايء الذي يفقدون أرواحهم‪ ،‬وإمنا ً‬
‫األخالقي‪.51‬‬
‫ّ‬ ‫و‬
‫التمرد أبنه "فعل مقاومة وحت ٍّد لِسلطة‬
‫فيعرف أبو الفضل ّ‬ ‫أما عن فعل العصيان والتمّرد ّ‬
‫القوة والسلطة"‪ ،‬وهذا التح ّدي واملقاومة قد يكوان من خالل عدم‬ ‫أولئك الذين بيدهم ّ‬
‫سليب ألوامر السلطات‪ ،‬أو ما ميكن تسميته ابلعصيان املدينّ‪ ،‬أو من خالل انتفاضة‬
‫امتثال ّ‬
‫الثقايف الذي يسعي خللق‬
‫ّ‬ ‫التمرد يتم ّإما من خالل حماوالت للتغيري‬
‫مسلّحة‪ .‬ولذا فإ ّن هذا ّ‬
‫وإما من خالل اغتياالت حقيقية أو‬ ‫اجملتمعي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫مساحات جديدة وبديلة للفعل واحلراك‬

‫‪Khaled Abou-el-Fadd, The Great Theft, 11-25.46‬‬


‫‪Ibid., 45-110.47‬‬
‫‪Ibid., 221-249.48‬‬
‫‪Ibid., 250-274.49‬‬
‫‪Ibid., 275-276.50‬‬
‫‪Ibid., 249.51‬‬

‫‪358‬‬
‫معنويّة لرموز السلطة‪ ،‬سواء السلطة الدينيّة أو السياسيّة‪ .‬ويرى أبو الفضل أ ّن املستهدف‬
‫التمرد ودرجته‪ ،‬فقد يكون اهلدف هو السلطة‬ ‫من هذه العملية خيتلف حسب سياق ّ‬
‫‪52‬‬
‫االجتماعيّة أو السياسيّة‪ ،‬أو رمبا السلطة الدينيّة أو فكرة اإلله ذاته ‪ .‬وأل ّن النظام‬
‫القيَم يف الشريعة اإلسالميّة‪ ،‬ومها من الوظائف األساسيّة ألي‬ ‫واالستقرار يع ّدان من أهم ِ‬
‫قانون بشكل عام‪ ،‬ودوهنما ال ميكن حتقيق أي قيم أو أهداف أخرى؛ ولذا كانت أوىل‬
‫مهام احلاكم يف نظر الفقهاء هي احلفاظ على الدين مث أييت بعدها حفظ النظام واالستقرار‬
‫التمرد والعنف يف الشريعة‬ ‫وفض النزاعات‪ .‬ألجل هذا حيلل أبو الفضل يف كتابه ّ‬ ‫ّ‬
‫صادرا‬ ‫ِ‬
‫اإلسالميّة خيارات الفقهاء املختلفة يف حال ما لو رأى البعض أ ّن ً‬
‫مرا ً‬ ‫قانوان ما أو أ ً‬
‫أخالقي أو يتعارض بشكل ما مع مبادئ الشريعة وغاايهتا؛ واخليارات‬ ‫ّ‬ ‫غري‬
‫عن احلاكم ر‬
‫املتاحة عندهم اثنان‪ّ :‬إما أن يكون املرء يف ِح ٍّل من تطبيق هذا القانون أو األمر‪ ،‬ويرون‬
‫املتمرد ال َمن يعصونه‪ ،‬ألن هؤالء إّمنا‬ ‫ٍ‬
‫أ ّن احلاكم الذي َس َّن هذا القانون حينئذ هو ّ‬
‫احلق؛ واخليار الثاين أن تتم املوازنة بني بقاء االستقرار أو‬ ‫يعرتضون على غياب العدالة و ّ‬
‫أخالقي‪ ،‬وهل الضرر‬ ‫ّ‬ ‫التمرد والعصيان لنظام وقانون غري‬‫اإلخالل به‪ ،‬وحساب ركلفة ّ‬
‫شرعي‪ ،‬فحينها يصبح فعل العصيان ذاته‬ ‫التمرد أكرب من طاعة قانون غري ّ‬ ‫الناتج عن هذا ّ‬
‫قي ألن ضرره أعظم‪ْ ،‬أم أ ّن هذه القوانني قد صارت تنطوي على قد ٍر من اخللل‬ ‫غري أخال ّ‬
‫األخالقي ال يطاق‪ .‬من هنا يصل أبو الفضل إىل نتيجة مفادها أن الشريعة والفقهاء على‬ ‫ّ‬
‫التمرد والعصيان؛ ألن النظام واالستقرار‪،‬‬ ‫ّ ّ‬ ‫ة‬ ‫احتمالي‬ ‫ا‬
‫و‬ ‫يلغ‬ ‫مل‬ ‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫الفقه‬ ‫يخ‬
‫مدار اتر‬
‫وإن كاان من أولوّايت الشريعة‪ ،‬إال أ ّهنما ليسا االعتبارات والقيم األخالقيّة الوحيدة اليت‬
‫تنظر إليها الشريعة اإلسالميّة‪ .‬وألجل هذا‪ ،‬فال يرى أبو الفضل متاس ًكا منهجيًّا يف ثنائيّة‬
‫الرؤى االنعزاليّة ‪ quietism‬ومنهج الفعاليّة ‪ ،activism‬ويعتقد أب ّن من الواجب‬
‫التمرد والعصيان حبذر ومراعاة للمنطق القانوين الذي ينطلق منه‬ ‫حتليل اآلراء الفقهيّة يف ّ‬
‫الفقهاء؛ فرغم أن النظام من أهم وظائف القانون‪ ،‬وبناء عليه من املتوقّع منطقيًّا أ ْن يطالبوا‬
‫ابالمتثال للقانون‪ ،‬فإ ّن هناك الكثريين ممن مسحوا ابلعصيان‪َ .53‬مَرُّد هذا يف رأي أيب‬
‫الفضل إىل السياقات التارخييّة اليت صاحبت نشأة املدارس الفقهيّة وصعود الدول واألسر‬

‫‪Khaled Abou-el-Fadl, Rebellion and Violence in Islamic Law 52‬‬


‫‪(Cambridge: Cambridge University Press, 2006), 4.‬‬
‫‪Ibid., 27-31.53‬‬
‫‪359‬‬
‫مترد على سابقتها‪ .‬وكذلك ألن القرآن‬ ‫احلاكمة واهنيارها‪ ،‬واليت نشأت يف األصل عرب ّ‬
‫أخل‬
‫نفسه يسمح بعصيان املخلوق إذا ما صدر عنه أوامر تتعارض مع أوامر هللا وإذا ما ّ‬
‫احلق‪ ،‬وقد قام بفعل العصيان هذا شخصيّات ابرزة يف التاريخ‬ ‫بقيم العدالة وإحقاق ّ‬
‫اإلسالمي منهم بعض الصحابة‪ .‬وأمر آخر دفع الفقهاء‪ ،‬يف رأي أيب الفضل‪ ،‬للتفصيل‬ ‫ّ‬
‫التمرد والعصيان هو توفري شروط العدالة يف التعامل مع هؤالء‬ ‫‪ّ54‬‬ ‫أحكام‬ ‫يف‬
‫املتمردين‪/‬البرغاة ؛ إذ جيري التفريق بينهم وبني قطّاع الطرق ممَن ينطبق عليهم صفات‬ ‫ّ‬
‫‪55‬‬
‫كرس له أبو الفضل هذا الكتاب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ما‬ ‫هو‬ ‫الفروق‬ ‫وهذه‬ ‫األسباب‬ ‫تلك‬ ‫حتليل‬ ‫‪.‬‬ ‫ابة‬‫احلر‬
‫مع مقارنة بني السياقات واألحكام الفقهيّة يف عصور ما قبل االستعمار ووقتنا احلايل‬
‫وسياق ما بعد االستعمار‪.56‬‬
‫سياق آخر‪ ،‬يقول أبو الفضل أب ّن السالم من أهم ركائز العقيدة اإلسالميّة اليت ينبغي‬ ‫يف ٍ‬
‫على املسلمني االحتفاء هبا والسعي لتحقيقها يف األرض‪ ،‬وأ ّن غياهبا يع ّد حمنةً وبالءً‪ّ ،‬إما‬
‫بلد من البلدان‪ ،‬أو كابتالء من هللا؛ فهو يف كل األحوال‬ ‫كعقوبة انجتة عن فساد أهل ٍ‬
‫أي‬
‫سليب غري مرغوب فيه‪ .‬فالقرآن ذاته‪ ،‬مصدر الشريعة والعقيدة األول‪ ،‬يصف َّ‬ ‫أمر ّ‬
‫حماولة إلحداث عنف غري مربَّر أو بصورة عشوائيّة ال متييز فيها للمستهدف ‪ -‬يصفها‬
‫وهدما ملا‬
‫فساد يف األرض‪ ،‬وهو من أكرب الكبائر؛ إذ يع ّده القرآن حرًاب على هللا ً‬ ‫أبهنا ٌ‬
‫ومعتمدا على ما ذهب إليه األقدمون‪ ،‬يؤّكد أبو الفضل‬ ‫ً‬ ‫وصوره يف أحسن صورة‪.‬‬ ‫خلقه ّ‬
‫على أن احلرب يف اإلسالم ليست الوسيلة األجنع يف حل اخلالفات والصراعات‪ ،‬وهو مما‬
‫بائل‬
‫عواب وقَ َ‬‫وجعلنا ُكم ُش ً‬ ‫يتضح يف أثناء اآلية القرآنيّة {‪ّ ...‬إًن خلقنا ُكم من ذَ َك ٍّر وأُنثَى‪َ ،‬‬ ‫ّ‬
‫عارفوا} [احلجرات‪]13:‬؛ فالتعارف يصبح هنا قيمة أخالقيّة وفضيلة يسعى هلا الناس‪،‬‬ ‫ِ‬
‫لتَ َ‬
‫وهذا مما ال يتأتّى عرب احلروب والعنف‪ ،‬وإّمنا من خالل التبادل الثقايف والتفاعل يف إطار‬
‫السوري جودت‬‫ّ‬ ‫من السلم واالحرتام‪ .57‬يتّفق أبو الفضل يف هذا الرأي هنا مع املف ّكر‬

‫‪Ibid., 61.54‬‬
‫‪Ibid., 5-6.55‬‬
‫‪Ibid., 333-342.56‬‬
‫‪Khaled Abou-el-Fadl, Violence, Personal Commitment and 57‬‬
‫‪Democracy, in Islam and English Law: Rights, Responsibilities‬‬

‫‪360‬‬
‫سعيد يف دعوته إىل الالعنف‪ .‬وقد التقى الشيخان عام ‪ 2012‬يف منزل األول يف‬
‫ٍ‬
‫لساعات تطارحا‬ ‫استمر‬ ‫كاليفورنيا يف "حلقة" علميّة مع طالهبما وأصدقائهما يف ٍ‬
‫نقاش ّ‬
‫األمة والعالقات مع اآلخر وقضااي‬
‫اإلسالمي ودور ّ‬
‫ّ‬ ‫فيها األفكار والرؤى حيال الواقع‬
‫العنف واإلرهاب والتسامح‪.58‬‬
‫يف أطروحته مكانة التسامح يف اإلسالم‪ ،‬واليت جاءت يف سياق أحداث احلادي عشر‬
‫نص‪ ،‬مبا يف هذا النصوص اإلسالميّة‪،‬‬ ‫أي ّ‬ ‫من سبتمرب ‪ ،2001‬يقول أبو الفضل إ ّن ّ‬
‫النص وقراءته‬
‫حيوي احتماالت للمعىن ال حتميّات‪ .‬ولذا فإ ّن القدرة اإلنسانيّة على تفسري ّ‬
‫تغري‬ ‫ٍ‬
‫النص مرونةً واستمراريّة مع ّ‬
‫متثّل نعمة وعبئًا يف الوقت ذاته؛ ألهنا يف آن واحد متنح ّ‬
‫ليتحمل عبء ما حيمله هو نفسه من قيم‬ ‫ّ‬ ‫جهدا من القارئ‬
‫الظروف‪ ،‬وكذا تتطلّب ً‬
‫ومعايري يف أثناء تفسري النص‪ .‬ويرى أبو الفضل أ ّن من اخلداع إنكار أ ّن القرآن وغريه من‬
‫النصوص اإلسالميّة حتتوي على "احتماالت" تفسريات غري متساحمة لبعض فقراهتا‪ .‬لكن‬
‫أانس حيملون يف ذاهتم هذه‬
‫دوما "احتماالت" يستغلّها ٌ‬ ‫تظل ً‬
‫هذه القراءات والتفسريات ّ‬
‫وإال فإ ّن النص نفسه ال حيتّم هذه القراءة‪ ،‬والدليل أنّه قد قرأها‬
‫الرؤى غري املتساحمة‪ّ ،‬‬
‫ات طوال من مسرية احلضارة اإلسالميّة بنظرة متساحمة أنتجت‬ ‫السابقون على مدى سنو ٍ‬
‫ترا ًاث إنسانيًّا وأخالقيًّا عري ًقا‪ .‬ولذا يدعو أبو الفضل إىل التخلّي عن األهواء عند قراءة‬
‫النص من أجل الوصول إىل أقرب شيء من مراد هللا منه‪.59‬‬
‫خامتة‬
‫طرحه من‬ ‫شك أ ّن املطالِع خلريطة أفكار أيب الفضل ال يسعه إال أ ْن يالحظ متانةَ ِ‬
‫ال َّ‬
‫ونظرا لتعدد َمشا ِرب أيب الفضل املعرفيّة‬ ‫ر‬
‫حجته من الناحية العقليّة‪ً .‬‬
‫وقوَة ّ‬
‫الناحية الشرعيّة ّ‬

‫‪and the Place of Sharia, ed. Robin Griffith-Jones (Oxford: Oxford‬‬


‫‪University Press, 2013), 262.‬‬
‫‪ 58‬ابإلمكان متابعة اللقاء هنا‪https://is.gd/8jWrNF :‬‬
‫‪Khaled Abou-el-Fadl, The Place of Tolerance in Islam, eds. 59‬‬
‫‪Joshua Cohen and Ian Lague (Boston, MA: Beacon Press, 2002): 22-‬‬
‫‪23.‬‬
‫‪361‬‬
‫والثقافية‪ ،‬فإنه رغم ختصصه يف القانون مل ي ِ‬
‫فقد َوعيَه مبركزيّة اجلمال واألخالق‪ ،‬ورغم‬‫َ‬ ‫ّ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ومع دراسته للفقه والرتاث‬
‫ّ‬ ‫العريب‬
‫معيشته يف الغرب مل يفقد صلته ابجملتمع ّ‬
‫وحتوالته ويتابع رجمرايت األحداث وتفاصيلَها‪ ،‬ورغم حرصه على‬‫أيضا أحوال العامل ّ‬
‫يدرك ً‬
‫نسوي متمركز حول األنثى‪ ،‬كما مسّاه عبد الوهاب‬ ‫ٍ‬
‫بيان مكانة املرأة ال يَسقط يف خطاب ّ‬
‫املسريي‪.‬‬
‫أسري التمايرز‬
‫بقي َ‬ ‫الغريب وإسهاماته الرصينة قد َ‬
‫اإلسالمي يف حميط العامل ّ‬
‫ّ‬ ‫إ ّن قراءة الفكر‬
‫ايف؛ ورغم ترمجة العديد من كتب خالد أيب الفضل وطارق رمضان وغريمها‪ ،‬فإ ّن‬ ‫اجلغر ّ‬
‫كتاابت احلركيّني والتنظيميّني املنخ ِرطني يف العمل السياسي يف املنطقة العربيّة بقيَت هي‬
‫االجتماعي‬ ‫اصل‬ ‫و‬ ‫الت‬ ‫وسائل‬ ‫جناح‬ ‫ورغم‬ ‫‪.‬‬ ‫اإلسالمي‬ ‫م‬ ‫مرجعية الغالبية من املنشغلني ر‬
‫ابهل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لتحاور‬
‫معوقات ر‬ ‫ومنصات البحث والنشر اإللكرتوينّ يف نشر األفكار‪ ،‬لكن تظل هنالك ّ‬ ‫ّ‬
‫موزعة بني‬‫ّ‬ ‫الت‬ ‫ز‬ ‫وما‬ ‫ائر‬‫و‬ ‫الد‬ ‫متنوعة‬ ‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫الفكر‬ ‫يطة‬‫ر‬‫خ‬ ‫ون‬ ‫ك‬
‫َ‬ ‫عن‬ ‫فضال‬
‫ً‬ ‫‪،‬‬ ‫حقيقي‬
‫ّ‬
‫دوائر رعلَمائِيّة للفتوى وأخرى فكريّة أكادمييّة يف ختصصات القانون واحلقوق االجتماعية‬
‫جيعل‬ ‫ِ‬
‫لعل التفكري يف بناء جسور بني هذه الدوائر هو ما رميكن أن َ‬ ‫واثلثة فكريّة حركيّة؛ و ّ‬
‫موضعا للنقاش اجلاد والتداول البناء‪.‬‬
‫أفكارا مثل أفكار خالد أيب الفضل ً‬ ‫ً‬
‫مراجع‬
‫‪1- Abou-el-Fadl, Khaled. The Great Theft: Wrestling‬‬
‫‪Islam from the Extremists. London: HarperCollins,‬‬
‫‪2005.‬‬
‫‪2- Abou-el-Fadl, Khaled. Islam and the Challenge of‬‬
‫‪Democracy. Edited by Joshua Cohen and Deborah‬‬
‫‪Chasman. Princeton, NJ: Princeton University Press,‬‬
‫‪2004.‬‬
‫‪3- Abou-el-Fadl, Khaled. "Islam and the Theology of‬‬
‫‪Power." Middle East Report 221 (2001): 28-33.‬‬

‫‪362‬‬
4- Abou-el-Fadl, Khaled. "The Place of Ethical
Obligations in Islamic Law." UCLA Journal of
Islamic & Near Eastern Law 4, no. 1 (2004): 1-40.
5- Abou-el-Fadl, Khaled. The Place of Tolerance in
Islam. Edited by Joshua Cohen and Ian Lague.
Boston, MA: Beacon Press, 2002.
6- Abou-el-Fadl, Khaled. Reasoning with God:
Reclaiming Shari"ah in the Modern Age. Lanham,
MD: Rowman & Littlefield, 2014.
7- Abou-el-Fadl, Khaled. Rebellion and Violence in
Islamic Law. Cambridge: Cambridge University
Press, 2006.
8- Abou-el-Fadl, Khaled. "The Shari"ah." In The
Oxford Handbook of Islam and Politics, edited by
John L. Esposito and Emad Shahin, 7-26. Oxford:
Oxford University Press, 2013.
9- Abou-el-Fadl, Khaled. Speaking in God"s Name:
Islamic Law, Authority, and Women. London:
Oneworld Publications, 2014.
10- Abou-el-Fadl, Khaled. "The Ugly Modern
and the Modern Ugly: Reclaiming the Beautiful in
Islam." In Progressive Muslims: On Justice, Gender,
and Pluralism, edited by Omid Safi, 33-77. Oxford:
Oneworld Publications, 2008.
11- Abou-el-Fadl, Khaled. "Violence, personal
commitment and democracy." In Islam and English

363
Law: Rights, Responsibilities and the Place of Sharia,
edited by Robin Griffith-Jones, 258-271. Oxford:
Oxford University Press, 2013.
12- Kamali, Mohammad Hashim. "Law and
Society." In The Oxford History of Islam, edited by
John L. Esposito, 107-153. Oxford: Oxford
University Press, 1999.
13- Schleifer, S. Abdallah, ed. The Muslim 500:
The World"s 500 Most Influential Muslims. Amman:
Royal Islamic Strategic Studies Centre, 2016.
14- "Sh. Khaled Abou-el-Fadl in Conversation
with Sh. Jawdat Said," YouTube video, from a form
a halaka on 15 January 2012, posted by "Scholar of
the House," July 17, 2016, https://is.gd/trFz3d
‫ اإلسالم والسياسة ومأزق احلداثة‬:‫ الدولة املستحيلة‬.‫ وائل ب‬،‫حالق‬ّ -15
‫ املركز العريب لألحباث‬:‫ بريوت‬.‫ ترمجة عمرو عثمان؛ مراجعة اثئر ديب‬.‫األخالقي‬
2014. ،‫ودراسة السياسات‬
‫ الدالالت املنهجية‬:‫ تصرفات الرسول ابإلمامة‬.‫ سعد الدين‬،ّ‫العثماين‬ -16
.2003 ،‫ منشورات الزمن‬:‫ الرابط‬.‫والتشريعية‬
‫ الطرق احلكميّة يف‬.‫ أبو عبد هللا حممد ابن أيب بكر‬،‫ابن قيم اجلوزية‬ -17
.1989 ،‫ مكتبة املؤيد‬:‫ بريوت‬.‫السياسة الشرعيّة‬
‫ حنو نظريّة‬:‫ اإلسالم والعلمانيّة والدميقراطيّة الليرباليّة‬.‫ اندر‬،‫هامشي‬ -18
.2016 ،‫ الشبكة العربيّة لألحباث والنشر‬:‫ بريوت‬.‫دميقراطيّة للمجتمعات املسلمة‬

364
‫الفصل السادس‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫ص ِّديقي‪ :‬نضاالت العاملية اإلسالمية‬
‫كليم ِ‬

‫ساي ِرس مكجولدريك‬


‫املقدمة‬
‫ميكن وصف كليم ِص ِدّيقي أبنه أحد املفكرين‪/‬العاملني‪،‬‬
‫فالرجل عاش ‪ 65‬عامًا يدعو إىل وحدة األمة اإلسالمية‪،‬‬
‫ويعمل من أجل تقدمي تصور عاملي عن احلكم اإلسالمي‪.‬‬
‫فمنذ مولده عام ‪ 1931‬يف اهلند الربيطانية وحىت وفاته‬
‫عام ‪ 1996‬يف جنوب إفريقيا‪ ،‬شهد ِص ِدّيقي الصعود‬
‫القوي للحركة اإلسالمية ونضاالهتا‪ ،‬وكان مشارًكا فيها‬
‫وملهمًا لقطاعات من الشباب والفاعلني‪ .‬وبعد عقود من‬
‫وفاته ما زالت املسائل اليت تعرض هلا موضع جدل‪ ،‬إال أن‬
‫رؤيته ومنهجه حنو إعادة إحياء احلاضرة اإلسالمية وجناحها‬
‫‪-‬واليت طرورت بشكل دقيق للغاية يف أعمال ابرزة ومرتابطة‬
‫تشمل كرتبًا ومقاالت وخرطبًا على مدار أربعني عامًا‪ -‬تبقى‬
‫حيَّة وانبضة وصاحلة إلعادة القراءة من ِقبل الذين ما زالوا‬
‫أيملون يف إجياد حل سياسي ملشكالهتم ابلعودة إىل‬
‫املصادر اإلسالمية‪.‬‬

