You are on page 1of 705

‫بسم هللا الرمحن الرحمي‬

‫الطبعة األوىل‬
‫‪ 1420‬ه – ‪ 2000‬م‬
‫بني يدي الكتاب‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬

‫وصلى اهلل وسلم وبارك على سيدنا حممد وآله وصحبه وإخوانه وحزبه‬

‫يتصدر مطلب العدل كل املطالب يف الربامج السياسية اجلادة‪ .‬والعدل الذي أمر‬
‫اهلل به ‪-‬إقامتُه والتهييء لقيامه‪ -‬أهم ما تتطلع إليه األمة املسلمة وتشرئب إىل حتقيقه‬
‫طوائف األمة املستضعفة يف األرض‪ ،‬أمة اإلسالم‪.‬‬
‫فالعدل بني الناس يف احلكم‪ ،‬والعدل يف األرزاق حني تُنتَ ُج وحني تُقسم‪ ،‬والعدل‬
‫العدل بني‬
‫تنشده أمة اإلسالم اقتضاءً من النظام العاملي العوملي الطاغي يف األرض‪ ،‬و ُ‬ ‫ُ‬
‫أسوِد ِه ْم مطالب أساسية ينبغي أن تتصدر برامج اإلسالميني وهم‬ ‫ِ‬
‫الناس مجيعا أبيضهم و َ‬
‫على َعتبَ ِة املسؤولية عن احلكم‪.‬‬
‫ليس يف هذا الكتاب برنامج للحكم والعدل يف احلكم وإقامة العدل آين موقوت‬
‫جاهز مظروف باحلال واألمد العاجل‪ .‬بل هو نظر إىل مستقبل املسلمني على اتساع رقعة‬
‫دار اإلسالم‪ ،‬ويف األفق الواسع الشاسع لآلمال العالية اليت تبشر ببلوغها إن شاء اهلل هذه‬
‫اليقظة املباركة جلند اهلل الداعني إىل اهلل الذين ِ‬
‫تعقد عليهم األمة آماهلا‪.‬‬
‫انتظار جرت أثناءه‬
‫ُسطر هذا الكتاب منذ مثاين سنوات‪ ،‬وانتظر فرصة الظهور‪ٌ .‬‬
‫أقدار الباري جل وعال جمراها‪ .‬وكانت احلرب اخلاطفـة املهلكة اليت ْأوَدت باألمة اإلسالمية‬
‫يف العراق من جراء َنزق سلطـان «البعث» العراقي وطاغوته‪ .‬انتظار ج ّفت أثناءه ينابيع‬
‫حار نزاعا قبليا داميا‪ .‬انتظار جنحت أثناءه‬ ‫ِ‬
‫التفاؤل باجلهاد األفغـاين بعد أن َ‬
‫‪7‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الثورة اإلسالمية يف إيـران بعد تقلبات وخماضات هي من طبيعة كل تغيري سياسي‬
‫اجتماعي عميق‪.‬‬
‫مثاين سنوات توحلت فيها األمة اإلسالمية يف فلسطني واستفحل عدوان اليهود‬
‫بعد أن علَّق الفلسطينيون ُ‬
‫التفاوضيون خيوط أحالم على اتفاقية أسلو‪ .‬مثاين سنوات عاش‬
‫فيها املسلمون بكمد وأ ٍمل ِ‬
‫عاجَزين مآسي األمة اإلسالمية يف البوسنة واهلرسك‪.‬‬
‫كابوس العوملة وهي هيمنة جاهلية يف ميادين االقتصاد‬
‫َ‬ ‫وها حنن أمةَ اإلسالم نعيش‬
‫واملال واألعمال والثقافة والسيـاسة واملصـري التارخيي السـائرة به «جاهلية ما بعد القرن‬
‫العشرين» مسارا خطريا يقتضي من املسلمـني التبصر حباضرهم ومستقبلهم على ضوء‬
‫اهلدى ودين احلق إىل رسوله‬
‫ما أوحى اهلل عز وجل رب الناس ملك الناس إله الناس من َ‬
‫حممد صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫احلداثة اجلاهلية ول ّفتنا بأرديتها‪ ،‬فنحن يف حياة رثة هامشيـة حول مائدة‬
‫غزتنا َ‬
‫احلداثة اجلاهلية الصائلة‪ .‬خراب العامل اإلسالمي واستمرار ختريبه بأيدي أعداء اإلسالم‬
‫من خارج وأعدائه من الداخـل الناخـرين كالدود يف العود حقيقة ال ُياري فيها إال من‬
‫يضع على عينيه غماضات اجلهل أو التجاهل‪ .‬أهم عوامل التخريب الغـربة عن الدين‪،‬‬
‫أهم مثار التشـويه التغريـبـي هذه األشكال من احلكم يستدعى إليها اإلسالميون ليزينوا‬
‫درجون إىل مغاوي العنف‬ ‫قص ْون عنها إقصاء أو يُ ْستَ ُ‬
‫وجهة الدميقراطيات امللهاة أو يُ َ‬
‫ليتفرد‬
‫ويقصفون قصفا فظيعا كما فُعل باإلخـوان من جبهة اإلنقـاذ يف اجلـزائر َّ‬ ‫ومهـاويه‪َ ،‬‬
‫اب التخريب بالساحة‪ ،‬يتخذون صنائع هلم يدمرون البالد والعباد ي َقتّلون‬ ‫ُحداة التغريب نو ُ‬
‫أش ُّـد ما أصاب املسلمني وذراريهم‪ .‬يف البوسنة‬
‫ويذحبون‪ .‬فظـاعات أعداء الدين يف اجلزائر َ‬
‫واهلرسك قُـتِّ َـل املسلمون وذُ ِّبوا وانتُ ِهكت ُحُرماهتم بيدكافرين سافرين‪ ،‬وتلك مصائب أصابت‬

‫‪8‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫املسلمني ُمتسلسلةً مع تاريخ اجملاهبات التارخيية بني اإلسالم والكفر منذ بعث اهلل النبيئني‬
‫مبشرين ومنذرين‪ .‬أما فظائع اجلزائر فقسوهتا ودمويتها ووحشيتها اليت تتقزز منها النفوس‬
‫البشرية يزيدها كلوحا وبؤسا ونكـاية يف املسلمني أهنا تنسب ملسلحني إسالميني‪ ،‬وما هي‬
‫إال صنع شرذمة املنافقني املستولني على السلطة‪.‬‬
‫يبحث هذا الكتاب عن الوسيلة الكتساب ُجند اهلل القائمني بالقسط يف هذا‬
‫العصر وما بعده القدرة والفهم إلقامة حكم إسالمي قاعدته العدل ومجاله اإلحسان‪.‬‬
‫حكم يؤسس نظاما اقتصاديا سياسيا أخالقيا إميانيا متجددا بتجدد إميان املسلمني‪،‬‬
‫فاعال ناجعا يف إقامة صرح اإلسالم من ركام اخلراب الديين واملادي والنفسي الذي يُعانيه‬
‫املسلمون من جراء هزميتهم التارخيية أمام الغزو اجلاهلي الشامل الذي تتمثل صيغته احلالية‬
‫يف حقائق العوملة‪.‬‬

‫ت يف كياناهتم‬ ‫جسم األمة مريض‪ ،‬ونفوس املسلمني وعقوهلم مريضة‪ ،‬لَ ّما بـُثّ ْ‬
‫احلسية واملعنوية جراثيم التغَُّرب عن دينهم وعناكب الوحشة وال ُفرقة فيما بينهم‪ .‬ولَ َّما‬
‫طرقَت أبواهبم ووجلتها واغتصبتها عقلية تِْقنَ ِوية تـُْزري بالدين وتَدين باملادية الرحبية الصرفة‬
‫َ‬
‫الناش ِبة أظفارها يف جسم األمة اإلسالمية جتهض كل حماولة‬ ‫ِملَّ ِة الرأمسالية الوحشية ِ‬
‫عوزهم وفقرهم وختلُّفهم الذي يلعن لعنا أليما ختمة بعضهم‪.‬‬
‫النتشال املسلمني من َوْهدة َ‬
‫يبحث هذا الكتاب عن إعادة تأسيس الرتكيبـة النفسيـة واالجتماعية التكافلية‬
‫طو َح هبا االستبداد الداخلي املمالئ اخلانع لل ُقوى‬
‫والسياسية والفكرية جملتمعات مشتتة َّ‬
‫العاجز عن ضمان حرية الفرد وكرامته وعزة األمة وقدرهتا على تبليغ رسالة رب‬
‫ُ‬ ‫الغازية‬
‫العاملني إىل العاملني‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫طاقات املسلمني البشرية واملادية مبعثرة‪ ،‬موا ِردها الغنية منهوبة‪ ،‬اقتصاداهتا املتوجهة‬
‫طوعا وكرها لتغذية قُوى الشمال الغنية غنيمة للمسرفني يف األرض‪ ،‬املستكربين فيها‪،‬‬
‫الطاغني فيها‪ .‬وعندما تنغلق األبواب وتشح األرزاق ويتيه الشباب املسلم يف يأس‬
‫العطالة يستبد العنف بالناس فتأكلهم النزاعات الدموية وتتفجر الطاقات املكبوتة‬ ‫البِطالة و َ‬
‫املكمومة املغمومة يف حركات مدمرة دموية‪.‬‬
‫اقتباس الفئة املغربة املاسكة بزمام‬
‫ُ‬ ‫لن يقاوم املخاوف واليأس والفقر والتخلف‬
‫احلكم فينا حلداثة رثة ودميقراطية مزيفة هجينَة‪ .‬إمنا يعيد األمل إىل النفوس والثقة والعزم‬
‫تصاحل بني فئات املسلمني على توبة مجاعية إىل حقائق اإلسالم وعدل اإلسالم وشورى‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫يف هذا الكتاب نقد للغربنة وأسباهبا‪ .‬وفيه ‪-‬بل هي صلب الكتاب‪ -‬دعوة‬
‫إىل التمسك بالعروة الوثقى ِ‬
‫كتاب اهلل وسنة رسـوله صلـى اهلل عليه وسلم‪ .‬فيه جسور‬
‫ممدودة ويد مبسوطة حلوار تبني فيه كل فئة من فئـات األحزاب السياسية والفاعلني‬
‫االقتصاديني وسائر مراتب اجملتمع املدين وأقسامه ما فهمها لإلسالم ونيتها يف احتـرام‬
‫أوامره ونواهيه وعزمها على الفعل وقدرهتا عليه‪.‬‬
‫رحم بني املسلمني مهما كان ماضيهم‬ ‫ال ندعو يف هذا الكتاب إىل قطيعة ِ‬
‫وحاضرهم ودرجة تنكبهم عن جادة الدين‪ .‬إمنا ندعو لقطيعـة واعية منيبة إىل اهلل‬
‫راجعة إىل شريعته مع الكفر واإلحلاد والنفاق واالتباع األعمى لسرب الضالني‪.‬‬
‫إمنا ندعو إىل عدل اإلسالم وأخوة اإلسالم وتكافل املسلمني وتعاوهنم على‬
‫الرب والتقوى كما أمر اهلل عز وجل‪ .‬وندعو إىل أخالق اإلسالم وقيمه‪ ،‬وحرية‬
‫األمـن والرزق‪ ،‬وواجبِه يف املشاركة يف جهاد‬
‫اإلنسان وح ّقه يف معرفة ربه‪ ،‬وحقه يف الكـرامة و ْ‬

‫‪10‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫األمة لتحرير األمة من براثن أعدائهـا‪ ،‬واقتناء وسائل التقنية املتطورة ملصاولة القوى الرأمسالية‬
‫العسكرية العوملية ومطاولتها لكيال يكون نصيبنا من خريات الدنيا واآلخرة نصيب املغبونـني‬
‫الضيزى اليت يبغيها مستكربو العامل ملستضعفي العامل‪ ،‬املسلمون هم يف العامل‬ ‫ِ‬
‫يف القسمة َ‬
‫املستضعفون يف األرض النموذجيون‪.‬‬
‫أبناء الدنيا يف تنافسية الهثة على خريات الدنيا‪ .‬وال بد لنا من مزامحتهم‬
‫باملناكب‪ ،‬مناكب العلم والبحث العلمي واحلذق االخرتاعي‪ ،‬والتدبري املايل‬
‫االقتصادي السوقي‪ .‬فالدنيا سوق‪ ،‬وسوقها احلاضر وما يرتاءى لِقيم السوق من‬
‫أخبث ما تكون تنظيما ِربَويّاً‬
‫أعىت ما تكون‪ ،‬و ُ‬ ‫أفجر ما تكون السوق‪ ،‬و ْ‬
‫مستقبل ُ‬
‫ساحقا ماحقا ملعونا‪ ،‬وتسويقا استهالكيا غازيا‪.‬‬
‫دنيا العوملة انفجار تلفزيوين إعالمي معلومايت يستأْثر باألذهان واألوقات‬
‫واألعمار واألخالق‪ ،‬يَ ْس ِرقها ويستهويها ويلعب هبا يف ضوضاء ملهية عن اجلد يف‬
‫لئام من حيث قسمة‬ ‫كسوب الدنيا وعن االستعداد لآلخرة‪ .‬فالدنيا العوملية مأْ ُدبة ٍ‬
‫األرزاق ما بني مشال ُمتخم وجنوب ُم َف َّقر منهوب‪ .‬والعامل املعلومايت التلفزيوين مشهد‬
‫الٍَه ُمله جمنون جمنن‪ .‬ساق التقدم العلومي التكنولوجي العامل َمساقا أربَك الفلسفات‬
‫وحري العقول وفتح اهلل عز وجل بأسبابه على الناس أبواب كل شيء من بالئه‬
‫املقضي وفتنته للناس ال ُـم َق ّد َرة ليبلونا أينا أحسن عمال‪ .‬وهو العزيز الغفور‪.‬‬
‫يتقدم اإلسالميون للحكم‪ ،‬تستغيث هبم اليوم وغدا أمة مقهورة مغلوبة على أمرها‬
‫وعلى أرزاقها وعلى عقول أبنائها وبناهتا وعلى مصريهم الدنيوي واألخروي يف عامل مضطرب‬
‫يستحيل فيه التوازن العادل‪ ،‬يتعذر فيه العدل االجتماعي‪ ،‬متوت فيه األخوة بني بين‬
‫وتتبخ ُر‬
‫ف فيه القادر حبق العاجز‪َّ ،‬‬ ‫ويستنسـر فيه القوي على الضعيف‪ِ ُ ،‬‬
‫ِ‬
‫ويح ُ‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫البشـر‪،‬‬

‫‪11‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫اعدة ضمان حقوق اإلنسان‪ ،‬وازدهار االقتصاد‪ ،‬والعدل بني‬ ‫فيه أوهام دميقراطية لربالية و ٍ‬
‫الدول‪ ،‬وتشغيل العاطل‪ ،‬واحرتام ُه َويات الشعوب وإرادهتا‪.‬‬
‫موزعة َقوى مستضعفيه ويف مقدمة موكبهم‬ ‫ظال مستكربوه‪ّ ،‬‬ ‫يف عامل عوملي ٍِ‬
‫املسلمون‪ ،‬ينادي منادي اإلسالم على املسلمـني ليحملوا رسالة اإلسالم بشرى‬
‫لإلنسان وختليصا له من ربقة ما يستعبده من دون اهلل‪ ،‬ويُضله‪ ،‬ويظلمه‪ ،‬وحيقره‪.‬‬
‫هلل احلمد يف األوىل واآلخرة‪ ،‬وله احلكم وإليه ترجعون‪.‬‬

‫سال‪ ،‬اخلميس ‪ 14‬ربيع األول ‪.1419‬‬

‫عبد السالم ياسين‬

‫‪12‬‬
‫فاحتة‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم احلمد هلل رب العاملني الرمحن الرحيم ملك يوم الدين إياك‬
‫نعبد وإياك نستعني اهدنا الصراط املستقيـم صراط الذين أنعمت عليهم غري املغضوب‬
‫عليهم وال الضالني‪ .‬آمني‪.‬‬
‫اللهم صل وسلم وبارك على عبدك حممد خامت النبيـني‪ ،‬وإمام املرسلني وعلى‬
‫آله الطيبني الطاهرين‪ ،‬وأزواجه أمهات املؤمنني‪ ،‬وخلفـائه الراشدين‪ ،‬وجندك اجملاهدين‬
‫وإخوانه من بعده إىل يوم الدين‪.‬‬
‫أما بعد‪،‬‬
‫أ ْن ُيرج اهلل العلي القدير احلي من امليت وأن خيرج امليت من احلي شأن من‬
‫شؤونه املذكورة املشكورة‪ .‬هو احمليي املميت ال إله إال هو‪ .‬عليه توكلت‪ ،‬وإليه أنيب‪.‬‬
‫وأن ُير َج من ثنايا املسلمني بعد عهود مخوهلم ن ْشئا متوقد العزمية فائض اإلميان منة‬
‫من مننه سبحانه على املسلمني وعلى الناس أمجعني‪ .‬ولكن أكثر الناس ال يشكرون‪.‬‬
‫ال يشكرون وال حيبون َوال يرجون خريا من اإلسالم الصاحي الذي يعرب عن‬
‫حيويته بشىت أنواع العبارة يف أرجاء األرض‪ .‬ويتساءلون عن جيل الصحوة وقد تربت يف‬
‫قلوهبم آفة اجلمود‪ ،‬أو دبت يف نفوسهم عقارب ال َكنود احلَسود‪ ،‬أو تلظت يف أحشائهم‬
‫العداوة واجلحود‪ :‬من هم هؤالء الذين مـألوا الدنيا مجاحا وصياحا ومسوهم إسالميني؟‬
‫أهو دين جديد تـَبَنوه من دون الناس‪ ،‬أم هي فورة التطرف واإلرهاب والتشدد وضيق‬
‫األفق هتدد استقرار األمن‪ ،‬وتؤذن يف العامل بالبَوار والدمار؟‬
‫ومن املسلني الطيبني من يطرح السؤال من جانب االستفسار عن هذا الشباب‬
‫امللتحي وهذه الشـابات احملجبات الذين زامحوهم يف صف الصالة ومتيزوا يف اجملتمع بالسمت‬
‫‪15‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫النظيف واخللق العفيف‪ .‬قد يفـرح قلبه ملا يرى ويسمع‪ ،‬وتَقلَق نفسه ملا يوسع الظاهرةَ‬
‫اإلسالميةَ أصناف املعلقني من ألقاب ونُعوت فيها الشك والتشكيك والفهم الركيك‪.‬‬
‫تبقي أحداً باحلياد بعد تنامي املد اإلسالمي يف العامل‪ ،‬يل َـمس‬
‫ظاهرة قل أن َ‬
‫ب واألسرةُ يف أبنائها وبناهتا‪ ،‬واحلـي واملدينة‪ ،‬والشارعُ واملدرسة‬‫اجلار اجلُنُ ُ‬
‫هذا املد ُ‬
‫ِ‬
‫ومدا ِرها االستخبار ُ‬
‫ات العاملية منذ‬ ‫جتندت الستكناه أسرارها وفـَلَكها َ‬
‫ْ‬ ‫واجلـامعة‪ .‬ظاهرة‬
‫ألف حساب‪ ،‬ما من حساب فيها إال‬ ‫أن أصبَح اإلسالميون قوة سياسية ُيسب هلا ُ‬
‫يف اسرتاتيجيي الغرب املرتبص‪ ،‬واحلكام على رقاب املسلمني ال ُـمتوجسني ِخيفةً من‬ ‫ُي ُ‬
‫بالوالء‪ ،‬فيه سبحانه يُوالون‪ ،‬وفيه يُعادون‪ ،‬وإىل شرعه‬ ‫ِ‬
‫مسلمـني يفـردون اهلل عز وجل َ‬
‫دين اهلل على أيديهم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ينتصر ُ‬
‫حياكمـون كل شاذة وفاذة يف حياهتم‪ ،‬راجني أن َ‬
‫صحوة هي من بركة اهلل عز وجل على هذه األجيال‪ ،‬فطوائف متكاثرة من‬
‫املسلمني يكتشفون حياة الطهر والتقى ويبادرون للتوبة واملسجـد واحلج والعُمرة‬
‫عبد‬
‫والتمسك مبظاهر السنة ولزوم جمالس الوعظ واالستمـاع ألشرطة الدعاة‪ .‬حي اهلل َ‬
‫احلميد كِشك وأمثاله من القوالني باحلق‪.‬‬
‫وخطوة تتلوها بسرعة خطوات‪ ،‬السيما يف‬ ‫هذه درجة من درجات الصحوة‪ُ ،‬‬
‫امتألت جواحنه من أصداء احلِس الصا ِحل يهتم بأمر‬ ‫ْ‬ ‫صفوف الشباب‪ ،‬فإذا بالتائب وقد‬
‫محاسه وجتربتُه واتساعُ معا ِرفِه ووعيه مبا عليه األمة من‬
‫غريه فينشر الدعوة حبماس‪ ،‬مث ينقله ُ‬
‫تنكر للدين خطوة أخـرى فإذا به ينضم إىل مجاعة إسالمية حركية هلا طموح إىل اجلهاد يف‬
‫وخطة لتغيري املنكر واألمر‬
‫وسعي منظم لتكوين فصيلة من فصائل جند اهلل‪ُ ،‬‬ ‫سبيل اهلل‪ٌ ،‬‬
‫باملعروف‪ ،‬وموقِف فاعل ُتاه السياسة والساسة واحلكام يف بالد املسلمني ويف العامل‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫نصفون يف احلكم‪.‬‬‫أكثر الناس ال يشكرون الظاهرة اإلسالمية وال حيبـون وال ي ِ‬
‫ُ‬
‫سعرها اإلعالم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اجلهل حبقائق ما جيري‪ ،‬مث هذه احلملةُ الشرسة اليت يُ ُ‬
‫من أسباب َحْيفهم ُ‬
‫العدو على «املتشددين» مستغال كل حادثة‪ ،‬مضخمـا كل تافهة‪ ،‬نافِخا يف كل واد‪،‬‬
‫تُعطيه أخطاء بعض امللتحني املتحمسني فرصة للنيل من احلركة اإلسالمية‪.‬‬
‫اقب احلاق ُـد من خارج بالد املسلمني‪،‬‬
‫املتحزب‪ ،‬واملر ُ‬
‫ُ‬ ‫فاحلاكم املستبد‪ ،‬والعلماين‬
‫يصرخون من فئة تدخل الدين يف السيـاسة‪ ،‬وتن ُقل املعركة إىل املسجد‪ ،‬وتكتَسح‬ ‫ُ‬
‫الساحة السياسية‪ ،‬وتربح االنتخابات‪ ،‬وتدخل الربملان‪.‬‬
‫وقدكان للثورة اإليرانية اإلسالمية وما لقيته من قَبول واستحسان لدى املستنكفني‬
‫من الظلم من بني املسلمـني وسائر املستضعفـني األثر البني يف التعريف باإلسالم احلركي‬
‫املناهض لالستكبار العاملي‪.‬‬
‫واستخلص املستكـربون يف األرض من دروس الصحوة اإلسالمية ومظاهرها‬
‫اإلجيابية والسلبية أن اإلسالم احلركي هو العدو املهدد لالستقرار االستكباري يف العامل‪،‬‬
‫القادر على تقويض العروش الصنيعة الظامل أهلُها‪.‬‬
‫وتطامن الغيورون على الدين املعتزون بإسالمهم املخلصون لرهبم‪ ،‬فانطلقوا من‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫قيود الشك اليت كانت تعق ُل اإلرادات وتستغرق الصاحل من النيات‪.‬‬
‫أما الاليكيون‪ ،‬وهي الكلمة األصلية العجمية اليت ترمجوها إىل «العلمانية»‪ ،‬فقد‬
‫احلمية‪ ،‬وهم الفاشلون يف ميدان السياسة املنهزمون‪ ،‬يرون الدينامية‬ ‫تلَظت فيهم نار ِ‬
‫الثورية والفاعلية اليت يتمتع هبا اإلسالميون يف استقطـاب األنصار وتنظيم اجلهود ودخول‬
‫املعارك اليت لبثت زمانا ُح ْكرا على املتفرجنني املغربني‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ص ُدنا أن‬
‫إن لنا مع املغربني والاليكيني حوارا طويال يف هذا الكتاب حبول اهلل‪ ،‬قَ ْ‬
‫نفتح للمتمسكني منهم بإسالمهم عقيد ًة بابا للتفاهم حىت يقتنعوا إن شاء هلل بأن فصل‬
‫الدين عن السياسة حتريف للدين يَشينهم يف عقيدهتم‪ .‬أما الضالون امللحدون فلعل‬
‫الرحيم حيمل إىل قلوهبم مع كلماتنا اليت ال تريد إال اإلصالح ما استطاعت‬‫َ‬ ‫الغفور‬
‫اهلل َ‬
‫الرمحة ِ‬
‫فالتوبة فال َف ْيءُ إىل اإلسالم‪.‬‬ ‫نسمةً يتلوها مطر ِ‬

‫هؤالء هم الاليكيون املتنصلون من دينهم يصفون اإلسالم املتحرك اجملاهد اهلاجم‬


‫بنصر اهلل على معاقلهم اخلربة بأنه خلط إديولوجي يتميز به اخلطاب املتطرف الذي‬
‫الديين على املعطيات السياسية واالجتماعية‬ ‫خيبِط خب َط عشواءَ حني حيمل ال ُـم ْعطَى َّ‬
‫عطي ألنصاف املثقفني تفسريا حمرفا للواقع ماضيا وحاضرا‪،‬‬ ‫واالقتصادية والتارخيية ليُ َ‬
‫لريسم للمستقبل خطا معاديا خلري اإلنسانية‪ُ ،‬مافيا ملقتضيات التقدم واحلضارة والرقِ ِّي‪.‬‬
‫و ُ‬
‫أعتذر للغة القرآن وللمعتزين بلغة القرآن عن استعمال ألفاظ وتعابري دخيلة‬
‫ُضطر إليه أحيانا ألقتصد يف الوقت خماطبا بعض الناس مبا‬ ‫مرتمجة هجينة‪ .‬ذلك أ ُّ‬
‫ميحو اهلل عز وجل عنا باتِّباعها غيوم الضاللة‪.‬‬
‫يفهمون‪ .‬وهي سنة عسى أن َ‬
‫اإلسالم عند أعداء الصحوة اإلسالمية هو متاهة الالَّ فكر‪ ،‬الال معقول‪،‬‬
‫اإلديولوجية الغيبية‪.‬‬
‫وال َـمعني العتيد الذي منه تَ ْشتَ ّق املعقولية ويستفيض الفكر هي فلسفة األنوار اليت‬
‫طلعت مشسها يف القرن الثامن عشر بأوربا‪ ،‬وبفرنسا خاصة‪ ،‬فانبسطت أشعتها على‬
‫اإلنسانية النموذجية اليت صنعت الثورة الفرنسية وعلمت األجيال مبادئ احلرية واملساواة‬
‫يص ُد ُر من هناك‪ ،‬وال حضارة وال ثقافة‪.‬‬ ‫واألخوة‪ .‬ال معرفة إال ما ْ‬

‫‪18‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يف طريق احلركة اإلسالمية الصاعدة‪ ،‬الغادية الرائحة من نصر إىل نصر بإذن اهلل‪،‬‬
‫تتمثَّل هذه الذهنية املغربة العلمـانية عقبةً يف سبيـل بناء النموذج اإلسالمي يف احلكم‬
‫الفطرة وإسالم الوجه هلل عز وجل‪ .‬تتوسط هذه «الفلسفة األنوارية»‪ِّ ،‬أم‬ ‫على أساس ِ‬
‫اإلحلاد و ِّأم اللربالية وجـدة املاركسيـة وسائر الفلسفات املادية‪ ،‬بني الدعوة اإلسالمية وبني‬
‫الفطرة املقبورة يف كيان َمن َنوُّد أن نبلغهم عن الدين‪ ،‬وعن اهلل عز وجل‪ ،‬وعن اآلخرة‪.‬‬
‫نود مع ورثة الفلسفات املادية حوارا هادئا يتناول جوهر املوضوع يف قضية‬ ‫ُّ‬
‫اإلسالميني واحلكم إبقاءً على فلول املنهزمني من أنصار اإلديولوجية‪ ،‬البائدة منها‬
‫اإلحلادي‪ ،‬يأبونه إال صراعا‪ ،‬يأبوهنا إال عداوة‬
‫ِّ‬ ‫واملنبعثة‪ .‬لكنهم‪ ،‬وهم مطية الشيطان‬
‫ـت اإلسـالم بأنه ظالم‪ ،‬وتتأسف على ما‬ ‫تنع ُ‬
‫سافرة أو مقنعة لإلسالم‪ ،‬يأبوهنا إال حربا َ‬
‫ي ْف َج ُع قلبَها من انتصارات «اإلديولوجية الغيبية» يف زمان ماتت فيه ومتوت إديولوجياهتم‬
‫ويتسوقـون من تلك السوق البائرة يف بلدها موسكو ويف أوربا‬ ‫املرجعية‪ ،‬فهم يكابرون َّ‬
‫الشرقية ويف كل مكان مصداقيةً تُبارز مصداقية اإلسالم‪ .‬وهيهات أن تغرت األمة بعد‬
‫اليوم بِناعقهم بعد أن عرفت من هم باحلق محاةُ الدين وبُناة الشخصية األصيلة احلرة‬
‫املهجنة اليت برهنت أهنا حليفة االستعمار‪،‬‬
‫من قيود التبعية الفكرية‪ ،‬ال تلك الشخصية ّ‬
‫جاهرة بعداوهتا لإلسالم أو متلبسة منافقة تزعم أهنا نصرية الوطن وباعثة العزة القومية!‬
‫املسجد يا َمن حتدثه فطرته يوما بالتوبة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫موعدنا‬
‫وألهل املسجد الراجعني إىل رهبم‪ ،‬احملافظني على صالهتم‪ ،‬املتطهرين من أرجاس‬
‫املنكر اليت تشجعها وتنشـرها احلكومات التقليدية والاليكية اجلامثة كعُ ْقبان البالء يف‬
‫بالد املسلمني‪ ،‬نتحدث عن عدل اإلسالم وعن اإلسالميني واحلكم‪ ،‬من طَْور الفطرة‬

‫‪19‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ت يف هذا الزمان نور اإلسالم اجملاهد‪ ،‬يتألق يف أفق‬ ‫ومن عُْر ِ‬
‫ض املعاناة التارخيية اليت أبـَْرَز ْ‬
‫املسلمني بشرى لكل عبد منيب‪.‬‬
‫أبرزها اهلل الغين الكرمي‪ ،‬أستغفره من فلتات اللسان والقلم‪.‬‬
‫َ‬
‫أبرز اهلل عز وجل منذ قرن ويزيد‪ ،‬منذ اهلجمة العاديَة على ديار اإلسالم‪،‬‬
‫احلريب‪ ،‬وقاوموا فكره بالتصدي‬
‫العدو بالسالح ّ‬‫األوريب‪ ،‬رجاال قاوموا َّ‬
‫ِّ‬ ‫هجمة االستعمار‬
‫العلمي‪ ،‬ون َفروا واستنفروا ملواجهة الطوفان اجلاهلي اجلالب علينا من ُذئذ خبيله َورجله‪.‬‬
‫منهم جماهدو َن مبكرون محلوا السالح وأبـْلَ ْوا البالء احلسن يف صد الطغاة‪ِ ،‬‬
‫مثل‬
‫عبد القادر اجلزائري‪ ،‬وحممد بن عرفان باهلنـد‪ ،‬وحممـد بن عبد الكرمي اخلطايب باملغرب‪،‬‬
‫والسادة السنوسيني بليبيا‪ ،‬وحممد املهدي بالسودان وغريهم من جند اهلل‪.‬‬
‫دقات طبول‬
‫صحتهم ُ‬
‫هؤالء كانوا طليعة صحوة املسلمني من رقدة القرون‪َّ ،‬‬
‫قات مدافعها املدمرة‪.‬‬
‫األساطيل الغازية‪ ،‬وطلَ ُ‬
‫وصحا املسلمون للخطر الداهم‪ ،‬خط ِر الغزو احلضاري الفكـري املهد ِ‬
‫ِّد للكيان‬
‫املعنوي لألمة‪ ،‬على صوت منذرين من علماء املسلمني وفضالئهم أمثال اجلمال‬
‫األفغاين وحممد عبده مث رشيد ِرضى وحمب الدين اخلطيب و ِ‬
‫أمثالم رمحهم اهلل ورحم‬
‫كل جماهد يف سبيل اهلل‪ .‬ال يضري حمبتنا هلؤالء الطالئِع األعزاء ما ختلل فكرهم من‬
‫تذبذب أحيانا‪ .‬نرى حنن من مواقعنا ذلك التذبذب وحنن على أرائك العافية متكئون‪.‬‬
‫وهم كانوا يف املعمعان الساخن حيث تصطك هبم األحداث وتضغط على أفكارهم‬
‫مهوم كاجلبال‪.‬‬
‫وإراداهتم ٌ‬

‫‪20‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫عم‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رحم اهلل أولئك الرجال‪ ،‬فهم مهدوا لنا الطريق‪ ،‬وهم كانوا ن ْع َم طليعة القوم‪ .‬ن َ‬
‫السلفكانوا لنا إن حنن مشَّرنا عن ساعد اجلد لنتعامل مع زماننا وأحداثه بنفس الشهامة‬
‫والصمود كما تعاملوا مع زماهنم‪.‬‬
‫ورحم اهلل حاملي البِشارة اإلسالمية ومؤسسي الصحوة ومشيِّدي أركاهنا‪ .‬يف‬
‫املودودي ُمنظُِّر العمل‬
‫ُّ‬ ‫مقدمتهم األستاذ حسن البنا‪ ،‬ذلك اجلبَ ُل الشامخ‪ ،‬وأبو األعلى‬
‫الندوي ذو القلب القوي واملنهج السوي‪ ،‬وسيد قطب إمام‬ ‫ُّ‬ ‫ومنور ِ‬
‫الف َك ِر‪ ،‬وأبو احلسن‬
‫األُس ِد الغُْلب‪ِ .‬‬
‫وسواهم رمحهم اهلل‪.‬‬ ‫ْ‬
‫اجملامع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أولئك آبائي فجئين مبثلهم إذا مجعتنا يا جر ُير ُ‬
‫الغيور على دينِه‪ ،‬القانِع‬
‫مث ها أنت ترى يا أيها املؤمن احملافظ على صالته‪ُ ،‬‬
‫احلارث آلخرته حرث الزيادة يف الثواب واحلسنات ما‬
‫ُ‬ ‫املكثر من الصدقات‪،‬‬
‫باملبات‪ُ ،‬‬ ‫َ‬
‫جهادي‬
‫ّ‬ ‫آل إليه أمر أمتك بعد طول رقاد وبعد إيغال أهل الظلم والفساد‪ ،‬من حت ّفز‬
‫به َْت َي وله تستجيب هذه األجيال الصاحلة من أحفاد الذين جاهدوا مع رسول اهلل‬
‫أحد‪ ،‬ومع اخللفاء الراشدين والفاحتني‪ ،‬ومع صالح الدين‬‫صلى اهلل عليه وسلم يف بدر و ُ‬
‫النجم الثاقب مبيد كيد الصليبيني‪ ،‬ومع أبطال اإلسالم الذين َهبوا يف كل زمان ُملبني‬
‫داعي اهلل إىل نصر دين اهلل وتثبيت سنة رسول اهلل‪.‬‬
‫السرمدي‪ .‬فإن فاتك‬
‫ِّ‬ ‫َّد من أطوار اجلهاد اإلسالمي‬ ‫ما هذه الصحوة إال طَْوٌر ُمَد ٌ‬
‫السليم الفطرة أن تكون مع األفغاين وعبده ورشيد يف بث األذان يف‬ ‫ُ‬ ‫يا أيها املؤمن‬
‫غلَس الدعوة‪ ،‬ومع البنا والنبهاين واملودودي يف جتنيد اجلند‪ ،‬فال تذهنب بك الشكوك‬
‫صي من عُهدة اجلهاد حبجة أن هذه الصحوة متعددة التنظيمات‪ ،‬خمتلفة‬ ‫إىل الت َف ِّ‬
‫االجتهادات‪ ،‬متواثبةُ ال َكَّرات‪ ،‬صائلةٌ أحيانا ب ُفتـُّوهتا فوق سياج التعقل والثبات‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫هذه الصفوف من اإلسالميني املنادين بنداء العدل‪ ،‬املرشحـني للحكم‪ ،‬الصابرين‬
‫يف درب اجلهاد ينتظرون ِوفادتك‪ .‬ما هم عندما ينكشف لك أمرهم من وراء الالفتات‬
‫يسع ْـون لنيل رضى اهلل األكرب على طريق نيـَِّرٍة واضحة‬
‫إال صف واحد‪ ،‬وحزب واحد‪َ ،‬‬
‫حيث تسعى أنت‬ ‫ناهجة هي طريق محل َه ِّم األمة ونُصرة دين اهلل يف األرض‪ ،‬من ُ‬
‫صـة نفسك‪ ،‬يف فرضك ونفلك‪ ،‬يف ركن االستقالة من األمر العام‪.‬‬ ‫خويْ َّ‬
‫لنفس اهلدف يف َ‬
‫ائك أخي فاتك الفضل الذي خص اهلل تعاىل به اجملاهدين‪.‬‬
‫بانزو َ‬
‫تبليغ كلمة الصدق‪ ،‬فإن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إننا ال حنتاج مع الفطَر السليمة‪ ،‬فطَر أهل اإلميان‪ ،‬إال َ‬
‫قائم احلق‪.‬‬
‫زرع اهلل عز وجل ما حنرثه بكلمتنا البشرية هنض يف قلوب من شاء اهلل ُ‬
‫بالوالء الفكري املذهيب لفولتري وروسو وماركس ولينني وتشي‬‫أما من ينتمون َ‬
‫فطرتم مطمورة حتت ُركام ألف طَبَ ٍـق‪ .‬مع هؤالء أيضا نتحدث يف‬
‫كيفارا وكرامشي فإن َ‬
‫السليم من لوثـات الفكر املغرب إن صادفت فيما تقرأ التواءً‬
‫ُ‬ ‫فاعف أيّها‬
‫هذا الكتاب‪ُ ،‬‬
‫يف َتعُّرجات الفكر وانغماضا عن املصطلح القرآين واللفظ النبوي‪.‬‬
‫ك إىل قلوب العباد‪ ،‬وال أصالةَ‬ ‫غ‪ ،‬والَ َم ْسلَ َ‬‫إننا نعتقد أنه ال بيان يُرجى‪ ،‬وال بال َ‬
‫للخطاب اإلسالمي إال باألسلـوب القرآين السين الربيء من لََوثات الفلسفة وعُجمات‬
‫وحناوره أُلْ ِقم‬
‫ب الذي حنب أن خناطبه َ‬ ‫غر ُ‬
‫احلذلقة الثقافية‪ .‬لكن ما حيلتُنا والنشءُ ال ُـم َّ‬
‫الذهين‬
‫ُّ‬ ‫منذ طفولة عقله طُعمة العُجمة القلبية وإن انطلق لسانَهُ بلغة الضاد‪ .‬فعالَمه‬
‫مسكون بالالييكية الفلسفية‪ ،‬ال يفهم عنك إن مل حتدثه بلغة العصـر‪ ،‬اليت ال يفهم‬
‫غريها‪ ،‬عن القوميـة واالشرتاكية واللربالية والوجودية والدميقراطية والرأمسالية األمربيالية‪،‬‬
‫وعن الدميوغرافية األصولية‪ ،‬وعن الرتاث واألصالة‪ ،‬وعن الثقـافة والفن‪ ،‬وعن كل شيء‬
‫ِسوى اهلل عز وجل‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬واليوم اآلخر‪ ،‬و َ‬
‫القدر خريه وشره‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫إننا ال بد أن نبلغها واضحةً صاحلةً‪ ،‬قوية ُم َد ِّويَّةً‪ ،‬أنه ال إله إال اهلل وأن حممدا‬
‫رسول اهلل‪ .‬وأن القرآن حق وما عارضه باطل‪ ،‬وأن حممدا صلى اهلل عليه وسلم حق وما‬
‫خالف سنته باطل‪ .‬وأن اإلسالم نور واجلاهلية ظالم‪ .‬وأن هلل أولياءَ يبعثهم ويدخلهم‬
‫اجلنة‪ .‬وأن له أعداء يبعثهم بعد املوت ويدخلهم النار‪ .‬وأن مواجهة اإلسالميني ألعداء‬
‫الدين فرض جهادي‪ .‬وأن سعيهم إىل احلكم وسيلة ضرورية إلرساء دعائم العدل‬
‫والتمكني يف األرض لدين اهلل‪.‬‬
‫جتول معه يف دروب هذه الياءات والليات العصرية األكـادميية ومعك أدواتك‬ ‫ُ‬
‫املنهجية الديالكتيكية النبوية‪ ،‬يستمع إليك تلميذ الفلسفة «األنوارية» املاركسية اللربالية‬
‫أكثر ما يكون املاركسـي أو املتمركس دفاعاً عن مذهبيته حني تُصرع‬ ‫ويثق بزكانتك‪ .‬و ُ‬
‫أكثر ما يكون اللربايل‬‫ت‪ .‬و ُ‬ ‫بوم البَ ْـو ِن على أطالل ما بنَ ْ‬
‫وينعق ُ‬
‫مذهبيته على الساحة َ‬
‫نشب أنياهبا وتطأ العاملني بأظالفها‪.‬‬ ‫غراما بلرباليته حني تستعيد اللربالية شباهبا وتُ ِ‬

‫مع ذراري املسلمني الذين تن ّف ُسوا رياح العصر الفلسفية املنهجية حنب أن نتحاور‬
‫أيضا التماسا لفتح باب اهلداية للفطرة املقهورة يف جنباهتم‪ .‬عسى اهللُ أن جيعل بيننا‬
‫وبينهم َم َوَّدة يف طريق رجوعنا ورجوعهم بالتوبة إىل اخلـالق الرزاق احمليي املميت القهار‬
‫سبحانه‪.‬‬
‫الورع األكادميي على التعامل ب«الصرامة املنهجية» ال يـُْل َقون باال‬ ‫ِ‬
‫ول َم ْن حيمله َ‬
‫ألفكار غري منظمة ومفاهيم غري مرتبة ممنهجة نتقدم باملنهاج النبوي املشتق من قول اهلل عز‬
‫ي من قوله عز‬ ‫وجل‪﴿ :‬لِ ُك ٍّل َج َعلْنَا ِمن ُك ْم ِش ْر َعةً َوِمنـَْهاجاً﴾ ‪ ،‬املتسربل جبالل أصله العُ ْل ِو ِّ‬
‫‪1‬‬

‫من قائل خياطبكل إنسان تائه شارد عن َم ْواله‪﴿ :‬فَ َل اقـْتَ َح َم ال َْع َقبَةَ َوَما أَ ْد َر َ‬
‫اك َما ال َْع َقبَةُ‬

‫‪ 1‬سورة املائدة‪ ،‬اآلية ‪50‬‬

‫‪23‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ك َرقـَبَ ٍة أ َْو إِط َْع ٌام فِي يـَْوٍم ِذي َم ْسغَبَ ٍة يَتِيماً َذا َم ْق َربٍَة أ َْو ِم ْس ِكيناً َذا َمتـَْربٍَة ثُ َّم َكا َن ِم َن‬‫فَ ُّ‬
‫ين َك َف ُروا‬ ‫ك أَصحاب الْميمنَ َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫الص ْب ِر وتـَو َ ِ‬ ‫آمنُوا وتـَو َ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ةوالذ َ‬ ‫اص ْوا بال َْم ْر َح َمةأ ُْولَئ َ ْ َ ُ َ ْ َ َ‬ ‫اص ْوا ب َّ َ َ‬ ‫ين َ َ َ‬ ‫الذ َ‬
‫ِ‬
‫ص َدةٌ﴾‪.‬‬ ‫اب ال َْم ْشأ ََمة َعلَْي ِه ْم نَ ٌار ُّم ْؤ َ‬ ‫بِآيَاتِنَا ُه ْم أ ْ‬
‫َص َح ُ‬
‫‪1‬‬

‫الشرعة ما جاء به القرآن‪ ،‬واملِنهاج (باأللف بعد اهلاء) هو ما جاءت به السنة‬


‫ّ‬
‫بن ٍ‬
‫عباس رضي اهلل عنهما‪.‬‬ ‫عبد اهلل ُ‬
‫كما قال َح ْب األمة سيدنا ُ‬
‫وجئنا‬‫ويا أهل الصرامة املنهجية ال تـعجلوا علينا أ ْن قلّ ْدنَا سلَفنا وتشبثنا بأصلنا ِ‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حبجتنا «الغيبية املاضوية التقليدوية»‪ ،‬فليس لنا بعد اهلل وآياته ورسوله من َمبدإٍ‪ .‬من‬
‫وحنن من ُجلته وأنتم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آياته تعاىل ُسنّتُهُ يف التاريخ وفعلُه يف العباد‪ .‬ال ننكر الواق َع‪ُ ،‬‬
‫وما حولنا وما حولكم‪ ،‬وما تطورت إليه أوضاع العامل وما تتطور‪ ،‬وال حبةٌ يف ظلمات‬
‫يابس إال يف كتاب مبني‪ .‬ال ننكر وال نك ُفر آياته يف الكون‪ ،‬بل‬ ‫طب وال ٌ‬ ‫األرض وال َر ٌ‬
‫صلة يف كتابه احملفوظ‪ ،‬ويف‬ ‫نؤمن هبا ونشكر كما نؤمن بآياته ال ُـمنزلة على ُرسله‪ ،‬ال ُـم َف َّ‬
‫وسالمه عليهم أمجعني‪ .‬وبعد‬
‫سنة رسوله حممد خامت النبيني وإمام املرسلني‪ ،‬صلوات اهلل ُ‬
‫الدنيا اآلخرة‪ ،‬وبعد املوت البعث والنشر واملوقف واحلساب وامليزان والصـراط واجلنـة أو‬
‫النار‪ .‬هذه صر َامتُنا‪ ،‬صرامةُ العقيدة ثبتنا اهلل عليها‪.‬‬
‫أما «منهجيتنا» فليس يُر ُاد لنا باملنهاج والشرعة أن نسبح يف التنظريات غافلني‬
‫عن اهلل وعن مصرينا إليه بعد املوت‪ ،‬بل ُدعينا إىل اقتحام العقبة لنكون من أصحاب‬
‫امليمنة مستعيذين باهلل ِمن منهجية الذينكفروا بآيات اهلل فكانوا من أصحاب املشأمة‪،‬‬
‫عليهم نار ُموصدة‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة البلد‪ ،‬اآليات ‪11-20‬‬

‫‪24‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫هناره ولَيلَه عقيـدةً ماديَّةً‬
‫وك َ‬ ‫وصدة منذ هذه الدنيا لو تَعلمون َم ْن يـَلُ ُ‬ ‫يف نار ُم َ‬
‫هلا يف ذهنه رسوخ القواعد املبنية املؤسسة على ثوابتها ومتغرياهتا‪ ،‬هلا على لسانه َرتابة‬
‫احلذلقة املكتبية‪ .‬يف نار ُموصدة لو تعلمون َم ْن ال ينهض مستجيبا لنداء الباري جل‬
‫ِ‬
‫الرؤوف خبلقه ملَبِّيا مشمرا تائبا عائدا عابدا‪.‬‬ ‫وعال‬
‫يبحث املنهجيون املهزومون يف جماالت السياسة‪ ،‬ال يزالون‪ ،‬عن صيغة للثورة‪،‬‬
‫اخلارجي االستعماري اإلمربيايل‪ ،‬وعن‬
‫ِّ‬ ‫وعن معرفة بالذات القومية وأدوائها‪ ،‬وعن القامع‬
‫طريقة سالكة إىل اخلروج من التخلف إىل التنمية‪ ،‬ومن التبعية إىل االستقالل‪ ،‬ومن‬
‫الالشيئية ِسَِة قومهم وأوطاهنم إىل «شيئية» هلا بال بني األقوام املصنعة املتقدمة ذات‬
‫البأس والثروة واحلضارة واحلرمة يف العامل‪.‬‬
‫يتبارْون َعرضا وحتليال ونقدا للذات وتعليال‪ .‬ومل تعط‬
‫هذا يريدون‪ ،‬ويف هذا َ‬
‫منهجيتكم يا بين األوطان إال مزيدا من البالء لقومكم‪.‬‬
‫ومنـََعة‪ ،‬وعافية ورفاهية وعدال ووحدة وقوة‪ .‬نريد هلا إمامة‬
‫ونريد حنن لألمة عزة َ‬
‫العامل لتُبـَلِّ َغ رسالة اهلل لإلنسان‪ ،‬وهي رسالة عدل ورمحة وسالم وتعايش على ِ ِّ‬
‫الب يف‬
‫الدنيا‪.‬‬
‫لكننا نبدأ مبخاطبة اإلنسان الفرد‪ ،‬حندثه حبديث املنهاج عن مصريه بعد املوت‪،‬‬
‫وحندثه عن العقبة وفك الرقبة (نفهم فك الرقبة فهما واسعا)‪ ،‬وعن إطعام ذي املسغبة‪،‬‬
‫مع ُهم‬
‫االنتظام َ‬
‫ُ‬ ‫وعن االنتظام يف صف الذين آمنوا وتواصوا بالصرب وتواصوا باملرمحة‪.‬‬
‫شرط مشروط يف نيل الدرجات العُالَ يف اآلخرة‪.‬‬
‫كو ُن‬
‫املنهاجي يلتقي بالفطرة السليمة عند املسلم واملسلمة نُ ِّ‬
‫َّ‬ ‫وألن خطابنا القرآينَّ‬
‫رمحة إحيائية‪ ،‬معها وهبا تنبعث القوى اإلميانية احملركة للجماهري‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وتُ َك ِّو ُن بتكوين العزيز القادر سبحانه‪ ،‬إرادة اقتحامية ُم َشخصة يف هذه اجلماعات‬
‫املصلية التائبة إىل رهبا‪ ،‬العازمة على خوض معارك احلق حىت املوت‪.‬‬
‫ويَ ُكون وقوفُنا موقف التلميذ النابه املتلقي بقصد التنفيذ أمام كتاب اهلل وسنة‬
‫نبيه‪ ،‬وأمام آياته الكونية ووضعه لألسباب‪ ،‬وضوحاً منهاجيا رائده عمل األنبياء عليهم‬
‫السالم‪ ،‬وحاديه احلِكمةُ ضالَّةُ املؤمن‪.‬‬
‫وفصائل‬
‫َ‬ ‫وال تُ َك ِّونون بصرامتكم يف التلمذة للفلسفات إال شخصيات متشنجة‪،‬‬
‫متجادلة عاجزة‪ .‬هدانا اهلل وهداكم‪.‬‬
‫***‬
‫لش ْرعة اهلل اليت ال يأتيها الباطل من بني يديها وال من خلفها‪،‬‬ ‫املرجعية املطلقة ِ‬
‫تنزيال من عزيز محيد‪ ،‬تعطينا ال ِو ْجهة واملعىن حلركة اإلنسان يف هذا العامل‪ ،‬حلركة املؤمن‬
‫الصائر إىل ربه على طريق السعادة األبدية‪ ،‬وحركة الذين آمنوا وعملوا الصاحلات‬
‫القسط يف األرض وتبليغ رسالة‬ ‫املكلَّفني بعد الرسل عليهم السالم بشهادة احلق وإقامة ِ‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫عبارة «اقتحام العقبة إىل اهلل» دليل على طريق السعي اجلهادي املتقدم باإلنسان‪،‬‬
‫فمقامات ِ‬
‫اإلميان فمعارج اإلحسان‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الرافِ ِع له‪ ،‬من دركات الكفر إىل صعيد اإلسالم‬
‫ف من قِبله‪ ،‬املؤمتِر بأم ِره‪ ،‬املنتهى َ‬
‫عند َنيه‪،‬‬ ‫سلوك الفرد ِ‬
‫العابد لربه‪ ،‬املتقرب إليه‪ ،‬املكلَّ ِ‬ ‫ُ‬
‫هو الضمانةُ لتكوين اجملتمع اجلهادي األخوي القائم باحلق يف األرض‪ .‬من انتظام‬
‫أمرهم شورى بينهم‪ ،‬يتألف جند اهلل‬ ‫ٍ‬
‫الفردي يف َوالَية رابطة بني املؤمنني‪ُ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫ذلك السلوك‬
‫قومةٌ هي وال نقول ثورة‪.‬‬ ‫القائمون بأمر اهلل‪َ .‬‬
‫***‬
‫‪26‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫بعد البشرية‬
‫ّأما املنهاج النبوي‪ ،‬وهو السنة التطبيقية العملية النموذجية‪ ،‬التارخييةُ ُ‬
‫املتجددة يف الزمان واملكان باجتهاد أجيال اإلميان‪ ،‬فنجدها ونستمدها لفظا وحمتوى‬
‫وجها وبشرى للمؤمنني‪ ،‬وبشرى للمحسنني‪ِ ،‬‬
‫وعام َل ثقة يف موعود اهلل عز وجل‬ ‫وتَ ُّ‬
‫ُ‬
‫وبالغ رسـوله الكرمي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬يف هذا احلديث العظيم ال ُـمنبِئ عن العِز‬
‫ِ‬
‫اليوم‪ ،‬املتيقظة‬
‫املستقبَل الذي ينتظر هذه األمة املرحومة أصال‪ ،‬املقهورةَ بالءً‪ ،‬الصاحية َ‬
‫اجملاهدة املنتصرة بإذن اهلل‪.‬‬
‫يقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه اإلمام أمحد رمحه اهلل بسنده‬
‫الصحيح عن النعمان بن بشري رضي اهلل عنه‪« :‬تكون النبوة فيكم ما شاء اهلل أن‬
‫تكون‪ ،‬ثم يرفعها اهلل إذا شاء أن يرفعها‪ ،‬ثم تكون خالفة على منهاج النبوة‪،‬‬
‫فتكون ما شاء اهلل أن تكون‪ ،‬ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها‪ .‬ثم تكون ُملكا عاضا‬
‫فيكون ما شاء اهلل أن يكون‪ ،‬ثم يرفعها إذا شاء اهلل أن يرفعها‪ .‬ثم تكون ملكا‬
‫جبريا‪ ،‬فتكون ما شاء اهلل أن تكون‪ ،‬ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها‪ .‬ثم تكون خالفة‬
‫على منهاج النبوة‪ .‬ثم سكت»‪.‬‬

‫***‬
‫القلب بنورها‪ ،‬والعقل بعلمها‪،‬‬
‫تنطلق ُخطانا املنهاجية من قواعد الش ِّْرعة‪ ،‬يستنري ُ‬
‫والنّظر مبفاهيمها‪ ،‬واإلرادة حبافزها وداعيها وندائها‪ ،‬لنقتحم العقبة إىل اهلل عز وجل‪.‬‬
‫هكذا نفكر وهكذا نعمل‪ .‬واخلالفة على منهاج النبوة هي األفق‪.‬‬
‫وهكذا نطرح يف هذا الكتاب أسئلة ثالثة يف ثالثة أبواب‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫السؤال األول‪ :‬ماذا يريد اإلسالميون؟ هؤالء الذين ترشحهم األقدار اإلهلية‬
‫إميانا وتصديقا‪ ،‬ويرشحهم حكم الواقع ال ُـم َحس امللموس لتويل زمام احلكم يف بالد‬
‫املسلمني‪.‬‬
‫ليرتب ِس ُربم على اإلميان‪ ،‬ويتحلى‬
‫ما هي أهدافهم؟ ما هي الشروط املنهاجية ّ‬
‫حزبم خبصال الرجولة والكفاءة الذاتية لتتحول اإلرادة االقتحامية عند الفرد املؤمن‬ ‫ُ‬
‫العضو يف مجاعة املسلمني إىل قوة اقتحامية خترق العقبات السياسية واالجتماعية‬
‫والثقافية والتخلفية االقتصادية العلمية التكنولوجية؟‬
‫السؤال الثاني‪ :‬تتحرك هذه القوة اإلسالمية يف طور تكوينها احلاضر‪ ،‬وستتحرك‬
‫غدا بإذن اهلل‪ ،‬يف عا ٍمل املسلمون فيه َوفْرةٌ عددية‪ ،‬لكنهم من الضعف والعجز واهلزمية‬
‫احلضارية حبيث الَ ِغ َن هلم يف صراعهم غري املتكافئ للبقاء من ُمصانعة القوى العاملية‬
‫تعبه تيارات جديدة‪ ،‬وثورات «حريرية» لشعوب رجعت‬ ‫املهيمنة‪ .‬والعا َل يف خماض‪ُ ،‬‬
‫من «أمل» الشيوعية إىل حضن اهليمنة الرأمسالية‪ .‬العامل يف خماض ميالد أليم عسري‬
‫حسري لفئة مستضعفة مفقرة من اإلنسانية‪ ،‬يزدادون َع َوزا وختلفا كلما ازداد األقوياء ثراء‬
‫ونـَْعمة وقوة‪ .‬واملسلمون هم جوهر عامل املستضعفني‪.‬‬
‫العامل يعرف تطورا مذهال يف العلوم واالخرتاع‪ ،‬يعرف جنونا إعالميا يطوق‬
‫األرضي‪ ،‬القريَةَ الكوكبية‪ ،‬بطوق من التوابع اإللكرتونية احلاملة لرسالة الشهوة‬
‫ّ‬ ‫الكوكب‬
‫الدوابية العارمة‪.‬‬
‫العامل يعرف تلوث البيئة املهدد خبراب الكرة‪ ،‬يعرف أمراض احلضارة السائدة‬
‫وأمراض الالحضارة املنبوذة‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ما سلوك القوة االقتحامية اإلسالمية يف هذا العامل وهو عقبة ذات أبعاد تضغط‬
‫وتتمنع وتقاوم وت ْد َحُر وتقتل؟‬
‫السؤال الثالث‪ :‬هذه القوة االقتحامية اإلسـالمية اليت أصبح يعرتف املراقِب‬
‫العدو أهنا اخلطر الداهم املهدد للسالم يف‬
‫الوحيد لألمة‪ ،‬ويصرخ ّ‬‫ُ‬ ‫املسلم أهنا األمل‬
‫العامل‪ ،‬ليست وحدها الفاعل السياسي يف بالد املسلمني‪ .‬هنالك أحزاب الييكية‪،‬‬
‫وخنب مغربة‪ ،‬وأنظمة موروثة قائمة‪ .‬هنالك الدميقراطية يطلبها الشجر واحلجر بوصفها‬
‫دين العصر ال ُـمعلَن‪.‬‬
‫سفينة النجاة‪ .‬هنالك األمم املتحدة‪ .‬هنالك حقوق اإلنسان ُ‬
‫قيود يف أرجلنا وأغالل يف أعناقنا‪.‬‬
‫هنالك عالقات التبعية االقتصادية‪ .‬هنالك املديونية‪ٌ .‬‬
‫ما العمل؟‬
‫هذه أسئلتنا‪ ،‬وهذا منهاجنا على الشرعة الواضحة‪ ،‬لَيلُها كنهارها ال يزيغ عنها‬
‫إال هالك‪ .‬وعلى اهلل قصد السبيل‪ .‬وال قوة إال باهلل العلي العظيم‪ .‬والصالة والسالم‬
‫على الرسول الرؤوف الرحيم‪.‬‬

‫سال‪ ،‬صبيحة اإلثنني ‪ 13‬صفر ‪.1411‬‬


‫عبد السالم ياسني‬

‫‪29‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫الباب األول‬
‫ماذا يريد اإلسالميون ؟‬

‫‪31‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫‪32‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ ‬

‫الفصل األول‬
‫الورد السياسي األخالقي للحركة اإلسالمية‬
‫* قواعد اإلسالم‬
‫* معضلة التأصيل‬
‫* مرض الغثائية وداء األمم‬
‫* منطق الدعوة ومنطق «الساحة»‬
‫* الغلوّ والتطرف‬
‫* فقه التجديد‬
‫* حتديات املستقبل‬
‫ ‬

‫‪33‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫‪34‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫قواعد اإلسالم‬

‫أقصد بقواعد اإلسالم املرتكزات األرضية اجلغرافية السياسية‪ ،‬واملقومات‬


‫االقتصادية‪ ،‬واحلجم البشري الذي عليه بعد اهلل عز وجل ميكن أن ِ‬
‫تتكئ القوة‬
‫اإلسالمية االقتحامية يف سبيلها إىل التمكن يف األرض واالستواء يف احلكم‪ .‬وما‬
‫التمكني إال من اهلل عز وجل‪ ،‬لكننا ننظـر يف األسبـاب واإلمكانيات الظاهرة وهي‬
‫من وضعه تعاىل وخلقه وتسخريه‪.‬‬
‫يَعتَمد واضعو السياسات على التخطيط احملسوب املدقق للحاصل والفائت‬
‫من إعداد املستقبل‪ .‬واحلاصل للحركة اإلسالمية الصاحية هو أوال الثقة التامة باملوىل‬
‫وبوعده الكرمي على لسان نبيه األمني صلى اهلل عليه وسلم بأهنا ستكون‬‫القوي العزيز ِ‬
‫خالفة على منهاج النبوة بعد العض واجلرب‪.‬‬
‫الفائت هو حال األمة من التشتت والتمزق‪ ،‬حىت إنك إن ذهبت حتصي‬
‫سمي أمة واحدة‪ ،‬وإمنا تسمي ُمَزعاً من جسم ُمزق‬ ‫املسلمني ومقومات املسلمني ال تُ ِّ‬
‫بعض‪ ،‬تابِ ٍع كلُّها للقوى العاملية املهيمنة‪ ،‬وتُ ِّ‬
‫سمي‬ ‫بعضها عن ٍ‬ ‫ِ‬
‫يف دويالت مستق ٍّل ُ‬
‫املثل ببعضها للفقر‬
‫ضرب ُ‬ ‫اقتصاديات هزيلة تنتمي بال استثناء للعامل املتخلف‪ ،‬بل يُ َ‬
‫املدقع‪.‬‬
‫هذا رغم وفر اإلمكانيات‪ ،‬رغم الفائض املايل يف دويالت النفط‪ ،‬رغم الفائض‬
‫يف اإلمكانات الفالحيـة يف بلدان الَ تعرف أن تستغل األرض وال ِ‬
‫تقدر‪ .‬رغم وجود‬
‫ستثمر‪.‬‬
‫طاقات مادية وبشرية ال تُ َ‬

‫‪35‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫استعرضت املسلمني مليارا من اخللـق ويزيد‪ ،‬تُ َس ِّمي َك ّماً دميوغرافيا‬
‫َ‬ ‫تُ َس ِّمي إن‬
‫جيد حال‪.‬‬ ‫اح ُم األجيال فيه على مائدة احلياة يشكل ِعْبئاً ثقيال ومشكال ال ُ‬ ‫تـََز ُ‬
‫اجلوع ُيا ِور التخمة‪ ،‬واهلزمية والغُْربة على وجه‬
‫ذكرت املسلمني َ‬ ‫َ‬ ‫سمي إن‬
‫تُ ِّ‬
‫ني يُ َذ ِّك ُر َّ‬
‫الزجني املسلم مىت‬ ‫ٍ‬
‫اإلسالم دف ٍ‬ ‫ٍ‬
‫انتساب إىل‬ ‫األرض‪ ،‬واهلُوية الضائعة إال من‬
‫وجد من مهوم معاشه الشحيح فُسحةً للتفكري أنه أخ يف الدين لذلك العريب الثري‬ ‫َ‬
‫الذي حتدثوا عنه يف وسائل اإلعالم أنه خسر على مائدة ِ‬
‫القمار يف مونيت كارلو‬ ‫َ‬
‫أربعمائة ألف دوالر يف َجلسة واحدة‪ِّ .‬‬
‫يذكُرهُ انتسابُه لإلسالم تلك األخوة املبدئية‬
‫النظام العاض‬
‫ُ‬ ‫ت للظلم الشنيع‪ ،‬ومكن له‬ ‫اليت ت ْلعن هذه األثـََرةَ اجلاهلية اليت م ّكنَ ْ‬
‫واجلربي‪ ،‬ومكن هلا التنكر لدين اإلسالم دي ِن العدل واإلنصاف‪.‬‬
‫أمة متعددة متنوعة منتشـرة شعوبا يف القوقاز والعرب واإليرانيني واألوربيني‪.‬‬
‫الس ْحنات‬
‫أسود وأمسر وأبيض‪ .‬أتراك وهنود ومغول وزنوج وماليزيون‪ .‬متنوعو ِّ‬‫ما بني َ‬
‫واللغات واللهجات‪ .‬قبلتهم يف الصالة واحدة‪ ،‬حجهم إىل بيت اهلل احلرام الواحد‪،‬‬
‫عقيد ُتم أن ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل على كثري من اجلهل بالدين يف عوامهم‪،‬‬
‫دع واخلُرافات الراسبة من القرون والطارئة الناشئة من االختالط‬‫وعلى كثري من البِ ِ‬
‫الثقايف‪.‬‬
‫أكثر من تسعني يف املائة من أهل السنة‬ ‫املسلمون املليار ويزيد ُسنةٌ وشيعة‪ُ ،‬‬
‫واجلماعة انتماءً‪ ،‬لكن األقلية العددية من الشيعة يف إيران هم الذين فَ ّجروا على عتَ ِبة‬
‫عشَر ثورة نبهت العامل إىل أن اإلسالم قوة كامنة ال تنتظر إال القيادة‬ ‫القرن اخلامس َ‬
‫احلكيمة لتشكيل ٍ‬
‫قوة حتررية هلا االعتبار‪.‬‬
‫املسلمون يشكلون على خريطة العامل حزاماً ميتد من أندونسيا إىل شواطئ‬
‫األطلسي باملغرب‪ ،‬من جاكرطا إىل طنجة‪ .‬وبالد العرب املسلمني هي بُؤرة هذه الرقعة‪.‬‬
‫‪36‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫املنكرةُ بأهنم أكثر‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫للعرب املائةُ واخلمسون مليونا‪ ،‬بل املائتا مليون عن قريب‪ ،‬امليزةُ َ‬
‫شعوب األرض تفاوتا يف قِسمة األرزاق وسوء توزيعها‪ .‬النفط كان يكون ركيزًة لتنمية‬
‫العَرب لإلسالم وحتريفهم‬ ‫أن فهم بعض َ‬ ‫توفر الرخاء للعرب وللمسلمني أمجعني لوال َّ‬
‫حول دين العدل ُم ِّربراً ليبقى هذا أمريا يرتع وذاك صعلوكا ال يشبع‪.‬‬
‫له َّ‬
‫العض ُّي‬
‫وقسمها التوزيع ِّ‬ ‫املسلمون دويالت خلَّفها التقسيم االستعماري‪َّ ،‬‬
‫اجلربي من قبله‪ ،‬ما منها واحدةٌ تُ ْذ َكُر إن حتدث العال ُـم عن الصناعة والعلوم واالكتفاء‬
‫اليد النافذة يف سياسة العامل واقتصاده ودبلوماسيته وتقرير مصريه‪ .‬بل ما‬ ‫الذايت و ِ‬
‫احلامي القوي أو احلليف‬
‫َ‬ ‫مصري نفسها حبرية دون أن تستأذن‬ ‫منها واحدة تقرر َ‬
‫االسرتاتيجي أو املمول ال ُـم َو ِّجهَ للسياسة االقتصادية االجتماعية اليت ال ينبغي أن‬
‫اليب الرأمسالية طاحنةَ املستضعفني يف العامل‪.‬‬ ‫تَدور عجلتها إال وفْق ما ي ِ‬
‫صل ُح الدو َ‬ ‫َ َ ُْ‬ ‫ُ‬
‫املسلمون أقليات مقهورة يف آسيا وأفريقيا‪ ،‬وجاليات مشتتة يف أرجاء املعمورة‪.‬‬
‫يف االحتاد السوفيييت باألمس كان املسلمون ميثلون أقلية هي بعد األقلية املسلمة‬
‫باهلند أكثر املغلوبني على أمرهم عددا‪ .‬وهم اليوم‪ ،‬بعد تفتت االحتاد السوفيييت‪،‬‬
‫مجهوريات تُنا ِزع القوميةُ فيها اهلويةَ اإلسالمية التصد َ‬
‫ُّر والربوز‪.‬‬
‫هناك أقليات يف سنغافورة الصغرية ويف الصني الكبرية‪ .‬أقليات يف فتنام والفلبني‪،‬‬
‫يف سيالن وبرمانيا‪ ،‬يف يوغوسالفيا وبلغاريا وبولونيا وهنغاريا وسائر الفتات من‬
‫اإلمرباطورية العثمانية رمحها اهلل‪ .‬هنالك يف أوربا أقليات باليونان وقربص‪ ،‬وأغلبية‪ ،‬بل‬
‫عامة‪ ،‬يف ألبانيا عجل اهلل سراحها من قبضة املاركسيني اخلبثاء‪ .‬هنالك جاليات يف‬
‫فرنسا إسالمية يقدمها حجمها ليكون اإلسالم ثاين دين يف البلد‪ ،‬وجاليات يف إجنلرتا‬
‫وسويسرا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا وبلجيكا‪ .‬ويف األمريكتني جاليات مهمة تزاحم هنا‬

‫‪37‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وهناك‪ ،‬حبجمها العددي ال غريُ‪ ،‬اجلاليات اليهودية املتمكنة يف البالد ثروة وتنظيما‬
‫ونفوذا‪.‬‬
‫الذلَّة واالضطهاد مثل ما تعاين الدويالت‬ ‫األقليات املسلمة تعاين من ِ‬
‫القلَّ ِة و ِّ‬
‫اإلسالمية التابعة احملكومة بغري ما أنزل اهلل‪ .‬وتتكون اجلاليات املسلمة يف أغلبيتها‬
‫الساحقة من مستضعفني نزحوا من ديارهم طلبا للقوت‪ .‬فهم عُمال هامشيون تستغلهم‬
‫البالد املضيفة وتأكل أعمارهم‪ .‬معهم قِلة من الطلبة واخلرجيني‪ .‬والكل مهدَّد بسطوة‬
‫البحر الكافر احمليط‪ ،‬حيتاجون أن متد الدعوة اإلسالمية هلم يد العون لكيال يذوبوا‬
‫وتذوب ذريتهم يف جمتمع الغربة‪ .‬وإن مصري أبناء اجلاليات املسلمة وبناهتم من اجليل‬
‫الثاين والثالث ملأساة تُ ِ‬
‫دمي القلوب‪.‬‬
‫رجى نفعه يوما مع ما وصفنا وما‬
‫هل يكون هذا الشتات من البشر ُمرتكزا يُ َ‬
‫مل نصف ِمن الضَّعف والضياع؟‬
‫نعم واهلل إن سرت يف األمة روح جديدة‪َّ .‬‬
‫وإن يف أفغانستان اجلهاد‪ ،‬أفغانستان‬
‫خلري آية يتدبرها املؤمن‬
‫الكرامات‪ ،‬أفغانستان اليت دحرت أكرب قوة عسكرية يف العامل َ‬
‫‪1‬‬
‫لريى مواقِ َع نصر اهلل‪.‬‬
‫وإن يف انبعاث اإلسالم يف أرض روسيا بعد سبعني سنة من القمع الوحشي آلية‬
‫أخرى على أن اهلل عز وجل ناصر دينه ولو بعد حني‪ .‬إىل اجلمهوريات املسلمة بالقوقاز‬
‫وآسيا الوسطى وسائر تلك الربوع سرت الروح اجلهادية من أفغانستان اجلهاد فأيقظت‪ ،‬بل‬
‫زادت يقظة‪ ،‬حماضن اإلميان اليت حافظ عليها الدعاة عشرات السنني حتت السياط والسفك‬

‫‪ُ 1‬كتب هذا قبل مأساة تناحر القبلية الدموي‪ .‬آه على أفغانستان!‬

‫‪38‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫والتكفري املربمج‪ .‬وهكذا التقى الصوفية أهل احلديث فكونوا ما يسميه الروسيون‬
‫احلاكمون ب«اإلسالم املوازي» املناهض للكفر‪ .‬وإنه لدرس نتلقاه من هناك‪ .‬بل‬
‫بعضهم‬
‫يس ِّعر ُ‬
‫درسان‪ :‬لقاء أهل احلديث بالصوفية وهم يف بالد العرب خاصة َ‬
‫احلرب على بعض‪ .‬مث درس متييز العدو بأنه كافر بينما حنن ألِفنا أن نصفه باملستعمر‬
‫الظامل‪ ،‬وكأن صفة الكفر حال ثانوي ال قيمة له‪.‬‬
‫إذا حلَّت األرانب َربْعا فسيحا ِخصبا فلن تكون لذلك الربع ُح َرمةٌ ألن سكانه‬
‫ب‪ .‬فلو سكنته األسود ألصبح عرينا عز َيز احلِ َمى له ال َـمنَعة والسطوة‪ .‬هكذا ديار‬ ‫ِ‬
‫أران ُ‬
‫العددي اهلائل للمسلمني‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫الكم‬
‫املسلمني‪ ،‬وخريات املسلمني‪ ،‬وطاقات املسلمني‪ ،‬و ُّ‬
‫كل ذلك ال وزن له سياسيا وال أخالقيا ما دام املسلمون على حالة البعد عن دينهم‪.‬‬
‫من هذا البعد عن الدين ختطُبُهم الداهية‪ ،‬داهية اخلوف واجلوع والظلم‬
‫والتفاهة‪ .‬أرانب طيِّعة لكل صائد‪.‬‬
‫والذي يريده اإلسالميون‪ ،‬وهم الرمحة اإلحيائيـة اليت هبا جيدد اهلل الكبري املتعال‬
‫وت َي من موات‪ ،‬لتقوى‬ ‫اإلميان‪ ،‬هو أن تنبعث األمة من رقاد‪ ،‬وتتجمع من شتات‪َْ ،‬‬
‫على محل الرسالة للعاملني‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫معضلة التأصيل‬
‫املعضلة هي املشكل ذو الرأسني‪ ،‬إن حللت أحدمها انعقد اآلخر‪.‬‬
‫ومن املعضالت املقيمة يف أذهان مفكري املسلمني منذ قرن ويزيد قضية‬ ‫ِ‬
‫األصالة واملعاصرة‪ .‬كيف نربط احلاضر العصري باملاضي األصيل‪ .‬ولكل تصورهُ‬
‫عن األصالة مفردة وعن املعاصرة‪ ،‬وعنهما جمتمعتني مبقدار‪ ،‬أو بتمازج‪ ،‬أو بتناقض‬
‫وتنافر‪.‬‬
‫مل يكن للمشكلة ِح َّد ُتا قبل الصدمة االستعمارية‪ ،‬إمنا كان عند املسلمني‬
‫العثمانيني شعور باالضطرار «إلصالحات» تضيف إىل األمة املمتلئة بذاتيتها قوى‬
‫التدبري العسكري وترتيب «التنظيمات» القانونية‪.‬‬
‫ملا هجم االستعمار يقضم من أطراف األمة يف اهلند وأندونسيا وأفريقيا قاومه‬
‫املسلمون بذاتية إسالمية ال تشعر إزاءه بنقص حضاري ألهنا مل تكن على اطالع‬
‫يزد ْد شعور‬
‫بالفرق اهلائل يف تطوير الوسائل الصناعية والتسليحية والتنظيمية‪ .‬ومل َ‬
‫الدولة العثمانية رمحها اهلل باحلاجة لإلصالحات والتنظيمات إال بعد أن حل العدو‬
‫املتفوق قريبا من دارها يف اجلزائر ومصر وتونس واملغرب‪.‬‬
‫مث إن فشل املقاومة البطولية لالستعمار من قبل رجال كعبد القادر اجلزائري‬
‫واملهدي السوداين وعمر املختار بليبيا وحممد عبد الكرمي باملغرب‪ ،‬ومن قبلهم أمحد‬
‫ابن عرفان باهلند‪ ،‬وأمثاهلم أشعر املسلمني بالورطَة‪ ،‬لكن مل يفقدهم الثقة بالنفس‪،‬‬
‫ومل يبث فيهم الشك يف ُه ِويتهم احلضارية اإلسالمية‪ .‬كانوا عند أنفسهم مسلمني‬
‫يقاتلون كفارا‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وهبذا االعتزاز بالذات بدأت املقاومة الوطنية للتحرير يقودها رجال ِ‬
‫يتكئون‬
‫على إسالمية الشعب‪ ،‬ويرفعون شعارات ما لبثت أن اختلطت فيها الروح اإلسالمية‬
‫بالنداء الوطين احمللي القومي‪ .‬ويف الطريق إىل التحرر اقتبس الزعماء أسلحة فكرية‬
‫من القومية األوربية الغازية حبكم املناقضة مع ال ُـمقابلة تعكس هذه املقابلة صفات‬
‫الضد على الضد‪ .‬وهكذا قاتل الوطنيون احملتل‪ ،‬فلم تنته املعركة جبالء االستعمار إال‬
‫وقد أصبح الناس وطنيني انزوت إسالميتهم وراء االهتمام‪.‬‬
‫مث استلم الوطنيون االستقالل كما تُستـَلَ ُم احلياةُ اجلديدة‪ ،‬فإذا يف أيديهم‬
‫إدارة عصرية استدعت بضروراهتا املز ِاحة خنبة من «العصريني» طوروها إىل دولة‬
‫قومية هي هذه الرتكيبات الشرقية الغربية‪ ،‬العصرية األصيلة‪ ،‬األصيلة العصرية‪،‬‬
‫سالح‬
‫َ‬ ‫اب الغول‪ ،‬ال ُـممتَ ِش َقةُ على اإلسالميني الطالبني حلكم إسالمي‬
‫املرتدية أثو َ‬
‫التفزيع والقمع‪ ،‬تارة ألهنم يهددون أصالة اإلسالم الرمسي احملضون يف كنَفها‪ ،‬وتارة‬
‫بدعوى أهنم ال يفهمون العصر‪ ،‬فهم ظالم من ظالم‪.‬‬
‫جسم األمة قبل الصدمة االستعمارية كيانا َرخوا رثا باليا ضعيفا‪ .‬كانت‬
‫كان ُ‬
‫قابلية االستعمار‪ ،‬كما كان يقول مالك بن نيب رمحه اهلل‪ ،‬تنادي حباهلا َم ْن ميأل‬
‫فراغ الضعف بالقوة‪ .‬كانت التجزئة السياسية أمرا واقعا مزمنا ابتدأ من القرن الرابع‬
‫اهلجري‪ ،‬منذ استوىل الديلم والرتك على الدولة املسلمة مث تنازعوا أطرافها منذئذ‬
‫مع أقوام آخرين حىت استقرت‪ ،‬يف ُمعظمها‪ ،‬بيد العثمانيني‪ .‬وشاخت األمور يف‬
‫أيديهم‪ ،‬وشكل ظ ْل ُمهم للرعايا‪ ،‬ومنهم العرب‪ ،‬مطية أخرى زادت القابليـة للتجزئة‬
‫واالستعمار استحكاما‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وجد الرجل األبيض املتفوق نفسه وقد اكتسب عضالت ما لبثت أن صرعت‬
‫«الرجل املريض» العثماين‪ .‬ويف ظروف احلرب العاملية األوىل برز مصطفى كمال وارثا‬
‫عصريا قوميا جملد العثمانيني‪ ،‬قلص اإلسالم إىل زاوية اإلمهال‪ ،‬وحارب الدين وقتل‬
‫وعصرها بقوة احلديد واإلرهاب‪.‬‬
‫و«ترك» الدولة َّ‬
‫العلماء‪ّ ،‬‬
‫هذا االستعمار يشبه يف عاداته يف احلل والرتحال‪ ،‬ويف االستيطان والتناسل‬
‫تعمد إىل كائن حي جريح فتستبطن جرحه وتعمقه‪ ،‬مث تبيض‬ ‫الذبابة املكسيكية اليت ِ‬
‫فيه بـيضها ِ‬
‫فيفقس عن أجيال من الذباب متوارثة‪ ،‬جرثومتها ومادة ِغذائها وحياهتا‬ ‫َْ‬
‫عنصره لتحىي العناصر الطفيلية‪.‬‬
‫من الكائن احملتَل الذي ميوت ُ‬
‫عاطشا الستعباد الضعفاء‬‫دخلت العصرية غازية على األصالة‪ ،‬ورد الكفر ِ‬
‫َََ‬
‫على اإلسالم املوروث‪.‬‬
‫وحار املسلمون يف ال ِوجهة‪ ،‬ما حيـََّرهم غريُ َّ‬
‫املثقفني املغربني الذين هلم وعي مبا‬
‫جيري يف الساحة وليس معهم إميا ُن العجائز‪ ،‬ذلك اإلميان الفطري الذي به حافظت‬
‫ص َخب العصر‬ ‫الشعوب على إسالميتها وهويتها وأصالتها‪ ،‬فهي اليوم يتجاذهبا َ‬
‫ونسل الذباب الطفيلي إىل جانب التعصر والتطور والتنصل من كل دين إال دين‬ ‫ُ‬
‫القومية وجلباب الفلكلور‪.‬‬
‫ويدعوها إىل اإلسالم طائفة من بنيها الذين َعُّزوا على املسخ الذبايب‪.‬‬
‫ما هي األصالة وما هي العصرية‪ ،‬وكيف أصبح اجلمع بينهما مطلبا معضال‪،‬‬
‫وكيف اشتبك الفكر املسلم يف شباك هذا الطرح املعضل ذي الطرفني املتنازعني‬
‫املتخاصمني؟‬
‫الطرح نفسه وارد علينا‪ ،‬داخل على إسالمنا‪ ،‬دخيل فيه‪ ،‬غريب عنه‪ .‬إنه طرح حمايد‪،‬‬
‫ينسبُك نسبة وثنية مادية إىل «أصل»‪ ،‬ويسحبُك إىل عبادة «العصـر»‬
‫بريء منكل دين‪ُ ،‬‬
‫‪42‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وما يف العصر من مكتسبات مادية بشرية‪ .‬طرح جيردك من عبوديتك هلل عز وجل‬
‫ليدخلك يف متاهة املعميات اليت حيلو للمثقفني املغربني من ذراري املسلمني أن‬
‫يتباروا يف ريادة جماهلها‪.‬‬
‫ما هي الرتكيبة ال ُـمثلى ألساس الشخصية األصيلة؟ ما هي الصياغة الفكرية‬
‫هلا؟ ما هي الصبغة الثقافية؟ وهكذا تتسلسل األسئلة واألجوبة واالحتماالت يف‬
‫الذهنيات املغربة طردا وعكسا‪ .‬ويف امليدان‪ ،‬يف املدارس واجلامعات‪ ،‬تدور عجلة‬
‫التعصري والتأصيل‪.‬‬
‫تدخل املادة البشرية يف يد األساتذة املصنوعني بيد دهاقني العصر‬
‫املستعمرين‪ ،‬فيتناولون نفسها وفكرها وشكلها وعاداهتا بالتطريق والتمزيق حىت‬
‫تتهيأ للتحويل يف كيمياء «الثقافة»‪ ،‬وحىت يُفرز منها عناصر السالمة الفطرية‬
‫«حملل» التغريب‪ ،‬وحىت تتفاعل لصياغة جديدة حبضور «الـمرِّك ِ‬
‫ب» الالييكي‪.‬‬ ‫َُ‬
‫الطرح اإلسالمي ال يعرف التعميات الفلسفية‪ ،‬بل ينفيها ويطردها‪ .‬الطرح‬
‫اإلسالمي يسألك عن إميانك بربك ومبصريك إليه‪ .‬ينسبك إىل خالقك‪ ،‬فذاك‬
‫أصلُك‪ .‬ويسألك عن دار االمتحان والبالء هذه الدنيا هل عملت فيها صاحلا‪ .‬وال‬
‫تستطيع أن تعمل صاحلا بتجاوز نطاقك الضيق إن مل تعرف سنة اهلل يف الكون‪،‬‬
‫وآياته يف اخللق‪ ،‬وما أخرج للناس يف العصر من منتجات الفكر والصنائع‪ ،‬وما بث‬
‫فيه من قوى متنافسة‪ ،‬وما أخر فيه وما قدم‪ .‬هو املقدِّم وهو املؤخر ال إله إال هو‪.‬‬
‫يف الطرح اإلسالمي معادلة ال معضلة‪ .‬اإلسـالم يعلن البشارة باإلجناح يف‬
‫الدنيا والفوز يف اآلخرة للذين آمنوا وعملوا الصاحلات‪ .‬واملعضلة الفكرية اخلابطة بني‬
‫األصالة والعصرنة ال تربح باملقلدة للفكر الوثين اإلشكاالت العقيمة‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أي وزن يف السياسة واألخالق يُرجى للمسلمني ما دام التعبري عن مطمحهم‬
‫يرتاوح بني أصالة مفقودة وعصرنة ممتنعة؟‬
‫ماذا يريد اإلسالميون؟ أية شخصية‪ ،‬وأي جمتمع وأي تنظيم‪ ،‬تكفل‬
‫للمسلمني عودة الروح إىل كياهنم اخلَفيف ليكتسي رزانة ويقتين يف العامل وزنا؟‬
‫من اإلسالميني أنفسهم من يتوق الستعادة الشخصية املسلمة اليت دمرها‬
‫االستعمار‪ ،‬واجملتمع الذي اهنار أمام صدمة االستعمار‪ ،‬وجمد «اخلالفة» األموية‬
‫س كل ذلك يف خيال التائقني ُحلَ َل البهاء وزهو النصر‬ ‫ِ‬
‫والعباسية والعثمانية‪ ،‬وقد لَب َ‬
‫وكرامة «األصل» اجمليد‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫مرض الغثائية وداء األمم‬


‫تُ َك ِّو ُن املقابلة بني األصالة واملعاصرة «وحدة جدلية» على الشهوة ألذهان‬
‫مفلسفة ال يستقيم هلا التفكري إال على طرٍح ُمشاكِ ٍل للمنوال املنهجي املادي‪.‬‬
‫املوضوع للنقد ونقد النقد‪ ،‬وللنقض‬
‫َ‬ ‫ويتداول الرهائن الثقافيون يف يد الفكر املغرب‬
‫ونقض النقض‪ .‬تفكري يف معقول ملموس مرغوب فيه هو املعاصرة‪ ،‬هو أن يكون‬
‫املرء صورة ِطْبق الرجل األبيض «املتنور» املتحضر‪ ،‬وأن يكون اجملتمع امتدادا حضاريا‬
‫للعامل املتقدم‪ ،‬عامل الغرب العتيد‪ .‬وتفكري يف الغامض اجلامد‪ ،‬يف الرتاث الذي ال‬
‫ْجنُرُؤ على طرحه كله‪ ،‬وحنتاج أن نتزين به يف عامل الثقافات ليبقى لنا بعض اعتبار‬
‫الذات‪ ،‬لتبقى لنا «أصالة»‪.‬‬
‫وتستعمل اجلدلية املنهجية لتتيح «يف آخر التحليل» تلفيقا منافقا بني األصالة‬
‫واملعاصرة‪ ،‬أو «جتاوزا ديالكتيكيا» نتخفف به من ِعبء الغيبيات مجيعا‪ ،‬ولتبقى لنا‬
‫فلسفة الفارايب وجتديد ابن رشد لألرسطية‪.‬‬
‫مقطوعون يتعلقون مبقطوع‪ .‬وانشطار يف الفكر والشخصية والسلوك‪.‬‬
‫وينجر بعض اإلسالميني‪ ،‬إما دفْعا لبهتان املستشرقني وتالمذهتم و ّإما تشبثا‬
‫بأصل تارخيي نلجأ إليه من اهلزات‪ ،‬فيدخلون يف إشكالية األصالة واملعاصرة ليدافعوا‬
‫عن اجملد األموي واحلضارة العباسية‪ ،‬ولريمسوا الطريق الستعادة هوية ما قبل االستعمار‪.‬‬
‫هكذا يتمسك بعض اإلسالميني مبقطوع منقوض‪ ،‬يتمسكون بنموذج اجملتمع‬
‫املنحل والنظام احلُ ْكمي املذموم شرعا‪ ،‬فال هم متكنوا من النقد الضروري املتبصر للذات‪،‬‬
‫وال هم استطاعوا عرض مشروعهم املستقبلي على النّ َم ْوذج النبوي القرآين متجاوزين‬

‫‪45‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫إغراء الربيق احلضاري اجمليد الذي اقرتن بامللك العاض مث اجلربي‪ .‬هذا التمسك‬
‫باألصالة الغامضة زيغ عن اخلط املنهاجي واختزال وتعمية لألمراض اليت كانت سبب‬
‫تفتت األمة وهزميتها وضعفها و«ال شيئيتها» و«ال وزنيتها» يف عامل اليوم‪.‬‬
‫وال ينبئك ِمثْ ُل خبري‪ ،‬ال يصف لك األمراض الطارئة على األمة‪ ،‬واليت كانت‬
‫وال تزال السبب يف اخنذاهلا حىت انتُهكت ُحرمتها‪ ،‬غري احلبيب الطبيب رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫إن كان غريُنا من رهائن الفكر املغرب املفلسف «املعقلن» يستعريون أدواهتم‬
‫الفكرية وتركيباهتم املفهومية من مرجعيتهم املادية الكافرة باهلل ورسله‪ ،‬فنحن نستمع‬
‫إىل مبلغ الوحي‪ ،‬النيب الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬خيربنا من زمانه بزماننا‪ ،‬من‬
‫خمرب ُمهدَّم ُمفتَّت‪ .‬ال ينطق عن اهلوى إن هو إال وحي‬
‫س عن الحق َّ‬ ‫ماض ُم َؤ ِّس ٍ‬
‫يوحى‪.‬‬
‫ض ّن عُرا اإلسالم عُ ْروةً عروًة‪،‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬لَتُن َق َ‬
‫فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها‪ .‬وأولهن نقضا الحكم‪ِ ،‬‬
‫وآخرهن‬ ‫ُ‬
‫الصالة»‪ .‬رواه اإلمام أمحد والطرباين عن أيب أمامة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫عُرا اإلسالم معاقِد القوة فيه‪ ،‬أصوله وفرائضه‪.‬‬
‫العقد من البناء واحلبل»‪ ،‬و«النِّقض املنقوض»‪ ،‬و«منه قيل‬ ‫والنقض «انتشار َ‬
‫للبعري املهزول نِقض»‪ .‬كما قال الراغب رمحه اهلل‪.‬‬
‫النسيب‬
‫ِّ‬ ‫البناء الذي تركه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف اكتماله البش ِر ِّ‬
‫ي‬
‫وحافظ عليه اخللفاء الراشدون املهديون حبفظ اهلل بدأ انتقاضه واهندامه وانتشاره بعد‬
‫اإلمام عليا كرم اهلل وجهه فكسـروا‬
‫ثالثني سنة من موته صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬اغتالوا َ‬
‫‪46‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ُس ِه ملا َّ‬
‫حولوها ملكا عاضا‪ .‬كان االنقالب األموي‬ ‫أعملوا املعول يف أ ِّ‬
‫قبة البناء‪ ،‬بل ْ‬
‫عت هزاهتا على مدى التاريخ كما ترتجع‬
‫ترج ْ‬
‫الباغي ضربة يف الكيان اإلسالمي‪َّ ،‬‬
‫رجات الزلزال‪.‬‬
‫وما األنقاض واألنكاث اليت نراقبها يف جسم األمة من جتزئة يف الوطن‬
‫ٍ‬
‫وتشتت يف ال ِوجهة إال نتيجة‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬وتفرق طائفي مذهيب‪ ،‬و َذ ِّريٍَّة يف الفكر‪،‬‬
‫بعيدة «أصيلة» لتلك الضربة ورجاهتا‪ .‬ويا عجبا كيف نُ ِ‬
‫ص ُّم آذاننا ونغمض أعيننا‬
‫عن هذا احل َدث الزلزايل يف تارخينا‪ِ ،‬‬
‫حدث اغتيال الشورى والعدل!‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫تعميق النقض‪ ،‬بل ما كان االستعمـار إال لوجود‬ ‫غري‬
‫االستعمار َ‬
‫ُ‬ ‫ما فعل‬
‫بل البناء احلصني املنيع‪ .‬دعك من عبادة حضارة ما هي‬
‫أنقاض وأنكاث حيث كان قَ ُ‬
‫إال مظهر لقوة بقيت يف األمة «رغم» النقض العاض ال بسببه‪ ،‬رغم فساد احلكم‬
‫واحنالل عروته‪.‬‬
‫ونستمع إىل املصطفى احلبيب صلى اهلل عليه وسلم خيربنا مبصري األنقاض‬
‫بعد زمان‪ .‬كيف ازداد التفتت واستفحل واستوحل وتأصل حىت كانت القابلية‬
‫لألمم أن َهلُموا إىل َمأْ ُدبَة‪.‬‬
‫لالستعمار دعوًة َج َفلَى َ‬
‫للباحث املستنري بنور الوحي أن يتأمل تاريخ املسلمني وبإزائه اخلرب احلقيق‬
‫والوصف الدقيق الناطق بالنقض وبتحول اخلالفة على منهاج النبـوة إىل ملك عاض‬
‫مث جربي‪.‬‬
‫وخنتصر حنن لننـزل مع الدليل املنهاجي النبوي إىل عصر االستعمار وما محله‬
‫إىل أذهان خرجيي مدرسة االستعمار من زبَد فكري يـُْر ِغـي باحثا عن أصالة غامضة‬
‫حمقورة ومعاصرة هي نبذ الدين والوحي مجلة‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫صرت الزما َن عبارةُ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حني قال‪« :‬يوشك‬ ‫اختَ َ‬
‫داعى األَ َكلَةُ على قَصعتها!»‬
‫داعى علي ُكم كما تَ َ‬
‫ُمم أن تَ َ‬
‫األ ُ‬
‫حتذير‬ ‫يف كلمة «يوشك» الدالة لغة على قرب وقوع الفعل الـمس ِ‬
‫بعدها ٌ‬ ‫وق َ‬ ‫َُ‬ ‫ُ‬
‫وختويف وهتويل‪ .‬وما تركت ِ‬
‫الكناية بالقصعة واآلكلني منها معىن من معاين الضَّعف‬
‫واملفعولية إال عربت عنه‪.‬‬
‫فقال قائل‪ :‬ومن قِلَّ ٍة حنن يومئذ؟ فقال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬بل أنتم‬
‫يومئذ كثير‪ ،‬ولكنكم غُثاء كغثاء السيل‪ .‬ولينـزعن اهلل من صدور عدوكم‬
‫الو ْه َن»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫المهابة منكم‪ .‬وليقذفن اهلل في قلوبكم َ‬
‫ب الدنيا‬
‫«ح ُّ‬
‫الوه ُن؟ قال صلى اهلل عليه وسلم‪ُ :‬‬
‫قال قائل‪ :‬يا رسول اهلل! وما ْ‬
‫وكراهية الموت»‪.‬‬
‫هذا هو مرض الغثائية الذي يْن َخر يف كياننا‪ .‬وليس بعد وصف اهلل ورسوله‬
‫لدخائل ما بالعباد كالم‪ .‬واحلديث رواه أبو داود واإلمام أمحد بسند صحيح‪.‬‬
‫ويتفرق من النّبات اليابس‬ ‫ِ‬
‫الغُثاءُ غثاء السيل وغُثاء الق ْدر‪ .‬وهو «ما يط َفح ّ‬
‫عتد به»‪ .‬هكذا قال علماء‬
‫غري ُم ٍّ‬
‫ويذهب َ‬
‫ُ‬ ‫وزبَد القدر‪ .‬ويضرب به املثل فيما يضيع‬
‫اللغة‪.‬‬
‫الغثائية إذاً مرض الطفوح والتفرق وخفة الوزن‪ .‬وهي صفات ما يضيع ويذهب‬
‫غري معتَد به‪ .‬أي ال قيمة له وال أثر‪.‬‬
‫َ‬
‫الوه ُن الذي ال يفيد معه كثرة العدد‪ .‬من مليار‬
‫وُكْنهُ الغثائية الظاهرة وسببها ْ‬
‫َت من الوهن؟‬
‫مسلم ويزيدون أين كتيبة َبرأ ْ‬

‫‪48‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أثرةٌ قتلت العدل‪ ،‬وسلطوية‬ ‫الوهن حب الدنيا وكراهية املوت‪ .‬حب الدنيا َ‬
‫عاضة جربية قتلت الشورى‪ .‬فصميم الصميم يف كياننا املعنوي مقتول‪ .‬واجلثة الغثائية‬
‫ال ميكن أن حتىي وتفعل إن مل تعد إليها الروح بعودة الشورى والعدل‪ .‬ومها ممتنعان‬
‫الوه َن‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ما مل نعاجل العلة الكامنَة يف النخاع‪ْ :‬‬
‫الفرد املؤمن عامال‬
‫إن ما يريده اإلسالميون حياة باإلميان واإلحسان جتعل من ْ‬
‫للصاحلات‪ ،‬ومن األمة قوة اقتحامية ترتفع من الوهدة وترقى إىل العزة متخطية‬
‫العقبات‪ .‬وهناك يف قاع النفس الفردية‪ ،‬يف القلوب‪ ،‬قذف اهلل رب العزة الوهن‪ .‬هناك‬
‫الوهن جراثيم االستبداد والظلم واألثرة‪ .‬وال عالج إال‬
‫يف العالقات اجلماعية َولَ َد ُ‬
‫ت فينا منذ تدحرجنا‬ ‫سر ْ‬
‫األمم اليت َ‬
‫العالج العميق ملرض الغثائية يف القلوب‪ ،‬وألدواء َ‬
‫عن العقبة‪ ،‬منذ نقضنا البناء النبوي الراشد‪.‬‬
‫وقد أخرب املصطفى صلى اهلل عليه وسلم جبماع األدواء املتولدة من الوهن‪،‬‬
‫الناشئة يف أحضانه‪ .‬قال عليه الصالة والسالم‪« :‬سيصيب أمتي داء األُمم»‪.‬‬
‫والتناجش في‬
‫ُ‬ ‫والتكاثر‬
‫ُ‬ ‫فقالوا‪ :‬يا رسول اهلل! وما داء األمم؟ قال‪« :‬األَ َش ُر والبطَر‪،‬‬
‫الدنيا‪ ،‬والتباغض والتحاسد‪ ،‬حتى يكو َن البـَغْ ُي»‪ .‬احلديث أخرجه احلاكم بسند‬
‫صحيح‪.‬‬
‫البطَر ِخفة تعرتي اإلنسان إذا طرأت عليه نعمة‪ .‬قال علماء اللغة‪« :‬خفة»‪.‬‬
‫زهو فارغ‪ .‬والتكاثر والتناجش يف الدنيا ِمثْالن‪ ،‬والتباغض والتحاسد‬
‫األشر مثل البَطَر ٌ‬
‫و َ‬
‫صنوان‪ .‬والبغي هو اهليكل احمللول املنقوض لألمة الغثاء‪ ،‬يلفها بسياط العض واجلرب‬
‫وحُوه‪ ،‬والتباغض وقرينه‪ .‬وإن حماولة‬
‫طر وأخوهُ‪ ،‬والتّكاثر َ‬ ‫بينما يل َفعُها من ٍ‬
‫داخل البَ ُ‬
‫العالج باإلصالحات السياسية وحدها لَ َك َم ْن يـُبـَيِّض واجهة مرضوضة منقوضة‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫منطق الدعوة ومنطق «الساحة»‬


‫ويح احلقائق! أال تزال األمة غثاءً وجهاد أفغانستان‪ 1‬ونصـر اهلل عز وجل‬
‫للمجاهدين كالشمس الساطعة بربهاهنا! غثاء ذلك الشعب املسلم األيب الشامخ‬
‫جيل‬ ‫أغثاء‬ ‫ه!‬ ‫بإيران‪ ،‬زلزل عرش الطاووس بثورة يتحدث عنها التاريخ ِملء ن َف ِ‬
‫س‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َْ‬
‫رجال الصحوة الذي صافحته يد التوفيق اإلهلي فعدَّل من ِحْل األمة َمْي َده‪ ،‬وفك‬
‫ِمن عنائها اليائس قيده!‬
‫ي عن النور‪ .‬لكين أشري إىل‬ ‫كال لست من ِ‬
‫َع َش ْ َ‬
‫ني عن الضياء وال من األ ْ‬
‫العم َ‬
‫َ‬
‫خالل مظاهر القوة‪ ،‬ومن حتتِ‬
‫يندس‪ ،‬له طََوفا ٌن َورَوغا ٌن‪َ َ ،‬‬
‫األم ِّي الذي ُّ‬
‫مكامن الداء َ‬
‫سرابيل البأس والشدة‪.‬‬
‫حتد لكل جاحد‪ .‬ذهب مرض الغثائية وزال‪،‬‬
‫لنرتك آيَة الكرامة األفغانية‪ ،‬فهي ٍّ‬
‫ْ‬
‫نسأل اهلل رب العزة أن ينصر جنده‪.‬‬
‫مظاهر الصحوة العامة‪ ،‬فلنا معها الكالم بدءاً وانتهاء‪.‬‬
‫َ‬ ‫ونرتك‪ ،‬إىل حني‪،‬‬
‫السلبيّة ما يصلح معيارا‬
‫ولنتأمل الثورة اإلسالمية بإيران ففيها من الدروس اإلجيابية و َّ‬
‫عمليّاً عينيّاً حلال املسلمني وقابلياهتم الكامنة وقوهتم الظاهرة‪.‬‬
‫هبرت الثورة اإلسالمية الشيعية العامل بقوهتا‪ .‬هذا فِْر ٌق من‬
‫األمة اليت كانت قَصعة لآلكلني‪ ،‬كانت مفعوال به موضوعا لِمساو ِ‬
‫مة‬ ‫َ‬
‫ض حبُجة احلياة ُتمة املوت‪،‬‬ ‫ويدح ُ‬
‫َ‬ ‫االستعمار‪ ،‬يتحول إىل قوة فاعلة‪،‬‬
‫قوم لَبـَّْوا نِداء االستشهاد‬
‫وبآية اليقظة َوصمةَ أن الدين أفيو ُن الشعوب‪ٌ .‬‬
‫ِ‬

‫‪ 1‬كان! وال حول وال قوة إال باهلل!‬

‫‪50‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وخ ّفوا للثأْر التارخيي من يزيدات الظلم‬
‫يف سبيل اهلل‪ ،‬وآمنوا باهلل ورسوله وجنته‪َ ،‬‬
‫وشاهات اخليانة‪.‬‬
‫ياع اإلمامة باغتيال‬
‫ض ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تف على لَ ْو َعة َ‬
‫ض من أنقاضها‪ ،‬الْ ّ‬ ‫ف ْر ٌق من األُمة‪ ،‬ون ْق ٌ‬
‫كمد مقتل سيدنا احلسني‪ ،‬واحتَمى‬ ‫سيدنا علي كرم اهلل وجهه‪ ،‬ودفَ َن يف ُس َويْدائه َ‬
‫الوالء الالهنائي هلم‪ .‬وش ِربت‬ ‫يف أحضان آل البيت‪ ،‬وتغذت روحانيته مبحبتهم و َ‬
‫نفسه كراهيَّة الظلم من حوض املناحات يف عاشوراء‪ ،‬والتعزيات الدائمة يف حسني‪،‬‬ ‫ُ‬
‫السالم على حسن وحسني وعلى جدهم وعلى آل بيت النيب األمني‪.‬‬
‫وتفجرت الغضبيَّة القرونية يف وجه الشاه ونظامه‪ ،‬وكان نظامه حصنا منيعا‬
‫س املنطقة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫من حصون االستعمار األمريكي حليف دولة اليهـود‪ .‬كان الشاه حار َ‬
‫ف أركان إيوانه‪ ،‬وين ُف ُخ كالرماد عماد سلطانه‪.‬‬ ‫ما كان ُيسب أن شعبا َ ِ‬
‫أعزل ينس ُ‬ ‫َ ُ‬
‫أمجع كيف تعرضت‬ ‫الغثائية هي حب الدنيا وكراهية املوت‪ .‬وقد شاهد العا َل ُ‬
‫الصدور لسدود النريان‪ ،‬وكيف خرج شعب ُبرّمته يتقدمه البسو األكفان املتقدمون‬
‫ُ‬
‫يف مسرية حسينية هي خالصة املناحات مجيعا‪َ .‬برأ أولئك من مرض الغثائية ال ريب‪.‬‬
‫أذه َل العا َل وأربك أمريكا اليت عاشت شهورا ط ِويلة َمهانَة العجز عن‬
‫وذاك ما َ‬
‫حترير رهائنها‪.‬‬
‫تأملنا يف داء األمم‪.‬‬
‫ومن حجز الرهائن نبدأ ُّ‬
‫كان املسلون‪ ،‬منذ سقوط الدولة العثمانية شوكة اإلسالم رمحها اهلل‪ ،‬ال يُ ْذ َكرون‬
‫إال يف معرض التوزيع على مائدة الغنَائم االستعمارية‪ .‬ثورة املسلمني الشيعة أبرزت‬
‫يرهب جانِبُها‪ .‬ومن منطق الدعوة املطالبة حبق‬ ‫املسلمني إىل الساحة السياسية وهم قوة ُ‬

‫‪51‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ضائع انتقلت الثورة باملسلمني إىل منطق الساحة العاملية‪ ،‬إىل جمال املدافعة واملقاتلة‬
‫واملناجزة‪ .‬ذلك ال َك ُّم الذي مل يكن له وزن يف عامل األقوياء أصبح ثِقال هائال‪ ،‬ونوعية‬
‫من القوة هتدد التوازنات الدولية‪.‬‬

‫أسلُوباً ملْ تأْلَ ْفهُ الدول القوية املتحضرة جدا أن َ‬


‫ميارس‬ ‫وكان احتجاز الرهائن ْ‬
‫عليها من موقف القوة‪ ،‬وإن كانت هي مارست على الشعوب املستضعفة ألف‬
‫أسلوب لإلذالل والقهر‪.‬‬
‫طار املسلمون واملستضعفون يف األرض فرحا لثورة إيران‪ ،‬يعُدوهنا بشريا للتحرر‬
‫من قبضة الغاصبني‪ ،‬وجتاوبت معها الشعوب املقهورة يف الشرق والغرب‪ ،‬وتناغم‬
‫كل خطوة ختطوها الثورة إىل‬ ‫نصرهم‪ ،‬وأن َّ‬ ‫نصرها ُ‬
‫معها الدعاةُ اإلسالميون ثقةَ أن َ‬
‫األمام هي نقلة للمسلمني إىل دار العز من دار اهلوان‪.‬‬
‫البغي الطاغويت األمريكي يف البغي‬ ‫وج َد ُ‬‫داء األمم يف خالصته هو البغي‪َ ،‬‬
‫االنتقامي الذي حجز الدبلوماسيني ُمتـََعلَّقا ليحيك مؤ َامرة كاحلة طوقت الثورة اإليرانية‬
‫نف أمةُ اإلسالم‪ ،‬وحىت‬‫ت بالع ِ‬
‫صْ ُ‬ ‫وحاصرهتا وقاتلتها بأيدي القومية العربية البعثية حىت غُ َّ‬
‫املقاصد الثورية سبيل احلق‪ ،‬وحىت تشوهت م ِ‬
‫عالُ الطريق‪ ،‬وحىت استفحلت‬ ‫َ‬ ‫جانفت ِ ُ‬
‫حكومة اختلط عليها منطق الدعوة والبناء مبنطق اهلدم والتقويض‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫أخطاءُ‬
‫احتدمت القوة الغضبية املكبوتة قرونا فاشتعلت نارا تلفح وجوه الطغاة‪،‬‬
‫يرس ُم‬
‫ودمدمت على ديار الظلم فخربتها‪ .‬ومل يكن يف احلوزات مشروع واضح للبناء ُ‬
‫الو ْس ِع‪ ،‬وصراعات القوى العاملية‪ ،‬وضغوط السياسة العاملية‪ ،‬وقسمة األقوياء‬
‫حدود ُ‬
‫للمقومات اإلسرتاتيجية‪ ،‬ومتطلبات الدولة احلديثة‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫كان من علماء احلوزات الشيعية أمثال آية اهلل باقر الصدر وآية اهلل مطهري‬
‫مستبصرون بالعصر استبصارهم بالنصوص‪ .‬لكن الذي فجر الثورة بقيادة اإلمام‬
‫اخلميين رمحه اهلل هو العقل التقليدي املستظهر بشعبية املساجد واحلسينيات وروافد‬
‫احلوزات‪.‬‬
‫عاش علماء الشيعة يف كِ ِّن التقية قرونا طويلة مستمسكني بذكرى اغتصاب‬
‫اخلالفة من اإلمام علي بن أيب طالب رضي اهلل عنه‪ ،‬وبِلَ ْوعة اغتياله‪ ،‬وسفك الدم‬
‫وس ْوق بنات رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سبايا إىل بَالط يزيد‬‫الزكي احلسيين‪َ ،‬‬
‫غليان داخلي طقوسي عندما قامت دولة شيعية على‬ ‫بن معاوية‪ .‬وبقي املِرجل يف ٍ‬
‫َ َْ‬
‫ضى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يد األسرة الص َفوية مث األسرة القجرية‪ .‬وطفح املرجل الغضيب على عرش ابن ر َ‬
‫شاه البهلوي‪.‬‬
‫ظل علماء الشيعة منذ أكثر من قرن‪ ،‬وهم املستقلون اقتصاديا عن الدولة‪،‬‬
‫يصاولون الدولة ويطاولوهنا‪ ،‬ويقودون االنتفاضات مثل انتفاضة التبغ يف إيران منذ‬
‫قرن‪ ،‬والثورة العراقية ضد اإلجنليز يف العشرينات من القرن العشرين بتاريخ النصارى‪.‬‬
‫قدم يف الساحة السياسية قدمية‪ ،‬وبثورة اإلمام اخلميين رمحه اهلل احتلوا‬
‫كانت هلم َ‬
‫الساحة وانفردوا هبا‪ .‬فبأي منطق تصرفوا‪ .‬أهي الضغوط واملؤامرة واحلرب‪ ،‬أم هو‬
‫اختيار ناشئ عن علة قد تـُْعَزى بسبب إىل داء األمم؟‬
‫الشيخ حممد حسني فضل اهلل عامل من علماء إخوتنا الشيعة‪ .‬إنه مرشد‬
‫«حزب اهلل» يف لبنان‪ ،‬لبنان األحزان‪ ،‬لبنان الصيغةُ القصوى لالنتقاض والتفتت‬
‫اح ِقهما‪ .‬نقرأ ما عند الشيخ حممد حسني من رأي يف أسلوب‬ ‫واألشر والبطَر ولَو ِ‬
‫َ‬
‫قيادة االقتحام اإلسالمي‪.‬‬
‫قال يف مقدمةكتابه «اإلسالم ومنطق القوة»‪« :‬إن الدول الكربى‪ ،‬والقوى الغامشة‪،‬‬
‫تطوُر كل أساليب احلرب‪ ،‬وكل وسائل القوة‪ ...‬وترى ذلك أمرا حضاريا مشـروعا من‬ ‫ِّ‬
‫‪53‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أجل الدفاع عن احلضارة و عن الشعوب احلرة‪-‬فيما تقول‪ .‬فلماذا ال حيق للشعوب‬
‫الضعيفة أن تطور وسائل املواجهة بأساليب غري مألوفة ؟ [‪]...‬‬
‫منطق غريُه‪ .‬ولكن‬
‫«إن منطق القوة هو منطق احلياة يف ساحة الصراع‪ ،‬وال َ‬
‫وسائل القوة هي اليت تتنوع فكرا وكلمة ومنهجا وسالحا»‪.‬‬
‫هذه هي فئة من املسلمني أحياهم اهلل تعاىل من مخول الذل‪ ،‬ومجعهم من‬
‫غثاء‪ ،‬وزرع فيهم نبض احلياة ودفع القوة‪ .‬فهل جاءوا مبشروع من صميم الدعوة‪،‬‬
‫وأساليب الدعوة‪ ،‬برسالة لبناء اإلنسان‪ ،‬وإنقاذ اإلنسان من حضارة مريضة‪ ،‬وداللة‬
‫اإلنسان على قيمته ومصريه إىل دار اجلزاء؟ هل جاءوا باإلميان يطرد الكفر‪ ،‬وبالعافية‬
‫تذهب السقم‪ ،‬وبالنور يطرد الظالم؟‬
‫ت إىل‬ ‫ِ‬
‫أم أهنم ضغطتهم األحداث ضغطتها‪ ،‬فانكشفـت علَ ُل ساكنة متُ ّ‬
‫املاضي‪ ،‬إىل «األصالة»‪ ،‬بصالت‪ ،‬فاخنرطوا يف منطق العصر‪ ،‬وردوا فعال بفعل‪،‬‬
‫وواجهوا صراعا أعمى بصراع أكمه؟‬
‫لو كنت يا هذا يف ساحة لبنان ما كنت تفعل؟ ما كنت تقول؟‬
‫ ‬

‫‪54‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫الغلوُّ والتطرف‬
‫معرتك‬ ‫«توس ُ ِ ٍ‬
‫ط ش ّدة ُميفة» أي الدخول يف َ‬ ‫يفسر أهل اللغة االقتحام بأنه ُّ‬
‫ساخن‪ .‬وما سؤالنا عن الذات اإلسالمية وأمر ِ‬
‫اضها‪ ،‬ما اعتبارنا للتجربة الشيعية‬
‫الثورية‪ ،‬إالَّ ألن اإلسالميني يف طريقهم إىل احلكم وبعد استيالئهم عليه يدخلون يف‬
‫اثيم ُمفنية‪.‬‬ ‫«شدة خميفة» ال يصمد فيها جسم ُمنط ٍو على علل ُمضنية‪ٍ ،‬‬
‫حامل جلر َ‬

‫من العِلل الغثائية الدائية الغُلُُّو يف الدين‪ .‬ح ّذ َر منه رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم حيث قال‪« :‬إياكم والغُلَُّو في الدين؟ فإنما َهلك من كان ْقبلكم بالغلو‬
‫في الدين»‪ .‬رواه اإلمام أمحد والنسائي وابن ماجة واحلاكم عن ابن عباس رضي اهلل‬
‫عنهما بسند صحيح‪.‬‬
‫ي رمحه اهلل أنه «التشديد يف الدين وجماوزة‬ ‫عرفه الشيخ احملدث ال ُـمنا ِو ُّ‬
‫والغلُُّو َّ‬
‫الكشف عن ِعلَلِها وغوامض ُم َتعبّداهتا»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫احلد والبحث عن غوامض األشياء‪ ،‬و‬
‫وقد أمر اهلل عز وجل نبيه صلى اهلل عليه وسلم أن حيذر من الغلُِّو ْأه َـل الكتاب‬
‫الذين منعهم عن متابعة احلق اتباعهم للهوى و«التشديد وجماوزة احلد» حيث قال‬
‫ْح ِّق َوالَ تـَتَّبِعُواْ أ َْه َواء قـَْوٍم‬ ‫ِ ِِ‬ ‫سبحانه‪﴿ :‬قُل يا أ َْهل ال ِ‬
‫ْكتَ ِ‬
‫اب الَ تـَغْلُواْ في دين ُك ْم غَيـَْر ال َ‬ ‫َْ َ‬
‫يل﴾‪.1‬‬ ‫السبِ ِ‬
‫ضلُّواْ َعن َس َواء َّ‬ ‫ضلُّواْ ِمن قـَْب ُل َوأَ َ‬
‫ضلُّواْ َكثِيراً َو َ‬ ‫قَ ْد َ‬

‫‪ 1‬سورة املائدة‪ ،‬اآلية ‪.77‬‬

‫‪55‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫صفوف الشباب اإلسالمي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫كانت حادة يف‬ ‫التشديد وجتاوز احل ِّد ِ‬
‫ظاهَرةٌ‬
‫ْ‬ ‫ُ َ‬
‫البعض يف تقييمها ويبالِغ‪،‬‬‫ُ‬ ‫وهي آخذةٌ يف االعتدال حبمد اهلل كاشف البالء‪ .‬يُغايل‬
‫متحجبة رمزا للتطرف‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫يرون يف كل م ْلتَ ٍح إرهابيا ويف كل‬ ‫خاصة األعداءُ الذين ْ‬‫َّ‬
‫وقلَّما يُعطي ال ُـمتحاملون على التائبني والتائبات والعابدين والعابدات ح ّقاً للسبب‬
‫اإلنكار الذي‬ ‫الباعث َعلَى نفور الشباب من اجملتمع وإنكا ِرهم ألوضاعه‪ ،‬ذلك‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫اهلجر والتكفري‪.‬‬
‫يبلُغ أحيانا ح ّد ْ‬
‫إذا كان الغلُُّو ِ‬
‫ظاهَرًة َمَرضيَّةً يف الشباب املنبعث باإلميان‪ ،‬وكان هلَ َكةً للمتعنِّتني‬ ‫ُ‬
‫يف خصوصيات أنفسهم كما قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «هلك املتنطعون»‪،‬‬
‫مرض االنتقاض‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫فإن ُحَّى الغُلُِّو ما هي إال َعَرض من أعراض املرض ال ُـمزمن الدفني‪َ ،‬‬
‫احلكم بغري ما أنزل اهلل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مرض الفساد يف نظامه‪ ،‬أال وهو‬ ‫يف عَُرا الدين‪ِ ،‬‬
‫ُيِب احلبيب املصطفى صلى اهلل عليه وسلم بأصل العِلَ ِل وم ِ‬
‫بادئها كما أخرب‬ ‫َ‬
‫ْمة من قريش»‬‫بالغثائية وحذر من داء األمم فيقول‪« :‬هالك أمتي على ي َدي ِغل ٍ‬
‫ْ‬
‫حديث صحيح رواه اإلمام أمحد والبخاري عن أيب هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫ب ِغ ْلمتهم‬‫لسدَّته‪ ،‬وتعاقُ ُ‬
‫اغتصابم ُ‬
‫كان استيالءُ بين أُمية على احلكم‪ ،‬و ُ‬
‫الصديق وعمر‬
‫ُ‬ ‫الرشد أبو بكر‬
‫وسفهائهم على مقام شريف تعاقب عليه زما َن ُّ‬
‫رضت‬‫اإلمام رضي اهلل عنهم‪ ،‬كارثةً على اإلسالم َّ‬
‫الفاروق وعثما ُن ذو النورين وعلي ُ‬
‫الغلو يف الدين‪.‬‬
‫جسمه وفتحت يف جنبه جرحاً انسلت إليه جراثيم األوبئة‪ ،‬منها ُّ‬
‫َ‬
‫اإلمام احلَ َس ُن بن علي رضي اهلل عنهما َيرى أن طائفة من اخلوارج َما‬
‫كان ُ‬
‫انفصلوا عن اجلماعة وتشددوا يف النكري على احلكام إال غضبا للدين ورفضا جلور الو ِ‬
‫الة‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ‬
‫أهل املدينة والقراء الذين خرجوا على احلجاج‬
‫كم على الظاهرة ُ‬ ‫من بين َأميَّةَ‪ .‬وكذلك َح َ‬
‫‪56‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أهل احلَ ِّق يُ ِرج ُع‬
‫ومن رأى رأيَه من ِ‬ ‫ِ‬
‫وحكم اإلمام احلس ِن َ‬
‫ُ‬ ‫صنيعة الغِلمة ورم ِز اجلَ ْور‪.‬‬
‫ِ‬
‫ضب فِتيةً مؤمنني‬ ‫ف إىل نِصاهبا النِّسِ ِ‬
‫ب م ْن كوهنا رفضاً لواق ٍع مكروه أ ْغ َ‬‫ْ ِّ‬
‫التطر ِ‬
‫ظاهرةَ ُّ‬ ‫ِ‬
‫تمل‪.‬‬‫على ُمْن َك ٍر ال ُي َ‬
‫ضٍ‬
‫ب َم ْكبوت‪.‬‬ ‫قبل كل شيء لغَ َ‬‫س َ‬ ‫ظاهرةُ الغُلُِّو يف شباب الصحوة ُمتـَنـََّف ٌ‬
‫فتية استيقظوا جلرائم البغي فكرهوا البغاة‪ ،‬ومل جيدوا حوَلم إال غُثاءً ِمن الناس وهم‬
‫بروح اجلِهاد‪ .‬انطلقوا يف «غزوات» ُحَّرة‪ ،‬معهم بضاعة ُمزاة من العلم‪،‬‬ ‫املتشبعون ِ‬
‫فشردوا يف دروب التقلقل‪ ،‬وانكمشوا‬ ‫الصفر من احلكمة والتجربة‪َ ،‬‬ ‫وحصيلة تقارب َ‬
‫يف مجاعات منغلقة توالدت فيها أنواع «االجتهادات» الشاذة‪ ،‬وتصرف فيها األمريُ‬
‫العمر واغرتار الزعامة‪ .‬والزاد من معرفة الدين كما صنعه‬ ‫ال ُـمطاعُ وهو يف مقتبل ُ‬
‫نظام التعليم الرمسي البئيس‪ ،‬وكما لفقته اطالعات َمكتبية مشتتة‪ ،‬وكما فهمه عقل‬
‫خونَةً للدين‪.‬‬
‫يتمرس بأهل الذكر ومل يسأهلم ومل يثق هبم‪ ،‬وال يراهم إال َ‬
‫«طازج»‪ ،‬مل َّ‬
‫جربي يف بالد املسلمني جهاز رمسي من املوظفني الدينيني‪ .‬ال‬
‫بإزاء كل نظام ٍّ‬
‫يُقبل يف صف هذه الوظيفة «اجلوقية» إال ضعفاء اإلرادة من أهل العلم‪ ،‬اخلجولون‬
‫تأوالً‪ ،‬املستعدون لتحريق البَخوِر على‬
‫من كل مواجهة‪ ،‬الساكتون عن احلق ُجبنا أو ُّ‬
‫أعتاب النظام احلاكم‪.‬‬
‫ِ‬
‫هؤالء العلماء الضائعون السائرون يف ِر ِ‬
‫كاب اهللَكة الطاغوتية أصبحوا يف نظر‬ ‫ُ‬
‫الشباب املتشدد رموزاً للخيانة‪َ .‬وُه ْم يف الواقع‪ ،‬باستثناء ساقطي اهلمة وهم قلة‪،‬‬
‫املتنطع وعلماءَها اخلاملني‪ ،‬يف «منطق الساحة»‪.‬‬
‫َ‬ ‫شبابا‬
‫ضحايا فتنة تسوق األمة‪َ ،‬‬
‫إخالصهم للقضية الكبـَْرى‬
‫ُ‬ ‫لسي ِل الفتنة‪ ،‬ليس معهم إال‬‫هلَك املتنطعون لَ ّما تَصد َّْوا ْ‬
‫اليت وجدوا فيها َرفْعاً لقيمتهم املهدورة‪ .‬ويف أثناء املعركة اليت حيسبوهنا أمرا باملعروف وهنيا‬

‫‪57‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ت عليهم العِلةُ‬ ‫ِ‬
‫عن املنكر التفتت إليهم العلَّة املوروثة يف احلُكم فحاربتهم‪ ،‬والت ّف ْ‬
‫املوروثة يف النفوس‪ ،‬اليت مل هتذهبا تربية ومل يتعدها تعليم سليم ومل ترعها ربانية تتجاوز‬
‫األشر والبطر وأخواهتما‪ ،‬فدكتهم حتت كلكلها‪ .‬هلكة يف هلكة يف هلكة‪.‬‬ ‫هبم آفاق َ‬
‫النووي رمحه اهلل يف شرح التنطع‪« :‬التقعر يف الكالم بالتش ّدق‪،‬‬
‫ّ‬ ‫قال اإلمام‬
‫وحشي اللغة ودقائق اإلعراب يف خماطبة العوام‬
‫ِّ‬ ‫وتكلف الفصاحة‪ ،‬واستعمال‬
‫وحنوهم»‪.‬‬
‫نصف تعليم‪ ،‬ويكتشف يوما أن له قدرة على‬ ‫نصف توبة‪ ،‬ويتعلم َ‬‫توب شاب َ‬ ‫يَ ُ‬
‫وينتصب مفتيا وإماما جمتهدا يتخطى‬ ‫ُ‬ ‫اخلطابة وتصفيف الكالم‪ ،‬فيستخفه البَطر‬
‫أصله علماء األمة الراسخـون ليقعد جبانب مالك وأيب حنيفة والشافعي وعلى‬ ‫ما َّ‬
‫وهم الرجولة والفحولة‪ .‬وحيتقر كل رأي ال يوافق رأيه‪ ،‬ويـُبَدِّعُ املسلمني‪ ،‬ويكفر‬
‫رأسه ْ‬
‫املخالفني‪ ،‬ويشري إىل مواقع اجلاهلية يف كل ما يتحرك فيه الناس ويسكنون‪.‬‬
‫وقد يتبىن مذهبا منسوبا إلمام جمتهد‪ ،‬غالبا ما يكون مذهب شيخ اإلسالم‬
‫ابن تيمية رمحه اهلل‪ ،‬جيول يف أقواله جولة‪ ،‬فيخرج بالفتوى اجلاهزة لكل شاذة وفاذّة‬
‫من عا ٍَل مضى وانقضى إىل عامل يتأجج مبشاكل جديدة يغمض عينيه لكيال يراها‪.‬‬
‫ألهنا مل يرد هبا نص‪ ،‬فهي ُكفر وهبتان وظالم جاهلي‪ .‬حكما قاطعا بال مقدمات‬
‫وال مرافعة‪.‬‬
‫املعجب هو وسربُه بالفصاحة والكالم املنَ َّمق‬ ‫ِ‬
‫الَ يدور خبَلَد الشاب املتنطع َ‬
‫مقاصد‪ ،‬وأن‬‫َ‬ ‫اتب‪ ،‬وأن للشريعة‬
‫ودقائق اإلعراب ‪-‬إن ُوجد‪ -‬أن أحكام الشريعة مر ُ‬
‫مصلحة العباد واالجتهاد يف حتصيلها علَّةٌ تستهدي بالدليل‪ ،‬وأن األدلة قد تتعارض‬
‫اعد األصول سنَ ٌد ال غىن لنا عنه‪.‬‬‫فيلزم الرتجيح‪ ،‬وأن ما شاده سلَ ُفنا الصاحل من قو ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫‪58‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫إننا إذ نقسو على الشباب اإلسالمي الضائع يف متاهات العزلة واالنفراد الشاذ‬
‫نعطي للعامل النفسي الفكري الذايت فينا حقه من املسؤولية عن خفة وزن احلركة‬
‫اإلسالمية اهلامشية‪ .‬نفعل ذلك لنشخص املرض تشخيصا صحيحا حىت يتأتى‬
‫العالج‪.‬‬
‫اليوم املرشَّحون الوحيدون إلنقاذ‬
‫يريد اإلسالميون اقتحام عقبة احلكم‪ ،‬وهم َ‬
‫األمة باعرتاف اخلصم والعدو‪ .‬فإن خفيَت عنا هشاشة يف تكوين أحد أجنحتنا فإن‬
‫دخولنا يف «الشدة املخيفة» يكون تعرضا لتهشمنا مجيعا‪.‬‬
‫كل كالم‪ .‬من كانت‬ ‫البءَ لنفسه قبل ِّ‬ ‫فنريد من شباب الصحوة أن يلتمس ُ‬
‫أفعال الناس وأخطاءَ اجملتمع وهو عن ذات خطيئته‬ ‫ِوجهتُه وموضوعُ عنايته ومراقبته َ‬
‫وموبقات أخطائه غائب‪ ،‬كيف يُصلح؟ من كانت الغفلة عن اهلل عز وجل ساكنة‬
‫قلبَه وإن كثرت صالته وصيامه ونفله كيف يُ َذ ِّكُر الناس باهلل ويزعم أنه ٍ‬
‫داع إليه؟‬
‫كر َر ٌّ‬
‫ث‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫من كان حتت ج ْلبابه األبيَض اجلديد وعمامته الناصعة إميا ٌن َخلَ ٌق َوف ٌ‬
‫ائي للدين‪ ،‬كيف يكون لألمة منقذا؟ واهلل يهدي من يشاء إىل صراط‬ ‫وتصور َور ٌّ‬
‫ُّ‬
‫مستقيم‪ .‬نسأله التوفيق‪ ،‬ال حول وال قوة إال به‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫فقه التجديد‬
‫كان اخلوارج األولون أكثر الناس عبادة‪ ،‬جاء وصفهم يف حديث نبوي شريف‬
‫يصفهم أكمل الوصف وأدقه‪ ،‬وهو الوصف املعصوم الصادر عن الوحي‪ ،‬ال كشهادة‬
‫البخاري رمحه اهلل عن سيدنا علي كرم اهلل‬
‫ّ‬ ‫اهر األحداث‪ .‬روى اإلمام‬
‫مؤرخ يرى ظو َ‬
‫وجهه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬سيخرج قوم في آخر الزمان‬
‫أحداث األسنان [أي شباب] سفهاء األحالم [خفاف العقول] يقولون من خي ِر‬ ‫ُ‬
‫يمرق السهم‬‫يمرقون من الدين كما ُ‬ ‫حناجرهم‪ُ ،‬‬
‫َ‬ ‫قول البَ ِريّة‪ ،‬ال يجاوز إيمانهم‬
‫من ِ‬
‫الرميَّة»‪ .‬احلديث‪.‬‬
‫حداثة السن ِسة مشرتكة بني اخلوارج املارقني املوصوفني يف احلديث وبني‬
‫شبابنا األعـزاء أمل األمة‪ .‬ونرجو أن ال يبقى عند أحدهم نصيب من رقة دين الذين‬
‫ال يتجاوز إمياهنم حناجرهم رغم تعبّدهم الشديد الذي وصفه احلديث الشريف قبل‬
‫ظهورهم وأكده التاريخ بعد‪.‬‬
‫لوبم‪ ،‬فهو إميان منافقني‪ ،‬هو‬ ‫ال ُياوز إميا ُنم حناجرهم‪ ،‬وال يدخل إىل قُ ِ‬
‫ُُ‬
‫غامض أو ميل سطحي‬ ‫ٍ‬ ‫اب يُطلِقون كلمة «إميان» على هاجس‬ ‫أعر ٍ‬ ‫عدم‪ ،‬أو إميان ْ‬ ‫َ‬
‫آمنَّا قُل لَّ ْم تـُْؤِمنُوا َولَ ِكن‬ ‫ِ‬
‫للدين‪ .‬قال اهلل عز وجل عن األعراب‪﴿ :‬قَالَت ْالَ ْع َر ُ‬
‫اب َ‬
‫يما ُن فِي قـُلُوبِ ُك ْم﴾‪.1‬‬ ‫َسلَ ْمنَا َولَ َّما يَ ْد ُخ ِل ِْ‬
‫ال َ‬ ‫قُولُوا أ ْ‬
‫‪ 1‬سورة احلجرات‪ ،‬اآلية ‪.14‬‬

‫‪60‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وقد ذهبت أجيال رقيقي الدين من سكان البادية الذين وصفهم القرآن‬
‫كل‬
‫تدم ُغ َّ‬ ‫ٍ‬
‫بإسالمية ال ترقى إىل مرتبة اإلميان النغالق القلوب‪ ،‬وتبقى صفة األعرابية َ‬
‫َمن حالت ِصفاته النفسية أصال عن دخول اإلميان يف قلبه‪.‬‬
‫بعض إميان مث ضعف هذا اإلميان‬
‫هنالك صنف آخر من رقيقي الدين اكتسبوا َ‬
‫تالشى‪ ،‬فتقهقروا إىل مرتبة األعرابية مع من انغلقوا يف إسالمية سطحية‬ ‫ِ‬
‫وبَل َي حىت َ‬
‫أصال‪.‬‬

‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن اإليما َن لَيَ ْخلُ ُق [أي يـَبـْلَى]‬
‫في جوف أحدكم كما يخلُ ُق الثوب‪ .‬فاسألوا اهلل تعالى أن يجدد اإليما َن في‬
‫قلوبكم»‪ .‬رواه الطرباين واحلاكم عن عبد اهلل بن عمرو رضي اهلل عنهما‪ .‬قال‬
‫احلاكم‪ :‬رواتُه ثقات ووافقه الذهيب‪.‬‬

‫دخل َمدخال‬
‫َمنع اإلميا َن أن يدخل إىل القلوب أصال أمراض نفسية حائلة‪ ،‬أو َ‬
‫ما فطرأت عليه األمراض وأهنكته‪ ،‬فبلي وتالشى‪ .‬وهكذا يَتأصل يف الفرد مرض‬
‫الغثائية وداءُ األمم وجرثومة الغلو‪ .‬وهكذا تطرأ يف األمة أسباب اهلَلَكة حىت يكو َن‬
‫ويفسد احلكم‪.‬‬ ‫َّ ِ‬
‫وتستبد الغ ْلمة ُ‬ ‫البغي‬

‫كالم اهلل وحديث رسوله صلى اهلل عليه‬ ‫قلوب تسمع َ‬‫وحيث ال إميا َن فال َ‬
‫ْب﴾‬ ‫وتأتر‪ .‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن فِي َذلِ َ ِ ِ‬
‫ك لَذ ْك َرى ل َمن َكا َن لَهُ قـَل ٌ‬ ‫وسلم فتتذكر َ‬
‫‪1‬‬

‫وسالمة القلب من األمراض مطلب شريف سأله إبراهيم عليه السالم ربَّه حيث‬

‫‪ 1‬سورة ق‪ ،‬اآلية ‪.37‬‬

‫‪61‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫قال‪َ ﴿ :‬وَل تُ ْخ ِزنِي يـَْوَم يـُبـَْعثُو َن يـَْوَم َل يَن َف ُع َم ٌ‬
‫ال َوَل بـَنُو َن إَِّل َم ْن أَتَى اللَّهَ بَِقل ٍ‬
‫ْب‬
‫يم﴾‪. 1‬‬ ‫َسلِ ٍ‬

‫ِّب‬ ‫ِ‬
‫يف تشخيص األمراض الغثائية الذاتية املهلكة ينبغي أن حنفَر عليها وننق َ‬
‫العالج ِطبا نبويا قرآنيا ال‬
‫ُ‬ ‫التشخيص أ َْوثق‪ ،‬وليكون‬
‫ُ‬ ‫بِِ ْسبَا ِر الكتاب والسنة ليكون‬
‫س على العاهة بل يستأصلها بإذن اهلل تعاىل‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫ُيل ُ‬
‫إن اهلل عز وجل أعلم مبا خلق‪ ،‬وإنه سبحانه أشار إىل أصل البالء ومباءَة‬
‫الصارف له عن‬
‫ُ‬ ‫العبد عن اهلَُدى‪،‬‬
‫املانع َ‬
‫النفس وسلطاهنا ُ‬
‫الداء وعش اآلفة‪ :‬أال وهي ُ‬
‫وس ْك ِر اهلََوى‪ ،‬وضالل العقل‪،‬‬
‫العبودية لربه عز وجل‪ ،‬التائه به يف الشهوات واألنانية‪ُ ،‬‬
‫التناج ُ‬
‫ش‬ ‫البطر‪ ،‬وينشأ التكاثر و ُ‬‫األشر و َ‬ ‫أس ِر العادة‪ .‬من استيالء سلطان ِ‬
‫النفس يتولد َ‬ ‫وْ‬
‫(وهي ال ُـمَزايدة) يف الدنيا‪ ،‬ويكون التحاسد والتباغض والبغي‪.‬‬
‫وحب الدنيا واحلِرص عليها‪ ،‬على لذاهتا‬ ‫النفس حتب الدنيا وتكره املوت‪ُّ .‬‬
‫املادية ورئاساهتا‪َ ،‬س ٌّد حاجز لإلميان أن يدخل القلب‪ ،‬وسبب الغثائية املباشر‬
‫دائي‪ .‬كان‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أبدي لل ُفرقة والتفتُّت واخلالف الع ِّ‬
‫وداع ٌّ‬
‫بشهادة احلديث الشريف‪ٍ ،‬‬
‫الظاهرة إىل أسباهبا‪.‬‬ ‫سمون ِ‬
‫الفَرق الضالة واملبتدعة أهل أهواء‪ .‬يُرجعون‬ ‫علماؤنا يُ ُّ‬
‫َ‬
‫إن املسلم إما أن يكون يف سبيل اهلل عز وجل‪ ،‬عبداً مطيعا له‪ُ ،‬مبا‪ ،‬متقربا‬
‫بالفرض والنفل‪ ،‬مؤمنا بلقاء ربه‪ ،‬مستعدا لذلك اللقاء‪ ،‬مشتاقا إليه‪ ،‬مستغفرا لذنبه‪،‬‬
‫منيبا‪ ،‬ذاكرا‪ ،‬متفكرا‪ .‬فذاك سائر يف سبيل السعادة‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة الشعراء‪ ،‬اآليات ‪.87-89‬‬

‫‪62‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وإما أن يكون عبدا لنفسه‪ ،‬خاضعا لسلطاهنا‪ ،‬مطيعا هلواه‪ ،‬مسرتسال يف‬
‫شهواته‪ .‬فذاك الشقي‪.‬‬

‫ومن كان سائرا يف سبيل اهلوى‪ ،‬أىن له أن َْيمل األمانة العظمى‪ ،‬أمانة رسالة‬
‫اهلل‪ ،‬مبلغا عن رسول اهلل‪ ،‬عليه صالة اهلل وسالم اهلل!‬

‫نفسه منطويَة على ُخبثها ومرضها أىن يكون ِشفاء لغثائية األمة‬
‫من كانت ُ‬
‫حامل اجلرثومة بني جنبيه!‬
‫وأعرابيتها وهو ٌ‬
‫اهلوى هو الشرط‬
‫إن حتقيق العبودية هلل عز وجل‪ ،‬والتحرر الكلي من سلطان َ‬
‫جند‬ ‫األول الضروري لتأهيل الفرد املؤمن لالخنر ِ‬
‫اط عن كفاءة يف صف جند اهلل‪ .‬وإن َ‬
‫ت لتكون ِوعاء لرمحة اهلل عز‬ ‫القلوب فصلَ َح ْ‬‫ُ‬ ‫اهلل ال يكون جندا هلل إال إن سلمت‬
‫اجلامعة املؤلفة‪ .‬قال تعاىل خياطب عبده ورسوله حممدا صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫ِ‬ ‫وجل‬
‫ف بـَْي َن قـُلُوبِ ِه ْم﴾‬
‫ين َوأَلَّ َ‬‫بلسان املِنة والنعمة‪ُ ﴿ :‬هو الَّ ِذي أَيَّ َد َك بِنَ ْ ِ ِ ِ ِ‬
‫ص ِره َوبال ُْم ْؤمن َ‬
‫‪1‬‬
‫َ َ‬
‫يشرتك مع جند اهلل املنظم يف التعبري‬ ‫الفرد‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬
‫ب املؤمن ُ‬‫وإن مست َقَّر اإلرادة ال َق ْل ُ‬
‫منض ّماً على‬
‫قلب املؤمن الفرد َ‬ ‫عن اإلرادة اجلهادية‪ ،‬وختطيطها وتنفيذها‪ .‬فإذا كان ُ‬
‫أعرابية‪ ،‬أو كان اإلميان فيه قد َخلُ َق واندثر‪ ،‬فلن يكون احلديث عن التآلف والعضوية‬
‫حديث زور‪ ،‬ولن تكون اإلرادة إال تعبريا عن طموحات نفسية اجتمع عليها الناس‬ ‫َ‬ ‫إال‬
‫خرب عندها بداء األمم‪.‬‬
‫مثلما نرى عند األحزاب يف األمم اليت ال َ‬

‫سورة األنفال‪ ،‬اآليتان ‪.63-62‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪63‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫لب‬
‫الفرد هلوى نفسه أو هلوى غريه لَ َمطْ ٌ‬
‫وإن القضاء على األنانية اليت تستعبد َ‬
‫الرعوية‪ ،‬ذهنية القطيع‪ ،‬ومن العادة اليت‬
‫أساسي‪ .‬كما هو أساسي حتريره من الذهنية َ‬
‫حتشره يف زمرة اإلمعات اليت ال إرادة هلا‪.‬‬
‫وما يتحقق ذلك إال بالعبودية املطلقة هلل تعاىل اخلالق الرزاق احمليي املميت‬
‫ُسه حب اهلل تعاىل‪ .‬قال شيخ اإلسالم‬ ‫الباعث رب اجلنة والنار‪ .‬وأصل الدين وأ ُّ‬
‫ابن القيم رمحه اهلل‪« :‬حمبة اهلل سبحانه‪ ،‬واألُنس به‪ ،‬والشوق إىل لقائه‪ ،‬والرضى‬
‫به وعنه أصل الدين وأصل أعماله وإراداته‪ .‬كما أن معرفته والعل َـم بأمسائه‬
‫أجل علوم الدين كلِّها‪ .‬فمعرفته أجل املعارف‪ ،‬وإرادةُ وجهه‬ ‫وصفاته وأفعاله ُّ‬
‫ومدحه‬
‫ُ‬ ‫أجل املقاصد‪ ،‬وعبادتُه أشرف األعمال‪ ،‬والثناء عليه بأمسائه وصفاته‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫أساس احلنيفية ِم ِلة إبراهيم عليه السالم» ‪.1‬‬
‫ُ‬ ‫أشرف األقوال‪ .‬وذلك‬
‫ُ‬ ‫متجيده‬
‫و ُ‬
‫نفسه‪ ،‬وال ميجد سواها‪ ،‬وال يشتغل بغريها‪ ،‬وال يسعى إال‬
‫من كان ال حيب إال َ‬
‫يف مبتغاها فليس من املِلة احلنيفية حقا‪ .‬واحلنيفية إخالص الوجه وال ِوجهة والعبودية‬
‫وحده ال شريك له‪.‬‬ ‫هلل عز وجل َ‬
‫يف هذا الكتاب نتحدثكثريا عن ماضي املسلمني وحاضرهم ومستقبلهم‪ ،‬وعن‬
‫كالمنا «ثقافة» كسائر‬ ‫العامل املضطرب وما ميوج فيه‪ ،‬وعن احلكم ومشاكله‪ .‬ويكون ُ‬
‫ؤص ْل املؤمن الفرد يف العبودية هلل عز‬
‫الثقافات‪ ،‬ال يكون حقا يقتحم معاقل الباطل إن َل نُ ِّ‬
‫نؤصل مجاعة املؤمنني املريدة الفاعلة‬‫وجل‪ ،‬عبوديتُه له سبحانه هي هويتُه ال غريُ‪ .‬وإن مل ِّ‬
‫يف إخالص هلل عز وجل إخالصاً يستوعب احلياة واملمات والدنيا واآلخرة‪ .‬وتلك هي‬

‫إغاثة اللهفان ج ‪ 2‬ص ‪.195‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪64‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫املطوقني املشرفني بقوله تعاىل‪:‬‬
‫مجاعة املؤمنني املخاطبني بالقرآن‪ ،‬املكلفني بأمانته‪َّ ،‬‬
‫َّ ِ‬
‫آمنُوا﴾‪ .‬ما خاطب بالقرآن غريهم من الذين أسلموا و«التزموا»‪.‬‬ ‫﴿يَا أَيـَُّها الذ َ‬
‫ين َ‬
‫واإلميان سالمة القلب‪ ،‬اإلميان شفاء‪ ،‬اإلميان عافية‪ ،‬اإلميان بضع وسبعون شعبة‪.‬‬

‫من هنا يكون فقهُ جتديد اإلميان‪ ،‬وحتريك اإلميان‪ ،‬وتربية اإلميان ِم َور كل عمل‬
‫إسالمي‪ ،‬وإالَّ دارت َر َحا الناس على خواء النفوس وخراب الذمم‪ ،‬ونتانة اهلوى‪،‬‬
‫وسوء ال ُـمن َقلب يف الدنيا واآلخرة‪ .‬نعوذ باهلل‪.‬‬

‫وقد أخربنا احلبيب املصطفى صلى اهلل عليه وسلم أن اإلميان يتَجدد بأمرين‪.‬‬
‫أوُلما صحبة «من» يبعثه اهلل عز وجل ليجدد الدين‪ .‬جاء يف حديث رواه أبو داود‬
‫والبيهقي واحلاكم بسند صحيح عن أيب هريرة رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل‬
‫أس كل مائة سنة من يجدد‬ ‫عليه وسلم قال‪« :‬إن اهلل يبعث لهذه األمة على ر ِ‬
‫لها دينها»‪.‬‬

‫ـ«م ْن» ال تتقيد بزمان‪ ،‬فاملرء على دين خليله كما أخرب الصادق‬ ‫وصحبَة ال َ‬
‫األمني‪ .‬وكل حضور صادق مع املؤمنني له روحانيته وتأثريه التجديدي‪ :‬اجلماعات‬
‫يف املسجد وجمالس اإلميان ِ‬
‫وحلَ ُق العلم وزيارة الصاحلني واملشاركة يف أعمال ِ‬
‫الب‪.‬‬

‫الركن الثاين من أركان جتديد اإلميان العبادة بأنواعها‪ ،‬وجيمعها ذكر اهلل فهو‬
‫اللب‪ ،‬وأفضل الذكر قول ال إله إال اهلل‪ .‬روى اإلمام أمحد والطرباين‪ ،‬ورجال أمحد‬
‫ثقات‪ ،‬عن أيب هريرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬جددوا إيمانكم»‬
‫قالوا‪ :‬يا رسول اهلل! وكيف جندد إمياننا؟ قال‪« :‬أكثروا من قول ال إله إال اهلل»‪.‬‬

‫وركن ثالث ضروري‪ :‬صدق الرجوع إىل اهلل تعاىل‪ ،‬وصدق النية‪ ،‬وإخالص‬
‫العبودية له اعرتافا وطاعة‪ .‬وأعلى الصدق صدق طلب وجه اهلل عز وجل‪ .‬فذلك هو‬
‫التطلع إىل مقامات اإلحسان واإليقان‪ .‬وما يـُلَ ّقاها إال ذو حظ عظيم‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫حتديات املستقبل‬
‫أنت يا أخي‪ ،‬يأيها اإلسالمي املرشح للحكم‪ ،‬ال ُـمعبَّأُ يف صف اجلهاد‪ ،‬أنت‬
‫عبد هلل قسرا‪ .‬يأيها اإلنسان!‬
‫أنت يا أخيت‪ ،‬يا مربية أجيال اخلالفة الثانية على منهاج النبوة‪ِ ،‬‬
‫أنت أمة اهلل‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قهرا‪ .‬يأيها اإلنسان!‬
‫هل حبست نفسك يوما أو ليلة أو ساعة‪ ،‬هل ضيقت عليها اخلناق وسألتها‬
‫إىل أين؟‬
‫إن ربك عز وجل أخربك يف كتابه املبني عن السابقني املقربني ذوي الدرجات‬
‫العُلى احملبوبني عنده يف مقعد الصدق‪ .‬فهل هنضت لطلب الزلفى لديه؟ هذا أعظم‬
‫حتد مستقبلي بني يديك‪ .‬إن مل تستيقظ هلذا‪ ،‬إن مل تقم لتقتحم إىل اهلل عز وجل‬
‫العقبة‪ ،‬فأنت يف واد وحنن يف واد‪.‬‬
‫بني يديك هذا التحدي العظيم النبيل‪ ،‬بل هذا النداء اجلليل من رب كرمي‬
‫وهاب ينادينا‪« :‬سارعوا»‪« ،‬سابقوا»‪ .‬ومن خلفك النفس األمارة‪ ،‬ربيبةُ الشح‪،‬‬
‫السلطانة على ضعفاء اهلمة‪ ،‬جترك وتراودك لتكون هلا مطية‪.‬‬
‫نداء اهلل عز وجل يـَُؤيِّه بك‪ ،‬وبشرى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تبسط‬
‫أمامك فسيحات الرجاء بالبشرى الصادقة‪ ،‬بشرى اخلالفة على منهاج النبوة‪ .‬تكون‬
‫فيها أنت من الصفوة عند اهلل مبا جاهدت‪ ،‬أو تكون من الوجوه العاملة الناصبة اليت‬
‫ينصر اهلل هبا دينه وهي فاجرة‪ .‬اخلالفة الثانية كائنة حبول اهلل‪ ،‬فهي وعده‪ .‬لكن أنت‬
‫غري ن ْفسي الغافلة اخلبيثة‪.‬‬
‫بأنت َ‬
‫أنت أنت! وما أعين َ‬

‫‪66‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أخربنا حبيبنا حممد صلى اهلل عليه وسلم أن له يف آخر الزمان إخوانا‪ .‬فهي‬
‫كلمة يهتز هلا كل ذي لب وشأن‪ .‬ويُرشح نفسه هلا بالصدق الدائم واجلهاد املستمر‬
‫الصالِح ِ‬
‫ات ثُ َّم اتـََّقواْ‬ ‫ِ‬
‫آمنُواْ َو َعملُواْ َّ َ‬
‫من رفع اهلل تعاىل مهته ليكون من الذين ﴿اتـََّقواْ َّو َ‬
‫ين﴾‪ .1‬هذا حتد ملستقبلك أخي‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫سنُواْ َواللّهُ يُ ِح ُّ‬
‫ب ال ُْم ْحسن َ‬ ‫َح َ‬
‫آمنُواْ ثُ َّم اتـََّقواْ َّوأ ْ‬
‫َّو َ‬
‫أما البشرى العظيمة لكل تواق للمعايل ففي قوله صلى اهلل عليه وسلم‪…« :‬‬
‫رسول اهلل؟! قال‪« :‬أنتم‬ ‫ت أنا قد رأينا إخواننا!» قالوا‪ :‬أ ََولَ ْسنا إخوانَك يا َ‬ ‫َوِد ْد ُ‬
‫أصحابي‪ ،‬وإخوانُنا الذين لم ياتوا بع ُد»‪ .‬رواه الشيخـان وغريمها عن أيب هريرة رضي‬
‫اهلل عنه‪.‬‬
‫ين َجا ُؤوا ِمن‬ ‫َّ ِ‬
‫شرى يفسر اآلية الكرمية من سورة احلشر‪َ ﴿ :‬والذ َ‬ ‫واحلديث البُ َ‬
‫ان َوَل تَ ْج َع ْل فِي‬ ‫اليم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫بـَْعده ْم يـَُقولُو َن َربـَّنَا ا ْغف ْر لَنَا َوِِل ْخ َواننَا الذ َ‬
‫ين َسبـَُقونَا ب ِْ َ‬
‫ك رُؤ ٌ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫يم﴾‪.2‬‬
‫وف َّرح ٌ‬ ‫آمنُوا َربـَّنَا إِنَّ َ َ‬
‫ين َ‬ ‫قـُلُوبنَا غ ّلً لِّلَّذ َ‬
‫واملذكور السابق الذي يرجع إليه الضمري يف «إخواننا» هم فقراء املهاجرين‬
‫الذين ختصهم اآلية بفيء خيرب‪ .‬ومن اللطائف‪ ،‬ومن دروس الرفق‪ ،‬فتوى اإلمام‬
‫مالك يف الروافض الذين ال يستغفرون ملن سبقنا باإلميان حبرماهنم من الفيء‪ .‬عقاب‬
‫قرآين نبوي‪ .‬مل ي َكف ِّْر رمحه اهلل‪.‬‬
‫أرايت ال ُـمتَأهلني لألُخوة الشريفة كيف يدعون اهلل تعاىل أن يطهر قلوهبم من‬
‫الغِ ِّل! وهو احلسد وما يسري يف ركابه من علل داء األمم‪ ،‬وما يؤسسه من مرض‬
‫الغثائية‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة املائدة‪.95 ،‬‬


‫‪2‬‬
‫سورة احلشر‪10 ،‬‬

‫‪67‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ما حيمل أمانةَ التبلي ِغ ِ‬
‫آخَر هذه األمة إال أشباهٌ ملن محلوها مع رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ .‬إخوان يتبعون األصحاب بإحسان‪ .‬فاهتم األجلةُ العظام بالصحبة‬
‫القليب واحملبة اخلالصة بعض ما فات‪ .‬واحلمد هلل حميي‬
‫ض التعلق ُّ‬ ‫فعو َ‬‫املباشرة الكرمية‪َّ ،‬‬
‫األموات‪ .‬وقد جاء عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قوله‪« :‬أمتي أمة مباركة‪ ،‬ال‬
‫آخرها»‪ .‬رواه ابن عساكر عن عمرو بن عثمان بن عفان مرسال‪.‬‬ ‫درى َّأولها خير أو ُ‬ ‫يُ َ‬
‫وقد وثقه الذهيب وأشار السيوطي إىل حسنه‪.‬‬
‫كرب احلضارة‬ ‫ِ‬
‫إن العامل اليوم وغدا ينتظر َرْو َح الرمحة اليت تنفس عنه ْ‬
‫املادية اهلائمة بال غاية‪ .‬الوسائل فيها تعملقت‪ ،‬وتعملق االخرتاع والتكنولوجيا‪،‬‬
‫وتقزم اإلنسان‪ ،‬وأصبح دابة استهالكية ال تعرف لنفسها معىن وال لسعيها‬
‫احلق يـَبـْلُغُها خربُه وسط‬
‫احلثيث على األرض قرارا‪ .‬اإلنسانية تنتظر دين اهلل َّ‬
‫ضوضاء العامل وجنونه‪ ،‬تنتظر وجه الربانيني تتوسم قسمات اآلمال املكبوتة‬
‫عليه فتستجيب الفطرة املردومةُ املطمورة ِ‬
‫لنداء الشاهدين بالقسط‪.‬‬
‫ليس التحدي الثقيل الذي ينبغي أن تتجند له الدعوة وتواجهه من قبيـل ما‬ ‫َ‬
‫ينفع فيه التخطيط على املدى املتوسط والبعيد لكسب العلوم وترويض التكنولوجيا‬
‫وتبيِيئِها‪ .‬وال هو ينتهي يف حدود اجلهاد ألداء «فاتورة» املديونية اليت‬ ‫ِ‬
‫وتوطينها ْ‬
‫اجب تنمية بالد اإلسالم وحتريرها‬
‫خلفها املبذرون إخوان الشياطني‪ .‬وال هو و ُ‬
‫من التبعية‪ .‬وال هو هذا املعضل احملوري املركزي‪ ،‬اهلم الدائم‪ ،‬هم فلسطني وكارثة‬
‫فلسطني‪.‬‬
‫التحدي املستقبلي الثقيل يف حق الدعوة هو محل الرسالة لعامل متعطش‪ .‬وزنُنا‬
‫السياسي‪ ،‬ولو ث ُق َل بعد زوال وصمة الغثائية‪ ،‬ال يوازي وزننا األخالقي الروحي بوصفنا محلة‬
‫الرسالة اخلالدة‪ .‬بوصفنا مبلغني عن رب العاملني وعن رسوله األمني‪ .‬وهو حت ّد ال تقوم له‬

‫‪68‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫األمة إن مل يكن التحدي الفردي الذي يُهيب باملؤمن واملؤمنة أن يتجردا من عبودية‬
‫فيربآ من مرض الغثائية وداء األمم‬
‫النفس والشيطان‪ ،‬وأن يتحررا من سلطان اهلوى َ‬
‫وما ينجر إليهما من آفات‪ ،‬وينربيا تلبية لنداء «سابقوا» ليكونا من املقربني‪ ،‬من‬
‫«إخواننا»‪.‬‬
‫وهذا ال يأيت حبسن الظن بالنفس‪ ،‬وباالستعالء واالستغناء مبا حصل للخطيب‬
‫الشعيب يف منربه‪ ،‬واملسؤول امليداين يف تنظيمه‪ .‬هذا يأيت بذكر اهلل‪﴿ .‬أَالَ بِ ِذ ْك ِر اللّ ِه‬
‫ِ‬
‫وب﴾‪ .1‬يأيت حبزبك من القرآن ال تلهو عنه‪ .‬يأيت بلزومك اجلماعة يف‬ ‫تَط َْمئ ُّن الْ ُقلُ ُ‬
‫ين يَ ْذ ُك ُرو َن‬ ‫َّ ِ‬
‫الصف األول‪ .‬يأيت باالستغفار والتفكر الدائم مع أويل األلباب ﴿الذ َ‬
‫اللّهَ قِيَاماً َوقـُعُوداً َو َعلَ َى ُجنُوبِ ِه ْم﴾‪.2‬‬
‫قال احملروم‪ :‬إهنا بِدعة أن تتخذ من األذكار والتالوة ِوردا دائما‪ .‬وقضى احملروم‬
‫حياتَه يف الغفلة الظالمية امللفوفة جبهل ما أنزل اهلل عز وجل‪.‬‬
‫ين يَ ْدعُو َن‬ ‫َّ ِ‬ ‫وما أنزل ربنا جل وعال على رسوله وصية ﴿و ْ ِ‬
‫ك َم َع الذ َ‬
‫سَ‬‫اصب ْر نـَْف َ‬ ‫َ‬
‫أعن وامسعي يا‬ ‫ِ‬
‫و«إياك ِ‬ ‫َربـَُّهم بِالْغَ َد ِاة َوال َْع ِش ِّي يُ ِري ُدو َن َو ْج َههُ﴾‪ 3‬إال تنبيها للغافلني‪.‬‬
‫جارة»‪ ،‬يأيتها النفس اليت ال تطمئن لذكر اهلل وال لصحبة األخيار‪.‬‬
‫إن هنوض األمة منكبوهتا رهني بقدرهتا على نقد ذاهتا‪ ،‬وكشف أمراضها‪ ،‬وتطبيق‬
‫العالج على اخلاصة من رجال الدعوة أوال‪ ،‬قبل أن ميكن تطبيقه على العامة‪ .‬على‬
‫الدولة بعد وصول اإلسالميني للحكم أن تتفرغ لتوقعات املستقبل وأن ختطط وتدبر‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة الرعد‪ ،‬اآلية ‪.29‬‬


‫‪ 2‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.191‬‬
‫‪ 3‬سورة الكهف‪ ،‬اآلية ‪.28‬‬

‫‪69‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫لكن الدعوة شأهنا األول العظيم هو تربية األجيال من «إخواننا» ابتداء من تربية‬
‫األم لتكو َن األم منوذجا صاحلا للطفل‪ ،‬ويكون الطفل غرسة مباركة‪ ،‬ليكون مسجدا‬
‫أُسس عل التقوى من أول يوم‪.‬‬
‫أال وإن فاقِد الشيء ال يعطيه‪ ،‬والدعاة إن هم عزفوا عن ذكر اهلل وعن جمالسة‬
‫املرجو‪ُ .‬رب‬
‫املساكني وعن التواصي باحلق والصرب يكونون آفة زائدة ال الشفاءَ ّ‬
‫صادق بدأ خطواته اجلهادية بطفرة إميانية ومحاس موقوت‪ ،‬ما لبث أن اغتالته نفسه‬
‫و«صبـَْرها» فبلِ َي‬
‫ذكر اهلل وذكر اآلخرة وحماسبة النفس ومراقبتها َ‬
‫وشيطانه‪ ،‬فنسي َ‬
‫إميانُه‪ ،‬وعصرته النفس وأناخت عليه بكل َكلِها‪ ،‬فذهب مع الزبَد‪ ،‬مع املنافقني الذين‬
‫ال يذكرون اهلل إال قليال مذبذبني‪.‬‬
‫الرجل‪ :‬نصبَه للقتل‪.‬‬
‫صبـََر‪ :‬حبَس‪ .‬وصرب َ‬
‫قال أهل اللغة‪َ :‬‬
‫النفس يا أخي‪ ،‬يا حبييب‪ ،‬هو َحْب ُسك إياها‪ ،‬وقتالك لعنفواهنا‪ .‬إنهُ‬
‫َ‬ ‫صربُك‬
‫جهاد‪ .‬وقد جاء يف حديث رواه الرتمذي عن فُضالَةَ ب ِن عبيد أن رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم قال‪« :‬اجملاهد من جاهد نفسه»‪.‬‬
‫ومسريتم املظفرة حبول اهلل إىل سدة احلكم‪،‬‬
‫َ‬ ‫دخول الدعاة يف السياسة‪،‬‬
‫إن َ‬
‫فتح عليهم لباب االبتالء الشديد‪ .‬فإن مل يكن كل واحد على نفسه أوال‪ ،‬وكل واحد‬ ‫ٌ‬
‫مع إخوانه يف التواصي والتناصح و«النقد»‪ ،‬قائما بالقسط شاهدا يقظا نابذا حب‬
‫أس اخلطايا فهي اهللَ َكة وال شك‪ .‬له وللناس مجيعا‪.‬‬
‫الدنيا ر َ‬
‫ت من مكر اهلل‪ ،‬وأهم‬ ‫ِ‬
‫رجوعُك على النفس أخي وأخيت فضيلة‪ .‬ومهما أمْن َ‬
‫النفس والشيطان‪ ،‬فقد زلَّ ْ‬
‫ت القدم نعوذ باهلل‪.‬‬ ‫مآتيه ُ‬

‫‪70‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫هذا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حيذر األصحاب من غوائل النفس‪ ،‬فإن‬
‫كانت لك رغبة يف األخوة املذخورة املباركة ومل تعترب نفسك معنيا بالتحذير من باب‬
‫فهيهات األماينُّ‪.‬‬
‫َ‬ ‫أوىل‬
‫وأملوا ما يسركم‪ِ .‬‬
‫فواهلل ما الف ْق َر‬ ‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أبشروا ِّ‬
‫ُ‬
‫أخشى عليكم‪ .‬ولكني أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من‬
‫كان قبلكم‪ ،‬فتَنافسوها [فتتنافسوها] كما تنافَسوها‪ ،‬وتهلككم كما أهلكتهم»‪.‬‬
‫البخاري ومسلم والرتمذي‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫احلديث أخرجه‬
‫ويف حديث آخر قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬آلْ َف ْق َر تخافون؟ والذي نفسي‬
‫وايم اهلل لقد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قلب أحد ُكم إال هيَ ْه! ُ‬
‫صبا حتى ال يُزي َغ َ‬
‫صبَّ َّن عليكم الدنيا َ‬
‫بيده لتُ َ‬
‫تركتكم على مثل البيضاء‪ ،‬ليلها ونهارها سواء!» رواه ابن ماجة بسند صحيح‪.‬‬
‫ب صبا‪ ،‬وحب الدنيا رأس اخلطيئة وجرثومة‬ ‫ص ُّ‬
‫ضةٌ للزيغ‪ ،‬ودنيا تُ َ‬
‫عر َ‬
‫قلوب ُم َّ‬
‫أبسط من احلكم‪ .‬يأيها اإلسالميون‪ ،‬يا أحبّاء قليب!‬ ‫املرض‪ .‬وأي دنيا َ‬

‫‪71‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫الفصل الثاني‬

‫الدعوة والدولة‬
‫افرتق القرآن والسلطان‬ ‫ ‬
‫*‬
‫دورة الرَّحا‬ ‫* ‬
‫العلماء والقائمون‬ ‫*‬
‫فتوى االستيالء و«عجز الطالب»‬ ‫*‬
‫أهل العلم بني التقليد والتلبيس‬ ‫*‬
‫«أكره أن أدنسهم بالدنيا»‬ ‫* ‬

‫‪73‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫‪74‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫افرتق القرآن والسلطان‬


‫كما أمسكت أيدي الصحابة املباركني زمام األمر يف اخلالفة األوىل‪ ،‬وحافظوا‬
‫على البناء بعدما أقاموه مع النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬كذلك متسك إن شاء اهلل‬
‫أيدي «إخوانه» صلى اهلل عليه وسلم املباركني زمام األمر يف اخلالفة الثانية بعد أن‬
‫رص البناء من انتقاض‪.‬‬
‫يعيدوا َّ‬
‫فما هو هذا األمر؟ أهو دولة من بني الدول‪ ،‬ترعى مصاحل املسلمني‪ ،‬وترفع‬
‫من شأهنم بني األمم‪ ،‬قوية عزيزة‪ ،‬هلا حضارة شاخمة‪ ،‬وجانب مرهوب‪ ،‬وسطوة‬
‫حمرتمة‪ .‬أم هي دعوة ودولة‪ ،‬دولة ختدم الدعوة‪ ،‬وتسري يف موكبها‪ ،‬وتأمتر بأمرها؟‬
‫نبغ بني املسلمني منذ حنو سبعني سنة رجل ادعى أن اإلسالم دعوة ال شأن‬
‫هلا بالدولة‪ ،‬فوجب اإلحلاح على البديهيات‪ .‬إنه الشيخ علي عبد الرزاق‪ ،‬من علماء‬
‫األزهر وقضاة مصر‪ ،‬أثار بكتابه «اإلسالم وأصول احلكم» ضجـة ما تزال أصداؤها‬
‫ترتدد يف أوساط الكتـاب واملفكرين‪ ،‬اإلسالميني منهم واألكادمييني‪.‬‬
‫أما اإلسالميون‪ ،‬وهم الشاعرون بضغطة االستعمار أكثر من غريهم‪ ،‬فقد‬
‫ردوا بأن اإلسالم دعوة ودولة‪ ،‬وأطنبوا يف إبراز جانب احلكم يف اإلسالم‪ ،‬واختزلوا‬ ‫ّ‬
‫األلوهية يف صفة من صفاهتا‪ ،‬جلت وتعالت‪ ،‬هي صفة «احلاكمية»‪ .‬وإمنا أتى‬
‫تضخيم جانب الدولة يف خطاب اإلسالميني املنافحني عن الدين ُمغالَبةً للتيار‬
‫املعادي‪ .‬فكانت النتيجة أن غُيِّب أساس الدين‪ ،‬وهو الدعوة إىل اهلل تعاىل‪ ،‬وأشاد‬
‫الناس بالقوة احلامية والد ِّْرع الواقية واهليكل اخلارجي‪ :‬الدولة‪.‬‬
‫‪75‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫كان علي عبد الرزاق من حزب «الوفد»‪ ،‬وكان حزب «الوفد» ُياري يف نزعة‬
‫امللك فؤاد أن ينتحل لقب «اخلالفة» وينتصب على أريكتها يف مصر بعد سقوطها‬
‫يف تركيا‪ .‬فكتب الشيخ كتابه لين ُقض الفكرة بنفي أي أصل للحكم يستند إىل‬
‫سياسي‪ .‬أراد «الوفد»‬
‫ُّ‬ ‫يد هبا هدف‬ ‫الدين‪ .‬فهي الييكية أخرى قالت كلمة ٍ‬
‫باطل أر َ‬
‫وشيخه أن يقاتل ملكا فعدا على الدين‪.‬‬
‫يل جلانب احلكم يف اإلسالم‪ ،‬و َّ‬
‫كأن‬ ‫اجلد ُّ‬
‫وبقي يف جو الدعوة هذا التضخيم َ‬
‫اهلل عز وجل ما بعث رسله عليهم السالم إال لبناء دولة حتكم بالشرع‪ ،‬وتقيم العدل‪.‬‬
‫وال شأن ألحد يف هذا مبخلوقية العبد‪ ،‬وتكليفه‪ ،‬وندائه إىل اقتحام العقبة للقاء ربه‪،‬‬
‫وبعثه بعد املوت‪ ،‬وجزائه‪ ،‬وسعادته األبدية وشقائه‪.‬‬
‫إنه سكوت يف اخلطاب اإلسالمي ُمريب‪ .‬إنه جريان مع تيار التغفيل عن‬
‫اهلل عز وجل‪ .‬إنه نوع من الالييكية الضمنية‪ ،‬وفصل ملعاين اإلسالم‪ ،‬وهي أوال‬
‫وآخرا خضوع العبد لربه عز وجل‪ ،‬عن السياق احلركي احلُ ْكمي‪ .‬فيا إخواين‪ ،‬يأيها‬
‫اإلسالميون املقبلون على احلكم‪ ،‬ماذا تريدون؟ أتريدون دولة باسم اإلسالم ينتهي‬
‫ي عند إقامتها‪ ،‬فتذوب الدعوة يف الدولة‪ ،‬أم تريدوهنا خالفة على‬ ‫الدع ِو ُّ‬
‫عملُكم َ‬ ‫َ‬
‫س خطابنا‬‫لنؤس َ‬
‫منهاج النبوة؟ وإذن فال بد أن نتكلم يف البديهيات لنصحح املسار و ِّ‬
‫وهو مرآة ملا تُكنه النوايا على تقوى من اهلل‪.‬‬
‫إن اهلل عز وجل أمر املؤمنني أوامر وكلفهم تكليفا‪ .‬من التكاليف ما هو منوط بذمة‬
‫الفرد كالصالة والصيام‪ ،‬ومنها ما ال ميكن القيام به إال بتعاون مجاعة املؤمنني‪ ،‬كاألمر‬
‫باملعروف والنهي عن املنكر واجلهاد يف سبيل اهلل‪ .‬وإن اهلل عز وجل ش َفع أمره للجماعة‬
‫َّ ِ‬ ‫بالعمل الصاحل اجلماعي ِ‬
‫آمنُواْ﴾ افعلوا أو ال تفعلوا بأمره‬ ‫املؤذِّنة به ﴿يَا أَيـَُّها الذ َ‬
‫ين َ‬ ‫ِّ َ‬
‫‪76‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الصاد ِع به قولُه عز وجل‪﴿ :‬يا أَيـُّها الَّ ِذين آمنُواْ أ ِ‬
‫َطيعُواْ‬ ‫احل ْكمي السياسي الدَّويل ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫ول َوأ ُْولِي األ َْم ِر ِمن ُك ْم﴾‪.1‬‬
‫الر ُس َ‬ ‫اللّه وأ ِ‬
‫َطيعُواْ َّ‬ ‫ََ‬
‫وضى‪ ،‬وال يستقيم أمر املسلمني بال نظام حكم‪ .‬وال خيدم‬
‫ال يصلح الناس فَ َ‬
‫نظام ال خيضع لإلسالم وال تكون طاعتُه من‬
‫أهداف اإلسالم اجلماعية والفرديةَ ٌ‬
‫ضار يف ذلك جمادل‪.‬‬
‫طاعة اهلل ورسوله‪ .‬فاإلسالم دولة ونظام حكم‪ ،‬ال يُ ّ‬
‫أخروي‬
‫ٍّ‬ ‫لكن اهلل عز وجل إمنا يبعث رسله عليهم السالم لشأن عظيم‪ ،‬لشأن‬
‫أبدي‪ .‬بعثهم هلداية اخللق إىل طريق مستقيم‪ ،‬صراط الذين أنعم اهلل عليهم من النبيئني‬ ‫ٍّ‬
‫اك إَِّل‬ ‫والصديقني والشهداء والصاحلني‪ .‬وهو صراط السعادة األبدية‪َ ﴿ .‬وَما أ َْر َسلْنَ َ‬
‫الدعوي‪ .‬آية ﴿يَا أَيـَُّها النَّبِ ُّي إِنَّا‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫ين﴾‪ 2‬آية نفي وإثبات تؤكد اجلانب‬ ‫َر ْح َمةً لِّل َْعالَم َ‬
‫اعياً إِلَى اللَّ ِه بِِإ ْذنِِه﴾ تبني أن النبوء َة الرمحةَ‬ ‫شراً ونَ ِذيراً ود ِ‬ ‫أَرسلْنَ َ ِ‬
‫اك َشاهداً َوُمبَ ِّ َ‬
‫‪3‬‬
‫ََ‬ ‫َْ‬
‫دعوة مبشرة حبقائق اآلخرة منذرة منها قبل كل اعتبار‪ ،‬قبل كل نظام‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫شراً َونَ ِذيراً لِتـُْؤمنُوا بِاللَّ ِه َوَر ُسول ِه َوتـَُع ِّزُروهُ‬ ‫اك َش ِ‬
‫اهداً َوُمبَ ِّ‬ ‫آية ﴿إِنَّا أ َْر َسلْنَ َ‬
‫َصيالً﴾‪ 4‬دليل على أن الرسالة النبوية رسالة إميان باهلل‬ ‫وتـوقـِّروهُ وتُسبِّحوهُ ب ْكرةً وأ ِ‬
‫َ َُ ُ َ َ ُ ُ َ َ‬
‫تعاىل‪ ،‬رسالة احنياش إليه عز وجل‪ ،‬رسالةُ تسبيح جلالله‪ ،‬رسالة عبودية للخالق‬
‫الرزاق احمليي املميت الباعث الديان رب اجلنة والنار‪ .‬له األمساء احلسىن‪ ،‬وله احلاكمية‬
‫والطاعة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫النساء‪ ،‬اآلية ‪.58‬‬
‫‪2‬‬
‫األنبياء‪ ،‬اآلية ‪.106‬‬
‫‪3‬‬
‫األحزاب‪ ،‬اآليتان ‪.46-45‬‬
‫‪4‬‬
‫الفتح‪ ،‬اآليتان ‪.9-8‬‬

‫‪77‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يف عهد النبوة كانت الدعوة والدولة قضية واحدة‪ ،‬فكان من مقتضيات‬
‫نشـر الدعوة أن ينتظم املسلمون يف أمور عباداهتم ومعامالهتم ومعاشهم وجهادهم‬
‫حول ُمطاع واحد‪ .‬يف شخصه الكرمي جتتمع معاين الرمحة املهداة‪ ،‬وبيده الكرمية‬
‫فصل يف فقه‬
‫دين‪ ،‬ال َ‬ ‫مقاليد األمر والنهي‪ ،‬أم ٍر وهن ٍي مجي ٍع غ ِري شتيت‪ ،‬الكل ٌ‬
‫عباد الرمحن‪ ،‬يف كل‬
‫الصحابة رضي اهلل عنهم بني الدنيوي والديين‪ .‬هم كانوا َ‬
‫حركاهتم وسكناهتم يذكرون اهلل عز وجل ويسبحونه‪ ،‬حاضرين قلبا وقالبا مع‬
‫ِ‬
‫ب إىل اهلل عز وجل‪ ،‬ترفعُها النية مهما كانت‬ ‫البِشارة والنذارة‪ .‬كل أعمالم قـَُر ٌ‬
‫صغرية‪.‬‬
‫معاشر الدعاة‪ ،‬وجدنا الدعوة منزويَة‪ ،‬بل َمزِويّة‪ ،‬بعيدا عن الدولة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫يف عصرنا‪،‬‬
‫مغايرة هلا‪ ،‬مضغوطة ِمن قِبَلها‪ُ ،‬م َاربَة مضطهدة‪ ،‬أو ُمَرّوضة ُم َدجنة ُم َؤنّسة‪.‬‬
‫وم َّن اهلل عز وجل علينا بأن بعث فينا َغرية على دينه‪َ ،‬وكراهية لطغيان احلكم‬ ‫َ‬
‫العاض املنحرف عن طاعة اهلل ورسوله‪ .‬فنحن نريد أن حنكم مبا أنزل اهلل لكيال تبقى‬
‫ك ُه ُم الْ َكافِ ُرو َن﴾‪،‬‬ ‫َنز َل اللّهُ فَأ ُْولَـئِ َ‬
‫األمة وعلى عنقها هتديد ﴿ َوَمن لَّ ْم يَ ْح ُكم بِ َما أ َ‬
‫ك ُه ُم الظَّالِ ُمو َن﴾‪َ ﴿ ،2‬وَمن لَّ ْم يَ ْح ُكم بِ َما‬ ‫أنز َل اللّهُ فَأ ُْولَـئِ َ‬
‫﴿ َوَمن لَّ ْم يَ ْح ُكم بِ َما َ‬
‫‪1‬‬

‫اس ُقو َن﴾‪.3‬‬ ‫ك هم الْ َف ِ‬ ‫ِ‬


‫َنز َل اللّهُ فَأ ُْولَـئ َ ُ ُ‬
‫أَ‬
‫والذي وجدناه أمامنا‪ ،‬يف كل قطر من أقطار التجزئة الشنيعة دولةٌ بال دين‪،‬‬
‫نصب كل جهودنا على تفنيد‬ ‫ُ‬ ‫دولة تستخف بالدين‪ ،‬دولة تنكر الدين‪ .‬فقمنا‬

‫‪ 1‬سورة املائدة‪ ،‬اآلية ‪.43‬‬


‫‪ 2‬سورة املائدة‪ ،‬اآلية ‪.44‬‬
‫‪ 3‬سورة املائدة‪ ،‬اآلية ‪.46‬‬
‫‪78‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ت أصوات الغرية منا‪،‬‬ ‫أصول الالييكية‪ ،‬ونص ُـرخ أن اإلسالم دعوة ودولة‪ ،‬حىت ُبَّ ْ‬
‫فيخيل للسامع والقارئ أن مقالتنا تتلخص يف أن اإلسالم دولة‪ ،‬دولة‪ ،‬دولة‪.‬‬
‫أال وإن اهلل عز وجل ال يغري ما بقوم حىت يغريوا ما بأنفسهم‪ ،‬وإن سكوت‬
‫اإلسالميني‪ ،‬سكوت كثري منهم‪ ،‬عن الذي جاءت من أجله الرسل وهو دعوة العباد‬
‫الدعوي‪ ،‬فإذا باإلسالم‬ ‫س‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫ضمور احل ِّ‬
‫األخروي‪َّ ،‬أدى إىل ُ‬
‫ِّ‬ ‫إىل رهبم وتذكريهم باملصري‬
‫مذهب يف احلكم‪ ،‬رائع متفوق‪ .‬وهم عن اآلخرة هم‬ ‫ِ‬
‫املكتوب‬ ‫املنطوق به ال ُـمعل ِن‬
‫ٌ‬
‫غافلون‪.‬‬
‫بأنفسنا ص ْدع خفي‪ ،‬بعضه ِم ْن بِلَى اإلميان‪ ،‬وبعضه من «منطق الساحة»‬
‫الذي جيرفنا فال نشعر إال وحنن نتحدث حديثا هو حبديث الالييكيني أشبـه لوال‬
‫حنني الثكلى إىل وليدها‪ .‬ينعكس يف خطابنا االفرتاق بني السلطان‬ ‫كلمات َت ُّن َ‬
‫كل إناء بالذي فيه يرشح‪.‬‬
‫مرُّده إىل ما يف النفوس‪ .‬و ُّ‬
‫نقض َ‬
‫والقرآن‪ٌ ،‬‬
‫العطاء ما دام عطاء‪ ،‬فإذا‬
‫َ‬ ‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬خذوا‬
‫صار َرشوة عن الدين فال تأخذوه‪ .‬ولستم تاركيه‪ ،‬يمنعكم من ذلك الف ْق ُر‬
‫حيث دار‪ .‬أال إن‬‫والحاجة‪ .‬أال إن َرحا اإلسالم دائرةٌ فدوروا مع الكتاب ُ‬
‫الكتاب والسلطان سيفترقان‪ ،‬فال تفارقوا الكتاب‪ .‬أال إنه سيكون عليكم أمراء‬
‫يقضون ألنفسهم ما ال يقضون لكم‪ ،‬إن عصيتموهم قتلوكم‪ ،‬وإن أطعتموهم‬
‫أضلوكم»‪ .‬رواه أبو نعيم عن معاذ بن جبل رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫يف هذا الفصل من الكتاب‪ ،‬نعُدُّه من أمهها‪ ،‬نريد إن شاء اهلل أن نتمعن‬
‫يف ال ُفرقة بني السلطان والقرآن‪ ،‬بني الدعوة والدولة‪ ،‬ليكون وعيُنا بأسباب الفرقة‬
‫جنمع‪ ،‬أستغفر اهلل العظيم‪ ،‬أدعى أن جيمع اهلل تعاىل بنا ما افرتق‪.‬‬
‫أدعى أن َ‬
‫واخلصام َ‬

‫‪79‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يف اهلدي النبوي‪ ،‬وبالوحي نستضيء ّنور اهلل قلوبنا بنوره‪ ،‬إشارة إىل مآل‬
‫احلكم يف يد حكام ظَلَ َمة دارت هبم رحا ال َقدر‪ ،‬فانتزعوا الدولة من يد الدعوة‪،‬‬
‫وحتكموا يف املال والقوة حىت مل يبق ألهل القرآن من خيار إال أن يطيعوهم فيضلوا‬
‫أو يعصوهم فيُقتَلوا‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫دورة الرَّحا‬
‫القدر‪ ،‬املل ِّـمح‬
‫املعب عن توقيع َ‬
‫نستفيد من التلمذة املستبصرة لتلميح الوحي ِّ‬
‫ملواقعه‪ ،‬أن رحا اإلسالم تدور بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بظهور ال ُفرقة‬
‫ندور مع القرآن حيث‬‫األمر الصارم أن َ‬
‫واخلصام بني السلطان والقرآن‪ .‬ومع التلميح ُ‬
‫دار ال مع السلطان اجلائر الذي ال يرتك لنا إال اجملال الضيق بني القتل والضالل‪.‬‬
‫ونستفيد من تصريح الوحي الواعد باخلالفة الثانية أهنا دورة نبـَُّوة ‪-‬خالفة على‬
‫منهاج النبوة‪-‬حكم عاض‪-‬حكم جربي‪-‬خالفة ثانية على منهاج النبوة‪.‬‬
‫الوحي بقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬بدأ اإلسالم‬ ‫َ‬ ‫الوحي‬
‫ُ‬ ‫ويفسر‬
‫فطوب للغرباء»‪ .‬رواه اإلمام مسلم عن أيب هريرة رضي‬ ‫غريبا‪ ،‬وسيعود غريبا كما بدأ‪َ .‬‬
‫اهلل عنه‪ .‬قال الشيخ حممد عبده رمحه اهلل‪ :‬يعود غريبا كما بدأ لينتشر وينتصر ثاينَ‬
‫أول مرة‪ .‬ونعم القولة هذه‪ .‬يؤيد صحتها احلديث املنهاجي‪،‬‬ ‫مرة كما انتشر وانتصر َ‬
‫ي العني يف الصحوة املباركة‪.‬‬ ‫مث ما نشاهده َرأْ َ‬
‫ف‬‫القدر من غُرباء اإلسالم املوعودين بالغد الـمكلِّ ِ‬ ‫ولي ِ‬
‫ُ‬ ‫س لمن يرشحهم َ ُ‬ ‫ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ثل تتبُّ ِع الرحا يف دورهتا لريقبوا كيف دارت دورَة النزول ليعكسوا يف صعدتم‬ ‫َ ِ ِ‬
‫املشِّرف م ُ‬
‫صال اخلالفة ختلقا وإميانا‪.‬‬‫ِخ َ‬
‫بعد عهدهم‬ ‫عندما بايع الصحابة رضوان اهلل عليهم سيدنا أبا بكر الصديق َ‬
‫بالنبوة ومكانتها الشاخمة تضاءل رجل اإلسالم العظيم عند نفسه تعظيما ملقام النبوة‬
‫النبوي إال درجة حتت جملس رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫والرسالة فلَم يرق املنرب َّ‬
‫‪81‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ت أ ّن هذا كفانِ ِيه غريي‪ .‬ولئِن أخذُتوين‬ ‫ِ‬
‫وخطب فكان مما قال‪« :‬يأيها الناس‪ ،‬ولود ْد ُ‬
‫بسنَّة نبيكم صلى اهلل عليه وسلم ما أُطي ُقها‪ :‬إ ْن كا َن لَمعصوماً من الشيطان‪ ،‬وإن‬‫ُ‬
‫الوحي من السماء»‪ .‬رواه اإلمام أمحد عن قيس بن أيب حازم رضي‬ ‫كان لَينزل عليه ُ‬
‫اهلل عنه‪.‬‬
‫التعامل‬
‫ُ‬ ‫إشعار للناس بأن مقام النبوة والعصمة والوحي انتهى‪ ،‬وأنه ما بقي إال‬
‫مع بشر جيتهد يف االقتداء على مسع املسلمني وبصرهم‪ ،‬وعلى شرط «إن أصبت‬
‫فأعينوين‪ ،‬وإن أسأت فقوموين»‪ .‬وهو شرط مسعه الناس من أيب بكر ومن عمر‪.‬‬
‫رضي اهلل عن أيب بكر وعن عمر‪ ،‬وعن عثمان وعن علي‪ ،‬وعن سائر الصحب‬
‫اخلريين‪ ،‬وعن آل البيت الطيبني الطاهرين‪.‬‬
‫س للرحا‬ ‫ِ‬
‫كان التواصي باحلق‪ ،‬وقول احلق‪ ،‬والوقوف يف وجه الباطل‪ ،‬احلاب َ‬
‫األول للخليفة‬
‫تدور سافلةً إىل دركات السلطان املفارق للقرآن‪ .‬وكان الشأ ُن ُ‬ ‫أن َ‬
‫الدعوةَ وتعليم الناس دينَهم‪ .‬قال أمري املؤمنني عمر يف إحدى خطبه‪« :‬أال وإين‬
‫أرسل عمايل إليكم ليضربوا أبشاركم وال ليأخذوا أموالكم‪ .‬ولكن أرسلتهم‬ ‫اهلل ما ِ‬
‫وِ‬
‫إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم»‪ .‬ويوصي العمال فيقول‪« :‬أال الَ تضربوا املسلمني‬
‫جتمُروهم [ال تطيلوا مدة خروجهم للجهاد] فتفتنوهم‪ .‬وال متنعوهم‬ ‫فتذلوهم‪ ،‬وال ِّ‬
‫حقوقَهم فتُكفِّروهم»‪ .‬احلديث رواه اإلمام أمحد عن أيب فراس‪.‬‬
‫خالفة تريد إعزاز املسلمني ال إذالهلم‪ ،‬وتعترب أن حرمان الناس من حقوقهم‬
‫يدفع إىل الكفر‪ .‬خالفة تُنيط بالعمال‪ ،‬وهم أساسا ممثلو سلطة الدولة‪ ،‬مهمة‬
‫خدمة للقرآن ينبغي أن يُنبَّهوا بقوة لذلك‬
‫الدعوة‪ ،‬مهمة تعليم الناس دينهم‪ .‬فهم َ‬
‫كيال يُطغِيَهم السلطان‪.‬‬
‫ويريب اخلليفة الراشد الناس على قول احلق ومقاومة الباطـل‪ ،‬ويدرهبم على ذلك‬
‫اخلوف من السلطان عن الشهادة بالقسط‪ .‬أخرج‬
‫س هبم ُ‬ ‫نفسه أو َيْنَ َ‬
‫تدريباكيال تزيغ به ُ‬
‫اهلروي عن النعمان بن بشري رضي اهلل عنه أن عمر بن اخلطاب‬ ‫ابن عساكر وأبو ذر ُّ‬
‫‪82‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫صت يف‬‫ترخ ُ‬ ‫رضي اهلل عنه قال يف جملس وحوله املهاجرون واألنصار‪« :‬أرأيتم لو َّ‬
‫بعض األمور ما كنتم فاعلني؟» فسكتوا‪ .‬فقال ذلك مرتني أو ثالثا‪ .‬فقال بشري بن‬
‫سعد‪ :‬لو فعلت ذلك قومناك تقومي ِ‬
‫الق ْدح [وهو عود السهم]! فقال عمر‪ :‬أنتم إذاً!‬ ‫ّ‬
‫أنتم إذاً!»‪.‬‬
‫تقومون ما اعوج‪ .‬من يستطيع أن يشجع مقالةً‬ ‫الرجال املؤمنو َن إذ ِّ‬
‫ُ‬ ‫أنتم إذاً‬
‫ُ‬
‫نفسه وهواه‬
‫َ‬ ‫حيكم‬ ‫هو‬ ‫دينه‪،‬‬ ‫على‬ ‫يعينه‬ ‫من‬ ‫يلتمس‬ ‫ة‬
‫ٌ‬ ‫خليف‬ ‫إال‬ ‫اغ‬‫ز‬ ‫إن‬ ‫السلطان‬ ‫ُتدد‬
‫ويرقُب ِ‬
‫آخَرتَه ومواله!‬
‫ودارت الرحا سافلة من اخلالفة الراشدة الداعية اخلائفة من رهبا‪ ،‬احلاكمة‬
‫نزو ِاتا بقوم من املسلمني َلِقوا باإلسالم ِ‬
‫آخَر العهد‪ ،‬مل يرتبـّْوا الرتبية اليت ترفعهم من‬
‫النفس منطوية على ِعالهتا اجلاهلية‪.‬‬ ‫أعرابية املسلم الناطق بالشهادتني و ُ‬
‫بعضهم‪ ،‬لكن اإلشارَة إىل‬
‫ال نريد اخلوض يف أعراض الصحابة كما يفعل ُ‬
‫نفوس من نزلت هبم رحا اإلسالم ضرورية ليعرف الغرباء الصاعدون‬ ‫ِ‬
‫الفساد يف ِ‬ ‫مواطن‬
‫العِلة املرتبصة يف الطريق فيُطببوها يف خاصة أنفسهم وحيرتسوا منها احرتاسهم من‬
‫العدو األنكى واألشد‪.‬‬
‫أخرج عبد الرزاق عن ابن ْأبََر قال‪ :‬ملا بويع أليب بكر الصديق جاء أبو سفيا َن‬
‫أقل ٍ‬
‫بيت يف قريش؟! أما واهلل ألمألهنا خيال‬ ‫إىل علي فقال‪« :‬أ َغلَبَ ُك ْم على هذا األمر ُّ‬
‫اإلسالم وأهلَه‬
‫َ‬ ‫ضر ذلك‬ ‫عدواً لإلسالم وأهله‪ ،‬فما َّ‬
‫لت ّ‬ ‫ورجاال‪ .‬فقال علي‪ :‬ما ز َ‬
‫شيئا‪ .‬إنا رأينا أبا بكر هلا أهال»‪.‬‬
‫هنا يتعارض منطق املسلم حديث العهد باإلسالم مع منطق املؤمن الذي‬
‫ِ‬
‫العصبية القبلية اليت ال ترضى أن‬ ‫أسس اإلسالم جبنب النبوة‪ .‬منطق القوة والعنف و‬
‫يسود «أقل بيت يف قريش» يعارض منطق األهلية الذي يزن األمور مبعيار ﴿إِ َّن‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫أَ ْك َرَم ُك ْم عن َد الله أَتـَْقا ُك ْم﴾‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫مة الفتح هو‬ ‫حارب أبو سفيان اإلسالم زهاء عشرين سنة‪ ،‬مث كان من مسلِ ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫كمها وكي ُفها؟ اهلل‬
‫وابنُه معاوية‪ .‬طُلَقاءُ العفو النبوي بقيت فيهم جاهلية راسبة‪ .‬ما ُّ‬
‫أعلَ ُم‪.‬‬
‫ْ‬
‫أح ٍد‪ ،‬فهذا رسول اهلل‬
‫دين َ‬
‫ض َ‬ ‫وليس يف َع ْزِو الرتسبات اجلاهلية لصحايب ما ين ُق ُ‬
‫امرؤ فيك جاهلية!» جملرد أنه قال لرجل‪:‬‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم يقول أليب ذر‪« :‬إنك ُ‬
‫يا ابن السوداء‪ .‬وما أعظم الفرق بني من نطق بكلمة غضب وبني من هدد أن ميألها‬
‫خيال ورجاال لنصر احلمية القبلية!‬
‫مث ما َأر َّق حاشية اجلاهلية اليت شجبها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف‬
‫صاحبه أيب ذر باجلاهلية الشنعاء اليت استفحلت يف بين أمية فقتلت حسينا رضي‬
‫اهلل عنه‪ ،‬ودمرت مدينة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ورمت الكعبة باملنجنيق!‬
‫عصبية جاهلية استفاقت يف بين أمية بعد فرتة حضانة وتربص حىت انقضت‬
‫ِّح فيه األمة خيارها‬ ‫على السلطان‪ ،‬فكانت الفارقة بني عهدين‪ٍ ،‬‬
‫عهد ٍ‬
‫كرمي تـَُرش ُ‬
‫خلدمة القرآن‪ٍ ،‬‬
‫وعهد مفتون األهليَّةُ فيه بالنسب‪.‬‬
‫عن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فقمت أخرج مع أيب‬ ‫ُ‬ ‫يقول‪« :‬هالك أمتي على يد ِغلمة من قُريش»‪ .‬قال الراوي‪:‬‬
‫وجدي إىل مروان بعدما ملكوا‪ ،‬فإذا هم يبايعون الصبيان‪ ،‬ومنهم من يُبايَ ُع له وهو‬
‫يف ِخرقة!» رواه اإلمام أمحد‪.‬‬
‫أول ملوك بين أمية رجال ذا مروءة‪ ،‬من مروءته احلنكة‬
‫كان معاوية بن أيب سفيان ُ‬
‫السياسية واحلِلم‪ .‬دخل عليه أبو مسلم اخلوالين التابعي اجلليل فقال‪ :‬السالم عليك أيها‬
‫األجري! فثار عليه األعوان وقالوا‪ :‬قل‪ :‬أيها األمري! فقال‪ :‬السالم عليك أيها األجري!‬
‫فثاروا عليه مرة ومرة‪ .‬فقال معاوية‪ :‬دعوا أبا مسلم‪ ،‬فإنه أعلم مبا يقول! فقال‪ :‬إمنا أنت‬

‫‪84‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ت َج ْرباها وداويت مرضاها‬ ‫أجري‪ ،‬استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها‪ .‬فإن أنت َهنَأْ َ‬
‫سيدها أجرك‪ .‬وإن أنت مل تـَْهنَأْ جرباها ومل تداو‬ ‫وحبست أوالها على أخراها وفّاك ُ‬
‫َ‬
‫س أوالها على أخراها عاقبك سيدها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫مرضاها ومل حتب ْ‬
‫يسمع بعض ما يـَُّق ِوُم َ‬
‫بعض العوج‪ ،‬سياسة منه‬ ‫ُ‬ ‫األموي األول‬
‫ُّ‬ ‫كان امللك‬
‫ثالث سنوات قام فيها بأعمال ثالثة‬ ‫يد فملك قُرابة ِ‬ ‫ِ‬
‫ول بعده ابنه يز ُ‬
‫ومروءة‪ .‬مث َ‬
‫خالدة يف سجل البغي امللكي العاض‪ .‬يف السنة األوىل قتل حسينا رضي اهلل عنه‪،‬‬
‫ويف كربالء طعنوا اجلسد الشريف بالرماح‪ ،‬وضربوه بالسيوف‪ ،‬ورفسوا جثمان الشهيد‬
‫حتت أرجل اخليل‪ ،‬وقتلوا نيفا وسبعني رجال من آل البيت وشيعتهم‪ ،‬وساقوا نسوة‬
‫آل البيت وبنات رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سبايا إىل البالط اليزيدي‪.‬‬
‫هذا موقف جيسد قتال الدولة الغاصبة للدعوة القائمة املقاومة‪ .‬جيسد َسطْ َو‬
‫السلطان على القرآن وتسلط الباطل على احلق‪.‬‬
‫يف السنة الثانية من ملك يزيد املاجن العربيد السفيه قام علماء املدينة وقُراؤها‬
‫على حكم البغي‪ .‬فدمهتهم جنود البغي‪ .‬قتلوا سبعة آالف من أشراف املسلمني‪،‬‬
‫واستباحوا املدينة ثالثة أيام حىت حبـَلَت ألف امرأة من فعل جيش يزيد‪ .‬يف السنة‬
‫الثالثة من ملك يزيد هجم جيش يزيد على القائم مبكة عبد اهلل بن الزبري فضربوا‬
‫الكعبة باملنجنيق وأسالوا الدم احلرام يف البيت احلرام‪.‬‬
‫كلمة قاهلا عبد امللك بن مروان «بطل األمويني» تلخص أصول البغي امللكي‬
‫العاض وحجته يف صيغة تناسب التطور من عصبية أيب سفيان القبلية الساذجة الذي أراد‬
‫أن ميألهاخيال ورجاال إىل عصبية أمسكت سيف الدولة بيدها‪ .‬خطب عبد امللك باملدينة‬

‫‪85‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ي أمراض هذه‬ ‫سنة ‪ 75‬على منرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‪« :‬إين لن أُدا ِو َ‬
‫‪1‬‬
‫بعد َمقامي هذا بتقوى اهلل إال ضربت عنقه!»‬ ‫األمة بغري السيف واهلل ال يأمرين أحد َ‬
‫ك‬‫من أولئك الذين يطلبون املعونة على االستقامة وتقومي االعوجاج‪ ،‬إىل ملِ ٍ‬
‫َ‬
‫تسمع! وال حول وال قوة إال‬ ‫حليم ال يستفزه «السالم عليك أيها األجري»‪ ،‬إىل ما َ‬
‫باهلل‪.‬‬

‫‪ 1‬ابن األثري ج‪ 4‬ص‪ 41-104‬كما نقله املودودي يف «اخلالفة وامللك» ص‪.106‬‬

‫‪86‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫العلماء والقائمون‬
‫الطائف‪،‬‬
‫َ‬ ‫يف السنة الثامنة من اهلجرة فتح اهلل تعاىل لرسوله وللمؤمنني مكة مث‬
‫نصيب‬
‫ُ‬ ‫فبسط رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بسطة واسعة من عطائه وعفوه‪ .‬فكان‬
‫بين أمية من ذلك كبريا‪ .‬أسلم أبو سفيان قائد حرب قريش فنادى منادي الرسول‬
‫أن من دخل دار أيب سفيان فهو آمن‪ .‬وأسلم ابنه معاوية فقربه إليه رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬وجاء يف بعض الروايات أنه استكتبَه‪.‬‬
‫يد بن أيب‬‫ويف خالفة أيب بكر بعث خليفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يز َ‬
‫سفيان قائدا لفتح الشام وأحلق به معاوية‪ .‬وما لبِث معاوية لكفاءته وحزمه وفصاحته‬
‫ودهائه وسياسته أن أصبح يف عهد الفاروق أمريا على الشـام‪ ،‬متكن يف الشام مدة‬
‫عشرين عاما حىت صفت له الرئاسة والتف حوله الناس واعصوصبوا له‪ .‬ال سيما وهو‬
‫صبة‬
‫قد استظهر بنسبه القريب من ذي النورين عثمان رضي اهلل عنه‪ ،‬واستظهر بالعُ ْ‬
‫من بين أمية‪ .‬فثار وثاروا بعد فتنة األخالط الذين قتلوا اإلمام الشهيد اخلليفة الثالث‬
‫يطالبون بدمه‪.‬‬
‫ليس بقوة السالح استوىل معاوية بن أيب سفيان على احلكم‪ ،‬بل بالدهاء‪.‬‬
‫هزميته يف حرب صفني أمام اإلمام الشرعي أمري املؤمنني علي بن أيب طالب كرم اهلل‬
‫وجهه أحاهلا إىل انتصار حبيلة رفع املصاحف وطلب التحكيم‪.‬‬ ‫َ‬
‫ومن التحكيم وما تاله خرج اخلوارج‪ ،‬وبدأ انتقاض عُ َروِة احلكم يف اإلسالم‪.‬‬
‫وما لبث اخلوار ُج أن قتلوا اإلمام عليا عليه السالم‪ .‬وما لبث اإلمام احلسن بن علي‬
‫أن تنازل عن قيادة جيش املسلمني ليص ُفو اجلو لعصبية بين أمية‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ومن دهاء معاوية بن أيب سفيان أنه استعمل ثالثة من دهاة العرب يف توطيد‬
‫عرف أبوه‬
‫حكمه‪ :‬عمرو بن العاص‪ ،‬واملغرية بن شعبة‪ ،‬وزياد بن ُسَيّة الذي ال يُ ُ‬
‫عرف زورا بزياد بن أيب سفيان‪.‬‬ ‫فاستلحقه بنسبه‪ ،‬فصار يُ َ‬
‫زياد‪ ،‬قبل احلجاج‪ ،‬كان مثاال للطاغية الفتاك‪ .‬خطب على املنرب فحصبَه‬
‫ب علي‬ ‫بس ِّ‬
‫الناس‪ ،‬فأغلق املسجد وقطع أيدي املصلني‪ .‬خرج األمر من عند معاوية َ‬
‫سب أطْ َه ِر الناس من على منرب‬
‫عليه السالم‪ ،‬فكان املسلمون وآل البيت يسمعون َّ‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وكان زياد من الذين يكثرون السب‪ .‬فيقوم أحد‬
‫ي فيـَُرُّد عليه‪ .‬بعث زياد حبُجر وباثين عشر من أصحابه‬‫بن َع ِد ٍّ‬
‫خيار الصحابة ُح ْجٌر ُ‬
‫إىل معاوية‪ ،‬فقتل معاوية حجرا وسبعة من أصحابه شر قتلة‪ ،‬أما الثامن فرده إىل‬
‫زياد فدفنه حيا‪.‬‬
‫حدث‬‫ال تكاد ُتصي جرائم بين أمية‪ ،‬لكن قيام اخلَِّي ُحجر رضي اهلل عنه َ‬
‫ُمهم فتح يف تاريخ املسلمني سجال طويال من مقاومة العلماء لسالطني اجلور‪.‬‬
‫ولوقاحة سب اإلمام علي على املنابر مدة ستني سنة قبل أن يـُْب ِط َل هذه‬
‫األثر البالِ ُغ الدائم ِّ‬
‫املرتد ُد صداهُ‬ ‫بن عبد العزيز ُ‬‫الرجل الصاحل عمر ُ‬
‫ُ‬ ‫البدعة الشنيعة‬
‫يف ضمري أجيال املسلمني‪ ،‬خاصة منهم الشيعة‪ .‬ومن ذا الذي ال يقوم مع حجر‬
‫وأصحابه ضد البغي السافر؟‬
‫مث كانت قومة اإلمام احلسني عليه السالم‪ ،‬وانتفاضة القراء العلماء باملدينة‪،‬‬
‫وثورة عبد اهلل بن الزبري مبكة‪ ،‬وفتك يزيد الفاجر باملسلمني‪.‬‬
‫بعد بين أمية توالت ِمنةُ آل البيت من العلويني‪ .‬فقام اإلمام زي ٌد بن اإلمام علي‬
‫زين العابدين بن اإلمام احلسني رضي اهلل عنهم ضد هشام بن عبد امللك األموي‪،‬‬
‫وتضامن معه اإلمام أبو حنيفة الذي كان يقول كلمة احلق وينتقد احلكم‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫آخر من آل البيت‪ ،‬من ذرية اإلمام احلسن عليه‬
‫وخرج أبو حنيفة مع قائم َ‬
‫السالم‪ ،‬هو حممد بن عبد اهلل «النفس الزكية»‪ ،‬وآزره باملال يف حربه للمنصور‬
‫أمر‬
‫العباسي‪ .‬وكان أبو حنيفة يرى أن الثورة على ملوك العض من أمويني وعباسيني ٌ‬
‫جائز شرعا‪ ،‬بل مشروع واجب‪.‬‬
‫ٌ‬
‫خروج رسول اهلل صلى اهلل‬
‫خروجه َ‬‫قال أبو حنيفة عن قومة اإلمام زيد‪« :‬ضاهى ُ‬
‫يوم بد ٍر»‪ .‬يف آخر املطاف َعَر َ‬
‫ض املنصور على أيب حنيفة القضاء فأىب إباءً‬ ‫عليه وسلم َ‬
‫‪1‬‬
‫يعم َل للظَّلَ َم ِة عمال‪« .‬فلما أىب دسوا عليه السم فقتلوه»‪.‬‬
‫شديدا لكيال َ‬
‫ويروى أن اإلمام مالكاً أفىت جبواز اخلروج مع حممد «النفس الزكية»‪ ،‬فقيل‬
‫له‪َّ :‬‬
‫إن يف أعناقنا بيعة للمنصور‪ .‬فقال‪ :‬إمنا كنتم ُمكرهني‪ ،‬وليس ملكره بيعة»‪.‬‬
‫وقد ُسئل مالك عن اخلارجني على احلكام‪ :‬أجيوز قتاهلم؟ قال‪ :‬نـََع ْم إن خرجوا‬
‫على مثل عمر بن عبد العزيز‪ .‬قالوا‪ :‬فإن مل يكونوا مثله؟ قال‪ :‬دعهم ينتقم اهلل لظامل‬
‫من ظامل‪ ،‬مث ينتقم من كليهما‪.‬‬
‫وكان مالك رمحه اهلل يكثر من رواية حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫مستكره طالق»‪ .‬فكان بنو العباس يكرهون ذلك ويرونه تلوحيا يُبطل‬ ‫َ‬ ‫«ليس على‬
‫بيعتهم‪ ،‬ألهنم كانوا ُيَلِّفون الناس بطالق أزواجهم إن هم مل يفوا بالبيعة اإلكراهية‪.‬‬
‫وهنَْوا اإلمام مالكاً عن التلويح وعن رواية ما يكرهون فامتنع‪ .‬فآل األمر إىل ضربه‬
‫حىت اخنلعت كتفاه‪ .‬رمحه اهلل‪.‬‬

‫‪ 1‬أنقل عن كتاب «أبو حنيفة» أليب زهرة رمحه اهلل‪ ،‬ص‪ 37‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الوالءُ حملمد النفس الزكية وإلبراهيم وحيىي القائمني‬
‫حب آل البيت و َ‬
‫وكا َن ُّ‬
‫الوالءَ‬
‫كن َ‬‫بعده دخيلةَ مالك‪ .‬وكان الشافعي رضي اهلل عنه عل ِويّاً يف صميمه‪ ،‬يُ ُّ‬
‫َ‬
‫للقائمني ضد تسلط بين العباس‪.‬‬
‫الناس عليه واهتموه بأنه رافضي‪:‬‬
‫القائل لَ َّما أكثَر ُ‬
‫وهو ُ‬
‫حب آل حممد فليشهد الثقالن أينَ رافضي‬
‫إن كان رفضا ُّ‬
‫ذهب الشافعي إىل اليمن فاستوطنه زمانا‪ .‬فكان لسا َن احلق ال يسكت عن‬
‫باطل يراه من أفعال وايل هرون الرشيد‪ .‬فكتب الوايل إىل «اخلليفة العباسي» يقول‪:‬‬
‫«إن تسعةً من العلويني حتركوا‪ .‬وإين أخاف أن خيرجوا‪ .‬وإ ّن ها هنا رجال من ولَ ِد‬
‫أمر ِل معه وال هني‪ .‬يعمل بلسانه‬ ‫شافع [يعين اإلمام الشافعي رمحه اهلل] املطليب‪ ،‬ال َ‬
‫ما ال يقدر عليه القاتل بسيفه»‪.‬‬
‫وسيق اإلمام مع التسعة األشراف إىل البالط يف بغداد‪ .‬ف ُقتل التسعة‪ ،‬وجنا‬
‫اإلمام حبسن بيانه‪ ،‬مث بتدخل قاضي القضاة حممد بن احلسن الذي كان يعرف‬
‫وسعة علمه وفضله‪.‬‬
‫جاللة قدر اإلمام َ‬
‫هذه نبدة سريعة خاطفة عن انقالب الدولة والسلطان على أهل القرآن‪ .‬كان‬
‫يف علماء املسلمني‪ ،‬ويف آل البيت بالذات‪ ،‬إباية على الظلم عربت عن نفسها‬
‫باخلروج املسلح وبالفتوى الفقهية‪ .‬فكان القمع الوحشي هو اجلواب ال ُـمكرر الذي‬
‫تبع لعلمائهم‪ .‬وطال عهد القمع‬ ‫ردع يف علماء املسلمني كلمةَ احلق لقرون‪ .‬والناس ٌ‬
‫املستمر حىت أصبح ما كان ُمنكرا بيِّنا مكروها مرفوضا أمرا واقعا ثقيال موطد األركان‪.‬‬
‫أصبح النـزو على السلطان واغتصابه واستعباد الدعوة ِ‬
‫ورجالا أصال ُمقررا‪.‬‬ ‫ّْ‬

