Professional Documents
Culture Documents
____________________
اآلراء الواردة ابلكتاب تعرب فقط عن رأي املؤلفني وال تعرب ابلضرورة عن رأي
دار املرااي لإلنتاج الثقايف أو مؤسسة روزا لوكسمبورج
الدين واإلنسان والعامل
قراءات يف أفكار إسالمية معاصرة
أمحد عبد اجلواد زايدة ،أمحد نصر ،إسالم أمحد ،مجيلة تِلوت ،رجب عز الدين
ساي ِرس مكجولدريك ،حممد العريب ،حممد املراكيب ،حممد عفان ،مدحت الليثي
معتز اخلطيب ،هشام فهمي ،ايسني اليحياوي ،يوسف راموس
6
استهالل
مير الواقع العاملي الراهن أبزمات ضخمة ،تتنوع صيغها
وتتفاوت وطأهتا ،لكنها ال تدع موضعًا دون أن متسه وال
جمتمعًا دون أن ختترب متاسكه وقدراته.
والعامل العريب واإلسالمي –ومساحات اجلنوب عامة– جزء من العامل األمشل ،ولكن آاثر
احلقبة االستعمارية ما زالت تدفعه يف اجتاهات شىت .وما بني مساعي التحرير والتغيري مير
اجلنوب بدورات من الصعود واهلبوط يف زمخه النضايل ،وترتاوح درجات وعي الشعوب
ابلواقع ،وتتفاوت متانة الفهم وقوة العمل على هنج االنعتاق من اإلمربايلية املتجددة
والنخب التابعة.
تعرض له اخلطاب اإلسالمي من عداوات وال ما أصاب احلركات وال خيفى على املتابع ما ّ
اليت حتمله من إخفاقات يظنها البعض نتاج التقدير السياسي اخلاطئ أو احلساابت
الربامجاتية النفعية ،ويراها البعض اآلخر حمض تعبري عن فقر يف الفكر وتقصري يف االجتهاد.
وقد صدر سيل من الكتاابت عن احلركات والتنظيمات اإلسالمية خالل العقود املاضية
بلغات شىت ،بعضها لغته ابلغة الصعوبة تستخدم مصطلحات علمية ونظرايت فلسفية
تستعصي على القارئ املهتم ،وبعضها شديد اخلصومة مع التنظيمات اإلسالمية أو ابلغ
العداوة لإلسالم نفسه ،هذا خبالف ما صدر عن أنصار تلك احلركات الذي يتفقد بعضه
ظالال لتربير أو رغبة يف تثبيت خصومة مع العامل
الصرامة العلمية أو يلحظ القارئ فيه إما ً
كثريا يف اخلروج من املأزق السياسي الذي تواجهه جمتمعاتنا ابجتاهاهتا الفكرية
ال تفيد ً
وأطيافها الثقافية ،وال تنهض ابإلسالم واجملتمعات الساعية للعدل والكرامة.
حني رِ
اقرتح على احملررة موضوع الكتاب من دار املرااي ابلتعاون مع مؤسسة روزا لوكسمبورج،
صا سهل القراءة ،يقدم خريطة مبدئية لبعض املفاهيم املركزية يف
كان تصورها أن يكون نَ ً
التصور اإلسالمي ولرؤى جمموعة من العقول املعاصرة اليت تعترب اإلسالم مرجعيتها
نصا يستعرض تصورات هؤالء بشأن دور اإلسالم يف حترير اإلنسان ورؤيتهم األساسية؛ ً
أتسيسا على مرجعيتهم استشراف مستقبل ً للعامل (منذ مطلع القرن العشرين) وكيف مت
أفضل لإلنسانية.
وقد حكم حجم الكتاب والوقت املخصص للعمل به اخلريطة اليت يقدمها ،فهناك العديد
ونظرا مل يتضمنها الكتاب ،منها مفهوم الفطرة وأتصيال ً
ً من املفاهيم اليت تستحق عناية
والطبيعة اإلنسانية ،ومفهوم املكان وحدود اخلاص والعام وفلسفة التمدن ،وهي مفاهيم
أنمل تناوهلا يف كتاب قادم .كما أن اختيار املفكرين الذين تناقش الفصول رؤاهم حكمه
الرتكيز على أهل الفكر –وإن رعرف عن بعضهم االخنراط املدين– لتعريف القارئ أبمساء
ختتلف عن تلك اليت يتم تناوهلا عادة من دوائر احلركات والتنظيمات الذين خيتلط إسهامهم
فرد هلم كتاب مستقل. الفكري خبرباهتم احلركية ،والذين نرى أهنم يستحقون أن ير َ
أوال أن تشارك عقول شابة، وكان هناك حرص واضح عند تشكيل جمموعة املسامهني ً
بعضهم سيتعرف عليها القارئ ألول مرة ،واثنيًا أن يكون اقرتاب التناول مسحيًا يعطي
صورة ابنورامية عن خريطة املفهوم أو مالمح رؤية املفكر حمل البحث دون استطراد ،وأن
ندعو املسامهني للكتابة بروح تتابع اجملرايت فال يغرق الباحث يف التنظري ،مع حرص على
متسعا.
املقارنة بني األفكار واملفاهيم ما وجد لذلك ً
وكما غطت الفصول أمساء ملفكرين معاصرين من غري العرب ،كذلك استكتبنا ابحثني
معا.
من الشباب غري العريب ،سعيًا لتنوع األقالم واملضمون ً
هذا كتاب يسعى للخروج من التسييس املفرط لتناول املفاهيم اإلسالمية واإلسهامات
الفكرية بعد أن ساد يف األعوام املاضية مناخ الرتصد السياسي والتأويل اإليديولوجي ،وهو
رؤى سامهت يف تشكيل التصورات اإلسالمية من داخل العامل العريب يقدم للقارئ العريب ً
وخارجه يف مرحلة اترخيية مل تعد األفكار فيها أسرية اجلغرافيا وال اللغة .وهو كذلك إطاللة
نقداي ِ
تبني تنوع مسارات الفكر اإلسالمي املعاصر .إذ سيجد القارئ يف الفصول ح ًسا ً
بدون استسالم هليمنة تنازعات السياسة على أجندة البحث الرصني .ونتطلع أن يكون
خطوة يف استعادة مسار النقاشات النظرية اليت تعرضت للتسفيه واالستخفاف يف ظل
أمال يف أن تظل املعرفة مفتاحاً للنهضة.
الرتاشق السياسي والتنازع السلطويً ،
وعلى هللا قَصد السبيل.
هبة رءوف عزت
8
ال ُكتّاب املشاركون
أمحد عبد اجلواد زايدة :مدرس مساعد بكلية احلقوق ابجلامعة الربيطانية ابلقاهرة. •
حاصل على درجة املاجستري يف القانون من جامعة اإلسكندرية ويرعد هبا رسالة
الدكتوراه .حصل على ليسانس شريعة وقانون من جامعة األزهر.
أمحد نصر :ابحث ماجستري بقسم العلوم السياسية بكلية االقتصاد جبامعة القاهرة. •
إسالم أمحد :طالب ماجستري يف العلوم السياسية يف معهد الدوحة /قَطر .حاصل •
بكالوريوس العلوم السياسية والعالقات الدولية 2015مث ختصص الفلسفة 2016
من جامعة إسطنبول شهري.
اضرة جامعية من املغرب .حاصلة على شهادة املاجستري يف مجيلة تِلوت :رحم ِ •
الدراسات اإلسالمية من دار احلديث احلَ َسنية ابلرابط ،والدكتوراه يف الفقه وأصوله
ومقاصد الشريعة ،وهتتم ابلربط بينه ختصصها والعلوم اإلنسانية .من كتاابهتا" :مقاصد
األسرة يف القرآن من اإلنسان إىل العمران"" ،إشكالية العالقة بني الدين والسياسة
عند طه عبد الرمحن"" ،مرتبة العفو" ،وغريها.
رجب عز الدين :ابحث وصحفي .حاصل على ماجستري يف العلوم السياسية ويرعد •
حاليًا رسالة الدكتوراه بكلية االقتصاد والعلوم السياسية جبامعة القاهرة.
ساي ِرس مكجولدريك :حاصل على بكالوريوس دراسات الشرق األوسط من جامعة •
كولومبيا ابلوالايت املتحدة األمريكية .يعد حاليًا رسالة املاجستري يف الدراسات
احلضارية مبعهد حتالف احلضارات إبسطنبول/تركيا.
حممد العريب :ابحث مبركز الدراسات االسرتاتيجية مبكتبة اإلسكندرية وابحث زائر •
مبعهد الدراسات املستقبلية وتقييم التكنولوجيا بربلني ،وزميل أحباث مبعهد الدراسات
املستقبلية ببريوت .له العديد من الدراسات واألوراق البحثية املنشورة ،أمهها "بناء
السيناريوهات املستقبلية :دليل نقدي"" ،الربوابغندا اجلهادية :إعالم داعش وآليات
عمله" .ساهم يف ترمجة عدة عناوين حول املستقبليات إىل العربية .وينتهي حاليًا من
إعداد رسالة املاجستري يف الشؤون الدولية ابجلامعة األمريكية يف القاهرة.
حممد املراكيب :ابحث دكتوراه يف الدراسات اإلسالمية جبامعة إدنربة ،اململكة •
املتحدة .من حبوثه السابقة" :أتثري القيم احلداثية يف صناعة الفتوى :دراسة
أنثروبولوجية"" ،مقاصد الشريعة واحلداثة :تغريات يف النسق املعريف الفقهي"" ،اجملال
العام اإلسالمي :حنو سردية خمتلفة".
حممد عفان :حاصل على بكالوريوس الطب واجلراحة وحيمل درجة املاجستري يف •
العلوم الطبية من جامعة عني مشس ،مث ماجستري العلوم السياسية من اجلامعة األمريكية
ابلقاهرة .هو حاليا ابحث دكتوراه مبعهد الدراسات العربية واإلسالمية جبامعة ِ
إكسرت/ ً
بريطانيا .نرشر له كتاب "الوهابية واإلخوان :الصراع حول مفهوم الدولة وشرعية
السلطة" عن دار جسور ،ببريوت .2016
مدحت الليثي :حاصل على ماجستري العلوم السياسية من كلية االقتصاد/جامعة •
القاهرة ،ويرعد رسالة الدكتوراه هبا .ابحث أول واملدير التنفيذي ملركز احلضارة
للدراسات السياسية ابلقاهرة ،وحمرر احلولية اليت تصدر عنه حتت عنوان "األمة يف
عام" .صدر له" :العالقة بني الديين والسياسي ..مصر والعامل :رؤى متنوعة وخربات
(حمَ ِرر) عن مكتبة الشروق الدولية ابلقاهرة ،2007وكتاب "فقه الواقع يفمتعددة" ر
الرتاث السياسي اإلسالمي" عن الشبكة العربية لألحباث والنشر ببريوت .2015
معتز اخلطيب :ولد يف مدينة دمشق ،ماجستري ودكتوراه يف ر
السنّة وعلوم احلديث، •
حيمل إجازة يف اللغة العربية من جامعة األزهر ابلقاهرة .عمل كباحث زائر يف مركز
الدراسات الشرقية ( ،)2006مث يف مركز الدراسات العابرة لألقاليم يف برلني
( .)2012يعمل حالياً أستاذا ملادة املنهجية واألخالق /كلية الدراسات اإلسالمية
جبامعة محد بن خليفة ب َقطر .صدرت له العديد من الكتب والدراسات منها:
"الغضب اإلسالمي :تفكيك العنف (دار الفكر بدمشق )2007و"العنف
املستَباح :الشريعة يف مواجهة األمة والدولة (دار املشرق ببريوت ،)2016و"مأزق
الردولة بني اإلسالميني والعلمانيني" كمحرر (دار جسور ببريوت .)2016
10
هبة رءوف عزت :أستاذة جامعية من مصر يف جمال الفكر والنظرية السياسية .عملت •
ائرا يف
منذ عام 1987بقسم العلوم السياسية يف جامعة القاهرة ،وكانت أستا ًذا ز ً
الفرتة من 2006إىل 2013يف اجلامعة األمريكية ابلقاهرة .وعملت كباحث زائر
وحماضر يف جامعات ويستمنسرت وأكسفورد وجورجتاون وبريكلي ولندن وماسرتخيت،
وكزميل زائر بوحدة اجملتمع املدين واألمن اإلنساين جبامعة لندن يف .2017-2014
ألفت وحررت العديد من الكتب منها "املرأة والعمل السياسي :رؤية إسالمية
(القاهرة :املعهد العاملي للفكر اإلسالمي )1995 ،و"املرأة والدين واألخالق"
(دمشق :دار الفكر/سلسلة حوارايت لقرن جديد ،احملاور اآلخر املخالف يف احلوار
كان نوال السعداوي )2000 ،و"العوملة :حنو رؤى مغايرة" (القاهرة :قسم العلوم
السياسية جبامعة القاهرة .)2002 ،وهلا مسامهات عديدة يف كتب أكادميية صادرة
ابإلجنليزية خاصة إصدار "حولية اجملتمع املدين العاملي" الصادرة منذ 2001عن
كلية االقتصاد جبامعة لندن .ختصصت منذ إهناء رسالة الدكتوراه يف الكتابة عن
كتااب من جزأين عن املواطَنة املصرية صدر عننظرايت املواطنة وحررت يف ً 2004
مركز البحوث السياسية جبامعة القاهرة .شاركت يف فريق احملررين يف "موسوعة
أوكسفورد لإلسالم واملرأة" يف .2013وسامهت يف 2010يف أتسيس دبلوم حقوق
الطفل والسياسات العامة بكلية االقتصاد جامعة القاهرة ابلتعاون مع املفوضية
األوروبية واليونيسيف و 7جامعات إقليمية ودولية ،وحصلت 2013على جائزة
هيئة التبادل العلمي األملاين يف القاهرة لدعم التعاون العلمي بني البلدين .تشرف على
سلسلة إصدارات الفقه االسرتاتيجي اليت ترعىن برؤى للعامل ومستقبل اإلسالم واليت
صدر ضمنها ترمجات جمموعة كتب احلداثة السائلة لزجيمونت ابومان .أحدث
إصداراهتا "اخليال السياسي لإلسالميني :ما قبل الدولة وما بعدها" و"حنو عمران
جديد" (القاهرة :الشبكة العربية لألحباث والنشر.)2015 ،
هشام فهمي :ابحث يف العلوم السياسية .حاصل على بكالوريوس العلوم السياسية •
من كلية االقتصاد جبامعة القاهرة.
ايسني اليحياوي :ابحث يف اتريخ األداين والفكر اإلسالمي .حاصل على الدكتوراه •
من جامعة سيدي حممد بن عبد هللا بفاس/املغرب.
يوسف راموس :حاصل على بكالوريوس يف التكنولوجيا الطبية من جامعة •
األدفينتيست مبندانو /الفلبني وماجستري يف الكيمياء احليوية من جامعة ويستمنسرت
بلندن .يعد حاليًا املاجستري يف الدراسات احلضارية مبعهد حتالف احلضارات
إبسطنبول/تركيا.
11
الباب األول
املفاهيم
األول:
الفصل ّ
يف مفهوم الدين
مدحت ماهر الليثي
يتنامى االهتمام مبفهوم الدين خالل العقود األخرية ،عرب دوائر
خمتلفة :معرفية وعملية .فقد برز اهتمام كبري يف الفلسفة
والعلوم االجتماعية ابلدين مفهومًا وقضيةً ورؤيةً للعامل
خاصة بعدما تبدد الكثري من مسلمات احلداثة ،وأعلنت
هنايتها العديد من أزمات النهاايت (هناية التاريخ ،وهناية
احلداثة ،وهناية الفلسفة ،)...واملوت (موت اإلنسان،
وموت اإلله ،وموت الفن ،)...واملابعدايت ،ومظاهر
السيولة الفكرية والشعورية واحلياتية بصفة عامة ( .)1ويف
الوقت الذي ينظر فيه كثري من احلركيني والدعاة الدينيني
إىل مفهوم الدين ابعتباره أمراً بدهيًّا ال إشكال فيه ،فإن
ساحة الفكر مل ختلر حلظة من معارك كربى حول الدين
مفهومًا ودوراً وفاعليةً ،وابألخص الدين اإلسالمي.
للدين يف الفكر اإلسالمي موضع الروح والقلب والعقل بل الكيان كله؛ إما أبصله املنزل
من السماء ويسمى الدين ،وإما بتفصيله وأتويله احملقق يف األرض ويسمى التدين .2يقول
د .طه عبد الرمحن إن" :التدين يف حق املسلم ليس جمرد سلوك تعبدي يلجأ إليه لكي
تسكن به نفسه ،وميأل به فراغ قلبه ،وإمنا هو طريقة حتقيق ذاته نفسها يف الوجود ،حبيث
جياين فاتيمو ،هناية احلداثة :الفلسفات العدمية والتفسريية :يف ثقافة ما بعد احلداثة ،ترمجة :فاطمة 1
اجليوشي( ،دمشق :منشورات وزارة الثقافة ،)1998 ،ص .200-183 ،73-59 ،55-37
فهما وتنز ًيال ،جزآن ،سلسلة كتاب األمة ،العددان( ،23 ،22 :الدوحة:
عبد اجمليد النجار ،يف فقه التدين ً
2
وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية ،األول :احملرم 1410هـ ،والثاين :مجادى األوىل 1410هـ).
يوجد املسلم يف الدين وجوده يف العامل ،بل ال عامل للمسلم غري دينه؛ وإذا صح أن
الدين هو عامل وجود املسلم ،صح معه ً
أيضا أن سلوكه العقلي إمنا هو جزء من هذا العامل
الديين ،ومعلوم أن اجلزء ال يكون أسا ًّسا ينبين عليه الكل ،فيلزم أن العقل مهما اتسعت
أطرافه وتقلبت أطواره يظل واح ًدا من عناصر أخرى يشتمل عليها هذا العامل الديين
الفسيح الذي ال تنفد حقائقه".3
نظرا
ومن هذه احلقيقة تتأكد صعوبة تقدمي تعريف دقيق ملفهوم الدين يف العقل املسلم؛ ً
لسعة األمر ودخوله يف الكليات العقلية والنفسية ويف اجلزئيات السلوكية واالجتماعية
فضال عن التنوع الكبري لدى مفكري اإلسالم يف تعبريهم عن مجيعا ومن سبل شىتً ، ً
4
الدين عامة واإلسالم خاصة ؛ األمر الذي حناول الوقوف على خريطة مبسطة له أببعادها
النظرية والواقعية.
ولقد كان ملفهوم الدين لدى اإلسالميني جولة اترخيية ذات خصوصية منذ برز مشروع
احلداثة وحماوالت إعادة تعريف الدين حبيث ينتقل من موقع املرجعية الكلية الشاملة
لشؤون احلياة العامة واخلاصة ،لكي يصبح هو جزءًا من احلياة اخلاصة ابملنطق العلماين،
وينتقل من موضع احلاكم على احلياة ملوضع اخلادم ملن شاء وفق مبدأ متت صياغته بلسان
"احلرية الدينية".
وميكن أن نتخري منعطف القرن الرابع عشر اهلجري/اإلسالمي (الربع األخري من القرن
التاسع عشر امليالدي/الغريب) ،نقطة استهالل لتتبع تطور مفهوم الدين لدى مفكري
نظرا
املسلمني (املعلنني انتساهبم ملرجعية اإلسالم) وألكثر من قرن من الزمان حىت اليوم؛ ً
الرتباط األفكار وتراكبها وتراكمها .ففي تلك الفرتة بدأت بذور التنازع والتدافع بني
مفاهيم للدين -وخاصة اإلسالم -وبني عدد كبري من األوضاع واملفاهيم األخرى الوافدة
3طه عبد الرمحن ،من اإلنسان األبرت إىل اإلنسان الكوثر ،مجع وتقدمي :رضوان مرحوم( ،بريوت :املؤسسة
العربية للفكر واإلبداع ،ط ،)2016 ،2ص .26
4انظر حماولة يف هذا الصدد :حممد حشمت إبراهيم سعدة ،نظرية الدين والتدين :دراسة حتليلية نقدية،
رسالة ماجستري غري منشورة ،إشراف :د.سيكو مارافا أبو بكر توري( ،ميديو-ماليزاي :جامعة املدينة العاملية،
كلية العلوم اإلسالمية.)2017 ،
16
على داير اإلسالم؛ يف بالد العرب ،واهلند ،وإيران ،وتركيا ،وأفريقيا املسلمة .واشتهر يف
الكتاابت املختلفة أن هذا الصراع الفكري دار بني ثالثة اجتاهات ابرزة؛ األول :احملافظة
على املفهوم املعهود واملوروث للدين ،والثاين :الدعوة ملفهوم جديد للدين حيمل وجهة
متأثرا بتجربة مسيحية غربية ذات خصوصية معرفية واترخيية ،والثالث :اجتاه علمانية ً
التوفيق والتوسط بني احملافظة والتغريب مع الدعوة لتجديد شقي املسألة :الدين والدنيا.
ومع مرور العقود شهد القرن األخري تفاقمات وتشظيات يف كل من هذه االجتاهات ويف
سائر شؤون اإلسالم وأحوال أمته ،وفرض الصراع السياسي طرقًا متباينة للتعبري عن ذلك
فكرًاي وثقافيًا.
املصدر العقدي
َ وإمجاال قبل التفصيل ،قام مفهوم احملافظني للدين على معىن كونه ً
والتشريعي ذا الكفاية والقادر على اإلجابة اجلاهزة عن كل سؤال قدمي أو مستحدث دون
ووصوال إىل أسئلة التقدم أمام الوافد
ً احلاجة الجتهاد جديد؛ بدءًا من سؤال اهلوية
(الغرب) .فالدين -وفق هذا التصور وعلى حنو ما كان املمثل له مدرسيني يف األزهر
وصوال إىل ديوبند يف اهلند ،ووهابيني يف اخلليج واجلزيرة ،ومهدويني
والزيتونة والقرويني وقرم ً
وسنوسيني ،وفقهاء عثمانيني -هو الذي حيدد موقف اإلنسان من العامل ومن نفسه ومن
الزمان (الدنيا واآلخرة) ،وفق عقيدة التوحيد ،ومبدأ االتباع للكتاب املنزل والنيب املرسل،
وهو الذي يضبط حركة اإلنسان املسلم ،ويعصمه من الزلل عن حدود هللا .وتقدم الدين
والدنيا يكون ابلتدين؛ فمىت متسك به املسلمون فإهنم آنذاك أيخذون أبسباب التقدم
ومنافسة اآلخر األجنيب أو العدو .ومن مثَّ فال حاجة ألخذ شيء عن الغرب اللهم إال ما
رحيتاج إليه من عامل األشياء واآلالت مع احلذر مما خيتلط هبا من أفكار ختالف العقيدة.5
أما املتغربة -كانوا هم الطائفة املستجدة على الفكر اإلسالمي كما تقدم -فقد رأوا الدين
كال ،وذا أمهية لكنه فردي واختياري ،وهناك مساحة كبرية للعقل واالجتهاد جزءًا ال ًّ
انظر يف ذلك على سبيل املثال :مصطفى صربي ،موقف العقل والعلم والعامل من رب العاملني وعباده 5
املرسلني( ،بريوت :دار إحياء الرتاث العريب ،ط1401 ،2هـ1981/م) ،ص .70-3وهو يدخل يف معركة
عقدية كبرية ليس فقط مع الغرب واملتغربني ،ولكن مع كثري من الشيوخ واإلسالميني الذين يتكلمون بلغة وسيطة
بني صريح العقيدة ومفاهيم الثقافة احلديثة اليت تدور حول مفهومني للعلم والعقل ينعزالن عن الدين ،كل الدين.
17
العلمي والعملي الدنيوي والبشري خارج نطاق الدين؛ واملقصد هو حتقيق اهلدف الدنيوي
األوىل ابلعناية :التقدم املادي (احلضاري وما يتطلبه من ثقايف) .وهذا النطاق إنساين
وليس دينيًا؛ ومن مثَّ يصح -بل ينبغي -أخذ أسباب التقدم عن األمم األخرى اليت
حققت التقدم ،ليس فقط أدواته املادية ،بل ما يستلزمه من أفكار وفلسفات تؤسس له
ماداي وثقافيًا؛ مثل:
وحتفزه .وقد تَ َشارك هذا الرأي حكام ومشاهري جدد هبرهم الغرب ً
اخلديو إمساعيل ومصطفى النحاس وأمحد لطفي السيد يف مصر ،ومدحت ابشا يف تركيا
(على اختالف يف تقدير فكره) ومصطفى كمال أاتتورك وجمموعته ،وأمحد خان يف اهلند،
وعدد من الكتاب يف العراق والشام -أغلبهم من املسيحيني يف البداية.6
وأقرت الفئة الوسط أبصل التعريف األول :أن الدين أصل اثبت وكلٌّ ال يتجزأ ،مع القول
أبن من ضمن تعاليمه األخذ أبسباب الدنيا والقوة ولو كانت من خمالِف يف العقيدية
أَّن وجدها فهو أوىل هبا" .ومن مثَّ فالدين
عمال ابألثر" :احلكمة ضالة املسلم َّ
الدينيةً ،
لتقدم يطمس اهلوية وال قيمة ٍ
هلوية تعيق التقدم .وقد برزت يف أصالة ومعاصرة ،وال معىن ٍ
ً
ظالل تلك الفئة مدرسة األفغاين وحممد عبده ،ورشيد رضا والكواكيب ،وخري الدين
التونسي والطاهر بن عاشور ،وعبد احلميد بن ابديس والبشري اإلبراهيمي ،وعالل الفاسي،
وأمري علي ،ومن اتبعهم -يف أحناء كثرية -إىل يومنا هذا.7
راجع مناذج منهم لدى :أمحد أمني ،زعماء اإلصالح يف العصر احلديث( ،بريوت :دار الكتاب العريب، 6
مثال :السيد أمحد خان ص .138-122وانظر :السيد أمحد فرج ،جذور العلمانية :اجلذور
د.ت) ،خاصة ً
التارخيية للصراع بني العلمانية واإلسالم يف مصر منذ البداية وحىت عام 1948م( ،املنصورة-مصر :دار
الوفاء للطباعة والنشر ،ط1413 ،5هـ1993/م) ،ص .86-78
وانظر :طه حسني ،مستقبل الثقافة يف مصر( ،القاهرة :دار املعارف ،ط1996 ،2م) ،ص .45-18
7ويسميه شارل سان برو ابلتيار اإلصالحي السلفي ،بينما يصف املتغربة ابملتفرجنني ،انظر :شارل سان برو،
ترمجة وتقدمي :أسامة نبيل ،حركة اإلصالح يف الرتاث اإلسالمي( ،القاهرة :املركز القومي للرتمجة ،عدد ،2148
كثريا من كتاابت هذا التيار وحققها فيما عرف
ط ،)2013 ،1ص .136-108وقد مجع د .حممد عمارة ً
بسلسلة "األعمال الكاملة" ،وقصدهم رميوند بيكر يف كتابه "إسالم بال خوف" ابمتداداهتم يف مصر على يد
18
وليس بثابت اترخييًّا ترتيب بني االجتاهني األخريين ،فاملدقق يلحظ أن املتغربة- 8وفكرهتم
عن الدين -ظهرت ابلتدريج بعد أن برزت الفكراتن اإلسالميتان :احملافظة والتوفيقية ،مع
املواجهة األوىل لسؤال التأخر والتقدم ،واستغرقتا القرن التاسع عشر يف معظمه.
ومن املعلوم أن مثة نواةً ملفهوم "الدين" مبعىن اإلميان والعبادة ،ال خيتلف عليها الفكر
اإلسالمي فيما بني روافده ،وال خيتلف عليها مع االجتاه العلماين املفارق .ولكن وقع
االختالف حول قيمة هذا املستوى من الدين ودوائره وجتلياته املؤسسية والقانونية
والسياسية /املرجعية ،فهناك من عد ذلك األصل الدين كله ومن مثَّ مل جيعل لبناء نظم
مكمال ال
عنصرا ً احلياة االجتماعية صلة ابلدين ،وهذا االجتاه غالبًا علماين ويعد الدين ً
األصل الثابت لشجرةٍ هلا فروعها و ً
أساسا لبناء أكرب َ مرجعية مؤسسة ،وهناك من اعتربه
كال وأجزاء-وأمشل ،وأن الدين جمموع التصورات والرتتيبات املتعلقة ابحلياة الدنيا ًّ -
أخريا هناك من نظر إىل العبادات والشعائر ابعتبارها اجلانب األقل أمهية مقارنة
وابآلخرة .و ً
معتربا ذلك جوهر الدين وغاية تسمو فوق جبانب العمل يف احلياة واملعاملة مع الناس ً
الشعائر.
أيضا،
وكما تقدم ،تفرعت من هذه االجتاهات خارطة فكرية كبرية ،كان هلا جتلياهتا احلركية ً
وشهد القرن الرابع عشر اهلجري (العشرون امليالدي) ،بروز متفلسفة ،وأدابء ،ومثقفني،
ومفكرين ،وشيوخ فقهاء ،جبانب أكادمييني من أبناء التعليم غري الديين -اخنرطوا يف إعادة
تعريف الدين غالبًا حتت الفتة "التجديد الديين/اإلسالمي".9
الغزايل والقرضاوي والبشري وعمارة والعوا وفهمي هويدي وأمثاهلم ،وراجع كتاب" :رؤية إسالمية" ألمحد كمال
أبو اجملد معربًا عنهم منذ مطلع الثمانينيات .وانظر :أمحد أمني ،املرجع السابق.
8املتغربة هنا وصف لتوجههم الفكري جغرافيًا للغرب ،وليس نعتًا لألشخاص.
حممد عمارة ،مستقبلنا بني التجديد اإلسالمي واحلداثة الغربية( ،القاهرة :مكتبة الشروق الدولية) .و: 9
سيف الدين عبد الفتاح ،بني التجديد والتحديث ،سلسلة التنوير اإلسالمي (( ،)70القاهرة :هنضة مصر،
.)2006و :عدانن حممد أمامة ،التجديد يف الفكر اإلسالمي( ،السعودية-الدمام :دار ابن اجلوزي ،رجب
1424هـ).
19
يف هذه الورقة حناول اإلطالل على الدالالت املختلفة اليت عرب عنها الفكر اإلسالمي
احلديث عرب قرن ملفهوم "الدين" من خالل عدد من نصوص هذا الفكر املعتربة واملعتمدة.
من الثابت أن الدين -ابملعىن الشامل -مل يكن ميثل مشكلة فكرية واضحة يف العامل
اإلسالمي قبل بروز الفكرة العلمانية اليت أرادت إعادة موضعة اإلسالم خارج اجملال العام
مدعوا لإلجابة عن أسئلة عملية :حضارية وخارج قضااي العلم والتقدم ،بقدر ما بدا ً
جيدا احلالة الفكرية اإلسالمية يف هناية القرن التاسع
واجتماعية وسياسية .ومن يتذكر ً
منفردا
احدا من أملع عناوينها املثارةً ،
عشر امليالدي يلحظ بيسر كيف كان لفظ "الدين" و ً
أيضا أنه غالبًا ما وضع إبزاء الدين مفهوم كلي أو قضية جزئية
مقروان بغريه ،ويلحظ ً
أو ً
أخرى؛ مثل :العلم احلديث ،التقدم ،التطور ،العقل ،احلياة العصرية ،السياسة ،احلرية،
الثقافة املعاصرة ،التمدن واألخالق املدنية ،الرتبية احلديثة ،املرأة اجلديدة ،والوطنية
والقومية.10
وقد انربى املفكرون اإلسالميون يدافعون عن كلية الدين ومركزيته يف احلياة يف مواجهة
ألهداف العلمانية يف حتجيمه أو تقزميه؛ فدفعوا أبنه مبثابة فلسفة حميطة ابلكليات
واجلزئيات ،وأنه قادر على احتواء الظواهر الفكرية واملادية ،والفردية واجلماعية كافَّةً ،وله
جواب عما استجد من أسئلة العصر احلديث ،وأن حماوالت االنتقاص من صالحيته إمنا
هي خيارات متعسفة وراءها فلسفات إحلادية ،أو أغراض سياسية على رأسها خدمة
االستعمار وتكريس التبعية اإلسالمية للغرب .ويف طيات ذلك السياق تبلورت مقوالت
10وقد استمرت حماوالت اإلسالميني يف معظم العامل اإلسالمي لإلجابة عن تلك الثنائيات واإلشكاليات
عددا من اجملالت اليت ختصصت يف ذلك؛ مثل :جملة املسلم
ملنتهى القرن العشرين ،انظر على سبيل املثالً :
املعاصر وجملة املنار اجلديد (القاهرة) ،جملة االجتهاد (بريوت) ،جملة التسامح (مسقط) ،جملة رؤى (ابريس)
وغريها .وانظر قراءة يف جملة املنار اجلديد :هبة رءوف ،اخليال السياسي لإلسالميني ،وانظر :مشروع دار الفكر
بدمشق :حوارات لقرن جديد.
20
املفكرين اإلسالميني عن فهمهم ملوقع الدين من احلياة؛ وابألخص :اإلسالم ،11وميكن
دائما يف تلك املناظرات كلها.
بيسر مالحظة أن مفهوم الدين كان على احملك ً
ويف هذا اإلطار التارخيي أخذ تعريف الدين مسارات عديدة لدى مفكري اإلسالم ،كل
مسار منها عرب عن جزء من سؤال العصر وواجب الوقت كما رأته كل طائفة من هؤالء
وإمياان يتعرض هلجمة إحلاد وتشكيك تزعزع أركانهاملفكرين .فطائفة رأت اإلسالم عقيدة ً
خاصا
ومنظورا ً
ً وفكرا ورؤية للعامل
وجيب صدها ،وقريب منها طائفة رأت الدين فلسفة ً
مشروعا سياسيًا الستعادة جمد
ً لإلنسان واحلياة وسائر الكليات املعرفية ،واثلثة رأت الدين
األمة ووحدهتا يف أشكال خمتلفة ال تقتصر على الصورة التارخيية للخالفة واإلمامة الكربى،
بواي .وآخرون عرفوا الدين أبنهتنمواي أو تر ً
هنضواي أو ً
ً مشروعا
ً وكان هناك من أبرز الدين
ثقافة أمة وجمتمعاهتا مبا تشتمل عليه من هوية وأمناط فكر وسلوك متميزة وعرضة للضعف
وللبعث من جديد ،فالدين حضارة ال تقتصر على العقيدة ولكنها تتشعب منها لبناء
سائر جماالت احلياة الواسعة وفق صبغتها ،ومن مثَّ فإن اإلسالم مير مبعرتك وجودي كبري
بديال حضارًاي جململ ما يقدمه الغرب اليوم .ومنهم من رأى الدين يف صورة الشريعة، وميثل ً
وجتديده وحتقيقه يكون بتطبيق تلك الشريعة مع االختالف يف تصور تلك الشريعة بني
شامال ،أو يركز بعضهم على القانون نظاما قانونيًا قضائيًا ً
كوهنا منظومة أخالقية وقيمية أو ً
اجلنائي املتعلق ابلعقوابت ضمن مقولة احلدود ،فيكون الدين ساعتها تلك الزواجر املوجهة
مشروعا
ً للمجرمني واملنحلني الذين يهدمون اجملتمع اإلسالمي .وبعضهم يرى الدين
إنسانيًا عامليًا وينقسمون إىل وجهتني :مشروع استيعاب وفق املشرتك اإلنساين وآلية
التعاون ،ومشروع متكني وفق املواجهة احلتمية وآلية االنتصار على العدو.
11يف مصر على سبيل املثال ،جرت حوارات القرن العشرين حول هذا املعىن .انظر :عماد الدين شاهني،
من حوارات القرن :دراسة حالة مصر؛ (يف) :اندية مصطفى وآخرون ،األمة يف قرن :عدد خاص من حولية
أميت يف العامل ،الكتاب الثاين :خربة العقل املسلم خربات وتطورات وحوارات( ،القاهرة :مركز احلضارة
للدراسات السياسية ،مكتبة الشروق الدولية2002 ،م) ،ص .511-461وانظر :السيد أمحد فرج ،مرجع
سابق ،ينقل عن حسن البنا " :إننا ندعو إىل اإلسالم الذي جاء به حممد صلى هللا عليه وسلم واحلكومة جزء
منه ،واحلرية فريضة من فرائضه ،فإن قيل لكم هذه سياسة فقولوا هذا هو اإلسالم ،وحنن ال نعرف هذه األقسام"،
ص .89
21
هذه الفسيفساء الواسعة متعددة األلوان قد تتداخل لدى بعض املتابعني فريوهنا فوضى ال
انظم هلا ،بينما احلقيقة أن مشول اإلسالم يقبل ذلك كله ،وقد اجتمعت كلمة اإلسالميني
هتديدا ،يقول
احملدثني على هذه اخلاصة يف اإلسالم وعلى حماربة فكرة جتزيئه واعتبارها ً
شفيق منري" :إن اإلسالم يشكل منظومة متكاملة تتماسك أجزاؤها وتتفاعل فيما
بينها لتشكل وحدة عضوية متحركة حيوية ال جتعل من املمكن أن يفهم أي جزء على
ِح َدة إمنا ضمن وضعه يف اإلطار العام أو من خالل عالقته ابلوحدة الكلية أي
ابألجزاء األخرى جمتمعة ويف آن واحد .وهذا ما يفهم من القرآن حني يُ ِدين الذين
أيخذون بعض الكتاب ويرتكون بعضه ،أو حني يؤكد املسلمون على القاعدة اليت
تقول "أبخذ اإلسالم كله أو تركه كله" .ويتوسع شفيق يف شرح هذه السمة للدين
اإلسالمي وشواهدها وفوائدها ال سيما يف حتصني اإلسالم من هجمات خصومه الذين
حيرصون على جتزئته ونقضه جزءًا جزءًا.12
طبق املفكرون اإلسالميون نظريتهم عن الدين على اإلسالم فبدت نظرية مثالية مهمتها
اإلثبات والتثبيت ،وطبقوها على األداين األخرى فإذا هي نظرية نقدية لبيان حتريف طال
الدايانت األخرى وحفظ دين اإلسالم ،وغلب عليهم الدفاع عن إمياهنم .وميكن اإلشارة
إىل دالالت الدين عندهم على النحو اآليت:
الدين :تصور كلي ورؤية للعامل
حمتدما حول صالحية الدين ملواكبة العصر وأداء وظائفه االجتماعية
بينما كان اجلدل ً
واحلضارية ،كتب حممد إقبال "جتديد التفكري الديين يف اإلسالم" ً
جتميعا حملاضرات ألقاها
جديدا ،جيمع بني املأثور من فلسفة
يف ربوع اهلند لبناء الفلسفة الدينية اإلسالمية بناءً ً
13
معتربا حلظته التارخيية ساعتها مناسبة هلذا .ويرى
اإلسالم واملتطور من املعرفة اإلنسانيةً ،
12منري شفيق ،اإلسالم يف معركة احلضارة( ،الناشر والرباق للطباعة والنشر ،)1981 ،ص .32-28
وراجع حممد الغزايل ،الدعوة اإلسالمية يف القرن احلايل( ،القاهرة :دار الشروق ،)1998 ،ص .59-57
13حممد إقبال ،جتديد التفكري الديين يف اإلسالم ،ترمجة :عباس حممود ،مراجعة :عباس املراغي ،مهدي عالم،
(القاهرة :دار اهلداية للطباعة والنشر والتوزيع ،ط1421 ،2هـ2000/م) ،ص .4
22
عرف للدين إقبال غلبة التفكري الفلسفي الواقعي على العصر ،لكنه يواجهه بضرورة أن ير َ
مقامه "وعندما تتهيأ الفلسفة للحكم على الدين ال تستطيع أن تفرد له مرتبة دنيا
جمردا فحسب ،وال فكرا ًأمرا جزئيًا ،ليس ً
بني املوضوعات اليت تتناوهلا .فالدين ليس ً
جمردا ،بل هو تعبري عن اإلنسان كله ،وهلذا جيب على الفلسفة عمال ً
جمردا ،وال ً شعورا ً
ً
عند تقديرها للدين أن تعرتف بوضعه األساسي ،وال مناص هلا من التسليم أبن له
شأًن جوهرًاي يف التأليف بني ذلك كله أتلي ًفا يقوم على التفكري" .14ومن املهم أن نقارن
ً
بني نظرة إقبال هذه يف مطلع القرن وجهود اتلية لدى عدد من أعمدة النظر الفلسفي يف
أواخر القرن مثل إمساعيل راجي الفاروقي ،وعبد الوهاب املسريي ،وروجيه جارودي،
وسيد حسني نصر ،وأيب يعرب املرزوقي ،وطه عبد الرمحن.
حتديدا؛ "والدين يف هذا املعىن يسمى
لكن إقبال ركز من معىن الدين على التجربة الروحية ً
ابلتصوف ،وهو اسم سيئ احلظ؛ إذ يفرتض يف التصوف أنه نزعة للعقل تزهد يف احلياة،
متاما النظرة التجريبية اليت هي أساس التفكري يف زمانناوجتانب الواقع ،معارضة بذلك ً
أيضا التفلسف من عهد هذا" .وعقب اسرتساله يف نقد التجريبية الغربية املعاصرة ،ينتقد ً
وصوال إىل أسلوب الصوفية املعاصر -وهو األسلوب كانط إىل علم النفس التحليلي ً
الذي برأي إقبال تطورت ومنت به احلياة الدينية يف أمسى صورها يف الشرق والغرب-
و"الذي أصبح اآلن يف حكم الفاشل" ،فقد أصبح "أبعد ما يكون عن تدعيم قوى احلياة
نوعا من
النفسانية عند الرجل العادي حبيث تعده للمشاركة يف موكب التاريخ ،فعلّمه ً
الزهد الزائف ،وجعله يقنع جبهله وِرقّه الروحي قناعة اتمة"؛ لينهى كتابه ابلتعبري عن مبتغاه
من الدين والتجربة والتصوف "احلق" أبنه "عمل حيوي يعمق من كيان الذات كله ويشحذ
إرادهتا بتأكيد مبدع أبن العامل ليس شيئًا جملرد الرؤية أو أنه شيء يعرف ابلتصور ،وإمنا هو
شيء يبدأ ويرعاد ابلعمل املستمر .واللحظة اليت تعرف فيها الذات ذلك هي اللحظة اليت
تستشعر فيها السعادة العظمى وجتتاز أكرب امتحان هلا".15
ويف الوقت الذي كانت اجلامعات واملدارس اجلديدة يف عامل اإلسالم تر َد ِّرس علوم الغرب
وكتبه ،ويقوم على التدريس فيها مستشرقون ومتغربون يكرسون النظرة الغربية الوضعية
حممد عبد هللا دراز ،الدين :حبوث ممهدة لدراسة اتريخ األداين( ،القاهرة والكويت :دار القلم للنشر 16
والتوزيع ،ط1424 ،5هـ2003/م) ،ص .66-61وابلطبع مل يكن دراز أول من كتب تعري ًفا للدين من
مفكري املسلمني احملدثني ،فقد ضمنه مجال الدين األفغاين يف رده على الدهريني وابألخص يف مناظرته مع
إرنست رينان ،وحممد عبده يف رسالة التوحيد وتفسري املنار ويف مناظراته مع هانوتو ومع فرح أنطون يف "اإلسالم
بني العلم واملدنية" ،وكذلك فعل رشيد رضا والبشري اإلبراهيمي والطاهر بن عاشور وغريهم .وميكن اإلشارة إىل
السفر الضخم للشيخ مصطفى صربي عن "موقف العقل والعلم والعامل من رب العاملني وعباده املرسلني" ،وقد
حتليال لقضية الدين .ولكن دراز يتميز عن كل ما سبق وإثباات حلقيقة الدين واإلميان أكثر منه ً
دفاعا ً كان ً
بتخصيص كتابه هذا لبناء نظرية عن الدين بعامة ومبا يصلح لألداين كافَّةً ،مع إشارات إىل اإلسالم عند احلاجة.
24
إهلي يرشد إىل احلق يف االعتقادات وإىل اخلري يف السلوك واملعامالت" .17ولقد أطرت
هذه الثنائية (االعتقادات واملعامالت) نظرة اإلسالميني من بعد عرب بقية القرن :عقيدة
وشريعة ،وركز بعضهم على هذا واآلخرون على ذلك ،مث اتسع التفصيل داخل كل شق
منهما.
ومن هذا اخليط ،وعلى غري حتديد د .دراز للدين فيما هو إهلي عبادي ،ظهرت يف وسط
القرن وجهة لدى اإلسالميني تتوسع يف معىن "الدين" ومعاين املفاهيم املقابلة له ليشمل
خمتلف االعتقادات ومناهج الفكر واملذاهب اإلنسانية واالجتماعية اليت تررشَّح لكي تكون
نظاما للحياة .وبرز يف هذا املضمار كثريون مثل حممود شاكر وأيب األعلى املودودي وسيد
ً
فمثال كتب سيد قطب يف "املستقبل هلذا الدين" ً وغريهم. الندوي، احلسن أيبو قطب
فصال بعنوان "كل دين منهج حياة" قال فيه" :هنالك ارتباط وثيق بني طبيعة النظام ً
االجتماعي وطبيعة النظام االعتقادي ..بل هناك ما هو أكرب من االرتباط الوثيق،
هنالك االنبثاق احليوي :انبثاق النظام االجتماعي من التصور االعتقادي -حىت
يقول -إن كل دين هو منهج للحياة مبا أنه تصور اعتقادي ..أو بتعبري أدق :مبا أنه
يشمل التصور االعتقادي وما ينبثق منه من نظام اجتماعي ..بل هو منهج حيكم كل
نشاط اإلنسان يف هذه احلياة الدنيا .كذلك عكس هذه العبارة صحيح ..إن كل
منهج للحياة هو دين .فدين مجاعة من البشر هو املنهج الذي يصرف حياة هذه
اجلماعة".18
وقريبًا منه يقول حممود شاكر" :ورأس كل "ثقافة" هو "الدين" مبعناه العام ،والذي هو
فطرة اإلنسان؛ أي دين كان -أو ما كان يف معىن الدين ،-وبقدر مشول هذا الدين
25
جلميع ما يكبح مجوح النفس اإلنسانية 19وحيجزها عن أن تزيغ عن الفطرة السوية
قادرا على ضبط األهواء
تغلغال جيعل صاحبها ً
العادلة ،وبقدر تغلغله إىل أغوار النفس ً
اجلائرة ،ومري ًدا هلذا الضبط -بقدر هذا الشمول وهذا التغلغل يف بنيان اإلنسان
تكون قوة العواصم اليت تعصم صاحبها من كل عيب قادح يف مسرية "ما قبل املنهج"،
مث يف مسرية "املنهج" الذي ينشعب من شطره الثاين؛ وهو "شطر التطبيق" .وهذا
خاصا أبمة بل هو شأن كل جيل من الناس وكل أمة من الذي حدثتك عنه ليس ً
األمم.20"...
ومن الواضح مدى أتثر هذه املدرسة واملرحلة بنزعة األيديولوجيا الشاملة أو الشمولية اليت
اثرت يف الغرب وعلى رأسها الشيوعية والقومية يف مطلع القرن العشرين ،21يقول قطب
يف السياق نفسه" :واحملدثون من أصحاب املذاهب والنظرايت والفلسفات االجتماعية
مل يعودوا ُحيجمون أو يتحرجون من التصريح هبذه احلقيقة؛ وهي أهنم إمنا يقررون
عقائد ،ويريدون أخذ الناس هبا يف واقع احلياة ،وأهنم يريدون إحالل هذه العقائد
االجتماعية أو الوطنية أو القومية حمل العقيدة الدينية ..فالشيوعية ليست جمرد نظام
اجتماعي ،إمنا هي كذلك تصور اعتقادي ،تصور يقوم على أساس مادية هذا الكون،
ووجود املتناقضات يف هذه املادية ،هذه املتناقضات املؤدية إىل كل التطورات
واالنقالابت فيه؛ وهو ما يعرب عنه ابملادية اجلدلية -حىت يقول -وكذلك سائر مناهج
احلياة وأنظمتها الواقعية ،يسميها أصحاهبا عقائد ويقولون :عقيدتنا االجتماعية أو
19ميكن اإلشارة يف هذا الصدد إىل :سيجموند فرويد ،قلق يف احلضارة ،ترمجة جورج طرابيشي( ،بريوت :دار
الطليعة للطباعة والنشر ،ط ،)1996 ،4ص .25-19وفيه رؤية للدين شديدة السلبية والقتامة على النقيض
من السائد يف الفكر اإلسالمي.
20حممود حممد شاكر ،رسالة يف الطريق إىل ثقافتنا( ،القاهرة :اهليئة املصرية العامة للكتاب ،)1997 ،ص
.31
21انظرPaul Salem, Bitter Legacy: Ideology and Politics in the :
Arab World, (Syracuse: Syracuse University Press, 1994).
26
عقيدتنا الوطنية أو عقيدتنا القومية ..وكلها تعبريات صادقة يف تصوير حقيقة األمر؛
وهو أن كل منهج للحياة أو كل نظام للحياة هو "دين" هذه احلياة".22
وعلى هذا املنوال الكل ِّي يف النظر إىل الدين تواترت كتاابت الحقة ملفكرين كثر من أمثال
الدين جبرملة املفاهيم الكلية
عرف هذه الطبقة َ بيجوفيتش ،والفاروقي ،وأوغلو ،واملسريي .وتر ِّ
للوجود ويف قلبها اإلنسان واحلرية والتجاوز للمادة والطبيعة ،وأصل الكون :خلق أو تطور
وجوداي حبيث
ً أو انفجار فوضوي ،بل يعرف بعضها اإلنسان وتلك املفاهيم ابلدين تعري ًفا
ال يثبت وجودها إال إبثبات الدين.
فيعرف علي عزت بيجوفيتش "الفلسفة اإلنسانية" ابلدين ،ويصل إىل أن الدين هو
اإلنسانية احلرة ،املميزة لإلنسان عن احليوانية والشيئية املادية" :إن قضية اخللق [يف مقابل
التطور املادي أو احليواين اجملرد] هي -يف احلقيقة -قضية احلرية اإلنسانية .فإذا قبلنا فكرة
أن اإلنسان ال حرية له ،وأن مجيع أفعاله حمددة ساب ًقا -إما بقوى جوانية أو برانية -ففي
هذه احلالة ال تكون األلوهية ضرورية لتفسري الكون وفهمه .ولكن إذا سلمنا حبرية اإلنسان
ومسؤوليته عن أفعاله ،فإننا بذلك نعرتف بوجود هللا إما ضمنًا أو صراحة .فاهلل وحده هو
حرا .فاحلرية ال ميكن أن توجد إال بفعل اخللق .احلرية ليستالقادر على أن خيلق خملوقًا ًّ
إنتاجا للتطور ،فاحلرية وذلك اإلنتاج فكراتن متعارضتان .إن هللا ال ينتج والنتيجة وال ً
يشيّد ،إن هللا خيلق ،وقد اعتاد الناس أن ينسبوا إىل رجال الفن فكرة اخللق .ولكن الفنان
الذي يشيد ال يقوم خبلق شخصية وإمنا صورة إلنسان .فالشخصية ال ميكن تشييدها.
عاجال،
آجال أو ً وأان ال أعرف ماذا ميكن أن تعين الصورة بدون هللا .قد يتمكن اإلنسان ً
خالل هذا القرن أو بعد مليون سنة من احلضارة املتصلة ،قد ينجح اإلنسان يف تشييد
صورة مقلدة من نفسه ،نوع من اإلنسان اآليل أو مسخ ،شيء قريب الشبه بصانعه .هذا
قادرا على أن يعمل فقط ما متت ابإلنسان ،لن تكون له حرية ،إنه سيكون ً املسخ الشبيه
23
برجمته عليه. "...
27السيد حسني نصر ،دليل الشباب املسلم يف العامل احلديث ،ترمجة :فاروق جرار ،صادق عودة( ،القاهرة:
مكتبة الشروق الدولية ،ط1424 ،1هـ2004/م) ،ص .17
29
بداينتهم .وهلذا قد تتقابل اإلطالقات ما بني أهل داينتني فيعترب كل منهم الفريق اآلخر
كافرا".28
ً
أي إن شريعيت يقدم بـر ْع ًدا يتجاوز رؤى الصراع املعاصر بني الدين والعلمانية ليناقش الصراع
بني صورتني للدين :دين ثوري (هو دين التوحيد) ،ودين تربيري (هو النسخة املستلبة
واملزورة للدين)" :الدين الثوري هو دين يغذي أتباعه ومعتنقيه برؤية نقدية حيال كل ما
شعورا ابملسؤولية جتاه الوضع القائم جيعلهم
حييط هبم من بيئة مادية أو معنوية أو يكسبهم ً
دائما إىل "تربير الوضع
يفكرون بتغيريه"؛ وذلك خبالف ماهية الدين التربيري الذي يسعى ً
القائم عرب ترويج املعتقدات ذات الصلة مبا وراء الطبيعة ويسعى إىل حتريف االعتقاد ابملعاد
واملقدسات والقوى الغيبية ويشوه املبادئ العقائدية والدينية ليقنع الناس أبن وضعهم الراهن
هو الوضع األمثل الذي جيب أن يرضوا به؛ ألنه مصدر إلرادة هللا تعاىل وهو املصري احملتوم
الذي كتبه هللا عليهم .29"...وسنجد الفكرة نفسها يف كتابه "التشيع الصفوي والتشيع
العلوي".
وابلرغم من االلتباس يف عبارة شريعيت األخرية ،فقد أكد كثريون هذا التعريف "الثوري"
للدين ال سيما اإلسالم والذي يواجه هيمنة التأويل والتوظيف السلطوي للدين ،يقول
أيضا عاجز عن الثورة .والبالد اليت متارس
بيجوفيتش" :إن اجملتمع العاجز عن التدين هو ً
نوعا من املشاعر الدينية احلية ،وأن مشاعر األخوة والتضامن احلماس الثوري متارس ً
والعدالة هي مشاعر دينية يف صميم جوهرها ،وإمنا موجهة يف ثورة لتحقيق العدالة واجلنة
كال من الثورة والدين يعيشان يف خماض من األمل واملعاانة وحيتضران يف
على األرض .إن ً
الرخاء والرفاهية والرتف .حياة الدين والثورة تدوم بدوام النضال واجلهاد ،حىت إذا حتققا،
يبدأ املوت يتسرب إليهما ..إىل قوله :فإذا وجدان خصومة للثورة يف نطاق الدين ،فهم
28علي شريعيت ،دين ضد الدين ،ترمجة :حيدر جميد( ،العراق -النجف األشرف :دار الفكر اجلديد ،ومؤسسة
العطار الثقافية ،ط1423 ،1هـ2003/م) ،ص ،24-23ص .27
وانظر رؤية مقاربة جدًّا لـ :مالك بن نيب ،الظاهرة القرآنية( ،القليوبية-مصر :دار الوطن للطبع والنشر والتوزيع،
2016م) ،ص .83-80
29علي شريعيت ،دين ضد الدين ،مرجع سابق ،ص .42-40
30
خصوم ينتمون إىل الدين الرمسي فقط ،أي إىل الكنيسة ونظامها اإلداري اهلرمي ،أو الدين
املؤسسي الزائف .وعلى العكس ،فإن الثورة الزائفة أي الثورة اليت حتولت إىل مؤسسة وإىل
أيضا إىل مؤسسة وإىل بريوقراطية.
دائما حليفها يف الدين الذي حتول هو ًبريوقراطية ،جتد ً
30
يدا بيد" .فما إن تبدأ الثورة تكذب وختدع نفسها حىت متضي مع الدين املزيف ً
وكذلك يعرف بيجوفيتش الدين من خالل التأمل يف مفاهيم وقيم كاملساواة واإلخاء
واألخالق" :إن املساواة بني الناس واإلخاء ممكن ،فقط ،إذا كان اإلنسان خملوقًا هلل.
فاملساواة اإلنسانية خصوصية أخالقية وليست حقيقة طبيعية أو مادية أو عقلية -إىل
قوله -ويف مقابل ذلك ،إذا نظران إىل الناس من الناحية املادية أو الفكرية أو ككائنات
اجتماعية أو أعضاء يف جمموعة أو طبقة أو جتمع سياسي أو أممي ،فالناس يف كل هذا
دائما غري متساوين .ذلك ألننا إذا جتاهلنا القيمة الروحية -وهي حقيقة ذات صبغة ً
دينية -يتالشى األساس احلقيقي الوحيد للمساواة اإلنسانية"31؛ أي حبكم الواقع أو
الطبيعة إذا حكمنامها.
وقد تطور مع الوقت عند املفكرين اإلسالميني ما أصبح يعرف بتيار فلسفة الدين أو
الفلسفة الدينية ومل يعد جمرد كتاابت متفرقة ،وبرز مفكرو الشيعة يف إيران ومن اتصل هبم
من العراق ولبنان يف هذا املضمار منذ الثمانينيات .وتبحث هذه الكتاابت يف عالقات
املقدس والبشري ،وهل هي عالقات ِعلية توليدية ،أو عالقات جدلية سجالية -على
روايتني فلسفيتني -لتصل كما يقول شفيق جرادي إىل "إنشاء معاجلة إسالمية معرفية،
موضوعية ،حبثية ،جادة للدين ،تعرب عن فلسفة خاصة انبعة من صميم القناعة اإلسالمية
دون إلصاق أي هتمة ابلتضليل املعريف أو عدم اجلدية أو املوضوعية حبقها .32"...ومن مثَّ
30علي عزت بيجوفيتش ،اإلسالم بني الشرق والغرب ،مرجع سابق ص .115
31املرجع السابق ،ص .86-85
32شفيق جرادي ،مقارابت منهجية يف فلسفة الدين( ،بريوت :مركز احلضارة لتنمية الفكر اإلسالمي ،ط،1
،)2010ص .63
31
عرف جرادي فلسفة الدين أبهنا "البحث احلر يف مناشئ ومقومات وطبيعة النظرة اليت ير ِّ
33
حيملها الدين؛ من موقع معريف هو أقرب للتوصيف احليادي منه لالحنياز املؤدجل" .
مهما
مرجعا ً
ويعد كتاب مصطفى ملكيان "العقالنية واملعنوية :مقارابت يف فلسفة الدين" ً
يف التأسيس هلذا اجملال وحدوده ،واقرتاح املباحث األساسية فيه؛ واليت ختلص إىل مدلول
مشروعا إنسانيًّا لتجديد املعرفة والفلسفة والفكر واحلضارة.34
ً للدين ابعتباره
ويف هذا الصدد قدم د .عبد اجلبار الرفاعي ومركز دراسات فلسفة الدين "موسوعة فلسفة
الدين" إلسالميني حمدثني وغربيني ،ويف موضوعات عدة تدور حول مفهوم الدين وطرائق
دراسته والتأمل فيه ،ختلص إىل املعىن السابق لفلسفة الدين ،وتشري عرب بعض مقالتها إىل
مفهوم الدين الفلسفي؛ الذي هو مذهب لفهم الدين عرب الفلسفة يرنسب ملا بعد هتافت
مفهوما فلسفيًّا للدين أشبه مبفهوم
ً الفالسفة للغزايل .35ويف هذا اإلطار يقدم حممد خامتي
حممد إقبال اجلامع بني تطهري الباطن اإلنساين ومواجهة املستَ َجد العصري.36
ر
أيضا اإلشارة إىل جهدين مهمني يف املدرسة املغاربية؛ األول يقوم عليه د .أبو
ومن املهم ً
حقيقيت كل من الفلسفة والدين ضد "املتعاملني هبما" كما
َْ يعرب املرزوقي الذي يدافع عن
يصف ،ممن يسميهم حزيب الباطنية والظاهرية يف احلقلني ،فيقول" :فرغنا من أمر الفكر
32
الديين الذي رحِّرف بصورة ال تكاد تقبل اإلصالح :مل يعد الدين إال أداة سياسية وقشور
تعبدية عند كال احلزبني الظاهري والباطين وكادت التجارب الدينية احلية تزول (يف ِملة
غلب على خنبها التَقية فكانت شر بَلية) كما وصفهم ابن خلدون عند الكالم على مثرات
إجيااب
االستبداد السياسي والرتبوي .وحنن اليوم يف أفق للتفكري يدعي أصحابه أنه فلسفي ً
لكنه يقبل التعريف بكونه أف ًقا دينيًا سلبًا ،ونكاد نصل إىل نفس احلال يف الفكر الفلسفي
الذي حرف بصورة ال تكاد تقبل اإلصالح :فحزابه كالمها أصبح ينتحل الفلسفة ويهاجم
متاما كما كان احلزابن الدينيان يف األفق السابق [أي زمن الغزايل] ينتحالن الدين
الدين ً
37
ويهامجان الفلسفة. "...
وواضح ما يف هذا املشروع من كفاحية فلسفية تتكامل روحيًا مع املشروع اآلخر (مشروع
د .طه عبد الرمحن) الذي جيهد إلعادة تعريف املفاهيم الكربى حول الدين نفاذًا إليه؛
من زاوية النظرة األخالقية على سبيل املثال األبرز عنده .فاإلنسان الذي يتخلق مبعىن
"الفتوة املنتفضة" ميثل عنده "كمال التدين" على اعتبار "أن التدين يف ال َفىت ممارسة
ضرورية ،بينما هو يف اإلنسان ممارسة اختيارية؛ فاإلنسان قد يتجاهل واقع الدين اإلهلي
من حوله أو يشكك يف قيمته أو ينكر مصدره أو ميتنع كليًا عنه ،ذاهبًا إىل حد وضع
دين من عنده بدله ،ال يتوسل يف ذلك إال بفكره اجملرد؛ والشاهد على ذلك ما يعرف
منذ مطلع العصر احلديث ابسم النزعة اإلنسانية ،فاملقصود االصطالحي منها هو ابلذات
النزعة اليت تقصر مهها على اإلنسان ابعتباره مستغنيًا بذاته يف وجوده وأفعاله ،فال حيتاج
إىل اعتبار خالق هلذا اإلنسان أو التماس دين منه .أما ال َف َىت ،فإنه جيد يف ممارسة اجلني
اإلهلي املصدر األول الذي ينبغي أن أيخذ منه أخالقه ،مع العلم أبن األخالق هي -
على ما تقدم -املقوم األساسي للهوية" .38فالذي مييز الفتوة هو اهلِمة والسعي ،ومن
ذلك يعتين مبفهوم "روح الدين" الذي يعتمد على قدرة ملكات اإلنسان على التجاوز،
صوًن للفلسفة والدين( ،دمشق :دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع ،ط،)2007 ،1
أبو يعرب املرزوقيً ،
37
أيضا :فلسفة الدين من منظور الفكر اإلسالمي( ،بريوت :دار اهلادي للطباعة والنشر
ص .8وانظر له ً
والتوزيع ،ط1427 ،1هـ2006/م).
38طه عبد الرمحن ،احلق العريب يف االختالف الفلسفي( ،الدار البيضاء :املركز الثقايف العريب ،ط،)2009 ،2
ص .178-176
33
وتشكل حياته ابزدواج املرئي ابلغريب ،ومبدأ الفطرة ،ليصل إىل قراءة روح السياسي -ال
سيما املستبد الظاهر أو الكامن -وما فيه من تغييب وختويف على غرار األداين" :والقول
اجلامع يف هذا للمقام الثاين هو أن مبدأ السلطان ميكن الفاعل السياسي من ممارسة
التغييب على الوجه األكمل؛ إذ ال يلبث أن يرتقي بنسبته إىل رتبة التسيد ،ومبلكه إىل
خالعا على سلطانه صفيت اإلطالق والقداسة، رتبة امللكوت ،وبقوته إىل رتبة اجلربوتً ،
39
وعلى شخصه صفيت األلوهية والوحدانية. "...
وتواىل هذا اخلط األشبه ابلفلسفي يف تعريف اإلسالميني للدين عامة ،والدين اإلسالمي
وجودا
خاصة ينسب إىل الدين سائر الكليات ابعتبار الكليات دينية ومثبتة لضرورة الدين ً
نظام
وقيمة .وعلى هذا األساس تدعمت الوجوه األخرى لتعريف الدين؛ وخاصة كونه َ
حياةٍ ً
شامال.
الدين نظام حياة شامل :مشول الشريعة
تقدم تعريف الدين -كل دين -أبنه منهج حياة شامل ،وأنه على هذا املعىن التقت كلمة
اإلسالميني بتوجهاهتم كافَّةً .واملقصود ابلشمول هنا هو الشريعة بَعد العقيدة املشار إليها
(وحتديدا اإلسالم) مستويني متكاملني :مستوى ركلي
ً أعاله ،وقد اختذ هذا التعريف للدين
أو إمجايل يرعىن ابخلصائص العامة للشريعة اإلسالمية وكوهنا تتسم ابلكمال واإلحاطة
بكليات احلياة وجزئياهتا ،ومستوى جزئي أو تفصيلي يشرح كيف يتفرع عن هذه الشريعة
نظم قانونية ودستورية ،وسياسية ،واقتصادية ،واجتماعية ،وإقليمية وعاملية ،ونظام معرفة
جم غفري
وفلسفة علم ،ونظام ثقايف مبفاهيمه وأفكاره .واشرتك يف هذا التعريف التفصيلي ٌّ
فضال عن مفكرين وفقهاء رعنوا ابملستوى األولمن سائر التخصصات العلمية والعمليةً ،
الكلي.
يقول حسن البنا يف رسائله عن معىن "إسالمية" دعوته" :دعوتنا دعوة أمجع ما توصف
به أهنا (إسالمية) ،وهلذه الكلمة معىن واسع غري ذلك املعىن الضيق الذي يفهمه
مجيعا ،ويفيت يف كل
فإًن نعتقد أن اإلسالم معىن شامل ينتظم شؤون احلياة ً الناس ،ا
حمكما دقي ًقا ،وال يقف مكتوفًا أمام املشكالت احليوية
نظاما ً
شأن منها ويضع له ً
39طه عبد الرمحن ،روح الدين :من ضيق العلمانية إىل سعة االئتمانية ،مرجع سابق ،ص .131
34
والنظم اليت ال ب اد منها إلصالح الناس .فهم بعض الناس خطأ أن اإلسالم مقصور
على ضروب من العبادات أو أوضاع من الروحانية ،وحصروا أنفسهم وأفهامهم يف
هذه الدوائر الضيقة من دوائر الفهم احملصور .ولكنا نفهم اإلسالم على غري هذا
واسعا ينتظم شؤون الدنيا واآلخرة ،ولسنا ندعي هذا ادعاء أو
فسيحا ًً فهما
الوجه ً
نتوسع فيه من أنفسنا ،وإمنا هو ما فهمناه من كتاب هللا وسرية املسلمني األولني" .
40
وقد كرس كثري من مفكري اإلسالميني مشروعاهتم الفكرية والدعوية والفقهية إلثبات هذه
الفكرة ودفعها للتطبيق ابسم تطبيق الشريعة .وكانت بالد اإلسالم -منذ النصف األول
من القرن العشرين -جمربًة على االختيار صورًاي بني الشيوعية (أو االشرتاكية) والرأمسالية،
وانربى اإلسالميون يواجهون الواقع العلماين الوافد والفكر املروج له يف وقت جيددون فيه
مثال الشيخ حممد الغزايل ،الذيتعريف الدين أمام دعوات إزاحته أو إزالته .ويربز يف ذلك ً
يؤلف يف السنوات العشر اليت سبقت حركة 23يوليو 1952كتبًا منها :اإلسالم
وأوضاعنا االقتصادية ،واإلسالم واملناهج االشرتاكية ،واإلسالم املفرتى عليه بني الشيوعيني
ردا علىوالرأمساليني ،واإلسالم واالستبداد السياسي ،قبل أن يكتب" :من هنا نعلم" ًّ
األستاذ خالد حممد خالد ودعوته العلمانية قبل أن يرجع عنها .ويف كتابه "اإلسالم املفرتى
عليه" ،يقول" :ألفت هذه الرسالة ورتبت فصوهلا احملدودة لغاية واحدة؛ هي إعطاء القارئ
صورة صادقة عن الفكرة الذاتية للدين ،والروح العامة ملبادئه ...وحاشاي هبذا الكالم أن
أقحم الدين فيما ليس له ،أو أن أمحله من اآلراء ما ال شأن له به .41"...وقد أسهم
الغزايل بعشرات الكتب واملقاالت يف النقاشات اجلارية على الساحة الثقافية واإلسالمية
داعيًا لتطبيق الدين بني من رآهم يسيئون فهمه سواء من العلمانيني أو املتدينني
دعواي)؛ ليؤكد أن الدين ال يكون بغري التطبيق والعمل،
اإلسالميني( ،ومن مثَّ كان مشروعه ً
وكأنه مياهي بني الدين والتدين" :ليس هناك جهد إسالمي واضح خلدمة الرسالة اخلامتة
وتبصرة الناس ملا فيها من حق وخري ..إىل قوله ..يف عامل يبحث عن احلرية نرصور اإلسالم
35
دين استبداد ،ويف عامل حيرتم التجربة ويتبع الربهان نرصور الدين غيبيات مستوردة من عامل
اجلن ،وهتاويل مبتوتة الصلة بعامل الشهادة.42"...
ويقول الشيخ الغزايل مبينًا طبيعة الدين كنظام حياة" :إن هللا تعاىل أيىب أن يكون جممل
صلته خبلقه حلظات هدوء أو مناجاة يف هذه البيوت اليت أقيمت ابمسه ،مث ينطلق الناس
بعدها يف جنبات األرض حييون كيف يشتهون ويتعاملون مبا يتواضعون عليه من قوانني
وتقاليد؛ ذلك أن هللا تعاىل قد نظم للناس شؤوهنم اخللقية واالجتماعية والسياسية ،وأراد
أن يسريوا على ما شرع هلم ،ال داخل جدران املعابد وحدها ،بل يف تقلبهم آانء الليل
مجيعا" ،ويشرح دور الفرد
وأطراف النهار ..يف أحناء الرب والبحر ،ويف ممارسة شؤون احلياة ً
واجملتمع والدولة أو احلكومة يف تطويع احلياة للدين حىت يقول" :وتطويع احلياة خلدمة
الدين عمل شعيب وحكومي يف آن واحد ،وهو حيتم توجيه النشاط الفردي واجلماعي
خلدمة الرسالة العامة وحتقيق غاايهتا ...إن الكدح هلل هنا يتجاوز املسجد ليتناول احلقل،
واملصنع ،واملرصد ،والدكان ،والديوان ،والرب ،والبحر ،وما يكتب ،وما يسمع ،وقد يتناول
خطرات النفس وأحالم النيام ..اإلسالم رسالة توجب على معتنقيها أن جيعلوا جمتمعهم
أجدر ابحلياة ،وأقدر على النجاح ،وكل ما يعني على ذلك فهو دين ،أو كما يقول علماء
األصول :ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب".43
ومن ابب التداخل بني الدين والتدين أو وجوب أن يتحقق الدين تدينًا ،يكتب فريد
سريا إىل هللا يف مواكب اجلمال ...وإهنا
األنصاري "مجالية الدين"" :فليكن الدين إذن ً
للطافة كرمية أن جيمع احلق سبحانه يف مفهوم الدين من خالل هذه الكلمات النورانية
بني مجالني :مجال الدين ومجال الدنيا{ :قل هي للذين آمنوا يف احلياة الدنيا خالصة يوم
القيامة كذلك نفصل اآلايت لقوم يعلمون} ليكون ذلك كله هو صفة املسلم".44
ويواصل" :إنه الدين مبا هو منبع اجلمال يف اإلسالم ،ومبا هو أساس أتطري احلياة اجلمالية،
42حممد الغزايل ،مهوم داعية( ،القاهرة :هنضة مصر ،ط ،6يناير ،)2006ص .5 -4
43حممد الغزايل ،مشكالت يف طريق احلياة اإلسالمية( ،القاهرة :هنضة مصر ،ط ،7أكتوبر ،)2005ص
.11-3
44فريد األنصاري ،مجالية الدين ،معارج القلب إىل حياة الروح( ،القاهرة :دار السالم للطباعة والنشر
والتوزيع والرتمجة.)2009 ،
36
يف شىت جتليات احلضارة ،املعنوية واملادية .أي من الرتتيل إىل التشكيل ،أو بعبارتنا
املنهجية :من القرآن إىل العمران".
ومع صحوة السبعينيات ظهرت االجتهادات العلمية املتخصصة للجواب عن سؤال تطبيق
الدين ،وبرز يف ذلك املضمار شيوخ وفقهاء ،وأكادمييون دارسون للعلوم االجتماعية،
ومؤسسات حبثية واستشارية عديدة .وهنا نالحظ صعود جانب الشريعة والفقه واالجتهاد
يف التعريف ابلدين اإلسالمي ،فكتب القرضاوي" :الشريعة اإلسالمية صاحلة لكل زمان
ومكان" ،وقدم مناذج لتطبيقها يف االقتصاد والسياسة واالجتماع والفن ...ومسى ذلك
املشروع ابحلل اإلسالمي ابعتباره البديل للمشروعات املفروضة أو املعروضة أو املستوردة:
"إن معىن احلل اإلسالمي أن يكون اإلسالم هو املوجه والقائد للمجتمع يف كل امليادين
وكل اجملاالت مادية ومعنوية .معىن احلل اإلسالمي أن تتجه احلياة كلها وجهة إسالمية،
وأن تصبغ ابلصبغة اإلسالمية .معىن احلل اإلسالمي أن تكون عقيدة اجملتمع إسالمية،
وشعاراته إسالمية ،ومفاهيمه وأفكاره إسالمية ،ومشاعره ونزعاته إسالمية ،وأخالقه
أخريا أن تكون قوانينه وتشريعاته
إسالمية ،وتربيته إسالمية ،وتقاليده وآدابه إسالمية ،و ً
إسالمية .وبعبارة أخرى :احلل اإلسالمي هو الذي يربز به اجملتمع اإلسالمي إىل حيز
الوجود بكل مقوماته ودعائمه وبكل خصائصه ومميزاته ،دون إهدار لشيء منها.45"...
ويفصل القرضاوي يف معامل هذا احلل اإلسالمي؛ لكي يشمل الدين يف التطبيق االجتماعي
والعام النواحي :الروحية واألخالقية ،والرتبوية والثقافية ،واالجتماعية ،واالقتصادية،
والعسكرية ،والسياسية ،والتشريعية؛ أي جوانب احلياة احلديثة كافَّةً .46ولكن من أهم
شروط حتقيق ذلك احلل :ضرورة الدولة اإلسالمية (حاجة اإلسالم إىل دولة) ،مث املرجعية
اإلسالمية (االستمداد من اإلسالم) ،وال َّ
بد من أن يؤخذ الدين كله بال جتزئة ،وأن يكون
اضحا ال متوارًاي ،وأن يكون غاية منشودة ال أداة وسيطة .47ومن هذا البيان تتفرع
عنو ًاان و ً
مدلوالت اجتماعية وسياسية وثقافية وعاملية للدين (وابألخص اإلسالم) .ونشري إىل
مالحظة تبدو مهمة يف هذا املقام ،ففي هذا املستوى يبدو أن مفهوم الدين عند
45يوسف القرضاوي ،احلل اإلسالمي فريضة وضرورة( ،بريوت :مؤسسة الرسالة1974 ،م) ،ص.47-46
46املرجع السابق ،ص .85-49
47املرجع السابق ،ص .120-86
37
اإلسالميني ال يتسع لغري الدين اإلسالمي ،بل إن اإلسالم يشمل معىن للدين ومع غريه
(الدنيا ،الدولة ،العلم ،)..يقول القرضاوي" :ال جمال يف اإلسالم لدعوى التعارض أو
العداوة بني الدين والعلم ،فالدين يف اإلسالم علم ،والعلم فيه دين ..يقول العالمة هورتن:
يف اإلسالم وحده جتد احتاد الدين والعلم ،فهو الدين الوحيد الذي يوحد بينهما .فنجد
ماثال متمكنًا يف دائرة العلم وترى وجهة الفلسفة ووجهة العلم متعانقتني ،فهما فيه الدين ً
48
واحدة ال اثنتان" .ويعتمد يف حل إشكال موقع الدين والعلم من اإلسالم على د.
اعتمادا أساسيًا.49
ً حممد عبد هللا دراز
وهبذا يبدو الدين ذا مستويني من الداللة :مستوى أعلى وأوسع ،وهو الذي تواجه به
الفلسفات والرؤى الكلية؛ ومستوى أضيق حيتويه اإلسالم ويتعلق ابجلانب النظري من
الدين (اإلسالم) وتقابله اجلوانب التطبيقية ،أو اجلانب اخلاص ابإلهلي يف مقابل البشري،
والوحي يف مقابل العقل والوجود أو الواقع ،والتشريع يف مقابل جماالت التطبيق .وعلى
هذا األساس جاءت تفصيالت املشروع الديين العملي لإلسالميني ،املعروف ابملشروع
اقتصاداي وأخالقيًّا وحضارًّاي ومعرفيًّا
ًّ اإلسالمي أو احلل اإلسالمي :سياسيًّا واجتماعيًّا و
وعامليًّا .وميكن اإلشارة إىل دالالت الدين يف كل فرع من هذه الفروع.
منظورا معرفيًا وعلميًا:
ً الدين
ومن أهم أطروحات الفكر اإلسالمي احلديث اليت دارت حول إعادة تعريف الدين
والديين ،الطرح احلضاري ،الذي جرت عليه إشارات يف سجاالت حممد عبده مع غربيني
مثل هانوتو أو متغربني مثل فرح أنطون أو شبلي مشيل ،أو برز يف تفسريه املنار وإشاراته
كثريا
إىل املعاين القيمية واملقاصدية يف عقيدة اإلسالم وشريعته .لكن هذا املنحى يتطور ً
مع مشروع مالك بن نيب ،مث مدرسة الفكر اإلسالمي اجلديد.
ويف هذا اإلطار مثة طرح معريف وأكادميي متخصص متثله مدرسة املنظور احلضاري
اإلسالمي يف العلوم االجتماعية واإلنسانية اليت هي تطوير متميز ألطروحة إسالمية
48يوسف القرضاوي ،بينات احلل اإلسالمي( ،القاهرة :املطبعة الفنية ،ط ،)1993 ،2ص .22-21
49املرجع السابق ،ص .27-24
38
املعرفة .50يقوم هذا الطرح على توسيع دالالت الدين وما ينضوي حتته من مفاهيم العقيدة
والشريعة والقيم واملقاصد والسنن واألمة واحلضارة ،وموضوعات املعرفة ومصادرها ،والعلم
ومنهجه العام ،والسياسي واملدين واجملال العام والرتبية املدنية والدولة القومية والتمكني
اجملتمعي ،والتغيري بني اإلصالح والثورة ،والتجدد احلضاري ،وحوار احلضارات ،واإلرادة
العامة بني ثقافة األمة واخليار الدميقراطي والتوافق الشعيب والنخبوي ،والرسالة الكفاحية
لعلماء األمة :علماء الشريعة ،وعلماء االجتماع ابملعىن األوسع .ويهتم هذا اللون الفكري
-احلضاري -خبصائص الدين املتعلقة ابلفاعلية واجلامعية والواقعية املثالية.51
فعاال حني تكتسي مكوانته الكربى ابلفاعلية :عقيدة دافعة ،وشرعة رافعة،
فيبدو الدين ً
وقيم حاكمة ،ومقاصد حافظة ،وسنن قاضية ،وأمة جامعة ،وحضارة فاعلة ،على النحو
الذي صاغه فيه د .سيف الدين عبد الفتاح ،وأشار إىل أن أصول الفقه احلضاري هذه
ليس الواجب فقط وجودها ،ولكن فعلها يف الفرد واجملتمع واألمة واإلنسانية :دافعة،
رافعة...إخل.52
وكذلك حيرص هذا املشروع على اخلروج من الفصام بني قسائم احلياة اإلنسانية اليت
صدرهتا النظرة الوضعية والواقعية الغربية يف صورة ثنائيات متضاربة متصارعة :الدين والدنيا،
الدين والعلم ،الدين والسياسة ،الفرد واجملتمع ،اجملتمع والدولة ،األمة والعامل ،الغيب
والشهادة ،العلم واإلميان ،الدنيا واآلخرة ،املادي واملعنوي ،املصاحل والقيم ،القوة
وبدال من هذا يؤكد هذا اللون الفكري (احلضاري) على الرؤية اجلامعة بني والقيمة...إخلً .
إمساعيل الفاروقي ،إسالمية املعرفة :املبادئ العامة -خطة العمل -اإلجنازات( ،بريوت :دار اهلادي 50
واملخرج ،أميت يف العامل ،العدد ( ،13القاهرة :مركز احلضارة للدراسات السياسية.)2017 ،
52سيف الدين عبد الفتاح إمساعيل ،مدخل القيم :إطار مرجعي لدراسة العالقات الدولية يف اإلسالم؛ يف:
اندية حممود مصطفى (إشراف عام) ،مشروع العالقات يف اإلسالم؛ اجلزء الثاين( ،القاهرة :املعهد العاملي
للفكر اإلسالمي.)1996 ،
39
هذه املفاهيم واألفكار والعناصر احلياتية يف خيط انظم عماده الدين ابملعىن األوسع:
مرجعية قيمية.53
ومن مثَّ جيري التأكيد على اجلمع بني واقعية الدين وأن الدين للواقع ،ومثالية احلياة ،وأن
لب الدين وجوهر اإلنسانية ،واملركب الواقع ال قيمة له بغري الواجب ،وأن هذا اجملموع هو ُّ
احلافز لتجدد احلضارة.54
ومن املهم أن نشري يف هذا املقام إىل طرح آخر مييل إىل اجلانب العملي ابسم الدين
(اإلسالم) احلضاري التنموي ،55وقد برز يف مراحل ومواضع عديدة؛ ميكن إرجاع
مثال إىل حماولة الوزير خري الدين التونسي يف أواخر القرن التاسع عشر التجديد
إرهاصاته ً
من منظور إسالمي منفتح على العامل كما يف مقدمة كتابه "أقوم املسالك يف معرفة أحوال
املمالك" ،الذي أراد فيه الربط بني العرفان والعمران ،وبني اإلسالم والزمان واملكان ،من
منظور سياسي ومقاصدي ،لكنه ابألساس تطبيقي؛ حيث حاول تطبيقه يف تونس والدولة
العثمانية.56
وقد تصدر بعض احلركيني من اإلسالميني املعاصرين ملثل هذه األطروحة ،ولعل أبرزهم
مهاتري حممد رئيس وزراء ماليزاي ،الذي يقول" :رمبا ال نطبق يف ماليزاي ما تنص عليه
الشريعة يف كل حالة ،وإمنا نطبق قوانني أخرى ،لكننا نتبع تعاليم اإلسالم بدفاعنا عن
اندية مصطفى ،سيف الدين عبد الفتاح ،ماجدة إبراهيم (حمررون) ،التحول املعريف والتغري احلضاري: 53
قراءة يف منظومة فكر د .مىن أبو الفضل( ،القاهرة :دار البشري للثقافة والعلوم ،مركز احلضارة للدراسات
السياسية ،ط.)2011 ،1
مدحت ماهر الليثي ،حنو تصور أساس يف املشروع اإلسالمي احلضاري ،أميت يف العامل ( :)13املشروع 54
احلضاري اإلسالمي :األزمة واملخرج( ،القاهرة :مركز احلضارة للدراسات السياسية1438 ،هـ ،)2017/ص
.135-115
55عبد احلميد أبو سليمان (تقدمي) ،األمة وأزمة الثقافة والتنمية( ،القاهرة :دار السالم طباعة والنشر والتوزيع
والرتمجة ،)2007 ،جملدان.
56خري الدين التونسي ،أقوم املسالك يف معرفة أحوال املمالك ،تقدمي :حممد احلداد( ،القاهرة :دار الكتاب
املصري ،بريوت :دار الكتاب اللبناين ،)2012 ،ص .75-3
40
توفري العدالة للجميع يف هذا البلد املتعدد األداين ،وإبقائنا األمة بعيدة عن الصراع وانعدام
أيضا .ويف
األمن .وابملثل ،بتساحمنا مع األداين األخرى نكون ملتزمني بتعاليم اإلسالم ً
الواقع ،متسكت احلكومة ابملبادئ اإلسالمية يف مجيع أعماهلا .لذلك ،لدينا كل احلق يف
وصف ماليزاي أبهنا دولة إسالمية ،واإلسالم وأسلمة اإلدارة املاليزية مل يكوان حمل نزاع من
قبل .واحلقيقة هي أنه يف الفرتة اليت تبنت فيها ماليزاي القيم اإلسالمية وأعلنت أهنا دولة
إسالمية ،ساد السالم واالستقرار وتطورت البالد ومنت على حنو مل يسبق له مثيل".57
وقد شرح مهاتري حممد ذلك املفهوم بسعة يف مواضع أخرى من موسوعته ،خاصة اجمللد
األول منها بعنوان "اإلسالم واألمة اإلسالمية" ،وتدل عناوين فقراته على ذلك املعىن
احلضاري العملي للدين ولإلسالم خباصة :كرامة األمة اإلسالمية يف خطر ،اإلسالم
والعوملة ،القوانني اإلسالمية يف العامل املعاصر ،مستقبل املسلمني يف القرن احلادي
والعشرين ،أمهية احلج ومغزاه احلقيقي ،التجربة املاليزية :دروس وعرب لألمة اإلسالمية،
االرتقاء مبفهوم اإلسالم وتعزيزه لدى وسائل اإلعالم ،دور الدين يف جمتمع متعدد األداين،
دور اإلسالم يف تشجيع التسامح وتعزيزه ،التعاون إلحداث التنمية بني األمم اإلسالمية،
مستقبل األمم اإلسالمية ،اإلسالم ال يعوق التطور ،اإلسالم :الدين الذي أسيء فهمه،
اإلسالم وحركة الدعوة العاملية ،حمنة األمة اإلسالمية ،العودة إىل القرآن ،دور اجلامعة
اإلسالمية العاملية يف ماليزاي ،اإلسالم والعدالة ،العدالة اإلسالمية ،اإلسالم والتصنيع...
الفكر اإلسالمي واحلضارة .وقريب من ذلك مشروعات فكرية عملية لقيادات إسالمية
مثل :علي عزت بيجوفيتش ،وحممد خامتي ،وأمحد داوود أوغلو.58
ويف هذا السياق ،مثة دراسات تتعمد أن ختلط بني الدين والتدين فرتكز على الدين يف
الواقع ابعتباره الدين احلقيقي ،بدأت نواهتا مع طرح إميل دوركامي لفكرة أن الدين ظاهرة
57مهاتري حممد ،طبيب يف رائسة الوزراء :مذكرات الدكتور مهاتري حممد ،ترمجة :أمني األيويب( ،بريوت:
الشبكة العربية لألحباث والنشر ،)2014 ،ص .566
58انظر يف ذلك على سبيل املثال :أمحد داوود أوغلو ،العمق االسرتاتيجي :موقع تركيا ودورها يف الساحة
الدولية ،ترمجة :حممد جابر ثلجي وطارق عبد اجلليل ،ومراجعة :بشري انفع وبرهان كوروغلو( ،الدوحة :مركز
اجلزيرة للدراسات ،الدار العربية للعلوم انشرون ،ط ،)2011 ،2خاصة ص .300-278
41
اجتماعية ال غري ،األمر الذي فتح اجملال أمام دراسات سوسيولوجيا الدين ،وأنثروبولوجيا
الدين ،وجغرافيا الدين ،وقد حظي اإلسالم بنصيب وافر من اهتمام هذه املنظورات .فربز
منظور ما يسمى بـ "أنثروبولوجيا اإلسالم" جبناحيه :االستشراقي والنقدي ،حيث حاول
تطبيقه مستشرقون حمدثون مثل إرنست جلنر يف كتابه "جمتمع مسلم" ،وطوره ونقده
مفكرون إسالميون من مدرسة نقد االستشراق مثل طالل أسد خاصة يف مقالته الشهرية
"فكرة أنثروبولوجيا اإلسالم" .59ودارت جداالت طويلة حول تصنيفات لإلسالم من
املنظور السوسيولوجي كتلك اليت برزت مع كتاب ابتريك هايين "إسالم السوق" ونقده
للممارسات التلفيقية للمسلمني واإلسالميني اجلدد ابسم االشتباك وااللتقاء اإلسالمي
مع احلداثة واالستهالكية والربح والغلبة السياسية واالجتماعية يف حقبة العوملة منذ مطلع
تسعينيات القرن املاضي .60ويف السياق ذاته برزت صيحات وحماوالت حتييث اإلسالم
قوميًا أو جغرافيًا ابسم اإلسالم اآلسيوي أو األفريقي أو العريب أو املصري أو
الوهايب/اخلليجي أو الرتكي ،أو حتييثه يف بعض روافد تطبيقه كاإلسالم الصويف مقابل
السلفي واإلسالم السين مقابل الشيعي ..وهكذا.61
الدين أيديولوجيا سياسية ومرجعية حكم
عقب جتديده فهمه لإلسالم من كونه يدعو إىل دولة أو حكومة دينية إىل كونه يدعو إىل
بعيدا عما توحي به كلمة الدولة الدينية الغربية ،جدَّد خالد
دولة إسالمية مرجعيتها الدين ً
حممد خالد طباعة كتابه "الدين للشعب" ،وسجل قصة هذا التحول الفكري يف مقدمته،
لكي يعلن مانيفستو للدولة اإلسالمية قوامه" :حقوق اإلنسان من حقوق هللا ،ليس يف
دين هللا إقطاع ،حق الشعب يف أن حيكم نفسه بنفسه ولنفسه ،حق الشعب يف احلرية
59طالل أسد ،فكرة أنثروبولوجيا اإلسالم ،تعريب سامر رشواين ،االجتهاد ،2001 ،ص .169-139
وهو حماضرة ألقاها أسد يف مركز الدراسات العربية املعاصرة ،جبامعة جورج اتون بواشنطن ،يف عام ،1985
ونشرت مارس .1986
60ابتريك هايين ،إسالم السوق ،نقله إىل العربية :عومرية سلطاين ،تقدمي د .هبة رءوف عزت( ،القاهرة:
مدارات لألحباث والنشر.)2015 ،
61مدحت ماهر الليثي ،حنو تصور أساس يف املشروع اإلسالمي احلضاري ،مرجع سابق.
42
معا حىت ال تنتحر
والسالم ،حق الشعب يف املساواة ،حق الشعب يف املعارضة واملقاومةً ..
البشرية ،الثروة القومية من شعائر هللا ،االستعمار إحلاد ،الناس إخوة ،اجلماعة والفرد ،كل
شيء لإلنسان ،يف العالقات االجتماعية ،احرتام اإلنسان.62"...
وقد اتسع هذا املدلول حىت لقد غلب على معىن الدين لدى القطاع العريض من
اإلسالميني ال سيما مع صعود املعركة السياسية بني اإلسالمية والدميقراطية من جهة،
والعلمانية أبطيافها واالستبداد من جهة أخرى.63
وقد تنوع التفسري السياسي للدين بني املدخل الفقهي الذي أخذ صورة "السياسة
الشرعية" اترة و"النظام السياسي اإلسالمي أو يف اإلسالم" اترة أخرى ،والدولة اإلسالمية
اترة اثلثة ..ويف هذا اإلطار تعد السياسة دينًاٍ ،
مبعان متداخلة ومتباينة :فالعمل السياسي
دين وعبادة وقربة إىل هللا تعاىل ابستدعاء "النية"؛ أي أن يبتغى به التقرب إىل هللا تعاىل،
وهو دين -اثنيًا -ألنه يلتزم يف ممارساته السياسية أحكام الدين ،أو بصورة أعم أن يتم
وفق مرجعية الدين اليت أدانها أال خيالف الدين وأعالها أال يصدر إال عن فقه شرعي،
وهو دين -اثلثًا -مبعىن التزام قيم العمل السياسي وأخالقه املنبثقة عن فهم ديين ،أو التزام
مقاصده ،أو ضمن دائرة والء وانتماء ومتيز ديين أو حضاري (أو كليهما) هي "األمة"،
أو وفق منظور سياسي يعيد بناء مفاهيم السياسة من مرجعية معرفية إسالمية .هذه الزوااي
كثريا ما قدمها الفكر اإلسالمي يف صيغة أخرى؛ هي الكثرية لتكييف السياسي دينيًاً ،
إعادة تعريف الدين لكي يهيمن على السياسي كله .وغالبًا ادعى اإلسالميون أن الدين
يف السياسة هو هذا كله على سبيل اإلمجال ،لكن عند التفصيل توزعوا على تلك
املداخل؛ كل يدعي أن الدين يتجلى من مدخله ال غريه.64
62خالد حممد خالد ،الدين للشعب( ،القاهرة :املقطم للنشر والتوزيع.)1994 ،
63حسن الرتايب ،املصطلحات السياسية يف اإلسالم( ،بريوت :دار الساقي ،ط،)2000 ،1
-أمحد سامل (حترير وتقدمي) ،جدل الدين والسياسة (مناظرات)( ،بريوت :الشبكة العربية لألحباث والنشر،
.)2015
64انظر يف عرض وجهات نظر متنوعة ليست ابلضرورة للكاتبني:
-حممد سليم العوا ،يف النظام السياسي للدولة اإلسالمية( ،القاهرة :دار الشروق.)2007 ،
43
جهودا جبارة :أتصيلية ،وتفعيلية ،كلية
أكثر اإلسالميون يف هذه املساحة ،وأخذت منهم ً
65
وجزئية ،لكنها يف األغلب كانت :سجالية؛ ملواجهة املقولة واحلالة العلمانية .
تفسريا سياسيًا كليًا ،حىت مل يعد يف الدين
ولقد غلب على البعض منهم تفسري الدين كله ً
شيء إال ومت تضمينه يف معىن سياسي فيما رعرف ابملشروع اإلسالمي الذي قصد به
أصحابه املشروع السياسي ،وغالبًا ما وقعت الدولة -ال األمة -يف قلبه ،وأعاد إنتاج
كثريا من أفكار احلداثة ونظمها بوعي أو بغري وعي.
الدولة القومية و ً
الدين مشروع روحي أخالقي :من الفردي إىل العاملي
كبريا من الفكر والدعوة اإلسالمية احلديثة ركز يف فهمه ملفهوم الدين
قطاعا ً
وواضح أن ً
مشروعا إلعادة تصور اإلنسان ،أو ابألحرى
ً على الوجه الروحي مث األخالقي؛ ابعتباره
إعادة تشكيله هو والعامل احلديث .ويقوم هذا املشروع -وفق كتاابت بيجوفيتش واملسريي
وشريعيت وقطب وغريهم ممن تقدم ذكرهم -على إعادة تعريف اإلنسان فيما بعد ماديته
وما يشرتك به مع الطبيعة؛ وكذلك تعريف "احلياة" ،واعتبار أن ذلك املميز هو الروح
(خاصا
ً بواي
دعواي (للوعظ والتوعية) ،وتر ً
واألخالق .وأيخذ هذا املشروع غالبًا منحى ً
أيضا فلسفيًا .ويعد هذا املشروع من أكثر مشروعات وعاما للمجتمعات) ،و ً للفرد ً
منوا على أرض الواقع؛ ومنه يعظم رصيدهم يف املسارات األخرى: اإلسالميني فاعلية و ً
السياسي واأليديولوجي والتنموي.
-حممد عمارة ،الدولة اإلسالمية بني العلمانية والسلطة الدينية( ،القاهرة :دار الشروق.)2007 ،
-وائل حالق ،الدولة املستحيلة :اإلسالم والسياسة ومأزق احلداثة األخالقي( ،بريوت :املركز العريب
لألحباث ودراسة السياسات.)2014 ،
-هبة رءوف عزت ،اخليال السياسي لإلسالميني :ما قبل الدولة وما بعدها( ،بريوت :الشبكة العربية لألحباث
والنشر ،ط.)2015 ،2
-نوح فريدمان ،سقوط الدولة اإلسالمية وهنوضها( ،بريوت :الشبكة العربية لألحباث والنشر.)2014 ،
65سيف الدين عبد الفتاح إمساعيل ،يف النظرية السياسية من منظور إسالمي :منهجية التجديد السياسي
وخربة الواقع العريب املعاصر( ،القاهرة :املعهد العاملي للفكر اإلسالمي.)1998 ،
44
قدرا من التسامح مع هذاوعلى الرغم من وجود علمانية جزئية يف العامل اإلسالمي تظهر ً
فكرا ودعوة -على الوصل بينه وبني املشروع السياسي
املشروع ،فإن إصرار اإلسالميني ً -
بديال للمشروع الغريب والتغرييب ،جيعل املشروع
والدعوة ملشروع حضاري يناهض أو يقوم ً
أيضا عرضة للسجال واالحرتاب ،على ما هو جلي يف السنوات األخرية، الدعوي الرتبوي ً
ويدفع العلمانيني -ال سيما املرتبطني ابلسلطة -إىل البحث عن مشروع تربوي بديل وبثه
يف الشعوب.
ومن انحية أخرى ،استوعب مسار من الفكر اإلسالمي ذلك النوع من العلمانية اجلزئية
اليت تفصل بني املؤسستني الدينية والسياسية -كما يف التجربة الغربية -أو بني الدين
والدولة كما يوسعه البعض ،دون الشاملة اليت تفصل القيم عن احلياة ،وفق تسمية د .عبد
جناحا يف تفكيك العلمانية:
الوهاب املسريي الذي يعد من أبرز املفكرين اإلسالميني ً
66
ومشروعا يف عامل اإلسالم ،وتفاعلت بعض من ً اقعا
مفهوما وفكرة وفلسفة واترخيًا وو ً
ً
احلركات والروافد اإلسالمية مع العلمانية من ابب االلتقاء عند جزء منها ال تتسع الستبعاد
كل القيم وال كل املعىن املرجعي للدين من احلياة ولو على سبيل أنه ثقافة سائدة ،على
حنو ما هو مشهود يف التجربة الرتكية الراهنة على سبيل املثال.
ومن اجلدير ابلذكر أن املنحى األخالقي للدين قد دخل يف صياغة فلسفية مهمة ضمن
مشروعا الستعادة احلقيقة
ً مشروع الدكتور طه عبد الرمحن ،الذي جعل من األخالق
الوجودية واملعرفية لإلنسان من جهة ،ولتقدمي الدين من جهة أخرى فلسفة للحياة
بفروعها :الوجود واملعرفة والقيم ،ضمن السجال الدائب مع الفلسفة الغربية.67
66عبد الوهاب املسريي ،العلمانية اجلزئية والعلمانية الشاملة( ،القاهرة :دار الشروق ،ط،)2002 ،1
جملدان.
67طه عبد الرمحن ،سؤال األخالق :مسامهة يف النقد األخالقي للحداثة الغربية( ،الدار البيضاء :املركز
الثقايف العريب ،ط ،)2006 ،3ص .55-29
45
ومن هذا خرجت أطروحات السياسة اإلسالمية من خالل املنظور األخالقي ،كما عرب
68
أيضا ضمن حماولة حترير الدينية اإلسالمية
عنها طرح "الدولة املستحيلة" لوائل حالق ً ،
من أسر القومية الوضعية الغربية .وكشف اجلدل الفكري الذي أاثره كتاب حالق عن
ثالثة منطلقات حية لبناء العالقة بني السياسة واألخالق فكرًاي أو بني السياسي
والدعوي/الرتبوي عمليًا ضمن مفهوم اإلسالميني للدين وما حييط به من مفاهيم :الدين
مشروعا أخالقيًا ،والدين هو األخالق اثنيًا ومنها ينبث معىن
ً أوال ويستتبع
هو السياسة ً
السياسي اإلسالمي املباين ،واثلثها أن الواجب يف حتقيق الدين يف اجملتمع احلديث هو
اجلمع املتوازي بني القسيمني :السياسي واألخالقي ،لكن ال يبدو أن اإلسالميني قد
قدموا صيغة انظمة لذلك واضحة.
وأخريا ،فإن ذلك العرض ملفهوم الدين عند بعض املفكرين اإلسالميني ال يدعي ٍ
حبال ً
متاما ،وإمنا هو متثيل وهو انتقاء ألطايب من فهم خنبهم البارزة ،ولفهم
ً معرب أو شامل أنه
يضا بينهم .فليست تلك هي الصورة كلها ،ولعل يف اإلشارة ما يقوم مقام العبارة. شائع أ ً
فثمة مفهومات للدين عند قطاع من مفكري اإلسالم احملدثني متضاربة وتدافعات كربى
بني الطيف الفكري واحلركي اإلسالمي حول دالالت الدين ،وجتلياته يف جماالت احلياة
الفكرية والعملية ،ولكن ما أشران إليه إمنا يدل على ثراء وخصوبة وتطور وتنوع وتعدد،
مثمرا وقابل ألن يكون غري ذلك .وهللا أعلم.
قابل ألن يكون ً
68وائل ب .حالق ،الدولة املستحيلة :اإلسالم والسياسة ومأزق احلداثة األخالقي ،ترمجة :عمرو عثمان،
(بريوت :املركز العريب لألحباث ودراسة السياسات ،أكتوبر ،)2014خاصة ص ،187-147ص -275
.295
46
الفصل الثاين:
قراءة يف تصورات الزمن واملستقبل
يف املخيال اإلسالمي املعاصر
حممد العريب
.Iمقدمة:
البحث يف الزمن من أعقد القضااي اليت قد يضطلع هبا
الباحث ،ليس فقط ألنه حبث ختتلط فيه امليتافيزيقا
ابلفيزايء ابلثقافة بغريها من مشارب العلم اإلنساين؛ ولكن
أيضًا ألن الزمن صعب أن يدرك ،فهو كما ذهب أفلوطني
السكندري "كل شـيء وال شـيء" ،والعقل اإلنساين إن
أحاط ببعض جوانبه يستحيل عليه أن يدرك أبعاده كافَّةً.
ومع ذلك يبقى البحث يف الزمن واالهتمام به ،ثقافيًا
وفلسفيًا ،مهمة شائقة تقرتن ابلكثري من اجلوانب الوجودية
يف ثقافة أو فكر ما.1
فالزمن مستودع الوعي اإلنساين ومؤشر إدراك كل مجاعة بشرية على وجودها ومسار
تطورها ومصريها .وعلى عكس الفكر اإلسالمي التقليدي ،الذي شكلته تيارات فقهية
49
للدين ،وأولوية التجديد أو اإلصالح الديين يف نطاق سياسـي ،وخطورة األصولية والفكر
املتطرف .بعبارة أخرى ،ليس لإلسالم دور منظور يف صياغة العامل اجلديد ،إال مبا قد
يطرحه من أزمات ال من حلول أو بدائل للتفكري يف مستقبل العامل ،وينعكس هذا يف
حضور "صور" العنف والتطرف اليت ختتزل اإلسالم يف عامل اليوم يف "إشكالية" ،كما
يتضح مأزق وقوع الفكر اإلسالمي على مدار عقود يف فخي املاضوية والتسيس.2
املاضوية :وليست املاضوية رديفة األصالة ،وإن اختلطا من حيث -1
املدلول ،تشري األصالة إىل ذلك البحث عن الذات الـذي حياول من خالله الفاعل
االجتماعي "-الفرد" أو "اجلماعة" -جتاوز ذاته املصنعة أو املفروضة ،تلك اليت
يعتربها "غري أصيلة" وتعوقه عن التحقق ،وتدفعه حنو االغرتاب .أما املاضوية فتمثل
فضا للذات وواقعها من خالل استعارة ذات ماضية وإعادة فرضها يف جوهرها ر ً
على املستقبل .3لقد ارتبط البحث عن األصالة ابحلداثة وما أفرزته عملياهتا من
قلق وجودي عميق ،حيث أدت الفردانية ونزع السحر عن العامل والبريوقراطية إىل
حاالت من التشظي وانعدام املعنـى وانسحاق الفرد أمام البريوقراطية وبناهاٍ
السياسية واالجتماعية .وعلى الرغم من أن هذه املصادر حققت إجنازات ملموسة
أصبحت مصدر تطل ٍع للثقافات األخرى ،فإهنا أودت حبياة اإلنسان إىل ٍ
ضيق َ
تعبريا عن حماولة الفرد لالنعتاق من ذاته
وفقر يف املعنـى؛ لذا كانت األصالة ً
حممد العريب ،نقد خطاب اإلصالح الدينـي من منظور مستقبلي( ،موقع حكمة ،أبريل )2016 2
https://goo.gl/T2Fpfj
3جدير ابلنظر يف هذا السياق أفكار الفيلسوف املغريب طه عبد الرمحن يف االهتمام مبفهوم اإلبداع الذي مييزه
عن البدعة ،فهو يرى أن فهم التاريخ مث بناء رؤية للمستقبل تعي تشابكات النموذج "االئتماين" للرؤية اإلسالمية
املسدد حيتاج إىل الوحي مث عليه السعي .ورغم ومتايزاته عن الفلسفات األخرى يفتح أفق اإلبداع ،وأن العقل َ
أنه ال يفرد مبحثًا للزمن ،فإن أفكاره متس صلب التجديد العقلي من منظور يغلب عليه التجربة الصوفية ،لكن
هذا من انحية يدفع حنو التفاعل مع ما حنن بصدده وهو تعامل العقل مع املفاهيم املركزية ،وقد يقود إىل التعامل
مع مستوايت من الزمن يف إعادة تعريف العقل والتجربة اإلميانية تسمح ابجتهاد جديد يشتبك مع املاضوية
والتسييس من انحية أخرى؛ لذا جند أفكاره ذات أمهية تستحق اإلشارة هنا.
راجع :طه عبد الرمحن ،العمل الديين وجتديد العقل( ،الدار البيضاء ،املركز الثقايف العريب .)2004
50
تعبريا عن حماوالت
املصنعة ،وكانت الكثري من الفلسفات الوجودية والنقدية ً
االنعتاق تلك ،أما األصالة يف الفكر اإلسالمي احلديث فهي تعبري ثقايف وحضاري
"وجوداي" أو مسعى فردانيًا إلعادة بناء تصورات الذات يف ً وديين ،4أكثر منه
زمنها اآلين.
لقد أتسس اإلحياء اإلسالمي يف هناية القرن التاسع عشر على أساس إعادة
التعريف أبصول الدين والشريعة مبا يتجاوز الرتسبات االجتماعية اليت تسببت يف
مشوشا لدىً خلط الدين ابلتقاليد االجتماعية على حنو جعل فهم الدين
اجملتمعات اإلسالمية احلديثة .بيد أن هذا املبدأ جعل الفكر اإلسالمي يف املراحل
التالية عبارة عن جدلية كربى بني ثنائيتني مها :األصالة والتجديد ،أو املعاصرة أو
احلداثة .ويف حني انتصر آابء اإلحياء اإلسالمي األوائل لفكرة املواءمة بني التقاليد
الدينية والثقافية يف عمومها مع حركة احلداثة اليت بدا وأن غزوها للعامل اإلسالمي
حتمي ،جند أنه يف الفرتات التالية خاصة مع مرحلة ظهور احلركات اإلسالمية أمر ٌّ ٌ
السياسية مث تطورها الالحق سياسيًّا واجتماعيًّا أصبح التغليب للتقليد مع رفض
احلداثة كفكرة مع قبول التعامل الذرائعي مع أدواهتا .وهنا انتقل الفكر اإلسالمي
من االرتكاز على األصالة إىل املاضوية؛ حيث أصبحت "اهلوية" حمل تساؤل
ابعتبار أهنا يف خطر ،وأن استعادة املاضـي وإعادة فرضه هو السبيل الوحيد لدحر
هذا اخلطر .ومع املاضوية ،دخل الفكر اإلسالمي يف جدال خصامي بني ثنائياته.
