You are on page 1of 221

1

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫اإلهداء‬

‫إلى شهداء الثورات الشعبية في ليبيا‬


‫وتونس ومصر واليمن وسوريا وغيرها‪.‬‬
‫وإلى الشعوب المتطلعة لتحكيم شريعة اهلل‬
‫بينها‪ ،‬والحريصة على إعادة دور األمة‬
‫الحضاري من جديد‪،‬أهدى هذا الكتاب‪.‬‬

‫قال تعالى‪ ":‬فَمَن كَانَ يَرْجُو ِلقَاء ر َِّبهِ‬


‫فَ ْليَعْ َملْ عَ َمًلا صَا ِلحاا وََلَ ُيشْ ِركْ بِ ِعبَا َدةِ‬
‫رَبِّهِ أَحَداا" (الكهف‪ ،‬آية ‪)110 :‬‬

‫‪2‬‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫المقدمة‬

‫إن الحمد هلل نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور‬
‫أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‪ ،‬ومن يهده اهلل فال مضل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي‬
‫له‪ ،‬وأشهد أال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمداً عبده ورسوله‪.‬‬

‫(آل عمران ‪ ،‬آية‬ ‫"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اهللَّ حَقَّ تُقَاتِهِ وَالَ تَمُوتُنَّ إِالَّ وَأَنتُم مُّسلِمُونَ"‬
‫‪.)102 :‬‬

‫جهَا وَبَثَّ‬ ‫ق مِنهَا زَو َ‬ ‫"يَا أ َُّيهَا النَّاسُ اتَّقُوا ر ََّبكُمُ الَّذِي خَلَ َقكُم مِّن نَّفسٍ وَاحِ َدةٍ وَخَلَ َ‬
‫اهلل الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَاألَرحَامَ إِنَّ اهللَّ كَانَ‬
‫ال كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُوا َّ‬ ‫مِن ُهمَا رِجَا ً‬
‫عَلَيكُم َرقِيبًا" (النساء ‪ ،‬آية ‪.)1 :‬‬

‫اهلل َوقُولُوا قَوالً سَدِيدًا * يُصلِح َلكُم أَعمَاَلكُم وَيَغفِر لَكُم‬


‫"يَا أ َُّيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا ََّ‬
‫عظِيمًا" (األحزاب‪ ،‬اآلية ‪ 70 :‬ـ ‪.)71‬‬ ‫اهلل َورَسُوَلهُ فَقَد فَا َز فَوزًا َ‬
‫ذُنُوبَكُم َومَن ُيطِع ََّ‬
‫يا رب لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت وللك الحمد بعد الرضى‬

‫أما بعد‪،‬‬
‫إن الشعوب اإلسالمية تمر بمرحلة جديدة في تاريخها المعاصر فقد أذن اهلل‬
‫لها لها بالنهوض والتخلص من اإلستبداد والنظم الجيرية الدكتاتورية وبدأت‬
‫نقطة اإلنطالق في تونس الحبيبة العزيزة التي أذاقها نظام بن علي سوء‬
‫العذاب‪ ،‬فعمل على تجفيف منابع الهدى واإليمان والتُقى وأوقع البالد في‬

‫‪3‬‬
‫الفقر والذل والبطالة والضنك فكانت البداية من هذا الشعب المتحضر‬
‫المتمدن‪.‬‬
‫وبدأنا نرى قول اهلل تعالى يتحقق في حياتنا‪" :‬وَُنرِيدُ أَن َّنمُنَّ عَلَى الَّذِينَ‬
‫ِمةً وَنَجعََلهُمُ الوَارِثِينَ * وَ ُنمَكِّنَ َلهُم فِي‬
‫استُضعِفُوا فِي األَرضِ وَنَجعََلهُم أَئ َّ‬
‫األَرضِ وَ ُنرِي فِرعَونَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنهُم مَّا كَانُوا يَحذَرُونَ" (القصص ‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫‪ 5‬ـ ‪.)6‬‬

‫إن الثورة التونسية المباركة أرض عقبة بن نافع الذي دعا للقيروان عام‬
‫‪62‬هـ‪ ،‬وكان مجاب الدعوة عندما تحرك بجيوشه منها إلى ساحل المحيط‬
‫األطلسي في المغرب‪ ،‬وقد استخلف عليها زهير البلوي دعا لها قائالً‪" :‬يا رب‬
‫أمألها علماً وفقهاً وأمألها بالمطيعين لك‪ ،‬واجعلها عزاً لدينك‪ ،‬وذالً على من‬
‫كفر بك‪ ،‬وأمنعها من جبابرة األرض‪ ،‬وقد فتحت لإلنسانية صفحات جديدة في‬
‫تاريخها‪.‬‬
‫الثورة التونسية أرض الزيتونة التي تخرج منها العلماء والفقهاء واألدباء‬
‫والمفكرون والقراء والزهاد والعبَّاد‪.‬‬
‫تونس أرض أبو القاسم الشابي صاحب القصيدة الثورية المشهورة التي تغنى‬
‫بها التونسيون في ثورتهم المباركة‪:‬‬
‫إذا الشعب يوماً أراد الحياة‬
‫فال بد أن يستجيب القدر‬
‫وال بد لليل أن ينجلي‬
‫وال بد للقيد أن ينكسر‬
‫وانجلى الليل بفضل اهلل‪ ،‬وانكسر القيد برحمته‪.‬‬
‫وكان لهذه الثورة السلمية الحضارية اإلنسانية‪ ،‬أثر على عقول الناس وقلوبهم‬
‫وأفكارهم ومشاعرهم‪ ،‬فغير اهلل بها النفوس واألفكار والمشاعر‪ ،‬ووصل صداها‬
‫‪4‬‬
‫في آفاق المعمورة وتفاعل معها وأيدها األحرار من بني اإلنسان في كل مكان‪،‬‬
‫فكانت مصر على استعداد تام لدفع الظلم وإزالة الظالم‪ ،‬فمصر العظيمة‬
‫بتاريخها وحضارتها وثقافتها كانت على موعد قدري " َوكَانَ أَمرُ اهللَِّ قَ َدرًا‬
‫مَّقدُورًا"‪ ،‬واستلهمت روح الثورة التونسية وطورتها واستفادت منها‪ ،‬وأحدث‬
‫المصريون ما لم يتوقعه إال من عرف تاريخ هذا الشعب المحب للحرية‪ ،‬المتعطش‬
‫للعدالة‪ ،‬الرافض للظلم‪ ،‬واالستبداد‪ ،‬المتطلع إلى دوره الطبيعي في الحياة‪.‬‬
‫إن كسر قيود االستبداد وقهر الديكتاتورية‪ ،‬وانطالق المصريين ألهدافهم السامية‪،‬‬
‫كالحرية والعدالة والكرامة والشورى‪ ،‬بداية نهضة لهذه األمة التي ال تستغني‬
‫عن دورهم الريادي عبر العصور وتوالي الدهور‪ ،‬فالذي نتوقعه في العقود القادمة‬
‫نهضة ال مثيل لها في العالم اإلسالمي‪ ،‬فاألمة بدأت تتوجه بمجموعها إلعادة‬
‫دورها الحضاري‪ ،‬والشهادة على الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور‪.‬‬
‫إن الثوار في بالدنا العربية‪ ،‬تونس‪ ،‬مصر‪ ،‬ليبيا‪ ،‬اليمن وسوريا قالوا لشعوبهم‬
‫بلسان الحال والمقال‪:‬‬
‫أضيئوا األنوار لينتهي الفساد‪.‬‬
‫أضيئوا األنوار لتتكسر قيود الحرية‪.‬‬
‫أضيئوا األنوار لتنتهي البطالة‪.‬‬
‫أضيئوا األنوار لتشرق تونس‪ ،‬مصر‪ ،‬ليبيا‪ ،‬اليمن وسوريا‪.‬‬
‫فاستجابت تلـك الشـعوب‪ ،‬وأضاءت كـل أوطانها لكي تتخـذ خطوات جادة فـي‬
‫الحياة والعمل والمأكل والمشرب أوالً ثم التعليم‪ ،‬والصحة والحريات‬
‫والديمقراطية الحقيقية‪ ،‬المستمدة من قيمنا وحضارتنا وثقافتنا وديننا‪.‬‬
‫إن هذه الثورات قامت لكي يعيش اإلنسان الذي يبني الدولة ويصنع‬
‫الحضارات‪ ،‬وينشر دين اهلل في اآلفاق‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫كان للثورة التونسية والمصرية فضل السبق‪ ،‬وأخرجت الثورات نماذج وطنية‬
‫ساهمت في صناعة التاريخ الجديد لهذه الشعوب‪ ،‬وخلد التاريخ المعاصر‬
‫صور من التضحيات والبذل والعطاء ال تمحى من ذاكرة الشعوب‪.‬‬
‫وأما ليبيا فكانت كعادتها يأتي منها الجديد‪ ،‬فالثورة الليبية اختلفت عن مصر‬
‫وتونس وخرجت من السلمية إلى حرب نضال وكفاح وجهاد وتحرير‪ ،‬تركت‬
‫آالم وأحزان وقتلى وشهداء وأرامل وأيتام‪ ،‬ودمار في المدن والقرى‬
‫ومؤسسات الدولة‪ ،‬وفرض عليهم النظام هذا التوجه بدون خيار منهم‪.‬‬
‫استمدت الثورة الليبية وكل الثورات العربية روح النضال من عقيدتها‪ ،‬ولكن‬
‫تميزت الثورة الليبية بكثرة التكبير والسعي للشهادة في سبيل اهلل‪ ،‬ألنها كانت‬
‫حرباً طاحنة‪ ،‬والتاريخ أعاد للذاكرة تضحيات الليبيين في الزنتان والجبل‬
‫الغربي ونالوت ويفرن وجاد والفريان والزاوية ومصراطة وبنغازي‬
‫والبيضاء وطبرق وطرابلس وغيرها ضد إيطاليا ‪1911‬م‪ ،‬وفي كل ليبيا في‬
‫الشرق والغرب والجنوب والشمال‪ ،‬أي بعد مائة عام خرج أحفاد سليمان‬
‫البارون ورمضان السويحلي وعبد النبي بالخير الورفلي‪ ،‬وأحمد المريض‪،‬‬
‫وعمر المختار وأحمد الشريف السنوسي وغيرهم من قادة الجهاد‪.‬‬
‫انتشرت صور عمر المختار ورمضان السويحلي واستمد األحفاد من األجداد‬
‫البسالة والعزيمة والنضال والكفاح وانتصرت الثورة في ليبيا بحمد اهلل‬
‫وفضله بعد ملحمة بطولية دموية في إزالة نظام الظلم واالستبداد والقمع‪.‬‬
‫ويريد الشعب الليبي أن يخرج من نفق الظلم ويلملم جراحه‪ ،‬ويبني مستقبله‬
‫ويعمر بالده دار دار‪ ،‬شارع شارع‪ ،‬زنقة زنقة‪ ،‬مدينة مدينة وقرية قرية‪.‬‬
‫ويريد أن يحافظ على الحريات العامة وذلك بمراعاة أحكام الشريعة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬والمواثيق والمعاهدات الدولية للحقوق والحريات‪ ،‬والقيم والعادات‬
‫والتقاليد الليبية األصيلة‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫ويتطلع إلى تحقيق طموحاته في الحرية والتنمية والعدالة والشورى‪ ،‬وأن‬
‫يتأسس اقتصاد حر مستدام قادر على االندماج في االقتصاد العالمي‪ ،‬ومتنوع‬
‫وتنافسي كفيل بأن يلبي احتياجات المواطن الليبي اآلنية‪ ،‬والمستقبلية‪ ،‬وتأمين‬
‫فرص أفضل للجميع ومستوى معيشي مرتفع‪ ،‬مع تقريب الفوارق بين‬
‫الطبقات‪.‬‬
‫وأن يرى مؤسسة قضائية مستقلة تكون بمثابة صمام األمان للمجتمع الليبي‬
‫بكافة مؤسساته وأفراده‪ ،‬وضمانة جوهرية الستقراره وحفظ حقوق أفراده‪.‬‬
‫وأن يكون نظام متكامل للرعاية الصحية يقدم خدمات صحية وقائية وعالجية‬
‫عالية الجودة‪ ،‬والئقة لكل مواطن وأن تبني الدولة استراتيجية وطنية للرعاية‬
‫الصحية يكون من أولى أولوياتها تحسين خدمات المستشفيات‪ ،‬وضمان‬
‫تطوير الرعاية المستمرة‪ ،‬وخدمات الصحة النفسية‪ ،‬وتقديم خدمات الطوارئ‪،‬‬
‫ورفع كفاءتها‪ ،‬ويتمنى الشعب بناء نظام تعليمي يواكب المعايير العالمية‬
‫المعاصرة‪ ،‬ويضاهي أفضل النظم التعليمية في العالم‪ ،‬ويرسخ مبادئ الحرية‪،‬‬
‫وينشر ثقافة قبول اآلخر‪ ،‬ويدعو للحوار‪ ،‬ويؤمن بالعمل الجماعي‪ ،‬وروح‬
‫الفريق‪ ،‬وااليجابية والمبادرة‪ ،‬وترعى القيم والتقاليد والثوابت‪.‬‬
‫وأن تحل أزمة السكن والعمل وتطور الرياضة‪ ،‬وتعاد بناء المنظومة‬
‫الرياضية في ليبيا تنظيمياً وتشريعياً بشكل احترافي علمي مدروس‪ ،‬األمر‬
‫الذي يؤدي إلى زيادة االهتمام بالنشاط الرياضي في كافة مراحل التعليم‪ ،‬مع‬
‫نشر الوعي الرياضي ومكافحة التعصب واالهتمام بالنشيء وغير ذلك من‬
‫األهداف التي تسعى الشعوب لتحقيقها‪.‬‬
‫وهذا ال يمكن بدون عدالة ومصالحة وطنية لتجاوز مرحلة الحرب واآلثار‬
‫التي تركتها‪ ،‬إن تحقيق العدالة والمصالحة الوطنية فريضة شرعية وضرورة‬
‫دينية والثورات التي تنجح في تحقيق المصالحة الوطنية ستحقق أهدافها والتي‬
‫تفشل تعجز عن الوصول إليها‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫وهذا الكتاب يركز على أهمية تحقيق العدالة والمصالحة ألنها الطريق‬
‫للوصول لألهداف المذكورة‪.‬‬
‫فاهلل عز وجل قال في محكم كتابه‪" :‬وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا َفأَصلِحُوا‬
‫بَي َن ُهمَا َفإِن َبغَت إِحدَاهُمَا عَلَى األُخرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَم ِر اهللَِّ‬
‫سطِينَ * إ َِّنمَا‬‫اهلل يُحِبُّ المُق ِ‬
‫سطُوا إِنَّ ََّ‬ ‫َفإِن فَاءت َفأَصلِحُوا بَي َن ُهمَا بِالعَدلِ وَأَق ِ‬
‫حمُونَ" (الحجرات ‪،‬‬ ‫المُؤمِنُونَ إِخ َوةٌ َفأَصلِحُوا بَينَ أَخَوَيكُم وَاتَّقُوا اهللََّ َلعََّلكُم تُر َ‬
‫آية ‪ 9 :‬ـ ‪.)10‬‬
‫وقال تعالى‪ " :‬وَالصُّلحُ خَيرٌ" (النساء ‪ ،‬آية ‪.)128 :‬‬
‫والمصالحة الوطنية التي ندعوا إليها مستمدة من كتاب اهلل‪ ،‬والسنة النبوية‬
‫والتجربة التاريخية اإلسالمية واإلنسانية‪ ،‬فهي من أولويات العمل الوطني‪،‬‬
‫وهي مسؤولية كافة أبناء الشعب‪ ،‬وأساسها العدل واالنصاف القائم على إعادة‬
‫الحقوق إلى أصحابها ورد المظالم‪ ،‬وجبر الضرر واالعتراف بحق الضحايا‬
‫ورد االعتبار إليهم وتكريس االحساس بالمواطنة تحقيقاً للسلم واألمن‬
‫األهليين‪.‬‬
‫وقد كان للملتقى األول لمجالس الحكماء والشورى بليبيا (من أجل المصالحة‬
‫الوطنية) في الزاوية في الفترة من ‪ 1‬ـ ‪ 3‬محرم ‪1433‬هـ الموافق ‪ 28‬ـ ‪ 11‬ـ‬
‫‪2011‬م جهود مشكورة وبيان ختامي جميل أصدر فيه المجتمعون من العلماء‬
‫والحكماء مجموعة من التوصيات‪ ،‬من أهمها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ التأكيد على أن الشريعة اإلسالمية هي القاعدة األساسية ألي مصالحة‬
‫وطنية‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ التعجيل بإصدار قانون العدالة االنتقالية وبما يحفظ حقوق الليبيين وتفعيل‬
‫األجهزة األمنية والضبطية والدوائر الجنائية بالمحاكم والتعجيل بإحالة‬
‫المحتجزين والمتحفظ عليهم إلى القضاء‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫‪ 3‬ـ ضرورة تقديم كل من سفك دماء الليبيين أو انتهك أعراضهم أو اختلس‬
‫أموالهم أو شارك أو حرض على ارتكاب هذه الجرائم ضدهم إلى المحاكم‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ إنشاء صندوق مالي تموله الدولة لتعويض المتضررين من اعتداءات‬
‫قوات وأعوان الطاغية‪ ،‬ويشمل التعويض عن األضرار المادية والمعنوية‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ العمل على خلق البيئة المناسبة والظروف الموضوعية المالئمة لتحقيق‬
‫السلم واألمن االهليين‪ ،‬وذلك باالسراع بتأسيس الجيش واألمن الوطنيين‬
‫وتنظيم حمل السالح‪ ،‬واستيعاب الثوار فيها وفقاً لرغباتهم وتأهلهم مهنياً‪،‬‬
‫وخلق فرص عمل مناسبة لهم الدماجهم في المجتمع الجديد الذي ثاروا من‬
‫أجله‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ العمل على وضع ميثاق شرف لوسائل االعالم بحيث تلتزم هذه الوسائل‬
‫بالعمل على تعزيز الوحدة الوطنية واالبتعاد عن كل ما من شأنه اثارة‬
‫النعرات القبلية أو الجهوية أو العرقية أو المذهبية‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ اعادة النظر ومراجعة السياسة التربوية‪ ،‬والمناهج التعليمية بحيث ترسخ‬
‫روح الوحدة الوطنية وتسهم في نشر ثقافة التسامح والسلم االجتماعيين ونبذ‬
‫العنف وتأكيد ثقافة الحوار بين األفراد والجماعات وزرع روح المصالحة في‬
‫أوساط الشباب‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ عدم اللجوء إلى ممارسات العقاب الجماعي‪ ،‬كالتهجير وحرق المساكن‬
‫والحرمان من الخدمات العامة‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ دعوة الوعاظ وأئمة المساجد إلى أن يضمنوا خطبهم ومواعظهم الدعوة‬
‫للتصالح والمصالحة والتسامح والعفو‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ االستفادة من تجارب الدول التي مرت بظروف مماثلة‪ ،‬واالستعانة‬
‫بالمنظمات الدولية المختصة مع مراعاة خصوصيات المجتمع الليبي‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫‪ 11‬ـ إعادة هيكلة مؤسسات الدولة التي مارست أعمال قمع ضد الشعب الليبي‬
‫وتطهيرها من أعوان النظام المنهار‪ ،‬وإعادة النظر في مهامها لتكون في‬
‫خدمة الوطن والمواطن‪ ،‬بدالً من التجسس عليه‪ ،‬وقمعه واضطهاده‪.‬‬
‫‪ 12‬ـ دعم أسر الشهداء والمفقودين ورعايتهم واالهتمام برعاية أوضاع‬
‫الجرحى والمعتقلين للتخفيف من األضرار المادية والنفسية والتي لحقت بهم‬
‫ولتوفير معيشي الئق لهم‪.‬‬
‫‪ 13‬ـ االسراع بتنفيذ برامج االعمار في المناطق المتضررة لما له من أثر‬
‫الزالة اآلثار السلبية‪ ،‬والتأهيل النفسي تمهيداً لولوج عهد جديد يسوده التفكير‬
‫االيجابي لتحقيق المصالحة‪.‬‬
‫‪ 14‬ـ حث مؤسسات المجتمع المدني على المساهمة الفاعلة في إنجاح‬
‫خطوات المصالحة الوطنية‪.‬‬
‫وهذه التوصيات مهمة وتحتاج لتحقيقها ثقافة واسعة في مفهوم العدالة‬
‫والمصالحة‪ ،‬وتسعفنا التجربة النبوية في فتح مكة‪ ،‬عندما تمكن من أعداء‬
‫الدعوة االسالمية والذين اعترضوا على الوحدانية‪ ،‬وكذبوا باليوم اآلخر‪،‬‬
‫واعترضوا على الرسول صلى اهلل عليه وسلم في رسالته‪ ،‬واعتبروا القرآن‬
‫الكريم ضرباً من الشعر‪.‬‬
‫ولم يفتر المشركون عن أذى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منذ أن صدع‬
‫بدعوته إلى أن خرج من بين أظهرهم‪ ،‬وأظهره اهلل عليهم ويدل على ذلك مبلغ‬
‫األذى تلك اآليات الكثيرة التي كانت تتنزل عليه في هذه الفترة‪ ،‬تأمره بالصبر‬
‫وتدله على وسائله وتنهاه عن الحزن وتضرب له أمثلة من واقع أخوانه‬
‫المرسلين‪ ،‬مثل قوله تعالى‪ " :‬وَاصبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهجُرهُم هَجرًا‬
‫جمِيالً"(المزمل ‪ ،‬آية ‪.)10 :‬‬
‫َ‬

‫‪10‬‬
‫في هذا الكتاب بعض صور البالء التي كانت تصر عليها قريش تجاه النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واستمر العداء للرسالة والرسول والمؤمنين‪ ،‬وعندما‬
‫دخل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مكة ماذا فعل بخصومه وأعدائه؟‪:‬‬
‫ـ مع أبي سفيان بن الحارث ابن عمه وعبد اهلل بن أمية ابن عمته‪ ،‬فكان األول‬
‫يهجوه بشعره كثيراً‪ ،‬وأما الثاني فقال لرسول اهلل‪ :‬فواهلل ال أؤمن بك حتى‬
‫تتخذ إلى السماء سلماً ثم ترتقي فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها‪ ،‬ثم تأتي بصك‬
‫معه أربعة من المالئكة يشهدون لك كما تقول‪ ،‬ثم وايم اهلل لو فعلت ذلك ما‬
‫ظننت أني أصدقك‪ ،‬ومع فداحة جرمهما فإن النبي صلى اهلل عليه وسلم عفا‬
‫عنهما‪ ،‬وقبل عذرهما‪ ،‬وهذا مثال عال في الرحمة والعفو والتسامح‪ ،‬فلم يتعلل‬
‫بعظم االساءة سواء لشخصه أو لإلسالم والمسلمين‪ ،‬بل تجاوز ذلك بأن صفح‬
‫عنهما صفحاً جميالً كان له أثراً إيجابياً بعد أن انتشر خبر العفو بين أهل مكة‪،‬‬
‫وهو في الطريق إليها‪.‬‬
‫ـ وأما زعيم قريش الذي قاد الجيوش في أحد وفي الخندق‪ ،‬فقد عفا عنه وجعل‬
‫له نصيباً من الفخر (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن‪ ،‬ومن أغلق بابه فهو‬
‫آمن‪ ،‬ومن دخل المسجد فهو آمن)‪.‬‬
‫لقد كان لتلك الطريقة المحمدية أثرها في أبي سفيان الذي تغير من الوالء‬
‫الكامل للدعوة الجديدة‪ ،‬فكان له مواقف كبيرة في الجهاد مع رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم في معركة حنين‪ ،‬كما كان هذا األسلوب النبوي الكريم عامالً‬
‫في امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان زعيم قريش وبرهن له بأن المكانة‬
‫التي كانت عند قومه‪ ،‬لم تنتقص شيئاً في االسالم‪ ،‬إن هو أخلص له وبذل في‬
‫سبيله‪.‬‬
‫ـ وهذا صفوان بن أمية‪ ،‬لقد حاول قتل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مع‬
‫عمير بن وهب‪ ،‬ومع هذا فقد أعطاه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم األمان‪،‬‬
‫ثم خيره في األمر أربعة أشهر وعمل على كسبه بإعطائه من مال العطايا‬
‫الكبيرة التي ال تقدر من إنسان عادي‪ ،‬وقد وصف لنا صفوان بن أمية عطاء‬

‫‪11‬‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬واهلل لقد أعطاني رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ما أعطاني‪ ،‬وانه ألبغض الناس إليَّ‪ ،‬فما برح يعطيني حتى أنه‬
‫ألحب الناس إليَّ‪.‬‬
‫ـ وهذا عكرمة بن أبي جهل‪ ،‬فقد كان سلوك النبي صلى اهلل عليه وسلم في‬
‫فتح مكة لطيفاً حانياً‪ ،‬يكفي وحده الجتذابه إلى االسالم‪ ،‬فقد أعجل نفسه عن‬
‫لبس ردائه وابتسم له ورحب به‪ ،‬وفي رواية‪ :‬مرحباً بالركب المهاجر‪ ،‬وأسلم‬
‫وحسن إسالمه‪ ،‬واستشهد بعد ذلك في اليرموك‪.‬‬
‫ـ وهذا شاعر قريش عبد اهلل الزبعري كان من أشد الناس عداوة لإلسالم‬
‫وهجاءً لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قبل رسول اهلل توبته ودخوله في‬
‫اإلسالم وآنسه وخلع عليه حلة‪ ،‬وقال بعد ذلك شعراً كثيراً يعتذر فيه إلى‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكان الشعراء مثل الفضائيات في التأثير‬
‫االعالمي‪ ،‬ومما قال ابن الزبعري‪:‬‬
‫أيام تأمرني بأغوى خطة‬
‫سهم وتأمرني بها مخزوم‬
‫وأمد أسباب الردى ويقودني‬
‫أمر الغواة وأمرهم مشؤوم‬
‫فاليوم آمن بالنبي محمد‬
‫قلبي ومخطئ هذه محروم‬
‫مضت العداوة وانقضت أسبابها‬
‫ودعت أواصر بيننا وحلوم‬
‫فاغفر فدى لك والديَّ كالهما‬
‫زللي فإنك راحم مرحوم‬
‫‪12‬‬
‫ـ وهذا زعيم هوازن مالك بن عوف الذي قاد المشركين في حنين‪ ،‬فبعد‬
‫هزيمته أرسل إليه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ووعده برد أهله وأمواله‬
‫عليه‪ ،‬وإكرامه بمائة من االبل إن قدم عليه مسلماً‪ ،‬فجاء مالك مسلماً فأكرمه‬
‫وأمَّره على قومه‪ ،‬وبعض القبائل المجاورة‪ ،‬ولقد تأثر مالك وجادت قريحته‬
‫لمدح النبي صلى اهلل عليه وسلم فقال‪:‬‬
‫ما إن رأيت وال سمعت بمثله‬
‫في الناس كلهم بمثل محمد‬
‫أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتذى‬
‫ومتى تشاء يخبرك عما في غد‬
‫وإذا الكتيبة عردت أنيابها‬
‫بالسمهري وضرب كل مهند‬
‫فكأنه ليث على أشباله‬
‫وسط الهباءة‪ 1‬خادر في مرصد‬
‫فهذه المنهجية النبوية في التعامل مع الخصوم بعد هزيمتهم في الحرص على‬
‫كسبهم واالستفادة من خبرتهم وفتح أبواب األمل والتوبة والبناء لمستقبلهم‬
‫تحتاج للتأمل والتفكر كي نستفيد منها في حياتنا‪.‬‬
‫وقد نال أهل مكة عفواً عاماً برغم أنواع األذى التي ألحقوها بالرسول صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ودعوته‪ ،‬ورغم قدرة الجيش اإلسالمي على إبادتهم‪ ،‬وقد جاء‬
‫إعالن العفو عنهم وهم مجتمعون قرب الكعبة‪ ،‬ينتظرون حكم الرسول صلى‬
‫اهلل عليه وسلم فقال لهم‪ :‬ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا خيراً‪ ،‬أخ كريم‪،‬‬
‫هلل لَكُم وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ"‪.‬‬
‫وابن أخ كريم‪ ،‬فقال" الَ تَثرَيبَ عَلَيكُمُ اليَومَ يَغفِرُ ا ُّ‬
‫وفي رواية‪ :‬فأذهبوا فأنتم الطلقاء‪.‬‬
‫‪ 1‬الهباء‪ :‬غبار الحرب‪ :‬الخادر‪ :‬المقيم في عرينه‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ األنفس من القتل أو السبي وأصبحت‬
‫األراضي بيد أصحابها‪ ،‬وعدم فرض الخراج عليها‪.‬‬
‫إلى جانب ذلك الصفح الجميل كان هناك الحزم األصيل الذي البد أن تتصف‬
‫به القيادة الحكيمة الرشيدة‪ ،‬ولذلك استثنى قرار العفو الشامل بضعة عشر‬
‫رجالً أمر بقتلهم ـ وإن وجدوا معقلين بأستار الكعبة ـ ألنه عظمت جرائمهم‬
‫في حق اهلل ورسوله وحق اإلسالم‪ ،‬ولما كان يخشاه منهم من إثارة الفتنة بين‬
‫الناس بعد الفتح‪ ،‬ومن هؤالء من قتل ومنهم من جاء مسلماً تائباً فعفا عنه‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وحسن إسالمه‪.‬‬
‫إن الخبرة التاريخية من فتح مكة تؤكد الفرق الواضح بين العفو والمصالحة‬
‫من جهة وبين العدالة الحاسمة لفتح كافة الملفات السابقة ومالحقة كل‬
‫الجزيئات مما يشغل الوطن بأسره لسنوات أو عقود ال أحد يقدر نهايتها‪ ،‬ثم‬
‫إلى متى سنواصل تطبيق تلك العدالة بدون أي تحول تجاه االنتقام والتوسع‬
‫في القصاص‪ ،‬مما يعود بنا من جديد لنقطة البداية‪ ،‬فيصبح الظالم مظلوماً‬
‫يطالب هو بتطبيق العدالة الحاكمة على من كان مظلوماً وضحية باألمس‬
‫القريب‪ ،‬كان العفو في فتح مكة انطالقة جديدة لإلسالم والمسلمين ودعوتهم‬
‫بين العالمين‪.‬‬
‫وماذا لو استسلم المسلمون لمشاعرهم البشرية الراغبة بأقل تقدير في تنزيل‬
‫العدل الحاسم الذي تفصل فيه التهم وتجمع فيه األدلة ويصبح للقضاء كلمته‬
‫األخيرة‪ ،‬وغالباً ما يضيق مجال الصفح بعد أن تنكأ الجراحات من جديد‪،‬‬
‫وبالتأكيد فإن تطبيق هذا العدل الحاسم كان سيقضي على شخصيات مهمة‬
‫شاركت في رسم تاريخ البشرية جمعاء في حركة الفتوحات اإلسالمية وتقوية‬
‫الدولة وإدارة الحكم ونشر العلم‪.‬‬
‫إن امتناع القيادة واألصحاب عن المطالبة بالعدالة الصارمة لغايات أسمى‬
‫وأهداف أعظم كان الخيار األصوب من الناحية السياسية واألمنية‬
‫واالقتصادية واالجتماعية‪ ،‬والثقافية والدينية‪ ،‬فمن الناحية السياسية يحفظ العفو‬

‫‪14‬‬
‫الجميل وحدة األمة السياسية حيث يركز على حركة ما بعد العفو على‬
‫تصحيح األخطاء وتقوية الدولة وإشراك الجميع دون إقصاء‪ ،‬وتعميق مفاهيم‬
‫الشراكة والتعاون والتعايش وتثقيف وتنشئة األجيال عليه‪.‬‬
‫وأما من جهة األمن فإن العدل الحاسم قد يقود إلى رفض بعض من سيمسهم‬
‫هذا العدل بسبب مخاوف من نتائجه التي قد تكون سلباً للحياة أو األموال‬
‫والنفوذ وهو ما لن يقبله الكثير ممن كان مع النظام سابقاً‪.‬‬
‫وهي إذ ترفض هذه الفكرة فإنها ال تزال تملك الكثير من عناصر القوة‬
‫الميدانية والسياسية مما يجعل األوطان تقف على شفا حروب وصراعات‬
‫أهلية قد ال يخرج منها أي منتصر‪ ،‬وال نحصد منها سوى ترسيخ ثقافة االنتقام‬
‫والمالحقة‪ ،‬وتشكيل قوى معارضة في الداخل والخارج وتجد من يمدها‬
‫ويدعمها من الدول التي كانت تدعمنا سابقاً فال ثبات في عالم السياسة وإنما‬
‫مصالح الدول هي الحاكمة في العالقات‪.‬‬
‫وأما من الناحية االقتصادية‪ ،‬فإننا لن نختلف كثيراً في تلمس ما يترتب على‬
‫رفض العفو والمصالحة والتغافر من آثار على الوطن والمواطن بعدما‬
‫يتخندق المتخاصمون وتنطلق مدافع الحرب‪.‬‬
‫وأما االعتبارات اإلجتماعية‪ ،‬فإن العفو العام يزيد بال شك من تآلف مكونات‬
‫ووشائج المجتمع المتنوعة ثقافياً ولغوياً وعرقياً ودينياً في حال اختالف‬
‫األديان‪.‬‬
‫وهذا مقصد بعيد المدى يجب التفكير فيه بدالً من اإلصرار على طريقة تنتهي‬
‫إلى التنافر وتمزق مكونات المجتمع وإعادة تخندقها خوفاً من االنتقام باسم‬
‫العدالة‪.‬‬
‫وأخيراً ال آخراً فإن العفو يصنع خبرة تاريخية تتأسس عليها ثقافة األجيال‪،‬‬
‫األمر الذي يوحد ضمير الوطن ويزيد من مساحات التعايش والقبول‬

‫‪15‬‬
‫باالختالف وتتعمق ثقافة تقديم المصلحة العامة على الخاصة‪ ،‬والممتدة على‬
‫اآلنية المؤقتة‪.‬‬
‫إننا في وطننا اليوم بحاجة إلى أن نتماسك ونتغافر‪ ،‬لنؤسس ونمهد لخبرة‬
‫العدل في إحقاق الحقوق والقسط في مراعاة المشاعر والعفو والتسامح لفتح‬
‫شموس اآلمال وصروح البناء التي ستتحول إلى مناهج للتعليم وموجهات‬
‫للفكر‪ ،‬ومحددات للثقافة وإطار لبناء دستور الدولة التي ال يقوم على االقصاء‬
‫واالنتقام واللمز‪ ،‬كما هو واقع الحال في بعض الدساتير التي تغلبت نزعة‬
‫االنتقام على واضعيها‪.‬‬
‫وأما في القرآن الكريم فقصة يوسف عليه السالم مثل رفيع‪ ،‬وقدوة حسنة‪ ،‬في‬
‫التغلب على التقاطع وآالم الماضي وأحزانه‪ ،‬فلما اعترف اخوة يوسف‬
‫بتفضيل اهلل له وأقروا بخطئهم وقدموا له المعذرة وشعروا بعظم الذنب قال‬
‫اهلل َلكُم وَهُوَ أَرحَ ُم‬
‫لهم يوسف عليه السالم " الَ تَثرَيبَ عَلَيكُمُ اليَومَ يَغفِ ُر ُّ‬
‫حمِينَ" (يوسف ‪ ،‬آية ‪.)92 :‬‬
‫الرَّا ِ‬
‫ال تثريب عليكم‪ :‬أي ال لوم وال تعنيف "عَلَيكُمُ اليَومَ"‪ ،‬ويتنازل عن كل حق له‬
‫ويأبى خلقه الكريم في ذلك اليوم الذي قدر فيه العفو حتى عن مجرد توجيه‬
‫اللوم إلى الذين ألقوه في غيابة الجب‪ ،‬إن اليوم في نظره أولى أن تبدأ به‬
‫صفحة جديدة من الصفا والمودة‪ ،‬وفي مجرد توجيه اللوم‪ ،‬عودة إلى الماضي‬
‫البغيض‪ ،‬وإحياء له‪ ،‬وهذا يتعارض مع الصفحة البيضاء النقية التي يريد أن‬
‫يبدأ بها هذا اليوم‪.‬‬
‫لقد مرت تلك األيام المتعبة بخيرها وشرها‪ ،‬فيجب أن يسدل الستار على‬
‫حلوها ومرها ولم يبق إال أن يطرد أشباحها المروعة عن مسرح الخيال‪،‬‬
‫ويتحاشى المطالعة في ذلك التاريخ المظلم‪ ،‬فقد طوى سريعاً هذه الصفحة‬
‫السوداء مما كان بينه وبين اخوته وغطى على آثارها بالصفح الجميل‪.‬‬
‫لقد عفا عفواً تاماً من غير تعبير لهم عن ذكر الذنب السابق‪ ،‬ودعا لهم‬
‫بالمغفرة وهذا نهاية االحسان الذي ال يتأتى إال من الخواص‪ ،‬وما أنسب ما‬
‫‪16‬‬
‫ظمِينَ الغَيظَ‬
‫وقع من يوسف بالمراتب الثالثة المذكورة في قوله تعالى‪ " :‬وَالكَا ِ‬
‫س وَاهللُّ يُحِبُّ المُحسِنِينَ"(آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)134 :‬‬
‫َوالعَافِينَ عَنِ النَّا ِ‬
‫فيوسف عليه السالم كظم غيظه بقوله‪ " :‬الَ تَثرَيبَ عَلَيكُمُ‬
‫اليَومَ"‪ ،‬ثم عفا عنهم بقوله‪ " :‬يَغ ِفرُ اهللُّ َلكُم"‪.‬‬
‫ثم أحسن إليهم بقوله بعد ذلك مباشرة‪ " :‬وَأتُونِي ِبأَهِلكُم أَج َمعِينَ" (يوسف ‪ ،‬آية‬
‫‪.)93 :‬‬
‫إن يوسف عليه السالم آثر العفو عن اخوته والعدول عن االنتقام إلى العفو‬
‫والغفران‪ ،‬وهذه من الفضائل الحميدة من أخالق األنبياء عليهم السالم وأخالق‬
‫المؤمنين‪.‬‬
‫ـ وهذا أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه كان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته‬
‫منه وفقره‪ ،‬وكان ممن وقع في حديث االفك ولم يتثبت وخاض فيه ضد السيدة‬
‫عائشة‪ ،‬فقال الصديق‪ :‬واهلل ال أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال في‬
‫عائشة ما قال‪ ،‬ولما أنزل اهلل براءة السيدة عائشة في سورة النور‪ ،‬وكان من‬
‫اآليات التي ذكرت في الحادثة قوله تعالى‪" :‬وَالَ يَأتَلِ أُولُوا الفَضلِ مِنكُم‬
‫ن فِي سَبِيلِ اهللَِّ وَليَعفُوا‬‫جرِي َ‬‫َالس َعةِ أَن يُؤتُوا أُولِي القُربَى وَالمَسَاكِينَ وَال ُمهَا ِ‬ ‫و َّ‬
‫ِن الَّذِينَ يَرمُونَ‬‫وَليَصفَحُوا أَالَ تُحِبُّونَ أَن يَغفِ َر اهللَُّ َلكُم وَاهللَُّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إ َّ‬
‫عظِيمٌ"‬
‫خرَ ِة وََلهُم عَذَابٌ َ‬ ‫ت الغَا ِفالَتِ المُؤمِنَاتِ ُلعِنُوا فِي الدُّنيَا وَاآل ِ‬ ‫المُحصَنَا ِ‬
‫(النور ‪ ،‬آية ‪ 22 :‬ـ ‪.)23‬‬
‫قال أبو بكر‪ :‬بلى واهلل إني أحب أن يغفر اهلل لي‪ ،‬فأرجع إلى مسطح النفقة‬
‫التي كان ينفق عليه‪ ،‬قال‪ :‬واهلل ال أنزعها أبداً‪.‬‬
‫ـ وفي حروب الردة‪ ،‬كان ألبي بكر بعد نظر وبصيرة نافذة ومعرفة بعواقب‬
‫األمور‪ ،‬ولذلك كان يستخدم الحزم في محله والعفو عندما تقتضي إليه‬
‫الحاجة‪ ،‬فقد كان حريصاً على جمع شتات القبائل تحت راية اإلسالم‪ ،‬فكان‬
‫من سياسته الحكيمة عفوه عن زعماء القبائل المعاندة بعد رجوعهم إلى الحق‪،‬‬
‫‪17‬‬
‫فإنه لما استخضع قبائل اليمن المرتدة وأراهم سطوة دولة المسلمين وقوة‬
‫شكيمتهم ومضاء عزيمتهم واعترفت القبائل بما أنكرت واستكانت لحكم‬
‫االسالم‪ ،‬وأطاعوا خليفة رسول اهلل رأى أبو بكر أنه من تأليف القلوب ترك‬
‫استعمال القوة مع زعماء هذه القبائل‪ ،‬بل اللين هنا والرفق أوفق‪ ،‬فرفع‬
‫العقوبة عنهم وأالن القول لهم‪ ،‬ووظف نفوذهم في قبائلم لصالح اإلسالم‬
‫والمسلمين‪ ،‬فعفا عن ذلتهم وأحسن إليهم‪ ،‬فقد فعل ذلك مع قيس بن يغوث‬
‫المرادي‪ ،‬وعمرو بن معد يكرب‪ ،‬واألشعث بن قيس الكندي‪ ،‬فقد‪ ،‬فقد كانوا‬
‫من صناديد العرب وأفرسهم وأكثرهم شجاعة‪ ،‬ويجد الباحث شيء من‬
‫التفصيل في فقه الصديق في التعامل مع مثل هذه القيادات في الدولة‪.‬‬
‫ـ وأما الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اهلل عنهما قاد الصلح مع معاوية‬
‫وفق مراحل‪ ،‬ودوافع وشروط وترتب عليه نتائج وسمي ذلك االتفاق الذي‬
‫تنازل فيه الحسن لمعاوية بعام الجماعة‪ ،‬ويجد القارئ شيئاً من التفصيل في‬
‫هذا الكتاب‪ ،‬لقد قامت هذه المصالحة على إعطاء األمن للناس والعودة إلى‬
‫الشرعية المتأسسة على المرجعية المتفق عليها في المجتمع وتقديم وحدة األمة‬
‫على المصالح الفئوية‪ ،‬والمتابع لمسار تاريخ المسلمين بعد المصالحة يلحظ‬
‫بوضوح اآلثار الكبيرة التي ترتبت عليها سواء بتحقيق األمن والرفاه‬
‫االجتماعي أو بتوسع رقعة الدولة وزيادة مواردها‪ ،‬وهو أمر يحتم علينا اليوم‬
‫السعي بغية الوصول إلى صيغ المصالحة بين فئات المجتمع المتنوعة‬
‫وتطبيقات راسخة تؤسس لمرحلة جديدة من األمن االستقرار‪ ،‬وهو أمر‬
‫يسترعي انتباهنا إلى أن الحوار مع كل فئات المجتمع مهما اختلفت بات أمراً‬
‫ملحاً ال يجوز التراخي فيه فضالً عن فداحة الخطأ في إشاحة النظر عنه‪،‬‬
‫فمجتمعنا وبرغم الكثير من االحتكاكات التي سقط جراء بعضها قتلى في كل‬
‫االتجاهات وعلى مختلف الجبهات ال يزال يملك استناداً لهذه الخبرة التاريخية‬
‫أن يفتح باباً واسعاً للحوار والمصالحة ربما يصير بعد ذلك نموذجاً ومثاالً‬
‫يحتذى به‪.‬‬
‫ـ وأما التجارب اإلنسانية المعاصرة‪ ،‬فقد اطلعت على مجموعة كبيرة منها‪:‬‬
‫‪18‬‬
‫أوغندا ‪ /‬هيئة التحريات حول اختفاء األشخاص‪.‬‬
‫بوليفيا ‪ /‬الهيئة الوطنية للتحريات حول االختفاءات‪.‬‬
‫األرجنتين ‪ /‬الهيئة الوطنية‪.‬‬
‫الفلبين ‪ /‬الهيئة الرئاسية حول حقوق األشخاص‪.‬‬
‫رواندا ‪ /‬الهيئة الدولية للبحث حول انتهاكات حقوق االنسان‪.‬‬
‫تشيلي ‪ /‬الهيئة الوطنية حول الحقيقة والمصالحة‪.‬‬
‫السلفادور ‪ /‬لجنة تقصي الحقائق بشأن السلفادور‪.‬‬
‫سيراليون ‪ /‬هيئة الحقيقة والمصالحة‪.‬‬
‫غانا ‪ /‬مفوضية المصالحة الوطنية‪.‬‬
‫البراغواي ‪ /‬هيئة الحقيقة والعدالة‪.‬‬
‫صربيا ‪ /‬هيئة الحقيقة والمصالحة‪.‬‬
‫المغرب ‪ /‬هيئة االنصاف والمصالحة‪.‬‬
‫جنوب أفريقيا ‪ /‬مفوضية جنوب أفريقيا للحقيقة والمصالحة‪.‬‬
‫وكانت تجربة جنوب أفريقيا من أهم التجارب لذلك اهتممت بها في هذا‬
‫الكتاب‪ ،‬ووجدت رسالة من نيلسون مانديال للثورات العربية تستحق القراءة‪،‬‬
‫جاء فيها‪:‬‬
‫اخوتي في بالد العرب‪:‬‬
‫اخوتي في تونس ومصر‪:‬‬
‫اعتذر أوالً عن الخوض في شؤونكم الخاصة‪ ،‬وسامحوني إن كنت دسست‬
‫أنفي فيما ال ينبغي التقحم فيه‪ ،‬لكنني أحسست أن واجب النصح أوالً‪ ،‬والوفاء‬

‫‪19‬‬
‫ثانياً لما أوليتمونا أياه من مساندة أيام قراع الفصل العنصري يحتمان علي رد‬
‫الجميل وإن بإبداء رأي محّصته التجارب وعجمتُه األيام‪ ،‬وأنضجته السجون‬
‫أحبتي ثوار العرب‪.‬‬
‫الزلت أذكر ذلك اليوم بوضوح‪ ،‬كان يوماً مشمساً من أيام كيب تاون‪ .‬خرجت‬
‫من السجن بعد أن سلخت بين جدرانه عشرة آالف يوم‪ .‬خرجت إلى الدنيا بعد‬
‫وًوريت عنها سبعاً وعشرين سنة ألني حلمت أن أرى بالدي خالية من الظلم‬
‫والقهر واالستبداد‪.‬‬
‫ورغم أن اللحظة أمام سجن فكتور فستر كانت كثيفة على المستوى الشخصي‬
‫إذ سأرى وجوه أطفالي وأمهم بعد كل هذا الزمن‪ ،‬إال أن السؤال الذي مأل‬
‫جوانحي حينها هو‪ ،‬كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدالً؟‬
‫أكاد أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم‪ .‬لقد خرجتم لتوكم من سجنكم‬
‫الكبير‪ ،‬وهو سؤال قد تُحدد اإلجابة عليه طبيعة االتجاه الذي ستنتهي إليه‬
‫ثوراتكم‪.‬‬
‫إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم‪ .‬فالهدم فعل سلبي والبناء فعل‬
‫إيجابي‪ .‬أو على لغة أحد مفكريكم ـ حسن الترابي ـ فإن إحقاق الحق أصعب‬
‫بكثير من إبطال الباطل‪.‬‬
‫أنا ال أتحدث العربية لألسف‪ ،‬لكن ما أفهمه من الترجمات التي تصلني عن‬
‫تفاصيل الجدل السياسي اليومي في مصر وتونس تشير بأن معظم الوقت‬
‫هناك مهدر في سب وشتم كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة باألنظمة‬
‫السابقة‪ ،‬فذاك أمر خاطئ في نظري‪ ،‬أنا أتفهم األسى الذي يعتصر قلوبكم‬
‫وأعرف أن مرارات الظلم ماثلة‪ ،‬إال أنني أرى أن استهداف هذا القطاع‬
‫الواسع من مجتمعكم قد يسبب للثورة متاعب خطيرة‪ ،‬فمؤيدو النظام السابق‬
‫كانوا يسيطرون على المال العام وعلى مفاصل األمن والدولة‪ ،‬وعالقات البلد‬
‫مـع الخارج‪ ،‬فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن سيكون اجهاض الثورة أهم هدف لهم‬

‫‪20‬‬
‫في هذه المرحلة التي تتميز عادة بالهشاشة األمنية وغياب التوازن‪ .‬أنتم في‬
‫غنى عن ذلك احبتي‪.‬‬
‫إن أنصار النظام السابق ممسكون بمعظم المؤسسات االقتصادية التي قد‬
‫يشكل استهدافها أو غيابها أو تحييدها كارثة اقتصادية أو عدم توازن أنتم في‬
‫غنى عنه اآلن‪.‬‬
‫عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون لهذا‬
‫البلد‪ ،‬فاحتواؤهم ومسامحتهم هي أكبر هدية للبالد في هذه المرحلة‪ ،‬ثم إنه ال‬
‫يمكن جمعهم ورميهم في البحر أو تحييدهم نهائياً ثم إن لهم الحق في التعبير‬
‫عن أنفسهم وهو حق ينبغي أن يكون احترامه من أبجديات ما بعد الثورة‪.‬‬
‫أعلم أن مما يزعجكم أن تروا ذات الوجوه التي كانت تنافق للنظام السابق‬
‫تتحدث اليوم ممجدة الثورة‪ ،‬لكن األسلم أن ال تواجهوهم بالتبكيت إذا مجدوا‬
‫الثورة‪ ،‬بل شجعوهم على ذلك حتى تحيدوهم وثقوا أن المجتمع في النهاية لن‬
‫ينتخب إال من ساهم في ميالد حريته‪.‬‬
‫إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند‬
‫تفاصيل الماضي المرير‪.‬‬
‫أذكر جيداً أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحد واجهني هو أن قطاعاً‬
‫واسعاً من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام‬
‫السابق‪ ،‬لكنني وقفت دون ذلك وبرهنت األيام أن هذا كان الخيار األمثل‬
‫ولواله النجرفت جنوب إفريقيا إما إلى الحرب األهلية أو إلى الديكتاتورية من‬
‫جديد‪ ،‬لذلك شكلت "لجنة الحقيقة والمصالحة" التي جلس فيها المعتدي‬
‫والمعتدى عليه وتصارحا وسامح كل منهما اآلخر‪.‬‬
‫إنها سياسة مرة لكنها ناجعة‪.‬‬
‫أرى أنكم بهذه الطريقة ـ وأنتم أدرى في النهاية ـ سترسلون رسائل اطمئنان‬
‫إلى المجتمع الملتف حول الديكتاتوريات األخرى أن ال خوف على مستقبلهم‬
‫‪21‬‬
‫في ظل الديمقراطية والثورة‪ ،،‬مما يجعل الكثير من المنتفعين يميلون إلى‬
‫التغيير‪ ،‬كما قد تحجمون خوف وهلع الديكتاتوريات من طبيعة وحجم ما‬
‫ينتظرها‪ ،‬تخيلوا لو أننا في جنوب إفريقيا ركزنا ـ كما تمنى الكثيرون ـ على‬
‫السخرية من البيض وتبكيتهم واستثنائهم وتقليم أظافرهم؟ لو حصل ذلك لما‬
‫كانت قصة جنوب إفريقيا واحدة من أروع قصص النجاح اإلنساني اليوم‪.‬‬
‫أتمنى أن تستحضروا قولة نبيكم‪" :‬أذهبوا فأنتم الطلقاء"‪.‬‬
‫نلسون روهالال مانديال ـ هوانتون ـ جوهانزبيرغ‬

‫هذا الخطاب فيه من الحكم والدروس والعبر وتجارب الحياة الشيء الكثير‬
‫ولذلك لم نغفل عنه‪.‬‬
‫كما أنني في هذا الكتاب أضفت الجهود الفكرية والعلمية والحلول العملية التي‬
‫قدمت إلنجاح المصالحة الوطنية فاعتبرتها وثائق مهمة ال نستغنى عنها‬
‫اضفتها للكتاب‪.‬‬
‫وختمته بالحديث عن خطر الذنوب وعواقبها على الفرد والمجتمع‪ ،‬والدعوة‬
‫إلى التوبة وبيان شروطها‪ ،‬وأثر التوبة في حد الحرابة‪ ،‬وفي حد القتل‪ ،‬فيما‬
‫يتعلق بحقوق العباد المالية‪ ،‬وغير المالية وفي تكفير الكبائر‪ ،‬وعلى اإلنسان‬
‫وعلى الناحية الصحية والنفسية واإلجتماعية والخلقية ثم الخاتمة‪.‬‬
‫هذا وقد أنهيت كتاب العدالة والمصالحة الوطنية في ‪2012/1/12‬م الساعة‬
‫الثانية وعشر دقائق ظهراً الموافق ‪1433/2/18‬هـ‪.‬‬
‫والفضل هلل من قبل ومن بعد‪ ،‬وأسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته‬
‫العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً‪ ،‬ولعباده نافعاً‪ ،‬وأن يثيبني على كل‬
‫حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكل‬
‫ما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع‪ ،‬ونرجو من كل مسلم يطلع‬

‫‪22‬‬
‫على هذا الكتاب أال ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته‬
‫َي وَعَلَى‬
‫ورضوانه من دعائه‪ " :‬رَبِّ أَوزِعنِي أَن أَش ُكرَ نِعمَ َتكَ الَّتِي أَنعَمتَ عَل َّ‬
‫وَالِدَيَّ وَأَن أَعمَلَ صَالِحًا تَرضَا ُه وَأَدخِلنِي ِبرَحمَ ِتكَ فِي عِبَا ِدكَ الصَّالِحِينَ"‬
‫(النمل ‪ ،‬آية ‪.)19 :‬‬
‫سكَ َلهَا َومَا يُمسِك َفالَ‬
‫اهلل لِلنَّاسِ مِن رَّح َمةٍ َفالَ مُم ِ‬
‫ـ وقال تعالى‪ " :‬مَا يَفتَحِ َُّ‬
‫حكِيمُ" (فاطر ‪ ،‬آية ‪.)2 :‬‬ ‫مُرسِلَ َلهُ مِن بَع ِدهِ وَهُوَ ال َعزِيزُ ال َ‬

‫وصلى اهلل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‬


‫"سبحانك اللهم وبحمدك‪ ،‬أشهد أن ال إله إال أنت‪ ،‬استغفرك وأتوب إليك وآخر‬
‫دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين"‬

‫الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه‬


‫علي محمد الصَّالَّبي‬

‫‪23‬‬
‫المدخل‬
‫إن المصالحة الوطنية بين أبناء الشعب الليبي ضرورة دينية‪ ،‬وإنسانية‪،‬‬
‫وحضارية‪ ،‬واقتصادية‪ ،‬واجتماعية‪ ،‬وسياسية‪ ،‬ونفسية‪ ،‬ال يستغنى عنها ليبي‬
‫وال ليبية من أجل تأكيد التالحم بين أبناء الشعب‪ ،‬وترسيخ قواعد الوحدة‬
‫الوطنية وإشاعة أجواء المحبة واالنسجام بين مكوناته المختلفة ولمعالجة‬
‫اآلثار التي تركها النظام الديكتاتوري االستبدادي‪ ،‬وظروف حرب التحرير‬
‫من الظلم والجور واالنتقام‪ ،‬فيجب على أبناء هذا الشعب شيباً وشباباً رجاالً‬
‫ونساء السعي الحثيث والعمل المتواصل الدؤوب للوصول إلى األهداف‬
‫والمقاصد السامية والقيم اإلنسانية الرفيعة التي خرجت من أجلها الشعوب‪.‬‬
‫فالمصلحة الوطنية ضرورة دينية‪ :‬ألن اهلل تعالى أمر المسلمين بعد إنتهاء‬
‫الحرب بينهم بالصلح على مبادئ العدل وقيم القسط وبين سبحانه وتعالى‬
‫المنهجية التامة والكاملة في القتال بين المسلمين والمراحل التي يجب علينا أن‬
‫نلتزم بها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قال تعالى‪" :‬وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا َفأَصلِحُوا بَينَهُمَا َفإِن َبغَت‬
‫اهلل َفإِن فَاءت‬‫إِحدَا ُهمَا عَلَى األُخرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمرِ َِّ‬
‫سطِينَ * إ َِّنمَا المُؤمِنُونَ إِخوَ ٌة‬
‫اهلل يُحِبُّ المُق ِ‬
‫سطُوا إِنَّ ََّ‬ ‫َفأَصلِحُوا بَي َن ُهمَا بِالعَدلِ وَأَق ِ‬
‫حمُونَ" (الحجرات ‪ ،‬آية ‪ 9‬ـ ‪.)10‬‬ ‫َفأَصلِحُوا بَينَ أَخَوَيكُم وَاتَّقُوا اهللََّ َلعََّلكُم تُر َ‬
‫ففي هذه اآلية الكريمة بيان للتعاليم الربانية التي يجب على المسلمين االلتزام‬
‫بها‪ ،‬فقد أثبت سبحانه وتعالى صفة اإليمان للمسلمين المتقاتلين ولم ينزع عنهم‬
‫صفة اإليمان بسبب القتال‪.‬‬
‫وعند اندالع القتال بين المسلمين أمر اهلل بالعمل على ايقافه بالسعي لإلصالح‪،‬‬
‫فإن امتنعت إحدى الطائفتين عن اإلصالح وإيقاف القتال أمر اهلل المسلمين‬
‫جميعاً بالعمل على قتال الفئة الباغية الظالمة الجائرة حتى ترجع وتنقاد ألحكام‬
‫الشريعة اإلسالمية‪ ،‬فإن رجعت أو انهزمت أمام الطائفة األخرى‪ ،‬فعلى‬
‫المسلمين أن يجتهدوا في إصالح ذات البين على أسس العدل وأصول القسط‪،‬‬
‫‪24‬‬
‫وبين سبحانه وتعالى إن اهلل يحب المقسطين‪ ،‬مرغباً لنا للوصول إلى محبة اهلل‬
‫عز وجل‪ ،‬والفرق بين العدل والقسط‪ ،‬هو أن القسط عدل مع مراعاة المشاعر‬
‫واألحاسيس والنفوس للمهزومين والمكلومين والمصابين في هذا القتال‪ ،‬فال بد في‬
‫المصالحة الوطنية أن تقوم على العدل ومراعاة مشاعر وأحاسيس ونفوس الناس‪.‬‬
‫ثم بين سبحانه وتعالى بأن المؤمنين إخوة‪ ،‬وحرك العواطف األخوية المتبلدة‬
‫بسبب الحرب في أعماق النفس البشرية‪ ،‬مذكراً بمعاني األخوة الخالدة في‬
‫عقيدتنا وديننا لكي تتغير النفوس من أعماقها نحو قيم السلم واألمن والتسامح‬
‫والعفو والصفح وتتجاوز تبعات مرحلة القتال بالبعد اإليماني األخوي الذي‬
‫يقرب به العبد المؤمن لخالقه جل في عاله‪.‬‬
‫وأمر المولى عز وجل القيادات المؤثرة في المجتمع وأفراد الشعب باإلصالح‬
‫بين اإلخوة وإزالة آثار الحرب النفسية واالجتماعية واالقتصادية‪ .‬وذكرهم‬
‫بالخوف من اهلل وإتقاء سخطه وعقبه وذلك بتقواه في األعمال واألقوال وفي‬
‫مشاعر االنتقام أو تشوق النفس لقهر وإذالل المغلوب‪ ،‬أو سيطرة الضغائن‬
‫واألحقاد على المشهد العام بعد إنتهاء الحرب‪ ،‬ألن هذه التقوى الطريق لرحمة‬
‫اهلل لهذا الشعب وهذا الوطن المحبب إلينا جميعاً‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ وبين سبحانه وتعالى في سورة النساء أن حديث الناس وكالمهم ال خير‬
‫في كثير منه إال من أمر بصدقة أو المعروف أو اإلصالح بين الخلق‪ ،‬قال‬
‫ال خَيرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجوَاهُم إِالَّ مَن َأمَ َر بِصَ َد َقةٍ أَو مَعرُوفٍ أَو إِصالَحٍ‬
‫تعالى‪َّ " :‬‬
‫ت اهللِّ فَسَوفَ نُؤتِيهِ أَجرًا عَظِيمًا" (اآلية‬‫س َومَن يَفعَل ذَِلكَ اب َتغَاء مَرضَا ِ‬ ‫بَينَ النَّا ِ‬
‫ـ ‪.)114‬‬
‫فاإلصالح بين الناس من األعمال الصالحة التي يترتب عليها األجر العظيم‬
‫من الخالق الجواد الكريم إذا كان السعي يراد به مرضاة اهلل ووجهه الكريم‬
‫ومعنى " بَينَ النَّاسِ" أي عموم الناس ولو كان بين يهود ونصارى أو غير‬
‫ذلك‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫فاآلية الكريمة تلقي بظاللها على النفس المتعلقة بخالقها لتحقيق هذه العبودية‬
‫التي نحن في أشد الحاجة إليها في مجتمعنا الجديد بعد الخروج من عقود‬
‫الظلم واالستبداد والجهل والتخلف‪.‬‬
‫هلل وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اهللَّ‬‫‪ 3‬ـ قال تعالى‪" :‬يَسأَلُو َنكَ عَنِ األَنفَالِ قُلِ األَنفَالُ ِِّ‬
‫اهلل َورَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤمِنِينَ * إِنَّمَا المُؤمِنُونَ‬ ‫وَأَصلِحُوا ذَاتَ بِي ِنكُم وََأطِيعُوا َّ‬
‫اهلل وَجِلَت قُلُو ُبهُم وَإِذَا تُلِيَت عَلَيهِم آيَا ُتهُ زَادَتهُم إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِم‬
‫الَّذِينَ إِذَا ُذ ِكرَ ُّ‬
‫الصالَ َة َومِمَّا َرزَقنَاهُم يُنفِقُونَ * أُولَـئِكَ هُمُ المُؤمِنُونَ‬‫ن َّ‬ ‫يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُو َ‬
‫ق َكرِيمٌ" (األنفال ‪ ،‬آية ‪ 1 :‬ـ ‪.)4‬‬ ‫ت عِندَ ر َِّبهِم َومَغ ِفرَ ٌة َورِز ٌ‬ ‫حَقًّا َّلهُم َدرَجَا ٌ‬
‫فقد بين سبحانه وتعالى بأن تقوى اهلل عز وجل هي القوة الدافعة إلصالح ذات‬
‫البين وأنه من طاعة اهلل ورسوله والحرص على ذلك من شعب اإليمان التي‬
‫يحبها المولى عز وجل‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ وقد ذكر سبحانه وتعالى بأن الصلح من جنس الخيرية المطلقة التي حث‬
‫اهلل عليها عباده‪ ،‬قل تعالى‪" :‬وَإِنِ امرَأَ ٌة خَافَت مِن بَعِلهَا نُشُوزًا أَو إِعرَاضًا فَالَ‬
‫ضرَتِ األَن ُفسُ الشُّحَّ‬
‫جُنَاحَ عَلَي ِهمَا أَن يُصلِحَا بَي َن ُهمَا صُلحًا وَالصُّلحُ خَيرٌ وَأُح ِ‬
‫وَإِن تُحسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اهللَّ كَانَ ِبمَا تَعمَلُونَ خَبِيرًا" (النساء ‪ ،‬آية ‪.)128 :‬‬
‫واإلصالح يحتاج إلى عدم التقصي في استيفاء الحقوق بين المتنازعين بترك‬
‫كل فريق بعضاً من حقه ليجتمعا على كلمة سواء‪ ،‬ولكن طبيعة النفس البشرية‬
‫شحيحة في التنازل عن حقوقها للوصول للصلح لذلك بين سبحانه وتعالى إن‬
‫اإلحسان وتقوى اهلل‪ ،‬ومراقبته في الصغائر والكبائر‪ ،‬وفي السر والعلن‪ ،‬كفيلة‬
‫بالتغلب على شح النفوس المانعة من المصالحة‪ ،‬قال تعالى‪" :‬وَإِن تُحسِنُوا‬
‫ِن اهللَّ كَانَ ِبمَا تَعمَلُونَ خَبِيرًا" (النساء ‪ ،‬آية ‪.)128 :‬‬
‫وَتَتَّقُوا َفإ َّ‬
‫ح َكمًا مِّن أَهِلهِ وَحَكَمًا مِّن أَهلِهَا‬
‫‪ 5‬ـ قال تعالى‪" :‬وَإِن خِفتُم شِقَاقَ بَي ِن ِهمَا فَابعَثُوا َ‬
‫اهلل كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا" (النساء ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫إِن ُيرِيدَا إِصالَحًا يُو َِّفقِ اهللُّ بَي َن ُهمَا إِنَّ َّ‬
‫‪ ،)35‬وهذه اآلية تتحدث في الخالفات الزوجية وفي كيفية اإلصالح بين‬
‫الرجل والمرأة في األسرة الصغيرة‪ ،‬وبين المولى عز وجل أهمية النية‬
‫‪26‬‬
‫والقصد في تحقيق هدف الحكمين‪ ،‬فكيف إذا كان اإلصالح على مستوى‬
‫الشعب واألمة فالنوايا مطايا وحسن القصد والتوجه الذي يراد به وجه اهلل‬
‫يعين المصلحين على تحقيق المقصود والمأمول من الوساطة‪ ،‬فهذا المعنى في‬
‫قوله تعالى‪" :‬إِن ُيرِيدَا إِصالَحًا يُو َِّفقِ اهللُّ بَينَهُمَا" (النساء ‪ ،‬آية ‪.)35 :‬‬
‫‪ 6‬ـ قال تعالى‪َ " :‬فمَا أُوتِيتُم مِّن شَيءٍ َفمَتَاعُ الحَيَا ِة الدُّنيَا وَمَا عِندَ اهللَِّ خَيرٌ وَأَبقَى‬
‫ش وَإِذَا‬‫لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى ر َِّبهِم يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجتَنِبُونَ كَبَا ِئرَ اإلِثمِ وَالفَوَاحِ َ‬
‫ْ شُورَى‬ ‫الصالَ َة وَأَم ُرهُ‬
‫مَا غَضِبُوا هُم يَغ ِفرُونَ * وَالَّذِينَ استَجَابُوا ِلر َِّبهِم وََأقَامُوا َّ‬
‫بَي َنهُم َومِمَّا َرزَقنَاهُم يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَا َبهُمُ البَغيُ هُم يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاء‬
‫سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثُلهَا َفمَن عَفَا وَأَصلَحَ َفأَج ُر ُه عَلَى اهللَِّ إ َِّنهُ الَ يُحِبُّ الظَّاِلمِينَ * وََلمَنِ‬
‫صرَ بَعدَ ظُلمِ ِه َفأُولَ ِئكَ مَا عَلَيهِم مِّن سَبِيلٍ * إ َِّنمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظِلمُونَ‬ ‫انتَ َ‬
‫ك َلهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ * وََلمَن صَ َبرَ وَغَ َفرَ‬ ‫َق أُولَئِ َ‬
‫النَّاسَ وَيَبغُونَ فِي األَرضِ ِبغَيرِ الح ِّ‬
‫األمُورِ"الشورى ‪ ،‬آية ‪ 36 :‬ـ ‪.)43‬‬ ‫إِنَّ ذَِلكَ َلمِن عَزمِ ُ‬
‫صرُونَ"‬‫"وَالَّذِينَ إِذَا أَصَا َبهُمُ البَغيُ" أي‪ :‬وصل إليهم من أعدائهم "هُم يَنتَ ِ‬
‫لقوتهم وعزتهم‪ ،‬ولم يكونوا أذالّء عاجزين‪ ،‬عن االنتصار‪ ،‬فوصفهم باإليمان‬
‫والتوكل على اهلل‪ ،‬واجتناب الكبائر والفواحش الذي تكفر به الصغائر واالنقياد‬
‫التام‪ ،‬واالستجابة لربهم وإقامة الصالة‪ ،‬واإلنفاق في وجوه اإلحسان‪،‬‬
‫والمشاورة في أمورهم والقوة‪ ،‬واالنتصار على أعدائهم‪ ،‬فهذه خصال الكمال‬
‫قد جمعوها‪ ،‬ويلزم من قيامها فيهم فِعل ما هو دونها وإنتفاء ضدها‪.‬‬
‫جزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثُلهَا َفمَن عَفَا وَأَصلَحَ َفأَج ُرهُ عَلَى اهللَِّ إِنَّهُ الَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ‬
‫" وَ َ‬
‫صرَ بَعدَ ظُل ِمهِ َفأُولَ ِئكَ مَا عَلَيهِم مِّن سَبِيلٍ * إ َِّنمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ‬ ‫* وََلمَنِ انتَ َ‬
‫َق أُولَ ِئكَ َلهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ * وََلمَن‬ ‫س وَيَبغُونَ فِي األَرضِ ِبغَيرِ الح ِّ‬ ‫يَظِلمُونَ النَّا َ‬
‫األمُورِ"الشورى ‪ ،‬آية ‪ 40 :‬ـ ‪.)43‬‬ ‫صَ َبرَ وَغَ َفرَ إِنَّ ذَِلكَ َلمِن عَزمِ ُ‬
‫ذكر اهلل في هذه اآلية مراتب العقوبات وإنها على ثالث مراتب‪ ،‬عدل‪،‬‬
‫وفضل‪ ،‬وظلم‪ ،‬فمرتبة العدل جزاء سيئة بسيئة مثلها‪ ،‬ال زيادة وال نقص‪،‬‬
‫فالنفس بالنفس وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها والمال يضمن بمثله‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫ومرتبة الفضل‪ :‬العفو واإلصالح عن المسيء ولهذا قال " َفمَن عَفَا وَأَصلَ َ‬
‫ح‬
‫َفأَج ُر ُه عَلَى اهللَِّ" يجزيه أجراً عظيماً وثواباً كثيراً‪ ،‬وشرط اهلل في العفو‬
‫واإلصالح فيه ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني ال يليق بالعفو عنه وكانت‬
‫المصالحة الشرعية تقتضي عقوبته‪ ،‬فإنه في هذه الحال ال يكون مأموراً به‪،‬‬
‫وفي جعل أجر العافي على اهلل مما يهيج على العفو وأن يعامل العبد الخلق‬
‫بما يحب أن يعامله اهلل به‪ ،‬فكما يحب أن يعفو اهلل عنه فليعف عنهم‪ ،‬وكما‬
‫يحب أن يسامحه اهلل‪ ،‬فليسامحهم‪.‬‬
‫ال يُحِبُّ الظَّالِمِينَ"‪ :‬الذين يجنون على‬
‫وأما مرتبة الظلم فقد ذكرها بقوله‪ " :‬إِنَّهُ َ‬
‫غيرهم ابتداءً‪ ،‬أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته‪ ،‬فالزيادة ظلم‪.‬‬
‫" إ َِّنمَا السَّبِيلُ" أي‪ :‬إنما تتوجَّه الحجَّة بالعقوبة الشرعية "عَلَى الَّذِينَ يَظِلمُونَ‬
‫َق "‪ .‬وهذا شامل للظلم والبغي على الناس‬ ‫النَّاسَ وَيَبغُونَ فِي األَرضِ ِبغَيرِ الح ِّ‬
‫في دمائهم وأموالهم وأعراضهم‪" ،‬أُولَ ِئكَ َلهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ" أي موجع للقلوب‬
‫واألبدان بحسب ظلمهم وبغيهم‪" ،‬وََلمَن صَ َبرَ"‪ :‬على ما يناله من أذى الخلق‬
‫األمُورِ"‪ ،‬أي‬‫"وَغَفَ َر " لهم بأن سمح لهم عما يصدر منهم "إِنَّ ذَِلكَ َلمِن عَزمِ ُ‬
‫من األمور التي حث اهلل عليها وأكَّدها وأخبر أنه ال يلقَّاها إال أهل الصبر‬
‫والحظوط العظيمة‪ ،‬ومن األمور التي ال يوفق لها إال أولو العزائم والهمم‬
‫وذوو األلباب والبصائر‪ ،‬فإن ترك االنتصار للنفس بالقول أو الفعل من أشق‬
‫شيء عليها‪ ،‬والصبر على األذى والصفح عنه ومغفرته ومقابلته باإلحسان‬
‫أشقَّ وأشقَّ ولكنه يسير على من يسَّره اهلل عليه‪ ،‬وجاهد نفسه على االتصاف‬
‫به‪ ،‬واستعان اهلل على ذلك‪ ،‬ثم إذا ذاق العبد حالوته ووجد آثاره تلقاه برحب‬
‫الصدر وسعة الخلق‪ ،‬والتلذُّذ فيه‪.1‬‬
‫‪ 7‬ـ وقال تعالى‪" :‬وَإِن عَاقَبتُم َفعَاقِبُوا ِبمِثلِ مَا عُوقِبتُم ِبهِ وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ‬
‫ك إِالَّ بِاهللِّ وَالَ تَحزَن عَلَيهِم وَالَ َتكُ فِي ضَيقٍ مِّمَّا‬
‫لِّلصَّابِرينَ * وَاصبِر وَمَا صَبرُ َ‬
‫اهلل مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحسِنُونَ" (النحل ‪ ،‬آية ‪ 126 :‬ـ‬ ‫يَم ُكرُونَ *إِنَّ َّ‬
‫‪ )128‬يقول اهلل تعالى مبيحاً للعدل ونادباً للفضل واإلحسان "وَإِن عَاقَبتُم"‪ :‬من‬
‫‪ 1‬تفسير السعدي صـ‪.90‬‬