‫‪90‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وجتد كتبا ألِّفت تستصوب ما فعله الداهية‪ ،‬الصحايب احملرتم حلرمة الصحبة ال‬
‫بعد‪ .‬تستصوب توليته البنه يزيد وتوريثَه إياه «اخلالفة» وكأن‬
‫غري‪ ،‬الباغي املعتدي ُ‬
‫َ‬
‫األمة بضاعة يرثها اخللَف عن السلَف!‬
‫األول لتحريف نظام احلكم يف اإلسالم وحتويله إىل‬‫النموذج َ‬
‫َ‬ ‫كانت بيعة يزيد‬
‫كسروية‪ .‬وقد تريث معاوية واستشار دهاته ودبر أمره بإحكام‪ .‬وأخذ البيعة البنه‬
‫يزيد يف العراق والشام وأطراف البالد‪ ،‬حىت مل يبق له إال ُكرباء مكة واملدينة‪ ،‬وفيهما‬
‫كان بقية الصحابة وأبناء املهاجرين واألنصار‪.‬‬
‫فتوجه بنفسه إىل احلجاز‪ ،‬واستدعى إليه األربعةَ احملرتمني من علماء األمة‬
‫املسموعي الكلمة‪ :‬احلسني بن علي‪ ،‬وعبد اهلل بن الزبري‪ ،‬وعبد اهلل بن عمر‪ ،‬وعبد‬
‫الرمحن بن أيب بكر‪ .‬لقيهم خارج املدينة وأغلظ هلم القول‪ .‬وتلك أساليب حيسنها‬
‫امللوك الغاصبون لتخويف ذوي الرأي وإرهاهبم‪.‬‬
‫مث استدعاهم خارج مكة وأالن هلم القول وأحسن معاملتهم‪ .‬مث خاطبهم‬
‫فُرادى والطفهم ليبايعوا يزيدا‪ .‬قال له عبد اهلل بن الزبري‪« :‬خنريك بني ثالث خصال‪:‬‬
‫تصنع ما صنع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذ مل يستخلف أحدا‪ ،‬فارتضى الناس‬
‫أبا بكر‪ .‬أو تصنع كما صنع أبو بكر‪ ،‬فإنه ع ِهد إىل رجل من قاصية قريش‪ ،‬ليس من‬
‫بين أبيه‪ ،‬فاستخلفه‪ .‬أو تصنع كما صنع عمر‪ ،‬جعل األمر شورى يف ستة نفر‪ ،‬ليس‬
‫فيهم أحد من ولده وال من بين أبيه»‪ .‬مث سأل اآلخرين فقالوا‪ :‬قولنا قول عبد اهلل‪.‬‬
‫عندئذ نطق امللك نطقه الكسروي فقال مهددا ُمزبدا ُمرعداً‪« :‬فإين قد أحببت‬
‫أن أتقدم إليكم‪ :‬إنه قد أعذر من أنذر! إين كنت أخطب فيكم فيقوم إيل القائم‬
‫منكم فيكذبين على رؤوس الناس‪ ،‬فأمحل ذلك وأصفح‪ .‬وإين قائم مبقالة‪ :‬فأقسم‬

‫‪91‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫باهلل لئن رد علي أحدكم كلمة يف مقامي هذا ال ترجع إليه كلمة غريها حىت يسبقها‬
‫ي رجل إال على نفسه!»‬ ‫السيف إىل رأسه! فال يـُْب ِق َ َّ‬
‫ئيس حرسه فقال له‪« :‬أقِم على رأس كل رجل من هؤالء رجلني‪،‬‬
‫مث نادى ر َ‬
‫علي كلمةً بتصديق أو‬
‫ومع كل واحد منهما سيف‪ .‬فإن ذهب رجل منهم يرد َّ‬
‫تكذيب فليضرباه بسيفهما»‪.‬‬
‫مث دخل املسجد وأدخل األربعة ال ُكرباء أمام الناس‪ ،‬وصعِد املنرب فقال‪:‬‬
‫وخيارهم‪ ،‬ال يُ َبت أمر دوهنم‪ ،‬وال يُقضى إال عن‬
‫الره َط سادةُ املسلمني ُ‬‫«إن هؤالء ْ‬
‫‪1‬‬
‫ضوا وبايعوا ليزيد‪ .‬فبايِعوا على اسم اهلل»‪.‬‬
‫مشورهتم‪ .‬وإهنم قد َر ُ‬
‫فلما رأى الناس سادة املسلمني سكوتا قاموا فبايعوا‪ .‬مل يعلم املسلمون أن أويل‬
‫السيف على رؤوسهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ور ِصد‬
‫تعاورهم الرتهيب والرتغيب‪ُ ،‬‬
‫الرأي واحلرمة فيهم قد َ‬
‫هكذا متت أول بيعة نقلت احلكم من اخلالفة إىل امللك‪ ،‬ومن الشورى‬
‫واالختيار إىل القسر واإلرغام‪ ،‬ومن تعامل الصادقني بصدقهم إىل حتايل الدهاة‬
‫وحتاملهم‪ .‬دارت رحا اإلسالم دورهتا ليختفي أهل العلم والتقوى ألزمنة طويلة ال‬
‫تزال ممتدة حتت ستار التقية عند الشيعة وحتت االستنكار املكبوت عند سواد األمة‬
‫ومجهورها من أهل السنة واجلماعة‪ .‬واهلل غالب على أمره‪.‬‬

‫‪ 1‬الكامل البن األثري كما نقله املودودي رمحه اهلل من كتابه املذكور ص‪.97‬‬

‫‪92‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫فتوى االستيالء و«عجز الطالب»‬


‫استنكار مكبوت للحكم املتسلط؟ أم رضوخ لألمر الواقع ملا عجز الطالبون‬
‫عن زحزحة امللكية العاضة عن مواقعها؟ بل آل األمر إىل إضفاء املشروعية على ما‬
‫كان وال يزال يف ميزان احلق باطال!‬
‫سطت السيوف األموية تسعني عاما حىت أزاحتها عن سد احلكم السيوف‬
‫اجليوش العربيةَ الفارسيةَ اليت خدمت‬
‫َ‬ ‫اخلراسانية اليت مكنت لدولة بين العباس‪ .‬مث تال‬
‫جيوش الرتك مث أصناف األقوام من ديلم‬
‫ُ‬ ‫«اخللفاء» العباسيني مدى قرن من الزمان‬
‫جمرَد رمز ال أمر له وال هني»‪.‬‬
‫وسالجقة كان «اخلليفة معهم ّ‬
‫وهكذا حكم «األمراء املستولون» من بين بويه وبين سلجوق‪ ،‬ومن شاهات‬
‫وأتابكة‪ ،‬إىل أن هجم التتار وخربوا بغداد‪ .‬مث حكم املسلمني أصنـاف من املتغلبني‬
‫الوراثيني من سالطني وملوك عرب ومماليك عجم‪ ،‬إىل أن ظهر بنو عثمان األتراك‪،‬‬
‫االستعمار األمة لتدور هبا رحا اإلسالم يف جولة احلكم اجلربي الذي‬
‫ُ‬ ‫إىل أن صدم‬
‫نعيشه‪.‬‬
‫كل ذلك والعلماء الدعاة استكانوا طوعا وكرها إىل تساكن مع احلكم العاض‬
‫واجلربي‪ .‬انفتحت للدعاة العلماء واجهةٌ ملقـاومة عدو متسلل إىل العقول والعقيدة‬
‫انربْوا لتعليم األمة ودفع التيارات‬
‫فتفرغوا جلمع احلديث وتفريع الفقه وتأصيله‪ ،‬و َ‬
‫الفلسفية اإلحلادية املنحرفة تاركني ِل َملَ ِة السيف مهمة قتال العدو اخلارجي‪ ،‬ومهمة‬
‫إطفاء نار الفنت اليت ما فتئ يؤججها يف أحناء اململكة املسلمة املتواسعة طوائف البغاة‬
‫وخّرمية وغري ذلك‪.‬‬
‫أهل األهواء من خوارج وزط وزنج ومزدكية زنادقة ُ‬ ‫و ُ‬

‫‪93‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫شعار «ال حكم إال هلل» أخذ املسلمون‬
‫منذ رفع اخلوارج بعد معركة صفني َ‬
‫الطارئون على األمة من الشعوب العجمية يطرحون أسئلة ميليها ما حيملونه من‬
‫رواسب الفلسفة والديانة والثقافة اليت نشأوا عليها قبل إسالمهم‪ .‬وتفاعل العامل‬
‫السياسي مع العامل الفكري الع َقدي فنشأت مذاهب شىت هي ص ْدعٌ يف معىن‬
‫اإلسالم وفهمه كما كان الصدع يف احلكم وفرقة السلطان عن القرآن تشتيتا جلسم‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫وكان ال بد لعلماء املسلمني من الذب عن حوزة الدين باحلجة والربهان تاركني‬
‫للحكام شؤون السيف والسنان‪.‬‬
‫من موقف أئمة الفقه الذين قرأنا يف الفقرة األخرية كيف كانوا متحفزين‬
‫إلصالح احلكم تطور األمر إىل ٍ‬
‫موقف ألتباع مذاهبهم بَىن على قاعدة األمر الواقع‪،‬‬
‫معرتفني مبا هو قائم‪ ،‬شاعرين حبدود قدراهتم‪.‬‬
‫وما انتهى القرن الرابع حىت كانت قضية االعرتاف حبكم السيف الغالب‬
‫املاوردي الفقيه الشافعي‬
‫ُّ‬ ‫حميد عنها‪ ،‬يـَُعرفها‬
‫مسألة فقهية مفروغا منها‪ ،‬وضرورة ال َ‬
‫فيقول‪« :‬وأما إمارة االستيالء اليت تُعقد عن اضطرار‪ ،‬فهي أن يستويل األمري بالقوة‬
‫‪1‬‬ ‫على بالد يقلده اخلليفة إمارهتا [‪ ]...‬لوقوع الفرق بني الـم ِ‬
‫كنة والعجز»‪.‬‬ ‫ُ‬
‫يعين هذا أن األمري املستويل بالقوة (واملستويل املستبد على «اخلليفة» يف زمان‬
‫مناص‬
‫املاوردي هم بنو بويه) ليس يف إمكان السلطان «الشرعي» أن ينحيه عن مواقعه‪ ،‬فال َ‬
‫من إعطائه «تقليدا» مبقتضاه ُتفظ ملنصب اإلمامة حرمته‪ ،‬ويتم «ظهور الطاعة الدينية‬

‫‪« 1‬األحكام السلطانية» ص‪.35‬‬

‫‪94‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫اليت يزول معها حكم العناد فيه‪ ،‬وينتفي هبا إمث املباينة له»‪ .‬قال‪« :‬لوقوع الفرق بني ال ُـمكنة‬
‫والعجز»‪.‬‬
‫جند حتت كلمة «العجز» عندما يكتبها‬ ‫بعد املاوردي رمحه اهلل بثالثة قرون ُ‬
‫علماؤنا نفس احلسرة املكبوتة ونفس الرضوخ «لوقوع الفرق بني املمكن والواجب»‪.‬‬
‫يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل‪« :‬وأولو األمر صنفان‪ :‬األمراء والعلماء‪ .‬وهم‬
‫الذين إذا صلُحوا صلح الناس‪ .‬فعلى كل منهما أن يتحرى ما يقوله ويفعله طاعة هلل‬
‫ورسوله واتباع كتاب اهلل‪ .‬ومىت أمكن يف احلوادث املشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب‬
‫والسنة كان هو الواجب‪ .‬وإن مل ميكن ذلك لضيق الوقت أو عجز الطالب [‪]...‬‬
‫فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه [‪ .]...‬وكذلك ما يشرك يف القضاة والوالة من‬
‫‪1‬‬
‫الشروط جيب فعله حبسب اإلمكان»‪.‬‬
‫ُمكنة انعدمت‪ ،‬وطالب عجز‪ ،‬وتاريخ السيف «لوقوع الفرق بني املكنة‬
‫والعجز»‪.‬‬
‫قال رمحه اهلل‪« :‬ومن كان عاجزا عن إقامة الدين بالسلطان واجلهاد ففعل ما‬
‫يقدر عليه من النصيحة بقلبه والدعاء لألمة وحمبة اخلري وفعل ما يقدر عليه من اخلري‬
‫‪2‬‬
‫مل يُكلف ما يعجز عنه»‪.‬‬
‫يدرك حتت كلمات «املكنة» و«العجز» و«القدرة»‬‫من يقرأ ما بني السطور ْ‬
‫لكن أوقفهم عنه واقع‬ ‫ِ‬
‫علماؤنا عنه‪ْ ،‬‬
‫و«حسب اإلمكان» طلباً دائما للحق مل يستق ْل ُ‬
‫حكم عاض له عصبية هبا يقوى وليس مع العلماء قوة منظمة‪.‬‬

‫‪ 1‬السياسة الشرعية ص‪.159‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص‪.167‬‬

‫‪95‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫غ ِ‬
‫الكام َل لواجهة محاية العقيدة والدفاع عنها عند أتباع اإلمام أمحد‬ ‫وجند التفر َ‬
‫بن حنبل رمحه اهلل‪ .‬وما ابن تيمية إال النموذج الكامل للحنبلي املشتبك مع البِدع‬
‫واألهواء بال هوادة‪ .‬ختَلى ظاهرا عن خماصمة السلطان ليتأتى له حتت ظل شوكة‬
‫اجلهاد حلماية العقيدة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫حامية‬
‫يصطف اإلمام أمحد رمحه اهلل مع القائمني على السلطان كما فعل أبو‬
‫َّ‬ ‫مل‬
‫حنيفة ومالك والشافعي‪ .‬لكنه تصدى وحده لبدعة جارفة قاتلة واجه فيها السلطا َن‬
‫وسجن يف الظالم وعليه أربع قيود‪ ،‬وجلَده املعتصم العباسي‪،‬‬
‫وكابد وعاىن األذى‪ُ .‬‬
‫وطرحه على ظهره ورفسوه‪ ،‬وعلقوه على خشبتني حىت ختلعت يده‪ .‬رمحه اهلل ورضي‬
‫عنه‪.‬‬
‫من فرق أهل األهواء الذين ظهروا بعد اخلوارج ال ُـمرجئة املرتبصون الذين َل‬
‫يصوبوا رأي الشيعة وال رأي اخلوارج‪ ،‬ومنهم اجلهمية واجملسمة‪ ،‬ومنهم الزنادقة‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫وتصدى املعتزلة حملاجة هذه الطوائف مجيعا بكفاءة وحسن نية‪ .‬لكن املعتزلة ما‬
‫لبثوا أن انزلقوا مع التيار اخلِصامي‪ ،‬فرجع عليهم السالح العقالين الذي استعملوه‪،‬‬
‫وتكلموا يف العقائد كالما ما عرفه السلف الصاحل وال ارتضاه أهل احلديث من‬
‫معاصريهم‪ .‬واحتدم صراع شديد بني املعتزلة والفقهاء واحملدثني‪ ،‬خاصة يف قضييت‬
‫رؤية اهلل تعاىل يف اآلخرة ينفوهنا خمالََفةً للنص الصريح‪ ،‬والقرآ ُن يقولون مبخلوقيته‬
‫بدعةً ابتدعوها‪.‬‬
‫كان اإلمام أمحد رضي اهلل عنه باملرصاد‪ ،‬رد عليهم َرّداً قويا‪ ،‬فاستظهروا عليه‬
‫باملأمون العباسي وكان من «أصحاهبم»‪ ،‬فآذى اإلمام وأوصى ويل عهده املعتصم به‬
‫فآذاه من بعده‪ ،‬وأوصى املعتصم الواثق‪ .‬واستمرت اإلذايـة على اإلمام الصامد رمحه‬
‫اهلل مثانية وعشرين شهرا‪.‬‬
‫كتب املأمون إىل عامله على بغداد إسحاق بن إبراهيم آمرا‪« :‬فإن أمري املؤمنني‬
‫يرى أن تستتيب من قال مبقالته (مقالة اإلمام أمحد أن القرآن كالم اهلل غري خملوق)‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫احملض عند أمري املؤمنني‪ .‬فإن تاب منها‬
‫الشرك َ‬ ‫اح و َ‬ ‫الصـر َ‬
‫الكفر ُّ‬
‫إذ كانت تلك املقالةُ َ‬
‫ِ‬
‫أصر على شركه ودفَع أن يكون القرآن خملوقا بكفره‬‫أمره وأمسك عنه‪ .‬وإن َّ‬ ‫فأَ ْشه ْر َ‬
‫‪1‬‬
‫وإحلاده فاضرب عنقه بالسيف وابعث إىل أمري املؤمنني برأسه»‪.‬‬
‫وكذلك فعل العامل‪ ،‬فامتحن كبار علماء املسلمني‪ .‬ومـات يف قبضتـه حممد‬
‫بن نوح‪ ،‬وتفلت آخرون بكلمات تأويل‪ ،‬وحصل األذى الشديد البن حنبل رمحه‬
‫اهلل ورضي عنه‪ .‬خاصة على يد املعتصم الذي كان يأمر اجلالدين بالضرب قائال‪:‬‬
‫«ش َّد قطع اهلل يدك!»‬
‫ُ‬
‫مالمح ملك طاغية يف شخص املعتصم‪ .‬قال عنه ابن السبكي رمحه‬ ‫َ‬ ‫نتأمل‬
‫اهلل‪« :‬قال املؤرخون‪ :‬ومع كونه كان ال يدري شيئا من العلم محل الناس على القول‬
‫خبلق القرآن‪ ]...[ .‬ولوال اجتماع فقهاء السوء على املعتصم لنجاه اهلل مما َفر َط منه‪.‬‬
‫ألروه احلق أبـْلَ َج واضحا‪ ،‬وال يـُْغروه على‬
‫ولو أن الذين عنده من الفقهاء على احلق ْ‬
‫ين على هذا‪ .‬وهبذا تظهر حكمة‬ ‫ضرب مثل اإلمام أمحد‪ .‬ولكن ما احليلة والزمان بُ َ‬
‫‪2‬‬
‫اهلل يف خلقه»‪.‬‬
‫عند فقيهنا العالمة ابن السبكي يف القرن الثامن جند املساندة التامة للحاكم ألن‬
‫«الزمان بُين على هذا»‪ .‬إنه الواقِع الذي يلتمس الفقيه اجلهبَ ُذ له تفسريا بوجود «فقهاء‬
‫لتسلَ َم ُس َعةُ من مساه‬
‫السوء» حول البالط‪ .‬ذلك لتبقى صفحة احلاكم املسلم ناصعة‪ ،‬و ْ‬
‫املسلمون «أمري املؤمنني» يرونه حصنَهم املكني‪.‬‬
‫إمام فحل‪ ،‬جبل السنة شيخ احملدثني‪.‬‬
‫ملك «ال يدري شيئا من العلم» و ٌ‬‫وجها لوجه ٌ‬
‫أبلغ من هذا بني دولة سلطوية ودعوة قرآنية سنية! أين تلك الوحدة اليت تشخصت‬
‫تعارض ُ‬
‫أي ُ‬
‫ُّ‬
‫‪ 1‬تاريخ الطربي ج‪ 2‬ص‪.1125‬‬
‫‪ 2‬طبقات الشافعية ج‪ 1‬ص‪.219‬‬

‫‪97‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يف النبوة واخلالفة الراشدة حيث كان الداعي القرآين هو اآلمر الناهي املمسك‬
‫بالسلطان خدمة للقرآن؟‬
‫لكنه املعتصم الذي تستغيث به امرأةٌ مسلمة «وا معتصماه!» كما تقول القصة‪،‬‬
‫فيليب النداء‪ ،‬ويزحف على الروم‪ ،‬وحيقق انتصار عمورية الذي خلد الشاعر ذكره‪.‬‬
‫ت‪ ،‬سيف السلطان املستويل‪ ،‬يستكني العلماء‬ ‫وحفاظا على السيف الـمصلَ ِ‬
‫ُ ْ‬
‫القدر‪ ،‬ويراوحون اخلُطى بني «ال ُـمكنة» و«عجز الطالب»‪.‬‬
‫الدعاة جلريان َ‬
‫وحفاظا على وحدة األمة بني االضطرابات الداخلية والتهديد اخلارجي يُصدر‬
‫اإلمام أمحد فتواه بلزوم اجلماعة إذ يقول‪« :‬من غلب عليهم بالسيف حىت صار‬
‫وسِّ َي أمري املؤمنني‪ ،‬فال ِحيل ألحد يؤمن باهلل واليوم اآلخر أن يَبيت وال يراه‬
‫خليفة ُ‬
‫‪1‬‬
‫إماما‪ ،‬بـَّراً كان أو فاجرا»‪.‬‬
‫أكان علماؤنا مجيعا من «فقهاء السوء» علماء القصور إذ يُفتون بصحة إمامة‬
‫املستويل وحيثون على الطاعة للغالب بالسيف بَرا كان أو فاجرا؟ حاشا وكال! ولكنهم‬
‫عاشوا أزمنة َل يكن اخليار فيها بني حكم فاضل وآخر مفضول «لعجز الطالب»‪،‬‬
‫نسيب وسط الزعازع وبني فوضى يُفلت فيها احلبل‬ ‫اخليار كان بني استقرار ٍّ‬ ‫لكن َ‬ ‫ّ‬
‫وينتقض ما بقي حمفوظا من أمر املسلمني‪.‬‬

‫‪ 1‬نقل عنه ذلك الفقيه القاضي أبو يعلى احلنبلي يف كتاب «األحكام السلطانية»‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫أهل العلم بني التقليد والتلبيس‬


‫يُ َش ِّكل أهل العلم الفقهاء يف بالد اإلسالم ذُخرا للمستقبل‪ ،‬نأمل أن ُيِ ّدوا‬
‫احلركة اإلسالمية الناشئة باألطر الالزمة‪ ،‬وأن ينعتقوا من أسباب العجز اليت تعوقهم‬
‫عوقت أجياال منهم منذ اختصم السلطان والقرآن‪ .‬الَ شأ َن يُرجى لفقهاء‬ ‫اليوم كما ّ‬
‫القلَّ ِة‪ ،‬فهم ثـََفل ال خيلو منهم جيل‪ .‬لكن اجلح َف َل من حاملي الشهادات‬‫السوء ِ‬
‫املنض ِوين حتت لواء التقليد لفتوى صدرت منذ قرون‪ ،‬أو املشتغلني مبَعاش اليوم‬ ‫َ‬
‫املوظفني يف املؤسسة الدينية الرمسية منعتهم احلاجة عن االستقالل يف الفكر واحلركة‪-‬‬
‫وهم عند الفرصة إىل الصف‪.‬‬ ‫ينبغي أن يكونوا هدفا لرجال الدعوة العاملني ليستجلبُ ُ‬
‫ظر من الناس أن يكونوا سعيد بن ُجبري الذي واجه احلجاج بكلمة احلق‬ ‫الَ نـَْنتَ ْ‬
‫قاوم وحده تيارا يقوده «اخلليفـة»‪ ،‬وال ِعز الدين‬
‫فقتله‪ ،‬وال أمحد بن حنبل الذي َ‬
‫بن عبد السالم ذا املواقف اخلالدة يف قمع غرور املماليـك‪ .‬فتلك مثالية ال ينبغي أن‬
‫ترا ِوَدنا‪ .‬وأولئك رمحهم اهلل أفذاذ جيود اهلل عز وجل بأمثاهلم مىت شاء‪.‬‬

‫أهل العِلم والدين من رجال اإلسالم على اخلروج‬


‫إمنا الذي فيه مطمع هو أن نساعد َ‬
‫ِمن ِربقة التقليد الفكري لفتوى قرون خلت حىت تتغري لديهم النظرة الثبوتية اليت تتصور‬
‫اثي‪ .‬وأن نساعدهم على ختطي اجتهاد زيد وعمرو‬ ‫التاريخ امتدادا بال هناية للظلم الور ِّ‬
‫ممن سبقونا بإميان ليقلدوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الذي أخربنا أهنا ستكون بعده‬
‫اخلالفة ثالثني سنة مث تكون ملكا عاضا‪ .‬وأخربنا يف احلديث املنهاجي الذي جعلناه دليال‬

‫‪99‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫لنا وأوردنا نصه يف فاحتة هذا الكتاب أن بعد امللك العاض ملكاً جربياً تتلوه خالفة‬
‫على منهاج النبوة‪.‬‬
‫أمثال اإلمام حسني رضي اهلل عنهم أعلَم العلماء مل يقلدوا غري‬
‫كان الصحابة ُ‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فخرجوا على الظاملني‪ .‬وكان األئمة العظام أمثال زيد‬
‫بعد‬
‫بن علي وأيب حنيفة ومالك والشافعي يرون اخلروج على الظلمة واجبا‪ .‬فباقتدائنا َ‬
‫وعد اخلالفة الثانية‪ ،‬بالسنة العملية‬
‫ث يف أحضان الفتاوي الطارئة‪ ،‬ويف أفقنا ُ‬ ‫طول لُب ٍ‬
‫ِ‬
‫ْ‬
‫الدوران مع‬
‫النبوي‪ .‬وبذلك نكف عن َ‬ ‫ِّ‬ ‫لألئمة العظام نكون تالمذة مباشرين لألمر‬
‫قام وسط‬
‫ف إال من َ‬ ‫شر ُ‬
‫األحداث دوران البلداء لنتعرض ملوعود اهلل ورسوله الذي ال يُ ِّ‬
‫الفتنة اخلاملة من بني الرقود‪.‬‬
‫طاملا انتظر العلماء املقلدون للفتاوي‪ ،‬املتحرقون كمدا على ما يرون من منكر‪،‬‬
‫مثل عمر بن عبد العزيز أو صالح الدين أو ابن تاشفني‪ .‬ملوك عباقرة أصلح‬ ‫رجال َ‬
‫وديْدنه من العض‬ ‫اهلل عز وجل هبم حال األمة حينا‪ ،‬مث رجع ال ُـملك إىل نصابه َ‬
‫والظلم‪ .‬وكم من َملِك خال يف تاريخ املسلمني هو أقرب إىل اخلري والنجدة واملروءة‪.‬‬
‫النظام الذي أفرزهم وسجنهم يف منطقه نظام فاسد‪.‬‬
‫لكن َ‬
‫كان أبو هريرة رضي اهلل عنه يقول يف عهد معاوية‪ :‬اللهم إين أعوذ بك من‬
‫الستني ومن حكم الصبيان! كان معه ِع ْل ٌم من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫أفشاه‪ .‬ففي سنة ستني مات معاوية رمحه اهلل ودخل احللَبَة يزيد الغالم‪ ،‬من الغِلمة‬
‫الصبية الذين هالك األمة على يدهم‪ .‬وأعاذ اهلل أبا هريرة فمـات قبل ذلك‪.‬‬
‫طاملاكتب فقهاء املسلمني أدبيات يف «تدبري امللك» يُسدون النصح للملوك تَ َسلُّال‬
‫ومالطفة‪ ،‬مستدلني بسياسة أرسطو وبقصص ابن املقفع وآداب كسـرى أنوشروان‪ .‬ومن‬

‫‪100‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الفالسفة من كتب وصفا للمدينة الفاضلة كالفارايب‪ُ ،‬حلما أفالطونيا فيه النقد لألمر‬
‫الواقع من وراء ألف حجاب‪.‬‬
‫غد ُق يف عصرنا لتمشية إسالم أمريكي ال يألو جهدا يف عقد‬
‫إن أموال النفط تُ َ‬
‫املؤمترات وتدبيج املقاالت يف اجملالت امللونة الصقيلة‪ .‬ويف هذا جيد أهل العلم من‬
‫كل اجتاه ُمتنـََّفسا ملا يكابدون من آالم‪ ،‬وجيد سالطني العرب وسيلة لتأنيس كل‬
‫وهات ما عندك من نَقد غامض عام للمنكر ما دمت ال تسمي‬ ‫«طلب» وتعجيزه‪ِ .‬‬
‫أهل املنكر وسدنته وبؤرته‪ :‬احلكام العاضني اجلربيني!‬
‫َ‬
‫قرأنا يف الفقرة السابقة كيف التمس ابن السبكي رمحه اهلل العذر للمعتصم يف‬
‫التفاف فقهاء السوء حوله‪ .‬وكذلك يفعل كثري من أهل العلم‪ ،‬إما حكمة وارجتاءً‬
‫اصلَ ٍة‪ ،‬وإما عاميَّةً وتبلدا‪ُ .‬يَ ِّملون «احلاشية الفاسدة» أوزارا ليس حيملها‬
‫ملوعظة و ِ‬
‫جرحه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وشهدت عليه قرون‬ ‫الفاسد الذي َّ‬
‫ُ‬ ‫إال النظام‬
‫من البغي‪.‬‬
‫تقدم الشيخ الفقيه احلنبلي احملدث الورع الواعظ العالمة عبد الرمحن ابن‬
‫اجلوزي رمحه اهلل بنقد لتلبيس إبليس على الوالة والسالطني مل يتعرض فيه ألصل‬
‫البالء‪ .‬وإمنا حام حول األفعال والعقائد والنتائج‪ .‬مل يذكر مثال ما كان ويكون يف‬
‫قصور السالطني من ترف خمز‪ ،‬ومن جمالس للشراب‪ ،‬ومن حتكم اجلواري يف تصريف‬
‫الدولة‪ ،‬ومن مؤامرات بالطية‪.‬‬
‫وحصر رمحه اهلل «تلبيسات إبليس» يف سبعة مآخ َذ عدها «أمهات»‪ .‬ومل‬
‫يكن يف احلقيقة وال يكون من أم لويالت املسلمني إال أم واحدة‪ :‬هي فتنة كل حكم‬
‫ال يكون شورى بني املسلمني‪ .‬ونقد احلكم املتسلط من أساسه هو النقد ال غري‪،‬‬
‫ورجُه جبريرته هو الكالم ال اللف والدوران‪.‬‬
‫ْ‬

‫‪101‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ذكر ابن اجلوزي رمحه اهلل من «أمهات» الفساد اغرتار السالطني وظنهم أن‬
‫اهلل تعاىل أحبهم ملا والهم امللك‪ .‬وذكر تكربهم عن جمالسة العلماء وترفعهم عن‬
‫طلب العلم‪ .‬وهذه مصارحة فريدة من عامل واعظ كان له جملس أسبوعي داخل‬
‫القصر حيضره أهل القصر‪ .‬وهي نفثة رجل ُحر لفقوا عليه وقد جتاوز الثمانني هتمة‬
‫فحبسوه يف بيت مخس سنوات خيدم نفسه بنفسه‪ ،‬وميتاح ماء وضوئه من البئر بيده‪.‬‬
‫عمر حافل بالتأليف والوعظ‪.‬‬
‫ذلك بعد ْ‬
‫وذكر رمحه اهلل تشديدهم احلجاب عن الناس وتوانيَهم يف مساع املتظلمني‬
‫وإنصافِهم‪ .‬وذكر استعماهلم ألمراءَ ليس هلم علم وال تقوى‪ .‬وذكر نبذهم لتعليم‬
‫الشرع وعملهم برأيهم فيقتلون من ال حيل قتله‪ .‬وذكر انبساطهم يف أموال املسلمني‪.‬‬
‫وختم بتعاطيهم للمعاصي واملوبقات‪ .‬رمحه اهلل وغفر لنا وله‪.‬‬
‫اهتامهم مبا هم له أهل ال يغري من الواقع‬ ‫إن إحسان الظن باحلكام املتسلطني أو َ‬
‫َّسمة البَليلَ ِة‬
‫صيب لَ َكالن ْ‬
‫ِ‬
‫شيئا‪ .‬وإن إسداءَ النصح ملن بايعوه أو بايعوا جده وهو يف اخلَرق َ‬
‫هتب على اجلبل الصلد حتسب أهنا ُمْنبِتةٌ فيه جنات من خنيل وأعناب‪.‬‬
‫امللوك صاحلون‪ ،‬وقد كانوا‪ ،‬فإن يف الصفة واملوصوف تناقضا‬ ‫وإن كان من ِ‬

‫ال تغسله االنتقادات وال الوصايا وال أدبيات «تدبري امللك»‪ .‬احلكام ال ِوراثيون أبناءُ‬
‫يش ُّذ الواحد منهم فينجيه اهلل العزيز‬
‫الدنيا‪ ،‬هلم منها اجلاه واملال والزينة واملتاع‪ .‬وقد ُ‬
‫يرث من الصالح إال كما يرث الفقري‬ ‫الوهاب من قبضتها‪ .‬لكن ِ‬
‫ب منه قد ال ُ‬ ‫العق َ‬
‫َ‬
‫من املعدم‪.‬‬
‫هذه وصية للملك الصاحل حممد الفاتح العثماين‪ ،‬فاتح القسطنطينية‪ ،‬البنه ووارثه‬
‫أورخان‪ .‬فهل جتاوزت الوصية املليئة حبسن النية مرتبة األماين‪ ،‬أم َه ْل أوصى امللك املائت‬

‫‪102‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أص َل البالء كله‪ :‬أن يكون السلطان حفيظا على القرآن وأهل‬
‫ابنه بغري ما كان ْ‬
‫القرآن‪ ،‬وصيا عليهم ال العكس؟‬
‫قال رمحه اهلل‪« :‬ها أنذا أموت‪ ،‬ولكين غريُ آسف ألين تارك خلَفاً مثلك‪ .‬كن‬
‫ابسط على الرعية محايتك بدون متييز‪ .‬واعمل‬
‫عادال صاحلا رحيما بالناس مجيعا‪ .‬و ُ‬
‫على نشر الدين اإلسالمي فإن هذه هي واجبات امللوك على األرض‪ .‬قدم االهتمام‬
‫تفت يف املواظبة عليه‪ .‬وال تستخدم األشخاص الذين‬
‫بأمر الدين على كل شيء‪ ،‬وال ُ‬
‫ال يهتمون بأمر الدين‪]...[ .‬‬
‫قال‪ :‬ومبا أن العلماء هم مبثابة القوة املبثوثة يف جسم الدولة‪ ،‬فاعطـف عليهم‬
‫أهل الشريعة عن بابك‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وشجعهم‪ .‬حذار! حذار! ال يغرنك املال واجلند‪ .‬وال تُبع ْد َ‬
‫وال متِ ْل إىل عمل خيالف أحكام الشريعة»‪.‬‬
‫مهانة «ال تُبعد أهل الشريعة عن بابك!» حجة دامغة على ما َييش بني‬
‫خدم مع اخلدم!‬
‫نفوس امللوك وألسنتهم يف حق أهل العلم‪ .‬مبجلون‪ ،‬لكن يف الباب‪َ ،‬‬
‫ومات الفاتح رمحه اهلل‪ ،‬فوثب االبن األكرب بايزيد على الوصي‪ ،‬ودامت احلرب‬
‫بني املتقاتلني على العرش سبع سنوات‪ .‬وانتصر بايزيد وأوصى بامللك من بعده البنه‬
‫األكرب أمحد‪ .‬لكن االبن األصغر سليم ثار يف وجه أبيه وأخيه‪ .‬وكان صراع مرير‪.‬‬
‫يُقال إن سليما دس السم ألبيه ليُنهي املأساة‪.‬‬
‫وكان قتل األبناء واإلخوة واآلباء أهو َن ما يكون يف سرايا امللوك‪ .‬ومن قرأ تاريخ‬
‫العباسيني والعثمانيني واملماليك وكل السالالت املالكة أدرك معىن العض يف التعبري‬
‫ش األمراء على امللك‪ ،‬وسفكهم لدماء بعضهم‪ ،‬وتآمرهم‬ ‫النبوي حني يستق ِرئ ُ‬
‫هتار َ‬
‫لذلك مع النساء واخلدم والعسكر‪ .‬وال غالب إال اهلل‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫«أكره أن أدنسهم بالدنيا»‬


‫سألت الكثريين من شباب الدعوة‪ ،‬بل من كهـوهلا وشيوخها‪ ،‬عن منتهى‬ ‫َ‬ ‫لو‬
‫بأمل بنائها‪،‬‬
‫البُغية وغاية الطلب ألجاب بديهة أنه إقامة دولة اإلسالم‪ ،‬ممتلئةً جواحنُه َ‬
‫خالصةً نيتُه يف خدمتها‪.‬‬
‫ي وشغَال‬ ‫وقد جتد أن ذلك األمل وتلك النيةَ َغ َّما املطلب اإلمياينَّ ِ‬
‫الفرد َّ‬ ‫َ‬
‫وج َهتَه‪ .‬وقد تبحث عن التطلع اإلحساينِّ َلدى الكثريين فال ترى له أثراً‪.‬‬ ‫ْ‬
‫احلكم وممارستَه‬ ‫واخلطر املرتبص بكل زاحف على قلعة الدنيا وز ِ‬
‫بدتـا‪ ،‬أعين‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اإلحساين‬
‫ِّ‬ ‫التطلع‬ ‫انسحاق‬
‫ُ‬ ‫و‬ ‫الفردي‬
‫ِّ‬ ‫اإلميان‬ ‫امنحاق‬
‫ُ‬ ‫هو‬ ‫وفيه‪،‬‬ ‫عليه‬ ‫ِ‬
‫الناس‬ ‫ومصارعةَ‬
‫إن ُوِج َد ابتداءً‪ .‬ومن َثَّ ذوبا ُن الدعوة يف الدولة‪ ،‬وانتِها ُكها‪ ،‬وتسرهبا يف مسارهبا كما‬
‫تتسرب قطرات ِ‬
‫املاء يف الرمال العطشى‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وذلك ما حذر منه رسول اهلل صلى هلل عليه وسلم يف قوله ألصحـابه ولنا‪:‬‬
‫ط الدنيا عليكم كما‬ ‫بس َ‬
‫«فواهلل ما ال َف ْق َر أخشى عليكم‪ ،‬ولكني أخشى أن تُ َ‬
‫طت على منكان قبلَكم فتَنافسوهاكما تنافسوها‪ ،‬وتهلككمكما أهلكتهم»‪.‬‬ ‫بُ ِس ْ‬
‫احلديث عند البخاري ومسلم روياه عن املسـور بن خمرمة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫ولئن كا َن يف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم امللجأُ من الدنيا وإهالكها‪ُ ،‬‬
‫حتضن‬
‫صحبتُه املؤمنني أ ْن تغتا َلم زينَتُها وهم بني يديه يتعهدهم ويذوذ عنهم وهو حي يُرزق‪،‬‬
‫عرض‬ ‫توسع رقعة ِ‬
‫البالد اإلسالمية وانبسا َط الدنيا من بعده َّ‬ ‫غياب جسده الشريف مث ُّ َ‬ ‫فإن َ‬
‫الصحابة لفتنة الدنيا ِ‬
‫الفاغرِة فاها لالبتالع‪ .‬فماكان من اخلليفتني الراشدين أيب بكر وعمر‬
‫خيار الصحابة ضنّاً هبم أن تلوثهم الدنيا‪.‬‬
‫ض ّما إليهما َ‬
‫رضي اهلل عنهما إال أن َ‬
‫‪104‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫عساكر َّ‬
‫أن أبا بكر رضي اهلل عنه قيل له‪ :‬يا خليفةَ رسول‬ ‫َ‬ ‫أخرج أبو نعيم وابن‬
‫(أي أعرف فضلهم)‪ ،‬ولكين أكره‬ ‫أهل بدر! قال‪ :‬إين َأرى مكاهنم ْ‬
‫اهلل! أال تستعمل َ‬
‫أن َأدنّسهم بالدنيا‪.‬‬
‫عمر الفاروق رضي اهلل عنه يستعمل يف شؤون الدولة ذوي الكفاءات‬ ‫وكان ُ‬
‫مستب ِقياً إىل جانبه يف املدينة أهل السابقة من‬
‫العملية على ما معهم من إميان ْ‬
‫املهاجرين واألنصار‪ .‬ال رخصة ألحد أن يربح املدينة‪ .‬وقد فسر املؤرخون فعلَه ذلك‬
‫اكز‬
‫الو َجهاء من االنتشار يف األرض خمافة أن تتعدد «مر ُ‬‫نع ُ‬ ‫بأنه سياسةٌ هدفُها َم ُ‬
‫س السلطةَ املركزيةَ منافس‪ .‬وهو تعليل يليق بسطحية التحليل السياسي‪.‬‬ ‫القوى» فينافِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫األكفاء من‬ ‫ِ‬
‫استعمال‬ ‫حص ِر كبار الصحابة يف املدينة و‬
‫احلقيقي يف ْ‬
‫ُّ‬ ‫السبب‬
‫ُ‬ ‫أما‬
‫جى من االشتغال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رص على إبقاء مجاعة املسلمني حاملة الدعوة مبَْن ً‬ ‫فه َو احل ُ‬
‫املسلمني ُ‬
‫العاصمة مصدر إشعاع إمياين وموِرد ٍ‬
‫صفاء إحساينٍّ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بتدبري «الدنيا» لتكون من‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ب من نبعه‪.‬‬‫تستنري بنوره األمة‪ ،‬وتعُ ُّ‬
‫رجال من أصحاب رسول‬ ‫قال ابن سعد رمحه هلل‪« :‬وكان (عمر) يستعمل ُ‬
‫مثل عمرو بن العاص ومعاويةَ بن أيب سفيان واملغريَة اب ِن‬ ‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم َ‬
‫بي وعبد الرمحن بن‬ ‫ُشعبة‪ ،‬ويدع من هو أفضل منهم مثل عثمان وعلي وطلحةَ والز ِْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫اف عُ َمَر عليهم وهيبَتهم‬ ‫عوف ونُظرائهم لقوة أولئك على العمل والبص ِر به‪ ،‬وإلشر ِ‬
‫ََ‬
‫له‪ .‬وقيل له‪ :‬ما لك ال تـَُوِّل األكابِر من أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫ِّسهم بالعمل»‪.‬‬
‫أكره أن أُدن َ‬
‫فقال‪َ :‬‬
‫َّحة للحكم‪.‬‬
‫درس من أهم الدروس للدعوة الصاعدة يف صحوهتا‪ ،‬املرش َ‬
‫هذا ٌ‬
‫الدرس باحلروف البارزة‪ .‬التحدي هو‪ :‬هل متسك الدعوة بزمام احلكم وتدير‬
‫ُ‬ ‫بل هو‬

‫‪105‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫عجلته وتَبقى مستقلةَ الوجود ماضية اإلرادة يف ِو َ‬
‫جهة التغيري الشامل اجلذري للمجتمع‪،‬‬
‫اجلهود‪ ،‬ويغلب‬ ‫احلكم فيستويل على النفوس‪ ،‬ويستغرق‬ ‫أم ِ‬
‫جتذهبا الدولة ويستقطبها‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫حيي الدعاةُ‬
‫تذوب الدعوة يف الدولة؟ التحدي أساسا هو‪ :‬هل َ‬ ‫على الوجهة حىت َ‬
‫ِ‬
‫الوصول إىل احلُكم حبياة اإلميان واإلحسان‪ ،‬أم «تدنسهم الدنيا» وهتلكهم كما‬ ‫بعد‬
‫َ‬
‫أهلكت من كان قبلَهم؟‬
‫اب السياسيةَ يف أمم األرض تتلَ َّخص أهدافُها يف «برنامج» للحكم‬ ‫إن األحز َ‬
‫تفرضه‪ .‬ال أفُ َق هلا غريُ اهلدف التنموي وغريُ التوزيع للناتج يف صاحل هذه‬
‫تعرضه أو ُ‬
‫ُ‬
‫الفئة أو تلك‪ .‬ومن األحزاب ما ِ‬
‫يبتدئ ثورتَه أو إصالحيتَه بإديولوجية تقرتح على‬
‫الناس أو تفرض مشروعا تغيرييا يروم قلب األوضاع‪ ،‬مث ال يتعدى األمر‪ ،‬بعد طول‬
‫صر ع ِن األهداف الكمية املوعودة‪.‬‬‫معاناة‪ ،‬برناجما تنمويا أخفق أو قَ َّ‬
‫وإ ّن اإلسالميني يف حركتهم املوفقة بإذن اهلل ال مناص هلم من الدخول يف‬
‫املعمعة إىل جانب طالب احلكم للحكم‪ ،‬وطالب احلكم للمال‪ ،‬وطالب احلكم‬
‫لنزع املبادرة من اإلسالميني‪ ،‬ومنتقدي احلكم املعارضني‪ .‬وال بد لإلسالميني من‬
‫برنامج يـُْعَرض‪ ،‬وال بد من تصدي بعض أكابرهم لإلشراف على تطبيق الربنامج‪.‬‬
‫إذا أض ْفت إىل هذا بقاء اإلسالميني يف الظل زمانا‪ ،‬مَْنُوعني من السياسة‪ ،‬قليلي‬
‫دافع اهتمام أكابر الدعوة‬
‫اخلربة بدخائلها‪ُ ،‬منعدمي التجربة بانعطافاهتا وتعرجياهتا‪ ،‬كان ُ‬
‫تنصرف الدعوة بكليتها لتسيري دفة احلكم‪ .‬وإذن فهو فَناءُ‬ ‫ُ‬ ‫بالسياسة أقوى‪ .‬وإ َذ ْن‬
‫هي دعوة‪ ،‬ال تلبث الدعوة أن تتحول هيكلية سياسية حمضة‪ ،‬تتكلم‬ ‫حيث َ‬‫الدعوة من ُ‬
‫بعد حني لزيارة الساحة فلن ِجتد إال‬
‫كما يتكلم السياسيون‪ ،‬وتسلُك مسالكهم‪ .‬وعُ ْد َ‬
‫ٍ‬
‫خطاب إسالمي‪ .‬ال قدر اهلل‪.‬‬ ‫فارق اللِّحي ‪-‬إن وِج َدت‪ -‬وإال أثار ٍ‬
‫ات من‬ ‫َ‬
‫ُ ْ‬

‫‪106‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يقيسه أح ٌد حبسن النوايا اليت نطقت‪ ،‬وال‬ ‫وجناح الدعوة يف احلكم لن َ‬
‫ما احليلةُ ُ‬
‫زمان األرقام واإلجنازات العينية‪ ،‬ملموسةٌ‬ ‫مبنطقية الربنامج الذي عرض‪ ،‬وال ميكن يف ِ‬
‫ُ َ‬
‫ي اإلسالميون الناس بالوعود واهلتاف؟‬ ‫هي ْأم ومهيّةٌ‪ ،‬أن يُ ِّ‬
‫غذ َ‬
‫مثل األزمات املمسكة خبناق‬ ‫إن تسيري شؤون الدولة احلديثة يف أزمات ِ‬
‫املسلمني أشبه شيء باإلمساك مبقادة زورق يتحرك بسرعة اجلنون يف حبر هائج‪.‬‬
‫وإن استظهار اإلسالميني بذوي الكفاآت والتخصصات من كل نوع ويف كل ميدان‬ ‫َّ‬
‫لضـرورة بديهية‪ .‬فيوشك يف ظروف األزمة وضرورة االستعانة بالغري أن تُ َسيـَِّرنا إرادة‬
‫فننصرف عن الدعوة وننهتك يف اإلدارة وخيطَفنا‬ ‫َ‬ ‫الضرورة‬
‫َ‬ ‫غريُ إرادتنا أو تستبد بنا‬
‫اليومي‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫البا‬
‫َد ْو ُ‬
‫هده‬
‫وج ُ‬
‫يفعل رجل اإلدارة اجلاد املسؤول‪ ،‬وماذا يبيت خيطط؟ زمانه ُ‬ ‫ماذا يظل َ‬
‫تستغرقهما اهلموم الدنيوية املعاشية للناس‪ .‬وهي مهمة حيوية ال بد أن يتفرغ هلا‬
‫األكفاء‪ .‬لكن إن رصدنا هلذه املهمة ِخريَة أهل القرآن أطباءَ القلوب عرضناهم‬
‫وعرضنا الدعوة للزيغ عن وظيفتها األساسية‪ :‬أال وهي إفشاء الرمحة اإلحيائية اإلميانية‬
‫اإلحسانية يف الناس‪.‬‬
‫إن احلركة اإلسالمية تتالشى ويَضمحل معناها إن صبغها الوسط السياسي‬
‫املرجو هلا‬
‫الذي ال بد أن ختوضه بصبغته‪ ،‬وإن جرها «منطق الساحة» حبباله‪ُّ .‬‬
‫أن تكون قوة اقتحامية حتتل معاقل احلكم وتوطد أقدامها فيه مع تعزيز وظيفتها‬
‫اإلحيائية التغيريية التارخيية‪.‬‬
‫املرجو هلا أن يكون متاسكها التنظيمي وسلوكها األخالقي النموذجي وإشعاعها‬
‫ُّ‬
‫الروحي وخدمتها لألمة نقدا حيا عمليا للمجتمع الغثائي املتفكك اخلامد األناين‪.‬‬
‫قصورها‪ .‬وال‬
‫إجناز الدولة أو ُ‬
‫املرجو هلا أن تكسب ثقة األمة وحتتفظ هبا مهما كان ُ‬
‫ُّ‬
‫يصح شيء من ذلك إن كانت جمرد هيكل سياسي بني اهلياكل‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫املفاتيح فيصبح‬ ‫يسـ ِرق اخلرباءُ من خارج الدعوة‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫من الدروب املهدِّدة للدعوة أن ْ‬
‫األمر دولة بال دعوة‪ .‬وذلك حني يكون إشراف الدعوة على الدولة رخوا‪ ،‬من بعيد‪.‬‬
‫وهو تطرف إىل اجلهة األخرى‪.‬‬
‫إهنما حافتان خميفتان كان الفاروق رضي اهلل عنه يستعيذ باهلل من غائلتهما‬
‫التقي»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بقوله‪« :‬اللهم إين أعوذ بك من َجلَد الفاجر وعجز ّ‬
‫كان زياد بن مسية عامال على البصرة لإلمام علي عليه السالم‪ ،‬فلم يُ ْذ َك ْر‬
‫فءَ تُ َس ِّيه يد أمينة قوية‪ .‬فلما اغتيل‬ ‫املوظف ال ُك ْ‬
‫َ‬ ‫يف عهد اخلالفة بِ َشٍّر‪ .‬وإمنا كان‬
‫فءَ اخنرط مع دولة الدهاء‪ .‬وأعلن‬ ‫اإلمام واستمال النظام األموي زيادا الداهية ال ُك ْ‬
‫برناجمه يف خطبته البرتاء املشهورة‪ُ ،‬سيت برتاء ألنه مل يبدأها بذكر اهلل‪ .‬وطبق برناجمه‬
‫قيم‬
‫الويل باملوىل‪ ،‬وال ُـم َ‬
‫بالفعل فسن للحجاج وأضرابه منهجا‪ .‬قال مقسما‪« :‬آلخذن َّ‬
‫تستقيم قناتكم»‪.‬‬
‫َ‬ ‫املطيع بالعاصي‪ ...‬حىت‬
‫بالظاعن‪ ،‬وال ُـمقبل باملدبر‪ ،‬و َ‬
‫أي استقامة هذه اليت تأخذ الربيء جبريرة الظامل‪ .‬وما الشعب املسلم حني يُسارع‬ ‫ُّ‬
‫َّص َفةَ‪ .‬فمن لنَا‬
‫نشد العدل والن َ‬
‫َغداً إىل أحضان الدعوة واثقاً هبا إال ذلك الربيء الذي يَ ُ‬
‫باألمناء األقوياء‪ ،‬واألقوياء األمناء! اهلل هو الويل‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫الطاعة واملعارضة‬
‫«دين االنقياد»‬ ‫ ‬
‫*‬
‫البيعة وطاعة أويل األمر‬ ‫* ‬
‫أنشوطة يف األعناق‬ ‫* ‬
‫من هم أولو األمر الواجبة طاعتهم؟‬ ‫* ‬
‫واجب املعارضة‬ ‫* ‬
‫«القطب األعظم يف الدين»‬ ‫* ‬
‫املعارضة والتعددية‬ ‫* ‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫«دين االنقياد»‬
‫مؤرخنا احلكيم رمحه اهلل‪ .‬يستعملها لوصف خضوع‬ ‫العبارة البن خلدون ِ‬
‫احملكومني حتت سلطان العصبية‪ .‬ونفتتح هبا هذا الفصل الذي نعمق فيه نظرتنا إىل‬
‫الداء الدفني يف النفوس‪ ،‬داء األمم ومادية مرض الغثائية‪.‬‬
‫التعاون معه هي العالقات الضرورية يف‬ ‫إن طاعة احلاكم واالستجابة ألمره و ُ‬
‫اجملتمع املنظم‪ ،‬تكون طاعةُ احملكوم للحاكم بقهر السلطـان‪ ،‬أو باحرتام القانون‪،‬‬
‫وهذا شأن اجملتمعات البشرية املنظمة‪ .‬وتكتسب الطاعة الصبغةَ الدينيَّةَ يف بعض‬
‫لساللٍَة تزعم أهنا حتكم باحلق اإلهلي‪ .‬وهذا ما يُ َس َّمى‬ ‫ٍ‬
‫اجملتمعات وفاء َلع ْقد معقود أو ُ‬
‫يف تاريخ النصارى بالثيوقراطية‪.‬‬
‫ميزة احلكم اإلسالمي الشرعي أن الطاعة واجبة ألويل األمر منا بناء على بيعة‬
‫تُل ِزم احلاكم واحملكوم بأمر اهلل ورسوله‪ْ ،‬‬
‫شرطاها الشورى يف االختيار واحلكم مبا أنزل‬
‫اهلل‪.‬‬
‫إلخوتنا الشيعة رأيُهم‪ ،‬بل عقيد ُتم‪ ،‬يف أن اإلمامة منصوص عليها يف النيب‬
‫للوصي‪ ،‬ومن وصي لوصي‪ .‬فالطاعة لإلمام عندهم طاعةٌ ُكلِّيَّة‪ ،‬الَ شورى تُلزمه‪ ،‬إذ‬
‫ِ‬
‫اجتهاده‪.‬‬ ‫هو عندهم معصوم‪ .‬وال اجتهاد مع‬
‫امليزةُ يف احلكم اإلسالمي الشرعي‪ ،‬أعين ميزة الشورى والبيعة والطاعة الواجبة‬
‫تلك َ‬
‫ألويل األمر‪ ،‬هي اليت انفتقت ففسد احلكم منذ االنقضاض األموي‪ .‬وغاب عن أفق‬
‫الطاعة القهريَِّة الشـرطان الواجبان يف العقد السياسي‬
‫ِ‬ ‫املسلمني مدى أربعةَ عشر قرنا من‬
‫‪111‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫حىت أصبحت الطاعة إلزاما قهريا حمضا‪ ،‬عوامل القهر فيه القوة العُْنفيَّةُ اليت يتدرع هبا‬
‫يف كل زمان ومكان امللوك العاضون واجلربيون‪ ،‬مث العادة القرونية اليت ألِف مبقتضاها‬
‫الوه ُم أن يف طاعة املسلمني للحاكم املتسلط‬ ‫الناس اخلضوع للحاكم أبا عن جد‪ ،‬مث ْ‬
‫وفاء لبيعة هي يف ميزان الشرع تزوير حمض‪.‬‬
‫احلالة اليت يواجهها اإلسالميون يف زحفهم إىل احلكـم‪ ،‬بل يف زحف احلكم‬
‫إليهم‪ ،‬هي الركود العام‪ ،‬والرقود العميق‪ ،‬لدى القواعد الشعبية اليت تدين بدين‬
‫ب الصاحني‬ ‫تقر ُ‬
‫االنقياد‪ .‬ومعرفة اإلسالميني بأسباب هذا الركود ومنشإه وتطوره ِّ‬
‫الطالبني للحق مسافة ما بني استسالم اجلماهري حلاكم جديد وبني املشاركة اجلماهريية‬
‫وتدع ُم احلق وتبنيه بعد‬
‫يف قومة تنفض غبار القرون‪ ،‬وتشارك كما يشارك األحياء‪َ ،‬‬
‫تقويض أساس الباطل‪.‬‬
‫يح‪ ،‬مهما كان‬ ‫كنا يف املعارضة زمانا‪ ،‬ويف السرية واهلامشية‪ ،‬وإنه لَمتَّكأٌ ُمر ٌ‬
‫االضطهاد‪ ،‬أن تصرخ يف وجه الباطل أو تسبه يف ظهره‪ .‬خروجنا الوشيك إن شاء اهلل‬
‫من املعارضة إىل احلكم يدق ساعة احلقيقة‪ ،‬ويربزنا إىل حومة فيها املعارضة الدميوقراطية‪.‬‬
‫عاد للدين‪ .‬فهل‬‫أمس يف املعارضة ما هو الييكي ورمبا م ٍ‬ ‫من هذه األحزاب اليت شاركتنا ِ‬
‫ٌّ ُ‬
‫رجس من عمل الشيطان‪ ،‬أم هي حليف‬ ‫عدونا ْ‬
‫هذه املعارضةُ اليت ستكون خصمنا أو َّ‬
‫لنا ضد «دين االنقياد»؟ هل الدميوقراطية اليت تنفي كما ننفي أن يكون للحاكم حق‬
‫الطاعة بدون عقد يلزم الطرفني خطوة إجيابية حنو أهدافنا‪ ،‬أم هي باطل حناربُه كما‬
‫حنارب الظلم املوروث؟ هذه أسئلة جوهرية للسائرين يف طريق احلكم اإلسالميني‪،‬‬
‫جنيب عنها تِباعاً حبول اهلل يف منت الكتاب‪ .‬حنتفظ هنا هبذه احلقيقة‪ :‬وهي أن الوعي‬

‫‪112‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫اطي وقاعدته «حقوق اإلنسان» كفر «بدين االنقياد»‪ ،‬ودين االنقياد هو داؤنا‬ ‫الدميوقر َّ‬
‫العميق‪.‬‬
‫إننا حبول اهلل ُم ْق ِدمون على الدخول يف سياق التحول من احلكم االستبدادي‬
‫صحيَّةٌ للثبات‬
‫إحكام اخلطى يف مراحل التحول مقدمةٌ ِّ‬ ‫َ‬ ‫إىل احلكم الشوري‪ .‬وإن‬
‫السياسي املوبوء املوروث‪ ،‬حباجة‬ ‫نظامنا‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫على منهاج إعادة البناء‪ .‬حباجة إلعادة البناء ُ‬
‫املخروب وجمتمعنا املنهوك‪ .‬حباجة إليها على األخص النفسية اخلانعة‬ ‫اقتصادنا ُ‬
‫ُ‬ ‫إليها‬
‫الس ْل َس ِة القياد‪ ،‬العالَِة على أبَ ِويٍَّة سلطوية‪ ،‬اليت قد تنتفض‬
‫املنقادة‪ ،‬نفسية اجلماهري َّ‬
‫يف «مظاهرات اجلوع» لكنها قلما تنكر املنكر اجلامث على الصدور‪ ،‬منكر احلكم‬
‫الفاس ِد‪.‬‬
‫ِ‬

‫جيل الصحابة رضي اهلل‬


‫أيْن ذهبت القوة اإلرادية االقتحامية اليت محلت َ‬
‫جدار العصبية القبلية وجدار العادات وجدار كل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عنهم حمام َل اجلد والرجولة فخرقوا َ‬
‫موروث ُمثَبِّ ٍط؟‬
‫إن تلك القوة االقتحامية لََّق َح ُه ْم هبا اإلميان باهلل تعاىل وحده ال شريك له‪.‬‬
‫واإلميان يتجدد بشروطه‪ .‬وأمامنا هذا اإلرث الثقيل بثِ ْق ِل القرون وثقل الواقع الغالب‬
‫وتثاقل النفوس‪ :‬أال وهو دين االنقياد‪.‬‬
‫يتناول حكيمنا ابن خلدون رمحه اهلل احلديث عن دين االنقياد ونشوئه يف‬
‫ضعفه‪ ،‬مث يف مرحلة مزامحة الدولة املستَ َج ّدة للنظام‬
‫بداية النظام احلاكم‪ ،‬مث يف مراحل َ‬
‫اهلَِرم الذي تالشت عصبيته وقوته العسكرية حىت مل تبق له دعامة متسكه إال الوهم‬
‫القائم يف نفوس احملكومني وهو «دين االنقياد»‪.‬‬
‫ما أدق وأعمق ما يقول مفكرنا الكبري! إذ يصف انتقال هيبة الدولة من أسباب‬
‫اخلوف والرهبة إىل أسباب العادة املغروزة والوهم النفسـي‪ .‬قال رمحه اهلل‪« :‬إن الدول العامة‬
‫‪113‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يف أوهلا يصعب على النفوس االنقياد هلا إال بقوة قوية من الغلَب للغَرابة‪ ،‬وإن الناس مل‬
‫يألفوا ملكها وال اعتادوه‪ .‬فإذا استقرت الرياسة يف أهل النصاب املخصوص بامللك يف‬
‫متعاقبة نسيت النفوس شأن‬‫ٍ‬ ‫ودول‬ ‫ٍ‬
‫أعقاب كثريين ُ‬ ‫آخر يف‬‫الدولة وتوارثوه واحدا بعد َ‬
‫األوليّة‪ ،‬واستحكمت ألهل ذلك النصاب صبغةُ الرياسة‪ ،‬ورسخ يف العقائد دين االنقياد‬ ‫ّ‬
‫هلم والتسليم‪ ،‬وقاتل الناس معهم قتاهلم على العقائد اإلميانية‪ ،‬فلم حيتاجوا حينئذ يف أمرهم‬
‫إىلكبري عصابة»‪.‬‬
‫كتاب اهلل ال يُب ّدل وال يُعلم خالفُه»‪.‬‬
‫قال رمحه اهلل‪« :‬بل كأن طاعتَها ُ‬
‫ويقول رمحه اهلل عن الدولة يف شيخوختها بعد أن تبددت قوة عصبيتها فلم يبق‬
‫هلا من سند إال الطاعة العمياء‪« :‬ورمبا طال َأم ُدها بعد ذلك فتستغين عن العصبية‬
‫مباحصل هلا من الصبغة يف نُفوس أهل إيالَتِها‪ ،‬وهي صبغةُ االنقياد والتسليم منذ السنني‬
‫يعقل أحد من األجيال مبدأها وال أوليتها‪ .‬فال ِ‬
‫يعقلون إال التسليم‬ ‫الطويلة اليت ال ِ‬
‫ّ‬
‫لصاحب الدولة»‪.‬‬
‫مباذا ندخل على الساحة من جديد إن تركنا «الصبغة» االنقيادية املرضية ومل‬
‫وقيل هلم كما قيل‬
‫نعاجلها بالتصحيح الشرعي؟ إن املسلمني اعتادوا الطاعة للحاكم‪َ ،‬‬
‫آلبائهم وأجدادهم منذ قرون‪ :‬إن طاعة أويل األمر من طاعة اهلل ورسوله‪ .‬وانطبعت‬
‫ب اجلمعة اليت ترفع «أمري املؤمنني» و«ظل اهلل يف األرض»‬ ‫يف نفوس األجيال ُخطَ ُ‬
‫إىل مراقي العصمة‪ ،‬ورسخت يف أذهاهنم وخميالهتم هتاويل احلفالت «الدينية»‬
‫املصنوعة لتزيني صورة احلاكم وتقديسه‪.‬‬
‫لن نكون إال معارضةً من املعارضات تنتقد احلكم وتطعن يف كفاءته إن مل‬
‫نتعرض ألصول احلكم اجلائر باعتباره خرقا يف الدين وانتحاال تزويريا لقداسة الدين‬
‫قبل كل شيء‪ .‬ويأيت اعرتاضنا على الظلم جزءا من معارضتنا الكلية‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أهم العوائق يفكسب املعركة ضد األنظمة القائمة املستقرة العائق النفسي املتمثل‬
‫الوالء‬ ‫ٍ‬
‫الوالء الراسخ تعطيه اجلماهري لنظام مألوف تفضله على َح َدث ُم ْستَ َجدٍّ‪ ،‬أو َ‬
‫يف َ‬
‫املتذبذب الشاك املتحول بسرعة مع رياح الدعاية الرمسية‪.‬‬
‫ائد املألوفةُ‬
‫قال عاملنا ابن خلدون رمحه اهلل‪« :‬والدولة املستقرة قد صريت العو ُ‬
‫املستج ّدة‪.‬‬
‫َ‬ ‫طاعتَها ضروريّةً واجبة [‪ ،]...‬فتكثر بذلك العوائق لصاحب الدولة‬
‫أهل شوكته‪ .‬وإن كان األقربون من بطانته على بصرية يف‬ ‫وتُ َك ِّس ُـر من مهم أتباعه و ِ‬
‫طاعته ومؤازرته إال أن اآلخرين أكثر‪ .‬وقد داخلهم الفشل بتلك العقائد يف التسليم‬
‫للدولة املستقرة‪.‬‬
‫املستجدة يقاوم‬
‫َ‬ ‫قال‪« :‬فيحصل بعض الفتور منهم‪ .‬وال يكاد صاحب الدولة‬
‫صاحب الدولة املستقرة»‪.‬‬
‫ناجَزًة عاجلة ألن إزالة العائق النفسي من ساحة‬‫قلت‪ :‬ال يكاد يقاومه ُم َ‬
‫املعركة تطلب وقتا طويال‪ .‬وال يستطيع احلق الناهض‪ ،‬أو القوة السياسية اجلديدة يف‬
‫حتليل ابن خلدون‪ ،‬أن يستأصل القدمي املألوف إال مبعاجلة طويلة‪.‬‬
‫هرم‬ ‫ِ‬
‫املستجدة] إىل الصرب واملطاولة حىت يتض َح ُ‬
‫َ‬ ‫قال‪« :‬فريجع [صاحب الدولة‬
‫عقائد التسليم هلا من قومه‪ ،‬وتنبعث منهم اهلِمم لصدق‬
‫الدولة املستقرة‪ ،‬فتضمحل ُ‬
‫املطالبة معه‪ ،‬فيقع الظ َفر واالستيالء»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن اجلماهري املسلمة‪ ،‬كغريها من اجلماهري‪ ،‬تثور يف نفسها النقمة على‬
‫الظلم‪ ،‬لكن الظلم إذا تقنع بالدين وتسربل بسرباله قد يُقنع الناس آلجال وأجيال‬
‫أب حنون واجب الطاعة وأن احلاشية وحدها هي أم اخلطايا املسؤولة‪.‬‬ ‫أن احلاكم ٌ‬

‫‪115‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫البيعة وطاعة أويل األمر‬


‫ضى الطاعةُ للدولة املستبدة بالقسر‪ ،‬ويف سلك القهر واإلكراه والقمع‬ ‫تـُْقتَ َ‬
‫أمرها‪ .‬ويف دولة القانون الدميوقراطية يكون للقانون سلطان يفرضه‪ ،‬وقضاء‬ ‫ينتظم ُ‬
‫يتكئ عليها‪ ،‬ومصاحل يرعاها كل واحد متدرعا بالقانون‪،‬‬ ‫ينطق به‪ ،‬وحرمة يف النفوس ِ‬
‫ُ‬
‫ث االعتزاز بالدولة وقانوهنا‪ .‬وبوجود الطاعة للقانون أو‬ ‫ِ‬
‫وشعور باالنتماء يـَُق ِّوي باع َ‬
‫اخلضوع االضطراري له يستقيم حال اجملتمع وتستقر الدولة وحتفظ احلقوق‪.‬‬

‫يف دولة القانون الدميقراطية َْي َِتُم احلاكم واحملكوم‪ْ ،‬‬


‫طوعا بباعث الوطنية‬
‫واملدنية أو إلزاما بقوة القانون‪« ،‬عقدا اجتماعيا» كما يقول روسو الفرنسي‪ .‬وهو‬
‫عقد ومهي ِضمين‪.‬‬
‫ويف دولة اإلسالم الشـرعية تَكون الطاعة التزاما من جانب احملكوم يف مقابل‬
‫التزام احلاكم باتباع الشرع مبوجب عقد حقيقي صريح يتم االتفاق عليه يف بيعة‬
‫ومْبطال ُتا‪.‬‬
‫هلا قواعدها الشرعية وموجباهتا ُ‬
‫العهد‬
‫يعرف العالمة ابن خلدون البيعة الشرعية فيقول‪« :‬اعلم أن البَيعة هي ُ‬
‫على الطاعة‪ ،‬كأن املبايع يعاهد أمريه على أنه يُ َسلِّم له النظر يف أمر نفسه وأمور‬
‫املسلمني‪ ،‬ال ينازعه يف شيء من ذلك‪ ،‬ويطيعه فيما يكلفه به على األمر يف ال َـمْن َشط‬
‫األمري وعقدوا عهده جعلوا أيديَهم يف يده تأكيدا للعهد‪.‬‬
‫َوال َـم ْكَره‪ .‬وكانوا إذا بايعوا َ‬
‫عل البائع واملشرتي»‪.‬‬‫ِ‬
‫فأشبه ذلك ف َ‬

‫‪116‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫والبَيعة يف عهد النيب صلى اهلل عليه وسلم كانت بيعتني‪ :‬بيعة إسالم وبيعة‬
‫جهاد‪ .‬فأما بيعة اإلسالم فيدخل هبا املرء واملرأة يف دين اهلل‪ ،‬ويكون النكوص عن‬
‫شرط التوحيد ِرّد ًة‪ ،‬كما يكون اإلخالل بشرط من شروطها األُخرى معصية‪ .‬وأما‬
‫بيعة اجلهاد فهي أخص‪ ،‬وهي عهد يعطيه الرجال املؤمنون لرسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم أن يهاجروا إليه‪ ،‬وأن جياهدوا معه‪ ،‬وأن ينصروه‪.‬‬
‫تلك بيعة خترج الرجل واملرأة من الكفر إىل اإلسالم‪ ،‬وهذه متيز املؤمنني‬
‫املستجيبني لدعوة اهلل ورسوله اجلهادية عن بقية املسلمني‪.‬‬
‫وتُ َس َّمى بيعة اإلسالم بيعة النساء لقول اهلل عز وجل‪﴿ :‬يَا أَيـَُّها النَّبِ ُّي إِ َذا َج َ‬
‫اءك‬
‫ْن‬
‫ين َوَل يـَْقتـُل َ‬
‫ِ‬
‫ْن َوَل يـَْزن َ‬
‫ِ ِ‬
‫ك َعلَى أَن َّل يُ ْش ِرْك َن باللَّه َش ْيئاً َوَل يَ ْس ِرق َ‬ ‫ال ُْم ْؤِمنَ ُ‬
‫ات يـُبَايِ ْعنَ َ‬
‫ك فِي معر ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أَوَل َد ُه َّن وَل يأْتِ ِ ٍ‬
‫وف‬ ‫ين ببـُْهتَان يـَْفتَ ِرينَهُ بـَْي َن أَيْدي ِه َّن َوأ َْر ُجل ِه َّن َوَل يـَْعصينَ َ َ ْ ُ‬
‫َ َ َ‬ ‫ْ‬
‫يم﴾‪.1‬‬ ‫فـبايِعه َّن واستـغْ ِفر لَه َّن اللَّه إِ َّن اللَّه غَ ُف ِ‬
‫ور َّرح ٌ‬ ‫َ ٌ‬ ‫ََ ْ ُ َ ْ َ ْ ُ َ‬
‫تُ َس َّمى بيعةَ النساء حىت لو تعهد هبا الرجال‪ .‬قال اإلمام البخاري رمحه اهلل‬
‫يف صحيحه‪« :‬باب بيعة النساء»‪ ،‬وذكر فيه حديث عباد َة ب ِن ِ‬
‫الصامت رضي اهلل‬ ‫ُ‬
‫عنه يقول‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪-‬وحنن يف جملس‪« :-‬تُبايعوني على‬
‫أن ال تشركوا باهلل شيئا‪ ،‬وال تسرقوا‪ ،‬وال تزنوا‪ ،‬وال تقتلوا أوالدكم‪ ،‬وال تأتوا‬
‫ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم‪ ،‬وال تعصوا في معروف‪ .‬فمن َوفّى منكم‬
‫فأجره على اهلل‪ ،‬ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ومن أصاب من ذلك شيئا فستره اهلل فأمره إلى اهلل‪ .‬إن شاء عاقبه‪ ،‬وإن شاء‬
‫عفا عنه»‪ .‬فبايعناه على ذلك‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة املمتحنة‪ ،‬اآلية ‪.12‬‬

‫‪117‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫هذه البيعةُ خاصة بزمان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وبيعة اجلهاد والطاعة‬
‫جمرَد عقد سياسي مدين‪،‬‬ ‫اليت يتعاطاها احلاكم واحملكوم يف احلكم اإلسالمي ليست َّ‬
‫بل هي عهد بني ذم ٍم مؤمنة تندرج فيها شروط بيعة النساء باعتبارها الشروط‬
‫األساسية‪ ،‬وتضاف إليها الشروط التنظيمية األخرى‪ ،‬من ضمنها قول احلق يف كل‬
‫حتمله املبايِع واجب‬
‫الظروف‪ ،‬أي معارضة املنكر‪ .‬ففي مقابل واجب الطاعة الذي َّ‬
‫آخر يوازنه هو واجب قول احلق‪.‬‬
‫روى الشيخان وغريمها عن عُباد َة رضي اهلل عنه قال‪« :‬بايعنا رسول اهلل صلى‬
‫املنش ِط وال َـم ْكَره‪ ،‬وعلى أثـََرة‬
‫اهلل عليه وسلم على السمع والطاعة يف العُسر واليُسر‪ ،‬و َ‬
‫األمر أهله‪ ،‬وعلى أن نقول احلق أينما كنا‪ ،‬ال خناف يف اهلل‬ ‫علينا‪ ،‬وعلى أالّ ننازع َ‬
‫لَ ْوَمةَ الئم»‪.‬‬
‫هذا الصحايب األنصاري رضي اهلل عنه بايع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫مرتني‪ ،‬مرة بيعة النساء‪ ،‬ومرة بيعة الطاعة واجلهاد‪ .‬وذلك أن األنصار من اخلزرج‬
‫وفدوا على النيب صلى اهلل عليه وسلم يف الع َقبَ ِة األوىل فبايعوه على اإلسالم‪ ،‬مث‬
‫جاءوه يف العام القابل‪ ،‬فتعاهد معهم على أن يهاجر إليهم فينصروه‪ ،‬وكانت بيعة‬
‫العقبة الثانية بيعة جهاد‪ .‬نقف عندها لنعلَم أن البيعة ليست شكلية من الشكليات‪،‬‬
‫وإمنا هي أمر يُ َربم يف غاية اجلدية والصرامة‪.‬‬
‫كان النيب صلى اهلل عليه وسلم يبلغ رسالة ربه عز وجل وهو مبكة‬
‫حتوطه عناية اهلل املتمثلة يف محاية عمومته من قريش‪ .‬ملا جاءه اخلزرج واألوس‬
‫إىل العقبة صحبه عمه العباس‪ ،‬وكان يومئذ ال يزال على دين قومه ملا يسلم‪.‬‬
‫يتوثق البن أخيه‪ ،‬فقال للوافدين‪« :‬إن حممدا ِمنَّا حيث‬ ‫وأ راد العباس أن َ‬
‫قد علمتم‪ .‬وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه‪ .‬فهو يف عز‬
‫اللحوق بكم‪.‬‬
‫َ‬ ‫االحنياز إليكم‪ ،‬و‬
‫َ‬ ‫ومنـََع ٍة يف بلده‪ .‬وإنه قد أىب إال‬
‫من قومه‪َ ،‬‬

‫‪118‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫فإن كنتم ترون أنكم وافون له مبا دعومتوه إليه‪ ،‬ومانعوه ممن خالفه‪ ،‬فأنتم‬
‫وما حتملتم من ذلك‪ .‬وإن كنتم ترون أنكم مسلِموه ِ‬
‫وخاذلوه بعد اخلروج به‬ ‫ُْ ُ‬
‫إليكم ِ‬
‫فمن اآل َن فدعوه!»‬
‫قال ابن إسحاق رمحه اهلل‪ :‬فتكلم رسول اهلل صلى هلل عليه وسلم فتال القرآن‪،‬‬
‫ودعا إىل اهلل‪ ،‬ورغب يف اإلسالم‪ .‬مث قال‪« :‬أبايِعكم على أن تمنعوني مما تمنعون‬
‫رسول اهلل! إن بيننا وبني‬ ‫منه نساءكم وأبناءكم»‪ .‬وقال أبو اهليثم ُ‬
‫بن التَّيهان‪ :‬يا َ‬
‫حنن فعلنا ذلك مث‬
‫عسيت إن ُ‬
‫َ‬ ‫الرجال يعين يهود يثرب حباال وإنَّا قاطعوها‪ .‬فهل‬
‫وتد َعنا؟‬ ‫أظهرك اهلل أن ِ‬
‫ترجع إىل قومك َ‬
‫والهدم‬
‫َ‬ ‫الد َم َّ‬
‫الد َم!‬ ‫فتبسم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مث قال‪« :‬بل َّ‬
‫اله ْد َم! أنا منكم وأنتم مني‪ :‬أحارب من حاربتم‪ ،‬وأسال ُـم من سالمتم»‪.‬‬
‫َ‬
‫الم تبايِعون‬
‫بن عبادة ب ِن نضلة وهو من األنصار‪ :‬هل تدرون َع َ‬ ‫وقال العباس ُ‬
‫هذا الرجل؟قالوا‪ :‬نعم! قال‪ :‬إنكم تبايعونه على حرب األمحر واألسود من الناس‪.‬‬
‫كت أموالُكم ُمصيبَةً‪ ،‬وأشرافُكم قتالً أسلمتموه فمن‬ ‫ِ‬
‫فإن كنتم َترون أنكم إذا ُن ْ‬
‫زي الدنيا واآلخرة! وإن كنتم ترون أنكم وافون له مبا‬ ‫ِ‬
‫اآلن! فهو واهلل إن فعلتم خ ُ‬
‫دعومتوه إليه على نـَْهكة األموال وقتل األشراف فخذوه‪ .‬فهو واهلل خري الدنيا واآلخرة!‬
‫قالوا‪ :‬فإنا نأخذه على مصيبة األموال وقتل األشراف‪ .‬فما لنا بذلك يا رسول‬
‫ابسط يدك! فبسط يده فبايعوه‪.‬‬‫اهلل إن حنن وفَّينا؟ قال‪ :‬اجلنة‪ .‬قالوا‪ُ :‬‬
‫ودمه يف سبيل اهلل تعرضا لرضى‬
‫إهنا إذاً صفقة يتعهد مبقتضاها اجملاهد أن يب ُذل مالَه َ‬
‫اهلل‪ ،‬واستجالبا خلري الدنيا واآلخرة‪ .‬خري الدنيا واآلخرة‪ .‬ليس شيء من قضايا املؤمنني‬

‫‪119‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫حركةً سياسية دنيوية مقطوعة عن احلياة احلقيقية يف الدار اآلخرة‪ ،‬والَ شيء من‬
‫سعي املؤمنني اجملاهدين يُلفت املؤمنني اجملاهدين عن مطمح سعادة األبد إىل زينة‬
‫الدنيا وتنافساهتا‪.‬‬
‫وح كل منهم متعلق باهلل وباليوم‬ ‫ٍ‬
‫البيعة الشرعية قُربة عالية بني أطراف طُ ُم ُ‬
‫اآلخر‪ .‬فلما استوىل أبناء الدنيا‪ ،‬ملوك العض‪ ،‬على احلكم أصبحت البيعة مصادرة‬
‫قسرية لذمة املسلمني‪ ،‬ي ْكرهون عليها إكراها‪ ،‬ويقيدون إليها بقيود ٍ‬
‫باطلة شرعا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ َ‬
‫اجتهاد الفقيه‪ ،‬وله‬
‫َ‬ ‫لكنها قيود هلا فاعلية عملية ألن املقيَّد ال يفقه يف دينه‪ْ ،‬أو ألن‬
‫اعتباراته‪ ،‬ساقه إىل «دين االنقياد»‪.‬‬
‫بدأ معاوية بن أيب سفيان باإلكراه على بيعة ابنه يزيد‪ ،‬فكان السيف ال ُـمصلَت‬
‫ضام َن الوفاء‪ .‬يف عهد العباسيني التمس احلاكمون ضامنا آخر‪ ،‬فاستحلفوا‬ ‫هو ِ‬
‫الوفاء لبيعة الصبيان يف اخلِرق‪ ،‬واستوعبوا األميان كلها فيما مسَّْوه «أميا َن‬
‫الناس على َ‬
‫البيعة»‪ ،‬حيلف الرجل بالطالق والعِتق وما إىل ذلك‪.‬‬
‫قال ابن خلدون رمحه اهلل‪« :‬ملا أفىت مالك رضي اهلل عنه بسقوط ميني اإلكراه‬
‫الوالَة عليه ورأوها قادحة يف أميان البيعة‪ ،‬ووقع ما وقع من ِمنة اإلمام رضي‬
‫أنكرها ُ‬
‫اهلل عنه»‪.‬‬
‫مث تدهور احلكم على رقاب املسلمني‪ ،‬واستحكم السيف متمكنا بقوته‬
‫وبفتوى شرعية االستيالء ووجوب طاعة «من غلب عليهم بالسيف»‪ ،‬فاستحالت‬
‫البيعة إىل نوع من احلفالت التهرجيية يُقدم فيها القربان الرمزي للحاكم الذي أصبح‬
‫يستعبد الناس لشخصه من دون اهلل‪.‬‬
‫يقول مؤرخنا رمحه اهلل‪« :‬وأما البيعة املشهورة هلذا العهد فهي حتية امللوك ِ‬
‫الكسروية‬
‫ن هبا عن مصافحة أيدي‬ ‫ِ‬
‫من تقبيل األرض أو اليد أو الرجل أو الذيل [‪ .]...‬واستـُْغ َ‬

‫‪120‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫التنزل واالبتذال املنافِيـَْي للرياسة وصون‬
‫الناس [‪ ]...‬ملا يف املصافحة لكل أحد من ّ‬
‫املنصب امللكي»‪.‬‬
‫قال رمحه اهلل خماطبا من يقرأ ما بني السطور ومن يقاسم لوعة علمائنا على‬
‫ضياع حقائق الدين‪« :‬فافهم معىن البيعة يف العُرف (يعين بيعة تقبيل األرض أمام‬
‫األكاسرة املستكربين)‪ ،‬فإنه أكيد على اإلنسان معرفتُه‪ ،‬ملا يلزمه من حق سلطانه‬
‫وإمامه‪ .‬وال تكون أفعالُه عبثا َمّاناً»‪.‬‬
‫قال‪« :‬واعترب ذلك من أفعالك مع امللوك‪ .‬واهلل القوي العزيز»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اهلل القوي العزيز‪ ،‬به سبحانه االستعانة على اقتحام العقبة من وهدة‬
‫اإلكراه والتزوير إىل بيعة اخلالفة الثانية‪ .‬ال إله إال هو‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫ُأ ٌ‬
‫نشوطة يف األعناق‬
‫يكون املاضي‪ ،‬واجتهاد املاضني (يف شؤون احلكم خاصة)‪ ،‬وتزوير املاضي‪،‬‬
‫وخ َوراً يف عزائمنا‪ ،‬وبلبلة يف فهمنا إن حنن‬
‫أُنشوطَةً يف أعناقنا‪ ،‬ووهنا يف نفوسنا‪َ ،‬‬
‫استقينا العلم من خماضات تاريخ املسلمني يف مراحل تدهوره‪ .‬إن حنن مل نرتفع إىل‬
‫ين‬
‫لنب َ‬
‫املرحلة التأسيسية لنواكب البناء النبوي الراشدي ونن ُف َذ إىل االستبصار الضروري ْ‬
‫على املنوال األول‪.‬‬
‫إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أخرب قبل نزوهلا عن أحداث ن ْقض عُرا‬
‫اإلسالم‪ .‬وهو نيب اهلل يأتيه الوحي مبا شاء اهلل من مكنونات الغيب‪ .‬فهو عليه‬
‫الصالة والسالم أخرب ب َكلِ ِمه اجلامع مبا يقع‪ ،‬وعدَّل وش ِه َد حني أخرب أهنا ستكون‬
‫وجرح وقبَّح حني أخرب أهنا بعد اخلالفة تتحول ملكا‬
‫بعده خالفة نبوة ثالثني سنة‪َّ .‬‬
‫عاضا وجربيا‪ .‬وما العض واجلرب إال إكراه الناس على طاعة احلاكم ببيعة مزورة‪ ،‬أو‬
‫بتقبيل األرض على األسلوب الكسروي‪« .‬فاعترب ذلك يف نفسك»‪.‬‬
‫ي لنا‬
‫خار َج استحضار أنه صلى اهلل عليه وسلم نيب خيرب عن الغيب ال يـَتَبـََّ ُ‬
‫وجه احلق يف األحاديث الكثرية اليت حتث على الطاعة لألمري ولو فعل وفعل وال‬
‫يتبني لنا وجه احلق فيمن هم أولو األمر الذين أ ُِم ْرنا بطاعتهم‪ .‬إن غاب عنا خرب‬
‫الغيب‪ ،‬وإخبار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم به قبل وقوعه‪ ،‬نوشك أن نتناول‬
‫الوحي املقدس وكأنه نص بشري حمصور يف أبعاده البشرية‪ .‬فال فِقهٌ يُرجى وال هدى‬
‫وال كتاب منري‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫اتفق الشيخان على رواية حديث هذا نصه عند البخاري عن حذيفة رضي‬
‫اهلل عنه قال‪ :‬لقد خطبنا النيب صلى اهلل عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئا إىل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قيام الساعة إال ذكره‪َ ،‬علمه َم ْن َعل َمهُ وجهله من ج ِهله‪ .‬إ ْن ُ‬
‫كنت ألرى الشيء قد‬
‫الرجل الرجل إذا َغاب عنه فرآه فذكره»‪ .‬أخرجه رمحه اهلل‬ ‫ِ‬
‫نسيته فأعرفه كما يعرف ُ‬
‫يف كتاب القدر‪ ،‬باب ﴿ َوَكا َن أ َْم ُر اللَّ ِه قَ َدراً َّم ْق ُدوراً﴾‪.‬‬
‫واألحاديث كثرية رواها صحابة خمتلفون فيها عن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫يسردها هلم سردا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وسلم إخبارات عن أحداث مستقبلية بعينها أو عن أحداث الفنت ُ‬
‫أمهها فتنة الدجال ونزول عيسى عليه السالم‪.‬‬
‫يف إطار إمياننا بالغيب الذي أخرب به من ال ينطق عن اهلوى نتلقى أحاديث‬
‫األمر بالطاعة للحكام لنفهمها كما فهمها الصحابة‪ ،‬وكلهم ثقة‪ ،‬بأن ما يأمر به النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم توجيه معني يف حاالت ُمعينة ال نص حريف جمرد عن األحداث‪.‬‬
‫ويلزم‬
‫فمن الصحابة من أمره رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يكسـر سيفه َ‬
‫ويطيع مهما فعلوا به‪ .‬لذلك جند منهم‬‫بيته إن حدثت فتنة‪ ،‬ومنهم من أمره أن يسمع َ‬
‫رضي اهلل عنهم طائفة اعتزلوا احلرب بني إمام احلق عليكرم اهلل وجهه وبني الفئة الباغية‬
‫اليت قادها معاوية بن أيب سفيان‪ ،‬مل يعرفوا أهنا حقا الفئة الباغية حىت قـَتَلت عمارا الذي‬
‫أخرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه تقتله الفئة الباغية‪.‬‬
‫من الذين اعتزلوا عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما‪ .‬فلما رأى مقتل الشهيد عمار‬
‫تأسف على أنه مل يقاتل يف صفه‪ .‬عبد اهلل بن عمر بايع يزيداً باإلكراه كما قرأنا يف رواية‬
‫الطربي وبايع مروان وبنيه‪ .‬وعلى موقفه يف طاعة «من غلبهم بالسيف» اعتمد اإلمام‬
‫أمحد رمحه اهلل‪ .‬وقد روى أبو يعلى أن اإلمام كان يستشهد بقول ابن عمر‪« :‬حنن مع‬

‫‪123‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫من غلب»‪ .‬وهي كلمة قاهلا أثناء غزو مسلم بن عقبة (ويسميه السلف الصاحل مسرف‬
‫بن عقبة) املدينة واستباحته إياها ثالثا وهتكه فيها وسفكه‪ .‬كان ابن عمر يصلي تارة مع‬
‫هؤالء وتارة مع هؤالء فلما سألوه قال‪ :‬حنن مع من غلب‪.‬‬
‫وما هذا املوقف املخالف من النقيض للنقيض مع موقف اإلمام حسني ابن‬
‫علي الذي خرج على يزيد كما خرج عليه قراء املدينة من الصحابة والتابعني إال‬
‫اجتهاد يف تطبيق أوامر النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬كلٌّ فهمها حسب ما عنده من‬
‫توصية شخصية أو تأويل َر َعى فيه مصلحة األمة‪ .‬مثال ناصع آخر يفسر املواقف‬
‫املتناقضة ما بني خارج غاضب ومذعن للقدر وللوصية النبوية هو موقف اإلمام‬
‫حسن بن علي رضي اهلل عنهما‪ .‬كان مع احلسن وصية خاصة إذ قال عنه النيب صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪« :‬إن ابين هذا سيد‪ ،‬ولعل اهلل أن يُصلح به بني طائفتني عظيمتني من‬
‫تأب حسني وامتنع‪.‬‬ ‫املسلمني»‪ .‬وكذلك كان‪ ،‬حيث اصطلـح مع معاوية من حيث َّ‬
‫الكف‬
‫يف عموم األحاديث الكثرية اليت أمرت بطاعة األمري ولو جار توجيه إىل ِّ‬
‫عن سفك الدماء ومحل السالح بني املسلمني‪ .‬وعلى هذا العموم اعتمد من اعتمد‬
‫من اجملتهدين لتغليب جانب الطاعة‪ ،‬مع امليل إىل التساهل يف جانب محلة السيف‬
‫ُطيع ِ‬
‫ماجنو َن ُملحدون مثل الوليد بن يزيد‪ ،‬وحىت احتل يف حياة املسلمني‬ ‫ِ‬
‫حىت ح َكم فأ َ‬
‫الالحقني «دين االنقياد» مكان دين األمـر باملعروف والنهي عن املنكر‪ .‬وحيتج الالحق‬
‫بأن عبد اهلل بن عمر وأنسا ابن مالك كانا يصليان خلف احلجاج‪.‬‬ ‫َّ‬
‫الوليد اخلليع الفاجر امللحد أخرج للناس جارية َسكرى صلت هبم الصبح أربعا‪.‬‬
‫وهو الذي فتح املصحف يوما فقرأ فيه‪« :‬واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد» فأنشد‬
‫بعد أن مزق املصحف‪:‬‬

‫‪124‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫فهـا أنـ ـ ــا ذاك جبـ ــار عنـ ـ ـيـ ـ ـ ــد‬ ‫هتـ ـ ـ ــددين جبـب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــار عنـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ــد ‬
‫فقل يـ ـ ــا رب مـ ــزقــين ال ـ ـولي ـ ــد‬ ‫إذا ما جئت ربك يوم حشر ‬
‫أين تقف حدود الطاعة‪ ،‬ومىت جتب‪ ،‬ومىت حترم ؟ تلك ظروف اجتهد فيها كلٌّ‬
‫حسب حيثياته وفهمه وإمكاناته‪ .‬وال بد لنا من االستقالل يف فهم األوامر النبوية يف‬
‫عصر انزلق فيه احلكام من ُتوم الفسق إىل جماري الكفر‪ ،‬فهم دعاة على أبواب جهنم‬
‫يهددون بنسف الدين من أساسه‪.‬‬
‫والنصوص إن فهمناها يف إطارها الغييب وتعليالهتا املطلقة معنا ليست ضدنا‪.‬‬
‫أخرج اإلمام أمحد وابن ماجة والطرباين بإسناد جيد عن ابن مسعود رضي اهلل عنه‬
‫أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون‬
‫السنة ويعملون بالبدعة ويؤخرون الصالة عن مواقيتها»‪ .‬قال الصحايب‪ :‬فقلت‪:‬‬
‫ابن أم َعبد كيف تفعل! ال‬
‫يا رسول اهلل! إن أدركتُهم كيف أفعل؟ قال‪« :‬تسألين يا َ‬
‫طاعة ملن عصى اهلل!»‬
‫ويف خطاب النيب صلى اهلل عليه وسلم لصاحبه بــ«يا ابن أم فالن» زجر على‬
‫عادة العرب يف التخاطب‪.‬‬
‫إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمر بطاعة من نبايعه صادقني خمتارين ال‬
‫أكرهنا على البيعة واستحلفنا بأميان بدعية‪ .‬عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص أن‬
‫من َ‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم قال ‪« :‬من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة فؤاده‬
‫فليطعه ما استطاع»‪ .‬احلديث رواه مسلم وأبو داود‪« .‬أعطاه ثمرة قلبه» يعين‬
‫االختيار الصادق‪.‬‬
‫أحاديث أخرى من اليت تأمر بالطاعة إمنا جاءت موصية مبحاربة العصبية العرقية اليت‬
‫كانت‪ ،‬وال تزال‪ ،‬آفة عربية‪ .‬ذلك مثل قوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬اسمعوا وأطيعوا وإن‬

‫‪125‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫استُعمل عليكم عبد حبشيكأن رأسه زبيبة‪ ،‬ما أقام فيكمكتاب اهلل»‪ .‬رواه البخاري‬
‫عن أنس رضي اهلل عنه‪ .‬فمن أطاع ناقصا يف الدين أو عصى أمرياً لعصبية أو استنكاف من‬
‫النقص املزعوم عند العبد احلبشي فشرط «ما أقام فيكمكتاب اهلل» يكذبه ويلعنه‪.‬‬
‫واألحاديث املوصية حبفظ وحدة املسلمني والدخول يف الطاعة نفهمها‪ ،‬يف‬
‫إطارها الغييب ويف ظروفنا وإمكاننا‪ ،‬فهما آخر غري فهم من يربر هبا األمر الواقع‪ .‬هذا‬
‫حديث يشري بوضوح تام إىل أن احلق ليس مع العصبية بل ضدها‪ .‬وكل حكم يعتمد‬
‫على السيف فهو عصبية‪ .‬وكل طاعة لغري أهل الشورى فهي انضواء حتت راية ِع ِّميَّ ٍة‪.‬‬
‫روى اإلمام مسلم والنسائي عن أيب هريرة أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬من‬
‫خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ِميتة جاهلية‪ .‬ومن قاتل تحت راية‬
‫فقتلةٌ جاهلية‪.‬‬ ‫ضب لعصب ٍة‪ ،‬أو يدعو إلى عصبة‪ ،‬أو ينصر عصبة‪ ،‬ف ُقتِل ِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫ع ِّميَّة‪ ،‬يغ َ َ َ َ‬
‫ومن خرج على أمتي يضرب بـََّرها وفاجرها‪ ،‬وال يتحاشى من مؤمنها‪ ،‬وال يفي‬
‫بعهد ذي عهدها‪ ،‬فليس مني ولست منه»‪.‬‬
‫يان يف قلب احلقائق‪ .‬وما هي إال اإلرادة‬ ‫إن الفهم احلريف والفهم التربيري ِس ِ‬
‫تكون صادقة يف نصر شرع اهلل فتبصر التوجيه اإلهلي النبوي بَصرا صحيحا‪ ،‬أو تعجز‬
‫فتتلهى عن ال ِوجهة الصحيحة وتصطنع فهما حتُدُّه النفس الواهنة الغثائية‪ ،‬وحتُدُّهُ‬
‫الفتنة الغالبة‪.‬‬
‫احلدود املقبولة شرعا لفجور احلاكم‪ ،‬جاءت الوصية النبوية بطاعته إن مل‬
‫يتعهدها‪ ،‬هي احلدود الفاصلة بني هضمه حلق فردي هلذا أو ذاك من املسلمني‪ ،‬وبني‬
‫هتكه للدين‪.‬‬
‫أيت‬
‫عفي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪ :‬يا نيب اهلل! َأر َ‬
‫سأل سلَمةُ بن يزيد اجلُ ُّ‬
‫إن قام علينا أمراءُ يسألونا حقهم ومينعونا حقنا‪ ،‬فما تأمرنا؟ فأعرض عنه رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ .‬مث سأله فأعرض عنه‪ ،‬مث سأله يف الثانية أو الثالثة فقال‪« :‬اسمعوا وأطيعوا‬
‫‪126‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ماح ِّملْتُ ْم»‪ .‬رواه مسلم والرتمذي عن وائل بن‬
‫فإنما عليهم ما ُح ِّملوا وعليكم ُ‬
‫حجر رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫لعل يف إعراض النيب صلى اهلل عليه وسلم عن السائل استنكارا أن ينزل‬
‫األصل أنه ال يـَُؤَّمر على املسلمني‬
‫َ‬ ‫املسلمون إىل التنازع اخلسيس على احلقوق‪ ،‬ألن‬
‫إال العدل املنصف‪ .‬مث كان اجلواب حامسا لتغليب االستقرار على الفوضى كيال‬
‫يكون النزاع الشخصي على حق ضاع مدعاة خلرم اجلماعة‪.‬‬
‫ويف الزجر عن تعليق اإلمارة وطاعتها على املصاحل الفرديّة جاء قول النيب صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪« :‬ثالثة اليكلمهم اهلل يوم القيامة وال يزكيهم ولهم عذاب أليم‪:‬‬
‫ف له»‪ .‬احلديث رواه‬‫رجل بايع إماما‪ ،‬فإن أعطاه وفّى له‪ ،‬وإن لم يطعه لم ي ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ َ‬
‫الشيخان عن أيب هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫هذه أخالقية عالية تكون البيعة فيها «مثرة القلب» وتكون الطاعة مسامهة‬
‫إجيابية يف دعم الشرعية مع التجرد التام عن املصلحية الوصولية‪ .‬ما أحوجنا هلذه‬
‫األخالقية يف زمن شراء األصوات وترويج الوعود االنتخابية‪ .‬واهلل ويل املؤمنني‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫من هم أولو األمر الواجبة طاعتهم؟‬


‫لن يكون سرينا املستقبلي سليما إن مل نتعلم من دروس ماضينا‪ .‬ال‪ ،‬ولن‬
‫أوجهاً إن مل نستهد باإلخبار النبوي‬
‫نكون إال خابطني يف ظلماء أحداث تتقاذفنا ُ‬
‫الغييب الذي بشر باخلالفة الثانية بعد مراحل العض واجلرب‪.‬‬
‫ولكي تكون خالفة على منهاج النبوة علينا حنن أن نتبني يف كتاب اهلل وحديث‬
‫رسوله من هم أولو األمر الذين إن أعطيناهم صفقة يدنا ومثرة قلبنا لن يستحيلوا‬
‫نأطرهم على احلق أطرا بعد اختبارهم وأن حنملهم على‬ ‫جبارين عاضني‪ .‬علينا أن ُ‬
‫شرط «إن استقمت فأعينوين وإن أسأت فقوموين»‪ .‬وعلينا قبل االختيار أن نتوخى‬
‫حبيث ال نُضطر يوما إىل نقض ما أبرمناه‬
‫من هم من أهل األمانة والقوة والدين ُ‬
‫باألمس‪ .‬ففي النقض املتكرر مس باهلدف اإلسالمي يف االستقرار‪ ،‬كما أن طلب‬
‫االستقرار بأي مثن كان الذريعة اليت منها دخل «دين االنقياد» على األمة‪.‬‬
‫من شباب الصحوة اإلسالمية من نفضوا يدهم نفضا هنائيا من الوالء للحكام‬
‫املتأمرين على املسلمني‪ .‬وهذه إجيابية كبرية‪ ،‬فهم نقضوا الباطل من أساسه‪ .‬لكنهم‬
‫كثريا ما يبنون على غري أساس حني يؤمرون على جمموعة حملية أو قطرية أمريا يعطونه‬
‫البيعة والطاعة‪ ،‬ويعدون جمموعتهم مجاعة املسلمني من فارقها مات ميتة جاهلية‪،‬‬
‫ويكفرون اجملتمع كله أو جله‪ ،‬وينغلقون يف حرفية النصوص‪ ،‬ويف دوائر تنظيمية ال‬
‫تلبث أن تعشش فيها أنواع اهلوام السلوكية مثل العنف املبدئي واإلعجاب بالرأي‬
‫والرؤية من زاوية متشائمة للعامل واملستقبل‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يف أفق اخلالفة الثانية املوعودة ينبغي أن يكون بناؤنا يف امتداد النبوة واخلالفة‬
‫األوىل ال يف خط امللك العاض الذي نسميه «خالفة» أموية وعباسية وعثمانية‬
‫افتياتا على رسول اهلل صلى اهلل علي وسلم الذي مساها غري ذلك‪ .‬نبين إن شاء اهلل‬
‫يف أفق وحدة األمة على البيعة والطاعة ألويل األمر منا‪ ،‬ال يف حدود التجزئة اليت‬
‫فرضها علينا تاريخ الفتنة واالحنطاط واالستعمار فزدناها حنن فداحة وتشتتا بالتقوقع‬
‫يف بيعات احلي والقرية واملدينة والقطر‪ ،‬ال نرى من ورائها من ميدان‪.‬‬
‫س‬
‫إن كل تعاهد بني املؤمنني على نصر دين اهلل ما دون البيعة اخلالفية إمنا يـُْلبَ ُ‬
‫جمزٍء يف مراحل‬ ‫ثويب زور إن أطلقنا عليه اسم «بيعة»‪ .‬وال بد من تعاهد ٍ‬
‫وتوثق َّ‬
‫ض على أنفسنا بالتسميات تطلق على غري مدلوهلا الشرعي‪ .‬ألننا‬ ‫ِ‬
‫البناء‪ .‬فال نـُْغم ْ‬
‫بذلك حنبس أنفسنا ومستقبلنا يف يد أشخاص مل َنوِّلِم إال ْأمَرنا حنن املنغلقني يف‬
‫خصوصياتنا‪ ،‬ونتوهم أهنم هم أولو األمر‪ ،‬قد برئت ذمتُنا‪ ،‬وقامت يف ومهنا الضعيف‬
‫املشتت قائمة اإلسالم‪.‬‬
‫ول َوأ ُْولِي‬
‫الر ُس َ‬ ‫َطيعواْ اللّه وأ ِ‬
‫َطيعُواْ َّ‬ ‫ِ‬
‫آمنُواْ أ ُ َ َ‬
‫َّ ِ‬
‫يف قول اهلل عز وجل‪﴿ :‬يا أَيـَُّها الذ َ‬
‫ين َ‬
‫األ َْم ِر ِمن ُك ْم﴾‪ 1‬مشـروعية أويل األمر‪ ،‬والصفات الالزمة فيهم‪ ،‬واملرجعية املصدرية ألعمـاهلم‪.‬‬
‫فال بد أن يكونوا «منا» وإلينا ال فـَْوقـَنَا وعلينا‪ .‬وال بد أن يكونوا من أويل «األمر» كما‬
‫ورى بـَيـْنـَُه ْم﴾‪َ ﴿ ،2‬و َشا ِوْرُه ْم فِي األ َْمر﴾‪.3‬‬
‫يفسـر القرآن الكرمي «األمر» ‪َ ﴿ :‬وأ َْم ُرُه ْم ُش َ‬

‫‪ 1‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.58‬‬


‫‪ 2‬سورة الشورى‪ ،‬اآلية ‪.35‬‬
‫‪ 3‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.159‬‬

‫‪129‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وال بد أن يكون ما يطلبون فيه طاعتنا طاعة هلل ورسوله إذ ال طاعة ملخلوق أبدا يف‬
‫معصية اخلالق‪.‬‬
‫فيحصـر «األمر» فيمن اكتمل فيه أهلية العلم‬
‫ُ‬ ‫القرآن الكرمي يشرح بعضه بعضا‪،‬‬
‫مبا يأمر اهلل ورسوله‪ ،‬وأهلية االنبثاق عن االختيار والشورى بني املؤمنني‪ .‬ومع ذلك‬
‫نشأ خالف واسع يف معرفة من هم «أولو األمر»‪ .‬طائفة من العلماء منهم أبو هريرة‬
‫رضي اهلل عنه قالوا‪ :‬هم األمراء‪ .‬وطائفة إمامهم جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنه قالوا‪:‬‬
‫هم العلماء‪ .‬انشطار يعكس انفصال السلطان عن القرآن‪ .‬الوضع الصحيح هو قول‬
‫عكرمة‪ :‬املقصود هم أبو بكر وعمر‪ .‬نفهمه على أنه متثيل ال ختصيص‪ .‬فمن مجع العلم‬
‫واحليازة لرضى املؤمنني وشوراهم كما مجعهما الشيخان كان هو ويل األمر الواجب‬
‫الطاعة‪.‬‬
‫ورجح اإلمام الشافعي رضي اهلل عنه القول بأن أويل األمر هم األمراء‪ ،‬واحتج‬
‫لقوله بأن قريشا كانوا ال يعرفون اإلمارة وال ينقادون ألمري‪ ،‬فأُمروا أمرا مؤكدا بطاعة‬
‫األمري‪ ،‬إخراجا هلم عن أنانيتهم اجلاهلية‪.‬‬
‫يف نص القرآن الكرمي أن الذي جاء به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قبل‬
‫اإلمارة هو أن يتلَُو على اجلاهليني اجلاهلني آيات اهلل‪ ،‬وأن يزكيَهم ويعلمهم الكتاب‬
‫واحلكمة‪ .‬فتلك جاهلية ِسَتُها اجلهل واألنانية دخل عليها اإلسالم ليعلمها فتخرج‬
‫ليأمَرها فتنتظم على اهلَُدى ال تبقى فوضى‪.‬‬
‫من الضالل إىل اهلدى‪ ،‬و ُ‬
‫وملستقبل اخلالفة الثانية جمتمعات فتنوية العل ُـم فيها شتات والطاعة الرسوبية‬
‫االنقيادية فيها داء ُمزمن‪ .‬يتجدد اإلميان فيها لتتعلم علما جامعا‪ ،‬ولتسمع كالم اهلل‬
‫وسنة رسوله فال تطيع إال «أويل األمر» الذين تتوفر فيهم املواصفات القرآنية‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وأولو األمر الناهضون ببناء اخلالفة الثانية ال بد أن يقوموا إليها كما قام‬
‫إىل األوىل أمثال أيب بكر وعمر‪ ،‬وأن يكونوا من أبناء اآلخرة كما كانوا ال من‬
‫أبناء الدنيا‪ .‬ال بد أن يكونوا من معرفة العامل وما جد فيه‪ ،‬ومن معرفة األهداف‬
‫اإلسالمية وكيف حتقق يف هذا الزمان واملكان باملكانة العالية‪ .‬شرط إماري الزم‪.‬‬
‫وشرط آ َك ُد هو أن تكون دنيا من يتصدى للحكم منتظمة انتظاما إميانيا‪ ،‬وإال‬
‫فكيف يُنظم ْأمَر الناس َم ْن أموره هو فـُُر ٌط!‬
‫ف سلفنا الصاحل هذا «االنتظام اإلمياين» يف مثل قول معاذ بن جبل‬
‫وص َ‬
‫وقد َ‬
‫رضي اهلل عنه‪« :‬يا ابن آدم! أنت حمتاج إىل نصيبك من الدنيا‪ ،‬وأنت إىل نصيبك‬
‫من اآلخرة أحوج‪ .‬فإن بدأت بنصيبك من اآلخرة مر بنصيبك من الدنيا فانتظمها‬
‫انتظاما‪ .‬وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك نصيبك من اآلخرة وأنت من الدنيا على‬
‫خطر»‪.‬‬
‫أبناء الدنيا ال يصلحون لنظم أمر املسلمني يف غد اخلالفة الثانية وإال لكانت‬
‫ملكا وعضا‪ .‬حتت امللك العاض واجلربي انزوى من مساهم اإلمام الغزايل رمحه اهلل‬
‫«علماء اآلخرة» من زهاد وعباد وصوفية‪ .‬وتركوا الساحة لفقهاء الفتوى يعانون‬
‫األمرين‪ .‬ولغد اخلالفة الثانية حنتاج لعباد اهلل اخلاشعني هلل األمناء على دين اهلل‬ ‫ّ‬
‫بقي على آخرته ال ملن يكدح ليبـَْقى يف‬ ‫األقوياء على البناء‪ .‬حنتاج ملن يسعى ليُ َ‬
‫السلطة‪ .‬حنتاج ملن يأخذ من الدنيا بالغا آلخرته‪ ،‬قد خرق طموحه الدنيا وزينتها‬
‫ين َل يُ ِري ُدو َن عُلُّواً فِي ْال َْر ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫فهو مع قوله تعاىل‪﴿ :‬تِل َ‬
‫ض‬ ‫الد ُار ْالخ َرةُ نَ ْج َعلُ َها للَّذ َ‬
‫ْك َّ‬
‫ساداً﴾‪.1‬‬‫َوَل فَ َ‬
‫‪ 1‬القصص‪ ،‬اآلية ‪.83‬‬

‫‪131‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫«األمر» يف اإلسالم غدا ال يُعطى للحريص على الرئاسة‪ ،‬وال يُسمح لصاحب‬
‫األمر أن يتفلت من مسؤولية الدنيا‪ ،‬متنعه من التفلُّت املراقبة العامة اليت تعني من‬
‫استقام وتقوم من أساء‪ .‬وما يضمن ذلك إال اختيار الربانيني العلماء اخلرباء اجلامعني‬
‫لصفيت القوة واألمانة‪ ،‬خوفهم من اهلل عز وجل ومن مسؤولية يوم احلساب مينَعهم‬
‫من الزيغ حيث ال تراقبهم عني احلسيب املقوم باملعارضة واألمر باملعروف والنهي‬
‫عن املنكر‪.‬‬
‫وليس لذلك إال من تشبه بأيب بكر الذي قال له الصحابة‪ :‬نفرض لك بـُْردين‬
‫إن أخلقتهما وضعتهما وأخذت مثلهما‪ .‬وظهرك [أي دابتك]إذا سافرت‪ ،‬ونفقتك‬
‫على أهلك كما كنت تنفق قبل أن تُستخلَف‪ .‬فقال‪ :‬رضيت‪.‬‬
‫ليس لذلك إال من تشبه بعمر بن اخلطاب الذي رأى أهل العراق يرققون الطعام‬
‫وي َّود] يل كما يُدمهق لكم! ولكنا نستبقي من دنيانا‬ ‫شئت أن يُ َد ْهَ َق [يـُلَ َّي ُ‬
‫فقال‪ :‬لو ُ‬
‫ما جنده يف آخرتنا‪ .‬أما مسعتم اهلل عز وجل قال لقوم ‪﴿ :‬أَ ْذ َه ْبتُ ْم طَيِّبَاتِ ُك ْم فِي‬
‫َحيَاتِ ُك ُم ُّ‬
‫الدنـْيَا﴾‪ 1‬؟‬
‫ليس لذلك إال من تشبه بعثمان بن عفان الذي يبيت لربه ساجدا قائما‪ ،‬وبعلي‬
‫اإلمام الذي كان يتململ يف حمرابه وميسك حليته وخياطب الفانية قائال‪ :‬يا دنيا غُّري‬
‫غريي!‬
‫«علماء اآلخرة» الفارون بدينهم من الدنيا ال يصلحون لألمر‪ ،‬كما ال يصلُح‬
‫اخلربة‬
‫املستور الذي ال تُعرف له تقوى‪ .‬اجلَلَ ُد والتقوى‪َ ،‬‬
‫ُ‬ ‫إال لإلمارة الفرعية اخلبريُ‬
‫تعوذ الفاروق عمر من تفرقه إذ قال‪:‬‬
‫العملية والتطلع اإلمياين اإلحساين‪ .‬ذلك مجع َّ‬
‫«أعوذ باهلل من جلَد الفاجر وعجز التقي»‪.‬‬

‫‪ 1‬األحقاف‪ ،‬اآلية ‪.19‬‬

‫‪132‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫العامل العامل‪ .‬ومن العلماء من تضعُف به قدراتُه العملية‪ ،‬أو ضيق طبعه‪ ،‬أو‬
‫قُصور أفقه‪ ،‬أو عجزه عن التعامل املثمر مع الناس‪.‬‬
‫وقد ترك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وصية لنا إذ قال للصحايب الفاضل‬
‫أيب ذر عندما طلب إليه إمارة‪« :‬يا أبا ذر! إنها أمانة! وإنها يوم القيامة خزي‬
‫وندامة! إال من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها»‪ .‬رواه مسلم وأبو داود عن‬
‫أيب ذر رضي اهلل عنه‪ .‬وقال له‪ :‬يا أبا ذر! إني أراك ضعيفا‪ ،‬وإني أحب لك ما‬
‫أحب لنفسي‪ .‬ال تَأ ََّم َر َّن على اثنين! وال تـََولَّيَ َّن مال يتيم»‪.‬‬
‫اب يف احلق‪ ،‬وأن خنتار من أهل السابقة يف اجلهاد وأهل‬ ‫ذلك أدىن أن ال ُنَ ِ َ‬
‫أقدرهم على حتمل املسؤولية‪ .‬ذلك معىن «إال من أخذها بحقها وأدى‬ ‫احلظ من اهلل َ‬
‫الذي عليه فيها»‪ .‬واهلل ويل املؤمنني‪ ،‬ال حول وال قوة إال به العليم احلكيم‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫واجب املعارضة‬
‫ال حيق يف دولة القرآن للقاعد املرتاح يف الالمسؤولية أن حياسب أويل األمر‬
‫احململني باألثقال‪ .‬شرط «إن استقمت فأعينوين وإن أسأت فقوموين» يلزم الطرفني‪،‬‬
‫َّ‬
‫ال يلزم طرفا واحدا بينما جيلس الطرف اآلخر إلحصاء األنفاس‪ .‬من ال يعني أويل‬
‫األمر على االستقامة ليس له وال عليه أن يـَُق ِّوُم‪ .‬وكيف يقوم غريه من هو على‬
‫ِع َوج؟‬
‫إمنا تصبح املعارضة واجبا يف جو من املسؤولية العامة الشاملة‪ ،‬جو التآمر‬
‫باملعروف والتناهي عن املنكر‪.‬‬
‫املنفعي الدنيوي الذي‬
‫ِّ‬ ‫ط رحا َلا يف البسيط السياسي‬ ‫وهي معارضة ال َتُ ُّ‬
‫اجلدوى وحتقيق املصلحة ال تتجاوز ذلك‪ .‬هذه املعارضة‬ ‫يأخذ احلاكم مبعايري َ‬
‫اجلدوى واإلجناز وجه واحد من وجهي املعارضة‪ .‬وهي واجبة يف‬ ‫واحملاسبة على َ‬
‫شروط املسـؤولية العامة الشاملة ويف جو التآمر باملعروف والتناهي عن املنكر‪ .‬لكن‬
‫أخذ الكافة للكافة‪ ،‬وحماسبة احلاكم واحملكوم باملعيار األخالقي اإلمياين الشرعي‬
‫هو املطلوب‪.‬‬
‫أخذ وحماسبة يـَْنظمان «نصيب الدنيا» مبنظور «نصيب اآلخرة»‪ .‬وال سبيل‬
‫إىل ذلك ما مل يكن اآلخذ واملأخوذ من املؤمنني باهلل واليوم اآلخر‪ ،‬بينهم عهد اهلل‪،‬‬
‫وذمة اهلل‪ ،‬وشرع اهلل‪ ،‬والبيعة والوفاء‪ ،‬والطاعة يف املعروف‪ ،‬واإلعانة على احلق‪.‬‬
‫ليس جمرد «عقد اجتماعي» مدين سياسي‪.‬‬ ‫َ‬
‫‪134‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫كل يف‬
‫املسؤولية العامة الشاملة لكل مرافق احلياة‪ ،‬امللزمة للمسلم واملسلمة ٍّ‬
‫ميدانه‪ ،‬يُفصلها قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬كلكم راع ومسؤول عن‬
‫رعيته‪ .‬فاإلمام راع ومسؤول عن رعيته‪ .‬والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن‬
‫رعيته‪ .‬والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها‪ .‬والخادم في‬
‫بيت سيده راع وهو مسؤول عن رعيته»‪ .‬قال الراوي‪ :‬فسمع هؤالء من النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأحسب أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬والرجل في‬
‫مال أبيه راع وهو مسؤول عن رعيته‪ .‬فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»‪.‬‬
‫أخرجه الشيخان وغريمها عن عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما‪.‬‬
‫الرعوية الغثائية املوروثة‪ ،‬ذهنية القطيع الذي ينتظر ببالدة‬
‫هنالك الذهنية ّ‬
‫فع ُل به‪ .‬وهنالك املعارضة السياسية الالمسؤولة اليت تستبيح لنفسها تزوير‬
‫وكسل ما يُ َ‬
‫احلقائق وتضخيم األخطاء دون أن تتحمل هي من األعباء نصيبا‪ ،‬ودون أن تنصف‬
‫أو ختاف اهلل‪.‬‬
‫مشوهان‪ .‬وسيلقى اإلسالميون يف طريقهم إىل‬ ‫طرفان ذميمان ووجهان َّ‬
‫احلكم مث بعد استيالئهم عليه حتالفا بني الوجهني الذميمني‪ .‬ففي مراحل تنظيم‬
‫احلركة اإلسالمية وزحفها يلتقي قمع احلكام الظلمة بسكون اجلماهري املنقادة‪،‬‬
‫بل بإنكارها ألهل احلق وإذعاهنا للدعاية املقاتلة «للمتشددين»‪ .‬وبعد استيالء‬
‫اإلسالميني على احلكم لن يـَْع َدموا من الغوغائيني الدمياغوجيني‪ ،‬من الطبقة‬
‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫املسيسة احملرتفة‪َ ،‬م ْن يناصبهم العِداء وينصب األفخاخ ُ‬
‫وي ِّم ُل احلكم‬
‫الناشئ تبعات ما اقرتفته أيدي الظاملني من قبل‪.‬‬
‫وقد استعملت كلمة «الدمياغوجيني» قصدا ألمسي داء عصريا باسم عصري‬
‫ال يناسبه غريه‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫إن املدافعني الثوريني عن حقوق الشعب إمنا يريدون من الشعب «انقيادا»‬
‫آخر يصفق هلم ويرفع شعاراهتم ليستغلوا «املخزون النفسي» الديين لدى اجلماهري‬
‫اإلسالمية كما تُ ْستـَغَ ُّل الدفائن النفيسة‪ .‬وحنن نريد من هذه اجلماهري أن تستيقظ ملا‬
‫يطلب إليها دين «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» لتتحمل مسؤوليتها فاعلة‬
‫غري مفعولة‪ ،‬مراقبة كالًّ يف ميدان مسؤوليته‪ ،‬معارضة منتقدة‪.‬‬
‫من خصائص «املخزون» املدفون أن حيَ ِّول معىن الواجبات الدينية األكيدة‬
‫فرت ُك ما ال يعين يُؤوله إسالم االنقياد إىل التخلي عن‬
‫حتويال حنو السهولة واالستقالة‪ْ .‬‬
‫السياسة‪ .‬و«كلكم مسؤول عن رعيته» يفهمه أوال على أن الناس ُ‬
‫مثل السوائم‬
‫أن من أساء إىل رعيته فال مسؤولية عليه إال بني‬ ‫يرعاهم احلكم‪ ،‬ويفهمه ثانيا على َّ‬
‫يدي اهلل تعاىل يوم القيامة‪ .‬وهو يف الدنيا حر ال رقيب عليه‪.‬‬
‫هذا الفهم العامي الركودي االستقايل املائت من أسباب غثائيتنا‪ ،‬وما كرر لنا‬
‫املعلم املعصوم الناطق عن الوحي صلى اهلل عليه وسلم كلمة «مسـؤول» يف احلديث‬
‫تسع مرات إال ليـَْر َس َخ عندنا املعىن العميق الساري يف كل مناحي احلياة يف الدنيا‬
‫واآلخرة للمسؤوليـة‪ .‬فاإلمث القليب مقرتنا بالذنب واجلرمية والتفريط يف الواجب يسأل‬
‫عنه العباد يوم القيامة وأمرهم إىل اهلل‪ .‬لكـن املن َكر املعلَ َن والسيئة اجلهرية جيب أن‬
‫عارض وينتقد‪.‬‬
‫يُسأل عنها مقرتفها أيا كان على كل املستويات‪ ،‬وأن يُ َ‬
‫فيما بيننا وبني املعارضات احلزبية السياسية املناوئة للحركة اإلسالمية التعارض‬
‫جلِ ٌّي‪ ،‬و َيوُّد املتقربون لإلسالم «املخزوين» واملرتبصون واملنافقون لو يظ َفرون مبعارضة من‬
‫ب ما صدعوه وليتفرجوا على فشلنا بعد‬ ‫جانبهم غري مسؤولة‪ ،‬يدفعوننا حنن للمسؤولية لِرأْ ِ‬
‫َ‬
‫حنصَرهم لتكون معارضتُهم لنا يف الوضوح واملسؤولية‬ ‫أن ينصبوا لنا األشراك‪ .‬جيب أن ُ‬
‫‪136‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ومبعيار اإلسالم الذي ال يعارض السياسة الفاسدة يف التسيري السياسي فقط‪،‬‬
‫لكن يعارض الفساد األخالقي واالحنراف العقدي والتسيب السلوكي والتغرب‬
‫الفكري‪.‬‬
‫وفيما بني الفصائل اإلسالمية‪ ،‬والتعدد يف االجتاهات واالجتهادات أمر‬
‫واقع‪ ،‬قد يَستصعِب البعض أن يكون اختالف وتعارض‪ .‬ويسود لدى اإلسالميني‬
‫مهس خمالِف‪ .‬وهو‬
‫سم ُع فيها ٌ‬ ‫يف اجلملة التصور اإلمجاعي التواق إىل وحدة الَ يُ َ‬
‫تصوٌر ختلفي مما تركته قرون السكوت حتت طائلة السيف من بصمات يف نفوسنا‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫فتحت السيف ال يكون إال إمجاع املوافقة ّإما «لعجز الطالب» كما يعرب ابن‬
‫وإما حلفظ وحدة ومهية‪ ،‬وحتت الرماد اجلمر املتقد‪.‬‬ ‫تيمية رمحه اهلل ّ‬
‫الطبيعي بصدر رحب‪ ،‬واق ِع وجود اخلالف عند‬ ‫َّ‬ ‫ينبغي أن نقبل الواقع‬
‫اإلسالميني‪ ،‬وأن نعاجله املعاجلة البناءة‪ ،‬وأن نـَْف َسح اجملال للرأي والرأي املخالف‪.‬‬
‫ويتوقف جناحنا يف الدعوة والدولة على قدرتنا وحكمتنا يف تصريف اخلالف من‬
‫خالل قنوات معارضة صادقة غري منافقة‪ ،‬صادعة مبا عندها ال منطوية على‬
‫الكمد‪.‬‬
‫وما هذه اخلالفات بني الصحابة رضي اهلل عنهم اليت أدت إىل املقاتلة‬
‫صنع من صنع اهلل تعاىل لنعترب ونتعلم أن املوافقة الصامتة ال تكون‬
‫بالسيف إال ٌ‬
‫إال بني األموات أو املقهورين املسلوبني صوت احلرية‪.‬‬
‫يف ظل دولة القرآن ينبغي أن ترتفع هامات الصدق وقول كلمة احلق لكل‬
‫أخل مبسؤوليته من راع يف إمارته‪ ،‬وراعية يف بيتها‪ ،‬وخادم وخمدوم‪ ،‬ومدبِّر‬
‫من ّ‬
‫عام‪ ،‬وعامل خاص‪ .‬يف عموم وجوب قول احلق ومعارضة الباطل نفهم قول النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له ‪ :‬إنك ظالم!‬
‫ِّع منها»‪ .‬رواه اإلمام أمحد والطرباين واحلاكم بسند صحيح عن عبد اهلل‬
‫فقد تـُُود َ‬
‫بن عمرو رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫‪137‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫مل يكن الصحابة على عهد النبوة واخلالفة األوىل ٍ‬
‫إمعات‪ ،‬بل كانوا يستنشقون‬
‫غري أموات‪.‬‬
‫َرْو َح املسؤولية‪ ،‬ويتقدمون باملبادرة اإلجيابية‪ .‬أحياءً َ‬
‫تـََرَّب على املعارضة ومساع النقد وطلب النصيحة عمر وأمثال عمر‪ .‬لذلك قدَّم‬
‫شرط «إن أحسنت فأعينوين‪ ،‬وإن أسأت فقوموين»‪ .‬ولذلك كان يقول‪« :‬رحم اهلل‬
‫إيل عيويب»‪.‬‬
‫امرأ أهدى َّ‬
‫ل ّـما نزل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بَ ْدراً يف مواجهة قريش ووقف جيش‬
‫أهم وقفة وأبلغها أثرا يف تارخيه‪ ،‬والنيب صلى اهلل عليه وسلم قائد‪ ،‬واخلطر‬
‫اإلسالم َّ‬
‫وعدداً‬
‫دق‪ ،‬والتجربة جديدة‪ ،‬مل يكن الصحابة رضي اهلل عنهم َك ّماً صامتا َ‬ ‫ُْم ٌ‬
‫حسابيا‪ .‬إمنا كانوا رجاال هلم رأيهم واجتهادهم وشخصيتهم‪ ،‬ولوال ذلك ملا كانوا هم‬
‫باب بن املنذر رضي اهلل عنه فقال‪ :‬يا رسول‬
‫هم‪ ،‬وملا كانت بدر هي بدر‪ .‬قام احلُ ُ‬
‫أمنزل أنزلكه اهلل‪ ،‬ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه‪ .‬أم هو‬
‫املنزل؟ ٌ‬
‫ت هذا َ‬ ‫اهلل! أرأيْ َ‬
‫الرأي واحلرب وال َـمكيدة؟‬
‫قال ابن إسحاق‪ :‬قال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬بل هو الرأي والحرب‬
‫وال َـمكيدة!»‬
‫باب‪ :‬يا رسول اهلل! فإن هذا ليس مبنزل! فاهنض بالناس حىت نأيت أدىن‬ ‫قال احلُ ُ‬
‫غور ما وراءه من ال ُقلُ ِ‬
‫ب‪ ،‬مث نبين عليه حوضا فنملؤه ماء‪ ،‬مث‬ ‫ماء من القوم‪ ،‬فنن ِزلَه‪ ،‬مث نُ ِّ‬
‫نقاتل القوم فنشرب وال يشربون‪.‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬لقد أشرت بالرأي!» وكذلك كان صلى‬
‫اهلل عليه وسلم يقبل الصواب‪ ،‬ويستمع إىل الرأي املخالف‪ ،‬ويصبِـر جلفاء األعرايب‬
‫عمر بن اخلطاب (وكم كانت له من معارضات)‪ ،‬ويشجع املبادرات‬ ‫وملعارضات َ‬

‫‪138‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫البناءة‪ ،‬وحيمل املسؤوليات لألمري واملأمور‪ ،‬والرجل واملرأة‪« .‬كلكم راع وكلكم‬
‫مسؤول عن رعيته»‪.‬‬
‫صلى اهلل وسلم وبارك على أيب القاسم معلم اخلري‪ .‬وعلى آله وصحبه‪،‬‬
‫وإخوانه وحزبه‪ ،‬ممن ال تلني قناهتم يف ال ُـمل ّـمات‪ ،‬وال يتخاذلون يف املهمات‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫«القطب األعظم يف الدين»‬


‫هذا تعبري اإلمام الغزايل رمحه اهلل‪ ،‬يقصد بالقطب األعظم الركن الركني من‬
‫اإلميان‪ :‬األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬وتغيري املنكر إىل معروف بقوة اليد‬
‫واللسان‪ ،‬وال أقل من إضمار السخط على املنكر بالقلب‪ .‬القطب هو قلب الرحا‬
‫الذي حوله تدور‪ ،‬فشبه واجب القيام ضد املنكر ومعارضته وحماربته بقلب الدين‬
‫الذي خيتل توازن الدين باختالله‪.‬‬
‫قال رمحه اهلل‪« :‬فإن األمر باملعروف والنهي عن املنكر هو القطب األعظم يف‬
‫الدين‪ ،‬وهو املهم الذي ابتعث اهلل له النبيئني أمجعني‪ .‬ولو طُ ِوي بساطُه وأ ِْ‬
‫ُهل عل ُـمه‬ ‫َ‬
‫وفشت الضاللة‪ ،‬وعمت‬ ‫وعمت ال َفرتةُ‪َ ،‬‬
‫وعملُه لتعطلت النبوة‪ ،‬واضمحلت الديانة‪ّ ،‬‬ ‫َ‬
‫وخربت البالد‪ ،‬وهلك العباد‪ ،‬ومل يشعُروا‬ ‫ِ‬ ‫اجلهالة‪ ،‬واستشرى الفساد‪ ،‬واتسع اخلَرق‪َ ،‬‬
‫‪1‬‬ ‫باهلالك إال يوم التّ ِ‬
‫ناد»‪.‬‬ ‫َ‬
‫وذكر رمحه اهلل من شروط إقامة هذا الركن األساسي من الدين‪ :‬التكليف‬
‫واإلميان‪ ،‬والعدالة‪ ،‬واإلذ َن من اإلمام‪ ،‬والقدرة على النهوض به‪.‬‬
‫فالتكليف مفهوم إسالمي إمياين يعرب عن روابط العبودية هلل عز وجل وعن‬
‫روابط العباد املكلفني فيما بينهم‪ ،‬يتساءلون عن حق التكليف ويتحاسبون ويقيمون‬
‫حدود اهلل على من أخل بالتكليف الشرعي‪ .‬واإلميان والعدالة شرطان يف املكلف‬
‫بفريضة األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ .‬إن املسلم ال كلفة عليه إال بأركان اإلسالم‬

‫‪ 1‬اإلحياء ج‪ 2‬ص‪.269‬‬

‫‪140‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫اخلمسة‪ ،‬وناقص العدالة ال يؤمتَن على فريضة عامة يدور على سالمة تنفيذها صالح‬
‫األمة‪ .‬وإذن اإلمام والقدرة شرطان تنفيذيان‪ ،‬ألنه إن تصدى كل مكلف عدل لتغيري‬
‫املنكر مستقال باجتهاده ومبادرته يوشك أن تعُم الفوضى‪ ،‬ال سيما يف عصورنا اليت‬
‫املناكر‪ ،‬فإن مل تـُنَ ْط ُم ِهمةُ تغيري املنكر جبهة‬
‫البدع و ُ‬
‫ت َ‬
‫وعم ْ‬
‫اجلهل بالدين‪َّ ،‬‬
‫عم فيها ُ‬
‫كل َم ْن محَت‬
‫استعمال ِّ‬
‫ُ‬ ‫عالِمة حكيمة تـَُعِّرف املعروف واملنكر فهي الفوضى‪ .‬وهي‬
‫أفسد‬
‫يف صدره َغرية عن حـق أو جهل أو تعصب قدرتَه يف االنتقام‪ ،‬وإذاً يكون ما َ‬
‫بغريته العمياء أكثر مما أصلح‪.‬‬
‫كان اإلمام الغزايل رمحه اهلل‪ ،‬يف إبان مقاومته ِلف َ ِ‬
‫ت الفلسفة والعقائد الباطنية‬
‫متوجها للمهمة التقليدية اليت تفرغ إليها علماؤنا منذ افرتق السلطان والقرآن‪ .‬وهي‬
‫حدود تكليفه وقدرته‬
‫َ‬ ‫ُمهمة مقارعة أهل األهواء واملذاهب الضالة‪ .‬فكانت هذه‬
‫على تغيري املنكر واألمر باملعروف‪ .‬يدافع عن «اخلليفة» املستظهر العباسي‪ ،‬يرى يف‬
‫وجوده الرمزي سدا منيعا ضد املنكر األكرب املتمثل يف العقائد الكفرية‪.‬‬
‫توسع‬ ‫ِ‬
‫فلما كان يف أواخر عمره‪ ،‬يف مرحلة تأليف «اإلحياء» وما بعدها‪ّ ،‬‬
‫العظيم الذي جتب معارضته‬ ‫املنكر‬ ‫َّ ِ‬
‫َ‬ ‫تصوره للمنكر واملعروف‪ ،‬ورأى يف حكم الظلَ َمة َ‬ ‫ُّ‬
‫اخلفي لِما عاناه علماؤنا طيلة قرون احلكم العاض‬
‫ومقاطعته‪ .‬وهكذا يظهر لنا الوجهُ ُّ‬
‫صص وما تأسفوا عليه من فوات القدرة والفرص‪ .‬ويف آخر حياته رمحه‬ ‫واجلربي من غُ َ‬
‫بعده‬
‫اهلل‪ ،‬اعتزل الغزايل الدنيا وأهلَها فرارا بدينه‪ ،‬وأمال يف أن يُريب أجياال حتتفظ َ‬
‫جبذوة اإلميان متقدة‪.‬‬
‫قال رمحه اهلل‪« :‬الدخول عليهم [على احلكام الظلمة] فهو مذموم يف الشرع‪ .‬وفيه‬
‫تغليظات وتشديدات [‪ .]...‬الداخل على السلطان متعرض ألن يعص َـي اهلل تعاىل إما بفعله‬

‫‪141‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أو بسكوته‪ ،‬وإما بقوله‪ ،‬وإما باعتقاده‪ .]...[ .‬إن سجد أو ركع أو َمثُ َل قائما يف‬
‫‪1‬‬
‫سالمه وخدمته كان مكرما للظامل»‪.‬‬

‫ويفصل اإلمام رمحه اهلل برنامج مقاطعة الظلمة‪ ،‬فال جيوز قبول هداياهم‪،‬‬
‫وال َغ َشيا ُن أسواقهم‪ ،‬وال التعامل مع قضاهتم وعماهلم‪ ،‬وال استعمال ما بنوه من‬
‫قناطر ورباطات ومساجد وسقايات‪.‬‬
‫ويقصد اإلمام بالظلمة املستولني على احلكم بالسيف‪ ،‬وكانوا يف زمنه‬
‫السالطني السالجقة‪ .‬كان هلم السلطان احلقيقي‪ ،‬ومل يكن «للخليفة» العباسي‬
‫َ‬
‫إال اخلطبة والبيعة الشكلية‪ .‬وقد كتب سنجر السلطان السلجوقي إىل اإلمام‬
‫يطلب إليه أن يدرس يف مدارس نيسابور وطـوس فامتنع وكتب إليه‪« :‬إن كل من‬
‫ينطق بكلمة حق يف هذه األيام تعاديه حىت األبواب واجلُدران‪ .‬وأنا سلمت الدنيا‬
‫احلال‪ ،‬وأن تُعفوين من التدريس يف نيسابور‬
‫ض َح ُ‬‫ألهلها‪ .]...[ .‬واملقصود أن يـَُو َّ‬
‫‪2‬‬
‫أعود إىل زاوييت اآلمنة‪ ،‬فإن األيام ال تتحمل كالمي»‪.‬‬
‫وطوس حىت َ‬
‫ومن زاويته رمحه اهلل كتب إىل فخر امللك وزير سنجر يقول‪« :‬اعلم أن هذه‬
‫املدينة أشرفت على اخلراب والقحط‪ .]...[ .‬فأغث! فأغث رعيتك! ال‪ ،‬بل‬
‫هرمك‪ ،‬وال تضيع رعيتك [‪ .]...‬وإال فأقم املصيبة واملآمت‪.‬‬
‫أغث نفسك‪ ،‬وارحم َ‬
‫[‪ .]...‬فعالج هذه املصيبة ماءُ العني ال ماءُ العنب!»‪.‬‬

‫‪ 1‬اإلحياء‪ ،‬ج‪ 2‬ص‪ 125‬وما بعدها‪.‬‬


‫‪ 2‬فضائل األنام‪ ،‬ص‪.42‬‬

‫‪142‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫موقف الغزايل رمحه اهلل وتطوره ِمن مقارعة البدع والضالالت يف حيز مسح به‬
‫السلطان نفسه منوذج لفقه األمر باملعروف والنهي عن املنكر يف حدود إمكانيات‬
‫ذلك الزمان‪ .‬وال ميكن يف غد اإلسالم واخلالفة الثانية أن نفهم األمر باملعروف‬
‫والنهي عن املنكر يف حيزمها الضيق الذي تقلص إليه عمل من سبقونا بإميان رمحهم‬
‫اهلل‪ ،‬حاصرهم السلطان فتخصصوا يف مالحقة البِدع والضالالت (وهي مهمتهم‬
‫على كل حال وواجبُهم) وتركوا السلطان اجلائر يرتع يف الدين‪.‬‬
‫النبع النبوي لنستقي‪.‬‬
‫بعد أن نعترب بالغزايل وتطور موقفه‪ ،‬نرجع إىل ْ‬
‫َ‬
‫يقول احلبيب املصطفى املعلم صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من رأى منكم منكرا‬
‫فليغيره بيده‪ .‬فإن لم يستطع فبلسانه‪ .‬فإن لم يستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك أضعف‬
‫اإليمان»‪ .‬احلديث رواه مسلم وأصحاب السنن عن أيب سعيد اخلدري رضي اهلل‬
‫عنه‪.‬‬
‫وروى الرتمذي عن حذيفة رضي اهلل عنه عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫«والذي نفسي بيده‪ ،‬لتأمر َّن بالمعروف‪ ،‬ولَتنهو ّن عن المنكر‪ ،‬أو ِ‬
‫ليوش َك ّن اهلل‬ ‫َُ‬ ‫ُُ‬
‫أن يبعث عليكم عقابا منه‪ .‬ثم تدعونه فال يستجاب لكم»‪.‬‬
‫العلي جاء بتغبري املنكر‪ ،‬المبجرد النهي اللفظي عنه‪ .‬والوعيد الشديد‬ ‫األمر ُّ‬
‫ُ‬
‫ملن مل يفعل ذلك يـُْؤذن بعقاب من اهلل عز وجل‪ ،‬حىت إنه سبحانه‪ ،‬وهو الرؤوف‬
‫بعباده الرحيم‪ ،‬ال يستجيب دعاء من ال يفعل ما أ ُِمَر‪.‬‬
‫يل َعلَى‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ين َك َف ُرواْ من بَني إ ْس َرائ َ‬ ‫وجاء وعيد أشد يف قوله تعاىل‪﴿ :‬لُع َن الذ َ‬
‫يسى ابْ ِن َم ْريَ َم َذلِ َ‬ ‫ان داو ِ‬ ‫ِ‬
‫اه ْو َن‬
‫صوا َّوَكانُواْ يـَْعتَ ُدو َن َكانُواْ الَ يـَتـَنَ َ‬ ‫ك بِ َما َع َ‬ ‫سِ َُ َ‬
‫ود َوع َ‬ ‫لَ‬

‫‪143‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ِ‬
‫َعن ُّمن َك ٍر فـََعلُوهُ لَب ْئ َ‬
‫س َما َكانُواْ يـَْف َعلُو َن﴾‪ .1‬قال رسول هلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫أول ما دخل‬‫يفسر لنا كيف اعتدى بنو إسرائيل برتكهم التناهي عن املنكر‪« :‬إن َ‬
‫الرجل‪ ،‬فيقول له‪ :‬يا هذا! اتق‬
‫َ‬ ‫الرجل يل َقى‬
‫ُ‬ ‫النقض على بني إسرائيل أنه كان‬
‫اهلل فيما تصنع! فإنه ال يحل لك! ثم يلقاه من الغد وهو على حاله‪ ،‬فال يمنعه‬
‫ذلك أن يكون أكيلَه وشريبه وقعيده‪ .‬فلما فعلوا ذلك ضرب اهلل قلوب بعضهم‬
‫ببعض»‪ .‬احلديث رواه أبو داود والرتمذي عن عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫لتأم ُر َّن بالمعروف َ‬
‫ولتنه ُون‬ ‫وقال فيه احلبيب املعلم صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬كال واهللّ ُ‬
‫عن المنكر‪ ،‬ولتأخ ُذ َّن على يَد الظالم‪ ،‬ولتأطُرنه على الحق أطرا»‪ .‬وهو حديث‬
‫صحيح‪.‬‬
‫حديث يرسم لنا خطوط مقاطعة أهل الباطل فُرادى‪ ،‬ومقاطعتهم باإلضراب‬
‫حنن قوة معارضة منظمة فقيهة يف دينها‬
‫العام حني يكونون قوة حاكمة غامشة ونكون ُ‬
‫الذي يهدد باللعنة من رضي باملنكر وأهله وآكلهم وشارهبم وقاعدهم‪.‬‬
‫ويرحم اهلل الغزايل‪ ،‬فقد فصل ما جيب على املؤمنني من مقـاطعة الظلمة‪ ،‬فكان‬
‫حرى يف زماهنا‪ ،‬زفرة من عامل جماهد آل‬
‫ذلك الفقه الذي بقي دفينا يف الكتب زفرة َّ‬
‫تطاول أهل الباطل واستعالؤهم يف األرض إىل االنزواء مع «علماء اآلخرة»‪.‬‬
‫به ُ‬
‫ولغد اخلالفة الثانية ال بد أن تكون قوة التغيري فقيهة يف دينها‪ ،‬عارفة‬
‫ب«القطب األعظم» فيه‪ .‬لكن ال يكفي العلم مبا هو املعروف واملنكر وتعليم ذلك‬
‫للناس حىت يتوقوا إىل املعروف ويكرهوا املنكر‪ .‬ال يكفي أن نكون قوة سياسية يلتف‬

‫‪ 1‬سورة املائدة‪ ،‬اآليتان ‪.81-80‬‬

‫‪144‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫حنصل على قدرة‬
‫حوهلا الشعب‪ ،‬ويصوت هلا‪ ،‬ويرفعها لسدة احلكم‪ .‬بل ال بد أن ِّ‬
‫التنفيذ‪ ،‬وأن نبنِيَها حىت نكون قوة إرادية تغري بالفعل‪ ،‬وتفعل بوازعي القرآن والسلطان‪.‬‬
‫لقتال شديد بني احلق والباطل‪ ،‬ال حيىي احلق إال بإماتة الباطل‪ ،‬أو على‬ ‫وإنه ٌ‬
‫األقل حص ِره يف نـََف ِق َّ‬
‫الصغَا ِر‪ .‬وعلى املرتبة اإلميانية اإلحسانية األخالقية جلند اهلل‪،‬‬
‫وعلى منوذجية سلوكهم وتفانيهم يف نصرة دين اهلل‪ ،‬يتوقف جناح اخلطة‪ .‬فإنه ال يُقيم‬
‫دين اهلل يف األرض إال مؤمنون جسمهم وجهدهم هنا وطموح روحهم يف اآلخرة‪.‬‬ ‫َ‬
‫يسرد لنا صفات اآلمرين باملعروف الناهني عن املنكر ‪:‬‬ ‫قال اهلل تعاىل ُ‬
‫الجنَّةَ يـَُقاتِلُو َن فِي‬ ‫س ُه ْم َوأ َْم َوالَ ُهم بِأ َّ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َن لَ ُه ُم َ‬ ‫ين أَن ُف َ‬‫﴿إِ َّن اللّهَ ا ْشتـََرى م َن ال ُْم ْؤمن َ‬
‫يل والْ ُقر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫سبِ ِ ِ‬
‫آن‬ ‫يل اللّه فـَيـَْقتـُلُو َن َويـُْقتـَلُو َن َو ْعداً َعلَْيه َح ّقاً في التـَّْوَراة َوا ِإلنج ِ َ ْ‬ ‫َ‬
‫استَْب ِش ُرواْ بِبـَْي ِع ُك ُم الَّ ِذي بَايـَْعتُم بِ ِه َو َذلِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫ك ُه َو الْ َف ْوُز‬ ‫َوَم ْن أ َْوفَى بِ َع ْهده م َن اللّه فَ ْ‬
‫اجدو َن ِ‬ ‫الراكِعُو َن َّ‬
‫الس ِ‬ ‫السائِ ُحو َن َّ‬ ‫ْح ِام ُدو َن َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اآلم ُرو َن‬ ‫يم التَّائبُو َن ال َْعابِ ُدو َن ال َ‬
‫ال َْعظ ُ‬
‫ِِ‬ ‫َّاهو َن َع ِن الْمن َك ِر والْحافِظُو َن لِح ُد ِ‬
‫ود اللّ ِه َوبَ ِّ‬ ‫ِ‬
‫بِال َْم ْع ُروف َوالن ُ‬
‫ين﴾‪.1‬‬ ‫ش ِر ال ُْم ْؤمن َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ َ‬
‫ال غىن لإلسالميني عن قوة الرفض واملعارضة قبل الوصول إىل احلكم وبعده‬
‫أي تغيري وبناء وإحقاق للحق‬
‫لدحض الباطل ومقاطعة أهله ودك أصوله‪ .‬مث ال يتأتى ُّ‬
‫إال إذا كان جند اهلل مؤهلني التأهيل اإلمياين العلمي التنظيمي العملي التنفيذي الذي‬
‫تندمج فيه اخلصال الروحية األخالقية بالقدرات العقلية التدبريية‪ ،‬وتوجهها‪ .‬وبشر‬
‫املؤمنني‪ .‬واهلل ذو الفضل العظيم‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة التوبة‪ ،‬اآليتان ‪.113-112‬‬

‫‪145‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫املعارضة والتعددية‬
‫كان املنافقون يف املدينة على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا ل ُقوا الذين‬
‫آمنوا قالوا‪ :‬آمنا‪ .‬وإذا لقوا اليهود حلفوا هلم أهنم معهم‪ .‬فأنزل هلل تعاىل فيهم قوله من‬
‫ب اللَّهُ َعلَْي ِهم َّما ُهم ِّمن ُك ْم﴾‬ ‫ِ‬ ‫سورة اجملادلة‪﴿ :‬أَلَ ْم تـَر إِلَى الَّ ِذ َّ‬
‫ين تـََول ْوا قـَْوماً غَض َ‬
‫‪1‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫استَ ْح َو َذ َعلَْي ِه ُم َّ‬
‫ك ح ْز ُ‬ ‫اه ْم ذ ْك َر الله أ ُْولَئ َ‬‫َنس ُ‬
‫الش ْيطَا ُن فَأ َ‬ ‫إىل قوله عز وجل‪ْ ﴿ :‬‬
‫اس ُرو َن﴾‪ .2‬فجعل سبحانه السمة البارزة‬ ‫ان هم الْ َخ ِ‬ ‫ان أََل إِ َّن ِح ْزب َّ ِ‬ ‫الش ْيطَ ِ‬
‫َّ‬
‫الش ْيطَ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫حلزب الشيطان توليهم للكافرين واستحواذ الشيطان عليهم حىت أنساهم ذكر اهلل‪.‬‬
‫حاد اهلل‬
‫ووصف سبحانه يف نفس السياق حزب اهلل بأهنم قوم ال يُو ُّادون من ّ‬
‫ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخواهنم أو عشريهتم‪.‬‬
‫الوالءُ للكافرين والتحيز إليهم الصفةَ الواحدة الكافية لتعريف حزب‬
‫فيكون َ‬
‫الشيطان‪ ،‬والوالءُ للمؤمنني والتحيز إليهم صفةَ حزب اهلل‪ .‬أال إن حزب اهلل هم‬
‫املفلحون‪.‬‬
‫ويذكر األحزاب‪ ،‬باجلمع‪ ،‬يف القرآن الكرمي‪ ،‬يقصد هبم مجع الكفار ِ‬
‫أعداء األنبياء‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫عليهم السالم‪ .‬فمن تكرار «حزب اهلل»‪« ،‬حزب الشيطان»‪« ،‬األحزاب» على مسامع‬
‫املسلم تتخلّق عنده مشاعر النفور من األحزاب‪ ،‬باجلمع‪ ،‬ومشاعر الوحدة «حلزب اهلل»‬
‫مقابل حزب الشيطان‪.‬‬

‫‪ 1‬اجملادلة‪ ،‬اآلية ‪.14‬‬


‫‪ 2‬اجملادلة‪ ،‬اآلية ‪.19‬‬

‫‪146‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ويقرأ املسلم‪ ،‬أو يسمع من الواعظ والفقيه‪ ،‬حديث افرتاق األمة على ثالث‬
‫ب يف ذهنه كراهية التعدد‪ ،‬والضيق‬ ‫فريس ُ‬
‫وسبعني فرقة كلها يف النار إال واحدة ُ‬
‫باخلالف‪ ،‬فال يكون عنده ُمتسع ل َقبول الرأي املخالف‪ .‬من ها هنا تتميز يف وعيه‬
‫الفكر‬
‫وزعمه «الفرقة الناجية»‪ ،‬وما عداها ففي النار‪ .‬وال أظن أن الفكر املسل َـم‪ ،‬و َ‬
‫اإلسالمي بالذات‪ ،‬حباجة إىل تصحيح املفاهيم العملية السياسية كما هو حباجة إليه‬
‫فيما خيص اخلالف ومعاجلته باملرونة والرفق الضرورين للتعايش مع طوائف الناس ومع‬
‫الفصائل اإلسالمية املخالفة يف الرأي واملذهب واملوقف السياسي‪.‬‬
‫اج ُع الكتاب النفيس «االعتصام»‬ ‫لفقه حديث الفرق الثالث والسبعني يُر َ‬
‫لإلمام الشاطيب رمحه اهلل‪ .‬ففيه كالم رفيق معتدل وعلم غزير‪.‬‬
‫ِّب من عقولنا نُسائِل السرية النبوية لنعرف‬
‫ولتوسيع دائرة فهمنا وتليني املتخش ِ‬
‫هل كان حزب اهلل النموذجي الذي رباه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأشاد‬
‫بفضله القرآن الكرمي وجعله لنا أُسوة ومستندا كتلةً واحدة ُمصمتة‪ ،‬وهل كان الرأي‬
‫واحدا‪.‬‬
‫ملا خرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ليعرتض ِع َري قريش استشار املسلمني‪.‬‬
‫فقام أبو بكر مث عمر مث املِقداد فقالوا قوال حسنا عربوا به عن رأي املهاجرين‪ .‬كل‬
‫ذلك ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪ :‬أشيروا علي أيها الناس! حىت قام‬
‫إليه سعد بن معاذ سيد األوس فقال‪ :‬واهلل لكأنك تريدنا يا رسول اهلل! قال‪ :‬أجل!‬
‫فقال سعد رضي اهلل عنه كلمته الرائعة اليت ختمها قائال‪« :‬فوالذي بعثك باحلق لو‬
‫استعرضت بنا هذا البحر فخضته خلضناه معك»‪.‬‬
‫األنصار كانوا كتلة إىل جانب املهاجرين‪ ،‬وكان هلم رأي‪،‬‬
‫َ‬ ‫حنن أن‬
‫ُنسك ُ‬
‫وكانت هلم كلمة وموقف‪ ،‬يُعبـُِّر عنهم الناطق بامسهم كما يعرب الناطق بلسان‬

‫‪147‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫املهاجرين عن رأي املهاجرين‪ .‬والقرآن الكرمي يذكر باالسم السابقني األولني من‬
‫«املهاجرين» و«األنصار»‪ .‬أمة واحدة متكونة من فئتني متآلفتني مستقلتني‪.‬‬
‫وخارج املدينة قبائل موالية من أعراب املسلمني‪ ،‬لكل منها قيادهتا ورأيها‪ .‬وكلها‬
‫من حزب اهلل منذ أعطت والءها ألهل اإلميان وقاطعت الكفار‪.‬‬

‫يف غزوة األحزاب كانت أحزاب الكفر ‪-‬حزب الشيطان‪ -‬تتكون من اليهود‬
‫وقريش و َغطَفان وبين أسد ومن تبعهم‪ .‬فلما أرهقوا املسلمني فاوض رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم غطفان على أن يُعطيهم ثلث مثار املدينة ويرجعوا عنه‪ .‬وكتبوا‬
‫بذلك كتاباً حىت مل يبق إال اإلشهاد‪ .‬فجاء سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رئيسا‬
‫قبيليت األنصار‪ ،‬األوس واخلزرج‪ ،‬فتكلما مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وعارضا‬
‫رأيه يف الصلح‪ .‬فهل كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم معه «أحزاب» كما كان‬
‫ضده «أحزاب»؟ باملعىن املذموم للكلمة‪.‬‬

‫بعد بدر شاور رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املسلمني يف مصري األسرى‪،‬‬
‫أي أيب بكر موافقا لرأي النيب صلى اهلل عليه وسلم يف ُمفاداهتم‪ .‬ففاداهم‪.‬‬ ‫فكان ر ُ‬
‫وخالف عمر بن اخلطاب ونزل الوحي مبوافقة رأيه يف قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ما َكا َن لِنَبِ ٍّي أَن‬
‫الدنـيا واللّه ي ِري ُد ِ‬ ‫َس َرى َحتَّى يـُثْ ِخ َن فِي األ َْر ِ‬
‫اآلخ َرةَ‬ ‫ض ُّ َْ َ ُ ُ‬ ‫ض تُ ِري ُدو َن َع َر َ‬ ‫يَ ُكو َن لَهُ أ ْ‬
‫ِ‬
‫يم﴾‪.1‬‬ ‫َواللّهُ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬

‫‪ 1‬سورة األنفال‪ ،‬اآلية ‪.68‬‬

‫‪148‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫مواقف صاغها قَ َدر العزيز احلكيم سبحانه لتكون لنا دروسا منوذجية حىت‬
‫ال جترنا احلرفية واجلهل بالنفوس البشرية وبالدين إىل ختشب سلوكي نعجز معه عن‬
‫احلركة يف العامل وعن التعامل السليم بني املسلمني‪.‬‬
‫إننا ال بد أن يُعارضنا املعارضون من «حزب الشيطان» ومن «حزب اهلل»‬
‫الوالء الكفري‪ .‬وسواء وصلنا إىل احلكـم عن طريق ثورة كثورة‬ ‫املسلمني الربيئني من َ‬
‫إيران أو عن طريق انقالب أو عن طريق انتخاب فال حميـد لنا عن التعامل مع‬
‫القمع حالًّ خلالفنا مع املخالف‪ ،‬وال ُ‬
‫زعم‬ ‫األحزاب‪ ،‬باملعىن العصري للكلمة‪ .‬وليس ُ‬
‫وحدة الكتلة ال ُـمصمتة املتَّفقة فيما بيننا أمراً ممكنا بالطبع أو الشرع‪.‬‬
‫تصور الوحدة ال ُـمصمتة لدى حزب اهلل ما‬
‫ت يف أذهان اإلسالميني َ‬ ‫مما أثـْبَ َ‬
‫خلّفه األستاذ العبقري حسن البنا رمحه اهلل من فكر أبرزته مواقفه السياسية‪.‬‬
‫فقد دفَع حبركة اإلخوان املسلمني يف خضم الصـراع السياسي يف مصـر‬
‫الغلَيان‪ ،‬يف مصر حزب الوفد‪ ،‬يف مصر املؤامرات ضد القصر ومع القصـر‪ ،‬يف مصر‬
‫الزعامات والتنافسات على املناصب‪ .‬ف َك ِرَه رمحه اهلل جو السياسة التعددية‪ ،‬وكره نوع‬
‫الدميوقراطية املتخلفة اليت عايشها‪ .‬وقبِ َل وجوهاً من الدميوقراطية‪.‬‬
‫يقول رمحه اهلل يف رسالته إىل املؤمتر اخلامس لإلخوان املسلمني‪« :‬إن الباحث‬
‫حني ينظر إىل مبادئ احلكم الشوري اليت تتلخص يف احملافظة على احلرية الشخصية‬
‫بكل أنواعها وعلى الشورى واستمداد السلطة من األمة وعلى مسؤولية احلكام أمام‬
‫الشعب وحماسبتهم على ما يعملون من أعمال وبيان حدود كل سلطة من السلطات‬
‫‪ -‬هذه األصول كلها يتجلى للباحث أهنا تنطبق على تعاليم اإلسالم ونُظمه وقواعده‬
‫يف احلكم»‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫لكنه حيكم حكما يائسا على احلزبية وتعدد األحزاب ويتوق إىل حزب وحيد‬
‫با ِر ٍئ من علل احلزبية التعددية‪ .‬فيقول يف «مشكالتنا يف ضوء النظام اإلسالمي»‪:‬‬
‫«لقد انعقد اإلمجاع على أن األحزاب املصرية هي سيئة هذا الوطن الكربى‪ .‬وهي‬
‫أساس الفساد االجتماعي الذي نصطلي بناره اآلن [‪ .]...‬فهي ليست أكثر من‬
‫انشقاقات أحدثتها خالفات شخصية [‪ ]...‬ال برامج هلا وال مناهج‪ ]...[ .‬وإذا‬
‫كان األمر كذلك فال ندري ما الذي يفرض على هذا الشعب الطيب اجملاهد املناضل‬
‫الكرمي هذه الشِّيَع والطوائف من الناس اليت تسمي نفسها األحزاب السياسية‪]...[ .‬‬
‫مع‬
‫وت َ‬
‫قال رمحه اهلل‪« :‬وال مناص بعد اآلن من أن ُتل هذه األحزاب مجيعا ُ‬
‫قوى األمة يف حزب واحد يعمل الستكمال استقالهلا وحريتها»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن عمل هذا الرجل العظيم وفكره الرائد تركا أثرا ساريا يف أفهام هذه‬
‫األجيال املباركة يف احلركة اإلسالمية‪ .‬وكل عمل رائد وفكر وطيد إما أن يكونا‬
‫مفتاحا ملزيد من التقدم يف الفهم واملمارسة‪ ،‬وإما أن يكونا «سلفا» إليه يَنتهي إدراك‬
‫العقول املقلدة وفيه تنغلق‪.‬‬
‫وما من إمام من أئمتنا الصاحلني إال ويقول لسان حاله ومقاله‪ :‬افعلواكما فعلت‪،‬‬
‫ومنطلَق الوحي كما رجعت‪.‬‬ ‫واجتهدوا لزمانكمكما اجتهدت‪ ،‬وارجعوا إىل ُمنبَثَق العلم ُ‬
‫ومسألة احلزب الوحيد اليت دعا إليها شهيدنا البنا رمحه اهلل كانت احلل الوحيد‬
‫الذي تراآى له لفساد الطبقة السياسية يف زمانه‪ .‬كان صراع اإلخوان املسلمني مع‬
‫قتال الطهارة للعفونة‪ ،‬وحزب الفتوة املتوثبة‬
‫القصر‪ ،‬ومع الوفد‪ ،‬ومع االحتالل اإلجنليزي َ‬
‫لليأس اهلرم‪ ،‬ومناهضة احلق للباطل‪ .‬شاخ حزب الوفد يف غرور زعامته الوطنية املعارضة‬

‫‪150‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫للقصـر الفاسد ولالحتالل األجنيب‪ .‬وشاخت فيه أوبئة االستبداد الزعامي‪ .‬فكان‬
‫ص ْهر األحزاب املتنازعة على الزعامة واملنصب واملال يف‬
‫األستاذ اجملدد رمحه اهلل يروم َ‬
‫سد‪.‬‬
‫الروح واجلَ َ‬
‫وحدة يكون اإلخوان املسلمون فيها هم َ‬
‫وليست اهليئة السياسية الوحيدة املستبدة باحلكم إال وجها آخر لالستبداد‪،‬‬
‫ومطية ال ختتلف عن احلكم الفردي للظلم‪ .‬وسواء كان احلـزب الوحيـد منبعثا عن‬
‫ثورة هدمت القدمي‪ ،‬أو برز من معارك التحريـر الوطين مكلال مبجد األبطال‪ ،‬فهو من‬
‫يومه قوةٌ مستبدة ألنه ال معا ِرض أمامها وال رأي مع رأيها‪.‬‬
‫وإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الذي ِ‬
‫خش َي علينا أن تُبسط علينا‬
‫معرضون لداء‬
‫س عليها فتُهل َكنا ينطق على أهل الدعوة باحلق أهنم َّ‬
‫«الدنيا» فنتنافَ َ‬
‫مثل احتكار السلطان؟‬
‫األمم كغريهم من أهل الدولة والسياسة‪ .‬وأي بسط للدنيا ُ‬
‫ض هنا على أهل اإلسالم؟‬
‫عر ُ‬
‫مث أهي استفادة من التعددية الدميوقراطية تُ َ‬
‫آدم القاتل السفاك إن مل نستفد من صواب‬ ‫إننا نكون أشد بالدة من ابن َ‬
‫أنفسنا وخطإها‪ ،‬ومن جتربة غرينا ونتائجها‪ .‬بعث اهلل البن آدم القاتل غرابا‪ ،‬حيوانا‬
‫أعجم‪ ،‬يبحث يف األرض ُلييَه كيف يواري سوأة أخيه‪ .‬فاستوعب الدرس وتعلم من‬
‫أحسن منه ألنه مل يقتل أخاه‪.‬‬
‫أقل منه‪ ،‬و َ‬‫َّ‬
‫ُي َشى على الدعوة املرشحة على لسان كل ناطق وصامت للحكم أن تذوب‬
‫يف تيار السياسة‪ .‬وأشد ما يكون الذوبان أن ختطئ الدعوة فتحتكر السلطان وتقمع‬
‫كل معارضة وتسلك سبيل احلزب الوحيد الذي يشاهد العامل فضيحته يف روسيا‪.‬‬
‫وما ربك بظالم للعبيد‪.‬‬
‫‪151‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫تطبيق الشريعة‬
‫* املصلحة واالجتهاد‬
‫* الدنيا لآلخرة‬
‫* وازعا القرآن والسلطان‬
‫* قانون التدرج‪ ،‬بل شريعته‬
‫* «باب من ترك قتال اخلوارج للتألف»‬
‫* التائبون احلافظون‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫املصلحة واالجتهاد‬
‫إنه الغرق يف جلج السياسة إن أقدمت الدعوة وقد وحدت صفوفها وتصرفت‬
‫كما يتصرف احلزب الوحيد‪ .‬تتحمل أثقال مرياث املاضي وحدها‪ ،‬وتزعم لنفسها‬
‫وللناس أهنا تتقمص آمال الشعب وتعكس إرادته وتنطق بامسه من دون الناس مجيعا‪.‬‬
‫حمرك إىل مطية لألهواء والطموحات‬ ‫إهنا إن فعلت لن تلبث أن تتحول من فاعل ِّ‬
‫الشخصية عند أولئك الذين ينتظرون من يشق هلم الطريق ليرتبعوا على كراسي الدولة‪.‬‬
‫وعندئذ فسالم على الدعوة وأهدافها النبيلة‪ .‬عندئذ تعود دورة الفساد دوراهنا‪ ،‬وينفر‬
‫الشعب من مفسدي اليوم كما نفر من مفسدي األمس الذين عارضناهم فكانت‬
‫معارضتنا إياهم هي الرصيد املعنوي الذي رفعنا إىل ثقة الشعب‪.‬‬
‫احلزب الوحيد إما جييء إىل احلكم متجمال بنضال حتريري‪ ،‬وإما تفرزه‬
‫صر‪ ،‬بعد فرتة شباب يُونِ ُع فيها‬‫الدولة بعد انقالب عسكري‪ .‬مآلُه طال الزمان أم قَ ُ‬
‫احلماس وتـُْنثـَُر فيها الوعود‪ ،‬إىل أن يصبح آلة بريوقراطية ثقيلة ملتصقة بالدولة‪،‬‬
‫هم َد حيويته يف حماولته الحتالل‬ ‫حاملة أوزارها‪ .‬مآله أن خينُق حرية الشعب وي ِ‬
‫ُ‬
‫املساحة السياسية بأكملها‪ .‬مآله أن يثبط كل اعرتاض‪ ،‬وأن مينعه ويسجنه ويقتله‪،‬‬
‫وحده يرتجم عنه‪ .‬وعندئذ تعمل املعارضة يف السرية‪،‬‬ ‫باسم إمجاع شعيب هو َ‬
‫دي إليه عيوبَه‪.‬‬
‫بدل أن ُت َ‬‫وتكشف عورات احلزب الدولة َ‬
‫إن الدعوة تـُْف ِس ُد رصيدها وشرعيتَها التارخيية إن هي تصدت للحكم جاهلةً‬
‫بالديناميات االجتماعية‪ ،‬والتقلبات يف الرأي العام‪ ،‬ووجود معارضة للحكم مبا أنزل‬
‫اهلل‪ .‬مىت ج ِه ْلنا هذا الو َ‬
‫اقع وتصرفنا باالعتماد على القسر والقهر ال على اإلقناع واحلوار‬
‫واملشاركة والتدرج فمآلُنا من حيث كونُنا دعوة ودولة أن نتبخر عند أول هزة أو ثانيها‬

‫‪155‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أو ثالثها‪ .‬ويف اهنيار احلزب الوحيد بروسيا وبأوربا الشرقية ويف كل مكان العربة ملن‬
‫عم َل فيه ِمعوالن‪ :‬عدم صالحية املذهب االشرتاكي وعدم‬ ‫يعترب‪ .‬وذلك خراب ِ‬
‫صالحية األسلوب االحتكاري للسلطة‪.‬‬
‫ومشسه يف طلوع‪ ،‬احتدم‬
‫كلما ظهر للبادي واحلاضر أن جنم اإلسالم يف بزوغ‪َ ،‬‬
‫اجلدل حول تطبيق الشريعة‪ ،‬واشتغلت اجلرائد واجملالت والكتب واملؤمترات باحلديث‬
‫والتعليق عن الشريعة والقانون‪ ،‬وعن الرتاث واملعاصرة‪ ،‬وعن الثابت واملتحرك‪ ،‬وعن‬
‫اجلامد واملتطور‪ .‬ويف سوق اجلدل حول الشريعة وتطبيقها يتقدم خصوم الشريعة‬
‫وأعداؤها‪ ،‬وهم يف ْأم ٍن من طائلة «املتشددين» األغوال‪ ،‬بتحفظاهتم وشكوكهم‪.‬‬
‫هذه األصوات ما نفعل هبا عند وصولنا للحكم؟‬
‫اليوم وغدا هي أن شريعة اهلل هي تكلي ُفه للمسلمني واملسلمات‪.‬‬ ‫كلمتُنا َ‬
‫اإلميان هبا ُكالًّ ال يتجزأ شرط يف اإلسالم‪ .‬وتطبيقها على اجملتمع‪ ،‬بل للمجتمع‪،‬‬
‫أمر مقدس‬
‫واجبُنا مىت قدرنا‪ .‬كلمتنا أن ما ثبت من عند اهلل ومن سنة رسول اهلل ٌ‬
‫وهداية ونور‪ .‬ال نقبل زيادة يف الشريعة وال نقصا وال حتفظا وال استدراكا وال إضافة‪.‬‬
‫اخلضوع مطعن خطري يف عقيدة‬ ‫ِ‬ ‫بول شرع اهلل و ِ‬
‫الدينونة ألمره و‬ ‫الرتدد يف قَ ِ‬
‫َّى‬‫ت‬ ‫ح‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫ك الَ يـ ْؤِ‬
‫م‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫املسلم‪ ،‬ومن َقصة خملة بإميان املؤمن‪ .‬قال اهلل عز وجل‪﴿ :‬فَالَ َوَربِّ َ ُ‬
‫سلِّ ُمواْ‬
‫ت َويُ َ‬ ‫ض ْي َ‬‫يما َش َج َر بـَيـْنـَُه ْم ثُ َّم الَ يَ ِج ُدواْ فِي أَن ُف ِس ِه ْم َح َرجاً ِّم َّما قَ َ‬‫يح ِّكم َ ِ‬
‫وك ف َ‬ ‫َُ ُ‬
‫تَ ْسلِيماً﴾‪.1‬‬
‫جنوانا ونعلنه فيَتَالَقَى مع شوق هذه األمة أن ترى‬
‫دينُنا الذي ندين اهلل تعاىل به يف َ‬
‫مطلب لنا ال حنيد عنه‪ .‬وإال انفسخنا عن‬
‫لواء اإلسالم مرفوعا هو أن تطبيق شرع اهللكامال ٌ‬
‫‪ 1‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.64‬‬

‫‪156‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ووعده‬ ‫ديننا‪ .‬وبرناجمنا يف احلكم الذي حترك الشعب له فحملنا إىل احلكم ِ‬
‫مرجعهُ ودعامته ُ‬
‫أن شريعة اهلل عدل ومصلحة وخري وأمن وعافية‪.‬‬
‫ما ثبتنا على إمياننا وسرنا خبطى احلكمة يف طريق إحقاق احلق وبنائه لبِنَةً لبنة‬
‫حل جحافله‪ .‬إن ثبتنا على‬ ‫وتضم ُّ‬
‫جهوده ويتالشى ُمَرّكبُه‪َ ،‬‬
‫تفشل ُ‬ ‫فالباطل من حولنا َ‬
‫ليعبـَِّر عنا‪ ،‬بطالقة حريته‪ ،‬عن والئنا مجيعا لشـرع اهلل‬
‫خطى احلكمة وحركنا الشعب َ‬
‫وعن ثقتنا بأن يف شرع اهلل ضماناً ملصاحلنا مجيعها‪ ،‬فإن أهل الباطل لن تغين عنهم‬
‫فئتهم شيئا ولو كثرت‪ .‬وإن اهلل مع املؤمنني‪.‬‬
‫ليس من شأننا‪ ،‬قبل وصولنا للحكم وبعده‪ ،‬أن نـُنـَّقب عما يف القلوب‪ ،‬وال‬
‫أن نصنف الناس يف حزب الشيطان إن خالفونا‪ ،‬ما داموا ال جيهرون بعدائهم للدين‪،‬‬
‫وال يسخرون من شرع اهلل‪ ،‬وال يتطاولون إىل املشاركة يف محلة الكافرين على اإلسالم‬
‫وشريعته‪ِ .‬يق ُّل عاما بعد عام من يفعل ذلك‪ .‬ويوم يكون السلطان بأيدينا إن شاء‬
‫جيرُؤ على ذلك مهما أضمر ومكر‪.‬‬ ‫اهلل فلن جتد من ُ‬
‫لكن من شأننا‪ ،‬قبل وصولنا للحكم وبعده‪ ،‬أن نعلم أن طوائف املثقفني‬
‫أهل عقل يعادو َن‬
‫املغربني الالييكيني املتجادلني يف الشريعة وتطبيقها هم يف اجلملة ُ‬
‫النقل‪ .‬هم مؤرخون متحيزون ال ينصفون‪ ،‬يـَْعزون لإلسالم عيوب املسلمني وأخطاء‬
‫املسلمني وجتاوزات املسلمني‪ .‬ومبعيار قيمهم العقالنية الالّييكية يزنون الشريعة‪،‬‬
‫ض َمر عدائهم للدين أو جهلهم به أو نفاقهم فيه يشريون بأصابع االهتام إىل‬ ‫ومبُ ْ‬
‫السيِّئ للشريعة ليُ َكِّرهوا للناس اإلسالم‪ ،‬منسجمني‬
‫هفوات املسلمني يف تطبيقهم َّ‬
‫يف ذلك مع اجلوقة العاملية العدائية‪ .‬فكل يد قُ ِطعت يف حد‪ ،‬وكل فاجر ُجلِد‪ ،‬وكل‬
‫حائد عُِّزر يف ماضي املسلمني وحاضرهم حجة على أن الشريعة مهجية‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ال يرتيث الالييكيون وال يتورعون ليميزوا يف خطاهبم ويف جدهلم بني شرع اهلل‬
‫املنزل الذي ال يأتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه تنزيل من حكيم محيد وبني‬
‫اجتهادات اجملتهدين وفقه الفقهاء وخطإ البشر يف الفهم عن اهلل ورسوله ويف تنفيذ‬
‫ما أمر اهلل به ورسولُه‪.‬‬
‫ب هبم ليُهدوا إلينا عيوبنا مشكورين‪ ،‬يعتقدون أن‬‫املرح ُ‬
‫هؤالء املعارضون لنا‪َّ ،‬‬
‫املصلحة إمنا يضمنها العقل املتصرف على ضوء املكتسبات اإلنسانية املتطورة يف‬
‫ميادين القانون واالجتماع واالقتصاد والسياسة‪ .‬ويعتقدون أن نصوصا عُ ْم ُرها أربعةَ‬
‫عشر قرنا ال ميكن أن تستجيب ملستجدات هذا العصر ومشاكله اليت ما عرفتها‬
‫اجلزيرة العربية منذ أربعة عشر قرنا‪ .‬أستغفر اهلل العظيم من نسبة عُ ْمر زمين لكالم‬
‫اهلل العليم احلكيم‪.‬‬
‫الكيِّسون من هؤالء‪ ،‬ورمبا املسلمون منهم املتقلصون يف فهم دينهم‪ ،‬يؤيدون‬
‫عقائدهم بأن اإلسالم يدعو الستعمال العقل‪ .‬ويسردون اآليات املرشدة إىل التأمل‬
‫يف ملكوت السماوات واألرض واختالف الليل والنهار وما خلق اهلل من شيء‪.‬‬
‫حني نقول حنن‪ :‬الشريعة هي املصلحة ويف حدودها جيتهد العقل‪ ،‬يقولون هم‬
‫سرا أو جهرا‪ :‬العقل قبل كل شريعة‪ ،‬وال مصلحة إال ما يُسيـُِّره اجملتمع ويقرره اجملتمع‪.‬‬
‫بل منهم من غرس جنَّاتِه خارج سياج الشريعة‪ ،‬فليس يرجو مثارا إال من شجرة الزقوم‬
‫العقالنية‪.‬‬
‫أستعمل كلمة «العقل» موقتا مبدلول «العقل املعاشي» املشرتك عندي‪َّ ،‬أما هم‬
‫خرب عندهم بالعقل الذي‬
‫فالعقل ُمطلق عندهم‪ ،‬منه وإليه يبتدئ وينتهي كل شيء‪ ،‬ال َ‬
‫وبالنبوة وبالشريعة‪.‬‬
‫فعل القلب املؤمن باهلل وباآلخرة ّ‬
‫جمَّده اهلل تعاىل يف القرآن‪ ،‬وهو ُ‬

‫‪158‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫سنجد من الالييكيني‪ ،‬وقد يكون منهم مسلمون ينطقون عن اقتناع‪ ،‬من يُشيد‬
‫باإلسالم‪ ،‬ويتم ّدح بأخالق اإلسالم‪ ،‬وروحانية اإلسالم‪ ،‬وصفاء عقيدة التوحيد‪ .‬كل‬
‫ص إىل ضرورة تقديس الدين ورفْعه يف منارات األذان ومساجد الصالة‬ ‫ذلك ليخلُ َ‬
‫ِّسهُ بالسياسة‪ ،‬أو نسـيء إليه بإقحامه يف مشاكل العامل‪.‬‬
‫وتالوة املصحف خمافةَ أن ندن َ‬
‫إهنا الالييكية مسيطرةً على األلباب‪ .‬فصل الدين عن الدنيا باب من أبواب العقالنية‪،‬‬
‫بل شرط من شروطها‪.‬‬
‫معشر اإلخوان‪ ،‬هذا الفكر املنحرف عن الشريعة‪،‬‬
‫هل نُسقط من حسابنا‪َ ،‬‬
‫افض يف قرارة نفسه لتطبيقها؟ هل مننع يف غد اإلسالم التعبري عنه؟ هل نكتم‬ ‫الر َ‬
‫أنفاس املعارضة ملشروعنا املنكرة ملبادئه ؟ هل نتجاهل املوقف املتكتل امللتف حول‬
‫برناجمه؟‬
‫خيار بني بدائل‬
‫إن التشريع لدولة قائمة وجمتمع حي مبشاكله املتجددة ٌ‬
‫متعددة أيها حيقق مصلحة الشعب‪ .‬وإن تعزيز سلطان الدولة للتشريع‪ ،‬ووقوفها‬
‫جدوى إن‬
‫جبانبه ال يعطي التشريع فضيلة إن كان َمبناهُ غري فاضل‪ ،‬وال يعطيه َ‬
‫صدره نابعا عن‬
‫كان أصلُه غري ثابت يف قلوب الشعب‪ ،‬وال حيقق به عدال إن كان ُ‬
‫الشرك والد الالييكية اهلامجة على اإلسالم لظلم عظيم‪.‬‬
‫الظلم‪ .‬وإن َ‬
‫لذلك ال خناف اليوم وغدا حبول اهلل مقارنة اآلراء فيما بيننا وبني الالييكيني‬
‫أنصار العقل املعاشي ضامن املصلحة يف اعتقادهم‪ ،‬كما جيب أن ال خناف تعدد‬
‫االجتهاد فيما بني الفصائل اإلسالمية وعلماء املسلمني بشروط االجتهاد املعتربة‪.‬‬
‫وللشعب أن خيتار وهو حر بني البدائل‪ .‬واهلل على كل شيء وكيل‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫الدنيا لآلخرة‬
‫ت ُخ ْلطَةُ اجلاهليني منا النفوس‪ ،‬وكدرت العقول‪ ،‬وتغلغل َس َخ ُمها إىل‬ ‫َّلوثَ ْ‬
‫وس َخ الفتنة الفكرية‬
‫ذهب َ‬‫القلوب‪ .‬فال يغسل مرض الغثائية عنا إال ماءُ القرآن‪ ،‬وال يُ ُ‬
‫ونعطَِّرهُ بعطر‬
‫النفسية إال صابون السنة‪ .‬وبعدها نعرض ناقهنا لنلبسه لباس التقوى‪َ ،‬‬
‫وح َرْو َح حب اهلل‪ ،‬ويتزين بزينة اهلل‬ ‫ِ‬
‫الوحي‪ ،‬ونـَْفت َق جيوبه ليتنسم نسيم اآلخرة‪ ،‬ولريُ َ‬
‫اليت أخرج لعباده‪.‬‬
‫تلوثت األلفاظ واملصطلحات‪ ،‬وتداخلت املفاهيم‪ ،‬واشتبكت املعاين مبادية‬
‫الثقافة الدوابية األرضية احمليطة الغازية‪ .‬فأنت تتحدث عن الشريعة كافلة املصلحة‪.‬‬
‫وكلمة «مصلحة» يف عُرف العصر الدارج ال رائحة فيها وال يف شيء مما يُنطَق أو‬
‫فأن نتفاهم مع رواد‬
‫اجلدل احلضاري التنموي الثقايف لآلخرة‪ّ .‬‬‫يُكتب يف حضن َ‬
‫نادي السياسة اجلائحة؟‬
‫«وضع الشرائع إمنا هو ملصاحل العباد يف العاجل واآلجل»‪ .‬هذا كالم كان‬ ‫ُ‬
‫أمر الشرائع‬
‫أمر اآلخرة و ُ‬
‫معناه واضحا ملا كان اإلسالم هو الشوكة والدولة‪ ،‬وملا كان ُ‬
‫املنزلة إميانا راسخا ال أطروحة للنقاش‪ .‬العبارة لإلمام الشاطيب رمحه اهلل‪ ،‬كتبها يف‬
‫الشرعي من وضع الشريعة إخراج املكلف‬ ‫ِ‬
‫«املقصد‬ ‫أندلس اإلسالم املتألق‪ .‬وكتب أن‬
‫ّ‬
‫عن داعية هواه حىت يكون عبدا هلل اختيارا كما هو عبد هلل اضطرارا»‪.‬‬
‫مل تكن معاين العبودية هلل عز وجل ومعاين اآلخرة ومطالب الشريعة ومقاصدها‬
‫ومصاحل العباد مقوالت هامشية عندماكتب فقهاؤنا األجلَّة بلغة العزة والصفاء‪ .‬وماكان‬
‫ينطوي عليه املسلمون من بقايا الفلسفات اليت محلها معهم عندما دخلوا يف اإلسالم‬

‫‪160‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أهل اآلفاق مل يكن عامال ُملَوثا‪ .‬بل هضم اخلطاب اإلسالمي الصاحل من تلك‬
‫ُ‬
‫البقايا ولفظ الفاسد‪.‬‬
‫أما اليوم فطبول الدنيا وتزمري أبناء الدنيا ورقصات شياطني الدنيا على بابك‪،‬‬
‫تُ ِ‬
‫ص ُّم اآلذان وترمي بشررها على الوجوه‪ .‬فال اخلريُ وال الشر وال املصلحة وال املفسدة‬
‫فتلني إليها‪ ،‬وتطمئن إليها النفس املؤمنة باملعاد فتسلك‬
‫تقاس مبقاييس تعرفها الفطرة ُ‬
‫بباعثها‪.‬‬
‫لذلك فالتحدث بلغة القرآن يف عصـر ساد فيه حديث الفلسفة والثقافة والفن‬
‫واللذة واملنفعة و«السعادة» واملتعة واملردودية وتوابعها َمدخل صعب‪ .‬ولذلك َح َّق‬
‫على اإلسالميني أن يُلحوا على ما كان مسكوتا عنه لبداهته يف كالم سلفنا العلماء‬
‫وح َّق أن يتميزوا يف العبارة‪ ،‬يقاتلون يف صف ال َكلِ ِم ال ُقرآنية السنية كل‬
‫املؤمنني‪َ .‬‬
‫عوامل التلوث املعريف‪.‬‬
‫يشرتط علماؤنا األجلة يف اجملتهد الذي يستنبط األحكام‪ ،‬ويستنطق النصوص‪،‬‬
‫ويراعي يف الرتجيح مقاصد الشريعة ومصاحل العباد أن يكون عاملا متبحرا يف اللغة‬
‫صب عينيه‪ ،‬وأن يكـون على‬ ‫العربية‪ ،‬وأن تكون آيات األحكام وأحاديثها حمققة نُ َ‬
‫معرفة تامة باحلالة االجتماعية االقتصادية العُْرفِيَّ ِة للعباد حىت يتمكن من القياس‪.‬‬
‫وأن يعرف وجوه العلة ومسالِكها ليغطي باجتهاده املساحة الواسعة اليت مل يغطها‬
‫التشريع بنص قطعي‪.‬‬
‫وفصل فقهاؤنا األصوليون العباقرةكيف تُفسر التكاليف الشرعية‪ ،‬على مراتبها‪،‬‬
‫ِِ ِ‬
‫الضروري من حفظ الدين والنفس والنسل‬
‫َّ‬ ‫بعلَّة ضمان مصلحة العباد لكي َ‬
‫تضمن‬
‫توس َع باملقاصد احلاجية على العباد وترفع عنهم احلرج‪ ،‬ولكي‬
‫والعرض واملال‪ ،‬ولكي ِّ‬
‫تكمل باألهداف التحسينية وجتمل‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وفصل سل ُفنا الصاحلون رمحهم اهلل كيف متنع الشريعة مبقاصدها هذه السامية‬
‫التهار َج والفساد وفوت املصاحل يف الدنيا‪ ،‬وكيف تعطي للمسلم واملسلمة االستقرار‬
‫ُ‬
‫واألمن والكفاية املعاشية لينصرف العبد إىل هتييء آخرته‪ ،‬يرى مستقبله بعد املوت‬
‫هو القبلة وهو الغاية وما يف الطريق إىل اآلخرة تسهيالت ووسائل‪.‬‬
‫غري منكر يف اخلطاب السليم العزيز بسالمة الدعوة‬ ‫كان هذا واضحا معروفا َ‬
‫ورجاهلا رغم كابوس الدولة العاضة‪ .‬كان املعني القرآ َن والسنة‪ ،‬ال يُداري يف ذلك وال‬
‫ُياري إال زنديق ملفوظ مرفوض‪ .‬أما يف يوم اإلسالم وغده فاملصدر املعريف للثقافة‬
‫الدوابية السائدة املعارضة ال ُـمشاكِسة يفور من فلسفة سقراط و«سعادة» إبقور‬
‫وسياسة ماكيافيلي ونضالية فولتري وحرية روسو و«أخالقية» هوبز وستوارت مل‬
‫وبنتام وعدالة ماركس‪.‬‬
‫الدين يف سياق الثقـافة الدوابية عامل ُم َد ّجن من عوامل االستقرار االجتماعي‬
‫ب‬
‫ال بأس بوجوده هناك وبقائه لتتسلى به العجائز‪ .‬أو هو «أفيون» للشعوب ُي َار ُ‬
‫ريثما تغيثه الربسرتويكا فتعيده إىل دار األمان يف ركنه مع العناكب العتيقة‪.‬‬
‫الدين يف نظر خصومنا اليوم وغدا من أبناء جلدتنا وغريهم موروث وخمزون‬
‫شئت‪ .‬لكن املصلحة هي اللذة و«السعادة» و«احلياة» والفن‪ .‬وما‬ ‫نفسي وما َ‬
‫يكو ُن من أخالقية سلوكية ودميقراطية سياسية وأمن يف العامل وحفاظ على البيئة‬
‫وتطوير للعلوم واملخرتعات ورعاية للصحة إمنا هي وسائل ألنانييت الفردية والقومية‬
‫ضى هبا الرغبات واللذات‪ .‬ويقول لسان احلال أولئك ولسان مقاهلم‪ :‬إن هي‬ ‫تـُْر َ‬
‫إال حياتنا الدنيا منوت وحنىي وما حنن مببعوثني‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يفصل علماؤنا األصوليون رمحهم اهلل القول يف مصاحل العباد وعلل األحكام‬
‫مر الكرام بعلة العلل وشرط الوجود والصحة للمجتهد واجتهاده‪ :‬اإلميان باهلل‬
‫وميرون َّ‬
‫وباليوم اآلخر‪ .‬وباليوم اآلخر‪ .‬وباليوم اآلخر‪.‬‬
‫ميرون لبداهة الشرط‪ .‬وحنن لكيال جيرفنا التيار الفكري احلضاري الدوايب ينبغي‬
‫أن نعلن إمياننا‪ .‬وينبغي أن نصرح به‪ .‬وينبغي أن نقاتل عنه‪ .‬إن كان إسالمنا نائما‬
‫عن معاين اإلميان فلن نعلن ولن نصرح ولن نقاتل حىت يستيقظ فينا اإلميان‪ .‬وإن‬
‫كان إمياننا قاصرا عن مطمح اإلحسان فلسنا أولئك الذين يؤيد اهلل عز وجل هبم‬
‫دينه‪ .‬لسنا من حزب اهلل حىت جنمع الدين إسالما وإميانا وإحسانا‪.‬‬
‫شاء لِ َمن نُّ ِري ُد‬
‫اجلَةَ َع َّجلْنَا لَهُ فِ َيها َما نَ َ‬‫قال اهلل عز وجل‪َّ ﴿ :‬من َكا َن ي ِري ُد الْع ِ‬
‫ُ َ‬
‫ِ‬
‫اد اآلخ َرةَ َو َس َعى لَ َها َس ْعيـََها‬ ‫الها َم ْذ ُموماً َّم ْد ُحوراً َوَم ْن أ ََر َ‬
‫ص َ‬
‫َّم يَ ْ‬
‫ثُ َّم َج َعلْنَا لَهُ َج َهن َ‬
‫ك َكا َن َس ْعيـُُهم َّم ْش ُكوراً﴾‪.1‬‬ ‫َو ُه َو ُم ْؤِم ٌن فَأُولَئِ َ‬
‫فإما يكو ُن املكلف مطيعا ألمر‬ ‫ف‪َّ .‬‬ ‫هنالك مقاصد الشريعة وهناك إرادة امل َكلَّ ِ‬
‫ربه‪ ،‬مريدا لآلخرة‪ ،‬مث طاحما لرضى اهلل‪ ،‬مث طامعا يف النظر إىل وجه اهلل‪ .‬وإما يكون‬
‫عبدا هلواه‪ ،‬ولذته‪ ،‬وأنانيته‪ .‬ذاك يسعى لآلخرة وسعادة اآلخرة فهو مع الشريعة‬
‫سامعا هلا مطيعا واثقا أن فيها رعايَة مصلحته الكلية الواصلة بني الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وهذا يسعى سعي الدنيا‪ ،‬فمن خيرجه من داعية هواه؟ وكيف نطبق له وعليه أحكام‬
‫الشريعة؟ وما موقفنا منه اليوم وغدا وإرادتنا غريُ إرادته‪ ،‬ومصدرنا غري مصدره‪،‬‬
‫ومرجعيتنا غري مرجعيته؟‬
‫إن شريعة اهلل عز وجل خصصت للعباد نصيبهم من الدنيا‪ ،‬وجعلت للعبد من‬
‫نصيبه يف الدنيا ووسائلها َم ْرَكباً يوصله إن آمن واتقى ونوى وأحسن إىل سعادة اآلخرة‪ .‬وإن‬

‫‪ 1‬سورة اإلسراء‪ ،‬اآليتان ‪.19-18‬‬

‫‪163‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫توفري هذا النصيب للعباد ضرورة لكيال تفتنهم الدنيا بالفقر واملرض واجلهل واحلاجة‬
‫َ‬
‫عن مطلبهم األخروي‪.‬‬
‫ي الرقباء‬
‫هم العباد ونعمل‪َ ،‬و َع ْ ُ‬
‫فبما حنن غدا إن شاء اهلل دولة فعلينا أن حنمل َّ‬
‫واملعارضني ترتبص‪ ،‬على توفري املعاش الكرمي للناس‪.‬‬
‫ومبا حنن قبل كل شيء دعوة فعلينا أن حنمل مع هم آخرتنا َه َّم آخرة العباد‪.‬‬
‫فما حنققه من خري ومصلحة يف تدبري املعاش يف إطار الشريعة ومصلحتها دعوة يف‬
‫حد ذاته وتأليف‪ .‬وسيلة أخرى من وسائل الدنيا نستعملها للداللة على سعادة‬
‫اآلخرة ومصلحتها وطريقها‪ .‬للداللة على اهلل الكرمي الوهاب‪.‬‬
‫تذهب بنا الغفلة إىل التباري مع اللذاتيني يف ميداهنم وبشروطهم‪ .‬ذلك هو‬
‫ْ‬ ‫الَ‬
‫الذوبا ُن الذي يهدد الدعوة‪.‬‬
‫ك ِم َن‬ ‫قال قوم قارون لقارون كما قص اهلل تعاىل علينا‪﴿ :‬وَل تَنس نَ ِ‬
‫صيبَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أوص ْوهُ أن يتزود من نصيبه يف الدنيا آلخرته‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫ُّ‬
‫الدنـْيَا﴾ ‪ .‬قال بعض املفسرين الناهبني‪َ :‬‬
‫وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يرسم لنا حدود ضرورات املعاش‪« :‬من‬
‫عاىف يف جسده‪ ،‬عنده قوت يومه‪ ،‬فكأمنا حيزت له‬ ‫ِ‬
‫أصبح منكم آمنا يف س ْربه‪ُ ،‬م ً‬
‫الدنيا حبذافريها»‪ .‬رواه الرتمذي وابن ماجة والبخاري يف األدب عن عبد اهلل بن‬
‫حمصن رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫عجلو َن قلِقون على الرزق‪ ،‬فتوفري نصيبهم الكرمي العفيف من الدنيا يُ ِّ‬
‫فرغ‬ ‫العباد ِ‬
‫قلوهبم من اهلم اليومي العاجل لينصرفوا إىل طلب اآلخرة‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة القصص‪ ،‬اآلية ‪.77‬‬

‫‪164‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫علة العِلَ ِل يف الشريعة وأم املصاحل وآخرة االجتهاد هي إخراج العباد من داعية‬
‫نس إَِّل‬ ‫ِ‬ ‫اهلوى ليكونوا عباداً هلل كما قال اهلل جل اهلل‪﴿ :‬وما َخلَ ْق ُ ِ‬
‫ت الْج َّن َو ْال َ‬ ‫ََ‬ ‫ّ‬
‫ون﴾‪ .1‬وعقبة الدنيا وهم الدنيا ومشغلة الرزق ال تُقتَحم باإلرادة املستعلية‬ ‫لِيـ ْعب ُد ِ‬
‫َُ‬
‫على الدنيا فقط‪ ،‬بل ال بد من مساعفة العبد بالنصيب من األمن والعافية والقوت‬
‫ليص ُف َو قلبه ويكون كما قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من كانت اآلخرةُ‬
‫همه جعل اهلل ِغناه في قلبه‪ ،‬وجمع عليه شمله‪ ،‬وأتته الدنيا وهي راغمة‪ .‬ومن‬ ‫َّ‬
‫بين عينيه‪ ،‬وفرق عليه شمله‪ ،‬ولم يأته من‬ ‫فقره َ‬
‫همه جعل اهلل َ‬ ‫كانت الدنيا َّ‬
‫الدنيا إال ما قدر له»‪ .‬رواه الرتمذي عن أنس بن مالك رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫من خيرب بأمر اآلخرة‪ ،‬من َْي ِق ُن هبم اآلخرة خالئق يعتقد الواحد منهم أنه عُْلبَةٌ‬
‫هضمية‪ ،‬دودة أرضية لالستهالك واملتعة؟ ومن يُِرْد اهلل فتنته فلن متلك له من اهلل شيئا‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة الذاريات‪ ،‬اآلية ‪.56‬‬

‫‪165‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫وازعا القرآن والسلطان‬


‫كلمة سيدنا عثمان رضي اهلل عنه مشهورة إذ قال‪« :‬لَ َما يزع اهلل بالسلطان‬
‫أكثر مما يزع بالقرآن»‪ .‬واملعىن هلذه الكلمة خيتلف حسب اعتبارنا لكلمة «ما» ظرفا‬
‫مصدريا أو امسا موصوال‪.‬‬
‫كف ِ‬
‫النفس عن هواها»‪ .‬قالوا‪« :‬الوازع يف احلرب‪:‬‬ ‫«الوْزعُ ُّ‬
‫قال أهل اللغة‪َ :‬‬
‫ال ُـم َوّكل بالصفوف‪ ،‬يـََزع من تقدم بغري أمره»‪.‬‬
‫ْوزع السلطان إذاً زجره للناس عن أهوائهم‪ ،‬وردعه إياهم عن املخالفات‬
‫بقوة اإلكراه‪ .‬وهبذا املعىن يفهم عامة الناس الشريعة‪ ،‬يتبادر إىل أذهاهنم كلما‬
‫صور البرت‬
‫ذكرت الشريعة وتطبيقها الزجر واإلكراه والعقاب‪ ،‬وختتلف إىل أخيلتهم َ‬
‫وتضخم الدعاية األجنبية ضد اإلسالم وسوءُ تصرف من يقطعون‬‫ِّ‬ ‫والقطع والقتل‪،‬‬
‫املخاوف يف النفوس‪.‬‬
‫َ‬ ‫ويقتلون على غري بصرية وباسم الشريعة‬
‫وفهم كلمة سيدنا عثمان رضي اهلل عنه خارج ظروف الفتنة اليت ُس ِفك‬ ‫ُ‬
‫ميل إىل اعتبار الزجر‬
‫دمه‪ ،‬وإطالقُها ملعناها باعتبار «ما» ظرفية مصدرية ٌ‬ ‫فيها ُ‬
‫الوْزع واحلد أصال واعتبار وازع القرآن فرعا‪ .‬وهو قلب للحقائق‪ .‬فإذا نظرنا إىل‬ ‫وَ‬
‫مثل هذه الكلمة يف ظروف كثُر فيها من ال‬ ‫أن موالنا عثمان رضي اهلل عنه ل َف َظ َ‬
‫قبل‪ ،‬كثر فيها «ما» ال يزعه القرآن كما‬‫يزدجر بوازع القرآن كما كان العهد من ُ‬
‫الفهم املستقيم إن شاء اهلل‪.‬‬
‫وزع املهاجرين واألنصار‪ ،‬توجه لنا ُ‬
‫‪166‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ع خوف اهلل عز وجل واحلياء منه‪ ،‬الكافَّني‬ ‫ع القرآن يف النفوس‪ ،‬واز َ‬
‫إن واز َ‬
‫تدع بإميانه باهلل وخوفه من‬
‫لألهواء عن املعاصي واملوبقات هو األصل‪ .‬فمن مل ير ْ‬
‫فسو ُط السلطان وحد‬ ‫عذاب اهلل يف اآلخرة وحيائه من ربه املنعم احلليم الكرمي ْ‬
‫يس ُّد يف سلوكه ثغرًة انفتقت بانفتاق إميانه‪ .‬واألشخاص‬ ‫الشريعة وتعزير القاضي ُ‬
‫الذين يتناوهلم وا ِزعُ السلطان ورادع احلد والتعزير هم االستثناء من مجاعة املسلمني‬
‫األصل‪ .‬وكلما كان وازعُ القرآن يف القلوب أقوى كان حيّز وازع السلطان واحلد‬ ‫ُ‬ ‫ال‬
‫والتعزير أضيق‪.‬‬
‫يف اجملتمع اإلسالمي السوي يسأل العباد يف تبتلِهم وحماريبهم من اهلل عز وجل‬
‫أن يلهمهم التقوى‪ .‬قال سليمان بن داود عليهما السالم وهو يقدر نعم اهلل عليه إذ‬
‫ت َعلَ َّي َو َعلَى‬‫ك الَّتِي أَنـَْع ْم َ‬
‫ب أ َْوِز ْعنِي أَ ْن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتَ َ‬‫جعله خليفة يف األرض‪َ ﴿ :‬ر ِّ‬
‫اد َك َّ ِ ِ‬ ‫ك فِي ِعب ِ‬ ‫ضاهُ َوأَ ْد ِخلْنِي بَِر ْح َمتِ َ‬ ‫صالِحاً تـَْر َ‬ ‫َوالِ َد َّ‬
‫ين﴾‪.1‬‬ ‫الصالح َ‬ ‫َ‬ ‫ي َوأَ ْن أَ ْع َم َل َ‬
‫ع نفسي عن الكفران‪.‬‬ ‫ألز َ‬
‫قال الراغب رمحه اهلل‪ :‬أوزعين أن أشكر أي أهلمين َ‬
‫أشدَّهُ ويسمع وصية ربه‬ ‫ويصف اهلل تبارك وتعاىل عبده الرشيد الذي يبلغ ُ‬ ‫ِ‬
‫ت َعلَ َّي َو َعلَى‬ ‫ك الَّتِي أَنـَْع ْم َ‬
‫ب أ َْوِز ْعنِي أَ ْن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتَ َ‬‫بأنه العبد الذي يدعو‪َ ﴿ :‬ر ِّ‬
‫ك َوإِنِّي ِم َن‬ ‫َصلِ ْح لِي فِي ذُ ِّريَّتِي إِنِّي تـُْب ُ‬
‫ت إِلَْي َ‬ ‫ضاهُ َوأ ْ‬ ‫صالِحاً تـَْر َ‬ ‫َوالِ َد َّ‬
‫ي َوأَ ْن أَ ْع َم َل َ‬
‫ين﴾‪.2‬‬ ‫ِِ‬
‫ال ُْم ْسلم َ‬
‫الصالِح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ات﴾ يف قلبه باعث على طاعة اهلل‬ ‫آمنُواْ َو َعملُواْ َّ َ‬ ‫الواحد من ﴿الَّذين َ‬
‫ورسوله‪ ،‬باعث على االستقامة وفعل الصاحلات‪ .‬ويف قلبه وازع عن معصية اهلل ورسوله‪ ،‬وازع‬

‫‪ 1‬سورة النمل‪ ،‬اآلية ‪.19‬‬


‫‪ 2‬سورة األحقاف‪ ،‬اآلية ‪.14‬‬

‫‪167‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫عي‪ .‬عبد هلل عز وجل ال هلواه‪،‬‬
‫الوَر ِّ‬
‫وي َ‬‫عن املفاسد‪ .‬فهو بني باعثه اإلمياين ووازعه التـََّق ِّ‬
‫عبد منيب تائب من زالته مستغفر من لَ َم ِم ِه‪.‬‬
‫ومجاعة املسلمني احملمولةُ على أكتاف املؤمنني الذين يعملون الصاحلات‬
‫يسودها املعروف ِ‬
‫ويك ُّل فيها املنكر‪ ،‬ويـُْز َجُر أهله كما يزجر الشواذُّ‪ .‬إن وقع أحد‬ ‫ُ‬
‫املؤمنني يف موبقة‪ ،‬وليس من املؤمنني معصوم حاشا األنبياء عليهم السالم‪ ،‬أسرع‬
‫وبكته ِ‬
‫فندم وت َق َّذ َر نفسه امللوثة باملعصية‪ .‬فتكون توبته‬ ‫إليه وازع القرآن يف قلبه ووخبه َّ َ‬
‫وتطهرهُ منها عافية له وللناس مجيعا من حوله‪.‬‬‫ُّ‬
‫هذا النوع من املؤمنني اخلائفني من رهبم املستحيني منه‪ ،‬املتفكرين يف آالئه‪،‬‬
‫زمام أنفسهم بيدهم‪ ،‬ال يكونون‬ ‫املراقبني ألفعاهلم خمافة يوم العرض عليه‪ ،‬يكون ُ‬
‫ماعز جاء إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعرتف بأنه زىن‬ ‫عبيدا هلواهم‪ .‬هذا ِ‬
‫ويطلب أن يقيم عليه احلد‪ .‬مل يفضحه أحد وال جتندت الشرطة والنيابة العامة‬
‫واحملاكم ملقاضاته‪ .‬إمنا دفعه إىل االعرتاف وازع القرآن يف قلبه ورغبتُه يف تطهري نفسه‬
‫بالتوبة واحلد لينصرف إىل ِ‬
‫آخرته راجيا املغفرة وحسن املآب‪.‬‬

‫اهلوى‪ ،‬عبيد اللذة وعابدي «احلرية» كما يفهم احلريةَ‬


‫وما هكذا شأ ُن عبيد َ‬
‫اجلاهليون‪ .‬احلرية هي استقالل أنانييت عن كل وازع أخالقي أو ديين‪ .‬ال يعرف‬
‫مثل‬
‫«األحرار» إال عبودية شهوهتم‪ ،‬حيدها فقط القانون الوضعي الذي يقف َ‬
‫جندي املرور لكيال تصطدم «حرية» هذا حبرية ذاك‪ ،‬ولكيال تفسد شهوة هؤالء‬
‫و«مصلحتهم» اللذاتية االستهالكية بشهوة أولئك‪.‬‬
‫ط وازع القرآن‪ ،‬ويرتبط املسلمون برباط ِ‬
‫الب‬ ‫عاف يـَْن َش ُ‬
‫يف اجملتمع اإلسالمي ال ُـم َ‬
‫والتقوى‪ ،‬ويتعطل أو يكاد وازع الزجر واحلد والعقاب‪ .‬ملا بويع أبو بكر رضي اهلل‬

‫‪168‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫عي عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه قاضيا‪ .‬فلبث سنة ال يتقاضى‬ ‫عنه باخلالفة َّ‬
‫إليه أحد‪ .‬عرف املسلمون حدود اهلل فما تعد َّْوها‪ .‬وقدَّروا نعمة اإلميان حق قدرها‬
‫ِ‬
‫فصانوها بالع َّفة‪ .‬وعرفوا ميل النفوس إىل الشهوة‪ ،‬فاحرتزوا من َ‬
‫اهلوى والشيطان أن‬
‫يغرياهم‪.‬‬
‫باح يف شرع‬
‫ب ُم َق َّسم ُم ٌ‬
‫ما تشتهيه األنفس من متاع الدنيا وزينتها ولذهتا هنْ ٌ‬
‫«احلرية» الدوابية‪ .‬ال حد حلقك يف النهب إال ما يرمسه القانون وتزجر عنه العقوبة‪.‬‬
‫غري َك من املشاركة الدميوقراطية يف هنب اللذات‪.‬‬ ‫ال حالل وال حرام وال إمثَ إال ما منع َ‬
‫أما يف شرع اهلل عز وجل وحكمته‪ ،‬فالدار دار ابتالء وامتحان‪ ،‬واآلخرة‪ ،‬يراها‬
‫املؤمن بعني قلبه يقينا‪ ،‬هي دار اجلزاء والنعيم واجلحيم‪ .‬وقد أحل اهلل تعاىل لعباده‬
‫وعرفهم املعروف وحببه إليهم‪،‬‬ ‫الطيبات‪ ،‬وحرم عليهم اخلبائث‪ ،‬وأمرهم وهناهم‪َّ ،‬‬
‫احد‬‫وكره إليهم اإلمث والفسوق والعصيان‪ .‬ورَّكب فيهم الشهوة لريى كيف يصارع الو ِ‬
‫ُ‬
‫منهم سلطان اهلوى ليستخلص نفسه من ِرقه‪ ،‬وكيف يتناهون عن املنكر مجاعة يـََزع‬
‫بعضهم بعضا‪ ،‬ويـَْهدي بعضهم بعضا‪ ،‬ويأخذ بعضهم بيد بعض‪ .‬فما شذ عن هذا‬
‫التماسك والتعاون على الرب والتقوى يأيت وازع السلطان ورادع احلدود وزاجر التعزير‬
‫ليكفه ويـَثْنِيَهُ ويقاتله‪ .‬ذلك كمال حكمته تعاىل ودوام شريعته‪.‬‬
‫هوى‬ ‫ِ‬
‫يف شرعة «احلرية» واملنفعة اللذاتية يتغري القانونكلما حتول الرأي العام من ً‬
‫هلوى‪ .‬ويستكشف اإلحصاء االستطالعي النسبة املائوية اليت مع هذا االقرتاح أو‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫أي االقرتاحات يـُْرضي الناخبني‪.‬‬‫ذاك‪ .‬ويصوت الربملان‪ ،‬وختتار اجملالس الدميوقراطية َّ‬
‫ويف شرع اهلل عز وجل ثوابت احلالل واحلرام‪ ،‬وثوابت األحكام القطعية‪ .‬ال تبديل‬
‫ابت‬
‫ابت تُقابلها ثو ُ‬
‫لكلمات اهلل وحكمته اليت خلقت يف الكون ويف الطبيعة البشرية ثو َ‬
‫الشرع‪ .‬وتفضل سبحانه وتعاىل على العباد مبساحة واسعة سكت عنها الشرع‪ ،‬فهي فُسحة‬

‫‪169‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫املباح وعامل املتحول‪ ،‬يقابل هبا الشرع ما يف الكون وطبيعة البشر وأعرافهم من متحوالت‪.‬‬
‫هنالِك ِوجهةٌ ال يعرفها القانون الوضعي اللذايت هي وجهة ما بني العبد‬
‫امره التنفيذية إىل مروءة املواطن‬
‫وربه‪ .‬غايَةُ القانون الوضعي أن يُسند تنظيماته وأو َ‬
‫و«مدنيته»‪ .‬بل تأيت زواجر العقوبات أصال‪ ،‬واملروءة واملواطنة مكملني‪.‬‬
‫ِوجهةُ املؤمن ربُّه‪ ،‬وآخرته‪ ،‬ورجاؤه يف اهلل‪ ،‬وخوفه من اهلل‪ ،‬وِرعايته حلقوق اهلل‪،‬‬
‫وحياؤه من اهلل‪ ،‬وقناعته حبالل اهلل عن حرام اهلل‪ ،‬وشكره ملا أنعم به اهلل وأباحه اهلل‪.‬‬
‫مطالب ثابتة وبواعث إميانية إحسانية ال تتحول‪ ،‬وبثباهتا تسمو الشريعة اإلهلية‬
‫على كل الشرائع‪ .‬وتُ َك ِّو ُن مساءً عالية يتطلع إىل ُسوقها املسلمون فال يزالون يف ُرقي‬
‫دائم‪.‬‬
‫ثابت وفرعها يف‬
‫وازع القرآن يف قلوب املؤمنني هو الشجرة املباركة أصلها ٌ‬
‫السماء‪ .‬ومن زعم أنه يرفع املسلمني من وهدهتم بتطبيق احلدود والزواجر فقط كمن‬
‫يستنبت يف رمال الصحراء أشجار الفواكه‪ .‬إذا مل يكن املؤمن هو ينهى نفسه عن‬
‫اهلوى‪ ،‬ومل يكن املؤمنون حاملي اجملتمع يتناهون عن املنكر ويتآمرون باملعروف فما‬
‫يفعل وازع السلطان؟ ال سيما إن كان «ما» َيزعه السلطان أكثر من الكثري‪.‬‬
‫سم ُع بأذن القلب نداء‬ ‫عاف والسالك سبُل العافية يُ َ‬
‫يف اجملتمع اإلسالمي ال ُـم َ‬
‫القرآن‪ ،‬قبل وعيد السلطان‪ ،‬يف مثل قوله تعاىل‪﴿ :‬فِإ َذا ج ِ‬
‫اءت الطَّ َّامةُ الْ ُكبـَْرى يـَْوَم‬ ‫َ‬
‫ت الْج ِح ِ‬
‫النسا ُن ما سعى وبـ ِّرَز ِ‬
‫ْحيَاةَ‬
‫يم ل َمن يـََرى فَأ ََّما َمن طَغَى َوآثـََر ال َ‬
‫َ ُ‬ ‫يـَتَ َذ َّك ُر ِْ َ َ َ َ َ ُ‬
‫يم ِه َي ال َْمأ َْوى﴾‪.1‬‬ ‫الدنـيا فَِإ َّن ال ِ‬
‫ْجح َ‬
‫َ‬ ‫ُّ َْ‬