املشكل يف هذه الثنائيات املهيمنة -ضمن ثنائيات أخرى على الفكر اإلسالمي
املعاصر ،وعلى رأسها التقليد واحلداثة -أهنا جعلت قضااي املاضـي على اتساعه
األفقي املكاين والرأسـي الزماين على رأس أولوايت املفكرين املسلمني املعاصرين
طاغ يتجاوز اإلمكانيات اليت من املفرتض أن حيملها الرتاث إلانرة السبيل
بشكل ٍ
ومعينًا إلثراء النقاش حول
موردا َ
أمام أبناء احلاضر ،حبيث أصبح عبئًا أكثر منه ً
ما يستجد من موضوعات .لقد أصبح أبناء القرن اخلامس عشر اهلجري يتجادلون
فيما كان يتجادل فيه أسالفهم يف قرون خلت ،مستخدمني اللغة نفسها،
4راجع :فهمي جدعان ،أسس التقدم عند مفكري اإلسالم يف العامل العريب احلديث( ،بريوت :الشبكة
العربية لألحباث والنشر.)2010 ،
51
ومستلهمني احلجج نفسها ،ومتغافلني عن الكثري من القضااي اليت تؤرق حاضرهم
وهتدد مستقبلهم.5
أيضا هبيمنة النصوصية على الفكر اإلسالمي ،وأعنـي هبا أنوارتبطت املاضوية ً
جدليات الفكر اإلسالمي الكربى وقضاايه إمنا هي صراع حمض بني نصوص
ونصوص ،وقلما انفتح هذا الفكر على التغريات احلادثة يف اجملتمعات اإلسالمية
املعاصرة ،وإن حدث فإنه إمنا يتناوهلا من حتيزات مسبقة تفرضها النصوص على
كبريا
حنو جعل اهلوة تتسع بني النص واالجتماع .ومن الصعب إنكار أن جزءًا ً
من كتاابت املفكرين اإلسالميني دفعتها حوادث وحتوالت وضغوطات اجتماعية
وسياسية لذلك ،غري أن هذا حال بني الفكر اإلسالمي يف عمومه وفهم التحوالت
احلادثة يف جمتمعاته.
ورمبا يشري تعامل اإلسالميني مع مفهوم السنن اإلهلية إىل هذا العجز عن التعامل
مع متغريات الواقع االجتماعي؛ وكذلك الفشل يف التعامل مع معطيات حركة
التاريخ .تشري السنن اإلهلية إىل ذلك النظام اإلهلي الذي حيكم سلوك البشر يف
انضباط واطراد6؛ أي تلك النواميس والقوانني اليت جتسد مفاعيل اإلرادة اإلهلية
على حركة البشر .ويزخر القرآن الكرمي والسنة النبوية بتلك السنن اليت يستخلصها
النص الدينـي من قصص األولني .لقد دار فهم املسلمني األوائل للسنن اإلهلية
حول مفهوم "االعتبار" الذي أتسست عليه فلسفة كتابة التاريخ اإلسالمي الذي
امتدادا لألخبار القرآنية والنبوية عن األمم الغابرة ،وانتهى إىل استخالص
ً جاء
"قوانني االجتماع والعمران البشري" كما قدمها ابن خلدون يف مقدمته واترخيه.
وذهب البعض إىل القول إن ضرورة "االعتبار" جتعل من النظر يف السنن اإلهلية
5راجع :إبراهيم بن علي الوزير ،على مشارف القرن اخلامس عشر اهلجري :دراسة للسنن اإلهلية واملسلم
املعاصر( ،القاهرة :دار الشروق ،ط ،)1989 ،4ص .155-125
6رمضان مخيس زكي ،مفهوم السنن الرابنية :دراسة يف ضوء القرآن الكرمي( ،القاهرة ،مكتبة الشروق الدولية،
،)2006ص .4
52
نظرا ألوامر النظر واالعتبار مبن خلوا والتفكري يف آاثر الذاهبني
فريضة وضرورة؛ ً
7
اليت وردت يف القرآن الكرمي .
ومن مثَّ ،كان للسنن اإلهلية وظيفة مركزية يف تشكيل تصور اإلسالم حول حركة
التاريخ ،ابعتباره يسري وف ًقا لقوانني بثها اخلالق يف الزمان والعمران ،بيد أن هذه
القوانني ليست "حديدية"؛ فوظيفتها "اعتبار أ ِ
رويل األبصار" ،ومن مثَّ اختيار
اجملتمعات البشرية السبيل الذي تسلكه وف ًقا هلا ،وهو املعنـى املقصود من تكرار
قَصص األمم اخلالية .والسنن بطبيعتها عاملية ال ختتص بقوم دون آخرين .وقد
حاول الفكر اإلحيائي أن يتعاطى مع الفارق احلضاري املتسع بني اإلسالم والغرب
من خالل مفهوم السنن ،فذهب إىل أن هذا الفارق أحدثه أخذ الغرب أبسباب
النهوض اليت أخذ هبا املسلمون من قبلهم مث تركوها .8ومن هنا ،كان الفكر السننـي
أيضا دراسة اجملتمعات
دافعا لدراسة اجملتمعات الغربية وأسباب هنوضها ،و ً ً
تعرب
اإلسالمية وأسباب تعثرها احلضاري ،وهو ما يتضح يف العناوين الكثرية اليت ّ
عن تلك اجملهودات.
أما الفكر اإلسالموي ،فتعامل مع السنن مبنطق احلتمية التارخيية مبا يناسب وضعية
التفكري األيديولوجي .وهي وضعية تقتضـي التأكيد على صراع وانتصار هنائي
للحق على الباطل .وابلتايل ،فَـ َق َد االعتبار معناه الذي يقتضـي دراسة اجملتمع
يل عنق النصوص كي تفسر الواقع املركب مبقوالت ختدم ومعرفة تعقيداته ،ومت ّ
كثريا ما تستدعي احلديث عن السنن بغرض "التسلية العاطفة الصراعية اليت ً
يعرب أحد نقاد احلركة اإلسالمية املعاصرة ببالغة عنواحلشد" ال الفهم والتدقيقّ .
قائال" :وأغلب اإلسالميني يتعاملون مع
هذا التعامل املقلوب مع مفهوم السننً ،
الواقع "املركب" بفقه انطباعي ال خيضع ال لالستبيان وال لإلحصاء؛ فلغة اإلحصاء
لديهم مهدورة ،وغالبًا ما تقوم النظرة األيديولوجية الضيقة لديهم واستصحاب
8انظر على سبيل املثال :شكيب أرسالن ،ملاذا أتخر املسلمون وتقدم غريهم؟( ،اإلسكندرية :مكتبة
اإلسكندرية ،سلسلة يف الفكر النهضوي اإلسالمي.)2011 ،
53
أحاديث الفنت واملالحم مقام البحث واإلحصاء والسرب وتدبر فقه السنن الرابنية
متاما
مغايرا ً
اقعا ً املطردة يف األمم واحلضارات واجلماعات والدول ،فريمسون و ً
الع َمه املظلم".9
للحقيقة من حمض ختيالهتم وما يشتهون ،يعرتيه َ
فكرا وحركة عن النزعة املاضوية10؛ إذ إهنا حتاولعربت اإلسالموية ً
وهبذا املعىن ّ
ماض اترخييالقفز على حتوالت اجملتمعات اإلسالمية وصراعاهتا يف حماولة لبناء ٍ
"متصور" تصوغه هي ،وال توجد إمكانياته أو دواعيه وال سبل حتقيقه ،فتخرج
مرجعية التاريخ من تلمس "السنن" واالقتداء إىل احملاكاة التامة ،كما أهنا حتاول
إعادة تشكيل احلاضر عرب فهم حمدد للنصوص الدينية دون أن تدرك معامل الواقع
قسرا .لقد راحت الذي أنتج النصوص أو الواقع الذي حتاول إعادة تشكيله ً
األصوليات الدينية تستثمر يف األزمات البنيوية اليت تعاين منها اجملتمعات
اإلسالمية ،واليت جعلت منها فريسة لالستعمار واالستعمار اجلديد ،فأصبحت
تعكس االرتباط العضوي بني البنية غري العادلة للنظامني الدويل واإلقليمي وفشل
اجملتمعات اإلسالمية يف إصالح بناها ونظمها الداخلية .وميكننا القول إن هناك
عالقة عكسية بني صعود تلك األصولية اليت نقصدها كتجسيد سياسـي وعنفي
مباشرا) للنزعة املاضوية من انحية ،وعدم قدرة الفكر
(سواء كان العنف هيكليًا أم ً
اإلسالمي املعاصر على جتاوز صراعات املاضـي واحلاضر وبناء تصور عن مستقبل
اإلسالم كدي ٍن وحضارة وجمتمعات من انحية أخرى.
9عباس شريفة ،االستشراف السياسـي عند اإلسالميني( ،مدوانت اجلزيرة 3 ،يوليو .)2017
https://goo.gl/QZDMou
10عرب شرياز ماهر عن العالقة بني األصولية واملاضوية بقوله إن احلركات السلفية املعاصرة بشقيها املوادع
والعنيف (أي السلفية اجلهادية) تقوم على فلسفة تؤمن ابلتقدم عرب الرجوع إىل الوراء .فلن تتحقق احلياة السليمة
إال من خالل إحياء إسالم القرون الثالث األوىل .ويرقد م تراث السلف الصاحل على اعتبار أنه معيار الصحة
(بعيدا عن اجلدل حول
والنقاء ،وهو التطبيق العملي للسلفية املعاصرة .وابلتبعية ،فرسالة السلفية كحركات ً
املنهج) هي إحيائية مبعىن السعي إىل إعادة املسلمني إىل إسالم األجيال األوىل "الصحيح" و"النقي" .انظر:
Shiraz Maher, Salafi-Jihadism: A History of an Idea, London: C.
Hurst & Co Publishers, 2016, p.7.
54
التسيس :ونعنـي هبذا غلبة مبحث السياسة على ما سواه من مباحث -2
يف الفكر اإلسالمي املعاصر ،فعلى الرغم من أن اإلحياء اإلسالمي قد بدأ يف
ظل حقبة االستعمار وإدراك خنب العامل اإلسالمي الثقافية أن اهلوة بني جمتمعاهتم
واجملتمعات الغربية تتسع لصاحل األخرية ،فإن رواد اإلحياء اإلسالمي مل خيتزلوا
جهدهم الفكري يف الدخول يف صراعات سياسية أو حماولة التأسيس النظري
لنظام سياسـي إسالمي .لقد بدأ التحول الفعلي حنو ارتكاز الفكر اإلسالمي على
السياسة وحدها مع ظهور "حركات" اإلسالم السياسـي ،والقائم على إعادة
متصورة ملا يسمى
أتسيس التنظيم السياسـي يف اجملتمعات اإلسالمية على خطوط َ
الدولة اإلسالمية وبعث اخلالفة على صورهتا التارخيية ،وفرض اإلسالم وشريعته
بقوة دولة ،حبيث حتل الدولة املركزية احلديثة حمل كل الوظائف القدمية اليت كان
يقوم هبا اجملتمع اإلسالمي -وذلك هو أخطر املزالق اليت وقعت فيها تلك
احلركات ،وهو يف احلقيقة وثيق الصلة مبفهومهم عن الزمن.
وعلى قدر ما ينطلق اإلسالم السياسـي من حديث عن مشولية اإلسالم و"ال
زمانية" الشريعة وإمكانية تطبيقها يف كل زمان ومكان ،فإنه خيتزل اإلسالم إىل
جمرد أيديولوجيا تتساوى مع غريها من رؤى دنيوية متصارعة حول مركز السلطة
السياسية اهلائلة اليت تتمتع هبا الدولة املركزية احلديثة ،حبيث تصبح الدولة وسلطتها
هي مركز الدين ومناط الشريعة ال الفرد وال اجملتمع ،وهو املأزق الذي أوقع
اإلسالموية يف تناقض وأدى الختزال مشروعهم الفكري القائم على استعادة
اإلسالم إىل برامج حركية وأيديولوجية تستبطن يف جوهرها حداثة التصورات اليت
وصوال للعوملة .11لقد طغت
حكمت اجملتمع إابن االستعمار مث بعد االستقالل ً
هذه الرؤية على مباحث الفكر اإلسالمي األخرى الذي اخترزل بدوره إىل جمموعة
من الثنائيات اليت ولدهتا اإلسالموية وسامهت يف تقسيم اجملتمعات والنخب
الفكرية فيها ،وابلتايل توارى احلديث عن التجديد الثقايف واإلصالح االجتماعي
وما يرتبط به من قضااي لصاحل احلديث عن التمكني السياسـي وإقامة دولة اإلسالم
11راجع :هبة رءوف عزت ،اخليال السياسي لإلسالميني :ما قبل الدولة وما بعدها( ،بريوت :الشبكة العربية
لألحباث والنشر.(2015 ،
55
وشعاراهتا ،12واألهم أن اجملهود الفكري للنخب اإلسالمية انصب على التصارع
حتداي أمام اجملتمعات
حول ما يرعرف بسياسات اهلوية ،حيث وضعت اإلسالموية ًّ
إسالما
اإلسالمية اليت جعلت تتشكك يف هويتها احلقيقية وما إذا كان إسالمها ً
صحيحا ،وما إذا كانت القوميات الفرعية تتعارض مع االنتماء لإلسالم كجماعة
ً
وأمة ،وما إذا كانت علمانية الدولة تتناقض مع إسالم اجملتمع .ومع فشل النظم
احلاكمة يف حتقيق هنضة فعلية وآتكل مشروعيتها ،أصبحت مجاعات اإلسالم
السياسـي تتغذى فعليًّا على فشل الدول احلديثة.
اخلالصة أن برانمج اإلسالم السياسـي على تنويعاته ،سواء كانت السلمية املؤمنة
ابلدميقراطية أو تلك اجلهادية املسلحة واملقاتلة ،هو برانمج ماضوي ابمتياز ،يتصور
أن التاريخ سيعيد نفسه وأن هنايته لن أتيت إال إبقامة دولة خالفة عاملية تغزو العامل
وختضعه .كما أن الصراعات املتولدة عن النزعة املاضوية جتد ترمجة هلا يف متثيالت
اإلسالم السياسـي ،ويف حني انشغلت غالبية الكتاابت بنقض اإلطار واالفرتاضات
هتتم هذه القراءة هنا بكشف العلل ومكامن اخللل يف التصور.
لقد محل الفكر اإلسالمي منذ عهد اإلحياء -منذ منتصف القرن الثامن عشر يف
بذورا لبناء تصورات حول املستقبل ،13ورؤى أكثر عم ًقا عن تقدير البعضً -
التفكري يف الزمن وحركة التاريخ البشري ،وقدرة على التفاعل البنَّاء واإلجيايب مع
العامل ،غري أن تبيان هذه الرؤى سيستدعي البدء بتبيان تصور اإلسالم للزمن
واملستقبل ابعتبار أن هذا التصور هو اجلذور اليت استقتها التيارات الفكرية
اإلسالمية املعاصرة.
انظر على سبيل املثال :نقد د .فريد األنصاري أحد رموز احلركة اإلسالمية املغربية ،الذي اختار الدعوة 12
والتزكية وفارق التنظيم وكتب يف أخطاء احلركة اإلسالمية يف املغرب :فريد األنصاري ،األخطاء الستة للحركة
اإلسالمية ابملغرب :احنراف استصنامي يف الفكر واملمارسة( ،القاهرة :دار الكلمة.)2007 ،
13راجع :بيرت جران ،اجلذور اإلسالمية للرأمسالية يف مصر ،1840-1760ترمجة رءوف عباس( ،القاهرة:
دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع.)1979 ،
56
.IIIالزمن واملستقبل يف التصور اإلسالمي
تتعدد صور رؤية اإلسالم للزمن بتعدد طبقات التصور اإلسالمي يف عمومه ،فهذا التصور
يتشكل من طبقات متعددة تدور نواهتا حول القرآن الكرمي ،فيما حيتوي على رؤية العرب
قبل اإلسالم عن الزمن وكذلك رؤية الفالسفة والفقهاء للزمن وطبيعته .ومن مثَّ مل ينشأ
عربت فلسفة املسلمني عن الزمن عن تطورهم احلضاري كامال مع الوحي ،بل ّ هذا التصور ً
مرورا ابلوحي مث ابختالطهم ابلشعوب والفلسفات القدمية والروحي منذ ما قبل اإلسالم ً
عربت رؤية العرب قبل اإلسالم عن الزمن عن عالقتهم ابملساحة وبتعقد االجتماعّ .
الشاسعة من الصحراء؛ فصوروا الزمان كقوة خفية تفعل فعلها يف األشياء ويف البشر،
وغالبًا ما نسبت هلا أنواع الشرور اليت يزخر هبا العامل واملوت احملدق هبذه احلياة ،وأطلقوا
على هذه القوة اخلفية اسم الدهر.14
أما القرآن الكرمي ،فعلى الرغم من أنه مل حي ِو بني طياته لفظتـي الزمن أو الزمان ،فإنه ّ
عرب
عنهما بتعبريات أكثر خصوبة سامهت يف إثراء الرؤية اإلسالمية التالية على الوحي حول
عرب القرآن عن الزمن أبلفاظ مثل" :كالدهر ،واحلني ،واآلن ،والوقت ،والعصر، الزمنّ .
واملدة ،واليوم ،واألجل ،واألمد ،والسرمد ،واألبد ،واخللد ،وغريها" .وتشري هذه األلفاظ
إىل أن التصور القرآين قد دمج بني الزمن اإلنساين املتناهي والزمن الكوين الالمتناهي ،بل
فمثال ،أصبح على املسلم أن يضبط به عباداته ومعامالته يف هذه إنه خلق رابطًا بينهماً .
الدنيا اليت يسودها الزمان النسيب املتناهي ،ويتهيأ فيه للدار اآلخرة اليت يسودها الزمان
موقوات ،والصيام أايم معدودات،
كتااب ً املطلق الالمتناهي .فالصالة كانت على املؤمنني ً
واألهلة مواقيت للناس واحلج ،واحلج أشهر معلومات ،واليوم اآلخر ال ريب فيه ،والساعة
املوعودة آتية "قل لكم ميعاد يوم ال تستأخرون عنه ساعة وال تستقدمون".15
14راجع :حممد الرمحوين ،مفهوم الدهر :يف العالقة بني املكان والزمان يف الفضاء العريب القدمي( ،بريوت:
الشبكة العربية لألحباث والنشر.)2009 ،
15إبراهيم العاين ،الزمان وجتلياته يف الفكر اإلسالمي( ،جريدة احلياة ،العدد ،)13909
https://goo.gl/rcwYZ6
57
لقد ساهم القرآن هبذا يف نقل تفكري العرب من الدهر كقوة خفية إىل بـر ْع ٍد وجودي ميكن
التفاعل معه والتحكم به من خالل األعمال اإلنسانية .كما أن هذا التصور وضع بذور
التفلسف اإلسالمي خبصوص الزمن والذي شهد تنويعات عديدة بتنوع التيارات الفلسفية
والكالمية .فربط املتكلمون بني الزمان والفعل ومل ينظروا إليه ككيان منفصل عن جمرى
احلوادث ،كما أهنم مل يبحثوا يف الطبيعة العامة للزمان وحقيقته ،بل ركزوا على طبيعته
النسبية؛ لذا يقول أبو اهلذيل العالف أحد أعالم املعتزلة" :الوقت هو الفرق بني األعمال،
وهو مدى ما بني عمل إىل عمل ،وإنه حيدث مع كل وقت فعل" .16أما الفالسفة ،فقد
عربوا عن الزمن من خالل احلركة ،فيقول ابن سينا إن الزمان "مقدار احلركة من جهة ّ
املتقدم واملتأخر"" ،وال ميكن تصور الزمان إال مع احلركة ،ومىت مل حيس حبركة مل حيس بزمان
مثل ما قيل يف قصة أصحاب الكهف" .ومبا أن احلركة موضوع الزمان ،واملتحرك مادة
دافعا
احلركة؛ كان للزمان وجود موضوعي مادي .لقد كان هذا االرتباط الوثيق ابحلركة ً
للبعض مثل أيب حامد الغزايل أن يقول إن الزمن عرض للحركة ال جوهر هلا ،وهو ال
يرعرف بذاته بل بغريه ،وابلرغم من وجود متقدم ومتأخر فيه فإنه ال ميكن اإلحساس بذلك
دون اقرتانه مبتقدم ومتأخر احلركة ،فالزمان عنده مشروط بوجود النفس اليت حتس
ابحلركة .17وجند صدى هلذه اآلراء يف العصر احلديث ،حيث أدى تعقد االستكشاف
الفيزايئي للزمن إىل استدعاء جوانب إدراكه امليتافيزيقية والشعورية واليت أخذت يف طرح
موجودا أم ال.
ً تساؤالت حول ما إذا كان الزمن
ودائما ما مت
أما ابلنسبة إىل املستقبل ،فهو جزء من نسيج املفهوم القرآين حول الزمنً .
التعبري عنه ابملآل ،أي املصري اإلنساين .يرى عاصم حسن يف دراسته القيمة عن
االستشراف يف الثقافة اإلسالمية "أن النظر إىل املستقبل واستشرافه يف الثقافة اإلسالمية
أوسع بداللته الشرعية والكونية من جمرد تقصي أحداث حمددة أو حساب ملتغريات الرفاه
املطلوبة يف احلياة الدنيا ،بل يتجاوز إىل ما بعد احلياة الدنيا ،وهي املآل املستقبلي األخري
16جميد حسون ،الزمن يف التصوير اإلسالمي ،حبث منشور على (موقع جامعة اببل ،العراق ،بدون اتريخ)،
https://is.gd/utqOtp
17املرجع السابق.
58
الذي يعمل له من حلظة تكليفه" .18وميكن القول إن اإلسالم قد تعامل مع املستقبل
على مستويني .يتمثل املستوى األول يف الرؤية اليت وضعها جلوهر الوجود اإلنساين
وعالقته ابلغيب واإلميان .فاإلنسان صائر إىل خالقه وال حيدد مصريه إال فعله .فالقرآن
حني خيرب عن يوم القيامة ،فهو يضعه يف علم الغيب ،وليس لإلنسان جتاه الغيب إال
اإلميان به والتصديق عليه ابلعمل .وحيمل هذا التفسري إعالءً لإلرادة اإلسالمية ال تناقض
اإلرادة اإلهلية اليت حتدد الغيب .أما املستوى الثاين ،فظهر من خالل التعاطي الفقهي
مع املستقبل من خالل "اعتبار املآل" ،وهو مبدأ أصويل يشري إىل املوازنة بني ظاهر الدليل
الشرعي واملصاحل واملفاسد املرتتبة على الفعل الذي حيرمه أو يبيحه يف املستقبل .وهذا
املبدأ كان من شأنه أن يوازن بني املسار والغاية والصريورة واهلدف واحلاضر واملستقبل.19
ومن هذا االستعراض السريع ،جند أن الرتاث اإلسالمي قد أثري مبفاهيم متنوعة عن كل
من الزمن واملستقبل فرضها تعدد التجربة احلضارية يف اإلسالم وتنوعها .وال يعنـي هذا
مستقبلي بطبيعته ،فهذا أمر يتوقف على تعاطي اجملتمع
ٌ القول إن "اإلسالم كاجتماع"
واألفراد مع النصوص يف سياقات زمانية ومكانية خمتلفة .فاملستقبل يف العصور الوسطى
حمدودا للغاية بسبب ٍ
موضع عناية كبرية ،فالاليقني البشري كان ً
َ يف الشرق والغرب مل يكن
حمدودية املعرفة وقدرة اإلميان على التعامل مع القلق اإلنساين ،وهو الوضع الذي انقلب
مع احلداثة .بيد أن الشاهد هو أن الرتاث اإلسالمي تعامل مع الزمن على حنو مركب
بذورا
يتجاوز الرتكيز على السياسـي ،الذي كان بدوره هامشيًّا .كما أن هدا الرتاث محل ً
كان ميكن أن تؤسس لفلسفة إسالمية معاصرة قادرة على التعاطي مع أسئلة مثل الزمان
وعالقته ابإلنسان .لقد كان حممد إقبال ،الذي استوعب النسيج املركب للزمن يف الرتاث
ائدا يف إعادة إنتاج التصور اإلسالمي عن الزمن على ضوء الفلسفة والعلم
اإلسالمي ،ر ً
احلديثني.
عاصم حممد حسن ،استشراف املستقبل من منظور إسالمي :مداخل أساسية( ،سلسلة أوراق العدد 18
20حممد إقبال ،جتديد الفكر الديين يف اإلسالم ،ترمجة حممد يوسف عدس( ،اإلسكندرية ،مكتبة اإلسكندرية:
سلسلة يف الفكر النهضوي اإلسالمي ،)2011 ،ص .161
21كرميو حممد ،اإلصالح اإلسالمي يف اهلند :الدولة يف فكر حممد إقبال وشرياغ علي وأيب األعلى
املودودي ،ترمجة حممد العريب وهند مسعد( .بريوت ،دار جداول للنشر ،)2016 ،ص .151
60
الدور ،االشتباك مع العامل وتغيريه .وهو مستقبل لن يقوم إال مبوازاة التقاليد اإلسالمية
ابملعارف الغربية.
ومن هنا أكد إقبال على أن املهمة اجلسيمة أمام املسلم املعاصر ،هي "إعادة النظر من
جديد يف منظومة اإلسالم ككل دون أن يقطع صلته ابملاضـي" .22وهي املهمة اليت
يتصدى هلا يف جممل كتابه "جتديد الفكر الدينـي يف اإلسالم" ،وذلك من خالل "االقرتاب
من املعرفة احلديثة بنزعة االحرتام وروح االستقالل ،وتقييم الفكر اإلسالمي يف ضوء هذه
املعرفة حتـى لو خالفنا بذلك املتقدمني" .23أما موضوع هذا التجديد فلم يكن يف البداية
الدولة أو الكياانت األوسع ،ال بل الذات اإلنسانية ابعتبارها مناط الرسالة اإلهلية وحمور
االعتقاد ،وهي منطلقه للتعامل مع إشكالية الوجود الكربى ،وعلى رأسها مفهوم الزمن.
تعرب عن
يف مفهوم الزمن لدى إقبال جتتمع عناصر فلسفية وعلمية حديثة وعرفانية وأدبية ّ
منفردا ،بل هو مبحث يتناوله
اتساع أفق تكوينه الثقايف والفلسفي .وهو ال يناقش الزمن ً
يف مناقشته ملفهوم األلوهية وحرية الذات اإلنسانية وخلودها ،فيستدعي الرتاث اإلسالمي
ويوازيه مبفردات الفلسفة والعلم الغربيني مع إقامة مسافة نقدية مع كل منهما .لقد كان
مهما ملدى أتثري الثورة
انعكاسا ًّ
ً تناول الزمن فلسفيًّا وعلميًّا يف ثالثينيات القرن العشرين
الكم يف نظرة اإلنسان للكون ولنفسه،
اليت أحدثتها النظرية النسبية آلينشتاين ونظرايت ّ
وهو ما جند له صدى عند إقبال الذي أدرك أنه من غري املمكن للمسلمني االخنراط يف
العامل اجلديد دون فهمه ،وفهم أبعاده الكلية وما يكتنفها من انقالابت على الرؤى السائدة
حول العامل والطبيعة واإلله.
ابلنسبة إىل إقبال ال ميكن اإلحاطة ابلزمن دون فهم للذات .وهنا جيري التفريق بني الزمن
املطلق ومناطه الذات اإلهلية املطلقة ،والزمن النسيب ومناطه الذوات اإلنسانية واليت انبثقت
يعرب عن ذات هللا املطلقة ،فإن هناك من الذات اإلهلية .وإذا كان كل ما يف الوجود ّ
درجات يف هذا التعبري" :فالذاتية تتدرج يف سلم الوجود حتـى تبلغ كماهلا يف اإلنسان.
22حممد إقبال ،جتديد الفكر الديين يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص .163
23املرجع السابق ،ص .163
61
وهذا هو السبب يف إعالن القرآن الكرمي أن الذات املطلقة أقرب إىل اإلنسان من حبل
الوريد".24
بلغة كالمية ،يثبت إقبال أن هللا قدمي كما أن زمنه مطلق ،مث يقرتب من مذهب املتصوفة
يعرب عن نفسه يف اخللقاإلسالميني يف مضاهاة هللا ابلدهر .إال أن هذا اإلطالق والقدم ّ
املستمر للذوات ولآلايت الكونية كما أثبتها األشاعرة قدميًا .لقد كان األشاعرة -حبسب
تتابعا
إقبال -أول من حاول من املسلمني فهم الزمن فلسفيًّا ،فكان حسب نظريتهم ً
لآلنيات الفردية ،وهو ما يستتبعه القول بوجود فراغات يف الزمن بني كل آنني فرديني أو
بني حلظات الزمن ،وهي نظرة ختتلف مع مذهب نيوتن الذي تصور أبنه يتدفق تدف ًقا
متساواي ،وهي نظرة ال تؤدي إىل إدراك فعلي حلدود الزمن وبدايته وهنايته .إال أن كلتا
ً
النظريتني تشكل حماولة موضوعية لفهم الزمن ،رمبا تتفق مع تطور العلم احلديث إال أهنا
الذري ،ذلك الذي ميكن تقسيمه إىل أجزاء ،25وتفتقد اجلانب ّ ال ختربان إال عن الزمن
الذايتّ ،أي ذلك الذي يضفي معنـًى على الزمن ،وابلتايل تفصل بني إدراكنا للزمن وللذات
اإلهلية.
يرى إقبال أن السبيل الصحيح لفهم طبيعة الزمن ،هو التحليل النفسـي للتجربة الشعورية
اإلنسانية .وهو يضع جانبني لتلك النفس من خالهلما يدرك الزمن وحركته ،ومها جانبا:
"املعرفة ،والفاعلية .فالنفس العارفة حتيا يف دميومة حبتة أي تغري بدون تعاقب ،وحياة
النفس تتحقق يف حركتها من املعرفة إىل الفاعلية ،من احلدس إىل العقل" .26هذه احلركة
هي اليت توفق بني الدميومة والتغري وتفتح الباب أمام انكشاف الذات املطلقة من خالل
احلركة اخلالقة للذات .هذا التأكيد على اإلدراك الذايت للزمن كتجربة شعورية ،أدى إبقبال
إىل التأكيد على فرادة الذات اإلنسانية؛ حيث يستخلص املفهوم القرآين عن الذات
حرًة ومسؤولةً ،وهي صفات ال تتوفر يف الذوات األخرى املخلوقة.اإلنسانية ابعتبارها َّ
30انظر :إميانويل كانط" ،إجابة عن سؤال :ما هو التنوير؟!" ،ترمجة إبراهيم املشوح( ،موقع حكمة 9يونيو
https://goo.gl/d3L8mj ،)2015
31حممد إقبال ،جتديد الفكر الديين يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص .182-181
64
يتبدى كل حلظة يف جالل جديد .وليس املتلقي إلشراقات األنوار اإلهلية جمرد ٍ
متلق
جديدا ،وهبذا يقدم املزيد من الفرص للتجلّي
سلبـي .فإن كل فعل للذات احلرة خيلق موق ًفا ً
َّ
اخلالق".32
بيد أن إقبال ال يثبت احلركة والفاعلية على الذات وحدها ،بل ميدها على خطوط
االجتماع الذي يتصوره اإلسالم والذي رأى أنه يقوم على مبدأين يؤسسان هلذه الفاعلية،
ومها مبدآ :التوحيد ،واحلركة .يرى إقبال أن اإلسالم كحركة ثقافية يرفض النظرة االستاتيكية
القدمية للكون ،ويتبىن نظرة ديناميكية يتسم فيها الكون ابحلركة والتغري .33إال أن هذه
احلركة والتغري املستمرين يقومان على أساس مبدأ اثبت مستقر ال يتغري ،وهو مبدأ التوحيد
الذي أتى اإلسالم كدستور لتفعيله يف حياة البشر العملية والوجدانية .ومن مثَّ ،فإن هذا
يعرب عن نفسه يف التنوع والتغري .لذلك ،فإن اجملتمع الذي يتوخى هذا املبدأ الثابت إمنا ّ
معا" .وينبغي أن يكون له مبادئ أبدية املبدأ إمنا يوفق يف حياته بني عوامل الدوام والتغري ً
كي تنظم حياته اجلماعية؛ وذلك ألن الثابت األبدي يثبت أقدامنا يف عامل التغري
املستمر".34
يعرب مبدأ التوحيد عن نفسه يف اإلسالم من خالل االجتهاد الذي أدى تعطيله إىل اجلمودّ
والركود احلضاري يف القرون اخلمسة األخرية .لقد كانت املفارقة الكربى يف اتريخ اإلسالم
احلق الكامل من االجتهاد يف التشريع .وهو
-حبسب إقبال -هي أن اإلسالم منح الفرد َّ
املذهب الذي أقرته املذاهب السنية نظرًّاي ،إال أهنا يف الوقت نفسه أحاطت االجتهاد
بشروط أصبح من املستحيل توافرها يف فرد واحد ،وهو ما خلق موق ًفا شديد الغرابة
ابلنسبة إىل اإلسالم "كنظام قانوين قائم على أساس أرضية مهدها القرآن بتجسده لرؤية
للحياة ذات ديناميكية يف جوهرها" .35وقد أيدت السلطة السياسية هذا املوقف الذي
توجس من تفشي احلركات العقالنية يف اجملتمع اإلسالمي ،مثل حركات املعتزلة اليت رأوا
بذورا لالحنالل واالنشقاق خاصة مع تصاعد اجلدل العقلي وما اجتلبه من خالفات فيها ً
38سيد قطب ،املستقبل هلذا الدين( ،القاهرة :دار الشروق ،)2005 ،ص .19
39سيد قطب ،معامل يف الطريق( ،القاهرة :دار الشروق ،ط ،)1979 ،6ص .3
67
جهده على إجالء التصور اإلسالمي يف جمال القيم دون أن يتطرق إىل سؤال الزمن أو
الذات اإلنسانية أو احلركة التارخيية للمجتمعات .ورمبا يعود هذا الغياب إىل أن قطب مل
منشغال بقضية اإلصالح أو التجديد الدينـي ،فالتصور اإلسالمي كامل ومكتمل ال ً يكن
غبار عليه ،وأزمة العامل ال تطال اإلسالم ،فهي أزمة احلضارة املادية الغربية اليت جنحت يف
نقل أمراضها إىل عامل اإلسالم وجمتمعاته.
يبدو قطب -مبعايري فلسفية -مثاليًا ،يرى أن اجملتمعات جيب أن تستقيم وتربنـى على
يواي" .يقول
تصور اعتقادي حمدد حيكم منهج حياهتا ،من خالل ما أمساه "انبثاقًا ح ً
قطب" :هناك ارتباط وثيق بني طبيعة (النظام االجتماعي) وطبيعة (التصور االعتقادي)..
بل إن هناك ما هو أكرب من االرتباط الوثيق .هناك االنبثاق احليوي :انبثاق النظام
االجتماعي من التصور االعتقادي ..فالنظام االجتماعي بكل خصائصه هو أحد
حيواي وفطرًاي ويتكيف بعد ذلك تكي ًفا
نباات ً
انبثاقات التصور االعتقادي؛ إذ هو ينبت ً
اتما ابلتفسري الذي يقدمه ذلك التصور للوجود وملركز اإلنسان يف هذا الوجود ولغايةً
الوجود اإلنساين ...وهذا االنبثاق مث التكيف هو الوضع الصحيح لألمور بل هو الوضع
الوحيد" ومن مثَّ ،يسبق املثال على الواقع والنص على االجتماع ،فالنظام االجتماعي ال
خيتار تصوراته بل إن التصور هو الذي خيلق النظام االجتماعي .وال يرتك قطب مساحة
لنوع آخر خمالف للعالقة بني املثال واالجتماع ،فريى أن "كل نظام يقوم على غري هذا
األساس ،هو نظام غري طبيعي ،نظام متعسف ال يقوم على جذوره الفطرية ..وال أمل يف
طويال".40
أن تعمر مثل هذه النظم ً
إن أزمة النظم االجتماعية والسياسية املعاصرة ،حبسب قطب ،منبعها أهنا ابتدعت لنفسها
تصورات اعتقادية أحلتها حمل النهج اإلهلي الذي كان من املفرتض به أن حيكم بناءها
وحركتها املخالفة للفطرة .وهو املعنـى املقصود ابجلاهلية ،ذلك املصطلح الذي يقع يف
القلب من البناء الفكري لقطب ،وهو ما انبنت عليه أصولية مذهبه السياسـي
واالجتماعي .تشري اجلاهلية عند قطب إىل "االعتداء على سلطان هللا يف األرض ،وعلى
أخص خصائص األلوهية ..وهي احلاكمية ..إهنا تسند احلاكمية إىل البشر فتجعل بعضهم
اباب لبعض ،ال يف الصورة البدائية الساذجة اليت عرفتها اجلاهلية األوىل ،ولكن يف صورة
أر ً
69
كما يعلمه إلغاء عبودية اإلنسان لألشياء واألحياء .مث ليقرر املوازين اليت يرجع إليها البشر
يف هذا كله ،وال يرجعون إىل غريها يف شأن واحد من شؤون احلياة اإلنسانية إىل آخر
الزمان" .43ومن مثَّ ،يبدو هذا التصور االعتقادي حمرًكا للدورات التارخيية وخارج نطاق
قواعد االجتماع والتغري التارخيي.
ويرتتب على ال اترخيية التصور االعتقادي أن ليس للذات اإلنسانية القدرة على حتديده
أو إعادة تشكيله ،فهو إهلي مطلق .ويذهب قطب إىل أن العقل البشري يف تعامله مع
هذا التصور اإلهلي ،كما يبيِّنه املنهج القرآين ،ليس عليه إال التلقي دون أن يتفاعل إال يف
حدود اإلدراك الداليل الذي ال يولد معاين جديدة لألصل الرابين .فالعقل اإلنساين غري
قادر على صناعة هذه املقومات ،وعليه أن "يتلقاها وهو متجرد من أية "مقررات" سابقة
يف هذا الباب ،سواء من مقوالته الذاتية أو من مقوالت العقائد احملرفة [أي األداين
السابقة على اإلسالم] ولو كان هلا أصل رابين .وعليه أن يتقيد فيما يتلقاه من ذلك
املصدر الصحيح ابملدلول اللغوي أو االصطالحي للنص الذي وردت فيه هذه املقومات
حكما يف
كما ...فـ[العقل البشري] ليس ً [وهو القرآن الكرمي] بدون أتويل ما دام رْحم ً
صحة املدلول أو عدم صحته يف عامل احلقيقة والواقع؛ إمنا هو حكم فقط يف فهم داللة
النص على مدلوله وفق املفهوم اللغوي أو االصطالحي للنص .وما دل عليه النص فهو
صحيح ،وهو احلقيقة ،سواء كان من مألوفات هذا العقل ومسلماته ،أم مل يكن.44"...
وأيسا من إمكانية العقل البشري من التوصل
جزعا ًيف الواقع ،يبدي سيد قطب يف كتاابته ً
إىل احلقيقة سواء عن طريق العلم أو الفلسفة ،ومها أهم جتليات العقل البشري الذي يقع
من ابحلقيقة
التصور اإلسالمي /الرابين يف جزء منه خارج إدراكه .وف ًقا لقطب ،فإن هللا َّ
على البشر من خالله هدايته إايهم ابملنهج الرابين .ومن مثَّ ،ال جدوى من البحث عنها
بطرق أخرى؛ كما حيدث يف الفلسفة اليت ال هتدي إال حلقائق جزئية عن الوجودٍ ،
وتيه
يف جداالت ال جدوى هلا .وليست حماوالت بعض املعتقدين خلط عقيدهتم ابلفلسفة
قصورا ،فالعقيدة هتدي الفلسفة والفلسفة تضل العقيدة؛ فـ"حيثما أخذت الفلسفة إال ً
70
من العقيدة أفادت واهتدت إىل بعض جوانب احلقيقة .وحيثما أخذت العقيدة من
الفلسفة خسرت وأصيبت ابلتخبط واالحنراف والتعقيد" .45ومن مثَّ ،يشجب قطب ما
صورا كابية معقدة وكئيبة ،واليت كانت عليها "الفلسفة اإلسالمية" ،أو "علم الكالم"
يراه ً
أو "علم التوحيد" البعيدة عن التصور اإلسالمي ،وعن طبيعة املنهج اإلسالمي .ذلك
عندما شاء انس من "املسلمني" أن خيلطوا التصور اإلسالمي مبقوالت الفلسفة ،وأن
يعقدوا املنهج اإلسالمي مبنهج الفلسفة46.ويف موضع آخر ،ميد قطب هذا العجز البشري
"بعيدا عن املنهج الرابين" ،ويرى أن
إىل التجارب اإلنسانية الرامية إىل بناء اجملتمعات ً
مصريها الفشل؛ إذ إهنا "تدور يف حلقة مفرغة وداخل هذه احللقة ال تتعداها؛ حلقة
التصور البشري والتجربة البشرية واخلربة البشرية املشوبة ابجلهل والنقص والضعف
واهلوى" .47لذا ال يعول على هذه التجارب البشرية والعقل اإلنساين يف حتقيق اخلالص،
وال يعول على الذات اإلنسانية أخذ انصية مصريها.
يشكل مفهوم "اخلالص" حجر الزاوية يف مفهوم املستقبل لدى سيد قطب .فهو غاية
التاريخ اإلنساين الذي يتحرك دائرًاي ،وليس اخلالص إال إخراج العباد من عبادة العباد إىل
عبادة رب العباد ،أي حتقيق احلاكمية اإلهلية ،وإهناء اجلاهلية .بيد أن الوصول إىل اخلالص
منهجا رابنيًا قد قردر له الصراع
ال مير إال عرب صراع ،حيث يرى قطب أن اإلسالم ابعتباره ً
مع ما سواه من تصورات بشرية تكرس للجاهلية والعبودية لغري هللا .وبسبب رؤيته الدائرية
أبدي وحلقاته مستمرة ،فليس االستعمار احلديث وما جلبه للتاريخ ،يرى أن هذا الصراع ٌّ
امتدادا للصراعات اليت تولدت مع الفتوحات اإلسالمية مع بقااي ً من حداثة إال
اإلمرباطورية الرومانية يف املشرق" ،ولكن الرومان والشعوب األوروبية اليت ورثت
اإلمرباطورية الرومانية ،والشعوب األمريكية املتولدة من املهاجرين األوروبيني ،دخلت يف
معركة حامية الوطيس مع اإلسالم منذ واقعة الريموك إىل اللحظة احلاضرة .ووجدت
خططها مع خطط اليهود (الصهيونية العاملية) يف الكيد اخلفي واحلرب الظاهرية هلذا
الدين .ومل تكن احلروب الصليبية ،وال مذابح األندلس الوحشية وال االستعمار احلديث..
71
قمما للموجات العاتية يف خضم احلرب الشاملة اليت أعلنها أهل الكتاب جبملتهم إال ً
على هذا الدين وأهله ..هدفهم األول واألظهر منها سحق هذا الدين وأهله ،وردهم عن
دينهم إن استطاعوا ..بل مل تكن كارثة التتار يف هجومهم على بغداد وتدمري اخلالفة فيها
إال من كيد اليهود والنصارى املستمتعني يف دار اإلسالم بكل الضماانت!".48
قد يسهل رمي هذه الرؤية ابلتآمرية ،اليت حتولت يف خطاب احلركات اإلسالمية منذ عصر
الصحوة إىل مظلومية مشوبة ٍ
بتعال إمياين يشابه تعايل الشعوب املضطهدة اترخييًا ،وترى
يف اضطهادها وكيد األغيار هلا دليل مسوها .بيد أن أهم ما توحي به هو أن قطب يتبنـى
رؤية جوهرانية حلركة التاريخ ،فاإلسالم جوهر مل يتغري ،وكذلك الغرب أو اآلخر الكتايب.
أبدي؛ وألنه صراع عقدي على معاين العبودية واأللوهية واحلاكمية،
لذلك فالصراع بينهما ٌّ
فليس لإلسالم أن يهادن اآلخر ،أو أن يصل يف صراعه معه إىل املنتصف .فخالص
البشرية معقود على قدرة اإلسالم على االنتصار على كل أشكال اجلاهلية وتصوراهتا،
سواء يف شكل الغرب الرأمسايل أو الشرق االشرتاكي أو النظم العسكرية احلاكمة يف العامل
اإلسالمي أو احلضارة املادية احلديثة يف عمومها .ويرسم قطب يف "معامل يف الطريق"
وصوال إىل حتقيق احلاكمية.
مالمح هذا الصراع املرير ،والذي يقول إنه لن يكون هينًاً ،
بفعل هذه الرؤية اجلوهرانية للتاريخ ،تغيب عن كتاابت قطب أية حماوالت لفهم اجملتمعات
اإلسالمية القدمية أو احلديثة على السواء ،فهو يلغي الصراع بداخلها من أجل أتبيد
صراعها مع اجلاهلية السائدة فيها ويف العامل .ولكي يتحقق اخلالص من رحم هذا الصراع،
بد من عودة الطليعة اليت حتمل املنهج الرابين بل ومتثله ،كما مثل جيل الصحابة هذا ال َّ
املنهج مع بداية اإلسالم .وهو يطلق على هذه الطليعة "اجليل القرآين الفريد" الذي لن
استمتاعا،
ً تعبدا وال
وعمال وتكوينًا ،ال ً
أييت إال عن طريق تشرب القرآن كمنهج تنفي ًذا ً
49
والعزلة الشعورية مع رواسب اجلاهلية احمليطة داخل اجملتمع وخارجه .ورمبا تتوافق هذه
القراءة للتاريخ ،وللمسار املستقبلي للصراع مع اجلاهلية ،مع تصور قطب عن الذات
اإلنسانية وتلقيها واستجابتها التلقائية للتصور الرابين .فاجليل القرآين الفريد ،كما تصور
جيل الصحابة مل تنل منه النوازع اإلنسانية أو مل يفسد التأويل العقلي أو التكييف النسـبـي
48سيد قطب ،مقومات التصور اإلسالمي وخصائصه ،مرجع سابق ،ص .114
49سيد قطب ،معامل يف الطريق ،مرجع سابق ،ص .19-11
72
زمانيًا ومكانيًا تلقيه الذي مكنه من هزمية اجلاهلية األوىل ،واألمر نفسه حيكم تصوره
للعصبة املؤمنة اليت ستعبّد الطريق إىل اخلالص.
لذلك حيمل قطب رؤية خالصة وتبشريية حول مستقبل اإلسالم يف هذا العامل .وهو
مستقبل حتكمه غاية واحدة ،هي حتقيق اخلالص وهزمية اجلاهلية .إال أن هناك صمتًا
مطب ًقا عند قطب حول الصورة الـيت سيكون عليها جمتمع اإلسالم يف مرحلة ما بعد
الصراع .فهو على العكس من املفكرين الطوابويني أصحاب اإلسهام األول منذ أفالطون
وبناء تصورات حول اجملتمعات الطوابوية "اليوتوبيا" -مل جيهد ذهنه برسم حدود هذا
أيضا يف كتاابت
اجملتمع الرابين ،وكيفية إدارته وف ًقا للمنهج الرابين .لقد ساد هذا الصمت ً
اإلسالميني من بعد قطب .وتبدو هذه املهمة -مهمة بناء تصور عملي وواقعي ورمبا
أيضا عن جمتمع اإلسالم يف املستقبل -حتتاج إىل مستوايت من اخليال تتجاوز بناءمثايل ً
قضية إثبات حول أحقية املنهج الرابين ومسوه وتعاليه على مناهج البشر االعتقادية أو
األيديولوجية األخرى .لقد ظلت اليوتوبيا اإلسالمية أهم األجزاء املفقودة يف بناء تصور
أيديولوجي متماسك لدى اإلسالميني ،يف الوقت الذي مل تسعفهم حتركاهتم العملية اليت
حادت يف كثري منها عن تصوراهتم األيديولوجية األوىل توقًا إىل السياسة والدولة مشاركة
ومغالبة يف بناء تصور حقيقي عن املستقبل.
.VIضياء الدين ساردار :جتديد اإلسالم من خالل املستقبل
ال ينتمي ضياء الدين ساردار إىل تقاليد الفكر اإلسالمي احلديث برافديه الرئيسني :الفكر
الدينـي التقليدي ،والفكر اإلسالمي السياسـي .إال أنه ينتمي إىل تقاليد أوسع تقوم على
ختوم ثقافية يقع اإلسالم يف القلب من جداالهتا .متثل هذه التخوم الدراسات الثقافية
النقدية ما بعد الكولونيالية ،والدراسات املستقبلية وفلسفة العلم احلديثة ،اليت ميثل ساردار
إمياان
أحد أعالمها يف الغرب .لقد مكنه موقعه كناقد ثقايف غريب ينتمي إىل اإلسالم ً
وحضارًة من بناء رؤية أكثر تركيبًا ملستقبل اإلسالم تتجاوز املستقبل الذي يبشر به اإلسالم
انفتاحا
ً تنوعا من املستقبل الذي ترمسه القوى الغربية الرأمسالية ،وأكثر
السياسـي ،وأكثر ً
على العامل؛ فمستقبل اإلسالم مرهون بقدرته على املسامهة يف تكوين مستقبالت العامل.
واألهم أن هذه الرؤية أكثر عملية وقدرة على االخنراط مع الواقع املتنوع للمجتمعات
اإلسالمية ،وميكن أن جتتذب األفراد واجلماعات على السواء.
73
احدا ،أو ابألحرىابعتباره أحد رواد الدراسات املستقبلية ،يرى ساردار أن الزمن ليس و ً
فإن الزمن هو خزان الوعي البشري الذي خيتلف من ثقافة ألخرى ،ورمبا عرب الثقافة
الواحدة .فعلى الرغم من سيادة النظرة اخلطية للزمن اليت تقوم عليها احلياة احلديثة
وتستبطنها الرؤية احلداثية للعامل ،فإن هناك ثقافات عديدة أخرى غري تلك الغربية اليت
تتبىن وجهات نظر أخرى للزمن ،فالعامل قدميًا رأى الزمن يف شكل دوائر أبدية ،وهناك
أخرى ال تسع لغاهتا كلمات تصف املاضـي واملستقبل ،فاحلاضر موجود فحسب .50أما
نسيجا يتالحم فيه الزمن األرضـي النسيب معاإلسالم كرؤية ثقافية فريى "الزمن ابعتباره ً
السماوي املطلق يف نسيج واحد ...فاآلخرة هي حياة اخللود ،حيث تتجاوز فيها حدود
املكان والزمان والسببية .وال تنتهي حياة اإلنسان مبجرد وفاته وسيستمر أتثري عمله فيه
يف احلياة اآلخرة .إن الزمن املستقبلي ،والذي يقع جزء منه يف هذا العامل وبقيته يف اآلخرة،
هو وقت احلساب .وسيلقي املؤمن /املؤمنة ما صنعت يداه /يداها يف احلياة الدنيا أو يف
احلياة اآلخرة".51
يضع ساردار نفسه ضمن ما يعرف ابلتقاليد النقدية للدراسات املستقبلية ،تلك اليت تقوم
على أتكيد تعددية املستقبل وتنوعه ،وتصر على أن العامل بقدر ما هو متنوع ،عليه أن
يستوعب وجود أكثر من مستقبل يؤكد هذا التنوع حتت مظلة اإلنسانية .يتحدى هذا
التنوع اهليمنة الغربية ودفعها العامل عرب القوى الرأمسالية وغريها إىل مستقبل واحد ،وهو ما
يشري إليه ساردار ابستعمار املستقبل .فكما استعمر الغرب أبدواته العسكرية والثقافية
ماضـي الشعوب اآلسيوية واجلنوبية ،يسعى إىل استعمار مستقبلها بفرض رؤية واحدة،
74
حت ّد من إمكاانت الفعل واحلركة لدى مثل هذه الثقافات .لذلك ،من املمكن أن يساهم
اإلسالم كبديل ثقايف فاعل يف تشكيل مستقبالت العامل.52
بيد أن اإلسالم يف وضع ال يسمح له ثقافيًا وال سياسيًا للقيام هبذه املهمة ،بسبب أزمته
احلضارية .لذا يعمد ساردار إىل نقد الفكر اإلسالمي على أساس توضيح التعددية اليت
يتضمنها اإلسالم .ينقد ساردار الفكر اإلسالمي ،بشقيه الرتاثي واحلديث ،من منظور
يقوم على اإلميان ابلتعددية اليت ميثلها اإلسالم والتعددية ابعتبارها احلالة الطبيعية اليت
أوجد هللا البشر عليها .لقد سامهت الروافد الفكرية الثرية اليت شكلت فكر ساردار يف
أتطري هذا النقد .تبدأ هذه الرؤية ابلنظر إىل اإلسالم ابعتباره رؤيةً كونية "كطريقة للنظر
للعامل وتشكيله ،ونظام للمعرفة والوجود والفعل" .إن املعىن احلريف لإلسالم هو اخلضوع
طوعا إلرادة هللا الواحد الرمحن الرحيم القدير،
مسلما يعين أن ختضع ً والسالم ،وأن تكون ً
وأن جتد السالم يف هذا اخلضوع .إن هذا السالم يتحقق من خالل مفاهيم وقيم خالدة
عرب عنها القرآن الكرمي وسنة النيب .إن املفهوم األساسي الذي شكل رؤية اإلسالم للعامل ّ
أيضا على أنه وحدة اجلنس ً تفسريه ميكن لكنو اخلالق، اإلله وحدة يعين الذي التوحيد هو
رجاال ونساءً متساوين أمام
البشري والطبيعة .وهبذا اإلطار اجلامع للتوحيد ،يصبح اخللق ً
اخلالق ،دومنا اعتبار للون والعرق والعقيدة ،مسؤولني عنها وهم خلفاء عليها ،وسيحاسب
كل فرد على أفعاله يف اآلخرة .وتتحقق مسؤولية البشر عن األمانة على أساس مفهومني
إسالميني آخرين ،مها :العلم ،والعدل .إن أفعال خليفة هللا وأفكاره ليست قائمة على
إميان أعمى ولكن على معرفة .وهذه األفعال واألفكار وظيفتها الوحيدة هي إقامة العدل. ٍ
ويتحقق كلٌّ من العلم والعدالة على قاعدة اإلمجاع والشورى واملصلحة العامة .يف هذا
اإلطار القيمي ،فإن كل أشكال املعرفة والوجود والفعل هي حالل ،وخارج هذه األوضاع
األخالقية يكمن احلرام .إن التحدي القائم أمام أي جمتمع إسالمي ،هو أن يؤطر احلالل
طوعا هذا التحدي ويعملون مبا يتناسب مع مرحلته التارخيية .وهؤالء األفراد الذين يقبلون ً
52حممد العريب ،ضياء الدين ساردار :مطارحة اإلسالم واملستقبل( ،موقع جدلية 21 ،أكتوبر ،)2014
https://goo.gl/PcfZ4y
75
من أجل هذه الغاية على أساس هذه الشبكة من املفاهيم والقيم ،هم مرتابطون يف مجاعة
واحدة؛ هي األمة.53
يبتعد ساردار هبذه الرؤية الكلية القيمية للدين عن الرؤى االختزالية اخلرافية غري التارخيية
اليت ختتزل اإلسالم إىل عبادات أو اليت تضعه يف مقام التشريعات اجلامدة؛ فهذه الرؤية
يعرب عنها اإلسالم حمل الفعل واحلركة؛ حبيث يتحول اإلسالم حتاول أن تضع القيم اليت ّ
إىل "حضارة عاملية تقوم على حكم تشاركي وعدالة اجتماعية وكمجتمع قائم على املعرفة
وملتزم بعبادة هللا ويقوم إبنتاج املعرفة الفلسفية والتكنولوجية والعلمية اليت حتسن من حياة
اإلنسانية كلها وليس فقط أفراد األمة" .هذه الرؤية ال ميكن وصفها ابإلسالمية اخلالصة
بقدر ما هي إنسانية جامعة ،وتسعى إىل إعادة النظر يف كل مفردات العامل املعاصر من
احلداثة وما بعدها والرأمسالية ونظامها .ويرى ساردار أن إعادة البناء حلضارة اإلسالم
ستكون عملية مؤملة وتدرجيية؛ إذ إهنا تشتمل على إعادة بناء كل جوانب احلياة ،وتتطلب
شجاعة فكرية ،وهي عبء تقوم به أجيال متعاقبة وسيكون هلا جناحاهتا وإخفاقاهتا.54
يرى ساردار أن أزمة احلضارة اإلسالمية قد بدأت مع إغالق ابب االجتهاد الفكري
والفقهي ،لقد أدى هذا اجلمود الفكري إىل ما يسميه "الكوارث امليتافيزيقية الثالث" يف
اتريخ الفكر اإلسالمي .وتتمثل يف تصعيد الشريعة إىل مرتبة املقدس اإلهلي ،وإلغاء السلطة
عن املؤمنني ،ومساواة اإلسالم ابلدولة .يقول ساردار" :إنه ال يوجد ما هو مقدس يف
الشريعة ،والشيء الوحيد املقدس يف اإلسالم هو القرآن الكرمي ،أما الشريعة فهي بناء
إنساين وحماولة لفهم اإلرادة اإلهلية يف سياقات معينة .إن الشريعة يف جزئها األكرب هي
فقه ،وال يعدو إال أن يكون آراءً شرعية للمشرعني القدامى "الفقهاء" .ومل يكن الفقه قبل
عرب الفقه عن الروح
بدعا؛ حيث متت صياغته وتقنينه .ويف هذه املرحلةّ ،العصر العباسي ً
التوسعية لدى املسلمني ،وعلى سبيل املثال استمدت أحكام الفقه فيما يتعلق ابلردة من
هذا املنطق (التوسعي) ال من القرآن .ويف هذا السياق الذي تطور فيه الفقه كان العامل
76
بسيطًا ،وميكن تقسيمه بسهولة إىل ما هو أبيض وأسود .وابلتايل ،ظهر يف الفقه مفهوما:
دار احلرب ،ودار اإلسالم .كما أن الفقهاء مل يكونوا يف موضع السلطة يف اجملتمع ،فظلت
اجتهاداهتم حبيسة مدوانهتم ونظرايت ال ميكن تعديلها؛ إذ مل يستطع الفقهاء أن يتعرضوا
للتجربة العملية اليت تظهر أخطاء نظرايهتم ،وتستدعي إعادة التفكري فيها .ومن انحية
أخرى ،تطور الفقه اإلسالمي على قاعدة االنقسامات السياسية".55
وتؤدي هذه الكارثة إىل كارثة أخرى؛ حيث تنزع الفاعلية عن املؤمنني طاملا أن القانون
الفقهي "الشريعة" معطى مقدس فال جمال للتفكري والنقد ،وهنالك يصبح املؤمن جمرد
متلق سليب ال فائدة من حبثه ملا تقتضيه مصلحته .يؤكد ساردار أن الشريعة يف أحسن ٍ
وقيما تسرتشد هبا اجملتمعات اإلسالمية ،إهنا منهاجية حلل
مبادئ ً
َ األحوال ليست إال
جهدا وأن
قانوان ينبغي اتباعه .ويتطلب هذا من املؤمنني أن يبذلوا ً
املشكالت وليست ً
56
يعيدوا أتويل القرآن ابستمرار .
أما الكارثة األخرية املرتتبة على ما سبق من اختزال لإلسالم ،فهي مساواة اإلسالم
تعرب عنها مجاعات اإلسالم السياسي .يقول ساردار" :إن هذا ابلدولة ،وف ًقا للرؤية اليت ّ
اختزال آخر لإلسالم يضعه يف مقام األيديولوجيا ،ويضع هذه األيديولوجيا داخل بنية
الدولة القومية وذلك لتحويلها إىل دولة إسالمية .إن كل هذه الدول املسماة ابإلسالمية
قائمةٌ على افرتاضات سخيفة .واألخطر من هذا أن اإلسالم بكل ما يشتمله من حقائق
عندما يتحول إىل أيديولوجيا حركية حتملها مجاعة معينة ،فإنه يفقد إنسانيته ،ويصبح
ساحة للصراع السياسي الذي تتم فيه التضحية ابألخالق والعقل والعدالة" ،تقوم هذه
األيديولوجيا التواتليتارية Totalitarianismعند ساردار على جعل الدولة املتحكم
يف كل شيء ابسم الدين ،وتبين برامج سياسية بال معىن ،وجتعل من كل ٍ
فعل سياسي
إسالميًّا كما هو احلال يف إيران .إن هذه االختزالية ليست ابحلالة اجلديدة ،ولكنها وصلت
77
حاليًا ابلعامل اإلسالمي وجمتمعاته إىل حالة من العبثية والتدهور كما أشارت إىل ذلك
جتارب تطبيق الشريعة حتت حكم طالبان يف أفغانستان ويف السودان ،وليست إيران
بعيدا
والسعودية أبحسن حال يف هذا الصدد .لقد دفعت هذه احلالة جمتمعات اإلسالم ً
عن القيم اإلنسانية اليت حيملها.57
هتن بقدرة املسلمني على عالج داء األصولية إن مستقبل اإلسالم -وف ًقا لساردار -مر ٌ
واجلمود الفكري ،وذلك من خالل جتديد األصول اليت يرتكز عليها اإلسالم كرؤية كونية.
هذا التجديد ال يعين رفض الرتاث والتقليد ،فهو يؤكد -على خطى أشيس انندي،
املفكر اهلندي -أنه تقليدي نقدي ال يقبل التقاليد بشكل أعمى؛ فالتقاليد جيب أن
تبتدع وخترتع ابستمرار ،وال يعين أن هذه التقاليد اليت قد جنحت يف احلفاظ على أمناط
حياة الشعوب اإلسالمية وهويتها لقرون تعترب مقدسةً جملرد أهنا اترخييةٌ .ومن هنا نستطيع
تصور فهمه للشريعة كبناء اترخيي إنساين .أما القرآن فهو ما جيسد استمرارية اإلسالم
وجوهره الوحيد املقدس ،غري أن تفسريه وإعادة أتويله جيب أن يتم حسب كل سياق
وبفهم جديد حسب كل عصر ملقتضى آايته .إن هذا يعين أن الدين نفسه جيب أن جيدد
فهمه طاملا تغريت ظروف البشر وحياهتم .هذا التجديد يقتضي أن تتحطم كل سلطة
تدعي احتكار تفسري القرآن والدين ،فهو مسؤولية كل مسل ٍم قادر على الفهم
واالستيعاب.58
حاول ساردار يف أكثر من عمل تطوير منظور علمي لدراسة مستقبل اإلسالم كحضارة
وثقافة من خالل إعادة تفعيل أسسه ،أطلق على هذا املنظور "املستقبليات اإلسالمية"،
ويقول إن هدفها هو "وضع طريق للخروج من املأزق احلايل ،وتطوير رؤى لإلدارة وبدء
التغيري ،ووضع خطط بديلة مستقبلية مرغوبة لألمة اإلسالمية .يتطلب مشروع
املستقبليات اإلسالمية قطيعة فاصلة مع الفكر اإلسالمي التقليدي واملعتمد على التقليدية
فهما جريئًا
أيضا ً
املتصلبة والفهم أحادي البعد للعاملني احلداثي وما بعد احلداثي ،ويتطلب ً
ومبدعا للتحدايت اليت تواجه األمة اإلسالمية" .59ونقطتا االنطالق يف هذا املشروع،
ً
Ibid, p. 29-3057
58حممد العريب ،ضياء الدين ساردار ،مرجع سابق.
59ضياء الدين ساردار ،ماذا نعنـي ابملستقبليات اإلسالمية؟ مرجع سابق ،ص .25
78
أيضا اإلميان
مها :دراسة األحوال املرتدية للعامل اإلسالمي ،ودراسة أسباب تقدمه واهنياره .و ً
ابلفرص والتحدايت اليت تطلقها عملية العوملة املستمرة واليت ال فكاك منها ،وال سبيل
أمام مسلمي العامل إال االخنراط فيها إبجيابية ،وبثقة .يقول ساردار إن التعددية هي أهم
جوهري االستمرار يف الطبيعة ،لكنهما
مسات عصر العوملة ،فالتعددية والتنوع ليسا فقط َ
حجرا األساس للمجتمعات املستقرة والثقافات احليوية .فالثقافات األحادية ليس أيضا َ ً
60
هلا مكان يف املستقبل .
قارة يف نصوصه األصلية ويف واإلسالم -كما يراه ساردار -ذو نزعة مستقبلية جندها َّ
تراثه ،فيقول" :إن اإلسالم بطبيعته رؤية كونية متوجهة حنو املستقبل؛ فالقرآن أيمر املؤمنني
ني أَيْ ِدي رك ْم َوَما َخ ْل َف رك ْم
يل َهلررم اتَّـ رقوا َما بَْ َ
أبن يكونوا واعني بتارخيهم كما مبستقبلهم ِ ِ
"وإ َذا ق َ
َ
فكريت املستقبل واحملاسبة مرتبطتان يف اإلسالم لَ َعلَّ رك ْم ترـْر َمحرو َن" (سورة يس :اآلية .)45إن َ
ئيس ْني ،مها :اآلخرة ،واخلالفة ،أي :األمانة اليت محلها اإلنسان" .61ويضيف: مبفهوم ْني ر َ
َ
أيضا على ضرورة ً كد يؤ لكنه و فحسب، ابملستقبل املؤمنني وعي على اإلسالم كد يؤ "ال
أن يقوم املؤمنون بتشكيل مستقبلهم بفاعلية .وبسبب طبيعة معتقدهم ،فإن املسلمني
مطالبون ابالخنراط يف العامل وتغيريه؛ إن القرآن حيث املسلمني ابستمرار على النضال من
وسالما
ً مكاان أكثر عدالة أجل تغيري أنفسهم ،وابلنضال من أجل تغيري العامل حىت يصبح ً
ف يـرَرى ،رمثَّ رْجيَزاهر َن َس ْعيَهر َس ْو َ "وأَن لَّْيس لِْإلنسان إَِّال َما َس َعىَ ،وأ َّ
ومساواة لإلنسانيةَ .
َ
اجلََزاء ْاأل َْو ََف" (سورة النجم .)39:41 ،وهلذا ،جند أن جوهر الشريعة هو االجتهاد والذي ْ
62
أساسا بتشكيل وإعادة تشكيل املستقبل" . يتعلق ً
80
حضارة دينامية معاصرة وعاملية ."65وتبدو رؤية ساردار حول مستقبل اإلسالم أكثر تركيبًا
وكذلك أكثر عملية من غريها ،ورمبا يرتبط هذا بتعدد الروافد اليت حياول دجمها يف رؤيته؛
حيث جيمع بني إعادة تعريف املفاهيم الثقافية والدينية يف اإلسالم وحماولة إعادة دجمها
ِ
يكتف يف عص ٍر متسارع التغري والفوضـى والاليقني .لذا ،على العكس من إقبال ،مل
ساردار ابلرتكيز على املفاهيم الفلسفية للزمن وتكوينها لصورة مستقبل اإلسالم ،بل جتاوز
تلك الرؤية الفلسفية لوضع أسس ميكن أن تشكل أدوات لنقد الفكر واالجتماع
منظورا لرؤية مستقبل اإلسالم يف العامل .ويبدو هذا الفارق طبيعيًّا؛
ً اإلسالمي ،وتكون
طاغ ابلنسبة إىل الفكر اإلنساينففي الثالثينيات ،مل يكن تغري العامل مسألة ذات حضور ٍ
الذي كان حتـى ذلك احلني يف أواخر أطوار حبثه عن احلقيقة بني الفلسفة والدين والعلم،
وكانت أعظم املخاطر اليت يتعامل معها هي احلروب .أما اآلن ،فأصبح تغري العامل هو
أكثر ما يشغل الفكر اإلنساين مع اتساع نطاق التحوالت اليت حتدثها التكنولوجيا
واملخاطر اليت أصبحت احلروب أقلها ،وأصبحت هتدد الوجود اإلنساين.
إن نقطة التالقي األهم بني ساردار وإقبال ،على اختالف اقرتاهبما من الزمن واملستقبل،
هي أتكيدمها على الفاعلية اإلنسانية؛ أي حرية الذات اإلنسانية ومسؤوليتها ،وابلتايل
قدرهتا على حتديد مصريها .وهي رؤية تزداد أمهيتها يف عصران احلايل مع األخذ يف االعتبار
ما يفرضه التحديث والعوملة واألصولية من حتدايت على الذات الفردية .ويستتبع هذا
حمددا سل ًفا بل هو جمال مفتوح للفعل واحلركة
التأكيد عند ساردار ،أن املستقبل ليس ً
وضوحا
ً ويتحدد مبقدار تفاعلنا اإلجيايب والسليب معه ،ويبدو هنا اجلانب اجلماعي أكثر
لدى ساردار ،حيث إن حتليله ينصب على اجملتمعات اإلسالمية.
على العكس من هذه الرؤية التفاعلية مع الزمن والعامل ،تقف رؤية سيد قطب للزمن
واملستقبل .فاإلسالم قد حتدد مستقبله منذ نشأته؛ حيث إن الزمن يدور لتحقيق غاية
يعرب عنه اإلسالم يف املرحلة النهائية من حياة
واحدة وهي إعالء املنهج الرابين الذي ّ
البشر .والوصول إىل هذه الغاية لن يتحقق إال من خالل الصراع بني هذا املنهج وأتباع
تعرب إال عن اجلاهلية .ومن مثَّ ،ليس على املؤمنني ابإلسالم إال
غريه من مناهج بشرية ال ّ
التعاطي مع حركة التاريخ تلك ابالنصياع للمنهج الرابين ،فهم غري خمريين أمام حركة
82
اإلنساين .وهبذا املعنـى تتجاوز فكرة اإلصالح الدينـي أو جتديد اخلطاب جمرد الصراع على
النصوص وعلى احتكار تفسريها ،سواء كانت هذه التفسريات تقدمية أم رجعية ،بل
يصبح مرتبطًا إبصالح اجتماعي أمشل وأعمق قادر على حتفيز اإلمكاانت التحررية يف
الدين حبيث يسبق االجتماع ومقتضياته على النص وقراءاته.
كذلك حيفز التفكري املستقبلي على إطالق "العقل التارخيي" ،وهو العقل الالزم لقبول
تغري العامل واختالف اجملتمعات ،وابلتايل تعدد البدائل املتاحة أمام اإلنسان يف حاضره
ومستقبله على حنو يغنيه عن اهلروب إىل املاضـي أو استعارة النماذج التارخيية اليت مل يعد
هلا مكان يف عامله احلاضر أو مستقبله املأمول .ووف ًقا هلذه االسرتاتيجية الفكرية تصبح
اجملتمعات اإلسالمية ،كما الفرد ،على إميان بقدرهتا على صناعة مستقبلها من خالل
إعادة تشكيل حاضرها .وهبذا تتضمن املستقبلية نظرتني متالزمتني :األوىل إىل املستقبل
املرغوب ،والثانية إىل احلاضر املتغري.
وف ًقا هلذا املعنـى ،هناك العديد من املشروعات الفكرية اليت تقرتب من هذا املفهوم
املستقبلي لإلصالح الدينـي بشكل أو آبخر ،إال أهنا ولألسف الشديد القت تضيي ًقا من
التيار العام للثقافة اإلسالمية عززه االستبداد السياسـي والتخلف االجتماعي.
أيضا شهدت صحوة يف املشروعات الفكرية التحررية اليت تعاجل إال أن العقود األخرية ً
أزمات اإلسالم على حنو يتجاوز الثنائيات القاتلة والتفكري املاضوي واملسيس ،ومن بينها
مشروع محيد داابشـي عن الهوت التحرير اإلسالمي والذي يعاجل على نفس خطوط
علي شريعتـي اإلمكانية التحررية يف الثقافة اإلسالمية وإمكانية تالمحها مع النضال العاملـي
اقتصاداي ،وكذلك مشروع عامل االجتماع
ًّ يف مواجهة عدم عدالة النظام الدويل ثقافيًّا و
اإليراين آصف بيات عن ما بعد اإلسالموية الذي يقوض من خالله األسس االجتماعية
املنتجة لعملية تسييس اإلسالم ،ويف الوقت نفسه حياول صياغة مشروع فكري يؤسس
جهدا
السرتاتيجية واعية "لتخطي اإلسالموية يف اجملاالت الفكرية والسياسية ،إهنا متثل ً
لدمج التدين بثقافة احلقوق ،واإلميان ابحلرية ،واإلسالم ابحلرية الفردية .إهنا حماولة لقلب
بدال من الواجبات ،والتعددية
أسا على عقب ابلتأكيد على احلقوق ً مبادئ اإلسالموية ر ً
بدال من املاضي.بدال من النصوص اجلامدة ،واملستقبل ً بدال من األحادية ،والتارخيانية ً
ً
83
وعلى الرغم من تفضيلها للدولة املدنية غري الدينية ،فإهنا تسعى إلدراج دور للدين يف
اجملال العام".
خرا واليت تواكبت
ال ريب أن حالة الفوران الفكري اليت تشهدها اجملتمعات اإلسالمية مؤ ً
مع االضطراابت الثورية والتغريات السياسية احلادة والعنف واحلروب األهلية يف العديد من
طويال
البلدان اإلسالمية ،أصبحت تتعامل مع األسئلة اليت تغافل عنها الفكر اإلسالمي ً
حاضرا خاصة يف النقاشات العامة ولو على حنو
ً على حنو أكثر جدية ،وأصبح املستقبل
خجول ،وقد يكون الصعود العنيف لألصولية واملذهبية الطائفية ليس إال طفرات أخرية
أيضا للفعل ،وهو
جماال لألمل فقط بل ً للماضوية وإرثها الثقيل .إال أن املستقبل ليس ً
بقدر ما يثري ختوفات تعمق من الصراع ،بقدر ما مينح من فرص للفعل واحلركة والتعاون،
بعد .لذا ال ميكن فصل التوجهات املستقبلية يف الفكر
فاملستقبل هو األرض اليت مل رحتتل ر
تغيريا جذرًاي يف أجندة الفكر اإلسالمي
اإلسالمي عن توجهات احلركة .وهو ما يستدعي ً
ابستدعاء العلوم اليت تتناول الواقع وتغرياته ،وكذلك املوضوعات اليت هتم اجملتمعات
اإلسالمية ال تلك اليت يرتخيل أن املستقبل معقود عليها.
84
الفصل الثالث:
مفهوم املصلحة
أمحد عبد اجلواد زايدة
يعترب مدخل التعامل مع الشريعة اإلسالمية من خالل
نظرية املصلحة الشرعية من أهم املنظورات وأكثرها فعالية
وحركية ،ليس فقط من حيث نسق النظرية اجملرد والعام،
وإمنا اعتباراً ملا يقدمه من أنساق التفاعل بني مضامني الفقه
وخريطة تضاريسه ،وهو مدخل مل أيخذ حظَّه من االنتشار
يف أوساط الباحثني الشرعيني ابعتباره النسق النهائي
للشريعة الذي ال يصل إليه الدراس إال بعد استواء عوده
جلّ ابحثي العلوم العلمي ،وال كذلك انتشر يف أوساط ِ
االجتماعية املعاصرين؛ ومن مثَّ فإن تفعيله املعاصر وتفاعله
مع النظرايت القانونية والسياسية املعاصرة مل أيخذ كذلك
حقَّه كما كان ينبغي أن يكون.
دائما أن يلقب نظرية املصلحة الشرعية -مبا تتضمنه من قواعد فقهية يستحسن الباحث ً
ومقاصدية وأصول فلسفية -بعلم هندسة الفقه الذي يفرتض أن تتم من خالله القدرة
على هندسة اجملتمع -وليس ضبطه ،-بل هندسة املساحات والعالقات واألبنية فيه .فإن
كان كبار فالسفة القانون يعربون أبن مهمة القانون املثلى والسامية هي هندسة اجملتمع
ابلقدر الذي حيدث التوازن بني مصاحل طبقاته وفئاته ،وبني طبقاته وبني الدولة ،فإن هذا
الدور هو ما تسعى كل منظومة فلسفية إىل حتقيقه عرب منظومتها التشريعية والتفصيلية.
وهو ما عرب عنه الباحث علي اباي يف ورقته البحثية اليت عنوهنا بعنوان "الفقيه ابعتباره
مهندسا".
ً
ال ميكن كذلك فصل نظرية ومفهوم املصلحة عن عدة أبواب -أو قل روافد -من العلوم
اإلسالمية ،فهي نظرية ومفهوم تشارك يف تشكيله العديد من مساحات العلوم ،فنظرية
املصلحة يدخل فيها علم أصول الفقه ،وكذلك علم الفقه ابعتباره املساحة التطبيقية اليت
أيضا علم الكالم من حيث أصوهلا تتجلى فيها تطبيقات قواعد النظرية ،ويدخل فيها ً
الفلسفية ،وهي هبذا التكوين العلمي من داخل تراث العلوم اإلسالمية ذات تفاعل مع
املدارس القانونية املعاصرة يف مساحات التشريع -يف أغلب ما قدم من أطروحات ،-ويف
مساحات التفاعل مع فلسفة القانون ومفامهيه املركزية -وهي املساحة البحثية األقل
وطرحا .ومن مثَّ فإن تصنيف نظرية املصلحة أو تناوهلا يف ضوء أفكار املفكرين
تناوال ً ً
مفهوما فكرًاي فقط ،وإمنا هو
ً املعاصرين أمر غري ذي جدوى؛ إذ إن مفهوم املصلحة ليس
مفهوم فكري وفقهي وأصويل ،أضف إليه ما يقابله من مساحات العلوم األخرى حني
يتفاعل معها على أرضيتها وخلفيتها الفلسفية ،أعين :تفاعل نظرية املصلحة يف التصور
الشرعي مع النظرية السياسية بتفصيلها ،وكذلك مع نظرايت العالقات الدولية واخلارجية،
واألمن الداخلي ،وسياسات الدفاع ،وماذا سينتج حني نقوم بتفعيل هذه األداة املنهجية
واملفاهيمية -يف آن واحد واليت جتسد أرقى مستوايت التنظري يف الشريعة -يف هذه احلقول؛
معا؟
املعرفية وامليدانية ً
الفرع األول :تعريف املصلحة
املصلحة من اجلذر اللغوي :صلح ،وهي على وزن مفعلة من الصالح ،والصالح ضد
الفساد ،ويقال :رجل صاحل يف نفسه من قوم صلحاء ،ومصلح يف أعماله وأموره ،وقد
أصلحه هللا ،ورمبا كنوا ابلصاحل عن الشيء الذي هو إىل الكثرة .واإلصالح نقيض
()1
وفعال ،مبعىن أن املصلحة تطلق
اإلفساد .فهي تطلق على ما هو نقيض املفسدة وص ًفا ً
على املنفعة ذاهتا كما تطلق على الفعل الذي حيصل به النفع والصالح ،وكذلك املفسدة
تطلق على املضرة ذاهتا وعلى الفعل الذي حيصل به الضرر والفساد.
انظر :ابن منظور ،لسان العرب( ،بريوت :دار صادر ،)2479/4 ،مادة صلح ،وراجع ً
أيضا مادة فسد: 1
3412/5؛ وابن فارس ،معجم مقاييس اللغة ،حتقيق عبد السالم هارون( ،بريوت :دار الفكر،)1979 ،
مادة صلح؛ وانظر كذلك :أبو منصور األزهري ،هتذيب اللغة.243/4 ،
86
اصطالحا أبهنا" :عبارة يف األصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة،
ً ويعرفها اإلمام الغزايل
ولسنا نعين به ذلك ،فإن جلب املنفعة ودفع املضرة مقاصد اخللق ،وصالح اخللق يف
حتصيل مقاصدهم ،لكننا نعين ابملصلحة احملافظة على مقصود الشرع ،ومقصود الشرع
من اخللق مخسة :وهو أن حيفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم وماهلم ،فكل ما
يتضمن حفظ هذه األصول اخلمسة فهو مصلحة ،وكل ما يفوت هذه األصول فهو
مفسدة ودفعه مصلحة"(.)2
أما اإلمام الطاهر ابن عاشور فقد عرف املصلحة أبهنا" :وصف للفعل حيصل به الصالح،
دائما أو غالبًا للجمهور أو لآلحاد".
أي النفع منه ً
"دائما" يشري إىل املصلحة اخلالصة أو املطردة .وقوله" :أو غالبًا" يشري إىل املصلحة
وقولهً :
الراجحة يف غالب األحوال .وقوله" :للجمهور أو لآلحاد" إشارة إىل أقسامها كما سيأيت.
دائما
املصلحة ،وهي وصف للفعل حيصل به الفساد ،أي الضر ً أما املفسدة فهي ما قابل
()3
أو غالبًا للجمهور أو لآلحاد .
()4
الفرع الثاين :تقسيمات املصلحة
تنقسم املصلحة ابعتبار الشرع هلا إىل ثالثة أقسام :مصاحل معتربة ،مصاحل ملغاة ،مصاحل
مرسلة.
وتنقسم املصلحة ابعتبار آاثرها يف قوام أمر األمة إىل ثالثة أقسام :ضرورية ،وحاجية،
وحتسينية.
وتنقسم ابعتبار تعلقها بعموم األمة أو مجاعاهتا أو أفرادها إىل :كلية وجزئية.
2أبو حامد الغزايل ،املستصفى يف علم األصول( ،بريوت :دار الكتب العلمية1413 ،هـ1993/م)،
ص.174
3الطاهر بن عاشور ،مقاصد الشريعة اإلسالمية( ،القاهرة :دار السالم ،ط2012 ،5م) ،ص .278
4انظر يف هذا :حممد كمال الدين إمام ،املصلحة يف املصطلح املقاصدي :رؤية وظيفية( ،لندن :مؤسسة
الفرقان للرتاث اإلسالمي.)2011 ،
87
وتنقسم ابعتبار درجة دليلها وقوته إىل :قطعية ،أو ظنية ،أو ومهية.
التقسيم األول :ابعتبار الشرع هلا:
أوال :املصاحل املعتربة
ً
وهي اليت قام الدليل الشرعي على رعايتها ،ووضع من األحكام ما يوصل إليها ،كاحملافظة
على النفس والعقل ،ودفع املشقة واحلرج عن املكلفني ،وهذه املصاحل ينبغي التعليل هبا،
وترتب األحكام عليها ،ومن هذا مجيع املصاحل اليت حققتها األحكام الشرعية ضرورية
كانت أو حاجية أو حتسينية ،واملصاحل املعتربة يستدل هبا ويقاس عليها.
واملصاحل املعتربة قسمان:
ووجد نص أ -مصلحة معتربة ابلنوع :وهي مصلحة شهد الشرع لنوعها ،ر
شرعي يدل على احلكم الذي توجبه املصلحة ،ال يف الواقعة املعروضة؛ بل يف
واقعة أخرى متاثلها ،ومثال ذلك :املصلحة احلاصلة من حترمي النبيذ وإن مل يدل
عليه نص بعينه؛ فقد وجد النص الذي يدل على هذه احلرمة ابلنسبة إىل شرب
اخلمر.
ب -مصلحة معتربة ابجلنس :وهي مصلحة شهد الشرع جلنسها ،أي :تدخل
حتت قاعدة أو أصل شهدت له ودلت عليه عدة نصوص شرعية ،ومن أمثلة
هذه املصلحة :مجع القرآن؛ فإنه مصلحة شهد الشرع جلنسها ،وألهنا تدخل
حتت أصل حفظ الدين.
اثنيًا :املصلحة امللغاة
وهي اليت شهد الدليل الشرعي على بطالهنا ،ووضع من األحكام ما يدل على بطالهنا،
كمصلحة شارب اخلمر يف التخفيف عن متاعب احلياة ،ومصلحة اجلبان يف عدم خوض
املعركة ،ومصلحة آكل الراب يف زايدة ثروته ،ومصلحة املريض امليؤوس يف شفائه من املوت
انتحارا ،أو املوت بدافع الشفقة ،وغري ذلك من املصاحل الفردية اليت ترتتب على أوصاف
ً
شهد الشارع إبلغائها ،وقد اتفق العلماء على أن هذه املصاحل ال يصح التعليل هبا أو
ابتناء األحكام عليها.
88
اثلثًا :املصلحة املرسلة
وهي مصلحة تدخل يف مقاصد الشرع ولكن ال يقوم دليل خاص على إلغائها أو إبقائها،
ومسيت مرسلة ألهنا مطلقة عن دليل اعتبارها أو إلغائها من قبل الشارع ،عكس املصلحة
املعتربة اليت جاء الدليل املباشر على رعايتها.
واملصلحة املرسلة إذا قصد هبا اليت ميتنع حكمها ال جتوز يف الشرع ،ولعل هذا هو ما عناه
اإلمام الغزايل "ابستحالة خلو واقعة عن حكم هللا؛ إذ إن كل مصلحة تتخيل يف كل
وغفال ال
مهمال ً
بد وأن تشهد األصول لردها أو قبوهلا ،فأما تقدير جرايهنا ً واقعة ،ال َّ
أصال فمحال ختيله" .5وفكرة الغزايل تقوم على استحالة خلو واقعة عن حكم تالحظ ً
هللا تعاىل ابعتبار النقل أو العقل ،خاصة وقد كمل الدين وانقطع الوحي؛ ولكن املصلحة
املرسلة ليست املصلحة اليت ميتنع حكمها ،وإمنا هي مصلحة هلا حكم ،ولكن الوصف
الذي يرتتب عليه احلكم ليس له أصل يشهد ابعتباره أو بطالنه .فيستنبطه الفقيه من
مقاصد الشريعة العامة ومبادئها الكلية.
التقسيم الثاين :ابعتبار آاثرها يف قوام األمة
أوال :املصاحل الضرورية
ً
هي اليت تكون األمة مبجموعها وآحادها يف ضرورة إىل حتصيلها حبيث ال يستقيم النظام
ٍ
وتالش ،واليت من دوهنا ال تقوم أمور ابختالهلا ،فإذا اخنرمت تؤول حالة األمة إىل فساد
الدنيا ،وتفوت مصاحل اآلخرة .ومثال هذا ما مثَّل به اإلمامان الغزايل والشاطيب" :حفظ
الدين والنفس والعقل واملال والنسل"( .)6وحفظ هذه املصاحل كما يقول اإلمام الشاطيب
عرب هو رضي هللا عنه أبمرين:
يكون كما َّ
89
أحدمها :ما يقيم أصل وجودها.
والثاين :ما يدفع عنها االختالل الذي يعرض هلا(.)7
اثنيًا :املصاحل احلاجية
وهي ما حتتاج األمة إليه القتناء مصاحلها وانتظام أمورها على وجه حسن ،حبيث لوال
مراعاته لفسد النظام ،ولكان على حالة غري منتظمة؛ فلذلك ال يبلغ مبلغ الضروري.
وأساسها رفع احلرج عن األمة ،فال تضيع األمة ابنتفائها ولكنها تضيق ،وال ختتل األمور
بفقداهنا ولكن غياهبا يزيد املشقة وجيلب العسر .ومثَّل له األصوليون ابلبيوع واإلجيارات
والقراض واملساقاة ،وكرخصة قصر الصالة للمسافر واإلفطار للمريض وعقد السلم يف
املعامالت(.)8
اثلثًا :املصاحل التحسينية
ما كان هبا كمال حال األمة يف نظامها حىت تعيش آمنة مطمئنة وهلا هبجة منظر اجملتمع
مرغواب يف االندماج فيها أو يف التقرب
يف مرأى بقية األمم ،حىت تكون األمة اإلسالمية ً
مدخال يف ذلك سواء كانت عادات عامة كسرت العورة ،أمً منها ،فإن حملاسن العادات
خاصة ببعض األمم كخصال الفطرة ،واحلاصل أهنا ما تراعى فيها املدارك الراقية
للبشرية(.)9
التقسيم الثالث :ابعتبار تعلقها بعموم األمة أو مجاعتها أو أفرادها
أوال :املصاحل الكلية
ً
عائدا على مجاعة عظيمة من
متماثال ،وما كان ً
ً عودا
عائدا على عموم األمة ً
هي ما كان ً
األمة أو قرطر .مثل :محاية البيضة ،وحفظ اجلماعة من التفرق ،وحفظ الدين من الزوال،
91
اثنيًا :املصاحل الظنية
ما اقتضي العقل ظنه ،مثل اختاذ كالب احلراسة يف الدور يف احلضر يف زمن اخلوف يف
ني ضي الْ َق ِ
اضي بَ ْ َ دل عليه دليل ظين من الشرع ،مثل حديثَ « :ال يـ ْق ِ
القريوان ،أو ما َّ
َ
ضبَا ُن»(.)10 اثْـنَ ْ ِ
ني َو ُه َو غَ ْ
اثلثًا :املصاحل الومهية
هي اليت يرتخيل فيها صالح وخري وهو عند التأمل ضر؛ خلفاء ضره مثل تناول املخدرات
من األفيون واحلشيشة والكوكايني واهلريوين.
االجتاهات البحثية يف دراسات املقاربة واملقارنة بني نظرية املصلحة الشرعية وبني
النظرية املعاصرة:
تعترب نظرية (املصلحة) وأوجه االستدالل هبا ،أحد األمثلة البارزة على منهجية مدارس
البحث واالقرتاب اليت تتناول قضااي النظرية السياسية احلديثة من منظور مقارن مع تراث
السياسة الشرعية ،وابلنظر يف مناذج االستدالل هبا وتطبيقاهتا نرى بوضوح االقرتاب
املنهجي لكل مدرسة؛ وذلك من خالل ما تطلقه من مقوالت أو فتاوى يف مواقف "هي
ابألخص سياسية" تتعلق بشؤون األمة العامة واألوطان .كما تظهر بوضوح األخطاء
واإلشكاالت املتعلقة مبسؤولية تقدير املصلحة ،ومدى تعلقها ابملساحة الشرعية النصية،
أو ابملساحة التدبريية التجريبية .غري أن هذه االجتاهات البحثية ال تقتصر فقط على
(نظرية املصلحة) -وإن كانت النظرية أبرز األمثلة وأوضحها ولو من حيث التطبيق،-
وإمنا تتجاوز هذا للمنظور الكلي يف التعامل مع كل ما يتصل ابلنظرية السياسية احلديثة
ومفاهيمها وعناصرها املختلفة -كاملصلحة ،والدولة ،والسلطة ،واألحزاب ،والدميقراطية-
ومع ما هو تراثي متعلق ابلسياسة الشرعية وفلسفة احلكم وتراث األمة.
10أخرجه البخاري يف صحيحه ،كتاب األحكام ،ابب هل يقضي القاضي أو يفيت وهو غضبان ،برقم
()7158؛ ومسلم يف صحيحه ،كتاب األقضية ،ابب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان ،برقم ()1717؛
وابن ماجه يف سننه ،كتاب األحكام ،ابب ال حيكم احلاكم وهو غضبان ،برقم ( ،)2316واللفظ له ،من
حديث أيب بكرة رضي هللا عنه.
92
حاول الباحث بلورة منظور املدارس املعاصرة املتعاطية مع نظرية املصلحة يف إطارها
اعتمادا ملبدأ اجلمع بني عقلييت املدارسة واملمارسة ،ومن مثَّ
ً النظري ،وامليداين التطبيقي،
معا ويف ضوء إطا ٍر جيمع معايريمها ،وهو التقسيم ذاته الذي ينطبق
كان التقييم مرتبطًا هبما ً
على التفاعل بني الرتاث اإلسالمي والنظرايت املعاصرة ،فالناظر واملدقق يف اإلنتاج املعريف
املعاصر حول العالقة بني النظرية السياسية احلديثة بشكل عام ،ونظرايت الرتاث السياسي
اضحا متايز هذه
اإلسالمي ورؤاه بشكل خاص" ،والوحي/الغيب" بشكل عام -جيد و ً
األطروحات إىل مدارس أربع ،متثل أربع منهجيات للتناول البحثي:
املدرسة األوىل :مدرسة اإلنكار
فضال عن املقاصد -وبني السياسة،تنكر هذه املدرسة البحثية وجود أي صلة بني الوحي ً -
وترفض تدخل الشريعة يف العمل السياسي؛ حيث يرى متبنوها أن السياسة "فعل مدنس"،
يف حني أن الشريعة والوحي "أمر مقدس" ،واملقدس وغريه ال يلتقيان .وال يعنينا هنا
االستطراد يف ذكر حجج ودعاوى هذه املدرسة؛ ألن الباحث جتاوز فرضية سؤال "هل
مثة صلة بني الشريعة مبقاصدها ونظرايهتا الفقهية وبني السياسة؟" ،إىل احلديث واقعيًا
وحبثيًا عن العالئق والصالت وحدود املساحات بينهما ،ليس على سبيل املقارنة واملقاربة
التقليدية؛ وإمنا حماولة متواضعة الستكشاف السبل الواصلة واجلامعة بني اجملالني .وما
حنتاجه ،هو ذكر بعض خصائص ومعامل هذه املدرسة؛ إذ إنه يساعد يف بناء وتوضيح
احلجج اليت نعتمد عليها يف استشكاف وبناء ما نطمح إىل إيضاحه من مفاهيم.
93
أهم ما تعتمد عليه هذه املدرسة من مقومات(:)11
-1الفصل التام بني مفهوم ما هو "ديين" وبني ما هو "دنيوي" :حيث تستمد
هذه املدرسة مفاهيمها وأصوهلا الفلسفية من مفاهيم الصراع القدمي الذي خاضته
التجربة الغربية يف الصراع بني الدين والكنيسة من جهة ،وبني العلم واجملتمع من
جهة أخرى .وهو صراع مل نشهده يف اتريخ جمتمعنا اإلسالمي ويف اتريخ مسار
العلم عند املسلمني .فافرتاض مفارقة "الديين" لـ"الدنيوي" قائم وبشدة يف
تصوراهتم؛ حيث ِّ
يعرب الديين عن الالهوت الغييب منبت الصلة ابإلنسان وحياته
ومصاحله ،وميثل الدنيوي كل ما هو متصل ابلعلم واملعرفة والتقدم والتحرر
واإلنسان أحادي األبعاد.
-2أحادية مفهوم "الدين" يف تصوراهتم :فالدين لديهم دين واحد
Religionبتصور واحد فقط؛ هو التصور الناتج عن الصراع الكنسي التارخيي
يف اتريخ التجربة املسيحية األوروبية .واملتتبع ألفكار هذه املدرسة وتصوراهتا ،جيد
أن تصورهم عن الدين إمنا هو تصور الديين علماين ذايت ،غري قائم على أسس
علمية موضوعية من أدبيات ومصدرايت األداين ذاهتا .حبيث يصبح الدين عندهم
جمردا من أي أسس تقدمية أو إصالحية أو إنسانية ،ويغدو مصدر كل جهل ً
وختلف ورجعية.
وبت صلتها عن -3انتفاء التفسري والتوظيف املتجاوز للقيم واألخالقّ ،
األداين والغيب وكل ما هو متجاوز للواقع :فإن تعريف األخالق والقيم ال خيرج
عن نطاق ما خيدم املصاحل الضيقة والنفعية والذاتية لألشخاص وما يضمن اطّرادها
يراجع" :العلمانية اجلزئية والعلمانية الشاملة" للدكتور عبد الوهاب املسريي ،وكذلك مناظرته مع عزيز 11
العظمة بعنوان "العلمانية" ،يف حوارات القرن( ،من إصدار دار الفكر العريب بدمشق) ،و"الغلو الديين والغلو
الالديين" للدكتور حممد عمارة ،وكتاابت :مراد وهبة ،وأمحد علي :أدونيس ،ونوال سعداوي ،وفرج فودة ،وجابر
عصفور ..إخل.
كبريا من التيار العلماين يتبىن هذا املوقف من زاوية مقابلة ترتفع هبذه العلوم
قطاعا ً
لكن من املهم اإلشارة إىل أن ً
على الديين وتعترب الوصل بينهما حيلة سياسية ألغراض تتعلق ابلصراع على السلطة.
94
واستمرارها .والناظر يف تعريفهم للقيم واألخالق سيجدها أخالقًا مادية علمانية
اضطروا إىل اللجوء إليها ألجل ضمان توافر احلد األدَّن من استمرار احلياة وضمان
بقاء مقوماهتا.
ومن مثَّ فإن رؤية هذه املدرسة للمصلحة إمنا هي املصلحة الذاتية النفعية (الربمجاتية)،
املتعقلة مبصاحل الفرد الذاتية الضيقة هنا ،واآلن ،أو مصاحل القومية العنصرية ،يف حيز
الزمان واملكان الضيقني ،املنفصلني عن املآل ،واآلخر ،واجملموع .وكذلك ،وهو األهم
هنا ،فإن هذه املدرسة تنفي صلة (املصلحة) بـ (القيم) و(األخالق) و(الدين/الغيب) .بل
إهنا تعتربها على النقيض هلا ،حيث ال ميكن هلما أن جيتمعا( :املصلحة) ،و(القيم).
ويتجلى أثر هذه املدرسة يف املمارسة السياسية ويف حقل العالقات الدولية ،حيث ال يؤبه
(قيما) و(حقوقًا) ،بقدر ما يتغيا حتقيق (املصاحل) اليت ال يتفق البشر على
ملا يسمى ً
()12
تعريفها وال على وضع معايري هلا .
منوذجا متطرفًا يف تصور العالقة حمل الدراسة ،ولكن
وال شك أن هذه املدرسة متثل ً
التطورات الفكرية وحالة اجلداالت العلمية العاملية أصبحت تتجاوز هذه املقوالت وتعتربها
فتئاات على الواقع وعلى األداين؛ ومن مثَّ تتفاعل مع مدارس أخرى ال جتمد على موقفا ً
"اإلنكار".
انظر :عبد الوهاب املسريي ،العلمانية الشاملة والعلمانية اجلزئية( ،القاهرة :دار الشروق)2009 ،؛ 12
وفوزي خليل ،مفهوم املصلحة العامة يف الرتاث السياسي اإلسالمي :دراسة تطبيقية على فرتة اخلالفة
الراشدة( ،كلية االقتصاد والعلوم السياسية)1998 ،؛ وأمحد داود أوغلو ،الفلسفة السياسية( ،مكتبة الشروق
أيضا األمة اإلسالمية يف مهب التحوالت احلضارية( ،مكتبة الشروق الدولية ،يناير
الدولية1999)،؛ ً
)2006؛ وعلي عزت بيجوفيتش ،اإلسالم بني الشرق والغرب( ،دار الشروق .)2010 ،ويف العالقات
الدولية :د .اندية حممود مصطفى ،العدالة والدميقراطية :التغيري العاملي من منظور حضاري إسالمي( ،القاهرة،
)2015؛ ود .سيف عبد الفتاح ،مدخل القيم :إطار مرجعي لدراسة العالقات الدولية يف اإلسالم ،يف :اندية
حممود مصطفى (إشراف عام) ،مشروع العالقات يف اإلسالم ،اجلزء الثاين( ،القاهرة :املعهد العاملي للفكر
اإلسالمي.)1996 ،
95
املدرسة الثانية :مدرسة الرفض(:)13
ال يعتمد منهج هذه املدرسة البحثي على إنكار الصلة بني املقاصد ونظرايت الفقه
املتعددة وبني علوم السياسة احلديثة ،بل يعتمد على رفض دخول العلوم اإلنسانية
واالجتماعية (والسياسة بعلومها وأدواهتا يف قلبها) يف املنظور الفقهي ومعاجلة القضااي
العامة والكلية ،أو على األقل االستفادة منها .وتتسم هذه املدرسة غالبًا بعدم معرفتها
فضال عن أتثريها يف الواقع وحتكمها
وإدراكها ل ركنه هذه العلوم وماهيتها ،وإدراك فحواهاً ،
يف صياغة متثالته وجتليها يف مؤسساته وصيغ العالقات احلاكمة واملهيمنة على تصرفات
اتما دون استيعاهبا ونقدها -أو نقضها إذا لزم األمر ،-وال تقف
رفضا ً
اجملتمع ،فرتفضها ً
فقط عند النظر الفلسفي؛ بل تتجلى بوضوح يف رفض سائر املفردات السياسية احلديثة؛
كالدميقراطية ،والدولة ،واألحزاب ،والنظام الدويل ،وصناعة السياسات ،اليت هي من
أدوات السياسة احلديثة ،وكذلك ترفض أي مشاركة سياسية أو ٍ
تعاط مع الشأن العام من
هذه الزاوية.
وعلى طريق املدرسة السابقة ،خفت صوت كثري من ممثلي هذه املدرسة حتت ضغط الواقع
العاملي واحمللي ،وإجباره هلم على املمارسة ،ولو كانت تلك املمارسة تتم دون مدارسة
14حوار مع الشيخ عبد هللا بن جربين على (موقع إسالم ويب) هاجم فيه مفهوم "فقه الواقع" ،وراجع حماضرة
الشيخ األلباين ابلعنوان ذاته صدرت يف كتيب صغري ،خبالف "فقه الواقع" للدكتور انصر العمر.
97
يف فهم الشريعة ككل ،من حيث طريقة تعاطيهم مع الكليات الشرعية ودورها
التشريعي ،وكذلك إنكارهم أو تقليلهم من فقه الواقع ونظرايت املصلحة
واملفسدة واملآل واملقاصد ،ومن مثَّ ال توجد لديهم أية تصورات لتحريك
الشريعة وتنزيلها وتفعيلها يف عامل مركب ومعقد ،حيث يتعاملون بتصورات
طهرانية فيها نقاء التطبيق الكامل الذي استحالته الشريعة يف تنزيل أحكامها
وتطبيقها ،واملخالف لكثري من القواعد الفقهية وما تنص عليه .ومن مثَّ ال
يتبقى هلا سوى الصدام على صعيد كل املستوايت ،الداخلية واخلارجية ،مع
عددا غري قليل من أتباع هذه املدرسة وهذا النهج
اجملتمع ومع العامل .ولذا ترى ً
يتولون هنج الصدام حتت اسم (اجلهاد) فيدخلون يف صراع مع اجلميع؛
فيصفون الغرب أبنه كافر ،واجملتمع أبنه جاهلي .وصحيح أن الغرب فيه كفر
كما أن الشرق فيه كفر ،وصحيح أن اجملتمع يعاين من عادات جاهلية ،لكنها
كجاهلية ال ختلو منها جمتمعات ،وقد قال صلى هللا عليه وسلم أليب ذر« :إِنا َ
اهلِياةٌ»( ،)15كما أن منهج النيب صلى هللا عليه وسلم يف التعامل
يك ج ِ ِ
ْام ُرٌؤ ف َ َ
مع (اخلارج) بعد الفرتة املكية مل يكن الصراع والصدام مع اجلميع؛ بل عاهد
وهادن وحارب .ولكل موازينه وقواعده احلاكمة والضابطة.
ومن مثَّ فإن رؤية هذه املدرسة للمصلحة ،من حيث التجريد ،هي التسليم أبن الشريعة
هتدف إىل حتقيق املصلحة .ولكن عند التنزيل ،فإن خصائص هذه املدرسة ومنهجها
ومنظورها السابق ذكره ،يؤدي إىل نتيجتني على طريف نقيض؛ َّإما أن يؤدي هبم إىل إنكار
تطبيقات املصلحة يف الواقع املتحرك واملتغري وعدم التسليم مبا متليه القواعد الفقهية املوجهة
وإما أن يؤدي هبم إىل القبول الكامل ببعض تطبيقات للموازنة بني املصاحل واملفاسدَّ ،
املصلحة غري املقبولة ابالعتبار الشرعي ،اليت حتقق على املآل مفاسد حقيقية ال ميكن
تداركها .واجلامع بني طريف هذين النقيضني هو رفض التعاطي مع أدوات املعرفة
15أخرجه البخاري يف صحيحه ،كتاب اإلميان ،ابب املعاصي من أمر اجلاهلية ،وال يكفر صاحبها ابرتكاهبا
إال ابلشرك ،برقم ()30؛ ومسلم يف صحيحه ،كتاب اإلميان ،ابب إطعام اململوك مما أيكل ،وإلباسه مما يلبس،
وال يكلفه ما يغلبه ،برقم (.)1661
98
االجتماعية واإلنسانية ودورها يف فهم الشريعة ،بل وما حتتويه الشريعة من منظور يعطي
مؤثرا يف فهم داللة النص ويف تنزيله.
للدور اإلنساين بـر ْع ًدا ً
()16
املدرسة الثالثة :مدرسة التأييد
يرجع هلذه املدرسة كثري من الفضل يف بذل جهود ال تنكر على مستوى التنظري يف الفقه
مكنت َمنالشرعي والسياسي ،وكذا التقدم خطوات متميزة يف اجلهد املعريف ملساحات َّ
جاء بعدهم للبناء عليها ولو ابلنقد والتحسني ،وكذلك على مستوى الواقع وتوجيه اجلهود
وترشيدها .تقوم هذه املدرسة على فكرة شرعنة حمتوى العلوم االجتماعية واإلنسانية
ومنتجاهتا وتكييفها بتصورات شرعية كلية وحتت غاية املقاصد ،ويف القلب منها تكييف
أحياان إىل بعض درجات ً منوذج السياسة احلديث ابلتصور اإلسالمي تكيي ًفا يصل
"التلفيق"()17؛ فتسقط يف أزمة "التلفيق" حتت دعوى "التوفيق" عرب إلباس املضمون -أو
نقدا جذرًاي ،ومقارنته ابألسس الفلسفية
األداة -بلباس شرعي دون نقد حمتواه وفلسفته ً
اليت يعتمد عليها بنيان التصور اإلسالمي ،ومن مثَّ يتم استحضار واقع الرتاث مبفاهيمه
عما عليه واقع اليوم مث تنزيلها على هذا الواقع
متاما َّ
ونظرايته وأدواته اليت كانت خمتلفة ً
متاما عن الواقع الذي يتحدث عنه الرتاث السياسي اجلديد أبدواته اجلديدة املتباينة ً
اإلسالمي ،فيتم إلصاقه بتصور آخر ال صلة له هبذا احلكم على الوجه األدق.
ومن هذا إظهار التأييد التام لنموذج الدميقراطية الغربية آبلياته ووسائله (مع التنويه حيال
الكتابة البحثية أنه ترستثىن األخطاء اليت ترتكب ابسم الدميقراطية هنا وهناك) ،وأن التطبيق
16يقصد ابلتأييد :غلبة أتييد منجزات احلداثة الغربية ومنتجاهتا السياسية كالدميقراطية واألحزاب والتعددية
السياسية...إخل ،دون القيام بتجاوزها إىل أتسيس نقد فلسفي هلا يتبع بتقدمي تصور لبدائل سياسية منطلقة من
النسق الفلسفي اإلسالمي ،حتت دعوى االستصالح واملوافقة احلذرة .انظر :الشيخ يوسف القرضاوي ،من فقه
الدولة يف اإلسالم( ،القاهرة :دار الشروق ،ط.)2005 ،3
17يقصد ابلتلفيق :التلفيق السياسي ومضاهاته ابلتصورات الفقهية القدمية ،فيضاهى مفهوم الدولة املعاصر
مبفهوم الدولة يف التجربة التارخيية اإلسالمية ،وكذلك اإلمام برئيس الدولة ،وكذلك قياس األحزاب السياسية
املعاصرة (اليت قد تكون مرجعية بعضها ليربالية أو يسارية) على املذاهب الفقهية (اليت ال خترج يف حدها األدَّن
عن أصول املرجعية اإلسالمية).
99
حاكم ،وهذا فيه قدر من الصحة بالخيتلف ابختالف السياق ،وأن سياق التجارب ٌ
قدرا من التبسيط ال خيفى ،واألمر ذاته يف منوذج األحزاب ،وأداة
أيضا ًلكن فيه ً
شكَّ ،
الدولة؛ فالشورى هي الدميقراطية ،ودستور الدولة احلديثة هو دستور املدينة منذ ألف
وأربعمائة عام( ،)18واملؤسسات القضائية اليوم هي مؤسسة القضاء عرب اتريخ املسلمني،
والفقه هو القانون...إخل ،مما حييد عن جانب الدقة العلمية بدرجة كبرية.