‫خصيصا هلذا الكتاب‪ ،‬وترمجه من اإلجنليزية إىل العربية معاذ املراكيب‪.‬‬


‫ً‬ ‫‪ 1‬ركتب هذا النص‬
‫بواكري املسار‬
‫تشكلت هوية كليم ِص ِّديقي وتوجهه السياسي كمسلم ‪-‬حسب روايته هو‪ -‬يف وقت‬
‫مبكر من عمره عندما كان "جمرد تلميذ يف املدرسة"‪ 2‬يف قريته "أرواتر براديش"‪ ،‬اليت ولد‬
‫فيها ابهلند الربيطانية يف اخلامس عشر من سبتمرب عام ‪ .31931‬وكان يشارك يف‬
‫مظاهرات حركة اجلامعة اإلسالمية ضد االحتالل‪ ،‬وحني ظهرت بوادر انفصال ابكستان‬
‫عن اهلند متلكته ‪ -‬كما يقول ‪ -‬روح القومية اإلسالمية‪ ،‬فكان يشرتك مع الفتيان املسلمني‬
‫يف رشق القطارات اليت ترقل اجلنود الربيطانيني واالشتباك مع عصاابت اهلنود يف الشوارع‪.4‬‬
‫أما بعد االنفصال يف الرابع عشر من أغسطس عام ‪ ،1947‬فقد انتقل إىل ابكستان‬
‫الدولة املؤسسة حديثًا بوصفه الجئًا‪ ،‬حيث وصل إىل كراتشي يف يوليو من عام ‪.51948‬‬
‫كان ِص ِّديقي مدرًكا ألمهية بقاء الوعي السياسي اإلسالمي بني العامة وخلطر انقسام العامل‬
‫اإلسالمي إىل دول قومية‪ ،‬وهو ما دعم تصوره عن ميالد الدولة القومية الباكستانية‬
‫واملراحل األوىل فيها‪ .‬ففي تصوره كان اإلسالم ال يزال القوة احلقيقية للمسلمني يف اهلند‬
‫الربيطانية‪ :‬ليس ابعتباره هويتهم األساسية فقط‪ ،‬بل ابعتباره منظومة فكرية ورؤية سياسية‬
‫متأثرا بشكل كبري ابلقيادات الباكستانية‪ ،‬فقد شعر أن‬
‫أيضا‪ .‬ورغم ذلك جند أنه مل يكن ً‬ ‫ً‬
‫"حممد علي جناح" قد ارتدى عباءة اإلسالم كوسيلة إىل قومية ثقافية‪ ،‬مثله مثل التحول‬
‫حمام إىل رجل مق ّدس‪ ،‬وبشكل عام فقد كان‬ ‫الظاهري الذي حدث لـ"غاندي" من جمرد ٍ‬
‫اإلسالم ابلنسبة إىل قيادات احلركة اإلسالمية يف ابكستان جمرد "شيء اثنوي وأداة‬
‫للتجمل"‪ ،‬وهو ما نتج عنه ‪ -‬مع خيبة أمل ِص ِّديقي‪" :‬دولة إسالمية تتسم ابلقومية‬

‫‪Kalim Siddiqui,"The Global Islamic Movement: Outline of a‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪Grand‬‬ ‫"‪Strategy.‬‬ ‫‪The‬‬ ‫‪Muslim‬‬ ‫‪Institute, 1992. pp. 2,‬‬


‫‪.www.kalimsiddiqui.com‬‬
‫‪A life in the Islamic movement: Dr Kalim Siddiqui 1931-‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪1996." The Muslim Institute.http://kalimsiddiqui.com/biography‬‬


‫‪KS., "The Global Islamic Movemen.", op.cit. 4‬‬
‫‪Ibid. 5‬‬

‫‪366‬‬
‫والعلمانية‪ ،‬قياداهتا فاسدة إىل حد بعيد وختضع ‪-‬من الناحية السياسية‪ -‬للغرب‪ ،‬ابإلضافة‬
‫إىل عدم كفاءهتا"‪ ،6‬لكنه ظل يعترب أن قيام دولة ابكستان كان "ثورة إسالمية" بسبب‬
‫حتول الذهنية السائدة عند العامة من الناس‪ ،‬ولكنها "مل ِ‬
‫تؤد إىل ظهور دولة إسالمية"؛‬
‫والسبب يف ذلك بشكل أساسي هو عقلية قياداهتا‪.7‬‬
‫وما لبثت أن ظهرت احلركات اإلسالمية يف مخسينيات القرن العشرين من أجل مقاومة‬
‫الفساد والضغط من أجل حكم إسالمي‪ .‬يقول ِص ِّديقي إن اجلماعة اإلسالمية اليت‬
‫تنظيما‪ ،‬وابلفعل أصبحت األكرب‪ ،‬ولكن‬ ‫أسسها أبو األعلى املودودي كانت األكثر ً‬
‫ِص ِّديقي شعر أهنا "حتاول أن تكون جمرد نسخة إسالمية من العصبة اإلسالمية اليت أسسها‬
‫السيد جناح"‪ ،‬حيث إهنا بقيت راضية عن بنية الدولة القومية من وضع احلدود الدولية‬
‫أيضا مقتنعة ابلدعوة إىل التغيري البطيء عن طريق السياسة االنتخابية‬
‫والقوانني‪ ،‬وبقيت ً‬
‫بدال من ذلك إىل منظمة صغرية تدعو إىل العودة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بدال من الثورة العامة‪ .8‬انضم ص ّديقي ً‬
‫ً‬
‫إىل اخلالفة‪ ،‬وقام بتأسيس صحيفة خاصة هبذه اجلماعة وإدارة حتريرها يف الفرتة بني‬
‫‪ 1952‬و‪ .91954‬استمر يف قراءة كل شيء ميكن له أن جيده يف كراتشي عن النظرية‬
‫اإلسالمية السياسية‪ ،‬و"متسك بكل كلمة" يقوهلا اإلخوان املسلمون مبا فيهم سعيد رمضان‬
‫الذي جاء إىل كراتشي بعد عام ‪ ،1952‬ولكن ِص ِّديقي رأى أن "األعمى كان يقود‬
‫األعمى"‪ :‬رمضان واإلخوان جاءوا إىل ابكستان ابحثني عن احلل‪ ،‬واإلسالميون يف‬
‫ابكستان كانوا يبحثون عن اإلخوان املسلمني من أجل احلصول على احلل‪ ،‬ولكن ابلنسبة‬
‫إىل ِص ِّديقي "مل يتمكن أحد ‪-‬مبا فيهم موالان املودودي‪ -‬من استيعاب املوقف التارخيي‬
‫يف أعقاب االستعمار على حقيقته"‪ .10‬كان من الصعب يف هذه املرحلة التعبري عن‬
‫خالفاته مع اجلماعة اإلسالمية للمودودي ومع اإلخوان املسلمني‪ ،‬حيث إن املودودي‬
‫نظاما ثورًاي من املفرتض أن حيكم العامل‪ ،‬ولكن‬
‫أيضا يتحدث عن اإلسالم ابعتباره ً‬ ‫كان ً‬

‫‪Ibid. 6‬‬
‫‪Ibid. 7‬‬
‫‪Ibid. 8‬‬
‫‪Ibid. 9‬‬
‫‪ 10‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.4‬‬
‫‪367‬‬
‫ِص ِّديقي كان يقول إن رؤيتهم ومناهجهم مل تكن كافية؛ لذلك فقد انطلق حنو استكمال‬
‫دراسته وتكريس ما بقي من حياته من أجل هذه القضااي ذاهتا‪.‬‬
‫الدراسة واليأس يف "بيداء" لندن‬
‫يف مخسينيات القرن العشرين ذهب عدد من أعضاء حركة اخلالفة إىل لندن وتبعهم‬
‫ِص ِّديقي يف عام ‪ 1954‬عاقداً العزم على العودة إىل الوطن يف وقت الحق‪ .‬وأهنى ِص ِّديقي‬
‫املرحلة اجلامعية مث استأنف دراساته العليا يف جمال االقتصاد والعلوم السياسية‪ ،‬وقد أسس‬
‫مجعية الطالب املسلمني بينما استمر يف العمل كصحايف من أجل كسب العيش‪ .11‬وما‬
‫لبث أن ابتعد عن العديد من رفقائه الباكستانيني‪ ،‬حىت إنه ابتعد حىت عن قيادات اإلخوان‬
‫املنفية إىل أورواب؛ وذلك بسبب أسلوهبم املسرف يف احلياة واآلخذ يف التزايد نتيجة الدعم‬
‫السعودي هلم‪ ،‬ابإلضافة إىل تفضيلهم الواضح لوظائفهم على حساب التزامهم ابلثورة‪.12‬‬
‫لقد شعر ِص ِّديقي أبن املسلمني ميرون مبرحلة مظلمة حول العامل‪ :‬من "دمياغوجية" انصر‬
‫وتراجع احلركة اإلسالمية يف مصر‪ ،‬إىل حتول حزب جبهة التحرير الوطين يف اجلزائر من‬
‫الفكر اإلسالمي إىل اليساري‪ ،‬وإعدام سيد قطب عام ‪ ،1966‬وتوسع االحتالل‬
‫اإلسرائيلي عام ‪ .131967‬وبرعيد "مؤمتر القمة اإلسالمية" يف الرابط أصيب ِص ِّديقي‬
‫حي‬
‫شاهدا على غياب الرؤية والنتائج الفعالة‪ ،‬فهو "مظهر ّ‬ ‫خبيبة أمل‪ ،‬حيث كان املؤمتر ً‬
‫فعال من أجل الدفاع عن‬ ‫معا أو بشكل ّ‬ ‫الدول القومية بعد االستعمار للعمل ً‬ ‫لعجز‬
‫‪14‬‬
‫شك يف عجز الدولة القومية بعد االستعمار يف أثناء‬
‫اإلسالم" ‪ .‬ويبدو أنه إن كان لديه ٌّ‬
‫فرتة شبابه يف ابكستان‪ ،‬فإنه اآلن وبعد مشاهدته جهود حكومات دول العامل اإلسالمي‬
‫املتعثرة يف إعادة تنظيم صفوفها وسط خسارة تتلوها خسارة قد توصل إىل أن احلل حيتاج‬
‫أن يكون أكثر ثورية‪.‬‬

‫‪ 11‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.5-4‬‬


‫‪ 12‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.4‬‬
‫‪ 13‬املرجع السابق‪.‬‬
‫‪ 14‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.5-4‬‬
‫‪368‬‬
‫خطااب مبناسبة االحتفال ابملولد أمام مجعية الطالب اليت أسسها وذلك يف‬ ‫ِِ‬
‫ألقى ص ّديقي ً‬
‫النيب حممد ورسالته وحاجة املسلمني إىل‬
‫عام ‪ ،1958‬انقش فيه البعد السياسي حلياة ّ‬
‫إعادة بناء جمتمع يسري على النهج نفسه‪ )...(" :‬على مر القرون وإىل يومنا هذا مل حياول‬
‫جمتمعا‪ -‬تطبيق املبادئ اإلسالمية يف حياة اجملتمع السياسية‬ ‫ً‬ ‫أي جمتمع ‪-‬بوصفه‬
‫واالقتصادية واالجتماعية واألخالقية‪ .‬إن الفكرة اليت أرمي إليها لتكون واضحة قدر‬
‫النيب وطبقها مل تكن هي الغاية يف حد ذاهتا‪،‬‬‫اإلمكان هي أن الفضائل اليت دعا إليها ّ‬
‫فاإلسالم يسعى إىل إصالح الفرد ال من أجل نفسه وحسب‪ ،‬بل من أجل حياته‬
‫االقتصادية والسياسية واالجتماعية كذلك"‪ .15‬وعلى الرغم من قصر هذا اخلطاب‪ ،‬فإن‬
‫هنج "العودة إىل األصول" أصبح عنو ًاان لرؤيته اليت طورها عن فهم لإلسالم ال ميكن حتويله‬
‫إىل العلمانية ليصبح جمرد ممارسة خاصة لعبادة شخصية‪ ،‬ولكنه إسالم يبقى كممارسات‬
‫اجتماعية وكنظام سياسي‪.‬‬
‫كال من اململكة السعودية واهلند وابكستان (الشرقية والغربية) يف عامي‬ ‫زار ِص ِّديقي ً‬
‫‪ 1969‬و‪ ،1970‬حيث قام بدراسة ميدانية يف أثناء دراسته للدكتوراه يف جمال العالقات‬
‫الدولية بكلية لندن اجلامعية‪ ،‬وقد حصل عليها عام ‪ ،1971‬ونرشرت الح ًقا يف عام‬
‫‪ 1975‬حتت عنوان "أدوار الصراع الدويل‪ :‬دراسة اقتصادية‪-‬اجتماعية عن ابكستان"‪.‬‬
‫أيضا يف ابكستان عن الفرتة السابقة على احلرب األهلية الباكستانية اليت‬ ‫بينما كتب ً‬
‫‪16‬‬
‫متأثرا بشدة هبذه‬
‫انتهت إىل انفصال بنجالدش وخسائر مروعة يف األرواح ‪ .‬لقد كان ً‬
‫عددا‬
‫الكارثة‪ ،‬واستمر يف الكتابة عن ابكستان حىت بعد رجوعه إىل إجنلرتا‪ ،‬كما أجرى ً‬
‫من املقابالت يف عامي ‪ 1971‬و‪ 1972‬مبؤسسة تردعى معهد التخطيط والبحث‬
‫شامال لالنقسام الباكستاين‬
‫حتليال ً‬
‫الباكستاين‪ .‬وبعض كتاابته القصرية جتمعت لتكون ً‬
‫حتت عنوان "النزاع واألزمة واحلرب يف ابكستان" ونشرت يف عام ‪.1972‬‬

‫‪Kalim Siddiqui, President’s Address: The Honourable Society 15‬‬


‫‪of Muslim Youth, Eid-e-Milad-un-Nabi." Islamic Cultural‬‬
‫‪Centre, London. 25thOctober 1958, https://is.gd/KHWNCl. p. 2.‬‬
‫‪16Ibid.,.5‬‬

‫‪369‬‬
‫كانت املفاهيم األساسية لعمله خالل هذه الفرتة هي التأكيد على أن اإلسالم هو اهلوية‬
‫األساسية والنظام األخالقي الكامل‪ ،‬ابإلضافة إىل تركيزه على أمهية البعد السياسي حلياة‬
‫النيب ابعتبارها قدوًة‪ ،‬إىل جانب بناءه النظري ملفهوم يقضي أبن الدول القومية هي أصل‬
‫ّ‬
‫املشكلة (مع األخذ يف االعتبار اهلند وابكستان كمثالني على ذلك)‪ .17‬أما اخلالفة فهي‬
‫(بدال من كوهنا جمرد خيار)‪.18‬‬
‫اهلدف اإلسالمي املنشود ً‬
‫املعهد اإلسالمي‬
‫بعد حضوره مؤمتر الشباب املسلم الدويل يف ليبيا‪ ،‬يوليو ‪ ،1973‬نشر كليم ِص ِّديقي حبثًا‬
‫حتت عنوان "حنو مصري جديد" يناقش فيه املؤمتر والتوجه الذي أيمله ‪-‬والذي شعر أن‬
‫متشائما ‪-‬كما أنه استخدم‬‫ً‬ ‫احلضور أيملون حتقيقه‪ -‬للحركة اإلسالمية‪ .‬لقد كان أسلوبه‬
‫كلمة "حبذر"‪ -19‬حيث من الواضح أهنم ال يتوقعون أي تغيري إجيايب يف املستقبل القريب‪:‬‬
‫مستمر يف‬
‫ٌ‬ ‫"من الواضح أن التدهور السياسي واالقتصادي واالجتماعي والثقايف والفكري‬
‫معظم البلدان اإلسالمية منذ سنوات بعد االستقالل‪ .‬كما يبدو أن ذلك سيستمر يف‬
‫الغالب إىل جيل آخر أو أكثر بل حىت ميكن أن يتخطى ذلك‪ ،‬فالعديد من البلدان‬
‫اإلسالمية يف الشرق األوسط سوف يكون عليها أن تتحمل فرتة أخرى من االستعمار‬
‫مدعوما من قبل الوالايت املتحدة األمريكية واالحتاد السوفييت‪ .‬وإذا‬
‫ً‬ ‫حتت احلكم الصهيوين‬
‫‪20‬‬
‫حدث ذلك‪ ،‬فمن الصعب أن يكون هناك عامل إسالمي "مستقل" ‪.‬‬

‫‪K.S., Pakistan: Experiment in Nation-Building." Pakistan‬‬ ‫‪17‬‬

‫‪Research & Planning Institute, 1971., www.kalimsiddiqui.com.‬‬


‫‪K.S., After 1971: Towards a New Destiny. Pakistan Research 18‬‬
‫‪& Planning Institute, 1972., www.kalimsiddiqui.com.‬‬
‫‪The Global Islamic Movement.., op.cit." K.S.19‬‬
‫‪K.S., Towards a New Destiny. 1983. Published on 20‬‬
‫‪www.kalimsiddiqui.com, 2014. pp. 26-27.‬‬

‫‪370‬‬
‫بقي لدى ِص ِّديقي ‪-‬على الرغم من ذلك‪ -‬أمل‪ ،‬حيث يرى أن املسلمني يف العامل كانوا‬
‫يرفضون األساليب القومية والرأمسالية واالشرتاكية لتطبيق اخلالفة اإلسالمية يف "النظرية‬
‫رفضا صرحيًا ملا عرضه ممثل العلماء املسلمني نيابة عن معمر القذايف‬
‫الثالثة"‪-‬وهو ما كان ً‬
‫على احلاضرين للمؤمتر‪ -21‬وهو خالف يرعيد للذاكرة االنطباع نفسه عن اخلالف بني‬
‫املواطنني الباكستانيني والقيادات يف األايم األوىل لنشأة الدولة‪ .‬لقد كان ِص ِّديقي وقتها‬
‫متحفزا لكي "يبدأ عملية حترير الفكر السياسي للمسلمني من األفكار الغربية‬ ‫ً‬
‫منوذجا لفكر سياسي يساند احلركة اإلسالمية يف املستقبل‬ ‫ً‬ ‫يضع‬ ‫أن‬
‫و‬ ‫ية‪،‬‬
‫ر‬ ‫االستعما‬
‫و‬
‫عاما‪،‬‬
‫قبل مخسة عشر ً‬ ‫ويدعمها"‪ ،‬وذلك انطالقًا من روح اخلطاب الذي ألقاه يف املولد‬
‫‪22‬‬
‫ومستندا إىل الكم الكبري من الدراسة اليت ختللتها بعض النشاطات ‪.‬‬
‫ً‬
‫كان املعهد اإلسالمي للبحث والتخطيط هو املعهد املخصص هلذه املهمة‪ ،‬حيث قام‬
‫بتأسيسه بشكل رمسي يف عام ‪ 1974‬كل من الدكتور ِص ِّديقي إىل جانب ظََفر بنجاش‪،‬‬
‫احدا من أوائل املنظمات اإلسالمية يف اململكة املتحدة‪ .23‬قام كليم ِص ِّديقي بكتابة‬
‫وكان و ً‬
‫مسودة البيان التعريفي للمعهد اإلسالمي يف عام ‪ ،1974‬ولكنها نشرت ابسم اللجنة‬
‫التحضريية للمعهد اإلسالمي‪ ،‬وقد ذركر فيها عدد من األهداف من ضمنها‪:‬‬
‫‪ -1‬أن املهمة األساسية للمعهد اإلسالمي هي وضع مناهج مفاهيمية وخطط‬
‫تنفيذية ملستقبل احلضارة اإلسالمية‪.‬‬
‫‪ -2‬يقوم املعهد اإلسالمي بتجميع ودمج كل املناهج املعرفية اليت مت تطويرها بواسطة‬
‫احلضارات اإلسالمية العظيمة يف املاضي وبواسطة العلماء املسلمني املعاصرين‪..‬‬
‫‪ -3‬يقوم املعهد اإلسالمي ‪ -‬يف إطار النظرية املعرفية لإلسالم ‪ -‬بتطوير اجملاالت‬
‫األكادميية لالقتصاد والسياسة واالجتماع‪ ،‬ووضع مناذج بديلة لألنظمة‬
‫االقتصادية والسياسية واالجتماعية‪.‬‬

‫‪.Ibid.21‬‬
‫‪K.S., The Global Islamic Movement. op.cit.22‬‬
‫‪Jorgen Nielson, Obituary: Kalim Siddiqui, The Independent, 23‬‬
‫‪19 April 1996.‬‬
‫‪371‬‬
‫‪ -4‬يقوم املعهد اإلسالمي ابلعمل على وضع برانمج مقنع من الناحية العقلية أمام‬
‫األمة اإلسالمية إلعادة تشكيل البنية االقتصادية‪-‬االجتماعية والسياسية‬
‫للمجتمعات املسلمة‪.‬‬
‫‪ -5‬يقوم املعهد اإلسالمي حبشد املوارد البشرية واملادية والفكرية واخلربات العلمية‬
‫والتكنولوجية للمسلمني وتوجيهها حنو إنشاء حضارة إسالمية مستقبلية‬
‫وأتسيسها وتطويرها‪.‬‬
‫‪ -6‬يقوم املعهد اإلسالمي بتطوير سياسات بديلة اثبتة يف جماالت التطوير‬
‫االقتصادي والتنظيم اجملتمعي والسياسي‪ ،‬ويقوم بعرضها من أجل أن تتبناها‬
‫اجملتمعات اإلسالمية وتقوم بتطبيقها‪.‬‬
‫جلاان تقوم إبجراء أحباث حمددة لصاحل‬ ‫‪ -7‬ميكن للمعهد اإلسالمي أن يقبل ً‬
‫اجملتمعات اإلسالمية واحلكومات واألقليات من أجل مساعدهتم على حل‬
‫مشاكلهم احمللية والعاجلة‪.24‬‬
‫دائما‪ ،‬ولكن يف تلك املرحلة بدأ املنهج‬ ‫ِِ‬
‫ظلت أهداف ص ّديقي ومبادئه ابقية كما هي ً‬
‫ابلتبلور‪ :‬على اجلانب الفكري كان جيب أن تكون النظرية املعرفية اإلسالمية أمسى من‬
‫ذلك‪ ،‬أما على اجلانب العملي فكان جيب على النشطاء أن يبدأوا على املستوى احمللي‬
‫والقومي‪ ،‬ومن مثَّ بعد ذلك يكون نشاطهم متخطيًا هلذه احلدود‪ .‬حيث "قد يتعني على‬
‫اجملتمع املثايل أن ينشأ يف منطقة جغرافية واحدة قبل أن يتسارع معدل التغيري يف مناطق‬
‫أخرى"‪ ،‬ويتم قبوله‪.25‬‬
‫وضوحا يف كتابه "ما بعد الدول القومية‬
‫ً‬ ‫لقد أصبحت املهمة املعرفية للمرحلة أكثر‬
‫املسلمة"‪ ،‬حيث واصل يف هذا الكتاب محلته اليت انطلقت من أجل حترير فكر املسلمني‬
‫من عبوديته للمفاهيم الغربية‪ ،‬حيث أطلق على علماء املسلمني السياسيني اسم‬
‫"املساجني"‪" :‬جيب عليهم أن حيددوا حجم وشكل السجن الذي يعيشون فيه‪ .‬جيب‬

‫‪Kalim Siddiqui, The Draft Prospectus of the Muslim Institute,‬‬ ‫‪24‬‬

‫‪http://kalimsiddiqui.com‬‬
‫‪Ibid. 25‬‬

‫‪372‬‬
‫عليه أن يضعوا خريطة لتفاصيله‪ .‬فاألبعاد الثالثة هلذا السجن هي أبعاد اجتماعية‬
‫واقتصادية وسياسية‪ .‬وهذه األبعاد متصلة مبمرات فكرية‪ ،‬يكون فيها العلماء السياسيون‬
‫هم الداعمني الرئيسني ابإلضافة إىل كوهنم هم الضحااي"‪.26‬‬
‫وألول وهلة قد يبدو أن هناك تواف ًقا بني هذا الربانمج الفكري وبني "أسلمة املعرفة" الذي‬
‫صاغه سيد حممد نقيب العطاس والذي اعتمده إمساعيل الفاروقي ‪ -‬وابلفعل قد يبدو‬
‫املستوى الفكري لربانمج ِص ِّديقي‪ ،‬مبعزل عن غريه‪ ،‬شبه متوافق مع إسالمية املعرفة مبا أنه‬
‫مل يرفض قيمة هذه املناهج‪ ،‬ولكن االختالف الرئيس يف برانمج ِص ِّديقي هو أمهية التطبيق‬
‫العملي هلذه املعرفة للخروج من هذا السجن ‪-‬السجن الفكري والسياسي‪ -‬وبناء جمتمع‬
‫موجها يف‬
‫متاما‪ ،‬بينما يعرتف العطاس بنفسه أبن "هجومنا على العلمانية ليس ً‬ ‫جديد ً‬
‫الغالب إىل ما فرهم على أنه الدولة واحلكومة اإلسالمية "العلمانية"‪ ،‬ولكنه موجه أكثر إىل‬
‫العلمنة بوصفها برانجمًا فلسفيًا والذي ال يعين ابلضرورة أنه جيب على دول املسلمني‬
‫وحكوماهتم "العلمانية" أن تتبناه"‪ .27‬هذه املمارسة الفكرية ابلنسبة إىل ِص ِّديقي ستكون‬
‫بد من اهلروب منه‪ ،‬وهو ما يعين‬ ‫جمرد ممارسة بال غاية‪ .‬إن السجن مبجرد االعرتاف به ال َّ‬
‫أن العامل اإلسالمي مبجرد أن يدرك أنه يف عالقة استعمارية حتت حداثة علمانية جيب‬
‫عليه أن يقاتل حىت جيد طريقه يف اخلروج إىل حياة حرة بعد أن ينسى تلك املبادئ اليت‬
‫منقسما‪.‬‬
‫ً‬ ‫تربقيه‬