‫‪ 1‬سورة النازعات‪ ،‬اآليات ‪.40-34‬‬

‫‪170‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫تطبيق الروادع الشرعية على‬
‫الفيصل يف قضية إصالح حال املسلمني ليس َ‬
‫خمزن فارغ بقوة السالح‪ .‬اإلصالح أوال يكون بإجياد ما فقده‬
‫فضاء خال‪ ،‬ليس حراسةَ َ‬
‫املسلمون من إميان يزع الفرد ويربط األمة مبا ال يستطيع أن يربطهم به القانون الشرعي‬
‫املفروض‪ :‬أال وهو التآمر باملعروف والتناهي عن املنكر‪ .‬بعدئذ يكون لوازع السلطان‬
‫َمشغل‪ .‬وإىل اهلل تُرجع األمور‪ .‬ال إله إال هو‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫قانون التدرج‪ ،‬بل شريعته‬


‫ت قدرة اهلل العزيز احلكيم يف اآلفاق ويف األنفس أن النتائج ال تأيت قبل‬ ‫رتـَّبَ ْ‬
‫أن الزروع ال تويت حصيدها قبل مطر‬ ‫املقدمات‪ ،‬وأن الصيف ال يأيت بالثمرات و َّ‬
‫الشتاء ومشس الربيع‪ ،‬وأن الناس ال يستجيبون لداعي اهلل وال يدخل اإلميان يف قلوهبم‬
‫وال تتألف صفوفهم إال مع الوقت والصرب وطول املعاناة‪ .‬ولذلك كانت التؤدة من‬
‫صبـَُرواْ َعلَى‬ ‫ت ُر ُس ٌل ِّمن قـَْبلِ َ‬
‫ك فَ َ‬ ‫النبوة‪ ،‬وكانت أسوةُ‪َ ﴿ :‬ولََق ْد ُك ِّذبَ ْ‬ ‫أهم خصال ّ‬
‫اءك ِمن نـَّبَِإ‬ ‫ِّل لِ َكلِم ِ‬
‫ات اللّ ِه َولَق ْد َج َ‬ ‫ص ُرنَا َوالَ ُمبَد َ َ‬ ‫َما ُك ِّذبُواْ َوأُوذُواْ َحتَّى أَتَ ُ‬
‫اه ْم نَ ْ‬
‫ين﴾‪ 1‬سنة النبيئني وسنة من يتبعهم بإحسان إىل يوم الدين‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ال ُْم ْر َسل َ‬
‫من سنة الدعوة التدرج يف البناء‪ ،‬وعامل الوقت الذي تدل عليه «حىت»‬
‫أساسي يف القضية‪ .‬وما َو ِس َع أمةَ اإلسالم يف مرحلة بنائها األول يسعُها‪ ،‬بل ال‬
‫يسعُها غريه‪ ،‬يف مرحلة إعادة بنائها‪ .‬تدرجت النبوة واخلالفة األوىل بالناس من‬
‫جاهلية سائبة إلسالم متمكن‪ ،‬وكذلك تتدرج إن شاء اهلل اخلالفة الثانية باملسلمني‬
‫من غثاء شتيت إىل وحدة قائمة‪ ،‬ومن إميان بال َخلَ ٍق إىل إميان متجدد‪ ،‬ومن َك ِّم‬
‫قاعد إىل جند جماهد‪.‬‬
‫الوْزع والردع والعقوبة إن مل‬
‫وليس يبين وازع السلطان وحده شيئا‪ .‬وال يُفيد الزجر و َ‬
‫ب‬‫يكن يف القلوب إميان حي يكتنزه صاحبه كما يكتنز أعز شيء وأمثنه‪ ،‬خياف أن يُسلَ َ‬
‫نعمة هي حياته ومعناه‪ .‬يسمع املؤمن واملؤمنة خرب الوحي أن املؤمن ال يزين حني يزين‬
‫وهو مؤمن‪ ،‬وال يشرب حني يشرب وهو مؤمن‪ ،‬وال يسرق وال ينتهب‪ ،‬فهو دائما على‬

‫‪ 1‬سورة األنعام‪ ،‬اآلية ‪.35‬‬

‫‪172‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫حذر أن يتدنَّس ِس ْربال إميانه مبعصية‪ ،‬يزعه القرآن وتـََزعه السنة وخياف وعيد اآلخرة‬
‫ويرجو رمحة ربه‪.‬‬
‫ِ‬
‫ياره تكون املخالفة العلنية‬ ‫يف اجملتمع اإلسالمي املؤمن حاملُوه ال ُـمحس ِن خ ُ‬
‫استثناء‪ ،‬وتكون العقوبة أقرب إىل التوبيخ العلين‪ ،‬قسوُتا يف رمزيتها ويف مس شرف‬
‫املخالف‪ .‬املخالفون يف مثل هذا اجملتمع شاذُّون قد أحاطتهم اليقظة العامة املناهضة‬
‫أحدهم نفسه أن يقع يف حمظور‪ ،‬إن مل يـَْر َع ِو خوفا‬‫للمنكر بسياج من احليطة‪ ،‬حيتقر ُ‬
‫ارعوى خوفاً من الفضيحة‪.‬‬
‫من اهلل َ‬
‫روى اإلمام البخاري يف صحيحه عن السائب بن زيد رضي اهلل عنه قال‪:‬‬
‫وإمرِة أيب بكر وصد ٍر‬
‫كنا ْنؤتَى بالشارب على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ْ‬
‫من خالفة عمر‪ .‬فنقوم إليه بأيدينا ونِعالنا وأرديتنا‪ .‬حىت كان آخر ْإمرِة عمر‪ ،‬فجلد‬
‫أربعني‪ ،‬حىت إذا عتـَْوا وفسقوا جلد مثانني‪.‬‬
‫األص ُل الطاعة‪ ،‬واملطيعون‬
‫قال أهل اللغة‪ :‬عتا مبعىن نَبا عن الطاعة وخرج‪ْ .‬‬
‫تدرج املسلمون يف عقابه من ضرب‬
‫ناب خارج َّ‬ ‫هم القاعدةُ االجتماعيةُ‪ .‬واملخالف ٍ‬
‫باألردية والنعال إىل اجللد كلما عز اإلسالم وق ِوي اإلميان واكتمل السلطان‪.‬‬
‫وبالتدريج تنزل الوحي والتكليف واألحكام‪ .‬مل يكن مبكة سلطا ٌن يزع املسلمني‬
‫قبل اهلجرة‪ ،‬ومل يـُْفطَ ْم املسلمون عن مألوفهم يف اجلاهلية إال بالتدريج‪ .‬جاء عراقي إىل‬
‫أمنا عائشة رضي اهلل عنها فقال‪« :‬يا أم املؤمنني! أريين مصحفك‪ .‬قالت‪ :‬مل؟ قال‪:‬‬
‫ف‪ .‬قالت‪ :‬وما يضرك أيَّهُ قرأت‬ ‫ف القرآن عليه [أي أرتبه] فإنه يـ ْقرأُ غري مؤلَّ ٍ‬
‫لعلي أ َُؤلِّ ُ‬
‫ُ َ‬
‫فصل فيها ذكر اجلنة والنار‪ .‬حىت إذا ثاب‬ ‫أول ما نزل منه سورة من ال ُـم ّ‬ ‫قبل؟ إمنا نزل َ‬ ‫ُ‬
‫نزل ّأوَل شيء‪ :‬ال تشربوا اخلمر! لقالوا‪ :‬ال‬
‫الناس إىل اإلسالم نزل احلالل واحلرام‪ .‬ولو َ‬

‫‪173‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ندع اخلمر أبدا! ولو نزل‪ :‬ال تزنوا! لقالوا‪ :‬ال ندع الزىن أبدا!» احلديث رواه البخاري‬
‫رمحه اهلل‪.‬‬
‫أول ما يصلون‬‫من الناس من يرى واجبا على اإلسالميني أن يبدأوا بالعقوبة َ‬
‫إىل احلكم مقدِّمني أن التنزيل اكتمل‪ ،‬وأنه ال يسعنا إال التطبيق الكامل منذ ِ‬
‫أول‬ ‫َُ‬ ‫ُ‬
‫مثل هؤالء الصادقني الغائبني عن حقائق النفوس‬ ‫أهل القرآن‪ُ .‬‬‫يوم حيوز فيه السلطا َن ُ‬
‫تعسفيا يـُْلغي سنن اهلل ويلغي العلة القياسية‪.‬‬
‫وعن أسرار الشريعة يستنبطون استنباطا ُّ‬
‫ويف قول أمنا عائشة رضي اهلل عنها‪« :‬لَ ْو قال كذا لقالوا كذا» فقه لألسباب والعلل‬
‫ملن أراد أن َّ‬
‫يذ َّكر أو أراد ُشكورا‪.‬‬
‫بدأت يأيها احلاكم اإلسالمي بالعقوبة وأنت ومن معك قلة تفيض من‬ ‫َولَ ْو َ‬
‫رت واإلسالم يبشر ويؤلف‪« .‬يسروا‬ ‫لنف َ‬‫حواليها اجلماهري لقالوا لك‪ .‬ولو فعلت َّ‬
‫وال تعسروا وبشروا وال تنفروا» حديث متفق عليه‪ .‬وملا بعث رسول اهلل صلى اهلل‬
‫أول ما أسل َـم أهل اليمن‬
‫عليه وسلم أبا موسى األشعري ومعاذاً بن جبل إىل اليمن َ‬
‫أوصامها قائال‪« :‬ادعُوا الناس‪ ،‬وبشروا وال تنفروا‪ ،‬ويسروا وال تعسروا» احلديث‬
‫أول شيء‪.‬‬
‫أخرجه الشيخان‪ .‬قال‪ :‬ادعوا الناس‪ ،‬ما قال‪ :‬عاقبا الناس َ‬
‫الدين أحد إال غلبه‪ .‬فسددوا وقاربوا» حديث‬
‫شاد َ‬ ‫«إن هذا الدين يسر‪ ،‬ولن يُ َّ‬
‫رواه البخاري‪.‬‬
‫أشق شيء على النفوس‪ ،‬ال سيما‬ ‫إن فطام الناس عن عوائدهم ومألوفهم ُّ‬
‫استعبد الناس‪ .‬مث إن اهلل عز وجل‬ ‫األم ُد حىت متكن اهلََوى و َ‬
‫إن طال على الناس َ‬
‫السبيل إىل حق النفوس ونصيبها من املتعة‬ ‫حرم وأحل مل يقطع على ِ‬
‫الناس‬ ‫حني ّ‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫قبل‬
‫يف الدنيا‪ ،‬بل جعل فيما أحل من الطيبات عوضا عما حظَر ومنع‪ .‬وجعل َ‬
‫العقوبة الوازعة مكانا فسيحا للمطالب الغريزية‪ ،‬فيه ترتع حالال طيبا‪ .‬بل جاء‬
‫األمر هلذه النفوس أن تقتضـي حقها‪ .‬قال اهلل عز وجل‪﴿ :‬يَا أَيـَُّها ُّ‬
‫الر ُس ُل ُكلُوا‬

‫‪174‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ِ‬ ‫ات وا ْعملُوا ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صالحاً﴾ ‪ .‬وقال عز من قائل‪﴿ :‬فَ ُكلُواْ م َّما َرَزقَ ُك ُم اللّهُ‬ ‫م َن الطَّيِّبَ َ َ َ‬
‫‪1‬‬

‫حالالً طَيِّباً﴾‪ .2‬وقال جلت عظمته‪﴿ :‬قُل من ح َّرم ِزينَةَ اللّ ِه الَّتِي أَ ْخرج لِ ِعب ِ‬
‫اد ِه‬‫َ ََ َ‬ ‫ْ َْ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ ‪3‬‬
‫ات ِم َن ِّ‬
‫الرْزق﴾ ‪.‬‬ ‫والْطَّيِّب ِ‬
‫َ َ‬
‫وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬فإن لجسدك عليك حقا‪ ،‬وإن‬
‫لعينك عليك حقا‪ ،‬وإن لزوجك عليك حقا‪ ،‬وإن َلزْورك [أي زائريك]عليك‬
‫حقا»‪ .‬احلديث أخرجه الشيخان عن عبد اهلل بن عمرو رضي اهلل عنه ما‪ .‬زاد مسلم‪:‬‬
‫فإن لولدك عليك حقا‪.‬‬
‫لَ َّما بال األعرايب يف مسجد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقام إليه الصحابة‬
‫ليعاقبوه قال احلبيب صلى اهلل عليه وسلم فيما قال‪« :‬إنما بُعثتم ميسرين ولم تبعثوا‬
‫معسرين»‪.‬‬
‫أفتكون أيها األحبة «بعثتُنا» بالتعسري والتنفري قبل أن نبين القاعدة الواسعة‬
‫ويل الطيبات‪ ،‬ويقدم الطيبات‪،‬‬‫وقبل أن يستأنِس أعرابيُّنا بأ ّن دينه يفطم عن اخلبائث ُ‬
‫األيدي يف جمتمع‬
‫َ‬ ‫ويسعى للعدل‪ ،‬ويعمل ليأخذ كل ذي حق حقه؟ كيف تَقطَع‬
‫ِ‬
‫غن؟‬
‫جمتمع يزداد فيه الفقري فقرا والغين ً‬
‫يسوده اجلَ ْوُر‪ٌ ،‬‬
‫ُ‬
‫إن جئنا بالعسر واملشقة إىل أهواء الناس نوشك أن يثور علينا الناس‪ .‬قال اإلمام‬
‫ب‬
‫وص ْع ٌ‬
‫شاق عليها‪َ ،‬‬
‫هتوى النفس ّ‬ ‫الشاطيب رمحه اهلل يف «املوافقات»‪« :‬إن خمالفة ما َ‬
‫حال ال ُـم ِحبّني‪ ،‬وحال من بُعث إليهم رسول‬
‫خروجها منه [‪ .]...‬وكفى شاهدا على ذلك ُ‬
‫ُ‬
‫صم َم على ما هو عليه‪،‬‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم من املشركني وأهل الكتاب وغريهم ممن َّ‬

‫‪ 1‬سورة املؤمنون‪ ،‬اآلية ‪.52‬‬


‫‪ 2‬سورة النحل‪ ،‬اآلية ‪.114‬‬
‫‪ 3‬سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.30‬‬

‫‪175‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ضلَّهُ اللَّهُ َعلَى ِعل ٍْم﴾‪ 1‬اآلية‪ .‬وقال‪﴿ :‬‬ ‫ت َم ِن اتَّ َخ َذ إِلَ َههُ َه َواهُ َوأَ َ‬
‫حىت قال تعاىل‪﴿ :‬أَفـََرأَيْ َ‬
‫س﴾‪ ،2‬وقال‪﴿ :‬أَفَ َمن َكا َن َعلَى بـَيـِّنَ ٍة ِّمن َّربِِّه َك َمن‬ ‫ِ ِ َِّ َّ‬
‫إن يـَتَّبعُو َن إل الظ َّن َوَما تـَْه َوى ْالَن ُف ُ‬
‫اءه ْم﴾‪ .3‬وما أشبه ذلك‪ .‬ولكن الشارع إمنا قصد بوضع‬ ‫ِِ‬
‫ُزيِّ َن لَهُ ُسوءُ َع َمله َواتـَّبـَعُوا أ َْه َو ُ‬
‫الشريعة إخراج املكلف عن اتباع هواه حىت يكون عبدا هلل»‪.‬‬
‫وذكر رمحه اهلل ما كان من عمر بن عبد العزيز صاحل بين أمية الذي حاول أن‬
‫يصلح ما أفسدوه رمحه اهلل‪ .‬جاءه ابنه عبد امللك‪ ،‬وكان له بطانَةَ خري‪ ،‬وكان شابا‬
‫متحمسا إلصالحات أبيه‪ ،‬فقال يستعجله يف تطبيق احلق وزجر الباطل‪« :‬مالك يا‬
‫ت يب وبك يف احلق!»‬ ‫ِ‬
‫أبت ال تنفذ األمور؟ فواهلل ما أُبايل لو أن ال ُقدور َغلَ ْ‬
‫أندر من النادر يف امللوك)‪« :‬ال تعجل يا بُين!‬
‫فأجابه عمر العامل اجملتهد (وهذا ُ‬
‫أمحل الناس على‬
‫فإن اهلل ذم اخلمر يف القرآن مرتني وحرمها يف الثالثة‪ .‬وإين أخاف أن َ‬
‫فيدعوه مجلة‪ ،‬فيكون من ذا فتنةٌ»‪.‬‬
‫احلق مجلةً َ‬
‫هذا هو الفقه‪ ،‬جتدَّد عند عمر بن عبد العزيز رمحه اهلل فاهتدى إىل تعليل‬
‫السيدة اجلليلة أم املؤمنني رضي اهلل عنها‪ .‬هي أفهمت عراقيا أعرابيا كيف تنزلت‬
‫األحكام بالتدريج لعله «لو قال كذا لقالوا كذا»‪ ،‬وهو خياطب شابا مليئا بالغرية‬
‫على الدين وبالغضب على املظامل املوروثة ال يدري أن احلق إذا فُِرض على الناس‬
‫مجلة أنكروه مجلة‪.‬‬

‫جتذر العادات يف الناس‪ ،‬يف كل زمان ومكان‪ ،‬وَتَ ُّك َن اهلوى حىت لَيُت َ‬
‫َّخ ُذ إهلا‬ ‫إن ُّ‬
‫َّ‬
‫لَعلّةٌ مانعة يف يوم اإلسالم وغده مما منعته يف فقه الصحابة والتابعني‪ .‬وإمنا يُصلح آخر‬

‫‪ 1‬سورة اجلاثية‪ ،‬اآلية ‪.22‬‬


‫‪ 2‬سورة النجم‪ ،‬اآلية ‪.23‬‬
‫‪ 3‬سورة حممد‪ ،‬اآلية ‪.15‬‬

‫‪176‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أمر أوهلا كما قال إمامنا مالك رمحه اهلل‪ .‬بالقياس السليم ال‬
‫هذه األمة ما أصلح َ‬
‫بالتقليد األعمى‪ .‬مبراعاة أحوال النفوس والزمان واملكان‪.‬‬
‫من الفقه الثاقب ما كتبه شيخ اإلسالم ابن القيم رمحه اهلل يف كتاب‬
‫«الفوائد» إذ قال‪« :‬الوصول إىل املطلوب [من الصالح واخلري] موقوف على‬
‫هجر العوائد‪ ،‬وقطع العوائق‪ .‬فالعوائد السكو ُن إىل الدَّعة والراحة وما ألفه الناس‬
‫واعتادوه من الرسوم واألوضاع اليت جعلوها مبنزلة الشرع املتبع‪ ،‬بل هي عندهم‬
‫أعظم من الشرع‪ .‬فإهنم ينكرون على من خرج عنها وخالفها ما ال ينكرون على‬ ‫ُ‬
‫من خالف صريح الشرع‪ .‬ورمبا كفروه‪ ،‬أو ب ّدعوه وضللوه‪ ،‬أو هجروه وعاقبوه‬
‫ملخالفة تلك الرسوم‪ .‬وأماتوا هلا السنن‪ ،‬ونصبوها أندادا للرسول‪ .‬يُوالون عليها‬
‫ويعادون‪ .‬فاملعروف عندهم ما وافقها‪ ،‬واملنكر ما خالفها»‪.‬‬
‫هوى جامح بني‬
‫يا من يريد إحياء سنن ماتت وترويض نفوس زمامها يف قبضة ً‬
‫عشية وضحاها! كان اهلل لنا ولك‪ ،‬إنه نعم الوكيل‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫«باب من ترك قتال اخلوارج للتألف»‬


‫العنوان الكامل للباب السابع من كتاب «استتابة املرتدين واملعاندين وقتاهلم»‬
‫من صحيح اإلمام البخاري رمحه اهلل هو كما يلي‪« :‬باب من ترك قتال اخلوارج‬
‫للتألف ولئال ينفر الناس عنه»‪ .‬فقه العنوان أن اإلمام يقدم يف اعتباره هدف تألّف‬
‫الناس على اإلسالم واستمالتهم إليه على عقوبة املخالفني‪ .‬ولو كان املخالفون‬
‫معاندين للدين يستحقون القتال‪.‬‬
‫وجاء رمحه اهلل حبديث أيب سعيد عن النيب صلى اهلل عليه وسلم أن عبد اهلل‬
‫صرة جاء إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم وهو يقسم فقال له‪ِ :‬‬
‫اعدل يا‬ ‫بن ذي اخلُوي ِ‬
‫َ‬ ‫َْ‬
‫ِ‬
‫لم أعدل! قال عمر بن اخلطاب‪ :‬دعين‬ ‫يعدل إذا ْ‬
‫ويلك! ومن ُ‬ ‫رسول اهلل! فقال له‪َ :‬‬
‫أضرب عُنُقهّ! فأىب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫ْ‬
‫وعند اإلمام مسلم حديث مثله عن جابر أن عمر قال‪« :‬دعين يا رسول اهلل‬
‫فأقتل هذا املنافق! فقال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬معاذ اهلل أن يتحدث الناس أني‬ ‫َ‬
‫أقتل أصحابي!»‬
‫احلديثان واضحان يف أن اإلمام حيافظ على مسعة اإلسالم‪ ،‬ويكره مقالة الناس‬
‫عنه‪ ،‬ويرتك العقوبة للتألف ولئال ِ‬
‫ينفَر الناس عنه‪.‬‬
‫يف سياق احلديث عن تطبيق الشريعة وعن إرادة اإلسالميني املرشحني‬
‫للحكم‪ ،‬الزاحفني إليه‪ ،‬جند هذا احلديث وأمثاله من سنة خري ال ِربيّة صلى اهلل عليه‬
‫العطب‪ .‬ولنتعلم عن‬ ‫وسلم‪ ،‬فنقف عنده بإجالل ِ‬
‫لنق َي أنفسنا واملسلمني والناس‬
‫َ‬
‫أي شريعة نتحدث‪ :‬أعن شريعة حممد صلى اهلل عليه وسلم الرحيمة البانية‪ ،‬شريعة‬
‫الدعوة إىل اهلل‪ ،‬أم عن شريعة الزجر والوزع والوعيد قبل أي كالم؟‬

‫‪178‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يقول «الناس» إن الشريعة قدمية ال تستجيب حلاجيات العصـر‪ .‬وهي لِِق َدمها‬
‫قاسيةٌ قسوة تلك العصور البدوية الصحراوية اليت نشأت فيها‪ .‬فهل تُرانا ننكمش‬
‫فننكر أن الشريعة فيها شيء‬
‫أمام هذا «الرأي العام» الذي يصنعه أعداء اإلسالم َ‬
‫من احلدود والغلظة على اجملرمني؟ كال واهلل! فاحلدود املنزلة دين من الدين واجبة‬
‫التطبيق‪ .‬لكن يف تدرجها‪ ،‬ويف مكاهنا من الكل الشرعي‪ .‬هي جزء من الشريعة ال‬
‫السياج هو البستان‪.‬‬ ‫كلُّها‪ .‬هي سياج ٍ‬
‫حام للبستان‪ ،‬ليس‬
‫ُ‬
‫احلدود الشرعية والعقوبات واقيات وزواجر حتفظ بناء الدين من اهلدم‪،‬‬
‫جهل‬
‫ومقاصده من سطو املعتدين‪ .‬فمن جعل يف حسابه الزواجر مرتكزا للبناء فقد َ‬
‫َ‬
‫الدين‪ .‬ومن حدث نفسه بتعطيل شيء منها جهال وتأويال فقد ضل‪ .‬ومن جحد‬
‫شيئا منها فقد كفر‪ .‬ليكن هذا مقررا عندك سيدي!‬
‫بعد هذا فالشريعة الدعوة‪ ،‬الشريعة البناء‪ ،‬يسر وتبشري ورمحة وتقدمي يف‬
‫االعتبار للكلي على اجلزئي وملصلحة اإلسالم وسعته على عقوبة األفراد‪ .‬إال أن‬
‫ضرره على مصلحة التألّف‪.‬‬ ‫ِ‬
‫رج ُح ُ‬
‫يكون يف خمالفة األفراد هتديد للح َمى يَ َ‬
‫يف كتاب اهلل تعاىل ‪ 6236‬آية‪ ،‬منها ثالثون تفصل احلدود والعقوبات‪ .‬واتفق‬
‫علماء األمة على أن احلدود املقدَّرة يف الشرع ستة‪ ،‬واختلفوا يف أخرى‪.‬‬
‫اتفقوا على أن املرتد ُيد‪ ،‬والقاتل العامد‪ ،‬والشارب‪ ،‬والزاين‪ ،‬والقاذف‪،‬‬
‫والسارق وقاطع الطريق‪.‬‬
‫ِّد ركنا أساسيا من مقاصد الشرع وهو حفظ الدين‪ .‬والقاتل‬
‫فأما املرتد فردته هتد ُ‬
‫يهدد مقصد حفظ النفس‪ ،‬والشارب يهدد حفظ العقل‪ ،‬والزاين والقاذف يهددان‬
‫حفظ النسل والعرض‪ ،‬والسارق وقاطع الطريق يهددان األموال‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫شرعت احلدود لدفع الضـرر اآليت من أمهات اجلرائم واخلبائث‪ .‬وأحاط الشرع‬
‫بيـِّنَةَ الزىن بشروط مشددة َمْيالً لتربئة املتهم‪ .‬فإن مل يتوفر أربعة شهداء يصرحون بطل‬
‫احلد‪ .‬وإن نكص أحدهم أو بعضهم أقيم عليه حد القذف‪ .‬فال جتد يف سجالت‬
‫اإلسالم على عهد عافيته إال حاالت نادرة جدا حلد الزىن حيكيها األجداد لألحفاد‪.‬‬
‫تشدد الفقهاء املالكية يف احلدود وعُرفوا بذلك‪ .‬ومجهور احلنفية والشافعية‬
‫واحلنابلة على أن السارق ال ُيد إذا سرق من مال قريب من آبائه أو أبنائه‪ ،‬أو‬
‫سرق من غري ِحرز‪ ،‬أو سرق من شريك‪ ،‬أو من بيت مال املسلمني إن كان له فيه‬
‫حق‪ ،‬أو سرق أحد الزوجني من زوجه‪ ،‬أو سرق يف وقت الغالء واجملاعة‪.‬‬
‫كل هذه االحتياطات تغليب جلانب َد ْرء احلدود‪ ،‬وجانب العفو‪ ،‬وجانب‬
‫السرت‪ .‬وإن اهلل عز وجل أوصى أولياء القتيل بأن ال يسرفوا يف القتل قصاصا يف قوله‬
‫تعاىل‪َ ﴿ :‬وَمن قُتِ َل َمظْلُوماً فـََق ْد َج َعلْنَا لَِولِيِّ ِه ُس ْلطَاناً فَالَ يُ ْس ِرف فِّي الْ َق ْت ِل﴾‪.1‬‬
‫جعل له سلطة واختيارا أن يقتُل القاتل أو يأخذ منه الدية‪ ،‬مث أوصاه أن ال يقتل وأن‬
‫أقرب للتقوى‪ .‬روى ابن جرير وابن أيب حامت عن َحرب األمة عبد اهلل بن‬ ‫يع ُف َو‪ ،‬فالعفو ُ‬
‫عباس رضي اهلل عنهما يف قوله تعاىل‪« :‬فال يسرف يف القتل» أنه قال‪« :‬بينة من اهلل‬
‫القوُد الدية يدفعها اجلاين‪ ،‬والعقل الدية‬ ‫الع ْق َل»‪َ .‬‬ ‫القوَد أو َ‬ ‫أنزهلا ليطلب َويل املقتول َ‬
‫تدفعها العاقلة‪ ،‬وهي قَرابة اجلاين وعشريته‪.‬‬
‫بش ْرعته السمحة أسوارا بني الناس وبني العقوبة‪ .‬سور وازع القرآن‬ ‫جعل اهلل عز وجل ِ‬
‫يف قلب العبد‪ ،‬وسور األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬وسور سرت املسلمني بعضهم‬
‫بعضا‪ ،‬وسور َدرء احلدود بالشبُهات‪ ،‬وسور الشفاعة يف احلدود قبل وصول اخلرب للقاضي‪،‬‬
‫ف يف القتل‪.‬‬ ‫وسور العفو‪ ،‬وسور سرت اإلمام على اجلناة‪ ،‬وسور وصية اهلل تعاىل بأن ال يُ ْس َـر َ‬
‫‪ 1‬سورة اإلسراء‪ ،‬اآلية ‪.33‬‬

‫‪180‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ويف اآلخرة يناجي احلق سبحانه بعض عبيده مبا جنوا مث يسرتها ويغفر‪ .‬وهو الغفور‬
‫الرحيم‪.‬‬
‫يف البخاري‪ :‬باب إذا أقر باحلد ومل يبني‪ ،‬هل لإلمام أن يسرت عليه؟ أورد فيه أن‬
‫رجال اعرتف للنيب صلى اهلل عليه وسلم حبد وجب عليه‪ ،‬فحضر الصالة‪ .‬فلما صلى‬
‫يف كتاب اهلل! قال صلى اهلل‬‫الناس قال الرجل‪ :‬يا رسول اهلل! إين أصبت حدا فأقم َّ‬
‫عليه وسلم‪ :‬أليس قد صليت معنا؟ قال‪ :‬نعم! قال‪ :‬فإن اهلل قد غفر لك ذنبك!»‬
‫اعرتف ماعز بالزىن فجعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلـم يُعرض عنه ويقول‪:‬‬
‫لعلك لمست! لعلك غمزت! لعلك نظرت! كل ذلك ليلقنه العذر‪ .‬وقال صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ :‬لرجل يُ ْد َعى َهّزاالً بلّغ عن ماعز‪ :‬يا هزال! لو سترته بردائك كان‬
‫خيرا لك!‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال يستر عبد عبدا في الدنيا إال ستره اهلل يوم‬
‫القيامة»‪ .‬رواه مسلم عن أيب هريرة‪ .‬وحديث‪« :‬ا ْدرأوا الحدود عن المسلمين ما‬
‫استطعتم‪ ،‬فإن كان له مخرج فخلوا سبيله‪ .‬فإن اإلمام أ ْن يخطئ في العفـو خير‬
‫من أن يخطئ في العقوبة»‪ .‬رواه الرتمذي عن عائشة مرفوعا‪ ،‬وهو موقوفا على عمر‬
‫َّب ما أمكن تغليبا‬ ‫ِ‬
‫بن اخلطاب أصح‪ .‬وهو حديث لق َي قَبول األمة‪ ،‬فاحلدود تـُتَ َجن ُ‬
‫للرباءة على التجرمي‪.‬‬
‫التعاف يف اجلنايات مطلوب‪ .‬قال رسول اهلل صلى اهلل علي وسلم‪« :‬تعافـَْوا‬ ‫و ِ‬
‫الحدود فيما بينكم‪ ،‬فما بلغني من حد فقد وجب»‪ .‬رواه أبو داود والنسائي عن‬
‫عبد اهلل بن عمرو‪.‬‬
‫وبلغ من كراهية النيب صلى اهلل عليه وسلم لألخذ بالعقوبة أن سعد بن عُبادة‬
‫سأله قائال‪ :‬أرأيت لو أين وجدت مع امرأيت رجال‪ :‬أَأ ُْم ِهلُـهُ حىت آيت بأربعة شهداء؟ فقال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬نعم! أخرجـه مسلم ومالك يف املوطإ عن أيب هريرة‬
‫رضي اهلل عنه‪ .‬وزاد مسلم وأبو داود‪ :‬قال سعد [وقد مسع هني النيب عن قتله]‪ :‬بلى‬
‫‪181‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫والذي أكرمك باحلق! فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬اسمعوا إلى ما يقول‬
‫غيرة سعد! ألنَا أغيـَُر منه‪ ،‬واهللُ‬
‫«أتعجبون من ْ‬‫َ‬ ‫سيدكم! وعند البخاري أنه قال‪:‬‬
‫أغير مني»‪ .‬ومع غريته صلى اهلل عليه وسلم الشديدة على حمارم اهلل‪ ،‬أثبت الشرط‬ ‫ُ‬
‫الرفق باخللق‪.‬‬
‫الشرعي‪ ،‬أربعـة شهداء‪ ،‬لكيال جترف الغضبيَّة الرمحةَ و َ‬
‫وبعد‪ ،‬فإن يف تطبيق احلدود مصلحةً لألمة لِما تدفع عنها من أخطا ٍر هتجم‬
‫على الدين والنفس والعقل والعرض واملال‪ .‬وفيها مصلحة للمحدود لِما تطهره من‬
‫رجس عمله‪ ،‬ولِما جتنبه بعذاب وقسوة عابرين عذاب اآلخرة‪ .‬ذلك كما يفعل‬
‫الطبيب باملبتلى‪ .‬قال اإلمام الشاطيب رمحه اهلل يف «املوافقات»‪« :‬وكون هذا اجلزء‬
‫[من العقوبة] مؤملا وشاقا م ٍ‬
‫ضاه لكون قطع اليد املتآكلة وشرب الدواء البشيع مؤملا‬ ‫ُ‬
‫وشاقا‪ .‬فكما ال يُقال للطبيب إنه قاصد لإليالم بتلك األفعال فكذلك هنا‪ ،‬فإن‬
‫الشارع هو الطبيب األعظم»‪.‬‬
‫عند شيخ اإلسالم ابن القيم رمحه اهلل فقه غاية يف الرفق واحلكمة فيما يتعلق‬
‫باحلدود‪ْ ،‬أورده يف أول اجلزء الثالث من كتاب «إعالم املوقعني»‪ .‬ذكر أن إنكار‬
‫املن َكر له شروط أمهها أن املن َكر ال يُزال إن خيف وقوعُ أعظَ َم منه‪ .‬وال شك أن ما‬
‫فعله ويفعله يف زماننا بعض احلكام من اإلسراف يف القتل والبرت‪ ،‬يطبق ذلك على‬
‫سند له يف عامل احملسوبيات والوسائط‪ُ ،‬منكر نكري‪.‬‬
‫من ال َ‬
‫وذكر رمحه اهلل األدلة على أن احلدود ال تطبق يف الغزو‪ ،‬واستشهد بإسقاط‬
‫غرم عمر رجال جاءه بغلمان‬‫الرمادة‪ .‬وذكر كيف ّ‬‫عمر ابن اخلطاب حد السرقة عام َّ‬
‫سرقوا ألنه يستعملهم وجييعهم‪ .‬أقام عليه العقوبة ال على الغلمان‪.‬‬
‫وحتت عنوان «التائب يسقط عنه احلد» جاء ابن القيم رمحه اهلل بقصة رواها‬
‫اإلمام النَّسائي رمحه اهلل عن امرأة عدا عليها رجل فزىن هبا‪ ،‬فاستغاثت فأغاثها رجل‪ .‬مث‬
‫‪182‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫مر مجاعة فقبضوا على ال ُـمغيث‪ .‬فاهتمته املرأة عند رسول هلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫فلما أمر النيب صلى اهلل عليه وسلم حبده قام اجلاين احلقيقي فاعرتف‪ .‬فعفا عنه‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬فقال عمر‪ :‬ارمجه! فقال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إنه قد تاب!‬
‫هكذا الرأفة مبن تاب ومبن صلى مع اجلماعة فغفر اهلل له‪.‬‬
‫قال ابن القيم معلقا على هذه القصة‪« :‬وأما سقوط احلد عن املعرتف‪ ،‬فإذا‬
‫مل يتسع له نطاق أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه فأحرى أن ال يتسع‬
‫له نطاق كثري من الفقهاء‪ .‬ولكن اتسع له نطاق الرؤوف الرحيم [‪ .]...‬وال ريب أن‬
‫احلسنة اليت جاء هبا من اعرتافه طوعا واختيارا خشيةً من اهلل وحده وإنقاذا لرجل مسلم‬
‫من اهلالك وتقدمي حياة أخيه على حياته واستسالمه للقتل أكرب من السيئة اليت فعلها‪.‬‬
‫فقاوَم هذا الدواءُ ذلك الداء‪ .‬وكانت القوة صاحلة فزال املرض‪ .‬وعاد القلب إىل حال‬
‫َ‬
‫الصحة‪ .‬فقيل‪ :‬ال حاجة لنا حبدك!»‬
‫واهلل يدعو إىل دار السالم ويهدي من يشاء إىل صراط مستقيم‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫التائبون احلافظون‬
‫األسوار يف اجملتمع الغثائي مهدومة‪ .‬فال واعظ اهلل يف القلوب يزجر النفوس‬
‫األمارة بالسوء‪ ،‬وال الصالة تنهى عن الفحشاء واملنكر‪ ،‬وال اجلار والقريب والصاحب‬
‫يأمر باملعروف وينهى عن املنكر‪ ،‬وال الدولة حتُد من غُلُو ِاء أهل الفجور‪.‬‬
‫ض َعنا على ِسكة قانون الربح واللذة والتسيّب اخللقي قهر االستعمار وسلطان‬
‫َو َ‬
‫التقليد حلضارة دوابية غالبة‪ .‬فنحن فراغ وخراب‪ ،‬وحنن قطار تائه على درب الضياع‪.‬‬
‫آخر سور هو هذا اإلسالم الفردي ال ِوراثي‪ ،‬هذا «املخزون»‬ ‫مل يبق من البناء إال ُ‬
‫يف األعماق‪ .‬ومل يبق من التوجه الذايت إال بصيص من النور‪ .‬وما يصح لنا بناءٌ غداة‬
‫إعالن احلكم اإلسالمي إن مل نبدأ باستصالح البقية الصاحلة‪ ،‬وما تَ ْسلَ ُم لنا وجهةٌ‬
‫القطار التائه بزجرٍة تقفه وتقلبه‪.‬‬
‫َ‬ ‫إن باغْتنا‬
‫يف بالد املسلمني فئات من أهل الكفاءات العملية‪ ،‬من أساتذة معلمني‬
‫وقضاة وحمامني وأطباء ومهندسني وأدباء وصحفيني‪ .‬ومن رجال املال واألعمال‬
‫واإلدارة والسياسة‪.‬‬
‫من هؤالء ُمنّكون َذ ُوو خربة ال ِغىن لنا عنهم البتةَ‪ .‬ومنهم من كان باألمس‬
‫ضالعا‪ ،‬حبكم االجنراف والضرورة‪ ،‬يف الرضى عن السوء واملشاركة السلبية فيه‪ .‬فهل‬
‫نبدأ تطبيق الشريعة بإقامة احلد على الشبهة واالنتقام‪ ،‬أم نبدأ بفتح أبواب التوبة‪ ،‬ال‬
‫وم َس ِّعريها؟‬ ‫ِ‬
‫تـُْقصي التوبة إال رؤوس الفتنة ُ‬

‫‪184‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫كنا يف سياق الفتنة مجيعا‪ ،‬فلندخل مجيعا بالتوبة يف سياق الصالح‪ ،‬يف سياق‬
‫الشريعة‪ .‬وليس العقاب وآياته الثالثون من مجلة ‪ 6236‬آية إال جزءاً يسريا جدا من‬
‫الرسالة القرآنية الرحيمة‪.‬‬
‫آيات اهلل عز وجل تـَُعلِّ ُمنا بتنويع اخلطاب وتدويره أنَّنا خ ْل ٌق إلله قادر مقتدر‬
‫عليم حكيم ضار نافع رؤوف رحيم ملك واحد ال شريك له‪ .‬وأننا إليه حنشر‪ ،‬حييينا‬
‫ومييتنا مث يبعثنا ليوم ال ريب فيه‪ .‬وحياسبنا على أعمالنا وجيزي ويعاقب‪ .‬ويقرب إليه‬
‫من أخلص ويبعد من خان‪ .‬ويرفع الدرجات ويُردي الظاملني يف جهنم‪.‬‬
‫تعلمنا آيات اهلل عز وجل أن اهلل تعاىل خلق هذا الكون الدنيوي مبا فيه من‬
‫انسجام ونظام‪ ،‬وتناقض وتدافع‪ ،‬وحبار وأهنار‪ ،‬ومساء وأرض‪ ،‬وزمان وتاريخ‪ ،‬وغرائز‬
‫ُجبل عليها البشر‪ ،‬لغاية ابتالئنا هنا لنتميز بأعمالنا وعقائدنا وإمياننا وعدمه ليوم‬
‫احلساب وما بعده من خلود يف اجلنة أو يف النار‪ .‬أعاذنا اهلل من النار‪.‬‬
‫يف هذا السياق الكلي القرآين ندخل حنن وفئات املسلمني بالتـوبة‪ .‬وعندما‬
‫ب مع الذين أنعم اهلل عليهم فحفظوا حدوده‬ ‫تصح لنا التوبة نصبح مؤهلني ألن ُن َس َ‬
‫هنا واستحقوا اجلنة يف اآلخرة‪ .‬ندخل بالتوبة حنن واملسلمون املتجددون معنا‪ ،‬أو‬
‫املتعايشون مع حكمنا مبا معهم من إسالم وإميان‪ ،‬أو مروءة وخربة وإتقان‪ ،‬يف‬
‫س ُه ْم َوأ َْم َوالَ ُهم بِأ َّ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َن لَ ُه ُم‬ ‫سياق قوله تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن اللّهَ ا ْشتـََرى م َن ال ُْم ْؤمن َ‬
‫ين أَن ُف َ‬
‫يل اللّ ِه فـَيـَْقتـُلُو َن َويـُْقتـَلُو َن َو ْعداً َعلَْي ِه َح ّقاً فِي التـَّْوَر ِاة‬ ‫الجنَّةَ يـَُقاتِلُو َن فِي َسبِ ِ‬
‫َ‬
‫استَْب ِش ُرواْ بِبـَْي ِع ُك ُم الَّ ِذي بَايـَْعتُم‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وا ِإل ِ‬
‫يل َوالْ ُق ْرآن َوَم ْن أ َْوفَى بِ َع ْهده م َن اللّه فَ ْ‬ ‫نج ِ‬ ‫َ‬
‫الراكِعُو َن‬ ‫السائِ ُحو َن َّ‬ ‫ْح ِام ُدو َن َّ‬ ‫ِ‬
‫يم التَّائبُو َن ال َْعابِ ُدو َن ال َ‬
‫ِ‬ ‫بِ ِه َو َذلِ َ‬
‫ك ُه َو الْ َف ْوُز ال َْعظ ُ‬
‫‪185‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫َّاهو َن َع ِن الْمن َك ِر والْحافِظُو َن لِح ُد ِ‬
‫ود اللّ ِه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الس ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫اجدو َن اآلم ُرو َن بِال َْم ْع ُروف َوالن ُ‬ ‫َّ‬
‫ش ِر ال ُْم ْؤِمنِين﴾‪.1‬‬
‫َوبَ ِّ‬
‫هذا السياق يصف املؤمنني األقوياء األمناء املؤهلني حلفظ حدود اهلل‪ .‬من‬
‫ب على التوبة‪،‬‬ ‫مجلة وسائل احلفظ العقوبة‪ .‬وما هناك شيء يستحق احلفظ إن َلْ نـَْ ِ‬
‫ومحده على نعمة اإلسالم نستشعرها‬ ‫س بذر العبودية هلل عز وجل يف القلوب‪َ ،‬‬ ‫ومل نَغ ِر ْ‬
‫نصطف يف املساجد مع الراكعني الساجدين نتعل ُـم اخلُضوع لعظمة‬ ‫َّ‬ ‫ونعتز هبا‪ ،‬ومل‬
‫ونشارك اجلماعة يف اخلشوع جلالله‪ ،‬تغشانا روحانية املسجد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫اخلالق جل وعال‪،‬‬
‫وجتللنا هيبة األذان واستقامة الصف‪ .‬من املسجد‪ ،‬من بني الراكعني الساجدين‪،‬‬
‫خنرج مخس مرات يف اليوم بثوب من اإلميان جديد‪ ،‬وبنية متجددة‪ ،‬وعزم يت َق َّوى‪،‬‬
‫ومشاركة ِ‬
‫حتفز‪ ،‬ووازع قرآين حي‪.‬‬
‫ب عن سنتي فليس‬ ‫ِ‬
‫من حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من رغ َ‬
‫مني»‪ .‬ورغبتُنا ال ُـمشفقة من القطيعة يف اتباعه صلى اهلل عليه وسلم هتدينا إىل نقطة‬
‫البداية عندما حيني الوقت الجتماع السلطان والقرآن يف مسؤولية أهل املسجد‪.‬‬
‫قدمه إىل يثرب مهاجرا؟ هل‬
‫ماذا فعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ّأوَل َم َ‬
‫بىن حماكم وأصدر قانونا للعقوبات وعني قضاة؟ ال بل بدأ ببناء املسجد مستعجال‪.‬‬
‫وسقفه جبريد النخل‪ .‬فلما راجعه الصحابة رضي اهلل عنهم يف شأن السقف يريدون‬
‫مام‪ .‬الشأن أعجل من‬‫تقويته قال‪« :‬بل عريش كعريش موسى‪ُ ،‬خشيبات وثُ ٌ‬
‫ذلك!»‪.‬‬
‫أعجل يف حق ر ٍ‬
‫احل لآلخرة خيشى أن يفوته‬ ‫أعجل من أن حيتمل االنتظار‪ ،‬و ُ‬
‫يف برنامج بناء احليطان والسقوف صالة يوم يف اجلماعة‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة التوبة‪ ،‬اآليتان ‪.113-112‬‬

‫‪186‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وعمل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بنفسه الشـريفة يف البناء‪ .‬فانتهض‬
‫املهاجرون واألنصار بنشاط حلمل اللَِّ ِ‬
‫ب واملشاركة‪ .‬وقال قائلهم‪:‬‬
‫ـعمـ ـ ـ ُـل ال ُـمضـ ـ ـ ـلَّ ُل‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫لئِ‬
‫ـيب يعمـ ـ ــل لـ ـ ـ َذ َاك م ـ ـ ـنَّا ال َ‬
‫ّ‬ ‫ـ‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ال‬
‫و‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ق‬ ‫ـن‬
‫وصاروا يبنون بنشاط وينشدون والنيب صلى اهلل عليه وسلم يردد معهم‪:‬‬
‫ال عيـش إال عيـش اآلخـره اللهم ارحم األنصار واملهاجره‪.‬‬
‫للنهضة الثانية‪ ،‬هنضة اخلالفة على منهاج النبوة‪ ،‬حنتاج رجاال‪ ،‬ونساء‪،‬‬
‫أقوياء أمناء‪ ،‬مسلحني بالعلم واخلربة والكفاءة العملية ليحملوا للعامل رسالة‬
‫اإلسالم‪ ،‬ليُغريوا وجه العامل‪ ،‬ليُجيبوا عن األسئلة من احلجم الضخم اليت يطرحها‬
‫العصر على اإلنسانية‪ ،‬ليقاوموا يف مقدمة املستضعفني طغيان الرأمسالية العاتية اليت‬
‫تستعبد أربعة أمخاس اإلنسانية ليعيش القلة املستعلية يف الرتف واللذة‪.‬‬

‫وما يغري وجه العامل من مل يغري نَفسه‪﴿ .‬إِ َّن اللّهَ الَ يـُغَيـُِّر َما بَِق ْوٍم َحتَّى يـُغَيـُِّرواْ‬
‫بال إال توبةٌ‬ ‫ما بِأَنـُْف ِس ِهم﴾‪ .1‬وما يغري النفوس اخلارجة من تـ ِّوها من حضن إسالم ٍ‬
‫ََ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫على منهاج النبوة‪ .‬ال أقصد بالتوبة جمرد الندم على ذنب والكف عن معصية‪ .‬لكن‬
‫التوبة العميقة اليت تقلب كل املوازين‪ ،‬العقلية القلبية األخالقية السلوكية‪ ،‬وتوجه‬
‫وتْلصهُ هلل عز وجل‬ ‫التائب ِوجهةَ اآلخرة‪ ،‬وتستنقذه من عبوديته هلواه وأهواء الناس‪ُ ،‬‬
‫ِ ِ‬
‫خالقه ورازقه‪ .‬التوبةُ هبذا املعىن قلب دولة كما يقول الشيخ عبد القادر اجليالين رمحهُ‬
‫قلب دولة النفوس‪ ،‬ال َم ْس َعى من دوهنا لقلب دولة الباطل يف العامل‪.‬‬ ‫اهلل‪ُ .‬‬

‫‪ 1‬سورة الرعد‪ ،‬اآلية ‪.12‬‬

‫‪187‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫بسطَهُ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف‬
‫برنامج التوبة من كفر إلسالم َ‬
‫اخلطبتني األوليني يف مسجده‪ .‬وهو برنامج صاحل لتوبتنا مع املسلمني من فتنة‬
‫اإلسالم الراكد واإلميان اخلَلَ ِق إلميان جمدد جماهد فاعل مغري‪.‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف خطبته األوىل بعد أن محد اهلل وأثىن‬
‫أح ُدكم‪ ،‬ثم لَيتـُْرَك َن‬
‫ص َع َق َّن َ‬
‫ِّموا ألنفسكم! تـَْعلَ ُم َّن واهلل ليُ ْ‬
‫عليه‪ :‬أيها الناس! فقد ُ‬
‫غَنَ َمه ليس لها راع‪ .‬ثم ليقولَ َّن له ربه وليس له ترجمان وال حاجب يحجبه دونه‪:‬‬
‫وأفضلت عليك؟ فما قدمت لنفسك؟»‬ ‫ُ‬ ‫ألم ياتك رسول فبلغك؟ وآتيتك ماال‬
‫«التوبة قلب دولة» أيها األحباب! هي وضع الدنيا يف سياق اآلخرة‪ ،‬هي‬
‫نظم الدنيا يف سلك اآلخرة‪ ،‬هي الذكر الدائم هلل عز وجل واملصري إليه‪ ،‬مث العمل‬
‫اجلاد الدائب يف الدنيا لآلخرة‪ .‬عقيم هو اإلميان باملصري إن مل حيفز على العمل‬
‫الصاحل‪.‬‬
‫وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف خطبته الثانية‪ ،‬يف «بالغه الثوري»‬
‫رقم ‪ 2‬أستغفر اهلل‪ .‬قال بعد أن محد اهلل وأثىن عليه‪« :‬إ ّن أحسن الحديث كتاب‬
‫اهلل تبارك وتعالى‪ .‬قد أفلح من زينه اهلل في قلبه‪ ،‬وأدخله في اإلسـالم بعد الكفر‬
‫[‪ ]...‬أحبوا ما أحب اهلل‪ .‬أحبوا اهلل من كل قلوبكم‪ .‬وال تَ َملُّوا كالم اهلل وذكره‪.‬‬
‫قس عنه قلوبكم»‪ .‬كذا نقل اخلطبتني ابن إسحاق رمحه اهلل‪.‬‬ ‫وال تَ ُ‬
‫عماد ه حب اهلل عز وجل‪ ،‬والتمسك بكتابه‪ ،‬ود وام ذكره‪.‬‬ ‫بالغ تربوي ُ‬
‫بالغ رمحة خياطب القلوب وحيذرها من القسوة اليت تعرتي من ال يذكر اهلل‪،‬‬
‫وال حيب اهلل‪ ،‬وال جيعل كتاب اهلل وتالوته والعمل عليه عمدة حياته‪ .‬وذلك‬
‫رجى ملن ال‬
‫البالغ هو اخلطاب الدائم لإلنسان‪ ،‬للمسلم واملؤمن‪ .‬ال تغيري يُ َ‬
‫تدفعه صحبة أهل املسجد واحملافظة على اجلماعة وعلى جمالس اإلميان إىل‬
‫املداومة على ذكر املصري وذكر من بيده النفع والضر واجلنة والنار سبحانه‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫اسيَ ِة قـُلُوبـُُهم ِّمن ِذ ْك ِر اللَّه ﴾ ‪ ،1‬أي من عدم ذكره‬
‫هو القائل‪ ﴿ :‬فـويل لِّ ْل َق ِ‬
‫ََ ْ ٌ‬
‫أو قلة ذكره‪ .‬نعوذ جباللك ال إله إال أنت!‬

‫‪ 1‬سورة الزمر‪ ،‬اآلية ‪.21‬‬

‫‪189‬‬
‫الفصل اخلامس‬

‫العمران األخويُّ‬
‫* عمران‪ ،‬وأخوي‬
‫* خصائص العمران األخوي‬
‫* الــزكــاة‬
‫* يف املال حق سوى الزكاة‬
‫* الـِبـر والبذل‬
‫* العدل والتنمية‬
‫* النـفـط‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫عمران‪ ،‬وأخوي‬
‫أستعمل «عمران» وال أستعمل «حضارة» حرصا على أن ال ختتلط املفاهيم‬
‫على قاصدين مسلمني ِس َّكتُهم إىل املستقبل الدنيوي واألخروي جيب أن تكون‬
‫واضحة‪.‬‬
‫فكلمة «حضارة» يرتجم هبا العريب الكلمة الفرجنية «سفلزسيون» اليت تكسوها‬
‫األنفس ال ُـمعجبَة بزينة الدنيا وبـَْهَرِجها حلة من اهليبة واجلالل‪ .‬ومدلوهلا ٌّ‬
‫مادي دنيوي‬
‫حمض‪ .‬ال تـُْنبئ عن شيء من معىن اإلنسان ومصريه‪ .‬ال تنبئ عن البعث واجلزاء‬
‫داج‪.‬‬ ‫ِ‬
‫واخللود يف الدار اآلخرة‪ .‬فهي خ ٌ‬
‫ف «احلضارة»‪« :‬احلضارة تشمل الوسائل‬ ‫يعر ُ‬
‫قال أحد «علماء» االجتماع ِّ‬
‫طابع عقالين يفرضه تقدم‬ ‫املنفعية املادية للحياة اإلنسانية االجتماعية‪ .‬احلضارة هلا ٌ‬
‫الظروف الطبيعية املادية للعمل واإلنتاج والتكنولوجيا»‪.‬‬
‫هذا تعريف من بني عشرات التعريفات اليت يتفنن فيها خاصة األملان‪ .‬وقد‬
‫وضعت بني هاللني كلمة «علماء» احرتازاً من اخللط‪ .‬إمنا العلماء املؤمنون باهلل‬ ‫ُ‬
‫وباليوم اآلخر‪ ،‬الذين خيشون اهلل‪ ،‬ويطيعون اهلل‪ ،‬وينصرون اهلل ورسوله‪ .‬أولئك‬
‫هم الصادقون‪ .‬ويف بقية هذا الكتاب إن شاء اهلل أستعمل كلمة «فضالء»‬
‫لوصف أهل املعارف الدنيوية بنـَْعت يعرتف مبا معهم من مروءة يقدرها اإلسالم‬
‫ويعرتف هبا دون أن يتجاوز هبا حدها‪ .‬وقد كان أسالفنا يقولون‪« :‬الفاضل‬
‫إبوقراط» و«الفاضل جالينوس»‪ .‬ال يقولون «عامل» إال ألهل القرآن‪.‬‬
‫أستعمل «عمران»‪ ،‬ال أستعمل «حضارة» ألن احلضارة «وسائل منفعية مادية‬
‫صودنا‬‫صفون للحضارة آخرًة وال يعرتفون برب حىت يكو َن بني قُ ُ‬ ‫للحياة»‪ .‬وال يعرف ال ُـمَر ِّ‬
‫معىن مشرتك جتمعنا معهم عليه كلمتهم املرتمجة «حبضارة»‪.‬‬ ‫هم‬ ‫وقُ ِ‬
‫صود‬
‫ً‬

‫‪193‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫كان ابن خلدون رمحه اهلل يضع كلمة «حضارة» يف مقابلة «بداوة»‪ .‬وكان‬
‫يستعمل كلمة «عمران» للتعبري عن االزدهار االقتصادي من زراعة وجتارة وبناء‪.‬‬
‫قصدي بالعمران يشمل املدلول اخللدوينّ «لعمران» واملدلول العصري‬
‫املعمرين املتحضـرين على منهاج السكة‬ ‫بتوجه القاصدين ِّ‬ ‫«حلضارة» مربوطَ ْي ّ‬
‫ارد فيها قوله‬ ‫املستقبلية العابرة من الدنيا لآلخرة‪ ،‬مربوطني مبعاين ِعمارة املساجد الو ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬إِنَّما يـعمر م ِ ِ‬
‫الصالَ َة َوآتَى‬ ‫ام َّ‬ ‫آم َن بِاللّه َوالْيـَْوم اآلخ ِر َوأَقَ َ‬
‫ساج َد اللّه َم ْن َ‬ ‫َ َْ ُ ُ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫سى أ ُْولَـئِ َ‬ ‫الزَكا َة َولَ ْم يَ ْخ َ ِ‬ ‫َّ‬
‫ين﴾‪ .1‬مربوطني‬ ‫ك أَن يَ ُكونُواْ م َن ال ُْم ْهتَد َ‬ ‫ش إالَّ اللّهَ فـََع َ‬
‫بالكلمة القرآنية اليت بلغ هبا العبد الصاحل سيدنا صاحل عليه السالم قومه مبراد اهلل‬
‫استـَْع َم َرُك ْم فِ َيها‬
‫ض َو ْ‬ ‫شأَ ُكم ِّم َن األ َْر ِ‬
‫الشـرعي من املؤمنني إذ قال هلم ‪ُ ﴿ :‬ه َو أَن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فَ ِ‬
‫يب﴾‪.2‬‬ ‫يب ُّمج ٌ‬ ‫استـَغْف ُروهُ ثُ َّم تُوبُواْ إِلَْيه إِ َّن َربِّي قَ ِر ٌ‬
‫ْ‬
‫القدر املشرتك‬
‫القاعدة «الطبيعية املادية للعمل واإلنتاج والتكنولوجيا» هي ُ‬
‫بيننا وبني أبناء الدنيا‪ .‬وهم يف عصـرنا متمكنون من هذه القاعدة مستقرون يف‬
‫األرض مستكربون فيها‪ .‬وهم ممكور هبم لطغياهنم يف األرض بغري احلق‪ ،‬تقودهم‬
‫التكنولوجيا إىل حيث ال يعلمون‪ .‬أما حنن فدعوة اهلل عز وجل لنا لالستخالف يف‬
‫حافز معنوي‬
‫األرض‪ ،‬ووعده لنا بالتمكني فيها مىت وفينا الشرائط الكونية الشـرعية ٌ‬
‫إمياين قوي لنزاحم أبناء الدنيا يف األرض‪ ،‬ونزحزحهم عن القيادة‪ ،‬ونقيم دين اهلل‬
‫وننـَُو على اإلنسانية‬
‫عز وجل‪ ،‬ونأمر باملعروف‪ ،‬وننهى عن املنكر‪ ،‬وحنكم بالعدل‪َ ،‬‬
‫باإلحسان‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.18‬‬


‫‪ 2‬سورة هود‪ ،‬اآلية ‪.60‬‬

‫‪194‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫نقرتح حنن‬
‫يف مقابل حضارهتم املادية التائهة يقرتح علينا اإلسالم‪ ،‬وجيب أن َ‬
‫على البشرية‪ ،‬مشروع جمتمع أخوي‪ ،‬عمران أخوي‪ ،‬ال جمرد حل إسالمي بديل‪.‬‬
‫وحدوده‪.‬‬
‫ُ‬ ‫بد ِل منه‬
‫مالمح ال ُـم َ‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بديل له‪ ،‬شاء أم أىب‪،‬‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنُوا‬‫ين َ‬ ‫ائد اقرتاحنا ومشروعنا وأملنا‪ ،‬بل يقيننا‪ ،‬قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬و َع َد اللَّهُ الذ َ‬ ‫رُ‬
‫ين ِمن‬ ‫ض َكما استَ ْخلَ َ َّ ِ‬
‫ف الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصال َحات لَيَ ْستَ ْخل َفنـَُّهم في ْال َْر ِ َ ْ‬
‫ِمن ُكم و َع ِملُوا َّ ِ ِ‬
‫ْ َ‬
‫ضى لَ ُه ْم َولَيُبَ ِّدلَنـَُّهم ِّمن بـَْع ِد َخ ْوفِ ِه ْم أ َْمناً‬ ‫قـَْبلِ ِه ْم َولَيُ َم ِّكنَ َّن لَ ُه ْم ِدينـَُه ُم الَّ ِذي ْارتَ َ‬
‫يـَْعبُ ُدونَنِي َل يُ ْش ِرُكو َن بِي َش ْيئاً﴾‪.1‬‬
‫شرط الوفاء أن نكون له سبحانه عبادا عابدين‪ ،‬ال عبادا للدنيا وزينتها‪،‬‬
‫خد َمةً هلوانا ولذتنا‪ ،‬ال عبيدا للدنيا والدرهم والقطيفة والشهوة والغضب وامليل‬
‫ال َ‬
‫والبغض وسائر ما حيرك احلضارات األرضية وأهلها‪.‬‬
‫وأقصد بكون العمران أخويا احتضانه األخوة املوصوفة يف الشـرع بني املسلمني‬
‫املأمور هبا من قِبَله‪.‬‬
‫واملؤمنني‪َ ،‬‬
‫يبسط لألخوة بني التائبني املتحررين من‬ ‫عمران العدل واإلحسان ينبغي أن ُ‬
‫اش الغابوي بِساط الرمحة‪ .‬قال اهلل تعاىل‬ ‫املع ِ‬
‫سياق احلضارة املادية والقانون الوضعي و َ‬
‫يوجه تعاملنا مع من جاء من شرك إلسالم‪﴿ :‬فَِإن تَابُواْ َوأَقَ ُامواْ َّ‬
‫الصالَةَ َوآتـَُواْ‬
‫الزَكاةَ فَِإ ْخ َوانُ ُك ْم فِي الدِّي ِن﴾‪.2‬‬
‫َّ‬
‫جمرد أدائها‪ ،‬بل القيام بشـرائطها‪ ،‬من أول شرائطها تشييد‬
‫ليس َ‬‫إقامة الصالة َ‬
‫أركان اإلسالم يف حياة التائب من شرك أو من إسالم ِوراثي ٍ‬
‫بال‪ .‬مث االنتهاء عن املنكر‬

‫‪ 1‬سورة النور‪ ،‬اآلية ‪.53‬‬


‫‪ 2‬سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.11‬‬

‫‪195‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫مقيم للصالة‬
‫ألن الصالة تنهى عن الفحشاء واملنكر‪ .‬بانتهائه وكفه نعلم هل هو ٌ‬
‫أم منافق ُمندس‪.‬‬
‫مث من شرائط دخول التائب يف نطاق أخوتنا الزكاة‪ .‬وهي املسامهة يف احلد‬
‫األدىن من التكافل الذي يطبَع العمران األخوي‪.‬‬
‫«المسلم أخو المسلم‪ ،‬ال يظلمه وال يُسلمه‪ .‬من كان في حاجة أخيه كان‬
‫اهلل في حاجته‪ .‬ومن فـَّرج عن مسلم ُكربة فرج اهلل عنه بها ُكربة من ُكرب يوم‬
‫القيامة‪ .‬ومن ستر مسلما ستره اهلل يوم القيامة»‪ .‬حديث رواه الشيخان والرتمذي‬
‫عن عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما عن النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫تض ُّم إليها التائبني يف أمان وخدمة متبادلة ورمحة وعفو وسرت‪.‬‬
‫أخوة بني مسلمني ُ‬
‫ُ‬
‫وحتيط هبذه األخوة احلانية وتكألُها أخوة بني املؤمنني‪ .‬واملؤمنون‪ ،‬ال املسلمون‪،‬‬
‫هم املخاطبون بالقرآن احلاملون أعباءَ اجملتمع األخوي‪ .‬الرباط بينهم قليب إمياين‪.‬‬
‫التأليف بينهم عميق اجلذور كالشجرة الطيبة تثمر للمسلمني التائبني وللناس أمجعني‬
‫مثار العدل واإلحسان والرب والعطاء األخوي واألمن والعفو والسرت‪ .‬وتفريج ال ُكرب‬
‫واخلدمة وقضاء احلاجات‪.‬‬
‫َّ ِ‬
‫آمنُواْ اتـَُّقواْ اللّهَ‬
‫ين َ‬ ‫قال اهلل عز وجل خياطب محَلَة األمانة‪﴿ :‬يَا أَيـَُّها الذ َ‬
‫ح َّق تـ َقاتِِه والَ تَموتُ َّن إِالَّ وأَنتُم ُّمسلِمو َن وا ْعتَ ِ‬
‫ص ُمواْ بِ َح ْب ِل اللّ ِه َج ِميعاً َوالَ تـََف َّرقُواْ‬ ‫ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ ُ‬
‫ف بـين قـلُوبِ ُكم فَأَصبحتُم بِنِعمتِهِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َواذْ ُك ُرواْ نِ ْع َم َ‬
‫ت اللّه َعلَْي ُك ْم إ ْذ ُكنتُ ْم أَ ْع َداء فَأَل َ َْ َ ُ ْ ْ َ ْ ْ َ‬
‫إِ ْخ َواناً﴾‪.1‬‬
‫األخوة احلانية اخلادمة العادلة احملسنة‬ ‫هذا التأليف القليب بني املؤمنني‪ ،‬وتلك َّ‬
‫بني املسلمني مها املِيزتان الظاهرتان‪ ،‬يرامها املراقب من خارج ويعيشهما العضو‬
‫احلامل و املشارك‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة آل عمران‪ ،‬اآليتان ‪.103-102‬‬

‫‪196‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫بني املواطنني يف اجملتمع القانوين روابط مصلحية ينظمها قانون وضعي ال غري‪.‬‬
‫وبني املسلمني ينبغي أن تلُف املواطنةُ اإلميانيَّةُ املواطنة اجلغرافية السياسية القومية برداء‬
‫َصبَ ْحتُم بِنِ ْع َمتِ ِه إِ ْخ َواناً﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الرمحة‪ ،‬رمحة‪﴿ :‬فَأ ْ‬
‫هذه املواطنة املزدوجة يشري إليها ويُ َشِّرعُها قول اهلل عز وجل عن األنصار‬
‫الذين آووا النيب صلى اهلل عليه وسلم وإخواهنم املهاجرين ونصروا وأنفقوا وأحبوا‪﴿ :‬‬
‫اج َر إِلَْي ِه ْم َوَل يَ ِج ُدو َن فِي‬ ‫ال ِ ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫يما َن من قـَْبل ِه ْم يُحبُّو َن َم ْن َه َ‬
‫الد َار َو ِْ َ‬
‫ين تـَبـََّوُؤوا َّ‬
‫َوالذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اصةٌ َوَمن‬
‫ص َ‬ ‫اجةً ِّم َّما أُوتُوا َويـُْؤث ُرو َن َعلَى أَن ُفس ِه ْم َولَ ْو َكا َن بِ ِه ْم َخ َ‬
‫ص ُدوِره ْم َح َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْفل ُحو َن﴾ ‪.‬‬
‫‪1‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يُو َق ُش َّح نـَْفسه فَأ ُْولَئ َ‬
‫«تبوأوا الدار واإلميان»‪ .‬لو تبوأوا مع اآلخرين الدار فقط لكان الكل مواطنني‬
‫َّ‬
‫جيمعهم الوطن ومتلي عليهم ضرورة التعايش قوانني وضعية حلفظ املصاحل‪ .‬لكنهم‬
‫التبوِء الثنائي كانت‬
‫تبوأمها من هاجر إليهم‪ .‬وهبذا ُّ‬
‫تبوأوا الدار وتبوأوا اإلميان كما َّ‬
‫األخوة اليت أثىن اهلل عز وجل عليها ونقرأ عنها بإعجاب يف السرية‪.‬‬
‫تبوأ املكان مبعىن استوى فيه واستقر‪ .‬فكيف االستقرار يف اإلميان إن كنا نَعرف‬
‫ّ‬
‫االستقرار يف األوطان؟ هذا هو السؤال احملوري دائما‪ .‬منسك من هذه اآليات يف‬
‫األنصار احملمودين املشكورين ُوقُوا ُش َّح أنفسهم‪ .‬شح النفس‬
‫َ‬ ‫سورة احلشـر أن هؤالء‬
‫املؤهلة هي خروجهم من عبودية النّفس وهواها‬ ‫خبلها وانقباضها‪ .‬فصفتُهم األوىل ِّ‬
‫إىل عبودية اهلل تعاىل‪ .‬هبذا اخلروج نعرف من تاب «التوبة قلب الدولة»‪ ،‬ومن ِ‬
‫حيمل‬
‫العمران األخوي‪ .‬واهلل ويل املؤمنني‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة احلشر‪ ،‬اآلية ‪.9‬‬

‫‪197‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫خصائص العمران األخوي‬


‫ما السبيل إىل الوطن اإلمياين املشرتك؟ وكيف يتبوأه املسلمون ويستوون فيه؟ إذا‬
‫ظفرنا باملنهاج النبوي هلذه املواطنة القلبية فقد ظفرنا مبفتاح أقفال الطبيعة البشرية‪،‬‬
‫نربأُ من داء األمم‪ .‬وأي شتيت من البشر‬‫وظفرنا بالعالج الناجع لداء األمم‪ ،‬وكدنا َ‬
‫كان أبعد أن يتألف ويتآخى ويكون خري أمة أخرجت للناس من قبائل العرب مبكة‬
‫واملدينة وجزيرة العرب على عهد البعثة؟ كما بوأهم اهلل عز وجل الدار واإلميان‬
‫ين‪ .‬إن شاء‬ ‫ِ‬
‫باستجابتهم لداعيه حممد صلى اهلل عليه وسلم كذلك يبوئنا حنن اآلخر َ‬
‫وهو امللك الوهاب‪.‬‬
‫املواطنة القلبية اإلميانية بني املسلمـني هي أم اخلصائص يف العمران األخوي‪.‬‬
‫التحرر من العبودية للهوى‪ .‬وهبذا‬
‫ُ‬ ‫ِسَتُها النفسية السلوكية اإلقالع عن حب الدنيا و‬
‫اإلقالع والتحرر ينقلب موقف املسلم رأسا على عقب من املِلكية األنانية ملتاع‬
‫يعبدها‬
‫الدنيا‪ ،‬وتنقلب ذهنيته‪ ،‬وينسلخ من عادات املنكر‪ ،‬ومن الشرك باآلهلة اليت ُ‬
‫املال‬ ‫بح و ِ‬
‫اللذة و ِ‬ ‫ِ‬
‫اخلاصة والر ِ‬ ‫ِ‬
‫املصلحة‬
‫الشح و‬
‫اإلنسان املشرك والغافل من دون اهلل‪ِّ :‬‬
‫و ِ‬
‫اجلاه‪.‬‬
‫«الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» حديث نبوي رواه مسلم عن أيب هريرة‬
‫رضي اهلل عنه‪« .‬حب الدنيا رأس كل خطيئة‪ ،‬وحبك الشـيء يـُْع ِمي ويُصم»‪ .‬كلمة‬
‫للحسن البصري رمحه اهلل‪ .‬ومىت خرج املسلم بتوبة انقالبية من سجن الدنيا وحبها‬
‫أفلت من قبضة َس ّجانه وكان كما وصف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم نفسه حني‬
‫قال‪« :‬مالي وللدنيا‍! ما أنا والدنيا إالكراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها»‪.‬‬
‫احلديث أخرجه الرتمذي بسند صحيح عن عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ئ دار اإلميان بصري بالدنيا واآلخرة وباملسلك‬‫املتبو ُ‬
‫املتحرر من وطن الشح ِّ‬
‫ت الدنيا ُمدبرًة‪ ،‬وارحتلت‬
‫«ارتلَ ْ‬
‫بينهما كما كان اإلمام علي كرم اهلل وجهه القائل‪َ :‬‬
‫اآلخرة ُمقبلةً‪ .‬ولكل واحدة منهما بنو َن‪ .‬فكونوا من أبناء اآلخرة وال تكونوا من‬
‫عمل بال حساب‪ ،‬وغدا حساب وال عمل»‪.‬‬ ‫اليوم ٌ‬
‫أبناء الدنيا‪ .‬فإن َ‬
‫إن لكل مذهب سياسي عقيدة عليها يبين قواعده‪ .‬الرأمساليـة تبين على عقيدة‬
‫املصلحة الفردية األنانية كما فلسفها هوبز ولوك وروسو ومونتسكيو وغريهم‪ .‬هي‬
‫عقيدة اإلنسان الدوايب الذي ال يؤمن باهلل وال باليوم اآلخر‪ ،‬ابن الدنيا األثري عندها‪،‬‬
‫الفاعل فيها باجلدوى الرهيبة اليت حولت الكوكب األرضي والفضاء إىل حديقة له‬ ‫ِ‬
‫هو زينتها ومثرهتا من دون الناس‪ .‬ولالشرتاكية عقيدهتا الفاضلة نية ألهنا تعلن غضبها‬
‫على األنانية الرأمسالية وتريد املساواة والعدل وإنصاف العامل‪ .‬لكنها هتدمت منها‬
‫القواعد‪ ،‬فاالشرتاكية منذ اليوم ُحلم راود أبناء الدنيا‪ ،‬فهناك أطالل تارخيية حملاوالته‬
‫سينساها التاريخ‪.‬‬
‫والتحدي أمام أبناء اآلخرة‪ ،‬إن هم حقا انقلبوا على أنفسهم بتوبة كاملة‪ ،‬يتمثل‬
‫يف التصرف العملي املنتج املعطي يف ِم ْلكيّة الدنيا اليت جعلنا اهلل اخلالق الرزاق احمليي‬
‫أمر ليُ ِّنف َذ َ‬
‫أمره‬ ‫املميت الباعث الوارث رب اجلنة والنار مستخلفني فيها‪ .‬هو سبحانه َ‬
‫آمنُوا بِاللَّ ِه ورسولِ ِه وأ ِ‬
‫َنف ُقوا ِم َّما‬ ‫عباده باالختيار ال عباد اهلوى والشح إذ قال‪ِ ﴿ :‬‬
‫ََ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ ِ ‪1‬‬ ‫ِ‬
‫ين فيه﴾ وقال آمرا أهل السجن املوقنني بأهنم يف قاعة االمتحان بني‬ ‫َج َعلَ ُكم ُّم ْستَ ْخلَف َ‬
‫وهم ِّمن َّم ِال اللَّ ِه الَّ ِذي آتَا ُك ْم﴾‪.2‬‬
‫يدي املوت والبعث واجلزاء‪َ ﴿ :‬وآتُ ُ‬

‫‪ 1‬سورة احلديد‪ ،‬اآلية ‪.7‬‬


‫‪ 2‬سورة النور‪ ،‬اآلية ‪.33‬‬

‫‪199‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫املال مال اهلل وأنت مستخلَف فيه مأمور بإنفاق اخلري‪ .‬يبقى هذا القول فكرةً‬
‫جمردة وكلمة تلوكها األلسن الغافلة‪ ،‬هلا جاذبيتها إىل مساء األحالم‪ .‬أو تتحول على يد‬
‫اط ِن اإلميان عقيدة راسخة وقاعدة عملية تطبيقية تـَُعِّري املِْل ِكية الش ِّ‬
‫ُّحيَّة‬ ‫أبناء اآلخرة مو ِ‬
‫ُ‬
‫األنانية عن القداسة اليت تضفيها عليها الرأمسالية‪ .‬من مساء الوحي واألمر اإلهلي‪،‬‬
‫وحلق العلم‪،‬‬ ‫وعلى أرض اإلسالم‪ ،‬ويف أركان املسجد وصف الصالة وجمالس اإلميان ِ‬
‫َنف ُقوا ِم َّما َج َعلَ ُكم‬
‫املشرف بأمر ﴿وأ ِ‬
‫َ‬ ‫تنـزل حقائق االستخالف ومسؤولية املؤمن َّ‬
‫ين فِ ِيه﴾ إىل أداء األمانة ألهل األرض وإيتائهم من مال اهلل يف مزامحة‬ ‫ِ‬
‫ُّم ْستَ ْخلَف َ‬
‫شديدة ألبناء الدنيا الفاعلني الناجحني الرأمساليني‪ ،‬ويف قيادة املستضعفني يف األرض‬
‫ف بشيء‪.‬‬ ‫املنتظرين لعدل وإحسان‪ ،‬دالَّ ُهم الوعد الشيوعي االشرتاكي بغُرور ومل ي ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫الوعد االشرتاكي كان بالقصد والفلسفة أمال فُتح زمانا يف وجه العامل‬
‫فائض قيمة عمله‪ .‬وذهب‬‫املاص دماءَه‪ ،‬املنت ِزعُ َ‬
‫عرق جبينه ُّ‬
‫اآلكل َ‬
‫ُ‬ ‫لينصفه الرأمسايل‬
‫ورِد َم يف ُركام اخلراب‪ .‬فالرأمسالية الشرسة هتدد اإلنسانية باملخلب والناب‪.‬‬
‫األمل ُ‬
‫وال ُـمستضعفون‪ ،‬ومن أضعفهم املسلمون السامعون بالصحوة اإلسالمية املتطلعون‬
‫حلكم إسالمي منقذ‪ ،‬ينتظرون عقيدة قوية وقاعدة أصيلة وشريعة مقدسة وطرائق‬
‫عملية إجرائية حتقق العدل واإلحسان‪ .‬العدل‪ .‬العدل‪ .‬العدل‪ .‬واإلحسان‪.‬‬
‫يسود العا َلَ عالقات جتارية باردة مميتة‪ ،‬عالقات احلِساب والربح املادي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫واستثمار رأس املال‪ ،‬والال مباالة باإلنسان‪ .‬ويَسود املدينة الصناعية الكبرية‪ ،‬ومد َن‬
‫س العامل الذي حولته اآللة الصناعية لَولَبا من لوالبها‪،‬‬
‫القصدير‪ ،‬وبوادي الفقر‪ْ ،‬بؤ ُ‬
‫وحوله بؤس البطالة صعلوكا خمدرا‪ ،‬وحوله استبداد الثري احمللي دابة للحرث واحلمل‬
‫واجلوع والتناسل يف حظائر اهلوان‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫من أرض البأساء يتطلع املستضعفون إىل رمحة يأيت هبا إن شاء اهلل املقتحمون‬
‫ام فِي يـَْوٍم ِذي َم ْسغَبَ ٍة يَتِيماً َذا‬ ‫اك ما الْع َقبةُ فَ ُّ ٍ‬
‫ك َرقـَبَة أ َْو إِط َْع ٌ‬ ‫للعقبة‪َ ﴿ :‬وَما أَ ْد َر َ َ َ َ‬
‫َم ْق َربٍَة أ َْو ِم ْس ِكيناً َذا َمتـَْربٍَة﴾‪.1‬‬
‫يتطلعون إىل تكافل اجتماعي‪ ،‬إىل أخوة باذلة‪ ،‬حانية‪ ،‬حمبة‪ ،‬تأسو اجلراح‬
‫وتُطلق السراح‪ .‬شرع لنا القرآن الكرمي هذا التكافل بقوله جل وعال ‪َ ﴿ :‬وبِال َْوالِ َديْ ِن‬
‫ْجنُ ِ‬ ‫إِحساناً وبِ ِذي الْ ُقربى والْيتَامى والْمساكِي ِن وال ِ‬
‫ب‬ ‫ْجا ِر ال ُ‬ ‫ْجا ِر ذي الْ ُق ْربَى َوال َ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ َ َ َ َ َ َ‬ ‫َْ َ‬
‫السبِ ِ‬ ‫الص ِ‬
‫ت أَيْ َمانُ ُك ْم﴾‪.2‬‬
‫يل َوَما َملَ َك ْ‬ ‫نب َوابْ ِن َّ‬ ‫ب بِ َ‬
‫الج ِ‬ ‫اح ِ‬ ‫َو َّ‬
‫ووصف لنا رسولُه الكرمي صلى اهلل عليه وسلم َمثَ َل العمران األخوي يف قوله‪:‬‬
‫اح ِمهم وتعاطفهم مثَ ُل الجسد‪ ،‬إذا اشتكى منه‬ ‫«مثل المؤمنين في توادِّهم وتر ُ‬
‫ُ‬
‫عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»‪ .‬رواه الشيخان عن النعمان بن‬
‫بشري رضي اهلل عنهما‪.‬‬
‫من أرض البأساء تتطلع اإلنسانية األسرية يف قبضة أبناء الدنيا الفاعلني املؤثرين‬
‫املتمكنني يف األرض وأرزاقها وخرياهتا وأهلها‪ .‬فما هي الشروط السياسية العملية‬
‫لتحويل ْجمرى األحداث يف مصلحة املستضعفني بقيادة أبناء اآلخرة املستخلفني؟‬
‫ما هي الشروط إلقامة عدل اإلسالم يف األرض؟‬
‫ادتم عوارض العقائد العلمانية‬
‫يف مراحل زحف اإلسالميني إىل احلكم تعرتض إر َ‬
‫ائمهم قعود السواد الغثائي‪ ،‬ويقلل من فاعليتهم قلة التجربة وضخامة‬
‫الدنيوية‪ ،‬ويثبط عز َ‬
‫اإلرث اخلرايب النفسـي األخالقي االقتصادي الذي خلفه ذرية الفتنة‪ .‬ومتضـي َوفقا‬

‫‪ 1‬سورة البلد‪ ،‬اآليات ‪.16-12‬‬


‫‪ 2‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.36‬‬

‫‪201‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫لسنة اهلل يف الكون واألنفس فرتة تطول أم تقصـر قبل أن يقبَل الكافة ُحكم الشريعة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وقبل أن يَستقر السلطان يف يد أهل القرآن‪ ،‬وقبل أن تكون الشورى هي‬
‫القاعدة املقررة املعروفة املعززة لنظام احلكم‪.‬‬
‫هذا هو الشرط األساسي إلحالل العمران األخوي‪ ،‬بل لبدايته‪ ،‬حمل «احلضارة»‬
‫الغابوية‪ :‬االستقر ُار على الشورى‪.‬‬
‫مث يأيت شرط املشاركة العامة يف تنظيم اجلهود لبناء القاعدة االقتصادية‬
‫الضرورية ليكون لنا‪ ،‬يف يدنا‪ ،‬من مال اهلل ما ننفق ونُؤيت‪ .‬فإنه إن عمنا الفقر‪،‬‬
‫وجرتنا التبعية يف ذيل قطار الرأمسالية‪ ،‬وأرغمت أنوفنا املديونية‪ ،‬وخاننا العجز العلمي‬
‫َّ‬
‫التكنولوجي‪ ،‬وتسربت من بني أصابعنا رؤوس أموالنا‪ ،‬لن نستطيع العيش مع أبناء‬
‫الدنيا الناجحني‪ ،‬قانوهنم التنافسية بال حدود‪.‬‬
‫شرط ثالث ميليه االستقرار الشوري ومتليه بداية جناح اجلهود وتنظيمها‪ ،‬هو‬
‫شرط اتضاح األهداف‪ .‬إن كانت الشـريعة ومقاصدها وأوامـر اهلل عز وجل وأمثلة‬
‫ض ٍة على لساننا قبل وصولنا إىل احلكم واستقرارنا فيه‪ ،‬فهي بعد ذلك‬
‫عار َ‬
‫السنة آلةَ ُم َ‬
‫قواعد ملزمة وتكليف ِ‬
‫وحل‪ ،‬يرى اهلل عملَنا ورسولُه واملؤمنون‪ ،‬واملسلمون والناس‬ ‫ُ‬
‫أمجعون‪ ،‬وينتظر الكل ويرتبص الكل‪ .‬ما كان يف الصحف مسطورا‪ ،‬ويف الصدور‬
‫أمال مطمورا‪ ،‬ويف العقول خطة ساحبة يف املثالية‪ ،‬جيب أن يصبح برامج حكيمة‪،‬‬
‫قابلة للتطبيق‪ ،‬آخذة يف التطبيق‪ ،‬جارية تفرض نفسها بوجودها يف عامل الكم‬
‫والعدد‪.‬‬
‫وهذا يتكامل مع الشـرط الرابع‪ ،‬وهو شرط مالءمة الوسائل املتاحة لألهداف‬
‫اإلسالمية العمرانية األخوية‪ .‬العا َلُ يعج بالوسائل املالية املادية العلمية الصناعية‪ .‬هي يف‬
‫فض َل منها فوقع يف حوزة املسلمني فهو مسخر‬ ‫ُمعظمها رهينةٌ يف يد أبناء الدنيا‪ .‬وما َ‬

‫‪202‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ألهداف املستكربين يف األرض‪ .‬فعُدَّتنا ألسلمة العلوم واخلربات ورأس املال الشارد‬
‫منا توازي أو تكاد يف األمهية عُدتَنا لفرض األهداف اإلسالمية وحتبيبها وإجناحها‪.‬‬
‫وكل ما حنققه إن شاء اهلل من ُنح يف هذه امليادين يكون للمسلمني‬
‫واملستضعفني عربو َن أخوة‪ ،‬وعطاءً تأليفيا‪ .‬كان الفاروق عمر رضي اهلل عنه عطل يف‬
‫عطي أحداً شيئا ليحبب‬
‫زمانه عطاء املؤلفة قلوهبم لتقديره انتفاء العلة‪ .‬فلم َير أن يُ َ‬
‫إليه اإلسالم‪ .‬العلة يف زماننا قائمة بالناس‪ ،‬واقعة هبم‪ ،‬فما حنققه للكافة من خري هو‬
‫دعوة واجبة‪ .‬واهلل يهدي من يشاء إىل صراط مستقيم‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫الزكاة‬
‫التأليف االجتماعي يف العمران األخوي تأليف عضوي تندمج فيه املصلحة‬
‫الفردية يف الصالح العام‪ ،‬ويعود فيه الصالح العام على الفرد بكل ما يصون‬
‫مثل اجلسد‪.‬‬ ‫هم‬ ‫أخوته من عوادي الزمان‪ .‬مثل املؤمنني يف تو ِّادهم وترامحهم وتعاطُِ‬
‫ف‬
‫ُ‬ ‫ََ ُ‬
‫صالحها بصالح اجلسد‪ ،‬كما أن وظيفة اجلسد‬ ‫ُ‬ ‫ووظائف أعضاء اجلسد ُمرتـََه ٌن‬
‫حمكومة بصالح أعضائه‪ .‬تضامن وتبادل حيكي التكافل الذي فرضه اهلل عز وجل‬
‫على املسلمني وهلم‪.‬‬
‫يك ْل الشرع املقدس مسألة التضامن يف حضن اإلسالم لِعواطف الرتاحم‬ ‫ومل ِ‬
‫والتواد والتعاطف هكذا ُمطلقةً‪ ،‬فالدنيا الشاغلة قد تُنسـي احلقوق اليت ليس‬
‫وراءَها طالب‪ .‬لذلك فرض اهلل عز وجل حدا أدىن من التضامن هو الزكاة‪ .‬وشدد‬
‫أوعد من ضيعه خبزي اآلخرة‪،‬‬ ‫ِ ِِ‬
‫يف فـَْرضيَّته‪ ،‬وجعل أداءه ركنا من أركان اإلسالم‪َ ،‬‬
‫وأسند إىل الدولة اإلسالمية واجب مراقبته وأخذه واقتضائه واملعاقبة الشديدة ملن‬
‫أضاعه أو منعه أو جحده‪.‬‬
‫على املال حق هلل تعاىل يؤديه املتمول املتملك الغين للفقراء‪ .‬أداؤه امتحان للشح‬
‫سخرة‬ ‫املغروز يف اإلنسان‪ ،‬يفلح اإلنسان إن ُوقي شحه وبرهن بأداء الزكـاة أن دنياه ُم َّ‬
‫اس َم َربِِّه‬
‫آلخرته‪ .‬فيما بني العبد وربه يؤذِّن مؤذن الفالح‪﴿ :‬قَ ْد أَفـْلَ َح َمن تـََزَّكى َوذَ َك َر ْ‬
‫اب َمن َد َّس َاها﴾‪ .2‬وفيما بني املسلمني‪ ،‬قلوهبم‬ ‫صلَّى﴾ ‪﴿ ،‬قَ ْد أَفـْلَ َح َمن َزَّك َاها َوقَ ْد َخ َ‬
‫فَ َ‬
‫‪1‬‬

‫يف مساء التواد والتعاطف وأقدامهم على أرض الواقع‪ ،‬خياطب الشـرع إمام األمة‪ُ ﴿ :‬خ ْذ‬

‫‪ 1‬سورة األعلى‪ ،‬اآليتان ‪.15-14‬‬


‫‪ 2‬سورة الشمس‪ ،‬اآليتان ‪.10-9‬‬

‫‪204‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ص َدقَةً تُطَ ِّه ُرُه ْم َوتـَُزِّكي ِهم بِ َها﴾‪ .1‬وازع القرآن يبشـر ُمؤيتَ الزكاة بطهارة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن أ َْم َوال ِه ْم َ‬
‫النفس وفالح اآلخرة‪ ،‬ووازع السلطان وكيل القرآن يقول‪ :‬هات! ومن وراء «هات»‬
‫اإللزام الصارم‪.‬‬
‫الصدقة املزكية املطهرة هي الزكاة بشـروطها الشرعية ونِصاهبا‪ .‬من تزَّكى هبا‬ ‫َ‬
‫تبج َح بأنانية شحيحة فآية ﴿فَ َل تـَُزُّكوا‬ ‫وبالصالة وذكر اهلل طَ ُهَر‪ .‬ومن َّادعى زكا ًة َو َّ‬
‫س ُك ْم﴾‪ 2‬ترده إىل مرتَع الدِّيَ َك ِة املنتفشة‪« .‬الصدقة برهان» كما جاء يف احلديث‪.‬‬ ‫أَن ُف َ‬
‫وكل من ادعى خريا من املتمولني مع شاهد شحه وغائب عطائه فإمنا هو كذاب‪.‬‬
‫وشرط الدخول يف األخوة الدينية واملواطنة اإلميانية هو‪﴿ :‬فَِإن تَابُواْ َوأَقَ ُامواْ َّ‬
‫الصالَةَ‬
‫الزَكا َة فَِإ ْخ َوانُ ُك ْم فِي الدِّي ِن﴾‪.3‬‬
‫َوآتـَُواْ َّ‬
‫هذا احلديث عن الوجه العبادي الرتبوي اإلمياين لفريضة الزكاة‪.‬‬
‫أما احلديث عن وظيفتها االجتماعية العمرانية فنربطه بالوجه العبادي اإلمياين‬
‫ربطا حمكما كيال تذهب بنا غفلة املقارنة األرضية بني ما عندنا وما عند غرينا إىل‬
‫جتريد الزكاة من مغزاها التطهريي ال َفالَحي األخروي لنتقدم يف معرض اإلجنازات‬
‫التارخيية «بالسبق» اإلسالمي إىل تضامن اجتماعي أصيل مل تصل أوربا إىل بعضه‬
‫ٍ‬
‫الييكية من نوع خاص‪،‬‬ ‫إال منذ ثالثة أو أربعة عقود‪ .‬وعندئذ فنحن يف َمساق‬
‫ونصبَتها يف مضمار التكافُؤ والنِّدِّيّة والسبق جنبا إىل‬
‫روحها َ‬
‫اختلست من الشـريعة َ‬
‫جنب مع قوانني البشر‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.104‬‬


‫‪ 2‬سورة النجم‪ ،‬اآلية ‪.31‬‬
‫‪ 3‬سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.11‬‬

‫‪205‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يف جمتمعات البشر‪ ،‬عندما حتفظ القبلية وبدائية العيش القوم من التبعثُر يف‬
‫التضامن بني ذوي القرىب وبني أفراد األسرة والقبيلة حقيقة اقتصادية‬
‫ُ‬ ‫املدينة‪ ،‬يكون‬
‫اجتماعية ماسكة‪ .‬وال يزال بني املسلمني تضامن من هذا النوع لسالمة الفطرة‪،‬‬
‫وقرب العهد بسالمتها‪ ،‬والحتفاظ الشرائح الشعبية املسلمة ببعض فضائل اإلسالم‬
‫االجتماعية‪.‬‬
‫اآلن يطرح السؤال على األمة‪ ،‬باديها ِ‬
‫وحاض ِرها‪ ،‬وبإحلاح وبُؤس ويأس‪ :‬هل‬ ‫ُ‬
‫التحول التّقاين والكواكب الصناعية وشرود العلوم واالخرتاع‬
‫لنا مكان يف عامل ُّ‬
‫باإلنسان وتدفق املعلومات احلاسوبية بال حدود؟ أمام منجزات العصر قد يبدو‬
‫لبعض املفكرين من أبناء جلدتنا الالييكيني الغرباء عن عقيدة اإلسالم ومذهبه‬
‫احلديث عن الزكاة وشرعها حديثا عتيقا متخلفا «ماضويا»‪.‬‬
‫ُ‬
‫األمة اإلسالمية احملافظة على بعض فضائل اإلسالم ترا ِوُدها أصوات من‬
‫ات من ذات ِشال‬ ‫ِ‬
‫املم ِّجدين للدين الفخورين بسبقه‪ ،‬وأصو ٌ‬
‫ذات ميني اإلسالميني َ‬
‫املتخففني من كل دين‪ ،‬يرَكبُهم الذهول املتسائل عن وسيلة للحاق بركب احلضارة‬
‫الطائرة‪ ،‬ويـُْف ِزعهم هتديد املستقبل لألمة بالزوال واالنسحاق واالمنحاق يف التيار‬
‫العاملي املتموج‪.‬‬
‫من لنا باهلدوء والسكينة حىت نسمع كـالم اهلل وكالم رسول اهلل ال يستفزنا‬
‫وهوسه وسرعته! من لنا بالطمأنينة القلبية لنبصر أمر اآلخرة من خالل‬‫ضجيج العامل َ‬
‫حجاب الدنيا‪ ،‬ولننظم شؤون الدنيا مبعايري اآلخرة‪ ،‬معايري الدين القيم!‬
‫الزكاة هي «النمو احلاصل عن بركـة اهلل تعاىل يف األمور الدنيوية واألخروية»‪.‬‬
‫هكذا قال الراغب رمحه اهلل‪ .‬ال انفصال عنده وعند أمثاله بني بركة اهلل يف الدنيا‬
‫وبركته يف اآلخرة‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫املال مال اهلل وأنت أيها اإلنسان‪ ،‬أيها املسلم‪ ،‬مستخلف فيه‪ ،‬راجع إىل‬
‫املال مالُك جاءتك‬
‫ربك لتؤدي احلساب‪ .‬إنا هلل وإنا إليه راجعون‪ .‬إن زعمت أن َ‬
‫ال اللَّ ِه﴾‪ 1‬فردتك إىل ربك َوذكرتك أنك لو كنت موصوفا‬
‫وهم ِّمن َّم ِ‬
‫آية‪َ ﴿ :‬وآتُ ُ‬
‫بشيء من صفات امللك ملا جاءك املوت ففصلك عن ِم ْلكك ال تستطيع له ردا‪.‬‬
‫أنت ال متلك نفسك وال متلك حياة وال موتا‪ ،‬فكيف متلك ما عداك؟ يف املال‬
‫ِ‬
‫وملكيته وزواهلا بزوالك موعظة تذكرك باآلخرة وبرجوعك إىل ربك يف يوم ال ريب‬
‫فيه‪.‬‬

‫ب‬ ‫ين يَ ْكنِ ُزو َن َّ‬ ‫َّ ِ‬


‫الذ َه َ‬ ‫ويف هذه املوعظة تتجلى بركة اهلل األخروية‪ ،‬تسمع‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫شرهم بِع َذ ٍ ِ‬ ‫ضةَ والَ ي ِنف ُقونـها فِي سبِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اب أَليم﴾ ‪ ،‬فتخاف ال َـم َ‬
‫عاد‬ ‫يل اللّه فـَبَ ِّ ْ ُ َ‬ ‫َوالْف َّ َ ُ ََ‬
‫‪2‬‬
‫َ‬
‫وتغلب شح نفسك وتؤدي فريضة دينك وتتزكى وتفلح‪.‬‬

‫لكنك إن حلقت يف مساء الروحيات ردتك آيات اهلل عز وجل وأوامره‬


‫املال مالُك‪ ،‬واشرتى منك سبحانه واستقرض‪.‬‬ ‫إىل أرض التكليف‪ ،‬فأخربك أن َ‬
‫َّ ِ‬
‫يد السائل واحملروم والفقري واملسكني‪﴿ .‬يَا أَيـَُّها الذ َ‬
‫ين‬ ‫حق اهلل ُ‬ ‫أخذت منك َّ‬ ‫و ْ‬
‫آمنُوا َل تـُْل ِه ُك ْم أ َْم َوالُ ُك ْم َوَل أ َْوَل ُد ُك ْم َعن ِذ ْك ِر اللَّ ِه﴾ ‪َ ﴿ .3‬والَ تَأْ ُكلُواْ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ضوا اللَّهَ‬ ‫الص َلةَ َوآتُوا َّ‬
‫الزَكاةَ َوأَقْ ِر ُ‬ ‫يموا َّ‬ ‫أ َْم َوالَ ُكم بـَيـْنَ ُكم بالْبَاطل﴾ ‪َ ﴿ .‬وأَق ُ‬
‫‪4‬‬

‫‪1‬‬
‫سورة النور‪ ،‬اآلية ‪.33‬‬
‫‪2‬‬
‫سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.34‬‬
‫‪3‬‬
‫سورة املنافقون‪ ،‬اآلية ‪.9‬‬
‫‪4‬‬
‫سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.188‬‬

‫‪207‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫س ُه ْم َوأ َْم َوالَ ُهم بِأ َّ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َن لَ ُه ُم‬ ‫سنا﴾ ‪﴿ .‬إِ َّن اللّهَ ا ْشتـََرى م َن ال ُْم ْؤمن َ‬
‫ين أَن ُف َ‬ ‫قـَْرضاً َح َ‬
‫‪1‬‬

‫الجنَّةَ﴾‪.2‬‬
‫َ‬
‫على أرض التكليف‪ ،‬واملسؤولية عن املِْلك‪ ،‬والشـراء واإلقراض‪ ،‬والنصاب‬
‫ومقاتلة اإلمام مانِ َعها‪ ،‬وصـرفها يف‬
‫ِ‬ ‫ومستح ِّق الزكاة‪ ،‬و ِ‬
‫العامل عليها‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الشرعي‪،‬‬
‫وجوهها‪ ،‬تتجلى بركة اهلل الدنيوية لتضمن للمسلمني خري الدنيا وكرامة العيش‪،‬‬
‫املرتتب يف‬
‫َ‬ ‫ولتقيهم ذل احلاجة واملسألة‪ .‬فهم ال يتلقون تربعا وإمنا يتقبلون حق اهلل‬
‫ذمتك َدينا ال يسقط بالتقادم وال باملوت‪ ،‬وال تُعفيك منه أعذار‪.‬‬
‫لسنَتِه‪ ،‬بل كفايتُه ملدة‬ ‫ٍ‬
‫الزكاة فرض يف كل مال نام‪ .‬هدفها إغناءُ املستحق َ‬
‫عمره كما هو مذهب اإلمام الشافعي رضي اهلل عنه ومذهب طائفة من الفقهاء‪،‬‬ ‫ْ‬
‫بنوا على قول الفاروق عمر رضي اهلل عنه‪« :‬إذا أعطيتم فأ ْغنُوا»‪ .‬وقد كان رسول‬
‫ْ‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم معلم عمر وحجة الفقهاء يعطي اجلزيل ويغين السائل‪ .‬وقد‬
‫أعطى رجال ما بني جبلني من إبل وغنم سائمة‪.‬‬

‫الزكاة يف ظل اخلالفة الثانية إن شاء اهلل ينبغي أن تتجدد حيويتها‪ ،‬ويتوسع‬


‫نطاقُها‪ ،‬وأن تستخلص من خصوصية الفريضة الفردية االختيارية اليت يؤتيها أو‬
‫مينعها من يشاء لتصبح واجبا عاما‪ ،‬وسياسة للدولة‪ ،‬ومصدرا للمال قارا‪.‬‬

‫إن اقتصاد املسلمني‪ ،‬يف ظل التبعية لالقتصادات القوية الفاعلة يف العامل‪ ،‬يشكو‬
‫من مجلة ما يشكو النقص يف رأس املال‪ ،‬وكسل الرساميل املوجودة‪ ،‬وعجزها عن املشاركة‬

‫‪ 1‬سورة املزمل‪ ،‬اآلية ‪.20‬‬


‫‪ 2‬سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.111‬‬

‫‪208‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يف التنمية‪ ،‬وهروهبا من بالد املسلمني إىل حيث يغذوها الربا ويُ َس ِّمنُها‪ .‬يسمنها رأْ َ‬
‫ي‬
‫العني‪ ،‬وهي املنفوخة املمحوقة‪.‬‬
‫فإىل جانب وظيفة الزكاة الضمانية التوزيعية حيث يصيب منها الفقري واملسكني‬
‫وسائر األصناف الثمانية املذكورة املفصلة يف القرآن‪ ،‬ينبغي أن تقوم الزكاة بوظيفة‬
‫التوفري والتجميع واالستثمار والتنمية‪ .‬يف أصل فرضيتها على املال النامي حافز على‬
‫استثمار املال خمافة أن تأكله الزكاة‪ .‬ويف فقه إغناء املمنُوح َم ْدرجةٌ للتوفري والتنمية‪.‬‬
‫وقد قال فقهاؤنا رضي اهلل عنهم بأن صاحب احلِرفة يـُْعطَى من الزكاة ما جيهز به‬
‫حرفته كائناً ما كان‪.‬‬
‫يف عصرنا اجتهد فقهاء آخرون شكر اهلل سعيهم فأفتـَْوا بتوسيع ِوعاء الزكاة‬
‫حىت ال يظَ َّل حيث ترَكها السلف الصاحل الذي مل يكن يعرف إال االقتصاد الزراعي‬
‫قعد هذا الفقهَ األستاذ يوسف‬ ‫البِدائي املنحصر يف اإلبل والغنم والقمح والشعري‪َّ .‬‬
‫القرضاوي يف كتابه القيم «فقه الزكاة» بانياً على اجتهاد الفقيه أيب زهرة رمحه اهلل‬
‫والفقيه عبد الوهاب خالف رمحـه اهلل وغريمها‪.‬‬
‫وقد تقدم بالعلة القياسية الفاحتة لتوسيع ِوعاء الزكاة لتشمل الثروات املعدنية‬
‫والبحرية والفالحية والتجارية والصناعية‪ .‬وأتى بالدليل والسوابق املوجبة للزكاة على‬
‫ُّخول القارِة مهما كانت‪ .‬وقاس على النقد املستندات املالية و ُ‬
‫أسه َم الشركات‪.‬‬ ‫الد ُ‬
‫ولو كان املستحقون يـُْعطَْون أسهما ألحرزنا من الزكاة مشاركة يف رأس املال تكون‬
‫فتحا لنا‪ .‬واهلل الغين وأنتم الفقراء‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫يف املال حق سوى الزكاة‬


‫يف هذه الفقرة أعرض إن شاء اهلل للعربة صورة مثال لفطرة إنسانية نفضت عن‬
‫نفسها‪ ،‬أستغفر اهلل العظيم‪ ،‬نفض اهلل سبحانه عنها غبار الغفلة وفض عنها خامت اجلحود‪.‬‬
‫رجاء جارودي النصراين الشيوعي الفيلسوف سابقا‪ ،‬املقبل املدبر‪ ،‬املؤمن الشاك‪ ،‬املثبت‬
‫جود اخلالق‪ ،‬املماري يف طاعته وطاعة رسوله‪ ،‬السابح ال يزال يف مفهومياته العقالنية‪،‬‬
‫ُو َ‬
‫املدافع حبمـاس وصدق عن حقوق املسلمني يف فلسطني‪ .‬هداه اهلل‪.‬‬
‫جاء راجعا من حضارة بالها عن قرب وعرفها يف العمق وخربها فعافها‬
‫حتت الركام مالمح غامضة للحق‬ ‫ولفظها وفضح معايِبها‪ .‬بدت لفطرته الـمطلة من ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫فعب عن مطمحه يف سياق نَقده حلضارة هو من أبرز أبنائها‪ .‬ويستشف القارئ من‬ ‫َّ‬
‫نُصوصه بقايا احلرية واخلوف من املوت‪ ،‬واالنعدام التام لذكر اآلخرة‪ .‬مطاعنه يف‬
‫احلضارة الغربية ترجع إىل جهلها باهلل وقسوهتا على الناس‪ .‬دخل جارودي اإلسالم‬
‫كما يدخل الالجئ يـَْن ُش ُد يف اإلسالم املفارقة «‪ »transcendance‬وينشد اجملتمع‬
‫التضامين «‪.»communauté‬‬
‫َّ‬
‫فهل جتلت لبصريته املتعطشة ِس َّكةُ املستقبل الذي ُ‬
‫ينش ُده وهو ال يذكر اآلخرة‬
‫الغموض َم ْن يستشهد بالفيلسوف‬
‫َ‬ ‫كأنه ال يعرفها؟ أم هل يتلقى عن مثله إال‬
‫املشهور الذي أسلم عقلُه لكنه ال ينطق إال عن مكنونه الفلسفي الذي يبحث عن‬
‫«املفارقة»‪ ،‬ال يسمي من له األمساء احلسىن سبحانه إال أحيانا؟‬
‫يقول جارودي يف مقدمة كتابه «وعود اإلسالم»‪ :‬اإلسالم هو النظرة إىل اهلل‬
‫مشروع بناء عا َل‬
‫َ‬ ‫والعامل واإلنسان اليت حتدد للعلوم والفنون ولكل إنسان وجمتمع‬
‫إهلي بشري ال تنفصل ألوهيته عن بشـريته‪ .‬عا ٍمل يتضمن البعدين العظيمني‪« :‬املفارقة‬
‫واجملتمع التضامين»‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الغريب الذي يسوقنا إىل حياة بال‬
‫عي أن منط التنمية ّ‬ ‫ويقول‪« :‬آن األوا ُن لنَ َ‬
‫هدف وإىل املوت‪ ،‬حياول أن يربر بنموذج ثقافة وإديولوجية يف طيها جراثيم املوت‬
‫تصوراً ممسوخاً للطبيعة باعتبارها ِملكا لنا ميكننا أن نتصرف فيها ونعبث‪]...[ .‬‬ ‫ُّ‬
‫مبين على مصلحة فردية بال كابح‪.]...[ .‬‬‫صوٌر ال رمحةَ فيه للعالقات بني الناس‪ٌّ ،‬‬‫تَ ُّ‬
‫تصور يائس للمستقبل‪ ،‬ليس فيه املستقبل إال امتدادا َك ِّميّا للحاضر‪ ،‬بال هدف‬
‫إنساين وال تقاطع إهلي‪ .‬بدون أي شيء يتعاىل على هذا األفق ليعطي حلياتنا معىن‬
‫وليصرفنا عن املوت»‪.‬‬
‫كيف يرتاآى لفيلسوف راجع من احلضارة اجلاهلية «مستقبل يعطي حلياتنا‬
‫معىن ويصرفنا عن املوت؟» املوت إذاً هناية‪ .‬املوت إذا هو الشـر املطلق كما يعتقد‬
‫ذلك الدهريون!‬
‫وكيف حيُل اجملتمع التضامين األخوي الذي يُناغي خيال الشيوعي الراجع من‬
‫إديولوجيته حمل اجملتمع الرأمسايل ما مل تنفتح أقفال الشح عن النفس البشرية املتقمصة‬
‫ألنانيتها؟‬
‫وكيف تنفتح هذه األقفال ما مل تنفتح لعني اإلميان سكةُ املستقبل األخروي؟‬
‫أم كيف يؤمن باآلخرة املسلم الذي يدور يف فلك احملاضرات و«الثقافة اإلسالمية»؟‬
‫مل جيد من ِسلعة رائجة بني املسلمني املثقفني إال إسالما ثقافيا‪َ .‬لْ يزاحم يف صف‬
‫املسجد ومل جيلس جملس املتعلم ليذكر اهلل مع الذاكرين‪.‬‬
‫قال اإلمام الفاروق عمر رضي اهلل عنه‪« :‬تفقهوا ْقب َل أن تُ َس َّودوا»‪ .‬ألنك إذا‬
‫حتذق أجبديات العلم توشك أن تتوسد جهلك يف‬ ‫جلست جملس الـمعلِّ ِم قبل أن ِ‬
‫َُ‬
‫القرب‪ .‬ومن يصـرف عنك املوت الذي تفر منه وهو مالقيك؟‬
‫إن عمل املسلمني آلخرهتم‪ ،‬وحرصهم على أن يُقدموا آلخرهتمكما أوصى بذلك‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف أول خطبة له بأول مسجد أسس على التقوى هو‬
‫الضمانة لبناء العمران األخوي الذي ِحتن إليه ِ‬
‫الفطَُر املتطهرة‪ .‬وإن اقتحام الدنيا إىل اآلخرة‬

‫‪211‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫هو النتيجة إلميان مبستقبل أخروي فيه لقاء اهلل وجزاء اهلل ومغفرة اهلل ورمحة اهلل وجنة اهلل‬
‫ورضى اهلل والنظر إىل وجه اهلل‪ .‬جل اهلل ال إله إال اهلل‪.‬‬
‫شرا بل‬
‫هبذه النظرة املستقبلية اإلميانية اإلحسانية اليت ال يشكل املوت فيها ّ‬
‫حيسب حساب الدنيا واآلخرة يعطي املسلم‬
‫مرحلة‪ ،‬وبوازع السلطان الراشد الذي ُ‬
‫من ماله حق الزكاة‪ ،‬ويعطي حقا فوق الزكاة‪ ،‬ويعطي مقدما آلخرته بال شح‪.‬‬
‫حنول االقتصاد الفردي الرأمسايل الغابوي إىل اقتصاد إنساين آدمي‬
‫ال ميكن أن ِّ‬
‫حيمي الضعيف ويصون ذا احلاجة واليتامى واملساكني إذا مل يتبوأ املسلمون دار‬
‫اإلميان‪ ،‬وإذا مل تكن الشورى مناط السلطان‪ُ ،‬يتار بالشورى األعلمون األتقون‬
‫املقتحمون للعقبة‪ .‬وما أدراك ما العقبة؟‬
‫اختلف فقهاؤنا األقدمون هل يف املال حق غري الزكاة‪ ،‬وكل أدىل برأيه وبَ َسط‬
‫وتفرَد من بني فقهائنا رمحهم اهلل اإلمام ابن حزم بالدفاع القوي عن وجوب‬ ‫أدلته‪َّ .‬‬
‫حقوق يف املال غري الزكاة‪ .‬ولو مل تكن له إال هذه لغطت على ِحدَّته وجرأته على‬
‫األئمة العظام‪ .‬غفر اهلل لنا وله وللمسلمني‪.‬‬
‫واملِساحة اليت خيطها ابن حزم للنفقات الواجبة فوق الزكاة واسعة َمطَّاطة ال‬
‫يكاد يتيَسر لسلطان املسلمني مراقبتها‪ .‬فسرد أدلة اجتهاده رمحه اهلل رجاء تطبيق‬
‫مشارف وازع القرآن‪ ،‬وتتوسع إليها‪،‬‬‫َ‬ ‫حدود وازع السلطان‬ ‫اخم فيه‬‫مستقبلي تـتَ ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وتشتد يف طلبها لتوفري اخلري لساكين العمران األخوي‪.‬‬
‫قال رمحه اهلل‪« :‬وفُرض على األغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم‪،‬‬
‫وجيبـُُرهم السلطان على ذلك إن مل تقم الزكوات هبم وال يف سائر أموال املسلمني‪ .‬فيُقام‬
‫هلم مبا يأكلون من القوت الذي ال بد منه‪ ،‬ومن اللباس للشتاء والصيف مبثل ذلك‪،‬‬

‫‪212‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ومبسكن يُكنهم من املطر والصيف والشمس وعيون املارة‪ .‬برهان ذلك قوله تعاىل‪:‬‬
‫السبِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يل﴾‪.2»1‬‬ ‫﴿وآت َوآت َذا الْ ُق ْربَى َح َّقهُ َوالْم ْسك َ‬
‫ين َوابْ َن َّ‬
‫وذكر رمحه اهلل من األدلة حىت قال راويا بسنده إىل اإلمام مسلم احلديث‬
‫فضل ظهر فليعُد به على من ال ظهر له‪ .‬ومن كان‬
‫النبوي العظيم‪« :‬من كان معه ُ‬
‫له فضل من زاد فليعُد به على من ال زاد له»‪ .‬قال‪ :‬فذكر من أصناف املال ما‬
‫ذكر حىت رأينا أنه ال حق ٍ‬
‫ألحد منا يف فضل»‪.‬‬
‫وروى بسنده عن الفاروق رضي اهلل عنه أنه قال‪« :‬لو استقبلت من أمري‬
‫استدبرت ألخذت فضول أموال األغنياء فقسمتها على فقراء املهاجرين»‪ .‬قال‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ما‬
‫وهذا إسناد يف غاية الصحة واجلاللة‪.‬‬
‫وبسنده روى عن اإلمام علي كرم اهلل وجهه أنه قال‪« :‬إن اهلل تعاىل فرض على‬
‫وج ِهدوا فبمنع األغنياء‪.‬‬
‫األغنياء يف أمواهلم بقدر ما يكفي فقراءهم‪ .‬فإن جاعوا أو َعُروا َ‬
‫وحق على اهلل تعاىل أن حياسبهم يوم القيامة ويعذهبم عليه»‪.‬‬
‫ٌّ‬
‫قلت‪ :‬ما أحرى حديث النيب صلى اهلل عليه وسلم يف بذل الفضول وعزمة عمر‬
‫ب بالتدريج الفوارق‬‫وتثقيل اإلمام علي مسؤولية األغنياء أن تكون لنا دليال عملياً لن َذ ِّو َ‬
‫الطبقية البغيضة بني األغنياء والفقراء‪ ،‬يف دار اإلسالم ويف العامل!‬
‫قال رمحه اهلل‪ :‬وعن ابن عمر أنه قال‪« :‬يف مالك حق ِس َوى الزكاة»‪ .‬وعن ِّأم‬
‫املؤمنني عائشة واحلسن بن علي وابن عمر أهنم كلهم قالوا ملن سأهلم‪« :‬إن كنت تسأل‬
‫فظع أو فقر مدقِع فقد وجب حقك»‪.‬‬ ‫يف دم موجع‪ ،‬أو غُرم م ِ‬
‫ْ ُ‬ ‫ُ‬
‫‪ 1‬سورة اإلسراء‪ ،‬اآلية ‪.26‬‬
‫‪ 2‬احمللى ج‪ 6‬ص‪ 156‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫قال‪ :‬وصح عن أيب عبيدة بن اجلراح وثالمثائة من الصحابة رضي اهلل عنهم‬
‫ن‪ ،‬فأمرهم أبو عبيدة فجمعوا أزوادهم يف ِم َزوَديْن وجعل يقوهتم إياها‬‫ِ‬
‫أن زادهم فَ َ‬
‫على السواء‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهذا إمجاع مقطوع به من الصحابة رضي اهلل عنهم‪ .‬ال خمالف هلم‬
‫منهم‪.‬‬
‫وقال‪ :‬وال حيل ملسلم اضطَُّر أن يأكل ميتة أو حلم خنزير وهو جيد طعاما فيه‬
‫إطعام اجلائع‪.‬‬
‫ألن فرضا على صاحب الطعام ُ‬ ‫لذمي‪َّ .‬‬‫فضل عن صاحب ملسلم أو ّ‬
‫[‪ .]...‬وله أن يقاتل عن ذلك‪ .‬فإن قُتل فعلى قاتله ال َق َوُد‪ ،‬وإن قـَتَ َل املانِ َع فإىل لعنة‬
‫اهلل‪ ،‬ألنه منع حقا‪ ،‬وهو طائفة باغية‪.‬‬
‫هذه جوالت رائعة يف فقه اإلنفاق لفارس من فرسان العلم‪ .‬ويف الكتاب‬
‫والسنة أدلة كثرية تؤيد هذا املذهب السديد‪ .‬منها قول اهلل عز وجل‪ُ ﴿ :‬كلُواْ‬
‫اد ِه﴾‪ .1‬قال ابن عمر رضي اهلل عنهما‪:‬‬ ‫ِمن ثَم ِرِه إِ َذا أَثْمر وآتُواْ ح َّقهُ يـوم حص ِ‬
‫َ َْ َ َ َ‬ ‫ََ َ‬ ‫َ‬
‫كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة‪ .‬ومنها وعيد مانع املاعون يف قوله تعاىل‪﴿ :‬‬ ‫ِ‬
‫َّ ِ‬ ‫فـويل لِّلْمصلِّ َّ ِ‬
‫ين ُه ْم يـَُرا ُؤو َن َويَ ْمنـَعُو َن‬ ‫ص َلتِ ِه ْم َس ُ‬
‫اهو َن الذ َ‬ ‫ين ُه ْم َعن َ‬
‫ين الذ َ‬‫ََ ْ ٌ ُ َ َ‬
‫الق ْدر‪ .‬حيرم‬ ‫الْماعو َن﴾‪ 2 .‬قال الصحابة رضي اهلل عنهم‪ :‬املاعون‪ :‬عا ِرية الفأس و ِ‬
‫َ ُ‬
‫وس ْع هذا إىل أدوات العمل واإلنتاج‪ ،‬وإىل املرافق ذات‬ ‫أن متنع جارك استعماهلا‪ِّ .‬‬
‫النفع العام‪ ،‬ينفتح لك باب االجتهاد جملتمع تضامين تكتسب فيه امللكية اخلاصة‪،‬‬
‫وهي األصل يف حدود شرط االستخالف‪ ،‬مرونة وأداء لوظيفتها االجتماعية‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة األنعام‪ ،‬اآلية ‪.141‬‬


‫‪ 2‬املاعون‪ ،‬اآليات ‪.4-7‬‬

‫‪214‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ومن األدلة قول النيب صلى اهلل عليه وسلم يف حق الضيف‪« :‬من كان يؤمن‬
‫باهلل واليوم اآلخر فليكرم ضيفه‪ :‬جائزتُه يوم وليلة‪ .‬والضيافة ثالثة أيام فما كان‬
‫بعد ذلك فهو صدقة»‪ .‬رواه البخاري عن أيب شريح العدوي‪.‬‬
‫ويف كتاب املساقاة من صحيح البخاري رمحه اهلل‪« :‬باب حلب اإلبل على‬
‫املاء»‪ .‬جاء فيه حبديث نبوي يقول‪« :‬ومن حقها أن تحلب على الماء»‪ .‬معناه‬
‫أن لبنها يُعطى للواردين على البئر من ُرعيان وغريهم‪.‬‬
‫ويف حق اجلار يقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من كان يؤمن باهلل‬
‫واليوم اآلخر فليحسن إلى جاره»‪ .‬احلديث رواه مالك ومسلم عن أيب شريح‪.‬‬
‫وعند ابن ماجة بسند صحيح عن أيب هريرة أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫«ثالث ال يُمنعن‪ :‬الماء والكأل والنار»‪ .‬هذا باب فتـح لك اجتهادا يف تعميم اخلري‬
‫ٌ‬
‫ت املراعي والغابات وطغى النّفط يف البالد‪ .‬إن اهلل‬
‫ِّد ْ‬
‫وهد َ‬
‫يف عصـر شحت فيه املياه‪ُ ،‬‬
‫لذو فضل على الناس‪ .‬ولكن أكثر الناس ال يشكرون‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫الرب والبذل‬
‫الب هو «التوسع يف فعل اخلري» كما قال علماء اللغة‪ .‬والبذل العطاء بال منع‬ ‫ِ ُّ‬
‫وال صون للمال‪ .‬ويف كلمة «بذل» معىن ابتذال املِلك وامتهانه‪ .‬وذلك دليل على‬
‫أنه مل تبق للمال يف القلب حرمة‪ ،‬وأن قيمته بدت تافهة منذ قارنه املؤمن بثواب‬
‫اآلخرة الباقي‪ .‬فريجع بنا االعتبار إىل اإلميان باهلل وباليوم اآلخر‪ ،‬على هذا اإلميان‬
‫مدار التحول للفرد واجملتمع‪ .‬ال ميكن للمسلمني أن ينتظروا تغيري ما هبم حىت يغريوا‬
‫بتجديد إمياهنم ما بأنفسهم من عقدة حب الدنيا والشح هبا‪ ،‬وإيثارها على اآلخرة‬
‫دار البقاء‪.‬‬
‫قرأنا يف الفقرة املاضية شكوى رجاء جارودي من حضارة املادة اليت ليس هلا‬
‫إال «تصور يائس للمستقبل‪ ،‬ليس فيه املستقبل إال امتدادا كميا للحاضر»‪ .‬وقرأنا‬
‫انتظاره أن يعطي اإلسالم للعامل معىن «وليصرفنا عن املـوت»‪ .‬وقرأنا تـَْوقَهُ لعامل‬
‫«إهلي بشري ال تنفصم ألوهيته عن بشريته»‪ .‬وطرحنا السؤال‪ :‬كيف يتحقق أمل‬
‫الفيلسوف الغيوِر على فلسطني مع انسـداد أفق اإلميان باآلخرة‪ .‬فإن من ينتظـر من‬
‫اإلسالم أن يصرفه عن املـوت ذو ُحلُ ٍم ليس ذا إميان‪« .‬ماضوي» الزق باألرض كل‬
‫من انغلق عن عني قلبه أفق اآلخـرة‪ .‬والسؤال احملوري دائما‪ :‬كيف يتجدد اإلميان‪،‬‬
‫كيف يدخل يف القلـوب اإلميـان باهلل وباليوم اآلخر؟‬
‫ض أفكار الفيلسوف الباحث التواق درسا لنا وللفالسفة املثقفني‬‫بيد أن يف عُْر ِ‬
‫من بين جلدتنا الذين يقرتحون يف كتبهم وحماضراهتم وأحزاهبم مستقبال للمسلمني ذا‬
‫وجه إنساين لكنهم يـَُولّون ظهرهم لإلسالم‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫قال يف كتـابه «وعـود اإلسالم»‪« :‬املفارقة ‪ transcendance‬واجملتمع التضامين‬
‫‪ .»communauté‬أليس هذان مها ُخالصة اإلسه ِـام الذي ميكن أن يقدمه اإلسالم‬
‫ت فيه اجملتمع‬‫وهدم ْ‬
‫ت فيه املفارقة َ‬‫الخرتاع مستقبل ذي وجه إنساين؟ يف عامل ْأع َد َم ْ‬
‫التضام ِ ِ‬
‫ن الفرديَّةُ األنانيةُ و ٌ‬
‫منوذج جنوينٌّ للتنمية‪ ،‬فأصبح العيش يف احلالة الراهنة ال‬ ‫ُ َّ‬
‫يطاق‪ ،‬وأصبحت الثورة على النمط الغريب غري ممكنة»‪.‬‬
‫عند الرجل عل ُـم اخلبري مبا هو الداءُ‪ :‬الفرديةُ األنانية اليت حارهبا من زاوية النقد‬
‫هاجس‬
‫ٌ‬ ‫االشرتاكي يوم كان منظر احلزب الشيوعي يف فرنسا‪ .‬لكن ليس معه إال‬
‫تفاؤيلٌّ باإلسالم وما يأيت به اإلسالم‪ ،‬يعرب عن هاجسه بلغة عقله الفلسفية اليت ينطق‬ ‫ُ‬
‫هبا لسانه بكلمات فرنسية مطموسة ترمجناها بـ«املفارقة» و«اجملتمع التضامين»‪.‬‬
‫شظايا أمل حقيقي مجعها الفيلسوف من حطام خيبته يف جتربته‬
‫النصرانية‪ ،‬وقد كان كاثوليكيا طول حياته‪ ،‬ومن خراب ما ساهم يف بنائه من‬
‫النظرية الشيوعية‪ .‬عقل يـَعُ ُّج بالتناقضات كما يعُج هبا عقل املغربني من أبناء‬
‫جلدتنا الذين نطمع أن حنا ِوَرهم‪.‬‬
‫إن إيقاظ وازع القرآن يف قلوب املسلمني‪ ،‬وتقويته‪ ،‬وتسليحه بعلم ما فرض‬
‫اهلل عز وجل وما أمر وهنى هلو العمل الوحيد لتجاوز ما يف عقول املسلمني من‬
‫تناقضات‪ ،‬وما يف نفوسهم من هزمية أمام املوت‪ ،‬وما يف حياهتم من بؤس مرده‬
‫إىل الكراهية والشح واجلنب والقعود عن األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ .‬بطرحنا‬
‫كيف نوقظ اإلميان ليدخل يف القلوب وحييِيَها نطرح إشكالية كيف ننتقل من منطق‬
‫األنانية الفردية إىل جمتمع احملبة والتطوع والعطاء والرخاء والعدل واإلحسان‪ .‬بكل‬
‫معاين اإلحسان‪ .‬وبكل معاين العدل‪ .‬ال إحسان بدون عدل‪ .‬وال عدل يف العامل‬
‫إال على يد احملسنني‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يقول اهلل عز وجل يف تعريف ِالب والداللة على طريق «التوسـع يف فعل اخلري»‪:‬‬
‫آم َن بِاللّ ِه‬ ‫﴿لَّيس الْبِ َّر أَن تـولُّواْ وجوه ُكم قِبل الْم ْش ِر ِق والْمغْ ِر ِ ِ‬
‫ب َولَـك َّن الْبِ َّر َم ْن َ‬ ‫َ َ‬ ‫َُ ُ ُ َ ْ َ َ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ال َعلَى ُحبِّ ِه َذ ِوي الْ ُق ْربَى‬ ‫ين َوآتَى ال َْم َ‬ ‫ي‬
‫ِّ‬‫اب والنَّبِ‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ْك‬ ‫والْيـوِم ِ‬
‫اآلخ ِر والْمآلئِ َك ِة وال ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َْ‬
‫ين َوفِي ِّ‬
‫الرقَ ِ‬ ‫يل و َّ ِِ‬ ‫والْيَتَ َامى والْمساكِين وابْن َّ ِ‬
‫الصال َة َوآتَى‬ ‫ام َّ‬ ‫اب َوأَقَ َ‬ ‫السآئل َ‬ ‫السب ِ َ‬ ‫َ ََ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اه ُدواْ و َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْس‬‫ين الْبَأ ِ‬‫َّراء َوح َ‬ ‫ْساء والض َّ‬ ‫الصاب ِر َ‬
‫ين في الْبَأ َ‬ ‫الزَكاةَ َوال ُْموفُو َن ب َع ْهده ْم إِ َذا َع َ َ‬
‫َّ‬
‫ك ُه ُم ال ُْمتـَُّقو َن﴾‬ ‫ص َدقُوا َوأُولَـئِ َ‬ ‫أُولَـئِ َ َّ ِ‬
‫ين َ‬
‫ك الذ َ‬
‫‪1‬‬

‫بعد اإلميان باهلل وباليوم اآلخر واملالئكة والكتاب والنبيئني تأيت الصفة البارزة‬
‫يف سلوك األبرار‪ :‬إيتاءُ املال على حبه‪ .‬يغلب حب اهلل وإيثار جنابه على حب الدنيا‬
‫الب ما مل حيدث هذا االنقالب يف القلب‪ .‬وما مل خيرج للعِيان‬ ‫فيطرده‪ .‬وال يُنال ِ ُّ‬
‫حبيث يراه الناس برهانا هلذا االنقالب على صورة عطاء يدلنا على أن املسلم امتهن‬ ‫ُ‬
‫متاع الدنيا الفانية ُوثوقا مبا عند اهلل سبحانه‪ .‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬لن تـَنَالُواْ الْبِ َّر َحتَّى‬
‫تُ ِنف ُقواْ ِم َّما تُ ِحبُّو َن﴾‪.2‬‬
‫قال َحرب األمة ابن عباس يف تفسري «ليس الرب…»‪ :‬ليس الرب أن تُصلوا وال‬
‫تعملوا‪ .‬فهذا حني حتول املسلمون من مكة إىل املدينة ونزلت الفرائض واحلدود‪.‬‬
‫كذلك يرعى اإلسالميون حقوق الرب والعدل غداة توليهم احلكم إن شاء اهلل‬
‫رب العاملني حني يتحملون عبء التكليف االجتماعي األخوي العديل اإلحساين‪.‬‬
‫فمن مسجد الصالة‪ ،‬وهو احملضن الشـرعي لتجديد اإلميان‪ ،‬تنطلق رمحة الرب والبذل‬
‫كنت مؤمنا مسلما فهات! هات حق الزكاة‪ ،‬وحقا غري الزكاة‪،‬‬ ‫والعمل الصاحل‪ .‬إن َ‬
‫وبرا واسعا تتطهر به ويتطهر اجملتمع من أرجاس الشح والظلم والفقر واملرض واجلهل‪.‬‬
‫‪ 1‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.176‬‬
‫‪ 2‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.91‬‬

‫‪218‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫رخي قبضتها على املال‪ .‬ويف قهرها على‬ ‫والنفس ما مل يتبطنها اإلميان ال تُ ِ‬
‫يب هلا على اإلميان‪ .‬روى احلاكم عن ابن مسعود رضي اهلل عنه‬ ‫إرخاء القبضة تدر ٌ‬
‫ال َعلَى ُحبِّ ِه‪ :‬أن تـُْعطيَه وأنت‬
‫«وآتَى ال َْم َ‬
‫أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪َ :‬‬
‫تأم ُل العيش وتخشى الفقر»‪.‬‬ ‫صحيح شحيح‪ُ ،‬‬
‫إن بناء اجملتمع العادل األخوي الذي حيلُم به الفالسفة ِ‬
‫وحين إليه املسلمون ال‬
‫ميكن أن يقوم عليه السلطان والدولة بوازع القهر واإللزام‪ .‬يؤول األمر إن فعلت‬
‫الدولة إىل نوع من االستبداد ال حيقـق عدال وال خريا‪ .‬ومن خيبـة األمل هذه رجع‬
‫صاحبنا جـارودي الذي انتفض زمانا بسماع الشعـار الشيوعي اهلادر‪« :‬يا عمال العامل‬
‫احتدوا!»‪ .‬واحتدوا وبنـَْوا هيكل الدكتاتورية الربولتارية‪ ،‬وبنوا دولة عظمى تراها بعد نيف‬
‫وسبعني سنة تتهاوى وتسقط وتفشل‪.‬‬
‫إن التطوع اإلمياين املنبعث من أعماق إرادة كل مسلم ومسلمة‪ ،‬حبا هلل‬
‫املؤس َسة ال املكملة‪.‬‬
‫املؤس َسة للعمران األخوي‪ِّ .‬‬
‫واحتسابا ورمحة باخللق‪ ،‬هلو الوسيلة ِّ‬
‫الب‪ ،‬والراعي املسؤول عن رعيته على كل املستويات‪ ،‬واألمر باملعروف والنهي عن‬ ‫ِ‬
‫املنكر على كل املستويات‪ ،‬والشورى على كل املستويات‪ .‬تلك هي القاعدة اليت إن‬
‫ووعودها‬
‫ُ‬ ‫س على التقوى يف صدور املؤمنني واملسلمني يكن بناء الدولة خرابا‬‫مل تـَُؤ َّس ْ‬
‫سرابا‪.‬‬
‫وقد أحاطت الشريعة احملمدية حياة املسلمني بواجبات وحقوق وآداب من شأهنا‬
‫إن َرعاها املسلمون‪ ،‬إن رعتها الدعوة‪ ،‬أن حتيل حياة الناس من يأس لرجاء‪ ،‬ومن بؤس‬
‫أرضي «ذي وجه إنساين»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫لرخاء‪ .‬وأن تفتح أمام اإلنسانية سكة األمل يف مستقبل ٍّ‬
‫األخروي‪.‬‬
‫وما إىل ذلك من سبيل إال أن تُفتَح عني قلب العباد على املستقبل َ‬

‫‪219‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أكذب‬
‫ُ‬ ‫والظن! فإن الظن‬
‫َّ‬ ‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إياكم‬
‫سوا‪ ،‬وال تجسسوا‪ ،‬وال تنافسوا‪ ،‬وال تحاسدوا‪ ،‬وال تباغضوا‪،‬‬ ‫سُ‬
‫تح َّ‬
‫الحديث‪ .‬وال َ‬
‫وال تَدابَروا‪ .‬وكونوا عباد اهلل إخوانا‪ .‬المسلم أخو المسلم‪ :‬ال يظلمه وال يخ ُذلُه‬
‫بحسب امرئ من‬ ‫ِ‬
‫وال يحقره‪ .‬التقوى ههنا‪ ،‬التقوى ههنا! ‪-‬ويشير إلى صدره‪ْ -‬‬
‫ضه‬‫وعر ُ‬‫حقر أخاه المسلم‪ .‬كل المسلم على المسلم حرام‪ :‬دمه ِ‬ ‫الشـر أن ي ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ص َوركم‪ ،‬ولكن ينظر إلى قلوبكم‬ ‫ومالُه‪ .‬إن اهلل ال ينظر إلى أجسادكم وال إلى ُ‬
‫وأعمالكم»‪ .‬رواه الشيخان وغريمها عن أيب هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫للمسلم حرمة يف جمتمع الرب‪ ،‬له كرامة‪ ،‬له حقوق‪ ،‬له رعاية‪ ،‬له رصي ٌد يُؤديه‬
‫الباء ب ِن عازب رضي اهلل عنه‬ ‫الكل عطاءً وحمبة‪ .‬روى الشيخان وغريمها عن َ‬‫إليه ُّ‬
‫أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمرهم بسبع وهناهم عن سبع‪ .‬أمرهم بعيادة‬
‫املريض‪ ،‬واتباع اجلنازة‪ ،‬وتشميت العاطس‪ ،‬وإبرار ال َق َسم‪ ،‬ونص ِر املظلوم‪ ،‬وإجابة‬
‫الداعي‪ ،‬وإفشاء السالم»‪ .‬احلديث‪.‬‬
‫املفصلة إىل كفالة املسلم وصيانة حرمته حيا وحفظ‬ ‫هذه الدعوة ال ُـملحة َّ‬
‫عهده ميتا ال تريد للمسلم أن يكون مكفوال عالة على اجملتمع خامال ميد اليد ليتلقى‬
‫ِّم آلخر ِته ال السائِ َل‪ .‬قال‬ ‫ِ‬
‫الصدقات‪ .‬بل تريده نشطا منتجا ليكو َن هو املعط َي املقد َ‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬الي ُد العليا خير من اليد السفلى‪ .‬وابدأ بِ َمن‬
‫ف يُِع َّفه اهلل‪ .‬ومن يستـَغْ ِن‬ ‫تعول‪ .‬وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى‪ .‬ومن ِ‬
‫يستع َّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫يُغنِه اهلل»‪ .‬رواه البخاري عن أيب هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫البداية يف العطاء و ِالب مبن يعوهلم املرء من أفراد عائلته توزيع للجهد على خطوط ال‬
‫تنازع الفطرة وال تناهضها‪ ،‬بل تقويها وتؤيدها‪ .‬وقد قرأنا يف سياق «ليس الرب…» أصناف‬
‫‪220‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫املستحقني لعطائنا من ذوي القرىب واليتامى واملساكني وابن السبيل والسائلني‪.‬‬
‫الرح ِم فجعلها وصلةً عظيمة‪ .‬كما أوصى باليتامى واألرامل‬ ‫وندب اإلسالم إىل صلة ِ‬
‫والعجزة‪ .‬فللطفولة من رعاية اإلسالم املكانة احلانية‪ .‬وما أحوج عصرنا‪ ،‬يأيها‬
‫ألكثر من أربعني ألف طفل ميوتون يوميا يف العامل‪.‬‬ ‫املسلمون‪ ،‬ملن َيُُّد يد الرمحة َ‬
‫اإلحصاء ووسائل العصر ٍ‬
‫مناد للرمحة من خارج‪ ،‬فاهنضوا يأيها األبرار ولَبُّوا بباعثكم‬ ‫ُ‬
‫القليب‪.‬‬
‫نظم اإلسالم كفالة الوالدين وجعلها من أعظم احلرمات وال ُقُربات والواجبات‪.‬‬
‫«رضى اهلل يف رضى الوالدين»‪ .‬هذا حديث شريف‪ .‬ونظم الوقف ليكون صدقة جارية‬
‫يلحق ثواهبا الواقف إىل اآلخرة‪ .‬وأوصى بالصدقة على امليت‪ .‬وأوصى بالبنات أن يـَُربـَّْي‬
‫بعطف وسخاء‪.‬‬
‫إن البذل أصل أصيل من أصول الدين‪ :‬بذل واسع يشمل املاديات واألدبيات‪.‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬كل ُسالمى [كل مفصل يف األصابع] من‬
‫كل يوم تطلع فيه الشمس‪ِ :‬‬
‫تعدل بين اإلثنين صدقة‪ .‬وتعين‬ ‫الناس عليه صدقة‪َّ ،‬‬
‫الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع عليها متاعه صدقة‪ .‬والكلمة الطيبة‬
‫صدقة‪ .‬وكل خطوة تمشيها إلى الصالة صدقة‪ .‬وتميط األذى عن الطريق‬
‫صدقة»‪ .‬رواه الشيخان عن أيب هريرة‪ .‬واهلل جيزي املتصدقني‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫العدل والتنمية‬
‫طيف‬
‫صلب الدين‪ ،‬وحوله تُ ُ‬‫العدل أم املصاحل اليت يقصد إليها الشرع‪ .‬هو ُ‬
‫مهوم املسلمني‪ ،‬وبه بعث اهلل الرسل والنبيئني‪ ،‬مبشرين ومنذرين‪.‬‬
‫ُ‬
‫عامة املسلمني يرجون من جناح اإلسالميني يف احلكم أن يتحقق هلم من‬
‫وخاصةُ‬
‫َّ‬ ‫العدل يف قسمة األرزاق وتوفريها ما مل حيققه اللرباليون واالشرتاكيون‪.‬‬
‫اإلسالميني الذين يتهافت احلكم حنوهم حيملون هم التنمية والتمويل وتسيري دواليب‬
‫الدولة‪ .‬من أين؟ وكيف؟‬
‫واهلل عز وجل يريد ألولئك ومن هؤالء عدال شامال يف حقـوق العباد الدنيوية‬
‫ييسر هلم أمور آخرهتم‪ .‬ال معىن للعدل الدنيوي إال من كونه تيسرياً للمسافر يصون‬
‫مسريته إىل الدار اآلخـرة أن يفتنه عنها هم الرزق وظلـم الناس‪.‬‬
‫اب َوال ِْم َيزا َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬لََق ْد أ َْر َسلْنَا ُر ُسلَنَا بِالْبـَيـِّنَات َوأ َ‬
‫َنزلْنَا َم َع ُه ُم الْكتَ َ‬
‫لِيـ ُقوم النَّاس بِال ِْقس ِط وأَنزلْنا الْح ِدي َد فِ ِيه بأْس َش ِدي ٌد ومنافِع لِلن ِ ِ‬
‫َّاس َوليـَْعلَ َم اللَّهُ‬ ‫َ ََ ُ‬ ‫َ ٌ‬ ‫ْ َ ََ َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫ي َع ِز ٌيز﴾ ‪.‬‬
‫‪1‬‬ ‫َّ‬
‫ب إ َّن اللهَ قَ ِو ٌّ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نص ُرهُ َوُر ُسلَهُ بالْغَْي ِ‬
‫َمن يَ ُ‬
‫القسط العدل مبعناه الشامل‪ :‬العدل االستقامة يف حقوق اهلل ويف حقوق‬
‫أنزل معهم الكتاب والبينات‬ ‫فرض أكي ٌد به بعث اهلل الرسل يدعـون إليه‪ .‬و َ‬ ‫العباد‪ٌ .‬‬
‫فرض العدل‬ ‫املتمثل يف وازع السلطان ليُ َ‬ ‫َ‬ ‫تؤكد الدعـوة وتلح عليها‪ .‬وأنزل بأس احلديد‬
‫الناس بصوت الدعوة‪.‬‬ ‫بقوة الدولة إن استهان ُ‬

‫‪ 1‬سورة احلديد‪ ،‬اآلية ‪.25‬‬

‫‪222‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يف الفقرات السابقة أشبعنا احلديث يف البناء النفسـي واالستعـداد القليب‬
‫اجلو اإلحساين املالئم الزدهار العمران األخوي‪ .‬ذلك ألسبقية الدعوة‬ ‫اإلمياين و ِّ‬
‫على الدولة اعتبارا ومنزلة‪ .‬وال قاعدة لدولة القرآن إال دعوة القرآن‪ .‬ويف حديثنا‬
‫عن العدل هنا يرجع االعتبار واألسبقية لعمل الدولة اإللزامي ولصرامتها يف تطبيق‬
‫الشريعة طوعا وكرها ببيان القرآن وبأس السلطان‪ .‬ألن العدل هو عماد العمران‪،‬‬
‫أخويا كان أو مدنيا قانونيا‪.‬‬
‫الشوري وشرطُه‪ .‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬‬ ‫ِّ‬ ‫عماد السلطان‬ ‫عدل احلاكم يف أحكامه ُ‬
‫ات إِلَى أ َْهلِ َها َوإِ َذا َح َك ْمتُم بـَْي َن الن ِ‬
‫َّاس أَن تَ ْح ُك ُمواْ‬ ‫إِ َّن اللّهَ يأْمرُكم أَن تُؤدُّواْ األَمانَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُُ ْ‬
‫ِ ‪1‬‬
‫أمره اليومي‪ ،‬وواجبـه الدائم‪ .‬قال اهلل‬ ‫ُ‬ ‫و‬ ‫األول‪،‬‬ ‫هدفه‬ ‫القسمة‬ ‫يف‬ ‫وعدله‬ ‫بِال َْع ْدل﴾‬
‫شاء‬‫ان َوإِيتَاء ِذي الْ ُق ْربَى َويـَنـَْهى َع ِن الْ َف ْح َ‬‫تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن اللّهَ يأْمر بِالْع ْد ِل وا ِإلحس ِ‬
‫َ ُُ َ َ ْ َ‬
‫َوال ُْمن َك ِر َوالْبـَغْ ِي يَ ِعظُ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَ َذ َّك ُرو َن﴾ ‪ .‬والبغي يف القسمة من أعظم البغي‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫أمر إهلي مؤكد‪ .‬ما جاء تكليف يف القرآن بصيغة «أمر» كما جاء يف شأن‬
‫ٌ‬
‫العدل‪ .‬وما خالف العدل من قول وعمل فهو من أمر الشيطان ووسوسته‪ .‬ما خالف‬
‫العدل من قول وعمل فهو استخفاف جبوهر اإلسالم وإضاعةٌ للمقصد الدنيوي‬
‫األمسى من الشريعة‪.‬‬
‫قال اإلمام عز الدين بن عبد السالم رمحه اهلل يف قوله تعاىل‪﴿ :‬لََق ْد أ َْر َسلْنَا ُر ُسلَنَا‬
‫َّاس بِال ِْق ْس ِط﴾ ‪« :‬هذه اآلية جامعة‬ ‫وم الن ُ‬
‫ِ ِ‬
‫اب َوالْم َيزا َن ليـَُق َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بِالْبـَيـِّنَات َوأ َ‬
‫َنزلْنَا َم َع ُه ُم الْكتَ َ‬
‫جلوهر اإلسالم وخمتلف شرائع السماء»‪ .‬وكتب ابن القيم شيخ اإلسالم رمحه اهلل يف بداية‬
‫أساسها على احلكم ومصاحل العباد‬ ‫اجلزء الثالث من «إعالم املوقعني»‪« :‬إن الشـريعة مبناها و ُ‬
‫‪ 1‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.57‬‬
‫‪ 2‬سورة النحل‪ ،‬اآلية ‪.90‬‬

‫‪223‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يف املعاش واملعاد‪ .‬وهي عدلكلها‪ ،‬ورمحةكلها‪ ،‬ومصاحلُ كلها‪ ،‬وحكمةكلها‪ .‬فكل مسألة‬
‫خرجت عن العدل إىل اجلَ ْور‪ ،‬وعن الرمحة إىل ضدها‪ ،‬وعن املصلحة إىل املفسدة‪ ،‬وعن‬
‫احلكمة إىل العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل‪ .‬فالشريعة عدل اهلل بني‬
‫عباده‪ ،‬ورمحته بني خلقه‪ ،‬وظله يف أرضه»‪.‬‬
‫العدل ظل اهلل ال اجلبارون الظاملون‪.‬‬
‫العدل املنشود من اإلسالميني يوم يتسلمون مقاليد السلطـان هو عدل يستقر‬
‫به اجملتمع‪ ،‬وتتضافر به اجلهود‪ ،‬وتتوحد عليه األهـداف‪ ،‬وتسخر له الوسائل‪ .‬وما‬
‫الب فمشروط مربوط بتوفري‬ ‫قدمناه يف الفقرات السابقة من فضائل العطاء واإلنفاق و ِ‬
‫الوسائل‪ .‬ال بَِّر‪ ،‬وهو التوسع يف فعل اخلري‪ ،‬إن مل يكن احلد األدىن من اخلري موفورا‪.‬‬
‫دم وال املضيق عليه وال‬ ‫ِ‬
‫هذا احلد األدىن هو العدل وهو التنمية‪ .‬ال يُنفق ال ُـم ْع ُ‬
‫الب من ُو ْج ٍد ال من فـَْق ٍد‪ .‬وهدف التنمية نلتقي‬‫املسلوب من حقوقه‪ .‬إمنا النفقة و ِ‬
‫عود للشعب‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الو َ‬
‫عليه مع طوائف األحزاب السياسية اليت حول التنمية تـُْزجي ُ‬
‫فإن كان اإلسالميون يوما ما وهم على اهلامش ينتقدون الظاملني وما يفسدون‬
‫ورشاه وحمسوبيته وفشله‬‫تشجب قصوره ُ‬ ‫يف األرض‪ ،‬ويُلقون يف وجه الظلم حماضرة ُ‬
‫فإهنم يوما ما سيجدون على كاهلهم عبء الدولة ومسؤولية إجناز ما مل ينجزه‬
‫الظاملون‪ .‬وعندما يلمسون أن احلديث عن العدل والتلويح بالعدل وواجب العدل‬
‫يف عامل اجملردات إمنا هي رياضات يف الفراغ يدركون أن التنمية وتوفري األرزاق‬
‫ومتويل املشاريع وإدارة االقتصاد وتعبئة الطاقات والتنافس يف السوق العاملية ْأولويات‬
‫عدل قبل تروميها‪ .‬وتروميها مشروع مستدمي‬
‫س دون التفرغ هلا‪ ،‬وال َ‬ ‫ضاغطة ال ُمتـَنـََّف َ‬
‫ال عملية سحرية‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫من حضيض ختلفنا االقتصادي الدنيوي نستمع إىل رجل احتل مع قومه حببوحة‬
‫درس مثني يقدمه لنا رجاء‬
‫صَر يف عيوهبا ما ال يتبصـره املتطلع من السفح‪ٌ .‬‬
‫التنمية‪ ،‬فتَبَ َّ‬
‫جارودي الفيلسوف الذي يرجو من اإلسالم أن خيرتع مستقبال ذا وجه إنساين‪،‬‬
‫املوت ألهنا تيه بال غاية‪ .‬فهو يف احلقيقة حني يتحدث عن‬
‫وخيشى على حضارة قومه َ‬
‫أفق إسالمي «يعطي حلياتنا معىن ويصرفنا عن املوت» ال يقصد موت األشخاص‪،‬‬
‫إمنا يقصد موت احلضارة الشقية‪ ،‬يف نظره ونظر العقالء‪ ،‬بتنميتها التائهة‪ .‬درس مثني‬
‫لنا حنن املقبلني على خوض معارك التنمية لكيال جيرفنا التيار الدنيوي فنصبح من‬
‫اخلاسرين‪.‬‬
‫قال رجاء‪« :‬إن االقتصاد املنبثق عن مبادئ اإلسالم على النقيض من النموذج‬
‫الغريب للتنمية‪ .‬هذا النموذج الذي ميثل فيه اإلنتاج واالستهالك الغاية يف حد ذاهتا‪:‬‬
‫فأكثر‪ ،‬االستهالك بسرعة متزايدة‪ ،‬استهالك أي شيء‪ ،‬من مفيد‬ ‫أكثر َ‬ ‫االستهالك َ‬
‫وغري مفيد‪ ،‬ومن ضار وقاتل‪ .‬استهالك دون اعتبار الغايات اإلنسانية‪.‬‬
‫قال‪« :‬االقتصاد اإلسالمي يف مبدئه القرآين ال يهدف إىل التنمية بل إىل التوازن‪.‬‬
‫قال‪« :‬فهو ال ميكن أن يشبه بالرأمسالية [على النمط األمريكي مثال]‪ ،‬وال‬
‫باجملموعية ‪[ collectivisme‬من النوع السوفيايت مثال]‪ .‬ميزة االقتصاد اإلسالمي‬
‫األساسية أنه ال يطيع آليات عمياءَ القتصاد حيمل يف نفسه غاية نفسه‪ .‬ميزة االقتصاد‬
‫اإلسالمي أن يكون منتظما بغايات أعلى‪ ،‬إنسانية إهلية بال انفصام‪ .‬ألن اإلنسان‬
‫ليس إنسانا حقا إال خبضوعه لأللوهية»‪ .‬انتهى كالم رجاء‪.‬‬
‫من اهلل عز وجل األمر الشرعي التكليفي بالعدل واإلحسان واألخوة بني املسلمني‪،‬‬
‫آخر منه‬
‫والرمحة للعاملني خاصة املستضعفني‪ .‬أمر قرآين بلغهُ الرسل عليهم السالم‪ .‬وأمر ُ‬
‫يض ُّج باحلركة للرأمسالية فيه وللسوق ِ‬
‫سبحانه أمراً كونيا هو وجود عا ٍَل ِ‬
‫الق ْد ُح ال ُـم َعلَّى‪َ .‬‬
‫قدر‬

‫‪225‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫قدره علينا أن خنوض غماره‪ ،‬وننافس‪ ،‬ونزاحم باملناكب‪ ،‬ونقاوم آلياته العمياءَ يف‬ ‫من َ‬
‫أنزل علينا من ربنا حق‪ ،‬شرعا‬ ‫اعتبار الشرع‪ ،‬احلكيمةَ البصرية عند من يعلم أن ما َ‬
‫قدراً ابتالئيا‪.‬‬
‫تكليفيا كان أو َ‬
‫من حضيض ختلفنا نتطلع إىل ما عند سكان حببوحة الدنيا‪ ،‬يش َق ْو َن كما يشهد‬
‫عقالؤهم بالوفرة اليت ال غاية هلا‪ ،‬ونش َقى حنن يف الدنيا‪ ،‬معنا غايات ال وسائل هلا‪،‬‬
‫هلم هياكل إنتاجية وليست لنا‪ ،‬هلم أنظمة متطورة تشارك بفعالية يف إقامة املشروع‬
‫الصناعي العاملي وتسيريه واالستفادة منه‪ .‬هلم حتكم يف العلوم والصنائع يُ َس ِّخرون‬
‫أرضه‪ .‬هلم تَِقانِيَّةٌ سريعة التطور‪ .‬هلم أبناك مزدهرة بزهرة الربا‪ .‬هلم‬
‫الكون‪ ،‬مساءَه و َ‬
‫بُرصات تلعب بثروات األرض‪ .‬هلم أجهزة الربوط خادمةً مطيعة‪ .‬هلم حاسبات‬
‫إلكرتونية تغطي بشبكتها وجه األرض‪ .‬هم يف دوامة الشغل وضجيج احلضارة وإيقاع‬
‫العمل وزمحة الوقت‪.‬‬
‫أما حنن ففي دوامة أخرى تتكون من ُسلوب ما هلم وعُكوسها‪ :‬الفقد والفقر‬
‫والعجز والبطالة والتبعية‪ .‬حىت لنكاد نكون رهطا من الربوطات اخلادمة املطيعة‪ ،‬أو‬
‫عجالت مسخرة يف دوالب املشروع االقتصادي العاملي الذي يديرونه‪.‬‬
‫َه ُّم التنمية يسيطر على العامل‪ ،‬عا ٍمل تطغى فيه الشهوات العارمة هبم‪ ،‬وتطغى‬
‫باملستضعفني منا احلاجة واجلوع والكبت واملغلوبية‪.‬‬
‫هم يرتعون يف حببوحة االستهالك‪ ،‬دع عقالءَهم وعقـالءَنا ينتقدون احلضارة‬
‫االستهالكية ما شاءوا وشئنا‪ .‬فذلك ال يغري من واقع حرمان املستضعفني يف األرض‬
‫ُّول املتخمة أو تقف‬
‫شيئا‪ .‬املستضعفون يف دوامة اإلعانات الغذائية اليت حتبسها الد َ‬

‫‪226‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫دعمها الدول احمللية فتقوم مظاهرات اجلوع يف مصـر والسودان وتونس واملغرب‬‫َ‬
‫واجلزائر‪ .‬املستضعفون يف دوامة العجز املايل‪ ،‬يف هز ٍ‬
‫ات دورية تعصف باالستقرار‬
‫وتبدد اجلهود‪.‬‬
‫املستضعفون يف قبضة املديونية املرتاكمة‪ ،‬يف ذمة الدوالر يرتفع وينخفض‪ ،‬يف‬
‫ص هبا مستضعفو األرض‪.‬‬‫تقرُر يف لندن وواشنطن فيغَ ُّ‬
‫حوزة أسعار الفائدة الربوية َّ‬
‫مت قمة‬ ‫املستضعفون يطمحون للتنمية واللحاق بركب الصاعدين على ْ‬
‫التاريخ‪ :‬الرأمسالية‪ .‬إن كان العقالء والفالسفة يدركون أن أولئك الصاعدين مشرفون‬
‫على هاوية‪ ،‬ينتظرون من اإلسالم اخرتاع ثورة ومستقبل إلنقاذ حضارة غاربة‪ ،‬فإن‬
‫املستضعفني يف اهلم الدائم املقيم من شروط إعادة جدولة الديون‪ ،‬وشروط التقومي‬
‫اهليكلي‪ ،‬وشروط التكييف مع السوق العاملية‪.‬‬
‫إهنا معركة متعددة الواجهات‪ ،‬من طبيعة الداخل فيها أن ينشغل مبصارعة‬
‫الوسائل عن نداء الغايات‪ .‬فإن كانت الدولة سيدة الدعوة واستمرت تبعية الشرع‬
‫للطبع كما هو احلال حتت احلكم الفتنوي فلن يؤسس أحد‪ ،‬ولو تسمى إسالميا‪ ،‬إال‬
‫اضطهاداً جديدا‪ .‬واهلل غالب على أمره‪ .‬ولكن أكثر الناس ال يعقلون‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫النفـط‬
‫أكتب هذه السطور ليلة األحد سادس عشر ربيع األول سنة ‪ 1411‬وقد‬
‫مضى على غزو صدام حسني للكويت شهران وأيام‪ .‬وحشود األقوام الكافرين‬
‫خمندقة يف جزيرة العرب‪ .‬ألول مرة يف التاريخ يغزو الكفار جزيرة العرب‪.‬‬
‫حتدثنا يف فصول هذا الباب عن اإلرادة الذاتية والوزن الذايت والقوة االقتحامية‬
‫للمسلمني ولإلسالميني املشرفني على تويل احلكم‪ ،‬وأوشكنا أن ندخل يف الباب‬
‫الثاين الذي نرى فيه كيف تصطدم إرادتنا حبقائق العامل الصلبة‪ .‬تكون هذه الفقرة‬
‫مبثابة املدخل املبكر لتلك املطالعة يف صفحات العقبات اخلارجية‪.‬‬
‫كشف غزو الزعيم القومي البعثي عن َم ْغ َم ِز الضعف يف جنب املسلمني‪،‬‬
‫وعن البطن الرخو يف كياهنم‪ :‬أال وهو وجود أنظمة عاتية جبارة يف سدة احلكم‬
‫ك العاض ممثال يف سالطني النفط وامللك‬ ‫ببالد املسلمني‪ .‬وجها لوجه يقف ال ُـم ْل ُ‬
‫اجلربي ممثال يف الزعيم اجلبار‪ .‬وحتتشد جنود الغرب بزعامة أمريكـا لتنصر حلفاءها‬
‫ُّ‬
‫الدائمني بعد أن تنمر للغرب حليف الغرب إىل األمس القريب‪.‬‬
‫كان صدام لثمان سنوات خملب القط وحربة القتال اليت وجهها العدو الكافر‬
‫إىل صدر الثورة اإلسالمية بإيران‪ .‬أغدق على زعيم البعث األسلحة الفتاكة بال‬
‫حساب‪ ،‬وأغدق عليه اإلشارة‪ ،‬وفتح له خزائن األسرار الصناعية حىت أتى على‬
‫جهود املسلمني وسفك دماء مآت اآلالف من املسلمني‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وراودته أحالم الوحدة اليت هي شعار البعث القومي‪ ،‬بل شطر من الشعار‪.‬‬
‫سقط النصف الثاين (االشرتاكية) منذ هزمية الزعيم األول للقومية العربية عبد الناصر‪،‬‬
‫ومنذ اندثار االشرتاكية يف العامل منذ شهور‪ ،‬فلم يعد جيسر على ذكر االشرتاكية إال‬
‫عدميو احلياء من األذناب يف بالد املسلمني‪.‬‬
‫متسلم الزعيم البعثي يف بعض أطوار حربه إليران‪ ،‬ينعت الثورة وأصحاهبا بأهنم‬
‫فرس يقاتلهم البطل العريب املسلم‪ .‬وصلى يف التلفزيون‪ .‬وهو اليوم يفتتح «قادسيته»‬
‫الثانية برفع شعـار العـدل‪ ،‬يُهيب باملسلمني الفقراء أن ينهضوا الستخالص نفطهم‬
‫من يد العدو‪ ،‬ويهيب باملسلمني الغيارى على دينهم أن ينهضوا ملقاومة احتالل‬
‫البقاع املقدسة رافعا شعار اجلهاد‪.‬‬
‫القدر اإلهلي وما ندري ما يفعل اهلل عز وجل بعباده إذ أقام‬
‫ال نتقدم بني يدي َ‬
‫طاغية يقاتل طاغوتا‪ .‬نتتلمذ للقدر وننتظر ما تسفر عنه معركة هي من أقوى وأعمق‬
‫اهلزات يف تاريخ املسلمني الذين ذاقوا املذلة واهلـوان على يد املستكربين يف األرض‪،‬‬
‫الم احلكم العاض اجلامثني على الصدور املمتصني لدماء‬ ‫يتحالف مع املستكربين أز ُ‬
‫األمة‪ ،‬الالعبني مبقوماهتا احليوية‪ ،‬من أمهها النفط‪.‬‬
‫وحول النفط قامت هذه القيامة‪ .‬طرح الزعيم العريب بكل قوة وشجاعة مسألة‬
‫العدل بني املسلمني‪ ،‬ورافع أمام الرأي العام ضد أمراء العرب املستبدين بثروة هي‬
‫حق لكل املسلمني‪ .‬كلمة حق نطق هبا عاشق للبطولة التارخيية‪ ،‬ال ينقص من‬
‫صدقها كو ُن من نطق هبا بدد ثروة طائلة من عائدات نفط العراق يف جتهيز جيش‬
‫قُتل يف صفوفه وأمام صفوفه مليون مسلم‪.‬‬
‫وإىل محاية منابع النفط جاءت أمريكا تسعى خبيلها َور ْجلها‪ ،‬ومعها دول العامل‪.‬‬
‫ول العامل لتحمي القانون الدويل ولرتد غزواً خيرق قاعدة من قواعد االستقرار واألمن‬
‫هبت ُد ُ‬

‫‪229‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫والسالم يف العامل‪ :‬هي قاعدة اإلبقاء على اخلريطة السياسية اليت خطها االستعمار‬
‫كما هي‪ .‬خطها لتالئم مصاحل االستعمار‪ ،‬ومن اخلطة أن يتوىل النفط أمراءُ سامعون‬
‫مطيعون‪ ،‬هم مسخرة العامل ونادرة اجملالس‪ ،‬ومنوذج الفساد يف األرض‪ .‬اهتزت‬
‫ووجفت النفوس لَما طرح الزعيم العريب املسألة اجلوهرية‬‫املشاعر واضطربت العقول َ‬
‫يف حياة االقتصاد العاملي‪ :‬النفط‪ .‬من له احلق يف النفط؟ وما السعر العادل للنفط؟‬
‫ِول يتحكم غريُ أويل احلق يف النفط؟‬
‫ظهور النفط يف بالد املسلمني آية من آيات اهلل العظمى يف هذا العصر‪.‬‬
‫يد من ثالثة أرباع موجوده يف‬
‫يف بالد العرب وحدهم من املخزون املؤكد للنفط أز ُ‬
‫قبل االحتاد‬
‫األرض‪ .‬إذا أضفنا نفط إيران ونفط اجلمهوريات املسلمة فيما كان من ُ‬
‫السوفيايت فقد جتاوزنا الثمانني باملائة بكثري‪.‬‬
‫أن يكون النفط يف اقتصاد هذا العصر مبثابة الروح من اجلسد آية كونية فريدة‪.‬‬
‫معظم خمزون النفط يف العامل‪ ،‬خلمسة أجيال أو ستة مقبلة‪ ،‬واهلل أعلم‪،‬‬
‫وأن يكون ُ‬
‫يف بالد املسلمني آية ابتالء أعظم‪.‬‬
‫الصحوة اإلسالمية على موعد مع احنسار الثورية‪ ،‬وبروز القانونية الدولية‪،‬‬
‫وهتيُّئ العامل لنظام جديد بعد طول املواجهة بني العمالقني العامليني وبعد انتهاء‬
‫احلرب الباردة بني روسيا يف خراب وأمريكا أعىت ما كانت‪ .‬فماذا يفعل املسلمون‬
‫الصاحون بالنفط وحول النفط؟‬
‫العمر‪ ،‬فرصة األجيال‪ .‬طر َح القدر اإلهلي مسألة النفط بقوة قارعة على‬
‫إهنا فرصة ُ‬
‫يد صدام‪ ،‬وأبرز على املسرح العاملي‪ ،‬مكشوفةً صارخةً‪ ،‬حقائق اللعبة السياسية اليت‬
‫تتدرع بالقانونية لتقول للمسلمني‪ :‬النفط لنا وحللفائنا األمراء! فكيف جييب اإلسالميون‬
‫ذوو اإلرادة والتوكل على اهلل العزيز احلكيم يوم يتولون السلطة؟ أيقومون يف وجه العامل‪،‬‬
‫‪230‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وهم الضعفاء العُْزل‪ ،‬وحياربون ليفرضوا األسعار العادلة بعد أن يطردوا السـالطني‬
‫يرع ْون مصاحلهم يف تعايش‬
‫اخلونة؟ أم يلتمسون يف القانونية الدولية ظهريا من خلفه َ‬
‫وسالم؟‬
‫ت من جانب الدولة العظمى‬ ‫الصحوة اإلسالمية على موعد مع ٍ‬
‫عزم مبـي ٍ‬
‫ُ َّ‬
‫مقربٍَة من‬
‫زرعت على ُ‬ ‫الوحيدة الصائلة يف املسرح بعد اهنيار روسيا‪ .‬الدولة العظمى َ‬
‫منابع النفط خفريا خملصا شرسا هو دولة إسرائيل‪ .‬ما دولة إسرائيل يف احلقيقة إال‬
‫امتداد للدولة العظمى‪ .‬ومراهنتها على خفريها وعلى االحتالل املباشر الدائم أوثق‬
‫عندها من حلفائها السالطني‪.‬‬
‫بعد حرب رمضان سنة ‪ 1973‬بتارخيهم وضع وز ُير خارجية الواليات املتحدة‬
‫اليهودي كسنجر سياسة مبوجبها تسلك الدولة العظمى أحد خيارين‪ :‬إما ُتيِّد‬ ‫ُّ‬
‫البرتول وإما حتتل منابع البرتول‪ .‬كان شعار هذه السياسة «الزيت أو الطوفان!»‪.‬‬
‫وأقر الكونغرس األمريكي هذه السياسة‪ .‬وعمل باخليار األول‪ ،‬خيار التحييد‪ ،‬بعد‬
‫امللك فيصالً رمحه اهلل‪.‬‬
‫أن اغتال َ‬
‫فيصل الشخص املسلم تأثر حبرب رمضان‪ ،‬وجاش يف نفسه ما جاش يف نفوس‬
‫وم ْن وراء اليهود‪ .‬وعمل‬
‫اجلند املصريني الذين قالوا «اهلل أكرب» فجالوا جولة مع اليهود َ‬
‫فيصل على رفع أسعار النفط حيارب مبا معه من سالح‪ .‬وكان السالح ماضيا أحدث‬
‫األثر البالغ يف اقتصاد املستكربين‪.‬‬
‫أس كل‬
‫فاغتالوا فيصال رمحه اهلل‪ ،‬وذهب الشخص‪ ،‬وبقي النظام الوراثي ر ُ‬
‫وسَّى كسنجر جولة فيصل «الدرس الكبري»‪.‬‬
‫الباليا‪َ .‬‬
‫اآلن بعد سبع عشرة سنة تطبق الدولة العظمى اخليار الثاين‪ :‬احتالل منابع النفط‪.‬‬
‫مدعوة «معزومة» مرغوبة‪ ،‬وأن تُ ْدفَ َع هلا تعويضات‬
‫ف إىل املكان ّ‬‫واألدهى يف املسألة أن ِخت َّ‬
‫أتعاهبا مسبقا‪ .‬واملسكوت عنه أرباح الرأمسالية من «حتييد» النفط‪ .‬التحييد بلغة اللعبة‬

‫‪231‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫االستكبارية يعين أن يتحكم احملتل يف جسم النفط وأسعاره مبا خيدم االقتصاد السيد‪.‬‬
‫السيد مع بروز اليابان؟‬
‫عادت إذا هجمة صدام بالعرب واملسلمني إىل مرحلة االستعمار املباشر‪.‬‬
‫حمس ٍن منقح تدفع فيه املصاريف للسيد على طبق نقي دون أن يلوث يده‬ ‫استعما ٍر َّ‬
‫بعناء تسيري األقوام املتخلفة احملتقرة‪ ،‬ودون أن تتعرض مصـاحله لنوبات اجلنون التحررية‬
‫يعبئ بعض األقوام ضد بعض‪،‬‬ ‫أسلوب االستعمـار اجلديد الذي ُ‬
‫ُ‬ ‫اجملال‬
‫اليت فسح هلا َ‬
‫فإذا بالبعض يتصنع ويتسلح ويبارز‪.‬‬
‫باالحتالل املباشر يضمن األمريكان مصاحلهم النفطية وهم يف فجوة من‬
‫املالمة الدولية‪ .‬بل وهم يف فجوة ومناعة‪ ،‬ألهنم يقودون إرادة جملس األمن ويسيطرون‬
‫على اللجنة اخلماسية فيه اليت هلا حق النقض واإلبرام‪ .‬رأيُهم الرأي منذ أحنت روسيا‬
‫اهلام لتلتقط بعض فتات املائدة الرأمسالية‪.‬‬
‫هجمة صدام مكنت األمريكان من عقد صفقات سالح ما سبق هلا مثيل‬
‫مع سالطني النفط‪ .‬وهو أسلوب النتـزاع أموال املسلمني لتكدس األسلحة تأكلها‬
‫الرمال وال تستعمل أبدا ضد العدو احلقيقي للمسلمني‪.‬‬
‫االحتالل املباشر مسامهة أمريكية جديدة يف جمهود توطيد الكيان اليهودي‬
‫جمهود الروس الذين فتحوا أبواب النـزوح ليهودهم لتتكتَّل يف‬
‫بفلسطني‪ .‬جمهود يوازن َ‬
‫فلسطني قوة حتلُم أن تستعيد خيرب ويثرب بعد أن تقيم دولة إسرائيل الكربى من النيل‬
‫إىل الفرات‪.‬‬
‫احلركة اإلسالمية يف كل هذا هي العدو‪ ،‬جيب تطويقه وإبادتُه‪ .‬وتتعلم أمريكا‬
‫من غوغائية البعثيني ومن سالمة طوية املسلمني أن نداء اجلهاد هو النداء الذي‬
‫ب حسابه‪ .‬وهو اخلطر املهدد‪.‬‬ ‫ُي َس ُ‬

‫‪232‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫القدر لتعلمنا‬
‫سعـرها صدام ودبرها ُ‬ ‫دروس للطائفية الشيعية من حرب أوىل َّ‬
‫وإياهم أن عقيدتنا الوحدوية جيب أن تنسينا اخلالف الطائفي‪ .‬ومواجهة ثانية بطلُها‬
‫صدام ننتظر ما تسفر عنه وما يلقننا هبا القدر من دروس‪ .‬لنا مع اهلل عز‬
‫رغم أنفه ٌ‬
‫وجل يقني واحد‪ :‬هو أن العامل يف خماض مليالد اإلسالم اجلديد‪ .‬وهلل ملك السماوات‬
‫واألرض‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫الفصل السادس‬
‫الوحدة‬
‫* عقيدتنا التوحيدية‬
‫* التجزئة االستعمارية‬
‫* التوحيد باالقتصاد‬
‫* وحدة بالقوة‪ ،‬وحدة باحملبة‬
‫* قومة‪ ،‬ال ثورة‬
‫* الوَالية اجلامعة‬
‫* «مجاعة املسلمني»‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫عقيدتنا التوحيدية‬
‫القومي صدام لدى غزوه للكويت ُحجة الوحدة العربية اليت‬
‫ُّ‬ ‫مما ق ّدمه الزعيم‬
‫إعادتا لتصحيح التجزئة االستعمارية الربيطانية اليت قطعت أوصال البالد‬
‫َ‬ ‫يريد‬
‫العربية‪.‬‬
‫والتوحيد القومي عقيدة راسخة يف املذهب البعثي إىل جانب الشعارين‬
‫دي منذ حني بعد سقوط االشرتاكية‬
‫ِّل الثالوث الع َق ُّ‬
‫املؤسسني‪ :‬احلرية واالشرتاكية‪ .‬عُد َ‬
‫إسالم التلفزيون‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فأُبْدل باالشرتاكية ُ‬
‫رب العاملني املطيعني ملا جاء به األنبيـاء واملرسلون فعقيدهتم‬‫أما إسالم املسلمني لِ ِّ‬
‫التوحيد اخلالص للرب اخلالق اإلله الرزاق احلـي القيوم الباعث الوارث‪ ،‬عقيدةٌ تـَُو ِّح ُد‬
‫اخللق أمجعـني وتدعو إىل وحدة األمة اإلسالمية لتربز يف العامل شاهدة‬ ‫يف الوجدان َ‬
‫على الناس‪ ،‬حاملة لرسالة التوحيد‪ ،‬مبلغة إياها نيابة ووراثة عن رسول اهلل عليه‬
‫الصالة والسالم‪.‬‬
‫دي خاطب اهلل عز وجل يفكتابه األمم من قبلنا‪ ،‬وبه خاطبنا معشر‬ ‫بالتوحيد الع َق ِّ‬
‫اس َم اللَّ ِه َعلَى َما َرَزقـَُهم‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫نسكاً ليَ ْذُك ُروا ْ‬
‫جل شأنه‪َ ﴿ :‬ول ُك ِّل أ َُّمة َج َعلْنَا َم َ‬
‫أمة الرمحة‪ .‬قال َّ‬
‫ش ِر الْم ْخبِتِ َّ ِ‬ ‫اح ٌد فـلَه أ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين إِ َذا ذُكِ َر اللَّهُ‬
‫ين الذ َ‬ ‫َسل ُموا َوبَ ِّ ُ َ‬
‫ِّمن ب ِه ِ‬
‫يمة ْالَنـَْع ِام فَِإلَ ُه ُك ْم إِلَهٌ َو َ ُ ْ‬
‫َ َ‬
‫ت قـُلُوبـُُه ْم﴾ ‪ ،‬إله واحد‪ ،‬وخلق واحد‪ ،‬وأمم مرجعها مجيعا إليه سبحانه‪ ،‬ومصدرها‬ ‫َوِجلَ ْ‬
‫‪1‬‬

‫ف ذلك بالفطرة املخبتون‪ ،‬اللَّينون‪ ،‬اخلاضعون جلالله‪ ،‬الذين بقيت فطرُتم غضة مل‬ ‫منه‪ .‬يـَْع ِر ُ‬
‫‪ 1‬سورة احلج‪ ،‬اآليتان ‪.33-32‬‬

‫‪237‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫س بالشرك اجلاهلي وال بالفلسفة اإلحلادية‪ .‬تعرف ذلك الفطرة فتذكر اهلل‪ ،‬ويأتيها من‬ ‫تـَتـَيَبَّ ْ‬
‫بين جنسها «املذكر» نبيا رسوال أو داعيا إىل اإلميان‪.‬‬
‫دي متسلسل من آدم عليه السالم‪ ،‬أورث بنيه اإلميان باهلل‬ ‫الفطرة مرياث ع َق ٌّ‬
‫آدم‬
‫وباليوم اآلخر كما أورثهم خصائصهم اجلسمية والغريزية والعقلية‪ .‬وأرسل خالق َ‬
‫من طني سبحانه وتعاىل مذكرين قالوا لألجيال ببساطة املبلغ وأمانته ما أ ِ‬
‫ُوح َي إليهم‬
‫من وحدة اخلالق اإلله‪ ،‬ومن حقيقة الرجوع إليه بعد املوت‪ ،‬ومن ضرورة اإلسالم له‪.‬‬
‫وحى‬‫قال تعاىل يعلم حممدا صلى اهلل عليه وسلم خامت املذكرين النبيئني‪﴿ :‬قُ ْل إِنَّ َما يُ َ‬
‫إِلَي أَنَّما إِلَه ُكم إِلَهٌ و ِ‬
‫اح ٌد فـََه ْل أَنتُم ُّم ْسلِ ُمو َن﴾‪.1‬‬ ‫َّ َ ُ ْ َ‬
‫تسع فيه للجدل يف أصل البشر‪ ،‬وال‬ ‫سجال فلسفي‪ ،‬وال ُم َ‬
‫ٌ‬ ‫ما هذا الكتاب‬
‫الفطَ ِر املطموسة الذين جيحدون وجود اخلالق ويوغلون يف‬ ‫للحديث مع أصحاب ِ‬
‫الكفر ملا أوغل االكتشاف العلمي يف االطالع على أسرار الكون العجيبة‪ .‬وال ُمتسع‬
‫للكالم هنا مع الداروينيني التطوريني املتخلفني عن رْكب العِْل ِم‪ ،‬وقد انفتح ألهل‬
‫العلم من آيات اهلل يف اخللق ما يدحض النظرية القردية‪.‬‬
‫وح َي اهلل عز وجل للرسل عليهم‬ ‫نرجع إىل الفطرة لنسمع بأذن الفطرة وقلبها ْ‬
‫ون﴾‪َ ﴿ .‬وتـََقطَّعُوا‬ ‫اح َدةً وأَنَا ربُّ ُكم فَا ْعب ُد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫السالم حيث قال هلم‪﴿ :‬إِ َّن َهذه أ َُّمتُ ُك ْم أ َُّمةً َو َ َ ْ ُ‬
‫الر ُس ُل ُكلُوا ِم َن‬ ‫اجعُو َن﴾‪ 2‬وحيث قال جل وعال‪﴿ :‬يَا أَيـَُّها ُّ‬ ‫أ َْمرُهم بـيـْنـ ُهم ُكلٌّ إِلَيـْنَا ر ِ‬
‫َ‬ ‫َ ََ ْ‬
‫ات وا ْعملُوا صالِحاً إِنِّي بِما تـعملُو َن علِيم وإِ َّن ه ِذ ِه أ َُّمت ُكم أ َُّمةً و ِ‬ ‫ِ‬
‫اح َدةً َوأَنَا َربُّ ُك ْم‬ ‫َ َْ َ َ ٌ َ َ ُ ْ َ‬ ‫الطَّيِّبَ َ َ َ‬

‫‪ 1‬سورة األنبياء‪ ،‬اآلية ‪.107‬‬


‫‪ 2‬سورة األنبياء‪ ،‬اآليتان ‪.93-92‬‬

‫‪238‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫فَاتـَُّق ِ‬
‫ون فـَتـََقطَّعُوا أ َْم َرُهم بـَيـْنـَُه ْم ُزبُراً﴾‪ .1‬أمة النبيئني واملرسلني أمة واحدة‪ .‬وأمة املؤمنني ال‬
‫افرتاق بني أجزائها العضوية‪ .‬لكن الناس يف فـَتـَْرٍة ما بني امل َذ ِّكرين‪ ،‬ويف ضمور اإلسالم يف‬
‫القلوب‪ ،‬يتقطَّعون أمرهم بينهم ُزبُراً‪ .‬أي قطعا خالفية مذهبيـة قوميـة وطنية قبلية‪ُ .‬‬
‫إسالمها‬
‫يف حكم العدم لتالشي عقيدة التوحيد عندها‪.‬‬
‫جامع ُم َو ِّح ٌد للمسلمني على معرفة اخلالق احمليي املميت الباعث‬ ‫اإلسالم ٌ‬
‫الديان سبحانه‪ ،‬وعلى طاعته‪ .‬ومظاهر ال ُفرقة بني بين آدم ترجع إىل سبب عميق‬
‫كامن حتت تصادم املصاحل االقتصادية والنزاعات السياسية والتنافسات القومية‪ :‬هذا‬
‫السبب هو جفاف القلوب من الرمح ِة‪ ،‬وهي ِ‬
‫الرح ُم اجلامعة‪ .‬جند هذا السبب مطروحا‬ ‫َ‬
‫واضحا إن قرأنا آيات اهلل عز وجل يف القرآن وآياته يف الكون وسنته يف التاريخ قراءة‬
‫قدرية شرعيَّةً‪ .‬القراءة التارخيية تشتغل بالنـزاعات يف عامل األسباب ال تتفتح‬ ‫ثُنائية َ‬
‫عني قلبها لتُميـَّز مراتِب ال ُـم ْد َرَكـات من آيات اهلل يف الكون يقابِلُها ويكشف أسرارها‬
‫آياتُه سبحـانه الشرعية األمرية املن ّـزلَة على رسله عليهم السالم‪ .‬وإذاً فال يكون القرآن‬
‫دليل عمل ملن يقرأ هكذا‪.‬‬ ‫َ‬
‫ـكن لِّيَبـْلُ َوُك ْم فِي‬ ‫قال اهلل عز وجل‪﴿ :‬لَو َشاء اللّه لَجعلَ ُكم أ َُّمةً و ِ‬
‫اح َدةً ولَ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ ََ ْ َ‬ ‫ْ‬
‫َما آتَا ُكم﴾‪ .2‬إرادتُه سبحانه الكونيةُ غريُ أمره الشرعي التكليفي‪ .‬أمره الشرعي أن‬
‫يكون الناس أمة واحدة موحدة على اإلسالم الذي جاء به الرسل عليهم السالم‪.‬‬
‫وقدره سبحانه الكوين أن ال يكونوا أمة واحدة‪ ،‬وأن خيتلفوا ويتقطعوا ُزبراً مبا كسبت‬
‫ص ْوا رهبم‪.‬‬
‫وع َ‬
‫أيديهم ومبا حادوا عن الفطرة َ‬

‫‪ 1‬سورة املؤمنون‪ ،‬اآليات ‪.53-51‬‬


‫‪ 2‬سورة املائدة‪ ،‬اآلية ‪.50‬‬
‫‪239‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ين‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس أ َُّمةً َواح َدةً َوالَ يـََزالُو َن ُم ْختَلف َ‬
‫ك لَ َج َع َل الن َ‬
‫قال تعاىل‪َ ﴿:‬ولَ ْو َشاء َربُّ َ‬
‫ك َخلَ َق ُه ْم﴾‪ ،1‬املشيئة القدرية أن يكون من الناس مؤمنون‬ ‫ك َولِ َذلِ َ‬
‫إِالَّ َمن َّرِح َم َربُّ َ‬
‫مطيعون‪ ،‬خمبتون هلل رب العاملني‪ ،‬متوحدون على عقيدة الرسل املذكرين اجلامعة‪.‬‬
‫ب الرمحة‪ ،‬ولذلك‬ ‫ص َّ‬‫وأن يكون خمالفون خمتلفون متقطعون زبرا‪ .‬املتقطعون أخطأوا َم َ‬
‫خلقهم‪ .‬وخلق الرمحن الرحيم األمة الواحدة املستجيبة املطيعة خلالف ذلك‪.‬‬
‫أص ّـم‪ ،‬مسلم وكافر‪ ،‬مطيع وعاص‪ .‬تلك‬ ‫والتكليف واحد‪ ،‬والعباد منهم سامع و َ‬
‫حكمته تعاىل فيما خلق وق ّدر وأمر‪.‬‬
‫يشل فاعلية ال ُـمكلَّف وال‬
‫بتحمل التكليف وال ُ‬ ‫اإلميان بال َق َدر إميانا ال ُيل ُّ‬
‫يعطل مسؤوليته هو عقيدتنا السليمة اليت ال ِغىن لنا عن استحضارها وحنن يف غمار‬
‫التاريخ‪ .‬هي ذكر اهلل عز وجل وسط املعركة‪ ،‬فإن َّ‬
‫فك ْرنا لوحدة املسلمني‪ ،‬وعملنا هلا‪،‬‬
‫وتوسطنا عا َل املتناقضات السببية غافلني عن معىن الكون واخللق واخلالف والكسب‬
‫الزبُر املتقطعـة ليس هلا من عمق العقيدة والوعي ببالء اهلل ما‬ ‫والقدر كنا من مجلة ُّ‬
‫ميسكها وما يعطيها ميـزة األمة الشاهدة احلاملة للرسالة املبلغة عن رب العاملني‪ .‬جل‬
‫وعال‪.‬‬
‫ك﴾‪ .2‬قال قتادة عن املرحومني‬ ‫ين إِالَّ َمن َّرِح َم َربُّ َ‬ ‫ِِ‬
‫﴿ َوالَ يـََزالُو َن ُم ْختَلف َ‬
‫أهل اجلماعة وإن تفرقت ديارهم‬ ‫املقصودين يف هذه اآلية‪« :‬هم أهل رمحة اهلل‪ُ ،‬‬
‫أهل فـُْرقة وإن اجتمعت ديارهم وأبداهنم»‪.‬‬ ‫أهل معصيته ُ‬ ‫وأبداهنم‪ .‬و ُ‬
‫وقدر مقدر‪ .‬وهي يف حقنا معش َـر‬ ‫اجلماعة من التفرق رمحة من اهلل عز وجل َ‬
‫روم حىت يلتئم مشلُنا ونكو َن أمة واحدة‪ .‬اجلماعة‬ ‫إسالمنا َم ٌ‬
‫ُ‬ ‫شرعي‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫أمر‬
‫املكلفني ٌ‬

‫‪ 1‬سورة هود‪ ،‬اآلية ‪.119-118‬‬


‫‪2‬‬
‫سورة هود‪ ،‬اآلية ‪118‬‬

‫‪240‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ومكسب جيب أن نشمر لتحقيقه وجناهد وخنوض معارك‬ ‫َ‬ ‫ب شرعي‬ ‫يف حقنا مطلَ ٌ‬
‫مع ال ُقوى املعاكسة املادية اخلارجية والنفسية الذاتية والعدوة املعرتضة‪.‬‬
‫ص ُمواْ بِ َح ْب ِل اللّ ِه َج ِميعاً َوالَ‬
‫قال اهلل جلت عظمته خياطب املؤمنني‪﴿ :‬وا ْعتَ ِ‬
‫َ‬
‫تـََف َّرقُوا﴾‪ 1‬روى اإلمام الطربي رمحه اهلل بسنده عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫«كتاب اهلل هو حبل اهلل الممدود من السماء إلى األرض»‪.‬‬
‫التمسك هبذا احلبل القرآين ِعصمة من التقطع‪ .‬ممدود من مساء الوحي‬
‫إىل أرض الواقع‪ ،‬مينع اجملاهدين املعرتكني مسُُّو َمتِ ِده من السقوط‪ .‬ممدود بالذكر‬
‫احلكيم والتذكري من مولد الفطرة ومنشإها إىل فروعها‪ ،‬مينع هذا االمتداد الفطري‬
‫عن التسيُّب يف «أصالة» قومية عرقية أو «معارضة» إيديولوجية يلتمس عندمها‬
‫املتقطعون جامعا يلُ ُّم َش َعثَهم‪.‬‬
‫األسباب اليت فرقت هذه األمة شيعا وقطعتها ُزبراً ترجع إىل إفالت حبل‬
‫الفطرة من يد املسلمني‪ ،‬وإىل ارختاء أيديهم عن عروة القرآن‪ .‬وال بد أن ُنمل‬
‫أسباب الفرقة وحنن على أبواب البحث عن الوحدة والعقيدة التوحيدية‪ ،‬لنقابِل‬
‫الصالح بالفساد وعوامل القوة واجلمع بعوامل الضعف والتقطع‪.‬‬
‫رىب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مجاعة املسلمني على األخوة‪ ،‬وألَّف اهلل‬
‫عز وجل بني قلوهبم رمحة منه ُجلَّى‪ .‬مث سار املسلمون على منهاج النبوة مع اخلالفة‬
‫الراشدة‪ .‬مث انتقضت العروة العليا من عُرا اإلسالم‪ ،‬وهي عروة احلكم‪ ،‬باالنقضاض‬
‫األموي‪ .‬فبدأ املسلمون يتمايزون عربا وموايل‪ ،‬عجما وفرسا‪ .‬ومتزقت العقيدة القرآنية‬
‫املوحدة يف صدور الناس فظهرت الثالث والسبعون فِرقة‪ .‬وتركبت على العصبية الطائفية‬
‫أنظمة حكم حايدت احلكم العاض املركزي وقاتلته أو احتوته‪ .‬فمن زيدية باليمن‬

‫‪ 1‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.103‬‬

‫‪241‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وصفارية بفارس وفاطمية مبصر وسامانية مبا وراء النهر وبويهية ديلمية وسلجـوقية تركية‬
‫ُ‬
‫وأتابكية حاضنة‪ .‬إىل ما ال ُيصى من ُمَزق‪.‬‬
‫وهجم الصليبيون والتتار يف ذلك العصر‪ .‬واستعان احلكام العاضون باملشركني‬
‫بعد أن امنحت الذاتية اإلسالمية فلم يبق إال السياسة الواقعية‪ .‬استعان الفاطميون‬
‫العلقمي الرافض ُّـي بالتتار على العباسيني‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫بالصليبيني على األيوبيني‪ ،‬واستعان ابن‬
‫ّ‬
‫واستعان ملوك طوائف األندلس بالقشتاليني والفرجنة‪ .‬ويستعني اليوم سالطني النفط‬
‫بأمريكا وحلفائها‪.‬‬
‫هذه مظاهر الفرقة وموجز خربها‪ .‬واألمر القرآين موجه إلينا لنتوحد‪ ،‬نقرأه‬
‫السدي عن عمر‬
‫ُّ‬ ‫ت لِلن ِ‬
‫َّاس﴾‪ .1‬روى‬ ‫بشارًة يف قوله تعاىل‪ُ ﴿ :‬كنتُ ْم َخيـَْر أ َُّم ٍة أُ ْخ ِر َج ْ‬
‫بن اخلطاب رضي اهلل عنه أنه قال‪« :‬لو شاء اهلل لقال‪ :‬أنتم خري أمة فكنا كلُّنا‪.‬‬
‫مثل‬
‫ولكن قال‪ :‬كنتم فهي خاصة ألصحاب حممد صلى اهلل عليه وسلم ومن صنع َ‬
‫صنيعهم»‪.‬‬
‫عن منهاج حممد وأصحاب حممد‪ ،‬صلى اهلل على حممد وآله وصحبه‪ ،‬نبحث‪.‬‬
‫كيف نكون مؤمنني موصولني حببل الفطرة‪ ،‬معتصمني حببل اهلل‪ ،‬جماهدين يف سبيل‬
‫اهلل؟ كيف يتجدد هذا اإلميان بعد باله‪ ،‬كيف تتوحد األمة بعد تقطعها‪ .‬اللهم رمحةً‬
‫هبا تؤلف قلوبنا إنك أنت الرمحن الرحيم‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.110‬‬

‫‪242‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫التجزئة االستعمارية‬
‫خلَّف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عند وفاته «مجاعة املسلمني» وهم أمة‬
‫بء الرسالة والتبليغ‪ .‬كانوا أمة بكل معىن الكلمة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫راشدة مسؤولة مؤهلة حلمل ع ْ‬
‫ت للناس‪ .‬األمة لغة‪« :‬كل مجاعة جيمعهم أمر واحد‪ ،‬أو‬ ‫أخرج ْ‬
‫كانوا خري أمة َ‬
‫دين واحد‪ ،‬أو زمان واحد‪ ،‬أو مكان واحد‪ .‬سواء كان ذلك تسخريا أو اختيارا»‪.‬‬
‫التسخري ملِثل أمة الطري املسخـرات يف جو السماء‪ .‬واالختيار واإلرادة املسؤولة ملثل‬
‫املهاجرين واألنصار الذين مجعهم دين واحد وتبوأوا الدار واإلميان يف دار اهلجرة‪،‬‬
‫وقد هذبتهم اهلجرة والنصرة‪.‬‬
‫وخرجوا للناس أول ما خرجوا حلرب أهل الردة يف أطراف دار اإلسالم‪ .‬مث‬
‫انبعثوا بقوة لنشر دين اهلل يف األرض‪ .‬قال ربعي بن عامر يف جملس رستم وقد بعثه‬
‫سعد بن يب وقاص رضي اهلل عنه للتفاوض قبل واقعة القادسية‪« :‬اهلل ابتعثنا‪ ،‬واهلل‬
‫جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إىل عبادة اهلل‪ ،‬ومن ِضيق الدنيا إىل َس َعتها‪،‬‬
‫ومن َجور األديان إىل عدل اإلسالم»‪ .‬رواه ابن جرير الطربي رمحه اهلل‪.‬‬
‫مل يكن وعيهم بوجودهم ومهمتهم يف الدنيا وعيا سلبيا حيدده وجود اآلخرين‬
‫املعادين املغايرين‪ ،‬بل كان وعيا إجيابيا فاعال يف الدنيا منبعثا لتبليغ رسالة اهلل‬
‫لإلنسانية‪ .‬وعلى ذلك أخرجتهم للناس تربية املسجد واالعتصـام حببل اهلل يف صحبة‬
‫رسول اهلل الذي قال هلم‪« :‬بلغوا عني ولو آية»‪ ،‬وقال هلم‪« :‬إنما بُعثتم ميسرين‬
‫ولم تُبعثوا معسرين»‪ .‬بُعثتم!‬
‫ف مغزى هذه البعثة عمرو بن العاص لصاحب اإلسكندرية‪ ،‬فقال‬ ‫ص َ‬
‫َو َ‬
‫«إن رسولَكم قد صدق‪ ،‬قد جاءتنا رسلنا مبثل الذي جاءكم به‬ ‫القبطي األمري‪َّ :‬‬
‫ُّ‬
‫‪243‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫رسولكم‪ ،‬فكنا عليه حىت ظهر فينا ملوك‪ .‬فجعلوا يعملون فينا بأهوائهم‪ ،‬ويرتكون أمر‬
‫األنبياء‪ .‬فإن أنتم أخذمت بأمر نبيكم مل يقاتلكم أحد إال غلبتموه‪ ،‬ومل يتناولكم أحد إال‬
‫مثل الذي فعلنا‪ ،‬وتركتم أمر األنبياء‪ ،‬وعملتم مثل الذي عملوا‬
‫ظهرمت عليه‪ .‬فإذا فعلتم َ‬
‫بأهوائهم ُخلِّ َي بينكم وبيننا فلم تكونوا أكثر منا عددا وال أشد قوة»‪ .‬رواه الطرباين‪.‬‬
‫كان الصحابة رضي اهلل عنهم دعاة يعملون بأمر األنبياء قبل ظهور امللوك‬
‫وع َم ُل األنبياء و«املبعوثني» من أتباعهم‬ ‫يف هذه األمة وقبل بدء النقض يف كيـاهنا‪َ .‬‬
‫ف خامت‬‫أن اإلله واحد وأن األمة اإلنسانية واحدة‪ُ ،‬كلِّ َ‬ ‫ميشي يف األرض على َه ْد ِي َّ‬
‫ص ْر أمره يف زمان‬
‫الرسل حممد صلى اهلل عليه وسلم أن يبلغ رسالة اهلل للعاملني‪ ،‬مل ُْي َ‬
‫أو مكان‪.‬‬
‫كانوا ُدعاة ينتشـرون يف األرض جماهدين مبلغني حمررين‪ :‬فكانوا جندا ال‬
‫عريب مشـرك لقائد عجمي‪« :‬بالليل‬‫كاجلنود‪ ،‬وقوما ال كاألقوام‪ .‬قال يف وصفهم ٌّ‬
‫رهبان وبالنهار فرسان‪ .‬ولو سرق ابن ملكهم [هكذا ظن أن هلم ملكا] قطعوا يده‪.‬‬
‫زن ُرِج َم إلقامة احلق فيه»‪ .‬أخرجه ابن جرير يف تارخيه‪.‬‬
‫ولو َ‬
‫بأن املسلمني جاءوا حمررين‪ .‬اندفعوا على عهد أيب بكر وعمر‬ ‫وشهد األقوام َّ‬
‫يف ثِْن َ ْت عشـرَة سنة فحـرروا ما يسمى اآلن سوريا وإيران واألردن وفلسطني والعراق‬
‫أحد‬
‫ومصر‪ .‬مل حيبسهم إال جبال طوروس وصحراء ليبيا‪ .‬قال ميخائيل الشامي ُ‬
‫بطارقة النصارى‪« :‬إن إله االنتقامات [‪ .]...‬رأى شر الروم [البيزنطيني] الذين‬
‫كانوا ينهبون بقسوة كنائسنا وأديِرتنا أينما حكموا‪ .‬وكانوا يعاقبوننا بال رمحة‪ .‬فجاء‬
‫من اجلنوب بأبناء إمساعيل ليحررنا هبم [‪ .]...‬مل يكن هذا خرياً قليال لنا لنتحرر من‬
‫قسوة الروم ومن شرهم وغضبهم وحسدهم القاسي‪ ،‬وأن جند أنفسنا يف راحة»‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وحىت بعد ظهور امللوك يف األمة‪ ،‬واألمة يف عزها‪ ،‬بقي معىن الرسالة احملررة‬
‫باعثا جوهريا يف الصدور‪ .‬قال املؤرخ اإلسباين بالسكو إبانْيِْز‪« :‬كانت إسبانيا َعْب َد ًة‬
‫مللوك يشتغلون بالالهوت وألساقفة يشتغلون باحلرب‪ .‬فكانت إسبانيا تفتح ذراعيها‬
‫العرب على أرض اقتضى اسرتدادها‬ ‫مرحبة بالغـزاة [املسلمني‪ .]...‬ويف سنتني استوىل َ‬
‫منهم [بعد ذلك] سبعة قرون‪ .‬مل يكن ذلك الغزو استيالء بقوة السالح‪ ،‬لكن كان‬
‫جمتمعـاً جديدا تتأصل جذوره القوية يف كل االجتاهات‪ .‬كان مبدأُ حرية الضمري مبدأ‬
‫كين الذي عليه تبين العظمة احلقيقية لألمم‪ .‬كانوا يقبلون‬ ‫ُمبباً إليهم‪ .‬وهو احلجر الر ُّ‬
‫‪1‬‬
‫يف املدن اليت حيكموهنا كنيسة النصراين وبيعة اليهودي»‪.‬‬
‫كان يف وعي الصحابة والتابعني بإحسان‪ ،‬ويف فقه علمائنا‪ ،‬أن أمة اإلسالم‬
‫شطران‪ :‬أمةَ االستجابة وهم من دخلوا يف اإلسالم فعال‪ ،‬وأمة الدعوة وهم سائر‬
‫الناس‪ ،‬يُرجى دائما أن يستجيبوا‪ ،‬وجيب على املؤمنني دائما أن يبلغوهم رسالة اهلل‪.‬‬
‫ودار الزمان دورته واحندر وزن املسلمني السيـاسي باحندار رسوخهم اإلمياين‪.‬‬
‫الغريب منذ قرن ونصف‬ ‫ُّ‬ ‫واحنلت عراهم وتفككت بنيتهم‪ .‬فما وجد االستعمار‬
‫حني بدأ غزوه لنا إال أمة قابلة لالستعمار‪ ،‬فيها بقية من روح املقاومة السلبية‪،‬‬
‫املعنوي‪ ،‬وهو كوهنا خري‬
‫َّ‬ ‫لكنها عاجزة عن مقاومة التحدي ال ُـمغ ِري لفقدها ال ُـم َق ّوَم‬
‫أمة‪ ،‬وخري أمة أخرجت للناس لتنبعث وتبلغ وتفعل يف العامل ال لتنكمش وتتماوت‬
‫وتتحامى االتصال والتفاعل والتعارك مع الناس‪.‬‬
‫األساسي يف‬
‫َّ‬ ‫العامل‬
‫َ‬ ‫مل يكن نقص األمة يف العتاد والسالح وختلفها املادي‬
‫بعد فقدنا للوعي الرسايل‬
‫هزميتنا أمام االستعمار الغريب‪ .‬كان عامال من العوامل يأيت َ‬

‫‪ 1‬هذان النقالن عن كتاب جارودي «وعود اإلسالم» طبعة لوسوي ‪ 1981‬ص‪ 37‬و‪.38‬‬

‫‪245‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وبعد تفككنا الغثائي وبعد ما فعله فينا داء األمم وهو البغي بيننا على مدى‬
‫قرون طويلة‪.‬‬
‫احتل االستعمار أرضنا بالقوة العسكرية‪ ،‬وسيطر على السياسة وحكم‪ ،‬وهنب‬
‫اقتصادنا‪ .‬مل يكن له باعث غريُ النهب وإن كان اإلنسان األبيض ت َذ َّرع دائما بأن‬
‫له رسالة حضارية يف العامل‪ ،‬حيسن إىل الشعوب امللونة حني خيرجها من «البدائية‬
‫لترتو َح َرْو َح العصر‪.‬‬
‫اهلمجية» إىل احلداثة ّ‬
‫االستعمار يف فكر ماركس «أداة التاريخ غريُ الواعيـة» ينقل الشعوب املتخلفة‪،‬‬
‫ومنها املسلمون الرازحون حتت «االستبداد الشرقي»‪ ،‬من منط إنتاج فيودايل إىل منط‬
‫إنتاج رأمسايل برجوازي‪ .‬فاالستعمار نِ ْع َم األداةُ التقدمية‪.‬‬
‫هذه األداة العمياء حقا‪ ،‬البصرية فقط مبصلحة الناهب‪ ،‬تشكلت بطبع‬
‫ال ُـمغِريين الربتغال والفرنسيني واإلجنليز والطليان واهلولنديني واإلسبان‪ .‬من استعمار‬
‫مباشر مبيد‪ ،‬أو استيطاين َمريد‪ ،‬أو جتاري عتيد‪ .‬لكن كل أنواع االستعمار تلخصت‬
‫حدوده على مائدة‬ ‫ُ‬ ‫يف احتياش األقوام األوربية ُج ْزءاً من أجزاء الرتاب‪ُ ،‬خطت‬
‫وجِّزئت مبقتضاه الشعوب املغلوبة‪ .‬وهكذا ُجِّزءَ العامل‬
‫املفاوضات بني الذئاب‪ُ ،‬‬
‫اإلسالمي من أطرافه‪ ،‬مث أصبحت التجزئة شيئا فشيئا هي قاعدة الوجود بعد اهنيار‬
‫الدولة العثمانية شو ِ‬
‫كة اإلسالم رمحها اهلل‪.‬‬
‫هنب ثرواهتم‬
‫ليس َ‬
‫العطب الفادح الذي أصاب املسلمني من جراء االستعمار َ‬
‫يب ديارهم‪ .‬العطب الفادح هو إقرار التجزئة يف الواقع السياسي‪،‬‬ ‫قتل رجاهلم وختر َ‬
‫وال َ‬
‫وترسيخ الوعي التجزيئي يف العقول والنفوس‪ ،‬ومتكني البنية التجزيئية يف أرض االقتصاد‬
‫واإلدارة‪ ،‬مشدودة إىل النظام االستعماري الرأمسايل بأمراس من الفوالذ‪ .‬كل قطر‬

‫‪246‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫دود جغرافية سياسية وحدود نفسية وحدود‬ ‫يف إسا ِرِه منعزل معزول مغلول حمدود ِب ٍ‬
‫أنغام اهلزمية التارخيية‬
‫اقتصادية‪ ،‬يرفرف فوق هذه الشظايا القطرية علَم قومي‪ ،‬ويغنيها َ‬
‫نشيد وطين‪.‬‬
‫الالت والعَُّزى كما وضعها االستعمار‬
‫ُ‬ ‫الدولة القومية الوطنية التجزيئيـة هي‬
‫يف اخلريطة احملمية بقانون األمم املتحدة وقـرارات جملس األمن وجحافل األمريكان‬
‫القابعني قرب منابِع النفـط‪ ،‬قرب دولة بين إسرائيل املفسدين يف األرض‪ ،‬يف مواجهة‬
‫مع الزعيم القومي صدام الذي زعم أنه يوحد أمة العرب بالقوة‪ .‬وما ذلت أمة العرب‬
‫إال منذ ختلت عن الوعي بأهنا حاملة رسالة للعاملني‪ ،‬ومنذ امنسحت من فضائل األمة‬
‫القوية األمينة على الرسالة‪.‬‬
‫اإلسفني يف ِجسم‬
‫ُ‬ ‫على أرض املسلمني زرع االستعمار دولة اليهود كما يُدفع‬
‫خشبة ميتة يابسة يراد شقها وتشظيتها‪ .‬دولة اليهود جيب أن يكون الوعي مبركزيتها‬
‫العد ِّو هاجسا لنا دائما‪ .‬فهي عنوان بارز لالقتطاع‪ ،‬رمز للتجزئة وبرنامج‬
‫يف الفعل ُ‬
‫مقرر للتوسع من أرض القدس إىل أرض يثرب ومكة‪ .‬أرض مدينة الرسول صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫العطب األفدح من جتزئة األرض هو جتزئة الفكر وزحزحة اإلميان واهليمنة‬
‫بدائل ونظائر للمستعمر‪ ،‬على شكل‬‫الثقافية اليت صنعت وتصنع من بين جلدتنا َ‬
‫فكره وشعوره وبِزته ومنط حياته ُ‬
‫وش ْغ ِل عمره‪َ ،‬يْلُفونَه من بعد انسحابه‪.‬‬
‫فما جتد ممن يقاومون االستعمار اليوم‪ ،‬بعد انقراض جيل املقاومة األول‪ ،‬إال‬
‫منساقني وراء احلداثة‪ ،‬متدينني بنوع من «دين االنقياد»‪ ،‬حيسبون أهنم يدفعون عن‬
‫أنفسهم عادية االستعمار‪ ،‬وهم ُه ْم ِدعامةٌ من دعائمه‪ ،‬وأداة من أدواته‪ ،‬وعون من‬
‫ووكالءُ لتجارته‪ ،‬وأوصياءُ على تَ ِركتِه‪.‬‬
‫أعوانه‪ُ ،‬‬
‫‪247‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ليس املكر أن حياربنا االستعمار بعساكره هو وسياسته هو وماله هو‪ .‬لكن‬
‫الظاهر‬
‫ُ‬ ‫املكر أن حياربنا بعساكرنا وسياستنا ومالنا‪ .‬وهذا ما حدث ملا دفع العدو‬
‫العراق خلنق الثورة اإلسالمية بإيران‪ .‬وهذا ما يفعله العدو الظاهر عندما هب ملبيا‬
‫استغاثة سالطني النفط مستلما أجر حتركه مسبقا‪ ،‬أجرا خمصوما من أموال املسلمني‬
‫املدخرة عنده‪ ،‬ومن سياستهم املصنوعة يف دواوينه‪ ،‬ومن السالح الذي يبيعنا إياه‬
‫بالثمن الباهظ وقد كان على وشك أن يرميه للخـردة منذ انتهت احلرب الباردة‬
‫واستسلم الروس‪.‬‬
‫السؤال املطروح على هامش كل رزية تصيبنا‪ ،‬ومن أمهها التجزئة والوعي‬
‫املصنوع املقبول بالتجزئة‪ ،‬هو‪ :‬ما هي خصائص القوة اإلميانية االقتحامية الكفيلة‬
‫بأن تعيد األمة إىل وحدهتا حاملة رسالة رب العاملني؟ وما النصر إال من عند اهلل‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫التوحيد باالقتصاد‬
‫عندك رسالة يف غاية األمهية واالستعجال‪ ،‬محَّلتها رجال كسيحا مقعدا مشلوال‪.‬‬
‫ذلك َمثل أمة تزعم أهنا حتمل رسـالة اهلل للعاملني وليس هلا من املنطلقات واملرتكزات‬
‫االقتصادية ما تستقر عليه احلياة وتطمئن إليه النفوس وتتغذى به اجلهود وتتب ْلور‬
‫حوله املطامح‪ .‬إهنا سباحة يف عامل األحالم ومالئكيةٌ بريئة أن يقلل املرء من أمهية‬
‫العامل االقتصادي عندما يتحدث عن الوحدة‪ ،‬كما أهنا مادية سخيفة أن يتجاهل‬
‫العامل الروحي األخالقي‪.‬‬
‫إن العدل يف القسمة والقدرة على اإلنتاج أساس بديهي لبناء العمران األخوي‪.‬‬
‫قلوبم مل تتبوأْ اإلميا َن‬
‫صوُر أخوة على اإلطالق إن كان سكان احلي قاسيةً ُ‬ ‫وما تـُتَ َّ‬
‫تدور رحا القومة اإلسالمية وآليا ُتا‪ ،‬ولن يستقيم‬ ‫فتلني برمحة اهلل لعباد اهلل‪ .‬ولن َ‬‫َ‬
‫سريُها‪ ،‬ولن ُيفظ ميقا ُتا‪ ،‬ولن جيتمع هم املسلمني على وحدة إن كان األساس‬
‫االقتصادي ِخرباً‪ .‬كاد الف ْقُر أن يكون كفرا‪ .‬كلمة ملوالنا علي بن أيب طالب كرم اهلل‬
‫وجهه‪ .‬وقد رواها احلافظ ابن حجر مرفوعة يف «املطالب العالية»‪.‬‬
‫حمرٍر‪ ،‬منهاج بش ٍر كانوا‬
‫سوي َّ‬
‫نعترب بالتكوين الصحايب لنسري على منهاج ٍّ‬
‫يأكلون الطعام وميشون يف األسواق‪ ،‬وكانوا يتأثرون مبا تتأثر به نفوس بين آدم من‬
‫العوامل املادية‪ .‬مل يكونوا مالئكة اقتعدوا مساء الشفافية‪ .‬بعدها نرجع إن شاء اهلل‬
‫ملالبسات العصر َملِيّاً‪.‬‬
‫روى اإلمام البخاري قصة املهاجر عبد الرمحن بن عوف ملا نزل على أخيه‬
‫األنصاري سعد بن الربيع فاقرتح عليه األخ الكرمي أن يقامسه ماله‪ ،‬وأن يطلق له إحدى‬
‫ِّ‬
‫يدله على السوق‪ .‬التقى كرم األنصار‬‫زوجتيه ليتزوجها‪ .‬فأىب عبد الرمحن وسأله أن ُ‬