‫‪28‬‬
‫أساء إليكم بالقول والفعل "فَعَاقِبُوا بِمِثلِ مَا عُوقِبتُم بِهِ" من غير زيادة منكم على‬
‫ما أجراه معكم "وَلَئِن صَبَرتُم"‪ :‬عن المعاقبة وعفوتم عن جرمهم "َلهُوَ خَيرٌ‬
‫لِّلصَّابِرينَ" من االستيفاء وما عند اهلل خير لكم وأحسن عاقبة‪.‬‬
‫ثم أمر رسوله بالصبر على دعوة الخلق إلى اهلل واالستعانة باهلل على ذلك‬
‫وعدم االتكال على النفس‪ ،‬فقال‪" :‬وَاصبِر وَمَا صَبرُكَ إِالَّ بِاهللِّ" هو الذي يعينك‬
‫عليه ويثبتك "وَالَ تَحزَن عَلَيهِم "إذا دعوتهم فلم تر منهم قبوالً لدعوتك‪ ،‬فإن‬
‫الحزن ال يجدي عليك شيئاً‪" ،‬وَالَ َتكُ فِي ضَيقٍ " أي شدّة وحرج "مِّمَّا‬
‫يَم ُكرُونَ" فإن مكرهم عائداً إليهم‪ ،‬وأنت من المتقين المحسنين واهلل مع المتقين‬
‫المسحينين بعونه وتوفيقه وتسديده وهم الذين اتقوا الكفر والمعاصي وأحسنوا‬
‫في عبادة اهلل‪ ،‬بأن عبدوا اهلل كأنهم يرونه‪ ،‬فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم‪،‬‬
‫واإلحسان إلى الخلق ببذل النفع لهم من كل وجه‪.1‬‬
‫وقد تحدث المفسرون كما تحدثت كتب علوم القرآن عن أسباب نزول هذه‬
‫اآلية " وَإِن عَاقَبتُم َفعَاقِبُوا ِبمِثلِ مَا عُوقِبتُم ِبهِ‪ "..‬إلى آخر سورة النحل فذكر‬
‫جمع من المفسرين‪ :‬أن هذه اآليات نزلت في أعقاب غزوة أحد وروى الحافظ‬
‫البزار عن أبي هريرة‪ :‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقف على حمزة‬
‫بن عبد المطلب حين أستشهد فنظر إلى منظر لم يُنظر أوجع للقلب منه‪ ،‬وقد‬
‫مثل المشركون به فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬لقد كنت وصوالً‬
‫للرحم فعوالً للخيرات‪ ،‬واهلل لوال حزن من بعدك عليك‪ ،‬لسرَّني أن أتركك‬
‫حتى يحشرك اهلل من بطون السباع أما واهلل ألمثلن بسبعين منهم مكانك فنزلت‬
‫هذه اآلية‪ ،‬فكفر رسول اهلل عن يمينه‪.2‬‬
‫وقد ذكر بعض العلماء‪ :‬أن هذه اآليات الثالثة األخيرة من سورة النحل‪ ،‬تكرر‬
‫نزولها‪ ،‬فنزلت يوم أحد‪ ،‬ونزلت عند فتح مكة والحكمة في تكرير نزولها‪:‬‬
‫شدة الحاجة إلى العمل بمعانيها‪ ،‬عند الرغبة في التشفي ودعوة القرآن إلى‬
‫الصبر‪.‬‬
‫‪ 1‬تفسير السعدي صـ‪.519‬‬
‫‪ 2‬قال السيوطي في الدر‪ :‬وأخرج ابن سعد‪ ،‬والبزار‪ ،‬وابن المنذر‪ ،‬وابن مردوية‪ ،‬والحاكم وصححه‪ ،‬والبيهقي في الدالئل‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫وهذه اآليات دعوة إلهية إلى الصبر واالحتمال‪ ،‬وهي دستور مفيد لإلنسان‬
‫وللجماعات واألمم‪ ،‬وسواء كان نزولها في غزوة أحد أو عند فتح مكة أو عند‬
‫حياة المسلمين بمكة قبل الهجرة‪ ،‬فإن معانيها عامة وأوامرها وآدابها مطلوبة‬
‫للحياة واألفراد‪.1‬‬

‫أوَلا‪ :‬واجبات الخصمين لتحقيق اإلصًلح ذات البين‪:‬‬


‫‪1‬ـ دفع السيئة بالتي هي أحسن‪:‬‬
‫وهي على مراتب‪:‬‬
‫المرتبة األولى‪ :‬دفع السيئة بالحسنة‪:‬‬
‫قال تعالى‪ ":‬ادفَع بِالَّتِي ِهيَ أَحسَنُ السَّيِّئَةَ نَحنُ أَعلَمُ ِبمَا يَصِفُونَ" (المؤمنون‪،‬‬
‫آية‪.)96 :‬‬
‫حمِيمٌ"‬
‫قال تعالى‪ ":‬ادفَع بِالَّتِي ِهيَ أَحسَنُ َفإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ َكأَنَّ ُه وَلِيٌّ َ‬
‫المرتبة الثانية‪ :‬مقابلة السيئة بالصفع الجميل‪:‬‬
‫جمِيلَ" (الحجر‪ ،‬آية‪.)85 :‬‬
‫ح الصَّفحَ ال َ‬
‫قال تعالى‪ ":‬فَاصفَ ِ‬
‫سالَمٌ فَسَوفَ يَعَلمُونَ" (الزخرف‪ ،‬آية‪.)89 :‬‬
‫وقال تعالى‪ ":‬فَاصفَح عَنهُم َوقُل َ‬
‫المرتبة الثالثة‪ :‬مقابلة السيئة بالصبر الجميل‪:‬‬
‫جمِيالً" (المعارج‪ ،‬آية‪.)5 :‬‬
‫قال تعالى‪ ":‬فَاصبِر صَبرًا َ‬
‫َق وَالَ يَستَخِف ََّّنكَ الَّذِينَ الَ يُوقِنُونَ" (الروم‪،‬‬
‫اهلل ح ٌّ‬
‫وقال تعالى‪ ":‬فَاصبِر إِنَّ وَعدَ َِّ‬
‫آية ‪.)60 :‬‬
‫وقال تعالى‪ ":‬فَاصبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ" (ق‪ ،‬آية‪.)39 :‬‬
‫‪ 1‬تفسير القرآن الكريم‪ ،‬د‪ .‬عبد اله شحاتة (‪.)2741 / 7‬‬

‫‪30‬‬
‫المرتبة الرابعة‪ :‬دفع السيئة بالهجر الجميل‪:‬‬
‫جمِيالً" (المزمل‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫قال تعالى‪ ":‬وَاصبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهجُرهُم هَجرًا َ‬
‫‪.)10‬‬
‫المرتبة الخامسة‪ :‬مواجهة السيئة بطلب الصلح‪:‬‬
‫قال تعالى‪ ":‬وَإِنِ امرََأةٌ خَافَت مِن بَعِلهَا نُشُوزًا أَو إِعرَاضًا فَالَ جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَن‬
‫يُصلِحَا بَي َن ُهمَا صُلحًا وَالصُّلحُ خَيرٌ" (النساء‪ ،‬آية ‪.)138 :‬‬
‫المرتبة السادسة‪ :‬دفع السيئة بسيئة مثلها من غير زيادة‪:‬‬
‫جزَاء سَيِّ َئةٍ سَيِّئَةٌ مِّثُلهَا َفمَن عَفَا وَأَصلَحَ َفأَج ُر ُه عَلَى اهللَِّ إ َِّنهُ الَ‬
‫قال تعالى‪ ":‬وَ َ‬
‫يُحِبُّ الظَّاِلمِينَ" (الشورى‪ ،‬آية ‪.)40 :‬‬
‫فمن ألتزم بهذه القواعد فقد سيطر على أخالقه‪.‬‬
‫ظمِينَ الغَيظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاهللُّ يُحِبُّ المُحسِنِينَ" (آل‬
‫قال تعالى‪ ":‬وَالكَا ِ‬
‫عمران ‪ ،‬آية ‪.)134 :‬‬
‫‪2‬ـ اَلستجابة لداعي اإلصًلح‪:‬‬
‫على المتنازعين أن يتقوا اهلل‪ ،‬ويسارعوا إلى إنهاء الخصام ويلبوا داعي‬
‫الصلح إذا تقدم به الراغبون إلصالح ما بينهم فال تأخذهم العزة باإلثم فتمنعوا‬
‫عن قبول دعوة المصالحة‪ ،‬ويستمروا بالمقاطعة والهجر‪ ،‬فيفوتهم قبول‬
‫األعمال وكسب األجر من اهلل وقد أخبرنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن‬
‫بغض اهلل تعالى لمن كانت صفته شديد الخصومة واللجاج‪.‬‬
‫أ ـ قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أبغض الرجال إلى اهلل األلد الخصم‪.1‬‬
‫واأللد الشديد اللدد‪ ،‬أي الجدال ومن كانت هذه صفته وطباعه فهو شر على‬
‫مجتمعه‪ ،‬وخطر على أمنهم‪ ،‬فهو يهدم وال يبني‪ ،‬عمله اإلفساد في األرض‬

‫‪ 1‬البخاري رقم ‪.2457‬‬

‫‪31‬‬
‫وأما من يستجيب للصلح‪ ،‬ويرغب فيه‪ ،‬ويميل إليه‪ ،‬فهو خير الناس‪ ،‬وقد بين‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم فضله بقوله ‪":‬وخيرهما الذي يبدأ بالسالم"‪.1‬‬
‫فالذي يبادر إلى إصالح ذات البين‪ ،‬فهو في ميزان اإلسالم من الخيرين‪ ،‬وهذا‬
‫دليل على طهارة القلب وسموا النفس‪ ،‬وطيب المعدن‪ ،‬فهذه الصفات جعلته‬
‫يحوز على الفضل بسبب قبول الصلح‪.‬‬
‫‪3‬ـ عدم اَلستجابة لوسوسة الشيطان في إيقاع النزاع‪:‬‬
‫إن الشيطان حريص على التحريش بين الناس‪ ،‬وزرع الخصومات والعداوات‬
‫وتفكيك األسر‪ ،‬والتفريق بين المتحابين والمتآخين فهو عدو لإلنسانية‪ ،‬قال‬
‫عدُوًّا إ َِّنمَا يَدعُو حِز َبهُ لِ َيكُونُوا مِن‬
‫تعالى‪ ":‬إِنَّ الشَّيطَانَ َلكُم عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ َ‬
‫السعِيرِ" (فاطر‪ ،‬آية ‪.)6 :‬‬ ‫ب َّ‬ ‫أَصحَا ِ‬
‫فالعاقل من يحرص على وحدة الصفح وتجاوز اآلآلم والجروح والمصائب‬
‫التي وقعت ويحب الخير للجميع‪ ،‬يعفو عن من ظلمه ويعطي من حرمه وهذا‬
‫ما ينبغي أن يتصف به المسلم‪ ،‬ألن التنازع له مضار عديدة فهو يؤدي إلى‬
‫الفشل‪ ،‬وتمزق المجتمع وضعف الدولة مما يمكن أعداء الشعب من التدخل‬
‫في شؤونه‪ ،‬كما أنه مدخل واسع من مداخل الشيطان‪ ،‬يتمكن به من افساد ذات‬
‫البين ونشر الكراهية بين الناس وإشاعة البغضاء بين أبناء األسر واألخ وأخيه‬
‫واإلبن وأبيه‪.‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أن الشيطان قد آسى أن يعبده المصلون‬
‫في جزيرة العرب ولكن في التحريش‪ 2‬بينهم‪.3‬‬
‫فالشيطان حريص على إيقاع الخصام بين الناس‪ ،‬فاإلسالم يدعو إلى التصالح‬
‫ويحث أتباعه على سلوك هذا المنهج‪ ،‬ولنا اسوة في مسلك الواعظ البر‬
‫الرافض للشر أبو ذر عمر بن ذر فقد شتمه رجل‪ ،‬فقال‪ :‬يا هذا‪ ،‬ال تغرقن في‬

‫‪ 1‬البخاري رقم ‪.6077‬‬


‫‪ 2‬التحريش ‪ :‬أي حملهم على الحروب والفتن‪.‬‬
‫‪ 3‬مسلم رقم ‪.2812‬‬

‫‪32‬‬
‫شتمنا ودع للصلح موضعاً فإنا ال نكافئ من عصى اهلل فينا بأكثر من أن نطيع‬
‫اهلل فيه‪.1‬‬
‫‪4‬ـ التنازل عن جزء من بعض حقه‪:‬‬
‫على الخصم أن يتنازل عن جزء من حقه رغبة في تقريب وجهات النظر‪،‬‬
‫وتأليفاً للخصم اآلخر‪ ،‬حتى يقبل الصلح المؤدي إلى تأليف القلوب وتسكين‬
‫الغضب وتهدئة ثوراته ودليل ذلك ما ورد من مواقف كثيرة في زمن الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم حيث تنازل بعض أصحاب الحق عن جزء من حقهم‪،‬‬
‫كموقف كعب بن مالك مع خصمه حين ارتفعت أصواتهما‪ ،‬حتى سمع رسول‬
‫اهلل كالمهما وهو في بيته‪ ،‬فخرج إليهما رسول اهلل صلى اهلل عله وسلم حتى‬
‫كشف سجف حجرته‪ ،‬فنادى كعب بن مالك فقال‪ ":‬يا كعب" فقال لبيك يا‬
‫رسول اهلل فأشار بيده‪ ،‬أن ضع الشطر‪ ،‬فقال كعب‪ :‬قد فعلت يا رسول اهلل‪،‬‬
‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ":‬قم فاقض فعندما يتنازل الخصم عن‬
‫بعض حقه فهو يعمل المعروف‪.2‬‬
‫ومن المواقف الخالدة في التاريخ‪ ،‬تنازل الحسن بن علي رضي اهلل عنه عن‬
‫الخالفة لمعاوية بن أبي سفيان رضي اهلل عنهما حيث تآلف المسلمون‬
‫واجتمعوا واصطلحوا حتى سمي ذلك العام بعام الجماعة‪.3‬‬
‫وكان الحسن رضي اهلل عنه يتمتع بقوة‪ ،‬وكانت الكتائب أمثال الجبال‪ ،‬ومع‬
‫ذلك قبل الصلح‪ ،‬وتنازل عن ملك رغبة في تحقيق حديث رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ " :‬إن ابني هذا سيد‪ ،‬ولعل اهلل يصلح به بين فئتين من المسلمين"‪.4‬‬
‫فإن الحسن ترك الملك ال لقلة‪ ،‬وال لذلة‪ ،‬وال لعلة‪ ،‬بل لرغبته فيما عند اهلل لما‬
‫رآه من حقن دماء المسلمين‪ ،‬وراعى أمر الدين ومصلحة األمة‪ ،‬وفيه فضيلة‬
‫اإلصالح بين الناس‪ ،‬وال سيما في حقن دماء المسلمين‪.1‬‬
‫‪ 1‬حلية األولياء وطبقات األصفياء (‪ )113 /5‬أبو نعيم األصفهاني‪.‬‬
‫‪ 2‬البخاري رقم ‪.2710‬‬
‫إصالح ذات البين صـ‪ 141‬كامل أحمد‪.‬‬
‫‪ 3‬البداية والنهاية البن كثير (‪.)16 / 8‬‬
‫‪ 4‬فتح الباري (‪ 306 / 5‬ـ ‪ )307‬رقم ‪.2704‬‬

‫‪33‬‬
‫وسيأتي الحديث عن صلح الحسن مفصالً بإذن اهلل‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ اَلستعانة بالوسطاء الخيرين‪:‬‬
‫قد يقع اإلنسان في خطأ ثم يأسف عما بدر منه‪ ،‬ويريد المسامحة‪ ،‬فما عليه إال‬
‫أن يعتذر إلى من أساء إليه بنفسه‪ ،‬أو بواسطة اآلخرين ممن يتوسم فيهم‬
‫القدرة على اإلصالح‪ ،‬كما حصل لعبد اهلل بن الزبير رضي اهلل عنهما‪ ،‬قال‬
‫في بيع أو عطاء أعطته أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها "واهلل لتنهين‬
‫عائشة أو ألحجرن عليها‪ ،2‬فقالت‪ :‬أهو قال هذا؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قالت‪ :‬هو واهلل‬
‫عليَّ نذر ال أكلم ابن الزبير أبداً‪ ،‬فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬ال واهلل‪ ،‬ال أشفع فيه أبداً‪ ،‬وال أحنث إلى نذره‪ ،‬فلما طال ذلك على ابن‬
‫الزبير كلم المسور بن مخرمة‪ ،3‬وعبد الرحمن بن األسود بن يغوث وقال‬
‫لهما‪ :‬أنشدكما باهلل لما أدخلتماني على عائشة فإنها ال يحل لها أن تنذر‬
‫قطيعتي‪ ،‬فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على‬
‫عائشة‪ ،‬فقاال‪ :‬السالم عليكم ورحمة اهلل تعالى وبركاته‪ ،‬أندخل؟ قالوا‪ :‬كلنا‪4‬؟‬
‫قالت‪ :‬نعم أدخلوا كلكم وال تعلم أن معهما ابن الزبير‪ ،‬فلما دخلوا دخل ابن‬
‫الزبير الحجاب فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي‪ ،‬وطفق المسور وعبد‬
‫الرحمن يناشدانها أال كلمته‪ ،5‬وقبلت منه‪ ،‬ويقولون‪ :‬إن النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم نهى عما قد عملت من الهجر‪ ،‬فإنه ال يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق‬
‫ثالث ليال‪ ،‬ولما أكثروا على عائشة من التذكير والتحريج‪ ،‬طفقت تذكرهما‬
‫وتبكي وتقول‪ :‬إني نذرت والنذر شديد‪ ،‬فلم يزاال بها حتى كلمت ابن الزبير‪،‬‬
‫واعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة‪ ،‬وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى‬
‫تبل دموعها خمارها‪.6‬‬

‫‪ 1‬الفتح (‪.)66 / 13‬‬


‫‪ 2‬كانت ال تمسك شيئاً مما جاءها من رزق تصدقت به‪.‬‬
‫‪ 3‬المسور بن مخرمة الزهري‪ ،‬االصابة البن الحجر رقم ‪.7993‬‬
‫‪ 4‬إصالح ذات البين صـ‪.143‬‬
‫‪ 5‬المصدر نفسه صـ‪.143‬‬
‫‪ 6‬الفتح (‪ 491 / 10‬ـ ‪ )492‬رقم ‪.6073‬‬

‫‪34‬‬
‫فإن ابن الزبير قد استعان بهؤالء النفر من الصحابة رضوان اهلل عنهم ـ‬
‫ليوفقوا بينه وبين عائشة رضي اهلل عنهما‪ ،‬وقد استعمال الحيلة حتى تمكن ابن‬
‫الزبير رضي اهلل عنه من الدخول على خالته عائشة ليرضاها وليعتذر منها‪،‬‬
‫وحاول هو ومن معه ليرضيها حتى رضيت ـ رضي اهلل عنهماـ وانتهت‬
‫القطيعة وحلت األلفة وعادت المياه إلى أراضيها فرضي اهلل عن الجميع‪.1‬‬
‫‪ 6‬ـ الرضى بالحكم بعد صدوره‪:‬‬
‫عندما يختار المتخاصمان من يصلح بينهما يكون ذلك على أساس الثقة‬
‫بالصلح‪ ،‬وأنه قادر على معرفة القضية وإصدار الحل المناسب المرضي‬
‫للطرفين‪ ،‬وأنه نزيه وعادل‪ ،‬وغير مجامل‪ ،‬وأنه سيصدر عنه الصلح بما‬
‫يوافق الحق والصواب‪.‬‬
‫والغرض من هذا هو فض النزاع وإيصال المظلوم إلى حقه‪ ،‬أو بعض حقه‪،‬‬
‫ودفع إثم الظلم عن الظالم‪ ،‬ودليل ذلك حادثة الزبير رضي اهلل عنه وأخيه‬
‫األنصاري الذي خاصمه في شراج ذي الحرة‪ ،‬فاحتكما إلى رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬فأراد الرسول صلى اهلل عليه وسلم أن يسلك بهما مسلك‬
‫الصلح‪ ،‬فقال للزبير‪ :‬أسق يا زبير‪ ،‬ثم أرسل إلى جارك‪ ،2‬فالرسول صلى اهلل‬
‫عليه وسلم أصدر الحكم على أساس أنه صلح‪ ،‬والصلح هو تنازل عن جزء‬
‫من الحق بغرض إنهاء الخصام‪ ،‬ولكن األنصاري لم يرض بهذا الصلح‬
‫الصادر عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال مقالته التي أغضبت رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬مما جعله يصدر الحكم قضاءً وحكماً‪" :‬أسق ثم‬
‫أحبس حتى يبلغ الجدر"‪ ،3‬فقد استوعى للزبير حقه في صريح الحكم‪ ،4‬وهذه‬
‫الواجبات التي ذكرناها من أهم األمور التي تحقق إصالح ذات البين وتعين‬
‫على إنهاء الخصام وإحالل المودة والوئام بين أفراد المجتمع‪.5‬‬

‫‪ 1‬إصالح ذات البين صـ‪.143‬‬


‫‪ 2‬فتح الباري (‪ )309 / 5‬رقم ‪.2708‬‬
‫‪ 3‬الجدر‪ :‬أي يصل الماء إلى أصول النخل‪.‬‬
‫‪ 4‬الفتح (‪ )309 / 5‬رقم ‪.2708‬‬
‫‪ 5‬إصالح ذات البين صـ ‪.144‬‬

‫‪35‬‬
‫ثانياا‪ :‬إصًلح ذات البين في القصاص‪ ،‬والدية و الحدود‬
‫الصلح في القصاص أمر جائز‪ ،‬بل هو أفضل من االستيفاء والعفو أفضل من‬
‫ص فِي القَتلَى الحُرُّ‬‫الصلح‪ ،‬لقوله تعالى‪ ":‬يَا أ َُّيهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ القِصَا ُ‬
‫ي َلهُ مِن أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ‬ ‫ُر وَالعَبدُ بِالعَبدِ وَاألُنثَى بِاألُنثَى َفمَن عُفِ َ‬ ‫بِالح ِّ‬
‫ن ذَِلكَ تَخفِيفٌ مِّن ر َِّّبكُم َورَحمَ ٌة َفمَنِ اعتَدَى بَعدَ ذَِلكَ‬
‫ف وَأَدَاء إِلَيهِ بِإِحسَا ٍ‬
‫بِالمَعرُو ِ‬
‫فََلهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (البقرة‪ ،‬آية ‪.)178 :‬‬
‫وقد جاءت السنة مؤكدة لما نص عليه القرآن‪.‬‬
‫وعن ابن عباس رضي اهلل عنهما‪ ،‬كانت في بني إسرائيل قصاص ولم تكن‬
‫ص فِي القَتلَى" إلى هذه‬
‫فيهم الدية‪ ،‬فقال اهلل لهذه األمة‪ ":‬كُتِبَ عَلَيكُمُ القِصَا ُ‬
‫اآلية‪َ ":‬فمَن عُ ِفيَ َلهُ مِن أَخِيهِ شَيءٌ" قال ابن عباس‪ :‬فالعفو أن يقبل الدية في‬
‫العمل‪ ،‬قال‪ ":‬فَاتِّبَاعٌ بِالمَعرُوفِ" أن يطلب بمعروف ويؤدي إليه بإحسان‪.1‬‬
‫والصلح جائز في القصاص بأكثر من الدية‪.2‬‬
‫والذي يملك العفو عن القصاص‪:‬‬
‫‪1‬ـ عفو الورثة‪:‬‬
‫العفو حق لجميع الورثة عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل في‬
‫المشهور عنه‪ ،‬ومالك في رواية عنه‪ ،‬يستوي في ذلك من يرث بالفرض‪ ،‬أو‬
‫التعقيب ويدخل في ذلك الزوج والزوجة وإن مات أحد الورثة انتقل الحق‬
‫أيضاً إلى ورثته‪.3‬‬
‫والدليل على ذلك قول الرسول صلى اهلل عليه وسلم في حديث أبي هريرة‬
‫رضي اهلل عنه‪ :‬ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين‪ ،‬إما أن يودي وإما أن‬
‫يقاد‪ ،4‬وهذا الحديث عام للرجال والنساء وروى عن معمر عن األعشى‪ ،‬عن‬
‫‪ 1‬فتح الباري (‪.)305 / 12‬‬
‫‪ 2‬إصالح ذات البين صـ ‪.168‬‬
‫‪ 3‬فتح القدير للشوكاني (‪.)223 / 3‬‬
‫‪ 4‬البخاري‪ ،‬ك الديات‪ ،‬باب من قتل له قتيل‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫زيد بن وهب‪ ،‬أن عمر بن الخطاب رفع إليه رجالً قتل رجالً‪ ،‬فجاء أولياء‬
‫المقتول‪ ،‬يريدون قتله‪ ،‬فقالت أخت القاتل‪ ،‬وهي امرأة المقتول‪ :‬قد عفوت عن‬
‫حصتي من زوجي‪ ،‬فقال عمر‪ :‬عُتق الرجل من القتل‪ . 1‬فهذه األحاديث‬
‫واآلثار تدل على أن القصاص حق مشترك بين الجميع‪ ،‬والعفو حق لكل‬
‫الورثة‪ ،‬وقد اعتبر عمر رضي اهلل عنه عفو الزوجة عن دم زوجها مسقطاً‬
‫للقصاص عن القاتل‪ ،‬ولم ينكر عليه أحد من الصحابة‪.2‬‬
‫‪2‬ـ عفو القتيل قبل وفاته‪:‬‬
‫ذهب بعض الفقهاء إلى اعتبار عفو المجني عليه مسقطاً للقصاص عن الجاني‬
‫س وَالعَينَ بِالعَينِ وَاألَنفَ بِاألَنفِ‬ ‫س بِالنَّف ِ‬
‫لقوله تعالى‪َ ":‬وكَتَبنَا عَلَيهِم فِيهَا أَنَّ النَّف َ‬
‫جرُوحَ قِصَاصٌ َفمَن تَصَدَّقَ ِبهِ َفهُوَ كَفَّارَ ٌة َّلهُ‬ ‫وَاألُذُنَ بِاألُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَال ُ‬
‫ك هُمُ الظَّالِمُونَ" (المائدة‪ ،‬آية ‪.)45 :‬‬ ‫َومَن لَّم يَحكُم ِبمَا أنزَلَ اهللُّ َفأُولَـئِ َ‬
‫جزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثُلهَا َفمَن عَفَا وَأَصلَحَ َفأَجرُ ُه عَلَى اهللَِّ إِنَّهُ الَ‬
‫ـ وقال تعالى‪ ":‬وَ َ‬
‫يُحِبُّ الظَّاِلمِينَ" (الشورى‪ ،‬آية ‪.)40 :‬‬
‫ـ وعن أبي الدرداء رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪":‬‬
‫ما من رجل يصاب بشيء في جسده ويتصدق به إال رفعه اهلل به درجة‪ ،‬وحط‬
‫عنه به خطيئته‪.3‬‬
‫وعن األشعث بن سؤر عن أبي بكر بن حفص قال‪ ":‬كان بين قوم من بني‬
‫عدي وبين حي من األحياء قتال‪ ،‬ورمي بالحجارة وضرب بالنعال‪ ،‬فأصيب‬
‫غالم من آل عمر‪ ،‬فأبى على نفسه‪ ،‬فلما كان قبل خروج نفسه قال‪ ،‬إني‬
‫عفوت رجاء الثواب لإلصالح بين قومي‪ ،‬فأجازه ابن عمر‪.4‬‬
‫وهذا القول موافق لروح الشريعة ومقاصدها الكبرى‪.‬‬

‫‪ 1‬المحلى البن حزم (‪.)242 / 2‬‬


‫‪ 2‬إصالح ذات البين صـ ‪.169‬‬
‫‪ 3‬سنن ابن ماجة (‪ )898 / 2‬الترمذي (‪.)14 / 4‬‬
‫‪ 4‬المحلى البن حزم (‪.)257 / 12‬‬

‫‪37‬‬
‫‪3‬ـ عفو الولي نيابة عن الصغير‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن ولي الصغير ال يملك العفو عن القصاص الواجب له إذا‬
‫كان العفو إلى غير مال‪ ،‬أو إلى مال ال تدعو حاجة الصغير إليه‪ ،‬قال اإلمام‬
‫الكاساني‪ :‬أن يكون العفو من صاحب الحق‪ ،‬ألنه إسقاط للحق‪ ،‬وإسقاط الحق ـ‬
‫وال حق محال ـ فال يصح العفو من األجنبي لعدم الحق وال من األب‪ ،‬والجد‬
‫في قصاص وجب للصغير‪ ،‬ألن الحق للصغير ال لهما‪ ،‬وإنما لهما والية‬
‫االستيفاء لحق وجب للصغير والعفو ضرر محض‪ ،‬ألنه إسقاط الحق أصالً‬
‫ورأساً ال يملكانه‪.1‬‬
‫‪4‬ـ عفو السلطان‪:‬‬
‫إذا قتل شخص وليس له وارث يطالب بدمه‪ ،‬فإن وليه السلطان بإجماع‬
‫الفقهاء‪ ،‬ألن إرثه ثابت لعامة المسلمين‪ ،‬والسلطان من ينوب عنهم في استيفاء‬
‫حقوقهم‪.2‬‬
‫ثالثاا‪ :‬الشروط الواجب توافرها للحكم بصحة العفو‪:‬‬
‫اشترط الفقهاء عدة شروط وهي‪:‬‬
‫‪1‬ـ أن يكون العافي بالغاً والدليل قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬رفع‬
‫القلم عن ثالث‪ :‬عن النائم حتى يستيقظ‪ ،‬وعن الصبي حتى يحتلم‪ ،‬وعن‬
‫المجنون حتى يعقل‪.3‬‬
‫‪2‬ـ العقل‪ :‬فال يصح عفو زائل العقل للحديث السابق‪.‬‬
‫‪3‬ـ أن يكون مختاراً‪ :‬فال يصح العفو من المكره‪ ،‬فالقرآن الكريم والسنة ال‬
‫تعتبر بأفعال المكره‪ ،‬لقوله تعالى‪ ":‬إِالَّ مَن أُك ِرهَ َوقَل ُب ُه مُطمَئِنٌّ بِاإلِيمَانِ"‬
‫(النحل‪ ،‬آية ‪.)106 :‬‬

‫‪ 1‬بدائع الصنائع للكاساني (‪.)246 / 7‬‬


‫‪ 2‬إصالح ذات البين صـ ‪.173‬‬
‫‪ 3‬سنن أبي داود (‪ )452 / 2‬صحيح‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إن اهلل تجاوز ألمتي عن الخطأ‬
‫والنسيان‪ ،‬وما استكرهوا عليه‪.1‬‬
‫رابعاا‪ :‬سقوط القصاص بإصًلح ذات البين‪:‬‬
‫إذا تم الصلح بالشروط المعروفة التي تجعل الصلح صحيحاً‪ ،‬فقد أجمع العلماء‬
‫على أن الصلح عن دم العمد مسقط للقصاص عن الجاني‪ ،‬سواء كان العوض‬
‫المصالح عليه مالياً أو غير مالي‪ ،‬قليالً أو كثيراً‪ ،‬وكان الصلح من قبل ورثة‬
‫المجني عليه أو بعضهم‪ ،2‬وذلك ألن القصاص حق ثابت لكل واحد منهم‪،‬‬
‫فملك المصالحة عنه‪ ،‬كما هو الشأن في سائر الحقوق المشتركة‪ ،‬وإذا سقط‬
‫نصيب أحد األولياء في القصاص بمصالحته‪ ،‬سقط نصيب الباقي‪ ،‬ألن‬
‫القصاص ال يتجزأ ولمن يصالح من أولياء الدم له حق المطالبة بحصته من‬
‫الدية‪ ،‬ألنه تعذر القصاص‪ ،‬نتيجة لمصالحة بعض األولياء فيصير إلى الدية‪.3‬‬
‫خامساا‪ :‬إصًلح ذات البين في الدية‪:4‬‬
‫يصح الصلح عن دم العمد بما يزيد وينقص عنها‪ ،5‬وتكون الدية عقوبة‬
‫أصلية كما في القتل والجرح والقطع خطأ أو تكون بديلة عن القصاص إذا‬
‫صالح مستحق القصاص على مال‪ ،‬حيث يجوز بالزيادة على قدر الدية‪.‬‬
‫أما إذا كانت الدية بديلة عن القصاص العمد جاز أن تكون على قدر دية‬
‫الخطأ‪ ،‬أو أكثر‪ ،‬أو أقل من جنس الدية‪ ،‬أو من غير جنسها حالة أو مؤجلة‬
‫ألن هذا مال وجب بعقد فيجب فيه ما اتفق عليه‪ ،‬أما الدية الواجبة بالقتل‪ ،‬أو‬
‫القطع‪ ،‬أو الجرح الخطأ فهي مقدرة بالشرع‪ ،‬وهي مال من األموال للمجني‬

‫‪ 1‬صحيح ابن ماجة رقم ‪.2043‬‬


‫‪ 2‬فتح الوهاب ألبي يحيى زكريا األنصاري (‪.)134 / 2‬‬
‫‪ 3‬إصالح ذات البين صـ ‪.175‬‬
‫‪ 4‬فتح الباري (‪.)306 / 5‬‬
‫‪ 5‬الكافي في فقه اإلمام المبجل أحمد بن حنبل (‪ )208 / 2‬عبد اهلل بن قدامة‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫عليه قررته الشريعة‪ ،‬وحددت مقداره فال يجوز الزيادة عليها‪ ،1‬والصلح في‬
‫الدية حق لجميع الورثة‪.2‬‬
‫سادساا‪ :‬إصًلح ذات البين في الحدود‪:‬‬
‫تتفاوت آراء الفقهاء في قضية الصلح في الحدود بناء على طبيعة الحد بحسب‬
‫البيان اآلتي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ما كان حق اهلل غالباً عليه مثل الزنا‪ ،‬والسرقة‪ ،‬فال يجوز فيه الصلح‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ما كان حق العبد غالباً فيه‪ ،‬فيجوز فيه الصلح‪ ،‬مثل القصاص‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ما اختلف فيه الفقهاء في كونه حقاً هلل أو للعبد‪ ،‬كالقذف‪ ،‬فمن رجح أن‬
‫حق اهلل غالباً عليه قال‪ :‬بعدم جواز الصلح فيه‪ ،‬ومن رجح أن حق العبد غالب‬
‫عليه‪ ،‬قال‪ :‬بجواز الصلح فيه‪.3‬‬
‫فلو صالح زانياً أو شارباً للخمر‪ ،‬أو سارقًا على أال يقيم عليهم الحد لم يصح‬
‫الصلح مع هؤالء‪ ،‬لكون هذه الحدود حقاً محضاً هلل عز وجل‪ ،‬وحقوق اهلل ال‬
‫يجوز الصلح عنها باتفاق الفقهاء‪ ،‬ودليلهم ما رواه البخاري‪ ،‬عن أبي هريرة‬
‫وزيد بن خالد رضي اهلل عنهما قاال‪" :‬كنا عند النبي صلى اهلل عليه وسلم فقام‬
‫رجل‪ ،‬فقال‪ :‬أنشدك باهلل إال ما قضيت بيننا بكتاب اهلل‪ ،‬فقام خصمه وكان أفقه‬
‫منه‪ ،‬فقال‪ :‬أقض بيننا بكتاب اهلل وأذن لي‪ ،‬قال‪ :‬قل‪ ،‬قال‪ :‬إن ابني هذا كان‬
‫عسيفاً‪ 4‬على هذا فزنا بإمرأته‪ ،‬فافتديت منه بمائة شاة وخادم‪ ،‬ثم سألت رجاالً‬
‫من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام‪ ،‬وعلى أمرأته‬
‫الرجم‪ ،‬فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬والذي نفسه بيده ألقضين بينكما‬
‫بكتاب اهلل جل ذكره‪ ،‬المائة شاة والخادم رد وعلى ابنك جلد مائة وتغريب‬
‫عام‪ ،‬واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فأرجمها‪.5‬‬

‫‪ 1‬بدائع الصنائع للكاساني (‪.)49 / 6‬‬


‫‪ 2‬إصالح ذات البين صـ‪.176‬‬
‫‪ 3‬بدائع الصنائع (‪.)48 / 6‬‬
‫‪ 4‬العسيف‪ :‬األجير‪.‬‬
‫‪ 5‬البخاري‪ ،‬ك الحدود رقم ‪.6827‬‬

‫‪40‬‬
‫قال ابن حجر وفيه ان الحد ال يقبل الفداء‪ ،‬وهو مجمع عليه في الزنا والسرقة‬
‫والحرابة وشرب المسكر‪ ،‬واختلف في القذف‪ ،‬والصحيح كغيره‪ ،‬وإنما يجزئ‬
‫الفداء في البدن‪ ،‬كالقصاص في النفس واألطراف‪ ،‬وأن الصلح المبني على‬
‫غير الشرع يرد ويعاد المال المأخوذ فيه‪.1‬‬
‫فالرسول صلى اهلل عليه وسلم قد أبطل الصلح الواقع بين زوج المرأة ووالد‬
‫العسيف المؤدي إلى اسقاط الحد مع حرصه ـ عليه السالم ـ وحبه الصالح‬
‫ذات البين‪ ،‬لكنه رفض هذا الصلح المبطل لحدود اهلل‪ ،‬وأمر بتنفيذ الحد إن‬
‫اعترفت المرأة‪ ،‬كما هو في كتاب اهلل‪ ،‬وظاهر الحديث يدل على جواز الصلح‬
‫عن الحدود قبل رفعها إلى الحاكم‪ ،‬حيث أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لم‬
‫يُعنف على من أصلح بينهم‪ ،‬ويؤيد ذلك ما رواه عبد اهلل بن عمر رضي اهلل‬
‫عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬تعافوا الحدود فيما بينكم‪ ،‬فما‬
‫بلغني من حد فقد وجب"‪.2‬‬
‫وكذلك ما رواه مالك بن الزبير بن العوام رضي اهلل عنهما أنه لقي رجالً قد‬
‫أخذ سارقاً وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان فيشفع له الزبير ليرسله‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ال أبلغ به السلطان‪ ،‬فقال الزبير‪ :‬إذ بلغت به السلطان فلعن الشافع‪ 3‬والمشفع‪.‬‬
‫ولما رواه مالك على ابن شهاب عن صفوان بن أمية قيل له‪ :‬إن لم تهاجر‬
‫هلكت‪ ،‬فقدم صفوان إلى المدينة فنام في المدينة وتوسد رداءه فجاء سارق‬
‫وأخذ رداءه فأخذ صفوان السارق وجاء به إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم فأمر به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن تقطع يده‪ ،‬فقال صفوان إني‬
‫لم أرده بهذا هو عليه صدقة‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬أال كان‬
‫قبل أن تأتيني به"‪ ،4‬فالصلح جائز قبل الرفع إلى الحاكم‪ ،‬أما بعد رفعه فال‬
‫يجوز الصلح في الحد‪.5‬‬

‫‪ 1‬فتح الباري البن حجر(‪.)141 / 12‬‬


‫‪ 2‬سنن أبي داؤود رقم ‪.3476‬‬
‫‪ 3‬موطأ مالك‪ ،‬ك الحدود رقم ‪.29‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه رقم ‪.685‬‬
‫‪ 5‬إصالح ذات البين صـ‪.184‬‬

‫‪41‬‬
‫سابعاا‪ :‬المصالحة في األحاديث النبوية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬كل سالمي من الناس عليه صدقة‪،‬‬
‫كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين االثنين صدقة‪ ،‬وتعين الرجل في دابته‬
‫وتحمله عليها‪ ،‬أو ترفع له عليها متاعه صدقة‪ ،‬والكلمة الطيبة صدقة وبكل‬
‫خطوة تمشيها إلى الصالة صدقة‪ ،‬وتميط األذي صدقة‪.1‬‬
‫‪ 2‬ـ وعن أم كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط رضي اهلل عنها قالت‪ :‬سمعت‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪" :‬ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس‬
‫فينمي خيراً أو يقول خيراً"‪.2‬‬
‫‪ 3‬ـ عن أبي أيوب األنصاري أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬ال‬
‫يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثالث ليالٍ‪ ،‬يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا‬
‫وخيرهما الذي يبدأ بالسالم‪"3‬‬
‫‪ 4‬ـ عن أبي هريرة رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"تفتح أبواب الجنة يوم االثنين ويوم الخميس‪ ،‬فيغفر لكل عبد مسلم ال يشرك‬
‫باهلل شيئاً‪ ،‬إال رجلٌ كانت بينه وبين أخيه شحناء‪ ،‬فقال‪ :‬انظروا هذين حتى‬
‫يصطلحا‪ ،‬انظروا هذين حتى يصطلحا‪.4‬‬

‫ثامناا‪ :‬العفو في األحاديث النبوية والرحمة‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ عن أبي مسعود رضي اهلل عنه قال‪ :‬كأني أنظر إلى رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم يحكي نبياً من األنبياء صلوات اهلل وسالمه عليهم‪ ،‬ضربه قومه‬

‫‪ 1‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪ 2‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪ 3‬رواه مالك في الموطأ‪.‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسسه‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫فأدموه‪ ،‬وهو يمسح الدم عن وجهه‪ ،‬ويقول‪ :‬اللهم اغفر لقومي فإنهم ال‬
‫يعلمون‪.1‬‬
‫‪ 2‬ـ عن أبي هريرة رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه قال‪" :‬ليس‬
‫الشديد بالصرعة‪ ،‬إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"‪.2‬‬
‫‪ 3‬ـ وعن أبي هريرة رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"ما نقصت صدقة من مال‪ ،‬وما زاد اهلل عبداً بعفو إال عزاً وما تواضع أحد هلل‬
‫إال رفعه اهلل"‪.3‬‬
‫‪ 4‬ـ وعن أنس بن مالك رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫قال‪" :‬ال تباغضوا وال تحاسدوا وال تدابروا‪ ،‬وكونوا عباد اهلل اخواناً‪ ،‬وال يحل‬
‫لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثالث ليالٍ"‪.4‬‬
‫‪ 5‬ـ عن أبي هريرة رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬من‬
‫نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس اهلل عنه كربة من كرب يوم‬
‫القيامة‪ ،‬ومن يسر على معسر يسر اهلل عليه في الدنيا واآلخرة‪ ،‬ومن ستر‬
‫مسلماً ستره اهلل في الدنيا واآلخرة"‪.5‬‬
‫‪ 6‬ـ وعن أبي موسى األشعري قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"‪.6‬‬
‫‪ 7‬ـ وعن النعمان بن بشير رضي اهلل عنهما قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪" :‬مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا‬
‫اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"‪.7‬‬

‫‪ 1‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪ 2‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪ 3‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ 4‬رواه مالك في الموطأ‪.‬‬
‫‪ 5‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ 6‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪ 7‬متفق عليه‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫تاسعاا‪ :‬إصًلح ذات البين َل يحل الحرام وَل يحرم الحًلل‪:‬‬
‫‪1‬ـ شرع الصلح إلحقاق الحق وإصالح المعوج‪ ،‬وتحقيق إصالح ذات البين‪،‬‬
‫فلو أن شخصاً صالح آخر على تحريم حالل أو تحليل حرام فهذا ال يجوز فقد‬
‫نهى عن ذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقد قال‪ :‬الصلح جائز بين‬
‫المسلمين إال صلحاً حرم حالالً‪ ،‬أو أحلّ حرامًا‪. 1‬‬
‫عاشراا‪ :‬فضل إصًلح ذات البين في السنة‪:‬‬
‫‪1‬ـ عن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما عمل‬
‫ابن آدم شيئاً أفضل من الصالة وإصالح ذات البين وخلق حسن‪.2‬‬
‫‪2‬ـ وعن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أال أخبركم بأفضل من درجة الصوم والصالة والصدقة‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪ :‬إصالح ذات البين‪ ،‬وفساد ذات البين الحالقة‪.3‬‬
‫الحادي عشر‪ :‬أهمية إصًلح ذات البين‪:‬‬
‫‪1‬ـ تخفيف العبء عن القضاء‪:‬‬
‫قد يتم الصلح بين الخصوم قبل رفع الدعوى أمام القضاء‪ ،‬وهذا العمل يخفف‬
‫العبء عن العاملين في مجال القضاء الرسمي‪ ،‬وصدق القائل‪:‬‬
‫لو أنصف الناس استراح القاضي‬
‫وبات كلّ عن أخيه راضي‬
‫‪2‬ـ تخفيف العبء عن الخصوم‪:‬‬
‫إن إنهاء النزاع بين الخصوم صلحاً فيه تخفيف كبير عنهم‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫إجراءات الترافع بجلسة أو جلستين وسهولتها وانهائها‪ ،‬أما ما يجري في‬

‫‪ 1‬سنن الترمذي (‪ )624 /3‬سنن أبي داود (‪.)304 / 3‬‬


‫‪ 2‬رواه البخاري في التاريخ الكبير (‪.)63 / 1‬‬
‫‪ 3‬سنن أبو داود (‪ )280 / 4‬رقم ‪.4919‬‬

‫‪44‬‬
‫المحاكم فيها كثير من التعقيد والمشقة كما أنها تستغرق وقتاً وجهداً وتكاليف‬
‫باهظة وفي هذا مشقة وتعب واستنزاف لجهودهم‪ ،‬وأموالهم‪.‬‬
‫‪3‬ـ تحقيق العدالة‪:‬‬
‫إن حسم الخالف بين طرفي النزاع عن طريق الصلح أدعى إلى اإلنصاف‬
‫وأدنى إلى تحقيق العدالة‪ ،‬حيث إن المتخاصمين أعلم من غيرهم بمعرفة‬
‫استحقاق كل منهم فيما يدعيه‪ ،‬أو فيما يدعي عليه‪ ،‬ألن كال منهما يعلم في‬
‫قرارة نفسه أين الحق‪ ،‬ولمن هو الحق المتنازع عليه‪.‬‬
‫وهذا المعنى قد أشار إليه الرسول صلى اهلل عليه وسلم في الحديث الذي روته‬
‫أم سلمة رضي اهلل عنها قالت‪ :‬جاء رجالن من األنصار يختصمان إلى رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست‪ ،1‬ليس بينهما بيّنة‪،‬‬
‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إنكم تختصمون إلىّ وإنما أنا بشر‪ ،‬ولعل‬
‫بعضكم ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع‪ ،‬فمن‬
‫قضيت له من حق أخيه شيئاً فال يأخذه‪ ،‬فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها‬
‫أسطامًا‪ 2‬في عنقه يوم القيامة‪ ،‬فبكى الرجالن وقال كل واحد منهما‪ :‬حقي‬
‫ألخي‪ .‬فقال رسول اهلل‪ :‬أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما‪ ،‬ثم توخيا الحق‪ ،‬ثم استهما‪،‬‬
‫ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه‪.3‬‬
‫‪4‬ـ نشر الوعي اإلجتماعي‪:‬‬
‫ذلك أنه يستأصل شأفة الخصومة ويؤلف القلوب المتنافرة‪ ،‬ويضع حداً لما‬
‫تتركه الخصومات من أحقاد في النفوس‪ ،‬وضغناء في الصدور‪.‬‬
‫‪5‬ـ إشاعة السالم بين أفراد المجتمع‪:‬‬

‫‪ 1‬درست‪ :‬درس درساً ودروساً عفا وذهب أثره‪.‬‬


‫‪ 2‬األسطام‪ :‬المسعار وهو حديدة عريضة الرأس‪.‬‬
‫‪ 3‬رواه أحمد (‪ )320 / 6‬سنن أبي داود رقم ‪.3853‬‬

‫‪45‬‬
‫عندما يصطلح الناس‪ ،‬وتزال العداوات والمخاصمات فيما بينهم‪ ،‬ويحل الوفاق‬
‫محل الخالف‪ ،‬عند ذلك يأمن الناس بعضهم بعضاً‪ ،‬ويحلّ السالم االجتماعي‬
‫بين أفراد المجتمع‪.‬‬
‫‪6‬ـ تأليف القلوب‪:‬‬
‫الشك أن الخصام يفرق المتاحبين‪ ،‬ويعمق بينهم العداوة والخالف‪ ،‬وتتنافر‬
‫القلوب وتتباغض‪ ،‬فعندما يتم اإلصالح والتصالح‪ 1‬ـ على أسس العدل‪ ،‬وقيم‬
‫القسط وإحقاق الحقوق والتصافح‪ ،‬والتغافر والتراحم‪ ،‬تتآلف القلوب‪.‬‬
‫الثاني عشر‪ :‬وسائل إصًلح ذات البين‪:‬‬
‫فوسائل إصالح ذات البين كثيرة منها الشفهية والسمعية والبصرية‪ ،‬أو‬
‫المقروءة وتشمل كل من االتصال الفردي والخطبة والمحاضرة والندوة‬
‫والمذياع والشريط المسموع والمسرح والتلفزيون‪ ،‬والكتاب والصحيفة‬
‫والمجلة واإلنترنت وأجهزة االتصال وغيرها ولو استخدمت هذه الوسائل‬
‫بحق لعاش الناس في حب وإخاء وتآلف ولضاق الخصام والشجار على‬
‫مستوى األفراد والجماعات والقبائل والدول‪.‬‬
‫‪1‬ـ دور المجتمع في إصالح ذات البين‪:‬‬
‫أ ـ األسرة‪ :‬فالبيت إن أحسن فيه تربية األبناء‪ ،‬فإن المجتمع الكبير سيستقبل‬
‫األعضاء الذين يحسنون إدارة وتوجيه دفة الحكم‪ ،‬فالبيت يتعلم فيه الكبير‬
‫والصغير دروساً في الحب أوالكراهية وعندما يكون األب قدوة في البيت فال‬
‫خصام في داخل األسرة وال شجار خارج البيت وإنما يعيش كل فرد من أفراد‬
‫األسرة في جو متسامح يتسم بالعفو عمن ظلمه وينبذ الخالف ويكره الشقاق‪،‬‬
‫فالبيت بيت مسلم يقتدى بالنبي صلى اهلل عليه وسلم في تحمل األذى والعفو‬
‫والصفح‪ ،‬فعندما ذهب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى الطائف قام بالدعوة‬
‫ال يدع أحداً من أشرافهم إال جاءه وكلمه فلم يجيبوه وخافوا على أحداثهم‪،‬‬

‫‪ 1‬إصالح ذات البين صـ ‪.42 ، 41‬‬

‫‪46‬‬
‫فقالوا‪ :‬يا محمد اخرج من بلدنا والحق بمحابك من األرض وأغروا سفهاءهم‪،‬‬
‫فجعلوا يرجمونه بالحجارة حتى إن رجليه لتدميان‪ ،1‬ورجع رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم متجهًا إلى مكة بعد خروجه من الحائط‪ 2‬كئيباً محزوناً كسير‬
‫القلب‪ ،‬فلما بلغ قرن المنازل بعث إليه جبريل ومعه ملك الجبال يستأمره أن‬
‫يعلق عليهم األخشبين‪ ،‬قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬بل أرجو أن يخرج اهلل‬
‫من أصالبهم من يعبد اهلل ـ عز وجل ـ وحده ال شريك به شيئاً‪.3‬‬
‫فهذه سماحته وعفوه وصفحه صلى اهلل عليه وسلم مع خصومه‪ ،‬بل شعوره أن‬
‫اهلل سيخرج من أصالبهم شباباً يعبدونه وحده ال شريك له‪ ،‬فاألسرة هي‬
‫المحضن ـ الحصن األول ـ يقول اإلمام علي رضي اهلل عنه‪ :‬علموهم‬
‫وأدبوهم‪ ،4‬فاألسرة هي الدرع الحصين التي يحتمي بها اإلنسان عند الحاجة‬
‫ويتقوى بها‪ ،5‬فعلى األسرة أن تتعلم كي تعلم أفرادها‪ ،‬يقول الصحابي الجليل‬
‫عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه‪ :‬تعلموا تعلموا‪ ،‬فإن علمتم فأعملوا‪.6‬‬
‫فاألسرة عليها أن تؤهل نفسها لتؤهل أبناءها‪.‬‬
‫ب ـ المجتمع‪:‬‬
‫تتجدد مسؤولية المجتمع عند تربية أبنائه وتوجيهها إلى الخير أو الشر فهو‬
‫الوسط الذي ينشأ فيه األفراد ومن خالل تعاملهم مع بعضهم البعض يؤثرون‬
‫ويتأثرون سلباً وإيجاباً‪ ،‬لذلك فهو يؤثر على جميع األفراد والجماعات المكونة‬
‫لهذا المجتمع‪ ،‬وقد روي عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قصة القاتل الذي‬
‫ينبغي التوبة من جرائمه السابقة‪ ،‬ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم‪،7‬‬
‫عن أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه وفيه‪ ... :‬انطلق إلى أرض كذا وكذا‪،‬‬
‫فإن بها أناساً يعبدون اهلل‪ ،‬فأعبد اهلل معهم وال ترجع إلى أرضك‪ ،‬فإنها أرض‬

‫‪ 1‬الوفاء بأحوال المصطفى (‪ )212 / 10‬البن الجوزي‪.‬‬


‫‪ 2‬الحائط‪ :‬البستان‪.‬‬
‫‪ 3‬البخاري‪ ،‬ك بدء الخلق (‪.)458 / 1‬‬
‫‪ 4‬إصالح ذات البين صـ ‪.223‬‬
‫‪ 5‬المصدر نفسه صـ ‪.223‬‬
‫‪ 6‬سنن الدارمي (‪.)103 / 1‬‬
‫‪ 7‬إصالح ذات البين صـ ‪.222‬‬

‫‪47‬‬
‫سوء‪ ،1‬أنظر كيف دلّه على البيئة الصالحة والمجتمع النظيف الطاهر العابد‬
‫لربه‪ ،‬فالمجتمع يعمل على التأثير في الشخص سلباً‪ ،‬أو إيجاباً بل المجتمع‬
‫ربما يكون رادعاً ومؤثراً في سلوك الشخص‪ ،‬فقد اتخذ رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم المجتمع وسيلة لتأديب الرجل الذي كان يؤذي جاره‪ ،‬فقد ورد‬
‫حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رجل يا رسول اهلل‪ :‬إن لي جاراً‬
‫يؤذني‪ .‬فقال‪ :‬انطلق فأخرج متاعك إلى الطريق‪ .‬فانطلق فاخرج متاعه‬
‫فاجتمع الناس عليه فقالوا‪ :‬ما شأنك؟ قال‪ :‬لي جار يؤذيني فذكرت ذلك للنبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ :‬انطلق فأخرج متاعك إلى الطريق‪ ،‬فجعلوا يقولون‪:‬‬
‫اللهم ألعنه‪ ،‬اللهم أخزه فبلغه ما قالوه‪ ،‬فأتاه فقال‪ :‬أرجع إلى منزلك فواهلل ال‬
‫أؤذيك‪.2‬‬
‫ج ـ المسجد‪ :‬فالمسجد مكان إلقامة المحاضرات والندوات والدروس العلمية‬
‫والمواعظ اإليمانية التي تدعو الناس إلى التحاب وسالمة الصدور‪ ،‬وإصالح‬
‫ذات البين وكل ذلك من خالل كالم اهلل تعالى‪ ،‬ومن خالل كالم رسوله صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬وفعله وفعل أصحابه واتباعه من أهل الفضل والكرم رضي‬
‫اهلل عنهم جميعاً‪.3‬‬
‫‪2‬ـ دور المؤسسات التربوية في المصالحة‪:‬‬
‫أ ـ المنهج‪:‬‬
‫فالتعليم عمود النهضة وعمادها وذخر أي أمة وسندها‪ ،‬فاألمة اإلسالمية أمة‬
‫العلم والتعلم إذ هي التي بدأ كتابها السماوي "القرآن الكريم" بكلمة "أقرأ" في‬
‫أول ما أنزل على محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فالمنهج يغرس في المتعلم العلم‬
‫والخلق والسلوك واإلخالص واألمانة‪ ،‬ال سيما إذا تضمن نماذج من صور‬
‫القرآن وسيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم من خالل القصص والحكايات‬
‫الصحيحة والواقعية‪ ،‬يختار لهم من القصص الداعمة للحب والوفاء واأللفة‬

‫‪ 1‬البخاري رقم ‪ 32830‬مسلم ك التوبة‪.‬‬


‫‪ 2‬األدب المفرد للبخاري رقم ‪.)216 / 1( 68‬‬
‫‪ 3‬إصالح ذات البين صـ ‪.236‬‬

‫‪48‬‬
‫والتسامح وإصالح ذات البين ونبذ الحقد والحسد والتباغض واالختالف‬
‫والمنازعات والمخاصمات‪ ،‬ولذلك نجد أن القرآن الكريم‪ ،‬والسنة النبوية قد‬
‫رسخت معاني الحب والتسامح‪ ،‬فهذا أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه يصفح‬
‫عن مسطح عندما سمع اآلية تدعو إلى العفو‪ .1‬فالمنهج اإلسالمي له أبلغ‬
‫التأثير في الصلح والتصالح‪.2‬‬
‫ب ـ المعلم‪:‬‬
‫يعتبر األساس‪ ،‬بل هو الدعامة األساسية لبناء المجتمع وتقدمه‪ ،‬فشخصية‬
‫المعلم لها أثر عظيم في عقول التالميذ ونفوسهم‪ ،‬وذلك ألنه يؤثر بمظهره‬
‫وشكله وتعامله وحبه وبغضه وكراهيته وسلوكه الذي يبدو منه‪ ،‬وما أجمل‬
‫المعلم حين يغرس في قلوب أبنائه روح المحبة والتسامح والعفو والصفح‪،‬‬
‫ولين الجانب‪ ،‬ونكران الذات‪ ،‬ونبذ الخالف والشقاق والنزاع والحسد والبغض‬
‫والحقد واالنتقام‪.3‬‬
‫ولقد كرَّم اإلسالم المعلِّم فأشاد به الرسول صلى اهلل عليه وسلم حين أعلن عن‬
‫نفسه أنه معلم‪ ،‬فقال‪" :‬إنما بعثت معلِّماً"‪ .4‬فالمعلم مقامه عظيم حيث إنه‬
‫اهلل عَلَى المُؤمِنِينَ إِذ َبعَثَ‬‫وارث النبوة في مجال التعليم‪ ،‬قال تعالى‪" :‬لَقَد مَنَّ ُّ‬
‫فِيهِم رَسُوالً مِّن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَا ِتهِ وَيُزَكِّيهِم وَ ُيعَِّل ُمهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَ َة وَإِن‬
‫كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَاللٍ مُّبِينٍ" (آل عمران ‪ ،‬آية ‪.)164 :‬‬
‫ج ـ المدرسة‪ :‬من أخطر المؤسسات التربوية التي يقضي فيها الفرد شطرًا‬
‫كبيراً من عمره‪ ،‬وهي المحيط المناسب لتوعية الطالب بأهمية إصالح ذات‬
‫البين ومعرفة طرق وأساليب حل الخصومات عبر الحلول اإلرضائية التي‬
‫تمارس في المدرسة عند حدوث أي خصام بين الطالب‪ ،‬فتحل مشكلتهم عن‬
‫طريق الصلح‪ ،‬فالمدرسة هي الركيزة األساس لتنمية القيم واألخالق‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ونشر ثقافة الحب والتسامح والتواضع والعطف على اآلخرين‬
‫‪ 1‬تفسير القرآن العظيم البن كثير (‪.)287 / 3‬‬
‫‪ 2‬إصالح ذات البين صـ ‪.238‬‬
‫‪ 3‬إصالح ذات البين صـ ‪..239‬‬
‫‪ 4‬سنن ابن ماجة رقم ‪.225‬‬

‫‪49‬‬
‫والرحمة في اآلخرين والتنازل عمن أساء وتجاوز حد األدب‪ ،‬فالمدرسة تعمل‬
‫على تعميق وغرس القيم والمعايير والتصورات والعقائد في الفرد والمجتمع‬
‫وتحويلها إلى سلوك عملي في الواقع‪ ،‬وتكون بذلك عملية فريدة ومتميزة‪،‬‬
‫ومقصده صياغة وتشكيل العقل والوجدان والنفس وتحديد المواقف الكلية‪.1‬‬
‫‪ 3‬ـ دور اإلعالم‪ :‬اإلعالم بوسائلة المقروءة والمسموعة والبصرية وغيرها له‬
‫تأثير كبير على النمو المعرفي واالنفعالي واالجتماعي للشعوب يزداد‬
‫تعاظمها وأهميتها في مجتمعنا الحديث خاصة‪ ،‬فما من بيت يخلو من إحدى‬
‫هذه الوسائل كالمذياع والتلفاز‪ ،‬والصحيفة والشريط‪ ،‬فهذه الوسائل تعمل على‬
‫التوجيه وحفظ مقومات األمة وثباتها أمام التيارات المختلفة‪ ،‬وفي تحصين‬
‫الفرد والجماعة‪.‬‬
‫إن لهذه الوسائل دوراً كبيراً في تعزيز التسامح ونبذ العنف من خالل‬
‫استضافة عالم‪ ،‬أو داعية يتحدث عن أهمية إصالح ذات البين ويبين خطورة‬
‫الخصومة ومضارها على الفرد والمجتمع‪.2‬‬

‫الثالث عشر‪ :‬أساليب عملية إلصًلح ذات البين‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ المكاشفة‪ :‬الموضوعية‪:‬‬
‫هؤالء الصحابة عندما اختلفوا في أمر الخالفة‪ ،‬كان األنصار يرون أنهم أحق‬
‫بها من غيرهم‪ ،‬ألن الخالفة تركت دون تبيين من قبل الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فليس هناك نص قاطع من الكتاب والسنة ينتهي الناس إليه ويحتكمون‬
‫به‪ ،‬وهنا لم يبق إال التحلي بالحكمة والحنكة وآداب االختالف والحوار‬
‫العقالني الهادئ المؤدي ألنبل المشاعر وأفضلها لدى الطرفين‪ ،‬بالتجاوز‬
‫واحتواء األزمة‪ ،‬والخروج منها إلى بّر األمان‪ ،‬فكانت المكاشفة بين‬
‫المهاجرين واألنصار فقد تكلم خطيب األنصار‪ ،‬ثم أبو بكر الصديق وبما قاله‬
‫‪ 1‬إصالح ذات البين صـ‪.240‬‬
‫‪ 2‬إصالح ذات البين ‪.242‬‬

‫‪50‬‬
‫ـ رضي اهلل عنه ـ ‪ :‬أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل‪ ،1‬وأشاد بهم وبما‬
‫قدموا لدينهم وإلخوانهم المهاجرين‪ ،‬وذكر من فضائلهم ومآثرهم ما لم يذكره‬
‫خطباؤهم‪ ،‬ثم بدأ في إخراج األمر من اإلطار الذي وضعه خطيب األنصار‬
‫فيه‪ ،‬فاألمر ليس مقصوراً على المدينة ـ وحدها ـ فالجزيرة اليوم تستظل بظل‬
‫اإلسالم وإن كان المهاجرون القاطنون في المدينة يمكن أن يسلموا إلخوانهم‬
‫األنصار بالخالفة ويعرفوا فضلهم‪ ،‬فإن بقية العرب لن تسلم لغير قريش‪ ،‬فبين‬
‫لهم األمر بهذا الخطاب الواضح حتى يسلموا األمر إلخوانهم من قريش‪.2‬‬
‫‪ 2‬ـ االسترضاء‪:‬‬
‫قد يكون للطرف اآلخر شكوى منطقية‪ ،‬وحق يطالبك به‪ ،‬فما عليك إال‬
‫االعتراف بهذا الحق وإرجاعه ما أمكن‪ ،‬ثم استرضاؤه‪ ،‬لينتهي النزاع وال‬
‫يطول بقول فولتير‪ :3‬النزاع الطويل يعني أن كال من الطرفين على خطأ‪.4‬‬
‫وقد استرضى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه وعرض نفسه‬
‫للقصاص قائالً‪ :‬من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه‪ ،‬ومن كنت‬
‫شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه‪ .5‬فهذا استرضاء منه وطلب للعفو‬
‫والمسامحة في الدنيا قبل اآلخرة‪.‬‬
‫وهذا محمد الحنفية رضي اهلل عنه جرى بينه وبين أخيه الحسين بن علي‬
‫رضي اهلل عنهما كالم‪ :‬فانصرفا متغاضبين‪ ،‬فلما وصل محمد إلى منزله أخذ‬
‫رقعة وكتب فيها بعد البسملة‪ :‬من محمد بن علي بن أبي طالب إلى أخيه‬
‫الحسين بن علي‪ ،‬أما بعد‪ :‬فإن لك شرفاً ال أبلغه‪ ،‬وفضالً ال أدركه‪ ،‬فإن أمي‬
‫امرأة من بني حنيفة وأمك فاطمة بنت محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ولو كان‬
‫ملء األرض نساء مثل أمي ما وفين بأمك‪ ،‬فإذا قرأت رقعتي هذه فألبس‬
‫رداءك ونعليك وسر إليّ فترضاني‪ ،‬وإياك أن أكون سابقك إلى هذا الفضل‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية البن هشام (‪.)659 / 2‬‬