‫‪K.S,‬‬ ‫‪Beyond‬‬ ‫‪the‬‬ ‫‪Muslim‬‬ ‫‪Nation-States‬‬ ‫‪(1977), 26‬‬


‫‪www.kalimsiddiqui.com‬‬
‫صدرت ترمجة عربية حديثة هلذا النَص العام الذي سبق فيه كليم صديقي من يتحدثون اليوم يف نقد الدولة‬
‫القطرية وعن "ما بعد وستفاليا" من منظور غريب‪ .‬راجع‪ :‬عبد الرمحن أبو ذكري‪ ،‬ما بعد الدولة القومية املسلمة‪،‬‬
‫سلسلة مراصد‪( ،‬اإلسكندرية‪ :‬وحدة الدراسات املستقبلية مبكتبة اإلسكندرية‪.)2014 ،‬‬
‫ويصدر قريبا أيضاً لنفس املرتجم كتاب كليم الصديقي اهلام‪« :‬نظرية الثورة اإلسالمية»‪ ،‬والذي نرشر للمرة‬
‫األوىل عام ‪1996‬م‪( .‬املح ِرر)‬
‫ر‬
‫‪See: Syed Muhammad Naquib Al-Attas, Islam and Secularism, 27‬‬
‫‪Kuala Lumpur: ISTAC, 1993.‬‬

‫‪373‬‬
‫إن املبدأ األساسي الذي ركز عليه ِص ِّديقي كان هو استقالل الدولة القومية؛ ولذلك جيب‬
‫تنظيما‬ ‫ِِ‬
‫التأكيد على أن منهج ص ّديقي الذي جعل تطبيقه يبدأ حمليًا أو قوميًا كان فقط ً‬
‫عمليًا وهو مؤقت‪ .‬فقد أكد الدكتور ِص ِّديقي ابستمرار يف هذا البحث‪ ،‬ويف البحث التايل‬
‫له "احلركة اإلسالمية‪ :‬نظم النهج" (‪ ،)1976‬و"ما بعد الدول القومية املسلمة"‬
‫(‪ - )1977‬على أنه "توجد وحدة ضمنية بني احلركة اإلسالمية على مستوى العامل"‪،28‬‬
‫ولكن هذه الوحدة لن تكون كافيةً للتغلب على سجن منوذج الدولة القومية األورويب إذا‬
‫مل تكن على أساس نقي‪ ..." :‬ال ميكن أتسيس الدول اإلسالمية أو تطوير احلضارة‬
‫اإلسالمية على أساس دول قومية خرجت من رحم االستعمار‪ ،‬جيب إهناء الدول القومية‬
‫وإعادة رسم اخلريطة السياسية لألمة"‪ .29‬وقد وضع مرحلتني هلذا التطهري‪ ،‬حيث يبدو أنه‬
‫يتفق مع أفكار املودودي ومفكر مثل خورشيد أمحد بشأن احلدود والتقسيمات الداخلية‪،‬‬
‫أيضا اجلماعة اإلسالمية حنو الوحدة اإلسالمية والوقوف ضد‬ ‫وهي الرؤية اليت تتبناها ً‬
‫التقسيمات (خاصة وبشكل مؤسف‪ ،‬انقسام ابكستان الغربية والشرقية إىل ابكستان‬
‫أيضا أكثر دقةً‪ ،‬وقد سبق وائل‬ ‫وبنجالدش على الرتتيب)‪ ،‬ولكن فهمه للشريعة كان ً‬
‫حالق فيما انتهى إليه يف كتاب "الدولة املستحيلة"‪ ،30‬ولكنه كان أكثر ً‬
‫تفاؤال منه‪ ،‬حيث‬
‫إن ِص ِّديقي يرى أن طرد االستعمار بشكل حقيقي ‪-‬ليس فقط من األراضي واملؤسسات‬
‫أيضا من العقول‪ -‬جيعل من املمكن ومن الواجب إعادة كتابة القوانني السائدة‪ ،‬بل‬ ‫بل ً‬
‫وإعادة صياغة البنية القانونية ذاهتا من البداية على يد علماء شرعيني متمرسني‪.‬‬
‫وقد كان اإلمام اخلميين واجملموعة املشايعة له يسعون لتطوير أفكار مشاهبة فصارت لندن‬
‫ساحة خصبة لتبادل األفكار‪ .‬وانطالقًا من القوة املتزايدة ألفكارهم‪ ،‬قام املعهد اإلسالمي‬
‫يف صيف عام ‪ 1978‬بعقد دورة ملدة أربعة أسابيع يف جمال الفكر السياسي اإلسالمي‬
‫بتنظيم من الدكتور طيب زين العابدين من جامعة اخلرطوم‪ ،‬وهو ما جعل ِص ِّديقي يشعر‬

‫‪K.S., The Global Islamic Movement, op.cit., p6. 28‬‬


‫‪Ibid. 29‬‬
‫‪Wael Hallaq, The Impossible State: Islam, Politics and‬‬ ‫‪30‬‬

‫‪Modernity’s Moral Predicament, N.Y.: Colombia University‬‬


‫‪Press, 2013.‬‬

‫‪374‬‬
‫بوجود "توافق يف اآلراء رغم االنقسام الشيعي‪-‬السين والتنوع الثقايف والوطين‬
‫للمشاركني"‪.31‬‬
‫الثورة اإلسالمية‬
‫إحدى أهم مراحل حياة الدكتور كليم ِص ِّديقي كانت دعمه للثورة اإلسالمية يف إيران‪،‬‬
‫واليت شعر أهنا تتوافق مع آماله يف أن املسلمني ميكنهم النجاح إذا جعلوا من اإلسالم‬
‫غايتهم األوىل‪ .‬يف كتابه "الثورة اإلسالمية‪ :‬اإلجنازات والعقبات واألهداف" (‪)1980‬‬
‫يرظهر ِص ِّديقي حتمسه النتصار الثورة اإلسالمية ويقول‪:‬‬
‫"يف إيران وحدها جنحت احلركة اإلسالمية يف املرور عرب األرض القاحلة واجلافة لإلمربايلية‬
‫لتحريك اجلماهري املسلمة وإسقاط نظام ما بعد االستعمار وقياداته املؤيدة لالستعمار‬
‫صحيحا‪ ،‬وهو أن الثورة اإلسالمية يف إيران قد‬
‫ً‬ ‫ومؤسسات الدولة القومية‪ .‬رمبا يكون هذا‬
‫‪32‬‬
‫قطعت الطريق أمام الكثري من االحنراف عن األصول اإلسالمية إليران" ‪.‬‬
‫مهما من منوذج كليم صديقي‪ ،‬حىت إن بعض املراقبني‬ ‫لقد أصبحت الثورة اإليرانية جزءًا ً‬
‫الربيطانيني كانوا حيسبون أنه يعمل بشكل مباشر لدى احلكومة اجلديدة للثورة‬
‫اإلسالمية‪ ،33‬على الرغم من إعالنه الواضح يف كتاابته أنه انشط مستقل ولديه أفكاره‬
‫املستقلة‪.‬‬
‫لقد استخدم ِص ِّديقي املعهد اإلسالمي خالل فرتة مثانينيات القرن العشرين من أجل تعليم‬
‫وبناء شبكة من الناشطني اإلسالميني حول العامل‪ ،‬فقد زارهم يف لندن الربوفيسور محيد‬
‫اجلار من جامعة بريكلي‪ ،‬وذلك يف عام ‪ ،1979‬من أجل إلقاء أربع حماضرات عن الثورة‬
‫اإلسالمية‪ .34‬كما ذهب ِص ِّديقي إىل إيران مع الدكتور حممد غياث الدين من أجل‬

‫‪K.S., The Global Islamic Movement, op.cit.,p.10. 31‬‬


‫‪K.S., Siddiqui, The Islamic Revolution: Achievements,‬‬ ‫‪32‬‬

‫‪Obstacles and Goals. Published on: https://is.gd/H9KJAT. p. 12.‬‬


‫‪Jorgen Nielson, Obituary, op.cit. 33‬‬
‫‪K.S., The Islamic Revolution, op.cit. 34‬‬

‫‪375‬‬
‫املشاركة يف االحتفال ابلذكرى األوىل للثورة اإلسالمية يف فرباير من عام ‪ .351980‬أما‬
‫يف أغسطس من العام نفسه‪ ،‬فقام ِص ِّديقي مع ظَفر بنجاش بتحويل صحيفة حملية‬
‫للمجتمع املسلم يف تورونتو هي اهلالل الدولية إىل "جملة إخبارية للحركة اإلسالمية"‪ ،‬واليت‬
‫قاموا بنشر أفكارهم من خالهلا (ابإلجنليزية والعربية) إىل مجيع أحناء العامل‪ .‬ابإلضافة إىل‬
‫األعداد الدورية واملؤمترات السنوية يف لندن واجلوالت املتكررة‪ ،‬واستمر ِص ِّديقي يف الكتابة‬
‫بشكل كثيف خالل مثانينيات القرن العشرين ومن األعمال اليت نشرها‪:‬‬
‫دولة العامل اإلسالمي يف العصر احلاضر (‪ ،)1980‬احلركة اإلسالمية‪ :‬االنطالق حنو تغيري‬
‫العامل مرة أخرى (‪ ،)1982‬االندماج والتفكك يف سياسات اإلسالم والكفر (‪،)1983‬‬
‫النضال من أجل هيمنة اإلسالم ‪ -‬بعض األبعاد املهمة (‪ ،)1983‬األهداف واإلجنازات‬
‫األساسية للثورة اإلسالمية يف إيران (‪ ،)1984‬الدول القومية ابعتبارها عقبات أمام‬
‫التحول الكامل لألمة (‪ ،)1985‬الفكر السياسي واإلسالمي والسلوك يف ظل‬
‫االستعماري (‪ ،)1986‬وأخريًا‪ ،‬عمليات اخلطأ واالحنراف والتصحيح والتقارب يف الفكر‬
‫السياسي اإلسالمي (‪.)1989‬‬
‫كما أن الثورة اإليرانية أكدت له إمكانية الوحدة بني الطوائف املسلمة‪ ،‬وهو ما أيدته‬
‫جتربته مع الطالب الدارسني يف املعهد اإلسالمي عام ‪ ,1978‬وبقي هذا الفكر هو مسة‬
‫ئيسا‬
‫داعما ر ً‬
‫كل أعماله إىل هناية حياته‪ .‬فعلى الرغم من أنه كان سنياً معتدالً‪ ،‬فإنه كان ً‬
‫للجماعات الشيعية الثورية‪ ،‬وكان ينتقد معارضيهم من النشطاء اإلسالميني "فجيوهبم‬
‫ممتلئة بدوالرات النفط السعودية"‪ .36‬كما كتب يقول‪" :‬إصرار اإلمام اخلميين على أن‬
‫القضااي اليت عادة ما كانت تفرق املذهبني الشيعي والسين "مل يعد هلا أمهية" يفتح الباب‬
‫أمام تضميد جراح األمة"‪ .37‬وبرز هذا املفهوم يف كتابه "عمليات اخلطأ واالحنراف‬
‫والتصحيح والتقارب يف الفكر السياسي اإلسالمي" بشكل أوضح‪ ،‬حيث يرى فيه أن‬
‫التوجهات السياسية لكل من السنة والشيعة منحرفةٌ؛ فالسنة يتبعون أنظمة امللك العضود‪،‬‬
‫والشيعة يتبعون نظام االستسالم للمسار السياسي التارخيي دون أن يكون رهلم إمام على‬

‫‪Ibid. 35‬‬
‫‪The global Islamic movement, op.cit., p.8. ،K.S.36‬‬
‫‪Ibid. 37‬‬
‫‪376‬‬
‫اإلطالق‪ .‬فلو أن التوجه السياسي للخميين كان خطوة حنو تصحيح االحنراف الشيعي‪،‬‬
‫فإن السنة كانوا ينتظرون ثورة التصحيح اخلاصة هبم‪ ،‬وكان ِص ِّديقي يف هذه النقطة األصلح‬
‫لتقدمي اخلريطة لذلك‪.‬‬
‫وإمجاًال‪ ،‬كانت هذه الفرتة فرتةً مثرية للدكتور ِص ِّديقي وللمعهد اإلسالمي‪ ،‬حيث شاهدوا‬
‫أفكارهم تتجسد يف مناذج تغيري ثوري‪ ،‬مبا يف ذلك اجملاهدون يف أفغانستان وحزب هللا يف‬
‫لبنان وحىت القيادات الدنيا يف اإلخوان املسلمني واجلماعة اإلسالمية‪ ،‬إىل درجة أنه ظن‬
‫أن التحدي هو أن القيادة التوافقية قد تواجه مصاعب يف حتريك كل هذه اجلماهري من‬
‫أجل السعي إىل التغيري من خالل عمليات سلمية داخل الدول القومية اليت نشأت يف‬
‫أعقاب االستعمار‪.38‬‬
‫تنظيم املسلمني على احلدود‬
‫ِ‬
‫بداية من عام ‪ 1989‬وبشكل رمسي يف عام ‪ 1992‬كرس الدكتور ِص ّديقي ً‬
‫بعضا من‬
‫وقته لبناء مؤسسة سياسية للمسلمني الذين يعيشون يف اململكة املتحدة من أجل خلق‬
‫وحدة خارج النظام الربيطاين‪ ،‬ولوضع خمطط حلكومة األقلية املسلمة دون أن يكون هلا‬
‫حدود إقليمية‪ .‬لكن كارثة أحدثها كتاب سلمان رشدي (آايت شيطانية) الذي حرك‬
‫غضب املسلمني يف بريطانيا‪ ،‬مث كانت فتوى آية هللا اخلميين اليت دعت إىل قتل رشدي‪،‬‬
‫وأصبحت هي األخرى متثل كارثة حملية يف إجنلرتا‪ .‬فبينما أدان العديد من القيادات‬
‫داعما هذه الفتوى وشارك يف‬ ‫ِِ‬
‫اإلسالمية وتربؤوا من فتوى اخلميين‪ ،‬تكلم ص ّديقي بقوة ً‬
‫مظاهرات ضد الكتاب‪ ،‬وبذلك احناز إىل اجلماهري الربيطانية املسلمة ضد ما مساه القيادة‬
‫املتخاذلة‪ -‬وبدت الفجوة واضحة بينه وبني اآلخرين من جيله‪.‬‬
‫وكان البيان اإلسالمي الذي نشره معهد اإلسالم يف عام ‪ 1990‬كان حماولة من ِص ِّديقي‬
‫من أجل "توفري صيغة مشرتكة حتدد املوقف اإلسالمي يف بريطانيا"‪ ،‬و"توفري إطار عمل‬
‫لنمو سليم جلميع أجزاء اجملتمع‪ ،‬ابإلضافة إىل وضع هدف هلوية إسالمية مشرتكة"‪ ،‬بطريقة‬
‫ال ختتلف عن حماوالته املوازية على الصعيد العاملي‪ .39‬كما أكد يف البيان على أنه ال‬

‫‪Ibid., pp.9-10. 38‬‬


‫‪The Muslim Manifesto. The Muslim Institute, 1990. p. 1. K.S., 39‬‬
‫‪377‬‬
‫عوضا عن ذلك "ميكنهم‬ ‫ينبغي للمسلمني أن يتفككوا ابتباعهم الثقافة الربيطانية‪ ،‬لكن ً‬
‫أن يضعوا ويسعوا لتحقيق أهداف تتوافق مع غاايت األمة العاملية؛ اجملتمع العاملي‬
‫للمسلمني‪ ،‬الذي هم جزء مهم منه"؛ ولذلك "حيتاج املسلمون يف بريطانيا إىل إنشاء‬
‫مؤسسات وإىل مجع املصادر من أجل هذه الغاايت"‪ .40‬ودعا ِص ِّديقي إىل تكوين جملس‬
‫مجيعا من أجل توحيد التواصل والعمل‬‫موجها إليهم ً‬
‫املسلمني الربيطانيني ليكون اخلطاب ً‬
‫حنو توافق يتبعه انعقاد مجعية عمومية وجملس املرأة املسلمة يف بريطانيا وجملس الشباب‬
‫والطالب املسلمني يف بريطانيا‪ .41‬وقام ِص ِّديقي يف املؤمتر الصحفي قبل إصدار البيان‬
‫"إباثرة اإلعالم بعبارات شديدة اللهجة يتحدث فيها عن أتسيس حكومة مستقلة‬
‫عرب عن وجود عالقة‬ ‫للمسلمني يف بريطانيا"‪ ،‬ولكن البيان نفسه كان أقل حدَّة‪ .42‬فقد َّ‬
‫مقابل ٍ‬
‫محاية من‬ ‫بني املسلمني والدولة الربيطانية تقوم على االعرتاف بسلطة الدولة يف ِ‬
‫التعرض واإلهانة وأيضاً توقع اتباع القوانني اليت تتعارض مع الشريعة اإلسالمية (مبا يف‬
‫ذلك حظر دعم املسلمني يف النزاع املسلح يف اخلارج‪ ،‬وهو ما قد يكون أكثر األجزاء‬
‫حتدايً لراديكالية أفكار ِص ِّديقي‪ ،‬إذ سيرعد أي دعم للجماعات املناضلة تدايً للقوانني‬
‫املشرعة ضد الدعم املادي لـ"اإلرهاب" حبسب تصنيف احلكومات يف أورواب وأمريكا)‪.43‬‬
‫كما رأى أنه جيب على جملس املسلمني الربيطانيني "مناقشة وتطوير منهج شامل على‬
‫وجه السرعة من أجل البقاء"‪ ،‬و"وحده اإلسالم هو القادر على محاية املسلمني"‪.44‬‬
‫وقد دعا املعهد اإلسالمي إىل مؤمتر حول "مستقبل املسلمني يف بريطانيا" بلندن يف الرابع‬
‫عشر من يوليو من عام ‪ ،1990‬وخالل هذا املؤمتر مت طرح البيان اإلسالمي‪ ،‬وألقى‬
‫خطااب افتتاحيًا بعنوان "احلصول على القوة دون سياسة‪ :‬مستقبل املسلمني يف‬
‫ً‬ ‫ِص ِّديقي‬

‫‪Ibid., p.2. 40‬‬


‫‪.Ibid., pp 5-10.41‬‬
‫‪Jorgen Nielson, Obituary, op.cit. 42‬‬
‫‪The Muslim Manifesto, op.cit., pp. 11, 15-16 K.S., 43‬‬
‫‪Ibid, pp. 17-18.44‬‬

‫‪378‬‬
‫بريطانيا"‪ .‬على الرغم من أن ِص ِّديقي قد هاجم يف هذ البيان "اللويب اإلسالمي احلداثي"‬
‫يف بريطانيا‪ ،45‬فإنه مع ذلك دعا إىل احلاجة لالحتاد حول البيان‪:‬‬
‫"أؤمن أبننا حققنا ترابطًا وصيغة ميكن أن تتفاهم حوهلا مجيع أطراف اجملتمع اإلسالمي‪،‬‬
‫ومن املهم أن نصل هلذا التفاهم‪ .‬إن مثل هذا العمل املتناسق على مستوى الطيف‬
‫كبريا من الصرب والتسامح والتفاهم‬
‫قدرا ً‬
‫مجيعا ً‬
‫اإلسالمي كله يف بريطانيا سوف يتطلب منا ً‬
‫مجيعا ‪-‬حداثيني وعلماء‪ -‬مستعدين‬ ‫بغض النظر عن تصور كل واحد منا‪ .‬إذا مل نكن ً‬
‫مجيعا ل ْق َمة سائغة‬
‫لوضع وحدتنا ومصريان املشرتك فوق مجيع القيم األخرى‪ ،‬فسوف نكون ً‬
‫ملن تعرفون من هم‪".46‬‬
‫كما حتدث عن أصول املسلمني يف بريطانيا بشكل متسامح‪:‬‬
‫"إن هجرة املسلمني إىل بريطانيا مل تكن هبدف السعي خلف الواجب الديين يف اهلجرة‬
‫لتطبيق اإلسالم‪ .‬بل أتينا إىل هنا رمكرهني ومدفوعني بقوى سياسية واقتصادية ودميوغرافية‬
‫خارجة عن إرادتنا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬وبعد وصول اجليل األول من املهاجرين املسلمني قاموا‬
‫مسجدا‬
‫ً‬ ‫عاما من اآلن كان هناك ما ال يزيد عن اثين عشر‬
‫أبفضل ما ميكنهم‪ .‬فقبل ثالثني ً‬
‫‪47‬‬
‫يف بريطانيا‪ .‬أما اليوم فإن عدد املساجد يف اجلزر الربيطانية يتجاوز األلف" ‪.‬‬
‫وقد دعا املسلمني إىل تصحيح ذلك‪ ،‬سواء كان ذلك من أجل أنفسهم أو من أجل‬
‫سكان هذه األرض‪:‬‬
‫"وبعد أن اعرتفت ابلطابع الدنيوي اخلالص وراء هجرتنا األوىل إىل بريطانيا‪ ،‬جيب علينا‬
‫اآلن حماولة وضع أصول جديدة لنستمد أسباب بقائنا كمسلمني من اإلسالم نفسه‪ .‬حنن‬
‫بكل أتكيد ندين ألنفسنا ولألجيال التالية بذلك‪ ،‬بل أكثر من ذلك‪ ،‬حنن ندين لربيطانيا‬

‫‪Ibid, p.19 45‬‬


‫‪Kalim Siddiqui, Generating "Power" without Politics. Presented 46‬‬
‫‪at "The Future of Muslims in Britain, July 14, 1990" London: The‬‬
‫‪Muslim Institute. p 2.‬‬
‫‪Ibid., p.4.47‬‬

‫‪379‬‬
‫نفسها‪ ،‬فربيطانيا حتتاج إىل حضور إسالمي قوي‪ .‬إن اجملتمع الغريب املعاصر عاق ٌد العزم‬
‫على تدمري ذاته"‪.48‬‬
‫مث أهنى حديثه برسالة أمل رحتدد مسار املسلمني يف بريطانيا (وأورواب أبكملها) ضمن إطار‬
‫احلركة اإلسالمية العاملية‪:‬‬
‫"لقد انتهت األايم املظلمة يف اترخينا‪ ،‬فمسرية التاريخ اإلسالم بدأت من جديد‪ .‬ويف‬
‫خالل األربعني أو اخلمسني سنة القادمة سوف ختضع مجيع أرجاء العامل اإلسالمي لثورات‬
‫إسالمية تقوم بتحرير أراضينا وشعوبنا من عصور الظالم احلديثة لالستعمار الغريب‬
‫والسيطرة الثقافية‪ .‬سوف يعيشون أعظم تغيري ثوري على مر التاريخ اإلسالمي‪ ،‬ويف وضع‬
‫يسمح هلم ابملسامهة بقوة يف هذا التغيري‪ .‬مما يرتيح هلم تنظيم أنفسهم هنا يف أورواب‪،‬‬
‫كمسلمني أوروبيني‪ ،‬من أجل املشاركة يف املسؤوليات العاملية اليت سيضعها التاريخ فوق‬
‫أكتافهم"‪.49‬‬
‫أساسا للربملان اإلسالمي يف بريطانيا‪ ،‬ففي كلمته‬
‫وكانت هذه هي الصيغة اليت أصبحت ً‬
‫خالل التدشني الرمسي للربملان اإلسالمي يف يناير من عام ‪ 1992‬حتت عنوان "الربملان‬
‫اإلسالمي يف بريطانيا‪ :‬االبتكار والتكيف السياسي" كرر ِص ِّديقي نفس العبارات‪:‬‬
‫" لقد خضنا عمي ًقا يف مصادران الروحية والفكرية من أجل أن خنرج بنظام سياسي عملي‬
‫يسعى إىل حتويل وضع املسلمني‪ ،‬وإىل تغيري دائم للقواعد األساسية اليت نعيشها يف هذه‬
‫الدولة‪ .‬إن مشكالتنا معقدة‪ ،‬وإن جذورها متتد إىل قرون عديدة‪ .‬كما أهنا منغرسة يف‬
‫أحداث خارجة عن نطاق اإلدراك احلايل ملعظم الناس‪ .‬إن إحدى وظائف هذا الربملان‬
‫هي تطبيق الوعي التارخيي لدينا من أجل حل املشكالت املعاصرة وصناعة مستقبل‬
‫األجيال املسلمة اليت مل تولد بعد"‪.50‬‬