‫‪249‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وم ْل ِكيَّتُهم لألرض مببادرة املهاجرين وخربهتم ال ُقَرِشيّة بالتجارة‪ ،‬فالتحم جمتمع كاسب‬
‫ِ‬
‫كاد مستعني بنِتاج عمله‪ ،‬كانت نيتُه أن يتعايش مع اليهود الفالحني احلَِرفيني لوال‬ ‫ّ‬
‫يهود العهود‪.‬‬
‫أن خانت ُ‬
‫وأخرج البخاري رمحه اهلل أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اقرتح على األنصار‬
‫قطع إخواننا املهاجرين مثلها! روى احلديث‬ ‫أن يـ ْق ِطعهم البحرين فقالوا‪ :‬ال! إال أن تُ ِ‬
‫ُ‬
‫أنس بن مالك رضي اهلل عنه ملا خرج من البصرة يشكو لعبد امللك بن مروان ظل َـم‬
‫أبوا أن يستأْثروا‬ ‫احلجاج‪ .‬وتتمـة احلديث قوله صلى اهلل عليه وسلم لألنصار حني ْ‬
‫«إما ال فاصبروا حتى ت ْل َق ْوني‪ ،‬فإنه سيصيبكم بَعدي أثـََرةٌ»‪.‬‬
‫على إخواهنم‪ّ :‬‬
‫ماذا كان يف نفوس األنصار الذين مدحهم اهلل تعاىل بأهنم يـُْؤثرون على‬
‫أنفسهم ولو كان هبم َخصاصة‪ ،‬وبأهنم كانوا حيبون من هاجر إليهم وال جيدون يف‬
‫صدورهم حاجة مما أوتوا؟ هل كان حساب ِ‬
‫املال غائبا عن أفقهم؟ هل كانوا مجيعا‬
‫نفوسا مطهرة من هاجس متاع الدنيا؟ أم كانوا ساعةً وساعةً؟ وكانوا منهم ومنهم؟‬
‫واملهاجـرون؟ هل كانوا من جانب ُزهدهم يف الدنيا وسخائهم هبا وإيثارهم‬
‫مثل أيب بكر الذي جاء مباله كله للنيب صلى اهلل عليه وسلم لتجهيز‬ ‫التوكل على اهلل َ‬
‫جيش العسرة؟ هل كانوا كلهم تـَُعبـُِّر ألسنتُهم عن التوكل التام والتحرر الكامل من‬
‫ثِْق ِل اهلم اليومي فيقولون كما قال الصديق للنيب صلى اهلل عليه وسلم ملا سأله‪ :‬ما‬
‫تركت لعيالك؟ قال‪ :‬تركت هلم اهلل ورسوله؟‬
‫روى اإلمام البخاري رمحه اهلل عن أنس رضي اهلل عنه أن األنصار قالت يوم‬
‫ُحنني وقد أ َْعطَى النيب صلى اهلل عليه وسلم قريشا ومل يعط األنصار‪« :‬واهلل َّ‬
‫إن هذا‬

‫‪250‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وغنائمها تـَُرُّد عليهم!»‪ .‬فبلغ ذلك‬
‫ُ‬ ‫العجب! إن ُسيوفـَنَا تقطر من ِدماء قريش!‬
‫ُ‬ ‫هلو‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم فدعا األنصار فقال هلم‪« :‬ما الذي بلغني عنكم؟» قال‬
‫الراوي‪ :‬وكانوا ال يكذبون‪ .‬فقالوا‪ :‬هو الذي بلغك! قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أوال‬
‫ض ْو َن أن يرجع الناس بالغنائم إلى بيوتهم وترجعون برسول اهلل صلى اهلل عليه‬ ‫تر َ‬
‫وادي األنصار‬
‫لسلكت َ‬
‫ُ‬ ‫وسلم إلى بيوتكم؟ لو سلكت األنصـار وادياً أو ِش ْعبا‬
‫أو ِش ْعبَهم!»‪.‬‬
‫وروى القصة ابن هشام رمحه اهلل مطولة‪ ،‬فيها ما راج من مقاالت واضطراب‬
‫يف صفوف األنصار يومئذ‪.‬‬
‫ضعف إميان األنصار‪ ،‬حاشا وكال‪ .‬لكنهم كانوا بشرا‪،‬‬ ‫وما كان هذا من َ‬
‫وكانوا متفاوتني‪ ،‬وكانت مقالة بعضهم تؤثـر يف بعض‪ ،‬وكان املال الذي ْيؤثرون‬
‫به إخواهنم عندما يكون يف حوزهتم َمط إغراء عندما يرونه يُستـأْثر به دوهنم‪.‬‬
‫مل يكونوا مجيعا كالرجل الذي وصفه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بأنه من‬
‫أهل اجلنة‪ ،‬فتحايل عليه عمرو بن العـاص وبات عنده ثالث ليال ليعرف ما هي‬
‫عار (استيقظ)‬‫األعمال اليت فضلته‪ .‬فلم يره يقوم بشيء من الليل إال أنه إذا تَ َّ‬
‫تقلب يف فراشه وذكر اهلل وكرب حىت يقـوم إىل الصـالة‪ .‬فلما سأله عمرو عن الذي‬
‫بلَ َغ به ما قاله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪ :‬ما هو إال ما رأيت! غري أين‬
‫أحسد أحدا على خري أعطاه اهلل‬ ‫ال أجد يف نفسي ألحد من املسلمني غشا وال ُ‬
‫إياه‪ .‬روى احلديث اإلمام أمحـد عن أنس رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫غريه من املسلمني من أهل النار‪ .‬لكنه‬ ‫ليس يعين كون الرجل من أهل اجلنة َّ‬
‫أن َ‬
‫اتصف بسالمة الصدر والتجرد من الدنيا‪ .‬وهي صفة يشرتك فيها مع أصحاب اجلنة‬
‫ص ُدوِرِهم ِّم ْن ِغ ٍّل إِ ْخ َواناً َعلَى ُس ُرٍر‬ ‫ِ‬
‫الذين قال اهلل عز وجل عنهم‪َ ﴿ :‬ونـََز ْعنَا َما في ُ‬

‫‪251‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ين﴾‪ .1‬وما هلم‬ ‫ِِ‬
‫أصحاب اجلنة ال يقيمون لغري ما هم فيه من نعيم حساباً! جعلين‬
‫ُ‬ ‫ُّمتـََقابل َ‬
‫اهلل منهم واملسلمني آمني‪.‬‬
‫وإىل حساب األرض نعود لنتساءل عن الشروط الضرورية للمسلمني يف هذه‬
‫العصور كي يستقلوا باقتصاد غري تابع‪ ،‬وكي يـُنَ ُّموا مواردهم ويتصنعوا معتمدين بعد‬
‫اهلل الغين احلميد على أنفسهم‪ ،‬متكاملني ما بني أقطار التجزئة ليكون التكامل‬
‫االقتصادي بدايةً حلركة التوحيد‪.‬‬
‫وما ضرورات االقتصاد اليت تلزم املسلمني بالتفكري يف التكامل االقتصادي إال‬
‫ب ظهورنا إليها اإلسفني‬ ‫ِ‬ ‫عصاً ِمن ِع ِ‬
‫القدر اإلهلي تسوقنا إىل الوحدة كما يُله ُ‬
‫ص ِّي َ‬
‫نقوى على‬‫الصهيوين يف قلب كياننا‪ .‬إسفني لن نستطيع نزعه إال بوحدة تقوينا‪ ،‬ولن َ‬
‫الوحدة باقتصـاد ممزق كتمـزق أرضنا وفكرنا وإرادتنا السيـاسية‪ .‬يتحكم يف إرادتنا‬
‫ب عزمنا كيف يشـاء من ميلك مفاتيح اقتصادنا‪ ،‬ومن ميلك وسائل الضغط‬ ‫ويُقلِّ ُ‬
‫على اهلياكل اهلزيلة املنفردة‪.‬‬
‫ويكون جتميع رأس املال‪ ،‬وختليص أموال النفط من قبضة األبناك اليهودية‬
‫الرأمسالية اليت جيري إليها جمرى النهر الدافق إىل البحر العـامق‪ .‬كتب أحد املصرفيني‬
‫اخلبـراء العرب يف جملة فرنسية أن العـرب النفطيني استثمروا يف األربعني سنة األخرية‬
‫عشرة ماليري دوالر يف بالد العرب‪ .‬واستثمروا يف نفس احلقبة يف أوربا وأمريكا‬
‫وسائر األرض ستمائة وسبعني مليار دوالر‪ .‬وال شك أن هذه األرقام ال تتناول‬
‫األموال السرية‪ ،‬واألموال «الشخصية»‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة احلجر‪ ،‬اآلية ‪.47‬‬

‫‪252‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫هتريب أموال النفط وسوء تدبريها وتبذير مردودها سبب مهم من أسباب‬
‫تفكك اقتصاد املسلمني‪ .‬فهي حتت محاية القانون الدويل الذي ي َكشُِّر عن‬
‫ك خالص للدولة العشرية‪ ،‬والدولة‬‫أنيابه النووية ليحمي إمارات النفط‪ .‬النفط ِم ْل ٌ‬
‫العائلة‪ ،‬والدولة اخليمة‪ .‬وهو هبذه اخلصوصية الفذة مال يتامى يتصرف فيه الكافل‬
‫اخلائن بال رقيب وال حسيب‪.‬‬
‫بعد تقدير هذا التحدي الضخم الذي سددهُ القدر يف وجوهنا نلتفت إىل‬
‫حساب املسافة اليت تفصلنا عن الرتابط العضوي االقتصادي الالزم لكي تكون لنا‬
‫سوق داخلية وإنتاج داخلي يغذيان قدرتنا على التعامل املعترب يف السوق العاملية‪.‬‬

‫إن النظام الدويل ال يعبأ بالكيانات اهلزيلة‪ ،‬بل يطحن قدراهتا بآليات تبخس‬
‫بس ْوَم ٍة مكسورة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫املواد األولية‪ ،‬وهي ُم َم ُل ما عند املستضعفني مثلنا‪ ،‬وت ْل َح ُسها َ‬
‫ويصب التبادل غري املتكافئ يف املديونية‪ ،‬وتصب املديونية يف االرهتان يف آليات‬ ‫ُ‬
‫التعديل اهليكلي حتت رمحة‪ ،‬بل حتت نقمة‪ ،‬صندوق النقد الدويل والبنك الدويل‬
‫ومنتديات القروض الربوية الفاحشة‪.‬‬

‫برهنت برامج التنمية القطرية يف بالد املسلمني عن عجزها عن قيادة تنمية‬


‫سليمة‪ .‬من بني أسباب فشلها تبعيتها الوثيقة‪ ،‬وهي متفرقة‪ ،‬هلذا اجلانب أو ذاك من‬
‫األسواق العاملية‪ .‬وهل يف العامل غري سوق واحدة؟‬

‫ومن بني األسباب حتكم رأس املال األجنيب املستقـل يف قراراته‪ ،‬يتخذ القرار يف‬
‫الوقت الذي يناسبه‪ ،‬وبالقدر الذي يناسبه‪ ،‬ويف االجتاه الذي يناسبه‪ .‬فهو يستغل‬
‫املهربة واملنهوبة لكي يبين‬
‫حاجتنا املاسة ألموال نستثمرها يف غياب أموال املسلمني ّ‬
‫هناك ولكي خيدم الشركات األمهات‪ ،‬ال يهمه مما جيري هنا إال الربح العاجل‪.‬‬
‫‪253‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وخادمه القطري احمللي اسرتاتيجية‬
‫ويف هذه الشروط ال يعتمد رأس املال األجنيب ُ‬
‫لبناء اقتصاد متكامـل‪ ،‬بل يرصد جمهوداته إلنتاج الكماليات االستهالكية‪ ،‬وإنتاج‬
‫األجزاء الرخيصة هنا املطلوبة هناك‪ ،‬وتركيب اآلالت املصنوعة هناك املصبوغة امللفوفة‬
‫هنا‪.‬‬
‫وهكذا يعجز االقتصاد القطري عندنا عن إشباع احلاجات الضرورية األساسية‪.‬‬
‫وبتش ُّوِه البنية االجتماعية املتأتية من التفاوت الفظيع بني الدخول تنكشف الساحة‬
‫َ‬
‫عن جمتمع استهالكي غري منتج‪ .‬يشده إىل مواطن القدرة االقتصادية العاملية ألف‬
‫سبب من أسباب التبعية‪ .‬يشكل العرب أربعة يف املائة من مجلة السكان يف العامل‪.‬‬
‫استـوردوا يف سنة ‪ 1984‬بتاريخ النصارى ‪ 18,5‬باملائة من احلبوب التجارية يف العامل‪.‬‬
‫والنسبـة تزيد من سنة لسنة‪ .‬وأراضي املسلمني شاسعة‪ ،‬وأذرعهم عاطلة‪ ،‬وعقوهلم يف‬
‫إجازة‪ ،‬وأمواهلم أين؟ وال غالب إال اهلل‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫وحدة بالقوة‪ ،‬وحدة باحملبة‬


‫بعث اهلل عز وجل املرسلني ليُ ْحيوا يف الناس نداء الفطرة‪ ،‬ليبشروهم بأهنم مل‬
‫شخص فيه األبصار يوم ال ينفع‬ ‫خيلقوا عبثا وأهنم إىل اهلل راجعون‪ ،‬ولينذروهم يوما تَ َ‬
‫رسل اهلل رمحة للخلق‪ ،‬بشر من البشر‪ ،‬أ ِوَّداءُ هيِّنون لينون‪ .‬ميشون‬
‫مال وال بنون‪ُ .‬‬
‫ميسَرةٌ ال معسرة‪.‬‬
‫يف األسواق يتحببون إىل الناس ليحببوا إليهم اهلل‪ .‬دعوة حانية ِّ‬
‫وكذلك علمـاء هذه األمة ودعـاهتا‪ ،‬وظيفتهم أن يبلغوا ميسرين ال معسرين‪.‬‬
‫كل وظيفة الرسل وورثتهم العلماء الدعاة لكان الدين والتدين‬
‫َولَ ْو كانت هذه َّ‬
‫الدين الالييكيون الذين انتهى هبم األمر إىل أن‬
‫شأنا خاصا هامشيا كما يتصور َ‬
‫خلَّصوا الدينونة لقيصـر من الدينونة للكنيسة‪ .‬وإذاً لكانت الدعوة سعيا َرخوا يف‬
‫األرض حاملا‪.‬‬
‫اإلسالم اخلضوع هلل عز وجل‪ ،‬والدينونة الكاملة له‪ ،‬والطاعة ألمره وهنيه‪ .‬بعث‬
‫اهلل عز وجل الرسل بالكتاب والبينات ليقوم الناس بالقسط‪ ،‬وليكونوا أمة واحدة‪ ،‬عباداً‬
‫هلل‪ ،‬حيكمون بينهم بالعدل وال يتظاملون‪ .‬وأنزل احلديد فيه بأس شديد‪ .‬قال العلماء‪:‬‬
‫عد َل عن احلق بقوة احلديد‪ .‬بقوة‬
‫ليقوم من َ‬‫ذكر سبحانه احلديد بعد ذكر الرسالة َّ‬
‫السلطان‪.‬‬
‫خيدم وازع السلطان وازع القرآن‪ ،‬ويسري يف ركابه‪.‬‬
‫فاإلسالم دعوة ودولة‪ُ ،‬‬
‫يلتَ ّم مشل األمة يف مركزها باحملبة األخوية‪ ،‬ويشتد ساعدها بقوة الدولة احلافظة‬
‫القوية األمينة‪.‬‬
‫وقد كتب املسلمون يف عصرنا واشتغل أعداؤهم يف احلديث عن اجلهاد والقوة‬
‫يف اإلسـالم‪ .‬األعـداء يرون أن اإلسالم انتشـر بالقوة اهلجومية‪ ،‬واإلسالميون يدفعون‬
‫‪255‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يف وجه هذه التهمة فريدون اجلهاد إىل حجم دفاع سليب‪ .‬واملسألة املطروحة هنا‬
‫هي‪ :‬هل تتوحد األمة‪ ،‬ووحدهتا عقيدة‪ ،‬دون استعمال القوة اإللزامية؟ نطرح هذا‬
‫السؤال موازاة مع طرح صدام القومي‪ .‬فإنه لدى هجومه على الكويت رفع عقريته‬
‫ينادي املسلمني إىل العدل‪ ،‬ويناديهم إىل الوحدة‪ ،‬ويناديهم إىل اجلهاد لتحقيق‬
‫اهلدفني العزيزين على القوميني‪.‬‬
‫فج ِر الصحوة‬
‫تعديل يف اخلطاب منذ حتول البعثيون دعاة إسالميني على ضوء ْ‬
‫اإلسالمية‪ ،‬واستفادة من سقوط االشرتاكية وخراب دارها‪ .‬فهو عدل ال اشرتاكية‪.‬‬
‫وهو جهاد ال عنف ثوري يف خطاهبم اجلديد‪.‬‬
‫منذ حنو عشرين سنة كتب سعدون محادي‪ ،‬وهو اآلن شخص بارز‬
‫يف حاشية صدام‪ ،‬يعلق حواشيه على العقيدة املذهبية القومية اليت جتمع بني‬
‫الرومانسية احلاملة وبني استعمال العنف وسيلة لتحقيق األهداف‪ .‬ويفكر سعدون‬
‫أن القومية الثائرة ستسري من تنازل إىل تنازل إن مل توطد العزم على استعمال‬
‫العنف لتوحيد األمة العربية بالقوة‪ .‬وركز نقده على توقف أنور السادات يف حربه‬
‫مع دولة بين إسرائيل سنة ‪ 1973‬بتاريخ النصارى‪ ،‬يرى أهنا لو استمرت لكانت‬
‫ويص َه ُرُهم أمة واحدة‪ .‬وها هو صدام‬
‫الفتيل الذي يُشعل هليب الثورة يف العرب ْ‬
‫اليوم يهجم على الكويت ويستميت ويطاول‪ .‬وها هم العرب واملسلمون يلتهبون‬
‫محاسا متجاوبا مع بطل يدعو للعدل والوحدة واجلهاد‪.‬‬
‫وللقوميني يف نظرهتم إىل القوة العسكرية ومكاهنا يف التاريخ أسوة مبا فعله‬
‫وح َد جا ِرب ْل ِدي الوطين املقاتل إيطاليا بقوة‬
‫َجا ِربـَْل ِدي وبِ ْسمارك منذ قرن ونيف‪َّ .‬‬
‫البندقية‪ .‬ووحد بسمارك املستشار احلديدي لربوسيا إمارات األملان جبحافله العسكرية‪.‬‬
‫عنصر مهم مل يُ ْدخله القوميون يف تقييمهم ومقارنتهم‪ :‬هو أن جاربلدي قاتل‬
‫عظمهم يف الوحدة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫النمساويني والصقليني والبابا فأزاح ظلمهم عن القوم الطليان الراغب ُم ُ‬

‫‪256‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وأن بسمارك حقق وحدة األملان بالنار واحلديد يدفع هبما العدو الغازي من منساويني‬
‫وفرنسيني‪ ،‬ويف قلوب األملان يومذاك كما هو احلال اليوم حنني إىل الوحدة عظيم‪.‬‬
‫أما القوميون العرب فعنفهم الوحدوي عا ٍر عن احلقائق اليت تبعث القوم‬
‫بعضهم حنو بعض حىت ال تبقى إال دفعة هنائية يلتحم على إثْ ِرها املتفرق‪ ،‬ويشتد‬
‫بقوهتا املنحل‪ ،‬وينصهر على نارها املتَفتت‪ .‬العرب يف العراق والكويت مسلمون‪،‬‬
‫حتركت عامتهم وعامة املسلمني لنداء خياطب قلوهبم بالعدل والوحدة واجلهاد‪ ،‬ورأوا‬
‫يف البطل املنادي صورةً لصالح الدين‪ ،‬حملةً خاطفة يف الضمري املنهزم‪ .‬لكن ذلك‬
‫ت‬‫العزم الراسخ والعقيدة الثابتة يف الوحدة شيء مل تغرسه القومية يف العامة‪ ،‬وال يْنبُ ُ‬
‫لو حاولت‪ .‬فال حتصد من زرع العنف إال مزيداً من التمزق‪ .‬وحنن ننتظر ما اهلل‬
‫‪1‬‬
‫رب غريه‪.‬‬
‫فاعله‪ .‬ال َّ‬
‫ويف أفق اإلسالميني الغادين إىل سدة احلكم أن ُِيلُّوا اجلهاد مكانته العزيزة‪،‬‬
‫وأن حيرثوا يف أرض اإلميان عند اخلاصة والعامة عقيدة التوحيد‪ُ ،‬لمتها وسداها‬
‫احملبة األخوية والعدل والبذل‪ ،‬وحصنُها الالزم الضروري قوة اجلهاد‪.‬‬
‫ب على من ي َقِّزُم شأ َن اجلهاد يدَّعي أنه حرب‬ ‫يغض ُ‬
‫كان سيد قطب رمحه اهلل َ‬
‫دفاعية‪ .‬ويكتب يف «معامل يف الطريق» بأسلوبه األيب‪« :‬املهزومون روحيا وعقليا ممن‬
‫يكتبون عن «اجلهاد يف اإلسالم» ليدفعوا عن اإلسالم هذا «االهتام» [اهتام أنه قتال‬
‫هجومي] خيلِطون بني منهج هذا الدين يف النص على استنكار اإلكراه على العقيدة وبني‬
‫منهجه يف حتطيم القوى السياسية املادية اليت حتول بني الناس وبينه‪ ،‬واليت تـَُعبِّ ُد الناس‬
‫للناس‪ ،‬ومتنعهم من العبودية هلل [‪ .]...‬ومن أجل هذا التخليط‪ ،‬وقبل ذلك من أجل تلك‬
‫‪1‬‬
‫وجرحا بليغا يف جنوهبم (تعليق والكتاب حتت‬
‫وكانت هزمية «أم املعارك» نكبة مدوية يف تاريخ املسلمني‪ُ ،‬‬
‫الطبع)‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫حيصروا اإلسالم فيما يسمونه اليوم «احلرب الدفاعية»‪ .‬انتهى كالمه‬
‫اهلزمية‪ ،‬حياولون أن ُ‬
‫رمحه اهلل‪.‬‬
‫من هذه «التهمة» نتحول إىل هتمة مل يُدرك زماهنا سيد قطب رمحه اهلل‪.‬‬
‫رجال الصحوة اإلسالمية بأهنم عبيد القوة‪ ،‬وبأهنم يتعاملون مع‬‫هي اهتام اليساريني َ‬
‫النظُم الرجعية وأمريكا ويتلقون منها املساعدات والسالح ليقاتلوا عنها القوى احلية‬
‫املد الدميقراطي‪ ،‬وليْنسفوا آمال االشرتاكية‪.‬‬
‫التقدمية‪ ،‬وليقفوا يف وجه ِّ‬
‫أشد ِ‬
‫ِّه إبان احتـالل روسيا ما قبل الربسرتويكا ألفغانستان‪،‬‬ ‫وكان هذا االهتام على ُ‬
‫وإبَّان تألُّق اجلهاد األفغاين اجمليد‪.‬‬
‫هل كان للمجاهدين العُْزِل يف أول مراحلهم أن يتورعوا ُّ‬
‫التورع البليد فريفضوا‬
‫أموال سالطني النفط‪ ،‬وهم أحق املسلمني مبال املسلمني؟ أم هل نلوم بعض رجال‬
‫الدعوة على اللجوء من اضطهاد اجلبارين القتالني إىل حضن أنظمة ال تقتل الدعاة‬
‫الفارين إليها بنيتهم اجلهادية لكنها تتألفهم وتؤويهم‪ ،‬وإن كان ذلك بنية أخرى؟‬
‫كال‪ ،‬ال نلوم وال نبتئس‪ .‬لكن حنذر من منطق التآلف مع منافقي اإلسالم‬
‫فج اجلهاد‪ .‬وحنذر خاصة من «الغزو الثقايف» الذي‬ ‫أن جيرف الدعاة يف واد غري ِّ‬
‫الروح من جسم الدعوة‪ ،‬ولتعقِّمها‪ ،‬ولتُحيِّ َدها‪ ،‬ولِتـَُؤنِّسها‬
‫لتس َّل َ‬
‫متوله عائدات النفط ُ‬
‫لتبقيَها راتعه يف حجر الطغاة املنافقني ال تغزو وال حتدث نفسها بغزو‪ ،‬إال‬ ‫وتدجنها‪ ،‬و ِ‬
‫ِّ‬
‫بغزو إخواهنا املسلمني من عامة األمة ومن خاصة الدعاة‪ ،‬يف حروب مذهبية طائفية‬
‫داخلية تؤجج النار يف صفوف الدعوة‪.‬‬
‫جهاد منكوس معكوس‪ ،‬وعنف خمرب للوحدة مؤبِّد للشقاق والنفاق والوحشة ال‬
‫الناس بغري حق‪.‬‬
‫الوفاق هو هذا األسلوب الفج الذي تُعلمه مذهبية املكفرين املبدِّعني َ‬

‫‪258‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أسلوب تأنس إليه وتطمئن أفئدة الذين ال يؤمنون إال مبصلحة العشرية والعائلة املالكة‬
‫وحلفائها الذين يعلن عليهم صدام القومية حبق سخطه الثوري‪.‬‬
‫يقرأ الدعاة األغرار ما يكتبه أئمة املسلمني من أمثال شيخ اإلسالم ابن تيمية‬
‫وآووا‬
‫فيؤِّولونه على ما يوافق هوى الذين طبعوا الكتب ونظموا املؤمترات َ‬ ‫رمحه اهلل‪َ ،‬‬
‫يف الفنادق الفخمة وأغدقوا اإلدرارات السلطانية‪ .‬وجيردون مقاالت األولني عن‬
‫مالبساهتا يف ذلك الزمان‪ ،‬وعن مقدماهتا ونتائجها‪ ،‬وعما ختفيه الكلمات‪ ،‬ال يقرأه‬
‫بني السطور إال نابِهٌ لِما فعلته فتنة انتقاض عروة احلكم باملسلمني علماءَ وعامة‪.‬‬
‫يقول شيخ اإلسالم يف «منهاج السنة»‪« :‬فإن احلاكم إذا واله ذو الشوكة‬
‫مل ميكن عزله إال بفتنة‪ .‬ومىت كان السعي يف عزله مفسدة أعظم من مفسدة بقائه‬
‫مل جيز اإلتيان بأعظم الفسادين لدفع أدنامها‪ .‬وكذلك اإلمام األعظم‪ .‬وهلذا كان‬
‫املشهور من مذهب أهل السنة أهنم ال يرون اخلروج على األئمة وقتاهلم بالسيف وإن‬
‫كان فيهم ظلم»‪ .1‬ويستدل الشيخ رمحه اهلل باألحاديث الصحيحة اآلمرة بالسمع‬
‫والطاعة‪.‬‬
‫يتساءل اليساري والقومي الثوري تساؤله الدائم‪ :‬ملاذا ال يتحول تدينكم‬
‫قوة ثورية فاعلة تقاوم الظلم وتنازل الطغـاة؟ ملاذا تتفيَّؤون ظالل األغنياء األقوياء؟‬
‫بدع العامة اجلاهلني يف املعاصي‬ ‫حنن تساؤال‪ :‬ملاذا تتخصصون يف حماربة َ‬ ‫ونُضيف ُ‬
‫اهلام أمام سدنة البِ َدع؟‬
‫وتنُو َن َ‬
‫الفردية أو االحنرافات الطفيفة ُْ‬
‫اجلواب الذي ال يفهمه اليسـاري الثوري هو أن يف صفوف الدعوة صادقني ُس ّذجا أو‬
‫ات سالطني النفط ومعها «كيفية االستعمال» موصوفةً ٍ‬
‫بيد‬ ‫وصوليني منافقني يتلقون إدرار ِ‬
‫تعظمها مكانتها العلمية تقول‪ :‬إن من غلبهم بالسيف ال جيوز أن يبيت املسلم ليلة دون أن‬

‫‪ 1‬ج‪ 2‬ص‪.87‬‬

‫‪259‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يراه أمرياً للمؤمنني‪ .‬وتقول‪ :‬إن حامل السيف ال جيوز يف مشهور مذهب أهل السنة‬
‫واجلمـاعة اخلروج عن طاعته‪.‬‬
‫ال يفقه الصادق الساذج أن ابن تيمية وعلماء األمة كانوا حيافظون على‬
‫ظَلَ َمتهم ألن أولئك الظلمة كانوا شوكة حامية‪ ،‬ولواء عزيزا منتصـرا‪ ،‬وحامية لوحدة‬
‫املسلمني‪ .‬أما هؤالء الشتات املنهزمون الذيليون فما احلفاظ عليهم إال تفويت لفرص‬
‫الوحدة وإبقاء للفتنة على قواعدها‪ .‬وهلل عاقبة األمور‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫قومة‪ ،‬ال ثورة‬


‫أمساع الدنيا من الشكوى‬ ‫الكويت من َع َجَزٍة ونساء وأطفال َ‬
‫َ‬ ‫الفارون من‬
‫مأل ُّ‬
‫مما تفعله العساكر الصدامية باملسلمني من العذاب الوحشـي الذي يـَْن َدى له جبني‬
‫كردي يف َحلَْب َجةَ باألسلحة الكيماوية‬
‫ٍّ‬ ‫رق مخسـة آالف‬‫فح ُ‬
‫غرو َ‬ ‫اإلنسانية‪ .‬وال ْ‬
‫الرهيبة بأمر الرئيس صدام واسرتخاص دماء مليون مسلم يف احلرب املسعورة ضد‬
‫إيران مدرسة ثورية علمت العساكر العنف الثوري‪ .‬وتزامن العتـُُّو الصدامي مع إفساد‬
‫اليهود يف القدس ومذاحبهم يف أطفال احلجارة‪.‬‬
‫الثورة والعنف الوحشي توأمان‪ .‬نظََّرُها ماركس ولينني وطبقها ستالني وعبد‬
‫خروج‬
‫ٍ‬ ‫الناصر‪ .‬واملسلمون يف توارخيهم يستعملون كلمة «ثورة» للداللة على‬
‫عنيف بغري حق‪ .‬ويف كلمة «ثورة» إحياء بالعجلة والعنف واالضطراب‪ .‬ويستعمل‬
‫مؤِّرخونا كلمة «قومة» لإلخبار عن اخلارجني على الظلمة حبق‪ .‬وكلمة «قومة»‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫موحية بالقوة والثبـات والثقـة‪ .‬لذلك نستعملها متيزا يف االصطالح لنـَْنتَق َد أساليب‬
‫العنف وحرق الناس وب ْقَر بطون النساء وإطفاء السجائر يف عيون بين آدم وما إىل‬
‫ذلك من إفناء الطبقة البائدة وتسليط املخابرات‪.‬‬
‫يرى صاحبنا جارودي أن الثورة على النمط الغريب مل تعد ممكنة‪ ،‬وينتظر من‬
‫اإلسالم أن خيرتع ثورة هلا وجه إنساين تعيد لإلنسانية األمل يف مستقبل غري يائس‬
‫ىن‪ .‬ومن بين جلدتنا الراكضون يف احللبة الثورية املهجورة‬ ‫ً‬ ‫مع‬
‫وتعطي حلياة الناس ْ‬
‫خلف خيال اشرتاكية ماتت‪ ،‬فما مث إال شبحها جيري أمام األخيلة املريضة م ِ‬
‫ضيّاً وال‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يرجعون!‪ .‬وجماراة بليدة‪.‬‬
‫صل حبول اهلل «القومة» بال َللجة يف املعاين القرآنية لكي نراجع ما سبق من فصول‬
‫َنؤ ِّ‬
‫هذا الكتاب ولكي نؤسس ما بني أيدينا منها‪ .‬ونبين نظرنا وتدبرنا على ِ‬
‫حقيقة أن صالح‬

‫‪261‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫صالح آخرة الفرد مرهتن بصالح دنياه مبقتضى‬ ‫َ‬ ‫آخرة الفرد هو الغاية من القومة‪ ،‬وأن‬
‫أن الفقر يكاد يكون كفرا وأن الظلم فتنة عن الدين‪ .‬ونبين على أن صالح دنيا الفرد‬
‫مرهتن بصالح دنيا اجملتمع‪ .‬ونبين على أن مرور الفرد من هذه الدنيا له مغزى ومعىن‬
‫هو االبتالء بالشـر واخلري‪ ،‬والعرض على ِم ِّ ِ‬
‫س ُن َع َمالً﴾‬ ‫ك ﴿ليَبـْلُ َوُك ْم أَيُّ ُك ْم أ ْ‬
‫َح َ‬
‫‪1‬‬
‫َ‬
‫ودار االبتالء هذه الدنيا قاعد ُتا وشرطها التناقض والتدافع والسببية واملسؤولية‪ .‬مث‬
‫االنتقال باملوت‪ ،‬وبعد املوت الدار اآلخرة دار اجلزاء‪ ،‬إما إىل جنة عرضها السماوات‬
‫أعدَّت للكافرين‪ .‬اللهم أجرنا من النار‬ ‫واألرض أو إىل نار وقودها الناس واحلجارة ِ‬
‫َ ُ‬
‫وأدخلنا اجلنة بفضلك‪.‬‬
‫بعد هذا ُنمل مضمون «القومة» ومنهاجها يف سبع نقط أصلها ثابت يف‬
‫لفظ القرآن ومعناه‪ ،‬وتستقي املادة العملية من النموذج النبوي‪ .‬صلى اهلل على حممد‬
‫وآله وصحبه وسلم‪.‬‬
‫تبتدئ بقومة الرسول يف قومه خياطبهم بلسـاهنم على الرفق ال‬ ‫‪ .1‬قومة الداعي ِ‬
‫على العنف‪ .‬وكل داع بعد الرسول مل يبدأ ميسـرا ال معسرا‪ ،‬مبشرا ال منفرا‪ ،‬جامعا‬
‫جلهد الصادقني ال مشتتا فما هو من القوة يف شيء‪ .‬ومن شأن القائم بالدعوة أن‬
‫وتربـَّْوا على ذهنيتها وأُ ْش ِربوا يف قلوهبم‬ ‫تعرتضه عقبة املعارضة ممن ألِ‬
‫ماضي اجلاهلية َ‬
‫َ‬ ‫ا‬‫و‬ ‫ف‬
‫سي الرسل عليهم السالم كما‬ ‫َ‬ ‫من‬ ‫نعرفها‬ ‫ماضية‬ ‫أنانيتها والعبودية للهوى‪ .‬تلك سنة‬
‫ام َع ْب ُد اللَّ ِه يَ ْدعُوهُ‬
‫قال اهلل تعاىل عن عبده حممد صلى اهلل عليه وسلم‪َ ﴿ :‬وأَنَّهُ لَ َّما قَ َ‬
‫ادوا يَ ُكونُو َن َعلَْي ِه لِبَداً﴾‪ 2 .‬جاءت اآلية يف سياق حديث اجلن للجن عن البِعثة‬ ‫َك ُ‬
‫واملبعوث‪ .‬لِبَداً‪ :‬أي متلبِّدين ُمتَمالِئني على املقاومة والعِداء‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة امللك‪ ،‬اآلية ‪.2‬‬


‫‪ 2‬سورة اجلن‪ ،‬اآلية ‪.19‬‬

‫‪262‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ين‬ ‫ِ‬
‫‪ .2‬قومة الشاهد اليت يدعو إليها القرآن الكرمي يف قوله تعاىل‪ُ ﴿ :‬كونُواْ قـََّوام َ‬
‫ين بِال ِْق ْس ِط ُش َه َداء لِلّ ِه﴾‪﴿ ،2‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫للّه ُش َه َداء بالْق ْسط﴾ ‪ُ ﴿ ،‬كونُواْ قـََّوام َ‬
‫‪1‬‬

‫يموا ال َْوْز َن بِال ِْق ْس ِط﴾‪ 4‬قومة‬ ‫‪ِ 3‬‬ ‫ِ‬ ‫ش َه َ ِ‬


‫ادات ِه ْم قَائ ُمو َن﴾ ﴿ َوأَق ُ‬ ‫ين ُهم بِ َ‬ ‫َّ ِ‬
‫َوالذ َ‬
‫اجلور‪ .‬عدليَّةٌ منوذجية ختاطب اإلنسان ِم ْن قِبَ ِل مهومه‬ ‫إلحالل العدل حمل ْ‬
‫العب ِد الرسول أو التابع «املبعوث»‬ ‫حيث ختاطبه دعوة القائم ْ‬ ‫الدنيوية من ُ‬
‫املبلغ من قبَل روحانيته‪.‬‬
‫‪ .3‬قومة إىل الصالة‪ .‬وإقامة الصالة‪ .‬وما أمر اهلل عز وجل بالصالة أو مدح املصلني‬
‫العمود الفقري للدين‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫إال جاءت كلمة اإلقامة‪ .‬فالصالة عماد الدين‪ .‬هي‬
‫وأداؤها يف املسجد واجلماعة أساس البناء النفسـي للمؤمن‪ .‬ال ميكن إعادة ترتيب‬
‫ُس الصحيح دون‬ ‫حياة املسلمني وال تقعيد السياسة واالقتصاد واألخالق على األ ِّ‬
‫إقامة الصالة‪ .‬وإقامتها الوفاء بشروط اإلسالم‪ ،‬واالغتباط بفرائضه‪ ،‬جيد يف ذلك‬
‫املسل ُـم َرْو َحه وراحته‪ ،‬ومرت َكَز أوقاته‪ ،‬وضابط ليله وهناره‪ ،‬وناهيه عن الفحشاء‬
‫واملنكر‪.‬‬
‫‪ .4‬قومة اإلحسان اليت تزيح عن وجه الفطرة وعن صفحة القلب ما علق هبا يف‬
‫ومالحاة اخللق‬‫ب ُ‬ ‫غي الذنْ ِ‬ ‫املاضي وما يعلَ ُق هبا يف املعافسات اليومية من ْ‬
‫َّ ِ َِّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ومغريات الشهوات‪﴿ .‬فَأَقِم وجه َ ِ‬
‫ك للدِّي ِن َحنيفاً فط َْرَة الله التي فَطََر الن َ‬
‫َّاس‬ ‫ْ َ َْ‬
‫ِّين الْ َقيِّ ُم﴾‪.5‬‬ ‫يل لِ َخل ِْق اللَّ ِه َذلِ َ‬
‫ك الد ُ‬
‫ِ‬
‫َعلَيـَْها َل تـَْبد َ‬
‫‪1‬‬
‫سورة املائدة‪ ،‬اآلية ‪.9‬‬
‫‪2‬‬
‫سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.134‬‬
‫‪3‬‬
‫سورة املعارج‪ ،‬اآلية ‪.33‬‬
‫‪4‬‬
‫سورة الرمحن‪ ،‬اآلية ‪.7‬‬
‫‪5‬‬
‫سورة الروم‪ ،‬اآلية ‪.29‬‬

‫‪263‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫إقامة الوجه هلل عز وجل والطلب القليب الدائم‪ ،‬الذكر الدائم‪ ،‬هلل عز وجل واخلضوع‬
‫له ومناجاتُه هي عالئم اكتمال الدين‪ .‬اإلسالم تأسيس لألركان‪ ،‬واإلميان بناء‬
‫وتشييد‪ ،‬واإلحسان هو القبة‪ .‬ومن جمموع اإلسالم واإلميان واإلحسان يتكون‬
‫الدين‪ .‬الدين مراتب ودرجات‪ .‬يا من يستحلي السطحية الثقافية النضالية باسم‬
‫اإلسالم!‬
‫‪ .5‬إقامة حدود اهلل‪ .‬وذلك هو السياج الصائن لبناء الدين‪ .‬ليس معىن إقامة‬
‫احلدود تنزيل العقوبات على الناس يف فراغ من املسؤولية عن هداية الناس‪،‬‬
‫وتربية الناس‪ ،‬وتوفري الضروريات للناس‪ ،‬وتأمني حياهتم‪ .‬إقامة حدود اهلل‬
‫وحفظ البناء عملية ال معىن هلا إال يف سياقها الرتبوي العديل العمراين األخوي‬
‫الراكِعُو َن‬ ‫ْح ِام ُدو َن َّ‬
‫السائِ ُحو َن َّ‬ ‫ِ‬
‫الدالَّة عليه آياته تعاىل‪﴿ :‬التَّائبُو َن ال َْعابِ ُدو َن ال َ‬
‫َّاهو َن َع ِن الْمن َك ِر والْحافِظُو َن لِح ُد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الس ِ‬
‫ود‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫اجدو َن اآلم ُرو َن بِال َْم ْع ُروف َوالن ُ‬ ‫َّ‬
‫اللّ ِه﴾‪.1‬‬
‫‪ .6‬القيام بأمر اهلل‪ .‬قيام الدعوة على الدولة‪ .‬على الشورى ال على العض واجلرب‪ .‬قيام‬
‫خيش ْون اهلل وال خيافون يف اهلل لومة الئم‪ .‬وفيهم‬
‫أويل األمر منا‪ ،‬العلماءُ الذين َ‬
‫يقول املصطفى صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال تزال من أميت أمة قائمة بأمر اهلل‪ ،‬ال‬
‫يضرهم من خذهلم وال من خالفهم حىت يأيتَ أمر اهلل وهم على ذلك»‪ .‬رواه‬
‫الشيخان عن معاوية بن أيب سفيان‪.‬‬
‫‪ .7‬إقامة الوحدة‪ .‬وهي القاعدة الضرورية إلقامة دين الفرد ودين األمة لالنطالق‬
‫يف تبليغ الرسالة الرحيمة للعاملني‪ ،‬تأبيداً مبعوثيا تبليغيا لرسالة األنبياء والرسل‬

‫‪ 1‬سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.113‬‬

‫‪264‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫صى بِ ِه‬
‫ع لَ ُكم ِّم َن الدِّي ِن َما َو َّ‬‫عليهم السالم‪ ،‬وائتِماراً بأمره تعاىل‪َ ﴿ :‬ش َر َ‬
‫ِ‬ ‫ك وما و َّ ِ ِ ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫يسى أَ ْن‬‫وسى َوع َ‬ ‫يم َوُم َ‬ ‫صيـْنَا به إبـَْراه َ‬ ‫نُوحاً َوالذي أ َْو َحيـْنَا إِلَْي َ َ َ َ‬
‫ِّين َوَل تـَتـََف َّرقُوا فِ ِيه﴾‪.1‬‬
‫يموا الد َ‬
‫ِ‬
‫أَق ُ‬
‫هذه مالمح «القومة» كما نقرأها يف كتاب اهلل عز وجل وسنة رسوله صلى‬
‫ليعرف ما يريده اإلسالميون‬
‫َ‬ ‫اهلل عليه وسلم‪ .‬أبـَْرُزها يف عني السياسي الذي يقرأ‬
‫اقب ُيطـئ الفهم إن جتاوز الدعوة إىل‬
‫الشورى والعدل والوحدة‪ .‬لكن هذا املر َ‬
‫اهلل‪ ،‬واإلخبار باآلخرة‪ ،‬واإلميان باهلل وباليوم اآلخر‪ ،‬والصال َة تقام يف املسجد‬
‫احلدود تُ َسيِّ ُج احلِ َمى‪ ،‬والنموذجية الشهادية بني األمم تُعلِ ُن عن‬
‫واجلماعة‪ ،‬و َ‬
‫تديـُّنُه كل‬ ‫الفهم من الَ َ‬
‫يشم ُل َ‬ ‫العمران األخوي‪ ،‬واإلحسا َن يتوج الدين‪ .‬خيطئ َ‬
‫هذه الصاحلات من العقائد والسلوك واألعمال‪ .‬ويقعد ال يستطيع قياما‪ .‬ويثور‬
‫فال تكون قومةً‪.‬‬
‫جند الفهم اجلامع‪ ،‬والقومة الشاملة‪ ،‬عند معلم البشرية حممد صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ .‬وجند عند الصحابة رضي اهلل عنهم التحلِّ َي مبا شاء اهلل من خصال القومة‪،‬‬
‫يف حدود بشريتهم وأخطائهم وذنوهبم اليت يستغفرون منها ويتوبون فيدخلون بالتوبة‬
‫يف سياق ﴿التائبون… الحافظون﴾‪ .‬ويف بشريتهم وذنبهم وتوبتهم وخطإهم لنا‬
‫من الدروس ما يشجع وال يثبط‪ .‬فإن جئنا مبثالية نظرية للقومة غائبني عن الواقع‬
‫املمانع وعن النقص فينا فلن تكون قومة‪ ،‬والقومة جمهود‪ ،‬القومة مراحل‪ ،‬القومة‬
‫مهمة أجيال‪.‬‬
‫كنا قرأنا يف الفقرة الفارطة عن االستنقاع باسم السلفية‪ ،‬ويف ركاب التيمية‬
‫أخف ما‬
‫النفطية‪ ،‬يف تبديع املسلمني لتثبيت عرش السالطني‪ .‬وتلك قعدة ليست َّ‬
‫يرتبص بالقومة اإلسالمية‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة الشورى‪ ،‬اآلية ‪.11‬‬

‫‪265‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫املوقف مغايرا‪ .‬إهنم املتصوفة‬
‫ُ‬ ‫ونقرأ هنا عن قاعدين هلم نفس املنطق وإن كان‬
‫اهلاربون من الدنيا‪ ،‬اخلائفون على ضياع العقيدة كما خياف ابن تيمية‪ ،‬املساملون‬
‫للغالب بالسيف كما يسامل‪.‬‬
‫قال اإلمام الغزايل رمحه اهلل‪« :‬فالذي نراه أن اخلالفة منعقـدة للمتكفـل هبا‬
‫من بين العباس رضي اهلل عنه‪ .‬وأن ال ِوالية نافـذة للسالطني يف أقطار البالد‪]...[ .‬‬
‫ت رأس املال يف‬ ‫قضينا ببطالن ال ِواليات اآلن لبطلت املصاحل رأسا‪ .‬فكيف يُ َّ‬
‫فو ُ‬ ‫ولو َ‬
‫طلب الربح؟ بل ال ِوالية اآلن ال تتبع إال الشوكة‪ .‬فمن بايعه صاحب الشوكة فهو‬
‫‪1‬‬
‫اخلليفة»‪.‬‬
‫أين من يبايعه املسلمون باختيارهم؟ بل أين «مجاعة املسلمني» القائمة بأمر‬
‫اهلل؟ ِلَ مبايعة الظاملني؟‬
‫أجاب اإلمام ِض ْمناً‪ ،‬وأعرض عن املشكلة تصرحيـا عندما فصل أمر املخالفني‬
‫ألمر اهلل سبحانه إىل خمالفني يف «العقد» (نقول اليوم‪ :‬العقيدة) وإىل خمالفني يف‬
‫املتطهر بالظَّلَ َمة العاصني ليدفع عن األمة خطر‬
‫رض ِّ‬ ‫ضى ال ُـم ْع ِ‬ ‫العمل‪ .‬فهو يرضى ِر َ‬
‫الزندقة والباطنية‪ .‬قال رمحه اهلل‪« :‬ما يتضرر به الناس كالظلم والغضب وشهادة الزور‬
‫االنقباض عن معاملتهم‬
‫ُ‬ ‫اض عنهم وتـَْرُك خمالطتِهم و‬
‫والغيبة والنميمة‪ ،‬فهؤالء األ َْوَل اإلعر ُ‬
‫‪2‬‬
‫اض عنهم مؤكد جدا»‪.‬‬ ‫[‪ .]...‬واإلعر ُ‬
‫هكذا يعترب إمام عظيم من أئمة املسلمني الظل َـم معصيةً من املعاصي يف‬
‫حجم الغيبة والنميمة‪ .‬وهكذا تقلد األجيال الناظرة يف كتب األقدمني مواقف‬

‫‪ 1‬اإلحياء ج‪ 2‬ص‪.124‬‬
‫‪ 2‬اإلحياء ج‪ 2‬ص‪.149‬‬

‫‪266‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أمالها هم ثقيل محله رجال عظماء كشيخ اإلسالم ابن تيمية وحجة اإلسالم الغزايل‬
‫رمحهم اهلل‪ .‬والقومة من التقليد ال ُـم ْغ َمض‪ ،‬وإزاحةُ هيمنة النص املوروث ما دون قال‬
‫اهلل وقال رسول اهلل أولوية من أولويات القومة‪ .‬خاصة فيما يرجع للحكم‪ .‬واهلل‬
‫أحكم احلاكمني ال رب غريه‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫الوَالية اجلامعة‬
‫«الوالية اآلن ال تتبع إال الشوكة»‪ .‬هبذه العبارة قدم لك الغـزايل عذره وأوضح‬
‫لك سبب إعراضه عن تلك العقبة اليت زرعها القدر يف ذلك اآلن‪ .‬ظروف ال قِبَ َل‬
‫تقيس ما ال يُقاس؟‬ ‫ل‬‫لعلمائنا مبقاومة اجتاهها‪« .‬اآلن»‪ .‬وأنت يف آنك ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ويكتب لك ابن تيمية وصفا حلدود قدرته يف زمانه وظروفه فيقول يف «السياسة‬
‫الشرعية»‪« :‬ومن كان عاجزا عن إقامة الدين بالسلطـان واجلهاد ففعل ما يقدر عليه‬
‫ف‬‫من النصيحة بقلبه والدعاء لألمة وحمبة اخلري وفعل ما يقدر عليه من اخلري مل يُ َكلَّ ْ‬
‫ما يعجز عنه»‪.‬‬
‫وأنت يا أخي ِلَ تقعد وليس لألمة شوكة عزيزة‪ ،‬وذوو السلطـان يف عصرك‬
‫خي ِرمون وحدة األمة ال جيمعون؟‬
‫هل أنت معنا ومع احلديث املنهاجي الذي بشرنا باخلالفة الثانية بعد عهود‬
‫العض واجلرب؟ إن تكن نسيت هذا احلديث العظيم فارجع إىل فاحتة الكتاب‪.‬‬
‫إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خلّف لنا رسالة واضحة حافزة على‬
‫القومة‪ ،‬وبرناجما ومثاال حيا من فعله وفعل خلفائه الراشدين‪ .‬هو‪ ،‬بأيب وأمي‪ ،‬أمامنا‬
‫األمم ويكاثر‪« .‬أنا فـََرطُكم على الحوض» حديث‬ ‫ِ‬
‫نرد عليه ليُفاخَر بنا َ‬
‫ينتظر أن َ‬
‫رواه الشيخان عن جندب بن عبد اهلل‪ .‬واحلوض يُسقى منه املسلمون السعداء عند‬
‫ابان من اجلنة‪ .‬على رأس الدرب‪ ،‬هناك يف مستقبلنا‬ ‫مداخل اجلنة يشخب فيه ِميز ِ‬
‫ُ ُ‬
‫ِ‬
‫األبدي‪ ،‬منادي اهلل‪ ،‬داعيه الذي قام يدعو إليه‪ .‬واألمة اجملاهدة إن ألقت نظرة على‬
‫ِّ‬

‫‪268‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ِّم آلخرته كل فرد مقيم‬
‫املاضي التارخيي لتلك القومة إمنا تفعل لالعتبار لكي يُقد َ‬
‫للصالة قائم بالقسط عمال صاحلا جيده بني يديه يف املوقف عند احلوض‪.‬‬
‫ث يف املاضي يا أخا اإلسالم وتتبع طُري ِ‬
‫قات علماءَ أجالَّءَ حبسهم‬ ‫ِ‬
‫َُ ْ‬ ‫فل َم تلبَ ُ‬
‫اآل ُن و«عجز الطالب» عن النهوض لِما َل يكن َ‬
‫القد ُر وقَّته؟‬
‫القومة املطلوبة ال ينهض هلا املشتغل مبعاصي العباد يقاتلها قبل أن يـَُعلِّ َم‪،‬‬
‫ط مبحبة‬ ‫عرض يف زاويته عن العامل‪ ،‬املغتب ُ‬ ‫ِ‬
‫يهد ُم وال يبين‪ .‬وال ينهض هلا املنعزل ال ُـم ُ‬
‫طائفته‪ ،‬يتعلل بصحبته املنغلقة عن مواجهة مرائر اجلهاد‪.‬‬
‫القومة على منهاج النبوة تريد تضافرا مجاعيا على اجلهاد‪ ،‬تريد توحيدا للجهود‪،‬‬
‫وتناصرا‪ ،‬وتفاعال من قريب مع الواقع‪ ،‬وقوة وتدبريا وفعال مقتدرا‪ .‬وهذا ما تدل‬
‫الوالية بني املؤمنني واجبة‪ ،‬وهي اللحام‬ ‫عليه كلمة والية بفتح الواو وكسرها‪ .‬و َ‬
‫الكلي اجلامع لوحدة املؤمنني حاملي الرسالة املخاطبني بالقرآن املتآمرين باملعروف‬
‫غريهم الناهني‪ ،‬القائمني على تنفيذ املعروف وإحقاق‬ ‫املتناهني عنه‪ ،‬اآلمرين به َ‬
‫احلق بعد دحض الباطل وإزهاق املنكـر‪ .‬ذلك أمر اهلل عز وجل أنزله إلينا يف قوله‪:‬‬
‫ض يأْمرو َن بِالْمعر ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿ َوال ُْم ْؤِمنُو َن َوال ُْم ْؤِمنَ ُ‬
‫وف َويـَنـَْه ْو َن َع ِن‬ ‫َ ُْ‬ ‫ض ُه ْم أ َْوليَاء بـَْع ٍ َ ُ ُ‬ ‫ات بـَْع ُ‬
‫ك َسيـَْر َح ُم ُه ُم‬ ‫الزَكا َة َويُ ِطيعُو َن اللّهَ َوَر ُسولَهُ أ ُْولَـئِ َ‬
‫الصالَ َة َويـُْؤتُو َن َّ‬
‫يمو َن َّ‬ ‫ِ‬
‫ال ُْمن َك ِر َويُق ُ‬
‫ِ‬
‫يم﴾‪.1‬‬ ‫اللّهُ إِ َّن اللّهَ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫وقسم الوطنية‬‫التوحيد باالقتصاد وال بالقوة وال بالقومية وال بقانون الدستور َ‬
‫ُ‬ ‫ال‬
‫الوالية هي اللحمة اجلامعة‪ ،‬هي القاعدة العاطفية اإلميانية‬
‫يستجيب للمعيار القرآين‪ .‬بل َ‬

‫‪ 1‬سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.72‬‬

‫‪269‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ض ُهم‬ ‫ات بـَْع ُ‬ ‫العملية للعمران األخوي‪ .‬وهبا التمايُز عن الغري‪﴿ .‬ال ُْمنَافِ ُقو َن َوال ُْمنَافِ َق ُ‬
‫ض﴾‪ .1‬وصفاهتم يف َواليتهم نقيض صفات املؤمنني‪ ،‬فهم ﴿يَأ ُْم ُرو َن بِال ُْمن َك ِر‬ ‫ِّمن بـَْع ٍ‬
‫سواْ اللّهَ فـَنَ ِسيـَُه ْم﴾‪.2‬‬ ‫وف ويـ ْقبِ ُ ِ‬‫ِ‬
‫ضو َن أَيْديـَُه ْم نَ ُ‬ ‫َويـَنـَْه ْو َن َع ِن ال َْم ْع ُر َ َ‬
‫بالوالية بني املؤمنني يتصل حبل املؤمنني مجاعةً حببل اهلل عز وجل‪ ،‬فيكو ُن‬ ‫َ‬
‫القوي العزيز سبحانه هلم نصريا‪ ،‬ويكونون أحبته يف األرض حيبون فيه ويعادون فيه‪.‬‬
‫ف يَأْتِي اللّهُ بَِق ْوٍم يُ ِحبـُُّه ْم‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫آمنُواْ َمن يـَْرتَ َّد من ُك ْم َعن دينه فَ َ‬
‫س ْو َ‬ ‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫﴿يَا أَيـَُّها الذ َ‬
‫يل اللّ ِه َوالَ‬ ‫اه ُدو َن فِي َسبِ ِ‬ ‫وي ِحبُّونَه أ َِذلَّ ٍة علَى الْم ْؤِمنِين أ ِ‬
‫َع َّزٍة َعلَى الْ َكافِ ِرين يج ِ‬
‫َ َُ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َُ ُ‬
‫َّخ ُذوا َع ُد ِّوي َو َع ُد َّوُك ْم أ َْولِيَاء‬
‫ي َخافُو َن لَومةَ آلئِ ٍم﴾‪﴿ .3‬يا أَيـُّها الَّ ِذين آمنُوا َل تـت ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫تـُْل ُقو َن إِلَْي ِهم بِال َْم َود َِّة﴾‪.4‬‬

‫‪-‬وروحها حب اهلل واحلب يف اهلل والبغض يف اهلل‪ -‬نوع من‬


‫ُ‬ ‫بالوالية‬
‫اإلخالل َ‬
‫الردة‪ .‬ارتكاس واحنالل‪ .‬عالمته أن يكون املرء ذليال على الكافرين مستخذيا هلم‪،‬‬
‫عزيزا على املؤمنني جبارا عليهم‪.‬‬

‫مفهوم‬
‫وفيما بني العباد وبني رهبم من عالقات‪ ،‬وفيما بني بعضهم وبعض‪ ،‬يأيت ُ‬
‫فالوالية بني املؤمنني ليست من قبيل‬
‫الوالية ليُميز فـَْر َق ما جيمع املؤمنني وما يضم غريهم‪َ .‬‬
‫َ‬
‫إضافة سياسية أو قرابة نَ َسبِية تـُْل ِحق هؤالء بأولئك‪ .‬بل هي ُلمةٌ ع َقدية وروح سارية‬

‫‪1‬‬
‫سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.67‬‬
‫‪2‬‬
‫سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.67‬‬
‫‪3‬‬
‫سورة املائدة‪ ،‬اآلية ‪.56‬‬
‫‪4‬‬
‫سورة املمتحنة‪ ،‬اآلية األوىل‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ِّق‬
‫الوالية يف كيانه القليب‪ ،‬يصد ُ‬
‫وتناصر واجب‪ .‬ال يتم إميان أحد بدون تغلغل هذه َ‬
‫الفعل واملشاركةُ وااللتزام اجلهادي بالنفس واملال‪.‬‬
‫التغلغل ُ‬
‫َ‬ ‫هذا‬
‫الوالية‪ ،‬بفتح الواو وكسرها‪ ،‬تشمل معاين احملبة والقرب‬
‫قال أهل اللغة‪َ :‬‬
‫اج رمحه اهلل‬
‫الز ّج ُ‬
‫والنصرة والتدبري والقدرة والفعل والصداقة واالعتقاد‪ .‬واختار َّ‬
‫وفتحها للداللة على النصرة والنسب‪.‬‬
‫ختصيص كسر الواو للداللة على اإلمرة‪َ ،‬‬
‫وبفتح الواو قرأ نافع‪ .‬وجاءت كلمة «والية» يف موضعني من كتاب اهلل جل وعال‪.‬‬
‫َب السلف الصاحل على استعمال لفظ « ِوالية» بكسـر الواو لوصف العباد‬
‫َدأ َ‬
‫الذين خصهم رهبم برمحة منه فاختذهم أولياءَ أحبابا م َقَّربني سابقني‪ .‬ومن الناس‬
‫يل إال بال ِوالية العامة اليت هبا يتوىل اهلل‬ ‫من يعتقد أن ال خصوصية هنالك‪ ،‬وأن ال َو َّ‬
‫املتقني‪ .‬ويقرأ قوله تعاىل‪﴿ :‬أَال إِ َّن أ َْولِيَاء اللّ ِه الَ َخ ْو ٌ‬
‫ف َعلَْي ِه ْم َوالَ ُه ْم يَ ْح َزنُو َن‬
‫آمنُواْ َوَكانُواْ يـَتـَُّقو َن﴾‪.1‬‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َ‬
‫الذ َ‬
‫ويل اهلل كما عرفه احملدث احلافظ ابن حجر رمحه اهلل هو «العامل باهلل تعاىل‪،‬‬
‫ُّ‬
‫اظب على طاعته‪ ،‬املخلص يف عبادته»‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫ال ُـمو ُ‬
‫والفقيه احملدث املشارك الشوكاين رمحه اهلل يبين على هذا التعريف املتحفظ‬
‫املعم ِم‪ ،‬مث يرتفع رويدا رويدا حىت يصل إىل مقارنة الويل بغري الويل كما يلي‪« :‬وليس‬
‫ِّ‬
‫ملن كان بالنسبة إليهم (إىل األولياء) كالبهيمة بالنسبة لإلنسان‪ ،‬أو اإلنسان بالنسبة‬
‫‪2‬‬
‫إىل املالئكة‪ ،‬أن يـُْن ِكَر عليهم شيئا ال خيالف الشريعة»‪.‬‬
‫‪ 1‬يونس‪ ،‬اآليتان ‪.63-62‬‬
‫‪ 2‬كتاب «قطر الويل على حديث الويل» ص‪.430‬‬

‫‪271‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫كان لإلمام الشوكاين رمحه اهلل مشَّةٌ من الصوفية‪ ،‬فهو يقاوم من وراء الفقيه‬
‫احملدث‪ ،‬ومن وراء النصوص‪ ،‬املنكرين على األولياء‪ .‬ومل يدخل رمحه اهلل يف املعركة‬
‫احلامية اليت خاضها من قبله ابن اجلوزي بِتـََق ُّح ٍم وابن تيمية مبا يشبه اإلنصاف‪ .‬رحم‬
‫اهلل اجلميع‪.‬‬
‫خرجنا عن املوضوع! كال‪ ،‬بل ما كِدنا ندخل فيه! فإن قضية قرب العبد من‬
‫ربه‪ ،‬وتقربه إليه بالفرض والنفل‪ ،‬هي بـُْغيَةُ ذوي اهلمم العالية‪ .‬ووجود هؤالء الربانيني‬
‫الضروري للطعام‪ ،‬واهلواء املانح للحياة‪ .‬فإن غاب عن‬ ‫ُّ‬ ‫بني ظهراين األمة هو املِْل ُح‬
‫مهم املؤمنني طلب وجه اهلل‪ ،‬وإرادة وجه اهلل‪ ،‬وتعلق القلب الدائم باهلل‪ ،‬فما سعيهم‬
‫وع ْقد يوشك أن تنتثِر َخَرزاته‪.‬‬
‫ض حلقاته‪ِ ،‬‬ ‫سعي يوشك أن تـَُف َّ‬ ‫يف الدنيا إال ٌ‬
‫ف الشاك‬ ‫أكرب ما يعانون‪ ،‬التوقّ َ‬
‫يعاين اإلسالميون اليوم ممّا يعانون‪ ،‬بل َ‬
‫املسرتيب املرتدد يف مسألة الوالية اخلاصة والسلوك والتصوف والكرامات وما جيري‬
‫حول املوضوع من خالفات‪ .‬وقد مات الشيخ سعيد حوى رمحه هلل بعد أن راجع‬
‫دروس‬ ‫غين باملبادرات يف حقل الدعوة‪،‬‬ ‫قلق ٍّ‬‫يف آخر حياته‪ ،‬بعد عم ٍر خصب ٍ‬
‫َ‬
‫فأوَدع يف آخر ما كتب الوصيةَ ال ُـملحةَ‪ ،‬يعرب عنها‬ ‫جتربته ومنعرجات سلوكه‪ْ ،‬‬
‫قلمه وقلبه وختوفه على الدعوة‪ ،‬بالعودة إىل املنابع‪ .‬واملنبع يف نظره جتربة اإلمام‬
‫حسن البنا رمحه اهلل الذي اعرتف يف مذكراته بأن ما معه من فضل يرجع إىل لقائه‬
‫ب سعيد رمحه اهلل إنشاءُ مدرسة لتخريج الربانيني‪.‬‬ ‫بالصوفية وتلمذته هلم‪ .‬ومطلَ ُ‬
‫املوج َه ِة حبدة وعنف لكلمة «صوفية»‪ .‬كلمة‬ ‫وكأنه اقتحم جدار ال َـم َدافِ ِع السلفية َّ‬
‫كتاب‬
‫توازي عند بعضهم الكفر والزندقة والضالل قبل أية مناقشة‪ .‬ز ُاد َك يا هذا ُ‬
‫فأن تتَعلم لتعلم!‬
‫سال‪َّ ،‬‬ ‫مثَالِب‪ ،‬وقلبك ٍ‬
‫َ‬

‫‪272‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ال أحب أن أطيل هنا يف املوضوع‪ .‬وقد كتبت حبمد اهلل كتاب «اإلحسان»‬
‫تطارح عبد مذنب على أبواب الكرم اإلهلي‪.‬‬
‫ضمنته زبدة مخس وعشرين سنة من ُ‬
‫فهي شهادة هناك ألهلها‪ .‬يا من قلبُه يعرف الشوق إىل مواله!‬
‫الوالية بني املؤمنني‪﴿ .‬يُ ِحبـُُّه ْم َويُ ِحبُّونَهُ﴾ شرط يف قدر‬ ‫وأرجع لإلميان و َ‬
‫العباد املؤمنني على جتاوز أنانياهتم املفرقة‪ ،‬وجتاوز حبهم للهوى والشهوة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ليكونوا ﴿أ َِذلَّ ٍة َعلَى الْم ْؤِمنِ ِ ٍ‬
‫ين﴾‪ .‬وتلك صفة أصحاب‬ ‫ين أَع َّزة َعلَى الْ َكاف ِر َ‬
‫ُ َ‬
‫حممد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وصفهم الرب العلي بأهنم ﴿أ ِ‬
‫َش َّداء َعلَى الْ ُك َّفا ِر‬
‫ُر َح َماء بـَيـْنـَُه ْم﴾‪.‬‬
‫نصف احلالوة‬
‫ُ‬ ‫فاتم‬
‫وجد السادة الصوفية حالوة احلب يف اهلل فقد َ‬ ‫إن َ‬
‫غريهم ما عرف حق‬
‫إلعراضهم عن الدنيا وأبناء الدنيا فلم يبغضوا يف اهلل‪ .‬على أن َ‬
‫الو ْج ُد ببعضهم إىل بعض الشطط‬
‫وجدوا‪ .‬وإن ذهب َ‬ ‫احملبة كما عرفوا‪ ،‬وما َوجد كما َ‬
‫فعاصمنا من املزالق شرع اهلل الذي عليه املعول‪.‬‬
‫وجد بهن طعم اإليمان‪:‬‬ ‫«ثالث من ُكن فيه َ‬
‫ٌ‬ ‫وشرع اهلل قال بلسان احلبيب‪:‬‬
‫أحب إليه مما سواهما‪ .‬ومن أحب عبدا ال يحبه إال هلل‪ .‬ومن‬ ‫من كان اهلل ورسولُه َّ‬
‫يعود في الكفر بعد أن أنقذه اهلل منه كما يكره أن يُلقى في النار»‪ .‬رواه‬
‫يكره أن َ‬
‫الشيخان والرتمذي والنسائي عن أنس رضي اهلل عنه مرفوعا‪.‬‬
‫وشرع اهلل يقول بلسان أحب اخللق إىل اهلل حممد احملبوب صلى اهلل عليه‬
‫وولده والناس أمجعني»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وسلم‪« :‬ال يؤمن أحدكم حىت أكو َن أحب إليه من والده َ‬
‫رواه الشيخان والنسائي عن أنس رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫‪273‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وحتجٌر فذلك لنُضوب معني اإلميان وانسداد‬ ‫جفاف ُّ‬
‫ٌ‬ ‫إذا كان يف القلوب‬
‫منابع الرمحة عنها‪ .‬وكيف يدعي اإلميان من يتشكك يف كل من يتحدث عن‬
‫آمنُواْ يُ ْخ ِر ُج ُهم ِّم َن‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ين َ‬
‫حب اهلل ورسوله؟ أال ساء ما حيكمون‪﴿ .‬اللّهُ َول ُّي الذ َ‬
‫الظُّلُم ِ‬
‫ات إِلَى النـُُّو ِر﴾ ‪.1‬‬ ‫َ‬

‫‪ 1‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.256‬‬

‫‪274‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫«مجاعة املسلمني»‬
‫وهل مع الصوفية من درس يُستفاد عافاك اهلل! جييب الغريب‪ :‬وهل من درس‬
‫الكتاب و ِ‬
‫السنة؟‬ ‫ِ‬ ‫بعد علماء احلديث وعلماء األصول والفقه ُيتاج إليه مع كفايتنا‪:‬‬
‫بأن اجتهادات احملدث واألصويل والفقيه ضرورة فأىن له أن‬ ‫ولئن اقتنع املكابر َّ‬
‫يقتنع بأن الصوفية جمتهدون يف الدين‪ ،‬يف لب الدين وجوهره‪ .‬ذلك أن الناظر بعقله‬
‫ص ُل معرفة األحكام والعِلل‪ ،‬يكفيه التدقيق النظري‬ ‫يف أحد العلوم النقلية أو العقلية ُيَ ِّ‬
‫واملقارنة بني النصوص‪ .‬أما الناظر يف كتب الصوفية فيجد وصفا ألعمال وأحوال‬
‫حيص ُل من قراءته على كبري شيء إال أن يتحرك فيه ما حترك‬ ‫اجد ونتائج‪ ،‬ال ُ‬ ‫ومو َ‬
‫وتصد َق توبتُه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫وتشتد َح ْوبـَتُه‪،‬‬ ‫وتنقلب دولته‪،‬‬
‫َ‬ ‫فينهض كما هنضوا‪،‬‬‫َ‬ ‫يف الواصفني‬
‫وي ِر َق الشوق أحشاءَه حىت يسلُك كما سلكوا‪َ ،‬‬
‫ويقف بباب‬ ‫النوم جفنيه‪ُْ ،‬‬
‫ويهجَر ُ‬‫ُ‬
‫أسه كما وقفوا‪.‬‬ ‫اهلل منكوسا ر ُ‬
‫حديث الصوفية عن السلوك واملقامات ليس علما حيصله العقل‪ ،‬لكنه عمل‬
‫وترناتُه إىل الزحلقة فالتأرجح‬ ‫يبدأ من حركة القلب‪ .‬والقلب تذهب به مواجده ُّ‬
‫الشرعي‪ .‬لذلك جيد‬
‫ِّ‬ ‫اقب للميزان‬ ‫فالتدحرج يف التهوميات إن مل ُيسك توازنَه ُ‬
‫العقل املر ُ‬ ‫ُ‬
‫السكارى‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫بكالم‬ ‫أشبه‬ ‫كالما‬ ‫الشوق‬ ‫يف‬ ‫اهلائمون‬ ‫ه‬‫كابد‬
‫ّ ُ ُ‬‫ي‬ ‫مما‬ ‫اخللي‬ ‫الصاحي‬ ‫الناقد‬
‫ِ‬
‫ويت عن فالن‪ ،‬وخلرافية العامة‬ ‫جلده ويكفُِّر الطائفة مجيعا ملقالة ُر ْ‬‫فينفُر ويقشعُِّر ُ‬
‫ـني ْثوَب زور اسم الصوفية‪.‬‬ ‫وخزعبالت املشعوذين الالبِس َ‬
‫أجيال‬
‫وبعد فهي طرائق جانبية سلكها تقرباً إىل املوىل الواسع املغفرة سبحانه ٌ‬ ‫ُ‬
‫ي عنها بِساط احملجة اجلهادية اجلامعة اليت سلكها حممد صلى اهلل عليه‬ ‫خلت‪ ،‬طُ ِو َ‬
‫‪275‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ت‬‫فج ضيق يف زماننا وما بعده وقد بَ َسطَ ْ‬ ‫وسلم وأصحابه‪ .‬فال أدعوك أخي لسلوك ٍّ‬
‫لنا قدرة العزيز احلكيم األمل يف القومة إىل اخلالفة الثانية‪ ،‬يَ ُكو ُن اجلهاد لتحقيقها‪،‬‬
‫النبوي السائر على‬
‫َّ‬ ‫املنهاج‬
‫َ‬ ‫ط بتحقيق العبودية‪ ،‬وبشرط الصحبة والذكر‪،‬‬ ‫املرتب ُ‬
‫خطى خري نيب وخري «مبعوثني» أخرجوا للناس‪ .‬وما خلَّفه لنا السادة الصوفية‬
‫وصف ال يتقد لقراءته رماد اهلمم اهلامدة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫س‬
‫التعايش بني فصائل اإلسالميني أهل الصدق واإلميان ينبغي أن َتؤ َّس َ‬
‫ينتصب بعض‬ ‫َ‬ ‫الوالية الواجبة بني املؤمنني بشرط أن ال‬ ‫وده وعهوده على َ‬ ‫عُ ُق ُ‬
‫املؤمنني ويف يده سوءُ ظنه بالناس يتخذه مقرعة حيشر هبا املسلمني يف قفص‬
‫أت يف هذا العصر‬ ‫االهتام‪ ،‬كل من ال يقول مقالته فهو زائغ العقيدة‪ .‬وقد قر ُ‬
‫البِرتويل كتاب دكتور خيرج األشاعرة مجيعا من حظرية أهل السنة واجلماعة ليبقى‬
‫وحده وطائفتُه من املهتدين‪.‬‬
‫ِ‬
‫أنصاف‬ ‫َّ‬
‫إن ذات البـَْي احلال َقةَ للدين تشتعل أحيانا َح ْرباً ضروسا بني الدعاة‬
‫الوالية الواجبة والتعاون‬‫وحشد املؤمنني حتت لواء َ‬
‫ُ‬ ‫مجع اجلهود‬ ‫املتعلمني‪ .‬فإن كان ُ‬
‫الضيّقني وإدخا َلم يف الصف يف جبهة‬ ‫على الرب والتقوى أمرا ضروريا فإن تقدمي ّ‬
‫دل الذي‬ ‫إسالمية يراد هلا اقتحام العقبات هلو التثبيط للعزائم والتهييء ملستقبل اجل ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ال ينتهي‪.‬‬
‫العناصر الصاحلة للدخول يف رابطة جامعة هم املؤمنون املتمتعون مبغناطيسية‬
‫احملبة اليت جتلُب وتيسر وحتبب‪ .‬وبذلك أمرنا احلبيب صلى اهلل عليه وسلم حني قال‪:‬‬
‫«والذي نفسي بيده‪ ،‬ال تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا‪ ،‬وال تؤمنوا حتى تحابوا‪ .‬أال‬
‫السالم بينكم»‪ .‬أخرجه مسلم وأبو‬
‫َ‬ ‫تحاببتُم؟ أفشوا‬
‫أدلكم على شيء إذا فعلتموه ْ‬
‫داود والرتمذي عن أيب هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫هنالِك جتمعات من الشباب اإلسالميني ممن يبدأ معركة التصويب مع نفسه‪،‬‬
‫مكتملو الرجولة من أهل احلِنكة والتجربة والكفاءة‪ ،‬هنالِك دعاة‬
‫هنالك مؤمنون ِ‬
‫واسعو األفق واالطالع على تاريخ املسلمني وحاضر العامل‪ ،‬هنالك تقاةٌ ُمتحرجون‬
‫خائفون أن ميوتوا وليس يف عنقهم بيعة فيموتوا ميتة جاهلية‪ .‬هؤالء ينبغي أن يتألفوا‬
‫لرتسم‬ ‫ِ‬
‫عرب عن اآلمال املكبوتة و ُ‬ ‫يف كل قطر يف رابطة إسالمية تتقدم إىل األمة لتُ َ‬
‫اجتماعي حول ال إله إال اهلل حممد‬
‫ٍّ‬ ‫خط املستقبل اإلسالمي‪ ،‬ولتكون النواة لتماسك‬
‫رسول اهلل‪ ،‬مبقتضى الشهادة بالقسط على األخوة والتسامح واألمر باملعروف والنهي‬
‫عن املنكر‪.‬‬
‫«مجاعة املسلمني» اليت من خرج عنها خلع ربقة اإلسالم من عنقه ليست هذا‬
‫ع أو ذاك من هذه الفروع املباركة املنتظمة يف مجاعات عاملة جماهدة‪ .‬بل هي‬ ‫الفر َ‬
‫يقرب من املطلوب شرعا كلما كان أقرب إىل توحيد األمة يف القطر‪،‬‬ ‫تكوين مجاعي ُ‬
‫مجع األمة على‬
‫مث توحيدها يف األرض‪ .‬إن كانت نيةُ هذه الفروع املرتابطة املتعاقدة َ‬
‫الصفاء والقوة فهي‪ ،‬على تنوعها‪ ،‬حاملة ملعىن «مجاعة املسلمني»‪ ،‬يكون الدخول‬
‫فيها هجرة‪ ،‬ويكون التعاهد معها ِع َوضا عن البـَْيعة املنجيَ ِة‪ .‬وإن بعض اجلماعات‬
‫كلمة مو ٍ‬
‫افقة و«التزام» ينطق هبا الداخل‪ .‬وما البيعة‬ ‫أول ِ‬ ‫فتس ِّمي بيعةً َ‬
‫ُ‬ ‫تستبق املراحل َ‬
‫حقا وشرعا إال بيعة خمتـار األمة حني جتتمع وتتوحد وتكون هلا دولة واحدة‪.‬‬
‫اليات خاصة‬
‫تنطوي َو ٌ‬
‫َ‬ ‫الوالية العامة الواجب بني املؤمنني ميكن أن‬
‫حتت لواء َ‬
‫متعددة‪ .‬ال مانع من ذلك شرعا‪ .‬وقد كان بني املهاجرين واألنصار رضي اهلل عنهم‬
‫الوالية اخلـاصة اليت تـُْف ِردهم من املؤمنني الذين مل يهاجروا‪ .‬وميكن أن نقيس‬
‫هذه َ‬
‫ط‬
‫على ذلك «هجرة» اإلسالميني إىل هذه اجلماعة أو تلك‪ ،‬تربط املرءَ جلماعته رواب ُ‬

‫‪277‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الوالية‬‫خاصة‪ .‬ال تكون هذه الروابط قادحة يف أهليته‪ ،‬بل بالعكس‪ ،‬إن كانت هذه َ‬
‫الوالية العامة وال متنعه من التعاون الواجب‪.‬‬ ‫حتجب عنه َ‬ ‫اخلاصة ال ُ‬
‫اه ُدواْ بِأ َْم َوالِ ِه ْم َوأَن ُف ِس ِه ْم فِي‬
‫اج ُرواْ َو َج َ‬‫آمنُواْ َو َه َ‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن الذ َ‬
‫ض﴾‪.1‬‬ ‫ض ُه ْم أ َْولِيَاء بـَْع ٍ‬
‫ك بـَْع ُ‬ ‫ص ُرواْ أ ُْولَـئِ َ‬
‫آوواْ َّونَ َ‬
‫ين َ‬
‫سبِ ِ ِ َّ ِ‬
‫يل اللّه َوالذ َ‬ ‫َ‬
‫آمنُواْ َولَ ْم‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َ‬‫هذه َوالية خاصة خيرج منها من قال اهلل عز وجل فيهم‪﴿ :‬وَالذ َ‬
‫اج ُروا﴾‪.1‬‬ ‫اجرواْ ما لَ ُكم ِّمن والَيتِ ِهم ِّمن َشي ٍء حتَّى يـ َه ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ َ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫يـَُه ُ َ‬
‫الوالية سا ٍر بني كل املؤمنني مبقتضى‬ ‫ال تناقض يف كتاب اهلل عز وجل‪ .‬فعموم َ‬
‫ض‬ ‫ض ُه ْم أ َْولِيَاء بـَْع ٍ‬ ‫قوله تعاىل‪ ،‬وبشرط قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وال ُْم ْؤِمنُو َن َوال ُْم ْؤِمنَ ُ‬
‫ات بـَْع ُ‬
‫الزَكاةَ َويُ ِطيعُو َن‬
‫الصالَةَ َويـُْؤتُو َن َّ‬
‫يمو َن َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يَأ ُْم ُرو َن بال َْم ْع ُروف َويـَنـَْه ْو َن َع ِن ال ُْمن َك ِر َويُق ُ‬
‫اللّهَ َوَر ُسولَهُ﴾‪.2‬‬

‫للوالية‬
‫ما كفاهم األمر باملعروف والنهي عن املنكر وسائر الشروط للتأهل َ‬
‫الوالية‬
‫اخلاصة اليت َش ْرطُها اهلجرة والنصـرة‪ .‬وال أخرجت اهلجرةُ والنصرةُ أهلها من َ‬
‫العامة الواجبة‪.‬‬
‫قياسا على هذا ميكن‪ ،‬بل يُطلَب ويتأكد‪ ،‬أن تتألف يف القطر رابطة عامة‬
‫الوالية العامة اجلماعات املرتابطة باهلجرة والتنظيم‪ ،‬والشخصيات‬
‫توحد على َ‬
‫احملنكة من األتقياء الصاحلني‪ .‬تكو ُن هذه الرابطـة وجهَ الدعوة يف امليدان‬

‫‪ 1‬سورة األنفال‪ ،‬اآلية ‪.73‬‬


‫‪ 2‬سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.72‬‬

‫‪278‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫السياسي‪ ،‬وذراعها‪ ،‬وقوهتا‪ .‬وتبقى خصوصيات كل مجاعة بشرط أن تـَتـََه َّوى‬
‫أسوار املمانعة واملنافسة‪ ،‬واملعاداة أحياناً‪ ،‬اليت حتكم العالقات بني اجلماعات‬
‫اإلسالمية الناشئة اليت ملا تُ ِ‬
‫نض ْجها التجربة وملا توقفها قوة األحزاب العلمانية‬
‫وحجمها ومتكنها يف األرض على ضرورة رص الصف اإلسالمي‪.‬‬
‫الرابطة املستحقة أن تسمى «مجاعة املسلمني» هي املتألفة على أساس احملبة‬
‫وجالء األفق التعاوين‪ ،‬وضبط احلركة‪ ،‬ووحدة‬ ‫الوالئية‪ ،‬ووضوح األهداف والطرائق‪َ ،‬‬ ‫َ‬
‫ب‬‫السر ِ‬
‫القيادة‪ ،‬وشرط التآمر باملعروف والتناهي عن املنكر‪ ،‬وحرية األفراد يف اختيار ِّ ْ‬
‫الذي يهاجرون إليه‪.‬‬
‫وميضي زما ٌن يدخل فيه اإلسالميون احللَبَة السيـاسية على غري جتربة‪ ،‬فتُلزمهم‬
‫بعضها إىل بعض يف وجه العدو‬‫ضم اجلهود واإلمكانيات َ‬ ‫الضرورةُ كما يُلزمهم الشرع َّ‬
‫واخلصم والصديق‪ .‬ورمبا ميضي جيل كامل يكون فيه اإلسالميون قوة طارئة يف امليدان‬
‫ال تتميز للمراقب اخلارجي‪.‬‬
‫حرج‪ ،‬وينبَغي أن ال يكون‬ ‫ِّ‬
‫مث ميك ُن اهلل العلي القدير لعباده‪ .‬ويومئذ ال َ‬
‫حرج‪ ،‬بل أقول‪ :‬ينبغي أن نتقبل حكمة التعددية وحكمة التعاقب على احلكم بني‬
‫الشورى على تعددية املدارس‬
‫نسعى لتوطيد دعائم َ‬‫الفصائل اإلسالمية‪ .‬بل ينبغي أن َ‬
‫حتمل أعباء احلكم‪ ،‬وهي ساحقة ماحقة‪،‬‬‫والتنظيمات واآلراء واملذاهب‪ .‬وعلى ُّ‬
‫بالتتايل‪.‬‬
‫إنه درس مما تُلقيه إلينا سنة اهلل اليت يعترب هبا الناظر يف االستقرار الدميوقراطي‪.‬‬

‫‪279‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫قال أخي‪ :‬وهل جيوز شرعا‪ ،‬وهل ورد النص باالستفادة من أنظمة الكافرين؟‬
‫وجدها فهو أوىل هبا! وأجيبه‬ ‫أن َ‬‫جييبه أخي اآلخر‪ :‬وهل احلكمة إال ضالة املؤمن َّ‬
‫ض إن مل‬‫على صفحات هذا الكتاب بأن ربقة «دين االنقياد» حول عُنُ ِقنا ال تن َف ُّ‬
‫نضع حدا لالستبـداد‪ ،‬وإن مل ننب َس ّداً أمام النزعة االستبدادية‪ ،‬وإن مل نُغلق الذرائع‬
‫اليت دخل إلينا منها املاضي ويهددنا بالدخول يف املستقبل حكم السيف‪.‬‬
‫وه ُم الكتلة الواحدة الوحيدة‪ .‬احلزب الوحيد‪ ،‬والقيادة‬‫َأه ُّم هذه الذرائع ْ‬
‫«امللهمة»‪ ،‬وتأبيد السلطان يف يد الفاحتني املكللني بتاج العصمة‪.‬‬
‫ومن املسلمني املؤمنني اجملاهدين من يظن أن الوحدة قائمة بالفعل‪ ،‬متمثلةٌ بال‬
‫منازعة تُقبَل‪ ،‬يف هذا التنظيم الدعوي العاملي أو ذاك‪ .‬إنه خط من حقه أن يتأمل‬
‫ْح ْم ُد لِلّ ِه الَّ ِذي‬
‫ما آل إليه حزب العمال االشرتاكي العاملي الشيوعي‪َ ﴿ .‬وقُ ِل ال َ‬
‫ْك َولَ ْم يَ ُكن لَّهُ َولِ ٌّي ِّم َن ُّ‬
‫الذ َّل َوَكبـِّْرهُ‬ ‫يك فِي الْمل ِ‬
‫ُ‬
‫لَم يـت ِ‬
‫َّخ ْذ َولَداً َولَم يَ ُكن لَّهُ َش ِر ٌ‬‫ْ َ‬
‫تَ ْكبِيراً﴾ ‪ .‬اهلل أكرب‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪ 1‬سورة اإلسراء‪ ،‬اآلية ‪.110‬‬

‫‪280‬‬
‫الفصل السابع‬
‫املـرأة‬
‫احلياة الطيبة‬ ‫ ‬
‫*‬
‫املؤمنة مشرفة َ‬
‫مكَّلفة‬ ‫* ‬
‫الزوج الصاحلة‬ ‫* ‬
‫حافظة الفطرة‬ ‫* ‬
‫املرأة والعمل‬ ‫* ‬
‫املرأة واحلرية‬ ‫* ‬
‫الـعـزل‬ ‫* ‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫احلياة الطيبة‬
‫أصبحت املرأة‪ ،‬وحرية املرأة‪ ،‬وعمل املرأة‪ ،‬ومظلومية املرأة‪ِ ،‬رهاناً يف سوق‬
‫السياسة حيثما برزت احلركة اإلسالمية والتف حوهلا الشعب‪ .‬اإلسالم متهم يف‬
‫عدو املرأة‪ .‬بل إن َّأوَل ما يُذ َكر يف وسائل اإلعالم الغربية املعادية‬
‫هذه السوق بأنه ُّ‬
‫«للتطرف الديين» هو التهديد الذي يشكله «األصوليون» على مستقبل املرأة‪.‬‬
‫ينربي للرد والدفاع‪ ،‬وقبل أن يدخل إىل قـاعة اجلدل‪،‬‬ ‫ولعل بعضنا قبل أن َ‬
‫خيلَع عنه ثوب إميانه باهلل وباليوم اآلخر ليتكلم عن «املرأة يف اإلسالم» مبقدمات‬
‫منهجية مادية وبوسائل منهجية ليس فيها رائحـة اإلميان باهلل وباليوم اآلخر‪ .‬فإن كان‬
‫بعضنا يفعل ذلك تنزال ليدحض حجة عقلية قانونية مبثلها متجنبا «الغيبيات» اليت‬
‫خيشـى أن ميسكه منها اآلخـر فهي هزميـة وتضييع للدعوة‪ .‬وإن كان يفعل لغفلة قلبية‬
‫وسطحية يف الدين أو ِرقة فهي كارثة‪.‬‬
‫قلوبم؟ أم أن إسالمنا أ َْم َسى‬ ‫ِ‬
‫املظلمة ُ‬ ‫خام من ِعشـرة‬
‫قلوب بعضنا َس ٌ‬ ‫هل غشَّى َ‬
‫إديولوجية عصرية متطورة ال مكان فيها لذكر اهلل واليوم اآلخر؟‬
‫إن املرأة كالرجل مناديان يف القرآن على السواء للعمل الصاحل واجلزاء ال ِو ِ‬
‫فاق يف‬ ‫ُ َ‬
‫الدنيا واآلخرة‪ .‬وإهنما نقطتان متيِّـزان ُمنطلقنا يف احلياة والفكر والسعي عن منطلَق الذين‬
‫كفروا‪ :‬اإلميا ُن باهلل وباليوم اآلخر‪ ،‬مث معىن مرور اإلنسان من الدنيا‪ .‬ومن العبث أن‬
‫يظن ظان أننا بنزولنا إىل أرضية املاديّني لنقارعهم عليها ننال منهم شيئا‪ .‬بل نتعرض‬
‫لالجنراف واالحنراف‪ .‬ففي منطقهم الدائر حول احلياة الدنيا‪ ،‬ال يؤمنون بالبعث‪ ،‬تكون‬
‫ب ال غريُ‪ ،‬وتكون املرأة واحلرية يف الزىن بال حدود‪،‬‬
‫اللذة واملتعة و«السعادة» هي ال َـمطلَ َ‬
‫‪283‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ايب‬
‫واإلجهاض وسائر «املكتسبات» اإلباحية هي قمةَ احلضارة‪ .‬وهذا منطق دو ٌّ‬
‫ِ‬
‫متماسك‪.‬‬
‫واجب املؤمنني واملؤمنات أن يتحرروا من عقدة السكوت الـمه ِ‬
‫ني النفاقي‬ ‫َ‬
‫عن قول احلق‪ ،‬وأن يتحرروا من الدائرة املغلقـة اجلدلية اليت يفرض علينا مبقتضاها‬
‫طر ُحهم لقضايا املـرأة وكل القضايا ش ْك َل اإلجابة ومستواها وحدودها‪.‬‬
‫ْ‬
‫واجبنا إن كنا نؤمن باهلل عز وجل ومبصرينا إليه أن نبتدئ حنن بإخبار‬
‫املسلمات واملسلمني مبا أنزل رب العاملني‪ .‬وإن كان يف إمياننا باليوم اآلخر َم َنزع‬
‫ين يـُْؤِمنُو َن‬ ‫لتشكيك املشككني فما حنن باملؤمنني‪ .‬القرآ ُن ﴿فِ ِيه ه ًدى لِّل ِ َّ ِ‬
‫ْمتَّقين الذ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ك َوَما‬ ‫ين يـُْؤِمنُو َن بِ َما أُن ِز َل إِلَْي َ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫اه ْم يُنف ُقو َن والذ َ‬
‫ب وي ِقيمو َن َّ ِ‬
‫الصال َة َوم َّما َرَزقـْنَ ُ‬ ‫بالْغَْي ِ َ ُ ُ‬
‫ِ‬
‫اآلخ َرِة ُه ْم يُوقِنُو َن﴾‪ 1‬اإليقان درجة عالية من اإلميان‪ .‬اإليقان‬ ‫ك وبِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫أُن ِز َل من قـَْبل َ َ‬
‫أي العني‪ .‬كيف يُكتسب هذا اإليقان أيها‬ ‫ب عينـك كأهنا ر َ‬ ‫نص َ‬
‫أن تكون اآلخرة ْ‬
‫ب إىل القـرآن وهديه من يغيب عنه ذكر اهلل ولقاؤه حلظة؟‬ ‫ِ‬
‫األحباب؟ كيف يـَْنتَس ُ‬
‫ع ورجع وتَاب‪.‬‬ ‫حىت إذا حصل‪ ،‬واإلنسان ينسى‪ ،‬ف ِز َ‬
‫وعد اهلل تعاىل أيها األخ وأيتها األخت احلياة الطيبة من عمل صاحلا وهو‬
‫ِ‬ ‫مؤمن‪ .‬قال جل شأنه‪﴿ :‬من َع ِمل ِ‬
‫صالحاً ِّمن ذَ َك ٍر أ َْو أُنثَى َو ُه َو ُم ْؤم ٌن فـَلَنُ ْحيِيـَنَّهُ‬
‫َْ َ َ‬
‫س ِن َما َكانُواْ يـَْع َملُو َن﴾‪ .2‬كونك رجال أو امرأة‬ ‫َج َرُهم بِأ ْ‬
‫َح َ‬ ‫َحيَا ًة طَيِّبَةً َولَنَ ْج ِزيـَنـَُّه ْم أ ْ‬
‫ينوعُ شكل ابتالئك وامتحانك واختبـارك يف دار االمتحان هذه الدنيا‪ .‬لكن جنسك‬ ‫ِّ‬
‫ال يغري من جوهر اجلزائية واملصريية إىل اهلل عز وجل شيئا‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة البقرة‪ ،‬اآليات ‪.3-1‬‬


‫‪ 2‬سورة النحل‪ ،‬اآلية ‪.97‬‬

‫‪284‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫احلياة الطيبةُ جزاءُ املؤمن واملؤمنة هنا إن عمال صاحلا وأقاما شرع اهلل يف‬
‫عالقاهتما‪ .‬واحلياة الطيبة يف اجلنة هي اجلـزاء األوىف األبقى‪ .‬يتغري كل شيء يف فكر‬
‫املرأة والرجل وسلوكهما إن آمنا باليوم اآلخـر‪ .‬وتنقلب دولتهما النفسية العقلية إن‬
‫قوي هذا اإلميان فصـار يقينا‪ .‬ذلك هو السبيل لدحض مغريات الفتنة اإلباحية ال‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الدفاع الفكري املقار ُن جلزئيات حجاب املسلمة وتعدد الزوجات وسائر ما يـَْنق ُمه‬
‫أعداء الدين على الدين من جراء انتهاك املسلمني حلقوق املرأة بالفعل‪ ،‬أو من‬
‫التحامل واهليمنة الثقافية املادية اليت جتعل املرأة موضوع الشهوة املباحة‪ ،‬وزبونَةَ‬
‫ُ‬ ‫جراء‬
‫وم ِد َّرَة األموال على صناع اللهو‪ ،‬ودميةَ‬
‫صناعات التجميل‪ ،‬وحمور الفن اخلالعي‪ُ ،‬‬
‫الرجل‪.‬‬
‫احلياة الطيبة يف الدنيا واآلخرة ملن آمن وعمل صاحلا من ذكر أو أنثى‪ .‬قال‬
‫المؤمن حسنة‪ ،‬يُعطَى بها في‬
‫َ‬ ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن اهلل ال يظلم‬
‫طعم بحسناته في الدنيا‪ ،‬حتى‬ ‫ِ‬
‫الدنيا‪ ،‬ويُثاب عليها في اآلخرة‪ .‬وأما الكافر فيُ َ‬
‫ضى إلى اآلخرة لم تكن له حسنة يـُْعطَى بها خيرا»‪ .‬رواه اإلمامان أمحد‬ ‫إذا أف َ‬
‫ومسلم عن أنس رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫اص ُل املؤمن واملؤمنة بكلمة اهلل‪ ،‬فتلك احلياة الطيبة‪﴿ .‬‬ ‫يف الدنيا يتو َ‬
‫ات لِلطَّيِّبِينَ﴾‪ .1‬املرأة الصاحلة للرجل الصاحل نعمة ما مثلها نعمة‪ :‬يتعاونان‬ ‫َوالطَّيِّبَ ُ‬
‫على دنيامها وأخرامها‪« .‬الدنيا متاع [أي امتداد قصري]‪ ،‬وخير متاعها المرأة‬
‫الصالحة»‪ .‬حديث نبوي رواه مسلم والنسائي عن عبد اهلل بن عمرو‪.‬‬
‫ِ‬
‫طابت حياته وحياهتا هنا ل َما يـَتـَيـََّقنان من أهنا ٌ‬
‫عبور إىل دار البقاء‪ ،‬فيأخذان‬
‫نصيبَهما من نَعمة الدنيا دون أن يستعجال ما هو من شأن اآلخرة‪ :‬النعيم املقيم‪.‬‬
‫تطيب آخرهتما‪.‬‬ ‫وباليقني املسبق واجلزاء احملقق ُ‬

‫‪ 1‬سورة النور‪ ،‬اآلية ‪.26‬‬

‫‪285‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أما الذين كفروا فينادون يوم القيامة‪﴿ :‬أَ ْذ َه ْبتُ ْم طَيِّبَاتِ ُك ْم فِي َحيَاتِ ُك ُم ُّ‬
‫الدنـْيَا‬
‫ون بِ َما ُكنتُ ْم تَ ْستَ ْكبِ ُرو َن فِي ْال َْر ِ‬
‫ض بِغَْي ِر‬ ‫واستَمتـ ْعتُم بِ َها فَالْيـوم تُ ْجزو َن َع َذاب ال ُْه ِ‬
‫َ‬ ‫َْ َ َ ْ‬ ‫َ ْ َْ‬
‫س ُقو َن﴾‪.1‬‬ ‫ال َ ِ‬
‫ْح ِّق َوب َما ُكنتُ ْم تـَْف ُ‬
‫نتزيَّن بلباس اإلميان ُخ ْفيَةً مث َِن ُّ‬
‫ف لنخلَعه عندما جنلس إىل مائدة‬ ‫ما بالُنا َ‬
‫لنتنصل من وصمة «الغيبية»؟‬ ‫احلضارة املستكربة الفاسقة َّ‬
‫مصريي‪ ،‬دنيوي‬
‫ٌّ‬ ‫للمرأة وخصوصية جنسها ومجاهلا وجاذبيتها معىن كوينٌّ‬
‫سبيل إلدراك حكمة الشرع فيما أمر وهنى بصـددها من دون استحضاره‬ ‫أخروي‪ ،‬ال َ‬
‫ص شهواهتا للرجل‪ ،‬وملتقى‬‫وملخ ُ‬
‫ص زينة الدنيا َّ‬ ‫واالستبصار به‪ .‬هذا املعىن هو أهنا فَ ُّ‬
‫العويص من بني أسئلة االمتحان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أمانيه‪ .‬فهي بذلك للرجل‪ ،‬وهو بذلك هلا‪ ،‬السؤ ُال‬
‫الفطري للذكر باألنثى‪ ،‬وهيُ ُام الرجل جبمال املرأة‪ ،‬وما تـَغَ َّن به الشعراء‬ ‫ُّ‬ ‫التعلق‬
‫يف حبها‪ ،‬وما تقاتَل عليه الرجال لنيل رضاها أو حليازة جسمها‪ ،‬إمنا هو من أثر‬
‫اجملعول فيها فتنة واختبارا ليعلم اهلل من خيافه بالغيب‪،‬‬ ‫الفطر‪ِ ،‬‬ ‫التزيني اإلهلي املغروز يف ِ‬
‫ضهُ َعلَى بـَْع ٍ‬
‫ض فـَيـَْرُك َمهُ‬ ‫ب َويَ ْج َع َل الْ َخبِ َ‬ ‫يث ِم َن الطَّيِّ ِ‬
‫و﴿لِيَ ِم َيز اللّهُ الْ َخبِ َ‬
‫يث بـَْع َ َ‬
‫اس ُرو َن﴾‪.2‬‬‫ك هم الْ َخ ِ‬ ‫ج ِميعاً فـي ْجعلَهُ فِي ج َهن ِ‬
‫َّم أ ُْولَـئ َ ُ ُ‬
‫َ َ‬ ‫ََ َ‬ ‫َ‬
‫أعظمها وأسب ُقها‪ .‬امتحان هي عسري ملن جتاوز‬‫زينَةٌ من الزينات هي املرأة‪ُ ،‬‬
‫عبدها وهي بشر‪.‬‬
‫حدود اهلل فيها فظلمها وهي الضعيفة‪ ،‬أو نـََهبَها وهي اجلميلة‪ ،‬أو َ‬

‫‪ 1‬سورة األحقاف‪ ،‬اآلية ‪.19‬‬


‫‪ 2‬األنفال‪ ،‬اآلية ‪.37‬‬

‫‪286‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫كل ما على األرض من زينة ابتالء‪ .‬قال اهلل عز وجل‪﴿ :‬إِنَّا َج َعلْنَا َما َعلَى‬
‫ِ‬
‫س ُن َع َمالً﴾‪ .1‬لكن املرأة هي الزينة على السبق‬ ‫ض ِزينَةً لَّ َها لنَبـْلُ َو ُه ْم أَيـُُّه ْم أ ْ‬
‫َح َ‬ ‫ْال َْر ِ‬
‫اختيار‬
‫واإلطالق‪ .‬فاختيار الغريزة اهلابطة مسلكا معها احنطا ٌط إىل احلياة الدنيا‪ .‬و ُ‬
‫ع اهلل يف نظام حياهتا‪َ ،‬ش ْرطا استحقاق‬ ‫اختيارها هي شر َ‬
‫شرع اهلل يف معاشرهتا‪ ،‬و ُ‬
‫للحياة الطيبة دنيا وأخرى‪.‬‬
‫اطي ِر‬‫ات ِمن النِّساء والْبنِين والْ َقنَ ِ‬ ‫الش َهو ِ‬ ‫قال اهلل تعاىل‪ُ ﴿ :‬زيِّ َن لِلن ِ‬
‫َ َ ََ َ َ‬ ‫ب َّ َ‬ ‫َّاس ُح ُّ‬
‫ْحيَ ِاة‬ ‫ث َذلِ َ‬ ‫الذه ِ ِ ِ‬
‫َّة والْ َخ ْي ِل الْمس َّوم ِة واألَنـع ِام والْحر ِ‬ ‫ِِ‬
‫ك َمتَاعُ ال َ‬ ‫ُ َ َ َ َْ َ َ ْ‬ ‫ب َوالْفض َ‬ ‫ال ُْم َقنطََرة م َن َّ َ‬
‫آب﴾‪ 2‬فجاءت املرأة على رأس قائمة شهوات الدنيا‪.‬‬ ‫الدنـْيَا َواللّهُ ِعن َدهُ ُح ْس ُن ال َْم ِ‬
‫ُّ‬

‫وجاءت املرأة عديلةَ الدنيا بأسرها يف قول رسـول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫«إن الدنيا حلوةٌ َخ ِ‬
‫ض َرةٌ‪ .‬وإن اهلل مستخل ُفكم فيها فينظُُر كيف تعملون‪ .‬فاتقوا‬
‫أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء»‪ .‬رواه اإلمام‬
‫الدنيا‪ ،‬واتقوا النساء‪ .‬فإن َ‬
‫مسلم عن أيب سعيد اخلدري رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫هلبوط إمياننا باآلخرة جناري املاديني يف حديثهم عن املرأة‪ ،‬وننـزلق إىل منطقهم‬
‫لنتبارى معهم ونقا ِرن املزايا التشريعية على‬ ‫طوعا أوكرها‪ ،‬وجنرد املرأة من معناها الوجودي َ‬
‫مى والعياذ باهلل‪ .‬قال اهلل عز وجل عن املشـركني‪﴿ :‬بَ ِل‬ ‫أرضي حمض‪ .‬وذلك َع ً‬ ‫بساط ٍّ‬
‫ْم ُه ْم فِي ْال ِخ َرِة بَ ْل ُه ْم فِي َش ٍّ‬
‫ك ِّمنـَْها بَ ْل ُهم ِّمنـَْها َع ِمو َن﴾‪َّ .3‬اد َارَك‪ :‬نزل‬ ‫اد ِ‬
‫َّار َك عل ُ‬
‫َ‬

‫‪ 1‬الكهف‪ ،‬اآلية ‪.7‬‬


‫‪ 2‬آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.14‬‬
‫‪ 3‬النمل‪ ،‬اآلية ‪.68‬‬

‫‪287‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫َّارك العلم باآلخرة واإلميان هبا إىل دركة العمى كذلك‬
‫مستوى‪ .‬وكما يد ُ‬
‫ً‬ ‫إىل أسفل‬
‫يرقَى إىل درجة اليقني‪ .‬سؤالنا الدائم‪ :‬كيف يرقى؟‬
‫لقد خاطب اهلل جلت عظمته املؤمنات مبعىن وجودهن يف الدنيا‪ ،‬ومبعىن‬
‫الدنيا‪ ،‬ومبصري اآلخرة‪ ،‬حني أمر رسوله بتبليغ هذا البيان لنسائه باألصالة ولنساء‬
‫العاملني باملثال فقال‪﴿ :‬يا أَيـَُّها النَّبِ ُّي قُل ِّلَ ْزو ِ‬
‫ْحيَاةَ ُّ‬
‫الدنـْيَا‬ ‫ك إِن ُكنتُ َّن تُ ِر ْد َن ال َ‬ ‫اج َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ُس ِّر ْح ُك َّن َس َراحاً َج ِميالً َوإِن ُكنتُ َّن تُ ِر ْد َن اللَّهَ َوَر ُسولَهُ‬
‫َوِزينَتـََها فـَتـََعالَْي َن أ َُمتـِّْع ُك َّن َوأ َ‬
‫َجراً َع ِظيماً﴾‪.1‬‬ ‫الدار ْال ِخرَة فَِإ َّن اللَّه أَع َّد لِلْمح ِسن ِ ِ‬
‫ات من ُك َّن أ ْ‬ ‫َ َ ُْ َ‬ ‫َو َّ َ َ‬
‫هبذا البيان جيب أن خناطب املرأة‪ ،‬وال نرتك أهل العقالنية واملادية والوجودية‬
‫والتحررية ُيلون علينا أسلوب الدعوة‪.‬‬
‫هو خيار مطروح للمرأة بني الدنيا واآلخرة‪ .‬إن اختارت الدنيا وزينتها وكفرت‬
‫باليوم اآلخر فعليها ما تولت من أوزار احلضارة املادية‪ ،‬تكون لعبتَها ودميتها وهي‬
‫يف اآلخرة من اخلاسرين‪ .‬وإن هي اختارت اآلخرة فلها نصيبها من الدنيا‪ ،‬وللرجل‬
‫نصيبُه منها يف كنف العفة والطهارة واحملبة والتآزر والتعاون على تعب الرحيل والعبور‬
‫س ُه ْم يَظْلِ ُمو َن﴾‪.2‬‬
‫َّاس أَن ُف َ‬
‫ِ‬
‫َّاس َش ْيئاً َولَـك َّن الن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إىل دار البقاء‪﴿ .‬إ َّن اللّهَ الَ يَظْل ُم الن َ‬

‫‪ 1‬األحزاب‪ ،‬اآليتان ‪.29-28‬‬


‫‪ 2‬سورة يونس‪ ،‬اآلية ‪.44‬‬

‫‪288‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫املؤمنة مشرفة َ‬
‫مكَّلفة‬
‫القلوب منطوية على باطن اإلمث؟ بل‬ ‫ِ‬
‫اهر املخالفات و ُ‬ ‫ما يُفيد أن نطارد ظو َ‬
‫ما هو الضرر البليغ الذي جترتحهُ أيدي بعض الشباب يالحقـون النساء يف الشوارع‬
‫رؤوسهن!‬
‫ّ‬ ‫باخلشونة واألذى ليفرضوا عليهن عقد خرقة على‬
‫ِ‬
‫املسلمات من‬ ‫ما يعمل وازع اخلشونة إن تقدم وبارز بالعداوة إال أن يـُنـَفَِّر‬
‫وحوش ضاريَة‪ .‬وما كلف اهلل عز وجل عامة‬ ‫ٌ‬ ‫أن اإلسالميني‬ ‫دينهن‪ ،‬وأن يوطِّ َد ُسْ َعة َّ‬
‫املؤمنني أن يـَْعنُفوا على الناس يف ُمنكر صغري إن كان العنف يلِ ُد منكراً كبريا‪ .‬وأي‬
‫منكر أشد من التعسري والتقتري بَ َد َل التيسري والتبشري‍!‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ووازع القرآن والدعوة‬
‫ُّ‬ ‫األصل‪ ،‬والرفق هو املنهاج‬
‫ُ‬ ‫إسالمهن هو‬
‫َّ‬
‫أسبق‪ .‬حىت إذا تـُُقبلت فرائض الدين وبقيت الشاذات والشاذون كان لسلطان‬
‫املسلمني أن يفرض آداب الشارع وأن مينع التربج مبا يناسب‪.‬‬
‫أحوج ما يكونون إىل من يعلمهم أمر دينهم‬ ‫ُ‬ ‫إن نساء املسلمني كرجاهلم‬
‫وجيدده هلم‪ .‬وللمرأة كما للرجل حرية االختيار بني احلياة الدنيا وزينتها وبني اهلل‬
‫ورسوله والدار اآلخرة‪ .‬فال نقدم العقوبةَ على التعليم‪ ،‬وال املواخذة على اإلعالم‪.‬‬
‫يب يف وسائل اإلعالم احلركية اإلسالمية عن ذكر اآلخرة واملآل‬ ‫السكوت ال ُـمر َ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫وإن‬
‫والرحلة الضرورية وما وراءها يف دار البقاء من جزاء وعذاب لثغرة شارعة إىل التيه‬
‫ٍ‬
‫أدبيات سياسيَّة حتليلية ثقـافية مقارنة تُبعد املتلقي واملتلقية عن معاين اإلميان‬ ‫يف‬
‫لتقربه إىل نضالية جوفاء‪.‬‬

‫‪289‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ويـُتـَْر ُك حبل الشباب املنخرط يف احلركة اإلسالمية على الغارب‪ .‬إن لَِق َي‬
‫يف مسجد واعظا أصغى حلظة لذكر اهلل ورسوله واليوم اآلخر‪ ،‬مث انصرف بعد‬
‫ذلك الهياً قلبُه عن الذكر‪ ،‬منص ِرفا عقلُه ومهُّه ُ‬
‫ويومه وليلتُه للصراع‪ .‬ال جرم‬
‫بأسه على املرأة شديدا‪ ،‬وهي الضعيفة العاطفية السريعة إىل الرجوع لو‬ ‫أن يكون ُ‬
‫جلست إليها من بنات جنسها من تذكرها باهلل وباليوم اآلخر‪ ،‬ومن تطرح عليها‬
‫اخليار بني زينة الدنيا وزينة اهلل‪ ،‬بني متاع الدنيا وجزاء اآلخرة‪ .‬ورمبا جتد من نساء‬
‫املسلمني َم ْن توغلت يف املادية الفلسفية أو يف التربج والتهتك ألهنا مل تسمع‬
‫عن خرب اآلخرة‪ ،‬إن مسعت‪ ،‬إال يف نطاق ركن رمسي بارد يلقي فيه واعظ هامد‬
‫وإخبار كل املسلمني مع‬
‫ُ‬ ‫ُجَالً ال روح فيها‪ .‬فإعالم هؤالء النسوة وإخبارهن‪،‬‬
‫الرتكيز على مسألة االختيار املصريي‪ ،‬وباقتناع املؤمنني واملؤمنات القائمني على‬
‫تقوى ال تصنعا‪ ،‬هو املنهاج القرآين النبوي‪.‬‬
‫الدعوة‪ ،‬اخلاشعني ً‬
‫ب َولَ ْه ٌو َوِزينَةٌ‬ ‫قال اهلل عز وجل لعباده‪﴿:‬ا ْعلَموا أَنَّما الْحياةُ ُّ ِ‬
‫الدنـْيَا لَع ٌ‬ ‫ُ َ ََ‬
‫ب الْ ُك َّف َار نـَبَاتُهُ ثُ َّم‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوتـََفا ُخ ٌر بـَيـْنَ ُك ْم َوتَ َكاثـٌُر في ْال َْم َوال َو ْال َْوَلد َك َمثَ ِل غَْيث أَ ْع َج َ‬
‫اب َش ِدي ٌد َوَمغْ ِف َرةٌ ِّم َن اللَّ ِه‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ص َف ّراً ثُ َّم يَ ُكو ُن ُحطَاماً َوفي ْالخ َرة َع َذ ٌ‬ ‫يج فـَتـََراهُ ُم ْ‬ ‫يَ ِه ُ‬
‫الدنـْيَا إَِّل َمتَاعُ الْغُُروِر﴾‪.1‬‬
‫ْحيَاةُ ُّ‬ ‫ض َوا ٌن َوَما ال َ‬ ‫َوِر ْ‬
‫اعلموا! واليقني باليوم اآلخر يأيت يف مرحلة الحقة مبخالطة الشاردة عن رهبا‪،‬‬
‫الالهية بشباهبا وزينتها‪ ،‬للمؤمنات القانتات‪.‬‬
‫للنساء بطبعهن َولوعٌ باللعب واللهو والتفاخر والزينة‪ ،‬وللرجال َولوع بالتكاثر‬
‫ك‬‫يف األموال واألوالد واجلاه‪ .‬وما كسـر هذا التعلق مثل تعميق الشعور باملآل‪ .‬شباب ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫‪ 1‬سورة احلديد‪ ،‬اآلية ‪.19‬‬

‫‪290‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أيتها املسلمة ونضارتُك وزينتك كمثَ ِل غيث أعجب الك ّفار (وهم لغةً ّ‬
‫الزّراع) نباتُه‪.‬‬
‫وشعرك‬
‫جسمك ُ‬ ‫فإذا به يوما قد اصفر وذبُل وسقط على األرض ُحطاما كما يسقط ُ‬
‫وتَ ِّمرين‪.‬‬
‫لني ُ‬
‫وما تُ َك ِّح َ‬
‫أين أنت من وعد اهلل عز وجل للمؤمنني واملؤمنات تشريفاً ملن أطاعه؟ قال‬
‫َّات تَج ِري ِمن تَحتِها األَنـه ِ ِ‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬و َع َد اللّهُ الْم ْؤِمنِين والْم ْؤِمنَ ِ‬
‫ين‬
‫ار َخالد َ‬ ‫ْ َ َْ ُ‬ ‫ات َجن ٍ ْ‬ ‫ُ ََ ُ‬ ‫َ‬
‫ك ُه َو الْ َف ْوُز‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ساك َن طَيِّبَةً في َجنَّات َع ْدن َوِر ْ‬
‫ض َوا ٌن ِّم َن اللّه أَ ْكبـَُر َذل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ف َيها َوَم َ‬
‫يم﴾‪.1‬‬ ‫ِ‬
‫ال َْعظ ُ‬
‫ملعىن ُيشى‬
‫يف آيات معدودة يذكر اهلل عز وجل املؤمنات مع املؤمنني تأكيدا ً‬
‫أن يسبق لفهم الرجل املعتز بذكورته أن املرأة منقوصة احلظ منه‪ .‬وإال فكل خطاب‬
‫للمؤمنني‪ ،‬تشريفا وتكليفا‪ ،‬فاملؤمنات يف ِض ْمن قصده‪ ،‬جريا على قاعدة العرب يف‬
‫لغتهم إذ يغلِّبُون اإلخبار باملذكر إذا كان املخاطبون رجاال ونساء‪.‬‬
‫من اآليات الناصة على املؤمنات بعد املؤمنني هذه البشارة العظمى اليت هتفو‬
‫ين‬ ‫ِِ‬
‫إليها مهم احملسنني واحملسنات أولياءُ اهلل وولياتُه‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬يـَْوَم تـََرى ال ُْم ْؤمن َ‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ورُهم بـَْي َن أَيْدي ِه ْم﴾ وقال‪﴿ :‬يـَْوَم َل يُ ْخ ِزي اللَّهُ النَّب َّي َوالذ َ‬
‫ين‬ ‫َوال ُْم ْؤمنَات يَ ْس َعى نُ ُ‬
‫‪2‬‬

‫ورنَا َوا ْغ ِف ْر‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫ورُه ْم يَ ْس َعى بـَْي َن أَيْدي ِه ْم َوبأَيْ َمان ِه ْم يـَُقولُو َن َربـَّنَا أَتْم ْم لَنَا نُ َ‬
‫آمنُوا َم َعهُ نُ ُ‬‫َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ك َعلَى ُك ِّل َش ْيء قَدير﴾ ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫لَنَا إِنَّ َ‬
‫للنيب نور وللمؤمنني نور يف ذلك اليوم املشهود‪ ،‬وللمؤمنات نورهن يسعى بني‬
‫أيديهن وبأمياهنن‪ .‬أي حياة طيبة هذه!‬
‫‪1‬‬
‫سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.73‬‬
‫‪ 2‬سورة احلديد‪ ،‬اآلية ‪.12‬‬
‫‪ 3‬سورة التحرمي‪ ،‬اآلية ‪.8‬‬

‫‪291‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وللمسلمات تُفتح أبواب االجتهاد يف الدين‪ ،‬ال يسبِ ُق ُه َّن سابق إال بالتقوى‬
‫ازدد َن إميانا وعمال صاحلا‪ .‬قال اهلل عز‬ ‫ي على قدر ما ْ‬ ‫والعمل الصاحل‪ .‬فهن يـَْرقـَْ َ‬
‫ات والْ َقانِتِين والْ َقانِتَ ِ‬‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ات‬ ‫َ َ‬ ‫ين َوال ُْم ْؤمنَ َ‬ ‫ين َوال ُْم ْسل َمات َوال ُْم ْؤمن َ‬ ‫وجل‪﴿ :‬إِ َّن ال ُْم ْسلم َ‬
‫اشع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫الصابِ ِرين و َّ ِ ِ‬ ‫ادقِين و َّ ِ ِ‬ ‫و َّ ِ‬
‫ات‬ ‫ين َوالْ َخ َ‬ ‫الصاب َرات َوالْ َخاشع َ‬ ‫الصادقَات َو َّ َ َ‬ ‫الص َ َ‬ ‫َ‬
‫وج ُه ْم‬ ‫ات وال ِ ِ‬ ‫الصائِم ِ‬ ‫ات و َّ ِ ِ‬ ‫والْمتَصدِّقِين والْمتَص ِّدقَ ِ‬
‫ين فـُُر َ‬ ‫ْحافظ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ين َو َّ َ‬ ‫الصائم َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ َ َ ُ َ‬
‫َجراً َع ِظيماً﴾‪.1‬‬ ‫ِ‬
‫َع َّد اللَّهُ لَ ُهم َّمغْف َرًة َوأ ْ‬ ‫الذاكِر ِ‬
‫ات أ َ‬ ‫الذاكِ ِر َّ ِ‬
‫ين اللهَ َكثيراً َو َّ َ‬
‫وال ِ ِ‬
‫ْحافظَات َو َّ َ‬ ‫َ َ‬
‫يف مقابل الوعد اإلهلي الكرمي‪ ،‬ولتستحق املؤمنة املراتب العالية يف درجات‬
‫تلزم نفسها بعدها مبا التزمت به املسلمات‬ ‫اآلخرة‪ ،‬عليها أن تـَُوثِّ ّق اختيارها بتوبة تامة ُ‬
‫فخمةً‬ ‫الداخالت يف اإلسالم على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬بايعنه بـَْيعة َ‬
‫ات‬‫اءك ال ُْم ْؤِمنَ ُ‬‫مشهودة صارمة مبا أخرب اهلل عز وجل به يف قوله‪﴿ :‬يَا أَيـَُّها النَّبِ ُّي إِ َذا َج َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫يـُبَايِ ْعنَ َ‬
‫ْن أ َْوَل َد ُه َّن‬
‫ين َوَل يـَْقتـُل َ‬
‫ْن َوَل يـَْزن َ‬ ‫ك َعلَى أَن َّل يُ ْش ِرْك َن باللَّه َش ْيئاً َوَل يَ ْس ِرق َ‬
‫ك فِي معر ٍ‬
‫وف فـَبَايِ ْع ُه َّن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وَل يأْتِ ِ ٍ‬
‫ين ببـُْهتَان يـَْفتَ ِرينَهُ بـَْي َن أَيْدي ِه َّن َوأ َْر ُجل ِه َّن َوَل يـَْعصينَ َ َ ْ ُ‬
‫َ َ َ‬
‫يم﴾‪.2‬‬ ‫واستـغْ ِفر لَه َّن اللَّه إِ َّن اللَّه غَ ُف ِ‬
‫ور َّرح ٌ‬ ‫َ ٌ‬ ‫َ َْ ْ ُ َ‬
‫بـَْيعة اختيارية رافِداها االقتناع القليب واحلضور العقلي الذي يعرف قدر ما تتحمله‬
‫الذمة من مسؤولية‪ .‬مث ترقَى املسلمة مبخالطة املؤمنات وبذكر اهلل والصالة‪ ،‬وبالعمل الصاحل‪،‬‬
‫هبوس بنات الدنيا‪ ،‬فإذا‬
‫الع َّجاج َ‬
‫فتتحرر شيئا فشيئا من سلطان اهلوى وسيطرة احمليط َ‬
‫باالختيار اإلسالمي يتفتق عن انضمام إمياين هلل ورسوله ومجاعة املسلمني‪ .‬وحينئذ يكون‬
‫املعول عليه املرجوعُ إليه‪ ،‬كما يليق‬
‫تمسك‪ ،‬وما قضى اهلل ورسوله هو َّ‬ ‫شرع اهلل هو ال ُـم ْس َ‬
‫‪ 1‬سورة األحزاب‪ ،‬اآلية ‪.35‬‬
‫‪ 2‬سورة املمتحنة‪ ،‬اآلية ‪.12‬‬

‫‪292‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫بأهل اإلميان السامعني والسامعات‪ ،‬املطيعني واملطيعات لقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما َكا َن‬
‫ْخيـََرةُ ِم ْن أ َْم ِرِه ْم َوَمن‬
‫ضى اللَّهُ ورسولُهُ أَمراً أَن ي ُكو َن لَهم ال ِ‬
‫ُُ‬ ‫َ‬ ‫ََ ُ ْ‬ ‫لِ ُم ْؤِم ٍن َوَل ُم ْؤِمنَ ٍة إِ َذا قَ َ‬
‫ض َلالً ُّمبِيناً﴾‪.1‬‬
‫ض َّل َ‬ ‫ص اللَّهَ َوَر ُسولَهُ فـََق ْد َ‬ ‫يـَْع ِ‬
‫يف املرحلة الثالثة من ترقي املؤمنة يف معارج الدين يتحسس قلبُها‪ ،‬ويَهفو‬
‫الص ْون والكمال‪ ،‬تتخذهن‬ ‫كياهنا‪ ،‬وتتوجه إرادهتا للتشبه بأمهات املؤمنني ذوات َّ‬
‫املشرفَة ال ُـم َكلَّفة مبا ُشِّرفْن به وكلفن‬ ‫منوذجا‪ .‬وتكون عندئذ مبا رفعتها مهتُها كاملخاطبة َّ‬
‫ِّساء إِ ِن اتـََّق ْيتُ َّن فَ َل تَ ْخ َ‬
‫ض ْع َن‬ ‫يف قوله تعاىل‪﴿ :‬يا نِساء النَّبِ ِّي لَستُ َّن َكأ ٍ‬
‫َحد ِّم َن الن َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫ْن قـَْوالً َّم ْع ُروفاً َوقـَْر َن فِي بـُيُوتِ ُك َّن َوَل‬ ‫بِالْ َق ْو ِل فـَيَط َْم َع الَّ ِذي فِي قـَْلبِ ِه َم َر ٌ‬
‫ض َوقـُل َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اهلِيَّ ِة ْالُولَى َوأَقِ ْم َن َّ‬
‫تـبـ َّرجن تـبـ ُّرج الْج ِ‬
‫الزَكا َة َوأَط ْع َن اللَّهَ َوَر ُسولَهُ‬ ‫ين َّ‬‫الص َل َة َوآت َ‬ ‫ََ ْ َ ََ َ َ‬
‫الر ْجس أ َْهل الْبـ ْي ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ت َويُطَ ِّه َرُك ْم تَطْ ِهيراً َواذْ ُك ْر َن َما‬ ‫ب َعن ُك ُم ِّ َ َ َ‬ ‫إِنَّ َما يُ ِري ُد اللَّهُ ليُ ْذه َ‬
‫ْح ْك َم ِة إِ َّن اللَّهَ َكا َن لَ ِطيفاً َخبِيراً﴾‪.2‬‬ ‫ات اللَّ ِه وال ِ‬ ‫يـتـلَى فِي بـيوتِ ُك َّن ِمن آي ِ‬
‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُُ‬ ‫ُْ‬
‫هذه خطوات املسلمة من دنيا التسيُّب والزينة الدنيوية‪ ،‬من حضيض‬
‫التربج والتهتك‪ ،‬إىل مرتبة الطاهرات‪ .‬وخبَطْ ِو ِه َّن ‪-‬أيَّدهن اهلل!‪ -‬يكون قد‬
‫تأسس بيت تُتلى فيه آيات اهلل واحلكمة‪ ،‬وتكون املسلمة املؤمنة احملسنة قد‬
‫الوالية العامة‪ ،‬هلا فيها مكا ُنا األصيل ووظيفتُها احليوية‪ ،‬ومسؤوليتها‬ ‫دخلت يف َ‬
‫الوالية‪ ،‬تأكيدا على‬ ‫ص فيها على املؤمنات آيات َ‬ ‫العظمى‪ .‬من اآليات اليت نُ َّ‬
‫وحْل العبء‪ ،‬ودعم البناء‪ .‬قال‬ ‫مكانة املرأة يف واجب السهر على دين اهلل‪َ ،‬‬
‫ض يأْمرو َن بِالْمعر ِ‬ ‫ِ‬ ‫اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬وال ُْم ْؤِمنُو َن َوال ُْم ْؤِمنَ ُ‬
‫وف‬ ‫َ ُْ‬ ‫ض ُه ْم أ َْوليَاء بـَْع ٍ َ ُ ُ‬
‫ات بـَْع ُ‬

‫‪ 1‬سورة األحزاب‪ ،‬اآلية ‪.36‬‬


‫‪ 2‬سورة األحزاب‪ ،‬اآليات ‪.34-32‬‬
‫‪293‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ِ‬ ‫الصالَةَ َويـُْؤتُو َن َّ‬ ‫ِ‬
‫الزَكاةَ َويُطيعُو َن اللّهَ َوَر ُسولَهُ‬ ‫َويـَنـَْه ْو َن َع ِن ال ُْمن َك ِر َويُق ُ‬
‫يمو َن َّ‬
‫ِ‬ ‫أ ُْولَـئِ َ‬
‫ك َسيـَْر َح ُم ُه ُم اللّهُ إِ َّن اللّهَ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫يم﴾ ‪.1‬‬
‫كن أساسي من أركان‬ ‫مشاركة املؤمنات يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر ر ٌ‬
‫وح ْرمتُها يف اجملتمع املسلم حرمة عظيمة‪ ،‬تكون إذايتُها‪ ،‬ومنعُها من احلماية‬ ‫الدين‪ُ .‬‬
‫موجبات للعنة اهلل‪ ،‬والعياذ باهلل‪ .‬وقد َقر َن اهلل عز‬ ‫ٍ‬ ‫وخدش كرامتها‪،‬‬ ‫املادية واملعنوية‪،‬‬
‫ُ‬
‫وجل حرمة املؤمنات وو َازاها حبرمة املقام العايل‪:‬مقام األلوهية والنبوة‪ .‬وذلك قوله‬
‫ِ‬
‫الدنـْيَا َو ْالخ َرِة َوأ َ‬
‫َع َّد لَ ُه ْم‬ ‫ين يـُْؤذُو َن اللَّهَ َوَر ُسولَهُ لَ َعنـَُه ُم اللَّهُ فِي ُّ‬ ‫َّ ِ‬
‫تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬
‫احتَ َملُوا‬‫سبُوا فـََقد ْ‬ ‫ين َوال ُْم ْؤمنَات بغَْي ِر َما ا ْكتَ َ‬ ‫ين يـُْؤذُو َن ال ُْم ْؤمن َ‬‫َع َذاباً ُّم ِهيناً َوالذ َ‬
‫بـُْهتَاناً َوإِثْماً ُّمبِيناً﴾‪.2‬‬
‫ملعون من آذى اهلل ورسوله‪ ،‬ملعون من بـََهت املؤمنني واملؤمنات‪ .‬واحلفا ُظ‬
‫على عرض املسلم واملسلمة حيوطه التهديد بلعنة اهلل الدائمة‪ ،‬وحيوطه حد القذف‬
‫يف الدنيا‪ ،‬نكاال من اهلل‪.‬‬
‫ين‬ ‫ويؤكد كتاب اهلل تعاىل حرمة املؤمنات احملصنات يف قوله تعاىل‪﴿ :‬إ َّ َّ ِ‬
‫ِن الذ َ‬ ‫ُ‬
‫اب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت ال ُْم ْؤمنَات لُعنُوا في ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ات الْغَافِ َل ِ‬‫يـرمو َن الْم ْحصنَ ِ‬
‫الدنـْيَا َو ْالخ َرة َولَ ُه ْم َع َذ ٌ‬ ‫ُ َ‬ ‫َْ ُ‬
‫َع ِظيم يـوم تَ ْشه ُد َعلَي ِهم أَل ِ‬
‫ْسنَتـُُه ْم َوأَيْ ِدي ِه ْم َوأ َْر ُجلُ ُهم بِ َما َكانُوا يـَْع َملُو َن﴾ ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫ٌ َْ َ َ ْ ْ‬
‫ألنَ َشةَ وهو حيدو ٍ‬
‫بإبل عليها مؤمنات‪،‬‬ ‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوما ْ‬
‫فتـَْع ُدو اإلبل وتـُْزعج راحة الظعائن‪ِ « :‬رفقا بالقوارير!» شبههن لِلُطْفهن وحساسيتهن باألواين‬

‫‪ 1‬سورة التوية‪ ،‬اآلية ‪.72‬‬


‫‪ 2‬سورة األحزاب‪ ،‬اآليتان ‪.58-57‬‬
‫‪ 3‬سورة النور‪ ،‬اآليتان ‪.24-23‬‬

‫‪294‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وحدب وصدق‬ ‫الزجاجية‪ ،‬سريعة العطب شفافة‪ .‬فإن أحسنا دعوة املسلمات برفق َ‬
‫وحَني ظهر اجملاهد‪ .‬وهلل عاقبة األمور‪،‬‬
‫خري من حافظن على الفطرة َ‬
‫أشركنا يف عملنا َ‬
‫له امللك وله احلمد‪ ،‬وهو على كل شيء قدير‪.‬‬

‫‪295‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫الزوج الصاحلة‬
‫لقلب املؤمن واملؤمنة تطلُّعه السماوي امللكويت‪ :‬يذكر ربه ويناجيـه يف غَُرِر‬
‫ي أو كأنه مست ٍو فوق أجنحة مالئكية‪ .‬مث‬ ‫األوقات‪ ،‬فإذا كأنه على منت ٍ‬
‫رفرف عُ ْل ِو ٍّ‬
‫الرجعة إىل فطرته الطينية‬
‫تنازعُه مطالب األرض وحاجة النفس فال جيد مستقرا إال يف ّ‬
‫اليت تفرض عليه مساكنة أهل األرض مبقتضيات أهل األرض‪.‬‬
‫اإلسالم على جنوحه من ُياول التحليق فوق احلاجات احلسية كما‬‫ُ‬ ‫قر‬
‫ال يُ ُّ‬
‫ال يقر االنغماس يف هبجة الدنيا وزينتها ولذاهتا‪ .‬روى الشيخان عن أنس رضي اهلل‬
‫عنه أن ثالثة رهط جاءوا إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم يزعم أحدهم أنه يصلي‬
‫الليل أبدا‪ ،‬ويزعم الثاين أنه يصوم الدهر وال يفطر‪ ،‬ويزعم الثالث أنه يعتزل النساء‬
‫وال يتزوج أبدا‪ .‬فيقول الرسول صلى اهلل عليه وسلم منكرا‪« :‬أنتم الذين قلتم كذا‬
‫وكذا؟ َأما واهلل إني ألخشاكم هلل وأتقاكم له! ولكني أصوم وأفطر‪ ،‬وأصلي‬
‫رغب عن سنتي فليس مني»‪.‬‬ ‫وأرقُد‪ ،‬وأتزوج النساء‪ .‬فمن ِ‬

‫التزويج سنة‪ ،‬ال قرار للمرأة وال للرجل وال َس َك َن إال بائتالف بعضهما ببعض‪.‬‬
‫واملرأة خاصةً مهما انغمست يف املتاع أو ُّات ْ‬
‫ذت أداة يف سوق األنوثة ال تفتَأ هتفو‬
‫نفسها لبيت وزوج وأطفال‪ .‬ومهما بلغت من جناح يف اجملتمع وشهرة فأنوثتها يف‬ ‫ُ‬
‫احلياة ال تكتمل وال تكسب يف نظر نفسها احرتاما إال إن جاءها خاطب طالب‬
‫حمب يـُبـَْرِه ُن هلا أهنا شخص عزيز كرمي‪.‬‬

‫‪296‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫تسكن املرأة إال مع نفس تقامسها‬ ‫َ‬ ‫ذلك من آيات اهلل أن ال يس ُك َن الرجل وال‬
‫اخلصوصية احلياتية‪ .‬قال اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬وِم ْن آيَاتِِه أَ ْن َخلَ َق لَ ُكم ِّم ْن أَن ُف ِس ُك ْم أَ ْزَواجاً‬
‫لِّتَ ْس ُكنُوا إِلَيـَْها َو َج َع َل بـَيـْنَ ُكم َّم َو َّدةً َوَر ْح َمةً﴾‪.1‬‬
‫باملودة والرمحة احلميمني يتميز الزواج املطابِق بالقصد والفعل والتوفيق اإلهلي‬
‫الع ْقد القانوين حيصل االستقرار يف البيت‪ ،‬وباالستقرار يف‬ ‫للفطرة‪ .‬وهبما ال مبجرد َ‬
‫أصلُه ومثواه الزوج املؤمنة الصاحلة‬ ‫البيت يشيع االستقرار يف اجملتمع‪ .‬االستقرار ْ‬
‫ساء النَّبِ ِّي لَ ْستُ َّن‬ ‫ِ‬
‫الناظرة إىل مثال الكمال يف خطاب اهلل عز وجل لنساء نبيه‪﴿ :‬يَا ن َ‬
‫ض‬‫ض ْع َن بِالْ َق ْو ِل فـَيَط َْم َع الَّ ِذي فِي قـَْلبِ ِه َم َر ٌ‬
‫ِّساء إِ ِن اتـََّق ْيتُ َّن فَ َل تَ ْخ َ‬ ‫َكأ ٍ‬
‫َحد ِّم َن الن َ‬
‫َ‬
‫اهلِيَّ ِة ْالُولَى َوأَقِ ْم َن‬
‫وقـلْن قـوالً َّمعروفاً وقـر َن فِي بـيوتِ ُك َّن وَل تـبـ َّرجن تـبـ ُّرج الْج ِ‬
‫َ ََ ْ َ ََ َ َ‬ ‫ُُ‬ ‫َ ُ َ َْ ْ ُ َ َْ‬
‫َط ْع َن اللَّهَ َوَر ُسولَهُ﴾ ‪.‬‬ ‫الزَكاةَ وأ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َّ َ‬ ‫الص َلةَ َوآت َ‬
‫َّ‬
‫‪2‬‬

‫وم ْرساتُه الزوج الصاحلة املنخرطة يف سياق االستقرار‪.‬‬ ‫أصل االستقرار ومثواه ِ‬
‫الوقار والقرار‪ ،‬ومعاينَ احلياء واحلشمة‪ ،‬ومعاين الثبات‬ ‫فعل األمر «قـَْر َن» حيمل معاين َ‬
‫والوفاء‪ .‬إذا َل ْجت ِر يف قنوات اجملتمع هذه املعاين منبعثة من كل بيت‪ ،‬متغذية من‬
‫فاجملتمع‬
‫ُ‬ ‫منابع القلوب الطاهرة الراضية بنصيبها من احلياة الدنيا ومتاعها وزينتها‪،‬‬
‫أول منهوب فيها مظلوم املرأة العانس‪ ،‬أو املرأة املعتقلة يف‬ ‫ساحة مفتوحة للنهب‪ُ ،‬‬
‫زواج فاشل رديء‪.‬‬
‫حنتفظ بالرباط الفطري القليب الذي هو روح الزوجية‪ :‬املودة والرمحة املتبادلني ينشأ‬
‫اط ِفها ُّ‬
‫تشتق‬ ‫عنهما االستقرار والوقار‪ .‬واملرأة فاعلة يف هذا ُملِّيةٌ فيه مقدَّمةٌ‪ .‬من لطافة عو ِ‬
‫َ ُ‬
‫ِ‬
‫ويصل الرح َم‪ ،‬وحيفظ حق الزوج‪ ،‬ويصرب‬ ‫الرمحة بني الناس‪َ .‬م ْن ِمثـْلُها يبـَّر الوالـدين‪،‬‬
‫ُ‬

‫‪ 1‬سورة الروم‪ ،‬اآلية ‪.20‬‬


‫‪ 2‬سورة األحزاب‪ ،‬اآليتان ‪.33-32‬‬

‫‪297‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫لألطفال‪ ،‬ويرعى حرمة اجلوار‪ِ ،‬‬
‫ويعطف على احملتاج‪ ،‬ويك ُفل اليتيم‪ ،‬ويُطبب املريض‪،‬‬
‫الس َكن يف بيتها‪ ،‬وكانت‬
‫وحيسن إىل الضعيف؟ فإن كانت املرأة حمرومة من دواعي َّ‬
‫ياح البهرجة يف جمتمع اإلباحية فما‬
‫مشردة ال بيت هلا وال زوج‪ ،‬أو كانت تتقاذفُها ر ُ‬
‫من قانون يعوضها عن ف ْقدها العاطفي‪ ،‬ما من ثروة تقوم هلا مقام السعادة الزوجية‪.‬‬
‫حنتفظ هبذا وننظر مع الفقيه يف الشروط الشـرعية اليت حتـوط الزواج اإلسالمي‬
‫ال َزْو ٍج َّم َكا َن َزْو ٍج َوآتـَْيتُ ْم إِ ْح َد ُاه َّن‬‫استِْب َد َ‬
‫بسياج املنـََعة‪ .‬قال اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ ْن أ ََردتُّ ُم ْ‬
‫ِ‬
‫ضى‬ ‫ف تَأْ ُخ ُذونَهُ َوقَ ْد أَفْ َ‬ ‫قِنطَاراً فَالَ تَأْ ُخ ُذواْ ِم ْنهُ َش ْيئاً أَتَأْ ُخ ُذونَهُ بـُْهتَاناً َوإِثْماً ُّمبِيناً َوَك ْي َ‬
‫ض َوأَ َخ ْذ َن ِمن ُكم ِّميثَاقاً غَلِيظاً﴾‪.1‬‬ ‫ض ُك ْم إِلَى بـَْع ٍ‬ ‫بـَْع ُ‬
‫بني الزوج والزوجة ميثاق غليظ بشهادة رب العزة جل وعال‪ .‬ال مـانِ َع من أن‬
‫تفهمه رباطا عاطفيا والتزاما أخالقيا‪ .‬لكن الواقعية الشرعية كما يفهمها الفقيه تنزلك‬
‫َ‬
‫إىل حقائق الوقائع البشرية والضمانات امللموسة العملية‪ .‬قال سيدنا عبد اهلل بن‬
‫عباس رضي اهلل عنهما‪ :‬امليثاق الغليظ هو اإلمساك باملعروف أو التسريح بإحسان‪.‬‬
‫ذلك أمر اهلل لألزواج أن يعاملوا الزوجات باملفروض اإلسالمي اإلمياين الصائن‬
‫حلقوق الزوجات من وراء احلب وال ُك ْره‪ ،‬يف حاالت االئتالف واالختالف‪ ،‬يف رخاء‬
‫العيش وانقباض الرزق‪ ،‬يف غبطة األنس أو ْأزمة الطالق‪ .‬إمساك مبعروف من الشرع‬
‫واملروءة واإلنسانية أو تسريح بإحسان‪.‬‬
‫من الشـروط العملية الواقعية إلجناح الزواج استطاعةُ الزوج النفقـة‪« .‬يا معشر الشباب!‬
‫من استطاع منكم الباءَة فليتزوج‪ ،‬فإنه أغض للبصـر وأحصن للفرج‪ .‬ومن مل يستطع فعليه‬

‫‪ 1‬سورة النساء‪ ،‬اآليتان ‪.21-20‬‬

‫‪298‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫بالصوم فإنه له ِوجاءٌ»‪ .‬حديث رواه الشيخـان وغريمها عن عبد اهلل بن مسعود رضي‬
‫اهلل عنه مرفوعا‪.‬‬
‫فالصوم َحصانة بديلة كافّة‬
‫ُ‬ ‫التحصني بالزواج مقرون بالقدرة على النفقة‪ ،‬وإال‬
‫عن اهليجان الغريزي‪.‬‬
‫من الشروط العملية إلجناح الزجية اختيار الرجل حليلته‪ ،‬وحريتُهـا هي‬
‫ال َقبول والرفض‪ .‬روى الشيخان وغريمها عن أيب هريرة رضي اهلل عنه أن رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬تُنكح المرأة ألربع‪ :‬لمالها ولحسبها ولجمالها‬
‫ت يداك!»‪.‬‬ ‫ولدينها‪ .‬فاظ َف ْر بذات الدين تَ ِربَ ْ‬
‫اظ َف ْر بذات الدين لدنياك‪ ،‬فذلك أَ ْشبهُ أن تكون الوفيَّةَ املخلصةَ‪ .‬واظفر بذات‬
‫زوجك يف اجلنة‪ ،‬وإهنا إن تكن ذات دين ْتر َق وإياها إىل‬ ‫الدين خاصة آلخرتك‪ ،‬فإهنا ُ‬
‫أعلى الدرجات إن شاء اهلل‪ .‬ومهما نقص من ماهلا ومجاهلا وحسبها فيما ي ِزنُه العُ ُ‬
‫رف‬
‫االجتماعي ففي الدي ِن املبتغى ُ‬
‫اخلالد بعد فناء الدنيا واعتباراهتا‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫عليك بذي الدين تربت ِ‬
‫يداك!‬ ‫وللمرأة أيضا قيل يف هذا احلديث ِضمنِيا‪ِ :‬‬
‫ْ‬
‫ب‬ ‫ِ‬
‫معيار ملراقبة تقدم البنيان يف صرح العمران األخوي‪ :‬ذلك حني يغل ُ‬
‫وبني أيدينا هنا ٌ‬
‫اضعات العادة يف تصيُّ ِد ذات اجلمال واملال‬
‫اعتبار الدين يف االختيار ُكلَف العرف ومو ِ‬
‫َ ُ‬
‫واحلسب‪ ،‬بقطع النظر عن كل دين‪.‬‬
‫روى اإلمام مسلم وغريه عن عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما أن رسول اهلل صلى‬
‫صماتها»‪.‬‬‫اهلل عليه وسلم قال‪« :‬األيِّ ُم أحق بنفسها من َوليها‪ .‬والبِكر تُستأذن‪ ،‬وإذنُها ُ‬

‫‪299‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫حة شروط االختيار يعيش الزوجان املؤمنان يف َكنف الرعاية املتبادلة‪،‬‬ ‫يف فُس ِ‬
‫ْ‬
‫وصبغته ومسؤوليته‪ :‬على الزوج ِ‬
‫القوامة‪ ،‬وهي محاية الزوجة وصيانتها‬ ‫لكليهما مهمته ِ ُ‬
‫وجلب املصاحل إليها‪ .‬وعليها هي احلافظية‪ ،‬حتفظه يف نفسها وبيتها وولده وماله‪.‬‬
‫ض‬‫ض ُه ْم َعلَى بـَْع ٍ‬
‫َّل اللّهُ بـَْع َ‬ ‫ال قـََّو ُامو َن َعلَى الن ِ‬
‫ِّساء ب َما فَض َ‬
‫َ‬ ‫الر َج ُ‬‫قال اهلل تعاىل‪ِّ ﴿ :‬‬
‫ظ اللّهُ﴾‪.1‬‬ ‫ب بِ َما َح ِف َ‬ ‫ات َحافِظَ ٌ‬
‫ات لِّ ْلغَْي ِ‬ ‫ات قَانِتَ ٌ‬ ‫َوبِ َما أَن َف ُقواْ ِم ْن أ َْم َوالِ ِه ْم فَ َّ‬
‫الصالِ َح ُ‬
‫من الواقعية الشرعية فتح الباب أمام النكاح إلغالق ذريعة تفشو منها‬
‫السفاح‪ .‬فمن ذلك طرح املواضعات االجتماعية اليت تقيم السدود‬ ‫الفاحشة و ِّ‬
‫يف وجه اخلاطب بإثقاله بالشروط اليت ما أنزل اهلل هبا من سلطان مثل التغايل يف‬
‫يل يُعطي للعُْرف مكانه يف االعتبـار حىت ال تكون‬ ‫املهور‪ .‬فإن كان الفقه النـََّوا ِز ُّ‬
‫وحشةٌ بني األسر املتصاهرة‪ ،‬فإن النص الشرعي يهدف إىل ق ْذف باطل العادة حبق‬
‫العبادة‪ .‬لذلك قيَّد التكافـَُؤ بالدين واخللق َعبـَْر الطبقية االجتماعية‪ .‬روى الرتمذي‬
‫بسند حسن عن أيب هريرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬إذا خطب‬
‫إليكم من ترضون دينه وخلُقه فزوجوه‪ .‬إال تفعلوا تكن فتنة في األرض وفساد‬
‫عريض»‪ .‬عريض! تأمل عرض انتشاره وفَشاره‪.‬‬
‫وسائل‬
‫ُ‬ ‫يف اجملتمعات املعكوسة املنكوسة يُ َس َّهل الزىن ويشجع وتـُغَ ِّن ِبُدائِِه‬
‫اإلعالم الرمسية‪ .‬ويُتغاىل يف املهور والتكاليف والشروط على اخلاطب‪ .‬فأي إفساد‬
‫هذا! وليس هذا بأصغر العوامل يف تفشي الزىن‪ .‬ولعله بعد عامل الفقر والبؤس الذي‬
‫يدفع بنات الناس للشارع يلتمسن لعائلتهن الرزق بكل وسيلة جييء يف مرتبة مع‬
‫النماذج االحناللية يف وسائل اإلعالم‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.34‬‬

‫‪300‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫مما يعيبه أعداء اإلسالم وخصومه على الشريعة الغراء جتويز تعدد الزوجات‪.‬‬
‫أحيل القارئ على كتاب الدكتور مصطفى السباعي «املرأة بني الفقه والقانون»‪ ،‬فقد‬
‫أحسن رمحه اهلل يف عرض هذه القضية على ضوء الواقع‪.‬‬
‫وإن تعدد الزوجات لرخصةٌ من ربنا عز وجل الذي يعلم أن جمتمعا جهاديا‬
‫كاجملتمع اإلسالمي يستشهد فيه الرجال‪ ،‬وأن عدد املواليد اإلناث قد يكون وافيا‬
‫على عدد الذكور‪ ،‬وأن الزوجة الواحدة قد تع ُق ُم وقد مترض‪ ،‬وأن من األزواج من ال‬
‫ألَ َم الغريزة‬
‫تفي واحدة مع ما يعرتيها من عوارض حبـاجته‪ .‬لذلك رخص بالتعدد‪ ،‬و ْ‬
‫صتُ ْم﴾‪.1‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِّساء َولَ ْو َح َر ْ‬
‫امليالة للجموح بلجام‪َ ﴿ :‬ولَن تَ ْستَطيعُواْ أَن تـَْعدلُواْ بـَْي َن الن َ‬
‫جعل الطالق بيد الزوج‪ .‬فإن كان‬ ‫ومما يعيبه األعداء على شريعتنا احلكيمة ُ‬
‫تسرع بعض األزواج يف الطالق‪ ،‬فليس ذاك عيبا يف‬ ‫مغمٌز‪ ،‬ويف ُّ‬‫يف فعل املسلمني َ‬
‫الشريعة اليت جعلت الطالق أبغض احلالل إىل اهلل‪ ،‬وال يف الفقه الذي أجاز للمرأة‬
‫خاصة الفقه احلنبلي أن تشرتط أن يكون طالقها بِيدها‪ .‬ويف دولة القرآن ميكن أن‬
‫يقيد الطالق يف حاالت اإلجحاف البني بتمتيع املطلقة‪ .‬فنص القرآن يفرض أو‬
‫ب على خالف للزوجة املطلقة قبل املِساس متتيعا‪ .‬وفَ ِه َم من األئمة والصحابة‬ ‫ِ‬
‫يستح ُّ‬
‫عبد اهلل بن عباس وابن عمر وعطاء وسعيد بن جبري والشافعي يف أحد قوليه واإلمام‬
‫أمحد أن التمتيع حق لكل مطلقة‪ .‬وهبذا نضع الزواج بني مثايل وازع القرآن وواقع‬
‫وازع السلطان‪ .‬واهلل يهدي من يشاء إىل صراط مستقيم‪ .‬واحلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.128‬‬

‫‪301‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫حافظة الفطرة‬
‫الوهاب اخلالق العليم البارئ املصور‪ ،‬جعل أحشاء األم قرارا‬ ‫ِ‬ ‫سبحان ِ‬
‫امللك‬
‫مكينا لإلنسان يف أطوار ختلقه العجيب‪ ،‬وجعل له يف األرض ُمستقـرا بعد ذلك إىل‬
‫خلق اإلنسان‪ ،‬ومن آياته‬ ‫حني يف كنَف َرمحتها ومودهتا‪ .‬من آياته العظمى سبحانه ُ‬
‫املتوجه بكيانه‬‫العظمى ما جعل بني حنايا األم من مودة للكائن الضعيف الغض ِّ‬
‫املتشرب يف طفولته إىل ما معها‬ ‫اجلديد كله إىل ما تلقيه إليه األم من ِغذاء جلسمه‪ِّ ،‬‬
‫وس ِّح اإلميان إن كانت من أهل اإلميان‪.‬‬ ‫من َد ِّر القلوب َ‬
‫عرب األجيال عن طريق األمومة‪ ،‬مفتوال‬ ‫حبل الفطرة ممتدا َ‬ ‫جعل اهلل عز وجل َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وروح الطفل حيبو حنو الرجولة وينهض وله من‬ ‫ُمبـَْرماً‪ ،‬ش َّقاهُ جسم اجلنني مث الطفل‪ُ ،‬‬
‫قُدوة أمه وكلماهتا البسيطة وإخبارها حبقائق وجود اهلل تعاىل وخرب اآلخرة ز ٌاد منه‬
‫يستفيض عُ ْمَره‪.‬‬
‫الفطرة االستقامة األصلية على الدين‪ ،‬علَّ َمها آدم عليه السالم بنيه‪ ،‬وعلمتها‬
‫ت يف األقوام جذوة‬ ‫فرت ْ‬
‫أجيال بنيه وبناته ذريـَّتَهم‪ ،‬ويبعث اهلل عز وجل الرسل كلما َ‬
‫اإلميان ليبعثوها فيهم حية‪ .‬والوالدان سفريان دائمان لوصل الرسالة الفطرية‪ ،‬خاصة‬
‫األم‪.‬‬
‫ك‬ ‫قال اهلل عز وجل لنبيه حممد صلى اهلل عليه وسلم ولنا معه‪﴿ :‬فَأَقِ ْم َو ْج َه َ‬
‫ِّين‬
‫ك الد ُ‬ ‫يل لِ َخل ِْق اللَّ ِه َذلِ َ‬ ‫ِ‬
‫َّاس َعلَيـَْها َل تـَْبد َ‬
‫َّ ِ َِّ‬ ‫ِ ِ‬
‫للدِّي ِن ‪َ1‬حنيفاً فط َْرةَ الله التي فَطََر الن َ‬
‫ِ‬
‫الْ َقيِّ ُم﴾ ‪.‬‬
‫تلقني اإلميان للناشئ‬ ‫حنيفا أي مستقيما‪ .‬واحلنيفية مسحة سهلة بسيطة‪ .‬ال حيتاج ُ‬
‫يف حجر والديْه‪ ،‬خاصة ِّأم ِه‪ ،‬لفلسفة واستدالل على وجود اهلل تعاىل‪ ،‬وعلى معىن‬

‫‪ 1‬سورة الروم‪ ،‬اآلية ‪.29‬‬

‫‪302‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وجود اإلنسان‪ ،‬وعلى موته ومصريه بعد املوت‪ ،‬وعلى الدار اآلخرة وحقائقها‪ .‬يكفي‬
‫احملبوب ال ُـم ْح ِس ُن‪ُّ ،‬أمه خاصة‪ ،‬فإذا‬
‫ُ‬ ‫َّق‬
‫بداهته‪ ،‬املصد ُ‬ ‫أن ُيِ َبه‪ ،‬وأن جييب عن أسئلة َ‬
‫باإلميان يستقر يف قلبه كاستقرار مادة احلياة موروثةً عن الوالدين‪.‬‬
‫ثات اإلميانية‬
‫هذه هي اجلذور الفطرية السليمة لإلميان‪ ،‬فإن تلَ َّوثت ال ُـم َوِّر ُ‬
‫مشوَه املعىن كما تتشوه اخلِلقة اجلسمية مبرض‬ ‫الفطرية يف جيل نزل اجليل املولود َّ‬
‫املوِّرثات اجلسمية وفسادها‪ .‬وحيتاج األمر يف احلالتني إىل تطبيب‪.‬‬ ‫َ‬
‫بعث اهلل عز وجل حممدا صلى اهلل عليه وسلم خامت املرسلني يف أمة ِّأمية‪،‬‬
‫يئة مما كان يف أمم اهلند وفارس والروم من فساد‬ ‫قريبة من حالة السالمة الفطرية‪ ،‬بر ٍ‬
‫يف الفطرة وانسداد يف مسالكها بالفلسفة واحلملقة الفكرية الالهية يف الدنيا عن‬
‫السؤال البديهي‪ :‬من خلقين‪ ،‬وملاذا‪ ،‬وإىل أين مصريي بعد املوت؟ بعثه سبحانه إىل‬ ‫ُّ‬
‫أمة ّأمية‪ ،‬نِسبةً إىل األم‪ ،‬ال تزال حمتفظة ببقايا احلنيفية السمحة من ملة إبراهيم‬
‫فشوهتها‪ ،‬لكن اإلقر َار‬ ‫وإمساعيل عليهما السالم‪ .‬دخلت الوثنية والشرك على الفطرة ّ‬
‫بوجود الرب اخلالق الرزاق كان خربا موروثا‪ .‬غابت حقائق اآلخرة وزعم املشركون‬
‫وت َونَ ْحيَا َوَما يـُْهلِ ُكنَا إَِّل َّ‬
‫الد ْه ُر﴾‪ ،1‬لكن‬ ‫العرب‪َ ﴿:‬ما ِه َي إَِّل َحيَاتـُنَا ُّ‬
‫الدنـْيَا نَ ُم ُ‬
‫احمل َّل كان سرعان ما يتقبل احلق من النذير البشري ألن احملل مل ينشغل بفلسفة ملتوية‬ ‫َ‬
‫نسائم التبليغ الصادق‬‫ُ‬ ‫على نفسها تن ُفث السموم‪ .‬إمنا كانت دهريَّة سا َذ َجةً تذروها‬
‫بِال ٍ‬
‫عناء‪.‬‬
‫وحفظ اهلل عز وجل الفطرة يف أجيال املسلمني‪ ،‬من أهم ما حفظ‪ ،‬برتبية‬
‫ف احملفوظ من الفطرة‬ ‫ض ْع ِ‬
‫األبوين املسلمني املؤمنني‪ .‬حىت نصل إىل عصرنا‪ ،‬وإىل َ‬
‫عند أمهات الغثاء‪ ،‬واحنرافه عن االستقامة احلنيفية‪ ،‬وتَ َسُّربه يف رمال الفتنة ورماد‬
‫املادية القاحل‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة اجلاثية‪ ،‬اآلية ‪.23‬‬

‫‪303‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ينربي هلا بقومة ُْميِيَ ٍة مقومة إال أمهات‬
‫نَ ْكبَةٌ َورقدة يف الفطرة ال ميكن أن َ‬
‫صاحلات قائمات بوظيفتهن احلافظية كاملة غري منقوصة‪ .‬وإنك جتد أمهات الغثاء‬
‫الاليت ضيـَّعن على م َدى ٍ‬
‫أجيال اجلَديلة ال َـم ْعنويَّة من ضفرية الفطرة يعتنني بدقة مبا‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫ضاعه الفطري يف غياب‬ ‫يرضع الطفل ويلبس ويطبَّب‪ .‬لكنهن عن نشأته اإلميانية ور ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫َُ‬
‫اجلسم يُدلَّ ُل ويُنعم ويُصان‪ ،‬والروح تربيتها سائبة ناكبة غائبة‪ .‬تنطق هذه‬ ‫ُ‬ ‫ُمذهل‪.‬‬
‫احلالة الرديئة بِدهريَّة تـ ّقمصت األم وظللت طفولة أبنائها وبناهتا ب َق ِ‬
‫تام الغفلة عن اهلل‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وضباب احلِياد والتجاهل والالمباالة أمام السؤال الفطري‬ ‫ِ‬ ‫وظالم اجلهل مبا أنزل اهلل‪،‬‬
‫ليد‪.‬‬
‫املصريي األخروي‪ .‬ال خترب األم وال يأبَه الو ُ‬
‫وتأملت أخيت يا حافظة الفطرة تكليفا وتشريفا‪َ ،‬كم‬ ‫ِ‬ ‫تأملت معي أخي‪،‬‬ ‫لو‬
‫َ‬
‫من جرائد وجمالت وكتب تنشر يف العامل‪ ،‬وكم غابات حتصد ليصنع الورق‪ ،‬وكم‬
‫امج‬
‫آالت تدور‪ ،‬وكم أفالم تصور‪ ،‬وكم آالت تـَبُث‪ ،‬وكم أجهزة تلتقط‪ ،‬وكم بر َ‬
‫وكم موظفني‪ .‬كل أولئك ال يتحدث إال عن الدنيا وزينتها ولعبها وعبثها وملذاهتا‬
‫وه َوس حركتها‪ .‬واألمهات‬ ‫وشهواهتا وأزماهتا وسياستها واقتصادها واضطراب أهلها َ‬
‫مغلوبات فيه انغالب الرجل‪ .‬والدين يف زاوية منسية‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫جاريات يف ذلك الضجيج‪،‬‬
‫وأعظم نبٍإ يف الوجود مسكوت عنه‪ :‬أال وهو نبأ البعث والنشور‪ ،‬واحلساب واجلزاء‪،‬‬
‫واجلنة والنار‪ ،‬وكون الدنيا دار مََر وامتحان واختبار‪ .‬لو كان الناس عقالء الحتل هذا‬
‫النبأ الصفحة األوىل الدائمة من اهتمام الكل‪ .‬لكن الناس انطمست فيهم الفطرةُ‬
‫انبتت وانقطعت‪ .‬ووصلُها‪ ،‬يا من اخرتن اهلل ورسوله والدار اآلخرة‪ ،‬ال يكون إال‬ ‫و َ‬
‫ي تغ ّذين به الطفل يف ليونته ِغذاء اإلميان‪ .‬وما يف ذلك من كبري ع ٍ‬
‫ناء‪،‬‬ ‫َ‬ ‫حببل ُسِّر ٍّ ُ‬
‫الفطري واملودة والرمحة‪ ،‬وهن من لطائف خلق اهلل يف قلب األمهات‪ ،‬ميازيب‬ ‫ُّ‬ ‫فاحلُنـُُّو‬
‫توصل اخلََب على أقصر طريق وأصدقه وأبلغِه أثراً‪.‬‬ ‫ِ‬

‫‪304‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫انطمست الفطرة يف هذه األعصار التكنولوجية اجلنونية الراكضة خلف‬
‫االستهالك واملْتعة والشهوة‪ ،‬وانغمرت وانغطست حتت ُركام دهرية مفلسفة معقدة‪.‬‬
‫وتعقدها من أداء مهمة األبوين‪ ،‬وال يُِزغنا متشدقُها وحذلقتها‬ ‫ال ُِي ْفنا التواؤها ُّ‬
‫الفطري‪:‬بث كلمة احلق يف الطفل يف الوقت املناسب‪ ،‬بالبساطة‬ ‫ِّ‬ ‫عن األسلوب‬
‫كنز ال يفىن‪،‬‬
‫املناسبة‪ ،‬من القلب للقلب‪ .‬وذلك إن فعلنا‪ ،‬وفعلت األم خاصة‪ٌ ،‬‬
‫وبذرة حية ال تلبث بإذن اهلل أن ترتعرع شجرة طيبة تويت أكلها كل حني بإذن رهبا‪.‬‬
‫ال لِلن ِ‬
‫َّاس لَ َعلَّ ُه ْم يـَتَ َذ َّك ُرو َن﴾‪.1‬‬ ‫ض ِر ُ‬
‫ب اللّهُ األ َْمثَ َ‬ ‫﴿ َويَ ْ‬
‫جاءت الكشوفات العلمية واآلالت العجيبة يف عصرنا بصور السدائم يف األبعاد‬
‫الرجبِيَّات (األميبات) بأن احلياة ظهرت بسيطة على هذا‬ ‫السحيقة للكون‪ ،‬وأخربهتا َ‬
‫الكوكب الصغري‪ ،‬التافه بإزاء ماليري ماليري النجوم‪ ،‬منذ مليارين من األعوام‪ .‬وأنبأهتا‬
‫احلفريات أنه بعد مآت املاليني من السنني تطورت الرجبية وتركبت فظهر كائن معقد‪،‬‬
‫تطور بعد كذا وكذا من ماليني السنني حىت صار مسكة‪ ،‬مث زاحفة خرجت من البحر‪،‬‬
‫مث لَبونة تكيفت بالبيئة وصارعت التغريات احلياتية حىت تسلقت الشجرة‪ ،‬وإذا على‬
‫ابن عمه‪ ،‬إىل األرض‪ ،‬فإذا هو بشـري‪ ،‬ويتطور حىت‬ ‫الشجرة قرد‪ ،‬وإذا القرد ينزل‪ ،‬أو ُ‬
‫يصبح أنا وأنت‪ .‬هذه هي اخلرافية التطورية اليت تشكل قاعدة «الثقافة العاملية»‪.‬‬
‫ِ‬
‫العقيمة‬ ‫عظمها يف فرضيتها‪،‬‬ ‫حتت هذا الركام من املعلومات الصحيحة ُم ُ‬
‫ِ‬
‫السقيمة يف تعليالهتا وتنسيقاهتا‪ ،‬تنطمر الفطرة‪ ،‬وهبا ينشغل العقل املعاشي النشط‬
‫الكليل عندنا‪ .‬وسبحان اهلل! ها أنت َموجود‪ ،‬فل َـم وإىل أين ما دامت‬
‫ُ‬ ‫عند غرينا‪،‬‬
‫وم ْن أنت وما‬ ‫ِ‬
‫عقالنيتك ُمنبنيَة على السببية والعلية واملقدمات تتبعها النتائج؟ َ‬
‫عقالنيتك ومن أين وإىل أين؟‬

‫‪ 1‬سورة إبراهيم‪ ،‬اآلية ‪.27‬‬

‫‪305‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ببساطة احلق‪ ،‬ونصاعة اليقني حني يتجلى للقلوب السليمة خيربنا اهلل عز وجل عن‬
‫نسا َن بَِوالِ َديْ ِه‬
‫ال َ‬ ‫صيـْنَا ِْ‬‫تدلّ ِيه من جيل جليل‪ .‬قال عز من قائل‪َ ﴿ :‬وَو َّ‬ ‫حبل الفطرة يف َ‬
‫صيـْنَا‬‫صالُهُ ثََلثُو َن َش ْهراً َوَو َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َع ْتهُ ُك ْرهاً َو َح ْملُهُ َوف َ‬ ‫ساناً َح َملَْتهُ أ ُُّمهُ ُك ْرهاً َوَو َ‬ ‫إ ْح َ‬
‫صالُهُ ثََلثُو َن‬ ‫ِ‬
‫ض َع ْتهُ ُك ْرهاً َو َح ْملُهُ َوف َ‬ ‫ساناً َح َملَْتهُ أ ُُّمهُ ُك ْرهاً َوَو َ‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫ِْ‬
‫نسا َن ب َوال َديْه إ ْح َ‬ ‫ال َ‬
‫ب أ َْوِز ْعنِي أَ ْن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتَ َ‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫ال َر ِّ‬ ‫َش ْهراً َحتَّى إِ َذا بـَلَ َغ أَ ُش َّدهُ َوبـَلَ َغ أ َْربَع َ‬
‫ين َسنَةً قَ َ‬
‫َصلِ ْح لِي فِي ذُ ِّريَّتِي‬ ‫ضاهُ َوأ ْ‬ ‫صالِحاً تـَْر َ‬ ‫ي َوأَ ْن أَ ْع َم َل َ‬ ‫ت َعلَ َّي َو َعلَى َوالِ َد َّ‬ ‫الَّتِي أَنـَْع ْم َ‬
‫س َن َما َع ِملُوا‬ ‫ك وإِنِّي ِمن الْمسلِ ِمين أُولَئِ َ َّ ِ‬
‫َح َ‬ ‫ين نـَتـََقبَّ ُل َعنـْ ُه ْم أ ْ‬
‫ك الذ َ‬ ‫َ ُْ َ ْ‬ ‫ت إِلَْي َ َ‬ ‫إِنِّي تـُْب ُ‬
‫وع ُدو َن‬ ‫الص ْد ِق الَّ ِذي َكانُوا يُ َ‬ ‫ْجن َِّة َو ْع َد ِّ‬ ‫اب ال َ‬‫َص َح ِ‬ ‫ِ‬
‫جاوُز َعن َسيِّئَاتِ ِه ْم في أ ْ‬ ‫َونـَتَ َ‬
‫ِ‬ ‫أُولَئِ َ َّ ِ‬
‫اب‬‫َص َح ِ‬ ‫جاوُز َعن َسيِّئَاتِ ِه ْم في أ ْ‬ ‫ِ‬
‫س َن َما َعملُوا َونـَتَ َ‬ ‫َ‬ ‫َح‬
‫ين نـَتـََقبَّ ُل َعنـْ ُه ْم أ ْ‬
‫ك الذ َ‬ ‫ْ‬
‫وع ُدو َن﴾ ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الص ْدق الذي َكانُوا يُ َ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ْجنَّة َو ْع َد ِّ‬‫ِ‬
‫ال َ‬
‫‪1‬‬

‫شكر هلل تعاىل على ما أنعم عليه وعلى والديه من نعمة اإلميان خاصة‪ ،‬ودعاءٌ‬ ‫ٌ‬
‫مثوى للذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإميان‪ .‬هذه هي القاعدة‬ ‫بالصالح لذريته‪ ،‬واجلنة ً‬
‫الفطرية‪.‬‬
‫وروى الشيخان وغريمها واللفظ للبخاري عن أيب هريرة رضي اهلل عنه أن رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬ما من مولود إال يولد على الفطرة‪ .‬فأبواه يهودانه أو‬
‫ينصراه أو ميجسانه‪ .‬كما تُنتَ ُج البهيمة هبيمة مجعاءَ‪ .‬هل ُِت ُّسو َن فيها من جدعاء!»‬
‫احلديث‪.‬‬
‫قال ابن األثري رمحه اهلل يف «جامع األصول»‪ :‬كل مولود من البشر إمنا‬
‫يولد يف مبدإ اخلِلقة وأصل اجلِبِلَّة على الفطرة السليمة والطبع املتهيِّئ ل َقبول‬
‫لزومها ومل يفارقها إىل غريها‪ .‬ألن‬‫الدين احلق‪ .‬فلو تُِرك عليها الستمر على ِ‬
‫يعدل عنه من‬ ‫هذا الدين حسنه موجود يف النفوس‪ ،‬وبِشره يف القلوب‪ .‬وإمنا ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫يعدل إىل غريه آلفة من آفات الشـر والتقليد‪...[ .‬الفطرة] فطرة اهلل تعاىل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وكونه متهيئا لقبول احلقيقة طبعا وطوعا‪ .‬ولو خلّته شياطني اإلنس واجلن وما‬
‫‪ 1‬سورة األحقاف‪ ،‬اآليتان ‪.15-14‬‬

‫‪306‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ِ‬
‫خيتار مل خيرت إال إياها‪ .‬وضرب [رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم] لذلك اجلمعاءَ‬
‫واجلدعاء مثال‪ .‬يعين أن البهيمة تولد َس ِويَّةَ األطرف‪ ،‬سليمة من اجلَ ْد ِع [وهو قطع‬
‫الناس وتعرضهم هلا لبقيت كما ُولدت سليمة»‪ .‬واهلل يهدي من‬ ‫األنف] وحنوه‪ .‬لوال ُ‬
‫يشاء إىل صراط مستقيم‪ .‬ال إله إال هو رب العرش العظيم‪.‬‬

‫‪307‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫املرأة والعمل‬
‫كتب اهلل جل شأنه على هذا اإلنسان الراحل يف الدنيا أن يسري على طريق‬
‫العنَاء‪ .‬من مجلة كبده‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حمفوف بالكبَد‪ ،‬وهو املشقة‪ ،‬مشروط بال َك ْدح‪ ،‬وهو السعي و َ‬
‫يكسب قوته وقوت عياله يف عامل يقبض اهلل فيه الرزق‬ ‫وكدحه اضطراره للعمل كي ِ‬
‫ُ‬
‫ب‬ ‫َّ‬
‫املرتف وال ُـمعدم املنَك ُ‬
‫ويتشاحون حىت يكو ُن فيهم الباذخ َ‬
‫ُّ‬ ‫العباد‬
‫ويبسط‪ ،‬ويتظامل ُ‬‫ُ‬
‫وتشاححهم أن تُضطر املرأة للعمل خارج بيتها عمال‬ ‫ِ‬ ‫خبصاصته‪ .‬من تظامل العباد‬
‫ُ‬
‫يشغلها عن وظيفتها الفطرية اجلليلة‪.‬‬
‫عمل وأعظم كسب ما عم نفعُه وامتد خريه ودامت إفاضاته‪ .‬وميوت‬ ‫أجل ٍ‬ ‫ُّ‬
‫املرء واملرأة الصاحلان فيبقى من كسبهما ما يُ ِد ّر الربكات عليهما وعلى الناس‪،‬‬
‫تطيب بغرسه حياهتما يف الدار اآلخرة‪ ،‬وتطيب مبا زرعاه حياةُ اخللق هنا من‬
‫رعيا وربـَّيَا‪.‬‬
‫بعدمها‪ .‬ذلك إذا أجنبا ذرية صاحلة موصولة الفطرة سليمةً حنيفةً مبا َ‬
‫ِ‬
‫ال‬‫ين َسنَةً قَ َ‬ ‫قال اهلل تعاىل عن اإلنسان املسلم‪َ ﴿ :‬حتَّى إِ َذا بـَلَ َغ أَ ُش َّدهُ َوبـَلَ َغ أ َْربَع َ‬
‫ت َعلَ َّي َو َعلَى َوالِ َد َّ‬
‫ي َوأَ ْن أَ ْع َم َل‬ ‫ك الَّتِي أَنـَْع ْم َ‬ ‫ب أ َْوِز ْعنِي أَ ْن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتَ َ‬
‫َر ِّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َصلِ ْح لِي فِي ذُ ِّريَّتِي إِنِّي تـُْب ُ‬ ‫صالِحاً تـَْر َ‬
‫ين﴾‪.1‬‬ ‫ك َوإِنِّي م َن ال ُْم ْسلم َ‬ ‫ت إِلَْي َ‬ ‫ضاهُ َوأ ْ‬ ‫َ‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إذا مات اإلنسان انقطع عملُه إال‬
‫صدقة جاريٍَة‪ ،‬أو ِعل ٍْم يُنت َف ُع به‪ ،‬أو َولَ ٍد صالح يدعو له»‪ .‬رواه مسلم‬ ‫ٍ‬ ‫من ثالثة‪:‬‬
‫وغريه عن أيب هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة األحقاف‪ ،‬اآلية ‪.14‬‬

‫‪308‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫فإذا كان هذا الو ُلد‪ ،‬ذكرا و أنثى‪ ،‬من العلم والصالح وبذل اخلري حبيث‬
‫أبرك‪ .‬وقد‬ ‫جيمع اخلصال الثالث كان دعاؤه لوالديه ْأرجى‪ ،‬وكانت عائدتُه عليهما َ‬
‫أمر اهلل عز وجل الولد الصاحل‪ ،‬ذكرا أو أنثى‪ ،‬أن يدعُ َو لوالديْه‪ ،‬بعد أن أوصاه هبما‬
‫لييـَُهما أيةُ مكانة جيب أن ُِيلَّهما من بِّره ووفائه ورفقه‪ .‬قال‬ ‫تلك الوصية البالغة ُِ‬
‫ساناً إِ َّما يـَبـْلُغَ َّن ِعن َد َك‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫ك أَالَّ تـَْعبُ ُدواْ إالَّ إيَّاهُ َوبال َْوال َديْ ِن إ ْح َ‬
‫ضى َربُّ َ‬‫جل وعال‪َ ﴿ :‬وقَ َ‬
‫ُف َوالَ تـَنـَْه ْرُه َما َوقُل لَّ ُه َما قـَْوالً َك ِريماً‬ ‫َح ُد ُه َما أ َْو كِالَ ُه َما فَالَ تـَُقل لَّ ُه َما أ ٍّ‬ ‫ِ‬
‫الْكبـََر أ َ‬
‫ص ِغيراً﴾‪.1‬‬ ‫ِ‬
‫ب ْار َح ْم ُه َما َك َما َربـَّيَاني َ‬ ‫الذ ِّل ِم َن َّ‬
‫الر ْح َم ِة َوقُل َّر ِّ‬ ‫اح ُّ‬ ‫ض لَ ُه َما َجنَ َ‬‫َوا ْخ ِف ْ‬
‫تعود إليهما تلك الرمحة اليت أحاطا هبا الصيب والطفـل واليافع رمحة تُستَ ْمطَُر‬
‫ب ْار َح ْم ُه َما َك َما‬ ‫احملفوظ الفطرِة برعايتهما‪َّ ﴿ .‬ر ِّ‬ ‫ِ‬ ‫َها بُِّر املولود‬ ‫على قربمها بعد أن يكأل ُ‬
‫َربـَّيَانِي﴾ الرتبية اجملدولة الطرفني‪ ،‬بل املثـَلَّثَةُ األطراف‪ :‬تربية اجلسم مبا يليق من غذاء‬
‫بية الروح باحلفاظ على سالمة الفطرة‪ ،‬وتربية العقل واملهارة ليكون املولود‬ ‫وكساء‪ ،‬وتر ِ‬
‫كاسبا عامال ال عالة على الناس‪.‬‬
‫عملَت وحتملت منكبد وكدح مضاعفني‪.‬‬ ‫ولألم ال َق ْدر األوفر من بر مولودها مبا ِ‬
‫ُ‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لرجل سأله‪ :‬من أحق الناس بصحابيت؟ هذه‬
‫«أمك!»‪ .‬قال الرجل‪ :‬مث من؟ قال‪« :‬أمك!»‪ .‬قال‪ :‬مث من؟ قال‪:‬‬ ‫الوصية الفاصلة‪ُّ :‬‬
‫«أمك!»‪ .‬قال‪ :‬مث من؟ قال‪« :‬أبوك»‪ .‬رواه الشيخان عن أيب هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫اجلهاد الشفيق للعناية هبما‪.‬‬ ‫ويشيخ الوالدان و ِ‬
‫يعجز ِان عن الكسب َّ‬
‫فيتعي على املولود ُ‬
‫خالف من أحد من الفقهاء يف وجوب النفقة على‬‫َ‬ ‫فرضاً مفروضاً ال تربعا اختياريا‪ .‬وال‬

‫‪ 1‬سورة اإلسراء‪ ،‬اآليتان ‪.24-23‬‬

‫‪309‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الوالدين العاجزين‪ ،‬يؤديها املولود طوعا واعرتافا وشكرا‪ ،‬وإال يرغمه عليها السلطان‬
‫يف الدنيا‪ ،‬ويَبوءُ يف اآلخرة بإمث العاقني‪ .‬وعقوق الوالدين من الكبائر املوبقات‪ .‬نعوذ‬
‫باهلل‪.‬‬
‫السوي‪ ،‬ويَصوُنا عن االبتذال يف‬ ‫ِّ‬ ‫األم يف اجملمع اإلسالمي‬
‫هكذا َيو ُط َّ‬
‫وفرض الرب الواجب احملتم‬ ‫فرض النفقة الواجبة على الزوج‪ُ ،‬‬ ‫اخلروج للكسب‪ ،‬فرضان‪ُ :‬‬
‫على األوالد‪ .‬وهي قبل زواجها وترملها يف كفالة والدها فرضاً واجبا‪ ،‬الَ ِمْن َحةً أبوية‬
‫تطوعية‪ .‬وانظر كيف حيث الشارع على الرب بالبنات يف قول رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫يوم القيامة أنا وهو» وضم أصابعه‪ .‬رواه‬ ‫وسلم‪« :‬من عال جاريتين حتى تبلغا جاء َ‬
‫مسلم والرتمذي عن أنس رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫صيانةٌ أخرى ورعاية إضافية حتنو على املسلمة لتتفرغ من أعباء الكسب خارج‬
‫شر والعطاء والرمحة‪ .‬ذلك ما ندب إليه الشارع‬‫ِ‬
‫بيتها وتوظف يف سعادة ساكنيه الب َ‬
‫وأكد عليه‪.‬‬
‫فمن حيث التـََفتـْنَا إىل فرائض الشـرع ومستحباته جند كل ما يوجه املسلمة‬
‫املؤمنة إىل وظيفتها اجلليلة األساسية‪ ،‬وما يفرغها من اهلموم املادية‪.‬‬
‫ِ‬
‫املتباينة‬ ‫ومن حيث التفتنا إىل واقع املسلمني‪ ،‬خاصة يف عصور االستهالكية‬
‫الفقر والبطالة إىل جانب الرتف والتبذير‪،‬‬
‫املكاسب تباينا فاحشا املتفشي فيها ُ‬
‫ُ‬ ‫فيها‬
‫جند ما يُ ِؤلُ القلب وحيزن النفس‪ .‬الضرورة تدفع نساء املسلمني املستضعفني للكسب‬
‫وماراة األوضاع العاملية واملوضات اجلاهلية تدفع األخريات المتهان‬
‫خارج البيت‪ُ .‬‬
‫وظائف تستهلك املرأة يف غري ما خلقت له‪ .‬وتتفكك األسرة‪ ،‬ويهيم جمتمع املسلمني‬
‫يف درب االحنالل األسروي الذي بلغ مداه يف اجملتمعات الغربية املصنعة الصاخبة‬
‫املنحلة‪.‬‬

‫‪310‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫االختيار بني الدنيا واآلخرة‪ ،‬بني حياة الفطرة‬
‫ُ‬ ‫إن كان مطروحا على املؤمنة‬
‫وحياة االستهالك‪ ،‬على مستوى اخلطاب القرآين الشرعي‪ ،‬فإن الواقع خياطبها بلغة‬
‫احلاجة‪ ،‬ولغة التنافس‪ ،‬ولغة الفاقة‪ ،‬ولغة «كرامة املرأة العاملة»‪ ،‬ولغة االستقالل‬
‫االقتصادي‪.‬‬
‫الواقع يف بالد املسلمني مٌّر ِ‬
‫عف ٌن‪ .‬وما يريده اإلسالميون للمرأة طويل املنال‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال ميكن أن نغري الواقع بني عشية وضحاها‪َّ .‬‬
‫وإن َوَمضات الري ِاع‪ ،‬وخفقات األمل‬
‫الراجي للخالفة الثانية لن تلبث أن تصطدم غداً القريب بإذن اهلل باحلقائق الصلبة‪.‬‬
‫لُب هذه احلقائق الظ ْل ُم االجتماعي الناتج عن التسلط السياسي‪ .‬واملرأة املضطرة‬
‫للكسب خارج بيتها من أعمال مل ُتلق هلا هي املظلوم األضعف‪ .‬وإنصافُها من‬
‫األولويات‪.‬‬
‫ْ‬
‫إن أمةً مشكلتها احلياتية األوىل هي اخلروج من ِربقة التخلف جلديـرة أن‬
‫تستفيد من جهود كل أبنائها وبناهتا‪ .‬وللمرأة مكاهنا حتت دولة القـرآن يف وظائف‬
‫التعليم مبراحله لبنات جنسها‪ ،‬والتطبيب هلن‪ ،‬وسائر األنشطة االجتماعية‪ ،‬وغريها‬
‫مما ال يتناىف مع احلشمة واألخالق والعفة والتقوى‪.‬‬
‫ٍ‬
‫خمتلطات بالرجال‪ ،‬متربجات خمتليات‬ ‫لكن أن َتأل النساءُ دواوين احلكومة‬
‫بالرئيس واملرؤوس‪ ،‬عاقدات املواعيد التطبيقية ملا يشاهد يف األفالم اخلَالعية! هذا‬
‫منكر‪.‬‬
‫وأن يرتك األطفال للخادمة وملراكز احلضانة تُطعمهن األيدي األجرية طعام‬
‫فعمةَ اجلسم بفتوة ال تنشأ إال بثدي‬
‫يدها ُم َ‬
‫احلرمان العاطفي! هذا ضياع ألجيال نر ُ‬
‫األمهات‪ ،‬عامرة القلب بإميان فطري ال تتأهل للحفاظ عليه وتأسيسه إال رمحة‬
‫األمهات‪ ،‬متوثبة اهلِمة إىل معايل العزة باهلل والعزة لألمة‪ ،‬عزٍة ال ميكن أن تتولد يف‬
‫أحضان اخلادمة ومراكز احلضانة وشارع البؤس‪.‬‬

‫‪311‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ظهرانـَْينا‪ ،‬يف صر ِاع قِيَ ٍم‪ ،‬أينا‬
‫إننا وإياهم‪ ،‬أعين ُوكالء احلضارة اجلاهلية بني ْ‬
‫اليوم يسلحون هجمة شرسة على ثغر‬ ‫ينجرف وينهزم‪ .‬وقد رحبوا أشواطا‪ .‬وهم َ‬
‫جل التطورية ليُجهزوا على ما تـَبـََّقى من‬‫حيشدون خيل الغَواية َور َ‬
‫عزيز من ثغور األمة ُ‬
‫حصونه‪ :‬املرأة املسلمة‪.‬‬
‫من عجائب املوافقات أن أوجست كونت الفيلسوف الوضعي الفرنسي رائد‬
‫«علم» االجتماع له رأي حصيف يف صون املرأة عن االبتذال يف العمل خارج‬
‫البيت‪ .‬يرى واجبا مقدسا على الرجل أن يكفيها نفقاهتا لتتفرغ إلسعاد أهل بيتها‪.‬‬
‫ويرى أن على اهليئة االجتماعية أن تك ُفلها يف مادياهتا الكفالة التامة‪ .‬إنه فيلسوف‬
‫تطوري ال يـُْن ِف ُق من حضارته إال كلمة منه إليه لدحض رأيه هذا‪ :‬فكر جتاوزه الواقع!‬
‫ُّ‬
‫ولربتراند روسل‪ ،‬الفيلسوف اإلجنليزي املعاصر ‪-‬هلك منذ قريب‪ -‬هذه الكلمة‬
‫يف حق املرأة العاملة التائهة الزائغة باستقالهلا االقتصادي‪ .‬قال‪« :‬إن األسرة احنلت‬
‫باستخدام املرأة يف األعمال العامة‪ .‬وأظهر االختبار أن املرأة تـَتَ َمَّرُد على تقاليد‬
‫األخالق املألوفة‪ ،‬وتأىب أن تظَ َّل أ ََمةً لرجل واحد إذا حتررت اقتصاديا»‪ .‬أي عدو‬
‫للمرأة هذا! أم أي ناصح ملن يلتقط احلكمة!‬

‫إن املسلمني مسافرون على قطار اإلنسانية‪ ،‬ال ميكن أن يَِقفوه ليبنوا ألنفسهم ِسكة‬
‫إال أن يُعدوا القوة على املدى البعيد‪ .‬ويف أثناء اإلعداد نرى تطور االقتصاد ووسائل اإلنتاج‬
‫من َم ْكنـَنَ ٍة وروبوط وإعالميات‪ ،‬وخيلق ما ال تعلمون‪ ،‬جتري بالبشرية إىل تقليص أوقات‬
‫الشغل على العاملني والعامالت‪ .‬وهم منذ اآلن حيسبُون لوقت فراغ الناس فيم يوظف‪،‬‬
‫ال يهتـدون إىل غري اإلجازة واملرح والسياحة‪ .‬وحنن إىل حترير املرأة من الشغل الفـاتن جيب‬

‫‪312‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫االختيار بني الدنيا واآلخرة وهي خار َج قبضة احلاجة‬
‫ُ‬ ‫طر ُح عليها‬
‫أن ُنطط‪ ،‬وعندئذ يُ َ‬
‫والفاقة والتمثل «بكرامة املرأة العاملة» واستقالهلا املزعوم‪.‬‬

‫قال سيد قطب رمحه اهلل يف كتابه «معامل يف الطريق»‪« :‬حني تتخلى املرأة عن‬
‫وظيفتها األساسية يف رعاية اجليل اجلديد‪ ،‬وتـُْؤثُِر هي ‪-‬أو يـُْؤثُِر هلا اجملتمع‪ -‬أن تكون‬
‫مضيفة يف فندق أو سفينة أو طائرة! حني تنفق طاقتها يف «اإلنتاج املادي» و«صناعة‬
‫املادي يومئذ أغلى وأعز‬
‫األدوات» وال تنفقها يف «صناعة اإلنسانية»! ألن اإلنتاج َّ‬
‫وأكرم من «اإلنتاج اإلنساين»‪ ،‬عندئذ يكون هذا هو «التخلف احلضاري» بالقياس‬
‫اإلنساين… أو تكون هي «اجلاهلية» باملصطلح اإلسالمي!‬

‫قال رمحه اهلل‪« :‬وقضية األسرة والعالقات بني اجلنسني قضية حامسة يف حتديد‬
‫صفة اجملتمع… متخلف أو متحضـر… جاهلي أم إسالمي»‪.‬‬

‫خطاب حي من يَر ٍاع حي‪ .‬ويبقى ما يكتبه الشهداء رمادا خامدا هامدا إال أن‬ ‫ٌ‬
‫تستثري منه مهم األحياء باحلياة الدنيا شرارةَ الفعل‪ ،‬وحافز القومة‪ ،‬وروح االستشهاد‪.‬‬
‫َحيَاء ِعن َد َربِّ ِه ْم﴾‪.1‬‬ ‫﴿والَ تَحسب َّن الَّ ِذين قُتِلُواْ فِي سبِ ِ ِ‬
‫يل اللّه أ َْم َواتاً بَ ْل أ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ََ‬

‫‪ 1‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.169‬‬

‫‪313‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫املرأة واحلرية‬
‫تستحب مرضاة اهلل تعاىل‬
‫َّ‬ ‫ماذا يعين أن ختتار املرأة اآلخرة على الدنيا‪ ،‬وأن‬
‫العطالة واالستقالة من أعباء الدنيا‪ ،‬واخلروج من‬ ‫على مرضاة هواها؟ أهي البِطالة و َ‬
‫هادي لنؤكد يف منظور القومة ومستقبل بناء‬ ‫الز ِّ‬
‫دائرة النشاط احليايت؟ نذكر هبذا الفهم َّ‬
‫أن اختيار احلياة الطيبة على احلياة الدنيا يعين مزيدا من العمل الصاحل املثمر‬ ‫األمة َّ‬
‫الذي تزكيه النية اجلهادية والتعاون اجلماعي على الرب والتقوى‪ ،‬فيصدر من كل مؤمن‬
‫ومؤمنة مسامهة فعالة منتجة تقتحم العقبات وتتقدم وال ُْت ِج ُم‪.‬‬
‫واملسلمات‪ ،‬واملسلمون‪ ،‬يف ديار اإلسالم قد اختاروا كما اختار أمهاهتم‬
‫وآباؤهم من قبل‪ ،‬وورثوا كما ورثوا‪ ،‬اإلسالم دينا‪ ،‬ورضوا باهلل عز وجل ربا‪ .‬إال‬
‫حبل الفطرة وانقطع هبن‪.‬‬
‫الشاذين ممن انقطع عنهم ُ‬
‫جهود العمـل الدعوي‪ .‬وإىل‬
‫ُ‬ ‫توجه‬
‫وإىل هؤالء الراضني واملنقطعني جيب أن َّ‬
‫تصمد جهود األخوات الصاحلات إىل اإلميان ومقتضياته‬
‫النساء املسلمات ينبغي أن ُ‬
‫ينص ْرن الدين وأن يأمرن باملعروف وأن ينهني عن املنكر يف بنات‬
‫الوالئية‪ .‬عليهن أن ُ‬
‫َ‬
‫جنسهن ّأول شيء‪ .‬فما وقع من العطب يف نساء املسلمني‪ ،‬وما جلبته عليهن موجة‬
‫«حترير املرأة»‪ ،‬بل حتديـرها بالدال‪ ،‬هو عطب يف التصميم‪ ،‬وختريب يف األساس ال‬
‫يف األطراف‪.‬‬
‫ولئن كان تفرغ األمهات لتنشئة األجيال املؤمنة وحفظ الفطرة سليمة من‬
‫أسبق املهمات املستقبلية‪ ،‬فإن تربية األمهات تكون الشرط األسبق واملطلَب‬
‫ليس ُددن‬
‫األوثق‪ .‬وذلك ما جيب أن تـُْفرغ فيه جهود املؤمنات املنتسبات للدعوة ْ‬
‫ثغرات تركها يف نسائنا اجلهل املوروث‪ ،‬والفقر املثبط‪ ،‬ومرض الفطرة‪.‬‬

‫‪314‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫مثرةَ‬ ‫نرى بأسف من املؤمنات املتعلمات الصاحيات إلمياهنن من تَص ِر ُ‬
‫ف وقتها و َ‬
‫وفائها يف املالسنات واحملاورات الثقافية يف احملافل السياسية وإزاء طائفة املتعلمات‬
‫املمسوسات احلائرات الالهجات بشعارات «حترير املرأة»‪ ،‬بينما السواد األعظم من‬
‫املسلمات الشعبيات أمهات جيل الغد مطروحات يف حيِّز الكم املهمل‪.‬‬
‫يتعلق مهُّ ُه ّن‪ ،‬بل يـَُعلّ ُق تعليقاً مما يُقلِّ ْد َن بدون شعور‬
‫نرى بأسف أن نساء الدعوة ُ‬
‫املرأة العصرية‪ ،‬بتسلق السلم التنظيمي يف مجاعة االنتماء ليصبحن مسؤوالت‪ .‬ومن‬
‫اجلماعات اإلسالمية ما يتبارى يف صنع «مناضالت إسالميات» خيْ َج ُل نظرياهتن‬
‫املتربجات اليساريات من ُجرأتِِن يف احلوار وثقافتهن السياسية وإبانتهن يف اخلطاب‪.‬‬
‫احلق يف واجهة ليس هلا غريهن‪:‬‬‫وقليال ما نرى مؤمنات منصرفات للجهاد ِّ‬
‫اجهة العمل املتواضع الدؤوب مع املسلمات يف امليدان‪ ،‬ال يف املناظرات البهرجية‪.‬‬ ‫و ِ‬
‫أقول إن واجهة احلوار مع املثقفات والكتابة يف اجلرائد اإلسالمية واجملالت عمل‬ ‫ال ُ‬
‫ال جيدي وال يليق باملؤمنات أن يلتفنت إليه‪ .‬بل أعطيه من األمهية ما يستحق‪ ،‬ال‬
‫أجعله كل ال ُـم ِه ِّم‪.‬‬
‫ص ْقع نـَبَ َذتـْ ُه َّن فيه حاجة الكسب وحركة‬
‫وهناك يف بيوت املسلمات‪ ،‬ويف كل َ‬
‫اجملتمع‪ ،‬ثغرة من ثغور املسلمني ال يَ ُسدُّها إال املؤمنات‪ .‬يـَُعلِّ ْم َن األساسيات‪،‬‬
‫حن البديهيات‪ ،‬يُطَ ِّه ْر َن اجلذور‪ ،‬يـَُقلِّ ْم َن الفروع اخلبيثة‪ ،‬بصرب وتؤدة ومتابعة‪.‬‬
‫ص ِّح َ‬
‫يُ َ‬
‫يُعلمن النظافة والكياسة يف احلياة االجتماعية كما يعلمن الوضوء والصالة والعقيدة‪.‬‬
‫الب باألقارب وخصال‬ ‫يلقِّن مبادئ االقتصاد املنزيل وتربية الطفل ومعاشرة الزوج و ِ‬
‫ُ َ‬
‫اإلميان‪ .‬حياربن األمية الدينية حماربتهن األمية األجبدية‪.‬‬
‫بدل النشاط احلركي السياسي الذي يقوم عليه املؤمنون‪ ،‬يتفرغ املؤمنات للعمل‬ ‫َ‬
‫هناك تبدأ هزمية الدعاة والداعيات للتطورية التقدمية اإلحلادية‬
‫العيين امليداين الرتبوي‪ .‬فمن َ‬

‫‪315‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫االختالطية‪ ،‬ال يف معارض اللَّ َسانة والعروض السياسية‪ .‬هناك حيرز النصر أو ُتْسر‬
‫كسب األمهات إىل صف اإلميان هو املعركة‬
‫احلرب‪ .‬إن الرها َن مصريُ أجيال األمة‪ ،‬و ُ‬
‫احلامسة‪ .‬احلامسة‪.‬‬
‫يد‪ ،‬منذ كتب قاسم أمني وأضرابُه‬ ‫بدأ التخريب يف األساس منذ سبعني سنة ويز ُ‬
‫خبجل أوال مث جبسارة متطاولة عن «حترير املرأة»‪ .‬لرباليون مث ماركسيون سياسيون‬
‫ومتحللون إباحيون أثناء ذلك قالوا كلهم كلمة أبناء الدنيا للمرأة املسلمة اليت كانت‪،‬‬
‫وال تزال‪ ،‬املظلومة األوىل يف اجملتمع الفتنوي الغثائي‪ .‬وزينوا هلا وبينوا‪ ،‬وصربوا وثابروا‪،‬‬
‫وصنعوا زعيمات «حمررات» حىت آل األمر إىل ما نرى واألمل حيز يف أنفسنا من‬
‫اجبكن يا أخوايت‪ ،‬ليس‬
‫األم‪ ،‬فإقامة بنائه و َّ‬ ‫احنالل وتفسخ‪ .‬خربوا األساس‪ ،‬املرأةَ َّ‬
‫لذلك غريُكن‪ ،‬البَتَّةَ البتة!‬
‫قال املخربون مع قاسم أمني وبزعامته‪« :‬من املستحيل أن يقع إصالح ما‬
‫مؤسساً على العلوم العصرية احلديثة‪ .‬وإن أحوال اإلنسان‬
‫يف أحوالنا إذا مل يكن َّ‬
‫مهما اختلفت‪ ،‬وسواء كانت مادية أو أدبية‪ ،‬خاضعة لسلطة العلم»‪ .‬والعلم عند‬
‫اللرباليني والشيوعيني من بعدهم هو التطور‪ .‬يقول قاسم‪« :‬إن نتيجة التمدن هي‬
‫يشاهد بني األمم املتوحشة أو‬
‫ُ‬ ‫َس ْوق اإلنسانية يف طريق واحدة‪ ،‬وإن التباين الذي‬
‫األم َم مل هتتد إىل وضع‬
‫اليت مل تصل إىل درجة معلومة من التمدن منشؤه أن أولئك َ‬
‫حالتها االجتماعية على أسس علمية»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬درجة الكمال االجتماعي التمديين عنده هو ما وصلت إليه أوربا‬
‫واملرأة األوربية‪« ،‬خريه وشره» كما قال طه حسني‪ .‬وذلك بقطع النظر عن كل‬
‫ري‪ ،‬وباالنقطاع عن كل دين ألن الدين ينايف العلم‪.‬‬ ‫هدف غ ِري التقليد التَ ُّ‬
‫طو ِّ‬

‫‪316‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ويفرض قاسم سائال يسأله‪ :‬ما هناية هذا التطور الذي يسوق املرأة يف أطوار‬
‫الكمال التمدين؟ فيجيب‪« :‬ذلك سر جمهول ليس يف طاقة أحد من الناس أن‬
‫يعلمه [‪ .]...‬وإمنا حنن على يقني من أمر واحد‪ :‬وهو أن اإلنسانيّة سائرة يف طريق‬
‫الكمال‪ .‬وليس علينا بعد ذلك أن َِن َّد َّ‬
‫السيـَْر فيه ونأخ َذ نصيبنا منه»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إىل اجملهول «الكمايل» يا عشاق حرية املرأة!‬
‫وتستفحل الدعوة التطورية واهلجمة على التقليد‪ ،‬واملقصود الدين‪ ،‬فيندفع‬
‫حىت بعض األزهريني لين ُفوا عن أنفسهم التهمة ويربروا يف َحلَبة التقدمية التطورية اليت‬
‫يسحب فيها قاسم وأضرابُه املرأة‪ .‬ويكتب خالد حممد خالد املتمركس يومئذ يف كتابه‬
‫«من هنا نبدأ»‪« :‬القاعدة هنا هي التطور‪ ،‬والشذوذ هو الرجعية واالنتكاس…‬
‫فكل زحف إىل الوراء مهما يتسم حبسن النية وسذاجة القصد ليس سوى رذيلة يف‬
‫تنكري خداع‪ .‬وليس هناك إمث أشد‪ ،‬وال خطيئة أفحش‪ ،‬من مقاومة التطور‬ ‫ٍّ‬ ‫ثوب‬
‫وإخضاع مستقبل األمة جلهلها القدمي»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لو كان خالد يومئذ ينتقد الفتنة املوروثة من ظلم وما جره الظلم على‬
‫األمة لكان مصيبا‪ .‬لكنه نظم قصيدة التمدح بالتطورية يف عرض احلديث عن‬
‫الفضيلة والغَ ْية‪ ،‬يعُ ُّد الفضيلة والعفة والغرية على املرأة كيدا عليها وإهدارا لكرامتها‪.‬‬
‫لتقاليد ٍ‬
‫بالية‪.‬‬ ‫غري مشروع‬
‫َ‬ ‫ويعد ذلك َوالءً َ‬
‫وتاب خالد بعد ذلك‪ ،‬كما رجع مصطفى حممود الذي كتب قبل رحلة رجوعه‬
‫من اإلحلاد إىل اإلسالم ما يلي من َوقاحات يف كتابه «اهلل اإلنسان»‪ .‬قال‪ ،‬وبئس‬
‫ما قال‪« :‬واخلري والشر خضعا لناموس التطور‪ .‬فتغريت معاين الرذيلة ومعاين الفضيلة‪.‬‬
‫كانت املرأة رمزاً للشيطان‪ ،‬وكانت الغريزة اجلنسية خطيئةً حتمل أوز َارها املرأةُ وحدها‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫فأصبحت املرأة نصفا مكمال للرجل‪ .‬وأصبحت الغريزة اجلنسية حالةً فسيولوجية‬
‫تـُنَظَّم لصاحل اجملتمع َ‬
‫وم َسَّرة أفراده»‪.‬‬

‫قلت‪ :‬املرأة عندهم نصف مكمل‪ ،‬واحلالة فسيولوجية حمض‪ .‬وما يهلكنا إال‬
‫الدهر! فال خطيئة يف االتصال اجلنسي ما دامت املرأة النصف املكمل على بساط‬
‫التكامل الفسيولوجي‪ .‬وال يزال يف خطاب التطوريني‪ ،‬بل عم البالء حىت خطاب‬
‫اإلسالميني‪ ،‬ما يربئ الساحة من كل التبعات حني يُتحدث عن «االتصال اجلنسي»‬
‫حديثا حمايدا علميا‪ .‬ال عن الزىن والفاحشة‪ .‬فتلك أوصاف عتيقة!‬

‫رجع خالد ومصطفى بعد سكرة التقليد األعمى‪ .‬ونشاهد يف اخلمس السنوات‬
‫األخرية تفكك اإلمرباطورية الشيوعية وسقوط إديولوجيتها اليت كانت السند الوطيد‬
‫املعجبني بالدولة العظمى حمررة الشعوب حمررة املرأة‪ .‬ورجع جرباتشوف‬
‫للتطوريني َ‬
‫زعيم الثورة عن الشيوعية‪.‬‬

‫مدى أعوام تارخينا الرهيب‬ ‫فيكتب عن املرأة نظرية «رجعية» ويقول‪« :‬على َ‬
‫الكايف للحقوق اخلصوصية النوعية للنساء‪ ،‬وال حلاجتهن‬ ‫َ‬ ‫االهتمام‬
‫َ‬ ‫البُطويل مل نـُْعط‬
‫لوظيفتهن يف تربية األطفال‪ .‬إهنن يشتغلن يف‬
‫َّ‬ ‫أمهات ومدير ِ‬
‫ات بيوت‪ ،‬وال‬ ‫ٍ‬ ‫باعتبارهن‬
‫البحث العلمي‪ ،‬وتستأثر هبن أنشطة إبداعية‪ ،‬ويعملن يف أوراش البناء‪ ،‬ويف اإلنتاج‬
‫ليعتنني‬
‫واخلدمات‪ .‬فال يبقى هلن ما يكفي من الوقت لتحمل مسؤولياهتن يف البيت‪ ،‬و َ‬
‫بشؤونه الداخلية‪ ،‬ولينشئن أطفاهلن‪ ،‬وليُ ِش ْع َن جوا طيبا يف األسرة‪ .‬اكتشفنا أن كثريا‬
‫من مشكالتنا املتعلقة بسلوك أطفالنا وناشئتنا‪ ،‬وبأخالقياتنا وثقافتنا وإنتاجنا‪ ،‬من‬
‫ضعف العالقات األسرية‪ ،‬واإلمهال للمسؤوليات العائلية‪.‬‬ ‫أسباهبا َ‬

‫‪318‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫جنعل النساء‬
‫قال‪« :‬هذا نتيجة عكسية لنيتنا املخلصة‪ ،‬املعقولة سياسيا‪ ،‬أن َ‬
‫مساويات للرجال على كل صعيد‪ .]...[ .‬ماذا جيب أن نفعل كي يكون يف إمكان‬
‫النساء التفرغ أيضا‪ ،‬من جديد‪ ،‬لرسالتهن النسوية اخلالصة؟»‬
‫قلت‪ :‬وحنن ماذا جيب علينا يا أخوايت الصاحلات؟‬
‫اد الَّ ِذين يستَ ِمعو َن الْ َقو َل فـيتَّبِعو َن أَحسنَهُ أُولَئِ َ َّ ِ‬‫شر ِعب ِ‬
‫اه ُم‬
‫ين َه َد ُ‬
‫ك ال ذ َ‬ ‫ْ ََ ُ ْ َ ْ‬ ‫ََْ ُ‬ ‫﴿فـَبَ ِّ ْ َ‬
‫اب﴾‪ .1‬ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل‪.‬‬ ‫اللَّهُ َوأ ُْولَئِ َ‬
‫ك ُه ْم أ ُْولُوا ْالَلْبَ ِ‬

‫‪ 1‬سورة الزمر‪ ،‬اآليتان ‪.17-16‬‬

‫‪319‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫العزل‬
‫نزل األمر الرمحين والتوجيه الصمداين للمولودين والوالدين‪ ،‬يـَُعلِّ ُم الناشئة‬ ‫َ‬
‫باخلطاب املباشر ال ُـملِ ّح‪ ،‬ويعلم باإلشارة والتلميح والتضمني من كـان له قلب أو‬
‫ألقى السمع وهو شهيد‪ .‬وهو األسلوب األكثر بالغة األعمق أثـراً‪ .‬قوله عز وجل‬
‫ص ِغيراً﴾‪ 1‬دعوة تكـررت يف القرآن بعبارات‬ ‫ِ‬
‫ب ْار َح ْم ُه َما َك َما َربـَّيَاني َ‬
‫للناشئ‪َ ﴿ :‬وقُل َّر ِّ‬
‫ووجهَ اختصاص األم بالنصيب‬ ‫أوضحت للمولود سبب الشكر الواجب للوالدين‪ْ ،‬‬
‫الب هبما إن بلغا «عندك» ِ‬ ‫أسلوب التعامل‪ ،‬وطرائق ِ ِّ‬
‫الك َرب‪.‬‬ ‫األوفر من االستحقاق‪ ،‬و َ‬
‫ويف قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ك َما َربـَّيَانِي﴾ بالغ للوالدين ليعلما أن واجبهما وسبب‬
‫استحقاقهما ليس أن يكونا وعاءً مفعوال للقدر الذي يُربز من بني الصلب والرتائب‬
‫السبب ما يقومان به من الرتبية‪ ،‬تربية اجلسد بالعناية املادية‬ ‫ُ‬ ‫املخلوق املولود‪ ،‬بل‬
‫الصحية الغذائية‪ ،‬وتربية الروح والعقل والكفاآت اإلنسانية واخلصال اإلميانية واملروآت‬
‫اخللقية واملهارات الكسبية‪.‬‬
‫﴿ َك َما َربـَّيَانِي﴾ تنويه جبُهد الوالدين اإلرادي وبصربمها على الطفل واليافع‬
‫ِ‬
‫ين َسنَةً‬ ‫والشاب حىت يستقيم على جادة الفطرة ﴿ َحتَّى إِ َذا بـَلَ َغ أَ ُش َّدهُ َوبـَلَ َغ أ َْربَع َ‬
‫ت َعلَ َّي َو َعلَى َوالِ َد َّ‬
‫ي َوأَ ْن أَ ْع َم َل‬ ‫ك الَّتِي أَنـَْع ْم َ‬
‫ب أ َْوِز ْعنِي أَ ْن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتَ َ‬‫ال َر ِّ‬
‫قَ َ‬
‫َصلِ ْح لِي فِي ذُ ِّريَّتِي﴾‪.2‬‬ ‫ضاهُ َوأ ْ‬ ‫صالِحاً تـَْر َ‬
‫َ‬