تقييما
ولعل هذه املدرسة -من حيث استعراض أدبياهتا وخصائص منهجها وتقييمها ً
علميًا منص ًفا مث تقوميها ،مث بناء البحث على نقد بعض سلبياهتا ،والبناء عليها -من أهم
مرتكزات البحث ،ابإلضافة إىل املدرسة والتناول املنهجي القادم.
جهودا متفاعلة يف التعاطي
ومتتد هذه املدرسة لفقهاء اإلحياء ومرحلة النهضة اليت بذلت ً
مع احلداثة واستيعاهبا ،من حممد عبده ورشيد رضا وخري الدين التونسي ومن حلقهم بعد
ذلك من فقهاء أجيال متالحقة يف املدرسة األزهرية املصرية واملدرسة العلمائية يف املغرب
العريب بشكل عام ،بتفاوت يف التعاطي مع مستوايت التحديث واستيعاب (صدمة
رويدا ،وعلى املستويني الفكري والفقهي ،والسياسي املمارسي (احلالة رويدا ً
احلداثة) ً
منوذجا).
منوذجا؛ واحلالة املغربية :سعد الدين العثماين ً
التونسية :راشد الغنوشي ً
وتكمن أزمة هذه املدرسة :يف عدم استيعاب "ما وراء األداة" و"ما خلف الوظيفة" و"ما
قبل املظهر ..اجلوهر"؛ فيأخذون الدميقراطية على أهنا هي الشورى ،ويقومون بتفس ٍري
للدميقراطية قد رخيرج يف احلقيقة الدميقراطيةَ عن دميقراطية من اخرتعوها ،أو ابألدق ،عن
منوذج الدميقراطية الليربالية السائد؛ إذ إهنا ليست دميقراطية واحدة بل هي دميقراطيات.
واألمر ذاته يف منوذج "الدولة/األحزاب" ،فالدولة احلديثة اليت نشأت قبل مائيت عام يف
نظر البعض هي اليت كانت أايم اخلالفة اإلسالمية والتاريخ اإلسالمي ،مع البون الشاسع
فاسدا؛
قياسا ً
بينهما ،فيتم تنزيل أحكام هذه على تلك ،وهو "قياس مع الفارق" ،فيكون ً
فالدولة ليست هي الدولة ،واألحزاب السياسية املعاصرة الناشئة عن الفكرة الغربية ليست
هي املذاهب الفقهية الناجتة عن منهجية التفكري اإلسالمية وتفاعل علماء املسلمني مع
18ينظر :يوسف القرضاوي ،خطابنا اإلسالمي يف عصر العوملة( ،دار الشروق.)2004 ،
100
أدلة االجتهاد مع واقع املسلمني ،مما يكون جغرافيا للتمدن مصوغة من تصور حلياة الناس
وحركة جمتمعاهتم داخليًا وخارجيًا يف فرتة زمنية معينة.
وميكن تلخيص مقومات وأبرز خصائص هذه املدرسة فيما يلي:
-1يتميز االقرتاب البحثي هلذه املدرسة بنضج فقهي وأصويل رفيع ،فهم من
إنتاجا
أبرز علماء الشريعة ومتخصصيها يف العامل اإلسالمي ،ومن الذين يقدمون ً
أطروحات علميةً على مستوى الرؤى ،وكذلك الفتاوى ذات الصلة احلقيقية ٍ و
حلوال تكون ذات أثر وفعالية .فهم يقدمون ابلواقع اليت تفهم مهومه وتقدم له ً
فقها وأطروحات متحركة ،ال ساكنة. ً
-2اخلصيصة الثانية األبرز واملكملة للخصيصة األوىل ،هي ضعف املعرفة
العلمية السياسية على مستوى النظرية السياسية والفلسفة السياسية وشىت فروع
علم السياسة احلديث ،إضافة إىل فلسفة العلوم االجتماعية واإلنسانية بشىت
فروعها كذلك؛ مما جيعلهم يتعاملون مع هذه األدوات ،والظواهر ،على غري
حقيقتها ،وعلى غري ما أريد ووضع هلذه األدوات والظواهر ،مما يوقعهم يف
تناقضات ،ويؤثر يف مستوى املآالت .ففي الوقت الذي حياولون فيه تربير
الدميقراطية على أهنا منجز من إجنازات احلداثة الغربية ،وابألدق احلداثة الليربالية،
خترج من الغرب أصوات تنتقد هذه الدميقراطية وتدعو لتطويرها على مستوايت
متعددة ،فلسفيًا وتطبيقيًا ،وذلك يف ضوء تصويب إشكاالت ممارستها يف
التجربة الدميقراطية الغربية.
واألمر ذاته على مستوى الدولة ،واألحزاب ،والسياسات .ولك أن تنظر يف بعض
املراجع 19اليت يعتمد عليها كثري من املتخصصني الشرعيني ،علماء وأساتذة وابحثني،
لتدرك مدى ضعفهم يف تواصلهم مع أدبيات السياسة الغربية واألكادمييات السياسية بوجه
عام ،وجتد أن غالبيتهم يتعاملون مع مراجع هي أشبه مبعاجم مصطلحات العلوم التعريفية،
وأتيت أمهية دراسة أطروحات الباحثني الشرعيني خالل العقود املاضية -أو ما توافر منها-
ومثاال ملسرية العقل الفقهي ومناهج تفكريه ،وطرائق تفاعله مع نصوص
منوذجا ً
يف إعطائها ً
العلوم االجتماعية ،ومقاربته جلدلية العالقة بني الوحي والواقع مبستوايته املتعددة
واملتداخلة ،مما ميكننا من رصد هذه املسرية وتقوميها مبيزان ،مث بناء تصورات الستشراف
وختصصا.20
ً املستقبل ببدائل أكثر متاس ًكا
ومن مثَّ فإن رؤية هذه املدرسة للمصلحة ،من حيث التجريد والتنزيل ،هي التسليم هبا
واعتمادها كأداة منهجية يف التفكري واالجتهاد والتدبري السياسي ،لكن يؤخذ عليها
التوسع يف تطبيقها دون حتقيق ملناط الواقع حمل التدبري؛ مما يؤدي إىل عدم إحداث الغربلة
20انظر كذلك يف هذا :إنتاج األستاذ الدكتور أمحد الريسوين يف القضااي السياسية ،حيث إنه يشرتك مع
مالحظات الشيخ القرضاوي يف املنهج الذي تبناه ،رغم وجود أفكار متثل نواة ميكن البناء عليها ،مثل حديثه
عن أسبقية األمة على الدولة ،وأن األمة هي األصل.
انظر :األمة هي األصل ،قضااي الدميقراطية والفن وحرية التعبري( ،القاهرة :دار الكلمة .)2014 ،وكذلك،
الفكر اإلسالمي وقضاايًن السياسية املعاصرة( ،القاهرة :دار الكلمة .)2014
102
املطلوبة يف البحث للتحقق من املصاحل احلقيقية العائدة ،واملفاسد اليت قد تتسرت حتت
غطاء املصلحة ،وتظهر يف مآل التطبيق على الصعيد السياسي واالجتماعي واالقتصادي.
21
املدرسة الرابعة :مدرسة التمحيص
وتفسريا،
ً شرحا،
يتميز اقرتاب هذه املدرسة البحثي إبدراك النماذج الغربية بعمق شديدً ،
ونقدا ،ابستيعاب ٍ
اتم ،مع إملام ابلكليات الشرعية والنموذج املعريف والفلسفي وحتليالً ،
ً
اإلسالمي ،والعالقة بني املساحات املختلفة ومدى تداخل كل منهما ابآلخر ،وإدراك
واستيعاب النظرايت السياسية اليت كتبها األئمة الكبار يف الرتاث السياسي اإلسالمي
ومعرفة الوظائف السياسية للحاكم ومكوانت الدولة ومقاصد األدوات ووظائفها ،ولو مل
يرلموا بكل اجلزئيات الفقهية والنظر اجلزئي اخلاص بصنعة استنباط األحكام -وهذا بال
شك حمل نقد معترب -لكن أثره يف اجملال السياسي والنظرايت السياسية أخف وطأة ممن
غاب عنه النظر الكلي وانشغل فقط ابلنظر اجلزئي ،فما استطاع قراءة جزئيات غريه من
فضال عن مقاربته من خالل منظوره املقاصدي.22خالل منظوره الكليً ،
103
واحلقيقة أننا أصبحنا نعيش يف واقع ليس واقعنا وال من فكران وال من صناعتنا؛ بل هو
نتاجا لتفاعالته ومناذجه اخلاصة ،مث مت تصديره لنا قبل االستعمار
وتكون ً
غريانَّ ،
واقع أنشأه ر
متغوال واثبتًا حىت
بقليل على الصعيد القضائي واملؤسسي ،مث أصبح بعد االستعمار ً
أصبحنا نعيش فيه ويعيش فينا ،وهو واقع ليس وليد احلضارة اإلسالمية بل هو وليد
أمرا ابلغ
حضارات أخرى؛ لذا كان التمحيص والنقد ابملقاربة مع فلسفة املقاصد الشرعية ً
األمهية.
وجدير ابلذكر أن العالقة واملسافة بني املدرستني الثالثة والرابعة ليست حدية فاصلة ،بل
مر من
هناك نقاط يتوافق عليها الطرفان ،بل قد نقول :إن املدرسة الثالثة هي احملطة اليت َّ
خالهلا أهل املدرسة الرابعة .وحني يتم تبادل املعارف فثمة اتفاقات تتولد .بل هناك من
هو من أهل مدرسة الرفض التام ،ورفض املنجزات الغربية ،والنموذج السياسي احلديث،
وتفصيال ،ألسباب قد يرتفق معه يف بعضها ،وميكن البناء عليها؛ إال أن عدم هضمه
ً مجلة
واستيعابه للنموذج الغريب وتطوراته ومراحله مل ميكنه من فهم واقعه الذي يعيش فيه ،فهو
منوذجا
عاجزا أن يبين ًحماصرا به ً
يف احلقيقة أصبح يعيش يف واقع آخر غري واقعه ،فأصبح ً
عوضا عن النموذج الذي ينتقده ،واختار العزلة واهلروب من مواجهة اإلجابة على آخر ً
أسئلة التحدايت احلضارية الكربى والتارخيية.
ويتميز هذا االقرتاب املنهجي خبصيصتني رئيستني:
أوال :إدراك واستيعاب اإلطار احلاكم والنموذج التفسريي ،بل النماذج التفسريية ،اليت ً
قامت عليها احلضارة واحلداثة الغربية ،وفهم سياقاهتا االجتماعية والسياسية
فهما دقي ًقا وعلميًا ملا حولنا من أدوات ومساحات
والثقافية/الدينية ،ومن مثَّ فهم ميتلكون ً
سياسية ،مل حي َظ كثري من الشرعيني إبدراكها واإلملام هبا ،ومن مثَّ فهم من حيث امتالك
التصور السياسي احلديث أصحاب خربة وختصص.
اثنيًا :عدم إدراك كثري منهم لتفاصيل الفقه وفلسفة أحكامه ،وفهم سياقاته االجتماعية
والسياسية يف حينه ،فيقع كثري منهم يف أسر مأزقني:
ابلتكوين الكلي الذي تقوم به الدولة يف النظام الغريب احلديث" .طارق البشري ،املالمح العامة للفكر السياسي
اإلسالمي يف التاريخ املعاصر ،مرجع سابق ،ص.69
104
أوهلما :التعميم واإلطالق قبل االستقراء ،واالنطباع قبل االطالع.
اثنيهما :قراءة هذا الرتاث الفقهي بكل فروعه ،مبا فيها السياسي ،بعني الواقع املعاصر
وأدواته وعلومه؛ فيقعون يف خطأ منهجي ،وهو احلكم على تراث ومنهج أبدوات واقع
وبنيواي .فقليل من هؤالء الباحثني واملتخصصني -من ً ومنهج آخر خمتلف عنه فلسفيًا
ذوي هذا االقرتاب -قد قام ابستقراء ما كتب يف الرتاث السياسي اإلسالمي ،ويف
تضاريس الفقه وجغرافيته ،وما يطلقون عليه -ويكأنه عيب" -التفاصيل اجلزئية" ،إضافة
إىل أهنم أيخذون بعض هذه التفاصيل اجلزئية للفقه ابقتطاعها من سياقاهتا ،ويتورطون يف
أحكام متسرعة ،متناسني أن العلوم إمنا هي نسق متكامل ومتناغم ،إذا فات عن فهمك
بعض أجزائه؛ اختل ميزان الفهم يف األجزاء املتبقية.
واحلقيقة أن ذوي هذا االقرتاب متفاوتون يف درجة حتقق هذه اخلصيصة الثانية ،فعدد ليس
فهما حقيقيًا للفقه ولو يف صورته الكلية ،وكذلك على مستوى ابلقليل منهم جتد لديه ً
املساحات اجلزئية العامة ،على مستوى أبواب الفقه وفصوله .وسلبيات هذا االقرتاب
نتيجة للخصيصة الثانية ،قلما تظهر يف كثري من مسائل العلم السياسي املعاصر ،إال لو
امتدت األداة البحثية إىل مساحات دقيقة ،أو قطعت أشواطًا من البحث بعيدة فيتم
التطرق إىل ما شابه من املسائل اخلالفية ،وهو أمر اندر ليس ابملنتشر.
ومن مثَّ فإن رؤية هذه املدرسة للمصلحة وتطبيقاهتا تعد من أفضل املدارس السابقة،
نظرا لتمكنهم من
واملنهجيات املتبعة على الصعيد السياسي واالجتماعي واالقتصادي؛ ً
اإلطار الكلي ،وإمكانية حتقيق املقارابت وقياس املآالت وإدراك الفوارق واالختالفات،
مما يساعدهم يف حتقيق املناط وضبط التصورات .ويساعدهم ختصصهم على إدراك ما
يدخل يف املصلحة املعتربة وما ال يدخل فيها ،كما تتجلى هلم أوجه املفاسد اليت قد ختفى
على غري أهل االختصاص(.)23
23انظر :هبة رءوف عزت ،حرية التعبري والتعددية يف التصور اإلسالمي( ،جملة رؤى ،السنة الثالثة ،عدد
،14شتاء .)2012وانظر كذلك حبثها حول ( تفكيك العلمانية من املواجهة لالشتباك ملا بعد الدولة)،
(جملة رؤى ،العدد ،24/23سنة .)2004
105
الفرع الثالث :مصادر املصلحة ..من أين نعرف املصلحة ونستنتجها؟
يعد هذا السؤال من أهم األسئلة اخلالفية اليت من خالهلا ميكن استظهار أوجه اخلالف
واملقارنة بني نظرية املصلحة يف التصورين اإلسالمي والوضعي ،فمن أين نقرر كون هذا
األمر مصلحيًا من عدمه؟ وهل هو تفكري عقلي مادي حبت يعتمد ما تبدو أهنا مصاحل
وإن كان ابطنها أهنا مصاحل موهومة؟ وهل العقل فقط هو ما حيدد كون هذا األمر
مصلحيًا أم ال؟ وإن كان العقل وحده -وله يف االعتبار الشرعي تقدير كبري -فأي عقل
نقصد؟ وما هو مفهوم العقل يف أذهاننا؟ هل هو العقل اجملرد عن القيم واألسس األخالقية
واألبعاد املتجاوزة للواقع؟ فنقيس املصاحل مبعيار ضيق وحمدود يف حدود املرئي واملتجسد
والضيق؟ أم إن العقل كما قصد اإلمام الغزايل حني وصف الوحي أبنه عقل من اخلارج،
والعقل أبنه وحي من الداخل ،يف تشبيه متماسك لعدم استقاللية العقل دون توجيه
الوحي ،ويف الوقت ذاته عن تعزيز قيمة العقل ودوره احملوري يف االستنباط واالجتهاد،
دائما كانت التكامل
جلي لعدم تعارض العقل والوحي ،حيث إن العالقة بينهما ً وإبظهار ٍّ
مؤخرا ،حيث إن مقابل
وليس التعارض أو التقابل كما شاع عند كثري من النخب الثقافية ً
العقل اجلنون ،وليس النص .وإمنا مقابل النص هو املنهج ،أي :منهج االستنباط والفهم
والتنزيل.
وحول اإلجابة عن هذا السؤال ،يقول األستاذ الدكتور حممد كمال الدين إمام" :للمعرفة
مصادر ثالثة أساسية هي :الوحي والعقل واحلس؛ الوحي الذي يسدد الفطرة ،والعقل
الذي يستنبط الفكرة ،واحلس الذي ينظم اخلربة .واملصلحة أتخذ من الوحي احلِل واحلرمة،
ومن العقل الصواب واخلطأ ،ومن احلس ما هو انفع وما هو ضار ،ويف هذه الثالثية
تتجلى جدلية النص والواقع ،وتفاعل الكلي واجلزئي ،وكما يقول الشاطيب فإن :كل أصل
مالئما لتصرفات الشرع ،ومأخو ًذا معناه من أدلته فهو
مل يشهد له نص معني ،وكان ً
مقطوعا به..
ً صحيح يبىن عليه ،ويرجع إليه إذا كان هذا األصل قد صار مبجموع أدلته
كلي ،واألصل الكلي إذا كان فإنه وإن مل يشهد للفرع أصل معني ،فقد شهد له أصل ٌّ
قطعيًا قد يساوي األصل املعني ،وقد يريب عليه حبسب قوة األصل املعني أو ضعفه.
واألصل الكلي هو الذي جيمع املتفرقات ،ويربط بني عناصر املقاصد الثالثة :التعليل
واملصلحة ومآالت األفعال ،والتعليل على مستوى التجريد يقني إمياين؛ ألننا ندين هلل أبن
أحكام الشريعة كلها تنطوي على حكم ومصاحل ومنافع ،وعلى قدر فهم النصوص يكون
106
العلم ابملصاحل على تعدد مفاتيحها ،وتنوع مسالكها ،وهكذا تتحرر املصاحل من إسار
املعجم إىل عامل املعاين وآفاق السياق .وعندما يتحرك النص يدور مع مصاحله تنز ًيال،
حيث تصبح قاعدة ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب ً
إذان ابلتطبيق لوجود احملل ،أو
امتناعا عن التطبيق لغياب احملل ،وغياب احملل ال يعين غياب اخلطاب الذي له حضورهً
اإلمياين يف كل حلظة ،وحضوره التشريعي بتعني وقائعه وأوصافه؛ ذلك ألن األفعال -كما
يقول الشاطيب -ال تقع يف الوجود مطلقة ،وإمنا تقع معينة مشخصة احلكم ،فال يكون
احلكم عليها إال بعد املعرفة أبن هذا املعني يشمل ذلك املطلق أو ذلك العام وهذا هو
حتقيق املناط الذي تدق معامله وقد تستغلق عندما نتجاهل الصلة الوثيقة بينه وبني خطاب
الوضع وما يفرضه من أسباب وموانع وشروط؛ ألن دائرة خطاب الوضع هي امليدان
األصيل الجتهاد حتقيق املناط حىت يتعني إنزال النص ،أو يصبح عدم تنزيله متعينًا"(.)24
ويعترب الباحث أن املصاحل واملقاصد بينهما تقاطع يصل يف بعض املساحات إىل التماهي
والتطابق ،مع االعتبار أبن املصاحل هي أهم وأعظم مكوانت املقاصد ،ولكن الباحث
يعترب أن مجيع املقاصد مصاحل ،وأن كل املصاحل مقاصد ،وإن كانت املقاصد أعلى رتبة،
يدا ،ومبثابة البوصلة للمصاحل اليت حتاول أن تتشكل هبا وتتكون من خالهلا؛
وأكثر جتر ً
ولذا:
أ -فإن املقاصد تعترب من أهم مصادر املصلحة ووسائل معرفتها.
ب -كما أن الوحي كذلك من أول هذه املصادر جبميع ما يشتمل عليه من
مقاصد وأحكام وفلسفة وسنن وقيم.
ج -وكذلك التجريد والتجربة واختبار السعادات وسننها ومعرفة الصاحل والضار،
وهو ما عرب عنه العز بن عبد السالم بقوله" :وأما مصاحل الدنيا وأسباهبا،
التجارب والعادات و ِ
الظنون ِ ومفاسدها وأسباهبا ،فمعروفةٌ ابلضرورات و
ومرجوحها، اجحها ِ
َ وم ْن أراد أن يعرف املناسبات واملصاحل واملفاسد ،ر َ
املعترباتَ ...
فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع مل يَِرْد به ،مث يبين عليه األحكام ،فال
24حممد كمال الدين إمام ،املصلحة يف املصطلح املقاصدي ،مرجع سابق ،ص.50-49
107
حكم منها خيرج عن ذلك ،إال ما تعبَّد هللار به عباده ،ومل يَِق ْف رهم على مصلحته
يكاد ٌ
()25
أو مفسدته" .
د -مث أييت دور العقل ويتقاطع مع مجيع هذه الدوائر ،دائرة النص والوحي ،فيكون
تفسريا مصلحيًا( ،)26وكذلك إدراك السنن واتباعها
للعقل دور يف تفسري النصوص ً
ابستخالصها والنظر يف جتارب األمم وما جرى عليه مصاحل قيامها وأسباب
جدال وهي دور العقل يف تقدير املصاحل ومدىسقوطها .مث أتيت النقطة األكثر ً
إدراكه هلا ،وهي املسألة املعروفة يف علم الكالم ابلتحسني والتقبيح .وهو ما
سنتناوله يف الفرع التايل.
الفرع الرابع :املدارس العقدية يف التحسني والتقبيح
أتسست مدارس ثالث حول إدراك املصاحل ابلعقل (مسألة التحسني والتقبيح) :املدرسة
األشعرية ،واملدرسة املاتدريدية ،واملدرسة املعتزلية.
وتعتمد املدرسة األشعرية أنه ال يوجد شيء حسن إال بتحسني الشرع له ،وال يوجد شيء
قبيح إال بتقبيح الشرع له .أما دون حتسني الشرع وتقبيحه فال رحسن وال قبح ،وكل األمور
على حد سواء .وميكن النظر يف هذا ملا ورد عند اإلمام الشاطيب حيث يقرر يف املقدمة
العاشرة أنه" :إذا تعاضد النقل والعقل على املسائل الشرعية ،فعلى شرط أن يتقدم النقل
اتبعا ،فال يسرح العقل يف جمال النظر إال بقدر ما
متبوعا ،ويتأخر العقل فيكون ً
فيكون ً
()27
يسرحه النقل" .مث استدل على ذلك أبدلة منها" :ما تبني يف علم الكالم واألصول،
من أن العقل ال حيسن وال يقبح"( ،)28مبعىن أنه ال يقدر -وال ميلك احلق -على أن حيكم
على األشياء واألفعال أبهنا حسنة أو قبيحة أي أبهنا مصلحة أو مفسدة.
25عز الدين ابن عبد السالم ،قواعد األحكام يف مصاحل األًنم ،حتقيق نزيه محاد وعثمان ضمريية( ،دمشق:
دار القلم ،ط.14-13/1 ،)2010 ،4
26انظر :أمحد الريسوين ،نظرية املقاصد عند الشاطيب( ،القاهرة :دار الكلمة ،)2010 ،ص .224
( )27إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطيب ،املوافقات يف أصول الشريعة ،مرجع سابق.87/1 ،
( )28املرجع السابق.
108
وأما ملاذا كان العقل غري قادر على التحسني والتقبيح ،فألن األشياء -حسب النظرة
األشعرية -ليست حسنة وال قبيحة يف ذاهتا .فكيف يدرك العقل شيئًا (غري موجود) أعين
حسن األشياء وقبحها ،أي صالحها وفسادها .ويعضد هذا اإلمام الشاطيب بقوله:
"كون املصلحة مصلحة تقصد ابحلكم ،واملفسدة مفسدة كذلك ،مما خيتص ابلشارع ،ال
جمال للعقل فيه ،بناء على قاعدة نفي التحسني والتقبيح ،فإذا كان الشارع قد شرع احلكم
عقال -أال تكون كذلك .إذملصلحة ما ،فهو الواضع هلا مصلحة ،وإال فكان ميكن ً -
األشياء كلها ابلنسبة إىل وضعها األول متساوية ال قضاء للعقل فيها حبسن وال قبح.
فإذن ،كون املصلحة مصلحة هو من قبل الشارع ،حبيث يصدقه العقل وتطمئن إليه
النفس"(.)29
ويؤكد هذا املعىن يف سياق آخر ،وبشكل أوضح ،فيقول" :األفعال والرتوك -من حيث
عقال ،ابلنسبة إىل ما يقصد هبا؛ إذ ال حتسني للعقل وال
هي أفعال وتروك -متماثلة ً
تقبيح"(.)30
َأما املعتزلة فريون -وف ًقا لتعريف الدكتور أمحد الريسوين -أن احلسن والقبح ذاتيان
عقليان ،أي إن األشياء واألفعال والرتوك موصوفة ابلصالح والفساد قبل أن أييت حكم
الشرع بذلك ،وأن العقل يدرك ذلك ويثبته .ولكنهم مل يقفوا عند هذا احلد ،بل ذهبوا إىل
أن اإلنسان العاقل مكلف مبقتضى عقله عند عدم وجود احلكم الشرعي ،ما دام احلسن
والقبح عقليني .ومعىن هذا أن احلكم الشرعي يثبت ابلعقل كما يثبت ابلسمع.
و َأما املاتريدية ومن وافقهم أو وافقوه من أهل التحقيق واإلنصاف -والكالم ال يزال
للدكتور أمحد الريسوين ،-فقد أثبتوا كون احلسن والقبح ذاتيني عقليني .ولكنهم مل يرتبوا
على ذلك ما رتبه املعتزلة ،ومل يعتربوا أن التكاليف واألحكام الشرعية تثبت مبجرد العقل،
بل ال َّ
بد لذلك من السمع .ويعترب املاتريدية الفرقة الوسط بني األشاعرة واملعتزلة يف مسألة
31
احلسن والقبح والتكليف وعالقة الشرع هبما .
32أبو املعايل اجلويين ،الربهان يف أصول الفقه( ،قطر :وزارة األوقاف ،ط1399 ،1هـ).91/1 ،
33ابن قيم اجلوزية ،مفتاح دار السعادة ومنشور والية العلم واإلرادة( ،بريوت :دار الكتب العلمية).42/2 ،
34عز الدين ابن عبد السالم ،قواعد األحكام يف مصاحل األًنم ،مرجع سابق.8-7/1 ،
110
عن املعقول ،وإمنا هو جتاهل وتعطيل للدالالت الصرحية لكثري جدًّا من النصوص
الشرعية".35
فقد أمر القرآن الكرمي بفعل اخلري والصالح واملعروف وهنى عن الشر والفساد واملنكر،
وأمر ابلعدل واإلحسان ،وهنى عن الفحشاء والبغي ،وأخرب أنه أحل الطيبات وحرم
اخلبائث.
فلوال أن هلذه املأمورات وهذه املنهيات معاينَ يعرفها املخاطبون ملا كان ملخاطبتهم هبا
فائدة .فمن يستطيع أن ينكر أن الناس كانوا يوم خوطبوا هبا على إدراك واضح حملتواها
ومعناها؟ وأهنم خوطبوا على أساس ذلك اإلدراك؟ بل إهنم كانوا يقدروهنا قدرها؛ وهلذا
عرفوا أن من أيمر هبذا اخلري وهبذا الصالح ،وينهى عن هذا الشر وهذا الفساد ،وال
كاذاب ،ومن هنا ابدر عدد من فضالء العرب إىل اإلسالم
يتجاوزمها ،ال ميكن أن يكون ً
جملرد تقديرهم ملا دعا إليهم من حق وصالح ،وما هنى عنه من ضالل وفساد.
ومن ذلك ما رواه ابن ماجه عن علي رضي هللا عنه ،قال" :أمر هللا نبيه أن يعرض نفسه
على قبائل العرب ،فخرج فوقف على جملس قوم من شيبان بن ثعلبة يف املوسم ،فدعاهم
إىل اإلسالم وأن ينصروه .فقال مفروق بن عمرو -منهم :-إالم تدعوان أخا قريش؟
ان َوإِيتَ ِاء ِذي
اإلحس ِ ِ ِ فتال عليهم النيب صلى هللا عليه وسلم{ :إِ ان ا
اَلِلَ َأي ُْم ُر ابل َْع ْدل َو ِْ ْ َ
ش ِاء َوال ُْمن َك ِر َوالْبَـغْ ِي ۚ يَ ِعظُ ُك ْم لَ َعلا ُك ْم تَ َذ اك ُرو َن} [النحل.]90 :
الْ ُق ْرَ َٰب َويَـ ْنـ َه ٰى َع ِن الْ َف ْح َ
فقال :دعوت وهللا إىل مكارم األخالق وحماسن األعمال .ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا
عليك"(.)36
وكذلك ما قالته أم املؤمنني السيدة خدجية رضي هللا عنها ،يف القصة الواردة يف بدء
الوحي ،حيث عاد إليها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وقد أصابه من هول الوحي ما
يت علَى نَـ ْف ِسي" ،فَـ َقالَت خ ِدجيةرَ " :ك اال و اِ
اَلِل َ ْ َ َ فقص عليها اخلرب وقال" :لََق ْد َخ ِش ُ َ
أصابهَّ ،
35أمحد الريسوين ،نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاهتا يف العلوم اإلسالمية( ،القاهرة :دار الكلمة ،ط،1
1997م) ،ص .239
( )36عن تفسري العالمة الطاهر بن عاشور ،التحرير والتنوير.259/14 ،
111
ومَ ،وتَـ ْق ِري ِ ِ ِ اَلِل أَب ًدا ،إِنا َ ِ َما خيُْ ِز َ
ب املَْع ُد َ
ك لَتَص ُل ال ارح َمَ ،وَحتْم ُل ال َك الَ ،وتَكْس ُ يك اُ َ
ب احلَِّق"(.)37ني َعلَى نَـ َوائِ ِ الضاي َ ِ
فَ ،وتُع ُ ْ
والتأمل يف هذا املوقف ،ويف هذا القول ،ينبغي أن يوجه إىل ثالثة جوانب منهما ،كلها
تشهد ابحلسن والقبح الذاتيني العقليني:
-1الرسول صلى هللا عليه وسلم كان متخل ًقا هبذه األخالق قبل الوحي وقبل البعثة،
مستسحنًا إايها بعقله السليم وفطرته النقية.
أيضا هذه الفعال الكرمية ،وترتضيها -2السيدة خدجية رضي هللا عنها ،تستحسن ً
من زوجها ،وتعتربها من مكارمه وفضائله .وليست مستند ًة يف هذه إىل أي
حكم شرعي.
-3السيدة خدجية توقن أن هذه األفعال ال ميكن أن تلقى من هللا إال الرضى واحملبة،
وال ميكن أن يلقى صاحبها من هللا إال الرعاية والتكرمي واجلزاء احلسن.
عددا من األشياء واألفعال ابحلسن والقبح؛
إضافة إىل أن هللا سبحانه وتعاىل قد وصف ً
كوصفه اخلمر وامليسر واألنصاب واألزالم أبهنا (رجس) ،وكوصفه الزَّن أبنه (كان فاحشة
سبيال) ،وكوصفه أبنه (أذى) .فهل كانت هذه املواصفات قبيحة فاسدة قبل جميء وساء ً
النص؟ ومنذ مىت كانت؟ أم إهنا مل تتصف ابلضرر واألذى إال بعد أن جعلها النص
رجسا ،وأن الزَّن قد
كذلك؟ حيث إن هللا تعاىل مل خيربان أبن اخلمر وامليسر قد صارت ً
صار فاحشة ،وأن احمليض قد أصبح أذى ،بل خيربان وينبهنا على ما هي عليه ،لريتب
على ذلك التحرمي والتحذير.
وقدًميا تعلل املشركون -فيما كانوا عليه من فواحش -بكوهنا من فعل أسالفهم ،وأن هللا
آاب َء ًَن َو ا أمر بذلك ،فزجرهم هللا تعاىل بقوله :وإِ َذا فَـعلُوا فَ ِ
اَلِلُ شةً قَالُوا َو َج ْد ًَن َعلَْيـ َها َ
اح َ َ َ
اَلِل َما َال تَـ ْعلَ ُمو َن ) (28قُ ْل ِش ِاء ۖ أَتَـ ُقولُو َن َعلَى ا أ ََم َرًَن ِهبَا ۗ قُ ْل إِ ان ا
اَلِلَ َال َأي ُْم ُر ِابلْ َف ْح َ
ِ وه ُكم ِعن َد ُك ِل مس ِج ٍّد وا ْد ُعوهُ ُُمْلِ ِ ِ ِ ِ
ين ۚ َك َما
ني لَهُ ال ّد َ صَ َّْ َ يموا ُو ُج َ ْ أ ََم َر َرِّيب ِابلْق ْسط ۖ َوأَق ُ
( )37أخرجه البخاري يف صحيحه ،كتاب بدء الوحي ،برقم ()3؛ ومسلم يف صحيحه ،كتاب اإلميان ،ابب
بدء الوحي إىل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،برقم ( ،)160من حديث عائشة رضي هللا عنها.
112
ودو َن)[ (29األعراف .]29 ،28 :قال اإلمام ابن تيمية" :فإنه أخرب عن بَ َدأَ ُك ْم تَـ ُع ُ
نفسه يف سياق اإلنكار عليهم أنه ال أيمر ابلفحشاء ...فعلم أنه ال جيوز عليه األمر
ابلفحشاء وذلك ال يكون إال إذا كان الفعل نفسه سيئًا ...وهذا قول من يثبت لألفعال
يف نفسها صفات احلسن والسوء ،كما يقول أكثر العلماء"(.)38
فصوال بديعة وحامسة يف املوضوع ،وذلك يف اجلزء الثاين ولقد كتب اإلمام ابن قيم اجلوزية ً
من كتابه "مفتاح دار السعادة ومنشور والية العلم واإلرادة" .ومن بني األدلة الكثرية اليت
ايب ْاأل ُِّم اي الا ِذي
ول النِ ا ين يَـتابِ ُعو َن ال ار ُس َ اِ
أفاض يف ذكرها وبيان داللتها ،قوله عز وجل :الذ َ
اه ْم َع ِن ال ُْمن َك ِر ِ
يل َأي ُْم ُرُهم ِابل َْم ْع ُروف َويَـ ْنـ َه ُ واب ِعن َد ُه ْم ِيف التـ ْاوَراةِ َو ِْ
اإل ِجن ِ َجي ُدونَهُ َمكْتُ ً
ِ
ت ص َرُه ْم َو ْاألَ ْغ َال َل الاِيت َكانَ ْض ُع َع ْنـ ُه ْم إِ ْ ث َويَ َ اخلَبَائِ َ
ات َوُحيَ ِّرُم َعلَْي ِه ُم ْ وُِحي ُّل َهلُم الطايِب ِ
ُ َّ َ
ك ُه ُم ِ
ئَٰ
لُو
أ ۙ ه ع م لَ زِ ُنأ ي ِ
ذ ا
ل ا ُّورن ال وا ع ـ ب ا
ـ تاو وه ر ص نو وه ر زا عو ِ
ه ِب او ن آم ين ذِ ا
ل اَف ۚ مهِ يَل ع
َ ََُ َ َ َ ُ ُ ََ َُ ُ َ َ ُ َ َُ َْ ْ
ال ُْم ْفلِ ُحو َن [األعراف .]157 :قال" :فهذا صريح يف أن احلالل كان طيبًا قبل حلّه،
ِ
وأن اخلبيث كان خبيثًا قبل حترميه .ومل يستفد طيب هذا وخبث هذا من نفس احلل
والتحرمي لوجهني اثنني:
أحدمها :أن هذا علم من أعالم نبوته اليت احتج هبا على أهل الكتاب ،فقال :فلو كان
الطيب واخلبيث إمنا استفيد من التحرمي والتحليل ،مل يكن يف ذلك دليل .فإنه مبنزلة أن
أيضا ابطل ،فإنه ال فائدة يقال :حيل هلم ما حيل هلم ،وحيرم عليهم ما حيرم عليهم وهذا ً
فيه .وهو الوجه الثاين فثبت أنه أحل ما هو طيب يف نفسه قبل احلل .فصار منشأ طيبه
معا .فتأمل هذا املوضع حق التأمل ،يرطلعك على أسرار الشريعة ويشرفك من اجلهتني ً
على حماسنها وكماهلا ،وهبجتها وجالهلا ،وأنه من املمتنع يف حكمة أحكم احلاكمني أن
ترد خبالف ما وردت به .وأن هللا تعاىل يتنزه عن ذلك كما يتنزه عن سائر ما ال يليق به.
ش َما ظَ َه َر ِم ْنـ َها َوَما بَطَ َن َو ِْ
اإل ْمثَ
ِ
ومما يدل على ذلك قوله تعاىل :قُ ْل إِ امنَا َح ارَم َرَِّيب الْ َف َواح َ
َلِل ما َمل يـنـ ِز ْل بِ ِه س ْلطَ ًاًن وأَن تَـ ُقولُوا علَى اِ ِ
اَلِل َما َال َ َ ُ َوالْبَـ ْغ َي بِغَ ِْري ا ْحلَ ِّق َوأَن تُ ْش ِرُكوا ِاب ا َ ْ ُ َ ّ
38ابن تيمية ،جمموع الفتاوى ،حتقيق عبد الرمحن بن حممد بن قاسم( ،املدينة املنورة :جممع امللك فهد لطباعة
املصحف الشريف.8/15 ،)1995 ،
113
تَـ ْعلَ ُمو َن [األعراف ،]33 :وهذا دليل على أهنا فواحش يف نفسها ،ال تستحسنها
العقول فتعلق التحرمي هبا لفحشها"(.)39
ويعلق الدكتور أمحد الريسوين على هذا ً
قائال" :واحلقيقة أن الذين تورطوا من األشاعرة
يف إنكار احلسن والقبح الذاتيني وإنكار التحسني والتقبيح العقليني ،إمنا اجنروا إىل ذلك
بفعل الصراع اجلديل الطويل مع خصومهم املعتزلة .ومعلوم أن اإلمام أاب احلسن األشعري
-وهو أول قائل هبذا -قد خترج -مث خرج -من حلقة املعتزلة .وهبذا فإن األشعرية ولدت
من الصراع ،ونبتت يف الصراع .ومل تزد األايم ،بل القرون ،بعد ذلك هذا الصراع إال
استفحاال وتغالبًا .وأصبح "رد الفعل" ضد املعتزلة مسة ابرزة -بل طاغية -يف الفكر
ً
()40
األشعري" .
( )39ابن قيم اجلوزية ،مفتاح دار السعادة ومنشور والية العلم واإلرادة ،مرجع سابق.7-6/2 ،
( )40انظر :أمحد الريسوين ،نظرية املقاصد عند الشاطيب ،مرجع سابق ،ص .244
114
الفصل الرابع:
اإلسالمي املُعاصر
ّ تصورات العدل يف الفكر
هشام فهمي
أمحد نصر
1أبو الفضل ابن منظور املصري ،لسان العرب( ،بريوت :طبعة دار صادر ،اجمللد احلادي عشر) ،ص-430
.431
وقد ذركر لفظ العدل يف القرآن يف مقام الشهادة والفصل يف املنازعة فقال هللا تعاىل:
وف َوأَ ْش ِه ُدوا ذَ َو ْي َع ْد ٍّل وف أَو فَا ِرقُوه ان ِمبَعر ٍّ "فَِإذَا بـلَغْن أَجلَه ان فَأَم ِس ُكوه ان ِمبَعر ٍّ
ُ ُ ْ ْ ُ ُْ َ َ َ ُ ْ
َلِل َوالْيَـ ْوِم ْاآل ِخ ِر َوَم ْن يَـتا ِق
ظ بِ ِه من َكا َن يـ ْؤِمن ِاب اِ
ُ ُ اد َة َ ُ ْ ُ َ ُ َ ْ
وع ي م ك ِ
ل ذ ِاِ
َلِل يموا ال ا
ش َه َ ِ ِ
م ْن ُك ْم َوأَق ُ
اَلِلَ َْجي َع ْل لَهُ َُمَْر ًجا"[الطالق ]2 :يف معرض احلديث عن مسألة الطالق وما يكون ا
فيها من أم ٍر ابملعروف .يقول الشيخ حممد الطاهر ابن عاشور يف هذا املعىن يف تفسريه
التحرير والتنوير " :فاملعروف يف اإلمساك :حسن اللقاء واالعتذار هلا عما فرط والعود إىل
حسن املعاشرة ،واملعروف يف الفراق :كف اللسان عن غيبتها وإظهار االسرتاحة منها"،2
مث ما يتبع ذلك من إشهاد العدول من الناس على ما نتج من اإلمساك أو املفارقة .يذكر
سيد قطب يف تفسري الظالل معىن قريبًا آخر يف مسألة الطالق ينطلق من بيان السنن
قائال" :وقد تضمنت هذه السورة بيان الوقت الذي ميكن أن يقع فيه اإلهلية يف الكون ً
،3
مدهوشا أمام هذا ً الطالق الذي يقبله هللا وجيري وفق سنته" مث يركمل" :يقف اإلنسان
احلشد من احلقائق الكونية الكربى يف معرض احلديث عن الطالق أمام هذا االحتفال
4
ومراعاة دقة احلكم واالهتمام " .وقد اجتمعت يف اآلية معاين العدل مقرتنة ابلرتوي ر
حاكما
ً متمثل يف :شهادة أهل العدل ٌ واتزانه واقرتانه املعروف واملبادرة به؛ وكأن العدل
وشاهدا على احلال وما يرتتب عليه ،واملظلة اليت جيتمع حتتها حىت املتخاصمون ً
ِ
"ومم َّْن َخلَ ْقنَا أ َّرمةٌ ِ
واملرمسكون واملفارقون .وقد جاء العدل بصيغة الفعل يف قوله تعاىلَ :
يَـ ْه ردو َن ِاب ْحلَ ِّق َوبِِه يَـ ْع ِدلرو َن" [األعراف ،]181 :وقال ابن جريج" :ذكر لنا أن نيب هللا
ضون".5 أيخذون ويعطون ويَـ ْق ُ صلى هللا عليه وسلم قال :هذه أميت! قال :ابحلق ُ
2حممد الطاهر ابن عاشور ،تفسري التحرير والتنوير ،سورة الطالق ،ص،308.-307
https://goo.gl/RLYEfK
3سيد قطب ،يف ظالل القرآن ،ص https://is.gd/sUm7nx ،3592
4املرجع السابق ،تفسري سورة الطالق ،وفيه أدب نفيس عن األسرة وما يرتتب على صالحها من االستقامة
يف اجملتمع.
5لالطالع على تفسري اآليةhttps://is.gd/3ktyBD :
116
اصطالحا عند الفقهاء واحملدثني فـرتجع إىل معىن واحد ،وهو أهنا" :ملكة، ً وأما "العدالة"
6
أي :صفة راسخة يف النفس ،حتمل صاحبها على مالزمة التقوى واملروءة " .واملعىن نفسه
ذكره الدكتور فوزي خليل عن الصالحية األخالقية املؤهلة للقيام بدور احلل والعقد أو
العدالة ابعتبارها قيمة ضابطة للحركة واملمارسة 7يف أثناء حديثه عن عنصري تصور العدل
يف الفقه السياسي اإلسالمي ودور عدول أهل احلل والعقد يف بناءات العدل يف اإلسالم،
اء ِابل ِْق ْس ِط َوَال املستنبط من قوله تعاىل" :اي أَيُّـها الا ِذين آمنوا ُكونُوا قَـ او ِام ِ ِ
ني اَلِل ُش َه َد ََ َ َُ َ َ
اَلِلَ َخبِ ِ ِ ِ ِ ٍّ
ري
ٌ ا ا
ن إ َْجي ِرَمنا ُك ْم َشنَآ ُن قَـ ْوم َعلَ ٰى أ اَال تَـ ْع ُ ْ ُ ُ َ َ ُ ْ َ ٰ َ ُ َ
ا
اَلِل وا ق ا
ـ تاو ى و قـات ل ل ب ْرـ قَأ وه وا لد عا وا لد
ِمبَا تَـ ْع َملُو َن"[املائدة .]8 :أو كما يقول حامد ربيع يف حبثه عن العدالة كقيمة سياسية
وأخالقية" :إن العدالة يف حقيقتها عالقة ابآلخرين ،وهي هبذا املعىن نوع من أنواع التعامل
أو منطلق ملفهوم النربل يف احلركة أساسه األول هو أن العالقة عالقةٌ إنسانية" .وابلرغم من
وضوح املعىن املتواتر يف اللغة واالصطالح الذي ال يفارق مدلوالت االستقامة والتوسط
غموضا يف املفهوم ،ويرى حامد ربيع أن" :التعريف ً واتباع احلق واملداومة عليه ،فإن هناك
ابلعدالة حىت هذه اللحظة ميثل إحدى املهام الصعبة اليت مل يستطع أن يواجهها الفقه
السياسي بصراحة ووضوح" .8وعليه ،تظهر الصعوبة يف التعريف حني يدخل املفهوم إىل
حيز املسألة االجتماعية بتعقداهتا وتشابكاهتا مع القيم واإلجراءات ومنطق املصاحل
ستخدما من كال ً واملواءمات يف حلظات الصراع؛ حني يظهر مفهوم العدل مرتب ًكا رم
نفصال عن مدلوله. داال رم ً املتصارعني وكأنه أصبح لفظًا ً
حماوال الوقوف على تصور املفكرين اإلسالميني عن مفهوم أييت هذا البحث ً
العدل/العدالة .والسعي إىل خط خريطة عامة لألنساق اإلسالمية على طول الفرتة املشار
عماد السيد الشربيين ،عدالة الصحابة رضي هللا عنهم يف ضوء القرآن الكرمي والسنة النبوية ودفع 6
الشبهات( ،مصر :دار اإلميان للطبع والنشر التوزيع ،)2006 ،ص .16
د .فوزي خليل ،دور أهل احلل والعقد يف النموذج اإلسالمي لنظام احلكم( ،املعهد العاملي للفكر 7
9د .جميد خدوري ،مفهوم العدل يف اإلسالم ،ترمجة دار احلصاد( ،دمشق :دار احلصاد للنشر والتوزيع ودار
الكلمة للنشر والتوزيع ،الطبعة األوىل) ،ص.20-17
See: Intertextuality: Theories and Practices, ed. Michael 10
Worton and Judith Still, (UK: Manchester University press, 1990),
pp: 1-33
118
السياق واملؤلف ،بصورة جتعل كالمها يف عالقة حوارية واسرتجاعية .يدفع هذا إىل تبين
وضا عن األخذ مبقاربة أرحادية؛ هي" :املبدأ احلواري للغة" ِ
جمموعة من املفاهيم املدخلية ع ً
مليخائيل ابختني ،و"التعايل النصي" جلريارد جينيت ،و"املفاهيم املتنازع عليها" لوالرت جايل.
أما املبدأ احلواري للغة ،Dialogismفهو مفهوم قدمه ميخائيل ابختني ً
حماوال به
بعيدا عن بنيتها النحوية اجملردة .11فاللغة عنده ينطقها إنسان،
مدخال لفهم اللغة ً
أن يتخذ ً
وهذا اإلنسان حييا يف سياق اجتماعي ،وعن طريق تفاعالت كثرية يظل هذا السياق يف
حامال لعالقات بني
وتداخل مركب؛ األمر الذي جيعل فعل التلفظ أبي كلمة ً ٍ ٍ
حترك
ومتوقعا لكلمة دوما استجابةً لكلمة تسبقه ِ
ً خماطـب وخماطَب؛ كما12أن هذا التلفظ أييت ً
أتيت بعده كاستجابة له .فهنا تظهر الكلمة اإلنسانية على أهنا داخلة يف سياق أوسع
من جمرد بنيتها اللغوية الساكنة .13والنصوص ،مبختلف أنواعها ،ال تشذ عن تلك الطبيعة
أيضا داخلةٌ يف ٍ
سياق أوسع من تلك البنية النحوية اجملردة.14 احلوارية عند ابختني؛ فهي ً
تغليب اتمٌّ "لوفاة املؤلف" وذوابنه يف
ٌ لكن ،على الرغم مما قد يبدو للوهلة األوىل أنه
السياق ،15فإن ابختني نفسه أقر أن املؤلف إبمكانه أن "خيتار" كيف يعكس السياق،
11تزيفتان تودوروف ،ميخائيل ابختني :املبدأ احلواري ،ترمجة :فخرية صاحل( ،بريوت :املؤسسة العربية
للدراسات والنشر ،)1996 ،ص .16
Graham Allen, Intertextuality, New York: Routledge, the 12
edition of Taylor & Francis e-library, 2006, pp:16-19
لكل من :ابخينت وتودوروف .حيث يراين أن آدم هو أول من تبعا ٍنستخدم مصطلح "الكلمة اإلنسانية" ً
13
تعامل مع األشياء مبوضوعية اتمة؛ حبيث أعطى كل شيء امسه .لكن "بعد هبوط آدم إىل هذا العامل مل تعد
هناك أشياء بال أمساء ،أو كلمات غري مستعملة" ،مبعىن أن بعد آدم صارت "الكلمة" داخلة يف عالقة متشابكة
ال ميكن احلكم عليها مبوضوعية اتمة .انظر :تودوروف ،ميخائيل ابختني :املبدأ احلواري ،مرجع سابق ،ص،16
وp.21 Allen, Intertextuality,:
Allen, Intertextuality, pp: 21-3314
"15وفاة املؤلف" هي عبارة أطلقها روالند ابرت يف ٍ
مقال له عام 1968حيمل االسم نفسه؛ انظر :
Roland Barthes, The Death of the Author, in: Roland Barthes,
119
ِ
نصه .16إن هذه الرؤية تفتح أف ًقا لقراءة النص على
ومن ورائه املبدأ احلواري نفسه ،داخل ّ
نص يف حالة من احلوار مع نصوص سبقته ،ومع نصوص يتوقع منها أن أتيت ٍ
كرد أنه ٌّ
ر
أيضا أن للمؤلف
عليه .كذلك فهي تؤكد أن حالة النص ليست مبعزل عن السياق ،وتؤكد ً
دورا.
ً
وعلى الرغم من اختالف املنطلقات املعرفية بني ابختني وجريارد جينيت ،فإن هلذا األخري
مفهوم "التعايل
َ مفهوما رميكن ضمه إىل املبدأ احلواري سابق الذكر .فقد قدم جينيت ً
ٍ
كمفهوم عام لقراءة العالقة بني النصي" Textual Transcendence
وفرع جينيت منه هذا املفهوم عدة عالقات تقوم بني النصوص ،18خنص 17
النصوص َّ .
ابلذكر منها العالقة "النصية املا ورائية" Meta-Textuality؛ وعىن هبا جينيت:
وجود عالقة توحد نصني عرب عملية من التعليقات واالستدراكات دون ذكر أحدمها
لآلخر .19.وألن البحث يف األنساق الفكرية قد يؤدي إىل وجود أكثر من نص مرجعي
120
أيضا مفهوم "املعمار النصي" ،Archi-textualityالذي عىن ما ورائي ،فنذكر ً
به جينيت :الشبكة الكلية من اخلطاابت وأشكال التعبري والتصنيفات اليت تساهم يف
إنتاج نص ما .20وقد تتعدد شبكة النصوص املاورائية تلك عند اإلسالميني سواء كانت
نصوصا قرآنية حاكمة أو أخرى متأثرة بسياقات اترخيية أو ثقافية حيث تتجاور مجيعها
ً
يف بنية النص املعمارية.
وهنا تبدأ اخليوط يف التشابك؛ إذ لسنا أنخذ من جينيت سوى هذا املستوى التحليلي
للعالقة بني النصوص -سواء بني نص ونص مرجعي بعينه ،أو بني نص وشبكة من
النصوص املرجعية -الذي رميكن أن نضيفه إىل مستوى العالقة بني النصوص السابقة
حتديدا؛ ألهنا يف هذه
والتالية اليت أشار إليها ابختني ،مع الرتكيز على النصوص السابقة ً
نصوصا ،فهي نصوص حاكمة. ً املقاربة رمتثل أكثر من كوهنا
وتوفر هذه املقاربة املزدوجة للنص ولعالقته مبؤلفه ،ومن ورائه السياق ككل ،إمكانيةً
للنظر يف اخلريطة الفكرية للنسق اإلسالمي املراد حبثه ،بصورة رمت ِّكـن من :ربط النص
بنصوص مرجعية ،ومن ربط النص بسياقه .ر ٍ
واباللتفات إىل مفهوم العدل ،جند أن تضمينه يف تلك املقاربة ميكن أن أييت عرب مفهوم
آخر قدمه والرت جايل حول طبيعة املفاهيم األساسية .21حيث يرى جايل أن هناك ثرلة
تنازعة ال تقبل تسوية
من املفاهيم املفتوحة لتأويالت متعددة حتمل يف جوهرها طبيعةً رم َ
وفق شبكة معقدة من التفاعالت هنائية .هي ذات املفاهيم القيمية ،واليت رحيكم عليها َ
املفاهيمية ،ويربز أحد مكوانهتا دون اآلخر مىت روضعت حمل التنفيذ ،واليت تقبل إدخال
وهجوما.22
ً دافعا
تعديالت فيها ،وترستخدم ً
Ibid.20
W.B. Gallie, Essentially Contested Concepts, Proceedings of 21
the Aristotelian Society, New Series, Vol. 56, (1955-1956), pp: 167-
198
Ibid., 180-18822
121
وبتضمني تلك الرؤية النفتاح املفاهيم يف املقاربة الثنائية سالفة الذكر ،يظهر مفهوم
العدل/العدالة على أنه مفهوم أتى يف سياق معني عن طريق مؤلفني هلم دور :فهو مفهوم
مرتبط بسياقه ،ومرتبط بشبكة من العالقات النصية املاورائية ،مما ميكن من الوقوف على
سالسل التغريات واالنقطاعات والتكامالت اليت تعرض هلا ،مث إمكانية اإلشارة إىل
السياق الذي ساهم يف تلك السلسلة.
البداايت" :العدل" إابن وبعد سقوط اخلالفة اإلسالمية عام 1924م
دائرا حول
بدايةً ،كان مناط اخلطاب حول العدل يف صدر اإلسالم بعد وفاة الرسول ً
سؤال الشرعية Legitimacy؛ فلمن شرعية احلكم؟ هذا السؤال أجج اخلالفات
الطوال يف تلك الفرتة وما تالها .ويف القلب من سؤال الشرعية ظهر مفهوم "العدل".
فوف ًقا جمليد خدوري ،انربى كل من أهل السنة والشيعة إىل القول أبن اإلمامة واجبة،
ولكي تصح اإلمامة يَلزم اإلمام أن يتصف ابلعدل ،مث اختلف كل منهما يف تعيني مناط
العدل. 23املهم أن بداية التصورات التأصيلية عن العدل خرجت من رحم أزمة سياسية.
ويف هذا املبحث الذي يتناول املفهوم بعد سقوط اخلالفة ،جند السياق املأزوم الذي مجع
بني :االستبداد ،واالستعمار ،وسقوط الدولة العثمانية الذي أعلن االنتهاء العملي للخالفة
اإلسالمية ومعها عدد من املمارسات والبىن االجتماعية .24إن هذه اخللفية هي األساس
يف رؤية املشاريع الفكرية ،أو حىت النظرات العامة لإلسالميني منذ ذلك الوقت .ولتبيان
النسق الفكري الناظم ملفهوم العدل يف تلك الفرتة ،وقع االختيار على عدة مفكرين وهم:
حممد رشيد رضا ،وعبد احلميد بن ابديس ،وحممد البشري اإلبراهيمي ،وشكيب أرسالن،
ابإلضافة إىل بديع الزمان النورسي.
23د .جميد خدوري ،مفهوم العدل يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص .20-19
See: Iza Hussin, The Politics of Islamic Law: Local Elites, 24
Colonial Authority, and The Making of The Muslim State,
Chicago: University of Chicago Press, 2016.
122
ونبدأ مبحمد رشيد رضا (1865م1935-م)؛ إذ يعد من أنبه تالمذة األستاذ اإلمام
حممد عبده (1849م1905-م) ،وقد اتبعه يف كثري من املسائل وخالفه يف غريها ،لكن
بلب املشروع اإلصالحي حملمد عبده ،ولعل املساحة األبرز لتداول ِ
مجع بينهما متسك رضا ّ
أفكار رضا كانت جملة املنار اليت أنشأها مبعاونة حممد عبده ،ولكن طرحه عن العدل
واحلكومة اإلسالمية بلغ ذروة اتساقه يف موضع آخر وهو "تفسري املنار" ،25األمر الذي
استوجب التوقف عند ِّ
نص التفسري ال اجمللة.
يــبدأ رشيد رضا بتأكيد ما ذهب إليه حممد عبده من أن العدل له عدة مصاديق :فهناك
العدل يف الدين ،والعدل يف الكون ،والعدل يف املعامالت الدنيوية .فأما العدل يف الدين
فحدُّه أن اإلسالم جاء "وسطًا" بني طرفني :النفي التام لإلله ،وتعدد اآلهلة ،كذلك بني:
املادية ،والروحانية؛ فاإلسالم قدم اإلله على أنه واح ٌد بال مثنوية ،وعلى أن أمته أمةٌ
ط .26وأما العدل الكوين ،أو الطبيعي كما أمسياه ،فهو وضع اإلله الواحد لسنن تتبع َو َس ٌ
احدا وتضبط كل شيء حبيث ترشري إىل وجوده يف األخري؛ فنظام الكون يقضي ظما و ً نَ ً
27
احدا وهو متام العدل .وأما عدل املعامالت فهو ما وقع فيه التفصيل؛ أبن له خال ًقا و ً
إذ له ركنان :ركن يوجب على احلاكم معرفة احلكم الشرعي ليحكم به ،وركن يوجب على
احلاكم انعدام امليل واهلوى وضرورة حتري فهم دعاوى املدعي واملدعى عليه.28
إن عدل املعامالت ينبين على رؤية شاملة للوضع اإلنساين .وميكن مجع أطراف تلك
الرؤية كالتايل :إن من عدل هللا وضعه لسنن يف الطبيعة تدل عليه ويهتدي هبا خلقه ،ومن
مؤهال ليكون ذا قدرة ومشيئة ،29وأن السنن
ضمن هذه السنن أمران :أن اإلنسان رخلق ً
25حممد رشيد رضا ،تفسري القرآن احلكيم (املشتهر ابسم تفسري املنار لألستاذ اإلمام حممد عبده) ،القاهرة،
دار املنار ،الطبعة الثانية ،1947 ،ويقع يف اثين عشر جزءًا .ويشري رضا إىل أن منهجه يف أتليف الكتاب هو
إمامـه .انظر :اجلزء األول ،ص .16
تدوين دروس حممد عبده ،مث االستدراك عليها مىت خالف فيها َ
26املرجع السابق ،اجلزء الثاين ،ص ،5واجلزء الثالث ،ص .256
27املرجع السابق ،اجلزء الثالث ،ص .256
28املرجع السابق ،اجلزء الثالث ،ص ،256واجلزء اخلامس ،ص .175-172
29املرجع السابق ،اجلزء الثامن ،ص .178
123
30
حر .ومن جهة أخرى، تسري على املسلم وغريه ،وعلى هذا األصل ينبين أن اإلنسان ٌّ
فهناك سنة اجتماعية تدفع البشر ليجروا التعامالت بني بعضهم البعض ،مما يوجب أن
ترنظم هذه املعامالت بطريقة تضمن عدم غلبة أحد على آخر31؛ وهذه الطريقة الناظمة
هي "عدل املعامالت" .ويصبح هنا حد العدل بني البشر أن يوصلوا احلق لصاحبه أبقرب
الطرق :وهي معرفة حكم الشريعة ،وحتري الفهم ،وانعدام اهلوى؛ وكل ما خيرج عن هذا
هو ظلم.32
إن هذه الرؤية على تقصيها معظم مناحي العدل مفاهيميًا ،إال أن تركيزها انصب على
عدل املعامالت أكثر من غريه .وهلذا ما يفسره :فإن شغل اجملتمع آنذاك كان االستبداد
فج يف مناحي احلياة املصرية ،بل واإلسالمية كافَّةً .وقد اختذ
واالستعمار وعملهما بشكل ٍّ
كأساس للقول أبن "احلكومة اإلسالمية" ٍ رشيد رضا ،ومن قبله حممد عبده ،هذه الرؤية
أصبحت مفقودة ،33وابلتايل ميكن إعادة النظر فيما ميكن أن تكون عليه تلك احلكومة
يف عصرمها ،أو الذي يليه.
ومن التصور العام هذا ننتقل إىل تصور حركي لدى عبد احلميد بن ابديس (1889م-.
1940م) وهو من أقطاب علماء اجلزائر ،ويرعد رائد النهضة اإلسالمية هبا ،وله جهود
كبرية يف مقاومة االستعمار الفرنسي .34ولعل هذه املواجهة املباشرة مع االستعمار اليت
خلقت حالة "استثنائية" فرضت من خالهلا سيادة فرنسا على بىن االجتماع اجلزائري هي
طور
مفهوما عن العدل ،وال ّ
ً مفتاح قراءة نصوص ابن ابديس .إن ابن ابديس مل يق ّدم
كمسلَّمة ميكن
خاص عن العدل ،وإمنا جاء العدل ر ٍّ شبكة مفاهيمية تفضي لتصور
124
الكشف عن معناها ابلنظر يف عدة مقاالت له رمجعت يف كتاب "آاثر ابن ابديس" ،ويف
تفسريه لبعض اآلايت كما جاء يف كتابه "يف جمالس التذكري من كالم احلكيم اخلبري".
بدايةً ،يروي ابن ابديس قصةً عن حاكم قتله رعيته ألنه "ظامل" ،وقد َّ
حد الظلم يف تلك
القصة القصرية أبنه اخلروج عن أحكام اإلسالم .35ميكن استنباط عدة أشياء هنا حول
تصوره عن العدل ،لكن لندع االستنباط املتسرع جانبًا ولنأخذ مبا قدمه هو يف تفسريه.
يرى ابن ابديس يف تفسريه أن احلكم ،أو "امللك" وف ًقا لتعبريه ،واليةٌ على اجملتمع تقتضي
العدل مناط امللك
عموم النظر ومشول التصرف لتسيري اجملتمع حنو غاية السعادة .مث جيعل َ
القومي ،ويضع له عدة شروط على رأسها :العلم ،واملساواة .فيجب على احلاكم أن يكون
عليما مبوضوع حكمه ،مث عليه أن يتحرى املساواة بني الكل بال تفرقة على أساس دين، ً
جنس ،لغة...إخل .فالعدل ،وف ًقا له ،هو وسط بال ميل .36ويرذكران هذا بتصور عدل
نظرا ألن ابن ابديس كان من أشد عجب من ذلك؛ ً املعامالت عند رشيد رضا ،وال
37
املتأثرين مبحمد عبده ورشيد رضا .
نظرا ملعاانة اجلزائر وقتها من
حتديدا وعدم امليل أييت ً
وتشديد ابن ابديس على املساواة ً
سياسات فرنسا االستعمارية اليت رسخت لعدم املساواة بني الفرنسي واجلزائري ،وف ًقا البن
ابديس نفسه .38ولعل تصوره عن العدل النابع من جتربته مع االستعمار هو ما أفضى به
حق
للحديث عن شروط الوالية الصحيحة اليت تدور كلها حول :وجوب أن يكون لألمة ُّ
35ابن ابديس" ،مصرع ظامل" ،قصة قصرية بتاريخ 1939م ،يف :آاثر ابن ابديس ،مرجع سابق ،اجمللد الرابع،
ص .291-290
36عبد احلميد بن ابديس ،يف جمالس التذكري من كالم احلكيم اخلبري ،مجع وترتيب :حممد شاهني وحممد
رمضان( ،بريوت :دار الكتب العلمية ،الطبعة الثانية ،)2003 ،ص .250 -249
37عمار الطاليب ،مدخل إىل احلياة العقلية والنهضة الفكرية ابجلزائر ،يف :آاثر ابن ابديس ،مرجع سابق ،ص
.45-44
مثال :ابن ابديس ،حقوق اليأس بعد الرجاء ،مقال يف :آاثر ابن ابديس ،اجمللد الرابع ،ص .369
38انظر ً
125
اختيار أكفأ أبنائها للوالية ،مث تقوم األمة مبراقبته وتقوميه ،ويقوم هو حبفظ احلقوق وإقامة
شرعها حىت حتقق األمة سعادهتا.39
وابالنتقال من ابن ابديس إىل رفيقه حممد البشري اإلبراهيمي (1889م1965-م) ،جند
أن العدل املقصود هو ابلفعل "عدل املعامالت" ،وأن ابعثه وهدفه مقاومة االستعمار.
ففي عدة مقاالت لإلبراهيمي حتت عنوان "حدثوان عن العدل فإننا نسيناه" نرشرت يف
أيضا تكشف عن تصور ابن ابديس عن عام 1950م ،جنده يوضح عدة أمور ،لعلها ً
العدل ،ومنها أنه ال قوام للعدل إال أبسس اجتماعية ،ويف مقدمتها :وجود عالقة حب
ومصلحة مشرتكة بني احلاكم واحملكوم ،مث تلك العالقة ستدفع ابحلاكم يف آخر املطاف
مساواي له ،وسريى احملكوم نفسه أنه من أتى ابحلاكم؛ فالعدل يبدأ
ً كي يرى احملكوم
40
بشعور مودة ينتهي إىل إقرار ابملساواة .ويصل هذا التصور ذروته مىت رأى اإلبراهيمي
أن الضامن الوحيد لعدم انفالت احلاكم وظلمه يف عصره مها :النيابة ،والصحافة .41مث
كال منهما يعمالن يف خدمة االستعمار؛ أي إن أدوات ضبط ذهب ليوضح كيف أن ً
42
العدل مالت إىل جهة دون أخرى .
إن تصور ابن ابديس واإلبراهيمي على ما حيمله من دوافع ملواجهة سيادة االستعمار،
أيضا رمسلَّمة أعمق ،لعلها موجودة ً
أيضا يف رؤية رشيد رضا .تلك املسلمة إال أنه حيمل ً
هي أن هناك جهتني للنزاع ،بل وللحوار ،يف عصرهم :االستبداد واالستعمار من جهة،
وجراء ظفر اجلهة األوىل مبقومات السلطان ،فإن اجلهة
واألمة اإلسالمية من جهة أخرىّ .
الثانية صارت مغلوبة على أمرها؛ وهذا عني انعدام املساواة .لكن يف األخري ،ال تزال
هناك "أمة إسالمية" يف ذلك الوجدان ،والسعي هو حنو حماولة إجياد صيغة متكن هذه
األمة من اسرتداد "حقها" مرة أخرى.
39ابن ابديس ،شروط الوالية يف اإلسالم ،مقال يف :آاثر ابن ابديس ،اجمللد الرابع ،ص.405-401
40حممد البشري اإلبراهيمي" ،حدثوان عن العدل فإننا نسيناه" ،يف :آاثر اإلمام حممد البشري اإلبراهيمي ،مجع
أمحد اإلبراهيمي( ،بريوت :دار الغرب اإلسالمي ،الطبعة األوىل1997 ،م ،اجمللد الثالث) ،ص .374-362
41املرجع السابق ،ص .365
42املرجع السابق ،ص .374-366
126
وبني كل من :رشيد رضا وابن ابديس ورفيقه اإلبراهيمي ،جند املفكر اللبناين شكيب
أرسالن (1869م1946-م) وحماولته استقصاء معامل أتخر املسلمني وتقدم الغرب .فهو
يقدم رؤية ألسباب أتخر املسلمني حتمل كل أركان تصور رضا وابن ابديس واإلبراهيمي
عن العدل .إذ يرى أن التأخر وقع نتيجة لـ :أ) علم املسلمني الناقص ،ب) فساد اخللق
بعامة ،وفساد احلكام بشكل خاص حىت ظنوا أن األمة ملك هلم ،ج) غياب الرقابة على
احلكام ،د) احلرص على الدنيا ،هـ) ترك العمل ابلسنن .مث يعقب على ذلك أبن متام
عدل هللا هو جمازاة املسلمني بتأخرهم .43فالعدل هنا متاشى مع تصور رشيد رضا عن
السننية ،ومع ضرورة الرقابة كما عند ابن ابديس واإلبراهيمي؛ فإسهام أرسالن مبثابة اجلسر
الذي ربط تصور ابن ابديس ورفيقه بتصور رشيد رضا.
مث -ويف مقر اخلالفة العثمانية برتكيا -يربز مشروع بديع الزمان سعيد النورسي
(1877م1960-م) وهو الذي وقف بعد هزمية الدولة العثمانية يف احلرب العاملية األوىل
حيث املسلمني على "اجلهاد" ،مث وقف أمام مشروع كمال أاتتورك الساعي حنو إقامة
44
فكرا وحرا ًكا "إصالحيًا"
قومية تركية و"أتميم اإلسالم" .ففي حني شهدت تلك الفرتة ً
يف املناطق العربية -كمصر ،والشام ،واملغرب العريب -متاشى مع خط برز فيه :سيد أمحد
خان (1817م1898-م) ،وخري الدين التونسي (1820م1890-م) ،ومجال الدين
األفغاين (1838م1897-م) ،وحممد عبده ،مث استكمله تالمذهتم ،وعلى رأسهم :رشيد
رضا؛ جند أن يف معقل اخلالفة العثمانية خطًا موازًاي لإلصالح أطلقه النورسي ،45األمر
الذي يستدعي إلقاء الضوء عليه.
مفهوم يستدعي مباشرًة البنيان املفاهيمي الكامل عنده؛ ولذاإن تصور النورسي عن أي ٍ
جاء تصوره عن العدل مرتابطًا .فيبدأ أبن هللا هو اخلالق األوحد ،وأن قرآنه مفسر للعامل
43شكيب أرسالن ،ملاذا أتخر املسلمون وملاذا تقدم غريهم؟( ،قطر :وزارة الثقافة والفنون والرتاث ،سلسلة
كتاب الدوحة ،طبعة ،)2015ص .73-53
44للوقوف على ترمجة بديع الزمان النورسي ،راجع :شكران واحدة ،اإلسالم يف تركيا احلديثة :بديع الزمان
سعيد النورسي ،ترمجة :حممد فاضل( ،القاهرة :دار سوزلر للنشر.)2007 ،
45إبراهيم حممد أبو ربيع" ،مقدمة" ،يف :اإلسالم يف تركيا احلديثة ،املرجع السابق ،ص .12-7
127
يتبق لنا سوى حماولة فك أسرار القرآنأبسره ،ويف قرآنه أكد هللا أنه هو "العدل"؛ فلم َ
لنقف على جتلي هذا االسم يف كتاب العامل .إن العدل ميزان كل شيء ،والعدل يف القرآن
هو جميء كل حرف على موضعه وف ًقا حلاجته وحكمة منزله؛ وابلتايل فالعدل يف العامل
هو أن كل جزء من أجزائه رخلق لغاية وحكمة وارتبط ابألجزاء األخرى بشكل متوازن،
حق حقه وفق استعداده.46 ويتفرع عن هذا -عنده -أن العدل يصبح :إعطاء كل ذي ٍّ
ع فيه ِ
ويرى النورسي أن اإلنسان وحده هو القادر على اخلروج على دستور العدل مبا أرود َ
من حرية؛ ولذا ينشأ عن اإلنسان املفاسد اليت هي عني الظلم .47ولكن الظلم اإلنساين
وقت مقدر لتوقفه فال يتمادى ويفسد نظام دوما ما يكون حمكوما هبداية إهلية تتدخل يف ٍ
ً ً
الكون أبكمله .48وقضت حكمة هللا أال يتوقف هذا اجلدل بني إمكانية إفساد اإلنسان
وبني العناية اإلهلية يف الدنيا؛ فالدنيا قاصرة عن شهود املثال التام للعدل الذي ال يتخلله
إفساد ،مما أوجب احلاجة للدار اآلخرة.49
وقد أشار النورسي إىل أن الشريعة اليت اشتمل عليها القرآن ما هي إال مثال العدل
دوما على عدم امليل إىل اإلفساد؛ فال عدل ممكن يف الدنيا إال
الدنيوي الذي 50حيث متبعه ً
ابتباع الشريعة .وداخل هذه الشريعة نوعان للعدالة :عدالة مطلقة ،وعدالة إضافية.
كل ،وأما اإلضافية :فتقع مىت جزء لصاحل أي ٍفأما املطلقة :فعدم جواز التضحية أبي ٍ
ّ
ِ
امتنعت العدالة املطلقة ،وتكون بذلك إمكانية التضحية ابجلزء من أجل ِّ
الكل ممكن ًة.51
وعلى هذا التصور العام بىن النورسي نقده "للمدنية الدنيوية" اليت تتبعها أورواب ومن سار
على أثرها :فهي يف نظره مدنية برنيت على أن اإلنسان ما يسعى إال للقوة ،وأن النزاع
بديع الزمان سعيد النورسي ،رسائل النور ،ترمجة :إحسان قاسم الصاحلي( ،القاهرة :دار سوزلر للنشر، 46
128
والتدافع جمبوالن فيه؛ األمر الذي يعين أنه مىت سنحت فرصة للخروج عن العدل لتحقيق
املصلحة ،فإهنا سترـستَــغل.52
تالق كثريًة مع اخلط اإلصالحي لعل أمهها :أن العدل شامل، إن لرؤية النورسي نقا َط ٍ
وأنه ابلشريعة ويف الشريعة .لكن انصب تركيز النورسي بشكل أكرب على إيضاح كيف أن
العدل ال خيتلف مصداقه ابختالف املوضوع قيد النظر؛ فال خيتلف العدل بني الناس عنه
بني املخلوقات ككل ،عن عدل هللا جتاه البشر مىت التزم اإلنسان ابلشريعة وأقامها.
احد تركا مساحة لتخيل نظام حك ٍم مبين على إن هذين اخلطني اجملتمعني يف جذر و ٍ
الشريعة؛ فبما أن العدل أساس انضباط الوجود البشري ،وأنه ال سبيل للعدل إال الشريعة؛
فيصبح نظام احلكم األمثل ابلشريعة وفيها .ولعل هذا رخيترب بشكل واضح يف اجلدل الذي
أاثره كتاب "اإلسالم وأصول احلكم" لعلي عبد الرازق عام 1925م .إذ تقوم حجته على
أن الشريعة ال يوجد فيها نظام للحكم ،مما يصادم النسق اإلسالمي سابق الذكر .53وقد
رد على الكتاب عدة إسالميني منهم :رشيد رضا ،وحممد خبيت املطيعي (1854م- َّ
1935م) ،وحممد الطاهر ابن عاشور (1879م .)1973-وسنقف هنا مع رد الطاهر
أوال :متثيله للتصور اإلسالمي املوضح ساب ًقا ،واثنيًا :كونه
بن عاشور جلمعه بني أمرين؛ ً
تنوعا للنص ويثريه.
مفكرا تونسيًا يضيف ً ً
يوضح ابن عاشور أن البشر حمتاجون إىل خطة إلدارة شأهنم؛ فاإلنسان مدين ابلضرورة.
دوما كانت قاصرة وقد قامت احلضارات كلها مبحاولة تقدمي رابطة جتمع البشر ،لكنها ً
ومل تكتمل إال ابإلسالم .فرابطة اإلسالم تضم كل الروابط السابقة عليها ،مث تنظمها وفق
لرابطة الدين الشاملة؛ مما يعين أهنا مفتوحة للجميع بال متييز .54ويف نظره تقوم هذه الرابطة
بفنـَّْيـن :فن القوانني الضابطة للمعامالت ،وفن رعاية األمة وردع عدوها؛ ويف كليهما يظهر
129
العدل على أنه أساس حموري .55فالعدل يف الفن األول هو ملكة متنع صاحبها من اقرتاف
طوعا ،56والعدل يف الفن الثاين هو
حق حقه ًكبائر ما حرم هللا وتدفعه إلعطاء كل ذي ٍّ
57
أصال إال ابلشريعة .وهذه األفكار
متكني صاحب احلق حبقه .فال سبيل لتحقيق العدل ً
تتجلى حني يرد ابن عاشور على علي عبد الرازق مبا يفيد أن الدين يسعى إلصالح
العاجل واآلجل ،وأن اخلالفة خطة مقصدها تدبري العاجل واآلجل حبكم الشرع حىت
تصل األمة إىل سعادهتا.58
ويظهر من تصور ابن عاشور ،الذي هو يف حقيقته امتداد خلط اإلسالميني يف ذلك
ضمين لنسق الفكر اإلسالمي على امتداده .فكتاابت عاشور ،ومعها الوقت ،استدعاءٌ ٌ
اخلط اإلسالمي يف ذلك الوقت ،ترى نفسها يف مرآة نص-ما ورائي Meta-text؛
دوما حول العدل ،ويف يرظهر نفسه يف التأكيد على الثوابت اإلسالمية اجملمع عليها ً
فمثال ،ابلرغم
التعليق الضمين أو املعلن على نصوص علماء اإلسالم على امتداد اترخيهً .
من مالحظة عدد من الناقدين أن مفهوم العدل يف النظرية السياسية احلديثة اقرتن بتصور
ميتافيزيقي معني عن احلرية ،وأن اقرتان العدل ابحلرية هو اقرتان حديث/معاصر خال منه
التصور اإلسالمي "التقليدي"59؛ فإن العدل قد ارتبط منذ تشكله مفاهيميًا يف التاريخ
اإلسالمي إبشكالييت القضاء والقدر واحلرية؛ اليت تدخل يف التصور اإلسالمي عن العدل
معاجلات يف السياق العريب( ،بريوت :املركز العريب لألحباث ودراسة السياسات ،)2014 ،ص .59
130
على مدار اترخيه ،لكن بصورة مغايرة للتصور احلديث .60وهذا االقرتان بني العدل
والقضاء والقدر وجد طريقه يف كتاابت اإلسالميني يف تلك الفرتة كما بيَّنا سل ًفا.
لكن على جهة أخرى ،هناك نقطة توتر يف العالقة بني نصوص إسالميي تلك املرحلة
عن العدل وبني النص اإلسالمي التقليدي احلاكم ،61كالتايل :إن النص اإلسالمي
"التقليدي" كان ابن بيئته؛ فهو يتحدث عن خالفة ونظام اجتماعي قائمني ابلفعل،
وحىت التهديدات اليت يتعرض هلا مل تكن هتديدات مشولية تسعى القتالع كل أثر يرشم
منه رائحة اإلسالم .أما احلالة مع االستبداد واالستعمار ،ابإلضافة إىل املمارسات
االجتماعية احلديثة املختلفة ،فقد وصلت ابخلالفة وبكثري من املمارسات االجتماعية
اإلسالمية إىل األفول .62وهنا يظهر اخلط اإلسالمي لتلك الفرتة ً
حماوال أتكيد والئه لنسقه
حماوال إجياد قدم يف هذا الواقع املضطرب .وجند أن
املاورائي التقليدي ،ويف الوقت نفسه ً
احلديث عن احلكومة اإلسالمية يغدو حديثًا عما ينبغي له أن يكون ابستمرار مع عدم
اإلسالمي
ّ إمكانية تقدمي حلول عملية من شأهنا التغلب على وطأته .وقد يتطور اخلطاب
-كما حدث بعد ذلك يف ستينيات القرن املاضي -يف تلك احلالة من الوقوع يف التسييس
التام ،أو إىل االلتجاء إىل خطاب الدعوة املهزومة كما يف حالة رفاعي سرور.63
انظر :د .جميد خدوري ،مفهوم العدل يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص .45-40وكان حلامد ربيع ٌ
تصور 60
عن قيميت العدالة واحلرية ،ابعتبار األوىل قيمة اتبعة عن احلررية ،سيتم احلديث عنه يف اخلامتة.
61يرقصد ابلـ"نص اإلسالمي التقليدي احلاكم" :جمموع نصوص علماء اإلسالم على مداره بدايةً من اجلداالت
بني السنة والشيعة عقب وفاة رسول اإلسالم ،وحىت القرن اخلامس عشر اهلجري .انظر يف ذلك :د .جميد
خدوري ،مفهوم العدل يف اإلسالم ،مرجع سابق.
See: Iza Hussein, The Politics of Islamic Law: Local Elites, 62
Colonial Authority, and The Making of the Muslim State,
Chicago: Chicago University Press, 2916; Brinkley Messick, The
Calligraphic state: textual domination and history in a Muslim
society, Berkeley: University of California Press, 1992.
63راجع كتاب أصحاب األخدود للشيخ رفاعي سرور ،دون دار نشر ودون اتريخ.
131
ويظهر هذا أشد ما يظهر يف التعامل مع مطالب الشريعة ،فبالرغم من التأكيد على أن
العدل ال قوام له إال ابلشريعة ،جند أن مقاربة هذا النسق للشريعة مقاربةٌ متوترة؛ فهو
ط واضح املعىن ويكتفي ابإلشارة إىل وجوب "العودة" إليها .هذه يرعاملها كأهنا كلٌّ مرتاب ٌ
الرؤية املتوترة حول ماهية الشريعة جعلت من كثري من مفكري هذه املرحلة ،ومن قبلهم
حتديدا ،يقبلون بتقنني الشريعة ويسعون حملاولة "إصالحها" متاشيًا معً حممد عبده
64
املمارسات احلديثة الواردة على اجملتمع ،وهو األمر الذي أدى يف األخري إىل اإلخالل
مبنطق الشريعة نفسها.65
من "العدل" إىل "العدالة االجتماعية":
خالل الفرتة من أربعينيات إىل ستينيات القرن العشرين ظهر جبوار اخلطاب حول العدل
ونظرا الرتباط هذا املفهوم بواقعه ،وبنصوص سبقته؛ حناول
مفهوم :العدالة االجتماعيةً .
استكشاف معامل هذه االرتباطات ابلرتكيز على مفهومني اثنويني ملفهوم العدالة
االجتماعية ظهرا منذ بداايت "اإلصالح اإلسالمي" ،وبلغا ذروتيهما يف اخلمسينيات
والستينيات ممهدين املساحة لظهور مفهوم "العدالة االجتماعية"؛ ومها مفهوما :املصلحة،
والتعاون.
مثال :حممد عبده" ،تقرير إصالح احملاكم الشرعية" ،يف :األعمال الكاملة لإلمام حممد عبده ،حتقيق:
64انظر ً
حممد عمارة( ،القاهرة :دار الشروق ،الطبعة األوىل ،)1993 ،اجمللد الثاين ،ص .283 :97وانظر تعليق
طالل أسد يف :تشكالت العلمانية يف املسيحية واإلسالم واحلداثة ،ترمجة :دينا فرختو( ،بريوت :جسور
للرتمجة والنشر ،)2016 ،ص ،312-310وص.338-334
65انظر يف ذلك :نوح فيلدمان ،سقوط الدولة اإلسالمية وهنوضها ،ترمجة :الطاهر بوساحية( ،بريوت :الشبكة
العربية لألحباث والنشر ،)2014 ،ص . 121-93ففي ذلك اجلزء يوضح فيلدمان كيف أثر تقنني الشريعة
قياسا.
جر حتليله على الفرتة حمل البحث يف هذا املبحث ً
يف عالقات القوة يف اجملتمع اإلسالمي ،وميكن ُّ
132
حامال نزعة رأمسالية صناعية ،66وق ّدم نفسه من خاللأتى االستعمار للعامل اإلسالمي ً
67
خمرتعاته اليت سلبت ألباب الكثريين حىت وصفها اجلربيت ابلــ"عجائب" من جهة ،ومن
جهة أخرى فقد قدم االستعمار إىل العامل اإلسالمي ثلة من األفكار واملمارسات
االجتماعية هددت الروابط االجتماعية التقليدية .68وفرضت هذه األوضاع على
اإلسالميني أن حياولوا الوصول إىل مقارابت تساعدهم على التفرقة بني :النتائج "املبهرة"
هلذه االخرتاعات وبعض من األفكار واملمارسات من جهة ،واألسس الفلسفية واألخالقية
مفهومي:
َ هلا من جهة أخرى .وعن هذه النقطة صدر عدد من املفكرين مستخدمني
"املصلحة" حملاولة االستفادة من مثار املخرتعات ،و"التعاون" لدفع األسس الفلسفية
واألخالقية اليت رأوها رمهلكة يف الدنيا واآلخرة.
فأما "املصلحة" ،فيمكن الكشف عنها ابلنظر يف كتاب شكيب أرسالن "ملاذا أتخر
املسلمون؟" ،إذ يستهل أرسالن تقدميه ملفهوم املصلحة بقوله" :وال أظن شيئًا يفيد اجملتمع
اإلسالمي يكون خمال ًفا للدين املبين على إسعاد العباد" ،واختذ أرسالن هذا املبدأ ليربر أن
املخرتعات احلديثة مبا أهنا ذات نف ٍع ،فهي مقبولة إسالميًا ،بل هي واجبة .69ليس أرسالن
133
بِ ً
دعا يف استخدام مفهوم "املصلحة" هبذا املعىن ،وإمنا هو مذكور يف كتاابت :سيد أمحد
73 72 71 70
خان ،وخري الدين التونسي ،ومجال الدين األفغاين ،وحممد عبده .
وأما "التعاون" ،فيمكن الكشف عنه من خالل كتاب رشيد رضا "اخلالفة" ،ففي هذا
أصل واحد :تدمريكال من االشرتاكية والرأمسالية جيتمعان على ٍ الكتاب يوضح رضا أن ً
74
األسس األخالقية الالزمة للفرد واجلماعة .وبني هذين النظامني ،تظهر احلاجة إىل إجياد
صيغة أخالقية لالقتصاد متتثل لألسس اإلسالمية ،وهي صيغة رآها رضا يف الشريعة .هذه
الصيغة هي :التعاون واألخوة فيما أمساه ابلـ "اشرتاكية املعتدلة" ،75وهي مبنية على التكافل
وم ْن سايره مفهوم "املصلحة" ضم رضا َبال إفراط وال تفريط .وإىل جانب هذه النقطةَّ ،
مرة أخرى للحكم على املمارسات االجتماعية واملؤسسات؛ فصار املعيار هو مدى خدمة
املؤسسة أو املمارسة للصاحل العام للمجتمع ،أخ ًذا يف االعتبار أن هذا الصاحل العام لن
يتحقق إال ابلتعاون.76
ومع بداايت احنسار املد االستعماري يف البلدان اإلسالمية ،إضافةً إىل ظهور ٍ
حتد
للمعسكر الرأمسايل من املعسكر السوفييت ،وصعود فكرة "دولة الرفاهة" يف ساحة الرأمسالية
ذاهتا عرب إسهامات جون كينز وتالمذته ،سنحت فرصة لإلسالميني أن يبدأوا يف ختيل
J. M. Balijon, The Reforms and Religious Ideas of Sir Sayyid 70
Ahmad Khan, Indiana: Indiana University Press, 1949.
71انظر :خري الدين التونسي ،أقوم املسالك يف معرفة أحوال املمالك ،تقدمي :حممد احلداد( ،اإلسكندرية،
مكتبة اإلسكندرية ،طبعة ،)2011اجمللد األول ،ص .12
Nikkie Kiddie, An Islamic Response to Imperialism: Political 72
And Religious Writing Of Sayyid Jamal Ad-Din Al-Afghani,
CA: University of California Press, 1983.
مثال :حممد رشيد رضا ،تفسري القرآن احلكيم ،مرجع سابق ،اجلزء اخلامس ،ص .226 ،212 ،9
73انظر ً
74حممد رشيد رضا ،اخلالفة ،مصر ،مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة ،طبعة 2015م ،ص .95
75املرجع السابق ،ص .75
76املرجع السابق ،ص .72 ،66
134
نظام حكم من شأنه استبدال االستعمار .77وابلطبع ،محلت مالمح هذا النظام التصورات
سك مفاهيم جديدة مثلسابقة الذكر عن املصلحة والتعاون األخالقي والعدل .بل وبدأ ُّ
"اشرتاكية اإلسالم" ،78و"األخوة" وعليها برنيت أفكار مجاعة "اإلخوان املسلمني" يف
تلك العقود .79كما ظهرت الدولة يف هذا اإلطار على أهنا حتمل إمكانية تطبيق تلك
املبادئ اإلسالمية . 80هذه اخللفية مهدت لظهور مفهوم "العدالة االجتماعية" وكل ما
يدور يف فلكه من قضااي .وللوقوف على النسق الفكري إلسالميي تلك املرحلة ،نعرض
فيما يلي لبعض كتاابت :أبو األعلى املودودي ،سيد قطب ،عبد القادر عودة ،وحممد
ابقر الصدر.
يبدأ أبو األعلى املودودي (1903م1979-م) يف حماولة لتأسيس النظام االجتماعي
على أسس أخالقية تتجاوز حمض األساس االقتصادي .81فهو يؤكد أن "العدل" كقيمة
عليا ال يعين ابلضرورة املساواة؛ فالبشر بفطرهتم متفاوتون ،ولكنه يعين إقامة اإلسالم
بكليته .82وإذا ما التفت إىل اجلانب االجتماعي للعدل/اإلسالم ،أصبحت املفردة
أمة قدر ٍ
كاف من املستخدمة هي "العدالة" :وهنا العدالة تعين أن يكون لكل ٍ
فرد وكل ٍ
ٌ
احلرية والسيادة الذاتية حىت ال يطغى أحد على أحد ،واإلسالم يضمن هذه اخلطة
صوب حتجيم
َ اجتماعيًا بتوكيده على التعاون والتكافل بني البشر انطالقًا من حريتهم
135
الطغيان .83ويف نظره ،إذا أرخذ اإلسالم بكليتهً ،
عدال وعدالةً؛ فإن امليزان املفقود سيرعثر
أخريا؛ فال الفرد يطغى على مصاحل اجملتمع ،وال اجملتمع يسلب حرية الفرد.84
عليه ً
أما سيد قطب (1906م1966-م) جنده يرقدم أكثر األطروحات متاس ًكا حول
كتاب له ابالسم نفسه .يبدأ قطب من أن اإلسالم "العدالة االجتماعية يف اإلسالم" يف ٍ
إمنا هو وحدة كلية؛ فإذا أراد أحدهم معرفة جزء منه ،فعليه العودة لتلك الوحدة ،ويسري
هذا على العدل/العدالة .85فاإلسالم كوحدة معناه أن :الكون صادر عن إرادة مطلقة
وحكيمة ،هذه اإلرادة نظمت كل جزء من الكون بطريقة متوازنة حتفظ عليه وجوده،
جماال للصراع.
كذلك فالطبيعة اليت هي مهد احلياة محلت يف طياهتا االنتظام؛ فهي ليست ً
حر من أجزاء هذا الكون ،فقد خصه هللا هبداية مستقلة جتعله يف ومبا أن اإلنسان جزءٌ ٌّ
توازن مع :نفسه ،الطبيعة ،الكون أبكمله .هذه اهلداية اخلاصة هي :شريعة اإلسالم،
وفق حدود املنهج اإلهلي.86
وحدُّها "التعاون" َ
وعلى هذا ،فالعدالة االجتماعية ليست فقط عدالة االقتصاد ،وإمنا هي عدالة شاملة
لكل مناحي احلياة متجهة حنو صالح حال اإلنسانية كلها ومآهلا .87وتقوم هذه العدالة
على أسس ثالثة؛ فأما األول فالتحرر الوجداين املطلق :وهو حترر النفس من شهواهتا
وحرصها على احلياة والرزق واملكانة ،88وأما الثاين فاملساواة اإلنسانية :فاجلنس البشري
كله متسا ٍو أمام هللا وشريعته بال فضل ألحد على آخر ،89وأما األخري فالتكافل
83أبو األعلى املودودي ،مفاهيم أساسية حول الدين والدولة ،ترمجة أمحد محدي( ،القاهرة :دار القلم ،طبعة
إلكرتونية) ،ص .131-130
84أبو األعلى املودودي ،احلكومة اإلسالمية ،ترمجة :أمحد إدريس( ،القاهرة :املختار اإلسالمي للطباعة والنشر
والتوزيع ،الطبعة الثانية1980 ،م) ،ص ،133أنظر أيضا :املرجع السابق ،ص .137
85سيد قطب ،العدالة االجتماعية يف اإلسالم( ،مصر :دار الشروق ،طبعة 1995م) ،ص .20
86املرجع السابق ،ص.27-21
87املرجع السابق ،ص .26
88املرجع السابق ،ص .44-32
89املرجع السابق ،ص .52-44
136
االجتماعي :وهو وجود مصلحة عليا للمجتمع واإلنسانية والدين تنتهي عندها حرية
ضماان
ً األفراد؛ وللتوفيق بني احلرية واجملتمع هناك مبدأ التكافل بني األفراد واجلماعات
هلذا امليزان بني الفرد واجملتمع.90
لعل ما يقابل مشروع قطب يف كليته هو مشروع آخر قدمه املفكر حممد ابقر الصدر
(1935م1980-م) ،وهو من أبرز مفكري شيعة العراق الذين امتد أتثريهم للمجال
الفكري السين .فقد سعى ابقر الصدر يف كتابه "اقتصادان" إىل استجالء معامل ما ميكن
أن يرصطلح عليه ابلــ"نظرية االقتصادية اإلسالمية"؛ وهي نظرية هلا أركان ثالثة :امللكية
املزدوجة ،واحلرية االقتصادية يف نطاق حمدود ،والعدالة االجتماعية .91وقد اعترب قِوام
العدالة االجتماعية :التكافل العام ،والتوازن االجتماعي .92مث استدرك ابقر الصدر وأكد
كل؛ فهي جزء من رؤية كلية تنبين على :العقيدة،
93
أن هذه الرؤية االقتصادية جزءٌ من ٍّ
املفاهيم اليت تنبين على العقيدة ،والعواطف اليت تفجرها تلك املفاهيم ،فكتابه "فلسفتنا"
يكمل رؤيته يف "اقتصادان".
من هذا اخلط الفكري ،على اختالفه املرجعي الظاهر بني سنة وشيعة ،ننتقل إىل كتاابت
شتغل ابلقضاء.
وم ٌ عبد القادر عودة (1906م1954-م) ،وهو صاحب فقه قانوينّ ر
ورأى عودة أن النظام اإلسالمي يقوم على :املساواة التامة بني البشر ،التقوى كمعيار
وحيد للتمايز ،العدالة املطلقة اليت ال متيل وال حتايب ،احلرية يف أوسع صورها ،األخوة
كأساس للمجتمع اإلسالمي ،االحتاد كخطوة إضافية لتحقيق كل اإلمكانيات الكامنة
يف األخوة ،التعاون ،االستخالف يف ملك هللا فاملال مال هللا وال حق ألحد أن يستأثر
حرصا على املصلحة العامة ،تفتيت الثروات:
به؛ وللدولة احلق يف التدخل االقتصادي ً
137
ابملرياث والزكاة واالقتطاع من أموال األغنياء وحترمي االكتناز ،واالستمساك ابلشورى.94
مستندا لنقد واقعه من كل جوانبه احلقوقية واالجتماعية
ً وقد اختذ عودة من هذه الرؤية
95
حبماسة صارخة
حمدودا يف "نظرية اإلسالم يف
ً ويف كتابه "املال واحلركم يف اإلسالم" يضع عودة مبحثا
ملكية املال" يرعطي فيه للدولة مساحة واسعة يف السيطرة على األموال لو ارأتت يف ذلك
منفعة عامة للجماعة لغرض حتقيق العدالة االجتماعية وتوزيع الثروة ،حني يقول" :إن
للجماعة بواسطة رممثليها من احلركام وأهل الشورى أن ترفع يد مالك املنفعة عن املال إذا
تعويضا رمناسبًا ."96يستهل
ً اقتضت ذلك مصلحة عامة ،بشرط أن تعوضه عن ذلك
عودة وظيفة الدولة يف توزيع احلقوق يف "مال هللا" جبباية الزكاة ،واإلنفاق؛ إنفاق التطوع
وإنفاق الفريضة .أما إنفاق الفريضة فهو ما رميكن أن "أيخذه احلاكم ليصرفه يف مصارفه،
رضي عن ذلك املستخلف أم كره ،"97أما اإلنفاق على ذوي احلاجة "فللحكومات احلق
أيضا يف أن أتخذ من أموال األغنياء ما يكفي حاجة الفقراء ،"98واحلد العادي يف اإلنفاقً
جيوز أن "أتخذه احلكومة اإلسالمية من فضول أموال األغنياء فرتدها إىل الفقراء ولو مل
يكونوا حباجة إليها إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة" ،99ويوافقه سيد قطب يف ذلك
عندما يستند يف كتابه "العدالة االجتماعية يف اإلسالم" فتوى للشيخ حممد أيب زهرة على
أن الزكاة هي احلد األدَّن من املال الذي جيب أخذه من مال َم ْن عليه الزكاة ،وأن الدولة
رميكن أن تستقطع من األموال ما يدفع املضار.
94عبد القادر عودة ،اإلسالم وأوضاعنا القانونية( ،عمان :دار أروقة للدراسات والنشر ،طبعة ،)2012ص
.123-105
95املرجع السابق ،ص .131-123
96عبد القادر عودة ،املال واحلكم يف اإلسالم ( ،جدة :الدار السعودية للنشر والتوزيع ،الطبعة الثالثة
1969م) ،ص .47
97املرجع السابق ،ص 52
98املرجع السابق ،ص 53
99املرجع السابق ،ص .62
138
يرى سيد قرطب -خالفًا لعودة -أن "العدالة االجتماعية يف اإلسالم شيء أكرب من
حق للجماعة ابألصل" 101مع "كراهة سياسة املال" ،100ولكنه رأى -كعودة -أن "املال ٌّ
102
اعي يف نسخته
احنباس الثروة يف أيدي فئة قليلة يف اجلماعة " .ولعل قضية اإلقطاع الزر ّ
املصرية كانت حاضرة يف أذهان قطب وعودة ابلشكل الذي جعلهما يستجيبان لتلك
القضية هبذا الشكل املتكرر خالل كتاابهتما ،حيث إن النصني يتحاوران بشكل ماورائي
Meta-textualityدون أن رحييل أحدمها إىل اآلخر بشكل مباشر ،بينما جتمع
بينهما مرجعية النظرة إىل الواقع االجتماعي وآفاته .ومحلت كتاابت قطب وعودة ميزة
قل أن روجدت يف كتاابتحماولة السعي يف سبيل تغيري موازين القوة اجملتمعية ،وتلك ميزة َّ
املفكرين اإلسالميني بعد تلك الفرتة .لكن اإلشكال احلقيقي يف تلك القضية ،هو تعريف
"املصلحة" و"املصلحة العامة" ومىت يتوجب على احلكومة سياسة املال وأتميمه ،خاصة
يف ظل هيكل دولة حديثة تقتات على آليات الضبط واملراقبة والعقاب.
آت على خلفية معقدة يبدو اخلط الفكري لتلك املرحلة شديد الرتكيب والتداخل؛ فهو ٍ
استشعر فيها اإلسالميون وجود فرصة للظفر يف عامل َعْرقَ َل التشكل الطبيعي للتجربة
ونظرا هلذا التعقيد والرتكيب ،فإن هذا املبحث سينظر يف التارخيية بسبب االحتاللً .
نص ماورائي حاكم .وعلى هذا ،خنرج "املعمار النصي" الذي يعكسه هذا النسق ،ال يف ٍ
بعدة مالحظات حول هذا املعمار النصي جنملها يف اآليت:
139
كلي وعام يضفي على سائر املبادئ قيمتها
فما بدأه هؤالء هو إدراج "املصلحة" كمبدأ ٍّ
103
القانونية من اجلهة الشرعية ،ابلرغم من التباينات بينهم .
مهما بني النسق اإلسالمي حمل البحث وبني النصوص اليت أنتجها لكن هناك فارقًا ًَّ
هؤالء :ففي فقه املقاصد كما بيَّنه الشاطيب وابن تيمية ومن سار على دربيهما ،يتطلب
الوقوف على املصلحة عملية معقدة من التحري الدائم بتوظيف ملكات اجتهادية بعينها
األصويل .أما النسق اإلسالمي املعاصر
ّ قل أن تتوافر إال يف "العلماء" ابملعىن اإلسالمي
َّ
حمل البحث ،فإن ما أنتجه االنقطاع عن الرتاث اإلسالمي من عالقة منهجية متوترة بني
العلوم الشرعية األصولية والعلوم االجتماعية احلديثة قد ترـ َو ِسع دائرة هؤالء العلماء لتشمل:
املفكرين وعلماء االجتماع والسياسة والتاريخ واالقتصاد وعلماء الطبيعة واألدابء
والصحافيني104.وال ميكن فهم تلك النقطة على وجهها إىل بعد إدراك أمرين :تفكك
دور العلماء التقليدي بعد "اإلصالحات العثمانية" ،وأتميم املؤسسة الدينية ابملعىن
احلديث كتاب ٍع للدولة يف خمتلف البلدان اإلسالمية ،105واألمر الثاين :حتول يف فهم
اتبعا هلا؛ مبعىن أن االجتهاد يف
"املصلحة" نفسها من كوهنا اتبعةً للشرع ،لكون الشرع ً
أوال ،بينما يف مرحلة النسق اإلسالمي املرحلة األوىل من التفكري املقاصدي اجته للشرع ً
106
حمال للمصلحة ؛ أوال" لكونه ً
املرصود هنا فإن التوجه أصبح يف الغالب إىل "الواقع ً
مثال :أرماندو سلفاتوري ،اجملال العام :احلداثة الليربالية والكاثوليكية واإلسالم ،ترمجة :أمحد زايد،
103انظر ً
أيضاTripp, op.cit, : (القاهرة :املركز القومي للرتمجة ،الطبعة األوىل ،)2012ص .295-270و ً
pp: 68-69
Ibid., pp:68-69104
105نوح فيلدمان ،سقوط الدولة اإلسالمية وهنوضها ،مرجع سابق ،ص .125-93
ونظرا خلصوصية احلالة املصرية ،انظرJakob Skovgaard-Petersen, Defining Islam :
ً
for the Egyptian State: Muftis and Fatwas of the Dâr al-Iftâ,
Social, Economic, and Political Studies of the Middle East and Asia
.(Leiden: E. J. Brill, 1997). pp. 431, Volume 31 Issue 2
106انظر :حممد سعيد البوطي ،ضوابط املصلحة يف الشريعة اإلسالمية( ،مؤسسة الرسالة ،طبعة .)1973
140
وذلك راجع إىل غياب املعرفة األصولية والفقهية لدى دارسي العلوم االجتماعية ،وغياب
التفكري السيسيولوجي عن الفقيه يف غالب األحوال ،مما أنتج تشظيًا معرفيًا يف العقل
اإلسالمي املعاصر.
ّ ر
اثنيًا :فتح هذا النسق ً
جماال لدور "الدولة" يف الشأن االجتماعي؛ وهو دور بلغ ابلكثريين
107
األخالقي .فال يرى
ّ -ومنهم عبد القادر عودة -إىل توسيع مهام الدولة يف الضبط
خلال يف اختصاصات الدولة اإلسالمية كما تصورها تسيطر على شؤون التعليم عودة ً
والتثقفيف اإلسالمي وترطبق ما أمساه "املبادئ اإلسالمية" يف االجتماع واالقتصاد واآلداب
108
كثريا عما رميكن أن
واألخالق وشؤون احلكم والسياسية ،وإن هذا التصور ال خيتلف ً
نفهم عليه الدولة احلديثة آبليات الضبط والعقاب اليت ابتكرهتا ،حيث كل شيء رميكن يف
النهاية تسييسه وإخضاعه ملفهوم الدولة املتوغلة حىت يف العالقات اإلنسانية والرتبوية.
وعليه ،فقد رأى أن السبب يف شيوع املظامل هو االبتعاد عن الشريعة اإلسالمية وأخالقها،
وجها من الصحة فإنه يتجاوز احلوار املفاهيمي حول الدولة احلديثةوإن كان ذلك حيمل ً
ومناسبتها ألسلمة هياكلها .وال ميكن ابلتايل هنا احلديث عن حاكمية نص إسالمي ر
تقليدي؛ ألن األمر يتعلق ابستبطان تصور عن الدولة يرقارب مفهوم "الدولة احلديثة" يف
صورته اهلوبزية.109
إن هذه التوترات يف النسق اإلسالمي حمل البحث ال ميكن عزوها إىل نص/نسق واحد،
وإمنا إىل شبكة معمارية من النصوص املاورائية متمثلة يف :النص اإلسالمي التقليدي،
ونصوص ذات نزعة حداثية عن الدولة واجملتمع ،نصوص حول دور الدولة االقتصادي
معا؛ على أن هذه االنتقادات استبطنت مستمدة من :نقد أسس الرأمسالية واالشرتاكية ً
مفاهيما مستنبطة من التجربة احلداثية .هذه الشبكة املعمارية ال ميكن هلا أن تنتج
ً أيضا
ً
اضحا تصل فيه مساحات الضبابية املفاهيمية إىل أدَّن صورها كما يرنتَظر.
ً و متكامال
ً ا ق
نس ً
107عبد القادر عودة ،املال واحلكم يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص .130-99
108املرجع السابق ،ص .71
109حول استبطان النسق اإلسالمي ملفهوم الدولة مبعناه احلديث ،انظر :هبة رءوف عزت ،اخليال السياسي
لإلسالميني ما قبل الدولة وما بعدها( ،بريوت :الشبكة العربية لألحباث والنشر ،الطبعة الثانية ،)2015 ،ص
.91-71
141
لكن اتساع املساحة الضبابية ساق تلك املنظومة الفكرية إىل مرحلة قبول "البنوك
اإلسالمية" والسعي حنو إقامة "اقتصاد إسالمي" يف سبعينيات القرن العشرين ،كما سنرى.
العدالة االجتماعية مرة أخرى:
قد انتهى املبحث السابق إىل أن مفهوم "العدالة االجتماعية" ،وما اشتبك معه من سياق
مكـنت من قبول فكرة "االقتصاد اإلسالمي" و"البنوكومفاهيم ،أنتج مساحة ضبابية َّ
اإلسالمية" .ميكن الوقوف على سياق سعي اإلسالميني إلقامة نظام اقتصاد إسالمي
ملعرفة التصور العام عن "العدل/العدالة" على طول الفرتة من أواخر تسعينيات القرن
العشرين وحىت الثورات العربية وتَبِعاهتا على عالقات القوة وفرص العدالة.
ففي أواخر الستينيات وبداايت السبعينيات بدت الدولة املتضخمة overstated
الشعوب عليها -مبا فيهم -كما وصفها نزيه أيويب -خميبة لآلمال اليت علقتها ر
ً َ
اإلسالميون .فقد ارتفعت نسب البطالة ،وزادت مظاهر عدم قدرة هذه الدولة على توفري
حد الكفاف لقاطنيها .110ومن جهة أخرى ،بدأت الرأمسالية يف طوٍر جديد هلا أتخذ
معتمدا
ً شكال أكثر حدة111؛ األمر الذي جعل إمكانية إجياد بديل عملي عن الرأمسالية
ً
أيضا
أمرا غاية يف الصعوبة .ويف الوقت نفسه ،مل تعد وعود االشرتاكية قابلة ً
على الدولة ً
112
للتنفيذ يف ظل السياق العاملي .خبالف انعدام وجود "برانمج فعلي إلمكانية تطبيق
"االشرتاكية اإلسالمية" اليت متاهت سل ًفا مع مفهوم "العدالة االجتماعية" بشكل واضح.