‫‪Ibid., p. 548‬‬
‫‪Ibid.,p.16.49‬‬
‫‪Kalim Siddiqui, The Muslim Parliament of Great Britain: 50‬‬
‫‪Political Innovation and Adaptation, January 1992. p. 2.‬‬

‫‪380‬‬
‫إن رؤيته ‪-‬اليت وضع هلا هيكالً مؤسسياً يشمل قيادات من مجيع الطوائف السياسية‪-‬‬
‫قد جتاهلتها املنظمات اإلسالمية اليت ظهرت يف العقد التايل‪ ،‬سواء كانت جزءًا من‬
‫"رفضت (‪ )...‬كأهنا شيء‬ ‫اإلخوان املسلمني أم كانت حماوالت اندماجية أكثر ليربالية‪ ،‬ر‬
‫مزعج ال أمهية له"‪ ،‬على الرغم من ‪ -‬أو رمبا بسبب ‪ -‬توافقها مع رؤية الشباب اإلسالمي‬
‫الذي احرتم القيادة اليت تعرب عن غضبهم‪ .51‬إن مثل هذه الرؤية العميقة الستقالل وفاعلية‬
‫جمتمع متنوع من املسلمني يف الغرب فرقته لعقود تنازعات املذهب والعرق كان أمراً اندراً‪،‬‬
‫وإن بقي على خالف مع مجاعة "املهاجرون" يف بريطانيا واجلمعية اإلسالمية للمفكرين‬
‫جهاداي بدائيًا (مما نتج عنه حبس‬
‫ً‬ ‫خطااب سلفيًا‬
‫يف الوالايت املتحدة‪ ،‬والذين كانوا يقدمون ً‬
‫معظم أعضائهم وابتعاد اجملتمع املسلم األوسع عنهم)‪.‬‬
‫السنوات األخرية‬
‫قل نشاط الدكتور ِص ِّديقي يف سنوات عمره األخرية بسبب مشاكل صحية‪ ،‬إال أنه‬
‫لقد َّ‬
‫استمر يف الكتابة والسفر كلما أتيح له ذلك‪ ،‬حىت إنه نشر العديد من األعمال قبل‬
‫وفاته‪.‬‬
‫حبثه بعنوان "احلركة اإلسالمية العاملية‪ :‬إطار االسرتاتيجية الكربى"‪ ،‬والذي قام بكتابته يف‬
‫جتميعا‬
‫أبدا‪ ،‬كان ً‬ ‫األصل عام ‪ 1992‬كما ذكران سلفاً على أنه مقدمة لكتاب مل يرنشر ً‬
‫لألفكار اليت رمست مالمح حياته السياسية والفكرية‪" :‬عن احلركة اإلسالمية العاملية‪ ،‬وعن‬
‫العامل اإلسالمي دون حدود قومية والذي يسعى إىل حتقيق الغاية السياسية لإلسالم يف‬
‫مجيع أرجاء العامل"‪ .52‬كانت أعماله هي بناء احلركة ذاهتا‪" ،‬فاإلطار األساسي واحملوري‬
‫الذي يطوق الثورة اإلسالمية وأتثريها يف "التغيري الكبري" على األمة هو الذي يدعو إىل‬
‫ثورات إسالمية جديدة يف مجيع املناطق اإلسالمية حول العامل‪ ،‬وجيلب تقارب الفكر‬
‫السياسي اإلسالمي‪ ،‬وينقي الفكر اإلسالمي من تسلل األفكار السياسية الغربية‪ ،‬وحيدد‬
‫املنهج السياسي لإلسالمي‪ ،‬ويضع اخلطة جليل أو أكثر من أجيال احلركة اإلسالمية"‪.53‬‬

‫‪Jorgen Nielson, Obituary, op.cit. 51‬‬


‫‪The Global Islamic Movement, op.cit.,p.1 K.S., 52‬‬
‫‪ 53‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.2-1‬‬
‫‪381‬‬
‫هذا النص يرلخص حياته وأعماله حىت اآلن‪ ،‬ويكشف كيف أثرت أحداث العامل فيها‬
‫وكيف أثر بفكره يف مسار الفكر اإلسالمي املعاصر ليشغل به موقعاً فريداً‪ ،‬كما يرعترب هذا‬
‫شاهدا على تناسق إطار العمل اخلاص أبفكاره حىت بعد تطورها مع منو احلركة‬ ‫النص ً‬
‫نفسها وتراجعاهتا‪ .‬كما أنه خلص أفكاره بشأن عمق الصراع بني احلضارة اإلسالمية‬
‫واحلضارة العلمانية الغربية‪.‬‬
‫ويرقدم كتاب "السرية‪ :‬منظور قوة" ( ركتب بني عامي ‪ 1995‬و‪ 1996‬لكن نرشر يف‬
‫الربانمج الذي كان قد ذكره يف خطاب املولد النبوي قبل اثنني وثالثني‬
‫َ‬ ‫‪ 1998‬بعد وفاته)‬
‫عاما‪ ،‬كذلك يف حبثه عام ‪ 1989‬حتت عنوان "عمليات اخلطأ واالحنراف والتصحيح‬ ‫ً‬
‫بعمق من منظور‬‫والتقارب يف الفكر السياسي اإلسالمي"‪ ،‬دعا لدراسة السرية النبوية ٍ‬
‫احتاد للمسلمني على اختالف‬ ‫سياسي‪ ،‬واختاذها كنموذج للحركة اإلسالمية العاملية ونقطة ٍ‬
‫طوائفهم ومذاهبهم‪ .‬حيث يقول ِص ِّديقي‪" :‬إن "شدة الظالم" تتمثل اليوم ‪-‬من جهة‪-‬‬
‫يف الغرب واحلضارة الغربية‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬يف األوضاع اليت غرقت فيها اجملتمعات‬
‫اإلسالمية"‪ .‬ويضيف‪" :‬هذا مماثل لدولة اجلاهلية اليت حتدت أعظم قدوة"‪ .54‬وال يزال‬
‫تفاصيل أكثر من‬
‫َ‬ ‫الكتاب يف األساس جمرد مسودة ودعوة لدراسة مستفيضة‪ ،‬ولكنه يقدم‬
‫النيب‬
‫األعمال السابقة وأيخذ يف االعتبار الفرق الكبري بني األوضاع اليت كانت على عهد ّ‬
‫واألوضاع املعاصرة‪ ،‬كما يضع جماالت وقضااي حمددة للبحث‪.‬‬
‫كان آخر كتاب كتبه ِص ِّديقي بعنوان "مراحل الثورة اإلسالمية" (‪ )1996‬يرقدم فيه رؤية‬
‫معتمدا على النموذج النبوي‪،‬‬
‫ً‬ ‫واسعة لالجتاه الفكري للحركة اإلسالمية يف الوقت احلايل‪،‬‬
‫وقد نرشر يف آخر حياته‪ .‬كما أنه شاك وألقى احملاضرة الرئيسة اخلاصة ابملؤمتر الدويل‬
‫إلنشاء حضارة إسالمية جديدة‪ ،‬وذلك يف بريتوراي جبنوب إفريقيا‪ .‬كما قام ِص ِّديقي‬
‫ابلكتابة عن الثورة اإلسالمية يف كتبه وخطاابته ابعتبارها عملية علمية (من اجلذور الفكرية‬
‫إىل الفروع العاملية)‪ ،‬عملية ميكن بل وجيب تكرارها‪ ،‬ترشعل الواحدة منها األخرى حىت‬
‫تتحد احلركات اإلسالمية العاملية وتنتصر‪.‬‬

‫‪Processes of Error, Deviation, Correction and Kalim Siddiqui,54‬‬


‫‪Convergence in Muslim Political Thought. 1989, pp. 1-2.,‬‬
‫‪https://is.gd/fHzNhK‬‬
‫‪382‬‬
‫وقد تويف ِص ِّديقي يف الثامن عشر من أبريل من عام ‪ 1996‬يف بريتوراي‪.‬‬
‫إرث وورثة‬
‫مل يستمر الربملان اإلسالمي بعد وفاة ِص ِّديقي‪ ،‬وانتهى به احلال أن "حل حمله" اجمللس‬
‫اإلسالمي يف بريطانيا‪ ،‬وهو منظمة ذات اجتاه يدعو إىل اإلندماج أكثر من الربملان‬
‫اإلسالمي‪ .‬وقد استقلت رائسة املعهد اإلسالمي عنه وأتسيس "معهد الفكر اإلسالمي‬
‫املعاصر" تكرميًا إلرث الدكتور ِص ِّديقي‪ ،‬كما حافظت على العدد الشهري لصحيفة اهلالل‬
‫الدولية إىل جانب مكتبة إلكرتونية وتقدمي برامج تطوير القيادة اإلسالمية وإرشادها‪.55‬‬
‫أما ظفر بنجاش‪ ،‬وهو أحد مؤسسي املعهد اإلسالمي إىل جانب كليم ِص ِّديقي‪ ،‬وكان‬
‫مديرا ملعهد الفكر اإلسالمي املعاصر‪،‬‬‫حمررا لصحيفة اهلالل الدولية ‪ -‬فإنه يعمل اآلن ً‬
‫ً‬
‫ويعيش بكندا يف منطقة تورنتو‪.‬‬
‫على جانب آخر أكمل إقبال ِص ِّديقي ‪-‬وهو ابن الدكتور ِص ِّديقي‪ -‬مسريةَ والده يف‬
‫حمررا لصحيفة اهلالل الدولية‪.‬‬
‫العمل العلمي والتنظيمي‪ ،‬ليكون ً‬
‫أما اإلمام حممد العاصي‪ ،‬والشائع أنه مت إقصاؤه من رائسة املركز اإلسالمي يف واشنطن‬
‫بواسطة انقالب سعودي‪ ،‬ابإلضافة إىل منعه من خطبه األسبوعية – فقد عكف على‬
‫كتابة تفسري للقرآن ابللغة اإلجنليزية من عدة جملدات‪ ،‬وبقي خطيباً حراً‪ ،‬وكاتباً يف صحيفة‬
‫اهلالل الدولية‪.‬‬
‫وجند أيضاً مسرية اإلمام عبد العليم موسى الذي نشأ يف أوكالند‪ ،‬كاليفورنيا‪ ،‬وهناك قابل‬
‫راب براون أحد مؤسسي حركة الفهود السود (والح ًقا اإلمام مجيل عبد هللا األمني)‪.‬‬
‫زميال لكليم ِص ِّديقي‪ ،‬مث أصبح اإلمام‬
‫حيث أسلم يف السجن‪ ،‬وبعد إطالق سراحه أصبح ً‬
‫املؤسس ملسجد اإلسالم يف واشنطن‪ ،‬واحلركة اليت أسسها ابسم "السابقون"‪ .‬كما أنه‬
‫أنشأ منظمة إعالمية أطلق عليها اسم املعهد اإلسالمي ملكافحة احلرب النفسية الصهيونية‬
‫عضوا يف معهد الفكر اإلسالمي املعاصر‪.‬‬
‫األمريكية‪ .‬ابإلضافة إىل كونه ً‬

‫‪ 55‬قامت منظمة بريطانية أخرى أبخذ اسم "املعهد اإلسالمي" ولكنها أنكرت أعمال الدكتور ِص ِّديقي‪ ،‬كما‬
‫أن معهد الفكر اإلسالمي املعاصر تنصل من تلك املنظمة‪.‬‬
‫‪383‬‬
‫لقد انتشرت أفكار الدكتور كليم ِص ِّديقي بشكل أساسي عن طريق األفراد واملنظمات‬
‫املذكورة‪ ،‬ففي أثناء حياته كان الشباب املسلم الربيطاين ‪-‬خاصة‪ -‬هم الذين يشعرون‬
‫معربا عن خماوفهم ومتحد ًاث ابمسهم لدى‬
‫صوات ً‬‫بتأثري أفكاره‪ ،‬وهم الذين وجودوا فيه ً‬
‫‪56‬‬
‫اإلعالم‪ ،‬وثقة يف جترده من املصاحل الضيقة وإخالص عمله ‪.‬‬
‫وقد اشرتك عدد من أعالم السنة مع ِص ِّديقي يف دعمه للثورة اإلسالمية يف إيران‪ ،‬ومن‬
‫املرجح أن ذلك استمر إىل أن دعمت إيران بشار األسد يف احلرب السورية‪ .‬أما االجتاه‬
‫أبدا العلمانيون من املفكرين املسلمني‪ ،‬كما أن‬‫املعادي لالستعمار يف أفكاره فلم يتبنه ً‬
‫غالبية اإلسالميني أنفسهم مل يهتموا بفكره بسبب رفضه للسياسة االنتخابية وللدولة‬
‫القومية اليت أعلن القبول هبا االجتاه السائد‪ .‬وعلى الرغم من ذلك فإن ضعف القيادة‬
‫متاما كما أشار ِص ِّديقي يف بداية حياته يف ابكستان ويف خطبته يف ليبيا ‪-‬‬
‫اإلسالمية ‪ً -‬‬
‫صرف مجاهري الناس عنهم وإن مل تتطور رؤية راديكالية انضجة ميكن تطبيقها‪ .‬ولذلك‬
‫بقيت أفكار كليم ِصديقي ذات صدى ملن فقد الثقة يف املنظومات احلاكمة‪.‬‬
‫اخلامتة‬
‫رغم أن املنظمات اليت أسسها ِص ِّديقي قد عانت من غياب قيادته املؤثرة بعد وفاته‪ ،‬فإن‬
‫مسامهته العلمية جيب أال يتم إمهاهلا أو إغفاهلا‪ .‬لقد كانت أعماله األوىل عن السياسة‬
‫مهما‬
‫أساسا ً‬
‫أيضا ً‬ ‫الباكستانية وجنوب آسيا مهمة يف حد ذاهتا علمياً وفكرايً‪ ،‬وكانت ً‬
‫النتقاده الدولة القومية وحماوالت توجيه قوة املسلمني حنو تبين الرأمسالية أو الشيوعية‪.‬‬
‫وكان تصوره عن اخلالفة كغاية سياسية لإلسالم مناسبًا للحظة التارخيية اليت عاشها بني‬
‫أتسيس ابكستان وجناح الثورة اإليرانية‪ ،‬وتنبؤاته أبن هذه الرغبة سوف تنتشر بني املسلمني‬
‫يبدو أهنا قد حتققت بدرجات متفاوتة‪ .‬إن حتليالته للتاريخ واملنهج السياسي هي قراءة‬
‫يف اتريخ طويل‪ ،‬أما دعوته للمسلمني يف الغرب ملقاومة االندماج واالخنراط فكانت‬
‫ختاطب واقع التهميش‪ ،‬وكان هناك الكثريين ممن لديهم نفس رغبته يف رؤية املسلمني‬
‫النيب يف وحدة سياسية‪ ،‬على‬ ‫الذين ينتمون ألكرب مذهبني يتحدون حول منوذج حياة ّ‬
‫الرغم من أن تلك األمنية تبدو بعيدة املنال اليوم عما كانت عليه وقتها‪ .‬لكن برغم كل‬

‫‪Jorgen Nielson, Obituary, op.cit. 56‬‬


‫‪384‬‬
‫شيء‪ ،‬فإن أفكار ِص ِّديقي ما تزال حيَّة‪ ،‬ورمبا تبني األايم صواب نظرته فتعيد االهتمام هبا‬
‫وتكفل سياسات أعداءها أنفسهم بقاءها وجناحها‪.‬‬

‫‪385‬‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫إنتاج مفاهيم جديدة إلصالح الفكر اإلسالمي‪:‬‬
‫دراسة يف مشروع طارق رمضان‬
‫ايسني اليحياوي‬
‫ملخص‬
‫يرعدّ طارق رمضان واحدًا من أبرز املسامهني يف جتديد‬
‫الفكر اإلسالمي املعاصر‪ .‬وتربز إحدىر أهمّ اإلضافات‬
‫خالل ما أنتجه من مفاهيم جديدة يف‬ ‫اليت قدَّمها من ر‬
‫اجملالني الديين والسياسي‪ ،‬هتدف إىل تشكيل العامل برؤية‬
‫تعددية‪ .‬تتمثَّل أكثر الركائز حضوراً يف كتاابته الغزيرة يف‬
‫نقد املنظومة الفقهية من خالل اقرتاح بديل يقوم على قراءة‬
‫جديدة للنص الديين ترراعي السياق املتغري؛ واحلث على‬
‫االجتماعية؛ إضافة‬ ‫املمارسة العقالنية يف جمال العالقات ر‬
‫إىل رحماولة التوفيق بني املبادئ اإلسالمية والنموذج الغريب‬
‫للعلمانية‪.‬‬
‫سنتناول يف هذا الفصل اجلهود اليت يبذهلا رمضان من أجل بناء جسر التواصل بني ثقافتني‬
‫وحضارتني رخمتلفتني؛ لنعرض بعدها مفهوم "اإلصالح اجلذري" الذي يتبناه‪ ،‬بوصفه‬
‫منهجية جديدة يف قراءة النصوص املصدرية‪ ،‬تسمح إبعادة الراهنية لرسالة اإلسالم‬
‫ومبادئه‪ ،‬وتتجاوز يف الوقت نفسه أزمة الفكر اإلسالمي املعاصر؛ أما اجلزء األخري‪،‬‬
‫فسنتناول فيه مفهوم "فضاء الشهادة"‪ ،‬الذي يرعد حماولة لبلورةر مفاهيم جديدة يف الفكر‬
‫السياسي‪ ،‬ترؤسس لفكرة التعددية داخل اجملتمعات الغربية‪ ،‬رمتجاوزة التصورات املنتجة‬
‫للعنف اليت سادت يف القرن العشرين‪ ،‬سواء يف ثنائية دار اإلسالم‪ -‬دار احلرب‪ ،‬رأو يف‬
‫ثنائية الغرب‪ -‬اإلسالم‪.‬‬
‫طارق رمضان أكادميي سويسري وابحث يف الدراسات اإلسالمية‪ .‬وهو ابن سعيد رمضان‬
‫أحد الرعيل األول من قيادات اإلخوان املسلمني‪ ،‬ووفاء البنا ابنة حسن البنا مؤسس‬
‫اجلماعة‪ .‬رولد يف مدينة جنيف السويسرية يف ‪ 26‬أغسطس ‪ ،1962‬بعد أن انتقل والداه‬
‫للعيش فيها‪ ،‬منفيني من قِبل نظام مجال عبد الناصر‪ .‬درس رمضان الفلسفة واألدب‬
‫والعلوم االجتماعية يف جامعة جنيف‪ ،‬وحصل على درجة املاجستري يف الفلسفة واألدب‬
‫الفرنسي أبطروحة عن "مفهوم املعاانة يف فلسفة نيتشه"؛ وعلى دكتوراه أوىل يف الفلسفة‬
‫مؤرخا للفلسفة"‪1‬؛ مث أطروحة اثنية عام ‪ ،1998‬تناول‬ ‫ر‬
‫أبطروحة حتت عنوان‪" :‬نيتشه ً‬
‫ومشلت دراسةً للعديد من‬
‫ْ‬ ‫فيها رخمتلف مشاريع التجديد اإلسالمي يف القرن العشرين‪،2‬‬
‫الشخصيات البارزة‪ ،‬من قبيل مجال الدين األفغاين‪ ،‬وحممد عبده‪ ،‬وحممد رشيد رضا‪،‬‬
‫وحممد إقبال‪ ،‬وحسن البنا‪.‬‬
‫ديرا يف‬
‫درسا بكوليج دي سوسور يف النسي بسويسرا‪ ،‬ليرعني بعدها م ً‬ ‫بدأ مساره املهين رم ً‬
‫املؤسسة نفسها عام ‪ .1988‬لكنه استقال من منصبه عام ‪ ،1992‬بعد أن قرر البدء‬
‫متهيدا لالنطالق يف مشروعه اخلاص‪ ،‬القائم على بناء‬
‫يف رحلة تكوين شخصيته العلمية‪ً ،‬‬
‫وضوحا يف العامل الغريب؛ ال سيما بعد أن أصبحت‬
‫ً‬ ‫جسر التواصل‪ ،‬وجعل اإلسالم أكثر‬
‫عددا من‬
‫قضية اإلسالم ذات أمهية متزايدة يف العامل الغريب خالل العقود األخرية‪ ،‬ولعل ً‬
‫كانت سببًا يف محالت الكراهية ضد املسلمني‪ ،‬من‬
‫األحداث اليت شهدهتا أورواب آنذاك ْ‬
‫قبيل جناح الثورة اإليرانية عام ‪1979‬؛ والضجة اليت أاثرهتا رواية سلمان رشدي عام‬
‫‪1988‬؛ وصدور كتاب صدام احلضارات ملؤلفه صموئيل هنتنغتون‪ ،‬الذي يرى َّ‬
‫أن‬
‫احلضارة الغربية ستدخل يف صراع هواييت ر‬
‫وثقايف مع احلضارة اإلسالمية‪ ،‬وما رافقه من‬
‫جدل يف شىت أحناء أورواب‪.‬‬

‫‪Tariq Ramadan, What I Believe (Oxford: Oxford University Press,‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2010), p. 12.‬‬
‫‪Tariq Ramadan, Aux Sources Du Renouveau Musulman: D'al-2‬‬
‫‪afghan‬‬
‫‪̄ ī à Hassan Al-Bannā, Un Siècle De Réformisme‬‬
‫‪Islamique, (Paris: Bayard/Centurion, 1998).‬‬
‫‪388‬‬
‫ومن مثَّ بدأ يتبلور فكر طارق رمضان اجمل ّدد واملنصهر يف بوتقة الفكر اإلسالمي والفكر‬
‫ومة مفاهيمية جديدة تؤسس للعيش املشرتك والتعددية‬ ‫آن معا‪ ،‬واملنتج ملنظ ٍ‬
‫الغريب يف ٍ‬
‫ً‬
‫وتروم رأب الصدع بني عاملني رخمتلفني من خالل بناء رجسر التواصل‪.‬‬
‫السياسية والدينية‪ ،‬ر‬

‫بناء جسر التواصل بني عاملني رخمتلفني‬


‫جادة ذات منحيني؛ فقد ساعده تكوينه األكادميي وختصصه يف‬ ‫انطلق رمضان يف قراءة َّ‬
‫التعمق يف أفكار الفالسفة الغربيني‪ ،‬من‬ ‫فكر الفيلسوف األملاين فريدريك نيتشه على ُّ‬
‫مرورا بديكارت وسبينوزا وكانط وهيغل‬ ‫سقراط ‪3‬وأفالطون وأرسطو إىل شوبنهاور‪ً ،‬‬
‫التعمق يف العلوم اإلسالمية‪ ،‬لذلك‬‫وماركس ‪ .‬لكنَّه مع ذلك‪ ،‬وجد نفسه يف حاجة إىل ُّ‬
‫َّقرر السفر إىل القاهرة‪ ،‬حيث درس يف جامعة األزهر وأمضى فيها عامي ‪1992‬‬
‫تبني له بعد هذا‬ ‫و‪ ،1993‬ليتحصل بعدها على اإلجازة يف سبعة ختصصات‪ .‬وقد َّ‬
‫أن منظومة القيم يف احلضارة‬ ‫التكوين املزدوج‪ ،‬بني الفلسفة الغربية والعلوم اإلسالمية‪َّ ،‬‬
‫أيضا مع عدد‬ ‫ر‬
‫اإلسالمية هلا العديد من القواسم املشرتكة مع القيم اليهودية واملسيحية‪ ،‬و ً‬
‫ال رحيصى من القيم اليت دعا إليها اهليومانيون واملالحدة والالدينيون‪ .4‬فلماذا إذن كل هذا‬
‫التحيز والصراع والسعي إىل تغييب دور اإلسالم يف اتريخ أورواب؟ ومن مثَّ أيخذ رمضان‬
‫على عاتقه رحماولة اإلجابة عن هذه اإلشكالية العالقة اليت من شأهنا أن تبين جسر التواصل‬
‫أن هذه املهمة ليست‬ ‫وترساعد على فتح الطريق بثقة للعيش املشرتك‪ .‬وال رخيفي رمضان َّ‬
‫ر‬
‫أن التحدايت اليت‬ ‫ابهلينة أو السهلة؛ إذ حتتاج إىل الوقت روالصرب والتصميم‪ ،5‬ال سيما و َّ‬
‫تعمق االنقسام وتركز على تلك الصراعات العميقة الناجتة عن الصور النمطية لإلسالم‬
‫أيضا الصورة النمطية لألنظمة العلمانية يف البلدان العربية‬
‫واملسلمني يف البلدان الغربية‪ ،‬و ً‬