‫‪ 2‬إصالح ذات البين صـ ‪.246‬‬
‫‪ 3‬فيلسوف وصحفي فرنسي توفي ‪1778‬م‪.‬‬
‫‪ 4‬متعة الحديث‪ ،‬عبد اهلل الداوود صـ ‪.246‬‬
‫‪ 5‬الرحيق المختوم صـ ‪ 465‬صفي الرحمن‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫الذي أنت أولى به مني والسالم‪ ،‬فلبس الحسين رداءه ونعليه وجاء إليه‬
‫وترضاه‪.1‬‬
‫‪3‬ـ المصارحة والمواجهة الهادئة‪:‬‬
‫اقتداء بالرسول صلى اهلل عليه وسلم في الصفح والعفو وامتثاالً لقوله تعالى‪":‬‬
‫اهلل إ َِّنهُ الَ يُحِبُّ الظَّاِلمِينَ" (الشورى‪ ،‬آية ‪.)40 :‬‬
‫َفمَن عَفَا وَأَصلَحَ َفأَجرُ ُه عَلَى َِّ‬
‫فقد واجه من قومه كل أنواع األذى هو وأصحابه من رمي بالحجارة‬
‫والسخرية واالستهزاء‪ ،‬وما حادثة الطائفة إال خير دليل على رحمته‬
‫وتسامحه‪ ،‬فقد جاء ملك الجبال‪ ،‬يريد أن يطلق عليهم األخشبين فقال صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ :‬بل أرجو أن يخرج اهلل من أصالبهم من يعبد اهلل ـ عز وجل ـ ال‬
‫يشرك به شيئاً‪.2‬‬
‫دعا لهم بالمغفرة من قلبه الطاهر فقال‪ ":‬اللهم أغفر لقومي فإنهم ال يعلمون"‪،‬‬
‫بل زيادة على ما ذكر فإنه كان يحاور أعداءه بلين الجانب والهدوء التام في‬
‫حواراته وخطاباته‪ ،‬فهذا عتبة بن ربيعة والذي كان سيداً من سادات قومه‬
‫طلب من قومه أن يكلم الرسول صلى اهلل عليه وسلم ويعرض عليه أموراً‪،‬‬
‫فأذنوا‪ ،‬فجاء النبي صلى اهلل عليه وسلم حتى جلس‪ ،‬وبدأ بالحديث مع النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ :‬قل يا أبا الوليد‪ ،‬وألتفت إليه بهدوء تام‪ ،‬حتى انتهى‬
‫من كالمه‪ ،‬ثم قال له‪ :‬أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم‪ ،3‬فهذه أخالقه مع‬
‫خصومه وأعدائه ومنه نتعلم كيف نواجه الخصم بهدوء تام‪ ،‬وقوة تحكم في‬
‫المشاعر واألحاسيس وقسمات الوجه وتعبيراته‪ ،‬وعدم االنفعال والغضب‪ ،‬بل‬
‫علمنا كيف نحاور خصومنا بهدوء‪ ،‬ونستمع إليهم بإنصات حتى إذا انتهوا من‬
‫كالمهم نبدأ بتوضيح فكرتنا وبيان خطئهم‪ ،‬وصوالً إلى إقناعهم بخطأ فكرتهم‬

‫‪ 1‬جمهرة رسائل العرب (‪ 26 / 2‬ـ ‪.)27‬‬


‫‪ 2‬إصالح ذات البين صـ ‪.248‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه صـ ‪ ،248‬السيرة النبوية (‪.)293 / 1‬‬

‫‪52‬‬
‫أو خطأ سلوكهم‪ ،‬ثم طلبهم بعدم التكرار لمثل هذه االعمال غير المرغوبة مع‬
‫إخبار الخصم إذا اقتنع بخطأ ما أقدم عليه‪.1‬‬

‫الرابع عشر‪ :‬صفات المصلح القائم بإصًلح ذات البين‪:‬‬


‫‪1‬ـ مواصفات شخصية‪:‬‬
‫أ ـ اإلخالص‪ :‬على الساعي إلصالح ذات البين أن يجعل عمله خالصاً هلل ـ‬
‫سبحانه وتعالى ـ مبتغياً من اهلل األجر والموثبة‪ ،‬قال اهلل تعالى‪َ ":‬ومَن يَفعَل‬
‫عظِيمًا" (النساء ‪ ،‬آية ‪.)114 :‬‬‫ت اهللِّ فَسَوفَ نُؤتِيهِ أَجرًا َ‬
‫ذَِلكَ اب َتغَاء مَرضَا ِ‬
‫فال يقصد بعمله شكراً من أحد وال تحصيل جاه‪ ،‬أو شهرة‪ ،‬أو سمعة‪ ،‬فإن‬
‫المصلح إنما يكون مقبوالً عند المتخاصمين إذا شعروا بإخالصه هلل ـ سبحانه‬
‫وتعالى ـ في سعيه إلصالح ذات البين وكذلك إخالصه في حل القضية‬
‫وإيصال الخصوم إلى حلّ مرضٍ والبد أن يستشعر المصلح قول الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إن اهلل تعالى ال يقبل من العمل إال ما كان له خالصاً‪،‬‬
‫وابتغى به وجهه‪.2‬‬
‫حسَابٍ" (الزمر‪،‬‬
‫ب ـ الصبر‪ :‬قال تعالى‪ ":‬إ َِّنمَا يُوَفَّى الصَّا ِبرُونَ أَجرَهُم ِبغَيرِ ِ‬
‫آية ‪.)10 :‬‬
‫وقد أعلن اهلل ـ سبحانه وتعالى ـ حبه للصابرين‪ ،‬بقوله " وَاهللُّ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ"‬
‫(آل عمران‪ ،‬آية ‪.)10 :‬‬
‫وهكذا نجد أن منزلة الصبر منزلة عالية ال ينالها إال المتقون الصادقون‪،‬‬
‫فالصبر سمة من سمات المؤمنين وصفة من صفاتهم الالزمة لهم‪.3‬‬

‫‪ 1‬إصالح ذات البين صـ ‪.249‬‬


‫‪ 2‬سنن النسائي رقم ‪.103140‬‬
‫‪ 3‬إصالح ذات البين صـ ‪.274‬‬

‫‪53‬‬
‫ج ـ الحكمة‪ :‬والحكمة إصابة الحق بالعلم والعقل‪ ،‬وال يسمى الرجل حكيماً إال‬
‫إذا جمع بين العلم والعمل به‪ ،‬وقيل‪ :‬الحكمة وضع كل شيء في موضعه وقيل‬
‫سرعان الجواب مع اإلصابة‪ ،1‬فالمصلح الحكيم هو الذي ينظر في القضايا‬
‫المعروضة عليه ببصيرة ثاقبة ويوفق بين اآلراء ويقرب بين األطراف‬
‫ويتريث ويتأنى‪ ،‬فال يعجل في اصدار األحكام والحكمة تقوم على ثالثة أركان‬
‫هي‪ :‬العلم والحلم واألناة‪ ،‬وآفاتها وأضدادها ومعاول هدمها‪ :‬الجهل‪ ،‬والطيش‪،‬‬
‫والعجلة‪ ،‬فال حكمة لجاهل‪ ،‬وال طائش وال عجول‪ ،2‬فالمصلح البد أن يتمتع‬
‫بسعة الصدر‪ ،‬والقدرة على احتواء المواقف وحسن االستماع إلى‬
‫المتخاصمين‪ ،‬والتمكن من تهدئة المواقف‪ ،‬ليصل المصلح إلى اطفاء جذوة‬
‫الخالف وإزالة أسباب الخصومة وإجالل المصافاة والمسالمة كما ينبغي على‬
‫المصلح أن يكون له معرفة في الدين والفقه في التأويل وسجية تعينه على‬
‫الفهم‪.‬‬
‫ح ـ الصدق‪ :‬قال تعالى‪ ":‬يَا أ َُّيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اهللَّ َوكُونُوا مَعَ الصَّا ِدقِينَ"‬
‫(التوبة‪ ،‬آية ‪.)119 :‬‬
‫القائم على إصالح ذات البين البد أن يتصف بهذه الصفة حتى يقبل قوله‬
‫ويكون أهالً لثقة الناس بهم‪ ،‬ويحصل الصلح بواسطته وعل المصلحين أن‬
‫يفهموا أن ما يصدر منهم من حلول لقضايا الناس ال يقبل وال يستقر في‬
‫القلوب إال إذا كان المصلح خالصاً في نيته‪ ،‬صادقاً في لهجته‪ ،‬وال يراعي إال‬
‫اهلل في عمله‪ ،‬فإن صدق المصلح في اإلصالح‪ ،‬جعل اهلل على يديه الوفاق‬
‫واالتفاق وإنهاء الخصام‪ ،‬فالمصلح عندما يبتغي بصلحه رضي اهلل ثم رضي‬
‫الخصمين‪ ،‬فهذا أج ّل الصلح وأحقه‪ ،‬وهو يعتمد على العلم والعدل فيكون‬
‫المصلح عالماً بالوقائع‪ ،‬عارفاً بالواجب قاصداً للعدل‪ ،‬فدرجة هذا أفضل من‬
‫درجة الصائم القائم‪.3‬‬

‫‪ 1‬مدارج السالكين (‪.)478 / 2‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)279 / 2‬‬
‫‪ 3‬إعالم الموقعين (‪ 109 / 1‬ـ ‪.)110‬‬

‫‪54‬‬
‫س ـ المبادرة‪ :‬البد ألهل الخير والصالح أن يبادروا إلنهاء الخصومات‬
‫والعداوات التي تحصل بين أفراد المجتمع حتى يكون متماسكاً بعيداً عن‬
‫حكُم"‬
‫الخالفات والنزاعات‪ .‬قال تعالى‪ ":‬وَالَ تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِي ُ‬
‫(األنفال‪ ،‬آية ‪.)46 :‬‬
‫وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أول المبادرين ألنهاء الخصومات‬
‫بين أصحابه‪ ،‬فها هو يأمر أصحابه بقوله ‪":‬أذهبوا بنا نصلح بينهم"‪.1‬‬
‫وذكر ابن القيم عن عبد اهلل بن حبيب ابن أبي ثابت‪ ،‬قال‪ :‬كنت جالساً مع‬
‫محمد بن كعب القرظي‪ ،‬فأتاه رجل فقال محمد بن كعب‪ :‬أصبت لك مثل أجر‬
‫المجاهدين‪ ،‬ثم قرأ ‪ ":‬الَّ خَيرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجوَاهُم إِالَّ مَن َأ َمرَ بِصَ َد َقةٍ أَو‬
‫ح بَينَ النَّاسِ" (النساء‪ ،‬آية ‪.)114 :‬‬ ‫ف أَو إِصالَ ٍ‬
‫مَعرُو ٍ‬
‫ش ـ التواضع‪ :‬على القائمين بإصالح ذات البين أن يتصفوا بصفة التواضع‪،‬‬
‫وخفض الجناح‪ ،‬ولين الجانب مع المتخاصمين ومع كل من له عالقة بالقضية‬
‫المعروضة عليه‪ ،‬فكما أنه يجب أن يكون قوياً في غير عنف‪ ،‬يجب أن يكون‬
‫متواضعاً في غير ضعف ليكسب القلوب‪ ،‬فيسعى الجميع لقبول قوله وحكمه‪،‬‬
‫ك لِلمُؤمِنِينَ" (الحجر‪ ،‬آية ‪.)88 :‬‬
‫قال تعالى‪ ":‬وَاخفِض جَنَاحَ َ‬
‫ويقول الرسول الكريم صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إن اهلل أوحى إلي أن تواضعوا‪،‬‬
‫حتى ال يفخر أحد وال يبغى أحد على أحد‪ ،2‬وقد كان الرسول األعظم صلى‬
‫اهلل عليه وسلم مثاالً للتواضع‪ ،‬واخفض الجناح‪ ،‬ولين الجانب وسماحة النفس‪،‬‬
‫حتى أن الجارية لتأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت‪ ،‬فعن أنس رضي اهلل عنه‬
‫قال‪ :‬إن كانت األمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فتنطلق به‪ ،‬هكذا‪ ،‬كان التواضع متجسداً في شخصية الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وهكذا يجب أن يكون في قادة األمة والمصلحين‪ ،‬بل وفي كل فرد‬
‫مسلم‪.3‬‬

‫‪ 1‬إصالح ذات البين صـ ‪.276‬‬


‫‪ 2‬رواه مسلم (‪.)2199 / 4‬‬
‫‪ 3‬إصالح ذات البين صـ ‪.278‬‬

‫‪55‬‬
‫ع ـ الجود والكرم‪ :‬اشتهر عن العرب بذلهم المال إلصالح ذات البين فهذا‬
‫هرم بن سنان والحارث بن عوف سيد بني مرة اللذان حقنا دماء قبيلتي عبس‬
‫وذبيان بعد حرب طويلة‪ ،‬إذ يتحمال ديات القتلى‪ ،‬ويقال إنها كانت ثالثة اآلف‬
‫بعير وقد جاء اإلسالم فاقر تلك المحامد والخصال الكريمة واألفعال النبيلة‬
‫فشرع في مصارف الزكاة حقاً لقضاء المغارم التي دفعت للخصومات‬
‫والمنازعات وإنهاء القتل واالقتتال‪.1‬‬

‫الخامس عشر‪ :‬مواصفات علمية وعقلية للقائم بإصًلح ذات البين‪:‬‬


‫‪1‬ـ العلم‪:‬‬
‫العلم من أعظم الصفات التي ينبغي أن يتصف بها المصلح وأن يؤهل نفسه به‬
‫والمقصود بالعلم هنا هو علم الشريعة التي أنزلها اهلل سبحانه وتعالى ألقامة‬
‫العدل والكف عن الظلم‪ ،‬والساعي إلصالح ذات البين ينبغي أن يكون لديه‬
‫علم بالشريعة‪ ،‬وإال دخل تحت الوعيد المذكور في قول رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم من حديث أبن بريدة عن أبيه عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫قال‪ :‬القضاة ثالثة‪ ،‬أثنان في النار وواحد في الجنة‪ ،‬رجل علم الحق فقضى به‬
‫فهو في الجنة‪ ،‬ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار‪ ،‬ورجل جار في‬
‫الحكم فهو في النار‪.2‬‬
‫‪2‬ـ العدل‪:‬‬
‫العدل صفة ربانية كتبها اهلل على نفسه وأوجبها على عباده بقوله تعالى‪ ":‬إِنَّ‬
‫حكَمتُم بَينَ النَّاسِ أَن تَح ُكمُوا‬
‫ألمَانَاتِ إِلَى أَهِلهَا وَإِذَا َ‬
‫اهللَّ يَأ ُم ُركُم أَن تُؤدُّوا ا َ‬
‫بِالعَدلِ" (النساء‪ ،‬آية ‪.)58 :‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه صـ ‪.278‬‬


‫‪ 2‬سنن ابن ماجة (‪ )776 / 2‬رقم ‪.2315‬‬

‫‪56‬‬
‫فكل مسالة خرجت عن العدل إلى الجور ليست من الشريعة‪.1‬‬
‫فالمصلح حتى يوفق في إزالة الشقاق وإحالل الوفاق‪ ،‬البد أن يعدل بين‬
‫المتخاصمين ويصلح بينهما بالعدل‪ ،‬قال تعالى‪َ ":‬فأَصلِحُوا بَي َن ُهمَا بِالعَدلِ‬
‫سطِينَ" (الحجرات‪ ،‬آية ‪.)9 :‬‬‫سطُوا إِنَّ اهللََّ يُحِبُّ المُق ِ‬
‫وَأَق ِ‬
‫واإلصالح هنا بإزالة آثار القتل بعد اندفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم‬
‫فقال‪ ":‬بِالعَدلِ" فكأنه قال‪ :‬واحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأصلحوا‬
‫بالعدل مما يكون بينهما‪.2‬‬
‫والغرض من إصالح ذات البين إيصال العدل والذي رغب فيه الرسول صلى‬
‫اهلل عليه وسلم وبين فضيلته بقوله‪ ":‬كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الناس‬
‫صدقة"‪.3‬‬
‫يقول ابن القيم‪ :‬الصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضى اهلل‬
‫سبحانه وتعالى ورضى الخصمين‪ ،‬فهذا أعدل الصلح وأحقه وهو يعتمد على‬
‫العلم والعدل فيكون المصلح عالماً بالواقع‪ ،‬عارفاً بالواجب قاصداً العدل‬
‫فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم‪.4‬‬
‫‪ 3‬ـ رجاحة العقل‪:‬‬
‫بالعقل يعرف اإلنسان حقائق األمور‪ ،‬ويفصل بين الحسنات والسيئات‪ ،5‬ومن‬
‫خالل العقل تزداد المعرفة وتتضح الفكرة ويبين الحق‪ ،‬فالعقل ينمو إن‬
‫استعمل وينقص إن اهمل‪ ،‬فالمصلح يعمل في العادة عقله وفكره الستنباط‬
‫الحلول المناسبة المرضية للخصمين‪ ،‬واهلل يدعونا للتدبر والتفكر والتأمل‪ ،‬قال‬
‫َكرَ أُولُوا األَلبَابِ" (ص‪،‬‬
‫ك لِّيَد ََّّبرُوا آيَا ِتهِ وَلِيَتَذ َّ‬
‫تعالى‪ ":‬كِتَابٌ أَنزَلنَاهُ إِلَيكَ مُبَارَ ٌ‬
‫آية ‪ .)29 :‬وليتعظ بالقرآن أولوا العقول‪ ،6‬وأولوا االلباب أصحاب العقول‬
‫‪ 1‬المجتمع اإلسالمي محمد الصادق عفيفي صـ ‪.99‬‬
‫‪ 2‬التفسير الكبير للرازي (‪.)129 / 28‬‬
‫‪ 3‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪ 4‬إعالم الموقعين (‪ 109 / 1‬ـ ‪.)110‬‬
‫‪ 5‬اإلنسان والمال في الغسالم صـ ‪ 121‬عبد النعيم حسنين‪.‬‬
‫‪ 6‬تفسير النسفي صـ ‪.40‬‬

‫‪57‬‬
‫الراجحة الذين يدركون األمور على حقيقتها ويعرفون العواقب جراء إهمال‬
‫إصالح ذات البين‪ ،‬فعليهم أن يقوموا بإصالح ذات البين على أكمل وجه‪ ،‬فهذا‬
‫واجب العقالء من الناس ومسؤوليتهم على إنجاح حل القضايا وإنهاء‬
‫الخصومات بأسرع وقت ممكن وقد اهتمت الشريعة اإلسالمية بعقل اإلنسان‬
‫أيما اهتمام وأعطته قدراً وافراً من الرعاية وأحاطته بما يوفر له القيام‬
‫بوظائفه‪.1‬‬
‫‪4‬ـ القدرة على التركيز‪:‬‬
‫البد للمصلح أن يكون قوي الذاكرة يتذكر المواقف المختلفة بين الخصوم‬
‫ويذكر اسماء المتخاصمين‪ ،‬ونوع قضاياهم‪ ،‬وأن يكون ملماً بكل قضية‪،‬‬
‫يعرف أطراف النزاع ومحل النزاع‪ ،‬ونوع النزاع‪ ،‬حتى تكون الصورة‬
‫واضحة للقضية التي تطرح عليه فهو يعرف أسبابها وكيف حصلت‪ ،‬ولديه‬
‫جميع المعلومات حتى يتمكن من الحلول‪.2‬‬
‫‪5‬ـ التميّز‪:‬‬
‫كلما كان المصلح صاحب مكانة عالية وقيادة متميزة‪ ،‬وشخصية متكاملة‬
‫وشجاعة قوية‪ ،‬وحلم وعلم‪ ،‬أو سن يكرم ألجله أو قرابة حميمة من‬
‫المتخاصمين‪ ،‬فإن ذلك أدعى لقبول المتخاصمين لعرض مشكلتهم عليه ليقوم‬
‫بحلها ورضاهم لحكمه والنزول عند قوله وااللتزام بقضائه‪ ،3‬وعن هاني بن‬
‫يزيد بن نهيك رضي اهلل عنه قال‪ :‬إنه لما وفد إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم مع قومه سمعهم وهم يكنونه بأبي الحكم‪ ،‬فدعاه رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم فقال له‪ :‬إن اهلل هو الحكم‪ ،‬وإليه الحكم فلم تكنى أبا الحكم؟ فقال ‪:‬‬
‫إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم‪ ،‬فرضي كال الفريقين‪ ،‬فقال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬ما أحسن هذا؟ فمالك من الولد‪ ،‬قال لي شريح‬

‫‪ 1‬إصالح ذات البين صـ ‪.283‬‬


‫‪ 2‬إصالح ذات البين صـ ‪.284‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه صـ ‪.286‬‬

‫‪58‬‬
‫وعبد اهلل‪ ،‬قال‪ :‬فمن أكبرهم؟ قال‪ :‬شريح‪ ،1‬قال‪ :‬فأنت أبو شريح‪ ،2‬فقد أعجب‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم بفعله هذا واستحسنه‪.3‬‬

‫السادس عشر‪ :‬يوسف عليه السًلم‪:‬‬


‫بدأت قصة يوسف عليه السالم بالحقد الذي ثار في نفوس اخوته لما رأوا من‬
‫حب أبيه‪ ،‬فاجتمعوا عن النيل منه وتآمروا على المباعدة بينه وبين أبيه‬
‫واقترحوا قتله أو اإلبعاد‪ ،‬قال تعالى‪" :‬اقتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطرَحُو ُه أَرضًا يَخلُ َلكُم‬
‫وَج ُه أَبِيكُم وَ َتكُونُوا مِن بَعدِهِ قَومًا صَالِحِينَ" (يوسف ‪ ،‬آية ‪.)9 :‬‬
‫وهكذا سرى الحسد البغيض إلى نفوس إخوة يوسف‪ ،‬وقعد الشيطان اللعين‬
‫يثيرهم ويدفعهم للشر حتى أعلنوا عن خطتهم البشعة قائلين‪ " :‬اقتُلُوا يُوسُفَ أَوِ‬
‫اطرَحُو ُه أَرضًا"‪.‬‬
‫وهذا يدل على أن حسدهم ألخيهم يوسف قد بلغ النهاية‪ ،‬فقرروا أنه ال بد من‬
‫إبعاد يوسف عن أبيه‪ ،‬إما بالقتل وازهاق روحه‪ ،‬أو القاؤه في أرض بعيدة‬
‫منكورة‪ ،‬فال يتمكن من العودة إلى أبيه‪ ،‬ألنه إما أن يهلك وإما أن يجده أحد‬
‫فيسترقه‪ ،‬وموقف اخوة يوسف هذا من أخيهم يوسف الصغير عليه السالم يدل‬
‫على أن العواطف السيئة المتولدة عن الحسد قد بلغت ذروتها‪ ،‬عندما يتشبع‬
‫الحاسد بكراهية المحسود‪ ،‬إلى درجة وضع وجوده مع وجود الضحية في‬
‫الميزان‪ ،‬فال يمكن أن يجتمع الوجودان معاً‪ ،‬وجود الحاسد والمحسود‪ ،‬فقد‬
‫اختل تقدير للواقع بسبب غليان الحقد الناشب عن الحسد الذي في قلوبهم‪،‬‬
‫وتدخل الشيطان ليثيرها ناراً حامية على أخيهم يوسف‪ ،‬حتى تضخمت في‬
‫حسهم أشياء صغيرة‪ ،‬وهانت عليهم أحداث ضخام‪ ،‬هانت الفعلة الشنعاء‬
‫المتمثلة في إزهاق روح غالم بريء ال يملك دفعا عن نفسه‪ ،‬وهو لهم أخ‪،‬‬

‫‪ 1‬سنن أبي داود رقم ‪.4955‬‬


‫‪ 2‬شريح بن هاني بن زيد‪.‬‬
‫‪ 3‬إصالح ذات البين ‪.286‬‬

‫‪59‬‬
‫وهم أبناء نبي‪ ،‬وتضخم في أعينهم حكاية آيثار أبيهم له‪ ،‬بالحب حتى توازى‬
‫القتل أكبر الجرائم بعد الشرك باهلل تعالى‪.1‬‬
‫ولقد حسد إخوة يوسف أخاهم يوسف ـ عليه السالم ـ ألن الغرض الذي يطلبه‬
‫ويتمناه كل واحد منهم في أن يرث زعامة األسرة ورئاستها من بعد أبيه أو أن‬
‫يكون له نصيب من ميراث النبوة من بعد يعقوب ـ عليه السالم ـ هذا الغرض‬
‫قد بدأ أنهم على وشك أن يفقدوه بسبب هذا الحب الكبير من يعقوب ليوسف ـ‬
‫عليهما السالم ـ ولذلك حسدوا أخاهم يوسف على شدَّة حب أبيه له خوفاً من‬
‫أن يورّثه أبوه يعقوب زعامة األسرة ورئاستها أو أن يؤثره بميزان النبوة‬
‫عنهم‪.2‬‬

‫‪ 1‬موسوعة تفسير يوسف عليش متولي (‪.)325 ، 324 / 1‬‬


‫‪ 2‬موسوعة تفسير سورة يوسف (‪.)333 / 1‬‬

‫‪60‬‬
‫‪ 1‬ـ من فيض نور اآلية الكريمة‪:‬‬
‫أ ـ الجريمة دائماً ال تفيد‪ ،‬وإنما تؤدي إلى ردود عكسياً فبعد تنفيذ األخوة‬
‫لمؤامراتهم ضد أخيهم يوسف وضد أبيهم يعقوب لم يجدوا منه إال التولي‬
‫واإلعراض عنهم‪.‬‬
‫ب ـ الحسد البغيض يثير الحقد في النفس ويحجب نور الحق حتى يرتكب‬
‫صاحبه ما حرم اهلل‪.‬‬
‫ج ـ صالح الحال والمآل وسعادة الدارين ال يكون إال بالعمل الصالح وليس‬
‫بإرتكاب الجرائم‪.‬‬
‫س ـ طلب محبة الغير تكون بفعل ما يحب ال بفعل ما يضره ويحزنه ويبكيه‪.‬‬
‫ش ـ الحب الخالص هلل في القلب ال يحجبه بعد مكان وال طول زمان‪.‬‬
‫ك ـ التوبة في اإلسالم العظيم باب واسع من رحمة اهلل تعالى جعلها رب العزة‬
‫لمن يستحق قبولها‪.1‬‬
‫‪ 2‬ـ إخوة يوسف كانوا خاطئين‪:‬‬
‫اهلل عَلَينَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ" ( يوسف‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫َاهلل لَقَد آ َث َركَ ُّ‬
‫قال تعالى‪ ":‬قَالُوا ت ِّ‬
‫‪.)91‬‬
‫لما ذكر يوسف ـ عليه السالم ـ إلخوته أن اهلل تعالى من عليه‪ ،‬وأن من يتقى‬
‫ويصبر فإن اهلل ال يضيعه صدقوه فيه واعترفوا له بالفضل والمزية فقالوا‪":2‬‬
‫تَاهللِّ لَقَد آ َث َركَ اهللُّ عَلَينَا" فقد اقسموا بين يديه معلنين ذلك ومعترفين بالخطأ‬
‫الذي ارتكبوه فـي حقه وفـي حـق أخيه وفـي حـق أبيه ـ عليه السالم ـ وبهذا‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪.)343 / 1‬‬


‫‪ 2‬موسوعة تفسير سورة يوسف (‪.)1422 / 2‬‬

‫‪61‬‬
‫رجعوا إلى الحق وانقادوا له وندموا على ما فعلوا وتابوا وتمنوا لو يصفح‬
‫عنهم أخوهم يوسف ويعفو عنهم‪.1‬‬
‫‪ 2‬ـ العوامل التي ساهمت في توبه إخوة يوسف‪:‬‬
‫أ ـ العامل األول‪:‬‬
‫فأما العامل األول من عوامل التغيير والتطوير فهو فشلهم في تحقيق مآربهم‬
‫والوصول إلى غايتهم‪ ،‬وهم قوم إنما يسعوا إلى ارتكاب جريمتهم من أجل‬
‫الحصول على قلب أبيهم‪ ،‬ومن أجل أن يخلو لهم وجهه‪ ،‬وإذ بهم بعد ارتكاب‬
‫جريمتهم ال يزدادون منه إال بعداً وال يزيد لهم إال مقتاً ومنهم إال نفوراً‪،‬‬
‫وكيف يحظون بقلبه الذي فجعوه بأعز عزيز وأحب حبيب؟ وهل أكافئ من‬
‫يطعن قلبي في العميم بأن أمنحه هذا القلب؟ إنه ألمر عجيب‪ .‬المهم أن يعقوب‬
‫لم يزد من جهتهم إال وحشة وهانوا عليه أضعاف ما كانوا ومن هنا جاء‬
‫عتابه لهم رقيقًا مريراً قصيراً مفعماً مشحونا يظهر األلم من كل كلمة فيه‪.‬‬
‫جمِيلٌ وَاهللُّ المُستَعَانُ عَلَى مَا‬
‫سكُم أَمرًا فَصَبرٌ َ‬
‫قال تعالى‪":‬سَوَّلَت َلكُم أَنفُ ُ‬
‫تَصِفُونَ"‪.‬‬
‫ونستغرب لم لم يطلب يعقوب منهم أن يحضروا ولده له‪ ،‬وهو يعلم أنه لم يقتل‬
‫وهذا بعد ذاته دليل على يأسه من أبنائه وفقده األمل فيهم ونقص اليد من‬
‫جهتهم ولو علم فيهم خيراً لطلب منهم إحضاره من المكان الذي فيه تركوه‪.‬‬
‫وأما العامل الثاني‪:‬‬
‫وأما العامل الثاني فيمكن في عنصر الزمن‪ ،‬وال ريب أن كر السنين على من‬
‫عنده خميرة من اإليمان ينضج في نفسه اإلحساس بااللم على خطيئته‪ ،‬وال‬
‫يتصور من إخوة يوسف أبناء النبي وإحفاد النبي ومن يمتون البراهيم بأوثق‬
‫الصالت ومن تربوا في حجر من يتلقى تعليمات السماء ال نتصور إال أنهم‬
‫كانوا على شيء من اإليمان يمكن أن يستيقظ فيهم إذا مرت عليهم السنون‪،‬‬
‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪.)1423 / 2‬‬

‫‪62‬‬
‫وأبوهم لم يتغير قيد شعرة‪ ،‬فلم يسلُ يوسف ولم يخل قلبه منه ولم يتوجه‬
‫وجهه إليهم‪ ،‬وعامل الزمن كذلك يذهب نزف الشباب وحدّته وطيشه ورعونته‬
‫وخفته وتفكيراته الهوجاء اللجوجة وحلوله الصبيانية‪ ،‬ويعلي من النظرة إلى‬
‫األشياء ويصوب من الموازين‪ ،‬ويعدل في كثير من األوضاع المقلوبة‪ ،‬فمن‬
‫لم يكن منهم تزوج فقد تزوج وأنجب البنين وأحب صغيرهم أكثر من كبيرهم‬
‫تماماً كما كانوا يجدون من أبيهم‪ ،‬كل هذا لعب دوره في تصفية كدورات‬
‫نفوسهم وقلوبهم وأذهب عنهم الحمية الفارغة‪.1‬‬
‫وأما العامل الثالث‪ :‬يمكن فيما أصابهم من قحط وجدب فأهلك زرعهم وأذاب‬
‫شحمهم وأجاع ولدهم وابكى صبيانهم وأطلق أحزانهم وهمومهم ومن منطلق‬
‫إيمانهم يعلمون أن ما أصابهم من مصائب انما هو بما كسبت أيديهم وبما‬
‫صنعوا ألخيهم‪ ،‬فال ريب يعود لهم الرشد المفقود والوعي الغائب‪.2‬‬
‫تأمل ما ال قوه من معاناة وقد فقد أبوهم بصره وهم يشعرون أنهم السبب في‬
‫ذلك واستمع إليهم يعودون من عند أبيهم إلى العزيز وهم يقولون‪ ":‬يَا أ َُّيهَا‬
‫ف لَنَا الكَيلَ وَتَصَدَّق عَلَينَآ‬
‫عةٍ مُّزجَا ٍة َفأَو ِ‬
‫ال َعزِيزُ مَسَّنَا وَأَهلَنَا الضُّرُّ وَجِئنَا بِبِضَا َ‬
‫َدقِينَ"‬
‫إِنَّ اهللَّ يَجزِي المُتَص ِّ‬
‫إن الرجل الحر العزيز يقتله أن يقف في موقف استجداء الصدقة وهم‬
‫يطلبونها صراحة ال تعرضاً وال تلميحاً‪ ،‬وعندما علم اهلل تعالى أن كبرياءهم‬
‫قد تطامن وأن غرورهم قد اكتسح‪ ،‬وعندما علم أنهم لم يجدوا في قلوبهم ملجأ‬
‫إال اهلل تعالى أمر عبده يوسف بأن يزيل ما بينه وبينهم من حجب ويكشف لهم‬
‫السير‪.‬‬
‫قال تعالى‪ ":‬قَا َل هَل عَلِمتُم مَّا َفعَلتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذ أَنتُم جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ‬
‫ِن‬
‫سفُ وَهَـذَا أَخِي قَد مَنَّ اهللُّ عَلَينَا إ َِّنهُ مَن يَتَّقِ وَيِصبِر َفإ َّ‬ ‫سفُ قَا َل أَنَا يُو ُ‬
‫ألََنتَ يُو ُ‬
‫ال يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ"‪.‬‬ ‫اهللَّ َ‬

‫‪ 1‬سورة يوسف د‪ .‬أحمد نوفل ص ‪.191‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه ص ‪.191‬‬

‫‪63‬‬
‫كل هذه المسيرة الطويلة من السنين والسلسلة المتصلة من االحداث‪ ،‬والمعاناة‬
‫اآلخذ بعضها برقاب بعض والفشل المتالحق‪ ،‬كل هذا عمل عمله في تطوير‬
‫شخصية إخوة يوسف إلى أن غدوا كواكب كما وصفهم القرآن وإلى أن‬
‫استحقوا أن يستغفر لهم يعقوب ربه ولو على وعد مع التسويف ‪ ":‬سَوفَ‬
‫أَستَغ ِفرُ َلكُم ر َِّبيَ"‪.‬‬
‫وهكذا تألقت نفوس اإلخوة وصفت نحو أبيهم وأنفسهم وأخيهم يوسف وانتقلوا‬
‫من منتهى التكبر عليه إلى منتهى التواضع له‪.1‬‬
‫قال تعالى‪ ":‬وَخَرُّوا لَ ُه سُجَّدًا َوقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأوِيلُ رُؤيَايَ مِن قَبلُ قَد جَعَلَهَا‬
‫رَبِّي حَقًّا َوقَد أَحسَنَ بَي إِذ أَخرَجَنِي مِنَ السِّجنِ وَجَاء ِبكُم مِّنَ البَدوِ مِن بَعدِ أَن‬
‫حكِيمُ"‪.‬‬
‫نَّزغَ الشَّيطَانُ بَينِي وَبَينَ إِخوَتِي إِنَّ رَبِّي َلطِيفٌ ِّلمَا يَشَاء إ َِّنهُ هُوَ ال َعلِيمُ ال َ‬
‫ومن الفوائد من توبة اخوة يوسف عليه السالم‪:‬‬
‫ـ االعتراف بالحق واالقرار به فضيلة عظيمة من فضائل اإليمان‪.‬‬
‫ـ موقف الندم والحسرة والتأسف من اخوة يوسف على ما فعلوه‪.‬‬
‫ـ وال يحيق المكر السيء إال بأهله‪ ،‬فهل من معتبر؟‬
‫ـ االعتراف بالذنب والخطأ سبيل الحظوة بالصفح والعفو‪.‬‬
‫ـ رجاء االخوة العظيم في أن يعفو أخوهم يوسف عما فعلوا‪.2‬‬
‫‪ 4‬ـ مصدر قوة يوسف عليه السالم‪:‬‬
‫نشأ يوسف عليه السالم على عبادة ربه وأنزعت جوانب قلبه بحبه‪ ،‬ونطقت‬
‫جوارحه ولهج لسانه بذكره وشكره‪ ،‬عشقت نفسه الزكية صفاة الكمال‪ ،‬ودلت‬
‫مالمحه وأقواله وأعماله على أنه سيكون له شأن عظيم‪ ،‬فحبب إليه الصبر‬
‫والحلم والعفة واألمانة‪ ،‬والعلم والحكم والعدل‪ ،‬والعفو واإلحسان‪ ،‬وحسده‬

‫‪ 1‬سورة يوسف د‪ .‬أحمد نوفل صـ ‪.194‬‬


‫‪ 2‬موسوعة تفسير سورة يوسف صـ‪.1423‬‬

‫‪64‬‬
‫اخوته فألقوه في غيابة الجب وأخرجته السيارة فباعوه بيع العبيد‪ ،‬وكادت له‬
‫امرأة العزيز فزج في ضيق السجن‪ ،‬وصبر على أذى االخوة‪ ،‬وكيد امرأة‬
‫العزيز ومكر النسوة‪ ،‬على ما في الفاحشة من المفاسد‪ ،‬وما في العدول عنها‬
‫من المصالح‪ ،‬فآثر األعلى عن األدنى‪ ،‬واختار عقوبة الدنيا بالسجن على‬
‫ارتكاب الحرام‪ ،‬فكانت العاقبة أن نجاه اهلل تعالى منهم‪ ،‬ورفعه فوق اخوته‬
‫وأذل له العزيز وامرأته‪ ،‬وأقرت المرأة والنسوة ببراءته‪ ،‬ومكن له تعالى في‬
‫األرض وجعل له العاقبة والنصر والملك والحكم‪ ،‬والعاقبة للمتقين‪ ،‬وال‬
‫عدوان إال على الظالمين‪.1‬‬
‫ِمةً‬
‫قال تعالى‪ " :‬وَ ُنرِيدُ أَن َّنمُنَّ عَلَى الَّذِينَ استُضعِفُوا فِي األَرضِ وَنَجعََلهُم أَئ َّ‬
‫وَنَجعََلهُمُ الوَارِثِينَ" (القصص ‪ ،‬آية ‪.)5 :‬‬
‫وقال تعالى‪َ " :‬وكَذَِلكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي األَرضِ يَتَبَوَّأُ مِنهَا حَيثُ يَشَاء نُصِيبُ‬
‫خرَ ِة خَي ٌر لِّلَّذِينَ‬
‫ِبرَحمَتِنَا مَن نَّشَاء وَالَ نُضِيعُ أَج َر المُحسِنِينَ {‪} 56‬وَألََجرُ اآل ِ‬
‫آمَنُوا َوكَانُوا يَتَّقُونَ" (يوسف ‪ ،‬آية ‪ 56 :‬ـ ‪.)57‬‬
‫‪ 5‬ـ عفو وصفح ودعاء بالمغفرة‪:‬‬
‫ال تَثرَيبَ عَلَيكُمُ اليَومَ يَغفِرُ اهللُّ لَكُم وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ" (يوسف‬
‫قال تعالى‪َ " :‬‬
‫‪ ،‬آية ‪.)92 :‬‬
‫ولما احترفوا بتفضيل اهلل عليهم وأقروا بخطئهم وقدم لهم المعذرة‪ ،‬أجابهم ـ‬
‫ال تَثرَيبَ عَلَيكُمُ اليَومَ" أنه ـ عليه السالم ـ مع‬
‫عليه السالم ـ بالصفح‪ ،‬وقال‪َ " :‬‬
‫قدرته وتمكنه مع ما سلف من اساءتهم‪ ،‬لم يقل لهم إال قول الكرام‪ ،‬اقتداء‬
‫ال تَثرَيبَ" أي‪ :‬ال لوم وال تعنيف وال هالك‪،‬‬ ‫باخوانه من األنبياء والرسل " َ‬
‫"عَلَيكُمُ اليَومَ" وإن كان هذا الوقت مظنة للوم والتأنيب‪ ،‬فإذا انتفى ذلك فما‬
‫الظن بما بعده‪.2‬‬

‫‪ 1‬سورة يوسف‪ ،‬أحمد نوفل صـ‪.135‬‬


‫‪................................ 2‬‬

‫‪65‬‬
‫إن احساس االخوة العميق بعظم الذنب‪ ،‬جعلهم يقفون عند حد االعتراف‪ ،‬وال‬
‫يتعدونه إلى طلب العفو‪ ،‬وربما كانوا مهيئين هذا الطلب لعرضه في اللحظة‬
‫المناسبة أثناء الحديث الذي اعتقدوا أنه سيطول مع أخيهم‪ ،‬ولكن يوسف عليه‬
‫السالم وفر عليهم مشقة هذا الطلب‪ ،‬ولم يحوجهم للخوض في المسألة التي ال‬
‫تخص سواه ألكثر من االعتراف الذي أدلوا به بمحض إرادتهم‪ ،‬إنه ـ عليه‬
‫السالم ـ يتنازل عن كل حق له ويأبى خلقه الكريم في ذلك اليوم الذي قدر فيه‬
‫فعفا‪ ،‬حتى عن مجرد توجيه اللوم إلى الذين ألقوه في غيابة الجب‪ ،‬إن اليوم‬
‫في نظره ـ عليه السالم ـ أولى أن تبدأ به صفحة جديدة‪ ،‬من الصفا والمودة‪،‬‬
‫وبمجرد توجيه اللوم‪ ،‬وعودة إلى الماضي البعيد‪ ،‬وهذا يتعارض مع الصفحة‬
‫البيضاء النقية التي يريد أن يبدأ بها هذا اليوم‪ .‬لقد مرت تلك األيام المتعبة‬
‫بخيرها وشرها‪ ،‬فيجب أن نسدل الستار على حلوها ومرها‪ ،‬ولم يبق إال أن‬
‫نطرد أشباحها المروعة عن مسرح الخيال ونتحاشى المطالعة في ذلك التاريخ‬
‫المظلم‪ ،‬لكأنه ـ عليه السالم ـ يقول لهم ما قاله الشاعر‪:‬‬
‫يا من عدى ثم اعتدى ثم اغترف‬
‫ثم انتهى ثم أرعوى ثم اعترف‬
‫أبشر بقول اهلل في آياته‬
‫إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف‬
‫فحيث حملوا شهادة التوبة بأيديهم وأقروا بخطئهم وذنبهم وشفيع المذنب‬
‫إقراره‪ ،‬فال تثريب عليهم اليوم‪ ،‬اإلنسان يصيب ويخطئ‪ ،‬ويسرع ويبطئ‪،‬‬
‫فتقبل يوسف ـ عليه السالم ـ االعتذار‪ ،‬وآثر العفو عن اخوته‪ ،‬والعدول عن‬
‫االنتقام إلى العفو والغفران عن فضيلة عالية‪ ،‬وهو خلق األنبياء ـ عليهم‬
‫السالم ـ جميعاً وخلق المؤمنين‪.1‬‬

‫‪ 1‬موسوعة تفسير سورة يوسف صـ‪.1427‬‬

‫‪66‬‬
‫إن يوسف عليه السالم‪ ،‬قد طوى سريعاً هذه الصفحة السوداء مما كان بينه‬
‫وبين اخوته‪ ،‬ويغطي على آثارها بالصفح الجميل‪.‬‬
‫إنه ال بد أن نعرف أن العفو مقصور على الذين يستحقونه‪ ،‬فانه بالنسبة لمن‬
‫عفا أبلغ وأنفع من أية وسيلة أخرى‪ ،‬وإن هناك نفوساً أخرى ال يجدى معها‬
‫إال استئصال الشأفة‪.1‬‬
‫ونكتفي في هذه المناسبة بذكر حادثة واحدة في سيرة المصطفى صلى اهلل‬
‫عليه وسلم بعد ما جرى للمسلمين في غزوة (أحد) ما جرى‪ ،‬وبلغه صلى اهلل‬
‫عليه وسلم أن أبا سفيان يريد أن يغير على المدينة مرة أخرى الستئصال‬
‫البقية الباقية من المسلمين‪ ،‬خرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى القوم‪،‬‬
‫حتى انتهى إلى حمراء األسد‪ ،‬وهي من المدينة على ثمانية أميال‪ ،‬وأخذ‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في جهة ذلك أبا عزة الجمحي‪ ،‬وكان رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد أسره ببدر‪ ،‬ثم منَّ عليه فقال‪ :‬يا رسول اهلل أقلني‪،‬‬
‫فقال صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬واهلل ال تمسح عارضيك بمكة بعدها‪ ،‬وتقول‬
‫خدعت محمد مرتين‪ ،‬اضرب عنقه يا زبير"‪ ،‬فضرب عنقه‪ ،‬قال ابن هشام‪:‬‬
‫وبلغني عن سعيد بن المسيب أنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫"إن المؤمن ال يلدغ من جحر مرتين"‪ ،‬اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت"‪،‬‬
‫فضرب عنقه‪.2‬‬
‫وهذا ما أخذ به القانون الدولي في الحروب‪ ،‬فاألسير الذي أسر في الحرب‬
‫وفك أسره‪ ،‬إذا عاد إلى القتال مرة أخرى‪ ،‬وأسر يقتل‪.‬‬
‫ولما أعفاهم ـ عليه السالم ـ من التثريب كانوا في مظنة السؤال عن كمال‬
‫العفو المزيل للعقاب من اهلل تعالى‪ ،‬فأتبعه الجواب عن ذلك بالدعاء لهم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫حمِينَ"‪ ،‬أي‪ :‬إذا رحمتكم أنا وعفوت عنكم‪ ،‬فهو‬
‫"يَغفِ ُر اهللُّ َلكُم وَهُوَ أَرحَمُ الرَّا ِ‬
‫يغفر لكم باألولى‪ ،‬فأنه أرحم مني‪ ،‬ألنه أرحم الراحمين كلهم‪ ،‬وهو يغفر‬
‫الصغائر والكبائر‪ ،‬ويتفضل على التائب‪.‬‬
‫‪ 1‬الشأفة‪ :‬األصل‪.‬‬
‫‪ 2‬السيرة النبوية (‪ )110 / 3‬البن هشام‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫لقد سمح لهم ـ عليه السالم ـ سماحاً تاماً من غير تعبير لهم على ذكر الذنب‬
‫السابق‪ ،‬ودعا لهم بالمغفرة‪ ،‬وهذا نهاية االحسان الذي ال يتأتى إال من‬
‫خواص‪.1‬‬
‫وما أنسب ما وقع من يوسف بالمراتب الثالثة المذكورة في قوله تعالى‪:‬‬
‫ن الغَيظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاهللُّ يُحِبُّ المُحسِنِينَ" (آل عمران ‪ ،‬آية‬
‫ظمِي َ‬
‫"وَالكَا ِ‬
‫‪.)134 :‬‬
‫فيوسف عليه السالم كظم غيظه بقوله‪" :‬الَ تَثرَيبَ عَلَيكُمُ اليَومَ"‪.‬‬
‫اهلل َلكُم"‪ ،‬ثم أحسن إليهم بقوله بعد ذلك مباشرة‬
‫ثم عفا عنهم بقوله‪" :‬يَغفِ ُر ُّ‬
‫"وَأتُونِي ِبأَهِلكُم أَج َمعِينَ"‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ من فيض نور اآلية الكريمة‪:‬‬
‫ـ كان يوسف ـ عليه السالم ـ مثالً رائعًا في العفو الصفح‪ ،‬فقد عفا عنهم‬
‫وصفح الصفح الجميل ثم دعا لهم بالمغفرة والرحمة من اهلل الرحمن الرحيم‪.‬‬
‫ـ العفو مع القدرة يورث العزة والرفعة‪.‬‬
‫ـ إن يوم تصفية النفوس والبغضاء والشحناء‪ ،‬والعودة بها إلى نور الصفاء‬
‫واالخاء والمحبة هو يوم عيد عظيم‪.‬‬
‫ـ على كل مسلم أن يتأسى باخالق االنبياء في العفو و الصفح والمغفرة‪ ،‬فهذا‬
‫هو خلق القرآن الكريم وخلق سيد المرسلين محمد صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫ـ تمثل الرسول صلى اهلل عليه وسلم لما فتح باخيه يوسف عليه السالم فعفا‬
‫عن أهل مكة العفو العظيم وهم الذين آذوه وقاتلوه وأخرجوه من مكة‪ ،‬وكان‬
‫ذلك العفو سبباً في دخول الناس في دين اهلل أفواجا‪.‬‬

‫‪ 1‬تيسير الكريم الرحمن للسعدي (‪.)446 / 2‬‬

‫‪68‬‬
‫السابع عشر‪ :‬فتح مكة والعفو الشامل‪:‬‬
‫كان القرشيون قد حاربوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بضراوة ال مثيل لها‬
‫استمرت عقدين من العداء المستحكم توجه قريش إلى اإلسالم كرسالة وإلى‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم كإنسان مرسل‪ ،‬وإلى المسلمين كجماعة مؤمنة‬
‫وتنوعت مظاهر العداء ومست كل ما يتعلق باألسالم فكان العداء منصباً على‬
‫مبادئ اإلسالم والرسول الكريم‪ ،‬وأصحابه من المسلمين ونعرض هنا أمثلة‬
‫ترسم صورة لهذا العداء؟‬
‫أوَلا‪ :‬العداء المبادئ اإلسالم‪ ،‬كان عداء قريش الدعوة الجديدة التي أرسل بها‬
‫النبي الكريم صلى اهلل عليه وسلم واضحاً ومستعراً من وجوه ذلك‪:‬‬
‫ـ اعتراضهم على مبدأ الوحدانية‪:‬‬
‫لم يكن كفار مكة ينكرون بأن اهلل خلقهم وخلق كل شئ‪ ،‬قال تعالى‪ " :‬وَلَئِن‬
‫ال‬
‫اهللَّ قُلِ الحَم ُد هللَِّ بَل أَك َثرُهُم َ‬
‫السمَاوَاتِ وَاألَرضَ لَيَقُولُنَّ ُ‬
‫ق َّ‬‫سأَل َتهُم مَّن خَلَ َ‬
‫َ‬
‫يَعَلمُونَ" (لقمان ‪ ،‬آية ‪.)25 :‬‬
‫هلل‬
‫لكنهم كانوا يعبدون االصنام ويزعمون أنها تقربهم إلى اهلل قال تعالى‪" :‬أَالَ َِّ‬
‫اهلل‬
‫الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُو ِنهِ أَولِيَاء مَا نَعبُدُهُم إِالَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى َِّ‬
‫ال يَهدِي مَن هُوَ كَاذِبٌ‬ ‫زُلفَى إِنَّ اهللََّ يَحكُمُ بَينَهُم فِي مَا هُم فِيهِ يَختَلِفُونَ إِنَّ اهللََّ َ‬
‫كَفَّا ٌر" (الزمر ‪ ،‬آية ‪ٍ.)3 :‬‬
‫ـ كفرهم باآلخرة‪:‬‬
‫أما دعوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم إلى اإليمان باليوم اآلخر‪ ،‬فقد قابلها‬
‫المشركون بالسخرية والتكذيب‪ ،‬قال تعالى‪َ ":‬وقَالَ الَّذِينَ كَ َفرُوا هَل نَدُُّلكُم عَلَى‬
‫اهلل كَذِبًا أَم‬
‫ق جَدِيدٍ * أَف َترَى عَلَى َِّ‬ ‫ق إ َِّنكُم لَفِي خَل ٍ‬
‫رَجُلٍ يُنَبِّ ُئكُم إِذَا مُزِّقتُم كُلَّ ُممَزَّ ٍ‬
‫ال يُؤمِنُونَ بِاآلخِرَةِ فِي العَذَابِ وَالضَّالَلِ البَعِيدِ" (سبأ‪ ،‬آية ‪7 :‬‬ ‫ِبهِ جِنَّ ٌة بَلِ الَّذِينَ َ‬
‫ـ ‪.)8‬‬
‫ـ اعتراضهم على الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬

‫‪69‬‬
‫اعترضوا على شخص الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقد كانوا يتصوّرون‪:‬‬
‫أن ال يكون بشراً مثلهم‪ ،‬وأنه ينبغي أن يكون ملكاً أو مصحوباً بالمالئكة وقال‬
‫اهلل بَشَرًا‬
‫تعالى‪َ " :‬ومَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤمِنُوا إِذ جَاء ُهمُ الهُدَى إِالَّ أَن قَالُوا أَ َبعَثَ ُّ‬
‫رَّسُوالً"(اإلسراء ‪ ،‬آية ‪.)94 :‬‬
‫ضيَ األمرُ ثُمَّ الَ‬
‫ك وَلَو أَنزَلنَا مََلكًا لَّقُ ِ‬
‫وقال تعالى ‪َ " :‬وقَالُوا لَوال أُنزِلَ عَلَيهِ مَلَ ٌ‬
‫ال وَلَلَبَسنَا عَلَيهِم مَّا يَلبِسُونَ" (األنعام ‪،‬‬‫جعَلنَا ُه رَجُ ً‬
‫جعَلنَاهُ مََلكًا لَّ َ‬
‫ظرُونَ * َولَو َ‬
‫يُن َ‬
‫آية ‪.)9 ، 8 :‬‬
‫‪ 4‬ـ موقعهم من القرآن الكريم‪ :‬كذلك لم يصدقوا أن القرآن الكريم منزل من‬
‫عند اهلل‪ ،‬واعتبروه ضرباً من الشَّعر‪ ،‬الذي كان ينظمه الشعراء‪ ،‬مع أن كل‬
‫من قارن بين القرآن‪ ،‬وأشعار العرب يعلم أنه مختلف عنها قال تعالى‪َ " :‬ومَا‬
‫عَلَّمنَاهُ الشِّعرَ َومَا يَنبَغِي َلهُ إِن هُوَ إِالَّ ذِكرٌ َوقُرآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا‬
‫وَيَحِقَّ القَولُ عَلَى الكَا ِفرِينَ" (يس ‪ ،‬آية ‪ 69 :‬ـ ‪.)70‬‬

‫ثانياا‪ :‬ايذاؤهم الجسدي للرسول الكريم‪:‬‬


‫لم يفتر المشركون من أذى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منذ أن صدع‬
‫بدعوته إلى أن خرج من بين أطهرهم‪ ،‬وأظهره اهلل عليهم‪ ،‬ويدل على ذلك ـ‬
‫مبلغ األذى ـ تلك اآليات الكثيرة التي كانت تتنزل عليه في هذه الفترة تأمر‬
‫بالصبر وتدله على وسائله وتنهاه عن الحزن‪ ،‬وتضرب له أمثلة من واقع‬
‫اخوانه المرسلين‪ ،‬مثل قوله تعالى‪ " :‬وَاصبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهجُرهُم هَجرًا‬
‫جمِيالً" (المزمل ‪ ،‬آية ‪.)10 :‬‬
‫َ‬
‫وقال تعالى‪ " :‬فَاصبِر لِحُكمِ رَبِّكَ وَالَ تُطِع مِنهُم آثِمًا أَو كَفُورًا" (اإلنسان ‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫‪.)24‬‬
‫ومن األمثلة التي تدل ما تعرَّض له النبي صلى اهلل عليه وسلم من اإليذاء‪،‬‬
‫عن ابن مسعود رضي اهلل عنه‪" :‬بينما رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قائم‬
‫يصلي عند الكعبة فجمع قريش في مجالسهم‪ ،‬إذ قال قائل منهم أال تنظرون‬

‫‪70‬‬
‫إلى هذا المرائي؟ أيكم يقوم إلى جزور آل فالن فيعمد إلى فرثها‪ ،‬ودمها‪،‬‬
‫وسالها فيجيء به‪ ،‬ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ وثبت النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ساجداً‪ ،‬فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من‬
‫الضحك‪ ،‬فانطلق منطلق إلى فاطمة عليها السالم ـ وهي جويرية ـ فأقبلت‬
‫تسعى‪ ،‬وثبت النبي صلى اهلل عليه وسلم ساجداً حتى ألقته عنه‪ ،‬وأقبلت عليهم‬
‫تسبهم‪ ،‬فلمَّا قضى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الصالة‪ ،‬اللهم عليك‬
‫بقريش‪ ،‬اللهم عليك بقريش‪ ،‬ثم سمَّى اللهم عليك بعمرو بن هشام‪ ،‬وعتبة بن‬
‫ربيعة‪ ،‬وشيبة بن ربيعة‪ ،‬والوليد بن عتبة‪ ،‬وأمية بن خلف‪ ،‬وعقبة بن أبي‬
‫معيط‪ ،‬قال ابن مسعود‪ :‬فواهلل لقد رأيتهم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى‬
‫القَلِيب‪ 1‬ـ قليب بدر ـ ثم قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬وأتبع أصحاب‬
‫القليب‪ 2‬لعنة‪ ،‬وقد بينت الروايات الصحيحة األخرى‪ :‬أن الذي رمى الروث‬
‫عليه هو عقبة بن أبي معيط وأن الذي حرَّضه هو أبو جهل‪ ،3‬وأن المشركين‬
‫تأثَّروا بدعوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم وشق عليهم األمر‪ ،‬ألنهم يرون أن‬
‫الدعوة بمكة مستجابة‪.4‬‬
‫ـ إجتماع المأل من قريش وضربهم الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬اجتمع‬
‫إشراف قريش يوماً في الحجر فذكروا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقالوا‬
‫ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط‪ ،‬سفه أحالمنا‪ ،‬وسب‬
‫آلهتنا‪ ،‬لقد صرنا منه على أمر عظيم‪ ،‬فبينما هم في ذلك‪ ،‬إذ طلع عليهم رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم فوثبوا وثبة رجل واحد‪ ،‬وأحاطوا به يقولون‪ :‬أنت‬
‫الذي تقول كذا وكذا ـ لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم ـ فيقول ـ نعم‪ ،‬أنا‬
‫الذي أقول ذلك‪ ،‬ثمَّ أخذ رجل منهم بمجمع ردائه‪ ،‬فقام أبو بكر رضي اهلل عنه‬
‫دونه‪ ،‬وهو يبكي ويقول‪ :‬أتقتلون رجالً أن يقول ربي اهلل‪.5‬‬

‫‪ 1‬القليب‪ :‬البئر المفتوحة‪.‬‬


‫‪ 2‬البخاري رقم ‪.520‬‬
‫‪ 3‬مسلم رقم ‪.1794‬‬
‫‪ 4‬السيرة النبوية الصحيحة للعمري (ذ‪.)149 / 1‬‬
‫‪ 5‬البخاري رقم ‪ .3687‬رقم ‪.4815‬‬

‫‪71‬‬
‫هذا بعض ما القاه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أذيَّة المشركين‪ ،‬وقد‬
‫ختم المشركون أذاهم لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بمحاولة قتله في أواخر‬
‫المرحلة المكية وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يذكر ما القاه من أذى‬
‫قريش قبل أن ينال األذى من أحد من أتباعه‪ ،‬يقول‪" :‬لقد أُخِفت في اهلل عز‬
‫وجل وما يخاف أحد‪ ،‬ولقد أوذيت في اهلل وما يؤذي أحد‪ ،‬ولقد أتت عليَّ‬
‫ثالثون من بين يوم وليلة‪ ،‬وما لي وال لبالل طعام يأكله ذو كبد إال شيء‬
‫يواريه‪ ،‬ومع ماله صلى اهلل عليه وسلم من عظيم القدر‪ ،‬ومنتهى الشرف إال‬
‫أنه قد حظي من البالء بالحمل الثقيل‪ ،‬والعناء الطويل منذ أول يوم صدع فيه‬
‫بالدعوة‪ ،‬ولقي النبي صلى اهلل عليه وسلم من سفهاء قريش أذى كثيراً‪ ،‬فكان‬
‫إذا مرَّ على مجالسهم بمكة استهزؤوا به‪ ،‬وقالوا ساخرين‪ :‬هذا ابن أبي‬
‫كبشة‪ ،1‬يكلم من السماء‪ ،‬وكان أحدهم يمرُّ على رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم فيقول له ساخراً‪ :‬أما كُلِّمت اليوم من السَّماء؟‪2‬‬
‫ولم يقتصر األمر على مجرَّد السخرية‪ ،‬واالستهزاء‪ ،‬واإليذاء النفسي‪ ،‬بل‬
‫عدو اهلل أمية بن‬
‫تعدَّاه إلى اإليذاء البدني‪ ،‬بل قد وصل األمر إلى أن يبصق َّ‬
‫خلف في وجه النبي صلى اهلل عليه وسلم‪.3‬‬
‫وحتى بعد هجرته ـ عليه السالم ـ إلى المدينة‪ ،‬لم تتوقف حدَّة االبتالء‪،‬‬
‫واألذى‪ ،‬بل أخذت خطاً جديداً‪ ،‬بظهور أعداء جدد‪ ،‬فبعد أن كانت العداوة تكاد‬
‫تكون مقصورة على قريش بمكة صار له صلى اهلل عليه وسلم أعداء من‬
‫المنافقين المجاورين بالمدينة‪ ،‬ومن اليهود‪ ،‬والفرس والروم‪ ،‬وأحالفهم‪ ،‬وبعد‬
‫أن كان األذى بمكة شتماً وسخرية‪ ،‬وحصاراً‪ ،‬وضرباً‪ ،‬صار مواجهة‬
‫عسكرية مسلحة‪ ،‬حامية الوطيس‪ ،‬فيها فر وكر وضرب‪ ،‬وطعن‪ ،‬فكان ذلك‬
‫بالء في األموال واألنفس على السَّواء‪.4‬‬

‫‪ 1‬والد الرسول من الرضالة‪.‬‬


‫‪ 2‬الروض األنف (‪ )33 / 2‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪.)48 / 2‬‬
‫‪ 4‬السيرة النبوية للصالبي (‪ ،)215 / 1‬زاد اليقين ألبي شنب صـ‪.37‬‬

‫‪72‬‬
‫وهكذا كانت فترة رسالته صلى اهلل عليه وسلم وحياته‪ ،‬سلسلة متصلة من‬
‫المحن واالبتالء‪ ،‬فما وهن لما أصابه في سبيل اهلل‪ ،‬بل صبر‪ ،‬واحتسب حتى‬
‫لقي ربه‪ ،1‬لقد واجه الرسول صلى اهلل عليه وسلم من الفتن واألذى‪ ،‬والمحن‬
‫ما ال يخطر على بال‪ ،‬في مواقف متعددة‪ ،‬وكان ذلك على قدر الرسالة التي‬
‫حُمِّلها‪ ،‬ولذلك استحق المقام المحمود والمنزلة الرفيعة عند ربه‪ ،‬وقد صبر‬
‫على ما أصابه‪ ،‬إشفاقاً على قومه أن يصيبهم مثل ما أصاب األمم الماضية‬
‫من العذاب‪ ،‬وليكون قدوة للدعاة والمصلحين‪ ،2‬فإذا كان االعتداء األثيم قد نال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فلم يعد هناك أحد أكبر من االبتالء والمحنة‪،‬‬
‫وتلك سنة اهلل في الدّعوات‪ ،‬فعن أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه قلت‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل‪ ،‬أي الناس أشدُّ بالء؟ قال‪ :‬األنبياء‪ ،‬ثم األمثل فاألمثل‪ ،‬يُبتلى الرجل‬
‫على حسب دينه‪ ،‬فإن كان دينه صلباً‪ ،‬اشتد بالؤه‪ ،‬وإن كان دينه رقة ابتلى‬
‫حسب دينه‪ ،‬فما يبرح البالء بالعبد حتى يتركه يمشي على األرض وما عليه‬
‫خطيئة‪.3‬‬

‫ثالثاا‪ :‬اذهبوا‪ ،‬فأنتم الطلقاء‪:‬‬


‫ما ذكرناه بعض صور البالء التي كانت تصر عليها قريش تجاه النبي صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬واستمر العداء للرسالة‪ ،‬والرسول والمؤمنين وكتب السيرة‬
‫تصور لنا ذلك‪ ،‬ولكن النبي صلى اهلل عليه وسلم عندما دخل مكة المكرمة‬
‫موطن قريش التي استمر جحودها وإنكارها للحق بعد إبرام المسلمين عهداً‬
‫معها هو صلح الحديبية بنقض صلح الحديبية‪ ،‬فقريش استمرت في العدوان‪،‬‬
‫ونكثت العهد وخالفت شروط الصلح وأعانت حلفاءها بني بكر على خزاعة‬
‫حليفة المسلمين بالخيل والسالح والرجال وهاجم بنو بكر‪ ،‬حلفاؤهم قبيلة‬
‫خزاعة عند ماء يقال له الوتير‪ ،‬وقتلوا أكثر من عشرين من رجالها‪ ،‬ولما‬
‫لجأت خزاعة إلى الحرم اآلمن‪ ،‬ولم تكن مجهزة للقتال‪ ،‬لتمنع بني بكر منه‪،‬‬
‫‪ 1‬السيرة النبوية (‪ )215 / 1‬للصالبي‪.‬‬
‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)215 / 1‬‬
‫‪ 3‬سنن ابن ماجة رقم ‪ ،4024‬سنن الترمذي رقم ‪.2398‬‬

‫‪73‬‬
‫قالت لقائدهم‪ ،‬يا نوفل‪ ،‬إنا قد دخلنا حرم إلهك‪ ،‬فقال نوفل‪ :‬ال إله اليوم‪ ،‬يا بني‬
‫بكر أصيبوا ثأركم عندئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي‪ ،‬في أربعين من‬
‫خزاعة‪ ،‬حتى قدموا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في المدينة وأخبروه‬
‫بما كان من بني بكر‪ ،‬وبمن أصيب منهم وبمناصرة قريش بني بكر عليهم‪،‬‬
‫ووقف عمرو بن سالم على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو جالس في‬
‫المسجد بين ظهراني الناس‪ ،‬وإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعد أن سمع‬
‫وتأكد من الخبر أرسل إلى قريش فقال لهم‪ :‬أما بعد‪ ،‬فإنكم إن تبرؤوا من حلف‬
‫بني بكر‪ ،‬أتُدوا‪ 1‬خزاعة‪ ،‬وإال أوذنكم بحرب‪ ،‬فقال قرظة بن عبد عمرو بن‬
‫نوفل بن عبد مناف صهر معاوية‪ :‬إن بني بكر قوم مشائيم‪ ،‬فال ندري ما قتلوا‬
‫لنا سيد وال لبد‪ ،2‬وال نبرأ من حلفهم‪ ،‬فلم يبق على ديننا أحد غيرهم ولكن‬
‫نؤذنه بحرب‪.3‬‬
‫وبهذا الكتاب أكد النبي صلى اهلل عليه وسلم عدم الغدر بقريش‪ ،‬بل أبلغهم‬
‫بموقفه بوضوح تام كان أبو سفيان ممن خالفوا رأي قريش في خيار حرب‬
‫المسلمين‪ ،‬ولذا حاول بقدومه المدينة أن يعيد للصلح مكانه ويطيل أمده‪ ،‬إال‬
‫أنه لم يجد استجابة للمسلمين‪.‬‬
‫‪1‬ـ ميزان القوى يرجح كفة المسلمين‪:‬‬
‫أ ـ اقتصادياا‪ :‬إن قريش لم تكن مستعدة للحرب ال على المستوى االقتصادي‬
‫حيث لم يعادل اقتصادها اقتصاد دولة المسلمين التي اتسعت رقعتها بإسالم‬
‫أغلب القبائل العربية األمر الذي زاد من موارد الدولة‪.‬‬
‫ب ـ سياسياا‪ :‬لم تكن قريش سياسياً في حالة تسمح لها بمواجهة الوحدة‬
‫السياسية للمسلمين بعد أن تخلصوا من يهود المدينة بعد محاولتهم الغدر‬
‫واغتيال النبي الكريم‪ ،‬في المقابل كانت قريش منقسمة في مواقفها تجاه‬
‫المسلمين‪ ،‬فأبوا سفيان والعديد معه لم يكونوا مع خيار الحرب‪.‬‬

‫‪ 1‬أي تدفعوا دية قتالهم‪.‬‬


‫‪ 2‬اللبد‪ :‬الصوف‪.‬‬
‫‪ 3‬المطالب العلية البن حجر (‪ )243 / 4‬رقم ‪.4261‬‬

‫‪74‬‬
‫ج ـ عسكرياا‪ :‬كما أن الميزان العسكري لم يكن كذلك متساوياً‪ ،‬فالمسلمين‬
‫أعدوا بسهولة جيشاً من عشرة اآلف مقاتل ولم يكن لقريش ثلث هذا العدد‬
‫وهكذا كانت كل الظروف لصالح المسلمين وكان من الممكن أن يقضوا على‬
‫قريش دون أي مقاومة تذكر‪.‬‬
‫ومع هذا تجاوز سلوك النبي الكريم والمسلمين كل ما يمكن أن يتوقعه‬
‫اإلنسان‪ ،‬فالعفو أمام هذا التراكم من اإليذاء والنكران البد أن يصدر عن‬
‫صاحب رسالة تعلو باإلنسان فوق نفسه وحظوظها ألجل غاية تستحق هذا‬
‫الترفع الممدوح‪.‬‬
‫‪2‬ـ بوادر العفو والغفران‪:‬‬
‫خرج أبو سفيان بن الحارث‪ ،‬وعبد اهلل بن أمية بن المغيرة من مكة‪ ،‬فلقيا‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بثنية العقاب فيما بين مكة والمدينة‪ ،‬فالتمسا‬
‫الدخول عليه‪ ،‬فكلمته أم سلمة‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬ابن عمك وابن عمتك‬
‫وصهرك‪ ،‬فقال‪ :‬ال حاجة لي فيهما‪ ،‬أما ابن عمي فهتك عرضي‪ ،‬وأما ابن‬
‫عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال فلما خرج الخبر إليهما بذلك‪،‬‬
‫ومع أبي سفيان بن الحارث ابن له‪ ،‬فقال واهلل ليأذنن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم أو ألخذن بيد ابني هذا ثم لتذهبن في االرض حتى نموت عطشا‪ ،‬أو‬
‫جوعاً فلما بلغ ذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رق لهما‪ ،‬فدخل عليه‪،‬‬
‫فأنشده أبو سفيان قوله في إسالمه واعتذاره مما كان مضى فيه وجاء في‬
‫األبيات‪:‬‬
‫هداني هاد غير نفسي ودلني‬
‫على اهلل من طرّدت كل مطرّد‬