142
ظلت الرأمسالية غري مقبولة األسس عند اإلسالميني نظرًاي ،113واجتهوا إىل حماولة إجياد
بعيدا عن الدولة من
بديل فعلي حيقق "التوازن اإلسالمي" املرجو بني األسس والنتائج ً
جهة ،وبشكل أكثر فعالية من االشرتاكية من جهة أخرى.114
نصا ميكن البناء عليه لتشكيل مساحة كان كتاب "اقتصادان" حملمد ابقر الصدر آنذاك ً
إسالمية تستطيع بناء تصور بديل عن الرأمسالية .ففي وجهة نظر ابقر الصدر ،ميكن
ٍ
كمذهب من املعتقدات التفرقة بني :االقتصاد كعل ٍم خيلو من األحكام القيمية ،واالقتصاد
واملفاهيم النابعة من جتربة معينة بقيم معني .115وعليه ،ميكن إقامة "اقتصاد إسالمي"
وإزاحة املعتقدات واملفاهيم والقيم الغربية ،وإحالل مثيالهتا اإلسالمية .وقد القت هذه
اسعا من عدد من الكتاب واملفكرين اإلسالميني الذين حاولوا أن يرقيموا ترحااب و ً
التفرقة ً
116
فضال عن مالءمة "علم اقتصاد إسالمي" ميكن أتصيله على خلفية إسالمية حبتة ً ،
الفكرة لشرعية بعض األنظمة اليت رفعت شعارات اإلسالم واليت استثمرت يف صناعة هذه
األفكار وتبين بعض مناذج تطبيقها ،وقد برنيت على هذه املقدمات واحملاوالت فكرة
"البنوك اإلسالمية" فيما بعد .لكن ،يف حني بدأت تلك البنوك اإلسالمية كمؤسسات
ذات طاب ٍع إسالمي خالص ختدم أهدافًا إسالمية بدورها ،انتهت يف التسعينيات إىل
الدخول يف "السوق العاملية" لتصبح جمرد بنوك رأمسالية الطابع.117
113سيد قطب له كتاب صغري من املفيد قراءته يف هذا التحليل ،بعنوان :معركة اإلسالم والرأمسالية( ،القاهرة،
دار الشروق.)1993 ،
Tripp, op.cit, pp.103-105114
115حممد ابقر الصدر ،اقتصادًن ،مرجع سابق ،ص .29-28
منهم :حممود حممد نور ،االقتصاد السياسي اإلسالمي املقارن( ،القاهرة ،جامعة األزهر1978 ،م)؛ 116
يوسف كمال ،أضواء على الفكر االقتصادي اإلسالمي املعاصر( ،مصر :دار األنصار)1980 ،؛ حممد
الفنجري ،ذاتية السياسة االقتصادية اإلسالمية وأمهية االقتصاد اإلسالمي( ،القاهرة :اجمللس األعلى للشؤون
اإلسالمية.)1993 ،
Tripp, op.cit, p. 149117
143
ويف احلقيقة ،فإن البنوك ليست أدوات للتنمية وإقامة العدل ،ولكن أدوات تعبئة موارد
مالية واستثمار ابألصل ،118وقد كان احلافز من إقامتها هو حماولة بناء تعامالت إسالمية
فرصا لالستثمار ابستخدام هياكل وقنوات مالية ربوية ابألساس قد تبدو
غري ربوية حتفظ ً
حتايال أخالقيًا على مفهوم الراب يف اإلسالم يعفي الذمم من مغبة السؤال.
ً
نظرا لتوقيتها مع
حتديدا ً
أمرا هينًاً ،
مل تكن حماولة التجربة البنكية اإلسالمية لتقدمي بديل ً
بداية القرن احلادي والعشرين .إذ بدت قوى السوق العاملية يف مفتتح هذا القرن إىل
نوعا من االستعمار اجلديد
جانب سياسات التكيف اهليكلي للمنظمات الدولية رمتثل ً
للعامل اإلسالمي .119كذلك ،بدأت فئات وشرائح اجتماعية جديدة تتشكل يف ظل
العوملة داخل العامل اإلسالمي حاملةً لقيم استهالكية .120ابإلضافة إىل خطاب "مكافحة
برجي التجارة العامليني يف احلادي عشر من سبتمرب 2001م اإلرهاب" بعد حادث َ
والتضييقات األمنية على اإلسالميني داخل دوهلم .ويف مثل هذا السياق ،ميكن فهم كيف
الحظ
أعاد إسالميو هذه املرحلة ،وحىت الثورات العربية ،تصور "العدل/العدالة" .إذ ير َ
خفوت احلديث عن "العدالة االجتماعية" من جهة ،وكذلك يالحظ غياب تقدمي
تصورات جديدة عن العدل من جهة أخرى .ويف هذا املبحث نقف مع عدة مفكرين
144
الختبار تلك الفرضيات ،وهم :يوسف القرضاوي ،حاكم املطريي ،ابسم جرار ،سليم
العوا ،وحسني نصر.
بدايةً ،أييت يوسف القرضاوي (1926م )...-يف كتابه "خطابنا اإلسالمي يف عصر
وم ْن
كدا على أن حلول القضااي الشائكة موجودة يف اإلسالم ،ويؤكد أن ه َ العوملة" مؤ ً
121
سار على هنجه وسار على هنجهم من اإلسالميني ،لطاملا بيَّنوا حقيقة تلك القضااي .
نظرا للواقع اجلديد املفروض على اإلسالميني ،يرى القرضاوي أنه توجب تغيري لكن ً
مضمون بعض تلك القضااي ،أو تعديل أسلوب بعضها ،أو تغيري سلم أولوايت البعض
اآلخر ،وف ًقا ملا يقتضيه الواقع -دون مساس بثوابت الدين .122وقد جاء طرحه عن
العدالة غري مستفيض؛ األمر الذي يرشري إىل أنه ليس ابلقضية اليت يضغط الواقع إلعادة
ترتيب سلم أولوايت.
يف كتابيه "اجملتمع اإلسالمي الذي ننشده" و"الصحوة اإلسالمية ومهوم العامل العريب
مالمح هلذا التصور .فالعدل عنده قيمة عليا من قيم اإلسالم ،ومعناه:
َ واإلسالمي" ،جند
إعطاء كل ذي ٍّ
123
حق حقه .ويتفرع عن هذا العدل ،نوع آخر هو "العدل االجتماعي"،
وهو :العدل يف توزيع الثروة ،وتوفري الفرص املتكافئة للجميع ،وإعطاء العامل مثرة عمله،
وتقريب الفوارق بني الطبقات .وقد جعل عماد ذلك :الزكاة .وأما عن مصداق العدل يف
السياسة ،فجاء أن الدولة اإلسالمية عادلة ،دون تفصيل .124ابلطبع ميكن اعتبار كتابه
الضخم عن الزكاة هو أطروحته املركزية عن هيكل العدل ،لكن اإلشكالية يف أن ذلك
121يوسف القرضاوي ،خطابنا اإلسالمي يف عصر العوملة( ،القاهرة :دار الشروق ،)2004 ،ص .9
122املرجع السابق ،ص .10
123يوسف القرضاوي ،مالمح اجملتمع املسلم الذي ننشده( ،القاهرة :مكتبة األسرة ،)1993 ،ص -192
.198
124يوسف القرضاوي ،الصحوة اإلسالمية ومهوم الوطن العريب واإلسالم( ،القاهرة :مكتبة وهبة،)1997 ،
ص .73-70
145
مغلق ال يسوق آليات اإلزاحة واالستبدال املتاحة أو املمكنة للمنظومة الرأمسالية
اخلطاب ٌ
125
العاملية القائمة .
أما سليم العوا ( )...-1942فينطلق من تقرير أن العدل مبدأ شامل ،ال يقتصر على
نشاط إنساين دون آخر ،أو فرد دون فرد .ويقدم العوا مفهوم "العدل" دون بيان معناه،
سوى أنه انتفاء الظلم وامليل .مث يذهب لتأكيد أن العدل يف النظرايت الغربية هو العدل
أيضا على البعد
لكل حقه .ويؤكد ً القضائي فقط ،أما يف اإلسالم فهو عدل أمشل يضمن ٍ
"اإلسالمي" الضامن لـ"حقوق اإلنسان" ،126يف َغلبة للمنطق القانوين رغم ذلك ،وغياب
لبيان طبيعة اجملتمع الذي حيقق العدل ما دام العدل ليس قضائيًا فحسب.
وجند بسام جرار ) (1948-...هو اآلخر متحد ًاث عن العدل دون حتديد تعريف له،
أيضا قيمة شاملة .لكنه يستفيض يف شرح لكنه يردخله يف كل األنشطة اإلنسانية؛ فهو ً
اقتصاداي؛ فأصل املشكلة االقتصادية -عنده -هو ظلم اإلنسان
ً مدى أمهية تلك القيمة
ألخيه اإلنسان ،وجور القوي على الضعيف .أما اإلسالم فيعدل امليزان بني الطرفني أبن
يؤكد على :أن اإلسالم أوجب تداول الثروة ،ونفى فكرة "ندرة املوارد"؛ مما يعين أن
اقتصاداي أفاض فيه الفقهاء.127
ً عادال
نظاما ً
رسـخ ًاإلسالم ابلفعل َّ
أما حاكم املطريي ( ،)...-1964فلعله أعاد ترتيب سلم القيم يف اجملتمع اإلسالمي
على "احلرية" اليت هي يف متام الوفاق مع العدل عنده؛ فالغاية من الشريعة هي حتقيق
العدل بتحرير اإلنسان من كل شيء سوى هللا .128وعلى هذا املبدأ أقام املطريي أحباثه
125د .يوسف القرضاوي ،فقه الزكاة ،جزأين( ،بريوت :مؤسسة الرسالة.)1973 ،
126حممد سليم العوا ،يف النظام السياسي للدولة اإلسالمية( ،القاهرة :دار الشروق ،الطبعة الثانية2006 ،م)،
ص.206 ،205-201
127بسام جرار ،الفكر اإلسالمي( ،فلسطني :مركز نون للدراسات واألحباث القرآنية ،)2006 ،ص ،150
.265 ،191 ،181
128حاكم املطريي ،احلرية أو الطوفان( ،بريوت :املؤسسة العربية للدراسات والنشر ،الطبعة الثالثة،)2008 ،
ص .272
146
دوما ،وأن بغياهبا هتلك
حماوال إبراز كيف أن "احلرية-العدل" الزمت اإلسالم ً
التارخيية ً
األمم والشعوب.
ولو شئنا املقارنة سنجد أن ما قدمه الفيلسوف اإليراين األصل حسني نصر (1933-
وضوحا من هذه احملاوالت ،فقد بدأ بتقرير أن العدالة
ً ) ...بصدد العدل يكون أكثر
مبهما .والعدالة اإلسالمية تبدأ بتوكيد
شعور فطري لدى اإلنسان ،حىت وإن كان تعريفها ً
أن العدل حيتاج طرفني على األقل؛ فهو إعطاء كل ذي ٍّ
129
حق حقه .وأبرز قيمة يف سلم
العدالة اإلهلية هي امليزان؛ فقد خلق كل هللا كل شيء وفق ميزان حىت حييا كل خملوق مع
اآلخر بشكل متعادل .130ويتفرع عن وجود عدالة إهلية وجود عدالة إنسانية .هذه األخرية
أوال للقرآن والسنة ،فإن مل جيد احلكم فعليه إبعمال عقله وفطرته
تعين أن يعمد اإلنسان ً
وف ًقا لكليات الشريعة .ويؤكد نصر أن هذه الصورة عن العدالة ترلزم املسلم أبال يرضى
ابلظلم؛ مما جيعل اجلهاد فريضة مىت وجد الظلم.131
إن هذه التصورات عن العدل/العدالة هي تكرار لتصورات املرحلتني السابقتني دون تقدمي
شيء جديد بشكل جذري ،ويرالحظ غلبة التربير والرغبة يف توكيد أصالة "التصور
اإلسالمي" على حماولة االشتباك مع الواقع وف ًقا ملفهوم العدل ،خبالف ما حدث الح ًقا
يف مرحلة "العدالة االنتقالية".
العدالة االنتقالية:
حمورا إلقامة
إن النصوص اإلسالمية حول مفهوم العدل ،مبختلف مراحلها ،جعلت منه ً
اجملتمع؛ ولذا ميكن أن نشري إىل أمهية مرحلة الثورات العربية للنسق اإلسالمي بشكل عام،
فهي مرحلة شهدت تغريات مجَّة على األصعدة االجتماعية والسياسية واالقتصادية كافَّةً،
من جهة ،وكذلك هي مرحلة وجد فيها اإلسالميون فرصةً لدخول معرتك السلطة والبدء
وعمال إلجياد أرضية هلم يف واق ٍع بدا أنه قيد التشكل ،من جهة أخرى.
فكرا ً
يف التحرك ً
129سيد حسني نصر ،قلب اإلسالم :قيم خالدة من أجل اإلنسانية ،ترمجة :داخل احلمداين( ،بريوت :مركز
احلضارة لتنمية الفكر اإلسالمي ،)2009 ،ص .266-263
130املرجع السابق ،ص .270-268
131املرجع السابق ،ص .301-279
147
موفورا يف دعم العمل اخلريي واإلغاثي جهدا تنظيميًا ً
لقد أفرد اإلسالميون احلركيون ً
ونصا
والنشاط النقايب .ورميكن اعتبار تلك اجلهود حالةً من املراجعة احلركية ملفهوم العدلً ،
جتنيدي؛
ّ سياسي
ّ عاشا يف حماولة االشتباك معه رغم ما غلف تلك اجلهود من خطاب رم ً
كإدخال األعضاء اجلدد يف دائرة الربط العام أو الدعوة الفردية للحصول على دع ٍم وحشد
انتخايب كما يف حالة مجاعة اإلخوان املسلمني يف مصر ،132وأصبحت حماولة بناء رأس ّ
مال اجتماعي من خالل شبكات العالقات االجتماعية اليت يكوهنا اإلسالميون دون
فكري ترتكز عليه خالل عملهم اجملتمعي اخلريي أو اإلغاثي أو حىت سيطرهتم على أساس ّ
االحتادات الطالبية وتقدميهم خدمات تعليمية للطالب يف السبعينيات ،مث التنافس على
املناصب القيادية يف النقاابت املهنية والتعليمية يف الثمانينيات مث أدائهم املحاسيب والرقايب
دمات االجتماعية يف الربملاانت اليت تعاقبوا عليها مىت أرتيحت هلم الفرصة ،أو حىت اخل ر
الشاملة اليت قدمتها اجلماعة إىل املهاجرين من الريف إىل املدينة .133كل ذلك مت دون
حقيقي بضرورة تغيري موازين القوى على األرض لصاحل العدل االجتماعي ،ودون ّ وعي
اإلسالمي املعاصر اليت أنتجتها احلداثة
ّ اشتباك مع القضااي العالقة يف قلب االجتماع
جديدا للحياة يتواءم فيه اإلسالم أبخالقها وما يتبعها من ثقافة استهالكية أنتجت منطًا ً
ومزاج السيولة الذي أنتجته تقنيات الذات ما بعد مع السوق ومنطق ال رفرجة واالستعراض ِ
اجع إىل غلبة السياسي
احلداثية اليت تعصف ابألخالق اإلسالمية .ويف احلقيقة ،إن ذلك ر ٌ
وتضخيمه على الدعوي 134من انحية ،والتعايل على املعرفة السوسيولوجية األكادميية يف
اليومي واملعاش يف خربة الدعوة الفردية ّ مقابل االهتمام ابملعرفة التقنية والتطبيقية لصاحل
ر
واحلشدية ،من انحية أخرى .فلم تكن رهناك فرصة حقيقية ملراجعة احلركي/اليومي لصاحل
جديدا من الوجود
ً خربة أكثر نظرية ،وابلتايل أكثر تفسريية قد تعطى للحركة بـر ْع ًدا
136عبد الصبور عقيل ،حراك الريف :جبل األمل الذي طفا على السطح ،السفري العريب،
https://is.gd/0wSaOW
150
عدد من الربامج ملتابعة حالة حقوق اإلنسان واملصاحلات بشىت أنواعها .137وظلت
عالمات استفهام كبرية يف البحث يف قضااي ختص العدالة االنتقالية ،منها قضية الريف
اقتصاداي وسياسيًا .ويرفتح ملف العدالة االنتقالية من جديد يف خضم
ً املغريب 138املهمش
االحتجاجات املتتابعة يف الريف املغريب اليت يتباين موقف اإلسالميني منها حسب درجة
السلطة .انتهى مسار العدالة االنتقالية يف العام 2010دون أن تكون رهناك القرب من ر
ذراع قضائية ترعطي فرصة أخرى للعدالة يف املغرب؛ بسبب غياب اإلرادة السياسية اليت
تعمل حنو عدالة انجزة ،واعتبار التحالفات السياسية يف املشهد السياسي املغريب اليت يف
ميكث اإلسالميون يف القلب منها.
أما تونس ،فقد مرت جتربة العدالة االنتقالية يف تونس مبرنعطفات شىت ،وأسهمت حركة
النهضة اإلسالمية -اليت حازت على النصيب األكرب من مقاعد اجمللس الوطين التأسيسي
-يف إقرار مشروع للعدالة االنتقالية ،139ومع تويل احلركة احلكم أرنشئت وزارة "العدل
وحقوق اإلنسان والعدالة االنتقالية" ،مث يف ديسمرب 2013أرنشئت "هيئة احلقيقة
والكرامة" كهيئة مستقلة للنظر يف عناصر العدالة االنتقالية ومساحتها اليت أقرها الدستور،
كما تعاونت اهليئة مع هيئة األمم املتحدة للمرأة إلدماج ملف العدالة اجلندرية يف مسار
العدالة االنتقالية 140لإلشراف على قضية العدالة االنتقالية .ونص القانون على مشول
العدالة االنتقالية لكل من ملف حقوق اإلنسان واجلرائم اإلدارية وجرائم الفساد املايل،
وأرنشئت وف ًقا لذلك هيئة احلقيقة والكرامة .وظل قضية العدالة االنتقالية يف تونس تسري
137عمرو السراج ،جتربة العدالة االنتقالية يف املغرب ،اهليئة السورية للعدالة االنتقالية ،يناير 2014م ،ص
.7-5
138من ذلك :بيان مجاعة العدل واإلحسان ابحلسيمة حول احلراك الشعيب يف الريف ،الصادر عن :املوقع
الرمسي للحركة ،بتاريخ 17 :مايو 2017مhttps://goo.gl/W6ajgm .
139قانون العدالة االنتقالية -تونسhttps://goo.gl/GYYzZW -
Dr. Kora Andrieu, Confronting the Dictatorial Past in 140
Tunisia: The Politicization of Transitional Justice, Justice Info,
August 31, 2015. url: https://is.gd/esfpH4
151
ببحث امللفات املقدمة واملظامل وبدء اجللسات العلنية للضحااي رغم املشكالت اإلدارية
اليت واجهت اهليئة ،ومشكالت النفاذ إىل ملفات األرشيف احلكومي أو ما أمسته اهليئة بـ
"سلبية املؤسسات العمومية يف متكني اهليئة من النفاذ إىل األرشيف" ،141وكما أوضحت
رئيسة اهليئة سهام بن سدرين ،فإن تلك العرقلة يف الوصول إىل األرشيف الرائسي كانت
أيضا يف عهد الرئيس السابق -شريك النهضة يف احلكم -منصف املرزوقي ،142والذي ً
اهتم النهضة بعد انتهاء واليته بتعطيل مسار العدالة االنتقالية ،وتعطيل خروج ملفات
أرشيف الرائسة ملساعدة اهليئة.143
وابلرغم من الوضوح املؤسسي الذي قد يبدو يف أول نظرة لتلك اإلجراءات ،فإن مشهد
العدالة االنتقالية املرتبط يفتح الباب أمام رؤية أحد أهم املفكرين اإلسالميني بتونس؛
راشد الغنوشي ،مبا حيمله من ٍ
ثقل يف الفكر واحلركة اإلسالمية املعاصرة أمام تضخم احلركي
ر على حساب الفكري يف احلركة اإلسالمية يف مصر.
ففي تعليقه على مقرتح هذا املشروع عام 2015م ،ميَّـز الغنوشي بني املصاحلات املالية
من جهة ،وبني العدالة االنتقالية من جهة أخرى .ويقع مدار العدالة االنتقالية عنده على
قضية حقوق اإلنسان بصورهتا الواسعة ،واملتأسسة على احلقوق السياسية ،االجتماعية،
االقتصادية...إخل .144ويف يوليو ،2017قدم رئيس اجلمهورية الباجي السبسي مشروع
"قانون املصاحلة االقتصادية واملالية" ،ويتأسس على حماولة املصاحلة على األموال املنهوبة
من املال العام من رجال األعمال ،وهو ما يتداخل مع عمل هيئة احلقيقة والكرامة.
مقدسا" , Youtube
ً قرآًن
" Shems FM,راشد الغنوشي :مشروع قانون املصاحلة ليس ً
144
152
"تفاعال إجيابيًا مع مشروع القانون" 145يف
ً وأبدى تكتل حركة النهضة يف الربملان ما رمسي
يفصل فيه الغنوشي بني العدالة االنتقالية واملصاحلة املالية ،حيث العدالة الوقت الذي ِ
االنتقالية عنده متعلقة ابجلرائم السياسية وجرائم حقوق اإلنسان اليت حتتاج إىل وقت طويل
حلسمها ،أما امللف املايل واجلرائم املتعلقة بسرقة املال العام فقضية ال حتتاج إىل أتجيل،146
وال تدخل يف نطاق تعريف العدالة االنتقالية واملصاحلة اليت تقوم على احملاسبة ال التفاوض
على ترك املظامل .وقد أرقِر املشروع يف 17سبتمرب 2017حتت مسمى "قانون املصاحلة
اإلدارية".147
يدفع كل هذا إىل مراجعة فكر الغنوشي عن حقوق اإلنسان -كمعىن جوهري يف
مسارات العدالة االنتقالية -كما جاء يف كتابه "الدميقراطية وحقوق اإلنسان يف اإلسالم"،
حيث يوضح الغنوشي أن "العدل" هو مدار السلطة يف اإلسالم ،لكنه ال يوضح املقصود
مقررا أن "احلرية" هي القيمة األمسى للفرد املسلم ،وهي اليت
بذلك العدل .مث يستدرك ً
148
تفرض عليه الوصول لذلك العدل "املنشود" .وابلنظر يف مفهومه عن احلرية ،ميكن
أن نفرق بني نقطتني :األساس الفلسفي للحرية من جهة ،ومظاهر تلك احلرية من جهة
أخرى .فأما األساس فيؤكد الغنوشي أنه هللا ،وأما املظاهر :فهو يذهب ليؤكد أن اإلسالم
مجع وأوعى ومشل كل احلرايت املوجودة يف إعالانت حقوق اإلنسان العاملية .149هذه
التفرقة جتعل الدميقراطية واحلرايت املرتبطة هبا يف األخري مقبولةً على شرط أن تؤسس
ضمنيًا على الشريعة اليت مستندها إىل هللا؛ فـ" :ليس يف تعاليم اإلسالم وال يف مقاصده
145ايسني نبيل ،قانون املصاحلة :املعارضة حتتج والنهضة متارس املساعدة الناعمة( ،نواة 14 ،يوليو ،)2016
https://goo.gl/TZ9Be9
مقدسا ،مرجع سابق
قرآًن ً
راشد الغنوشي :مشروع قانون املصاحلة ليس ً
146
147يب يب سي عريب ،هل يعزز قانون املصاحلة اقتصاد تونس؟ 14 ،سبتمرب ،2017
https://is.gd/EPRsZk
148راشد الغنوشي ،الدميقراطية وحقوق اإلنسان يف اإلسالم( ،بريوت :الدار العربية للعلوم انشرون ومركز
اجلزيرة للدراسات ،الطبعة الثانيةـ ،)2012ص .168 ،9
149املرجع السابق ،ص .63
153
ما يتناَف مع مقومات الدميقراطية" .150وحبمل هذا التصور على قضية العدالة االنتقالية،
تظهر جتربة حزب النهضة التونسي كتجربة خالية من االشتباك .مبعىن أن املفهوم ،وف ًقا
ملقتضى املسكوت عنه يف نصوص الغنوشي من انحية ،ويف جتربة احلزب حيث مسار
العدالة االنتقالية من انحية أخرى ،يبدو أنه حيوز أمهيته وفق التحالف السياسي وما دأبت
عليه النهضة -كما مجاعة اإلخوان املسلمني يف مصر -يف مسألة التسوية مع النظام
القدمي .ابإلضافة إىل أن تصور اإلسالميني عن العدالة االنتقالية جاء من ابب أنه ال ضري
من استخدامه نفسه ابعتباره جمموعة من اإلجراءات الستعادة احلقوق وحفظها ،ال بوصفه
مفهوما نظراي متشاب ًكا ذا طبيعة عالئقية.
ً
إن هذا القبول يستدعي القول أبن تصور اإلسالميني عن "العدالة االنتقالية" جاء مستبطنًا
نصا ما فوقيًا حيمل مسلمات عن :طبيعة الدولة ،وحقوق اإلنسان ،والنظام السياسي ً
واالجتماعي أبكمله .ولتوضيح ذلك جيب التوقف مع مفهوم "العدالة االنتقالية" ذاته.
فعلى الرغم من حماولة الغنوشي ربط حقوق اإلنسان والدميقراطية ،ومن ورائهما الدولة
نفسها ابلنسق اإلسالمي ،تظهر تلك احملاولة يف األخري على أهنا ال ترتبط بصورة مباشرة
مع نسق "إسالمي تقليدي" حول العدل أبي حال من األحوال.
يبدو أمر العدالة االنتقالية مرتب ًكا يف تونس رغم وضوح قوانينه وإجراءاته املعلومة واملتفق
عليها بعد ثورة 14يناير ،وال تبدو حركة النهضة بريئة من ذلك االرتباك والتفريط يف
مسألة العدالة االنتقالية بتحالفها مع املنتمني إىل نظام احلكم السابق ،واليت مل ختتلف عن
اإلخوان املسلمني يف مصر الذين سعوا إلعادة التسوية مع النظام القدمي ،وخلت احلركة
من أي حماولة جدية لبحث العدالة االنتقالية .ففي ظل وزارة عصام شرف 2011مت
أتسيس جلنة للمصاحلة كانت منصبة على إدارة النزاعات بني املسلمني واألقباط ،مث أنشأ
اتبعا لرائسة اجلمهورية يتلقى فيه الشكاوى واملظامل كان يتعامل
حممد مرسي ديو ًاان للمظامل ً
مع قضااي النوبة وغريها ،ومل يكن لدي الديوان صالحيات حقيقية متعلقة ابلعدالة
االنتقالية من معرفة احلقيقة وجرب الضرر واملالحقة القضائية أو ختليد الذكرى وحفظ
الذاكرة اجلماعية وال كانت تلك املعاين واردة رغم وجود احتياج لعملية مصاحلة وحماسبة
على جممل انتهاكات حقوق اإلنسان منذ التسعينات خاصة خالل املواجهات مع
150املرجع السابق.
154
مجاعات العنف يف الصعيد لكن ما مت كانت مراجعات اجلماعات يف السجون وليس
حماسبة األجهزة األمنية على ما شابه أداءها من انتهاكات وما مت رصده من تعذيب يف
السجون ،وال شهدت مصر أي إجراءات مؤسسية معلومة لقنوات سري تلك املظامل يف
سبيل العدل .ومل ترنشأ وزارة للعدالة االنتقالية -رغم عدم مناسبة العدالة االنتقالية ملعىن
الوزارة -إال بعد اإلطاحة ابإلخوان املسلمني يف يونيو ،2014ومل تقم أبي دور ،وسرعان
من مت إلغائها ،مث تنامت االنتهاكات اجلسيمة حلقوق اإلنسان يف ظل مناخ حشد خلف
اهتماما
ً تلق
املؤسسة العسكرية وختوين للمخالف .وابإلضافة إىل أن العدالة االنتقالية مل َ
حبجم أمهيتها املتعاظمة يف إدارة املشهد املصري بعد 25يناير وقت كانت مجاعة اإلخوان
ئيسا للجمهورية رو ملانية
ر ب أغلبية متتلك العدالة)
و ية
ر احل (حزب سياسية ال املسلمني وذر ر
اعها
ً
على رسدة احلركم فإن تلك الفرتة مل تشهد أي إسهام فكري من قبل اجلماعة يف بناء
تصورات ملستقبل العدل .ورغم الفارق يف الثقل الفكري إلسالميي تونس عن مصر ،فإن
اجلميع وقعوا يف أزمة السياسة املعاصرة املتعلقة ابلتعامل مع الواقع الراهن كمعطى ٍ
عام ر
دون التفكري يف آفاق ما بعده أو رحماولة إجياد بديل هيكلي يكفل أتسيس منظومة مستقرة
للعدل على املدى البعيد.
اخلامتة:
أوىل األستاذ الدكتور حامد ربيع رائد النظرية السياسية بكلية االقتصاد والعلوم السياسية
يف جامعة القاهرة أمهية كبرية لبناء هيكل للمفاهيم وأولوايهتا يف احلركة السياسية .وفيما
يتعلق ابلعدالة ،فقد قسمها إىل نوعني :عدالة وظيفية تعترب هدفًا للنظام واجلماعة
السياسية ،وعدالة نظامية تتعلق ابإلجراءات والضماانت واملؤسسات اليت تعترب أساس
نظام قضائي ،حيث "القضاء هو أداة الدولة يف تسيري مرفق العدالة" ،151وال ينفصل كل ٍ
النوعان عن بعضهما .وقدم ربيع مفهوم العدالة ابعتباره قيمة اتبعة ،ورغم ذلك فإن تلك
التبعية ال تعين إلغاء القيم ،بل إرجاءها مبا خيدم الفقه واحلركة السياسية اليت يتمثل منطقها
يف التطور الدميقراطي .وترتبط تبعية مفهوم العدالة عند حامد ربيع مبا أمساه "الوظيفة
الكفاحية للنظرية السياسية" و"التضحية يف نطاق الوجود السياسي" مبا يعطي لقيمة احلررية
151د .حامد ربيع ،نظرية القيم السياسية ،كتاب غري منشور من دفاتر مركز احلضارة للدراسات السياسية،
الفصل الثالث :نظرية القيم التابعة (العدالة).
155
العليا الفردية يتبعها
أولويةً يف حلظة الصراع بينها وبني العدالة ،فتكون احلررية هي القيمة ر
قيم اتبعة أخرى عديدة يرتكز مجيعها حول مبدأي العدالة واملساواة.
وبناءً على تلك الرتاتبية القيمية عند حامد ربيع ،تبدو اخلريطة العامة لتصور اإلسالميني
عن العدل منذ عام 1924م وحىت الثورات العربية مرتبكةً ،واتبعةً .فأما كوهنا خريطة
مرتبكة ،فيظهر ذلك من تبنيها عدة تصورات متناقضة دون حبث وتدقيق مثل:
مستقال ،االقتصاد بوصفه جزءًا من
ً األمة/اجملتمع ،152االقتصاد بوصفه منحى إنسانيًا
أوال ،تبين مفهوم عن املصلحة يف ابطنه يعين ضرورة كل ،وجوب اللجوء إىل الشريعة ًٍّ
حتكيم الواقع ومسايرته مع عدم اإلخالل ابلـ"كليات" .وأما كوهنا اتبعة ،فيظهر من
حاجتها الدائمة للمقارنة مبا وصل إليه الغرب يف نطاق القيم واملمارسات السياسية،153
نصوصا ماورائية - Meta-textsعلى حد مفهوم ً واستبطنت الكتاابت اإلسالمية
جينيت -أخذت يف االستعاضة عن ذلك مبفاهيم حداثية أضرت أبصالة الفكرة
اإلسالمية.
"استعماال
ً وعليه ،فيرمكن فهم سلوك اإلسالميني بعد الربيع العريب يف قضية العدل ابعتباره
جزئيًا لأليديولوجيا" اليت قصد هبا كارل ماهنامي مستوايت يف التعامل مع األيديولوجيا
156
ترتاوح بني التحريف والتزييف والكذب املقصود ،ينتهي ابلتمويه الال واعي املتمثل ابلتحيز.
أي إن اإلسالميني -حىت أصحاب املشاريع الفكرية منهم يف الوقت احلايل على األقل
املصلحي على
ّ ب عليهم من توسعة نطاق -يستعملون ما يؤمنون به بشكل جزئي مبا غلر َ
/األخالقي .وإن هذا التصرف يستبطن رؤية مادية/أرضية للعامل تقوم على التنافسية
ّ القيمي
ّ
الطوابوي الساعي إىل أشياء ليست
ّ التفكري ميوت حيث التأقلم، ومنطق الفرص اقتناص
و
موجودة يف الوضع القائم لصاحل التفكري األيديولوجي الذي يربر الوضع القائم على فساده،
األخالقي
ّ القيمي
ّ رغم أن األفكار والرؤى ختتلف وتتنافر مع هذا الوضع .فيرصبح اخلطاب
يف جهة خمالفة لربمجاتية اخلطاب السياسي ،فيقع الفرد -كما احلركة اإلسالمية -يف ارتباك
وتفريغ الستقامتها وخريهتا املفرتضة ،ال من دون قصد بل بوعي واعرتاف 154ابإلمعان يف
للدعوة للمشروع السياسي اإلسالمي ،فتقف الدعوة يف خدمة التزاحم السياسي وإمهال ر
ّ
العمل السياسي وأتمينه ال العكس.
وجدير أن نذكر أن تلك التوصيفات ليست حالة دائمة يف الفكر اإلسالمي املعاصر،
لكنها يف احلقيقة ترتاوح بني الشدة والضعف حسب تفقه املفكر وقربه من الرتاث
اإلسالمي بسلسلة من التغريات
ّ مر الفكر
احلضاري الغريب .فلقد َّ
ّ اإلسالمي أو أتثره ابملنتج
ّ
واالنقطاعات والتكامالت املعرفية واحلركية اليت تفرض نفسها يف كثري من األحيان يف
سياقات جغرافية خمتلفة على طول تنوع سوسيولوجيا اإلسالم بني الشرق والغرب.
اإلسالمي برمته هو السبيل
ّ ونعتقد أن احملور األخالقي الذي يندرج حوله التصور
الستعادة يوتوبيا إسالمية حقيقية ،ال بوصفها مثالية ،بل بوصفها حالة من حاالت
الكلي.
ّ التفاعل والتدافع مع الواقع والتفكري حملاولة تقريب مفاهيم اإلسالم إىل الواقع
اإلسالمي ،وأوهلا الدولة اليت تضخمت يف
ّ ابلتفكري خارج اإلطارات اخلانقة آلفاق الفكر
تصور اإلسالميني لدرجة عجزوا بعدها عن التفكري يف أي أولوية أخرى .وقد يبدو
154وال أعجب من القول الذي انتشر بني السلفيني يف مصر بعد الثورة أن دخول الربملان أشبه أبكل امليتة
للمضطر ،وقد أركلت امليتة حبق ملا خلطت الدعوة ابلسياسة ففسدت األخالق وفسدت الدعوة وبقيت السياسة
على حاهلا.
157
األخالقي يف اإلسالم هو السبيل للتخلص من ديستوبيا غري أخالقية
ّ استعادة البعد
نظرا ملا يكتنفها من سري مع التيار دون مراجعة أخالقية ملا يكون وما ال يكون.
بطبيعتهاً ،
ولقد كان رهان اإلسالميني األساسي بعد الثورات على البعد اهلواييتّ يف احلياة العامة
دون اعتبار ألمهية فتح ابب التفكري يف قضااي سوسيولوجية مهمة كقضية العدالة .وتبدو
كقضية كاشفة لكيف يتعامل اإلسالميون مع ما ٍ قضية العدالة االنتقالية يف مصر وتونس
اإلسالمي ،وحباجة إىل مراجعة حقيقية ،خاصة بعد وقوع
ّ دوما من أخالقية احلل
اندوا به ً
اإلسالمي اآلن على درب التغري الثقايف للبىن االجتماعية اليت تكونت بفعلّ اجملتمع
احلداثة ،إىل مستوى آخر من التغري بفعل العوملة واألخالق ما بعد احلداثية اليت غزت
اإلسالمي ،حيث ال تبدو األخالق اإلسالمية التقليدية اآلن بنفس درجة النفاذية
ّ اجملتمع
دوما ما راهن عليها اإلسالميون يف براجمهم
يف االجتماع اإلسالمي ابعتبار أصالتها اليت ً
االنتخابية يف اجلامعات والنقاابت والربملاانت .تلك األصالة وتلك النفاذية قد ال تبدو
بنفس درجتها وأتثريها يف اجلماهري املسلمة اليوم ،وخاصة بني األجيال اجلديدة املولودة
ملة رحقيقية ألمناط العيش. ٍ
اقتصاد معريف مفتوح وعو ٍ
ّ يف رح ِم
وكما خرجت كتاابت حممد عبده ورشيد رضا وقطب وعودة وابن ابديس واإلبراهيمي من
اإلسالمي ،فإن اإلسالميني احلركيني اليوم ينظرون إىل الواقع رح ِم ٍ
فساد يف االجتماع
ّ
ابعتباره رمعطى ال رميكن تغيريه بل ابلتعامل مع فساده والتأقلم مع هياكله ،حيث متوت
السياسي عندما تفقد راديكاليتها وتتحول إىل فكرة أيدولوجية
ّ اليوتوبيا يف مغبة الصراع
خانقة .وال عيب يف التنظيم بل فيما قد رخيلفه من دومجا أخالقية تربر للحركة السياسية
اإلسالمي الساعي لتقريب الواقع التارخيي من
ّ للمعطى القيمي يف التصوردون اعتبار ر
السياسي يف العامل كله،
ّ املفاهيم اإلسالمية .وهناية التفكري الطوابوي مشكلة تواجه العمل
لكنها ال تعفي اإلسالميني من االخنراط وال تعفيهم من التفكري اجلاد بشأن بديل حقيقي
دوما
يزيد رحابة العامل أمام املقهورين واحملرومني واملسلوبة حقوقهم .وميكن القول إن هناك ً
إمكانية إلعادة تفعيل عناصر جديدة ميكنها إنتاج تصورات أكثر صالبة عن مفهوم
العدل ابعتباره األكثر حمورية يف الفكر اإلسالمي على مدار اترخيه.155
155وهو توكيد ملا جاء يف املقاربة من تصور جايل حول انفتاح املفاهيم.
158
وخنلرص اآلن إىل عدة دوائر يف نطاق الفكر واحلركة تتعلق أبخالق احلركة اإلسالمية
وأولوايهتا النظرية ومشاركتها السياسية ،ميكن أن نر ِ
دعم من خالهلا حركة إسالمية فعالة.
بديال إسالميًا قظ يعوض االخنراط يف
نين يف التاريخ بوصفه ً
الس ّ
أوال :استعادة التفكري ر
ً
أبعادا أخرى من الوجود
أخالقي يكشف لإلسالميني ً
ّ العمل السياسي دون حساب
السياسي. 156
اثنيًا :مراجعة ألولوايت احلركة اإلسالمية وتنظيمها للقيم اليت تشتبك معها يف حلظات
مفهوم ْني
الرمحة يف خضم احلديث عن العدالة َ التدافع والتفاوض .وقد يبدو مفهوما الفطرة و
157
حيويَْني خيصان منظومة األخالق اإلسالمية .
اثلثًا :مراجعة أولوية التسييس يف احلركة اإلسالمية وخطورته على الدعوة اإلسالمية.
ابعا :استعادة الفقه والفقيه يف احلركة السياسية.
رً
ويبقي السؤال األخري :إىل أي مدي رميكن أن ينجح اإلسالميون يف بناء تصورات جديدة
عن العدالة داخل تلك الصورة من الدولة احلديثة املتوغلة ،وداخل النفس اإلنسانية
احملاصرة ابحلداثة السائلة158؟
1عبد الرزاق السنهوري ،فقه اخلالفة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية ،ترمجة :اندية عبد الرزاق السنهوري،
(اهليئة املصرية العامة للكتاب ،القاهرة ،)2013 ،ص .75
2أبو احلسن املاوردي ،األحكام السلطانية والوالايت الدينية ،حتقيق د .أمحد مبارك البغدادي( ،مكتبة دار
ابن قتيبة ،الكويت ،ط ،)1989 ،1ص .3
162
3
أيضا إىل الفكر
حيث مشروعيتها ومن حيث وظيفتها ،كما تسربت هذه القداسة ً
اإلسالمي السين مع إعادة تصور منصب اخلالفة ووظيفتها على أهنا خالفة عن هللا
(وليست عن رسوله صلى هللا عليه وسلم) يف إقامة العدل يف األرض ،وشيوع مقوالت
مثل "السلطان هو ظل هللا يف األرض ،أيوي إليه كل مظلوم" يف كتاابت فقهاء السياسة
الشرعية.4
من املهم ذكر ذلك عند بداية تناولنا إشكالية الدولة يف الفكر اإلسالمي املعاصر؛ إذ إن
أثر ابل ٌغ يف املخيلة اإلسالمية املعاصرة ،واليت صارت يف كثري من األحيان -
هذا كان له ٌ
نتيجة ظروف ضاغطة كثرية -ال تقنع فقط أبن املمارسة السياسية جيب أن ترتكز على
املرجعية القيمية لإلسالم ،أو أن على السلطة السياسية أن تقوم بوظائف ومهام دينية؛
بل اجنرفت ٍ
بشكل تلقائي إىل ما أطلق عليه برهان غليون "تديني السياسة" ،وهو ما ميكن
يعرف على أنه مقاربة اجملال السياسي مبنطق وذهنية دينية ،واليت تتسم عادة مبنطق أن ّ
التلقي والتسليم ،وإضفاء شيء من القداسة على املمارسات البشرية والوقائع التارخيية،
كما تقوم كذلك على الثنائيات العقدية احلادة وامليل إىل خوض الصراعات بنزعة صفرية
احدا يف مواجهة أابطيل متعددة،ابعتبارها أهنا تعكس ح ًقا يف مواجهة ابطل ،أو قل ح ًقا و ً
مثال يف تناول سيد قطب ملسألة احلاكمية كما سنرى الح ًقا؛ وهي السمات اليت نراها ً
ولذلك فقد أشار غليون إىل أن املشكلة ليست يف وجود وظائف أو أدوار اجتماعية
وسياسية للدين ،ولكن يف عملية تديني اجملاالت السياسية واالجتماعية:
خطرا على الدين أو السياسة ،ولكن اخلطر "إن ارتباط الدين ابلسياسة ال ميثل إذن ً
يكمن يف حتويل السياسة إىل ممارسة مقدسة دينية ،وإلغاء الفعل العقلي والنقدي فيها،
سواء حصل ذلك بعد استالم السلطة ابسم دولة هللا ،أو قبل ذلك ،داخل حزب هللا.
وليس اخلطأ يف تكوين أحزاب سياسية تستلهم القيم واملبادئ واألحكام اإلسالمية ،ولكن
3علي فياض ،نظرايت السلطة يف الفكر السياسي الشيعي املعاصر( ،مركز احلضارة لتنمية الفكر اإلسالمي،
بريوت ،ط ،)2010 ،2ص .114-108
4أبو احلسن املاوردي ،أدب الدنيا والدين ،حتقيق حممد كرمي راجح( ،مكتبة دار اقرأ ،بريوت ،)1985 ،ص
.149
163
يف االنزالق من ذلك حنو ادعاء قدسية العقيدة السياسية املستمدة من القيم الدينية
وقدسية السلطة املرتبطة هبا".5
إبسقاط هذه اإلشكالية على مسألة الدولة يف الفكر اإلسالمي املعاصر جند أن الدولة مل
تعد مسألة مصلحية أو أداتيه فقط ،ترتبط بتحقيق بعض املصاحل أو أداء بعاض الوظائف
-ولو كان بعضها وظائف دينية-؛ بل أصبحت -وفق الرؤية العضوية للدولة -جمسدةً
حلقيقة ما ،قد تكون وحدة األمة املسلمة ،أو إقامة الدين على األرض ،أو ما شابه ذلك،
أحياان
وكلها ابلطبع حقائق تتمتع بشيء من القداسة ،وهو ما جيعل التفكري هبا ال خيضع ً
لقواعد املنطق وتقدير الواقع واإلمكان ،بل ختضع ملقتضيات اإلميان والتسليم والتفكري
الدومجايت.
ما بني البشري واإلهلي ،والتارخيي واملطلق:
أحد أبرز مظاهر تديني السياسة أو مقاربة السياسة مبنطق ديين هو عدم قدرة الفكر
السياسي اإلسالمي املعاصر يف بعض األحيان على التمييز بني البشري واإلهلي ،والتارخيي
صرح
واملطلق يف اخلربة السياسية اإلسالمية ،فبالرغم من أنه ميكن القول ابطمئنان -كما ّ
حممد أسد -إنه ال يوجد نص واضح تفصيلي حيدد طبيعة الدولة يف اإلسالم ،وأن
للمسلمني يف كل حقبة أن يكتشفوا النمط األكثر مالءمة الحتياجاهتم ،شريطة أن يكون
متاما مع األحكام القاطعة للشريعة،6
النمط الذي مت اختياره وأن تكون مؤسساته متوافقة ً
فإن اجتهادات الفقهاء األقدمني والسوابق التارخيية أتخذ حجية تشريعية يف كثري من
أصيال من النظام السياسي اإلسالمي -بتعريف األلف والالم.األحيان لتكون جزءًا ً
اإلشكالية األساسية هنا أن أحكام الشريعة يف جمملها ال تتنزل إال ابستنباط الفقهاء
واجتهادهم ،وهي االجتهادات اليت تتشكل بصورة كبرية يف سياقات حمددة ،وابألعراف
السائدة واإلمكاانت املتاحة هبا ،لكنها يف الذهنية اإلسالمية املعاصرة تتجرد لتأخذ حكم
مثال اليت بنيت على تقدير العلماء ملصاحل املطلقات ،فقاعدة كقاعدة إمامة املتغلب ً
ومفاسد مؤقتة يف سياقات حمددة ،اكتسبت قيمة تشريعية مطلقة مبعزل عن التقديرات
5برهان غليون ،نقد السياسة :الدولة والدين( ،املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،بريوت ،ط ،)4ص .461
6حممد أسد ،منهاج اإلسالم يف احلكم ،ترمجة منصور حممد راضي( ،دار العلم للماليني ،بريوت،)1978 ،
ص .55
164
اخلاصة هبا ،وكذلك آليات كآلية بيت املال لضبط توزيع الثروة -وهي اآللية املالئمة
لدولة اقتصادها غنائمي ابألساس -أصبحت هي اآللية االقتصادية "اإلسالمية" يف بعض
اجتهادا
ً التصورات ،وكذلك تطبيق الشورى وفق آلية "أهل احلل والعقد" النخبوية مل تعد
بشرًاي وفق ظروف اجتماعية حمددة ،بل البديل "اإلسالمي" األصيل لفكرة الربملان
الدميقراطية الغوغائية "غري الشرعية" و"املستوردة".
وبتنزيل هذه اإلشكالية على مسألة الدولة جند أهنا أثرت يف كثري من تصورات الفكر
اإلسالمي املعاصر عن الدولة اإلسالمية ،فنماذج احلكم يف اجملتمعات املسلمة ما قبل
احلداثية قد تسربت بشكل و ٍاع أو ال و ٍاع لتكون جزءًا ال يتجزأ من الشريعة يف املخيلة
اإلسالمية املعاصرة .فبخالف الدولة احلديثة ،امتازت الدول التقليدية ما قبل احلداثية أبن
السلطة كانت مركزية وغري مقسمة يف هيكلها ،ومشخصنة (غري مؤسساتية) أبوية يف
طبيعتها7؛ لذلك ففي الكتاابت الرتاثية للفقهاء املسلمني تتمثل السلطة السياسية يف
منصب اخلليفة أو اإلمام ،والذي يعد السلطة التنفيذية واإلدارية األعلى ،والذي يتمتع
بصالحيات واسعة متضمنة :مدد حكم غري مقيدة ،سلطة مطلقة على الشؤون التنفيذية
واملالية ،وتعيني الوظائف األساسية ابلدولة ،8كما كانت العالقة بني احلاكم واحملكوم رعائية
يف طبيعتها ،مبا جعل القراءة السائدة للفقهاء هي تكييف منصب اإلمامة ال على أنه
حق احملاسبة بل والعزل ،بل على أهنا والية كوالية األب على وكالة عن األمة مبا يعطيها َّ
القصر ،9كما بدت البيعة أقرب إىل العالقة بني شخص احملكوم واحلاكم ،يبذل فيها أبنائه ّ
احملكوم الطاعة السياسية والوالء للحاكم يف مقابل تقيد هذا األخري بكتاب هللا وسنة
رسوله.
165
وهكذا ،فإن الفقهاء املسلمني مل يناقشوا موضوع الدولة اإلسالمية أو يصفوا هياكلها
بدال من ذلك ،اهتموا ابلشرح الدقيق للمواصفات ووظائفها كمؤسسات ابألساس ،بل ً
التفصيلية ملن يتوىل املناصب الرئيسة ابلدولة مثل اخلليفة أو الوالة أو القضاة -وإن كانت
هذه املواصفات انطباعية ابألساس ،-وهذا االهتمام ابلصفات والصالحيات الشخصية
-وف ًقا للبعض -هو ما أثر ابلسلب يف تطور أي فكر أو أطروحات بشأن مؤسسات
الدولة اإلسالمية.10
هذا التصور الشخصاين غري املؤسسايت للسلطة جيسده -على سبيل املثال -منوذج طالبان
كما يصوره فهمي هويدي يف كتابه "طالبان :جند هللا يف املعركة اخلطأ" ،حني سأل بعض
قيادات احلركة عن كفاءهتم اليت تؤهلهم إلدارة الدولة مبختلف ختصصاهتا يف ظل كوهنم
جمموعة من طالب العلم فقط ،فكانت إجابتهم مشخصنة ،تركز على الورع الشخصي
قياسا على السوابق التارخيية اليت تتسم بـ "أن
والعلم الشرعي ملن يتقلد املناصب العامةً ،
الوالة يف الدولة اإلسالمية كانوا خيتارون بناء على مقدار الثقة يف استقامتهم وورعهم
وإحاطتهم أبمور احلالل واحلرام ،وليس بناء على ختصصاهتم العلمية وشهاداهتم".11
تكيف الفكر اإلسالمي الرتاثي وتعثره:
تديني السياسة كما بدا يف مقاربة الفكر اإلسالمي املعاصر للتجربة التارخيية اإلسالمية
هو إشكالية مركبة يف حقيقة األمر؛ إذ من جهة تسربت الكثري من املمارسات
واالجتهادات البشرية الرتاثية إىل جوهر الشريعة وصار هلا حجيةٌ بل وشيء من قداسة يف
املخيلة اإلسالمية املعاصرة كما ذكران ساب ًقا ،ومن جهة أخرى فإن التجربة الرتاثية ذاهتا
وما أفرزته من اجتهادات فقهية ورؤى فكرية اعرتاها أزمتان أساسيتان :التكيف مع ضغوط
الواقع حني عجزت عن توجيهه وتقوميه ،وحرماهنا من البيئة الصحية اليت تسمح هلا ابلتطور
12توفيق الشاوي ،فقه الشورى واالستشارة( ،املنصورة ،دار الوفاء ،)1992 ،ص .435-434
13حاكم املطريي ،حترير اإلنسان وجتريد الطغيان( ،املؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بريوت،)2009 ،
ص .577-561
167
وابحملصلة ،فقد وضع الفقهاء املسلمون حدًّا أدَّن للمشروعية السياسية ،فطاملا كان احلاكم
قادرا على الدفاع عن دار اإلسالم ،وال مينع رعاايه املسلمني من دينهم ،فهو حاكم ً
شرعي ،ال جيوز اخلروج عليه ،خوفًا من تفكك األمة ،وانتشار الفوضى "الفتنة" ،14وهذا
استثنائي يف فرتات االضطراابت (مثل النزعة السلطوية ٍ
كتوجه مؤقت و متفهما أمر يعد
ٍّ ً ٌ
لتوماس هوبز واليت تربرها االضطراابت اليت مرت إبجنلرتا يف منتصف القرن السابع عشر
أساسا يلغي عمليًا قيمة الشورى
مثال) ،لكن املشكلة أن هذا االستثناء صار قاعدةً و ً ً
والرضا يف البيعة ،وهو ما نرى آاثره يف التيارات السلفية املعاصرة ،واليت ال ترى غضاضة
يف املمالك السلطوية واحلكم الوراثي من ابب حفظ النظام وخوف الفتنة ،وهتمش قيمة
الشورى لتكون على شكل استشارات غري ملزمة ومقصورة على النخب العلمائية ووجهاء
الناس كما كانت يف اجملتمعات املسلمة التقليدية.
هذا املنحى التكيفي للفكر السياسي الرتاثي وشيوع منطق األمر الواقع حرمه من بيئة
صحيحة للنمو والتطور ،فبخالف أفرع عديدة مثل علم الكالم أو فقه العبادات
واملعامالت أو فقه املواريث واألحوال الشخصية ،جند أن اإلسهام الفكري والفقهي يف
كما ،ويتجلى ذلك يف غياب اجتهادات وافية حتول قاصر كي ًفا و ًّ
اجلانب السياسي منها ٌ
القيم واملبادئ السياسية اإلسالمية من الشورى واحلق يف رقابة احلكام وحماسبتهم أو حىت
عزهلم وحنو ذلك إىل نظام واقعي له أدواته ومؤسساته الفعالة .والح ًقا ،تفاقمت هذه
اإلشكالية بعد القرن الثامن اهلجري مع توقف االجتهاد الفقهي كأحد املظاهر العامة
لتقهقر احلضارة اإلسالمية ،وذلك يف الوقت ذاته الذي بدأت فيه األمة اإلسالمية تشهد
تغريات جذرية اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا ،ومن هنا عندما برزت احلداثة يف اجملتمعات
مستعدا ملواكبة هذه التغريات غري املسبوقة.15
ً املسلمة املعاصرة مل جتد الفقه اإلسالمي
169
نظاما أخالقيًا يهدف إىل التأسيس حلياة منوذجية ،وابعتبارها نطاقًا مركزًايً
ختضع له النطاقات االجتماعية امللحقة (السياسة واالقتصاد والتعليم...إخل)
كافَّةً وتتحاكم إليه ,19وهلذا فإن الدولة اإلسالمية هلا دور تربوي خالص :بناء
إنسان فاضل .20وعلى النقيض ،فإن الواجب األخالقي يف الدولة احلديثة
نحى ملرتبة اثنوية؛ ألهنا تشكلت وفق برادامي فلسفة التنوير ،وهو الربادامي ير َّ
الذي يستهدف التقدم االقتصادي والتقين ،ويؤكد على املنهجية العلمية
والرشادة .ولذلك ،فإنه إذا كانت الدولة اإلسالمية تسرتشد ببارادامي أخالقي
متجاوز فإن الدولة احلديثة موجهة ابلبارادامي الوضعي العلماين ،وإذا كانت
مهمة الدولة اإلسالمية هي تنشئة الفرد املسلم األخالقي فإن مهمة الدولة
احلديثة هي إنتاج املواطن املنتج واملنضبط.21
ب .اختالف مفهوم السيادة :وهو وجه آخر لعدم املواءمة بني الدولة احلديثة
واحلكم اإلسالمي ويرتبط مبا ذكرانه يف النقطة السابقة ،ففي احلكم اإلسالمي
ال يرسمح بسيادة غري سيادة هللا ،حيث هللا هو "احلكم" الذي ختضع ملشيئته،
النظم السياسية والتشريعية يف الدولة ،أما الدولة احلديثة
ومتتثل ألوامره ونواهيه ر
فهي كيان ذو سيادة ،ال يتقيد أبي سيادة عليا أو متجاوزة ،فسيادهتا تعرب
عن تفاعل داخلي للتشكل الذايت؛ إذ إن الدولة تتشكل ابلسيادة وتشكلها
يف آن واحد.22
سم واملؤسسايت :فبعكس منط السلطة جـ .منط السلطة املراكب واملُق ا
التقليدية ،واليت كانت مركزية يف شكلها ،وأبوية يف منطها ،مما أاتح تركز
السلطات السياسية والدينية يف يد اخلليفة أو رأس الدولة اإلسالمية ،واعتباره
ليس فقط املسؤول عن إقامة احلكم اإلسالمي ،بل الرمز الذي يتمثل فيه هذا
احلكم -بعكس منط هذه السلطة التقليدية نتج عن الدولة احلديثة واليت متتاز
19املرجع السابق.
Roy, The Failure of Political Islam, 63.20
Hallaq, The Impossible State, 5-12, 155-160.21
22املرجع السابق ،ص .158-157
170
مبؤسساهتا املنفصلة ملمارسة السلطات املختلفة ،واليت يشيع فيها مفهوم تقاسم
العمل االجتماعي ،Social Division of Laborكما يتعاظم هبا
الدور السياسي للشعب يف إكساب املشروعية السياسية ،وإسهامه بدرجات
خمتلفة يف ممارسة السلطة السياسية -نتج عنها أن تفاقم التوتر يف العالقة بني
ثالثة أطراف :احلاكم ،األمة ،العلماء على حنو ما سنذكر الح ًقا.
د .التعارض بني مفهوم املواطنة كهوية مدنية يف الدولة احلديثة واألمة كهوية
وجها آخر من أوجه التناقض مجاعية دينية-سياسية يف الدولة اإلسالمية يعد ً
بني الكيانني ،فالدولة اإلمرباطورية حبدودها غري احملددة ،واملتجاوزة للعرقيات
واألقاليم ،وبنمط مواطنتها الرعائي -كانت تقدم ح ًّال ملشكلة تطابق حدود
الدولة واألمة يف الفكر السياسي اإلسالمي ،أما الدولة احلديثة حبدودها املرمسة
الثابتة ،وبنمط مواطنتها القائم على تساوي احلقوق والواجبات بني خمتلف
األطياف العرقية والدينية داخل حدود الدولة ،فتثري أزمة حقيقية حول تضارب
الوالءات واحلقوق الواجبات ،وكيف حنقق واجبات األمة الواحدة ومقتضياهتا
يف ظل انقسامها إىل عشرات الوحدات السياسية ،واليت تتشارك فيها األغلبية
املسلمة مع غريها من األقليات اليت تتساوى معها -ولو نظرًاي -يف حقوق
املواطنة وواجباهتا ،وهلا األولوية عن كل من يقطن خارج حدود هذه الدولة.
أيضا كما يزعم
لذلك فإن املفهوم الغريب للقومية يعد غريبًا -بل ومنافيًا ً
البعض -لإلسالم ولعامليته ،وتعد األيديولوجيا القومية لذلك عند بعض
اإلسالميني صورًة من صور اجلاهلية .23وميكن إجياز التحدي الذي متثله قومية
الدولة احلديثة ملفهوم احلكم اإلسالمي يف أمرين:
171
األول :أن احلكم اإلسالمي -وف ًقا آلراء بعض الفقهاء والعلماء -جيب أن متتد والية
اخلليفة فيه إىل كامل دار اإلسالم ،24وهو الشرط الذي يبدو غري مستطاع يف نظام الدول
القومية احلديثة.
الثاين :تعذر التوفيق بني حقوق املواطنة يف الدولة احلديثة ،وأولوية حقوق األخوة الدينية
يف األمة املسلمة؛ إذ تعد الدولة احلديثة املستودع احلصري لوالء مواطنيها.25
هـ .اختالف طبيعة النظام القانوين :فكما أشار شريمان إيه .جاكسون فإن
إحدى اخلصائص األساسية للدولة احلديثة هي الواحدية أو املركزية القانونية
واليت تعين أن القوانني كافَّةً جيب أن تصدر حصرًاي برعاية الدولة ،وأن تكون
موحدة وأن ترطبق على مواطنيها كافَّةً ابلتساوي ،وأن يكون هلا األولوية واهليمنة
على األمناط التنظيمية األخرى كافَّةً .وهلذا فإن املواطنني يف الدولة احلديثة
يضطرون إىل التضحية جبوانب عدة من التزاماهتم اخلاصة ومناذجهم التنظيمية
اليت جيلّوهنا كثمن حتمي للمواطنة .أما احلكم اإلسالمي التقليدي ،فعلى
النقيض من هذه الواحدية القانونية غري املرنة ،ميتاز ابلتعددية القانونية؛ إذ
تطبق الشريعة عادة بشكل متباين على املسلمني وغري املسلمني يف اجملتمع
نفسه .فالفقهاء املسلمون مل جيدوا حر ًجا يف السماح لغري املسلمني أن يلتزموا
أيضا من العديد من أحكام الشريعة أبحكامهم الدينية ،بل ويف إعفائهم ً
اإلسالمية مثل تطبيق بعض احلدود والتعزيرات ،أو بعض االستثناءات -اليت
متييزا يف املزاج املعاصر -مثل اإلعفاء من اخلدمة العسكرية .هذه قد تبدو ً
التعددية القانونية مل تعترب منافية ألي من السلطة الدينية أو سيادة الدولة يف
الدولة اإلسالمية ما قبل احلداثية .ويعترب جاكسون أن هذا التناقض بني
واحدية النظام القانوين يف الدولة احلديثة وتعدديته يف الدولة اإلسالمية هو
24عبد الرزاق السنهوري ،فقه اخلالفة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية ،مرجع سابق ،ص .238
Ayoob, The Many Faces of Political Islam, 32.25
172
السبب الذي جيعل حماوالت تقنني الشريعة اإلسالمية على هيئة قوانني وضعية
أمرا يتعذر حتقيقه.26
ً
اخلالفة كرابطة أممية:
كانت أوىل حماوالت التعامل مع حتدي احلداثة ونشأة الدولة احلديثة يف سياق اجملتمعات
املسلمة هي فكرة الرابطة األممية اليت اقرتحها عبد الرزاق السنهوري يف أعقاب سقوط
صحيح مل تكن فكرة اجلامعة اإلسالمية يف هذه اآلونة فكرة جديدة، ٌ اخلالفة العثمانية.
عدد من دعاة اإلصالح يف العامل اإلسالمي يف الربع األخري من القرن بل لقد سبق إليها ٌ
التاسع عشر ،وأوائل القرن العشرين ،على رأسهم مجال الدين األفغاين ،الذي دعا إىل
إيقاظ الشرق وهنضته ،على أساس وحدة العقيدة والوحدة الوطنية اليت جتمع أبناء األداين
الشرقية الثالثة ،وعلى أساس االلتفاف حول اخلالفة العثمانية لدعمها وجتديد قوهتا،
وعلى أساس من جتديد الفكر الديين وتطويره ،27مث تعددت التوجهات داخل هذا التيار
الداعي للجامعة اإلسالمية ،مثل التوجه العرويب املناهض للعثمانيني الذي تبناه عبد الرمحن
الكواكيب ،والذي دعا إىل تدعيم الوحدة داخل العامل اإلسالمي ،ولكن حتت قيادة العنصر
العريب ،الذي رآه األقدر على أداء هذه املهمة ،ويف املقابل كان السلطان عبد احلميد
الثاين يتبىن املشروع نفسه ولكن يف االجتاه املعاكس؛ اجتاه تقوية املركزية داخل دولة
اخلالفة ،وإضعاف احلركات القومية املناهضة ،ومنها القومية العربية .28لكن اجلديد يف
طرح السنهوري أنه قدم اجلامعة اإلسالمية -أو جامعة الشعوب الشرقية كما أمساها-
كبديل عن دولة اخلالفة ،وليس كآلية إلصالحها وتقويتها كما حاول أسالفه.
29عبد الرزاق السنهوري ،فقه اخلالفة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية ،مرجع سابق ،ص .238 - 237
30املرجع السابق ،ص .362 - 361
174
فأوال :للتغلب على مشكلة هيمنة الوظيفة السياسية على الدينية يف دولة اخلالفة ،اقرتحً
إقامة تنظيم ديين على شكل هيئة متمايزة مستقلة ،وهو التنظيم الذي مل تعرفه اخلربة
اإلسالمية ساب ًقا ،وتتكون هيئة الشؤون الدينية هذه من:
-مجعية عامة ،تتشكل من مندوبني من الدول اإلسالمية.
-وجملس أعلى ،يضم مخس جلان خمتصة ابلتنظيم الداخلي وشؤون العبادات،
والشؤون املالية ،واحلج ،والتعليم والدعوة ،والعالقات اخلارجية.
-واخلليفة ،وهو الذي يرنتخب من اجلمعية العامة ،بناء على ترشيح اجمللس األعلى،
ممثال للعامل اإلسالمي ،ويتوىل مسؤولية إدارة هذه اهليئة مبا حيقق التعاون
ويعترب ً
31
بني الشعوب املسلمة ،لتباشر األمة نشاطها كجماعة واحدة .
اثنيًا :خبصوص مجود الفقه اإلسالمي عن جماراة التطورات السياسية واالجتماعية ،فقد
دعا السنهوري -كمرحلة أوىل أمساها املرحلة العلمية -إىل القيام حبركة حبثية ،فردية مث
مجاعية ،لتطوير الشريعة اإلسالمية ،على أساس الفصل بني الشق الديين واملدين أو
الدنيوي من جهة ،والتمييز بني ما هو قواعد اثبتة ،وما هو أحكام متغرية من جهة أخرى،
حبيث تستعيد الشريعة حيويتها ومرونتها بعد فرتة اجلمود اليت مرت هبا ،مث السري بعد ذلك
حنو املرحلة الثانية -وهي مرحلة التشريع -بطريقة حذرة وتدرجيية ،لتاليف إشكاليات
مثل موقف غري املسلمني ،أو وجود تشريعات وقضاء أجنيب أرقحم على األعراف القانونية
يف هذه البالد.32
أما املشكلة الثالثة ،واملتمثلة يف الوحدة السياسية لألمة ،فتبىن السنهوري الرؤية التدرجية
نظرا لتنامي النزعة القومية والوطنية داخليًا من جهة ،والتوجس اخلارجياحلذرة نفسها؛ ً
من أن تكون هذه الرابطة موجهة ابألساس ضد الغرب املسيحي من جهة أخرى؛ لذا
فقد اندى السنهوري أبن تسبق الوحدة القومية للشعوب الشرقية نشأة هذه الرابطة ،حبيث
تصبح الوحدات القومية الوحدات األساسية هلذه الرابطة ،وكذلك أال تكون الرابطة
بديال عن الرابطة األممية -عصبة األمم آنذاك ،-بل جيب أن تنضم الدول الشرقية ً
175
اإلسالمية املستقلة كافَّةً هلذا التنظيم الدويل ،حبيث تصري العصبة33الشرقية ً
إطارا إقليميًا
يوفر املزيد من التعاون لتحقيق االستقرار الداخلي واألمن اخلارجي .
أخريا ،مل يقف السنهوري عند حدود هذا الشكل من اخلالفة الناقصة االضطرارية ،بل و ً
أوضح أنه مىت جنحنا يف حتقيق هذه اخلطوات الثالث :إقامة اهليئة الدينية ،جتديد الفقه
اإلسالمي وتطوير الشريعة ،إقامة الرابطة السياسية األممية؛ فقد بقيت إلقامة اخلالفة
ينصب اخلليفة (رئيس اهليئةالكاملة خطوة واحدة ،وهي أن تتفق األمم الشرقية على أن َّ
معا ،ولكن ئيسا ملنظمة األمم الشرقية ،وبذلك جيمع السلطة السياسية والدينية ً
الدينية) ر ً
هاتني السلطتني ستؤداين هذه املرة بشكل مؤسسي عن طريق تنظيمني مستقلني ،ومبرونة
نوعا من احلكم الذايت.34
بعيدة عن احلكم املركزي ،أبن تعطى كل بلد ً
وابلرغم من هذا الطرح النظري الذي يبدو متماس ًكا ،فإنه يظل ردة فعل أولية سريعة
ومبادرة شكالنية تستهدف ابألساس احلفاظ على وحدة األمة مع سقوط اخلالفة العثمانية
ويف ظل النزعات القومية وهيمنة إطار الدولة احلديثة ،كما تستهدف اإلبقاء على رمزية
اخلالفة كسلطة سياسية ودينية حىت وإن كانت هذه السلطة شكلية و"بروتوكولية" إىل ح ٍّد
ما .كما أن هذا الطرح ال يتناول بشكل تفصيلي اإلشكاليات سابقة الذكر املتعلقة هبيكل
السلطة ووظائفها ،وطبيعة العالقة بني األقطاب الثالثة للتنظيم السياسي اإلسالمي:
احلاكم ،والعلماء ،واألمة.
النماذج األيديولوجية املعاصرة للدولة اإلسالمية:
ميكن تصنيف التصورات األيديولوجية اليت قدمها الفكر السياسي اإلسالمي املعاصر
اعتمادا على معيارين أساسيني:
ً بشأن الدولة
أوال :هيكل التنظيم السياسي ومركزه ،أو بعبارة أخرى إذا كانت الدولة اإلسالمية هي ً
املخولة هبذه املهمة واليت هلا القول
الدولة القائمة على تطبيق الشريعة ،فما هي اجلهة ّ
جمسدا للسلطة السياسية ،أم
النهائي يف تفسري وتطبيق ما هي الشريعة :هل هو اإلمام ً
هي األمة كما تتجسد يف الربملان بصيغته الدميقراطية احلداثية أو حىت أهل احلل والعقد
177
شوهة) ،حيث(م ِّ
مما جعلها -وف ًقا لتعبري نوح فيلدمان -تبدو كصورة يف مرآة خادعة ر
35
كل العناصر املألوفة متواجدة ،لكن أحجامها ،وأماكنها ،والعالقات بينها تبدو متغرية .
ب .النموذج الدميقراطي احلداثي :وهذا النموذج يؤكد على أن األمة
اإلسالمية هي اخلليفة احلقيقي عن هللا ،وأهنا هي مصدر السلطات والتشريع،
كيل عن
وهي املسؤولة عن إقامة الدين وتطبيق الشريعة ،واحلاكم ما هو إال و ٌ
حق حماسبته بل وعزله إذا أخل
األمة وسلطته مستمدةٌ منها ،وابلتايل فإن هلا َّ
ابلشروط املتفق عليها .36وهلذا فكما أشار راشد الغنوشي ،فإن ترتيب السيادة
يف التنظيم اإلسالمي هو (هللا -األمة -احلاكم) وليس (هللا -احلاكم -
األمة).37
يف هذا النموذج تكون السلطة مقسمة ،مؤسساتية ،ومقيدة ابلقانون وليست مشخصنة،
فعلى الرغم من أن الصورة التقليدية للحكم اإلسالمي كما تشري املمارسات التارخيية بل
وكما توحي بعض األحاديث واآلاثر النبوية تكون السلطة فيها مركزة ومتجسدة يف شخص
ويل األمر ،38فإن اإلسالمويني التحديثيني الدميقراطيني يرون أن هذه السوابق التارخيية
Noah Feldman, The Fall and Rise of the Islamic State, 35
(Princeton and Oxford, Princeton University Press, 2008), 102.
36راشد الغنوشي ،احلرايت العامة يف الدولة اإلسالمية ،ج( ،1دار الشروق ،القاهرة ،)2012 ،ص 215
.217-
Azzam Tamimi, Rachid Ghannoushi: A Democrat within 37
256. Islamism (London: Oxford University Press, 2001),
Asad, The Principles of the State and Government in 38
Islam,52-58.
وانظر أيضا :عبد الرزاق السنهوري ،فقه اخلالفة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية ،مرجع سابق ،ص ،159
.189-175
178
غري ملزمة ،وأن مصلحة األمة تقتضي مثل هذا الفصل وذلك كنتيجة لتعقد اجملتمعات
احلديثة من جهة ،وكأحد العالجات الناجعة لالستبداد السياسي من جهة أخرى.39
جـ .النموذج شبه الثيوقراطي :40ابلرغم من أنه يف النموذجني السلطوي
دور
التقليدي والدميقراطي التحديثي للدولة اإلسالمية ،كان للعلماء والفقهاء ٌ
مهم يف تعريف ما هي الشريعة ،ويف تفسريها وتطبيقها ،فإن هذا الدور يف
دورا رقابيًا إشرافيًا ،وهو عكس ما تقدمه هذه النظرية شبه جممله كان ً
الثيوقراطية ،واليت ختضع السياسي للديين ،وتعطي للعلماء والفقهاء السلطة
احلقيقة ،سواء مبمارسة الفقهاء السلطة السياسية بذواهتم ،أو هيمنتهم على
من ميارسها هيمنة اتمة ،لتجعل من وظيفة هؤالء احلكام أقرب للوظيفة اإلدارية
عرب عن ذلك اإلمام جعفر الصادق بقوله" :امللوك حكام ال السياسية ،كما َّ
41
على الناس ،والعلماء حكام على امللوك" ،ويتجلى هذا النموذج يف أشهر
النظرايت السياسية الشيعية املعاصرة ،نظرية والية الفقيه ،ويف بعض تطبيقاهتا
السنية مثل حركة طالبان أو احملاكم الشرعية يف الصومال.
أيضا النموذج اإليراين ميزج بعض اخلصائص املاوكما يف النموذج السعودي للدولة ،جند ً
قبل حداثية عن طريق املؤسسات العلمائية من جهة ،وبعض خصائص احلداثية للنظم
اجلمهورية من جهة أخرى ،كما أن يف هذا النموذج -كما يف النموذج التقليدي السلطوي
تدخال ملحوظًا للدولة يف النطاقات االجتماعية ليست فقط االقتصادية ً كذلك -
والسياسية ،أو حىت العلمية والثقافية وحنومها ،بل واجملال اخلاص كذلك ،عن طريق التدخل
يف بعض املمارسات اخلاصة مثل فرض شروط متعلقة ابلزي الالئق واملسموح به يف اهليئات
احلكومية وحنو ذلك.
39راشد الغنوشي ،احلرايت العامة يف الدولة اإلسالمية ،ج( ،2دار الشروق ،القاهرة ،)2012 ،ص .57
احتكارا لتمثيل
ً 40هي ليست ثيوقراطية كالسيكية ألهنا ال تزعم لرجال الدين أو للمؤسسات الدينية عصمة أو
الشريعة أو القانون اإلهلي.
41السيد روح هللا اخلميين ،احلكومة اإلسالمية( ،منشورات املكتبة اإلسالمية ،طهران) ،ص .46وانظر أيضا:
فهمي هويدي ،إيران من الداخل( ،مركز األهرام للطباعة والنشر ،القاهرة ،ط ،)1991 ،4ص .103
179
د .النموذج املثايل الشمويل :وهذا النموذج يتجلى يف مفهوم احلاكمية كما
عرب عنه سيد قطب ،واملقصود ابملثايل هنا هو أتثره ابلفلسفة املثالية واليت ال
تعبري عن حقيقة فلسفية ما ،وأن مسائل ترى للدولة وظيفة أداتية بل هي ٌ
احلكم ال ختضع لقضااي مصلحية أو خيارات األكثرية أو حنو ذلك من األفكار
الليربالية أو الدميقراطية ،بل هي مرتبطة حبقائق وجودية حول نظام الكون،
صرح به سيد قطب يف كتابه "هذا الدين" ،حيث يرى قطب وهو املعىن الذي ّ
ٍ
أن كل جزء من هذا الكون يف وحدة متكاملة ويف جتانس اتم مع الكل ،وأن
الكون حيكمه قانون واحد يربط أجزاءه كافَّةً هبذا النظام املتجانس واملرتب،
وأن هذا الرتتيب املنظم إمنا هو نتاج إرادة حاكمية واحدة ،ومن مثَّ نظَّر سيد
قطب لتفرد املنهج اإلسالمي ،فهو املنهج الوحيد الذي يقوم نظام احلياة
البشرية فيه على أساس من التفسري الشامل للوجود ،وهو الذي يتسق مع
نظام الكون كله" ،والتناسق بني منهج حياة اإلنسان ومنهج حياة الكون هو
بدال من
وحده الذي يكفل لإلنسان التعاون مع القوى الكونية اهلائلةً ،
التصادم معها ،وهو حني يصطدم معها يتمزق وينسحق".42
أما املقصود ابلشمولية ،فهو أن مفهوم الشريعة ومدلول "احلاكمية" ال ينحصر فقط يف
مسائل التشريع واألحكام القانونية ،وال حىت يف أصول احلكم ونظامه ،بل إهنا تتسع
لتشمل كل ما شرعه هللا لتنظيم احلياة البشرية ،من االعتقاد والتصور ،إىل األوضاع
السياسية واالجتماعية واالقتصادية ،إىل التشريعات القانونية ،إىل قواعد األخالق
والسلوك ،بل واملعرفة بكل جوانبها ،ويف أصول النشاط الفكري والفين" ،ويف هذا كله،
ال َّ
بد من التلقي عن هللا ،كالتلقي يف األحكام الشرعية -مبدلوهلا الضيق املتداول -سواء
43
أساسا لدولة مشولية ،ال هتيمن فقط على النطاقات
بسواء" .وهذا بشكل واضح يضع ً
االجتماعية على اتساعها ،بل حىت على النطاق اخلاص لتستهدف االنضباط
األيديولوجي الداخلي.
42سيد قطب ،هذا الدين( ،دار الشروق ،القاهرة ،)2001 ،ص .26-24
43سيد قطب ،معامل يف الطريق( ،دار الشروق ،القاهرة ،)1973 ،ص .124-123
180
خامتة:
مما سبق يبدو كيف أنه على الرغم من جهود الفكر السياسي اإلسالمي املعاصر مع تنوع
مدارسه ،وتعدد جتاربه التطبيقية ،بل وجهاده املستميت من أجل إجناز مشروع "الدولة
اإلسالمية" ،فإن مهمته ظلت غري منجزة ،وقد اقتصران يف هذه الورقة على استعراض
اإلشكالية النظرية املرتبطة بغياب نظرية متكاملة ومتماسكة وأصيلة -غري منتحلة -
للدولة يف الفكر السياسي اإلسالمي تتمتع ابلقبول الواسع بني املسلمني أو حىت بني
احلركات اإلسالمية ،ومل نتطرق إىل اإلشكاليات العملية املتعلقة ابسرتاتيجيات هذه
احلركات اإلسالمية والتحدايت السياسية احمللية والدولية اليت واجهتها.
عددا من اإلشكاليات قد أعاقت الوصول إىل نظرية كهذه ،بعض هذه وكما أسلفنا ،فإن ً
اإلشكاليات يتعلق ابلفكر السياسي الرتاثي بتكيفه وتعثره من جهة ،مث من جهة أخرى
يتعلق ابحلجية اليت يتمتع هبا هذا املوروث -بدرجة متفاوتة -يف الفكر السياسي املعاصر؛
أحياان بني التارخيي والبشري وبني املطلق اإلهلي يف التصورات عن
مما جعل األخري ال مييز ً
أيضا إىل اإلشكاليات اليت محلتها احلداثة ومنوذجها للدولة أمام الدولة .كما أشران ً
التصورات التقليدية للحكم اإلسالمي نتيجة التباينات املتعلقة ابإلطار املرجعي احلاكم،
والسيادة ،ومنط السلطة ،واملواطنة ،وطبيعة النظام القانوين ،وحنو ذلك.
وقد تباينت األطروحات التنظريية اليت حاولت التغلب على هذه اإلشكاليات وحاولت
اإلجابة على سؤال الدولة اإلسالمية يف السياق املعاصر ،بدءًا من فكرة عصبة األمم
الشرقية للسنهوري ،أو ما تالها من أطروحات أخرى أمجلناها يف أربعة أمناط منوذجية
:Ideal Typesالتقليدية السلطوية ،الدميقراطية التحديثية ،شبه الثيوقراطية ،املثالية
الشمولية.
وحىت ال يظل سؤال الدولة اإلسالمية سؤ ًاال معل ًقا ،تدور يف متاهاته الرؤى والنظرايت،
وتنشب يف سبيله الصراعات وتستنزف اجلهود؛ أرى أنه على الفكر اإلسالمي املعاصر
أن يتخلى عن مقاربة مسألة الدولة اإلسالمية مقاربة أيديولوجية ،مبعىن أن التصور البسيط
قائما على الشريعة وأحكامها ،خيتلف منوذجا أيديولوجيًا للدولة اإلسالميةً ،أبن هناك ً
بشكل جذري عن مناذج الدول األخرى ،وهو صاحلٌ لكل زمان ومكان -هو تصور
خاطئ ومضلل ،فاإلسالم جملتمعاتنا املسلمة ميثل املرجعية ولكنه ال ميدان ابأليديولوجيا؛
181
ألن األيديولوجيا هي قولبة بشرية ،ختتلف ابختالف األفهام ،وأمناط االستنباط،
واالحنيازات القيمية ،والوعي املكتسب من السياقات االجتماعية واألطر املعرفية السائدة،
وكما أسفرت هذه العوامل عن تعدد املذاهب الفقهية واملدارس الكالمية ساب ًقا ،فقد
أسفرت يف عصوران احلديثة -كما رأينا -عن نزعات أيديولوجية متباينة :سلطوية
سهم
ودميقراطية ،حمافظة وثورية ،مثالية وبرمجاتية ،خنبوية وشعبوية ،إىل غري ذلك ،كلها هلا ٌ
ٍ
بدرجات متفاوتة ،وحنن -املسلمني -ال اإلسالمي ،وكلها أصاب وأخطأ يف الفكر
ّ
خنتلف يف هذه النزعات األيديولوجية عن غريان من البشر ،لكن الذي ستضيفه مرجعية
اإلسالم هو أهنا ستمدان أبدلة استنباط خمتلفة ،ومنظومة قيم ومقاصد متمايزة ،بل ولغة
خطاب وجدل خاصة ،وابلتايل لن تتحقق "إسالمية" الدولة -إن صح هذا التعبري -
عن طريق إقامة دولة أيديولوجية ،لديها اإلجاابت اليقينية واحلل النهائي ملشكالت
كل من اجملاالت العامة واخلاصة ،وتستخدم أدواهتا يف االجتماع اإلنساين ،فتتغول على ٍّ
التنشئة االجتماعية الصارمة والتنميط؛ ألهنا ستكون يف هذه احلالة -وعلى أحسن
األحوال -ال تعرب إال عن إحدى القراءات األيديولوجية القائمة على تفسريات
وتفضيالت بشرية انتزعت لنفسها عنوة السمة اإلهلية.
182
الفصل السادس:
اجلهاد والعنف ومأزق الدولة
معتز اخلطيب
شرحت هذه الفكرة يف مقدمة كتاب :مأزق الدولة بني اإلسالميني والعلمانيني( ،بريوت :دار جسور،
ر
1
.)2016
184
ألهنا مستندة إىل اإلرادة العامة والتمثيلية ،و"املشروع" هنا يعين أنه يستند إىل معايري قومية
يتم من خالهلا فرض إرادة الدولة واحتكار العنف داخل سلطة القانون وليس خارجه،
أي أن احتكار "العنف املشروع" أييت لصيانة مصاحل اجلماعة ،وشرعيته ترستَمد من
األسس اليت يعرب عنها واملتمثلة يف فكرة الدولة وطبيعتها وتركيبتها .ومن َمثَّ ال ميكن الفصل
بني فكريت" :العنف املشروع" ومفهوم "الدولة" ،وأي نقاش اليوم عن العنف والدولة جيب
حصرا.
أن يتم يف هذا اإلطار ً
ومبا أن "دولتنا" يف العامل العريب تنتمي إىل الدول الفاشلة وال تعكس اإلرادة العامة وال
متثل مجاعة املواطنني وال ترعى مصاهلم -ال منفردين وال جمتمعني -فستتحول فكرة
احتكارها "للعنف املشروع" إىل عنف عميم منفلت من أي معيار سوى أن شرعيته انبعة
من كونه صادرا عن هذا النظام املمسك بزمام الدولة ،فتتحول فكرة "الدولة" إىل أداة
ض هلا وإلرادهتا السلطوية إىل "عنف غري مشروع"؛فعل معا ِر ٍ
قمعية ال غري ،ويتحول كل ٍ
حبجة أهنا وحدها حتتكر العنف املشروع ،وأهنا هي اليت تفرض الوضوح األخالقي فتحدد
معايري الشرعية.
وفكرةر احتكار "العنف املشروع" مبنية على افرتاض أن العالقة بني البشر قائمة على
نظرا لتعارض مصاحل األفراد واستئساد بعضهم على بعض، أساسا؛ ً
التنازع واالحرتاب ً
فرتضومن هنا تتأسس شرعية وجود جهة واحدة خمولة ابحتكار هذا العنف التكويين -املر ََ
قدر اإلمكان وفق معايري تعكس إراد َة اجملموع ومصاحل اجلماعة .فشرعية -لتقليصه َ
مشروع جملرد أنه
ٌ العنف انجتة عن شرعية الدولة وقيامها بوظائفها املصلحية ،ال أن العنف
صادر عن "دولة" سواءٌ اتصفت ابلشرعية أم ال ،سواءٌ قامت بوظائفها أم ال .فغياب ٌ
هذه الشرعية حيول عنف الدولة إىل عنف عا ٍر عن أي غطاء أخالقي .وهلذا ال ميكن
حبث العنف أو فهم ظاهرته مبعزل عن حبث مسألة شرعية الدولة نفسها؛ فما يَصدر عنها
من ممارسات وسياسات ال يكتسب شرعيته األخالقية إال من شرعية اجلهة الصادرة عنه
أوالً ومن شكل هذه املمارسة ومدى احرتامها للمعايري اليت تعرب عن اجلماعة اثنيًا ،ويف
حالة غياب الشرعية واملعايري نكون أمام عنف وعنف مضاد يدعي كلٌّ منهما الشرعية
ويكون اخلاسر األكرب فيه هو اجلماعة اليت تقع ضحية عنف مزدوج.
185
ولكن هذا الربط بني الوسيلة واملقصد ،أو بني شرعية السلطة وشرعية ممارساهتا ،يضطران
فمن أَض َفوا الشرعية
إىل توضيح االنفصال الذي وقع مع شرعنة "احلاكم املتغلب" اترخييًّاَ .
على التغلب قاموا جبملة موازانت بني املصاحل واملفاسد ،وانتهى هبم األمر يف سياق اترخيي
حمدد ويف "الدولة التارخيية" إىل إضفاء شرعية على وسيلة التغلب؛ حبصول الرضا والتسليم
هلذا املتغلب أبن يستتب له األمر وتنقاد له الناس ،2أي أن حالة اإلكراه صارت إىل
حالة رضا وتسليم من عموم اجلماعة ،كما أن مقاومة الشوكة القاهرة اليت م ّكنت املتغلّب
ودفعت الناس إىل الرضا حمفوفةٌ مبخاطر الفتنة وسفك الدماء .ولكن املسألة ال تقف عند
مطلق شرعية الوسيلة دون النظر إىل سياقها التارخيي ،أي أن شرعنة التغلب كانت حالة
ضرورة واستثناء ،3وهذه الضرورة حمكومة لواقع حمدد فال ميكن أن تكتسب شرعيةَ املبدأ،
خصوصا أن درجة أخالقية الفعل ختتلف حبسب زمانه :قبل وقوعه وبعده .ومن مجلة ً
املصاحل اليت َحلَظها الفقهاء هنا أن يؤدي احلاكم املتغلب الوظائف اليت تصون مصاحل
اجلماعة ،فالتغاضي عن طريق وصوله إىل السلطة مت ألجل احلفاظ على مقصد وحدة
اجلماعة ووحدة دار اإلسالم ،فاملوازنة كانت تتم بني فقدان الوسيلة ورعاية املقصد ،أي
أن شرعنة التغلب برنيت على مبدأ النفعية (املصاحل واملفاسد) ،والعاقبة (مآالت األفعال)،
فلجأ هؤالء الفقهاء إىل املرونة يف "الوسيلة" ،وارتكاب أدَّن املفسدتني يف سبيل احلفاظ
على املقصد.
وال بد من التنبه إىل السياق التارخيي هلذه املوازنة األخالقية وحيثياهتا ،ذلك أن سلطة
الدولة التارخيية وأدواهتا يف الضبط والتحكم والقمع ليست هي سلطة الدولة احلديثة ،ومن
أيضا
مث فقدرهتا على التغول كانت حمدودة ،والعالقة بني الدولة واجملتمع كانت مغايرة ً
جلهة تشكيالت اجملتمع التقليدية وبرناه الذاتية اليت كانت مبعزل عن سلطان الدولة
2أبو احلسن املاوردي ،األحكام السلطانية والوالايت الدينية ،حتقيق أمحد البغدادي( ،الكويت :دار ابن
قتيبة ،)1989 ،ص.46-44
3قال املاوردي :اإلمارة على ضربني" :إمارة استكفاء بعقد عن اختيار ،وإمارة استيالء بعقد عن اضطرار".
املاوردي ،األحكام السلطانية ،ص.40
186
(أصحاب األصناف :احلرفيون والصناع وغريهم ،واألوقاف وغريها) ،4كما أن الدولة
التارخيية مل حتظ هبذه القدرة اهلائلة على التنظيم والتغلغل يف تفاصيل حياة األفراد من
الوالدة حىت املمات عرب "قيد النفوس" وامللفات األمنية لكل فرد ،ابإلضافة إىل أن طبيعة
التفكري واالنشغاالت والتحدايت كانت مغايرة.
فاإلشكال اليوم يقع يف املقايسة بني واقع الدولة االستبدادية القمعية وواقع الدولة التارخيية
اليت عرفها املسلمون .فدولة ما بعد االستعمار االستبدادية فقدت شرعية الوسائل وشرعية
املقاصد والوظائف وامتلكت قدرات هائلة على الضبط والتحكم والقمع حمليًّا وإقليميًّا
ودوليًّا مدعومة بتقنيات واسعة ،ومع كل ذلك تسعى إىل فرض إرادهتا القمعية ابلعنف
الذي تضفي عليه شرعية "العنف املشروع" للدولة احلديثة ،فيتفاقم املأزق وتنشأ مجاعات
يف مواجهتها وتتعقد اإلشكالية فنجد أنفسنا أمام ظاهرة العنف املركبة .أي أن إحالتها
إىل الرتاث أو التاريخ أو النص هو تَساوق أو متََاهٍ مع منطق االستبداد نفسه ومصادقة
وقصور عن فهم هذه اجلوانب الفكرية والتحوالت التارخيية. ٌ على عنفه املنفلت بال معايري،
رخيفق "مثقف السلطة" -أخالقيًّا -حني يستدعي فكرة "الدولة اليت حتتكر العنف
املفرتضني على "الشرعية" املشروع" لتسويغ استبداد األنظمة وإلدانة خصومها اخلارجني ََ 5
املمثلة ابلدولة/النظام؛ ألنه يعزل الفكرة عن سياقها وأصوهلا ،وكذلك رخيفق "مفيت
السلطة" -أخالقيًّا -حني يستدعي "فقه الطاعة" التارخيي لقهر الناس بسلطان الدين
يف خدمة سلطان الدولة اليت تفتقر إىل شرعية الوسائل والوظائف والغاايت (تغييب إرادة
اجلماعة وغياب املعايري القومية اليت يتم االحتكام إليها).
فجماعات العنف تنشأ يف هذا السياق ويف مواجهة عنف الدولة االستبدادية مدفوعةً
هبواجسها ومتمثلة ألفكارها ،فالتنافس يقع بني الطرفني على احتكار "العنف املشروع"
4ملعرفة التشكيالت االجتماعية والدينية يف اتريخ اإلسالم انظر :رضوان السيد ،مفاهيم اجلماعات يف اإلسالم،
(بريوت :دار املنتحب.)1993 ،
5راجع على سبيل املثال :علي الدين هالل ومي جميب ومازن حسن ،عودة الدولة :تطور النظام السياسي
يف مصر بعد 30يونيو( ،القاهرة :اهليئة املصرية العامة للكتاب.)2015 ،
187
والسعي إىل الضبط والتقنني يف غياب للجماعة ومصاحلها وللمعايري اليت تعرب عنها ،6
ولذلك مل يكن غريبًا أن يعترب "أوليفيه روا" تنظيم القاعدة واجلماعات املرتبطة به جزءًا من
حركة مناهضة العوملة حتت عنوان "اإلرهاب الديين" ،وأن النظم العلمانية الشمولية يف
العامل اإلسالمي هي اليت ّفرخت الشباب الذين قاموا بعمليات العنف والتفجري .7وكذلك
وجود إرهاب
فعل جان بودراير الذي اعترب أن النظام العاملي املهيمن يقتضي -ابلضرورةَ -
اطؤا
لكي يستمر يف العمل والسيطرة؛ ألنه من دون إرهاب سينهار هذا النظام ،أي أن تو ً
عمي ًقا ينشأ بني اخلصمني فيستخدم أحدمها اآلخر ،فنظام اهليمنة حيمل نقيضه ويرنتج
أيضا ،8أي أننا نتحدث عنفه ،فالنظام الالأخالقي ينتج حركات عنيفة هي ال أخالقية ً
هنا عن غياب "العنف املشروع" املستند إىل معايري أخالقية واملعرب عن مصاحل اجلماعات.
مفهوما بعد هذا كله كيف تشتغل "لعبة اإلرهاب" اليت حيارهبا اجلميع اآلن ،ويف
ً قد يبدو
بعضا ابإلرهاب؛ ألن املفهوم غري حمدد وال يرراد له أن
الوقت نفسه يتهم اجلميع بعضه ً
رحيدد ،ألن طاقته يف غموضه ومرونته ،وأمهيته يف سعته وانفتاحه على كل اخليارات واألزمنة
دليل َمكني على تغييب السياسة أو تقليصها منذ أحداث احلادي عشر واجلماعات ،وهو ٌ
وإيثار للقمع ونفي أي
من سبتمرب ،فإعادة إنتاج اإلرهاب هي إمعا ٌن يف رفض السياسة ٌ
فرتض به أن يعرب معارضة ،ولذلك فقد مصطلح "اإلرهاب" املسحة األخالقية اليت كان ير َ
عنها ،نتيجة زئبقيته وغموضه حىت ابت لعبة مبتذلة تعكس نسبية مفرطة تتبدل حبسب
املصاحل وحساابت الزمان واملكان!
العنف واحلداثة: .2
سبق لعدد من الكتاب أن أشاروا إىل هذا الربط بني حركات اإلسالم السياسي عامة
واحلداثة على عكس ما هو سائد من ربطها ابلرتاث أو أهنا معادية للحداثة .ومن أوائل
من أشار إىل هذا الربط دالل البزري اليت أشارت إىل اقتباس هذه احلركات من احلداثة
6للتفصيل يف هذا املعىن ميكن مراجعة :معتز اخلطيب ،العنف املستباح :الشريعة يف مواجهة األمة والدولة،
(القاهرة :دار املشرق.)2017 ،
7انظر :أوليفيه روا ،عوملة اإلسالم ،ترمجة الرا معلوف( ،بريوت ،دار الساقي2003 ،م) ،ص.22-21
8جان بودراير ،روح اإلرهاب ،ترمجة بدر الدين عرودكي( ،القاهرة :مكتبة األسرة)2010 ،
188
وإىل مصادرة "اإلسالميني" لبرىن حداثية و"تعميدها" بصيغ إسالمية ،9مث بعد أحداث
ليد احلداثة السياسية
كتااب اعترب فيه تنظيم القاعدة و َ
سبتمرب 2001كتب جون غراي ً
من حيث كونه يستخدم الوسائل احلديثة وكونه منظمة أممية ،ومن حيث أشكال التنظيم
اليت يتبعها ،والتصورات األيديولوجية املضمرة واملعلنة ،وأن توسله ابإلرهاب لتحقيق مآرب
سياسية ال خيتلف عن احلركات الثورية والفوضوية الغربية اليت تتحدى احتكار الدولة
الستعمال العنف ،كما أن األهداف اليت اختارها تنظيم القاعدة يف 2001عكست
مصادر القوة والنفوذ يف عصر العوملة ،وزاد "غري" على ذلك أن مناهج أتويلهم للتعاليم
والنصوص ليست بعيدة عن مناهج التأويل والتحليل احلديثة .10
وكتب كيفن ماكدوانلد مقاالً بعنوان" :جهاديو تنظيم الدولة اإلسالمية ليسوا نتاج القرون
الوسطى ولكن نتاج الفلسفة الغربية" ،دعا فيه إىل فهم تنظيم الدولة اإلسالمية انطالقًا
من التاريخ األورويب احلديث وليس ابلعودة إىل الرتاث اإلسالمي ،فـ"الدولة اإلسالمية"
املستندة إىل فكرة "احلاكمية" (أي أن هللا هو احلاكم املطلق والسيد الفرد) تتأسس على
مفاهيم الدولة احلديثة اليت شهدها القرن السابع عشر واليت أسست لنظام وستفاليا سنة
1648م .11
أما يورغن هابرماس فقد رأى يف حوار معه بعد أحداث عنف ابريس أن الدين ال مدخل
له يف ممارسات األصولية اجلهادية ابلرغم من أهنا تستخدم لغة دينية؛ ألنه ميكن هلا أن
تستعمل أي لغة دينية أخرى يف مواقف مغايرة ،فاألداين الكربى يف العامل هلا جذور عميقة
9انظر :دالل البزري ،أخوات الظل واليقني :إسالميات بني احلداثة واليقني( ،بريوت ،دار النهار.)1996 ،
John Gray, Al Qaeda and What It Means to Be Modern, The 10
New Press, 2003.
Kevin McDonald, ISIS Jihadis Aren’t Medieval, They Are 11
Shaped by Modern Western Philosophy, The Guardian, 9
September 2014.
189
يف التاريخ ،أما "اجلهادية فهي صيغة حديثة لرد الفعل على اقتالع سبل احلياة" ،12
وميكن أن جند مثل هذه األفكار يف كتاابت أخرى ككتاابت طالل أسد وغريه ،كما أن
نقد طه عبد الرمحن لفكر وتصورات حركات اإلسالم السياسي السنية والشيعية عن الدين
والسياسة يعكس ضمنيًّا القول :إهنا حركات حديثة أو متورطة يف احلداثة هبذا القدر أو
ذاك .13
إن ربط مثل هذه احلركات ذات األيديولوجيا السياسية مبا قبل احلداثة أو القول :إهنا
حركات ما قبل حديثة مفي ٌد يف شرعنة احلرب عليها أو إضفاء أبعاد تفسريية للحرب
عليها مبا أهنا من خارج "النظام" ( )the systemوخارجة عليه يف اآلن نفسه .ولكن
هذه احلركات اإلسالمية سلميةً كانت أم عنيفةً إمنا ظهرت يف األزمنة احلديثة؛ فهي
حركات ش ّكلت شكالً من أشكال التالؤم مع الدولة احلديثة وإن كان بعضها صرحيًا يف
العداء للحداثة ،فالدولة احلديثة لديها نزوع دائم لتشكيل األفكار وإدارة الناس يف حياهتم
وموهتم ،وأجزاء من هذا كانت من اختصاص جهات أخرى يف التاريخ اإلسالمي يف
مرحلة ما قبل الدولة احلديثة وتنظيماهتا الضابطة (الفقهاء والقضاة وأصحاب األصناف
والصنائع وتشكيالهتم .)...وسبق يل أن رصدت ثالثة أشكال من االستجابة للحداثة
14
ممثلةً بفكرة الدولة ،وهي ما أمسيته ابلفقيه التقليدي ،والفقيه احلركي ،وفقيه اجلهاد
حيث إن مجيعهم يراهن على الدولة بشكل مركزي كأساس للسلطة ومصدر للضبط
والتشريع واختاذ القرار بطرائق إما كانت غري مقننة قبل الدولة احلديثة أو كانت َمنوطة
أبطراف أخرى كالفقهاء واملفتني والقضاة وغريهم ،فلما جاءت الدولة احلديثة استولت
على تفاصيل هذه الشؤون وجتاوبت معها تلك احلركات يف مشاريعها ورؤاها وإن اختلفت
مرجعياهتا وأفكارها.
15انظر تفاصيل ذلك يف :معتز اخلطيب ،منظومة احلقوق ومقاصد الشريعة ،جملة التفاهم( ،سلطنة عمان،
عدد ،39سنة ،)2013ص.48-27
16انظر :معتز اخلطيب ،الفقيه والدولة :معضلة الفقيه يف ظل الثورات العربية( ،جملة تبني ،الدوحة :املركز
العريب لألحباث ودراسة السياسات ،عدد ،)2013 ،6ص.84-63
191
ادعت أهنا وفية للتقليد أو أهنا تريد استعادته ،ولكنها مفا ِرقة له بل خارجة عليه وهو ما
شرحته من خالل أطروحيت املركزية وهي فكرة "النظام الفقهي" .17
هتن لكيفية حتديد مجلة من املفاهيم املركزية،
يبقى أن أي توصيف هلذه احلركات مر ٌ
نظري أم واقعة اترخيية واجتماعية
كمفاهيم :الدين والتقليد واحلداثة .فهل الدين مفهوم ٌّ
لتكونوهلا جوانب قانونية ووجوه حملية وسياسية واقتصادية( ...العناصر اليت يتم تركيبها ّ
"الدين") كما يرى األنثروبولوجي طالل أسد؟ وإذا كانت الدولة (الكائن السياسي
احلديث) ترى أن تعريف وحتديد الوجه العام املقبول للدين هو من صميم عملها ،فإن
احلركات اإلسالمية السياسية السلمية والعنيفة تطمح إىل الشيء نفسه عرب حتويل الشريعة
إىل قانون كما سبق .مث إن كنا سنحيل هذه احلركات إىل التقليد اإلسالمي التارخيي فهل
مفهوما نظرًّاي
ً جوهر ويصبح الدين هنا
التقليد اكتملت صياغته منذ زمن بعيد (أي أنه ٌ
اثبتًا) أم أنه جوهر متغري جيمع بني الثوابت واملتغريات واملقاصد والوسائل ومن مث فهو
خيضع على الدوام إىل عمليات التالؤم وإعادة التشكيل بوصفه ظاهرة اجتماعية هلا
جوانب متعددة ومركبة؟ وحني نقول :إهنا حركات حديثةٌ فهل احلداثة مسار حتمي
اترخيي حمدد أم أهنا ظواهر مؤقتة؟ إن كل هذه ٌّ مستقيم لكل الناس أم أهنا حتقيب
التساؤالت واإلشكاالت تؤثر يف طريقة تشخيصنا لتلك احلركات وغريها وتلقي بثقلها
على عملية التحليل.
مفهوما زئبقيًّا:
ً اإلرهاب .3
يرستَخدم اليوم مصطلحا اإلرهاب واجلهاد على نطاق واسع لتسويغ سياسات وسياسات
مضادة ،ومن الطريف أن مثة تشاهبًا بني املعسكرين :معسكر املنتسبني إىل اجلهاد ومعسكر
رمدَّعي مكافحة اإلرهاب ،فكالمها يبحث عن غطاء "أخالقي" ألفعاله وممارساته
الالأخالقية ،وكالمها يقوم بتوظيف املفاهيم يف صراع سياسي ترستباح فيه خمتلف األدوات
انظر :معتز اخلطيب ،مأزق الدولة بني اإلسالميني والعلمانيني ،مرجع سابق ،ص ،18وشرحت معىن 17
النظام الفقهي يف :معتز اخلطيب ،العنف املستباح :الشريعة يف مواجهة األمة والدولة ،مرجع سابق،
ص.287-265
192
أحياان ،وكالمها خيفق يف حتديد مفهوم دقيق وواضح للمصطلح الذي يرفعه وحدود املعركة
ً
اليت خيوضها!
فمصطلح اإلرهاب أاثر منذ أحداث احلادي عشر من سبتمرب 2001الكثري من اجلدل
مع صياغة بوش االبن لشعار "احلرب على اإلرهاب" ،وعلى خطى بوش االبن سارت
مؤخرا حيث صاغت شعار "مكافحة اإلرهاب" .أما مصطلح اجلهاد دول حصار قطر ً
فبات يشمل تشكيلة واسعة من اجلماعات تبدأ من فلسطني وتتسع لتشمل ليبيا وسوراي
والعراق وغريها.
ومشكلة املفاهيم مسألة مركزية فيما جرى وجيري ،ولكن ال بد من الوعي أبن هذه املشكلة
ليست مفهومية حبتة ،مبعىن أن املشكلة ال تَنتج فقط عن حالة التباس أو سوء فهم ،فجزءٌ
منها يتصل بسطوة التسمية واسرتاتيجية الغموض كما هو احلال مع مصطلح "اإلرهاب"
أحياان خارج
ماداي ًمعنواي بل ًّ
دول إلدانة أي خمالف هلا وتربير تصفيته ًّالذي تستخدمه ٌ
مؤخرا أكثر من مرة؛ فـ"اإلرهايب" َحتَول إىل حكم
إطار القانون كما فعل نظام السيسي ً
عمل هبدف فرتض فيه البداهة فال تتم مساءلته أو البحث عن مسوغاته ،أي أنه يرستَ َ
قيمة ير ََ
اإلرهاب؛ ألنه حتول يف بعض األحيان إىل لعبة سياسية! .وال بد من التذكري أبن أمريكا
مصطلحا
ً منذ عهد بوش االبن رفضت وضع تعريف حمدد له؛ ألنه ال يرستَعمل هنا بوصفه
قانونيًّا يتم االتفاق على مدلوله وفرض عقوابت واضحة على مرتكبيه ،كما أنه منذ
حمصورا يف حدود الدولة القومية ،ولذلك متت صياغة مفهوم ً أحداث سبتمرب مل يَعد
"احلرب على اإلرهاب"؛ لإلمعان يف هذه السيولة اليت يتم تكييفها وفق مصاحل خمتلف
األطراف ،ألننا ال نبحث يف مسألة قانونية كما أننا ال نناقش هنا يف مفهوم أخالقي وإمنا
نناقش يف معايري سائلة حتددها مصاحل الدول واجلماعات وموازين القوى اليت تسعى
لسحب شرعية أي معارضة أو احتجاج عرب وصمها ابإلرهاب.
فالتواطؤ على عدم وجود تعريف حمدد لإلرهاب ليس مسألة نظرية تتصل ابملفاهيم اجملردة،
بل تتعلق جبوهر املوقف العملي جتاه هذا السلوك أو ذاك مما يوصف أبنه إرهاب ،ما يعين
أن املفهوم املرن والسائل لإلرهاب حيتوي يف ذاته على عوامل رمتده ابحليوية واحلركة
واالستمرارية ،ومن مثّ فإن أي حديث عن حماربته ينطوي -يف ذاته -على فاعلية واستمرار
شن على مفهوم سائل ومتجدد وقابل للتشكيل حسب اإلرهاب؛ ألن تلك احلرب تر ّ
193
املصاحل والصراعات املتغرية ،كما أن حديث األنظمة والقوى الدولية عن "مكافحة
اإلرهاب" أو احلرب عليه ينطوي على اعتقاد ممجوج برباءة النفس وطهارة تلك النظم من
ممارسة هذا النوع ،ما يعين أن هذه احملاربة هي يف حقيقة األمر من أجل "احتكار" شرعية
ممارسته وليس نفيه ابملطلق.
أما مفهوم اجلهاد فمشكلته خمتلفة وإن تشابه موقف معسكري اجلهاد ومكافحة اإلرهاب.
صره على املعىن القتايل فقط؛ويرجع جزء من املشكلة إىل التباسات مفهومية حني يتم قَ ْ
ألن اجلهاد ابملصطلح القرآين أوسع من ذلك بكثري ،اهتم الفقهاء ابملعىن القتايل فقط
(جماهدة العدو) ألنه يتصل بتخصصهم ،واهتم املتصوفة جبانب آخر وهو (جماهدة النفس
والشيطان) ،كما أن جزءًا آخر من املشكلة يتصل ابلتطورات اليت طرأت على املفهوم مع
اختالف األزمنة والسياقات كما فعلت اجلماعات املنتسبة للجهاد اليوم حني حولته من
مفهومه الوظيفي الفقهي إىل معىن ثوري انقاليب على األنظمة والعامل وعبأته مبضامني
جديدة مل تكن معهودة للفقهاء السابقني وجعلت منه ركنًا من أركان اإلسالم .واجلهاد
مفهوم يقابل وال يساوي احلرب؛ ألن اجلهاد يستند إىل مقاصد وغاايت
يف مدلوله األصلي ٌ
فعل مشرو ٌط قبل وأثناء وبعد قتال العدو؛ خبالف احلرب اليت تقوم على أخالقية وهو ٌ
خصوصا مع تطور أدوات احلرب ووسائلها ً مصاحل الدول أو ما تراه هي مصاحلَ حيوية هلا؛
18
يف العصر احلديث واتساع قدرهتا على التدمري والتنكيل .