‫أتثريا يف الفلسفة الغربية‪ ،‬وابإلضافة إىل أطروحتيه يف‬ ‫‪3‬‬


‫إىل جانب دارسته الدقيقة للعديد من الشخصيات األكثر ً‬
‫املاجستري والدكتوراه عن فلسفة نيتشه‪ ،‬ألَّف رمضان ً‬
‫كتااب مشرتًكا عن الفيلسوفني الفرنسيني فولتري وكوندروسيه‪،‬‬
‫يرنظر‪Tariq Ramadan & Claude-Jean Lenoir, Tolérance ou la :‬‬
‫‪liberté? Les leçons de Voltaire et de Condorcet (Bruxelles:‬‬
‫‪Editions Complexe, 1999).‬‬
‫‪Ramadan, What I Believe, p. 13. 4‬‬
‫‪Ibidem. 5‬‬
‫‪389‬‬
‫حلوال عملية‪ ،‬رجترب املواطنني واملثقفني واملمثلني الدينيني على تطوير عقل نقدي‬
‫‪ -‬تتطلب ً‬
‫دائما على احلوار ومساع اآلخر‪ ،‬ويقبل احلل الوسط دون أن ينال من‬ ‫متوازن‪ ،‬منفتح ً‬
‫املبادئ أو يطعن يف املعتقدات‪.‬‬
‫جهود رمضان يف بناء جسر التواصل والتأسيس للتنوع والتعددية الدينية والسياسية ال‬
‫رميكن إغفاهلا‪ ،‬سواء يف اخنراطه يف مجعيات مدنية تعىن ابحلوار بني األداين‪ ،‬أو يف انتمائه‬
‫أيضا يف األعمال الشخصية اليت‬ ‫ملراكز أحباث ترناقش قضااي التعددية أببعادها املختلفة‪ ،‬و ً‬
‫صدرت له‪ .‬فبعد عودته من رحلته العلمية يف رمصر‪ ،‬نشط رمضان يف عدد من اجلمعيات‬ ‫ْ‬
‫اضرا يف الدين والفلسفة جبامعة فريربوغ بني عامي ‪1996‬‬ ‫يف سويسرا‪ ،‬كما اشتغل رحم ً‬
‫و‪ .2003‬وخالل زايرته لربيطانيا عام ‪ ،2005‬استردعي للمشاركة يف جمموعة تفكري‬
‫أسسها توين بلري‪ ،‬ملناقشة دور املسلمني يف اجملتمعات األوروبية‪ .‬وكان هذا العمل استمر ًارا‬
‫كت يف خمتلف احللقات الدراسية والنقاشات بني األداين‪.‬‬ ‫ر‬
‫حلركة مسلمي سويسرا‪ ،‬اليت شار ْ‬
‫ائرا يف كلية سانت أنتوين‪ .‬كما سعى‬ ‫ويف العام نفسه‪ ،‬انتقل إىل جامعة أوكسفورد أستاذًا ز ً‬
‫االحتاد األورويب للحصول على مشورته بشأن القضااي الدينية يف جلنة تتناول ابلدراسة‬
‫العالقة بني اإلسالم والعلمانية‪ .‬وإضافة إىل حضوره املستمر يف احلوارات األكادميية‪ ،‬ألَّف‬
‫عددا من املقاالت والكتب اليت تعىن بقضااي راملسلمني يف أورواب وتدبري التعددية‬‫رمضان ً‬
‫الدينية والسياسية‪.‬‬
‫لن نستطيع تغطية مجيع مؤلفات رمضان منذ صدور أول كتاب له إىل يومنا هذا؛ لكن‬
‫مع ذلك‪ ،‬سنرحاول اإلشارة إىل بعض األعمال اليت أاثرت العديد من النقاشات يف‬
‫أيضا األعمال اليت رميكن من خالهلا تتبع‬
‫األوساط األكادميية واإلعالمية يف الغرب‪ ،‬وهي ً‬
‫اإلطار النظري ملشروع رمضان؛ بشقه األول املرتبط مبفهوم اإلصالح اجلذري وإعادة قراءة‬
‫النصوص اإلسالمية املؤسسة‪ ،‬وشقه الثاين ر‬
‫القائم على مفهوم عامل الشهادة‪ ،‬بكوهنا رحماولة‬
‫يف التأسيس لفلسفة تعددية داخل اجملتمعات الغربية‪.‬‬

‫‪390‬‬
‫فقد سعى رمضان يف كتابه املسلمون يف ظل العلمانية‪- 6‬وهو من بني أول األعمال‬
‫الصادرة له‪ -‬إىل حتديد شروط التعايش اإلجيايب بني املسلمني وغريهم يف اجملتمعات الغربية‪،‬‬
‫داعيًا إىل ضرورة مواجهة املسلمني مسؤولياهتم‪ ،‬سواء املتعلق منها ابحلاجة إىل التمسك‬
‫وضوحا‪ ،‬رأو ابملشاركة بشكل أكثر فعالية‬
‫ً‬ ‫ابحلوار وإيصال وجهات نظرهم بشكل أكثر‬
‫أن هذا االلتزام األخالقي وحده‪ ،‬من‬ ‫يف اجملتمعات اليت يعيشون فيها؛ إذ يرى رمضان َّ‬
‫شأنه أن يرزيل احلواجز والتحيزات‪ ،‬ومينح اآلخرين فرصة االستماع لوجهة نظر املسلمني‬
‫واحرتام إمياهنم وممارساهتم الدينية‪ .‬وأمام تزايد خطاب الكراهية وصدام ر‬
‫احلضارات‬
‫أن املسلمني‬‫أكد رمضان يف كتابه اإلسالم‪ :‬املواجهة بني احلضارات‪ 7‬على َّ‬ ‫واهلوايت‪َّ ،‬‬
‫ر‬
‫لديهم الوسائل الالزمة ملواجهة التحدايت املعاصرة دون أن خيونوا هويتهم‪ ،‬ومبقدورهم‬
‫مقرتحا بذلك‬ ‫أيضا االخنراط يف العصر احلديث بشكل َّ‬
‫خالق‪ ،‬إذا ما حتلوا مبعىن االلتزام‪ً ،‬‬ ‫ً‬
‫مناذج اجتماعية وسياسية واقتصادية‪ ،‬ترتكز على األخالق واإلميان مبقاصد اإلسالم‬
‫أعماال أخرى‪ ،‬عرض فيها بشكل تفصيلي املقصود اباللتزام الواجب‬ ‫وأهدافه‪ .‬كما أصدر ً‬
‫مسلما‬
‫ً‬ ‫احرتامه من لدن املسلمني يف املجتمعات الغربية‪ ،‬نذكر منها كتاب أن تكون‬
‫كتاب مسلمو رالغرب ومستقبل اإلسالم‪.9‬‬ ‫أوروبيا‪ ،8‬وأيضا ر‬
‫ً‬ ‫ً‬

‫‪Tariq Ramadan, Les musulmans dans la laïcité: responsabilités 6‬‬


‫‪et droits des musulmans dans les sociétés occidentales (Lyon:‬‬
‫‪Tawhid, 1994).‬‬
‫‪Tariq Ramadan, Islam, le face à face des civilisations: quel projet‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪pour quelle modernité ? (Lyon: Tawhid, 1995).‬‬


‫‪Tariq Ramadan, Être Musulman Européen: Etude des Sources‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪Islamiques à la Lumière du Contexte Européen (Lyon: Tawhid,‬‬


‫; )‪1999‬‬ ‫‪Tariq‬‬ ‫‪Ramadan,‬‬ ‫‪To‬‬ ‫‪Be‬‬ ‫‪a‬‬ ‫‪European‬‬ ‫‪Muslim‬‬
‫‪([Leicestershire]: The Islamic Foundation, 2013).‬‬
‫‪Tariq Ramadan, Les Musulmans D'occident Et L'avenir De‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪L'islam (Paris: Actes Sud/Sinbad, 2003) ; Tariq Ramadan, Western‬‬

‫‪391‬‬
‫أيضا نقد احلداثة‪ ،‬بوصفها‬ ‫إن املشروع الفكري الذي يشتغل عليه رمضان يتناول ً‬ ‫وحيث َّ‬
‫أن فرض‬ ‫مشروعا مل يكتمل‪ ،‬وما زال يف حاجة إىل إصالح منظومته القيمية؛ فإنَّه يرؤكد َّ‬ ‫ً‬
‫قدما‬
‫ر ً‬ ‫م‬ ‫اب‪،‬‬‫و‬ ‫للص‬ ‫انب‬ ‫جم‬
‫ر‬ ‫أمر‬ ‫هو‬ ‫الثقافات‪،‬‬ ‫تعدد‬‫وم‬
‫ر‬ ‫تغري‬‫م‬‫ر‬ ‫عامل‬ ‫يف‬ ‫أحادية‬ ‫ية‬‫ر‬‫فك‬ ‫منظومة‬
‫بذلك مسامهة قيمة يف النقاش املعاصر بشأن احلداثة ومستقبل التنوير‪ .‬ويبقى من أبرز‬
‫احملاوالت اليت قدَّمها يف نقد احلداثة‪ ،‬كتاب البحث عن املعىن‪ ،10‬الذي سعى فيه إىل‬
‫أيضا‬
‫مستفيدا من إرث فلسفي وديين ينتمي إىل سياقات رخمتلفة؛ و ً‬ ‫ً‬ ‫التنظري لفلسفة تعددية‪،‬‬
‫كتاب خطورة األفكار‪ :‬تساؤالت حول كربى القضااي املعاصرة ‪ ،‬وهو حوار مع‬
‫‪11‬‬

‫إدغار موران واحد من أبرز علماء االجتماع والفالسفة املعاصرين‪.‬‬


‫ر‬
‫كما مل مينعه نقد احلداثة من مواصلة الكتابة بشأن األزمة احلقيقيَّة اليت مير هبا الفكر‬
‫اإلسالمي املعاصر‪ ،‬من خالل دعوته املسلمني يف الشرق والغرب على السواء‪ ،‬إىل ضرورة‬
‫صالح جذري قائم على التحول وليس التكيُّف فحسب‪ ،‬ملواجهة التحدايت‬ ‫القيام إب ر‬
‫االجتماعية والسياسية والفلسفية واألخالقية كافَّةً؛ وإىل إعادة النظر يف طريقة قراءهتم‬
‫‪12‬‬
‫ضمنها يف كتاب اإلصالح اجلذري‬ ‫للنصوص التأسيسية لإلسالم‪ .‬وهي الدعوة اليت ّ‬

‫‪Muslims and the Future of Islam (Oxford, New York: Oxford‬‬


‫;)‪University Press, 2004‬‬
‫طارق رمضان‪ ،‬مسلمو الغرب ومستقبل اإلسالم‪ ،‬ترمجة إبراهيم حيىي الشهايب (الدوحة‪ :‬اجمللس الوطين للثقافة‬
‫والفنون والرتاث‪.)2005 ،‬‬
‫‪Tariq Ramadan, The Quest for Meaning: Developing a‬‬ ‫‪10‬‬

‫‪Philosophy of Pluralism (London: Allen Lane, 2010).‬‬


‫‪Tariq Ramadan & Edgar Morin & Claude-Henry Du Bord, Au Péril 11‬‬
‫‪Des Idées: Les Grandes Questions De Notre Temps (Paris:‬‬
‫‪Presses du Châtelet, 2014).‬‬
‫‪Tariq Ramadan, Radical Reform: Islamic Ethics and Liberation 12‬‬
‫;)‪(Cambridge: Cambridge University Press, 2009‬‬

‫‪392‬‬
‫مبزيد من التأصيل واإلنتاج النظريني‪ ،‬واملسامهة التطبيقية يف العديد من القضااي‪ ،‬من قبيل‬
‫األخالق اإلسالمية‪ ،‬والعلوم الطبية‪ ،‬و ر‬
‫الثقافة‪ ،‬والفنون‪ ،‬واملرأة‪ ،‬والبيئة‪ ،‬واالقتصاد‪ ،‬وغريها‬
‫من القضااي‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫وحماولة رأب‬
‫إن سعي رمضان إىل بناء جسر التواصل بني ثقافتني وحضارتني رخمتلفتني ‪ ،‬ر‬
‫الصدع‪ ،‬إلهناء ‪-‬أو على األقل‪ -‬التخفيف من الصراع والعنف وخطاب الكراهية‪ ،‬ليس‬
‫ابألمر اهلني؛ إ ْذ يصبح الوسيط هدفًا للتشكيك يف والئه من كال الطرفني‪ .‬فهو عند بعض‬
‫أهال ألن يتكلم يف قضااي اإلسالم‪14‬؛ وعند بعض‬ ‫املسلمني‪ :‬ضعيف اإلميان وليس ً‬
‫‪15‬‬
‫وداع إىل اإلرهاب ‪ ،‬أو صاحب خطاب رمزدوج‬ ‫الغربيني‪ :‬صاحب فكر رمتطرف ٍ‬

‫والتحرر‪ ،‬ترمجة أمني األيويب (بريوت‪ :‬الشبكة العربية‬


‫ّ‬ ‫طارق رمضان‪ ،‬اإلصالح اجلذري‪ :‬األخالقيات اإلسالمية‬
‫لألحباث والنشر‪.)2010 ،‬‬
‫‪Nicholas Tampio, Constructing the Space of Testimony: Tariq‬‬ ‫‪13‬‬

‫‪Ramadan's Copernican Revolution, Political Theory, vol. 39,‬‬


‫‪no. 5 (October 2011), p. 608.‬‬
‫‪ 14‬بعد أن أطلق رمضان دعوة عاملية من أجل تعليق العمل (‪ )moratorium‬ابحلدود اإلسالميَّة‪ ،‬توالت‬
‫شككت أبهليته وقدرته على معاجلة قضااي ختص الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫ْ‬ ‫العديد من االنتقادات الشخصية اليت‬
‫جهت ضده من طرف علماء وفقهاء مسلمني‬ ‫وقد علَّق رمضان يف كتابه اإلصالح اجلذري على احلملة اليت رو ْ‬
‫بقوله‪" :‬عندما أطلقنا الدعوة لتعليق عقوبة اإلعدام‪ ،‬والعقاب اجلثماين‪ ،‬والرجم‪ ،‬كان املتوقع أن تكون ردود‬
‫ومتعاطفة‪ ،‬لكن خاب أملي من ندرة االنتقادات املعلَّلة اليت صدرت بعد دراسة شاملة لنص‬ ‫الفعل متحمسة ر‬
‫ر‬
‫الدعوة‪ .‬وأان أرى أن هذا االفتقار إىل النقاش التحليلي واهلادئ أحد الشرور اليت حتط من شأن الفكر اإلسالمي‬
‫املعاصر"‪ .‬يرنظر‪ :‬رمضان‪ ،‬اإلصالح اجلذري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.314-310 ،15-14‬‬
‫ر‬
‫لقراءة نص دعوة طارق رمضان والردود اليت روجهت له من طرف العلماء والفقهاء املسلمني‪ ،‬يرنظر‪:‬‬
‫"عقوابت احلدود‪ ..‬بني التعليق والتطبيق"‪ ،‬إسالم أون الين‪ 15 ،‬يونيو ‪ ،2005‬شوهد يف‪ 12 :‬أغسطس‬
‫‪https://goo.gl/42886z ،2017‬‬
‫أن طارق هو زعيم حرب‬ ‫ادعت فيه َّ‬
‫ْ‬ ‫‪ 15‬يف كتاب اخلطاب املزدوج لطارق رمضان ملؤلفته كارولني فورست‪،‬‬
‫ر‬
‫أن طارق رمضان يف حوار تلفزيوين مجعه مع‬ ‫والوريث السياسي ملشروع مجاعة اإلخوان املسلمني يف أورواب‪ .‬غري َّ‬
‫ث على قناة ‪ France 3‬يف ‪ 16‬نوفمرب‬ ‫مؤلفة الكتاب‪ ،‬يف برانمج ‪ Ce soir ou jamais‬الذي بر َّ‬

‫‪393‬‬
‫وغامض‪ .16‬ورغم ذلك‪ ،‬آمن رمضان ابلنقد واحلوار يف رمواجهة التحيزات كافَّةً؛ إذ ليس‬
‫ومتصارعني‪ .17‬بيد أنَّه سرعان‬‫مني رخمتلفني ر‬ ‫وجها لعالَ‬
‫احدا رم ً‬
‫خطااب و ً‬
‫ً‬ ‫من السهل أن يرق ِّدم‬
‫اضحا أن هذه املهمة ستركلفه الكثري‪ ،18‬فآراؤه بشأن القضااي الدينية والسياسية‬ ‫ما أصبح و ً‬
‫عددا من الدول العربية متنعه من‬ ‫ر‬
‫جعلت ً‬‫ْ‬ ‫وانتقاداته املتكررة ألنظمة احلركم املستبدة‪،‬‬
‫أيضا رمن دخول فرنسا ملدة ستة أشهر‪ ،‬بني نوفمرب ‪1995‬‬ ‫ر‬
‫الدخول إىل أراضيها؛ كما رمنع ً‬
‫وماي ‪1996‬؛ ابإلضافة إىل العديد من القيود والتضييقات يف زايراته لبعض الدول‬
‫األوروبية كبلجيكا وهولندا‪ .‬لكن يظل احلدث األبرز هو منعه من دخول الوالايت املتحدة‬
‫األمريكية عام ‪ .2004‬فبعد أن رعرض عليه يف فرباير من العام نفسه‪ ،‬منصب ركرسي‬
‫دائم مزدوج يف الدراسات اإلسالمية يف اجلامعة الكاثوليكية لنوتردام يف ساوث بند بوالية‬
‫اضرا يف معهد جون يب كروك لتدريس العالقة بني الدايانت‬ ‫أيضا العمل أستاذًا رحم ً‬ ‫إندايان‪ ،‬و ً‬
‫وتعزيز السالم؛ جاء قرار احلكومة الفيدرالية إبلغاء أتشرية العمل بعد أشهر من حصوله‬

‫وقعت فيها الكاتبة والتأويالت اخلاطئة لعدد من مواقفه‪ ،‬كما َّ‬


‫أن‬ ‫عددا من األخطاء اليت ْ‬
‫‪ - 2009‬أوضح ً‬
‫صرحت أن األقوال اليت ساقتها املؤلفة ضد رمضان كانت‬
‫ْ‬ ‫بلدية روتردام بعد ترمجة الكتاب إىل اللغة اهلولندية‪،‬‬
‫وخمالفة ملا هو موجود يف كتبه‪ ،‬يرنظر‪:‬‬
‫رجمتثة من سياقها ر‬
‫‪Touhami Aissam, Tariq Ramadan vs Caroline Fourest. Emission‬‬
‫‪ce soir ou jamais fr3, youtube website, 16/11/2011, accessed on‬‬
‫‪10/07/2017, at: https://goo.gl/D1y8Xk; On n'est pas couché, Tariq‬‬
‫"‪Ramadan - On n"est pas couché 26 septembre 2009 #ONPC,‬‬
‫‪youtube website, 08/06/2015, accessed on 10/07/2017, at:‬‬
‫‪https://goo.gl/L1KWp3; Caroline Fourest, Brother Tariq: The‬‬
‫‪Doublespeak of Tariq Ramadan (New York: Encounter Books,‬‬
‫‪2008).‬‬
‫‪Ian Hamel, Les deux visages de Tariq Ramadan, Le Point, 16‬‬
‫‪09/04/2012, accessed on 10/08/2017, at: https://goo.gl/iuRV5a‬‬
‫‪Ramadan, What I Believe, p. 20-23. 17‬‬
‫‪Ibid, p. 15. 18‬‬

‫‪394‬‬
‫حق اختاذ‬
‫عليها‪ ،‬رمعللة ذلك أبن قانون مكافحة اإلرهاب مينح حكومة الوالايت املتحدة َّ‬
‫إجراءات خاصة عند االشتباه بقيام أنشطة إرهابية‪ .‬بعد هذا الرفض‪ ،‬وقَّع عدد من هيئات‬
‫املجتمع املدين واملفكرين والقادة األمريكيني‪- 19‬من بينهم نعوم تشومسكي‪ -‬عريضة تندد‬
‫هبذه اإلجراءات اليت حتد من احلرية األكادميية؛ كما رفع رمضان دعوة قضائية ضد منعه‬ ‫ر‬
‫من دخول أمريكا واهتامه ابإلرهاب‪ ،‬ليصدر حكم يف ‪ 17‬يوليو ‪ ،2009‬من حمكمة‬
‫استئناف يف ماهناتن‪ ،‬يرلغي قرار احلكومة الفيدرالية وير ِّربئه من الترهم املوجهة إليه‪.‬‬
‫ر‬
‫اعرتضت رمضان‪ ،‬وتصديه هلا سواء ابلكتابة األكادميية‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫كل هذه التحدايت والعراقيل اليت‬
‫أو حواراته العديدة يف وسائل اإلعالم‪ ،‬والربامج التلفزيونية اليت ترناقش اإلسالم والعلمانية‬
‫سامهت بشكل أو آبخر‪ ،‬يف أن يرصبح ذا حضور وازن يف‬ ‫ْ‬ ‫وواقع املسلمني يف الغرب ‪-‬‬
‫‪20‬‬
‫أتثريا يف العامل ‪ .‬وقد‬
‫الساحة اإلعالمية كواحد من بني أكثر الشخصيات العمومية ً‬
‫ومعارض‪ ،‬بسبب خلفيته كمسلم أورويب‪ ،‬وموقفه الذي‬ ‫تباينت اآلراء بشأنه بني مؤيد ر‬
‫يتبناه يف مواجهة ردعاة اإلسالموفوبيا من األكادمييني والسياسيني الغربيني؛ وعندما سألته‬
‫جملة فورين بوليسي [‪ 21]Foreign Policy‬عن السبب الذي يدفع العديد من‬

‫‪ACLU Asks Federal Appeals Court to Lift Ban on Renowned " 19‬‬
‫‪Scholar, American Civil Liberties Union, 23/01/2008, accessed on‬‬
‫‪10/08/2017, at: https://goo.gl/vdFgNW‬‬
‫احدا من بني سبعة جمددين دينيني يف القرن احلادي والعشرين‪ ،‬ويف‬ ‫‪20‬‬
‫اختارته جملة اتمي األمريكية عام ‪ 2000‬و ً‬
‫أتثريا يف العامل‪ ،‬حيث حل يف املرتبة الثامنة‪ .‬كما اختارته جملة فورين‬
‫عام ‪ 2004‬من بني مئة شخص األكثر ً‬
‫بوليسي يف األعوام ‪ 2005‬و‪ 2006‬و‪ 2008‬و‪ 2010‬و‪ 2012‬و‪ 2015‬من بني املفكرين املئة األكثر‬
‫أتثريا يف العامل‪ ،‬يرنظر‪:‬‬
‫ً‬
‫‪The 2004 TIME 100" Time, accessed on 10/08/2017, at:‬‬
‫‪https://goo.gl/KddLR4; FP Top 100 Global Thinkers, Wikipedia,‬‬
‫‪accessed on 10/08/2017, at: https://goo.gl/nRtrRf‬‬
‫‪Brad Amburn, Who's Afraid of Tariq Ramadan? Foreign Policy, 21‬‬
‫‪26/10/2009, accessed on 10/08/2017, at: https://goo.gl/RBCmdh‬‬