‫‪ 1‬سورة اإلسراء‪ ،‬اآلية ‪.24‬‬


‫‪ 2‬سورة األحقاف‪ ،‬اآلية ‪.14‬‬

‫‪320‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫﴿ َك َما َربـَّيَانِي﴾ طُ ْغراءٌ على حاشية تاج الكرامة الذي َّ‬
‫يتو ُج به الوالدان يف‬
‫الدنيا لِما أجنبا من الذرية الصاحلة للناس‪ ،‬ويف اآلخرة جزاء لِما وفَيا حبق الفطرة‪،‬‬
‫جيل صاحل جليل قبله يف تضامن يرضاه اهلل عز وجل ويباركه‪ .‬هذا ال‬ ‫ِ‬
‫ول َما َدعا ٌ‬
‫التطوري بني األجيال‪ ،‬ينقطع حبل التواصل‪ ،‬ويكون االنقطاع الثوري معيارا‬ ‫ُّ‬ ‫الصراعُ‬
‫للتقدم ونبذ العتيق‪.‬‬
‫يُصبح التضامن اإلمياين والتواصل عرقلة وانتكاسا إن كان التقليد‬
‫يقد ُر ق ْد َر اخلطإ والصواب‪ .‬وذلك حني ينتصب‬ ‫أعمى ال ُ‬‫لآلباء واألجداد َ‬
‫شبح اآلباء واألجداد حاجزاً بني األجيال الناشئة وبني مصدر الوحـي‪ ،‬وحني‬
‫تتحجر األجيال الصاعدة على وضع موروث تنبطح أمامه عاجزة عن حتقيق‬
‫عبوديتها هلل عز وجل يف الزمان واملكان املتغريين املتقلبني‪.‬‬
‫حيدث هذا االنتكاس إذا أجنب اآلباء واألمهات ذرية غثائية كثرية العدد قليلة‬
‫الغَناء‪.‬‬
‫أجنب من النجابة وهي‬
‫يستعمل العرب فعل «أجنب» للداللة على ضدين‪َ :‬‬
‫َّجب وهو قِشر الشجر‪.‬‬
‫ب من الن َ‬
‫الفضيلة والكرم‪ .‬وأجنَ َ‬
‫املطلوب من املؤمنني أن يكونوا أقوياء‪ ،‬أشداء على الكفار رمحاءَ بينهم‪،‬‬
‫علماءَ‪ ،‬عاملني‪ ،‬أمناء‪ ،‬خلفاءَ يف األرض‪ ،‬جماهدين‪ .‬واحلث على صفات املروءة‬
‫وخصال اإلميان وأخالق اإلحسان كثرية يف القرآن والسنة‪ .‬كلها تستنهض املؤمنني‬
‫واملؤمنات للتحلي بصفات العباد املقتحمني للعقبة‪ ،‬احلاملني للرسالة‪ ،‬العاملني‬
‫بقدرها‪ ،‬العاملني على تبليغها‪ ،‬املتفاعلني مع زماهنم ومكاهنم بإجيابية املستخلَفني يف‬
‫األرض‪ ،‬املوعودين بالتمكني‪ ،‬اجملاهدين لنيله‪.‬‬

‫‪321‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫صفات مطلوبة تشري إىل النوعية والكيف أكثر مما تشري إىل الكثرة والكم‪.‬‬
‫تشري إىل آثار الرتبية الفاعلة أكثر مما تشري إىل التناسل املبثوث‪ .‬تشري إىل اإلجناب‬
‫الفضيلي الكرمي‪ ،‬ال تتماشى مع اإلجناب ِ‬
‫الق ْشري الغثائي‪.‬‬
‫اليوم جوهر العامل‬
‫مليار ونيف‪ ،‬تبارك اهلل أحسن اخلالقني‪ .‬هم َ‬ ‫املسلمون اليوم ٌ‬
‫املستضعف‪ ،‬أمة مغلوبة مقهورة ُم َف َّقرة‪ .‬وهم صفوة العباد احملافظون من بني البشر‬
‫مجيعا على حبل الفطرة يف درجة من السالمة والعافية‪ .‬ورثة األنبياء ومزرعة الصديقني‬
‫والشهداء والصاحلني‪.‬‬
‫وهم أيضا ويف نفس الوقت غثاء كما وصفهم رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ .‬ملا أخرب أصحابه رضي اهلل عنهم بزمان‪ ،‬كان يومئذ مستقبال وهو اليوم‬
‫«وم ْن قِلَّ ٍة حنن يومئذ يا رسول‬
‫حاضرنا‪ ،‬تكون فيه األمة مأكولةً مغلوبة‪ .‬سألوه‪ِ :‬‬
‫ُ‬
‫اهلل!»‪ .‬قال‪« :‬بل أنتم كثير‪ ،‬لكنكم غثاء كغثاء السيل»‪ .‬احلديث‬
‫غريُنا من املهتمني باإلحصاء واالقتصاد يف إطار التحليل االقتصادي‬
‫واالستشراف املستقبلي يتحدثون عن التضخم الدميوغرايف وعن ورطة العامل الفقري‬
‫يف دوامة التكاثر وسلسلة الفقر وإفناء املوارد وتصحري األرض وإفساد البيئة‪ .‬وهذه‬
‫ظواهر ال ينبغي أن تغيب عن وعينا‪ ،‬وال ينبغي لعقولنا أن حتجم عن مواجهتها‬
‫اليوم وغدا‪ ،‬ال يكفي أن نُلقي تبعاهتا على الغري‪.‬‬
‫بواقعية‪ .‬فهي أفقنا َ‬
‫لكننا ال نقف مع اإلحصائيني الدميوغرافيني على عتبة الدنيا‪ ،‬بل جنلس إىل الوحي‪،‬‬
‫نستشف ما تكون‬
‫ّ‬ ‫ونسمع خربه‪ ،‬ونستجيب لندائه‪ ،‬ومنتطي َر َفرفه لنحلق إىل اآلخرة و‬
‫األمة هنالك‪ :‬أتكون غثاء خيْ َج ُل اجليل فيها من تفاهة األجيال‪ ،‬أم تكون هنالك كما‬

‫‪322‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫استـََوى َعلَى ُسوقِ ِه‬
‫ظ فَ ْ‬
‫استـَغْلَ َ‬ ‫كان الصحابة هنا ﴿ َك َزْر ٍع أَ ْخ َر َج َشطْأَهُ فَ َ‬
‫آزَرهُ فَ ْ‬
‫اع﴾‪ 1‬؟‬
‫الزَّر َ‬
‫ب ُّ‬ ‫ِ‬
‫يـُْعج ُ‬
‫نستمع إىل الوحي يُهيب بنا للجهاد لنكون ِخيـََرًة بالفعل واألثر يف العامل‪.‬‬
‫وهذا يقتضي نوعية وكيفا أكثر مما يقتضي تكاثرا عدديا‪.‬‬
‫املشج َع على التكاثر والعدد فال‬
‫ونقرأ قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ِّ‬
‫نفهمه خارجا عن شرطية النوعية‪ .‬وإالَّ كان التناقض بني التنديد بالغثائية وبني‬
‫دود فإني‬
‫الو َ‬
‫لود َ‬
‫الو َ‬
‫طلب الكثرة‪ .‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬تزوجوا َ‬
‫مكاثر بكم األمم»‪ .‬احلديث أخرجه أبو داود والنسائي عن معقل بن يسار رضي‬
‫اهلل عنه‪.‬‬
‫على الساحة اإلسالمية‪ِ ،‬م ْلءَ الكتب والصحف واجملالت والندوات‪ ،‬نقاش‬
‫حاد حول حتديد النسل وتنظيم األسرة‪ .‬تلتهب حوله العواطف‪ ،‬وتتنوع الفتوى‪،‬‬
‫صدور فتوى من علماء‬ ‫ِ‬
‫وحيتدم اخلالف‪ .‬آخر التطورات يف هذا املوضوع احليوي ُ‬
‫األزهر باجلواز‪ .‬ومل َْت ِس ْم هذه الفتوى النزاع‪ .‬وكيف حتسمه وعلماؤنا األفاضل على‬
‫خب عندهم لبعدهم عن احلكم هبذه املعضلة الكاوية‪ ،‬معضلة محل أجيال‬ ‫اهلامش ال َ‬
‫فقرية متخلفة عاجزة أعباءَ أجيال متوالدة متكاثرة فاغرة أفواهها للغذاء والدواء‬
‫واملدرسة والسكن والعمل‪.‬‬
‫مما كتبه أحد فضالء علمائنا يف املوضوع‪« :‬إن تنظيم األسرة وحتديد النسل‬
‫فكرة أمريكية صهيونية استعمارية شيوعية إحلادية دخيلة علينا كمسلمني‪ .‬فأمريكا‬
‫اليت تعطينَا بغري حساب لتنظيم األسرة تقرضنا بفوائد ربوية متفاقمة للمشروعات‬
‫األخرى»‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬يدخل يف حساب اآلخرين من أعدائنا‪َ ،‬سفريُتم الرأمسالية االستكبارية‪،‬‬
‫حتول كثرتنا دون استمتاعهم هبا‬ ‫ِضيق املوارد يف األرض‪ .‬يريد جشعهم أن ال َ‬

‫‪ 1‬سورة الفتح‪ ،‬اآلية ‪.29‬‬

‫‪323‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫لكن من قِصر النظر أن حنيل املعضلة السكانيّة باخلطابة املناضلة على‬ ‫واستئثارهم‪ْ .‬‬
‫ِّئ من غضبنا يف حلظات الفراغ‬ ‫جمهول أمريكي صهيوين شيوعي‪ .‬إن كان ذلك يـَُهد ُ‬
‫من املسؤولية فإنه ال حيُ ُّل املعضلة اليت َستواجه اإلسالميني يف الغد القريب َّأوَل ما‬
‫يصلون إىل احلكم‪.‬‬
‫أيبيح الشرع حتديد النسل؟ أجيوز أن يُنجب الوالدان مبقدار؟‬
‫ال ميكن لإلسالميني أن يبارزوا يف ساحة الصراع الشرس على املوارد الطبيعية‬
‫يف ديارهم وعلى منابع النفط إال ومعهم من اهلل ورسوله برهان‪ .‬وال جيوز لإلسالميني‬
‫أن يغ ُفلوا عن املطلب النوعي الكيفي الذي يفرضه الشرع ويكو ُن به التأثري يف العامل‬
‫ليعطوا للثقل السكاين العددي ما ليس له من أمهية إن كانت الكثرة غثاء‪ .‬بل يكون‬
‫كماً مفعوال به على الزمان‪.‬‬ ‫ِ‬
‫هذا الثقل عبئا ينوء باألمة حْلُه فيتأبد ختلفها‪ ،‬وتبقى ّ‬
‫عقد البخاري رمحه اهلل يف كتاب النكاح من صحيحه‪« :‬باب العزل»‪ .‬أورد‬
‫فيه أربعة أحاديث عن جابر وعن أيب سعيد اخلدري رضي اهلل عنهما تفيد أن‬
‫الصحابة رضي اهلل عنهم كانوا يعزلون والوحي ينزل‪ .‬وما كان من رسول اهلل صلى‬
‫«أو تفعلون؟» قالوا‪ :‬نعم! قال‪« :‬ما من نَ َس َم ٍة كائنة‬
‫اهلل عليه وسلم إال أن سأهلم‪َ :‬‬
‫إىل يوم القيامة إال وهي كائنة»‪ .‬ليس هذا زجرا عن العزل‪ ،‬بل هو إيقاظ حلاسة‬
‫كسب العبد مطوي يف ال َق َدر‪ .‬للعبد احلرية فيما أباحه له الشرع‪ ،‬ال‬
‫اإلميان بالقدر‪ ،‬و ُ‬
‫يُعد اختاذه لسبب منع احلمل ُجحوداً للقدر كما ال يـَُع ُّد اختاذُه لسبب احلمل‪ ،‬وهو‬
‫الزواج‪ ،‬جحودا له‪.‬‬

‫عزل عن‬
‫وقد نقل ابن عبد الرب رمحه اهلل أن ال خالف بني العلماء يف أنه ال يُ َ‬
‫الزوجة احلرة إال برضاها‪ .‬معناه أن التسبب يف احلمل أو عدمه باختيار الزوجني‬
‫فيصل االختيار‪.‬‬ ‫ذلك‬ ‫كان‬ ‫كامل‬ ‫اع‬ ‫وتراضيهما‪ .‬إن طالبت الزوجة حبقها يف ِ‬
‫ج‬
‫َ‬

‫‪324‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫كيف ُييز الفقه اإلسالمي وتبيح السنة اعتبار مصلحة امرأة وال يتسع الفقه‬
‫والسنة العتبار مستقبل أمة؟‬

‫يستند املانعون لتحديد النسل على حديث ُجثامةَ عند مسلم قال فيه احلبيب‬
‫املصطفى صلى اهلل عليه وسلم عن العزل‪« :‬ذلك الوأْد ُّ‬
‫اخلفي»‪ .‬هناك حديثان‬
‫آخران عند الرتمذي والنسائي يقول فيهما اليهود عن العزل‪ :‬إنه املوءودة الصغرى!‬
‫فيُطَ ْمئِ ُن الرسول صلى اهلل عليه وسلم أصحابه قائال‪« :‬كذبت اليهود‪ ،‬لو أراد اهلل‬
‫خلقه لم تستطع رده»‪ .‬وقد أفىن العلماء أعمارا للتوفيق بني احلديثني املتعارضني‪.‬‬
‫توفيق البيهقي بأن حديث ُجثامة عند مسلم ُيمل على‬ ‫أحسن األقوال يف املوضوع ُ‬
‫التنزيه‪.‬‬
‫سؤالنا حنن ملستقبل اخلالفة نطرحه على الدعوة والدولة‪ :‬كيف نوفق بني‬
‫النوعية والكم؟ كالمها قوة إن اجتمعا‪ .‬واهلل غالب على أمره‪ .‬ولكن أكثر الناس ال‬
‫يعقلون‪.‬‬

‫‪325‬‬
‫الباب الثاني‬
‫عامل يف خماض‬
‫الفصل األول‬
‫رياح التغيري يف العامل‬

‫* «أبواب كل شيء»‬
‫* نظام جديد للعامل‬
‫* الشرف الدويل لإلسالم‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫«أبواب كل شيء»‬
‫نطرق الباب الثاينَ من هذا الكتاب مستفتحني رمحة العزيز الوهاب سبحانه‪.‬‬
‫يف الباب األول منه حتدثنا عما يريده اإلسالميون وما خياجل ضمائرهم احلية من‬
‫أمل إحياء املائت وإيقاظ الوسنان وبناء املهدوم وج ْدل املنقوض‪ .‬وهنا إن شاء‬
‫اهلل نعرض بإجياز العقبة اليت تعرتض تلك اإلرادة ومتنعها وتشكل أمامها احلاجز‪.‬‬
‫ما طبيعة هذه العقبة؟ ما مرَّكباهتا؟ ما معاملها؟ ما حركتها؟‬

‫يف هذه الفقرة األوىل نتساءل‪ :‬ما معناها؟ ألننا إن فقدنا وحنـن نقتحم العا َلَ‬
‫األخروي اإلمياين فلن نكون إال ناساً من الناس‪ ،‬يطوينا التاريخ‬
‫ّ‬ ‫وس اهتمامنا‬
‫ال َـم ْه ُو َ‬
‫طيا‪ ،‬وتبتلِعنا األيام ابتالعا‪ ،‬وتستحيل إرادتُنا نبضة من نبضات هذا العامل املضطرب‬
‫غرينا ُيمله اهلل عز وجل رسالة تبليغ دينه إذ نكصنا عنه‬
‫غده نشئا َ‬ ‫يف خماضه‪ ،‬يلِد ُ‬
‫وفقدنا األهلية بفقدان املعىن وضمور اإلميان‪.‬‬

‫يف فصول الباب األول تصفحنا العوامل اإلجيابية للحركة اإلسالمية ولألمة‬
‫املسلمة‪ .‬وتصفحنا خاصة العوامل السلبية ليكو َن نقدنا هلذه الذات املنتعشة الصاحية‬
‫مقدمةً إلصالح الفاسد وتصحيح الوجهة‪.‬‬

‫ص ُل حركة التجديد يف ربط العبد بربه عز وجل برباط‬‫ذكرنا كيف نـَُؤ ِّ‬
‫العبودية‪ ،‬وكيف حنرره بالرتبية املسجدية من ربقة سلطان هواه‪ .‬وذكرنا كيف‬

‫‪331‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫خيّ َم «دين االنقياد» على تاريخ األمة‪ ،‬وكيف انتقضت عُرا الدين وانتكست‬
‫أعالم الشورى‪ .‬وتعرضنا النفصال الدعوة عن الدولة‪ ،‬بل ِ‬
‫طرد الدولة الدعوة‬
‫وإرهاقِها وهتميشها حىت أصبح الدعاة غرباءَ مهجورين ظنينني‪ .‬و ْ‬
‫ألَ ْحنا على‬
‫وجود خطر يهدد الدعوة باالضمحالل والذوبان إن حتول الدعاةُ إىل حكام‬
‫وسياسيني يشغلهم تدبري الدولة عن مهمتهم األوىل‪ ،‬وهي تربية أجيال خري‬
‫أمة أخرجت للناس‪ ،‬يصعد اجليل الالحق على درجة من سبقه إىل أن يَستوي‬
‫جيل الوحدة واخلالفة الثانية على مثل ما كان عليه جيل اخلالفة الراشـدة‬
‫األوىل‪ .‬إن شاء اهلل‪.‬‬

‫املنهاجي الذي أخربنا فيه احلبيب‬


‫ُّ‬ ‫احلديث‬
‫ُ‬ ‫ائدنا فيما كتبناه بفضل اهلل‬
‫وكان ر َ‬
‫املصطفى صلى اهلل عليه وسلم مبا كان َمطويا يف ضمري الغيب لزمانه‪ ،‬ومبا أصبح‬
‫بعضه وراءَ ظهرنا من تاريخ‪ ،‬وبعضه ال يزال أمامنا نطلبه بالعزم واجلزم والثقة الصامدة‪.‬‬
‫ُ‬
‫النبوة خالفةً على منهاج النبوة‪ ،‬وأن بعد‬ ‫اهلوى أن بعد ّ‬ ‫أخربنا من ال ينطق عن َ‬
‫اخلالفة الراشدة ملكا عاضا فجربيا‪ ،‬وأن بعد امللك خالفة على منهاج النبوة‪ .‬فمن‬
‫كان من ذراري املسلمني املغربني ينظر إىل املستقبل من وراء ختمينات احلساب‬
‫وحنسب‬
‫دى من وعد اهلل ورسوله‪ُ .‬‬ ‫ص‪ ،‬فنحن حبمد اهلل منضـي على ُه ً‬ ‫وترتيبات اخلَْر ِ‬
‫ما هو أمام أقدامنا وما يف أفقنا حكمةً شرعية‪.‬‬

‫ومن كان من الرتاثيني ينظرون إىل وراءَ ليلتقطوا من ذخائر احلضارة اإلسالمية‬
‫العتيدة ما به يُسندون طموحا قوميا أو يربرون انتماء وأصالة وفخرا‪ ،‬فنحن نقرأ‬
‫الوحي اخلالِ َد‪ :‬ماضينا وحاضرنا ومستقبلُنا على ضوئه نقرأه‪ ،‬وبأنواره نستجليه‪،‬‬
‫َ‬
‫وعلى منهاجه نبين ونُعد القوة‪ .‬حبول اهلل وقوته‪ ،‬إنه القوي العزيز‪.‬‬

‫‪332‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫صلُح أمر اخلالفَة األوىل‪ ،‬وهبا يصلُح‬
‫إن شريعة اهلل عز وجل اخلالدة هبا َ‬
‫مشـروعُنا‪ .‬وإن العمرا َن األخوي‪ ،‬وهو مطلَبُنا االجتماعي السياسي‪ ،‬على َم ْهي ِع‬
‫حتقيقه تتوحد األمة‪ ،‬وحبافز ضرورة التوحيد جتتمع جهود القومة‪.‬‬
‫وإن استمرار املباين الغثائية يف النفوس والعقول وطرائق التفكري والسلوك‬
‫نح َدر جيب أن ِنق َفهُ‪ .‬وإن بناء القوة االقتحامية اليت تقود األمة يف جهادها وتصعد‬
‫ُم َ‬
‫الوهدة وتتوسط هذا العا َل الصاخب املضطرب ثابتةَ اخلطى حىت تكون يوما ما‬ ‫من ْ‬
‫الشاهد على العاملني‬
‫وناشر العدل يف ربوع األرض‪ ،‬و َ‬ ‫طليعة اإلنسانية وحمرر اإلنسان َ‬
‫حتجبه حقائق اليوم عما يسري به منطق التاريخ لغد‪ .‬وسنة‬
‫بالقسط‪ ،‬ال ينهض له من ُ‬
‫اهلل وراء ما يبصره األنام‪.‬‬
‫وال ينهض لبناء القوة االقتحامية وإجناح مسعاها بتوفيق اهلل العلي القدير من‬
‫غري املستقبل األرضي للبشـر‪،‬‬
‫وعي تارخيي ال أفق له َ‬ ‫يَستبد بعقله وبإرادته وحركته ٌ‬
‫عرف‪ .‬إمنا يقتحم العقبة من خرقت عني‬ ‫ِ‬
‫يُساهم يف النـزاع مع الناس إىل وجهة ال تُ َ‬
‫كل كثيف من أوهام الكون وحقائقه‬ ‫إميانه ونظرة إحسانه وأذ ُن تلمذته للوحي َّ‬
‫الصلبة‪ .‬وإمنا يبين القوة االقتحامية ويُعتَ َمد ركنا من أركاهنا من يتطلع للدار اآلخرة‬
‫راجيا طامعا خائفاً مستغفرا تائبا عابدا آمرا باملعروف ناهيا عن املنكر حافظا حلدود‬
‫اهلل‪.‬‬
‫ب‪ ،‬وعلى رأسه ختفق ألوية اجملاهدين يف سبيل‬ ‫أمامه الوعد الذي ال يُ ْك َذ ُ‬
‫َ‬
‫املرجو إحدى‬
‫نصره ّ‬ ‫اهلل‪ ،‬ويف ضمريه تتألق أنوار البشرى بالنصـر هنا والفوز هناك‪ْ .‬‬
‫احلسنيني‪ ،‬والفوز يف الدار اآلخرة أمله يف اهلل امللك الوهاب‪.‬‬

‫‪333‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫جيب على اجملاهدين املقتحمني أن يعرفوا العامل‪ ،‬وأحداث التاريخ‪ ،‬وسبَبيَّةَ‬
‫األمل‬
‫ُ‬ ‫يصورها الطموح اجلامح أو‬
‫حركته‪ ،‬والقوى املؤثرة فيه‪ ،‬كما هي ال كما ُ‬
‫املكبوت أو اليأس اليائس‪.‬‬

‫وال يكون اجملاهدون على ُخطى األولني من النبيئني واخللفاء الراشدين إال إن‬
‫انتسق العلم باألسباب والتاريخ وحركة الكون واإلرادات املتدافِعة فيه يف نَ َس ِق اإلميان‬
‫بسنة اهلل تعاىل وحكمته وفعله املطلق وإرادته الكونية‪.‬‬

‫يستنهضنا الشرع وتبشرنا بشائره‪ .‬فعلينا النهوض للكسب والعمل واالجتهاد‪.‬‬


‫ص ُـره مبا يعوق هنضته ويعرقل ُخطاه ويقاوم إرادته‬
‫وذلك حق على املكلف املوفق‪ .‬وتـَبَ ُّ‬
‫مرتوك الجتهاد عقله‪ ،‬يكايد الناس على األرض‪ ،‬وخياصم‪ ،‬ويصاحل‪ ،‬ويقدم‪ ،‬ويؤخر‪.‬‬
‫هو مسؤول عن اجتهاده‪ ،‬موصوم بإخفاقه‪.‬‬

‫لكنه يتميز عن الناس حبضوره الدائم‪ ،‬وذكره املالزم‪ ،‬إلرادة اهلل عز وجل يف‬
‫خلقه‪ .‬يتدبر آيات اهلل اليت يُظهرها يف اآلفاق واألنفس على ضوء اآليات اليت أنزهلا‬
‫طوه‪ ،‬وال ينقطع حبله‪ ،‬وال تـُْهَزم عزميته ملا يف الكون‬
‫باحلق‪ .‬وبذلك ال يضطرب َخ ُ‬
‫من تناقض ظاهر‪ ،‬وملا يعرتي ساكنيه من شدة ورخاء‪ ،‬من حرب أو سلم‪ ،‬من كفر‬
‫الكافر وإميان املؤمن‪ ،‬من إفساد املفسد وإصالح املصلح‪.‬‬

‫يسري يف ضباب الشك أو ظلمة اجلحود من يغيب عنه أن اهلل جلت عظمته خلق‬
‫تفوق علينا أعداء اهلل‪ ،‬نرى عندهم البسطة يف العلم‬
‫يتساءل الغافل‪ :‬ملاذا َّ‬
‫اخللق ليبتلي اخللق‪ .‬و ُ‬

‫‪334‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫والرزق وحنن فقراء متخلفون؟ ملاذا تتعمق اهلوة بيننا وبينهم يف كل ميدان؟ ملاذا‬
‫للقدر واحلكمة‪ .‬كما أن‬ ‫اهتام َ‬ ‫ِ‬
‫يتعسر علينا ما يتيسر هلم؟ ويف ض ْمن التساؤل ٌ‬
‫رضى بال َق َدر مسؤوليةً ال‬
‫يف القعود عن اجلهاد إلعداد القوة زعماً أن ذلك ً‬
‫عذر عن تضييعها‪.‬‬
‫َ‬
‫كيف إذاً نصطحب اإلميا َن باملقدور واحلكمة وحنن خنوض غمار املعارك؟‬
‫كيف نقرأ يف اآليات الكونية التارخيية واآليات احلِكمية من سنة اهلل بعينني‬
‫ال بالعني العوراء؟‬

‫القراءة املفتوحةُ البصريةُ ملخاض العامل‪ ،‬وحتوالته العجيبة وتقدمه العلمي‬


‫الصناعي املذهل‪ ،‬وإغداق القدرة اإلهلية على أبناء الدنيا من كل شيء جندها‬
‫يف قوله عز وجل لنبيه وحبيبه حممد صلى اهلل عليه وسلم‪َ ﴿ :‬ولََق ْد أ َْر َسلنَا‬
‫َّراء لَ َعلَّ ُه ْم يـَتَ َ‬
‫ض َّرعُو َن فـَلَ ْوال إِ ْذ‬ ‫ْساء َوالض َّ‬‫اه ْم بِالْبَأ َ‬
‫ك فَأَ َخ ْذنَ ُ‬ ‫إِلَى أ َُم ٍم ِّمن قـَْبلِ َ‬
‫الش ْيطَا ُن َما َكانُواْ‬ ‫ت قـُلُوبـُُه ْم َو َزيَّ َن لَ ُه ُم َّ‬ ‫س ْ‬ ‫ِ‬
‫ض َّرعُواْ َولَـكن قَ َ‬ ‫ْسنَا تَ َ‬‫اءه ْم بَأ ُ‬
‫َج ُ‬
‫اب ُك ِّل َش ْي ٍء َحتَّى إِ َذا‬ ‫ِ‬
‫سواْ َما ذُ ِّك ُرواْ بِه فـَتَ ْحنَا َعلَْي ِه ْم أَبـَْو َ‬ ‫يـَْع َملُو َن فـَلَ َّما نَ ُ‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫سو َن فـَُقط َع َداب ُر الْ َق ْوم الذ َ‬
‫ين‬ ‫ِ‬
‫اهم بـَغْتَةً فَإ َذا ُهم ُّم ْبل ُ‬ ‫فَ ِر ُحواْ بِ َما أُوتُواْ أَ َخ ْذنَ ُ‬
‫ين﴾ ‪.1‬‬ ‫ِ‬
‫ب ال َْعالَم َ‬ ‫ْح ْم ُد لِلّ ِه َر ِّ‬
‫ظَلَ ُمواْ َوال َ‬
‫الفر ُق اهلائل بيننا وبني‬
‫ت يف عضد اجملاهد املاضي ملوعود اهلل ورسوله هذا ْ‬ ‫ال ي ُف ُّ‬
‫الناس‪ .‬إهنا سنته سبحانه يف األمم‪ .‬نَ ُسوا ما ذُ ِّكروا به ففتح اهلل عليهم أبواب كل شيء‬

‫‪ 1‬سورة األنعام‪ ،‬اآليات ‪.45-42‬‬

‫‪335‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ابتالء بني يدي ما هو به عليم من ٍ‬
‫أخذ أو إمهال أو هداية يستعملنا فيها إن شاء‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬
‫اخلي‪ ،‬وإليه املصري‪ ،‬وهو على كل شيء قدير‪.‬‬
‫بيده ْ‬
‫اب ُك ِّل َش ْي ٍء﴾ ‪ .1‬عليهم ال هلم‪.‬‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬فـَتَ ْحنَا َعلَْي ِه ْم أَبـَْو َ‬
‫عليهم اختبارا وكيدا‪ .‬مثلها قوله سبحانه عن األمم املتقطعة ُزبُرا بعد أنبيائها‪:‬‬
‫ال وبنِين نُسارِعُ لَ ُهم فِي الْ َخيـر ِ‬
‫ات بَل َّل‬ ‫ِِ ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫سبُو َن أَنَّ َما نُم ُّد ُهم به من َّم َ َ َ َ‬ ‫﴿أَيَ ْح َ‬
‫يَ ْشعُ ُرو َن﴾‪.2‬‬

‫عليهم ال هلم هذا الفيض العجيب املذهل من األشياء والكشوف العلمية‬


‫واإلبداعات والسيطرة الظاهرة على الكوكب األرضي وخرياته وفضائه‪.‬‬

‫ولنا ال علينا يكون كل نصر حنققه جبهادنا الدائب لنتعلم منهم ونستخلص‬
‫ونوطن عندنا ونستنبت‪ .‬بإذنه ورمحته‪ ،‬تعاىل َج ُّد ربنا وتبارك‪.‬‬

‫لنا ال علينا إن حنن متسكنا مبنهاج من خاطبه اهلل عز وجل بقوله‪﴿ :‬إِنَّا فـَتَ ْحنَا‬
‫ك‬‫َّر َويُتِ َّم نِ ْع َمتَهُ َعلَْي َ‬ ‫ك اللَّهُ َما تـََق َّد َم ِمن َذنبِ َ‬
‫ك َوَما تَأَخ َ‬ ‫ك فـَْتحاً ُّمبِيناً لِيـَغْ ِف َر لَ َ‬
‫لَ َ‬
‫ِ‬ ‫ويـ ْه ِدي َ ِ‬
‫صراً َع ِزيزاً﴾‪ .3‬فتحنا لك‪.‬‬ ‫نص َر َك اللَّهُ نَ ْ‬
‫ك ص َراطاً ُّم ْستَقيماً َويَ ُ‬ ‫ََ َ‬
‫لنا إن شاء اهلل ال علينا إن ختطَّى إميانُنا دار االمتحان مع سعينا اجلهادي فيها‪،‬‬
‫إن حطت طيور دعائنا على أغصان طلب املغفرة والثواب‪ ،‬إن ارتفعت آمالنا للنظر‬
‫إىل وجه امللك الوهاب‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة األنعام‪ ،‬اآلية ‪.44‬‬


‫‪ 2‬سورة املؤمنون‪ ،‬اآليتان ‪.56-55‬‬
‫‪ 3‬سورة الفتح‪ ،‬اآليات ‪.3-1‬‬

‫‪336‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ذلك متام النعمة على العباد فرادى‪ ،‬وذلك متامها على األمة‪ ،‬بتبليغ رسالة اهلل‬
‫العزيزة‪ .‬واهلل يهدي من يشاء إىل صراط مستقيم‪ .‬سبحانه‪.‬‬

‫‪337‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫نظام جديد للعامل‬


‫تسارع‬
‫مما فتحه العزيز العليم عليهم من فنون االبتالء يف هذا الطور التارخيي ُ‬
‫ِ‬
‫األحداث وجرياهنا مبا مل يكن يف ُحسبان احلاسبني‪ .‬فبعد هناية القرن الرابع عشر‬
‫الذي عرف الغزو االستعماري‪ ،‬وعرف حربني كونيني‪ ،‬وعرف استقرار العامل على‬
‫ازدواج املعسكرين الشيوعي والرأمسايل‪ ،‬وعرف بزوغ الصحوة اإلسالمية‪ ،‬وعرف‬
‫طبول النصـر على رأس‬
‫يدق َ‬ ‫حركات التحرر الوطين‪ ،‬ها هو القرن اخلامس عشـر ُ‬
‫تغي حثيث واسع هي يف آخر‬ ‫الرأمسالية املنتصرة يف موكب أحداث حتمل بشائر ٍُّ‬
‫املطاف بشائر النصر لإلسالم‪ .‬إن شاء اهلل العلي العظيم‪.‬‬

‫مسع العا َلُ بدهشة فرقعة الثورة اإليرانية‪ ،‬وجمد‬


‫يف العشر األوىل من هذا القرن َ‬
‫املقاومة األفغانية‪ ،‬وآية أطفال احلجارة‪ .‬على عتبة العشر الثانية نعيش خلخلة النظام‬
‫السوفيايت وحترر أوربا الشرقية‪ ،‬مث هجمة الزعيم القومي صدام حسني وحتفز العامل‬
‫كله حملاصرته‪.‬‬

‫انتهت احلرب الباردة بني العمالقني اخلصمني باألمس‪ ،‬فأمريكا املخدوشة‬


‫الوجه مباضيها البغيض يف دعم األنظمة االستبدادية‪ ،‬املسؤولةُ عن زرع الدولة اليهودية‬
‫يف أرض اإلسالم وتسليحها‪ ،‬تكشف عن نياهتا االستعمارية ال َكلِبة بنـزوهلا يف أرض‬
‫النفط‪ ،‬أرض اإلسالم املقدسة‪.‬‬

‫‪338‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫توحدت احلضارة األوربية‪ ،‬بقيادة هذه األمريكا املعادية لإلسالم َّ‬
‫أشد ما يكون‬
‫وبرهن ختاذ ُلا‬
‫ذوبان التناقض العسكري واإلديولوجي‪ .‬اهنارت الشيوعية َ‬ ‫العداء‪ ،‬بعد َ‬
‫أس ِ‬
‫املال على أن التاريخ يصنعُه االقتصاد أكثر مما تصنعه القوة العسكرية‪ .‬ففي‬ ‫أمام ر ِ‬
‫املعسكر الشيوعي سابقا مراجعة وإعادة نظر يف متويل السالح‪ ،‬ويف الدبلوماسية‪،‬‬
‫املع ْس َكر اآلخر‪ ،‬قل يف اجلناح اآلخر للحضارة‬
‫ويف االسرتاتيجية‪ ،‬ويف األحالف‪ .‬ويف َ‬
‫توجهٌ لتوطيد نظام عالَمي جديد َتوُّد الواليات املتحدة األمريكية‬
‫األوربية األمريكية‪ُّ ،‬‬
‫لو تكون عميدتَه الوحيدة الزعيمة‪ .‬لوال أن مديونيتها وعجزها املايل الفادح ومسعتَها‬
‫سك بتالبيبها إىل الوراء‪ .‬فهي تتخذ األمم املتحدة قُفازا إلدارة سياستها‬‫وعادتا ُت ُ‬
‫َ‬
‫حتت شعار حقوق اإلنسان وحرية الشعوب والشرعية الدولية‪.‬‬

‫هناك بالفعل مالمح نظام عاملي جديد وخطوط توازن عاملي جديد هو يف‬
‫طور التكون‪ .‬أوضاع تنقلب لريتفع أغنياء العامل‪ :‬أملانيا واليابان وأمريكا‪.‬‬

‫استعادت الدولتان املهزومتان عسكريا يف احلرب العامليـة الثانية قوهتمـا على‬


‫يعلو فيها‬ ‫ِ‬
‫جدير أن َ‬
‫طريق التفوق االقتصادي‪ .‬ففي أفق النظام العاملي اجلديد منابر ٌ‬
‫صوت األغنياء القادرين املستحوذين على خريات األرض باإلبداع والتقانة على كل‬
‫صوت‪ .‬وما حتركات الواليات املتحدة األمريكية وتقلبها يف األرض إال حماولة للبقاء‬
‫الورق‪ ،‬أنياب‪.‬‬ ‫ِ‬
‫على رأس القـافلة‪ .‬ال تزال لذلك الليث اهلرم‪ ،‬منر َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫النظام العاملي اجلديد يتألق يف ْأوجه املنظور بريق امل ْـارك و ِ ّ‬
‫الي‪ ،‬يـَْن َخ ُر اقتصادمها‬
‫يف اقتصاد الدوالر ويَ ْس َحبُهُ‪ .‬ولن يلبث التفوق األمريكي الذي تتيحه َسعةُ رقعة البالء‪،‬‬

‫‪339‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يتج َّـرر يف الذيل‪ .‬فمنذ اآلن يتفوق اليابانيون ويتقدمون‬
‫وتنوعها‪ ،‬وحجم سكاهنا أن َ‬
‫ُّ‬
‫يف بعض امليادين بعقدين من الزمان أو أكثر‪ .‬ومنذ اآلن تربهن التكنولوجيا األملانية‬
‫اليت تعتمد الصناعة املدنيةَ على تفوقها وسبقها لتِقانة التساقطات العسكرية‪.‬‬

‫احملوري هو‪ :‬كيف يتصرف اإلسالميون يف احلكم مع هذه التطورات‬


‫ُّ‬ ‫سؤالنا‬
‫اجلديدة؟ وما هي األسئلة اليت يطرحها عليهم التطور السريع‪ ،‬خاصة يف تسابق أمم‬
‫العامل للدميقراطية ويف بروز األمم املتحدة بوصفها فاعال رئيسيا يف اسرتاتيجية ما بعد‬
‫احلرب الباردة؟‬

‫احلجر‬
‫الدميقراطية ال ُـمعلنة يف غرب أوربا وشرقها يردد أصداءَها يف األرض َ‬
‫وال َـم َدر‪ ،‬هل تقتصـر على مصلحة ذلك املعسكر الكافر املعادي لإلسالم؟ هل‬
‫يعوقها املانع اجلنسي القومي من عبور احلدود إىل ديار املسلمني؟ أم إن حظهم‬
‫وحظ املستضعفني يف األرض الرزوح حتت كلكل االستبداد احمللي والعدوان‬
‫اخلارجي؟‬

‫ما حظ املسلمني من انفراج النظام العاملي اجلديد؟ ماذا ميكن أن ينتظروا‬


‫من قيادة األمم املتحدة وهي تركيب يسكنه اجلن األمريكي وحتركه إرادة اخلمسة‬
‫املتحكمني حبق الفيتو؟‬

‫عصب االقتصاد العاملي‪،‬‬


‫القدر اإلهلي على النفط‪ ،‬والنفط هو َ‬
‫خزنةُ َ‬
‫املسلمون هم َ‬
‫وعلى النفط تتحلب أفواه األمم الغالبة‪ .‬قضية منطقية ما نتيجة مقدماهتا يف عامل الغد‪،‬‬

‫‪340‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫العاضني‬
‫َ‬ ‫سياسة عاملية تُ َدبَّر يف غياب اإلرادة اإلسالمية احلرة‪ ،‬ومبَُم َال ِة احلكام‬
‫ٍ‬ ‫ويف‬
‫اجلربيني؟‬

‫أسئلة ومعادلة جند يف صميمها اإلمساك الشديد بيد القهر العسكري األمريكي‬
‫ملصادر املسلمني احليوية‪ .‬يد تُنـزل اجلنود األمريكيني يف األرض املطهرة قرب البيت‬
‫احلرام‪ ،‬وي ٌد ختنق بالديون واالستحقاقات والربجمات‪.‬‬

‫نفس القوة العجوز املهزومة يف فتنام ولبنان ِ‬


‫حتمي اليوم حمميتني على منابع النفط‪:‬‬
‫حمميةَ دولة اليهود‪ ،‬وحمميةَ دولة سالطني النفط‪ .‬وللمسلمني خارج احملميتني سوءُ املصري‪.‬‬
‫منذ بضع وأربعني سنة يعيث اليهود فسادا يف أرض فلسطني‪ ،‬وتُصدر األمم املتحدة‬
‫القرارات فيحبسها يف جملس األمن احلق األمريكي يف الرفض‪ ،‬أو تتجاهلها الدولة‬
‫اليهودية مطمئنة إىل سنَ ِد َها هناك‪ .‬ومنذ هجم الزعيم القومي صدام عل الكويت‬
‫سالح‬
‫َ‬ ‫َّدت أمريكا العامل كله‪ ،‬وانتضت األمم املتحدة يف مثان وأربعني ساعة‬
‫جن َ‬
‫املقاومة واحملاصرة بإمجاع مل يسبِق له مثيل‪.‬‬

‫هذا يدل على أن النظام العاملي اجلديد وجه جديد لنفس اهليمنة االستكبارية‪.‬‬
‫أكثر ِحدة من أي وقت مضى‪ ،‬وأكثر تلهفا‬ ‫فالقارونية الرأمسالية هلا أنياب هي اليوم ُ‬
‫على ما يف أرض املسلمني من هذه الثروة الفريدة‪ :‬النفط‪ .‬القارونية الرأمسالية هلا‬
‫اآلفل ْجن ُم نظامها‪.‬‬
‫ذل مبستقبل ال تنغصه املعارضة الشيوعية ُ‬
‫أنياب ذرية‪ ،‬فهي َج َ‬

‫‪341‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫اقع على عامل املستضعفني ال يزال القاعدة‪ .‬كلما ازداد االقتصاد‬
‫الظلم الو ُ‬
‫الرأمسايل ازدهارا ازدادت حالة املستضعفني يف األرض سوءا‪ .‬ازدهارهم كارثة مدمرة‬
‫لنا وملن على األرض‪ ،‬س ِ‬
‫كانا وبيئتِها‪.‬‬ ‫ُ‬
‫حبل مشنقة تشده أو تُرخيه اهلياكل املالية الرأمسالية‪.‬‬
‫يف عنق املستضعفني ُ‬
‫املديونية كلمةٌ عنوا ٌن يف زمن النظام العاملي اجلديد على حال املستضعفني‪.‬‬

‫كان املستضعفون‪ ،‬على عهد التقابل والتضاد بني الشيوعية والرأمسالية‪ ،‬جيدون‬
‫ُمتنفسا بني العمالقني‪ .‬أمريكا كانت تدعم الطواغيت فتجد الشعوب املقهورة سالحا‬
‫ونصريا اسرتاتيجيا عند الدولة العظمى التقدمية السوفياتية‪ .‬أما اليوم فال ِوفاق بني‬
‫وح َد السياسة مبا ال يـُْبقي متنفسا للمستضعفني‪.‬‬
‫شرق اجلاهلية وغرهبا َّ‬
‫ضد الشيوعية ُمِّرَك «الناطو» ِ‬
‫وعام َل التالحم بني األغنياء‬ ‫كان احلِلف الغريب َّ‬
‫َ‬
‫اليوم فاحملرك يف النظام العاملي اجلديد هو العِداء لإلسالم‪ .‬اإلسالم هو‬
‫األقوياء‪ .‬أما َ‬
‫«دولة الشر»‪.‬‬

‫كان الرئيس األمريكي السابق رجيان منذ بضع سنوات يصف االحتاد السوفيايت‬
‫بأنه «دولة الشر»‪ .‬وقد انتهت تلك الدولة إىل السقوط يف أحضان عدو األمس‪.‬‬
‫عدو‬
‫تعكس هلا حقيقتها لرتى وجهَ نفسها يف ٍّ‬ ‫وبذلك فقدت احلضارة الرأمسالية ِمرآة ِ‬
‫مطلق‪ ،‬يف «دولة شر»‪ .‬وال جتد احلضارة املادية يف تاريخ ِعدائها لإلسالم‪ ،‬وال يف حاضر‬

‫‪342‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫استعمارها ملنابع النفط‪ ،‬وال يف مستقبل ختوفها من الصحوة اإلسالمية «دول شر»‬
‫أشر من اإلسالم‪.‬‬
‫َّ‬

‫ليكن هذا ثابتاً عندنا‪ .‬فالدولة اليهودية القابعة يف ديارنا ِّ‬


‫مذكٌر كاف‪ ،‬مذكر‬
‫حاضر‪ ،‬مذكر مؤمل‪ ،‬مذكر جارح‪ ،‬مذكر قاتل‪ ،‬مبعاين العداء األبـدي يف صدورهم‪.‬‬
‫َّص َارى َحتَّى تـَتَّبِ َع‬ ‫نك الْيـَُه ُ‬
‫ود َوالَ الن َ‬ ‫ضى َع َ‬
‫وصدق اهلل العزيز العليم قال‪َ ﴿ :‬ولَن تـَْر َ‬
‫ِملَّتـَُه ْم﴾‪.1‬‬

‫إذا ثبت هذا عندنا‪ ،‬فلنتيقن معه أن اختزال التاريخ وتلخيص موقفنا يف شعار‬
‫«أمريكا الشيطان األكرب» ُمقابِ َل نظرهتم إلينا بعني العائذ من «دول الشر» لن يتقدم‬
‫بنا خطوة يف طريق حتررنا‪.‬‬

‫العد َّو‪ ،‬وال بد لنا أن نعرف سبب عدائه‪ ،‬وجذور عدائه‪،‬‬


‫ال بد لنا أن نعرف ُ‬
‫وتكتيك عدوانه‪ .‬ونكون أغبياء إن مل نستعمل النظام العاملي واحلقوقية الدولية‬
‫ب من خالهلا بعض املعارك‪.‬‬ ‫ِ‬
‫لنكس َ‬

‫نتأكد أوال من قوتنا الذاتية‪ ،‬وعالج أمراضنا الذاتية‪ ،‬وحترير إرادتنا الذاتية‪ .‬وكل‬
‫ت قوى العدوان‪ .‬علينا أن جناهد حىت نغلبَهم على أمرنا‪ .‬وأثناء‬
‫قدر ْ‬
‫ذلك تعرقله إن َ‬
‫ذلك وبعده ننزل إىل «ساحة املعارك األساسية» ٍ‬
‫بنية اقتحامية وبأهداف حتريرية‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.120‬‬

‫‪343‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫كان نكسون الرئيس األمريكي السابق يقول عن حقوق اإلنسان‪« :‬إهنا‬
‫شعارهُ على عهد احلرب الباردة‪ .‬يف العبارة اهتام‬
‫ساحة املعارك األساسية»‪ .‬ذلك كان َ‬
‫للسوفيات مبا يعرتف به السوفيات اآلن من أهنم ظلموا العباد‪.‬‬
‫علينا بعون اهلل أن ننازل اجلاهلية العادية على املستضعفني على أرضيـة هذه‬
‫نصبُوها من قوانني دولية وأعراف وشعارات‪ .‬إن‬‫«املعارك األساسية» بالوسائل اليت َ‬
‫نعدم من اهلل تعاىل‬
‫قصدنا‪ ،‬فلن َ‬
‫عال ُ‬ ‫صفنا‪ ،‬ملتئمةٌ إر َادتُنا‪ٍ ،‬‬
‫مجيع ُّ‬
‫نازلناهم وحنن ٌ‬
‫التوفيق‪ .‬إنه هو العلي القدير‪.‬‬

‫‪344‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫الشرف الدويل لإلسالم‬


‫الكلمة لألستاذ حسن البنا رمحه اهلل‪ .‬قال يف رسالة «حنو النور»‪« :‬وقد يظن‬
‫الناس كذلك أن نظم اإلسالم يف حياتنا اجلديدة تباعد بيننا وبني الدول الغربية‪،‬‬
‫وتعكر صفو العالئق السياسية بيننا وبينها بعد أن كادت تستقر‪ .‬وهو أيضا ظن‬
‫عريق يف الوهم‪ ،‬فإن هذه الدول إن كانت تسيء بنا الظنون فهي ال ترضى عنا سواء‬
‫ت الثقة بينها وبيننا فقد‬ ‫ِ‬
‫صادقتنا بإخالص وتُبودلَ ْ‬
‫تبعنا اإلسالم أو غريه‪ .‬وإن كانت َ‬
‫صرح خطباؤها وساستها بأن كل دولة حرةٌ يف النظام الذي تسلكه يف داخل أرضها‪،‬‬
‫ما دام ال ميَس حقوق اآلخرين‪.‬‬
‫قال رمحه اهلل‪« :‬فعلى ساسة هذه الدول مجيعا أن يفهموا أن شرف اإلسالم‬
‫الدويل هو أقدس شرف عرفه التاريخ‪ ،‬وأن القواعد اليت وضعها اإلسالم الدويل‬
‫لصيانة هذا الشرف وحفظه أرسخ القواعد وأثبتها‪.‬‬
‫قال رمحه اهلل‪« :‬فاإلسالم هو الذي يقول يف احملافظة على التعهدات وأداء االلتزامات‪،‬‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين َع َاهدتُّم ِّم َن ال ُْم ْش ِرك َ‬
‫ين‬ ‫﴿ َوأ َْوفُواْ بال َْع ْهد إِ َّن ال َْع ْه َد َكا َن َم ْس ُؤوالً﴾ ‪ .‬ويقول‪﴿ :‬إِالَّ الذ َ‬
‫‪1‬‬

‫َحداً فَأَتِ ُّمواْ إِلَْي ِه ْم َع ْه َد ُه ْم إِلَى ُم َّدتِ ِه ْم إِ َّن‬ ‫ِ‬


‫صوُك ْم َش ْيئاً َولَ ْم يُظَاه ُرواْ َعلَْي ُك ْم أ َ‬
‫ثُ َّم لَ ْم يَن ُق ُ‬

‫‪ 1‬سورة اإلسراء‪ ،‬اآلية ‪.34‬‬

‫‪345‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يمواْ لَ ُه ْم﴾‪ .2‬ويقول يف‬ ‫ب الْمت َِّقين﴾‪ 1‬ويقول‪﴿ :‬فَما استـ َقامواْ لَ ُكم فَ ِ‬ ‫ِ‬
‫استَق ُ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ َْ ُ‬ ‫اللّهَ يُح ُّ ُ َ‬
‫ِ‬
‫ار َك‬
‫استَ َج َ‬
‫ين ْ‬ ‫إكرام الالجئني وحسن جوار املستجريين‪َ ﴿ :‬وإِ ْن أ َ‬
‫َح ٌد ِّم َن ال ُْم ْش ِرك َ‬
‫َج ْرهُ َحتَّى يَ ْس َم َع َكالَ َم اللّ ِه ثُ َّم أَبْلِغْهُ َمأ َْمنَهُ﴾‪.3‬‬
‫فَأ ِ‬

‫قال رمحه اهلل‪« :‬فاإلسالم الذي يضع هذه القواعد ويسلك بأتباعه هذه‬
‫األساليب جيب أن يعتربه الغربيون ضمانة أخرى تضمن هلم حقوقهم‪ .‬نقول إنه من‬
‫خري أوربا نفسها أن تسودها هذه النظريات السديدة يف معامالت دوهلا بعضها‬
‫لبعض‪ .‬فذلك خري هلم وأبقى!»‬
‫قلت‪ :‬هذا كالم رجل مؤمن يعمل على نصاعة املبادئ‪ .‬رجل حكيم جمرب ال‬
‫تستفزه سياسة االحتالل االستعماري الذي حاربه بشرف‪.‬‬
‫يف ظروف أخرى يكتب مؤمن آخر‪ ،‬هو سيد قطب رمحه اهلل‪ ،‬يف استعالء‬
‫على كل جاهلية‪ ،‬ال يهمه أن يهادن وال أن يُ ْس ِم َع املستجري‪ .‬وكذلك ينبغي للعلماء‬
‫أن خيُطّوا جبالء ووضوح اخلط الفاصل بني اإلميان والكفر وهم يف فراغ من شؤون‬
‫التعامل الدويل‪.‬‬
‫يف ظروف أخرى وزمان آخر ينتصب مؤمن آخر‪ ،‬رمزاً للرفض املطلق لدولة‬
‫الكفر «الشيطان األكرب»‪ .‬ال يتلجلج يف إعالن ِعدائه‪ .‬إنه اإلمام اخلميين رمحه اهلل‪،‬‬
‫الذي خرج من سنوات طوال عاشها يف املعارضة املطلقة والرفض اجلذري‪ ،‬فلم يأبَ ْه‬

‫‪ 1‬سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.4‬‬


‫‪ 2‬سورة لتوبة‪ ،‬اآلية ‪.7‬‬
‫‪ 3‬سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.6‬‬

‫‪346‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫مببادئ التعامل الدويل يف اإلسالم وال يف غريه‪ ،‬علما منه أن الساسة اجلاهليني ال‬
‫يتصـرفون إال على ضوء مصلحتهم يف حدود ما تتيحه موازين القوى واألمر الواقع‪.‬‬
‫كان اإلمام رمحه اهلل غائبا عن مسؤولية رجل الدولة‪ ،‬حجبتها عنه رسالة رجل الدعوة‬
‫الثائر احلانق‪ .‬ومل يتعلم خلَ ُفهُ رمحه اهلل حدود التعامل الدويل إال بعد عشـر سنوات‬
‫من احلرب واملقاطعة والضغوط واالضطرابات‪ .‬إهنا ثورة‪.‬‬

‫يف ظروف أخرى‪ ،‬ومكان آخر وزمان‪ ،‬اضطَُّر اجملاهدون األفغان أن َّ‬
‫يتلق ْوا‬
‫املساعدات والسالح من الواليات املتحدة ومن سالطني النفط‪ .‬وليس يف عملهم‬
‫ِمساس «بشرف اإلسالم الدويل» خالفا ملن جلس على فراشه ينتقد‪.‬‬

‫حنن يف غد اإلسالم إن شاء اهلل بني املبادئ الثابتة‪ ،‬وبني حكم االضطرار‪،‬‬
‫وبني ِحكمة علَّ َمتـْنَا إياها التجربة وعلمتها إخواننا الشيعة‪ .‬على ضوء قول اهلل عز‬
‫وجل نلتمس مسلك احلكمة والرزانة لنعامل بالقسط و ِ‬
‫الب َمن عاملنا يف حدود‬
‫معقولة باملساملة‪ ،‬ولنحارب بال هوادة من قاتلنا يف الدين‪ .‬قال عز من قائل‪َ ﴿ :‬ل‬
‫ين لَ ْم يـَُقاتِلُوُك ْم فِي الدِّي ِن َولَ ْم يُ ْخ ِر ُجوُكم ِّمن ِديَا ِرُك ْم أَن‬ ‫َّ ِ‬
‫يـَنـَْها ُك ُم اللَّهُ َع ِن الذ َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫وه ْم َوتـُْق ِسطُوا إِلَْي ِه ْم إِ َّن اللَّهَ يُ ِح ُّ‬
‫ين إِنَّ َما يـَنـَْها ُك ُم اللَّهُ َع ِن الذ َ‬
‫ين‬ ‫ب ال ُْم ْقسط َ‬ ‫تـَبـَُّر ُ‬
‫اهروا َعلَى إِ ْخر ِ‬
‫اج ُك ْم أَن تـََولَّ ْو ُه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫قَاتـَلُوُك ْم في الدِّي ِن َوأَ ْخ َر ُجوُكم ِّمن ديَا ِرُك ْم َوظَ َ ُ‬
‫ك ُه ُم الظَّالِ ُمو َن﴾‪.1‬‬ ‫َوَمن يـَتـََولَّ ُه ْم فَأ ُْولَئِ َ‬

‫‪ 1‬سورة املمتحنة‪ ،‬اآليتان ‪.9-8‬‬

‫‪347‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫إن هيمنة «الشيطان األكرب» إىل زوال يف أفق املستقبل املنظور‪ .‬ذلك أن‬
‫العا َلَ يتمخض عن كيانات متعددة يُعلن عنها ما نشاهده من ثورة التكتالت‬
‫االقتصادية السياسية‪ ،‬ومن ثورة التقانة املذهلة‪ ،‬ومن ثورة الدميقراطية اليت صرعت‬
‫النظام االشرتاكي وأهنت عهد التقاطب الثنائي بني عمالقي أمس‪.‬‬

‫انتهى عهد اهليمنة الثنائية‪ ،‬وعهد التوازن النووي واألحالف الكربى العسكرية‪.‬‬
‫ال يتحدث عن حلف عسكري إال أمريكا اليت تريد أن تطوق «دولة الشر»‬
‫اإلسالمية لتدرأها عن منابع النفط‪.‬‬

‫يف األفق القريب تظهر وحدة أوربا الغربية ذات الوزن اهلائل تتوسطها أملانيا‬
‫ليكون‬
‫املوحدة عمالقة اليوم والغد‪ .‬ورمبا يتوسع التكتل األوريب على املدى املتوسط ِّ‬
‫«البيت األوريب» الذي كان يلهج به زعيم تصفية االشرتاكية جرباتشوف‪ .‬هنالك‬
‫تكتل البحر اهلادي بزعامة اليابان من حوهلا «النمرات األربع»‪ .‬هنالك تكتل جنوب‬
‫شرقي آسيا‪ .‬هنالك تطلع دول كبرية مثل الصني واهلند والربازيل‪.‬‬

‫عاملي يرتاءى يف األفق قِو ُامه القوة االقتصادية ميكن للمسلمني أن‬
‫يف نظام ّ‬
‫حيتلوا املكانة الشـريفة بعد أن تنحل عنهم األقفال التارخيية‪ .‬منها قفالن ال ندري‬
‫القدر اإلهلي أوال‪ :‬احلكم العاض املتمثل يف سالطني النفط وأضراهبم‪،‬‬
‫أيّهما يقصفه َ‬
‫واحلكم اجلربي املتمثل يف الزعامة القومية اليت تقول كلمة احلق بشجاعة لكن من‬
‫مواقع الباطل‪.‬‬

‫‪348‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫كثري من حمتمالت املستقبل رهن بصالبتنا واستقرارنا‪ .‬فليس التاريخ مسرحا‪،‬‬
‫وليس املسلمون الصاحون اجملاهدون نظَّارة على اهلامش‪ .‬وليس يف القانونية الدولية‬
‫اليت يستند إليها العا َل اليوم ليُْب ِقي النف َط يف أيد سخية بأموال املسلمني وكنزهم‬
‫التارخيي الثمني ما مينع الشعوب اإلسالمية من زلزلة األنظمة الفاسدة املقفلة‪ .‬بتماسك‬
‫ِّ‬
‫اإلرادة اإلسالمية الوحدوية‪ ،‬ومبشروعها الواضح يف مبادئه وأهدافه و«شرفه الدويل»‬
‫ميكننا أن نتصدى للتحدي الداخلي‪ .‬أيدي التكتالت الدولية‪ ،‬احلالية واملستقبلية‪،‬‬
‫متكنت من التكنولوجيا‪ ،‬بل متكنت منها التكنولوجيا‪ ،‬فهي القائد األعمى حلضارة‬
‫عمياء‪ .‬وهي هي ِطلبَتُنا حنن العاطلني عن العلوم والصناعات‪.‬‬

‫وال ميكن أن نستنقذ التكنولوجيا من أيدي الباخلني هبا‪ ،‬وال أن نستأنسها‬


‫فنسميَها بلساننا «تِقانة» إال إن تكتلنا‪ .‬وال تكتل ميكن أن حنققه ما دمنا حبيسني‬
‫يف السياجات القومية‪ .‬وال خمرج لنا من ربقة القوميات الضيقة إال باحلكم القرآين‪:‬‬
‫حكم الشورى والعدل‪.‬‬

‫يقول املعاند‪ :‬كيف نطبق حلوال عتيقة يقرتحها كتاب عتيق على مشاكل‬
‫جديدة يف نظام عاملي متطور؟ جوابنا أن كلمة اهلل عز وجل اخلالدة تأمرنا باقتحام‬
‫ب عنها‪ .‬ومهما كانت تكوينات هذا العامل‬ ‫العقبة وخبوض غمار الدنيا ال التنَ ُّك ِ‬
‫وأطواره فهداية القرآن الثابتة إن استنارت هبا إرادة جهـادية صامدة واثقة مبوعود اهلل‪،‬‬
‫عاملة حبكم اهلل‪ ،‬صامدة حتت بالء اهلل‪ ،‬هي القائدة إىل نصر اهلل‪.‬‬

‫‪349‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وال مينعنا متسكنا باملبدإ القرآين وشرعه النبوي وشرف اإلسالم الدويل من‬
‫التعلم من سنة اهلل وما حيدثه سبحانه يف كونه على يد العباد‪ ،‬فتحاً منه عليهم‪،‬‬
‫وجناية منهم وإفسادا‪ ،‬أو جماهدةً ُمْنجية عزيزة‪ .‬ال مينعنا بل حيُثنا‪ .‬ومرونة االجتهاد‬
‫يف حدود الشـرف اإلمياين هي لنا التكتيك‪ .‬وال حنيد إن شاء اهلل عن اهلدف‬
‫االسرتاتيجي‪ :‬اخلالفة الثانية مبنهاجها وشروطها‪ .‬ونستعمل املصطلحات احلربية‬
‫حتول‬
‫«التكتيك واإلسرتاتيجيا» تذكريا بأهنا معركة‪ ،‬ال ُيرجها عن طبيعة املعارك ُّ‬
‫األساليب من استعمال سالح اإلماتة احلسية إىل استعمال سالح القتال االقتصادي‪.‬‬

‫إن خريطة العامل السياسية احملمية بقانون األمم املتحدة اليت ال حميد لنا عن‬
‫التعامل الدويل يف ظله موضوعة ملصلحتهم ال ملصلحتنا‪ِ .‬‬
‫ليستقَّر هذا عندنا!‬

‫اليوم يقود القافلة البشرية من وراء ستار‬ ‫استعمار ِ‬


‫أمس‪ .‬وهو َ‬ ‫ُ‬ ‫وض َع هذه اخلريطةَ‬
‫َ‬
‫جملس األمن الدويل مبنطق اقتصادي‪ .‬ال فائدة من استعمار األرض بعد أن أثبتت‬
‫حروب االستقالل الوطين‪ ،‬وحروب فتنام وأفغانستان وأنغوال والكمبوج وغريها أن‬
‫أج َدى وأنفع‪ .‬احتاللُهُ باحتكار‬
‫الشعوب املستضعفة تقاتل وتنتصـر‪ .‬احتالل االقتصاد ْ‬
‫املال واملعلومات والتكنولوجيا والعلوم‪ .‬وبالتحكم يف أسعار الفائدة الربوية‪ .‬وباستعمال‬
‫مشنقة الديون وأُنشوطة إعادة اجلدولة‪ .‬وبالتقومي اهليكلي‪ .‬وباملساعدات املشروطة‪.‬‬
‫وبآليات السوق اليت تديرها الشـركات عابرة القارات‪ .‬وببخس أمثان املواد األولية‪ ،‬وإغالء‬
‫أمثان املواد املصنّعة‪ .‬وباللعب باألمثان والنقد لتبقى الشعوب املستضعفة تابعة خانعة‬

‫‪350‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫جيود عليها األغنياء األقوياء نقطة نقطة باستثمارات كلما كانت االستثمارات هنبا‬
‫سافرا‪.‬‬

‫هذا منطق االستعمار االقتصادي‪ ،‬وهذه أسلحته‪ .‬إالَّ أن تقرر الدولة اآلفلة‪،‬‬
‫فتحتل منابع النفط بعد أزمة صدام‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أمريكا‪ ،‬أن تعيدها َج َذعةً‬
‫اهلدف الـمميـز ل ُكرِه الغرب ِ‬
‫وعدائه‪.‬‬ ‫واملسلمون من بني سائر املستضعفني هم‬
‫ُ ُ َ ُّ ْ‬
‫نات واجلنسيات‪ .‬هذا الكره املتأصل املتجدد بعد‬
‫الس ْح ُ‬
‫والرأمساليةُ غربية ولو تعددت ِّ‬
‫ثورة إيران وأخطاء ثورة إيران جيب أن ال يستفزنا‪.‬‬

‫كتبت جريدة «لومند دبلوماتيك»‪ 1‬تصرحيا ملوريس مشت رئيس أركان حرب‬
‫فرنسا‪ ،‬قال‪« :‬عديد من البلدان (يعين الشـرق اإلسالمي ومشال أفريقيا) تعاين من‬
‫الضغوط الداخلية اليت ميارسها األصوليون‪ .‬وتعاين من تفاقم التوازنات السكانية‬
‫ب هلا حسابا املراجع‬
‫واالقتصادية‪ .‬ولَ َدى هذه البلدان قوة عسكرية مهمة ال َْت ُس ُ‬
‫مارس‬ ‫‪6‬‬ ‫وصر َح وزير خارجية ما كان يسمى االحتاد السوفيايت يوم‬
‫العسكرية»‪َّ .‬‬
‫‪ ،1990‬قال يف فيِنّا خياطب الغربيني وحيرض على املسلمني‪« :‬يف اجلنوب من أوربا‬
‫(يعين دائما الشـرق املسلم ومشال أفريقيا) ويف اجلنوب الغريب من آسيا إمكانيات‬
‫لعلها تكون أقوى من إمكانياتنا»‪.‬‬

‫‪ 1‬غشت ‪.1990‬‬

‫‪351‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقال اهلل جلت عظمته‪﴿ :‬إِنـَُّه ْم يَكي ُدو َن َك ْيداً َوأَكي ُد َك ْيداً فَ َم ِّه ِل الْ َكاف ِر َ‬
‫ين‬
‫أ َْم ِهل ُْه ْم ُرَويْداً﴾‪ .1‬واهلل غالب على أمره‪ .‬ولكن أكثر الناس ال يعلمون‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة الطارق‪.17-15 ،‬‬

‫‪352‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫‪-‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫حقوق اإلنسان‬
‫* بالغ للناس‬
‫* «نظريك يف ا ُخلُلق»‬
‫* اإلنسان املعذب يف األرض‬

‫‪353‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫‪354‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫بالغ للناس‬
‫ُس الدميقراطية مضموهنا ومعناها‪ .‬تلك‬
‫دين العصـر وكلمته وتسبيح ضمريه‪ .‬أ ُّ‬
‫هي صيحة حقوق اإلنسان يف عصـر قاحل شديد على اإلنسان‪.‬‬

‫حقوق اإلنسان هي «املسرح احلقيقي للمعركة» كما كان يقول رئيس‬


‫الواليات املتحدة األمريكية نكسون عندما يريد أن ُيَِّرم االحتاد السوفيايت مبا جناه‬
‫الثوار الشيوعيون‪ ،‬ومبا اقرتفه ستالني‪ ،‬ومبا أفرزته حضارة اجلوالج من دكتاتورية محراء‬
‫ال رمحة يف قلبها‪ .‬واليوم نسمع صوت الضمري اإلنساين يف صفوف القادة السوفيات‬
‫ِّد هبمجية ستالني وشاوشسكو‬ ‫امللتحفني مع جرباتشوف بفضيلة جديدة عندما يـُنَد ُ‬
‫يف تناغم كامل مع صوت البشرية مجعاء‪.‬‬

‫حنن يف معركة حقوق اإلنسان أم ُمتـَلَ ُّقو َن أم معنا رسالة؟ ومن أين لنا‬
‫أحمايدون ُ‬
‫مبصداقية لنقول كلمتنا وحنن يف قفص االهتام؟ اإلسالميون إرهابيون قبل كل مناقشة!‬
‫والشـريعة اإلسالمية مهجية صرفة! هذا حكم أعدائنا حني يصنعون ألنفسهم من‬
‫صبوهنا غرضا تارخييا لسهام كراهيتهم‬ ‫أوهامهم ومن أخطاء بعضنا «دولة شر» يـْن ِ‬
‫َ‬
‫املتأصلة‪.‬‬

‫وما ينبغي أن نتصدى للموضوع بنفسية املتهم‪ ،‬مهُّه أن يرفع عن نفسه التهمة‪ .‬لن‬
‫نرفع صوتَنا باعتزاز حامل البشـرى لعاملكئيب إالَّ إنكان إمياننا وثيقا بأن حقوق اإلنسان‬

‫‪355‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ناشدةً لفظيَّة وال ُحُولةً إديولوجية‬
‫ليست على لساننا وال يف تاريخ سلفنـا الصاحل ُم َ‬
‫يتخفف منها املرء عندما يغيب املراقب وتسنح الفرصة‪ .‬بل إن تكرمي بين آدم لنا‬
‫دين‪.‬‬

‫كشف الظلم عنه‪ ،‬وحتر َيره من العبودية للعباد‬ ‫إن تكرمة اإلنسان‪ ،‬وإنصافه‪ ،‬و َ‬
‫دينُنا وعقيدتُنا‪ .‬لنا يف املوضوع أصالَةُ َش ْر ِعنَا‪ ،‬ال ننقل نقل البليد من ألواح غرينا وال‬
‫نتنازل عما رمسته شريعتنا‪ .‬كلمة اهلل عز وجل تقول‪َ ﴿ :‬ولََق ْد َك َّرْمنَا بَنِي َ‬
‫آد َم﴾‪،1‬‬
‫الع َملِ ّي هلذا املبدإ القرآين ينبغي أن يكون إعالءً ملطمح اإلنسانية باإلجنازات‬ ‫وشرحنا َ‬
‫العملية ال باملشاحنات الكالمية‪.‬‬

‫حتد من أعظم التحديات‪ .‬خاصة وحقوق اإلنسان يف جمتمعاتنا الغثائية‬


‫وذلك ٍّ‬
‫ضيَّة اجلربية خمروقة خرقا شنيعا بدائيا‪ ،‬ليس على خروقها من مساحيق احلضارة‬
‫الع ّ‬
‫َ‬
‫وتنكريها ما ُيفي مهجية الفعل كما عند غرينا‪.‬‬

‫يكاد ُيفي من احتقاره لإلنسان واستهانته حبقوقه ما تكشفه‬


‫على أن غرينا ال ُ‬
‫املشرف‪ ،‬عا َل املستكربين‪ ،‬تقوم الدنيا‬
‫األحداث كل يوم‪ .‬فإنسا ٌن واحد من العامل َّ‬
‫ص ْبا وشاتيال‪،‬‬ ‫كة أصابته يف ِ‬
‫وتقعد خلرب شو ٍ‬
‫أحد ختوم العامل‪ .‬مذابح الفلسطينيني يف َ‬
‫َ‬
‫أخبار دارجة! أسريٌ واحد‬
‫وتقتيل أطفال احلجارة يعرض على أنظار العامل كل مساء‪ٌ :‬‬
‫مائة من الدجاج الفلسطيين‪ :‬أمر ال حيتاج لتعليق‪ .‬الكلب‬ ‫يهودي يفدى بكذا ٍ‬
‫ُ‬

‫‪ 1‬سورة اإلسراء‪ ،‬اآلية ‪.70‬‬

‫‪356‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫األمريكي ال ُـمدلل ينال من كرامة اجملتمع االستهالكي ما يعوض الضمري الغريب عن‬
‫مشاهد البؤس واجلوع واهلياكل العظمية يف جماهل أفريقيا‪.‬‬
‫بعض البشر يف ملة «حقوق اإلنسان» أكثر إنسانية من بعض‪ .‬يفصل‬
‫بني الدرجتني اللون والقومية واالنتماء واجلغرافيا والدين‪ :‬معايري للتمييز سقطت‬
‫اإلديولوجيات وبقيت ثابتة‪.‬‬
‫ومنطق العنف يسوق‬
‫ُ‬ ‫كيف نُسمع صوت «شرف اإلسالم الدويل» للعامل‬
‫بعض املسلمني حلجز الرهائن؟ كيف نُقبل على العا َِل ببشرى اإلسالم وحنن شعوب‬
‫بعض املسلمني للعنف؟ ما زيَّنه هلم؟ ما َحلهم عليه؟‬
‫جر َ‬‫عزالء مظلومة؟ ما ّ‬
‫املنادي حبقوق اإلنسان عن إخالص وصدق حقيقة‬ ‫َ‬ ‫إن الضمري اإلنساينّ‬
‫واقعية من وراء الوضع السياسي الظلمي الذي جيعل بعض البشر أكرم من بعض‬
‫نتناجى ونتجاوب‪ .‬معه نتخاطب لنرفع‬ ‫يف ميزان األرجوحة العاملية‪ .‬مع هذا الضمري َ‬
‫املتعارف عليها‬
‫مطمح اإلنسانية إىل حقها األزيل األبدي الذي ال تُ َك ِّو ُن احلقوق َ‬
‫ٍ‬
‫حلقات من سلسلته‪ .‬ال قيمة ملا توفره حقوق اإلنسان «املتعارف عليها دوليا»‬ ‫إال‬
‫لإلنسان من كرامة وسعادة يف الدنيا إن انقطعت دون حقه األخروي‪.‬‬

‫ينادي الضمري اإلنساين املستيقظ حبق الشعوب يف ت ْقرير مصريها‪ ،‬وباحلقوق‬


‫املدنية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬واالقتصادية‪ .‬ينادي حبق اإلنسان يف احلرية والعدل‪ ،‬حبق املرأة‬
‫والطفل‪ ،‬حبق العمل والصحة والتعلم‪ ،‬حبق السكن الكرمي‪ ،‬حبق املرضى والعجزة‪.‬‬
‫وج ميزاننا‪.‬‬ ‫وكل ذلك مما نعتربه دينا إن قسناه مبعايرينا ووزنَّاه بِ ُ‬
‫صنُ ِ‬

‫‪357‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ويرتفع طموح الضمري اإلنساين فيطالب حبق اإلنسانية يف احلفاظ على الكوكب‬
‫األرضي نظيفا‪ ،‬وعلى البيئة الطبيعية َمصونة لألجيال‪ .‬وهذه مرتبة عالية من الوعي‬
‫نعطيها من االحرتام مثل ما تعطيه األصوات احلرة‪.‬‬

‫وتنحبس مطامح الضمري اإلنساين يف أفق البيئة األرضية واملعاملة اليومية‬


‫واملستقبلية احملدودة‪ .‬ومن هنا تبدأ مهمتنا إلمساع البالغ اإلهلي‪ .‬إلمساع رسالة‬
‫الصيحة يف أذنه‪ ،‬والعرض اللطيف على‬ ‫ِ‬ ‫القرآن‪ .‬إلعالم اإلنسان‪ ،‬واإلعالن له‪ ،‬و‬
‫قلبه‪ ،‬واحلديث الشفوق إليه‪ ،‬والبيان األخوي إليه‪ ،‬بأن من وراء املوت حياة‪ ،‬وبأن‬
‫اإلنسان ليس دابة أرضية‪.‬‬

‫هذه التبليغات هي موضوع ما فرضه اهلل عز وجل على املسلمني من جهاد‪،‬‬


‫القوم‬
‫ي َ‬ ‫ِ‬
‫وما محله الرسل عليهم السالم من رساالت‪ .‬وسكوتنا عن النبإ العظيم لنبار َ‬
‫يف جوقة حقوق اإلنسان على النغمة العامة املألوفة ال نتعداها خيانةٌ ملا ُحِّْلنَا من‬
‫يسمع‬
‫أمانة‪ ،‬وتضييع لإلنسان يف أكرم حق منحه إياه الباري جل وعال‪ :‬وهو أن َ‬
‫مأدبة اآلخرة‪.‬‬
‫خرب السماء ودعوة اخلالق إىل ُ‬
‫سكوتُنا عن النبإ العظيم‪ ،‬وانشغالُنا عن البالغ األخروي والبيان املصريي خيانة‬
‫واخنراط اهنزامي يف جوقة العامل‪ .‬سكوتنا خنوع لسلطان الغلبة الثقافية اجلاهلية اليت‬
‫وتسخر من كل تصريح أو تلويح ملا بعد املوت‪.‬‬
‫َ‬ ‫ال تعرف اهلل عز وجل‪،‬‬

‫إنكان غضبُنا من جانب العدل على شيوخ النفط وملوك العض وسالطني أمريكا‬
‫مشـروعا مفهوما‪ ،‬فإن غضبنا من جانب اإلحسان على السكتة ال ُـمريبة عن حقائق اآلخرة‬

‫‪358‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أكثر مشروعية‪ .‬وكيف تـَُعبـُّر كلمة «أكثر» ال َكميَّةُ عن تفاوت ما بني الدنيا واآلخرة؟‬

‫شيوخ النفط ورؤساء الدولة‪-‬العشرية ينهبون منا يداً بيد مع اللصوص العامليني‬
‫مادة عيشنا‪ .‬وهو ظلم شنيع‪ ،‬وأثـََرةٌ مؤذية‪ ،‬وهضم حلق ثابت من حقوق األمة‬
‫هنرب منها لنجد يف‬
‫يف أمواهلا‪ ،‬وتنكر حلقوق اإلنسان يف العدل‪ .‬وتلك معركة ال ُ‬
‫احلديث عن اآلخرة ُس ْلواناً‪ .‬كال! وإمنا هي معركة واحدة متصلة متكاملة يف ضمري‬
‫املؤمن وعقله وطموحه وجهاده‪ .‬فالدنيا ومقوماهتا وخرياهتا وعالقاهتا وعدهلا وحرما ُنا‬
‫وسياستها واقتصادها طريق ووسيلة سفر‪ .‬واآلخرة وما عند اهلل عز وجل فيها من‬
‫جزاء ونعيم وعقاب وعذاب وجنة ونار خالدين فيها هي املستقر‪.‬‬

‫فمىت سكتنا عن البالغ األخروي‪ ،‬وانشغلنا مبناوشة أعداء الدنيا عن اآلخرة‬


‫اجنررنا مع تيار الدنيا وانسقنا مع منطقها‪ .‬وعندئذ فال قيمة لنا عند‬
‫فقد انقطعنا و َ‬
‫الناس ألننا مل نبلغهم رسالة اهلل العزيزة‪ ،‬وال قيمة لنا عند اهلل ألننا خنا أمانة اهلل‪.‬‬

‫ض وال ِ‬
‫ْجبَ ِ‬ ‫ضنَا ْالَمانَةَ َعلَى َّ ِ‬ ‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬إِنَّا َع َر ْ‬
‫ال‬ ‫الس َم َاوات َو ْال َْر ِ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫نسا ُن إِنَّهُ َكا َن ظَلُوماً َج ُهوالً ليـَُع ِّذ َ‬
‫ب‬ ‫فَأَبـَْي َن أَن يَ ْح ِم ْلنـََها َوأَ ْش َف ْق َن ِمنـَْها َو َح َملَ َها ِْ‬
‫ال َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫وب اللَّهُ َعلَى ال ُْم ْؤمن َ‬
‫ين‬ ‫ين َوال ُْم ْش ِرَكات َويـَتُ َ‬
‫ين َوال ُْمنَاف َقات َوال ُْم ْش ِرك َ‬ ‫اللَّهُ ال ُْمنَافق َ‬
‫ات﴾‪.1‬‬ ‫والْم ْؤِمنَ ِ‬
‫َ ُ‬

‫‪ 1‬سورة األحزاب‪ ،‬اآليتان ‪.73-74‬‬

‫‪359‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫قال ابن عباس رضي اهلل عنهما‪« :‬األمانة الطاعة والفرائض»‪ .‬وقال‪« :‬عُ ِرضت‬
‫ت لك‪ ،‬وإن عصيت عذبتك»‪.‬‬
‫أطعت َغ َف ْر ُ‬
‫َ‬ ‫على آدم فقيل له‪ :‬خذها مبا فيها‪ :‬فإن‬

‫هذا هو حق اإلنسان اخلالد السامي األمسَى‪ :‬أن يكون عبدا هلل عز وجل‪ ،‬عامالً‬
‫للقائه‪ ،‬آمال يف جزائه وجنته‪ ،‬خائفاً من عقابه وناره‪ .‬هذه هي كرامته اآلدمية‪ ،‬كل حق‬
‫حق شرعي إنكان نيلُه يقربه من غايته‬
‫ب به ما دون ذلك من حقوق الدنيا فهو له ٌّ‬ ‫ِ‬
‫يطال ُ‬
‫انعه‪ .‬وكل «حق» من «حقوق اإلنسان» يُلهيه‬ ‫األخروية‪ .‬ومن حقه أن جياهد عليه َم َ‬
‫حيث كونُه‬
‫عن آخرته فهو حظ من حظوظ النفس‪ ،‬ال يبايل به أهل اإلميان إال من ُ‬
‫غ اإلسالم‪.‬‬ ‫مستضعفا يف األرض جتب نُصـرتُه‪ .‬ينصـره اإلسالم ليسمعه يف مأْ ِ‬
‫منه بَال َ‬ ‫ُ َ َ‬

‫تسطَّح اخلطاب اإلسالمي‪ ،‬وسكت عن البالغ األخروي‪َ ،‬‬


‫وجارى جوقة‬
‫حقوق اإلنسان يف َحلَبَتها‪ .‬فما شئت من بناء حضاري وسبق ثقايف وحديث عن‬
‫وص ْه عن نبإ اآلخرة حىت‬
‫ليعمَرها بإبداعاته وإجنازاته‪َ .‬‬
‫خالفة اإلنسان يف األرض ُ‬
‫حنضر جنازة!‬
‫ندخل املسجد أو َ‬
‫إنه اخنناس يف املِثْلية البشرية‪ ،‬وخضوع للهيمنة الثقافية الدوابية‪ .‬وقد أخرب اهلل عز‬
‫وجل عن مقاومة إغراء هذه املِثلية‪ ،‬ضرب لنا مثال ملقاومتها من جهاد الرسل عليهم‬
‫السالم‪ .‬قال تعاىل حيكي مقالة الذين كفروا لرسلهم‪﴿ :‬قَالُواْ إِ ْن أَنتُ ْم إِالَّ بَ َ‬
‫ش ٌر ِّمثـْلُنَا‬
‫تُ ِري ُدو َن أَن تَ ُ‬
‫ص ُّدونَا َع َّما َكا َن يـَْعبُ ُد آبَآ ُؤنَا﴾‪.1‬‬

‫‪ 1‬سورة إبراهيم‪ ،‬اآلية ‪.10‬‬

‫‪360‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫تريدون أن تغلبونا على ثقافتنا وتراثنا وحضارتنا وأصالتنا وقوميتنا‪.‬‬
‫شر ِّمثـلُ ُكم ولَ ِ‬
‫ـك َّن اللّهَ‬ ‫وأجاب الرسل عليهم السالم‪ :‬قالوا‪﴿ :‬إِن نَّ ْح ُن إِالَّ بَ َ ٌ ْ ْ َ‬
‫شاء ِمن ِعب ِ‬
‫اد ِه﴾‪.1‬‬‫يَ ُم ُّن َعلَى َمن يَ َ ُ ْ َ‬
‫االجتماعي‬
‫ِّ‬ ‫ص ْلب سنتهم‪ ،‬مقاومة احمليط‬
‫فمن سنة الرسل عليهم السالم‪ ،‬بل ُ‬
‫الساكت عنه‪ ،‬املعادي َم ْن يتكلم فيه‪ .‬ومن واجبنا اآل َك ِد‬
‫ِ‬ ‫الثقايف اجلاهل خبرب اآلخرة‪،‬‬
‫ِّ‬
‫أن نتقدم برسالة اهلل للعاملني يف عزة ومشوخ وثقة‪ .‬فاإلنسانية مجعاء أمة االستجابة‪،‬‬
‫ث كلمة اهلل اخلالدة‪.‬‬‫ويف مسعها جيب أن نبُ َّ‬

‫واهلل ويل املؤمنني‪ .‬سبحانه ال إله إال هو حييي ومييت‪ ،‬وينشـر وحيشر‪.‬‬

‫‪361‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫«نظريك يف ا ُخلُلق»‬

‫هي كلمة لإلمام علي كرم اهلل وجهه قال‪ :‬الناس صنفان‪« :‬أخ لك يف‬
‫االعتبار من كان مثيالً لك يف اخلُلُق‪.‬‬
‫َ‬ ‫الدين‪ ،‬ونظري لك يف اخلُلُق»‪ .‬يستحق‬
‫يستحق اعتبارا ال يتجاوز به مرتبته إن كان خمالفا لك يف الدين‪ .‬يرفعه خلُ ُقه عن‬
‫عامة البشر‪ ،‬لكن ال خيرجه من دائرة الكفر خلُ ُقه إن كان ال يؤمن باهلل وال باليوم‬
‫تتنازل عن دينك‪ ،‬أو تتناساه‪ ،‬أو تسكت‬ ‫يستدرجك خبُلُ ِقه حىت َ‬ ‫َ‬ ‫اآلخر‪ّ .‬أما أن‬
‫حاج هبا الكفار‬ ‫عن «غيبياته» جماراة‪ ،‬فذلك انزالق يف «املثلية البشرية» اليت َّ‬
‫الرس َل جباال ُشّاً ال تتزعزع‪ .‬قال الرسل عليهم السالم‪﴿ :‬إِن نَّ ْح ُن‬ ‫الرسل فوجدوا ُ‬
‫شاء ِمن ِعب ِ‬
‫اد ِه﴾‪.1‬‬ ‫ِ‬ ‫إِالَّ بَ َ‬
‫ش ٌر ِّمثـْلُ ُك ْم َولَـك َّن اللّهَ يَ ُم ُّن َعلَى َمن يَ َ ُ ْ َ‬

‫إذا استدرجك خلُ ُق نظريك يف املزايا اإلنسانية فنـزلت معه ِمن تسامح ﴿لَ ُك ْم‬
‫ِدينُ ُك ْم َولِ َي ِدي ِن﴾‪ 2‬إىل حضيض اجلري احلثيث يف املباراة األرضية فقد أعطيت من‬
‫نفسك الدليل على ِّادر ِاك علمك باآلخرة‪ ،‬وعن نزولك من مراتب اليقني هبا يقني‬
‫املهتدين‪ ،‬وعن شكك‪ ،‬نعوذ باهلل‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة إبراهيم‪ ،‬اآلية ‪.11‬‬


‫‪ 2‬سورة الكافرون‪ ،‬اآلية ‪.6‬‬

‫‪362‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وإن خمالطة الساسة وتعاطي اللغط السياسي يف حمافل نفخ األبواق الدعائية‬
‫املعوقني‬
‫يؤول باحملرتف‪ ،‬ولو كان يف بدايته ذا ُمسحة من إسالم‪ ،‬إىل أن ينحـط َم َع َّ‬
‫املعطوبني قلبيا‪ .‬ومبا أنه ال بد لنا من التعامل والتعاون والتواصل اجلاد مع اجلمعيات وكل‬
‫اجلهات واألحزاب السياسية املخلصة املدافعة عن حقوق اإلنسان فيجب أن نتعلم‬ ‫ِ‬
‫احلدود الفاصلة بني األخوة يف الدين والنظريية اخللقية واملثلية البشرية‪.‬‬

‫فاألخوة يف الدين هلا واجباهتا وحقوقها‪ ،‬والنظريية يف اخللق حقها أن نبـََّر‬


‫ونـُْق ِسط‪ ،‬واملثلية البشرية ال نرتكها تسحبنا إىل أسفل‪.‬‬

‫الدفاع املخلص عن حقوق اإلنسان ُش ْغلةٌ خلقية رفيعة يبذل فيها الفاضلون‬
‫من غري ديننا اجلهود احملمودة‪ .‬هذا أمر واقع ال ينال منه ُّ‬
‫تنكر الساسة احملرتفني‬
‫وال ينبغي أن نرتدد يف التعاون املخلص مع نداء الضمري اإلنساين الرائع الذي‬
‫يدفع اجلمعيات غري احلكومية عند نظرائنا يف اخللق للتضحيات املشكورة‪ .‬ما مل‬
‫يتعارض ذلك النشاط اإلنساين مع أصل من أصول ديننا‪.‬‬

‫تقزَز نظريي‬
‫شعرة عن أمر اهلل وسنة رسوله جماراة ألحد‪ .‬فإن َّ‬
‫قيد ْ‬
‫أنا ال أتنازل َ‬
‫أت قول اهلل عز وجل عن حد الزانيني‪﴿ :‬‬ ‫من حدود اإلسالم‪ ،‬ونسبها للهمجية‪ ،‬قر ُ‬
‫اح ٍد ِّمنـْ ُه َما ِمئَةَ َج ْل َد ٍة َوَل تَأْ ُخ ْذ ُكم بِ ِه َما َرأْفَةٌ فِي ِدي ِن‬
‫الزانِي فَاجلِ ُدوا ُك َّل و ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫الزانِيَةُ َو َّ‬
‫َّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾‪.1‬‬ ‫اللَّه إِن ُكنتُ ْم تـُْؤمنُو َن باللَّه َوالْيـَْوم ْالخ ِر َولْيَ ْش َه ْد َع َذابـَُه َما طَائ َفةٌ ِّم َن ال ُْم ْؤمن َ‬

‫‪ 1‬سورة النور‪ ،‬اآلية ‪.2‬‬

‫‪363‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أقرأ كلمة اهلل تعاىل الرمحن الرحيم خبلقه فال أضع الشفقة على اخللق اليت َجبَلين عليها‬
‫ف! للحساسية اليت ال تقبل أمر اهلل عز‬
‫أف تُ ّ‬
‫سبحانه يف غري حملها الشرعي‪ .‬وأقول‪ّ :‬‬
‫وجل‪ .‬وأرفض التعاون مع النظراء‪ ،‬وأعتز بديين وأتعاىل عن املثلية البشرية اليت ُت ّـردين‬
‫منه كلِّ ِه إن تعـاميت عن بعضه‪.‬‬

‫نفسي‬
‫ٌّ‬ ‫لله َوى‪ .‬هي تعويض بشري‬ ‫هذه احلساسية املعارضة للدين عبادةٌ َ‬
‫لإلذعان القليب والعبودية هلل تعاىل‪ .‬ال يتلَ َّقى املؤمن من اجلهة السفلى النفسية الشائعة‬
‫بني النظراء يف اخللُق حني يسمع النداء القليب والتلبية اإلميانية‪ .‬والنظري الكافر ال‬
‫أغالق على قلبه حتول دون ذلك‪.‬‬
‫أختام على مسعه و ٌ‬
‫مسو‪ٌ ،‬‬‫يسمع مهما كان يف خلقه ٌّ‬

‫ضلَّهُ اللَّهُ َعلَى ِعل ٍْم‬ ‫ت َم ِن اتَّ َخ َذ إِلَ َههُ َه َواهُ َوأَ َ‬
‫قال اهلل عز وجل‪﴿ :‬أَفـََرأَيْ َ‬
‫ش َاو ًة فَ َمن يـَْه ِد ِيه ِمن بـَْع ِد اللَّ ِه أَفَ َل‬
‫ص ِرِه ِغ َ‬ ‫ِِ ِ‬
‫َو َختَ َم َعلَى َس ْمعه َوقـَْلبِه َو َج َع َل َعلَى بَ َ‬
‫تَ َذ َّك ُرو َن﴾‪.1‬‬

‫لو سكن اإليقان باليوم اآلخر واإلحسان القلوب لنطق بك اإلحسان إن مل‬
‫لصرح بك وباح‪ .‬وعندها تكون شفقتُك على النظري اخلُلُقي حاملة لك‬
‫تنطق به‪ ،‬و َّ‬
‫جمرد إمساع‪ ،‬خرب اآلخرة وحق اإلنسان األعلى األمسَى‪ .‬واهلل عز‬ ‫ِ‬
‫على أن تُ ْسمعه‪َ ،‬‬
‫ويُل األختام إن شاء‪.‬‬
‫عمن يشاء َ‬
‫وجل يفتح األغالق َّ‬

‫سورة اجلاثية‪ ،‬اآلية ‪.23‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪364‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫التطلع إىل اإلحسان؟ سؤالُنا‬
‫ُ‬ ‫ويىي يف القلوب‬
‫صاح يتجدد اإلميان َ‬
‫مباذا يا ِ‬
‫جمرد اإلخبار‪ ،‬واهلل‬
‫السرمدي‪ .‬ومن حقك أخي وأخيت أن تـَْعلَم‪ ،‬أن تـُْعلَ َم‪ ،‬أن ُتبـََر‪َ ،‬‬
‫تعاىل يفتح قلب من يشاء وخيتم وحيُل األختام‪ .‬يف املسجد‪ ،‬يف جمالس اإلميان‪ ،‬يف‬
‫صحبة األخيار‪ ،‬يف ليلة القيام املنرية الساطعة على هنار اجلهاد‪ ،‬يف مداومة ذكر اهلل‪،‬‬
‫يف صدق الطلب وتلَ ُّهف اهلمة‪.‬‬

‫بذلك ال ينجذب املؤمنون إىل حضيض املثلية البشرية‪ ،‬وال يقفون ِ‬


‫خجلني أمام‬
‫إجنازات الفضالء النظراء فيسكتوا عن حق اإلنسان يف مساع النبإ العظيم‪ .‬بذلك نرتفع‬
‫ملقام اخلالفة والوراثة للرسل عليهم السالم‪ ،‬ننبعث ونبلغ‪ ،‬ميسرين ال معسرين‪،‬‬
‫مبشرين ومنذرين‪.‬‬

‫وتلك كلمتنا‪ ،‬كلمةُ اهلل‪ ،‬اليت تتعطش إليها اإلنسانية املتسكعة يف جفاف‬
‫ومرتفوه فقراءُ من اإلميان‪ ،‬باديةٌ أضالع روحانيتهم العجفاءُ َّ‬
‫أشد‬ ‫ماديتها‪ .‬أغنياء العامل ُ‬
‫أنكر من بُ ُد ّو أضالع اجلائع اإلفريقي الذي ينشرون صوره بشفقة تثري اإلعجاب‪.‬‬
‫و َ‬
‫يا ليتهم يعلمون! يا ليتنا نتكلم ونبلغ!‬

‫إنكتاب اهلل عز وجلكله بالغ‪ ،‬كله رسالة للخلق‪ :‬فحواها ومنطوقها ومفهومها‬
‫مركزة على اإلخبار باملصري‪ .‬وظيفة الرسل عليهم السالم‪ ،‬ووظيفة الدعاة بالتبعية‪ ،‬أن‬
‫ينذروا باليوم اآلخر ويبشروا‪ .‬فمن قَبِ َل البِشارة وصدق بالنذارة وذكر اهلل وعبده واندمج‬
‫قلبيا مع الصادقني حىت صار من أهل اإليقان باحلياة األبدية فقد خرج من الظلمات‬
‫‪365‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الدنيوي الذي تسعى إليه مشكورة‬
‫ّ‬ ‫إىل النور‪ .‬وما نور السعادة األبدية كنور اإلسعاد‬
‫منصورة من جانبنا منظمات حقوق اإلنسان‪.‬‬

‫ك لِتُ ْخ ِر َج‬‫َنزلْنَاهُ إِلَْي َ‬


‫اب أ َ‬
‫ِ‬
‫قال اهلل عز وجل يف أول سورة إبراهيم‪﴿:‬الَر كتَ ٌ‬
‫اط الْع ِزي ِز الْح ِم ِ‬‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الن ِ‬
‫يد﴾‪ .‬ويف‬ ‫َ‬ ‫َّاس م َن الظُّلُ َمات إِلَى النُّوِر بِِإ ْذن َربِّ ِه ْم إِلَى ص َر َ‬ ‫َ‬
‫ات إِلَى النُّوِر‬ ‫ك ِمن الظُّلُم ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫وسى بآيَاتنَا أَ ْن أَ ْخ ِر ْج قـَْوَم َ َ‬
‫السورة‪َ ﴿ :‬ولََق ْد أ َْر َسلْنَا ُم َ‬
‫َوذَ ِّك ْرُه ْم بِأَيَّ ِام اللّ ِه﴾‪.1‬‬

‫بعضها يسمع التذكري‬


‫إمساع وتذكري بامليثاق الفطري الكامن يف القلوب‪ُ .‬‬
‫بواسطة ُم َس ِّم ٍع مذكر داع نيب أو وارث عامل فيتذكر ويؤمن وي ْذ ُكُر وخيرج من الظلمات‬
‫وبعضها خمتوم على مسعه وقلبه‪ ،‬ال نعلَم إرادة اهلل فيه‪ ،‬وال مينعنا جهلُنا‬
‫إىل النور‪ُ .‬‬
‫التجنُّد مثلما يتجند النظراء‬
‫بعاقبته من التلطف له إلمساعه‪ ،‬ومن اإلحلاح‪ ،‬ومن َ‬
‫الفضالء وأكثر‪.‬‬

‫يف آخر إبراهيم َّلقن اهلل تعاىل حممداً صلى اهلل عليه وسلم مضمون النذارة ونص‬
‫ين ظَلَ ُمواْ َربـَّنَا أَخ ِّْرنَا إِلَى‬ ‫َنذ ِر النَّاس يـوم يأْتِي ِهم الْع َذاب فـيـ ُق ُ َّ ِ‬ ‫البالغ قال‪﴿ :‬وأ ِ‬
‫ول الذ َ‬ ‫َ َْ َ َ ُ َ ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫ك َونـَتَّبِ ِع ُّ‬ ‫أَج ٍل قَ ِر ٍ ِ‬
‫ْس ْمتُم ِّمن قـَْب ُل َما لَ ُكم‬ ‫الر ُس َل أ ََولَ ْم تَ ُكونُواْ أَق َ‬ ‫ب َد ْع َوتَ َ‬ ‫يب نُّج ْ‬ ‫َ‬
‫ف فـََعلْنَا بِ ِه ْم‬ ‫ِّمن َزو ٍال وس َكنتُم فِي م ِ َّ ِ‬
‫س ُه ْم َوتـَبـَيَّ َن لَ ُك ْم َك ْي َ‬
‫ين ظَلَ ُمواْ أَن ُف َ‬ ‫سـاك ِن الذ َ‬ ‫َ ََ ْ َ َ‬
‫ول‬‫ال َوقَ ْد َم َك ُرواْ َم ْك َرُه ْم َو ِعن َد اللّ ِه َم ْك ُرُه ْم َوإِن َكا َن َم ْك ُرُه ْم لِتـَُز َ‬ ‫ض َربـْنَا لَ ُك ُم األ َْمثَ َ‬
‫َو َ‬
‫ف َو ْع ِد ِه ُر ُسلَهُ إِ َّن اللّهَ َع ِز ٌيز ذُو انْتِ َق ٍام يـَْوَم تـُبَ َّد ُل‬ ‫سبَ َّن اللّهَ ُم ْخلِ َ‬ ‫ِم ْنهُ ال ِ‬
‫ال فَالَ تَ ْح َ‬ ‫ْجبَ ُ‬

‫‪ 1‬سورة إبراهيم‪ ،‬اآلية ‪.5‬‬

‫‪366‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫ات َوبـََرُزواْ للّه ال َْواحد الْ َق َّها ِر َوتـََرى ال ُْم ْج ِرم َ‬
‫ين‬ ‫الس َم َاو ُ‬ ‫ض َو َّ‬ ‫ض غَيـَْر األ َْر ِ‬ ‫األ َْر ُ‬
‫َّار لِيَ ْج ِزي‬‫وه ُه ْم الن ُ‬
‫شى ُو ُج َ‬ ‫اد سرابِيلُ ُهم ِّمن قَ ِطر ٍ‬
‫ان َوتـَغْ َ‬ ‫َ‬
‫يـومئِ ٍذ ُّم َق َّرنِين فِي األ ْ ِ‬
‫َص َف َ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ‬
‫َّاس َولِيُن َذ ُرواْ بِ ِه‬
‫اب َهـ َذا بَالَغٌ لِّلن ِ‬ ‫ْحس ِ‬ ‫ت إِ َّن اللّهَ س ِر ِ‬
‫يع ال َ‬ ‫َ ُ‬ ‫سبَ ْ‬
‫س َّما َك َ‬‫اللّهُ ُك َّل نـَْف ٍ‬
‫اب﴾‪.1‬‬ ‫اح ٌد َولِيَ َّذ َّكر أ ُْولُواْ األَلْبَ ِ‬
‫ولِيـعلَمواْ أَنَّما هو إِلَـهٌ و ِ‬
‫َ َْ ُ َ ُ َ َ‬
‫َ‬
‫هذا هو البالغ عن حق اإلنسان األمسى‪ .‬هذا هو التخويف من فوت فرصة‬
‫العمر‪ ،‬وضياع هدف احلياة‪ ،‬وحسرة األبد‪ .‬وما ترك اهلل عز وجل وجها من وجوه‬
‫التبليغ إال عرضه‪ ،‬من وصف خياطب خيال اإلنسان‪ ،‬وتبص ٍري خياطب عقله‪،‬‬
‫املقرنني يف األصفاد ْيؤمل ِحسه‪ ،‬وتأكيد على أن َ‬
‫وعده سبحانه‬ ‫و«تقرير» عن حال َّ‬
‫ُر ُسلَه ال يتخلف‪.‬‬

‫سمعه العا َلَ بلسان املقال‪ ،‬دائما‬


‫هذا هو البالغ عن حق اإلنسان‪ ،‬علينا أن نُ َ‬
‫ص َمة خرق كرامة‬
‫وو ْ‬
‫لنخُر َج من دوامة التخلف َ‬
‫ويف كل األحوال‪ .‬وعلينا أن نسعى ْ‬
‫ئي وباحلال‬
‫اإلنسان لنكون النموذج احلي ملا ندعو إليه‪ .‬فالدعـوة باحلال الظاهر املر ِّ‬
‫فعله يف التاريخ‬
‫اإلمياين اإلحساين القليب هي قوتنا وشرفنا ورسالتنا‪ .‬وما الدفاع عما َ‬
‫ويفعله بعض املسلمني من فظائع يف حق اإلنسان إال تـع ِمية كريهة لواقعنا ِ‬
‫املؤل الذي‬ ‫َْ َ‬ ‫َ‬
‫يعاجله حىت يف عُ ْق ِر دارنا النظراءُ الفضالءُ املشكورون بالسعي اإلجيايب الفعال‪.‬‬

‫أال وإن الدنيا تشغل مبتاعبها عن اهلل وعن اليوم اآلخركما تشغل مبسـراهتا وزينتها‪.‬‬
‫وتشغل السياسة اليومية‪ ،‬وممارسة احلكم‪ ،‬عن تدبر الغاية األخروية‪ .‬وإن خطر ذوبان‬

‫‪ 1‬سورة إبراهيم‪ ،‬اآليات ‪.52– 44‬‬

‫‪367‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الدعوة يف الدولة‪ ،‬تطحنها رحاها‪ ،‬خطر جسيم يهدد اإلسالميني املتصدين للسياسة‬
‫ومنازلة األعداء وإعداد القوة‪ .‬لذلك يُ َذكر‬
‫اجلهاد ُ‬
‫والواصلني إىل ُسدة احلكم‪ .‬ويشغل ُ‬
‫اهلل عز وجل املؤمنني يف ست آيات نقـرأها من سورة آل عمران بني ٍ‬
‫آيات متُ ُّن بالنصـر‬
‫أحد‪ .‬املؤمنون يومئذ عند التنـزيل‪ ،‬واليوم وغدا‪ ،‬منشغلون‬ ‫اح ُ‬
‫يف بدر وأخرى تأسو جـر َ‬
‫بطاعة اهلل فيما أمر وهنى‪ .‬فتجيئهم البشارة‪ ،‬وهي أخت النِّذارة‪ ،‬لتأخذ بتالبيب قلوهبم‪،‬‬
‫ويأتيهم البيان‪ ،‬ويُعرض عليهم جزاء اجلنة‪.‬‬

‫ض َها‬ ‫قال تعاىل حمرضا مسمعا‪َ ﴿ :‬و َسا ِرعُواْ إِلَى َمغْ ِف َرٍة ِّمن َّربِّ ُك ْم َو َجن ٍَّة َع ْر ُ‬
‫ِِ‬ ‫ين يُ ِنف ُقو َن فِي َّ‬ ‫ت لِلْمت َِّق َّ ِ‬ ‫ات واألَر ِ‬
‫الس َّراء َوالض ََّّراء َوالْ َكاظم َ‬
‫ين‬ ‫ين الذ َ‬ ‫ض أُع َّد ْ ُ َ‬ ‫الس َم َاو ُ َ ْ ُ‬ ‫َّ‬
‫شةً أ َْو‬‫اح َ‬ ‫ب الْمح ِسنِين والَّ ِذين إِ َذا فـعلُواْ فَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين َع ِن الن ِ‬ ‫ِ‬ ‫الْغَْي َ‬
‫ََ‬ ‫َّاس َواللّهُ يُح ُّ ُ ْ َ َ َ‬ ‫ظ َوال َْعاف َ‬
‫وب إِالَّ اللّهُ َولَ ْم‬ ‫استـَغْ َف ُرواْ لِ ُذنُوبِ ِه ْم َوَمن يـَغْ ِف ُر ُّ‬
‫الذنُ َ‬ ‫س ُه ْم ذَ َك ُرواْ اللّهَ فَ ْ‬‫ظَلَ ُمواْ أَنـُْف َ‬
‫ك َج َزآ ُؤ ُهم َّمغْ ِف َرةٌ ِّمن َّربِّ ِه ْم َو َجن ٌ‬
‫َّات‬ ‫ص ُّرواْ َعلَى َما فـََعلُواْ َو ُه ْم يـَْعلَ ُمو َن أ ُْولَـئِ َ‬ ‫يِ‬
‫ُ‬
‫ت ِمن قـَْبلِ ُك ْم‬ ‫ين قَ ْد َخلَ ْ‬ ‫ِِ‬
‫َج ُر ال َْعامل َ‬
‫تَج ِري ِمن تَحتِها األَنـهار َخالِ ِد ِ‬
‫ين ف َيها َونِ ْع َم أ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ َ َْ ُ‬ ‫ْ‬
‫ين َهـ َذا بـَيَا ٌن لِّلن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُسنَ ٌن فَ ِس ُيرواْ فِي األ َْر ِ‬
‫َّاس‬ ‫ف َكا َن َعاقبَةُ ال ُْم َك َّذب َ‬ ‫ض فَانْظُُرواْ َك ْي َ‬
‫ين﴾‪.1‬‬ ‫وه ًدى ومو ِعظَةٌ لِّل ِ‬
‫ْمتَّق َ‬
‫ُ‬ ‫َ ُ ََْ‬
‫بيان وبالغ‪ .‬ملن ذكر اهلل واستغفر لذنبه‪ .‬ومن يغفر الذنوب إال اهلل! اللهم إنا‬
‫نتوب إليك ونستغفرك من سكوتنا‪ .‬ال إله إال أنت سبحانك إين كنت من الظاملني‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة آل عمران‪ ،‬اآليات ‪.138 – 133‬‬

‫‪368‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫اإلنسان املعذب يف األرض‬


‫َّل ِل الْب ِع ِ‬
‫يد﴾‪.1‬‬ ‫اب َوالض َ َ‬‫ين َل يـُْؤِمنُو َن بِ ْال ِخرِة فِي ال َْع َذ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬بَ ِل الذ َ‬
‫َ‬
‫عذاب اآلخرة ألن اإلميان ال يتجزأ‪ :‬فمن مل يؤمن باآلخرة مل يكفه إميان عائم‬
‫بالغيب‪ .‬من ال يؤمن باآلخرة مل يصدق ما جاء به الوحي‪ ،‬فال عربة بزعمه أنه يؤمن‬
‫باهلل ورسوله‪.‬‬
‫وضْنكها يتمثل يف عيش حيواين يكنُفه اخلوف من املوت‪،‬‬ ‫وعذاب الدنيا َ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫صهُ اجلهل مبا وراء املوت وال ُقنوع بأن اإلنسان ظل جاء عبثا‬ ‫ذكرها‪ ،‬ويقلِّ ُ‬
‫ِّصه ُ‬‫وينغ ُ‬
‫ويذهب َه َدراً إىل لُ ْعبة كئيبة فاقدة املعىن‪ .‬وإن تـَلَ َّهى احليوان الكئيب برهة بزينة الدنيا‬
‫فإمنا ُهو حلُ ٌم طائف مث ُتَيِّ ُم َغْيمة الال شيئية‪.‬‬
‫أما من اجتمع عليه الكفر والفقر فعذابه يف الدنيا بأوصاب املرض واجلوع‬
‫والكدح البائس‪ ،‬ال ينقص ذلك من عذابه يف اآلخرة مع من متتعوا يف الدنيا بزهرة‬
‫احللُم الزائل‪.‬‬
‫وإن ما أوجبه اهلل عز وجل على املؤمنني من القتال من أجل املستضعفني‬
‫يهدف بالنية الواعية إىل إزالة عوائق الظلم عنهم لتتأتى هلم فرصة االستماع‬
‫لبالغ اإلنذار وبيان البِشارة‪ .‬فال يسمع املشغول بقوت يومه َمن حيدثه عن‬
‫العباد ال ُـمرتفني من زينة احلياة الدنيا عائق‬
‫غد بعيد‪ .‬وما ابتلى به اهلل عز وجل َ‬
‫كون مع عائق احلرمان تو ُاز َن الشقاء والعذاب‪ .‬فالدعوة تأيت هؤالء‬ ‫آخر‪ ،‬يُ ِّ‬
‫‪ 1‬سورة سبأ‪ ،‬اآلية ‪.8‬‬
‫‪369‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ك إِ َّل الْبَ َلغُ﴾ ‪ ،1‬ويفعل اهلل عز وجل بالعباد ما‬
‫وأولئك بالبالغ‪﴿ ،‬إِ ْن َعلَْي َ‬
‫كفرهم أو ينفعهم إمياهنم‪.‬‬ ‫هم أهله‪ ،‬يُرديهم ُ‬
‫وإن من كمال اإلميان وشرط الدعوة أن يـَُؤِّرقنا َه ُّم احملرومني من النوعني‪ ،‬وإن‬
‫فالعباد َرِح ٌم‬
‫ُ‬ ‫هم اآلخرين‪.‬‬
‫أسبق فال ينبغي أن حيجب عنا ّ‬ ‫كان اهلم باملستضعفني َ‬
‫أي إحسان‬ ‫وصلَتُها بالشفقة واإلحسان خصلة إميانية إحسانية رفيعة‪ .‬و ُّ‬ ‫واحدة‪ِ ،‬‬
‫أحسن وأرفع من تنبيه الغافل وإعالم اجلاهل وإنذار املستهني وتبشري ِ‬
‫السادر مبا‬ ‫ُ‬
‫ينتظر العباد بعد املوت‪.‬‬

‫رحم اإلنسانية‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ ،‬يف مقدمتها حقه األمسى‪،‬‬ ‫رحم واحدة هي ِ‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬
‫لي إن كانت ُتليها على النظراء الفضالء اخللُقيني‬ ‫الع ُّ‬
‫ُيليها على املؤمنني األمر اإلهلي َ‬
‫َّاس اتـَُّقواْ َربَّ ُك ُم الَّ ِذي َخلَ َق ُكم‬
‫ما فيهم من مروءة‪ .‬قال اهلل عز وجل‪﴿ :‬يَا أَيـَُّها الن ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫اح َد ٍة و َخلَ َق ِمنـها َزوجها وب َّ ِ‬ ‫سوِ‬
‫ث منـْ ُه َما ِر َجاالً َكثيراً َون َ‬
‫ساء َواتـَُّقواْ اللّهَ‬ ‫َْ ْ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ِّمن نـَّْف ٍ َ‬
‫ام إِ َّن اللّهَ َكا َن َعلَْي ُك ْم َرقِيباً﴾‪.2‬‬ ‫ِ‬
‫ساءلُو َن بِه َواأل َْر َح َ‬
‫َّ ِ‬
‫الذي تَ َ‬
‫تَ َّساءلون‪ :‬تُسألون عن ِ‬
‫الرح ِم اآلدمية هل أديتم حقها‪ .‬يف مقدمة حقها البالغ‬ ‫ْ‬
‫والبيان والشهادة بالسلوك النموذجي واإلحسان‪ ،‬واجلهاد الدائم لكشف عوائق‬
‫يسمع الناس مجيعا كالم اهلل‪ .‬تعاىل اهلل‪.‬‬
‫حت َ‬‫الظلم َّ‬
‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يدعو ربه هبذه الشهادة يقول‪« :‬اللهم‬
‫كل شيء وملي َكه‪ ،‬أنا شهيد أنك اهلل وحدك ال شريك لك‪ .‬اللهم ربنا‬‫ب ِّ‬
‫ور َّ‬
‫ربَّنا َ‬
‫‪ 1‬الشورى‪ ،‬اآلية ‪.48‬‬
‫‪ 2‬النساء‪ ،‬اآلية ‪.1‬‬

‫‪370‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ورب كل شيء وملي َكه‪ ،‬أنا شهيد أن محمدا عب ُدك ورسولُك‪ .‬اللهم ربنا ورب‬
‫العباد كلُّهم إخوة»‪ .‬رواه اإلمامان أمحد وأبو‬
‫َ‬ ‫كل شيء ومليكه‪ ،‬أنا شهيد أن‬
‫داود‪.‬‬
‫الرح ِم اآلدمية تُلزم الشـاهد واجب ٍ‬ ‫أن العباد كلّهم إخوةٌ يف ِ‬
‫ـات ُت َاه‬ ‫شهادةُ َّ َ‬
‫الوالئي بني املؤمنني‪ ،‬واالصطفاف يف‬ ‫اإلنسانية ال تنايف وال تزاحم وال تعطِّل اإللزام َ‬
‫صف املسلمني‪ .‬فشرط ﴿أ ِ‬
‫َش َّداء َعلَى الْ ُك َّفا ِر ُر َح َماء بـَيـْنـَُه ْم﴾‪ 1‬قائم بسيف ﴿‬
‫لَ ُك ْم ِدينُ ُك ْم َولِ َي ِدي ِن﴾‪ 2‬مينعنا عن الرخاوة واهلشاشة اليت تُزلق إىل «املثلية البشرية»‪.‬‬

‫الرِحم اآلدمية حيبهُ اهلل اجلليل الرحيم‪ .‬قال عز من قائل‪َ ﴿ :‬ل يـَنـَْها ُك ُم اللَّهُ‬ ‫بِر َّ‬
‫وه ْم َوتـُْق ِسطُوا‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين لَ ْم يـَُقاتِلُوُك ْم في الدِّي ِن َولَ ْم يُ ْخ ِر ُجوُكم ِّمن ِديَا ِرُك ْم أَن تـَبـَُّر ُ‬
‫َع ِن الذ َ‬
‫ين﴾‪.3‬‬ ‫ِِ‬ ‫إِلَْي ِه ْم إِ َّن اللَّهَ يُ ِح ُّ‬
‫ب ال ُْم ْقسط َ‬
‫رسل اهلل مبواقع ُحب اهلل كان َح َد ُبم على اخللق وشفقتهم‬ ‫وملعرفة ُ‬
‫وخوفُهم عليهم من عذاب اآلخرة صفةً بارزة‪ .‬قال اهلل عز وجل عن نوح عليه‬
‫ال يَا قـَْوِم ا ْعبُ ُدواْ اللَّهَ َما لَ ُكم ِّم ْن إِلَ ٍـه غَيـُْرهُ إِنِّ َي أَ َخ ُ‬
‫اف َعلَْي ُك ْم‬ ‫السالم‪﴿ :‬فـََق َ‬
‫ِ‬ ‫اب يـَْوٍم َع ِظ ٍيم﴾ ‪ .4‬وعن صاحل عليه السالم‪﴿ :‬قَ َ‬
‫ال يَا قـَْوم ا ْعبُ ُدواْ اللّهَ‬ ‫َع َذ َ‬
‫َما لَ ُكم ِّم ْن إِلَ ٍـه غَيـُْرهُ قَ ْد َجاءتْ ُكم بـَيـِّنَةٌ ِّمن َّربِّ ُك ْم َه ِـذ ِه نَاقَةُ اللّ ِه لَ ُك ْم آيَةً‬
‫ِ‬ ‫سوها بِ ٍ‬ ‫فَ َذروها تَأْ ُكل فِي أَر ِ ِ‬
‫يم﴾ ‪.5‬‬ ‫س َوء فـَيَأْ ُخ َذ ُك ْم َع َذ ٌ‬
‫اب أَل ٌ‬ ‫ض اللّه َوالَ تَ َم ُّ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ‬

‫‪1‬‬
‫سورة الفتح‪ ،‬اآلية ‪.29‬‬
‫‪2‬‬
‫سورة الكافرون‪ ،‬اآلية ‪6‬‬
‫‪3‬‬
‫سورة املمتحنة‪ ،‬اآلية ‪.8‬‬
‫‪4‬‬
‫سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.59‬‬
‫‪5‬‬
‫سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.73‬‬

‫‪371‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫اب‬ ‫وعن شعيب عليه السالم قال‪﴿ :‬إِنِّ َي أ ََرا ُكم بِ َخ ْي ٍر َوإِنِّ َي أَ َخ ُ‬
‫اف َعلَْي ُك ْم َع َذ َ‬
‫يـوٍم ُّم ِح ٍ‬
‫يط﴾ ‪.1‬‬ ‫َْ‬

‫وما دعا نوح عليه السالم باهلالك على قومه إال بعد أن جاءه الوحي ﴿أَنَّهُ‬
‫س بِ َما َكانُواْ يـَْف َعلُو َن﴾‪.2‬‬ ‫ِ‬ ‫لَن يـُْؤِم َن ِمن قـَْوِم َ‬
‫ك إِالَّ َمن قَ ْد َ‬
‫آم َن فَالَ تـَْبتَئ ْ‬
‫األصل أن ال يبتئس الرسول واملؤمن الوارث املبلغ رمحةً وشفقة وخوفا على‬
‫اخللق‪ُ .‬يلي ذلك عليه إميانُه من أعلى واجب حقوق اإلنسان‪ ،‬من جانب الدين‬
‫واملروءة معا‪ .‬يَقف باعث املروءة عند معاملة املثيل البشري بتوفري كرامة العيش‬
‫تدعوهم إىل‬ ‫الدين أن حتسن إىل الناس يف معاشهم بقصد أن َ‬ ‫الدنيوي‪ ،‬ويطلُب ُ‬
‫عادهم‪ .‬والرسول يف ِح ْرصه على الصالح الدنيوي ال ُـم َهيِّئ املمهد للصالح‬ ‫صالح م ِ‬
‫َ‬
‫وشفوق‪ .‬قال اهلل عز وجل حملمد صلى اهلل عليه وسلم‪﴿ :‬‬ ‫األخروي ُم َؤَّر ٌق مهموم َ‬
‫ك َعلَْي ِه ْم‬ ‫ِِ‬ ‫لَعلَّ َ ِ‬
‫سَ‬ ‫ين﴾ ‪ .‬وقال له‪﴿ :‬فَ َل تَ ْذ َه ْ‬
‫ب نـَْف ُ‬ ‫ك أََّل يَ ُكونُوا ُم ْؤمن َ‬‫سَ‬
‫ك بَاخ ٌع نـَّْف َ‬
‫‪3‬‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ح ٍ‬
‫يم بِ َما يَ ْ‬
‫صنـَعُو َن﴾‪.4‬‬ ‫س َرات إِ َّن اللَّهَ َعل ٌ‬
‫ََ‬
‫ِ‬
‫باعثُنا على احرتام حقوق اإلنسان‪ ،‬على أداء حقوق اإلنسان‪ ،‬على اجلهاد من أجل‬
‫حقوق اإلنسان‪ ،‬باعث ٍ‬
‫عال‪ .‬وكل تديُّن ال يكون من مضمونه الشفقة على اخللق‪ ،‬ومن‬

‫‪1‬‬
‫سورة هود‪ ،‬اآلية ‪.84‬‬
‫‪2‬‬
‫سورة هود‪ ،‬اآلية ‪.36‬‬
‫‪3‬‬
‫سورة الشعراء‪ ،‬اآلية ‪.3‬‬
‫‪4‬‬
‫سورة فاطر‪ ،‬اآلية ‪.8‬‬

‫‪372‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أهداف جهاده ِ‬
‫الب باخللق والعدل يف اخللـق‪ ،‬فهو تدين أجوف‪ .‬كما هي منقوصة‬
‫مبتورة ‪-‬إنسانيَّةٌ مع ذلك مشكورة‪ -‬االهتمامات باحلقوق الدنيوية لإلنسان دون‬
‫حقه األمسى‪.‬‬

‫ك املسؤولية‪ .‬بل منذ اآلن وهم‬ ‫ِ‬


‫عرض اإلسالميون على مَ ّ‬
‫غدا إن شاء اهلل يُ َ‬
‫يف طريقهم إىل احلكم تَفرض عليهم املواقف السياسية‪ ،‬كما يندهبم لذلك دينُهم‪،‬‬
‫ال ِو َ‬
‫فاق والتعاو َن مع مجعيات حقوق اإلنسان‪ ،‬الوطنية احمللية منها والدولية‪ .‬إن اختلفت‬
‫توح ُد‪ .‬باعثهم املروءة‪ ،‬مروءةُ «نظريك يف اخللُق»‪ .‬وباعثنا العقيدة‬
‫البواعث فاألهداف ِّ‬
‫واملروءةُ معا‪ .‬فإن كانوا حيملون معايري الغَيـَْرِة على الضعيف والكراهية للظلم فنحن‬
‫ب ُقسطاس الدين املستقيم نضع الرمحة مو ِ‬
‫اضعها‪ ،‬ال نـَْتك ال ِوفاق يُزهقنا إىل شيء من‬
‫التنازل عن احلق املن ّـزل‪.‬‬

‫نضال‬
‫منابع حقوق اإلنسان ومراضعُها يف وعي مجعيات النظراء الفضالء ُ‬ ‫ُ‬
‫الشعوب ومكاسب األجيال البشرية‪ .‬فهو «تراكم» كما يقولون ُخلُقي ساهم‬
‫«املاجنا كارطا» على امللك منذ أوائل‬
‫ْ‬ ‫يف توريثه لإلنسان أمراء إجنلرتا حني فرضوا‬
‫القرن الثالث عشر امليالدي‪ ،‬وساهم فيه سييس ورفاقُه يف الثورة الربجوازية الفرنسية‬
‫على األمراء‪ ،‬وساهم فيه قبل ذلك إعالن جفرسون والثائرون األمريكان على‬
‫أى‬
‫االستعمار الربيطاين‪ ،‬وساهم فيه لينني وثورثُه الربلتارية‪ ،‬ويساهم فيه على َم ْر ً‬
‫سمع الثـائرون «ثورة خمملية» يف شرق أوربا ومجهوريات السوفيات‬ ‫وم َ‬‫من جيلنا َ‬
‫العائدون من جنة ماركس املوعودة املكذوبة‪.‬‬

‫‪373‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫قالت إعالنات احلرية الربجوازية‪ :‬حرييت تنتهي حيث تبدأ حرية اآلخر‪.‬‬
‫خادم للهدف االجتماعي‪ ،‬فحقه أن‬
‫الفرد ٌ‬
‫قبل أفوهلا‪ُ :‬‬
‫وقالت إعالنات االشرتاكية َ‬
‫يندمج وينصهر يف الكل االجتماعي ليـَْنعم اجلميع بالعدل‪.‬‬

‫وازدهت الربجوازية حبقوقها الفردية األنانية‪ .‬ومرت َد َّكاكةُ االشرتاكية على‬


‫الشعوب ال ُـمسفيتة وكبستها‪ .‬وقال نكسون عن حقوق اإلنسان املهضومة‪« :‬إهنا‬
‫مسـرح املعركة احلقيقية»‪ .‬وكان‪ .‬فاحلقوقية الرأمسالية ُمنذ اليوم يف عرس انتصارها‬
‫حتتفل بإعالن حقوق اإلنسان سنة ‪ 1948‬بتاريخ النصـارى‪ .‬ذلك اإلعالن الذي بدأ‬
‫من ُذ انتهاء احلرب الباردة يكتسي صبغة اإللزام الفعلي بالقوة الدولية بعد أن بات‬
‫زمانا حربا على ورق بكرامة حق الفيتو‪.‬‬

‫ال َّ‬
‫نتنكر لنضال الشعوب وكفاح مروآت األجيال وال نتجاهله‪ .‬وال يقطعنا‬
‫هذا االعرتاف عن منابعنا‪ .‬فاهلل تعاىل أمر وحنن نطيع‪ .‬من هنا نبدأ‪.‬‬

‫نض ُّم ُجهدنا‬


‫من هنا نبدأ شوطا من أشواط جهادنا إلقامة دين اهلل يف األرض‪ُ ،‬‬
‫جلهود النظراء الفضالء من بين جلدتنا ومن غرينا‪ .‬ومن بين جلدتنا مسلمون لعل يف‬
‫الوالية اليت أوجبها اهلل عز وجل على املؤمنني‪.‬‬
‫صعد الوفاق إىل َ‬
‫رحلتنا معهم يَ َ‬
‫يناضلون وجناهد‪ ،‬هم يف حدود طموحهم السياسي وحنن يف ركاب الشرع‪،‬‬
‫من أجل رفع الظلم عن اإلنسان‪.‬‬

‫‪374‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫من أجل كرامة املواطن وسالمته البدنية والنفسية‪ ،‬من أجل حريته‪ .‬من‬
‫أجل حقوقه املدنية االقتصادية االجتماعية السياسية الثقـافية اليت ال تقبل التبعيض‬
‫والتجزيء‪ .‬ولنا مع النظراء الفضالء املسلمني خاصة حوار لنحدد يف أي سياق نفهم‬
‫هذه الكلية ونطبقها‪ .‬جنرهم ملنطق اإلسالم وسياقه‪.‬‬

‫سيادةَ الشعب يف‬


‫يناضلون وجناهد من أجل استقرار سياسي تكون قاعدتُه َ‬
‫تقرير مصريه وسياسته‪ ،‬ويف انتخاب حكامه وتبديلهم‪ ،‬ويف تنفيذ السياسة ومراقبة‬
‫التنفيذ‪ .‬حناور النظراء املسلمني لننتهي إىل الشورى بآليات الدميوقراطية‪.‬‬

‫يناضلون وجناهد من أجل توفري السكن والعالج والتعليم والعمل ووسائل‬


‫النقل‪ .‬ومن أجل العدل‪ .‬ومن أجل التنمية‪ .‬ومن أجل كرامة األمة‪ .‬األمة يف وعي‬
‫النظراء الفضالء املسلمني ينبغي أن تلتمس مقوماهتا من الدين ال من القومية‬
‫والوطنية احمللية التجزيئية االستعمارية‪.‬‬

‫من أجل حرية التحزب والتنظيم النقايب‪ ،‬واإلضراب‪ .‬من أجل محاية املواطن‬
‫من االعتقال التعسفي والتعذيب والشطط يف استعمال السلطة‪.‬‬

‫أفقنا يف الوفاق مع النظراء إقامة اخلالفة على منهاج النبوة‪ .‬وهلل عاقبة األمور‪.‬‬

‫‪375‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫التقدم والتخلف‬
‫* «ميثولوجيا» التقدم‬
‫* العصرنة واملاضي‬
‫* النقاش احملوري‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫«ميثولوجيا» التقدم‬
‫يفضل الفاضل النظري أن يسمي عمله نضاال‪ ،‬فالكلمة رائجة يف قاموس‬
‫وينفر من مادة جاهد‪ ،‬خاصة إن كان يساريا‪ ،‬ولو مسلما مصليا‪َ .‬و ْي!‬ ‫التقدمية‪ِ .‬‬
‫وهل يف اليساريني مسلمون مصلون؟ نعم‪ ،‬إي واهلل! وأعين هنا املسلمني املصلني‬
‫املنخرطني حتت راية يسارية‪ ،‬الَ أهل «اليسار اإلسالمي»‪ .‬وقد فاوضت بعضهم‬
‫فوجدت الالييكية ضاربةً أطناهبا يف نفسه وعقله‪ ،‬متساكنة تساكنا عجيبا مع‬
‫بنضاليته من قريب وال من بعيد‪ .‬مروءتُه اليت ال تـُْن َك ُر وغضبه‬
‫إسالمه‪ .‬دينه ال يتصل َ‬
‫على الظلم وخفته إىل فعل اخلري ال تستقي مادهتا من صالته وصيامه‪ .‬وملثل هؤالء‬
‫ُودعُ هنا قول اهلل عز وجل عن قوم كدحوا يف الدنيا وعملوا‪ ،‬حىت‬ ‫األفاضل النظراء أ ِ‬
‫إذا غابت مشس حياهتم الدنيوية وشدوا الرحال إىل املثوى وجدوا ما عملوا هنا‬
‫أحبوا ووالوا ونصروا من غري‬ ‫باطال‪ ،‬ووجدوا أنفسهم رغم الصالة والصيام مع من َ‬
‫أهل املسجد‪.‬‬

‫قال اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَ ِد ْمنَا إِلَى َما َع ِملُوا ِم ْن َع َم ٍل فَ َج َعلْنَاهُ َهبَاء َّمنثُوراً‬
‫س ُن َم ِقيالً﴾‪.1‬‬ ‫أَصحاب ال ِ ٍ‬
‫ْجنَّة يـَْوَمئِذ َخيـٌْر ُّم ْستـََق ّراً َوأ ْ‬
‫َح َ‬ ‫َْ ُ َ‬
‫هل تتبخر من أدمغة املناضلني االشرتاكيني التقدميني غيبية التقدمية بعد اهنيار‬
‫التقدمية يف بالدها؟ ما مينع النظراء‪ ،‬بل وبعض اإلسالميني املتسرتين املرشوشني‪ ،‬من‬

‫‪ 1‬سورة الفرقان‪ ،‬اآليتان ‪.23-24‬‬

‫‪379‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الوالء واللغة؟ إنه‬
‫إعالن َوالئهم هلل ورسوله جهرة‪ ،‬ومن االعتزاز بإمياهنم متميزين يف َ‬
‫اإلرهاب الفكري وخوف التهمة بالرجعية‪ ،‬سيَمـا ومن املسلمني‪ ،‬من حكامهم‪ ،‬قوم‬
‫ما حتط عليهم من نعوت التقهقر واجلمود والبالدة والقسوة والظلم إال وكانت دون ما‬
‫يَِزُرو َن‪.‬‬

‫لذا جتد بني الفضالء النظراء‪ ،‬وبني اإلسالميني املرشوشني‪ ،‬رواجا لقاموس‬
‫تشُّردا يف القول‬
‫التقدمية والنضال واالشرتاكية والرقي واحلضارة والثقافة والثورة‪ .‬وجتد َ‬
‫اب ميتاف ِز ِيق ٍّي يرتاءَى يف مساء‬
‫يقني يف َلاقه وسر ٍ‬
‫َ‬ ‫وُلاثا يف الكدح خلف ُمتـََوقَّع ال َ‬
‫األحالم الثورية‪ ،‬ال يوقظ منها الواقع املاثل يف زعزعة أركان اإلديولوجية التقدمية بعد‬
‫ت يف سبعني سنة‪.‬‬ ‫خراب ما بنَ ْ‬
‫دارت الثورة دورهتا فرجعت الشيوعية ‪-‬احللم إىل قواعدها غري ساملة لتضع‬ ‫ْ‬
‫رأسها يف حجر الدميوقراطية الرأمسالية ِّأمها‪ .‬فبأيهما يصل التقدمي املتخلف التلميذ‬
‫أي ِوفاق لنا مع الفضالء النظراء من العائدين من بالء التقدمية؟ نصل حبلنا‬ ‫حبله؟ ُّ‬
‫وحبلهم بالدميوقراطية املنتصرة وهي أشد ما كانت سطوة وإفسادا؟ ما هي التقدمية‬
‫وبأي معيار نقيس‪ ،‬وإىل أين ال ِوجهةُ‪ ،‬وما هو اهلدف؟ أم نصل حبلنا باهلل ورسوله‬
‫واملؤمنني؟‬

‫كثري من املناضلني الكادحني التقدميني ال يطرح سؤال‪ :‬ما معىن التقدمية؟‬


‫هده لنصر‬ ‫وج َ‬
‫وعمره ُ‬
‫نفسه َ‬ ‫ِّدة بالظلم‪ ،‬يبذل َ‬‫فهو يقاتل حتت راية الشعارات املند َ‬
‫قضية يشعر يف قرارة فطرته املغمورة أهنا حق‪ .‬وتأيت اإلديولوجية السطحيـة لتشغَل‬
‫عقله ولسانَه بفذل َكة القاموس الثوري‪ .‬فهو أشبه ما يكون باجلمـل املقطور اجملرور‪،‬‬
‫وإن كان يعيش يف عصـر القطار ذي السرعة الكبرية‪.‬‬

‫‪380‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يف قرارات نفس املناضل النظري غضب على الظلم ومروءة تناضل‪ ،‬وطاقة‬
‫تعرب عن نفسها‪ .‬وما بعد الثورة الدميوقراطية الثانية يف روسيا وأوربا الشرقية والصني‬
‫ِ‬
‫يتماد ْوا مع كاسرتو‬
‫يار من اثنني أمام املناضلني التقدميني‪:‬إما أن َ‬ ‫والعامل أمجع إالَّ خ ٌ‬
‫قائد كوبا يف اإلصرار على أن اإلديولوجية ال ختطئ ويُ ِّ‬
‫كذبوا الواقع والنتائج امللموسة‬
‫تنكس َـر راية كاسرتو كما انكسرت راية غريه‪ .‬وإما أن يصلوا حبلَهم حببل اهلل‬ ‫حىت ِ‬
‫عز وجل ويُعمقوا معنا احلو َار ليُفتح خط رجعة وتوبة‪ .‬إهنا دعوة لراجحي العقول‪.‬‬

‫مفهوم التقدمية يستند إىل تصور للتاريخ البشري على شكل مسرية هلا مراحل‪.‬‬
‫ُّم وترق على اليت سبقتها يف الزمن‪ .‬املعيار زماينٌّ تارخيي‬
‫املرحلة الالحقة تـََف ُّو ٌق وتقد ٌ‬
‫عاد لكل دين مبدئيا‪.‬‬ ‫حمايِد أخالقيا م ٍ‬
‫ُ‬
‫سواءٌ يف هذا التصور فلسفة ُكنت الفرنسي ومثالية هيكل ومادية ماركس‬
‫التارخيية‪ .‬ومرحلية الفيلسوف االجتماعي كنت تـُبَ ِّسط التاريخ البشري يف ثالث‬
‫قفزات‪ :‬واحدة إىل مرحلة الدين‪ ،‬والثانية إىل مرحلة امليتافزيقا‪ ،‬والثالثة إىل املرحلة‬
‫تسود فيها العقالنية على اخلرافية‪ ،‬وامللموس املعقول‬ ‫الوضعية التقنية التنظيمية اليت ُ‬
‫على احمللوم به املأمول‪.‬‬
‫تطورية ماركس وتقدميته من طور الـمشاعية البدائية‪ ،‬إىل طور ِ‬
‫القنـِّيَّة‪،‬‬ ‫وهكذا ُّ‬
‫ُ‬
‫إىل طور اإلقطاع‪ ،‬إىل طور الربجوازية‪ ،‬إىل طور اجملتمع الشيوعي حني تذوب‬
‫الطبقات وتفىن الدولة‪ ،‬ويدخل الناس أفواجا إىل جنة الوفرة ونعيم العدالة ونَعمة‬
‫احلرية والسلم‪.‬‬

‫‪381‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫نفتح األقواس حملاورهتم من النظراء الفضالء هي هذا الركام‬
‫مرجعية َم ْن ُ‬
‫الفكري املثايل املادي مما أفرزته أحالم البشر وتنبُّؤات الفالسفة‪.‬‬

‫حيلم فالسفة التطور االجتماعي على إيقاع الداروينية التقدمية‪ ،‬فيتنبأون هلذه‬
‫يسعد فيه الناس‪ ،‬ويسود الوفاق‬ ‫الدودة األرضية املسماة إنسانا مبستقبل متفائل َ‬
‫االجتماعي‪ ،‬والرجاء‪ ،‬والعدل‪ ،‬واحلرية‪ ،‬والسالم‪ .‬ويـَْع ِرض الفالسفة املصلحون‬
‫والثوريون على معاصريهم منَطا اجتماعيا يتسلسل يف حلقات متصاعدة من‬
‫اإلصالحات والثورات ترتاكم ويهيء بعضها بعضا أو يزيلُهُ لتكون احلصيلة النهائية‬
‫تقدما خالصا للبشرية‪.‬‬

‫تقدما إىل أين؟ إىل بُغية كامنة يف مستقبل أفضل‪ ،‬يف «مدينة فاضلة»‪ .‬كل‬
‫يتقدم بتصوره جملتمع احملبة واإلخاء‪ ،‬أو جمتمع القوة واملنَعة‪ ،‬أو جمتمع الوفرة والرخاء‪،‬‬
‫أو جمتمع التصنيع والتشغيل‪ ،‬أو جمتمع العقالنية والعلم‪ ،‬أو جمتمع احلرية واإلخاء‬
‫واملساواة‪.‬‬

‫وال جتد من الفالسفة واألدباء وبُناة اإلديولوجيات من يدعوك إال إىل كرامة‬
‫اإلنسان‪ .‬إىل كرامة أرضية كما يتصورها‪ ،‬القتناع الفالسفة واملنظرين الغربيني‪ ،‬أساتذة‬
‫من حناور‪ ،‬أن الدين مرحلة جتاوزهتا اإلنسانية‪.‬‬

‫وجتاوزاً للدين‪ ،‬وحربا على الدين قامت الثورات على ُخطى منظِّرين‬ ‫ِ‬
‫فض َّد الدين‪ُ ،‬‬
‫من أمثال فولتري وماركس‪ .‬كان شعار الثوار الفرنسيني سنة ‪ 1789‬بتارخيهم‪ :‬اشنقوا ِ‬
‫آخر‬ ‫َ‬
‫إقطاعي بأمعاء آخر قِسيس‪ .‬وكانت كلمة ماركس املختـََزلة أن الدين أفيو ُن الشعوب‬
‫الفصل يف املوضوع‪.‬‬
‫َ‬ ‫الكلمة‬

‫‪382‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الغضب املقدس على الظلم‬ ‫ِ ِ‬
‫ففي قرارات نفوس النظراء الفضالء يـَ ْغلي يف مرجل َ‬
‫مزيج من العقيدة التطورية التقدمية‪ ،‬ومن الفكر الوضعي التكنولوجي‪ ،‬ومن العداء أو‬
‫ب النظراء التقدميون نقد فالسفة أوربا لدين الكنيسة على‬
‫ويسح ُ‬
‫َ‬ ‫الريبة يف الدين‪.‬‬
‫ِّ‬
‫دين اإلسالم‪ .‬من كان منهم مسلما مصليا احتفظ بتدينه يف ركن عميق من أركان‬
‫مناذج من احلكام املنافقني وجتار الدين‬
‫غري ذلك فأمام عينيه ُ‬ ‫خصوصيته‪ ،‬ومن كان َ‬
‫وعلماء القصور ُتَ ِّك ُن حلجة الفالسفة أساتذتِه أن الدين أفيو ُن الشعوب‪.‬‬

‫وغالبا ما يكون املناضل الفاضل من املنـَفِّذين النشطني ال من املفكرين‬


‫ِ‬
‫املفلسفني‪ .‬فهو يف شغل عن املعاجلة الفكرية واملناقشة اإلديولوجية‪ ،‬يرتكهما للمثقف‬
‫الفيلسوف ليتفرغ للنضال اليومي الكادح‪.‬‬

‫فمثل هذا يفيده يف حوارنا معه أن يطلع على ما عند من يسميهم الفالسفة‬
‫التقدميون الفولترييون املاركسيون «ب ُق َوى الظالم»‪ .‬يفيده أن يعلم ما عند اإلسالميني‬
‫وما يف دين احلق من استعداد للتفاعل مع ِخضم اإلرادات والغرائز وال ُق َوى املنظَّمة‪،‬‬
‫لش ْغل نضاليته‪.‬‬
‫مع املخلصني وضد الظاملني‪ ،‬لتحقيق العدل‪ .‬ذلك َ‬

‫وإللفات نظ ِر قلبه إىل ما وراء السراب الثوري الفلسفي‪ ،‬وإىل ما وراء احلياة‬
‫الدنيا وكدحها‪ ،‬خناطبه من إزاء املنهاج النبوي لنجدد عنده البالغ والبيان إن كان‬
‫مسلما مصليا‪ ،‬ولنَْبدأه بالبيان والبالغ إن كان غري ذلك‪.‬‬

‫‪383‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫من إزاء املنهاج النبوي ننظر معه إىل املستقبل‪ ،‬ال من إزاء امليتـافزيقـا التقدمية‪.‬‬
‫خناطبه وأيدينا مستمسكة حببل اهلل‪ ،‬وقلوبنا عامرة حبب اهلل‪ ،‬وأعمالنا مضبوطة بسنة‬
‫رسول اهلل‪.‬‬

‫جهودك أخي املناضل املسلم املصلي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وبالنية املصلحة يف األرض‪ .‬تضيع‬
‫ويبطل عملك‪ ،‬إن مل تصحح النية‪ .‬تتسرب جهودك الفاضلة َمنبعا يف رمال الكبَد‬
‫فر اليدين ألنك واليت وحتزبت مع من ال يرجون هلل‬ ‫ِ‬
‫الدنيوي وتذهب إىل اآلخرة ص َ‬
‫حمرَرة على لسان‬
‫أحب هنا وو َال وعاشر وناصر‪ .‬خذها َّ‬
‫َوقارا‪ .‬واملرء هناك مع من َّ‬
‫رسولك حممد صلى اهلل عليه وسلم الذي جاءه رجل يسأل‪ :‬مىت الساعة؟ قال‪ :‬ما‬
‫ِ‬
‫كبري شيء غري أين أحبك‪ .‬قال له ولك يا من يسمع‬‫أعددت هلا؟ قال‪ :‬مل أُع َّد هلا َ‬
‫بأُذن القلب والفطرة والتوجه األخروي‪ ،‬يا من يصلي مع املسلمني ويتحزب مع‬
‫املناضلني التقدميني تاركي الصالة‪ .‬قال له وحيك‪« :‬المرء مع من أحب»‪.‬‬

‫يار أن تصطف مع من شئت‪ .‬وهناك حتصد ما حرثت هنا‪ .‬وتُ َلزم‬ ‫هنا لَ َ ِ‬
‫ك اخل ُ‬
‫قهرا صحبةَ من أنت أدرى بعقيدهتم‪ .‬واهلل يهدي من يشاء إىل صراط مستقيم‪.‬‬

‫‪384‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫العصرنة واملاضي‬
‫أي شيء يرفعنا من حضيض االحنطاط التارخيي إىل قمة الرقي املدين احلضاري؟‬
‫ناب التخلف إىل رأس التقدم؟‬
‫أي شيء يتقدم بنا من ذُ َ‬
‫دميوقراطية اللربايل املنتشـى يف عرس انتصار الرأمسالية؟ أم اقتصادية التقين؟ أم‬
‫عدلية االشرتاكي العلمي التقدمي الالجئ إن اقتضـى احلال إىل االشرتاكية األخرى‬
‫الدميوقراطية؟ أم عقالنية الفيلسوف املثقف؟ أم نضالية احلقوقي؟ أم إديولوجية‬
‫القومي؟ أم روحانية اإلسالمي وشرعيته؟‬
‫أم كل ذلك ملَفقا ممزوجا بذوق الزمان واملكان والفرصة؟‬
‫ويوص ُم اإلسالمي بأنه ينظـر إىل املاضي‪ ،‬وجيهل‬
‫يلفق املنافقون واالنتهازيون‪َ ،‬‬
‫العصر‪ ،‬ويتنطع أمام احلقائق املاثلة ليناجي أحالمه‪.‬‬
‫ومل يبق يف امليدان بعد موت اإلديولوجيات يف بالدها وبعد فشل اللرباليني‬
‫واالشرتاكيني يف بالد املسلمني إال التلفيق املنافق‪ ،‬أو االستماع ملا عند اإلسالميني‬
‫بالنية البناءة‪ ،‬أو الرزوح األبدي حتت وطأة الرجعيني التقليديني الذين نسميهم‬
‫ووطأة حلفائهم األمربياليني الذين نسميهم االستكبار‬ ‫ِ‬ ‫حكاما عاضني جربيني‪،‬‬
‫العاملي‪.‬‬
‫هات! هات! أين «يتموضع» اإلسالميون على اخلريطة السياسية؟ أهم ميني أم‬
‫يسار؟ أهم قُوى حتررية تقدمية أم هم كما نرى بعضهم قوى رجعية حليفة موضوعية‬

‫‪385‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫لالستعمار وأذنابه؟ ما نظرهتم إىل العصـر وإىل الدميوقراطية؟ ما مشـروعهم احلضاري؟‬
‫عسكرهم من بني املعسكرات؟‬
‫ما ُم ُ‬
‫رمبا سألت عن حسن نية يأيها النظري اخللقي‪ .‬فإليك يف املكان الثاين‬
‫قصدنا بعد اهتمامنا بتنوير الطريق أمام أنفسنا‪ .‬لكن متام االستماع إلينا يقتضي‬
‫ُ‬
‫هد األول يف حتويل‬
‫تنصت كيف نطرح حنن األسئلة‪ .‬فرمبا فاتك إن مل تبذل اجلُ َ‬‫أن ِ‬
‫الفهم عنا واحلوار الضـروري معنا‪ ،‬ضرورةً حنُسها ونسارع إليها كما حتس‬
‫املوجة ُ‬
‫أنت وإن بقيت تتلكأ يف ريبتك وانشطارك وحريتك بني صالة ختشع فيها لربك‬
‫وبني نضالية تنسى فيها دين اهلل لتنخرط بدمك وعصبك وعقلك وعضلك يف‬
‫َم ْهيَع السياسية احلزبية الالييكية يف أحسن أحواهلا‪.‬‬

‫املهيع لغةً الطريق الواسع املنبسط‪ .‬واهلَْيعة كلمة جتمع معاين احلركة والفزع‬
‫واجلنب والضعف واجلزع والضجر واحلرية‪ .‬وكل أولئك حظ الفاشلني من الساسة‬
‫املناضلني القوميني‪ ،‬اللرباليني والرجعيني‪ ،‬وأحالفهم من املنافقني واملشـركني أمام‬
‫صعود الدعاة إىل دين اهلل اخلالص‪.‬‬

‫السياسة مهيع بكل هذه املعاين‪ .‬مع الناس وضد الناس ويف زمحة الناس جيري‬
‫املناضل والزعيم خلف ميتافزيقا إديولوجية‪ ،‬أو خلف أهداف واقعية‪ .‬خلف التنمية‬
‫والتحرر وحقوق اإلنسان والدميوقراطية واحلضارة وكسب التكنولوجيا والسيطرة على‬
‫الطبيعة والقوة واالكتفـاء الغذائي وما بني يَ َدي هذا وخلفه‪.‬‬

‫‪386‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫فهل اإلسالميون صنف من البشر ال يريدون حتقيق هذه األهداف؟‬

‫بلى! لكنهم قوة َح َّقانية ال يُصنَّفو َن ميينا وال يسارا يف مهيع السياسة لسبب‬
‫واحد‪ :‬هو أهنم يؤمنون باهلل وباليوم اآلخر‪ .‬فهم بأجسامهم وعقوهلم وجهودهم‬
‫قوم سائرون بالعمل‬ ‫ِ‬
‫املنظمة ومواقفهم وجهادهم مع الناس ومن الناس‪ .‬وهم فُر َادى ٌ‬
‫الصاحل إىل موعود اهلل وهو حق‪ ،‬وإىل جزاء اآلخرة وهو حق‪ ،‬يطمعون فيه ويثقون‬
‫بوعد رهبم‪.‬‬

‫ومن جيري يف مهيع السياسة بدون هذا املشـروع الفردي األخـروي الرباين‬
‫اب املِ ْشي ِة‪ ،‬طاو ِ‬
‫وس َّي البَِّزِة‪ ،‬فارغ القلب‪،‬‬‫اإلمياين اإلحساين فله إن شاء أن يكون غَُرِ َّ َ ُ‬
‫بال أمل بعد الفشالت يُرتـََقب‪ ،‬وبال مصري بعد املوت يُعتـََقب‪ .‬لذلك الذاهل عن‬
‫اآلخرة أن يلتفت إىل املاضي وأن حيلل احلاضر ويستشرف املستقبل حامال أثقال‬
‫تراث َشبَ ِح ٍّي يُثقل كاهلَه باألجمـاد إن عده أجمـادا‪ ،‬ساحبا يف تيارات املهيع ذات‬
‫نارها‬
‫اليمني وذات الشمال‪ ،‬نافخا يف رماد التقدمية اإلديولوجية بعد أن مخدت ُ‬
‫ومهَ َد أ َُو ُارها‪.‬‬

‫ال يعين هذا أن اإلسالمي يف الصف ووسط املعركة ال جتري عليه أحكام سنة اهلل‪.‬‬
‫فهو مع الناس يف دفاع ومدافعة‪ ،‬خيطئ ويصيب‪ ،‬وينتصر وتدول عليه َدولة األحداث‪.‬‬
‫ام نُ َدا ِولُ َها بـَْي َن الن ِ‬
‫َّاس﴾‪ .1‬لكن اإلسالمي يف خاصة فرديته ومسريه ومصريه‬ ‫﴿ َوتِل َ‬
‫ْك األيَّ ُ‬
‫جهاده‬
‫طالب حق‪ .‬من احلق سعيه لنصـر دين اهلل يف األرض‪ ،‬ومن احلق ُ‬ ‫يف الدنيا واآلخرة ُ‬
‫ملقاومة الظلم يف األرض‪ ،‬ومن العمل الصاحل مداومتُه على إرساء دعائم الشورى بني‬

‫‪ 1‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.140‬‬

‫‪387‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫النهي عنه‪ ،‬ونشر ألوية العدل بني الناس‪ ،‬وبث فكرة السالم يف‬
‫ودفع املنكر و ُ‬
‫املسلمني‪ُ ،‬‬
‫العامل‪ ،‬و ِالب بذوي ِ‬
‫الرحم األقربني وبني اخللق أمجعني‪.‬‬

‫يلتقي اإلسالمي يف اهلدف األرضي مع النظري اخللقي‪ ،‬وحيمل يف جعبته من‬


‫مشاريع اخلري ما حيمله السياسي النزيه‪ .‬لكنه حامل رسالة قبل كل شيء وبعد كل‬
‫شيء‪ُ .‬مبل ٌغ تكاد نفسه تذهب حسرات على ضياع اإلنسان‪ .‬يؤرقه َه ُّم كفر من‬
‫كفر ونفاق من نافق وهتافت من هتافت يف معصية اهلل بقدر ما يؤرقه مصريُ أمته‬
‫احملرومة املنهوبة املتخلفة‪.‬‬

‫العصر حقل مْنبِ ِ‬


‫ت اإلسالمي وقاعة امتحانه‪ .‬إن التفت إىل املاضي فإمنا‬ ‫َ‬
‫أمل‬
‫أمامه ٌ‬
‫يلتفت أوال ليتأمل سرية الذين سبقوه باإلميان‪ .‬سبقوه إىل مستقبل هو َ‬
‫ساطع ونور المع‪ .‬ويلتفت ثانيا ليتلقى من السابقني شرع اهلل الذي على منهاجه‬
‫لك أصل بالئنا‪.‬‬ ‫سلكوا‪ ،‬وبأحكامه َملَكوا‪ِ .‬‬
‫أعن االمتالك والقـوة‪ ،‬ال ال ُـم َ‬

‫سؤال االمتحان واحد وإن اختلفت الظروف الزمانية واملكانية والوسائلية من‬
‫عصر إىل عصر‪ .‬طُرِح على من سبقـونا باإلميـان وطرح علينا نفس االمتحان‪ ،‬نفس‬
‫ِ‬
‫َطيعوا وأ ِ‬
‫َنف ُقوا َخ ْيراً ِّلَن ُف ِس ُك ْم َوَمن‬ ‫اس َمعُوا َوأ ُ َ‬ ‫البالء‪﴿ :‬فَاتـَُّقوا اللَّهَ َما ْ‬
‫استَطَ ْعتُ ْم َو ْ‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن﴾‪.1‬‬
‫يُو َق ُش َّح نـَْف ِس ِه فَأ ُْولَئِ َ‬

‫‪ 1‬سورة التغابن‪ ،‬اآلية ‪.16‬‬

‫‪388‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫االستطاعة قوة ختتلف وسائلها بالزمان واملكان واخرتاع اإلنسان‪ .‬وشح النفس‬
‫وهواها وعباد ُتا غرائز يف النفوس املريضة ثابتة‪ .‬والفالح أو اخلسران يف الدار اآلخرة‬
‫واحد وإن كان درجات ودركات‪ .‬ويف قلب املؤمن واملؤمنة يَتلجلج نداء اقتحام العقبة‬
‫للحاق مبن سبقونا باإلميان‪ .‬يقول املؤمن واملؤمنة يف الدعاء بلفظ القرآن‪َ ﴿ :‬ربـَّنَا‬
‫اليم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ان﴾‪ .1‬باإلميان سبقونا‪ ،‬مل يقل‪ :‬إىل اإلميان‬ ‫ا ْغف ْر لَنَا َوِِل ْخ َواننَا الذ َ‬
‫ين َسبـَُقونَا ب ِْ َ‬
‫فيكو َن السبق زمنيا ماضيا منتهيا‪ .‬سبقونا باإلميان ملنازل ال ُق َرب يف اآلخرة‪ .‬فإىل تلك‬
‫املنازل نسارعهم ونسابقهم‪ ،‬تالمذ ًة ملا أوصلوا إلينا من شرع اهلل ومنهاج رسول اهلل‪،‬‬
‫يم‬ ‫ِ‬ ‫لكن منافسني على الصـراط املستقيم‪ .‬ندعو اهلل ونصلي‪ِ ﴿ :‬‬
‫ط ال ُـمستَق َ‬
‫الص َرا َ‬
‫اهدنَـ ــا ِّ‬
‫مت َعلَي ِه ْم﴾‪ ،2‬وهم النبيئون والصديقون والشهداء والصاحلون‪.‬‬ ‫َنع َ‬ ‫صرا َ َّ ِ‬‫ِ‬
‫ين أ َ‬
‫ط الذ َ‬ ‫َ‬
‫وح ُسن أولئك رفيقا هنا وهناك‪.‬‬ ‫َ‬
‫ت نشأة اإلسالمي وعنوان مسكن جند اهلل اجملاهدين يف سبيل اهلل‪.‬‬
‫العصر ْبي ُ‬
‫مصري أمتهم يف الدنيا مرتبط يف اهتمامهم وختطيطهم وتقدميهم وتأخريهم مبصريهم‬
‫يف األخرى‪ .‬إن أحسنوا اجلهاد وحرروا العباد جبهاد البنيان املرصوص استحق كل‬
‫منهم عند اهلل‪ ،‬يف قرب اهلل‪ ،‬يف جنة اهلل‪ ،‬جزاء األمني القوي‪ .‬وإن قعدوا وتركوا‬
‫اهلائعني يلعبون مبصري األمة خاف كل منهم أن يُكشف يوم القيامة كما يكشف‬
‫هي‪.‬‬
‫الو ُّ‬
‫ي َ‬ ‫الغ ِو ُّ‬

‫‪ 1‬سورة احلشر‪ ،‬اآلية ‪.10‬‬


‫‪ 2‬سورة الفاحتة‪ ،‬اآليتان ‪.7-6‬‬

‫‪389‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫س َّما قَ َّد َم ْ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫ت‬ ‫آمنُوا اتـَُّقوا اللهَ َولْتَنظُْر نـَْف ٌ‬ ‫ين َ‬ ‫قال اهلل عز وجل‪﴿ :‬يَا أَيـَُّها الذ َ‬
‫لِغَ ٍد﴾ ‪ .‬وينذر سبحانه العباد‪﴿:‬إِنَّا أَن َذ ْرنَا ُك ْم َع َذاباً قَ ِريباً يـَْوَم يَنظُُر ال َْم ْرءُ َما قَ َّد َم ْ‬
‫ت‬ ‫‪1‬‬

‫ول يَا لَْيتَنِي‬‫يَ َداهُ﴾‪ .2‬وخيرب سبحانه عن الكافر أنه يقول يوم ال ينفع قول‪﴿ :‬يـَُق ُ‬
‫ت لِ َحيَاتِي﴾‪.3‬‬‫قَ َّد ْم ُ‬

‫هبذه النية وهبذا اليقني وهبذا التوجه اإلمياين يكون اإلسالميون قوة حقانية‬
‫تستعصي على التصنيف يف حلبة التلفيق بني األصالة واحلداثة وبني الرتاثية والعصرنة‪.‬‬
‫جهة بعد املوت‪ ،‬وبغري‬‫ويستعصي التصنيف مع اجلارين يف املهيع السياسي إىل غري ِو ٍ‬
‫إميان باآلخرة‪ ،‬وبغري مشروع فردي إمياين إحساين‪.‬‬

‫هبذه النية وهذه الذاتية املستقلة يف الكون‪ ،‬اخلاضعة لقوانني اهلل يف الكون‪ ،‬العاملة‬
‫بأن العصر وتقلباته وخماضه وتولداته من صنع اهلل عز وجل‪ ،‬يقتحم اإلسالميون الساحة‬
‫املاضوية أمام التقدم‪ ،‬غري متحيزين يف‬
‫غري مبالني مبن يتهم اإلسالم بأنه العرقلة َ‬ ‫السياسية َ‬
‫نقدهم للحضارة املادية العصرية حتيّز املوتور الناقم‪ ،‬وال متحيزين إليها حتيز الو ِامق اهلائم‪.‬‬

‫ديل بدلوه بني الناطقني‬


‫سود الصحائف ويصرخ يف الندوات ليُ َ‬
‫إنكان من امللفقني من يُ ِّ‬
‫الكاتبني ليعرب عن حاجة األمة إىل استيعـاب املاضي واستيعاب العصـر فنحن ال نرى تناقضا‬

‫‪ 1‬سورة احلشر‪ ،‬اآلية ‪.18‬‬


‫‪ 2‬سورة النبأ‪ ،‬اآلية ‪.40‬‬
‫‪ 3‬سورة الفجر‪ ،‬اآلية ‪.24‬‬

‫‪390‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫بني األزمنة واألمكنة على ضوء إمياننـا بوحدة اخلالق جل وعال و ِ‬
‫اجنالء اهلدف الدنيوي‬
‫والغاية األخروية أمام مقتحم العقبة‪.‬‬

‫وإن كان من يستفيض يف الكالم عن حتديث املباين وعن حترير العقل من‬
‫ْأوهاق املاضي وعن ضرورة حرق املراحل للحاق بالركب احلضاري فنحن َوقفتُنا‬
‫عص ٌم‬
‫الطويلةُ عند الفرد املؤمن وما ينبغي أن يس ُكن قلبَه وعقلَه من نية ويقني مستَ َ‬
‫ميسكنا عن اهلذيان احملموم لتكون خطانا على منهاج النبوة ثابتة‪.‬‬

‫إن شاء اهلل ربنا القوي العزيز املتني‪.‬‬

‫يف الفقرة التالية إن شاء اهلل ننتقد العصر النقد السليم‪ ،‬ونعرض ملا جيب من‬
‫جتديد املباين‪ ،‬وملا يفرضه العصـر بوسائله من تكيف‪ ،‬وملا يفرضه الدين وتبغيه املروءة‬
‫وتتقبله الفطرة من تأسيس سياسة حتريرية يف دولة القرآن‪ ،‬وملا حنتاجه من امتالك‬
‫للتكنولوجيا‪ ،‬وملا نتوقف عليه من اكتساب القوة وإعدادها بإعداد االقتصاد القوي‪.‬‬
‫لكن ذلك كلَّه أحالم إن مل يكن «الفاعل التارخيي» متمكنا يف ذاتيته واثقا مبا بني‬
‫يديه وما خلفه‪.‬‬

‫وما القوة إال باهلل‪ .‬عليه توكلت‪ ،‬وإليه أنيب‪.‬‬

‫‪391‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫النقاش احملوري‬
‫أمرنا بتقوى اهلل ما استطعنا‪ ،‬و ِأمرنا بإعداد القوة‪ .‬من أين نأيت بالقوة وقد تُرك‬
‫شأ ُنا لكسبنا وحيلتِنا و ِ‬
‫اجتهادنا؟‬
‫من العصر ووسائله املتاحة نُسلح قومتنا‪ .‬لكن ينبغي أن تكون نقطةُ االنطالق‪،‬‬
‫ُول األ َْولَ ِويَّات‪ ،‬من وجود قائم‪ ،‬قائ ٍم مؤمن باهلل وباليوم اآلخر‪ ،‬عامل مبا فرض اهلل‬
‫أَ‬
‫ث للتنفيذ خملص صادق‪ ،‬منتظم يف مجاعة‬ ‫عليه‪ ،‬عارف بتكليف الشريعة‪ ،‬منبعِ ٍ‬
‫املؤمنني‪.‬‬
‫يلي ذلك يف االعتبار أن يتحرر هذا العامل التارخيي من ِربـَْق ِة احلكم الفاسد‪.‬‬
‫فما دامت الدولة وقدرا ُتا يف يد العشرية واألسرة احلاكمة والطغمة املتسلطة فإن كل‬
‫جهد للدعوة احلية باإلميان تبقى حرثا يف البحر وصرخـة يف واد‪ .‬أقول إن اجلهاد‬
‫السياسي بعد الرتبية والتعليم والتنظيم هو الركيزة الضرورية السابقة لكل انتهاض‬
‫ك القوة والكينونة «على مستوى العصـر» ووسائله‪ .‬إذا كان العامل املؤمن‬ ‫لِمس ِ‬
‫َْ‬
‫ِ‬
‫طاردا أو ُمامال للحكم الفاسد أو راضيا هبامشية الوعظ املقهور‬ ‫مغلول اليدين ُم َ‬
‫جمال ملزيد من تردية األمة‪.‬‬
‫فسيبقى للملفقني واملنافقني والظاملني ٌ‬
‫مث بعد اإلصالح السياسي‪ ،‬بعد إبرام ما انفرط وانتقض من عروة احلكم‪ ،‬يأيت‬
‫يف االعتبار التعلم والتتلمذ بال عقدة وال تردد ألساتذة العصـر يف العلوم واالخرتاعات‬
‫والتنظيم والتصنيع‪ .‬أقول يف االعتبار ألننا يوم نصل إىل احلكم بإذن اهلل لن جند‬

‫‪392‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫املكان فارغا‪ .‬وليس من الدين وال من الواقعية وال من قبيل املمكن أن نأمر عجلة‬
‫احلياة بالتوقف حىت نبدأ من الصفر ونبين على الرتتيب‪ .‬ال بد من مراحل‪ ،‬من أجيال‪،‬‬
‫حيل فيها النسيج احلي بالتدريج مكان النسيج الغثائي‪.‬‬

‫اشتينا مصانع جاهزة‪ ،‬وكدسنا أشياءَ‬


‫إن واجهنا العصر مببانينا الغثائية‪ ،‬و َ‬
‫مشوَهة‬
‫واستعرنا اقتصاداً نبيع به حريتنا فلن ْيع ُد َو حالنا أن يكون حال عجوز َّ‬
‫تتشبب باملساحيق وتتجمل‪.‬‬

‫الوالية اجلامعة‬
‫وبدون تأسيس البناء على قواعد اإلميان باهلل وباليوم اآلخر‪ ،‬و َ‬
‫املنظمة‪ ،‬والقومة الشورية‪ ،‬والتعلُّم املتواضع من جتارب اإلنسان وتراكم معرفته‬
‫وحيلته يف السيطرة على الطبيعة نبقى كاجلوقة املتخلفة تُنغِّم بأحلان احلزن واحلنَق‬
‫الشتائم ال ُـمنـََّوعة يف وجه العصر وأبناء العصر وسادة العصر‪.‬‬
‫َ‬
‫أستغفر اهلل الذي سخر لإلنسان ما يف الكون من استعمال كلمة السيطرة‬
‫على الطبيعة‪ ،‬فالسيطرة هلل وحده ال شريك له‪ .‬وللتفاهم من ألفاظ العصر نقتنص‪.‬‬

‫ما لنا نَظَل ونبيت يف سجن اجلدليات األرضية ال نربحها كالسجني يف زنزانته‬
‫هوس الدنيا‬
‫أو كالدائر حول رحاه! تقدم‪/‬ختلف! حداثة‪/‬تراث! أصالة‪/‬معاصرة! َ‬
‫وهْيعتها ولَغَطها يُذهلنا عن املعت َقد اإلمياين واملعتقد اإلحساين‪ .‬نكون سادة العصـر‪،‬‬
‫َ‬
‫ملم َّكنني القادرين على تبليغ رسالة اهلل‪ ،‬يوم يَ ُسود يف‬
‫عباد اهلل املستخلفني ا َ‬
‫أستغفر اهلل‪ ،‬بل َ‬

‫‪393‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫عقولنا وقلوبنا وسلوكنا العلم السماوي مبتقابالت‪ :‬إسالم‪/‬كفر‪ُ ،‬هدى‪/‬ضالل‪ ،‬دنيا‪/‬‬
‫آخرة‪ ،‬جنة‪/‬نار‪.‬‬

‫معالَ إسالميتنا‪ .‬فالعيون شاخصة إىل‬‫هاجس التقدم والتأخر فينا ِ‬ ‫طمس ِ‬


‫ُ‬ ‫َ‬
‫اإلجنازات العصرية يف ذهول‪ ،‬والعقول حائرة بني ماض حضاري جميد وحاضر مفجع‬
‫صوره لنا أوهام الغفلة َوجها براقا جملتمع متطـور ما على وجهه من قسمات‬
‫ومستقبل تُ ُ‬
‫الر َّح ِل‪.‬‬
‫اإلسالم إال ما يبقى من أطالل على رمال جدودنا ُّ‬
‫رحلنا ونرحل عن إسالمنا على عجالت عصرية مادية ومعنوية‪ ،‬يصنعها غرينا‬
‫ونركبها يف نشوة الظافر‪ ،‬أو َح ْوَم ِة العابر‪ ،‬أو دورة الدائر‪.‬‬

‫عقيمة هي‪ُ ،‬مردية هي‪ ،‬قاتلة هي‪ ،‬مكفرة هي العبـودية على أية درجة للنموذج‬
‫الغريب وحضارته‪ .‬عقيمة يف طوهلا والعرض‪ ،‬وإبرامها والنقض‪.‬‬

‫نتشبَّع قلبا وقالبا‬


‫العبودية للغرب تطلب منا أن نرقص على أشالء املاضي‪ ،‬وأن َ‬
‫ي «باألفكار الغيبية الظالمية» املنحدرة من عا َل القرون‬ ‫ِ‬
‫بالثقافة الغربية‪ ،‬وأن نزدر َ‬
‫الوسطى‪.‬‬

‫أما التلمذة املتواضعة ملا أبرزه اهلل عز وجل يف الكون من مكاسب عقل‬
‫اإلنسان الصانع املخرتع املنظم فهي إمساك اليد املؤمنة على سالح ضروري للجهاد‪،‬‬
‫ال تُسأل غايةُ اجلهاد من صنع السالح ِ‬
‫ومن أين مجع املادة وكيف أوقد النار‪.‬‬ ‫َْ‬
‫العبودية التابعة للنموذج الغريب تفرض علينا إشكـاليات الغرب املنهمك يف‬
‫توظيف الفردية الرأمسالية النشطة الشيطانية يف البحث العلمي والتصنيع والتنفيذ لغاية‬

‫‪394‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أرضيّة حمضة‪ .‬والتلمذة الفاحتة عينني اثنتني على الدنيا واآلخرة‪ ،‬على صنع اهلل يف‬
‫ِ‬
‫جبوه ِر املسألة‪ ،‬وهي مصري الفرد إىل اهلل ومصريُ‬
‫الكون وعلى كسب العباد‪ ،‬تصلنا َ‬
‫األمة إىل العزة واالستخالف‪ ،‬حنقق اجلوهـر بالوسائل العارضة يف زماننا كما حقق‬
‫من سبقونا باإلميان بوسائل عصرهم‪.‬‬

‫ص َدمات االستعمار املتتالية وبني ثِقل الرتاث‪.‬‬


‫يتأرجح امللفِّق اإلديولوجي بني َ‬
‫تفزعهُ اهلَُّوة السحيقة بني قومه املتخبطني يف مترجات التخلف وبني أهل السطوة‬
‫حتمل تراث حضاري‬‫واهليمنة وغزو الفضاء واجلوالن الالهنائي يف ختوم الذرة وبني ُّ‬
‫فاخر هو كل ما له من أصل يعتـَُّز به‪.‬‬

‫امللفق ربيب الالييكية‪ ،‬طالب العقلنة‪ ،‬ملحد أو متدين بصالة ينقرها يف‬
‫أحسن احلاالت‪ .‬هو مفجوع بالواقع‪ ،‬مقطوع عن منبع اإلميان مبانع‪ .‬وما مانِعُه إال‬
‫َج ْريُهُ مع اهليعة اليت حترك العصر‪ ،‬بأشيائه وبشره‪ ،‬إىل غري وجهة‪.‬‬

‫إن وقف هذا اجلاري حلظة لرياجع حسابه على ضوء زعزعة يف تبين تراث‬
‫املتو ِّجع مبخـاض النظام اجلديد فهاجس‬
‫قَومه أو زلزلة إديولوجية سياسية يف العامل َ‬
‫وحرقة السبق الذي حققه اآلخـر يُنسيانه حىت ترتيب اجللباب الرتاثي الذي‬
‫التحديث ُ‬
‫يتطوس به‪.‬‬
‫تراه أحيانا ّ‬
‫يتمخض العصـر عن نظام عاملي جديد‪ .‬أستغفر اهلل العظيم‪ ،‬بل قدرة‬
‫طور جديد تتالشى فيه اإلديولوجية اإلرادية‬
‫تكور اخل ْلق يف ْ‬
‫العليم احلكيم سبحانه ِّ‬

‫‪395‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫االشرتاكية‪ .‬ويفقد التقدمي سند الدولة العظمى اليت كانت حىت األمس القريب‬
‫تدعم نضاله‪.‬‬

‫يساري األمس لن يتوب ولن يركع أمام الرأمسالية الدميوقراطية كما ركع‬
‫ُّ‬
‫اليوم حلكام االستبداد‪ ،‬أو معارضة غداً‬
‫أساتذته‪ .‬خاصة إذا كان يف معارضة ُمرحية َ‬
‫حلكم اإلسالم‪ .‬سيظل يرعى ويسعى لتقدمية نضالية ُمركزة القرار‪ ،‬هلا من مركزهتا‬
‫فاعلية وسرعة‪ ،‬هلا القدرة على تعبئة الكادحني‪ ،‬هلا التخطيط والربجمة وحشد اجلهود‬
‫لتوطني العلوم والتكنولوجيا طوعا وكرها‪ ،‬هلا الطاقة اإلكراهية على التصنيع والتنمية‪.‬‬
‫يف زعمه‪.‬‬

‫ال يفكر وال يقبل فجيعة املركزية الدميوقراطية بنفسها يف وطنها األصلي‪،‬‬
‫بل يبقى يف العامل وحده مع كاسرتو يندد برجعية الرفاق‪ ،‬ويهتـف باحلياة األبدية‬
‫لالشرتاكية العلمية‪.‬‬

‫املوتور‬ ‫ٍ‬
‫ال بد لإلسالمي من نقد بصري ُمتأن للعصر وسادته‪ .‬نقد ال ميليه حنَ ُق ْ‬
‫وال ِم َقةُ املقطور‪.‬‬

‫روح احلضارة الغربية هي الوثنية اإلغريقية الثقـافية الفنية‪ ،‬والقـانونية الرومانية‬


‫االستعمارية‪ ،‬والرواسب اليهودية النصرانية‪ ،‬والفلسفة التطورية الداروينية‪ ،‬والفردية‬
‫اللربالية املنفعية االستهالكية الدوابية‪ .‬بال غاية‪.‬‬

‫‪396‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫احملرَر من التوابع‪ .‬ودع شاهدا‬
‫املع ِّوض لألماين اخلوادع‪ِّ ،‬‬
‫ال نقصد الشتم الالذع َ‬
‫َّاع اإلديولوجية قبل‬
‫صن ِ‬ ‫من أهلها ينتقد حضارة قومه من موقع فيلسوف تقدمي من ُ‬
‫أن يهديه اهلل لإلسالم‪ .‬قال صاحبنا رجاء جارودي‪:‬‬

‫«إن النقاش احملوري احليوي يف عصرنا مل يعد نقاشا بني رأمسـالية تفرز االستعمار‬
‫واحلروب واألزمة النهائية حلضارتنا الغربية وبني اشتـراكية على النمط االشرتاكي‬
‫تستهدف نفس املرامي التنموية للغرب الرأمسايل‪ ،‬فتصبح بذلك ظاملة لشعبها ِ‬
‫نفسه‪،‬‬
‫مستغلة للعامل الثالث‪ ،‬شريكة يف السباق للهيمنة والتسلح املدمر‪.‬‬

‫قال‪« :‬النقاش احملوري األساسي يف عصرنا هو املراجعة االستنكارية اجلذرية‬


‫مليثولوجيا «التقدم» االنتحارية‪ ،‬و«للتنمية» على النمط الغريب‪( .‬هذه امليثولوجيا‬
‫التنموية التقدمية) ِسَتُها الفصل بني العلوم والتقنية وبني احلكمة‪ .‬أعين بالعلوم‬
‫والتقنية تنظيم الوسائل والقوة‪ .‬وأعين باحلكمة التفكري يف الغايات ويف معىن حياتنا‪.‬‬
‫(هذه امليثولوجيا التنموية التقدمية) ِستُها اإلشادة بفردية أنانية تَبتـُُر اإلنسان من‬
‫تبته من املفارقة ‪ transcendance‬ومن اجملتمع التضامين‬ ‫أبعاده اإلنسانية احملضة‪ُ ،‬‬
‫‪.communauté‬‬

‫قال‪« :‬أعين باملفارقة على األقل اإلمكانية الدائمة لالنقطاع عن تفرعات املاضي‬
‫الوعي بأنكل‬
‫واحلاضر‪ ،‬وإمكانية صنع مستقبل مل يسبق له مثيل‪ .‬وأعين باجملتمع التضامين َ‬
‫واحد منا مسـؤول شخصيـا عن مستقبلكل اآلخرين‪ ،‬مسؤول عن تسخري وسائل العلوم‬
‫‪397‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫والتقنية‪ ،‬ووسائل االقتصاد والسياسة والثقافة‪ ،‬ليتأتى لكل امرأة‪ ،‬وكل رجل‪ ،‬وكل طفل‪،‬‬
‫أن ينشر على الكمال كل ثروة يف طبيعته البشرية وكل القدرة اإلبداعية اليت حيملها»‪.‬‬
‫انتهى كالم الفيلسوف حديث العهد باإلسالم‪.‬‬

‫ما جتاوز الفيلسوف يف نقده حلضارة أرضية أفق اجلدلية األرضية‪ .‬ولعله يقصد‬
‫بالكلمة الفلسفية الغامضة ‪ transcendance‬شيئا غري األلوهية‪.‬‬
‫تعاىل اهلل‪ ،‬جل اهلل‪ ،‬ال إله إال اهلل‪ ،‬حممد رسول اهلل‪.‬‬

‫‪398‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫الـتـغـريـب‬
‫* «الدائرة الصماء»‬
‫* «طاحون التعليم الغربي»‬
‫* «الردة مرونة يف الفكر»‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫«الدائرة الصماء»‬
‫قة من الدكاترة اجلامعيني‬‫أطلق بعضهم اسم «الدائرة الصماء» على ح ْل ٍ‬
‫َ‬
‫والكتاب األدباء والصحفيني كانوا طليعة أنصار التغريب يف مصر‪ ،‬مثل النصراين‬
‫شبلي الشميل والنصراين سالمة موسى وزعيم القوم أمحد لطفي السيد وطه حسني‬
‫وعلي عبد الرازق وحممد حسنني هيكل ومنصور فهمي وحممود عزمي وإمساعيل‬
‫مظهر‪ .‬طائفة من الشباب أ ُْرِسلوا إىل فرنسا وإجنلرتا‪ ،‬فدرسوا يف جامعاهتا ردحا من‬
‫مزه ِّوين بدبلوماهتم‪ ،‬أفندية يتيهون على أبناء الفالحني األزهريني‪،‬‬ ‫الزمن ورجعوا ُ‬
‫ويُشيدون باحلضارة الرباقة اليت احتضنت ُمر َاه َقتـَُهم الشبابية ومراهقتهم الفكرية‪ ،‬مث‬
‫أرسلتهم دعاة خملصني متعصبني للفكر الغريب والنمط الغريب للحياة‪.‬‬

‫من أين امتد إىل املسلمني سرطان التغريب؟ من التبعية السياسية االقتصادية‬
‫اليت فرضها االستعمار باالحتـالل وحبجة احلديد والنار ومدافع املدمرات والفرقاطات‪،‬‬
‫بعض هذه التبعيات‬ ‫ِ‬
‫أم من تفكيك اجملتمع التقليدي‪ ،‬أم من الغزو الثقايف‪ ،‬يَل ُد ُ‬
‫بعضا؟ أم أهنا خطة مدبَّرة ُمكمة احللقات تُ َك ِّو ُن «الدائرة الصماء» فيها حلقة‬
‫ومدار املكيدة؟‬
‫الوصل َ‬
‫ما هو ِم َوُر تصدع اجملتمع املسلم الذي هامجه االستعمار وكان له متاسكهُ؟‬
‫متاسك غثائي‪ ،‬لكن متاسك على كل حال‪ .‬أهي اهلزمية التارخيية لألمرباطورية العثمانية‬
‫ُ‬

‫‪401‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫األبوي التعسفي الوراثي املسلمون‬
‫ِّ‬ ‫ومظلة نام حتت كنَفها‬ ‫اليت كانت ِدرعا وشوكة ِ‬
‫نومتَهم؟ أم هي اهلزمية املعنوية اليت جتعل املغلوب يقلد الغالب؟‬
‫مدى قرون َ‬
‫ما هذه الوجوه من الشباب الذين فـَْرجنوهم وأرجعوهم إىل الديار لينشروا يف‬
‫مبىن‬
‫الناس دعوة االنقياد للغرب إال ضحايا خلُطة حمبوكة‪ .‬وما دائرهتم الصماء إال ً‬
‫ب مؤقت‪ ،‬بل تزرع يف األرض املغزوة‬‫بنه ٍ‬
‫أساسي من مباين التبعية اليت ال تكتفي ْ‬
‫ٌّ‬
‫ُوكالءَ دائمني مستدميني متوالدين على األجيـال‪ ،‬يزول االحتالل العسكري ويبقى‬
‫الوكالءُ ْأوفياء خملصني‪.‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫لعل من يقول‪ :‬إن خرب طه حسني وأمحد لطفي خرب بلِي ِ‬
‫ت‬‫ت ج َّدتُهُ ونُسيَ ْ‬
‫ََ ْ‬ ‫َّ‬
‫رمال احلجاز‪،‬‬‫هدتُه‪ ،‬واالستعمار العسكري عاد َجذعا ُمنذ احتلت جيوش أمريكا َ‬
‫عُ َ‬
‫كل عام يف عُقر ديار املسلمني‪ ،‬والتبعية‬
‫فرخون آالفا مؤلفة ّ‬‫واملغربون ُيََّر ُجون ويُ َّ‬
‫تقودنا بأ ِزَّم ٍة امسُها املديونيَّة واالقتصاديات املفتوحة خلارج‪ ،‬و«االنفتاح»‪ ،‬وشروط‬
‫وآليات التقومي اهليكلي‪ .‬فما كتابات طه حسني‬
‫ُ‬ ‫البنك العاملي وصندوق النقد الدويل‪،‬‬
‫انقضوا‪ -‬يف املعادلة؟‬
‫مض ْوا و ْ‬
‫وفلسفة أمحد لطفي وتطورية سالمة موسى ‪-‬أفراد َ‬
‫نقول إن هذا من ذاك‪ ،‬وهذه النتائج الوفرية َغلَّةٌ ملا زرعه الغرب من بذور‬
‫بشرية بني ظُ ْهَرانـَيـْنَا‪ ،‬واآلالف املؤلفة من أجيال املغربني الذين ل َفظتهم معامل التفريخ‬
‫اجلامعي يف كليات الفلسفة منذ ثالثة أجيال ما هم إال نُسخ منقحة لتلك النماذج‬
‫الصماء‪.‬‬

‫‪402‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ولئن كان من اجليل األول َمن تابوا وتراجعوا عن اإلعجاب بالغرب وعن‬
‫تعاطي ثقافة الغرب تعاطي املخدرات َّ‬
‫فإن األجيال املنقحة من املغربني أشد شكيمة‬ ‫َ‬
‫الوالء للغرب‪.‬‬
‫وأرسخ قدما يف َ‬
‫املغربني األوائل أمثال حممد‬
‫وجتاوز املراهقة الفكرية طائفة من َّ‬
‫بعد النُّضج ُ‬
‫تراجع َ‬
‫ُخَرياته‬
‫حسنني هيكل ومنصور فهمي وإمساعيل مظهر‪ .‬وحىت طه حسني كتب يف أ ْ‬
‫بقلم أقل َوالءً للغرب وأقل بالءً على اإلسالم‪ .‬أولئك اجليل الر ِاجع من غُلَوائه استيقظوا‬
‫‪-‬رمبا‪ -‬لِما كان يُفعل هبم‪ ،‬وهبت عليهم نسائم التحرر احلقيقي باتصاهلم جبيل‬
‫مصطفى كامل وسعد زغلول تالمذة الشيخ املسلم احلُر مجال الدين األفغاين‪.‬‬
‫وجذبتهم إليها الوطنية التحررية فإذا هبم وسط الشعب يكتشفون‪ ،‬وهم األفندية‬
‫الكاتبون األدباء‪ ،‬أية غرابة وغربة يعانون بني املسلمني‪.‬‬

‫وهكذا كتب حممد حسنني وطه حسني عن اإلسالم كتابة هي أخف بالء‬
‫على اإلسالم من كتاباهتم النضالية يف صف اللربالية‪.‬‬

‫يص ِفرون فيها ويُن ّقرون‪ ،‬بل وجدوا‬ ‫ِ‬


‫مل جيد املغربون األوائل األرض الثقافية خ ْلواً ْ‬
‫رجاال ال يقلون عنهم اطالعا على الثقافة الغربية العامة مع بقائهم على والئهم‬
‫لإلسالم‪ ،‬من أمثال الشيخ رشيد رضى والشيخ حمب الدين اخلطيب رمحهما اهلل‪،‬‬
‫والكاتب البارع البليغ مصطفى صادق الرافعي أحسن اهلل إليه‪.‬‬

‫‪403‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ومن املغربني من أجيال ما بعد هزمية القومية التقدمية االشتـراكية الناصرية‬
‫املغربَة من يرجعون ويتمسلمون‪ ،‬لكنهم لتمكنهم يف الفلسفة الغربية ومنهجيتها‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ولتشبعهم مبفاهيمها‪ ،‬ولتقمصهم روحها ال يكتبون عن اإلسالم إال من كونه «بنية‬
‫فوقية»‪ ،‬وال عن العقيدة إال من كوهنا رأياً‪ .‬ال مكان للدين يف املنهجية األوربية‬
‫ص يف طَْوِر ما قبل‬‫الرْم ِ‬
‫ت هبا أعني ُّ‬‫حيث كو ُن الدين َم ْسالة قـََّر ْ‬
‫للتحليل إال من ُ‬
‫باس َخلَ ٌق‬‫ِ‬
‫الوضعية والعقالنية‪ .‬الدين عند املنهجيني الفالسفة من اجليل الثالث ل ٌ‬
‫متجاوزة‪« .‬وحنن معكم ومنكم وداخل دائرتكم أيها اإلسالميون املسيطرون‬ ‫وماضوية َ‬
‫َ‬
‫على الساحة السيـاسية»‪ .‬كذا تقول وقاحتهم‪.‬‬

‫ال يتناىف التمكن يف الفلسفة واالرتباط املنهجي باملرجعيات األوربية مع ق ْدر‬


‫من النفاق التلفيقي يظهر إىل جانبه وجهُ سالمة موسى النصراين السافر وجها‬
‫إنسانيا حمرتما‪ .‬إن كان للكفر حرمة بِعُلُِّوِه عن دركة النفاق ُّ‬
‫الس ْفلَى‪.‬‬

‫إننَا وحنن نبحث عن طرائق العلم والعمل إلدراج املشروع اإلسالمي يف الواقع‬
‫املوايت الضروري ال نقصد سرد التاريخ إلقامة احلجة على من فُعِل هبم وال على من‬
‫فَعلوا‪ .‬ما فعلته فينا الثقافة التغريبية بأقالم املستشرقني من الكافرين وبأقالم املستغربني‬
‫ومَرَّب جنوده‬ ‫ِ‬
‫ومشاتلَه ُ‬
‫من أبناء املسلمني والنصارى العرب نريد أن نعرف منابته َ‬
‫لنعرف موطن اإلصابات يف جسدنا ومبلَغ العطب يف كياننا وطبيعة العراقيل يف‬
‫طريقنا‪.‬‬

‫لنبت العضو املصاب‪ ،‬لنتالىف ضرر األعصاب ال لنُ ْج ِهز‬ ‫ِ‬


‫ذلك لنأْ ُس َو اجلُْر َح ال ُ‬
‫شر َنابُه أو تنازال لعدو‬
‫املسار اتقاء ٍّ‬
‫على املريض‪ ،‬لننَ ِّح َي العرقلة من طريقنا ال لنغري َ‬

‫‪404‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫تساقط أنيابُه‪ ،‬بل تساقطت على َد ِو ِّ‬
‫ي هزائم الفكرة الغربية وهزائم أنصارها‬ ‫أخذت ّ‬
‫يف بالد املسلمني‪.‬‬

‫على طريق مشروعنا اإلسالمي الع َقدي السياسي االقتصادي العمراين األخوي‬
‫سنجد أشالء الفكر الغريب يف بالدنا‪ ،‬ومساسرته يف جامعاتنا‪ .‬فمعرفتنا بأصل الداء‬
‫تُسلح يد الدعوة املبسوطة بأدلة اإلقناع واحلوار واحملاجة‪ .‬وتسلح يد وازع السلطان‬
‫اإلسالمي خبربة الطبيب الذي ي ِ‬
‫نجـح العملية اجلراحية بالفحوص الدقيقة املسبقة مىت‬‫ُ‬
‫أعياه التطبيب والتمريض‪.‬‬

‫يتلخص الفكر التغرييب ويتخلص يف مفاهيم منهجية ثالثة‪ :‬اللربالية والالييكية‬


‫واللحاق بالركب احلضاري الغريب‪.‬‬

‫فاللربالية الفلسفية املنحدرة من فولتري وروسو والثـورة الفرنسية تدعو لتحرير‬


‫العقل من كل سلطة سابقة‪ .‬فالعقل هو اآللة واحلَ َكم لتمحيص املعرفة‪ ،‬وحتديد‬
‫اجتماعي‬
‫ٌّ‬ ‫عطى‬
‫مكان اإلنسان يف الكون‪ ،‬وتنظيم اجملتمع‪ ،‬وتدبري السياسة‪ .‬والدين ُم ً‬
‫كسائر املعطيات يُنتقد ويصنف على ضوء حالة االقتصاد ونظام اجملتمع ودرجة‬
‫الرقي الفكري‪ .‬مبدأ النشوء واالرتقاء ُم َسلَّمة ال تقبل النقاش‪.‬‬

‫والالييكية دعوة لتأسيس احلكم على مبدإ فصل الدين عن الدولة‪ ،‬وتنظيم‬
‫اعد عصرية ال يكون لإلسالم فيها كلمة‪.‬‬
‫السياسة على قو َ‬

‫‪405‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫واملطلب النهائي من املقدمتني اللربالية والالييكية‪ ،‬واالشرتاكية التقدمية اآلفلة‬
‫اآلن‪ ،‬هو اللحاق املباشر باحلضارة الغربية «خبريها وشرها» كما يكتب طه حسني‬
‫يف فجاجة جرأته ووقاحة مراهقته‪.‬‬

‫والعِداء لكل ما هو إسالم ْأمٌر ُمبَطَّن‪ ،‬كان وال يزال‪ ،‬يف الدعوة التغريبية‪ .‬صرح‬
‫يلو ُح الزرعُ اخلاسر يف‬
‫صَّرح من جيل املغربني األوائـل‪ ،‬وال يزال يصرح به أو ِّ‬ ‫به من َ‬
‫كليات الفلسفة و«الدوائر الصماء» من املناضلني العضويني التقدميني‪.‬‬

‫قصب‬
‫يق يف اجلرأة على الدين وامل ْكر مبقدسات املسلمني َ‬ ‫ولِ َمن َّ‬
‫مهد الطر َ‬
‫السبق يف حلَبة اخلاسرين‪.‬‬

‫كانت معرفة الذين درسوا يف باريس ولندن من اجليل األول املغرب معرفة‬
‫سطحية باجملتمع الغريب‪ ،‬وكانت ِدرايتهم املنهجية بالفلسفة الغربية بضاعة جمزاة إذا‬
‫إعجابم ووالؤهم غري املشروط حيلةَ ِط ٍ‬
‫فل‬ ‫ُ‬ ‫ب‪ .‬لذلك كان‬ ‫بتغر ٍ‬
‫قورنت مبن تبعهم ُّ‬
‫قعدوا منهجية مطعمة مبفاهيم عربية‬ ‫إذا ما قورنت مبكر املغربني من معـاصرينا الذين َّ‬
‫إسالمية‪ ،‬وأشادوا بالعربية الفصحى‪ ،‬مل حياربوها كما فعل األوائل‪ ،‬واستشهدوا‬
‫بالقرآن واعتزوا بالرتاث‪.‬‬

‫السري يف مهيع احلضارة الغربية‬


‫هم يف سرائرهم يد واحدة وكلمة وافدة على أن َ‬
‫املتطورون مقالة الساذج طه حسني‪« :‬علينا أن‬
‫املدربون ِّ‬
‫هو املنجاة‪ .‬ال يقول معاصرونا َّ‬
‫نصبح أوربيني يف كل شيء‪ ،‬قابلني ما يف ذلك من حسنات وسيئات»‪ .‬بل هم قوميون‬
‫أي صلة عضوية ظاهرة أو باطنة «باآلخرة»‪ .‬هم عالَميون‬
‫مناهضون لألمربيالية‪ .‬وينكرون َّ‬

‫‪406‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫تتشـرف العاملية مبسامهتهم الفكرية‪ ،‬تشجعهم هذه «العاملية» ومتنحهم اجلوائز األدبية‬
‫مكرهم‪.‬‬
‫ألصالتهم املبدعة املثرية للثقافة اإلنسانية‪ .‬وقد مكروا مكرهم‪ ،‬وعند اهلل ُ‬

‫‪407‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫«طاحون التعليم الغربي»‬

‫دع عنك املغربني يف منفاهم الثقايف وعزلتهم السياسية املؤملة! قال‪ :‬كيف‬
‫يدعون‪ ،‬وإن هلم لثَ ْك ٍ‬
‫نات َوُوْكنات ومراتع! إهنم ليسوا أفرادا مبعثرين‪.‬‬ ‫أدعهم وهم ال َ ُ‬
‫ليسوا رمادا وإن كان َنمهم يف أفول‪ .‬ال يزالون أحزابا سياسية وتكتالت مصلحية‪،‬‬
‫هم رجال اإلدارة ودهاقنة األبناك ووسطاء الشركات العابرة للدول‪ .‬بينهم مصاهرات‬
‫ومعامالت ومبادالت‪ .‬أطياف وألوان‪ ،‬منهم الرافض يف املعارضة‪ ،‬ومنهم الضالع‬
‫يف احلكم مع السلطة‪ .‬هلم احلضور القوي والوحدة الثقافية‪ .‬حيفظون أدوارهم جيدا‬
‫األمر ُدولة بينهم‪.‬‬
‫ويوزعوهنا ما بني برجوازية كربى ثرية لربالية وأخرى صغرية ثورية‪ .‬و ُ‬
‫لكن خربهتم يف الصراعية اجلدلية ومواقعهم‬
‫حيُسون خطر اإلسالميني الصاعدين‪َّ ،‬‬
‫االسرتاتيجية يف دواليب الدولة تُطَ ْمئِنُهم على أهنم الضرورة املستقبلية مهما تقلبت‬
‫األحوال‪.‬‬

‫األساسي‬
‫ُّ‬ ‫إهنم تعلموا من مدارسهم املاكيافيلية واملاركسية أن التناقض هو احملرك‬
‫ويتفادوا االصطدام معها‪،‬‬
‫َ‬ ‫للوجود‪ ،‬فهم على استعداد ليمتطوا املوجة اإلسالمية‪،‬‬
‫وجيادلوها ليتجاوزوها برتكيبة َّ‬
‫ملفقة‪« ،‬إسالمية» غربية‪ ،‬وغربية «إسالمية»‪ ،‬معتزلية‬
‫ض ُر فيها القاضي عبد اجلبار وابن رشد شاهدين على أصالة إسالم‬
‫تقدمية فلسفية ُي َ‬
‫التلونات‪.‬‬
‫يساري أو يسار إسالمي بارع ُّ‬
‫ِّ‬
‫‪408‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫سطا اللصوص االستعماريون على البيت اإلسالمي‪ ،‬فلم يربحوه ‪-‬وهل‬
‫شطر قبلتهم‬ ‫َّ‬
‫برحوه البتَّةَ!‪ -‬إال وقد خلفوا ثالثة أصناف من املغربني‪ُ .‬مغربـَنُون ميشو َن َ‬
‫ِّي احلمام وال هو احتفظ مبشيته‪.‬‬ ‫يتهدَّى تـََهد َ‬
‫الغربية مشية الغراب‪ ،‬ال هو َ‬
‫التقين اخلبري واإلداري واألستاذ اجلامعي‬
‫ب ُّ‬ ‫املغر ُ‬
‫ثالثة أصناف أقلها استالبا َّ‬
‫ف املناضل املؤرخ التقدمي واللربايل‪ .‬مث الصنف الثالث من‬ ‫املهندس‪ .‬وأعتاها ال ُـم َف ْل َس ُ‬
‫املرشوشني‪ْ ،‬أد َخلُهم يف الغَْربـَنَ ِة عادة َّ‬
‫التف وأُلْ َفةُ النمط الغريب للحياة واللذة واملتعة‪.‬‬
‫كل جتد من رجع من دراسته يف عواصم أوربا وأمريكا تتأبطه شقراء وجتره رمزاً‬ ‫ومن ٍّ‬
‫لتبعيته املطلقة لذوي ِرحه هناك‪.‬‬

‫طابور‬
‫التقين سليم العقيدة بينما يكون من غالب املفلسفني ُ‬
‫غالبا ما جتد َّ‬
‫الدعاة على أبواب جهنم‪ .‬أما املرشوشون بدرجة أو بأخرى فغالبهم عصاة سادرون‬
‫مل يسحق طاحون التعليم منهم بواقي الفطرة‪.‬‬

‫عبارة «طاحون التعليم الغريب» صاغها واحد من كبار حكام االستعمار‬


‫ومهندسي الغربنة‪ .‬هو اللورد كرومر الشهري الذي وطد لالستعمار الربيطاين يف‬
‫مصر‪ .‬أُوِرُد هنا حديثه عن نضاله الطويل‪ ،‬حديثا يقدم فيه لبين جنسه َ‬
‫صنـَْعةَ يده‪،‬‬
‫الصنف املشدوه بالغرب اجملرد من إسالميته‬
‫ويقدم لنا شهادة ووصفا دقيقا لنفسية ِّ‬
‫ك باملغربني من‬
‫حىت النخاع‪ .‬وما عدا كرومر احلقيقة اليت نعرفها ويعرفها كل من احتَ َّ‬
‫قريب‪ .‬كتب كرومر سنة ‪ 1908‬من تارخيهم قبل ظهور «الدائرة الصماء»‪ ،‬يف فرتة‬
‫نشوئها وقبل اكتماهلا‪.‬‬

‫‪409‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫قال يفكتابه «مصـر العصـرية»‪« :‬إن اجملتمع املصري يف مرحلة االنتقال والتطور‬
‫السريع‪ .‬وكانت نتيجته الطبيعية أن ُوجدت مجاعة من أفرادهم ُه ْم «مسلمون»‪،‬‬
‫ولكنهم جمردون عن العقيدة اإلسالمية واخلصائص اإلسالمية‪ .‬وإن كانوا غربيني‬
‫فإهنم ال حيملون القوة املعنوية والثقة بأنفسهم‪ .‬وإن املصري الذي خضع للتأثري‬
‫الغريب وإن كان حيمل االسم اإلسالمي فإنه يف احلقيقة ملحد وارتيايب‪ .‬والفجوة بينه‬
‫وبني عامل أزهري ال تقل عن الفجوة بني عامل أزهري وبني أوريب‪.‬‬

‫قال‪« :‬إن احلقيقة أن الشاب املصري الذي قد دخل يف طاحون التعليم‬


‫الغريب‪ ،‬ومر بعملية الطحن‪ ،‬يفقد إسالميته‪ ،‬وعلى األقل أقوى عناصرها وأفضل‬
‫أجزائها‪ .‬إنه يتجرد عن عقيدة دينه األساسية‪ .‬إنه ال يعود يؤمن بأنه ال يزال أمام‬
‫ربه‪ ،‬وأنه تراقبه عني ال ختفى عليها خافية‪ ،‬وأنه سيحاسب أمامه يوما من األيام‪.‬‬
‫ولكنه ال يزال ‪-‬رغم ذلك كله‪ -‬يستفيد من مظاهر احلياة اإلسالمية اليت تتسامح‬
‫مع ضعفه اخللقي وال تتصادم معها‪ ،‬واليت تتفق مع مصلحته يف جمال احلياة‪ .‬ولكن‬
‫املصري املثقف رغماً عن ابتعاده عن اإلسالمية ال مييل إىل املسيحية إال نادرا‪.‬‬
‫َّ‬

‫قال‪« :‬إن املصري املتحرر يسبق األوريب املتحرر يف التنور (قلت‪ :‬يقصد بالتنور‬
‫العقالنية الفلسفية امللحدة) وحرية الفكر واحلرية‪ .‬إنه جيد نفسه يف حبر هائج ال جيد فيه‬
‫سكانا وال ُربانا لسفينته‪ .‬فال ماضيه يضبطه وال حاضره يفرض عليه احلواجز اخللقية‪ .‬إنه‬
‫يشاهد أن اجلمهور من مواطنيه يعتقدون أن الدين يعارض «اإلصالحات» اليت يراها جديرة‬

‫‪410‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫بالتنفيذ‪ .‬إن ذلك يثري فيه السخط والكراهية الشديدة للدين الذي يؤدي إىل هذه‬
‫النتيجة‪ .‬فيدوسه بقدمه‪ ،‬وينبذه بالعراء‪.‬‬

‫قال‪« :‬إنه إذا قطع الصلة عن دينه وتعاليمه فال َْي ُج ُزه عن التورط يف املزالق‬
‫اخللقية إال مصلحته الشخصية السافرة‪ ،‬مع أن األوريب الذي حيرص على تقليده ال‬
‫يزال متقيدا بشرائع أمته اخللقية‪.‬‬

‫قال‪« :‬إن اجملتمع الذي يتكون من مثل هؤالء األفراد املتحررين يف مصر ال‬
‫خوف سوء‬
‫ُ‬ ‫ينكر الكذب واخلديعة إنكارا شديدا‪ ،‬وال مينعه من ارتكاب الرذائل‬
‫األحدوثة يف اجملتمع‪ .‬إنه إذا رفض دين آبائه فإنه ال يُلقي عليه نظرة عابرة‪ .‬إنه‬
‫ال يرفضه فحسب‪ ،‬بل يرفسه ويركله برجله‪ .‬إنه يرتامى يف أحضان احلضارة الغربية‬
‫‪1‬‬
‫متعاميا عن كل حقيقة»‪.‬‬

‫أقِف السرد هنا ألن التقدمي املغربن حيتج بأن هذا حتامل استعماري مقيت‬
‫ط‪ ،‬وأن مثل هذه الشهادة املغرضة تدخل يف خمطط االستعمار‪ ،‬وأن هذا‬ ‫ُمْن َح ٌّ‬
‫الصحن القدمي من الثلب يف الطبقة املتنورة ال طعم له يف عصر حترر فيه املثقفون من‬
‫ِوصايَة أمثال كرومر رمز االستعمار البغيض‪.‬‬

‫‪ 1‬ص‪ 228‬وكما نقله الشيخ أبو احلسن الندوي يف كتابه «الصراع بني الفكرة الغربية واإلسالمية» ص‪.106‬‬

‫‪411‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وأقف السرد ألن املالحظ الذي له أدىن فطانة يرى يف وصف كرومر منوذجا‬
‫حمتشما ملا عليه املغربنون امللحدون من فسولة يف الشخصية وتفسخ يف اخللق‪.‬‬
‫واألدهى فساد العقيدة ورفس الدين‪.‬‬

‫يعود املغرب من بالد أوربا بدبلوماته‪ ،‬أو يناهلا يف اجليل الثاين والثالث‬
‫أنفاسه إعجابا‬
‫ُ‬ ‫والرابع يف بلده بعد أن أصبح بلده طاحونا‪ ،‬وقد انقطعت‬
‫نفسهُ ما‬
‫باحلضارة الغربية والثقافة العصرية والفن واحلياة‪ ،‬وانبهر عقله‪ ،‬وغمر َ‬
‫يشبه الغيبوبة‪ ،‬فيتلقى فقط من مصادره الغربية ومراجعه املوثوقة ال يتلقى من‬
‫سواها‪ .‬ويعود لينظر إىل اإلسالم‪ ،‬وليفهم اإلسالم‪ ،‬بعني مستشرق‪ ،‬يف كتب‬
‫املستشرقني وحبوث اإلسالمولوجيني‪ .‬والعبقري الباقعة منهم من يقرأ النصوص‬
‫األصلية ويتكلم ويكتب وحياضر يف اجلامعة مبنهجية مطعمة‪.‬‬

‫ص َدى‬
‫يتعلم املطحون املسحوق من املدارس االستشراقية‪ ،‬ويتبىن اآلراء‪ ،‬ويردد َ‬
‫ت‬‫عوده فيعلق احلـواشي على متوهنم‪ .‬أو تـَْنبُ ُ‬
‫األساتذة‪ ،‬ويعلق على مقوالهتم‪ ،‬ويشتد ُ‬
‫له أجنحة فيتجاسر على نقدهم‪ .‬ينتقدهم التقدمي على أرضية مسلمات منها‬
‫التسليم املطلق بأن الدين نصوص أرضية ال غري‪ .‬مث حياول برباعة الدياليكتيكي‬
‫ال ُـم َد َّرب أن يربهن كيف ساهم املستشرق ببحوثه االجتماعية يف متهيد الطريق‬
‫للحاكم االستعماري‪ .‬ال ينتقد البارع أساتذته من جانب كيف طحنوه هو ومن على‬
‫شاكلته وطمسوا فيهم إسالميتهم‪.‬‬

‫‪412‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يتبىن املغرب املفلسف النظريات االستشراقية األساسية بال حتفظ‪ .‬يتبىن القول‬
‫ببشرية القرآن‪ ،‬والشك يف مصادر التاريخ وميالد النبوة وأحداث السرية‪ .‬ذلك الشك‬
‫املنهجي الذي بدونه ال تصح معرفة وال يسلَ ُم استنتاج‪.‬‬

‫ويطعن‬
‫ك يف السنة‪ ،‬ويرتاب يف قيمة احلديث‪َ ،‬‬ ‫يَ ُشك تلميذ املستشـرقني ويُ ِّ‬
‫شك ُ‬
‫يف أسلوب اإلسناد‪ ،‬وينتقد املتون‪ ،‬ويعزو احلديث للوضع باحثا عن أسباب سياسية‬
‫دفعت الرواة لصياغة حديث يؤيد موقفا أو يدحض حجة خصم‪.‬‬

‫النصوص االستشـراقية مبا يثبت أن الفقه اإلسالمي‬ ‫َ‬ ‫يتعلم ويـَُعلِّ ُم ويـَُوشِّي‬
‫مقتبس من الرومان‪ ،‬وأن اإلمجاع السين عبارة عن الرأي الرمسي للدولة احلاكمة فرضته‬
‫فرضا‪ ،‬وأن االنشقاق الشيعي والرأي املعتزيل والثورة اخلوارجية والزجنية والقرامطية‬
‫صفحات ناصعة تقدمية‪.‬‬

‫ذلك بعض ما صنعه طاحون التعليم الغريب فينا‪ ،‬وال يزال الطاحون تديره‬
‫بني ظُ ْهَرانـَيـْنَا أيْ ٍد أكثر مهارة وأسرع جناعة من األيدي اليت ساعدت كرومر يف فجر‬
‫االستعمار‪.‬‬

‫الغريب من علياء ثقافته الفريدة يتعجب كيف يكون للناس ثقافة غريُ‬ ‫ال يزال ُّ‬
‫ثقافته‪ .‬من إعجابه بنفسه‪ ،‬وإعجاب املغَْربَ ِن به‪ ،‬وبإجنازاته وسيطرته على الطبيعة‪،‬‬
‫ال يتصور الغريب وال املطحون حضارة غري حضارة الغرب تستحق أن يوقف عندها‪.‬‬
‫اللهم إال إذا كان ُمنـَقِّباً أركيولوجيا‪ ،‬أو مستشرقا إسالمولوجيا‪ ،‬أو سائحا يتلهى‬
‫بفلكلور الشعوب‪ْ ،‬أو زائرا ل ُـمتحف اآلثار الدارسة الطامسة‪.‬‬

‫‪413‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الغزو الثقايف املسلط على العامل بسلطان اإلعالم وسلطان التعليم والتطحني‬
‫فعلَةً ومهندسني وضبا َط صف من أبناء البلد بعد أن َد َّرهبم وصبغهم‬ ‫يستخدم َ‬
‫بصبغته‪ .‬ال يضريه إن أصبحوا وطنيني وتقدميني يتسلمـون دواليب الدولة املستقلة‪.‬‬
‫فهم من ِملَّتِه الثقافية على أقل تقدير إن كانوا ال جيرؤون على اجلهر مبلتهم اإلحلادية‪.‬‬
‫وهم الوكالء وهم َر َّجالة اجليش املرصود للزحف اإلسالمي‪.‬‬

‫يشارك َخيَّالَةُ الالييكيني َور َّجالة املثقفني العضويني يف عملية توطيد اهليمنة‬
‫الثقافية الغربية اليت توحد األذواق وتـُنَ ِّمط األهواء على النمط الغريب فيتوسع سوق‬
‫الرأمسايل االستهالكي‪ ،‬ويَ ْسخو املستضعفون باملال واملوارد الطبيعية‪ .‬ويساهم املغربون‬
‫يف رفع احلواجز الدينية واللغوية اليت تقف حائال دون امتداد السوق ودون ارتفاع‬
‫مردودية رأس املال‪.‬‬

‫طاحون التعليم الغريب ال يزال يطحن ذاتية الشباب املسلم‪ ،‬ويقتلع من أرض‬
‫الفطرة جذور اإلميان‪ ،‬وجيفف ينابيع اإلسالم‪ .‬ويف التعليم‪ ،‬حيث خيتار الفالسفة‬
‫ثكناهتم َوُوكناهتم‪ ،‬مكان املعركة احلامسة لتنشئة أجيال سليمة‪ .‬واهلل يعلم وأنتم ال‬
‫تعلمون‪.‬‬

‫‪414‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫«الردة مرونة يف الفكر»‬


‫ث بني الفينة واألخرى ِصدامات دامية يف الكليات واألحياء اجلامعية بني‬
‫َْت ُد ُ‬
‫الطلبة اإلسالميني والتنظيمات اليسارية املاركسية‪ .‬نسمع عن ذلك ونقرأ خاصة يف‬
‫ب أطفال‬ ‫البالد اليت مل تتم فيها سيطرة اإلسالميني على الساحة‪ .‬هذه الـم َّ ِ‬
‫شادات لَع ُ‬ ‫ُ‬
‫إذا قورنت ببأس التنظيمات من نوع «جماهدي خلق» اليت تلتحف بالشعارات‬
‫اإلسالمية وتقاتل اإلسالميني بسالح احلديد والنار وسالح إديولوجية مارقة تتمسح‬
‫باإلسالم لتنسف العقيدة نسفا‪.‬‬
‫هذا الصنف العايت هو زبدة طاحون التعليم‪ ،‬تالمذة أمثال علي شريعيت‬
‫وحسن حنفي‪ ،‬املالحدة الالييكيون‪ .‬نورد يف هذه الفقرة سردا طويال لشهادة زعيم‬
‫من زعماء من يُسمون أنفسهم «اليسار اإلسالمي» لنأخذ ِح ْذرنا منهم اليوم‪ ،‬ولنُعِ َّد‬
‫لغد تكون بأيدينا الوسائل لنطهر مؤسسات التعليم من مشغّلي الطاحون‬ ‫العدَّة ٍ‬
‫ُ‬
‫اإلحلادي‪ ،‬ولنغري النظام التعليمي الغريب املوروث من أساسه‪.‬‬
‫للدكتور حسن حنفي فضل على املنافقني امللَفِّقني‪ ،‬فإن له وقاحةً يف نشر آرائه‬
‫اإلحلادية‪ ،‬يعلنها إعالنا‪ .‬وبذلك يكون مشروعه اإلحلادي الذي يسميه «الرتاث‬
‫والتجديد» نُقلة نوعية تقدمية‪ .‬ال يوافق كثري من أقران حنفي وزمالئه على مشروعه‬
‫املكشوف‪ ،‬بل يفضلون التسلل ولُبس املسوح اإلسالمية والتعتيم‪ .‬وما يُ ِسُّره كثري‬
‫منهم ال خيتلف عن رأي حنفي إال يف التفاصيل‪.‬‬