‫‪75‬‬
‫فلما أنشد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬على اهلل من طردت كل مطرّد‪،‬‬
‫ضرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في صدره‪ ،‬فقال‪ :‬أنت طرّدتني كل‬
‫مطرّد‪.1‬‬
‫كان أبو سفيان بن الحارث يهجو بشعره رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫كثيراً‪ ،‬وأما عبد اهلل بن أمية‪ ،‬فقد قال لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬فواهلل‬
‫ال أؤمن بك حتى تتخذ إلى السماء سلماً‪ ،‬ثم ترتقي فيه‪ ،‬وأنا أنظر إليك حتى‬
‫تأتيها‪ ،‬ثم تأتي بصك معه أربعة من المالئكة يشهدون لك‪ ،‬كما تقول‪ ،‬ثم وايم‬
‫اهلل‪ ،‬لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك‪.2‬‬
‫ومع فداحة جرمهما فإن النبي صلى اهلل عليه وسلم عفا عنهما‪ ،‬وقبل عذرهما‪،‬‬
‫وهذا مثال عال في الرحمة والعفو‪ ،‬والتسامح‪ ،‬ولقد كفرّ أبو سفيان بن‬
‫الحارث عن أشعاره السابقة بالقصيدة البليغة التي قالها في مدح النبي صلى‬
‫اهلل عليه وسلم وبيان اهتدائه به‪ ،‬ولقد حسن إسالمه‪ ،‬وكان له موقف مشرف‬
‫في الجهاد مع رسول اهلل في معركة حنين‪.3‬‬
‫إن النبي صلى اهلل عليه وسلم لم يقف عند فداحة جرمهم بل عفا عنهما وقبل‬
‫عذرهما‪ ،‬ولم يتعلل بعظم االساءة سواء لشخصه صلى اهلل عليه وسلم أو‬
‫لإلسالم والمسلمين بل تجاوز ذلك بأن صفح عنهما صفحاً جميالً‪ ،‬وكان له‬
‫أثراً ايجابياً بعد أن انتشر خبر العفو بين أهل مكة‪.‬‬
‫‪3‬ـ العفو يتواصل مع سيد قريش‪:‬‬
‫جاء أبو سفيان الذي خرج يلتقط األخبار‪ ،‬إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫صحبة عمه العباس رضي اهلل عنه فلم ينشغل النبي صلى اهلل عليه وسلم في‬
‫محاسبة أبي سفيان ولم يصرف في مقاضاته وهو كاألسير داخل معسكر‬
‫المسلمين‪ ،‬بل توجه ليحدثه عن هدف سام عاش النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ألجله هو الدعوة إلى اهلل فوجه كالمه ألبي سفيان‪ :‬ويحك يا أبا سفيان‪ ،‬ألم‬
‫‪ 1‬السيرة النبوية البن هشام (‪ 43 /4‬ـ ‪.)44‬‬
‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪ 295 / 1‬ـ ‪ ،)300‬السيرة للصالبي (‪.)398 / 2‬‬
‫‪ 3‬التاريخ اإلسالمي للحميدي (‪)182 / 7‬‬

‫‪76‬‬
‫يأت لك أن تعلم أنه ال إله إال اهلل‪ ،‬قال‪ :‬بأبي أنت وأمي‪ ،‬ما أحلمك وأكرمك‬
‫وأوصلك‪ .‬واهلل لقد ظننت أن لو كان مع اهلل إله غيره لقد اغنى عني بعد قال‪:‬‬
‫ويحك يا أبا سفيان‪ ،‬ألم يأن لك تعلم أني رسول اهلل؟ قال‪ :‬بأبي أنت وأمي ما‬
‫أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه واهلل في النفس منها حتى اآلن شيئاً‪ ،‬فقال له‬
‫العباس‪ :‬ويحك أسلم قبل أن تضرب عنقك‪ ،‬قال‪ :‬فشهد شهادة الحق فأسلم قال‬
‫العباس‪ :‬قلت يا رسول اهلل إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فأجعل له شيئاً‪ ،‬قال‪:‬‬
‫نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن‪ ،‬ومن أغلق بابه فهو آمن‪ ،‬ومن دخل‬
‫المسجد فهو آمن‪.1‬‬
‫لقد كان لتلك الطريقة المحمدية أثرها في أبي سفيان الذي تغير إلى الوالء‬
‫الكامل للدعوة الجديدة وكانت له موقف كبيرة في الجهاد مع رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم في معركة حنين‪ ،‬كما كان هذا األسلوب النبوي الكريم عامالً‬
‫في امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان زعيم قريش وبرهن له بأن المكانة‬
‫التي كانت عند قومه لن تنتقص شيئاً في اإلسالم‪ ،‬إن هو أخلص له وبذل في‬
‫سبيله‪.‬‬
‫ونحن إذ نعيش ظروفاً في وطننا فإننا ندعو أبناء هذا الوطن إلى التفاوض‪،‬‬
‫طبعاً بعد التعويض الكامل لكل من مسه األذى ولقيه العنت ووقع عليه الظلم‪،‬‬
‫وإقامة العدل والقسط على القتلة ومن تورط في االغتصاب‪ ،‬لنمضي تجاه‬
‫المستقبل فليس فينا من هو خير من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الذي قابل‬
‫عظيم الجرم واإلساءة بعظيم الرحمة والعفو والتسامح‪ ،‬لقد فعل هذا مع قوم‬
‫إلى جانب اإليذاء واالساءة الكبيرة‪ ،‬فإنهم لم يكونوا مسلمين وأما نحن وقومنا‬
‫فاإلسالم يجمعنا في منطقة وسط نلتقي فيها للتصالح‪.‬‬
‫‪4‬ـ تأمين األجواء للعفو العام‪:‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)399 / 2‬‬

‫‪77‬‬
‫لقد أعلن في مكة قبيل دخول جيش المسلمين أسلوب منع التجوال‪ ،‬لكي‬
‫يتمكنوا من دخول مكة بأقل قدر من االشتباكات واالستفزازات‪ ،‬وإراقة الدماء‬
‫واعطى الناس أماناً بالتزام أحد ثالث‬
‫ـ من دخل المسجد فهو آمن‪.‬‬
‫ـ ومن أغلق بابه فهو آمن‪.‬‬
‫ـ ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن‪.‬‬
‫وجعل صلى اهلل عليه وسلم لدار أبي سفيان مكانة خاصة كي يكون أبو سفيان‬
‫ساعده في اقناع المكيين بالسلم والهدوء‪ ،‬ويستخدمه كمفتاح أمان يفتتح أمامه‬
‫الطريق إلى مكة دون إراقة دماء‪ ،‬ويشيع في نفسه عاطفة الفخر التي يحبها‬
‫أبو سفيان حتى يتمكن اإليمان في قلبه‪.1‬‬
‫لقد دخل أبو سفيان إلى مكة مسرعاً‪ ،‬ونادى بأعلى صوته‪ :‬يا معشر قريش‬
‫هذا محمد جاءكم فيما ال قبل لكم به‪ ،‬فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن‪،‬‬
‫حمِيث الدِّسم‬
‫فقامت إليه هند بنت عتبة‪ ،‬فأخذت بشاربه‪ ،‬فقالت‪ :‬أقتلوا ال َ‬
‫االحمسَ ـ تشبّهه بالزق لسمنه ـ قُبّح من طليعة قوم‪ ،‬قال‪ :‬ويلكم‪ ،‬ال تغرنكم‬
‫هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما ال قبل لكم به‪ ،‬فمن دخل دار أبي سفيان فهو‬
‫آمن‪ ،‬قالوا‪ :‬قاتلك اهلل وما تغني عنا دارك؟ قال‪ :‬ومن أغلق عليه بابه فهو آمن‪،‬‬
‫ومن دخل المسجد فهو آمن‪ ،‬وتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد‪.2‬‬
‫ولقد دخلت قوات المسلمين مكة دون مقاومة تذكر إال ما كان من جهة خالد‬
‫بن الوليد الذي قابل عكرمة بن أبي جهل في نفر ممن خافوا االنتقام‪ ،‬فهزمهم‬
‫خالد فهربوا خارج مكة‪ ،‬ثم عاد عكرمة ليأخذ أماناً وعفواً من رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ويسلم ويشارك في الجهاد في فتوحات الشام ويقتل في‬
‫اليرموك شهيداً‪.‬‬

‫‪ 1‬دراسات في السيرة‪ ،‬عماد الدين خليل صـ ‪.245‬‬


‫‪ 2‬البداية والنهاية البن كثير (‪ ،)290 / 4‬د‪ .‬محمد فوزي فياض‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫‪5‬ـ دخول خاشع متواضع‪:‬‬
‫دخل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير‬
‫إحرام وهو واضع رأسه تواضعاً هلل‪ ،‬حين رأى ما أكرمه اهلل به من الفتح‪،‬‬
‫حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرجل ودخل وهو يقرأ سورة الفتح مستشعراً‬
‫نعمة الفتح وغفران الذنوب وإفاضة النصر العزيز‪.1‬‬
‫وعندما دخل مكة فاتحاً ـ وهي قلب جزيرة العرب ومركزها الروحي‬
‫والسياسي‪ ،‬رفع كل شعار من شعائر العدل والمساواة والتواضع والخضوع‪،‬‬
‫فأردف أسامة بن زيد وهو ابن مولى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ولم‬
‫يردف أحداً من أبناء بني هاشم‪ ،‬وأبناء أشراف قريش‪ ،‬وهم كثير وكان ذلك‬
‫يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان سنة ثمان من الهجرة‪.2‬‬
‫يقول محمد الغزالي في وصف دخول النبي صلى اهلل عليه وسلم لمكة‪:‬‬
‫على حين كان الجيش الزاحف يتقدم‪ ،‬ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على‬
‫ناقته تتوج هامته عمامة سوداء‪ ،‬ورأسه خفيض من شدة التخشع هلل‪ ،‬لقد انحنى‬
‫على رحله‪ ،‬وبدأ عليه التواضع الجم‪ ،‬إن الموكب الضخم المهيب الذي ينساب‬
‫به حثيثاً إلى جوف الحرم‪ ،‬والفيلق الدّارع الذي يحفُّ به ينتظر إشارة منه فال‬
‫يبقى بمكة شيء آمن‪ ،‬إن هذا الفتح المبين ليذكره بماض طويل منصوراً مؤيداً‬
‫وأي كرامة عظمى حقه اهلل بها هذا الصباح الميمون‪ ،‬وكلما استشعر هذه‬
‫النعماء ازداد هلل على راحلته خشوعاً وانحناء‪.3‬‬
‫‪6‬ـ هذا يوم يعظم اهلل فيه الكعبة‪:‬‬
‫حرص النبي صلى اهلل عليه وسلم على تأمين الجبهة الداخلية في مكة عند‬
‫دخوله يوم الفتح‪ ،‬ولذلك عندما بلغه مقولة سعد بن عبادة ألبي سفيان‪ :‬اليوم‬

‫‪ 1‬صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة صـ ‪.396‬‬


‫‪ 2‬السيرة النبوية للصالبي (‪)406 / 2‬‬
‫‪ 3‬فقه السيرة للغزالي صـ ‪ 379‬ـ ‪.380‬‬

‫‪79‬‬
‫يوم الملحمة‪ ،‬اليوم تستحل الكعبة‪ ،‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬هذا يوم يُعظم اهلل‬
‫فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة‪.1‬‬
‫وأخذ الراية من سعد بن عبادة‪ ،‬وسلمها ألبنه قيس بن سعد‪ ،‬وبهذا التصرف‬
‫الحكيم حال دون أي احتمال لمعركة جانبية هم في غنى عنها‪ ،‬وفي نفس‬
‫الوقت لم يُثره وال آثار االنصار‪ ،‬فهو لم يأخذ الراية من انصاري ويسلمها‬
‫لمهاجر‪ ،‬بل أخذها من أنصاري وسلمها البنه‪ ،‬ومن طبيعة البشر أال يرضى‬
‫اإلنسان بأن يكون أحد أفضل منه إال ابنه‪.2‬‬
‫ولما نزل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بمكة‪ ،‬واطمأن خرج حتى جاء‬
‫البيت‪ ،‬فطاف به‪ ،‬وفي يده قوس‪ ،‬وحول البيت وعليه ثالثمائة وستون صنماً‪،‬‬
‫ن‬
‫َق َوزَ َهقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَا َ‬
‫فجعل يطعنها بالقوس ويقول ‪َ ":‬وقُل جَاء الح ُّ‬
‫َق َومَا يُبدِئُ البَاطِلُ‬
‫زَهُوقًا" (اإلسراء‪ ،‬آية ‪ .)81 :‬وقال تعالى‪ ":‬قُل جَاء الح ُّ‬
‫َومَا ُيعِيدُ" (سبأ‪ ،‬آية ‪.)49 :‬‬
‫واألصنام تتساقط على وجوهها‪ ،3‬وإنه لمنظر رائع لنصر اهلل‪ ،‬وعظيم تأييده‬
‫لرسوله صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬إذ كان يطعن تلك اآللهة الزائفة المنثورة حول‬
‫الكعبة بعصا معه‪ ،‬فما يكاد يطعن الواحد منها بعصاه حتى ينكفئ على وجهه‪،‬‬
‫أو ينقلب على ظهره جذاذ‪ ، 4‬ورأى في الكعبة الصور‪ ،‬والتماثيل‪ ،‬فأمر‬
‫بالصور وبالتماثيل فكسرت‪ ،5‬وأبى أن يدخل جوف الكعبة حتى أخرجت‬
‫الصور‪ ،‬وكان فيها صورة يزعمون أنها صورة إبراهيم وإسماعيل وفي‬
‫أيديهما من االزالم‪ ،‬فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬قاتلهم اهلل‪ ،‬لقد علموا ما‬
‫استقسما بها قط‪ .6‬ثم دخل البيت وكبّر في نواحيه ثم صلى‪ ،‬فقد روى ابن‬
‫عمر‪ :‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة وبالل‬
‫وعثمان بن طلحة‪ ،‬فأغلقها عليه‪ ،‬ثم مكث فيها‪ ،‬قال ابن عمر‪ :‬فسألت بالالً‬
‫‪ 1‬البخاري رقم ‪.4280‬‬
‫‪ 2‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)406 / 2‬‬
‫‪ 3‬السيرة النبوية للندوي صـ ‪.339‬‬
‫‪ 4‬فقه السيرة للسيوطي صـ ‪.282‬‬
‫‪ 5‬السيرة النبوية للندوي صـ ‪.329‬‬
‫‪ 6‬البخاري رقم ‪.4288‬‬

‫‪80‬‬
‫حين خرج‪ :‬ما صنع رسول اهلل؟ قال‪ :‬جعل عمودين عن يساره‪ ،‬وعموداً عن‬
‫يمينه‪ ،‬وثالثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى‪.1‬‬
‫‪7‬ـ يوم بر ووفاء‪:‬‬
‫كان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة قبل أن يسلم فأراد علي رضي اهلل عنه‬
‫أن يكون المفتاح له مع السقاية لكن النبي صلى اهلل عليه وسلم دفعه إلى‬
‫عثمان بعد أن خرج من الكعبة‪ ،‬ورده إليه قائالً‪ :‬اليوم يوم بر ووفاء‪ ،2‬وكان‬
‫صلى اهلل عليه وسلم قد طلب من عثمان بن طلحة المفتاح قبل أن يهاجر إلى‬
‫المدينة‪ ،‬فأغلظ له القول‪ ،‬ونال منه‪ ،‬فحلم عنه‪ ،‬وقال‪ :‬يا عثمان‪ ،‬لعلك ترى‬
‫هذا المفتاح يوماً بيدي‪ ،‬أضعه حيث شئت‪ .‬فقال‪ :‬لقد هلكت قريش يومئذ‪،‬‬
‫وذلّت‪ ،‬فقال‪ :‬بل عمرت وعزت يومئذ ووقعت كلمته من عثمان بن طلحة‬
‫موقعاً‪ ،‬وظن أن األمر سيصير إلى ما قال‪ ،3‬ولقد أعطى له رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم مفاتيح الكعبة قائالً له‪ :‬هاك مفتاحك يا عثمان‪ ،‬اليوم يوم بر‬
‫ووفاء‪ ،4‬خذوها خالدة تالدة‪ ،‬ال ينزعها منكم إال ظالم‪.5‬‬
‫وهكذا لم يشأ النبي صلى اهلل عليه وسلم أن يستبد بمفتاح الكعبة‪ ،‬بل لم يشأ أن‬
‫يضعه في أحد من بني هاشم‪ ،‬لما في ذلك من اإلثارة أوالً‪ ،‬ولما به من‬
‫مظاهر السيطرة‪ ،‬وبسيط النفوذ‪ ،‬وليست هذه من مهام النبوة بإطالق هذا هو‬
‫مفهوم الفتح األعظم في شرعة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم البر والوفاء‬
‫حتى للذين غدروا‪ ،‬ومكروا وتطاولوا‪.‬‬
‫إذاً لن يعيبنا اليوم أن نلتزم هذا النهج الكريم وأن نبثه بيننا نحن أبناء الوطن‬
‫الواحد‪ ،‬مهما تعاظمت االختالفات‪ ،‬ومهما توالت االساءات والمظالم‪ ،‬فالعفو‬
‫والصفح والتغافر هو األفضل للمتخاصمين‪ ،‬وللوطن ولالجيال القادمة وهذا‬
‫بالطبع ما سطره لنا التاريخ في فتح مكة‪.‬‬

‫‪ 1‬مسلم رقم ‪.1329‬‬


‫‪ 2‬مصنف عبد الرزاق (‪ 83 / 5‬ـ ‪.)84‬‬
‫‪ 3‬السيرة النبوية للصالبي (‪،.)407 / 2‬‬
‫‪ 4‬السيرة النبوية البن هشام (‪.)62 / 4‬‬
‫‪ 5‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)407 / 2‬‬

‫‪81‬‬
‫إن االقتداء بهذه الخبرة التاريخية شرف لنا قبل أن تكون حالً ناجحاً لمشاكلنا‬
‫واختالفاتنا‪.‬‬
‫‪8‬ـ إعًلن العفو العام‪:‬‬
‫نال أهل مكة عفواً عاماً برغم أنواع األذى التي ألحقوها بالرسول صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ودعوته‪ ،‬ورغم قدرة الجيش اإلسالمي على إبادتهم‪ ،‬وقد جاء‬
‫إعالن العفو عنهم‪ ،‬وهم مجتمعون قرب الكعبة‪ ،‬ينتظرون حكم الرسول صلى‬
‫اهلل عليه وسلم فيهم‪ ،‬فقال‪ :‬ما تظنون أني فاعل بكم‪ ،‬فقالوا‪ :‬خيراً‪ ،‬أخ كريم‬
‫وابن أخ كريم‪ ،‬فقال‪ ":‬الَ تَثرَيبَ عَلَيكُمُ اليَومَ يَغ ِفرُ اهللُّ َلكُم"‪ :1‬أذهبوا فأنتم‬
‫الطلقاء‪.‬‬
‫وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ األنفس من القتال أو السبي‪ ،‬وإيفاء‬
‫األموال المنقولة‪ ،‬واألراضي بيد أصحابها‪ ،‬وعدم فرض الخراج عليها‪.2‬‬
‫‪9‬ـ إهدار النبي صلى اهلل عليه وسلم لبعض الدماء‪:‬‬
‫إلى جانب ذلك الصفح الجميل كان هناك الحزم االصيل الذي البد أن تتصف‬
‫به القيادة الحكيمة الرشيدة‪ ،‬ولذلك استثنى قرار العفو الشامل بضعة عشر‬
‫رجالً أمر بقتلهم ـ وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة ـ ألنه عظمت جرائمهم‬
‫في حق اهلل ورسوله وحق اإلسالم‪ ،‬ولما كان يخشاه منهم من إثارة الفتنة بين‬
‫الناس بعد الفتح‪ .3‬قال الحافظ ابن حجر في الفتح‪ :‬وقد جمعت اسماءهم من‬
‫متفرقات األخبار‪ ،‬وهم عبد العزى بن خطل‪ ،‬وعبد اهلل بن سعد بن أبي‬
‫السرح‪ ،‬وعكرمة بن أبي جهل‪ ،‬والحويرث بن نُقيد ـ مصغراً ومقيس بن‬
‫صبابة‪ ،‬وهبار بن االسود‪ ،‬وقينتان البن األخطل "فَرتَنَي‪ ،‬وقُريبة" كانتا‬
‫تغنيان بهجو النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وسارة مواالة بني عبد المطلب‪،‬‬

‫‪ 1‬البيهقي في الكبرى (‪.)118 / 9‬‬


‫‪ 2‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)408 / 2‬‬
‫‪ 3‬السيرة النبوية البي شهبة (‪.)451 / 2‬‬

‫‪82‬‬
‫وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طُالطل الخزاعي‪ ،‬وذكر الحاكم‪:‬‬
‫أن فيمن أهدر دمه كعب بن زهير‪ ،‬ووحشي بن حرب‪ ،‬وهند بنت عتبة‪.1‬‬
‫ومن هؤالء من قتل‪ ،‬ومنهم من جاء مسلماً تائباً فعفا عنه الرسول صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وحسن إسالمه‪.2‬‬
‫‪10‬ـ خطبة النبي صلى اهلل عليه وسلم وإسًلم أهل مكة‪:‬‬
‫وفي غداة الفتح بلغ النبي صلى اهلل عليه وسلم أن خزاعة حلفاءه عدت على‬
‫رجل من هذيل‪ ،‬فقتلوه وهو مشرك برجل قتل في الجاهلية‪ ،‬فغضب وقام بين‬
‫الناس خطيباً‪ ،‬فقال‪ :‬يا أيها الناس‪ ،‬إن اهلل قد حرم مكة يوم خلق السموات‬
‫واالرض فهي حرام بحرمة اهلل إلى يوم القيامة‪ ،‬فال يحل المرئ يؤمن باهلل‬
‫واليوم اآلخر أن يسفك فيها دماً‪ ،‬وال يعضد ـ يقطع ـ فيها شجراً‪ ،‬لم تحل ألحد‬
‫كان قبلي‪ ،‬وال تحل ألحد يكون بعدي ولم تحل لي إال هذه الساعة غضباً على‬
‫أهلها ثم قد رجعت كجرمتها باألمس‪ ،‬فليبلغ الشاهد منكم الغائب‪ ،‬فمن قال‬
‫لكم‪ :‬إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد قاتل فيها‪ ،‬فقولوا‪ :‬إن اهلل قد أحلها‬
‫لرسوله ولم يُحلها لكم‪.‬‬
‫يا معشر خزاعة‪ ،‬أرفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر القتل إن نفع‪ ،‬لقد قتلتم قتيالً‬
‫ألدينه فمن قتل بعد مقامي هذا‪ ،‬فأهله بخير النظرين‪ ،‬إن شاءوا فدم قاتله‪ ،‬وإن‬
‫شاءوا فعقله‪.3‬‬
‫كان من أثر عفو النبي صلى اهلل عليه وسلم الشامل عن أهل مكة‪ ،‬والعفو عن‬
‫بعض من أهدر دماءهم أن دخل أهل مكة رجاالً ونساء وأحراراً وموالي في‬
‫دين اهلل طواعية واختياراً‪ ،‬وبدخول مكة تحت راية اإلسالم دخل الناس في‬
‫دين اهلل أفواجاً‪ ،‬وتمت النعمة ووجب الشكر‪ ،‬وبايع رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم الناس جميعاً‪ ،‬الرجال والنساءن والكبار والصغار‪ ،‬وبدأ بمبايعة الرجال‬

‫‪ 1‬فتح الباري رقم ‪.4280‬‬


‫‪ 2‬السيرة النبوية ألبي شهبة (‪.)451 / 2‬‬
‫‪ 3‬سنن أبي داود رقم ‪.4504‬‬

‫‪83‬‬
‫فقد جلس لهم على الصفا‪ ،‬فأخذ عليهم البيعة على اإلسالم والسمع والطاعة هلل‬
‫ولرسوله فيما استطاعوا‪.1‬‬
‫‪11‬ـ العفو عن هند بنت عتبة وإسًلمها‪:‬‬
‫ولما فرغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من بيعة الرجال بايع النساء‪ ،‬وفيهن‬
‫هند بنت عتبة متنكرة‪ ،‬خوفاً من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يعرفها‪،‬‬
‫لما صنعت بحمزة ـ على اال يشركن باهلل شيئاً وال يسرقن وال يزنين وال يقتلن‬
‫أوالدهن‪ ،‬وال يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن‪ ،‬وأرجلهن وال يعصين في‬
‫معروف‪ ،‬ولما قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬وال يسرقن قالت هند‪ :‬يا رسول‬
‫اهلل‪ ،‬إن أبا سفيان رجل شحيح ال يعطيني ما يكفيني ويكفي بني‪ ،‬فهل عليّ من‬
‫حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال لها صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬خذي من‬
‫ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف‪ .‬ولما قال‪" :‬وال يزنين" قالت هند‪ :‬وهل تزني‬
‫الحرة؟ ولما عرفها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال لها‪ :‬وإنك هند بنت‬
‫عتبة؟ قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فأعف عما سلف عفا اهلل عنك‪.2‬‬
‫‪12‬ـ قدرة رفيعة في التعامل مع النفوس‪:‬‬
‫أ ـ إسًلم سهيل بن عمرو‪:‬‬
‫قال سهيلٍ بن عمرو‪ :‬لما دخل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وظهر‬
‫انقحمت‪ 3‬بيتي وأغلقت عليّ بابي‪ ،‬وأرسلت إلى ابني عبد اهلل بن سهيل‪ :‬أن‬
‫اطلب لي جواراً من محمد‪ ،‬وإني ال آمن من أن أقتل وجعلت أتذكر أثري عند‬
‫محمد وأصحابه‪ ،‬فليس أحد أسوا أثراً مني‪ ،‬وأني لقيت رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬يوم الحديبية بما لم يلحقه أحد‪ ،‬وكنت الذي كاتبته‪ ،‬مع حضوري‬
‫بدراً وأحداً‪ ،‬وكلما تحركت قريش‪ ،‬كنت فيها‪ ،‬فذهب عبد اهلل بن سهيل إلى‬
‫رسول اهلل فقال‪ :‬يا رسول اهلل تؤمنه؟ فقال‪ :‬آمن بأمان اهلل‪ ،‬فليظهر‪ ،‬ثم قال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لمن حوله‪ :‬من لقي سهيل بن عمرو فال يشد‬
‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)410 / 2‬‬
‫‪ 2‬البخاري رقم ‪.5288‬‬
‫‪ 3‬انقحمت‪ :‬رميت بنفسي‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫النظر إليه‪ ،‬فليخرج فلعمري إن سهيالً له عقل وشرف‪ ،‬وما مثل سهيل جهل‬
‫اإلسالم‪ ،‬ولقد رأى ما كان يوضع فيه‪ :‬أنه لم يكن له بنافع‪ ،‬فخرج عبد اهلل إلى‬
‫أبيه‪ ،‬فقال سهيل‪ :‬كان واهلل براً صغيراً وكبيراً‪ ،‬فكان سهيل يقبل ويدبر‪،‬‬
‫وخرج سهيل إلى حنين مع النبي صلى اهلل عليه وسلم وهو على شركه حتى‬
‫أسلم بالجعرانة‪.1‬‬
‫لقد كانت لهذه الكلمات التربوية االثر الكبير على سهيل بن عمرو‪ ،‬حيث أثنى‬
‫على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالبرّ طوال عمره‪ ،‬ثم دخل في اإلسالم‬
‫بعد ذلك وقد حسن إسالمه‪ ،‬وكان مكثراً من األعمال الصالحة‪ ،2‬يقول الزبير‬
‫بن بكار‪ :‬كان سهيل بعد كثير الصالة والصوم والصدقة‪ ،‬خرج بجماعته إلى‬
‫الشام مجاهداً‪ ،‬ويقال‪ :‬إنه صام وتهجد حتى شحب لونه وتغير‪ ،‬وكان كثير‬
‫البكاء إذا سمع القرآن‪ ،‬وكان أميراً على كُردوسة‪ 3‬يوم اليرموك‪.4‬‬
‫ب ـ إسًلم صفوان بن أمية‪:‬‬
‫قال عبد اهلل بن الزبير رضي اهلل عنه‪... :‬وأما صفوان بن أمية فهرب حتى‬
‫أتى الشُعيبة‪ ،5‬وجعل يقول لغالمه يسار ـ وليس معه غيره ـ‪ :‬ويحك‪ ،‬أنظر‬
‫من ترى‪ ،‬قال‪ :‬هذا عمير بن وهب‪ ،‬قال صفوان‪ :‬ما أصنع بعمير؟ واهلل ما‬
‫جاء إال يريد قتلي‪ ،‬قد ظهر محمداً عليّ فلحقه‪ .‬فقال‪ :‬يا عمير‪ ،‬ما كفاك ما‬
‫صنعت بي؟ حمّلتني دينك وعيالك ثم جئت تريد قتلي! قال أبا وهب جُعلت‬
‫فداك‪ ،‬جئت من عند أبرّ الناس‪ ،‬وأوصل الناس‪ ،‬وقد كان عمير قال لرسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬يا رسول اهلل سيد قومي خرج هارباً ليقذف نفسه في‬
‫البحر‪ ،‬وخاف أال تؤمنه فداك أبي وأمي‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫قد أمنته فخرج في أثره‪ ،‬فقال صفوان‪ :‬ال واهلل ال أرجع معك حتى تأتيني‬
‫بعالمة أعرفها‪ ،‬فرجع إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول‬

‫‪ 1‬الحاكم (‪.)281 / 3‬‬


‫‪ 2‬التاريخ اإلسالمي (‪ 216 / 7‬ـ ‪ )217‬للحميدي‪.‬‬
‫‪ 3‬الكردوسة‪ :‬طائفة عظيمة من الخيل أو الجيش جمع كراديس‪.‬‬
‫‪ 4‬سير أعالم النبالء (‪.)195 / 2‬‬
‫‪ 5‬الشعيبة‪ :‬مرفأ السفن من ساحل بحر الحجاز‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫اهلل جئت صفوان هارباً يريد أن يقتل نفسه‪ ،‬فأخبرته بما أمنته فقال‪ :‬ال أرجع‬
‫حتى تأتي بعالمة أعرفها‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬خذ عمامتي‪.‬‬
‫قال‪ :‬فرجع عمير إليه بها‪ ،‬وهو البرد الذي دخل فيه رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يومئذ معتجراً‪ 1‬به‪ ،‬برد حبرة‪ ،2‬فخرج عمير في طلبه ثانية حتى جاء‬
‫بالبرد‪ ،‬فقال‪ :‬أبا وهب جئتك من عند خير الناس‪ ،‬وأوصل الناس وأبر الناس‬
‫وأحلم الناس‪ ،‬مجده مجدك‪ ،‬وعزه عزك‪ ،‬وملكه ملكك‪ ،‬أبن أمك وأبيك‪ ،‬أذكر‬
‫اهلل في نفسك‪.‬‬
‫قال له‪ :‬أخاف أن أقتل‪ ،‬قال‪ :‬قد دعاك إلى أن تدخل في اإلسالم‪ ،‬فإن رضيت‬
‫وإال سيرك شهرين فهو أوفى الناس وأبرّهم وقد بعث إليك ببرده الذي دخل‬
‫فيه معتجراً تعرفه؟ قال‪ :‬نعم فأخرجه‪ ،‬فقال‪ :‬نعم هو هو‪ ،‬فرجع صفوان حتى‬
‫أنتهى إلى رسول اهلل ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يصلي بالمسلمين‬
‫العصر بالمسجد‪ ،‬فوقف فقال صفوان‪ :‬كم تصلون في اليوم والليلة؟ قال‪:‬‬
‫خمس صلوات‪ ،‬قال‪ :‬يُصلى بهم محمد؟ قال‪ :‬نعم فلما سلم صاح صفوان‪ :‬يا‬
‫محمد‪ ،‬إن عمير بن وهب جاءني ببردك‪ ،‬وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك‬
‫فإن رضيت أمراً‪ ،‬وإال سيرتني شهرين‪ ،‬قال‪ :‬أنزل أبا وهب‪ ،‬قال‪ :‬ال واهلل‬
‫حتى تبين لي‪ ،‬قال‪ :‬بل تسير أربعة أشهر فنزل صفوان‪.3‬‬
‫وخرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قِبل هوازن‪ ،‬وخرج معه صفوان‪ ،‬وهو‬
‫كافر‪ ،‬وأرسل إليه يستعيره سالحه‪ ،‬فاعاده سالحه مئة درع بادائها فقال‪:‬‬
‫طوعاً‪ ،‬أو كرهاً‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬عارية مؤدّاة‪، 4‬‬
‫فأعاره‪ ،‬فأمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فحملها إلى حنين‪ ،‬فشهد حنيناً‪،‬‬
‫والطائف ثم رجع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الجعرانة‪ ،‬فبينما رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يسير في الغنائم ينظر إليها ومعه صفوان بن أمية‪ ،‬جعل‬
‫صفوان ينظر إلى شعب مُلى نعما‪ ،‬وشاء ورعاء‪ ،‬فأدام إليه النظر ورسول اهلل‬
‫‪ 1‬االعتجار بالعمامة هو أن يلفها على رأسه‪.‬‬
‫‪ 2‬الحبرة‪ :‬ضرب من ثياب اليمن‪.‬‬
‫‪ 3‬البيهقي في الدالئل (‪)46 / 5‬‬
‫‪ 4‬سنن أبي داود رقم ‪.3562‬‬

‫‪86‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يرمقه فقال‪ :‬أبا وهب‪ ،‬يعجبك هذا الشعب؟ قال‪ :‬نعم‪،‬‬
‫قال‪ :‬هو لك وما فيه‪ .‬فقال صفوان عند ذلك‪ :‬ما طابت نفسي أحد بمثل هذا إال‬
‫نفس نبي‪ ،‬أشهد أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأن محمداً عبده ورسوله‪ ،‬وأسلم مكانه‪.1‬‬
‫ونالحظ في هذا الخبر أن النبي صلى اهلل عليه وسلم حاول أن يتألف صفوان‬
‫بن أمية إلى اإلسالم حتى أسلم وذلك بإعطائه األمان‪ ،‬ثم بتخييره في األمر‬
‫أربعة أشهر‪ ،‬ثم بإعطائه من مال العطايا الكبيرة التي ال تصدر من إنسان‬
‫عادي‪ ،‬فأعطاه أوالً مائة من اإلبل مع عدد من زعماء مكة‪ ،‬ثم أعطاه ما في‬
‫أحد الشعاب من اإلبل والغنم‪ ،‬فقال‪ :‬ما طابت نفس أحد بهذا إال نفس نبي‪ ،‬ثم‬
‫أسلم مكانه‪ ،2‬وقد وصف لنا صفوان بن أمية عطاء النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فقال‪ :‬واهلل‪ ،‬لقد أعطاني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما أعطاني‪ ،‬وإنه‬
‫ألبغض الناس إليّ‪ ،‬فما برح يعطيني حتى إنه ألحب الناس إليّ‪.3‬‬
‫ج ـ إسًلم عكرمة بن أبي جهل‪:‬‬
‫قال عبد اهلل بن الزبير رضي اهلل عنه‪ :‬قالت أم حكيم امرأة عكرمة بن أبي‬
‫جهل رضي اهلل عنها‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬قد هرب عكرمة منك إلى اليمن‪ ،‬وخاف‬
‫أن تقتله فأمنه‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬هو آمن‪ ،‬فخرجت أم‬
‫حكيم في طلبه‪ ،‬ومعها غالم لها رومي‪ ،‬فراودها عن نفسها‪ ،‬فجعلت تمنيه‬
‫ي من عك‪ ،4‬فأستغاثتهم عليه‪ ،‬فأوثقوه رباطاً‪ ،‬وأدركت‬ ‫حتى قدمت على ح ّ‬
‫عكرمة وقد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة‪ ،‬فركب البحر‪ ،‬فجعل نوتي‬
‫السفينة يقول له‪ :‬أخلص‪ ،‬فقال‪ :‬أي شيء أقول‪ :‬قال‪ :‬قل ال إله إال اهلل‪ ،‬قال‬
‫عكرمة‪ :‬ما هربت إال من هذا فجاءت أم حكيم على هذا الكالم‪ ،‬فجعلت تلح‬
‫عليه‪ ،‬وتقول‪ :‬يا ابن عم جئت من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس‪،‬‬
‫ْاًَ‬
‫ال تُهلك نفسك‪ ،‬فوقف لها حتى أدركته‪ ،‬فقالت‪ :‬إني قد استأمنت لك محمد‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬قال‪ :‬أنت فعلت؟ قالت‪ :‬نعم‪ ،‬أنا كلمته‪ ،‬فأمنك‬
‫‪ 1‬كنز العمال رقم ‪ ،30170‬المغازي للواقدي (‪.)853 / 2‬‬
‫‪ 2‬التاريخ اإلسالمي للحميدي (‪.)220 / 7‬‬
‫‪ 3‬مسلم رقم ‪.2313‬‬
‫‪ 4‬عك‪ :‬مخالف من مخاليف مكة التهامية‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫فرجع معها وقال‪ :‬ما لقيت من غالمك الروميّ؟ فخبرته خبره‪ ،‬فقتله عكرمة‪،‬‬
‫وهو يومئذ لم يسلم‪ ،‬فلما دنا من مكة؟ قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ألصحابه‪ :‬يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً‪ ،‬فال تسبوا أباه‪ ،‬فإن سب‬
‫الميت يؤذي الحي‪ ،‬وال يبلغ الميت‪.‬‬
‫قال‪ :‬وجعل عكرمة يطلب امرأته يُجامعها فتأبى عليه وتقول‪ :‬إنك كافر‪ ،‬وأنا‬
‫مسلمة‪ ،‬فيقول‪ :‬إن أمراً منعك مني ألمر كبير‪ ،‬فلما رأى النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم عكرمة‪ ،‬وثب إليه ـ وما على النبي صلى اهلل عليه وسلم رداء ـ فرحًا‬
‫بعكرمة ثم جلس رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فوقف بين يديه‪ ،‬وزوجته‬
‫متنقبة‪ ،‬فقال‪ :‬يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ :‬صدقت فأنت آمن‪ ،‬فقال عكرمة‪ :‬فإلى ما تدعو يا محمد؟ قال‪:‬‬
‫أدعوك إلى أن تشهد أن ال إله إال اهلل وأني رسول اهلل‪ ،‬وأن تقيم الصالة‬
‫وتؤتي الزكاة وتفعل وتفعل‪ ،‬حتى عدّ خصال اإلسالم‪ ،‬فقال عكرمة‪ :‬واهلل ما‬
‫دعوت إال إلى الحق‪ ،‬وأمر حسن جميل‪ ،‬قد كنت واهلل فينا قبل أن تدعو إلى ما‬
‫دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثاً‪ ،‬وأبرنا برّاّ‪ ،‬ثم قال عكرمة‪ :‬فإني أشهد أن ال‬
‫إله إال اهلل‪ ،‬وأشهد أن محمداً عبده ورسوله‪ ،‬فسر بذلك رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ .1‬وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬ال تسألني اليوم شيئاً‬
‫أعطيه أحداً إال أعطيتكه‪ ،‬فقال عكرمة‪ :‬فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة‬
‫عاديتكها أو مسير وصنعت فيه‪ ،‬أو مقام لقيتك فيه أو كالم قلته في وجهك‪ ،‬أو‬
‫وأنت غائب عنه‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬اللهم اغفر له كل‬
‫عداوة عادانيها‪ ،‬وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد بذلك المسير إطفاء‬
‫نورك‪ ،‬فأغفر له ما نال مني عرض في وجهي أو غائب عنه‪ ،‬فقال عكرمة‪:‬‬
‫رضيت يا رسول اهلل‪ ،‬ال أدع نفقة كنت أنفقها في صدّ عن سبيل اهلل إال أنفقت‬
‫ضعفها في سبيل اهلل وال قتاالً كنت أقاتل في صدّ عن سبيل اهلل إال أبليت‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)419 / 2‬‬

‫‪88‬‬
‫ضعفه في سبيل اهلل‪ ،‬ثم اجتهد في القتال حتى قتل شهيداً‪ ،1‬وبعد أن أسلم رد‬
‫رسول اهلل امرأته بذلك النكاح األول‪.2‬‬
‫كان سلوك النبي صلى اهلل عليه وسلم في تعامله مع عكرمة لطيفاً حانياً‪ ،‬يكفي‬
‫وحده الجتذابه إلى اإلسالم‪ ،‬فقد أعجل نفسه عن لبس ردائه‪ ،‬وابتسم له‪،‬‬
‫ورحب به‪ ،‬وفي رواية قال له‪ :‬مرحباً بالركب المهاجر‪.3‬‬
‫فتأثر عكرمة من ذلك الموقف‪ ،‬فأهتزت مشاعره‪ ،‬وتحركت أحاسيسه‪ ،‬فأسلم‪،‬‬
‫كما كان لموقف أم حكيم بنت الحارث بن هشام أثر في إسالم زوجها‪ ،‬فقد‬
‫أخذت له األمان من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وغامرت بنفسها تبحث‬
‫عنه لعل اهلل يهديه إلى اإلسالم كما هداها إليه‪ ،‬وعندما أرادها زوجها‪ ،‬امتنعت‬
‫عنه وعللت ذلك بأنه كافر وهي مسلمة‪ ،‬فعظم اإلسالم في عينه وأدرك أنه‬
‫أمام دين عظيم‪ ،‬وهكذا خطت أم حكيم في فكر عكرمة بداية التفكير في‬
‫اإلسالم‪ ،‬ثم توّج بإسالمه بين يدي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكان‬
‫صادقاً في إسالمه‪ ،‬فلم يطلب من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ديناً‪ ،‬وإنما‬
‫سأله أن يغفر اهلل تعالى له كل ما وقع فيه من ذنوب ماضية‪ ،‬ثم أقسم أمام‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم بأن يحمل نفسه على اإلنفاق في سبيل اهلل تعالى‬
‫بضعف ما كان ينفق في الجاهلية وأن يُبلى في الجهاد في سبيل اهلل بضعف ما‬
‫كان يبذله في الجاهلية ولقد برّ بوعده‪ ،‬فكان من أشجع المجاهدين‪ ،‬والقادة في‬
‫سبيل اهلل تعالى في حروب الردة‪ ،‬ثم في فتوح الشام حتى وقع شهيداً في‬
‫معركة اليرموك بعد أن بذل نفسه وماله في سبيل اهلل‪.4‬‬
‫س ـ إسًلم فضالة بن عمير وعفو النبي صلى اهلل عليه وسلم عنه‪:‬‬
‫أراد فُضالة بن عمير بن الملوح الليثي قتل النبي صلى اهلل عليه وسلم وهو‬
‫يطوف بالبيت عام الفتح‪ ،‬فلما دنا منه‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫أفضالة؟ قال‪ :‬نعم فضالة يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪ :‬ماذا كنت تحدّث به نفسك؟ قال‪:‬‬
‫‪ 1‬يعني يوم اليرموك‪.‬‬
‫‪ 2‬مغازي الواقدي (‪ 851 / 2‬ـ ‪.)853‬‬
‫‪ 3‬سنن الترمذي رقم ‪.2735‬‬
‫‪ 4‬التاريخ اإلسالمي (‪ 223 / 7‬ـ ‪.)225‬‬

‫‪89‬‬
‫ال شيء‪ ،‬كنت أذكر اهلل‪ ،‬قال‪ :‬فضحك النبي صلى اهلل عليه وسلم ثم قال‪:‬‬
‫استغفر اهلل ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه‪ ،‬فكان فضالة يقول‪ :‬واهلل ما‬
‫رفع يده عن صدري حتى ما من خلق اهلل شيء أحبّ إلي منه‪ ،‬قال فضالة‪:‬‬
‫فرجعت إلى أهلي فمررت بأمرأة كنت اتحدث إليها‪ ،‬فقالت‪ :‬هلم إلى الحديث‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬ال وانبعث فضالة يقول‪:‬‬
‫قالت هلم إلى الحديث فقلت ال‬
‫يأبى عليك اهلل واإلسالم‬
‫لو ما رأيت محمد وقبيله‬
‫بالفتح يوم تكسر األصنام‬
‫لرأيت دين اهلل أضحى بيناً‬
‫والشرك يغشى وجهه اإلظالم‪1‬‬
‫ش ـ أجرنا من أجرت يا أم هاني‪:‬‬
‫قالت أم هاني بنت أبي طالب‪ :‬لما نزل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بأعلى‬
‫مكة‪ ،‬فرّ إليّ رجالن من أحمائ‪ ،‬من بني مخزوم ـ وكانت عند هبيرة بن أبي‬
‫وهب المخزومي ـ قالت‪ :‬فدخل عليّ علي بن أبي طالب أخي فقال‪ :‬واهلل‬
‫ألقتلنهما‪ ،‬فأغلقت عليهما باب بيتي‪ ،‬ثم جئت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وهو بأعلى مكة‪ ،‬فوجدته يغتسل من جفنة إن فيها من أثر العجين‪ ،‬وفاطمة‬
‫ابنته تستره بثوبه‪ ،‬فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به‪ ،‬ثم صلى ثماني الضحى‪،‬‬
‫ثم انصرف إليّ فقال‪ :‬مرحباً وأهالً يا أم هانيء‪ ،‬ما جاء بك؟ فأخبرته خير‬
‫الرجلين وخبر عليّ‪ ،‬فقال‪ :‬قد أجرنا من أجرت‪ ،‬وأمّنا من أمنت فال يقتلهما‪.2‬‬
‫ع ـ إسًلم شاعر قريش "عبد اهلل بن الزببعري"‪:‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية البن هشام (‪ 59 / 4‬ـ ‪.)60‬‬


‫‪ 2‬البخاري رقم ‪.3171‬‬

‫‪90‬‬
‫لمّا فتحت مكة فرّ عبد اهلل بن الزبعري السهمي إلى نجران‪ ،‬فلحقه قوافي‬
‫حسّان‪ ،‬فقد كان خصماً عنيداً لإلسالم‪ ،‬فراح يعيره بالجبن والفرار فقال له‪:‬‬
‫ال تعدمن رجالً أحلّك بغصُنُه‬
‫نجران في عيش أحذَّ لئيم‪1‬‬
‫أي‪ :‬فليبق اهلل لنا محمداً صلى اهلل عليه وسلم هذا الرجل العظيم الذي أحلّك‬
‫بغضه ديار نجران‪ ،‬وليُدم اهلل عليك ابن الزبعري عيشاً مهيناً أشأم ثم راح‬
‫حسان يستنزل غضب اهلل ومقته على ابن الزبعري ونجله‪ ،‬ويسأل اهلل أن‬
‫يخلده في سوء العذاب وأليمه‪.2‬‬
‫فتطايرت تلك االبيات ووصلت إلى ابن الزبعري وقام ولم يقعد‪ ،‬وقلب أموره‬
‫ثم أراد اهلل به الخير‪ ،‬فعزم على الدخول في اإلسالم‪ ،‬ثم توجه إلى مكة‪،‬‬
‫وقصد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأعلن اسالمه‪ ،‬وطلب من رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم أن يستغفر له كل عداوة له‪ ،‬ولإلسالم‪ ،‬فقال له رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم إن اإلسالم يجب ما قبله‪ ،3‬ثم أدناه رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم منه وآنسه‪ ،‬ثم خلع عليه حلة‪ ،‬وقد أجمع الرواة أن ابن الزبعري‬
‫رضي اهلل عنه قال بعد إسالمه شعراً كثيراً حسناً يعتذر فيه إلى رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪.4‬‬
‫قال ابن كثير‪ :‬كان من أكبر أعداء اإلسالم ومن الشعراء الذين استعملوا قواهم‬
‫في هجاء المسلمين‪ ،‬ثم من اهلل عليه بالتوبة واإلنابة والرجوع إلى اإلسالم‬
‫والقيام بنصره والذّب عنه‪.5‬‬
‫ومن القصائد الرائعة التي قالها في مدح النبي صلى اهلل عليه وسلم وندمه‬
‫على محاربة اإلسالم‪ ،‬وتأخره في الدخول فيه‪:‬‬

‫‪ 1‬البداية والنهاية (‪.)307 / 4‬‬


‫‪ 2‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)424 / 2‬‬
‫‪ 3‬المغازي (‪.)848 / 2‬‬
‫‪ 4‬السيرة النبوية (‪ )424 / 2‬للصالبي‪.‬‬
‫‪ 5‬البداية والنهاية (‪.)308 / 4‬‬

‫‪91‬‬
‫منع الرُّقادَ بالبلٌ وهموم‪1‬‬
‫والليل معتلجُ الرواق بهيم‪2‬‬
‫ممّا أتاني أن أحمد المني‬
‫فيه فبت كأنني محموم‬
‫يا خير من حملت على أوصالها‬
‫ح اليدين غشوم‪4‬‬
‫سرُ ُ‬
‫عيرانة‪ُ ،3‬‬
‫إني لمعتذر إليك من الذي‬
‫أسديت إذ أنا في الضالل أهيم‬
‫أيام تأمرني بأغوى خُطة‬
‫سهم وتأمرني بها مخزوم‬
‫وأمدُّ أسباب الرّدى ويقودني‬
‫أمر الغواة وأمرهم مشؤوم‬
‫فاليوم آمن بالنبي محمد‬
‫قلبي ومخطئ هذه محروم‬
‫مضت العداوة وانقضت أسبابها‬
‫ودعت أواصر بيننا وحلوم‬
‫فاغفر فِدىً لك والديّ كالهما‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية (‪ ،)425 / 2‬الرواق‪ :‬مقدم الليل‪.‬‬


‫‪ 2‬بهيم‪ :‬ال ضوء فيه إلى الصباح‪.‬‬
‫‪ 3‬عيرانة‪ :‬راحلة‪.‬‬
‫‪ 4‬غشوم‪ :‬شجاع‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫زلليء فإنك راحم مرحوم‬
‫وهكذا انتهى الفتح األكبر ولم يهتك ألهل مكة عرض أو ينهب منهم درهم‪ ،‬بل‬
‫كان يوم دخول المسلمين أكثر أمناً من اليوم الذي سبقه‪ ،‬فقد أخذت قريش‬
‫األمان قبل أن تطلبه‪ ،‬ولم يضطرها المسلمون بقيادة محمد صلى اهلل عليه‬
‫وسلم إلى التفاوض فضالً عن االستجداء وهكذا تمكن النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم بعفوه العظيم أن يهز ضمائر قريش‪ ،‬ولم يترك لهم فرصة في التفكير‬
‫سوى سماحة هذا الدين الكريم‪ ،‬وبقوة العفو وعمق الغفران دخل اإلسالم‬
‫قلوب المكيين‪ ،‬فحولهم من أعداء إلى أكثر الناس والء للمسلمين ودعوته‬
‫اإلنسانية إن هذا العفو وتلك العدالة المتسامحة تزداد اشراقاً كلما تفكرنا فيها‪،‬‬
‫وأجلنا النظر في تفاصيلها‪.‬‬
‫إن بالدنا والكثير من بالد المسلمين بل واإلنسانية جمعاً بحاجة أن تقف ملياً‬
‫عند هذه الوقائع ليس فقط لتبدي دهشتها أمام صورتين متناقضتين األولى‬
‫وقفت فيها قريش بكل جبروتها وظلمها وقهرها للمسلمين‪ ،‬والثانية ترسم لنا‬
‫حقيقة المسلمين بقيادة نبيهم وهدي رسالته وقد تغاضت عن ذلك الماضي‬
‫االسود بالظلم لتستبدله بعفو كامل‪ ،‬وعدالة شاملة‪.‬‬
‫إننا نهيب بكل أبناء الوطن من ظلم منهم ومن ظلم إلى اإلطالع والوقوف‬
‫والتأمل ومن ثم االقتداء بما قدمه الرسول وأصحابه من طي صفحة الماضي‬
‫أمام قريش والتعلق بالحاضر والمستقبل‪ ،‬والسير قدماً نحو البناء وتقاسم‬
‫الواجبات‪ ،‬وحفظ الحقوق‪.‬‬

‫الثامن عشر‪ :‬غزوة حنين وتعامله مع هوازن‪:‬‬


‫اهلل فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَومَ حُنَينٍ إِذ أَعجَبَتكُم كَثرَتُكُم فَلَم‬
‫ص َركُمُ ُّ‬
‫قال تعالى‪ ":‬لَقَد نَ َ‬
‫تُغنِ عَنكُم شَيئًا وَضَاقَت عَلَيكُمُ األَرضُ ِبمَا رَحُبَت ثُمَّ وَلَّيتُم مُّد ِبرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ‬
‫سكِينَتَهُ عَلَى رَسُوِلهِ وَعَلَى المُؤمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّم َترَوهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ‬‫اهللُّ َ‬

‫‪93‬‬
‫َاهلل‬
‫ن * ثُمَّ يَتُوبُ اهللُّ مِن بَعدِ ذَِلكَ عَلَى مَن يَشَاء و ُّ‬
‫جزَاء الكَا ِفرِي َ‬
‫كَ َفرُوا وَذَِلكَ َ‬
‫غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (التوبة‪ ،‬آية ‪ 25 :‬ـ ‪)27‬‬
‫ـ بين القرآن الكريم أن المسلمين انهزموا‪ ،‬وهربوا ماعدا النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ونفر يسير من أصحابه " وَضَاقَت عَلَيكُمُ األَرضُ ِبمَا رَحُبَت ثُمَّ وَلَّيتُم‬
‫مُّد ِبرِينَ"‪.‬‬
‫ـ بين القرآن الكريم أن اهلل نصر رسوله صلى اهلل عليه وسلم في هذه‬
‫المعركة‪ ،‬وأكرمه بإنزال السكينة عليه وعلى المؤمنين‪ ،‬فقال تعالى‪ ":‬ثُمَّ أَنَزلَ‬
‫سكِينَ َتهُ عَلَى رَسُوِلهِ وَعَلَى المُؤمِنِينَ"‪.‬‬
‫اهللُّ َ‬
‫ـ بين القرآن الكريم أن اهلل أمد نبيه محمد صلى اهلل عليه وسلم بالمالئكة في‬
‫جزَاء‬
‫َعذبَ الَّذِينَ كَ َفرُوا وَذَلِكَ َ‬
‫حنين‪ ،‬قال تعالى‪ ":‬وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّم َترَوهَا و َّ‬
‫الكَا ِفرِينَ"‪.‬‬
‫وأكد سبحانه على أنه يقبل التوبة من عباده‪ ،‬ويوفق من شاء إليها‪ ،‬قال‬
‫َاهلل غَفُورٌ رَّحِيمٌ"‪.‬‬
‫اهلل مِن بَعدِ ذَِلكَ عَلَى مَن يَشَاء و ُّ‬
‫تعالى‪ ":‬ثُمَّ يَتُوبُ ُّ‬
‫انتصر المسلمون على هوازن بفضل اهلل ووقع من ابنائهم ونسائهم في سبي‬
‫المسلمين وبعد انتهاء المعركة جاء وفد هوازن لرسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم بالجعرانة وقد أسلموا فقالوا‪ :‬يا رسول اهلل! إنا أصل وعشيرة‪ ،‬وقد‬
‫أصابنا من البالء مالم يخف عليك‪ ،‬فامنن علينا من اهلل عليك‪ ،‬وقام خطيبهم‬
‫زهير بن صرد أبو صرد فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إنما في الحظائر من السبايا‬
‫خاالتك وحواضنك االتي كن يكفلنك ولو أنا ملحنا البن أبي شمر أو النعمان‬
‫بن المنذر ثم أصابنا منها مثل الذي أصابنا منك‪ ،‬رجونا عائدتهما وعطفهما‪،‬‬
‫وأنت رسول اهلل خير المكفولين‪ ،‬ثم أنشأ يقول‪:‬‬
‫أمنن علينا رسول اهلل في كرم‬
‫فإنك المرءُ نرجوه وتنتظر‬

‫‪94‬‬
‫إلى أن قال‪:‬‬
‫أمنن على نسوة قد كنت ترضعها‬
‫إذ فوك بملوءه من محضها دررٌ‬
‫أمنن على نسوة قد كنت ترضعها‬
‫وإذ يزينك ما تأتي وما تذر‬
‫فكان سبب اعتاقهم عن بكرة أبيهم‪ ،‬فعادت فواضله عليه السالم عليهم قديماً‬
‫ًْ‪ ،‬وخصوصاً وعموماً‪ 1‬فلما سمع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من‬ ‫وحديثاَ‬
‫الوفد قال لهم‪ :‬نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم اموالكم فقالوا يا رسول اهلل‬
‫خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا؟ بل أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا‪ ،‬فقال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أما ما كان لي‪ ،‬ولبني عبد المطلب‪ ،‬فهو لكم وإذا أنا‬
‫صليت بالناس فقوموا‪ ،‬فقولوا إنا نستشفع برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى‬
‫المسلمين‪ ،‬وبالمسلمين إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في أبنائنا ونسائنا‪،‬‬
‫فإني سأعطيكم عند ذلك‪ ،‬وأسأل لكم‪ ،‬فلما صلى رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم بالناس الظهر قاموا‪ ،‬فقالوا ما أمرهم به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم فقال المهاجرون‪ :‬وما كان لنا‬
‫فهو ولرسول اهلل‪ ،‬وقالت االنصار‪ :‬وما كان لنا فهو لرسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وقال األقرع بن حابس‪ :‬أما أنا وبنو سليم فال‪ ،‬وقال عُيينة‪ :‬أما أنا وبنو‬
‫فزارة فال‪ ،‬وقال العباس بن مرداس السُّلمُّي‪ :‬أما أنا وبنو سليم فال فقالت بنو‬
‫سليم‪ :‬بل ما كان لنا فهو لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬قال عباس بن‬
‫مرداس لبني سليم وهنتموني؟ فقال رسول اهلل‪ :‬من أمسك منكم بحقه فله بكل‬
‫إنسان ستُ فرائض من أول فيء نصيبه‪ ،‬فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم‪.2‬‬
‫وفي رواية‪ ... :‬فخطب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في المؤمنين فقال‪ :‬إن‬
‫إخوانكم هؤالء جاؤونا تائبين‪ ،‬وإني أردت أن أرد إليهم سبيهم‪ ،‬فمن أحبّ‬
‫‪ 1‬البداية والنهاية (‪ 363 / 4‬ـ ‪.)364‬‬
‫‪ 2‬مسند أحمد (‪.)184 / 2‬‬

‫‪95‬‬
‫منكم أن يطيب ذلك فليفعل‪ ،‬ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه‬
‫من أول ما يفيء اهلل علينا‪ ،‬فليفعل‪ .‬فقال الناس‪ :‬طيبنا يا رسول اهلل لهم‪ ،‬فقال‬
‫لهم‪ :‬إنا ال ندري من أذن منكم فيه ممن لم يأذن‪ ،‬فارجعوا حتى يرفع إلينا‬
‫عرفاؤكم أمركم‪ .‬فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم‪ ،‬ثم رجعوا إلى النبي صلى‬
‫اهلل عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا‪ ،‬وأذنوا‪.1‬‬
‫‪ 1‬ـ إسًلم زعيم هوازن‪ :‬مالك بن عوف‪:‬‬
‫وقد سر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بإسالم هوازن وسألهم عن زعيمهم‬
‫مالك بن عوف النصري‪ ،‬فأخبروه أنه في الطائف مع ثقيف‪ ،‬فوعدهم بردّ‬
‫أهله‪ ،‬وأمواله عليه‪ ،‬وإكرامه بمائة من اإلبل إن قدم عليه مسلماً‪ ،‬فجاء مالك‬
‫مسلماً‪ ،‬فأكرمه وأمّره على قومه‪ ،‬وبعض القبائل المجاورة‪ ،‬ولقد تأثر مالك بن‬
‫عوف وجادت قريحته لمدح النبي صلى اهلل عليه وسلم فقال‪:‬‬
‫ما إن رأيت وال سمعت بمثله‬
‫في الناس كلهم بمثل محمد‬
‫أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتذى‬
‫فمتى تشاء يخبرك عما في غد‬
‫وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها‬
‫بالسمهري وضرب كل مهند‬
‫فكأنه ليث على أشباله‬
‫وسط الهباءة‪2‬خادرٌ في مرصد‪3‬‬

‫‪ 1‬البخاري رقم ‪.4318‬‬


‫‪ 2‬الهباءة‪ :‬غبار الحرب‪.‬‬
‫‪ 3‬الخادر‪ :‬المقيم في عرينه والخادر ستر يمد للجارية من ناحية البيت‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫لقد كانت سياسته صلى اهلل عليه وسلم مع خصومه مرنة إلى أبعد الحدود‬
‫وبهذه السياسة الحكيمة استطاع صلى اهلل عليه وسلم أن يكسب هوازن‬
‫وحلفاءها إلى صف اإلسالم‪ ،‬واتخذ من هذه القبيلة القوية رأس حربة يضرب‬
‫بها قوى الوثنية في المنطقة ويقودها زعيمهم مالك بن عوف الذي قاتل ثقيف‬
‫في الطائف حتى ضيق عليهم‪ ،‬وقد فكر زعماء ثقيف في الخالص من المأزق‬
‫بعد أن أحاط اإلسالم بالطائف من كل مكان‪ ،‬فال تستطيع تحركاً وال تجارة‪،‬‬
‫فمال بعض زعماء ثقيف إلى اإلسالم مثل عروة بن مسعود الثقفي الذي سارع‬
‫إلى اللحاق برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو في طريقه إلى المدينة بعد‬
‫أن قسم غنائم حنين‪ ،‬واعتمر من الجعرانة‪ ،‬فالتقى به قبل أن يصل إلى‬
‫المدينة‪ ،‬وأعلن إسالمه‪ ،‬وعاد إلى الطائف وكان من زعماء ثقيف محبوباً‬
‫عندهم‪ ،‬فدعاهم إلى اإلسالم وأذّن في أعلى منزله‪ ،‬فرماه بعضهم بسهام‪،‬‬
‫فأصابوا فطلب من قومه أن يدفنوه مع شهداء المسلمين في حصار الطائف‪.1‬‬
‫إن اإلنسان ليعجب من فقه النبي صلى اهلل عليه وسلم في معاملة النفوس‪ ،‬وفي‬
‫سعيه الحثيث لتمكين دين اهلل تعالى‪ ،‬لقد استطاع أن يزيل معالم الوثنية‪،‬‬
‫وبيوتات العبادة الكفرية في مكة‪ ،‬وما حولها‪ ،‬ورتب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫األمور التنظيمية لألراضي التي أضيفت للدولة اإلسالمية‪ ،‬فعين عتاب بن‬
‫أسيد أميراً على مكة‪ ،‬وجعل معاذ بن جبل مرشداً‪ ،‬وموجهاً ومعلماً ةمربياً‪،2‬‬
‫وعين على هوازن مالك بن عوف قائداً‪ ،3‬ومجاهداً ‪ ،‬ثم اعتمر‪ ،‬ورجع إلى‬
‫المدينة صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ إسًلم كعب بن زهير ـ الشاعر ـ‪:‬‬
‫لما قدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من الطائف‪ ،‬جاءه كعب بن زهير ـ‬
‫الشاعر ابن الشاعر ـ وكان قد هجا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ثم‬
‫ضاقت به األرض‪ ،‬وضاقت عليه نفسه‪ ،‬وحثه أخوه "بُجَيرة" على أن يأتي‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية البن هشام (‪.)192 / 4‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)153 / 4‬‬
‫‪ 3‬السيرة النبوية (‪.)443 / 2‬‬

‫‪97‬‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تائباً مسلماً‪ ،‬وحذَّره من سوء العاقبة‪ ،‬إن لم‬
‫يفعل ذلك‪ ،‬فقال قصيدته التي يمدح فيها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫والتي اشتهرت بقصيدة "بانت سعاد" فقدم المدينة‪ ،‬وغدا إلى رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم حيث صلَّى الصبح‪ ،‬ثم جلس إليه ووضع يده في يده‪ ،‬وكان‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال يعرفه‪ ،‬فقال لرسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ :‬إن كعب بن زهير جاء يستأمنك تائباً مسلماً‪ ،‬فهل أنت قابل منه؟ فوثب‬
‫عليه رجل من األنصار‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل دعني وعدو اهلل أضرب عنقه‪،‬‬
‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬دعه عنك‪ ،‬فقد جاء تائباً‪ ،...‬وأنشد كعب‬
‫قصيدته الآلَّمية التي قال فيها‪:‬‬
‫بانت سعاد فقلبي اليوم متبول‬
‫متيمٌ إثرها لم يفد مكبول‪1‬‬
‫وما سعاد غداة الطرف إذ رحلوا‬
‫إال أغنُّ قرير العين مكحول‪2‬‬
‫ومنها‪:‬‬
‫إن الرسول لنور يستضاء به‬
‫مهند من سيوف اهلل مسلول‬
‫في عصبة من قريش قال قائلهم‬
‫ببطن مكة لما أسلموا زُولُوا‬
‫سهُم‬
‫شُمُّ العرانين أبطال لبُو ُ‬
‫من نسج داود في الهيجا سرابيل‬

‫‪ 1‬مكبول‪ :‬مقيد‪.‬‬
‫‪ 2‬السيرة النبوية‪ ،‬ألبي شهبة (‪.)487 / 2‬‬

‫‪98‬‬
‫ويقال‪ :‬إنه لما أنشد رسول اهلل قصيدته‪ ،‬أعطاه بردته‪ ،‬وهي التي صارت إلى‬
‫الخلفاء‪.1‬‬
‫قال ابن كثير‪ :‬هذا من األمور المشهورة جداً‪2.‬‬
‫ويقال‪ :‬إن الرسول صلى اهلل عليه وسلم قال له بعد ذلك‪ :‬لوال ذكرت األنصار‬
‫بخير‪ ،‬فإن األنصار لذلك أهل‪ ،3‬فقال‪:‬‬
‫من سرّه كرم الحياة فال يزال‬
‫في مقنب من صالحي األنصار‪4‬‬
‫ورثوا المكارم كابراً عن كابر‬
‫إن الخيار هم بنو األخيار‬
‫المكرهين السّمهريَّ بأذرُع‬
‫كسولف الهندي غير قصار‬
‫والناظرين بأعين محمرة‬
‫كالجمر غير كليلة األبصار‬
‫والبائعين نفوسهم لنبيهم‬
‫للموت يوم تعانق وكرار‬
‫والقائدين الناس عن أديانهم‬
‫بالمشرفي وبالقنا الخطَّار‪5‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪.‬‬
‫‪. 2‬البداية والنهاية (‪.)373 / 4‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪.‬‬
‫‪ 4‬مقنب‪ :‬جماعة‪.‬‬
‫‪ 5‬المشرفي‪ :‬السيف والقنا‪ :‬الرماح‪ :‬الخطار‪ :‬المهتز‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫يتطهرون يرونه نسكاً لهم‬
‫بدماءِ من خلقوا من الكفار‬
‫إلى أن قال‪:‬‬
‫لو يعلم األقوام علمي كله‬
‫فيهم لصدَّقني الذين ُأمَاري‪1‬‬
‫قوم إذا خوت النجوم فإنهم‬
‫للطارقين‪ 2‬النازلين مقاري‪3‬‬
‫وبإسالم كعب بن زهير تستطيع القول بأن الشعراء المعارضين للدَّعوة‬
‫اإلسالمية قد انتهى دورهم‪ ،‬فقد أسلم ضرار بن الخطاب‪ ،‬وعبد اهلل بن‬
‫الزَّبعري‪ ،‬وأبو سفيان بن الحارث‪ ،‬والحارث بن هشام‪ ،‬والعباس بن مرداس‪،‬‬
‫وتحوَّلوا إلى الصَّفِّ اإلسالمي واستظلوا بلوائه عن قناعة‪ ،‬وإيمان‪ ،‬ولم يكتف‬
‫بعضهم بأن تكون كلمته في الدفاع عن اإلسالم‪ ،‬بل كل سيفه إلى جانب كلمته‪،‬‬
‫وهذا من بركات فتح مكة‪.4‬‬

‫‪ 1‬أماري‪ :‬أجادل‪.‬‬
‫‪ 2‬خوت‪ :‬سقطت‪ ،‬الطارقون‪ :‬الذين يأتون الليل‪.‬‬
‫‪ 3‬السيرة النبوية البن هشام (‪.)168 ، 167 / 4‬‬
‫‪ 4‬من معين السيرة للشامي صـ‪.433، 432 ،431‬‬