‫‪395‬‬
‫جديدا من املسلمني‬
‫ً‬ ‫جيال‬
‫املثقفني يف أورواب وأمريكا إىل معاداته‪ ،‬أجاهبا أبنَّه رميثل ً‬
‫ر‬ ‫األوروبيني واألمريكيني‪ ،‬القادر على عرض وجهات نظره والدفاع عنها‪.‬‬
‫ويبدو من املهم قبل االنتهاء من هذا اجلزء‪ ،‬الذي حاولنا من خالله عرض جانب من‬
‫جتربة رمضانر يف بناء جسر التواصل بني العامل الغريب والعامل اإلسالمي ‪ -‬التذكري أبنَّه ال‬
‫يزال إىل اليوم رمنكبًا على هذه الرسالة‪ ،‬من خالل عمله احلايل كأستاذ الدراسات‬
‫اإلسالميّة املعاصرة يف جامعة أوكسفورد‪ ،‬يف قسم الدراسات الشرقية بكلية القديس أنتوين‪،‬‬
‫أيضا يف عمله أستا ًذا‬
‫وأستاذ حوار األداين يف قسم الدراسات الالهوتية ابجلامعة نفسها‪ ،‬و ً‬
‫ائرا يف كلية الدراسات اإلسالمية جبامعة محد بدولة قطر‪ ،‬وَف اجلامعة املاليزية بريليز‪،‬‬ ‫زً‬
‫فضال عن كونه رئيس املركز األورويب يف بروكسل‪،‬‬ ‫وابحثًا يف جامعة دوشيشا ابلياابن‪ً ،‬‬
‫وعضو االحتاد العاملي لعلماء املسلمني‪ .‬كما يرأس مركز دراسات التشريع اإلسالمي‬
‫واألخالق ابلدوحة‪ 22‬الذي أتسس عام ‪2012‬؛ وقد مسح له هذا الفضاء ببناء صرح‬
‫مدرسة أخالقية رحتقق اإلصالح اجلذري الذي يدعو له يف كتاابته‪ ،‬من خالل مجع‬
‫املتخصصني يف العلوم اإلسالمية واإلنسانية واالجتماعية جنبًا إىل جنب‪ ،‬من أجل‬
‫ومعاجلة قضااي ترركز على األخالقيات التطبيقية‪ ،‬مث‬ ‫ر‬
‫املرسامهة يف جتديد الفكر اإلسالمي ر‬
‫رحماولة تعميم اإلنتاج املعريف على أكرب شرحية ممكنة يف العاملني اإلسالمي والغريب‪.‬‬
‫أزمة الفكر اإلسالمي املُعاصر‬
‫ترعد رحماولة طارق رمضان نقد الفكر اإلسالمي املعاصر وتقوميه من الركائز األساسية يف‬
‫اإلصالح هو من صميم رسالة اإلسالم‪،‬‬ ‫مشروعه الفكري‪ .‬وإذ يؤكد على أن التجديد و ر‬
‫مفروضا عليها من اخلارج‪ ،23‬فإنَّه رحياول متييز مشروعه اإلصالحي‬
‫ً‬ ‫أمرا طارًائ أو‬
‫وليس ً‬
‫عن ابقي املشاريع يف العامل اإلسالمي اليت تستخدم مفاهيم االجتهاد والتجديد واإلصالح‬
‫نفسها؛ بل وتتخذ هي األخرى من القرآن والسنة رمنطل ًقا هلا‪ ،‬لكنها مع ذلك ترعاين من‬
‫خلل بنيوي‪ ،‬مينعها من حتقيق الغاية املرجوة من التنظري ملثل هذه املصطلحات‪.‬‬
‫ر‬

‫‪ 22‬يرنظر املوقع الرمسي للمركز‪https://goo.gl/v1K9o1 :‬‬


‫التحرر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.25-24‬‬
‫طارق رمضان‪ ،‬اإلصالح اجلذري‪ :‬األخالقيات اإلسالمية و ّ‬
‫‪23‬‬

‫‪396‬‬
‫كفيل ببيان َّ‬
‫أن‬ ‫ولعل حتديد الغاية من اإلصالح‪ ،‬ومدى تطابقها مع رسالة اإلسالم‪ٌ ،‬‬
‫مشروع املصلح أو املفكر أو الفقيه‪ ،‬هو مشروع إصالحي أم ال‪ .‬وإذا ما أرخذ هذا األمر‬
‫ابحلسبان‪،‬ر فسنكون أمام صراع أتويالت‪ ،‬يرسفر هناية املطاف عن صراع على السلطة‪،‬‬
‫وعلى من له األحقية يف احتكار التأويل‪ .‬يرعلن رمضان قلقه إزاء هذا املأزق الفكري‪،‬‬
‫الذي يهدد شرعية أي دعوة إصالحية؛ ولذلك رحياول ما أمكن أن رميهد لفكرته عن‬
‫اإلصالح مبقدمة على قدر كبري من البساطة واالتفاق بني سائر املسلمني‪" :‬احملافظة على‬
‫املعاين اليت توفِّرها النصوص الدينية‪ ،‬واتّباع الشريعة من خالل األوضاع املتغرية للزمان‬
‫واملكان الذي يكتنف مصري البشرية"‪ .24‬فهل جنحت مشاريع اإلصالح والتجديد منذ‬
‫بدايتها يف القرن التاسع عشر إىل زمننا الراهن‪ ،‬يف حتقيق هذه الغاية؟‬
‫نت إحاطة رمضان ابلسياق التارخيي هلذه املشاريع‪ ،25‬من حتديد آليات اشتغاهلا‬ ‫لقد َّ‬
‫مك ْ‬
‫على الرتاث الفقهي اإلسالمي‪ ،‬وتقييم رخمتلف املقارابت واحللول اليت قدَّمتها للمجتمعات‬
‫القرن اخلامس عشر‪ ،‬دخل العامل اإلسالمي‬ ‫املسلمة داخل العامل اإلسالمي وخارجه‪ .‬فمنذ ر‬
‫ر‬
‫عاجزا عن إنتاج مفاهيم جديدة سواء على املستوى الديين أو‬ ‫يف الركود والتقليد‪ ،‬وأصبح ً‬
‫االجتماعي أو السياسي؛ يرضاف إىل ذلك األزمة السياسية بداية القرن العشرين‪ ،‬بعد‬
‫تفكك اإلمرباطورية العثمانية وسقوط اخلالفة‪ ،‬وما رافقه من استعمار أورويب‪ .‬كل هذه‬
‫ت إىل إنتاج خطاب فقهي وديين دفاعي‪ ،‬يغذيه اخلوف من التغيري‪ ،‬واخلوف‬ ‫األحداث َّأد ْ‬
‫من اآلخر‪.‬‬
‫إن أي أتسيس لنظرية أخالقيَّة هو يف حقيقته تعبري عن مأزق سوسيولوجي وثقايف راهن؛‬ ‫َّ‬
‫فنظام القيم الذي رحتاول النظرية األخالقية تقوميه أو وضع بديل عنه‪ ،‬هو ابلدرجة األوىل‬
‫‪26‬‬
‫قادرا على طرح نظريته دون‬
‫معايري اجتماعية وسياسية ورؤية للعامل ‪ .‬ومل يكن رمضان ً‬

‫‪ 24‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.39‬‬


‫‪ 25‬كما أشران إىل ذلك آن ًفا‪ ،‬سبق لرمضان أن اشتغل يف أطروحته الثانية للدكتوراه على مشروعات اإلصالح يف‬
‫القرنني التاسع عشر والعشرين‪ ،‬منذ مجال الدين األفغاين إىل حسن البنا‪.‬‬
‫‪ 26‬يرنظر على سبيل املثال حديث حممد اجلابري يف القسم األول من كتابه العقل األخالقي العريب‪ ،‬عن العالقة‬
‫بني القيم واجملتمع‪ ،‬وكيف َّ‬
‫أن التنظري لنظام قيم ‪-‬نظرية أخالقية‪ -‬هو رحماولة لتقومي أو وضع بديل ملعايري اجتماعية‬

‫‪397‬‬
‫العودة إىل مواطن اخللل يف املنظومة الفقهية املعاصرة ومشاريع اإلصالح املستمدة منها‪.‬‬
‫بل أيضا نقدا للتطبيقات ر‬
‫الفقهية املعاصرة؛‬ ‫ليس من منطلق كونه نقدا نظراي فحسب‪ ،‬ر‬
‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫ر‬
‫ر‬
‫نظام قي ٍم أخالقيًا‪ ،‬هي بنية ذهنية وفكرية‪ ،‬تربطها عالقة‬ ‫بكوهنا‬ ‫الفقهية‬ ‫املنظومة‬ ‫ذلك َّ‬
‫أن‬
‫َ‬
‫العديد من‬
‫َ‬ ‫جدلية مع ابقي البىن االجتماعية؛ بشكل جيعلها ترنظم بشكل و ٍاع أو غري و ٍاع‬
‫العالقات والتصورات داخل املجتمع‪.‬‬
‫ر‬
‫ودون االستغراق يف حتديد املسؤول عن فقدان العامل اإلسالمي القدرة على تغيري الواقع‪،‬‬
‫أن آليات تفاعل املنظومة الفقهية مع األزمة‪ ،‬هو واحد من األخطار‬ ‫فإن رمضان يؤكد َّ‬ ‫َّ‬
‫حتد حقيقي‪،‬‬‫الرئيسة اليت هتدد ضمري املسلم املعاصر ‪ .‬ولذلك فقد وجد نفسه أمام ٍ‬
‫‪27‬‬

‫يتمثل يف نقد توجهات فقهية تشرتك معه املقدمات نفسها اليت ينطلق منها‪ :‬سلطة النص‪،‬‬
‫واتباع الشريعة‪ .‬وكان أمام نزعة حرفية تَـْنظرر إىل املاضي وتسعى إىل استجالبه حنو احلاضر‪،‬‬
‫وأخرى رحتاول التكيُّف مع حتدايت الواقع ومتغرياته‪ .‬وما مل يتم االعرتاف بقصور هذه‬
‫يما على الفكر اإلسالمي املعاصر‪.‬‬ ‫املشاريع اإلصالحية‪َّ ،‬‬
‫فإن واقع األزمة سيظل رخم ً‬
‫ر‬
‫وقعت فيها املقاربة احلرفية املعاصرة‪ ،‬ذات النزعة السلفية‪ ،‬يف عدم‬‫تتجلى األخطاء اليت ْ‬
‫ر‬
‫القدرة ‪-‬أو حىت الرغبة‪ -‬يف التمييز بني النص وأتويله‪ ،‬حيث جيري اختزاهلما إىل احلد‬
‫اتبعا لتأويل شارحه ومفسره‪ .‬وعندما جيري انتقاد هذه النزعة‪،‬‬ ‫األدَّن‪ ،‬ليصري معه النص ً‬
‫‪28‬‬
‫كثريا ما ترثار الشكوك بشأن النوااي‪ ،‬ويرتهم صاحبها مبرحاولة إفساد اإلسالم ‪ .‬لذلك ال‬ ‫ً‬
‫أن اإلشكالية اليت تعرتي النص ليست يف منزلته وإمنا يف طريقة قراءته‪،‬‬ ‫يفتأ رمضان يرذكر َّ‬
‫يقول يف ذلك‪" :‬الشيء الذي يتعني تقييمه والتشكيك به جيري جتاهله يف األغلب‪ ،‬وهو‬
‫أن عدم التمييز بني مستوايت‬ ‫نفسية العلماء املفسرين وجمموعة من أفكارهم"‪ .29‬كما َّ‬
‫النص والتأويل‪ ،‬يستتبعه خلط بني املبادئ اليت تتميز ابلثبات‪ ،‬وبني النماذج اليت ترعد‬

‫وسياسية‪ :‬حممد عابد اجلابري‪ ،‬العقل األخالقي العريب‪ :‬دراسة حتليلية نقدية لنظم القيم يف الثقافة العربية‪،‬‬
‫سلسلة نقد العقل العريب ‪( 4‬بريوت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ )2001 ،‬ص ‪.60-56‬‬
‫التحرر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.23‬‬
‫طارق رمضان‪ ،‬اإلصالح اجلذري‪ :‬األخالقيات اإلسالمية و ّ‬
‫‪27‬‬

‫‪ 28‬كما حصل مع رمضان عندما أطلق دعوته من أجل تعليق العمل ابحلدود اإلسالميَّة‪.‬‬
‫التحرر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫طارق رمضان‪ ،‬اإلصالح اجلذري‪ :‬األخالقيات اإلسالمية و ّ‬
‫‪29‬‬

‫‪398‬‬
‫تطبيقات اترخيية ومتغرية ونسبية للمبادئ‪30‬؛ فعندما يتحول منوذج ما إىل مبدأ رحيتذى به‪،‬‬
‫كما هو احلال ابلنسبة إىل الراغبني يف تطبيق منوذج املدينة املنورة على واقعنا املعاصر‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫ذلك يفضي ‪ -‬وفق رمضان‪ - 31‬إىل جتاهل آمث ومن دون سابق تفكري ر‬
‫لذلك التاريخ‪،‬‬ ‫ر‬
‫وإىل اختزال مشولية مبادئ اإلسالم حبرلم عودة مستحيلة إىل املاضي‪ ،‬وإىل حنني غري‬
‫مسؤول إىل األصول املاضية‪ .‬لذلك يدعو رمضان إىل ضرورة التفريق بني املبادئ الثابتة‬
‫أن قراءةً للنصوص من خالل هذا املنظور‪ ،‬سترجنب الفكر‬ ‫كدا َّ‬ ‫‪32‬‬
‫ومناذجها املتغرية ‪ ،‬مؤ ً‬
‫اإلسالمي راملعاصر السقوط يف األصوليات املتطرفة‪ ،‬وستفتح للمسلمني القدرة على النفاذ‬
‫اإلسالم احلقيقية ومقاصدها ر‬
‫وغاايهتا‪ ،‬والعيش يف انسجام داخل اجملتمعات اليت‬ ‫إىل رسالة ر‬
‫ينتمون إليها‪.‬‬
‫وابلقدر الذي ترشكل النزعة احلرفية عائ ًقا أمام التجديد والتغيري‪ ،‬فإ ّن اإلصالح التكيُّفي‬
‫يرعاين من اخللل نفسه‪ .‬ال سيما بعد اقتصار املشتغلني على الفقه بتكييف الفتوى أمام‬
‫دائما تالحق‬ ‫ر‬
‫حتررا من النزعة السلفية‪ ،‬كانت جتد نفسها ً‬ ‫عامل رمتغري‪ .‬وحىت املشاريع األكثر ً‬
‫إن إشكالية هذه‬ ‫ومتسارعة‪َّ .‬‬‫وحتاول أن تقدم إجاابهتا املتأخرة‪33‬عن أسئلة جديدة ر‬ ‫الواقع ر‬
‫املقاربة الفقهية تكمن يف أفقها احملدود ؛ إذ تعىن مبراقبة العامل‪ ،‬ومالحظة التغريات اليت‬
‫حتدث فيه‪ ،‬مث ترجع إىل النصوص القرتاح قراءات أو رخص أو إعفاءات جديدة يف تطبيق‬
‫الشريعة‪34‬؛ وبدل أن تكون هلذه النزعة رؤية أخالقية تؤطر هبا توجهات املسلمني‪َّ ،‬‬
‫فإهنا‬
‫ر‬
‫أخالقية‪ .‬وهو األمر‬ ‫جتد نفسها خاضعةً لنظام عاملي‪ ،‬يبتعد عن االلتزام أبي منظومة‬

‫‪ 30‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.30‬‬


‫‪ 31‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.32‬‬
‫‪Tariq Ramadan, Following Shari’a in the West, in: Robin Griffith- 32‬‬
‫‪Jones (ed), Islam and English Law: Rights, Responsibilities and‬‬
‫‪the Place of Shari'a (Cambridge: University Press, 2013), p. 249.‬‬
‫‪ 33‬طارق رمضان‪ ،‬مسلمو الغرب ومستقبل اإلسالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.113‬‬
‫والتحرر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪46‬؛ أنظر أيضا‬
‫ّ‬ ‫‪ 34‬طارق رمضان‪ ،‬اإلصالح اجلذري‪ :‬األخالقيات اإلسالمية‬
‫للمؤلف‪ :‬مسلمو الغرب ومستقبل اإلسالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.115-113‬‬

‫‪399‬‬
‫تتمسك ابلتكيف ومبوقفها الدفاعي‪،‬‬ ‫‪35‬‬ ‫ِ‬
‫الذي يرذ ّكر به رمضان ؛ كون نزعة إصالحية ّ‬
‫ستفقد ال حمالة إمياهنا األخالقي وقدرهتا على املطالبة ابلعدالة‪ ،‬لتصل هناية املطاف إىل‬
‫االعرتاف ابلنظام العاملي السائد‪ ،‬ومن مثَّ تبطل رشرعية اإلصالح الذي تدعي أهنا ترؤمن‬
‫به‪.‬‬
‫أن نتاج كل من النزعة احلرفية واإلصالح التكيفي يف‬ ‫اضحا عند رمضان َّ‬ ‫لقد ابت و ً‬
‫اشتغاهلما على املنظومة الفقهية وفق آليات دفاعية تتوجس من اآلخر‪ ،‬قد بلغ مداه؛ و َّ‬
‫أن‬
‫خلل هذه املشاريع اإلصالحية يف تعاطيها مع النص ومع الواقع هو خلل بِنيوي‪ ،‬تصري‬
‫معه كامل املنظومة الفقهية إىل جهاز يركرس العجز ويرنتجه‪ ،‬بشكل يرصبح غري قادر من‬
‫الناحية الفعلية على وضع حلول انجعة للقضااي املعاصرة‪ ،‬انهيك عن تقدمي رسالة اإلسالم‬
‫أيضا‬
‫يتوصل رمضان هلذا احلركم من رمنطلق الدارس أو املراقب فحسب‪ ،‬بل ً‬ ‫ومقاصده‪ .‬مل َّ‬
‫من رمنطلق موقعه كمنخرط اجتماعيًّا يف حل قضااي املجتمع املسلم على مدار العقدين‬
‫الكالسيكي‪ ،‬والتأسيس إلصالح جذري‪،‬‬ ‫ر‬ ‫املنصرمني‪ .‬لذلك يدعو إىل جتاوز اإلصالح‬
‫يستند يف مركزيته إىل القرآن وما ثبت من السنة‪ ،‬ويعتمد على آليات قراءة وأتويل جديدة‬
‫جتعل من النص والسياق املعاصر مصدرين للتشريع دون افرتاض وجود تعارض بينهما؛‬
‫وعوضا عن اهلروب من الو راقع مبواقف دفاعية‪ ،‬يرصبح لإلصالح التحويل الذي يدعو إليه‬‫ً‬
‫القدرة على تغيري الواقع والتأثري فيه من خالل معرفة أفضل ابلعامل‪ ،36‬وإنتاج رؤية ومفهوم‬
‫جديدين من شأنه أن ميد املسلمني ابلفاعلية اخلالقة من أجل تغيري العامل إىل األفضل‪.‬‬
‫وهبذا الشكل يتجاوز رمضانر القراءة احلرفية حنو قراءة منفتحة‪ ،‬ويتجاوز معضلة اإلصالح‬
‫التكيفي ابقرتاح إصالح حتويل‪ ،‬يقول رمضان يف النص التايل‪:‬‬
‫يدا من الرباعة من حيث إنه يضيف خطوة إضافية وشرطًا‬ ‫"يتطلب اإلصالح التحويل مز ً‬
‫إىل العملية أبكملها‪ .‬إنه يهدف إىل تغيري نظام األشياء ابسم األخالقيات اليت يرمي إىل‬
‫التمسك هبا‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ ،‬إنه يضيف خطوة أخرى يف االنتقال من النصوص إىل‬

‫التحرر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.48‬‬


‫طارق رمضان‪ ،‬اإلصالح اجلذري‪ :‬األخالقيات اإلسالمية و ّ‬
‫‪35‬‬

‫‪ 36‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.47‬‬

‫‪400‬‬
‫السياق مث إىل العمل بناء على هذا السياق وحتسينه‪ ،‬من غري أن يقبل على اإلطالق‬
‫بنواحي القصور فيه ومبظامله بوصفها مسائل حمتمة"‪.37‬‬
‫مشروعا كالذي حيمله مفهوم اإلصالح اجلذري‪ ،‬لن يتطلب فقط منهجية‬ ‫ً‬ ‫يبدو أن‬
‫جديدة يف قراءة النصوص أتخذ ابحلسبان السياق املعاصر‪ ،‬وهو أمر أساسي حسب‬
‫إحلاحا من رأي وقت مضى إىل نقد األصول‬
‫أيضا حتتاج وبشكل أكثر ً‬ ‫رمضان؛ ولكن ً‬
‫قامت عليها املنظومة الفقهية‪.‬‬
‫اليت ْ‬
‫يف احلاجة إىل إصالح جذري‪ :‬من الشريعة إىل األخالقيات اإلسالمية‬
‫يقوم مفهوم اإلصالح اجلذري عند رمضان على رمرتكزين اثنني؛ يستند األول على تقدمي‬
‫قراءة جديدة للنصوص‪ ،‬ولن يتم ذلك دون املرتكز الثاين املتمثل يف نقد أصول الفقه‪.‬‬
‫اإلسالمي‪ ،‬فإن رمضان على‬ ‫وبعيدا عن تلك املقارابت اليت تدعو للقطيعة مع الرتاث ر‬
‫ً‬
‫لح إىل إعادة‬ ‫خالف ذلك‪ ،‬يذهب إىل َّ‬
‫أن أزمة الفكر اإلسالمي املعاصر حتتاج وبشكل رم ٍ‬
‫ر‬
‫قراءة املاضي‪ .‬لذلك يرناقش يف كتابه اإلصالح اجلذري ً‬
‫عددا من املقارابت الكالسيكية‬
‫أن التصاحل مع املاضي هو الطريقة املثلى للتوصل إىل سبل جديدة‬‫عتربا َّ‬
‫ألصول الفقه‪ ،‬رم ً‬
‫أن ما يدعو إليه من إصالح‬‫تقود حنو املستقبل ‪ ،‬وأييت ذلك كنوع من التأكيد على َّ‬
‫‪38‬‬

‫ليس وليد راللحظة‪ ،‬بل هو عملية تراكمية على مدار قرون من الزمن‪.‬‬
‫رحياول رمضان أن يستخلص مجلة من الفوائد بدراسته للرتاث الفقهي‪ ،‬من خالل الرتكيز‬
‫على ثالث جتارب رمهمة يف اتريخ الفقه اإلسالمي‪ .‬تعود األوىل إىل الشافعي (ت‪:‬‬
‫‪ ،)820‬إذ يرى رمضان َّ‬
‫أن مقاربته تقوم على االستدالل‪ ،‬رمركزة يف املقام األول على‬
‫القرآن والسنة بوصفهما املصدرين النصيني األساسيني‪ ،‬دون االهتمام ابملخرجات اخلاصة‬
‫ألصول الفقه‪ ،39‬وهو ما يرفسر القيود اليت وضعها عند مناقشة مصادر التشريع األخرى‬
‫إن سعي الشافعي الستخراج القوانني واألحكام من القرآن‬ ‫من قبيل اإلمجاع والقياس‪َّ .‬‬
‫والسنة‪ ،‬يرربز حذره من التعليل التحليلي املستقل‪ ،‬يف مقابل قراءته االستداللية للنصوص‪.‬‬