‫‪415‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫قال الدكتور البارع احملاضر يف كليات أوربا وأمريكا‪ ،‬الكاتب املؤلف بعدة‬
‫لغات‪ ،‬يف كتابه «الرتاث والتجديد»‪« :‬هذه «املقدمات»‪ ...‬حماولة إلعادة بناء علم‬
‫أصول الدين التقليديكإديولوجية ثورية للشعوب اإلسالمية ُتد بأسسها النظرية العامة‬
‫وتعطيها موجهات السلوك»‪ .1‬فاملشروع واسع الطموح‪.‬‬
‫وقال عن اهلدف السياسي ملشروعه‪« :‬جتديد الرتاث هو َحلٌّ لطالسم‬
‫القدمي وللعُ َق ِد املوروثة‪ ،‬وقضاء على معوقات التطور والتنمية والتمهيد لكل‬
‫تغيري جذري للواقع‪ .‬فهو عمل ال بد للثوري من أن يقوم به‪ ،‬وإال ظل القدمي‬
‫شبحا ماثال أمام األعني ميثل أشباح األسالف اليت تُ َبعث من جديد‪ ،‬ترتبص‬
‫باألبناء شرا إذا هم خرجوا من ُجبَّتهم‪ ،‬ورفضوا سلطاهنم‪ ،‬ومل يدينوا هلم بالطاعة‬
‫الوالء‪ ،‬أو يقوم أنصار احملافظة واإلبقاء على األوضاع القائمة باستغالل هذا‬ ‫وَ‬
‫املخزون لصاحلهم‪ ،‬وأخذ اجلماهري من جانبهم‪ ،‬وقطع خط الرجعة على أنصار‬
‫التغيري والتقدم وسحب البساط من حتت أرجلهم» ‪.2‬‬
‫مشروع الدكتور أن يسحب البساط من حتت أرجل اإلسالميني ويستنقذ‬
‫األبناء من حتت جبتهم الظالمية ليستغل «املخزون النفسـي الديين» لدى اجلماهري‪.‬‬
‫وعبارة «املخزون» موضوع النزاع تنِم عن اللصوصية السياسية ِّ‬
‫املؤسسة للفكر احلنفي‪.‬‬
‫ويـَُعِّرف الدكتور اإلحلاد ومزاياه قائال‪« :‬ليس للعقائد صدق داخلي يف ذاته‪ ،‬بل‬
‫صدقها هو مدى أثرها يف احلياة العملية وتغيريها للواقع‪ .‬فالعقائد هي موجهات للسلوك‪،‬‬

‫‪ 1‬كتاب «الرتاث والتجديد» (صدر عن دار التنوير للطباعة والنشر ببريوت سنة ‪ )1981‬ص‪.7‬‬
‫‪ 2‬نفس املصدر ص‪.16‬‬

‫‪416‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وبواعث عليه ال أكثر‪ .‬وليس هلا أي مقابل مادي يف العامل اخلارجي كحوادث تارخيية‬
‫أو أشخاص أو مؤسسات إال من الواقع العريض الذي هو حامل للمعاين وميدان‬
‫للفعل‪ .‬فاإلحلاد هبذا املعىن رغبة يف بيان األثر العملي لألفكار ورد فعل على اإلميان‬
‫املتحجر املكتفي بذاته الذي يكفي املؤمنني شر القتال‪.‬‬

‫قال‪« :‬ليس املقصود من الوحي إثبات موجود مطلق غين ال حيتاج إىل الغري‬
‫بل املقصود منه تطوير الواقع يف اللحظة التارخيية اليت مير منها واليت حتتاج إىل من‬
‫يساعدها على التطور‪ ]...[ .‬فاإلحلاد هبذا املعىن تَطابق مع الواقع‪ ،‬ووعي باحلاضر‪،‬‬
‫ودرء لألخطار‪ ،‬ومرونة يف الفكر‪ ،‬وفضح لشىت أنواع االستعمـار والسيطرة على‬ ‫َ‬
‫اهتام كل حماولة للتوعية الثقافية للمواقف احلضارية‬
‫الغرب ُ‬
‫كل املستويات‪ .‬ويُسعد َ‬
‫املستنرية باإلحلاد ألنه يبغي احملافظة على اإلميان القدمي‪ ،‬ويزايد على أهل الدار‪ ،‬فذاك‬
‫يسهل عليه ما يريد»‪.1‬‬

‫ويتبجح باتصاالت له مع سيد قطب‬ ‫ِ‬


‫نفسه احلنفي‪ّ .‬‬‫م ْن أهل الدار يزعم َ‬
‫رمحه اهلل‪ .‬ويراوغ‪ ،‬لكنه يفصح ال يكتم دخيلته اإلحلادية‪ .‬ويستعمل املنهجية‬
‫اللسانية لينسق املفاهيم األساسية من أصوهلا‪ .‬يقول‪« :‬وملا كان لفظ «دين»‬
‫قاصرا عن أداء املعىن‪ ،‬فإن لفظ «إديولوجية» أقدر منه على التعبري عن الدين‬
‫الوحي جمموعة من األفكار والتصورات‬ ‫ِ‬ ‫ِْ‬
‫ن وهو اإلسالم وإيصال معناه‪ ،‬ألن َ‬‫املع ّ‬
‫تصدر منها أنظمة وشرائع خرجت من الواقع «بأسباب النـزول» وتكيفت حسب‬
‫الواقع «بالناسخ واملنسوخ»‪ ،‬وهدفها تغيري الواقع بأفضل منه‪ .‬فاحلاكمية هلل‬
‫تعين الوحي كنظام اجتماعي وإنشاء الدولة اليت تعرب عن الكيان السياسي‬

‫‪ 1‬كتاب «الرتاث والتجديد» ص‪.52‬‬

‫‪417‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫لألمة‪ .‬وذلك عن طريق املؤمنني وهم احلزب الطليعي‪ ،‬أو مبعىن معاصر هم‬
‫احلزب «الربلتاري» الذي يقوم بتحقيق اإلديولوجية يف التاريخ» ‪.1‬‬

‫ف اإلسالم فيقول‪« :‬وكذلك لفظ «اإلسالم» مشحون بعديد من املعاين‬


‫ويـَُعِّر ُ‬
‫كلفظ «دين»‪ .‬فإن أمكن‪ ،‬من الناحية النظرية على األقل‪ ،‬التعبري به عن معىن فإنه ال‬
‫ميكن ذلك من الناحية العملية‪ .‬وذلك ألنه أصبح هو أيضا حممال مبا ال حصر له من‬
‫املعاين [‪ .]...‬فهو أساسا مصطلح يشري إىل دين معني وإىل ميدان معني‪ .‬وليس لفظا‬
‫عاما يدل على معىن مستقل عن كل ميدان مثل حرية‪ ،‬حترر‪ ،‬مساواة‪ ،‬إنسانية‪]...[ .‬‬
‫فلفظ «التحرر» هو اللفظ اجلديد الذي يعرب عن مضمون «اإلسالم» أكثر من اللفظ‬
‫القدمي [‪ .]...‬فاإلسالم هو حترر الشعور اإلنساين من كل قيود القهر والطغيان مادية‬
‫أو سياسية»‪.2‬‬

‫ال حيتاج النص ألي تعليق‪ .‬وال أريد التشهري بشخص معني‪ ،‬لكـن أريد أن‬
‫يطلع اإلسالميون على منوذج للكيد تضحك منه صبيانيات املستشرقني‪ .‬فحىت كلمة‬
‫دين وإسالم ال معىن لبقائها َمعلَمةً على قدمي ديين جيب أن يُنبـذ مع قدمي الظلم‬
‫املوروث الذي يتخذه الثوريون املالحدة ذريعة لنسف أسس الدين‪.‬‬

‫ال يوجد مربر للتحليل والتحرمي يف دين حنفي‪ .‬يقـول‪« :‬الواجب أول األحكام‬
‫اخلمسة‪ :‬الواجب‪ ،‬واحلرام‪ ،‬واملندوب‪ ،‬واملكروه‪ ،‬واملباح‪ .‬فهي ألفاظ توحي بأن اإلنسان‬

‫‪ 1‬نفس املصدر ص‪.99‬‬


‫‪ 2‬كتاب «الرتاث والتجديد» ص‪.99‬‬

‫‪418‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ما هو إال آلة للتطبيق‪ ،‬وأنه فاقد حريته‪ .‬يف حني أن التعبري بألفاظ أخرى مثل الطبيعة‪،‬‬
‫واالنطالق‪ ،‬واالزدهار فيها تأكيد للذات‪ ،‬وإثبات حلريتها‪ ،‬وحتقيق لوجودها»‪.1‬‬

‫وال جنة وال نار وال رب وال آخرة يف عقيدة حنفـي‪ .‬قال‪« :‬فالعمـل‪ ،‬واحلرية‪،‬‬
‫والشورى‪ ،‬والطبيعة‪ ،‬والعقل‪ ،‬كلها ألفاظ عقلية يف علم التوحيد ال ميكن للعقل أن‬
‫يرفضها‪ .‬أما ألفاظ اهلل‪ ،‬واجلنة‪ ،‬والنار‪ ،‬واآلخرة‪ ،‬واحلساب‪ ،‬والعقاب‪ ،‬والصراط‪،‬‬
‫وامليزان‪ ،‬واحلوض‪ ،‬فهي ألفاظ قطعية صرفة ال ميكن للعقل أن يتعامل معها دون فهم‬
‫أو تفسري أو تأويل»‪.2‬‬

‫ألفاظ‪ ،‬جمرد ألفاظ اصطالحية خرجت من الطني‪ .‬قال‪« :‬وكذلك ألفاظ عني‬
‫اهلل‪ ،‬ويد اهلل‪ ،‬وقلب اهلل [قلت‪َ :‬ج َّل اهلل!]‪ ،‬ووجه اهلل‪ ،‬وصعود اهلل‪ ،‬ونزوله‪ ،‬وجلوسه‪،‬‬
‫وقيامه‪ ،‬كلها ألفاظ ال ميكن استعماهلا ألهنا أقرب إىل الصور الفنية منها إىل ألفاظ‬
‫إخبارية‪ .‬وكذلك امليزان والصراط واألعراف واحلوض ومنكر ونكري [‪ .]...‬وال يوجد‬
‫معىن للفظ إال وقد نشـأ أوال من الرتبة والطني واألرض»‪.3‬‬

‫آخر املطاف مع هذا الكالم القذر زبدة الفلسفة احلنفية لنحملق بتعجب‬ ‫ِ‬
‫وأُورُد َ‬
‫يطعم به أبناء املسلمني وبناهتم‬
‫يف وجه البشاعة اإلحلادية الشنيئة‪ ،‬ويف وجه الفكر الذي ِّ‬

‫‪ 1‬كتاب «الرتاث والتجديد» ص‪100‬‬


‫‪ 2‬كتاب «الرتاث والتجديد» ص‪.103‬‬
‫‪ 3‬كتاب «الرتاث والتجديد» ص‪.103‬‬
‫‪419‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫دكاترةٌ فصحاء لَ ِسنون‪ ،‬فيهب األبناء والبنات لينَ ِّج ُسوا املصاحف وحيرقوا املساجد‬
‫وحيملوا السالح لقتال املؤمنني‪.‬‬

‫قال الدكتور‪« :‬فلفظ «اهلل» يستعمله اجلميع دون حتديد سابق ملعىن اللفظ إن‬
‫كان له معىن مستقل أو لِما يقصده املتكلم من استعماله له‪ .‬بل إن لفظ «اهلل» حيتوي‬
‫على تناقض داخلي يف استعماله باعتباره مادة لغوية لتحديد املعاين أو التصورات‪،‬‬
‫وباعتباره معىن مطلقا يراد التعبري عنه بلفظ حمدود‪ .‬وذلك ألنه يعرب عن اقتضاء أو‬
‫مطلب‪ ،‬وال يعرب عن معىن معني‪ .‬أي أنه صرخة وجودية أكثر منه معىن ميكن التعبري‬
‫عنه بلفظ من اللغة أو بتصور من العقل‪ .‬هو رد فعل على حالة نفسية أو عن إحساس‬
‫أكثر منه تعبرياً عن قصد وإيصال ملعىن معني‪ .‬فكل ما نعتقده مث نعظمه تعويضا عن‬
‫فقد‪ ،‬يكون يف احلس الشعيب هو اهلل‪ .‬وكل ما نصبو إليه وال نستطيع حتقيقه فهو‬
‫أيضا يف الشعور اجلماهريي هو اهلل‪ .]...[ .‬فاهلل لفظة نعرب هبا عن صرخات األمل‬
‫وصيحات الفرج‪ .‬أي أنه تعبري أديب أكثر منه وصفا لواقع‪ ،‬وتعبري إنشائي أكثر منه‬
‫وصفا خربيا‪.‬‬

‫قال (وال حاجة للتعليق على كلمات اإلحلاد املتهور اجملنون)‪« :‬فكل عصر‬
‫يضع من روحه يف اللفظ‪ ،‬ويعطي من بنائه للمعىن‪ .‬وتتغري معاين األبنية بتغري العصور‬
‫واجملتمعات‪ .‬فاهلل عند اجلائع هو الرغيف‪ ،‬وعند املستعبَد هو احلرية‪ ،‬وعند املظلوم‬
‫هو العدل‪ ،‬وعند احملروم عاطفيا هو احلب‪ ،‬وعند املكبوت هو اإلشباع‪ ،‬أي أنه يف‬
‫معظم احلاالت «صرخة املضطهدين»‪.‬‬
‫‪420‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫قال امللحد إال أن يتوب‪« :‬واهلل يف جمتمع خيرج من اخلرافة هو العلم‪ ،‬ويف‬
‫جمتمع آخر خيرج من التخلف هو التقدم‪ .‬فإذا كان اهلل هو أعز ما لدينا وأ ْغلى ما‬
‫لدينا فهو األرض‪ ،‬والتحرر‪ ،‬والتنمية‪ ،‬والعدل‪ .‬وإذا كان اهلل هو ما يقيم َأودنا وأساس‬
‫وجودنا فهو اخلبز‪ ،‬والرزق‪ ،‬والقوت‪ ،‬واإلرادة‪ ،‬واحلرية‪ .‬وإذا كان اهلل ما نلجأ إليه‬
‫حني الضرر‪ ،‬وما نستعيذ به من الشر‪ ،‬فهو القوة‪ ،‬والعتاد‪ ،‬والعُدة‪ ،‬واالستعداد»‪.1‬‬

‫هكذا يتكلم الصرحاء من خرجيي الطاحون‪ ،‬بعد قرن من بِدايات َ‬


‫صنعة‬
‫كرومر‪ .‬ويبدو أمحد لطفي السيد وطه حسني أشبـاحا باهتـة بإزاء جرأة الكافرين‬
‫اجملددين‪ .‬ومن يهن اهلل فما له من مكرم‪ .‬سبحانك هذا هبتان عظيم‪ .‬سبحان اهلل‬
‫واحلمد هلل وال إله إال اهلل واهلل أكرب‪ .‬وال حول وال قوة إال باهلل‪.‬‬

‫‪ 1‬كتاب «الرتاث والتجديد» ص‪.96‬‬

‫‪421‬‬
‫الفصل اخلامس‬
‫ضرورة احلوار وحسن اجلوار‬

‫* حوار الضعيف للقوي‬


‫* شروط احلوار وظروفه‬
‫* قضايا للنقاش‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫حوار الضعيف للقوي‬


‫ملاذا جيد البنون والبنات حاضنا حمبوبا يف الدكاترة امللحدين؟ ملاذا جيد الدكاترة‬
‫امللحدون آذانا صاغية وقلوبا غري واعية لدى البنني والبنات؟‬

‫ألهنم خياطبون فيهم من الفطـرة جانبا حيا هو الغضب على الظلم‬


‫والظاملني‪ ،‬ويقدمون هلم األمثلة احلية من مثول وعاظ السالطني راكعني أمام‬
‫الدين إال أفيونا للشعوب‪ ،‬وال‬
‫السدة الظاملة؟ فال يرى البنون والبنات بعدها َ‬
‫الوعا َظ إال كهنوتا جيب أن يشنق بأمعائهم آخر الظلمة كما هو شعار الثورة‪.‬‬

‫ضعف املوقف السياسي للوعاظ‪ ،‬بل هتاويهم‪ ،‬يفحم احلُ َّجةَ‪ِ .‬من أي موقع‬
‫َ‬
‫اخرس!‬
‫تتكلم يا هذا؟ من أسفل عتبات اخلدمة الراكعة! ْ‬
‫ضرورة الضرورات أن حنيي يف األجيال من البنني والبنات فطرة اإلميان يف الطريق‬
‫إىل احلكم وبعد الوصول إليه‪ .‬أوىل األولويات حلكومة اإلسالم أن متهد للدعوة حىت‬
‫وتص َل من الفطرة ما انقطع من السند‪ ،‬وتُصلح منها ما فسد‪ .‬وأن‬ ‫تقيم األود‪ِ ،‬‬
‫َ‬
‫موده‪ ،‬واإلميان‬
‫وع َ‬‫ص ْلبَهُ َ‬
‫تعوض النظام التعليمي الطاحوين بنظام قرآين يكون القرآن ُ‬
‫روده‪ .‬ومن هنا يبدأ بناء القوة لنستطيع الربوز يف‬ ‫ِ‬
‫وو َ‬‫وص َدرهُ ُ‬
‫باهلل وباليوم اآلخر ه ِّج َريهُ َ‬
‫األقوياء األعز ِاء‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األمناء‬ ‫العامل حنا ِوُره ال نُدا ِوُره كما يليق حبَ َملة الرسالة‬

‫‪425‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫حوارنا مع النظراء الفضالء من املسلمني‪ ،‬املصلني منهم والغافلني‪ ،‬يبدأ من‬
‫الصفة الضـرورية وهي اإلسالمية‪ .‬أما امللحدون الصرحاء واملنافقون املشهورون ٍ‬
‫بنفاق فيَ ُد‬
‫الدولة تنحيهم من أعز األماكن حيث يرتبصون مبستقبـل األمة الدوائر‪ .‬وقد ذكرنا يف‬
‫الفصل الرابع من الباب األول ما يليق من التؤدة يف تطبيق احلدود الشـرعية بعد اإلنْ َذار‬
‫واإلمهال واإلعراض‪.‬‬

‫صى اهلل عز وجل رسوله حممدا صلى اهلل عليه وسلم حني أمره‬ ‫وباإلعراض َو َّ‬
‫ِ‬ ‫ع بِ َما تـُْؤَم ُر َوأَ ْع ِر ْ‬
‫ض َع ِن ال ُْم ْش ِرك َ‬
‫ين﴾‬ ‫اص َد ْ‬
‫وأمرنا بتبليغ الدعوة‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬فَ ْ‬
‫‪1‬‬

‫الصدع يف اللغة هو «الشق يف األجسام الصلبة كالزجاج واحلديد»‪ .‬فهو أمر بتبليغ‬
‫الدعوة بقوة‪ .‬وذلك ما فعله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حني خرج للقبائل يعرض‬
‫نفسه‪ ،‬ال يأبه بأذى العدو وال بقسوة املعاند وال خبزعبالت املستهزئ‪.‬‬

‫اب بِ ُق َّوٍة﴾‪.2‬‬ ‫ِ ِ‬
‫أمر اهلل تعاىل بالبالغ بقوة‪﴿ :‬يَا يَ ْحيَى ُخذ الْكتَ َ‬

‫وما كان عصر ال يؤمن أهله إال بالقوة كمثل عصرنا‪ .‬فإذا كان احلوار ضروريا‬
‫أكثر ضرورة أمام الغرب الذي حيتقر اإلسالم ويُزهى‬ ‫حلامل الرسالة فإن القوة بالبالغ ُ‬
‫بتفوقه‪ .‬الصلَف جزء أساسي من التفكري الغريب‪ .‬احلمية العنصـرية مادة ماهيته‪َّ .‬‬
‫الذ ْحل‬
‫‪ 1‬سورة احلجر‪ ،‬اآلية ‪.94‬‬
‫‪ 2‬سورة مرمي‪ ،‬اآلية ‪.12‬‬

‫‪426‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ـري‪ ،‬خاصة جتاه املسلمني‪ ،‬هو خافيتـه وظاهرته‪ .‬الغرب مرتبع على‬ ‫العنص ّ‬
‫كرسي تفوقه احلضاري‪ ،‬مستَ ٍو على دست املال واالقتصاد والتكنولوجيا واجلهاز‬
‫العسكري‪ .‬فمن حتاور إن جئت حافيا عاريا متماوتا!‬

‫ال يليق باملسلمني يف قومتهم االنقياد واالستخذاء أمام جربوت الغرب‪ .‬كما‬
‫ال يليق هبم العنف وحجز الرهائن وخرق القوانني الدولية‪ .‬ليس العنف من أخالق‬
‫اإلسالم‪ ،‬لكن من أخالقه القوة‪ .‬والقوم يعبدون القوة ال يعرفون غريها‪ .‬فمىت خرقنا‬
‫قوانني االستقرار العاملي ألَّبوا علينا العامل كما فعلوا عند هجمة صدام على الكويت‪.‬‬

‫انني هم صنعوها‪ ،‬وأمريكا من جملس األمن تُ ِربم وتـَنـُْق ُ‬


‫ض وتُؤوي يف مأمن من كل‬ ‫قو ُ‬
‫مالم ربيبتها اليهودية‪ .‬نعم! لكن ليس هناك بُد من جترع العالقم يف احلالقم والصرب‬
‫ناصل يف الـم َف ِ‬
‫اص ِل ريثما نُعد القوة لنتكلم مع األقوياء من الوضع املناسب‬ ‫على الـم ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫إلعادة ترتيب األوضاع العاملية والقانون الدويل‪.‬‬

‫إشعال احلرب وإثارة الصدام العسكري وتبين الصراعية‬


‫اإلسالمي َ‬
‫ُّ‬ ‫اهلدف‬
‫ُ‬ ‫ليس‬
‫املبدئية اليت ليست لنا دينا‪ .‬اهلدف اإلسالمي والدين أن جناهد لتكون كلمة اهلل هي‬
‫العليا‪ .‬نقاتل من بَغى واعتدى‪ ،‬ونقاتل من منعنا من تبليغ رسالة اهلل للعاملني‪ .‬والطريق‬
‫دين‬
‫مفتوح أمامنا رغم الكراهية الشديدة لإلسالم‪ .‬احلوار الدميقراطي وحقوق اإلنسان ٌ‬

‫‪427‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ُمعلَن يف ربوع األرض‪ ،‬فما هي كلمتنا للعامل؟ وما هي النموذجية اليت منثلها فنُحا ِوُر‬
‫باملثال قبل أن نبدأ الناس باملقال؟ ما هي القوة؟‬

‫والذي يفتقده العا َلُ‪ ،‬ويشكو منه الفاقة واإلضاقة هو األخالقية والروحانية‬
‫اليوم ال يصغى إىل ما عندنا من‬
‫ومعن احلياة اإلنسانية‪ .‬فإن كان الغرب املستكرب َ‬
‫َ‬
‫كلمة احلق لكراهية متأصلة عنده‪ ،‬وإن كان مستضعفو العامل ال يسمعون لصممهم‬
‫يوم نق َـوى لشأنا إن شاء اهلل‪.‬‬
‫عن كل ما ليس تنمية واقتصـادا وبُلغة عيش‪ ،‬فإن لنا َ‬
‫وإن اآلفات االجتماعية اخللقية وما ينزل اهلل عز جل من البالء على القرى الظا ِمل‬
‫َّ‬
‫أهلُها لرادعٌ يُرجع إلينا يوم نقوى كافة بين اإلنسان املشردين يف أرض التيه‪ ،‬أرض‬
‫املالحقة احلضارية لغرب جامح طامح رامح‪.‬‬

‫الغرب اليوم كل القيم‪ .‬فالطريق أمامنا ُم ّجرة‪ ،‬ورعاية «شرف اإلسالم‬


‫يركل ُ‬
‫نقوى‪ .‬فإن قوينا‬
‫الدويل» كما كان يعرب األستاذ البنا رمحه اهلل يقتضي منا أناة حىت َ‬
‫فمن واقع القوة نقول للعامل سلما ِ‬
‫وحلما‪ .‬بعدما فعله فينا االستعمار من متزيق نعيد‬ ‫َ‬
‫بناء بيتنا اإلسالمي موحدا على أسس الرمحة بيننا والرمحة باخللق‪ .‬ال تكون مظاهر‬
‫ت من هز ٍيل مشـرد ممزق‪ .‬لكن القوي‬ ‫بد ْ‬
‫الرمحة وحقائقها إال ضعفا يف أعني العامل إن َ‬
‫يستطيع أن يبتسم فال يوخذ ابتسامه على أنه جماملة اهنزامية‪ ،‬ويستطيع أن حياور‬
‫باحلكمة واملوعظـة احلسنة وأن جيادل باليت هي أحسن فال يوخذ ذلك منه مأخذ‬
‫الضعف املكنون‪.‬‬

‫‪428‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫على أسس الرمحة نبين وحدتنا وقوتنا لنحاور العا َل برمحة اإلسالم‪ .‬وببالغ‬
‫اآلخرة وبياهنا‪ .‬بالرمحة ال بلغة الدموع واحلروب‪ .‬وقد ذاق الغرب من بأس الثورة‬
‫اإلسالمية بإيران‪ .‬وذاقت إيران من بأس الغرب مدى عشرة أعوام‪ .‬فتعلم الغرب‬
‫أن املسلمني ميوتون يف سبيـل اهلل بشرف وشغَف‪ .‬وتعلم آيات اهلل بعد وفاة اإلمام‬
‫اخلميين رمحه اهلل كيف يتعاملون مع القانون الدويل تعامال غري ما كانوا يفعلون‪ .‬فال‬
‫نكرر املآسي‪ ،‬ألن الغرب مستعد دائما أن يقاتل بعض املسلمني ببعض‪ ،‬وأن يسلح‬
‫بعضنا بعضا‪.‬‬
‫فين ُ‬
‫اجلانبني ويؤلب ويشعل النار حىت يُ َ‬
‫الفضول‪ .‬وحياة الغريب الذي ال يرجو لقاء اهلل‬
‫َ‬ ‫وحنن‬
‫اجلوهر ُ‬
‫َ‬ ‫نفسه‬
‫الغرب يعترب َ‬
‫أعز ما عنده‪ .‬فهو حريص على احلياة‪ ،‬أي حياة‪ .‬وذلك من مواطن ضعفه‪ .‬علَّمته‬
‫فتنام بعد حروب التحرير الوطين أن املستضعفـني يقاتلون بشجاعة‪ .‬تنشر التلفزيون‬
‫الغريب‪.‬‬
‫صور اجلرحى واملوتى من الشعوب امللونَة ومن أطفال احلجارة فيعتاد اجلمهور ُّ‬
‫لكن يصيبه اهللَع ملشهد جثة رجل أبيض‪ .‬فتقوم املظاهرات يف نيويورك وواشنطون‬
‫احبسوا اجملزرة‪.‬‬
‫أ ْن ُ‬
‫هم ضعفاء أمام املوت رغم أسلحتهم املدمرة‪ ،‬وهم يعلمون أن املسلمني‬
‫يعشقون الشهادة‪ ،‬فليكن االستعداد للشهادة قوتنا‪ .‬لكن ال داعي مطلقا والَ‬
‫مشروعية مطلقة للعدوان من جانبنا والعنف وحجز الرهائن‪.‬‬

‫الرفق ِسَتَنا الواضحة وشارتنا البائحة‪ .‬وستمر َرّدة الفعل الكارهة لنا اليت‬
‫ليكن ُ‬
‫أحيت عندهم العِداء املوروث الصليبـي فال جيدون وال جند إال ضرورة التساكن يف‬

‫‪429‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫هذا الكوكب‪ ،‬وضرورة التحاور‪ ،‬وضرورة احرتام قانون دويل هو اليوم من صنعهم‬
‫حتويره ليكون يف صاحل اإلنسانية‬
‫ويف صاحلهم‪ ،‬ونفرض غدا‪ ،‬غد القوة حبول اهلل‪َ ،‬‬
‫املستضعفة‪ .‬فتأثرينا يف سياسة العامل ويف األخالقية الدولية رهن مبا نأيت به ومعنا‬
‫حجة النجاح النموذجية من براهني الرفق والعزمية‪ ،‬جمتمعني‪.‬‬

‫ليست اجلغرافية يف عامل أصبح بوسائل التواصل قرية‪ ،‬وال التاريخ يف عامل هتب‬
‫دين اهلل‬
‫عليه رياح التغيري عاصفةً‪ ،‬مها الداعيـَْي للتعايش السلمي واحلـوار‪ .‬بل الداعي ُ‬
‫وجهاد نُعد له القوة من‬
‫ٌ‬ ‫وحنن محلتُه‪ ،‬وسنة الرفق وإن كانت من حولنا الغربان تـَُع ْقعِق‪،‬‬
‫نعنف‪.‬‬
‫كل أنواعها ال ُ‬

‫العنف وتفاقَ َم يف العامل‪ ،‬وكان لبعض اإلسالميني انسياق مع منطق‬


‫ُ‬ ‫َشَرى‬
‫ضوا باستعمال السالح يف الضعفاء العُْزل كما‬
‫ضوا بصفقة غنب ملا َر ُ‬
‫العنف حىت َر ُ‬
‫استعمله اليهود والنصارى ويستعملونه يف مذابح فلسطني وغري فلسطني‪ .‬ولعلها‬
‫ِ‬
‫يته َّجى حروف النور بصعوبة َأرتْهُ‬
‫دهشة املنتبه بعد طول رقدة‪ ،‬القائم بعد قعدة‪ ،‬فهو َ‬
‫األضعف معىن وإن كان يف يده السالح‪.‬‬
‫ُ‬ ‫النور َلباً‪ .‬وإمنا ينتقم من العُْزل الضعفاء‬
‫َ‬
‫العنف يأيت من سوء الطبع العنيف كما يأيت من سوء الفهم للواقع‪ .‬من سوء فهم‬
‫الغرب لإلسالم أهنم يرونه «بعبعا» خميفا متعطشا للدماء‪ .‬تلك صورة ورثوها من خرافات‬
‫أجدادهم الصليبيني‪ .‬فهم بلداء متخلفون‪ ،‬ال يطابق حتليلُهم الواقع‪ .‬وعلينا أن نُساعدهم‬

‫‪430‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫على كشف هذا الوهم‪ ،‬ونعل َـمهم باالستعداد الدائم لالستشهاد أننا لن نستخذي ولن‬
‫ننقاد‪ ،‬كما أننا لن نبدأ بظلم ولن نتعدى على من مل يعتد علينا‪ .‬هبذا نفتح صفحة جديدة‬
‫اعتدى علينا اعتدينا عليه باملثل ال بالظلم‪.‬‬
‫للحوار‪ .‬رمحاءَ لكن أشداءَ‪َ ،‬من َ‬

‫اليوم يف العامل ‪-‬الواليات احملتدة‬


‫فنتصوَر القوة العظمى العادية َ‬
‫وال نكن أغبياءَ َّ‬
‫األمريكية‪« -‬بعبعا» ال يقهر‪ .‬إهنا عمالق حقا باحلجم والعتـاد‪ .‬لكن عمالق غارق‬
‫يف املشاكل االجتماعية االقتصادية املالية السياسية‪ ،‬حياول لغبائه أن حيلَّها بالتوجه‬
‫فنتصوَر أن هلذا العمالق إرادة‬
‫َّ‬ ‫الغزوي على الشعوب املستضعفة‪ .‬ال نكن أغبيـاءَ‬
‫واحدة وقدرة ال تقاوم وعزمية ال ت ُفل‪ .‬فهو أحزاب واجتاهات ودميوقراطية واختالف‪.‬‬
‫وتفشل إدارة وتفتضح أخرى‪،‬‬ ‫يرتدد العزم يف جوف العمالق ذي األرجل الطينية‪َ ،‬‬
‫وتضغط اللوبيات ويـَثـُْق ُل ِحْ ُل قيادة العامل واملديونية الداخلية واخلارجية املتفاقمة‪ ،‬فال‬
‫ينطق العمالق إال تأتأ ًة وال يُبني إال عن رغبة يف السلم وتفادي منظر اجلثث األمريكية‬
‫على التلفزيون‪ .‬واهلل هو القوي العزيز‪.‬‬

‫‪431‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫شروط احلوار وظروفه‬

‫عدو كائد‬
‫أن العمالق األمريكي ٌّ‬ ‫حيم ْلنا على سوء التقدير وسوء احلكم َّ‬ ‫ال ِ‬
‫ماكر‪ .‬وال حيم ْلنا على االستهانة به أن أمريكا دولة املال واملخدرات واجلرائم واحلضارة‬
‫املادية اآلفلة‪ .‬فإن أفول احلضارات قد يستغرق قـُُرونا‪َّ .‬‬
‫وإن اختزال احلكم يف إطالق‬
‫شعار «الشيطان األكرب» هو كالتصديق باملقالة األمريكية اليت تطلق على الواليات‬
‫املتحدة وصف «مدينة األنوار على رأس الرابية»‪.‬‬

‫يغرننا أن أمريكا أكثر األمم صراخا بأهنا نصري احلرية وحامية حقوق‬
‫وال َّ‬
‫اإلنسان يف العامل‪ ،‬فإهنا أشد األمم عداوة حلرية اآلخرين وحقوق اآلخرين‪ ،‬خاصة‬
‫إذا كان اآلخرون هم املسلمني‪.‬‬

‫إن من شروط احلوار مع عا َل غريب‪ ،‬أمريكي على اخلصوص‪ ،‬ال يؤمن إال‬
‫بالقوة هو أوال وقبل كل شيء أن يكون لنا من ذاتنا‪ ،‬أستغفر اهلل‪ ،‬أن يكون لنا من‬
‫عونه سبحانه وتوفيقه‪ ،‬قوة ذاتية اقتحامية‪ .‬وقد كتبنا بفضله تعاىل يف الباب األول‬
‫من هذا الكتاب كيف نغري ما بأنفسنا حىت يغري اهلل عز وجل ما بنا‪.‬‬

‫ذلك هو شرط الشروط‪ :‬إميان املؤمن املقتحم العقبة العال ُـم بواجبه الديين اجلهادي‬
‫نفسه وجهـده وماله لنصـرة دين اهلل‪ ،‬واثقا‬
‫الباذل َ‬
‫ملنتظم يف مجاعة املسلمني اجملـاهدة‪ُ ،‬‬
‫وبالعامل‪ ،‬ا ُ‬

‫‪432‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫بوعد اهلل ورسوله‪ ،‬مشتـاقا للقائه‪ ،‬موقنا باليـوم اآلخر‪ .‬وإصالح الدولة‪ ،‬وتعلم التكنولوجيا‪،‬‬
‫والتْنمية وإعداد القوة مكاسب الحقة‪.‬‬

‫مث نستبصر يف واجبنا احلـواري وهو الصدع مبا أُمرنا‪ ،‬ورفع صوتنا باستقضاء‬
‫حقنا‪ ،‬وبنصرة املستضعفني‪ ،‬وبالدعوة إىل اهلل والبالغ عنه والبيان للعاملني‪ .‬والصدع‬
‫كما قال اللغوي‪« :‬شق األجسام الصلبة»‪ .‬وإذاً فال بد لنا من تلك القوة الذاتية‬
‫القوية القادرة على الصدع مبا أمرنا‪.‬‬

‫بيننا وبني أمساع اخلَلق‪ ،‬بيننا وبني استخالص حقوقنا‪ ،‬جبهة ِعدائية متمثلة يف‬
‫الدولة اليهودية ر ِ‬
‫أس الرمح ومن ورائها أمريكا زعيمة جملس األمن وقائدة األحزاب‬
‫بعد اهنيار الشيوعيني‪.‬‬

‫جبهة ِعداء لإلسالم ال يكف من غُلَوائها إال قُصور األعداء‪ ،‬وهم العامل‬
‫حدود ُهم السياسية االقتصادية القانونية‬
‫اجلاهلي االستكباري بأسره‪ ،‬عن القدرة‪ ،‬وإال ُ‬
‫اليت سنعود إليها بعد حني إن شاء اهلل ربُّنا‪.‬‬

‫يف اهلند وكـامشري ِعداء سافر مستمر فتاك باملسلمني‪ .‬يف بلغاريا ويوغوسالفيا‬
‫ومجهوريات السوفيت مل ِخي َّ‬
‫ف البالء فيها عن املسلمني إال منذ بداية الربسرتويكا‪ .‬حتررت‬
‫كل اجلمهوريات يف أوربا الشـرقية من نِ ِري الشيوعية إال ألبانيا‪ ،‬ملاذا؟ اجلواب البَديهي هو‬

‫‪433‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ألهنا كانت مسلمة‪ ،‬فيخشى األعداء إن حتررت أن تعود إلسالمها‪ .‬وهي عائدة‪،‬‬
‫نرجو ذلك من ربنا العلي القدير‪.‬‬

‫املسلمون يشكلون األكثرية الساحقة يف مجهوريات جنوب ماكان يدعى باالحتاد‬


‫السوفيايت‪ :‬أذربيجان والكرج (جورجيا) وطاجقستان‪ ،‬وأزبكستان وتركستان وسيربيا‪.‬‬
‫ال يعامل الروس‪ ،‬حىت بعد الربسرتويكا‪ ،‬املسلمني املمركسني املغربني شر غربنة كما‬
‫يعاملون سكان لتوانيا وإستونيا والتفيا النصارى األوربيني‪ .‬ثار هؤالء على احلكم‬
‫املركزي فواجههم الزعيم جرباتشوف باحلوار‪ ،‬وتفادى الصدام املسلح‪ ،‬وقامت‬
‫أوربا على قدم وساق وأمريكا حتتج وتوصي باحلوار وهتدر‪ .‬وثار املسلمون يف‬
‫أذربيجان فكان احلوار معهم بالدبابات واملدافع‪.‬‬

‫ِعداءُ العامل اجلاهلي لإلسالم قضية مكشوفة يشاهدها العا َل على التلفزيون‬
‫منذ ثالث سنوات ي ْقتل فيها أطفال احلجارة‪ .‬قضية مفضوحة ملا تألب العامل على‬
‫الثورة اإلسالمية بإيران‪.‬‬

‫وال ُيفي أحد من أعدائنا كراهيته لإلسالم‪ .‬فالكل يفهم ويعرب عن التوجه‬
‫كانت أمريكا‬
‫اجلديد يف النظام العاملي اجلديد‪ .‬ما توفر من سالح وجهد ومال ْ‬
‫واحللف األطلسي خصصه الحتواء الدب األمحر يوجه من اآلن فصاعدا إىل احتواء‬
‫العدو اجلديد‪ :‬اإلسالم‪.‬‬

‫‪434‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أليف رجع إىل حضن‬
‫ذلك ما عرب عنه الدب األليف جرباتشوف‪ٌ ،‬‬
‫أسرته بعد توحش سبعني سنة‪ ،‬حني قال‪« :‬إن من اخلطإ أن نتوهم أن‬
‫الواليات املتحدة متثل العدو األول لالحتاد السوفيايت‪ .‬إن عدونا األول يف‬
‫احلقيقة هو اإلسالم»‪.‬‬

‫أحق أن يكون حمايدا لوال فُ ُش ُّو الروح‬


‫ويكتب باحث ياباين‪ ،‬وكان اليابان َّ‬
‫العِدائية لنا يف العامل‪ ،‬هذا التحليل املنشور يف جريدة «جابان تاميز» يف طوكيو‪ .‬قال‪:‬‬
‫«هل ميكن لإلسالم أن حيُل حمل الشيوعية كخطر أكرب على الغرب؟»‪ 1 .‬مث يأيت‬
‫الباحث باألدلة التارخيية واملعاصرة اليت تساعد القارئ على اإلجابة القاطعة بنعم‪.‬‬
‫‪-‬ويكشف الكاتب أن الصراع الذي دار سابقا بني الرأمسالية والشيوعية كان جمرد‬
‫احنراف وقيت يف مسرية التاريخ الغريب الطويل‪.‬‬

‫وهكذا يكشف الياباين عن نوايا أعدائنا يف عالقاهتم بنا يف النظام العاملي اجلديد‬
‫ينتهي‪ ،‬كل ما هناك أن حموره قد تغري‪ .‬فحيثما‬ ‫ويكتب‪« :‬إن التاريخ بالقطع لن َ‬
‫منعن النظر من حولنا حبثا عن األخطار والتهديدات على جمتمعاتنا احلرة املتقدمة فإننا‬
‫نكتشف أن مثل هذا اخلطر موجود‪ ،‬وهو اإلسالم»‪.2‬‬

‫ّأما وقد أعطينا لصالبة احلاجز العِدائي أمام إرادتنا لالقتحام والصدع‬
‫حقه من التأمل‪ ،‬فلنرجع إىل ما يف اجلبهة املعادية لنا من ثغرات ومن نقط‬‫َّ‬
‫ضعف‪.‬‬

‫‪ 1‬يوم ‪.8-2-1990‬‬
‫‪ 2‬جريدة «جابان تاميز» يوم ‪.8-2-1990‬‬

‫‪435‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫من الباحثني املستهينني بنصر اهلل‪ ،‬ينصر من يشاء‪ ،‬من يقلل من أمهية‬
‫الفتوحات اإلسالمية على عهد اخلالفة األوىل‪َ ،‬ويـَْع ُزو اهنيار اإلمرباطوريتني الفارسية‬
‫والرومية أمام الزحف اإلسالمي إىل طول مواجهة بينهما ال إىل قوة املسلمني‪ .‬ينظر‬
‫املغربون احملللون إىل القوة املاثلة احلالية ألعداء اإلسالم فيستبعدون أن يكون لإلسالم‬
‫أي مستقبل‪.‬‬

‫فلي ُكن النصر األول راجعا إىل ضعف األعداء الفرس والروم‪ْ ،‬فرضا جناري‬
‫به احمللل املادي‪ ،‬فأين أنت من صنع اهلل عز وجل‪ ،‬بأسباب ظاهرة وبال أسباب!‬

‫‪ .1‬إن كتلة أعدائنا اليوم وغدا هلا‪ ،‬لكل عضـو فيها قدمي وحديث‪ ،‬أليف أو‬
‫متآلف‪ ،‬مصاحلُ متنافرة‪ .‬إهنا كتلة متعددة األقطاب‪ ،‬انفكت ثنائية أمريكا‪-‬السوفيات‬
‫لتحل حملَّها جوقة عاملية مؤلفة من أوربا املتحدة‪ ،‬واليابان وإمرباطورية االقتصاد يف‬
‫احمليط اهلادي التابعة لليابان‪ ،‬والصني‪ ،‬واهلند‪ ،‬والربازيل‪ ،‬واحتاد جنوب شرقي آسيا‪.‬‬
‫بعد من تكتالت إقليمية كل منها تطالب بنصيبها من خريات العامل‪،‬‬ ‫وما يظْ َهُر ُ‬
‫س مستقبل العامل وهتدد استقراره‪.‬‬
‫وحبقها يف مراقبة القرارات اليت متَ ُّ‬

‫من َثَّ التفاف وائتالف‪ ،‬بل تنافس واختالف‪.‬‬

‫‪ .2‬من الثغرات املهمة يف جبهة العِداء لإلسالم أن االستقرار يف العامل‪ ،‬وهو‬


‫ب الكل ومصلحة الكل وضرورة الكل‪ ،‬ال ميكن ضمانه إال بتسيري شؤون‬
‫مطلَ ُ‬

‫‪436‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫العامل يف قنوات قانونية دولية‪ .‬وإال أصبح العامل غابة ضارية‪ .‬هذه القانونية الدولية‬
‫ِّل ميلَها‪.‬‬
‫حنورها ونعد َ‬
‫مصلحتنا وضرورتنا‪ ،‬نسلك معها شوطاً حىت ِّ‬

‫‪ .3‬من أهم الثغرات وأهم دوافع العامل ودوافع املسلمني إىل احلوار ال إىل‬
‫التصارع حاجة العامل وحاجة املسلمني إىل االستفادة من النفط‪ .‬النفط اآلن لعنة‬
‫على سالطني العرب‪ ،‬وغدا إن شاء اهلل‪ ،‬وملدة قرن أو قرنني واهلل أعلم‪ ،‬يكون‬
‫الز َاد والوسيلةَ إلخراجهم من دائرة التخلف االقتصادي العلمي التقاين‪.‬‬
‫للمسلمني ّ‬

‫‪ .4‬من أهم الثغرات يف جبهة األعداء أن القر َار السياسي عندهم ليس‬
‫إمالء من جهة واحدة‪ ،‬وهذا إجيابية من إجيابيـات الدميوقراطية دين العامل اجلديد‪.‬‬
‫ويشارك يف القرار مديرو األبناك والشركات الكربى‪ .‬وهؤالء صديقهم الربح‪،‬‬
‫ب إليهم الَ أن حياربوا‪ .‬والنفط عصب‬‫واملسلمون مليار زبون جيب أن يـُتَ َحبَّ َ‬
‫أسعاره‪.‬‬
‫ُ‬ ‫االقتصاد العاملي جيب أن تستقر األمور عند املسلمني لتستقر‬

‫‪ .5‬بانتهاء احلرب الباردة بني العمالقني انتهى عهد دعم الدكتاتوريات الصديقة‬
‫املوالية بال شرط‪ .‬وتعلَّ َم العمالقان من زلزال أوربا الشرقية أن ال قرار حلكم استبدادي‪.‬‬
‫كان سقوط الشاه درسا استوعبته أمريكا‪ .‬واستوعبت أيضا أن إيران الثورة تتمتع بنظام‬
‫يدعمه الشعب‪ .‬فأعداء اإلسالم مل يعودوا مستعدين للتعامل‬
‫إسالمي مستقر ُحٍّر َ‬
‫مع األنظمة االستبدادية‪ .‬ال شك أهنم سيحاولون إفشال كل حماولة إلقامة حكومة‬

‫‪437‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫قناتا ويتأكدوا من قوة بنياهتا سريجعون إىل‬ ‫إسالمية حرة‪ ،‬لكنهم بعد أن ِ‬
‫يغمزوا َ‬
‫ِخ ِ‬
‫طبة ُوّدها كما نراهم يفعلـون مع إيران بعد اإلمام اخلميين رمحه اهلل‪.‬‬

‫‪ .6‬من الظروف املسعفة للحوار بدل الصـراع املوجةُ الدميوقراطية اجلديدة‬


‫يف العامل‪ .‬وإن الدميوقراطية واللربالية االقتصادية وتعدد األقطـاب تفتح لنا األبواب‬
‫ُمرتعة لالتصال واملساومة يف السوق االقتصادية التنافسية‪ ،‬كما تفتح لنا آذان اخللق‬
‫عجزنا عن‬
‫صدُّنا عن الصدع إال ُ‬
‫األحرار إلبالغ كلمتنا والصدع ببالغنا وبياننا‪ .‬ال يَ ُ‬
‫اقتحام احلصار اإلعالمي‪ .‬وال مينعنـا من املساومة يف السوق اللربالية إال أن يسكننا‬
‫وجود له‪.‬‬
‫التخوف من «بعبع» ُم َو َّحد فتاك ال َ‬

‫‪ .7‬أ ُّ‬
‫ُس الدميوقراطية ومضموهنا هو حقوق اإلنسان‪ .‬ال نقبَ ُل أبدا من هذه‬
‫احلقوق ما يصطدم بشرعنا احلنيف‪ .‬فيما عدا هذا فنحن مع إكرام اإلنسان ومع‬
‫املنظمات اإلنسانية الساعية إلكرام اإلنسان‪ ،‬ومع نصر األمم املتحدة يف جهودها‬
‫إلكرام اإلنسان‪ .‬هذا من املعطيات األساسية يف العصر‪ ،‬ومن احلجج ِض َّد األعداء‪.‬‬

‫‪ .8‬من وراء القانونية الدولية‪ ،‬ومن وراء الدميوقراطية‪ ،‬الذي يقرر َ‬


‫آخر املطاف هو‬
‫املصلحة وال شيء غريُ املصلحة‪ .‬سياسة األمر الواقع (ريالبولتيك) هي السياسة‪ ،‬واملبدئية‬
‫والقانونية هلما مرونتُهما‪ْ ،‬أو يـُْق َسر ِان عليها مىت تعارضتا مع املصلحة‪ .‬مصلحة العامل أن جيد‬

‫‪438‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وسيلة للحوار مع مليار مسلم هم يف ظروف الوعي مبا يفرضه عليهم دينُهم من‬
‫وحدة‪ .‬وهلل عاقبة األمور‪.‬‬

‫‪439‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫قضايا للنقاش‬

‫صدعوا مبا يؤمرون آجال إلعداد القوة‪.‬‬


‫بني أن يُسمع للمسلمني صوت وأن يَ ْ‬
‫يقوْون فقط ويستجمعون القوة‬
‫يوم َ‬
‫صوُتم اآلن متتمة عاجزة يف مؤخرة األحداث‪َ .‬‬
‫يكونون مؤهلني للمشاركة الفعالة يف اختاذ القرارات احلامسة يف مستقبل اإلنسانية‪.‬‬
‫يُتخذ القرار اآلن وهم حاضرون كالغائبني يف قضايا يتناقَش فيها كبار العامل مثل‬
‫السالم واحلرب‪ ،‬وتوزيع العمل بني دول الشمال ودول اجلنوب‪ ،‬وتوزيع الثروة‪،‬‬
‫والغِذاء‪ ،‬وإنتاجه‪ ،‬وأسعار املواد اخلام‪ ،‬واألخطار احمليطة بالبيئة واملهددة ملستقبل‬
‫األجيال البشـرية رمبا أكثر من هتديد االنفجار النووي‪ ،‬وارتفاع درجة احلرارة يف‬
‫حميط الكوكب من تبعات التصنيع املعمم‪ ،‬واخنراق طبقة األزون احلامية‪ ،‬وسوء‬
‫استعمال الطاقة‪ ،‬واإلسراع إىل الربح الناجز الذي يضيع على املستضعفـني الطاحمني‬
‫ويرعهم الغصص‪.‬‬
‫يف التنمية الفرص ُ‬
‫ِ‬
‫اإلنسان وتفاقم الفجوة بني األغنياء والفقراء‪ .‬قضايا حتتاج‬ ‫آفات تلويث البيئة وظلم‬
‫أن تناقش وحتل بأخالقيةكوكبية ُتزُّم النـزوات االستغـاللية الرأمسالية وتنشر العدل والسالم‪.‬‬
‫حقوق اإلنسان ِ‬
‫املعلنة ال ُـم ْخلَقة‪ ،‬وإمنا يلدها طموح عال ال تشغله‬ ‫رحم ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫أخالقية الَ تَل ُدها ُ‬

‫‪440‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫قضايا الساعة وتطور العامل السريع املذهل عن الطموح للحق‪ ،‬عن الطموح هلل وللدار‬
‫َن اللَّهَ ُهو ال َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ‬
‫ين﴾‪.1‬‬‫ْح ُّق ال ُْمب ُ‬ ‫َ‬ ‫اآلخرة‪﴿ .‬يـَْوَمئذ يـَُوفِّي ِه ُم اللَّهُ دينـَُه ُم ال َ‬
‫ْح َّق َويـَْعلَ ُمو َن أ َّ‬

‫بعضهم مع بعض قضايا حتتاج ملناقشة متأنية صابرة على‬ ‫وفيما بني املسلمني ِ‬
‫االختالف‪ٍ ،‬‬
‫فاحتة باب التسامح لالجتهاد‪ ،‬منها السياسيَّةُ احلركيَّةُ مثل القطرية‬
‫مثل حتديد ما معىن السنة وما معىن‬ ‫والعالَمية ومن أين نبدأ البناء‪ ،‬ومنها الفقهية ُ‬
‫البدعة وكيف نعامل املسلمني أمبنطق التشديد والتكفري أم مبنطق الدعوة باحلكمة‪،‬‬
‫ومنها احلِ َك ِميَّةُ مثل التدرج يف تطبيق الشريعة‪ ،‬ومنها املبدئية الع َقدية مما يشتغل به‬
‫متكلمو العصر الناظـرون يف كتب اخلـالف‪ ،‬ومنها األساسية املصريية مثل العدل‬
‫والشورى والوحدة‪.‬‬

‫ولعل شبح سقوط الدولة العثمانية خييم على خيال الناس من حولنا‬
‫وعلى خيال الكثريين منا فيحول دون احلوار املثمر بيننا وبني الالييكيني‬
‫ويوطِّ ُد‬
‫الذين يرون فينا امتدادا لظل الدولة العثمانية اليت عاىن العرب ظلمها‪َ .‬‬
‫اهتامهم ما يقرأون من إشادة بعضنا «باخلالفة» العثمانية واألموية والعباسية‪،‬‬
‫َ‬
‫وما يراقبونه من امتداد أيدي الكثريين ألموال سالطني النفط ورثة العض‬
‫واجلرب‪.‬‬

‫ُّول العاضة املنحرفة يف تارخينا حيول دون التفاهم واحلوار املثمر يان ِع‬
‫شبح الد َ‬
‫الثمار بيننا وبني إخواننا الشيعة‪ .‬تثور ثائرهتم عندما يلمسون من بعضنا انضواء تكتيكيا‬
‫‪ 1‬سورة النور‪ ،‬اآلية ‪.25‬‬

‫‪441‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫حسام الطائفية ليقاتلوا‬
‫َ‬ ‫فرضته الظروف حتت لواء السالطني املتسلطـني‪ ،‬فينتضون‬
‫يزيدات العصر ويقاتلوا معهم اإلسالميني املنضويني وغري املنضوين‪ ،‬يطعنون يف أهل‬
‫السنة واجلماعة «العامة»‪ ،‬سائرين على درب التشيع التقليدي‪.‬‬

‫العيب يف إخوتنا الشيعة ومن جانبهم‪ ،‬لكن العيب من جـانبنا أيضا‪،‬‬


‫وليس ُ‬
‫من جانب سالطني العض قارونات العصر ويزيداته الذين ينفقـون أموال املسلمني‬
‫وحنَق ال َـم ْوتورين لتـُْن َشـر كتب الثلب يف الشيعة‪ ،‬ولتُح َفَر اخلنادق‬
‫بسخاء املبذرين َ‬
‫بيننا وبينهم‪ ،‬ولتُشعل نار الفتنة‪ .‬وهكذا جيتـَُّر الكتبة اخلالف القروين وينظرون يف‬
‫الوقيعة بني املسلمني‪ ،‬وليلتحموا َمع الشيعة يف نزال‬
‫كتب الطعن على الروافض ليبثوا َ‬
‫دائم بعثوه من القبور‪ ،‬ونفخوا فيه البغضاء املتجددة فنعتوا الشيعة باجملوسية ومحلوا‬
‫لواء القومية العنصرية مع صدام القومي خادم الصليبية باألمس القريب ِ‬
‫وحليفها يف‬
‫«قادسيته»‪.‬‬

‫صفحات كاحلة من تارخينا وتاريخ التشيع كان األوىل بالثورة اإلسالمية اإليرانية‬
‫أن تطويَها من موقع القوة و َّ‬
‫متد يَ َد التعاون مع الصادقني نابذة اخلصوصية الطائفية‪.‬‬
‫لكن إخواننا يف نشوة االنتصار عانقوا طائفيتهم ومحلوا مشعل «تصدير الثورة»‪،‬‬
‫يقصدون بتصدير الثورة تصدير بضاعة الطائفية ملفوفة يف ثياب الثورة على خلفاء‬
‫يزيد‪ .‬وهكذا اشتغلوا بتصفية احلسابات املتأخرة مع معاوية ويزيد‪ ،‬وأثاروا حفيظة‬
‫كثري من اإلسالميني الذين صفقوا للثورة‪ .‬حبماس‪ ،‬مث غشيتهم احلرية ملا أسفرت‬
‫الثورة عن وجه طائفي‪.‬‬
‫‪442‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يف نسيجنا الغثائي العميق‪ ،‬ما بني سنة وشيعة‪ ،‬جراثيم الفرقة املعششة مع‬
‫عناكب التقليد‪ .‬فحوارنا مع بعضنا بعد الثورة اإليرانية واحلرب البعثية العدوانية يكاد‬
‫يكون أشبه بالصراع بني الوثنية واإلسالم‪ .‬وقد آن أن يفهم إخواننا الشيعة عن‬
‫تصدير الثورة‬
‫ُ‬ ‫قد ُره‪ ،‬بكسب البعث النكري‪ ،‬أن يقف‬
‫اهلل العزيز احلكيم الذي شاء َ‬
‫ليلتمس املسلمون سبيال للتحاور والنقاش والتفاهم غري سبيل التعصب الطائفي‪.‬‬

‫ولئن كان من َحَلة األقالم من َغمس ريشته يف مداد الكراهية الصرفة‪ ،‬وأكل‬
‫ي الشيعة املنتصرين‬ ‫ِ‬
‫من موائد يزيدات العصر‪ ،‬فإن من علمائنا األفاضل من أنكر متاد َ‬
‫يف استفزاز مشاعر إخواهنم‪ ،‬خاصة يف تقديس األئمة عليهم السالم ويف الطعن‬
‫الشنيع على الصحابة رضي اهلل عنهم‪.‬‬

‫مضى زمن التوهج الثوري مع اإلمام اخلميين رمحه اهلل‪ ،‬ونرجو أ ْن قد جاءت‬
‫احلكمة والتبصر ليتعامل الشيعة معنا برفق األخـوة والتغاضي عن أسباب اخلالف‬
‫كما تعلمت دولتهم بعد عشر سنـوات من الصدام مع «الشيطان األكرب» السعي‬
‫إىل تعامل دويل معتدل‪.‬‬

‫إن كان الشيعة‪ ،‬وهم املؤمنون باهلل وباليوم اآلخر‪ ،‬يطيب هلم أن يل َق ْوا رهبم عز‬
‫وجل ويف صحائفهم سب الصحابة رضي اهلل عنهم فذلك شأهنم‪ .‬وال شأن لنا حنن‬
‫بتقديسهم آلل البيت عليهم السـالم الذين نعترب حمبتهم وتعظيمهم دينا من الدين‬
‫شريطة أن ال يستفزونا وأن يكتمـوا ما َثَّ ِمن ُمَلَّفات الش ْ ِ‬
‫َّي وحواشي البـَْ ِ‬
‫ي‪.‬‬

‫‪443‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫مثل الشيخ أيب احلسن الندوي ليعرب عن استيائه‪ ،‬وهو‬
‫ب عامل ُ‬
‫عندما ُيه ّ‬
‫َمن هو استقالال وإخالصا‪ ،‬إخالصا على كل حال واعتداال‪ ،‬فمن واجبنا وواجب‬
‫الشيعة أن يستمعوا لصوت معتَدل ال يكفر‪ ،‬لكن يعتِب عتابا شديدا‪ .‬نرجو أن ال‬
‫تد عن تبليغ إخوتنا الشيعة ما نُ ِكنُّهُ من إشفاق على مستقبل وحدة‬
‫تنبو اللهجة وتر َّ‬
‫املسلمني‪.‬‬

‫قال الندوي يف كتابه «صورتان متضادتان» يعدد بعض مآخذه على الشيعة‪:‬‬
‫«مفاد هذه املعتقدات أن مجاعة الصحابة الكرام رضي اهلل عنهم اليت بلغ عددها‬
‫يف حجة الوداع فقط إىل أكثر من مائة ألف صحايب‪ ،‬ما بقي منهم على اإلسالم‬
‫إال أربعـة فقط بعدما حلق النيب صلى اهلل عليه وسلم بالـرفيق األعلى‪ .‬أما غريُ هؤالء‬
‫األربعة فكلهم سلكوا مسلك الردة ‪-‬والعيـاذ باهلل‪ -‬والقرآن حمرف بكامله‪ ,‬وكان أئمة‬
‫ِِ‬
‫ني للحق‪ ،‬ومغيِّبِ َ‬
‫ني‬ ‫أهل البيت (من ِوجهة التقيـة اليت تُعتَبـَُر واجبا دينيا وعزمية) كات َ‬
‫‪1‬‬
‫للقـرآن بعيدا عن كل خوف وخطر‪ ،‬ويلقنون أتباعهم ذلك»‪.‬‬

‫نظر الشيخ الندوي يف كتب الشيعة فكتب بغَريته‪ .‬وهو الرجل اجملاهد يف امليدان‪،‬‬
‫فيق احلكيم‪ ،‬الذي حياور اهلندوس يف حمافل مجعيته «مستقبل اإلنسانية» إبْقاء على‬
‫الر ُ‬
‫األقلية املسلمة املضطهدة يف اهلند‪ .‬رجل حياور أجنس اخللق اهلندوس ما كان ليضيق‬
‫حبوار إخوة ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل لوال تنطع «تصدير الثورة» أي تصدير التشيع‬

‫‪ 1‬ص‪ 117‬مطبعة الكلمة ‪.1405‬‬

‫‪444‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وتعليم أبناء املسلمني االستخفاف بالصحابة‪ .‬وإن االستخفاف بالصحابة تكذيب‬
‫للقرآن الكرمي الذي شهد للمهاجرين واألنصار أعظم الشهادات‪ .‬وليس األنصار‬
‫واملهاجرون فقط البضعة عشر رجال الذين َسلِموا من طعون الشيعة‪.‬‬

‫وثورتم اجمليدة‪ ،‬ما‬ ‫مث إن العامل السياسي الذي دفع بالشيعة إىل قُد ِ‬
‫َّام املسرح‪َ ،‬‬ ‫َ‬
‫كان هلا أن َتوظَّف جللب محاس الشباب السين‪ .‬لوال دعا املنتصرون شبابنا ملنافسة‬
‫بدل أن يدعوهم لنبذ عقيدهتم حبجة أهنا‬
‫احلماس والتفاين عند اجملاهدين السنة َ‬
‫العقيدة املعلنة ليزيدات العصر! لوال! لوال!‬

‫الندوي وأمثاله من رجال الدعوة الغيورين املشفقني تكلموا وكتبوا‬


‫َّ‬ ‫لعل الشيخ‬
‫من خنادق اجلهاد املشرتك يريدون تصويب الطلقات إىل حنور األعداء ال حتريفها إىل‬
‫عقائد األَ ِوَّداء‪ .‬من حرارة املواجهة كتبوا وتكلموا‪ .‬واآلن بعد مهود نار الثورة ومخودها‬
‫نلتمس وإخوتنا الشيعة‬
‫َ‬ ‫تفرض احلقائق الباردة‪ ،‬وتفرض احلكمة‪ ،‬ويفرض الدين أن‬
‫مسلكا للحوار اهلادئ‪.‬‬

‫كان بَ َدأَ هذا احلو َار منذ ستني سنة ويزيد مجاعةٌ من علماء الفريقني ساهم األستاذ‬
‫حسن البنا رمحه اهلل يف جهودهم‪ .‬ومن موقع الفقيه النـزيه اهلـادئ الذي ال ينظر يفكتب‬
‫ِّد النظرة املستقبلية يكتب الشيخ أبو زهرة رمحه اهلل عشر سنوات قبل‬
‫اخلالف إال ليُسد َ‬
‫الثورة هذه الكلمات الرفيقـة اليت تعكس حسن مواتاة ما بدأه حس البنا وأصحابه رمحهم‬

‫‪445‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫اهلل‪ .‬قال أبو زهرة‪« :‬نقول مع األسف الشديد‪ :‬إن اخلالف الطائفي يشبه أن يكون نزعة‬
‫عنصـرية‪ .‬وإن الذين يريدون الكيد للمسلمني يتخذون من ذلك منفذا ينفذون منه إىل‬
‫صفوفه ليـَُقطِّعوا الوحدة اإلسالمية‪ .‬فيجب أن نسد الطريق أمامهم»‪.‬‬

‫وقال رمحه اهلل‪« :‬إن اخلالف بني الطوائف ليس يف أم ِر ما يتصل بعقيدة‬
‫التوحيد وبشهادة أن ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم‪ ،‬وال‬
‫باألصول اليت تُعتبـَُر لُب الدين كالصالة والصوم واحلج والزكاة وغريها مما جاء به نص‬
‫مسائل تتعلق باللب‪ ،‬وإن َّادعت‬
‫َ‬ ‫وجل اخلالف الطائفي ليس يف‬
‫القرآن الكرمي‪ُ .‬‬
‫بعض الطوائف أهنا من اللب»‪.‬‬

‫وقال رمحه اهلل‪« :‬لسنا نقصد حمق الطائفية وإدماج املذاهب اإلسالمية يف‬
‫مذهب واحد‪ .‬فإن ذلك ال جيوز‪ ،‬ولو جاز ال يكون عمال ذا فائدة‪ ،‬ألن إدماج‬
‫املذاهب يف مذهب واحد ليس عمال علميا عند العلمـاء‪ .‬فإن لكل مذهب جمموعة‬
‫من املعلومات أقيمت على مناهجه‪ ،‬تتجه يف جمموعها إىل النصوص اإلسالمية‬
‫والبناء عليها‪ .‬هو مثرات ٍ‬
‫جهود ألكابر العلماء يف كل مذهب‪ .‬وكل إدماج فيه إفناء‪،‬‬
‫وليس من املصلحة العلمية يف شيء إفناء تلك اجلهود الفكرية اليت قامت يف ظل‬
‫‪1‬‬
‫القرآن والسنة الثابتة»‪.‬‬

‫وينتهي الشيخ الفقيه املتبحر رمحه اهلل إىل الدعوة لنبذ الصراع الطائفي حىت ال‬
‫اجلعفري خامس املذاهب اإلسالمية‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫يبقى إال التنوع املذهيب‪ ،‬يكون املذهب‬
‫‪ 1‬كتاب «الوحدة» دار الرائد العريب ص‪ 275‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪446‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫والسؤال الذي أمام مستقبل احلوار السين الشيعـي هو مدى استعداد الفريقني‬
‫للتغاضي والسكوت عن كل ما يفرق‪ ،‬حيتفظ املتحاورون‪ ،‬يف جمالس احلوار ويف‬
‫ٍ‬
‫خبصوصيات صنعها التاريخ ريثما يعيد اجلميع النظر‬ ‫الدعوة املوجهة عرب احلدود‪،‬‬
‫يف املرحلة التأسيسية اليت مل يكن فيها بني اإلمام علي كرم اهلل وجهه وبني معاوية‬
‫وأنصاره أي خالف البتَّةَ يف العقيدة وال يف الفقه‪ .‬ريثما نكشف مجيعا جذور البالء‬
‫لنقلعها‪.‬‬

‫واهلل احلكيم يؤيت احلكمة من يشاء‪ .‬سبحانه‪.‬‬

‫‪447‬‬
‫الفصل السادس‬
‫مع املستضعفني‬

‫* املستضعفون واملستكربون‬
‫* يف سبيل اهلل واملستضعفني‬
‫* اآللة االستكبارية‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫املستضعفون واملستكربون‬

‫يتمتع إخواننا الشيعة بإحساس ُمرهف يف حق املستضعفني واملظلومني‪ِ .‬ولَ ال‬


‫الؤهم مطلق إلمام الزاهدين وقدوة العادلني موالنا علي كرم اهلل وجهه‪ ،‬ولوعتهم‬
‫وو ُ‬
‫َ‬
‫عميقة على املظلوم األعز موالنا احلسني عليه السالم!‬

‫لكن يا ليتهم! يا ليت! يا ليت! يقتبسون َشَّةً من تسامح اإلمام كرم اهلل وجهه‬
‫ص ُدوِرِهم ِّم ْن ِغ ٍّل إِ ْخ َواناً َعلَى‬ ‫ِ‬
‫الذي قال تعليقا على اآلية الكرمية‪َ ﴿ :‬ونـََز ْعنَا َما في ُ‬
‫ِِ‬
‫ين﴾‪ ،1‬قال‪ :‬أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبري منهم‪ .‬ليتهم! ليت! ليت!‬ ‫ُس ُرٍر ُّمتـََقابل َ‬
‫يكفون عن سخافاهتم يف حق أم املؤمنني وقد أكرم اإلمام عليه السالم مقامها بعد‬
‫وقعة اجلمل وشرفها خبدمته الشخصية‪.‬‬

‫بد َر بني الصحابة رضي اهلل عنهم بـالءٌ ما هو عبث‪ .‬ومن السقوط‬
‫ذلك الذي َ‬
‫يف البالء مداومة تنزيف ذلك اجلرح األليم واشتقاق سلوك األجيال من أكداره‪.‬‬

‫إن اهلل عز وجل يبتلي العباد بالقبض والبسط‪ ،‬وكل شيء عنده مبقدار‪ ،‬وما‬
‫حد ٍ‬
‫ث َج َّل أو قَ َّل إال وله مغزى ومعىن كوين وجودي دنيوي أخروي‪.‬‬ ‫من َ‬

‫‪ 1‬سورة احلجر‪ ،‬اآلية ‪.47‬‬

‫‪451‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ي هو الذي يعطي لل َق َـدر اإلهلي أدبَه‪ ،‬ولسعي العباد ومسؤوليتهم‬ ‫واإلميان الس ِو ُّ‬
‫حقهما‪ ،‬يف توازن وتعادل وحكمة‪﴿ .‬أَفَ َح ِس ْبتُ ْم أَنَّ َما َخلَ ْقنَا ُك ْم َعبَثاً َوأَنَّ ُك ْم إِلَيـْنَا َل‬
‫تـُْر َجعُو َن﴾‪.1‬‬

‫من بالئه عز وجل التفاوت بني العباد يف األرزاق والقسمة يف الدنيا‪ .‬إن كان‬
‫املادي‪ ،‬مثل ماركس مثال‪ ،‬يتصفح التاريخ البشري ليـَُرِّك َ‬
‫ب تفسرياً آلليات التظامل‬
‫الطبقي‪ ،‬أصاب أو أخطأ‪ ،‬فاملؤمن يهتم قبل التحليل التارخيي األرضي ِبعرفة املعىن‬
‫ملا جيري‪.‬‬

‫وآباؤهم يف النصف اجلنويب من األرض‪،‬‬


‫ملاذا خلق اهلل البشر الذين استجـابوا ُ‬
‫فيه اجلدب والفقر؟ ملاذا فتح أبواب كل شيء على الكافرين وضاقت األسباب‬
‫وص ْدفةٌ؟ أم دورة تارخييـة بني مد وجزر ال معىن هلا؟‬
‫أعبث ذاك ُ‬
‫األرضية باملسلمني؟ ٌ‬
‫كال واهلل! فالبالء يف الدنيا واحلكمة‪ ،‬كشفها لنا أو ال‪ ،‬هي سنته تعاىل يف‬
‫وتداول النصر واهلزمية‪ ،‬واملوقع اجلغرايف للمسلمني‪ ،‬والنفط‪ ،‬وكل ما‬
‫الكون والتاريخ‪ُ ،‬‬
‫يتحرك أو يسكن‪ .‬وُك ْن بعد ذلك ذكيا لبيبا لتفسـر جريان األسباب ما شئت‪.‬‬

‫ش ْي ٍء ِّم َن‬‫يبتلي اهلل عز وجل املسلمني بالفقر‪ .‬قال جل وعال‪َ ﴿ :‬ولَنَبـْلُ َونَّ ُك ْم بِ َ‬
‫ين إِ َذا‬ ‫الصابِ ِر َّ ِ‬ ‫س والثَّمر ِ‬ ‫ِ‬
‫ين الذ َ‬ ‫ش ِر َّ َ‬ ‫ات َوبَ ِّ‬‫ص ِّم َن األ ََم َوال َواألن ُف ِ َ َ َ‬ ‫ْجوِع َونـَْق ٍ‬ ‫الْ َخ ْ‬
‫وف َوال ُ‬
‫اجعو َن﴾‪ .2‬يبتليهم بالرزايا لريجعوا إليه عبيدا مطيعني‬ ‫صيبةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّ ِه وإِنَّـا إِلَْي ِه ر ِ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َصابـَتـْ ُهم ُّم َ‬
‫أَ‬
‫‪ 1‬سورة املؤمنون‪ ،‬اآلية ‪.115‬‬
‫‪ 2‬سورة البقرة‪ ،‬اآليتان ‪.155-156‬‬

‫‪452‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫متضرعني‪ .‬ويبتلي الكافرين بالثروة والقوة فيطغَ ْون ويستكربون يف األرض بغري‬
‫ِِ ِ ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫سارِعُ لَ ُه ْم‬ ‫سبُو َن أَنَّ َما نُم ُّد ُهم به من َّمال َوبَن َ‬
‫ين نُ َ‬ ‫احلق‪ .‬قال جل جالله‪﴿ :‬أَيَ ْح َ‬
‫نسا َن لَيَطْغَى أَن‬ ‫فِي الْ َخيـر ِ‬
‫ات بَل َّل يَ ْشعُ ُرو َن﴾‪ .1‬وقال سبحانه‪َ ﴿ :‬ك َّل إِ َّن ِْ‬
‫ال َ‬ ‫َْ‬
‫استـَغْنَى﴾‪.2‬‬
‫َّرآهُ ْ‬

‫«الدنيا سجن املؤمن وجنة الكافر»‪ .‬حديث رواه مسلم وغيـره عن أيب هريرة‬
‫رضي اهلل عنه‪ .‬هذا هو األصل واملعىن‪ .‬وعلى املؤمن‪ ،‬وعلى املسلمني‪ ،‬أن يقاوموا‬
‫ظلم املستكربين وعلوهم يف األرض ليكسبوا رضى اهلل عز وجل‪ ،‬ال أن يستكينوا‬
‫للواقع كما جتر إىل ذلك العقيدة اجلربية اليت فعلت باألمة األفاعيل‪ .‬والرجل من‬
‫قسم‬
‫يقاوم ال َق َد َر بال َق َدر كما يقول الشيخ عبد القادر اجليلي رمحه اهلل‪ .‬هو سبحانه َ‬
‫نقاوم ما يتظامل العباد ويطغَ ْو َن‪ .‬وحيكم ما يريد‬
‫األرزاق قَ َدراً‪ ،‬وهو سبحانه أمرنا أن َ‬
‫فيهم فيظهر من النتائج يف الدنيا واآلخرة ما استحق هؤالء وهؤالء‪.‬‬

‫ْحيَ ِاة ُّ‬


‫الدنـْيَا َوَرفـَْعنَا‬ ‫قال جلت عظمته‪﴿ :‬نَحن قَسمنَا بـيـنـهم َّم ِعي َ ِ‬
‫شتـَُه ْم في ال َ‬ ‫ْ ُ َ ْ َ ْ َُ‬
‫ك َخيـٌْر ِّم َّما‬ ‫ض ُهم بـَْعضاً ُس ْخ ِريّاً َوَر ْح َم ُ‬
‫ت َربِّ َ‬ ‫ات لِيت ِ‬
‫َّخ َذ بـَْع ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ض ُه ْم فـَْو َق بـَْع ٍ‬
‫ض َد َر َج َ‬ ‫بـَْع َ‬
‫الر ْح َم ِن لِبـُيُوتِ ِه ْم ُس ُقفاً‬ ‫يجمعو َن ولَوَل أَن ي ُكو َن النَّاس أ َُّمةً و ِ‬
‫اح َدةً لَ َج َعلْنَا لِ َمن يَ ْك ُف ُر بِ َّ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ْ َُ َ ْ َ‬

‫‪ 1‬سورة املؤمنون‪ ،‬اآليتان ‪.55-56‬‬


‫‪ 2‬سورة العلق‪ ،‬اآليتان ‪.6-7‬‬

‫‪453‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫َّة ومعارِج َعلَيـها يظْهرو َن ولِبـيوتِ ِهم أَبـواباً وسرراً َعلَيـها يـت ِ‬
‫َّك ُؤو َن َوُز ْخ ُرفاً َوإِن‬ ‫ٍ‬
‫ِّمن فَض َ َ َ َ َْ َ َ ُ َ ُُ ْ َْ َ ُ ُ َْ َ‬
‫ين﴾‪.1‬‬ ‫ك لِل ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ْحيَ ِاة ُّ‬ ‫ُك ُّل َذلِ َ‬
‫ْمتَّق َ‬
‫الدنـْيَا َو ْالخ َرةُ عن َد َربِّ َ ُ‬ ‫ك لَ َّما َمتَاعُ ال َ‬
‫يبسط الرزق سبحانه ملن يشاء ِ‬
‫ويقدر‪ ،‬وبسطه ألبناء الدنيا أصل من ِ‬
‫أصل سنته‬
‫اجلهاد يف سبيل اهلل واملستضعفني أصل من‬
‫َ‬ ‫يف اخللق وابتالئِهم وامتحاهنم‪ .‬كما أن‬
‫القدري وأمره‬ ‫اجلمع يف نظرة واحدة‪ ،‬ال تـَنَاقُ َ‬
‫ض‪ ،‬بني أمره الكوين َ‬ ‫أصول شرعه‪ .‬احلكمة ُ‬
‫ت يف َج ِْبية‬
‫ت ال َق َدَر‪ ،‬ومخُْل َ‬ ‫الشرعي اجلهادي‪ .‬وما يـُلَ َّقاها إال ذو حظ عظيم‪ .‬وإالَّ ْ‬
‫اهتم َ‬
‫عاجزة أو متردت يف قَ َدريّة مارقة‪.‬‬

‫فت املوىل سبحانه أبناء الدنيا بزهرة الدنيا‪ ،‬فيـَْن َكبُّون عليها ويقولون‬ ‫يِ‬
‫َ‬
‫كما حكى عنهم الذكر احلكيم‪﴿ :‬نَ ْح ُن أَ ْكثـَُر أ َْم َوا الً َوأ َْوَلداً َوَما نَ ْح ُن‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ب ُم َع َّذ بين َوَما نَ ْح ُن ب ُم َع َّذ ب َ‬
‫ين ﴾‪.2‬‬

‫أول مظهر من مظاهر االستكبار األنـََفةُ ِم ْن عبـادة اهلل عز وجل‪.‬‬ ‫ويكون َ‬


‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫عَّزة واستكبار هنا جزاؤمها الذل والعذاب هنـاك‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن الذ َ‬
‫ين‬
‫ِ‬ ‫يستَ ْكبِرو َن َعن ِعب َ ِ‬
‫ب املستكربون‬ ‫َّم َداخ ِر َ‬
‫ين﴾ ‪ .‬ويُ َك ِّذ ُ‬ ‫ادتي َسيَ ْد ُخلُو َن َج َهن َ‬
‫‪3‬‬
‫ْ َ‬ ‫َْ ُ‬
‫آيات اهلل‪ ،‬ويدفعون يف صدر رسل اهلل‪ ،‬ويظلمون عبـاد اهلل املستضعفني‪ .‬إن‬
‫‪ 1‬سورة الزخرف‪ ،‬اآليات ‪.35-31‬‬
‫‪ 2‬سورة سبأ‪ ،‬اآلية ‪.35‬‬
‫‪ 3‬سورة غافر‪ ،‬اآلية ‪.60‬‬

‫‪454‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ت بعضهم إلنكار احلق ووجود اهلل والدار اآلخرة فلسفةٌ دهرية‪ ،‬أو تقليد‬
‫دفـََع ْ‬
‫ملا كان عليه اآلباء‪ْ ،‬أو تعليم يف الطاحون اإلحلادي‪ ،‬فغالب ما مينع أبناء‬
‫الدنيا من العبودية هلل عز وجل تَ َس ْربـُلُهم يف أنانيتهم واستكبارهم‪ .‬قال جل‬
‫استَ ْكبـَُرواْ َعنـَْها أ ُْولَـَئِ َ‬ ‫َّ ِ‬
‫اب النَّا ِر ُه ْم‬
‫َص َح ُ‬
‫كأ ْ‬ ‫ين َك َّذبُواْ بِآيَاتِنَا َو ْ‬
‫وعال‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫فِ َيها َخالِ ُدو َن﴾ ‪.1‬‬

‫يتقمصون األنانية املستكربة‪ ،‬أو تتقمصهم‪ ،‬فيتأهلون ِّ‬


‫ويؤلُـون هواهم ومتاعهم‬
‫فيسع ْون يف األرض فسادا‪ ،‬ينازعون اهلل عز وجل أوصاف الربوبية‬
‫وبضاعتهم وقوهتم‪َ .‬‬
‫ِ‬
‫فيقص ُمهم هنا إن شاء بأيدي املستضعفني القائمني باحلـق‪ ،‬ويدَّخر هلم عذاب‬
‫اآلخرة وهواهنا‪ .‬روى مسلم وأبو داود عن أيب سعيد وأيب هريرة أن رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم قال‪ :‬قال تعاىل‪« :‬الكبـرياء ِردائي والعظمة إزاري‪ .‬فمن نازعين واحدا‬
‫منهما قذفته يف النار»‪ .‬اللفظ أليب داود هنا‪.‬‬

‫يبدأ النزاع والظلم من جانب املستكربين على عهد الرسل عليهم السالم‪،‬‬
‫ويشتد النزاع والظلم كلما جتددت الدعوة كما هو الشأن يف مقاومة املغربني والعا ِمل‬
‫املستك ِرب الصحوة اإلسالمية يف زمـاننا‪ .‬قص اهلل تعـاىل علينا نزاع مستكربي مثود ِ‬
‫قوم‬ ‫َ‬
‫ض ِع ُفواْ‬ ‫ِ ِِ ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫استُ ْ‬ ‫استَ ْكبـَُرواْ من قـَْومه للَّذ َ‬
‫ين ْ‬ ‫ال ال َْمألُ الذ َ‬
‫ين ْ‬ ‫صاحل عليه السالم قال‪﴿ :‬قَ َ‬

‫‪ 1‬سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.36‬‬

‫‪455‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫صالِحاً ُّم ْر َس ٌل ِّمن َّربِِّه قَالُواْ إِنَّا بِ َما أ ُْر ِس َل بِ ِه ُم ْؤِمنُو َن‬
‫َن َ‬‫آم َن ِمنـْ ُه ْم أَتـَْعلَ ُمو َن أ َّ‬ ‫ِ‬
‫ل َم ْن َ‬
‫آمنتُ ْم بِ ِه َكافِ ُرو َن﴾‪.1‬‬ ‫ي َ‬
‫ِ َّ ِ‬
‫استَ ْكبـَُرواْ إِنَّا بالذ َ‬‫ين ْ‬
‫قَ َ َّ ِ‬
‫ال الذ َ‬

‫يوم احلساب يف الدار اآلخرة‪ :‬قال‬


‫وينتهي احلوار بني املستكربين واملستضعفني َ‬
‫تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ ْو تـََرى إِ ِذ الظَّالِ ُمو َن َم ْوقُوفُو َن ِعن َد َربِّ ِه ْم يـَْرِج ُع بـَْع ُ‬
‫ض ُه ْم إِلَى بـَْع ٍ‬
‫ض الْ َق ْو َل‬
‫استَ ْكبـَُروا‬ ‫ض ِع ُفوا لِلَّ ِذين استَ ْكبـروا لَوَل أَنتُم لَ ُكنَّا م ْؤِمنِين قَ َ َّ ِ‬ ‫يـ ُق ُ َّ ِ‬
‫ين ْ‬
‫ال الذ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ْ َُ ْ ْ‬ ‫استُ ْ‬
‫ين ْ‬
‫ول الذ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫لِلَّ ِذين استُ ْ ِ‬
‫ص َد ْدنَا ُك ْم َع ِن ال ُْه َدى بـَْع َد إِ ْذ َجاء ُكم بَ ْل ُكنتُم ُّم ْج ِرم َ‬
‫ين‬ ‫ضع ُفوا أَنَ ْح ُن َ‬ ‫َ ْ‬
‫استَ ْكبـَُروا بَ ْل َم ْك ُر اللَّْي ِل َوالنـََّها ِر إِ ْذ تَأ ُْم ُرونـَنَا أَن نَّ ْك ُف َر‬ ‫ال الَّ ِذين استُ ْ ِ ِ ِ‬
‫ضع ُفوا للَّذ َ‬
‫ين ْ‬ ‫َوقَ َ َ ْ‬
‫بِاللَّ ِه ونَ ْجعل لَهُ أَن َداداً وأَس ُّروا النَّ َدامةَ لَ َّما رأَوا الْع َذاب وجعلْنَا ْالَ ْغ َل َل فِي أَ ْعنَ ِ‬
‫اق‬ ‫َ ُ َ َ َ ََ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ََ‬
‫ين َك َف ُروا َه ْل يُ ْج َزْو َن إَِّل َما َكانُوا يـَْع َملُو َن﴾‪.2‬‬ ‫َّ ِ‬
‫الذ َ‬

‫ملاذا مينع املستكربون الناس من اإلميان وميكرون عليهم بالليـل والنهار ليكفروا‪،‬‬
‫قصد املستكربين يف كل عصر أن حيولوا بني‬
‫َويُدخلوهنم يف الطاحون اإلحلادي؟ ْ‬
‫الناس وبني عقيدة اإلسالم اليت حترر العباد من كل عبودية لغري اهلل‪ ،‬وتأمرهم شريعته‬
‫جبهاد كل متأله يف األرض‪ ،‬نفسيّاً كان هذا املتأله داخلياً أو معتدياً أثيماً خارجيّاً‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة األعراف‪ ،‬اآليتان ‪.76-75‬‬


‫‪ 2‬سورة سبأ‪ ،‬اآليات ‪.33-31‬‬

‫‪456‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ال يصح استعمال املصطلح القرآين التقابُلي مستكربون‪/‬مستضعفـون إال‬
‫إذا كان االضطهاد يف الرزق ويف املقومات األرضيّة مقرتنا باالضطهـاد يف العقيدة‬
‫والشـرع‪ ،‬وإال إذا كان املستضعفون الذين أُمرنا أن نقاتل يف سبيل اهلل وسبيلهم‬
‫رجى أن مييلوا إىل اإلسالم ثقة وحمبة واقتناعا‬
‫مسلمني أو من أمة الدعوة الذين يُ َ‬
‫ٍ‬
‫جماهد ينصرهم يف قضاياهم األرضية الرزقية لتتفتح آذان عقوهلم وقلوهبم‬ ‫بإسالم‬
‫فيسمعوا كالم اهلل وبالغ اآلخرة وبيان التحرر من كل عبودية لغري من له الكربياء‬
‫والعزة سبحانه‪.‬‬

‫تبت حكمة املوىل سبحانه األمور يف التاريخ‪ :‬أن يكون التفاوت‬


‫هكذا ر ْ‬
‫أكثر شيء باخلَصاصة والنقص يف‬
‫والتناقض والتدافع‪ .‬وأن يكون ابتالء املسلمني َ‬
‫أكثر شيء بالبسط يف كل‬
‫األموال واألنفس والثمرات‪ .‬وأن تكون فتنة الكافرين َ‬
‫ذلك‪ ،‬فيطغَ ْوا يف األرض بغري احلق‪.‬‬

‫ِ ِ‬
‫قيام العباد واجتهادهم‬ ‫ورتبت حكمته تعاىل يف عامل األسباب علِّيَّةً م ُ‬
‫عيارها ُ‬
‫وح ْذقـُُهم‪ ،‬أو كسلهم وهتاوهنم‬ ‫وإعدادهم للقوة وكسبهم ونشاطهم االقتصادي ِ‬
‫ُ‬
‫العلِيَّة أسبابا أخرى ُخلُقية باطنية غيبية تـَُؤثر‬
‫وختلفهم وعجزهم‪ .‬كما رتبت احلكم َ‬
‫ش به ال َق َد ُر العزيز عباد اهلل‬
‫احلس ِّـي للمسلمني وتشكل سوط تأديب ُيه ُّ‬
‫يف الواقع ِّ‬
‫لريجعوا إىل اهلل‪.‬‬

‫‪457‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬يا معشر املهاجرين! مخس إذا ابتُليتم‬
‫هبن‪ ،‬وأعوذ باهلل أن تدركوهن‪ :‬مل تظهر الفاحشة يف قوم ُّ‬
‫قط حىت يعلنوا هبا إال فشا‬
‫فيهم الطاعون واألوجاع اليت مل تكن يف أسالفهم الذين مضوا‪ .‬ومل ينقصوا املكيال‬
‫وامليزان إال أ ُِخذوا بالسنني وشدة ال ُـم ْؤنة وجور السلطان عليهم‪ .‬ومل مينعوا َزكاة أمواهلم‬
‫إال ُمنعوا القطر من السماء‪ ،‬ولوال البهائم مل يُْطَروا‪ .‬ومل يـَنـُْقضوا عهد اهلل وعهد‬
‫رسوله إال سلط اهلل عليهم عدوا من غريهم فأخذوا بعض ما يف أيديهم‪ .‬وما مل حتكم‬
‫أئمتهم بكتاب اهلل‪ ،‬ويتخريوا مما أنزل اهلل إال جعل بأسهم بينهم»‪ .‬رواه احلاكم بسند‬
‫صحيح وابن ماجة عن ابن عمر رضي اهلل عنهما‪.‬‬

‫‪:‬أصلي عام هو ابتالء اهلل‬


‫سببي ْ‬
‫تؤول أسباب استضعاف املستكربين لنا إىل ْ‬
‫املسلمني بالنقص من األموال واألنفس والثمرات‪ ،‬وفرعي هو العقوبة على ما كسبت‬
‫أيدينا مما يفصله هذا احلديث العظيم اجلدير بالتأمل‪ ،‬احلامل على التوبة والتضـرع‬
‫تنصب علينا تبِعاته على شكـل قحط واستعمار ٍ‬
‫وبأس‬ ‫ُّ‬ ‫واإلسراع لتغيري املنكر الذي‬
‫شديد بيننا وفرقة وعداوة‪.‬‬

‫إننا بصدد التماس الطريق لسلوك إسالمي يسدد خطانا يف احلكم لكيال جترفنا‬
‫السياسة إىل مهاوي الغفلة عن اهلل عز وجل‪ .‬حضورنا الدائم مع سنته تعاىل‪ ،‬وذكرنا‬
‫أجلها‪ِ ،‬‬
‫عاص ٌم من‬ ‫استحضارنا حلكمته‪ ،‬سواءً كشفها لنا بالوحي وفصلها أو ْ‬
‫له‪ ،‬و‬
‫ُ‬
‫‪458‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أن نصبح كالناس فيَ ِكلَنا اهلل إىل أنفسنا‪ .‬بذكرنا الدائم حلكمة اهلل وسنته يف الكون‬
‫ننطلق للجهاد يف حتصيل أسباب القوة يف ُدنْيانا مطمئنني إىل أخرانا‪.‬‬

‫بلّغنا احلبيب املصطفى صلى اهلل عليه وسلم بشارة ينبغي أن نعتز هبا ونفرح‪،‬‬
‫بشرط أن ال نتخذها َس ْلوة وذريعة لالسرتخاء‪ .‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أمتي‬
‫الفتن والزالزل‬
‫أمة مرحومة‪ ،‬ليس عليها عذاب في اآلخرة‪ .‬عذابها في الدنيا ُ‬
‫والقتل»‪ .‬رواه أمحد وأبو داود واحلاكم عن أيب موسى رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫ومن حديث أنس عنه صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬إن اهلل ال يظلم المؤمن‬
‫حسنة‪ ،‬يـُْعطَى عليها في الدنيا‪ ،‬ويُثاب عليها في اآلخرة‪ .‬وأما الكـافر فيعطيه‬
‫حسناته في الدنيا‪ ،‬حتى إذا أفضى إلى اآلخرة لم يكن له بها حسنة يُعطَـى بها‬
‫خيرا»‪ .‬رواه اإلمام أمحد رمحه اهلل‪ .‬احلمد هلل على نعمة اإلسالم واإلميان‪.‬‬

‫‪459‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫يف سبيل اهلل واملستضعفني‬

‫أمرنا به احلق سبحانه وتعـاىل من االنتصار‬


‫نعود بأنظارنا إىل عامل التكليف وما َ‬
‫ألنفسنا ومن اجلهاد يف سبيله وسبيل املستضعفـني يف قوله عز من قائل‪َ ﴿ :‬وَما لَ ُك ْم‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫ض َع ِفين ِمن ِّ ِ‬ ‫الَ تـ َقاتِلُو َن فِي سبِ ِ ِ‬
‫ِّساء َوالْ ِولْ َدان الذ َ‬
‫ين‬ ‫الر َجال َوالن َ‬ ‫يل اللّه َوال ُْم ْستَ ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫اج َعل‬ ‫يـ ُقولُو َن ربـَّنا أَ ْخ ِرجنا ِمن ه ِـذ ِه الْ َقري ِة الظَّالِ ِم أ َْهلُها واجعل لَّنا ِمن لَّ ُد َ ِ‬
‫نك َوليّاً َو ْ‬ ‫َ َ َْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َْ ْ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬
‫ين َك َف ُرواْ يـَُقاتِلُو َن‬ ‫صيراً الَّ ِذين آمنُواْ يـ َقاتِلُو َن فِي سبِ ِ ِ َّ ِ‬
‫يل اللّه َوالذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫نك نَ ِ‬‫لَّنَا ِمن لَّ ُد َ‬
‫ض ِعيفاً﴾‪.1‬‬ ‫ان َكا َن َ‬ ‫الش ْيطَ ِ‬ ‫وت فـََقاتِلُواْ أ َْولِيَاء َّ‬
‫الش ْيطَ ِ‬
‫ان إِ َّن َك ْي َد َّ‬ ‫يل الطَّاغُ ِ‬ ‫فِي َسبِ ِ‬

‫نزلت اآليات يف احلث على إغاثة املسلمني احملجوزين يف مكة عندما كانت‬
‫مكة قرية ظاملاً ْأهلُها‪ .‬واألمر بنُصرة املستضعفني والقتال يف سبيل اهلل وسبيلهم عام‬
‫ال خيصصه سبب النزول‪ .‬وظلم الكافرين يف زماننا ال ينحصر يف قرية بل يعم األرض‬
‫اجلو والبحر واهلواء واملاء‪.‬‬
‫وساكنيها‪ ،‬ويعم َّ‬

‫كانت املائة سنة املاضية أعنَف فرتة يف تاريخ البشرية‪ :‬حربان عامليتان تطاحن‬
‫وجروا معهم البشرية املظلومة إىل مسارح القتال‪ .‬مث تصاحلوا على َد َخ ٍل‬
‫فيهما األوربيون ُّ‬

‫‪ 1‬سورة النساء‪ ،‬اآليتان ‪.75-76‬‬

‫‪460‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫بعضهم بعضاً بوساطة املستضعفني طيلة بضع وأربعني سنة مسَّْوها حربا‬ ‫فحارب ُ‬
‫باردة‪ ،‬بارد ًة عليهم حمرقة مدمرة علينا معشر املستضعفني‪.‬‬

‫يف املائة سنة املاضية ترعرعت الفلسفة املاركسية فتولد عن أحالم لينني وسوط‬
‫ستالني دولَةٌ قوية ظلت عقودا من الزمن أمال للمستضعفني يف األرض وسنداً‬
‫اهنار بناؤها فهي تتسكع على أبواب األقوياء تتزعمهم‬ ‫ومصدرا للسالح‪ .‬واآلن َ‬ ‫َ‬
‫أمريكا وعلى أبواب األغنياء متُد اليد ألملانيا واليابان‪.‬‬

‫األمل اآلفِ ُل يف ما كان يسمى االحتاد السوفيايتَّ تعليقا لبؤس البؤساء‬


‫كان ُ‬
‫صُر املستضعفني َمن‬‫ونكبة املظلومني على َسراب‪ .‬فال يُز ُال ظلم بظلم‪ ،‬وال يـَْن ُ‬
‫املو َّحدةُ بقيادة أمريكا‬
‫ن أساسه على عنف الصراعية الطبقية‪ .‬وها هي اجلـاهلية َ‬ ‫ِ‬
‫بُ َ‬
‫العسكرية وحتت املظلة القانونية لألمم املتحدة تـَُع ْس ِك ُر على أعز بقعة يف األرض‬
‫وترسم‬
‫قرب مكة واملدينة هتدد كرامة املسلمني‪ ،‬وهم منوذج املستضعفني يف األرض‪ُ ،‬‬
‫املقابل يف املِرآة‪،‬‬
‫معال َـم نظام عاملي جديد يكون املسلمون فيه هم «دولة الشر»‪ ،‬و َ‬
‫والضد املطلق‪ .‬هكذا هم يف خطة االستعمار املبيتة‪ .‬ويف كلمة اهلل وأمره الشرعي‬
‫ووعده الكوين ُهم حمط آمال اإلنسانية وإن كانت الفجوة بني الواقع واألمل تبدو‬
‫لعني املرتاب سحيقة‪.‬‬

‫أمريكا وحلفاؤها تعسكر على ختوم األرض املقدسة ِ‬


‫مؤذنة باضطهاد َّ‬
‫أشد‬
‫نِكايةً فينا من أي نكبة ُرَبا من عهد غزو التتار لبغداد‪.‬‬
‫‪461‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أكتب هذا ليلة األحد الثاين والعشرين من شهر ربيع الثاين سنة ‪ ،1411‬واحلشود‬
‫حتسب هلا‬
‫األمريكية احللي َفة لليهود هتدد بشن اهلجوم على القوة العربية الوحيدة اليت ُ‬
‫العرب‬
‫دولة اليهود ألف حساب‪ .‬واألدهى من هذا أن الغزوة ميوهلا سالطني النفط‪ُ .‬‬
‫عدو اليهود بأموال العرب!‬
‫يقاتلون ّ‬

‫أي خماض هذا وأيّة هزة وأي زلزال وأي احتضار! جترع املسلمون غصص‬ ‫ّ‬
‫تارخيهم احلديث كأساً أشد مرارة من كأس‪ .‬وهذه هي العل َقم‪ .‬املسلمون غرقَى يف‬
‫القدر أليمةٌ‪ ،‬لعل‬
‫البؤس واليأس واإلخفاق والفشل‪ .‬فهذه ضربة أخرى من مقارع َ‬
‫ُلَج ْ‬
‫املسلمني يَن َفضُّون من َح ْول اإلديولوجيات الغربيـة‪ ،‬اللربالية منها والتقدمية االشرتاكية‪،‬‬
‫ليبنوا‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وينفضون من حول العصبية القومية ليَفيئوا إىل دين اهلل معتَ َمد املستضعفني‪ ،‬و ْ‬
‫بعد التخفف يف أتُون اآلالم من ركام الغثائية‪ ،‬ذاتاً جديدة مُْلَصة من شوائب‬
‫اجلاهلية‪ ،‬قوية بإسناد ظهرها إىل اهلل عز وجل ال إىل األمل الشيطاين‪ ،‬قائمة إلسقاط‬
‫عرش الشاهات أعشاش البالء‪.‬‬

‫وتلك سنته سبحانه وتعاىل عندكل عُقدة من عُ َقد التاريخ البشري وعند بدايةكل‬
‫فصل من فصول اهلداية أن يُذيق الغافلني عن آياته املعرضني عن أمره مرارة الفقر والبؤس‬
‫لريجعوا‪ .‬قال تعاىل خياطب حبيبه حممدا صلى اهلل عليه وسلم و َيعلِّ ُمه لنتـََعلَّ َم‪َ ﴿ :‬ولََق ْد‬
‫ض َّرعُو َن﴾‪ .1‬وقال وقوله‬ ‫اه ْم بِالْبَأ َ‬
‫ْساء َوالض ََّّراء لَ َعلَّ ُه ْم يـَتَ َ‬ ‫أ َْر َسلنَا إِلَى أ َُم ٍم ِّمن قـَْبلِ َ‬
‫ك فَأَ َخ ْذنَ ُ‬

‫‪ 1‬سورة األنعام‪ ،‬اآلية ‪.42‬‬

‫‪462‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َّراء لَ َعلَّ ُه ْم‬ ‫احلق‪َ ﴿ :‬وَما أ َْر َسلْنَا في قـَْريَة ِّمن نَّبِ ٍّي إِالَّ أَ َخ ْذنَا أ َْهلَ َها بِالْبَأ َ‬
‫ْساء َوالض َّ‬
‫َّرعُو َن﴾‪.1‬‬
‫يَض َّ‬

‫معشر خ ِري أمة أخرجت للناس‪ ،‬أن نقاتل يف سبيله وسبيل‬ ‫َّ‬
‫كل َفنا سبحانه‪َ ،‬‬
‫وس ْو ِط قَ َدره‪ ،‬والعني األخـرى على التماس‬
‫فعيـْنُنا الواحدةُ على سنته َ‬
‫املستضعفني‪َ .‬‬
‫أسباب القوة احلسية واملعنوية لتغيري موازين القوى لصاحلنا‪.‬‬

‫من أول األسباب أن ن ُكف عن التعلق باألحالم وعن إناطة مستقبل بالبطل‬
‫ِ‬
‫خيبات ماضينا‬ ‫نطر ُح‬
‫ص َوُر صالح الدين‪ ،‬عند أقدامه َ‬
‫املكبوت ُ‬
‫َ‬ ‫احملرر‪ ،‬تداعب ِميالَنا‬
‫البطل‬
‫وخسارَة حاضرنا‪ .‬من طفولة الشعوب‪ ،‬أو قل من َهَرف الشيخوخة‪ ،‬أن يـُْعبَ َد ُ‬
‫الوثن‪ .‬وقد عبد القوميون عبد الناصر وصداما وأزالما أخرى صغرى يف مدة جيل‬ ‫َ‬
‫وص َمةَ اهلزائم يف طَهور توبة‬ ‫ِ‬
‫واحد‪ ،‬فقد آن أن نعبد اهلل وحده ال شريك له ون ْغس َل ْ‬
‫مقادة مصرينا ننتزعه من األيدي‬
‫عامة‪ ،‬نتضرع إىل املوىل جل وعال‪ ،‬ونأخذ بأيدينا َ‬
‫فعدونا األول منا‪ .‬وما أُِتَ املستضعفون من جهة هي أنكى فيهم من‬ ‫اجملرمة‪ُّ .‬‬
‫أنفسهم‪ ،‬من حكامهم اجملرمني‪ ،‬أجرموا وعتـوا يف األرض واستكربوا استكبارا وحتالفوا‬
‫مع املستكربين لقعود املسلمـني عن الطلب وهلبّتهم الطفولية مع كل ناعق‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.94‬‬

‫‪463‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫كأين بالفالسفة التقدميني والزعماء اللرباليني يعوضـون عن إفالسهم السياسي‬
‫املتوقع األفظع بعد ما تسفر عنه غزوة صدام‬
‫بعد سقوط عبد الناصر وعن إفالسهم َ‬
‫البعثي بطنطنة جديدة‪ .‬إننا ال نعدو أن نكون جنوداً مستميتني يف تأييد قيودنا إن‬
‫ْ‬
‫نش ُّد قيودنا التارخيية إن فعلنا‪.‬‬ ‫استمعنا بعد نزول مقا ِرع ال َق َدر ْ‬
‫لغي نداء اإلسالم‪ُ .‬‬

‫هذه احلضارة الظاملة الغازية لنا جاهلية حمضة‪ ،‬ال ميكن أن نشق من فكرها‬

‫فكراً حمررا‪ ،‬وال من أساليبِها أسلوبا ُمنجياً‪ .‬لَطاملا َ‬


‫حاب احلكام املستكربون من بين‬
‫جلدتنا الغرب وفكره وأساليبه حماباة رخيصة‪ .‬لَطاملا لعِبوا بنا وساوموا على كرامتنا مع‬
‫جنيحه‪،‬‬
‫حنسب فاشلَهُ َ‬
‫ُ‬ ‫ط اللرباليني والتقدميني‬
‫حلفائهم املستكربين! واختلط علينا لَغَ ُ‬
‫ِ‬
‫مقال احلاكم املتمسلم ال منيز من َر ْغ ِوه َ‬
‫صرحيه‪.‬‬ ‫كما اختلط علينا ُ‬

‫هذه احلضارة الظاملة الكاحلة َنِمة ال تشبع‪ ،‬تدور يف فلك الشهوة واألنانية‬
‫والعنف والتمرد الوحشي‪ .‬فمنذ مخسمائة سنة وهي تنهب خريات األرض وتضع‬
‫األغالل يف أعناق املستضعفني‪ ،‬وتبيد اهلنود احلمر يف أمريكا تقتل منهم مائة مليون‬
‫ويزيد‪ ،‬وتسوق الزنوج األفريقيني يف سالسل العبودية إىل حقول القطن وعيش اهلوان‪.‬‬

‫حضارتا وثروهتا‪.‬‬
‫َ‬ ‫على مجاجم البشر ومن أرزاق املستضعفني املشردين بنت‬
‫للتعلُّم‪،‬‬
‫غ أبناءها َ‬
‫فر َ‬
‫وبفائض الثروة املنهوبة استطاعت أن ترفع مستوى معيشتها‪ ،‬وأن تُ ِّ‬

‫‪464‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫صر َح الصناعة‪ ،‬وهياكل البحث العلمي‪ ،‬وأن تسخر العا َل ومن فيه خلدمة‬
‫وأن تشيّد ْ‬
‫النفوس الشاردة املاردة‪.‬‬

‫اليوم وجهُ االستكبار أكثر ما كان قتامة وُكلُوحا وبأسا وهنَما وشرا‪.‬‬
‫فهي َ‬

‫أحد خرباء البيت األبيض األمريكي يف تقريره عن قِسمة العامل قال‪:‬‬


‫كتب ُ‬
‫اليوم مقسم إىل معسكرين تسوسهما قواعد خمتلفة اختـالفا جذريا‪ :‬االقتصاد‬
‫«العامل َ‬
‫ينظم الشمال‪ ،‬بينما القوانني التقليدية للقوة العسكرية حتكم اجلنوب‪ .‬هناك ثالث‬
‫نقط للتقاطع بني العاملني‪ :‬النفط والالجئون واإلرهاب»‪.‬‬

‫معىن الكالم أن األقوياء األغنياء األثرياء املرتفني املستكربين يف األرض‬


‫ضه‪ .‬وهناك يف األطراف‬
‫ضه ولَنَا َغْي ُ‬
‫جالسون على مائدة االقتصاد العاملي‪ ،‬هلم فـَْي ُ‬
‫يائسون بائسون يف خميمات صربا وشاتال يـَُقتلون‪ ،‬ويف شوارع فلسطني يقتنصون‪،‬‬
‫وهم بني ال َفيـْنَ ِة والفينة يدفعهم اليأس والبؤس ملناوشة أعدائهم بسالح الضعيف‪،‬‬
‫ب اإلرهاب‪.‬‬
‫ونشج َ‬
‫ُ‬ ‫فيمكننا أن نَْ َسح على جبيننا بدهن األخالقية احلضارية العالية‬

‫خميمات‬
‫ُ‬ ‫ط‪ ،‬للمحرومني من ِريعه‬
‫ط التقاطع بني العاملني النف ُ‬ ‫معىن الكالم َّ‬
‫أن نـَُق َ‬
‫ويأس احتجاز الرهائن‪ ،‬ولل ُـموالني للشمال الناع ِم حصة من تـََرف اجلالسني‬ ‫ِ‬
‫اللجوء ُ‬
‫على املائدة‪.‬‬

‫‪465‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ب خمزو ُن النفط يف أمريكا وأوربا‪ .‬ويبقى ملخزون النفط‬
‫ينض ُ‬
‫بعد عشر سنوات ُ‬
‫يف بالد العرب واملسلمني قر ٌن أو قرنان من اإلمكانيات‪ ،‬تزيد املدة أو تنقص حسب‬
‫َوتائر االستهالك اجلنوين الذي يتضاعف يف البالد املصنعة مرة يف كل عشر سنوات‪.‬‬

‫نسبة األمريكان الشماليني من سكان العامل مخسة باملائة‪ ،‬وهم يستهلكون‬


‫تصوُر وال يُقبَل‬
‫ربع االستهالك العاملي للنفط‪ .‬يبذرونه تبذير السفيه ملال أبيه‪ .‬وال يُ َّ‬
‫بشل عجلة اقتصاده والنقص‬ ‫متتد يد إىل النفط مبا يهدد مستقبل الشمال َ‬ ‫أن َّ‬
‫دعوى حقوق اإلنسان ودعوى األخالقية‬
‫من مستوى رفاهيته‪ .‬من هنا تنكشف َ‬
‫والقانونية الدولية عن َكلَ ٍ‬
‫ب َشايل واستعداد مستميت لقتال املستضعفني وقتلهم‬
‫مجيعا لتحىي أم احلضارات العتيدة‪.‬‬

‫للحضارة املرتفة بـُْؤ ُسها‪ :‬املخدرات واجلرمية املنظمة واألمراض العاهرة‪ .‬سويسرا‬
‫والسويد توفران لسكاهنما أعلى مستوى دخل يف العامل إذا استثنينا دخل العشائر‬
‫النفطية العربية‪ ،‬ويف سويسرا والسويد يُضرب الرقم القياسي لالنتحار‪ .‬تقتل احلضارة‬
‫املبتئسة الجئي املستضعفني بالتفقري والتجويع والغزو املباشر‪ .‬وتقتل أبناءها باليأس‬
‫من حياة ال معىن هلا وال غاية وال مذاق‪ .‬ذلك اإلنسان احملجوب بنمط عيشه وترف‬
‫أحواله مستضعف أيضا حمروم من حقه األعلى‪ .‬واإلسالم هو أمل كل نوع من أنواع‬
‫املستضعفـني‪ .‬واهلل هو البَـر الرحيم‪ .‬سبحانه‪.‬‬

‫‪466‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫اآللة االستكبارية‬
‫حنن واملرتفون على وجه هذا الكوكب كاملتبا ِرين يف حلَبة صراع ال َح َكم‬
‫الضعيف‪ ،‬وال حمكمة فيها إال ميـزان ال ُقوى والفرصة‬
‫فيها إال ما يفرضه القوي على ّ‬
‫املادي تذهب يب املذاهب عن سبيل اهلل وعن‬ ‫املتاحة‪ .‬كأننا‪ .‬ويف التشبه بال ُـم َحلِّ ِل ِّ‬
‫تفسد‪ ،‬فإذا أنا مكافح‬
‫سبيل املستضعفني‪ ،‬فأنسى النية اليت هبا تصلح األعمال أو ُ‬
‫قومي‪.‬‬
‫وطين ومناضل ٌّ‬
‫ال أكون مؤمنا حقا إال باملداومة على القراءة املتزامنة‪ ،‬وما يـُلَ ّقاها إال الذين‬
‫صربوا‪ ،‬لسنة اهلل يف التاريخ ولسنته الشرعية‪ .‬بالقراءة الثنائية املتـزامنة أعرف قدرة‬
‫وش ْح ِذ‬
‫اهلل عز وجل الغالبة فيطمئن قليب فيَزيدين االطمئنـان مضـاءً يف بذل ُجهدي َ‬
‫عزمييت واستماتيت على الواجهة‪.‬‬

‫هي آلةٌ واحدة‪ ،‬نفس اآللة‪ ،‬تستفز بظلمها وتطحن بعنفها كل املستضعفني‪.‬‬
‫ما يل هبا من قِبَ ٍل وال علَيها من سلطان إال من كوين مبعوثا ُمبـَلِّغاً أمرين القادر عز‬
‫علي شروطا‪.‬‬ ‫وجل بإعداد القوة‪ ،‬ووعدين بالنصر‪ ،‬وشرط يل وشرط ّ‬
‫فباستنادي إىل األمر واعتمادي على الوعد أتقدم إىل اآللة من حيث كوُنا آلة‬
‫اد اهلل ورسولَه ألقاتِلها و ِ‬
‫أجاهد بقتاهلا املستكربين‪ ،‬بينما غريي يستند إىل‬ ‫استكبار ُت ُّ‬

‫‪467‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ب الدنيا‬ ‫ِ‬
‫غضب نضايل ويعتمد على أمل بشري فيقاتل جبنيب‪ ،‬ماله من ُجهد إال َتع ُ‬
‫يفعل فيها وأفعل؟‬ ‫إن ِ‬
‫ورخاؤها إن فاز‪ .‬واآلخرة ما ُ‬
‫فش َل ُ‬

‫بعد هذا فاآللة االستكبارية هي احلضارة الرأمسالية هبياكلهـا وأجهـزهتا‪ ،‬وامتدادها‬


‫األُخطبُوطي‪ ،‬وماضيها يف النهب االستعماري‪ ،‬وحاضرها‪ ،‬وروحها‪ ،‬وجسمها‪،‬‬
‫ولَوالِبِها‪ ،‬وسريها‪ ،‬وحركتها‪.‬‬

‫آلة تصنع البؤس ألكثر من ثُلثي سكان املعمور ليـَنـَْع َم بالرتف القلةُ من‬
‫املرتفني‪.‬‬

‫قلت «املعمور»! ال بل املخروب‪ .‬فإهنا آلة ختريب وتدمري للعباد والبالد‪.‬‬

‫جعجعة هذه اآللة وكلمتها وعقيدهتا ووظيفتها التنمية بال حدود‪ ،‬تنمية تصنع‪،‬‬
‫خد ٌم وتـَبَ ٌع‪ .‬العباد هلا‬
‫تنتج‪ ،‬تستهلك‪ .‬تستهلك لتنتج‪ ،‬وتنتج لتستهلك‪ .‬والعباد هلا َ‬
‫عجالت ُمضافة‪ .‬بـَْي َد أن من العباد من تُطعمهم احللو السمني ومنهم من تسحقهم‬
‫ِخ باحلال أو باملقال يضج من ظلم اآللة الشيطانية‪.‬‬
‫سحقا‪ .‬وكال الفريقني ُمستصر ٌ‬
‫ص ِرخوه ويُغيثوه‪.‬‬
‫حق أن يُ ْ‬
‫ولكال الفريقني عند اإلسالم رسالةٌ‪ ،‬وعلى املسلمني ٌّ‬

‫ينتحر يف سويسرا والسويد‬


‫صرخ الشقي يف «سعادته» املـادية‪ ،‬ذاك الذي ُ‬
‫حباله يَ ُ‬
‫وعْيفه لنعيم الدواب لَ َّما ُح ِرَم من‬
‫وغريمها من بالد التخمة‪ .‬يصـرخ حباله ونفاد صربه َ‬
‫معن احلياة‪ ،‬مل تبلغه رسالة اهلل وبالغ اآلخـرة وبيان اجلزاء ليعلَم أنه خملوق خالد يف‬
‫َ‬

‫‪468‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫إحدى الدارين بعد املوت والبعث ال جمرد قناة هضمية‪ ،‬ال جمرد دودة أرضية ونسل‬
‫مي به يف األرض َعبَثا‪.‬‬ ‫قردي ُر َ‬
‫احمل َّق ُـر ويستصـرخ َمن يُغيثه ِمن ظُلم اآللة االستكبارية‬ ‫ِ‬
‫ومبقاله يضج احملروم ال ُـم َف ّقر َ‬
‫وجوعته وقتلته‪.‬‬ ‫الصماء اليت نبذته وعرته َّ‬

‫اآللة احلضارية الرأمسالية أداة جاهلية صماء عمياء‪ .‬واجلاهلية عنف على‬
‫اإلنسان وعلى الطبيعة‪ ،‬وجهل مبا هو اإلنسان وما مصريُه وما معناه وما مغزى مروره‬
‫أجياال من احلياة الدنيا هذه املنظورة‪.‬‬

‫اآللة احلضارية اجلاهلية تؤله الشهوة وتعبد املادة وتنكر البعث‪ .‬هلا من جهلها‬
‫عربدة الوحش‪ ،‬ومن عنفها سطوة الوحش‪ .‬بوثنيتها وعنفها قسمت العا َل شطرين‪:‬‬
‫عال َـم الشمال املرتف وعامل اجلنوب ال ُـم َف ّقر ال ُـم َح ّقر‪ .‬آلة إنتاج جنوين يُلهبه التنافس‪.‬‬
‫تسأل اآللة الصماء‬
‫آلة استهالك تؤججهُ نار اإلشهار ويَنفخ فيه فن التسويق‪ .‬والَ ُ‬
‫العمياء عن فائدة اإلنتاج ما دامت األسواق تـَْلتَ ِه ُم البضاعة كما ال تسأل عن‬
‫حمدودية املوارد األرضية واملواد اخلام ما دام االستِهالك ينادي هل من مزيد‪.‬‬

‫ِ‬
‫جبنون دوراهنا وبِنيَّة مديريها املستكربين َ‬
‫ترهن اآللة االستكبارية حاضرنا ومستقبلنا‬
‫و«سعادتم» تتغذى‬
‫َ‬ ‫ومستقبَ َل العامل‪ ،‬ألن رفاهية املستكـربين تتوقف على حرماننا‪،‬‬
‫من بؤسنا‪.‬‬

‫‪469‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ت هذه احلضارة على‬ ‫وسَ ْ‬
‫الظّلم هو الطابَع العام للحضارة املادية اآللية‪َ .‬‬
‫َجبني اخل ْلق َمْي َسما يتمايز به الناس حسب قدرهتم الشرائية‪ .‬أل َْه ِل احلضـارة من‬
‫األصلي يف احلياة الكرمية‪ ،‬تدور السياسة والدبلوماسية‬
‫ُّ‬ ‫احلق‬
‫اجلنس األوريب املستعلي ُّ‬
‫بأس من التعامل ال ُـمربح مع كل طالب راغب‬
‫واحلرب َلرفع قدرته الشرائية‪ .‬مث ال َ‬
‫البشر‬ ‫ِ‬
‫منخرط يف دين االستهالك ما دام يدفع‪ .‬ول َم ْن على وجه األرض من َ‬
‫ال ُـم ْع ِدمني الذين امتصت اآللة االستكبـارية االستعمـارية دماءهم ُّ‬
‫احلق يف التقاط‬
‫الفتات‪ ،‬واملوت جوعا يف إفريقيا وبنغالدش‪.‬‬

‫ِم ٌ‬
‫ثال للقسمة ال ُـمجحفة يف الرزق بني الشمال واجلنوب أن الوحدة احلرارية من‬
‫إنفاق سبع وحدات حرارية‬
‫صنـْعُها َ‬
‫أصل حيواين‪ ،‬وهي طعام الشمال الغين‪ .‬يتطلب ُ‬
‫يف‪ ،‬ال يليق باألبيض املرتف ومن جلس‬
‫من أصل نبايت‪ .‬والوحدة احليوانية طعام شر ٌ‬
‫يفعل الفقري‪ .‬لذلك فهو يطعم خنزيره‬
‫على مائدته أن يستهلك السعرات النباتية كما َ‬
‫وعجله سبعة أضعاف ما يُقيم بِنية اإلنسان ويوفر ِصحته ليضمن لنفسه طعاما من‬
‫وجنب وبيض‪.‬‬
‫حلم ولَنب ُ‬
‫ىب‬
‫ور ً‬
‫حىت إذا فاض إنتاج احلبوب ومشتقاهتا‪ ،‬وتكدست جبال من القمح ُ‬
‫من الزبد وأهنار من اللنب وأكوام من اللحم والبيض أنفق املرتفون من أمواهلم ومن‬
‫كيال تنخفض األسعار‬
‫حيلتهم وتقنيتهم التجارية ليُفنوا الفائض وحيددوا اإلنتاج ْ‬
‫فيضيع رقم من قيمة اإلنتاج وتنخفض القدرة الشرائية للرجل األبيض‪.‬‬
‫َ‬ ‫العاملية‬

‫‪470‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يتخلخل منو األطفال يف العا َل املستضعف لنقص الغذاء‪ ،‬وخيتل دماغ األطفال‬
‫يد املنتج بالفائض أو ببعضه من اللنب‬
‫لنقص مادة الربوتيني يف طعامهم‪ .‬فلَو امتدت ُ‬
‫والزبد‪ ،‬ولو أطعم املنتج قسطا من البطاطا والذرة والقمح أطفال املستضعفني بدل‬
‫إبادهتا بعد ِشبَ ِع اخلنزير والعجل لكان لإلنسانية املرتـََهنَ ِة يف قبضة اآللة االستكبارية‬
‫وجه به تفتخر اإلنسانية‪ُِ ،‬م َّسة أن للوحش األناين الكاسر قلباً رحيما رغم كل‬
‫شيء‪.‬‬

‫ف‬ ‫إن احلضارة املادية وآلتها الصماء العمياء تسيء إدارة الكوكب‪ِ ُْ ،‬‬
‫وتح ُ‬
‫حبقوق ساكنيه‪ ،‬وتعرضه ألخطار مميتة‪ .‬فبإدارهتا وعلمها وقصدها تَسوءُ تغذية‬
‫اإلنسان املستضعف‪ ،‬وتتدهور حالة الرتبة‪ ،‬وتُبذر املوارد النباتية واحليوانية واملعدنية‪،‬‬
‫ويُ ْسَرف يف استعمال الطاقة‪ ،‬ويُه ّدد ال ُـمناخ‪ ،‬ويلوث اجلو واألرض والبحر‪.‬‬

‫تقع على رقبة الرأمسالية املستكربة مسؤولية التدهور يف التوازن العام للكوكب‬
‫وساكنيه‪ .‬نظامها وقانوهنا وتسيري لَوالِبها تُـتيح أن ِ‬
‫خيتطف اجملرمون الربوتنات من‬ ‫َ‬
‫أفواه األطفال ليطعموها اخلنز َير والعجل وتُـتيح تبذير موارد األرض‪ ،‬بل تدفع إليه‬
‫وتشجعه‪ .‬وهكذا يتصاعد بؤس أكثر من ثلثي سكان املعمور‪ ،‬املخروب بفعلها‪،‬‬
‫كلما تصاعد منو عامل املستكربين‪.‬‬

‫تستخدم احلضارة املدمرة أحدث اآلالت لتخريب األرض والفتك مبن فيها‪ .‬ال‬
‫أحتدث هنا عن صناعة األسلحة وعن مكانتها الضخمة يف االقتصاد االستكباري املسيطر‪،‬‬

‫‪471‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وعن الكيد االستعماري لتأجيج حروب هامشية يُصفق هلا مساسرة السالح وصناعه‪.‬‬
‫وأكتفي بذكر مثال واحد على عنف الرأمسالية على اإلنسان وختريبها ملناخه‪ .‬وليس‬
‫لالشرتاكية اآلفلة مزية يف امليدان‪ ،‬بل هي أشد ختريبا وفتكا‪ .‬كانت‪.‬‬

‫أذكر مثاال للتخريب ما فعلته وتفعله الرأمسالية املتوحشة بغابات األ ََمزون‬
‫بالربازيل‪ .‬هذه الغابات تضم مخسة وسبعني يف املائة من أجناس النبات واحليوان‬
‫يف العامل‪ ،‬ويعطي تفاعل نباهتا مع املناخ أربعني يف املائة من األوكسجني ال ُـمنتَج يف‬
‫العامل‪ .‬ماذا فعلت وتفعل هبذه الغابات الرأمساليةُ املتوحشـةُ الصماء عن احتجاج‬
‫عقالء العامل؟ ختريب جنوين ال يقف!‬

‫كان املهندس الزراعي «ماهلر» واحداً من التقنيني الالَّ ُمبالني‪ ،‬أيقظه إىل‬
‫فظاعة اآللة الرأمسالية ما شاهده يوما على أرصفة مدينة «رسيف» بالربازيل‪ ،‬فتحول‬
‫داعية صارخا حبقوق الطفولة واإلنسانية‪ .‬مر يوما املهندس السايل الال مبايل بأرصفة‬
‫املدينة الربازيلية فرأى أطفاال ينازعون الكالب بقايا النُّفايات املطروحة‪ .‬وكان مشهدا‬
‫ال يتحمله قلب فيه ذرة من إنسانية‪.‬‬

‫تطر ُح الرأمسالية‪ْ ،‬أوه! فأختها االشرتاكية أشد وأنكى! نُفايات املصانع وامللوثات‬
‫الذرية والكيماوية يف الرب والبحر‪ .‬وتكرتي بالثمن البخس أرض احملرومني اجلائعني‬
‫لتدفن عندهم فَضالت األورانيوم اليت يدوم إشعاعها اخلَ ِطُر قرونا وقرونا‪.‬‬

‫‪472‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫نُفايات وفَضالت مل يعد العُتاةُ يف األرض املرتفون يعرفون ما يفعلون هبا‪ .‬يف‬
‫طن من النُّفايات يف السنة‪ .‬فهم يبعثروهنا وحيرقوهنا‬
‫يفضل عن كل شخص ٌّ‬
‫نيويورك ُ‬
‫لتنع َم ببعض‬
‫ويتبخر بعضها َ‬
‫فال جتد مستَقرا إال يف األهنار والبحار لتتسمم األمساك‪َّ ،‬‬
‫األفالك‪.‬‬
‫خريات احلضارة األَجواءُ و ُ‬

‫دعك مما تفعله السيارة اخلاصة وهي آلة رفاهية املرتف ورمز حضارته‬
‫وشارة جناحه يف احلياة‪ .‬من أخبرهتا ودخاهنا تكـاثفت غـازات األوكسيد الكاربوين‬
‫فأحاطت الكوكب بغُاللَة كيماوية ارتفعت منها احلرارة العامة‪ ،‬فاخلرباء يتوقعون‬
‫ذوبا َن ثلوج القطبني وارتفاع مستوى البحار‪ ،‬و َغَر َق الشواطئ‪ .‬دعك من متزيق‬
‫طبقة األزون وتعريض البشر لألشعة فوق البنفسجية اليت هتلك العباد بعاهات‬
‫السرطان‪ .‬واهلل ال يصلح عمل املفسدين‪.‬‬

‫‪473‬‬
‫الفصل السابع‬
‫التنمية‬

‫* «اقتصاد إسالمي»‬
‫* التعبئة اجلهادية‬
‫* القومة ومهومها التنموية‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫«اقتصاد إسالمي»‬
‫يف إحصاءات منظمة األمم املتحدة أن مخسني ألف طفل من أطفال العامل‬
‫ميوتون كل يوم من اجلوع أو من األمراض اليت متلك الدول الغنيّة عالجها وال َتُّده وال‬
‫توصله ملستحقه‪ ،‬كما تتلف املنتوجات الغـذائية أو تقلص األرض احملروثة ليبقى السعر‬
‫املستعمَرَة بالعساكر‬
‫َ‬ ‫البالد‬
‫مرتفعا ويبقى مستوى معيشة املرتفني موفورا‪ .‬بينما ترغم َ‬
‫آنِفاً‪ ،‬املستعمرَة اقتصاديا منذئذ‪ ،‬على إنتـاج ِغلَ ٍل ترفيهية يَبتاعها املرتفون بالثمن‬
‫ف‪ ،‬فَرتبِطهم هذه النوعيـة من االقتصاد بعجلة اآللة االستكبارية‪،‬‬ ‫البخس الـم ْج ِح ِ‬
‫ُ‬
‫الع َوز‪ ،‬وال َأمل يف تنمية عادلة مستقلة‪.‬‬
‫كاك هلم من الفاقة و َ‬ ‫فال فَ َ‬
‫للرح ِم اإلنسانيَّة‪ ،‬غامطةٌ للحقوق البشـرية‪ ،‬فاقدة للحس اخلُلُ ِق ِّي‪.‬‬
‫حضارة عاقَّةٌ ِ‬
‫للسوق‪ ،‬ال‬ ‫واقتصاديات العامل حتت وصاية املستكربين وإدارهتم وهيمنتهم خاضعة ُّ‬
‫ض ُـع منها إال من طَلَّ َق املبادئ وعانق دين‬‫يغشى هذه السوق وال يربح فيها وال يتبَ َّ‬ ‫َ‬
‫الربح والكم والتكاثر‪.‬‬

‫إن اإلسالم دين اهلل‪ ،‬وهو توجيه ِم ٌّ‬


‫عياري يريد اإلنسا َن أن يكون أخاً مواسيا‬
‫ِ‬
‫اقعي ال ينضبط‬
‫ت احلساب‪ .‬واالقتصاد نشاط و ٌّ‬ ‫لإلنسان‪ ،‬ال َزبونا با ِرَد العاطفة صام َ‬
‫وال يزدهر وال ينتعش إال بضبط احلسابات وقياس املوارد والنتائج واملردودية‪ .‬فكيف‬
‫يصح ربط الكلمتني‪ :‬اقتصاد إسالمي؟ وهل االقتصاد إال علم كالرياضيات وتفاعل‬
‫كالكيمياء وميكانيكيات كالفيزياء كما يزعم احلاسبون؟‬

‫‪477‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫كيف نتخذ اقتصادا نابعا من اإلسـالم؟ هذا سؤال يُوازن سؤال‪ :‬كيف ننظر‬
‫لفيزياء إسالمية وكيف نطبقها؟‬
‫واحلقيقة أن كل نشاط بشري له ُسلَّم قِيَ ٍم‪ ،‬وله أهداف َت ُكم ِو ْجهتَه ومص ِرفَه‪،‬‬
‫ومأْتاهُ وخوامتَهُ‪ ،‬مهما تنوعت الوسائل‪ .‬واالقتصاد إما أن خيدم أهدافا شهوانية أنانيّة‬
‫َ‬
‫عُْنفية فيكو َن اقتصادا جاهليا‪ ،‬وإما أن خيدم األهداف اإلحسانية‪ ،‬تنفقه اليد املؤمنة‪،‬‬
‫فذاك إسالميته وإن احتدت الوسائل اإلنتاجية وتشاهبت‪.‬‬
‫سوَد يف عـالقاتِنا باملال‬
‫ال َـمدار يف املسألة والسؤال هو‪ :‬هل نستطيع أن نُ ِّ‬
‫وباملنتوج االقتصادي وعمليات التنمية وإجارة العمل وتوزيع الثروة وإشاعة الكفاية‬
‫وبذل الفضول‪،‬‬‫كن الركني يف اإلسالم وهو اإلنفاق يف سبيل اهلل‪ُ ،‬‬ ‫وإشباع الضرورات الر َ‬
‫وتوسيع ذات اليَد ليقدم كل امرئ من دنياه آلخرته؟ وعندئذ يكون‬ ‫ُ‬ ‫كسب احلالل‪،‬‬
‫و ُ‬
‫اإلنسا ُن صانِ َع االقتصاد وسيِّ َد التنمية‪ ،‬ويكو ُن االقتصاد والتنمية إسالميني إلسالمية‬
‫خلصوصية ذاتية يف املعطيات اليت يسخرها اهلل عز وجل لكل من‬ ‫ٍ‬ ‫الفاعـل فيهما ال‬
‫ويع ِّسُرها جل وعال على من مل يتخذ ومل جيتهد‬‫اختذ األسباب بـَّراً كان أو فاجرا‪َ ،‬‬
‫ومل يتعلم ومل يتقدم‪.‬‬
‫التنمية االقتصادية كما يـَُعِّرفُها اخلبري هي‪« :‬جمموعة أعمال منظمة ضرورية‬
‫لتوجيه اجملتمع إىل حتقيق ظروف معيشية مجاعية وفردية منظمة تستجيب لنظام قيَ ِمي‬
‫ٍ‬
‫مرغوب فيه»‪.‬‬
‫تستجيب لنظام قيمي مرغوب فيه‪ .‬قال اخلبري‪ .‬واجلملة هذه هي اخلرب املبين على‬
‫مبتدإ «األعمال املنظمة» لتوجيه النشاط وحتقيق الظروف املعيشية اجلماعية والفردية‪ .‬الصفة‬
‫واملوصوف هنا (األعمال املنظمة) إما أن خيربا عن نيات إسالمية وأخالقيات إميانية وأهداف‬

‫‪478‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أثره‬
‫وتقوى وعمال صاحلا ميتد ُ‬
‫ً‬ ‫إحسـانية فتكون عملية التنمية وتصريف االقتصاد بِرا‬
‫من الدنيا إىل اآلخرة‪ .‬وإما أن خيربا عن نيات استهالكية و ٍ‬
‫أهداف أنانية فما هي إال‬
‫زهرة احلياة الدنيا ومتاع إىل حني‪.‬‬

‫فلوجود القصد اإلمياين اإلحساين عند الفرد وعند اجملتمع املسلم حيرص املالك‬
‫ـالل‪ ،‬ال يَظلم وال يـَْقبَل‬
‫والعامل وال ُـم َدبـُِّر على أن يكون له من الدنيا نصيبُه احل ُ‬
‫الظُّلم‪ ،‬وعلى أن يُعِ َّ‬
‫ف نفسه وعائلَتَه‪ ،‬وعلى أن يبين القوة اليت أمر بإعدادها‪ .‬فكل‬
‫ب يف اجتاه اقتصاد الكفاية والقوة‪ .‬التصنيع ورفع مستوى املعيشة‬
‫تص ُّ‬
‫اجلهود عندئذ ُ‬
‫والتنمية الشاملة والنشاط اليومي وعالقات اإلنتاج ووسائله وإنتاجه وتوزيعه‪ ،‬كل‬
‫اإلسالم مكانته وأمهيته وحدوده‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ذلك يعطيه‬

‫وباختالف القصد بني اجملتمع املسلم وغريه خيتلف مضمون التعليم وتقييم‬
‫األعمال وِوجهة النشاط ال ُـم َ‬
‫جمل‪ .‬يف اجملتمع املسلم البارئ من أمراض الغثائية ُتعل‬
‫امج التقنيَّةُ الربامج الرتبوية‪.‬‬
‫ضرورةُ الضرورات تربيةَ األجيال على اإلميان‪ ،‬ال تزاحم الرب ُ‬
‫َّد‬
‫وتد ُ‬
‫معن التعبئة اجلهادية‪ُ .‬‬
‫االقتصادي َ‬
‫ِّ‬ ‫وحيمل العمل والكسب واملسامهة يف النشاط‬ ‫ُ‬
‫أهداف تالئم «العمران األخوي» املرغوب فيه ال أهواءَ التملك‬
‫ٌ‬ ‫هلذا النشاط التنموي‬
‫األناين واألثَرة والتكاثر والرتف‪.‬‬

‫عطى واقعيا حمايدا‪ ،‬لكنها نتيجة‬


‫ليست اهليكلة التنموية االقتصادية التصنيعية ُم ً‬
‫مي‪ .‬ففي أساس إقامتها اختيار لسلوك معني وعالقات اجتماعية معينة‬ ‫ِ‬
‫الختيار قيَ ٍّ‬
‫ومنط حياة معني‪ .‬وعلى اإلسالميني أن خيتاروا النمط املالئم ألهدافهم‪.‬‬

‫‪479‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫هذا يف النظر والتوقع املستقبلي حني تكون إن شاء اهلل املقادة يف يد‬
‫مطالب‬
‫ُ‬ ‫اإلسالميني املؤمنني بأن حماربة ُشح األنفس وإشاعة العدل وبناء القوة‬
‫جوهرية حيوية‪ .‬أما عمليا فكيف نتحدث عن االختيار واقتصادياتنا املتخلفة املبعثرة‬
‫ومَزقها تابعةٌ القتصاد العامل القوي الغين؟ حنن حتت حكم‬ ‫يف أشالء الدُّويالت ُ‬
‫الضرورة وسنبقى إىل حني‪ ،‬وهلم‪ ،‬هم السادة‪ ،‬اختيـاراهتُم وإمكاناهتم ووسائلهم‬
‫املستقلة ومنط معاشهم‪ ،‬يفرضوهنا على العامل وسيفرضوهنا إىل حني وأجل يعلمه اهلل‬
‫عز وجل‪.‬‬
‫عيار السائد اليوم هو‬‫ِ‬
‫كيف نتحدث نظريا عن خصائص اقتصاد إسالمي وامل ُ‬
‫ِ‬
‫املسيط ِر بالفعل‪ ،‬الناجح بالفعـل؟ والناس‬ ‫معيار االقتصاد اجلاهلي القائم بالفعل‪،‬‬
‫من حولنا‪ ،‬ويف ديارنا‪ ،‬ومن أبناء جلدتنا‪ ،‬ال حديث هلم إال عن اللحاق بالركب‬
‫احلضاري العاملي‪ ،‬وما عندهم ُت َاه األمل الكامن فينا إال السخرية واالستخفاف‬
‫واالستبعاد‪ .‬اقتصاد إسالمي!‬
‫البَة بنا وباإلنسانية‬
‫إننا إذ نتحدث عن تنمية ختدم األهداف العمـرانية األخـوية َ‬
‫ِ‬
‫مجعاء‪ ،‬يسبِق بُّرنا للمستضعفني يف األرض‪ ،‬لسنا نناغي أمال حاملا‪ .‬بل ُ‬
‫نرسم‬
‫معال َـم مستقبل اخلالفة الثانية املوعودة‪ ،‬وميضي ما شاء اهلل من زمان قبل أن يشتد‬
‫ساعدنا‪ ،‬وقبل أن نصل إىل توازن‪ ،‬مث رجحان‪ ،‬خيدم أهدافَنا يف األرض وأغراض‬ ‫ُ‬
‫استخالفنا فيها‪ .‬ميضي ما شاء اهلل من زمان علينا أن ْنع ُمَره باجلهد املنظم املتواصل‬
‫ونستقل ونقود اقتصاد العامل اخلاضع يف عصرنا هذا لتجاذُب‬ ‫َّ‬ ‫قبل أن ترجح كِفتنا‬
‫نزاعات تتجدد وال تستقر‪ .‬إن شاء اهلل العلي القدير‪.‬‬

‫‪480‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫طرح السؤال عن‬
‫ت للرأمسالية املستكربة‪ ،‬ال يُ ُ‬‫صْ‬ ‫يف عصرنا‪ ،‬والقيادة َخلُ َ‬
‫التفاقم اخلطري بني تطور الوسائل املادية ومجوح االخرتاع هبا وبني ختلف اإلنسان‬
‫املتحكم ‪-‬متحكم حقا؟‪ -‬يف املقادة‪ .‬هذا اإلنسان املستعلي يف األرض ينظر إلينا‬
‫ومق ّدرات‬
‫من أعايل تفوقه التكنولوجي وتصـرفه تصرف املالك يف موارد األرض ُ‬
‫ساكنيها‪ ،‬ويضحك ساخرا إن حدثته عن أخالقية‪ .‬وهل يف االقتصاد أخالق!‬

‫متقدم هو إنسان االقتصاد تقدما رهيبا يف اخلربة والتنظيم والعلوم والتطبيق‪.‬‬


‫متخلف يف نظرنا يف األخالق‪ُ ،‬متَيبِّس شحيح ظامل‪ ،‬يشهد بظلمه وشحه ويُبسه‬
‫ت مواشيهم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ماليني الفالحني يف عامل املستضعفني الذين تصحرت أرضهم وفَنيَ ْ‬
‫ومات أطفاهلم‪ ،‬وتشردت عائالهتم‪ ،‬وامتألت جمالت املستكربين امللونةُ بصور‬
‫بؤسهم‪ .‬يشهد بذلك حتجر القلوب يف بَر اجلاهلية رغم التبجح الصاخب بالدفاع‬
‫عن حقوق اإلنسان‪ .‬ولوال وجود املنظمات غري احلكومية (م‪ .‬غ‪ .‬ح) ونشاطها‬
‫اإلنساين الذي ال ينكر حلكمنا باليأس من إنسانيتهم‪.‬‬

‫إن التنمية مطلب حيوي من مطالبنا‪ ،‬ولن ننتظرها من صدقات املستكربين‪،‬‬


‫ولن نقتنيها كما تقتىن البضائع يف السوق‪ .‬وسريى اهلل جل وعال عملَنا ورسولُه‬
‫اهلوى إن مكن لنا سبحانه يف األرض أم حنمل مسؤولية‬
‫نسيح يف وادي َ‬
‫واملؤمنون هل ُ‬
‫ِ‬
‫الب بعيال اهلل يف األرض‪ ،‬لنا الكفاية والقوة وللمستضعفني‪.‬‬

‫‪481‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وتلميع واجهات‬
‫ُ‬ ‫ال تـُْقتـََن التنمية كما تقتىن البضائع‪ ،‬وال يأيت تكديس األشيـاء‬
‫اجلنس أو الدين‬ ‫ِ‬
‫أجانب ِ‬ ‫العاط ِلة املسيّـرِة بأيدي‬ ‫ِ‬
‫احملطوطة يف أرضنا‪ِ ،‬‬ ‫املعامل املنقو ِلة‬
‫ِ‬
‫إال مبزيد من الركام احلضاري يف ديارنا‪.‬‬

‫ليست التنمية شيئا يؤتى به ويُلصق على واقع متخلف فإذا هو حي‪ .‬ال! وال‬
‫تسر الناظرين‪.‬‬
‫هي بالبضاعة اجلاهزة تُصنع هناك وتُركب هنا فإذا هي ُ‬
‫التنمية بناء إن مل يتأصل على إرادة قوية وإن مل يُدبَّر بأيد حكيمة فلن يكون‬
‫حتصل يف أيدينا‪ ،‬وإن حصلت فستبقى تابعة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إال ثقال يطْمر الساكنني‪ .‬التنمية لن ُ‬
‫خانعة‪ ،‬إن مل ننطلق من إسالميتنا ومن فـَْرضية السعي والكسب والعدل والعمل‬
‫املعم ُم والعمل الصاحل‬
‫الصاحل‪ .‬يكون السعي النشيط والكسب احلالل والعدل َّ‬
‫باعث الفرد‪ ،‬وقانون اجملتمع‪ ،‬ودين الدولة‪ ،‬وضابط املستثمر والصانع واألجري‪ .‬وكل‬
‫تنمية حناوهلا‪ ،‬وهي ممتنعة‪ ،‬دون إسالمنا فإمنا تكون تنمية لتبعيتنا وتوغال يف عبوديتنا‬
‫لألقوياء‪.‬‬

‫من هذا املنطلق اإلسالمي اإلمياين اإلحساين يلتزم حكم الشورى بالنهضة‬
‫االقتصادية‪ ،‬يتبناها مشروعا أسبقيا‪ ،‬ويشجعها‪ ،‬وحيمي عملياهتا‪ ،‬ويُرغب يف املشاركة‬
‫الفعالة كل ذي قدرة‪.‬‬

‫وعلى توِال البواعث والتنظيم السياسي واملعرفة التكنولوجية وإفساح اجملال‬


‫للخريات واالستثمارات‪ ،‬وعلى تسانُدها وترتيب األسبـاب منها على املسببات‬
‫والنتائج على املقدمات‪ ،‬يتوقف جناح التنمية وإسالميتها‪.‬‬

‫‪482‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الباعث اإلمياين سابق يف االعتبار‪ ،‬مث استقرار احلكم على الشورى‪ ،‬مث‬
‫جيمع املؤمنون الراضون حبكم العدل قدر ِاتم وخرباهتم وأموا َلم‪ ،‬مث التصنيع تدفع‬
‫ُ‬
‫إليه بقوة وتصب فيه بغزارة هذه املسبَّقات االعتبارية‪ .‬فإذا عكست فالتصنيع‬
‫ركام والتنمية الشاملة ُحلُم‪ .‬بدون إميان املؤمنني انتقض البناء قبل أن يؤسس‪.‬‬
‫الغين‪ ،‬وأنتم الفقراء‪.‬‬
‫واهلل ّ‬

‫‪483‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫التعبئة اجلهادية‬
‫أستعمل كلمة «التعبئة» اليت يسرف يف استعماهلا الثوريون‪ ،‬اليساريون منهم‬
‫والقوميون‪ .‬كانوا يستعملوهنا قبل أفول جنمهم يف بالد املسلمني ويف العاملني‪.‬‬
‫ذلك ألُحل عل جديـة التنمية االقتصـادية وما يلزم من ٍ‬
‫رصد جلهود اإلسالميني‬
‫يف واجهة ْتيسري املعاش وأسبابه‪ .‬فإهنم إن مل تستجب جهودهم ملتطلبات اجلماهري‬
‫اإلسالمية يف حل مشاكل االقتصاد ورفع َغائلة الفقر والبطالة وسائر العلل والعاهات‬
‫يطول زمنهم‪ ،‬ولن يتمتعوا بثقة الشعب أكثر من جولة ختيب فيها اآلمال‬ ‫فلن َ‬
‫سحب فيها أصوات االنتخاب‪ .‬أستغفر اهلل العظيم‪ ،‬حتدثت عن جهود تستجيب‪،‬‬ ‫وتُ ُ‬
‫صارى ما منلك‪.‬‬
‫وال جميب إال اهلل جلت عظمته‪ ،‬والذي علينا بذل قُ َ‬
‫ال أحتدث هنا عن املعاجلة الفورية املرحلية لقضايا االقتصاد وال للتفاصيل‬
‫مظروف بالزمان واملكان وأحوال‬
‫ٌ‬ ‫التطبيقية‪ ،‬فذلك ألهل اإلميان واالختصاص‪ ،‬وذاك‬
‫القطر وتقلبات املناخ احمللي والدويل‪ .‬ذاك لِما يفتـح اهلل جل وعال لعباده املؤمنني‬
‫حني يتصد َّْون للحكم‪ ،‬هم يومئذ حتت طائلة الضرورة ُياشون ما يرثونه حسب‬
‫الطاقة‪ ،‬ويراودونه على االستقامة حىت يوسع اهلل تعاىل هلم فيجدوا من الضائقة َس َعة‪،‬‬
‫وتضع قاطرته‬
‫ِّل أوضاع االقتصاد َ‬ ‫ومن ِخ ِ‬
‫ناق الضرورة فُسحة الختيار اسرتاتيجية تـُبَد ُ‬
‫على السكة اإلسالمية‪.‬‬

‫‪484‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫استعملت أيضا كلمة «اسرتاتيجية»‪ ،‬وهي كلمة عسكرية قتالية للداللة على‬
‫أن معركة التنمية قضية حياة أو موت للحكم اإلسالمي‪.‬‬

‫أمامنا منهجيتان وأسلوبان للتعبئة التنموية‪ :‬منهجية االقتصاد احلر اللربايل‬


‫السوقي‪ ،‬واملنهجية االشرتاكية الشيوعية‪ .‬هذه اعتمدت على وسائـل القسر واإلكراه‬
‫ونزع امللكية والتخطيط املركزي وإناطة حتديد األهـداف وترتيب األسبقيات بالرقابة‬
‫البريوقراطية ففشلت وغرقت الغرق الشنيع‪ .‬مل تنجح مبعايري الكم إال يف جتنيد‬
‫معسكر مسلح رهيب اجلانب لزمن‪ .‬والثمن كان باهظا من كرامة اإلنسان وحياة‬
‫املاليني وخريات األرض‪ .‬ميكننا اعتبار التعبئة الشيوعية يف حقل التنمية مثاال سلبيا‬
‫منوذجيا‪.‬‬

‫وينتصب االقتصاد الرأمسايل عاتيا جبارا يباهي بإجنازاته الضخمة وجدواه‬


‫وفاعليته وهيمنته‪ .‬فما سر التعبئة اللربالية‪ ،‬وما سر اهلبَّة الثورية االشرتاكية اليت أهلبت‬
‫زمانا محاس املظلومني يف األرض وأمسكت عن السقـوط ملدى بضع وسبعني عاما‬
‫كيانا منخور األساس؟‬

‫الثوري «يا عمال العامل احتدوا!» مهة املظلومني املطالبني بالعدل‬


‫ُّ‬ ‫َّد النداء‬
‫َجن َ‬
‫َّصفة من الرأمسالية األمربيالية‪ .‬كان طلب العدل القوة الفطرية اليت مجعت‬
‫والن َ‬
‫أعقب‬
‫الطليعة الثورية وحشدت اجلموع ودكت حصون العدو الربجوازي الرأمسايل مث َ‬
‫اإلديولوجيةَ الثوريةَ دهاءُ لنني وسفك ستالني والطموح القومي الروسي‪ .‬واهنار البناء‬
‫بعد ذلك ألنه خنق احلريات دون أن حيقق الكفاية املعاشية وال العدل‪.‬‬

‫‪485‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أما اللربالية فاعتمدت وال تزال تعتمد على تعبئة الغريزة الفردية وتتخذها‬
‫مطية وباعثا وقائدا‪ :‬غريزة التملك والكسب واملغامرة والربح‪ .‬كانت كلمتُها السحرية‬
‫وشعار املرور وجواز النجاح‪ :‬املبادرة احلرة‪ .‬أنكرت الشيوعية هذه الغريزة فغ ِرقَ ْ‬
‫ت‪.‬‬
‫يلتقي طموح اإلسالميني املنطلقني من أوامر اهلل جل وعال بطموح طالب‬
‫العدل‪ .‬فطلب العدل ومقاومة الظلم فطرة سليمة يزكيها الدين ويشجعهـا وينصرها‪.‬‬
‫ويعرتف اإلسالم حبرية العمل‪ ،‬وبامللكية اخلاصة‪ ،‬وبدافع الربح‪ ،‬وبالرتاضي احلر‬
‫مكونات اقتصاد السوق‪ ،‬ويف ضمنها التنافس واملبادرة‬ ‫بني املتعاملني‪ .‬وكل هذه من ِّ‬
‫احلرة‪.‬‬

‫فهل يكون االقتصاد اإلسالمي نسخة منقحة من الرأمسالية‪ ،‬أم يكون نقداً‬
‫للرأمسالية حيارهبا بسالحها؟‬
‫إن كانت وسائل التنظيم االقتصادي واإلدارة التجارية واخلربة التكنولوجية‬
‫واآلالت واملرافق اليت طورهتا الرأمسالية ِوعاءً ماديا صاحلا أن يستعمله االقتصاد‬
‫اإلسالمي ويبين عليه ويطهره من حيث الربا ورذيلة الغش وآفة التبذير وعاهة التكاثر‬
‫فإن املضمون اخللقي واهلدف املعاشي والوظيفة احليوية للثروة ولإلنتاج والتوزيع يف‬
‫االقتصاد اإلسالمي ختتلف اختـالفا جوهـريا عن مثيالهتا يف االقتصاد الرأمسايل‪.‬‬
‫اختالفا راجعا ملا يُكنه ضمري املؤمنني وسلوك احملسنني مهما تشابه ِوعاؤمها بوعاء‬
‫الكافرين‪.‬‬

‫يعبئ اإلسالم غريزة التملك ونا ِز َ‬


‫ع املبادرة وجاذبيَّةَ السوق‪ ،‬لكن يهذب هذه‬
‫الغريزة‪ ،‬وخياطب الفطرة‪ ،‬ويوقظها لكيال تستنيم‪ ،‬ويذكر املرءَ بأنه مسافر عابر‬

‫‪486‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫سبيل‪ ،‬إن كان ال بد له من متاع يرتفق به يف الدنيا ويتبلغ به فإنه لن جيد يف آخرته‬
‫غري ما قدمت يداه من عمل صاحل يشهد الشرع بصالحه‪.‬‬
‫َ‬
‫من هنا تبدأ اسرتاتيجية االقتصاد اإلسالمي التغيريي‪ .‬من تغيري ما بالنفوس‪.‬‬
‫وكل مكتسبات العقالنية التنظيمية اإلدارية التكنولوجية اليت طورهتا اإلنسانية يُذكر‬
‫عليها اسم اهلل وتُستصلح‪ .‬بدون تردد وال تعقد وال ختوف من التعلم يف مدرسة‬
‫احلكمة البشرية‪.‬‬

‫تبدأ اسرتاتيجية االقتصاد اإلسالمي من تربية البواعث اإلميانية وهي قضية‬


‫أجيال‪ .‬إن كانت التنمية املادية تقتضي العناية البالغة «باملوارد البشرية» وتستثمر يف‬
‫التعليم حسابا ملردودية اقتصادية وتسوية اجتماعية فإن عنايتنا هبذا اجلانب‪ ،‬وينبغي‬
‫أن تكون من أسبقياتنا‪ ،‬ال حتجب عنا اهلدف االسرتاتيجي اجلهادي‪ ،‬أال وهو تربية‬
‫أجيال مؤمنة باهلل وباليوم اآلخر تُصلح يف األرض وال تفسد‪ ،‬تكون رمحة للخلق ال‬
‫طاغوتا خمربا‪ ،‬ختدم املستضعفني وتطعم اجلائعني وتـَبـَُّر باخلالئق أمجعني‪.‬‬

‫اح الغرائز العليا‪ ،‬وتواصل الدعوة ‪-‬وهي‬ ‫مبخاطبتنا لفطرة اإلميان نطلق سر َ‬
‫القوة االسرتاتيجية إن تفرغت الدولة للسياسة اآلنية‪ -‬هتذيب الغرائز وتدريبها بتنشئة‬
‫مؤمنني ومؤمنات يوتون فرض الزكاة‪ ،‬وينفقون يف السـراء والضراء‪ ،‬ويبذلون الفضل‪،‬‬
‫اجلشع‬
‫ويتمتعون بزينة اهلل وبالطيبات من الرزق دون إسراف وال تبذير‪ ،‬ويَ ُك ُّمو َن َ‬
‫الورع يف حدود‬‫لكيال يسا ِوَرهم‪ ،‬ويقمعون الشح ليتقوا غائلته‪ ،‬ويقفون مع داعي َ‬
‫الشبهات بني احلالل واحلرام‪.‬‬
‫‪487‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫من اسرتاتيجيات االقتصاد اإلسالمي أن ال تتحمـل الدولة من شؤون‬
‫االقتصاد إال ما ال بد منه‪ ،‬كشرطي املرور يراقب السـري لكنه ال يتدخل إال ليعاجل‬
‫ويستبق ما يتوقع منها‪.‬‬
‫َ‬ ‫االصطدامات‬
‫هذا َمْبدأٌ اختلفت فيه منهجية الشيوعيني عن إخواهنم‪َ ،‬فوكلوا للدولة كل‬
‫ـؤول عن املبادرة‬
‫املهمات‪ ،‬ففشلت لَ َّما علم الكل أن األرض ال مالك هلا‪ ،‬وأن املس َ‬
‫هناك يف العاصمة‪ ،‬وأن عني الرقيب احمللي ال تقيم وزنا للمردودية‪ ،‬وأن ِ‬
‫العام َل‬
‫مكفول مضمون ال حاجة له لغري إظهار الطاعة للرتاتبية البريوقراطية‪.‬‬
‫تطوق‬
‫وإن القيود القانونية اليت تفرضها الدولة بسلطـان القانون ال ميكنها أن ِّ‬
‫وحدها الغش واالستغالل واالحتكار والتبذير‪ .‬ال ميكنها من أعلى أن تضبط حركة‬ ‫َ‬
‫العمل‪ ،‬وسيولة التوفري‪ ،‬وجداول االستثمار‪ ،‬وجدوى اجلهاز اإلنتاجي‪ .‬ال ميكنها‪-‬‬
‫وهي قيود وأوامـر وقوانني‪ -‬أن ختتار التكنولوجيا املالئمة‪ ،‬والتنظيم الالئق‪ ،‬والتسويق‬
‫املربح الناجع‪ .‬ال ميكنها أن تساير‪ -‬وهي الثقيلة الغائبة عن امليدان وإن كثرت‬
‫ملفاهتا‪ -‬العرض والطلب يف مرونتهما‪ ،‬وال أن تقاوم التحجرات‪ ،‬وال أن تتقلب مع‬
‫األحوال‪.‬‬
‫ص املوارد مبقتضى قواعد الدين ال‬ ‫ص ُ‬
‫يف اسرتاتيجية االقتصاد اإلسالمي ُت َّ‬
‫الع ِج َل ال يصرب وال‬
‫أس املال َ‬ ‫هبدف تنمية رأس املال وتكثريه بكل الوسائل‪َّ .‬‬
‫فإن ر َ‬
‫ينتظر أن تويت االستثمارات الطويلةُ ِ‬
‫اجملال أُ ْكلَ َها‪ ،‬بل يريـد رحبا عاجال مضمونا وافرا‪.‬‬
‫رأس املال العجل خيشـى املغامرة‪ ،‬خاصة يف البالد اليت ليست هلا تقاليد وجتارب يف‬
‫امليدان‪.‬‬

‫‪488‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يعرتف الشيوعيون –وما لنا نذكر الشيوعيني وقد ماتوا!‪ -‬باملهمة التارخيية‬
‫للربجوازية الرأمسالية‪ .‬ويشكو اقتصاديو التخلف من فراغ اجملتمعات الفقرية واملتخلفة‬
‫من برجوازية حملية مغامرة مبادرة قديرة متأصلة‪.‬‬

‫وال ُمندوحة لنا عن االهتمام مبا جنده يف الساحة من طبقة املتمولني‪ ،‬فهم ذخرية‬
‫للخربة والقدرة والكفاية واملعرفة بدخائل السوق العاملية‪ .‬ومن اجلنون أن ِ‬
‫نعم َد غداة‬
‫انتحار‪ .‬بل ننتقل مع املتمولني ‪-‬حاشا‬
‫ٌ‬ ‫احلكم إىل كسـر اآللة اإلنتاجية‪ ،‬فذاك‬
‫َ‬ ‫تولينا‬
‫الظاملني املستكربين املفسدين باألمس‪ -‬من التعبئة الرأمسالية ُرويدا للتعبئة اإلسالمية‪.‬‬
‫يطهره من رجس الربا؟‬ ‫ِ‬
‫فم ْن يتصدَّى للنظام البنكي حىت َ‬ ‫ضرر وال ضرار‪ .‬وإال َ‬
‫ال َ‬
‫ومن خيرج هذه املصارف اإلسالميـة من َحْب ِو التجارب وهامشية السوق إىل السري‬
‫القوي يف مضما ٍر تسوده االحتكارات الرأمسالية العاملية؟ ومن يقوم هلذه الشـركات‬
‫ويداورها ملصلحة املسلمني؟ من يسهر على عمليات االدخار‬
‫َ‬ ‫العابرة احلدود لينازهلا‬
‫باج؟‬
‫عاج ٍّ‬
‫واالستثمار والتسويق يف عامل ٍّ‬
‫تعبئة املتمولني املسلمني يف معارك اجلهاد‪ ،‬وحو ُارهم‪ ،‬وتألُُّفهم‪ ،‬ورعايةُ مصاحلهم‪،‬‬
‫تعاوهنم ال جتد صعوبةَ احلوار مع املغربـني امل َف ْلسفني‪ .‬فاملتمولون وإن كانوا‬ ‫ِ‬
‫واستدر ُار ُ‬
‫طبقة وكانت هلم عادات وصداقات ومصاحل مشرتكة مع الرأمسالية العاملية فإن حبل‬
‫يد ملصاحلهم‪ ،‬وطنُهم‬
‫الوالءَ املطلق الفر َ‬
‫الثقافة امللحدة ال خينُ ُق رقَاهبم‪ .‬إن كانوا يُعطون َ‬
‫أس ماهلم‪ ،‬فسيكتشفون معنا أن مصلحتَهم الدائمة‪ ،‬ووطنَهم احلق‪ ،‬هو اإلسالم‪ .‬ال‬ ‫رُ‬
‫اإلسالم شيئـا من ملكيتك ما آتيت الزكاة‪ .‬وحىت خيرج اهلل عز وجل من أصـالب‬
‫ُ‬ ‫ينكر‬

‫‪489‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الرحب‪ .‬وما النصر إال من‬
‫َ‬ ‫املنزل‬ ‫من يشاء أجياال على الفطرة َّ‬
‫فإن لذوي الكفاآت َ‬
‫عند اهلل‪ .‬إن اهلل عزيز حكيم‪.‬‬

‫‪490‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫القومة ومهومها التنموية‬

‫تشكل التنمية االقتصادية من القومة قوائمها املادية ودعائمهـا وأرجلها‪.‬‬


‫واحلاجة والتخلف االقتصادي موطن ضعف ُي َشـى أن نُؤتى من قِبَلِ ِه‪.‬‬

‫أستغفر اهلل العظيم‪ ،‬فأعظم ما ُيشى أن نؤتى منه هو تقصريُنا يف الوفاء بشرط‬
‫آمنُوا ِمن ُك ْم‬ ‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫اهلل عز وجل الذي علَّق نصره عليه حيث قال‪َ ﴿ :‬و َع َد اللَّهُ الذ َ‬
‫ين ِمن قـَْبلِ ِه ْم‬ ‫ض َكما استَ ْخلَ َ َّ ِ‬
‫ف الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصال َحات لَيَ ْستَ ْخل َفنـَُّهم في ْال َْر ِ َ ْ‬
‫و َع ِملُوا َّ ِ ِ‬
‫َ‬
‫ضى لَ ُه ْم َولَيُبَ ِّدلَنـَُّهم ِّمن بـَْع ِد َخ ْوفِ ِه ْم أ َْمناً يـَْعبُ ُدونَنِي‬
‫َولَيُ َم ِّكنَ َّن لَ ُه ْم ِدينـَُه ُم الَّ ِذي ْارتَ َ‬
‫َل يُ ْش ِرُكو َن بِي َش ْيئاً﴾‪.1‬‬

‫أكرب ما حنمل من هم تقصريُنا يف طاعة اهلل عز وجل‬


‫أعظم ما خنشى و َ‬
‫ليَ ُك ْن َ‬
‫ونزولُنا عن مرتبة اإلميان وجمانبتُنـا لإلخـالص والصـواب يف عمل الصاحلات‪.‬‬
‫املعوقات والعقبات اليت حتول دون ِ‬
‫بناء قوتنا الذاتية‪ .‬أمامنا‬ ‫مث بعدها ننظر يف ِّ‬
‫ِ‬
‫ومنافس‪.‬‬‫ومها ٍو كيف نتجنبها؟ وشر ٌاك منصوبة وعدو ُ‬‫حواجز كيف خنرقها؟ َ‬
‫إن مل يكن لك مهومكافية فسيُنشئها لك من ال تتطـابق مصلحته مع مصلحتك‪.‬‬
‫كيف واهلموم للحاكم اإلسالمي يف بدايته كاجلبال ‪َ :‬ه ُّم املسك ِن للضَّاحي‪ ،‬و ِ‬
‫العمل‬

‫‪ 1‬سورة النور‪ ،‬اآلية ‪.55‬‬

‫‪491‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫للعاطل‪ ،‬والصحة للمريض‪ ،‬و ِ‬
‫القوت والغذاء وحنن ال ننتج‪ ،‬والتعلي ِم الذي جيب أن‬
‫يعاد النظر يف طبيعته ووسائله وأهدافه ونظامه‪.‬‬

‫قتحم والعامل يف خماض‪ ،‬واحلكم اإلسالمي تتوجس منه ِخيفةً‬ ‫عقبات لتُ َ‬
‫وش ّكاً ِ‬
‫وعداءً قوى املال‪ .‬واالستحقاقات حالّة‪ ،‬والضرورات ضاغطة‪ ،‬واملرياث ثقيل‪،‬‬
‫ضد القائمني‬
‫ت يف َع ُ‬
‫والوسائل شحيحة‪ .‬مشاكل تـُْنسي احلليم مثاليَّتَهُ وتوشك أن ت ُف َّ‬
‫عندما يصطدمون بالرخاوة العـامة من بعد احلماس األول‪ ،‬وباحملسوبية الساكنة يف‬
‫النّ َخاع‪ ،‬وبالرشوة أصبحت مذهبا يف العـالقات بني احلاكم واحملكوم‪ ،‬وبانعدام‬
‫الضمري‪ ،‬وقلة املباالة بالشأن العام‪ ،‬والفقر من الرجال اجلامعني بني أمانة اإلميان وقوة‬
‫العلم والكفاية يف اإلجناز‪.‬‬

‫قي‪ ،‬ومعه أمراض أخرى مواكبة ِمَّـا يتولد من الفوضى‬


‫مرضي خلُ ٌّ‬
‫ُّ‬ ‫ذاك مرياث‬
‫الفتنوية اخلاصة بالبالد املتخلفة‪ :‬أمراض اجتماعية وعيوب هيكلية وضعف عن‬
‫مواجهة حقائق العصر‪.‬‬

‫نرث منط اإلنتاج احمللي املبعثر‪ .‬كيف ننقله إىل منط إنتاج صناعي قادر على‬
‫مزامحة السوق العاملية‪.‬‬

‫كيف نعبئ املال وندخره وندخله يف قنوات منتجة بدل صرفه يف نفقات‬
‫البذخ واألعراس واملفاخرة والتكاثر بني اجلـريان واملعـارف‪ .‬بدل صرفه يف املضاربات‬
‫غري املنتجة‪.‬‬
‫‪492‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وهنا يربز التفاوت الشنيع بني دويالت النفط اليت تدفع بأموال املسلمني يف‬
‫قنوات الصريفة اليهودية العاملية ويبقى سواد األمة متسك خبناقه املؤسسات الدولية‬
‫كالبنك العاملي وصنـدوق النقـد الدويل اليت تقف من وراء جبهة املقرضني‪ ،‬ال ُيدون‬
‫احملتاج بدوالر إال باستشارهتما‪ ،‬وال يشريون ٍ‬
‫مبعونة إال ملن قبل شروطهما‪ .‬صندوق‬
‫النقد الدويل سلطة اقتصادية يف العا َل هي اليوم أشد وطأة على الدول املستضعفة‬
‫وأنكى وأدهى من سلطة االستعمار آنفاً‪.‬‬
‫طوق‬
‫املالزم‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫املوروث ومعه الطوق‬
‫ُ‬ ‫طو ُق املديونية‬
‫يهدد القومةَ اإلسالميَّةَ ْ‬
‫املشروطية اليت تنطق هبا املؤسسات الدولية حكما ال يقبل االستئناف‪ .‬كلمة‬
‫صندوق‬
‫ُ‬ ‫الرقيب هي برامـج التقـومي اهليكلي‪ .‬يقرتح‬
‫ُ‬ ‫احلسيب‬
‫ُ‬ ‫صندوق النقد الدويل‬
‫امج تغطي جماالت‬
‫النقد الدويل‪ ،‬بل يفرض‪ ،‬برامج واسعة على الدولة املدينة‪ .‬بر َ‬
‫االسترياد والتصدير‪ ،‬وأسعار الصرف‪ ،‬والنفقات العمومية بأنواعها‪ ،‬والضرائب‪،‬‬
‫وقانون االستثمار‪.‬‬
‫الدويل هذه العـالجات لتطبيب االقتصاديات املريضة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫يصف صندوق النقد‬
‫يم العواقب السياسية‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وهو عالج قاتل أحيانا‪ِّ ،‬‬
‫مول ٌد للحرمان‪ُ ،‬مُّر املذاق‪ ،‬وخ ُ‬
‫َ‬
‫صفاته‪ ،‬وهي يف احلقيقة وصفة واحدة دائمة‪،‬‬ ‫الدويل أن َو ْ‬
‫ُّ‬ ‫يزعم صندوق النقد‬
‫وأن براجمه ختفف من ِحل اخلَصاص يف التبادل اخلارجي‪ ،‬ويف ميزان املدفوعات‬
‫وامليزان التجاري‪ .‬ويزعم أهنا تعيد ميزانية الدولة لالكتفاء والتوازن‪ .‬والنتائج احملصل‬
‫تس ُّـر‪ .‬وأحيانا كثريًة تكو ُن خطرية‬
‫عليها حىت على الصعيد االقتصادي قليال ما ُ‬
‫العواقب‪.‬‬
‫ص ُل يف اخليار بني وباء املديونية‬
‫لكن ما حيلة املضطر املخنوق الذي َْي ُ‬
‫وطاعون التضخم املايل وما جيره معه من ذيول؟‬
‫‪493‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الضروري مع السلطات‬
‫ُّ‬ ‫ـامل‬
‫أسها‪ :‬التع ُ‬
‫هذا هم من أعظم اهلموم‪ ،‬إن مل يكن ر َ‬
‫املالية الدولية‪ ،‬ومن ورائها لغة الدوالر الفصيحة ونيته الصرحية‪ :‬أن ال تسهيل للحكم‬
‫اإلسالمي‪.‬‬

‫وهم اخنفاض القوة الشرائية جلمهور‬


‫هم التفاوت الشنيع بني مستويات املعيشة‪ُّ ،‬‬
‫جراء الربامج الدولية اليت جتعل أول‬
‫الشعب‪ ،‬وتفاقُم الضرائب‪ ،‬وغالءُ األسعار من ّ‬
‫شروطها خفض قيمة العملة‪.‬‬

‫إن اخلصاص يف التمويل واملشروطية الدولية واملديـونية من أهم العوائق يف طريق‬


‫مجع شيء فيه َغناء من تعبئة املوارد احمللية يف البالد الفقرية‬
‫التنمية‪ .‬وليس من السهل ُ‬
‫واملتوسطة الدخل‪ .‬فليس لنا من طريق مرحـلي إال التعامل اجملحف مع املنظمات‬
‫كنزها‪ -‬من قبضة السفهاء‪.‬‬
‫النفط‪-‬رزق األمة و َ‬
‫َ‬ ‫الدولية ريثما حنرر‬

‫يف األفق يظهر ظل االستقالل األوريب عن هيمنة الدوالر‪ .‬يف األفق وحدةُ‬
‫أوربا ال ُـم ْؤِذنةُ بطلوع جنم جديد يف مساء العملقة الدولية‪ .‬لن تلبث أوربا املتحدة‪،‬‬
‫وزعيمتُها أملانيا الصاعدة‪ ،‬أن تطالب بإعادة النظر يف النظـام العاملي مبا يعيد ألوربا‬
‫مكانتها‪ .‬تطالب مبراجعة نظام األمم املتحدة‪ ،‬ونظام جملس األمن‪ ،‬ونظام الصرف‬
‫العاملي‪ ،‬ونظام أمثنة املواد اخلام‪.‬‬

‫جوالةً‬
‫لن تلبث أوربا املوحدة أن تسحب يف قاطـرهتا «البيت األوريب» الشرقي ّ‬
‫يف عامل قدمي جديد حيده غربا جدار برلني الذي ُهدمت أحجاره لتمتد يده يف‬
‫األطلنطي وليفصل بني أمريكا الشائخة وأوربا املتجددة الشباب‪.‬‬

‫‪494‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ت وعود الغرب األمريكي ووعود‬
‫اهنار النظام العاملي القدمي ذو القطبني‪ ،‬وك َذبَ ْ‬
‫متوَل التنمية وال أن تنقل التكنولوجيا‬
‫الشرق السوفييت‪ .‬مل تستطع األبناك الغربية أن ِّ‬
‫لبالد كانت هلا موالية يف احلرب الباردة‪ .‬ومل تستطع املساعدات العسكرية السوفياتية‬
‫ملواليها أن تغري من واقع دولة اليهود وتشرد الفلسطينيني‪ .‬فلعل يف تقلب األحوال‬
‫وصعود أوربا فجوةً للخروج من ِربقة املشروطيات الدولية الدوالرية‪.‬‬

‫يب اليد العاملة وتشغيلها‪ .‬فإن من آثار التعليم‬


‫من أحجار الزاوية يف التنمية تدر ُ‬
‫العشوائي الذي طبقته احلكومات يف البالد اإلسالمية بعد االستقالل الصوري أن‬
‫اندفع الطاحون لتكوين أدباءَ وفالسفة ومؤرخني وحمامني‪ .‬ومل تُ َك ِّو ْن اليد العاملة‬
‫املاهرة وال الكفاآت العلمية العـالية‪ .‬فإن فعلت فسـوء التدبري وانغالق األبواب‬
‫واختالل املعايري واحملسوبية والرشوة متنع من استعمال األكفاء واالستفـادة منهم‬
‫فيقفون يف طابور البطالة أو ين ِزفون يف هجرة األدمغة‪.‬‬

‫وهكذا يرحل ِخرية أبنائنا ليستغين هبم االقتصاد الغريب وتتألّق بعلومهم‬
‫اجلامعات الغربية واملؤسسات العلمية املتقدمة‪ .‬وتستورد حكومات الفتنة الذئاب‬
‫يتقاضون من‬
‫ْ‬ ‫الرأمسالية يف دوائر االنفتاح ومعهم خرباءُ من جنسهم ُم َدلّلُون ُمرتفون‬
‫أموالنا أضعاف ما كان يرضى به أبناؤنا لو عـرفنا فقط كيف نقرتح عليهم مشروعا‬
‫فيه كرامتهم وعزة أمتهم وجماال لتفتُّح عبقريتهم‪.‬‬

‫من أحجار الزاوية إذاً يف البناء االقتصادي والتنمية تدريب املتخصصني واستئالفهم‬
‫واسرتجاعهم من ديار اهلجرة ليسامهوا يف استئناس التكنولوجيا وتوطينها‪ .‬إ ْن ال نفعل‬

‫‪495‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫تسيل من بني أيدينا ساذجة رخيصة الثمن نصدِّرها‬
‫فسيضيع ما معنا من موارد خامة ُ‬
‫أدارت إنتاجها‬
‫س لتعود إلينا وقد صنعتها اليد اليابانية وهندسها العقل الياباين و ْ‬‫بالبَ ْخ ِ‬
‫ونظمت تسويقها احلنكة اليابانية وباعتها لنا الشركات اليابانية خبالصة َدِمنا وعرق‬
‫جبيننا الك ِ‬
‫ـاد ِح يف غري طائل‪.‬‬ ‫َ‬
‫إن التنمية املستوردة مبموليها وخربائها‪ ،‬كالبضائع املستـوردة اجلاهزة‪،‬‬
‫وكالتصنيع املستورد‪ ،‬ما هي إال حركة على السطح وموجة ال قرار هلا‪ .‬إمنا‬
‫التنمية أن منلك ناصية العلوم‪ ،‬ونتدرب على التنظيم واإلدارة‪ ،‬ونستقل باملبادرة‬
‫والتمويل‪ ،‬وحنتك باملنافسة الدولية‪ .‬وكل ذلك يكون فرعا عن إدارة ظَ ْه ِرنَا‬
‫للحكم التقليدي املستبد‪.‬‬
‫السؤال األساسي يف التصنيع هو‪ :‬كيف نشجع اإلنتاج ال االستهالك؟ ما‬
‫حتمله ِعبئا ميتا ال يُنتج‪،‬‬
‫ك الدولة ِ‬ ‫جنده أمامنا من هياكل اقتصادية هي إما من ِم ْل ِ‬
‫أو من متلكات االنفتاح واخلصخصة والرأمسالية احمللية واملستوطنة‪ ،‬كلها تبحث عن‬
‫الرتيف يُ َس ِّع ُـر سوقَهُ اإلشهار‪.‬‬
‫االستهالكي ِّ‬
‫ِّ‬ ‫الربح السريع فال جتده إال يف اإلنتاج‬
‫كيف نشجع اإلنتاج الكفء اجلدير بالدخول يف السوق العاملية دون أن‬
‫نسقط يف أخطاء الرأمسالية ودون أن ِ‬
‫نستنقع يف اقتصاد التخطيـط املركزي الذي أكل‬
‫الدهر عليه وشرب؟‬
‫ـري ويَصلُهُ تَ ّـواً باقتصاديات األوطان‬
‫كيف نوطن اقتصادا يصون كياننا القط َّ‬
‫املسلمة يف منظور وحدوي تكاملي؟‬

‫‪496‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫تأصلت يف جمتمعاتنا الغثائية عادات الطفيلية والكسل والسمسرة يف العملة‬
‫والتوكيالت التجارية‪ ،‬فكيف نتحول إىل جدية الصناعي الشجـاع املغامر؟ كيف‬
‫ن ْغ َشى السوق العاملية ُنِدُّها بال تبعية ونستمـد منها بال غنب عارفني بآليات السوق‪،‬‬
‫دون أن نُ ْس ِقط من حسابنا ضرورة سهر الدولة على املرافق العامة‪ ،‬ودون إهدارها‬
‫للضمانات االجتماعية األساسية؟ واهلل على كل شيء وكيل‪ .‬سبحانه‪.‬‬

‫‪497‬‬
‫الباب الثالث‬
‫ما العمل ؟‬
‫الفصل األول‬
‫احلل اإلسالمي‬

‫* أيُّ حل؟‬
‫* بأي مثن؟‬
‫* وبأي أسلوب؟‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫أيُّ حل؟‬

‫بدأت يف الباب األول من هذا الكتاب باسم اهلل مث ذكرت القوة السياسية‬
‫الوالئي بني املؤمنني‪ ،‬وما حيمله‬
‫اإلسالمية‪ ،‬والبناء القليب اإلمياين لتشكيالهتا‪ ،‬والرباط َ‬
‫اإلسالميون من إرادة‪ ،‬وما يرمسونه من أهداف‪ .‬وتعرضت يف الباب الثاين للعقبة‬
‫اخلارجية املتمثلة يف العِداء الغريب لإلسالم‪ ،‬ويف تنكر بعض أبناء املسلمني لدينهم‪.‬‬
‫وذكرت من بني ظواهر املخاض اجلديد يف العامل مطالع نظام جديد من أهم‬
‫مالحمه انتهاء عهد كانت فيه أوربا شطرين‪ :‬أوربا أمريكية وأخرى روسية‪ .‬فبعد اهنيار‬
‫العمالق السوفيييت وتفتته‪ ،‬وبعد دخول الوهن يف اقتصاديات إمرباطورية الدوالر‬
‫تعيد أوربا الكرة فتتوحد‪ ،‬وتتهيأ ملعانقة «البيت األوريب» املمتد إىل سربيا وكنوزها من‬
‫املوارد الضخمة‪ .‬وذاك أفق يكون فيه إن شاء اهلل لإلسالم شأن بعدما تسفر عنه‬
‫تشنجات املعركة النفطية العظمى‪ ،‬بل صاعقتها‪.‬‬
‫ويف هذا الباب أتعرض إن شاء اهلل للخطوات العملية التطبيقية على مدرجة‬
‫اإلسالميني ألتساءل مع املتسائلني‪ :‬ما هو احلل اإلسالمي‪ ،‬وألنظر مع الناظرين فيما‬
‫وي ُجب عن احلوار؟‬‫جيمع اإلسالميني مع سائر املسلمني واخللق أمجعني‪ ،‬وما يفرق َْ‬
‫يلزُم من جهود إلقامة دولة القرآن دولة الشورى والعدل‪.‬‬
‫وما جيعله ضروريا‪ ،‬وما َ‬

‫‪503‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ترتفع الشعارات االنتخابية والالفتات احلزبية يف املواسم الدميوقراطية‪ ،‬وقد‬
‫أخذ يبدو من بينها الشعار اإلسالمي والالفتة اإلسالمية فيها‪ :‬احلل اإلسالمي‪،‬‬
‫اإلسالم هو احلل‪ ،‬البديل اإلسالمي‪ .‬ويتجاوب مع هذا الشعار اجلديد‪ ،‬وقد ذكر‬
‫فيه اإلسالم‪ ،‬ما يكنه عامة املسلمني من «خمزون نفسي ديين»‪ ،‬فيسري يف املسلمني‬
‫شعور بالثقة واالطمئنان واالحرتام حلاملي الكلمة اإلسالمية‪ ،‬ويدخل اإلسالميون‬
‫للربملانات‪ ،‬ويُساورون األحزاب ويزامحون‪ .‬و ُّ‬
‫املد يشري بتزايده الظاهر ملستقبل قريب‬
‫يكتسح فيه اإلسالميون الساحة اكتساحا‪ .‬إن شاء اهلل‪.‬‬

‫فلول أولئك اليساريني املتمسلمني وخصومهم الالييكيني‬


‫ويتميز من الغيظ ُ‬
‫والقوميني‪ ،‬الذين ينافسوننا على «املخزون» النفيس‪ ،‬فيتسللـون رويدا رويدا ليضيفوا‬
‫لشعاراهتم كلمة السر املعبئة‪« :‬اإلسالم»‪ .‬فيبشرون بإسـالم تقدمي مستنري بدل‬
‫اإلسالم الظالمي الرجعي‪ ،‬إسـالم الذين يؤمنون باهلل وباليوم اآلخر‪ ،‬ويبشرون‬
‫بالكتاب العزيز مرجعا مطلقا وبالسنة النبوية الراشدة مدرسة ومنوذجا‪.‬‬
‫وحول املسلم املعتز بإسالمه‪ِ ،‬‬
‫الشاهد به بني الناس‪ ،‬ذاك الذي طلق أنانيته وبسط‬
‫ب صراع بني الدعوة اإلسالمية‬ ‫ِ‬
‫وجهه للمؤمنني وفتح جيبه لدعم احلركة اإلسالمية‪ ،‬ينش ُ‬
‫مهما تعددت فصائلها ومشارهبا وبني «الثقافة العاملية» املادية اللربالية الالييكية اإلحلادية‪.‬‬
‫ض ِّمنون الكلمة مقاصد مبطنة‬
‫بعض من ميألون صحفهم وجمالهتم وكتبهم بكلمة «إسالم» يُ َ‬

‫‪504‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يف قشـرة الشعـار املنادي بالعدالة واحلرية وإنصاف املظلومني‪ .‬يضمنونه أن اهلل ‪-‬جل اهلل‬
‫وتعاىل اهلل واهلل أكرب‪ -‬هو اخلبز للجائع والثورة للمقهور‪.‬‬

‫ت شعارات‬ ‫لَ َّما ُأو ِص ْ‬


‫دت أبواب الشعبية اجلماهريية يف وجـوه بعضهم‪ ،‬وَك َس َد ْ‬
‫ف بعضهم لتبين شعار «احلل‬ ‫ِ‬
‫اليمينية واليسارية والقومية يف سوق السيـاسة‪ ،‬يَ ْدل ُ‬
‫اإلسالمي»‪ .‬فما هو احلل اإلسـالمي‪ ،‬وكيف يدير اإلسالميون محالت اإلعالم‬
‫والتعليم عنه؟‬

‫ال شك أن على اإلسالميني أن يستعملوا وسائل اإلشهار عن أنفسهم‬


‫وعن برناجمهم يف االنتخابات حيث يكون املدخل إىل احلكم اإلسـالمي هو طريق‬
‫الدميوقراطية ال الزلزال اإلسالمي كما زلزل عرش الشاه‪ .‬لكن عليهم أن ال ينزلقوا إىل‬
‫املزايدات الشعارية فيومهوا املسلمني أن «احلل اإلسالمي» مفتاح سحري وتعويذة‬
‫ملكوتية وعملية غيبية يتبخر أمامها شياطني التخلف وأبالسة البؤس وفراعنة الظلم‪.‬‬
‫ب أرجـاس املاضي بني عشية وضحاها‪ ،‬وتربئ‬ ‫ِ‬
‫ال يومهوهنم أهنا ُرقية مطهرة تُ ْذه ُ‬
‫اليوم قبل‬
‫الوضع املريض من عاهاته‪ ،‬وحتمل األعبـاء عن الكواهل‪ ،‬وتطعم اجلائع َ‬
‫غد‪ .‬ال يومهوهنم أن املالئكة تتنزل أفواجا بالرمحة العاجلة جملرد أن امللتحني الصادقني‬
‫أمسكوا زمام احلكم وجلسوا على ِمنصة السلطة‪.‬‬

‫ف تأيت من مساء العجائب بالنعيم‬


‫ال يومهوهنم أن «احلل اإلسالمي» َد ْورة َك ٍّ‬
‫تُ ِد ّره على اخللق‪ ،‬وبالرخاء واألخوة والكفاية والقوة بال تعب‪.‬‬

‫‪505‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ويعلِّموهم أن «احلل اإلسالمي» للمشاكل املعيشية اليت‬ ‫ِ‬
‫بل يلزم أن يـُْعلموهم َ‬
‫تهاد وجهاد مدعُ ٌّو للمشاركة فيه ال للتفرج عليه‬
‫اج ٌ‬ ‫حوهلا َْت َمى السوق السياسية هو ْ‬
‫واستمطار بركاته كل مسلم غيور على دينه‪ ،‬وكل ذي رصيد خلقي ومروءة وقدرة‬
‫وعلم‪ ،‬ليقف مع اإلسالميني يف الثغور‪ .‬ليقف معنا يف الثغور ابتداء من ثغر نفسه‬
‫لتتوب عن «دين االنقياد» واالستسـالم‪ .‬ويف ثغر أسرته وعائلته ومسؤولية رعيته أينما‬
‫كانت مكانته االجتماعية‪.‬‬

‫جيب أن يعلموهم أن «احلل اإلسالمي» ليس َوعدا انتخابيا يتوكل عنك‬


‫ك من كل‬
‫مبقتضاه النائب يف الربملان والعضو يف اجمللس احمللي والوزير واحلاكم ليعفيَ َ‬
‫تعب وحيمل عنك كل عبء‪ .‬بل «احلل اإلسالمي» جواب عن السؤال احلميم‬
‫احليوي‪ :‬من أجل ماذا أعيش وأية قضية هي قضييت يف احلياة؟ تَطَْر ُح هذا السؤال على‬
‫نفسك‪ْ ،‬أوال فيطرحه عليك اإلسالمي بعد أن طرحه على نفسه فوجد أن مساعدتك‬
‫له على اجلواب ضرورة له وبشرى عاجلة لك مبا ينتظرك وينتظرهُ وينتظر األمة من خري‬
‫الدارين إن كان اجلواب‪َ :‬حيـََّهالَ!‬

‫كان اإلسالميون يف املعارضة وسيبقون فيها زمانا يرفضون احلكم بغري ما أنزل اهلل‬
‫وينددون بالظلم والظاملني ويبشرون بالشورى والعدل‪ ،‬وحيملون يف قلوهبم عقيدة وحدة‬
‫األمة‪ ،‬والشوق إىل توحيد األمة‪ ،‬والعـزم على توحيد األمة‪ِ .‬‬
‫فحني تَ ِز ُ‬
‫ف ساعة التقدم‬
‫بكلمة «احلل اإلسالمي» إليك لتختار وتنتخب وتقرتع فإمنا هي دعوة لكي تنخرط يف‬

‫‪506‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫اجملهود اإلسالمي ال لكي تغامر بورقة تطرحها يف صندوق مث متضـي لشغلك حىت‬
‫مسح يف اإلسالميني تبِعات‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُيْف َق من ُيْف ُق ويقف أمام الباب املسدود من يقف فتَ َ‬
‫نفض من حوهلم‪.‬‬
‫ض منهم يدك‪ ،‬وتَ َّ‬ ‫ِ‬
‫الشدائد‪ ،‬وتنف َ‬

‫يف سوق االنتخابات‪-‬وهي بالفعل سوق‪ -‬جيب أن يتمسك اإلسالميون مببدإ‬


‫الوضوح والصدق ليستظهروا بالصدق على مناوشات املاكيافليني مساسرِة السياسة‬
‫أخبث من الكـذب على املسلمني وتغميض األحوال عليهم‬
‫ُ‬ ‫أي تزوير‬
‫احملتـرفني‪ُّ .‬‬
‫بِلَفِّها يف ِخَرِق الشعار اإلسالمي والوعد اخليايل!‬

‫الوضوح والصدق! جيب أن يـُْعلِموا املسلمني ويـَُعلِّموهم أن الفساد يف‬


‫وشرد املستضعفني‪،‬‬
‫َّد ثرواهتا‪َّ ،‬‬‫هد َم أخالق األمة‪ ،‬وخنََر يف اقتصادها‪ ،‬وبد َ‬
‫احلكم َ‬
‫ـف لقمة العيش من‬ ‫ودفع الفتيات البائسات اليائسات إىل سوق البِغـاء‪ ،‬وخطَ َ‬
‫أفواه األطفال‪ ،‬وتسبب يف تفشي البطالة واملخـدرات واملرض واخلمـور والعهارة‬
‫ومدن القصدير والرشوة واحملسـوبية وطابور املشـاكل‪ .‬ويعلموهم أن صالح هذا‬
‫الفساد يتطلب عالجا طويال‪ ،‬وجراحة متخصصة‪ ،‬وجتريع املريض الدواء املر‪،‬‬
‫ومحله على االلتزام باملواعد‪ ،‬وعلى قَبول التطبيب طوعا وكرها‪.‬‬

‫جيب أن يُعلم اإلسالميون املسلمني ويعلِّموهم أن «احلل اإلسالمي» يعين تطهري احملل‬
‫نسيج حياة جديدة‪ ،‬تبعثها روح جديدة‪ ،‬وتوجهها عقلية جديدة‪ ،‬ويضبطها شرع‬ ‫ِ‬
‫ت فيه ُ‬
‫ليـَْنبُ َ‬

‫‪507‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫اهلل األزيل الذي ال يأتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه‪ ،‬تنزيل من حكيم محيد‪ .‬جيب أن‬
‫يـُْعلِموهم و َيعلّموهم أن عملية التطهري واالستنبات ال تتم ُبرقية ساعة‪ ،‬وال ِبَْل َق ِط َريِة َغ ْمضة‬
‫الناس منكل ُك ْلفة‪.‬‬
‫حضورهم َ‬‫عني‪ ،‬وال جبهد طائفة من الناس يُعفى ُ‬
‫جيب أن يُعلموا املسلمني ويعلموهم أن أمام احلكومة اإلسالمية َماالً طويال‬
‫عريضا مديدا يف الزمن لإلصالح‪ ،‬وأن دين املتدين ومروءة الشريف ومال املتقي‬
‫وجهد املستطيع وخربة اإلداري وغرية اجلميع جيب أن تتجند إىل جانب الدعوة‬ ‫ُ‬
‫اإلسالمية واحلكومة اإلسالمية يف جهاد طويل مرير يف مذاق أبناء الدنيا‪َ ،‬ع َس ٍل‬
‫أمام الدعوة اإلسالمية واحلكومة اإلسالمية أيام الصرب‬
‫يف َلاة املؤمنني واملؤمنات‪َ .‬‬
‫واملطاولة واملواصلة‪.‬‬
‫ومن سائر املسلمني يطلب «احلل اإلسالمي» تضحيات‪ .‬أستعمل كلمة‬
‫«تضحيات» من قاموس النضالية السياسية واصطالح أبناء الدنيا‪ .‬والكلمة‬
‫اإلسالمية النبوية هي «البذل»‪.‬‬
‫من يستجيب ملرشح يعِ ُد الناخبني بالتضحيات‪ ،‬ال يتملقهم وال يداريهم وال‬
‫ُياريهم وسوق املزايدات احلزبية قائمة على ساق؟‬
‫يكون ذلك الصادق غريبا وال شك بني الكـذابني‪ .‬لكن عنـدما ميَ ّل املسلمون‬
‫كذب الساسة الفاشلني‪-‬وقد َملّوا وسئِموا‪ -‬فستُوقظ كلمة الصدق اليت تزيل‬
‫ِ‬
‫ال ِوصاية عن ضمائر املسلمني‪ ،‬والغشاوَة الدمياغوجيَّةَ عن أعينهم‪ ،‬والتعتيم املخاد َ‬
‫ع‬
‫مادها الصدق واملسؤولية واملشاركة الفعليَّةُ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫عن عقوهلم‪ ،‬لتبين عالقات جديدة ع ُ‬

‫‪508‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ـس وتُبىن خارج احللبة السياسية‬ ‫ِ‬
‫هذه العالقات الوثيقة الصادقة ال ُـمشاركة تـَُؤ َّس ُ‬
‫وطيلة الوقت ال يف املواسم االنتخابية‪ .‬هذه العالقة ال يقدر أن يؤسسها وال أن‬
‫يرفع بنياهنا االنتهازيون وال املنافقون وال لصوص األصوات االنتخابية‪ .‬ذلك ألهنا‬
‫س وتبىن يف املسجد‪ ،‬يف صف الصالة‪ ،‬يف جملس الوعظ‪ ،‬يف حلقة العلم‪ .‬يف‬ ‫َتؤ َّس ُ‬
‫املسجد يع ِرض هذا على الفقيه والواعظ واألخ الناصح مشكلةً جيد هلا رأيا‪ ،‬ويُل ِّـم ُح‬
‫ف إىل بيته اإلخوان‪ ،‬ويتَأ ََّي هذا فيجد من‬ ‫ِ‬
‫ميرض ذاك فيدل ُ‬ ‫الع ْو ُن‪ ،‬و َ‬
‫هذا حلاجة فيأتيه َ‬
‫وى‪ ،‬وحيمل جنازة بيت اآلخر مؤمنون‬ ‫يُزوجه‪ ،‬ويـَُر َّحل ذاك فيتجند من يدبر له مأْ ً‬
‫متطوعون‪.‬‬
‫من املسجد يبدأ «احلل اإلسالمي»‪ .‬يف املسجد تُنسج اخليوط األوىل يف‬
‫الزبانة‬
‫عالئق َّ‬
‫ُ‬ ‫ك حلمتها‬
‫متاس َ‬
‫عوض ُمبـَْرَم َسداها و ُ‬
‫الوالية بني املؤمنني‪ ،‬ال تُ ِّ‬
‫كساء َ‬
‫السياسية وال تُقا ِرب‪ ،‬وحاشا‪.‬‬
‫إن مل تكن العالقةُ محيمة متينة بني اإلسالميني ومجهـور األمة فإن أول عثرة‬
‫ض احلِمل‪.‬‬‫وت ِه ُ‬
‫يف الطريق ‪-‬وال بد من عثرات‪ -‬تفرق اجلمع وتشتت الشمل ُْ‬
‫مث إن هناك املرتبصني‪ ،‬معهم متفجـرات نائمة‪ ،‬وقنابل موقـوتة‪ ،‬لن يُفلتوا الفرصة‬
‫ليُصعقوها بني أقدام السائرين على درب اإلسالم ليزرعوا البلبلة وخيلخلوا الثقة يف‬
‫أول فرصة‪ .‬ولن جيعل اهلل للكافرين‬ ‫«احلل اإلسالمي» وحاملي شعاره‪ .‬لن يُفلتوا َ‬
‫على املؤمنني سبيال‪.‬‬
‫إن اهلل ال يهدي كيد اخلائنني‪ .‬سبحانه ال إله إال هو العزيز احلكيم‪.‬‬

‫‪509‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫بأي مثن؟‬

‫من سعادة املرء‪ ،‬بل هي السعادة كل السعادة‪ ،‬أن يب ُذل نفسه وأن‬
‫جياهد مباله يف سبيل اهلل‪ .‬ذلك َثَ ُن ما تبايع اهلل عز وجل فيه مع املؤمنني حيث‬
‫س ُه ْم َوأ َْم َوالَ ُهم بِأ َّ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َن‬ ‫قال جلت عظمته‪﴿ :‬إِ َّن اللّهَ ا ْشتـََرى م َن ال ُْم ْؤمن َ‬
‫ين أَن ُف َ‬
‫يل اللّ ِه فـَيـَْقتـُلُو َن َويـُْقتـَلُو َن َو ْعداً َعلَْي ِه َح ّقاً فِي‬ ‫الجنَّةَ يـَُقاتِلُو َن فِي َسبِ ِ‬
‫لَ ُه ُم َ‬
‫استَْب ِش ُرواْ بِبـَْي ِع ُك ُم‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫التـَّور ِاة وا ِإل ِ‬
‫يل َوالْ ُق ْرآن َوَم ْن أ َْوفَى بِ َع ْهده م َن اللّه فَ ْ‬ ‫نج ِ‬ ‫َْ َ‬
‫ِ‬ ‫الَّ ِذي بَايـَْعتُم بِ ِه َو َذلِ َ‬
‫يم﴾ ‪.1‬‬‫ك ُه َو الْ َف ْو ُز ال َْعظ ُ‬
‫جهاد أجيال‬
‫ُ‬ ‫ماذا أتى بالصحوة اإلسالمية وبعثها بعد فضل اهلل تعاىل؟‬
‫من املؤمنني قامت هبم الغرية على دين اهلل فلبـَّْوا نداء اجلهاد وال يزالون‪.‬‬

‫مثن دفَ َع «احلل اإلسالمي» إىل الواجهـة‪ ،‬ليس كما يزعم احملللون‬ ‫ذلك ٌ‬
‫املاديون فراغُ الساحة بعد فشل احملاوالت اللربالية والقومية االشرتاكية‪ .‬وإن‬
‫ِّ‬
‫ؤس األمـة أدته أيضا مثنـا لِتـََقدُِّم الصحوة‬
‫كان للفراغ يد يف املسألة فهي بُ ُ‬
‫اإلسالمية‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة التوبة‪ ،‬اآلية‪.111‬‬

‫‪510‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫إن كانت‪ ،‬وهي كائنة باعتبار‪ ،‬فإهنا مشاركةٌ من األمة سلبيَّةٌ قهرية يف دفع‬
‫الثمن‪ .‬وما أحلحنا عليه يف الفقرة السابقة من ضرورة مشاركة مجهور املسلمني يف‬
‫تطبيق «احلل اإلسالمي» مسامهةٌ إجيابيَّةٌ ومثن ال بد من دفعـه عن طواعية وبصرب‬
‫واستمرار‪.‬‬

‫آخر هو اكتساب احلركية والنشـاط والفاعلية يف احلياة‪ .‬اإلقدام‬ ‫مثن ُ‬


‫و ٌ‬
‫واملغامرِة مزايا يتفوق علينا فيها أبناء الدنيا وال قيام لنا بدوهنا‪ .‬ال بد أن‬
‫نتطبع بالعمل ال ّد ؤوب وبالشكيمة والعزمية املت َِّق َد ِة واإلنتاج‪ .‬علينا من غبار‬
‫اخلمول وعادة التواكل وهوان الكسل ركام ال بد من نفضه واطِّراحه‪.‬‬

‫اخلطب وترتبص الزلة حني ندخل يف معمعـان‬


‫ُ‬ ‫يكمن اخلطـر الداهم ويعظُم‬
‫وهنا ُ‬
‫احلركية العـاملية ‪-‬وحنن داخلون إليها مرفـوعي الرأس أو أذالءَ ُمكرهني‪ -‬فتلتهمنا‬
‫والب احلركية والفاعلية والوقت‬
‫وتُلهينا عن مهمتنا األوىل يف احلياة‪ .‬هنا يهدد َد ُ‬
‫ومنطق السرعة بصرفنا عن ِوجهتنا‪ .‬يهددنا اخلطر القاتل‪،‬‬ ‫اجلاري واملواعيد ِ‬
‫العجلة‬
‫ُ‬
‫وخنسر اإلميان‪ .‬يهددنا أن ن ْلبَس مع‬ ‫ِ‬
‫روحنا‪َ .‬‬‫خطر أن نكسب معركة التنمية وخنْ َسَر َ‬
‫ُ‬
‫خسر اآلخرة فما معىن حياته‬ ‫الناس وكالناس لَبوس الدنيا ونطرح لِباس التقوى‪ .‬ومن ِ‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وما قيمة مروره من الدنيا؟ هذا مثن باهظ وغنب ما بعده غنب‪ .‬نعوذ باهلل‪.‬‬

‫إن رسالتنا‪ ،‬معشر خري أمة أخرجت للناس‪ ،‬أن حنمـل للعاملني بالغ اإلسالم وبيانه‪.‬‬
‫مغزى رسايل للتنمية والقوة يف حقنا هو أن نكو َن حاملي رسالة منوذجيِّني‪،‬‬ ‫وُ ٍ‬
‫أول هدف ذو ً‬

‫‪511‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫منكمال ِسفارتنا وشروط جناحها أن نتقدم إىل الناس يف حلة العافية والغِىن والنظافة واجلمال‬
‫ال يف أمسال متسولني جائعني مهزولني‪.‬‬

‫فما ظنك بسفري اشتغل بتهييء ُحلته وتنظيف جسمه والعناية مبظهره فلم‬
‫جودها أصال!‬
‫يفرغ إال وقد نسي مضمو َن السفارة‪ ،‬بل ُو َ‬
‫ُ‬

‫نرى من اآلن‪ ،‬وقبل أن حيُل ميعاد دخول اإلسالميني للمعمعـان حيث َي َمى‬
‫وطيس املصادمة مع الواقع املتحرك السريع‪ ،‬كثريا من شبـاب الدعوة يستفرغون اجلهد‬
‫الكبري يف متابعة أحداث العامل ومطالعة التعاليـق السياسية وكأن مهمةَ كل واحد أن‬
‫يصبح حملال سياسيا ومعلقا على األخبار‪ .‬يُ ْس ِر ُ‬
‫ف بعضهم يف ذلك فال جتده بعد‬
‫مدة إال وقد ُم ِسحت منه غُاللة اإلميان األوىل‪ ،‬وتالشت البضاعة‪ ،‬وتضعضع اليقني‪.‬‬

‫ونرى آخرين ُمنصرفني عن النظر يف حركية الدنيا‪ ،‬منع ِزلني منطوين‪ .‬وآخرين‬
‫كفروا العامل وناصبوه العِداء وتقوقعوا يف دائرة مغلقة‪.‬‬
‫َّ‬

‫وكل هذا احنراف عن االعتدال واالستقـامة كما وصفهما رب العزة سبحانه يف‬
‫قوله‪« :‬يف بيوت ِأذ َن أن تُرفع ويذكر فيها امسه يسبح له فيها بالغدو واآلصال رجال‬
‫ال تُلهيهم جتارة وال بيع عن ذكر اهلل ِ‬
‫وإقام الصالة وإيتاء الزكاة»‪.‬‬

‫من يتقدم ُم َقنَّعا هبدايته املزعومة من دون الناس‪ُ ،‬م ْع ِرضاً عن العامل‪ ،‬مكفرا‬
‫له‪ ،‬ما تسبيحه املنفرد يف املسجد‪ ،‬وما تقوقعه يف طائفة مغلقة وفكرة رافضة‪ ،‬برافع‬
‫‪512‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫له إىل مراتب رجولة الذين يعطون ملستلزمات التجارة والبيع‪-‬أي السعي النشط يف‬
‫احلياة‪ -‬حقها دون أن ينال ذلك السعي من دينهم‪.‬‬

‫ومن تص ّدى لتيار احلياة ومستلزمات التعامل ِ‬


‫النشـط معه فجذبه التيار والتهمته‬ ‫َ‬
‫أنكر نُ ْكراً‪.‬‬
‫الدنيا فذاك أشد ُخ ْسرا و ُ‬

‫رجال الدعوة كل اجلهد غداة‬


‫مثن باهظ وغري مقبول‪ ،‬وخطر داهم أن يُفرغ ُ‬
‫دوالهبا‬
‫تأليف احلكومة اإلسالمية وما بعد الغـداة يف تصريف شؤون الدولة وحتريك ْ‬
‫ويسلِّ َم ُهم الليل للنهار‪،‬‬
‫فتدفعهم الغَداةُ للعشي‪َ ،‬‬
‫ومعاجلة خللها وتسيري قطـارها‪َ ،‬‬
‫دوامة احلياة منهم‬
‫متتص َّ‬ ‫سري هبم الشهور للسنوات‪ ،‬حىت َّ‬
‫َويَُّر هبم اليوم للغد‪ ،‬وتَ َ‬
‫بدل أن يهضموه‪.‬‬
‫الروح‪ ،‬وحىت يهضمهم العصر َ‬

‫عد ِدهم‬
‫«احلل اإلسالمي» طامة كربى على الدعوة إن اخنرط الدعاة بكامل َ‬
‫وحتولوا مديرين ووزراء ومستشارين وتركوا املسجد‪ ،‬وتركوا صحبة الشعب‪ ،‬وتركوا تربية‬
‫األجيال‪ ،‬وتركوا جمالسة املسلمني‪.‬‬

‫قاس بقدرهتم‬
‫انتصارهم وفالحهم يُ ُ‬
‫يتأكد تفرغ صفوة رجال الدعوة للدعوة‪ ،‬و ُ‬
‫على مراقبة الدولة من خارجها‪ ،‬ي َف ِّوضون لبعضهم اإلشراف املباشر على شؤون‬
‫احلكم‪ ،‬ويستعينون بالنظراء الفضالء أصحاب املروآت والكفاءة والنصيب من‬

‫‪513‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫اإلميان‪ .‬أما أن يعتربوا شرفَهم يف النهوض املباشر باألعباء وأن ينهمكوا بكليتهم يف‬
‫تصـريف اهلموم اليومية «للحل اإلسالمي» فذاك القضاء ال ُـم َربُم على الدعوة‪.‬‬

‫خاصةً إذا تصدى حلل أعباء احلكم ومصارعة ديناميكية العصر‬ ‫قضاء ُم َربم َّ‬
‫تكتل وحي ٌد فريد ال مشارك له وال معارض‪ .‬ذاك ْأد َن أن ينحط ثِْق ُل املسؤولية وغرور‬
‫فيدهسهم ويَ ْس َح َق ُه ْم‪ .‬وهو مثن‬
‫احتكار السلطة على أصحاب «احلل اإلسالمي» َ‬
‫باهظ‪ ،‬وغنب فادح‪ ،‬وفشل ذريع‪.‬‬

‫يساعد على سوء فهم اإلسالميني ملا ينتظرهم يف السـاحة السياسية أن احملللني‬
‫املاديني واملعلقني يتحدثون عن «اإلسالم املتطـرف» مبا هو ظاهرة سياسية متأل الفراغ‬
‫الوحدوي‬
‫َّ‬ ‫الذي َتركه يف السـاحة فشل اليسـار‪ ،‬كما أن اليسـار القومي االشرتاكي‬
‫كان ظاهرة مألت الفراغ الذي خلَّفه اهنيار التجربة اللربالية يف بالد املسلمني‪ .‬وهكذا‬
‫يرتسخ يف األذهـان مفهوم «البديل اإلسالمي»‪ .‬هكذا يوشك بعضنا أن ينسى ما‬
‫هي رسالتنا‪ .‬يوشك أن يتسطح لديه الفهم فإذا «البديل اإلسالمي» نقيض سياسي‬
‫صارة األحـداث‬ ‫للـم َ ِ‬
‫بدل منه بزيادة شعارات إسالمية لن تلبث حني ندخل يف َع ّ‬ ‫ُ‬
‫أن تستحيـل رواسب نفسيَّةً‪ ،‬و ٍ‬
‫كلمات حمفوظةً‪ ،‬و«ثقافة» أصيلةً تناطح «الثقافة‬ ‫َ‬
‫العاملية» مناطحة النِّد للند واملِثل باملثل‪.‬‬

‫لن يلبث مع الفهم املسطح واالستعداد ال ُـمبتَسر والبضاعة اإلميانية ال ُـمزجاة أن يستحيل‬
‫«احلل اإلسالمي» و«البديل اإلسالمي» إديولوجية تأصيل وفكرة اسرتجاع للهوية الضائعة‬

‫‪514‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫احلضارية الثقـافية‪ .‬لن يلبث أن يستحيـل «احلل اإلسالمي» و«البديل اإلسالمي»‬
‫اعتزازاً نفسيا فكريا بالرتاث اجمليد وبالسرية النبوية وباخللفاء الراشدين يتسلسل جمـدهم‬
‫ب األموي والساللة العباسية‪ .‬وتضمحل يف اإلرادة مع طول معاناة احلكم‬ ‫الع ِق ِ‬
‫يف َ‬
‫وحركية احلياة ذكريات البدايات املشرقة اليت هبت بأمثال البنا وسيد قطب وأمثاهلم‬
‫من شهداء الدعوة لريفعوا كلمة اإلسالم وينادوا باحلل اإلسالمي‪.‬‬

‫ت ِج ْذ ِوةُ اإلميان يف قلوب الدعاة ونَبا َح ُّد اإلرادة اإلحسانية وغاب‬


‫إ ْن َخبَ ْ‬
‫اليقني باليوم اآلخر فال تنتظر إال أن يتحول سلوكنا وخطـابنا وتربيتنا تعبريا بشعار‬
‫إسالمي عن حمض خيبة اآلمال يف الساسة من قبلنا‪ .‬يصبـح سلوكنا وخطابنا‬
‫وم َبنا احتجاجا وسخطا على الفشل االقتصادي‪ .‬يصبح أداة‬ ‫وتربيتنا ومظهرنا َ‬
‫تعبري عن تطلعات الطبقة املتوسطة ‪-‬اليت سنخالطهـا وختالطنا‪ -‬الر ِ‬
‫اغبة يف احلريات‬
‫فس َح هلا اجملال لتصعد وحتتل مراتب كان يرتبع‬ ‫الدميوقراطية لتتاح هلا الفرصة ويُ َ‬
‫عليها قبل «احلل اإلسالمي» بورجوازية اللرباليني أو بورجوازية الدولة اليسارية‬
‫ذات احلزب الوحيد‪.‬‬