فاإلشكال احلقيقي ينشأ من املمارسات احلديثة ملا يرسمى "اجلهاد" اليت تتصل وتلتبس
قائما يف ظل الصراع ابلعنف بفعل عوامل خمتلفة ،ولكن هذا االلتباس سيبقى ً
واإلحباطات ،ويف ظل فشل مشروع الدولة الوطنية والتعقيدات اليت أحاطت بتطبيق
مفهوم اجلهاد يف ظلها ،مع االعرتاف أبن جزءًا من املشكلة قائم لدى فئة من الناس تريد
أن تعيد رسم العامل على صورة اجملتمع اإلسالمي األول يف املدينة املنورة قبل قرون ،وتَعترب
دفاعا عن
اجلهاد الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك ،أي أهنا حولت اجلهاد من فعل اجلماعة ً
وجودها وحقوقها إىل فعل جمموعات معزولة ضد اجلماعة املسلمة ولتحقيق أيديولوجيات
خاصة ابلقوة.
الفرق بني اجلهاد واحلرب على مستوى املفهوم واملمارسة انظر :معتز اخلطيب ،العنف
18للتوسع يف معرفة َ
املستباح :الشريعة يف مواجهة األمة والدولة ،مرجع سابق ،ص.40-25
194
فالعنف إذن ظاهرةٌ حديثة تعكس مأزق الدولة التحديثية أوالً ،وهي الدولة اليت حاولت
فرض احلداثة من أعلى وابلقوة فدمرت البىن التقليدية جملتمعاتنا ونتج عنها كل هذه
منظما أو
الفوضى ،فاالنتقال من األزمنة الكالسيكية إىل األزمنة احلديثة مل يكن انتقاالً ً
عرب قَ ْسر وإكراهٍ وصراعات .واثنيًا :ترجع ظاهرة العنف إىل قمع "الدولةمدروسا وإمنا ْ
ً
العسكر خالل العقود املاضية واليت أتسست
ر عليها وسيطر االستعمار ثت رو اليت الوطنية"
شرعيتها على االنقالابت العسكرية وقمع الناس؛ ألن نشوء هذه الدولة أصالً مل يكن
نتاج تطور داخلي يف جمتمعاتنا ،وقد قامت مشاريع عديدة ملواجهة هذه الدولة بعضها
سياسي وبعضها عنيف .اثلثًا :إن اخلطاب احلايل للتقليد فشل يف الدفاع عن التقليد
الفقهي فلم تَـتَنبه الردود الفقهية والدينية على كتاابت العنف إىل أن املشروع اجلهادي
السياسي ،ولذلك
ّ يرعيد اكتشاف اإلسالم ويتجاوز التقليد؛ شأنه شأن مجاعات اإلسالم
أخفقت يف اإلمساك جبوهر اإلشكال أو النموذج ( )Paradigmاجلهادي ،كما أن
خطاب التقليد نفسه ابت حلي ًفا ألنظمة االستبداد وأداة من أدواهتا .فمثالً كان هناك
رسالة مفتوحة وقعها ( )126شخصيةً إسالمية روجهت إىل أيب بكر البغدادي زعيم تنظيم
الدولة ،وهي رسالة هزيلةٌ أخفقت يف اإلمساك ابإلشكال الرئيس لدى تنظيم الدولة
ومجاعات العنف وهو كيفية تعامل اجلهاديني -عامة -مع املوروث الديين والفقهي ومع
التقليد يف الزمن احلديث ،وهو ما يتصل مبا تسميه الرسالة نفسها "فقه الواقع" ،فمنظّرو
تنظيم الدولة يرون أنفسهم أدرى ابلواقع ويتبنون تصورات مغايرة عن هذا الواقع املع ّقد يف
تركيبته وصراعاته الطائفية والسياسية احمللية والدولية ،وهو -يف نظرهم -واقع صراعي،
ئيس فيه ،ويفتقر فيه املسلمون إىل العزة والكيان
احلرب على اإلسالم واملسلمني مكو ٌن ر ٌر
اجلامع واهلوية املميزة حتت وطأة العدو اخلارجي املقاتل على طول اخلط والعدو الداخلي
القاهر واملع ِطّل لشرع هللا واملعِني للعدو اخلارجي ،واملسلمون ضحية عدوان خارجي وقهر
"أمر هللا" والعيش وفق هديه .ومجاعات العنف ترى وفق هذه داخلي مينعهم من تنفيذ ر
مشروعا متكامالً ملعاجلة هذا الواقع املأزوم وهو أفضل من كل املشاريع
ً الرؤية أهنا متلك
195
رموز متحالفة مع دول االستبداد
األخرى املطروحة! ويف املقابل موقعو هذا اخلطاب هم ٌ
19
ومعاديةٌ للثورات كان من بينها علي مجعة وعبد هللا بن بيه ومحزة يوسف وآخرون .
شكلت ظاهرة العنف منذ أحداث سبتمرب وحىت قيام الثورات عنو ًاان لسياسات دولية،
وتشكل اآلن عنوان املرحلة احلالية لصراع الثورة املضادة واألنظمة القمعية مع الثورات
وحركات االحتجاج واملعارضة ،وإذا كانت مقاومة إسرائيل قد شكلت ذريعة لتعطيل كل
مشاريع اإلصالح والتنمية لعقود ،فإن ذريعة العنف واإلرهاب ترستَخدم اليوم للقضاء على
جمددا وإخراج السياسة من ميدان
أي نزوع ثوري أو معارض وإلعادة متكني االستبداد ً
التداول واملمارسة ،ولكن جذر املشكلة يكمن يف هذه الدولة اليت تسمى "وطنية" واليت
ئيسا يف ظهور العنف وتسهر على تغذيته؛ ألنه أساس شرعية بقائها كانت سببًا ر
ً 20
واستمرارها! .
اجلهاد يف املوروث الفقهي: .4
يضا ملمارسات العنف يف مواجهة دولة ما بعد االستعمار ،وهو اجلهاد ش ّكل عنو ًاان عر ً
كزي يف التفكري اإلسالمي دأب الفقهاء -عرب التاريخ -على الكتابة
كذلك مفهوم مر ّ
وعرفه حاجي خليفة أبنه "علمعلما من العلوم اإلسالمية ّ
فيه وبيان أحكامه حىت رع ّد ً
يرعرف به أحوال احلرب ،وكيفية ترتيب العسكر ،واستعمال السالح ،وحنو ذلك ،وهو
ابب من أبواب الفقه يرذكر فيه أحكامه الشرعية .وقد بينوا أحواله العادية ،وقواعده
احلكمية يف كتب مستقلة .ومل يذكره أصحاب املوضوعات بلفظ :علم اجلهاد ،لكنهم
ذكروه ضمن علوم :كعلم ترتيب العسكر ،وعلم آالت احلرب ،وحنو ذلك" ،21أي أن
19للوقوف على تفاصيل حتليل خطاب تنظيم الدولة ،وأوجه اإلشكال يف اخلطاب الذي مت توجيهه أليب بكر
البغدادي انظر :معتز اخلطيب ،العنف املستباح :الشريعة يف مواجهة األمة والدولة ،مرجع سابق ،ص-219
.252
20للوقوف على تشخيص مأزق الدولة انظر :معتز اخلطيب ،مأزق الدولة بني اإلسالميني والعلمانيني ،مرجع
سابق ،ص.19-7
حاجي خليفة ،كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون( ،بغداد :مكتبة املثىن ،)1941 ،ج،1 21
ص ، 622وانظر :بيان علم اآلالت احلربية وعلم ترتيب العساكر يف :صديق بن حسن القنوجي ،العربة مما جاء
196
موضوع اجلهاد وما يتصل به من أحكام وأدوات وتراتيب وغريها ش ّكل ما رمسي "الرتاث
ووضعت فيه آتليف كثرية ومتنوعة ال ميكن االكتفاء العسكري" يف اتريخ اإلسالم ،ر
ابجلانب الفقهي منها املتعلق ابألحكام الشرعية وما يتصل ابجلهاد قبل وأثناء وبعد القتال،
لفات تصف اجلرندية والوقائع العسكرية واملغازي والفتوحات اإلسالمية وأحكام فهناك مؤ ٌ
احلرب واجلهاد وصفة اآلالت احلربية وصنوف األسلحة والسفن واملراكب واألساطيل
واأللفاظ واملصطلحات العسكرية وتشكيالت اجليوش والتخطيط العسكري ،22وحني
نتحدث عن اجلهاد فهو إمنا يشتغل ضمن منظومة متكاملة تتصل بذلك كله ،وغياب
أوقع يف مشكالت عديدة يف الزمن احلاضر. هذا التصور َ
مل ينقطع التأليف يف اجلهاد منذ القرن الثاين اهلجري ،وكان عبد هللا بن املبارك (181هـ)
23
جمددا يف العصر احلديث
أول َمن صنف فيه فيما نعلم ،وقد نشط التصنيف فيه ً
وخصوصا من أصحاب األيديولوجيات السياسية كأيب األعلى املودودي وحسن البنا ً
24
وسيد قطب ،وقد رمجعت نصوصهم الح ًقا وطبعت يف كتاب واحد ،مث انصرفت
مجاعات العنف يف النصف الثاين من السبعينيات إىل الكتابة عن اجلهاد وكان كتاب
يف الغزو والشهادة واهلجرة ،حتقيق حممد السعيد زغلول ،ط( ، 2بريوت :دار الكتب العلمية،)1988 ،
ص.12-11
22انظر مثالً :بدر الدين بن مجاعة (733هـ) ،مستند األجناد يف آالت اجلهاد ،وُمتصر يف فضل اجلهاد،
حتقيق أسامة انصر النقشبندي( ،دمشق :دار الواثئق ،)2008 ،ومجع كوركيس عواد مصادر الرتاث العسكري
عند العرب يف ثالثة جملدات مجع فيه حنو سبعة آالف عنوان.
23عبد هللا بن املبارك ،اجلهاد ،حتقيق نزيه محاد( ،تونس :الدار التونسية ،)1972 ،واهتم حمققو املصادر
املذكورة يف اهلوامش السابقة ِ
بذكر َمن صنف يف اجلهاد ،وأحصاها أحدهم يف 68عنو ًاان ،مث ذيّل عليه إايد
كتااب .انظر :العز بن عبد السالم ،أحكام اجلهاد
كتااب إضافيًّا ،يف حني أحصاها آخر يف ً 328
الطباع بـً 59
وفضائله ،حتقيق إايد خالد الطباع( ،دمشق :دار الفكر ،)1996 ،ص ،18-9وابن املناصف ،اإلجناد يف
ر
أبواب اجلهاد ،حتقيق مشهور بن حسن آل سلمان وحممد بن زكراي أبو غازي( ،بريوت :مؤسسة الراين،
،)2005مقدمة التحقيق ص.126-83
24أبو األعلى املودودي ،حسن البنا ،سيد قطب ،اجلهاد يف سبيل هللا( ،بريوت :دار لبنان.)1967 ،
197
عددا من
"الفريضة الغائبة" حملمد عبد السالم فرج عالمة فارقة يف هذا االجتاه سنجد ً
أفكاره ترتدد يف منشورات مجاعة اجلهاد املصرية .غري أنه ميكن إدراك فروق عديدة بني
كتاابت اجلهاد املتنوعة ،فكتاابت اجلهاد يف األزمنة الكالسيكية تلتزم بذكر النصوص
املتعلقة ابجلهاد من القرآن والسنة واألحكام الفقهية على مذهب معني أو حتتفي بذكر
مذاهب الفقهاء واختالفاهتم على الرتتيب والشمول املعهود يف كتاابت الفقهاء األقدمني.
أبعادا
أضفت عليه ً منحى خمتل ًفا يف فهم اجلهاد و ْ
ً أما كتاابت القرن العشرين فقد َحنت
جديدة سنوضحها الح ًقا.
وقد اختلف الفقهاء يف القرنني األول والثاين اهلجريني حول رؤية اجلهاد وضروراته واحلاجة
نفل وهو قول الصحايب ابن عمر ،وقول ابن إليه ،فظهرت لدينا أربعة أقوال :أوهلا :أنه ٌ
25
فرض عني ،وهو قول سعيد بن املسيَّب ،وكان الثوري .واثنيها :أنه ر
ّ رشربمة وسفيان
ِ
اجب عليكم ،مث يقول :إن شئتم مكحول يستقبل القبلة مث حيلف عشرة أَميان أن الغزو لو ٌ
ٌ
مروي عن داود بن أيب
اجب مرة يف العمر على املستطيع ،وهو ٌّ زدتكم .واثلثها :أنه و ٌ
عاصم حيث قال" :الغزو واجب على الناس أمجعني غزوًة كهيئة احلج" .ورابعها :أنه
اجب الغزو على الناس كلهم؟ فقال واجب على الكفاية ،فقد سأل ابن جريج عطاءً :أو ٌ
هو وعمرو بن دينار :ما َعلِمنا .وعن ابن جريج قال :أخربين داود بن أيب عاصم أن الغزو
26
فرضا على
فسكت ،وذركر عن عطاء أن اجلهاد إمنا كان ً ّ اجب على الناس أمجعني؟أو ٌ
فرض عني ،فلما استقر الشرع صار الصحابة .قال ابن املرناصف" :وهذا َحيتمل أن يريد َ
على الكفاية ،وحيتمل أن يرذهب بذلك إىل قول َمن زعم أنه اآلن انفلةٌ يَعنون بعد فتح
مكة" .وذكر ابن املناصف قول َمن قال :إنه واجب مرة واحدة يف العمر وقول من قال:
نفل ،ووصفهما ابلشذوذ ،وقال :إهنما حمجوجان ابلكتاب والسنة ،واستدل لذلك ٌ إنه
جبملة من النصوص .27
25انظر :ابن قدامة ،املغين( ،القاهرة :مكتبة القاهرة ،)1968 ،ج ،9ص.196
26عبد الرزاق الصنعاين ،املصنف ،حتقيق حبيب الرمحن األعظمي( ،بريوت :املكتب اإلسالمي،)1972 ،
ج ،5ص.174 ،171
27انظر :ابن املناصف ،اإلجناد يف أبواب اجلهاد ،مرجع سابق ،ج ،1ص.34-26
198
ولكن الذي استقر عليه رأي الفقهاء -فيما بعد -هو أنه من فروض الكفاية ،قال ابن
املناصف" :هذا هو املشهور املعروف الذي عليه مجاعة أهل العلم" .أي أنه إ ْن مل يَـ رقم به
َمن يكفي ،أَِمث الناس كلهم ،وإن قام به َمن يكفي سقط اإلمث عن سائر الناس ،ولكنه
بلدا من بالد املسلمني أو استنفر يتحول إىل فرض عني إذا التقى الزحفان أو هاجم العدو ً
الناس للجهاد.
اإلمام َ
وال نعرف على وجه التحديد سياقات ومالبسات ذلك االختالف حول رؤية اجلهاد
واحلاجة إليه ،ومن السهل القول :إن املسألة راجعةٌ إىل االختالف يف أتويل النصوص،
ولكن املسألة تبدو أعقد من ذلك ورمبا هلا صلة بعالقة الفقهاء ابلدولة ،فلعلها ارتبطت
وحتَوله إىل قوة كربى
برؤيتهم لتطورات الوضع السياسي يف الزمن األول ،واستقرار اإلسالم َ
آمنة ومستقرة ،وقد يتصل األمر ابختالف أفهامهم لوظيفة اجلهاد وهل هو دفاعي أو
هجومي وهل هو فعل الدولة أو فعل اجلماعة ،ومن املؤكد أن االختالف بني الوجوب ّ
العيين زمن الصحابة والوجوب الكفائي الذي استقر فيما بعد عصر الصحابة يشري إىل
أمرين :األول أثر التنظيمات اليت هنجتها السلطة منذ عصر اخللفاء الراشدين يف تصور
حكم اجلهاد ووجود خالف أو تَـَردد يف تَـ َقبلها ،وهبذا حتول اجلهاد من واجب ديين يَتعبد
به األفراد (فرض عني) إىل واجب على اجلماعة ال على األعيان ،أي أنه حتول إىل مسألة
تنظيمية حلفظ اجلماعة ،والثاين :أن تصورهم للحاالت اليت يتحول فيها اجلهاد إىل فرض
عيين رحييل إىل البعد التارخيي للحروب وآالهتا وشكل الدولة التارخيية .وقد مت التسليم
اباب "يف اختاذ األجناد وإعدادهم
ً بتنظيم مسألة اجلهاد حىت أصبح من املألوف أن نقرأ
29
العَرفاء وهم رؤساء األجناد وقوادهم" ِ 28
"اباب يف ذكر ر
وتفريغهم للقيام ب َفْرض اجلهاد" أو ً
رد شيخ األزهر جاد احلق علي يف كتب األحكام السلطانية والرتاتيب اإلدارية .وحني ّ
جاد احلق على كتاب "الفريضة الغائبة" لفرج بىن على تلك الفكرة فقال" :مل يكن آنذاك
28ابن مجاعة ،حترير األحكام يف تدبري أهل اإلسالم ،حتقيق فؤاد عبد املنعم( ،قطر :دار الثقافة،)1988 ،
ص.94
29حممد عبد احلي الكتاين ،الرتاتيب اإلدارية والعماالت والصناعات واملتاجر واحلالة العلمية اليت كانت
على عهد أتسيس املدنية اإلسالمية يف املدينة املنورة العلمية ،حتقيق عبد هللا اخلالدي( ،بريوت :دار األرقم،
د.ت) ،ج ،1ص.205
199
ومن
نظامي متفرغ هلذه املهمة حىت إذا ما جيّش عمر بن اخلطاب َ
ٌّ إجباري وجيش
ٌّ جتني ٌد
ودون الدواوين مل يَعد هناك جمال هلذه البيعة على القتال خارج صفوف
بعده اجليوش ّ
جيش الدولة ،وإال كان هؤالء الذين يبايعون على مثل هذا خارجني على مجاعة املسلمني
وتَـ َعني قتاهلم واألخذ على أيديهم" .30
ومن مظاهر هذا التنظيم ملسألة اجلهاد أ ْن َربَطه الفقهاء إبذن اإلمام؛ قال ابن قدامة:
"وأمر اجلهاد موكول إىل اإلمام واجتهاده ،ويَلزم الرعيةَ طاعتره فيما يراه من ذلك .وينبغي
أن يبتدئ برتتيب قوم يف أطراف البالد يكفون َمن إبزائهم من املشركني ،وأيمر بعمل
أمريا يقلّده أمر احلروب
ويؤمر يف كل انحية ً
حصوهنم وحفر خنادقهم ومجيع مصاحلهمّ ،
وتدبري اجلهاد" .31وبدأ ابن مجاعة كتابه عن اجلهاد بباب "يف والة األمر من اخللفاء
والسالطني واألمراء وما عليهم من العدل وما هلم من الطاعة" ،وتكلم عن اختاذ األجناد
وآالت احلرب وغري ذلك ،كما ذهب مجهور الفقهاء إىل أنه "يرغزى مع أمري ٍ
جيش ولو
تكااب ألخف الضررين ،وألن تَـْرك اجلهاد معه سوف يرفضي إىل قَطع اجلهاد جائرا؛ ار ً
كان ً
وظهور الكفار على املسلمني ،واستئصاهلم وظهور كلمة الكفر ،ونصرةر الدين واجبةٌ .وكذا
مع ظامل يف أحكامه ،أو فاسق جبارحة ،ال مع غادر ينقض العهد" ،32أي أن اهلاجس
األكرب الذي كان يشغلهم هو حفظ وحدة الدار ووحدة اجلماعة ولذلك مسوا "أهل السنة
واجلماعة".
وكانت العديد من كتب اجلهاد ترصنّف لألمراء والسالطني ،أو بطلب منهم ،أو يف سياق
كنوع من جهاد
الغزو واحلروب اليت ختوضها اخلالفة أو السلطنة مع أعدائها يف اخلارج ٍ
العلماء ،وميكن أن نضرب العديد من األمثلة على ذلك ،فابن امل ِ
ناصف (أبو عبد هللا
حممد بن عيسى القرطيب 620هـ) كتب كتابه "اإلجناد يف أبواب ر
اجلهاد" يف عهد الدولة
املوحدية استجابةً لطلب أمري بلنسية أيب عبد هللا حممد بن أيب حفص فهو الذي "أ َّ
َجد ّ
العزم وأحفى يف اإلرشاد على تقييد هذا اجملموع يف اجلهاد وأبوابه وتفصيل فرائضه وسننه،
30جاد احلق علي جاد احلق ،نقض الفريضة الغائبة :فتوى ومناقشة( ،القاهرة :األزهر ،)1993 ،ص.39
31ابن قدامة ،املغين ،مرجع سابق ،ج ،9ص.202
32املوسوعة الفقهية الكويتية( ،الكويت :وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية) ،ج ،16ص.136
200
العال إدريس امللقب ِ
ابن األمري السابق أبو ر
وذكر رمجَل من آدابه ولواحق أحكامه" ،مث أمر ر
ابلواثق ابهلل (املعروف أبيب دبوس ،تَـغَلّب سنة 665هـ) بنسخ الكتاب عن نسخة املؤلف،
وكذلك كتب ابن كثري (774هـ) "االجتهاد يف طلب اجلهاد" تلبيةً لرغبة انئب السلطة
ابلشام األمري منجك بن عبد هللا سيف الدين اليوسفي (ت776هـ) ملا حاصر الفرنج
قلعة إايس ،وذلك لرتغيب الناس يف الرابط على الثغور اإلسالمية ،33وكذلك فعل ابن
بذكر مستندمجاعة فقد قال يف مقدمته" :وقد تقدم من طاعته حتم ،وامتثال إشارته غرْنم ِ
ٌ ر ٌ َ
الغزاة يف اختاذ ما تدعو حاجتهم إليه ،وما يعولون يف آالت اجلهاد عليه ،فجمعت هذا
املختصر" .34واستمر األمر كذلك يف عهد اخلالفة العثمانية ،فقد صنف حسن البيطار
(1856م) كتابه "اإلرشاد يف فضل اجلهاد" يف سياق الصراع العثماين الروسي ،وقال يف
مقدمته" :فلما كان أواخر سنة تسع وستني بعد املئتني واأللف ورد األمر الشاهاين أبن
طائفة روسيا الباغية والشرذمة القليلة الطاغية احنطت على بعض أطراف مملكة موالان
األعظم وسلطاننا األفخم صاحب العز والتمكني واملؤيد ابلنصر والفتح املبني حامي بيضة
اإلسالم ومشيد أركان شريعة خري األانم ...السلطان الغازي عبد اجمليد خان ...فاقتضى
ذلك نقض العهد والنداء عليهم ابلطرد والبعد فصدرت إشارة موالان املومى إليه ابلتوجه
لقتاهلم وإشعال احلرب فيهم واستئصاهلم فهتف يب هاتف اإلهلام أن أمجع نبذة من كالم
إرشادا للعباد يف فضل اجلهاد" ،35مث بعد وفاة السلطان عبد العزيز
بعض العلماء األعالم ً
القنَّوجي (1890م) كتابه خان وتَـويل عبد احلميد خان كتب حممد ص ّديق حسن خان ِ
َ
"العربة مما جاء يف الغزو والشهادة واهلجرة" (طربع يف اهلند 1877م) قائالً يف مقدمته:
"طاملا تواترت إلينا جوانب ما جرى يف هذه األزمان بني أقطار الدولة العثمانية وأمصار
الدولة الروسية ...،وآل األمر آخر احلال على خالف آراء الدول والرجال إىل تصميم
33انظر :ابن كثري ،االجتهاد يف طلب اجلهاد ،حتقيق عبد هللا عسيالن( ،بريوت :مؤسسة الرسالة،)1981 ،
ص.61
34انظر :بدر الدين بن مجاعة ،مستند األجناد يف آالت اجلهاد ،وُمتصر يف فضل اجلهاد ،مرجع سابق،
ص.29
35حسن بن إبراهيم البيطار ،اإلرشاد يف فضل اجلهاد ،حتقيق مسعد عبد احلميد( ،طنطا :دار الصحابة
للرتاث1992 ،م) ،ص.26-25
201
العزم على حرب الروس وجزم العزم ببذل ما عند كل رعويي الدولة العثمانية وغريها من
لس َفَرة
"س ْفرة الزاد َ
اآللوسي ر األموال والنفوس ،36 "...كما كتب شهاب الدين حممود
أتييدا لنرفرة اجلهاد اليت قادها السلطان عبد اجمليد خان.37
اجلهاد" ً
هذه املعطيات كلها تفيد أن التصنيف كان أييت يف سياق تصور حمدد ملفهوم اجلهاد وهو
اجلهاد ضد األعداء يف اخلارج ،ويف إطار عالقة حمددة مع السلطة القائمة هي عالقة
دار اإلسالم ،أي أن الفقهاء أحالوا العون والتأييد يف وجه أي اعتداء خارجي يهدد َ
مسألة اجلهاد إىل الدولة وتنظيماهتا ،فلم يكونوا يتصورون اجلهاد خارج حدود السلطة
حمصورا ابلقتال خارج حدود دار اإلسالم (مع الكفارً القائمة أوالً ،كما أن اجلهاد كان
ِ
احملاربني) اثنيًا؛ فقد استقر لديهم التسليم للحاكم والطاعة له ولو كان متغلّبًا ما دام يقوم
بوظائف حفظ الدين ومحاية دار اإلسالم ،وقد عكس هذا التصور ملركزية السلطة
والسلطان يف مرحلة متأخرة جدًّا حممد صديق حسن القنوجي ابلقول" :والسلطان زمام
األمور ونظام احلقوق وقوام احلدود ،واتج عروس الدهور ،والقطب الذي عليه مدار الدنيا
والدين ،ومركز دائرة اإلسالم واليقني ،وهو ِمحى هللا يف بالده ،وظله املمدود على عباده،
به ميتنع حرميهم وينتصر مظلومهم وينقمع ظاملهم وأيمن خائفهم.38 "...
اجلهاد ومعضلة الدولة القومية: .5
ولكن مع نشأة الدولة القومية واحلركات اإلسالمية اختلفت األمور ،وأخذت الكتاابت
مغايرا للكتاابت السابقة ،فاجلهاد عند أيب األعلى املودودي ش ّكل
منحى ًً عن اجلهاد
الوسيلة لتحقيق اإلسالم الذي هو "فكرة انقالبية ،ومنهاج انقاليب يريد أن يهدم نظام
العامل االجتماعي أبسره وأييت بنيانه من القواعد ،ويؤسس بنيانه من جديد حسب فكرته
وصف للحزب االنقاليب العاملي
ٌ ومنهاجه العملي .ومن هناك تعرف أن لفظ (املسلم)
36صديق حسن القنوجي ،العربة مما جاء يف الغزو والشهادة واهلجرة ،حتقيق :حممد السعيد بن بسيوين( ،دار
الكتب العلمية ،طبعة )1985ص.9-8
37انظر :حممود عبد هللا اآللوسي ،سفرة الزاد لسفرة اجلهاد ،خمطوط ،مكتبة األزهر ،رقم ،333507ورقة
.2
38صديق حسن القنوجي ،العربة مما جاء يف الغزو والشهادة واهلجرة ،مرجع سابق ،ص.14
202
يكونه اإلسالم وينظم صفوفه ،ليكون أداة يف إحداث ذلك الربانمج االنقاليب الذي الذي ّ
يرمي إليه اإلسالم ويطمح إليه ببصره .واجلهاد عبارة عن الكفاح االنقاليب عن تلك احلركة
الدائبة املستمرة اليت يقام هبا للوصول إىل هذه الغاية ،وإدراك هذا املبتغى" ،إنه "يهدف
إىل إنقاذ النوع اإلنساين من الظلم واجلور والطغيان وذلك إبقامة اإلمامة الصاحلة" ،39
وهذا املعىن أخذه سيد قطب واحتفى به ونقل نقوالت عديدة من كتاب املودودي ،40
وأحل على "عمق عنصر اجلهاد وأصالته يف العقيدة اإلسالمية ويف النظام اإلسالمي ويف
املقتضيات الواقعية هلذا املنهج الرابين" ،41وأنه "السعي املتواصل والكفاح املستمر يف
سبيل إقامة نظام احلق ليس غري .وهذا اجلهاد هو الذي جيعله القرآن ميزاانً يوزن به إميان
الرجل وإخالصه للدين" ،42ووصفه أبنه "مل يكن حركة دفاعية -ابملعىن الضيق الذي
يفهم اليوم من اصطالح «احلرب الدفاعية» -كما يريد املهزومون أمام ضغط الواقع
احلاضر وأمام هجوم املستشرقني املاكر أن يصوروا حركة اجلهاد يف اإلسالم -إمنا كان
حركة اندفاع وانطالق لتحرير اإلنسان يف األرض بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع
البشري ويف مراحل حمددة لكل مرحلة منها وسائلها املتجددة" .43كان سي ٌد واعيًا أبنه
رخيرج اجلهاد من سياقه الفقهي التقليدي فقد قال" :اللمحات الكاشفة يف هذا الدين إمنا
تتجلى للمتحركني به حركة جهادية لتقريره يف حياة الناس ،وال تتجلى للمستغرقني يف
الكتب العاكفني على األوراق .إن فقه هذا الدين ال ينبثق إال يف أرض احلركة ،وال يؤخذ
عن فقيه قاعد حيث جتب احلركة" .44
39أصدر املودودي كتابه عن اجلهاد للمرة األوىل سنة 1927م ،وله يف ذلك قصة ترنظر يف :أليف الدين
الرتايب ،أبو األعلى املودودي :حياته ودعوته( ،الكويت :دار القلم ،)1987 ،ص.222-221
سيد قطب ،يف ظالل القرآن ،ط( ،17القاهرة :دار الشروق ،)1991 ،ج ،3ص،1446-1444 40
203
كان املودودي وقطب خيوضان معركة األفكار ويواجهان التحدايت اليت طرحتها األفكار
االستشراقية والتغريبية ،ويتحداثن عن فلسفة ورؤى وتصورات ،ولكن مجاعات اجلهاد
نقلت تلك الفلسفة اجلديدة إىل مستوى آخر عرب تنزيلها على األنظمة القائمة ،ومحلتها
حوال اجلهاد إىل جزء من كينونة
إىل ميدان احلركة واملمارسة ،فإذا كان املودودي وقطب قد ّ
اإلسالم ونظامه ،بل كاد قطب جيعله ركنًا من أركان اإلسالم لوال حديث "برين اإلسالم
تعبدي كالصالة والصوم ،كما أوضح
ّ عيين
على مخس" ،فإن اجلهاديني حولوه إىل فرض ٍّ
ذلك حممد عبد السالم فرج يف رسالته ،فقد رأى أن اجلهاد هو "السبيل الوحيد لعودة
ورفع صرح اإلسالم من جديد" عرب إقامة الدولة اإلسالمية ،وزعم أنه قد "أمجع املسلمون
على فرضية إقامة اخلالفة اإلسالمية ،وإعالن اخلالفة يعتمد على وجود النواة وهي الدولة
اإلسالمية" .فإذا كان اجلهاد يف التصور الفقهي هو للدفاع عن دار اإلسالم ،فإنه أصبح
فرضا إلقامة "الدولة اإلسالمية" مث "اخلالفة اإلسالمية" اليت جتسد اإلسالم
مع اجلهاديني ً
الغائب أو املغيَّب؛ ألن "األحكام اليت تعلو املسلمني اليوم هي أحكام الكفر ،بل هي
ر
وضعها كفار" كما يقول عبد السالم فرج وعامة اجلهاديني. قوانني
وإذا كان اجلهاد يف التصور الفقهي يتوجه إىل الكفار احملاربني خارج دار اإلسالم فإن
اجلهاديني نقلوه إىل الداخل اإلسالمي ضد احلاكم وأعوانه والراضني حبكمهم أو اخلاضعني
هلم ،إذ يرى فرج ومنظرو العنف أن "حكام العصر قد تعددت أبواب الكفر اليت خرجوا
هبا من ملة اإلسالم" ،و"قتال العدو القريب أوىل من قتال العدو البعيد" وأن "أساس
وجود االستعمار يف بالد اإلسالم هم هؤالء احلكام" ،مث أكد أمين الظواهري ومجاعة
"م َقدَّم على جهاد اليهود لسببني :ال رقْرب
اجلهاد املعىن نفسه فقالوا :إن جهاد احلكام ر
حتديدا سنشري إليه الح ًقا حبسب املناسبة ،وحنوه عند أيب مصعب
أمثال هذا التناص أو النقل بني انجي وقطب ً
السوري الذي يقول" :إن النظرية اجلهادية ال تولد يف رؤوس املؤلفني واملفكرين فوق املكاتب األنيقة ،وال من
خالل حياة الدعة املرحية ،وال تنزل على أصحاهبا من قمة اهلرم التنظيمي حلركتهم بل تولد يف خنادق القتال
وساحات اإلعداد ومسار احملنة وأتوهنا ،"...وهو ما يعين أن هؤالء متشبعون بروح سيد قطب أو يتقمصونه.
انظر :أبو بكر انجي ،إدارة التوحش :أخطر مرحلة ستمر هبا األمة[( ،د.م] :مركز الدراسات والبحوث
اإلسالمية) ،ص ،31وأبو مصعب السوري ،دعوة املقاومة اإلسالمية العاملية( ،منشور على اإلنرتنت)،
ص.43
204
الرِّدة ،بل إن اليهود ال يستقر هلم مقام بفلسطني إال يف كنف هؤالء احلكام الطواغيتو ِّ
45
املرتدين" ،أي أن اجلهاد حتول من جماهدة الكفار احملاربني إىل جماهدة من تراهم هذه
اجلماعات مرتدين ،وهو املعىن الذي شرحته بتوسع يف كتايب "العنف املستباح" حيث
حللت البنية الفكرية لتنظيم الدولة ومجاعات العنف ،46فاجلهاد ش ّكل لدى املنتسبني
أحد أربع قضااي رئيسة إىل جانب اإلمامة/اخلالفة واحلاكمية
إليه من مجاعات العنف َ
ورؤية العامل.
مل يعد َمث معىن للحديث عن كون اجلهاد جزءًا من تنظيمات الدولة ،وال عن ربطه بقرار
موضوعا للجهاد نفسه ،وهبذا انتقل من مسألة
ً اإلمام؛ ألن الدولة القائمة أصبحت هي
لصيقة ابلدولة إىل فعل مجاعات وأفر ٍاد خارجني على الدولة ،فاإلمام قد انعدم -يف
47
نظرهم -ويف هذه احلالة رحييل عبد هللا عزام أمر اجلهاد إىل "أمري احلركة" إذ يقول" :فإذا
فرِقد اإلمام فإن العلماء يقومون مقام اإلمام أو الرؤساء املطاعون يف أقوامهم ،ويصبح أمري
احلركة اإلسالمية والعلماء املهابون املطاعون الذين رعرفوا ابلتقوى والعلم وسادة األقوام هم
أولوا األمر" .48وهبذا ش ّكل التكفري املدخل الرئيس هلذه اجلماعات للنهوض ابجلهاد من
جديد واالستيالء على قراره وتنظيمه ،عرب اقتباسات جمتزأة من املوروث الفقهي من دون
وبعيدا عن طرائق الفقهاء السابقني يف الكتابة عن اجلهاد ،وكان التقيد مبذهب معنيً ،
45أمين الظواهري (إشراف) ،الرد على شبهة خطرية للشيخ األلباين بشأن السكوت عن احلكام املرتدين،
ط( ،2منشورات مجاعة اجلهاد ،النشرة الثامنة ،)1991 ،ص.14
انظر :معتز اخلطيب ،العنف املستباح :الشريعة يف مواجهة األمة والدولة ،مرجع سابق ،ص-195 46
.218
47فكرة اخلروج من منطق الدولة ال تقتصر على مجاعات العنف ،فجماعات اإلسالم السياسي تقوم يف
تصوراهتا وعملها على احللول حمل "اإلمامة" السياسية اليت رحددت وظائفها يف الفقه اإلسالمي؛ بناء على
افرتاض غياب اإلمام .انظر يف هذا :معتز اخلطيب ،مأزق الدولة بني اإلسالميني والعلمانيني ،مرجع سابق،
ص.240-225
48عبد هللا عزام ،إعالن اجلهاد ،ضمن :موسوعة الذخائر العظام فيما أُثر عن اإلمام اهلُمام الشهيد عبد هللا
عزام( ،بيشاور :مركز الشهيد عبد هللا عزام ،)1997 ،ج ،1ص.152
205
كتاب "الفريضة الغائبة" مفتتح هذا التوجه الذي تردد صداه فيما بعد عند مجاعات
العنف املختلفة.
اجلهاد وأحكامه يف مأزق ،فاجلهاد هو جزء من منظومة َ لقد وضع قيام الدولة القومية
العسكري لفقهي و ِ
ُّ اخلالفة وال يشتغل إال من خالهلا وعلى هذا األساس صْيغ اإلرث ا ُّ
على مدار األزمنة الكالسيكية يف انسجام ومتاسك ،ولكن األزمنة احلديثة اليت مثّلت
املعرب األمثل عنها أحدثت حتوالً جذرًّاي ،فالدولة احلديثة قامت
فكرة الدولة احلديثة ذروهتا و ّ
على أربعة مبادئ كربى هي :مرجعية العقل ومشوليته ومن هنا تراجع الديين إىل دائرة
الفردي ،واحلق الطبيعي ،والعقد االجتماعي الذي ينشأ بني املواطنني ،واحلقوق اخلاص و ّ
واحلرايت الفردية ،وعاد ًة ما رختتصر فكرة الدولة مبفهوم السيادة كمعرب رئيس عنها ،ولذلك
انشغل اإلسالميون بفكرة احلاكمية كمعرب عن الدولة اإلسالمية كمقابل ملفهوم السيادة،
وأهم إجنازات الدولة احلديثة أهنا تولت تنظيم حياة األفراد واحتكرت ممارسة العنف املشروع
يف الداخل كما تولت قرار احلرب يف اخلارج للدفاع عن السيادة أو عما تراه مصاحل حيوية
دويل جديد خاضع لقوانني ومعاهدات تنظم عالقات واسرتاتيجية هلا ،وهي جزءٌ من نظام ّ
الدول فيما بينها وختضع ملوازين القوة واهليمنة .وينضاف إىل ذلك األنظمة االستبدادية
اليت تسلمت السلطة يف العامل اإلسالمي يف مرحلة ما بعد االستعمار وبعد سقوط اخلالفة
العثمانية ،وهي اليت يرعرب عنها عاد ًة ابلدولة الوطنية أو الدولة القومية واليت أخذت عالقتها
ابلدين أشكاالً شىت ما بني العداء واالستتباع والتجاهل ،ولكن األهم أن اجلهاد مل يعد
ينتمي إىل قاموسها.
وقد رولدت الدولة الوطنية يف عاملنا وهي تعاين من مأزق شرعية سواءٌ ابالستناد إىل اإلرث
اإلسالمي أم إىل اإلرث األورويب للدولة احلديثة ،ولذلك كان على األنظمة احلاكمة أن
تواجه -ابستمرار -حركات معارضة واحتجاج ،فقد واجه اإلسالميون صعوابت كربى
يف تقبل هذه الدولة امل ْح َدثة ومل يعرتفوا هبا بديالً عن اخلالفة املجهضة ،ونشأت مقولة
املنشود للتعويض عن فكرة "الدولة اإلسالمية" يف رمواجهتها بوصفها تعبريا عن النموذج ر
ً
اخلالفة .ونتيجة عنف واستبداد الدولة الوطنية والصراع معها وعليها نشأ العنف املسلح
حتت عنوان "اجلهاد" إلقامة الدولة اإلسالمية اليت تعوض اخلالفة وحتكم ابلشريعة.
206
مل يقدم الفقه املعاصر تصورات مالئمة حول اجلهاد يف سياق الدولة ،وهو الذي انشغل
كثريا بفقه النوازل يف جماالت عديدة ،ففي حني انشغل اجلهاديون ابستعادة اجلهاد على ً
طريقتهم ومبفهومهم ،انشغل فقهاء احلركة أبسلمة الدولة وتقنني الشريعة والعمل على
شرعنة وسائلها وأدواهتا ،أي بذلوا جهدهم يف التفكري ابلدولة من الداخل ومل يفكروا يف
عالقاهتا مع اخلارج وكيفية عملها ضمن املنظومة الدولية يف العامل اجلديد ،واكتفوا إبدانة
ومفتو الدولة إبعالن ممارسات احلركات اجلهادية العنيفة وتفنيد أطروحاهتا .وقد تورطوا هم ر
اجلهاد والدعوة إليه -مبعناه القدمي -يف بعض األحيان ،ولكنهم مل يتنبهوا إىل اإلشكاالت
أمرا بعيد املنال ،كما أهنم مل يتنبهوا إىل
النامجة عن نشوء الدولة القومية اليت جعلت َحتققه ً
أهنم بدعوهتم تلك خرجوا عن إطار التقليد الفقهي اإلسالمي القدمي .فالتحول التارخيي
املشار إليه أدى إىل عدد من اإلشكاالت يف استعارة املفاهيم الفقهية وتكييفها يف الواقع
فتم استحضار مفاهيم ،وانتزاع تصورات تراثية من إطارها الكلي لتطبيقها على اجلديد؛ َّ
سياق اترخيي خمتلف كليًّا .فإذا كان قرار اجلهاد يف الفقه بيد اإلمام؛ فإنه مع وجود الدولة
إعالان
القومية (العلمانية يف الغالب) أصبح الفقيه أو املفيت هو الذي يصدر فتوى أو ً
بوجوب اجلهاد ويوجهه إىل الناس ،وإذا كان نـَ ْوط قرار اجلهاد ابإلمام/اخلليفة لكونه ميلك
األمر والسلطة؛ فإنه حتول مع املفيت إىل جمرد "إعالن"؛ ألنه ال ميلك من أمر السلطة
شيئًا ،بل هو -يف حالة املفيت الرمسي -جزء من مؤسسة السلطة وموظف لديها أيمتر
أبمرها وال جنده إال حيث تريد هي.
وإذا كان جهاد الدفع املقصود به الدفاع عن دار اإلسالم (أرض اخلالفة)؛ فمع الدولة
كل منها على فكرة السيادة علىالقومية أصبحنا إبزاء جمموعة من الدول اليت تقوم ٌ
49
أراضيها وعلى مصاحلها القومية ،أي أننا أصبحنا أمام ردور إسالم حترك كل واحدة
207
منها مصلحتها ال رقطرية ،ومن الطبيعي أن تصطدم املصاحل (يف حالة احلرب على العراق
2003خذ مثالً الكويت وسوراي).
وإذا كانت شؤون اجلهاد َمنروطة ابإلمام الذي جيمع بني "الديين والسياسي" يف نظام
سياسي؛ فإننا مع
ٌّ منصب ديين
ٌ اخلالفة اليت هي "حراسة الدين وسياسة الدنيا به" وهي
ظاهرا ،ولذلك تشظتالدولة القومية أمام دولة علمانية تفصل بني الدين والسياسة ولو ً
الفتاوى الدينية كتشظي القرارات السياسية بني فقهاء الدولة وفقهاء احلركة اإلسالمية
ورد الفعل للمفيت (الذي ميثل
وفقهاء اجلهاد .ومع املفتني الرمسيني انقلب الفعل للسياسي ّ
الديين يف الدولة القومية) ،فيصعب الفصل بني الديين والسياسي حني يريد السياسي
توظيف الدين يف خدمة مصاحله السياسية( .أتمل مواقف علماء الكويت والعراق،
مثال من احلرب على العراق .)2003وموقف مفيت سوراي ً
لقد فرضت الدولة القومية واملنظومة الدولية اجلديدة كل تلك اإلشكاالت وغريها ،فهل
وخصوصا العيين منه -يف ظل الدول العلمانية
ً ميكن حتقيق اجلهاد بتصوراته الفقهية اليوم -
دون الوقوع فيما مساه الفقهاء قدميًا "الفتنة" واالحرتاب مع السلطان؟ والتطبيق هنا يتناول
تقليداي ،وجتاوز احلدود ،والتنظيم ،وغري
ًّ اإلعداد واحلصول على السالح الذي مل يعد
ذلك .وقد شكل تنظيم "القاعدة" وتطوراته الالحقة (تنظيم الدولة اإلسالمية) النموذج
209
على العامل كنظام ال كعقيدة (الحظ تقسيم العامل إىل دار :إسالم ،حرب ،عهد؛ فاجلهاد
مبعنييه الدفاعي واهلجومي قائم هنا) وجيسد وحدة الوجود اإلسالمي ،ووحدة النظام
اإلسالمي يف األزمنة الكالسيكية.
واإلشكال األكثر أمهية -مع ما سبق -هو التحوالت اليت طرأت على مفهوم "العدو"
ومن َمث مفهوم "العدوان" الذي من صوره "التدخل" يف القرار السياسي لدولة ما .فدول
ما بعد االستعمار مل تتحرر حقيقة بعد إعالن االستقالل ،وإمنا خضعت ألشكال جديدة
من التبعية االقتصادية والسياسية وغريها ،وهو ما رِمسّي بـ"االستعمار اجلديد" ،وتتداخل
فيه السيطرة اخلارجية مع االستبداد السياسي ،والقوى الدولية مع النخب احلاكمة يف
عالقات ومصاحل؛ وهو ما دفع اجلهاديني إىل القول بتداخل مفهومي اجلهاد :اجلهاد ضد
معا ،وهو إشكال
الداخل (النظام الذي يغيّب األمة وأهدافها العليا) واجلهاد ضد اخلارج ً
مطروح وإن اختلفنا مع طريقة اجلهاديني يف االستجابة له أو التعامل معه ،ومن
ٌ حقيقي
هنا نشأت حركات مناهضة العوملة وغريها.
ونتيجة هذا املأزق املرّكب مل جيد الشيخ ابن عثيمني بردًّا من إسقاط حكم اجلهاد عرب
القول :إن هللا عز وجل "مل يوجب القتال إال بعد أن صار لألمة اإلسالمية دولة وقوة...
وهكذا نقول يف الواقع اآلن؛ لعدم قدرة املسلمني على القتال ومواجهة الكفار ...وهلذا
من احلمق أن يقول قائل :إنه جيب على املسلمني اآلن أن يقاتلوا الكفار ...وأهم قوة
نرعدها هي اإلميان والتقوى؛ ألن املسلمني ابإلميان والتقوى سوف يقضون على األهواء
وحمبة الدنيا ،مث يَلي قوة اإلميان والتقوى أن يَتسلح املسلمون ويتعلموا كما تعلم غريهم.
قدر عليه فإننا غري مكلفني به ،ونستعني ابهلل عز وجل على هؤالء والشيء الذي ال ير َ
األعداء" .50
50ابن عثيمني ،جمموع فتاوى ورسائل ابن عثيمني ،مجع انصر السليمان( ،الرايض :دار الوطن ،ودار الثراي،
،)1992ج ،25ص .310-308ويف ج ،25ص 307يقول" :كل واجب ال بد فيه من شرط القدرة"،
ويف ج ،25ص 315يقول" :إذا مل يقدر املسلمون على غزو الكفار سقط عنهم".
210
خامتة:
من الواضح أن جوهر املأزق يتمحور حول فكرة "الدولة" والتغريات اليت طرأت على طبيعة
السلطة وصيغ احلكم فيها ،وأن هذا العبور من مرحلة الدولة التارخيية إىل االستعمار مث
دولة ما بعد االستعمار ترك أتثريات على البنية العميقة للتفكري اإلسالمي؛ ألنه أحدث
انقطاعا يف استمرارية التقليد اإلسالمي احلي الذي َو َسم اجملتمعات اإلسالمية اترخييًّا
ً
جلهتني :اجلهة األوىل :جهة اإلنتاج العلمي املتواصل الذي انتظم ضمن تشكيالت حمددة
تتسم ابلنظام واالنضباط وأهنا كانت تتم على َوقْع حركة اجملتمع ال مبعزل عنه ،واجلهة
الثانية :جهة تركيبة اجملتمع والسلطة وتفاعل العلماء وأدوارهم ووظائفهم يف العالقة ابجملتمع
معا ،أي أن الفقه كان نتاج حركة هذا التفاعل احلي بني النص واجلماعة والسلطة ً
قانوان إسالميًّا بل
والسلطة ،وكان يتداخل فيه األخالقي مع القانوين ،والشريعة مل تكن ً
وجود سلطة إلزام هو اجلانب أوسع من ذلك ،فاجلانب القانوين فيها الذي يقتضي َ
القضائي فقط ،وفيما وراء ذلك كان مثة مرونة وحرية واسعة يتحرك فيها األفراد واجملتمعات
وحيققون فيها مصاحلهم وخياراهتم ،فأي مقايسة بني منطق الدولة القائمة ومنطق الدولة
لكل من التارخيية هي مقايسة ال اترخيية وحتتوي على مغالطات تشوش الفهم العميق ٍّ
الدولة التارخيية والدولة القائمة.
والنص األخري البن عثيمني يعكس -بعمق -إحساس فقيه اليوم مبأزق استعادة الرتاث
الفقهي يف الزمن احلاضر ،وهو ال ميلك له حالًّ إال اإلميان والتقوى واالستعانة ابهلل ،ابلرغم
من أنه يشري إىل طلب العلم بكالم جممل دون بيان حقيقة العلم املطلوب وكيفية إحداثه
قدر عليه فإننا
للتغيري .وإذا كان ابن عثيمني قد وقف عند حدود أن "الشيء الذي ال ير َ
غري مكلفني به" ،فإن آخرين قد سلكوا طرقًا أخرى الستعادة تراث ما قبل الدولة يف ر
الدولة فنشأ لدينا اجتاه املنتسبني إىل اجلهاد ،واجتاه حركات اإلسالم السياسي اليت حاولت
أن تزاوج بني اإلرث الفقهي وفكر الدولة احلديثة فخرجت بفكرة "الدولة اإلسالمية".
وسبق يل أن رصدت أشكال االستجابة احلديثة ملأزق الدولة يف أربعة أشكال :أوهلا فقيه
اجلهاد الذي يعلن احلرب على الدولة القائمة واجملتمع الراضي حبكمها ،واثنيها :فقيه
الدولة الذي التحق بدولة ما بعد االستعمار وانفح عنها وعن خياراهتا بوصفه جزءًا من
جهازها وموظ ًفا لديها وأسبغ عليها أوصاف اإلمام يف الفقه املوروث وأوجب هلا السمع
والطاعة من دون أن يوجب عليها أي واجبات أو أن حيدد هلا أي وظائف ،واثلثها :فقيه
211
احلركة الذي قام مشروعه على احللول حملها ،ورابعها :فقيه التقليد الفقهي الذي استمر
برتديد مقوالت الفقه املوروث غري عابئ مبتغريات السلطة .51
وإذا كان الفقيه ينشغل -حبكم وظيفته -ابلواقع واملسائل العملية فهو ال ميتلك أدوات
البحث يف األنساق الكربى اليت هي وظيفة املفكر والفيلسوف ،كما ال ميلك مناهج
العلوم السياسية واالجتماعية اليت جيب االستعانة هبا للخروج من هذا املأزق املركب،
ولتجاوز التفكري اجلزئي واملوضعي إىل التفكري يف النسق وإحداث التحول فيه للخروج من
مشكلة التكيف أو التالؤم اليت يتورط فيها أصحاب النظر املوضعي واآلين غري عابئني أو
غري مدركني حلجم التحوالت واملشكالت النامجة عن احللول الرتقيعية اليت تزاوج بني
مفاهيم متناقضة أو تبين على مقدمات يَلزم عنها إلزامات تعود على القيم األساسية
ابلنقض كما قد رأينا يف احلديث عن العنف املشروع مثالً أو يف استعادة اجلهاد يف الدولة
القومية.
51انظر :معتز اخلطيب ،مأزق الدولة بني اإلسالميني والعلمانيني ،مرجع سابق ،ص ،19-15و-225
.240
212
الباب الثاين
الشخصيات
الفصل األول:
استعادة التفلسف :معامل املشروع الفكري لطه عبد الرمحن
مجيلة تِلوت
مقدمة:
يعترب طه عبد الرمحن أحد الفالسفة العرب البارزين أواخر
األلفية الثانية؛ فقد أثرت كتاابته -املتعددة كمّا واملتنوعة
كيفًا -يف مسار البحث يف قضااي الفلسفة والفكر يف العامل
العريب؛ إذ كتب الدكتور طه عبد الرمحن يف قضااي متشعبة
ومهمة ،على رأسها" :مناهج الرتاث" "وفلسفة احلوار"
و"سؤال األخالق" و"املنطق" و"نقد احلداثة" و"فقه
الفلسفة" و"الدين والسياسة" و"علم النفس" و"إشكالية
العنف" وغريها من املواضيع الفكرية والقضااي املعرفية اليت
تناوهلا وفق هنج فلسفي متميز.
وقد مسح التكوين املتنوع لطه عبد الرمحن خبوض غمار هذه القضااي ،إذ َدرس الرجل
الفلسفة واملنطق واللغة ،وبدأ دراسته ابملغرب واستكملها جبامعة السوربون؛ فأعد دكتوراه
السلك الثالث سنة 1972يف موضوع" :اللغة والفلسفة :رسالة يف البنيات اللغوية
ملبحث الوجود" ،ودكتوراه الدولة سنة 1985يف موضوع" :االستدالل احلجاجي
ودرس املنطق والفلسفة بعد عودته للمغرب ،وأسس منتدى احلكمة والطبيعي ومناذجه"ّ .
للمفكرين والباحثني ،كما اشتغل طه عبد الرمحن على عدد من القضااي املتعلقة بروح
العصر ،وخاض يف كتاابته سجاالت احلداثة والرتاث والدين مع مفكري العامل العريب
عموما واملغريب خصوصا كاجلابري والعروي وأركون ونصر حامد أبو زيد وغريهم.
لذلك فإن دراسة مشروع مفكر من طرازه ليس ابألمر اليسري؛ وعليه ،فإين أصرح يف
مقدمة هذه الدراسة أنه يصعب اإلملام ابملشروع يف كليته ،لكن هذا ال مينع من حماولة
النظر يف األسس املنهجية واخلارطة املعرفية ملشروعه الفكري ،على عمومية ذلك واختزاله
أحياان .وقد انتظمت هذه الورقة يف ثالثة حماور رئيسة؛ يعىن األول بتجلية بعض مقومات
استعادة التفلسف عند طه عبد الرمحن حنو جتديد العقل والتجربة الروحية ،ويرتكز الثاين
على بيان اخلارطة الفكرية ملشروع طه عبد الرمحن واقتصرت على جماالت ثالث "الرتاث"
و" احلداثة" و"الفلسفة" ،بينما يهتم احملور األخري ابلنظرية االئتمانية وجتلياهتا يف العمران
املعريف مقتصرة على اجملال السياسي أمنوذجا للتطبيق.
أوال :مقومات استعادة التفلسف عند طه عبد الرمحن
يعرف كل عصر سؤاال معرفيا مييز حقبة أبسرها ،وكان السؤال األبرز أواخر األلفية الثانية
هم واحد؛ وهو ختلف هو "ملاذا أتخر املسلمون وتقدم غريهم؟" ،ويعرب هذا السؤال عن ّ
املسلمني والعرب عن ركب التقدم العاملي ،وقد عرف هذا اهلم أوجه بعد نكسة ،1967
إذ جترعت الشعوب العربية واإلسالمية مرارة اهلزمية ،وحينها تباينت مناهج املصلحني
واملفكرين يف وضع طريق لإلصالح والتغيري والنهوض؛
فمنهم من رأى األولوية يف اإلصالح للحقل السياسي ،وهذا كان ديدن مجهور ابحثي
ومفكري احلركات اإلسالمية ،إذ جعلوا حماربة االستبداد السياسي رأس النهوض ،ومن
مثّ؛ تضخمت خطاابت االستبداد وسبل تفكيكه ملرحلة معينة ،مث تنامى بعد ذلك
احلديث عن الدولة والدميقراطية من مدخل فقهي ينشغل خبطاابت التجويز والتحرمي ،ليتم
االنتقال فرتة أخرى إىل احلديث عن ضرورة استنبات الدولة لتتطور معه خطاابت الدولة
اإلسالمية واملدنية من منظور ديين ،وكانت هذه النقاشات ،اليت جرت على مراحل
متباينة ،تعرف تطورات حتديثية ملحوظة ،مما آل إىل تضخم اإلصالح مبفهومه السياسي
هم فريق آخر ،ابلدعوة إىل اإلصالحابعتباره املدخل للنهوض مع فقر معريف وثقايف ،بينما ّ
الثقايف وحماولة رسم طريق النهوض ،وكان هذا سؤال مجع من املفكرين الذين بصموا اتريخ
األمة ،على اختالف مناهجهم وتعارض مقارابهتم أحياان.
وينتمي طه عبد الرمحن إىل خانة املصلحني املفكرين؛ إذ جعل "التفلسف" آلة لإلصالح
الثقايف لواقع األمة العربية واإلسالمية ،ابالرتكاز على ركنني أساسني :أوهلما جتديد العقل،
واثنيهما التجربة الروحية.
216
-1جتديد العقل
محل طه عبد الرمحن مشعل اإلصالح الثقايف يف وقت مبكر ،حيث أرجع السبب األول
لتخليه عن الشعر وتوجهه للفكر إىل ضرورة االخنراط يف األسئلة اليت رافقت هزمية
،1967إذ أصابته بزلزال شديد وهو ما زال طالبا يف اجلامعة ،فرأى مسلكه يف الفكر
علي آنذاك سؤالأو الكتابة غري املسلك الذي كان ينبغي له ،ليصرح قائال" :واستوىل ّ
عقل هذا الذي هزمنا وحنن أمة كثرية بعددها ،راسخة يف أي ٍّمصريي ،وهوّ " :
اترخيها؟" ،فاختذت قراري أبن أتوقف عن الشعر ولسان حايل يقول" :اليوم ٌ
شعر وغدا
فكر" ،إذ كنت أنسب هذه اهلزمية إىل خلل أصاب عقولنا ،واعتربت أن هذا العقل
عقل ال بد من أنه ميتاز مبا جيعله أهال هلذا االنتصار ،فكان
الذي هزم العرب واملسلمني ٌ
1
هذا هو السبب األول يف خروجي من الشعر إىل الفكر " ،ونتج عن توجهه ابتداءً حنو
الفكر اهتمامه ابلعقل ،فاشتغل ابملنطق تكوينا وتدريسا وتعريبا معتربا إايه املدخل إلحكام
املعرفة االستداللية.
فالنظر يف العقل عنده هو مدخل استعادة التفلسف ،وهذا األمر ،وإن كان يتم على
مدايت متوسطة وبعيدة ،إال أن أثره فارق ،إذ يعد التفلسف جوهر اإلصالح الثقايف
خصوصا أنه يرتبط بذهنية أمة ومتثالهتا يف واقع متغري ،األمر الذي يستدعى خوض أسئلة
تناسب هذا الواقع اجلديد واملتحرك ،وإجراء حتوالت فكرية على مستوى النهج واملشروع
واملستقبل ،وقد كان التحول الفكري لطه عبد الرمحن مرتبطا بسؤال "النهضة" أو جتديد
اليقظة الدينية ،وفق اصطالحه ،ومن مثّ؛ فإن مشروعه هنضوي إصالحي ابألساس ،إال
أنه خمتلف عن سائر مشاريع النهضة جوهراي ،حيث جند مفكرين كبيغوفيتش وجارودي
والفاروقي وغريهم خاضوا يف قضااي "هنضوية" وفق لغة خاصة ،لكن ال ميكن ومسهم
بكوهنم فالسفة متميزين ،خالف عبد الرمحن الذي انطلق من إطار معريف فلسفي جدده
من منظور إسالمي بتعمقه يف املقاربة الروحية من معني مفاهيمي قرآين ،وجعلها مركز
النظر يف قضااي الفكر والفلسفة.
1طه عبد الرمحن ،احلوار أفقا للفكر( ،بريوت :الشبكة العربية لألحباث والنشر ،ط .)2013 ،1ص-17
.18
217
ومن مثّ؛ فإن اإلصالح الثقايف هو بداية هنوض األمم وحتقيق يقظتها؛ ومن هذا املدخل
انطلق للحديث عن جتديد العقل ،وقام بتقسيم جديد للعقالنية ،ففي تصوره أن العقالنية
الغربية هي العقالنية التجريدية ،بينما ذكر عقالنيتني إضافيتني :العقالنية التسديدية
والعقالنية التأييدية ،وانطلق يف جتديده للعقل من التجربة الروحية ،وأرقى أضرب العقالنية
هي العقالنية التأييدية ،ألهنا مؤيدة ابلتجربة الروحية ،وما زال طه عبد الرمحن مرتكزا على
"املقاربة الروحية" حىت صارت هي أساس "النظرية االئتمانية" اليت تبلورت يف كتابه "دين
احلياء".
-2التجربة الروحية
إن من أكثر املصطلحات دوراان يف كتاابت الدكتور طه عبد الرمحن مصطلح اإلبداع ،إذ
إنه بىن مشروعه -كما أكد -على حماربة التقليد بشقيه؛ الرتاثي أو احلداثي ،منطلقا من
متيز املنظور اإلسالمي لإلنسان الذي ينظر للجانب الطيين والروحي معا ،دون إلغاء
ألحدمها ،إال أن طغيان "املادية" يف الفلسفة الوضعية غلّب االهتمام ب "اجلانب الطيين"،
فصران نتحدث عن "اإلنسان ذو البعد الواحد"، One Dimensional Man
وأتثرت كثري من أدبيات الفكر العريب مبخرجات هذا املنظور ،لذلك جند طه عبد الرمحن
يوجه انتقاداته هلذه التصورات إبرجاع الروح للمعادلة اإلنسانية ،فكأن مشروعه يف عمقه
الروحي اشتباك مع الطغيان لرؤية اجلانب املادي لإلنسان يف حماولة تناول قضااي األمة.
إن طه عبد الرمحن يف مقابل االنشغال السياسي ابلتجديد الذي شغل احلركات
االجتماعية بعد سقوط الدولة العثمانية قد وضع الرهان على فلسفة إسالمية جتعل األصل
يف جتديد األمة هو جتديد اإلنسان ،وجتعل األصل يف جتديد اإلنسان هو جتديد الروح.2
وتعد التجربة الروحية مصدرا من مصادر املعرفة عند طه عبد الرمحن ،إذ ما يلبث أن
يستدل هبا على أفكاره مدعما إايها ابحلجج املنطقية والعقلية ،3إال أهنا جمرد مصدر من
طه عبد الرمحن ،من اإلنسان األبرت إىل اإلنسان الكوثر ،مجع وتقدمي :رضوان مرحوم( ،بريوت :املؤسسة 2
4طه عبد الرمحن ،العمل الديين وجتديد العقل( ،الرابط :شركة اببل للطباعة والنشر والتوزيع ،ط،)1989 ،1
ص.18
219
فقد خاض طه عبد الرمحن جتربة اختبار آليات الرتاث "يف أصول احلوار وجتديد علم
الكالم" ،والذي صدرت طبعته األوىل سنة ،1987فقام ابختبار منهج املناظرة واحلوار
كما ورد يف األدبيات الرتاثية ،قائال بتعدد أقسام الرتاث ،وقام بنقد فكرة تقومي الرتاث
بشكل مشويل وكلي؛ وتناول املمارسة احلوارية" يف الرتاث ليبني فضائلها وهتافت منتقديها.5
لذلك كان اشتغاله على املناظرة الرتاثية ضراب من االختبار الفعلي للرتاث وتفنيد أحكام
القيمة التعميمية واملطلقة ،فهي أشبه بعينة التجربة لتعليل احلكم ومتحيصه.
ويعترب كتابه "يف جتديد املنهج يف تقومي الرتاث" ،الذي صدرت طبعته األوىل سنة
1994زبدة البحث املنهجي يف الرتاث وفق خلفية سجالية غايتها هدم طروحات انقدي
كل الرتاث أو جزء منه يف السياق العريب واملغريب ،وعلى رأسهم اجلابري مث العروي ،وكان
اهلدف من كتابته إظهار مزااي الرتاث ،ونقد القول ابلقطيعة اإلبستمولوجية كما راج يف
كثري من األدبيات والدراسات الفكرية ،وتثبيت كونه جزءا من هوية األمة وكينونتها ،كما
اعترب منتقدي الرتاث والداعني للقطيعة معه أهنم يـرْلقون أبنفسهم يف تراث غريهم.
أما يف كتاب" اللسان وامليزان أو التكوثر العقلي" ،والذي صدر بعد أربع سنوات من
صدور جتديد املنهج من تقومي الرتاث ،فقد كان هاجس الرتاث حاضرا بقوة ،وخيتزن
الكتاب أفكارا رائدة ،لكن يالحظ أن هذا الكتاب مل حيظ ابالهتمام الذي حظي به
"جتديد املنهج" ،بل ال يدرج ضمن الكتب اليت عنت ابلرتاث ،6علما أنه ليس ابلكتاب
السجايل من حيث العموم ،فاشتغال طه يف التعامل مع الرتاث يف "اللسان وامليزان"
5طه عبد الرمحن ،يف أصول احلوار وجتديد علم الكالم( ،بريوت :املركز الثقايف العريب ،ط،)2007 ،3
ص.22
انظر مثال الئحة أعمال طه عبد الرمحن اليت قام هبا مشكورا د .رضوان مرحوم يف "سؤال املنهج يف أفق 6
التأسيس ألمنوذج فكري جديد ،مقاالت لطه عبد الرمحن ،مجع رضوان مرحوم( ،بريوت :املؤسسة العربية
للفكر واإلبداع ،ط ،)2015 ،1إذ أدرج الكتاب ضمن جمال مناهج املنطق ،وهذا ما يدرجه فيه كل من قرأان
هلم ،لكن القارئ للكتاب يفهم أن هذه املناهج كانت تندرج ضمن إطار أكرب وهو تعميق آليات البحث يف
الرتاث ،بل إنشاء تراث جديد كما ومسه طه عبد الرمحن.
220
منهجي ابمتياز ،إذ ضعف هنج السجال ،مصرحا أبطروحة متقدمة عما ذكره سابقا تتمثل
يف "الدعوة إىل إنشاء تراث جديد".
ومن مثّ؛ تتعدد الكتب اليت تناولت "موضوع الرتاث" عند طه عبد الرمحن ،إال أن
منهجيات التناول ختتلف ،وإن غلب عليها يف معظمها اخللفية السجالية كما يظهر يف
"جتديد املنهج" بشكل واضح ،وهذا راجع إىل مجلة اعتبارات على رأسها طبيعة املرحلة
وضغط األسئلة وحرج القضية وقوة االجتاهات اإليدلوجية اليت كانت ختتلف يف مقاربة
اإلشكاالت ،وتتباين يف رسم مالمح النهوض بني اجتاهات متنافرة على رأسها القطب
احلداثي والقطب اإلسالمي ،وبني هذين القطبني ضاعت الكثري من احلكمة.
أ -االشتغال الرتاثي بني إشكال اآلليات وتقومي املضمون
من األسئلة امللحة اليت عرفتها أواخر األلفية الثانية سؤال املنهج يف التعامل مع
الرتاث ،إذ كان الصراع شديدا بني أهل الفكر والثقافة يف تقومي الرتاث وفق
توجهات متباينة ،كما سبق بيانه ،وارتبطت يف جلها بنقاشات الذات واهلوية
واحلداثة والدين وغريها من األسئلة اليت أطرت مرحلة ما بعد االحتالل إىل
حدود هناية األلفية الثانية ،وما أن كتب اجلابري سلسلته "نقد العقل العريب"
ومشروع "نقد الرتاث" حىت توالت الدراسات أتييدا أو نقدا ،وقد عمل طه
عبد الرمحن على التفاعل النقدي مع مشروع اجلابري ،إذ وسم منهجه ب
"التفاضلي" ،واقرتح منهجا "تكامليا" أابن عن بعضه يف مقالته "كيف جندد
7
وعم َقها يف كتابه "جتديد املنهج يف تقومي الرتاث" ،وموضوع
النظر يف الرتاث" َّ ،
السجال كان خبصوص "آليات" االشتغال على الرتاث وتقوميه من جهة،
وأحكام تقييمه من جهة أخرى.
وخالصة القول يف "النظر اآلليايت" عند طه عبد الرمحن اعتباره املعرفة ابلرتاث تتحقق
ابملعرفة ابآلليات اليت تنتج مضامني الرتاث ،ومن مث كانت ممارسته تندرج يف إطار
"املنهج"؛ إذ مل يعن كثريا مبضامني اإلنتاج الرتاثي مبقدر عنايته آبليات اشتغاله وإنتاجه،
7نشرت جملة أفكار ،يناير ،1996 ،ع ،123من ص 5إىل .23ينظر :طه عبد الرمحن ،سؤال املنهج يف
أفق التأسيس ألمنوذج فكري جديد ،مرجع سابق ،ص.41
221
وميز يف هذا اإلطار بني اآلليات األصيلة اليت تندرج ضمن املمارسة الرتاثية ،واآلليات
املنقولة -ممحصا إايها وفق منهج "التداولية" ،ويقصد به أن احلضارة اإلسالمية كانت
دائما تستوعب الوافد عليها أو املنقول إليها استيعااب خيضعه للقيم املعرفية والقيم اللغوية
والقيم العقدية اخلاصة هبا.
أما النظر "التقوميي" للرتاث ،فيقوم على اعتبار الرؤية التكاملية للرتاث بدل الرؤية
التفاضلية ،والكلية بدل التجزيئية .وهذا الضرب من التحليل مرتبط خبلفية الناظر للرتاث،
فكان بذلك نتيجة حتمية للنظر اآلليايت؛ إذ اخلالف يف اآلليات املتوسل هبا أوقع ابلضرورة
يف االختالف يف تقومي الرتاث ،ومن مثّ؛ يتلخص التقومي الرتاث عند طه عبد الرمحن يف
ربطه آبليات إنتاجه وحماكمته وفْـ َقها؛ "فال ميكن أن حياكم أبدوات مل ترنتج مضمونه إال
أن يكون على سبيل املقارنة" ،8كما يقول طه عبد الرمحن.
لكن السؤال هنا :هل تقومي الرتاث يتوقف عند اآلليات واملناهج؟ أال يلزم االنطالق من
هذه اآلليات للنظر يف قضاايه وتقومي مضامينه؟ وأين يتجلى جهده يف التقومي املضموين؟
هذا ما يزال خافتا يف مشروع طه عبد الرمحن يف جتديد املنهج إال إذا اعتربان دعوته ل
"تراث جديد" ضراب من جتاوز املضامني الرتاثية ،وهذا حكم يصعب اجلزم به.
ب -حقيقة الرتاث بني التارخيية واإلبداعية
ابستقراء أقوال طه عبد الرمحن وحتليلها قد خنلص إىل موقف تقوميي شامل
للرتاث ،ال ينطلق من جمرد النظر اآلليايت ،كما يكرر دوما يف كتاابته ،وإمنا
جند تقوميات أخرى ذكرت ضامرة وخافتة ،وتكتنز أحكام معيارية مهمة ،يلزم
منهج جيمع بني روح الدين وروح العصر ،فماتثويرها واملضي هبا قدما لتطوير ٍ
هي هذه التقوميات؟
-اترخيية الرتاث :اترخيية آليات أم قيم؟
يطور منظورا تقومييا مل يتم استيعابه واستثماره،
إن اشتغال طه عبد الرمحن ابلرتاث جعله ّ
إذ أن الدخول يف جدلية مع/ضد الرتاث كان غالبا على حلبة الصراع حول مفاهيم اهلوية
طه عبد الرمحن ،احلوار أفقا للفكر ،مرجع سابق ،ص.141 8
222
والذات واحلداثة انطالقا من املوقف من الرتاث ،لكن لو أتملنا ما خطه طه عبد الرمحن،
الذي يصنف كأحد املنافحني عن الرتاث ،فإنه ال يدافع عنه ابعتباره مضموان ،وإمنا
ابعتباره منهجا مولدا للمعرفة ،لذلك ومسه بكونه "حقيقة اترخيية" ،وهذا ما مل يلتفت إليه
كثريا كموقف تقوميي ،إذ إن هذا احلكم ال يقول ابلتعامل "املاضوي" املتجاوز للرتاث؛ ً
أي االشتغال وفق منطق االستغناء ،وإمنا ينظر إليه مبنطق االستمرار واإلغناء ،مما يستلزم
التعامل معه كتاريخ ال ميكن االنفصال عنه ،ويف نفس الوقت ال ميكن البقاء فيه ،إذ
الرتاث ولو بدا يف الظاهر حقيقة ابئنة ومنفصلة حبكم ارتباطها ابلزمان املاضي ،فهي يف
جوهرها حقيقة كائنة ومتصلة حتيط بنا من كل جانب وتنفذ فينا من كل جهة ،فال سبيل
إىل االنقطاع عن العمل ابلرتاث يف واقعنا ألن أسبابه مشتغلة على الدوام فينا ،آخذة
أبفكاران ،وموجهة ألعمالنا ،متحكمة يف حاضران ومستشرفة ملستقبلنا.9
ومن خمرجات القول بتارخيية الرتاث التفريق بني القيم احلية وامليتة يف الرتاث؛ لذلك جنده
يقسم الرتاث بني الروح واملقاصد اليت تتحكم يف الرتاث من جهة ،وبني جتليات هذه
الروح وحتقيقات املقاصد من جهة أخرى؛ ويرى طه عبد الرمحن أن االنكباب على الرتاث
جيب أن ينصب يف استجالء هذه الروح احلاملة للمقاصد والقيم اليت عملت على توليد
الرتاث وتطويره ،ومن خالل هذه الروح سيمكن استئناف العطاء واالتصال ابملعاصرة
والدخول للحداثة ،ويكون هذا االتصال عن طريق توظيف اخلاصية التداولية ،وذلك
إبخضاع اآلليات الوافدة واملضامني املنقولة ملقتضيات التداول اإلسالمي من قيم عقدية
ولغوية ومعرفية.10
ولو قاران طه عبد الرمحن ابجلابري سنجد أنه يشرتك مع اجلابري من حيث املبدأ وخيتلف
معه من حيث االستناد على مضامني الرتاث؛ إذ استند اجلابري على املضمون الفلسفي
املتجسد يف ابن رشد -الذي يراه طه عبد الرمحن جمرد انقل لرتاث أرسطو ال مبدعا-
بينما ارتكز طه عبد الرمحن على املعرفة العِرفانية خصوصا إلعادة االعتبار للتجربة الروحية
9طه عبد الرمحن ،يف أصول احلوار وجتديد علم الكالم ،ص.19جتديد املنهج يف تقومي الرتاث( ،بريوت:
املركز الثقايف العريب ،ط ،)2007 ،3ص.19
10طه عبد الرمحن ،احلوار أفقا للفكر ،مرجع سابق ،ص.139-138
223
ملصادر املعرفة اإلسالمية ،وهو يف هذا التمييز كان مساجال أكثر منه مؤسسا ،إذ ريرّد
على اجلابري الذي اعترب العِرفان أدَّن رتب املعرفة اإلسالمية يف حتليله لبنية العقل العريب.
-حنو تراث جديد:
دعا طه عبد الرمحن بشكل صريح إىل إنشاء تراث جديد ،وقد مسح له إمساكه بناصية
اآلليات الرتاثية جبرأة التصريح هبذا الرأي ،منزها نفسه عن كل تصنيف منهجي يف التعامل
مع الرتاث؛ معتربا أن الرتاث اتريخ ،والتاريخ ال يتجرد منه املرء كما يتجرد من ثيابه ،وال
أنه يسرتجعه كما يسرتجع وديعته .واملطلوب هو صنع خطاب جديد ،أي بناء تراثنا
احلاضر كما بىن املتقدمون تراثهم املاضي؛ وبدهي أنه ال سبيل إىل بناء هذا الرتاث
احلي إال بتحصيل أسباب املعرفة على وجهها األوسع ،وحتصيل أسباب العمل على
وجهها األنفع ،مث التوسل بكل ذلك يف إنشاء خطاب يضاهي قيمة خطاب املتقدمني
اء خطاب املعاصرين.11 كما يضاهي عط ً
وينطلق طه عبد الرمحن من معيار إصالحي إلنتاج املعرفة يتمثل يف النفع املعريف واإلصالح
العملي؛ "فإذا صار النفع املعريف واإلصالح العملي احلاضران احليان ال املاضيان امليتان
مها مقياس التقومي ،فال مانع مينع من وجودمها عند من توسل أبسباب يف العلم والعمل
مأخوذة من الرتاث ،كما ال مانع مينع من انتفائهما عند من توسل أبسباب يف املعرفة
والسلوك مأخوذة من احلداثة ،مىت كان األول قد استثمر أسبابه مبا ينفع العلم ويصلح
العمل ،وكان الثاين قد استثمر أسبابه مبا يضر املعرفة ويفسد السلوك".12
ونلحظ يف هذا الصدد أن اهتمام الباحثني مبنهج طه عبد الرمحن يف تقومي الرتاث طغى
عليه الدخول يف السجاالت اليت خاضها هو ،وصرف النظر عن كثري من األحكام
التقوميية املهمة؛ منها مثال القول بتارخيية الرتاث والدعوة لرتاث جديد ،وهذا القول ال
يقتضي القطيعة اإلبستمولوجية مع الرتاث اليت روج هلا بعض املفكرين ،وهو ما انتقده طه
11طه عبد الرمحن ،اللسان وامليزان أو التكوثر العقلي( ،بريوت :املركز الثقايف العريب ،ط،)2006 ،2
ص.406-405
12املرجع السابق ،ص.406
224
عبد الرمحن ،وإمنا هو اتريخ مستمر حيتاج االستئناف والتتميم الذي يتم ابلنظر يف اآلليات
املنهجية واملعرفية من أجل إبداع تراث جديد.
-2سؤال احلداثة :مقاربة نقدية أخالقية
يلحظ القارئ انطالقا من مقدمة كتاب "روح احلداثة" تصدر شاغل اإلبداع ابعتباره احلل
لتحرير العقل اإلسالمي من التقليد الذي نتج عنه ما أمساه ب "فتنة مفهومية" ،ويرى طه
عبد الرمحن أن أول مدخل للخروج من حالة التيه تتمثل يف إبداع مفاهيم خاصة؛ إذ إن
"الواقع أن اجملتمع املسلم ما مل يهتد إىل إبداع مفاهيمه أو إعادة إبداع مفاهيم غريه ،حىت
كأهنا من إبداعه ابتداء ،فال مطمع يف أن خيرج من هذا التيه الفكري الذي أصاب العقول
فيه".13
فالرتكيز على الفتنة املفهومية يوضح لنا املدخل املعريف لطه عبد الرمحن يف مواجهة
التحدايت ،كما يبني لنا هذا البعد مالمح مشروعه الفكري القائم على اللغة ،ابعتبار أن
الفكر ال ينفصل عن اللغة ،فهي وسيلة الفكر ومادته األساس ،فطه يرى أن أزمة األمة
أزمة مفاهيم يف العمق؛ واخلروج منها يكمن يف إبداع مفاهيم تنتمي لكينونة األمة وروحها.
أ -روح احلداثة بني العقالنية واألخالقية
إن العالقة وثيقة بني "جتديد العقل" و"نقد احلداثة"؛ إذ إن سؤال العقل كان املدخل لنقد
واقع احلداثة ،واستبدل طه عبد الرمحن "مشروع العقالنية" الذي قامت عليه احلداثة ب
"األخالقية" الذي أسس عليه روح احلداثة اليت يبتغيها ،مث جعل ماهية اإلنسان قائمة
على األخالق ال العقل ،خالف ما استقر يف الدرس الفلسفي ،منتقدا كون العقالنية هي
احلد الفاصل بني اإلنسانية والبهيمية.
13طه عبد الرمحن ،روح احلداثة :املدخل إىل أتسيس احلداثة اإلسالمية ،مرجع سابق ،ص.11
225
قسم العقالنية إىل :عقلية جمردة من "األخالقية" ،ويشرتك فيها اإلنسان
ونظرا هلذا االعتبار ّ
مع البهيمة ،وهي أخالقية "نظرية" ،وعقالنية مسددة ب "األخالقية" وهي اليت خيص هبا
14
من دون سواه ،وهي أخالقية عملية.
وجوهر التسديد األخالقي يكمن يف اتصال األخالق ابلدين؛ لذلك انتقد طه فصل
الفالسفة األخالق عن الدين ،معتربا األخالق من غري دين "أخالقيات سطح"" ،وهي
عبارة عن األخالقيات اليت وضعها احلداثيون وما زالوا يضعوهنا من أجل دفع أسباب الشر
أو األذى الذي حلقهم وما زال يلحقهم مبا كسبت يد احلداثة [ ]...فال بد إذن من
طلب أخالقيات تنأى عن السطح الذي وقفت عنده احلداثة وتغوص يف أعماق احلياة
وأعماق اإلنسان ،فال أعمق من حياة متتد من عاجلها إىل آجلها ،وال أعمق من إنسان
يتصل ظاهره بباطنه ،وأي املعاين اخللقية تستطيع استيعاب هذا االمتداد للحياة وهذا
االتصال لإلنسان من املعاين اليت ينطوي عليها الدين اإلهلي".15
وتصحيحا ملسار احلداثة ،وضع طه عبد الرمحن جمموعة من األصول األخالقية املركزية،
ميكن تلخيصها يف:
األخالق صفات ضرورية خيتل بفقدها نظام احلياة ال عرضية أو كمالية. -
القيمة األخالقية أسبق على غريها من القيم ،فكل فعل أييت حتت التقومي -
األخالقي
ماهية اإلنسان حتدد ابألخالق ال العقل ،حبيث يكون العقل اتبعا لألخالق. -
األخالق مستمدة من الدين املنزل ،واإلنسان مبوجب أخالقيته ال يستطيع أن -
يتجرد كليا من حال التدين ولو سعى إىل ذلك ما سعى ،ألنه ،وإن أىب التدين
اختيارا ومن حيث يدري ،فإنه يقع فيه اضطرارا ومن حيث ال يدري.
األخالق مراتب خمتلفة قد يتقلب بينها الفرد الواحد ،وليست مرتبة واحدة جيمد -
عليها.
14طه عبد الرمحن ،سؤال األخالق :مسامهة يف النقد األخالقي للحداثة الغربية( ،بريوت :املركز الثقايف
العريب ،ط .)2013 ،5ص.14
15املرجع السابق ،ص.26
226
-اهلمة األخالقية لإلنسان أقوى من األمر الواقع وأصلب من حتمية احلدث ،ألن
الواقع القائم ال يستنفذ اإلمكان الذي يف يد اإلنسان ،وال احلتمية املنسوبة إىل
التاريخ تستنفذ طاقته.
-العقل اجملرد الذي اختار االنفصال عن العمل الديين ال تلبث أفعاله أن تنقلب
إىل نقيض مقصودها ،حبيث تغدو آاثرها ضارة ابإلنسان حيث كان يتوقع أهنا
ستأتيه ابلنفع اخلالص.16
ب -احلداثة اإلسالمية :من حضارة اللوغوس إىل حضارة اإليتوس
إن تصحيح طه عبد الرمحن ملسار احلداثة استلزم القول بتعدد احلدااثت ،مبينا أن بعض
املفكرين العرب اختاروا ضراب واحدا من أضرب احلداثة وألبسوها لبوسا كونيا ،يف حني
أن تعدد احلدااثت سيسمح بتأسيس حداثة وفق تداولنا املعريف ،جيمع بني روايف اخلصوصية
ومشرتكات الكونية.
وانطالقا من فكرة تعدد احلدااثت ،قال بوجود حداثة إسالمية ،إذ ال يعقل حسب قوله،
أن يتقرر يف األذهان أن احلداثة أتيت ابملنافع واخلريات اليت تصلح هبا البشرية ،وأن تتحقق
هذه املنافع واخل ريات يف األعيان ،مث ال يكون هذا اجلزء النافع منها متضمنا يف احلقيقة
اإلسالمية"" ،17وكما أن للحداثة الغربية أشكاال خمتلفة ،فكذلك ينبغي أن تكون للحداثة
اإلسالمية أشكاال خمتلفة" معتربا "أن منافع احلداثة ال تتحقق يف اجملال التداويل اإلسالمي
فحسب ،بل إهنا تتعدى ذلك إىل أن تنزل فيه رتبا أرقى من الرتب اليت كانت هلا يف اجملال
التداويل الغريب ،هذا االرتقاء الذي يقيها ما تعرضت له من عثرات يف هذا اجملال
األخري".18
وقد تساءل طه عبد الرمحن عن اهلوية اإلنسانية يف العامل اليوم متأمال حتديداهتا ،مظهرا
أن احلضارة الغربية احلديثة هي حضارة "لوغوس" ،أي العقل ،ويرى أنه من الضروري
16طه عبد الرمحن ،روح احلداثة :املدخل إىل أتسيس احلداثة اإلسالمية ،مرجع سابق ،ص.16-15
17املرجع السابق ،ص.17
18املرجع السابق ،ص.19-18
227
"الشروع يف بناء حضارة جديدة ال يكون السلطان فيها ل "اللوغوس" -أي العقل حسب
املعىن األشهر للكلمة -وإمنا يكون فيها ل "اإليتوس" –أي اخللق ،-حبيث تتحدد فيها
حقيقة اإلنسان ،ال بعقله أو بقوله ،وإمنا خبلقه أو فِعله؛ فال مناص إذن من أن هنيئ
19
اإلنسان حلضارة "اإليتوس" ،مىت أردان أن يصلح يف العاجل ويفلح يف اآلجل".
واإليتوس هو جوهر احلداثة ،أو روح احلداثة بتعبري طه عبد الرمحن الذي يرى " أن
للمجتمع املسلم ،مبوجب ضرورة اندماجه يف الفضاء املفهومي العاملي ،تطبي َقه اخلاص
لروح احلداثة ،إذ يسعى إىل أن يرتقي ابلفعل احلداثي مبا ال يرتقي به التطبيق احلداثي
الغريب".20
لذلك فإن املدخل األخالقي هو جوهر نقد طه عبد الرمحن للحداثة الغربية ،وهذا املدخل
ال خيتص فقط بنقد احلداثة ،بل عممه حىت يف نقده للرتاث وحتليله لإلشكاالت املعرفية
املعاصرة ،لذلك وصف طه عبد الرمحن ب"فيلسوف األخالق" ،إذ وضع أسس "الفلسفة
األخالقية" يف السياق املعاصر مستندا إىل املقاصد القرآنية العالية ،ومن مثّ كان خيط
هدما وبناءً.
األخالق هو الناظم يف عملية النقد عندهً :
-3فقه الفلسفة من مشروعية النقد إىل مسؤولية السؤال:
تراجع اإلبداع الفلسفي يف السياق العريب لسنوات عدة ،وطغى على العطاء يف جمال
الفلسفة الرتمجة الظاهرة أو اخلفية للفلسفة الغربية وقضاايها ،لذلك جند طه يشكو دوما
من التقليد الذي تعاين منه الفلسفة اإلسالمية منذ أن بدأت ابألخذ عن اليوانن إىل
عصران هذا ،فكثري من املؤلفني يف الفلسفة ،حبسب تقديره ،هم ترامجة وليسوا فالسفة،
فإذا كان واقع الفلسفة ال يرضيه ،فما هي مالمح مشروعه الفلسفي البديل؟
19طه عبد الرمحن ،سؤال األخالق :مسامهة يف النقد األخالقي للحداثة الغربية ،مرجع سابق ،ص.146
20طه عبد الرمحن ،روح احلداثة :املدخل إىل أتسيس احلداثة اإلسالمية ،مرجع سابق ،ص.275
228
أ -فقه الفلسفة :مقدمات وممهدات
يرى طه عبد الرمحن أن خالصة اشتغاله املعريف تكمن يف "حتصيل القدرة على اإلبداع
الفلسفي" ،21لذلك قام بتأسيس ما أمساه ب "فقه الفلسفة" ،ومدلول هذا املفهوم ،كما
ح ّده طه عبد الرمحن هو "العلم بطرق الفلسفة يف اإلفادة وبطرق استثمارها يف إحياء
القدرة على التفلسف" ،22فهو عبارة عن أصول فلسفة ،والقصد هو" دراسة الفلسفة
بوصفها مجلة من الظواهر اليت هلا خصائصها وقوانينها الذاتية ،مثلها يف ذلك مثل الظواهر
اإلنسانية األخرى اليت ننظر فيها ،طلبا الستخراج أوصافها وأحكامها ،متوسلني يف ذلك
إبجراءات منهجية حمددة ونظرايت علمية مقررة" ،23مث يقول" :فيتعني علينا أن ننظر يف
العامل يف الظاهرة ،رصدا ووصفا وشرحا؛ وأمر الفلسفة عندان ،على الفلسفة كما ينظر ِ
خالف املشهور ،ليس قوال فحسب ،بل هو قول مزدوج ابلفعل ،وخطاب مزدوج
ابلسلوك ،فنحتاج إىل النظر فيها على هذا املقتضى ،ومل يسعنا إال أن نسمي هذا الطريق
ابسم "فقه الفلسفة" ،إذ ليس يف األلفاظ العربية لفظ اشتهر ابجلمع بني إفادة العلم وإفادة
العمل اشتهار لفظ "الفقه" به".24
فوظيفة فقه الفلسفة تكمن يف ترشيد "املتفلسف على طريق الكشف عن األسباب اليت
تثوي وراء التصورات واألحكام الفلسفية ،حىت يتبني كيفيات أتثريها يف وضع هذه
التصورات وبناء هذه األحكام ،فيقتدر على استثمار ما يقابلها من األسباب يف جماله
التداويل ،منشئا بذلك تصورات وأحكاما تنافس املنقول ،استشكاال واستدالال؛ وهبذا،
ترجع منفعة فقه الفلسفة إىل إخراج املتفلسف عامة ،واملتفلسف العريب خاصة ،من اجلمود
على ظاهر املنقول الفلسفي إىل االجتهاد يف وضع ما يقابله ،إن مثال أو ضدا .فإن
21طه عبد الرمحن ،فقه الفلسفة ،ج ،1الفلسفة والرتمجة( ،بريوت :املركز الثقايف العريب ،ط.)1995 ،1
ص.507
املرجع السابق ،ص.26 22
24طه عبد الرمحن ،فقه الفلسفة ،القول الفلسفي كتاب املفهوم والتأثيل( ،بريوت :املركز الثقايف العريب ،ط،2
.)2005ص.13
229
وافقت أسبابه أسباب املنقول ،جاءت على شاكلته من غري احتذاء ،وإن خالفت
األسباب األسباب ،أصبح مبكنته التوسل هبا يف إبداع املعرفة الفلسفية والتجديد يف
أبواهبا ،فتحيا روح التفلسف الصحيح يف جماله التداويل بعد أن مخدت فيه قروان ،أو قل،
ابختصار ،إن فقه الفلسفة يفيد العلم ابألسباب املوصلة إىل إنتاج الفلسفة".25
ب -إشكاالت التفلسف والسؤال املسؤول
قصد الدرس الفلسفيإن تصحيح مسار الفلسفة عند طه عبد الرمحن يبتدئ بتصحيح ِ
وأسئلته ،إذ رأى أن النقد الذي هيمن على السؤال الفلسفي يلزم جتاوزه وابتغاء سؤال
معريف جديد "يناسب ما يلوح يف األفق من مآالت احلداثة ،أي شكال أحدث؛ وهذا
الشكل األحدث هو ما يسمى ب "السؤال املسؤول"" ،26فالفيلسوف العريب اجلديد،
على وجه اخلصوص ،ليس هذا الذي خيوض يف أي سؤال اتفق ،وال ذاك الذي خيوض
يف كل سؤال خاض فيه غريه ،تقليدا له ،وإمنا هو الذي ال يسأل إال السؤال الذي يلزمه
وضعه ويلزمه اجلواب عنه –أي عليه مسؤولية وضعه ومسؤولية اجلواب عنه -وال لزوم
للسؤال الفلسفي وال للجواب عنه يف وضعية هذا املتفلسف إال حيث تتعني احلاجة إىل
حترير القول الفلسفي العريب وفتح آفاق اإلبداع فيه".27
ويرى طه عبد الرمحن "أن أحد وجوه املسؤولية اليت يتحملها الفيلسوف العريب هو أن
يشتغل بنقد هذا الفكر الواحد الذي أخذ يتغلغل بقوة بني بين قومه ،ينزع عنهم مظاهر
التميز واخلصوصية ،ويقطع عنهم ابلتايل أسباب العطاء واإلبداع ،إذ ال عطاء بغري متيز،
وال إبداع بغري خصوصية" ،28كما أن "أحد وجوه املسؤولية اليت يتحملها الفيلسوف
العريب هو أن يشتغل بنقد األمر الواقع الذي أخذ يفرض نفسه على قومه ،يسلب
ص.14
27املرجع السابق ،ص.16
28املرجع السابق ،ص.17
230
عنهم إرادهتم وقوهتم ،وابلتايل يقطع عنهم أسباب النهوض والتغيري ،إذ ال هنوض بغري
إرادة ،وال تغيري بغري قوة".29
إن احلديث عن احلق يف االختالف الفلسفي هو يف العمق حديث عن النقد الفلسفي،
إذ قام املشروع الفلسفي لطه عبد الرمحن على ضرورة تغيري فلسفة االشتغال من النقد إىل
السؤال ،وأن يتحلى هذا السؤال ابملسؤولية؛ وأوىل رهاانت املسؤولية احلرص على اإلبداع
وتثمني اخلصوصيات الثقافية ،ومن مث أوجب نقد الفكر الذي يقطع التميز واخلصوصية،
وهو ما مساه ابلفكر املنقول أو الوافد الذي مل يراع اخلصوصيات.
-4فلسفة الدين اإلطار العام الشتغال طه عبد الرمحن
يصعب وضع كتاابت طه عبد الرمحن حتت تصنيف معريف معني ،لتنوع مواضيعها،
واختالف قضااي ،وقد كفاان طه عبد الرمحن مؤونة هذا البحث ،إذ أقر أن كتبه ال تندرج
ضمن حقل معريف حمدد ،وإمنا يرى أهنا تنتمي إلطار عام وهو فلسفة الدين ،فقد ختم
طه عبد الرمحن سؤال األخالق خبامتة عن فلسفة الدين ساءل فيها تصنيف كتابه هذا
"بيد أننا حنتاج إىل أن جنيب على سؤال قد خيطر ببال القارئوكتبه األخرى؛ إذ قالْ :
عند تصفحه هلذا الكتاب كما خطر بباله عندما اطلع على كتابنا املوضوع منذ ما ينيف
عن عشر سنوات ،وهو" :العمل الديين وجتديد العقل" ،وهذا السؤال هو كالتايل" :يف
أي ابب من أبواب التفكري الفلسفي يدخل حمتوى هذا الكتاب؟".30
وقد أجاب عن هذا السؤال معتربا كتاابته تدخل يف ابب جديد من املمارسة الفلسفية
ظهرت يف القرن السابع عشر؛ أي يف فرتة اليقظة الغربية "عصر األنوار" ،وقد أطلق على
هذا الباب الفلسفي اجلديد اسم "فلسفة الدين" ،وهي ال تتوسل بسلطة املؤسسة
الكهنوتية ،وإمنا بسلطة العقل ،وال تتفكر يف ذات اإلله ،وإمنا يف ذات اإلنسان يف عالقته
ابإلله؛ وبفضل استبدال فلسفة الدين سلطة العقل مكان سلطة الكهنوت واستبداهلا
النظر اإلنساين مكان النظر اإلهلي ،فإهنا تكون عبارة عن مثرة من مثار حركة التحرر
الفكرية اليت اتصف هبا عصر األنوار.
233
"أمحد حممد الصغري" ،فإن بقية الكتب هي لباحثني مغاربة ،وبعضهم تتلمذ على يديه يف
اجلامعة ،وهنا يتبادر أمامنا سؤال:
ملاذا مل يهتم الفكر املشرقي أبعمال طه عبد الرمحن خالف اهتمامه مثال ابجلابري والعروي؟
للجواب عن هذا اإلشكال يلزم اجلمع بني العوامل الذاتية واملوضوعية ،وهي تتوزع بني
عوامل مذهبية وإيديولوجية ومنهجية ومعرفية.
فمن هذه العوامل:
• وعورة املنت ،وذلك راجع إىل أن طه عبد الرمحن اختار مدخل اللغة لتجديد
الفكر ،إال أنه توغل يف هذا املدخل حىت غاىل أحياان يف التشقيق والتفريع
اللغوي األمر الذي جعل متابعته صعبة لكثري من الباحثني املتخصصني فضال
عن غريهم ،وقال أحدهم" :لطاملا عانيت ،بدءا ،من تشقيقاته للمفاهيم اليت
يشتغل عليها وتفريعاته ،اقتداء مبنهجه الكالمي" ،32وقال أيضا" :أوليس الظاهر
يوحي أن الرجل يكتب يف عصران ويف فكر عصران بكتابة ال توافق روح عصران
وفكر ال يوافق كنه عصران؟".33
فلغة طه عبد الرمحن حتتاج إىل جهد وصرب ،وميكن إرجاع هذا األمر إىل هاجس
التأسيس عند طه عبد الرمحن ،حيث يرى أن أزمة الفكر تتمثل يف "الفتنة
دوما مبساءلة املفاهيم املنقولة ،ويعمل على بناء مفاهيمه املفهومية" ،فيقوم ً
اخلاصة انطالقا من جماله التداويل ،األمر الذي جيعل آلته اللغوية غزيرة اإلنتاج،
إضافة إىل هنجه منهج املتقدمني يف الكتابة والتأليف ،خصوصا أهل األصول
واملنطق ،وهو منهج يتميز بكثرة التقسيم والتفريع ،إال أن املغاالة يف "إنتاج
املفاهيم" واإلغراق يف "التفريع" جيعل متابعته واالستفادة منه ال تتأتى لكل قارئ
أو ابحث ،وإمنا يلزم طول النفس واألانة ،من أجل مجع املعاين املبثوثة بني ثنااي
املفاهيم والتقسيمات.
32وهو حممد الشيخ ،وذكر ذلك يف كتابه :مسألة احلداثة يف الفكر املغريب املعاصر( ،الرابط :منشورات
الزمن ،ط ،)2004 ،1ص.148
33املرجع السابق ،ص.149
234
• حدة النقاش ،وهذا أمر الحظه عليه عدد من الباحثني ،فقد صرح حممد
الشيخ أنه رغم حديثه عن احلوار ودعوته إليه ومتجيده لالختالف إال أن فيه
حدة" ،وما كف الرجل قط عن الدعوة إىل احلوار ،حىت ألنك ال تكاد جتد
كتااب من كتبه إال وهو ال خيلو من دعوة إىل احلوار [ ]...فماذا فعل الرجل
مبحاوريه ،احلال أنك ما أن حتاور الرجل حىت خييل إليك أن فكره تعرتيه سورة
من حدة ،بل أتخذه يف بعض األحايني ،وإن هي ندرت ،محية وعصبية".34
فهذه احلدة اليت يلمسها املخالف يف كتاابته كانت أحد أسباب إعراض كثري
من املثقفني العرب عن كتاابته ،خصوصا أنه يستبطن نقدا لكثري منهم وإن مل
يذكرهم حنو العروي واجلابري وأركون مثال؛ إذ جند أنصار هؤالء ،وهم كثر يف
املغرب واملشرق ،يلحظون هذا األمر يف كتاابته ،لذلك يسمونه ابلفقيه التقليدي
والرتاثي والعدمي يف عبارات سلبية قد تكون يف بعضها جمرد رد فعل على هذه
احلدة.
• إعالن التحيز الروحي ،إذ أعلن طه عبد الرمحن منذ كتاابته األوىل انتماءه
الصويف ،وهذا االنتماء هو الذي جعله حمط نقد من بعض احلداثيني ابهتامه
ابخلرافة ،ومن بعض اإلسالميني بتبديعه ،إال أن هذا الرأي مردود ،ألن منت طه
عبد الرمحن يتميز ابلتأسيس املنطقي واملعريف للقضااي واألفكار ،فهو وإن اعترب
التجربة الروحية مصدرا معرفيا ،إال أنه ال يستقل هبا عن غريها ،بل يقيم بناءً
منطقيا وحجاجيا جديرا ابلنقاش واالختالف وفق أسس عقلية ال مدخل فيها
للروحنة.
التلقي الغريب: ب-
إن التلقي الغريب لطه عبد الرمحن أضعف من التلقي العريب ،نظرا ألن طه عبد الرمحن
يكتب ابلعربية ،وأحياان بعربية صعبة ،يعسر على من مل تكن العربية لغته األوىل متابعته،
إضافة إىل عدم ترمجة كتاابته للغات األجنبية مما جعل التلقي الغريب ضعيفا؛
235
لكن رغم ذلك جند إشادات بفكره ،واستفادة بعض املفكرين منه يف وضع أفكارهم
الكربى ،منهم مثال وائل حالق الذي أشاد برؤية طه عبد الرمحن األخالقية يف كتاب:
"الدولة املستحيلة" .35والقارئ للكتاب ال خيفى عليه أن طه عبد الرمحن يعترب أحد
املراجع املهمة ،بل إن الئحة املصادر واملراجع تؤكد هذا األمر؛ إذ جنده اعتمد مخسة
كتب لطه عبد الرمحن ،وهي" :احلق اإلسالمي يف االختالف الفكري"" ،روح احلداثة"،
"سؤال األخالق"" ،العمل الديين وجتديد العقل"" ،فقه الفلسفة" ،وقد اعتمده حالق يف
إبراز مركزية األخالق يف التصور اإلسالمي ،حىت إن مرتجم الكتاب ذكر استفادة حالق
من طه عبد الرمحن صراحة يف مقدمة الرتمجة ،36وسيصدر لوائل حالق قريبا كتاب عن
طه عبد الرمحن ،يؤكد هذا االهتمام.
كما جند اهتماما من بعض الباحثني املغاربة وغريهم الذين كتبوا عن فكره ابللغات األجنبية
يف بعض املقاالت املتفرقة ،فمن املنشور ابللغة اإلجنليزية ما كتبه حممد حصحاص" :نسق
االئتمانية يف فلسفة طه عبد الرمحان :احلداثة الروحية واملسامهة
اإلسالمية يف تكوين حضارة أخالقية مبدعة وعاملية" ،37وسيصدر لنفس الباحث قريبا
دراسة عنه بعنوان" :احلق العريب يف االختالف الفلسفي :مفهوم الفتوة املنتفضة يف فلسفة
طه عبد الرمحان الفلسفية".38
35وائل حالق ،الدولة املستحيلة اإلسالم والسياسة ومأزق احلداثة األخالقي ،ترمجة عمرو عثمان( ،الدوحة:
املركز العريب لألحباث ودراسة السياسات ،ط ،1أكتوبر ،)2014ص ،295-294بتصرف .وقد أحال يف
هذا املقام على طه عبد الرمحن.
املرجع السابق ،ص.8 36
236
"األسس األخالقية:ومن الدراسات األخرى عن فكره ابللغة اإلجنليزية ما كتبه منري بريوك
"احلوار األخالقي لطه عبد: ومايكل بيفرز،39"والروحية للحوار عند طه عبد الرمحن
وهذا الباحث حيضر أطروحته جبامعة اندايان ابلوالايت املتحدة،40"الرمحن مع الغرب
.األمريكية عن هابرماس وطه عبد الرمحن
" "طه عبد الرمحن على خطى فالسفة الغرب اإلسالمي:ومن الدراسات ابللغة الفرنسية
ودرس فيها مناذج أربع منها طه، "الفكر العريب املعاصر" حملمد أوراي،41لشكري ميمون
.42عبد الرمحن
،فجل هذه املقاالت هي لباحثني عرب جلهم مغاربة يكتبون ابللغة اإلجنليزية أو الفرنسية
ومرد ذلك كما ذكران آنفا هو غياب ترمجة كتاابت طه عبد،وليست لباحثني غربيني
with the West, Global Media Journal: Canadian Edition; 2016, Vol.
9 Issue 2, p.121.
Chokri Mimouni, Taha Abderrahman dans la lignée des - 41
238
ونظرا لغياب "األمانة" يف االجتماع اإلنساين ،يصف طه عبد الرمحن حالة اإلنسان
املعاصر اليوم حبالة "االختيان"؛ أي خيانة األمانة ،ويرى ضرورة إرجاعه إىل حالة
"االئتمان" ،عن طريق ما أمساه ب "الفقه االئتماين".43
ويتأسس مفهوم االئتمان عنده على مفهوم اإليداع –من الوديعة ،حبيث يكون كل ما
خلق هللا جل جالله ،من أجل اإلنسان هو عبارة عن ودائع أودعها إايه ،يتملكها كيف
يشاء ،ويتحقق هبا كيف يشاء ،شريطة أن يصون حقوقها.44
كما يقوم هذا االئتمان على مفهوم "االتصال الروحي" ،حبيث جيعل ظاهر الصلة
ابإلنسان يزدوج بباطن الصلة ابهلل ،وهذا االتصال هو الذي ميكنه من دفع االستعباد
اخلفي 45،فيمكن القول إن:
معادلة االئتمان = إيداع إهلي +اتصال روحي
46
-2املنظور االئتماين مدخال لفهم العالقة بني الدين والسياسة
يعد كتاب "روح الدين" تطبيقا للنظرية االئتمانية يف املسألة السياسية؛ حيث أعلن يف
مقدمته أنه سيعاجل إشكالية العالقة بني الدين والسياسة وفق مقاربة جديدة ،خمتلفة عن
مقاربة اإلسالميني والعلمانيني بشىت طوائفهما ،وومسها أبهنا مقاربة روحية.47
طه عبد الرمحن ،دين احلياء :من الفقه االئتماري إىل الفقه االئتماين ،ج :1أصول النظر االئتماين، 43
،)2012ص.474
45ملزيد من التفصيل ينظر :املرجع السابق ،ص 474وما بعدها.
46ملزيد من التفصيل يرجى االطالع على سلسلة دراسات أجنزهتا مبوقع منتدى العالقات العربية والدولية
موسومة بـ"إشكالية العالقة بني الدين والسياسة يف فكر طه عبد الرمحن" يف ثالثة أجزاء ،بدءا من اتريخ
26أكتوبر https://is.gd/GXkblA ،2014
العلمانية إىل َسعة االئتمانية ،مرجع سابق ،ص.13
طه عبد الرمحن ،روح الدين :من ضيق َ
47
239
وتنطلق جل األطروحات اإلسالمية والعلمانية من أن اجملال الديين غري اجملال السياسي،
وهو ما ميكن تسميته بـ"التع ّدد اجملايل" ،لكن مقاربة طه عبد الرمحن جتاوزية يف هذا البعد،
حيث يرى أبن "الدين والسياسة ال يشكالن جمالني مستقلني من جماالت احلياة اإلنسانية
املعلومة ،وإمنا مها طريقان متقابالن للفاعلية اإلنسانية يتوصل هبما إىل حتقيق أغراض كل
واحد من جماالت احلياة حتقيقا أيخذ بعني االعتبار العالقة بني العاملني؛ املرئي والغييب"،48
حبيث إن الدين يعمل على تنزيل قيم العامل الغييب إىل العامل املرئي "التشهيد" ،بينما تعمل
السياسة على رفع العامل املرئي إىل آفاق "العامل الغييب" وهو ما أمساه ب "التغييب" .وهذا
التصور للدين والسياسة ابعتبارمها طريقني متقابلني ،ال جمالني مستقلني ،يتفق مع
استعماالت متداولة هلذين اللفظني يف اللسان العريب ،كما يقول طه عبد الرمحن.