‫‪ 37‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.46‬‬


‫‪ 38‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.40‬‬
‫‪ 39‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.62‬‬
‫‪401‬‬
‫لذلك ال رميكن حسب هذه املقاربة‪ ،‬إبداء حكم على سياق جديد دون الرجوع إىل النص‬
‫املؤسس‪ ،‬وحتديد العلّة املؤثرة يف احلكم؛ الشيء الذي جيعل من السياق االجتماعي‬
‫اتبعا للنص من خالل عملية االجتهاد اليت اختزهلا الشافعي يف‬ ‫واإلنساين والتارخيي ً‬
‫القياس‪ .‬ما يستخلصه رمضان من عرض مقاربة الشافعي‪ ،‬أهنا ترضيق على الفكر البشري‬
‫إىل حد كبري‪ ،40‬بسبب القيود الصارمة اليت فرضها رمقابل االنفتاح على العامل واجملتمع‬
‫والعادات واألعراف بوصفها جماالت طبيعية جيب أخذها ابحلسبان يف عملية صناعة‬
‫الفتوى‪.‬‬
‫أما التجربة الثانية‪ ،‬فتعود إىل مقاربة أيب حنيفة (ت‪ ،)767 :‬وهو من الفقهاء األوائل‬
‫مصدرا تشريعيًا رملح ًقا ابلنصوص اإلسالمية‪ .‬لقد‬
‫ً‬ ‫الذين جعلوا من السياق االجتماعي‬
‫العرف كمصادر الستنباط‬ ‫ائدا يف األخذ ابلقياس واالستحسان و ر‬ ‫كان أبو حنيفة ر ً‬
‫عتمدا يف ذلك على منهجيَّته اخلاصة يف إجياد حلول ملموسة على ضوء‬ ‫األحكام‪ ،‬رم ً‬
‫النصوص‪ ،‬مع مراعاة مقتضيات املكان والعادات والصاحل العام‪ .‬فكان االستقراء من مثَّ‬
‫سعت إىل التعامل مع النصوص املرجعية يف سياقات جديدة‪.41‬‬ ‫ميزَة املدرسة احلنفية‪ ،‬اليت ْ‬
‫لذلك جيد رمضان طريقة أيب حنيفة وثيقة الصلة مبرحاولة اإلصالح اجلذري‪ ،‬يف رجزئية‬
‫العالقة اجلدلية بني النص والسياق‪ ،‬وكيف أن فقهاء احلنفية سعوا إىل أخذ البيئة واحلقائق‬
‫اإلنسانية واالجتماعية ابحلسبان عند إصدار الفتوى‪.‬‬
‫أما التجربة الثالثة‪ ،‬فيرربزها رمضان يف ذلك الوعي املرتاكم مبقاصد الشريعة وأهدافها‪ ،‬بدءًا‬
‫البحث عن القصد من األوامر والنواهي‪،‬‬‫ابإلمام مالك (ت‪ )795 :‬الذي سعى إىل ر‬
‫ورا ابجلويين (ت‪:‬‬‫للمجتمع‪ ،‬مر ً‬
‫وإعماله االجتهاد فيما ال نص فيه من أجل الصاحل العام ر‬
‫‪ )1085‬والغزايل (ت‪ )1111 :‬وغريمها‪ ،‬وانتهاء ابلشاطيب (ت‪ )1388 :‬الذي أحيا‬
‫فكرة مقاصد الشريعة الشاملة‪ .‬وإذ ترعد نصوص القرآن والسنة املرجع الوحيد يف جمال‬
‫العقيدة والعبادة‪ ،‬فإنَّه يف جمال املعامالت أحلق السياقات اإلنسانية واالجتماعية إىل النص‬
‫من أجل توجيه األحكام الفقهية والسلوكيات األخالقية‪.42‬‬ ‫كمصدر من مصادر التشريع‪ ،‬ر‬

‫‪ 40‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.95‬‬


‫‪ 41‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.96‬‬
‫‪ 42‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.115‬‬
‫‪402‬‬
‫بناء على العمل الذي قدَّمه الشاطيب‪ ،‬وعلى اإلرث املرتاكم قبله‪ ،‬أصبح هلذا التوجه‬
‫بدال من االمتثال‬ ‫ر‬
‫حترر االجتهاد وترعلي من روح األخالق اإلسالمية ً‬ ‫منهجية خاصة‪ّ ،‬‬
‫لألوامر والنواهي احلرفية؛ إذ تسمح للفقهاء إبعمال املقاربة املقاصدية عند غياب النص‬
‫من أجل التأكد من صالحية األحكام اجلديدة واستمرار رعايتها ملصلحة املجتمع وكلياته‬
‫جتدر اإلشارة إىل‬‫اخلمس‪ ،‬اليت ح ِددت يف حفظ الدين والنفس والعقل والنسل واملال‪ .‬ر‬
‫رّ ْ‬
‫يدا يف اآلليات األصولية ‪ -‬أصول الفقه ‪-‬؛ ذلك‬ ‫أن عمل الشاطيب مل يكن اختالقًا جد ً‬ ‫َّ‬
‫أساسا يف جتديد طرق قراءة املصادر النصية‪ ،‬وإضفاء بـر ْعد زماين‬ ‫أن ركيزة عمله تتمثَّل ً‬
‫ومكاين يتوافق مع املقدمة اليت ينطلق منها‪ :‬عاملية رسالة اإلسالم‪ .‬وهو األمر الذي يراه‬
‫رمضان عودة إىل املنهجية اليت استخدمها الصحابة والفقهاء األوائل يف قراءهتم للنصوص‪،‬‬
‫مفتوحا ابلنسبة إليهم للتفسري واالجتهاد دون وجود خوف من اآلخر‬ ‫حيث كان امليدان ً‬
‫أو توجس من الواقع‪ ،‬كما هو احلال عليه اآلن يف جمتمعاتنا املعاصرة‪ .‬يقول رمضان يف‬
‫هذا الصدد‪" :‬يتبني أنه كلما عدان ابلزمن إىل الوراء‪ ،‬زاد اقرتابنا رمن النيب وصحابته‪ ،‬وزاد‬
‫شعوران أبن العلماء‪ ،‬األقل قل ًقا من التجاوزات املحتملة لنظرائهم‪ ،‬وثقوا بقدرهتم على فهم‬
‫أن منهجية‬ ‫معاين النصوص وطرق تطبيقها يف بيئتهم"‪ .43‬رمع ذلك‪ ،‬يذهب رمضان إىل َّ‬
‫مدرسة املقاصد ال تكفي حلل أزمة الفكر اإلسالمي املعاصر؛ فمنذ الشاطيب إىل اآلن‬
‫للنصوص وإعادة النظر يف السياق‪.‬‬ ‫تغري العامل بشكل ملحوظ‪ ،‬مما يستدعي إعادة قراءة ر‬
‫ذلك أن املنهجية املقاصدية مع اعتدادها ابلسياق كمصدر من مصادر التشريع‪ ،‬إال َّأهنا‬
‫دائما للمصادر النصية من القرآن والسنة‪.‬‬
‫ترعطي األولويَّة ً‬
‫ومن خالل مناقشة رمضان للتقاليد الكالسيكية ألصول الفقه‪ ،‬والتدرج الذي اعتمده يف‬
‫عرض أفكاره‪ ،‬بداية من الشافعي مث أيب حنيفة فالشاطيب‪ ،‬رميكن أن تتضح الرؤية اليت‬
‫يدافع عنها يف مشروعه عن اإلصالح اجلذري‪ .‬لقد كان الشافعي مبرقاربته االستداللية أقل‬
‫اعتمادا على السياق؛ يف حني كانت املنهجية االستقرائية أليب حنيفة وتالمذته‬
‫ً‬ ‫الفقهاء‬
‫أكثر مرونة يف تعاطيهم مع جدلية النص والسياق؛ أما الشاطيب فقد حاول من خالل‬
‫مقاربته الوصول إىل مقاصد الشريعة وأهدافها‪ ،‬بعد أن أصبح للسياق دور رمهم يف عملية‬
‫اثنواي من مصادر التشريع‪ .‬وإن كان كل واحد منهم‬ ‫مصدرا ً‬
‫ً‬ ‫استنباط األحكام‪ ،‬بوصفه‬

‫‪ 43‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.97‬‬


‫‪403‬‬
‫فإن رمضان يرشكك يف مدى قدرهتم ‪-‬‬ ‫وجمتمعه‪َّ ،‬‬ ‫قد ساهم يف حل إشكاليات عصره ر‬
‫وسائر التقاليد الكالسيكية ألصول الفقه ‪ -‬يف التعاطي مع واقعنا املعاصر‪ .‬واحلرجة اليت‬
‫أن هذه التقاليد‪ ،‬يف الوقت الذي كانت شديدة راإلخالص للمصادر‬ ‫يرقدمها يف ذلك‪ ،‬هي َّ‬
‫ستقال للفقه‬
‫مصدرا رم ً‬
‫ً‬ ‫النصية املؤسسة‪ ،‬مل تنظر إىل السياق االجتماعي واإلنساين بوصفه‬
‫وخمرجاته‪ .‬ومل يكن موقف الفقهاء األوائل من السياق مرده إىل ضعف معرفتهم به‪ ،‬بل‬ ‫ر‬
‫متاما‪ ،‬فقد كان اتصاهلم وثي ًقا ببيئاهتم اليت سنّوا القوانني فيها ومن أجلها‪،‬‬
‫على العكس ً‬
‫أن رمضان يرى أن هذه املنهجية لن تكون صاحلة يف عاملنا املعاصر الذي أصبح أشد‬ ‫بيد َّ‬
‫ر‬
‫تعقيدا ‪ ،‬وسيكون من املستحيل على الفقهاء أن يفهموا هذا التعقيد ابملنهجية القدمية‬ ‫‪44‬‬
‫ً‬
‫ر‬
‫نفسها اليت أنتجها الفقهاء األوائل‪ ،‬بل َّ‬
‫إن التمسك هبا أنتج هناية املطاف موق ًفا فقهيًا‬
‫دفاعيًا وانفعاليًا‪ .‬لذلك فإ َّن اإلصالح اجلذري يدفع علماء املسلمني أكثر من أي وقت‬
‫مضى إىل ضرورة إتقان العلوم الطبيعية واالجتماعية واإلنسانية‪ ،‬والتعاون مع املتخصصني‬
‫سواء كانوا رمسلمني أو غري رمسلمني‪ ،‬لتكوين معرفة أفضل ابلعامل وبتعقيداته‪ ،‬روابلرهاانت‬
‫اخلطرية يف احلاضر واملستقبل؛ الشيء الذي سيرمكنهم من إنتاج أخالق إسالمية تطبيقية‬
‫لن يتم هذا املسعى دون االعرتاف َّ‬
‫أبن العامل وقوانينه ونواحي املعرفة‬ ‫معاصرة وتقدميها‪ .‬و ر‬
‫ر‬
‫قائما‬
‫ً ً ً‬‫ا‬‫فقهي‬ ‫ا‬
‫مصدر‬ ‫تشكل‬ ‫بل‬ ‫وحسب‪،‬‬ ‫النصية‬ ‫املصادر‬ ‫على‬ ‫الضوء‬ ‫سلط‬ ‫ر‬‫ت‬ ‫ال‬ ‫تخصصة‬ ‫امل‬
‫ر‬
‫بذاته‪.45‬‬
‫لكن ما الغرض من رجوع رمضان إىل الرتاث اإلسالمي والتقاليد الكالسيكية ألصول‬
‫الفقه إذا كان يدعو إىل جتاوز القراءة القدمية؟ وأين رميكن أن رمنوضع هذه التقاليد داخل‬
‫إطاره النظري؟ يف دراسة ِألندرو مارس بشأن مفهوم اإلصالح اجلذري‪ ،46‬يرى أن رمضان‬

‫‪ 44‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.102‬‬


‫‪ 45‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.102‬‬
‫‪Andrew F. March, Law as a Vanishing Mediator in the 46‬‬
‫‪Theological Ethics of Tariq Ramadan, European Journal of‬‬
‫‪Political Theory, vol. 10, no. 2 (April 2011), p. 177‬‬

‫‪404‬‬
‫‪47‬‬
‫وعا من "الوسيط املتالشي"‬
‫يستعمل الشريعة‪ ،‬حبيث تكون وظيفتها يف هناية املطاف ن ً‬
‫ر‬
‫[‪ ،]Vanishing mediator‬يسمح ابالنتقال إىل األخالقيات اإلسالمية ما بعد‬
‫الفقهية؛ مما يعين أن رمضان يستخدم بعض مضامني التقاليد الكالسيكية ألصول الفقه‬
‫برغية االنتقال من صرامة األوامر والنواهي‪ ،‬إىل موقف أخالقي أكثر مرونة بشكل يرلغي‬
‫معه الشريعة‪ ،‬ويستند يف ذلك إىل مقارنة مشروع رمضان بتجارب إصالحية يهودية‪.48‬‬
‫وعلى الرغم من أن التحليل الذي قدمه مارس يتوافق مع املخرجات النهائية ملفهوم‬
‫فإن االدعاء الذي قدَّمه بشأن توظيف ر‬
‫رمضان للشريعة أو رمقارنته‬ ‫اإلصالح اجلذري‪َّ ،‬‬
‫‪49‬‬
‫صحيحا‪ .‬إذ جيب التفريق بني الشريعة اليت هي وفق‬
‫ً‬ ‫إبصالحات دينية أخرى ال يبدو‬
‫رمضان منظومة قي ٍم ومبادئ تقوم على العدالة واملساواة واحلرية‪ ،‬وال تتعارض أو تصطدم‬
‫مع القوانني املدنية العلمانية‪50‬؛ وبني الشريعة كمنظومة فقهية هي نتاج عالقة جدلية‬

‫‪" 47‬الوسيط املتالشي" هو مفهوم روجد للتوسط بني فكرتني متعارضتني‪ ،‬من أجل تسهيل االنتقال بينهما‪ ،‬وعند‬
‫االنتقال إىل الفكرة اجلديدة يتم االستغناء عن الوسيط املتالشي‪.‬‬
‫ر‬
‫‪Andrew F. March, The Post-Legal Ethics of Tariq Ramadan: 48‬‬
‫‪Persuasion and Performance in Radical Reform: Islamic‬‬
‫‪Ethics and Liberation (A Review Essay), Middle East Law and‬‬
‫‪Governance, vol. 2 (2010), p. 253.‬‬
‫‪ 49‬يرنظر على سبيل املثال كتاب الهوت طارق رمضان ملؤلفه غريغوري بوم‪ ،‬حيث قام بدراسة للعديد من أوجه‬
‫ومواجهتها للحداثة‪ ،‬مع عقده املقارنة بني اإلصالح‬
‫الشبه بني التجارب اإلسالمية والكاثوليكية يف احتكاكها ر‬
‫اجلذري لرمضان وإصالح اجملمع الفاتيكاين الثاين‪ ،‬يرنظر‪:‬‬
‫‪Gregory Baum, The Theology of Tariq Ramadan: A Catholic‬‬
‫)‪Perspective (Notre Dame: University of Notre Dame Press, 2009‬‬
‫‪ 50‬يذهب رمضان إىل َّ‬
‫أن الشريعة هي نفسها القانون املدين العلماين‪ ،‬الذي يرعطي للجميع حق املواطنة‪ ،‬وحرية‬
‫التعبري واالعتقاد‪ ،‬وجيعلهم سواسية أمام القانون بغض النظر عن خلفياهتم الدينية أو السياسية؛ لذلك يرى‬
‫رمضان أنَّه ال يوجد تعارض بني القانون العلماين الذي يرنظم العالقات داخل اجملتمعات الغربية دون حتيزات‬
‫دينية‪ ،‬وبني مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬يرنظر‪Ramadan, Following Shari’a, p. :‬‬
‫‪247.‬‬

‫‪405‬‬
‫فإن رمضان يروظف الشريعة من أجل‬ ‫اترخيية بني النص والسياق‪ ،‬ويف هذا املستوى الثاين َّ‬
‫وضع مشروعه وفق مسار تطوري‪ ،‬يبدأ ابلفقه االستداليل مث االستقرائي فاملقاصدي‪،‬‬
‫أن مثل هذه املقارانت بني اإلصالح اإلسالمي‬ ‫ليبلغ مداه يف اإلصالح اجلذري‪ .‬كما َّ‬
‫‪51‬‬
‫واليهودي واملسيحي‪ ،‬تربطل األساس النظري الذي يقوم عليه مشروع اإلصالح اجلذري ‪،‬‬
‫نتيجة اختزاله يف البرـ ْعد الديين فحسب‪ ،‬وإغفال البرـ ْعد الفلسفي الذي يقوم عليه؛ فرغم‬
‫أيضا‬
‫كون رمضان يروم وضع مقاربة جديدة لقضااي دينية تنتمي إىل اإلسالم‪ ،‬فإنه يدعو ً‬
‫إىل إحياء فلسفة إسالمية‪ ،‬ونشر ملكة النقد واإلبداع الفكري واالستقاللية الذاتية بني‬
‫عموم املسلمني‪ ،‬وتقدير التعددية الدينية والسياسية‪ .‬وهو ما رحييلنا إىل شق رمهم من‬
‫ِ‬
‫كم ٍل لإلصالح اجلذري‪ ،‬يتعلق األمر مبفهوم "عامل الشهادة"‪.‬‬ ‫ر‬
‫املشروع الفكري لرمضان رم ّ‬
‫بناء فضاء الشهادة‬
‫لقد كان ألحداث القرن العشرين‪ ،‬من سقوط الدولة العثمانية وإلغاء اخلالفة‪ ،‬إىل ظهور‬
‫انعكاسات حادة على الفكر السياسي اإلسالمي‪ ،‬ال‬‫ٌ‬ ‫الدولة الوطنية يف العامل العريب‪،‬‬
‫سيما بعد استحضار الشريعة بشكل رمفرط وحريف‪ ،‬أدى إىل إحداث فجوة بني املاضي‬
‫واملستقبل‪ .‬يظهر هذا التوجه بشكل ابرز يف سعي حركات اإلسالم السياسي إىل اسرتجاع‬
‫دورلة اخلالفة اليت حتكمها الشريعة؛ ملواجهة أنظمة علمانية‪ ،‬يرون َّأهنا غريبة عن قيم‬
‫احلضارة اإلسالمية‪ .‬وقد كان لكتاابت سيد قطب وخطابه بشأن احلاكمية اإلهلية وثنائية‬
‫دار اإلسالم‪ -‬دار احلرب‪ ،‬صدى كبريٌ عند هذه احلركات‪ ،‬بعد أن صار مرجعية فكرية‬
‫يف رؤيتها لقضااي اإلسالم السياسي وحتدايته املعاصرة‪ .52‬ومنذ ذلك احلني‪ ،‬أصبح عدد‬
‫الديين أو العلماين‪ -‬يعيش على وقع هذه‬ ‫من مشاريع اإلصالح ‪-‬سواء ذات التوجه ر‬
‫الثنائيات احلدية إسالم‪-‬علمانية‪ ،‬املكرسة للصراع والعنف‪.‬‬
‫ر‬
‫واألمر سيان عند االنتقال إىل الضفة األخرى‪ ،‬حيث يتم تكريس ثنائية غرب‪-‬إسالم‬
‫امتدادا هلذه‬
‫ليست نظرية صدام احلضارات إال ً‬ ‫وكأهنما كياانت حضارية وجغرافية اثبتة‪ .‬و ْ‬

‫‪Tampio, p. 614. 51‬‬


‫‪ 52‬رضوان السيد‪ ،‬الصراع على اإلسالم‪ :‬األصولية واإلصالح والسياسات الدولية (بريوت‪ :‬دار الكتاب العريب‪،‬‬
‫‪ ،)2004‬ص ‪.18-16‬‬

‫‪406‬‬
‫أن الصراع األيديولوجي بعد احلرب‬ ‫الثنائية‪ ،‬اليت يرنظر صاحبها صموئيل هنتنغتون إىل َّ‬
‫‪53‬‬
‫الباردة لن ينتهي بسيادة الدميقراطية الليربالية كنظام عاملي ‪ ،‬بل ستدخل احلضارة الغربية‬
‫يف صدام هواييت وثقايف ضد ابقي احلضارات مبا فيها احلضارة اإلسالمية‪ .‬ويظل تصميم‬
‫العديد من السياسيني والقادة الغربيني على هذا التصنيف الثنائي‪ ،‬ملواجهة التحدايت‬
‫اخلارجية مع البلدان ذات األغلبية املسلمة‪ ،‬والتحدايت الداخلية مع راجملتمعات املسلمة‪،‬‬
‫يظل سببا يف تنامي تيار اليمني املتطرف واجلماعات الدينية‪ ،‬املؤمنة بثنائية ر‬
‫اخلري‪ /‬الشر‬ ‫ً‬
‫كحل خالصي أخري‪ ،‬فمن ليس ريف صفهم فهو من دون شك يف صف أعدائهم‪ .‬وما‬ ‫ٍّ‬
‫فكرة احلاكمية اإلهلية‪ ،‬كما تدعو إليها تيارات اإلسالم السياسي‪ ،‬إال رد فعل رمتطرف‬
‫على الفعل السياسي الغريب‪ ،‬الذي أثبت عجزه عن تدبري التعددية الثقافية والسياسية‬
‫والدينية‪.‬‬
‫إحلاحا إلنتاج رؤية عاملية جديدة‪،54‬‬ ‫َّ‬
‫إن هذه اآلراء املكرسة للعنف جتعل احلاجة أكثر ً‬

‫‪ 53‬سيادة الدميقراطية الليربالية كنظام عاملي‪ ،‬هي نظرية فرانسيس فوكوايما بشأن أنظمة احلركم اليت عرضها يف كتابه‬
‫هناية التاريخ واإلنسان األخري‪ ،‬وجاء كتاب صموئيل هنتنغتون كرد على هذه األطروحة‪ ،‬يرنظر‪ :‬فرانسيس‬
‫فوكوايما‪ ،‬هناية التاريخ واإلنسان األخري‪ ،‬ترمجة فؤاد شاهني وآخرين (بريوت‪ :‬مركز اإلمناء القومي‪)1993 ،‬؛‬
‫صموئيل هنتنغتون‪ ،‬صدام احلضارات‪ :‬إعادة صنع النظام العاملي‪ ،‬ترمجة طلعت الشايب (طرابلس‪ :‬الدار‬
‫اجلماهريية للنشر والتوزيع‪.)1999 ،‬‬
‫‪ 54‬ظهرت العديد من الدراسات اليت ترشكك يف الرؤية الثنائية للعامل املستندة على احلدود اجلغرافية والسياسية‬
‫ر‬
‫هما زحزحة هذه القناعات الثنائية (‪ ،)Manichaeism‬والتذكري َّ‬
‫أبن العامل الغريب ليس‬ ‫املرتخيلة؛ إذ يبدو رم ً‬
‫حضارة ذات جذور متجانسة وحدود اترخيية ومعاصرة واضحة املعامل‪ .‬فمن املستحيل حتديد املكان الذي يبدأ‬
‫فيه وينتهي على وجه التحديد‪ ،‬وتبقى احلضارة الغربية ‪-‬شأهنا يف ذلك شأن احلضارة اإلسالمية وابقي‬
‫احلضارات‪ -‬مزجيًا من تقاليد متعددة‪ ،‬أتثرت بشكل دائم حبضارات وثقافات أخرى‪ ،‬يرنظر‪:‬‬
‫‪Roxanne L. Euben, Comparative Political Theory: An Islamic‬‬
‫‪Fundamentalist Critique of Rationalism," The Journal of Politics,‬‬
‫‪vol. 59, no. 1 (Feb. 1997), p. 28-55; Roxanne L. Euben, Journeys‬‬
‫‪to the Other Shore: Muslim and Western Travelers in Search‬‬