‫اخ الشعب باأليـدي املتوضئة‬


‫يوم خياطبنا احلكم وينادينا إليه استصر ُ‬
‫ال مناص لنا َ‬
‫ِ‬
‫ومعاشرتا‪ .‬وإن هلذه الطبقة لطموحات‬ ‫من االستعانة بالطبقة املتوسطة املتعلمة وخمالطتِها‬
‫تقرب املنتصر منها‪ ،‬بل تفرض عليه احلاجة للكفاآت‬
‫تـَُقِّرُبا من املنتصـركما هلاكفاآت ُ‬
‫وع َمروا دواوين احلكومة واندجموا وهم قلة يف النوع‬
‫التعامل معها‪ .‬فمىت ترك الدعاة املسجد َ‬
‫َ‬

‫‪515‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫والعـدد مع الطبقة الطَّ ِ‬
‫موح سرقتهم الطبيعة احلركية‪ ،‬وأعجبهم نشاط املساعدين اخلرباء‪،‬‬
‫فال يستفيقون‪ -‬إن استفاقوا يوما‪ -‬إال وقد أصبح «احلل اإلسالمي» مركبة للطموح‬
‫االقتصادي االجتماعي‪ .‬وأصبح ِمالطا ِ‬
‫ولاماً ألشتات الراغبني يف البداية يف خري‪ ،‬اطلعوا‬
‫على ما هناك من ِ‬
‫مغانَ فاجنروا الَ تضبطهم مقادة الدعـوة بعد أن انعزلت الدعوة عن‬
‫املسجد وعن مجاهري املسلمني‪.‬‬

‫ت أداة‬ ‫ِ‬
‫وجد ْ‬
‫املكبوتة‪َ ،‬‬ ‫شعار «احلل اإلسالمي» صرخةَ احملرومني‬
‫أو يصبح ُ‬
‫تعبري عن لو ِ‬
‫اعجها ويأسها وبؤسها‪ .‬صرخةَ أولئك الذين خلَّفهم قطار التنمية املعوجة‬
‫وأثـََرةُ الطبقة املستعلية من قبل‪.‬‬

‫جيب أن يبقى صوت اإلسالم عاليا ال يُعلى عليه‪ ،‬صافيا يف مثاليته‪ ،‬حمتفظا‬
‫بال ِوجهة‪ ،‬رافعا النظر ملقام الرسالية العاملية مهما كانت حركية الواقع وإعصار األزمات‬
‫وجماذبة الناس من جوانبنا ومن خلفنا‪ .‬جيب أن يبقى صوت اإلسالم صافيا ومثاليتُه‬
‫أسفل مع‬
‫مرسومة على أفق املستقبل‪ ،‬معزومةً يف صدور رجال الدعوة‪ ،‬ال ينجرون إىل َ‬
‫صدى لتطلعات‬
‫جاذبية حركة احلكم‪ ،‬وال يستحيـل هتافُهم «باحلل اإلسالمي» جمرد ً‬
‫غريهم‪.‬‬

‫تقاصرت ُخطانا على مسـرح األحداث‪.‬‬


‫ْ‬ ‫جيب أن يكون القرآنكلمتَنا العالية مهما‬
‫جيب أن يبسط الشـرع سيادته على الواقع رويدا رويدا‪ .‬وال يصح شيء من ذلك إال أن نبقى‬

‫‪516‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫مع القرآن‪ ،‬ومع الشرع‪ ،‬ويف املسجـد‪ ،‬رجاال ال تلهيهم جتارة وال بيع عن ذكر اهلل‬
‫وإقام الصالة وإيتاء الزكاة‪ .‬خيـافون يوما تتقلب فيه القلوب واألبصار ليجزيهم اهلل‬
‫أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله‪ .‬واهلل يرزق من يشاء بغري حساب‪ .‬هو امللك‬
‫الوهاب ال إله إال هو‪.‬‬

‫‪517‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫وبأي أسلوب؟‬
‫جواب العنوان هو َّ‬
‫أن جناح حماوالتنا يتوقف على مدى سلوكنا على املنهاج‬
‫النبوي‪ .‬املنهاج ما جاءت به السنة كما قال َح ْب األمة عبد اهلل بن عباس رضي اهلل‬
‫ِ‬
‫ض‬‫عنهما‪ .‬لكن لَ َّما كان قصورنا ونزولنا عن مرتبة اإلحسان سةً غالبة لَ ِزَم أن ُنِّر َ‬
‫رمز للسلوب العالقة بنقائصنا‪.‬‬
‫املسألة‪ ،‬فاستعملنا كلمة «أسلوب»‪ ،‬وهلا من لفظها ٌ‬
‫العمل الصاحل‪ .‬اإلميان بضع وسبعون شعبة أعالها قول‬
‫شرط النجاح اإلميا ُن و ُ‬
‫ال إله إال اهلل وأدناها إماطة األذى عن الطريق‪ .‬والعمل الصاحل يطلب خصلتني‪:‬‬
‫ت اخلطى على الطريق بثقة وعزم‪ ،‬واألخرى لئال يتسـرب اليأس إىل النفوس‬
‫واحدة لتَثْبُ َ‬
‫إن عاقت العوائق وطالت املسافة‪.‬‬

‫األوىل اليقني مبوعود اهلل ورسوله‪ ،‬وقد روينا يف فاحتة هذا الكتاب احلديث‬
‫النبوي الصحيح الذي بشرنا باخلالفة الثانية تأيت على املنهاج النبوي‪.‬‬

‫والثانية فصلنا احلديث عنها يف الفصل الرابع من الباب األول‪ ،‬وهي سنة التدرج‪،‬‬
‫ونذكر هنا باحلديث الذي رواه اإلمام أمحد عن َم ْع ِق ٍل بن يسار رضي اهلل عنه قال‪« :‬قال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال يلبَث اجلَ ْوُر بعدي إال قليال حىت يَطْلُ َع‪ .‬فكلما طلع‬
‫غريه‪ .‬مث يأيت اهلل‬ ‫من اجلَ ْوِر شيء ذهب من العدل مثلُه‪ ،‬حىت يُولَ َد يف اجلَ ْوِر من ال ُ‬
‫يعرف َ‬

‫‪518‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫تبارك وتعاىل بالعدل‪ ،‬فكلما جاء من العدل شيء ذهب من اجلور مثله‪ ،‬حىت يولَد يف‬
‫غيه»‪.‬‬
‫يعرف ْ‬
‫العدل من ال ُ‬

‫اجلور وأبوه‪ ،‬الذي طلع قـَْرنُهُ بعد رسول اهلل صلى اهلل‬
‫اجلور‪ ،‬بل ُّأم ْ‬
‫من أعظم ْ‬
‫خصام السلطان والقرآن‪ ،‬وانفصال الدعوة عن الدولة‪ ،‬وتسلط احلكم‬
‫ُ‬ ‫عليه وسلم‬
‫العاض‪ ،‬حىت إن من اإلسالميني اليوم كما كانوا باألمس طيلة تاريخ اجلَ ْور من‬
‫اجلمع بني الدعوة والدولة؟ وهكذا يتفرغ مجاعة الدعوة‬
‫يتساءل مث ييأس‪ :‬هل ميكن ُ‬
‫والتبليغ‪ ،‬هؤالء األبرار‪ ،‬من هم الدولة ويتخصصون يف تتويب املسلمني وتعليمهم‬
‫مبادئ الدين‪ .‬وكم من ٍ‬
‫رجال برزوا يف الصحوة اإلسالمية كانت خطاهم األوىل مع‬
‫هؤالء املتبتلني‪.‬‬

‫وصالحـه الشخصـي‪ ،‬مل يستطع‬


‫ُ‬ ‫أسلوب حافظ على اجلوهر‪ ،‬وهو إميان الفرد‬
‫سالكو ذلك الطريق ِِّ‬
‫اخلي إالَّ أن يُعرضوا عن أصحاب السلطان كما أعرض عنهم‬
‫ائف الزاهدين والصوفية والعابدين‪ .‬حافظوا على اجلوهر وهم‬
‫طيلةَ هذه القرون طو ُ‬
‫إلياس‪ -‬يف بلـد اهليمنة اهلندوسية‪ .‬وهي مدرسة‬
‫الناشئون ‪-‬رحم اهلل الشيخ حممداً َ‬
‫صُر يف ظلمها من ينتقد هؤالء الصاحلني‬
‫أهل ليـَُع َّم َم أسلـوهبا‪ ،‬وال يـَُق ِّ‬
‫نفيسة‪ ،‬ما هي ٌ‬
‫‪-‬واهلل حسيبهم ال نزكـي على اهلل أحدا‪ -‬لتقصريهم‪.‬‬

‫وقم أنت لنرى ما أنت فَاعل‪ .‬لنرى ما اهلل موفقك إليه‪.‬‬

‫‪519‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫حسب‬
‫َ‬ ‫أكابر الدعوة‪ ،‬كلٌّ‬
‫اإلميان والثقة والتدرج‪ .‬وقد اجتهد يف هذه العصور ُ‬
‫وترَك ما ال يعين‪ .‬أبو‬
‫زمانه ومكانه ومالبساته‪ .‬إلياس رمحه اهلل التزم الصحبة والذكر ْ‬
‫احلسن الندوي‪ ،‬زكى اهلل عمله‪ ،‬ينشر العلم ويناوش اهلندوس األغلبية احلاكمة على‬
‫أرضية الالييكية و«مستقبل اإلنسانية»‪ .‬املودودي رمحه اهلل ترك تراثا علميا نفيسا‬
‫وتنظيما ال يزال يتقدم حنو السلطان بأساليب االنتخاب والدميوقراطية واحلركية مع‬
‫األحزاب‪ .‬البنا رمحه اهلل خلف فرعا يانعا من فروع اإلسالم مزدهرا‪ ،‬تبارك اهلل‪ ،‬وكان‬
‫ال حيب أن تتعدد األحزاب يف بالد املسلمني‪ .‬سيد قطب رمحه اهلل متيز واستعلى‬
‫صب مشنقته‪ ،‬وترك صيحة خالدة توقظ‬ ‫على اجلاهلية من وراء قضبانه وعند مْن ِ‬
‫َ‬
‫األجيال لواجب اجلهاد والعزة‪.‬‬

‫اخلميين رمحه اهلل خرج بالدعوة من ِ‬


‫ظالل احلـوزات العلمية إىل فضاء الثورة‬
‫والسلطة الفعلية وبناء الدولة‪ .‬وهي جتربة رائـدة بإجيـابياهتا الكبرية وأخطائها‬
‫الضخمة‪ ،‬ال حميد لإلسالميني عن التعلم منها ومن كل ما بث اهلل فيها من ساع‬
‫وداع‪.‬‬

‫االنقالبية دين القوميني وأسلوهبم‪ .‬جيب أن نكون من هذا على حذر‪ ،‬وجيب‬
‫لخصةً مرَّكـزة يف نيات القوميني وأفعاهلم‬
‫جمم َعةً ُم َّ‬
‫أن نستخلص دروس تاريخ الفتنة َّ‬
‫وجرائمهم‪ .‬نستخلص الدروس لكيال يسبقونا إىل خطف احلكم‪.‬‬

‫‪520‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫قدر األمة العربية‪.‬‬
‫قال فيلسوف البعث ومؤسسهُ مشل عفلق‪« :‬البعث هو َ‬
‫القدر‬
‫إن عقيدة «البعث» ال ميكن الوصول إليها بالعقل‪ ،‬ولكن باإلميان وحده‪ .‬إن َ‬
‫الذي محّلنا رسالة «البعث» أعطانا احلق يف أن نأمر بقسوة ونتصرف بقسوة‪.‬‬

‫متشي وراءه‪.‬‬
‫قال‪« :‬إن «البعث» هو الطليعة‪ ،‬وعلى اجلماهري أن َ‬
‫قال‪« :‬االنقالبيون صورة سباقة جملموع األمة‪ .‬إننا نعرف أن هذه الفئة القليلة‬
‫من االنقالبيني الذين تضمهم حركة «البعث العريب» هم قلة يف الظاهر‪ ،‬قلة يف‬
‫وسبَّاقة جملموع األمة‪.‬‬
‫البدء‪ ،‬ولكن صفتهم القومية الصادقة جتعلهم صورة مصغرة َ‬
‫غري مطلع‬ ‫ِِ‬
‫حنن منثل جمموع األمة الذي ال يزال غافيا ُمنكراً حلقيقته‪ ،‬ناسيا هلُويَّته‪َ ،‬‬
‫على حاجاته‪ .‬حنن سبقناه‪ ،‬فنحن منثله [‪]...‬‬

‫قال‪« :‬فاالنقالب إذاً طريق‪ ،‬طريق إىل الغاية املنشودة‪ ،‬إىل اجملتمع السليم‬
‫الذي نـَْن ُشده‪ .‬ولكنه ليس طريقا من الطرق‪ ،‬إمنا هو الطريق الوحيد»‪.1‬‬

‫مثل ذلك لنني رائد‬ ‫وقال‬ ‫إيطاليا»‪.‬‬ ‫ر‬‫قد‬


‫َ‬ ‫هي‬ ‫«الفاشستية‬ ‫يقول‪:‬‬ ‫ليين‬ ‫كان ِ‬
‫موس‬
‫َ‬
‫الثورة االشرتاكية‪ .‬ويقوله كل متسلط‪.‬‬

‫أسلوب وحيد‪ :‬االنقالبية وال ِوصاية على األمة‪ ،‬والقسوة‪ ،‬القسوة! أال من يقود‬
‫األمة بقوة وأمانة‪ ،‬رائداً ال يكذب أهله‪ ،‬خـادما لدين اهلل ال فرعونا مستكرباً!‬
‫‪« 1‬يف سبيل البعث» ص‪.171‬‬

‫‪521‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وهبذا العزم‪ ،‬وهبذه النية‪ ،‬وهبذه الثقة استوىل القوميون االشرتاكيون الوحدويون‬
‫على مقاليد السلطان كما استوىل من قبلهم أصحاب العصبيات والسيف من لَ ُد ْن‬
‫قدر األمة‪ .‬واهلل أعلم مب‬
‫األمويني‪ .‬احلتمية التارخيية‪ ،‬قال املاركسيون‪ .‬وقال عفلق‪َ :‬‬
‫ُختِم لعفلق‪ ،‬فقد قالوا إنه أسلم‪ .‬وإن أسلم فال ميحو إسالمه جنايتَه وجناية حزبه‬
‫الشنيعةَ على األمة‪.‬‬

‫وماذا بىن وجىن االنقالبيون القوميون األوصياء على األمة‪ :‬عليها أن تطيع‬
‫احلزب الوحيد والزعيم العنيد والويل العتيد‪ .‬وقد بادت دولة‬
‫َ‬ ‫وتـَْتبَ َع وختنَع؟ بنـَْوا‬
‫اهنارت‪ ،‬تلك اليت كانت تُسند اجلبارين يف األرض‬
‫«احلتمية التارخيية» العظمى و ْ‬
‫نكاية يف أمريكا‪.‬‬

‫وليس يفيد وال يصمد للزعازع وال يصلُح على األيام إال حكم تتعانق فيه‬
‫الصفوة الرائدة مع الشعب‪ ،‬وتنهض به ومعه‪ ،‬وتقاتل يف صفه خادمة ملصاحله ال‬
‫الزحف‬
‫َ‬ ‫سيدة متسلطة عليه‪ .‬وذلك ما شاهدناه يف ثورة إيران حني تصدَّر آيات اهلل‬
‫والْتَ َحم هبم الشعب‪ ،‬فما كان لقوة اجليش‪ ،‬وكان من أعظم جيوش األرض‪ ،‬إال أن‬
‫الوالءَ طوعا وكرها وعجزا أمام الصدور العارية‪.‬‬
‫ينحاز لألمة ويُعطي من نفسه َ‬
‫وآخر ِ‬
‫معقل تلتجئ إليه القوة عندما تنهار األحزاب‬ ‫ِ‬
‫اجليش هو آلة االنقالب ُ‬
‫السياسية‪ ،‬وعندما حيدث فراغ يف السلطة‪ ،‬وعندما يكون الشعب غافيا غائبا ألِف‬
‫«دين االنقياد»‪.‬‬

‫‪522‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫فإذا كان يف الشعب قوة منظمة عازمة‪ ،‬وكانت هلا كلمة واضحة‪ ،‬ومبدأ‬
‫اجليش ومطاحمَهُ االنقالبية إال أن يتفاوض ويتعـاون ويرتك األمر‬
‫َ‬ ‫وبرنامج‪ ،‬فال يسع‬
‫ٍ‬
‫أزمات يف‬ ‫وعبـَْر‬
‫احل َ‬
‫ألهله آخر املطاف ليعود لثكناته‪ .‬وهذا ما حيدث يف مر َ‬
‫السودان‪ ،‬حيث تُ َك ِّو ُن املنظمات املدنية‪ ،‬وخاصة اجلبهةُ اإلسـالمية‪ ،‬القوة السياسيَّة‬
‫اليت ال ميكن جتاهلها وال االستغنـاء عنها وال ترويضها وتعبيدها‪ .‬وهكذا اضطر‬
‫املارشال النمريي مث اجلنرال عمر البشري أن يعتمدا على القوة اإلسالمية اليت أصبحت‬
‫حميد عنه وال مراوغة تنفع معه‪.‬‬
‫واقعا ال َ‬

‫مهما كان أسلوب اإلسالميني يف االقرتاب من احلكم فسيجدون أمامهم‪،‬‬


‫وسيجدهم أمامه‪ ،‬العسكري الثائر الذي يبقى القوة الوحيـدة يف البلد بعد سقوط‬
‫األنظمة واهنيار األحزاب‪ .‬أمامنا النموذج اإليراين الذي قِوامه عشرات اآلالف من‬
‫املاليل خترجوا من احلوزة بفكر موحد‪ ،‬ومتتعـوا بتمويل البازار‪ ،‬واستثاروا محاس شعب‬
‫وغضبه املتأجج على الظلم منذ مقتـل احلسني عليه السالم‪.‬‬

‫وطموحهم وأسلـوهبم‪ ،‬وهلم أيضا ضرورات احلاجة للسند‬


‫ُ‬ ‫حسابم‬
‫للجيوش الثائرة ُ‬
‫الشعيب‪ ،‬وفيهم مسلمون ميالون للدين‪ .‬شهد بذلك واحد منهم هو أنور السادات‪ ،‬قال‬
‫للصحفي أمحد هباء الدين‪« :‬ال تعتقـد بأنين ال أعي خطر مساعدة هذه اجلماعات اإلسالمية‪،‬‬
‫فهي ليست بلعبة دو َن نتائج‪ ،‬وأنا واثق من أن اجملاهبة الكربى ستكون مع هذه اجلماعات‪.‬‬

‫‪523‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ـري‪،‬‬
‫العمل الس ُّ‬
‫ُ‬ ‫مجعنا‬
‫حنن العسكريني نفهم هؤالء األشخاص أكثر منكم‪ :‬فقد َ‬
‫وتدرب اإلخوا ُن املسلمون على أيدي ضباطنا‪ .‬لذا ت َفَّردوا بالسـالح والتدريب اجليد‬
‫خالل سنوات االضطراب‪.‬‬

‫وقدرتم الكبرية على إقحام‬


‫ب اجملاهدين من الضباط األحرار‪َ ،‬‬
‫تقر َ‬
‫قال‪« :‬ولعل ُّ‬
‫ذاهتم يف األوساط العسكرية يزيد من األخطار الدامهة‪ .‬فال الوفد وال الشيوعيون‬
‫قادرون على استقطاب ضابط أو جندي‪ ،‬فدعايتهم ال تؤثر على هؤالء‪ ،‬بينما‬
‫‪1‬‬
‫اعم اجلماعات األصولية»‪.‬‬
‫صغار الضباط واجملندين ذوي األصـل الريفي مز ُ‬
‫جتتذب َ‬
‫قال‪ :‬مزاعم! ونقول حنن‪ :‬إن يف اجليـوش مسلمني‪ ،‬إن كان «البعث» القتال‬
‫القاسي جندهم ألهدافه يوما فإن ما مع عساكر املسلمني من إميان وما يضغطهم‬
‫من حاجة ملشروعية وسند معنوي وشعيب كفيل أن يفتح يوما بيننا وبينهم احلوار‬
‫صحص احلق ويـَْلَزُم كلٌّ نصابه‪ .‬واهلل غالب على أمره‪ ،‬ولكن‬
‫ُ‬ ‫وي‬
‫ريثما ترتعرع الدعوة ُ‬
‫أكثر الناس ال يعلمون‪.‬‬

‫‪ 1‬كتاب «رأيهم يف اإلسالم» ص‪.129‬‬

‫‪524‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫هداية الوحي‪ ،‬سيادة العقل‬
‫* الوحي والفلسفة‬
‫* العقالنية احملرِّرة‬
‫* املعتزلة اجلدُد‬
‫الوحي والفلسفة‬

‫لعل احلوار مع العسكري يكون إليه مسلك أهون وأقرب من املسلك إىل‬
‫ضعها ومتثلها وسكنت يف فكره وطبعه ومنط حياته‬
‫حماورة املتفلسف ال ُـمشبع بأفكار َر َ‬
‫ونظرته للكون وحكمه على األشياء والناس مبنهجيته العقالنية الطاغية‪.‬‬

‫العسكري رجل التقنية والعلوم وأوامر تطبق‪ .‬فمن الطبيعي أن يكون يف سلوكه‬
‫بعض حتجر وتصلب وتقييم للحياة وما فيها مبعيار مرتبية الرئيس واملرؤوس‪ .‬لكن‬
‫براءته من الفلسفة وما تصنعه الفلسفة بالعقول وما تسلخ من فطرة جتعله أقرب إىل‬
‫مراجعة ما يكون معه من مرياث ع َقدي‪ .‬وذاك ما تشري إليه كلمة أنور السادات اليت‬
‫قرأناها يف الفقرة السابقة‪.‬‬

‫تقول املالحظـة امليدانية‪ :‬إن طلبة كليات العلـوم والطب واهلندسة يستجيبون‬
‫كونون صفوة جندها‪ ،‬بينما الطلبة الذين مروا بالشعب األدبية‬
‫للدعوة اإلسالمية ويُ ِّ‬
‫نظام التعليم الفرنسي ومناهجه‪ -‬ينغلقون عن‬
‫والفلسفية ‪-‬ال سيما يف املدارس املقتفية َ‬
‫«منـََعة» ضد اإلميان مبا أودعتهم املناهج الفلسفية اليت‬
‫الدعوة‪ .‬ذلك ألهنم اكتسبوا َ‬
‫تعرضوا «إلشعاعها» املميت وعدواهنا من الشك والتشكيك ومركزية اإلنسان يف الوجود‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وعقيدة أن اهلل ‪-‬تعاىل اهلل‪ -‬فكرة تتطور مع العصور‪ ،‬وأن اإلنسان خلق فكرة اهلل‬
‫‪-‬جل اهلل‪ -‬ال العكس‪.‬‬
‫بنضالية لرب ٍ‬
‫الية‬ ‫ٍ‬ ‫فإ ْن َربَ َط أساتذة الفلسفة خرجيو الطاحون الغريب منهجية الشك‬
‫تنشد العدل‪ ،‬اجتمع على الطلبة عامالن خيربان‬
‫تقدس احلرية‪ ،‬أو بنضالية تقدمية ُ‬
‫ويدوخان فروعها‪ ،‬ويطمسان رسومها‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫أصول الفطرة‪ ،‬وحيفران جذورها‪،‬‬
‫عامل فكري منهجي فلسفي‪ ،‬وعامل سياسي نضايل نفسي‪.‬‬

‫فإن كان الطالب طلع إىل الثانوية والكلية وما معه من سـاللة الفطرة وهداية‬
‫يبصرهُ بضالل األستاذ فقد متددت الضحية أمام اجلزار‪ .‬إذا طلع الطالب‬
‫الوحي ما ِّ‬
‫ومل يسبِ ْق إىل مسعه الفطري خربُ اآلخرة‪ ،‬وال أل َق ْ‬
‫ت إليه األم وال ألقى إليه األب يف‬
‫نعومة أظفاره‪ ،‬وال علمه معلم االبتدائية‪ ،‬أن اهلل تعاىل هو اخلالق العليم احمليي املميت‬
‫باعث الرسل حميي العظام وهي رميم حسيب العباد وجمازيهم يف اجلنة أو النار فقد‬
‫انفرد األستاذ الفيلسوف باملتلقي النموذجي‪.‬‬

‫ويق ِرن الفالسفة املالحدة املنتشـرون يف الكليات والثانويـات املنَظَّ ُمو َن‬
‫نقد الدين بنقد الرجعية السياسية املتلفعة بشعار الدين وشعار الدفاع عن‬
‫حزبون َ‬ ‫ال ُـم َّ‬
‫العقيدة‪ .‬وتعمل الكلمة املتوهجة بالغضب النضـايل‪ ،‬املشفوعةُ باحلجة الفلسفية‪،‬‬
‫املعززةُ بِسلطان األستاذية‪ ،‬املتحببةُ بطول العِشـرة‪ ،‬ال ُـممنهجةُ بتقنيات االستقطاب‪،‬‬
‫عملها يف النفوس الغضة العزالء‪.‬‬

‫‪528‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫‪-‬كل دين‪ -‬على أنه كهانة سبقنا الغرب إىل‬
‫ِّم الفالسفة امللحدون الدين َّ‬
‫يقد ُ‬
‫حرهبا وتنحيتها من الساحة ِ‬
‫وطردها من الوجود السياسي منذ قرون‪.‬‬

‫يع ِر ُ‬
‫ض األساتذة الفالسفة امللحدون املناضلون على النفوس الغضة الضحية مآثر‬
‫العقول اجلبارة من سقراط إىل ِدكارط‪ ،‬ومن لوك إىل كانط‪ ،‬ومن هيجل إىل ماركس‪،‬‬
‫وجَلِيَّات‬
‫ومن سارتر إىل هيدجر‪ .‬ويغرقون العقول الساذجة يف لفظيات الفلسفة ُ‬
‫اإلديولوجية فيتشرهبا العقل الناشئ على ظمٍإ إىل املعرفة‪ ،‬فإذا هو الغين الطارئ الغِىن‬
‫يتبجح مبكاسبه الفكرية العاملية‪.‬‬

‫الفتاك يف يد القتالني؟‬
‫السالح ُ‬
‫ُ‬ ‫ما هي املنهجية الفلسفية‪ ،‬هذا‬

‫كانت الفلسفة التأملية السقراطية تلخص الوجود يف أفكار‪ ،‬وتفصله يف‬


‫مقوالت‪ ،‬وترتك للسؤال عن ِ‬
‫املوجد هامشا للتأمل‪ .‬وكان املذهب األفالطوين يقرتح‬
‫ُمثُال عليا ترتاآى يف نورها املزعوم حقائق الوجود «لساكن الكهف»‪ ،‬هذا اإلنسان‬
‫الغامض الغريب‪ .‬وكان االهتمام باأللوهية ‪-‬باملفارقة كما يعرب الفالسفة‪ -‬حضوراً‬
‫ُملِ ّحاً يُتناقش فيه ويُسأل عنه‪.‬‬

‫وش ِر َ‬
‫ب من أبنـاء املسلمني يف القـرون األوىل من جداول السقراطية واألرسطية‬ ‫َ‬
‫املشائية واألفالطونية كما شربوا من مستنقعات الفلسفة املشرقية اهلندية والصابئية‬
‫والزرادشتية‪ .‬وهكذا يفسـر «الشيخ الرئيس» ابن سينا اإلسالم تفسريه الفلسفي‪،‬‬

‫‪529‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ينظر إليه من خالل مزيج الفلسفات الغازية‪ ،‬وتنتهي الرئاسة إىل ابن رشد الذي‬
‫فصل الدين عن الفلسفة ليثبت للدين وجودا ومشروعية عقالنية كما يثبت مشروعية‬
‫الفلسفة‪.‬‬

‫وكان جهاد علمائنا للفلسفة احلََّرانية األرسطية السينية الرشدية جهادا يف التفاصيل‬
‫ال يف مبدإ وجود اهلل‪ .‬علماؤنا األولون ردوا على الفكر الفلسفي مبا ُم َؤداه أن العقل ال‬
‫يناقض الوحي‪ ،‬وأن الوحي مرتبةُ التسليم ليس على العقل بعد أن يؤدي وظيفته إال أن‬
‫جيلس من الوحي جملس التلميذ ليستمع‪.‬‬

‫وظيفة العقل كما يقول علماؤنا أن ينظر يف ملكوت السماء واألرض ويف‬
‫نظام العامل حىت يقتنع أنه ال بد للوجود من موجد‪ .‬وعندئذ يستمع للنبوءة تأتيه خبرب‬
‫األلوهية وخرب اآلخرة‪.‬‬

‫يقول أبو حامد الغزايل رمحه اهلل‪« :‬أنه [أي العا َل] افتقر إىل ُم ِدث‪ ،‬وأن بعثة‬
‫الرسل من أفعاله [أفعال احملدث] اجلائزة‪ ،‬وأنه قـادر عليه وعلى تعريف صدقهم‬
‫باملعجزات‪ ،‬وأن هذا اجلائز [أي املعجزات] واقع‪ .‬عند هذا ينقطع كالم املتكلم‬
‫وينتهي تصرف العقل‪ .‬بل العقل يدل على صدق النيب مث يعزل نفسه‪ ،‬ويعرتف بأنه‬
‫يتلقى من النيب بال َقبول ما يقوله يف اهلل ويف اليوم اآلخـر مما ال يستقل العقل بِ َد ْركِ ِه‬
‫وال يقضي أيضا باستحالته»‪.1‬‬

‫‪ 1‬املستصفى ج‪ 1‬ص‪.6‬‬

‫‪530‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الت مع الفـالسفة مينعوهنم من حفر جذور اإلميان‪ .‬مل‬
‫وكان لعلماء الكالم جو ٌ‬
‫يسلَم املتكلمون بطول خوضهم مع الفالسفة يف اإلالهيـات من رشاش يصيبهم ونقد‬
‫ْ‬
‫من جانب احملدثني أهل السنة حيط من قيمة الكالم‪ .‬وقد كتب شيخ اإلسالم ابن‬
‫تيمية رمحه اهلل كتابا عنـوانه «بيان موافقـة صريح املعقول لصحيح املنقول» رد فيه على‬
‫ُعجب‬
‫الفالسفة مبنهجية غري منهجيتهم‪ ،‬ومبنطق غري املنطق الصوري األرسطي الذي أ َ‬
‫به الغزايل فاستحق املالم‪.‬‬

‫قال شيخ اإلسالم يف كتابه هذا‪« 1:‬وكان ابن العريب [املعافـري] يقول‪ :‬شيخنا‬
‫أبو حامد [الغزايل] دخل يف بطون الفالسفة مث أراد أن خيرج منهم فما قدر»‪.‬‬

‫وينتقد ابن تيمية رمحه اهلل املتكلمـني ومنهجيتهم فيقول‪« :‬هذا القانون الذي‬
‫وضعه هؤالء‪ ،‬يضع كل فريق ألنفسهم قانونا فيما جاءت به األنبياء عن اهلل فيجعلون‬
‫األصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه [يعين قانون سبق العقل للنقل] هو ما ظنوا أن‬
‫قانونم تبعوه‪ ،‬وما خالفه‬
‫عقوهلم عرفته‪ .‬وجيعلون ما جاءت به األنبيـاء تـَبَعا‪ .‬فما وافق َ‬
‫مل يتبعوه‪ .‬وهذا يشبه ما وضعته النصارى»‪.‬‬

‫ويشتد شيخ اإلسالم رمحه اهلل على هذه املنهجية اليت جتعل ختمينات العقل أصال‬
‫وخرب الوحي فرعا‪ .‬يقول‪ « :‬فالنصارى أقرب إىل تعظيم األنبياء والرسل من هؤالء»‪.‬‬

‫‪ 1‬ج‪ 1‬ص‪.3‬‬

‫‪531‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫آخر يف تدليله على مطـابقة «صريح املعقول لصحيح املنقول»‬
‫حى َ‬‫وينحو هو َمْن ً‬
‫فيجعل هداية الوحي أصال يع ِرضه على العقل فال جيد العقل َ‬
‫مغمزا‪.‬‬

‫ال جيد عقل املؤمن ابن تيمية‪ ،‬أما العقول ال ُـم ْشبـََعةُ باملنهجيات الفلسفية‬
‫املادية يف عصرنا فالدين مرفوض عندها من أساسه‪ .‬مل يعد اجلدال يف التطابق أو‬
‫عدم التطابق بني العقل والنقل‪ ،‬بل اجلدل يف األسلوب الذي ينبغي اختاذه للقضاء‬
‫على رواسب القرون الوسطى‪ :‬الدين والرجعية‪ ،‬الرجعية والدين‪.‬‬

‫جييز معجزة النيب وميأله اهلم باخلـالق ما صفاتُه وما جيب‬


‫كان عقل األولني ُ‬
‫له وما يستحيل عليه‪ .‬أما يف عصرنا‪ ،‬عص ِر «املعجزات» العلمية املذهلة و َ‬
‫الصخب‬
‫اجلرب‪ ،‬فالنبوءة عند الفالسفة امللحدين شعوذة‪ ،‬واأللوهية خرافة انطلت على‬
‫و َ‬
‫اإلنسان يف زمان طفولته‪.‬‬

‫مترٍد وتأَلٍُّه وجربوت‪ .‬يقول الفيلسوف‪:‬‬


‫الفلسفة احلديثة منذ دكارط فلسفة ُّ‬
‫«أنا!»‪ ،‬وليس لديه أي استعداد للبحث عن أنـِّيَّتِ ِه خارج عقله‪ .‬قال دكارط‪« :‬أنا أفكر‬
‫فأنا موجود»‪ .‬واختذ الفالسفة من بعده هذه املسلمة املعتوهة أساسا منهجيا‪.‬‬

‫«لست إال شيئا يفكر‪ ...‬يفكر هذا ال َك َّم الذي ميكن أن أعُ َّد‬
‫ُ‬ ‫قال دكارط‪:‬‬
‫ب إىل كل جزء أنواعا من املقـادير والصور واألوضاع واحلركة»‪.‬‬ ‫أنس َ‬
‫منه أجزاءً‪ ،‬وأن ُ‬
‫شيء يفكر‪ ،‬شيء من األشياء هو اإلنسان! معناه وغايته وأصله وفرعه منحصرة يف‬
‫وظيفته العقالنية‪.‬‬
‫‪532‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الوحي ويطاوله ويزعم أنه بوسائله قادر على‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫كان الفيلسوف القدمي يناص ُ‬
‫معرفة سر الوجود ومعىن املوجود‪ .‬أما الفيلسوف احلديث فقد َّ‬
‫ول ظهره للهم‬
‫غري هذا الشيء الذي‬
‫«املفارق» وأقبل على الطبيعة هو منها وإليها‪ ،‬ال شيءَ هو َ‬
‫يفكر يف املقادير واألجزاء والصور واألوضاع واحلركة‪.‬‬

‫هدف الفيلسوف احلديث السيطرةُ على الطبيعة‪ ،‬ومنهجيته الشك‪ ،‬وسؤاله‪:‬‬


‫كيف؟ ال يسأل أبدا‪ :‬ملاذا؟ قبِ َل العبثية تفسريا للوجـود‪ .‬عبثيةَ املعاناة عند سارتر‪،‬‬
‫وعبثية التأله والتطاول عند نتشه‪ .‬وقد حترر كانط وحرر الفلسفة من بعده من‬
‫عنده خيال‪ .‬مث انتهت الفلسفة‬
‫رواسب األرسطية ومهوم «املفارقة»‪ ،‬فاملفارقة َ‬
‫واخنتمت بالتجريد التصوري عند هيجل‪.‬‬

‫اخنتمت فلسفات التأمل يف املفارقة‪ ،‬والتصور احلائم يف «الفكرة»‪ ،‬لتُتـََّوج‬


‫املقدمات الدكارطية واجلدلية اهليجلية واملادية الفورباخية بالصراعية املاركسية‪،‬‬
‫باجلدلية املادية الثورية‪ ،‬بفلسفة الفعل التارخيي التطوري‪ .‬زهرِة الفلسفة و ِ‬
‫مثرتا‪.‬‬

‫إن نقدنا للفلسفات الفاعلة يف عصـرنا ال يصلح له إال الفعل ال القول‪ .‬ولئن‬
‫كان من فروض الكفاية أن يتخصص بعضنا يف «الكالم» مع الزنادقة وامللحدين‬
‫فإن على وازع السلطان اإلسالمي أن يتحرك أسبَ َق شيء و َأم َّسهُ ضرورة الستنقاذ‬
‫النشء من خمالب الفالسفة امللحدين‪ .‬ومكروا ومكر اهلل‪ ،‬واهلل خري املاكرين‪.‬‬

‫‪533‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫العقالنية احملرِّرة‬

‫ت خرطوم‬ ‫وش َّك ْ‬


‫ت الربامج التلفزيونية يف َحَرم األسرة فزادهتا تفكيكا‪َ ،‬‬ ‫َولَغَ ْ‬
‫وسرقَت األطفال من أمهاهتم وآبائهم‪ ،‬وقتلت‬ ‫ِ‬
‫ُمنـََّوعاهتا املبتذلة النجسة يف أحشائها‪َ ،‬‬
‫الوقت فلم يبق لواجب االتصال احلميم بني اآلباء واألبنـاء فرصة ليتصل حبل‬
‫فث فيها من مسومه قبل أن تُتاح الفرصة‬‫الفطرة‪ .‬سبق التلفزيون إىل النفوس الطرية فـَنَ َ‬
‫للكلم الطيب ليصلح ب ْذ ُرها َون ُاؤها وثبات نبتها وإمثار فرعها‪.‬‬
‫األسرة َّ‬
‫املفك َكةُ‪ ،‬واإلعالم اخلليع‪ ،‬وختلى األمهـات واآلباء عن واجب الرتبية‬
‫ض ْع األجيال من األجيال َد ّر الفطرة‬
‫وجهلهم بأصل الدين‪ .‬مل تـَْر َ‬
‫ُ‬ ‫وجهلهن‬
‫ُ‬ ‫الفطريَّة‪،‬‬
‫ولََب هداية الوحي وسداد العقل اخلاشع هلل‪ ،‬املتفكر يف آيات اهلل‪ ،‬العارف بعظمة‬
‫ص ْفصفاً من ِغراس‬‫اهلل‪ ،‬وباملعاد إىل اهلل‪ .‬وهكذا تبقى األرضيَّة النفسية خاليةً قاعا َ‬
‫وحنظل الكفر‬
‫َ‬ ‫اإلميان‪ ،‬حىت إذا جاءه نداءُ الفلسفة امللحدة أنبتت أشو َاك الشك‬
‫وع ْل َقم اإلحلاد‪.‬‬
‫َ‬
‫إذا مل تُرضع األم طفلها اإلميان مع األلبان‪ ،‬ومل يـَُق ْد األب خطى أبنائه األوىل إىل‬
‫املسجد‪ ،‬ومل تـُلَقِّن األسرة كلمة التوحيد للصيب ّأوَل ما ي ْل َه ُج بالنطق‪ ،‬ومل يـَُرِّد ْد معه األخ‬
‫ـذرر آيات اهلل يف غضاضة العمر‪ ،‬ومل تتعهده بالوصية اإلميانية ال َقرابة واجلوار‪،‬‬ ‫والعم واخلال وامل ِّ‬
‫مرحلة من عمره صوت األستاذ الفيلسوف امللحد فتتلجلج‬ ‫فقد فاته إبَّان احلرث‪ .‬ويأتيه يف ٍ‬

‫‪534‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫كلمات اإلحلاد يف نفس َخالَ ٍء‪ .‬وتلك نفس ذهبت فطرهتا أدراج الرياح‪ ،‬وشتتتها‬
‫أيدي السافيات َش َذ َر َم َذ َر‪.‬‬

‫روى الشيخان وغريمها عن أيب هريرة رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قال‪« :‬ما من مولود إال يولد على الفطرة»‪ .‬مث يقول‪« :‬اقرؤوا‪ :‬فِط َْرَة اللَّ ِه‬
‫ِّين الْ َقيِّ ُم»‪ .‬زاد البخاري‪:‬‬
‫ك الد ُ‬‫يل لِ َخل ِْق اللَّ ِه َذلِ َ‬ ‫ِ‬
‫َّاس َعلَيـَْها َل تـَْبد َ‬
‫َِّ‬
‫التي فَطََر الن َ‬
‫جمعاء‪ ،‬هل‬
‫َ‬ ‫فأبواه يـَُه ِّودانه أو ينصرانه أو يمجسانه‪ .‬كما تـُْنتَ ُج البهيمة بهيمةً‬
‫عاء؟!»‪.‬‬
‫سون فيها من َج ْد َ‬ ‫تُ ِح ُّ‬

‫يولد املولود على الفطرة‪ ،‬أي على االستعداد لتلقي اإلميـان واالستقامة‬
‫عليه‪ .‬وإمنا ُْت َدع فطرتُه وتُقطع وتُ َبت بفعل العامل الرتبوي‪ ،‬بفعـل األبوين أساسا‪.‬‬
‫إما يهودانه أو ينصرانه أو ميجسانه إن كان ذاك دينهما‪ ،‬أو حيفظانه مؤمنا باهلل‬
‫يشع من‬ ‫وباليوم اآلخر إن كانا مؤمنني راعيني ملسؤوليتهما الرتبوية قادرين عليها‪ِ ،‬‬
‫َْ‬
‫قلبهما وسلـوكهما وكالمهما ورفقهما وعنـايتهما هداية الوحي‪ .‬وإال ختليا عن‬
‫النماذج الساقطة األلغام‬
‫ُ‬ ‫ت التلفزيون و‬ ‫وزح ِزحا عنها‪َ ،‬فزَر َع ْ‬
‫وظيفة اهلداية الفطرية ُ‬
‫ض يف الثانوية واجلامعة على الفالسفة الذين َع ّقوا الدين‬ ‫عر َ‬‫يف أرض فطرته‪ ،‬حىت تُ َ‬
‫ص ُدهُ األمة ملستقبلها‪ ،‬و ْأو َح ِد‬
‫أعز ما تـَْر ُ‬
‫وع ّقوا األمة‪ ،‬واغتالوا أجيال املسلمني يف ِّ‬
‫ِ‬
‫وصرف‬ ‫العبد ربه‪ :‬اإلميـان باهلل وباليوم اآلخر‪ ،‬والعبودية له سبحانه‪،‬‬ ‫ما يـَْل َقى به ُ‬
‫العقل التباع اهلَُدى ال ُـم َّنزل ال اتباع اهلوى‪.‬‬

‫‪535‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يـََرى املغربون املطحونون أن داءَ األمة هو اإلميا ُن بالغيـب‪« ،‬بالْماوراء» كما‬
‫الطبيعة وتطورها‬
‫كان يقول الفالسفة قبل أن تصبح حىت اإلشارةُ إىل شيء خار َج َ‬
‫عيبا منهجيا وختلفا فكريا‪ .‬داء األمة عندهم هو عادة تأكيد األشياء دو َن مناقشة‪.‬‬
‫يد اإلمهال منهجيةَ الشك‪،‬‬ ‫فيـَُعلِّ ُمو َن الناشئة َ‬
‫أول ما تُلقيها إليهم يف الثانوية واجلـامعة ُ‬
‫ويوقظون فيهم شيطان الشك‪ ،‬ويشحذون يف نفوسهم وعقوهلم حاسة الشك والنقد‬
‫الشامل الكامل‪.‬‬
‫يرى الفالسفة املغربون العقالنيون‪ ،‬عقالنية اإلحلاد‪ ،‬أن العلة املنهجية يف الفكر‬
‫التسليم الذي ي َك ِّو ُن ُمناخاً عاما يشمل احلياة‬
‫ُ‬ ‫املسلم هي التسليم بال نقد‪ ،‬ذلك‬
‫ِ‬
‫العالقات السياسيَّةَ حيث تسود الطاعة العمياء واالنقياد لكل من‬ ‫بأطرافها‪ ،‬ويعم‬
‫وتسمى أمري املؤمنني‪ ،‬ويعم احلياة االقتصـاديَّة حيث يتواكل املؤمنون بالغيب‬
‫غلب ّ‬
‫ايب‬
‫التضامن ال َقر َّ‬
‫ُ‬ ‫ضن‬
‫على الرزق يأتيهم من السماء‪ ،‬ويعم احلياة االجتماعيَّة حيث َي ُ‬
‫كسل العاطلني الذين ال يُنتجون‪ ،‬فتصبح الطفيلية أصال من أصول عالقات الال‬ ‫َ‬
‫إنتاج‪ ،‬وسببا من أسبابه‪.‬‬
‫بأن ميتافيزيقية اإلميان‬ ‫املستعمر َّ‬
‫َ‬ ‫ينتقد الشاكون املشككون اجملتمع املسلم‬
‫باهلل وباليوم اآلخر وبالغيب تـَُع ِّمي على املسلمني احلقائق‪ ،‬فيجدون لكل حادث‬
‫تفسريا غيبيا يرسله إىل أسباب غيبية ومهية وعلل خفية‪ ،‬ال يقدرون على حتليله‬
‫متخلفني سياسيا‬
‫َ‬ ‫عالجه‪ .‬وهبذا مي ُكثُون‬
‫العقالين ليعرفوا سببه الواقعي فيتأتى هلم ُ‬
‫واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا‪ ،‬ميكثون قطيعا موروثا وبضاعةً ُم َسلّ َمة‪ .‬يسلَّ ُمون أمرياً‬
‫ألمري وحاكماً انقالبياً لقاهره‪.‬‬

‫‪536‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫االستعمار واالحتالل اليهودي لفلسطني وكل‬
‫َ‬ ‫ينتقدون العقل املسلم بأنه يُرجع‬
‫القدر الذي ال حيلة‬
‫اجلهل والتخلف إىل َ‬
‫العجز و ُ‬
‫الكسل و ُ‬
‫ُ‬ ‫كارثة جلبها على األمة‬
‫معه‪ ،‬وإىل الشيطان املشخص يف أمريكا واليهود‪ .‬ينتقدون العقل الطفل املتخلف يف‬
‫مضمار التقدمية التطورية الوضعية العقالنية‪ .‬ينتقدون العقل التقليدي الغييب‪ .‬وكل‬
‫كلمة يكتبها اإلسالميون وينطقوهنا فهي ظالمية قبل كل نقاش‪ .‬ينتقدوننا بأن عقلنا‬
‫اب واحد عن كل جتديد وحتديث وتقدم يف الفكر‬
‫منغلق عن الواقع ليس له إال جو ٌ‬
‫والسياسة واالقتصاد‪ :‬هو أنه كفر واحنراف وشطط‪.‬‬

‫ينتقدون اإلميان بالغيب ويعتربونه منهجية حتول دون اكتساب العقالنية احملررة‬
‫ودون االنفتاح على الواقع للتأثر به والتأثيـر فيه والتفاعل معه تفاعال ُمبدعا‪ .‬ويصف‬
‫الفالسفة امللحـدون الدواء لألمة بأنه التبين املطلق الكامل للعقالنية‪ ،‬ال مييزون بني‬
‫العقالنية الفلسفية املستكربة اجلاحدة املتمردة على اهلل عز وجل وبني العقالنية‬
‫العلمية االكتشافية املتتلمذة ملا وضع اهلل عز وجل من أسرار يف الكون‪.‬‬

‫يثبت لديه ضرورة‬


‫ال تقبل عقالنية الفيلسوف اجلبار أن «يعزل العقل نفسه» بعد أن َ‬
‫خالق هلذا اخللق‪ ،‬وجو ُاز بِعثة األنبيـاء‪ ،‬وحصول املعجزات يف التاريخ تزكيَّة وتأييداً للنبـوءة‬
‫ٍ‬

‫هم السؤال الوجودي‪« :‬من أنا؟» و«إىل أين؟» يف حساب‬


‫والرسـالة‪ .‬ال يدخل شيء من ِّ‬

‫‪537‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫العقـالنية الفلسفية اليت تعبد نفسها وتدور يف َر َحا «املعرفة للمعرفة»‪ ،‬املعرفة من‬
‫احلس عندها خيال وخبال‪.‬‬ ‫احلـس ويف احلس وإىل احلس‪ .‬كل ما عدا َّ‬

‫ال متيز العقالنية الفلسفية بني الشك املنهجي يف وجود اهلل عز وجل ويف الدار‬
‫شك املكتشف الذي يباشر األشياء وجيرب ويشك يف‬
‫اآلخرة وبني الشك العلمي‪ِّ ،‬‬
‫نتائج التجربة ويتحقق ويراجع‪ .‬منهجيةً واحدةً يُريدون‪ :‬بَاردةً مسيطرةً واقعيةً وضعيةً‬
‫ال تؤمن إال باحلس‪ ،‬ترصده ال تـَْع ُدوه وال تلتفت عنه وال تسمع من غريه‪.‬‬

‫اسب إميانية‪ ،‬جيب إلغاؤها وحماربتها‪ .‬ذلك مثن‬


‫كل وعي سابق‪ ،‬كل رو َ‬
‫الدين‪ .‬ال سبيل عندهم‬
‫حترُر منه ُ‬
‫أول شيء ِّ‬ ‫احملررِة‪ُ ،‬‬
‫كسب العقالنية عندهم‪ِّ ،‬‬
‫للتحرر من كابوس التخلف وذل اهلزمية التارخيية إال بالثـورة الصارمة على الدغمائية‬
‫وحدها‬
‫القادرة َ‬
‫الدينية (هكذا يسمون اإلميان الراسخ) لنكسب العقالنية التحليلية َ‬
‫العقل وال شيء غري العقل‪ .‬ال حقيقة لكائن‬
‫ُ‬ ‫على رفعنا إىل مستوى العصر‪.‬‬
‫مطلق‪ ،‬وكل ما يف الكون يدخل يف نسبية بني معطيات الكون‪ ،‬وحركته‪ ،‬وتطوره‬
‫يف الزمان واملكان‪ ،‬وموازين القوى‪ ،‬وتاريخ يتقدم ويتصارع الناس فيه‪ ،‬صراعُهم هو‬
‫ض ُع ملنطق ال عالقة له بالدين إال من حيث كو ُن الدين أفيـونا‬
‫احملرك‪ ،‬وسريهم خيْ َ‬
‫ُ‬
‫للشعوب وأحـالما وشعورا مسليا ورغبة يف تعويض فشل احلياة بوهم النجاح يف‬
‫آخرة خيالية‪.‬‬
‫‪538‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ال يرى الفالسفة امللحدون خمرجا من التخلف‪ ،‬وال طريقا إىل الدميوقراطية‬
‫والعدل والكرامة إال يف استيعاب مقدمـات الفلسفة ومنهجيتها الوضعية التطورية‪،‬‬
‫مجيعا مع استيعاب مقدمات العلوم التجريبية ونتائجها التكنولوجية‪ .‬اعتنقوا عقيدة‬
‫تقول‪ :‬إنه ال سبيـل الكتساب العقالنية التكنولوجية إال باستيعاب األرضية احلضارية‬
‫وركائزها الفلسفية الغربية‪ .‬ليست عندهم‪-‬وال عندنا باملناسبة‪ -‬التكنولوجيا غنيمة‬
‫بغارة منفردة‪ ،‬لكنها حصيلة جهد يبدأ من طرح املاضي التخلفي وما‬
‫حتصل عليها َ‬
‫ُ‬
‫صانعة مكتشفة بتجديد‬
‫فيه من خرافيات‪ .‬عندنا يبدأ اجلُهد الستصفاء عقالنية َ‬
‫اإلميان‪ ،‬يبدأ اجلُ ْه ُـد مبعرفة أعداء الدين من بين جلدتنا‪ .‬وعندهم تكون البداية بطرح‬
‫الدين مجلة‪.‬‬

‫هؤالء العاقون الذين يقول أحدهم‪« :‬إن اهلل عند جدي يتمثل يف شخص‬
‫طيب‪ ،‬رحيم غفور تواب‪ ،‬يداوي الروماتزم ويقـوي املفـاصل‪ .‬وعند أمي مأذون جيمع‬
‫رؤوس بناهتا على رؤوس عُْرسان أغنياءَ يف احلالل‪ ...‬وهو عند األطفال يشبه عروسة‬
‫املولد‪ ...‬وهو عند أينشتاين معادلة رياضية‪ ...‬وهو عند عاشق مثلي حب‪ ...‬وهو‬
‫عند مشايخ الطرق وزير أوقاف يوزع الكساوي واملعاشات‪ ...‬وعند امللحد موضوع‬
‫دراسة‪ ...‬وعند املؤمن موضوع عبادة»‪.‬‬

‫‪539‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يقول‪« :‬إن اهلل فكرة يف تطور مستمر‪ ...‬اهلل يف العقل احلديث معناه الطاقة‬
‫اخلام اليت يف داخلنا‪ .‬اهلل‪-‬جل اهلل‪ -‬هو احلـركة اليت كشفها العلم يف الذرة‪ .‬والعلم‬
‫هبذا املعىن عبادة‪ ،‬والفن عبادة‪ ،‬والفلسفة عبادة‪ ،‬ألهنا إدراك هلذا اإلله بوسائل‬
‫خمتلفة»‪.‬‬

‫ويقول‪« :‬إن اهلل‪-‬تعاىل اهلل‪ -‬ليس فوق اجلدل‪ ،‬وليس فوق العقل‪ ،‬وليس فوق‬
‫الواقع‪ ...‬إن اهلل‪-‬جل اهلل وتعاىل‪ -‬هو العقل‪ ،‬وهو الواقع‪ ،‬وهو جمموع القوة الكونية‬
‫‪1‬‬
‫اليت تعمل خليـرنا يف كل وقت‪ ...‬وهي قوى تقبـل املراجعة والبحث والتطور»‪.‬‬

‫ويسخر العاقون من علماء امللة‪ ،‬حيشـرون يف ُحَّى غضبهم على علماء القصور‬
‫أشباه رجال الكنيسة‪ ،‬الصاحل منهم والطاحل‪ .‬كتب خالد حممد خالد يف كتابه «من‬
‫هنا نبدأ»‪ 2‬قال‪« :‬رأينا الكهانة املصرية «علماء األزهر» ختتط مذهبا عجيبا‪ .‬إذ‬
‫شاؤها حامال مبادئها احلزبيةَ ال ُـم ْدبَِرَة‪ ،‬داعية‬
‫وسال ُج ُ‬
‫راحت متطر الناس خبرافاهتا‪َ ،‬‬
‫أنفسهم ألَ ُّد أعداء القناعة‪ ،‬و ُ‬
‫أسبق العاملني‬ ‫الكهنَة َ‬
‫بيد أن َ‬‫الناس إىل القناعة املقدسة‪َ .‬‬
‫إىل اقتناص الغنائم‪ ،‬و ِ‬
‫البحث عن املال واجلاه‪ .‬وهذا خلُق هلا قدمي»‪.‬‬

‫كتب العاقان ‪-‬التائبان بعد‪ -‬منذ أربعني سنة‪ .‬وموجة اإلحلاد العقالين املستهرت‬
‫الساخر ال تزال تسـري‪ ،‬بل تستفحل‪ ،‬بني دعاة الكفر والفسوق والعصيان‪ .‬لئن كان‬

‫‪ 1‬مصطفى حممود يف كتابه «اهلل واإلنسان»‪ ،‬كتبه قبل رحلته العائدة من «الشك إىل اليقني»‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫وتربأ من أفكاره يف «من هنا نبدأ»‪.‬‬
‫بعد ّ‬‫وقد تاب ُ‬

‫‪540‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أول الفعل وهدفُه‬
‫الفعل‪ُ .‬‬ ‫إال‬ ‫دينا‬ ‫ي‬
‫ُ‬ ‫فلن‬ ‫استنكار‬
‫و‬ ‫حوار من سبقنا معهم حوار ج ِد ِ‬
‫ل‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫جو املدارس واجلامعات‪ .‬ربنا الَ تُزغ قلوبنا بعد إذ‬
‫غ من أنفاسهم اجلهنمية ُّ‬
‫فر َ‬
‫أن يُ َ‬
‫هديتنا وهب لنا من لدنك رمحة‪ .‬إنك أنت الوهاب‪.‬‬

‫‪541‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫املعتزلة اجلدُد‬

‫اعة الفطرية‬
‫الرض َ‬
‫من املثقفني املفتونني بالعقل والعقـالنية من اختلطت عليهم َ‬
‫ي‪ .‬هم على لسان أنفسهم يف دائرة‬ ‫ي بـَْ َ‬‫الرضاعة الصناعية الفلسفية‪ ،‬فهم بـَْ َ‬ ‫بص ِ‬
‫بيب َّ‬ ‫َ‬
‫اإلسالم ومن أهل البيت اإلسالمي‪ .‬ومنهم ال شك صادقون يف دعواهم‪ ،‬على ما‬
‫ين﴾‪.1‬‬ ‫هنالك من غبش ال يرونه كما نراه‪﴿ .‬قُل هاتُواْ بـرهانَ ُكم إِن ُكنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬‫ْ َ‬ ‫ْ َ ُْ َ ْ‬ ‫َ‬
‫األوِل‪ ،‬يعتربوهنم َ‬
‫شرف‬ ‫هؤالء هم املعتزلة اجلُ ُدد املشغـوفون بسلفهم املعتـزلة َ‬
‫وجهنا‬
‫وجمده‪ .‬هؤالء وجوهٌ نبتسم إليها ونرحب هبا وحناورها‪ ،‬يصرف َ‬ ‫العقل املسلم َ‬
‫اإلعجاب مبغاليط‬
‫ُ‬ ‫إليها اكفهر ُار الوجوه السوداء اليت كنا معها يف الفقرة السابقة‪ ،‬ال‬
‫الس ِ‬
‫ياسية‪ .‬وحنكم وحيكمو َن‬ ‫املعتزلة األولني‪ ،‬وال فر ُط الثقة مبغالطـات خلفهم هذا ِّ‬
‫جبلِ ِّي األعمال ال ِبُ َحلَّى الكالم يف مستقبل األيام‪ .‬بيننا وبينهم املستقبل‪ ،‬بيننا‬
‫وبينهم شرع اهلل‪ ،‬نَرى هل يتولَّْونَهُ أم يـَُؤِّولونه كما فعل سلَ ُفهم يف كثري من أصول‬
‫الدين وفروع العقيدة‪.‬‬
‫هم طبقات ومدارس كما كان أصحاهبم‪ .‬عسى احلو ُار معهم يُ ْسلِ ُمنا إىل عقيدة‬
‫عقيدة العقل الذي يسمع هداية الوحي ويطيع‪ ،‬عقيدة عقل ما قبل اخلالف‬ ‫ِ‬ ‫الفطرة‪،‬‬
‫وما قبل إنشاب الفلسفة أظفارها الوسخة يف عقول املسلمني‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.111‬‬

‫‪542‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫فلسفي‬
‫ٌّ‬ ‫وهل يبقى العقل عقال إذا ُح ِجَر على حريته يف اخلـالف؟ هذا سؤال‬
‫منوذجي؟ ما هو عقل ما قبل اخلالف؟ اجلواب يف كتـاب اهلل تعاىل الذي أضاف‬
‫ٌّ‬
‫العقل‪ ،‬وهو فعل‪ ،‬إىل القلب‪ ،‬إىل الفطرة‪ ،‬ال إىل ال َـمل َك ِة التخمينية التخييلية‪.‬‬
‫ك‬‫وب الَّ يـَْف َق ُهو َن بِها﴾و﴿ َولَ ُه ْم آ َذا ٌن الَّ يَ ْس َمعُو َن بِ َها أ ُْولَـئِ َ‬
‫والكفار ﴿لَ ُه ْم قـُلُ ٌ‬
‫ك ُه ُم الْغَافِلُو َن﴾‪.1‬‬
‫ض ُّل أ ُْولَـئِ َ‬
‫َكاألَنـَْع ِام بَ ْل ُه ْم أَ َ‬

‫املادي دالَّةٌ أو‬


‫ِّ‬ ‫املعاش والتخمني والتجريب والتحليل والرتكيب واملنطق‬
‫عقل َ‬
‫َملَكة‪ .‬وهل هو ملكة؟ ما هو؟ إن تطاولت على ُمعطيات الوحي وقنوات السمع‬
‫وجداول الفطرة فإمنا هو آلة ضالل وتغفيل و«تنعيم»‪ .‬من األنعام‪.‬‬

‫ِ‬
‫األموي الغاصب عداءً‬
‫َّ‬ ‫يُشيد املعتزلة اجلدد حبكم الشورى ويناصبون االنقضاض‬
‫مثلما نناصب‪ .‬ننطلق حنن من اإلخبا ِر النبوي بنقض عُرا اإلسالم وهبالك األمة على يد‬
‫غضيب على الظلم ومن سابقة سلفهم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أخالقي ٍّ‬
‫ٍّ‬ ‫س‬
‫غلمة قريش‪ ،‬وينطلقون هم من ح ٍّ‬
‫فنلتقي وإياهم على كلمة سواء وإن اختلف املنطلق‪ .‬وال إخا ُلُ ْم إال يتقبَّلون األحاديث‬
‫النبوية املخربَة املنبئة بفساد احلكم امللكي العاض واجلربي رغم توقفهم يف قبول األحاديث‬
‫ِ‬
‫سلطانم وأمريهم‪ .‬ونقول‬ ‫ِ‬
‫املعروضة عندهم لرقابة ِ‬
‫العقل‬ ‫الصحيحـة عندنا سنداً‪ ،‬املقبو ِلة‪،‬‬

‫سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.179‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪543‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫َم ْر َحى هلذا اللقاء على كره كل حكم ال ينبثق عن الشورى وال يستند إىل اختيار‬
‫املسلمني!‬

‫ويتمسكون مببدإ العدل االجتماعي والعدل يف احلكم كما نتمسك‪ .‬هم من‬
‫مبادئ حتررية تقدمية فلسفية سياسية ثورية يشاطرون نُظراءهم األولني التمسك هبا‪.‬‬
‫وحنن من أم ِر ربنا‪َ ،‬أمَر سبحانه بالعدل واإلحسان‪ ،‬فالعدل عقيدتنا وديننا‪ .‬فنقول‪:‬‬
‫قد ِريَّ ِـة سلَفكم الذين يقصدون مببدإ العدل‬
‫نعم نعم للعدل بني الناس‪ ،‬ودعونا من َ‬
‫اقتدارهُ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫االحتجاج بعدل اهلل سبحانه وتعاىل ليتقدموا بعقيدة خلق اإلنسان فعلَه و َ‬
‫خلل يف العقيدة ليس هنا مكان احلديث عنه‪.‬‬ ‫وذاك ٌ‬
‫نصحح اخلطى األوىل‪ .‬أيف مذهبكم هذا املتجد ِ‬
‫ِّد فريضة‬ ‫لكن تعالوا أوال ِ‬
‫ُ‬
‫الوالية بني املؤمنني‪ .‬أم مذهبكم‬
‫الصالة؟ إذاً نلتقي يف املسجد لنتحدث حديث َ‬
‫فكري نظري فلسفي تراثي؟ إذاً نَ َذرُكم يف ِسج ٍ‬
‫ـال مع نظرائكم يف الثقافة‬ ‫ًّ‬ ‫إسالم‬
‫ْ‬
‫املغربني املطحونني‪ ،‬يكفينا منكم أن َّ‬
‫تتصدوا لنظرائكم يف الفلسفـة مبا معكم من‬
‫سالح اجلدل‪.‬‬
‫أو فتعالوا ِ‬
‫نرج ْع معا إىل الفطرة ونطَْر ْح الكالم والفلسفة واحلذلقة لنكون يف‬ ‫ْ‬
‫اإلميان فطريني‪ ،‬ال نستدل بالعقليات على السمعيات‪ ،‬بل نؤمن باهلل وباليوم اآلخر‪،‬‬
‫ونصلي طاعة هلل وخوفا منه ومن اليوم اآلخر‪ ،‬ورجاء يف ثوابه وشوقاً إىل لقائه‪.‬‬

‫‪544‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫تعالَ ْوا إىل عقيدة ما قبل اخلالف والفلسفة وعلم الكالم‪ .‬هذا واحد من املثقفني‬
‫أمثالِكم ساقته اهلداية اإلهلية من مضايق الفلسفة وأسواق الثقافة إىل فَ َسحات‬
‫اإلميان‪ ،‬فيحدثكم عن الفطرة ويقول‪« :‬إنه [القرآن] مل يعرض [قضية العقيدة] يف‬
‫صورة «نظرية» وال يف صورة «الهوت»! ومل يعرضها يف صورة جدل كالمي كالذي‬
‫زاوله ما يسمى «علم التوحيد»!»‪.‬‬

‫ويضيف سيد قطب رمحه اهلل قائال‪« :‬كال! لقد كان القرآن الكرمي خياطب‬
‫فطرة «اإلنسان» مبا يف وجوده هو ومبا يف الوجود حوله من دالئل وإحياءات‪...‬‬
‫ويلص أجهزة االستقبـال الفطرية مما ران عليها‬
‫كان يستنقذ فطرته من الركام‪ُ ،‬‬
‫وعطل وظائفها‪ ،‬ويفتح منافذ الفطرة لتتلقى املوحيات املؤثرة وتستجيب هلا»‪.‬‬
‫انتهى كالمه رمحه اهلل‪.‬‬

‫ال حنب أن نسمي تراث املعتزلة ُركاما ففي ثناياه شهادة أن ال إله إال اهلل‪،‬‬
‫وال أن نتدخل يف تفاصيل «أجهزة استقبال» من يشهد أن ال إله إال اهلل وأن حممدا‬
‫رسول اهلل حبقها‪ .‬لكن نضع املعتزلة األولني يف مكاهنم التارخيي حيث وضعهم أهل‬
‫السنة واجلماعة‪ ،‬متحفظني يف كثري من آرائهم اجلريئة‪ .‬ال نكفر كما يفعل بعضهم‪.‬‬

‫كان املعتزلة األولون فرسانا محاة للعقيدة‪ ،‬مث طرأ عليهم اخللل‪ .‬قال عنهم‬
‫اإلسفراييين‪« :‬أسسوا قواعد اخلالف ومجعوا بني املنقول واملعقـول‪ ،‬وأقاموا سياجا قويا‬

‫‪545‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫من الرباهني العقلية واحلجج املنطقية للدفاع عن العقيدة يف مواجهة املخالفني هلا‬
‫واملعرتضني عليها»‪ .‬وقال املالطي‪« :‬املعتزلة أرباب الكالم وأصحاب اجلدل والتمييز‬
‫والنظر واالستنباط واحلجج على من خالفهم‪ ،‬وأنواع الكالم‪ ،‬واملفرقون بني السمع وعلم‬
‫العقل‪ ،‬واملنصفون يف مناظرة اخلصوم»‪.‬‬

‫املعتزلة فرسان انتزعوا من الفلسفة الغازيَِة سالحها ليدافعوا به عن الدين‪.‬‬


‫لكنهم ما لَبِثوا بعد َ‬
‫معارك جليلة أن فلسفوا الدين وتاهوا يف النظـر العقلي وحاربوا‬
‫رجال الدين‪ ،‬وقالوا خبلق القرآن‪ ،‬وتألبوا مع السلطان العباسي املأمون فكانت حمنة‬
‫اإلمام أمحد رمحه اهلل اليت ال تنساها هلم ذاكرة الصاحلني‪.‬‬

‫أصل املعتزلة أصوالً مخسة‪ ،‬وافقوا َ‬


‫أهل السنة واجلماعة يف أربعة منها وشذوا‬ ‫َّ‬
‫عقيدتم القدريَّة‬
‫َ‬ ‫يف اخلامسة‪ .‬وافقوهم يف أصل العدل لفظا‪ ،‬يقصـدون هم بالعدل‬
‫ويقصد أهل السنة ما أمر اهلل به من حكم بني الناس وقسمة‪ .‬ووافقوهم يف التوحيد‬
‫والوعد والوعيد واألمر باملعروف والنهـي عن املنكر‪ .‬وشذوا يف حكمهم على مرتكب‬
‫الكبرية‪ ،‬جعلوه يف «منزلة بني املنزلتني»‪ ،‬ال هو مؤمن وال هو كافر‪ .‬بينما يلتمس له‬
‫اهلم السياسي غائبا يف أحكام‬
‫أهل السنة الفقهاء واحملدثـون سبيال للمغفرة‪ .‬ومل يكن ُّ‬
‫املعتزلة وغـريهم‪ .‬فالفقهاء واحملدثون دافعوا عن «ملوك املسلمني» ونظروا إىل ظلمـهم‬

‫‪546‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫معاصي يغفرها اهلل إن شاء‪ ،‬بينما املعتزلة‬
‫َ‬ ‫بالنظرة اجلزئية السطحية‪ ،‬يعُدُّون هلم‬
‫أمري املؤمنني»‪ .‬فهو عنـدهم يف منزلة‬
‫يرفضون حكم «من غلبهم بالسيف حىت ُسي َ‬
‫بني املنزلتني‪.‬‬

‫وقدم يف‬
‫قد ٌم يف الدين ٌ‬ ‫املعجبني هبم‪َ ،‬‬
‫األول‪ ،‬كما ملعاصرينا من َ‬ ‫كان للمعتزلة َ‬
‫الفلسفة‪ .‬تديُّنهمكان قِ ْشراً لبه الفلسفة والسياسة‪ .‬وجدهلم عن الدينكان تسلِّيا يف احلرب‬
‫املذهبية عن مرارة الغضب على واقع زماهنم‪ .‬واهلل أعلم مبا يف نفوس هؤالء وأولئك‪.‬‬

‫األو ُل‬
‫القصد َّ‬
‫ُ‬ ‫مث تفاعلوا مع الفلسفة اإلغريقية وتوغلوا فيها حىت غاب عنهم‬
‫يف الدفاع عن الدين‪ ،‬وغلبت عليهم صبغة احلِ َج ِ‬
‫اج والنظر‪.‬‬

‫قال إمام من أئمتهم اجلاحظ يف كتاب «احليوان»‪« :‬ليس يكون املتكلم‬


‫جامعا ألقطار الكالم‪ ،‬متمكنا من الصناعة‪ ،‬يصلح للرياسة [قلت‪ :‬للرياسة الفلسفية‬
‫اليت صلح هلا الرئيس ابن سينا]‪ ،‬حىت يكو َن الذي ُيسن من كالم الدين يف وزن‬
‫الذي ُيسن من كالم الفلسفة»‪ .‬قلت‪ :‬كالم‪ ،‬كالم‪.‬‬

‫قال‪« :‬والعامل عندنا هو الذي جيمعهما‪ ،‬واملصيب هو الذي جيمع حتقيق‬


‫التوحيد وإعطاء الطبائع [أي العلم بالكونيات] حقها من األعمال‪ .‬ومن زعم‬
‫جزه على الكالم يف‬
‫أن التوحيد ال يصلح إال بإبطال حقائق الطبائع فقد َحَل َع َ‬
‫التوحيد»‪ .‬انتهى كالمه‪.‬‬

‫‪547‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫كان للمعتزلة األولني اهتمام «بالطبائع» مثل اهتمام العقالنيني يف‬
‫زماننا‪ ،‬ومثل اهتمامنا‪ .‬لكنهم بنـَْوا أمرهم على توازن ومـوا زنة بني العقل‬
‫«أم األصول» حسب تعبري إمام من أئمتهم‪.‬‬ ‫والنقل‪ ،‬وقدموا العقل فجعلوه َّ‬
‫جعلوا العقل احمللل املنتقد َحسيباً على النقل‪ .‬فبينما جند الفقهاء من أهل‬
‫السنة واجلماعة يرتبون األدلة الشرعية ابتداء من القرآن فالسنة فاإلمجاع‬
‫فالقيـاس‪ ،‬جيعلون التعليل العقلي واستنباط احلكم آخرا‪ ،‬جند املعتزلة يرتبون‬
‫العقل أوال مث يسندون إىل سلطته الكتاب والسنة واإلمجاع‪.‬‬

‫ُح َج ُج العقل عندهم‪ ،‬وعل ُـم احلس‪« ،‬قاضية على حجج السمع‬
‫وحاكمة على أمرها»‪.‬‬

‫مثل نظرائهم املعجبني هبم يف زماننا‪« ،‬خنبة»‬


‫كان املعتزلة األولون‪َ ،‬‬
‫رفيعة املستوى الفكري تسعى بوسائل التقرب للجماهري‪« ،‬للعامة»‪ ،‬أن‬
‫جتمع َز ْخا ثـَْو ِريّاً‪.‬‬

‫مما يزيد معاصرينا املثقفني إعجابا باملعتـزلة أهنم كانـوا «تقدميني» قبل اخرتاع‬
‫الكلمة‪ .‬كانوا خرقوا حواجز العصبية القبلية وحواجز احلسب والنسب والثروة‬
‫والسلطان‪ .‬فكان منهم املوايل أنداداً للعرب األقحاح‪ .‬وكانوا «عُضويني» قبل‬
‫كلمة غرامشي‪ ،‬يستقطبون العامة بتأليف قادهتم األكث ِر وعيا‪.‬‬
‫وجيتمع مع املعتزلة األوِل مثقفونا املعجبون يف نقط ٍ‬
‫تالق منها الثورية املناضلة‪.‬‬ ‫َ‬
‫فقد ساهم املعتزلة‪ ،‬بل قادوا إىل جانب الشيعة‪« ،‬قومات» أمهها إسقاطهم «للخليفة»‬

‫‪548‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫األموي الوليد بن يزيد‪ .‬وكانوا يدعون إىل الشورى وينددون بتبذير األمويني‬
‫وتسلطهم‪ .‬مث خبت نارهم فصاحلوا املأمون العباسي ليوقد وا نار الفتنة‬
‫العقدية‪.‬‬

‫َي َمع املعتزلةَ األولني ومعاصرينا املعجبني أن أولئك فلسفوا الدين‬


‫القد ري‬
‫بينما هؤالء حياولون تديني الفلسفة‪ .‬جيمعهم هبم مبدأ «العدل» َ‬
‫الذي ينسب االختيار املطلق للعباد‪ ،‬ال يقبلون أن ميسح العباد خطيئاهتم يف‬
‫القدر‪ .‬وال نقبل‪ ،‬لكننا نؤمن بأن اهلل جلت عظمته خلقنا وما نعمل‪ ،‬ولنا‬
‫الكسب وعلينا املسؤولية‪ .‬وال جمال هنا لعرض األشعرية وقتاهلا للمعتزلة‪ .‬وال‬
‫حنن أشاعرة وال معتزلة‪ .‬واحلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

‫‪549‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫جدار الالييكية‬

‫* غرس االستعمار‬
‫* الثقافة جامعة‬
‫* التعليم‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫غرس االستعمار‬

‫س االستعمار يف أرض املسلمني واستنبت وتعهد غراسا كنت أمسيه‬ ‫َغَر َ‬


‫ض َعهُ من يعنيهم أن ميوهوا احلقائق باألمساء اجلذابة‪.‬‬
‫«علمانية» جريا على اصطالح َو َ‬
‫صاغوا كلمة «علمانية» ليرتمجوا مفهوم «الييكية»‪ .‬مث رأيت أن أحتفظ باالسم على‬
‫أستَْب ِقيَهُ تنزيها لكلمة «علم» الشريفة‪.‬‬
‫مبناه األعجمي و ْ‬
‫عملية عدوانية على الدين هي الالييكية‪ .‬الالييكية عزل الدين عن احلكم‪،‬‬
‫الوضعي وحده السيادة يف احملاكم‬
‫ُّ‬ ‫وفصله عن الدولة‪ ،‬وهتميش الشـرع ليتوىل القانون‬
‫الوضعي سيدا‬
‫ُّ‬ ‫وممل الدستور‪ .‬ليكون القانون‬ ‫ودواوين احلكومة وتفاصيل العقود ُ‬
‫مطلقا يف حياة املسلمني العـامة‪ ،‬وليـُْزَوى الشرع يف حياهتم اخلاصة إن شاءوا‪.‬‬
‫ثاق هي الالييكية وغُ ُّل يف األعناق‪ ،‬وأول َح ِّل فـَْتلِ َها أن ن ُف َّ‬
‫ـك ربطها باللفظ‬ ‫َو ٌ‬
‫الشريف «علم» لتبقى مكشوفة معروفة األصل والفصل‪.‬‬
‫نشأت الالييكية يف أوربا‪ ،‬ونتجت عن صراع الطبقة املتعلمة الغنية الربجوازية‬
‫مع الكنيسة ومع الدين الكنسي‪ .‬تأصل العِـداء بني العقل احلر الفلسفي وبني‬
‫ال َك َهنوتية الكاثوليكية املرتابطة املتساندة مع ال َـملَكية الثيوقراطية‪ ،‬وسقطت على‬
‫مدى قرون ضحايا للظالمية الكهنوتية واجلربوت الكنسي واخلرافية الكنسية‪ .‬كانت‬
‫كتسبا كبريا للعقل على اخلرافية وللحرية على الغطرسة‪ .‬كانت‬ ‫الالييكية ُم َ‬

‫‪553‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ضحايا الكهنوتية على مدى قرون َم ْعلَمات للمقاومة الشريفة اليت أبداها بـُْرونُو‬
‫فحرقوه‪ ،‬وغاليلي فسجنوه‪ ،‬ودكارط فأهانوه‪.‬‬
‫اضطهدت الكنيسـة كل فكـر حر‪ ،‬حىت إذا جنحت الثورة الفرنسية وأسقطت‬
‫امللَكية طبقت البورجوازية املنتصرة شعار الفالسفة‪« :‬اشنُقوا آخر أ ِرستُقراطي بأمعاء‬
‫آخر قسيس»‪ .‬وأقامت البورجـوازية على أنقاض احلكم امللكي وعلى حطام الكنيسة‬
‫نظاما معاديا للدين‪ .‬مث تقلبت األحوال وانتكست الثورة‪ ،‬مث جتددت‪ ،‬مث انتكست‬
‫الفصل بني‬
‫ُ‬ ‫حىت استقر األمـر يف أوربا على هدنة بني احلكومات والكنيسة َع ْق ُدها‬
‫الدين والدولة‪.‬‬
‫النك ِد» بني رجال الدين النصراين ورجال‬ ‫«الفصام ِ‬‫كانت الالييكية نتيجة ِ‬
‫نكداً»‪ .‬وال مكان لألسى على‬ ‫احلكم النصراين‪ .‬مساه سيد قطب رمحه اهلل «فِصاما ِ‬
‫فصل أو وصل بني نَ ِك َدين‪ .‬إمنا األسى على ِو ٍ‬
‫صال أن َك َد وقع يف بالد املسلمني‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وحرقوا له‬
‫منذ القرون األوىل حني انضوى ديدان القراء حتت لواء امللك العاض َّ‬
‫س‬
‫خور وأكلوا من فتات مائدته‪ ،‬وبذلك هيأوا يف بالد املسلمني الرتبة اليت َغَر َ‬ ‫البَ َ‬
‫فيها االستعمار واستنبت وتعهد أجياال على شاكلته‪ ،‬تقرأ يف تاريخ املسلمني املاضي‬
‫واحلاضر فتجد ُمتَّكأ ملعاداة الدين ومربراً لالييكية‪ :‬جتد حكاما فاسدين يُ ْسنِ ُدهم‬
‫معممون طفيليون منافقون‪.‬‬

‫دام يف وجه تارخينا ذلك ال ِو ُ‬


‫صال األنكـد بني ديدان القراء واملتسلطني‬ ‫ش ٍ‬ ‫خ ْد ٌ‬
‫بالسيف‪ .‬ال ِ‬
‫أقصد أئمة املسلمني الذين أفتـَْوا بالغزو مع السلطان الفاجر والصرب على‬
‫احنرافه ودعم شوكة اإلسالم خمافة انكسار بيضة اإلسالم وتشتت وحدته‪ .‬هذه الفتوى‬

‫‪554‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫نقدها بفهم مالبساهتا التارخيية وأصوهلا من تسديد الوحي وحكمة االجتهاد‪.‬‬
‫ينبغي ُ‬
‫وقد تعرضت هلذا املوضوع الدقيق يف غري هذا الكتاب‪.‬‬

‫أقصد بديدان القراء‪-‬وهو لفظ نبـوي‪ -‬طائفةَ الضعفـاء من املعممني الذين ال‬
‫يزال نسلُهم الكئيب ُيَ ْـم ِج ُم تارة ويُصرح أخرى مبا جيعلنا نيأس منه أو نكاد‪ ،‬ومبا جيعل‬
‫الباحثني عن مربر لتطبيق الييكية النصارى على إسالم املسلمني يف حمل االختيار‬
‫الواسع ‪-‬يف احلاضر واملاضي‪ -‬لتقدمي مناذج اإلفالس‪.‬‬

‫كانت الالييكية يف بالد النصارى ثورة حمكومني على حكام‪ .‬فلما هجم‬
‫االستعمار على بالد املسلمني كان احلكام الغاصبون الوافدون هم الذين فرضوا‬
‫غرسهم من‬ ‫ِِ‬
‫الالييكية ليعزلوا الشعوب املسلمة عن مصدر َّقوهتا وقوام ذاهتا‪ .‬وورثَهم ُ‬
‫املغربني الذين تولوا احلكم من بعدهم يف ديار املسلمني‪ ،‬وجلسوا على الكراسي‬
‫الالييكية مل يُغريوا منها إال املظهـر إلبراز الشخصية القومية الفلكلورية‪ ،‬واحتفظوا‬
‫بالروح‪.‬‬

‫ارتطم االستعمار بالذاتية املسلمة فوجد مقـاومة باسلة رغم غثائية املسلمني‬
‫العدو يف بالد‬
‫اليت جعلتهم قَصعةً تُؤكل‪ ،‬جعلت فيهم قابلية االستعمار مث متكن ّ‬
‫املسلمني‪ ،‬فعمل ُرويدا ُرويدا بالقهر تارة وبالكيد أخرى على تطوير سياسة فصل‬
‫لينزوي‬
‫الدين عن الدولة وفصل الشـرع عن القانون ليبقى السلطان خالصا له‪ ،‬و َ‬
‫حترك تالوتُه‬
‫الشرع يف خانة «األحوال الشخصية»‪ ،‬والقرآ ُن يف ركن املسجد‪ ،‬ال ُ‬
‫ساكن االنقياد السياسي للحاكم الكافر‪.‬‬

‫‪555‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫كيده يف تغـريب النخب احمللية ومتريرهم من «طاحون‬
‫جتلى قهر االستعمار و ُ‬
‫احلكم‪ .‬مل تتمكن الالييكية إال بعد الرحيل‬
‫التعليم» كما يعرب لورد كرومر‪ ،‬وتوريثهم َ‬
‫اجلسمي لالستعمار‪ ،‬طردت االستعم َـار ُحشاشةٌ من تديُّن املسلمني‪ ،‬وبقية من‬ ‫ِّ‬
‫ت مقاومة حركات التحرير‬ ‫قدرهتم على اجلهاد‪ .‬تلك احلشاشة وتلك البقية اليت سلَّ َح ْ‬
‫ف الالييكي مثرة االستقالل السياسي‬
‫الوطنية‪ .‬فلما رحل طابور االستعمار سرق اخل ْل ُ‬
‫وأفرغته من حمتواه‪.‬‬

‫ت االستعمار‪ ،‬واطمأنوا إىل وطنيتها‪،‬‬ ‫ِ‬


‫أنس املسلمون بالنخب املتعلمة اليت خلَ َف ْ‬
‫س دخيل‪ ،‬جذوره‬
‫واستناموا على دينهم‪ .‬ما علموا إال بعد حني أن هذه النخب َغ ْر ٌ‬
‫وس ْقيُهُ واستمداد عقله وروحه منهم‪.‬‬
‫اجلسمية منا‪َ ،‬‬
‫ومن أعلى احلكـم‪ ،‬من مكانة السلطـان‪ ،‬وبأجهزته‪ ،‬فرضت النخب الالييكيَّة‬
‫مذهبا‪ ،‬وأقامت جدارا عاليا بني الدين والدولة وبني الشرع والقانون‪ .‬من دهائهم‬
‫وخبثهم أهنم َحلَّ ْوا الدساتري‪-‬وهي القانون األسـاسي للحكم‪ -‬بديباجات متجد‬
‫اإلسالم‪ ،‬وبفصول تقرر أن اإلسالم دين الدولة‪ .‬ش ْك ٌل يف السطور يوازي مظاهر‬
‫التدين التليد عند «أمراء املؤمنني» و«محاة امللة والدين» و«خدام األقداس»‪ .‬تديُّن‬
‫طارئ منذ سقوط الشاه‪.‬‬

‫هذا اجلدار الالييكي‪-‬والعبارة ُولدت هناك يف تاريخ الثـورة الفرنسية‪ -‬ي ْشطُُر ذاتية‬
‫املسلمني ومفاهيمهم ووعيهم وسلوكهم‪ .‬من هذا اجلانب الدين ومن ذاك الدولة‪ .‬من هذا‬
‫العقل‪ .‬من هذا اآلخرةُ يشتغل هبا املتبتلون‪ ،‬ومن ذاك الدنيا يقدر عليها‬
‫النقل ومن ذاك ُ‬
‫ُ‬

‫‪556‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أهلُها‪ .‬من هذا اجلانب من جدار الالييكية األصالة والفلكلور ومن ذاك احلداثة‬
‫ت بأبويّة حنون على كتف األصيل ال ُـم ْمتِ ِع‪.‬‬
‫دود تـَُربِّ ُ‬
‫الو ُ‬
‫املتنازلة َ‬
‫من هذا اجلانب الصناعةُ التقليدية فـُْر َجةً للسواح‪ ،‬ومن ذاك صناعة السماسرة‬
‫الدوليني‪ .‬من هذا اجلانب ملن شاء املسجد والعبادة والصالة على اجلنازة بشرط أن ال‬
‫يتعرض أحد ملا ال يعنيه‪ ،‬ومن ذاك اجلانب احلكومة واملؤسسات العصرية والربملانات‬
‫البؤس واملرض‬
‫املطبوخـة‪ .‬من هذا اجلانب الفق ُـر والقناعة ‪-‬وهي كنز ال يفىن‪ -‬و ُ‬
‫واجلهل والدروشة كما يليق باألتقياء‪ ،‬ومن ذاك الثروة والغىن والقوة‪.‬‬

‫من هذا اجلانب دافعُو الرشوة غصبا‪ ،‬ومن ذاك جتـار النفوذ وم َقَّربُو احملسوبية‪.‬‬
‫الوحي يستمع إىل آياته الغيبيون‪ ،‬ومن ذاك العقل واحلس والتفاعل‬
‫ُ‬ ‫من هذا اجلانب‬
‫ال ُـمجدي واإلرادة الناجعة‪ .‬من هذا اجلـانب املاضي ميثله الظالميون الرجعيون‪ ،‬ومن‬
‫ذاك أنوار احلاضر ومستقبل متطور حنو جمتمع تقدمي اشرتاكي وحدوي لربايل معا‪.‬‬
‫ال تنافر يف ذلك اجلانب بني اشرتاكية ولربالية منذ سقط جدار برلني وانتهت احلرب‬
‫الباردة‪ .‬جنس واح ٌد وحزب واحد هم الالييكيون‪.‬‬

‫س لنا تارة فـَْرَوَة الثعلب وطورا تكشر‬


‫أزمة وإفالس هي هذه الالييكية اليت تلبَ ُ‬
‫عن أنياب الشـراسة؟ أم هي نار يكتوي هبا املستضعفون ويطبُخ يف تـَنّورها املستكربون‬
‫رسهم َوزواجهم الكاثوليكي مع الغرب؟‬ ‫مآدب ع ِ‬‫ِ‬
‫من بين جلدتنا املعـادون لديننا َ ُ‬
‫إهنا ازدواجية بني فئتني من فئات اجملتمع املسلم بدأت من الصدع العنيف على إثْر‬
‫الصدمة االستعمارية اليت فاجأت املباينَ التقليدية مبا ال قِبَ َل هلا به من قوة عسكرية وقدرة‬

‫‪557‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫على التنظيم وبأس يف العدوان وخمرتعات عجيبة وبضائع غريبة وغطرسة تائهة‪ .‬واكتَمل‬
‫الصدع يف تكوين تالمذة الطاحون الذين ميثلون استعمارا جديدا هو أخبث وألبث‪،‬‬
‫ِ‬
‫املستعمر من بين جلدتنا ينطق بلغتنا‪.‬‬ ‫استعماراً ُم َقنَّعاً ألن‬
‫بلغتنا!‬
‫نسيت أن أتذكر وأحتسر على ما فعله الالييكيون بلغة القـرآن العزيزة‪ .‬نسيت‬
‫ومبناها‬
‫أن أتذكر وأحتسر على أن ألَ ّد أعداء القرآن ُهم الناطقون بلغة مرتمجة‪ ،‬لفظُها َ‬
‫عربيان ومعانيها أعجمية كافرة‪ .‬الناطقون باللفظ العريب ينافقون الشعب املسلم‬
‫ويتباه ْون يف معارض الثقافات القومية بلغة أصيلة‬
‫ويتملقونه بتبين هلجته ولغة دينه‪َ ،‬‬
‫جميدة ترفع الرأس عالية بني األقوام‪.‬‬
‫اللغة معيار وجدار‪ .‬وآلة من آالت التمويه‪.‬‬
‫وس َدنة بقائه؟‬ ‫ما العمل مع الغرس الكئيب ومع جدار الالييكية ِ‬
‫وفعلَة بنائه َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫من أين نبدأ ن ْقب اجلدار للحوار؟ من أين ننقض؟ كيف هندم؟‬
‫ال يزال الشعب وفيا لدينه مل تُصبه جرثومة اخليانة‪ .‬وال بد لنا من النظرة البعيدة‬
‫ميعاد ُنل فيه مضامني‬ ‫س الطويل والصرب والتدرج لنتقدم بثقة األوفياء إىل ٍ‬ ‫والن َف ِ‬
‫صدٍّ‪ ،‬بل قومة‪ ،‬لعالج األنظمة‬ ‫اإلسالم يف كليات احلياة وتفاصيلها‪ .‬ال بد من تَ َ‬
‫واملذاهب املستوردة الفاسدة املفسدة‪ .‬تَصدٍّ‪ ،‬بل قومة‪ ،‬لنقض املباين الغثائية التقليدية‬
‫اليت ّبررت الالييكية‪ ،‬ولنقض الالييكية‪ .‬نقضهما معا يف عملية واحدة طويلة النفس‬
‫موحدة اهلدف‪ .‬وقل اعملوا فسريى اهلل عملكم ورسوله واملؤمنون‪.‬‬

‫‪558‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫الثقافة جامعة‬

‫نداء املسلمني لكل لقاء ذي بال هو‪« :‬الصالة جامعة»‪ .‬واملسجد جامع‪،‬‬
‫والقرآن جامع‪ ،‬وكل تفاصيل احلياة مستنرية بالصالة‪ ،‬ساجدة هلل رب العاملني‪،‬‬
‫مهتدية بكتابه املبني‪ ،‬وبسنة رسوله األمني‪ ،‬منتظمة على خط املوعد األخروي‪،‬‬
‫مستقبلة له‪ ،‬موقنة به‪.‬‬
‫هذا ما جيمعنا‪ ،‬فإذا استعملنا لفظ «ثقافة» وأضفنا إليها «إسالم» وقعنا يف‬
‫اخللط املفهومي‪ ،‬ألن «الثقافة» مجع له عناصره‪ ،‬وليس منها كلمة «إسالم»‪.‬‬
‫هلذه الكلمات الوافدة مع الغزو االستعماري بري ُقها وفخفختها وطنينها مثل‬
‫«حضارة»‪« ،‬ثقافة»‪ ،‬وما شابه‪ .‬فهي تغزو األلفاظ القرآنية وتزحزح املفاهيم اإلسالمية‬
‫لتحل حملها يف اخلطاب دون أن يشعر املتكلم املنساق مع العادة االستعمالية أنه‬
‫يتناقض عند ما يقول‪« :‬ثقافة إسالمية»‪.‬‬
‫الثقافة جتمعهم كما جتمعنا الصالة وجيمعنا املسجد والقرآن والسنة‪ .‬فما معىن‬
‫«ثقافة» حىت نعلم ما هي صالهتم ومسجدهم وقرآهنم وسنتهم؟‬
‫املعاين اليت ترتمجها الكلمة بدأت نـُْقلَتَها من فرنسا وجالت عند اإلجنليز واألملان‪،‬‬
‫والتقطت من هنا وهناك وهنالك عناصر تكوينها حىت تبلورت‪ ،‬ال بل حىت تضبَّبَت‪،‬‬
‫وأصبح هلا مائة تعريف وتعريف‪ .‬الثقافة قناع العقل املتمرد‪ .‬خيفي غبار أدمغة يسكنها‬

‫‪559‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫غبار من التعريفات‬
‫ت بالدين‪ٌ .‬‬
‫الشك يف الدين واخلوف من الدين واجلهـل والتجاهل املبـَيَّ ُ‬
‫يعكس ضبابية الشيء‪ ،‬تكسبه ضبابيتُه قداسة اجملهول املعبود‪.‬‬
‫قال أحدهم‪« :‬الثقافة ما يبقى بعد أن تنسى كل ما تعلمته»‪.‬‬
‫وعرف آخر الثقافة فقال‪« :‬هي جمموع الوسائل اجلمـاعية اليت ميكن لإلنسان‬
‫ليسم َـو عقليا وخلقيا وروحيا‪ .‬وهبذا‬
‫أن يلجأ إليها ليمارس ضبطا على نفسه‪ ،‬و ُ‬
‫االعتبار فالفنون والفلسفة والدين والقانون وقائع ثقافية»‪.‬‬
‫الفعل يف‬ ‫وقال ثالث‪« :‬الثقافة جمموع مرتابط من أمناط التفكري والشعور و ِ‬
‫ٌ‬
‫درجة من درجات التنظيم استوعبتها وتقامستها أعداد من األشخاص‪ .‬فهي تُ َك ِّون‬
‫من هؤالء األشخاص على الصعيد املوضوعي والرمزي جمموعة خاصة متَميزة»‪.‬‬
‫ومقاصده واعتباراتُه‬
‫ُ‬ ‫ونظامه‬
‫قاموس الثقافة تزاحم مفرداتُه وتراكيبُه وترابطاتُه ُ‬
‫ونظامه‪ .‬الثقافة بضبابية مفهومها‬ ‫ِ‬
‫مقاصد الدين ومفرداته وتراكيبَه َ‬
‫َ‬ ‫املوضوعيةُ والرمزيةُ‬
‫وغموضه تغطي مسـاحة واسعة يف عقل املثقف وخياله وحياته اليومية وتطلعاته‬
‫وشعوره وكل أجزاء نفسه‪ .‬فهي دين شامل مشويل مسيطر ال يرتك جماال يف النفس‬
‫والعقل والشعـور وسائر أرجاء النفس لدين غريه‪ .‬مفرداته وتراكيبه احلرية مبعانيها‬
‫السيـاسية واإلباحية كال ال يتجزأ‪ ،‬و«السعادة»‪ ،‬والفن‪ ،‬واإلبداع‪ ،‬والشعر‪ ،‬والفلسفة‪،‬‬
‫إىل آخره‪.‬‬
‫للمثقف املغرب دين مينعه عن التفكري مبفردات اإلسالم وتراكيبه‪ ،‬إن كان يف‬
‫نفسه بقية من فطرة فهي من وراء جدار الالييكية شأن خاص‪ ،‬وعورة ال تذكر وال‬
‫تكشف‪ .‬يفقد املثقف املغَْربَ ُن قدرته على التعجب من بنيانه هو‪ ،‬من أبدعه وبـََرأه‬

‫‪560‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وصوره؟ أسئلة ُوجودية ال جيوز يف ملة الثقافة طرحها إال مندجمة يف الشبكة الفلسفية‪،‬‬
‫ود ًة يف ُمتحفها مع أسئل ٍـة جتاوزها العقل وخلَّفها التطور‪.‬‬
‫ضَ‬ ‫َمْن ُ‬
‫ستثن من‬
‫عقل املثقف منهمك يف معرفة «كيف»‪ ،‬منهمك يف فضول شامل‪ ،‬يُ َ‬
‫فضوله الطلب الفطري‪ :‬من أنا ومن أوجدين وملاذا ِ‬
‫ومن أين وإىل أين؟‬ ‫ُ‬
‫وهذا مصداق قول اخلالق البارئ املصور العليم احلكيم سبحانه‪﴿ :‬‬
‫ضلَّهُ اللَّهُ َعلَى ِعل ٍْم َو َختَ َم َعلَى َس ْم ِع ِه َوقـَْلبِ ِه َو َج َع َل‬
‫ت َم ِن اتَّ َخ َذ إِلَ َههُ َه َواهُ َوأَ َ‬‫أَفـََرأَيْ َ‬
‫ش َاوةً فَ َمن يـَْه ِد ِيه ِمن بـَْع ِد اللَّ ِه﴾‪.1‬‬ ‫ص ِرِه ِغ َ‬ ‫َعلَى بَ َ‬
‫فطرة مبتورة‪ ،‬جمدوعة‪ ،‬مقطوعة‪ ،‬خمتومة‪ .‬يا حسرًة على العباد! تنعصر أفئدتنا‬
‫أملا على مصري كل مسلم علموه اإلحلاد‪ ،‬وعلى ضيـاع كل مسلمة علموها االستهتار‬
‫بالدين ونسيان يوم العرض‪ .‬ال تُنسينـا ضرورة إقصاء املقطوعي الفطرة عن املواقع‬
‫القيادية وضرورةُ تعقيم النسل اجملدوع وظيفتَنا الدعوية‪ ،‬وشفقتَنا على اخللق‪ ،‬ورغبتَنا‬
‫تعام ِل الدولة‬
‫ـدي اهلل بنا رجال واحدا‪ ،‬امرأة واحدة‪ .‬لضرورة ُ‬ ‫الشديدة يف أن يه َ‬
‫اإلسالمية مع املغربني والالييكيني وأصناف اجلاهلني بالدين واملعادين له نُطيل‬
‫ثي‬ ‫ِ‬
‫العبَ ِّ‬
‫النظر الناقد إليهم‪ .‬ونطيل النظر لنعرف األوصاف النفسية الفكرية لإلنسان َ‬
‫العابث‪ ،‬ولنمارس وظيفتنا الدعوية بالرفق واحلكمة واملوعظة احلسنة واجلدال باليت‬
‫هي أحسن‪.‬‬

‫االهتمام السياسي السلطاين اهلم الدعوي القرآين‪.‬‬


‫ُ‬ ‫ال يُنسينا‬

‫‪ 1‬سورة اجلاثية‪ ،‬اآلية ‪.23‬‬

‫‪561‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أعظم من شرف االنتماء إىل‬ ‫رف ُ‬ ‫حيسب املثقف املطموس الفطرة أن ال َش َ‬
‫يغضب أشد الغضب على من يزعم أن حممدا‬ ‫عامل املثقفني‪ .‬نستمع هنا ملثقف عريب َ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم (والتصلية مين ال يعرفها هو وال جتيزها شريعتُه) كان أميا‪.‬‬
‫َّك الذي َخبـََر‬
‫املثقف احملن َ‬
‫َ‬ ‫ف رجال عربيا عظيما‪،‬‬‫بل كان‪ ،‬يف زعمه ورغبته أن يُ َشِّر َ‬
‫الظروف املوضوعية لقومه فصاغ هلم اإلديولوجية املناسبة وقاد تطلعاهتم القومية إىل‬
‫اجملد واإلبداع احلضاري‪.‬‬
‫ويتحدث هذا املثقف الكاتب األديب عن نفسه وعقيدته فيقول‪« :‬ال أحبث‬
‫يف التوحيد وال يف تعدد اآلهلة‪ ،‬إمنا أدين باجلمال ومقوماته الفنية‪ .‬وال أعتقد أن‬
‫التوحيد هو تقدم بالنسبة للوثنية‪ .‬إن تأثري «هرياقليدس» و«بار ِامنيد» علي كتأثري‬
‫ب باألناشيد البابلية اليت تُفقد التأكيدات اإلغريقية و«التوراتية»‬
‫أع َج ُ‬
‫القرآن والتوراة‪ .‬و ْ‬
‫طابعها الثابت فيما خص مصـدر احلضارات‪ .‬هذا‪ ،‬وانطالقا من عباديت للقدمي‬
‫أمضي بعيدا عن شواطئ املتوسط وأمأل عيين برموز «الو‪-‬تسو» (مؤسس مذهب‬
‫الطـاوية) أو «تشنغ‪-‬تسو»‪ ...‬واألمر الوحيد الذي حيملين على تفضيل القرآن كونُه‬
‫الوحيد بني النصوص العظمى الذي أستطيع قراءته بلغته األصلية‪ .‬هذا بغاية األمهية‬ ‫َ‬
‫ض َّف ٍة إىل‬ ‫ٍ‬
‫فأنعم وأنتشي جبماليَّة مسعية ومعنوية‪ ،‬دون أن أنقله من َ‬
‫َّر بثمن‪ُ .‬‬ ‫وال ي َقد ُ‬
‫أخرى ومن لغة إىل لغة»‪.‬‬
‫ال أمسي هذا املثقف اجملنون باجلمالية‪ .‬يعنيين فقط أن أضرب مثاال على ساك ٍن يف‬
‫«ضفة» الثقافة ال حيب أن ينقل القـرآن من اعتباره قدميا يستحق العبادة ِلق َدمه وأصالته إىل‬
‫َ‬
‫اعتباره رسالة حية من اهلل العلـي القدير ختاطب الغافل عن ربه‪ .‬ال حيب وال َْي ُس ُـر‪ ،‬ألن‬

‫‪562‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫دين الثقافة الشمولية ال يفهم لغةً غري لُغته‪ ،‬وألن احلارس الثقايف يقول له عند جدار‬
‫الالييكية‪ :‬قف! ال جيوز العبور!‬
‫هكذا يرى املثقف نفسه‪ :‬يدين باجلمال والفن‪ ،‬ويعبد األشيـاء القدمية‪ ،‬ويرف ِرف‬
‫بأجنحة اخليال ويف صحبة هراقليدس والو‪-‬تسو والقرآن يف فضاآت ال حدود هلا‪.‬‬
‫هو مع األناشيد البابلية وتاريخ احلضارات‪ ،‬ال شأن له بالتوحيد وال باملفاضلة بني‬
‫ض َّل‬
‫س ُه ْم َو َ‬ ‫ِ‬
‫التوحيـد والوثنية‪ .‬ال شـأن له بنفسه ولُ ْغز وجودها‪﴿ .‬قَ ْد َخس ُرواْ أَن ُف َ‬
‫َعنـْ ُهم َّما َكانُواْ يـَْفتـَُرو َن﴾‪.1‬‬
‫هذه حقيقة كيف ِ‬
‫ندخلها يف حساب الغافلني عن رهبم؟ حقيقة خسران‬
‫النفس وضياعها وشقائها يف اآلخرة‪.‬‬
‫إهنا اهلدايةُ من اهلل عز وجل‪ ،‬وسعادتُنا أن يكون تبليغنا للدعوة وقص ُفنا جلدار‬
‫الصمت على موعد مع السابقة اإلهلية لنستفتح األمساع مجيعا وخنرج العباد من‬
‫عبيد اختيار وإميان وطاعة كما هم عبيد قدرته‪،‬‬ ‫عبوديتهم للهوى ليكونوا هلل تعاىل َ‬
‫مربوبون مقهورون‪ ،‬مل خيتاروا قبل خروجهم من العدم مكان والدهتم وال سحنة‬
‫وجوههم وال لون بَ َشَرهتم‪ .‬طموحنا أن يلتقي بالغُنا مع سابقة اهلداية اإلهلية فيخرج‬
‫وإمعيَّة ُرفقته ليدخل يف جامعة الصالة واملسجد والقرآن‬ ‫مثقف من روابط عامليته َّ‬
‫ب معه رجاء اجلزاء من اهلل ورجاءَ‬ ‫والسنة‪ .‬وما قيمة مثقف ملحد عند اهلل؟ إمنا نتـَْع ُ‬
‫أن يأيت مبا معه من بضاعة اطالع ليخدم أمته‪ ،‬لعله يفيد باطالعه أكثر مما يفيد‬
‫الفطري الساذج‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪ 1‬سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.53‬‬

‫‪563‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫لعله يسري يف صراط سلكه التائبـون‪ ،‬سلكه فضالءُ ساحوا طويال يف الفضاآت‬
‫الثقافية حىت أدركتهم العناية اإلهلية فاستيقظوا من نومة الثقافة‪ ،‬وهبّوا من غفلة‬
‫الثقافة‪ ،‬وحترروا من غرور الثقافة‪ ،‬وحتولوا من قزمية اإلمعة التابع الذي يبتلع إفرازات‬
‫الغرب إىل فحولة املؤمن باهلل‪ ،‬املعتـَِّز بقرآنه‪ ،‬املوقن بآخرته‪ ،‬املبلغ نيابة عن رسوله‪.‬‬
‫صلى اهلل وسلم على سيدنا حممد وآله وصحبه‪.‬‬
‫لعله يسري فيه ما َسَرى يف كاتب مثقف شاع ٍر ناثر مناضل كان يُذ َكُر يف‬
‫احملافل الثقافية اخلاسرة‪ ،‬فلما هداه اهلل واستيقظ وتاب رفعه اهلل فأصبح يُذكر يف‬
‫امللكوت األعلى مع النبيئني والصديقني والشهداء والصاحلني‪ .‬هكذا نرجو له وندعو‬
‫له‪ ،‬وال نـَتَ َّ‬
‫أل على اهلل‪ ،‬وال نُزكي على اهلل أحدا‪.‬‬
‫لعله يكون لَ ْونا من سيد قطب رمحه اهلل‪.‬‬
‫قال سيد قطب رمحه اهلل يف كتاب «معامل يف الطريق» يصف نقلته من عامل‬
‫املثقفني إىل جامعة املؤمنني‪« :‬إن الذي يكتب هذا الكالم إنسان عاش يقرأ أربعني‬
‫االطالع يف ُم ْعظَم حقول املعرفة‬
‫َ‬ ‫األول فيها هو القراء َة و‬
‫سنة كاملة‪ .‬كان عملُه ُ‬
‫اإلنسانية‪ ...‬ما هو من ختصصه وما هو من ِهواياته‪ ...‬مث عاد إىل مصادر عقيدته‬
‫التاث الضخم‪-‬وما‬ ‫وتصوره‪ ،‬فإذا هو جيد كل ما قرأه ضئيال ضئيال إىل جانب ذلك ُّ‬
‫كان ميكن أن يكون إال كذلك‪ -‬وما هو بِنادم على ما قضى فيه أربعني سنة من‬
‫عمره»‪.‬‬
‫قال رمحه اهلل عن استفادته من حصيلته الثقافية‪« :‬فإمنا عرف اجلاهلية على حقيقتها‪،‬‬
‫وعلى احنرافها‪ ،‬وعلى ضآلتها‪ ،‬وعلى قزامتها‪ ،‬وعلى جعجعتها وانتفاشها‪ ،‬وعلى غرورها‬

‫‪564‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫املصدريْن‬
‫َ‬ ‫وادعائها كذلك!!! وعلم علم اليقني أنه ال ميكن أن جيمع املسلم بني هذين‬
‫يف التلقِّي»‪ .‬انتهى كالمه رمحه اهلل ورفع مقامه‪.‬‬
‫إننا يف هذا الكتاب خاصمنا طويال اجلاهلية‪ ،‬وكشفنا طويال عن خبايا التغريب‬
‫والالييكية‪ ،‬وعارضنا طويال احلضارة املادية والغطرسة االستعمارية واالستغالل‬
‫االنقطاع والزهادةَ‪.‬‬
‫َ‬ ‫قصدنا بذلك ليس االنكفاءَ عن الواقع والعزلة عنه و‬ ‫الرأمسايل‪ُ .‬‬
‫الدخول يف‬
‫اقتحام عقبة الواقع و ُ‬‫ُ‬ ‫فإن من ترشحه األقدار للحكم ال خيار له إال‬ ‫َّ‬
‫وحْ ِل الرسالة للعاملني ال تسعه الزهادة يف اخللق‪.‬‬
‫وم ْن كلّفه دينُه بالتبليغ َ‬
‫معاركه‪َ .‬‬
‫ودخالءَها فينا لنتخذ االحتياط املناسب وجند الصيغة‬ ‫قصدنا أن نعرف اجلاهلية ُ‬ ‫ُ‬
‫غري معطِّ ٍلة وظيفة الدعوة‪ .‬وكان‬
‫املناسبة واألسلوب املناسب لتعمل يد الدولة عملها َ‬
‫اهلل على كل شيء مقتدرا‪.‬‬

‫‪565‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫التعليم‬

‫الثقايف يصيبها غيث الدعوة فتهتز‬


‫ِّ‬ ‫لعل بذرة إميان تكون مطمورًة حتت الركام‬
‫َّ‬
‫وتربو‪ .‬لعل أصل إميان ينبعث ويستيقظ!‬

‫ناخ‬ ‫ِ‬
‫أما الذين باءُوا برجس العداء لدينهم وأصروا واستكربوا فال يصفو ال ُـم ُ‬
‫املالئم لِتبيِ ِ‬
‫يء العلوم النافعة واكتساهبا وتوطينها إال باالستغناء عنهم‪ .‬االستغناء عن‬ ‫ُ َْ‬
‫الشاردين عن دينهم حبزم‪ ،‬لكن بضبط أعصاب‪.‬‬

‫ويأتينا املثقفون التائبون باملسامهة الثمينة‪ ،‬يأتوننا قبل كل شيء مبعرفتهم‬


‫باجلاهلية‪ .‬تلك اجلاهلية اليت ال بد من التعامل معها والتحاور والتفاوض‪ ،‬فالعارفون‬
‫التشار ِط واملصانعة من غريهم‪.‬‬
‫بلغاهتا ودخائلها وأساليبها أقدر على الكالم معها و ُ‬
‫الشرود الثقايف‪ ،‬املستيقظني من غفوته‪ ،‬يتمسكون بدينهم‪،‬‬ ‫ولعل التائبني من ُ‬
‫ورمبا‬
‫ويعرفو َن نعمة االنتماء إليه‪ ،‬وخيشون العودة فيما كانوا فيه‪ ،‬أكثر من غريهم‪ُ .‬‬
‫جتد عزميةَ سيد قطب رمحه اهلل ترجع فيما ترجع إىل عودته لدينه بعد طول غفلة‪.‬‬
‫ب الصدور إال ما تبوح‬ ‫غي ِ‬
‫وهل كان سيد قطب رمحه اهلل غافال يوما؟ ال يُعبـُِّر عن ْ‬
‫به األلسنة واألقالم‪ .‬وكتابات قطب رمحه اهلل فصيحة يف كراهيته للجاهلية كراهية‬
‫ب والصقها وعاشرها‪.‬‬ ‫من عرفها عن َكثَ ٍ‬

‫‪566‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫النبوي الشـريف الذي رواه الشيخان والرتمذي‬
‫احلديث ُّ‬
‫ُ‬ ‫يرسم معالِ َمه‬
‫وهذا ما ُ‬
‫والنسائي عن أنَس رضي اهلل عنه أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬ثالث َمن‬
‫أحب إليه مما سواهما‪،‬‬
‫ُكن فيه وجد بهن طعم اإليمان‪ :‬من كان اهلل ورسوله َّ‬
‫ومن أحب عبدا ال يحبه إال هلل‪ ،‬ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه اهلل‬
‫منه كما يكره أن يُلقى في النار»‪.‬‬
‫ويؤكد املعىن ويوضحه قول أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‪« :‬ال‬
‫ض عُرا اإلسالم إال إذا نشأ يف اإلسالم من ال يعرف اجلاهلية»‪.‬‬
‫تـُنـَْق ُ‬
‫ذلك أن من عرفَها حق املعرفة مث أنقذه اهلل منها حيرص كل احلرص على سالمة‬
‫س كيانُه‪ ،‬ويكره اجلاهلية وما ميُت إليها بصلة‪.‬‬
‫اإلسالم وقيام دولته‪ ،‬ويكره أن ُيَ َّ‬
‫على امتداد جبهة واسعة سيتعني على اإلسالميني أن خيوضوا معارك مع‬
‫اجلاهلية اخلارجية ومع الفتنة الداخلية‪ .‬وسيتكتل الدخالء الصنائع املعادون للدين‬
‫أقد ُر من طبقة املثقفني‬
‫مع جنسهم من الكفار‪ .‬فذلك الصف لن يستطيع مقاومتَه َ‬
‫الراجعني إىل أحضان اإلميان‪.‬‬
‫وأعظم ميدان للمواجهة ميدان الرتبية والتعليم‪ ،‬ذلك امليدان الذي فيه يتقرر‬
‫املستقبل‪ ،‬وعلى نتائج غرسه يتوقف مصري األمة‪ .‬األطفـال والشباب ضحايا يف يد‬
‫مثل املثقفني العـائدين من يستنقذهم من األيدي‬‫املثقفني املغربني املعادين للدين‪ ،‬ما ُ‬
‫القذرة‪.‬‬
‫قلبه الك ْفَر‪ ،‬وحصل يف شبكة العنكبوت‬ ‫من شاخ يف اإلحلاد حىت أُ ْش ِرب يف ِ‬
‫َ‬
‫الثقافية‪ ،‬وامتصت منه الفلسفة واجلمالية والفن واإلباحية رحيق الفتوة و َغرية الرجولة‬
‫رجى منه؟ وقد أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫وماء احلياء وروح اإلسالم فما يُ َ‬
‫‪567‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ٍ‬
‫جندب بإقصاء‬ ‫يف حديث رواه اإلمام أمحد وأبو داود والرتمذي عن َسَُرةَ بن‬
‫شيوخ الكفر واستبقاء الشباب‪ .‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬اقتلوا شيوخ املشركني‬
‫واستحيوا الشرخ»‪ .‬قال الراوي‪ :‬الشيخ ال يكاد أن يسلم‪ ،‬والشباب أقرب إىل‬
‫اإلسالم‪ .‬الشرخ الشباب‪.‬‬
‫ال أقول بفائدة تعود على املسلمني بنصب املشانِق‪ ،‬وال نصبُها ِمن شريعة الرمحة‪.‬‬
‫بل اإلقصاءُ من الوظائف العمومية‪ .‬وقد حتدثت يف موضوع الردة يف الفصل الرابع من‬
‫الباب األول من هذا الكتاب‪ ،‬وذكرت بابا عند البخاري يف كتابه «استتابة املرتدين»‬
‫عنوانه‪« :‬باب من ترك قتال املرتدين للتألف ولئال ينفر الناس عنه»‪.‬‬
‫آيات اهلل يف إير ِان الثورة اإلسالمية من املثقفني املسلمني‬ ‫ِ‬
‫لست أدري لَ َلْ يستفد ُ‬
‫أمثال بازرجان‪ .‬أهي لِربالية راسبة يف أعماق التكتل احلزيب مل تنسجم مع تطلعات‬ ‫ِ‬
‫اجلديد يف امليدان‪ ،‬ال يعرف قيمة‬
‫ُ‬ ‫الفقهاء الشيعة‪ ،‬أم استغناء عما ال يَ ْستـَ ْغ ِن عنه‬
‫االستفادة من جتربة الرجال على ما معهم من إميان ز َاد أو نقص إال بعد التجارب ال ُـمّرة؟‬
‫مكان املواجهة اليت حنتاج غدا للمثقفني يساندوننا فيه هو جهاز الرتبية‬
‫والتعليم‪ .‬نظام الرتبية والتعليم هو العمود ِ‬
‫الف َقري للدولة‪ .‬وإعادة ترتيب هذا اجلهاز‬ ‫َ‬
‫ضرورة الضرورات يف حياة األمة‪ .‬جيب إنشاؤه إنشاء جديدا‪ ،‬وصياغة قنواته‪ ،‬وسد‬
‫منابع الفساد ال ُـم َخلَّ َف ِة فيه إلعداد أجيال سليمة العقيدة والفطرة‪ ،‬مسلحة باملعارف‬
‫العملية التطبيقية‪.‬‬
‫الضار من النافع‪ ،‬والسم من العسل غريُ املثقفني‬
‫ث من السمني‪ ،‬و َّ‬ ‫ومن يـَْف ِرُز الغَ َّ‬
‫َ‬
‫الذين عرفوا اجلاهلية مث عافوها وأدركوا قزامتها وضآلتها و َأوْوا إىل حضن اإلسالم؟ من‬
‫‪568‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يُطَ ِّهُر الربامج وينتقي من ُزمالء األمس الصال َـح من الطاحل غريُ من مارس املهنة وجال‬
‫يف احلقل الثقايف جوالت؟‬

‫قال سيد قطب رمحه اهلل يف كتاب املعامل‪« :‬إن اجتاهات «الفلسفة» جبملتها‪،‬‬
‫واجتاهات «تفسري التاريخ اإلنساين» جبملتها‪ ،‬واجتاهات «علم النفس» جبملتها‪-‬‬
‫عدا املشاهدات واملالحظات دون التفسريات العامة هلا‪ -‬ومباحث «األخالق»‬
‫جبملتها‪ ،‬واجتاهات دراسة «األديان املقارنة» جبملتها‪ ،‬واجتاهات «التفسريات واملذاهب‬
‫االجتماعية» جبملتها‪ ،‬فيما عدا املشاهدات واإلحصائيات واملعلومات املباشرة ال النتائج‬
‫العامة املستخلصة منها وال التوجيهات الكلية الناشئة عنها‪.‬‬

‫قال رمحه اهلل‪« :‬إن هذه االجتاهات كلها يف الفكـر اجلاهلي‪-‬أي غري‬
‫اإلسالمي‪ -‬قدميا وحديثا متأثـرة تأثرا مباشرا بتصورات اعتقادية جاهلية‪ ،‬وقائمة‬
‫ومعظمها‪-‬إن مل يكن كلها‪ -‬يتضمن يف أصوله املنهجية‬
‫على هذه التصورات‪ُ .‬‬
‫ِعداء ظاهرا أوخفيا للتصور الديين ُجلة‪ ،‬وللتصور اإلسالمي على وجه خاص‪.‬‬

‫قال رمحه اهلل‪« :‬واألمر يف هذه األلوان من النشاط الفكري‪-‬والعلمي!‪ -‬ليس‬


‫كاألمر يف علوم الكيمياء والطبيعة والفلك واألحياء والطب‪ ...‬وما إليها ما دامت‬
‫هذه يف حدود التجربة الواقعية وتسجيل النتـائج الواقعية‪ ،‬دون أن نتجاوز هذه احلدود‬
‫كتجاوز الداروينية مثال جملال إثبات املشاهدات‬
‫إىل التفسري الفلسفي يف صوره‪ .‬وذلك ُ‬
‫وترتيبها يف علم األحياء إىل جمال القول‪-‬بغري دليل وبغري حاجة للقول كذلك إال الرغبة‬

‫‪569‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫واهلوى‪ -‬أنه ال ضرورة الفرتاض وجود قوة خارجة عن العامل الطبيعي لتفسري احلياة‬
‫وتطورها»‪ .‬انتهى كالمه رمحه اهلل‪.‬‬

‫ال ُتَ ّل مشكلةُ َتَ ُّذر الثقافة املادية يف بالد املسلمني وَتَ ُّك ِن غرس االستعمار‬
‫من الفالسفة امللحدين مبجرد إعالن مجهورية إسالمية‪ .‬وسواء كان اإلعالن‬
‫بثورة عامة كما كان الشأن يف إيران أو وصل اإلسالميون إىل احلكم عن طريق‬
‫االختيار الدميوقراطي فال مناص ِمن معاجلة التناقض الثقايف‪-‬املوازي إىل حد ما مع‬
‫التناقض الطبقي‪ -‬معاجلة طويلة حىت ميتص اجلسم االجتماعي املبتـَلَى بقايا اجلرثومة‬
‫االستعمارية أو ِ‬
‫يلفظها ويعزَلا‪.‬‬

‫فيسهل انقيادهم للحكم اإلسالمي‬


‫ُ‬ ‫املرتفون من املتمولني يتبعون مصلحتَهم‪،‬‬
‫َ‬
‫ب حقا مشروعا وتشجع كل جهد‬ ‫ِ‬
‫عندما يأنسو َن أن احلكومة اإلسالمية ال تـَ ْغص ُ‬
‫أصحاب عقيدة يناضلون عنها‪ ،‬وينافقون‬
‫ُ‬ ‫منتج نافع بناء‪ ،‬أما مرتفو الفكر فهم‬
‫فيها‪ ،‬ويكتموهنا إن اقتضى احلال لينشروها يف اخلفـاء كما تنشر األوبئة واملخدرات‪.‬‬
‫غري اهلل‪ .‬إهلهم العقل الفلسفي املتمرد‪ ،‬واحلس املعبود‪ ،‬واللذة واجلمالية‬ ‫إن هلم إهلا َ‬
‫اإلباحية‪ .‬وما َْي ِط ُم هذه األصنـام‪ ،‬احلسيةَ منها واملعنوية‪ ،‬إال النّزال بأسلحة العقل‬
‫املؤمن‪ ،‬واحلس املضبوط‪ ،‬واللذة املباحة‪ ،‬وزينة اهلل اليت أخرج لعباده‪ ،‬والطيبات من‬
‫الرزق‪ ،‬وإجنـاح التنمية‪ ،‬ونشر الفضيلة‪ ،‬ونصر الشورى والعدل‪.‬‬

‫السالح احلسي واملعنوي ملقاومة الفلسفة املعـادية للدين‪ ،‬املناضلة‪ ،‬هو إقامة الصـرح‬
‫املادي للعمران األخوي على قواعد التصور اإلسالمي‪ ،‬واإلميان باهلل وباليوم اآلخر‪ ،‬حىت تسود‬

‫‪570‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫العقول وحتتل تفاصيل احلياة وحقول النشاط الفكري‪ .‬وحىت يعُ َّم‬ ‫َ‬ ‫القيم اإلسالمية‬
‫ُ‬
‫خريُ االقتصاد اإلسـالمي املنتج الناجح املزاحم يف السوق العاملية‪ .‬وحىت جتد َحلَّها‬
‫الس َكن‬‫فات االجتماعية من عويصات الفقر‪ ،‬والتفاوت ال ُـمخل يف األرزاق‪ ،‬و َّ‬
‫املخلّ ُ‬
‫النادر‪ ،‬واألراضي الفالحية احملتكرة‪ ،‬والصحة املهملة‪ ،‬وسائر ما تتجند له الدولة‬
‫ويدخل يف نطاق مسؤولياهتا‪.‬‬
‫وتبقى الواجهةُ األساسيةُ‪ ،‬واجهةُ الرتبية والتعليم‪ .‬هذه ال يقاس النجاح فيها‬
‫سيبقون عاطلني‬
‫ْ‬ ‫فقط بكم اخلرجيني من املعاهد العلمية التقنية إن كان اخلرجيون‬
‫عجلَة‬
‫الهنيار االقتصاد أو لسوء التنسيق بني ما خترجه املدارس وما تستطيع استيعابه َ‬
‫ِ‬
‫املسؤول الذي يتحلى به جيل‬ ‫اإلنتاج‪ .‬إمنا النجاح بالكيف اخللقي اإلمياين املشا ِرك‬
‫كامل أصاب طويال أو قصريا من التكوين املدرسي‪.‬‬

‫الرتبية والتعليم مهمة الدعوة األساسية‪ ،‬وإمنا اجلهاز احلكومي إطار منظم‬
‫وتركه‪ .‬وتواجه فيه خنادق املثقفني املعادين للدين‪.‬‬
‫وجسم تتحرك فيه الدعوة ُ‬

‫تلقن الدعوة املربية املعلمة‪ ،‬يف إطار النظام احلكومي وخارجه‪ ،‬كيفيات الفكر‬
‫والشعور والعمل مبعـايري اإلميان والعمل الصاحل‪ .‬مير نصيب املؤمن واملؤمنة من اآلخرة‬
‫بنصيب الدنيا فينتظمهُ‪ ،‬حسب التعبري اجلميل ملعاذ بن جبل رضي اهلل عنه‪ .‬وظيفة‬
‫ينتظم‬
‫التلقني الفطري أن يـُتـََع َّه َد النشء حىت يستقر عنده رجاء «نصيب اآلخرة»‪ ،‬مث ُ‬
‫املشاعر والتعبري واللغة واخليال وكل األنشطة اإلنسانية املعرفية والعاطفية‬
‫َ‬ ‫النصيب‬
‫ُ‬ ‫هذا‬
‫واحلسية‪.‬‬

‫‪571‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يقتضي هذا تغيري أساليب الرتبية والتعليم من جانب اإللقاء ومن جانب‬
‫تغيري الكتب املدرسية والربامج واالمتحانات وتدريب املعلمني‬
‫التلقي‪ :‬يقتضي َ‬
‫وتنظيم املدارس وآداب التعلم وعالقات املعلم بالتلميذ واألستاذ بالطالب‪ ،‬ليعكس‬
‫كل ذلك املضمون اإلمياين ملنهاج الرتبية‪ ،‬ولتُ َش َّج َع «جامعة» الصالة واملسجد‬
‫كل عن رعيته‪ ،‬ابتداء‬
‫الب ومسؤولية ٍّ‬ ‫والقرآن والسنة والوالية والشورى والعدل و ِ‬
‫َ‬
‫من املدرسة واجلـامعة والبحث العلمي ذي األمهية القصوى‪ ،‬ووسائل اإلعالم‪،‬‬
‫ورجوعا وانعكاسا إىل البيت واألسرة حىت تتزود األسرة بزاد التقوى وتعود كما‬
‫جيب أن تكو َن احملضن الفطـري‪ ،‬تستعيد وظيفتها الرتبوية اليت عرهتا منها رياح‬
‫وبتهتا وجدعتها‪ .‬فعلت هبا األفاعيل‬ ‫الفتنة‪ ،‬ومنعتها من بَث اإلميان والفضيلة‪َ ،‬‬
‫وش َردت املـرأة عن بيتها‪ .‬إن اهلل ال يغري ما بقوم حىت‬
‫ملا َمسخت طبيعة األمومة َ‬
‫يغريوا ما بأنفسهم وإن اهلل لسميع عليم‪.‬‬

‫‪572‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫الفتنة‬
‫* اجلاهلية والفتنة‬
‫* أم الفنت‬
‫* درء الفتنة بالفتنة‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫اجلاهلية والفتنة‬

‫وخطّاءون‬
‫بني ظهرانَينا حاملو أوزار ومرتكبوكبائر وعتاةٌ ظاملون ومتَّقون متبتلون َ‬
‫توابون‪ .‬اجملتمع الغثائي خليط‪ ،‬مريض‪ ،‬مدخول‪ .‬استحق وصف الغثائية لَ ّما ظهرت‬
‫لكن ما‬
‫عليه عالئم اهلزمية‪ ،‬وجتمعت عليه أ َكلَة القصعة‪ ،‬فتَ ّم عليه الوصف النبوي‪ْ .‬‬
‫قصدنا‬
‫سنَ ُدنا يف إطالق َو ْسم اجلاهلية عليه؟ قُضاة حنن جائرون أم ُدعاة حائرون؟ ُ‬
‫اهلدايةُ والتسديد أم قصدنا الثلب والعيب‪ ،‬بال حجة وال َرويَّة؟‬
‫ال مفر لنا من التدقيق ملعرفة ما بنا وحنن نطمح لتغيري ما بأنفسنا‪ .‬ال مفر من‬
‫معرفة الداء على حقيقته ال على صفة يشوهها لنا ويضخمها ِضي ُقنا مبا نرى من‬
‫ِع َوج وما يتعاظم يف أعيننا من مسؤوليات التقومي‪ .‬ال مفر من حتقيق الصفة الشرعية‬
‫املطابقة حلالنا لنـُْنزل عليها حكم اهلل بال شطط وال جهل‪ .‬إذاً نكو ُن حنن اجلاهليني‬
‫إن مل نفعل‪.‬‬
‫فصل عنه‬
‫حنن حىت نـَْن َ‬
‫أهو جمتمع جاهلي فنقاطعه ونعاملَه على أنه غريٌ؟ ومن ُ‬
‫عي اهلدايةَ من دون الناس؟ ما هي حدود اجلاهلية‪ ،‬وكيف ختطيناها واستعلينا‬ ‫ون ّد َ‬
‫عليها؟ أم هو جمتمع مسلم؟ فما بال التهم يُص َفع هبا وجـه اجملتمع فيطلِ ُق عليه بعض‬
‫الشباب امللتحي صفة اجلاهليـة؟ أين تقف اجلاهليـة؟ وما خصائصها؟‬
‫أسئلة ال بد من حبثها واجلواب عنها حىت ال نرب َط مصري الدعوة بأحكام مسبقة‬
‫خطٍإ‪ ،‬وبكلمات أطلقها بعض الدعاة ِمَّن هلم ظـرفهم واجتهادهم وقصدهم فتلقفها طوائف‬

‫‪575‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫من امللتحني واستعملوها استعماال فضائيا‪ ،‬فزادوا ِوزراً ثقيال على أوزار تنوء بكاهل‬
‫األمة‪ .‬وأي ِوزر أعظم من تكفري أمة حممد صلى اهلل عليه وسلم بغري علم!‬

‫لكن‬
‫ينخر فيها داء األمم وتأكل الغثائية أحشاءها‪ْ ،‬‬
‫األمة متوعكة مريضة‪ ،‬األمة َ‬
‫أن نُ َس ِّم َي جمتمعاتنا جاهلية!أن ن ْدخل يف الزقاق الضيق ال ُـمظلم وعلى عيننا منظار‬
‫اليأس! أن ِ‬
‫نساهم بتغميض احلقيقة على أنفسنا وتنفري املسلمني منا!‬
‫ِ‬
‫قسمات‬ ‫يف جمتمعاتنا الغثائية تشتبك اجلاهلية باإلسالم‪ ،‬وختتلط‪ ،‬وترتبـك‪ .‬على‬
‫وجه اجملتمع الغثائي‪ ،‬ويف دخائله النفسية وزواياهُ الذهنية وعاداته التقليدية وعالقاته‬
‫االجتماعية واقتصاده وسياسة حكمه ومكان املرأة والطفل والرجل فيه‪ ،‬عالئم جاهلية‪،‬‬
‫وخدوش‪ ،‬وبثور‪ ،‬وجروح‪.‬‬

‫صرافَتِها‪ ،‬والذي أُنْ َزل‬


‫يف جممعاتنا الغثائية خيتلط احلق بالباطل‪ .‬اجلاهلية باطل يف َ‬
‫وش ِرع له ولنا بالتبعية حق يف صرافته‪ .‬أقول‪:‬‬ ‫على حممد صلى اهلل عليه وسلم من الدين ُ‬
‫وجود هلا يف عامل اخلطائني‪،‬‬
‫باطل يف صرافته‪ ،‬حق يف صرافته‪ ،‬أي يف مثالية اخلري اليت ال َ‬
‫ويف هناية الشر اليت ال تتشخص إال يف الشيطان الرجيم‪ .‬اجلاهليون فيهم خياركما نرى‬
‫يف الفصل املقبل إن شاء اهلل‪.‬‬

‫اسب‪،‬‬
‫مىت اختلط احلق بالباطل‪ ،‬ودخل اإلسالم على اجلاهلية فبقي منها رو ُ‬
‫مفهوم‬
‫ٌ‬ ‫كرهتا على اإلسالم فعكرت صفوه‪ ،‬فتلك «الفتنة»‪ .‬الفتنة‬ ‫أو أعادت اجلاهلية َّ‬
‫وحكمة ولزوم جلانب التحري والصواب‪.‬‬‫ظ ِ‬‫حموري‪ ،‬الفتنة حكم نبوي‪ ،‬الفتنة َت ّف ٌ‬

‫‪576‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫نكتفي هنا بتعريف موجز للفتنة لنرجع إىل املفهوم يف الفقرة املقبلة إن شاء اهلل‪.‬‬
‫روى ابن أيب شيبة أن حذيفة بن اليمان رضي اهلل عنه قال لسائل سأله عن الفتنة‪« :‬ال‬
‫تضرك الفتنة ما عرفت دينك‪ .‬إمنا الفتنة إذا اشتبه عليك احلق والباطل»‪ .‬وكان رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم خص حذيفـة بعلم الفتنة ومعرفة املنافقني‪ ،‬فيسأله الصحابة‬
‫رضي اهلل عنهم يف هذا الفن من العلم‪ ،‬ويأتيه عمر بن اخلطاب وهو أمريٌ للمؤمنني‬
‫أي دين! يا من ال حيسنون‬
‫أي اهتام للنفس! أي ُسُو! ّ‬
‫يناشده اهللَ أعُ َمُر من املنافقني! ُّ‬
‫الظـن إال بأنفسهم ويَصمون املسلمني!‬

‫احلق الدين‪ :‬وهو إسالم وإميان وإحسان‪ .‬مراتب ودرجـات‪ ،‬وزيادة يف اإلميان‬
‫ونقصان‪ ،‬ومعصية وتوبة‪ ،‬وسلوك إىل أعلى واحنطاط إىل دركات‪ .‬احلق القرآن والسنة‪،‬‬
‫الشِّرعةُ واملنهاج‪ ،‬وما اجتهد فيه أئمة املسلمني فأمجعوا‪ ،‬أو تناوله قياس الفقيه التقي‬
‫فهو مذهب‪ .‬والبعث حق‪ ،‬والشفاعة حق‪ ،‬واحلساب وامليزان واجلنة والنار‪.‬‬

‫ونرى بعد حني إن شاء اهلل ما هو الباطل اجلاهلي‪.‬‬

‫السؤال هنا‪ :‬هل يدخل الباطل اجلاهلي يف إسـالم املسلم؟ هل يبقى يف النفس‬
‫املسلمة بقايا جاهلية؟ هل تتساكن اجلاهلية واإلسالم يف نفس واحدة وجمتمع‬
‫واحد؟كيف تتفاعل عناصر اجلاهلية وعناصر اإلسالم يف النفس املفتونة واجملتمع‬
‫املفتون؟هل تبقى هذه النفس وهذا اجملتمع يف دائرة اإلسالم أم خيرجان منها بارتباك‬
‫عناصر اإلسالم بعناصر اجلاهلية؟‬

‫‪577‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫عقد اإلمام البخاري يف كتاب اإلميان من صحيحه‪« :‬باب املعـاصي من أمر‬
‫اجلاهلية‪ ،‬وال يُ َك َّفُر صاحبه إال بالشـرك»‪ .‬وذكر حديثاً نبـويا وبَّخ فيه رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم أبا ذر ملا سب رجال وعريه بأمه‪ .‬قال له املريب الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪« :‬يا أبا ذر‪ ،‬أعيَّرته بأمه؟ إنك امرٌؤ فيك جاهلية!» احلديث‪.‬‬

‫هكذا مل يس ُكت صلى اهلل عليه وسلم عن اخلطـإ‪ ،‬ومل يطـرد الصحايب املهاجر‬
‫السابق من اإلسالم‪ .‬بل علَّ َم حدود احلق ومزالق الباطل‪.‬‬

‫ـري رضي اهلل عنه أن‬


‫وروى اإلمام مسلم يف صحيحه عن أيب مالك األشع ِّ‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬أربـع في أمتي من أمر الجاهلية ال يتركونهن‪:‬‬
‫الفخر في األحساب‪ ،‬والطعن في األنساب‪ ،‬واالستسقاء بالنجوم‪ ،‬والنياحة»‪.‬‬

‫ِج األمة عن‬


‫أربع من أمور اجلاهلية يشدد احلديث يف تركهن‪ ،‬لكن ال ُيْـر ُ‬
‫اإلسالم لوجودهن واستمرارهن‪ .‬هن معصيات بعضهن أفحش من بعض‪ .‬هن‬
‫ات جاهلية على صفحات السلوك اإلسـالمي والعقيدة اإلسالمية‪ .‬فجاهلية‬‫ص َم ٌ‬
‫بَ َ‬
‫دون جاهلية‪ :‬جاهلية كفر وجاهلية معصية‪ .‬ال يكفر صاحب املعاصي إال بالشرك‪.‬‬
‫وال َّ‬
‫يكفُر اجملتمع كله لوجود ملحدين بني ظهرانيه‪ ،‬وال ل ُف ُش ِّو املعاصي فيه‪.‬‬

‫اجلهل ضد العلم‪ ،‬واجله َـل ضد احللم‪.‬‬


‫كلمة «جاهلية» تُفيد لُغة معنيني اثنني‪َ :‬‬
‫تغمط حق العباد وتظلم وتعنُف‪ .‬هاتان‬ ‫فاجلاهلية النموذجية جتهل احلق وهو الدين‪ ،‬و ِ‬
‫ِستان بارزتان يف جاهلية عصـرنا رغم تقدم العلوم الطبيعية ورغم الصيحة املدوية باحرتام‬
‫حقوق اإلنسان‪ .‬عنف اجلاهلية املعاصرة وجهلها باهلل يـَُعِّرضان اإلنسانية واألرض واجلو‬

‫‪578‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫والبحر للخراب‪ .‬يـَتَوقع اخلرباء بعد ثالثني سنة أن ترتفع حرارة الكوكب درجتني‬
‫فتَ ُح َّل الكارثة‪ .‬وتلك كهانة عصـرية‪ .‬واهلل أعلم بعواقب األمور‪.‬‬

‫وي للفظ «جاهلية» إىل مدلوله الشرعي كما دلت عليه‬


‫املدلول اللغَ َّ‬
‫َ‬ ‫نُسند‬
‫وتليه‪ .‬أربع خصائص يف أربع‬
‫آيات أربع من كتاب اهلل عز وجل ُتيط باملفهوم ُ‬
‫آيات‪ ،‬مل يرد يف القرآن ذكر للجاهلية يف غريها‪ .‬فهي جامعة مانعة يف التعريف مبا‬
‫هي اجلاهلية‪ .‬ملن يستمعون القول فيتبعون أحسنه‪ .‬أولئك الذين هداهم اهلل‪ .‬وأولئك‬
‫هم أولو األلباب‪ .‬اجعلنا اللهم منهم بفضلك‪.‬‬

‫ُح ٍد وتزلزل‬ ‫‪ .1‬يف «ظن اجلاهلية» ورد قولُه تعاىل يف معرض التذكري بأحداث أ ُ‬
‫اهلِيَّ ِة‬
‫املنافقني‪﴿ :‬وطَآئَِفةٌ قَ ْد أَه َّمتـهم أَن ُفسهم يظُنُّو َن بِاللّ ِه غَيـر الْح ِّق ظَ َّن الْج ِ‬
‫َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ ُْ ْ ُ ُ ْ َ‬ ‫َ‬
‫يـَُقولُو َن َهل لَّنَا ِم َن األ َْم ِر ِمن َش ْي ٍء قُ ْل إِ َّن األ َْم َر ُكلَّهُ لِلَّ ِه يُ ْخ ُفو َن فِي أَن ُف ِس ِهم َّما‬
‫ك﴾‪.1‬‬ ‫الَ يـُْب ُدو َن لَ َ‬
‫ظن اجلاهلية باطل‪« ،‬غري احلق»‪ .‬ظن اجلاهلية فراغ يف العقيدة‪ ،‬وفقدان للثقة‬
‫باهلل تعاىل‪ ،‬وهزمية وخوف من املوت ونكوص عن اجلهاد‪ .‬ظن اجلاهلية عاهة النفوس‬
‫اجلاهلية األوىل‪ ،‬ومصدر بالء العقل والفكـر والسلوك‪ .‬وعن ختلخل العقيدة تتفرغ‬
‫العاهات اجلاهلية األخرى‪ .‬أمهها جاهلية احلكم‪.‬‬

‫‪ .2‬ورد ذكر «حكم اجلاهلية» يف قوله عز وجل عن أهل الكتاب الذين‬


‫يرض ْوا حبكم شريعته املهيمنة على الكتاب‪،‬‬
‫كفروا مبحمد صلى اهلل عليه وسلم ومل َ‬
‫‪ 1‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.154‬‬

‫‪579‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫اهلِيَّ ِة يـَبـْغُو َن‬
‫ومل يرضخوا حلكومة الرسول اخلامت‪ .‬قال جل من قائل‪﴿ :‬أَفَح ْكم الْج ِ‬
‫ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫س ُن ِم َن اللّ ِه ُح ْكماً لَِّق ْوٍم يُوقِنُو َن﴾‪.1‬‬
‫َح َ‬
‫َوَم ْن أ ْ‬
‫وجنوحا عن احلق ال تُعرف آفـَتُه ألول‬
‫إذا كان «ظن اجلاهلية» خلال يف العقيدة ُ‬
‫ظاهر العالقة بني احلاكم‬
‫َوْهلة خلفائه وُكمونه يف الصدور‪ ،‬فإن «حكم اجلاهلية» ُ‬
‫ظاهر السياسة إما أن تكو َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ظاهر تقيّد اجملتمع بالشرع أو تفلّته منه‪ُ ،‬‬
‫واحملكوم‪ُ ،‬‬
‫شورى فهي حق‪ ،‬أو تكون استبدادا ميارسه جاهليون كفار على جمتمعات جاهلية‬
‫كافرة‪ .‬فالكل جاهلية يف جاهلية‪ ،‬أو تكو َن استعمارا واحتالال ميارسه جاهليون كفار‬
‫على املسلمني فهي مصيبةٌ‪ ،‬أن تكو َن ُم ْلكا عاضا أو جربيا ميارسه باسم اإلسالم‬
‫متلبسون باإلسالم أو مستورون وارثون للعروش أو منافقون طغاة تسكت عنهم األمة‬
‫السيف أو ألهنم شوكتُها الوحيدة‪ ،‬فتلك فتنة‪.‬‬
‫َ‬ ‫وختضـع َّ‬
‫ألن معهم‬

‫النهي‬ ‫صيصة الثالثة من خصائص اجلاهلية هي «تربج اجلـاهلية» الو ِ‬


‫ارد‬ ‫ِّ‬ ‫‪ .3‬اخلِ‬
‫ُ‬
‫ِّساء‬ ‫عنها يف قوله تعاىل خياطب نساء النيب‪﴿ :‬يا نِساء النَّبِ ِّي لَستُ َّن َكأ ٍ‬
‫َحد ِّم َن الن َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ِّ َ َ‬
‫ْن قـَْوالً َّم ْع ُروفاً‬ ‫ض ْع َن بِالْ َق ْو ِل فـَيَط َْم َع الَّ ِذي فِي قـَْلبِ ِه َم َر ٌ‬
‫ض َوقـُل َ‬ ‫إِ ِن اتـََّق ْيتُ َّن فَ َل تَ ْخ َ‬
‫ين َّ‬
‫الزَكا َة‬ ‫ِ‬ ‫اهلِيَّ ِة ْالُولَى َوأَقِ ْم َن َّ‬
‫الص َل َة َوآت َ‬
‫وقـر َن فِي بـيوتِ ُك َّن وَل تـبـ َّرجن تـبـ ُّرج الْج ِ‬
‫َ ََ ْ َ ََ َ َ‬ ‫ُُ‬ ‫َ َْ‬
‫َط ْع َن اللَّهَ َوَر ُسولَهُ﴾‪.2‬‬ ‫وأ ِ‬
‫َ‬
‫صنِها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وخروجها من بُرجها وح ْ‬ ‫ُ‬ ‫ـارها حملاسنهـا‪،‬‬‫ترب ُج املرأة إظه ُ‬ ‫قال أهل اللغة‪ُّ :‬‬

‫‪ 1‬سورة املائدة‪ ،‬اآلية ‪.50‬‬


‫‪ 2‬سورة األحزاب‪ ،‬اآليتان ‪.32-33‬‬

‫‪580‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يف كتاب اهلل عز وجل اهلَُدى ملن يستمع‪ .‬فقد جاء ذكر «ظن اجلاهلية»‬
‫هني مباشر‬
‫و«حكم اجلاهلية» يف صيغة االستنكار‪ .‬وهنا يف «تربج اجلـاهلية» ٌ‬
‫خطاب‬ ‫ٍ‬
‫«أحد من النساء»‪.‬‬ ‫مهتهن ألعلى من مرتبة‬
‫وخطاب مباشر ملن ارتفعت َّ‬
‫ٌ‬
‫وإيتاؤهن‬
‫مباشر رؤوف‪ ،‬ألن صالح النساء تقواهن واستقـرارهن وإقـامتهن للصالة ُ‬
‫الزكاة وإطاعتهن اهلل ورسوله وتلقينهـن مبـادئ اإلميان للذرية وحفظُهن الفطرة‪.‬‬
‫وخْن ِقها‬
‫وس ّد منابعها َ‬
‫الضروري العتقال اجلاهلية َ‬
‫ُّ‬ ‫املنطلق‬
‫ُ‬ ‫صالح نساء املسلمني هو‬
‫والقضاء عليها يف املهد‪ .‬فتنة النساء وضياعُ النساء وتشرد النساء وبُؤس النساء‬
‫ما مثلها فتنة‪.‬‬
‫‪َِ .4‬‬
‫«حيّة اجلاهلية» هي العصبية القبلية‪ ،‬والعنف الذي ال ينضبط‪ ،‬والتَّمالُُؤ‬
‫العنصري ظاملا أو مظلوما‪« .‬محية اجلـاهلية» هي روح‬
‫ِّ‬ ‫على الباطل‪ ،‬ونُصرة أخيك‬
‫املعبود القومي‪ .‬هي نقيصة يف الدين وفتنة عظيمـة ألهنا تن ُقـض أساس وحدة امللة‪.‬‬
‫ونرجع إىل أم الفنت هذه يف الفقرة التالية إن شاء اهلل تعاىل‪.‬‬

‫ورد عيب «محية اجلاهلية» وغضبيَّتِها يف قوله تعاىل يصف َغلَيَان املشركني‬
‫َنز َل‬ ‫يوم احلديبية‪﴿ :‬إِ ْذ جعل الَّ ِذين َك َفروا فِي قـلُوبِ ِهم الْح ِميَّةَ ح ِميَّةَ ال ِ ِ ِ‬
‫ْجاهليَّة فَأ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ َ َ‬ ‫ََ َ َ ُ‬
‫َح َّق بِ َها‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫اللَّهُ َسكينَتَهُ َعلَى َر ُسوله َو َعلَى ال ُْم ْؤمن َ‬
‫ين َوأَل َْزَم ُه ْم َكل َمةَ التـَّْق َوى َوَكانُوا أ َ‬
‫َوأ َْهلَ َها َوَكا َن اللَّهُ بِ ُك ِّل َش ْي ٍء َعلِيماً﴾‪.1‬‬

‫‪ 1‬سورة الفتح‪ ،‬اآلية ‪.26‬‬

‫‪581‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫السكينة اجل ِ‬
‫ـامعة بني‬ ‫ِ‬ ‫اإلسالمي‪:‬‬ ‫مع عيب محية اجلاهلية وصف نَ ِ‬
‫قيضها‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫املؤمنني‪ ،‬و ِ‬
‫لزومهم كلمة التقوى وهي جـامعة‪ .‬وكان اهلل بكل شيء عليما‪ .‬سبحانه‬
‫ال إله إال هو‪.‬‬

‫‪582‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫أم الفنت‬

‫ض‬‫مسيتها «أم الفنت» لقول اهلل عز وجل‪﴿ :‬إِالَّ تـَْف َعلُوهُ تَ ُكن فِتـْنَةٌ فِي األ َْر ِ‬
‫كبه اهلل سبحانه من شأن فهو كبري خطري‪ .‬والشيء الذي‬ ‫سا ٌد َكبِ ٌير﴾ ‪ .‬وما ّ‬
‫َوفَ َ‬
‫‪1‬‬

‫الواليةُ بني املؤمنني‪ ،‬تـَُعطَّ ُل وتُ ْك َفر‬ ‫يرتتب على عدم فعله الفتنة والفساد الكبري ُه َو َ‬
‫مثل العصبية‪ ،‬وهي «محيَّة اجلاهلية»‪ .‬ونرجع إن شاء اهلل‬ ‫ض برواب َط أرضيَّ ٍة ِ‬
‫عو ُ‬
‫وتُ َّ‬
‫للسياق الذي جاء فيه احلكم اإلهلي على هذا التعطيل‪.‬‬
‫االحتاليل عندما تستجمع الشعـوب اإلسالمية قواها‬
‫ِّ‬ ‫جتلو عساكر االستعمار‬
‫مسلَّ َحةً بعصبيَّة مسلمة وطنية قومية كما حدث بالفعـل يف حركات التحرير الوطين‪.‬‬
‫وإلجالء االحتالل الثقايف نُعِ ُّد قوة من لغتنا وآدابنا وعلومنا وأصالتنا نقاوم هبا ثقافتهم‬
‫ونصاول‪ .‬إن احتلت الثقافةُ املغرية خنبة مغربة وسكن اإلحلاد الفلسفي نفوسا مفردة‬
‫ب يف السواد األعظم الباقي على ملته وتَ ُذوب‪ .‬إن شاء اهلل تعاىل‪.‬‬ ‫أو متكتلة فستُ َذ َّو ُ‬
‫لكن هناك احتالال عميقا يف كيان جمتمع الفتنة‪ ،‬جمتمع الغثائية وداء األمم‪ ،‬هو‬ ‫َّ‬
‫احتالل «محية اجلاهلية» النفوس‪ .‬يزيدها ترسيخا فيها وتشبثا هبا ما أحرزته القومية‪ ،‬والدولة‬
‫القومية‪ ،‬من تقدم بالشعوب القوية الغالبـة يف األرض‪ .‬حىت ِ‬
‫القرن األخري كانت أملانيا‪،‬‬
‫اليوم‪ ،‬عبارةً عن ثالمثائة وستة وأربعني إمارة‪ .‬وانظر‬ ‫جنم التقدم والصناعة والرفاهية َ‬ ‫ُ‬
‫‪ 1‬سورة األنفال‪ ،‬اآلية ‪.73‬‬

‫‪583‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ما صارت إليه اليوم‪ .‬اهنارت اإلديولوجيات يف هذه السنوات األخرية واستيقظت‬
‫القوميات‪ .‬فالقومية هي امللجأ األخريُ‪ ،‬واحلقيقة النهائية يف عُرف األقوام ويف واقع‬
‫العامل وأفق املستقبل‪.‬‬
‫املفرقَةُ املانعة من وحدة املسلمني‪« .‬يا بـُْرَكا َن الغضب يا موحد‬‫وهي هي ِّ‬
‫فرقَةٌ عاجزة عن ُمقاومة‬
‫العرب!»‪ .‬شعار عبد الناصر الذي اهنزم أمام اليهود‪ُ .‬م ِّ‬
‫ني القدس‪ .‬إسالم وطين قومي تأجج‬ ‫ِ‬
‫سرطان اليهود اجلامثني يف فلسط ِ‬ ‫التحدي القاتل‪:‬‬
‫فيه «بركان الغضب» َك َفى لطرد االستعمار الغريب وإن مل ي ْك ِ‬
‫ف إلعادة بناء األمة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫أن يكفي! مل يكف وال يكفي للبناء وال لدحر الغزو التارخيي اليهودي‪ .‬ذلك الغزو‬ ‫و َّ‬
‫وسواد وجوهنا‪ .‬وأىن‬‫ف دمائنا ومصدر بُؤسنا َ‬ ‫ونز َ‬
‫الفظيع الذي يشكل بـُْؤرةَ حمنتنا ْ‬
‫تكون «أم الفنت» املفرقة عالجا للفتنة الكربى!‬
‫طرد اإلسالم َّأوَل ما جاء به رسـول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «محية اجلاهلية»‬
‫جذور ما لبثت بعد وفاة الرسول املصطفى صلى‬ ‫وحارهبا وقـَلَع منها اجلذع‪ .‬وبقيت ٌ‬
‫اهلل عليه وسلم بثـالثني سنة أن اهتزت حتت األرض‪ ،‬مث أخرجت ْنبتا جديدا اشتد‬
‫وترعرع وكانت منه «الفتنة الكـربى» اليت زلزلت اخلالفة الرشيدة وأطلعت احلكم‬
‫العاض األموي‪.‬‬
‫َّرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الصحابة على ُكره العصبية‪ ،‬وترك للشعور‬
‫القومي جماال حيويا ليكون بـَنَّاءً‪ .‬مل حيارب الشعور باالنتماء القومي وهو غريزة يف بين‬
‫الوالية بني‬ ‫ِ‬
‫البشر‪ ،‬بل شجعه كلما كان دعامة للحق ونصرة على الباطل‪ .‬احلق هو َ‬
‫للوالية‪.‬‬
‫املؤمنني مهماكانت القبيلة والقوم واجلنس واللون‪ .‬والباطل العصبية املفرقة املقاتلة َ‬
‫‪584‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من حديث رواه مسلم والنسائي عن أيب‬
‫صبَة‬ ‫ضب لِع ٍ‬ ‫ِ ٍ‬
‫ينصر َع َ‬
‫صبَة أو ُ‬
‫هريرة رضي اهلل عنه‪« :‬ومن قاتل تحت راية ع ِّميَّة يغ َ ُ َ َ‬
‫فـَُقتِ َل فَِقتـْلَةٌ جاهلية»‪.‬‬

‫وروى اإلمام أمحد أن عمارا بن ياسر رضي اهلل عنه قال لرجل أراد أن يقاتل‬
‫إىل جنبه‪« :‬قاتل حتت راية قومك‪َّ ،‬‬
‫فإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يستحب‬
‫للرجل أن يقاتل حتت راية قومه»‪.‬‬

‫جبمع احلديثني تكون الراية القومية ِرفْدا لإلسالم َ‬


‫وسنَداً له إن كان االنتماء‬
‫الوالية اجلامعة‪ .‬أما إن كانت القومية عصبية ومحية فهي‬ ‫القومي لَ ْوناً َوطَْيفاً يف راية َ‬
‫اجلاهلية َمدَّت رجليها وداست بقدمها راية اإلسالم‪ .‬الراية العِ ِّميـة هي ال ُـم َع َّماة‬
‫الواليَِة‪.‬‬
‫الغامضة الالعبة باملشاعر الغريزية جتندها وجتيشها لقتال َ‬
‫ِ‬

‫وقد كان الصحابة بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم شديدي االنتباه‬
‫صبِيِّة الراقدة يف األعماق‪ ،‬خيشون أن تستيقظ‪ .‬فيَسأل أمريُ املؤمنني‬
‫الع َ‬
‫للغُول‪َ ،‬‬
‫اخلبري يف الفنت يف جملس من جمالسهم اإلميانية‪« :‬أيُّكم‬
‫بن اليمان َ‬ ‫عمر حذيفة َ‬ ‫ُ‬
‫«أنت هلل‬
‫يذكر (الفتنة) اليت متوج َم ْو َج البحر؟»‪ .‬فيقول حذيفة‪ :‬أنا! فيقول عمر‪َ :‬‬
‫ض‬‫أبوك!» فيقول حذيفـة‪ :‬مسعـت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪« :‬تـُْع َر ُ‬
‫ت فيه نُكتة‬ ‫فأي قلب أ ْش ِربَها نُ ِك َ‬
‫الفتن على القلوب كالحصير عُودا عُودا‪ُّ .‬‬
‫يصير على قلبين‪:‬‬ ‫ت فيه نُكتة بيضاء‪ .‬حتى َ‬ ‫وأي قلب أنكرها نُ ِك َ‬
‫سوداء‪ّ .‬‬
‫الصفا‪ ،‬فال تض ُّـره فتنة ما دامت السماوات واألرض‪ .‬واآل َخ ُر‬ ‫مثل َّ‬
‫أبيض َ‬
‫َ‬
‫‪585‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أسود ُم ْربا ّداً‪ ،‬كال ُكوز ُم َجخِّياً‪ ،‬ال يعرف معروفا وال يُنكر منكرا إال ما أشرب من‬
‫َ‬
‫القلوب أنكى يف إمياهنا من احلُ َّمى القومية؟‬
‫ُ‬ ‫هوى تَ ْشَربُه‬
‫أي ً‬‫هواه»‪ .‬و ّ‬ ‫َ‬
‫موج‬‫وذكر حذيفة ألمري املؤمنني أن بني املسلمني يومئذ وبني الفتنة اليت متوج ْ‬
‫البحر باباً سيُ ْك َسُر‪ .‬نبأٌ مستقبلي يومئذ أخرب به من ال ينطق عن اهلوى صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ .‬وكان الباب عُ َمَر‪ .‬وكانت الفتنة املائجة استيقا َظ «محية اجلاهلية» اليت‬
‫قتلت عثمـان وعليا رضي اهلل عنهما وأقـامت ملك العصبية األموية‪ .‬احلديث رواه‬
‫باد ما لونه بني السواد والغُْبة‪ .‬والكوز اجملَ ّخى‪ :‬اإلناء املائل‬
‫مسلم يف صحيحه‪ .‬ال ُـم ْر ُّ‬
‫عن االستقامة‪.‬‬

‫أم الفنت جذورها يف القلوب‪ ،‬تُعرض عليها عودا عودا‪ ،‬وتُ ْش ِرُبا ُ‬
‫بعض القلوب‪،‬‬
‫فتَتَّبِ ُع اهلوى وتنحرف عن احلق ُ‬
‫وت ّخى ومتيل عن االستقامة‪.‬‬
‫فأي عالج للفتنة ال يعمد إىل القلوب بالرتبية ليع ّق َم فيها جرثومة الفساد فإمنا‬
‫ِ‬
‫هو ُدهن سطحي وطالء َوقِْ ٌّ‬
‫ت‪ُّ .‬‬
‫أي عالج للفتنة ال يعتمد الرتبية اإلميانية القلبية اليت‬
‫ُِتل يف باطن األفئدة طمأنينة اإلميان وسكينة اهلل فإمنا هو َح َومان حول َزريبة الشر‬
‫طيف يف وجهه‪.‬‬
‫وتدخني لَ ٌ‬
‫ٌ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫القلوب من ذكر اهلل‪﴿ :‬أَالَ بِذ ْك ِر اللّه تَط َْمئ ُّن الْ ُقلُ ُ‬
‫وب﴾‪.1‬‬ ‫َ‬ ‫الطمأنينة تأيت‬
‫السكينة هي نقيض «محية اجلاهلية» كما قرأنا من سورة الفتح يف الفقرة املاضية‪.‬‬
‫السكينة ينزهلا اهلل عز وجل يف قلوب الذاكرين‪ .‬روى اإلمام مسلم والرتمذي عن أيب‬
‫هريرة وأيب سعيد أهنما َش ِهدا أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬ال يقعد قوم‬
‫‪ 1‬سورة الرعد‪ ،‬اآلية ‪.28‬‬

‫‪586‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يذكرون اهلل عز وجل إال حفتهم المالئكة‪ ،‬وغشيتهم الرحمة‪ ،‬ونزلت عليهم‬
‫السكينة‪ ،‬وذكرهم اهلل فيمن عنده»‪.‬‬
‫ك يسكن القلوب‪ .‬وقيل‬ ‫قال أهل اللغة‪ :‬السكينة زوال الرعب‪ .‬وقيل هو َملَ ٌ‬
‫ك الذي يسكـن القلوب يشهد‬ ‫هو العقل الذي مييل عن الشهوات‪ .‬والتفسري بالـملَ ِ‬
‫َ‬
‫له حديث رواه الشيخان عن أيب هريرة قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫«إن هلل مالئكةً يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكـر‪ .‬فإذا وجدوا قوما‬
‫ناد ْوا‪َ :‬هلُ ّموا إلى حـاجتكم! فيَ ُح ّفونهم بأجنحتهم إلى السماء‬
‫يذكرون اهلل تَ َ‬
‫الدنيا»‪ .‬احلديث‪.‬‬
‫عندما تنتمي إىل حزب من األحزاب السياسية اليت تعاجل الفتنة بأعظم منها‬
‫ال يسألونك عن عقيدتك وال عن املسجد والصالة وسائِر احملطات اإلميانية اجلامعة‬
‫ومنها جمالس الذكر وحلق العلم‪ .‬أما إذا كان التنظيم إسالميا فستُْب َذل كل احملاوالت‬
‫أعز ما عندك‬
‫ليجذبك املؤمنون إىل جمالس اإلميان والسكينة‪ .‬وسيطلبون إليك بذل ِّ‬ ‫ْ‬
‫وإن كنت ال تشعر بقيمته‪ .‬سيطلبون إليك أن تُعطيهم من وقتك‪ ،‬وأن جتلس معهم‬
‫ساعة وساعة وساعة‪ ،‬أن ترابط معهم‪ ،‬وخترج معهم‪ ،‬وتطوف بالدعوة معهم‪ .‬معهم‪.‬‬
‫معهم‪ .‬معهم‪ .‬صحبة الصاحلـني وجمالستهم شرط يف قلع جذور الفتنة من القلوب‪.‬‬
‫وكذلك كان يفعل الصحابة رضي اهلل عنهم‪ .‬فقد روى اإلمام أمحد بإسناد جيد‬
‫شاعر األنصار وبطَلَ ُهم‬
‫عن أنس رضي اهلل عنه أن عبد اهلل بن َرواحة رضي اهلل عنه َ‬
‫عال نُ ِوم ْن ساعةً! فشكا الرجل إىل رسول اهلل‬‫وشهيدهم لقي رجال من الصحابة فقال له‪:‬تَ َ‬
‫ب عن إميانك إىل‬ ‫رسول اهلل! أالَ تَرى إىل ابن رواحة يـَُرِّغ ُ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم قائال‪ :‬يا َ‬

‫‪587‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫إميان ساعة! فيقول النيب صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬يـَْرحم اهلل ابن رواحة! إنه يحب‬
‫المجلس الذي تتباهى به المالئكة»‪.‬‬
‫وعند اإلمام البخاري يف الباب األول من كتاب اإلميان‪« :‬قال معاذ‪ :‬اجلس‬
‫بنا نؤمن ساعة»‪.‬‬
‫وعند اإلمام أمحد‪« :‬كان معاذ بن جبل يقول للرجل من إخوانه‪ :‬اجلس بنا‬
‫نؤمن ساعة‪ .‬فيجلسان فيذكران اهلل وحيمدانه»‪.‬‬
‫نصيب آخرتنا‬ ‫ليمَّر‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ومن ساعة! أعطنا وقتك! َهلُ َّم نصطَن ْع وسيلة ُ‬‫تعال نُ ْ‬
‫منهاج النبوة‬ ‫أسلوب االنتماء احلزيب‪ .‬لكنه‬ ‫بنصيب دنيانا ِ‬
‫فينتظ َمهُ! هذا ليس‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫والصحبة‪ .‬وال سبيل إلصالح آخر هذه األمة إال مبا صلُح به أوهلا‪ ،‬كما قال إمامنا‬
‫مالك رمحه اهلل‪.‬‬

‫نستخلص من هذه ال َف ْذلَ َكة عن ِط ِّ‬


‫ب القلوب أن عالج الفتنة وق ْل َع «أم‬
‫للهوى وليطيعوا أمر اهلل‬
‫الفنت» ال وسيلة له إال إيقاظ العباد ليتحرروا من كل عبودية َ‬
‫بالوالية اجلامعة‪.‬‬
‫َ‬
‫الواليَِة‪ .‬أربع‬
‫تفص ُل شروط َ‬
‫مث ننظر يف سياق أربع آيات يف آخر سورة األنفال ِّ‬
‫صها اإلسالميون بالدرس والتأليف‪ ،‬أن خيصوها بالعناية والتنفيذ‪.‬‬
‫آيات قمينة أن خيُ َّ‬
‫اه ُدواْ بِأ َْم َوالِ ِه ْم َوأَن ُف ِس ِه ْم‬
‫اج ُرواْ َو َج َ‬
‫آمنُواْ َو َه َ‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫قال اهلل عز وجل‪﴿ :‬إِ َّن الذ َ‬
‫آمنُواْ َولَ ْم‬ ‫ضهم أَولِياء بـع ٍ َّ ِ‬ ‫ص ُرواْ أ ُْولَـئِ َ‬ ‫فِي سبِ ِ ِ َّ ِ‬
‫ين َ‬ ‫ض َوالذ َ‬ ‫ك بـَْع ُ ُ ْ ْ َ َْ‬ ‫آوواْ َّونَ َ‬
‫ين َ‬
‫يل اللّه َوالذ َ‬ ‫َ‬
‫نص ُروُك ْم فِي الدِّي ِن‬ ‫ِ‬ ‫اجرواْ ما لَ ُكم ِّمن والَيتِ ِهم ِّمن َشي ٍء حتَّى يـ َه ِ‬ ‫ِ‬
‫استَ َ‬ ‫اج ُرواْ َوإِن ْ‬ ‫ْ َ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫يـَُه ُ َ‬
‫ِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َّص ُر إِالَّ َعلَى قـَْوم بـَيـْنَ ُك ْم َوبـَيـْنـَُهم ِّميثَا ٌق َواللّهُ ب َما تـَْع َملُو َن بَص ٌير َوال َ‬
‫ذين‬ ‫فـََعلَْي ُك ُم الن ْ‬
‫‪588‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ين‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫سا ٌد َكب ٌير َوالذ َ‬ ‫ض َوفَ َ‬ ‫ض إِالَّ تـَْف َعلُوهُ تَ ُكن فِتـْنَةٌ فِي األ َْر ِ‬ ‫ض ُه ْم أ َْولِيَاء بـَْع ٍ‬ ‫َك َف ُرواْ بـَْع ُ‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْؤِمنُو َن‬ ‫ص ُرواْ أُولَـئِ َ‬
‫آوواْ َّونَ َ‬
‫ين َ‬
‫آمنُواْ وهاجرواْ وجاه ُدواْ فِي سبِ ِ ِ َّ ِ‬
‫يل اللّه َوالذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ َُ َ َ َ‬
‫ك‬ ‫اه ُدواْ َم َع ُك ْم فَأ ُْولَـئِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ح ّقاً لَّهم َّمغْ ِفرةٌ وِرْز ٌق َك ِر َّ ِ‬
‫اج ُرواْ َو َج َ‬
‫آمنُواْ من بـَْع ُد َو َه َ‬
‫ين َ‬ ‫يم َوالذ َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُ‬
‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض فِيكِتَ ِ ِ‬ ‫ِمن ُك ْم َوأ ُْولُواْ األ َْر َح ِام بـَْع ُ‬
‫ض ُه ْم أ َْولَى بِبـَْع ٍ‬
‫يم﴾‪.1‬‬ ‫اب اللّه إِ َّن اللّهَ ب ُك ِّل َش ْيء َعل ٌ‬
‫إن اهلل ربَّنا بكل شيء عليم‪ .‬أناط سبحانه اإلميا َن احلق بتوفُّر شروط اإلميان‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْؤِمنُو َن َح ّقاً﴾‪ .2‬وال‬‫الوالية املتكتلة‪﴿ .‬أُولَـئِ َ‬ ‫ِ‬
‫واهلجرة والنصرة واجلهاد داخ َل َ‬
‫سا ٌد َكبِ ٌير﴾‪ .3‬إالَّ‬
‫ض َوفَ َ‬ ‫احلق‪﴿ .‬إِالَّ تـَْف َعلُوهُ تَ ُكن فِتـْنَةٌ فِي األ َْر ِ‬
‫الباطل إال ُّ‬
‫َ‬ ‫يدحض‬
‫الوالية وهي اإلميان واهلجرة والنصرة واجلهاد باملال والنفس‬ ‫يتكتل املؤمنون على شروط َ‬
‫فسيبقى باطل اجلاهلية يركض يف ساحتنا‪ ،‬وجيوشه تعيث فسادا يف أرضنا‪ ،‬وعقائده‬ ‫ْ‬
‫دو ُخ نفوسنا‪.‬‬
‫تنسف قواعدنا‪ ،‬وفلسفته خترب عقولنا‪ ،‬وثقافته تُ ِّ‬ ‫اجلاهلية ِ‬

‫ملناجزِة اجلـاهلية‪ ،‬القادرِة على مطاولتها‬ ‫ِ‬


‫ال سبيل إىل بناء القوة االقتحامية املؤهلة َ‬
‫وى ألم الفنت‪ .‬هنض الرجل األشقر األزرق‬ ‫وحصارها وخنقها وطردها‪ ،‬ويف قلوبنا َمثْ ً‬
‫الطويل القامة يف أملانيا اإلمارات املآت‪ ،‬وتوحد اجلِْرما ُن على ثقافة ولغة وجنس‬
‫وقوم‪ .‬فانظر ما أججوا من حروب‪ ،‬وما اقرتفوا من جرائم ضد اإلنسانية‪ .‬النازية زهرة‬
‫املتطرف حقا! أليست احلمية‪ ،‬محيةَ اجلاهلية‪ ،‬عنفاً كلُّها‬
‫ُ‬ ‫القومية ومنوذجها املتطرف‪.‬‬
‫وجهال كلُّها؟ إال تفعلوه تكن فتنة يف األرض وفساد كبري‪ .‬واهلل هو العلي القدير‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة األنفال‪ ،‬اآليات ‪.85-82‬‬


‫‪ 2‬سورة األنفال‪ ،‬اآلية ‪.4‬‬
‫‪ 3‬سورة األنفال‪ ،‬اآلية ‪.73‬‬

‫‪589‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫درء الفتنة بالفتنة‬


‫متثل اهلزة القوية اليت أحدثتها ثورة صدام حسني عند دخوله الكويت منوذجا‬
‫لتعلق املسلمني التارخيي بأسطورة البطل احملرر‪ .‬يف اخليال الغثائي مثال للبطل التارخيي‬
‫الذي يقوم من بني األنقاض بقوة‪ ،‬وخياطب برمزيته آمال الثأر التارخيي الدفني‪.‬‬
‫لكن سابقته تزيد األسطورة رسوخا‬ ‫صالح الدين األيويب رمحه اهلل ليس أسطورة‪َّ ،‬‬
‫واألمة املقهورة املذلولة انتظاراً مستسلما «ملستبد عادل» يأخذ بالثأر وحيمي الذمار‪.‬‬
‫تـُْعطي اهلزة الصدامية منوذجا لتشبث املسلمني بصاحب الشوكة املستويل‪،‬‬
‫هتتز له أوتار العاطفة وتتلجلج مع رنات ندائه ُحشاشة األمل املكبوت‪ .‬ال سيما‬
‫العدو فيها جامث يف قعر الدار‪ ،‬العدو فيها اليهود يف القدس‬ ‫يف ظروف ِ‬
‫مثل ظروفنا‪ُّ ،‬‬
‫وحليفهم األمريكي يف أعز بقاع اإلسالم‪.‬‬
‫نزل القومي للشارع يف عُمان‪ ،‬وعانقه اإلسالمي‪ ،‬وأنشد الفلسطيين الالجئ‬
‫نشيد النصر‪ .‬تبـََّن اإلسالميون يف األردن ويف غري األردن الثورة الصدامية منذ‬
‫أعلن البطل القومي الشجاع أنه يدافع عن اإلسالم وعن البقاع املقدسة‪ ،‬وهلل‬
‫اجلميع منذ ربط خروجه من الكويت خبروج اليهود مما عليه النزاع من بقية‬
‫فلسطني‪ .‬محاس واحد برره بعض اإلسالميني بأن البطل القومي آلة ومرحلة يف‬
‫سوى فيما بعد‪.‬‬
‫الطريق‪ .‬وقال اآلخر‪ :‬إن خالفنا معه جزئي يُ َّ‬

‫‪590‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وهل اخلالف جزئي بني العصبية‪ ،‬بني محية اجلاهلية‪ ،‬وبني اإلسالم؟ لكن ما‬
‫يفعل يف عصرنا من ال شوكةَ له وال حام وال لواء تنضوي حتته اآلمال إال األمر الواقع‪،‬‬
‫مصداق قول النيب صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه اإلمام‬
‫ُ‬ ‫إال املستويل بالسيف؟ وذلك‬
‫أمحد عن أيب أمامة الباهلي‪« :‬لتُنقضن عُ َرا اإلسالم عُروةً عروة‪ ،‬فكلما انتقضت‬
‫وأولهـن نقضا الحكم وآخرهن الصالة»‪.‬‬
‫عروة تشبث الناس بالتي تليها‪َّ .‬‬
‫من اإلسالميني من كان له ِحلف وتعاون تكتيكي مع سـالطني النفط املمدين‬
‫ف الساكت‪ ،‬فلما صرح صدام مبقالته جتاوبت‬ ‫ِ‬
‫بالصدقات ميُنون هبا ويشرتون هبا احل ْل َ‬
‫األصداء العميقة مع صرخته‪ ،‬وأعلن بعض اإلسالميني عداءهم حلليف أمس التكتيكي‪.‬‬
‫وكأن األحداث تكشف فجأة وجه من يقف يف خندق واحد مع أعداء املِلة ومن يبعث‬
‫اإلسالمي والقومي واملشرد واملثقف‬
‫َّ‬ ‫األمل‬
‫وح َد ُ‬
‫األمل يف حتقيق مطامح املسلمني‪َّ ،‬‬
‫الوطين‪« .‬تشبث الناس بالتي تليها»‪.‬‬

‫ينبغي لإلسالميني أن ال ُياصمـوا شيئا من تاريخ املسلمـني املاضي واحلاضر‪،‬‬


‫وعالَّتِه‪ ،‬يف انتقاض عروة احلكم منه ويف تشبث الناس «باليت‬
‫وأن يفهموه يف حركته ِ‬
‫تليها»‪ ،‬ليكون هلم املوقـف الثابت واملطمـح املنهاجي اخلاليف‪ ،‬مع االحتفاظ باملرونة‬
‫املرحلية‪.‬‬

‫وينبغي هلم أن ال يدفعهم التقليد للعلماء السابقني الذي خلَّفـوا فتـَْوى وفقها‬
‫يف جمال احلكم اجتهدوا فيه لزماهنم فيقبلوا من الفتنـة ما هو جدير باإلنكار الثابت‬
‫الدائم‪ .‬كان فقه السابقني رمحهم اهلل يدور حول فكرة َد ْرِء الفتنة الكربى بفتنة أصغر‪.‬‬

‫‪591‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وعلى مر التاريخ تقهقر موقع الفتنة الصغرى الدارئة‪ ،‬وتراجعت عن احلق ُخطوةً إىل‬
‫ازدادت فداحة‪.‬‬
‫الوراء ُخطوةً كلما استفحلت الفتنة املدروءة و ْ‬
‫أكتب هذا الليلة الثامنة من مجادى األول سنة ‪ ،1411‬واألقدار هتيئ لنا‬
‫اجلواب التارخيي‪ ،‬يف مدرسة سنة اهلل‪ ،‬كيف ندرأ فتنة املستويل القومي بفتنة العض‬
‫ال ِوراثي‪ .‬أم كيف هنتف للبطل القومي احملارب ألمراء السوء رؤوس الفتنة‪ .‬أيهما‬
‫قدرها ويف تسلسلها التارخيي السبيب‬
‫أعظم فتنة؟ وعلينا أن نقرأ سنة اهلل يف جريان َ‬
‫التكليفي قراءة ذكية‪ ،‬ال نتبلد مع التقليد‪.‬‬
‫كان مع علمائنا على مر العصور عذرهم وعلتهم يف درء ِ‬
‫الفنت ِ‬
‫بعضها ببعض‪.‬‬
‫وكان هلم اجتهادهم‪ .‬فمن التبلد أن نعترب ما أورثوه من فهم وكأنه فتوى أبدية‪ ،‬ومن‬
‫التبلد أن جنري خلف اآلمال احلماسية كلما َنع َق ناعق‪.‬‬
‫ٍ‬
‫إمعات‬ ‫أوِرد هنا نصوصا طويلة الجتهاد من سبقـونا رمحهم اهلل‪ ،‬فلم يكونوا‬
‫ووعاظ قصور ومتملقني على األعتاب‪ .‬مل يكن من األذناب املتمسحني باحلكام‬
‫الالعقني للفتات إال قلة من ديدان القراء‪ .‬وألئمة الفقه كان الفهم الثاقب لضرورات‬
‫عز‬
‫الزمان واملكان واملالبسات‪ ،‬تشبثوا بعروة الوحدة يف ظل العض واالستيالء لَ َّما َّ‬
‫السبيل إىل إبرام ما انتقض من أمر الشورى‪.‬‬

‫يقول اإلمام الغزايل رمحه اهلل‪ ،‬الفقيه األصويل‪ ،‬يف كتـاب «االقتصاد يف االعتقاد»‪:‬‬
‫لكن املوت أشد منه‪.‬‬
‫تناول ال َـميتة حمظور‪ ،‬و َّ‬
‫«الضرورات تبيح احملظورات‪ .‬فنحن نعلم أن ُ‬
‫فليت شعري من ال يساعد على هذا ويقضي ببطالن اإلمامة يف عصـرنا لفوات شروطها وهو‬

‫‪592‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫عاجز عن االستبدال بالتصدي هلا؟ بل هو فاقد للمتصف بشروطها‪ .‬فأي أحواله‬
‫ومجيع‬
‫غري منعقدة ُ‬ ‫أحسن؟ أن يكون القضاة معزولني وال ِواليات باطلةً واألنكحةُ َ‬
‫أن اخللق كلَّهم ُم ْق ِدمون على احلرام؟ أو‬
‫غري نافذة‪ ،‬و َّ‬
‫تصرفات الوالة يف أقطار العامل َ‬
‫أ ْن تكون اإلمامة منعقدة والتصرفات وال ِواليات نافذ ًة حبكم احلال واالضطرار؟‬
‫قال رمحه اهلل‪« :‬فهو [أي املعتـرض على قبول حكم احلال وأكل ميتة احلكم‬
‫العاض] بني ثالثة أمور‪ .1 :‬إما أن مينع الناس من األنكحة والتصرفات الـمنُ ِ‬
‫وطة‬ ‫َ‬
‫وم َؤٍّد إىل تعطيل املعاشات كلها‪ ،‬ويُفضي إىل تشتيت اآلراء‬
‫بالقضاة‪ ،‬وهو مستحيل ُ‬
‫وم ْهلَك اجلماهري الدمهـاء‪ .2 .‬أو يقول‪ :‬إهنم يـُْق ِدمون على األنكحة والتصرفات‪،‬‬
‫َ‬
‫ولكنهم ُمقدمون على احلرام‪ ،‬إال أنه ال حيكم بفسقهم ومعصيتهم لضرورة احلال»‪.‬‬
‫يقول رمحه اهلل يف ذكر اخليار الثالث االضطـراري‪ .3 :‬وإما أن نقول‪:‬‬
‫ُي َك ُم بانعقاد اإلمامة مع فوات شروطها لضرورة احلال‪ .‬ومعلوم أن البعيد‬
‫أهون الشرين خريٌ باإلضافة (أي بالنسبة كما نقول يف‬
‫مع األبْعد قريب‪ ،‬و َ‬
‫اختياره»‪.‬‬
‫عصرنا)‪ .‬وجيب على العاقل ُ‬
‫يستعمل الغزايل رمحه اهلل اصطالح «شوكة» يف حق صاحب السيف احلامي‬
‫الديار‪ .‬ويقول مدافعا عن إمامة املستظهر العباسي القرشي ووزرائه‪ ،‬بل سالطينه‬ ‫َ‬
‫احلكام احلقيقيني السالجقة‪« :‬بل أقول‪ :‬لو مل يكن بعد وفاة اإلمـام إال قُرشي واحد‬
‫مطاعٌ متبع‪ ،‬فنهض باإلمامة وتوالها بنفسه‪ ،‬ونشأ بشوكته‪ ،‬وتشاغل هبا‪ ،‬واستتبع‬
‫كافة اخللق بشوكته وكفايته‪ ،‬وكان موصوفا بصفات األئمة‪ ،‬فقد انعقدت إمامته‬
‫ووجبت طاعته‪ .‬فإنه تعني حبكم شوكته وكِفايته‪ ،‬ويف منازعته إثارةٌ للفنت»‪.‬‬

‫‪593‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أعظم وبينهم الباطنيةُ وطـوائف املذاهب‬
‫َ‬ ‫كانوا رمحهم اهلل خيشون فتنة‬
‫الكبري الذي‬
‫َ‬ ‫الفر َق‬
‫لكن ْ‬‫املنحرفة‪ ،‬ومن حوهلم عامل ميوج‪ .‬حال كاحلال يف زماننا‪َّ .‬‬
‫ِ‬
‫خصوصياتا هو أن العصبية احلاكمة فيمن قبلنا كانت تُفتِّت كل‬ ‫يعطي لظروفنا‬
‫ٍ‬
‫مناهض هلا‪ ،‬فالعلماء مثل الغزايل أفراد‪ ،‬إن كانت هلم شعبيتهم فليس معهم‬ ‫تكتُّل‬
‫كتلة يف مستوى مقاومة «حال االضطرار»‪ ،‬بينما يف زماننا تكتلت بالفعل قوة‬
‫ـاوِلا‪ ،‬اليوم هنا وغداً هناك حبول اهلل‪،‬‬
‫سمى «احلركة اإلسالمية»‪ ،‬ففي متن َ‬
‫صاعدة تُ َّ‬
‫القوة لتَ ْخُر َج من منطق َد ْرِء الفنت بعضهـا ببعض‪ .‬ال سيما إذا كان الثمن لتحمل‬
‫األمر الواقع هو التخلي ُخطوةً خطوةً إىل الوراء عن العقيدة نَفسها‪ ،‬يقاتل السيف‬
‫املستويل العقيدة كما فعل مصطفى كمال يف تركيا اإلسالم‪ ،‬أو يقتل مليونا من‬
‫املسلمني يف حرب ضد الشيعـة كما فعل صدام‪.‬‬
‫ومتضي ثالثة قرون على عهد الغزايل رمحه اهلل‪ ،‬فنجد عند فقيه ٍ‬
‫حمدث مثل‬
‫الذي وجدنا من الفهم عند األصويل الفقيه‪ .‬هذا شافعي واآلخر حنبلي‪َّ ،‬قربت‬
‫ِوجهيت نظرمها الضرورة وتشابُهُ األحوال اجلامـدة منذ ألف عام ويزيد إىل زماننا‪.‬‬

‫يَقرأها اإلسالميون يف عصرنا كثريا‪ ،‬ويستشهدون هبا‪ ،‬ويربر هبا‬ ‫فَ َتوى‬
‫وأكثر من يتَّكئ عليها لالستئنـاس يف حجر سالطني النفط احللفاءُ‬ ‫كلٌّ موق َفه‪.‬‬
‫التكتيكيون وغريُهم من املتشددين املذهبيني‪ .‬فتوى ابن القيم رمحه اهلل جيب أن نبدأ‬
‫قراءهتا من عنواهنا يف كتابه «إعالم املوقعني»‪ .‬يقول العنوان‪« :‬فصل يف تغري الفتوى‬
‫واختالفها حبسب تغري األزمنة واألمكنة واألحوال والنيات والعادات»‪ .‬هكذا أزال‬

‫‪594‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وطوقها من شاء أن يُقلد السلطة العلمية املاضية إىل رمحة‬ ‫رمحه اهلل العُهدةَ من عنقه َّ‬
‫وده‪ .‬ورحم اهلل ابن تيمية‪ ،‬لو علِ َم ابن تيمية ما فعلوا مبذهبه‬
‫ليربَر قعُ َ‬
‫اهلل إن شاء اهلل ِّ‬
‫من بعده!‬
‫أول اجلزء الثالث من الكتاب املذكور‪« :‬فإنكار املنكر‬ ‫قال ابن القيم رمحه اهلل َ‬
‫أربع درجات‪ :‬األوىل أن يزول وخيلَُفه ضدُّه‪ .‬الثانية أن يَِق َّل وإن مل ُيزل جبملته‪ .‬الثالثة‬
‫أن خيلَُفه ما هو مثله‪ .‬الرابعة أن خيلَُفه ما هو شر منه‪ .‬فالدرجتان األولَيَان مشروعتان‪،‬‬
‫والثالثة ِ‬
‫موض ُع اجتهاد‪ ،‬والرابعة حمرمة‪.‬‬
‫قال رمحه اهلل‪« :‬فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان‬
‫إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصرية إال إذا نقلتهم منه إىل ما هو أحب إىل اهلل‬
‫ورسوله كرمي النُّشَّاب وسباق اخليـل وحنو ذلك‪ ]...[ .‬ومسعت شيخ اإلسالم ابن‬
‫مررت أنا وبعض أصحايب يف زمن التتار‬
‫ونور ضرحيـه يقول‪ُ :‬‬ ‫تيمية قدس اهلل روحه ّ‬
‫بقوم منهم يشربون اخلمر فأنكر عليهم من كان معي‪ .‬فأنكرت عليه وقلت له‪ :‬إمنا‬
‫حرم اهلل اخلمـر ألهنا تصد عن ذكر اهلل وعن الصالة‪ .‬وهؤالء يصدهم اخلمر عن قتل‬
‫النفوس وسيب الذرية وأخذ األموال‪ .‬فدعهم!» انتهى‪.‬‬
‫أجدرنا بتبنيها لنتعلم التدرج وحنن زاحفون حبول اهلل على‬
‫وفتوى ما َ‬ ‫هذا اجتهاد جيد َ‬
‫الفتوى احلكيمة جاءت مع‬ ‫لكن هذه َ‬‫الفتنة حىت ُنلِيَها من معاقِلِها‪ ،‬هي تتقهقر ال حنن‪َّ .‬‬
‫فتوى أخرى يف نفس النص تؤبِّ ُد قيودنا إن حنن تبنيناها غافلني عن التحذير والتـَّْنبيه على‬
‫َ‬
‫أن الفتوى تتغري يف األزمنة واألمكنة إخل‪ .‬الفتوى اليت تقيد وتقهقر من ال يعترب تقول‪« :‬فإذا‬
‫إنكاره‬
‫كان إنكار املنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إىل اهلل ورسوله فإنه ال يسوغُ ُ‬
‫‪595‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الوالة باخلروج عليهم‪.‬‬
‫وإن كان اهلل يُبغضه وميقت أهله‪ .‬وهذا كاإلنكار على امللوك و ُ‬
‫فإنه أساس كل شر وفتنة إىل آخر الدهر»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يا حسرة على من يقرأ «آخر الدهر» هذه وال يستمع لوعد رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم الصحيح الفصيح باخلالفة الثانية على منهاج النبوة! واهلل يهدي‬
‫من يشاء إىل صراط مستقيم‪.‬‬

‫‪596‬‬
‫الفصل اخلامس‬
‫املروءة واألخالق‬
‫* املروءة والدين‬
‫* حلف الفضول‬
‫* حوار بني مريضني‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫املروءة والدين‬
‫أي ِحْ ٍل من أمحال الفتنة حنمل؟ على أية أرضية‬
‫أي قَ ْد ٍر من اجلاهلية حنتمل؟ َّ‬
‫َّ‬
‫مشرتكة –إن كان َثّ أرضية مشرتكة‪ -‬نلتقي مع الناس ونتعامل؟ أم نقطع اجلسور‬
‫ونبقى يف الربج العـاجي نسبح يف مالئكية عاجزة‪ ،‬نسب اجلاهلية وهنتك بالشتم‬
‫ِع ْرض الفتنة معزولني عن الناس؟ إنه ال بد لنا من تغيري نشارك فيه باليدين‪ ،‬ال‬
‫الو َحل حىت الركبتَني‪ .‬هنالك َدفْ ٌق ِمن‬
‫بد من التشمري عن الساعدين والدخول يف َ‬
‫اإلمكانات يف الشعب مكنوز‪ ،‬كيف نفجر ينابيعه وجنريه يف جداول الثقة والتعاون‬
‫خلدمة الشعب‪ .‬هنالك دفق مطمـور حتت صخور اجلاهلية ورمال الفتنة املائجة وركام‬
‫الغثائية‪ .‬هنالك الدين راسبا يف األعماق ومع املروءة‪ ،‬هنالك التدين األجوف بال‬
‫مروءة‪ ،‬هنالك املـروءة مع قَدر ما من الدين‪ ،‬هنالك املروءة بال دين‪.‬‬
‫الدين إسالم وإميان وإحسان‪ .‬درجات‪ .‬وال مناص من أن نتعامل ونتعاون‬
‫يف داخل اجملتمع مع ذوي املـروءة على ما معهم من ديـن‪ .‬ال ننتظـر حىت يكون‬
‫الناس مجيعا على مستـََوى أهل الكهف والرقيم من اليقظة اإلميانية‪ .‬ويف خارج‬
‫اجملتمع مروآت بال دين‪ ،‬وغياب املروءة والدين معا‪ ،‬وال منـاص من التعامل الدويل‬
‫والتعاون والتبادل‪ .‬ال مناص من التعامل مع ال ُقوى احلاقدة على اإلسالم‪ ،‬مع‬
‫القانون الدويل الالأخالقي ذي الوزنني‪ ،‬يزن مبعايري مزدوجة‪ ،‬يرتك دولة اليهود‬
‫تسخر ِمن ُركام أربعني سنة من قرارات األمم املتحـدة‪ ،‬ويهب لنصرة «القانونية‬
‫الدولية» حاشدا كل قواه يف منابع النفط‪.‬‬

‫‪599‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫إ ْن ال نقبل التعامل والتعاون يف الداخل مع كل ذوي املروآت على ما عندهم‬
‫من إميان وإسالم أعرايب وحىت ُتُ ِوم العقيدة التقليدية الصرفة‪ ،‬وإن ال نتحمل اإلقساط‬
‫يطة هي آلةُ بَالئِنا‪ ،‬نتغاضى زماناً ونُعرض عن حترشاهتا وظلمها‪.‬‬ ‫الب جباهلية ُم ٍ‬
‫و ِ َّ‬
‫نفعل فسنبقى على أحسن تقدير خنبة طليعية من املؤمنني املثقفني املتطهرين‬ ‫إن ال ْ‬
‫عاجزة معزولة يف مالئكية حاملة‪.‬‬
‫الدين إسالم وإميان وإحسان‪ .‬درجات‪ .‬واملروءة أيضا درجات‪ .‬املروءة كما‬
‫قال أهل اللغة هي كمال الرجولة‪ .‬هي «البذل والعطاء وَكف اهلمة عن األسباب‬
‫صلَة ال يُؤثر يف الواقع غريُها‪.‬‬
‫الدنيئة»‪ .‬هي كفاآت عملية‪ .‬هي معلومات وتقنيات ُمَ َّ‬
‫ال يؤثر يف الواقع النوايا الطيبة والتدين األجوف العاجز‪.‬‬
‫سنعرف قدر احملنكني من الرجال عندما نقف على عتبة احلكم‪ .‬سنعرف‬
‫جور‪ .‬فإن كنا على هامش‬ ‫قَدر اخلبري وال ُـم َجِّرب والقوي‪ .‬وقد يَكون مع قوته فُ ٌ‬
‫ف‬‫األحداث ويف املعارضة فكل ما نكيله من شتائم للفتنة وللجاهلية كالم‪ .‬فإذا أ ِز َ‬
‫َوقت العمل ونادت األحداث‪ :‬أين اإلسالميون ‪-‬نادى ال َق َد ُر أستغفر اهلل‪ -‬فال‬
‫يُغين كالم‪ ،‬إمنا تغين الفاعلية والقوة على الفعل واملعلومات والتجربة‪ .‬مهما كانت‬
‫وعزمنا السياسي ووحدة صفنـا وقرا ِرنا فسيسخـر منا الواقع وتشتمنا‬ ‫قوة إرادتنا ُ‬
‫األحداث عندما جتربنا‪-‬عندما خيتربنا القدر أستغفر اهلل‪ -‬فيجدنا عاجزين ال‬
‫أكياساً‪ ،‬وسيفضل علينا احلذاق املاهرين احملنكني أيّا كان لوهنم‪.‬‬
‫يوم لن يلتفت الناس كثريا ألطروحاتنا ونظرياتنا‪ ،‬بل سريقُبوننا عند اهلفوة‬
‫جييء ٌ‬
‫والزلة واخلطإ يف إدارة االقتصاد وتسيري عجالت الدولة وضبط وظائفها وتنسيق جهودها‪.‬‬

‫‪600‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ووعودنا –ومنا من يكيل الوعود‬
‫سريقب الناس َمدى تطابُق أطروحـاتنا ونظرياتنا ُ‬
‫ض ْرب من عصا موسى‪ -‬مع سلوكنا‬ ‫يظن الناس أن «احلل اإلسالمي» َ‬ ‫حىت ُّ‬
‫وفعلنا وإجنازاتنا‪ .‬وطائفة أخرى من االنتهازيني ستزدحم على أبواب السلطان‬
‫يوم يكون السلطان يف يد أهل املسجد لتعرض خدماهتا‪ .‬يومئذ يكون اخليار‬
‫ِ‬
‫الكفء على ما معه من دين وبني تنصيب‬ ‫بني االحتفاظ خببري األنظمة البائدة‬
‫الويف املتدين بال خربة وال كفاءة‪ ،‬وبني استعمال االنتهازي الذي سيلبَس لك‬
‫لَبُوس األتقياء‪ .‬ويف دولتك تروج البضـاعة اليت يستحقها استبصارك بالواقع‬
‫وضروراته أو مثاليتك احلاملة العائمة‪.‬‬
‫إما ختتار املروآت املؤثرة يف الواقع على ما هناك من دين حىت يُنشئ اهلل امللك‬
‫تفش ُل جتارب املتدينني‬
‫الوهاب من أصالب أجيال الفتنة أجيـاال بارئة إن شاء‪ .‬وإما َ‬
‫العاجزين ويُثريُ عملُهم االزدراء‪.‬‬
‫فمن اآلن نوطد النية على ما أخرب به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من‬
‫أ ّن‪« :‬الناس معادن خيارهم يف اجلاهلية خيارهم يف اإلسالم إذا ف ُقهوا»‪ .‬ومن اآلن‬
‫نوطد النية على ما قال موالنا علي بن أيب طالب أمـري املؤمنني من أن «الناس‬
‫صنفان‪ :‬أخوك يف الدين ونظريك يف األخالق»‪ .‬ومن اآلن نوطد العزم على تقليد‬
‫العامل القوي األمني أمري املؤمنني عمر الذي كان يقول‪« :‬أشكو إىل اهلل َجلَ َد اخلائن‬
‫وعجَز الثقة»‪.‬‬
‫ْ‬
‫يشكو عمر رضي اهلل عنه ‪-‬وهو اخلبري بالرجال الناجح يف احلكم‪ -‬نُ ْدرة اجلامعني‬
‫بني القوة ‪-‬عرب عنها باجلَلَد‪ -‬وبني األمانة‪ .‬القوة واألمانة مها جمتمعتني شرط الكفاءة‬
‫لل ِواليات اإلسالمية والوظائف واإلدارات‪ .‬لكنهما قلما جتتمعان‪ .‬ولذلك تَنتظرك‬

‫‪601‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫«ضرورة احلال» لتختار بني تولية «الثقة العاجز» وتولية اجلَلَ ِد ولو كان فاجرا‪ .‬وقد‬
‫املسبِّ ِح العاجز‪ .‬واختار‬
‫اختار أمريُ املؤمنني عمر تولية احملنك القادر على تولية التقي َ‬
‫ذلك أيضا علمـاؤنا السابقـون‪ ،‬وفقهـاؤنا املبجلون‪.‬‬

‫سيدنا سعداً بن‬ ‫ِ‬


‫قدم أهل الكوفة على عمر رضي اهلل عنه يشكون عاملهم َ‬
‫أيب وقاص‪ ،‬وهم كانوا ظاملني مفرتين‪ .‬فقال عمر‪ :‬من يـُْع ِذرين [أي يكفيين] من أهل‬
‫ِ‬
‫القوي فَ ّجروه [أي اهتموه بالفجور]‪.‬‬
‫ضعفوه‪ ،‬وإن وليتهم َّ‬‫الكوفة؟ إن ولَّْيتُهم التق َّي ّ‬
‫فقال املغرية بن شعبة الصحايب‪« :‬يا أمري املؤمنني! إن التقي الضعيف له تقواه ولك‬
‫الفاجر لك قوته وعليه فجوره»‪ .‬وكان املغرية من دهاة العرب‬
‫َ‬ ‫القوي‬
‫ضع ُفه‪ ،‬وإن َّ‬ ‫َ‬
‫وعقالئهم وأقويائهـم يف احليلة يف اجلاهلية واإلسالم‪.‬‬

‫ك‬ ‫ِ‬
‫ورب الكعبة مىت تـَْهل ُ‬
‫علمت ِّ‬
‫ُ‬ ‫عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه يقول‪« :‬قد‬
‫العرب! إذا ساسهم َمن مل يدرك اجلاهلية ومل يكن له قَ َد ٌم يف اإلسالم»‪.‬‬

‫كدرها ال يعرف كيف يسوس الناس بالعدل بعد أن هدم‬ ‫من مل يع ِرف اجلاهلية و َ‬
‫اإلسالم موازين ِ‬
‫القيَم اجلاهلية اليت ال تعرف إال العنف‪ .‬من ال قَ َدم له يف اإلسالم‬
‫لكن‬
‫نصبتَه يف مكان «القرار االسرتاتيجي»‪َّ .‬‬ ‫سوخ فهـالك األمة على يده إن َ‬ ‫وال ُر َ‬
‫مواقع القرارات اليومية والتنفيذ لن جند هلا يف غد القومة جامعني بني الثقة والقدرة‪،‬‬
‫بني معرفة اجلاهلية والقدم يف اإلسالم‪ ،‬بني القوة واألمانة‪ ،‬من يكفينا ويـُْع ِذرنا من‬
‫املهمات ال ُـملحات! لن جند إن بتنا نتعلق مبثالية ال تعطي للضعف البشري وملا‬
‫فعلت وتفعل فينا الفتنة حقهما‪.‬‬

‫‪602‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يف أول كتاب «السياسة الشرعية» لشيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل فصل‬
‫بعنوان «استعمال األصلح»‪ .‬قال‪« :‬فيجب على ويل األمر أن يويل على كل عمل‬
‫من أعمال املسلمني أصلَ َح من جيده لذلك العمل‪ .‬قال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫أصلح للمسلمني منه‬
‫ول من أمر املسلمني شيئا َفوّل رجال وهو جيد من هو ُ‬ ‫ِ‬
‫«من َ‬
‫فقد خان اهلل ورسوله»‪ .‬ويف رواية‪« :‬من قلَّد رجال عمال على ِعصابة (أي مجاعة‬
‫ضى منه فقد خان اهلل وخان رسوله وخان‬
‫من الناس) وهو جيد يف تلك العصابة ْأر َ‬
‫املؤمنني»‪ .‬رواه احلاكم يف صحيحه»‪.‬‬

‫قال شيخ اإلسـالم رمحه اهلل‪« :‬فيجب عليه البحـث عن املستحقـني للواليات‪،‬‬
‫ِمن نوابه على األمصار من األمراء الذين هم نواب ذي السلطان‪ ،‬والقضاء‪ ،‬ومن‬
‫أمراء األجناد وم َق ّدمي العساكر الصغار والكبار‪ ،‬ووالة األموال من الوزراء والكتاب‬
‫َّادين [اجلامعني لألدب والعلم ال ُـمتقدمني يف الدراسة] والسعاة على اخلراج‬ ‫والش ِ‬
‫تنيب‬
‫والصدقات‪ ،‬وغري ذلك من األموال اليت للمسلمني‪ .‬وعلى كل هؤالء أن يَ ْس َ‬
‫ويستعمل أصلح من جيده‪ .‬وينتهي ذلك إىل أئمة الصالة واملؤذنني وال ُـمقرئني واملعلمني‬
‫وحر ِ‬
‫اس‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وخّزان األموال ُ‬ ‫صاد ُ‬ ‫احلاج والبـُُرد [مجع بريد]والعيون الذين هم ال ُق ّ‬
‫وأمري ِّ‬
‫قباء العساكر الكبار‬‫احلصون واحلدادين الذين هم البوابـون على احلصون واملدائن ونُ ِ‬
‫َّهاقون»‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫والصغار وعَُرفاء القبـائل واألسواق ورؤساء القرى الذين هم الد َ‬
‫قلت‪ :‬أما أئمة الصالة واملؤذنون واملقرئون واملعلمون و«أمري احلاج» فوظيفتهم ت ْل َح ُق‬
‫ت هذه الوظائف يف قائمة‬ ‫بالدعوة يف دولة القرآن‪ ،‬ولو تقاضوا أجورا من خزانة الدولة‪ .‬وتُـثْبَ ُ‬

‫‪603‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الناس يف دينهم إال األتقياء الذين هلم قدم يف اإلسالم‪،‬‬
‫األسبقيات حىت ال يؤم َ‬
‫ونسمات يف اإلحسان‪.‬‬‫ودرجات يف اإلميان‪َ ،‬‬
‫ويستمر شيخ اإلسالم رمحه اهلل يف َع ْرضه حىت يصل إىل حال الضرورة عندما‬
‫فيقول بعد أن َذ َّم وباء احملسوبية والقرابة‪« :‬إذا عُ ِرف هذا‪ ،‬فليس‬ ‫ينعدم «األصلح»‪ُ ،‬‬ ‫َ‬
‫عليه أن يستعمل إال أصلَح املوجود‪ .‬وقد ال يكون يف موجوده من هو صاحل لتلك‬
‫فاألمثل يف كل منصب حبَ َسبِه‪ .‬وإذا فعل ذلك بعد االجتهاد‬ ‫َ‬ ‫ال ِوالية‪ ،‬فيختار األمثل‬
‫التام وأخ ِذه لل ِوالية حبقها فقد أدى األمانة وقام بالواجب يف هذا‪ ،‬وصار يف هذا ِ‬
‫املوضع‬ ‫ْ‬
‫من أئمة العدل واملقسطني عند اهلل وإن اختلت بعض األمور بسبب من غريه‪َّ .‬‬
‫فإن اهلل‬
‫ف اللّهُ نـَْفساً إِالَّ ُو ْس َع َها﴾‪.2‬‬ ‫يقول‪﴿ :‬فَاتـَُّقوا اللَّهَ َما ْ‬
‫استَطَ ْعتُ ْم﴾‪ .1‬ويقول‪﴿ :‬الَ يُ َكلِّ ُ‬
‫ِ‬
‫ع فقهائنا رمحهم اهلل ودقة عبارهتم وصدق‬ ‫بني السطوِر َمن شاء َوَر َ‬
‫قلت‪ :‬ليـَْقرأ َ‬
‫حكمه بأن ويل األمر «من أئمة العدل‬ ‫أحكامهم‪ .‬فقبل أن يُصدر شيخ اإلسالم ُ‬
‫شر َط أن يكون «أخذه للوالية حبقها»‪ .‬يف العبارة مرارةٌ مكبوتة‪.‬‬ ‫املقسطني عند اهلل» َ‬
‫ص ابن تيمية رمحه اهلل للقاعدة يف التوليات فيقول‪« :‬فإن الوالية هلا‬ ‫مث َيْلُ ُ‬
‫ت الْ َق ِو ُّ ِ‬
‫ين﴾‬
‫ي ْالَم ُ‬ ‫ْج ْر َ‬ ‫ركنان‪ :‬القوة واألمانة‪ .‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن َخيـَْر َم ِن ْ‬
‫استَأ َ‬
‫‪3‬‬

‫ك الْيـوم لَ َديـنا ِم ِك ِ‬
‫ين﴾‪.4‬‬‫ين أَم ٌ‬
‫ٌ‬ ‫وقال صاحب مصـر ليوسف عليه السالم‪﴿ :‬إِنَّ َ َْ َ َْ‬

‫‪1‬‬
‫سورة التغابن‪ ،‬اآلية ‪.16‬‬
‫‪2‬‬
‫سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.286‬‬
‫‪3‬‬
‫سورة القصص‪ ،‬اآلية ‪.26‬‬
‫‪4‬‬
‫سورة يوسف‪ ،‬اآلية ‪.54‬‬

‫‪604‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ول َك ِر ٍيم ِذي قـَُّوٍة ِعن َد ِذي ال َْع ْر ِ‬
‫ش‬ ‫وقال تعاىل يف صفة جربيل‪﴿ :‬إِنَّهُ لََق ْو ُل ر ُس ٍ‬
‫َ‬
‫َم ِكي ٍن﴾‪.1‬‬

‫قال رمحه اهلل‪« :‬والقوة يف كل والية حبسبها»‪ .‬وذكر الكفاءة الالزمة‬


‫لقيادة اجلَيش وسائر ال ِواليات التنفيذية والقضائية‪ .‬قال‪« :‬واألمانة ترجع إىل‬
‫يشرتي بآياته مثنا قليال‪ ،‬وترك خشية الناس‪ .‬وهذه اخلصال‬ ‫َ‬ ‫خشية اهلل‪ ،‬وأن ال‬
‫الثالث اليت اختذها اهلل على كل حكم على الناس يف قوله تعاىل‪﴿ :‬فَالَ‬
‫ش ْو ِن َوالَ تَ ْشتـَُرواْ بِآيَاتِي ثَ َمناً قَلِيالً َوَمن لَّ ْم يَ ْح ُكم بِ َما‬
‫َّاس َوا ْخ َ‬
‫ش ُواْ الن َ‬ ‫تَ ْخ َ‬
‫ِ‬ ‫َنز َل اللّهُ فَأ ُْولَـئِ َ‬
‫وح ْسن‬ ‫ك ُه ُم الْ َكاف ُرو َن﴾ ‪ .‬اللهم ارزقنا خشيتك وحمبتك ُ‬ ‫أَ‬
‫‪2‬‬

‫عبادتك‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة التكوير‪ ،‬اآليات ‪.21-19‬‬


‫‪ 2‬سورة املائدة‪ ،‬اآلية ‪.44‬‬

‫‪605‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫حلف الفضول‬
‫إذا منح املوىل عز وجل العبد نصيبا من اإلحسان واإليقان كان من الشفقة‬
‫يهدي اهلل به ولو رجال أو امرأة‬
‫َ‬ ‫على اخللق‪ ،‬وحب اخلري هلم‪ ،‬واحلرص على أن‬
‫نفسه أن ال يكونوا مؤمنني‪ .‬أما ال ُـم ْع َجب بنفسه املتعايل على‬
‫حبيث يكاد ْيب َخ ُع َ‬
‫اجلسور بينه وبني‬ ‫أبناء جنسه فـيح ِسب البغض يف اهلل‪-‬وهو من اإلميان‪ -‬أن ِ‬
‫ينسف‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ ُ‬
‫اخللق‪ ،‬ويُ َكفَِّر‪ ،‬ويك َف ِهَّر يف غري مواطن ذلك‪.‬‬
‫فهم َمن ال خيْشى‬ ‫نفهمه َ‬
‫َّقربـَنَا مفهوم «الفتنة» من مواقع جمتمع املسلمني‪ُ ،‬‬
‫يهدي اهلل به‪.‬‬
‫تضيع منه فرصة العمر‪ :‬أن َ‬‫الذوبان‪ ،‬بل فهم من خيشى أن َ‬ ‫َ‬
‫َّقربـَنَا مفهوم «املروءة» من اعتبار اخلصال الكفائية اخللقية ِجسرا منده بيننا وبني‬
‫مقدرين املروءة واألخالق والكفاءة حق قدرها‪.‬‬‫الناس لنتعامل ونتعاون‪ِّ ،‬‬
‫فهل لنا من َسنَ ٍد شرعي يف االهتِبال باألخـالق واملروءة؟ ال! بل هل يف اإلسالم‬
‫‪-‬أصلحك اهلل‪ -‬إال ما حيث على األخالق واملروءة واالهتبـال هبما و«مبعدهنما»‬
‫احملتَ َمل؟‬
‫روى الشيخان عن أيب هريرة رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قال‪« :‬الناس تـَبَ ٌع ل ُق َريْش في هذا الشأن [أي اإلسـالم]‪ :‬مسلمهم تبَ ٌع‬
‫لمسلمهم‪ ،‬وكافرهم تبَع لكافرهم‪ .‬الناس معادن‪ِ ،‬خيارهم في الجاهلية خيارهم‬
‫في اإلسالم إذا فـَُقهوا‪ .‬تَجدون من خير الناس َّ‬
‫أشد الناس كراهية لهذا الشأن‬
‫حتى يـََق َع فيه»‪.‬‬