وانطالقا من هذا املنظور انتقد التصور العلماين واإلسالمي؛ ويرى طه عبد الرمحن أن
"العلمانية"، ِ
التسمية الصحيحة ملبدأ الفصل بني الدين والسياسة ليست "العلمانية" وال َ
وإمنا هي "مبدأ الدنيوية" ،أو "الدُّنيانية" ،إذ يقضي ابلتعلق ابلدنيا واالهتمام هبا وحدها
دون االهتمام ابآلخرة" ،49مث ما لبث طه عبد الرمحن أن طور استعمال مصطلح
"الدنيانية" يف "بؤس الدهرانية" ورأى أنه فصل للدين عن قطاعات احلياة؛ فالتفكري يف
الدنيا ينبغي أن يستقطب كل اهتمام احلداثي ،وال يهمه أمر اآلخرة؛ بينما االهتمام
ابلدنيا ،ابلنسبة للمسلم ،هو مطية لالهتمام ابآلخرة ،بل إن اهتمامه ابآلخرة هو خادم
50
"العلمانية"
حلياته الدنيوية ،وإذ ذاك ،تتعدد صور الدنيانية بتعدد هذه الفصول ،فتكون َ
(بفتح العني) ،مثال ،هي الصورة الدنيانية اليت اختصت بفصل السياسة عن الدين،
و"العِلمانية" (بكسر العني) هي الصورة الدنيانية اليت اختصت بفصل العلم عن الدين،51
48يستعمل طه التسيد يف مقابل التعبد ،وهو مشتق من السيد ،ووضع يف املقابلة لشيوع استعماله يف مقابل
العبد.
49طه عبد الرمحن ،احلوار أفقا للفكر ،مرجع سابق ،ص.98
املرجع السابق ،ص.99 50
- 51طه عبد الرمحن ،بؤس الدهرانية :النقد االئتماين لفصل األخالق عن الدين( ،بريوت :الشبكة العربية
لألحباث والنشر ،ط ،)2014 ،1ص.11
240
العلمانية ،فكل َعلمانية دنيانية وليس
فحسب اصطالح طه ،فإن "الدنيانية" أعم من َ
العكس.
كما انتقد تصور اإلسالميني إلشكالية الدين والسياسة ،وعدم متكنهم من أدوات البناء
املنطقي والنظري ،إذ مل يستطيعوا القيام بنقد املفاهيم املنقولة عن العلماين أو حتديد
اخلصائص اإلجرائية الستعماالهتا ،فضال عن إبداع مفاهيم جديدة تتجاوز املفاهيم
املنقولة ،لذلك قاموا مبحاكاة العلمانيني يف اصطالحاهتم وتصوراهتم كيف اتفق ،لدفع
هتمة مجود الفكر والتخلف عن العصر مما اضطرهم إىل التقية ابجلمع بني القدمي واحلديث
مجعا مشوها.52
وجتدر اإلشارة إىل أن طه عبد الرمحن بدأ نقده للتوجهات اإلسالمية يف العمل السياسي
يف بواكري كتبه "العمل الديين وجتديد العقل" رغبة منه يف توجيه مسار "اليقظة الدينية" أو
ما يسمى ب "الصحوة اإلسالمية" ،وحينها أسس دعائم مشروع التزكية ابجلمع بني
التجربة اإلميانية احلية واالستناد على املناهج العقلية واملعايري العلمية ،مث ما لبث أن وجه
سهام النقد حلركة "تسييس الدين" بتعبريه يف كتابه "سؤال األخالق" ،53حيث رأى أن
مقارب ملقتضى الثقافات األجنبية العلمانية ،ألنه يقتل يف النفس القيم
ٌ "تسييس الدين"
َ
اليت ترفع اهلمة ويستبدل مكاهنا قيما مادية ال مطمع يف اآلخرة من ورائها ،ويف هذه
املرحلة ،أي قبل أكثر من اثين عشرة سنة من أتليف كتاب "روح الدين" ،أقر طه أبن
ضيِّ رق َ
أفق دعوة اإلحياء اإلسالمي مبا ال مزيد عليه ،إن مل خيرج هبا اجتاه "تسييس الدين" ير َ
إىل نقيض مقصودها ،ليقرر وقتها أن السياسة اليت جيوز أن توافق الدين ال تكون إال
السياسة األخالقية إلصالح فئات اجملتمع ،وليست السياسة الال أخالقية حليازة
السلطة.54
53طه عبد الرمحن ،سؤال األخالق :مسامهة يف النقد األخالقي للحداثة الغربية ،مرجع سابق ،ص.78
54املرجع السابق ،ص.79
241
-3املقاربة التزكوية واخلروج من التسيد/التسلط:
يرى طه عبد الرمحن أن "العمل التزكوي" يعد اآللية األجنع للخروج من التسلط ،نظرا ألن
الباعث الدفني الذي حيرك الفاعل السياسي؛ سواء العلماين أو اإلسالمي يف كل نشاطه
ونضاله ،حسب رأيه ،هو "طلب التسيد على الناس" والذي مساه املتقدمون "حب
الرائسة" ،ومساه احملدثون "حب السلطة" ،فكل فاعل سياسي هو مشروع تسيُّدي ،55كما
يرى طه عبد الرمحن.
لذلك يلزم تفكيك التسلط ،وتنقسم طرق جماهبته إىل طرق "قولية" وطرق "عملية"؛ وملا
كان الطريق القويل غري انجع ،فإن البديل الذي يقرتحه طه يتحقق ابلتزكية الروحية ،أو
"العمل التزكوي" ،وهو االجتهاد يف التعبد هلل ابلقدر الذي يتوصل به إىل ختليص اإلنسان
56
من خمتلف أشكال االستعباد.
وتتلخص خصائص "العمل التزكوي" 57يف أنه:
"عمل جذري" ،فهو يتجاوز السطح إىل العمق ،ويتجاوز ابطن الفرد إىل ابطن -
ابطنه؛
عمل كلي ال جزئي ،إذ يتسع ليشمل ذات الفرد كاملة غري منقوصة ،فيجعلها -
تتداعى ابليقظة والشعور؛
عمل حتويلي ال تغيريي إذ يسعى إىل أن حيصل التبدل إىل األحسن يف اجلوانب -
اجلوهرية للسلوك البشري ،فهو يرتقي ابلفرد من حال إىل حال؛
عمل "تثويري ال تطويري" ،إذ يقلب سلوكه رأسا على عقب؛ -
- 56طه عبد الرمحن ،سؤال العمل :حبث عن األصول العملية يف الفكر والعلم( ،بريوت :املركز الثقايف
العريب ،ط ،)2012 ،1ص.160
- 57ملزيد من التفصيل ينظر :املرجع السابق ،ص.159
242
-عمل "متصل ال منقطع" فليست له مدة زمنية حمددة ،فهو دائم بدوام احلياة،
فاألصل يف هذا العمل أن يصري صبغة للفرد ال تزول عنه58؛
-عمل "تدرجي ال طَفري" ،إذ يبدأ تكليف الفرد ابلقدر الذي تطيقه نفسه هذا
إذا استأنست نفسه انتقل به إىل تعبدات أخرى حىت يرتقي درجة أعلى يف مفارقة
شهواته ورذائله؛
-عمل " ِسلمي ال رعنفي" فهو ال يقهر الفرد ابلقوة وال يرغمه على ممارسة معينة،
59
فاألصل فيه إرادة الفرد الدخول فيه عن طواعية.
وبفضل اجتماع هذه اخلواص السبع يصبح العمل التزكوي ،كما يقول طه ،قادرا على
انتزاع حب التسيد من قلب الفرد ،ويثبت يف قلبه حب التعبد الذي يتوسل ابلتدين،
فهو ،أي العمل التزكوي ،يورث "حب التعبد" و"حب اإلميان" و"وازع احلياء" .مث يتوغل
طه عبد الرمحن يف املعاين الصوفية للعمل التزكوي ،معتمدا يف ذلك على كثري من مقاالت
"أهل التزكية" ،ومستدال مبقاالت "ابن عريب" ،فجعل العمل التزكوي ضراب من أضرب
االتصال بني املرئي والغييب ،وذلك ابلشهود بعني الروح ،مع نقد "للحلول واالحتاد" ألهنا
تقتضي "التحيز".60
ومن مثّ؛ فإن طه عبد الرمحن عمل على أتصيل أسس تصور بديل عن التصورات العلمانية
واإلسالمية ،ذلكم أنه وإن اختلفت نظرة العلمانيني واإلسالميني لطبيعة العالقة بني الدين
والسياسة ،فإن آفتهما معا ،حسب تصوره ،خلومها من "العمل التزكوي" ،وهذه التزكية
قائمة أساسا على ميثاق األمانة ،ومن هذه اللفظة جاء اشتقاق مفهوم "االئتمان" ،إذ
أن هللا عرض األمانة على املخلوقات فأبت واختارها اإلنسان ،لذلك يرى أن الفطرة،
وهي ركيزة التزكية ،تقوم على مبدأ "االختيار" و"حتمل األمانة".
املرجع السابق .268-267 ،أيضا ،طه عبد الرمحن ،سؤال األخالق :مسامهة يف النقد األخالقي 59
243
وعليه؛ فإن طبيعة مقاربة طه عبد الرمحن بني الدين والسياسة ائتمانية؛ إذ تروم بناء
جمتمعات األمانة أو اإلنسان األمني ،ومدخل هذه املقاربة روحي ،ومن خصائص الروحي
يف تصور طه عبد الرمحن التفكر يف العوامل ،فهي مقاربة تتذكر العوامل الغيبية وال تنساها،
فإذا كانت الدعوى العلمانية تقول ابلتضاد أو التباين بني الديين والسياسي ،والدعوى
اإلسالمية تقول ابلتداخل أو التماثل بني الديين والسياسة ،فإن تصور طه ،واملتمثل يف
الدعوى االئتمانية ،يقول بوجود أصل واحد ال اثين له وهو "األمانة" ،حيث أرجع األمور
إىل ما قبل التفريق أصال وهو ما يسميه برتبة "الوحدة األصلية" اليت منشؤها العامل الغييب،
حتملها اإلنسان ب "اختيار" منه ،فال تعارض بني التدبري والتعبد، وتتمثل يف األمانة اليت َّ
بل إن التدبري جماله العامل املرئي ،والتعبد جماله العامل الغييب ،فال فصل وال وصل بني "التعبد"
و"التدبري" يف األمانة ،وهذه األمانة وديعة عند اإلنسان وحلفظها فهو متصل مبودعها
وهو هللا .لذلك قام التصور االئتماين على مبدأي "اإليداع اإلهلي" لألمانة و"االتصال
الروحي" من أجل احلفاظ عليها ،وهذا التصور هو الذي سيوسع آفاق الوجود اإلنساين
اليت تضيقها املبادئ العلمانية والداينية ،حسب رأي طه عبد الرمحن.
-4املقاربة االئتمانية للمسألة السياسية وإشكالية التلقي:
وقفات مع املقاربة االئتمانية: أ-
الناظر لقراءة طه عبد الرمحن إلشكالية الديين والسياسي جيد أهنا تنطلق من رؤيته الفلسفية
وحتيزه الروحي؛ حيث إن واجب الفيلسوف ،كما يتصوره طه ،عدم االهتمام ابخلوض يف
الواقع بقدر ما يهتم مبا ينبغي أن يكون عليه هذا الواقع؛ وهنا يكمن الفرق بينه وبني
السياسي يف نظره :فالفيلسوف يتطلع إىل أن تصري األشياء إىل ما هو أفضل ،وينظر إىل
املثال الذي ينبغي أن ترتقي إليه ،يف حني أن السياسي يرى األشياء كما هي وينظر إىل
الواقع ،ابحثا عن كيفية االستفادة من ظروفه.61
لكن اخلروج من اإلشكال هبذا التصور لوظيفة الفيلسوف ،يظل قاصرا حني يكون املوضوع
يشرتك فيه التجريد ابلتجسيد ،بل إن طه عاتب "أهل التحكيم" ،أي القائلون ابحلاكمية،
أن مقاربتهم كانت جتريدية ال جتسيدية ،وتصوره وإن قارب التجسيد يف شكل العمل
245
والعكس صحيح ،وسنضرب مناذج على االحتفاء واالزدراء ليتبني املقصود ،وتتجلى
إشكالية التلقي.
وجتدر اإلشارة إىل أننا إن كنا يف مبحث سابق أشران إىل ضمور الدراسات املشرقية لفكر
طه عبد الرمحن ،فإننا سنجد ابملقابل أن "روح الدين" عرف نقاشا مشرقيا واسعا ،بسبب
خوضه يف نقاشات املذاهب العلمانية واحلركية اإلسالمية ،وال خيفى أن هذه اإلشكالية
من القضااي احلساسة اليت تثري أية إيديولوجيا تتحسس من أي نقد أو تقومي.
رضوان السيد واالحتفاء بنقد اإلسالم السياسي:62 -
إن املتأمل يف النقاشات اليت تلت "روح الدين" ،على ضعفها ابملقارنة مع حجم الكتاب،
سيجد اختالفا ملحوظا يف تقييم النظرية االئتمانية يف تطبيقها السياسي ،ففور صدور
الكتاب ،كان هناك احتفاء خاص ابلكتاب من رضوان السيد الذي كتب فيه أكثر من
دراسة تنويهية يف عدد من اجملالت العربية ،إذ عمل على تلخيصه وتقريب مضامينه،
وومسه ب "الكتاب الرائع" و"املهم" و"العظيم" ،وقال عنه أيضا " :لقد أذهلْتين مقاربة
األستاذ طه عبد الرمحن النقدية واليت مضت إىل ٍ
أبعاد ما بلغها أح ٌد من قبل".
هذه العبارات وغريها تفيد أن تلقي رضوان السيد كان تلقيا إجيابيا وتنويهيًا واحتفائيًا ،إذ
أعجب أبطروحة الكتاب ،وإن انقشه جزئيا يف بعض القضااي املتعلقة ابلوالية ،إال أهنا
تظل قضااي جزئية ال تشوش على أطروحة الكتاب املركزية.
وهنا نتساءل هل كان تلقي رضوان السيد جمرد احتفاء؟
رضوان السيد" ،روح الدين" لطه عبد الرمحن والقراءة األخرى ..العالئق وإشكالياهتا بني الدين والشأن 63
64رضوان السيد ،الدولة والدين يف أزمنة التغيري :املنظور النهضوي ومتطلباته ،مرجع سابق.
248
قائم على هذه األيديولوجيا .وهذا َخطَ ٌل يتهدد الدين ووحدة
أيديولوجيا واملرشد ٌ
اجملتمعات أبش ّد األخطار".65
فهذا ضرب من االحتفاء التجزيئي أبطروحة طه عبد الرمحن ،وهو احتفاء له وجاهته ،ألنه
يدعم نقد "اإلسالم احلركي" و"السياسي" ،وابملقابل يبخس نقد "العلماين" كما جاء يف
الكتاب ،وليس هذا جماال حملاكمة النيات ،إذ االستدالل على الفكر مرغوب ،وكل امرئ
يرغب أن يدعم مذهبه ابألدلة اليت تقويه ،كما ليس مطلواب االتفاق الكلي مع أطروحة
طه عبد الرمحن ،لكن هذا يكشف فقط عن بعض معامل التلقي التجزيئي ألطروحة
الكتاب.
الشنقيطي وآفة االزدراء: -
أفرد حممد املختار الشنقيطي جمموعة من املقاالت املختصرة عن كتاب "الدولة املستحيلة"
فج بني أطروحيت وائل حالق وطه عبد لوائل حالق ،ويف خضم هذا النقاش ربط بشكل ّ
الرمحن؛ مبينا أن كتاب وائل حالق "خيتزل رسالة اإلسالم ودوره يف مستقبل البشرية ،يف
دروشة أيب حامد الغزايل من األقدمني ،وطه عبد الرمحن من املعاصرين" ،ومعتربا أن
الغزايل وطه عبد الرمحن عاشا مرحلتني حرجتني" ،وأن كال منهما انسحب من التدافع
الذي يوجبه القرآن ،ويقتضيه الواجب األخالقي ،واستغرق يف عامله الذهين وجتريداته
عدوها من الوريد إىل الوريد ال تعنيه يف شيء".
الروحية ،وكأن األمة اليت يذحبها ُّ
ويرى الشنقيطي أن طه يقف على احلياد يف املعركة الدائرة بني احلكام املتحكمني يف رقاب
ساعيني إىل "التسيُّد" واحلكم
ْ الشعوب ومعارضيهم من الساعني لتحريرها ،ويعترب الطرفني
ابلقهر ،يف سلبية أخالقية كاملة ،لكن ابسم األخالق! [ "]...ويرى أن مشكلة طه عبد
65رضوان السيد ،طه عبد الرمحن يف "روح الدين" ومحاية الدين من "اإلسالم السياسي" يف أزمنة التغيري،
مرجع سابق.
249
الرمحن تكمن يف اندراجه ضمن ثقافة دينية مغشوشة ،منبتَّة عن النبع القرآين واملنهاج
66
النبوي ،وهي ثقافة الدروشة واخلمول املوروثة من الرهبنة املسيحية والبوذية".
إن إشكالية مثل هذه التصورات ال تنحصر فقط يف الرؤية العدمية لألطروحة الفكرية
املخالفة ،67لكن اإلشكال يكمن يف أن هناك فرقا بني املساءلة العملية لألطروحة وبني
اعتبار أن الفلسفة السياسية جيب أن تكون عملية ابلضرورة؛ إذ إن كتاب طه عبد الرمحن
هو نقد معريف إبستمولوجي يناقش تراكما معرفيا يف املسألة ،وهذا الرتاكم له آاثر عملية
وجب تقوميها وتصحيحها ،فاألطروحة وإن بدت طوابوية يف بعض جوانبها ،إال أهنا
تساءل النظري والعملي أيضا؛ فهل احلديث عن "احلاكمية" و"الوالية" و"التزكية" نقاش
نظري؟!
إن كثريا من القضااي املذكورة يف الكتاب هلا متثالت على أرض الواقع ،وإن كنا خنتلف مع
بعض ما جاء فيها لعلة اإلغراق يف التنظري ،إال أن املعرفة تقتضي ابلضرورة فك االرتباط
بني األساس املعريف للمسألة ومتثالهتا يف الوقع؛ ففي حالتنا هناك متثالت موجودة وهناك
أساس فكري سابق ،ولتقومي املشاريع السياسية يف بعض "التمثالت/عامل األعيان"؛ وجب
مناقشة األسس العلمية اليت أنتجتها ،أي "التصورات/عامل األذهان" ،وال ريب أن هذا
العمل ال يندرج حصرا يف التدبري السياسي ،وإمنا هو نقاش رصني يف الفلسفة السياسية،
حىت إن طه عبد الرمحن يرى كتاابته تندرج ضمن فلسفة الدين ،لذلك فإن التهوين من
68
شأن النظري وهتويل الواقعي هو حمل النزاع.
إن مشكلة التيار اإلسالمي عموما تضخيم اإلصالح السياسي وتبخيس اإلصالح
الثقايف ،كالذي هنض به طه عبد الرمحن وغريه من أهل الفكر؛ واعتبار التدبري السياسي
66حممد خمتار الشنقيطي :أوراق الربيع ( )16الدولة العلمانية املستحيلة (د) مدوانت اجلزيرة،
https://goo.gl/6e9zTB
67علما أين لست يف هذا املقام للدفاع عن روح الدين وال عن أطروحة الكتاب ،وإمنا فقط حماولة مساءلة
التلقي ومعرفة أسبابه ومنهجه لنرى دوافعه وآلياته ،وسبق وأثرت حنو أسئلة الشنقيطي يف سلسلة مقاالت أجنزهتا
عن روح الدين مبنتدى العالقات العربية والدولية ،وتساءلت عن جناعة األطروحة عمليا؟
68ليس غرضي انتقاد كالم الشنقيطي فهو كالم ممزوج ابلعاطفة ،وطبيعة املقام الذي نشر فيه يسمح رمبا هبذا
النوع من اللغة اليت تقل فيها العلمية ،ويكثر فيها حس االنتصار لأليديولوجيا.
250
هو أصل اإلصالح ،وأن ما ارتبط به من قضااي جيب أن يكون تدبرياي ،وهذه مفارقة
غريبة ،إذ الكتابة يف "السياسة" ال تستلزم أن تكون "عملية" "تدبريية" "براغماتية" ،وإمنا
ختتلف حبسب املقاربة واحلقل املعريف ،وملا كان طه ينتمي حلقل "الفلسفة" ،فإن كتابته
اصطبغت ابلفلسفة ،وإن خاضت يف قضااي التدبري السياسي.
كما أن اإلصالح السياسي ال تكون له جناعة معرفية إال إذا أتطر بنسق ثقايف ،والثقافة
تتمثل واقعيا عن طريق السياسة ،فهي عالقة أتثري وأتثر متبادلة ،لكن يظل املدخل الثقايف
مدخال تصحيحيا وتقومييا للمسار السياسي ،أما االستغراق يف احلركية السياسية ففقر
يصري الثقافة فقه تسويغ ال فقه تقومي.
معريف ّ
لذلك فإن آفة التيارات املؤدجلة شخصنة اخلالف وامليل للجهة اليت تفيد يف ضرب اخلصم
اإليديولوجي ،فتكون االستفادة من ابب تدعيم الرأي أساسا ال تصويبه أو تقوميه ،وهذا
ما انله كتاب "روح الدين"؛ إذ كان التلقي جتزيئيا سواء يف شق "االحتفاء" أو "االزدراء"،
ألنه مسبوق هباجس االنتصار والغلبة للرأي ونقد املخالف ،األمر الذي جيعلنا نسائل
فعل "التلقي" نفسه يف عالقته بـ"األطروحة األصل".
خامتة
إن استعادة التفلسف مشروع حيتاج إىل استئناف من خمتلف التيارات الفكرية ،حيث
حنتاج إىل "فلسفة" مسؤولة تعي حتدايت العصر وفق روح الدين ،فليست الفلسفة انفصاال
عن الدين -كما تبني من اشتغال طه عبد الرمحن -بل هي حكمة تستمد وجودها من
مصادر كثرية على رأسها احلكمة الدينية وتستمر ابحلكمة اإلنسانية الساعية إىل تدبري
قضااي البشرية لرتقى هبا حنو "التأنس" وتنأى هبا عن "التوحش".
إن جرأة طه عبد الرمحن املعرفية تتأتى من تصرحيه بتحيزه الروحي ومدده القرآين ،يف ٍ
سياق
رسخ لفصل الفلسفة عن الدين ،وروج لـ"خصوصية فلسفية غربية" ابسم الكونية .إن
املطلع خلريطة مؤلفات طه عبد الرمحن سيتبني له أن التمكن من انصية الفلسفة الغربية
والتدعم ابلرؤية القرآنية هو الذي مكنه من استيعاب معريف مكنه من خوض القضااي
الفكرية املعاصرة من منظور جديد يدخل الدين إىل ساحة املعرفة واحلكمة ،وجيعله أساسا
لبناء اإلنسان األمني وجمتمعات الثقة.
251
إن اشتغال طه عبد الرمحن دليل على عدم التعارض بني "الفلسفة" و"الدين" ،إذ تبني،
من خالل مشروعه الفكري ،أن النظر الفسيح يف "القرآن" ميد الفيلسوف بزاد معريف
"متعال" ،وإذا كان الغرض من املعارف خدمة اإلنسان والكون ،فإن االشتغال الفلسفي
املسؤول جعل النقاش املعريف لصيقا بقضااي اجملتمعات اإلنسانية يف اختالفها وتنوعها ،مما
نتج عنه "عمل" فكري وواقعي ،ومن مث؛ فإن التفلسف وفق منظور قرآين هو الذي جعل
طه عبد الرمحن يبلور النظرية "االئتمانية" املرتكزة على تعدد أبعاد الوجود البشري مؤسسا
بذلك لعمران معريف أخالقي متفرد.
ويف اخلتام ،فإن املشروع الفكري لطه عبد الرمحن حيتاج إىل جهد تقرييب وتبسيطي جلمهور
املثقفني ،إضافة إىل ضرورة تتميم التأسيس املعريف ،حىت يكون مدخال لتجديد العلوم
اإلسالمية واإلنسانية لتتفاعل مع قضااي العصر وفق حكمة يتفاعل فيها روح الدين بعقل
اإلنسان وتغري السياق ،عساان نسهم يف استئناف مسار "التفلسف" ليتفاعل مع املسائل
املتجددة يف كل عصر وحني خدمة لإلنسان والعمران.
252
الفصل الثاين:
1
الفكر التأسيسي للسيد حممد نقيب "العطاس"
يوسف راموس
مقدمة
ميكن تعريف التعليم أبنه السعي وراء املعرفة ،واليت بدورها
تصوغ تصوراتنا عن الذات واآلخر .إذ تتش ّكل هوايتنا عن
طريق إدراكنا ألنفسنا وذواتنا يف عالقتنا بغريان ،وذلك عرب
كال منا إىل
تدافع وجهات النظر املتعددة ،وهذا يقود ً
خيارات خمتلفة ميكن أن تتسبب يف التوتر والصراع ،أو
اهلوايت
حىت تفكك اجملتمع نفسه .رمبا يكون إذن تنظيم ّ
مطلواب يف هذه احلالة؛
ً -الذي يقوده تعليم مالئم -أمراً
ألن القوى املختلفة اليت تتصارع فيما بينها على السلطة
قد تتسبب يف هناية هذا اجملتمع الذي يضمّها ،ما مل تكن
هوايت متناغمة.هنالك عملية رحمكمة لتشكيل ّ
وقد حاول العديد من املفكرين اإلسالميني يف العصر احلديث أن يصلوا إىل فهم ما
حتديدا
ً تسبّب يف تدهور احلضارة اإلسالمية واستالهبا ،واتفقوا على أن التعليم -أي
الطريقة اليت ينتج هبا املسلمون معارفهم ،ويراكموهنا ،وينشروهنا -هو السبب األساسي
الزدهار احلضارة اإلسالمية ،وأن إمهال التعليم ابلتايل كان السبب األساسي لالحندار.
خصيصا هلذا الكتاب ،وترمجه من اإلجنليزية إىل العربية أمحد مجال سعد الدين.
ً 1ركتب هذا النص
لقد سيطرت احلضارة الغربية على عامل ينحو ابجتاه العوملة ابستمرار ،وهو ما جعل املسلمني
يتلقون املعارف بصورة أساسية -أو ابلكامل -عرب منوذج فكري تعليمي ينتمي إىل علوم
احلضارة الغربية ،مما يعين ابلضرورة تش ّكل املسلمني عرب أنظمة تفكري وافدة.
وقد انقسم الباحثون اإلسالميون بشكل عام فيما يتعلق حبل هذه املعضلة إىل فريقني:
يشجع عملية تطويع اإلسالم للحداثة ،وميكن وصف أفراده ابلليرباليني أو أحدمها ّ
ابحلداثيني؛ والفريق اآلخر حياول تطويع احلداثة لإلسالم ،وهم من يوصفون ابحملافظني أو
أحياان طريقة وصف
التقليديني .هذا التصنيف جاء من الغرب ابلدرجة األوىل ،لكنه كان ً
الباحثني ألنفسهم .وسنجد أن بعض املسلمني متاهى مع مدرسة من هاتني أو األخرى،
فيما شعر بعضهم ابحلرية ،أو جتاهلوا اجلدل الدائر ،ورفض البعض هذه الثنائية ابلكامل.
وعلى سبيل املثال ،ينصح سيد حسني نصر املسلمني أبن يبحثوا عن الفهم احلقيقي يف
الرتاث الثقايف اإلسالمي:
"سواء كان األمر متعل ًقا ابلفلسفة ،أو ابلعلم ،أو اإلبستمولوجيا (نظرية املعرفة) ،أو
ابألخالق ،أو بفلسفة اللغة ،أو ابلعالقة بني املرء وربه ،أو كان األمر متعل ًقا ابإلرادة احلرة
أو ابجلرب أو ابلسببية ،أو أي تساؤالت فلسفية أخرى تناوهلا الفالسفة األوروبيون
واألمريكان عرب القرون األخرية؛ فإن الرتاث الفكري اإلسالمي يق ّدم إجاابت ذات
صالحية مستمرة".2
"مسلما أوروبيًا" -أن هنالك فجوًة بني
ً ويرى طارق رمضان من انحية أخرى -وبوصفه
الرتاث التقليدي ،وبني املدخل اإلسالمي احلايل فيما يتعلق ابملواضيع التعليمية يف الغرب،
تشجع التعبري والتفكري النقدي،
وهذا يف تناقض واضح مع أنظمة املدارس العامة اليت ّ
والرؤية الذاتية:
254
" […] ما يرطلق عليه اآلن "التعليم اإلسالمي" مقيّد بعملية حفظ الذاكرة آلايت القرآن،
وحتول تعلّم الطقوس إىل عملية ميكانيكية
النيب ،ولقواعد خالية من أي برعد روحيّ ،ولسرية ّ
3
متاما عن واقع األمريكيني واألوروبيني" .
تعاليم منفصلةً ً
رتيبة ق ّدمت َ
ويشجع رمضان إصالح نظم التعليم اإلسالمية احلالية ،لتواكب حاجات املسلمني الذين
ّ
يعيشون يف الغرب.
ورمبا تساعد أفكار سيد حممد نقيب العطاس ،فيما يتعلّق بضرورة التأسيس لنظام تعليم
إسالمي ،على َمد طريق بني أفكار نصر التارخيية وطرح رمضان ،وهي األفكار اليت
سيجري عرضها يف هذا الفصل ،واملقارنة وتوضيح الفروق بينها وبني مشروع أسلمة املعرفة
الذي كتب فيه ونَظّر له إمساعيل راجي الفاروقي ،وعبد احلميد أبو سليمان ،وضياء الدين
سردار.
يف أصول "أسلمة املعرفة" :تفكيك العلمانية
نرشر كتاب "اإلسالم والعلمانية" لسيد حممد نقيب العطاس يف عام ،1978تاله كتاب
إمساعيل راجي "الفاروقي" "أسلمة املعرفة :املشاكل ،واملبادئ ،والتطلعات" يف عام
،1982وكذلك كتاب "أسلمة املعرفة :املبادئ العامة ،وخطة العمل" يف عام ،1989
والذي حرره عبد احلميد أبو سليمان ،دون اإلشارة -للغرابة -إىل عمل "العطاس" (وهو
ما أاثر حرية "العطاس" نفسه) .مث نشر "العطاس" كتابه "مقدمات نقدية يف ماورائيات
اإلسالم" عام ،1993وهو تطوير ألعماله األوىل.
يف مقاله "من أسلمة املعرفة إىل توحيد املعرفة" ،2017استشهد ضياء الدين "سردار"
بكل من "الفاروقي" و"العطاس" ،إال أنه نسب الفضل يف صك مصطلح أسلمة املعرفة
إىل "الفاروقي" ،وخطة عمل أيب سليمان.
255
ويستطيع املرء عند قراءة أعمال السيد حممد جنيب "العطاس" ،أن مييز بسهولة انغماس
عاما -يف قضااي املعرفة .فقد درس
الرجل الشديد -عرب حياته اليت امتدت إىل ً 85
علوما شىت بداية من علم الالهوت ،والفلسفة ،إىل علوم اللغوايت واألدب،
"العطاس" ً
4
وحىت العلوم احلربية .
وينتمي "العطاس" إىل أسرة ذات مسعة يف منطقة املاليو ،تعلّم هناك ،وأمضى بعض الوقت
يف اجليش قبل أن يستكمل دراسته يف بريطانيا ،وحيصل على الزمالة الربيطانية اليت وفرت
مكاان يف العديد من املعاهد احمللية والعاملية املهتمة ابلبحث والتعليم.
له ً
أتقن "العطاس" التعامل مع األكادمييا الغربية احلديثة ،لكنه أبقى على أولوية القرآن
أصر على أن املسلمني لن يستطيعوا تقييم أوضاع النبوي كمقاييس للحقائق ،و َّ
واحلديث ّ
التبصر مليًا وجبدية يف تصوراهتم عن
نقداي ،إال من خالل ّ تقييما ً
ماضيهم وحاضرهم ً
شك يف أن عمليةتصور ملا ينشدونه يف مستقبلهم .هلذا مل يكن لديه ٌّ املعرفة ،وتطوير ّ
تزييف املعرفة -أي الغزو املعريف الذي قامت به املرجعيات الغربية ،والتصورات العاملية
غري اإلسالمية -هي سبب إرابك العقل املسلم ،وهو ارتباك حمسوس يف كل درجة من
درجات حياته الفردية واالجتماعية ،ورأى "العطاس" أن عملية التزييف هذه تتحدى
5
خصوصا اإلميان أبصالة اإلسالم ومبرجعيته وما يتعلق بدوره
تصور عاملية اإلسالم نفسه ً 6 ،
يف تلبية احتياج اجملتمعات املسلمة .
4كتب وان موهد نور وان داود سرية تفصيلية حلياة سيد حممد العطاسWan Mohd. Nor Wan ،:
Daud, The Educational Philosophy and Practice of Syed
Muhammad Naquib Al-Attas: An Exposition of The Original
Concept of Islamization, Kuala Lumpur: Institute of Islamic
Thought and Civilization, 1998
Syed Muhammad Naquib Al-Attas, Islam and Secularism, Kuala 5
Lumpur: ISTAC, 1993, p 133.
Syed Muhammad Naquib Al-Attas, Prolegomena to the 6
Metaphysics of Islam: An Exposition of the Fundamental
256
عن اللغة واألسلمة وفك االرتباط ابلغرب
مثلت كتاابت "العطاس" رحلة كشف -شديدة التدقيق -للمبادئ اإلسالمية واحلضارة
الغربية اإلغريقية على قدم سواء ،بداية من عام ( 1978والح ًقا يف عام .)1993
ويعترب حتليل "العطاس" لدالالت ألفاظ املفاهيم يف اللغة العربية واللغات األخرى مسةً
أساسية شديدة التميّز يف كتاابته ،وحجر أساس ملنهجه اجلَديل؛ إذ استطاع ربط املفاهيم
املتداولة عامليًا أبصوهلا ،وعند تطوير رحججه التعامل معها فلسفيًا ومعرفيًا.
وقد شدد "العطاس" على أمهية التعامل مع املفاهيم يف سياق احلضارة املنتجة هلا ولغتها
اخلاصة؛ وذلك لوجود ٍ
معان كامنة يف الثقافة ال ميكن فصلها عن املفاهيم ذاهتا .وهلذا
كانت جمهوداته يف تعريف املفاهيم عملية تتسم ابلدقة الشديدة ،تكررت يف كل كتبه
ومقاالته ،بغض النظر عن موضوعها ،سواء كان حول املعرفة ،أو فلسفة املعىن ،أو األدب،
تكون
أو السعادة ،أو احلرية ،أو العدل ،أو احلقيقة ،أو الواقع .وكلها مفاهيم مرتابطة ّ
أساسا ألفكاره ،فيما ساهم وضوحه يف تعزيز متاسك جداله.
ً
وساعد اهتمام "العطاس" ابللغة على تدعيم التمييز الذي هنجه فكره بني النظم املنطقية
يف احلضارة اإلسالمية والغربية على حد سواء ،ففي كتابه عن العلمانية -على سبيل
كامال للحديث عن داللة لفظ "علمانية" يف الغرب، فصال ًاملثال -خصص "العطاس" ً
7
وكيف جيب تلقيه يف الرؤية العاملية اإلسالمية .
وقد اتفق "الفاروقي" و"سردار" مع رؤية "العطاس" يف مدى أمهية رسم اخلطوط بدقة فيما
يتعلق ابملفاهيم اليت استخدمها علماء املصطلحات يف تعاملهم مع منظومة التعليم
اإلسالمي .فكتب "سردار"" :إن اللغة هي األداة البارزة يف الثقافة ،ومتلك اللغة اترخيًا له
شاسعا ،كأهنا خمزن للمعاين املكتسبة عرب الزمن" .ويف ً موقعا أثرًاي
طبقات كما لو كانت ً
257
ما يتعلق بسياق إصالح التعليم كتب" :فهرس مصطلحات علمي وموجز هو ما سيساعد
يف تفادي سوء الفهم".8
قاموسا معيارًاي لتدعيم عملية تنفيذ مشروع أسلمة املعرفة ،إال
وحاول "الفاروقي" أن يضع ً
عرفأنه مل يضمنه سياقات أغلب املفاهيم واملصطلحات اليت استخدمها يف نَصه ،ومل ير ّ
دائما بتفاصيل معرفيّة تفصيلية ،مما تسبب يف بعض اإلهبام.
املشروع ً
وقد انقش كل مفكر إسالمي دور املعرفة يف التنوير الفكري للمسلمني من زاوية خمتلفة،
يفضل عليها" :فك االرتباط ابملعرفة
وصك "العطاس" عبارة "أسلمة املعرفة" ،لكنه كان ّ
الغربية" ،بينما استثمر كل من "الفاروقي" وأبو سليمان جمهوداهتما أكثر يف التعامل مع
مصطلح "أسلمة املعرفة".
تساؤال :لو كانت كل معارف اإلنسان معروفة عند هللا سل ًفا ،فهل ميكن
وقد أاثر البعض ً
موضحا أبن
ً ابلتايل أن نطلق على كل املعارف صفة الـ"إسالمية"؟ جييب "العطاس"
السمات غري اإلسالمية يف املعرفة احلديثة ،تعود إىل املاهية والوجود ،وكذلك إىل نظرية
وحتديدا:
ً املعرفة ذاهتا
"االعتماد احلصري على سيادة املنطق البشري وحده ،والتمسك بسراين الطبيعة الثنائية
للواقع واحلقيقة ،والتأكيد على حقيقة اجلانب الزائل من الوجود مبا يعزز رؤية علمانية
عاملية ،واعتناق املذهب اإلنساين كمرجعية ،وحماكاة الطبيعة الكونية املزعومة للدراما
واملأساة يف الروحانيات واملتساميات ،أو يف احلياة الداخلية لإلنسان".9
258
ال تندرج هذه النقاط حتت بند "املعرفة احلقيقيّة" ،لكن ابألحرى ترتبط بـ "خصائص
الصيغة اليت يتم عربها تل ّقي املعرفة وتقييمها وتفسريها مبا يتوافق مع الغاية املناسبة لنظرة
احلضارة الغربية عامليًا".10
وميكن عزل هذه اخلصائص مبجرد تعريفها ،وابلتايل محاية التصور العاملي اإلسالمي من
مقدسا التصور العاملي الغريب الذي "ال ميلك حقيقة واحدة يـرثَبِّت تصوراته عليها ،وال ً
كتااب ً
صاحلا لقبول وتعزيز احلياة ،وهو بال قدوة إنسانية واحدة ِ
مرشدة متلك كلماهتا وأعماله ً
القدرة على توفري منوذج لالقتدء يف احلياة".11
ابلوصول إىل هذه النقطة ،طرح "العطاس" سبعة مفاهيم كعناصر أساسية لنظام إسالمي
تعليمي:
.1مفهوم الدين كغاية من التعلم.
.2مفهوم اإلنسان كأساس جملال التعليم.
.3مفهوم املعرفة (علم ومعرفة) كمحتوى تعليمي.
.4مفهوم احلكمة كمعيار جملال التعليم ،وكمعيار للمحتوى التعليمي.
.5مفهوم العدل عندما يتعلق األمر بنشر هذه احلكمة.
.6مفهوم العمل الصاحل عند احلديث عن منهجية كل ما سبق.
.7مفهوم العاملية (الكلية اجلمعية) فيما يتعلق بتفعيل النموذج وعالقته بكل ما
سبق.12
مل يكن "الفاروقي" وأبو سليمان على الناحية األخرى ،بنفس درجة التحديد يف شرح
طبيعة املعرفة الغربية ،والسبب والكيفية اليت تتم الدعوة ألسلمتها ،لكنهما قدما "مبادئ
والسعي إىل الـ"معرفة" وحتصيلها من حيث عالقتها ابلروح وإدراك اخلالق هو فرض عني،
يف حني أن حتصيل العلم هو فرض كفاية يتصدى له عدد من األفراد يف كل جمتمع.
وتكون كل املعارف املرتبطة ابلـ"معرفة" جيدة لإلنسان ،بينما املعارف اليت ترتبط ابلعلم ال
يشرتط أن تكون كلها مفيدة ،وتقدمي النوع األول من املعارف على الثاين يعين أن املعرفة
هي ما متيّز اإلنسان يف اإلسالم عن اإلنسان الغريب .ويوضح "العطاس" كذلك أن للمعرفة
حدودا ومرجعية ،بينما يعتمد الـ"علم" على تساؤل مستمر رمبا يقود اإلنسان إىل دائرة الً
تنتهي من الشك وعدم اليقني .وهبذا يرى "العطاس" أن تقدمي السعي اخلاص ابلنوع الثاين
من املعرفة على حساب األول ،هو حجر أساس يف نظام عقل احلضارة الغربية ،حيث
حاول الغرب ختليص اإلنسان من حتكم الدين و"املاورائيات" ملصلحة العقل واللغة،17
ونزع القداسة عن قيمه وسياساته ،18فيما يوفر الطرح الغريب عن "املوضوعية" (كنقيض
للذاتية يف حديث الوحي عن النفس) لإلنسان الشعور ابلفوقية ،وكذلك يغرس فيه مهمة
"حتديث" ابقي العامل.
Ibid, pp 68-6916
Ibid, pp 68-6917
Ibid., 26.18
261
ال يتوافق هذا التصنيف الثنائي مع وجهة النظر اإلسالمية ،فاملعرفة ضرورية لتأسيس أمهية
أمرا أساسيًا
مجيع العلوم ،وهبذا يكون تبين نظرية املعرفة الغربية ،والسعي إىل19العلم يف ذاته ً
يف االرتباك واالحندار الذي يعاين منه املسلمون يف هذا العصر .
عن مسألة تطبيق العلوم
ضبط املطلقات املعيارية
يتفق "سردار" مع "العطاس" و"الفاروقي" يف أن العلم الغريب قد َ
وعرفها ،20واقرتح أن جيري "تفكيك القوة يف اجملتمعات املسلمة احلديثة واستعمرها ّ
ِ
التعريفية للمعرفة احلديثة ،وأن يرنتَج منوذج فكري رمنتج للمعرفة ،أيخذ يف اعتباره اتريخ
اعتبارا أكثر إنسانية للعلوم ،يعتمد على قيمة ما
اإلسالم ،وتقاليده ،وتعاليمه ،و21أن يقدم ً
وتطورها" . ِ
يرش ّكل عملية التعليم ّ
وتطابِق نظرة "سردار" خمط َط "العطاس" لنظام التعليم اإلسالمي ،الذي ينبغي تكوينه
22
كال من نظامي "العطاس" طب ًقا للمفاهيم اإلسالمية عن املعرفة ،إال أن "سردار" يرى أن ً
وفكرة "مركز التميّز" اليت نظّر هلا "الفاروقي" ،غري قابلني للتحقق طاملا بقي العمل ابلنظام
الفكري العلماين املتعلق ابلعلوم الغربية ،والذي يرى بشكل نقدي أنه قد أرعيد إنتاجهما
يف أعمال كال املفكرين السابقني؛ إذ يرى "سردار" أن "العطاس" كان مصيبًا يف مسألة
عدم توافق العلوم اإلسالمية والتصور الغريب عن املعرفة ،لكنه -أي "العطاس" -أعاد
إنتاج تصور الطبيعة الثنائية لإلسالمي والعلماين يف حماولته لعزل األفكار ذات الطبيعة
االستعمارية يف النظام الغريب .وأرجع "سردار" كذلك هذه الطبيعة الثنائية إىل جذور قدمية
"قسموا املعرفة إىل علوم دينية (القرآن،
يف أفكار الكندي ،والفارايب ،والغزايل ،والذين ّ
والسنة ،وما إىل ذلك) ،وعلوم عقلية ،وثقافية ،وفلسفية (اإلنسان ،الطبيعة ،العلوم
أيضا أبن هذه القطيعة يف الواقع الراهن تفرض التكنولوجية والتطبيقية)" ،لكنه جادل ً
Ibid., p. 1319
Sardar, Education Reform, op.cit., pp 7-8.20
Ibid,. p.9.21
Al-Attas, Islam and Secularism, op.cit., pp 156 – 159.22
262
التعامل مع العلوم الدينية كما لو أهنا أدَّن من العلوم األخرى ،وهبذا تصبح هذه العلوم
جافةً ،سواء جرى التعامل معها من مسلمني مثل "العطاس" ،أو من الباحثني الغربيني.23
لكن تصور "سردار" الذي جيادل أبن "العطاس" ترك مساحة لتقدمي العلوم العقلية على
العلوم الدينية غري صحيح ،فقد جادل "العطاس" نفسه بوضوح ضد تصورات غياب
العالقة بينهما ،وبدًال من ذلك فإنه اعترب العلوم الدينية مبثابة مقياس للعلوم األخرى ،وأن
معرفتها واجب شخصي جيب أن يستوعبه كل إنسان ،24فتعزيز "العطاس" لفكرة وجود
فئتني من املعرفة استدعاء للفكر اإلسالمي الرتاثي والذي يرى ضرورة أن يكون اإلنسان
صاحلًا يف أثناء سعيه إىل املعرفة.25
نظرة العطاس لألدب والعدل
دائما :جانب عقالين،
تصارعا ً
ً كتب "العطاس" أن للطبيعة البشرية جانبني متصارعني
وآخر جسدي ذو طبيعة حيوانية ،وتتحدد نتيجة هذا الصراع ابلطريقة اليت يكتسب هبا
اإلنسان املعرفة ومعانيها.26
أما األدب فهو فعل الشيء الصحيح وهو رجممل معاين األخالق ،وبناء على تعريف
"العطاس" للمعرفة واملعىن فإن النتيجة املباشرة لتمييز هذه املعرفة وهذا املعىن ،تكون قدرة
اإلنسان على متييز املوضع الصحيح لألشياء يف نظام العالقات املعتمد على القرآن والسنة
النبوية ،27ويتطلب األدب من اإلنسان أن مييّز بني داللة املعاين املتضمنة وحدودها،
263
وكذلك متييز مراتب العالقات ،والتعامل بناء على هذا بشكل منطقي ،وهتذيب الروح
لرتفض وسوسات امليول احليوانية .28ويدفع األدب اإلنسا َن إذن إىل التشبع ابملعرفة بطريقة
تعزز من نظام املعرفة اإلسالمي .وهبذا يكون التعليم هو غرس األدب ،وإعداد خيَار
الناس -انس األدب -جملتمع َخِّري.
والعدل ابلتايل هو تطبيق األدب ،حبيث يكون كل شيء يف مكانه الصحيح يف عالقته
أفعاال إدراكية ،وهذه األفعال اإلدراكية هي األدبمع النفس واجملتمع ،ويتطلّب العدل ً
بعينه.
ولكي حنصل على أشخاص عادلني ،وجمتمع عادل؛ جيب على اإلنسان أن حيقق وجوده
وتقديرا لدالالت املعىن وحدوده (املعرفة
ً فهما
يف املكان الصحيح (العدل) ،والذي يتطلّب ً
احلقيقيّة) ،بناء على موقعها الصحيح ونسبتها ألي شيء يف شبكة العالقات املوجودة يف
الرؤية العاملية اإلسالمية .واالحنراف عن هذا هو عني الظلم ،حني يرفض اإلنسان وجوده
خملخال عالقات املعاين يف هذا النظام ،مما يتسبب يف فساد املعرفة
ً يف املكان الصحيح،
احلقيقيّة .ويف هذه احلالة ،ختضع اجلوانب العقالنية يف روح اإلنسان إىل ميوله احليوانية.
فهم املعرفة احلقيقيّة ،واألفعال
واخلالصة :جيب على اإلنسان الذي يرغب يف إمتام دينه ر
الصحيحة ،والعدل ،وأن ميارسهم ممارسة فعّالة.
نظرات يف معىن الدين
ويرى "العطاس" أنه يتوجب على املسلمني الوعي أبن املعتقدات املتعلقة ابلقداسة والدين
يف أي نظام اعتقادي ،ال تتشابه وال تتوافق أبي معىن مع وجهة النظر اإلسالمية؛ وذلك
نتيجة لتشابه بعض اخليارات يف املعتقدات عن هللا يف أداين خمتلفة ،واالعتقاد بوجود إله
كوين واحد لإلنسان .29يرد "العطاس" على ذلك أبن التشابه ال يعاين تطاب ًقا يف فهم
الذات اإلهلية بني البشر ،وأن االختالفات عميقة بقدر عمق العقالنية التأسيسية وبقدر
30انقش العطاس 4دالالت لكلمة "دين" عن طريق بيان دالالت هذه الكلمات اليت اشتقت من كلمة
وديْن ،ودينونة،
"ديْن" ،والكلمات ذات الصلة الوثيقة بكلمة "دين" مثل "دانَ ، "دين" ،ومن جذرها األول َ
وداين ،وَمدين ،مدينة ،ومدانة ،ومت ّدن" ،شرح العطاس أن مفهوم كلمة دين ،يشري إىل حالة يكون فيها وإدانةّ ،
(الدين)،
ـ"داين" ،وهذه احلالة تقتضي من املديون أن يويف بدينه ويلتزم مبجموعة من التعاليم َ
اإلنسان مديناً إىل ال ّ
وتقدير مدى التزام املديون حنو الدائن يتطلب حكماً عليها (الدينونة) ،واحلكم هو (اإلدانة) .وتطبيق املفهوم
(داين)
اخلاص ابالقرتاض واالستدانة ميكن حتقيقه يف بيئة منظمة ،مثل املدينة أو البلدة ،حتت حكم حاكم ّ
ميلك قدرة على إصدار األحكام والقوانني إلحكام سطوة القانون ،وكذلك لبناء احلضارة (املدانة) ،لتعزيز ثقافة
اجملتمع ،وكذلك تنقية احلضارة (التمدن) .انظر العطاسProlegomena to the :
Metaphysics of Islam, op.cit., p.42.
265
ومستشهدا ابلقرآن ،يوضح "العطاس" أنه جيب على اإلنسان االعرتاف أبن أصله من ً
ِ
هللا ،31وأن كل ما ميلكه هو ابألصل ملك هلل ،وأن اإلنسان مادة أرعريت وأرقرضت
32
للحياة يف الدنيا ،وأن هللا سيسرتدها .33ومبا أن اإلنسان استعار وجوده من هللا؛ فإنه
الدين ،وهو أن يعيش -هو نفسه -طب ًقا لتعاليم هللا.34 مطالب إبعادة ما اقرتضه ،وبرد َ
مستعارا ،فهو ابلتايل مؤقتً ومن هنا جيب على اإلنسان أن يدرك أنه طاملا كان وجوده
يف هذا العامل ،وأنه عائد إىل مالكه يوم احلساب (وهو بدوره مفهوم مرتبط ضمنيًا بفكرة
الدين) ،35وأن اإلنسان عب ٌد هلل؛ ألن هللا ميلكه ،وأن اإلنسان ملزم أبن يعبد هللا عن طريق
االلتزام الواعي والطوعي ابلتعاليم والعبادات املوجهة هلل .36ويرتتب على ذلك أن أفعال
اإلنسان اليت يعبد هبا ربَّه ،من أجل رد َدين وجوده ذاته ،ولتحقيق التزامه كمديون ملدينَه
-هي أفعال طبيعية متليها عليه فطرته ،وهي جزء من النمط الذي خلق هللا على أساسه
كل شيء .فالفطرة مثل الدين حتتم إدراك اإلنسان لعهده مع خالقه ،وهو دين قائم
لألبد ،37وجيب أن يكون التزام اإلنسان ابلقيام بواجباته حنو ربه التز ًاما طوعيًا وواعيًا،
ومستمرا عرب حياة اإلنسان كلها ،وليس حلظيًا ،وجيب أن يشعر اإلنسان هبذا يف قلبه، ً
وأن ينعكس هذا على سلوك عبادته وطاعاته .38وابلتايل ،لو أراد املتحدثون ابإلجنليزية
أن يستخدموا كلمة Religionللداللة على اإلسالم ،فيجب عليهم أن يقصدوا تعبري
"الدين" ،بكل معانيه ودالالته.
267
أما ابلنسبة إىل املسلمني ،فإن هذه الطبيعة الثنائية تسبّب بعض االرتباك؛ فاإلسالم مل
أبدا .41وطرح "العطاس" ثالثة مقرتحات لرتمجةط من قدر الطبيعة اإلنسانية الدنيوية ً
حي ّ
أدق لكلمات ،Secularو ،Secularityو:To secularize
268
ابملقارنة مع تعبري الـ"علمانية" الذي يعترب برانجمًا فلسفيًا ضد التدين مبعىن اعتبار
اليوم اآلخر ،والذي يربز عالقة تضمينية ثنائية للزمان واملكان.43
مفهوما عن عامل وحياة خاليني من أي ميل إىل
ً عرف "العطاس" الـ"هنا-اآلنية" بوصفها وير ّ
وجهة نظر دينية ،وهو مفهوم يرفض أي فائدة معرفية أتيت من أي عوامل أو أبعاد خارج
افضا أي قيمة حلقيقة أتيت إىل اإلنسان من املاضي ،وهو مفهوم نطاق الواقع اإلنساين ،ر ً
سياق بناء على الزمن احلاضر ،مث صناعة مستقبل حيدد احلقيقة والواقع ،ويضعهما يف ٍ
مفتوح الح ًقا ال يرتبط أبي وجهات نظر دومجائية غري الوعي بفكريت النسبية والسياق.
وهلذا ،فإن استخدام الـ"هنا-اآلنية" يف العربية اإلسالمية ،هو متثيل للمعىن الدقيق املتضمن
يف مفهوم العلمانية.
-3املقرتح الثالث الذي قدمه "العطاس" ،هو ببساطة كتابة كلمة Secularحبروف
عربية ،فتصبحِ :س ي رك َل ر ،بكسرة على السني ،وضمة على الكاف ،وفتحة على
الالم؛ وذلك لتفادي دالالت مضللة جرى استخدامها ابلكلمة العربية الشائعة ،واليت ال
ختلو فقط من املعاين اليت يقصدها املعىن الغريب ملفهوم كلمة ،Secularولكنها كذلك
مسلما عن طريق قبول املعرفة املبنية على
تشوش أي حماولة للفهم؛ إذ لو كان الفرد املسلم ً ّ
معان تنتمي إىل نظام الرؤية اإلسالمية ،واملبنية وحدها على الوحي ،فإن قبول ترمجات ٍ
"ح ِّول إىل غرض" أو "عاملي" مثل "االهتمام أبمور الدنيا" ،أو "االهتمام ابلعاملية" ،أو ر
فصال بني السعي وراء بعض الغاايت أو "دنيوي" -كلها ترمجات غري دقيقة؛ ألهنا تتضمن ً
الدنيوية ،وبني السعي لتحقيق الفوز يف اآلخرة.
فمحاوالت "العطاس" لتوضيح وحل مشكالت فهم كلمة Secularهي توضيح
للـ"أدب" ،بوصفه معرفة ما هو خاطئ ،وتعريفه ،ومن مثَّ استخدام احلكمة لتصحيحه.
ويستطيع التعليم اجليّد وحده -املعرفة احلقيقيّة واألدب -أن يغالبا أتثري التغريب املعريف،
مكن إعادة أتهيل العقل املسلم.لي ِ
ر
Ibid, p.27.43
269
عن املستقبل والواقع
اعما أبن:
يلفت ضياء الدين "سردار" انتباهنا إىل "مستقبل إسالمي" ،ز ً
نتاجا لوقتها
"مات امللك" :أسلمة املعرفة" ،فكرة جتاوزها الزمن مثل كل األفكار .كانت ً
وسياقها لكنها تركت مريا ًاث ال يقتصر على تبيني املخاوف من احلالة األليمة للفكر والتعليم
اإلسالمي ،لكنه يتجاوزه إىل لفت النظر إىل طبيعة مركزية العلوم االجتماعية ،واإلعالن
قدما اآلن حنو "تكامل املعرفة"".44
عن املبادئ األوىل .نتحرك ً
لكن هل ميكن إعالن موت شيء مل يكن حيًّا من األصل؟
متجذرا ويؤثر يف
ً حيزا يف الواقع ،وما زال نظام التعليم الغريب
فأسلمة املعرفة مل جتد هلا ً
املسلمني الذين يتجاهلون دعوات تكسري أغالل النظرة الغربية املهيمنة .وقد تشوشت
وجهة النظر اإلسالمية ،واحنرفت عن مبادئ النظرة اإلسالمية األساسية :وحدانية احلقيقة
والواقع كما صاغها "العطاس".
أيضا ،ووحده "سردار" من
وقد شدد كل من "الفاروقي" وأيب سليمان على هذا األمر ً
يبدو راضيا عما يتعامل معه كنتيجة م ِ
رضية ملشروع أسلمة املعرفة ،لدرجة أنه يدعو اآلن ر ً ّ
لالنتقال إىل تكامل املعرفة.
ويرى "سردار" أنه ما دام املسلمون حيملون يف عقوهلم فكرة "احلالة األليمة للفكر والتعليم
اإلسالمي" ،وظلوا انقدين لـ"طبيعة مركزية العلوم االجتماعية" ،وما داموا متمسكني مببادئ
"الفاروقي" اخلمسة عن أسلمة املعرفة؛ فسيكفل هذا محاية املسلمني يف أثناء حركتهم حنو
تكامل املعرفة لتحقيق النظام التعليمي اإلسالمي يف املستقبل .إال أن كيفية تسكني التغيري
اضحا ،ومبجرد إذابة ما هو مذاب أمرا و ً
واملستقبل يف وجهة النظر اإلسالمية ليست ً
ابلفعل يف عقلية املسلمني ،فإن هذا "املستقبل اإلسالمي" سيكون ابلضرورة جمرد "مستقبل
غريب".
Ibid., p.9845
Al-Attas, Prolegomena to the Metaphysics of Islam, op.cit., p 46
99.
Ibid., p.10847
271
وأخالقية" .تنقسم الرغبات واالحتياجات إىل رغبات ذاتية (املعرفة ،الشخصية اجليدة)،
وجسدية (صحة جيدة ،األمان) ،وخارجية (الثروة ،والقوة).48
املرحلة الثانية :هي ما خيتربه اإلنسان يف العامل احلايل ،وتتصف أبهنا روحية ومستمرة،
خصوصا عندما رختترب تصرفات اإلنسان
ً وعادة ما يشعر اإلنسان هبا بصورة مستمرة،
ملعرفة مدى إخالصها وثباهتا عرب كل من األوقات اجليّدة والتوترات العنيفة ،وهتذيب
الرغبات يف وقت تلبية االحتياجات .هذه املرحلة ضرورية من أجل بلوغ السعادة القصوى
يف املرحلة الثالثة ،وهي رؤية هللا ً
عياان يف احلياة األخرى.
وابلتايل ،فإن السعادة يف اإلسالم هي االرتباط الوثيق مبفهومي املعرفة واألفعال اخلريية،
فاملعرفة احلقيقيّة اليت تقود اإلنسان إىل األفعال الصحيحة املؤدية للعدالة هي ما يتسبب
يف سعادة اإلنسان ،سعادة غري متطايرة ،وغري مؤقتة ،بل موثوق فيها ويف ثباهتا ،سواء يف
هذه احلياة أو يف احلياة األخروية.
أخريا ابإلله .يورد
احلقيقيّة اخلاصة ابلنفس ،ومبجتمع الفرد ،و ً و"اليقني" هو إدراك املعرفة
50 49
القرآن ثالث مراحل من اليقني :علم اليقني ،وهو التأكد من االستنتاج واالستقراء ؛
وعني اليقني ،وهو التأكد بواسطة النظر املباشر51؛ وحق اليقني ،وهو التأكد عن طريق
التجربة املباشرة .52ويضيف "العطاس" كذلك أن هذه املراحل الثالث تنسجم مع نظرة
اإلسالم للمعرفة ،سواء كانت خمفية أو معلنة أو مستنتجة ،أو بشكل إمربيقي ابلتجربة،
سواء كان ما يتلقاها اجلسد أم الروح.
Ibid., p. 9148
Al-Attas, Prolegomena to the Metaphysics of Islam; op.cit., p. 49
86
The Noble Quran, Al-Takathur 102:550
Ibid., 102:751
The Noble Quran, Al-Haqqah 69:5152
272
وضحها "العطاس" عرب فكرةكذلك يعترب مفهوم احلرية من املفاهيم وثيقة الصلة ،واليت ّ
حرية اإلنسان يف اختاذ قراراته( .االختيار) مفهوم مرتبط ابخلري ،وهو فعل إدراكي للرتجيح
بني أمرين طب ًقا ملا متليه األخالق ،واليت تبلغ ذروهتا يف عدل اإلنسان انحية نفسه ،وهو
ممارسة مهمة للحرية.53
مي ّكن كل من احلرية واألدب اإلنسا َن من اختاذ أفضل خياراته ،وهبذا تكون احلرية احلقيقية
حمررا الروح العاقلة من
هي أن يتصرف اإلنسان حبرية ،لكن بتوجيه من املعرفة احلقيقيةً ،
سيطرة النوازع احليوانية .فاخليار السيئ ليس فعل حر ٍية ،لكنه فعل إنسان خاضع لنفسه
ٍ
الدنيئة .54التأكد من اخلريية هو حال سعادة ،وحترر من اخلوف :حالة يطلق عليها اسم
الطمأنينة .وهي وصول السالم واهلدوء إىل القلب .وحيث إن وجهة النظر اإلسالمية
مصممة ابلكامل حول استيفاء واجباته حنو خالقه ،فإن خضوعه وذاكرته وإميانه -
ترشدهم املعرفة احلقيقيّة -هي ما تساعد اإلنسان لتحقيق حريته وسعادته.
جيب على مسلمي هذا العصر أن يقاوموا كل مغرايت السعادة املشوشة اليت تقدمها هلم
حرية زائفة ،واليت تعد هبا وجهة النظر الغربية ،وأن يتذكروا اهلدف احلقيقي من احلياة،
واملعىن احلقيقي للسعادة.
ختام
أوضحت هذه الورقة املفاهيم التأسيسية ألفكار السيد حممد نقيب العطاس الذي دعا
معاصريه والالحقني لعزل واستبعاد االستعمار الغريب للمعرفة ،والعودة إىل اإلسالم عن
طريق وضع وجهة النظر اإلسالمية ابعتبارها أولوية مبنية على القرآن والسنة النبوية .وهو
تفسريا يتيح لإلنسان أن يتغلب على نزعاته احليوانية ابحلكمة
يفسر الوحي واملعرفة والتعليم ً ّ
ٍ
والعقل ،وأن يتصرف بعدل جتاه نفسه واآلخرين ،وعندها سيجد احلرية ،واليقني ،والسعادة
املطلقة يف احلياة الدنيا واآلخرة.
274
الفصل الثالث:
اإلسالم واإلنسان "أفق العاملية يف فكر املسريي وبيجوفيتش"
رجب عز الدين
متهيد
رغم اهتمام الرتاث ابلنظر الفلسفي واملعريف واملقاصدي جند
أن الفكر اإلسالمي املعاصر شغلته القضااي السياسية ،ومل
جيد إال قلة من األقالم تكتب يف تطوير مقاصد الشريعة
خبطاب فكري خارج مدارس األصول اإلسالمية ،مع ندرة
يف االلتفات املعاصر ملوضوعات اإلنسان واإلسالم والعامل،
مبا يصلح خلطاب يشتبك مع األجندة الفكرية العاملية.
ويعد املفكران عبد الوهاب املسريي (مصري) وعلي عزت بيجوفيتش (بوسين) من األعالم ُّ
النادرة يف جمال الفكر اإلسالمي املعاصر من انحية االهتمام إبعادة تقدمي اإلسالم إىل
استنادا على مفاهيمه املركزية املهمشة مثل :التوحيد ،والعاملية،
ً أهله وإىل العامل ابلتوازي،
واإلنسان ،واالستخالف ،والتسخري ،والعمران .كما تكتسب اجتهاداهتم الفكرية أمهية
نظرا لتبلورها يف سياق نقدي حضاري مقارن بني اإلسالم والغرب ،األمر نوعية خمتلفة ً
ٍ
الذي منح أعماهلم العلمية قدرات تفسريية عاملية متجاوزة حلدود النظرة اإلقليمية الوطنية
أو القومية ،كما تكتسب أطروحاهتم أمهية قصوى يف إطار اجلدل الدائر بني العرب
مدخل مهمش ذي ٍ نظرا العتمادها على
واملسلمني فيما يتعلق ابلنظر للغرب وحضارته؛ ً
قدرة تفسريية عالية يتمركز ابألساس حول مقولة اإلنسان يف مقابل مداخل أخرى سائدة
أقل تفسريية تعتمد على مقوالت مثل :الطبقة أو الدين أو العرق أو الوطن.
وهتدف هذه اإلطاللة البحثية إىل تقدمي قراءة يف رؤى املسريي وبيجوفيتش لثالثية متشابكة
هي( :اإلنسان -اإلسالم -العامل) ،ومعامل الرؤية اإلسالمية للمسريي وبيجوفيتش،
وكيف أتثرت مبقوالت الغرب اإلنسان والعامل أو متايزت ،وكيف سعت إىل بناء خطاب
إنساين إسالمي عاملي وتطويره؟
أوال :اإلسالم والعامل بني املسريي وبيجوفيتش:
ً
نفذ "عبد الوهاب املسريي" 1و"علي عزت بيجوفيتش" 2إىل قلب اإلسالم ومركزه املتمثل
يف مفهوم التوحيد ،وراح كالمها ينسج رؤيته للعامل انطالقًا من هذا املفهوم املركزي،
1ولد الدكتور عبد الوهاب املسريي يف مدينة دمنهور مبحافظة البحرية ،يف 8أكتوبر عام ،1938ونشأ يف
معيدا
وعني ً أسرة ريفية ثرية ،وحصل على ليسانس اآلداب قسم إجنليزي من جامعة اإلسكندرية عام ،1955ر
فيها بعد خترجه ،مث سافر إىل أمريكا فحصل على املاجستري والدكتوراه يف األدب اإلجنليزي واألمريكي املقارن.
من أشهر مؤلفاته :موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية :مدخل تفسريي جديد" اليت استغرق يف أتليفها أكثر
عمل موسوعي عريب خاص بدراسة الظاهرة الصهيونية واليهودية وحتليلها ،ورغم ذيوع أول ٍ
عاما ،وترعد َ
من ً 25
اسم املسريي كمفكر يف جمال الدراسات الصهيونية ،فإن إسهامه العلمي واألكادميي ميتد إىل أكثر من جمال
وتنظريا، أيضا ابالشتباك مع عامل السياسة كتابةً معريف ،حبيث ميكن تصنيفه ابلعامل املوسوعي .مل ِ
يكتف املسريي ً
ً
بل نشط يف املشاركة يف احلركات السياسية والتظاهرات االحتجاجية سواء يف مطلع حياته ،حيث نشطت
األحزاب واجلماعات يف مقاومة االحتالل اإلجنليزي ،وانضم املسريي ساعتها لإلخوان املسلمني مث ملنظمة حدتو
الشيوعية يف مخسينيات القرن املاضي ،كما انضم يف منتصف التسعينيات إىل قائمة مؤسسي حزب الوسط
املصري ،وهو حزب قائم على أسس دميقراطية من مرجعية إسالمية ،وقام بدور أساسي يف صياغة مشروعه
تعبريا عن رؤيته يف فكرة احلداثة اإلسالمية ،مث انضم إىل حركة التغيري املصرية
السياسي ،ويعد ذلك املشروع ً
املشهورة حبركة "كفاية" عند أتسيسها عام ،2005مث ترأسها عام 2007حىت وفاته يف الثالث من يوليو عام
.2008
2ولد علي عزت بيجوفيتش عام 1925م يف مدينة بوساانكرواب مشال غرب البوسنة يف أسرة مسلمة ،وتعلّم
يف مدارس مدينة سراييفو اليت أمضى حياته فيها ،وحصل على الشهادة العليا يف القانون عام ،1950مث انل
شهادة الدكتوراه عام ،1962وشهادة عليا يف االقتصاد عام ،1964ويقرأ ويتحدث ويكتب ابللغات
األجنبية :األملانية ،والفرنسية ،واإلجنليزية ،مع إملام جيد ابلعربية .ويف عام 1940م كان عمر بيجوفيتش 16
عاما ،وابلرغم من حداثة سنِّه ،فقد كان من املشاركني يف أتسيس مجعية "الشبان املسلمني"؛ وهي مجاعة دينية
ً
وسياسية أرسست على غرار مجاعة "اإلخوان املسلمني" مبصر .وبعد ست سنوات ،قامت احلكومة الشيوعية=
276
فاإلسالم لدى هذين املفكرين يتجاوز كونه عالقةً بني اإلنسان وربِّه إىل كونه رؤيةً كلية
اضحا يف طريقة حتليل
"منوذجا معرفيًا" .ويبدو التشابه و ً
ً متكاملة لإلنسان والكون واحلياة،
كال املفكرين لإلسالم وعرضه ،وإن اختلفت طريقة الوصول إليه كما هو احلال عند
نظرا ملروره بتجربة ذاتية حتول فيها من اإلسالم للماركسية مث عاد من األخرية إىل املسريي ً
عاما من عمره ،بيد أن هناك اختالفًا يف مسارات اإلسالم مرة أخرى مستغرقًا ً 25
طبيقي،
النظري على الت ّّ ئي ،أو
الكلي على اجلز ّ
التحليل بني كال املفكرين ما بني ترجيح ّ
أقرب جملال الفلسفة
الديين...إخل؛ إذ يبدو حتليل املسريي لإلسالم َ ّ الفلسفي على
ّ أو
املقارنة من خالل تركيزه على دراسة التوحيد كمنظومة فلسفية مقابلة للفلسفات احللولية،
بينما يبدو حتليل بيجوفتيش أكثر تركيبًا؛ فتارة يقرتب بدراسته من جمال األداين املقارنة
عندما يعقد مقارانت بني اإلسالم واملسيحية واليهودية ،واترة إىل الفلسفة عندما يعقد
مقارانت بني اإلسالم والفلسفات املادية احلديثة ،واترة إىل العلم عندما يناقش نظرية
فضال
التطور الدارونية يف مقابل نظرية اخللق اإلهلي ،واترة إىل جمال األخالق والقانون ً
عن جماالت الثقافة والفن والتاريخ واحلضارة ،واترة أخرى يقرتب بيجوفيتش يف حتليله
ئي الناظر يف تعاليم اإلسالم وشعائره وأركانه لإلسالم إىل جمال املقاصد الكليّة والفقه اجلز ّ
بغية حتليلها وكشف ما تنطوي عليه من دالالت فلسفية تتجلى يف مفهومه "الوحدة
=ابعتقاله سنة 1946هو وصديقه جنيب شاكر بسبب مساعدهتما يف إصدار جريدة "اجملاهد" وسجنا ملدة
ثالث سنوات .وبعد خروجهما من املعتقلَ ،ش َّن الشيوعيون محلة أخرى ضد "الشبان املسلمني" ،ففي عام
1949م قدموا أربعة أعضاء من اجلماعة إىل احملاكمة اليت قضت يف النهاية إبعدامهم .ويف عام ،1983
شااب من زمالئه -بينهم شاعرة
وحكم عليه يف حمكمة سراييفو ،مع أحد عشر ً اعترقل عزت بيجوفيتش مرة أخرى ر
عاما ،بتهمة االحنراف حنو األصولية ،مث رخفف احلكم لست سنوات ليطلق مسلمة -ابلسجن أربعة عشر ً
سراحه يف عام .1988بعد تص ّدع األنظمة الشيوعية يف أورواب الشرقية ،ويف االحتاد السوفييت ،1990اضطر
احلزب الشيوعي اليوغساليف إىل السماح ابلتعددية السياسية ،فانتهز بيجوفيتش الفرصة وأسس حزب العمل
ئيسا جلمهورية البوسنة واهلرسك
الدميقراطي يف عام ،1989وشارك يف االنتخاابت الرائسية ،وفاز فيها ،وصار ر ً
يف نوفمرب ،1990مث أجرى استفتاءً شعبيًا على االستقالل عن االحتاد اليوغساليف ،كما استقلت كرواتيا
وصوت الشعب البوسين على االستقالل أبكثرية %63فلم تعرتف به صربيا وكرواتيا وشنتا حرب وسلوفينياّ ،
وصوال التفاق "دايتون
إابدة على الشعب البوسين حتت رعاية غربية صامتة ،واستمرت أكثر من ثالث سنواتً ،
للسالم" يف عام .1995
277
اإلسالمية ثنائية القطب" .نستعرض يف هذا احملور معامل حتليل املسريي ملفهوم التوحيد من
انحية ،ومعامل تناول بيجوفيتش ملفهوم الثنائية اإلسالمية وجتلياهتا يف حتليله لشعائر اإلسالم
وأركانه اخلمسة ،من انحية أخرى.
مفهوم التوحيد عند املسريي :من علم الكالم إىل رؤية العامل -1
ال ميكن تصور اإلسالم من دون التوحيد ،فالتوحيد هو املفهوم املركزي الذي مييز اإلسالم
ونظرا ملركزية التوحيد يف الرؤية
عن غريه من العقائد واألداين والفلسفات األخرىً ،
اإلسالمية فقد جعل اإلقرار به يف مقدمة أركان اإلسالم األساسية قبل أي شيء آخر،
وهو ما يتجلى يف لفظ الشهادة (أشهد أال إله إال هللا) ،واليت متثل بوابة الدخول إىل
اإلسالم ابتداءً ،،ورغم التسليم هبذه املركزية اليت اكتسبها مفهوم التوحيد ،فإن تناوله يف
الدوائر العلمية اإلسالمية املعاصرة ال يزال يتسم ابلطابع السجايل جرًاي على عادة
املتكلمني القدامى وغريهم ،عندما تعرضوا للتوحيد من الزاوية العقدية لصد الشبهات اليت
خاصا ابلتوحيد أطلقوا
علما ً انتشرت مع دخول غري العرب لإلسالم ،وأسسوا يف ذلك ً
عليه "علم الكالم" ،ومت حتديد موضوعاته ووظيفته من املدخل السجايل نفسه" :علم
يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية إبيراد احلجج ودفع الشبه ،ومعىن إثبات العقائد
حتصيلها واكتساهبا ،حبيث حيصل الرتقي من التقليد إىل التحقيق ،أو إثباهتا على اآلخر،
حبيث يتمكن من إلزام املعاندين ،أو إتقاهنا وإحكامها ،حبيث ال تزلزهلا شبه املبطلني".3
وعلى هذا جرى تناول التوحيد واختزاله يف مساحات الرد على املخالفني ،وبيان بطالن
عقائد اآلخرين ،وهو ما يقرتب اآلن مما يسمى "علم مقارنة العقائد واألداين" ،وعلى هذا
حتددت وظائف علم الكالم يف وظيفتني رئيستني؛ األوىل :إقناعية بنائية ،والثانية :دفاعية
ضامفيدا أي ً
مالئما لعصر املتكلمني األوائل ،ورمبا يكون ًتفكيكية ،ورمبا كان هذا املسلك ً
يف عصران احلايل فيما يتعلق مبقارنة األداين وغريها من املذاهب والفلسفات الوجودية،
3سعد الدين التفتازاين ،شرح املقاصد( ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط ،)2001 ،1ص .29
278
لكن ما يغيب عن املدارس اإلسالمية هو النظر للتوحيد كمبحث يف رؤية العامل وليس
فقط كمبحث يف العقيدة واإلميان.4
جتاوز املسريي وغريه من الفالسفة التوحيديني أمثال :إمساعيل راجي الفاروقي ،املعىن
املتوارث عن املتكلمني ،وراحوا يبحثون يف التجليات احلضارية للرؤية التوحيدية ،وكيف
يتجلى التوحيد بوصفه قيمةً يف الوجود ،واملعرفة ،والقيم ،وتفاصيل كل موضوع بتفريعات
نظرية ومفاهيمية خاصة ،جعلته يشكل يف األخري فلسفةً مستقلة ذات رؤية متميزة للعامل.
مثة عدد كبري من الناس يؤمنون ابلتوحيد كنظرية فلسفية -دينية تعين فقط أن هللا واح ٌد،
وليس أكثر من واحد .أما ابلنسبة إىل املسريي ،فالتوحيد -عالوة على ذلك -يشكل
أيضا
كفرا ابهلل -إال أنه يشكل ً رؤيةً متكاملة للعامل ،كما أن الشرك -عالوة على كونه ً
رؤيةً للعامل.
دخل املسريي إىل مفهوم التوحيد من مدخل الفيلسوف اجملرد الباحث عن مركز العامل،
فأخذ يتساءل كيف نرى العامل؟ هل هناك نقطة مرجعية تتجاوز هذا العامل؟ أين هذه
النقطة املرجعية؟ أين مركز الكون؟ هل يكمن هذا املركز فيه أم يتجاوزه؟ هل مرجعية العامل
كامنة أم متجاوزة؟ ،5وأيهما مينح العامل املعىن :التجاوز أم الكمون؟ وأيهما حيقق لإلنسان
حريته :املرجعية املتجاوزة أم الكامنة؟
ساقت هذه األسئلة (وغريها) املسريي إىل البحث املقارن يف مذاهب احللول ووحدة
الوجود والتوحيد من مدخل رؤيتها ملركز الكون (متجاوز أو كامن) ،وانتهى إىل أن مثة
اضحا بني التوحيد واحللولية ،فالتوحيد يتأسس على فلسفة التجاوز من خالل ـادا و ً
تض ً
اإلميان إبله و ٍ
احد متجاوز ،قائ ٍم بذاته ،رم َّنزهٍ عن الطبيعة والتاريخ واإلنسان ،ابئ ٍن عن
خلقه ،مغاي ٍر للحوادث ،فهو مركز الكون املفارق له الذي مينحه التماسك .فالتوحيد يف
وحيزا طبيعيًا ،األمر الذي
حيزا إنسانيًا ً
النهاية هو الذي مينح الكون التماسك ،وخيلق ً
احلاج بن أمحنة دواق" ،التوحيد :رؤية للكون وإبستيمولوجيا بناء الوعي املتجاوز عند إمساعيل راجي 4
279
ـتقالل عن سـائر املوجـودات واملقـدرة على االختيار وعلى جتاوز عامله
مينح اإلنسان االس َ
املادي وذاته الطبيعية املادية ،ومن مثَّ فالتوحيد هو أساس استقالل اإلنسان وحريته ،وهو
أرقى املنظومات الفلسفية حتقي ًقا إلنسانية اإلنسان ،بل هو الضامن احلقيقي إلنسانية
اإلنسان .6أما احللولية أو وحدة الوجود ،7فهي اإلميان إبله ٍ
حال كام ٍن يف الطبيعة
كامن فيه ،وهو حبلوله هذا يلغي أي حيز ،إنسانيًا
واإلنسان والتار8يخ ،أي إن مركز الكون ٌ
كان أم طبيعيًا .
مفهوم الثنائية كمدخل لتحليل اإلسالم عند بيجوفيتش: -2
يتميز اإلسالم -وف ًقا لبيجوفتيش -بقدرته على اجلمع بني أطراف الثنائيات احل ّدية اليت
تشكل الرؤى األساسية للعامل ،وابألخص ثنائية املادي والروحي ،فهناك ثالث وجهات
نظر عن العامل وهي :الرؤية املادية :وترى العامل ابعتباره مادة حمضة ،وهي فلسفة تنكر
خالصا
ً التطلعات الروحية لإلنسان .واالشرتاكية مثال جيد على هذه الفلسفة ،فهي تقدم
خارجيًا فقط من خالل االستهالك وحتسني مستوى الدخل أو تغيري البيئة االجتماعية...
إخل .والرؤية الثانية هي :الرؤية الدينية اجملردة أو الروحية اخلالصة ،وهي رؤية للدين ابعتباره
جتربةً روحية فردية خاصة ال تذهب أبعد من العالقة الشخصية ابهلل ،وهذه الرؤية تنكر
خالصا
ً االحتياجات املادية لإلنسان .واملسيحية مثال جيد على هذه الرؤية ،فهي تقدم
داخليًّا فحسب.
أما الرؤية الثالثة :فتعرتف ابلثنائية اإلنسانية ،وحتاول جتاوزها عن طريق توحيد الروح واملادة،
وهي الرؤية اإلسالمية ،فاحلياة -كما يقول بيجوڤيتش -مزدوجة ،وقد أصبح من املستحيل
6عبد الوهاب املسريي ،اللغة واجملاز :بني التوحيد ووحدة الوجود( ،القاهرة :دار الشروق ،الطبعة العاشرة،
،)2010ص .134-132
7وحدة الوجود أو احللولية تعين أنه ليس هلذا العامل ٌّ
رب مباين له منفصل عنه ،وأن هللا -تعاىل -ليس الواحد
إحلاداي حبتًا.
موان ًّغريب َحي ِمل مض ً
مذهب ٌّ
ٌ الذي خيلق الوجود من خارج ،وإمنا هو الوجود نفسه ،وهو
8عبد الوهاب املسريي ،موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ،اجمللد األول ،مرجع سابق ،ص .62-60
280
نباات أو حيو ًاان،9
عمليًا أن حييا اإلنسان حيا ًة واحدة منذ اللحظة اليت توقف فيها أن يكون ً
واإلسالم خياطب كل ما يف اإلنسان ويتقبله وال يتعسف بتنمية خصال ال جذور هلا يف
طبيعة اإلنسان" ،إنه ال حياول أن جيعل منَّا مالئكة؛ ألن هذا مستحيل ،بل مييل إىل
إنساان" .10ففي اإلسالم قدر من الزهد ،ولكنه مل حياول به أن يدمر احلياةجعل اإلنسان ً
أو الصحة أو األفكار أو حب االجتماع ابآلخرين ،أو الرغبة يف السعادة واملتعة .هذا
القدر من الزهد أريد به حتقيق التوازن يف غرائزان ،أو توفري نوع من التوازن بني اجلسد
والروح .إن القرآن يتناول الغرائز متف ِه ًما ال مت ِه ًما ،وحلكمة ما سجدت املالئكة لإلنسان.
ويرى بيجوفيتش أن هذه الثنائية هي سبب سوء فهم العقل الغريب هلذا الدين ،وهو سوء
مستمرا إىل هذا اليوم؛ فمن جانب الدين (الروحي اجملرد)ُّ ،اهتم اإلسالم أبنه
ً فهم ال يزال
أكثر لرصوقًا ابلطبيعة والواقع مما جيب ،وأنه متكيف مع احلياة الدنيا .و ُّاهتم من جانب
العلم أنه ينطوي على عناصر دينية وغيبية .ويف احلقيقة هناك إسالم واحد وحسب ،ولكن
شأنه شأن اإلنسان له روح وجسم .فزعم التعارض فيه يتوقف على اختالف وجهة النظر،
"مييين" ،بينما يراه املسيحيون
وغيب ،أي :اجتاه ٌّ دين ٌ فاملاديون ال يرون يف اإلسالم إال أنه ٌ
11
اجتاها "يسارًّاي" .
حركةً اجتماعية سياسية فقط ،أيً :
استطاع بيجوفيتش أن يعقد مقارانت حتليلية عميقة لبيان معىن هذه الثنائية وجتلياهتا
الكامنة ،سواء يف مقارنة اإلسالم ابملسيحية واليهودية أو يف حتليله ألركان اإلسالم
اخلمسة ،فعلى املستوى األول عقد بيجوفيتش مقارنة بني قاموس املفردات املستخدمة يف
األانجيل وتلك اليت وردت يف القران ،وخلص إىل أن مصطلحات األانجيل أكثر لصوقًا
وحتديدا وقرًاب من العامل يف صياغة القرآن ،ومن مثَّ
ً بعامل الروح ،بينما هي أكثر واقعية
12
فالقرآن مركب فريد استطاع أن جيمع بني واقعية "العهد القدمي" ومثالية "العهد اجلديد" .
9علي عزت بيجوفيتش ،اإلسالم بني الشرق الغرب ،ترمجة يوسف عدس ،القاهرة :دار الشروق ،الطبعة
الثانية ،2013 ،ص .50
10املرجع السابق ،ص .297
11املرجع السابق ،ص .56
12املرجع السابق ،ص .62
281
كما أخذ يعقد مقارانت من املدخل نفسه بني املسجد والكنيسة ،ليصل إىل النتائج
14 13
أيضا يف املقارنة اليت يعقدها علي عزت بيجوڤيتش بني
نفسها . -ويتضح االختالف ً
مبدأ العصمة البابوية من جهة ،ومبدأ اإلمجاع اإلسالمي من جهة أخرى ،15إضافة إىل
بكل من القراءة والكتابة ابعتبارمها أقوى ٍ
حمرك مقارانت أخرى تتعلق ابهتمام اإلسالم ٍ
تقليدا شفهيًا لفرتة طويلة من
للمجتمعات اإلنسانية على عكس األانجيل اليت بقيت ً
الزمن .16انطالقًا من هذا التحليل املقارن لإلسالم واملسيحية ،نظر بيجوفيتش إىل
الفلسفات الصوفية واملذاهب الباطنية املنكفئة على األمور الروحية البحتة نظرًة سلبية
حادة ابعتبارها تشكل منطًا من أكثر األمناط احنرافًا ،بل اعتربها حماولة لـ"نصرنة
اإلسالم".17
جتليات الثنائية يف األركان اخلمسة لإلسالم: أ-
كاان،
تزخر كتب الفقه اإلسالمي مبسائل تفصيلية حول الشعائر اإلسالمية شروطًا وأر ً
وبطالان ،أداءً وقضاءً ،إىل غري ذلك من األمور واملسائل التفصيلية اليت درج الفقهاء
ً صحة
على سلوكها وترتيبها .يتجاوز بيجوفيتش هذه الطريقة املعهودة يف عرض أوليات اإلسالم
إىل ما هو أعمق ،حيث الغوص يف البحث عن مقاصد العبادات والشعائر وطبيعتها
مدخال
التكوينية وأبعادها الزمانية واملكانية وفلسفتها االجتماعية والسياسية ،ليقدم بذلك ً
اندرا يف االقرتاب من الشعائر والعبادات.
ً
أساس الرؤية
َ انطالقًا من ثنائية املادي والروحي اليت أسس هلا بيجوفيتش ابعتبارها
اإلسالمية لإلنسان والعامل ،ذهب بيجوفتيش يف حماولة استقرائية واسعة ألجبدايت اإلسالم
لينتهي إىل كموهنا وتغلغلها يف كل جوانب اإلسالم مبا يف ذلك أركانه اخلمسة املتمثلة يف
284
العلمانية الغربية ،واليت تعطي مركزية هائلة للدولة) ،بل هو دين ودنيا يتوجه للجانبني
الروحي واملادي يف اإلنسان.22
اثنيًا :اإلسالم واإلنسان بني املسريي وبيجوفيتش:
ميتد التشابه بني عناصر الرؤية الكلية للمسريي وبيجوفيتش إىل مقولة اإلنسان اليت تشكل
املقولة املركزية الثانية يف فهم املنظومات الفكرية لكال املفكرين بعد مفهومي التوحيد
والثنائية ،ويتفق املفكران يف تناوهلما ملسألة اإلنسان على عدة أمور أبرزها ثنائية تركيب
اإلنسان وتكوينه اجلامع بني املادي والروحي يف مقابل الرؤى الغربية املتأرجحة بني كونه
خالصا أو ما ميكن تسميته بـ "اإلنسان املركب" يف مقابل
خالصا أو روحيًا ً ماداي ًإنساان ً
ً
كتااب حتت
"اإلنسان ذو البعد الواحد" وف ًقا هلربرت ماريكوز املفكر اليساري الذي ألف ً
هذا العنوان ينتقد فيه النظرة املاركسية التقليدية لإلنسان ابعتبارها جمموعةً من احلاجات
املادية البيولوجية فحسب.23
إضافة إىل ذلك ،اتفق املسريي وبيجوفيتش على مسألة النسب اإلنساين لإلله ،فاإلنسان
مكرم سيِّد يف الكون مستخلَف يف األرض ألجله سخرت الكائنات ووظيفته إهلي َّ
خملوق ٌّ
اصا مبسألة اخللق عرب الدخول يف اهتماما خ ً
ً عمارة األرض ،بيد أن بيجوفيتش قد أوىل
جمادالت علمية مفصلة مع نظرية التطور الدارونية وتفنيد أسانيدها اجلزئية وبيان هتافت
اهتماما مبسألة تركيب
ً الكلي الكامن وراءها ،أما املسريي فقد أوىل
ّ الفلسفي
ّ النموذج
اإلنسان ونقد التصورات الغربية حول طبيعته وبيان مدى استبطان الفلسفات املعادية
لإلنسان ملفهوم الطبيعة البشرية أبشكال خمتلفة ،ليصل كالمها لإلسالم يف هناية املطاف
ابعتباره الضامن احلقيقي حلرية اإلنسان .نستعرض يف هذا احملور معامل الرؤية اإلسالمية
لإلنسان عند املسريي وبيجوفيتش.
24د .جعفر شيخ إدريس ،التصور اإلسالمي لإلنسان أساس لفلسفة اإلسالم الرتبوية( ،القاهرة ،جملة املسلم
املعاصر ،العدد ،)1397 ،12ص .16
286
اإلنساين ولإلنسانية املشرتكة؛ إذ ستتمرتس كل مجاعة إنسانية داخل زماهنا ومكاهنا ،األمر
الذي يهدد فكرة االجتماع اإلنساين يف جوهرها.
أبعادا يف اإلنسان تتميز ابلثبات وكذلك بعض أشكال املعرفة كما يرى املسريي أن هناك ً
ال ميكن أن تكون نسبية ،ففكرة الضمري -على سبيل املثال -عند سقراط ال ميكن ردها
ألساسها التارخيي أو االجتماعي واجلغرايف ،وكل املسلمني ال يزالون يؤمنون هبا وكذا غالبية
البشر يف هذا العصر؛ ولذا فاملذابح اليت حتدث حولنا تزيد امشئزازان ،ومجال األعمال الفنية
ال ميكن رده للمادة املتشكلة منها أو إىل وضع الفنان التارخيي أو االجتماعي أو الطبقي،
أعماال كالسيكية كثرية
فنحن يف عصران هذا ال نزال نتمتع أبعمال إنسان الكهف ،ونقرأ ً
مثل :مسرحيات شكسبري ،ولوحات ڤان جوخ؛ وكالسيكيات الرتاث اإلسالمي مثل:
ماداي ،وفكرة
أساسا اترخييًا ً
وحي بن يقظان .إن فكرة الضمري ،رغم أن هلا ً كليلة ودمنةّ ،
اجلمال ،رغم أهنا تعرب عن نفسها من خالل املادة -تتخطيان املادة ،وابلتايل تكتسبان
قيما عاملية اثبتة لصيقة بظاهرة اإلنسان ،ومن مثَّ
استقالال ،بل وتصبحان مبرور الزمن ً
ً
فإنسانيتنا املشرتكة تتسم بقدر كبري من الثبات.
وحينما حياول البشر أن يعيدوا صياغة أنفسهم وصورهتم ،هل حياولون حماكاة صورة اآلهلة
أم صورة القرود؟ وهل نقبل البشر الذين حياولون حتقيق املثل العليا قبولنا ألولئك الذين
يسلكون مسلك القردة العليا؟ وحني ندير جمتمعاتنا اإلنسانية ،هل نفعل ذلك متحررين
من كل أعباء أخالقية أو إنسانية ،فإن خططنا لتشجري الكرة األرضية فهذا أمر مقبول،
متاما مثل التشجري؟
سبعا أو عشر مرات فهل التدمري أمر مقبول ً وإن خططنا لتدمريها ً
كما يتساءل املسريي هل ميكن أن منيز بني ما هو إنساين وغري إنساين دون افرتاض وجود
طبيعة بشرية وإنسانية مشرتكة؟ إن هذا اإلميان ابلتغري كمطلق ويقني أوحد وغاية وهدف،
أبدا دون هدف أو غاية أو هناية ،قد يؤدي إىل ال شيء أو لعله قددائما و ً
التغري الكامل ً
يؤدي إىل دمار اإلنسان والكون إن مل تتم عملية التغري داخل حدود ،وإن مل يكن هلا عقل
وروح ،وإن مل تفرتض مركزية اإلنسان يف الكون ،واعتبار اإلنسان هو الغاية ،وأن اهلدف
287
من وجودان يف هذا الكون هو حتقيق إمكانياتنا اإلنسانية اليت تتجاوز حدود املادة
املتغرية.25
ويرى املسريي أن حماولة إنكار وجود طبيعة بشرية اثبتة وإنسانية مشرتكة وتصور أن
احلديث عن الطبيعة البشرية هو نوع من أنواع امليتافيزيقا ،تنطوي على حماولة واعية للهرب
أيضا حماولة ،رمبا غري واعية للهرب من فكرة
من امليتافيزيقا واإلميان مبا وراء املادة ،ولكنها ً
ٍ
معقول من الثبات احلدود واملسؤولية واألخالق .فإن كانت الطبيعة البشرية تتسم بقدر
واالستمرارية ،يصبح من املمكن توليد معايري أخالقية منها .أما إذا كان التغري مطل ًقا
وشامال ،فإنه يؤدي إىل غياب أي معايري ،ومن مثَّ تصبح كل األمور نسبيةً وختتفي مع ً
النسبية أي معايري معرفية أو مجالية أو أخالقية ،والفرق بني الواحد واآلخر يشبه الفرق
بد أن يرتجم بني اإلميان ابهلل واإلميان ابألطباق الطائرة .فالضرب األول من اإلميان ال َّ
حتد للذات وحماولة لفرض حدود عليها. إمياان حقًّا ،فهو ٍ
نفسه إىل أفعال فاضلة إن كان ً
جوهرا إنسانيًا ما،
إن أدرك اإلنسان أن مثة طبيعة بشرية تتسم بنوع من الثبات وأن مثة ً
يصبح من احملتم أن تتحول تلك الطبيعة إىل نقطة ارتكا ٍز فلسفية اثبتة ينبع منها نسق
خريا ،وكل ما يبتعد عنها فهوأخالقي ،حبيث إن كل ما حيقق هذه الطبيعة ويثريها يعد ً
شر .أما الضرب الثاين من اإلميان فهو عملية تفريغ لشحنة نفسية ،وتوتر داخلي يبحث
عن بؤرة ،وهو ضرب من ضروب حتقيق الذات يصلح كميتافيزيقا من دون أعباء أخالقية
يتبناها اإلنسان االقتصادي واإلنسان النفعي الذي ال يؤمن إال ابملادة ،وجيد صعوبة حقة
يف التسامي عليها وجتاوزها.26
احلنني إىل السماء :ظالل الطبيعة البشرية يف العقل الغريب: ب-
اكتشف املسريي أن مفهوم الطبيعة البشرية ال يزال كامنًا يف العقل الغريب من خالل ما
مساه ظاهرة "اإلله اخلفي" ،فرغم احملاوالت العديدة إلنكار مفهوم الطبيعة البشرية الثابتة
نوعا من أنواع
يف احلضارة الغربية احلديثة من تيارات فكرية وفلسفية خمتلفة ابعتبارها ً
25د .عبد الوهاب املسريي ،دراسات معرفية يف احلداثة الغربية( ،القاهرة :مكتبة الشروق الدولية،)2008 ،
ص .193-183
26املرجع السابق ،ص .198-194
288
امليتافيزيقا اليت جيب جتنبها يف عملية التحليل ،فإن هذا اإلنكار يتم على مستوى الوعي
والظاهر وحسب .فكثري من املفكرين وغالبية البشر العاديني يتبنون مفهوم الطبيعة البشرية
اليت تتسم بقدر من الثبات واالستمرارية كأداة حتليلية بشكل كامن غري و ٍاع .ومن خالل
ما مساه املسريي ظاهرة ("اإلله اخلفي" ،)Hidden Godوهو مصطلح قريب من
مصطلح "الضمري" ولكنه غري مرتادف معه ،فالضمري يعين أن مثة شيئًا ما غري مادي،
كامنًا يف اإلنسان ،يدفعه حنو اخلري ،وهو إن مل يتجه حنو اخلري كما ميلي عليه ضمريه فإنه
يشعر ابلذنب وأنه أنكر بـر ْع ًدا أساسيًا من وجوده.27
ماداي وال ميكن رده إىل الطبيعة املادية ،وإمنا
أمرا ً
والضمري شأنه شأن اإلله اخلفي ليس ً
يستند إىل عنصر ما يف اإلنسان (القبس اإلهلي والنزعة الرابنية) عنصر ال ميكن تفسريه
ماداي؛ ولذا ال مناص من أن نسميه "روحيًا" .ولكن الضمري يرتبط يف ذهننا مبنظومة ً
أخالقية حمددة ،من خالهلا يعرف اإلنسان الشر واخلري ،أما مفهوم "اإلله اخلفي" ،فرغم
أنه يشارك الضمري يف كثري من السمات ،فإنه يشري إىل أن اإلنسان قد ال يكون مؤمنًا
بشكل و ٍاع وصريح لكلٍ معاداي
أبي منظومة أخالقية أو معرفية أو دينية ،بل قد يكون ً
متاما حىت أصبح القيم بال استثناء ،وقد يؤمن بنموذج مادي إحلادي ويظن أنه استبطنه ً
جزءًا ال يتجزأ من رؤيته ووجوده .ولكن هذا اإلنسان ،مع هذا ،تفضحه -يف ظروف
بشكل غري مباشر وغري و ٍاع عن وجود شيء ما يف أعماق أعماقه ٍ معينة -أقواله وأفعاله
يتناقض مع اإلطار املادي الواحدي الذي تبناه .ورغم هذا ،فإن مثل هذا اإلنسان قد ال
يتجه ابلضرورة حنو اختيار منظومة أخالقية بديلة .وبذلك ميكن القول أبن اإلله اخلفي
هو -يف واقع األمر -البحث غري الواعي لإلنسان املادي عن املقدَّس بعد أن تصور أنه
قد قتل اإلله وأسس عاملا زمانيًا مكانيًا ال قداسة وال حمرمات وال حرمات فيه .28ويذهب
بعيدا يف حتليله ًإىل أن فكرة اإلله اخلفي ال تزال كامنةً حىت يف كتاابت املفكرين املسريي ً
29
امللحدين ،بل ويف النزعات الفلسفية الفوضوية احلديثة .
27راجع مقالة عبد الوهاب املسريي بعنوان" :احلداثة املنفصلة عن القيمة واإلله اخلفي" ،منشورة على موقعه
اإللكرتوينhttps://is.gd/zTL8j6 :
28املرجع السابق.
29د .عبد الوهاب املسريي ،دراسات معرفية يف احلداثة الغربية ،مرجع سابق ،ص .203-199
289
ج -اإلنسان الرابين املركب يف مقابل اإلنسان ذي البعد الواحد:
مم يرتكب اإلنسان، ختتلف الفلسفات واملذاهب الفكرية املعاصرة يف اإلجابة عن سؤالَ :
من مادة فقط أم من روح فقط أم من مزيج بينهما؟ ،فعلم النفس احلديث يتحدث عن
احدا أحادي الرتكيب ،هو ما تراه العني من أعضاء ،وما يتكلم اإلنسان ابعتباره شيئًا و ً
عنه علم التشريح يف الطب من أجهزة داخلية حيتويها جسد اإلنسان ،ولكن حينما تسأل
علم النفس عن األمراض النفسية ،وعمليات التفكري واحلب والكره ،والبخل والكرم، َ
والشجاعة واملروءة ،اليت هي اإلنسان ،فإنه يسندها إىل تراكيب يف اجلسم املرئي .ولكن
هذا مل يقنع الكثريين من املفكرين ومن بينهم املفكر عبد الوهاب املسريي الذي ذهب
يؤسس رؤيته "للطبيعة البشرية" 30من مدخل ثنائية الرتكيب (مادي-معنوي) (جسد-
روح) ،وهذه الثنائية تنطلق من مقولة إن اإلنسان ظاهرة مركبة ال ميكن ردها إىل ما هو
دوهنا (املادة) ،وال ميكن اختزاهلا يف بـر ْع ٍد واحد؛ فهي حتوي من األسرار والثغرات ما ال
حمضا ،فاإلنسان عامل معقد يتشابك داخله احملدود مع الال ماداي ً
تفسريا ًّ
ً ميكن تفسريه
حمدود ،واملعلوم مع اجملهول ،واجلسد مع الروح ،والرباينّ مع اجلواينّ ،والسبب مع النتيجة،
والعقل مع القلب ،وعامل الشهادة مع عامل الغيب .31ويرى املسريي أن هذه الثنائية الرتكيبية
جتد صداها من خالل نـزعتني تتنازعان اإلنسان ،مها :النـزعة اجلنينية ،والنـزعة الرابنية؛ ومها
طرفا الثنائية املركبة لإلنسان .32فالطرف األول يف الثنائية هو اجلانب الطبيعي ،أو ما
أحياان ابلنـزعة الرمحية نسبة إىل رحم األم ،وهي عرب عنها ً يسميه املسريي النـزعة اجلنينية ،وير ِّ
تعبري عن البرـ ْع ِد املادي يف اإلنسان بكل أبعاده ،سواء يف نشأته وتكوينه أو يف ما ينشأ
عن هذا البرـ ْع ِد من نـزعات مادية ،مبا يف ذلك حنينه الدائم إىل عامل الرباءة األوىل الذي
30يستخدم املسريي مصطلح الطبيعة البشرية لإلشارة إىل جوهر اإلنسان أو السمات األساسية اليت رمتيِّز
اإلنسان وتفصله عن غريه من الظواهر الكونية ،ويرتبط هبذا املصطلح مفهوم "اإلنسانية الواحدة" ،لكنه يفضل
بدال من "اإلنسانية الواحدة" لتفادي النزعة الغربية املركزية يف تعريف
استخدام مصطلح "اإلنسانية املشرتكة" ً
موحدا لإلنسانية.
معيارا ً
كل ما هو إنساين وفرض الرؤى الواحدة ابعتبارها ً
31عبد الوهاب املسريي ،دفاع عن اإلنسان ،مرجع سابق ،ص .276
32راجع يف تفصيل النزعتني :عبد الوهاب املسريي ،موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ،مرجع سابق ،ص
.73-68
290
ِ
فصل يف التكوين
وحتمل أعباء اهلوية .غري أن املسريي ال ير ّ
يعفيه من املسؤوليات األخالقية ّ
الطبيعي املادي لإلنسان ،بل يكتفي ابإلشارة إليه مثل قوله" :فثمة احتياجات طبيعية
مادية ،مثل حاجة البشر إىل الطعام واهلواء والنوم والتناسل وتلبية كل ما يتعلق برتكيبهم
العضوي بغض النظر عن أماكن إقامتهم أو منط احلضارة الذي ينتمون إليه .فاإلنسان
هنا موجود مادي متجسد يشارك بقية الكائنات يف بعض الصفات ،فمن حيث هو
جسم ،خيضع اإلنسان للقوانني الطبيعية وضرورات احلياة العضوية؛ إذ تسري عليه وعلى
بقية الكائنات جمموعةٌ من اآلليات واحلتميات؛ لذا ميكن رصد هذا اجلانب من وجوده
من خالل النماذج املستمدة من العلوم الطبيعيةِّ ،
ويعرب عن نفسه فيما نسميه النـزعة
اجلنينية".33
أما الطرف الثاين يف الثنائية فهو البرعد الروحي ،أو ما يسميه املسريي النـزعة الرابنية أو
القبس اإلهلي ،وهو يف تعريف املسريي" :ذلك النور الذي يبثه اإلله الواحد املتجاوز يف
صدور الناس بل يف الكون أبسره ،فيمنحه تركيبيته الالمتناهية ،ويولِّد يف اإلنسان العقل
الذي يدرك من خالله أنه ليس إبله ،وأنه ليس ابلكل ،وأنه مكلف حبمل األمانة ،وأن
وإطارا له" .كما ير ِّ
34
عرب عنه يف سياق آخر حدودا ًً عليه أعباءً أخالقية وإنسانية تشكل
كرمه واستأمنه على العامل واستخلفه بقوله" :فاإلنسان قد خلقه هللا ونفخ فيه من روحه و َّ
35
فيه؛ أي إن اإلنسان أصبح يف مركز الكون بعد أن محل عبء األمانة واالستخالف" ،
فالروح أو القبس اإلهلي هو تعبري عن وجود عنصر غري مادي يف اإلنسان ورميثِّل جوهر
تركيبيته ،ووجوده هو الذي يعطي اإلنسان معىن التجاوز؛ سواء فيما خيص عالقته ابهلل،
أو عالقته بنفسه ،أو ابلطبيعة .لذا ،اتسم اإلنسان ابلرتكيب والتعقيد ،حبيث ال ميكن أن
يـرَرَّد إىل بـر ْع ٍد واحد .وقد فشلت احلضارة الغربية يف تفسري الظاهرة اإلنسانية ،إلقصائها
انظر :عبد الوهاب املسريي ،الفلسفة املادية وتفكيك اإلنسان( ،دمشق :دار الفكر ،الطبعة الرابعة، 33
،)2010ص . 12 -11وللتفصيل يف اجلانب املادي يف خلق اإلنسان ينظر :الراغب األصفهاين ،تفصيل
النشأتني وحتصيل السعادتني ،حتقيق عبد اجمليد النجار( ،بريوت :دار الغرب اإلسالمي ،)1988 ،ص -72
.73
34عبد الوهاب املسريي ،موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ،مرجع سابق ،ص .81
35املسريي ،الفلسفة املادية وتفكيك اإلنسان ،مرجع سابق ،ص .12-11
291
ماداي؛ إذ "ال
تفسريا ًّ
ً هذا البرعد الروحي يف اإلنسان؛ ذلك أنه ال ميكن تفسري هذا البرعد
وجد أعضاء تشرحيية أو غدد أو أمحاض أمينية تشكل األساس املادي هلذا اجلانب تر َ
الروحي أو الرابين يف وجود اإلنسان وسلوكه .وهلذا ،فهو يشكل ثغرة معرفية كربى يف
النسق الطبيعي املادي" .فوجود هذا اجلانب الروحي هو الذي يعصم اإلنسان من السقوط
يف محأة املادية .لذا ،يضع املسريي اإلنسان الطبيعي املادي الذي يدور يف إطار النـزعة
اجلنينية ،مقابل اإلنسان اإلنسان أو اإلنسان الرابين الذي يدور يف إطار النـزعة الرابنية.
دائما مبا يدل عليه يف الواقع
ويف حتليل املسريي للجانب الروحي يف اإلنسان ،فإنه يربطه ً
من مظاهر ع ّدة ،مثل :النشاط احلضاري املتعدد اجلوانب (االجتماع ،األخالق ،اجلمال،
التدين) ،وقدرة اإلنسان على اإلبداع؛ إذ ال يهتم املسريي هبذا القبس اإلهلي مىت روِجد
يف اإلنسان وكيف .ولكن ابنعكاسه يف حياته؛ أي مبا ميكن لإلنسان أن يدركه بتجربته
الوجودية وإدراكه لذاته وواقعه اإلنساين ،فاإلنسان كائن قادر على تطوير منظومات
أخالقية غري انبعة من الربانمج الطبيعي املادي ،الذي حيكم جسده واحتياجاته املادية
أيضا على خرقها ،وهو الكائن الوحيد الذي وغرائزه ،وهو قادر على االلتزام هبا وقادر ً
طور نس ًقا من املعاين الداخلية والرموز اليت يدرك من خالهلا الواقع .وهو النوع الذي ميلك
َّ
ونظاما رمزًاي أصبح جزءًا أساسيًا من كيانه ،حىت إنه ميكن القول أبن اإلنسان
ذاكرة قوية ً
هو الكائن الوحيد الذي ال يستجيب مباشرةً للمثريات ،وإمنا يستجيب إلدراكه هلذه
املثريات وما يرسقطه عليها من رموز وذكرايت .واإلنسان هو النوع الوحيد الذي يتميَّز
كل فرد فيه خبصوصيات ال ميكن حموها أو جتاهلها.36
د -احلل التوحيدي ملشكلة املركزية (االستخالف):
ينتقل املسريي إىل إشكالية أزلية يف كل الفلسفات املعاصرة وتتعلق مبفهوم مركزية اإلنسان،
ويطرح يف إطارها مفهوم االستخالف املؤسس على مفهوم التوحيد ،37وهو مفهوم يقدم
تفسرياي للعالقة بني حماور الوجود الثالثة الكربى :هللا والعامل واإلنسان ،وجييب عن
ً إطارا
ً
36عبد الوهاب املسريي ،موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ،مرجع سابق ،ص .66
37يشمل االستخالف النوع البشري كلهً ،
رجاال ونساء .ومن األمور اجلديرة ابلذكر يف لغة القرآن ،أن لفظ
"إنسان" -وهو الواحد من بين آدم -يذ ّكر ويؤنث ،فيقال :هو إنسان ،وهي إنسان ،واملرأة إنسان ،وال يقال:
بشر ،وهي بشر.