‫‪100‬‬
‫التاسع عشر‪ :‬عفو الصديق رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ حديث اإلفك‪:‬‬
‫حاك المنافقون في أعقاب غزوة بني المصطلق حادثة اإلفك بعد فشل كيدهم‬
‫في المحاولة األولى إلثارة النعرة الجاهلية‪ ،‬فقد ألمت بالبيت النبوي هذه‬
‫النازلة الشديدة‪ ،‬والمحنة العظيمة التي كان القصد منها النيل من النبي صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ومن أهل بيته األطهار‪ ،‬وكانت حلقة من سلسلة فنون اإليذاء‬
‫والمحن التي لقيها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أعداء الدين‪ ،‬وكان من‬
‫لطف اهلل تعالى بنبيِّه وبالمؤمنين أن كشف اهلل زيفها‪ ،‬وبطالنها‪ ،‬وقد سجل‬
‫التاريخ بروايات صحيحة موقف المؤمنين من هذه الفرية‪ ،‬ال سيما موقف أبي‬
‫أيوب‪ ،‬وأم أيوب‪ ،‬وهي مواقف يتأسى بها المؤمنون عندما تعرض لهم في‬
‫حياتهم مثل هذه الفرية‪ ،‬فقد انقطع الوحي‪ ،‬وبقيت الدروس لتكون عبرة‪،‬‬
‫وعظة لألجيال إلى أن يرث اهلل األرض ومن عليها‪.1‬‬
‫وتحدثنا عائشة رضي اهلل عنها عن براءتها ونزول الوحي في ذلك‪:‬‬
‫وقد لبث الوحي شهراً ال يوحي إليه في شأني بشيء‪ ،‬قال‪ :‬فتشهد رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم حيث جُلس‪ ،‬ثم قال‪ :‬أما بعد‪ :‬يا عائشة‪ ،‬فإنه قد بلغني‬
‫عنك كذا وكذا‪ ، 2‬فإن كنت بريئة فسيبرِّئك اهلل‪ ،‬وإن كنت ألممت بذنب‪،‬‬
‫فاستغفري اهلل وتوبي إليه‪ ،‬فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى اهلل تاب اهلل‬
‫عليه‪ ،‬فلما قضي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مقالته‪ ،‬قلص‪ 3‬دمعي حتى‬
‫ما أحس منه قطرة‪ ،‬فقلت ألبي‪ :‬أجب رسول اهلل عني فيما قال‪ :‬قال‪ :‬واهلل ما‬
‫أدري ما أقول لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقلت ألمي‪ :‬أجيبي رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬قالت‪ :‬ما أدري ما أقول لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫قالت‪ :‬فقلت وأنا جارية حديثة السن ال أقرأ كثيراً من القرآن‪ :‬إني واهلل لقد‬
‫علمت‪ ،‬لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم‪ ،‬وصدقتم به‪ ،‬فلئن قلت‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية في ضوء المصادر األصليَّة صـ‪.440‬‬


‫‪ 2‬كناية عما رميت به من اإلفك‪.‬‬
‫‪ 3‬قلص دمعي‪ :‬ارتفع وذهب‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫لكم‪ ،‬إني بريئة‪ ،‬واهلل يعلم أني بريئة‪ ،‬ال تصدِّقوني بذلك ولئن اعترفت لكم‬
‫بأمر واهلل يعلم أنِّي منه بريئة لتصدقُني‪ ،‬واهلل ما أجد لي ولكم مثالً إال قول‬
‫أبي يوسف‪.1‬‬
‫جمِيلٌ وَاهللُّ المُس َتعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ" (يوسف‪ ،‬آية ‪.)18 :‬‬
‫قال‪ " :‬فَصَبرٌ َ‬
‫قالت‪ :‬ثم تحولت‪ ،‬فاضطجعت على فراشي‪ ،‬قالت‪ :‬وأنا حينئذ أعلم أنِّي بريئة‪،‬‬
‫وأن اهلل مبرِّني ببراءتي‪ ،‬ولكن واهلل ما كنت أظن أن اهلل منزل في شأني وحياً‬
‫يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم اهلل فيَّ بأمر يتلى‪ ،‬ولكن كنت‬
‫أرجو أن يرى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في النوم رؤيا ببرِّئني اهلل بها‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فواهلل ما رام‪ 2‬رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وال خرج أحد من أهل‬
‫البيت حتى أنزل عليه‪ ،‬فأخذه ما كان يأخذه من ال ُبرَحاءِ‪ 3‬حتى أنه ليتحدر منه‬
‫العرق مثل الجمان‪ ،4‬وهو يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه‪ .‬قالت‪:‬‬
‫فلما سُرِّي‪ ،5‬عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو يضحك‪ ،‬فكانت أوَّل‬
‫كلمة تكَّلم بها‪ :‬يا عائشة أما اهلل عز وجل ـ فقد برَّأك ـ فقالت أمي قومي إليه‪،‬‬
‫قالت‪ :‬واهلل ال أقوم إليه وال أحمد إال اهلل عز وجل‪ ،‬وأنزل اهلل‪ " :‬إِنَّ الَّذِينَ‬
‫ئ مِّنهُم‬ ‫جَاؤُوا بِاإلِفكِ عُص َبةٌ مِّنكُم الَ تَحسَبُوهُ شَرًّا َّلكُم بَل هُوَ خَيرٌ َّلكُم ِلكُلِّ امرِ ٍ‬
‫سمِع ُتمُوهُ‬ ‫عظِيمٌ * لَوالَ إِذ َ‬ ‫مَّا اكتَسَبَ مِنَ اإلِثمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِب َرهُ مِنهُم َلهُ عَذَابٌ َ‬
‫سهِم خَيرًا َوقَالُوا هَذَا إِفكٌ مُّبِينٌ * لَوالَ جَاؤُوا عَلَيهِ‬ ‫ظَنَّ المُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ ِبأَنفُ ِ‬
‫ِالشهَدَاء َفأُولَ ِئكَ عِندَ اهللَِّ هُمُ الكَاذِبُونَ * وَلَوالَ فَضلُ‬ ‫شهَدَاء َفإِذ لَم يَأتُوا ب ُّ‬ ‫ِبأَر َب َعةِ ُ‬
‫َسكُم فِي مَا َأفَضتُم فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذ‬ ‫خرَ ِة َلم َّ‬
‫اهللَِّ عَلَيكُم َورَحمَ ُتهُ فِي الدُّنيَا وَاآل ِ‬
‫علمٌ وَتَحسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ‬ ‫تَلَقَّو َنهُ ِبأَلسِنَ ِتكُم وَتَقُولُونَ ِبأَفوَا ِهكُم مَّا لَيسَ َلكُم ِبهِ ِ‬
‫سمِع ُتمُوهُ قُلتُم مَّا َيكُونُ لَنَا أَن نَّ َتكَلَّمَ ِبهَذَا سُبحَا َنكَ هَذَا بُهتَانٌ‬
‫عظِيمٌ * وَلَوالَ إِذ َ‬ ‫اهللَِّ َ‬
‫ظكُمُ اهللَُّ أَن َتعُودُوا ِلمِثلِ ِه أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اهللَُّ لَكُمُ اآليَاتِ‬
‫عظِيمٌ * َي ِع ُ‬ ‫َ‬

‫‪ 1‬هو يعقوب عليه السالم‪.‬‬


‫‪ 2‬ما رام‪ :‬ما برح وما فارق مجلسه‪.‬‬
‫‪ 3‬البرحاء‪ :‬شدة الكرب من شدة الوحي‪.‬‬
‫‪ 4‬الجمان‪ :‬حبات اللؤلؤ الصغير‪.‬‬
‫‪ 5‬سري‪ :‬انكشف عنه ما يجده من الهم والثقل‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫حكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَ ُة فِي الَّذِينَ آمَنُوا َلهُم عَذَا ٌ‬
‫ب‬ ‫وَاهللَُّ عَلِيمٌ َ‬
‫اهلل عَلَيكُم‬
‫ال تَعَلمُونَ * وَلَوالَ فَضلُ َِّ‬ ‫خ َرةِ وَاهللَُّ يَعلَمُ وَأَنتُم َ‬
‫أَلِيمٌ فِي الدُّنيَا وَاآل ِ‬
‫اهلل رَؤُوفٌ رَحِيمٌ" (النور‪ ،‬آية ‪ 11 :‬ـ ‪.)20‬‬ ‫َورَحمَتُ ُه وَأَنَّ َّ‬
‫فلما أنزل اهلل هذا في براءتي‪ ،‬قال أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه وكان ينفق‬
‫على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره ـ وكان ممن وقع في الحديث ولم‬
‫يتثبت وخاض فيه ـ واهلل ال أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ما‬
‫َالس َعةِ أَن يُؤتُوا أُولِي القُربَى‬ ‫قال‪ ،‬فأنزل اهلل‪" :‬وَالَ يَأتَلِ أُولُوا الفَضلِ مِنكُم و َّ‬
‫جرِينَ فِي سَبِيلِ اهللَِّ وَليَعفُوا وَليَصفَحُوا أَالَ تُحِبُّونَ أَن يَغ ِفرَ اهللَُّ‬‫وَالمَسَاكِينَ وَال ُمهَا ِ‬
‫َلكُم وَاهللَُّ غَفُو ٌر رَّحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَرمُونَ المُحصَنَاتِ الغَا ِفالَتِ المُؤمِنَاتِ ُلعِنُوا‬
‫عظِيمٌ" (النور ‪ ،‬آية ‪ 22 :‬ـ ‪.)23‬‬ ‫خ َرةِ وََلهُم عَذَابٌ َ‬
‫فِي الدُّنيَا وَاآل ِ‬
‫قال أبو بكر‪ :‬بلى واهلل! إنِّي أحبُّ أن يغفر اهلل لي‪ ،‬فأرجع إلى مسطح النفقة‬
‫التي كان ينفق عليه‪ ،‬قال‪ :‬واهلل ال أنزعها منه أبداً‪.1‬‬
‫‪ 2‬ـ العفو في حروب الردة‪:‬‬
‫كان ألبي بكر بعد نظر‪ ،‬وبصيرة نافذة‪ ،‬ونظرة بعواقب األمور‪ ،‬ولذلك كان‬
‫يستعمل الحزم في محله‪ ،‬والعفو عندما تقتضي إليه الحاجة‪ ،‬فقد كان حريصًا‬
‫على جمع شتات القبائل تحت راية اإلسالم‪ ،‬فكان من سياسته الحكيمة عفوه‬
‫عن زعماء القبائل المعاندة بعد رجوعهم إلى الحق‪ ،‬فإنه لما استخضع قبائل‬
‫اليمن المرتدة وأراهم سطوة دولة المسلمين وقوة شكيمتهم ومضاء عزيمتهم‪،‬‬
‫واعترفت القبائل بما أنكرت واستكانت لحكم اإلسالم وأطاعوا خليفة رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم رأى أبو بكر أنه من تأليف القلوب ترك استعمال‬
‫القوة مع زعماء هذه القبائل‪ ،‬بل اللين هنا والرفق أوفق‪ ،‬فرفع العقوبة عنهم‬
‫وأالن القول لهم‪ ،‬ووظف نفوذهم في قبائلهم لصالح اإلسالم والمسلمين‪.2‬‬

‫‪ 1‬البخاري رقم ‪ ،4141‬مسلم رقم ‪.2770‬‬


‫‪ 2‬تاريخ الدعوة إلى اإلسالم صـ ‪ 256‬يسري محمد‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫فعفا عن زلتهم وأحسن إليهم‪ ،‬فقد فعل ذلك مع قيس بن يغوث المرادي‬
‫وعمرو بن معد يكرب‪ ،‬فقد كانوا من صناديد العرب وأفرسهم وأكثرهم‬
‫شجاعة‪ ،‬فعزّ على أبي بكر أن يخسرهما وحرص على أن يستخلصهما‬
‫لإلسالم ويستفذهما من التردد بين اإلسالم والردة‪ ،‬فقد قال أبو بكر لعمرو‪ :‬أما‬
‫تخزي أنك كل يوم مهزوم أو مأسور لو نصرت هذا الدين لرفعك اهلل‪ ،‬فقال‬
‫عمرو‪ :‬ال جرم ألفعلن‪ ،‬ولن أعود فأطلقه الصديق‪ ،‬ولم يرتد عمرو بعده قط‪،‬‬
‫بل أسلم وحسن إسالمه‪ ،‬ونصره اهلل وأصبح له بالء عظيم في الفتوحات‪.‬‬
‫وندم قيس على ما فعل‪ ،‬فعفا عنه الصديق‪ ،‬وكان للعفو عن هذين البطلين من‬
‫أبطال عرب اليمن آثاره العميقة والعريضة‪ ،‬فقد تألف به الصديق قلوب أقوام‬
‫قد عادوا إلى اإلسالم بعد الردة خوفاً أو طمعاً‪ ،‬وعفا عن االشعث بن قيس‪،1‬‬
‫وبذلك أسر الصديق قلوبهم‪ ،‬وامتلك أفئدتهم‪ ،‬فكانوا في مستقبل األيام نصراً‬
‫لإلسالم وقوة المسلمين‪ ،‬وأصبحت لهم يد عظيمة في هذا المجال‪2‬‬
‫أ ـ األشعث بن قيس الكندي‪:‬‬
‫كان ممن قاتل المسلمين مع المرتدين في اليمن ولما تم القضاء على ردة كندة‬
‫وعاد عكرمة بن أبي جهل ومعه السبايا واألخماس‪ ،‬وبرفقتهم األشعث بن‬
‫قيس‪ ،‬الذي صار مبغضاً إلى قومه‪ ،‬والسيما نساؤهم‪ ،‬ألنهم عدوه سبب ذلتهم‬
‫وألنه عندما صالح المسلمين كان أول ما بدأ به اسمه‪ ،‬فكانت نساء قومه‬
‫يسمينه‪ :‬عُرف النار‪ ،‬ومعناه بلغتهم الغادر‪ ،3‬ولما قدم األشعث على أبي بكر‪،‬‬
‫قال‪ :‬ماذا تراني أصنع بك‪ ،‬فإنك قد فعلت ما علمت؟ قال‪ :‬تمنُّ علي فتفكني‬
‫من الحديد وتزوجني أختك‪ ،‬فإني قد راجعت وأسلمت‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬قد فعلت‬
‫فزوجه أم فروة أبنة أبي قحافة‪ ،‬فكان في المدينة حتى فتح العراق‪.4‬‬
‫وفي رواية جاء فيها‪ :‬فلما خشى أن يقع به قال‪ :‬أو تحتسب في خير فتطلق‬
‫إساري وتقيلني عثرتي وتقبل إسالمي‪ ،‬وتفعل بي مثل ما فعلته بأمثالي وترد‬
‫‪ 1‬الصديق أول الخلفاء للشرقاوي صـ ‪.116 ، 115‬‬
‫‪ 2‬تاريخ الدعوة إلى اإلسالم صـ ‪.256‬‬
‫‪ 3‬حركة الردة للعتوم صـ ‪.107‬‬
‫‪ 4‬تاريخ الطبري (‪.)155 / 4‬‬

‫‪104‬‬
‫على زوجتي وقد كان خطب أم فروة بنت أبي قحافة مقدمه على رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم فزوجه وأخرها إلى أن يقدم الثانية فمات رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وفعل االشعث ما فعل‪ ،‬فخشيى أال ترد عليه‪ ،‬قال تجدني‬
‫خير أهل بالدي لدين اهلل تعالى‪ ،‬فتجافى له عن عدمه‪ ،‬وقبل منه ورد عليه‬
‫أهله‪ ،‬وقال‪ :‬انطلق فليبلغني عنك خير وخلى عن القوم فذهبوا‪ ،‬وقسم أبو بكر‬
‫في الناس الخمس‪.1‬‬
‫ب ـ وفد بني أسد وغطفان إلى الصديق وحكمه عليهم‪:‬‬
‫لما قدم وفد بزاخة ـ أسد وغطفان ـ على أبي بكر يسأله الصلح‪ ،‬خيّرهم أبو‬
‫بكر بين حرب مُجلية أو خطة مخزية‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا خليفة رسول اهلل أما الحرب‬
‫المجلية فقد عرفناها‪ ،‬فما الخطة المخزية؟ تؤخذ منكم الحلقة أي السالح ـ‬
‫والكُراع وتتركون أقواماً تتبعون أذناب اإلبل حتى يُرى اهلل خليفة نبيه‬
‫والمؤمنين أمراً يعذرونكم به‪ ،‬وتؤدون ما أصبتم منا‪ ،‬وال نؤدي ما أصابنا‬
‫منكم‪ ،‬وتشهدون أن قتالنا في الجنة‪ ،‬وأن قتالكم في النار‪ ،‬وتدون قتالنا وال‬
‫ندي قتالكم‪ ،‬فقال عمر‪ :‬أما قولك تدون قتالنا‪ ،‬فإن قتالنا قتلوا على أمر اهلل ال‬
‫ديات لهم‪ ،‬فامتنع عمر وقال عمر في الثاني‪ :‬نعم ما رأيت وأخذ الصديق‬
‫برأي الفاروق رضي اهلل عنه وخضعت بنو أسد وغطفان لشروط أبي بكر‪.2‬‬
‫ج ـ عيينة بن حصن وطليحة األسدي‪:‬‬
‫بعد أن تم القضاء على قوة طليحة األسدي ببزاخة‪ ،‬عاد فريق كبير من العرب‬
‫إلى حظيرة اإلسالم‪ ،‬فقد أقبلت بنو عامر بعد هزيمة بزاخة يقولون‪ :‬ندخل فيما‬
‫خرجنا منه فبايعهم خالد على ما بايع عليه أهل بزاخة من أسد وغطفان‬
‫وطيء قبلهم وأعطوه بأيديهم على اإلسالم ولم يقبل أحداً من أسد وال غطفان‬
‫وال هوازن وال سليم وال طيء إال أن يأتوه بالذين حرقوه ومثلوا وعدوا على‬
‫أهل اإلسالم في حال ردتهم فأتوه بهم‪ ..‬فمثل خالد بن الوليد بالذين عدوا على‬
‫اإلسالم‪ ،‬فأحرقهم بالنيران‪ ،‬ورضخهم بالحجارة ورمى بهم من الجبال‪،‬‬
‫‪ 1‬نفس المصدر السابق‪.‬‬
‫‪ 2‬أبو بكر الصديق للصالبي صـ ‪.210‬‬

‫‪105‬‬
‫ونكسهم في اآلبار‪ ،‬وخزقهم بالنبال‪ ،‬وبعث بقرّة بن هبيرة باألسارى‪ ،‬وكتب‬
‫إلى أبي بكر‪ :‬إن بني عامر أقبلت بعد إعراض‪ ،‬ودخلت في اإلسالم بعد‬
‫تربص‪ ،‬وإني لم أقبل من أحد قاتلني أو سالمني شيئاً حتى يجيئوني بمن عدا‬
‫على المسلمين فقتلتهم كل قتلة وبعثت إليك بقرّة وأصحابه‪ ،1‬وكان عيينة بن‬
‫حصن من بين األسرى فأمر خالد بشد وثاقه تنكيالً به وبعثه إلى المدينة ويداه‬
‫إلى عنقه‪ ،‬إزراء عليه وإرهاباً لسواه فلما دخل المدينة على هيئته تلقاه صبيان‬
‫المدينة مستهزئين وأخذوا يلكزونه بأيديهم الصغيرة قائلين‪ :‬أي عدو اهلل‪،‬‬
‫ارتددت عن اإلسالم فيقول‪ :‬واهلل ما كنت آمنت قط‪ ،‬وجيء به إلى خليفة‬
‫رسول اهلل‪ ،‬ولقي من الخليفة سماحة لم يصدقها وأمر بفك يديه‪ ،‬ثم استتابه‪،‬‬
‫فأعلن عيينة توبة نصوحاً واعتذر عما كان منه وأسلم وحسن إسالمه‪.2‬‬
‫ومضى طليحة حتى نزل كلبا‪ ،3‬على النقع‪ ،‬فأسلم ولم يزل مقيماً في كلب‬
‫حتى مات أبو بكر‪ ،‬وكان إسالمه هناك حين بلغه أن أسداً‪ ،‬وغطفان‪ ،‬وعامرًا‬
‫قد أسلموا ثم خرج نحو مكة معتمراً في إمارة أبي بكر‪ ،‬ومرّ بجنبات المدينة‪،‬‬
‫فقيل ألبي بكر‪ :‬هذا طليحة‪ ،‬فقال‪ :‬ما أصنع به خلوا عنه‪ ،‬فقد هداه اهلل‬
‫لإلسالم‪ ،4‬وقد جاء عند ابن كثير‪ :‬وأما طليحة فإنه راجع اإلسالم بعد ذلك‬
‫أيضاً وذهب مكة معتمراً أيام الصديق واستحى أن يواجهه مدة حياته وقد منع‬
‫الصديق المرتدين من المشاركة في فتوحاته بالعراق والشام‪ ،‬ويحتمل أن‬
‫يكون ذلك من باب االحتياط ألمر األمة‪ ،‬ألن من كان له سوابق في الضالل‬
‫والكيد للمسلمين ال يؤمن أن يكون رجوعه من باب االستسالم لقوة المسلمين‪،‬‬
‫فأبو بكر رضي اهلل عنه‪ ،‬من األئمة الذين يرسمون للناس خط سيرهم ويتأسى‬
‫بهم الناس بأقوالهم وأفعالهم فهو لذلك يأخذ بمبدأ االحتياط لما فيه صالح األمة‪،‬‬
‫وإن كان في ذلك وضع من شأن بعض األفراد‪ ،5‬وهذا درس عظيم تتعلمه‬

‫‪ 1‬تاريخ الطبري (‪.)82 / 4‬‬


‫‪ 2‬الصديق أول الخلفاء صـ ‪.87‬‬
‫‪ 3‬أي نزل في قبيلة كلب‬
‫‪ 4‬التاريخ اإلسالمي (‪.)59 / 9‬‬
‫‪ 5‬المصدر نفسه (‪.)67 / 9‬‬

‫‪106‬‬
‫األمة في عدم وضع الثقة بمن كانت لهم سوابق في اإللحاد ثم ظهر منهم‬
‫العودة إلى االلتزام بالدين‪.1‬‬
‫إن وضع الثقة الكاملة بهؤالء وإسناد األعمال القيادية لهم قد جرّ على األمة‬
‫أحياناً ويالت كثيرة وأوصلها إلى مآزق خطيرة‪ ،‬على أن أخذ الحذر من مثل‬
‫هؤالء ال يعني اتهامهم في دينهم وال نزع الثقة منهم بالكلية‪ ،‬وهذا معلم من‬
‫سياسة الصديق في التعامل مع أمثال هؤالء‪.2‬‬
‫رجع طليحة االسدي إلى دار قومه‪ ،‬فأقام بها حتى خرج إلى العراق‪ ،3‬وقد‬
‫كان إسالمه صحيحاً ولم يغمض عليه فيه‪.4‬‬
‫إن أبا بكر الصديق رضي اهلل عنه لم يستعن في حروب الردة وال في حركة‬
‫الفتوحات بمرتد‪ ،‬فقد كتب إلى عماله أال يستعينوا بمرتد في جهاد العدو‪،‬‬
‫ويؤكد على خالد بن الوليد وعياض بن غنم أال يغزو معهم أحد قد ارتد حتى‬
‫يرى رأيهم فيهم‪ ،‬فلم تشهد أيامه مرتداً‪ ،5‬ويقول الشعبي‪ :‬كان أبو بكر رضي‬
‫اهلل عنه ال يستعين في حروبه بأحد من الردة حتى مات‪.6‬‬
‫ولذلك كان بعض من ارتد وحسن إسالمهم بعد ذلك يستحيون من مواجهة أبي‬
‫بكر فطليحة بن خويلد مثالً يذهب إلى مكة معتمراً‪ ،‬وما استطاع مقابلة أبي‬
‫بكر حتى مات‪ ،‬وأما عمر رضي اهلل عنه فقد استنفرهم بعد أن تابوا وصلح‬
‫حالهم وأخذوا قسطاً من التربية اإلسالمية إال أنه لم يول منهم أحداً‪ ،7‬وقد جاء‬
‫في رواية أنه قال لسعد بن أبي وقاص في شأن طليحة بن خويلد األسدي‬
‫وعمرو بن معدي كرب الزبيدي‪ :‬استعن بهما وال تولينهما على مائة‪، 8‬‬

‫‪ 1‬أبو بكر الصديق للصالبي صـ ‪.215‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪.‬‬
‫‪ 3‬التاريخ اإلسالمي (‪.)59 / 9‬‬
‫‪ 4‬يطعن فيه‪.‬‬
‫‪ 5‬عبد اهلل بن سبأ وأثره في احداث الفتنة سليمان العودة صـ ‪.55‬‬
‫‪ 6‬البدايو والنهاية (‪.)347 / 6‬‬
‫‪ 7‬التاريخ اإلسالمي (‪.)375 / 10‬‬
‫‪ 8‬المصدر نفسه‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫فنستفيد من سنة الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر اللذين قال عنهما رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر‪.1‬‬
‫نستفيد من سنتهما أن أبواب التوبة والرجوع مفتوحة لمن أراد‪ ،‬ويكون‬
‫معصوم الدم والمال‪ ،‬وله ما للمسلمين وعليه ما عليهم غير أنه ال يُولى شيئاً‬
‫من أمور المسلمين المهمة خاصة االعمال القيادية‪ ،‬وذلك الحتمال أن تكون‬
‫توبته نفاقاً‪ ،‬وإذا كانت كذلك‪ ،‬وتولى قيادة المسلمين‪ ،‬فإنه يفسد في االرض‬
‫ويقلب موازين الحياة فيقرب أمثاله من المفسدين ويبعد المصلحين الصادقين‪،‬‬
‫ويحوّل المجتمع اإلسالمي إلى مجتمع تسوده مظاهر الفساد‪ ،‬فكانت هذه السنة‬
‫الراشدة من الخليفتين الراشدين لحماية المجتمع من تسلل المفسدين إلى قيادته‬
‫وتوجيهه ولعل حكم هذه السنة أيضاً مالحظة عقوبة المفسدين بنقيض‬
‫قصدهم‪ ،‬الذين يفسدون من أجل الحصول على الزعامات والقيادات‪ ،‬إذا‬
‫أظهروا التوبة‪ ،‬وعادوا إلى الحق والعدل‪ ،‬يحرمون من هذه القيادات عقوبة‬
‫لهم‪ ،‬وردعاً لكل من تسوّل له نفسه أن يخرج عن الصواب ويبحث عن‬
‫الزعامة لو بمعاداة الخير والهدى والرشاد وتعطي لهم فرصة للرجوع‬
‫واإلندماج‪.‬‬

‫العشرون‪ :‬صلح الحسن بن علي مع معاوية رضي اهلل عنهما‪:‬‬


‫إن المصالحة خطوة مهمة في بناء الوطن ولن تتم بال حوار ونقاش بين كل‬
‫فئات الوطن وشرائح نسيجه‪ ،‬حوار ال يكون فيه غالب وال مغلوب‪ ،‬بل يتسم‬
‫بالكثير من المساواة والعدل‪ ،‬أمالً في الوصول دولة القانون‪ ،‬ودولة الحرية‬
‫ودولة التنمية‪ ،‬ودولة المواطن ودولة الدستور ودولة الكرامة‪.‬‬
‫إن ما قام به الحسن بن علي بن أبي طالب يعد سابقة تاريخية مهمة في وقائع‬
‫الممارسة السياسية‪ ،‬وهو إلى جانب العفو العام بعد فتح مكة يعدان حالتين‬
‫تاريخيتين فريدتين ينبغي الوقوف عندهما ملياً واستخراج قيم العدالة‬
‫‪ 1‬سنن الترمذي المناقب باب ‪ 52‬رقم ‪.3742‬‬

‫‪108‬‬
‫والمصالحة والعفو في مفهومنا نحن المسلمين وال توجد الكثير من الحوادث‬
‫في التاريخ اإلنساني تروي لنا تنازل القادر على الحكم واستبداله بحياة بسيطة‬
‫وكان الحسن يطلب معنى عميقاً هو حماية نفسه من سؤال اهلل تعالى له عن‬
‫دماء تراق بسببه‪ ،‬كما إن الحسن ترفع عن مبررات حاول الكثير من اتباعه‬
‫أن يذكرونه بها تتمثل في أن معاوية هو من قاتل والده علي رضي اهلل عنه‪،‬‬
‫ولكن الحسن كان عزمه ال يلين على أن المصالحة بين فئات األمة‬
‫ومجموعاتها هي األولى وفيها المصلحة الراجحة وبالتالي تقدم على ما سواها‬
‫من مشاعر ومعاني خاصة وشخصية‪.‬‬
‫لم تنقص الحسن رضي اهلل عنه الشرعية‪ ،‬فقد بويع الحسن بيعة عامة وبايعه‬
‫األمراء الذين كانوا مع والده وكل الناس الذين بايعوا ألمير المؤمنين علي‬
‫رضي اهلل عنه‪ ،‬وباشر سلطته كخليفة‪ ،‬فرتب اعمال وأمرّ األمراء وجند‬
‫الجنود وفرق العطايا‪ ،‬وزاد المقاتلة في العطاء مائة فاكتسب بذلك‬
‫رضاءهم‪ ،1‬وكان في وسعه أن يخوض حرباً ال هوادة فيها ضد معاوية‬
‫وكانت شخصيته الفذة من الناحية السياسية والعسكرية‪ ،‬واألخالقية والدينية‬
‫تساعد على ذلك مع وجود عوامل كوجود قيس ين سعد بن عبادة‪ ،‬وحاتم بن‬
‫عدي الطائي وغيرهم من قادة المسلمين الذين لهم من القدرات القيادية الشيء‬
‫الكثير‪ ،‬إال أن الحسن بن علي مال إلى السلم والصلح لحقن الدماء‪ ،‬وتوحيد‬
‫األمة‪ ،‬ورغبة فيما عند اهلل وزهده في الملك‪ ،‬وغير ذلك من االسباب التي‬
‫سيأتي بيانها وتفصيلها وقد تنازل الحسن بن علي من موقف قوة‪ ،‬وهناك‬
‫دالئل تشير إلى ذلك منها‪:‬‬
‫‪1‬ـ الشرعية التي كان يملكها‪:‬‬
‫لقد اختير الحسن بن علي بعد والده اختياراً شورياً وأصبح الخليفة الشرعي‬
‫على الحجاز واليمن والعراق وكل األماكن التي كانت خاضعة لوالده‪ ،‬وقد‬
‫استمر في خالفته ستة أشهر‪ ،‬وتلك المدة تدخل ضمن الخالفة الراشدة التي‬
‫أخبر عنها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بأن مدتها ثالثون سنة ثم تكون‬
‫‪ 1‬تاريخ العراق في ظل الحكم األموي صـ ‪ 67‬علي حسن الخربوطلي‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫ملكاً‪ ،‬فقد روى الترمذي بإسناده إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حيث‬
‫قال‪ :‬الخالفة في أمتي ثالثون سنة ثم ملك بعد ذلك‪.1‬‬
‫وقد علق ابن كثير على هذا الحديث فقال‪ :‬إنما كملت الثالثون بخالفة الحسن‬
‫بن علي‪ ،‬فإنه نزل عن الخالفة لمعاوية في ربيع األول سنة إحدى وأربعين‪،‬‬
‫وذلك كمال ثالثين سنة من موت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فإنه توفى‬
‫في ربيع األول سنة إحدى عشرة من الهجرة‪ ،‬وهذا من دالئل نبوة سيدنا‬
‫محمد صلى اهلل عليه وسلم وبذلك يكون الحسن بن علي خامس الخلفاء‬
‫الراشدين‪.2‬‬
‫وقد تحدث عن شرعية الحسن بن علي بالخالفة كثير من علماء أهل السنة‬
‫منهم‪ :‬أبو بكر العربي‪ ،3‬والقاضي عياض‪ ،‬وابن كثير‪ ،4‬وشارح الطحاوية‪،5‬‬
‫والمناوي‪ ،6‬وابن حجر الهيثمي‪ ،7‬ولو أراد الحسن أن يتعب معاوية بحكم أن‬
‫الشرعية معه ألمكن ذلك‪ ،‬ولقام بترتيب حملة إعالمية منظمة في أوساط أهل‬
‫الشام لكسب ثقتهم أو على األقل زعزعة موقف معاوية بينهم‪ ،‬فقد كان يملك‬
‫قوة معنوية ونفوذاً روحياً ال يستهان به بحكم الشرعية التي يستند إليها‪،‬‬
‫ولكونه حفيد الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪.8‬‬
‫‪2‬ـ تقييم الحسن بن علي للموقف وقدراته القيادية‪:‬‬
‫فعندما قال له نفير الحضرمي‪ :‬إن الناس يزعمون أنك تريد الخالفة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت‪ ،‬ويحاربون من حاربت‬
‫فتركتها ابتغاء وجه اهلل‪ ،9‬فهذه شهادة الحسن رضي اهلل عنه‪ ،‬فإنه كان في‬
‫وضع قوي‪ ،‬وبأن أتباعه على استعداد لمحاربة من يريد أو مسالمتهم‪ ،‬كما‬
‫‪ 1‬سنن الترمذي مع شرحة تحفة األحوذي (‪ 397 / 6‬ـ ‪.)395‬‬
‫‪ 2‬مرويات خالفة معاوية‪ ،‬خالد الغيث صـ ‪.155‬‬
‫‪ 3‬شرح النووي على صحيح مسلم (‪.)201 / 12‬‬
‫‪ 4‬البداية والنهاية (‪.)134 / 11‬‬
‫‪ 5‬شرح الطحاوية صـ ‪.545‬‬
‫‪ 6‬فيض القدير (‪.)409 / 2‬‬
‫‪ 7‬الصواعق المحرقة (‪.)206 / 11‬‬
‫‪ 8‬الدولة األموية للصالبي (‪.)183 / 1‬‬
‫‪ 9‬البداية والنهاية (‪.)206 / 11‬‬

‫‪110‬‬
‫كان رضي اهلل عنه يملك من الملكات الخطابية والفصاحة البيانية‪ ،‬وصدق‬
‫العاطفة وقوة التأثير والقرب من رسول اهلل ما يجعله أكثر قوة وتماسكاً‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫‪3‬ـ وجود بعض القيادات الكبيرة في صفة‪:‬‬
‫كان معسكر الحسن بن علي فيه من القيادات الكبيرة‪ ،‬كأخيه الحسين رضي‬
‫اهلل عنه‪ ،‬وعبد اهلل بن جعفر‪ ،‬وقيس بن سعد بن عبادة‪ ،‬وهو من دهاة العرب‪،‬‬
‫وعدي بن حاتم وغيرهم فلو أراد الخالفة ألعطى المجال لقيادته للتحرك نحو‬
‫تعبئة الناس والدخول في الحرب مع معاوية‪ ،‬وعلى األقل يكون خليفة على‬
‫دولته إلى حين‪.1‬‬
‫‪4‬ـ معرفته لنفسية أهل العراق‪:‬‬
‫كانت له قدرات خاصة في التعامل مع أهل العراق‪ ،‬ومعرفة نفوسهم‪ ،‬ولذلك‬
‫زاد لهم في العطاء منذ بداية خالفته‪ ،‬كما أن مهمته التي قادها في نجاح‬
‫مشروعه اإلصالحي كانت أصعب من حربه لمعاوية‪ ،‬ومع ذلك تغلب على‬
‫الكثير من العوائق التي واجهته‪ ،‬ومع ذلك تغلب على الكثير من العوائق التي‬
‫واجهته‪ ،‬فقد حاولوا قتله‪ ،‬ورفض بعض الناس الصلح‪ ،‬وغير ذلك من العوائق‬
‫إال أنه تغلب عليها كلها وحقق األهداف التي رسمها من حقن الدماء‪ ،‬ووحدة‬
‫األمة‪ ،‬وأمن السبيل‪ ،‬وعودة حركة الفتوح‪ ..‬الخ مما يدل على قدراته القيادية‬
‫الفذة‪.2‬‬
‫‪5‬ـ تقييم عمرو بن العاص ومعاوية لقوات الحسن رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫فقد جاء في البخاري‪ :‬استقبل واهلل الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال‬
‫الجبال‪ ،‬فقال عمرو بن العاص‪ :‬إني أرى كتائب ال تولى حتى تقتل أقرانها‪،‬‬
‫فقال معاوية‪ :‬أي عمرو‪ ،‬إن قتل هؤالء من لي بأمور الناس؟ من لي بنسائهم؟‬
‫من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس عبد‬
‫الرحمن بن سمرة‪ ،‬وعبد اهلل بن عامر بن كرير‪ ،‬فقال‪ :‬اذهبا إلى هذا الرجل‬
‫فأعرضا عليه وقوال له واطلبا إليه‪.3‬‬

‫‪ 1‬الدولة األموية للصالبي (‪.)184 / 1‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)185 / 1‬‬
‫‪ 3‬البخاري‪ ،‬ك الصلح رقم ‪.2704‬‬

‫‪112‬‬
‫ـ فعمرو بن العاص رضي اهلل عنه‪ ،‬القائد العسكري الشهير‪ ،‬والسياسي‬
‫المحنك‪ ،‬والذي عركته الحروب يقول‪ :‬إني أرى كتائب ال تولي حتى تقتل‬
‫أقرانها‪.‬‬
‫ـ وأما معاوية رضي اهلل عنه‪ ،‬فتقييمه للموقف العسكري بأنه ال يستطيع أحد‬
‫أن ينتصر ويحقق حسماً عسكرياً إال بعد خسائر فادحة للطرفين‪ ،‬وال يستطيع‬
‫معاوية حتى لو كان هو المنتصر أن يتحمل تركة الحرب من أرامل وأيتام‬
‫وقتل خير المسلمين‪ ،‬وما يترتب على ذلك من مفاسد كبرى اجتماعية‬
‫وسياسية واقتصادية وأخالقية لألمة اإلسالمية‪ ،‬ولذلك اختار معاوية‬
‫شخصيتين كبيرتين من أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ومن‬
‫أصحاب النفوذ في المجتمع اإلسالمي‪ ،‬ولهم حضور واحترام عند الحسن‬
‫وهما من قريش فالشخصيتان اللتان أرسلهما معاوية رضي اهلل عنه تدل على‬
‫حرصه نجاح الصلح مع الحسن‪ ،‬بأي ثمن ممكن‪ ،‬وقد ظل زمام الموقف بيد‬
‫الحسن بن علي رضي اهلل عنهما ويد انصاره‪ ،‬ولو لم يكن الحسن مرهوب‬
‫الجانب لما احتاج معاوية إلى أن يفاوض ويوافق على ما طلب من الشروط‬
‫والضمانات‪ ،‬ولكان عرف ضعف جانب الحسن‪ ،‬وانحالل قوته عن طريق‬
‫عيونه ولدخل الكوفة من غير أن يكلف نفسه مفاوضة أحد أو ينزل على‬
‫شروطه ومطالبه‪.1‬‬
‫كان الحسن بن علي رضي اهلل عنهما ذا خلق يجنح إلى السلم‪ ،‬وكان رضي‬
‫اهلل عنه يملك رؤية إصالحية واضحة المعالم خضعت لمراحل وبواعث‪،‬‬
‫وتغلب على العوائق وكتب شروطه‪ ،‬وترتب على صلحه نتائج‪ ،‬وأصبح هذا‬
‫الصلح من مفاخر الحسن على مر العصور وتوالي االزمان فكان في صلحه‬
‫مع معاوية‪ ،‬وحقنه لدماء المسلمين‪ ،‬كعثمان في جمعه للقرآن‪ ،‬وكأبي بكر في‬
‫حربه للمرتدين‪.2‬‬

‫‪ 1‬الدولة األموية للصالبي (‪.)186 / 1‬‬


‫‪ 2‬مرويات خالفة معاوية في تاريخ الطبري صـ ‪.134‬‬

‫‪113‬‬
‫‪6‬ـ أهم مراحل الصلح‪:‬‬
‫مر الصلح بمراحل من أهمها‪:‬‬
‫المرحلة األولى‪:‬‬
‫دعوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم للحسن بأن يصلح اهلل به بين فئتين‬
‫عظيمتين من المسلمين‪ ،‬فتلك الدعوة المباركة التي دفعت الحسن رضي اهلل‬
‫عنه إلى اإلقدام على الصلح بكل ثقة وتصميم‪ ،1‬فقد قال صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫إن ابني هذا سيد‪ ،‬ولعل اهلل أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين‪،2‬‬
‫فلم تكن نبوءة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬عن الحسن بن علي أنه‬
‫سيصلح اهلل به بين فئتين من المسلمين مجرد أنباء يسمعه الحسن والمسلمون‬
‫ويصد قوته كالنبوءات النبوية األخرى‪ ،‬بل كانت الكلمة الموجهة الرائدة‬
‫للحسن بن علي رضي اهلل عنه في اتجاهاته وتصرفاته ومنهج حياته‪ ،‬البد أنها‬
‫حلت في قرارة نفسه‪ ،‬واستولت على مشاعره‪ ،‬وامتزجت بلحمه ودمه‬
‫واعتبرها كوصية من الرسول صلى اهلل عليه وسلم ـ وهو نبيه وجده ـ وهو‬
‫يتكلم بهذه الكلمات رأى السرور في أسارير وجهه والبريق في عينيه صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬فتمسك به كهدف من أهداف حياته‪ ،‬وكالمثل األعلى له في‬
‫مستقبله‪ ،‬ولقد ظهرت آثار هذه النبوءة في جميع حركاته وسكناته حتى في‬
‫الحديث مع والده الكبير الذي يحبه حب االبناء البررة لآلباء العظام الذين‬
‫خصهم اهلل بمواهب ومناقب‪ ،‬قلما يشاركهم فيها أفراد األمة‪ ،‬وكان من أعرف‬
‫الناس بها بحكم النبوة‪ ،‬والصحبة‪ ،‬ويجعله إجالل العارفين والمعجبين‪ ،‬وقد‬
‫أشار على أبيه علي بن أبي طالب بعد مقتل عثمان‪ :‬أن يعتزل الناس إلى حيث‬
‫شاء من األرض حتى تثوب إلى العرب عوازب أحالمها‪ ،‬وقال له‪ :‬لو كنت‬
‫في جحر ضب الستخرجوك منها فبايعوك دون أن تعرض نفسك لهم‪ ،‬وما‬
‫عزم علي على قتال أهل الشام‪ ،‬وعزم على التجهز‪ ،‬وخرج من المدينة وهو‬

‫‪ 1‬المصدر السابق نفسه‪.‬‬


‫‪ 2‬البخاري رقم ‪.7109‬‬

‫‪114‬‬
‫عازم على أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه‪ ،‬جاء إليه الحسن بن علي وقال‪ :‬يا‬
‫أبت دع هذا‪ ،‬فإن فيه سفك دماء المسلمين ووقوع االختالف بينهم‪.1‬‬
‫ولكن علي لم يقبل ما اشار به الحسن‪ ،‬ولمن يكن ليترك الناس في فتنة دون‬
‫أن يؤدي ما يدين اهلل به من أمر بمعروف ونهي عن منكر‪ ،‬ورد األمر إلى‬
‫نصابه والحق إلى أصحابه لكل وجهة هو موليها‪ ،2‬وكان علي رضي اهلل عنه‬
‫مصيباً في رأيه‪ ،‬وقد ظهرت المعجزة النبوية‪ ،‬وبلغت ذروتها بتربية الحسن‬
‫بن علي على التربية الربانية‪ ،‬من كون هذا االمام الفذ سيداً جليالً‪.‬‬
‫وليست السيادة بالقهر وسفك الدماء أو إهدار األموال والحرمات‪ ،‬بل السيادة‬
‫بصيانتها وإزالة البغضاء والشحناء‪ ،‬فصلحه وحقنه لدماء المسلمين بلغ فيه‬
‫ذروة السيادة التي ال يستطيعها من فكر بالقوة‪ ،‬وهو يملك طرفاً منها‪ ،‬وقد‬
‫صالح الحسن معاوية وحوله األلوف‪ ،‬فيهم من هو طامع مدسوس‪ ،‬ولكن فيهم‬
‫الكثير الكثير من المخلصين األوفياء‪ ،‬فما أراد أن تراق بسببه قطرة دم‪ ،‬أو‬
‫يخدش مسلم في هذا السبيل‪ ،‬وإن الرئاسة لألقوام إن لم تكن لصيانتها‬
‫وحياطتها وحفظها وترقيتها‪ ،‬فهي نوع من الطاغوت األعمى والتهور‬
‫األحمق‪ ،‬والمغامرة والمقامرة التي تجلب معها الدمار والخراب واالذالل‬
‫والسباب‪ ،‬وينتهي أصحابها إلى غضب اهلل‪ ،‬ولعنة التاريخ‪ ،‬وهل تدافع أمواج‬
‫الدماء البشرية عبر العصور والقرون إال من الحرص على الرئاسة والسلطان‬
‫والتكالب على الدنيا‪ ،‬لقد كان الحسن زاهداً في الدنيا والملك والرئاسة‪ ،‬ولو‬
‫أرادها ألدار الحرب الطحون سنين وسنين‪ ،‬ولكنه كان ينظر إلى الدار‬
‫اآلخرة‪ ،‬ويريد حفظ دماء أمة محمد صلى اهلل عليه وسلم‪.3‬‬
‫المرحلة الثانية‪:‬‬
‫شرط البيعة الذي وضعه الحسن رضي اهلل عنه أساساً لقبوله مبايعة أهل‬
‫العراق له‪ ،‬ذلك الشرط الذي نص على أنهم يسالمون من يسالم ويحاربون من‬

‫‪ 1‬البداية والنهاية (‪ 229 / 7‬ـ ‪.)230‬‬


‫‪ 2‬المرتضى للندوي صـ‪198‬‬
‫‪ 3‬خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي صـ‪ 290‬للصالب‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫يحارب‪ ،1‬فقد أدخل الحسن رضي اهلل عنه بشرطه في عقلية العراقيين بأن‬
‫خيار السلم قابل للنقاش واألخذ والعطاء‪ ،‬وليس فيه إرادة السلم على الحرب‪،‬‬
‫فهو يشتمل عليهما معاً‪ ،‬وإن كان يوحي بالسلم‪ ،‬وهذا دليل على عبقريته‬
‫وحسن قيادته‪ ،‬ومعرفته باألمور‪ ،‬كما أنه رضي اهلل عنه تقدم للخالفة لما‬
‫كانت مصلحة االسالم والمسلمين في ذلك‪.2‬‬
‫المرحلة الثالثة‪:‬‬
‫وقوع المحاولة األولى الغتيال الحسن رضي اهلل عنه بعد أن كشف عن نيته‬
‫في الصلح مع معاوية رضي اهلل عنه‪ ،‬وهذه المحاولة يبدو أنها قد جرت بعد‬
‫استخالفه بقليل‪.‬‬
‫المرحلة الرابعة‪:‬‬
‫خروج الحسن بجيش العراق من الكوفة إلى المدائن وإرساله للقوة الضاربة‬
‫من الجيش وهي الخميس إلى مسكن بقيادة قيس بن سعد بن عبادة‪.3‬‬
‫المرحلة الخامسة‪:‬‬
‫خروج معاوية رضي اهلل عنه من الشام وتوجهه إلى العراق بعد أن وصل‬
‫خبر خروج الحسن من الكوفة إلى المدائن بجيوشه‪.‬‬
‫المرحلة السادسة‪:‬‬
‫تبادل الرسل بين الحسن ومعاوية ووقوع الصلح بينهما رضوان اهلل عليهما‪.‬‬
‫المرحلة السابعة‪:‬‬
‫محاولة اغتيال الحسن رضي اهلل عنه‪ ،‬فبعد نجاح مفاوضات الصلح بين‬
‫الحسن ومعاوية رضي اهلل عنهما شرع الحسن رضي اهلل عنه في تهيئة نفوس‬
‫أتباعه على تقبل الصلح الذي تم‪ ،‬فقام فيهم خطيباً ليبين لهم ما تم بينه وبين‬
‫‪ 1‬مرويات خالفة معاوية في تاريخ الطبري صـ‪.156‬‬
‫‪ 2‬خامس الخلفاء الراشدين للصالبي صـ‪.290‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه صـ‪.291‬‬

‫‪116‬‬
‫معاوية‪ ،‬وفيما هو يخطب هجم عليه بعض عسكره محاولين قتله‪ ،‬لكن اهلل‬
‫سبحانه وتعالى أنجاه كما أنجاه من قبل‪.1‬‬
‫وكان موقف الحسن تجاه ما حصل له في معسكره وهو ما أخرجه ابن سعد‬
‫من طريق هالل بن خباب‪ ،‬قال‪ :‬جمع الحسن بن علي رؤوس أصحابه في‬
‫قصر المدائن فقال‪ :‬يا أهل العراق‪ ،‬لو لم تذهل نفسي‪ 2‬عنكم إال لثالث خصال‬
‫لذهلت‪ :‬مقتلكم أبي ومطعنكم بغلتي‪ ،‬وانتهابكم ثقلي‪ ،‬أو قال‪ :‬ردائي عن‬
‫عاتقي‪ ،‬وإنكم قد بايعتموني أن تسالموا من سالم وتحاربوا من حارب‪ ،‬وإني‬
‫قد بايعت معاوية‪ ،‬فأسمعوا له وأطيعوا‪ ،‬قال‪ :‬ثم نزل فدخل القصر‪.3‬‬
‫المرحلة الثامنة‪:‬‬
‫تنازل الحسن بن علي عن الخالفة وتسليمه األمر إلى معاوية رضوان اهلل‬
‫عليهم أجمعين‪ :‬بعد أن أنجا اهلل سبحانه وتعالى الحسن بن علي من الفتنة التي‬
‫وقعت في معسكره‪ ،‬ترك المدائن وسار إلى الكوفة‪ ،‬وخطب في أهلها فقال‪:‬‬
‫أما بعد فإن أكيس الكيس‪ 4‬التُقى‪ ،‬وإن أحمق الحمق الفجور‪ ،‬فإن هذا األمر‬
‫الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إما كان حق لي تركته لمعاوية إرادة إصالح هذه‬
‫األمة وحقن دمائهم‪ ،‬أو يكون حقاً كان المرئ كان أحق به مني‪ ،‬ففعلت ذلك‪:‬‬
‫" وَإِن أَدرِي َلعَلَّ ُه فِتنَةٌ َّلكُم َومَتَاعٌ إِلَى حِينٍ" (األنبياء ‪ ،‬آية ‪.)111 :‬‬
‫‪ 7‬ـ من أهم أسباب ودوافع الصلح‪:‬‬
‫وأما أهم األسباب والدوافع للصلح الذي تم بين الحسن ومعاوية فهي‪:‬‬
‫أ ـ الرغبة فيما عند اهلل وإرادة إصًلح هذه األمة‪:‬‬

‫‪ 1‬مرويات خالفة معاوية صـ‪.139‬‬


‫‪ 2‬تذهل نفسي‪ :‬تسلو نفسي‪.‬‬
‫‪ .3‬الطبقات‪ ،‬تحقيق السلمي (‪.)324 / 1‬‬
‫‪ 4‬أكيس‪ :‬أعقل‪ ،‬والكيس‪ :‬العقل‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫قال الحسن بن علي رضي اهلل عنهما رداً على نفير بن الحضرمي عندما قال‬
‫له‪ :‬إن الناس يزعمون أنك تريد الخالفة‪ ،‬فقال‪ :‬كانت جماجم العرب بيدي‪،‬‬
‫يسالمون من سالمت‪ ،‬ويحاربون من حاربت‪ ،‬فتركتها ابتغاء وجه اهلل‪.1‬‬
‫ب ـ دعوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫إن دعوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم بأن يصلح بين فئتين عظيمتين من‬
‫المسلمين‪ ،2‬دفعت الحسن إلى التخطيط واالستعداد النفسي للصلح والتغلب‬
‫على العوائق التي في الطريق‪ ،‬فقد كان هذا الحديث الكلمة الموجهة الرائدة‬
‫للحسن في إتجاهاته وتصرفاته ومنهج حياته‪ ،‬فقد حلت في قرارة نفسه‪،‬‬
‫واستولت على مشاعره وأحاسيسه‪ ،‬واختلطت بلحمه ودمه‪ ،‬ومن خالل هذا‬
‫التوجيه‪ ،‬واستيعابه وفهمه له‪ ،‬بنى مشروعه االصالحي‪ ،‬وقسم مراحله‪ ،‬وكان‬
‫متيقناً من نتائجه‪ ،‬فالحديث النبوي كان دافعاً أساسياً وسبباً مركزياً في إندفاع‬
‫الحسن لالصالح‪.‬‬
‫ج ـ حقن دماء المسلمين‪:‬‬
‫قال الحسن رضي اهلل عنه‪ ..:‬خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفاً‪ ،‬أو‬
‫أكثر أو أقل كلهم تنضج أوداجهم دماً‪ ،‬كلهم يستعدي اهلل فيم هُريق دمه‪3‬؟‬
‫وقال رضي اهلل عنه‪ :‬أال إن أمر اهلل واقع‪ ،‬إذ ماله دافع وإن كره الناس‪ ،‬إني‬
‫ما أحببت أن لي من أمة محمد مثقال حبة من خردل يهراق فيه محجمة من‬
‫دم‪،‬قد علمت ما ينفعني ممّا يضرني‪ ،‬الحقوا بطيتكم‪.4‬‬
‫ج ـ الحرص على وحدة األمة‪:‬‬
‫قام الحسن بن علي رضي اهلل عنهما خطيباً في إحدى مراحل الصلح‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫أيها الناس‪ ،‬إني قد أصبحت غير محتمل على مسلم ضغينة‪ ،5‬وإني ناظر لكم‬
‫‪ 1‬البداية والنهاية (‪.)206 / 11‬‬
‫‪ 2‬البخاري رقم ‪.7109‬‬
‫‪ 3‬البداية والنهاية (‪.)206 / 11‬‬
‫‪ 4‬بطيتكم‪ :‬جهتكم ونواحيكم‪.‬‬
‫‪ 5‬الضغينة‪ :‬الحقد‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫كنظري لنفسي‪ ،‬وأرى رأيا فال تزدروا علي رأيي إن الذين تكرهون من‬
‫الجماعة أفضل مما تحبون من الفرقة‪.1‬‬
‫وقد تحقق بفضل اهلل ثم حرص الحسن على وحدة األمة ذلك المقتصد العظيم‪،‬‬
‫فقد ارتأى رضي اهلل عنه أن يتنازل عن الخالفة حقناً لدماء المسلمين وتجنباً‬
‫للمفاسد العظيمة التي ستلحق األمة كلها في المآل إذا بقي مصراً على موقفه‪،‬‬
‫من استمرار الفتنة وسفك الدماء‪ ،‬وقطع األرحام‪ ،‬واضطراب السبل وتعطيل‬
‫الثغور وغيرها وقد تحققت ـ بحمد اهلل ـ وحدة األمة بتنازله عن عرض زائل‬
‫من أعراض الدنيا حتى سمّي ذلك العام عام الجماعة‪ ،2‬وهذا يدل على فقه‬
‫الحسن في معرفته العتبار المآالت‪ ،‬ومراعاته التصرفات‪.‬‬
‫ونلحظ أن الحسن بن علي كان يناقش أتباعه ويبين لهم دوافعه ويرتقي بهم‬
‫نحو قناعته ولم يكن ممن تقوده الجماهير‪ ،‬وهمه ما يطلبه المستمعون‪ ،‬وإنما‬
‫شق طريقه وفق تصوراته وفهمه لحقائق األمور ونأى بنفسه أن يتأثر بضغط‬
‫عوام الناس ما دامت الخطوات التي يسير بها فيما رضي اهلل‪ ،‬ومصلحة‬
‫المسلمين‪ ،‬وهذا درس كبير لكثير من القيادات الشعبية في كون القائد هو الذي‬
‫يقود عامة الناس ويرتقي بهم نحو أهدافهم‪ ،‬وفي مثل ظروف الحسن عادة‬
‫يكون الزعماء بين أمور‪:‬‬
‫ـ ما تطلبه الجماهير‪.‬‬
‫ـ من ال يهتم وال يرد على أحد‪.‬‬
‫ـ عمل الصواب والحق واإلرتقاء بالجماهير‪.‬‬
‫ونرى الحسن بن علي اختار الطريق الثالث وهو عمل الصواب والحق‬
‫واإلرتقاء بالجماهير نحو األهداف السامية التي رسمها‪ ،‬ولذلك قام بتقديم رؤية‬
‫واضحة وخطوات تنفيذية عبر مراحل وتمهيدات‪ ،‬ووضع شروط وتغلب على‬
‫عوائق‪ ،‬واهتم بإقناع المخالفين لوجهة نظره وهذا هو الصواب واهلل أعلم‪.‬‬
‫‪ 1‬خامس الخلفاء الراشدين للصًّالًّبي صـ ‪.308‬‬
‫‪ 2‬اعتبارات المآالت ومراعاة نتائج التعرفات صـ ‪.167‬‬

‫‪119‬‬
‫ولهذا لما قيل للحسن من بعض المعترضين على الصلح‪ :‬يا عار المؤمنين‪،‬‬
‫قال‪ :‬للعار خير من النار‪ ،1‬وفي روايا ابن سعد‪ ... :‬إني اخترت العار على‬
‫النار‪.2‬‬
‫خ ـ مقتل أمير المؤمنين علي‪:‬‬
‫ومن األسباب التي دعت أمير المؤمنين الحسن بن علي إلى الصلح ما روّع‬
‫به من مقتل أبيه‪ ،‬فقد ذلك فراغاً كبيراً في جبهة العراق‪ ،‬وأثر اغتياله على‬
‫نفسية الحسن رضي اهلل عنه‪ ،‬فقد ترك ذلك فراغاً كبيراً في جبهة العراق‪،‬‬
‫وأثر اغتياله على نفسية الحسن رضي اهلل عنه‪ ،‬فترك فيها حزناً وأسى‬
‫شديدين‪ ،‬فقد قتل هذا اإلمام العظيم بدون وجه حق‪ ،‬ولم يرع الخوارج سابقته‬
‫في اإلسالم وأفضاله العظيمة‪ ،‬ولخدماته الجليلة التي قدمها لإلسالم فقد كانت‬
‫حياته حافلة بالقيم والمثل والعمل على تكريس أحكام الشريعة على مستوى‬
‫الدولة والشعب‪.‬‬
‫لقد كان علياً رضي اهلل عنه معلماً من معالم الهدى وفارقاً بين الحق والباطل‪،‬‬
‫فكان طبيعي أن يتأثر المسلمون لفقده‪ ،‬ويشعروا بالفراغ الكبير الذي تركه‪،‬‬
‫فقد كان وقع مصيبة مقتله على المسلمين عظيماً‪ ،‬فجللهم الحزن‪ ،‬وفاضت‬
‫مآقيهم بالدموع ولهجت ألسنتهم بالثناء والترحم عليه‪ ،‬وكان مقتله سبباً في‬
‫تزهيد الحسن في أهل العراق؛ أولئك الذين غمرتهم مكارم أخالق أمير‬
‫المؤمنين وشرف صحبته‪ ،‬فأضلتهم الفتن واألطماع‪ ،‬وانحرفوا عن الصراط‬
‫المستقيم‪ ،‬ونستثني من أولئك الصادقين المخلصين لدينهم وخليفتهم الرّاحل‬
‫العظيم رضي اهلل عنه وأرضاه‪ ،‬فقد كان مقتله ضربة قوية وجهت لعهد‬
‫الخالفة الراشدة‪ ،‬وكانت من أسباب زوالها فيما بعد‪.‬‬
‫س ـ شخصية معاوية‪:‬‬

‫‪ 1‬تاريخ دمشق (‪.)88 / 14‬‬


‫‪ 2‬الطبقات‪ ،‬تحقيق السُّلمي (‪ )329 / 1‬اسناده ضعيف جداً‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫إن تسليم الحسن بن علي الخالفة إلى معاوية‪ ،‬مع أنه كان معه أكثر من‬
‫أربعين ألفاً بايعوه على الموت‪ ،‬فلو لم يكن أهالً لها لما سلمها السبط الطيب‬
‫إليه‪ ،‬ولحاربه‪.1‬‬
‫ك ـ اضطراب جيش العراق وأهل الكوفة‪:‬‬
‫كان لخروج الخوارج أثر في إضعاف أمير المؤمنين علي رضي اهلل عنه‪،‬‬
‫كما أن الحروب في الجمل وصفين والنهروان تسببت في ملل أهل العراق‬
‫للحرب‪ ،‬ونفورهم منها‪ ،‬وخاصة أهل الشام في صفين‪ ،‬فإن حربهم ليست‬
‫كحرب غيرهم‪ ،‬فمعركة صفين الطاحنة لم تفارق مخيلتهم‪ ،‬فكم يتَّمت من‬
‫األطفال‪ ،‬ورمّلت من النساء‪ ،‬بدون أن يتحقق مقصودهم‪ ،‬ولوال الصلح أو‬
‫التحكيم الذي رحب به أمير المؤمنين علي وكثير من أصحابه لكانت مصيبة‬
‫على العالم اإلسالمي ال يتخيل آثارها السيئة‪ ،‬فكان هذا التخاذل عن المسير‬
‫مع علي رضي اهلل عنه إلى الشام مرة أخرى إلى فريق منهم تميل إليه‬
‫نفوسهم وإن كانوا يعلمون أنا علياً على حق‪ ،2‬فقد استلم الحسن رضي اهلل‬
‫عنه الخالفة‪ ،‬وجيش العراق مضطرب وأهل الكوفة مترددون في أمرهم‪،3‬‬
‫وهذا ليس على إطالقه؛ فجيش الحسن يمكن تقويته‪ ،‬كما أن هناك فصائل منه‬
‫على استعداد للقتال‪ ،‬وعلى رأسهم قيس بن سعد الخزرجي وغيره من القادة‪.4‬‬
‫ع ـ قوة جيش معاوية‪:‬‬
‫وفي الجانب اآلخر كان معاوية رضي اهلل عنه يعمل بشتى الوسائل سراً‬
‫وعالنية على إضعاف جانب أهل العراق منذ عهد علي رضي اهلل عنه‪،‬‬
‫فاستغل ما اصاب جيشه من تفكك وخالف‪ ،‬واجتمعت لمعاوية رضي اهلل عنه‬
‫عوامل ساعدت على قوة جبهته‪ ،‬منها طاعة الجيش له‪ ،‬واتفاق الكلمة عليه‬
‫من أهل الشام‪ ،‬وخبرته اإلدارية في والية الشام‪ ،‬وثبات مصادره المالية‪،‬‬

‫‪ 1‬الناهية عن طعن أمير المؤمنين معاوية صـ‪.57‬‬


‫‪ 2‬خالفة علي بن أبي طالب‪ ،‬عبد الحميد علي صـ‪.345‬‬
‫‪ 3‬الدولة األموية للصَّالبي (‪.)190 / 1‬‬
‫‪ 4‬خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي للصَّالَّبي صـ ‪.358‬‬

‫‪121‬‬
‫وعدم تحرجه من دفع األموال من أجل تحقيق أهدافه التي يراها مصلحة‬
‫لألمة‪.1‬‬
‫‪ 8‬ـ شروط الصلح‪:‬‬
‫تحدثت الكتب التاريخية والمصادر الحديثة‪ ،‬وأشارت إلى حصول الصلح وفق‬
‫شروط وضعها الطرفان‪ ،‬ومن أهم شروط الصلح‪:‬‬
‫أ ـ العمل بكتاب اهلل وسنة نبيه وسيرة الخلفاء‪:‬‬
‫وقد ذكر هذا الشرط مجموعة من العلماء منهم‪ :‬ابن حجر الهيثمي‪ ،‬حيث ذكر‬
‫صورة الصلح بين الحسن ومعاوية‪ ،‬وجاء فيها‪ :‬صالحه على أن يُسلم إليه‬
‫والية المسلمين‪ ،‬وأن يعمل فيهم بكتاب اهلل وسنة رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين‪ ،2‬وهذا دليل على توقير الحسن بن‬
‫علي ألبي بكر وعمر وعثمان وعلي إلى حدِّ جعل من إحدي الشروط على‬
‫معاوية بن أبي سفيان رضي اهلل عنهم‪ :‬أن يعمل ويحكم في الناس بكتاب اهلل‬
‫وسنة رسوله والخلفاء الراشدين‪ ،3‬ففي هذا الشرط ضبط لدولة معاوية في‬
‫دستورها ومرجعيتها ومنهجها في الحياة‪.‬‬
‫ب ـ األموال‪:‬‬
‫ذكر البخاري في صحيحه أن الحسن قال لوفد معاوية‪ ،‬عبد الرحمن بن‬
‫سمرة‪ ،‬وعبد اهلل بن عامر بن كريز‪ ،‬إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا‬
‫المال‪ ،‬فمن لي بهذا؟ قاال ‪ :‬نحن لك به‪.4‬‬
‫ورُوي أن الحسن قال لمعاوية‪ :‬إن عليّ عِدَات ودُيواناً فأطلق له بيت المال‬
‫نحو أربعمائة ألف أو أكثر‪ ،5‬وذكر ابن عساكر‪ :‬يسلم له بيت المال فيقضي‬
‫منه ديونه ومواعيده التي عليه‪ ،‬ويتحمل منه هو ومن معه عيال أهل أبيه‬
‫‪ 1‬الدولة األموية (‪.)191 / 1‬‬
‫‪2‬الصواعق المرسلة (‪.)399 / 2‬‬
‫‪ 3‬الشيعة وأهل البيت صـ‪.54‬‬
‫‪ 4‬البخاري‪ ،‬ك الصلح رقم ‪.2704‬‬
‫‪ 5‬تاريخ اإلسالم للذهبي‪ ،‬عهد معاوية صـ ‪.64‬‬

‫‪122‬‬
‫وولده وأهل بيته‪ ،1‬وذهب بعض المؤرخين إلى أن ابقاءه ما في بيت المال‬
‫معه "خمسة ماليين درهم" استبقاه ألولئك المحاربين الذين كانوا معه‪ ،‬يوزعه‬
‫بينهم‪ ،‬ويبقى لمعيشته له وألهل بيته وألصحابه‪ ،2‬وال شك أن توزيع األموال‬
‫على بعض الجنود يساعد في تخفيف شدة التوتر‪.3‬‬
‫ج ـ العفو العام‪:‬‬
‫ويتضمن اتفاق الصلح بين الجانبين أن الناس كلهم آمنون‪ ،‬ال يؤخذ أحد منهم‬
‫بهفوة أو إحنة‪ ،‬ومما جاء في رواية البخاري‪ :‬أن الحسن قال لوفد معاوية‪.. :‬‬
‫وإن هذه األمة عاشت في دمائها‪ ،‬فكفل الوفد للحسن العفو للجميع فيما أصابوا‬
‫من الدماء‪ ،4‬وقد تم االتفاق على عدم مطالبة أحد بشيء كان في أيام علي‪،‬‬
‫وهي قاعدة بالغة األهمية تحاول دون االلتفات إلى الماضي وتركز على فتح‬
‫صفحة جديدة تركز على الحاضر والمستقبل‪ ،5‬وقد تم التوافق المبني على‬
‫االلتزام والشرعية‪ ،‬حيث تم الصلح على أساس العفو المطلق من كل ما كان‬
‫بين الفريقين قبل إبرام الصلح‪ ،‬وبالفعل لم يعاقب معاوية أحداً بذنب سابق‪،‬‬
‫وتأسس بذلك صلح الحسن على اإلحسان والعفو‪ ،‬وتأليف القلوب‪.‬‬
‫وبهذا الصلح أخرج الحسن األمة من مشكلة استمرت منذ إغتيال عثمان‪ ،‬ولم‬
‫تنته إال بإغتيال علي رضي اهلل عنهما‪.‬‬
‫إن هذه المصالحة قامت على إعطاء األمان للناس والعودة إلى الشرعية‬
‫المتأسسة على المرجعية المتفق عليها في المجتمع وتقديم وحدة األمة على‬
‫المصالح الفئوية‪ ،‬والمتابع لمسار تاريخ المسلمين بعد المصالحة يلحظ‬
‫بوضوح اآلثار الكبيرة التي ترتبت عليها سواء بتحقيق األمن والرفاه‬
‫االجتماعي أو بتوسع رقعة الدولة وزيادة مواردها‪ ،‬وهو أمر يحتم علينا اليوم‬
‫السعي بغية الوصول إلى صيغ المصالحة بين فئات المجتمع المتنوعة‪،‬‬

‫‪ 1‬تاريخ دمشق (‪.)90 / 14‬‬


‫‪ 2‬في التاريخ اإلسالمي شوقي أبو خليل صـ ‪.288‬‬
‫‪ 3‬خامس الخلفاء الراشدين صـ ‪ 324‬للصالبي‪.‬‬
‫‪ 4‬البخاري‪ ،‬ك الصلح (‪.)963 / 2‬‬
‫‪ 5‬الدور السياسي للصفوة في صدر اإلسالم صـ ‪ ،342‬الدولة األموية للصالبي (‪.)192 / 1‬‬