‫‪606‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫قلت‪ :‬وهكذا وقع يف هذا الشأن العظيم عمر بن اخلطاب الذي كان يف‬
‫جاهليته من العداوة لإلسالم حبيث قال من يعرفه‪ :‬ال يؤمن عمر حىت يؤمن محار‬
‫اخلطاب! فإذا أزلنا احلَ َذ َر الالزم من «شيوخ املشركني»‪ ،‬من املالحدة اجملاهرين‬
‫ينصر اهلل دينه على أيدينا بفالن وفالن‪،‬‬
‫الدائم أن َ‬
‫بعدائهم للدين‪ ،‬مل يبق إال األمل ُ‬
‫كما كان يدعو رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ربه عز وجل أن ينصر اإلسالم‬
‫ِ‬
‫بأحد العُ َمَرين‪ ،‬فكان عمر بن اخلطاب‪ :‬دخل اإلسالم ومعه املروءةُ العظيمة واملعدن‬
‫الدين املروءة‪.‬‬
‫النفيـس الذي عرفه تاريخ اإلسالم حني َّتوج ُ‬
‫وأشرافَها‪ ،‬ويكره سفسافها» حديث‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫«إن اهلل تعالى يُحب معال َي األمور َ‬
‫نبوي رواه الطرباين عن اإلمام احلسني بن علي رضي اهلل عنهما‪ .‬حيب اهلل تعاىل‬
‫اخلصال احلميدة يف عبده املؤمن‪ .‬وقد يكو ُن هذا املؤمن املسطَّر إميانه يف كتاب ال َق َدر‬
‫نفورك‬
‫أنت َم ْدرجةً له إىل اإلميان‪ .‬ال ي ُك ْن ُ‬
‫جسورك َ‬ ‫ُ‬ ‫ال يزال ينتظر ساعتَه‪ ،‬فتكو ُن‬
‫وخشونتك سببا لنفوره هو منك ومن اإلميان‪.‬‬

‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ِل َ‬


‫َش ِّج بين عبد القيس‪« :‬إن فيك‬
‫ْم واألناة»‪ .‬حديث صحيح رواه الرتمذي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫خصلتين يحبهما اهلل‪ :‬الحل ُ‬
‫وروى البخاري يف األدب املفرد واحلاكم وغريمها بإسناد حسن أن رسول اهلل‬
‫مكارم األخالق»‪ُ .‬‬
‫مكارم موصولة بالدين‪،‬‬ ‫َ‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬بُِعثت ألتمم‬
‫متغذية من الفطرة‪ ،‬راجعة إىل ِط ِ‬
‫يب املعدن‪ .‬فالداعي إىل اهلل عز وجل يراقب عالمات‬

‫‪607‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫املْن َجم األخالقي علها تدله على استعداد لإلميان وعلى مروءة وكفاءة يغنَ ُم ِر َ‬
‫فد ُها‬
‫خلدمة اإلسالم واملسلمني‪.‬‬
‫الدين واملروءة ِخالَّ ِن‪ ،‬وقد يفرتقان يف «الفاج ِر اجلَْل ِد» له كفاءة وال دين له‪،‬‬
‫ويف «العاجز الثقة» له دين وال كفاءة له‪ .‬روى اإلمام أمحد واحلاكم عن أيب هريرة‬
‫وحسبُه‬
‫«كرم المرء دينُه‪ ،‬ومروءتُه عقلُه‪َ ،‬‬ ‫أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪ُ :‬‬
‫خلُقه»‪ .‬أشار السيوطي رمحه اهلل لصحته‪ ،‬وضعفه احملدثون‪.‬‬
‫وقال عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‪« :‬كرم املرء تقـواه‪ ،‬ودينُه حسبُه‪ ،‬ومروءتُه‬
‫خلُ ُقه‪ .‬واجلُرأة واجلُنب غرائز يضعها اهلل حيث يشاء»‪ .‬رواه اإلمام مالك رمحه اهلل‪.‬‬
‫ونتعامل‬
‫َ‬ ‫ونعتربها مروء ًة‪،‬‬
‫َ‬ ‫من اجلسور اليت ينبغي أن مندَّها بيننا وبني الناس‪،‬‬
‫على أرضيتها ونتعاو َن‪ :‬الغَريةُ الوطنيَّة‪ .‬وهل الوطنية مروءة أم غُلٌّ وقي ٌد؟ يف هذه الفقرة‬
‫مند اجلسور فنتغاضى عما ختْفيه الوطنية من رزيَّة‪ ،‬ونعود للموضوع إن شاء اهلل‪ .‬من‬
‫ذرةً‪ِ ،‬شرك يتناىف مع صفاء اإلخالص‬ ‫اإلسالميني من يعترب أي تعلق مبا دون اهلل‪ ،‬ولو ّ‬
‫وتصادمه‪ .‬هذا‬
‫ُ‬ ‫هلل سبحانه‪ .‬ويعترب الوطنية وحب الوطن عقيدة تناهض اإلسالم‬
‫وجيه ُل‪ ،‬وجيحد سنة اهلل‬
‫نفسه مسلما‪ ،‬ويكفر العا َل ِّ‬ ‫منطق من ال يرى يف الوجود إال َ‬ ‫ُ‬
‫يف اخللق‪ ،‬وسنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫فقد قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عند هجرته من مكة خياطب مكة‬
‫ألحب بالد اهلل إلى اهلل وإلي»‪ .‬وقال عن جبل‬
‫ُّ‬ ‫إنك‬ ‫ِ‬
‫«واهلل ِ‬ ‫خطاب األحباب‪:‬‬
‫حب على اهلامش النفسـي ال ينفذ إىل ِشغاف القلب‬
‫«جبل يحبنا ونحبه»‪ٌّ .‬‬
‫ٌ‬ ‫أحد‪:‬‬
‫ُ‬
‫حيث ال ينبغي أن يستقر إال حب اهلل تعاىل وحب رسوله‪.‬‬

‫‪608‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وجاء يف صحيح البخاري أن بالال رضي اهلل عنه مرض باحلُمى هو وأبو بكر‬
‫رضي اهلل عنه ملا قدما املدينة عند اهلجرة‪ ،‬فكان بالل كلَّما أقلعت عنه َّ‬
‫احلمى يُنشد‬
‫ويرفَع َعقريته (صوته)‪:‬‬
‫وجليـل؟‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫بواد وحويل إ ْذخٌر َ‬ ‫أبيت ليلة ‬
‫أال ليت شعري هل َ َّ‬
‫فيل؟‬ ‫وهـل أ ِرد ْن يوما ِ ٍ‬
‫شامةٌ وطَ ُ‬
‫مياه مَن َّة وهل ْيب ُد َو ْن يل َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وبر َح به املرض ورقق عاطفته‪.‬‬‫قال ذلك حنينا إىل وطنه مكة‪ ،‬اشتاق إليها‪َّ ،‬‬
‫ت أمنا عائشة رضي اهلل عنها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اخلرب قال‪:‬‬ ‫فلما أخبـََر ْ‬
‫وص ِّح ْحها‪ ،‬وبا ِر ْك لنا في صاعها‬
‫ب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أ َش َّد‪َ ،‬‬
‫«اللهم حبِّ ْ‬
‫الج ْحفة»‪.‬‬ ‫ومدِّها‪ ،‬وان ُق ْل حماها فاجعلها في ُ‬ ‫ُ‬
‫على أرضية اإلخالص للوطن‪ ،‬والوفاء له‪ ،‬واالعتزاز خبدمته ميكن أن مند‬
‫جسورا للتعامل والتعاون مع ذوي املروآت والكفاآت‪ ،‬وأن نتحالَف معهم ونتعاهد‪.‬‬
‫ذلك ما فعله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف مكة مع املشركني يف زمان اجلاهلية‬
‫فيما مسِّ َي «حلف الفضول»‪.‬‬
‫جاء يف مسند اإلمام أمحد عن عبد الرمحن بن عوف رضي اهلل عنه أن رسول‬
‫ـبين [املتضمخني بالطِّيب] مع‬
‫لف ال ُـمطَيَّ َ‬ ‫هدت ِح َ‬ ‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪َ « :‬ش ُ‬
‫أن لي ُح ْم َر النـََّع ِم وأنِّي أنكثُه»‪ .‬وعن ابن عباس‬
‫ب َّ‬ ‫عمومتي وأنا غالم‪ ،‬فما ِ‬
‫أح َّ‬
‫رضي اهلل عنهما أنه صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬كل ِحلف كا َن في الجاهلية لم‬
‫يزده اإلسالم إال شدة أو حدة»‪.‬‬

‫‪609‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وخربُ «حلف الفضول» كما جاء عند ابن هشام هو أن رسول اهلل صلى اهلل‬
‫دت في دار عبد اهلل بن جدعا َن ِحلفاً ما ِ‬
‫أحب أ ّن لي‬ ‫عليه وسلم قال‪« :‬ل َق ْد ش ِه ُ‬
‫ُ‬
‫ت»‪.‬‬‫ألج ْب ُ‬
‫به ُح ْم َر النـََّعم‪ ،‬ولو أ ْد َعى به في اإلسالم َ‬
‫وذلك أن بين هاشم وبين املطلب وبين أسد بن عبد العزى وبين ُزهرة وبين تيم‬
‫اجتمعوا يف دار عبد اهلل بن ُج ْدعان زمان كان حممد صلى اهلل عليه وسلم ال يزال‬
‫غالما‪ .‬فتعاهدوا وتعاقدوا أن ال جيدوا مبكة مظلوما من أهلها وغريهم ممن دخلها‬
‫فسمت‬ ‫ِ‬
‫من سائر الناس إال قاموا معه وكانوا على من ظلَمه حىت تـَُرَّد عليه َمظْل َمتُه‪ّ .‬‬
‫قريش ذلك حلف الفضول‪ .‬وهو ِحلف للفضائل واملروءة ُْي َمى مبقتضاه الضعيف‬
‫والغريب‪.‬‬
‫أكرم ِحلف‬
‫وقال اإلمام السهيلي يف «الروض األنُف»‪« :‬وكان حلف الفضول َ‬
‫ُِس َع به‪ ،‬وأشرفَه يف العرب‪ .‬وكان َ‬
‫أول من تكلم به الزبـري بن عبد املطلب‪ .‬وكان سبَبَه‬
‫بن وائل‪ ،‬وكان ذا قدر‬ ‫ِ‬
‫أن رجال من زبيد قَدم مكة ببضاعة فاشرتاها منه العاصي ُ‬
‫مبكة وشرف‪ ،‬فحبس عنه حقه‪ .‬فاستعدى عليه الزبيدي األحالف [‪ .]...‬فصاح‬
‫بأعلى صوته‪:‬‬
‫ـوم بض ــاعتَه ببطن مكـة نائى الدار والنـََّفـ ـ ـ ـ ـ ـ ِر‬ ‫ِ‬
‫يا آل فهـر لَمظلـ ـ ـ ٌ‬
‫ض عُ ْمَرتَه يا للَرجال! وبني احلِ ْجر واحلَ َجر‬ ‫أشعث مل يـَْق ِ‬
‫ٌ‬ ‫وم ِرٌم‬
‫ُْ‬
‫إن احلـرام لَ َم ْن متت كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر َامتـه وال حر َام لثـوب الفاجر الغُـ ـ ـ ـ ُـدر‬
‫قال رمحه اهلل‪« :‬فصنع ([عبد اهلل بن جدعان] هلم [للمتحالفني] طعاما‪ ،‬وحتالفوا يف‬
‫ذي القعدة يف شهر حرام‪ ،‬قياماً‪ ،‬فتعاقدوا وتعاهدوا‪ :‬باهلل ليكونُ َّن يدا واحدة مع املظلوم على‬

‫‪610‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫صوفةً‪ ،‬وما َر َسا ِحراءُ وثَبريٌ مكاهنما‪ .‬وعلى‬
‫حبر ُ‬ ‫ؤدى إليه ُّ‬
‫حقه ما بَ َّل ٌ‬ ‫الظامل حىت يُ َّ‬
‫َسي يف املعاش»‪ .‬أي التكافـل والتعاون ومساعدة احملتاج‪.‬‬
‫التأ ِّ‬
‫كان عبد اهلل بن جدعان الذي تـََز َّعم مع الزبري بن عبد املطلب أمر احللف‬
‫رجال مشركا‪ .‬عمل عمال جليال مبعيار الدنيا ذكره رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫شرك املتحالفني من‬
‫وحبَّ َذه واستمسك به‪ .‬ما منع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ُ‬
‫تقدير هذه املروءة حق قدرها‪ .‬وقد جاء يف صحيح مسلم أن عائشة َّأم املؤمنني رضي‬
‫اهلل عنها سألت النيب صلى اهلل عليه وسلم قائلة‪« :‬إن ابن ُجدعان كان يطعم الطعام‬
‫ويَق ِري الضيف‪ ،‬فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال‪ ،‬إنه لم‬
‫يقل يوما‪ :‬رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين»‪.‬‬

‫النيب صلى اهلل عليه وسلم‬


‫عمل حابط يف اآلخرة‪ ،‬هباءٌ منثور‪ .‬ما منع ذلك َّ‬
‫من تقديره واالعتزاز به ملا ترتب عليه من صالح الناس يف الدنيا‪ .‬لذلك قال‪« :‬ولو‬
‫أ ُْدعى إليه يف اإلسالم ألجبت»‪ .‬وقال‪« :‬ما كان من ِحلف يف اجلاهلية فلن يزيده‬
‫اإلسالم إال شدة»‪.‬‬

‫يف مسند اإلمام أمحد أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ملا قدم املدينة مهاجرا‬
‫آخى بني‬ ‫ِ‬
‫عقد حلفاً بني املهاجرين واألنصار‪ .‬ويف السرية أنه صلى اهلل عليه وسلم َ‬
‫للوالية‬
‫املهاجرين واألنصار اثنني اثنني‪ .‬هذا احللف وهذه املؤاخـاة تأكيد «تنظيمي» َ‬
‫الواجبة بني املؤمنني وتعميق هلا‪ .‬تبوأ املهاجرون واألنصار الدار واإلميا َن معاً‪ .‬فهي‬
‫مواطنة على مستويـني‪ ،‬لكل منهم حقه‪ :‬حق اإلميان وأخوته‪ ،‬وحق الدار واجلوار‪.‬‬

‫‪611‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫تعزَز حق مواطنة الدار حبق مواطنة املروءة‪ .‬مبقتضـى الوطنية املكية‬
‫ويف مكةَ َّ‬
‫ومبقتضـى املروءة‪ ،‬حتَلَّى هبا جاهليون ال تنفعهم تلك األعمال اجلليلة يوم القيامة‪،‬‬
‫قام رجال حلماية املظلوم والضعيف‪ ،‬و«للتأسي يف املعاش»‪ ،‬ولرد كرامة الغريب‬
‫حقه متكربٌ جبار‪ .‬يف كل هذا دروس لنا لنمد اجلسور مع ذوي املروآت‬ ‫احملتقر‪ ،‬سلَبَهُ َّ‬
‫والكفاآت من مواطنينا يف دار اإلسالم‪ ،‬ومع غريهم من األنام‪.‬‬
‫َوال يُست ْغ َن عن احلِلف ال ُـمُروئي مبا نرجو اهلل تعاىل أن يـَُق ِّويَهُ من رابطة الدين‪.‬‬
‫الوالئي ردة‪« .‬فما كان من حلف‬ ‫وال يعترب التمسك باألحالف املروئية بإزاء احللف َ‬
‫يف اجلاهلية فلن يزيده اإلسالم إال شدة»‪.‬‬
‫ذكر ابن إسحاق رمحه اهلل أن الوليد بن عُتبة وايل املدينة لعمه معاوية نازع‬
‫وحتامل الولي ُـد على اإلمام رضي‬ ‫سيدنا احلسني بن علي رضي اهلل عنهما يف مال‪َ ،‬‬
‫آلخذن سيفي‪ ،‬مث‬ ‫َّ‬ ‫اهلل عنه‪ ،‬فقال له احلسني‪« :‬أحلف باهلل لتـْن ِ‬
‫ص َفن َِّن من حقي أو‬ ‫ُ‬
‫ألدعُ َو َّن حبلف الفضول!»‪.‬‬ ‫ألقومن يف مسجد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬مث ْ‬ ‫َّ‬
‫فقال له عبد اهلل بن الزبري وكان حاضرا‪« :‬وأنا أحلِـف باهلل َلن دعا به آلخ َذ َّن‬
‫بن‬ ‫ر‬‫و‬ ‫س‬‫سيفي‪ ،‬مث ألقومن معه حىت ينصف من حقه أو منوت مجيعا»‪ .‬فبلغ اخلرب املِ‬
‫ُ َْ َ‬ ‫ُ َ‬
‫خمرمة رضي اهلل عنه فقال مثل ذلك‪ .‬وقال عبد الرمحن ابن عثمان بن عبيد اهلل مثل‬
‫ليد أنصف احلسـني من حقه حىت رضي‪.‬‬ ‫ذلك‪ .‬فلما بلغ ذلك الو َ‬
‫هذه سابقة مهمة جدا‪ ،‬تعلمنا كيف نستعمل اخلري الذي عند أهل اخلري مهما‬
‫كان حظهم من الدين‪ .‬ال نكن قضا ًة مكشـرين‪ ،‬بل هدا ًة مستبشرين‪ .‬وهلل عاقبة‬
‫األمور‪.‬‬

‫‪612‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫حوار بني مريضني‬

‫الغرب االستعماري بالد املسلمني منذ قرن ونيِّف فاحتلها بسهولة‪،‬‬


‫استهدف ُ‬
‫مث استهدفها بعدما استفرغ حاجته االستعمارية يف النهب والتقسيم فوجد املسلمني‬
‫ال يزالون منفعلني قابلني لفعل األقوياء‪ ،‬فغرس دولة اليهود‪ .‬مث ها هو يستهدفها‬
‫ليحتل منابع النفط‪ ،‬وال تزال قابلية االنفعال على حاهلا‪ ،‬بل تفاقمت‪.‬‬
‫العسكري‬
‫ِّ‬ ‫ف‬‫انفعل املسلمون االنفعال السليب باالهنزام واالستكـانة‪ ،‬هذا للض ُّْع ِ‬
‫املادي‪ .‬وانفعلوا بردة فعل فرضها عليهم األقوياء‪ ،‬فحصل طائفة منهم يف االرتداد إىل‬
‫فكر األقدمني يلتمسون منه َم َددا‪ ،‬فإذا هم يف سجن َجدلية «درء الفتنة بالفتنة»‪.‬‬
‫وآخرون من الذراري الذين َمُّروا من «طاحون» التعليم الغريب وقعوا يف سجن‬
‫إشكالية الغرب وأسئلته وأجوبته ومنهجيته‪ .‬مرض على مرض‪ .‬سجن على سجن‪.‬‬
‫إن جتارب تارخينا ثروة إذا مل ُِت ْلنا إىل التقليد والدخول يف بُوتقة اجلمود‪.‬‬
‫وعناصر إشكاليتنا غري ما كان يفيت فيه األصويل الفقيه والفقيه احملـدث‪ .‬فإن ربطنا‬
‫ُ‬
‫حلولنا هبواجس التاريخ الفتـنوي َثويْنا يف الدوامة‪ ،‬يف دورة عقيمة‪.‬‬
‫وجتارب أوربا درس إن استطعنا اخلروج من سيطـرهتا على املبادرة إىل عقولنا لتفرض‬
‫عليها األسئلة واألجوبة‪ ،‬ألننا إن بقينا يف درء برهاهنم الساطع على تفوقهم وتقدمهم‬
‫بالتعلق األعمى حبداثة وعصرنة ال تطاوعنـا إال بفقد ديننا فقد خسـرنا الدنيا واآلخرة‪ .‬إن‬
‫‪613‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫حنن قاومنا متيُّزهم بالتشبث الطفويل بأصالة شبَحيَّة نفزع إىل أحضاهنا انكمشنا‬
‫وأبَّدنا قابليتـنا لالنفعـال‪ .‬أية أصالة؟ ما معناها يا ُهواة الغُموض؟‬
‫إمنا خنرج من اجلدليات االنفعالية املرضية إن حنن تعرفنـا على أحوالنا احلقيقية‬
‫وعم ْدنا إىل القاعدة الصلبة نبين عليها ونُؤسس‪ .‬ال على أنقاض ٍ‬
‫ماض‬ ‫بال ُم َو َاربَة‪َ ،‬‬
‫لنا حافل‪ ،‬وال على ُركام الفكر اجلاهلي املريض‪.‬‬
‫اعدنا إن‬
‫على ماذا تدلنا السنة النبوية‪ ،‬وهي الركن الركني الذي ال تُنقض قو ُ‬
‫أسسناها عليه؟ يدلنا القرآن وتدلنا السنة على اجلهاد واملوت يف سبيل اهلل‪ ،‬نقدر‬
‫الوْهن‪ .‬لكن القرآن والسنة يدالّنِنا قبل كل شيء على‬ ‫على اجلهاد إن بـََرأْنا من مرض َ‬
‫الصرب الطويل لبناء األمة‪ ،‬إلعادة بنائها على املنهاج النبوي وإقامة اخلالفة املوعودة‪.‬‬
‫عدم من الوجود كياننا املنقوض املريض‬ ‫وال ميكن أن نبين يف فراغ‪ .‬ال ميكن أن نُ ِ‬
‫ْ‬
‫كما ال ميكن أن نتجاهل سيطرة الغرب على العامل‪ .‬عامل متغرياتُه مذهلة ووترية‬
‫فاعل قوي نشيط‪.‬‬
‫حركته جنونية‪ .‬والغرب فيه ٌ‬
‫فمن أين تأيت ملريضنا القوة؟ أم هل ميكن ملريض ضعيف أن ينافس شياطني‬
‫الصناعة وعمالقة العقل املعاشي التنظيمي؟‬
‫وحلف الفضول واملروءة واحلوار ما يُشم منه‬ ‫لعل يف حديثك عن األخالق ِ‬
‫رائحة نوع من االستكانة وتغييب الفريضة اجلهادية؟‬
‫كيف تتحدث عن األخالق واملروءة واحلوار يف عامل ت ْل َه ُج الدول املسيطرة فيه‬
‫حبقوق اإلنسان لكنها خترقها؟ كيف احلوار واليهود يعيثون يف أرضنا ودمائنا فساداً؟‬

‫‪614‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫كيف احلوار يف عامل موازين ال ُقوى فيه هي احلاكمة‪ :‬موازين عسكرية اقتصادية‬
‫غري من هذه األخالقيات الرخوة اليت ال تؤمن هبا املكيافيلية فلسفةُ‬
‫متويلية ال غري؟ ال َ‬
‫يب‪ ،‬أن نتعامل‬
‫الدميقراطيات‪ .‬هل نستطيع بأخالقيتنـا ومروءتنا‪ ،‬ومها من الدين ال ر َ‬
‫مع هذا العامل؟ أيةُ أخالقية ميكن أن نعتمد عليها يف جماالت املعامالت االقتصادية‬
‫واالجتماعية والدبلوماسية يف عامل مادي صرف‪ ،‬مع جاهليني يف اخلارج ومغربني يف‬
‫الداخل؟‬
‫أية مروءة ميكن أن نستلهمها من النبوءة والوحي لنتصرف هبا يف عصر‬
‫الصناعة املتطورة والفضاء والذرة واإللكرتون؟‬
‫إن بدء العافية ومبـن القوة أن أعرف ما ِ‬
‫مرضي فأعاجلَهُ‪ ،‬وما عاهة الغرب‬ ‫َ َْ‬ ‫َّ َ‬
‫إن اخلروج ِم ْن دوامة إشكاليات الغرب وجدلية «درء الفتنة‬‫فأضعها يف حسايب‪َّ .‬‬‫َ‬
‫بالفتنة» أن أعرف ما موضوع احلوار‪ ،‬وما عند اآلخر من اقرتاح‪ ،‬وما عندي من‬
‫رسالة أنا مأمور بتبليغها للعاملني‪.‬‬
‫موضوع احلوار مع ال ُـمغََّرب املمتنع ومع اجلاهلي املسيطر هو‪ :‬هل تقوم يف دار‬
‫اإلسالم دولة القرآن املوحدة احلرة أم دويالت دميقراطية قومية وطنية‪ ،‬أم يدوم احلكم‬
‫السلطاين النفطي رفيق الغرب وخادمه؟‬
‫مرضى‪ .‬وبدءُ عافييت أن أعرف املرض ألجلس للحوار وأنا يف‬
‫واملتحاورون َ‬
‫أطوار العافية‪.‬‬
‫َعاهة ُمطلقة فيهم‪ ،‬داءٌ َعياء‪ ،‬مرض عُضال‪ .‬ذلك أهنم فقدوا القدرة على التعجب‬
‫يف َخ ْلق السماوات واألرض ويف خلق أنفسهم‪ .‬ال يسأل عقلهم املتأله من رفع وخفض‬
‫ونظم ووقَّت وصور وبرأ‪ .‬و َ‬
‫أخرى‪ ،‬وهي الثانية من خالل اجلاهلية بعد اجلهل باهلل وباليوم‬

‫‪615‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫اآلخر‪ ،‬هي العنف‪ .‬وثالثة هي تربج اجلاهلية‪ .‬ورابعة هي حكم اجلاهلية‪ ،‬إمنا حيكمون‬
‫هبوى اإلنسان الذي أصبح منذ «عصر األنوار» مركز الوجود يف خياهلم املسدود‪.‬‬

‫وخامسة بَرأوا منها أو كادوا‪ :‬التظا ُل بينهم‪ ،‬وضعوا له حدا‪ ،‬ونظموه بالقانونية‬
‫ب هبا وحياسبين اجلاهلي املسيطر على حقوق اإلنسان وهي‬
‫املغر ُ‬
‫الدميقراطية‪ ،‬يتحداين َّ‬
‫لينظر ما معي من االستعداد‪.‬‬
‫الغيور َ‬
‫مضموهنا‪ ،‬ويدعوين إىل احلوار حوهلا الوطين ُ‬
‫برأوا هم أو كادوا من مرض التظامل‪ ،‬وأنا األمةُ املأزومة املهزومة ال أزال أعاين‬
‫من موروث العض وطارئ اجلرب‪ .‬أنا األمة املأزومة املهزومة‪ ،‬أنا منها وهي مين‪ ،‬ال‬
‫غيض‪ ،‬ما دامت‬ ‫فيض ال ٌ‬ ‫أمل يل يف الشفاء من عُضال األمراض‪ ،‬وهي عندي ٌ‬ ‫َ‬
‫ت‬
‫تنخر يف كياين ال أدري مب أعاجلها‪ .‬بالدميقراطية اللربالية وقد َجَّربْ ُ‬
‫«أم الفنت» َ‬
‫الفشل أفظع؟‬ ‫ت‪ ،‬أم باالشرتاكية الثورية القومية وقد جربت فكان‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ففش ْل ُ‬
‫أنفسهم وفتح عليهم أبواب كل‬ ‫هم عمالقة العقالنية‪ ،‬نَ ُسوا اهلل فأنساهم َ‬
‫شيء‪ .‬وأنا األمة املهزومة املأزومة‪ ،‬منها أنا وإليها ال خارجا عنها وال فوقها وال‬
‫موعود ِبمل الرسالة‪ ،‬لكن عاجز عنها قاعد‪ ،‬مطعون‬ ‫ٌ‬ ‫إيل‬
‫شار َّ‬
‫ىن من علتها‪ُ ،‬م ٌ‬
‫مستثْ ً‬
‫صفر يف التنظيم‪.‬‬
‫صفر يف القوة‪ٌ ،‬‬
‫صفر يف التكنولوجيا والعلوم‪ٌ ،‬‬ ‫كليل الفكر‪ٌ ،‬‬
‫الكرامة‪ُ ،‬‬
‫ضى‪ .‬الدميقراطية حصيلة نضال اإلنسانية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫عن الدميقراطية نتحاور حو َار َم ْر َ‬
‫علي حمققة‪ ،‬أنا‬
‫هلوى احلاكم‪ .‬وتلك مزيَّة هلم َّ‬
‫أخرجتهم من العبودية للعباد ال ينقادون َ‬
‫شطر ما به ابتعثنا اهلل تعاىل‪:‬‬
‫الذي ال أزال أرزح حتت «دين االنقياد»‪ .‬الدميقراطية هدفُها ُ‬

‫‪616‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وبقيت أنا َم ْوهوقاً‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أن خنرج الناس من العبودية للعباد‪ .‬وها هم قد خرجوا بالدميقراطية‬
‫والشطر الثاين ال يعرفون له معىن‪ ،‬الشطر الثاين مما ابتعثنا اهلل تعاىل به هو أن ِ‬
‫ندخ َل‬
‫الناس للعبودية هلل وحده ال شريك له‪ .‬فهم يف دميقراطيتهم عبيد اهلوى‪.‬‬

‫وصيِن بعد مروره من مدرسة الغرب وتبنيه‬


‫إن احلكم العاض قطع أوصايل‪َّ ،‬‬
‫للشكليات العصرية مواطنا مشدودا إىل «الوحدة الرتابية»‪ .‬الدستور الشكلي يقول‬
‫يف فصله السادس‪ :‬اإلسالم دين الدولة‪ .‬ويقول يف فصله السابع‪ :‬شعار الدولة‪ :‬اهلل‪،‬‬
‫الوطن‪ ،‬امللك‪ .‬ثالوث‪ .‬أيف اإلسـالم أنا أم يف الشرك؟ الدميقراطية على األقل واضحة‪،‬‬
‫وال تقول كما يقول الدستور السلطاين‪ :‬كلمة امللك وتوجيهه قانون ال يناقش‪.‬‬

‫أي «بركان غضب» يذيب من حويل األغالل؟ أم أية أخـالق ومروءة ومرونة‬
‫ُّ‬
‫عد ِّوي األول‪ ،‬وتشفيين من عليت العظمى؟‬
‫تستـنقذين من براثني ُ‬
‫اطن رعيةٌ‪ ،‬ال حق يل إال يف الطاعة‬
‫أعطَْوين ورقة جنسية ومواطنة امسية‪ ،‬فأنا مو ٌ‬
‫ْ‬
‫العمياء والتصفيق للقائد امللهم‪ .‬والدميقراطية إن أوصلين إليها بركان الغضب أو‬
‫إيل النداء العاملي حلقوق اإلنسان تعطيـين وتأسو جراح كراميت املطعونة‪.‬‬
‫أوصلها َّ‬
‫املطوي على عاهة الكفر من أخذ يتماثل للشفاء من العلل املروئية‬
‫َّ‬ ‫إن يف الغرب‬
‫ويدعو إىل الدفاع عن القيم اإلنسانية‪ .‬وما يدعوين للحوار مع املروءة هو وجود هذه‬
‫املروءة بالفعـل‪ .‬هي موجـودة يف بالد اجلاهلية ويف بالد املسلمني‪ .‬تتمثل يف شعار حقوق‬
‫اإلنسان ويف ما أصبح يُعرف باجلمعيات غري احلكومية‪ .‬حروف ج غ ح علَ ٌم على شيء‬
‫موجـود حي‪ ،‬علَم على ضمري الغرب يستيقظ‪ .‬إنكانت احلكومات ال تعرف إال املصلحة‬

‫‪617‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫واملاكيافيلية يف التعامل الدويل‪ ،‬فإن ج غ ح يرعاها أشخاص يستقذرون السياسة‬
‫وخيدمون بالفعل قضايا اإلنسانية‪ .‬من اجلهل واملرض أن ُنفـي هذا على‬
‫والساسة‪ُ ،‬‬
‫املنصرين‪.‬‬
‫أنفسنا‪ ،‬أو أن يشتبهُ علينا عمل ج غ ح بأشغال الرهبان ِّ‬
‫مثل «منظمة العفو‬
‫ومنظمات ُ‬
‫ُ‬ ‫يص َدعُ أمساع العامل‪،‬‬
‫نداء حقوق اإلنسان ْ‬
‫صدى يف ديارنا بني ذوي املروآت‪ .‬فمع مثل‬
‫الدويل» أو «أطباء بال حدود» جتد هلا ً‬
‫هؤالء حو ُارنا‪.‬‬
‫صدى يتعاظم حىت يف بالد ما كان‬ ‫ً‬ ‫ويد نداء األخالق وحقوق اإلنسان‬ ‫َ‬
‫االحتاد السوفيايت‪ .‬خاطب الزعيم جرباتشوف يوم ‪ 6‬ينـاير ‪ 1989‬شخصيات علمية‬ ‫َ‬
‫أسست منذ أقل من عام‪ .‬لكن كانت‬ ‫ثقافية فقال‪« :‬إن مجعية اإلحسان إىل الضعفاء ِّ‬
‫لنا قبل ذلك إمكانيَّة االقتناع بأننا مشتاقون للتعاطف‪ ،‬وأننا ملَْلنا العيش يف جو‬
‫اجتمعت طوائف من الناس‬
‫ْ‬ ‫عقيم يسوده عدم االكرتاث والقسـوةُ واألنانيةُ والكربياءُ‪.‬‬
‫هلم رغبة يف تأسيس مجعيات إحسانية يف كل املدن الكربى يف االحتاد السوفيايت‪ .‬ال‬
‫نتحدث إال قليال عن هذه املبادرات‪ ،‬وال نريد أن نقول عنها الكثري ألهنا حركة فاضلة‬
‫جدا وال حتب اإلشهار‪.‬‬
‫قال‪« :‬ليست هذه املبادرات اندفاعا أخالقيا حمضا‪ ،‬لكنها ظاهرة اجتماعية‬
‫مهمة جدا يف زماننا ويف جمتمعنا املعاصر الذي حيتاج إىل ق ْدر كبري من لطافة‬
‫األخالق‪ .‬ونقصنا يف جمال اإلحسان يكشف عن هذه احلاجة‪ .‬لقد تراكم كثري من‬
‫الشـر والظلم‪ ،‬وإن حالة الصراع الدائم العام يف كل شيء ومن أجل كل شيء‪ ،‬هذا‬
‫الصراع يف كل االجتاهات وعلى كل املستويات‪ ،‬يعرض أخالق الناس للتلف»‪.‬‬

‫‪618‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أالَ فاعجبوا للماركسيـني املأزومني املنهزمني يتحدثون عن اإلحسان واألخالق‬
‫والشر والظلم! ربنا ال تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رمحة‪ .‬إنك أنت‬
‫الوهاب‪.‬‬

‫‪619‬‬
‫الفصل السادس‬
‫ميثاق «مجاعة املسلمني»‬
‫* العنف أو التفاهم؟‬
‫* الدين واملروءة‬
‫* حتميل الرسالة‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫العنف أو التفاهم؟‬
‫فقه القطيعة الذي يقسم العامل إىل دار إسالم ودار حرب نشأ حتت ظل حكم‬
‫السيف والتطاحن بني إمارات مستولية بعضها يف صـراع مع بعض‪ ،‬وبينها وبني عدو‬
‫حميط صراعات‪:‬تارة هو مع «أحكام املسلمني وأماهنم»‪ ،‬وتارة هو مع األمان دون‬
‫األحكام‪.‬‬
‫ونشأ يف عصرنا فقه التكفري واهلجرة يف سجـون عبد الناصر من حمنة‬
‫اإلخوان املسلمني واجتهاد بعض الدعاة الذين تشددوا يف استعـالئهم على‬
‫االجتهاد فقلد‬
‫َ‬ ‫االستشهاد‬
‫ُ‬ ‫اجلاهلية ومفاصلتهم معها على مدى النكبة‪ ،‬حىت توج‬
‫الالحقون السابقني‪ ،‬ومل يروا يف العامل إال جاهلية وإسالما بينهما خط فاصل‬
‫واضح‪ .‬مل يروا شيئا من ظـالل الفتنة واشتباك اجلاهلية باإلسالم وارتباكِه هبا‪.‬‬
‫حرر من هذا‬‫اإلسالمي‪ ،‬وينبغي أن نـَتَ ّ‬
‫ّ‬ ‫فقه القطيعة هذا خييم على العقل‬
‫لنؤسس على قواعد التبليغ النبوي وحنمل للناس الدعوة يف أسواقهم‬
‫الفقه التارخيي َ‬
‫ومنتدياهتم وقبائلهم وبواديهم وحواضرهم كما كان يفعل حممد صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫فقهنا عندئذ يقسم العامل إىل أمة استجابة هم املسلمون اليوم‪ ،‬وإىل أمة دعوة‬
‫هم سائر الناس واألجناس‪ .‬املسلمون اليوم فيهم الفتنة ِ‬
‫ناشبة‪ ،‬والكافرون اليوم لعل‬
‫أشد الناس ِعداء «هلذا الشأن حىت ي َق َع فيه»‪ .‬بيننا وبني هؤالء املروءة والرجاء‬ ‫منهم َّ‬
‫أن يهدي اهلل ربنا بنا رجال واحدا أو امرأة‪.‬‬

‫‪623‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أكثر مما هي غائبة فريضة اجلهاد؟ ال‪ ،‬وإمنا معناه أن‬
‫هل معىن هذا أن نغيِّب َ‬
‫الذي أمرنا باجلهاد أمرنا قبله بإعداد القوة إعداداً طويال‪ ،‬علمنا باملِثال واملقال أن‬
‫اجلهاد أصناف أوهلا الدعوة والتبليغ واحلكمة واملوعظة احلسنة وجمادلة الناس باليت‬
‫هي أحسن‪.‬‬

‫حوار بني فريقني من املرضى‪ ،‬بيننا وبني الفضالء املثقفني‪ .‬نستمع إليهم‬
‫لنعرف ماذا يريدون وملاذا؟ كيف ينظرون إىل اإلسالميني ومم خيشون؟‬

‫خيشون من عنف اإلسالميـني‪ ،‬ويرون العنف السياسي «إحدى الظواهر‬


‫املرضية للحياة السياسية العربية‪ ،‬ألننا نرى أهنا هتدد بتفجري اجملتمع العريب‪ ،‬األمر‬
‫الذي يؤثر يف مستقبل األمة العربية تأثريا سلبيا»‪ .‬هكذا كتب أحد الفضالء‪ ،‬وحنن‬
‫نوافقه‪ ،‬وهذا أول احلوار‪.‬‬

‫ويعترب الفاضل املثقف حممد سعيد أبو عامود أن اجليش واإلسالميني مها مصدر‬
‫اخلطر والعنف يف احلياة السياسية العربية‪ .‬ويكتب‪« :‬القـوة الوحيدة املؤهلة للقيام هبذا‬
‫الدور [الوصول للحكم عن طريق العنف] هي مجاعات اإلسالم السياسي‪ .‬وذلك حبكم‬
‫توافر عناصر القوة الالزمة للقيام هبذا الدور لديها يف الواقع املعاصر‪ .‬ويثور التساؤل عما‬
‫ميكن أن حيدث يف حالة حتقق هذا‪ ،‬هل سيرتاجع وينتهي العنف السياسي يف اجملتمع‬
‫العـريب أم سيتصاعد؟ التجربة اإليرانية تؤكد تصاعد العنف مع وصول آيات اهلل إىل‬
‫السلطة‪ .‬والتجربة السودانية تقدم منوذجاً يـَُؤكد هذا‪ ،‬وإن كانت أقل عنفا من التجربة‬
‫اإليرانية‪ِ .‬ومن َث فوصول قُوى اإلسالم إىل السلطة من شـأنه أن يؤدي إىل تصاعد العنف‬

‫‪624‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ـات الفكرية هلذه اجلماعات‪ ،‬وسلوُكها‬
‫السياسي يف اجملتمع‪ .‬تؤكد هذا األطروح ُ‬
‫السياسي جتاه من خيتلفـون معها يف الرأي»‪ 1 .‬انتهى كالمه‪.‬‬

‫ويعرتف الفضالء املثقفون بافتقار حاملي الفكر املغرب إىل الشعبية اليت‬
‫العرب القوميني‬
‫َ‬ ‫تفوت الفرصةُ‬
‫يتمتع هبا اإلسالميون‪ ،‬كما يُبدون خشيتهم أن َ‬
‫واإلسالميني‪ ،‬فال يستطيعون دعم الدميقراطية القومية بالشعبية اإلسالمية‪ ،‬وال‬
‫تتويج الشعبية اإلسالمية بالدميقراطية القومية‪ .‬فهم َيُدُّون إلينا بدعوة لتكوين جبهة‬
‫املقصود منها املعلَ ُـن أن يركبـوا املوجة اإلسالمية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫املقصود منها‪.‬‬
‫َ‬ ‫دميقراطية ال ُيفون‬
‫مقصود معلَن ملن يقرأ الكالم اإلديولوجي األكادميي بني السطور‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ال أقل وال أكثر‪.‬‬
‫والتعبري بركوب املوجة منا‪ ،‬ولعله جفـوة وحنن يف بداية احلوار‪ ،‬لكنه وضوح ضروري‪.‬‬

‫يكتب الفاضل املثقف املدبر وحيد عبد اجمليد يف نفس اجمللة‪« :‬وهنا يربز‬
‫السؤال املهم‪ :‬هل يوجد تنظيم سياسي أو نقايب يف أحد األقطار العربية ميكن له‬
‫القيام هبذا الدور؟ [حتويل احلركة الشعبية إىل حركة اجتماعية واسعة متثل املسألةُ‬
‫األساسي]‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حمورها‬
‫الدميقراطيَّةُ َ‬
‫ويسرع فيجيب الفاضل‪« :‬اإلجابة السريعة هي بالنفي رغم ما يقـوم به التيار القومي‬
‫العريب منذ بداية الثمانينات من جهد مكثف يف جمـال الدعوة الدميقراطية‪ .‬لكن ال يزال‬
‫هذا التيار بعيدا عن التغلغل يف اجملتمع كغـريه من التيارات‪ .‬باستثناء التيار اإلسالمي يف‬
‫بعض األقطـار‪ .‬ولذلك فإن هذا التيار هو الوحيد اآلن يف الوطن العريب‪ ،‬إذ أنه ميتلك‬

‫‪ 1‬جملة «املستقبل العريب» عدد ‪ 140‬بتاريخ ‪.10/1990‬‬

‫‪625‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫مقـومات تشكيل حركة اجتماعية واسعة بالنظـر إىل تغلغله يف اجملتمع وقدرته على‬
‫الوصول إىل الناس يف كل مكان»‪.‬‬
‫لكن مشكلة هذا التيار‬
‫قال‪« :‬ومن َث ميكن له أن يكو َن نواة جلبهة دميقراطية‪َّ .‬‬
‫[أقول‪ :‬بل مشكلتكم] أنه ال يتبىن الدعوة الدميقراطية مبفهومها احلديث العاملي‪ ،‬وإ ْن‬
‫كانت قطاعات‪ ،‬داخلَة‪ ،‬مل تعُد بعيدة عن هذا املفهوم كما يتضح من مناقشات‬
‫ندوة «احلوار القومي الديين» اليت عقدها مركز دراسات الوحدة العربية عام ‪.»1989‬‬
‫وغري مؤثرة يف التوجه العام للتيار‬
‫قال‪« :‬لكن هذه القطاعات ال تزال هامشية َ‬
‫اإلسالمي‪ .‬وهو توجه بعيد عن الدميقراطية إن مل يكن معادياً هلا يف بعض احلاالت‪.‬‬
‫ولذلك فالواضح أن كثريا من ممارسات هذا التيار ال يزال عائقا أمام إقامة جبهة‬
‫دميقراطية ذات ثقل»‪.‬‬
‫قال‪« :‬اجلبهة مع هذا التيار ال ميكن أن تكون دميقراطية‪ ،‬واجلبهة من دونه ال‬
‫ص َّوُر أن تكون شعبية‪ .‬ولِذا فإحدى القضايا الرئيسية اليت ينبغي حبثها جديا هي‬ ‫يـُتَ َ‬
‫قضية موقف التيار اإلسالمي يف الوطن العريب من املسـألة الدميقراطية‪ ،‬وكيفية التأثري‬
‫يف هذا املوقف بشكل يتيح ظروفا أفضل للسعي إىل بناء حركة اجتماعية من أجل‬
‫الدميقراطية»‪ 1 .‬انتهى كالمه‪.‬‬
‫قضية عند الفضالء رئيسية أن يعرفوا موقف اإلسالميني من الدميقراطية‪ .‬وقضية عملية‬
‫أن يتخذوا من اإلسالميني «نواة» شعبية من ال َف َعلة يف صف َجبهة يقودوهنا هم إىل غاية‬

‫‪ 1‬عدد ‪ 138‬بتاريخ ‪.8/1990‬‬

‫‪626‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫«الدميقراطية العاملية»‪ ،‬يقدرون هم مبا معهم من فضل املعرفة بالفكر الغريب أن يقودوا‬
‫اجلبهة إىل تشكيل حركة اجتماعية واسعة هلا ثقل‪.‬‬

‫وقضيتنا حنن مصريية‪ .‬حنن نطلب اإلسالم ال الدميقـراطية‪ .‬ليكن هذا واضحا‪.‬‬
‫وما يف الدميقراطية من دروس يف تنظيم اخلالف وترتيب تعددية اآلراء يف نظام تعددية‬
‫األحزاب إىل سائر ما متخضت عنه جتارب أوربا من دراية يف هذا اجملال شيء ال‬
‫ننكره وال نرفضهُ‪ .‬الدميقراطية يف بعض أهدافها شطـر مما بُعثنا به‪ .‬بُعثنا لنخرج الناس‬
‫من عبادة العباد إىل عبادة اهلل تعاىل‪ .‬فإذا كانت الدميقراطية تضع حدا للتسلط على‬
‫لكن الشطر اإلجيايب‪،‬‬
‫العباد فنحن‪َ ،‬هبَّةً واحد ًة‪ ،‬مع كل ذي دين ومروءة لنقول نعم‪َّ .‬‬
‫ما يأيت بعد َس ْلب التسلط ونقض بنيانه‪ ،‬أمر ال تفي به الدميقراطية وال تعرفه‪.‬‬

‫قضيتنا حنن قضية مصريية يرتبط فيها خالص األمة من حمنتها التارخيية خبالص‬
‫اإلنسان من جهل من خلقه وجهل ما هو صائر إليه من الشأن العظيم شأن اآلخرة‪.‬‬
‫‪-‬معشَر الفضالء املثقفني‪ -‬جلبهة دميقراطية نكون فيها النواة الشعبية‬
‫َ‬ ‫فإذا دعومتونا‬
‫ال َـمسوقة فنحن ندعوكم إىل مراجعة أصولكم الثقافية ذات النـزعة التوفيقية املرتبكة‬
‫يف معضلة اجلمع بني األصالة واملعاصرة‪.‬‬

‫حتاولون لف اإلسالميني الشعبيني‪ ،‬وهم القوة «الوحيدة» بشهادتكم‪ ،‬يف مشروع‬


‫أسئلتُه من هناك وأجوبته ملفقة مما أعطته العامليـة الدميقراطية ومما تطمحون إليه من تسيرينا‬
‫يف قافلة اللحاق بذلك الركب السائر يف التيه‪ .‬ومىتكنا جبنبكم‪ ،‬نواه شعبية ُم َو َّجهة‪ ،‬فقد‬

‫‪627‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫اكتملت لكم بالقوة العضلية اإلسالمية مقومات احلركة السياسية اليت خترجكم من‬
‫عزلتكم وتعيدكم من منفاكم!‬

‫املتوقَّ ِع يف ظروف‬
‫مشروعنا أيها األعزاء أن تدخلوا امليدا َن على شرطنا‪ .‬من َ‬
‫نسري معكم‬
‫هذا القطر أو ذاك‪ ،‬ويف مرحلة من مراحل منو احلركة اإلسـالمية‪ ،‬أن َ‬
‫لكن هدفَنا هو أن نصارح‪ ،‬حنن وأنتم‪،‬‬
‫شوطا بشروطكم التعددية الدميقراطية‪َّ .‬‬
‫وتنوون‪ ،‬وأن خنرجه من «دين االنقيـاد» الذي عاش عليه قرونا‪،‬‬ ‫الشعب مبا ننوي ُ‬
‫وأن نوقظه من َو َس ِن «الذهنية الرعوية» اليت طبعتهـا عليه تقاليد االستسالم و«البعد‬
‫عما ال يعين»‪ ،‬لكي يفهم وخيتار ويشارك ويفعل‪ .‬ال يكو ُن مفعوال‪ .‬ال يكون رهينة‬
‫بيننا وبينكم‪ .‬وأين أنتم عافاكم اهلل من أن يستمع إليكم الشعب وأنتم يف أبراجكم‬
‫العاجية متضغون الكالم اإلديولوجي؟‬

‫ندعوكم أن تدخلوا معنا امليدان على شرطنا وهو شرط اإلسالم‪ .‬هذه هي‬
‫يزور‬
‫الوسيلة الوحيدة للتفاهم‪ ،‬حىت ال تكون فتنة ويكو َن الدين كلـه هلل‪ .‬حىت ال َ‬
‫بوعنا‪ .‬والعنف باسط جناحيه يف أفق الفشل الذريع الذي جره على‬
‫هاجس العنف ر َ‬
‫األمة تنازعكم ما بني لرباليني ميينيني وقوميني يسـاريني اشرتاكيني وحدويني‪ .‬وال حنب‬
‫العنف وال نقول به‪ .‬ونعوذ باهلل العلي العظيم من خصلة العنف وهي ملمح من‬
‫مالمح اجلاهلية‪ ،‬والزمة من لوازمها‪ ،‬ومعىن من معانيها‪.‬‬
‫لكيال تكو َن فتنة ويكو َن الدين كله هلل ندعوكم إىل ميثاق نطرحـُه على األمة‬
‫للنقاش الواسع‪ ،‬تقبله األمة أو ترفضـُه‪ ،‬تدخلون فيه أنتم معنا أو نرتككم أحرارا يف‬

‫‪628‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫انقساماتكم‪ .‬هذا امليثاق يقرتح على األمة أن يكو َن هلا‪ ،‬أن يكو َن منها‪ ،‬قاعدة‬
‫سياسية متعددة التنظيمات احلزبية والنقابية واملهنية إخل‪ .‬قاعدة تسمى «مجاعة‬
‫املسلمني» تكون لنا فيها رابطتنا اإلسـالمية تضم تنظيمات اإلسالميني يف جبهة‬
‫إسالمية‪ ،‬وتكون لكم فيها ومبقتضى ميثاقها وبالتزامكم ببُنوده أحزابُكم وتنظيماتكم‪.‬‬
‫ورمبا ت ْدعونا الضرورةُ وتدعوكم يوما لتشكيل حكومة « ِوفاق وطين» نعمل فيه حنن‬
‫وأنتم جنبا إىل جنب‪ ،‬وحنمل معا عبء احلِمل الثقيل املوروث مما أفسده السلطان‬
‫العاض واجلربي ومما أفسدمت‪ .‬نعمل حنن وأنتم وحنمل ونصلح على بساط املروءة ويف‬
‫ظل امليثاق‪.‬‬
‫أو ختتارون عدم الدخول يف ميثاق «مجاعة املسلمني»‪ .‬وذلك إليكم‪ ،‬ال‬
‫ختشون منا عنفاً‪ .‬شرطنا الوحيد أن تعلنوا رفضكـم لذلك امليثاق‪،‬‬
‫ضارون فيه وال ْ‬‫تُ ُّ‬
‫ك من هلك عن بينه وحيىي من حيي عن بينة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وأن تنتقدوه ليعرف الشعب‪ ،‬وليهل َ‬
‫وإن اهلل لسميع عليم‪.‬‬

‫‪629‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫الدين واملروءة‬

‫الظن‬
‫ال نريد أن نشك وال أن نشكك يف مروءة الفضالء املثقفني‪ ،‬وبعض ّ‬
‫إمث‪ .‬كيف ومنهم مناضلون شجعان يف صف املدافعني عن حقوق اإلنسان! لكننا‬
‫نرتاب عندما نرى صلة بعضهم باملارقني امللحدين‪ ،‬ونرفض أن نكون هلم قاعدة‬
‫ض ُّارون معاش َـر النظراء يف املروءة‪ ،‬وال ختشوا‬
‫جلبهة تسري باملسلمني يف درب التيه‪ .‬الَ تُ َ‬
‫وعرامةُ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ىب َتُُّر‪َ ،‬‬
‫تكب‪ ،‬ووعكة ص ً‬ ‫من عنف اإلسالميـني‪ ،‬فعنف البدايات شَّرة طفولة ُ‬
‫السياسي‬
‫ّ‬ ‫اليأس‬
‫اليأس يف عزلتكم عن الشعب‪َ ،‬ع َّل َ‬ ‫شباب طافح‪ .‬يكفيكم عنفا ُ‬
‫يوقظ فيكم ما ّنوَمْتهُ الشمولية الثقافية اليت احتلت منكم النخاع‪.‬‬
‫إننا أيها الفضالء َنُُّد إليكم اجلسور بالنية املبيتة أن تعربوا إلينا‪ ،‬وأن تركبوا‬
‫سفينة نوح وتسريوا يف قافلة إبراهيم وموسى وعيسى وحممد صلوات اهلل وسالمه‬
‫عليهم‪.‬‬
‫إشكاليتكم ومهُّ ُكم‪ :‬كيف تتكون حتتَ ُكم حركة اجتماعية شعبية واسعة ِ‬
‫حتمل‬
‫ائح مع النبيئني واملرسلني‪ :‬كيف نلقى‬
‫كب الغـادي الر ُ‬
‫الدميقـراطية؟ مهُّنا وسؤالنا حنن الر ُ‬
‫حنن؟ سؤالنا‪:‬‬
‫اض‪ ،‬وكيف حتمل األمة رسالة اهلل‪ ،‬كيف ُنَ ِّملُها ُ‬ ‫اهلل ربَّنا وهو عنا ر ٍ‬
‫نش ِّك ُل قوًة اقتحامية جماهدة‬
‫كيف يقتحم العبد العقبة إىل اهلل عز وجل‪ ،‬وكيف َ‬
‫لنُحشر مع اجملاهدين؟‬

‫‪630‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫نتفق معكم على أن ال خالص لألمة إال بإشراك قاعدة عريضة يف الزحف‪.‬‬
‫أبصاركم القوميةَ العربيَّةَ بينما حنن ال نستطيع‪ ،‬وال‬
‫ُ‬ ‫ونفرتق يف أنكم ال تَعدو‬
‫بعد خيْ ِرق‬
‫وبصرنا ُ‬
‫ندري‪ ،‬وال جيوز يف شرعنا‪ ،‬أن نفكر فيما دون أمة االستجابة‪ُ ،‬‬
‫اآلمال إىل أمة الدعوة‪ .‬نفرتق معكم يف أنكم تريدوهنا دميقراطيَّةً وثورة‪ ،‬ونريدها‬
‫حنن قومة وجهادا وشورى‪ .‬فلنجلس معا أمام املسلمني ليبني كلٌّ ما معىن اجلهاد‬
‫والشورى والدين عنده‪.‬‬
‫أنتم تركزون على نوعيَّة النظام‪ ،‬فوقع اختياركم على النظام الدميقراطي‪ .‬فنقول‪:‬‬
‫نظامه يف احلكم يسمى خالفة وشورى‪.‬‬ ‫يف هذا حوار ممكن معكم‪ .‬لكننا لنا دين ُ‬
‫ويملون الدعوة‪ ،‬ويقومون‬
‫ونركز على نوعيَّة الرجال الذين يُ َك ِّونون القاعدة العريضة‪َْ ،‬‬
‫َ‬
‫بأمانة اخلالفة وأعباء الشورى‪.‬‬
‫ما ترمسونه «حركة اجتماعية شعبية واسعة» وترجونه هو بالفعل موجود‪ ،‬هو‬
‫الدين وحلمتُها املروءة‪ .‬والنَّسيج أصابه مع القرون‬
‫األمة اإلسالمية‪َ ،‬س َدى كينونتها ُ‬
‫الوالية اليت كانت رابطته أصاهبا احنالل‪ .‬لكن العالج بيدنا نـَْعتُه‪ ،‬ومعرفتنا‬
‫وهن‪ .‬و َ‬
‫ْ‬
‫مبواطن الداء نِصف العالج‪.‬‬
‫نتفق معكم على أن كل حديث عن التغيري َه َذٌر بدون قاعدة يتفق عليها‬
‫السواد األعظم‪ ،‬وينهض إلخراجها من َحيِّ ِز األمل إىل حيِّـز التطبيق‪ .‬لكن خنتلف‬
‫يف أنكم تُنيطون مهمتكم التارخيية مبروآت تسمى الوطنية والدميقراطية والسياق‪،‬‬
‫وحنن ننيطها مبؤمنني ومؤمنات تابوا إىل اهلل توبة نصوحـا فتأهلوا حلمل القرآن‪ .‬من‬
‫مجلة مؤهالهتم وضرورياهتا املروءة‪ .‬مروءة يطبعها الدين بطابع ال َقبول عند اهلل امللك‬
‫ِ‬
‫الديان‪.‬‬

‫‪631‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫من موقع‬ ‫ِ‬
‫ب اجلُسور ْ‬ ‫ولكيال حتسبوا أننا يف هذا الزمان نطلب احلوار وننص ُ‬
‫لنجد بأي مثن أعوانا لنا وحنن على و ْشك أن نُ ْد ِخل يدنا يف العجني‪،‬‬ ‫االضطرار َ‬
‫نقرأ معكم مواصفات الرجولة اليت نطمح أن ينبتها اهلل امللك الوهاب ِ‬
‫لتحمل‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الرسالة‪ ،‬ونقرأ معكم شروط الوضوح‪ ،‬وعزة التميُّز‪ ،‬يف كلمات لرجلني من رجال‬
‫مطمحهم‪ ،‬وشروطُنا شرطهم‪ ،‬ألنه مطمح اإلميان وشرط‬ ‫ُ‬ ‫مطمحنا‬
‫ُ‬ ‫اجلهاد يف عصرنا‪.‬‬
‫اإلحسان‪ .‬مطمحنا وشرطنا الدين الوثيق واملروءة العالية‪.‬‬
‫كتب األستاذ أبو األعلى املودودي رمحه اهلل يف كتاب «نظرية اإلسالم‬
‫ِ‬
‫ب تربية‬ ‫وهديُه» ما يلي‪« :‬وباجلملة‪ ،‬فإن ُك َّل من أُع َّد إلدارة الدولة الالَّدينية‪ُ ،‬‬
‫ورَّ‬
‫خلقية وفكرية مالئمة لطبيعتها‪ ،‬ال يصلح لشيء من أمر الدولة اإلسالمية‪ .‬فإهنا [أي‬
‫ومجيع‬
‫كل أجزاء حياهتا االجتماعية‪ُ ،‬‬ ‫الدولة اإلسالميـة] تتطلب وتقتضي أن يكو َن ُّ‬
‫مقـومات بِنيتها اإلدارية من الرعية واملْنتخبني والنواب واملوظفني والقضاة واحلكام‬
‫ف الدوائر واملصاحل‪ ،‬من الطراز اخلاص‬ ‫وقواد العساكر والوزراء والسفراء ونُظّار خمتلِ ِ‬
‫واملنهاج الفذ املبتكر»‪.‬‬
‫بس ِجيَّتِها رجاال َي َش ْو َن‬
‫قال رمحه اهلل‪« :‬وهي [أي الدولة اإلسالمية] تـتطلب َ‬
‫الضرر اخلُلُقيّان‬
‫النفع و ُ‬ ‫اهلل وخيافو َن حسابه‪ ،‬ويُؤثرون اآلخرة على احلياة الدنيا‪ .‬و ُ‬
‫ِ‬
‫الالحق يف احلياة‬ ‫أرجح كِ َّفةً من النفع العاجل والضرِر‬
‫أثقل يف امليزان و ُ‬
‫عندهم ُ‬
‫العاجلة‪ .‬وهم ُيسكون يف كل حال مبا وضع اهلل من دستور ومبا سن هلم من منهاج‬
‫للعمل لألبد»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه عبارة ْأمسـِ ُكوها أيضا أيها الفضالء‪ ،‬ولعل صيا َغتَها‬
‫تــناسب مدارككم‪ .‬أمسكوا أن دستورية القرآن الكرمي وأبدية شرع اهلل العزيز‬

‫‪632‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫احلميد مها الركيزة والقاعدة‪ .‬وأن سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هي املنهاج ال‬
‫قاعدة دستورية القرآن وأبدية الشرع املقدس ومنهاجية السنة‬ ‫منهاج لنا غريه‪ .‬وعلى ِ‬
‫اجملال الواسع لالجتهاد كي نُ َسلِّ َم العصر ال لكي نطور اإلسالم‪.‬‬
‫وحرمة اإلمجاع لنا ُ‬
‫ُ‬
‫من سجن إشكاليتكم املستوردة الدائرة يف احللقة املفرغة واجلدلية العقيمة بني التطور‬
‫واجلمود‪ ،‬والنهضة والقعود‪ ،‬واحلداثة واألصالة‪ ،‬نناديكم لتخرجوا إىل فضاء اإلميان‬
‫باهلل وباليوم اآلخر‪ .‬وستجدون أن يف كتاب اهلل وسنة رسوله وفقه شرعه وما أصله‬
‫السلف الصاحل من قواعد وما تتأهل له الرجولة الناشئة‪-‬أنبتها اهلل نباتا حسنا‪ -‬جماالً‬
‫لرتتيب حياة اإلنسان هنا الرتتيب البديع مع نيل رضى اهلل عز وجل هناك يف يوم‬
‫ال ريب فيه‪.‬‬
‫يسع ْو َن دائما‬
‫قال املودودي رمحه اهلل يصف رجال الدولة اإلسـالمية‪« :‬وهم َ‬
‫وراء ابتغاء مرضاة اهلل‪ ،‬ومل يتخـذوا من أغراضهم القومية والشخصية والشهوات‬
‫سلطاناً على أنفسهم‪ .‬وطهروا أنفسهم من ِض ِيق النظر والتعصب األعمى‪ .‬وال‬
‫تأخذهم ن ْشوة الكربياء إذا آتاهم اهلل نصيبا من امللك والسلطان‪ .‬وال َيُّدون أعينهم‬
‫إىل زهرة احلياة الدنيا‪ .‬وليسوا جوعى إىل الثـروة واجلاه‪ .‬وإذا امتلكوا خزائن األرض‬
‫وقض ْوا‬
‫حرموا النوم على أنفسهم‪َ ،‬‬ ‫ت إليهم مقاليد األمر َّ‬‫كانوا أمناء بـََررة‪ .‬وإذا أُلقيَ ْ‬
‫الليايل ساهرين ُحـراسا لتكون الرعية يف َمأمن على أنفسها وأمواهلا وأعراضها»‪.‬‬
‫هذه كلمة املـودودي رمحه اهلل تركها شهـاد ًة ملن يأتون بعده وقد استخلفهم‬
‫اهلل رب العزة يف األرض‪ .‬وترك سيـد قطب رمحه اهلل يف كتاب «معامل يف الطريق»‬
‫شهادته يف شرط الوضوح والتميُّ ِز‪ .‬جتاذبته رمحه اهلل داعيةُ التميز تارة فركز على‬

‫‪633‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫جلاهلية‬ ‫صيَ ٍة‬
‫فمد اجلسور‪ .‬وكتاباته بني تـ ْق ِ‬
‫َ‬ ‫«املفاصلة»‪ ،‬وعادت به رأفة الدعوة َّ‬
‫شدت اخلناق على الرقاب‪ ،‬وبني فرحة شاخمة باهلداية للصـراط املستقيم‪ .‬قاهلا‬
‫مدوية ورحل إىل رمحة اهلل ورضاه‪ .‬نرجو ذلك له ولنا‪.‬‬

‫ت على‬
‫س إليهم باإلسالم تدسسـا‪ .‬ولن نـَُربِّ َ‬
‫نتدس َ‬
‫قال رمحه اهلل‪« :‬لن َّ‬
‫شهواهتم وتصوراهتم املنحرفة‪ .‬سنكون صرحاءَ معهم غـاية الصراحة‪ :‬هذه‬
‫س‪ ،‬واهلل يريد أن يطهركم‪ .‬هذه األوضاع اليت أنتم‬ ‫اجلاهلية اليت أنتم فيها َنَ ٌ‬
‫ث‪ ،‬واهلل يريد أن يُطيِّبكم‪ .‬هذه احلياة اليت َتيـَْوهنا ُدو ٌن‪ ،‬واهلل يريد أن‬
‫فيها َخبَ ٌ‬
‫يرفعكم‪ .‬هذا الذي أنتم فيه ِشقوة وبُؤس ونَ َكد‪ ،‬واهلل يريد أن خيفف عنكم‬
‫ويرمحكم ويُسعدكم [‪.]...‬‬

‫قال رمحه اهلل‪« :‬هكذا ينبغي أن خناطب الناس وحنن نقدم هلم اإلسالم‪،‬‬
‫اإلسالم الناس هبا‬
‫ُ‬ ‫ألن هذه هي احلقيقة‪ .‬وألن هذه هي الصورةُ اليت خاطب‬
‫أول مرة [‪.]...‬‬

‫قال رمحه اهلل‪« :‬نظر إليهم ِم ْن َع ٍل ألن هذه هي احلقيقة‪ ،‬وخاطبهم بلغة احلب‬
‫والعطف ألهنا حقيقةكذلك يف طبيعته‪ .‬وفاصلهم مفاصلةكاملة ال غموض فيها وال تردد‬
‫س حياهتم وأوضاعهم وتصوراهتم وقيَمهم‬‫ألن هذه هي طريقتُه‪ .‬ومل يقل هلم أبدا إنه لن ميَ َّ‬
‫إال بتعديالت طفيفة! أو أنه يُ ْشبِهُ نُظُ َمهم وأوضاعهم اليت ألفوها‪ ،‬كما يقول ُ‬
‫بعضنا‬
‫اليوم للناس وهو يقدم إليهم اإلسالم‪ .‬مرة حتت عنوان «دميقراطية اإلسالم»‪ ،‬ومرة حتت‬ ‫َ‬
‫عنوان «اشرتاكية اإلسالم»‪ ،‬ومرة بأن األوضاع االقتصادية والسياسية والقانونية القائمة يف‬

‫‪634‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫عالَمهم ال حتتاج من اإلسالم إال لتعديالت طفيفة!!! إىل آخر هذا التدسس الناعم‬
‫والرتبيت على الشهوات»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هنا وصل بنا سيد قطب رمحه اهلل إىل بيت القصيد‪ ،‬وهو الذي عرف‬
‫الثقافة اجلاهلية حق املعرفة‪ ،‬فلما نور اهلل قلبه باإلسالم أبصر قتامة ظلمة اجلاهلية‬
‫فحذر من «التدسس الناعم» الذي مل يكن إال تنازال لفظيا من قلم األستاذ‬
‫مصطفى السباعي رمحه اهلل حني كتب عن «االشرتاكية اإلسالمية»‪ .‬وهو حتذير‬
‫بالغ األمهية يف زماننا الذي يتكلم فيه الرائح والغادي‪ ،‬واملبتَ ُّل والصادي‪ ،‬عن الشورى‬
‫ليقدمها نوعا من الدميقراطية‪ ،‬أو هي هي مع لَ َمسات خفيفة‪.‬‬
‫ـال من هذه اجلاهلية‬ ‫قال سيد رمحه اهلل‪« :‬كال! إن األمر خمتلف جدا‪ ،‬واالنتق َ‬
‫اليت تعُم وجه األرض إىل اإلسالم نُقلةٌ واسعة بعيدة‪ .‬وصورة احلياة اإلسالمية مغايرة‬
‫متاما لصور احلياة اجلاهلية قدميا وحديثا‪ .‬وهذه الشِّقوة اليت تعانيها البشرية لن يرفعها‬
‫البشر منها إال تلك النـُّْقلَةُ‬
‫ات طفيفة يف جزئيات النظم واألوضاع‪ ،‬ولن يُنجي َ‬ ‫تغيري ٌ‬
‫الواسعة البعيدة»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬رمحك اهلل! لقد كان لك من ركن سجنك فسحة لتنظر واسعا وبعيدا‬
‫إىل آفاق تغيري شامل عميق‪ .‬وما يفعل اجلندي الذي أوقفه ال َق َدر على ثغرة الفتح‪،‬‬
‫القدر يده إىل العجني‬
‫مد ُ‬ ‫والعامل الذي وضع يف يده القدر اآللة‪ ،‬والصانع الذي َّ‬
‫أبصرت‪ ،‬وليعود إىل مشاكل‬
‫َ‬ ‫إن مل يرفع بصره وخيْفضه ليبصر الواسع البعيد تارة كما‬
‫الساعة وعجني الوقت‪ ،‬وإىل ِ‬
‫اآللة يف معاناهتا!‬
‫ما يفعل هذا املوقوف على املهمة احلالَّة إن مل ُيا ِوْر ويلتمس معابَِر للتواصل!‬

‫‪635‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الدرِك الذي هي فيه بالقياس‬
‫ي اجلاهليّـةَ حقيقة َ‬ ‫قال رمحه اهلل‪« :‬وال بد أن نُِر َ‬
‫إىل اآلفاق العليا املشرقة للحياة اإلسالمية اليت نريدها‪.‬‬
‫اري اجلاهلية يف بعض اخلطوات‪ ،‬كما‬ ‫قال رمحه اهلل‪« :‬ولن يكون هذا بأن ُن َ‬
‫ـزوي عنها وننعزل‪ .‬كال! إمنا هي املخالطة مع‬ ‫أنه لن يكون بأن نقاطعها اآلن ونن َ‬
‫التميُّز‪ ،‬واألخ ُذ والعطـاء مع الرتفع‪ ،‬والصدع باحلق يف َمودة‪ ،‬واالستعالء باإلميان يف‬
‫تواضع‪ ،‬واالمتالء بعد هذا كلِّه باحلقيقة الواقعة‪ :‬وهي أننا نعيش يف وسط جاهلية‪،‬‬
‫وأننا ْأه َدى طريقا من هذه اجلاهلية‪ ،‬وأهنا نـُْقلَةٌ بعيدة واسعة هذه النقلة من اجلاهلية‬
‫إىل اإلسالم‪.‬‬
‫منتصف‬
‫قال رمحه اهلل‪« :‬وأهنا هوة فاصلة ال يُقام فوقَها معرب لاللتقاء يف َ‬
‫الطريق‪ ،‬ولكن ليَنتقل عليه أهل اجلاهلية إىل اإلسالم‪ ،‬سواءً كانوا ممن يعيشون فيما‬
‫يُسمى الوطن اإلسالمي ويزعمون أهنم مسلمون‪ ،‬أو كانوا يعيشون يف غري «الوطن‬
‫اإلسالمي»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬رمحك اهلل من مفاصل مواصل‪ .‬وإننا إذ منُُّد اجلسور ال نـتَّ ِه ُم من يزعم‬
‫أنه مسلم يف دينه ما دام «حلف الفضول» بينـنا وبينه‪ ،‬ويـَُو ِّف املروء َة حقها وميشي‬
‫مع املستورين من أمة حممد صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وربك الغفور ذو الرمحة‪ .‬ال إله إال‬
‫هو العزيز احلكيم‪.‬‬

‫‪636‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫حتميل الرسالة‬
‫ما دام بيننا وبني من يزعم أنه مسلم ممن يتصدى لألمر العام ميثاق «مجاعة‬
‫املسلمني» يدخل فيه أو يرفضه على مإل من الناس فال نتهم أحدا يف دينه ما مل يُْـب ِد‬
‫ب متطلعة إىل الدميقراطية‬ ‫ونَ ٌ‬
‫لنا صفحة وجهه‪ .‬أمامنا يومئذ أنظمة يف موقع اليأس ُ‬
‫ت‬ ‫كم َدها‪ .‬فيكفيها ذلك عُْنفا على نفسها‪ .‬حاولَ ْ‬ ‫لكنها معزولة عن الشعب تُعاين َ‬
‫لكن أرض اإلسالم ال تنبت إال‬ ‫وستحاول استِنبات الدميقراطية يف أرض اإلسالم‪َّ ،‬‬
‫ُزروع اإلسالم‪ .‬فمىت أبصرت أن الزروع اإلسالمية أينعت واستغلظت واستوت على‬
‫ُسوقِها فسيكون هلا معنا شأن غريُ مواقف ِّ‬
‫الريـبة واخلِي َفة واالهتام بأننا ظالميون‪.‬‬
‫ب معزو ٍلة تـَْبحث عن قاعدة شعبية‪.‬‬ ‫الدميقراطية يف بالد املسلمني قضيةُ ُنَ ٍ‬
‫وحنن نبحث عن الوسائل إليقاظ أمة فيها االستعـداد الكامل الراقد حلمل الرسالة‪،‬‬
‫فيها القدرة الكامنَة على حتمل املسؤولية‪ ،‬ال تثق بقيادة غري قيادة نابعة منها‪ ،‬نامية‬
‫بأعز ما يف كياهنا وهو دينها‪.‬‬
‫يف أحضاهنا‪ ،‬ماسكة ِّ‬
‫هذه ثالث خصال إن حققنا فاعليتها ورَّكبـْنَا طاقاهتا وصلنا إىل ما هو ممتـنِع‬
‫ُم ْع ِجٌز على النخب املثقفة الغريـبة قلبا ولسانا عن اجلماهري الشعبية‪ .‬ووصلنا إىل‬
‫إشراك اجلماهري يف محل الرسالة اإلسالمية‪ ،‬ومن فروض احلمل خوض املعارك‬
‫السياسية معنا‪ .‬ثالث خصال‪ :‬قابلية التلقي‪ ،‬وحتمل املسؤولية‪ ،‬والثقة يف القيادة‪.‬‬
‫تاد‪ ،‬لكن بغـري هذا يكون احلديث عن التغيري ضربا من الثرثرة‬ ‫دو َن هذا خر ُط ال َق ِ‬
‫ْ‬
‫وصفرياً وه َذرا‪.‬‬
‫َ‬

‫‪637‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫النخب املثقفة ممتلئة بقضايا مصريية هي‪ :‬التنمية‪ ،‬والتحديث‪ ،‬والتطور‪،‬‬
‫ص ِّورنا‬
‫والتحرر من التبعية االقتصادية‪ ،‬وحتقيق العدل االجتماعي‪ .‬هي ممتلئـة بتغيري يُ َ‬
‫على شكل النموذج املتفوق يف نظرهم‪ ،‬ويلحقنا بركبه‪.‬‬
‫ومعنا حنن اإلسالميني اهتمام بالقضايا املصريية الذع‪ُ .‬ه ْم َيرْوهنا من زاوية‬
‫الدميقراطية‪ ،‬ال َح َّل عندهم إال الدميقراطيةُ‪ ،‬وال مفتاح وال مدخل‪ .‬وحنن نراها‬
‫من زاوية اإلسالم‪ ،‬ال حل هلا وال مفتاح وال مدخل إال شورى اإلسالم وعدل‬
‫اإلسالم ومشاركة األمة يف واجب األمر باملعروف والنهي عن املنكر واجلهاد يف عمل‬
‫الصاحلات‪.‬‬
‫ت عن االستبداد التقليدي‪ ،‬وال عن املتاهات والتجارب الفاشلة‬ ‫إنه ال ُمنـَْفلَ َ‬
‫اليت سلكها املغربون حتت قيادة األنظمة التقليدية أو باستقالهلم حتت زعامة األبطال‬
‫القوميني‪ ،‬إالّ إذا كان الشعب قادرا على التعبري عن إرادته‪ُ ،‬م َعبّأ ليدافع عن اختياراته‪.‬‬
‫وتلك حقوق وواجبات ال حتصل إال بطول كفاح‪ ،‬ال تسقط على الشعوب من‬
‫السماء‪ .‬وال تنوب الطالئـع املناضلة يف ذلك عن جمهود السواد األعظم‪.‬‬
‫وقد راقب املغربون كيف يستجيب الشعب لنداء املسجد‪ ،‬وكيف تستعجم‬
‫عليه لغة املثقفني املغربنني‪ .‬لذلك فهم يتساءلون لِيـَُربِّكوا الرأي الشعـيب‪ :‬هل‬
‫الشورى والعدل بديل للدميقراطية أو إضافة إليها أو نسخـة منها أو حتسني‬
‫لنماذجها أو عالج ألمراضها‪ .‬وجنيب حنن بأن العدل والشورى هو دين األمة‬
‫ووعد اهلل ورس ِ‬
‫ـوله الذي‬ ‫ُ‬ ‫الذي حترتمه‪ ،‬وأمل األمة الذي يَـبـُْرق يف خياهلا‪،‬‬
‫وفهمها للدين‪ ،‬وثقتها بالوعد‪ ،‬فتور‬ ‫تُصدِّقه‪ .‬فإن كان يف تصديق األمة لألمل‪ِ ،‬‬
‫َ‬
‫فهو ناتج عن تقصرينا يف التبليغ‪ ،‬وعن احلصار املضروب على احلركة اإلسالمية‬
‫‪638‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫اليت يراها أعداء اإلسالم وأصدقاؤه ومراقبوه «القوة الوحيدة» ذات املصداقية‬
‫التارخيية فيما مضى وفيما هو آت‪.‬‬

‫فهل حتقق الشورى والعدل نفس األهداف اليت ترمي إليها الدميقراطية؟هل‬
‫ميكن أن نتالقى مع ذوي املروآت الدميقراطيني على جسر التعامل والتعاون؟‬
‫ات بغري اقرتاح اجلبهة اليت نكون حنن هلم‬‫هل لديهم استعداد لِيخطُوا إلينا خطو ٍ‬
‫َْ‬
‫املوج َهةَ؟‬
‫العقل املدبـَِّر واإلرادة ِّ‬
‫احملرَكةَ ويكونون هم َ‬
‫مبقتضاها القاعد َة الطاقيَّةَ ِّ‬
‫إذا كانت الصيغ املستوردة ِ‬
‫فشلت يف بالد املسلمني وع ُق َمت وعجزت فألهنا‬
‫جهلت وجتاهلت نفسية املسلمني وتعلقهم بدينهم‪ ،‬وافتقـرت افتقارا ُم ْدقعا إىل الفهم‪،‬‬
‫وأسرفت يف تقليد الغري املنايف طبعا وفكرا وِوجهة لطبع األمة وفكرها وِوجهتها‪.‬‬

‫ولعلنا نكون مثل أولئك افتقارا وجهال وإسـرافا إن مل نستمع ملا عند‬
‫الدميقراطية من مقال‪ ،‬وما تطرحهُ علينا من سؤال‪ .‬على النية املضمرة املعلنة‬
‫الالزمة دينا ومروءة أن يكون اجلواب من عند ذاتيتنا‪ ،‬من صميم ديننا‪ ،‬ال من‬
‫ترسانة الفكر املستورد‪ .‬علينا أن ننظر بعني التمييز إىل ما تقرتحه الدميقراطية يف‬
‫جماالت التّمانُع من الظلم‪ ،‬وتنظيم اخلالف‪ ،‬وتعدد اآلراء‪ ،‬وآليات احلكم‪.‬‬

‫تقرتح الدميقراطية تعددية األحزاب‪ ،‬وحرية معارضة تكون ضدا ورقيبا وناقدا‬
‫وبديال مستعدا للحكم القائم‪ .‬وتقرتح أن يكون للشعب احلرية يف اختيار حكامه على‬
‫أساس «صوت واحد للشخص الواحد»‪ .‬وتقرتح شعار «حكم الشعب بالشعب‬
‫لصاحل الشعب»‪ .‬وتقرتح متثيال نيابيا ومؤسسات تتعاقب عليها القوى السياسية الراضي‬

‫‪639‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫السلَط‬
‫عنها الشعب‪ .‬وتقرتح حرية التعبري والصحافة املستقلة ودولة القانون وفصل ُّ‬
‫واحرتام حقوق اإلنسان‪ .‬أهداف نبيلة هاتوها للنقاش على مإل بني يدي صياغة‬
‫ميثاق «مجاعة املسلمني»‪.‬‬

‫ب‬‫حماس ٍ‬
‫فنقول حنن‪ :‬إن خالصة ما تقرتحه الدميقراطية يرجع إىل عمل مسؤول َ‬
‫ٍ‬
‫مؤسسات قاعد ُتا حرية‬ ‫متثيل صحيح لرأي الشعب واختياره‪ ،‬وإىل إقامة‬‫عليه‪ ،‬وإىل ٍ‬
‫التعبري واملعارضة‪ .‬فهل حنتاج لتحقيق هذه األهداف‪ ،‬وهي بيننا وبينكم مشرتكة‪ ،‬أن‬
‫صل من ديننا وأن جنعل الالييكية شرطا؟‬
‫نتنَ َّ‬
‫إن كل ما تقرتحه الدميقراطية هباءٌ يف هواء إن مل حيمل الشعب الرسالة ليَنتقل‬
‫«م ْن‬
‫العمل من سؤال‪« :‬ما ميكن؟» إىل جواب‪« :‬ما جيب أن نـَْف َع َل»‪ .‬من سؤال‪َ :‬‬
‫يفعل؟» إىل جواب‪« :‬أنا هلا!»‪ .‬وتلك تـَْلبِيَةٌ ال نسمعها ولن نسمعها من الشعب‬
‫خاطبنا فطرته‪ ،‬وناشدنا مسؤوليته‪ ،‬وحزنا ثقته‪ .‬فهي إذن الشورى والعدل‪،‬‬ ‫إال إذا ْ‬
‫ال الدميقراطية‪.‬‬

‫ننتقل بثقة وعزم من‬ ‫نكون حنن اإلسالميني ال َفرس الغريب يف امليدان إن مل ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مرحلة النظر إىل األفق الواسع والنقلة البعيدة لننخرط يف الواقع‪ .‬والواقع تعددية‬
‫ِّم لنا‬ ‫ِ‬
‫قائمة‪ ،‬أو تعددية يف رأس قائمة املطالب ال ُـمل َّحة على األنظمة املأزومة‪ .‬وسيـَُقد ُ‬
‫خدمات جليلةً كما سيشكل علينا َخطرا‪ِ .‬خدمتُه أن خنرج من‬ ‫ٍ‬ ‫اخنراطنا يف التعددية‬
‫هامشية الشعارات العامة املبهمة لنقدم تصورا واضحا وبرناجما قابال للتطبيق‪ ،‬وحنتك‬
‫بالواقع لنتعلم بالتجربة واخلطإ والصواب‪ .‬إجيابية اخنراطنا يف التعددية واملمارسة أن‬
‫ات السخط‪.‬‬ ‫نتميز عن املوقف املعارض غري املسـؤول الذي يطبخ شعار ِ‬
‫ُُ‬

‫‪640‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫واخلطر هو أن جناري األحزاب فتزحلقنا خارج احلدود الشرعية‪ .‬اخلطر أن‬
‫تذوب الدعوة يف الدولة‪ ،‬وأن يتسرب مشروع اهلداية والتغيري العميق يف رمال‬
‫السياسة اآلنية‪.‬‬
‫لِذلك‪ ،‬ولِنـَْع َم َل على املكشوف والوضوح‪ ،‬جنعل بيننا وبني التعددية ميثاقا‪.‬‬
‫امليثاق ضرورةُ احلال‪ ،‬ال نستغين عنه ولو تسلمنا مقاليد احلكـم على النموذج‬
‫يفرض َ‬
‫البديل مليثاق‬
‫وإن البديل لتعددية مقبولة مسؤولة هو أن نتحول جالدين‪ .‬و ُ‬ ‫اإليراين‪َّ .‬‬
‫ض على األمة ويناقش طويال هو البقاء يف الغموض واإلهبام والنـزاع يف الظالم‪.‬‬ ‫يـُْعَر ُ‬
‫ميكن لبنود ميثاق «مجاعة املسلمني» أن تصاغ على النحو اآليت‪ .‬وقد حذوت‬
‫يف بعضها ح ْذ َو مقرتحات مؤمت ٍر لعلماء باكستان منذ ُزهاء أربعني سنة حني كانوا‬
‫يف بدايات مساورهتم وحماورهتم للحكم‪.‬‬
‫‪ .1‬أساس احلكم وسنده العبودية هلل وحده ال شريك له‪ ،‬واملسؤوليةُ مبعيار‬
‫الشرع‪.‬‬
‫‪ .2‬كل القوانني الصادرة عن الدولة ال وز َن هلا إن خالفت الكتاب والسنة‪.‬‬
‫َّد برنامج عمل للتدرج إىل إلغاء ما كان نافذا من القوانني املوروثة‬
‫وحيد ُ‬
‫املخالفة للشرع‪.‬‬
‫‪ .3‬على الدولة أن تقيم املعروف وتزيل املنكر يف كل مرافق احلياة مبيزان الشرع‪.‬‬
‫‪ .4‬عليها أن ترفع شعائر الدين ليسود الدين يف التعليم واإلعالم واألمن وُك ِّل‬
‫ما أمر اهلل به ورسوله من قضايا اجملتمع‪.‬‬

‫‪641‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫‪ .5‬عليها أن تبين احلكومة على قواعد العدل والشورى واألمر باملعروف‬
‫والنهي عن املنكر‪.‬‬
‫‪ .6‬عليها أن تسعى لوحدة املسلمني يف األرض خطَو ٍ‬
‫ات تدرجييةً جادةً هلدم‬ ‫َ َ‬
‫احلواجز التجزيئية‪.‬‬
‫‪ .7‬يتمتع أهل البالد جبميع احلقوق اليت خيوهلا هلم اإلسالم من حفظ الدين‬
‫والنفس واملال والعرض والعقل‪ .‬وحرية العبادة مضمونة ملن بقي على‬
‫دينه ال ملن ارتد عن اإلسالم‪ .‬واحلرية الشخصية مضمونة‪ ،‬وحرية إبداء‬
‫الرأي‪ ،‬وحرية التنقل‪ ،‬وحرية املبادرة للكسب‪ ،‬مع مراقبة الدولة لكيال‬
‫ف العامل ويسري االقتصاد يف‬
‫ص َ‬‫يكون املال ُدولةً بني األغنياء‪ ،‬ولكي يـُْن َ‬
‫اجتاه قسمة عادلة لألرزاق‪ .‬وللجميع املساواة يف فرص الرتقي واالستفادة‬
‫من املؤسسات العمومية‪.‬‬
‫سلب أحد حقا من هذه احلقوق إال إذا كان له َمساغٌ من الشريعة‬ ‫‪ .8‬ال يُ ُ‬
‫اإلسالمية‪.‬‬
‫‪ .9‬حتافظ الدولة على ما تـُِْبُمهُ من عهود ومواثيق دولية‪ ،‬وتفاوض إلعادة‬
‫النظر يف العهود السابقة وتعديلها لرفع ما هبا من حْي ٍ‬
‫ف أو خمالفة‬ ‫َ‬
‫للشريعة‪.‬‬
‫‪ .10‬ال يعاقَب أحد بتهمة حىت يُ ْس َم َح له بالدفاع عن نفسه وحياكم ويُدا َن‪.‬‬
‫والتعذيب واإلهانة جرمية يسأل عنها ويعاقب أمام القضاء كل موظف‬
‫جتاوز حدوده‪.‬‬
‫اجلامع بني القوة واألمانة‪ ،‬بني الدين واملروءة‪،‬‬
‫َ‬ ‫‪ .11‬رئيس الدولة ال يكون إال‬
‫وكذلك وزراء احلكومة وكبار الدولة‪.‬‬

‫‪642‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫‪ .12‬على علماء الدين األتقياء الذين خيشون اهلل ويتوبون إليه مع التائبني‬
‫مسؤولية خاصة‪ :‬أن ينشدوا باحتادهم على احلق وجبمع كلمة الصادقني‬
‫من املؤمنني واملؤمنات إقامة الدين وقيامه بسيادة الدعوة على الدولة‪.‬‬
‫تطَ ُّهراً وإنابة إىل اهلل من أنظمة العض واجلرب اليت كان فيها سيف‬
‫السلطان وجربوته متسلطا على القرآن وأهل القرآن‪.‬‬
‫‪ .13‬تبدأ املسرية بوضع دستور موافق لروح اإلسالم وشرعه‪ ،‬تضعه مجعية‬
‫منتخبة انتخاباً حرا‪ .‬يعيد بناء هياكل احلكم على أساس سيادة الدعوة‬
‫وتفرغ رجال الدولة لتسيري الشؤون العامة وتدبـريها‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪ .14‬من البنود الرئيسية يف الدستور تساوي الرئيس واملرؤوس‪-‬ابتداء من رئيس‬
‫الدولة‪ -‬أمام القضاء‪ ،‬ووحدة القانون‪ ،‬وفصل السلط‪ ،‬وإقامة العدل‪،‬‬
‫والتناوب على السلطة‪ ،‬وحرية النشر إال يف ترويج اإلحلاد والدعارة‪.‬‬

‫حنو مما ميكن أن يتضمنه ميثاق «مجاعة املسلمني»‪-‬تنقصه الصياغة‬ ‫هذا ٌ‬


‫القانونية والتدقيق‪ ،-‬ننـزل به للساحة مىت قدرنا لتنطلِ َق كل مكونات األمة وخالياها‬
‫كامل‬ ‫احلية يف منافسة شريفة آمنة داخل سياج اإلسالم‪ .‬وملن شاء أن يَ ْشرَد ُ َّ‬
‫ويشذ ُ‬ ‫ُ‬
‫احلرية‪ .‬واهلل مبا تعملون عليم‪.‬‬

‫‪643‬‬
‫الفصل السابع‬
‫الشورى والعدل‬

‫* «وإذا حكمتم بني الناس أن حتكموا بالعدل»‬


‫* سياق «وأمرهم شورى بينهم»‬
‫* عزمة «وشاورهم يف األمر»‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫«وإذا حكمتم بني الناس أن حتكموا بالعدل»‬


‫ما الذي مينعنا معاشر املسلمني من النظر إىل اجلاهلية كفاحا‪ ،‬وجها لوجه‪،‬‬
‫ِح أنفسنا مبا هو واقع؟ الذي جيعلُنا حنكم على اجلاهلية حكما ُم َع ِّمما واحداً‬ ‫ونصار َ‬
‫بأنا ظالم يف ظالم هو مرارة اهلزمية التارخيية‪ ،‬والنِّقمةُ املشـروعة على ما‬‫ال متيـيز فيه َ‬
‫فعلته وما ال تزال تفعله فينا اجلاهلية الغربية‪ ،‬فإن غفلنا حلظة عما تفعله فاخلنجر‬
‫املغروز يف ضلوعنا يذكرنا‪ .‬اخلنجر دولة اليهود‪ .‬مث مينعنا من االعرتاف مبا عند‬
‫اعتقاد بعضنا أنه إن اعرتف للكافر مبزية فقد رَك َن إىل الكافر‪،‬‬‫ُ‬ ‫اجلاهليـني من مزايا‬
‫متسهُ النار‪.‬‬
‫ويشى أن َّ‬ ‫ُ‬
‫املغربو َن ال ُـم ْع َجبُو َن بالغرب على الطرف اآلخر ال يرون يف الغرب وحضارته إال‬
‫َّ‬
‫مر من ديار الكفر زمنا ال يكفي للتعمق يف‬ ‫عبده الذي َّ‬
‫كل مزية‪ .‬نظر الشيخ حممد ُ‬
‫معرفة اجلاهلية كما عرفها سيد قطب رمحهما اهلل النظرة النقيض لنظرة سيد قطب‪.‬‬
‫عبده يقول‪ :‬وجدت يف أوربا إسالماً بال مسلمني‪ ،‬ويقول قطب‪ :‬اجلاهلية ُركام‬
‫وظالم‪ .‬والنظرة املصارحة للنفس هي أن هناك مستويني اثنني يطلبان حكمني اثنني‪:‬‬
‫اجلاهلية مبا هي كفر واستكبار يف األرض ركام وظالم‪ ،‬يأتون يوم القيامة وقد حبطت‬
‫أعماهلم فهم خاسـرون‪ .‬لكن أعماهلم هذه اخلاسرة يف ميزان اإلميان هلا الوزن الثقيل‬
‫يف ميزان الدنيا‪ ،‬ميزان القوة واملدافعة واإلجنازات والسببية‪.‬‬
‫ص حل َقهُ مرارةُ اهلزميـة ألنه كان منتصرا‪،‬‬
‫كان الصحايب عمرو بن العاص ال تـَغُ ُّ‬
‫معذبا يف األرض‪ ،‬وال يشك يف احلقائق الواقعية‬ ‫حكمه الن ْق َمةُ ألنه مل يكن َّ‬
‫ف َ‬ ‫وال ُتَِّر ُ‬

‫‪647‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يعرتف هبا للخليقة ألنه كان واثقا من إميانه باهلل اخلالق ومن وحدة اخلليقة‪ ،‬بعني‬
‫يرى الناس مؤمنني وكافرين‪ ،‬وبعني أُخرى يراهم مجيعا خلقا واحداً إلله واحد‪،‬‬
‫الصائب يف النظرتني‪ ،‬ال تزاحم إحدامها األخرى وال تشوش عليها‪.‬‬
‫َ‬ ‫فيحكم احلكم‬
‫روى اإلمام مسلم رمحه اهلل أن رجال روى يف جملس عمرو بن العاص أن رسول‬
‫أكثر الناس»‪ .‬فقال عمرو‪« :‬لئن‬‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬تقوم الساعة والروم ُ‬
‫ِ‬
‫قلت ذلك إ ّن فيهم َلصاال ْأربعاً‪ :‬إهنم َل ْ‬
‫َحلَ ُم الناس عند فتنة‪ ،‬وأسرعُهم إفاقةً بعد‬ ‫َ‬
‫مصيبة‪ ،‬و ْأوش ُكهم َكَّرًة بعد فـََّرٍة‪ ،‬وخريُهم ملسكني ويتيم وضعيف‪ .‬وخامسةٌ حسنةٌ‬
‫مجيلة‪ :‬وأمنعُهم من ظلم امللوك»‪.‬‬
‫عمرو بن العاص داهية العرب اعتـرف مبـروآت الروم‪ ،‬منها «احلسنة اجلميلة»‪:‬‬
‫امتناعهم من الظلم ومتانعهم منه‪ .‬وهذه هي املزية األوىل للدميقراطية‪ .‬يف بالد‬
‫«الروم» فرنسا استمر النضال الربجـوازي مائة سنة قبـل أن تستقر الدميقراطية‪ .‬ويف‬
‫بالد «الروم» اإلجنليز استمر النضال قرونا حىت استقـر نظام احلكم على «أقل‬
‫األنظمة شرا» كما كان يقول زعيمهم تشرشل‪.‬‬
‫مزية سلبـية هي التمانع من الظلم‪ ،‬فهل للدميقراطية مزايا إجيابية ميكن للمسلمني‬
‫أن يـَتَ َخلَّ ْوا حلظة عن النظرة بعني واحدة ليعرتفوا هبا‪ ،‬وعن نقمتهم املشروعة ليتعلموا‬
‫مما َأم ّد اهلل تعاىل به اخلليقة الكافرة من عطائه؟ ﴿ ُكالًّ نُّ ِم ُّد َه ُـؤالء َو َه ُـؤالء ِم ْن َعطَاء‬
‫ك﴾‪.1‬‬ ‫َربِّ َ‬

‫‪ 1‬سورة اإلسراء‪ ،‬اآلية ‪.20‬‬

‫‪648‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫إي نعم! من الدميقراطية ميكن أن نتعلم تنظيم اخلالف وصبه يف تعددية حزبية‬
‫معارضة‪ ،‬معبِّئَ ٍة للجهود‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫بعضها لبعض‪،‬‬
‫ب ُ‬ ‫مسؤولة متعاقبة على احلكم‪ ،‬تعددية مراقِ ٍ‬
‫وم ْن‬
‫إيل عيويب‪َ .‬‬
‫كان أمري املؤمنني عمر رضي اهلل عنه يقول‪ :‬رحم اهلل امرءا أهدى ّ‬
‫نقدك باحلق وبالباطل‪ .‬يرجع‬
‫أحسن من منافس دائم ال شأن له إال ُ‬
‫َ‬ ‫ك‬
‫يُهدي إليك عيوبَ َ‬
‫جو حرية التعبري إن هو جازف‪ .‬تعدديةٌ معبِّئة للجهود يف قنوات‬
‫إليه نقده الباطل يف ِّ‬
‫بد َل الفوضى والعنف‪ .‬هذه حكمة لو مل خترتعها الدميقراطية لَلَزم أن‬
‫منتظمة حمكومة َ‬
‫خيرتعها املسلمون استفادة من ماضي اخلالف والعنف‪ ،‬ولنا منه احلظ الوافر‪.‬‬

‫ص ٍة آليات تنظيم االنتخاب واحلكومة‪،‬‬


‫ميكن أن نتعلم من الدميقراطية بال غُ َّ‬
‫وفصل السلط‪ ،‬وتوزيع النفوذ‪ ،‬وترتيب أجهـزة احلكم واإلدارة‪ .‬ميكـن أن نتعلم خاصة‬
‫مفهوم «املؤسساتية»‪ :‬يذهب األشخاص وتبقى املؤسسة حيكمها القانون‪.‬‬

‫لكن الذي ينبغي أن نتعلمه س ْلباً من الدميقراطية هو أن الذين ال يؤمنون‬


‫َّ‬
‫لتخد َم‬
‫باآلخرة يف العذاب والضالل البعيد‪ ،‬فهم استنبطوا كل هذه احلصافَة والتقنية ُ‬
‫اهلوى واألنانية ومصلحة الدنيا‪ ،‬غافلني عن اآلخرة‪ .‬فالدميقراطية هبذا االعتبار ُركام‬
‫َ‬
‫وظالم‪.‬‬

‫للحكم يف ديننا غاية‪ ،‬وللشورى وهي َمبـَْن احلكم اإلسالمي غاية‪ :‬الغاية‬
‫طاعة اهلل عز وحل يف أمره كلِّه‪ ،‬خاصةً يف إقامة العدل بني الناس‪ .‬فمنه عز وجل‬
‫نتلقى األمر‪ ،‬و ٍ‬
‫لغاية رمسها لنا حن ُكم‪ ،‬ولتصويب احلكم نتشاور‪ .‬فما نتعلمه من‬
‫الدميقراطية لتنظيم شورانا على نسق يضاهي العصـر وتقلبات معايِشه ِحكمةٌ‪ .‬تعلُّ ُمنا‬

‫‪649‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫عندئذ للوسائل التنظيمية مما أمد اهلل تعاىل به اخلليقة عمل صاحل لصالح الغاية‬
‫لي‪ُ .‬ح ْك ُمنا عندئذ وشورانا عُ ْملَةٌ رائجة يف الدنيا واآلخرة إن‬
‫الع ِّ‬
‫وملصدرية األمر َ‬
‫ت الناس‪.‬‬‫ت عُ ْمالَ ُ‬
‫بَطَلَ ْ‬
‫يف هذا الفصل البارد من هذه السنة تتقاطر الصدقات من املواد الغذائية على‬
‫االحتاد السوفيايت احملتضـر لتربهن على فشل الشيوعية الذريع يف إقامة العدل‪ .‬بينما يف‬
‫ـاج والوفرةُ‪ .‬فشلت الشيوعية فشلها املخجل يف تغذية‬‫بالد الدميقراطية الرخاءُ واإلنت ُ‬
‫سكان بلد من أغىن بقاع األرض تربة وإمكانيات‪ .‬وبعد سبعني سنة من التجـربة‬
‫الرائـدة تضع الشيوعية سالح اإلديولوجية لتتسكع على أبواب اللربالية الناجحة‪.‬‬
‫فهل جنحت اللربالية االقتصادية‪ ،‬وهي أخت الدميقراطية ورديفتها‪ ،‬يف إقامة‬
‫العدل؟ هل انتهت الشيوعيةُ لسوء نيتِها أم لبالدهتا وجهلها بطبيعة البشر؟ ما هو‬
‫النقد العملي الذي ميكن للمسلمني‪ ،‬حبكم الشورى والعدل‪ ،‬أن يوجهوه للنظام‬
‫اآلخ ِر املزدهر؟ أسئلة جوهرية‪.‬‬
‫اجلاهلي الساقط و َ‬
‫الدميقراطية اللربالية السياسية ال تسري إال ومعها اللربالية االقتصادية‪ .‬وهذه مبنية‬
‫كأختها على التنافس احلر‪ .‬والناس كما فطرهم اهلل عز وجل متفاوتون يف العقل‬
‫والطبع والقدرات‪ .‬فمهما تُِركت اجملاري حرة للتنافس بني متفا ِوتني يف أصل اخللقة‬
‫تفاوتا ُِمالً‪ .‬هناك يف‬
‫صب ذلك التنافس إىل التفـاوت يف األرزاق واأل ْكساب ُ‬ ‫فم ُّ‬‫َ‬
‫األنظمة الدميقراطية النقابات احلرة تدافع عن احلقوق وتنـزع من الرأمسالية اللربالية بعض‬
‫لكن الرأمسالية بطبيعتها وبطبيعة اجلشع واألنانيـة واجلري إىل الربح كانت وال‬ ‫احلقوق‪َّ .‬‬
‫اجلمعيات املصلحيـةُ‬
‫ُ‬ ‫النقابات و‬
‫ُ‬ ‫تزال آلةً لصنع التفاوت بني األغنياء والفقراء‪ .‬تُ َك ِّو ُن‬

‫‪650‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫فيما يسمى باجملتمع املدين الدميقراطي حاجزا مهما أمام طغيان الرأمسالية اللربالية‪،‬‬
‫وترز مبطالبها وضغطها وإضراهبا ومفاوضتها مكاسب من جيب الرأمسالية اجلشعة‬ ‫ُ‬
‫لكنها ال تستطيع أن تغري من طبيعتها‪.‬‬
‫العمال والعامة من فضول الرخاء العام‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َوتشي األمور يف بالد اللربالية‪ ،‬ينال‬
‫كلما ارتفعت أرباح الرأمسالية ارتفعت دخول العمال والعامة‪ .‬فيخيَّ ُل لل ُـم ْع َجب‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال ُـم َدلَّه باللربالية أهنا أم العدالة‪ .‬ولو قرأ تاريخ نشـأهتا وحاضر هنبها للعامل وماضيَهُ‬
‫لعرف أن الرخاء العام الذي تتمتع به أوربا وأمريكا والرأمسالية العاملية وينال عماهلم‬
‫منه ال ُفتات إمنا حصل على عرق أجيـال من احملرومني ودمائهم وأمواهلم‪ .‬جدوى‬
‫اللربالية وإنتاجيتها وجهٌ ظاهر لعُملة وجهها اآلخر هو تعميم الفقر على العامل‬
‫غري املصنع‪.‬‬
‫هنا يأيت التحدي الكبري أن حنكم بني الناس‪ ،‬إذا حكمنـا‪ ،‬بالعدل‪ .‬دع‬
‫القاضي يفهم األمر اإلهلي على أنه العدل بني املتقاضيني يف النوازل الشخصية‪.‬‬
‫َ‬
‫لكن نازلة سوء قسمة األرزاق بني العباد هي َمَ ُّ‬
‫ط‬ ‫فذلك أيضا من أهم أركان العدل‪َّ .‬‬
‫اهتمام اإلسالميني يوم يصبحون يف احلكم‪.‬‬
‫يقول لسان حال املستضعفني‪ ،‬ويضج لسان مقاهلم‪ :‬هاتوا ما وعدمت به من‬
‫عدل! طبقوا ما أمركم اهلل به إن حكمتم!‬
‫مطالب الطبقة العاملة فما وصلت بعد سبعني سنة‬ ‫َ‬ ‫ت الشيوعية أن جتيب‬ ‫حاولَ ْ‬
‫َ‬
‫إال إىل اإلفالس املخزي‪ .‬ذلك أهنا استبدلت بنظام األنانية الفردية القيصـريّة أنانية الطبقة‬
‫املستبدة‪ .‬ففقدت املزايا الغريزية للمبادرة الفردية اليت متََّعشت يف كنف النظام القيصـري‬
‫‪651‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وحصدت ما زرعته دكتاتورية الربلتاريا من أوبئة العنف واحملسوبية والرشوة والكسل والتبذير‬
‫وتدمري األرض واملوارد‪ .‬وهكذا توزع البؤس على الناس‪ .‬مل تنجح إال يف بناء سالح خميف‬
‫مدمر‪ .‬دمرها قبل غريها‪.‬‬

‫وتزهو اللربالية بإجنازاهتا وتقول‪ :‬ها ُكم شيئا ميكن أن يقسم! ها ُكم اإلنتاج‬
‫الوفري‪ ،‬اإلنتاجية والتدبري! هاكم الدميقراطية واحلرية وحقوق اإلنسان!‬

‫ويرث اإلسالميون غداة وصوهلم إىل احلكم آلة تابعة للرأمسالية‪ ،‬أو جهازا‬
‫مؤمما‪ .‬والعيون شاخصة إىل عدل اإلسالم عاطشة‪ .‬ونداء الدميقراطية واحلرية وحقوق‬
‫اإلنسان هاجس أمة تعسة حبكـامها‪ .‬حبكـام أعرضوا عن دين اهلل فحصدهتم سنة اهلل‪.‬‬
‫فما حنن فاعلون؟ ِ‬
‫أنكسُر اآللة املوروثة فنوزع رأس املال الظـامل التابع ونبقى‬
‫عالَةً يوما أو يومني مث يطردنا الشعب؟ أم ننحدر مع امليل الروتيين من تنازل إىل تنازل‬
‫أنتبن الدميقـراطية بِعُ َج ِرها ُ‬
‫وبَ ِرها أم نستأنف استبدادا‬ ‫فيبقى ما كان على ما كان؟ ّ‬
‫باسم اإلسالم؟‬

‫إن تغيري األوضاع يكلف تعبا وجمهودا دائبا‪ ،‬ويـَْل َقى مقـاومة من طرف احملتلني‬
‫للمراتب‪ ،‬ومن طرف دهاقني الرأمسالية احمللية‪ ،‬يُسع ُفهم بالضغط على إرادات التغيري‬
‫شركاؤهم وحلفاؤهم املتحصنون يف معاقل الرأمسالية العاملية‪.‬‬

‫ومضاء سائـر‪ ،‬وحاجتُنا لرجال حمنكني‬


‫وهنا تربز حاجتنا امللتهبة حلكمة ثابتة َ‬
‫وقلوبم وعقـوهلم وخربهتم مع املستضعفني‪.‬‬
‫عارفني بدخائل االقتصاد العاملي‪ُ ،‬‬

‫‪652‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫مشروعنا لنقد اللربالية السياسية واالقتصادية بشورى العدل هو حتقيق أكرب‬
‫قدر ممكن من املساواة‪ .‬مساواة فرص‪ ،‬وظروف‪ ،‬وتربية‪ .‬مع دعم الضعفاء يف احللَبة‪،‬‬
‫قعد هبم العجز وتفاوت القدرات عن السبق يف املنافسة‪ .‬على الدولة اإلسالمية أن‬
‫ب جانب اإلحسان وأن تـَُر ِّج َح كِ ّفة العطـاء للضعفاء على كِفة اإلنصاف احملايد‪.‬‬
‫تـُغَلِّ َ‬
‫عليها حتقيق ذلك دون كسر اآللة املوروثة وال مفاجأهتا‪.‬‬
‫إن الشورى مهما كانت منظمة وأصيلة لن تكون إال حواراً بني مفلسني‬
‫الر َخاء مقرونة بقضية العدل‪ .‬الشورى وافدة كرمية‪،‬‬
‫إن َل يعاجل املتشاورون قضية ّ‬
‫علينا أن هنيِّئ هلا النـُّْزل الكرمي‪ .‬نبنيه وننظفه ونرتب مرافقه‪ .‬واهلل يرزق من يشاء‬
‫بغري حساب‪.‬‬

‫‪653‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫سياق «وأمرهم شورى بينهم»‬

‫مطالب على نفس املستوى من األمهية‪ ،‬بعضها شرط يف حتصيل األُخرى‪:‬‬ ‫ُ‬
‫كون جمموعها مقومات اجلهـاد‪ ،‬ويُ َك ِّو ُن اجلهاد وسيلة‬
‫الشورى والعدل والرخاء‪ .‬يُ ِّ‬
‫جاد متصل يـبدأ من «احلسنة اجلميلة» اليت أعجبت عمراً بن‬ ‫حتصيلها‪ .‬جهاد ٌّ‬
‫َّرها عند الروم واعرتف هبا‪ :‬أال وهي املنـََعةُ من ظلم امللوك‪ .‬وعلى الطريق‬ ‫العاص‪ ،‬قد َ‬
‫مثل سؤال‪ :‬هل سينام املسلمون عن أصل البالء كله وهو احلكم‬ ‫أسئلة مصريية ُ‬
‫العاض الذي يضع يده يف يد اجلاهليني؟ مثل سؤال‪ :‬هل سيبقى املسلمون عربا‬
‫وعجما‪ ،‬سنة وشيعة‪ ،‬جيول بعضهم ويصول يف بعض‪ ،‬ويلعن بعضهم بعضا‪ ،‬وميتطي‬
‫بعضهم إىل بعض حجة «فقه القطيعة» ليقاتله؟ ومثل سؤال‪ :‬هل سنجد مسلكا مع‬
‫س النفط‪ ،‬بل لتقوم بنوبتها‬ ‫لتحر َ‬
‫ع يف أعز بقعة دولة اليهود ُ‬ ‫القانون الدويل الذي َزَر َ‬
‫يف حراسته جنبـا إىل جنب مع حلفائها من هذه الكائنات النفطية أمر ِاء العشائر؟‬
‫ني ال َـمهني هو الشعب املسلم الذي بدأ‬ ‫القوة الكفيلة بإهناء هذا املسلسل الـمش ِ‬
‫َ‬
‫ومعظمه ال يزال سادرا يف الالمباالة‪ ،‬م َف َّككا َم ْوعوكا‬ ‫بعضه يستيقظ لنداء اإلسالم‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬
‫ِّرهُ «الثقافة العاملية» الصائحة البائحة بلسان التلفزيون‪ .‬حاملو الشورى‪ ،‬املرشحون‬ ‫ختد ُ‬
‫يدهم فيما مضـى وإىل حني‬ ‫حلملهـا‪ ،‬هم املستضعفـون‪ُ ،‬مفعمةٌ قلوهبم باآلمـال‪ ،‬قصريةٌ ُ‬
‫جتمعُهم وتصوغ منهم القاعد َة احليةَ للشورى إال تَربيَة املسجد‪ ،‬جتمع‬ ‫عن نيل ال َـمنال‪ .‬لن َ‬
‫ِّس وتؤلف املتنافر املتناقض‬ ‫وتن ُ‬‫وتَ ِّم ُع ُ‬
‫اجلهود املبعثرة‪ ،‬وتقرب الشُّقة بني املتفاوت‪ ،‬وتُ َكتّل ُ‬

‫‪654‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫حمصلَ ٍة وخربة‬
‫واملتباعد‪ .‬من وراء املستضعفني الطب َقةُ الوسط املؤهلة مبا لديها من معرفة َّ‬
‫املسجد‪.‬‬
‫ُ‬ ‫املوعد‬
‫وإمكانيات‪ ،‬جتيءُ مع املستضعفني لتتجانس يف بوتقة اإلميان‪ .‬و ُ‬
‫اجلامع والتمانُع من الظلم واملنعةُ من ظلم الطاغني‪ .‬هذه مسرية واحدة‪،‬‬
‫اإلميان ُ‬
‫يف ِضمنها العدل والرخاء‪ ،‬يف سياقها شروط الشورى ومواصفات أهلها‪ٌ .‬‬
‫سياق‬
‫اخنرم منه شرط كانت الشورى جمرد عارية‪،‬‬
‫الروحي ال ُـم َو ِّح َد‪ ،‬إن َ‬
‫َّ‬ ‫قي‬
‫املعيار اخللُ َّ‬
‫يعطي َ‬
‫ومض اسم على غري ُم َس ّم ًى‪ .‬سياق جمموعهُ كما جاء يف القرآن الكرمي يرفع الشورى‬
‫َْ‬
‫ويد ّل على أهنا من غري ِ‬
‫جنسها‪.‬‬ ‫آخر غ ِري مست َـوى الدميقراطية‪ُ ،‬‬
‫مستوى َ‬
‫ً‬ ‫إىل‬
‫‪1‬‬
‫ورى بـَيـْنـَُه ْم﴾‬
‫كثرياً ما يستشهد الكاتبون والناطقون بقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وأ َْم ُرُه ْم ُش َ‬
‫ف َم ْن «هم» وال يُعرف‬ ‫يفردوهنا من سياقها‪ ،‬وخيرجوهنا من بني أخواهتا‪ ،‬فال يـُْعَر ُ‬
‫ب الشقة وتؤلف وجتنس‪ .‬من يقرأ ﴿ َوأ َْم ُرُه ْم‬ ‫تقر ُ‬
‫الذي «بينهم» من عالئق وروابط ّ‬
‫فردة ُمَر َجة يظن أن كل َجْـع من املسلمني تواضعوا على‬ ‫ورى بـَيـْنـَُه ْم﴾ هكذا ُم َ‬
‫ُش َ‬
‫التشاور فقد َدخلوا يف ِحَى العبارة القرآنية الكرمية بقطع النظر عن كل اعتبار يف‬ ‫ُ‬
‫تكوينهم النفسـي‪ ،‬وترابطهـم أو تقاطعهم‪ ،‬واستقامتهم أو اعوجاجهم‪ ،‬وإقامتِهم‬
‫شحهم ِ‬
‫وقعودهم‪.‬‬ ‫للدين أو سكوهتم عن فرضـه ونفله‪ِ ،‬‬
‫وبذلم للنفس واملال جهادا أو ِّ‬
‫إمنا تكون الشورى شورى هلا ُح ْرَمة االسم وحقيقةُ املعـىن إن توفر يف املتشاورين جمموع‬
‫بعضها يكمل بعضا‪ ،‬ويؤسسه‪ ،‬ويُسنِده‪ ،‬ويسبقه‪ ،‬ويلتفت إليه‪ .‬هذه الشـروط‬ ‫شروط ُ‬
‫للوالَية بني املؤمنني اليت فرضها‬
‫أخالقيات يف األفراد‪ ،‬وعقيدة‪ ،‬وسلـوك عملي تتداخل لتعطي َ‬

‫‪ 1‬سورة الشورى‪ ،‬اآلية ‪.38‬‬

‫‪655‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ديل‪.‬‬
‫الع َّ‬ ‫ِ‬
‫التكافلي وعمادها َ‬
‫َّ‬ ‫السياسي ورباطها‬
‫َّ‬ ‫اهلل عز وجل مضمون األخوة اجلامعة ومدلوهلا‬

‫ْحيَ ِاة‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬


‫سياق هذه الشروط قوله عز وجل‪﴿ :‬فَ َما أُوتيتُم ِّمن َش ْيء فَ َمتَاعُ ال َ‬
‫ين يَ ْجتَنِبُو َن‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنُوا َو َعلَى َربِّ ِه ْم يـَتـََوَّكلُو َن َوالذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫الدنـْيَا َوَما عن َد اللَّه َخيـٌْر َوأَبـَْقى للَّذ َ‬
‫ُّ‬
‫استَ َجابُوا لَِربِّ ِه ْم‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َكبَائَِر ِْ‬
‫ين ْ‬ ‫ش َوإِ َذا َما غَضبُوا ُه ْم يـَغْف ُرو َن َوالذ َ‬ ‫الثْ ِم َوالْ َف َواح َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َصابـَُه ُم‬ ‫ين إِ َذا أ َ‬
‫اه ْم يُنف ُقو َن َوالذ َ‬ ‫ورى بـَيـْنـَُه ْم َوم َّما َرَزقـْنَ ُ‬ ‫َوأَقَ ُاموا َّ‬
‫الص َلةَ َوأ َْم ُرُه ْم ُش َ‬
‫ص ُرو َن﴾‪.1‬‬ ‫الْبـغْي ُهم ينتَ ِ‬
‫َ ُ َْ‬
‫شروط َّأوُلا اإلميان وآخرها االنتصار على البغي‪ .‬شروط تسعة بارزة يف املؤمنني‬
‫من بني شعب اإلميان البضع والسبعني‪ ،‬مثرُتا االنتصـار على البغي‪ِ ،‬‬
‫ومعقد القوة فيها‬
‫ورى بـَيـْنـَُه ْم﴾‪ .‬فإذا أفردت الشورى من السياق وقطعتها فقد‬
‫واحلكمة ﴿ َوأ َْم ُرُه ْم ُش َ‬
‫سرت املسلسل فال حتصل على نتيجة‪.‬‬
‫ابـْتَ َ‬
‫إن اجملتمع املسلم ما بني عرب وعجم‪ ،‬وبيض وسود‪ ،‬وفقراء ُمدقِعني‬
‫وأمراء متخمني‪ ،‬وأميـني ومثقفني لن حيملوا الشورى حق احلمل إال إن تشكلت‬
‫الوالية وتـَُقِّرب ُشقتها شروط السياق الشوري‪ .‬يـبدأ‬
‫نواة من بينهم جتمعها روح َ‬
‫االنسجام بالتخلق اإلمياين املتطلع إىل حتقيق العدل‪ ،‬وينشأ من التطلع هدف‬
‫مشرتك يوحد جهود العاملني يف كل قطر حىت تقوم الدولة اإلسالمية القطرية‬
‫ـدل بني اجلائع العاري‬
‫على الشورى‪ .‬ويف األفق املرسوم وحدة األمة‪ ،‬والع ُ‬

‫‪ 1‬سورة الشورى‪ ،‬اآليات ‪.39-36‬‬

‫‪656‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫خات بنغالدش وبني الطاعمني الكاسني ال ُـمَرفَّهني يف‬ ‫يف جماهل أفريقيا وسب ِ‬
‫ْ‬
‫اه ْم يُ ِنف ُقو َن﴾‪ .‬النفط‬ ‫ِ‬
‫ري لشـرط ﴿ َوم َّما َر َزقـْنَ ُ‬
‫قد ٌّ‬
‫حتد َ‬
‫إمارات النفط‪ .‬النفط ٍّ‬
‫َّ ِ‬
‫ين إِ َذا أ َ‬
‫َصابـَُه ُم الْبـَغْ ُي ُه ْم‬ ‫قدري ليـبتلينا اهلل عز وجل يف شرط ﴿ َوالذ َ‬
‫ُّ‬ ‫سؤال‬
‫ص ُرو َن﴾‪ .‬النفط واليهود‪ ،‬واحلكم العاض واجلربي‪.‬‬ ‫ينتَ ِ‬
‫َ‬
‫أشتات وطبقات ال رابطة بينها يف‬ ‫ٌ‬ ‫املسلمون يف حكم الضـرورة وواقع التاريخ‬
‫عهد ُيثلون فيه منظمة الرفض‪ .‬لكن عندما يصلون إىل احلكم فسياق ﴿ َوأ َْم ُرُه ْم‬
‫ورى بـَيـْنـَُه ْم﴾ يفرض الوحدة و«التسجيم»‪ .‬وما «مجاعة املسلمني» القطرية‬ ‫ُش َ‬
‫وميثاق يـُبـَْرُم بني اإلسالميني وغريهم من األحزاب والشخصيات إال خطوة واحدة‬
‫على طريق توحيد األمة‪.‬‬

‫إن كانت الدميقراطية جتد مثواها ومنتهى راحتها يف حدود الدولة القومية‪،‬‬
‫فإن الشورى وسياقها القرآين يعد مبا عند اهلل كل املؤمنني يف األرض‪ ،‬ال يعرف وعد‬
‫تفصل العريب عن العجمي‪ ،‬والشيعي عن السين‪ ،‬واألسود عن األبيض‪،‬‬ ‫اهلل حدودا ِ‬
‫الت الدميقراطية َوعُزاها‪.‬‬
‫والقطر عن القطر‪ .‬الصنم القطري ُ‬

‫إن كانت تعددية الدميقراطية صراعا منظما تنظيما حضاريا فعدد مجاعات‬
‫الوالية العامة‬
‫ِج عن دائرة َ‬
‫تنوعٌ يف االجتهاد ال ُير ُ‬
‫وعرب األقطار ُّ‬
‫املؤمنني يف القطر الواحد َ‬
‫الواليَةُ والشورى األشتات القطرية إىل الوحدة‪.‬‬
‫تسوق َ‬
‫والشورى اجلامعة بسياقها‪ .‬بل ُ‬
‫عي ِ‬
‫ـبان من عيوب الدميقراطية نقف عندمها‪ .‬وهلا عيوب غريها ال شأن لنا هبا إال‬ ‫َْ‬
‫فت املغربون‪ .‬ولن نكون‬‫يوم ننجح يف إقامة حكومة الشورى لتفضح باستقامتها ما به يُ َُ‬

‫‪657‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أبدا مالئكةً معصومني‪ ،‬لكن حتزبات الدميقراطية وعصبياهتا ومساوماهتا على املصاحل‬
‫السوقي وتبادهلا عيب كبري‪ .‬وعيب ثان هو أن الدميقراطية تسمح‬ ‫ُّ‬ ‫الشخصية وتبايـُعُها‬
‫مبناقشة قرار األغلبية بعد انتهاء دور املناقشة‪ ،‬ويشكك احلزب املعارض يف صواب رأي‬
‫ويُط من قيمة احلكومة‪ .‬فينعكس ذلك على األغلبية وحكومتها‬ ‫ويسخُر‪َ ،‬‬
‫األغلبية‪َ ،‬‬
‫ويفقدها االحتـرام‪ .‬ومن يتـتبَّع املهاترات الالذعة‪ ،‬بل الساقطة السوقية أحيانا‪ ،‬يعـ ِرف‬
‫أهنا من لوازم الدميقراطية وتقاليدها‪.‬‬
‫يف شورى املؤمنني ينبغي أن تكون عتَبَةُ األخالق عالية‪ ،‬ومستوى التعامل يف‬
‫النقد واملعارضة رفيعا نـزيها‪ .‬ومىت َت التصويت على قرار فقد انتهى حق االعرتاض‪،‬‬
‫وقبُ َح التشكيك والتعقيب‪ ،‬ليتفرغ اجلميع للعمل اإلجيايب‪.‬‬
‫ثل التفويض النيايب الذي يتلخـص يف وضع املواطن‬ ‫ِ‬
‫للدميقراطية عيوب أخرى م ُ‬
‫ورقته يف صندوق االقرتاع‪ ،‬يفوض جملهول ٍ‬
‫بعيد ما عرفَه إال من خالل الدعاية‬
‫ال ُـم َّزوقة‪ ،‬ومن خالل صناعة الصورة اليت يتخصص فيها املتخصصون‪ ،‬ويتـزين هلا‬
‫املرشحون أمام عدسات التلفزيون‪.‬‬
‫من عقائد الدميقراطية «الصوت الواحد للشخص الواحد»‪ .‬هذا املبدأ له‬
‫مزاياه‪ ،‬وأول من يستفيد منه اإلسالميون ألن عامة األمـة ومجهورها من املستضعفني‪.‬‬
‫لكن ْترَك «األشخاص» لتأثري السوق االنتخابية وفيها السماسرة احلاذقون وفيها‬ ‫َّ‬
‫الكذب والرشوة تغر ٌير جيب على ال َـم َدى املتوسط والبعيد أن جند له حال‪ .‬ال بد‬
‫ورى بـَيـْنـَُه ْم﴾‪ .‬ليكون سياق الشورى أقرب ما ميكن‬
‫من ذلك ليكون ﴿ َوأ َْم ُرُه ْم ُش َ‬
‫للتطابق مع املثل األعلى القرآين‪.‬‬

‫‪658‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫َند يف تراثنا الفقهي مفهوما اجتهد يف التمكني له الفقهاء يف فرتة ما بعد‬
‫االنقضاض األموي‪ .‬هذا املفهوم هو «أهل احلل والعقد»‪ .‬وتُ َش ِّك ُل هذه العبارة‬
‫اليت ال سند هلا من كتاب وال سنة تسلُّطا مغناطيسيا على عقـول املقلدين‪ .‬تشكل‬
‫أن «أهل احلل والعقد» بَن ٌد من بنود‬ ‫استبدادا خبيال بعض اإلسالميـني حىت يظنون َّ‬
‫العقيدة وركيزة ثابتة من ركائز اإلسالم‪ .‬وال بد لنا من اخلروج من طائلة هذا املفهوم‬
‫يل الشورى على جمهول له من جهالته وغموضه سلطة األغوال‬ ‫الغامض لكيال ُن َ‬
‫الفاتكة‪.‬‬
‫سوي اجتهاده على حاجات وقته‪ ،‬ولَ ْو‬‫لَ ْو اعتمدنا على مقالة لفقيه كان يُ ِّ‬
‫زعمنا أن «أهل احلل والعقد» هم العلماء املعممون مثال لسامهنا يف وقف الشورى‬
‫على طائفة دون طائفة‪ ،‬ولساعدنا على احتكار احلكم‪ ،‬وخلرجنا عن السياق القرآين‬
‫الواضح‪ ،‬ولتطرفنا من اجلهة األخرى إلطالق «الصوت الواحد للشخص الواحد»‪.‬‬
‫أعطى األستـاذ حسن البنا رمحه اهلل لسلطة العبـارة الفقهية املوروثة التفاتة عابـرة‬
‫ليخرج يف احلني عن دائـرة نفـوذها حيث قال يف رسالة «مشكالتنا الداخلية يف ضوء‬
‫النظام اإلسالمي» يف معرض احلديث عن «أهل احلل والعقد»‪« :‬هم ‪ .1‬الفقهاء‬
‫اجملتهدون الذين يُعتمد على أقواهلم يف ال ُفتيا واستنباط األحكام‪ .2 .‬وأهل اخلربة‬
‫ومن هلم قيادة أو رئاسة يف الناس كزعماء البيوت واألسر‬ ‫يف الشؤون العامة‪َ .3 .‬‬
‫وشيوخ القبائل ورؤساء اجملموعات‪ .‬فهؤالء مجيعا يصح أن تشملهم عبارة «أهل‬
‫احلل والعقد»‪.‬‬
‫مث قال رمحه اهلل‪« :‬ولقد رتب النظام النيـايب احلديث طريق الوصول إىل أهل احلل‬
‫والعقد مبا وضع الفقهاء الدستوريون من نُظُم االنتخاب وطرائقه املختلفة‪ .‬واإلسالم ال يأىب‬

‫‪659‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫هذا التنظيم ما دام يؤدي إىل اختيـار أهل احلل والعقد‪ .‬وذلك ميسور إذا لوحظ يف أي نظام‬
‫من نُظم حتديد االنتخاب صفات أهل احلل والعقد‪ ،‬وعدم السماح لغريهم بالتقدم للنيـابة‬
‫عن األمة»‪ .‬انتهىكالمه رمحه اهلل‪.‬‬
‫مستوى‬
‫ً‬ ‫قلت‪ :‬املطلوب واملعقول أن يكون املمثلـون النائبـون املنتخبون على‬
‫لكن املنتخبني أيضا من‬
‫وح ْليَة حسنة مجيلة من خصال «سياق الشورى»‪َّ ،‬‬ ‫عال ِ‬
‫ٍ‬
‫شرطهم اإلميان واالنتصار على البغي‪ .‬واهلل ويل املؤمنني‪ .‬سبحانه ال إله إال هو‪.‬‬

‫‪660‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫عزمة «وشاورهم يف األمر»‬

‫كيال يتكون «مأل» مستكرب‪ ،‬كيال تتكون طبقة سياسية فوق الناس منفصلة‬
‫األمر يف سورة آل عمران واألُسوةُ واملثال يف‬ ‫مقطوعة‪ ،‬جاءنا من اهلل العلي القدير ُ‬
‫ْب الَن َفضُّواْ‬ ‫ظ الْ َقل ِ‬‫نت فَظّاً غَلِي َ‬ ‫نت لَ ُه ْم َولَ ْو ُك َ‬ ‫قوله تعاىل‪﴿:‬فَبِ َما َر ْح َم ٍة ِّم َن اللّ ِه لِ َ‬
‫استـَغْ ِف ْر لَ ُه ْم َو َشا ِوْرُه ْم فِي األ َْم ِر فَِإ َذا َع َزْم َ‬
‫ت فـَتـََوَّك ْل‬ ‫ف َعنـْ ُه ْم َو ْ‬
‫ك فَا ْع ُ‬ ‫ِم ْن َح ْولِ َ‬
‫ِ‬ ‫َعلَى اللّ ِه إِ َّن اللّهَ يُ ِح ُّ‬
‫ين﴾‪ .1‬ورد ضمـري «هم» أربع مرات هنا يف آية‬ ‫ب ال ُْمتـََوِّكل َ‬
‫واحدة‪ ،‬وست مرات يف آيات سورة الشورى‪ .‬فمن «هم» هؤالء؟ من يُستشار يف‬
‫أمر املسلمني؟ من «هم» الذين عرفهم القرآن بنعوهتم وجرد منهم الفقهاءُ بعد زمان‬
‫يسميهم الفقيه الرمسي «أهل احلل‬ ‫ب على كل مستشارين ِّ‬ ‫مفهوما غامضا يُ ْس َح ُ‬
‫والعقد»؟‬
‫روى احلاكم عن ابن عباس رضي اهلل عنهما يف ﴿ َو َشا ِوْرُه ْم فِي األ َْمر﴾‬
‫قال‪ :‬نزلت يف أيب بكر وعمر‪ .‬ويف رواية عند غريه قال َحبـُْر األمة‪ :‬نزلت يف أيب بكر‬
‫ووز َيريْه َوأبـََو ْي املسلمني‪ .‬قال‬ ‫ِ‬
‫وعمر‪ ،‬وكانا َحواريَّ ْي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم َ‬
‫صـوا ونـُُّقوا من كل عيب‪ .‬وكذلك كان الصديقان‬ ‫ِ‬
‫أهل اللغة‪ :‬احلواريـون‪ :‬الذين أُخل ُ‬
‫صفامها االمتحان يف مدرسة الشدائد املكية‪ ،‬وبـَنَيا‬ ‫أبو بكر وعمر رضي اهلل عنهما‪َّ ،‬‬
‫اإلسالم مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكانا جبانبه يف املواقف اجلهادية اجلليلة‪.‬‬
‫‪ 1‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.159‬‬

‫‪661‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ف باستحقاقهما الَ بوصولية أو تزلُّف ملن بيده السلطة‪ .‬بعبارة العصر‪:‬‬
‫الص ِّ‬
‫برزا من َّ‬
‫كانا مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم والسابقني األولني من املهاجرين واألنصار‬
‫جرم يقول هلما النيب الكرمي صلوات اهلل وسالمه‬
‫«املؤسسني التارخييني» لإلسالم‪ .‬ال َ‬
‫ورة ما خالفتكما»‪ .‬رواه اإلمام أمحد عن عبد الرمحن‬
‫عليه‪« :‬لو اجتمعتما يف َم ُش َ‬
‫بن غُنم رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫اختلف الفقهاء هل األمر يف اآلية ﴿وشاورهم﴾ لإلجيـاب أو التخيـري‪ .‬وهل‬


‫جتب الشورى على ويل األمر بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أو تستحب؟‬
‫واختلفوا هل نتيجة الشورى ُملزمة أو ُمعلمـة؟ وهل يستشـري يف كل ْأم ٍر أو يف بعضه‬
‫باختياره؟ هذه مواضيع السـاعة وأسئـلة اإلسالميني ال ُـملِ َّحةُ‪ .‬وعلى اجتاه اجلواب‬
‫فقه ساداتنا اجملتهدين القدماء رمحهم اهلل‬‫عنها يكون احلكم اإلسالمي املبين على ِ‬
‫واختالفِهم إما استبدادا متلفِّعا باسم الشورى‪ ،‬أو سلطةً مقيدةً مشلولةً‪.‬‬

‫يتوقف فقه املسألة أوال على طبيعة العالقات بني املستشري واملستشار‪ .‬فبني‬
‫الذين نزل فيهم القرآن ونزل عليهم وبني رسـول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كانت تسود‬
‫احملبة والثقة والوفاء‪ .‬كانوا جتمعهم الصحبة وجيمعهم اإلميان‪ .‬كانوا جيمعهم سياق‬
‫﴿وأمرهم شورى بينه﴾»‪ .‬فلم يكن ٌ‬
‫جمال للنـزاع ال ُـمغرض بني املستشري واملستشار‪.‬‬
‫جمال للتزلف والكذب‪ .‬ورغم أن املواقف اجلهادية كانت صارمة حامسة‪،‬‬
‫ومل يكن ٌ‬
‫ورغم أنه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ينـزل عليه الوحي‪ ،‬فقد كان الصحابة رضي‬
‫اهلل عنهم يصارحونه بآرائهم بشجاعة ولو اختلفوا مع اجتاهه‪.‬‬

‫‪662‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫فقد روى اإلمام أمحد عن أنس أنه صلى اهلل عليه وسلم استشار الناس يف‬
‫أُسارى بدر فقال‪« :‬إن اهلل قد أمكنكم منهم»‪ .‬فنطق عمر بن اخلطاب رضي اهلل‬
‫عنه وقال‪« :‬يا رسول اهلل! اضرب أعناقهم!» فأعرض عنه رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ .‬مث عاد فقال‪« :‬يأيها الناس! إن اهلل قد أمكنكم منهم‪ ،‬وإنما هم إخوانكم‬
‫باألمس»‪ .‬فعاد عمر لرأيه يف ضرب األعناق مرة ثانية‪ .‬فأعرض عنه النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم وكرر َمقالته يف أهنم «إخوانكم باألمس» فعاد عمر ملقالته‪ .‬حىت أبدى أبو‬
‫بكر رأيه يف الفدية‪ .‬قال الراوي‪« :‬فذهب عن وجه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما‬
‫كان من الغم»‪.‬‬
‫قبل أن نسأل عن وجوب الشورى يف حق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الفعلي يف عمله وعمل أصحابه‪ .‬كان له صلى اهلل‬ ‫ننظر إىل العرب واألسوة والتشريع ِ‬
‫عليه وسلم رأيُه قبل أن يستشري‪ ،‬عبـََّر عنه بإعراضه عن اقرتاح عمر وبتلقينه مسلك‬
‫الرمحة يف قوله‪« :‬إمنا هم إخوانكم باألمس»‪ .‬وكان للصحابة رضي اهلل عنهم رأيهم‬
‫عن اقتناع واجتهاد مستقل‪ ،‬مل يكونوا إمعات حىت مع أعز الناس وأكرم الناس‬
‫وأقدس الناس‪.‬‬
‫س الشورى يف دولة اخلالفة الثانية ُمناطة برجال هلم ساب َقتُهم‬
‫هكذا َتؤ َّس ُ‬
‫خاصةً العالقة احلميمة مع‬
‫يف الدعوة‪ ،‬وهلم اقتـناعُهم‪ ،‬وهلم رأيُهم املستقل‪ .‬وهلم َّ‬
‫الشعب‪ ،‬حيملون مهه‪ ،‬ويسعون يف مصلحته‪ ،‬يتطابق عندهم َه ُّم الشعب ومصلحته‬
‫مع هم قضيتهم اليت بذلوا فيها جهدهم ومع مصلحتهم‪ .‬يسيطر َه ُّم آخرهتم على‬
‫سلوكهم يف الدنيا‪.‬‬

‫‪663‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫واملِعيار العُ َم ِر ُّ‬
‫ي يشري إىل «احلواريني آباء اإلسالم» يف قوله رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫«املرء وسابقته يف اإلسالم‪ ،‬واملرءُ و َغناؤه يف اإلسالم‪ ،‬واملرءُ وحظه من اهلل»‪.‬‬

‫أول ما ترجع لنوعية املستشري واملستشار‪،‬‬


‫ضمانات لسالمة الشورى ترجع َ‬
‫جيمعهم اإلميان‪ ،‬جيمعهم اجلهاد‪ ،‬جيمعهم التوكل على اهلل عز وجل‪ ،‬جيمعهم‬
‫ورى بـَيـْنـَُه ْم﴾ مكتمال‬
‫اجتـناب اإلمث والفواحش‪ .‬جيمعهم سياق ﴿ َوأ َْم ُرُه ْم ُش َ‬
‫متكاملةً خصاله‪.‬‬

‫ولئن نـزل األمر على املعصوم صلى اهلل عليه وسلم بالشورى فما ذاك إال لكوهنا‬
‫ركنا من أركان احلكم‪ .‬أنزهلا اهلل للتطبيق ال للتسلية‪ .‬فهي واجبة على املسلمني‪ ،‬ومما‬
‫ع اخلالف يف شأن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لنعلم هل هي يف‬
‫ال يعنينا أن نـَُفِّر َ‬
‫حقه واجبة أو مستحبة‪.‬‬

‫«معلمة» جيوز لويل األمر أن يتبع أو يرتك‪ .‬فالذي‬


‫وما كان للشورى أن تكون ُ‬
‫جاءت به السنة من فعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وفعل اخللفاء الراشدين أهنم‬
‫كانوا يعملون مبا قرت عليه آراء األغلبية‪.‬‬

‫فاحلاكم املسلم مقيد بالشورى‪ ،‬مقيد بالشريعة‪ ،‬مقيد مبسؤوليته اجلنائية أمام‬
‫القضاء‪ ،‬فهو أمامه كآحاد الناس‪ .‬وينبغي أن يكون إىل جانب هذه القيود كابح‬
‫دستوري قانوين يضع مسطرًة حملاكمة ويل األمر وعزله إن أخل ببَند من بنود البيعة‬
‫اليت تُ َش ِّك ُل َم ْع ِقد القوة يف نظام احلكم اإلسالمي‪.‬‬

‫‪664‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫فإنه بعد «وشاورهم في األمر» جاء «فإذا عزمت»‪ .‬الشورى مرحلة هتييئية‬
‫تفاوض فيه حىت حيصل اإلمجاع أو شبهه‪ .‬بعدها يعزم األمري‪،‬‬
‫للقرار‪ .‬ينبغي أن يُ َ‬
‫ويأمر‪ ،‬ويُطاع‪.‬‬
‫البيعة من خصائص احلكم اإلسالمي‪ .‬هي عق ٌد يـُْل ِزُم ذمة األمري واملأمور‪،‬‬
‫ويسم يف مسألة‬ ‫وحيدد مسؤولية اجلانبني‪ ،‬ويوضح اختصاصات احلاكم وواجبـه‪َ ،‬‬
‫أساسية من مسائل احلكم ال تزال الدميقراطية تتناوهلا بالتجربة واخلطإ‪ :‬هي مسألة‬
‫وجد ٌل قائم حول مفهومها ومعايريها‪.‬‬ ‫القيادة‪ .‬وللكلمة تارخيها يف الدميقراطية‪َ ،‬‬
‫الدميقراطية تزداد اقتناعا بضرورة عنصر القوة يف النظام الدميقراطي‪ ،‬ينشغل‬
‫منظروها وممارسوها باملالءمة بني أفُقية النقاش الربملاين وعمودية القيادة صاحبة‬
‫القرار‪ .‬وقد انتهت الدميقراطية اإلجنلوسكسونية يف أمريكـا إىل إقامة رئيس دولة‬
‫قوي جيمع بني يديه ُسلَط رئاسة احلكومة والقيادة العامة للجيش‪ .‬ويف إجنلرتا‬
‫مثل ذلك‪ .‬ونظام فرنسا منذ دوجول أخذ بنظام الرئاسـة القوية‪ .‬ويف إيطاليا ال‬
‫تزال الدميقراطية الربملانية تتخبط منذ بضع وأربعني سنة يف عدم االستقرار‪ ،‬مبعدل‬
‫حكومة كل بضعة أشهر‪ .‬ذلك النتشار األفُِقيَّـة الربملانية وانبطاحها كجسم ليس‬
‫له عمود فِ َقري‪.‬‬
‫املسألة يف اإلسالم حمسومة يف قوله تعاىل‪﴿ :‬فإذا عزمت﴾‪ .‬رد القرار النهائي إىل‬
‫يسري مع اإلمجاع أو شبهـه‪ ،‬وله أن يرجح باجتهاده إن تعذر‬ ‫ويل األمر‪ .‬عليه أن يستشري و َ‬
‫َّ ِ‬
‫اإلمجاع أو شبهه‪ .‬املسألة حمسومة يف البيعة والطاعة مبقتضـى قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬يَا أَيـَُّها الذ َ‬
‫ين‬

‫‪665‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ول َوأ ُْولِي األ َْم ِر ِمن ُك ْم﴾‪ .1‬نرجع إن شاء اهلل إىل مسألة‬
‫الر ُس َ‬ ‫َطيعواْ اللّه وأ ِ‬
‫َطيعُواْ َّ‬ ‫ِ‬
‫آمنُواْ أ ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫من هم أولو األمر الذين جتب طاعتهم يف الفصل األخري من هذا الباب‪.‬‬
‫إن مشكل السلطة يف احلكم اإلسالمي جيب أن ُيَل بكيفية إجيابية‪ .‬جيب أن‬
‫رخاوة شورى مفتوحة وفوضى مسرتسلة‬ ‫الشرعي بني َ‬
‫ُّ‬ ‫يُعطى للبيعة والطاعة مكا ُنما‬
‫منـتشرة وبني استبداد فردي متسلط‪ .‬ما دام احلاكم مقيدا بالشريعة مقيدا مبسؤوليته‬
‫اجلنائية مقيدا مبسطرة احملاكمة والعزل فاملنـزلق حنو االستبداد قد ُوضعت له احلواجز‪.‬‬
‫وما دام أمر اهلل عز وجل بالبيعة والطاعة وحيا منـزال فالضمانة مساوية لكي يكتسب‬
‫احلاكم عنصـر القوة واملضاء الذي بدونه تُ َش ُّل احلركة وتعجز احلكومة وتسرتخي‬
‫األمور‪ .‬ولكي تتن ّـزل على املبايِع واملبايَع الرمحة اخلاصة باملتوكلني على اهلل أهل ﴿‬
‫ورى بـَيـْنـَُه ْم﴾‪.‬‬
‫َوأ َْم ُرُه ْم ُش َ‬
‫القضية قضية مسؤولية‪ .‬فإذا كان احلاكم يعلم أنه مراقَب من كل اجلهات‪ ،‬وأنه‬
‫مسؤول أمام الشرع وأمام مسطرة توقفه عند حده‪ ،‬فإنه ميارس قيادته على بصرية ال‬
‫حيسب حساب الغد‪ .‬حيسب قبل‬ ‫مستبدل به بعد فرتته‪ ،‬فهو ُ‬
‫َ‬ ‫على هتور‪ .‬يعلم أنه‬
‫كل شيء حساب اآلخرة‪.‬‬
‫من اإلسالميني من يتصور أ ّن على األمري أن يشاور وال يتعدَّى الشورى‬
‫العام‪ .‬ومنهم من يأنَف من مسألـة الطاعة‬
‫التام َّ‬
‫الشلل ُّ‬
‫ُ‬ ‫«قيد أُمنلة»‪ .‬معىن هذا‬
‫وكأنه يرى يف كل حبل مفتول أفعى قاتلة لطول ما عانينا من االستبداد‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.59‬‬

‫‪666‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫إن كلمة «أمر» الواردة يف الشورى والطاعة تـتضمن مفتـاحا ملسألة السلطة‬
‫مستوى‬
‫ً‬ ‫وتوزيعِها‪ .‬تقول العرب‪ِ :‬أمَر ْأمُر فالن‪ ،‬إذا عظُـم واكتَسـى أمهية‪ .‬فعلى كل‬
‫من مستويات احلكومة جمالس متعددة للشورى يف «األمر» الذي يكتسي عندها‬
‫تلزَم الشورى يف كل صغرية وكبرية‬
‫أمهية‪ .‬ما كل األمور تـُْرفَ ُع إىل املستوى األعلى حىت َ‬
‫ال نتعداها قَيد أمنلة‪.‬‬

‫جيب أن يُطرح يف احلكومة اإلسالمية مشكل التعارض بني احلريات وبني‬


‫وم َن الدين واحلكمة أن ال ُيبـََر أح ٌد على البـَيـَْع ِة‪ٍّ .‬‬
‫لكل‬ ‫فريضة الطاعة بوضوح‪ِ .‬‬
‫احلق يف اختيار َم ْوتَتِ ِه ما دام يقرأ يف احلديث أن من مات وليس يف عنقه بيعة‬
‫مات ميتة جاهلية‪ .‬لكن إمضاء قرار احلكومة اإلسالمية جيب أن ال يتلعثم‪ .‬ومن‬
‫حق اإلسالم علينا أن نستفيد من قوة القيادة ال أن نُوهنها‪ .‬من حق اجل ْد َوى يف‬
‫مودي ‪-‬وهو قوة القيادة‪ -‬عديال ألفُقية الشورى‪ .‬وإال‬
‫الع ُّ‬
‫احلكم أن يكو َن البناء َ‬
‫كان البناء ُمنبطحا يهدد بالسقوط‪ ،‬مشلوال ال يتحرك‪.‬‬

‫الفرق بني احلكم الشخصي االستبدادي وبني احلكم اإلسالمي املشخص‬


‫القوي أن ذاك ال قَيد عليه من أخـالق وال من وازع ورادع‪ ،‬بينما هذا له‬
‫حدوده والتزاماته وعقد بيعة هو مسؤول عن الوفاء به أمام اهلل والناس‪ .‬احلكم‬
‫الشخصي ال يهدده قيام اجلمهـور عليه ما دامت بيده آلة القمع‪ ،‬واحلكم‬
‫اإلسالمي املشخص احملبوب له من اجلمهور دعامة‪ ،‬ومن العـزمة سند‪ ،‬ومن‬
‫الشورى وزير‪ ،‬ومن الوالية بني املؤمنني متكأ‪ ،‬ومن رضى اهلل عز وجل وتوفيقه‬

‫‪667‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ينصَر ّن اهلل من ينصره‪ ،‬إن اهلل لقـوي عزيز‪ .‬ال إله إال اهلل‪،‬‬
‫الركن الشديد‪ .‬ولَ ُ‬
‫حممد رسول اهلل‪ ،‬عليه صالة اهلل وسالم اهلل‪.‬‬

‫‪668‬‬
‫الفصل الثامن‬
‫إقامة الدين أو إقامة الدولة؟‬

‫* وتسنح فرصة‪...‬‬
‫* ُثنائية الدعوة والدولة‬
‫* طاعة اهلل ورسوله وأويل األمر‬
‫* إقامة الدين‬
‫* حضور‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫وتسنح فرصة‪...‬‬
‫تنسل احلركة اإلسالمية يف هذا القطر أو ذاك إىل احلكم انسالال تدرجييا‬
‫عن طريق انتخابات مل جتد الدميقراطيات ال ُـم َولّ َـدةُ بُدا من شق بعض فجاجها‬
‫للتناوب على احلكم‪ .‬وينربي اإلسالميـون حاملو شعار‬ ‫لإلسالميني‪ ،‬فتلك فرصة ُ‬
‫«البديل السياسي» ليدخلوا مع الناس يف دوامة التنـاوب على احلكم صعودا وهبوطا‪،‬‬
‫ِ‬
‫وتستبدل‬ ‫تناديهم أصوات انتخابية ملّت من عديلهم الالييكي الدنيوي‪ ،‬لتلفظهم‬
‫هبم قوما آخرين بعد جتربة لن يألَُو الناصبـون والنصابون جهدا يف إفشاهلا‪ .‬وتلك‬
‫فرصة سرابية ما كان ملتعطش فاضل أن ينتظر منها َح ْسواً لظَ ْمأته أو َغ ْرفةً لَِر ِّ‬
‫ي‬
‫ساحها من َع ْد ٍل ومناء وخري تعد به الدميقراطيات ال ُـم َولَّ َدة‬ ‫ِ ِ‬
‫الشعوب املالَّة القاح ِل ُ‬
‫وال تفي‪.‬‬
‫ْأو تُزلَْزُل األرض االجتماعية االقتصادية زلزاهلا باألنظمة الفاسدة اجلامثة على‬
‫الرقاب وينتظر املسلمون تغيريا جذريا ُيق احلق ويبسط العدل‪ .‬وتلك فرصة تارخيية‬
‫ومياهلا بني‬‫تضيع بني أصابع اإلسالميني إن هم ربطوا يف طموح الشعوب املسلمة ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫حكومة إسالمية ال مناص هلا من ُمصانعـة واقع شديد املر ِ‬
‫اس وبني الدعوة اإلسالمية‬
‫اليت حتيي القلوب وتنعش اإلميان وتعبّئ األمة جلهاد إحيائي مستمر صامد يف وجه‬
‫التقلبات السياسية العاملية واحمللية‪ .‬تَص َـرعُ عويصات املشاكل احلكومة الطـارئة ولو‬
‫بعد حني‪ ،‬وميَل النـاس‪ ،‬وتَ ْشـرئب أعناقهم إىل بديل‪ .‬واملرتبصون باإلسالم الدوائَِر‬
‫ُكثْر‪.‬‬

‫‪671‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الباب مسدود إذا إىل أي تغيري يقيم العدل؟ إقامة الدين إذاً رهينة بالنجاح‬‫ُ‬
‫االقتصادي للحكومة؟ إقامة احلكومة وتنصيب الدولة ما العمل لكيال يصبحا هدفاً‬
‫يُسابق إليهما الناجون من الزلزال بالقهر اجلربي أو الكذب االنتخايب والتزوير والتلفيق؟‬
‫ما العمل لكيال تنعكس الظروف اليت يصل فيها اإلسالميون إىل احلكم على‬
‫مسار الدعوة‪ ،‬ولكيال تثبِّط الظروف الطارئة بعد الوصول عزائِم كانت معقد اآلمال؟‬

‫‪672‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫ُثنائية الدعوة والدولة‬

‫منذ أكثر من ُربع قرن كنت أكتب عن الثنائية بني الدعوة والدولة ملتمسا‬
‫صيغة ٍ‬
‫للقاء بني رجال الدعوة ورجال الدولة ليتصاحل القرآن والسلطان‪ .‬وذلك أمل‬
‫هبَّت عليه عواصف من الرياح فأغرقته‪.‬‬
‫أقصد بالثنائية بني الدعوة والدولة وقوف أهل القرآن علماء األمة جبانب‬
‫مطالب العدل واالستقامة واخللق والدين عينا رقيبة ِم ْن مكـان ِعز القرآن وسيادته‬
‫على السلطان ليشتغل أهل السلطـان احلكام مديرو دواليب الدولة بتسيري دواليب‬
‫الدولة وإدارة مؤسساهتا حتت مراقبة ميارسها الشعب وتنطق هبا الدعوة وتراقب‬
‫وحتاسب‪.‬‬
‫تُـتيح اآلليات الدميقراطية للربملانات أن تراقب املعارضة التناوبية احلكومة‬
‫يتجزأ‬
‫وحتاسبها وتستعد لتكون عنها بديال‪ .‬يف الدميقراطية تشكل املعـارضة جزءا ال ّ‬
‫من ماهية آلة احلكم‪ .‬فما مث ثنائية‪ ،‬بل وحـدة متكـاملة‪ .‬ووجود آليات مراقبة من هذا‬
‫ِ‬
‫األصيلة نفسها هو‬ ‫النوع ضروري لتقومي املع َـو ِّج‪ .‬لكن ما العمل ومرض الدميقراطيات‬
‫انعدام الوازع اخللقي‪ .‬فما بالك بالدميقراطيات ال ُـم َولّ َدة املستوردة يف بالد املسلمني!‬
‫ِّقني من حكومة ومعارضة‪،‬‬‫نبحث إذا عن ثنائية من خارج النسق الدميقراطي ذي الش َّ‬
‫ـنجَّر‪ ،‬وال تدخل حلبة‬
‫ثنائية ال تضع الدعوة مبقتضى احلكم أصابعها بني أسنان الدوالب فت َ‬
‫اقتناص الفرص‬
‫ُ‬ ‫وس السياسيني‪ ،‬ديدن السياسيني‬ ‫الصـراع على السلطـة احلكـومية فتـتلَبَّس لـبُ َ‬
‫‪673‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الساحنة لظهور حزب على أحزاب وبروز شخصيات على منصات الوزارات والوظائف‬
‫العليا‪ ،‬إن مل تكن بكل بساطة فُرصا لنهب خريات املسلمني واإلفساد يف األرض‪.‬‬
‫حقيقة من حقائق الطباع البشـرية يلتقي عليها عقالء الناس وحكماؤهم‬
‫مع الصاحلني من هذه األمة‪ :‬يندِّد عقالء الناس بالسلطة ألهنا تُفسد املتصدين هلا‬
‫القابضني عليها مهما كان ُمنطلقهم س ِويّا‪ ،‬وحي ّذر صاحلـو املسلمني من السلطة‬
‫ِّس الطاهرين‪.‬‬
‫خشية أن تُدن ُ‬
‫فالتماس ثنائية من خارج النسق الدميقراطي ذي الش َّ‬
‫ِّقني ُيَنِّب العاملني يف‬
‫الدعوة مغريات إفساد السلطة وتدنيسها‪.‬‬
‫معروفة كلمة اللورد أكتون الربيطاين‪« :‬السلطة تفسد‪ ،‬والسلطة املطلقة تفسد‬
‫إفسادا مطلقا»‪.‬‬
‫وجمهولة جيب أن نف َقه فقهها ونتخ َذها مستمسكا لبحثنا عن ثنائية طاهرة‬
‫مطهرة‪ ،‬هي سرية الطيـب ْـي الصاحلني أيب بكر وعمر رضي اهلل عنهما‪ .‬وإن سريهتما‬
‫لَ ُسنّة ِأمرنا أن نستمسك هبا‪.‬‬
‫أخرج أبو نعيم يف «احللية» وابن عساكر أن أبا بكر الصديق رضي اهلل عنه‬
‫قيل له‪ :‬يا خليفة رسول اهلل! أال تستعمل أهل بدر؟ قال‪ :‬إين أرى مكاهنم‪ ،‬ولكين‬
‫أكره أن أدنّسهم بالدنيا‪.‬‬
‫وأخرج ابن سعد أنه ُسئل عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‪ :‬ما لك ال تُ ِّ‬
‫ول‬
‫األكابـر من أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم؟ فقال مقالة صاحبه الصديق‪:‬‬
‫أكره أن أدنِّسهم بالعمل!‬

‫‪674‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وأنت عافاك اهلل بني أن تُفتح لك الدنيا ِ‬
‫فاغَرةً فاها لتلت ِهمك من خالل العمل‬
‫ِ‬
‫ب منها بدينك كما فعل ويفعل الزهاد والناعسون‪،‬‬ ‫السياسي ال ُـمرهق ال ُـمشغ ِل فتـَْهُر َ‬
‫ِ‬
‫ض شراسته وتطهر دنسه‪ .‬من خارج‬ ‫وبني أن تقتحم بالدعوة مها ِول «العمل» لتـَُرِّو َ‬
‫الدَّوالب وعلى ناصيته‪.‬‬
‫على ناصية احلكم موجهني مراقبني ومن ورائهم الشعب املسلم يسود‬
‫رجال الدعوة‪ ،‬سالحهم املعنوي ثقتهم باهلل‪ ،‬وخشيتهم من اهلل‪ ،‬وثقة الشعب‬
‫طوعاً وطاعة هلل ورسوله بعد أن‬ ‫القياد ْ‬‫َ‬ ‫هبم‪ ،‬والتفافه من حوهلم‪ ،‬يُسلس هلم‬
‫سكنوا أزمانا للسلطان اجلائر القامع‪ .‬يذهب اهلل بأنظمة الفساد‪ ،‬يزلزهلم زلزال‪،‬‬
‫جنم‬
‫ليعلَُو ُ‬ ‫ُتيط هبم خطيئاهتم‪ ،‬وتدول معهم دولة الكذب والتزوير التارخيي ْ‬
‫َّ ِ‬
‫الصادقني أهل القرآن‪ ،‬ولتسطع مشسهم‪ ،‬ولتنشر رايتهم‪﴿ .‬يَا أَيـَُّها الذ َ‬
‫ين‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫آمنُواْ اتـَُّقواْ اللّهَ وُكونُواْ مع َّ ِ ِ‬
‫آمنُواْ أَطيعُواْ اللّهَ‬‫ين َ‬ ‫ين﴾ ‪﴿ .‬يَا أَيـَُّها الذ َ‬ ‫الصادق َ‬
‫‪1‬‬
‫ََ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫از ْعتُ ْم فِي َش ْي ٍء فـَُردُّوهُ إِلَى اللّ ِه‬
‫ول َوأ ُْولِي األ َْم ِر ِمن ُك ْم فَِإن تـَنَ َ‬ ‫الر ُس َ‬ ‫وأ ِ‬
‫َطيعُواْ َّ‬ ‫َ‬
‫ِ ‪2‬‬
‫ول إِن ُكنتُ ْم تـُْؤِمنُو َن بِاللّ ِه َوالْيـَْوم﴾ ‪.‬‬
‫الر ُس ِ‬
‫َو َّ‬
‫مع الصادقني سالح صدقهم وطاعة الذين آمنوا املمنوحة دينا من الدين وثقةً ُتتَبـَُر‬
‫براهينها ويُتأكد منها‪ .‬ومعهم قوة أويل القوة‪ ،‬وذراع أويل العزم منكل تائب َلْ خين أمانته‬
‫قط‪ ،‬ومل يزور ومل يكذب على األمة كذبة‪ .‬إذ ال بد من حتالف بني أهل القرآن وأهل‬
‫ال ُقوى اجلديدة التحررية املعتنقة حقائق دينها بعد خيبة الباطل وزوال ظله املقيت‪ .‬ال بد من‬

‫‪ 1‬سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.119‬‬


‫‪ 2‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.59‬‬

‫‪675‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ذراع قوية تضمن مسري القافلة لكيال تنحرف هبا بـُنـَيّات الطريق‪ ،‬ولكيال تُنا ِو َشها الذئاب‬
‫فتأ ُكلَها‪.‬‬

‫ليكن واضحا جليا أننا ال خنطب ُوّد األنظمة الفاسدة الكاذبة اخلاطئة‪ .‬وليكن‬
‫واضحا أن ِخطة بعض املرتددين من فلول احلركة اإلسالمية املتكسرين إىل مصاحلة‬
‫مع املزورين ليست ِخطّتنا‪.‬‬
‫دعوتنا ُمؤّكدة إىل ميثاق إسالمي يستظـل حبقه كل التائبـني من هذه األحزاب‬
‫مهما كان باألمس اقرتافها ما مل تكن رائدة الفسـوق والعصيان والكذب على اهلل‬
‫وعلى الناس‪.‬‬

‫‪676‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫طاعة اهلل ورسوله وأويل األمر‬

‫إسالمي هو هذا امليثاق؟ قرآين هو؟ صادق هو؟ صدقه أن يستمسك أطرافه‬
‫بذمة اإلميان‪ ،‬ذمة الصادقني الذين يطيعون اهلل ورسـوله وأويل األمر منهم‪ .‬يف دولة‬
‫أن والية األمر تتمثل يف االنضواء حتت ظل احلاكم‬ ‫اجلب والكذب طاملا فُ ِّسـر للناس َّ‬
‫ْ‬
‫حامل البهتان‪ .‬وإسالمية امليثاق الذي ندعو إليه تتمثل يف قرآنيتِه وصدقه‪َّ .‬‬
‫فسر‬
‫بعض العلماء ممن مضوا قبلنا غفر اهلل لنا وهلم أن أويل األمر هم األمراء القائمون‬
‫اليوم مداهُ وغاصت أقدام احلائرين يف َو ْحل‬
‫مهما كان احنرافهم‪ .‬وقد بلغ االحنراف َ‬
‫الباطل‪ ،‬اكتحلت بالباطل أعيُنهم‪ ،‬وفاهت به ألسنتهم‪ ،‬وولغت يف دمائه ِجراؤهم‪.‬‬
‫روى اإلمام البخاري أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلـم بَعث َسريّة (جيشا)‬
‫و ّأمر عليهم عبد اهلل بن ُحذافة‪ .‬فأوقد ابن حذافة األمـريُ نارا وعزم على اجليش‬
‫لي ِ‬
‫قتح ُمنَّها‪ .‬ومل يفعلوا‪ .‬فلما رجعوا قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬لو‬ ‫َ‬
‫دخلتموها ما خرجتم منها أبدا‪ .‬إنما الطاعة في معروف»‪.‬‬
‫أيّة نار ما برح يدعو إليها أهل اجلور؟ وما السبيل إىل اخلروج منها وقد‬
‫حترر من قبضة اجلور كلية؟‬
‫أُقحمت فيها الشعوب اإلسالمية َكرها إن مل يكن ُّ‬
‫مبيثاق إسالمي‪ ،‬قرآين‪ ،‬صادق‪ ،‬مع الصادقني‪.‬‬

‫‪677‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫روى علِ ٌّي بن أيب طلحة عن ابن عباس رضي اهلل عنهما أن أويل األمر هم أهل‬
‫الفقه يف الدين‪ .‬وبذلك قال ُماهد وعطاء واحلسن البصري وأبو العالية من علماء‬
‫التابعني وصادقيهم أهل القرآن‪.‬‬
‫يف آية الطاعة اليت أوردناها ذكر للتنازع والتحاكم إىل اهلل ورسوله لفض النزاع‪:‬‬
‫ول إِن ُكنتُ ْم تـُْؤِمنُو َن بِاللّ ِه َوالْيـَْوِم‬ ‫﴿فَِإن تـَنَ َاز ْعتُ ْم فِي َش ْي ٍء فـَُردُّوهُ إِلَى اللّ ِه َو َّ‬
‫الر ُس ِ‬
‫اآلخ ِر﴾‪ .1‬فهذه وظيفة رجال الدعوة العلماء مبا أنزل اهلل على رسوله‪ ،‬اخلاشعني هلل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫إليهم يتحاكم املسلمون‪ ،‬وألمرهم يطيعون يف حمل النزاع‪ .‬إليهم ال إىل غريهم‪ .‬إليهم‬
‫إن كانوا سائرين مع القرآن ال تابعني خانعني مستسلمني للسلطان‪.‬‬
‫من هم علماء الدين وفقهاء امللة‪ ،‬ما ِسَتُهم؟ ما ضمان استقامتهم؟ علماء‬
‫سخرون ذالقة لسـاهنم لدعم الكذب والبهتان‪ ،‬خيشون‬ ‫القصور ُوعاظ السالطني يُ ِّ‬
‫دارونم ابتداء حىت تنـزلق األقدام‬
‫الناس وال خيشون اهلل‪ ،‬يطلبون املنـزلة عندهم ْأو يُ َ‬
‫الرقاب أغالهلا‪ .‬أما الصادقون فهم الذين وصفهم رب العزة سبحانه قائال‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫وتألف‬
‫ِ ِ ِِ‬
‫شى اللَّهَ م ْن عبَاده الْعُلَ َماء﴾ ‪ .‬ويأيت الفقه يف الدين والعلم ْ‬
‫بأحكامه‬ ‫﴿إِنَّ َما يَ ْخ َ‬
‫‪2‬‬

‫والتضلع من معارفه تغشاه سكينة اخلشية من اهلل‪ ،‬وإال كانت الشهادات والتحصيل‬
‫وذالقة اللسـان حجة على بعض الناس الذين نصروا الباطل وخذلوا احلق‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.59‬‬


‫‪ 2‬سورة فاطر‪ ،‬اآلية ‪.28‬‬

‫‪678‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫إقامة الدين‬
‫تقتضي الثنائية الصحية بني أهل القرآن وأهل السلطان‪ ،‬وتقتضـي وظيفة‬
‫العلماء الذين حيتكم إليهم‪ ،‬وتقتضي واجبات الدعوة وأعباؤها وواجب تعليم األمة‬
‫دينها وعمارَة املساجد أن يرتفع أهل الدعوة أهل القرآن عن جماالت النزال السياسي‬
‫املدربني‬
‫ومهاتراته ومكابداته ليتفرغوا ملا هم له أهل‪ُ ،‬مراقبني موجهني أهل احلكم َّ‬
‫على شؤونه‪.‬‬
‫من مكان العزة يراقبون ويوجهون‪ .‬إقامة الدين وتقومي املنحرفني عن الدين‬
‫واجبهم الكلي‪ .‬تضيع منهم الفرصة التارخيية‪ ،‬وتتسـرب من بني أصابعهم إن هم‬
‫يب على احلكم‪ .‬الفرصة التارخيية غريُ‬
‫التناو ِّ‬
‫َع َمدوا إىل ساحة النضال السياسي والنـزال ُ‬
‫النُّهزة السياسية‪.‬‬
‫مؤسسة املسجد‪ ،‬ومنرب الوعظ‪ ،‬واجلهر بكلمة احلق‪ ،‬واإلشعاع اإلمياين‪،‬‬
‫ومغالبة أهوية اإلعالم العاملي املخرب‪ ،‬والتصدي ألهوائه‪ ،‬واألمر باملعـروف بالكلمة‬
‫مباشرة‪ ،‬ومحل الناس عليه بالذراع القوية احلليفة‪ ،‬والنهي عن املنكر‪ ،‬وزجر الناس‬
‫عنه بقوة احلكومة املوالية‪ .‬تلك جماالت رجال الدعـوة‪ .‬وتلك مواطن تأسيس‪ ،‬بل‬
‫إعادة تأسيس‪ ،‬دولة القرآن‪ .‬يتدنس أهل القرآن «بالعمل» السياسي املباشر‪،‬‬
‫يح مزاولة احلكم ومعاناته‬
‫وتْلى مواطن البناء على القواعد إن ذهب بأهـل الدعوة ر ُ‬ ‫ُ‬
‫اليومية‪ .‬ما َخشي ِمن أذاه أبو بكر وعمر رضي اهلل عنهما على أكابر الصحابة‬
‫وأهل بدر أوىل أن ُيشى َوبالُه على من دوهنم‪.‬‬

‫‪679‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫اح االضطهاد رجال الدعوة‬ ‫ِ‬
‫يتحدث الناس يف زماننا بعدما أثخنت جر ُ‬
‫من فعالت عبد الناصر العبد اخلاسر باإلخوان املسلمني‪ ،‬فما فعل طاغوت‬
‫ت فيه اجلزائر من جمازر عن تقاسم السلطة بني احلركات اإلسالمية‬
‫تونس‪ ،‬فما ُز َّج ْ‬
‫واحلاكمني الطغاة‪ .‬قسمة ِض َيزى‪:‬نستودع «الظالميني» ُركنا مظلما يف احلكومة‬
‫ليشتغلوا‪ ،‬ولنا اليد الطوىل والكلمة األوىل!!!‬
‫كي إسـالمي نفض يده «مرحليا»‬
‫ومهلَك ما يوازيه إال مقالة حر ٍّ‬
‫قسمة ضيزى َ‬
‫من السياسة ليشتغل مبا اشتغل به علماء املسلمـني عرب العصور يف زعمه‪.‬‬
‫ركن مظلم يف سراديب احلكم‪ ،‬وزنزانة يف ّأبته‪ ،‬وذيلية تابعة‪ .‬ال نرضى بذلك‬
‫أبدا‪ .‬السيادة للقرآن‪ ،‬وعلماء املِلة اخلاشعون هلل هم أهل القرآن‪ .‬هلم السيادة‬
‫والكلمة األوىل‪ .‬ولرجال احلكم تـرتك مظاهر احلكم وأُهبة الربتكول ومراتب الدولة‬
‫لينصرفوا إىل شغلهم‪ .‬حتت النظـر واملراقبة والتوجيه‪ .‬والسيادة‬
‫ودواوين اإلدارة َ‬
‫الفعلية واخللقية‪.‬‬
‫عقده‪ .‬ينتخبون لوضعه‬
‫خيتار نواب األمة َ‬
‫معا ومبيثاق‪ .‬وبدستور واضح ُ‬
‫ع َقْيب زلزال ُّ‬
‫يهد أركان أهل الباطل‪.‬‬
‫ليكن هذا واضحا‪ .‬وال حول وال قوة إال باهلل العلي العظيم‪.‬‬

‫‪680‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫حضور‬

‫ليكن واضحا أننا ال نلتمس مهربا من ساحة املواجهة أو توازنا مقبوال من‬
‫طرف القوى العاملية واحمللية املعادية لإلسالم‪ .‬كال! ولسنا نرمي لرتميم صدع األنظمة‬
‫املنهارة معنويا‪ ،‬املنـتظرِة ساعتها ليجرفها الطوفان جزاءً مبا كسبت أيدي الناس‪ .‬يَ َ‬
‫ند ُّك‬
‫ما كان يظنه الغافلون عن اهلل اجلاهلون بسنـته يف القرى الظامل أهلُها حصونا منيعة‬
‫وتغرق‪ .‬وملا بعد الطوفان‪ ،‬وخلواء ما بعد الطوفان‪ ،‬وخيبة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقالعا حصينة‪ ،‬وتندثر‪َ ،‬‬
‫ما بعد الطوفان نكتب‪.‬‬
‫تغيب الكآبة ال َـم ْخ ِزيَّة‪ ،‬ويبحث املسلمون يف هذا القطر أو ذاك عن حضوٍر‬
‫ٍ‬
‫وصوت يستحق التلبية‪ ،‬وذمة تليق أن تناط هبا الثقـة وتعقد عليها اآلمال‪.‬‬ ‫صادق‪،‬‬
‫يف جو االنفعاالت واالضطراب يعلو صوت الدعوة‪ ،‬حيضـر جاهراً بعد‬
‫حجب‪ . .‬وتتبـَّن الدعوة قضايا األمة الكربى‬ ‫ِ‬
‫إسكات‪ ،‬وينكشف وجهها سافرا بعد ْ‬
‫وتعرب عنها بثبات وصدق‪ .‬وذلك حني يتحتم إشراك كل القوى يف عملية قومة تقيم‬
‫الدين‪ ،‬وتكون إقامة الدولة وصياغة دستور عادل‪ ،‬وتركيب حكومة جديدة‪ ،‬بعض‬
‫شؤون إقامة الدين ال كل شؤوهنا‪.‬‬
‫فرز وظيفة الدعوة ‪-‬وهي شاملة عامة سيـادية‪ -‬عن وظيفة‬ ‫وذلك حني يتحتم ُ‬
‫الدولة‪ ،‬وهي إدارية متخصصة يف رعاية املصاحل الدنيـوية من تـنمية وتسيري يومي مايل‬

‫‪681‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫الريـبة السوقية إىل جانب ما خيلفه الطوفان‬
‫سياسي إداري‪ .‬ال تدخل الدعوة يف أجواء ِّ‬
‫فات سياسي حزيب‪ ،‬وال إىل جانب انتهازية تغامر مبستقبل املسلمني‪.‬‬ ‫من ر ٍ‬
‫ُ‬
‫مكونا وحيدا من مكونات الشعب يستطيع مهما‬ ‫من املغامرة أن يَزعم زاعم أن ِّ‬
‫بلغ من قوة َعددية وعُ َد ِدية أن حيمل على كتفيه أوزار املاضي وكوارث احلاضر وآمال‬
‫املستقبل‪ .‬من املغامرة بالدعوة أن تنتصب الدعوة بصفتها دعوة طرفاً يف النزاع على‬
‫ددها ومتاسكها‪ .‬الدعوة فوق‬ ‫السلطة اإلدارية مهما كان حجم فصائل الدعوة وع ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫احللَبَ ِة أخالقيا مبا هي نابعة من أعماق الضمري املسلم‪ .‬هي رامسة املصري التارخيي‬
‫رؤوس املسلمني بالقدوة والسلطة املعنوية ‪-‬واإللزامية‬
‫وراعية املسري التغيـريي‪ ،‬رافعة َ‬
‫السيادية أيضا‪ -‬إىل النظر آلفاق العزة بعد ذلة‪ ،‬واجملتمع األخوي بعد كراهية‪،‬‬
‫والعُ ْمران التكافلي بعد خراب بيت اجلبارين الناهبني خريات املسلمني‪.‬‬
‫بقطف أشو ِاك الساعة‪ ،‬وال هي نزهة للتشفـي بني أطالل ما‬
‫ِ‬ ‫ما هي ُنزة تُغتَـنَ ُم‬
‫خيلفه الطوفان‪ ،‬وال هي زيارةٌ عابرة ملواطن احلكم ومعاقل السلطة‪ .‬بل يَعين سنوح‬
‫الفرصة التارخيية أن يتغري وجه املنظر العام‪ .‬حبضـور القائمني بالقسط كما أمر اهلل‬
‫تعاىل عباده الصاحلني‪ ،‬حضورا فِعليـا يف كل ميدان‪ ،‬انطالقا من حضرة املسجد‬
‫وإشعاعا منه على كل مرافق احلياة‪.‬‬
‫من أعلى‪ ،‬كما تُ ِشع الشمس على ربوع األرض‪ .‬الشمـس منبع احلياة وحضرة‬
‫احلياة‪ ،‬الَ مينع ارتفاع مكاهنا من حضورها ال ُـمحيي كل ذرة من ذرات األرض‪ ،‬وكل‬
‫نبتة‪ ،‬وكل قائم وقاعد‪ ،‬وكل نابت وساع‪.‬‬

‫‪682‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫اجملزأة املوروثة خرائطُـها عن عصور‬
‫يف هذا القطر أو ذاك من أقطار املسلمني َّ‬
‫املوؤودة املدسوسة يف‬
‫الفتـنة وتقسيم االستعمار تدق ساعة احلقيقة‪ .‬ويبعث اهلل ْ‬
‫الرتاب بأيدي الفاسقني‪ :‬الدعوة‪.‬‬
‫يبعث اهلل عز وجل وهو احمليي املميت أمال جديدا يف القلـوب‪ ،‬وعزما أكيدا‬
‫يف اهلمم‪ .‬يلتئم علماء الدين وصاحلو املسلمني وكل ذي غرية على دين حممد صلى‬
‫اهلل عليه وسلم وملة إبراهيم اخلليل يف رابطة جتمع الشمل وتنادي باحلق وتتعاقد‬
‫على الوفاء هلل ولرسوله بعهد التعاون على الرب والتقوى واألمر باملعروف وفعله والنهي‬
‫عن املنكر وطرده‪.‬‬
‫داخل كتلة التائبني املتعاقدين على ميثاق إسالمي عام‪ ،‬يدخل فيه من شاء‬
‫وخيرج من شاء على م ٍإل من املسلمني‪ ،‬ينعقد تكتل رجال الدعـوة‪ ،‬ساقـَتُه علماء‬
‫الدين اخلاشعون هلل وجناحاه التائبون العابدون من أهل املسجد‪.‬‬
‫الصاحلون من رجال احلركة اإلسالمية هم َع َم ُد فُسطـاط الدعوة وقادة حضورها‬
‫ولسان فصاحتها وذراع قوهتا‪ .‬يف كوكبتهم ينضوي العلماء العاملون الراجعون من‬
‫غفوة كانت انتابت بعضهم‪.‬‬
‫أولئك القيادة‪.‬‬
‫وعلى مستوى احلكومة حيضر رجال احلركـة اإلسالميـة ال يغيـبون‪ .‬يشاركون‬
‫يف وضع دستور مسرية جديدة‪ ،‬وتشكيل حكومة وش ْغل مناصب وكراسي‪ ،‬على‬
‫ُوسع املتاح من الكفاءات‪ ،‬إىل جانب ذوي الغنـاء واألمانة والقوة من أهل امليثاق‬
‫اإلسالمي ِومّن يرضاهم املسلمون وينتخبوهنم‪.‬‬

‫‪683‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫يعين هذا أن نـنبِ َذ ِظ ْه ِريّاً ُسلَّم الرتتيب املوروث عن بناء االستعمار اخلارجي‬
‫والداخلي الذي ال يقيم وزنا لشيء يسمى الدعوة ولشـيء يسمى املسجد ومؤسسة‬
‫املسجد إال أن يكون املسجد مربضا للراكعني الساجدين الرعيّة املسلوبة احلق‪ ،‬أو‬
‫يكون أ ُّبة بنايات فخمة ختلد ذكرى الكرباء لتعبد فيها إىل جانب املوىل العزيز‬
‫تنسب إىل امسه املساجد ويذكر فيها امسه مع اسم اهلل‪.‬‬ ‫سبحانه ذكرى املؤسس‪َ ،‬‬
‫جل اهلل‪ .‬وال حول وال قوة إال باهلل‪.‬‬
‫َّ‬
‫يذهب اهلل عز وجل بريح السلطة القامعة املشركة باهلل‪ ،‬وبريح املعارضة السياسية‬
‫الزاعقة الناعقة حينا الراكعة املمكور هبا حينا‪.‬‬
‫ويأيت ربنا سبحانه بقوم حيبهم وحيبـونه أذلّة على املؤمنني أعزة على الكافرين‬
‫جياهدون يف سبيل اهلل و ال خيافون لومة الئم‪ .‬ذلك فضل اهلل يؤتيه من يشاء‪ .‬واهلل‬
‫ذو الفضل العظيم‪.‬‬
‫مروق‬
‫روق عن الدين‪ٌ ،‬‬ ‫قبل من فصل الدين عن الدولة إمنا هو ُم ٌ‬ ‫ما كان ُ‬
‫س من وراء واجهة اإلسالم الرمسي الذي يصلي فيه حكام اجلرب أمام كامرات‬ ‫متَـنَ ِّم ٌ‬
‫ـنمر متغَ ِّوٌل ال يستحي‬
‫التلفزيون‪ ،‬يُراؤون الناس وال يذكرون اهلل‪ .‬أو مروق سافر متَ ِّ‬
‫بعض ُرواد األحزاب الزاعقة الصاعقة أن يستظهروا به على اإلسالميني «املتطرفني»‬
‫«اإلرهابيني»‪.‬‬
‫قبل تطوى صفحته رويدا رويدا بيد احلكم واحلكمة ويد املوعظة‬
‫ما كان ُ‬
‫احلسنة واجلدال باليت هي أحسن‪.‬‬

‫‪684‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫حق اإلشـارة واهلداية والتوجيه‬ ‫ِ‬
‫يدان متكاملتان‪ ،‬ليمنامها‪ ،‬يد الدعوة‪ّ ،‬‬
‫يد احلكم واحلكمة والتدبري‪.‬‬‫وواجبها‪ ،‬أمينةً على دين اهلل‪ ،‬أمرية على يد الدولة ِ‬
‫ُ‬
‫كالمها يقيم الدين من جانب ختصصه ودرايته وكفايته‪.‬‬

‫وح َد قواها لتدعم صرح البناء اجلديد‬ ‫ض ٍْ‬


‫عي أن تُ ّ‬ ‫وعلى احلركة اإلسالمية فـَْر َ‬
‫على تقوى من اهلل ورضوان‪ ،‬صرح الدعوة السيدة‪ .‬ولفصائل احلركة اإلسالمية‬
‫فضيلة املشاركة يف احلكم بصفتها جمموعات‪ ،‬أو يتقـدم لفروض الكفاية كل امر ٍئ‬
‫بصفته الشخصية مبا قدمت يداه‪ ،‬ومبا معه من كفاءة ينفع هبا أمته هنا ليجد جزاء‬
‫ذلك عند اهلل خرياً وأبقى‪ .‬واهلل عزيز حكيم‪.‬‬

‫‪685‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫‪686‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫خامتة‬

‫‪687‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬

‫‪688‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ندخل العصر طوعا وكرها‪ .‬حنن يف ذاك املدخـل ّإما مادة يستهلكها التاريخ‪،‬‬
‫وإما ذات هلا يف الوجود حيثية وبني بين اإلنسان معىن‪ ،‬فهي تصنع التاريخ‪ .‬ننزع‬
‫عنا لباس اإلسالم ونطرحه كما تطرح التقاليد املخجلة‪ ،‬أو نرفع لواء اإلسالم لنعتز‬
‫وطوينا خافِقه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بعزته بعد أن َذل ْلنَا لألمم ملا كسرنا عصامه َ‬
‫سكان العصر وسادة املكان قوة جبارة‪ ،‬عمالق على أرجـل من طني لوجود‬
‫الفساد واالخنراب الساري واستفحاهلما يف قواعـده اخللقية‪ ،‬لكنه عمالق‪ .‬يف الفضاء‬
‫كواكب‪ ،‬ويف ال َـم ْسلحات صواريخ‪ ،‬وعلى رأس الصواريخ اهلَْول النووي‪ ،‬ويف األثري‬
‫أمواج يقذفنا من على متـنها اإللكرتون برسالة احلضارة املتألَقة ال ُـمَّزيـِّنَة‪ ،‬املنحلة اخلليعة‬
‫بعد ذلك ال معىن هلا‪ ،‬التائهة باإلنسان إىل هالك اإلنسان‪.‬‬ ‫َ‬
‫«ال مستقبل!»‪ .‬هذا شعار العامل املْتخم ينطق به شبابه ويفلسفه مثقفوه‪.‬‬
‫كآبةٌ مصنّعة غنية قوية مل متأل علومها واخرتاعاهتا وأشياؤها ومتتعهـا االستحواذي‬
‫خبريات األرض وهتالُكها على اللذة وأنانيتها الفراغ الروحـي‪ .‬وكآبة أقسى وأشد‬
‫قتامة يف عامل املستضعفني‪ :‬تقه ُقر إفريقيا‪ ،‬ومسغبة الصومـال‪ ،‬ومتزق العرب‪،‬‬
‫وجمازر البوسنة‪ ،‬وحمرقة بغداد‪ .‬وليست احلضارة الغربية يف أحشائها أحسن حاال‪:‬‬
‫هي يف أزمة‪ ،‬هي ترتاجع‪.‬‬
‫انتهى التاريخ كما يزعم احلَ ْم َقى ِمن بين احلضارة املسيطرة بسيادة الرأمسالية‬
‫بعد أن انقشع عن مسائها هتديد الصواعق النووية‪ ،‬وسقط جدار برلني‪ ،‬وانبطح شطر‬
‫احلضارة املادية املتفلسف الثوري‪-‬كان‪ -‬أمام شطرها املتَمول االستعماري الناجح‪ .‬فال‬
‫صراع بعد اليوم‪ ،‬وال من ينازع الرأمسالية اللربالية الدميقراطية احلقوق إنسانية سيدة الدنيا‪.‬‬

‫‪689‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أقرب االشرتاكيةَ الثوريَّةَ أهلُها‪ ،‬و َلَِقت االشرتاكية الدميقراطية اإلصالحية‬
‫ص بضاعة يف السوق‪ .‬كانت‬ ‫أرخ ُ‬
‫بأصلها‪ ،‬فالدنيا سوق إهله الربح‪ .‬واملسلمون َ‬
‫االشرتاكية الثورية صيحة احتجاج وفكرة نقد وقوة تعادل وتوازن يف العامل‪ .‬فلما‬
‫جي ِ‬
‫ب الرأمسالية خال اجلو الستبداد حساب الربح بعد أن قال االستبداد‬ ‫اختفت يف ْ‬
‫الطبقي كلمته الكئيبة وانصرف‪.‬‬

‫معشر الدميقراطيني يف بالد اإلسالم وجها لوجـه مع االختيار املصريي‪:‬‬


‫وها حنن َ‬
‫ك‪ ،‬مث نقلب صفحة‬ ‫ِ‬
‫أنتمسك باألذيال اإلديولوجية من بنات فكر غرينا حىت هنل َ‬
‫املسيطرة‪ ،‬أتباعا يف كل األحوال‪ ،‬أم نكون حنن األمةَ اخلرية اليت‬
‫وجوهنا حنو املذهبية ْ‬
‫أخرجها اهلل تعاىل للناس حينا من الدهر هادية قائدة‪ ،‬فلما نسيت رسالتها خذهلا‬
‫وض ٍم‪ ،‬طُعمة لألمم‪ ،‬قصعة مأكولة‪.‬‬
‫القد ُر؟بقينا حلما على َ‬
‫َ‬
‫ال مناص لنا ولكم معشر الدميقراطيني من حوار يصفِّي األجواء‪ .‬فالعنف‬
‫الذي متارسه يف جسمنا الدولة القطرية الالييكية يف اجلـزائر وتونس ومصر‪ ،‬كالعنف‬
‫اب ِ‬
‫بغداد صدام‪ ،‬ما هو حل‪ ،‬ما هو عقل‪ .‬ال‬ ‫الذي مارسه البغي الصامد حىت خر ِ‬
‫غرو أن ي ْلقاه اإلسالميون‪ ،‬وهم يف عرامة شباب الدعوة‪ ،‬بعنف مثله‪ .‬ال يقابَ ُل َج ْحد‬
‫ْ‬
‫الفكرة وقتا ُلا باحلديد والنار بعروض احلوار‪.‬‬

‫من الدميقراطيـني من حييـَْو َن مبروءة إنسانية‪ ،‬أوكرامة خلقية‪ ،‬أو شهامة وطنية‪ ،‬أو فكرة‬
‫شرفت اإلنسان من‬
‫نظيفة‪ .‬أولئك سيجدون أن املروءة واألخالق والشهامة والنظافة إن َّ‬
‫ف يف ميزان احلق‪ ،‬ميزان اإلسالم‪ ،‬إال إن توجها اإلسالم‪.‬‬
‫حيث هو إنسان‪ ،‬فهي ال تَ ْش ُـر ُ‬

‫‪690‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫وما دمتم‪ ،‬معشر الدميقراطيني‪ ،‬تتمسكون بإسالميتكم وحتتجون على من حيتكر‬
‫الدين من دونكم‪ ،‬فالكلمة السواءُ بني فصائل النخبة السياسية‪ ،‬من التحى منها‬
‫واحتجب ومن مل يـَْفعل‪ ،‬هي ميثاق واضح املنطلقات واألهداف‪ ،‬ندخل به مجيعا‬
‫وطرق املسالك املسدودة‪،‬‬ ‫يعشق ِ‬
‫عاشق قرع األبواب امل ْق َفلَة‪َ ،‬‬ ‫يف عهـد جديد‪ .‬إال أن َ‬
‫واالنتحار السياسي‪.‬‬
‫حوار مع كل من حيركه غضب شريف ضد أعداء األمة‪ ،‬مع كل من تغلي يف‬
‫صدره الغرية على ما آلت إليه األمة‪ ،‬مع كل من له طموح شريف ليخدم األمة‪ ،‬مع‬
‫كل عاقل متثبت مسؤول أيقظته إىل مسؤوليته نكبات األمة‪ .‬حوار ضروري وممكن‬
‫ما دام الشرفاء العقالء يرضون باجللوس على ٍ‬
‫بساط إسالمي‪ ،‬يف أرضية إسالمية‪،‬‬ ‫ْ‬
‫ال حول فكر دخيل‪ .‬ألسنا مجيعا مسلمني؟ إذا فال بساط جنلس عليه غري بساط‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫تداول‬
‫القضية مصري أمة هي اآلن خارج التاريخ‪ ،‬طفيلية على التاريخ‪ ،‬ال جمرد ُ‬
‫على السلطة بنظـام تسمونه دميقراطيـة ونسميه شورى‪ .‬إن كانت الدميقراطية ُتفي‬
‫حتت أثواهبا العداوة للدين‪ ،‬ونفض اليد من الدين‪ ،‬وتنقية األدمغة من الدين‪ ،‬فهو‬
‫ص ّم‪ ،‬وكل فكر دخيل على اإلسـالم ال ميتثل لكلمة اهلل وسنة رسوله شجرة‬ ‫حو ُار ُ‬
‫خبيثة جتتث يف فرق أرض اإلسـالم ولو بعد حني‪ .‬ولو بعد حني!‬
‫ال مناص لنا ولكم معشر الدميقراطيني من متريض هذه املرحلة االنتقالية حبكمة‪.‬‬
‫واملستقبل إلسالم صادق العنوان والبنيان‪ .‬املستقبل لتغيري عميق شامل‪ .‬تغيري من داخل‬
‫اإلنسان‪ ،‬من تربية اإلنسان‪ ،‬من تعليم اإلنسان‪ .‬التغيري أجيال‪ ،‬التغيري أمهات صاحلات‪،‬‬

‫‪691‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫التغيري مدرسة صاحلة‪ ،‬التغيري َمنَعةٌ ضد االمتداد السـرطاين للثقافة الدوابية‪ ،‬التغيري‬
‫إعادة بناء األمة على أصوهلا‪ ،‬التغيري تعبئة أمة‪ ،‬قومة أمة‪.‬‬

‫صنع كل ذلك دعوة‬


‫وأداة احلكم آلة لصنع كل ذلك‪ .‬آلة ما هي «اآللة»‪ُ .‬‬
‫صنع ذلك‬
‫صنع ذلك توبة إىل اهلل خالصة صادقة‪ُ .‬‬
‫تستجيب هلا األمة من األعماق‪ُ .‬‬
‫صنع ذلك ال جمال فيه للنخبة السياسية إن كان الدين‬
‫إنابة إىل اهلل وتوحيد وعبادة‪ُ .‬‬
‫يف خميّلتها جمرد رافد من روافد الثقافة إىل جانب الفـن واملسرح والقصة والتقاليد‬
‫اجمليدة واملعلومات املتناثرة عن املاضي واحلاضر وما كتب وما قيل وما أنشد‪.‬‬

‫فإن كان من توبة حنن ندعو إليها وحنن أحوج الناس إليها وإىل رمحة اهلل فذاك‪،‬‬
‫وإال فتمريض املرحلة حناور من أجله الشرفاء العقالء ريثما يتداركنا اهلل عز وجل‬
‫مجيعا بتوبة صادقة‪ .‬نتناسى غدرة اجلزائر‪ ،‬وجمزرة عبد الناصر‪ .‬ونثق كما تثقون بأن‬
‫االستبداد الفردي هو داء األمة‪ .‬نلتقي معكم يف كراهية االستبداد‪ ،‬ونثِق أن ما مل‬
‫موهوهُ باأللوان‪ ،‬وحلّوه‬
‫يؤسس على رضى الشعب واختياره ودعمه بناء من ورق‪ ،‬ولو ّ‬
‫باجملد التارخيي‪ ،‬وكذبوا على الشعب يف التلفزيون بعرض حفالت عبادة الطاغوت‪.‬‬

‫يف الشعب رواسب من «دين االنقياد»‪ ،‬وفيه من األدواء األخرى ما يسهل‬


‫على قنَّاصة السياسية أن ي ْغتالوا يف الشعب بصيص األمل ليقودوا الشارع ويعتلوا كراسي‬
‫احلكم‪ .‬ما حنن حبمد اهلل قنَّاصةٌ وال غدارون‪ .‬وما قيادة الشارع واعتالء الكراسي مطمحنا‬
‫النهائي‪ .‬مطمحنا إمامة أمة‪ ،‬إحياء أمة‪ ،‬توحيد أمة‪ ،‬تبليغ رسالة لإلنسان‪ .‬واهلل غالب‬
‫على أمره‪ ،‬وحركة اإلحياء مشس طالعة‪ .‬الضـرير من ال يرى أفقها املشع‪ .‬والغيب من يظن‬

‫‪692‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫أن اإلسالميني يريدون احلكم ليغتالوا الدميقراطية‪ .‬ما نفعل باستبداد! ما نفعل بأمة‬
‫يف األغالل!‬
‫وسوأى‬
‫مرحبا بدميقراطية حترر األمة من أغالهلا لتختار األمة من حيكمها‪ُ .‬‬
‫ألعداء الدين يُ ِسّرون حتت عبادة الدميقراطية نية اغتيال الدين‪ ،‬ويـُبـَيِّتون إقصاء‬
‫الدين‪ ،‬ويتآمرون‪-‬إىل حني! إىل حني!‪-‬مع املستبد الداخلي واملسيطر اخلارجي‬
‫ويكيدون للدين‪.‬‬
‫َش َعر االشرتاكيون من بين جلدتنا باليُتم أومل يشعـروا‪ ،‬أفاق املثقفون‬
‫ضويُّون من غفوة التبعية الفكرية أو مل يُفيقوا‪ ،‬نظرت األحزاب الوطنية إىل‬
‫العُ ْ‬
‫الركب تعبد هيكل أجمادها املاضية‪ ،‬فاألمة يف مفرتق‬
‫املستقبل أم جثت على ُّ‬
‫طرق‪ .‬تاه هبا عن اجلادة زمناً ُحكام عشرية‪ ،‬وحكام قبيلة‪ ،‬وحكام حزب‬
‫وحيد‪ ،‬فهي راجعة إىل اجلادة‪ .‬واجلادة اإلسالم‪.‬‬
‫وجنلس للحوار مع الشرفاء العقالء يوما لنتأمل مالمح الطفلـة املعجزة املنتظرة‬
‫اليت يتومسها الناس دميقراطية ونتومسها شورى‪ .‬خرج إىل الدنيا ِسقطاً خدجياً ُمشوها‬
‫وبَّرت الصواريخ يف مساء بغداد‬ ‫جنِني احللم االشرتاكي‪:‬وحـدة‪ ،‬حترر‪ ،‬اشرتاكية‪َ .‬‬
‫قبل احلل ُـم الناصري‬
‫وأرض الكويت احللم القومي‪:‬حترر‪ ،‬وحدة‪ ،‬اشرتاكية‪ .‬وتبخر من ُ‬
‫حتت سنابك الدولة العظمى اليهودية‪:‬اشرتاكية‪ ،‬حترر‪ ،‬وحدة‪.‬‬
‫أال من يُسبّح معنا حبمد اهلل من شرفاء الفلول االشرتاكية الوطنية القومية بدل‬
‫السباحة يف األحالم؟‬
‫‪693‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ال مناص من اجللوس يوما على مائدة احلكمة لننظر وإياكم يف التعددية‬
‫ومزاياها‪ ،‬ويف الدميقراطية وخفاياها‪ .‬مارستُم زمنا مع املستبد سياسة إقصائنا‪ ،‬فنحن‬
‫نغض الطرف‪ .‬تعددية مارستموها فيما بينكم مهشتنـا زمنا‪ ،‬وارحتتم لسياسة النعامة‪.‬‬
‫وثِْقتم زمنا خبيال خادع صور لكم أنفسكم القـوة املستقبلية حاملة املفتاح السحري‪،‬‬
‫وحنن ال نبخس الناس أشياءهم وال نـَْل ِوي أعناقنا إىل املاضي‪.‬‬
‫دميقراطيةً تعدديةً قلتم؟ نعم إلسالم وشورى يشارك فيها كلٌّ مبا معه من مروءة‬
‫وشرف ووطنية ودين‪ ،‬جيمعنا وإياكم توافق على خري نسديه لألمة‪ ،‬ومشروع تـنمية‬
‫وحترير وعتق رقاب من نري االستعباد‪ .‬واملستقبل كشاف للعقالء‪ ،‬يتعلمون بال حرج‬
‫وال إحراج من جانبنا وال أستاذية‪.‬‬
‫َّ‬
‫إن اجملتمع املدين الالييكي احملايد دينيا ُخدعة إديولوجية تنطلي اليوم موجةً‬
‫قبل خدعة احلزب الوحيد‪ ،‬والزعيم اخلالد‪ ،‬والقائد امللهم‪.‬‬
‫عابرة فاشلة كما انطلت ُ‬
‫جتم ٍع لغرينا فنحن ال يصلح أمرنا وال مجعنا إال باإلسالم‪.‬‬
‫إن صلُحت الالييكية قاعدة ُّ‬
‫دعكم من «جمتمع مدين» يغدو ويروح على إيقاع الرقص احلداثي‪ .‬وهلموا‬
‫إىل جمتمع أخوي قاعدته مجاعة املسلمني املتآلفة من أحزاب سياسية‪ ،‬ونقابات تـتآزر‬
‫مع األحزاب على كلمة العدل‪ ،‬ومجعيات‪ ،‬ومؤسسات‪ ،‬وشخصيات‪ ،‬وما شئتُم من‬
‫تنظيمات‪ ،‬كل ذلك ينبض بروح اإلسالم‪ .‬وينطق بكلمة اإلسالم‪ ،‬وخيدم أهداف‬
‫اإلسالم‪.‬‬

‫‪694‬‬
‫الـعـ ـ ــدل‬
‫ونَلِّي الغاشية عن أبصارنا وعقولنا‬
‫نـُزيل وإياكم العوائق املوروثة من طريقنا‪ُ ،‬‬
‫وتو ُّجه الواقع‪ ،‬وحتمية املستقبل‪ .‬إنه يا قوم اإلسالم‬
‫ب أمامنا مشهد الواقع‪َ ،‬‬
‫اليت تُضبِّ ُ‬
‫أو الطوفان‪ .‬وكفانا طوفانا ما ترون وتسمعون‪.‬‬
‫واقع االختالف وشرعية االختالف مسلَّمة قَ َدريّة‪ .‬االختالف بآدابه ونظامه‬
‫املؤسسي إثراء لفكر األمة ما يف ذلك شك‪ .‬قتلتنا وفتكت بنا الزعامة الوحيدة املؤبدة‪،‬‬
‫والفكر الوحيد املعصوم‪ ،‬والتنظيم الوحيد املسيطر‪.‬‬

‫هذا‪ .‬وبصدق توبتنا إىل اهلل مجيعا حناول أن جنلس للحوار‪ ،‬وُيضي من شاء‬
‫كل‪ ،‬من اآلراء‬
‫وعقل ٍّ‬
‫كل ُ‬ ‫كل وشرف ٍّ‬
‫امليثاق‪ ،‬بالنية الصادقة املتربئة‪ ،‬ما شاء هلا دين ٍّ‬
‫احلق‪.‬‬
‫ائدنا ُّ‬
‫العنيدة‪ ،‬نطلب مجيعا املصلحة العامة إن كان ر َ‬
‫كلميت إىل كل مؤمن ومؤمنة أن اتقوا اهلل‪ ،‬وإن تكفـروا فإن هلل ما يف السماوات‬
‫واألرض‪ .‬اللهم صل على سيدنا حممد وعلى آل سيدنا حممد كما صليت على سيدنا‬
‫إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم‪ .‬وبارك على سيدنا حممد وعلى آل سيدنا حممد كما‬
‫باركت على سيدنا إبراهيـم وعلى آل سيدنا إبراهيم يف العاملني إنك محيد جميد‪.‬‬

‫وآخر دعوانا أن احلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

‫‪695‬‬
‫الفهرس‬
‫‪7..............................................................................‬‬‫بني يدي الكتاب‬
‫فاحتة‬
‫‪15....................................................................................................‬‬

‫الباب األول‬
‫ماذا يريد اإلسالميون؟‬
‫الفصل األول‪ :‬الورد السياسي األخالقي للحركة اإلسالمية‬
‫اإلسالم‪35.............................................................................‬‬ ‫قواعد‬
‫التأصيل‪40...........................................................................‬‬ ‫معضلة‬
‫األمم‪45..............................................................‬‬ ‫مرض الغثائية وداء‬
‫«الساحة»‪50...................................................‬‬ ‫منطق الدعوة ومنطق‬
‫والتطرف‪55.............................................................................‬‬ ‫الغلو‬
‫ّ‬
‫فقه التجديد‪60................................................................................‬‬

‫املستقبل‪66.........................................................................‬‬ ‫حتديات‬
‫الفصل الثاني‪ :‬الدعوة والدولة‬
‫‪75................................................................‬‬ ‫افرتق القرآن والسلطان‬
‫الرحا‪81....................................................................................‬‬
‫َّ‬ ‫دورة‬
‫والقائمون‪87.........................................................................‬‬ ‫العلماء‬
‫‪93...............................................‬‬ ‫فتوى االستيالء و«عجز الطالب»‬
‫‪99....................................................‬‬ ‫أهل العلم بني التقليد والتلبيس‬
‫‪104.........................................................‬‬ ‫«أكره أن أدنسهم بالدنيا»‬

‫الفصل الثالث‪ :‬الطاعة واملعارضة‬


‫االنقياد»‪111.........................................................................‬‬ ‫«دين‬
‫‪116.............................................................‬‬ ‫البيعة وطاعة أويل األمر‬
‫األعناق‪122....................................................................‬‬ ‫أنشوطة يف‬
‫‪128..........................................‬‬ ‫من هم أولو األمر الواجبة طاعتهم؟‬
‫املعارضة‪134.........................................................................‬‬ ‫واجب‬
‫‪140.....................................................‬‬ ‫«القطب األعظم يف الدين»‬
‫والتعددية‪146......................................................................‬‬ ‫املعارضة‬
‫الفصل الرابع‪ :‬تطبيق الشريعة‬
‫واالجتهاد‪155....................................................................‬‬ ‫املصلحة‬
‫لآلخرة‪160.............................................................................‬‬ ‫الدنيا‬
‫‪166..............................................................‬‬ ‫وازعا القرآن والسلطان‬
‫‪172..........................................................‬‬ ‫قانون التدرج‪ ،‬بل شريعته‬
‫‪178........................................‬‬ ‫«باب من ترك قتال اخلوارج للتألف»‬
‫احلافظون‪184.......................................................................‬‬ ‫التائبون‬

‫الفصل اخلامس‪ :‬العمران األخويُّ‬


‫وأخوي‪193.........................................................................‬‬ ‫عُمران‪،‬‬
‫‪198........................................................‬‬ ‫خصائص العمران األخوي‬
‫الــزكــاة‪204.......................................................................................‬‬

‫‪210...........................................................‬‬ ‫يف املال حق سوى الزكاة‬


‫والبذل‪216...............................................................................‬‬ ‫الـبِـر‬
‫والتنمية‪222...........................................................................‬‬ ‫العدل‬
‫النـفـط‪228......................................................................................‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬الوحدة‬
‫التوحيدية‪237......................................................................‬‬ ‫عقيدتنا‬
‫االستعمارية‪243...................................................................‬‬ ‫التجزئة‬
‫باالقتصاد‪249.....................................................................‬‬ ‫التوحيد‬
‫‪255........................................................‬‬ ‫وحدة بالقوة‪ ،‬وحدة باحملبة‬
‫ثورة‪261............................................................................‬‬ ‫قومة‪ ،‬ال‬
‫اجلامعة‪268...........................................................................‬‬
‫الوالية‬
‫َ‬
‫«مجاعة املسلمني»‪275....................................................................‬‬

‫الفصل السابع‪ :‬املـرأة‬


‫الطيبة‪283..............................................................................‬‬ ‫احلياة‬
‫كلَّفة‪289..................................................................‬‬
‫مَ‬ ‫املؤمنة ُم َشَّرفة‬
‫الزوج الصاحلة‪296...........................................................................‬‬

‫الفطرة‪302...........................................................................‬‬ ‫حافظة‬
‫والعمل‪308..............................................................................‬‬ ‫املرأة‬
‫واحلرية‪314...............................................................................‬‬ ‫املرأة‬
‫الـعـزل‪320.......................................................................................‬‬
‫الباب الثاني‬
‫عامل يف خماض‬
‫الفصل األول‪ :‬رياح التغيري يف العامل‬
‫شيء»‪331...................................................................‬‬ ‫«أبواب كل‬
‫للعامل‪338.....................................................................‬‬ ‫نظام جديد‬
‫‪345............................................................‬‬ ‫الشرف الدويل لإلسالم‬

‫الفصل الثاني‪ :‬حقوق اإلنسان‬


‫للناس‪355..............................................................................‬‬ ‫بالغ‬
‫اخلُلُق»‪362....................................................................‬‬ ‫«نظريك يف‬
‫‪369.......................................................‬‬ ‫اإلنسان املعذب يف األرض‬

‫الفصل الثالث‪ :‬التقدم والتخلف‬


‫التقدم‪379...................................................................‬‬ ‫«ميثولوجيا»‬
‫واملاضي‪385........................................................................‬‬ ‫العصرنة‬
‫احملوري‪392...........................................................................‬‬ ‫النقاش‬
‫الفصل الرابع‪ :‬الـتـغـريـب‬
‫الصماء»‪401......................................................................‬‬ ‫«الدائرة‬
‫‪408..........................................................‬‬ ‫«طاحون التعليم الغريب»‬
‫‪415............................................................‬‬ ‫«الردة مرونة يف الفكر»‬

‫الفصل اخلامس‪ :‬ضرورة احلوار وحسن اجلوار‬


‫‪425..............................................................‬‬ ‫حوار الضعيف للقوي‬
‫وظروفه‪432.................................................................‬‬ ‫شروط احلوار‬
‫للنقاش‪440...........................................................................‬‬ ‫قضايا‬

‫الفصل السادس‪ :‬مع املستضعفني‬


‫‪451.........................................................‬‬ ‫املستضعفون واملستكربون‬
‫واملستضعفني‪460.........................................................‬‬ ‫يف سبيل اهلل‬
‫االستكبارية‪467......................................................................‬‬ ‫اآللة‬

‫الفصل السابع‪ :‬التنمية‬


‫إسالمي»‪477.....................................................................‬‬ ‫«اقتصاد‬
‫اجلهادية‪484...........................................................................‬‬ ‫التعبئة‬
‫التنموية‪491...............................................................‬‬ ‫القومة ومهومها‬

‫الباب الثالث‬
‫ما العمل؟‬
‫الفصل األول‪ :‬احلل اإلسالمي‬
‫حل؟‪503.................................................................................‬‬ ‫أي‬
‫ُّ‬
‫مثن؟‪510..................................................................................‬‬ ‫بأي‬
‫أسلوب؟‪518..........................................................................‬‬ ‫وبأي‬

‫الفصل الثاني‪ :‬هداية الوحي‪ ،‬سيادة العقل‬


‫والفلسفة‪527........................................................................‬‬ ‫الوحي‬
‫احملررة‪534..........................................................................‬‬
‫ِّ‬ ‫العقالنية‬
‫اجلدد‪542.............................................................................‬‬
‫ُ‬ ‫املعتزلة‬

‫الفصل الثالث‪ :‬جدار الالييكية‬


‫االستعمار‪553........................................................................‬‬ ‫غرس‬
‫جامعة‪559............................................................................‬‬ ‫الثقافة‬
‫التعليم‪566......................................................................................‬‬

‫الفصل الرابع‪ :‬الفتنة‬


‫والفتنة‪575..........................................................................‬‬ ‫اجلاهلية‬
‫الفنت‪583....................................................................................‬‬ ‫أم‬
‫بالفتنة‪590.......................................................................‬‬ ‫َد ْرءُ الفتنة‬

‫الفصل اخلامس‪ :‬املروءة واألخالق‬


‫والدين‪599............................................................................‬‬
‫املروءة‬
‫ِحلف الفضول‪606..........................................................................‬‬

‫مريضني‪613......................................................................‬‬ ‫حوار بني‬

‫الفصل السادس‪ :‬ميثاق «مجاعة املسلمني»‬


‫التفاهم؟‪623....................................................................‬‬ ‫العنف أو‬
‫واملروءة‪630............................................................................‬‬ ‫الدين‬
‫الرسالة‪637...........................................................................‬‬ ‫حتميل‬
‫الفصل السابع‪ :‬الشورى والعدل‬
‫بالعدل»‪647.............................‬‬ ‫«وإذا حكمتم بني الناس أن حتكموا‬
‫بينهم»‪654....................................................‬‬ ‫سياق «وأمرهم شورى‬
‫األمر»‪661........................................................‬‬ ‫عزمة «وشاورهم يف‬

‫الفصل الثامن‪ :‬إقامة الدين أو إقامة الدولة؟‬


‫فرصة‪671............................................................................‬‬ ‫وتسنح‬
‫والدولة‪673..................................................................‬‬ ‫ثُنائية الدعوة‬
‫األمر‪677......................................................‬‬ ‫طاعة اهلل ورسوله وأويل‬
‫الدين‪679...............................................................................‬‬ ‫إقامة‬
‫حضور‪681.....................................................................................‬‬

‫خامتة‬
‫‪689...............................................................................................‬‬

You might also like