إنسانة .كذلك ،فإن لفظ "بشر" يذ ّكر ويؤنث ،فيقال :هو ٌ
292
اضحا
تصورا و ً
أسئلة املعىن الكلية املتعلقة بوجود اإلنسان ووظيفته يف الكون .كما يقدم ً
ملشكلة املركزية اإلنسانية واملركزية اإلهلية ،خيتلف كليًّا عن التصور الغريب الصراعي اإلحاليل
(اإلنسان مقابل اإلله) ،فاالستخالف يعين أن هذا العامل ليس ملكنا وإمنا استرخلفنا فيه،
ومن مثَّ فاإلنسان وفق هذا املفهوم ليس سيد الكون ومركزه بل اإلله .فاهلل هو خالق
معا ،وهو مركز الكون ومعياره ،بينما اإلنسان هو مركز املخلوقات خليفة الكون واإلنسان ً
38
هلل يف األرض ،بعبارة أخرى هللا سيد (فوق) الكون ،واإلنسان سيد (يف) الكون .ومن
هنا فقد حسم اإلسالم ثنائية هللا/اإلنسان منذ البداية ،ومل يقع يف حالة التأرجح اليت وقع
وقابال للنقاش
حمسوم ًٍ فيها الفكر الغريب ،حيث أضحى سؤال املركزية لديهم سؤ ًاال غري
واجلدل املستمر ،فتأرجحوا اترخييًا -وما زالوا -بني مركزايت متعددة (مركزية اإلله -
مركزية اإلنسان -مركزية املادة) انتهت إىل نسف فكرة املركزية يف منوذج جديد ميكن
تسميته مبركزية الال مركز (مرحلة ما بعد احلداثة).39
وتقوم فلسفة االستخالف على حماولة حتديد العالقة بني املستخلِف (هللا تعاىل)،
استنادا إىل املفاهيم القرآنية
ً واملستخلَف (اإلنسان) ،واملستخلف فيه (الكون) ،وذلك
سيدا يف الكون
الكلية (التوحيد واالستخالف والتسخري) ،حيث ينظر لإلنسان ابعتباره ً
سيدا للكون ،-مستخل ًفا من هللا على الكون بكائناته وخملوقاته ،والعامل ليس ملكه، -ال ً
ومن مثَّ جيب أال نبدده إبسرافنا واستهالكاتنا ،وإمنا جيب أن نعمره حىت ميكن لألجيال
املسلم ابالقتصاد ومراعاة االعتدال
القادمة أن تعمره وتستمتع خبرياته ،وقد أمر اإلسالم َ
حىت يف العبادة من صالةٍ وصيام ،بدءًا من التوجيه النبوي بعدم اإلسراف يف املاء ولو
مرورا ابلرمحة الواجبة ابحليواانت اليت قد تدخل اجلنة ونقيضها الذي قد يدخل للوضوءً ،
راجع يف مسألة املركزية يف الرؤية اإلسالمية :إمساعيل راجي الفاروقي" ،التوحيد :مضامينه على الفكر 38
واحلياة" ،ترمجة السيد عمر( ،القاهرة ،دار مدارات للنشر والتوزيع ،)2014 ،ص .34-33
راجع يف أزمة املركزية الغربية :كتاب املفكر اإلسالمي د .طارق رمضانThe Quest for ، 39
293
النار -مع تسخريها لإلنسان لألكل واالنتفاع ،-وأخريا -وليس ِ
آخًرا -ابلتواصل مع كل ً
مكوانت الكون النباتية بل واجلمادات اليت يؤمن اإلنسان أبهنا تسبح هلل .وحيكم اإلنسان
يف كل موقف ميزان الضرر والنفع ،يف احلال واملآل .وبذلك ميكن للمنظومة اإلسالمية أن
تشكل نقطة انطالق للوقوف ضد االستهالكية اليت ثبت أهنا ستودي ابلعامل ،فهي متنح
اإلنسان مركزيةً لكنها ليست مركزيةً مطلقة يستنزف فيها اإلنسان الطبيعة ،وال هي مركزية
للطبيعة تساوي بني اإلنسان واملادة واإلنسان واحليوان ،وتتجاهل خالق الكون ورسالة
البشر وأمانتهم املسؤولة يف الدنيا واليوم اآلخر.41-40
هـ -إله العاملني :مدخل للخطاب اإلنساين العاملي
مل يشكل التوحيد رؤية فلسفية متجاوزة للعامل فقط (كما تناولنا يف حمور سابق) ،بل امتد
ليقدم رؤية عاملية لإلنسانية كلها وليس لإلنسان املسلم فقط؛ وذلك بتقريره مبدأ وحدة
مجيعا ،فالناس آلدم عليه السالم" ،وال فضل لعريب على عجمي اجلنس والنسب للبشر ً
وال أسود على أمحر إال ابلتقوى" (رواه البخاري) .كما نفى اإلسالم أي شرعية لكل
دعاوى التعصب لألجناس أو األلوان أو األعراق ،وعقيدة اإلسالم وحدها هي اليت تقرر
على هذا النحو -بوضوح وقطعية -وحدة اجلنس البشري يف إطار التنوع البنَّاء .42إن
مقتضى الرؤية اإلسالمية للعامل -اليت تقوم كما أسلفنا على أساس وحدة البشرية -هـو
ِ ِ
ني﴾ (األنبياء،)107 : اك إِالَّ َر ْمحَةً لْل َعالَم َ
﴿وَما أ َْر َسْلنَ َ
أن تكون رسالة اإلسالم عامليةَ :
وليست قطرية أو إقليمية أو عرقية .ويشكل مفهوم العاملية أحد أهم املفاهيم املركزية يف
الرؤية التوحيدية ،وأحد أهم املفاهيم اليت نفذ املسريي من خالهلا إىل اإلسالم ،يقول
املسريي" :إن مفهوم هللا الرحيم العادل من املفاهيم املركزية يف تصوري ،وهو ليس إله
40د .هبة رؤوف" ،البيئة :من مركزية اإلنسان والطبيعة إىل االستخالف" دراسة منشورة على (موقع إسالم
أون الين)https://is.gd/t9xgnj ،
41عبد الوهاب املسريي ،دفاع عن اإلنسان :دراسة نظرية وتطبيقية يف النماذج املركبة( ،القاهرة :دار
الشروق ،)2003 ،ص .312-311
42د .إبراهيم البيومي غامن ،أصول الرؤية اإلسالمية للعامل والعالقة مع اآلخر( ،جملة حراء ،العدد (،)21
https://is.gd/rEl1PX .)2010
294
العرب أو املسلمني أو قوم أو غريهم دون األقوام واألعراق األخرى ،بل هو رب العاملني
مجيعا بعدله ورمحته ،وبذلك يصبح اإلسالم من أكثر العقائد تساحمًا
أمجعني ،يشملهم ً
43
وقبوال لآلخر ،برغم أنه حيدد احلدود ويضع الفواصل" .
ً
اثنيًا :إنسان بيجوفيتش بني الشرق والغرب :جدل اخللق مقابل التطور
ص ّدر املفكر "علي عزت بيجوفيتش" ،كتابَه "اإلسالم بني الشرق والغرب" مبناقشة
كالسيكية حول مسألة أصل اإلنسان ابعتبارها حجر الزاوية لكل أفكار العامل ،ورأى أن
بد أن أتخذان إىل الوراء حيث أي مناقشة تدور حول كيف ينبغي أن حييا اإلنسان ،ال َّ
متطورا
ً مسألة "أصل اإلنسان" ،وما إذا كان كائنًا خملوقًا من قبل هللا عز وجل أم كائنًا
هائما بال معىن أو هدف أو غاية.ابلصدفة العبثية اليت ألقته يف هذا الكون وتركته ً
ترجع كل املخلوقات -حسب التصور الدارويين -إىل األشكال البدائية للحياة (األميبا)،
واليت ظهرت بدورها نتيجة عملية طبيعية كيميائية مادية .فاإلنسان وفق هذا املنظور ما
هو إال حيوان تطور من املادة إىل األميبا ،واألميبا تطورت حىت وصلت إىل القردة العليا،
ومنها إىل اإلنسان الذي اجته حنو الكمال اجلسمي والفكري ومنه إىل الذكاء اخلارق.
هكذا ينظر العلم احلديث إىل أصل اإلنسان ابعتباره نتيجةً لعملية طويلة من التطور ابتداء
من أدَّن أشكال احلياة ،حيث ال يوجد متيز واضح بني اإلنسان واحليوان سوى بعض
قائما ،وصناعة األدوات ،والتواصل بواسطة لغة منطوقة احلقائق املادية اخلارجية كاملشي ً
مفصلة .وعلى اجلانب اآلخر ،يتحدث الدين عن خلق اإلنسان ،واخللق ليس عملية وإمنا
مستمرا وإمنا فعل مفاجئ ختلصه عبارة (كن فيكون).ً فعل إهلي ،ليس شيئًا
فبدال من أن حياول تفنيدها
تعامل بيجوفيتش مع نظرية التطور ومقوالهتا بطريقة فريدةً ،
مقتصرا على علم البيولوجيا والعلوم الطبيعية كما يفعل بعض املعاصرين الناقدين للنظرية،
ً
فقد جلأ إىل اسرتاتيجية إضافية تقوم على بيان عجز النظرايت املادية ،مبا يف ذلك نظرية
التطور الداروينية ،عن تفسري البعد اإلنساين يف ظاهرة اإلنسان ،وبذلك فقد اعترب نظرية
43عبد الوهاب املسريي ،دفاع عن اإلنسان :دراسة نظرية وتطبيقية يف النماذج املركبة ،مرجع سابق ،ص
.311
295
كل مبا جيعل نقده ملقوالهتا صاحلًا للتعميم على الفلسفات املادية كافَّةً
التطور جزءًا من ٍّ
اليت تشرتك معها يف اجلذر الفلسفي نفسه.
نفذ بيجوفيتش إىل قلب النظرية الدراونية وراح يفكك أسسها العلمية مبا استطاع من
مقوالت علمية مضادة للمختصني يف اجملاالت العلمية نفسها ،كما راح يكشف عما
حتتويه من نظرايت فلسفية ال متت للعلم بصلة ،ليكشف يف هناية املطاف عن عدد من
عددا من األسئلة املتجاوزة للنقاش
التلفيقات الفلسفية املسترتة بغطاء العلم ،كما راح يطرح ً
العلمي التفصيلي حول النظرية ،فسواء كان اإلنسان نتاج التطور أو كان خملوقًا ،فإن
قائما :ما هو اإلنسان؟ وهل اإلنسان جزء من العامل أو شيء خمتلف عنه44؟ السؤال يظل ً
الفن يتحدى نظرية التطور :إبداعات اإلنسان البدائي أ-
متتبعا األعمال الفنية املسجلة عن اإلنسان
جلأ بيجوفيتش إىل الفن يف إطار نقده للنظرية ً
البدائي ،ليصل إىل أن شيئًا ما قد حدث لإلنسان جعله ال يقنع جبانبه الطبيعي املادي
دائما عن شيء آخر غري السطح املادي الذي تدركه احليواين ،ودفعه إىل أن يبحث ً
احلواس ،حبيث بدأ يفكر يف معىن حياته وفيما وراء الطبيعة ،فيما وراء القبور .يتساءل
حتسن منبيجوفيتش ما هذا الشيء الذي جعل اإلنسان ال يكتفي بصنع اآلالت اليت ّ
وبدال من ذلك بدأ يف صنع العبادات واألساطري واملعتقدات مقدرته على البقاء املاديً ،
اخلرافية والغريبة والرقصات واألواثن والسحر وأفكاره عن الطهارة والنجاسة والسمو واللعنة
والربكة والقداسة واحملرمات واحملظورات األخالقية اليت تشمل حياته أبسرها؟ ما الذي جعل
اإلنسان ال يقنع ابلداللة املباشرة لألشياء ،وإمنا يضيف هلا داللة متخيَّلة تكون أكثر أمهية
يف نظره من داللتها الواقعية؟ ،فبينما يذهب احليوان للصيد مباشرة ويوظف كل ذكائه يف
اصطياد الفريسة ويستجيب للمثريات املادية اليت من حوله بشكل مباشر ،حييط اإلنسان
مثل هذا الفعل بطقوس وأحالم وصلوات .وبينما كان احليوان يتابع فريسته مبنطق صارم،
كان اإلنسان يقدم الضحااي والقرابني ويقيم الصلوات والشعائر.45
44علي عزت بيجوفيتش ،اإلسالم بني الشرق الغرب ،ترمجة يوسف عدس( ،القاهرة :دار الشروق ،الطبعة
الثانية ،)2013 ،ص .66
45املرجع السابق ،ص .14-13
296
النقد الفلسفي للتطور :أسطورة الصدفة: ب-
ينتقل بيجوفيتش بعد ذلك إىل نقد نظرية التطور من مدخل آخر ينحو حنو الفلسفة من
خالل نقد مقولة الصدفة اليت يروجها املاديون ،يبدأ علي عزت بيجوڤيتش تقويضه
النظرايت املادية أبن ِّ
يبني أنه من املستحيل تصديق فكرة أن العامل قد ظهر نتيجة تفاعالت
كيمائية متت ابلصدفة وأدت إىل ظهور خالاي بسيطة مث تطورت إىل أن أصبحت اإلنسان.
يبني بيجوڤيتشوفرضية الصدفة هذه تقع يف صميم نظرية التطور وكل النظرايت املاديةِّ .
أن خلق العامل ابلصدفة هو جمرد افرتاض وختمني وليس حقيقة .ومن أشهر االعرتاضات
على هذه الفرضية أن اإلميان هبا يعادل اإلميان ابحتمال أن يقوم فرد ابخلبط على آلة
كاتبة فيكتب لنا قصيدة رائعة ،أو ابحتمال أن يلقي إنسان أو قرد ابلنرد وحيالفه احلظ
وأييت 6/6ليس مرة واحدة وال ألف مرة وإمنا 44ألف مرة متتالية! كما أن املصادفة
وحدها ال جتدي يف تفسري اخللق ،فإن تكوين الكائنات من تلك الذرات اهلائمة يعين
ذهب ،وإذا
يتكون منها ٌ أهنا كانت مصممةً ،حبيث إهنا إذا اجتمعت هبذه الطريقة َّ
بد أن يسبق الصدفة. اجتمعت بتلك الطريقة يتكون منها ماء ،وهكذا ،أي إن التصميم ال َّ
ويواصل بيجوفتيش نقده هلؤالء الذين يرون أن املادة -من خالل الصدفة وحدها -قد
أدت إىل ظهور عناصر متجاوزة للمادة مثل اإلنسان والوعي والعقل والغائية؛ ذلك أهنم
يف هناية األمر ينسبون للمادة قردرات غري مادية ،ومن مثَّ فإهنم يكونون قد خرجوا بذلك
خصوصا أن فرضياهتم ال تعدو كوهنا تكهنات عنيدة طفولية
ً عن مقاصد الفلسفة املادية،
تضمن هلم االستمرار يف ماديتهم البسيطة ،وتضمن هلم يف الوقت نفسه تفسري ما حوهلم
من تركيب ووعي وغائية .وينتهي بيجوڤيتش ابلتأكيد على أن فكرة الصدفة ليست فكرة
علمية أكيدة كما ي ّدعون ،وإمنا فكرة ختمينية مل تنتج نتيجة عملية جتريبية أو مالحظة
علمية ،وإمنا نتيجة عملية عقلية حمضة حتاول سد ثغرة يف النظام املادي وتدعي أهنا
علم.46
راجع تفاصيل نقده حتت عنوان فرعي" :الشيوعية والنازية بعض احلقائق اليت ال جيوز نسياهنا" يف "هرويب 52
301
وبيان ضعف قدرهتا التفسريية ،مث يلحق ذلك بطرح رؤيته البنائية املستقاة من
اإلسالم ،ولعل هذا يظهر بوضوح يف مناقشته ملسألة "اإلحلاد األخالقي"
ليخلص يف النهاية إىل استحالة أتسيس أخالق بال دين.54
اهتماما مركزًاي مبسألة أصل اإلنسان وطبيعة تركيبه،
ً -7أوىل بيجوفيتش واملسريي
كامال مع بيان ما حتمله من نقدا بنائيًا ً
فاألول قد انشغل بنقد نظرية التطور ً
جتليات تتعدى إطار مسألة اخللق األول لتصل إىل جممل أوجه احلياة االجتماعية
وقت مبكر من حياته واألخالقية والسياسية واالقتصادية ،بينما اهتم الثاين يف ٍ
مبسألة اخلري والشر يف النفس البشرية لدرجة أن ترجيحه ألحدمها كان سببًا يف
إحلاده بينما كان ترجيحه لآلخر سببًا يف عودته لإلميان وهو ما يلخصه يف
مقولة" :قادين الشر يف الطبيعة البشرية إىل التحول للماركسية والبعد عن
اإلسالم ،مث قادين اكتشاف اخلري يف الطبيعة البشرية إىل الرجوع لعامل اإلميان
واإلنسان مرة أخرى".
-8ميكن االستفادة من أطروحات املسريي وبيجوفيتش حول اإلسالم ورؤيته
لإلنسان والعامل يف بناء خطاب إنساين عاملي وتطويره ،يشتبك مع مهوم اإلنسان
َس ِر الفلسفات العلمانية املادية
املعاصر ومشاكله ،ويسعى إىل استنقاذه من أ ْ
املعادية جلوهره املتميز عن الطبيعة واحليوان.
-9مثة مداخل سائدة يف الدوائر األكادميية العربية واإلسالمية لنقد الغرب فلسفةً
نظما وحضارةً ،بعض هذه املداخل يستخدم مقوالت ماركسية يف وفكراً ،
ً
مواجهة ما يسميه الغرب الرأمسايل ،بينما البعض اآلخر ينطلق من مقوالت دينية
يف مواجهة ما يسميه الغرب املسيحي أو امللحد،كما تنطلق اجتاهات أخرى
من مقوالت وطنية حملية يف مقابل الغرب العاملي أو العوملي ،إضافة إىل مداخل
واقرتاابت أخرى متعددة عادة ما تفشل يف تفسري أبعاد خمتلفة من احلضارة
الغربية ،وميكن االستفادة من اجتهادات املسريي وبيجوفيتش يف بناء مدخل
إنساين جديد ذي قدرة تفسريية عاملية متجاوزة يساعدان يف فهم التشكيالت
احلضارية املختلفة للعامل على حنو أفضل.
54راجع مناقشته املستفيضة لتلك اجلزئية يف :علي عزت بيجوفيتش ،اإلسالم بني الشرق الغرب ،ترمجة يوسف
عدس( ،القاهرة :دار الشروق ،الطبعة الثانية ،)2013ص .211-204
302
كما ميكن االستفادة من أطروحاهتما يف بناء مداخل علمية معاصرة -10
لدراسة اإلسالم وعقائده وعلومه وتعاليمه ونظمه وأحكامه ،وتطويرها ومقارنتها
ابألداين األخرى من انحية والفلسفات احلديثة من انحية أخرى.
303
الفصل الرابع:
وائل حالق بني الغرب والشرق:
قراءة يف تطور نظرايته الفقهية والفكرية
1
حممد املراكيب
املقدمة:
حظي اتريخ الفقه اإلسالمي ابهتمام متزايد من املستشرقني
منذ منتصف القرن التاسع عشر امليالدي ،وقد بدأت
الدراسات املخصصة للفقه يف العصر احلديث بكتاابت
إدوارد ساخاو (ت1930 :م) Eduard Sachau
وسنوك هررخرونيه Snouck Hurgronje
وصوال إىل إجناتس جولدتسيهر ً (ت1936:م)
(ت1921:م) Iganz Goldziherاملستشرق
املعروف ،والذي يرى هارلد موتسكي أن أحدًا مل يصل إىل
املستوى الذي بلغه يف نقد الدراسات الفقهية.2
وظلت تلك الدراسات تنمو وتزدهر حىت جاء جوزيف شاخت (ت1961 :م)
Joseph Schachtفكتب كتابه "أسس الفقه احملمدي" ،مث أتبعه بعد فرتة بكتابه
1الشكر موصول للدكتورة هبة رءوف عزت ملالحظاهتا على مسودة البحث ،ولزوجيت آالء سلطان ،وزميلي
أمحد مسنة على مراجعته.
Motzki, Harald. (2002). The Origins of Islamic Jurisprudence: 2
306
وقد حاول حالق يف كتبه أن يزعزع اخلطاب االستشراقي يف كتاابت شاخت –حسب
تعبريه -ومن شاكله من املستشرقني ،ليعيد إىل الذاكرة جتربة مواطنه إدوارد سعيد والذي
ينته بعد يف كل من األكادميية الغربية والعربية .فريى جدال مل ِ
أاثر بكتابه "االستشراق" ً
انقدا ملا يسميه النسق املعريف االستشراقي orientalism حالق يف نفسه ً
،paradigmaticحيث يذهب إىل أن الدراسات الغربية املتعلقة ابلفقه على اختالفها
وتنوعها وتعدد نتائجها تبقى منطلقة من عقيدة استشراقية واحدة حبيث تشكل نس ًقا
اثبتًا ،وهو املشروع الذي توارثه املستشرقون الدارسون للفقه اإلسالمي من جيل آلخر.6
ومع بدء قرن جديد كانت شهرة حالق قد ذاعت يف الدوائر األكادميية الغربية ،وتررمجت
كثري من كتبه إىل األملانية والفرنسية واإليطالية والياابنية والرتكية والفارسية وابلطبع العربية،
ونشرا كتابه "الدولة املستحيلة" ،والذي نشر بعد عام واحد من واليت كان آخرها ترمجةً ً
نشر نسخته اإلجنليزية.
بعض األفكار الرئيسة اليت قال هبا حالق ،خاصة تلك وسنعرض يف هذه الورقة املوجزة َ
جدل كبري على الساحة الغربية والعربية ،إما لنقدها لبعض اآلراء اليت كانت مثار ٍ
َ
معا يف الوقت ذاته. االستشراقية وإما لبعض اآلراء اإلسالمية التقليدية وإما رمبا لكليهما ً
عددا من الكتاابت وبيَّنا عالقتها اجلدلية بغريها منوقد ختريان من إنتاج حالق الضخم ً
الكتاابت السابقة والالحقة بقدر اإلمكان ،وأتثريها يف املناخ األكادميي والثقايف بصفة
عامة وأتثرها به ،مع روح نقدية ال ختلو منها الدراسة .كما حرصنا على تتبع التطورات
اليت طرأت على أفكار حالق وعلى رصد التغريات -غري القليلة -يف بعض آرائه خالل
مراحل حياته العلمية .وقد قسمنا البحث إىل أربعة حماور رئيسة ،متثل أهم القضااي واحملاور
اليت تطرق هلا حالق يف حياته األكادميية :األول منها هو نشأة الفقه اإلسالمي ،والثاين
هو االجتهاد وتطور الفقه ،والثالث هو الفقه اإلسالمي يف الواقع املعاصر ،أما احملور
الرابع واألخري فكان عن الشريعة والدولة ونقد احلداثة ،مع خامتة رْجت ِمل أبرز املالمح
العامة لفكر حالق.
308
"اعتقد شاخت أن كل العناصر األجنبية يف الفقه اإلسالمي إمنا اقتبسها اإلسالم من بالد
كثريا من
العراق ،حيث ولد هناك الفقه اإلسالمي الكالسيكي ،أما فيما يتعلق أبن ً
العناصر الرومانية تبدو يف ظاهرها غري رومانية ،فهذا إمنا يرجع إىل التغريات اليت تعرض
هلا القانون الروماين يف فرتات زمنية طويلة قبل انتقاله لإلسالم".9
مباشرا ،وإمنا كان ذلك يف فرتة
أتثرا ً
وترى كرون أن التأثر مل يكن يف العراق كما مل يكن ً
حكم األمويني يف الشام حني جعلوا من دمشق عاصمةً هلم ،وأن هذا االنتقال كان من
خالل اخللفاء أنفسهم والذين مثلوا السلطة الدينية العليا يف اإلسالم .10وهو األمر الذي
يصفه حالق -يف ورقة خصصها لنقد أحد كتبها الذي بنته على هذه الفرضية -أن
كرون ال تدري ماذا تريد أن تقول يف كتاهبا ذاك ،مع ضعف منهجيتها وختبط أقواهلا،
انهيك عن أن كتاهبا ال يرقى حىت ملستوى الفرضية العلمية مع خلوه من أي إضافة
حقيقية.11
ويرى حالق أن العرب يف اجلزيرة العربية كانوا قد وصلوا من التقدم والرقي قبل اإلسالم
موجودا يف نظاما رحم َك ًما من املؤسسات مشاهبًا ملا كان ٍ
ً إىل مكانة تؤهلهم أن ميتلكوا ً
احلضارة الرومانية والساسانية ،وذلك حىت قبل قدوم اإلسالم بفرتة طويلة ،فالغساسنة -
وهم عرب سكنوا مشال اجلزيرة العربية -أخذوا الكثري من احلضارة الرومانية وكذلك فعل
اللخميون مع حلفائهم الساسانيني .12وعلى هذا ،فإن شبه اجلزيرة العربية مل تكن على
309
تلك الصورة املتخيلة من البداوة والعزلة عن ابقي احلضارات ،بل كانت على اتصال مباشر
وغري مباشر حبضارات الساسانيني والبيزنطيني واملصريني وبالد احلبشة بل وابحلضارات
اهلندية والصينية كذلك ،فكانت بذلك جزءًا ال يتجزأ من حضارة الشرق األوسط؛ ولذا
فإن املسلمني حني فتحوا بالد العراق والشام مل يكونوا خلو اليدين من الثقافة واحلضارة،
كثريا عن ما كان عليه األمر
بل كانوا متسلحني حبضارهتم وثقافتهم واليت كانت ال ختتلف ً
نظاما قانونيًا من غريهم
يف الدول احمليطة ،فلم يكن املسلمون يف حاجة إىل أن يقتبسوا ً
13
من الدول فقد كان هلم نظامهم اخلاص الذي طوروه أبنفسهم ،على حد قول حالق .
أما فيما يتعلق ابملصادر التشريعية للفقه اإلسالمي ،فقد ظل القرآن يف اعتبار املستشرقني
شر ًعا مل يبدأ يف نظرهم إال
كتااب رم ّ
مصدرا هامشيًا ،عالوة على أن أتثريه القانوين واعتباره ً
ً
بعد موت النيب صلى هللا عليه وسلم بفرتة طويلة ،فيقول شاخت -على سبيل املثال -
" :إن القانون احملمدي مل يرقتبَس مباشرة من القرآن لكنه تطور ...من املمارسات الشعبية
واإلدارية يف ظل حكم األمويني ،وهذه املمارسات كانت يف الغالب متثل مفارقة مع
أهداف القرآن ،بل ويف بعض األحيان مع نصه الظاهر" ،14وال يكتفي هبذا بل يررجع
عالوة على ذلك بداية الدور القرآين إىل ما بعد القرن اإلسالمي األول ،يف حني أن
كولسن Neol Coulsonيررجع بداية الدور التشريعي القرآين إىل بعد وفاة النيب
صلى هللا عليه وسلم مباشرة ،لكنه هو اآلخر يقلل من أتثريه بقوله إن اآلايت "القانونية"
فيه ال تتعدى 80آية.15
13املرجع السابق.
Hallaq, W. (2009). Groundwork of the Moral Law: A New 14
Look at the Qur"ān and the Genesis of Sharī’a. Islamic Law and
Society, 16 239-79. P.241
واللفظ من ترمجيت للورقة لصاحل الشبكة العربية لألحباث والنشر ببريوت ،وكذا جل االقتباسات التالية ما مل أشر
خلالف هذا.
15املرجع السابق.
310
أما حالق فيؤكد على أن الدور التشريعي للقرآن يرجع إىل منتصف الفرتة املدنية يف عهد
النيب وابلتحديد يف السنة اخلامسة للهجرة النبوية ،وهي السنة اليت بدأ القرآن يتجه فيها
إىل ما يسميه حالق ابلنقلة التشريعية يف اتريخ الوحي ،وهي النقلة اليت حدثت نتيجة
التهديد املعريف لليهود يف املدينة مما استدعى أن يسعى حممد إىل أن يكون له تشريع
مر مبرحلتني :األوىل كان يرى النيب فيها
مستقل مناهض هلم .وهو هنا يدعي أن اإلسالم َّ
أن اإلسالم هو تتمة واستمرار لألداين السابقة خاصة الداينة اليهودية واليت كان ألتباعها
وجود مؤثر يف املدينة ،16مث حدثت هذه النقلة حني مل يستطع النيب إقناع اليهود بصحة
دينه التوحيدي ،وهم كانوا سدنة التوحيد يف اجلزيرة العربية؛ ولذا مل جيد القرآن أمام هذا
التهديد املعريف من اليهود إال أن ينتقل من دوره العبادي إىل دور تشريعي جديد ،وكانت
هذه هي املرحلة الثانية .ويتبىن حالق هنا نظرية املستشرق اليهودي غويتني Goitein
حبذافريها حول ما يسميه التحول القرآين املفاجئ حنو االهتمام ابجلانب التشريعي غري
الشعائري .17وهي النظرية اليت سيرتاجع عنها حالق بصراحة ،بل وينتقدها بقوة يف ورقة
أخرى سنتعرض هلا الحقا يف هذا البحث.
أما املصادر األخرى للتشريع يف صدر اإلسالم فيبدو أن أحد أهم هذه املصادر ابلنسبة
إىل حالق كانت أحكام القضاة األوائل ،والذين كانوا غري متخصصني يف الفقه وإمنا كانوا
موظفني إداريني كما يرى حالق ،ومن مثَّ فقد اعتمدوا يف الغالب على أساسني يف
"السنة املاضية" وهو يعين هبا عمل اخللفاء التشريع :األول هو ما يسميه حالق ُّ
والصحابة ،واألمر الثاين هو رأيهم الشخصي .وحالق يصف أولئك القضاة أبهنم مل
للم َح ّكمني يف اجلاهلية ،وأهنم مل يكونوا
امتدادا ر
ً يكونوا قضاة ابملعىن الدقيق وإمنا كانوا
متاما أبحكام القرآن يف قضاايهم -وإن كانوا على التزام مببادئه العامة -حىت ملتزمني ً
311
إن بعضهم أجاز شرب اخلمر حسب دعوى حالق .18وهذا يف رأيي ال خيتلف يف شيء
امتدادا لنظام "التحكيم" يف
عن كالم شاخت يف كون القضاة املسلمني األوائل إمنا كانوا ً
اجلاهلية ومل يكونوا قضاة على احلقيقة إال يف كون حالق قد أرجع ظهور القضاة إىل
العهد النبوي يف حني أجله شاخت ألواخر اخلالفة األموية ،19وال اختلف كذلك عن
كالم كولسن الذي يرى أنه مل يكن هناك حدود العتماد القضاة على آرائهم الشخصية
يف إصدار األحكام.20
أما سنة النيب صلى هللا عليه وسلم فيقول حالق إهنا مل تظهر بقوة كسنة متمايزة ومستقلة
عن سنن الصحابة واخللفاء وما إىل ذلك إال يف النصف الثاين من القرن األول للهجرة
وأوائل الثاين ،ويررجع حالق أتخر االهتمام ابلسنة النبوية -على الرغم من إشارة القرآن
هلا -إىل حاجة املسلمني للوقت والتدرج حىت يستطيعوا أن يتشربوا كل املبادئ اإلسالمية
الواردة يف القرآن ،وهذا ال ينفي كما يقول حالق أنه كان مثة تقدير للسنة النبوية من
كسنة من ضمن سنن أخرى .21ويف ورقة أخرى يذهب البداية إال أهنا كان ينظر هلا ر
حالق -خالفًا لشاخت -إىل أننا ال ميكن أن نقول إن األصل يف األحاديث اليت تنسب
إىل النيب أهنا أحاديث مكذوبة حىت يثبت العكس ،ويعرتض على هذا احلكم املسبق
واملعمم .وقد حاول حالق أن ِّ
يبني زيف املشكلة القائمة بني املسلمني واملستشرقني حول
صحة األحاديث ،وأن املسلمني أنفسهم ال يعرتفون أبن كل ما نرسب للنيب من أحاديث
هو صحيح ،بل منه الصحيح والضعيف واملوضوع املختلق على النيب ،ويضيف حالق
312
أن األصوليني يفرقون بني نوعني من األحاديث :األول هو املتواتر ،والثاين هو حديث
مقطوعا به ،فإن الثاين -وهو ميثل األغلبية العظمى من ً اآلحاد؛ وإذا كان األول
موضوعا حىت من املنظور اإلسالمي
ً صحيحا أو ضعي ًفا أو
ً األحاديث -جيوز أن يكون
التقليدي .ولذا فإن اإلشكالية املثارة بني املستشرقني والعلماء التقليديني هي مشكلة غري
مربرة؛ ألن علماء املسلمني أنفسهم قد وجدوا ًّ
حال هلذه املشكلة منذ قدمي األمد ،وقرروا
صحيحا ابلضرورة ،لكن اإلشكال هو أننا مل
ً أن كل ما نسب للنيب ال جيب أن يكون
جيدا على حسب قوله.22نستمع إليهم ً
ويبقى هنا السؤال عن مدى التوافق أو االختالف بني حالق وبني املستشرقني يف كل ما
سبق .يقول ديفيد ابورز يف مراجعته لكتاب حالق عن نشأة الفقه اإلسالمي إن حالق
عناصر من الثقافة البيزنطية والرومانية قد دخلت للحجاز ،لكن هذه َ يذهب إىل أن هناك
شربت" ،مث يتساءل عن الفرق بني أن أيخذ العرب من العناصر مل "ترقتبس" لكنها "تر ِّ
احلضارات األخرى قبل مقدم اإلسالم أو بعد قدومه؟ أو بعبارة أخرى يتساءل عن الفرق
بني افرتاض حالق هذا وبني آراء املستشرقني قبله23؟ ولعل هذا االنتقاد رمبا هو ما دفع
حالق ليشري يف ورقة أخرى إىل سوء فهم ابورز لفكرته تلك ،وليتحدث عن كيان شرق
أوسطي واحد كان العرب جزءًا ال يتجزأ منه ،وجنحوا فيه كما جنح غريهم يف الوصول
كثريا .24يقول حالق" :إن شبه اجلزيرة العربية
لقوانني متقدمة ال ختتلف عن قوانني جرياهنم ً
قبل اإلسالم قد أنتجت ثقافة شبيهة جدًّا بتلك اليت كانت موجودة يف املناطق األخرى".
ويضيف" :لقد كان العرب دميوغرافيًا ودينيًا وجتارًاي ،ورمبا نضيف سياسيًا وعسكرًاي جزءًا
ال يتجزأ من الشرق األدَّن األكرب وثقافته".25
316
املذاهب الفقهية القدمية ،يف حني صار معناه اآلن قبول آراء األئمة املعتربين واملذاهب
الفقهية املعتمدة دون نظر أو تفكري".30
وليثبت حالق خطأ القول ابنسداد ابب االجتهاد يف القرن الرابع ،فإنه يلجأ إىل إثبات
هذا من حيث التنظري والتطبيق ،فبقراءة للكثري من كتب أصول الفقه اليت صنفت يف
ذلك العصر ال جيد حالق ما يشري إىل أن الشروط اليت وضعها األصوليون لالجتهاد من
الصعب توافرها انهيك عن استحالة ذلك ،وأيخذ حالق يف عرض أقوال أيب احلسني
البصري مث الغزايل واآلمدي وغريهم من األصوليني ،واليت تدور جلها حول معرفة آايت
األحكام ،وأن يكون على اطالع ابألحاديث اليت حيتاج الوصول هلا ويقدر أن مييز بني
صحيحها وضعيفها ،وأن يعلم كتب الفروع ومسائل اإلمجاع ،وكيف يستنبط األدلة من
جل هذا ال تشرتط يف اجملتهدالنصوص ،وأن يعلم العربية ،والناسخ واملنسوخ ،وهي يف ِّ
أن يكون قد بلغ مبلغا كمبلغ سيبويه يف اللغة أو البخاري يف احلديث .مث خيتم ذلك
بقوله" :ومن مثَّ فإنه سيكون من اجملاورة للصواب أن نفرتض أن شروط االجتهاد اليت
مستحيال .فإن
ً أمرا
ذكرت يف مصنفات العلماء املسلمني قد أدت إىل جعل االجتهاد ً
إمجايل املعرفة املطلوبة من الفقهاء قد مكنت الكثريين من االجتهاد يف ابب من الفقه أو
آخر ،كما سنرى الح ًقا .بل إن الفقهاء قد سهلوا ابب االجتهاد أكثر حني قالوا برفع
أجرا عند هللا ،أما لو أصاب فله أجران .وإذا
اإلمث عن اجملتهد املخطئ ،بل قالوا إن له ً
كان األمر كما ترى ،فإن إبمكاننا أن نقول بنوع من الثقة إن من الصعوبة مبكان أن
حنمل النظرية الفقهية مبا تضمنته من شروط لالجتهاد املسؤوليةَ يف تضييق مساحة ّ
االجتهاد ،انهيك عن إغالق اببه".31
ويضيف حالق إىل ذلك دليال آخر وهو أن املدارس الفقهية ما إن أخذت يف االنتظام
وشرعت يف ترسيخ أصوهلا وقواعدها حىت بدأت تدرجييًا يف إقصاء املذهب الظاهري الذي
ينكر القياس -وهو أحد أهم طرق االجتهاد -إىل خارج دائرة أهل السنة واجلماعة ،ومل
ِ
أيت القرن الرابع حىت كان الظاهرية قد أرخرجوا ابلفعل من حظرية أهل السنة واجلماعة،
صنفت يف االختالفات الفقهية يف القرنني الرابع واخلامس
حىت إن كتب االختالف اليت ر
Ibid. 35
319
االجتهاد والتقليد ،وعن آليات االجتهاد داخل املذهب دون تعدي مبادئ التقليد يف
الوقت ذاته ،وعن وسائل تطور الفقه عرب الزمن حىت يف تلك الفرتات اليت كانت تعترب
جامدة ومتصلبة ،كما كثرت الدراسات املتعلقة ابلفتوى واملفتني ودورهم املهم يف الفقه
اإلسالمي.36
وال تكمن أمهية حبث حالق هنا عن الفتوى -والذي يعتربه روبرت جليف أحد أهم
إنتاجات حالق يف جمال الدراسات الفقهية -37يف حديثه عن مرونة الفقه وحمافظته على
أيضا يف تعلقها املباشر بنقد العديد من النظرايت
تواكبه مع الواقع فقط ،ولكنها تكمن ً
اليت قامت على أساس املفارقة بني النظرية والتطبيق يف الفقه اإلسالمي ،فقد كان االعتقاد
ئدا -وما زال -أبن كتب الفروع -انهيك عن كتب أصول الفقه -ختتلف عن سا ً
املمارسات القائمة ابلفعل يف الواقع مثل القضاء والفتوى ،وأول َم ْن فتح الباب هلذا هو
36من الكتاابت األوىل اليت ظهرت يف هذا املوضوع بعد كتاابت حالق (وإن مل تكن ابلضرورة نتيجة مباشرة
هلا):
Sherman. (1996). Islamic Law and the State: The Jackson,
Constitutional Jurisprudence of Shihāb al-Dīn al-Qarāfī.
Leiden: E. J. Brill; Fadel, Mohammad. (1996). The Social Logic of
Taqlīd and the Rise of the Mukhtaṣar. Islamic Law and Society
3(2) 193–233; Johansen, Baber. (1988). The Islamic Law on Land
Tax and Rent: The Peasants' Loss of Property Rights as
Interpreted in the Hanafite Legal Literature of the Mamluk and
Ottoman Periods. London: Croom Helm; Masud, M. K., Messick,
B. M., & Powers, D. (1996). Islamic legal interpretation Muftis
and their fatwas. London. Harvard University Press
Gleave, Robert. (2010). Introduction. In Imber, Colin. (Eds.) 37
Islamic Jurisprudence in the Classical Era. Cambridge:
Cambridge University Press.
320
ماكس فيرب بنظريته الشهرية عن عدالة القاضي ،Qadijustizواليت يصور فيها فيرب
القضاءَ اإلسالمي على أنه قضاء غري عقالين irrationalوقائم على االعتباطية يف
عرب عنها أحدهم بقوله إن القاضي جيلس حتت شجرة النخيل كثري من أحكامه ،أو كما ّ
يف الصحراء العربية ليحك رأسه وخيرج ما هبا من أفكار فيحكم هبا ،وقد تال ذلك كثري
من األحباث خاصة دراسات األنثروبولوجي لورانس روزن يف كتابه "عدالة اإلسالم" الذي
كثريا ،وكذلك
ركز فيه على القضاء يف املغرب ،والذي مل ختتلف نتائجه عن نظرية فيرب ً
دراسات ديفيد ابورز عن الفتاوى يف املغرب واليت وإن مل توافق على فكرة االعتباطية
أيضا خلصت إىل وجود مفارقة بني النظرية املوجودة يف كتاابت فيرب وانتقدهتا ،إال أهنا ً
والتطبيق يف الفقه اإلسالمي ،وأييت حبث حالق هنا كجزء من حماولة إعادة النظر يف هذه
القضية ،وال نعلم هل قصد حالق إىل هذا ببحثه أم ال.38
الفقه اإلسالمي يف الواقع املعاصر:
يعد حالق رائد املدافعني عن حركية الفقه اإلسالمي ومرونته وقابليته للتغري على مر
التاريخ كما أوضحنا هذا يف املبحث الثاين املتعلق ابالجتهاد والتقليد يف فكر حالق،
لكننا مع هذا جند حالق يف حمل آخر غري راض عن حال الفقه اإلسالمي يف العصر
احلديث .وخيصص حالق يف كتبه الكالم عن مدرستني رئيستني :املدرسة األوىل يسميها
Ibid. PP.231-24540
Ibid. PP. 245-254 41
Hallaq, Wael. (2004). Can Shari'a be Restored. In (Eds) Haddad, 42
Y. Y., & Stowasser, B. F. Islamic law and the challenges of
modernity. Walnut Creek: Altamira press.
323
حتفها منذ أكثر من قرن ،وأما ما يعيشه اإلسالميون اآلن فما هو إال حالة من إنكار
الذات ال أكثر؛ ولذا فإنه من غري املمكن أن نعيد تطبيق القوانني اإلسالمية اليت كانت
فتغري دور الدولة ومكانتها أحدث نقلة نوعية يف مكانة الفقه
سائدة قبل العصر احلديثُّ ،
اإلسالمي ،من انحية مؤسسية كما يف احتكار الدولة للتشريع وإقصاء العلماء ،وظهور
بعيدا عن املدارس الشرعية ،وختريج جمموعة من القضاة الذين مل نظم التعليم احلكومية ً
يتدربوا على منط الدراسات الشرعية التقليدية ،انهيك عن مصادرة األوقاف ومن مثّ احلد
خلال مؤسسيًا فقط بل أدى من استقاللية العلماء ،وهذا الدور اجلديد للدولة مل حيدث ً
مثاال كيف أن إحدى كذلك إىل حدوث قطيعة معرفية مع الفقه اإلسالمي .وهو يعطي ً
أهم وسائل القضاء يف القانون احلديث يف املسائل اليت يفرتض أن يطبق فيها الشريعة مثل
مسائل الزواج قد برنيت على التخري من بني املذاهب ،ويؤكد حالق على أن أمهية التقليد
كانت تكمن يف بقاء االتساق الذايت بني نظرايت املذهب ويف خلق إطار حمدد للمذهب
ال يرشذ عنها ،وقد برين على أساس هذا جمموعة من املفاهيم والقواعد املركزية مثل :مشهور
املذهب ،والصحيح ،واألصح ،والراجح ،وما عليه العمل ،وما عليه الفتوى ..إخل؛ واهلدف
من هذا كله هو الوصول للرأي الصحيح ،وأن تقبل اخلالف االجتهادي السائغ بني
العلماء ،والذي خلق مساحة من التسامح بني أتباع املذاهب املختلفة ،نتج عنه اليوم نوع
من العشوائية واالنتقائية يف اإلفتاء بسبب التلفيق والتخري بني املذاهب ،حبيث مل يعد
التطبيق االنتقائي يتماشى مع البنية النظرية للمذاهب .وعدم االنسجام هذا بني التطبيق
واهلريمنيوطيقا والقانون هو نتيجة مباشرة لتغريات الواقع احلديث والذي جعل تطبيق الفقه
43
أمرا غري متسق يف النهاية.
اإلسالمي –هبذه الصورةً -
وقد أاثرت تلك الورقة أمحد عاطف ليكتب كتابه "فتور الشريعة" ،والذي تعرض فيه
لتاريخ احلديث عن خلو الزمان من اجملتهدين ،سواء كانوا علماء أو ح ّك ًاما ،وعن إمكانية
أيضا للورقة أمحد فكريفتور الشريعة وعدم صالحيتها يف وقت من األوقات ،كما تعرض ً
إبراهيم يف كتابه عن الربمجاتية يف الفقه اإلسالمي والذي حاول فيه أن يثبت أن التلفيق
موجودا قبل هذا
ً أمرا
أمرا متعل ًقا ابلعصر احلديث فقط بل إنه كان ً وتتبع الرخص ليس ً
Ibid. 43
324
وكانت الشريعة قادرة على التواكب مع هذا ،وذلك من خالل دراسته األرشيفية لسجالت
احملاكم يف مصر يف العصر العثماين.44
والح ًقا ،أشار حالق يف أحد هوامش كتابه "الدولة املستحيلة" إىل أنه قد غري كثريا من
45
تغريا الفتًا
آرائه منذ أن كتب تلك الورقة اليت أحدثت كل هذا اللغط ،وهذا التغري يبدو ً
ابتعادا عن هذه الورقة وعن كثري مما تقدم من كالمه عنومهما ،ويظهر كما لو كان ً ً
ومهما ملفهوم احلركم يف
ً ً ً قواي ا
تنظري بعد فيما قدم حالق إن بل ايل،
رب اللي الدين سة مدر
اإلسالم ،ففي إحدى الورقات اليت صدرت له مؤخرا ،يتحدث حالق عن مفاهيم رئيسة
يقوم عليها القرآن مثل :رحكم وأمر وعلم وحق ،وهذه املفاهيم كانت حسب قوال حالق
جزءًا من البىن العميقة للرسالة القرآنية ،ويؤكد حالق يف تلك الورقة على أن القرآن ربط
بقوة بني احلكم وبني التقاضي والذي هو أمر قانوين ابمتياز ،وهذا ظاهر على سبيل املثال
يف قصة حتكيم داود وسليمان والذي وصف هللا قضاءمها يف قضية الغنم اليت نفشت يف
احلرث بقوله" :وداود وسليمان إذ حيكمان يف احلرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا
حلكمهم شاهدين" فسوى بني احلكم والقضاء.
44انظر يف هذا:
Ahmad, Ahmad Atif. (2012). The Fatigue of the Shari'a. New
York: Palgrave Macmillan; Burak, Guy. (2015). The Second
Formation of Islamic Law: The Hanafi School in the Early
Modern Ottoman Empire. Cambridge: Cambridge University
Press; Gerber, Haim. (1999). Islamic law and culture 1600-1840.
Leiden: Brill.
45وكذلك أخربين بعدم رضاه عن هذه الورقة يف مراسلة معه هذا العام.
انظر:
Hallaq, W. (2013). The Impossible State: Islam, Politics, and
Modernity"s Moral Predicament. New York: Columbia
University Pres., Footnote no.4, 2nd chapter.
325
قواي عن أن اإلسالم جاء منذ بدايته بنظرة تشريعية واضحة وصرحية مثله دفاعا ً
كما يقدم ً
رد على نظرية غويتني اليت تبناها ساب ًقا ،-ولعله حيسن أن أقتبس ٍ
مثل ابقي األداين -يف ّ
هنا كالم حالق بلفظه ،يقول" :فاألمر كله -كما هو احلكم -إمنا هو هلل (إن األمر كله
هلل) ،فلله األمر من قبل ومن بعد .وكما قدمنا ،فإن فكرة السيادة اإلهلية هي واحدة من
أهم املفاهيم البنيوية يف القرآن .ونضيف هنا أهنا فكرة نسقية ،مبعىن أهنا ليست فقط
الفكرة املركزية يف القرآن ،بل هي فكرة حت ّدد كل األفكار القرآنية األخرى وتش ّكلها
وتصورها تقريبًا .فكون هللا هو الواحد األحد يؤكد فكرة السيادة ويقويها ،ويرفع أي لبس
قد يشكك يف قدرة هللا وحده املطلقة على األمر واحلركم والتشريع" .وهو يتحدث هنا
متاما عن نرباته السابقة ،بل إن حالق يذهب إىل أبعد من هذا فريى أن سيد بنربة ختتلف ً
قطب وأاب األعلى املودودي ظال غري قادرين على فهم عمق مفهوم "احلاكمية" يف القرآن،
فيقول" :ابلطبع ذهب أبو األعلى املودودي وسيد قطب بقوة إىل القول ابلسيادة اإلهلية...
لكنهما مل يصفا أو حيلال التطورات التارخيية خالل املرحلة التأسيسية لإلسالم .ومن اجلدير
ابملالحظة أن قطب مير على قول هللا " ما كان لبشر أن يؤتيه هللا الكتاب واحلكم والنبوة
مث يقول للناس كونوا عبادا يل من دون هللا ولكن كونوا رابنيني مبا كنتم تعلمون الكتاب
ومبا كنتم تدرسون" مرور الكرام تقريبًا".46
الشريعة والدولة ونقد احلداثة:
آخر ما نتطرق له يف هذا البحث هو كتاب حالق "الدولة املستحيلة" .ومما ال شك فيه
أن حالق يقدم يف كتابه هذا أطروحة جريئة ،47فالزم كالمه فيها أن احلكم اإلسالمي
327
عن النظرة القدمية القائمة على التأصيلية 49essentialismاليت تعطي لنفسها احلق
يف احلكم على األشياء من حيث الصحة واخلطأ ومن حيث األصل والفرع ،لكن يبدو
للوهلة األوىل يف هذا الكتاب أن حالق مل يعترب التعدد يف نظام احلكم اإلسالمي ،وذلك
أطرا اثبتة ومنوذجية لنظام احلكم يف اإلسالم ،وابلطبع فإن حالق أفطن من خالل وضعه ً
من أن يقع يف إشكالية التأصيلية essentialismواليت تعتربها األكادمية الغربية حاليًا
مشكلة جيب جتنبها؛ وإن مل تكن التأصيلية مشكلة يف احلقيقة إال أننا نتنزل مع حالق
بدال من ذلك حسب األطر احلاكمة له .ومن أجل جتنب هذا اإلشكال فإن حالق جلأ ً
إىل تبين نظرية "كوهن" عن األنساق ،50حبيث يعتمد على استقراء التاريخ استقراءً كافيًا
يصل به يف النهاية إىل رسم نسق عام ميثل املنظور اإلسالمي كله ويكون ما هو خارج
عنه هو جمرد استثناء ال يندرج يف احلكم العام .51وهو ال خيتلف هنا كث ًريا عما اتبعه طالل
أسد على سبيل املثال يف نظريته عن التقليد اخلطايب،52 discursive tradition
مهما جينبنا الدخول يف دوامة النسبية املطلقة اليت ينادي هبا البعض
منهجا ًوهو إن كان ً
إال أن اإلشكال يبقى يف قدرة حالق على الوفاء ابستقراء حمكم يعكس حقيقة التصور
اإلسالمي كما سنرى.
328
واألمر نفسه جنده عند حالق حني حيدثنا عن الدولة احلديثة وعن أوجه اختالفها عن
احلكم اإلسالمي ،فهو يذكر مخسة أسس رئيسة ال ختلو منها أي دولة ًّأاي كانت
أيديولوجياهتا )1 :منوذج اترخيي أورويب )2 ،سيادهتا ومرجعيتها املطلقة )3 ،احتكارها
للتشريع )4 ،مؤسساهتا البريوقراطية )5 ،هيمنتها االجتماعية والثقافية على أفرادها .وهذه
األسس ختتلف يف نظر حالق عن احلكم اإلسالمي ،وهو أيخذ يف عرض أمثلة من
التاريخ اإلسالمي توضح هذه املفارقات ،لكن لو ابتعدان عن عصر األمويني والعباسيني
الذين يضرب هبم حالق األمثلة يف الغالب سنجد أن هذه املفارقة ليست مطلقة ،وسنجد
أوجه تشابه نسبية (وإن مل تكن متطابقة بطبيعة احلال) يف بعض من تلك األسس مع
مثال سنجدها كانت دولةفرتات أخرى من احلكم اإلسالمي .فلو نظران للدولة العثمانية ً
بريوقراطية ،كما أهنا كانت حتاول أن هتيمن على اجملال الثقايف ألفرادها وتغرس فيهم
آراءها ،وكانت حتاول أن حتتكر التشريع من خالل تعيني مفتني وقضاة رمسيني .ولعل من
األمثلة على ذلك حبث رودلف بيرتز عن املذهب الرمسي ،53والذي رمبا كان نقطة انطالق
مؤخرا بعنوان" :النشأة الثانية للفقه اإلسالمي" ،وهو
لكتاب جاي بوراك الذي صدر ً
يتحدث يف هذا الكتاب عن بداايت الدولة العثمانية يف القرن السادس عشر قبل ظهور
الدولة احلديثة يف أورواب ،وهو يدخل هنا يف نقاش غري مباشر مع حالق ينفي فيه أن
بعض تلك الصفات إمنا نشأت فقط بفعل الغرب ،بل هو يذهب إىل أهنا كانت موجودة
يف منوذج احلكم اإلسالمي العثماين قبل الدولة الغربية احلديثة ،فنقرأ من مراجعة كتابه:
"أما فيما يتعلق ابلدولة العثمانية فمن املهم الوقوف على هيكلية املفتني فيها لفهم دور
الدولة يف املذهب احلنفي .فقد ظهر منصب شيخ اإلسالم كمرجعية أوىل وكربى لكل
الشؤون الدينية يف الدولة العثمانية .كما رعني مفتون يف األقاليم املختلفة واختريوا من
املدرسني يف املدارس الرتكية اليت بناها السالطني العثمانيون .وقد حاول هؤالء املفتون أن
331
57
دفاعا عن كون احلداثة غربيةً أو غري غربية أو عن
كل جمتمع .وما نسوقه هنا ليس ً
كوهنا اثبتةً أو غري اثبتة ،لكنها حماولة لفرض احتماالت أخرى قد خترج بنا من هذا
التصلب يف رسم النماذج املختلفة ،سواء للحكم اإلسالمي أم للدولة احلديثة .ومن
الالفت للنظر أن هذه احلداثة اليت ينتقدها حالق نفسه سريجع إليها فيما بعد ليؤكد
تفوق املنظومة اإلسالمية من خالل معايريها نفسها ،فاملعايري اليت وضعها حالق لقياس
مدى كفاءة احلكم اإلسالمي هي معايري انبعة من احلداثة نفسها ،فهو حينما حيدثنا عن
حكم القانون أو الفصل بني السلطات أو اجملتمع املنظم ،فهو إمنا يقتبس آراءً حداثية
ويقيس على أساسها جودة النظام اإلسالمي ،58وهذا يتجلى كذلك يف مواضع أخرى
غري كتاب "الدولة احلديثة" ،59فما الذي جيعله يصف البريوقراطية -على سبيل املثال-
أهنا أوروبية املنشأ جيب أن نتجنبها مث أييت فيتبىن الفصل بني السلطات على أنه منوذج
معياري حيكم به على املاضي؟
األمر اآلخر أن حالق جتاهل أصوات املفكرين اإلسالميني تقريبًا يف دراسته ،ومل جند
إشارة مهمة ألي من املفكرين املعاصرين -خبالف إشارة عابرة لطه عبدا لرمحن .60وقد
332
اكتفى حالق يف أول كتابه ابحلديث عن أن اإلسالميني تبنوا الدولة احلديثة كما هي دون
فعال على غري وعي ٍّ
أبي من أن يقدم أدلة على هذا .فهل كان املفكرون اإلسالميون ً
تلك املشاكل اليت تكتنف الدولة احلديثة؟ وهل تبنوا فكرة الدولة احلديثة كما هي دون
أن يسعوا إىل أي تعديالت عليها؟ وهل يرى اإلسالميون أن الدولة هي املرجعية املطلقة
بعيدا عن الشريعة؟ بل حىت بعي ًدا عن فكرة احلاكمية ،أال جند -على واحلاكمية العامة ً
نقدا لتوغل الدولة احلديثة وهيمنتها املفرطة على نواحي احلياة كافَّةً؟
سبيل املثالً -
يقول حسن الرتايب" :إن املؤسسة األوىل يف اإلسالم هي األمة ،ومصطلح الدولة اإلسالمية
نفسه مصطلح غري دقيق ،فالدولة هي جمرد بـر ْعد سياسي للعمل اجلماعي للمسلمني،
واجلزء القانوين الذي يعتمد على العقوابت اليت تفرضها سلطة الدولة هو جزء واحد من
قواعد اإلسالم ،فتطبيق الشريعة يف معظمه مرتوك للوعي احلر للمسلمني ،أو للوسائل غري
الرمسية للتحكم االجتماعي ."...ويضيف" :واألفراد]يف الدولة اإلسالمية القدمية[ كانوا
كثريا؛
يتمتعون حبرية كبرية؛ ألن سلطة الدولة يف التشريع واجلوانب املالية كانت حمدودة ً
ولذا مل َنر ذلك القمع الرهيب يف ذلك الزمن ...مل َنر هذا إال يف هذه العصور اليت أقصت
فيها احلكومات العلمانية الشريعة وازدادت سلطات الدولة .61فهو هنا ينفي بوضوح
البعد املرجعي للدولة احلديثة الذي حتدث عنه حالق ،تلك الدولة القائمة بذاهتا املتجاوزة
للحاكم واحملكوم ،وال يراها أكثر من بـر ْعد سياسي ال ميثل الدور األكرب يف اإلسالم ،كما
أنه على وعي على ما يبدو ابلتوغل الكبري الذي تقوم به الدولة احلديثة يف تنميط حياة
األفراد ،ويرى أن الدولة اإلسالمية يف املاضي مل تكن متتلك هذه القدرة الكربى ،وهذا
من إجيابيات الدولة اإلسالمية اليت تتعاىل هبا على منوذج الدولة احلديثة اليت أرتنا ويالت
القمع بسبب قدرهتا الكبرية على السيطرة على األفراد ،فهو هنا يتوافق مع حالق يف
نقطتني مهمتني حول نقده للدولة احلديثة ،وليس األمر كما يقول حالق من حيث إنه
تٍ
نب مطلق لنظام الدولة احلديثة بعجرها وجبرها.
Al-Turabi, Hasan. (1983). The Islamic State, in John Esposito (ed.) 61
Voices of Resurgent Islam. London: Oxford University Press, PP.
241–251.كان للدكتور فرانك بيرت الفضل يف إرشادي هلذا النص للرتايب.
333
إن هذا البحث ال ميكنه هنا إال أن يوجه بعض االنتقادات ألطروحة حالق – دون أن
يبخسها حقها -يف سبيل البحث عن نقاش علمي حقيقي حول آليات تطبيق الشريعة
يف العصر احلديث ،لكن مما ال شك فيه أن األمر ما زال حباجة إىل الكثري من الدراسة
والبحث خاصة يف ضوء االستفادة من جتارب الربيع العريب .ولعل أطروحة حالق هذه
أتت لتنبه الرمتاء التيار اإلسالمي احلركي املبالغ فيه يف ساحة الدولة واحلداثة .ونقدان هذا
لبعض األجزاء من أطروحة حالق ال ينفي أهنا اشتملت على الكثري من النقاط املهمة
جيدا ،وأن يتنبه ملخاطر احلداثة اليت
اليت ينبغي على التيار اإلسالمي احلركي أن يدرسها ً
جترفه دون وعي منه يف بعض األحيان ،وبوعي يف أحيان أخرى .ولعل أمجل ما يف هذه
األطروحة أهنا أعادت األمل -حىت وإن مل يرد حالق هذا -يف البحث عن منوذج
بعيدا عن التأثريات احلداثية احلالية ،هذا املشروع الذي قد ال نعرف إسالمي خالص ً
وبعيدا عن
إيل -على األقل ً حقيقةً مدى قابليته للتصور أو للتطبيق ،لكنه يبدو ابلنسبة ّ
المعا يف وسط مساء النوستاجليا القدمية.
الكتابة األكادمييةً -
شبه خامتة:
ميكننا هنا أن نتحدث إبجياز عن ثالثة أمور مركزية تتعلق بقراءة املشروع الفقهي والفكري
لوائل حالق :األول من هذه األمور :هو العالقة املركبة مع النسق االستشراقي املعريف،
فكتاابت حالق ال ميكن أن تقرأ دون أن تكون الكتبات االستشراقية ظاهرة يف اخللفية
دائما ،سواء كانت آراء حالق انقدة لتلك الكتاابت أو موافقة هلا أو على األعراف ،كما
رأينا يف حديثه عن تطور الفقه اإلسالمي ومرونته وتفاعله مع الواقع ومكانة املفيت يف
الدراسات الفقهية ،أو يف إرجاعه ملكانة السنة النبوية إىل مرحلة زمنية متأخرة أو غري ذلك
من مسائل .وقد حرص حالق على تلك العالقة اجلدلية مع النسق االستشراقي ألنه يرى
أن نقد اخلطاب االستشراقي من خارجه لن يلتفت إليه أحد وسيكون مصريه أن يلقى
على طارحة الطريق كما فعل بنقد األعظمي لشاخت من قبل .ولذلك فقد تبدو الرتمجات
العربية لبعض كتاابته اليت تتعلق بتلك اآلراء االستشراقية -اليت مل تتسرب للساحة العربية
ومل تدخل علينا عاملنا الفكري -يف غري موضعها ،وال تزيد القارئ العريب العادي إال مزيدا
من اجلداالت اليت ليس له علم هبا .األمر الثاين :هو نقده للحداثة الغربية عامة وللدولة
احلديثة خاصة واهتمامه الكبري بتأثريها على تشكل األفكار يف الواقع املعاصر ،وهذا
األمر شكل العامل األساس يف العديد من اآلراء اليت تبناها حالق ،جند هذا جليا يف
334
نقده للدولة اإلسالمية احلداثية ،ويف ختوفه من أتثر تيار مقاصد الشريعة احلايل بطغيان
الدولة فتكون مقاصد الدولة هي مقاصد الشريعة ،وغري ذلك .أما األمر الثالث :فهو
أمهية القراءة الزمنية لكتاابت حالق ،فالرجل على ما يبدو كثري املراجعة آلرائه ،كما رأينا
يف تراجعه عن بعض ما جاء يف ورقته عن موت الشريعة وعن أتخر الدور التشريعي
للقرآن ،وهذا وإن كان حيسب له إال أنه يضع القارئ أحياان يف حرية من أمره .ولعلنا
نقف على املزيد من تلك املراجعات الصرحية يف الكتاب اجلديد عن االستشراق الذي
يرتوقَع نشره ربيع .2018
335
الفصل اخلامس:
عن مركزيّة األخالق واجلمال يف اإلسالم:
دراسة يف فكر خالد أبو الفضل
إسالم أمحد
مق ّدمة
ولد خالد أبو الفضل يف الكويت عام 1963ألبـَوَين مصريّني.
وقد عاد أبو الفضل من الكويت بعد انتهائه من دراسة املرحلة
الثانويّة يف سبيعنيّات القرن املاضي ليلتحق ابجلامعة ويدرس الفقه
والشريعة والنحو والبالغة وغريها من العلوم العربيّة واإلسالميّة يف
الكويت ومصر ،ومثل كثري من الشباب يف تلك الفرتة أتثّر
ابلتيارات الدينيّة اليت كانت متوج هبا البالد حينئذ؛ فانتمى إىل
مجاعة "التبليغ والدعوة" ،مث إىل بعض التيّارات السلفيّة؛ إىل أن
أتثّر الحقًا خبطاب الشيخ حممد الغزايلّ وعقالنيّته ،وقرأ الكثري من
اجعات انتهت عام 1982بتوصية كتاابته ،فأنتج هذا األمر مر ٍ
من أحد معارف والده ،وهو الدكتور أمحد كمال أبو اجملد،
ابلتواصل مع جامعة ييل Yaleاألمريكيّة؛ حيث حصل الحقًا
على البكالوريوس يف العلوم السياسيّة ( ،1986يف الربانمج
األكادمييّ ،)Scholar of the Houseوواصل تعليمه
ومساره األكادمييّ هناك؛ إذ حصل على دكتوراه القانون JDمن
جامعة بنسلڤانيا ( ،)1989مث املاجستري والدكتوراه يف الدراسات
اإلسالميّة من جامعة برنستون (.1)1999
UCLA, Ibid.2
338
3
الوهايب
نقضا للفكر ّ عمان .ويعترب مشروع أيب الفضل ً اإلسالمي ،يف العاصمة األردنيّة ّ
واملتشدد ،ويظهر هذا جليًّا يف كتابه الكالم ابسم هللا :الشريعة ،املرجعيّة ،والنساء،
املنهجي الذي
ّ والذي قام خالله بنقض العديد من تلك األفكار والفتاوى ،وأظهر اخللل
فضال عن أنه غري
شاب عملية إصدارها .ولذا جند أن كتبه حمظورة يف اململكة السعوديّةً ،
تعرضه حملاولة اغتيال عندما أرطلق
مرحب به يف العديد من بلدان الشرق األوسط؛ مع ّ ّ
عليه النار عند ابب بيته يف بلدة ڤان نويس مبدينة لوس أجنيليس ،كاليفورنيا.
أليب الفضل العديد من الكتب والدراسات اليت تغطّي جماالت ع ّدة من حقوق اإلنسان
والشريعة إىل الدميقراطيّة واملرأة والتسامح والعنف واإلرهاب .ومن أبرز هذه الكتب:
التمرد والعنف يف الشريعة
الكالم ابسم هللا :الشريعة ،املرجعيّة ،والنساء ()2001؛ ّ
اإلسالمي
ّ اإلسالميّة ()2001؛ وهللا أعلم جبنده :االستبداد واملرجعيّة يف اخلطاب
()2002 ،2001 ،1997 ،1996؛ مكانة التسامح يف اإلسالم ()2002؛
اإلسالم وحت ّدي الدميقراطيّة ()2004؛ البحث عن اجلمال يف اإلسالم ()2005؛
السرقة الكربى :انتزاع اإلسالم من املتش ّددين ()2005؛ التفكري مع هللا :استعادة
الشريعة يف العصر احلديث ( .)2014وقد ِ
ترجم الكثري من كتبه إىل العربيّة وصدرت
عن مكتبة مدبويل يف القاهرة ،إضافة إىل ترمجتها إىل لغات أخرى من بينها :الفارسيّة،
والفرنسيّة ،والنروجييّة ،واهلولنديّة ،واألمهريّة ،والروسيّة ،والياابنيّة .4لكن يف هذا الفصل
اإلجنليزي من كتب أيب الفضل كمصدر.
ّ اعتمدت على األصل
S. Abdallah Schleifer, ed., The Muslim 500: The World’s 500 3
Most Influential Muslims (Amman: Royal Islamic Strategic Studies
Centre, 2016), 123.
UCLA, Ibid.4
339
وتسعى هذه القراءة لكتاابت خالد أيب الفضل إىل إلقاء الضوء على أبرز أطروحاته وأفكاره
عن القيم اجلوهريّة يف اإلسالم ،واليت متثل يف نظره الركائز اليت تقوم عليها الرؤية اإلسالميّة
للحياة.5
قيمة اجلمال
عرف عن أيب الفضل تركيزه على قيمة اجلمال يف اإلسالم ومكانتها منه وأثرها يف حياة ير َ
املسلمني .ويرى أبو الفضل أ ّن ما ق ّدمه املسلمون للعامل على مدار جتربتهم احلضاريّة كان
سائدا حينها ،مما التحضر واجلمال تفوق ما كان ًقيما عليا من العدالة واإلنسانيّة و ّ ميثّل ً
6
جعل من اإلسالم طاقة أخالقيّة وحضاريّة واسعة االنتشار .
يتمحور حديث أيب الفضل عن قيمة مفهوم اجلمال وأمهيّته يف الرؤية اإلسالميّة حول
حيب اجلمال"؛ حيث يعتقد أبو الفضل أ ّن هذا مجيل ُّالنبوي املعروف "إ ّن هللاَ ٌ
ّ احلديث
حس أخالقي ر ٍاق واعتبا ٍر ٍ
عال لقيمة اجلمال عند النيب ،إ ْذ رخيربِ ٍ
ّ ِّ ينم ويرنبئ عن ّاحلديث ّ
انعكس من مثَّ على احلضارةعن هذا وكذلك عند املسلمني من بعده إذ اهتّموا هبذا اخلرب و َ
خطااب يقوم على ربط اجلمال ابملهام اإلسالميّة الح ًقا ،حني أسسوا حول هذا احلديث ً
يعرب
خطااب كهذا ّ ً والتكليفات األخالقيّة املنوطة ابملسلمني .كذلك يرى أبو الفضل أ ّن
يتطور هذا اخلطاب الذي سعى تنوع ثقايف زاخر لواله ما أمكن أن ّ ضمنيًّا عن ّ
الستكشاف اجلمال يف مناحي احلياة كافَّةً؛ وألجل هذا ينعى على املسلمني يف العصر
احلديث إغفا َهلم لألحاديث اليت على شاكلة هذا املعىن ،والذي نتج عنه عجز عن تطوير
أساسي
ّ مجايل .ولذا يعتقد أبو الفضل أ ّن العودة إىل هذه الصورة شر ٌط
أخالقيّ -
ّ خطاب
الرقي األخالقي لإلنسانيّة؛ وذلكلتمهيد الطريق أمام أي حماولة إسالميّة لتقدمي إضافة إىل ّ
5ميكن االستزادة من أرشيف مقاالت أيب الفضل وحماضراته ومطالعة عناوين كتبه عرب هذا املوقع الذي يعمل
عليه بعض تالمذته وأصدقائهhttps://is.gd/wE49gA :
والنسخة األحدث https://is.gd/sJStfo
Khaled Abou-el-Fadl, Reasoning with God: Reclaiming 6
Shari’ah in the Modern Age (Lanham, MD: Rowman & Littlefield,
2014), 272.
340
أل ّن التش ّوه والقبح الذي ارتبط يف أذهان الكثريين ابإلسالم نفسه إثر أفعال البعض من
السلفي الذي يراه أبعد التيارات عن إدراك
ّ املنتمني إليه -وهنا يرّكز أبو الفضل على التيّار
اإلسالمي املعاصر
ّ التنوع يف اإلسالم ،ويرى أ ّن سيطرته على اخلطاب
قيمة اجلمال ومعىن ّ
التشوه
احلضاري لإلسالم -هذا ّّ األخالقي و
ّ متثّل عقبة من كربى العقبات أمام الدور
اإلسالمي
ّ والقبح وضعا الكثري من العوائق أمام إعادة موضعة قيمة اجلمال يف اخلطاب
لتعود إىل هذه املركزيّة اليت انلتها قدميًا وأسهمت حينها يف إبراز حضارة إنسانيّة تتّسم
ابلرقي واإلبداع والبهاء.7
ّ
يرى أبو الفضل أن جوهر اجلمال مطلق ،وأ ّن التفضيالت الشخصية ال تؤثر يف وجوده
مثاال بتجربته يف مساع املوسيقى الكالسيكيّة
وقيمته اليت ال حتددها رؤية األفراد .ويسوق ً
الغربيّة اليت كان هلا أثرها العميق يف نفسه؛ إذ ربطها ابحلكمة اليت هي "ضالّة املؤمن"،
أي مصد ٍر جاءت ،وأ ّن اجلمال كذلك -كأح ّد يبحث عنها أينما كانت وحيتفي هبا من ّ
جتلّيات هذه احلكمة -ميكن رؤيته يف تفاصيل ومناذج وسياقات حضاريّة وثقافيّة أخرى
الفين
احلضاري و ّ
ّ وخمتلفة ،ابلدرجة ذاهتا اليت يبحث فيها املسلمون عن اجلمال يف السياق
انبع من عامل آخر هو تكامل األجزاء لألمة اإلسالمية .كذلك يؤّكد على أن اجلمال ٌ
لتؤدي
بتكون مرّكب متّسق من هذه األجزاء ّ وترابطها يف شكل متناسق ومتناغم يسمح ّ
ٍ
دوما أكرب وأمجل من مفردات غري الكل ًأمجل يف هذا الكون ،وأ ّن ّ دورا أكرب وأعمق و
ً
مرتاكبة وغري متناسقة.8
على الصعيد املعاصر ،يعترب أبو الفضل أن أثر احلداثة يف حياة املسلمني كان سلبيًّا؛ إذ
جاءهتم يف صورة قبيحة متثّلت يف العجز واالغرتاب وانعدام التمكني .ولذا يرى أ ّن التغلّب
على هذا "احلديث القبيح" the modern uglyهو مناط العمل للمسلمني اليوم
Ibid., 273-275.7
Ibid., pp. 282-283.8
341
اإلسالمي؛ ويرى أ ّن اإلسالم يؤسس
األخالقي ّ 9
ّ من أجل استعادة اجلوهر اجلميل يف الرتاث
لقيم وواجبات أخالقيّة ،وأ ّن اجلمال هو أعلى املقاصد .
املرأة واملتح ّدثون ابسم هللا
كرسه للعالقة
رغم طرح أيب الفضل لقضااي املرأة يف كثري من كتاابته ،فإن كتابه األبرز الذي ّ
بني الشريعة واملرأة هو الكالم ابسم هللا :الشريعة ،املرجعيّة ،والنساء؛ إذ يطرح قضيّة
اإلسالمي يف استخدام الشريعة وإساءة قراءهتا مبا جيور على
ّ تعسف السلطات يف العامل ّ
متاما مع
ً يتناقض الذي األمر أة؛
ر امل أسهم ر وعلى املسلمة، اجملتمعات يف نةمعي
ّ فئات
اإلسالمي .فالقضيّة األم يف هذا الكتاب هي إساءةّ الفقهي
ّ للنظام ةّاألخالقي املبادئ
توظيف املرجعيّة الشرعيّة اجتماعيًّا ،فالكتاب ال يصنّف يف إطار دراسات اجلندر أو الفقه
ليوضح لنا كيف ترساء
االجتماعي ّ
ّ النسوي؛ وإمنا اختار أبو الفضل األمثلة املتعلّقة ابلنوع
ّ
أيضا أ ّن
ً والعتقاده اجملتمع؛ على ةّي
ر الذكو- ةّاألبوي السلطة فرض أجل من يعة
ر الش قراءة
االجتماعي من أبرز وأصعب التح ّدايت اليت تطرح تزامنًا مع احلديث عن ّ قضااي النوع
10
دور الشريعة يف العصر احلديث .
االجتماعي من حياة
ّ هذه األزمة يف تنزيل مبادئ الشريعة ومقاصدها ،وخاصة يف اجلانب
الناس ،يراها أبو الفضل أحد جتلّيات إرث احلقبة االستعماريّة ومعضلة احلداثة والتحديث
اإلسالمي .فهذا اإلرث وتلك املعضلة أوراث املؤسسة الفقهيّة طبيعةً استبداديّة
ّ يف العامل
حادة وصارمة .وألجل توضيح هذا األثر الذي تركته احلداثة واالستعمار يف النظريّة الفقهيّة
ّ
مفاهيمي يتناول
ّ اإلسالميّة ،كان هذا الكتاب حماولةً من أيب الفضل ألجل طرح إطار
Khaled Abou-el-Fadl, The Ugly Modern and the Modern Ugly: 9
Reclaiming the Beautiful in Islam, in Progressive Muslims: On
Justice, Gender, and Pluralism, ed. Omid Safi (Oxford: Oneworld
Publications, 2008), 62.
Khaled Abou-el-Fadl, Speaking in God’s Name: Islamic Law, 10
Authority, and Women (London: Oneworld Publications, 2014),
x-xi.
342
امل اليت ّأدت إىل إساءة استخدامها يف
العو َ اإلسالمي ،و
ّ فكرة السلطة واملرجعيّة يف الفكر
11
الفقهي/القانوينّ يف اجملتمعات املسلمة .وفيه يناقش أبو الفضل ابلتحليل اآلراء
ّ السياق
والفتاوى واألحكام اليت تصدرها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء -أو هيئة كبار
العلماء -يف اململكة العربية السعودية.
يناقش أبو الفضل مخسة شروط يرى أ ّن على الفقيه/القاضي/املفيت التحلّي هبا ومراعاهتا
شرعي؛ وذلك كي ال يَِزّل وينزلقّ عند مناقشة قضيّة فقهيّة ما أو إصدار فتوى أو حكم
من دور املرجعيّة الفقهيّة للعلماء إىل ممارسة االستبداد ابسم الشريعة ،أو الكالم ابسم
هللا .هذه الشروط هي :األمانة ،والنزاهة ،واالجتهاد ،ومشوليّة البحث ،واملعقوليّة يف الطرح،
مث التواضع الذي يتجلّى يف أهبى صورة يف مقولة "وهللا أعلم" .12يف مناقشته هلذه الشروط
الفقهي ،يرى أبو الفضل أهنا هي الضمانة احلقيقيّة ضد النزوع ّ ومدى تطبيقها يف الواقع
دوما ما أييت مع انتهاك
الفقهي ،authoritarianismوالذي ً ّ االستبدادي يف السياق
ّ
الفقهي على التحريف لألدلة أو ِ
شرط أو أكثر من هذه الشروط؛ ومن َمثَّ يقوم االستبداد
ّ
إخفاء أن هذه الشروط اخلمسة مل تتّبع بشكل صارم ،مبا رخيفي مراحل عملية االستنباط
املرجعي
ّ ص َد َر هذا احلكم أو ذاك؛ وهذا هو حتويل الدور الفقهي اليت بناءً عليها َ
ّ
/سلطوي
ّ استبدادي
ّ ٍ
ر دو إىل للفقيه/القاضي/املفيت authoritative
،authoritarianويصبح رأي الفقيه/املفيت مبثابة التعبري عن اإلرادة اإلهليّة ،رغم ما
إخفاء لآلراء األخرى أو تغييب لشرح عملية االستنباط من مصادر التشريع ٍ شابَهر من
جل أمثلة الكتاب، األوليّة (القرآن والسنّة) .األمثلة اليت يعرضها أبو الفضل هنا ،كما يف ّ
تتعلّق ابملرأة أو قضااي الزواج واملرياث والعالقات بني اجلنسني ودور املرأة يف اجملال العام.
فهنا يستخدم مثال حجاب املرأة ويتناول آايت سورة النور اليت َوَرَد فيها أمر احلجاب؛
يتعمد البعض أن رخيفي عن مثاال الستبداديّة الفقيه ،أو احلديث ابسم هللا ،أبن ّ ويضرب ً
ِ
العامة آراءً فقهيّة خمالفة ال ترى هذا الوجوب ألمر احلجاب -مبعىن غطاء الرأس ،ال ّ
النقاب -بل تضعه حتت ابب الندب ومبحث األخالق والتعفف (وهو أمر ليس ابألقل
أمهية إسالميًّا)؛ مما يوقِع الفقيه/املفيت يف منزلق ادعاء وزعم متثيله إلرادة هللاِ ،
ومن َمثَّ يطرح ّ ر
Ibid., ix.11
Ibid., 53-56.12
343
فضال عما ينطوي عليه هذا من خماطرمتاحا لآلخرين البحث واالجتهادً ، رأيه وكأنّه ليس ً
اإلشراك ابهلل؛ إذ تتم تسوية رأي الفقيه ابإلرادة اإلهليّة ذاهتا ،ال حمض حماولة ملعرفتها وأحد
االستبدادي يف اجلماعة الفقهيّة
ّ االحتماالت القائمة .13ويعتقد أبو الفضل أن هذا النزوع
هو ما أنتج هذا القول الزاعم أب ّن ابب االجتهاد قد أرغلِق.
كما ذكرت آن ًفا ،فإ ّن أاب الفضل يطرح يف هذا الكتاب العديد من األمثلة لتوضيح قضيّة
وحتول الفقيه/املفيت إىل متح ّدث ابسم هللا .من
حتول املرجعيّة الفقهيّة إىل استبداد ابلرأي ّ ّ
هذا أنه يراجع أحاديث سجود املرأة لزوجها ،ابعتبار وجوب طاعة املرأة ّإايه ،واستخدام
يتبىن أبو الفضل الرأيبعض الفقهاء آلية القوامة كذلك للتدليل على هذا الوجوبّ .
االجتماعي القوامة هنا قد يكون من معانيها احلماية والدعم وتوفري األمن القائل أب ّن ِ
ّ
آخراستخدمت يف القرآن لتعطي معىن َ َ ًّ
مستدال أب ّن الكلمة " ّقوامون" قد األسري؛
و ّ
{قوامون ابلقسط} ،أي: الف ما يقرره البعض عند احلديث عن عالقة الرجل واملرأة؛ ّ ِخ َ
أبعد من هذا ،ويرى أ ْن لو كانت
حراس لقيمة العدالة يف اجملتمع .بل يذهب أبو الفضل َ ّ
ِ
املادي ،فإ ّن األمر يصبح أ ْن تتشارك املرأة القوامة مىت ما شاركت ابإلنفاق تبطة
ر م امةو ِ
الق
ّ
يف األعباء املاديّة لألسرة ،كما هو احلال يف كثري من اجملتمعات املسلمة اليوم ،وإذا ما
تلم ابلزوج،
صارت املرأة وحدها هي القائمة ابملهام االقتصاديّة يف البيت ،ألي ظروف قد ّ
فيقرر أ ّن عالقة الزواج يف القرآن تقوم
انتقلت إليها هي القوامة .رمثّ يعود أبو الفضل ّ
جرى وصف هذه العالقة أبهنا قد تكون ورمحَة} ،ومل يرد إطالقًا أن َ{م َو ّدة َ
ابألساس على َ
ود وتشاركومسود ،وإمنّا عالقة ّعالقة طاعة من الزوجة للزوج ،فهي ليست عالقة سيّد َ
حديث السجود ذاتره ،فهور و" َس َكن" ،تقوم على التماثل والتكافؤ "من أنفسكم"ّ .أما
وإما حسن ،وهو يف كل رواايته حديث آحاد .وبعد نقاش حبسب احمل ّدثني ّإما ضعيف ّ
متاما
حول ماهيّة هذا الرواايت والسياق الذي جاءت فيه ،يرى أبو الفضل أهنا تتناقض ً
مع إفراد هللا ابلوحدانيّة والعظمة والكربايء ،وهي الصفات املنصوص عليها يف القرآن،
النيب؛ فبحسب تلك الرواايت فقد مستبعدا أن تصدر عن ّ
ً معت ًربا أن يف هذا شرًكا ابهلل،
وتوقريا ،فكان هذا اجلواب
للنيب) احرت ًاما ً
النيب إ ْن كان من اجلائز أن يسجدوا له (أي ّ سئل ّ
جائزا .ويقول أبو الفضل إ ّن السياق ِ
املوجه بسجود املرأة لزوجها ،إن كان السجود لغري هللا ً ّ
Ibid., 142-144.13
344
ٍ
خبطاب كهذا يف حضرة الرجال فقط ،وال مكانة الزوج يوجه الرسول
هنا ال حيتمل أن ّ
14
قارن هبا أو أتيت معها يف السياق ذاته .
تقرتب من مكانة الرسول لتر َ
بني الشريعة والفقه
يقول أبو الفضل يف كتابه التفكري مع هللا :استعادة الشريعة يف العصر احلديث إ ّن
اإلهلي اخلالد والثابت ،وهي الطريق اهلادي إىل احلقيقة والفضيلة الشريعة هي القانون ّ
موضوعي وغري مشروط ،كما ينبغي له أن يكون يفّ والعدالة؛ فهي القانون األمثل بشكل
اإلسالمي Islamic Lawفهو تراكم األحكام ّ اإلهليّ .أما الفقه أو القانون
ّ املراد
الفقهي على مدار الزمن وعرب خمتلف املدارس الفقهيّة من أجل "حتقيق ّ الشرعيّة والتفكري
15
العامة .ويرى أبو الفضل أ ّن هذا مصاحل العباد" ومعرفة مراد هللا من العباد ،واملصلحة ّ
أساسي إىل االعرتاف مبحدوديّة القدرة البشريّة على معرفة
ّ مرده بشكل
املفاهيمي ُّ
ّ التمييز
جمرد حماولة الستكناه هذا املراد؛ ولذا فإ ّن هذا
حقيقة مراد هللا من شريعته ،وإّمنا الفقه ّ
جمردة،
مثاال وقيمة ّ
التمييز يعكس الرؤية اإلسالميّة أب ّن الكمال هلل وحده ،فالشريعة تع ّد ً
والفقه ليس إال حماولة لفهم ركْنه هذا املثال وتطبيقه على أرض الواقع ،وحبكم كونه انجتًا
عن حماوالت بشريّة ،فال ميكن أن يصل إىل الكمال الذي متتاز به الشريعة ،وإّمنا يعرتيه
البشري واحتمال اخلطأ ال ير ِنقص من أجر الفقيه
ّ اخلطأ والنقصان .هذا االعرتاف ابلعجز
حاليت اخلطأ والصواب ،وإ ْن كان يف الثانية ِضعف األوىل، اجملتهد ،فللمجتهد أجره يف َ
ومن أخطأ؛ بينما يقول اجتّاه آخر إ ّن االجتهاد كلّه صواب عرف َمن أصاب َ ويوم القيامة ير َ
عند هللا الذي سيحاسب الناس يف اآلخرة على نواايهم وإخالصهم يف البحث عن مراده
من شريعته ال على صوابيّة اجتهاداهتم الفقهيّة؛ فتلك النوااي والبحث الصادق هي حبد
ذاهتا قيمة أخالقيّة مطلوبة أبمر الشارع .16لذا يعتقد أبو الفضل أ ّن أهم خصائص
اإلسالمي أن البشر عاجزون عن إدراك حقيقة مراد
ّ املعريف الذي يقوم عليه الفقه
النموذج ّ
Ibid., 210-217.14
Khaled Abou-el-Fadl, Reasoning with God, xxxii.15
Khaled Abou-el-Fadl, The Shari’ah, in The Oxford Handbook 16
of Islam and Politics, eds. John L. Esposito and Emad Shahin
(Oxford: Oxford University Press, 2013), 12-13.
345
هللا بصورة يقينيّة قطعيّة؛ ولذا تغلب على لغة الفقهاء اللغة الظنيّة (غلبة الظن ،غالب
عوضا عن القطع واجلزم واليقني من الناحية القانونيّة .وألجل هذا ابتكر ظنّنا ..،إخل)ً ،
الفقهاء الرتجيح ،وهو صيغة حتليليّة يف الفقه برغيَة الوصول إىل املبادئ املنهاجيّة اليت يربىن
فقهي حمدد ال غريه .ألجل هذا ،يرى أبو الفضل أ ّن الشريعة هي املبادئ اختيار ّ
ٌ عليها
التطور عرب الزمن،
اإلسالمي ،والذي بدوره خيضع للتغيري و ّّ العامة اليت يدور حوهلا الفقه
ّ
التوجهات األصوليّة fundamentalistواملاهيّويّة essentialistic بعكس ما ترى ّ
حتمي وميكنه احلكم يف قضااي الضمري واألخالق؛ فهذه الرؤية ّ اإلسالمي
ّ من أ ّن الفقه
اإلسالمي ،أو املذاهب الفقهيّة ،واليت
ّ تتناقض مع إبستمولوجيا ومؤسسات تقليد القانون
مجيعا تصلح للتعبري عن مراد هللا من شجعت على وجود مدراس فكريّة متعددةً ، طاملا ّ
17
أيضا ما يراه حممد هاشم َكمايل ،إذ يعترب أ ّن الشريعة ذات ارتباط شرعه .هذا الرأي هو ً
البشري للعلماء
ّ تعبريا عن مقاصده ومراميه ،بينما الفقه هو نتاج الفكر قوي ابلوحيً ، ّ
املسلمني لتنزيل هذه املقاصد على أرض الواقع؛ فـ"الشريعة" هي الصراط والطريق ،بينما
البشري لطبيعة هذا الصراط وكيفيّة سلوكه والسري فيه .18لذا نرى ّ "الفقه" هو اإلدراك
/الفقهي
ّ تشاهبًا يف أتكيدمها على دور العقل (الفقه) والنقل (الشريعة) يف الرتاث القانوينّ
اإلسالمي.
ّ
اقعي ٍ
البشري للوصول إىل فهم و ّ
ّ بشري؛ فهو السعي
وألن الفقه ،يف مقابل الشريعة ،قانون ّ
مثاال
نصت عليها الشريعة اإلهليّة كما هي يف مراد هللا -يذكر أبو الفضل ً للقيمة اليت ّ
على هذا ابلعالقة بني الرجل واملرأة ،ابعتبار وضع املرأة يف اجملتمعات املسلمة من القضااي
مهما يف فكر أيب الفضل .فيتساءل هنا عن القيمة اإلهليّة اليت حتكم هذهاليت تشغل حيّـًزا ًّ
ينص عليها عرب أتكيده على أنه ال تفرقة يف اإلسالم على العالقة ،وهو يرى أ ّن القرآن ّ
346
أساس من النوع ،العِْرق ،أو الطبقة االجتماعيّة؛ فاجلميع أمام هللا متساوون يف املثوبة
ٍ
ورجاال ،حملٌّ لتل ّقى رضوان هللا وإحسانه ونعمائه.
والعقوبة ،واجلميع ،نساءً ً
ألجل هذا املعىن ،وألن الشريعة تضع اجلميع سواسيةً أمام هللا؛ فإ ّن مهمة الفقه -والذي
غري قابل للتغيري حبسب هو نتاج العقل املسلمِ ،
جامدا أو َ
ومن َمثَّ ال ميكن أن يكون ً
السياقات التارخييّة واالجتماعيّة واالقتصاديّة -ينبغي أن تكون من أجل حتقيق هذه الغاية
اليت ترمسها الشريعة ،وجعل واقع الناس أقرب ما يكون من هذا النموذج الذي ترتضيه
الشريعة اإلهليّة .19ومبا أ ّن من غاايت الشريعة العدل واملساواة بني الواجبات واحلقوق،
تغريت الظروف مساواي ملرياث الرجل ،إذا ّ
ً يرى أبو الفضل إمكانيّة أن ترث املرأة نصيبًا
قدرا من التناسب
احلياتيّة وأصبحت تشارك الرجل يف املهام املاليّة؛ ألن هذا يف رؤيته حيقق ً
بني احلقوق والواجبات املنوطة ابملرأة املسلمة يف الظروف االجتماعيّة اجلديدة اليت حتياها،
أيضا أقرب إىل مراد الشريعة وحتقيق العدالة واملساواة التامة بني العباد أماموألن هذا ً
هللا20؛ وهي من بني الصفات اإلهليّة اليت عليها مدار العمران يف األرض الذي كلّف هللا
به بين آدم ،ومنها صفات العدل والرمحة والشفقة واخلري واجلمال.21
ويستبق أبو الفضل التساؤالت اليت قد متر أبذهان ّقرائه :أ ْن لو كانت هذه املثرل راسخة
يقررها القرآن مباشرة ،دون حاجةر الستنباط وحقيقيّة ،أمل يكن من األيسر واألوضح أن ّ
حصة متساوية يف املرياث؟ وجييب أبو الفضل أ ّن هذه املساواة بشري ،فيعطي الرجل واملرأة ّ
ّ
التامة اجتماعيًّا وماليًّا مل تكن هي القيمة األبرز يف حياة اجملتمعات العربيّة ،ومل تستدعها
ّ
الظروف االقتصاديّة واالجتماعيّة هنالك؛ إذ كانت املرأة يف رعاية أقرابئها الرجال ،إ ْن ًأاب
أخا أو أبناء عمومة ،مما ش ّكل هلا غطاءً من احلماية والرعاية االجتماعيّة اليت اهنارت أو ً
22
متاما يف ظل احلداثة .
ً
347
التطور الذي ينبغي أن متر به عمليّة االستنباطلكن أاب الفضل ال يزال يعتقد أن التغيري و ّ
الفقهي ال ميكن حبال أن ختضع لألهواء البشريّة أو احلسد والتباغض وغريها من أمراض ّ
النفوس ،وإمنا لتحقيق املثرل العليا للشريعة اإلهليّة عرب استنتاجات فقهيّة وقانونيّة حتقق
هذه املثل يف حياة الناسر وواقعهم ومعيشتهم؛ ففي املثال املذكور آن ًفا ،أييت هذا التغيري
لتحقيق التوازن بني واجبات املرأة املسلمة وحقوقها ،وتوفري ظروف العدالة ،واليت هي قيمة
رّابنيّة رعليا .ويؤّكد أبو الفضل أ ّن أي ٍّ
23
نص هو حباجة إىل أن تتم عملية قراءته وفق توازن
سيؤدي ال حمالة ِ
أي خلل يف هذا التوازن ّ النص ذاته والقارئ واملؤلّف ،وأ ّن ّ
حقيقي بني ّ
الفكري؛ وهي احلالة اليت تشهدها عملية إصدار األحكام الشرعيّة كودالر من إىل ّ ٍ
حالة
ّ
النص
ّ كون و ة، اإلهلي
ّ ّ ة املرجعي توظيف جيري حني احلديث، العصر والفتوى لدى البعض يف
صادرا عن هللا ،من أجل تربير األحكام السلطويّة والتسلّط ابسم الشريعة؛ إذ يزعم املق ّدس ً
هؤالء حينها أ ّهنم ليسوا ّإال يف حالة تعبري عن اإلرادة اإلهليّة وأ ّن هذا احلكم أو الفتوى
أيضا
حمل هللا؛ ويف هذا ما فيه من الشرك ،وهو ً حكم هللا ذاتره ،وهنا يضع املفيت نفسه ّ هو ر
رخمالِف ملنطق الفقه والشريعة القائ ِم على أ ّن املسلم إّمنا حيا ِول أن حييا وفق تعليمات هللا،
ِ
وال يعين هذا أنه ابلفعل يقوم هبذا ،وتلك احملاولة هي إحدى القيم املهمة يف ِ
ذاهتا وهي ّ
ما حتفظ على هذه األوامر اإلهليّة حيويّتها واستمراريتها وصالحيتها عرب الزمان واملكان؛
تلخصه مقولة "وهللا كبريا من التواضع يف البحث عن العلم واملعرفةّ ، قدرا ً
وهذا يتطلّب ً
أعلم" ،إذ يـر َع ّد هذا التواضع أحد الشروط اخلمسة -اليت ذكرهتا ساب ًقا -للقيام بدور
هوة االستبداد ابسم الشريعة أو "احلديث ابسم ّ24ة الفقهيّة فقط دومنا انزالق إىل ّ املرجعي
هللا" .هذه الشروط اخلمسة ال تتوافر ،برأي أيب الفضل ،عند العقليّة السلفيّة-الوهابيّة
اليت تستخدم النص القرآينّ كسياط وأدوات قمعيّة من أجل تثبيت ديناميات السلطة
متحصنني بقداسة النص.25 ّ الرجعيّة،
Ibid., 380-381.23
Khaled Abou-el-Fadl, Speaking in God’s Name, 264-265.24
Khaled Abou-el-Fadl, The Ugly Modern and the Modern Ugly: 25
Reclaiming the Beautiful in Islam, in Progressive Muslims: On
348
ويف رؤيته للدور الذي تلعبه السنّة النبويّة يف صياغة األحكام الشرعيّة ومكانتها يف الشريعة
املغريب سعد الدين العثماينّ 26يف رؤيته لألدوار
اإلسالميّة ،يتقاطع أبو الفضل مع املف ّكر ّ
يفرق
األمة اإلسالميّة .فأبو الفضل ّ
اليت قام هبا رسول هللا يف تبليغ الرسالة وتشكيل مسار ّ
سكري
سياسي وع ّ ّ البشري يف اجملتمع كقائد
ّ النيب كمبلّغ للرسالة والوحي وبني دوره
بني دور ّ
وقاض؛ ويرى أ ّن دور الفقهاء يف هذا الشأن على مدار التاريخ كان يتمحور حول التفرقة ٍ
اعتيادي من األفعال
ٌّ شرعي ،وبني ما هو
النيب بغرض صياغة تكليف ّ بني ما يصدر عن ّ
كنيب ال يقدر الناس على تقليده أو الزعم إبمكانيّة وصوهلم إىل هذا خيتص به ّ
أو ما ّ 27
املستوى .
اإلسالمي هو التفرقة األكيدة بني
ّ أخريا ،فمن أهم ما يطرحه أبو الفضل يف رؤيته للفقه
و ً
اإلسالم كداينة ورؤية ميتافيزيقيّة ،وبني رؤى الفقهاء املسلمني وأطروحاهتم؛ إذ إن أي
ينم عن نظرة جوهريّة ،essentialistفهو فضال عن كونه ّخلط بني االثنني هو أمر ً
ابلكل ،فالفقه ليس ّإال جزءًا من
ّ يسوي اجلزءخلال منهجيًّا حني ّط يعكس ً أيضا خل ٌ
ً
أيضا نتاج السياقات التارخييّة واالجتماعيّة اليت عاش فيها الفقهاء،
احلقيقة اإلسالميّة ،وهو ً
28
الفكري .
االجتماعي و ّ
ّ ويعرب عن دورهم
ومن مثَّ يعكس ظروفهم ّ
350
اليت أتت هبا الشريعة هي اجلانب الثابت واخلالد منهاّ ،أما األحكام املشروطة بسياقات
التطور وفق ما جي ّد من ظروف
لتغري و ّ اترخييّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة معيّنة ،فقد ختضع ل ّ
31
ومالبسات ،وذلك برغيَةَ حتقيق هذه القيم األخالقيّة واملثرل العليا للشرع .هذه الرؤية
األخالقية املقاصديّة متنح الشريعة مرونةً وقدرة على رمواكبة االحتياجات اإلنسانيّة
املعاصرة.
كذلك تلتقي مقاربة أيب الفضل للعالقة بني الشريعة ،والدولة ،واألخالق يف اإلسالم مع
حالق يف كتابه األخري الدولة املستحيلة :اإلسالم والسياسة ومأزق احلداثة رؤية وائل ّ
األخالقي؛ فالدولة يف رأي أيب الفضل ال ميكنها أن تفرض على مواطنيها مهامَّ أخالقيّة
األمة والقيام بواجب األمر
مهمة األفراد ومجوع ّاألخالقي ،32وإّمنا هي ّ
ّ أو رؤية ما يف اإلطار
معوقات قيام الدولة حالق كذلك ،فإ ّن أحد ّ ابملعروف والنهي عن املنكر .وعند ّ
للقوة واأليديولوجيا
اإلسالميّة احلديثة هو التعارض بني الرؤية احلداثية يف احتكار الدولة ّ
وبني املهام األخالقيّة املنوطة بكل فرد يف اجملتمع املسلم وابأل ّمة يف جمموعها.
مما ميتاز به أبو الفضل رؤيته للدور األخالقي ملفهوم "حقوق هللا" يف الشريعة اإلسالميّة،
السياسي للدولة يف الرؤية اإلسالميّة .ألن هللا يتصف ابلقدرة
ّ وأثر هذا املفهوم يف الدور
تسمى حدود هللا -ليست كحقوق العباد ،اليت هي أحياان ّ
املطلقة ،فإّن حقوق هللا -و ً
مصاحلهم الشخصية ومنافعهم املاديّة ،وإمنا هي -أي حقوق هللا -مبثابة احلدود األخالقيّة
القيَم اليت ينبغي على اجملتمع واألمة مراعاهتا واالنضباط وفْقها .والدولة ال ميكنها أن تزعموِ
أ ّهنا ال َقيِّم على رعاية هذه احلقوق أو صيانتها؛ ومن هنا خيتلف أبو الفضل مع بعض
اإلسالمي واليت تقول أب ّن حقوق هللا هي مبثابة
ّ االجتاهات اإلصالحيّة املعاصرة يف الفكر
أخالقي،
ّ العامة public interests؛ إذ يراها أبو الفضل ذات طبيعة ودور املصاحل ّ
فالدولة ال ميكن أن تزعم أهنا متثّل هللا يف األرض ،ودور الدولة حمدود حبماية حقوق العباد
اعتمادا على ما ساقه الفقهاء قدميًا من رؤى تقولامللزمة به ابتداءً .و ً
كأفراد ،وهو الدور َ
35مقتبس يف :اندر هامشي ،اإلسالم والعلمانيّة والدميقراطيّة الليرباليّة :حنو نظريّة دميقراطيّة للمجتمعات
املسلمة( ،بريوت :الشبكة العربيّة لألحباث والنشر.271-270 ،)2016 ،
Khaled Abou-el-Fadl, Islam and the Theology of Power, 36
Middle East Report 221 (2001): 28.
353
نقيض الرؤية الغربيّة .37إذن حىت يف سياق التح ّدي مع القوى الغربيّة ،ما زال املسلمون
يف حالة تبعيّة :يطرحون رؤاهم وأفكارهم يف إطار حمدود للعالقة مع آخر ذي هيمنة
السلفي يف الزعم أب ّن اإلسالم هو األطروحة املضادة للرؤية
ّ و َغلَبة .وهذا ما يطرحه التيّار
غافال عن
روحا اهنزاميّةً ،
ستعماري هو ما أورث املسلمني ً
ّ متذر ًعا أب ّن اإلرث اال
الغربيّةّ ،
38
أ ّن هذا الطرح ذاته حيمل نفس صفات التبعيّة وارتباط األفكار املطروحة هنا ابلغرب ؛
بد من اعتبار األطروحة الغربية لفهم األطروحة املضادة ،وكون اإلسالم حينئذ قد إذ ال َّ
رحي ّمل أبفكار ورؤى ال تلتصق به إال بقدر ما تناقض الغرب ال بقدر ما هي إسالميّة
أصيلة.
عاجال لتقدمي رؤية بديلة ملسار
حرجا يستدعي انعتاقًا ًوضعا ً هذه التبعيّة يراها أبو الفضل ً
األمة
اإلنسانيّة؛ رؤية أخالقيّة مبنيّة على جوهر الرسالة اإلسالميّة ،وبغري هذه الرؤية فإ ّن ّ
رعرضة لالستبدال ،أو "النسخ" بتعبري جودت سعيد ،والذي يتّفق معه يف هذا أبو الفضل؛
إذ يرى الشيخان أ ّن جوهر الناسخ واملنسوخ الذي يعرضه القرآن يتع ّدى كونه متعلّ ًقا
آبايت القرآن ذاتِه وحسب ،وإّمنا ينطبق كذلك على طرائق احلياة ،وهو إشارة وداللة على
أ ّن اإلسالم قد جاء لنسخ طرائق احلياة اجلاهليّة وإرساء أساليب جديدة من األخالق
قوما غريكم" ِ
حتل حملّها .ويرى أبو الفضل أ ّن القرآن حني يقول "وإ ْن تتولّوا يستبدل ً
والقيَم ّ
األمة إن مل تقم ابملهمة األخالقيّة وتبليغ تلك الرسالة املنوطة
وحتذيرا أن ّ
ً إنذارا
فإنّه يطرح ً
هبا تصبح ٍ
حينئذ تَـبَـ ًعا لألمم األخرى ،حبسب درجات تق ّدم هذه األمم يف مدارج العمران
يتم نسخها األمة 39مسوقةً خلف عادات اآلخرين مكانيًّا وزمانيًّا؛ أي ّ
واحلضارة ،وتصبح ّ
أهدى .أبمة أخرى هي َ ّ
37مقتبس يف :اندر هامشي ،اإلسالم والعلمانيّة والدميقراطيّة الليرباليّة :حنو نظريّة دميقراطيّة للمجتمعات
املسلمة ،مرجع سابق.
Khaled Abou-el-Fadl, The Ugly Modern and the Modern Ugly: 38
Reclaiming the Beautiful in Islam, in Progressive Muslims: On
Justice, Gender, and Pluralism, ed. Omid Safi (Oxford: Oneworld
Publications, 2008), 58.
39ورد ذلك يف "حلقة" علميّة حبضور الشيخ جودت سعيدhttps://is.gd/8jWrNF ،
354
اإلسالم وحت ّدي الدميقراطيّة
عند معاجلته للنظرة اإلسالميّة إىل مفهوم الدميقراطيّة ،يقول أبو الفضل يف أطروحته
اإلسالم وحت ّدي الدميقراطيّة إن الدميقراطيّة متثّل حت ّد ًاي إلحدى القيم اإلسالميّة اجلوهريّة،
النهائي
ّ وهي التوحيد .إذ تربز املعضلة الكربى يف كيفيّة التوفيق بني كون هللا هو املصدر
اطي .ويعتقد أبو الفضل ألي تشريع وبني اعتبار األمة مصدر التشريع يف السياق الدميقر ّ ّ
حل هذه املعضلة ،وإ ْن كانت صعبة للغاية ،من األمهيّة مبكان .أتيت صعوبة هذه أن َّ
السياسي يواجه
ّ مفاهيمي .على اجلانبّ سياسي واآلخر
ّ املعضلة من جانبني؛ أحدمها
عددا من التح ّدايت أبرزها السلطويّة واإلرث اطي يف البلدان اإلسالميّة ً التحول الدميقر ّ
ّ
اإلمرباييل وسيطرة الدولة على مفاصل احلياة االقتصاديّة واالجتماعيّة ،مبا ّ - االستعماري
ّ
قوي ،والذي يع ّد من ركائز العمليّة الدميقراطيّة .أما على اجلانب ّ ّ مدين جمتمع ينفي وجود
اطي ،وهووتطور فيه النظام الدميقر ّ التارخيي الذي نشأ ّ
ّ املفاهيمي ،فاألمر يتعلّق ابلسياق
ّ
الديين ( Reformationالقرن ّ اإلصالح عد ب ما عصر يف املسيحي
ّ األورويب
ّ السياق
40
16م) ،ويف إطار هيمنة السوق والقيم الرأمساليّة .
اطي؛
اإلسالمي والفكر الدميقر ّ
ّ السياسي
ّ رغم ما يقرره أبو الفضل من التشابه بني الفكر
إذ يعتمد كالمها مبدأين مشرتكني مها )1 :سيادة القانون ،وإ ْن اختلفت ماهيّة هذا القانون
كل من الفكرين )2 ،احل ّد من صالحيّات احلكومة؛ فإ ّن أاب الفضل ال يكتفي ومصدره يف ٍّ
اطي الطابع؛ وإّمنا يؤّكد على وجود السياسي يف اإلسالم دميقر ّ
ّ هبذا الشبه للقول أبن النظام
حتدايت ينبغي أن تؤخذ على حممل اجل ّدَ .فو ْج َها التشابه هذان ليسا ّإال عاملني فقط من ّ
أي
ّ يف افر
و تت أن ينبغي ةّأمهي أكثر أخرى امل
و ع هناك لكن . اطي
ّ ر الدميق احلكم امل عو
355
سياسي حىت ميكن أن أيخذ صفة الدميقراطيّة-الليرباليّة؛ وأبرزها عامالن أساسيّان: ّ نظام
41
السياسي )2 ،حرمة احلقوق الفرديّة .