‫‪123‬‬
‫وتطبيقات راسخة تؤسس لمرحلة جديدة من األمن واالستقرار‪ ،‬وهو أمر‬
‫يسترعي انتباهنا إلى أن الحوار مع كل فئات المجتمع مهما اختلفت بات أمراً‬
‫ملحاً‪ ،‬ال يجوز التراخي فيه فضالً عن فداحة الخطأ في إشاحة النظر عنه‪،‬‬
‫فمجتمعنا وبرغم الكثير من االحتكاكات التي سقط جراء بعضها قتلى في كل‬
‫االتجاهات وعلى مختلف الجبهات اليزال يملك استناداً لهذه الخبرة التاريخية‬
‫أن يفتح باباً واسعاً للحوار والمصالحة ربما يصير بعد ذلك نموذجاً ومثاالً‬
‫يحتذى به‪.‬‬
‫س ـ مبدأ الشورى واَلختيار‪:‬‬
‫وأشارت شروط الصلح إلى مبدأ الشورى واالختيار جاء في نهي الصلح الذي‬
‫ذكره ابن حجر الهيثمي‪ .. :‬بل يكون األمر من بعده "أي معاوية" شورى بين‬
‫المسلمين وروى عن الحسن قوله‪ :‬أما والية األمر من بعده‪ ،‬فيما أنا بالراغب‬
‫في ذلك ولو أردت هذا األمر لم أسلمه‪ .‬هنا يتأكد لنا هذا الفهم الدقيق الذي‬
‫استمر عليه المسلمون حتى بعد ما مروا به من صعوبات جمة أدت إلى العديد‬
‫من المواجهات الداخلية الدامية إال أن الحسن رجع باألمة ألصلها األول وهو‬
‫أن الحكم مبدأه وانتهاؤه الشورى بين المسلمين خصوصاً وهو من قال ألبيه‬
‫رضي اهلل عنهما عند بيعته أن يوسع دائرة االختيار لتشمل كافة أقاليم الدولة‬
‫المسلمة وكان الحسن ينظر برؤية الشاب الذي يعي متطلبات عصره والتطور‬
‫الذي لحق بتركيبة المجتمع المسلم بعد أن دخلته شعوب كبيرة وعريقة‪،‬‬
‫وبغض النظر بعد ذلك من توريث معاوية األمر البنه يزيد‪ ،‬فإن األساس‬
‫العلمي والبناء القيمي يؤكد أن المسلمين لم يكن لهم من سبيل سوى الشورى‬
‫الختيار الحاكم ومراقبة سير السلطة‪.1‬‬
‫‪ 9‬ـ نتائج المصالحة بين المسلمين‪:‬‬
‫ما أن تمت المصادقة على المصالحة بين المسلمين في الشام والعراق‬
‫وإعالنها بين الناس‪ ،‬حتى باتت تظهر بجالء نتائجها اإليجابية‪ ،‬فاجتمعت‬

‫‪ 1‬خامس الخلفاء الراشدين للصالبي صـ ‪.327‬‬

‫‪124‬‬
‫األمة فيما عرف بعام الجماعة وانطلقت عجلة الفتوحات بعد أن توقفت سنين‬
‫عديدة‪ ،‬وازدهرت الحركة العلمية في المدينة المنورة التي قادها الصحابة‬
‫العلماء ومن تلك النتائج‪:‬‬
‫أ ـ توحد األمة تحت قيادة واحدة‪:‬‬
‫نقش في الذاكرة التاريخية للمسلمين بأن العام الذي تمت فيه المصالحة‬
‫الكبرى عام ‪41‬هـ اسم عام الجماعة‪ ،‬فمنذ ذلك التاريخ لعقود عديدة كانت‬
‫تقود األمة حكومة واحدة ومن عاصمة سياسية واحدة‪ ،‬ومما الشك فيه أن‬
‫الفضل فيه هلل ثم لإلمام الحسن بن علي رضي اهلل عنه‪ ،‬وقد قادت المصالحة‬
‫أن بايع كل الصحابة األحياء معاوية وفي ذلك يقول ابن حزم‪ :‬فبويع الحسن ثم‬
‫سُلّم األمر إلى معاوية وبايع الصحابة كلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية‪،‬‬
‫ورأى أمامته‪ ،‬ونتعلم من فقه الحسن وموقف الصحابة من بيعة معاوية فهمهم‬
‫العميق آليات النهي عن االختالف‪.‬‬
‫ق ِبكُم عَن‬
‫صرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَالَ تَتَّ ِبعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّ َ‬
‫قال تعالى‪ ":‬وَأَنَّ هَـذَا ِ‬
‫سَبِيلِهِ ذَِلكُم وَصَّاكُم ِبهِ َلعََّلكُم تَتَّقُونَ" (األنعام‪ ،‬آية ‪.)153 :‬‬
‫ونهى اهلل سبحانه وتعالى هذه األمة عمّا وقعت فيه األمم السابقة من االختالف‬
‫والتفرق من بعد ما جاءتهم البينات وأنزل اهلل إليهم الكتب فقال سبحانه " وَال‬
‫َرقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَـئِكَ َلهُم عَذَابٌ‬
‫َتكُونُوا كَالَّذِينَ تَف َّ‬
‫عظِيمٌ" (آل عمران‪ ،‬آية ‪.)105 :‬‬ ‫َ‬
‫لقد تحقق بفضل اهلل ثم بنجاح الحسن بن علي في صلحه مع معاوية مقصد‬
‫عظيم من مقاصد الشريعة من وحدة المسلمين واجتماعهم والمصالحة بين‬
‫المسلمين والسعي إليها واألخذ باالسباب نحو تأليف قلوب المسلمين‪ ،‬وتوحيد‬
‫صفهم من أعظم الجهاد في نظر اإلسالم‪ ،‬ألن هذه الخطوة مهمة جداً في‬
‫إعزاز المسلمين‪ ،‬وإقامة دولتهم وبسط العدل بين الناس ورفع الظلم عنهم‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫وهذا يلقي علينا اليوم مسئوليات كبيرة تجاه الوطن ويجعل مسائل الحفاظ على‬
‫لحمة مجتمعنا وهويته‪ ،‬وإقامة العدل وتحقيق المساواة وحماية الحريات‪ ،‬هي‬
‫أولويات خطاب وتطبيقات المصالحة بعيداً عن أي تنازع سياسي يحاول فيه‬
‫كل طرف أن يثبت أحقيته في الحكم‪ ،‬بل األولى اليوم أن تتوافق على بناء‬
‫الوطن وإرجاع الحقوق وبناء دولة القانون وتربية المواطن الصالح المتعلم‬
‫والمتدرب على قيم العدل والحرية والشورى‪.‬‬
‫ب ـ عودة الفتوحات إلى ما كانت عليه‪:‬‬
‫لقد كانت من أهم األعمال التي انطلقت منذ عهد النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وحتى مقتل عثمان رضي اهلل عنه حركة الفتوحات العظيمة التي حملت‬
‫اإلسالم للناس بقيمه الرفيعة ومبادئه الحميدة ومقاصده الكريمة‪ ،‬وكانت‬
‫النتيجة أن دخل الناس في دين اهلل أفواجاً ولكن فتنة مقتل عثمان رضي اهلل‬
‫عنه أكبر معوق أصاب الدعوة اإلسالمية بعد حركة الردة في عهد أبي بكر‬
‫حيث أدى استشهاد عثمان إلى توقف الجهاد واتجاه سيوف المسلمين إلى‬
‫بعضهم في فتنة كادت تعصف باألمة اإلسالمية لوال أن تداركتها رحمة اهلل‬
‫سبحانه وتعالى بصلح الحسن بن علي مع معاوية رضي اهلل عنهما وقد‬
‫امتألت المصادر التاريخية بالنصوص التي تبين أثر الفتنة في انحسار حركة‬
‫الجهاد وكانت من نتائج المصالحة عودة حركة الجهاد إلى ما كانت وأصبحت‬
‫تعمل في عهد معاوية على ثالث جبهات رئيسية هي جبهة الروم‪ ،‬وجبهة‬
‫المغرب‪ ،‬وجبهة سجستان وخراسان وما وراء النهر‪ ،‬إن توقف حركة‬
‫الفتوحات يدل على مدى األزمة التي تنجر إليها الدولة والمجتمع عندما تنقسم‬
‫القوى‪ ،‬وتتعارض اإلرادات‪ ،‬وتستبد باألمر بعضها دون اآلخر‪ ،‬وبالمصالحة‬
‫تعود الدولة والمجتمع إلى العافية وتنطلق في عملية نهضوية واسعة وعميقة‬
‫وتنمو الموارد‪ ،‬ولن تقوم مصالحة بعيداً عن صياغة دستورية واضحة المعالم‬
‫تبين الحقوق وتحفظها وتسرد الواجبات وتكفل االلتزام بها ولقد مررنا في‬
‫وطننا باختناقات عديدة على المستوى السياسي والثقافي والتربوي‬
‫واالقتصادي والحقوقي والعسكري‪ ،‬واألمني واالجتماعي‪ ،‬ونحن اليوم أحوج‬
‫‪126‬‬
‫ما نكون لصياغة مصالحة ال تستثني أحداً لعلنا ننطلق في البناء ونتراجع عن‬
‫الهدم‪.‬‬
‫ج ـ تحقيق األمن الداخلي‪:‬‬
‫ومن نتائج المصالحة المهمة أن الدولة تفرغت لحركة تمرد واسعة تمثلت في‬
‫الخوارج‪ ،‬فقد تربت على المصالحة التضييق والتصدي للخوارج واتسمت‬
‫حركة الخوارج في عهد معاوية بالعشوائية واالرتجال وقلة التنظيم‪ ،‬وكانت‬
‫أشبه ما يكون بعمليات انتحار جماعي ألنهم يخرجون بفئات قليلة ال تلبث أن‬
‫تستأصل لمواجهة العنف الداخلي في أي مجتمع البد من دولة قوية يلتف‬
‫حولها شعبها والبد من مصالحة داخل الوطن تنهي حالة االحتقان وتقطع‬
‫الطريق على أي محاولة الستغالل أوضاع سياسية أو اقتصادية أو ثقافية غير‬
‫طبيعية وذلك بالحوار والمصالحة وإصالح تلك األوضاع بحلول وإجابات‬
‫تنطلق من صعوبة الواقع وليس فقط تجريد االفكار‪.‬‬
‫س ـ بروز النهضة العلمية‪:‬‬
‫في المدينة بعد المصالحة ترك الحسن الكوفة بعد تنازله لمعاوية ورجع بمن‬
‫معه من أصحابه وبني هاشم إلى المدينة واستقر بها‪ ،‬وكان الهاشميون محل‬
‫اإلجالل والتكريم واالحترام من معاوية وكانت زعامتهم عند الحسن بن علي‬
‫وكانت المدينة في تلك الفترة يسكنها عدد كبير من علماء الصحابة يضاف‬
‫إليهم عدد من التابعين ممن تتلمذوا على الصحابة العلماء وساروا بسيرتهم‬
‫ونهجوا وهؤالء كانوا خليطاً من المهاجرين واألنصار ومن غير المهاجرين‬
‫واألنصار‪ ،‬وقد نتج عن المصالحة استقرار أدى إلى حدوث نهضة عليمة‬
‫واسعة قادها علماء الصحابة من أمثال الحسن بن علي‪ ،‬وعبد اهلل بن عمر‪،‬‬
‫وعبد اهلل بن عباس‪ ،‬وأبو هريرة‪ ،‬وأبو سعيد الخدري‪ ،‬وجابر بن عبد اهلل‪،‬‬
‫وكانت أجواء المدينة خيراً على الحياة العلمية حيث تفرغ طالب العلم فيها‬
‫لرواية الحديث وتفسير القرآن‪ ،‬واستنباط األحكام الفقهية‪ ،‬فقصدها الناس من‬
‫أجل العلم‪ ،‬فقد كان بها الهدوء واالطمئنان الذي يساعد على العلم والبحث‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫ش ـ الخبرة التاريخية من فتح مكة وصلح الحسن بن علي رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫تؤكد الخبرتان التاريخيتان الفرق الواضح بين العفو والمصالحة من جهة‬
‫وبين العدالة الحاسمة التي تسعى لفتح كافة الملفات السابقة ومالحقة كل‬
‫الجزيئات مما يشغل الوطن بأسره لسنوات أو عقود ال أحد يقدر نهايتها‪ ،‬ثم‬
‫إلى متى سنواصل تطبيق تلك العدالة بدون أي تحول تجاه االنتقام والتوسع‬
‫في القصاص‪ ،‬مما يعود بنا من جديد لنقطة البداية‪ ،‬فيصبح الظالم مظلوماً‬
‫يطالب هو بتطبيق العدالة الحاسمة على من كان مظلوماً وضحية باألمس‬
‫القريب كان العفو في فتح مكة انطالقة جديدة لإلسالم والمسلمين ودعوتهم‬
‫بين العالمين وماذا لو استسلم المسلمون لمشاعرهم البشرية الراغبة بأقل تقدير‬
‫في تقدير العدل الحاسم الذي تفصل فيه التهم وتجمع األدلة ويصبح للقضاء‬
‫كلمته األخيرة‪ ،‬وغالباً ما يضيق مجال الصفح بعد أن تنكأ الجراحات من‬
‫جديد‪ ،‬وبالتأكيد فإن تطبيق هذا العدل الحاسم كان سيقضي على شخصيات‬
‫مهمة شاركت في رسم تاريخ البشرية جمعاء في حركة الفتوحات اإلسالمية‬
‫ونظام الحكم ونشر العلم‪ ،‬الذين بنوا وأسسوا دولة مهمة في مجمل التاريخ‬
‫اإلنساني وما كان لنا أن نقرأ صفحات من تاريخ الحركة العلمية والفكرية‪،‬‬
‫والفقهية واتجاهات الزهد ومدارس التصوف‪ ،‬والعلوم التطبيقية التي ساهمت‬
‫كالطب والهندسة‪ ،‬والكيمياء وما سواها في تاريخ المسلمين‪.‬‬
‫لقد كان الكثير مما ذكرنا وأكثر‪ ،‬مما نتج عن حركة االستعاضة بالعفو‬
‫والصفح الجميل عن تطبيق مفهوم العدل الحاسم‪ ،‬األمر الذي تحقق بامتناع‬
‫القيادة‪ ،‬واألصحاب عن المطالبة بالعدالة الصارمة لغايات أسمى وأهداف‬
‫أعظم من الناحية السياسية واألمنية واالقتصادية واالجتماعية والثقافية‬
‫والدينية‪.‬‬
‫فمن الناحية السياسية يحفظ العفو الجميل وحدة األمة السياسية حيث يركز في‬
‫حركة ما بعد العفو على تصحيح األخطاء وتقوية الدولة وإشراك الجميع دون‬
‫إقصاء لمن كان مهيمنا على األمر من قبل وتعميق مفاهيم الشراكة والتعاون‬

‫‪128‬‬
‫والتعايش‪ ،‬وتوثيق وتدوين مبادئ هذا التشارك والتعايش وتثقيف وتنشئة‬
‫األجيال عليه‪.‬‬
‫وأما من جهة األمن فإن العدل الحاسم قد يقود إلى رفض بعض من سيمسهم‬
‫هذا العدل بسبب مخاوف من نتائج هذا العدل التي قد تكون سلباً للحياة أو‬
‫األموال والنفود وهو ما لن تقبله الكثير من الجهات الحاكمة سابقاً‪.‬‬
‫وهي إذ ترفض هذه الفكرة فإنها ال تزال تملك الكثير من عناصر القوة‬
‫الميدانية والسياسية مما يجعل األوطان تقف على شفا حروب وصراعات‬
‫أهلية قد ال يخرج منها أي منتصر وال نحصد منها سوى ترسخ ثقافة االنتقام‬
‫والمالحقة‪.‬‬
‫وأما من الناحية االقتصادية‪ ،‬فإننا لن نختلف كثيراً في تلمس ما يترتب على‬
‫رفض العفو والمصالحة والتغافر من آثر على الوطن والمواطن بعد أن‬
‫يتخندق المتخاصمون وتنطلق مدافع الحرب وأما االعتبارات اإلجتماعية‪ ،‬فإن‬
‫العفو العام يزيد بال شك من تآلف مكونات ووشائح المجتمع المتنوعة ثقافيا‬
‫ولغوياً وعرقياً ودينياً في حال اختالف األديان وهذا مقصد استراتيجي يجب‬
‫التفكير فيه بدال من اإلصرار على طريقة تنتهي إلى تنافر وتمزق مكونات‬
‫المجتمع‪ ،‬وإعادة تخندقها خوفاً من االنتقام باسم العدالة‪ .‬وأخيراً ال آخراً فإن‬
‫العفو يضع خبرة تاريخية تتأسس عليها ثقافة األجيال األمر الذي يوحد ضمير‬
‫الوطن ويزيد من مساحات التعايش والقبول باالختالف وتتعمق ثقافة تقديم‬
‫المصلحة العامة على الخاصة والممتدة إلى اآلنية المؤقتة‪.‬‬
‫إننا في وطننا اليوم بحاجة إلى أن نتماسك ونتغافر‪ ،‬لنؤسس ونمهد لخبرة‬
‫العدل في إحقاق الحقوق والقسط في مراعاة المشاعر والعفو والتسامح لفتح‬
‫شموس األمل‪ ،‬وصروح البناء التي ستتحول إلى مناهج للتعليم وموجهات‬
‫للفكر ومحددات للثقافة‪ ،‬وإطار لبناء دستور الدولة التي ال يقوم على اإلقصاء‬
‫واالنتقام واللمز كما هو واقع الحال في بعض الدساتير التي تغلبت نزعة‬
‫االنتقام على واضعيها‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫الحادي والعشرون‪:‬‬
‫جنوب إفريقيا‪ :‬التوازن بين العدل والمسؤولية واَلستقرار والسًلم المدني‬
‫والمصالحة‪:1‬‬
‫دشن اإلفراج عن الزعيم نيلسون مانديال بتاريخ ‪ 90/2/11‬بداية مسار معقد‬
‫ومتفاوض حوله‪ ،‬خص السلم المدني واالنتقال الديمقراطي بين حكومة البيض‬
‫وتجمع المؤتمر الوطني‪ ،‬وأعلن رسمياً عن ذلك بيان الرئيس دي كليرك في‬
‫نفس الشهر الذي أفرج فيه عن مانديال‪.‬‬
‫انصبت المفاوضات بين الطرفين في مرحلة أولى ـ دامت قرابة ‪ 3‬أشهر ـ‬
‫على وضع أسس التفاوض والتدابير المستعجلة‪ ،‬وصدر "بيان الكاب" في‬
‫شهر ماي ‪ ،1990‬والذي عبر عن "االلتزام المشترك لتبديد مناخ العنف‬
‫والتهديد أيا كان مصدرهما‪ ،‬فضال عن تحقيق االلتزام وفق عملية متفاوضة‬
‫سلمية"‪.‬‬
‫لفهم السياق وما يشمله من المسارات والصيغ واألشكال التي طرح بها‪،‬‬
‫وعولج على ضوئها موضوع تصفية ماضي االنتهاكات الجسيمة لحقوق‬
‫اإلنسان‪ ،‬يتعين استحضار الشروط الخاصة للصراع المرير الذي عرفته‬
‫جنوب إفريقيا‪.‬‬
‫على خالف باقي التجارب التي كان الصراع فيها من أجل استالم السلطة أو‬
‫استعادتها مدنياً‪ ،‬واجه السود نظام األبارتيد ـ تأسس رسمياً منذ ‪1948‬م ـ بما‬
‫هو نظام فصل عنصري حكمته سياسة الحديد والنار وأطرته أنظمة قانونية‬
‫خاصة‪ ،‬كقانون مناطق الجماعات‪ ،‬قوانين األرض واإلقامة والطوارئ‬
‫وتسجيل السكان وتنقلهم‪.‬‬
‫وفي ظله أختبر ومارس النظام العنصري كل أشكال االنتهاكات الجسيمة‪،‬‬
‫وبالمقابل واجهت هذا النظام حركات سياسية عسكرية مدنية وثقافية ظلت‬
‫‪ 1‬الحديث عن جنوب أفريقيا أخذ من كتاب دليل حول العدالة االنتقالية‪ ،‬إعداد أحمد شوقي بنيوب تقديم الدكتور الطيب البكوش بدعم من‬
‫مؤسسة الصندوق الوطني للدمقراطية‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫مستفيدة على الدوام من دعم إنساني عالمي متنام‪ ،‬ومن القيادة المعنوية‬
‫لنيلسون مانديال‪.‬‬
‫وعرفت المواجهة كل فنون الحرب المدنية والعسكرية‪ ،‬وهي المواجهة التي‬
‫انتهت بعد قرابة ثالثة عقود إلى وضعية "ال غالب وال مغلوب" أو كما‬
‫وصفها فيما بعد عند بدء المفاوضات‪ ،‬القس "ديسموند توتو" نحن أهل جنوب‬
‫إفريقيا ال يمكن أن ننجو وننتصر إال معاً‪ ،‬سوداً وبيضاً باعتبارنا مرتبطين‬
‫بالظروف والتاريخ‪ ،‬مكافحين من أجل الخروج من هذا المستنقع المتمثل في‬
‫نظام االبارتيد‪ ،‬ال يمكن ألية مجموعة أن تنتصر وحدها‪.‬‬
‫على مدار قرابة ست سنوات‪ ،‬خضع مسلسل تصفية ملفات االنتهاكات‬
‫الجسيمة لعدة مراحل في مرحلة أولى‪ ،‬وبمقتضى اتفاق "الكاب" ماي ‪،90‬‬
‫اتفق على آليات وإجراءات ومساطر متدرجة في الزمان والمكان في أفق‬
‫التصفية الشاملة ومن بينها بصفة رئيسية‪:‬‬
‫ـ إنشاء فريق عمل عهد إليه بإعداد "تعريف للجرائم السياسية في الحالة‬
‫الخاصة بجنوب إفريقيا على قاعدة اإلفادة من القواعد واآلليات الالزمة‬
‫لموضوع اإلفراج عن المعتقلين السياسيين ومنح الحصانة فيما يتعلق بالجرائم‬
‫السياسية لمن يتواجدون داخل جنوب إفريقيا وخارجها"‪.‬‬
‫ـ قيام الحكومة باتخاذ اإلجراءات لمنح الحصانة المؤقتة لقياديين وأعضاء في‬
‫المؤتمر الوطني بهدف "تمكينهم من العودة للمساهمة في تنفيذ التزامات بيان‬
‫الكاب"‪.‬‬
‫وعلى ضوء تقرير أعد بخصوص تعريف الجرائم السياسية‪ ،‬أبرم الطرفان‬
‫(الحكومة وحزب المؤتمر الوطني) اتفاقاً ثانياً في غشت ‪1990‬م عرف‬
‫بمذكرة بريتوريا‪ ،‬وضعت بموجبها خطة "لإلفراج عن السجناء النتصلين‬
‫بالمؤتمر الوطني وبعدم إجراء محاكمات مباشرة"‪.1‬‬

‫‪ 1‬دليل حول العدالة االنتقالية أحمد شوقي صـ‪.45‬‬

‫‪131‬‬
‫بعد حصول هذا االتفاق‪ ،‬وتتويجاً إلجراءات هذه المرحلة األولى‪ ،‬صدر في‬
‫نونبر ‪1990‬م بالجريدة الرسمية إعالن حكومي لوزارة العدل أقر المبادئ‬
‫التوجيهية لتعريف الجرائم السياسية ومنح المعتقلين والمنفيين المتورطين في‬
‫النزاعات المسلحة العفو واإلعفاء من المقاضاة والحصانة المؤقتة‪.‬‬
‫مكن هذا اإلعالن والذي صاغ بدقة المصالح المتوازنة للطرفين من إضفاء‬
‫الشرعية على المبادئ التوجيهية التفاق الكاب "ماي ‪ "90‬ومذكرة بريتوريا‬
‫"غشت ‪ "90‬وفي إطارها تمت دراسة كل حالة على حدة حسب "الباعث‬
‫السياسي للجرم والسياق الذي اقترف فيه وطبيعة الهدف السياسي وطابعه‬
‫القانوني ومستوى فداحته وهدفه والعالقة بين الفعل والهدف السياسي المراد‬
‫تحقيقه وفيما إذا كان قد اقترف تنفيذاً ألمر أو بموافقة المنظمة أو المؤسسة أو‬
‫الهيئة المعنية"‪.‬‬
‫شكلت هذه اإلجراءات مدخالً مهماً لرفع حاالت الطوارئ وإطالق سراح‬
‫المعتقلين وفي استعادة أجواء األمن والشروع في المفاوضات حول الدستور‬
‫االنتقالي وتسريع وتيرة التحاق باقي االطراف واألحزاب السياسية بعملية‬
‫المصالحة الوطنية التي ستنتظم كقوى سياسية إلى جانب حزب المؤتمر‬
‫الوطني في "المجلس التنفيذي االنتقالي" "ومجلس التفاوض المتعدد"‪.‬‬
‫في سياق هذا الوضع وعلى خلفيته طرحت بصفة متداخلة ثالثة قضايا بالغة‬
‫التعقيد‪ :‬البحث في االنتهاكات وتعويض الضحايا وإعادة تأهيلهم والعفو العام‬
‫في إطار قضية واحدة هي المصالحة الوطنية‪.‬‬
‫ولدعم مسار الوحدة الوطنية والمصالحة‪ ،‬كمسار سياسي انتقالي بالدرجة‬
‫األولى‪ ،‬أصل الدستور االنتقالي لمبدأ المصالحة ذاته بتأكيده على أن‪:‬‬
‫"يضع هذا الدستور جسراً تاريخياً بين ماضي مجتمع مزقته االنقسامات‬
‫والصراعات والمعانات والظلم وبين مستقبل مبني على االعتراف بحقوق‬
‫اإلنسان والديمقراطية والتعايش السلمية وآفاق االعتراف بتنمية ممنوحة‬
‫لجميع سكان جنوب إفريقيا كيفما كان لون بشرتهم أو عرقهم أو طبقتهم‬
‫‪132‬‬
‫االجتماعية أو جنسهم‪ ،‬كما أن البحث عن الوحدة الوطنية والرفاهية لجميع‬
‫سكان جنوب إفريقيا يفترضان المصالحة بينهم جميعاً"‪.‬‬
‫طريقة مستوية فقد‬ ‫المرحلة االنتقالية أمراً سهالً أو على‬ ‫لم يكن إنجاز‬
‫‪ 1990‬إلى انتخاب‬ ‫المرحلة قرابة أربع سنوات من يناير‬ ‫استغرقت هذه‬
‫التي وصفها القس‬ ‫بتاريخ ‪1994/4/27‬م‪ ،‬وهي المرحلة‬ ‫مانديال رئيساً‬
‫ساخن وعلى حافة‬ ‫حدود ‪ 1994‬كنا نعيش فوق صفيح‬ ‫ديسموند "إلى‬
‫الهاوية"‪.‬‬
‫كان من بين القرارات األولى التي اتخذها نيلسون مانديال بعد انتخابه من‬
‫طرف الجمعية الوطنية المنتخبة ديمقراطياً تشكيله لمفوضية الحقيقة‬
‫والمصالحة ودعوته الجميع إلى التعاون معها‪.‬‬
‫انشئت مفوضية جنوب إفريقيا للحقيقة والمصالحة من ‪ 17‬شخصية مشهود‬
‫لها بالكفاءة والتخصص من عالم الطب والقضاء والحقوق‪ ،‬وروعيت فيها‬
‫التمثيلية اإلقليمية والسياسية والدينية وتوزع أعضاؤها على ثالث لجن‬
‫رئيسية‪ :‬لجنة االنتهاكات‪ ،‬ولجنة إصالح الضرر وإعادة االعتبار‪ ،‬ولجنة‬
‫العفو‪.‬‬
‫أسندت رئاسة اللجنة إلى رجل الدين البارز والعميد السابق لجوهانسبيرج‬
‫القس "ديسموند توتو" يمثل الكتاب القيم "ال مستقبل دون صفح" للقس‬
‫ديسموند عن تجربة مفوضية الحقيقة والمصالحة مصدراً ثريًا لفهم أعمق‬
‫لتجربة جنوب إفريقيا وفضالً عن كونه صادراً عن رئيس اللجنة فإن صاحبه‬
‫في نفس الوقت شخصية قادمة من أعماق التسامح ومن مذهب عقدي يحتل‬
‫فيه االعتراف مكانة بارزة في النسق الديني‪.‬‬
‫أما بخصوص المرتكزات الفلسفية‪ ،‬اإلنسانية‪ ،‬الحقوقية‪ ،‬لهذه التجربة فيمكن‬
‫الوقوف على مالمح رئيسية منها‪:‬‬

‫‪133‬‬
‫ـ أستند عمل مفوضية الحقيقة والمصالحة على التأصيل الدستوري لمفهوم‬
‫المصالحة واستهدف في عملها إيجاد "توازن دقيق بين متطلبات العدل‬
‫والمسؤلية والسالم المدني والمصالحة"‪.‬‬
‫ـ أستبعدت اللجنة خيار "نورنبورغ" الذي أحدث غداة الحرب العالمية‬
‫لمحاكمة مجرمي النازية‪ ،‬حيث "ال أحد من المعسكرين كان في موقع فرض‬
‫عدالة المنتصرين فال أحد منهما انتصر انتصاراً حاسماً يسمح له بذلك‪ ،‬بل‬
‫وصلنا إلى مأزق على المستوى العسكري"‪.‬‬
‫ـ بخصوص طبيعة اللجنة‪ ،‬وفيما إذا كانت جهازاً قضائياً أو شبه قضائي وهو‬
‫إشكال أثير في كل التجارب‪ ،‬اعتبر رئيسها "أن المفوضية وسيلة أكثر فعالية‬
‫من المحكمة للوصول إلى الحقيقة‪ ،‬مادام أن المعنيين كانوا مطالبين باالدالء‬
‫باعترافات كاملة من أجل الحصول على العفو‪ ،‬وهكذا انقلبت العملية القضائية‬
‫وأصبح على المهتمين أن يثقلوا كاهلهم بالوقائع وهم مستعدون للبوح بكل‬
‫شيء"‪.‬‬
‫فيما يتعلق بتقدير وسائل االتهام واإلثبات ضد المسؤولين عن االنتهاكات‬
‫الجسيمة وقوة األدلة ـ وهي من أعتقد اإلشكاليات التي اعترضت الخبراء‬
‫الدوليين‪ ،‬ـ يؤكد القس توتو بعض استنتاجاته المريرة في بعض جوانب هذا‬
‫الموضوع‪.‬‬
‫" لقد سمح الحفاظ على السر والسلطوية معا على إخفاء الحقيقة في مناطق‬
‫الظل من تاريخنا‪ ،‬والملفات أصبحت صعبة التناول والشهود مجهولين في‬
‫الغالب أو ماتوا‪ ،‬أو يرفضون التحدث‪ ،‬وكل ما تبقى فعلياً‪ ،‬وفي أغلب‬
‫الحاالت هو الذكريات المؤلمة والشكوك الغريزية والخطيرة والصادقة‬
‫بالنسبة لمن بقوا على قيد الحياة‪ ،‬لكنها شكوك يستحيل تحويلها على حجج‬
‫دامغة وموضوعية يسند بعضها البعض وتصمد أمام صرامة القانون" علماً‬
‫أن عدداً هاماً من الذين مثلوا أمام لجنة الحقيقة والمصالحة كانوا من" مرتكبي‬

‫‪134‬‬
‫الجرائم واإلنتهاكات والجنح والذين لم يفتهم استعمال الوسائل المهمة للدولة‬
‫إلتالف الدالئل وإخفاء جرائمهم"‪.‬‬
‫ـ وبخصوص إشكالية العفو على الجناة‪ ،‬وضعها وحلها في مرتكزات التوازن‬
‫بين العدل والمسؤلية واإلستقرار والسلم المدني كمكونات أساسية لمعادلة‬
‫المصالحة ولم يتم النظر في العفو بصفة عامة أو آلية‪.‬‬
‫" في حالة جنوب افريقيا ما كان للعفو ان يكون عاماً أو توماتيكياً‪ ،‬كان من‬
‫الضروري ان يتقدم طالبوه بطلب فردي‪ ،‬ثم التقدم امام لجنة هي الوحيدة‬
‫المؤهلة إلتخاذ القرار إذا كان يستجيب للشروط الصارمة المطلوبة حتى يمنح‬
‫لهم العفو‪ ...‬لهذا السبب تم استبعاد الخيار الثاني المتعلق بعفو عام إذ بإلضافة‬
‫إلى االسباب التي سبق ذكرها‪ ،‬أحسسنا إحسساً عميقاً بان طلب العفو العام‬
‫يشبه رغبة في فقدان الذاكرة‪ ،‬ولقد الحظ أحدنا بأن ال أحد منا له السلطة في‬
‫محو الماضي بضربة من العصا السحرية‪.‬‬
‫وضعت اللجنة قضية العفو كخيار ثالث بين اختيارين متطرفين‪ :‬محاكمة‬
‫نورنبورغ او فقدان الذاكرة وهنا تبرز قيمة اإلجتهاد الذي قدمته جنوب‬
‫إفريقيا‪.‬‬
‫تجلى هذا اإلختيار في عفو ممنوح بشكل فردي مقابل اعترافات كاملة ذات‬
‫عالقة باإلنتهاكات الخطيرة المرتبكة"‪.‬‬
‫يتعين التذكير بأن سلطة المفوضية في إقرار العفو أو رفضه استندت إلى‬
‫اختصاص تشريعي أقره البرلمان وحددت شروطه بدقة في‪:‬‬
‫ـ أن تكون االفعال التي يطلب بسببها العفو‪ ،‬قد اقترفت ما بين السنة شهدت‬
‫مجزرة شاربفيل ـ بداية الستينات ـ وسنة تولي الرئيس مانديال ـ منتصف‬
‫التسعينات ـ ‪.‬‬
‫ـ ان تكون ذات دوافع سياسية‪ ،‬ومورست من طرف حركات معترف بها‬
‫رسمياً‪.‬‬
‫‪135‬‬
‫ـ أن يتقدم المعنيون اعترافات المدانة قد احترمت قاعدة التناسب‪.‬‬
‫كما نص القانون على انه عند استكمال هذه الشروط يصبح العفو قائمًا‬
‫وبإمكان الضحايا اإلعتراض عليه وتبريره باعتبار أن القضاء هو الجهة‬
‫المختصة لعرض استئنافهم بخصوصه‪.1‬‬

‫الثاني والعشرون‪ :‬مفوضية جنوب إفريقيا للحقيقة والمصالحة‪:‬‬


‫اإلنشاء والعضوية‪:‬‬
‫‪1‬ـ مصدر اإلنشاء‪:‬‬
‫تأسست مفوضية جنوب إفريقيا للحقيقة والمصالحة‪ ،‬إثر تصديق متبادل بين‬
‫رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان‪ ،‬حيث وافق نيلسون مانديال وبموجب‬
‫إعالن على قانون الوحدة والمصالحة الوطنية لعام ‪2 .1995‬ـ اعتبارات‬
‫اإلنشاء‪:‬‬
‫ـ أوردت ديباجة القانون االعتبارات السياسية والدستورية واإلنسانية من‬
‫وضع المفوضية‪.‬‬
‫ـ تم التأكيد على أهداف المفوضية في الديباجة‪ ،‬وفي نطاق المقتضيات‬
‫المنظمة لالختصاصات (أنظر الفقرة الموالية المتعلقة باالختصاص النوعي)‪.‬‬
‫ـ تمثلت االعتبارات التاريخية إلنشاء المفوضية في‪:‬‬
‫ـ دستور جمهورية جنوب إفريقيا لعام ‪( 1993‬قانون رقم ‪ 200‬لعام ‪)1993‬‬
‫يوفر جسراً تاريخيًا بين ماضي مجتمع شديد اإلنقسام‪ ،‬موسوم بالنزاع‬
‫والصراع والمعاناة والظلم‪ ،‬وبين أفق مستقبلي مبني على االعتراف بحقوق‬

‫‪ 1‬أنظر‪ :‬دليل حول العدالة االنتقالية صـ‪ 45‬ـ ‪ 50‬أحمد شوقي‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫اإلنسان والديمقراطية والتعايش السلمي بين مواطني جنوب إفريقيا‪ ،‬بغض‬
‫النظر عن اللون والعرق والطبقة والعقيدة والجنس‪.‬‬
‫ـ إحقاق الحقيقة فيما يتعلق بأحداث الماضي‪ ،‬وبالدوافع واالحداث التي‬
‫ارتكبت خاللها انتهاكات جسيمة لحقوق اإلنسان‪ ،‬وإعالنها‪ ،‬حتى ال يتكرر‬
‫ارتكاب أفعال مماثلة في المستقبل‪.‬‬
‫ـ أن السعي إلى الوحدة الوطنية ورفاهية كل مواطني جنوب إفريقيا والسالم‬
‫كما ينص على ذلك الدستور وإقرار المصالحة بين مواطني جنوب إفريقيا‬
‫وإعادة إعمار المجتمع‪.‬‬
‫‪3‬ـ العضوية والتكوين‪:‬‬
‫ـ تميزت مفوضية جنوب إفريقيا من هيئة مركزية ومن لجان خاصة‪.‬‬
‫‪3/1‬تشكيل المفوضية‬
‫تكونت المفوضية من‪:‬‬
‫ـ عدد ال يقل عن‪ 11‬وال يزيد عن ‪ 17‬مفوضاً‪.‬‬
‫ـ يقوم الرئيس بتعيين المفوضين بالتشاور مع مجلس الوزراء‪.‬‬
‫ـ اختير المفوضون من بين أشخاص مناسبين والئقين غير منحازين وال‬
‫يحتلون مكانة سياسية عالية‪.‬‬
‫ـ عدم اختيار أكثر من شخصين ليسا من مواطني جنوب إفريقيا‪.‬‬
‫ـ أعلن قرار الرئيس بتعيين المفوضين في الجريدة الرسمية‪.‬‬
‫ـ أعلن الرئيس أحد المفوضين رئيساً‪ ،‬وآخر نائبًا لرئيس المفوضية‪.‬‬
‫ـ جاز ألي مفوض أن يستقيل من منصبه كمفوض في أي وقت شاء‪ ،‬بتقديم‬
‫استقالة مكتوبة إلى الرئيس‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫ـ جاز للرئيس أن يقيل أي مفوض من منصبه بسبب إساءة التصرف‪ ،‬أو‬
‫العجز أو عدم الكفاءة التي تحددها لجنة مشتركة بعد تلقي كتاب من الجمعية‬
‫الوطنية ومن مجلس الشيوخ‪.‬‬
‫اللجان الخاصة‪:‬‬
‫عملت اللجان الخاصة تحت إشراف المفوضية باعتبارها متفرعة عنها‪،‬‬
‫ورفعت إليها تقارير مؤقتة وتوصيات‪ ،‬وعند إتمام مهامها قدمت تقريراً شامالً‬
‫عن كل أنشطتها وقراراتها المرتبطة بإنجاز مهامها‪ ،‬وهذه اللجن هي‪:‬‬
‫أ ـ لجنة انتهاكات حقوق اإلنسان‬
‫تكونت من رئيس ونائبي رئيس‪ ،‬وهما مفوضان عينتهما المفوضية‪،‬‬
‫ومفوضون آخرون في وظائف حددتها اللجنة‪ ،‬كما استعانت اللجنة بمواطنين‬
‫من جنوب إفريقيا مناسبين مؤهلين‪ ،‬ذوو خبرة بإجراءات التحقيق وتقصي‬
‫الحقائق‪.‬‬
‫ب ـ لجنة العفو‬
‫تكونت من رئيس ونائب رئيس وثالثة أعضاء آخرين مناسبين ومؤهلين‪.‬‬
‫عين رئيس الجمهورية رئيس اللجنة‪ ،‬وهو قاض‪ ،‬ونائباً للرئيس‪ ،‬وعضواً‬
‫آخر‪ ،‬كما عين بعد التشاور مع المفوضية‪ ،‬مفوضين اثنين كأعضاء في‬
‫اللجنة‪.‬‬
‫‪ 3/2‬لجنة التعويض وإعادة التأهيل‬
‫تتكون اللجان من رئيس ونائب للرئيس وخمسة أعضاء على األكثر‬
‫ومفوضين تعينهم المفوضية‪ ،‬كما تعين اللجنة أشخاصاً مناسبين مؤهلين‪،‬‬
‫ويبقى رئيس اللجنة ونائبه من المفوضين الذين تعينهم المفوضية‪.‬‬
‫اَلختصاصات وتحديد المسؤوليات وقضية العفو‬

‫‪138‬‬
‫‪4‬ـ اَلختصاص الزمني‬
‫حدد القانون االختصاص الزمني في الفترة التاريخية الممتدة من ‪1‬‬
‫مارس‪ 1960‬إلى الفترة المسماة بتاريخ االنقطاع المقترح في الدستور‪ ،‬وبذلك‬
‫فإن االختصاص الزمني قد شمل ما يربو على ‪ 34‬سنة‪.‬‬
‫‪5‬ـ اَلختصاص النوعي‬
‫ورد اإلختصاص النوعي العائد للمفوضية بمقتضى القانون من خالل الفقرة‬
‫المتعلقة باألهداف ومن خالل اإلحاالت الخاصة بموضوع اإلنتهاكات‬
‫الجسيمة لحقوق اإلنسان‪.‬‬
‫أكدت اَلهداف على‪:‬‬
‫ـ تعزيز الوحدة والمصالحة الوطنية في روح من التفاهم تتعالى فوق‬
‫صراعات وإنقسامات الماضي من خالل‪:‬‬
‫ـ رسم صورة كاملة قدر اإلمكان لطبيعة وأسباب ومدى اإلنتهاكات الجسيمة‬
‫لحقوق اإلنسان‪ ،‬والتي ارتكبت خالل الفترة من ‪ 1‬مارس‪ /‬آذار ‪ 1960‬إلى‬
‫تاريخ اإلنقطاع‪ ،‬ويتضمن ذلك سوابق‪ ،‬وظروف‪ ،‬وعوامل وسياق تلك‬
‫اإلنتهاكات‪ ،‬ووجهات نظر الضحايا‪ ،‬ودوافع‪ ،‬ووجهات نظر األشخاص‬
‫المسؤولين عن ارتكاب اإلنتهاكات‪ ،‬وذلك من خالل إجراء تحقيقات وعقد‬
‫جلسات استماع‪.‬‬
‫ـ تسهيل منح العفو لألشخاص الذين يكشفون كشفا كامالً عن كل الحقائق‬
‫المتعلقة بأفعال مرتبطة بهدف سياسي‪ ،‬والذين يمتثلون لكل مستلزمات هذا‬
‫القانون‪.‬‬
‫ـ تحديد وإعالن مصير ومكان الضحايا‪ ،‬ورد الكرامة المدنية واإلنسانية‬
‫لهؤالء الضحايا‪ ،‬بإعطائهم فرصة لسرد رواياتهم الخاصة عن هذه االنتهاكات‬

‫‪139‬‬
‫التي كانوا ضحاياها‪ ،‬وبالتوصية بإجراءات تعويضية‪ .‬بخصوص هذه‬
‫االنتهاكات‪.‬‬
‫ـ إعداد تقرير يعطي بياناً كامالً قدر اإلمكان لفعاليات واستنتاجات الموفضية‪،‬‬
‫ويتضمن توصيات إلجراءات للحيلولة دون إنتهاك حقوق اإلنسان في‬
‫المستقبل‪.‬‬
‫كما أكد القانون بخصوص موضوع اَلنتهاكات الجسيمة لحقوق اإلنسان‬
‫على‪:‬‬
‫االنتهاكات الجسيمة لحقوق اإلنسان‪ ،‬بما فيها االنتهاكات التي كانت جزءاً من‬
‫نمط منتظم من اإلساءة‪.‬‬
‫طبيعة وأسباب ومدى االنتهاكات الجسيمة لحقوق اإلنسان‪ ،‬ويتضمن ذلك‬
‫السوابق والظروف‪ ،‬والعوامل والسياق‪ ،‬والدوافع ووجهات النظر التي أدت‬
‫إلى إرتكاب هذه اإلنتهاكات‪.‬‬
‫هوايات كل األشخاص والسلطات‪ ،‬والمؤسسات والتنظيمات المتورطة في هذه‬
‫اإلنتهاكات‪.‬‬
‫تحديد ما إذا كانت هذه اإلنتهاكات نتيجة تخطيط مقصود من جانب الدولة أو‬
‫أو من جانب دولة سابقة أو أي من أجهزتهما‪ ،‬أو أي تنظيم سياسي‪ ،‬أو حركة‬
‫تحرير أو أية مجموعة أخرى أو فرد آخر‪.‬‬
‫المسؤول عن هذه االنتهاكات‪ ،‬سواء كانت سياسية أو غير سياسية‪.‬‬
‫وبخصوص مفهوم اَلنتهاكات الجسيمة لحقوق اإلنسان حدد قانون‬
‫المفوضية بأنها‪ ،‬تعني إنتهاك حقوق اإلنسان من خًلل‪:‬‬
‫القتل‪ ،‬أو االختطاف‪ ،‬أو التعذيب أو المعاملة المهينة ألي شخص‪.‬‬
‫أية محاولة أو مؤامرة‪ ،‬أو تحريض أو إثارة‪ ،‬أو أ‪/‬ر أو تدبير ارتكاب فعل‪،‬‬
‫يكون قد نتج عن صراعات الماضي‪ ،‬وتم ارتكابه خالل الفترة من ‪1‬‬
‫‪140‬‬
‫مارس‪/‬آذار ‪ 1960‬إلى تاريخ االنقطاع داخل أو خارج الجمهورية‪ ،‬وكان‬
‫ارتكابه نتيجة‪ ،‬أو تخطيطاً‪ ،‬أو توجيهاً أو أمراً من أي شخص يتصرف بدافع‬
‫سياسي‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ تحديد المسؤوليات وقضية العفو‪:‬‬
‫أشرنا في معرض القسم المتعلق بتاريخ العدالة اإلنتقالية إلى السياق الخاص‬
‫بجنوب إفريقيا وإلى موضوع تحديد المسؤوليات كما فسره رئيس المفوضية‬
‫القس ديسموندتوتو‪.‬‬
‫ـ اندمج موضوع تحديد المسؤوليات في تجربة جنوب إفريقيا مع قضية العفو‬
‫المشروط في تالزم متداخل‪.‬‬
‫ـ قاربت تجربة جنوب إفريقيا موضوع المسؤوليات في إطار توازن دقيق‬
‫دمج بين متطلبات السلم المدني والتوجه إلى المستقبل وإعادة البناء مستلهمة‬
‫في ذلك روح المصالحة القوية بين أطراف النزاع ومقومات الثقافة الدينية‬
‫المسيحية‪.‬‬
‫ـ أصل قانون المفوضية لموضوع المسؤوليات من خالل إشارات وتأكيدات‬
‫قوية ودالة‪ ،‬بحيث تم التنصيص ـ في الديباجة وفي صلب القانون ـ صراحة‬
‫على أن‬
‫ـ " هناك حاجة إلى التفاهم وليس إلى اإلنتقام‪.‬‬
‫ـ هناك حاجة إلى إإلصالح وليس إلى الرد بالمثل‪.‬‬
‫ـ هناك حاجة إلى النزعة اإلنسانية وليس إلى التمثيل بالغير‬
‫ـ مثل العفو قيمة خاصة من قيم المصالحة‪ ،‬كما جسد آلية مهمة في إطار‬
‫الكشف عن الحقيقة‪.‬‬
‫ـ وإعتبار للمكانة التي احتلها العفو في تجربة جنوب إفريقيا‪ ،‬فيتعين التوقف‬
‫عنده بتفصيل‪ ،‬وذلك إدراكاً لسياقه وقواعده وشروطه وعالقته مع قضية‬
‫‪141‬‬
‫المصالحة‪ ،‬كما يتعين التذكير بأن العفو في تجربة جنوب إفريقيا شمل األفراد‬
‫من الجهتين معا‪ ،‬أعوان الدولة وأعضاء الحركات المسلحة المعارضة‪.‬‬
‫ـ استندت ديباجة قانون المفوضية على التأصيل الدستوري القاضي‪ ":‬وبما أن‬
‫الدستور يذكر أنه من أجل تعزيز مثل هذه المصالحة وإعادة البناء‪ ،‬فإن العفو‬
‫سيمنح فيما يخص أفعاال وإغفاالت وإساءات مرتبطة بأهداف سياسية تم‬
‫ارتكابها في سياق صراعات الماضي"‪.‬‬
‫ـ يتجلى العفو المشروط كما أكده قانون المفوضية‪ ،‬في شرط حسن النية وتم‬
‫منحه بعد الكشف عن الحقائق‪ ،‬يؤكد القانون‪:‬‬
‫ـ إذا كان مقدم الطلب قد كشف عن كل الحقائق ذات الصلة‪ ،‬فإن اللجنة تمنح‬
‫العفو فيما يخص هذا الفعل‪ ،‬أو اإلهمال أو اإلساءة‪.‬‬
‫ـ في هذا القانون‪ ،‬طالما ال يدل السياق على خالفه‪ ،‬فإن تعبير " فعل مرتبط‬
‫بهدف سياسي" يعني أي فعل أو إهمال يؤدي إلى إساءة أو جنحة ترتبط بهدف‬
‫سياسي وفق نصيحة‪ ،‬أو مخطط‪ ،‬أو توجيه‪ ،‬أو أمر أو اقتراف داخل أو‬
‫خارج الجمهورية خالل الفترة من ‪1‬مارس‪ /‬آذارإلى تاريخ اإلنقطاع قام به‪:‬‬
‫ـ أي عضو أو مناصر لمنظمة سياسية أو حركة تحرير معروفة للعموم‪،‬‬
‫لمصلحة تلك المنظمة أو الحركة‪ ،‬بنية حسنة لتأييد صراع سياسي قامت به‬
‫مثل تلك المنظمة أو الحركة ضد الدولة أو ضد أية دولة سابقة أو ضد أية‬
‫منظمة سياسية او حركة تحرير معرفة للعموم‪.‬‬
‫ـ أي موظف في الدولة أو في أية دولة سابقة‪ ،‬أو أي عضو في قوات أمن‬
‫الدولة أو أية دولة سابقة خالل او في مجال واجباته وضمن مجال سلكته‬
‫الظاهرة أو الضمنية‪ ،‬موجه ضد منظمة سياسية أو حركة تحرير معروفة‬
‫للعموم ومتورطة في صراع سياسي ضد دولة أو أية دولة سابقة أو ضد أي‬
‫أعضاء أو مناصرين لمثل تلك المنظمة أو الحركة‪ ،‬والذي تم اقترافه بحسن‬
‫نية بهدف مجابهة أو مقاومة الصراع المذكور‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫ـ ولتقرير ما إذا كان الفعل‪ ،‬يكتسي صبغة اإلهمال واالساءة‪ ،‬ومرتبطا بهدف‬
‫سياسي‪ ،‬تم الرجوع إلى المعايير التالية‪:‬‬
‫ـ دافع الشخص الذي اقترف الفعل‪ ،‬أو االهمال أو االساءة‪.‬‬
‫ـ السياق الذي من خالله وقع الفعل‪ ،‬أو االهمال أو االساءة‪ ،‬وبشكل خاص ما‬
‫إذا كان الفعل أو االهمال أو االساءة قد تم اختراقها من ثورة سياسية‪ ،‬أو‬
‫شغب‪ ،‬أو رد فعل لذلك‪.‬‬
‫ـ الطبيعة القانونية الواقعية للفعل‪ ،‬أو االهمال أو االساءة‪ ،‬بما في ذلك جسامة‬
‫الفعل‪ ،‬أو االهمال أو االساءة‪.‬‬
‫ـ موضوع أو هدف الفعل‪ ،‬أو االهمال أو االساءة‪ ،‬وخاصة إذا كان الفعل‪ ،‬أو‬
‫االهمال أو االساءة‪ ،‬موجهة بشكل أساسي ضد معارض سياسي أو موظفين‬
‫للدولة أو ضد أمالك خاصة‪ ،‬أو ضد أفراد‪.‬‬
‫ـ إذا كان الفعل‪ ،‬أو االهمال أو االساءة قد تم اغترافها خالل تنفيذ أمر صادر‬
‫من‪ ،‬أو لمصلحة أو بموافقة المنظمة‪ ،‬أو المؤسسة‪ ،‬أو الحركة أو مجموعة‬
‫التحرير التي كان مقترف الفعل عضواً فيها‪ ،‬أو عميالً أو مناصراً لها‪.‬‬
‫ـ العالقة بين الفعل‪ ،‬أو االهمال أو االساءة وبين الهدف السياسي المقصود‪،‬‬
‫وبشكل خاص الصفة المباشرة أو العالقة القريبة‪ ،‬وكذلك حجم الفعل‪ ،‬أو‬
‫االهمال أو االساءة بالنسبة إلى الهدف المقصود‪ ،‬بدون أن يشمل أي فعل‪ ،‬أو‬
‫اهمال أو اساءة أي شخص مذكور قد تصرف‪:‬‬
‫ـ لفائدة شخصية‪ :‬بشرط أال يتم استبعاد أي فعل‪ ،‬أو اهمال أو اساءة اقترفها‬
‫شخص تصرف أو تلقى أمواالً أو أي شيء ذي قيمة بوصفه مخبراً لدولة‪ ،‬أو‬
‫أي دولة سابقة‪ ،‬أو لمنظمة سياسية‪ ،‬أو حركة تحرير‪ ،‬على أساس أن هذا‬
‫الشخص قد تلقى نقوداً أو أي شيء ذي قيمة لقاء معلوماته‪ .‬أو‪:‬‬

‫‪143‬‬
‫انطالقة من ضغينة شخصية‪ ،‬أو بغض‪ ،‬أو نكاية موجهة ضد ضحية األفعال‬
‫المقترفة‪.‬‬
‫كما حدد قانون المفوضية‪ ،‬حاَلت موضوع العفو‪ ،‬المعروضة على القضاء‪،‬‬
‫أو تلك التي صدرت بشأنها أحكام قضائية‪ ،‬وهكذا نص على‪:‬‬
‫‪ ‬إذا كان أي شخص‪:‬‬
‫ـ قد تم اتهامه أو كان تحت المحاكمة بخصوص اساءة ناتجة عن فعل أو‬
‫اهمال تم منح العفو عنها وفق شروط هذا البند‪.‬‬
‫ـ أو قد تمت ادانته‪ ،‬أو ال يزال ينتظر الحكم‪ ،‬أو كان تحت الحجز بغرض‬
‫انهاء حكم في السجن مفروض بخصوص اساءة ناتجة عن فعل أو اهمال‪ ،‬تم‬
‫منح العفو عنها‪ ،‬فإن االجراءات الجنائية تصبح ملغاة فوراً حال نشر‬
‫االعالن‪ ،‬وكذلك ينتهي مفعول الحكم المفروض حال هذا النشر‪ ،‬وكذلك يتم‬
‫اطالق سراح الشخص الموضوع تحت الحجز فور النشر‪.‬‬
‫إذا تم منح عفو لشخص فيما يخص أي فعل أو اهمال قد شكال سنداً لحكم‬
‫مدني تم النطق به في أي وقت قبل منح العفو‪ ،‬فإن نشر االعالن لن يكون له‬
‫أي تأثير على تنفيذ الحكم المعني على هذا الشخص‪.‬‬
‫عندما يكون قد تمت ادانة شخص بأي اساءة ناتجة عن فعل أو اهمال‬
‫مرتبطين بهدف سياسي وبخصوصها قد تم منح عفو وفق شروط هذا القانون‪،‬‬
‫فإن أي تدوين أو تسجيل لهذه االدانة يعتبر محذوفاً من كل الوثائق الرسمية‪،‬‬
‫وكذلك فإن االدانة لكل األغراض بما فيها تطبيق أي قانون للبرلمان أو أي‬
‫قانون آخر‪ ،‬تعتبر كأنها لم تحدث‪ :‬شرط أن تتمكن اللجنة من إصدار توصية‬
‫إلى الجهة المختصة بإتخاذ هذه االجراءات بالطريقة التي تراها ضرورية‬
‫لحماية األمن العام‪.‬‬
‫وإذا قررت اللجنة رفض منح العفو فإن عليها اعالم الشخص الذي قدم طلب‬
‫العفو‪ ،‬وأي شخص يعتبر ضحية للفعل‪ ،‬أو االهمال أو االساءة التي هي‬
‫‪144‬‬
‫موضوع الطلب‪ ،‬وتعلن المفوضية كتابة بقرارها وأسباب رفضها‪ ،‬وإذا تم‬
‫تعليق أي محاكمات جنائية أو مدنية إلى حين إتخاذ قرار بشأن طلب للعفو‪.‬‬
‫وإذا تم رفض هذا الطلب‪ ،‬فإنه يجب أن يتم اخبار المحكمة المعنية بهذا‬
‫الرفض‪ ،‬وال يجب أن تستنتج المحكمة المعنية أي استنتاجات سلبية من متابعة‬
‫المحاكمات التي تم تعليقها إلى حين إتخاذ قرار بشأن طلب للعفو‪.1‬‬
‫رسالة من نلسون مانديًل للعرب تستحق القراءة‬

‫اخوتي في بالد العُرب‬


‫اخوتي في تونس ومصر‬
‫أعتذر أوالً عن الخوض في شئونكم الخاصة‪ ،‬وسامحوني إن كنت دسست‬
‫أنفي فيما ال ينبغي التقحم فيه‪ ،‬لكنني أحسست أن واجب النصح أوالً‪ ،‬والوفاء‬
‫ثانياً لما أوليتمونا أياه من مساندة أيام قراع الفصل العنصري يحتمان علي رد‬
‫الجميل وإن بإبداء رأي محّصته التجارب وعجمتُه التجارب األيام‪ ،‬وأنضجته‬
‫السجون أحبتي ثوار العرب‪.‬‬
‫الزلت أذكر ذلك اليوم بوضوح‪ ،‬كان يوماً مشمساً من أيام كيب تاون‪ .‬خرجت‬
‫من السجن بعد أن سلخت بين جدرانه عشرة آالف يوم‪ .‬خرجت إلى الدنيا بعد‬
‫وًوريت عنها سبعاً وعشرين سنة ألني حلمت أن أرى بالدي خالية من الظلم‬
‫والقهر واالستبداد‪.‬‬
‫ورغم أن اللحظة أمام سجن فكتور فستر كانت كثيفة على المستوى الشخصي‬
‫إذ سأرى وجوه أطفالي وأمهم بعد كل هذا الزمن‪ ،‬إال أن السؤال الذي مأل‬
‫جوانحي حينها هو‪ ،‬كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدالً؟‬

‫‪ 1‬دليل حول العدالة االنتقالية صـ ‪ 67‬ـ ‪.75‬‬

‫‪145‬‬
‫أكاد أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم‪ .‬لقد خرجتم لتوكم من سجنكم‬
‫الكبير‪ ،‬وهو سؤال قد تُحدد اإلجابة عليه طبيعة االتجاه الذي ستنتهي إليه‬
‫ثوراتكم‪.‬‬
‫إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم‪ .‬فالهدم فعل سلبي والبناء فعل‬
‫إيجابي‪ .‬أو على لغة أحد مفكريكم ـ حسن الترابي ـ فإن إحقاق الحق أصعب‬
‫بكثير من إبطال الباطل‪.‬‬
‫أنا ال أتحدث العربية لألسف‪ ،‬لكن ما أفهمه من الترجمات التي تصلني عن‬
‫تفاصيل الجدل السياسي اليومي في مصر وتونس تشير بأن معظم الوقت‬
‫هناك مهدر في سب وشتم كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة باألنظمة‬
‫السابقة‪ ،‬فذاك أمر خاطئ في نظري‪ ،‬أنا أتفهم األسى الذي يعتصر قلوبكم‬
‫وأعرف أن مرارات الظلم ماثلة‪ ،‬إال أنني أرى أن استهداف هذا القطاع‬
‫الواسع من مجتمعكم قد يسبب للثورة متاعب خطيرة‪ ،‬فمؤيدو النظام السابق‬
‫كانوا يسيطرون على المال العام وعلى مفاصل األمن والدولة‪ ،‬وعالقات البلد‬
‫مع الخارج‪ ،‬فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن سيكون اجهاض الثورة أهم هدف‬
‫لهم في هذه المرحلة التي تتميز عادة بالهشاشة األمنية وغياب التوازن‪ .‬أنتم‬
‫في غنى عن ذلك احبتي‪.‬‬
‫إن أنصار النظام السابق ممسكون بمعظم المؤسسات االقتصادية التي قد‬
‫يشكل استهدافها أو غيابها أو تحييدها كارثة اقتصادية أو عدم توازن أنتم في‬
‫غنى عنه اآلن‪.‬‬
‫عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون لهذا‬
‫البلد‪ ،‬فاحتواؤهم ومسامحتهم هي أكبر هدية للبالد في هذه المرحلة‪ ،‬ثم إنه ال‬
‫يمكن جمعهم ورميهم في البحر أو تحييدهم نهائياً ثم إن لهم الحق في التعبير‬
‫عن أنفسهم وهو حق ينبغي أن يكون احترامه من أبجديات ما بعد الثورة‪.‬‬
‫أعلم أن مما يزعجكم أن تروا ذات الوجوه التي كانت تنافق للنظام السابق‬
‫تتحدث اليوم ممجدة الثورة‪ ،‬لكن األسلم أن ال تواجهوهم بالتبكيت إذا مجدوا‬
‫‪146‬‬
‫الثورة‪ ،‬بل شجعوهم على ذلك حتى تحيدوهم وثقوا أن المجتمع في النهاية لن‬
‫ينتخب إال من ساهم في ميالد حريته‪.‬‬
‫إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند‬
‫تفاصيل الماضي المرير‪.‬‬
‫أذكر جيداً أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحد واجهني هو أن قطاعاً‬
‫واسعاً من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام‬
‫السابق‪ ،‬لكنني وقفت دون ذلك وبرهنت األيام أن هذا كان الخيار األمثل‬
‫ولواله النجرفت جنوب إفريقيا إما إلى الحرب األهلية أو إلى الديكتاتورية من‬
‫جديد‪ ،‬لذلك شكلت "لجنة الحقيقة والمصالحة" التي جلس فيها المعتدي‬
‫والمعتدى عليه وتصارحا وسامح كل منهما اآلخر‪.‬‬
‫إنها سياسة مرة لكنها ناجعة‪.‬‬
‫أرى أنكم بهذه الطريقة ـ وأنتم أدرى في النهاية ـ سترسلون رسائل اطمئنان‬
‫إلى المجتمع الملتف حول الديكتاتوريات األخرى أن ال خوف على مستقبلهم‬
‫في ظل الديمقراطية والثورة‪ ،،‬مما يجعل الكثير من المنتفعين يميلون إلى‬
‫التغيير‪ ،‬كما قد تحجمون خوف وهلع الديكتاتوريات من طبيعة وحجم ما‬
‫ينتظرها‪ ،‬تخيلوا لو أننا في جنوب إفريقيا ركزنا ـ كما تمنى الكثيرون ـ على‬
‫السخرية من البيض وتبكيتهم واستثنائهم وتقليم أظافرهم؟ لو حصل ذلك لما‬
‫كانت قصة جنوب إفريقيا واحدة من أروع قصص النجاح اإلنساني اليوم‪.‬‬
‫أتمنى أن تستحضروا قولة نبيكم‪" :‬أذهبوا فأنتم الطلقاء"‪.‬‬
‫نلسون روهالال مانديال ـ هوانتون ـ جوهانزبيرغ‬
‫الثالث والعشرون‪ :‬مقترح تم تقديمه من خبراء قانونيين للمجلس الوطني‬
‫اَلنتقالي المؤقت‪ :‬بخصوص قانون العدالة اإلنتقالية‪:‬‬

‫‪147‬‬
‫بعد االطالع على االعالن الدستوري المؤقت الصادر في ‪ 3‬أغسطس‬
‫‪.2011‬‬
‫ـ وعلى القانون المدني‪:‬‬
‫ـ وعلى قانون المرافعات المدنية والتجارية‪.‬‬
‫ـ وعلى قانون العقوبات والقوانين المكملة له‪.‬‬
‫ـ وعلى قانون االجراءات الجنائية وتعديالته‪.‬‬
‫ـ وعلى التشريعات العسكرية النافذة‪.‬‬
‫ـ وعلى القانون رقم ‪ 19‬لسنة ‪1989‬م بشأن اقرار مزايا لقتلى العمليات‬
‫العسكرية والمفقودين واألسرى‪.‬‬
‫ـ وعلى القانون رقم ‪ 2006/6‬بشأن نظام القضاء وتعديالته‪.‬‬
‫ـ وعلى القانون رقم ‪ 2010/4‬بشأن والتحكيم‪.‬‬
‫ـ وعلى ما أصدره المجلس الوطني االنتقالي المؤقت من بيانات بشأن‬
‫الحريات العامة وحقوق االنسان‪.‬‬
‫على ما عرضه مسؤول شؤون العدل وحقوق االنسان بالمكتب‬ ‫ـ وبنًا‬
‫التنفيذي‪.‬‬
‫أصدر القانون اآلتي‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫الفصل األول‬
‫أحكام عامة‬
‫مادة (‪)1‬‬

‫‪1‬‬
‫قام بتقديم هذه المسودة للمجلس الوطني االنتقالي كل من الدكتور الكوني عبودة والدكتور الهادي بو حمرة‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫تعريفات‬
‫في هذا القانون تعني المصطلحات اآلتية المعاني المبينة قرين لكل منها‪:‬‬
‫ـ العدالة اَلنتقائية‪ :‬مجموعة من االجراءات التشريعية والقضائية‬
‫واإلدارية واالجتماعية التي تعالج ما حدث خالل فترة النظام السابق في‬
‫ليبيا وما قامت به الدولة من انتهاكات لحقوق االنسان وحرياته األساسية‬
‫والعمل على اصالح ذات البين بالطرق الودية بين بعض فئات المجتمع‪.‬‬
‫الهيئة‪ :‬هي هيئة تقصي الحقائق والمصالحة المنصوص عليها في هذا‬
‫القانون‪.‬‬
‫الوقائع‪ :‬كل فعل يشكل جرم ا أو انتهاك ا لحقوق اَلنسان‪.‬‬
‫تسري أحكام هذا القانون على الوقائع التي حدثت من ‪ 1‬سبتمبر ‪ 1969‬إلى‬
‫حين تحقيق األهداف المرجوة من هذا القانون وَل تسري على األشخاص‬
‫الذين أتموا الصلح في ظل النظام السابق كما َل تسري على المنازعات التي‬
‫صدرت بشأنها أحكام قضائية تم تنفيذها‪.‬‬

‫مادة (‪)3‬‬
‫أهداف القانون‬

‫يهدف هذا القانون إلى ما يلي‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ ترسيخ السلم االجتماعي‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ردع انتهاكات حقوق االنسان‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ بث الطمأنينة في نفوس الناس واقناعهم بأن العدالة قائمة وفعالة‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫‪ 4‬ـ تحديد مسؤوليات أجهزة الدولة عن انتهاكات حقوق االنسان‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ توثيق الوقائع موضوع العدالة االنتقالية وحفظها ثم تسليمها للجهات‬
‫الوطنية المختصة‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ تعويض الضحايا والمتضررين‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ تحقيق مصالحات اجتماعية‪.‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫هيئة تقصي الحقائق والمصالحة‬
‫مادة (‪)4‬‬