‫‪407‬‬
‫وتطوير أدوات مفاهيمية‪ ،‬ال متكننا من التعرف إىل اهلوايت اجلديدة واألماكن البَـْينِيَّة‬
‫أيضا التنظري هلا‪ .55‬وضمن هذا اإلطار رميكن‬ ‫والثقافات العابرة للحدود فحسب؛ ولكن ً‬
‫احدا من بني املحاوالت الرامية‬ ‫موضعة مفهوم "فضاء الشهادة" لطارق رمضان‪ ،‬بكونه و ً‬
‫ر‬
‫إىل إنتاج مفاهيم جديدة يف الفكر السياسي‪ ،‬تقطع مع التصورات املنتجة للعنف‪ ،‬وتسمح‬
‫بينها بشكل سلمي؛ يف‬ ‫للمجتمعات املختلفة دينيا وثقافيا أن تتعايش وتتفاعل فيما ر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫الوقت نفسه ر‬
‫الذي متنح املسلمني ملكة نقدية‪ ،‬تسمح هلم ابملمارسة السليمة حلرية اإلميان‬
‫والطقوس الدينية واملشاركة السياسية والدعوة إىل اإلسالم‪.56‬‬
‫ومن أجل التأسيس ملفهوم "فضاء الشهادة" ينطلق رمضان ‪ -‬كما هو احلال يف اإلصالح‬
‫خصوصا تلك املتعلِّقة بثنائية دار اإلسالم‪ /‬دار‬
‫ً‬ ‫اجلذري ‪ -‬من نقد التصورات القدمية‪،‬‬
‫ر‬
‫احلرب‪ ،‬اليت ال تزال تؤطر رؤى العديد من املسلمني‪ .‬فقد عرض يف كتابَـْيه أن تكون‬
‫أورواب‪ 57‬ومسلمو الغرب ومستقبل اإلسالم‪ ،58‬رخمتلف اآلراء الفقهية اليت‬
‫مسلما يف ً‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫أنتجت هذه الثرنائية؛ ليخلص إىل كوهنا غري رمستمدة من النصوص املصدرية يف الكتاب‬
‫ْ‬
‫والسنة؛ إذ هي حماوالت من لدن علماء وفقهاء خالل القرون الثالثة األوىل من ظهور‬
‫اإلسالم وانتشاره‪ ،‬بذلوا جهدهم الستنتاج مبادئ واضحة تتمايز من خالهلا املناطق‬

‫‪of Knowledge (Princeton, N.J: Princeton University Press, 2006), p.‬‬


‫‪3-4.‬‬
‫‪Euben, Journeys, p. 176-177. 55‬‬
‫‪ 56‬ومن املفارقات ‪-‬حسب غوران الرسون‪ -‬أن هذا الوصف ينطبق على اجملتمعات الغربية ذات األغلبية غري‬
‫املسلمة أكثر منه يف الدول اليت تعترب اإلسالم دينها الرمسي‪ ،‬يرنظر‪:‬‬
‫‪Göran Larsson, Yusuf al-Qaradawi and Tariq Ramadan on‬‬
‫‪Secularisation, in: Gabriele Marranci, Muslim Societies and the‬‬
‫‪Challenge of Secularization: An Interdisciplinary Approach‬‬
‫‪(Berlin: Springer, 2010), p. 55.‬‬
‫‪Ramadan, European Muslim, p.123-131. 57‬‬
‫‪ 58‬طارق رمضان‪ ،‬مسلمو الغرب ومستقبل اإلسالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.141-134‬‬

‫‪408‬‬
‫استنادا إىل الواقع اجلغرايف والسياسي الذي عاشوا فيه؛ وهو اجلرهد‬
‫ً‬ ‫اإلسالمية عن غريها‪،‬‬
‫الذي أسفر هناية املطاف عن رؤية للعامل تقوم على ثنائية دار اإلسالم‪ /‬دار احلرب‪.‬‬
‫يرؤكد رمضان على َّ‬
‫أن الرؤية الثنائية للعامل مل تعد مناسبة لواقعنا املعاصر‪ ،59‬الذي يتميز‬
‫ر‬
‫بتعقيدات متزايدة يف توزيع القوة االقتصادية والسياسية‪ ،‬وتنوع التحالفات االسرتاتيجية‬
‫ومناطق النفوذ‪ ،‬وحبركة سكانية دائمة؛ ففي العامل الغريب وحده‪ ،‬يعيش ماليني من‬
‫املسلمني‪ ،‬سواء من أصول إفريقية وآسيوية أو من األوروبيني الذين اعتنقوا اإلسالم‪ ،‬وال‬
‫استنادا إىل ثنائية دينية أو جغرافية أو‬
‫ً‬ ‫رميركن أبي حال أن يتم فصلهم عن غري املسلمني‬
‫سياسية‪ .60‬لذلك يرى رمضان أنَّه يف الوقت الذي مل تعد التصنيفات القدمية قادرة على‬
‫فهم الواقع بتحدايته وإشكاالته‪ ،‬وعندما يصعب العثور على إرشادات أو حلول يف‬
‫األعمال الفقهية القدمية؛ فإنَّه يبدو من الضروري جتاوزها وعدم تنزيلها على عامل اليوم‪.‬‬
‫ومن أجل البحث عن بديل‪ ،‬وعن مفاهيم جديدة؛ يدعو رمضان إىل إعادة قراءة النصوص‬
‫املصدرية‪ ،‬وااللتزام مببادئ اإلسالم الذي يرقدم رسالته للعامل دون قيد زمين أو جغرايف‪.61‬‬
‫أن دعوة رمضان رمستندة على السياق ‪-‬الواقع‪َّ ،-‬‬
‫فإن آليات تفعليها‬ ‫وعلى الرغم من َّ‬
‫مصدرا‬
‫ً‬ ‫ومنفتحة على أكثر من أتويل‪ .‬ولكي يصل إىل جعل هذا السياق‬ ‫تبدو رمعقدة‪ ،‬ر‬
‫ئيسا من مصادر التشريع‪ ،‬ينطلق رمضان من فكرة أساسية؛ فإ ْن كان اإلسالم حيمل‬ ‫ر ً‬
‫رسالة عاملية‪َّ ،‬‬
‫فإن املسلم رملزم مهما كان السياق الذي يعيش فيه إبجياد املصادر الالزمة‬
‫إن الفقهاء األوائل قد صاغوا‬‫نسجما مع عقيدته وإميانه؛ وإذ َّ‬
‫اليت تؤهله ألن يكون رم ً‬
‫فإن مسلمي اليوم رمطالبون أكثر من أي‬‫رؤيتهم الثنائية للعامل اليت جتعل وجودهم ذا معىن؛ َّ‬
‫تشكلت يف عصر وسياق‬ ‫ْ‬ ‫وقت مضى‪ ،‬بتجنب فهم واقعهم من خالل مفاهيم قدمية‬
‫رخمتلفني‪ ،‬وأ ْن يسعوا بشكل جدي من أجل إنتاج مفاهيمهم اخلاصة‪ .‬ومبثل هذا الفهم‬

‫‪ 59‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.157 ،140‬‬


‫‪ 60‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.157‬‬
‫‪Ramadan, European Muslim, p. 123. 61‬‬

‫‪409‬‬
‫وجب النظر إىل السياق بوصفه وسيلة تتكون بفضله هوية املسلم وتزدهر؛ إذ اإلشكالية‬
‫حسب رمضان تتحدد يف اجلواب عن سؤال‪ :‬من حنن؟ وماذا يتوقع ديننا منا كمسلمني‪62‬؟‬
‫رحياول رمضان رمنطل ًقا من مبادئ اإلسالم‪ ،‬أ ْن حيصر رحمددات اهلوية املسلمة‪ ،‬أو مبعىن‬
‫مسلما"؛ ليبحث بعد ذلك عن إمكانية حتقيقها يف سياق‬ ‫ً‬ ‫آخر "كيف يكون املرء‬
‫اجتماعي وسياسي غريب‪ .‬ولبلوغ هذا املسعى‪ ،‬رحيدد مخسة مبادئ سوسيو‪-‬سياسية من‬
‫شأهنا محاية املسلم الفرد واملصلحة العامة‪ :‬حرية اإلميان؛ وحرية ممارسة العبادة فردية كانت‬
‫أو مجاعية؛ واألمن؛ واحلرية يف عرض اإلسالم على اآلخرين؛ وحق املشاركة يف احلياة‬
‫السياسية واالجتماعية واالقتصادية داخل املجتمع‪ .63‬وبعودته إىل اخللفية الثقافية‬
‫أن مخسة حقوق‬ ‫والقانونية ملختلف البلدان األوروبية وأمريكا و ر‬
‫كندا وأسرتاليا‪ ،‬يرى رمضان َّ‬
‫على األقل مضمونة للفرد املسلم‪ ،‬وجتعله يف انسجام مع هويته اإلسالمية‪:64‬‬ ‫أساسية ر‬
‫احلق يف ممارسة الدين؛ واحلق يف التعليم؛ واحلق يف أتسيس املنظمات واجلمعيات؛ واحلق‬
‫إن هذه الرتكيبة اليت سعى رمضان‬ ‫يف التمثيل الذايت؛ واحلق يف الطعن على القانون‪َّ .65‬‬
‫لتشكيلها‪ ،‬رمستن ًدا يف ذلك على مبادئ اإلسالم والسياق املعاصر‪ ،‬جعلته يستنتج َّ‬
‫أن‬
‫مكاان‬ ‫ر‬
‫الغرب الذي يضمن هذه احلقوق ال جيب أن يرنظر إليه كبيئة معادية‪ ،‬بعد أ ْن أصبح ً‬
‫يستطيع املسلمون العيش فيه أبمان‪ ،‬رمعلنًا َّ‬
‫أن البلد الذي حيرتم حرية املسلمني وإمياهنم‬
‫وعباداهتم‪ ،‬هو الوطن الذي جيب أن يشعروا فيه ابالنتماء احلقيقي املحفز على االخنراط‬
‫يف اجملتمع بشكل فعال‪ ،‬برغية تنميته وتطويره‪ .66‬لذلك فإن رمضان الر يقرتح علمنة اجملال‬

‫‪ 62‬رمضان‪ ،‬مسلمو الغرب ومستقبل اإلسالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.145‬‬


‫‪Ramadan, European Muslim, p. 132-134. 63‬‬
‫‪ 64‬رغم هذه الصورة اإلجيابية اليت يرقدمها رمضان للقوانني الغربية‪ ،‬فإنَّه على وعي اتم بوجود حاالت استثنائية‪،‬‬
‫يظهر معها نوع من التمييز ضد املسلمني‪ ،‬يرنظر‪ :‬طارق رمضان‪ ،‬مسلمو الغرب ومستقبل اإلسالم‪ ،‬مرجع‬
‫سابق ص ‪.149‬‬
‫‪Ramadan, European Muslim, p. 135-137. 65‬‬
‫‪ 66‬طارق رمضان‪ ،‬مسلمو الغرب ومستقبل اإلسالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.23‬‬

‫‪410‬‬
‫الديين اإلسالمي‪ ،‬بل يدعو إىل إبراز اهلوية الدينية للمسلمني الغربيني يف جو من احلرية‬
‫السياسية واالجتماعية‪.67‬‬
‫فإن "فضاء الشهادة" بوصفه رؤية جديدة لالجتماع اإلنساين‪،‬‬ ‫وبرغية حتقيق هذا املقصد‪َّ ،‬‬
‫يتطلب مشاركة دائمة وتضحية ذاتية من أجل العدالة االجتماعية والصاحل العام واخلري‬
‫واملساواة جلميع البشر‪ .‬وقد اختار رمضان لفظة "الفضاء" كتعبري عن االنفتاح على املشهد‬
‫الديين والسياسي والعاملي‪ .‬أما "الشهادة" فتجمع العناصر األساسية هلوية املسلم يف عالقته‬
‫ابإلهلي وابالجتماعي‪68‬؛ إذ هي تذكري بوحدانية هللا وآبخر تنزيل ر‬
‫على النيب رحممد؛‬
‫ومبسؤولية املسلمني كشهداء على الناس‪ ،‬من خالل السلوك القومي املبين على اجلانب‬
‫الروحي واألخالقي‪ .‬وسيكون هلذا املفهوم أثره يف املستوى العملي والعالقات بني األفراد‪،‬‬
‫أن "محل الشهادة يعين االخنراط يف‬ ‫بغض النظر عن املجتمع الذي يعيشون فيه؛ ذلك َّ‬
‫اجملتمع ويف مجيع رمناحي احلياة (‪ )...‬ويعين كذلك االخنراط يف عملية اإلصالح اإلجيايب‬
‫سواء كان إصالح مؤسسات أو أنظمة قانونية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية‪،‬‬
‫أن مفهوم فضاء‬ ‫يهدف إىل إقامة مزيد من العدل"‪ .69‬يبدو إذن ‪ -‬حسب رمضان‪َّ - 70‬‬
‫الشهادة هو أنسب طريقة تروحد هوية املسلمني ومسؤوليتهم يف ضوء مبادئ اإلسالم؛‬
‫كما أنَّه يرؤسس لفضاء تسود فيه عالقات قائمة على املسؤولية بني مواطنني ينتمون إىل‬
‫حضارات وأداين وثقافات وأخالقيات خمتلفة‪ ،‬ويسعون إىل بناء جمتمع أفضل قوامه الوحدة‬
‫اإلنسانية‪.‬‬
‫خالصة‬
‫قدَّم هذا الفصل وجهة نظر طارق رمضان يف العديد من القضااي الدينية والسياسية‬
‫املعاصرة‪ ،‬من خالل الرتكيز على ما أنتجه من منظومة مفاهيم جم ّددة تسمح للباحثني‬

‫‪Barbara De Poli, Muslim Thinkers and the Debate on‬‬ ‫‪67‬‬

‫‪Secularism and Laïcité, in: Marranci, p. 40-41.‬‬


‫‪ 68‬طارق رمضان‪ ،‬مسلمو الغرب ومستقبل اإلسالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.153‬‬
‫‪ 69‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.156‬‬
‫‪ 70‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.157-156‬‬
‫‪411‬‬
‫مبشروع التجديد الديين وبرأب الشرخ العميق الذي‬
‫ِ‬ ‫ابلعمل يف إطارها من أجل الدفع‬
‫معا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫يفصل العاملني اإلسالمي والغريب يف آن ً‬
‫ووراء اإلسهام القيّم والثري الذي ق ّدمه ويق ّدمه طارق رمضان‪ ،‬تقوم فكرة استخالص روح‬
‫اإلسالم ومبادئه‪ ،‬دون أن مينعه ذلك من الرجوع إىل أفكار فالسفة عصر التنوير أو‬
‫االستفادة من منجزات احلضارة الغربية‪ .‬ومن شأن هذه الرؤية التوفيقية بني عاملني رخمتلفني‬
‫فرصا حقيقية للحوار والتعاون بني الناس‪ ،‬والتأسيس الفعلي لتعددية دينية‬ ‫أن تروفر ً‬
‫وسياسية‪.‬‬
‫فإن مفهوم اإلصالح اجلذري من شأنه أن يفتح‬ ‫وأمام أزمة الفكر اإلسالمي املعاصر‪َّ ،‬‬
‫لت‬ ‫انفذة جديدة على نقد مشار ر‬
‫فقدت بريقها‪ ،‬بعد أن حتو ْ‬ ‫ْ‬ ‫يع التجديد واإلصالح‪ ،‬اليت‬
‫إىل رجمرد ترقيع ملنظومة فقهية رحتاول التكيف مع الواقع‪ .‬وسواء اتفقنا حول احللول اليت‬
‫فإن رحماولته تستحق أن تردرس بعناية؛ كوهنا مبنية على أساس‬ ‫يرقدمها رمضان أم مل نتفق‪َّ ،‬‬
‫منهجي‪ ،‬وعلى رؤية ملبادئ اإلسالم‪ ،‬أساسها العدل واحلرية والكرامة‪ .‬كما يرساعد مفهوم‬
‫فضاء الشهادة على ختطّي الثنائية املولدة للصراع والكراهية‪ ،‬من خالل الدعوة إىل املواطنة‬
‫ابحتضان التعددية مبرختلف جتلياهتا الدينية والسياسية‪،‬‬ ‫بكوهنا مفهوما جامعا يسمح ر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وجيعل املسلمني أكثر اخنراطًا وفاعلية داخل رجمتمعاهتم الغربية‪.‬‬
‫أن اجلزء األهم من خطابه رموجه إىل العامل الغريب‪ ،‬فإنَّه ال‬ ‫أن رمضان على الرغم من َّ‬ ‫بيد َّ‬
‫أبن الفعل السياسي يف العامل أبعد ما يكون عن حل املشكالت األخالقية‬ ‫رخيفي قلقه َّ‬
‫ر‬
‫ستقبال ال يربشر خبري‪ ،‬ما مل يرغري من سلوكياته رجتاه‬ ‫لإلنسان املعاصر‪ ،‬الذي سيرواجه رم ً‬
‫ر‬
‫لحة إىل تفعيل ملكة النقد‪،‬‬ ‫اإلنسان واملجتمع والطبيعة‪71‬؛ لذلك يبدو أنَّنا يف حاجة رم َّ‬
‫الفعلي مع مجيع املحاوالت اهلادفة إلنتاج مفاهيم تفكك خطاب العنف الديين‬ ‫واالخنراط ر‬
‫ر‬

‫‪ 71‬يرنظر على سبيل املثال املحاضرة اليت ألقاها رمضان يف جممع أوكسفورد‪:‬‬
‫ر‬
‫‪OxfordUnion, "Freedom In Identity | Tariq Ramadan | Oxford‬‬
‫‪Union," youtube website, 22/05/2013, accessed on 10/07/2017, at:‬‬
‫‪https://goo.gl/qYGqaD‬‬
‫‪412‬‬
‫مجيعا‪ ،‬مبرختلف أدايهنم‬
‫والعلماين على حد سواء‪ ،‬لتجعل عاملنا فضاءً أفضل للناس ً‬
‫وثقافاهتم وجنسياهتم‪.‬‬
‫املصادر واملراجع‬
‫أوال‪ :‬كتب‬
‫‪ -1‬اجلابري‪ ،‬حممد عابد‪ .‬العقل األخالقي العريب‪ :‬دراسة حتليلية نقدية لنظم القيم يف‬
‫الثقافة العربية‪ .‬سلسلة نقد العقل العريب ‪ .4‬بريوت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‪،‬‬
‫‪.2001‬‬
‫‪ -2‬السيد‪ ،‬رضوان‪ .‬الصراع على اإلسالم‪ :‬األصولية واإلصالح والسياسات الدولية‪.‬‬
‫بريوت‪ :‬دار الكتاب العريب‪.2004 ،‬‬
‫والتحرر‪ .‬ترمجة أمني‬
‫ّ‬ ‫‪ -3‬رمضان‪ ،‬طارق‪ .‬اإلصالح اجلذري‪ :‬األخالقيات اإلسالمية‬
‫األيويب‪ .‬بريوت‪ :‬الشبكة العربية لألحباث والنشر‪.2010 ،‬‬
‫‪ .________ -4‬مسلمو الغرب ومستقبل اإلسالم‪ .‬ترمجة إبراهيم حيىي الشهايب‪.‬‬
‫الدوحة‪ :‬اجمللس الوطين للثقافة والفنون والرتاث‪.2005 ،‬‬
‫‪ -5‬فوكوايما‪ ،‬فرانسيس‪ .‬هناية التاريخ واإلنسان األخري‪ .‬ترمجة فؤاد شاهني وآخرين‪.‬‬
‫بريوت‪ :‬مركز اإلمناء القومي‪.1993 ،‬‬
‫‪ -6‬هنتنغتون‪ ،‬صموئيل‪ .‬صدام احلضارات‪ :‬إعادة صنع النظام العاملي‪ .‬ترمجة طلعت‬
‫الشايب‪ .‬طرابلس‪ :‬الدار اجلماهريية للنشر والتوزيع‪.1999 ،‬‬
‫‪7- Baum, Gregory. The Theology of Tariq Ramadan:‬‬
‫‪A Catholic Perspective. Notre Dame: University of‬‬
‫‪Notre Dame Press, 2009.‬‬
‫‪8- Euben, L. Roxanne. Journeys to the Other Shore:‬‬
‫‪Muslim and Western Travelers in Search of‬‬
‫‪Knowledge. Princeton, N.J: Princeton University‬‬
‫‪Press, 2006.‬‬
‫‪9- Fourest, Caroline. Brother Tariq: The Doublespeak‬‬
‫‪of Tariq Ramadan. New York: Encounter Books,‬‬
‫‪2008.‬‬

‫‪413‬‬
10- Marranci, Gabriele. Muslim Societies and the
Challenge of Secularization: An Interdisciplinary
Approach. Berlin: Springer, 2010,
11- Ramadan Tariq & Edgar Morin & Claude-
Henry Du Bord. Au Péril Des Idées: Les Grandes
Questions De Notre Temps. Paris: Presses du
Châtelet, 2014.
12- Ramadan, Tariq & Claude-Jean Lenoir.
Tolerance Ou La Liberte?: Les Leçons De Voltaire Et
De Condorcet. Bruxelles: Editions Complexe, 1999.
13- Ramadan Tariq. Aux Sources Du Renouveau
Musulman: D'al-afghānī à Hassan Al-Bannā, Un
Siècle De Réformisme Islamique. Paris:
Bayard/Centurion, 1998.
14- ________. Être musulman européen: étude
des sources islamiques à la lumière du contexte
européen. Lyon: Tawhid, 1999.
15- ________. Islam, le face à face des civilisations:
quel projet pour quelle modernité ?. Lyon: Tawhid,
1995.
16- ________. Les Musulmans D'occident Et
L'avenir De L'islam. Paris: Actes Sud/Sinbad, 2003.
17- ________. Les musulmans dans la laïcité:
responsabilités et droits des musulmans dans les
sociétés occidentales. Lyon: Tawhid, 1994.
18- ________. Radical Reform: Islamic Ethics
and Liberation. Cambridge: Cambridge University
Press, 2009.

414
19- ________.The Quest for Meaning:
Developing a Philosophy of Pluralism. London:
Allen Lane, 2010.
20- ________. To Be a European Muslim.
[Leicestershire]: The Islamic Foundation, 2013.
21- ________. Western Muslims and the Future of
Islam. Oxford, New York: Oxford University Press,
2004.
22- ________. What I Believe. Oxford: Oxford
University Press, 2010.
:‫مراجع أخرى‬
.)16/06/2005( .‫ إسالم أون الين‬."‫ بني التعليق والتطبيق‬..‫ "عقوابت احلدود‬-1
https://goo.gl/42886z 2017 ‫ أغسطس‬12 :‫شوهد يف‬
2- "ACLU Asks Federal Appeals Court to Lift Ban on
Renowned Scholar". American Civil Liberties
Union. (23/01/2008). accessed on 10/08/2017. at:
https://goo.gl/vdFgNW
3- Amburn, Brad. "Who's Afraid of Tariq Ramadan?".
Foreign Policy. (26/10/2009). accessed on
10/08/2017. at: https://goo.gl/RBCmdh
4- Euben, L. Roxanne. "Comparative Political Theory:
An Islamic Fundamentalist Critique of Rationalism".
The Journal of Politics. vol. 59, no. 1 (Feb., 1997). p.
28-55.
5- "FP Top 100 Global Thinkers". Wikipedia, accessed
on 10/08/2017. at: https://goo.gl/nRtrRf
6- Hamel, Ian. "Les deux visages de Tariq Ramadan". Le
Point. (09/04/2012). accessed on 10/08/2017. at:
https://goo.gl/iuRV5a
415
7- March, F. Andrew. "Law as a Vanishing Mediator in
the Theological Ethics of Tariq Ramadan". European
Journal of Political Theory. vol. 10, no. 2 (April
2011). p. 177-201.
8- March, F. Andrew. "The Post-Legal Ethics of Tariq
Ramadan: Persuasion and Performance in Radical
Reform: Islamic Ethics and Liberation (A Review
Essay)". Middle East Law and Governance. vol. 2
(2010). p. 253-273.
9- On n'est pas couché. "Tariq Ramadan - On n"est pas
couché 26 septembre 2009 #ONPC". youtube
website. 08/06/2015. accessed on 15/08/2017. at:
https://goo.gl/L1KWp3
10- OxfordUnion. "Freedom In Identity | Tariq
Ramadan | Oxford Union". youtube website.
(22/05/2013). accessed on 10/07/2017. at:
https://goo.gl/qYGqaD
11- Ramadan, Tariq. "Following Shari’a in the
West". in: Robin Griffith-Jones (ed). Islam and
English Law: Rights, Responsibilities and the Place
of Shari'a. Cambridge: University Press, 2013. p.
245-255.
12- Tampio, Nicholas. "Constructing the Space of
Testimony: Tariq Ramadan's Copernican
Revolution". Political Theory. vol. 39, no. 5
(October 2011). p. 600-629.
13- "The 2004 TIME 100". Time. accessed on
10/08/2017. at: https://goo.gl/KddLR4.

416

You might also like