ّ )1الشعوب هي مصدر التشريع والعمل
اطي من نقطتني أساسيّـتَني. ينطلق أبو الفضل يف رؤيته التوفيقيّة بني اإلسالم والنظام الدميقر ّ
أوالمها :إمكانيّة توظيف الرؤية اإلسالميّة القائلة خبالفة اإلنسان هلل يف أرضه كركيزة حلماية
احلقوق الفرديّة وعدم انتهاكها ،ابعتبار ِعظَم املهمة املوكلة لإلنسان وحاجته إىل احلريّة
التامة من أجل حتقيقها .واثنيتهما :هي أ ّن ما تق ّدمه الدميقراطيّة من مساواة يف احلقوق ّ
الفرديّة والسياسيّة قد يع ّد مبثابة نقطة انطالق لتحقيق هذه الوظيفة احليويّة املوكلة إىل
اإلنسان ،وهي خالفة هللا يف األرض وإعمارها .ورغم أن الدميقراطيّة ال تعين حتقيق العدالة
ابلضرورة ،فإهنا توفّر املناخ املالئم للسعي حنو توفري شروط العدالة ومحاية الكرامة اإلنسانيّة،
وهي من املهام األوىل اليت أوكلها هللا لعباده حني استخلفهم يف األرض؛ وكذلك فإ ّن
البشري يف التشريع والتقرير جيعلها أكثر واقعيّة،
ّ اطي على العنصر اعتماد النظام الدميقر ّ
دون التساؤل عن مصدر املظامل والنقائص اليت تشوب احلياة اإلنسانيّة ،دون تفكري يف أ ّن
تعاىل -هو ذاته مصدر تلك النقائص واخللل يف حياة الناس ،وإّمنا َمَرُّدها إىل النقص هللا َ -
42
اإلنساينّ .
السياسي صفة الدميقراطيّة-الليرباليّة.
ّ كان هذا عن العامل الثاين الذي به يستحق النظام
جهدا أكرب لتوفيقّأما األول ،وهو كون الشعب ذا سيادة sovereigntyفقد تطلّب ً
الرؤيتَني .فرغم إقراره أب ّن العدالة هي مراد هللا من عباده وهي الغاية من الشريعة اإلسالميّة،
البشري الذي ما
ّ الفقهي ،وهو
ّ حصرا من خالل املرياث
فإ ّن حتديدها ال ميكن أن يكون ً
حمدودا بتقرير
زال يعرتيه النقص .لذا يرى أبو الفضل أ ّن تعريف العدالة ال ميكن أن يكون ً
وفاق مععدل فهو يف ٍ وشكل بعينه دون غريه ،وإّمنا ما رحي ّسنه العقل أبنه ٌ ٍ الشرع ألمر
43
مطلب الشرع من السعي حنو حتقيق العدالة بني اخللق .وهو قول شبيه يف بعض أوجهه
356
بقول ابن قيِّم اجلوزيّة" :إن هللا سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس ابلقسط ،وهو
أبي
وجهه ّ
ات العدل وأس َفَر ر
العدل الذي قامت به األرض والسماوات .فإذا ظهرت أمار ر
ع هللا ودينره؛ وهللا سبحانه أعلم وأحكم ،وأعدل أن خيص طرق العدلطر ٍيق كان ،فثَ َّم شر ر
وأماراته وأعالمه بشيء ...فأي طر ٍيق استرخرِج هبا العدل والقسط فهي ِمن الدين وليست
خمالفةً له" .44من هنا أمكن إاتحة اجملال أمام العقل البشري للبحث يف سبل حتقيق
العدالة وشروطها ،ومن مثَّ ميكن احلديث عن سيادة الشعب.
القرضاوي أب ّن الدميقراطيّة
ّ ويف سياق آخر ،يؤّكد أبو الفضل على االجتاه الذي يتبنّاه
شرعي ،إذا ما فر ِه َمت مقاصد الشريعة بشكل أعمق ،وأ ّن النظام ّ إسالمي
ّ مطلب
اطي تكون له األولويّة على أي نظام آخر للحكم ،حىت ولو زعم تطبيق الوصااي الدميقر ّ
واألحكام الفقهيّة بصورة تقنيّة وآليّة .هذه األولوية يف رأي القرضاوي ،ويوافقه أبو الفضل،
عائدة إىل توقري الكرامة اإلنسانيّة ومن مثَّ تلبية متطلّبات الشريعة وحتقيقها ،واليت هي أبعد
تظل قاصرة عن حتقيق شروطها من جمرد45تنفيذ بعض األحكام اليت قد حت ّقق العدالة أو ّ
ِ
جمرد أحكام وقوانني وإّمنا قيَم ومقاصد ،والعدالة وظروفها ؛ فاألمر عند الشارع ليس ّ
والكرامة من أوىل هذه املقاصد والغاايت.
والتمرد والتسامح
ّ بني السلم واحلرب :يف العنف
أسر تيّارات
يف هذا اجملال أتيت إحدى أهم أطروحات أيب الفضل لتحرير اإلسالم من ْ
كرس هلا الكثري من جهده ،وألجل هذا كان كتابه املهمة اليت ّ
التطرف ،وهي ّ الغلو و ّ
ّ
السرقة الكربى :انتزاع اإلسالم من املتش ّددين ،والذي يناقش فيه أزمة اإلسالم بني
44أبو عبد هللا حممد ابن أيب بكر ابن قيم اجلوزية ،الطرق احلكميّة يف السياسة الشرعيّة (بريوت :مكتبة
املؤيد.13 :)1989 ،
Khaled Abou-el-Fadl, The Shari’ah, in The Oxford Handbook 45
of Islam and Politics, eds. John L. Esposito and Emad Shahin
(Oxford: Oxford University Press, 2013), 23.
357
الغلو ،47والفرق بني اجلهاد واإلرهاب ،48إىل جانبّ احلداثة والتشدد ،46ونشأة تيّارات
قضااي املرأة وطبيعة دورها يف الرؤية اإلسالميّة ،مفنّ ًدا الرؤى املتشددة جتاهها.49
وقد أهدى أبو الفضل هذا الكتاب إىل أساتذته الذين علّموه معاين اجلمال والشفقة
كأي
احلق هو إسالم االعتدال والوسطيّة .وفيه يرى أ ّن األداينّ ، والرمحة ،وأ ّن اإلسالم ّ
وإما أن تصعد ٍ
جر الناس إىل هاوية من الكراهية ّ قناعة قويّة ،متثّل ّقوة كربى إبمكاهنا ّإما ّ
قرتف ابسم ٍ
عما ير َ
هبم إىل آفاق غري مسبوقة من احملبّة والتنوير .ولذا يرى أ ّن املسؤول ّ
البشري للنصوص ،ال على النص ذاته أو مصدره ّ األداين يقع فقط على عاتق التفسري
صر يف القراءة البشريّة للنص القرآينّ
أرحب من أن رحت َ
(هللا) أو إر50ادة هللا ،واليت هي أعظم و َ
النبوي .
أو ّ
ويعتقد أبو الفضل أن اإلرهاب يستهدف السيطرة وبسط النفوذ عرب نشر اخلوف والرعب
إرهاب دو ٍلة تقوم به حكومات متشددة -كما هو َ بني الناس؛ لكن سواء كان اإلرهاب
متطرفة ،فإ ّن املتضرر والضحيّة
إرهااب متارسه مجاعات ّ
احلال يف بعض الدول العربيّة -أو ً
املعنوي
ّ أيضا اإلسالم وتراثه
ليس فقط األبرايء الذي يفقدون أرواحهم ،وإمنا ً
األخالقي.51
ّ و
التمرد أبنه "فعل مقاومة وحت ٍّد لِسلطة
فيعرف أبو الفضل ّ أما عن فعل العصيان والتمّرد ّ
القوة والسلطة" ،وهذا التح ّدي واملقاومة قد يكوان من خالل عدم أولئك الذين بيدهم ّ
سليب ألوامر السلطات ،أو ما ميكن تسميته ابلعصيان املدينّ ،أو من خالل انتفاضة
امتثال ّ
الثقايف الذي يسعي خللق
ّ التمرد يتم ّإما من خالل حماوالت للتغيري
مسلّحة .ولذا فإ ّن هذا ّ
وإما من خالل اغتياالت حقيقية أو اجملتمعيّ ،
ّ مساحات جديدة وبديلة للفعل واحلراك
358
معنويّة لرموز السلطة ،سواء السلطة الدينيّة أو السياسيّة .ويرى أبو الفضل أ ّن املستهدف
التمرد ودرجته ،فقد يكون اهلدف هو السلطة من هذه العملية خيتلف حسب سياق ّ
52
االجتماعيّة أو السياسيّة ،أو رمبا السلطة الدينيّة أو فكرة اإلله ذاته .وأل ّن النظام
القيَم يف الشريعة اإلسالميّة ،ومها من الوظائف األساسيّة ألي واالستقرار يع ّدان من أهم ِ
قانون بشكل عام ،ودوهنما ال ميكن حتقيق أي قيم أو أهداف أخرى؛ ولذا كانت أوىل
مهام احلاكم يف نظر الفقهاء هي احلفاظ على الدين مث أييت بعدها حفظ النظام واالستقرار
التمرد والعنف يف الشريعة وفض النزاعات .ألجل هذا حيلل أبو الفضل يف كتابه ّ ّ
صادرا ِ
اإلسالميّة خيارات الفقهاء املختلفة يف حال ما لو رأى البعض أ ّن ً
مرا ً قانوان ما أو أ ً
أخالقي أو يتعارض بشكل ما مع مبادئ الشريعة وغاايهتا؛ واخليارات ّ غري
عن احلاكم ر
املتاحة عندهم اثنانّ :إما أن يكون املرء يف ِح ٍّل من تطبيق هذا القانون أو األمر ،ويرون
املتمرد ال َمن يعصونه ،ألن هؤالء إّمنا ٍ
أ ّن احلاكم الذي َس َّن هذا القانون حينئذ هو ّ
احلق؛ واخليار الثاين أن تتم املوازنة بني بقاء االستقرار أو يعرتضون على غياب العدالة و ّ
أخالقي ،وهل الضرر ّ التمرد والعصيان لنظام وقانون غرياإلخالل به ،وحساب ركلفة ّ
شرعي ،فحينها يصبح فعل العصيان ذاته التمرد أكرب من طاعة قانون غري ّ الناتج عن هذا ّ
قي ألن ضرره أعظمْ ،أم أ ّن هذه القوانني قد صارت تنطوي على قد ٍر من اخللل غري أخال ّ
األخالقي ال يطاق .من هنا يصل أبو الفضل إىل نتيجة مفادها أن الشريعة والفقهاء على ّ
التمرد والعصيان؛ ألن النظام واالستقرار، ّ ّ ة احتمالي ا
و يلغ مل اإلسالمي
ّ الفقه يخ
مدار اتر
وإن كاان من أولوّايت الشريعة ،إال أ ّهنما ليسا االعتبارات والقيم األخالقيّة الوحيدة اليت
تنظر إليها الشريعة اإلسالميّة .وألجل هذا ،فال يرى أبو الفضل متاس ًكا منهجيًّا يف ثنائيّة
الرؤى االنعزاليّة quietismومنهج الفعاليّة ،activismويعتقد أب ّن من الواجب
التمرد والعصيان حبذر ومراعاة للمنطق القانوين الذي ينطلق منه حتليل اآلراء الفقهيّة يف ّ
الفقهاء؛ فرغم أن النظام من أهم وظائف القانون ،وبناء عليه من املتوقّع منطقيًّا أ ْن يطالبوا
ابالمتثال للقانون ،فإ ّن هناك الكثريين ممن مسحوا ابلعصيانَ .53مَرُّد هذا يف رأي أيب
الفضل إىل السياقات التارخييّة اليت صاحبت نشأة املدارس الفقهيّة وصعود الدول واألسر
Ibid., 61.54
Ibid., 5-6.55
Ibid., 333-342.56
Khaled Abou-el-Fadl, Violence, Personal Commitment and 57
Democracy, in Islam and English Law: Rights, Responsibilities
360
سعيد يف دعوته إىل الالعنف .وقد التقى الشيخان عام 2012يف منزل األول يف
ٍ
لساعات تطارحا استمر كاليفورنيا يف "حلقة" علميّة مع طالهبما وأصدقائهما يف ٍ
نقاش ّ
األمة والعالقات مع اآلخر وقضااي
اإلسالمي ودور ّ
ّ فيها األفكار والرؤى حيال الواقع
العنف واإلرهاب والتسامح.58
يف أطروحته مكانة التسامح يف اإلسالم ،واليت جاءت يف سياق أحداث احلادي عشر
نص ،مبا يف هذا النصوص اإلسالميّة، أي ّ من سبتمرب ،2001يقول أبو الفضل إ ّن ّ
النص وقراءته
حيوي احتماالت للمعىن ال حتميّات .ولذا فإ ّن القدرة اإلنسانيّة على تفسري ّ
تغري ٍ
النص مرونةً واستمراريّة مع ّ
متثّل نعمة وعبئًا يف الوقت ذاته؛ ألهنا يف آن واحد متنح ّ
ليتحمل عبء ما حيمله هو نفسه من قيم ّ جهدا من القارئ
الظروف ،وكذا تتطلّب ً
ومعايري يف أثناء تفسري النص .ويرى أبو الفضل أ ّن من اخلداع إنكار أ ّن القرآن وغريه من
النصوص اإلسالميّة حتتوي على "احتماالت" تفسريات غري متساحمة لبعض فقراهتا .لكن
أانس حيملون يف ذاهتم هذه
دوما "احتماالت" يستغلّها ٌ تظل ً
هذه القراءات والتفسريات ّ
وإال فإ ّن النص نفسه ال حيتّم هذه القراءة ،والدليل أنّه قد قرأها
الرؤى غري املتساحمةّ ،
ات طوال من مسرية احلضارة اإلسالميّة بنظرة متساحمة أنتجت السابقون على مدى سنو ٍ
ترا ًاث إنسانيًّا وأخالقيًّا عري ًقا .ولذا يدعو أبو الفضل إىل التخلّي عن األهواء عند قراءة
النص من أجل الوصول إىل أقرب شيء من مراد هللا منه.59
خامتة
طرحه من شك أ ّن املطالِع خلريطة أفكار أيب الفضل ال يسعه إال أ ْن يالحظ متانةَ ِ
ال َّ
ونظرا لتعدد َمشا ِرب أيب الفضل املعرفيّة ر
حجته من الناحية العقليّةً .
وقوَة ّ
الناحية الشرعيّة ّ
362
4- Abou-el-Fadl, Khaled. "The Place of Ethical
Obligations in Islamic Law." UCLA Journal of
Islamic & Near Eastern Law 4, no. 1 (2004): 1-40.
5- Abou-el-Fadl, Khaled. The Place of Tolerance in
Islam. Edited by Joshua Cohen and Ian Lague.
Boston, MA: Beacon Press, 2002.
6- Abou-el-Fadl, Khaled. Reasoning with God:
Reclaiming Shari"ah in the Modern Age. Lanham,
MD: Rowman & Littlefield, 2014.
7- Abou-el-Fadl, Khaled. Rebellion and Violence in
Islamic Law. Cambridge: Cambridge University
Press, 2006.
8- Abou-el-Fadl, Khaled. "The Shari"ah." In The
Oxford Handbook of Islam and Politics, edited by
John L. Esposito and Emad Shahin, 7-26. Oxford:
Oxford University Press, 2013.
9- Abou-el-Fadl, Khaled. Speaking in God"s Name:
Islamic Law, Authority, and Women. London:
Oneworld Publications, 2014.
10- Abou-el-Fadl, Khaled. "The Ugly Modern
and the Modern Ugly: Reclaiming the Beautiful in
Islam." In Progressive Muslims: On Justice, Gender,
and Pluralism, edited by Omid Safi, 33-77. Oxford:
Oneworld Publications, 2008.
11- Abou-el-Fadl, Khaled. "Violence, personal
commitment and democracy." In Islam and English
363
Law: Rights, Responsibilities and the Place of Sharia,
edited by Robin Griffith-Jones, 258-271. Oxford:
Oxford University Press, 2013.
12- Kamali, Mohammad Hashim. "Law and
Society." In The Oxford History of Islam, edited by
John L. Esposito, 107-153. Oxford: Oxford
University Press, 1999.
13- Schleifer, S. Abdallah, ed. The Muslim 500:
The World"s 500 Most Influential Muslims. Amman:
Royal Islamic Strategic Studies Centre, 2016.
14- "Sh. Khaled Abou-el-Fadl in Conversation
with Sh. Jawdat Said," YouTube video, from a form
a halaka on 15 January 2012, posted by "Scholar of
the House," July 17, 2016, https://is.gd/trFz3d
اإلسالم والسياسة ومأزق احلداثة: الدولة املستحيلة. وائل ب،حالقّ -15
املركز العريب لألحباث: بريوت. ترمجة عمرو عثمان؛ مراجعة اثئر ديب.األخالقي
2014. ،ودراسة السياسات
الدالالت املنهجية: تصرفات الرسول ابإلمامة. سعد الدين،ّالعثماين -16
.2003 ، منشورات الزمن: الرابط.والتشريعية
الطرق احلكميّة يف. أبو عبد هللا حممد ابن أيب بكر،ابن قيم اجلوزية -17
.1989 ، مكتبة املؤيد: بريوت.السياسة الشرعيّة
حنو نظريّة: اإلسالم والعلمانيّة والدميقراطيّة الليرباليّة. اندر،هامشي -18
.2016 ، الشبكة العربيّة لألحباث والنشر: بريوت.دميقراطيّة للمجتمعات املسلمة
364
الفصل السادس:
1
ص ِّديقي :نضاالت العاملية اإلسالمية
كليم ِ
366
والعلمانية ،قياداهتا فاسدة إىل حد بعيد وختضع -من الناحية السياسية -للغرب ،ابإلضافة
إىل عدم كفاءهتا" ،6لكنه ظل يعترب أن قيام دولة ابكستان كان "ثورة إسالمية" بسبب
حتول الذهنية السائدة عند العامة من الناس ،ولكنها "مل ِ
تؤد إىل ظهور دولة إسالمية"؛
والسبب يف ذلك بشكل أساسي هو عقلية قياداهتا.7
وما لبثت أن ظهرت احلركات اإلسالمية يف مخسينيات القرن العشرين من أجل مقاومة
الفساد والضغط من أجل حكم إسالمي .يقول ِص ِّديقي إن اجلماعة اإلسالمية اليت
تنظيما ،وابلفعل أصبحت األكرب ،ولكن أسسها أبو األعلى املودودي كانت األكثر ً
ِص ِّديقي شعر أهنا "حتاول أن تكون جمرد نسخة إسالمية من العصبة اإلسالمية اليت أسسها
السيد جناح" ،حيث إهنا بقيت راضية عن بنية الدولة القومية من وضع احلدود الدولية
أيضا مقتنعة ابلدعوة إىل التغيري البطيء عن طريق السياسة االنتخابية
والقوانني ،وبقيت ً
بدال من ذلك إىل منظمة صغرية تدعو إىل العودة ِ ِ
بدال من الثورة العامة .8انضم ص ّديقي ً
ً
إىل اخلالفة ،وقام بتأسيس صحيفة خاصة هبذه اجلماعة وإدارة حتريرها يف الفرتة بني
1952و .91954استمر يف قراءة كل شيء ميكن له أن جيده يف كراتشي عن النظرية
اإلسالمية السياسية ،و"متسك بكل كلمة" يقوهلا اإلخوان املسلمون مبا فيهم سعيد رمضان
الذي جاء إىل كراتشي بعد عام ،1952ولكن ِص ِّديقي رأى أن "األعمى كان يقود
األعمى" :رمضان واإلخوان جاءوا إىل ابكستان ابحثني عن احلل ،واإلسالميون يف
ابكستان كانوا يبحثون عن اإلخوان املسلمني من أجل احلصول على احلل ،ولكن ابلنسبة
إىل ِص ِّديقي "مل يتمكن أحد -مبا فيهم موالان املودودي -من استيعاب املوقف التارخيي
يف أعقاب االستعمار على حقيقته" .10كان من الصعب يف هذه املرحلة التعبري عن
خالفاته مع اجلماعة اإلسالمية للمودودي ومع اإلخوان املسلمني ،حيث إن املودودي
نظاما ثورًاي من املفرتض أن حيكم العامل ،ولكن
أيضا يتحدث عن اإلسالم ابعتباره ً كان ً
Ibid. 6
Ibid. 7
Ibid. 8
Ibid. 9
10املرجع السابق ،ص .4
367
ِص ِّديقي كان يقول إن رؤيتهم ومناهجهم مل تكن كافية؛ لذلك فقد انطلق حنو استكمال
دراسته وتكريس ما بقي من حياته من أجل هذه القضااي ذاهتا.
الدراسة واليأس يف "بيداء" لندن
يف مخسينيات القرن العشرين ذهب عدد من أعضاء حركة اخلالفة إىل لندن وتبعهم
ِص ِّديقي يف عام 1954عاقداً العزم على العودة إىل الوطن يف وقت الحق .وأهنى ِص ِّديقي
املرحلة اجلامعية مث استأنف دراساته العليا يف جمال االقتصاد والعلوم السياسية ،وقد أسس
مجعية الطالب املسلمني بينما استمر يف العمل كصحايف من أجل كسب العيش .11وما
لبث أن ابتعد عن العديد من رفقائه الباكستانيني ،حىت إنه ابتعد حىت عن قيادات اإلخوان
املنفية إىل أورواب؛ وذلك بسبب أسلوهبم املسرف يف احلياة واآلخذ يف التزايد نتيجة الدعم
السعودي هلم ،ابإلضافة إىل تفضيلهم الواضح لوظائفهم على حساب التزامهم ابلثورة.12
لقد شعر ِص ِّديقي أبن املسلمني ميرون مبرحلة مظلمة حول العامل :من "دمياغوجية" انصر
وتراجع احلركة اإلسالمية يف مصر ،إىل حتول حزب جبهة التحرير الوطين يف اجلزائر من
الفكر اإلسالمي إىل اليساري ،وإعدام سيد قطب عام ،1966وتوسع االحتالل
اإلسرائيلي عام .131967وبرعيد "مؤمتر القمة اإلسالمية" يف الرابط أصيب ِص ِّديقي
حي
شاهدا على غياب الرؤية والنتائج الفعالة ،فهو "مظهر ّ خبيبة أمل ،حيث كان املؤمتر ً
فعال من أجل الدفاع عن معا أو بشكل ّ الدول القومية بعد االستعمار للعمل ً لعجز
14
شك يف عجز الدولة القومية بعد االستعمار يف أثناء
اإلسالم" .ويبدو أنه إن كان لديه ٌّ
فرتة شبابه يف ابكستان ،فإنه اآلن وبعد مشاهدته جهود حكومات دول العامل اإلسالمي
املتعثرة يف إعادة تنظيم صفوفها وسط خسارة تتلوها خسارة قد توصل إىل أن احلل حيتاج
أن يكون أكثر ثورية.
369
كانت املفاهيم األساسية لعمله خالل هذه الفرتة هي التأكيد على أن اإلسالم هو اهلوية
األساسية والنظام األخالقي الكامل ،ابإلضافة إىل تركيزه على أمهية البعد السياسي حلياة
النيب ابعتبارها قدوًة ،إىل جانب بناءه النظري ملفهوم يقضي أبن الدول القومية هي أصل
ّ
املشكلة (مع األخذ يف االعتبار اهلند وابكستان كمثالني على ذلك) .17أما اخلالفة فهي
(بدال من كوهنا جمرد خيار).18
اهلدف اإلسالمي املنشود ً
املعهد اإلسالمي
بعد حضوره مؤمتر الشباب املسلم الدويل يف ليبيا ،يوليو ،1973نشر كليم ِص ِّديقي حبثًا
حتت عنوان "حنو مصري جديد" يناقش فيه املؤمتر والتوجه الذي أيمله -والذي شعر أن
متشائما -كما أنه استخدمً احلضور أيملون حتقيقه -للحركة اإلسالمية .لقد كان أسلوبه
كلمة "حبذر" -19حيث من الواضح أهنم ال يتوقعون أي تغيري إجيايب يف املستقبل القريب:
مستمر يف
ٌ "من الواضح أن التدهور السياسي واالقتصادي واالجتماعي والثقايف والفكري
معظم البلدان اإلسالمية منذ سنوات بعد االستقالل .كما يبدو أن ذلك سيستمر يف
الغالب إىل جيل آخر أو أكثر بل حىت ميكن أن يتخطى ذلك ،فالعديد من البلدان
اإلسالمية يف الشرق األوسط سوف يكون عليها أن تتحمل فرتة أخرى من االستعمار
مدعوما من قبل الوالايت املتحدة األمريكية واالحتاد السوفييت .وإذا
ً حتت احلكم الصهيوين
20
حدث ذلك ،فمن الصعب أن يكون هناك عامل إسالمي "مستقل" .
370
بقي لدى ِص ِّديقي -على الرغم من ذلك -أمل ،حيث يرى أن املسلمني يف العامل كانوا
يرفضون األساليب القومية والرأمسالية واالشرتاكية لتطبيق اخلالفة اإلسالمية يف "النظرية
رفضا صرحيًا ملا عرضه ممثل العلماء املسلمني نيابة عن معمر القذايف
الثالثة"-وهو ما كان ً
على احلاضرين للمؤمتر -21وهو خالف يرعيد للذاكرة االنطباع نفسه عن اخلالف بني
املواطنني الباكستانيني والقيادات يف األايم األوىل لنشأة الدولة .لقد كان ِص ِّديقي وقتها
متحفزا لكي "يبدأ عملية حترير الفكر السياسي للمسلمني من األفكار الغربية ً
منوذجا لفكر سياسي يساند احلركة اإلسالمية يف املستقبل ً يضع أن
و ية،
ر االستعما
و
عاما،
قبل مخسة عشر ً ويدعمها" ،وذلك انطالقًا من روح اخلطاب الذي ألقاه يف املولد
22
ومستندا إىل الكم الكبري من الدراسة اليت ختللتها بعض النشاطات .
ً
كان املعهد اإلسالمي للبحث والتخطيط هو املعهد املخصص هلذه املهمة ،حيث قام
بتأسيسه بشكل رمسي يف عام 1974كل من الدكتور ِص ِّديقي إىل جانب ظََفر بنجاش،
احدا من أوائل املنظمات اإلسالمية يف اململكة املتحدة .23قام كليم ِص ِّديقي بكتابة
وكان و ً
مسودة البيان التعريفي للمعهد اإلسالمي يف عام ،1974ولكنها نشرت ابسم اللجنة
التحضريية للمعهد اإلسالمي ،وقد ذركر فيها عدد من األهداف من ضمنها:
-1أن املهمة األساسية للمعهد اإلسالمي هي وضع مناهج مفاهيمية وخطط
تنفيذية ملستقبل احلضارة اإلسالمية.
-2يقوم املعهد اإلسالمي بتجميع ودمج كل املناهج املعرفية اليت مت تطويرها بواسطة
احلضارات اإلسالمية العظيمة يف املاضي وبواسطة العلماء املسلمني املعاصرين..
-3يقوم املعهد اإلسالمي -يف إطار النظرية املعرفية لإلسالم -بتطوير اجملاالت
األكادميية لالقتصاد والسياسة واالجتماع ،ووضع مناذج بديلة لألنظمة
االقتصادية والسياسية واالجتماعية.
.Ibid.21
K.S., The Global Islamic Movement. op.cit.22
Jorgen Nielson, Obituary: Kalim Siddiqui, The Independent, 23
19 April 1996.
371
-4يقوم املعهد اإلسالمي ابلعمل على وضع برانمج مقنع من الناحية العقلية أمام
األمة اإلسالمية إلعادة تشكيل البنية االقتصادية-االجتماعية والسياسية
للمجتمعات املسلمة.
-5يقوم املعهد اإلسالمي حبشد املوارد البشرية واملادية والفكرية واخلربات العلمية
والتكنولوجية للمسلمني وتوجيهها حنو إنشاء حضارة إسالمية مستقبلية
وأتسيسها وتطويرها.
-6يقوم املعهد اإلسالمي بتطوير سياسات بديلة اثبتة يف جماالت التطوير
االقتصادي والتنظيم اجملتمعي والسياسي ،ويقوم بعرضها من أجل أن تتبناها
اجملتمعات اإلسالمية وتقوم بتطبيقها.
جلاان تقوم إبجراء أحباث حمددة لصاحل -7ميكن للمعهد اإلسالمي أن يقبل ً
اجملتمعات اإلسالمية واحلكومات واألقليات من أجل مساعدهتم على حل
مشاكلهم احمللية والعاجلة.24
دائما ،ولكن يف تلك املرحلة بدأ املنهج ِِ
ظلت أهداف ص ّديقي ومبادئه ابقية كما هي ً
ابلتبلور :على اجلانب الفكري كان جيب أن تكون النظرية املعرفية اإلسالمية أمسى من
ذلك ،أما على اجلانب العملي فكان جيب على النشطاء أن يبدأوا على املستوى احمللي
والقومي ،ومن مثَّ بعد ذلك يكون نشاطهم متخطيًا هلذه احلدود .حيث "قد يتعني على
اجملتمع املثايل أن ينشأ يف منطقة جغرافية واحدة قبل أن يتسارع معدل التغيري يف مناطق
أخرى" ،ويتم قبوله.25
وضوحا يف كتابه "ما بعد الدول القومية
ً لقد أصبحت املهمة املعرفية للمرحلة أكثر
املسلمة" ،حيث واصل يف هذا الكتاب محلته اليت انطلقت من أجل حترير فكر املسلمني
من عبوديته للمفاهيم الغربية ،حيث أطلق على علماء املسلمني السياسيني اسم
"املساجني"" :جيب عليهم أن حيددوا حجم وشكل السجن الذي يعيشون فيه .جيب
http://kalimsiddiqui.com
Ibid. 25
372
عليه أن يضعوا خريطة لتفاصيله .فاألبعاد الثالثة هلذا السجن هي أبعاد اجتماعية
واقتصادية وسياسية .وهذه األبعاد متصلة مبمرات فكرية ،يكون فيها العلماء السياسيون
هم الداعمني الرئيسني ابإلضافة إىل كوهنم هم الضحااي".26
وألول وهلة قد يبدو أن هناك تواف ًقا بني هذا الربانمج الفكري وبني "أسلمة املعرفة" الذي
صاغه سيد حممد نقيب العطاس والذي اعتمده إمساعيل الفاروقي -وابلفعل قد يبدو
املستوى الفكري لربانمج ِص ِّديقي ،مبعزل عن غريه ،شبه متوافق مع إسالمية املعرفة مبا أنه
مل يرفض قيمة هذه املناهج ،ولكن االختالف الرئيس يف برانمج ِص ِّديقي هو أمهية التطبيق
العملي هلذه املعرفة للخروج من هذا السجن -السجن الفكري والسياسي -وبناء جمتمع
موجها يف
متاما ،بينما يعرتف العطاس بنفسه أبن "هجومنا على العلمانية ليس ً جديد ً
الغالب إىل ما فرهم على أنه الدولة واحلكومة اإلسالمية "العلمانية" ،ولكنه موجه أكثر إىل
العلمنة بوصفها برانجمًا فلسفيًا والذي ال يعين ابلضرورة أنه جيب على دول املسلمني
وحكوماهتم "العلمانية" أن تتبناه" .27هذه املمارسة الفكرية ابلنسبة إىل ِص ِّديقي ستكون
بد من اهلروب منه ،وهو ما يعين جمرد ممارسة بال غاية .إن السجن مبجرد االعرتاف به ال َّ
أن العامل اإلسالمي مبجرد أن يدرك أنه يف عالقة استعمارية حتت حداثة علمانية جيب
عليه أن يقاتل حىت جيد طريقه يف اخلروج إىل حياة حرة بعد أن ينسى تلك املبادئ اليت
منقسما.
ً تربقيه
373
إن املبدأ األساسي الذي ركز عليه ِص ِّديقي كان هو استقالل الدولة القومية؛ ولذلك جيب
تنظيما ِِ
التأكيد على أن منهج ص ّديقي الذي جعل تطبيقه يبدأ حمليًا أو قوميًا كان فقط ً
عمليًا وهو مؤقت .فقد أكد الدكتور ِص ِّديقي ابستمرار يف هذا البحث ،ويف البحث التايل
له "احلركة اإلسالمية :نظم النهج" ( ،)1976و"ما بعد الدول القومية املسلمة"
( - )1977على أنه "توجد وحدة ضمنية بني احلركة اإلسالمية على مستوى العامل"،28
ولكن هذه الوحدة لن تكون كافيةً للتغلب على سجن منوذج الدولة القومية األورويب إذا
مل تكن على أساس نقي ..." :ال ميكن أتسيس الدول اإلسالمية أو تطوير احلضارة
اإلسالمية على أساس دول قومية خرجت من رحم االستعمار ،جيب إهناء الدول القومية
وإعادة رسم اخلريطة السياسية لألمة" .29وقد وضع مرحلتني هلذا التطهري ،حيث يبدو أنه
يتفق مع أفكار املودودي ومفكر مثل خورشيد أمحد بشأن احلدود والتقسيمات الداخلية،
أيضا اجلماعة اإلسالمية حنو الوحدة اإلسالمية والوقوف ضد وهي الرؤية اليت تتبناها ً
التقسيمات (خاصة وبشكل مؤسف ،انقسام ابكستان الغربية والشرقية إىل ابكستان
أيضا أكثر دقةً ،وقد سبق وائل وبنجالدش على الرتتيب) ،ولكن فهمه للشريعة كان ً
حالق فيما انتهى إليه يف كتاب "الدولة املستحيلة" ،30ولكنه كان أكثر ً
تفاؤال منه ،حيث
إن ِص ِّديقي يرى أن طرد االستعمار بشكل حقيقي -ليس فقط من األراضي واملؤسسات
أيضا من العقول -جيعل من املمكن ومن الواجب إعادة كتابة القوانني السائدة ،بل بل ً
وإعادة صياغة البنية القانونية ذاهتا من البداية على يد علماء شرعيني متمرسني.
وقد كان اإلمام اخلميين واجملموعة املشايعة له يسعون لتطوير أفكار مشاهبة فصارت لندن
ساحة خصبة لتبادل األفكار .وانطالقًا من القوة املتزايدة ألفكارهم ،قام املعهد اإلسالمي
يف صيف عام 1978بعقد دورة ملدة أربعة أسابيع يف جمال الفكر السياسي اإلسالمي
بتنظيم من الدكتور طيب زين العابدين من جامعة اخلرطوم ،وهو ما جعل ِص ِّديقي يشعر
374
بوجود "توافق يف اآلراء رغم االنقسام الشيعي-السين والتنوع الثقايف والوطين
للمشاركني".31
الثورة اإلسالمية
إحدى أهم مراحل حياة الدكتور كليم ِص ِّديقي كانت دعمه للثورة اإلسالمية يف إيران،
واليت شعر أهنا تتوافق مع آماله يف أن املسلمني ميكنهم النجاح إذا جعلوا من اإلسالم
غايتهم األوىل .يف كتابه "الثورة اإلسالمية :اإلجنازات والعقبات واألهداف" ()1980
يرظهر ِص ِّديقي حتمسه النتصار الثورة اإلسالمية ويقول:
"يف إيران وحدها جنحت احلركة اإلسالمية يف املرور عرب األرض القاحلة واجلافة لإلمربايلية
لتحريك اجلماهري املسلمة وإسقاط نظام ما بعد االستعمار وقياداته املؤيدة لالستعمار
صحيحا ،وهو أن الثورة اإلسالمية يف إيران قد
ً ومؤسسات الدولة القومية .رمبا يكون هذا
32
قطعت الطريق أمام الكثري من االحنراف عن األصول اإلسالمية إليران" .
مهما من منوذج كليم صديقي ،حىت إن بعض املراقبني لقد أصبحت الثورة اإليرانية جزءًا ً
الربيطانيني كانوا حيسبون أنه يعمل بشكل مباشر لدى احلكومة اجلديدة للثورة
اإلسالمية ،33على الرغم من إعالنه الواضح يف كتاابته أنه انشط مستقل ولديه أفكاره
املستقلة.
لقد استخدم ِص ِّديقي املعهد اإلسالمي خالل فرتة مثانينيات القرن العشرين من أجل تعليم
وبناء شبكة من الناشطني اإلسالميني حول العامل ،فقد زارهم يف لندن الربوفيسور محيد
اجلار من جامعة بريكلي ،وذلك يف عام ،1979من أجل إلقاء أربع حماضرات عن الثورة
اإلسالمية .34كما ذهب ِص ِّديقي إىل إيران مع الدكتور حممد غياث الدين من أجل
375
املشاركة يف االحتفال ابلذكرى األوىل للثورة اإلسالمية يف فرباير من عام .351980أما
يف أغسطس من العام نفسه ،فقام ِص ِّديقي مع ظَفر بنجاش بتحويل صحيفة حملية
للمجتمع املسلم يف تورونتو هي اهلالل الدولية إىل "جملة إخبارية للحركة اإلسالمية" ،واليت
قاموا بنشر أفكارهم من خالهلا (ابإلجنليزية والعربية) إىل مجيع أحناء العامل .ابإلضافة إىل
األعداد الدورية واملؤمترات السنوية يف لندن واجلوالت املتكررة ،واستمر ِص ِّديقي يف الكتابة
بشكل كثيف خالل مثانينيات القرن العشرين ومن األعمال اليت نشرها:
دولة العامل اإلسالمي يف العصر احلاضر ( ،)1980احلركة اإلسالمية :االنطالق حنو تغيري
العامل مرة أخرى ( ،)1982االندماج والتفكك يف سياسات اإلسالم والكفر (،)1983
النضال من أجل هيمنة اإلسالم -بعض األبعاد املهمة ( ،)1983األهداف واإلجنازات
األساسية للثورة اإلسالمية يف إيران ( ،)1984الدول القومية ابعتبارها عقبات أمام
التحول الكامل لألمة ( ،)1985الفكر السياسي واإلسالمي والسلوك يف ظل
االستعماري ( ،)1986وأخريًا ،عمليات اخلطأ واالحنراف والتصحيح والتقارب يف الفكر
السياسي اإلسالمي (.)1989
كما أن الثورة اإليرانية أكدت له إمكانية الوحدة بني الطوائف املسلمة ،وهو ما أيدته
جتربته مع الطالب الدارسني يف املعهد اإلسالمي عام ,1978وبقي هذا الفكر هو مسة
ئيسا
داعما ر ً
كل أعماله إىل هناية حياته .فعلى الرغم من أنه كان سنياً معتدالً ،فإنه كان ً
للجماعات الشيعية الثورية ،وكان ينتقد معارضيهم من النشطاء اإلسالميني "فجيوهبم
ممتلئة بدوالرات النفط السعودية" .36كما كتب يقول" :إصرار اإلمام اخلميين على أن
القضااي اليت عادة ما كانت تفرق املذهبني الشيعي والسين "مل يعد هلا أمهية" يفتح الباب
أمام تضميد جراح األمة" .37وبرز هذا املفهوم يف كتابه "عمليات اخلطأ واالحنراف
والتصحيح والتقارب يف الفكر السياسي اإلسالمي" بشكل أوضح ،حيث يرى فيه أن
التوجهات السياسية لكل من السنة والشيعة منحرفةٌ؛ فالسنة يتبعون أنظمة امللك العضود،
والشيعة يتبعون نظام االستسالم للمسار السياسي التارخيي دون أن يكون رهلم إمام على
Ibid. 35
The global Islamic movement, op.cit., p.8. ،K.S.36
Ibid. 37
376
اإلطالق .فلو أن التوجه السياسي للخميين كان خطوة حنو تصحيح االحنراف الشيعي،
فإن السنة كانوا ينتظرون ثورة التصحيح اخلاصة هبم ،وكان ِص ِّديقي يف هذه النقطة األصلح
لتقدمي اخلريطة لذلك.
وإمجاًال ،كانت هذه الفرتة فرتةً مثرية للدكتور ِص ِّديقي وللمعهد اإلسالمي ،حيث شاهدوا
أفكارهم تتجسد يف مناذج تغيري ثوري ،مبا يف ذلك اجملاهدون يف أفغانستان وحزب هللا يف
لبنان وحىت القيادات الدنيا يف اإلخوان املسلمني واجلماعة اإلسالمية ،إىل درجة أنه ظن
أن التحدي هو أن القيادة التوافقية قد تواجه مصاعب يف حتريك كل هذه اجلماهري من
أجل السعي إىل التغيري من خالل عمليات سلمية داخل الدول القومية اليت نشأت يف
أعقاب االستعمار.38
تنظيم املسلمني على احلدود
ِ
بداية من عام 1989وبشكل رمسي يف عام 1992كرس الدكتور ِص ّديقي ً
بعضا من
وقته لبناء مؤسسة سياسية للمسلمني الذين يعيشون يف اململكة املتحدة من أجل خلق
وحدة خارج النظام الربيطاين ،ولوضع خمطط حلكومة األقلية املسلمة دون أن يكون هلا
حدود إقليمية .لكن كارثة أحدثها كتاب سلمان رشدي (آايت شيطانية) الذي حرك
غضب املسلمني يف بريطانيا ،مث كانت فتوى آية هللا اخلميين اليت دعت إىل قتل رشدي،
وأصبحت هي األخرى متثل كارثة حملية يف إجنلرتا .فبينما أدان العديد من القيادات
داعما هذه الفتوى وشارك يف ِِ
اإلسالمية وتربؤوا من فتوى اخلميين ،تكلم ص ّديقي بقوة ً
مظاهرات ضد الكتاب ،وبذلك احناز إىل اجلماهري الربيطانية املسلمة ضد ما مساه القيادة
املتخاذلة -وبدت الفجوة واضحة بينه وبني اآلخرين من جيله.
وكان البيان اإلسالمي الذي نشره معهد اإلسالم يف عام 1990كان حماولة من ِص ِّديقي
من أجل "توفري صيغة مشرتكة حتدد املوقف اإلسالمي يف بريطانيا" ،و"توفري إطار عمل
لنمو سليم جلميع أجزاء اجملتمع ،ابإلضافة إىل وضع هدف هلوية إسالمية مشرتكة" ،بطريقة
ال ختتلف عن حماوالته املوازية على الصعيد العاملي .39كما أكد يف البيان على أنه ال
378
بريطانيا" .على الرغم من أن ِص ِّديقي قد هاجم يف هذ البيان "اللويب اإلسالمي احلداثي"
يف بريطانيا ،45فإنه مع ذلك دعا إىل احلاجة لالحتاد حول البيان:
"أؤمن أبننا حققنا ترابطًا وصيغة ميكن أن تتفاهم حوهلا مجيع أطراف اجملتمع اإلسالمي،
ومن املهم أن نصل هلذا التفاهم .إن مثل هذا العمل املتناسق على مستوى الطيف
كبريا من الصرب والتسامح والتفاهم
قدرا ً
مجيعا ً
اإلسالمي كله يف بريطانيا سوف يتطلب منا ً
مجيعا -حداثيني وعلماء -مستعدين بغض النظر عن تصور كل واحد منا .إذا مل نكن ً
مجيعا ل ْق َمة سائغة
لوضع وحدتنا ومصريان املشرتك فوق مجيع القيم األخرى ،فسوف نكون ً
ملن تعرفون من هم".46
كما حتدث عن أصول املسلمني يف بريطانيا بشكل متسامح:
"إن هجرة املسلمني إىل بريطانيا مل تكن هبدف السعي خلف الواجب الديين يف اهلجرة
لتطبيق اإلسالم .بل أتينا إىل هنا رمكرهني ومدفوعني بقوى سياسية واقتصادية ودميوغرافية
خارجة عن إرادتنا .ومع ذلك ،وبعد وصول اجليل األول من املهاجرين املسلمني قاموا
مسجدا
ً عاما من اآلن كان هناك ما ال يزيد عن اثين عشر
أبفضل ما ميكنهم .فقبل ثالثني ً
47
يف بريطانيا .أما اليوم فإن عدد املساجد يف اجلزر الربيطانية يتجاوز األلف" .
وقد دعا املسلمني إىل تصحيح ذلك ،سواء كان ذلك من أجل أنفسهم أو من أجل
سكان هذه األرض:
"وبعد أن اعرتفت ابلطابع الدنيوي اخلالص وراء هجرتنا األوىل إىل بريطانيا ،جيب علينا
اآلن حماولة وضع أصول جديدة لنستمد أسباب بقائنا كمسلمني من اإلسالم نفسه .حنن
بكل أتكيد ندين ألنفسنا ولألجيال التالية بذلك ،بل أكثر من ذلك ،حنن ندين لربيطانيا
379
نفسها ،فربيطانيا حتتاج إىل حضور إسالمي قوي .إن اجملتمع الغريب املعاصر عاق ٌد العزم
على تدمري ذاته".48
مث أهنى حديثه برسالة أمل رحتدد مسار املسلمني يف بريطانيا (وأورواب أبكملها) ضمن إطار
احلركة اإلسالمية العاملية:
"لقد انتهت األايم املظلمة يف اترخينا ،فمسرية التاريخ اإلسالم بدأت من جديد .ويف
خالل األربعني أو اخلمسني سنة القادمة سوف ختضع مجيع أرجاء العامل اإلسالمي لثورات
إسالمية تقوم بتحرير أراضينا وشعوبنا من عصور الظالم احلديثة لالستعمار الغريب
والسيطرة الثقافية .سوف يعيشون أعظم تغيري ثوري على مر التاريخ اإلسالمي ،ويف وضع
يسمح هلم ابملسامهة بقوة يف هذا التغيري .مما يرتيح هلم تنظيم أنفسهم هنا يف أورواب،
كمسلمني أوروبيني ،من أجل املشاركة يف املسؤوليات العاملية اليت سيضعها التاريخ فوق
أكتافهم".49
أساسا للربملان اإلسالمي يف بريطانيا ،ففي كلمته
وكانت هذه هي الصيغة اليت أصبحت ً
خالل التدشني الرمسي للربملان اإلسالمي يف يناير من عام 1992حتت عنوان "الربملان
اإلسالمي يف بريطانيا :االبتكار والتكيف السياسي" كرر ِص ِّديقي نفس العبارات:
" لقد خضنا عمي ًقا يف مصادران الروحية والفكرية من أجل أن خنرج بنظام سياسي عملي
يسعى إىل حتويل وضع املسلمني ،وإىل تغيري دائم للقواعد األساسية اليت نعيشها يف هذه
الدولة .إن مشكالتنا معقدة ،وإن جذورها متتد إىل قرون عديدة .كما أهنا منغرسة يف
أحداث خارجة عن نطاق اإلدراك احلايل ملعظم الناس .إن إحدى وظائف هذا الربملان
هي تطبيق الوعي التارخيي لدينا من أجل حل املشكالت املعاصرة وصناعة مستقبل
األجيال املسلمة اليت مل تولد بعد".50
Ibid., p. 548
Ibid.,p.16.49
Kalim Siddiqui, The Muslim Parliament of Great Britain: 50
Political Innovation and Adaptation, January 1992. p. 2.
380
إن رؤيته -اليت وضع هلا هيكالً مؤسسياً يشمل قيادات من مجيع الطوائف السياسية-
قد جتاهلتها املنظمات اإلسالمية اليت ظهرت يف العقد التايل ،سواء كانت جزءًا من
"رفضت ( )...كأهنا شيء اإلخوان املسلمني أم كانت حماوالت اندماجية أكثر ليربالية ،ر
مزعج ال أمهية له" ،على الرغم من -أو رمبا بسبب -توافقها مع رؤية الشباب اإلسالمي
الذي احرتم القيادة اليت تعرب عن غضبهم .51إن مثل هذه الرؤية العميقة الستقالل وفاعلية
جمتمع متنوع من املسلمني يف الغرب فرقته لعقود تنازعات املذهب والعرق كان أمراً اندراً،
وإن بقي على خالف مع مجاعة "املهاجرون" يف بريطانيا واجلمعية اإلسالمية للمفكرين
جهاداي بدائيًا (مما نتج عنه حبس
ً خطااب سلفيًا
يف الوالايت املتحدة ،والذين كانوا يقدمون ً
معظم أعضائهم وابتعاد اجملتمع املسلم األوسع عنهم).
السنوات األخرية
قل نشاط الدكتور ِص ِّديقي يف سنوات عمره األخرية بسبب مشاكل صحية ،إال أنه
لقد َّ
استمر يف الكتابة والسفر كلما أتيح له ذلك ،حىت إنه نشر العديد من األعمال قبل
وفاته.
حبثه بعنوان "احلركة اإلسالمية العاملية :إطار االسرتاتيجية الكربى" ،والذي قام بكتابته يف
جتميعا
أبدا ،كان ً األصل عام 1992كما ذكران سلفاً على أنه مقدمة لكتاب مل يرنشر ً
لألفكار اليت رمست مالمح حياته السياسية والفكرية" :عن احلركة اإلسالمية العاملية ،وعن
العامل اإلسالمي دون حدود قومية والذي يسعى إىل حتقيق الغاية السياسية لإلسالم يف
مجيع أرجاء العامل" .52كانت أعماله هي بناء احلركة ذاهتا" ،فاإلطار األساسي واحملوري
الذي يطوق الثورة اإلسالمية وأتثريها يف "التغيري الكبري" على األمة هو الذي يدعو إىل
ثورات إسالمية جديدة يف مجيع املناطق اإلسالمية حول العامل ،وجيلب تقارب الفكر
السياسي اإلسالمي ،وينقي الفكر اإلسالمي من تسلل األفكار السياسية الغربية ،وحيدد
املنهج السياسي لإلسالمي ،ويضع اخلطة جليل أو أكثر من أجيال احلركة اإلسالمية".53
55قامت منظمة بريطانية أخرى أبخذ اسم "املعهد اإلسالمي" ولكنها أنكرت أعمال الدكتور ِص ِّديقي ،كما
أن معهد الفكر اإلسالمي املعاصر تنصل من تلك املنظمة.
383
لقد انتشرت أفكار الدكتور كليم ِص ِّديقي بشكل أساسي عن طريق األفراد واملنظمات
املذكورة ،ففي أثناء حياته كان الشباب املسلم الربيطاين -خاصة -هم الذين يشعرون
معربا عن خماوفهم ومتحد ًاث ابمسهم لدى
صوات ًبتأثري أفكاره ،وهم الذين وجودوا فيه ً
56
اإلعالم ،وثقة يف جترده من املصاحل الضيقة وإخالص عمله .
وقد اشرتك عدد من أعالم السنة مع ِص ِّديقي يف دعمه للثورة اإلسالمية يف إيران ،ومن
املرجح أن ذلك استمر إىل أن دعمت إيران بشار األسد يف احلرب السورية .أما االجتاه
أبدا العلمانيون من املفكرين املسلمني ،كما أناملعادي لالستعمار يف أفكاره فلم يتبنه ً
غالبية اإلسالميني أنفسهم مل يهتموا بفكره بسبب رفضه للسياسة االنتخابية وللدولة
القومية اليت أعلن القبول هبا االجتاه السائد .وعلى الرغم من ذلك فإن ضعف القيادة
متاما كما أشار ِص ِّديقي يف بداية حياته يف ابكستان ويف خطبته يف ليبيا -
اإلسالمية ً -
صرف مجاهري الناس عنهم وإن مل تتطور رؤية راديكالية انضجة ميكن تطبيقها .ولذلك
بقيت أفكار كليم ِصديقي ذات صدى ملن فقد الثقة يف املنظومات احلاكمة.
اخلامتة
رغم أن املنظمات اليت أسسها ِص ِّديقي قد عانت من غياب قيادته املؤثرة بعد وفاته ،فإن
مسامهته العلمية جيب أال يتم إمهاهلا أو إغفاهلا .لقد كانت أعماله األوىل عن السياسة
مهما
أساسا ً
أيضا ً الباكستانية وجنوب آسيا مهمة يف حد ذاهتا علمياً وفكرايً ،وكانت ً
النتقاده الدولة القومية وحماوالت توجيه قوة املسلمني حنو تبين الرأمسالية أو الشيوعية.
وكان تصوره عن اخلالفة كغاية سياسية لإلسالم مناسبًا للحظة التارخيية اليت عاشها بني
أتسيس ابكستان وجناح الثورة اإليرانية ،وتنبؤاته أبن هذه الرغبة سوف تنتشر بني املسلمني
يبدو أهنا قد حتققت بدرجات متفاوتة .إن حتليالته للتاريخ واملنهج السياسي هي قراءة
يف اتريخ طويل ،أما دعوته للمسلمني يف الغرب ملقاومة االندماج واالخنراط فكانت
ختاطب واقع التهميش ،وكان هناك الكثريين ممن لديهم نفس رغبته يف رؤية املسلمني
النيب يف وحدة سياسية ،على الذين ينتمون ألكرب مذهبني يتحدون حول منوذج حياة ّ
الرغم من أن تلك األمنية تبدو بعيدة املنال اليوم عما كانت عليه وقتها .لكن برغم كل
385
الفصل السابع:
إنتاج مفاهيم جديدة إلصالح الفكر اإلسالمي:
دراسة يف مشروع طارق رمضان
ايسني اليحياوي
ملخص
يرعدّ طارق رمضان واحدًا من أبرز املسامهني يف جتديد
الفكر اإلسالمي املعاصر .وتربز إحدىر أهمّ اإلضافات
خالل ما أنتجه من مفاهيم جديدة يف اليت قدَّمها من ر
اجملالني الديين والسياسي ،هتدف إىل تشكيل العامل برؤية
تعددية .تتمثَّل أكثر الركائز حضوراً يف كتاابته الغزيرة يف
نقد املنظومة الفقهية من خالل اقرتاح بديل يقوم على قراءة
جديدة للنص الديين ترراعي السياق املتغري؛ واحلث على
االجتماعية؛ إضافة املمارسة العقالنية يف جمال العالقات ر
إىل رحماولة التوفيق بني املبادئ اإلسالمية والنموذج الغريب
للعلمانية.
سنتناول يف هذا الفصل اجلهود اليت يبذهلا رمضان من أجل بناء جسر التواصل بني ثقافتني
وحضارتني رخمتلفتني؛ لنعرض بعدها مفهوم "اإلصالح اجلذري" الذي يتبناه ،بوصفه
منهجية جديدة يف قراءة النصوص املصدرية ،تسمح إبعادة الراهنية لرسالة اإلسالم
ومبادئه ،وتتجاوز يف الوقت نفسه أزمة الفكر اإلسالمي املعاصر؛ أما اجلزء األخري،
فسنتناول فيه مفهوم "فضاء الشهادة" ،الذي يرعد حماولة لبلورةر مفاهيم جديدة يف الفكر
السياسي ،ترؤسس لفكرة التعددية داخل اجملتمعات الغربية ،رمتجاوزة التصورات املنتجة
للعنف اليت سادت يف القرن العشرين ،سواء يف ثنائية دار اإلسالم -دار احلرب ،رأو يف
ثنائية الغرب -اإلسالم.
طارق رمضان أكادميي سويسري وابحث يف الدراسات اإلسالمية .وهو ابن سعيد رمضان
أحد الرعيل األول من قيادات اإلخوان املسلمني ،ووفاء البنا ابنة حسن البنا مؤسس
اجلماعة .رولد يف مدينة جنيف السويسرية يف 26أغسطس ،1962بعد أن انتقل والداه
للعيش فيها ،منفيني من قِبل نظام مجال عبد الناصر .درس رمضان الفلسفة واألدب
والعلوم االجتماعية يف جامعة جنيف ،وحصل على درجة املاجستري يف الفلسفة واألدب
الفرنسي أبطروحة عن "مفهوم املعاانة يف فلسفة نيتشه"؛ وعلى دكتوراه أوىل يف الفلسفة
مؤرخا للفلسفة"1؛ مث أطروحة اثنية عام ،1998تناول ر
أبطروحة حتت عنوان" :نيتشه ً
ومشلت دراسةً للعديد من
ْ فيها رخمتلف مشاريع التجديد اإلسالمي يف القرن العشرين،2
الشخصيات البارزة ،من قبيل مجال الدين األفغاين ،وحممد عبده ،وحممد رشيد رضا،
وحممد إقبال ،وحسن البنا.
ديرا يف
درسا بكوليج دي سوسور يف النسي بسويسرا ،ليرعني بعدها م ً بدأ مساره املهين رم ً
املؤسسة نفسها عام .1988لكنه استقال من منصبه عام ،1992بعد أن قرر البدء
متهيدا لالنطالق يف مشروعه اخلاص ،القائم على بناء
يف رحلة تكوين شخصيته العلميةً ،
وضوحا يف العامل الغريب؛ ال سيما بعد أن أصبحت
ً جسر التواصل ،وجعل اإلسالم أكثر
عددا من
قضية اإلسالم ذات أمهية متزايدة يف العامل الغريب خالل العقود األخرية ،ولعل ً
كانت سببًا يف محالت الكراهية ضد املسلمني ،من
األحداث اليت شهدهتا أورواب آنذاك ْ
قبيل جناح الثورة اإليرانية عام 1979؛ والضجة اليت أاثرهتا رواية سلمان رشدي عام
1988؛ وصدور كتاب صدام احلضارات ملؤلفه صموئيل هنتنغتون ،الذي يرى َّ
أن
احلضارة الغربية ستدخل يف صراع هواييت ر
وثقايف مع احلضارة اإلسالمية ،وما رافقه من
جدل يف شىت أحناء أورواب.
2010), p. 12.
Tariq Ramadan, Aux Sources Du Renouveau Musulman: D'al-2
afghan
̄ ī à Hassan Al-Bannā, Un Siècle De Réformisme
Islamique, (Paris: Bayard/Centurion, 1998).
388
ومن مثَّ بدأ يتبلور فكر طارق رمضان اجمل ّدد واملنصهر يف بوتقة الفكر اإلسالمي والفكر
ومة مفاهيمية جديدة تؤسس للعيش املشرتك والتعددية آن معا ،واملنتج ملنظ ٍ
الغريب يف ٍ
ً
وتروم رأب الصدع بني عاملني رخمتلفني من خالل بناء رجسر التواصل.
السياسية والدينية ،ر
390
فقد سعى رمضان يف كتابه املسلمون يف ظل العلمانية- 6وهو من بني أول األعمال
الصادرة له -إىل حتديد شروط التعايش اإلجيايب بني املسلمني وغريهم يف اجملتمعات الغربية،
داعيًا إىل ضرورة مواجهة املسلمني مسؤولياهتم ،سواء املتعلق منها ابحلاجة إىل التمسك
وضوحا ،رأو ابملشاركة بشكل أكثر فعالية
ً ابحلوار وإيصال وجهات نظرهم بشكل أكثر
أن هذا االلتزام األخالقي وحده ،من يف اجملتمعات اليت يعيشون فيها؛ إذ يرى رمضان َّ
شأنه أن يرزيل احلواجز والتحيزات ،ومينح اآلخرين فرصة االستماع لوجهة نظر املسلمني
واحرتام إمياهنم وممارساهتم الدينية .وأمام تزايد خطاب الكراهية وصدام ر
احلضارات
أن املسلمنيأكد رمضان يف كتابه اإلسالم :املواجهة بني احلضارات 7على َّ واهلوايتَّ ،
ر
لديهم الوسائل الالزمة ملواجهة التحدايت املعاصرة دون أن خيونوا هويتهم ،ومبقدورهم
مقرتحا بذلك أيضا االخنراط يف العصر احلديث بشكل َّ
خالق ،إذا ما حتلوا مبعىن االلتزامً ، ً
مناذج اجتماعية وسياسية واقتصادية ،ترتكز على األخالق واإلميان مبقاصد اإلسالم
أعماال أخرى ،عرض فيها بشكل تفصيلي املقصود اباللتزام الواجب وأهدافه .كما أصدر ً
مسلما
ً احرتامه من لدن املسلمني يف املجتمعات الغربية ،نذكر منها كتاب أن تكون
كتاب مسلمو رالغرب ومستقبل اإلسالم.9 أوروبيا ،8وأيضا ر
ً ً
391
أيضا نقد احلداثة ،بوصفها إن املشروع الفكري الذي يشتغل عليه رمضان يتناول ً وحيث َّ
أن فرض مشروعا مل يكتمل ،وما زال يف حاجة إىل إصالح منظومته القيمية؛ فإنَّه يرؤكد َّ ً
قدما
ر ً م اب،و للص انب جم
ر أمر هو الثقافات، تعددوم
ر تغريمر عامل يف أحادية يةرفك منظومة
بذلك مسامهة قيمة يف النقاش املعاصر بشأن احلداثة ومستقبل التنوير .ويبقى من أبرز
احملاوالت اليت قدَّمها يف نقد احلداثة ،كتاب البحث عن املعىن ،10الذي سعى فيه إىل
أيضا
مستفيدا من إرث فلسفي وديين ينتمي إىل سياقات رخمتلفة؛ و ً ً التنظري لفلسفة تعددية،
كتاب خطورة األفكار :تساؤالت حول كربى القضااي املعاصرة ،وهو حوار مع
11
392
مبزيد من التأصيل واإلنتاج النظريني ،واملسامهة التطبيقية يف العديد من القضااي ،من قبيل
األخالق اإلسالمية ،والعلوم الطبية ،و ر
الثقافة ،والفنون ،واملرأة ،والبيئة ،واالقتصاد ،وغريها
من القضااي.
13
وحماولة رأب
إن سعي رمضان إىل بناء جسر التواصل بني ثقافتني وحضارتني رخمتلفتني ،ر
الصدع ،إلهناء -أو على األقل -التخفيف من الصراع والعنف وخطاب الكراهية ،ليس
ابألمر اهلني؛ إ ْذ يصبح الوسيط هدفًا للتشكيك يف والئه من كال الطرفني .فهو عند بعض
أهال ألن يتكلم يف قضااي اإلسالم14؛ وعند بعض املسلمني :ضعيف اإلميان وليس ً
15
وداع إىل اإلرهاب ،أو صاحب خطاب رمزدوج الغربيني :صاحب فكر رمتطرف ٍ
393
وغامض .16ورغم ذلك ،آمن رمضان ابلنقد واحلوار يف رمواجهة التحيزات كافَّةً؛ إذ ليس
ومتصارعني .17بيد أنَّه سرعانمني رخمتلفني ر وجها لعالَ
احدا رم ً
خطااب و ً
ً من السهل أن يرق ِّدم
اضحا أن هذه املهمة ستركلفه الكثري ،18فآراؤه بشأن القضااي الدينية والسياسية ما أصبح و ً
عددا من الدول العربية متنعه من ر
جعلت ًْ وانتقاداته املتكررة ألنظمة احلركم املستبدة،
أيضا رمن دخول فرنسا ملدة ستة أشهر ،بني نوفمرب 1995 ر
الدخول إىل أراضيها؛ كما رمنع ً
وماي 1996؛ ابإلضافة إىل العديد من القيود والتضييقات يف زايراته لبعض الدول
األوروبية كبلجيكا وهولندا .لكن يظل احلدث األبرز هو منعه من دخول الوالايت املتحدة
األمريكية عام .2004فبعد أن رعرض عليه يف فرباير من العام نفسه ،منصب ركرسي
دائم مزدوج يف الدراسات اإلسالمية يف اجلامعة الكاثوليكية لنوتردام يف ساوث بند بوالية
اضرا يف معهد جون يب كروك لتدريس العالقة بني الدايانت أيضا العمل أستاذًا رحم ً إندايان ،و ً
وتعزيز السالم؛ جاء قرار احلكومة الفيدرالية إبلغاء أتشرية العمل بعد أشهر من حصوله
394
حق اختاذ
عليها ،رمعللة ذلك أبن قانون مكافحة اإلرهاب مينح حكومة الوالايت املتحدة َّ
إجراءات خاصة عند االشتباه بقيام أنشطة إرهابية .بعد هذا الرفض ،وقَّع عدد من هيئات
املجتمع املدين واملفكرين والقادة األمريكيني- 19من بينهم نعوم تشومسكي -عريضة تندد
هبذه اإلجراءات اليت حتد من احلرية األكادميية؛ كما رفع رمضان دعوة قضائية ضد منعه ر
من دخول أمريكا واهتامه ابإلرهاب ،ليصدر حكم يف 17يوليو ،2009من حمكمة
استئناف يف ماهناتن ،يرلغي قرار احلكومة الفيدرالية وير ِّربئه من الترهم املوجهة إليه.
ر
اعرتضت رمضان ،وتصديه هلا سواء ابلكتابة األكادميية، ْ كل هذه التحدايت والعراقيل اليت
أو حواراته العديدة يف وسائل اإلعالم ،والربامج التلفزيونية اليت ترناقش اإلسالم والعلمانية
سامهت بشكل أو آبخر ،يف أن يرصبح ذا حضور وازن يف ْ وواقع املسلمني يف الغرب -
20
أتثريا يف العامل .وقد
الساحة اإلعالمية كواحد من بني أكثر الشخصيات العمومية ً
ومعارض ،بسبب خلفيته كمسلم أورويب ،وموقفه الذي تباينت اآلراء بشأنه بني مؤيد ر
يتبناه يف مواجهة ردعاة اإلسالموفوبيا من األكادمييني والسياسيني الغربيني؛ وعندما سألته
جملة فورين بوليسي [ 21]Foreign Policyعن السبب الذي يدفع العديد من
ACLU Asks Federal Appeals Court to Lift Ban on Renowned " 19
Scholar, American Civil Liberties Union, 23/01/2008, accessed on
10/08/2017, at: https://goo.gl/vdFgNW
احدا من بني سبعة جمددين دينيني يف القرن احلادي والعشرين ،ويف 20
اختارته جملة اتمي األمريكية عام 2000و ً
أتثريا يف العامل ،حيث حل يف املرتبة الثامنة .كما اختارته جملة فورين
عام 2004من بني مئة شخص األكثر ً
بوليسي يف األعوام 2005و 2006و 2008و 2010و 2012و 2015من بني املفكرين املئة األكثر
أتثريا يف العامل ،يرنظر:
ً
The 2004 TIME 100" Time, accessed on 10/08/2017, at:
https://goo.gl/KddLR4; FP Top 100 Global Thinkers, Wikipedia,
accessed on 10/08/2017, at: https://goo.gl/nRtrRf
Brad Amburn, Who's Afraid of Tariq Ramadan? Foreign Policy, 21
26/10/2009, accessed on 10/08/2017, at: https://goo.gl/RBCmdh
395
جديدا من املسلمني
ً جيال
املثقفني يف أورواب وأمريكا إىل معاداته ،أجاهبا أبنَّه رميثل ً
ر األوروبيني واألمريكيني ،القادر على عرض وجهات نظره والدفاع عنها.
ويبدو من املهم قبل االنتهاء من هذا اجلزء ،الذي حاولنا من خالله عرض جانب من
جتربة رمضانر يف بناء جسر التواصل بني العامل الغريب والعامل اإلسالمي -التذكري أبنَّه ال
يزال إىل اليوم رمنكبًا على هذه الرسالة ،من خالل عمله احلايل كأستاذ الدراسات
اإلسالميّة املعاصرة يف جامعة أوكسفورد ،يف قسم الدراسات الشرقية بكلية القديس أنتوين،
أيضا يف عمله أستا ًذا
وأستاذ حوار األداين يف قسم الدراسات الالهوتية ابجلامعة نفسها ،و ً
ائرا يف كلية الدراسات اإلسالمية جبامعة محد بدولة قطر ،وَف اجلامعة املاليزية بريليز، زً
فضال عن كونه رئيس املركز األورويب يف بروكسل، وابحثًا يف جامعة دوشيشا ابلياابنً ،
وعضو االحتاد العاملي لعلماء املسلمني .كما يرأس مركز دراسات التشريع اإلسالمي
واألخالق ابلدوحة 22الذي أتسس عام 2012؛ وقد مسح له هذا الفضاء ببناء صرح
مدرسة أخالقية رحتقق اإلصالح اجلذري الذي يدعو له يف كتاابته ،من خالل مجع
املتخصصني يف العلوم اإلسالمية واإلنسانية واالجتماعية جنبًا إىل جنب ،من أجل
ومعاجلة قضااي ترركز على األخالقيات التطبيقية ،مث ر
املرسامهة يف جتديد الفكر اإلسالمي ر
رحماولة تعميم اإلنتاج املعريف على أكرب شرحية ممكنة يف العاملني اإلسالمي والغريب.
أزمة الفكر اإلسالمي املُعاصر
ترعد رحماولة طارق رمضان نقد الفكر اإلسالمي املعاصر وتقوميه من الركائز األساسية يف
اإلصالح هو من صميم رسالة اإلسالم، مشروعه الفكري .وإذ يؤكد على أن التجديد و ر
مفروضا عليها من اخلارج ،23فإنَّه رحياول متييز مشروعه اإلصالحي
ً أمرا طارًائ أو
وليس ً
عن ابقي املشاريع يف العامل اإلسالمي اليت تستخدم مفاهيم االجتهاد والتجديد واإلصالح
نفسها؛ بل وتتخذ هي األخرى من القرآن والسنة رمنطل ًقا هلا ،لكنها مع ذلك ترعاين من
خلل بنيوي ،مينعها من حتقيق الغاية املرجوة من التنظري ملثل هذه املصطلحات.
ر
396
كفيل ببيان َّ
أن ولعل حتديد الغاية من اإلصالح ،ومدى تطابقها مع رسالة اإلسالمٌ ،
مشروع املصلح أو املفكر أو الفقيه ،هو مشروع إصالحي أم ال .وإذا ما أرخذ هذا األمر
ابحلسبان،ر فسنكون أمام صراع أتويالت ،يرسفر هناية املطاف عن صراع على السلطة،
وعلى من له األحقية يف احتكار التأويل .يرعلن رمضان قلقه إزاء هذا املأزق الفكري،
الذي يهدد شرعية أي دعوة إصالحية؛ ولذلك رحياول ما أمكن أن رميهد لفكرته عن
اإلصالح مبقدمة على قدر كبري من البساطة واالتفاق بني سائر املسلمني" :احملافظة على
املعاين اليت توفِّرها النصوص الدينية ،واتّباع الشريعة من خالل األوضاع املتغرية للزمان
واملكان الذي يكتنف مصري البشرية" .24فهل جنحت مشاريع اإلصالح والتجديد منذ
بدايتها يف القرن التاسع عشر إىل زمننا الراهن ،يف حتقيق هذه الغاية؟
نت إحاطة رمضان ابلسياق التارخيي هلذه املشاريع ،25من حتديد آليات اشتغاهلا لقد َّ
مك ْ
على الرتاث الفقهي اإلسالمي ،وتقييم رخمتلف املقارابت واحللول اليت قدَّمتها للمجتمعات
القرن اخلامس عشر ،دخل العامل اإلسالمي املسلمة داخل العامل اإلسالمي وخارجه .فمنذ ر
ر
عاجزا عن إنتاج مفاهيم جديدة سواء على املستوى الديين أو يف الركود والتقليد ،وأصبح ً
االجتماعي أو السياسي؛ يرضاف إىل ذلك األزمة السياسية بداية القرن العشرين ،بعد
تفكك اإلمرباطورية العثمانية وسقوط اخلالفة ،وما رافقه من استعمار أورويب .كل هذه
ت إىل إنتاج خطاب فقهي وديين دفاعي ،يغذيه اخلوف من التغيري ،واخلوف األحداث َّأد ْ
من اآلخر.
إن أي أتسيس لنظرية أخالقيَّة هو يف حقيقته تعبري عن مأزق سوسيولوجي وثقايف راهن؛ َّ
فنظام القيم الذي رحتاول النظرية األخالقية تقوميه أو وضع بديل عنه ،هو ابلدرجة األوىل
26
قادرا على طرح نظريته دون
معايري اجتماعية وسياسية ورؤية للعامل .ومل يكن رمضان ً
397
العودة إىل مواطن اخللل يف املنظومة الفقهية املعاصرة ومشاريع اإلصالح املستمدة منها.
بل أيضا نقدا للتطبيقات ر
الفقهية املعاصرة؛ ليس من منطلق كونه نقدا نظراي فحسب ،ر
ً ً ً ر
ر
نظام قي ٍم أخالقيًا ،هي بنية ذهنية وفكرية ،تربطها عالقة بكوهنا الفقهية املنظومة ذلك َّ
أن
َ
العديد من
َ جدلية مع ابقي البىن االجتماعية؛ بشكل جيعلها ترنظم بشكل و ٍاع أو غري و ٍاع
العالقات والتصورات داخل املجتمع.
ر
ودون االستغراق يف حتديد املسؤول عن فقدان العامل اإلسالمي القدرة على تغيري الواقع،
أن آليات تفاعل املنظومة الفقهية مع األزمة ،هو واحد من األخطار فإن رمضان يؤكد َّ َّ
حتد حقيقي،الرئيسة اليت هتدد ضمري املسلم املعاصر .ولذلك فقد وجد نفسه أمام ٍ
27
يتمثل يف نقد توجهات فقهية تشرتك معه املقدمات نفسها اليت ينطلق منها :سلطة النص،
واتباع الشريعة .وكان أمام نزعة حرفية تَـْنظرر إىل املاضي وتسعى إىل استجالبه حنو احلاضر،
وأخرى رحتاول التكيُّف مع حتدايت الواقع ومتغرياته .وما مل يتم االعرتاف بقصور هذه
يما على الفكر اإلسالمي املعاصر. املشاريع اإلصالحيةَّ ،
فإن واقع األزمة سيظل رخم ً
ر
وقعت فيها املقاربة احلرفية املعاصرة ،ذات النزعة السلفية ،يف عدمتتجلى األخطاء اليت ْ
ر
القدرة -أو حىت الرغبة -يف التمييز بني النص وأتويله ،حيث جيري اختزاهلما إىل احلد
اتبعا لتأويل شارحه ومفسره .وعندما جيري انتقاد هذه النزعة، األدَّن ،ليصري معه النص ً
28
كثريا ما ترثار الشكوك بشأن النوااي ،ويرتهم صاحبها مبرحاولة إفساد اإلسالم .لذلك ال ً
أن اإلشكالية اليت تعرتي النص ليست يف منزلته وإمنا يف طريقة قراءته، يفتأ رمضان يرذكر َّ
يقول يف ذلك" :الشيء الذي يتعني تقييمه والتشكيك به جيري جتاهله يف األغلب ،وهو
أن عدم التمييز بني مستوايت نفسية العلماء املفسرين وجمموعة من أفكارهم" .29كما َّ
النص والتأويل ،يستتبعه خلط بني املبادئ اليت تتميز ابلثبات ،وبني النماذج اليت ترعد
وسياسية :حممد عابد اجلابري ،العقل األخالقي العريب :دراسة حتليلية نقدية لنظم القيم يف الثقافة العربية،
سلسلة نقد العقل العريب ( 4بريوت :مركز دراسات الوحدة العربية )2001 ،ص .60-56
التحرر ،مرجع سابق ،ص .23
طارق رمضان ،اإلصالح اجلذري :األخالقيات اإلسالمية و ّ
27
28كما حصل مع رمضان عندما أطلق دعوته من أجل تعليق العمل ابحلدود اإلسالميَّة.
التحرر ،مرجع سابق ،ص .27
طارق رمضان ،اإلصالح اجلذري :األخالقيات اإلسالمية و ّ
29
398
تطبيقات اترخيية ومتغرية ونسبية للمبادئ30؛ فعندما يتحول منوذج ما إىل مبدأ رحيتذى به،
كما هو احلال ابلنسبة إىل الراغبني يف تطبيق منوذج املدينة املنورة على واقعنا املعاصرَّ ،
فإن
ذلك يفضي -وفق رمضان - 31إىل جتاهل آمث ومن دون سابق تفكري ر
لذلك التاريخ، ر
وإىل اختزال مشولية مبادئ اإلسالم حبرلم عودة مستحيلة إىل املاضي ،وإىل حنني غري
مسؤول إىل األصول املاضية .لذلك يدعو رمضان إىل ضرورة التفريق بني املبادئ الثابتة
أن قراءةً للنصوص من خالل هذا املنظور ،سترجنب الفكر كدا َّ 32
ومناذجها املتغرية ،مؤ ً
اإلسالمي راملعاصر السقوط يف األصوليات املتطرفة ،وستفتح للمسلمني القدرة على النفاذ
اإلسالم احلقيقية ومقاصدها ر
وغاايهتا ،والعيش يف انسجام داخل اجملتمعات اليت إىل رسالة ر
ينتمون إليها.
وابلقدر الذي ترشكل النزعة احلرفية عائ ًقا أمام التجديد والتغيري ،فإ ّن اإلصالح التكيُّفي
يرعاين من اخللل نفسه .ال سيما بعد اقتصار املشتغلني على الفقه بتكييف الفتوى أمام
دائما تالحق ر
حتررا من النزعة السلفية ،كانت جتد نفسها ً عامل رمتغري .وحىت املشاريع األكثر ً
إن إشكالية هذه ومتسارعةَّ .وحتاول أن تقدم إجاابهتا املتأخرة33عن أسئلة جديدة ر الواقع ر
املقاربة الفقهية تكمن يف أفقها احملدود ؛ إذ تعىن مبراقبة العامل ،ومالحظة التغريات اليت
حتدث فيه ،مث ترجع إىل النصوص القرتاح قراءات أو رخص أو إعفاءات جديدة يف تطبيق
الشريعة34؛ وبدل أن تكون هلذه النزعة رؤية أخالقية تؤطر هبا توجهات املسلمنيَّ ،
فإهنا
ر
أخالقية .وهو األمر جتد نفسها خاضعةً لنظام عاملي ،يبتعد عن االلتزام أبي منظومة
399
تتمسك ابلتكيف ومبوقفها الدفاعي، 35 ِ
الذي يرذ ّكر به رمضان ؛ كون نزعة إصالحية ّ
ستفقد ال حمالة إمياهنا األخالقي وقدرهتا على املطالبة ابلعدالة ،لتصل هناية املطاف إىل
االعرتاف ابلنظام العاملي السائد ،ومن مثَّ تبطل رشرعية اإلصالح الذي تدعي أهنا ترؤمن
به.
أن نتاج كل من النزعة احلرفية واإلصالح التكيفي يف اضحا عند رمضان َّ لقد ابت و ً
اشتغاهلما على املنظومة الفقهية وفق آليات دفاعية تتوجس من اآلخر ،قد بلغ مداه؛ و َّ
أن
خلل هذه املشاريع اإلصالحية يف تعاطيها مع النص ومع الواقع هو خلل بِنيوي ،تصري
معه كامل املنظومة الفقهية إىل جهاز يركرس العجز ويرنتجه ،بشكل يرصبح غري قادر من
الناحية الفعلية على وضع حلول انجعة للقضااي املعاصرة ،انهيك عن تقدمي رسالة اإلسالم
أيضا
يتوصل رمضان هلذا احلركم من رمنطلق الدارس أو املراقب فحسب ،بل ً ومقاصده .مل َّ
من رمنطلق موقعه كمنخرط اجتماعيًّا يف حل قضااي املجتمع املسلم على مدار العقدين
الكالسيكي ،والتأسيس إلصالح جذري، ر املنصرمني .لذلك يدعو إىل جتاوز اإلصالح
يستند يف مركزيته إىل القرآن وما ثبت من السنة ،ويعتمد على آليات قراءة وأتويل جديدة
جتعل من النص والسياق املعاصر مصدرين للتشريع دون افرتاض وجود تعارض بينهما؛
وعوضا عن اهلروب من الو راقع مبواقف دفاعية ،يرصبح لإلصالح التحويل الذي يدعو إليهً
القدرة على تغيري الواقع والتأثري فيه من خالل معرفة أفضل ابلعامل ،36وإنتاج رؤية ومفهوم
جديدين من شأنه أن ميد املسلمني ابلفاعلية اخلالقة من أجل تغيري العامل إىل األفضل.
وهبذا الشكل يتجاوز رمضانر القراءة احلرفية حنو قراءة منفتحة ،ويتجاوز معضلة اإلصالح
التكيفي ابقرتاح إصالح حتويل ،يقول رمضان يف النص التايل:
يدا من الرباعة من حيث إنه يضيف خطوة إضافية وشرطًا "يتطلب اإلصالح التحويل مز ً
إىل العملية أبكملها .إنه يهدف إىل تغيري نظام األشياء ابسم األخالقيات اليت يرمي إىل
التمسك هبا ،وبعبارة أخرى ،إنه يضيف خطوة أخرى يف االنتقال من النصوص إىل
400
السياق مث إىل العمل بناء على هذا السياق وحتسينه ،من غري أن يقبل على اإلطالق
بنواحي القصور فيه ومبظامله بوصفها مسائل حمتمة".37
مشروعا كالذي حيمله مفهوم اإلصالح اجلذري ،لن يتطلب فقط منهجية ً يبدو أن
جديدة يف قراءة النصوص أتخذ ابحلسبان السياق املعاصر ،وهو أمر أساسي حسب
إحلاحا من رأي وقت مضى إىل نقد األصول
أيضا حتتاج وبشكل أكثر ً رمضان؛ ولكن ً
قامت عليها املنظومة الفقهية.
اليت ْ
يف احلاجة إىل إصالح جذري :من الشريعة إىل األخالقيات اإلسالمية
يقوم مفهوم اإلصالح اجلذري عند رمضان على رمرتكزين اثنني؛ يستند األول على تقدمي
قراءة جديدة للنصوص ،ولن يتم ذلك دون املرتكز الثاين املتمثل يف نقد أصول الفقه.
اإلسالمي ،فإن رمضان على وبعيدا عن تلك املقارابت اليت تدعو للقطيعة مع الرتاث ر
ً
لح إىل إعادة خالف ذلك ،يذهب إىل َّ
أن أزمة الفكر اإلسالمي املعاصر حتتاج وبشكل رم ٍ
ر
قراءة املاضي .لذلك يرناقش يف كتابه اإلصالح اجلذري ً
عددا من املقارابت الكالسيكية
أن التصاحل مع املاضي هو الطريقة املثلى للتوصل إىل سبل جديدةعتربا َّ
ألصول الفقه ،رم ً
أن ما يدعو إليه من إصالحتقود حنو املستقبل ،وأييت ذلك كنوع من التأكيد على َّ
38
ليس وليد راللحظة ،بل هو عملية تراكمية على مدار قرون من الزمن.
رحياول رمضان أن يستخلص مجلة من الفوائد بدراسته للرتاث الفقهي ،من خالل الرتكيز
على ثالث جتارب رمهمة يف اتريخ الفقه اإلسالمي .تعود األوىل إىل الشافعي (ت:
،)820إذ يرى رمضان َّ
أن مقاربته تقوم على االستدالل ،رمركزة يف املقام األول على
القرآن والسنة بوصفهما املصدرين النصيني األساسيني ،دون االهتمام ابملخرجات اخلاصة
ألصول الفقه ،39وهو ما يرفسر القيود اليت وضعها عند مناقشة مصادر التشريع األخرى
إن سعي الشافعي الستخراج القوانني واألحكام من القرآن من قبيل اإلمجاع والقياسَّ .
والسنة ،يرربز حذره من التعليل التحليلي املستقل ،يف مقابل قراءته االستداللية للنصوص.
404
47
وعا من "الوسيط املتالشي"
يستعمل الشريعة ،حبيث تكون وظيفتها يف هناية املطاف ن ً
ر
[ ،]Vanishing mediatorيسمح ابالنتقال إىل األخالقيات اإلسالمية ما بعد
الفقهية؛ مما يعين أن رمضان يستخدم بعض مضامني التقاليد الكالسيكية ألصول الفقه
برغية االنتقال من صرامة األوامر والنواهي ،إىل موقف أخالقي أكثر مرونة بشكل يرلغي
معه الشريعة ،ويستند يف ذلك إىل مقارنة مشروع رمضان بتجارب إصالحية يهودية.48
وعلى الرغم من أن التحليل الذي قدمه مارس يتوافق مع املخرجات النهائية ملفهوم
فإن االدعاء الذي قدَّمه بشأن توظيف ر
رمضان للشريعة أو رمقارنته اإلصالح اجلذريَّ ،
49
صحيحا .إذ جيب التفريق بني الشريعة اليت هي وفق
ً إبصالحات دينية أخرى ال يبدو
رمضان منظومة قي ٍم ومبادئ تقوم على العدالة واملساواة واحلرية ،وال تتعارض أو تصطدم
مع القوانني املدنية العلمانية50؛ وبني الشريعة كمنظومة فقهية هي نتاج عالقة جدلية
" 47الوسيط املتالشي" هو مفهوم روجد للتوسط بني فكرتني متعارضتني ،من أجل تسهيل االنتقال بينهما ،وعند
االنتقال إىل الفكرة اجلديدة يتم االستغناء عن الوسيط املتالشي.
ر
Andrew F. March, The Post-Legal Ethics of Tariq Ramadan: 48
Persuasion and Performance in Radical Reform: Islamic
Ethics and Liberation (A Review Essay), Middle East Law and
Governance, vol. 2 (2010), p. 253.
49يرنظر على سبيل املثال كتاب الهوت طارق رمضان ملؤلفه غريغوري بوم ،حيث قام بدراسة للعديد من أوجه
ومواجهتها للحداثة ،مع عقده املقارنة بني اإلصالح
الشبه بني التجارب اإلسالمية والكاثوليكية يف احتكاكها ر
اجلذري لرمضان وإصالح اجملمع الفاتيكاين الثاين ،يرنظر:
Gregory Baum, The Theology of Tariq Ramadan: A Catholic
)Perspective (Notre Dame: University of Notre Dame Press, 2009
50يذهب رمضان إىل َّ
أن الشريعة هي نفسها القانون املدين العلماين ،الذي يرعطي للجميع حق املواطنة ،وحرية
التعبري واالعتقاد ،وجيعلهم سواسية أمام القانون بغض النظر عن خلفياهتم الدينية أو السياسية؛ لذلك يرى
رمضان أنَّه ال يوجد تعارض بني القانون العلماين الذي يرنظم العالقات داخل اجملتمعات الغربية دون حتيزات
دينية ،وبني مقاصد الشريعة اإلسالمية ،يرنظرRamadan, Following Shari’a, p. :
247.
405
فإن رمضان يروظف الشريعة من أجل اترخيية بني النص والسياق ،ويف هذا املستوى الثاين َّ
وضع مشروعه وفق مسار تطوري ،يبدأ ابلفقه االستداليل مث االستقرائي فاملقاصدي،
أن مثل هذه املقارانت بني اإلصالح اإلسالمي ليبلغ مداه يف اإلصالح اجلذري .كما َّ
51
واليهودي واملسيحي ،تربطل األساس النظري الذي يقوم عليه مشروع اإلصالح اجلذري ،
نتيجة اختزاله يف البرـ ْعد الديين فحسب ،وإغفال البرـ ْعد الفلسفي الذي يقوم عليه؛ فرغم
أيضا
كون رمضان يروم وضع مقاربة جديدة لقضااي دينية تنتمي إىل اإلسالم ،فإنه يدعو ً
إىل إحياء فلسفة إسالمية ،ونشر ملكة النقد واإلبداع الفكري واالستقاللية الذاتية بني
عموم املسلمني ،وتقدير التعددية الدينية والسياسية .وهو ما رحييلنا إىل شق رمهم من
ِ
كم ٍل لإلصالح اجلذري ،يتعلق األمر مبفهوم "عامل الشهادة". ر
املشروع الفكري لرمضان رم ّ
بناء فضاء الشهادة
لقد كان ألحداث القرن العشرين ،من سقوط الدولة العثمانية وإلغاء اخلالفة ،إىل ظهور
انعكاسات حادة على الفكر السياسي اإلسالمي ،الٌ الدولة الوطنية يف العامل العريب،
سيما بعد استحضار الشريعة بشكل رمفرط وحريف ،أدى إىل إحداث فجوة بني املاضي
واملستقبل .يظهر هذا التوجه بشكل ابرز يف سعي حركات اإلسالم السياسي إىل اسرتجاع
دورلة اخلالفة اليت حتكمها الشريعة؛ ملواجهة أنظمة علمانية ،يرون َّأهنا غريبة عن قيم
احلضارة اإلسالمية .وقد كان لكتاابت سيد قطب وخطابه بشأن احلاكمية اإلهلية وثنائية
دار اإلسالم -دار احلرب ،صدى كبريٌ عند هذه احلركات ،بعد أن صار مرجعية فكرية
يف رؤيتها لقضااي اإلسالم السياسي وحتدايته املعاصرة .52ومنذ ذلك احلني ،أصبح عدد
الديين أو العلماين -يعيش على وقع هذه من مشاريع اإلصالح -سواء ذات التوجه ر
الثنائيات احلدية إسالم-علمانية ،املكرسة للصراع والعنف.
ر
واألمر سيان عند االنتقال إىل الضفة األخرى ،حيث يتم تكريس ثنائية غرب-إسالم
امتدادا هلذه
ليست نظرية صدام احلضارات إال ً وكأهنما كياانت حضارية وجغرافية اثبتة .و ْ
406
أن الصراع األيديولوجي بعد احلرب الثنائية ،اليت يرنظر صاحبها صموئيل هنتنغتون إىل َّ
53
الباردة لن ينتهي بسيادة الدميقراطية الليربالية كنظام عاملي ،بل ستدخل احلضارة الغربية
يف صدام هواييت وثقايف ضد ابقي احلضارات مبا فيها احلضارة اإلسالمية .ويظل تصميم
العديد من السياسيني والقادة الغربيني على هذا التصنيف الثنائي ،ملواجهة التحدايت
اخلارجية مع البلدان ذات األغلبية املسلمة ،والتحدايت الداخلية مع راجملتمعات املسلمة،
يظل سببا يف تنامي تيار اليمني املتطرف واجلماعات الدينية ،املؤمنة بثنائية ر
اخلري /الشر ً
كحل خالصي أخري ،فمن ليس ريف صفهم فهو من دون شك يف صف أعدائهم .وما ٍّ
فكرة احلاكمية اإلهلية ،كما تدعو إليها تيارات اإلسالم السياسي ،إال رد فعل رمتطرف
على الفعل السياسي الغريب ،الذي أثبت عجزه عن تدبري التعددية الثقافية والسياسية
والدينية.
إحلاحا إلنتاج رؤية عاملية جديدة،54 َّ
إن هذه اآلراء املكرسة للعنف جتعل احلاجة أكثر ً
53سيادة الدميقراطية الليربالية كنظام عاملي ،هي نظرية فرانسيس فوكوايما بشأن أنظمة احلركم اليت عرضها يف كتابه
هناية التاريخ واإلنسان األخري ،وجاء كتاب صموئيل هنتنغتون كرد على هذه األطروحة ،يرنظر :فرانسيس
فوكوايما ،هناية التاريخ واإلنسان األخري ،ترمجة فؤاد شاهني وآخرين (بريوت :مركز اإلمناء القومي)1993 ،؛
صموئيل هنتنغتون ،صدام احلضارات :إعادة صنع النظام العاملي ،ترمجة طلعت الشايب (طرابلس :الدار
اجلماهريية للنشر والتوزيع.)1999 ،
54ظهرت العديد من الدراسات اليت ترشكك يف الرؤية الثنائية للعامل املستندة على احلدود اجلغرافية والسياسية
ر
هما زحزحة هذه القناعات الثنائية ( ،)Manichaeismوالتذكري َّ
أبن العامل الغريب ليس املرتخيلة؛ إذ يبدو رم ً
حضارة ذات جذور متجانسة وحدود اترخيية ومعاصرة واضحة املعامل .فمن املستحيل حتديد املكان الذي يبدأ
فيه وينتهي على وجه التحديد ،وتبقى احلضارة الغربية -شأهنا يف ذلك شأن احلضارة اإلسالمية وابقي
احلضارات -مزجيًا من تقاليد متعددة ،أتثرت بشكل دائم حبضارات وثقافات أخرى ،يرنظر:
Roxanne L. Euben, Comparative Political Theory: An Islamic
Fundamentalist Critique of Rationalism," The Journal of Politics,
vol. 59, no. 1 (Feb. 1997), p. 28-55; Roxanne L. Euben, Journeys
to the Other Shore: Muslim and Western Travelers in Search
407
وتطوير أدوات مفاهيمية ،ال متكننا من التعرف إىل اهلوايت اجلديدة واألماكن البَـْينِيَّة
أيضا التنظري هلا .55وضمن هذا اإلطار رميكن والثقافات العابرة للحدود فحسب؛ ولكن ً
احدا من بني املحاوالت الرامية موضعة مفهوم "فضاء الشهادة" لطارق رمضان ،بكونه و ً
ر
إىل إنتاج مفاهيم جديدة يف الفكر السياسي ،تقطع مع التصورات املنتجة للعنف ،وتسمح
بينها بشكل سلمي؛ يف للمجتمعات املختلفة دينيا وثقافيا أن تتعايش وتتفاعل فيما ر
ً ً الوقت نفسه ر
الذي متنح املسلمني ملكة نقدية ،تسمح هلم ابملمارسة السليمة حلرية اإلميان
والطقوس الدينية واملشاركة السياسية والدعوة إىل اإلسالم.56
ومن أجل التأسيس ملفهوم "فضاء الشهادة" ينطلق رمضان -كما هو احلال يف اإلصالح
خصوصا تلك املتعلِّقة بثنائية دار اإلسالم /دار
ً اجلذري -من نقد التصورات القدمية،
ر
احلرب ،اليت ال تزال تؤطر رؤى العديد من املسلمني .فقد عرض يف كتابَـْيه أن تكون
أورواب 57ومسلمو الغرب ومستقبل اإلسالم ،58رخمتلف اآلراء الفقهية اليت
مسلما يف ً
ً
ِ
أنتجت هذه الثرنائية؛ ليخلص إىل كوهنا غري رمستمدة من النصوص املصدرية يف الكتاب
ْ
والسنة؛ إذ هي حماوالت من لدن علماء وفقهاء خالل القرون الثالثة األوىل من ظهور
اإلسالم وانتشاره ،بذلوا جهدهم الستنتاج مبادئ واضحة تتمايز من خالهلا املناطق
408
استنادا إىل الواقع اجلغرايف والسياسي الذي عاشوا فيه؛ وهو اجلرهد
ً اإلسالمية عن غريها،
الذي أسفر هناية املطاف عن رؤية للعامل تقوم على ثنائية دار اإلسالم /دار احلرب.
يرؤكد رمضان على َّ
أن الرؤية الثنائية للعامل مل تعد مناسبة لواقعنا املعاصر ،59الذي يتميز
ر
بتعقيدات متزايدة يف توزيع القوة االقتصادية والسياسية ،وتنوع التحالفات االسرتاتيجية
ومناطق النفوذ ،وحبركة سكانية دائمة؛ ففي العامل الغريب وحده ،يعيش ماليني من
املسلمني ،سواء من أصول إفريقية وآسيوية أو من األوروبيني الذين اعتنقوا اإلسالم ،وال
استنادا إىل ثنائية دينية أو جغرافية أو
ً رميركن أبي حال أن يتم فصلهم عن غري املسلمني
سياسية .60لذلك يرى رمضان أنَّه يف الوقت الذي مل تعد التصنيفات القدمية قادرة على
فهم الواقع بتحدايته وإشكاالته ،وعندما يصعب العثور على إرشادات أو حلول يف
األعمال الفقهية القدمية؛ فإنَّه يبدو من الضروري جتاوزها وعدم تنزيلها على عامل اليوم.
ومن أجل البحث عن بديل ،وعن مفاهيم جديدة؛ يدعو رمضان إىل إعادة قراءة النصوص
املصدرية ،وااللتزام مببادئ اإلسالم الذي يرقدم رسالته للعامل دون قيد زمين أو جغرايف.61
أن دعوة رمضان رمستندة على السياق -الواقعَّ ،-
فإن آليات تفعليها وعلى الرغم من َّ
مصدرا
ً ومنفتحة على أكثر من أتويل .ولكي يصل إىل جعل هذا السياق تبدو رمعقدة ،ر
ئيسا من مصادر التشريع ،ينطلق رمضان من فكرة أساسية؛ فإ ْن كان اإلسالم حيمل ر ً
رسالة عامليةَّ ،
فإن املسلم رملزم مهما كان السياق الذي يعيش فيه إبجياد املصادر الالزمة
إن الفقهاء األوائل قد صاغوانسجما مع عقيدته وإميانه؛ وإذ َّ
اليت تؤهله ألن يكون رم ً
فإن مسلمي اليوم رمطالبون أكثر من أيرؤيتهم الثنائية للعامل اليت جتعل وجودهم ذا معىن؛ َّ
تشكلت يف عصر وسياق ْ وقت مضى ،بتجنب فهم واقعهم من خالل مفاهيم قدمية
رخمتلفني ،وأ ْن يسعوا بشكل جدي من أجل إنتاج مفاهيمهم اخلاصة .ومبثل هذا الفهم
409
وجب النظر إىل السياق بوصفه وسيلة تتكون بفضله هوية املسلم وتزدهر؛ إذ اإلشكالية
حسب رمضان تتحدد يف اجلواب عن سؤال :من حنن؟ وماذا يتوقع ديننا منا كمسلمني62؟
رحياول رمضان رمنطل ًقا من مبادئ اإلسالم ،أ ْن حيصر رحمددات اهلوية املسلمة ،أو مبعىن
مسلما"؛ ليبحث بعد ذلك عن إمكانية حتقيقها يف سياق ً آخر "كيف يكون املرء
اجتماعي وسياسي غريب .ولبلوغ هذا املسعى ،رحيدد مخسة مبادئ سوسيو-سياسية من
شأهنا محاية املسلم الفرد واملصلحة العامة :حرية اإلميان؛ وحرية ممارسة العبادة فردية كانت
أو مجاعية؛ واألمن؛ واحلرية يف عرض اإلسالم على اآلخرين؛ وحق املشاركة يف احلياة
السياسية واالجتماعية واالقتصادية داخل املجتمع .63وبعودته إىل اخللفية الثقافية
أن مخسة حقوق والقانونية ملختلف البلدان األوروبية وأمريكا و ر
كندا وأسرتاليا ،يرى رمضان َّ
على األقل مضمونة للفرد املسلم ،وجتعله يف انسجام مع هويته اإلسالمية:64 أساسية ر
احلق يف ممارسة الدين؛ واحلق يف التعليم؛ واحلق يف أتسيس املنظمات واجلمعيات؛ واحلق
إن هذه الرتكيبة اليت سعى رمضان يف التمثيل الذايت؛ واحلق يف الطعن على القانونَّ .65
لتشكيلها ،رمستن ًدا يف ذلك على مبادئ اإلسالم والسياق املعاصر ،جعلته يستنتج َّ
أن
مكاان ر
الغرب الذي يضمن هذه احلقوق ال جيب أن يرنظر إليه كبيئة معادية ،بعد أ ْن أصبح ً
يستطيع املسلمون العيش فيه أبمان ،رمعلنًا َّ
أن البلد الذي حيرتم حرية املسلمني وإمياهنم
وعباداهتم ،هو الوطن الذي جيب أن يشعروا فيه ابالنتماء احلقيقي املحفز على االخنراط
يف اجملتمع بشكل فعال ،برغية تنميته وتطويره .66لذلك فإن رمضان الر يقرتح علمنة اجملال
410
الديين اإلسالمي ،بل يدعو إىل إبراز اهلوية الدينية للمسلمني الغربيني يف جو من احلرية
السياسية واالجتماعية.67
فإن "فضاء الشهادة" بوصفه رؤية جديدة لالجتماع اإلنساين، وبرغية حتقيق هذا املقصدَّ ،
يتطلب مشاركة دائمة وتضحية ذاتية من أجل العدالة االجتماعية والصاحل العام واخلري
واملساواة جلميع البشر .وقد اختار رمضان لفظة "الفضاء" كتعبري عن االنفتاح على املشهد
الديين والسياسي والعاملي .أما "الشهادة" فتجمع العناصر األساسية هلوية املسلم يف عالقته
ابإلهلي وابالجتماعي68؛ إذ هي تذكري بوحدانية هللا وآبخر تنزيل ر
على النيب رحممد؛
ومبسؤولية املسلمني كشهداء على الناس ،من خالل السلوك القومي املبين على اجلانب
الروحي واألخالقي .وسيكون هلذا املفهوم أثره يف املستوى العملي والعالقات بني األفراد،
أن "محل الشهادة يعين االخنراط يف بغض النظر عن املجتمع الذي يعيشون فيه؛ ذلك َّ
اجملتمع ويف مجيع رمناحي احلياة ( )...ويعين كذلك االخنراط يف عملية اإلصالح اإلجيايب
سواء كان إصالح مؤسسات أو أنظمة قانونية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية،
أن مفهوم فضاء يهدف إىل إقامة مزيد من العدل" .69يبدو إذن -حسب رمضانَّ - 70
الشهادة هو أنسب طريقة تروحد هوية املسلمني ومسؤوليتهم يف ضوء مبادئ اإلسالم؛
كما أنَّه يرؤسس لفضاء تسود فيه عالقات قائمة على املسؤولية بني مواطنني ينتمون إىل
حضارات وأداين وثقافات وأخالقيات خمتلفة ،ويسعون إىل بناء جمتمع أفضل قوامه الوحدة
اإلنسانية.
خالصة
قدَّم هذا الفصل وجهة نظر طارق رمضان يف العديد من القضااي الدينية والسياسية
املعاصرة ،من خالل الرتكيز على ما أنتجه من منظومة مفاهيم جم ّددة تسمح للباحثني
71يرنظر على سبيل املثال املحاضرة اليت ألقاها رمضان يف جممع أوكسفورد:
ر
OxfordUnion, "Freedom In Identity | Tariq Ramadan | Oxford
Union," youtube website, 22/05/2013, accessed on 10/07/2017, at:
https://goo.gl/qYGqaD
412
مجيعا ،مبرختلف أدايهنم
والعلماين على حد سواء ،لتجعل عاملنا فضاءً أفضل للناس ً
وثقافاهتم وجنسياهتم.
املصادر واملراجع
أوال :كتب
-1اجلابري ،حممد عابد .العقل األخالقي العريب :دراسة حتليلية نقدية لنظم القيم يف
الثقافة العربية .سلسلة نقد العقل العريب .4بريوت :مركز دراسات الوحدة العربية،
.2001
-2السيد ،رضوان .الصراع على اإلسالم :األصولية واإلصالح والسياسات الدولية.
بريوت :دار الكتاب العريب.2004 ،
والتحرر .ترمجة أمني
ّ -3رمضان ،طارق .اإلصالح اجلذري :األخالقيات اإلسالمية
األيويب .بريوت :الشبكة العربية لألحباث والنشر.2010 ،
.________ -4مسلمو الغرب ومستقبل اإلسالم .ترمجة إبراهيم حيىي الشهايب.
الدوحة :اجمللس الوطين للثقافة والفنون والرتاث.2005 ،
-5فوكوايما ،فرانسيس .هناية التاريخ واإلنسان األخري .ترمجة فؤاد شاهني وآخرين.
بريوت :مركز اإلمناء القومي.1993 ،
-6هنتنغتون ،صموئيل .صدام احلضارات :إعادة صنع النظام العاملي .ترمجة طلعت
الشايب .طرابلس :الدار اجلماهريية للنشر والتوزيع.1999 ،
7- Baum, Gregory. The Theology of Tariq Ramadan:
A Catholic Perspective. Notre Dame: University of
Notre Dame Press, 2009.
8- Euben, L. Roxanne. Journeys to the Other Shore:
Muslim and Western Travelers in Search of
Knowledge. Princeton, N.J: Princeton University
Press, 2006.
9- Fourest, Caroline. Brother Tariq: The Doublespeak
of Tariq Ramadan. New York: Encounter Books,
2008.
413
10- Marranci, Gabriele. Muslim Societies and the
Challenge of Secularization: An Interdisciplinary
Approach. Berlin: Springer, 2010,
11- Ramadan Tariq & Edgar Morin & Claude-
Henry Du Bord. Au Péril Des Idées: Les Grandes
Questions De Notre Temps. Paris: Presses du
Châtelet, 2014.
12- Ramadan, Tariq & Claude-Jean Lenoir.
Tolerance Ou La Liberte?: Les Leçons De Voltaire Et
De Condorcet. Bruxelles: Editions Complexe, 1999.
13- Ramadan Tariq. Aux Sources Du Renouveau
Musulman: D'al-afghānī à Hassan Al-Bannā, Un
Siècle De Réformisme Islamique. Paris:
Bayard/Centurion, 1998.
14- ________. Être musulman européen: étude
des sources islamiques à la lumière du contexte
européen. Lyon: Tawhid, 1999.
15- ________. Islam, le face à face des civilisations:
quel projet pour quelle modernité ?. Lyon: Tawhid,
1995.
16- ________. Les Musulmans D'occident Et
L'avenir De L'islam. Paris: Actes Sud/Sinbad, 2003.
17- ________. Les musulmans dans la laïcité:
responsabilités et droits des musulmans dans les
sociétés occidentales. Lyon: Tawhid, 1994.
18- ________. Radical Reform: Islamic Ethics
and Liberation. Cambridge: Cambridge University
Press, 2009.
414
19- ________.The Quest for Meaning:
Developing a Philosophy of Pluralism. London:
Allen Lane, 2010.
20- ________. To Be a European Muslim.
[Leicestershire]: The Islamic Foundation, 2013.
21- ________. Western Muslims and the Future of
Islam. Oxford, New York: Oxford University Press,
2004.
22- ________. What I Believe. Oxford: Oxford
University Press, 2010.
:مراجع أخرى
.)16/06/2005( . إسالم أون الين." بني التعليق والتطبيق.. "عقوابت احلدود-1
https://goo.gl/42886z 2017 أغسطس12 :شوهد يف
2- "ACLU Asks Federal Appeals Court to Lift Ban on
Renowned Scholar". American Civil Liberties
Union. (23/01/2008). accessed on 10/08/2017. at:
https://goo.gl/vdFgNW
3- Amburn, Brad. "Who's Afraid of Tariq Ramadan?".
Foreign Policy. (26/10/2009). accessed on
10/08/2017. at: https://goo.gl/RBCmdh
4- Euben, L. Roxanne. "Comparative Political Theory:
An Islamic Fundamentalist Critique of Rationalism".
The Journal of Politics. vol. 59, no. 1 (Feb., 1997). p.
28-55.
5- "FP Top 100 Global Thinkers". Wikipedia, accessed
on 10/08/2017. at: https://goo.gl/nRtrRf
6- Hamel, Ian. "Les deux visages de Tariq Ramadan". Le
Point. (09/04/2012). accessed on 10/08/2017. at:
https://goo.gl/iuRV5a
415
7- March, F. Andrew. "Law as a Vanishing Mediator in
the Theological Ethics of Tariq Ramadan". European
Journal of Political Theory. vol. 10, no. 2 (April
2011). p. 177-201.
8- March, F. Andrew. "The Post-Legal Ethics of Tariq
Ramadan: Persuasion and Performance in Radical
Reform: Islamic Ethics and Liberation (A Review
Essay)". Middle East Law and Governance. vol. 2
(2010). p. 253-273.
9- On n'est pas couché. "Tariq Ramadan - On n"est pas
couché 26 septembre 2009 #ONPC". youtube
website. 08/06/2015. accessed on 15/08/2017. at:
https://goo.gl/L1KWp3
10- OxfordUnion. "Freedom In Identity | Tariq
Ramadan | Oxford Union". youtube website.
(22/05/2013). accessed on 10/07/2017. at:
https://goo.gl/qYGqaD
11- Ramadan, Tariq. "Following Shari’a in the
West". in: Robin Griffith-Jones (ed). Islam and
English Law: Rights, Responsibilities and the Place
of Shari'a. Cambridge: University Press, 2013. p.
245-255.
12- Tampio, Nicholas. "Constructing the Space of
Testimony: Tariq Ramadan's Copernican
Revolution". Political Theory. vol. 39, no. 5
(October 2011). p. 600-629.
13- "The 2004 TIME 100". Time. accessed on
10/08/2017. at: https://goo.gl/KddLR4.
416