‫تنشأ هيئة مستقلة تسمى هيئة تقصي الحقائق والمصالحة مقرها مدينة‬
‫طرابلس‪ ،‬ويكون لها الشخصية االعتبارية والذمة المالية المستقلة على أن‬
‫يكون لها فرع في كل دائرة مجلس محلي‪ ..‬وتختص بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ تقصي الحقائق حول الوقائع المتعلقة بانتهاكات حقوق االنسان في الفترة‬
‫المشار إليها في المادة (‪ )2‬واتخاذ ما يلزم من اجراءات بشأنها بما في ذلك‬
‫التوصية بإحالة المسؤولين عن ارتكابها إلى القضاء المختص‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ دراسة وتحقيق الوقائع ذات الطبيعة الجماعية وأعمال العنف واالعتداء‬
‫الممنهج أو العشوائي من جماعات أو تشكيالت نظامية أو غيرنظامية‬
‫واألضرار التي لحقت باألرواح واألعراض أو األموال بسببها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ اعداد تقرير عن كل واقعة تعرض عليها على أن يشمل التقرير ما يلي‪:‬‬
‫أـ بياناً وافياً بالوقائع مدعوماً باألدلة‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫ب ـ النتائج التي تم التوصل إليها من خالل الدراسة والتحقيق متضمنة تحديداً‬
‫دقيقاً للمسئولية ولألشخاص ذوي العالقة بها‪.‬‬
‫ج ـ ما قامت به الهيئة في سبيل محاوالت الصلح بين األطراف‪.‬‬
‫د ـ توصيات الهيئة بشأن طرق معالجة األمر أو حل المنازعة بما في ذلك‬
‫التوصية بإحالة أشخاص أو وقائع إلى المحاكم المختصة‪.‬‬
‫‪4‬ـ مواصلة البحث بشأن حاالت االختفاء القسري والكشف عن مصير‬
‫المختصين مع إيجاد الحلول المناسبة بالنسبة لمن لم تثبت وفاتهم‪.‬‬
‫‪5‬ـ تقديم مقترحات بتفعيل عملية نزع السالح وتسريح المقاتلين ودمجهم في‬
‫المجتمع‪.‬‬
‫‪6‬ـ تنمية وإثراء سلوك الحوار وإرساء مقومات المصالحة دعماً للتحول‬
‫الديمقراطي والتواصل مع مؤسسات المجتمع المدني والتعريف بأداة الهيئة‬
‫واختصاصاتها‪.‬‬
‫مادة ‪5‬‬
‫يكون للهيئة مجلس إدارة يتكون من رئيس وعدد عشرة أعضاء ويصدر‬
‫بتسميتهم قرار من المجلس الوطني االنتقالي المؤقت ويعتبر مجلس اإلدارة‬
‫هو السلطة العليا للهيئة يتولى إدارة شؤونها وتمثيلها في عالقاتها بالغير وأمام‬
‫القضاء‪.‬‬
‫مادة ‪6‬‬
‫يختص مجلس اإلدارة بما يلي‪:‬‬
‫‪1‬ـ تسمية رئيس وأعضاء اللجان الفرعية في المجالس المحلية‪.‬‬
‫‪2‬ـ وضع الالئحة الداخلية لعمل الهيئة واللجان التابعة لها‪.‬‬
‫‪3‬ـ مراجعة تقارير اللجان ووضع التقرير النهائي عند انتهاء عملها‪.‬‬
‫‪151‬‬
‫مادة ‪7‬‬
‫يشترط فيمن يختار عضواً في الهيئة أو اللجان لها ما يلي‪:‬‬
‫‪1‬ـ أن يكون ليبي الجنسية وأن يكون من ذوي الخبرة والكفاءة والحيدة‬
‫والدراية والحكمة والقدرة على انجاز العمل‪.‬‬
‫‪2‬ـ أن يكون حسن السير والسلوك‪.‬‬
‫‪3‬ـ أال يكون ممن انخرط في حركة اللجان الثورية أو كان أحد أفراد الحرس‬
‫الثوري أو الحرس الشعبي أو األجهزة األمنية السرية‪.‬‬
‫‪4‬ـ أال يكون محكوماً عليه في جريمة تتعلق بالوظيفة العامة أو المهنة أو أي‬
‫جريمة مخلة بالشرف‪.‬‬
‫‪5‬ـ أال يكون قد فصل من الوظيفة أو المهنة بقرار تأديبي‪.‬‬
‫‪6‬ـ أال يقل عمره عن أربعين سنة‪.‬‬
‫مادة ‪8‬‬
‫يحلف رئيس وأعضاء مجلس إدارة الهيئة وأعضاء اللجان قبل مباشرة‬
‫أعمالهم اليمين التالية‪:‬‬
‫(أقسم باهلل العظيم أن أؤدي عملي باألمانة والصدق والنزاهة) ويكون أداء‬
‫اليمين بالنسبة لرئيس وأعضاء المجلس أمام المجلس الوطني االنتقالي المؤقت‬
‫وحلف أعضاء اللجان أمام رئيس مجلس إدارة الهيئة‪.‬‬
‫مادة ‪9‬‬
‫تبادر الهيئة ولجانها الفرعية القيام باتخاذ ما يلزم للنظر في المنازعات كما‬
‫يتولى عرض المنازعات على الهيئة كل من‪:‬‬
‫‪1‬ـ وزير العدل أو وزير الداخلية‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫‪2‬ـ النائب العام‪.‬‬
‫‪3‬ـ أطراف المنازعة أو احدهم ويجوز أن يكون العرض من وكالئهم وفقاً لما‬
‫تنص عليه أحكام قانون المرافعات المدنية والتجارية وللهيئة سلطة تقدير‬
‫صفة وأهلية أطراف المنازعة‪.‬‬
‫المادة ‪10‬‬
‫للهيئة واللجان التي تشكلها حق االطالع على كافة المستندات واألدلة تحت‬
‫أي يد كانت واالستماع إلى أقوال من ترى حاجة لالستماع إليهم‪.‬‬
‫مادة ‪11‬‬
‫تكون جلسات اللجان علنية ما لم تقرر هذه اللجان العتبارات تتعلق بالنظام‬
‫العام أو اآلداب العام إجراءها في سرية‪.‬‬
‫مادة ‪12‬‬
‫ليس في أحكام هذا القانون ما يخل بحق المتضرر أو وكيله في سلك سبل‬
‫االنتصاف القضائي لجبر األضرار عن االنتهاكات المرتكبة حقه أو في غل‬
‫يد النيابة العامة عن رفع ومباشرة الدعوى الجنائية تجاه المتهمين بارتكاب‬
‫تلك االنتهاكات‪.‬‬
‫مادة ‪13‬‬
‫تعتمد الهيئة قرارات اللجان الفرعية المسببة وتمنحها قوة السند الواجب النفاذ‬
‫وإذا تبين لها أن هناك نقصاً أو قصوراً في التحقيقات أو تناقضاً في النتائج أن‬
‫تعيد التقرير إلى اللجنة الفرعية المختصة لمزيد من الدراسة والتقصي وجمع‬
‫األدلة مع األخذ في االعتبار ماتراه مناسباً بشأن الموضوع المعروض‬
‫وتختص الهيئة بالنظر في المنازعات المثار بشأنها تنازع في اختصاص أكثر‬
‫من لجنة فرعية‪.‬‬
‫مادة ‪14‬‬
‫‪153‬‬
‫مع عدم اإلخالل بأحكام القانون رقم ‪ 19‬لسنة ‪ 1989‬المشار إليه لكل من‬
‫تضرر بسبب جرائم النظام السابق الحق في الحصول على التعويض المناسب‬
‫ويكون التعويض بصورة أو أكثر من الصور اآلتية‪:‬‬
‫‪1‬ـ دفع تعويض مادي يتم تحديده بقرار مسبب من الهيئة وفقاً للمعايير‬
‫والضوابط المنصوص عليها بالالئحة التنفيذية لهذا القانون ويعطي قرار‬
‫الهيئة قوة السند الواجب النفاذ‪.‬‬
‫‪2‬ـ تعويض معنوي ويشمل االعتذار للمتضرر أو اإلقرار له بما ارتكب في‬
‫حقه من تجاوزات أو انتهاكات‪.‬‬
‫‪3‬ـ تخليد الذكرى على النحو الذي يحدده مجلس الوزراء‪.‬‬
‫‪4‬ـ بأي صورة من الصور األخرى التي يصدر بتحديدها قرار من مجلس‬
‫الوزراء بناءاً على اقتراح الهيئة‪.‬‬
‫مادة ‪15‬‬
‫ينشأ صندوق يسمى "صندوق تعويض الضحايا" تكون له الشخصية القانونية‬
‫والذمة المالية المستقلة يتولى دفع التعويضات المستحقة بموجب هذا القانون‬
‫وتحدد بقرار من المجلس الوطني االنتقالي موارد الصندوق وكيفية تمويله‬
‫ويصدر بتنظيم الصندوق الئحة تنفيذية تصدر من مجلس الوزراء على أن‬
‫تتضمن طريقة دفع التعويضات ومواعيدها وكيفيتها ويحل الصندوق محل‬
‫صاحب الحق في مطالبة الملزم بالتعويض‪.‬‬
‫مع مرعاة المادة ‪ 88‬من القانون المدني للصندوق اتخاذ إجراءات الحجز‬
‫اإلداري على أموال المدين وفقًا ألحكام القانون رقم ‪ 1970/152‬بشأن‬
‫الحجز اإلداري‪.‬‬
‫مادة ‪16‬‬

‫‪154‬‬
‫كل من يمتنع عن تمكين الجهات المختصة بتنفيذ هذا القانون من االطالع‬
‫على أي أدلة أو مستندات في حوزته أو قام بإتالفها أو حجبها أو يرفض‬
‫المثول أمام لجان تقصي الحقائق والمصالحة يعاقب بالعقوبات المقررة قانوناً‬
‫مع مراعاة تدابير العفو المعمول بها بهذا الشأن‪.‬‬
‫مادة ‪17‬‬
‫تصدر الالئحة التنفيذية لهذا القانون بقرار من رئيس مجلس الوزراء‪.‬‬
‫مادة ‪18‬‬
‫يعمل بهذا القانون من تاريخ صدوره وينشر في الجريدة الرسمية‪.‬‬

‫الرابع والعشرون‪ :‬أسس شرعية للمصالحة الوطنية للشيخ الدكتور صادق‬


‫الغرياني‪:‬‬
‫الحمد هلل رب العالمين والصالة والسالم على رسول اهلل وعلى آله وصحبه‬
‫ومن وااله وبعد‪:‬‬
‫فإن المصالحة من الصلح واإلصالح‪ ،‬ومعناه اإلغضاء والتساهل‪ ،‬وعدم‬
‫التقصي في استيفاء الحقوق بين المتنازعين‪ ،‬بترك كل فريق بعضاً من حقه‪،‬‬
‫ليجتمعا على كلمة سواء وهو مدعو إليه طبعاً‪ ،‬ومرغب فيه شرعاً في الكتاب‬
‫والسنة وإجماع األمة‪ ،‬قال تعالى‪ ":‬الَّ خَيرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجوَاهُم إِالَّ مَن َأمَ َر‬
‫ف أَو إِصالَحٍ بَينَ النَّاسِ" (النساء‪ ،‬آية ‪ .)114 :‬وقال تعالى‪":‬‬ ‫بِصَ َد َقةٍ أَو مَعرُو ٍ‬
‫وَالصُّلحُ خَيرٌ" (النساء‪ ،‬آية ‪ .)128 :‬وقال تعالى‪َ ":‬فمَن عَفَا وَأَصلَحَ َفأَج ُر ُه‬
‫ال يُحِبُّ الظَّاِلمِين" (الشورى‪ ،‬آية ‪.)140 :‬‬‫اهلل إِنَّهُ َ‬
‫عَلَى َِّ‬
‫وفي الصحيح أن أهل قباء أقتتلوا حتى تراموا بالحجارة‪ ،‬فقال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ":‬اذهبوا بنا نصلح بينهم" (البخاري رقم ‪ ،)2693‬وفي‬

‫‪155‬‬
‫الصحيح ‪":‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف‬
‫ليصلح بينهم (البخاري رقم ‪.)643‬‬
‫ومن أحكام الصلح المرغب فيه ما يلي‪:‬‬
‫‪1‬ـ أن من ثبت له من المتخاصمين الحق‪ ،‬من دم أو عرض أو مال‪ ،‬األفضل‬
‫له بعد ثبوت حقه وبيانه له أن يتسامح ويتجاوز ويتصدق بالحق على صاحبه‪،‬‬
‫فذلك كفارة له‪ ،‬قال تعالى بعد أن ذكر أن " أَنَّ النَّفسَ بِالنَّفسِ وَالعَينَ بِالعَينِ‬
‫ص" قال ‪َ ":‬فمَن‬ ‫جرُوحَ قِصَا ٌ‬ ‫وَاألَنفَ بِاألَنفِ وَاألُذُنَ بِاألُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَال ُ‬
‫تَصَدَّقَ ِبهِ َفهُوَ كَفَّا َر ٌة َّلهُ" (المائدة‪ ،‬آية ‪.)45 :‬‬
‫‪2‬ـ التصالح والتسامح المرغب فيه شرعاً‪ ،‬إنما يكون مع من صدرت منه‬
‫الهفوة والخطأ وتاب منه‪ ،‬فهذا هو المعني بالعفو والصلح في قوله تعالى‪":‬‬
‫َفمَن عَفَا َوأَصلَحَ" (الشورى‪ ،‬آية ‪ )40 :‬وقوله‪ ":‬وََلمَن صَبَرَ وَغَ َفرَ إِنَّ ذَِلكَ َلمِن‬
‫األمُورِ" (الشورى‪ ،‬آية ‪ .)43 :‬وقوله تعالى‪ ":‬وَالَ تَستَوِي الحَسَ َنةُ وَالَ‬ ‫عَزمِ ُ‬
‫السَّيِّ َئةُ" (فصلت‪ ،‬آية ‪.)34 :‬‬
‫أما من كان مشهوراً بالبغي مجاهرًا بالعدوان واإلجرام‪ ،‬فاالنتصار‬
‫والقصاص منه شرعًا أولى لقول اهلل تعالى‪ ":‬وَالَّذِينَ إِذَا أَصَا َبهُمُ البَغيُ هُم‬
‫صرُونَ" (الشورى‪ ،‬آية ‪ .)39 :‬فقد جاءت الىية في معرض المدح عقب‬ ‫يَنتَ ِ‬
‫قوله تعالى‪ ":‬وَالَّذِينَ استَجَابُوا ِلر َِّبهِم" (الشورى‪ ،‬آية ‪ .)38 :‬ومحلها من كان‬
‫مشهوراً بالبغي والعدوان‪.‬‬
‫‪3‬ـ الصلح المرغب فيه شرطه أال يحل حراماً أو يحرم حالالً‪ ،‬قال صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ":‬الصلح جائز بين المسلمين إال صلحاً حرم حالالً أو أحل حراماً‪،‬‬
‫والمسلمون على شروطهم إال شرطاً حرم حالالً أو أحل حراماً" (الترمذي‬
‫رقم ‪.)1272‬‬
‫‪4‬ـ ال يجوز إقرار مبدأ في الصلح يترتب عليه ظلم بريء‪ ،‬وذلك مثل إقرار‬
‫عقوبة جماعية على أهل بلدة بأسرها وقع منها على الحرمات والدماء‪ ،‬ألن‬

‫‪156‬‬
‫البالد المتهمة بالتعدي البد أن يوجد فيها الصغير والمرفوع عنه القلم والكبير‬
‫العاجز ومن لم يرض بفعل أهلها‪ ،‬وال قدرة له على منعهم‪ ،‬فإقرار مبدأ‬
‫عقوبتهم جميعاً‪ ،‬كتهجيرهم من ديارهم هو صلح بما حرمه اهلل تعالى من‬
‫الظلم‪ ،‬وقد قال اهلل تعالى‪َ ":‬ومَن يَظلِم مِّنكُم نُذِقهُ عَذَابًا كَبِيرًا" (الفرقان‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫شهَدَاء بِالقِسطِ"‬ ‫‪ .)19‬وقال تعالى‪ ":‬يَا أ َُّيهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ هللِِّ ُ‬
‫(المائدة‪ ،‬آية ‪ .)8 :‬وقال تعالى‪ ":‬وَالَ تَكسِبُ كُلُّ نَفسٍ إِالَّ عَلَيهَا وَالَ تَزِرُ وَازِرَةٌ‬
‫وِزرَ أُخرَى" (األنعام‪ ،‬آية ‪.)146 :‬‬
‫‪5‬ـ ال يجوز ألحد ظلم أن يتولى القصاص من الظالم بنفسه‪ ،‬بل عليه أن يرفع‬
‫ذلك إلى القضاء فالقصاص واسترداد المظالم ال يكون إال عن طريق األئمة‬
‫والحكام‪ ،‬وذلك بإجماع األمة‪.‬‬
‫‪6‬ـ الحاكم الذي يرفع إليه األطراف خصوماتهم لينظر فيها يندب له أن يأمر‬
‫األطراف بالصلح والعفو‪ ،‬وال يحوجهم إلى تتبع الصغير والكبير من حقوقهم‪،‬‬
‫وذلك بشرطين‪:‬‬
‫األول‪ :‬موافقة جميع األطراف على مصالحته والرضا بها‪ ،‬فإن رد أحد‬
‫األطراف الصلح يجب على من يتولى الصلح استيفاء الحق ألصحابه‪ ،‬لقول‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم للزبير حين رد خصمه الصلح على النبي صلى اله‬
‫عليه وسلم ‪" :‬أسقِ ثمَّ احبس يَبلُغَ الجَدرَ" إحالة (البخاري رقم ‪.)2509‬‬
‫الثاني‪ :‬أن ال يتبين للحاكم الحق بعد أن يكون قد نظر في الدعاوي وسماع‬
‫البينات‪ ،‬فحينها‪ ،‬ـ أن تبين له ـ فال بد أن يبين لصاحب الحق حقه‪ ،‬بعد أن ذلك‬
‫إن أراد أن يترك صاحب الحق حقه فاألمر له‪ ،‬وذلك لما جاء في رسالة عمر‬
‫رضي اهلل عنه إلى أبي موسى األشعري‪( :‬فالحرص على الصلح ما لم يتبين‬
‫لك فصل القضاء)‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ الصلح والتنازل عن الحق كله أو بعضه‪ ،‬ال يكون إال ممن ملك ذلك‬
‫الحق‪ ،‬فال يجوز الصلح أو التنازل عن الحق من غير صاحبه الذي يملكه‪،‬‬
‫سواء كان الذي ال يملكه الدولة أو األفراد‪ ،‬فقد قال اهلل تعالى‪َ " :‬ومَن قُتِلَ‬
‫‪157‬‬
‫جعَلنَا لِوَل ِِّيهِ سُلطَانًا" (اإلسراء ‪ ،‬آية ‪ ،)33 :‬ومعنى هذا أنه ليس‬
‫مَظلُومًا فَقَد َ‬
‫ألحد أياً كان‪ ،‬الحكومة أو غيرها‪ ،‬أن تعفو عن أحد أجرم في حق الوطن‪،‬‬
‫بقتل أو نهب مال أو غيره‪ ،‬إال ممن له والية على ذلك شرعاً‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ المهجرون عن بلدانهم يجوز عند الخوف من الثأر واالنتقام منهم إبقاؤهم‬
‫بأماكن مؤقتة خارج مناطقهم التي دارت فيها المعارك بينهم وبين جيرانهم‪،‬‬
‫وذلك إلى قيام المحاكم اإلنتقالية لتنظر في قضاياهم‪ ،‬ليعرف المذنب من‬
‫البرئ‪ ،‬وحينها يقع القصاص من الظالم عن طريق المحاكم‪ ،‬ويرجع األبرياء‬
‫إلى ديارهم وذويهم‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ إلى أن يتم تفعيل المصالحة‪ ،‬إما بإنشاء المحاكم‪ ،‬أو بالعمل على تهدئة‬
‫النفوس‪ ،‬المطلوب من الدولة أن تؤوي هؤالء المهجرين في وضع الئق‪ ،‬ألن‬
‫بقاءهم الجئون دون إيواء يثير فيهم االحساس بالمذلة‪ ،‬وإحياء الثارات القبلية‬
‫القديمة مع جيرانهم‪ ،‬فيلجأون إلى حمل السالح‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ المطلوب من الدولة أن تسرع بإنشاء هذه المحاكم الخاصة بالمصلحة‬
‫الوطنية‪ ،‬ألن اإلسراع بها يخفف من التوتر واالحتقان الحاصل بين الطرفين‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ المصالحة الوطنية تعد من القضايا الوطنية العامة‪ ،‬أي تعني الوطن كله‪،‬‬
‫وليست قضية خاصة بين البلدين المطلوب المصالحة بينهما‪ ،‬لذا يجب أن‬
‫تتبناها الدولة‪ ،‬وال تترك على أنها قضية خاصة يوكل أمرها إلى األطراف‬
‫التي تضررت‪ ،‬ألن الخصم ال يكون حكماً‪.‬‬
‫‪ 12‬ـ الكتائب الذين قاتلوا الثوار‪ ،‬يؤخذ كل واحد منهم بما وقع منه من تعد‬
‫على الدماء والحرمات واألموال‪ ،‬فإن الباغي إذا كان خروجه لعناد وعصبية‬
‫من غير تأويل‪ ،‬فإنه يضمن بخروجه على اإلمام العدل كل ما أتلفه من نفس‬
‫ومال وجراح وفروج‪ ،‬فيقتص منه في األطراف والنفوس‪ ،‬ويرد منه المال إن‬
‫كان قائماً ويغرمه إن فات إال أن يشاء صاحب الحق أن يترك حقه فله ذلك‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫‪ 13‬ـ المصالحة الوطنية المتعلقة بتولي مناصب الدولة ال تكون بإسناد‬
‫مناصب قيادية في اإلدارات والمؤسسات إلى من تعاونوا مع نظام القذافي من‬
‫الفئات التالية‪:‬‬
‫أ ـ من تلطخت أيديهم بالدماء‪.‬‬
‫ب ـ من كان معروفاً بسرقات األموال واستغالل النفوذ‪.‬‬
‫ج ـ من كان معروفاً من اللجان الثورية بالنشاط وحضور الملتقيات وقول‬
‫الزور بالمدح الكاذب والنفاق ومالحقة األبرياء والوشاية بهم وذلك ألن هؤالء‬
‫جميعاً ال يجوز إسناد المناصب القيادية إليهم‪ ،‬فإن مارتكبوه يعد جرحة بالغة‬
‫تسلب عدالتهم‪ ،‬وال يجوز أن يولي غير العدل‪ ،‬لقوله تعالى‪ " :‬اجعَلنِي عَلَى‬
‫خزَآئِنِ األَرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" (يوسف ‪ ،‬آية ‪.)55 :‬‬
‫َ‬
‫الصادق بن عبد الرحمن الغرياني‬
‫ذو القعدة ـ ‪1432‬هـ ـ ‪26‬‬

‫الخامس والعشرون‬

‫مقترح بآليات وأساليب تحقيق المصالحة الوطنية‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ تشكيل هيئة وطنية للمصالحة تلحق بها اللجان اآلتية‪:‬‬
‫أ ـ اللجنة العليا للصلح االجتماعي وتنبثق عنها لجان فرعية على مستوى‬
‫المناطق‪ ،‬وتتبعها لجان صلح محلية على مستوى كل مجلس محلي‪.‬‬
‫ب ـ لجنة المالحقة والتقصي‪ :‬وتختص بمالحقة المسؤولين عن االنتهاكات في‬
‫داخل البالد وخارجها وتقصي الحقائق حيال أوضاع المفقودين وضحايا القتل‬
‫واالغتصاب‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫ج ـ لجنة التعويضات ورد االعتبار‪ :‬وتختص بمتابعة وتقدير ما لحق‬
‫بالضحايا من أضرار مادية ومعنوية‪ ،‬ووضع آليات تعويضهم وتحديد أساليب‬
‫االعتذار لهم‪.‬‬
‫د ـ لجنة التسامح والعفو‪ :‬وتختص بالنظر في طلبات العفو المقدمة بشأن‬
‫الجرائم التي ارتكبت ألسباب سياسية وبالتصرف على ضوء ذلك‪.‬‬
‫تعمل هذه اللجان جميعها تحت إشراف الهيئة الوطنية للمصالحة التي ينبغي‬
‫أن تكون مستقلة وال تتبع ألي جهة‪ ،‬ويتم تحديد صالحيات هذه اللجان وحدود‬
‫اختصاصاتها وآليات اختيارها وعالقاتها ببعضها بالئحة من الهيئة الوطنية‬
‫للمصالحة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ توفير االمكانيات الالزمة لقيام الهيئة بمهامها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ اتخاذ ما يلزم من ترتيبات سياسية واقتصادية واجتماعية لتحقيق‬
‫المصالحة الوطنية‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ االهتمام بالثوار من خالل استيعابهم وتنمية قدراتهم وتقديم الدعم المادي‬
‫لهم في شكل منح وإعانات وحوافز نقدية وعينية من أجل ال يتجاوز السنة‪،‬‬
‫واالهتمام بأسر الشهداء والجرحى والمفقودين‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ فتح حوار واسع مع أسر الشهداء وضحايا النظام لتحديد المطالب‬
‫واألولويات‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ إعادة بناء مؤسسات الجيش واألمن الوطني ومؤسسات االصالح والتأهيل‬
‫واالستفادة من خبرات الدول في مجال المصالحة والعدالة االنتقالية‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ اطالق حمالت في الصحف ووسائل االعالم المختلفة وعن طريق‬
‫منظمات المجتمع المدني لتعميق حالة الوعي بأهمية المصالحة‪ ،‬والحث على‬
‫التمسك بها والعمل من أجلها وخلق مناخ عام تسوده مشاعر الصفح والتسامح‬
‫والعفو واالعتذار‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫‪ 8‬ـ ضرورة العمل على حشد التأييد والدعم الدولي لهذا التوجه‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ ضرورة االستفادة من مجالس الحكماء والشورى بكل منطقة واعتمادها‬
‫لجان توعية قاعدية تسهم في تهيئة ظروف الحوار حول عديد الموضوعات‬
‫مهما كانت مؤلمة وحساسة‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ اتخاذ ما يلزم من إجراءات الثبات قدرة الدولة على تأمين الحدود‬
‫وفرض األمن والنظام من خالل ممارسة مهام الضبط واالحضار‪ ،‬ومهام‬
‫الدوريات الثابتة (البوابات) والمتحركة‪ ،‬وإدارة المنافذ بأنواعها‪ ،‬وكذلك منع‬
‫المظاهر المسلحة في الميادين والشوارع والشروع في تجميع وسحب‬
‫األسلحة‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ ضرورة توخي نوايا صادقة‪ ،‬وقراءة صحيحة لألوضاع الراهنة‬
‫والمستقبلية وهو ما يتطلب البدء الفوري في مشاورات ومناقشات بمختلف‬
‫أنحاء البالد حتى تتكون قناعة عامة أن المصالحة الوطنية هي الخيار األمثل‪.‬‬
‫‪ 12‬ـ ضرورة وضع برنامج زمني إلنجاز المصالحة الوطنية في أمد ال‬
‫يجاوز خمسة عشر شهراً‪.‬‬
‫‪ 13‬ـ اإلعالن عن ميثاق وطني للمصالحة يلتزم به جميع الليبيين‪.‬‬
‫‪ 14‬ـ البحث في مدى ضرورة إعداد قانون يحقق العدالة االنتقالية والنظر في‬
‫إمكانية العمل به‪.‬‬
‫‪ 15‬ـ إزالة رواسب الماضي ومحو آثاره من خالل‪:‬‬
‫أ ـ الكف عن المضايقات وأعمال القبض غير القانونية والمداهمات والوقوف‬
‫بحزم ضد أي أعمال انتقامية فردية كانت أم جماعية‪.‬‬
‫ب ـ االستعداد للصفح وتحميل تبعات ما جرى للنظام السابق واعتبار الليبيين‬
‫جميعاً ضحايا له‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫ج ـ االهتمام بالجرحى والمفقودين والمحتجزين من ضحايا النظام ورعاية‬
‫أسرهم‪.‬‬
‫د ـ وضع حد الستمرار معاناة النازحين جراء األحداث والبحث في إمكانية‬
‫إعادة أسر الفارين إلى الخارج وتقديم ضمانات لعودتهم لممارسة حياتهم‬
‫ببالدهم بحرية وكرامة‪.‬‬
‫هـ ـ اتخاذ اإلجراءات الكفيلة بسرعة إعادة إعمار المناطق المتضررة وتهيئة‬
‫ظروف عودة حياة آمنة ومستقرة بها‪.‬‬
‫و ـ نبذ أي أعمال خارجة عن القانون تقع مستقبالً‪ ،‬وتصنيفها على أنها أعمال‬
‫فردية‪ ،‬وعدم سحبها على المكون االجتماعي الذي ينتمي إليه مقترفها‪،‬‬
‫وتحميل من قام بها تبعاتها ومسؤوليتها‪.‬‬
‫‪ 16‬ـ إقامة مؤتمر عام للمصالحة الوطنية‪ ،‬بالتنسيق مع الجهات المعنية‪.‬‬
‫مقدمة من‪ :‬بلقاسم رمضان بريبش‬
‫حكماء ومجلس شورى الصيعان (بدرـ تيجي)‬

‫مقترح هيكلة الهيئة الوطنية للمصالحة‬

‫الهيئة الوطنية للمصالحة تنقسم إلى‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ اللجنة الوطنية للصلح االجتماعي وتتفرع عنها‪:‬‬
‫أ ـ اللجنان الفرعية للصلح االجتماعي‪.‬‬
‫ب ـ اللجان المحلية للصلح االجتماعي‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ اللجنة العليا للتقصي والمالحقة‪.‬‬
‫‪162‬‬
‫‪ 3‬ـ اللجنة العليا للتعويض ورد االعتبار‬
‫‪ 4‬ـ اللجنة العليا للتسامح والعفو‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫السادس والعشرون‬
‫منتدى خبراء طرابلس‬
‫وثيقة مبادئ المصالحة الوطنية‬
‫"فلنتصافح لخدمة ليبيا"‬

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫"إِ َّنمَا المُؤمِنُونَ إِخ َوةٌ َفأَصلِحُوا بَينَ أَخَوَيكُم"‬

‫ال خَي َر فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجوَاهُم إِالَّ مَن َأ َمرَ بِصَ َد َقةٍ‬
‫" َّ‬
‫ح بَينَ النَّاسِ"‬
‫أَو مَعرُوفٍ أَو إِصالَ ٍ‬

‫" َومَا ُأرِيدُ أَن أُخَالِ َفكُم إِلَى مَا أَنهَاكُم عَنهُ إِن ُأرِيدُ إِالَّ اإلِصالَحَ‬
‫مَا اس َتطَعتُ َومَا تَوفِيقِي إِالَّ بِاهللِّ"‬
‫"صدق اهلل العظيم"‬

‫يعي الليبيون جميعاً أن نظام الطاغية ومن خالل الحرب القذرة التي فرضها‬
‫علينا‪ ،‬عمل بخبث ومهارة شيطانية على استهداف اللحمة الوطنية واستقصد‬
‫زرع بذور الشقاق والفتنة وبواعث االحتراب بين القبائل والمدن الليبية بغية‬
‫إدخال البالد في سرداب الفوضى األهلية المظلم‪ ،‬ولألسف كل أنواع العدوان‬
‫والتخريب والفساد مارسه في الغالب ليبيون ضد ليبيين سواء على مستوى‬
‫أفراد أو قبائل أو حتى مدن‪ ،‬مما أوجد جروحاً وآالماً عميقة في النسيج‬

‫‪164‬‬
‫االجتماعي الليبي‪ ،‬ولكن وبحمد اهلل وتوفيقه‪ ،‬ال زال الشعب الليبي على قدر‬
‫من الوعي واالدراك لدرء مكامن الفتنة وبذور الشقاق ومثلما هو حريص‬
‫على تطبيق شرع اهلل في القصاص والعدل ومحاسبة كل من أجرم في حقه‪،‬‬
‫فهو أيضاً مدرك ألهمية المصالحة الوطنية كخيار حضاري ومطلب شعبي ال‬
‫غنى عنه للنهوض بالوطن وبناء ليبيا الجديدة على أسس المحبة واالخاء‬
‫والعدل والقانون ونبذ سياسة العنف والتطرف والتهميش واالقصاء‪.‬‬
‫بهذا الخصوص‪ ،‬وفي سبيل تحقيق المصالحة الوطنية على الوجه األكمل دون‬
‫إضاعة حقوق أو تكريس مظالم‪ ،‬كان واجب علينا أال نجعل من التشفي‬
‫واالنتقام والثارات والعقاب الجماعي سبيالً نسلكه‪ ،‬وأن نرد األمر لصاحب‬
‫األمر سبحانه وتعالى فهو الذي منَّ علينا بهذا النصر " َومَا النَّصرُ إِالَّ مِن عِندِ‬
‫اهللِّ"‪ ،‬وأن نجعل من كتاب اهلل وسنة الحبيب المصطفى مرجعاً ودليالً للخروج‬
‫بوثيقة مباديء للمصالحة الوطنية يتفق عليها كل الليبيون كأساس ومرجع‬
‫للمصالحة بحيث تحدد مفهوم المصالحة وآلية تنفيذها وتبين حقوق وواجبات‬
‫جميع األطراف‪.‬‬
‫أولى منتدى خبراء طرابلس منذ تأسيسه إهتماماً خاصاً لمسألة المصالحة‬
‫الوطنية لما فيها من خير البالد والعباد وعكف في العديد من اجتماعاته على‬
‫دراسة ومناقشة مختلف األفكار والحلول وخرج بوثيقة مباديء للمصالحة‬
‫الوطنية كفيلة إن شاء اهلل بنزع الحقد والضغائن من القلوب وترضية النفوس‬
‫واحقاق الحق وإقامة الحد واالعتراف بالذنب وتسوية النزاعات بالطرق‬
‫السلمية حتى يتفرغ الليبيون الصالح ما تم افساده طيلة األربع عقود الماضية‬
‫واالنطالق في مرحلة البناء والتشييد في جو تسوده الطمأنينة واألمن‬
‫واالستقرار‪.‬‬
‫أوَلا‪ :‬الثوابت والمسلمات‪:‬‬

‫‪165‬‬
‫ـ تظل المصالحة الوطنية ضرورة ملحة ومطلباً أولياً لتوطيد واستتباب األمن‬
‫واالستقرار والذي هو حجر األساس لبناء الدولة الجديدة‪ ،‬وهي هدف شعبي‬
‫ومجتمعي يهم كل شرائح المجتمع‪.‬‬
‫ـ لن تكون هناك دولة ناجحة بدون تصالح ومصالحة وطنية بكل ما تحمله‬
‫هاتان الكلمتان من معاني‪ ،‬فالتصالح والمصالحة هما العمود الفقري للنهوض‬
‫والتقدم واالستقرار‪.‬‬
‫ـ علينا أن نعي جميعاً بأنه ال خيار سلمي وحضاري لنا في هذه الظروف‬
‫التاريخية الحرجة غير تحقيق التصالح والمصالحة بين كل الفرقاء إذا كنا‬
‫فعالً نريد بناء دولة مدنية ديمقراطية دستورية مؤسساتية‪ ،‬قوامها القانون‬
‫والعدالة االجتماعية‪.‬‬
‫ـ المصالحة الوطنية هي تكريس وتجسيد اللحمة الوطنية على أساس اإلخاء‬
‫والتسامح والتآزر‪ ،‬ونبذ مظاهر التنازع والتنافر والفتن‪.‬‬

‫ثانياا‪ :‬مفهوم المصالحة‪:‬‬


‫ـ المصالحة الوطنية تعني المصارحة والمكاشفة ـ المساءلة واالعتراف ـ‬
‫العدل والقصاص ـ االعتذار والعفو ـ االنصاف والتعويض المجزي وتقتضي‬
‫الشفافية والمصداقية والشجاعة في تحديد من هو المذنب في حق الشعب‬
‫الليبي سواء كان فرداً أو جماعة أو قبائل أو مدن‪.‬‬
‫ـ المصالحة الوطنية تقتضي اعطاء كل ذي حقاً حقه‪ ،‬فاالعتراف بالفضل‬
‫ألصحاب الفضل واجب‪ ،‬واعتذار المسيء للمسيء إليه واجب‪ ،‬وعلى جميع‬
‫المستويات‪.‬‬
‫ـ يظل الهدف األساسي للتصالح والمصالحة هو رأب الصدع بين المتنازعين‬
‫والفرقاء وذلك بتحقيق العدل ورد المظالم بين األطراف دون تنازل األضعف‬
‫في المعادلة‪.‬‬
‫‪166‬‬
‫ـ المصالحة الوطنية ال تعني عفى اهلل عما سلف وال تعني بالضرورة محاولة‬
‫إعادة األوضاع إلى ما كانت عليه وإنما محاولة إيجاد الحل الوسط والتعامل‬
‫مع المشاكل والنزاعات بما يحقق الصلح بين األطراف المتنازعة في ظل‬
‫العرف والقانون والتشريعات النافذة‪.‬‬

‫ثالثاا‪ :‬أهداف المصالحة‪:‬‬


‫ـ إنهاء الضغائن وترضية النفوس وتسوية النزاعات بالطرق الودية وبأقل‬
‫التكاليف‪.‬‬
‫ـ عودة الحياة الطبيعية إلى مدننا وقرانا وتحقيق السلم االجتماعي‪.‬‬
‫ـ السعي لحقن دماء المتنازعين وصيانة أعراضهم وحفظ مُمتلكاتهم وأموالهم‪.‬‬
‫ـ ضمان حسن الجوار بين المدن والقرى والقبائل المتجاورة‪.‬‬
‫ـ تأمين الطرق والمواصالت بين المدن والقرى‪.‬‬
‫ـ عودة النشاطات االقتصادية (التجارة‪ ،‬التنقل‪ ،‬السعي في األرض‪.... ،‬الخ)‬
‫إلى جميع أنحاء البالد‪.‬‬
‫ـ التأكيد على ثقافة العفو والصفح عند المقدرة وتنمية روح االخاء والتعاون‬
‫بين المواطنين لتحقيق الصالح العام‪.‬‬
‫ـ ترسيخ ثقافة السالم واألمن والبناء واالستقرار ونبذ ثقافة التخويف والتمزق‬
‫واالقصاء والهدم‪.‬‬
‫ـ إعادة بناء وتعمير المناطق المتضررة‪.‬‬
‫ـ تعويض األهالي المتضررين تعويضاً مجزياً‪.‬‬
‫ـ كفالة أسر الشهداء‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫ـ عالج الجرحي والمصابين‪.‬‬
‫ـ تسليم المتهمين في القتل واالجرام من أعوان النظام السابق إلى جهات‬
‫االختصاص والذين كانوا طرفاً في ما آلت إليه البالد من كوارث وتهجير‬
‫بتلك المناطق‪.‬‬
‫ـ توفير أماكن إقامة الئقة تتوفر بها كافة وسائل العيش الكريم للعائالت التي‬
‫تضررت من الحرب وتركت أماكن إقامتها األصلية إلى حين إيجاد ما يناسب‬
‫هذه المشكلة من حلول‪ ،‬قد تستغرق مدة طويلة‪.‬‬
‫ـ إتاحة الفرصة لكل من أجرم في حق الشعب لالعتذار وطلب العفو من‬
‫شعبنا الكريم‪.‬‬

‫رابعاا‪ :‬القواعد التي يجب أن تببنى عليها المصالحة‪:‬‬


‫ـ الشريعة االسالمية والسنة النبوية واالعراف السائدة في المصالحات‬
‫بالمناطق المختلفة ما لم تخالف شرع اهلل‪.‬‬
‫ـ انه من غير العدل عقاب الكل بجريرة البعض " وَالَ َتزِ ُر وَا ِز َرةٌ وِزرَ‬
‫أُخرَى"‪.‬‬
‫ـ إن القصاص واجب شرعي " وََلكُم فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي األَلبَابِ"‪.‬‬
‫ـ أنه من الضرورة ضمان حقوق أولي الحقوق وأولي الدم‪.‬‬
‫ـ أنه من الضرورة االعتراف بالمظالم وردها أو تعويضها‪.‬‬
‫ـ إن االعتذار وطلب الصفح والعفو واجب‪.‬‬
‫ـ قبول الطرف المتضرر اإلعتذار وطلب الصفح والعفو أو طلب القصاص‬
‫والتعويض‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫ـ قبول شروط الطرف المتضرر من قبل المسبب للضرر ما لم تخالف شرع‬
‫اهلل‪.‬‬
‫خامساا‪ :‬آليات تحقيق المصالحة‪:‬‬
‫ـ تشكيل لجنة وطنية عليا للمصالحة تحت رئاسة الهيئة العامة لألوقاف على‬
‫أن تضم في عضويتها‪:‬‬
‫ـ مندوب عن األوقاف (يرأس اللجنة)‪.‬‬
‫ـ مجموعة من شيوخ الدين والوعاظ‪.‬‬
‫ـ مجموعة من القانونيين‪.‬‬
‫ـ مندوبين عن القبائل يتم ترشيحهم من قبل مدنهم وقبائلهم‪.‬‬
‫ـ اخصائيين في علم االجتماع وعلم النفس‪.‬‬
‫ـ مندوب حقوق اإلنسان‪.‬‬
‫ـ مندوبين عن مؤسسات المجتمع المدني الراغبة في ذلك‪.‬‬
‫ـ مجموعة متميزة من اإلعالميين‪.‬‬
‫ـ يتم تعيين أعضاء اللجنة على أساس الكفاءة والنزاهة والمقدرة على إنجاز‬
‫أهداف اللجنة‪.‬‬
‫ـ تشكيل لجان فرعية متخصصة لتقصي الحقائق والقيام بمهام المبادرات‬
‫الميدانية‪.‬‬
‫ـ تشكيل لجان الحكماء واالعيان بمختلف المناطق مهمتها االتصال بكل‬
‫الخيّرين في كل المدن والمناطق والقبائل والتشاور معهم في كيفية حل‬
‫مشاكلنا اإلجتماعية والسياسية‪.‬‬
‫سادساا‪ :‬اختصاصات اللجنة وصًلحياتها‪:‬‬
‫‪169‬‬
‫ـ تصنيف انواع النزاع (قتل ـ عرض ـ سرقة ـ تعدي ـ استيالء)‪.‬‬
‫ـ تحديد المناطق التي تحتاج الى تدخل اللجنة للصلح‪.‬‬
‫ـ إعتبار قرار اللجنة الوطنية العليا بعد التوافق عليه من طرف المتنازعين‬
‫حال نهائيا لالشكال وله من القوة ما يجعله سندا قانونيا‪.‬‬
‫ـ اعداد وثيقة شرف تنشيد بدور القبائل التي تنازلت عن جزء من حقها‬
‫لغرض اتمام المصالحة الوطنية‪.‬‬
‫ـ االطالع على أية معلومات أو وثائق أو سجالت لها عالقة بأداء مهامها‬
‫وإستجواب أي شخص مهما كان منصبه وطالما له عالقة باألمر‪.‬‬
‫ـ عقد جلسات إستماع علنية ومفتوحة للجمهور على ان يسمح للشخص ذي‬
‫الصلة أن يقدم طلبا للجنة بعقد الجلسات خلف أبواب مغلقة‪.‬‬
‫ـ التوصية بإصدار العفو على من يستحقه وهذا العفو ال يمكن تحقيقه إال بعد‬
‫توفر الشروط التالية‪:‬‬
‫ـ أن يعترف المتهم أمام اللجنة بكل الحقيقة وال يخفي منها شيئاً‪.‬‬
‫ـ أن يكون المتهم قد اقترف الجرم بناء على أوامر أتت إليه من رؤسائه‪.‬‬
‫ـ أنه اعتقد بتنفيد هذه اآلوامر يقدم خدمة للوطن‪.‬‬
‫الملتقى األول لمجالس الحكماء والشورى بليبيا‬
‫"من أجل المصالحة الوطنية"‬
‫الزاوية في الفترة من ‪ 1‬ـ ‪ 3‬محرم الحرام ‪ 1433‬هـ الموافق ‪ 26‬ـ‬
‫‪ 2011/11/28‬م‬

‫‪170‬‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬
‫والصًلة والسًلم على سيدنا محمد أشرف األنبياء والمرسلين الصادق‬
‫الوعد األمين‬
‫السابع والعشرين‪ :‬ميثاق شرف للمصالحة الوطنية‬
‫نحن المجتمعون في الملتقى األول لمجالس الحكماء والشورى بليبيا المنعقد‬
‫بمدينة الزاوية خالل الفترة من غرة محرم الحرام وحتى الثالث منه ‪1433‬‬
‫هجري الموافق ‪ 26‬ـ ‪ 2011/11/28‬ميالدية تحت شعار "من أجل‬
‫المصالحة الوطنية"‪ ،‬وتحت راية االستقالل التي تمثل استحضارا لتضحيات‬
‫األجداد واآلباء من أجل استقالل وتوحيد ليبيا وطنا موحدا حرا لجميع الليبيين‬
‫بنسيجهم الحضاري والثقافي والتاريخي المتنوع‪ ،‬وتثمينا لتضحيات الجيل‬
‫الحاضر في سبيل التخلص من حكم الطغيان والظلم واالستبداد‪.‬‬
‫واستلهاما لمبادئ الشريعة اإلسالمية الغراء التي تحض على العفو والتسامح‬
‫َاتقُوا اهللَّ َوأَصِلحُوا ذَاتَ بِي ِنكُم‬
‫وتدعو إلى العدل واإلنصاف مصداقاً لقوله تعالى‪":‬ف َّ‬
‫اهلل َورَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤمِنِينَ"‪ ،‬ووفاءً لدماء الشهداء الذين ضحوا‬
‫وََأطِيعُوا َّ‬
‫بأرواحهم وبذلوا دماءهم الزكية لرفع الظلم وإنهاء االستبداد وتحقيق الحرية‬
‫لكي ينعم بها كل الليبيين والليبيات‪ ،‬وعقدا للعزم على معالجة ما نشأ عن‬
‫معارك التحرير المجيدة من تبعات وأثار سلبية‪ ،‬وتطلعا إلى مستقبل مشرق‬
‫يتطلب توجيه كل الجهود والطاقات والموارد نحو بناء ليبيا الجديدة التي تقوم‬
‫على احترام حقوق اإلنسان وسيادة القانون والمساواة بين المواطنين‪.‬‬
‫وإدراكاً بأن ما شهده المجتمع الليبي خالل حرب التحرير هو ثورة شعبية عارمة تهدف‬
‫إلى تحول سياسي واجتماعي وتاريخي ينهي وإلى األبد عهد الظلم واالستبداد‪،‬‬
‫ويتطلع إلى فجر مشرق تسود فيه الحرية ويتحقق فيه العدل واإلنصاف‪.‬‬
‫فقد تم التوافق على اآلتي‪:‬‬

‫‪171‬‬
‫أوَلا‪ :‬المصالحة الوطنية من أولويات العمل الوطني وهي مسئولية الجميع‬
‫وأساسها العدل واإلنصاف القائم على المساءلة وإعادة الحقوق إلى أصحابها‬
‫ورد المظالم وجبر الضرر واالعتراف بحق الضحايا ورد االعتبار إليهم‬
‫وتكريس اإلحساس بالمواطنة تحقيقا للسلم واألمن األهليين‪.‬‬
‫ثانياا‪ :‬التأكد على شخصية العقوبة وعدم اللجوء إلى ممارسات العقاب‬
‫الجماعي والتهجير وحرق المساكن والحرمان من الخدمات العامة‪...‬الخ‪،‬‬
‫إمتثاالً لقوله تعالى‪":‬أَالَّ َت ِزرُ وَا ِزرَ ٌة وِز َر أُخرَى"‪.‬‬
‫ثالثاا‪ :‬عدم استيفاء الحق بالذات‪ ،‬واللجوء إلى القضاء فيما ينشأ بين الليبيين من‬
‫خالفات أو نزاعات‪ ،‬ومنع االحتكام للسالح‪ ،‬وتبني لغة الحوار والوسائل السلمية‬
‫إلتزاماً بمبادئ الشريعة اإلسالمية واسترشاداً بالعرف االجتماعي السائد‪.‬‬
‫رابعاا‪ :‬االلتزام بالوحدة بين أبناء الشعب وتعزيز اللحمة الوطنية وذلك بنبذ‬
‫الجهوية والمركزية واإلقصاء والتهميش على أسس قبلية أو عرقية أو مذهبية‪،‬‬
‫وتحقيق العدالة االجتماعية والتنمية المتوازنة المستدامة لجميع مدن وقرى ليبيا‪.‬‬
‫خامساا‪ :‬االلتزام بحماية ثورة السابع عشر من فبراير والعمل على تحقيق‬
‫اهدافها المتمثلة في الحرية واحترام حقوق اإلنسان وكرامته وسيادة القانون‬
‫وتسخير موارد ليبيا وثرواتها لمصلحة الشعب الليبي من أجل تحقيق رفاهيته‬
‫وضمان مستقبل األجيال القادمة‪ ،‬فال نكوص عن هذه األهداف وال عودة‬
‫للظلم واالستبداد والطغيان‪.‬‬
‫المجد والخلود للشهداء األبرار‬
‫عاشت ليبيا حرة أبية‬
‫واهلل ولي التوفيق‬
‫الملتقى األول لمجالس الحكماء والشورى بليبيا‬
‫صدر بمدينة الزاوية في الثالث من محرم الحرام ‪ 1433‬هـ الموافق‬
‫‪ 2011/11/28‬م‬
‫الثامن والعشرين‪ :‬الملتقى األول لمجالس الحكماء والشورى بليبيا‬
‫"من أجل المصالحة الوطنية"‬

‫‪172‬‬
‫الزاوية في الفترة من ‪ 1‬ـ ‪ 3‬محرم الحرام ‪ 1433‬هـ الموافق ‪ 26‬ـ‬
‫‪ 2011/11/28‬م‬
‫البيان الختامي للملتقى‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬
‫والصًلة والسًلم على أشرف األنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله‬
‫وصحبه أجمعين‬
‫أيها الشعب الليبي العظيم‪:‬‬
‫السًلم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‬
‫إن الملتقى األول لمجالس الحكماء والشورى بليبيا المنعقد بمدينة الزاوية‬
‫المجاهدة وهو يختتم أعماله مساء هذا اليوم ليترحم على شهداء ثورة السابع‬
‫عشر من فبراير المجيدة‪ ،‬ويتمنى الشفاء العاجل للجرحى والسالمة والعودة‬
‫للمفقودين‪ ،‬ويهنئ األسرى على سالمتهم‪ ،‬ويسجل بكل فخر واعتزاز االمتنان‬
‫للثوار الذين سجلوا ملحمة بطولية رائعة شهد بها العالم‪ ،‬وأنهت أكثر من‬
‫أربعة عقود من الظلم والقمع واالستبداد‪ ،‬وأنارت بدمائهم الزكية دروب العزة‬
‫والكرامة والشموخ ألبناء هذا الشعب العظيم‪ ،‬وإذ نسجل ذلك فإننا نحيي كل‬
‫الذين وقفوا مع قضيتنا من بلدان وهيئات ومنظمات دولية وإقليمية‪ ،‬كما نحيي‬
‫كافة قادة وشعوب الدول الشقيقة والصديقة التي احتضنت مشروع ثورتنا‬
‫وساهمت في إنجاحها‪ ،‬وفي نفس الوقت فإنه ال يفوتنا إال ان نتقدم بالشكر‬
‫الجزيل لكل مجالس الحكماء والشورى والخبراء والمشايخ واألعيان وأهل‬
‫الرأي والمشورة والبحاث والمشاركين وأصحاب المداخالت واللجان المشرفة‬
‫الذين ساهموا في إنجاح هذا الملتقى وما نتج عنه من ميثاق شرف للمصالحة‬
‫الوطنية وتوصيات‪ ،‬كما نتوجه بجزيل الشكر والعرفان لكافة وسائل اإلعالم‬
‫التي لعبت دوراً فعاالً في إنجاح ملتقانا هذا‪ ،‬وفي الوقت نفسه نتقدم باالعتذار‬

‫‪173‬‬
‫لكل من كان الوقت حاجزا دون تمكينه من المشاركة أو إيداء الرأي كما‬
‫نلتمس العذر عن أي تقصير قد حصل أثناء انعقاد هذا الملتقى‪.‬‬
‫وختاماً نأمل من المولى عز وجل أن يكلل أعمالنا بالنجاح ويجنب بالدنا‬
‫ويالت الفتن والمكائد ويحمي ثورتنا وشبابنا‪ ،‬كما ندعوه سبحانه وتعالى ان‬
‫يبارك كل الجهود التي تبذل في الصلح والمصالحة وبناء الدولة الجديدة على‬
‫أسس سليمة أساسها العدل والقانون والمساوة واحترام اإلنسان وحقوقه‬
‫وآدميته وكرامته‪ ،‬وأن يحقق األمن والسالم في كافة ربوع ليبيا الحبيبة‪.‬‬
‫هذا وقد أصدر الملتقى التوصيات التالية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ تشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية على مستوى ليبيا تتبعها لجان فرعية‬
‫في المدن والمناطق المختلفة‪ ،‬ولجنة لمتابعة تنفيذ التوصيات على ان تتكون‬
‫هذه اللجان من أهل الرأي والمشورة وممن لهم خبرة في فض المنازعات‬
‫وتسوية الخالفات‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ تستعين اللجنة العليا للمصالحة الوطنية باللجان الفرعية في بعض المدن‬
‫والمناطق لفض النزاعات وحل الخالفات فيما بين المدن والمناطق األخرى‪،‬‬
‫في حين تقوم اللجان الفرعية بحل الخالفات التي تقع في مدنها ومناطقها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ التأكيد على أن الشريعة اإلسالمية هي القاعدة األساسية ألي مصالحة وطنية‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ التعجيل بإصدار قانون العدالة االنتقالية وبما يحفظ حقوق الليبيين وتفعيل‬
‫األجهزة األمنية والضبطية والدوائر الجنائية بالمحاكم‪ ،‬والتعجيل بإحالة‬
‫المحتجزين والمتحفظ عليهم إلى القضاء‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ضرورة تقديم كل من سفك دماء الليبيين أو انتهك أعراضهم أو اختلس‬
‫أموالهم أو شارك أو حرض على ارتكاب هذه الجرائم ضدهم إلى المحاكم‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ إنشاء صندوق مالي تموله الدولة لتعويض المتضررين من اعتداءات‬
‫قوات وأعوان الطاغية ويشمل التعويض عن األضرار المادية والمعنوية‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫‪ 7‬ـ العمل على خلق البيئة المناسبة والظروف الموضوعية المالئمة لتحقيق‬
‫السلم واألمن األهليين وذلك باإلسراع بتأسيس الجيش واألمن الوطنيين‪،‬‬
‫وتنظيم حمل السالح‪ ،‬واستيعاب الثوار فيهما وفقاً لرغباتهم وتأهلهم مهنيا‪،‬‬
‫وخلق فرص عمل مناسبة لهم إلدماجهم في المجتمع الجديد الذي ثاروا من‬
‫أجله‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ العمل على وضع ميثاق شرف لوسائل اإلعالم بحيث تلتزم هذه الوسائل‬
‫بالعمل على تعزيز الوحدة الوطنية واالبتعاد عن كل ما من شأنه إثارة‬
‫النعرات القبلية أو الجهوية أو العرقية أو المذهبية‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ إعادة النظر ومراجعة السياسة التربوية والمناهج التعليمية بحيث ترسخ‬
‫روح الوحدة الوطنية وتسهم في نشر ثقافة التسامح والسلم االجتماعيين ونبذ‬
‫العنف وتأكيد ثقافة الحوار بين األفراد والجماعات وزرع روح المصالحة في‬
‫أوساط الشباب‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ عدم اللجوء إلى ممارسات العقاب الجماعي كالتهجير وحرق المساكن‬
‫والحرمان من الخدمات العامة‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ ضرورة مشاركة المرأة مشاركة فعالة في لجان المصالحة الفرعية‬
‫ولجنة المصالحة العليا‪.‬‬
‫‪ 12‬ـ ضرورة أن تساند الدولة عمليات المصالحة بتسخير إمكانياتها المادية‬
‫للمساهمة في تنفيذها‪.‬‬
‫‪ 13‬ـ دعوة الوعاظ وأئمة المساجد إلى أن يضمنوا خطبهم ومواعظهم الدعوة‬
‫للتصالح والمصالحة والتسامح والعفو‪.‬‬
‫‪ 14‬ـ االستفادة من تجارب الدول التي مرت بظروف مماثلة‪ ،‬واالستعانة‬
‫بالمنظمات الدولية المختصة مع مراعاة خصوصيات المجتمع الليبي‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫‪ 15‬ـ إصدار قانون للعزل السياسي يتضمن منع من ارتكبوا جرائم وانتهاكات في‬
‫حق الشعب الليبي أو سرقوا أموال ُه من تولي مناصب قيادية في أجهزة ومؤسسات‬
‫الدولة‪.‬‬
‫‪ 16‬ـ إعادة هيكلة مؤسسات الدولة التي مارست أعمال قمع ضد الشعب الليبي‬
‫وتطهيرها من أعوان النظام المنهار وإعادة النظر في مهامها لتكون في خدمة‬
‫ال من التجسس عليه وقمعه واضطهاده‪.‬‬‫الوطن والمواطن بد ً‬
‫‪ 17‬ـ دعم أسر الشهداء والمفقودين ورعايتهم واالهتمام برعاية أوضاع الجرحى‬
‫والمعتقلين للتخفيف من األضرار المادية والنفسية التي لحقت بهم ولتوفير مستوي‬
‫معيشي الئق لهم‪.‬‬
‫‪ 18‬ـ اإلسراع بتنفيذ برامج اإلعمار في المناطق المتضررة لما له من أثر إلزالة‬
‫اآلثار السلبية والتأهيل النفسي تمهيداً لولوج عهد جديد يسوده التفكير اإليجابي‬
‫لتحقيق المصالحة‪.‬‬
‫‪ 19‬ـ حث مؤسسات المجتمع المدني على المساهمة الفاعلة في إنجاح خطوات‬
‫المصالحة الوطنية‪.‬‬
‫‪ 20‬ـ إعادة هيكلة الجامعات والمعاهد العليا والتعليم اإلسالمي بما يضمن تحقيق‬
‫التواصل بين الشباب والطلبة من مدن ليبيا المختلفة‪.‬‬
‫وفي الختام نكرر شكرنا وتقديرنا وامتناننا للجميع‬
‫والمجد والخلود للشهداء األبرار‬
‫وعاشت ليبيا حرة أبية‬
‫واهلل ولي التوفيق‬
‫الملتقى األول لمجالس الحكماء والشورى بليبيا‬
‫صدر بمدينة الزاوية في الثالث من محرم الحرام ‪ 1433‬هـ الموافق‬
‫‪ 2011/11/28‬م‬

‫‪176‬‬
‫التاسع والعشرون‪ :‬مشروع المصالحة الوطنية شروط وآليات‬
‫توطئة األستاذ سليمان عبد القادر‬
‫ل لنظام الظلم والفساد واإلستبداد‪ ،‬أن‬ ‫ال يخفى على عاقل‪ ،‬بعد اإلرث الطوي ٌ‬
‫الوطن في حاجة إلى خطوة تهيئٌ لمرحلة البناء وإقامة الدولة المدنيةٌ التي‬
‫تستند إلى قيمٌ اإلسالم‪ .‬هذه الخطوة تتمثل في مشروع للمصالحة الوطنيةٌ‬
‫يتٌحقق فيه تبيان الحقائق ‪ ،‬وإرساء العدالة‪ ،‬وتحقيق المصالحة‪ .‬والحقيقٌة إن‬
‫شعار المصالحة الوطنيةٌ تردد على األلسنة و طرق األذان طوال الفترة‬
‫الماضيةٌ ‪ ،‬لكن األمر المهم المستهدف في هذه الوريقٌات هو كيفٌ يكٌون هذا‬
‫المشروع مستوعبا لكل ما حدث في الفترة الماضيةٌ من تجاوزات وإنتهاكات‬
‫مارسها النظام بأذرع من أبناء الشعب المغرر بهم أو الذ ين أعمتهم سؤرة‬
‫الطمع والجشع؟‪ ،‬بمعنى أن يكون مشروع المصالحة الوطنيةٌ لجل ما حدث‬
‫في البلد من إنتهاكات طوال األربع عقود الماضيةٌ وأال قٌتصر على ما حدث‬
‫أيام ثورة السابع عشر من فبراير المجيدٌة‪ .‬والثاني أن نضع اآلليات المناسبة‬
‫التي تجعل من هذا المشروع واقعا ملموسا يأٌخذ مداه الطبيعي ولكن يصٌل‬
‫بعون اهلل سبحانه وتعالى إلى غايته ومستقره ‪ ،‬حتى ال يختزل في شعارات‬
‫وهتافات قد ال تتجاوز الحناجر‪.‬‬
‫أوال معالم المصالحة الوطنية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ يتبادر إلى بعض األذهان أن مشروع المصالحة الوطنيةٌ التي نريدٌ هو‬
‫معالجة لما حدث أثناء ثورة السابع‬
‫عشر من فبراير ‪ ،‬متناسين أن هذه الثورة و ماحدث فيها ‪ ،‬نتاج منطقي للظلم‬
‫والفساد واإلستبداد الذي عشعش‬
‫طوال األربعة عقود الماضية ‪ ،‬ولم يكن وليد اللحظة ‪ ،‬وال يمكن إختزاله في‬
‫حادث معين أو قضيةٌ بعينها‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫لقد شوه النظام السابق جهاد األبطال الذين صنعوا اإلستقالل وشوه نضاال‬
‫وحراكا ثقافياٌ و إجتماعياٌ كان من‬
‫أسس هذا اإلستقالل‪ ،‬و شوه النظام نخبة ثقافية وأودعها السجون حقبة‬
‫السبعينيات‪ ،‬واستولى على أموال‬
‫الموسرين بحجة تصفيةٌ البرجوازيةٌ وصادر الممتلكات الخاصة وحارب‬
‫الناس في قوت أوالدهم‪ ،‬وانبرى‬
‫يطٌلق األوصاف المقيتة لكل معارضيهٌ ‪ ،‬وادخل البلد في حروب ال طائل من‬
‫ورائها ذهب جرائها أالف‬
‫الضحايا من أبناء هذا الشعب‪ ،‬و جني الوطن من وراءها فقدا لعدد كبير من‬
‫أبنائه باإلضافة إلى قائمة طويلة‬
‫من اليتامى والمتضررين‪ .‬وأعدم معارضيه على رؤوس األشهاد وزج‬
‫باألالف من أبناء الشعب في السجون‬
‫والمعتقالت ليواجهوا أقذر أساليب الكبت والتعذيب‪ ،‬وشرد أالف األسر من‬
‫ورائهم في الداخل بقانون العقوبات‬
‫الجماعية الذي هدم بموجبه حتى البيوت‪ ،‬أما من تمكنوا من الهجرة القسرية‪،‬‬
‫قام بمالحقتهم قتال وتهديدا‬
‫ورصدا و تشويها ‪ ،‬وحارب الناس في قوتهم وسهل سبل الفساد حتى صار‬
‫الشعار "رزق حكومة "’‪،‬‬
‫"واخنب واهرب" و " اللي ما تاخذه ‪ ،‬يأخذه غيرك"‪ .‬و لم تكن هذه‬
‫اإلنتهاكات تنفذ من رأس النظام مباشرة‪،‬‬
‫بل استخدم فيها أذرعا من أبناء الشعب ‪ ،‬معتمدا في التغرير على تجاذبات‬
‫قبليةٌ وجهويةٌ‪ ،‬وأطماع شخصيةٌ‬

‫‪178‬‬
‫استجاب لها السذج وضعاف النفوس‪ ،‬ومعتمدا على الضيق في فرص العمل‬
‫والكسب الذي نتج عن سياساته‬
‫المتقلبة ونظرياته المزعومة‪ ،‬حتى ألجأ قطاعا عريضا من الموظفين‬
‫والعاطلين والشباب بل وحتى من‬
‫المتقاعدين والنساء المطلقات إلى العمل ضمن جهاز األمن الداخلي في كتابة‬
‫التقارير والوشايةٌ بالمواطنين من‬
‫أجل لقمة العيش‪ ،‬ليحصد الوطن جراء ذلك جرحا غائرا بأياديه! فمن من وقع‬
‫عليهم اإلنتهاك هم من أبناءه‪،‬‬
‫ومن مارس هذا اإلنتهاك من أبناءه أيضا‪ ،‬وقد يتذبذب البعض بين الصنفين‬
‫حيناً من الزمن‪.‬‬
‫إن اإلنتهاك لدى البعض لم ينته بمجرد موت رأس النظام وهروب أعوانه‬
‫المقربين وكتائبه بل كل من مارس‬
‫اإلنتهاك بطريق مباشر أو غير مباشر ال بد أن يقع في دائرة إسترداد‬
‫الحقوق!!‪ .،‬وليس المقام لمناقشة هذه‬
‫الرؤية و مدى أحقية هذا الرأي‪ ،‬ولكن يجب التأكيد على إن مشروع‬
‫المصالحة الوطنية ال بد أن يكون البلسم‬
‫الذي نعالج به بعد توفيق اهلل سبحانه وتعالى هذه الجروح ونزيل به األلغام‬
‫اإلجتماعية التي خلفها نظام الظلم‬
‫والفساد واإلستبداد بين أبناء المجتمع الواحد‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ كما هو معلوم فإن اإلنتهاكات التي مارسها النظام البائد‪ ،‬مارسها باذرع‬
‫من أبناء هذا الشعب‪ ،‬واعتمد فيها على تجاذبات قبلية وجهوية كغطاء تضيع‬
‫به حقائق األشياء وبشاعة الجرائم‪ .‬والحقيقة أن التجييش القبلي والجهوي‬
‫والمناطقي ‪ ،‬ما انفك متكئا لكل ناعق يحاول بإثارته تحقيق مطالبه الشخصية‪،‬‬
‫‪179‬‬
‫حتى أصبحت القبيلة والمنظقة لدى البعض‪ ،‬المشجب الذي يعلق عليه ضعف‬
‫ما يرفع من شعارات‪ ،‬والصهوة القصيرة التي يمتطيها لتحقيق مطامعه‬
‫الشخصية ‪ ،‬فيرفع شعار القبيلة و ما القته من تهميش‪ ،‬أو يرفع شعار الجهة‬
‫وما القته من تهميش‪ ،‬فقط ليجمع حوله المناصرين‪ .‬من هنا نقول‪ :‬إن مشروع‬
‫المصالحة الوطنية يجب أن ينحى إلى شخصنة‬
‫القضايا قدر اإلستطاعة والممكن‪ ،‬بحيث ال تكون القضية قضية قبيلة معينة‬
‫ضد قبيلة أخرى‪ ،‬أو قضية جهة‬
‫ضد جهة أخرى أو منطقة ضد منطقة أخرى‪ ،‬بل قضية فرد أو أفراد ضد فرد‬
‫أخر أو أفراد آخرين‪ .‬إننا يجب‬
‫أن نجرد القضايا من البعد القبلي والجهوي ألنهما بعدان تستثار فيهما‬
‫الحميات والنعرات التي تحجب حقائق‬
‫األشياء وتشوش على صوت العقل والمنطق واإلنصاف‪ .‬يجب أن ينحى‬
‫مشروع المصالحة إلى تحديد‬
‫المسئولية الفردية فيما وقع ويقفل الطريق على كل ما من شأنه أن يخرق‬
‫النسيج اإلجتماعي للمجتمع الليبي‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ما حدث خالل األربعة عقود الماضية يفوق الوصف‪ ،‬وبعض الجرائم ال‬
‫يتخيلها العقل السوي و تأباها النفوس‬
‫المتزنة‪ ،‬وإال ما ذنب أطفال صغار يحرموا من حقوقهم المدنية و يحرموا‬
‫حتى من لقمة العيش لجرم أقترفه‬
‫أبوهم أوأحد أفراد أسرتهم‪ ،‬هذا إذا سلمنا بالجرم!‪ .‬ما ذنب أسرة يهدم عليها‬
‫بيتها و تشرد في الشارع بال مأوى‬
‫وال حتى سقف يظلهم لمخالفة أقترفها أحد أبناءهم‪ ،‬هذا إذا سلمنا بالمخالفة!‪.‬‬
‫كيف يستسيغ المنطق أن يمثل‬

‫‪180‬‬
‫بجثث المعارضين وتنبش قبورهم!‪ .‬ولكن على بشاعة ما حدث وفظاعته فإن‬
‫سفينة األمان في المجتمع يجب‬
‫أال تخرق بأيادي العابثين ‪ ،‬والمصالحة الوطنية يجب أال تخول أحدا ‪-‬كائنا‬
‫من كان‪ -‬أن يسترد حقه أو مظلمته‬
‫بشكل فردي‪ ،‬مهما كان حجم الظلم الذي وقع عليه ‪ ،‬بل ال بد من أطر قانونية‬
‫تنصف المظلوم وتجبر الضرر‬
‫وترد الحقوق‪ ،‬حتى ال يتحول المجتمع إلى ثقافة الغابة التي يأخذ فيها كل حقه‬
‫بيده‪ .‬بل إن مشروع المصالحة‬
‫يجب أن يذهب أبعد من ذلك‪ ،‬بأن يعتبر كل فعل يمارس بذريعة إسترداد‬
‫الحقوق خارج األطر القانونية ‪،‬‬
‫جريمٌة يعاقب صاحبها مهما كان بشاعة الظلم واإلنتهاك الذي وقع عليه‪ .‬وهذا‬
‫ليس إستخفافا باإلنتهاكات وال‬
‫تهميشاً للمظلومين ‪ ،‬بل حتى ال يتحول المجتمع إلى مجتمع أدغال‪.‬و ألن‬
‫ظاهرة استرداد الحقوق بشكل فردي‬
‫ودون أطر قانونية ‪ ،‬إذا فتح بابها‪ ،‬فإن المئات ستسول لهم أنفسهم اإلعتداء‬
‫على األعراض والممتلكات بحجة‬
‫إستراداد الحقوق‪ ،‬وحينها يفقد األمن الذي هو األساس الذي تقوم عليه الدولة ‪،‬‬
‫ونقع في عين ما كان يعاب‬
‫على النظام البائد‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ إن ما وقع من إنتهاكات لم يقتصر على الضرر المادي من اإلستيالء على‬
‫االمالك إلى الحبس والتشريد وحتى القتل ‪ ،‬بل هناك إنتهاكات معنوية تمثلت‬
‫في تشويه األفراد واألفكار‪ ،‬ومشروع المصالحة الوطنية يجب أن‬

‫‪181‬‬
‫ينحى إلى تبيين الحقائق كأساس تقوم عليه المصالحة ‪ ،‬ثم يأتي بعد ذلك مسألة‬
‫جبر الضرر وهذا جٌب أن‬
‫تتحمل فيه الدولة المسئولية ‪ ،‬ألننا سنواجه قضايا متشابكة وخصوصا في‬
‫مسألة األمالك‪ .‬البد ان تجذر لشيئين‬
‫ال ينفك عنهما مشروع المصالحة الوطنية ‪ ،‬هما القدرة على العفو والتحل به‪،‬‬
‫وهذا ليس ضد جبر الضرر في شيء‪ ،‬بل هو أمر ال بد منه لطي صفحة‬
‫الماضي وعدم العودة إليها بتاتا‪ ،‬وهنا يجب التأكيد على ان مصلحة‬
‫الوطن تتطلب قدوات تنبري تؤصل لهذا الشرف العظيم من أنفسهم وأموالهم‬
‫كما فعل ذلك رسول اهلل صلى‬
‫عليه وسلم يوم فتح مكة حيث وضع الثأر لدم ابن عمه‪ ،‬ووضع ربا عمه‬
‫العباس رض اهلل عنه‪.‬‬
‫واألمر اآلخر نبذ عقلية ونفسية اإلنتقام‪ ،‬ألنها نار إذا ما اشتعل أوارها لن‬
‫تبقي أخضر وال يابس‪ .‬إن ثورتنا‬
‫المجيدة لم تقم لتنتقم طائفة من طائفة أخرى وال قبيلة من قبائل أخرى وال‬
‫منطقة أو جهة من مناطق وجهات‬
‫أخرى‪ ،‬هذه الثورة ليست لتغيير السلم اإلجتماعي لينخفض أفراد و يصعد‬
‫أخرون‪ ،‬و ال لتغيير الخارطة‬
‫اإلجتماعيةٌ لتذل قبائل وتعز قبائل أخرى‪ ،‬بل إن الثورة جاءت لتبيين الحقائق‬
‫ورفع الظلم وأسبابه ومظاهره‪،‬‬
‫الثورة لينعم كل مواطن ليبي بحقوقه على أي بقعة من تراب هذا الوطن‪،‬‬
‫ليتحصل كل مواطن ليبي على‬
‫الرعاية الكاملة وحقه في الحرية والعيش الكريم ‪ ،‬ليس ألنه ابن قبيلة معينة ‪،‬‬
‫وليس ألنه ابن مدينة معينة‪،‬‬
‫‪182‬‬
‫وليس ألنه قام بدور معين ‪ ،‬بل ألنه مواطن ليبي فحسب‪ .‬وهذا ال ينفي أن‬
‫نعترف ألهل الفضل بفضلهم‪ ،‬ولكن‬
‫ال نريد لهذا الفضل الذي قام به البعض تجاه وطنهم وشعبهم أن يتحول إلى‬
‫قيد تقمع به الحريات وتهدر به‬
‫الحقوق وتجنى به المميزات‪ .‬إننا ال نريد أن ندفع ظلما بظلم آخر ‪ ،‬و ال نريد‬
‫أن ندفع إنتهاكا بإنتهاك أخر وال‬
‫نريد أن نسترد حقوقا بمنع حقوق األخرين‪ .‬إننا نريد أن نجذر لمجتمع يقوم‬
‫على العدل ونبذ الظلم‪ ،‬نريد أن‬
‫نجذر لمجتمع يحترم الحقوق وينبذ اإلنتهاك‪ ،‬نريد أن نبني مجتمعا يقدس‬
‫الحريات العامة و ينبذ مصادرتها‪،‬‬
‫وبالتالي فإنه من األهمية بمكان ان ال يتحول الضحية في وقت مضى إلى‬
‫جالد ‪ ،‬وال نريد أن يتحول المجني عليه إلى جاني‪ ،‬نريد لثقافة اإلنتهاك أن‬
‫تختفي من عقول األجيال القادمة ولهذا فعلينا أن نحذر ونحن نسترد‬
‫الحقوق ونرفع المظالم من أن نؤصل لإلنتهاك والظلم في صورة جديدة‬
‫وبأيادي أخرى‪ ،‬فسلمية الوسائل‬
‫وقانونية اإلجراءات وتغليب العفو والبعد عن اإلنتقام هي السمات الحقيقية‬
‫لهذه المصالحة الوطنية‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ إن المنطلق الذي ننطلق منه في مشروع المصالحة الوطنية هو أهميتها‬
‫لكي تتعافى األجيال القادمة من ويالت‬
‫الظلم واإلنتهاك‪ ،‬وأهميتها من أجل المحافظة على اللحمة الوطنية ‪ ،‬وأهميتها‬
‫لطي مرحلة الماضي وعدم تكرارها في صورة أخرى من أجل ذلك فإن‬
‫الدولة المتمثلة في السلطات التشريعية والتنفيذية يجب أن تتحمل المسئولية في‬
‫عملية الجبر وتتحمل المسئولية في عملية إعادة التأهيل‪ .‬إننا سنواجه قضايا‬

‫‪183‬‬
‫متشابكة تتجلى فيها الحقيقة و تعجز آداة اإلنتهاك عن الجبر او أن تكون‬
‫الحقوق المسلوبة انتقلت إلى طرف ثالث و رابع بصورة قانونية و قامت‬
‫عليها أنشطة ومشاريع تستفيد منها اطراف أخرى كقضايا العقارات مثال‪،‬‬
‫وهنا البد ان تكون الدولة كما اسلفت هي الطرف الرئيس الذي يقع عليه‬
‫المسئولية ألهمية طي هذه الصفحة للوطن‪ .‬ومن ناحية أخرى أن قضايا‬
‫اإلنتهاك وتناولها عبر مشروع المصالحة الوطنية الغرض منه هو سل‬
‫السخائم واالحقاد ليعيش المجتمع حياة إجتماعية صحية وبقدر ما في هذا‬
‫المشروع من اجترار للماضي البغيض إال أنه من األهمية بمكان ‪ ،‬األمر‬
‫الذي يحتم المحافظة على سرية ملفاته والتعامل معها بمنتهى الحرص و‬
‫السرية من ناحية ارتباطها باألشخاص‪ ،‬وهذا ال يمنع شفافية األداء بالقدر‬
‫الذي يمنع اإلهمال او الفساد‪.‬ومسئولية الدولة في إعادة التأهيل ومسئولية‬
‫الدولة في سرية هذا الملف بحيث ال تتناوله وسائل اإلعالم إال بالنذر الذي‬
‫يبرز العمل فيه دون التطرق إلى أسماء األشخاص وال القضايا المتعلقة بهم‪.‬‬
‫ثانيا أهداف المصالحة الوطنية‬
‫مشروع المصالحة الوطنية مشروع يعكس أوال وآخرا رقي هذا الشعب‬
‫وعظمة القيم اإلسالمية التي يستند إليها‪ ،‬وهو عالوة على ذلك سيحقق إن شاء‬
‫اهلل األهداف التالية‪:‬‬
‫• إرساء السلم اإلجتماعي‬
‫• إرساء ثقافة اإلحتكام إلى القانون‬
‫• الحفاظ على اللحمة الوطنية‬
‫• إعادة التأهيل والتعويض المعنوي‬
‫• تجنيب الوطن ويالت اإلنتقام‬
‫• نشر ثقافة العفو والتسامح‬

‫‪184‬‬
‫• نشر ثقافة الشفافية‬
‫ثالثا آليات إطالق مشروع المصالحة الوطنية‬
‫• عرض مشروع المصالحة الوطنية على المجلس الوطن اإلنتقالي‪،‬‬
‫والحكومة المؤقتة بغية إعتمادها المبدئ وإستكمال اللوائح التسييرية وربط ما‬
‫صٌدر عنها بالمنظومة القضائية و إعطاء ما يصدر عنها صفة االحكام‬
‫القضائية ملزمة التنفيذ‪.‬‬
‫• تبني هذا المشروع دستوراٌ ليكون أحد األسس الذي تقوم عليه دولة ليبيا‬
‫الجديدة ‪ ،‬ويحظى بالعناية والتنفيذ من‬
‫قبل هيئات الدولة المتعاقبة‪.‬‬
‫• إختيار شخصيات من المجتمع تقوم على هذه المؤسسة يتوفر فيها الرمزية‬
‫اإلجتماعية‪ ،‬والتخصص ‪ ،‬والخبرة‬
‫الحقوقية‪ ،‬و المصداقية لدى الشعب الليبي ‪ ،‬وألهمية المصداقية فيجب أن‬
‫يترك المجال مفتوحا‪ -‬بعد اإلعالن‬
‫عن المؤسسة‪ -‬لجميع المواطنين‪ ،‬إذا كان هناك مطعن أو تحفظ على شخصية‬
‫من القائمين على هذه المؤسسة‪،‬‬
‫حتى يتقدموا به إلى الهيئة القضائية في ظرف شهر من اإلعالن عن‬
‫المؤسسة‪.‬‬
‫• إطالق مؤسسة تقوم على إبراز الحقيقة و إرساء مبدأ العفو والتعويضات‬
‫المادية والمعنوية تحظى بالحصانة‬
‫الدستورية وتسمى بـ "هيئة الحقيقة والعدالة و المصالحة" ‪ ،‬يكون لها فروع‬
‫في كل مدينة ومنطقة بشكل يضمن وصولها إلى كل المواطنين في ليبيا‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫• اإلعالن عن هذه الهيئة عبر مؤتمر صحفي يتٌواجد فيه القائمون على هذه‬
‫الهيئة و ممثلون عن المجلس والحكومة باإلضافة إلى مؤسسات المجتمع‬
‫المدني ‪.‬‬
‫• يتم التعريف بهذه الهيئة في القنوات المحلية والفضائية وعبر المجالس‬
‫المحلية في المدن وتوجيه المساجد‬
‫لتناول موضوع المصالحة والتنويه على أهميته والهيئة التي تقوم عليه‬
‫وعنوان الفرع في كل مدينة من المدن‪ ،‬بحيث نضمن اإللمام بها من قبل‬
‫جميع المواطنين‪.‬‬
‫• طباعة مطويات تعريفية بالهيئة واهدافها وآليات عملها وتوزيعها في جميع‬
‫المدن والتنويه إلى فرع الهيئة في كل مدينة من المدن ومنطقة من المناطق‬
‫وطرق اإلتصال به‪.‬‬
‫• عمل رقم تلفون للهيئة يمكن من خالله التعرف على عنوان الفرع ويمكن‬
‫من خالله التواصل مع المركز‬
‫الرئيس بغية تقديم أي شكاوى على أداء أي فرع من الفروع‪.‬‬
‫رابعا هيكل "هيئة الحقيقة والعدالة والمصالحة"‬

‫مدير مكتب‬ ‫الرئيس‬


‫العالقات‬ ‫األرشيف‬ ‫اإلدارية‬ ‫المالية‬ ‫النائب الثاني‬ ‫النائب األول‬
‫التفتيش‬ ‫المتابعة‬
‫تتكون الهيئة من مركز رئيس وفروع تغطي جميع المدن والمناطق بشكل‬
‫يضمن وصولها لكل مواطن في ليبيا أو لكل مقيم إقامة قانونية‪.‬‬
‫‪186‬‬
‫‪ 1‬ـ المركز الرئيس‬
‫ويتكون من التالي‪:‬‬
‫أ ـ رئيس الهيئة وهو المسئول األول في هذه الهيئة ويتحدث بإسمها ويخول‬
‫من يراه مناسبا للحديث بإسم الهيئة‬
‫ويرأس إجتماعات مجلس اإلدارة‪ ،‬وله إصدار القرارات التي تعين في عمل‬
‫الهيئة وإتخاذ اإلجراءات ضد كل ما من شأنه إعاقة عمل الهيئة ‪ .‬وتذيل كل‬
‫أحكام الهيئة وقراراتها بإسم الرئيس والنائبين‪.‬‬
‫ب ـ النائب األول ويقوم على دائرة المتابعة التي تعنى بمتابعة تنفيذ ما يصدر‬
‫عن فروع الهيئة من أحكام وقرارات لدى جهات التنفيذ المالية والتوثيقية‬
‫والمادية والمعنوية في الدولة‪ ،‬وتذليل الصعوبات التي تحول دون تنفيذها‪.‬‬
‫ج ـ النائب الثاني وهو يتولى دائرة التفتيش والمتابعة لجميع فروع الهيئة‬
‫بشكل يضمن الشفافيةٌ و المصداقيةٌ‪.‬‬
‫د ـ مجلس إدارة الهيئة يتكون من التالي‪:‬‬
‫(‪ )1‬المدير اإلداري وله دائرة تشرف على كل إدار اٌت الهيئة ودورتها‬
‫المستندية بشكل يضمن السرعة في األداء‬
‫وعدم البيروقراطية في جميع فروع الهيئة‪.‬‬
‫(‪ )2‬المدير المالي وله دائرة تشرف على كل حسابات الهيئة و مصاريفها‬
‫ومرتبات القائمين عليها‪.‬‬
‫(‪ )3‬مدير األرشيف وله دائرة تقوم على توثيق كل اعمال الهيئة بشكل يمكن‬
‫الوصول إليه فقط من قبل المختصين‬
‫او من تخوله الجهات الرسمية ويضمن المحافظة عليها‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫(‪ )4‬مدير العالقات واإلعالم وله دائرة تقوم على التعريف بالهيئة وعمل‬
‫الوسائل المساعدة التي تمكن من وصولها لكل المواطنين والمقيمين إقامة‬
‫قانونية‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الفروع‬

‫فرع هيئة الحقيقة‬


‫والعدالة والمصالحة‬
‫األمانة العامة‬
‫جرائم القتل‬ ‫جرائم العرض‬ ‫جرائم اإلعتقال‬ ‫جرائم‬ ‫جرائم النيابة‬
‫الممتلكات والتعذيب‬ ‫والقضاء‬
‫يتكون الفرع من التالي ً‪:‬‬
‫أ ـ رئيس الفرع الذي يتحمل مسئولية العمل في الفرع وما يصدر عنه وهو‬
‫حلقة الوصل بين الفرع والمركز الرئيس وله إجتماع دوري مع رئيس الهيئة‬
‫ومجلس اإلدراة‪.‬‬
‫ب ـ مسئول دائرة جرائم القتل وهي تعنى بجرائم القتل التي وقعت في عهد‬
‫النظام السابق من جهات متنفذة‪.‬‬
‫ج ـ مسئول دائرة جرائم العرض وهي تعنى بجرائم إنتهاك العرض التي‬
‫وقعت في عهد النظام السابق من جهات‬
‫متنفذة‪.‬‬
‫د ـ مسئول دائرة جرائم اإلعتقال والتعذيب وهي تعنى بجرائم اإلعتقال‬
‫والتعذيب التي ارتكبها النظام السابق عبر‬

‫‪188‬‬
‫أجهزته األمنية واللجان الثورية وغيرها‪.‬‬
‫هـ ـ مسئول دائرة جرائم اإلعتداء على الممتلكات وهي تعنى بجرائم اإلستيالء‬
‫على المباني والشركات واألراض والمصانع واألليات التي مارستها األجهزة‬
‫األمنية واللجان الثورية والمتنفذين‪.‬‬
‫و ـ مسئول دائرة الجرائم النيابية والقضائية وهي تعنى بقضايا الرشوة‬
‫وإستخدام السلطات لإلستصدار أحكام قضائية تنتهك حقوق أخرين‪.‬‬
‫خامسا آليات عمل "هيئة الحقيقة والعدالة و المصالحة" المباشرة تجاه‬
‫المواطنين‬

‫وحدة اإلستقبال‬ ‫وحدة التحري‬ ‫وحدة الحقيقة‬


‫والتوثيق‬ ‫والنحري‬ ‫والعفو‬

‫وحدة‬ ‫وحدة إعادة‬


‫التعويضات‬ ‫التأهيل‬

‫لضمان سرعة العمل وجودته تكون آلياته على الشكل التالي‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ اإلستقبال والتوثيق وهذه مهمة يقوم بها موظفون تابعون لألمانة العامة‬
‫في كل فرع ومهمتهم التالي‪:‬‬
‫إستقبال المواطن وفتح ملف لقضيته وتعبئة إستمارة بها معلومات مفصلة‬
‫إعطاء رقم للقضية وتحديد نوعيتها (قتل‪ ،‬عرض‪ ،‬إعتقال تعذيب‪...‬الخ)‪.‬‬
‫تحديد موعد أول للمواطن مع الدائرة المسئولة عن القضية‬
‫تحويل إستمارة الملعومات على الدائرة المختصة‪ ،‬بعد إدخالها في منظومة‬
‫الحاسب اآللي المعتمدة للعمل في الفرع بحيث يسهل مراجعتها والتوثيق‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫‪ 2‬ـ التحقيق والتحري وهي مهمة يقٌوم بها موظفون يتمتعون برتبة المستشار‬
‫تابعون للدائرة المعنية بالنظر في القضية حسب نوعها وتعنى بالتالي‪:‬‬
‫الجلوس مع صاحب القضية‬
‫التسجيل الدقيق لكل القضية وفق معايير توضع للنظر في القضايا‬
‫التدقيق على الوثائق إذا كانت هناك وثائق وأخذ صورمنها‬
‫التدقيق على الشهود إذا كان هناك شهود‬
‫معرفة أدوات اإلنتهاك الجهة واألشخاص تحديدا ومعلومات عنهم‬
‫توثيق التواريخ وعناوين الشهود‬
‫الجلوس مع المدعى عليهم ومواجهتهم بالوثائق ومطالبتهم باإلعتراف كجزء‬
‫من المصالحة‬
‫إصدار القرار فيما يتعلق بالقضية حسب نوعيتها‬
‫‪ 3‬ـ الحقيقة والعفو وهذا القسم يعنى بالتالي‪:‬‬
‫إعتراف الجاني وندمه على ما صدر منه من إنتهاكات‬
‫تغليب جانب العفو والصفح من قبل المجني عليه وهذا ال يمنعه من التعويض‬
‫المادي أو المعنوي‬
‫طي صفحة الماض وعدم اإلنتقام‬
‫‪ 4‬ـ التعويضات وهي وحدة تعنى بالتالي‪:‬‬
‫تقدير التعويضات وفق معايير والئحة توضع للتعويض‬
‫إسترداد الممتلكات وفق معايير والئحة توضع لإلسترداد‬

‫‪190‬‬
‫عمل برامج التعويض المعنوي بالنسبة للجرائم ضحايا الحروب واإلختفاء‬
‫والتشويه كتسمية الشوارع‬
‫والمدارس وعمل المتاحف التاريخية ‪ ...‬الخ‬
‫التأكد من أن المجني عليه لم يستلم تعويضات وخصوصا في قضايا‬
‫الممتلكات‬
‫متابعة التعويض من قبل الجهات المعنية وإعالم اإلدارة العليا‬
‫‪ 5‬ـ إعادة التأهيل وهذه الوحدة تقوم على إعادة التأهيل لكل اطراف القضية‬
‫التأهيل النفسي للمجني عليه‬
‫التأهيل الصحي للمجني عليه‬
‫رعاية أبناء المجني عليه وكفالتهم إذا كانت القضية قتل أو إعاقة مانعة‬
‫تهجير أهل الجاني إلى منطقة أخرى بحيث يبدأوا حياة جديدة إذا كانت‬
‫القضية تستاهل هذا اإلجراء كقضايا‬
‫اإلغتصاب وهتك األعراض‪.‬‬
‫رعاية أبناء الجاني و أسرته إذا استدعى االمر حبسه أو تنفيذ القصاص فيه‬
‫رد اإلعتبار للمجني عليه وخصوصا في قضايا التالعب النيابي و القضائي‬
‫تزويج من وقع عليهن االغتصاب بشكل يحفظ كرامتهن و ال يخدش بسمعتهن‬
‫وأخيراً‪ :‬هذا المقترح اضعه بين يديك وأتمنى أن ينال حظه من المناقشة‬
‫والتصويب‪ ،‬واهلل أسأل أن يبارك في جهودكم وأن يجعل أعمالنا خالصة‬
‫ِن‬
‫لوجهه الكريم وأن يجنبنا الزلل وحظوظ النفس (إ َِّنهُ مَن يَأ تِ رَبَّهُ مُج ِرمًا َفإ َّ‬
‫عمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأوُلَ ِئكَ‬‫جهَنَّمَ ال َيمُوتُ فِيهَا وَال يَحيَا * َومَن يَأتِهِ مُؤمِنًا قَد َ‬
‫َل ُه َ‬
‫الدرَجَاتُ العُلَى * جَنَّاتُ عَدنٍ تَجرِي مِن تَح ِتهَا األ نهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ‬ ‫َلهُمُ َّ‬

‫‪191‬‬
‫جزَاءُ مَن َتزَكَّى) (طه ‪ ،‬آ ية ‪ 74 :‬ـ ‪ .)76‬وأخر دعوانا ان الحمدهلل رب‬
‫َ‬
‫العالمين‬
‫سليمان عبدالقادر ‪.‬األحد ‪ 07 ،‬صفر ‪ 1433 ،‬الموافق ‪2012/01/01‬‬
‫الثًلثون ‪ :‬خطر الذنوب وعواقبها على الفرد والمجتمع‪:‬‬
‫إن الذنوب تؤثر على مرتكبها تأثيراً كبيراً‪ ،‬وذلك من نواحٍ عدة‪ ،‬أذكر منها‬
‫فيما يؤثر على الفرد‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ اضعاف اَلرادة‪.‬‬
‫الذنوب تضعف القلب عن إرادته فتقوي إرادة المعصية‪ ،‬وتضعف إرادة التوبة‬
‫شيئاً فشيئاً إى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية‪ ،‬فلو مات نصفه لما تاب‬
‫إلى اهلل‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ استمرارها وصعوبة التخلص منها‪:‬‬
‫تؤدي الذنوب إلى أن ينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة‪ ،‬فال يستقبح‬
‫من نفسه رؤية الناس وال كالمهم فيه‪ ،‬وهو عند أرباب الفسوق هو غاية‬
‫التفكك وتمام اللذة حتى يفتخر أحدهم بالمعصية يحدث بها من لم يعلم أنه‬
‫عملها‪ ،‬فيقول‪ :‬يا فالن عملت كذا وكذا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الطبع على القلب وتغطيته‪:‬‬
‫من آثار الذنوب الطبع على القلب وتغطيته‪ ،‬وقد أخبر القرآن الكريم عن ذلك‪،‬‬
‫ن نُقَيِّض َلهُ شَيطَانًا َفهُوَ َلهُ َقرِينٌ"‬
‫قال تعالى‪َ ":‬ومَن يَعشُ عَن ذِكرِ الرَّحمَ ِ‬
‫(الزخرف‪ ،‬آية ‪.)36 :‬‬
‫‪4‬ـ إزالة النعم وإحًلل النقم‪:‬‬
‫والذنوب تؤدي إلى إزالة النعم عن المذنب وإحالل النقم به‪ ،‬قال تعالى‪َ ":‬ومَا‬
‫أَصَا َبكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَ ِبمَا كَسَبَت أَيدِيكُم" (الشورى‪ ،‬آية ‪.)30 :‬‬

‫‪192‬‬
‫وعن ثوبان رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬ال يزيد‬
‫في العمر إال البر‪ ،‬وال يرد القدر إال الدعاء‪ ،‬إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب‬
‫يصيبه‪.1‬‬
‫‪5‬ـ اَلضطراب والقلق النفسي‪:‬‬
‫إن المعصية تؤثر على نفس المذنب فتجعله قلقاً متوتر األعصاب ذا نفسية‬
‫مضطربة حائرة‪ ،‬تشعر بالضيق‪ ،‬وال تحس بلذة الطمأنينة واألمان‪ ،‬قال‬
‫ش ُرهُ يَومَ القِيَامَ ِة‬
‫شةً ضَنكًا وَنَح ُ‬ ‫ِن َلهُ َمعِي َ‬
‫تعالى‪َ ":‬ومَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي َفإ َّ‬
‫أَعمَى" (طه‪ ،‬آية ‪.)124 :‬‬
‫الشعور بالذنب من المشاعر المدمرة لنفسية اإلنسان‪ ،‬وكثير من األمراض‬
‫النفسية الكثيرة االنتشار في أيامنا هذه عودها إلى شعور الفرد الشاعر‬
‫بالذنب‪ ،2‬ولذلك لم يكن غريباً أن يقع الشعور بالذنب ضمن أعراض كثيرة من‬
‫األمراض النفسية والعقلية‪ ،‬فمن بين أعراض مرض القلق يوجد الشعور‬
‫بالذنب أو الميل نحو لوم الذات‪ ،‬وتأنيبها وتعنيفها وعقابها‪ ،‬ومن بين أعراض‬
‫مرض االكتئاب يوجد أيضاً الشعور بالذنب‪.3‬‬
‫آثار الذنوب على المجتمع‪:‬‬
‫للذنوب والمعاصي آثارها وعواقبها الوخيمة على المجتمعات واألمم فبسببها‬
‫أهلك اهلل األمم الخالية‪:‬‬
‫ُال أَخَذنَا بِذَنبِهِ َفمِنهُم مَّن أَرسَلنَا عَلَيهِ حَاصِبًا َومِنهُم مَّن أَخَذَت ُه‬
‫قال تعالى‪َ ":‬فك ًّ‬
‫اهلل لِيَظلِمَهُم‬
‫ن َُّ‬‫خسَفنَا ِبهِ األَرضَ َومِنهُم مَّن أَغرَقنَا َومَا كَا َ‬ ‫حةُ َومِنهُم مَّن َ‬ ‫الصَّي َ‬
‫سهُم يَظِلمُونَ" (العنكبوت‪ ،‬آية ‪.)40 :‬‬ ‫وََلكِن كَانُوا أَنفُ َ‬
‫ومن ألوان العذاب التي عاقب اهلل بها أرباب الذنوب والمعاصي في األمة‬
‫اإلسالمية جرياً على سنة اهلل في الكون لكل من ابتعد عن منهج اهلل وشرعه‬
‫منها‪:‬‬
‫‪1‬ـ انقسام األمة إلى شيع وأحزاب متناحرة‪:‬‬
‫يخبرنا القرآن الكريم أن األمة اإلسالمية عرضة لهذا العذاب إن حادت عن‬
‫منهج اهلل‪ ،‬يقول تعالى‪ ":‬قُل هُوَ القَادِ ُر عَلَى أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عَذَابًا مِّن فَوقِكُم أَو‬
‫ضكُم بَأسَ بَعضٍ" (األنعام‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫سكُم شِيَعاً وَيُذِيقَ بَع َ‬ ‫ت أَرجُِلكُم أَو يَلبِ َ‬ ‫مِن تَح ِ‬
‫‪.)65‬‬

‫‪ 1‬سنن ابن ماجة‪ ،‬ك القدر رقم ‪.)1334 / 2( 4022‬‬


‫‪ 2‬التوبة في ضوء القرآن الكريم د‪ .‬آمال نصير صـ ‪.123‬‬
‫‪ 3‬التوبة وصحة المسلم العقلية‪ ،‬مجلة كلية الملك خالد العسكرية العدد السادس صـ ‪ 70‬عبد الرحمن العيسوي‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫ومعنى من فوقكم أي ينزل الصواعق‪ ،‬أو من جهة أمرائكم‪ ،‬ومعنى أو من‬
‫تحت أرجلكم بالخسف والزالزل أو من جهة سفلتكم وخدمكم ومعنى يلبسكم‬
‫شيعاً أي يخلط عليكم أمركم فتنقسمون إلى فرق متناحرة وشيع متحاربة‪.1‬‬
‫‪2‬ـ اإلصابة بالجوع والخوف ونقص الثمرات‪:‬‬
‫إن من أعظم ما تُبتلى به المجتمعات بسبب الذنوب هو الجوع الذي يعني‬
‫فقدان أساسيات الحياة من الطعام والشراب‪ ،‬والخوف الذي يعني انعدام األمن‬
‫والطمأنينة النفسية وحلول الفزع والرعب في النفوس‪.‬‬
‫ضرَبَ اهللُّ مَ َثالً قَر َيةً كَانَت آمِ َنةً مُّطمَئ َِّنةً يَأتِيهَا رِز ُقهَا رَغَدًا مِّن‬ ‫قال تعالى‪ ":‬وَ َ‬
‫ف بِمَا كَانُوا يَصنَعُونَ"‬ ‫اهلل َفأَذَا َقهَا اهللُّ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَو ِ‬ ‫ن َفكَ َفرَت ِبأَنعُمِ ِّ‬
‫كُلِّ َمكَا ٍ‬
‫(النحل‪ ،‬آية ‪.)112 :‬‬
‫وقد ربط اهلل بين االستغفار وإنزال الرزق والخيرات من السماء في مواضع‬
‫متعددة في القرآن الكريم "وَأَنِ استَغ ِفرُوا ر ََّبكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ يُمَتِّعكُم مَّتَاعًا حَسَنًا‬
‫ف عَلَيكُم عَذَابَ‬ ‫ي أَخَا ُ‬ ‫إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤتِ كُلَّ ذِي فَضلٍ فَضَلهُ وَإِن تَوَلَّوا َفإِنِّ َ‬
‫يَومٍ كَبِيرٍ" (هود‪ ،‬آية ‪.)3 :‬‬
‫السمَاء عَلَيكُم‬ ‫وقال سبحانه‪ ":‬وَيَا قَومِ استَغ ِفرُوا ر ََّبكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ يُرسِلِ َّ‬
‫مِّدرَارًا وَ َيزِدكُم قُوَّ ًة إِلَى قُوَّ ِتكُم وَالَ تَتَوَلَّوا مُج ِرمِينَ" (هود‪ ،‬آية ‪.)52 :‬‬
‫ويقول تعالى عن نوح عليه السالم‪ ":‬فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء‬

‫ي ويَجْعَل لَّكُ ْم جَنَّاتٍ ويَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا" (نوح‪ ،‬آية ‪ 10 :‬ـ ‪.)12‬‬
‫عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُ ْم بِأَمْوَال وَبَنِ َ‬
‫فمفهوم المخالفة في اآليات يفيد أن االستمرار على المعاصي يمنع هذه‬
‫الخيرات‪ ،‬وأما من ابتعد عن السيئات فإن هذه الخيرات ستكون من نصيبه‬
‫وهذا ما أفاده مفهوم الموافقة‪.2‬‬
‫َاتقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم َب َركَاتٍ مِّنَ‬‫مثل قوله تعالى‪ ":‬وَلَو أَنَّ أَهلَ ال ُقرَى آمَنُوا و َّ‬
‫السمَاء وَاألَرضِ وَلَـكِن كَذَّبُوا َفأَخَذنَاهُم ِبمَا كَانُوا يَكسِبُونَ" (األعراف‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫َّ‬
‫‪.)96‬‬
‫وقال عز وجل‪ ":‬وَلَو أَنَّ أَهلَ الكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوا َلكَفَّرنَا عَنهُم سَيِّئَا ِتهِم‬
‫النعِيمِ * وَلَو أ ََّنهُم َأقَامُوا التَّورَاةَ وَاإلِنجِيلَ َومَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن‬
‫ت َّ‬‫وَألدخَلنَاهُم جَنَّا ِ‬
‫ُمةٌ مُّقتَصِ َدةٌ َوكَثِيرٌ مِّنهُم سَاء مَا‬‫ر َِّّبهِم ألكَلُوا مِن فَو ِقهِم َومِن تَحتِ أَرجُِلهِم مِّنهُم أ َّ‬
‫يَعمَلُونَ" (المائدة‪ ،‬آية ‪ 65 :‬ـ ‪.)66‬‬
‫‪ 1‬تفسير األلوسي (‪.)180 / 7‬‬
‫‪ 2‬التوبة في ضوء القرآن الكريم صـ ‪.129‬‬

‫‪194‬‬
‫وبين الرسول صلى اهلل عليه وسلم نماذج مختلفة ألنواع العقوبات التي حلت‬
‫بالمجتمعات في مقابل ذنوب خاصة‪ ،‬وعن عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنه‬
‫قال‪ :‬أقبل علينا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ :‬يا معشر المهاجرين‬
‫خمس إذا ابتليتم بهن واعوذ باهلل أن تدركوهن‪ :‬لم تظهر الفاحشة في قوم قط‪،‬‬
‫حتى يُعلنوا بها إال فشا فيهم الطاعون واألوجاع التي لم تكن مضت في‬
‫اسالفهم الذين مضوا‪ ،‬ولم ينقصوا المكيال والميزان إال أخذوا بالسنين‪ ،1‬وشدة‬
‫المئونة وجور السلطان عليهم‪ ،‬ولم يمنعوا زكاة أموالهم إال منعوا القطر من‬
‫السماء‪ ،‬ولوال البهائم لم يمطروا‪ ،‬ولم ينقضوا عهد اهلل وعهد رسوله‪ ،‬إال سلط‬
‫اهلل عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم‪ ،‬ومالم تحكم أئمتهم‬
‫بكتاب اهلل‪ ،‬ويتخيروا‪ ،2‬مما أنزل اهلل إال جعل بأسهم بينهم‪.3‬‬
‫فقد بين عليه الصالة والسالم أن سبب تسليط العدو وأخذ بعض ما في أيديهم‬
‫من السلطان والمال هو نقض المسلمين لعهد اهلل وعهد رسوله الذي أمر اهلل‬
‫بالوفاء به‪ ،‬قال عز وجل‪ ":‬وَأَوفُوا بِالعَهدِ إِنَّ العَهدَ كَانَ مَسؤُوالً" (اإلسراء‪ ،‬آية‬
‫‪.)34 :‬‬
‫وأن عدم تحكيمهم لكتاب اهلل سبب للفتن والقالئل والشقاق وزوال األمن‪ ،‬وهذا‬
‫ما نراه واضحاً بينًا في أيامنا هذه من زوال نعمة األمن‪.4‬‬
‫‪3‬ـ اإلصابة بالفتن‪:‬‬
‫لقد حذر اهلل األمة المسلمة إن خالفت ربها ونبيها‪ ،‬قال تعالى‪ ":‬فَليَح َذرِ الَّذِينَ‬
‫ن عَن أَم ِرهِ أَن تُصِي َبهُم فِت َنةٌ أَو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ" (النور‪ ،‬آية ‪.)63 :‬‬ ‫يُخَالِفُو َ‬
‫وهذه الفتنة عامة تشمل مختلف أنواع العقوبات‪:‬‬
‫كانتشار القتل فيما بينهم‪ ،‬أو الزالزل والبراكين‪ ،‬أو تسلط السلطان الجائر‬
‫عليهم‪ ،‬أو ظهور أنواع من األمراض أو الفقر‪ ،‬أو الشدة في الحياة إلى غير‬
‫ذلك‪ . 5‬وهذه الفتنة إذا نزلت فإنها تعم الجميع فال يستثنى منها أحد لقوله‬
‫َآصةً" (األنفال‪ ،‬آية ‪.)25 :‬‬ ‫ال تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظََلمُوا مِنكُم خ َّ‬
‫تعالى‪ ":‬وَاتَّقُوا فِتنَةً َّ‬
‫ويقول األستاذ سيد قطب‪ ،‬عند قوله تعالى‪ ":‬فَليَح َذرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَم ِرهِ"‬
‫(النور‪ ،‬آية ‪ .)63 :‬ليحذروا أن تصيبهم فتنة تضطرب فيها المقاييس‪ ،‬وتختل‬
‫فيها الموازين‪ ،‬وينتكث فيها النظام‪ ،‬فيختلط الحق بالباطل والطيب بالخبيث‪،‬‬

‫‪ 1‬أي بالقحط والجدب‪.‬‬


‫‪ 2‬أي يطلبوا الخير لسان العرب (‪.)267 / 4‬‬
‫‪ 3‬سنن ابن ماجة رقم ‪.22‬‬
‫‪ 4‬التوبة في ضوء القرآن الكريم صـ ‪.131‬‬
‫‪ 5‬تفسير الرازي (‪ ،)42 / 24‬تفسير األلوسي (‪.)47 / 17‬‬

‫‪195‬‬
‫وتفسد أمور الجماعة وحياتها‪ ،‬فال يأمن على نفسه أحد‪ ،‬وال يقف عند حده‬
‫أحد‪ ،‬وال يتميز فيها خير من شر‪ ،‬وهي فترة شقاء للجميع " أَو يُصِي َبهُم عَذَابٌ‬
‫أَلِيمٌ" في الدنيا أو في اآلخرة‪ ،‬جزاء المخالفة عن أمر اهلل‪ ،‬ونهجه الذي‬
‫أرتضياه‪.1‬‬
‫ومما تقدم يتضح خطر الذنوب‪ ،‬األمر الذي يقتضي المسارعة إلى التوبة من‬
‫الفرد باالستغفار‪ ،‬واإلنابة ومن المجتمع بتحكيم شرع اهلل الذي فيه خير الفرد‬
‫والمجتمع‪.2‬‬

‫الحادي والثًلثون‪ :‬الدعوة إلى التوبة وشروطها‪:‬‬


‫التوبة‪ :‬معرفة العبد لقبح الذنوب وضررها عليه‪ ،‬فيقلع عنها مخلصاً في‬
‫إقالعه عن الذنب هلل تعالى‪ ،‬نادماً على ما بدر منه في الماضي من المعاصي‬
‫قصداً وجهالً‪ ،‬عازمًا عزماً أكيداً على عدم العودة إليها في المستقبل‪ ،‬والقيام‬
‫بفعل الطاعات والحسنات‪ ،‬متحلالً من حقوق العباد بردها إليهم أو محصالً‬
‫البراءة منهم‪.3‬‬
‫وباب التوبة دائماً مفتوح يدخل منه كل من استيقظ ضميره‪ ،‬وأراد العودة‬
‫والمآب‪ ،‬ال يصد عنه قاصد وال يغلق في وجه الجيء‪ ،‬أيا كان‪ ،‬وأيا ما‬
‫ارتكب من اآلثام‪.4‬‬
‫وأما شروط التوبة التي تتعلق بترك الذنب هي‪:‬‬
‫‪1‬ـ اإلسًلم‪:‬‬
‫التوبة ال تصح إال من مسلم‪ ،‬أما الكافر فإن توبته تعني دخوله اإلسالم‪ ،‬يقول‬
‫اإلمام ابن حجر نقالً عن القرطبي في المفُهم‪ :‬أعلم أن التوبة إما من الكفر‬
‫وإما من الذنب‪ ،‬فتوبة الكافر مقبولة قطعاً‪ ،‬وتوبة العاصي مقبولة بالوعد‬
‫الصادق‪.5‬‬
‫قال عز وجل‪ ":‬وَلَيسَتِ التَّو َبةُ لِلَّذِينَ يَعمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَ َر أَحَدَهُمُ‬
‫المَوتُ قَالَ إِنِّي تُبتُ اآلنَ وَالَ الَّذِينَ َيمُوتُونَ وَهُم كُفَّارٌ أُولَـ ِئكَ أَعتَدنَا َلهُم عَذَابًا‬
‫أَلِيمًا" (النساء‪ ،‬آية ‪.)18 :‬‬

‫‪ 1‬في ظالل القرآن (‪ 2535 / 4‬ـ ‪.)2536‬‬


‫‪ 2‬التوبة في القرآن الكريم صـ ‪.132‬‬
‫‪ 3‬التوبة في ضوء القرآن الكريم صـ ‪.21‬‬
‫‪ 4‬في ظالل القرآن (‪.)2790 / 5( ،)258 / 1‬‬
‫‪ 5‬فتح الباري‪ ،‬شرح صحيح البخاري (‪.)103 / 11‬‬

‫‪196‬‬
‫والمراد من اآلية نفي وقوع التوبة الصحيحة من المشركين وأنه ليس من‬
‫شأنها أن تكون لهم فقوله " وَالَ الَّذِينَ َيمُوتُونَ وَهُم كُفَّارٌ"‪ ،‬أي ال توبة ألؤلئك‬
‫وال لهؤالء‪.1‬‬
‫ال يَغ ِفرُ أَن يُشرَكَ ِبهِ وَيَغ ِفرُ مَا دُونَ ذَِلكَ ِلمَن يَشَاء‬ ‫اهلل َ‬
‫ـ وقال عز وجل‪ ":‬إِنَّ َّ‬
‫ضالَالً َبعِيدًا" (النساء‪ ،‬آية ‪.)116 :‬‬ ‫ِاهلل فَقَد ضَلَّ َ‬
‫َومَن يُشرِك ب ِّ‬
‫الزكَا َة َفإِخوَا ُنكُم فِي الدِّينِ‬
‫الصالَ َة وَآتَوُا َّ‬
‫َّ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ ":‬فإِن تَابُوا وََأقَامُوا‬
‫وَنُفَصِّلُ اآليَاتِ لِقَومٍ يَعَلمُونَ" (التوبة‪ ،‬آية ‪.)11 :‬‬
‫‪2‬ـ اإلخًلص‪:‬‬
‫وال تصح التوبة الشرعية إال بإخالص‪ ،‬ومن ترك الذنب لغير اهلل ال يكون‬
‫تائباً اتفاقاً‪.2‬‬
‫والتوبة من األعمال الصالحة ينبغي أن تكون خالصة هلل عز وجل‪.‬‬
‫جمِيعًا أَيُّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ" (النور‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ـ قال تعالى‪ ":‬وَتُوبُوا إِلَى اهللَِّ َ‬
‫‪.)31‬‬
‫صغَت قُلُو ُب ُكمَا" (التحريم‪ ،‬آية ‪ .)4 :‬فقيد‬ ‫ـ وقال تعالى‪ ":‬إِن تَتُوبَا إِلَى اهللَِّ فَقَد َ‬
‫اهلل التوبة في اآلية بأنها تكون خالصة‪.‬‬
‫ِاهلل وَأَخلَصُوا دِينَهُم هللِِّ‬
‫صمُوا ب ِّ‬ ‫ـ وقال عز وجل‪ ":‬إِالَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصلَحُوا وَاعتَ َ‬
‫عظِيمًا" (النساء‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫َفأُولَـ ِئكَ مَعَ المُؤمِنِينَ وَسَوفَ يُؤتِ اهللُّ المُؤمِنِينَ أَجرًا َ‬
‫‪.)146‬‬
‫‪3‬ـ اَلعتراف بالذنب‪:‬‬
‫إن الهداية التامة إلى الصراط المستقيم ال تكون مع الجهل بالذنوب‪ ،‬وال مع‬
‫اإلصرار عليها‪ ،‬فإن األول جهل ينافي معرفة الهدى‪ ،‬والثاني غي ينافي‬
‫قصده وإرادته فلذلك ال تصح إال من بعد معرفة الذنب واإلعتراف به‪ ،‬وطلب‬
‫التخلص من سوء عواقبه أوالً وآخراً‪.3‬‬
‫‪4‬ـ اإلقًلع عن الذنب‪:‬‬
‫هو الشرط األساسي للتوبة المقبولة‪ ،‬فالذي يرجع إلى اهلل وهو مقيم على‬
‫الذنب ال يعد تائباً وفي قوله " وَتُوبُوا" إشارة إلى معنى اإلقالع عن المعصية‪،‬‬
‫ألن النفس المتعلقة بالمعصية قلما تخلص في إقبالها على عمل الخير‪ ،‬لذلك‬
‫كان على التائب أن يجاهد نفسه فيقتلع جذور المعاصي من قلبه‪ ،‬حتى تصبح‬

‫‪ 1‬تفسير المنار (‪ 448 / 4‬ـ ‪.)450‬‬


‫‪ 2‬فتح الباري (‪.)103 / 11‬‬
‫‪ 3‬مدارج السالكين (‪.)179 / 1‬‬

‫‪197‬‬
‫نفسه قوية على الخير مقبلة عليه‪ ،‬نافرة عن الشر متغلبة عليه بإذن اهلل‬
‫تعالى‪.1‬‬
‫واإلقالع عن األمر‪ :‬الكف عنه‪ ،‬يقال‪ :‬أقلع فالن عما كان عليه‪ ،‬أي كف‬
‫عنه‪.2‬‬
‫‪5‬ـ الندم‪:‬‬
‫الندم ركن من أركان التوبة ال تتم إال به وقد أشار النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫إلى قيمة الندم‪ ،‬فقال‪ :‬الندم توبة‪ ،3‬والتوبة لولم يصحبها الندم لربما أدى ذلك‬
‫إلى عودة المرء للذنوب‪ ،‬ألن الندم يجعل التائب متوجعاً متحسراً على‬
‫المعصية‪ ،‬ذاكراً للجريمة التي صنعها منكراً لها‪ ،‬نافراً منها‪ ،‬وهذا التصور‬
‫يدفع التوبة إلى استدامة التوبة‪ ،‬كثرة االستغفار‪ ،‬والقيام بأعمال صالحة‪،‬‬
‫يرضى اهلل تعالى عنها‪.4‬‬
‫اهلل َفإ َِّنهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ" (الحج‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫شعَا ِئرَ َِّ‬
‫ك َومَن ُيعَظِّم َ‬ ‫قال تعالى‪ ":‬ذَلِ َ‬
‫‪.)32‬‬
‫قال ابن مسعود رضي اهلل عنه‪ :‬إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل‬
‫يخاف أن يقع عليه‪ ،‬وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه‪.5‬‬
‫‪6‬ـ العزم على التوبة‪:‬‬
‫والعزم مترتب على الندم‪ ،‬وهو يعني اإلصرار على عدم العودة إلى الذنوب‬
‫ثانية‪.‬‬
‫والقرآن الكريم مدح العزم والعزيمة في عدة مواضع‪ ،‬يقول تعالى‪َ ":‬فإِذَا‬
‫عزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى اهللِّ" (آل عمران‪ ،‬آية ‪.)159 :‬‬ ‫َ‬
‫سيَ وَلَم نَجِد لَهُ عَزمًا" (طه‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫عهِدنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبلُ فَنَ ِ‬
‫وقال تعالى‪ ":‬وَلَقَد َ‬
‫‪.)115‬‬
‫أي لم نجد له صبراً وعزيمة‪ ،‬حيث لم يحترز عن الغفلة من وساوس‬
‫الشيطان‪ ،‬وهذه اآلية تشير إلى أن المؤمن البد وأن تكون عنده عزيمة قوية‪،‬‬
‫وإرادة فعالة والتائب أكثر الناس حاجة إلى العزيمة واإلرادة القوية‪ ،‬حتى‬
‫يتمكن من السيطرة على شهواته ورغباته‪ ،‬فيقف أمامها وقفة صمود وقوة‪،‬‬
‫تجعله ال يعود الذنوب ثانية‪ ،‬فتكون توبته صحيحة مقبولة‪.6‬‬
‫‪ 1‬التوبة في ضوء القرآن الكريم صـ ‪.48‬‬
‫‪ 2‬لسان العرب (‪.)292 / 8‬‬
‫‪ 3‬سنن ابن ماجة رقم الحديث ‪.4252‬‬
‫‪ 4‬التوبة في ضوء القرآن صـ ‪.50‬‬
‫‪........................... 5‬‬
‫‪ 6‬التوبة في ضوء القرآن الكريم صـ ‪.51‬‬

‫‪198‬‬
‫‪7‬ـ رد المظالم إلى أهلها‪:‬‬
‫ومن شروط التوبة التي ال تتم إال بها رد المظالم إلى أهلها وهذه المظالم إما‬
‫أن تتعلق بأمور مادية أو بأمور غير مادية‪ ،‬فإن كانت مظالم مادية‪،‬‬
‫كاغتصاب المال أو سرقته‪ ،‬فيجب على التائب أن يردها إلى أصحابها إن‬
‫كانت موجودة‪ ،‬أو أن يتحللها منهم‪ ،‬وإن كانت مظالم غير مادية فيجب على‬
‫التائب أن يطلب من المظلوم العفو عن ظالمته وأن يعمل على إرضائه وفي‬
‫هذا يقول عليه الصالة والسالم‪ :‬من كانت عنده مظلمة ألخيه فليتحلله منها‪،‬‬
‫فإنه ليس ثم دينار وال درهم من قبل أن يؤخذ ألخيه من حسناته‪ ،‬فإن لم يكن‬
‫له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه‪.1‬‬
‫‪8‬ـ اَلستقامة‪:‬‬
‫إن التائب بعد أن أخلص في توبته‪ ،‬وأقر بذنوبه نادماً عليها‪ ،‬البد أن يسلك‬
‫درب االستقامة واالعتدال في فعل الطاعات وفي السير على منهج اهلل تعالى‪.‬‬
‫قال تعالى‪ ":‬فَاستَقِم َكمَا ُأمِرتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَالَ تَطغَوا إِنَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ"‬
‫(هود‪ ،‬آية ‪.)112 :‬‬
‫‪9‬ـ اإلصًلح‪:‬‬
‫اهلل يَتُوبُ عَلَيهِ إِنَّ اهللَّ غَفُورٌ‬
‫ِن َّ‬‫ـ قال تعالى‪َ ":‬فمَن تَابَ مِن بَعدِ ظُل ِمهِ وَأَصلَحَ َفإ َّ‬
‫رَّحِيمٌ" (المائدة‪ ،‬آية ‪.)39 :‬‬
‫ـ وقال تعالى‪ ":‬إِالَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعدِ ذَلِكَ وَأَصلَحُوا فَإِنَّ اهللََّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (آل‬
‫عمران‪ ،‬آية ‪.)89 :‬‬
‫ـ وقال تعالى‪ ":‬ثُمَّ تَابُوا مِن بَعدِ ذَِلكَ وَأَصلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ"‬
‫(النحل‪ ،‬آية ‪.)119 :‬‬
‫ولقد شجع اهلل على التوبة وعلى مزيد من االعمال الصالحة لمن تاب وأقبل‬
‫على اهلل طائعاً‪ ،‬ووعد من يعمل األعمال الصالحة بأن يبدل اهلل سيئاته‬
‫ك‬
‫ع َمالً صَالِحًا َفأُولَئِ َ‬ ‫عمِلَ َ‬ ‫حسنات‪ ،‬فقال جل من قائل‪ ":‬إِالَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَ َ‬
‫اهلل غَفُورًا رَّحِيمًا" (الفرقان‪ ،‬آية ‪.)70 :‬‬ ‫يُبَدِّلُ اهللَُّ سَيِّئَا ِتهِم حَسَنَاتٍ َوكَانَ َُّ‬
‫‪10‬ـ إظهار اَلستقامة‪:‬‬
‫إذا كانت المعاصي والذنوب التي ارتكبها التائب سابقاً وتاب عليها فيما بينه‬
‫وبين ربه وقد ستره اهلل فال حاجة له إلى إعالن توبته منها‪.‬‬
‫وأما إذا كانت من الذنوب التي اشتهرت بفعلها أو ممارستها‪ ،‬كمن اشتهر‬
‫باإلفساد في االرض‪ ،‬أو بالسرقة‪ ،‬أو ترويع األمن براً‪ ،‬أو بحراً‪ ،‬أو جواً‪ ،‬أو‬
‫‪ 1‬البخاري‪ ،‬ك الرقائق‪ ،‬باب القصاص يوم القيامة (‪.)197 / 7‬‬

‫‪199‬‬
‫كان ممن ألف كتباً ضد اإلسالم‪ ،‬أو دعا فيها إلى مخالفة الشريعة اإلسالمية‬
‫في أمر من األمور‪ ،‬فإنها تحتاج من التائب إلى كتابة أو نشر ما يظهر براءته‬
‫مما كتب أو ما كان يمارسه سايقاً بالقول أو الفعل‪.1‬‬
‫قال تعالى‪ ":‬إِنَّ الَّذِينَ يَك ُتمُونَ مَا أَنزَلنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِن بَعدِ مَا بَيَّنَّاهُ‬
‫اهلل وَيَلعَ ُنهُمُ الالَّعِنُونَ * إِالَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصلَحُوا‬
‫لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَ ُنهُمُ ُّ‬
‫ك أَتُوبُ عَلَيهِم وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (البقرة‪ ،‬آية ‪ 195 :‬ـ ‪.)160‬‬ ‫وَبَيَّنُوا َفأُولَـئِ َ‬
‫إن الثبات على التوبة النصوح والعودة إلى رحاب الطهر والعفاف وإرضاء‬
‫الخالق عز وجل يحتاج إلى توفيق اهلل عز وجل ومن الوسائل التي تساعد‬
‫اإلنسان على الثبات على التوبة‪ ،‬هجر أصدقاء السوء‪ ،‬ومكان المعصية‪،‬‬
‫ومجاهدة الشيطان‪ ،‬ومحاسبة النفس واستدامة الندم‪ ،‬واإلكثار من االستغفار‪،‬‬
‫وممارسة االعمال الصالحة والذكر والدعاء والرجاء وحسن الظن‪.2‬‬

‫الثاني والثًلثون‪ :‬الحدود كفارات ألصحابها‪:‬‬


‫ذهب جمهور العلماء‪ ،‬ومنهم الشافعية والحنابلة‪ ،‬وابن حزم‪ ،‬إلى أن الحد‬
‫مطهر لصاحبه من الذنب‪ ،‬ويرفع عنه المؤاخذة في الدار اآلخرة‪.3‬‬
‫يقول اإلمام النووي‪ :‬من أرتكب ذنباً يوجب الحد فحُدّ سقط عنه اإلثم‪.4‬‬
‫وعن عبادة بن الصامت رضي اهلل عنه‪ ،‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫قال وحوله عصابة من أصحابه في المجلس‪ :‬بايعوني على أال تشركوا باهلل‬
‫شيئاً وال تسرقوا‪ ،‬وال تزنوا‪ ،‬وال تقتلوا أوالدكم‪ ،‬وال تأتوا ببهتان تفترونه بين‬
‫أيديكم وأرجلكم‪ ،‬وال تعصوا في معروف‪ ،‬فمن وفىّ منكم فأجره على اهلل‪،‬‬
‫ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له‪ ،‬ومن أصاب من‬

‫‪ 1‬التوبة في ضوء القرآن الكريم صـ ‪.55‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه صـ ‪.150 ، 149‬‬
‫‪ 3‬التوبة في ضوء القرآن الكريم صـ ‪.317‬‬
‫‪ 4‬شرح صحيح مسلم‪ ،‬ك الحدود (‪.)224 / 11‬‬

‫‪200‬‬
‫ذلك شيئاً ثم ستره اهلل فهو إلى اهلل إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه‪ ،‬فبايعناه‬
‫على ذلك‪.1‬‬
‫‪1‬ـ أثر التوبة في حد الحرابة‪:‬‬
‫إن االعتداء على ممتلكات الناس‪ ،‬وأرواحهم وأعراضهم وإرهابهم وتهديدهم‬
‫سواء كان في البر‪ ،‬أو البحر‪ ،‬أو الجو‪ ،‬كل ذلك من اإلفساد في االرض الذي‬
‫يجب محاربته توصيداً لألمن الذي هو أجلّ نعمة أنعم اهلل بها على العباد‪ ،‬وقد‬
‫وضع اهلل لهذه الجريمة عقوبة تتالئم مع بشاعتها‪ ،‬وتأتي عليها وتحقق‬
‫اهلل‬
‫ن َّ‬ ‫جزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُو َ‬
‫الغرض الذي ينشده المجتمع‪ ،‬قال تعالى‪ ":‬إ َِّنمَا َ‬
‫َورَسُوَلهُ وَيَسعَونَ فِي األَرضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَو يُصَلَّبُوا أَو تُقَطَّعَ أَيدِيهِم‬
‫ي فِي الدُّنيَا وََلهُم فِي‬ ‫ف أَو يُنفَوا مِنَ األَرضِ ذَِلكَ َلهُم خِز ٌ‬ ‫وَأَرجُُلهُم مِّن خِال ٍ‬
‫عظِيمٌ * إِالَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبلِ أَن تَق ِدرُوا عَلَيهِم فَاعَلمُوا أَنَّ اهللَّ‬
‫خرَ ِة عَذَابٌ َ‬
‫اآل ِ‬
‫غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (المائدة‪ ،‬آية ‪ 33 :‬ـ ‪.)34‬‬
‫هذه اآلية الكريمة بيان من اهلل عز وجل عن حكم من أفسد في األرض‬
‫وحارب اهلل ورسوله‪ ،‬ال جزاء له في الدنيا إال القتل‪ ،‬أو الصلب وقطع اليد‬
‫والرجل من خالف‪ ،‬أو النفي من األرض‪ ،‬خزياً لهم وأما في اآلخرة إن لم‬
‫يتب في الدنيا عذاب عظيم‪.2‬‬
‫واآلية الكريمة تضمنت أموراً ثالثة هي‪:‬‬
‫ـ جزاء المحاربين في الدنيا‪.‬‬
‫ـ جزاء المحاربين في اآلخرة‪.‬‬
‫ـ توبتهم قبل القدرة عليهم‪.‬‬
‫أ ـ عقوبة المحارب في الدنيا‪:‬‬
‫نصت اآلية الكريمة على أن المحاربين مسلمين كانوا أو ذميين‪ ،‬وإذا لم يتوبوا‬
‫فعقوبتهم القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل من خالف أو النفي من‬
‫األرض‪ ،‬وهذه العقوبة تكون حسب جرائمهم‪ ،‬وهي تعد لهم خزياً وعاراً في‬
‫الحياة الدنيا‪ ،‬والسبب في ذلك شناعة المحارب وعظم ضررها‪ ،‬ألن فيها سد‬
‫سبيل الكسب على الناس‪.3‬‬

‫‪ 1‬فتح الباري‪ ،‬ك اإليمان (‪.)68 / 1‬‬


‫‪ 2‬التوبة في ضوء القرآن الكريم صـ ‪.320‬‬
‫‪ 3‬تفسير القرطبي (‪ )157 / 6‬بتصرف‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫واهلل سبحانه وتعالى عندما بين عقوبة المحاربين عبّر بحرف (أو) والعلماء قد‬
‫اختلفوا فيه‪ :‬هل هذا العقاب لتنوع الجرائم فتكون بذلك‪ ،‬أو لتنويع العقاب‬
‫بتنوع الجريمة؟ أم أن الواو للتخيير‪ ،‬فيكون اإلمام مخيراً غير مقيد بنوع‬
‫الجريمة‪ ،‬وهو في هذا ينظر إلى مقدار الترويع بما يتناسب مع قوة الجناة‪ ،‬من‬
‫غير نظر إلى نوع ما ارتكبوه من جرائم وال إلى مقداره‪ ،‬إنما ينظر فقط إلى‬
‫مقدار الزجر والردع‪.1‬‬
‫ب ـ توبة المحارب وأثرها‪:‬‬
‫لقد استثنى اهلل تعالى من العقوبات السابقة الذين تابوا قبل القدرة عليهم‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪ ":‬إِالَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبلِ أَن تَق ِدرُوا عَلَيهِم فَاعَلمُوا أَنَّ اهللَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"‬
‫(المائدة‪ ،‬آية ‪.)34 :‬‬
‫والتائب له حالتان‪:‬‬
‫األولى‪ :‬توبة المحارب قبل القدرة عليه‪:‬‬
‫إذا تاب المحاربون قبل القدرة عليهم بعد أن ارتكبوا جريمة من جرائم الحرابة‬
‫سقط عليهم حق اهلل تعالى من قتل وصلب‪ ،‬وقطع اليد والرجل من خالف‪،‬‬
‫والنفي من األرض‪ ،‬وأخذوا بحقوق اآلدميين‪.‬‬
‫وقد فصل صاحب المغنى المسألة وبين في الحكم فيما يختص بحقوق اآلدميين‬
‫فقال‪" :‬إِالَّ الَّذِينَ تَابُوا"‪ ،‬أي المحاربون من قبل أن يقدر عليهم سقطت عنهم‬
‫حدود اهلل تعالى‪ ،‬وأخذوا بحقوق اآلدميين من األنفس والجراح واألموال‪ ،‬إال‬
‫أن يعفي لهم عنها‪ ،‬وال نعلم خالفاً في هذا بين أهل العلم‪ ،‬وبه قال مالك‬
‫والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور‪ ،‬واألصل في هذا قوله تعالى‪ " :‬إِالَّ الَّذِينَ‬
‫اهلل غَفُورٌ رَّحِيمٌ"(المائدة‪ ،‬آية ‪.)34 :‬‬ ‫تَابُوا مِن قَبلِ أَن تَق ِدرُوا عَلَيهِم فَاعَلمُوا أَنَّ َّ‬
‫فعلى هذا يسقط عنهم تحتم القتل والصلب والقطع والنفي‪ ،‬ويبقى عليهم‬
‫القصاص في النفس والجراح وغرامة المال والذي ال قصاص فيه‪.2‬‬
‫وأما إذا ارتكب المحاربون جرائم أخرى غير القتل وأخذ األموال والقذف‬
‫والزنا والسرقة وشرب الخمر فإن فيها قولين‪:‬‬
‫األول‪ :‬أنها تسقط بالتوبة‪ ،‬ألنها حدود اهلل إال القذف فإنه ال يسقط‪ ،‬ألنه حق‬
‫من حقوق اآلدميين‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أنها ال تسقط‪ ،‬ألنها حقوق ال تختفي بالحرابة وذكر ابن رشد الحفيد‬
‫أقواالً أربعة فيما تسقطه التوبة‪.1‬‬

‫‪ 1‬التوبة في ضوء القرآن الكريم صـ ‪.320‬‬


‫‪ 2‬المغني (‪.)295 / 8‬‬

‫‪202‬‬
‫فقال‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن التوبة إنما تسقط عنه حد الحرابة فقط ويؤخذ بما سوى ذلك‬
‫من حقوق اهلل وحقوق اآلدميين‪.‬‬
‫والقول الثاني‪ :‬أن التوبة تسقط عنه حد الحرابة وجميع حقوق اهلل من الزنا‬
‫والشراب والقطع في السرقة ويتبع بحقوق الناس في األموال والدماء‪ ،‬إال أن‬
‫يعفو أولياء المقتل‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أن التوبة ترفع جميع حقوق اهلل ويؤخذ بالدماء وفي األموال بما وجد‬
‫بعينه في أيديهم وال تتبع دمهم‪.‬‬
‫والرابع‪ :‬أن التوبة تسقط جميع حقوق اهلل‪ ،‬وحقوق اآلدميين من مال ودم إال‬
‫من كان من األموال قائم العين بيده‪.2‬‬
‫والحكمة في اسقاط الجريمة والعقوبة في هذه الحالة عنهم من ناحيتين‪:‬‬
‫األولى‪ :‬تقدير توبتهم وهم يملكون العدوان واعتبارها دليل صالح واهتداء‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫والثاني‪ :‬تشجيعهم على التوبة وتوفير مؤنة الجهد في قتالهم من أيسر سبيل ‪.‬‬
‫ثانياا‪ :‬توبة المحارب بعد القدرة عليه‪:‬‬
‫إذا تاب المحارب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شيء ال من حقوق اهلل وال من‬
‫حقوق العباد‪ ،‬ألن االستشناء في اآلية " إِالَّ الَّذِينَ تَابُوا"‪.‬‬
‫حدد قبول التوبة بما قبل القدرة‪ ، 4‬قال القرطبي‪ :‬إنما ال يسقط الحد من‬
‫المحاربين بعد القدرة عليهم ألنهم متهمون بالكذب في توبتهم والتصنع فيها‪،‬‬
‫إذا نالتهم يد اإلمام أو ألنه لما قدر عليهم صاروا بمعرض أن ينكل بهم‪ ،‬فلم‬
‫تقبل توبتهم بعد القدرة عليهم‪.5‬‬
‫‪ 2‬ـ أثر التوبة في حد القتل‪:‬‬
‫القتل العمد هو أبشع الجرائم‪ ،‬وأشدها عند اهلل وعند الناس‪ ،‬وقد جاءت اآليات‬
‫واألحاديث تبين شناعة هذه الجريمة ومصير من تلطح بها‪.‬‬
‫ـ قال تعالى‪ " :‬أ ََّنهُ مَن قَتَلَ نَفسًا ِبغَيرِ نَفسٍ أَو فَسَادٍ فِي األَرضِ َف َكأ ََّنمَا قَتَلَ النَّاسَ‬
‫جمِيعًا" (المائدة‪ ،‬آ ية ‪.)32 :‬‬ ‫جمِيعًا َومَن أَحيَاهَا َفكَأ ََّنمَا أَحيَا النَّاسَ َ‬ ‫َ‬
‫جهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اهللُّ‬ ‫جزَآؤُ ُه َ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ " :‬ومَن يَقتُل مُؤمِنًا مُّ َتعَمِّدًا فَ َ‬
‫عظِيمًا" (النساء‪ ،‬آية ‪.)93 :‬‬ ‫عَلَيهِ وََلعَ َنهُ وَأَعَدَّ َلهُ عَذَابًا َ‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪.)295 / 8‬‬


‫‪ 2‬بداية المجتهد ونهاية المقتصد (‪.)343 / 2‬‬
‫‪ 3‬في ظالل القرآن (‪.)880 / 2‬‬
‫‪ 4‬التوبة في ضوء القرآن الكريم صـ‪.338‬‬
‫‪ 5‬الجامع ألحكام القرآن (‪.)158 / 6‬‬

‫‪203‬‬
‫وعن البراء بن عازب أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال لزوال الدنيا‬
‫أهون على اهلل من قتل مؤمن بغير حق‪.1‬‬
‫وقد اتخذ االسالم التدابير الالزمة لحماية النفس وصيانة الجماعة‪.‬‬
‫وذهب جمهور السلف والخلف إلى القول بأن القاتل له توبة‪ ،‬ولو كان متعمداً‬
‫لعموم اآليات‪ ،‬واألحاديث الدالة على قبول توبة التائب‪ ،‬وأن اهلل يغفر الذنوب‬
‫جميعاً وإن عظمت‪:‬‬
‫أ ـ قال تعالى‪" :‬وَالَّذِي َن لَا يَدْعُو َن مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُو َن النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا‬

‫ب وَآمَ َن‬
‫ف لَهُ الْعَذَابُ يَوْ َم الْقِيَامَةِ ويَخْلُ ْد فِيهِ مُ َهانًا * إِلَّا مَن تَا َ‬
‫ك يَلْقَ أَثَامًا * يُضَا َع ْ‬
‫يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِ َ‬

‫ت وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" (الفرقان‪ ،‬آية ‪:‬‬


‫ك ُيبَدِّ ُل اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ ْم حَسَنَا ٍ‬
‫وَعَمِ َل عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِ َ‬
‫‪ 68‬ـ ‪.)70‬‬
‫ب ـ ومما يذل على قبول اهلل عز وجل توبة القاتل قوله عز وجل‪ " :‬قُل يَا‬
‫اهلل يَغ ِفرُ الذُّنُوبَ‬
‫اهلل إِنَّ ََّ‬
‫ال تَق َنطُوا مِن رَّحمَ ِة َِّ‬
‫سهِم َ‬ ‫عِبَادِيَ الَّذِينَ أَس َرفُوا عَلَى أَنفُ ِ‬
‫جمِيعًا" (الزمر‪ ،‬آية ‪.)53 :‬‬ ‫َ‬
‫ج ـ وقال تعالى‪ " :‬وَهُوَ الَّذِي يَقبَلُ التَّو َبةَ عَن عِبَا ِدهِ وَيَعفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ‪"...‬‬
‫(الشورى ‪ ،‬آية ‪.)25 :‬‬
‫خ ـ وقال تعالى‪ " :‬فَمَن تَابَ مِن بَعدِ ظُل ِمهِ وَأَصلَحَ َفإِنَّ اهللَّ يَتُوبُ عَلَيهِ‪"...‬‬
‫(المائدة ‪ ،‬آية ‪.)39 :‬‬
‫هذه نصوص قرآنية تنص على قبول اهلل عز وجل توبة كل من أسرف على‬
‫نفسه في الذنوب مهما كانت هذه الذنوب‪.‬‬
‫د ـ عن أبي سعيد الخدري‪ ،‬أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪ :‬كان فيمن كان‬
‫قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً‪ ،‬فسأل عن أعلم أهل األرض فدل على‬
‫راهب فأتاه فقال‪ :‬إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال‪ :‬ال فقتله‪،‬‬
‫فكمل به مائة‪ ،‬ثم سأل عن أعلم أهل األرض فدل على رجل عالم‪ ،‬فقال‪ :‬إنه‬
‫قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال‪ :‬نعم ومن يحول بينه وبين التوبة‪ ،‬انطلق‬
‫إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون اهلل فأعبد اهلل معهم‪ ،‬وال ترجع إلى‬
‫أرضك فإنها أرض سوء‪.2‬‬

‫‪ 1‬سنن ابن ماجة‪ ،‬ك الديات‪ ،‬باب التغليظ في قتل مسلم‪.‬‬


‫‪ 2‬رواه مسلم‪ ،‬ك التوبة (‪.)499 / 2‬‬

‫‪204‬‬
‫س ـ وعن أنس رضي اهلل عنه قال‪ :‬سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يقول‪" :‬قال اهلل تعالى‪" :‬يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على‬
‫ما كان منك وال أبالي‪ ،‬يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء‪ ،‬ثم استغفرتني‬
‫غفرت لك‪ ،‬وال أبالي‪ ،‬يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب األرض خطايا ثم‬
‫لقيتني ال تشرك بي شيئاً ألتيتك بقرابها مغفرة‪.1‬‬
‫فالقاتل إذا تاب إلى اهلل فإن توبته مقبولة إن شاء اهلل تعالى‪ ،‬ويقول ابن القيم‬
‫في ذلك‪ :‬ويعوَّض اهلل المقتول‪ ،‬ألن مصيبته لم تجبر بقتل قاتله‪ ،‬والتوبة‬
‫النصوح تهدم ما قبلها‪ ،‬فيعوض هذا عن مظلمته‪ ،‬وال يعاقب هذا لكمال‬
‫توبته‪.2‬‬
‫ك ـ التوبة وعقوبة القصاص‪:‬‬
‫ـ جعل اهلل تعالى لولي القتيل سلطاناً على القاتل‪ ،‬قال تعالى‪َ " :‬ومَن قُتِلَ‬
‫جعَلنَا لِوَل ِِّيهِ سُلطَانًا" (اإلسراء‪ ،‬آية ‪.)33 :‬‬
‫مَظلُومًا فَقَد َ‬
‫فكون ولي القتيل له سلطان على القاتل‪ ،‬فمقتضى ذلك أنه حق من حقوقه‪ ،‬وال‬
‫يسقط هذا الحق بالتوبة‪ ،‬فولي الدم مخير بين أمور ثالثة‪ :‬إما القصاص‬
‫بواسطة اإلمام‪ ،‬والدية المغلظة‪ ،‬أو العفو‪ ،‬واإلجماع منعقد على ذلك‪.3‬‬
‫‪ 3‬ـ أثر التوبة فيما يتعلق بحقوق العباد المالية‪:‬‬
‫حرم اهلل عز وجل أكل أموال الناس بالباطل في قوله تعالى‪ " :‬وَالَ تَأكُلُوا‬
‫أَموَاَلكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ" (البقرة‪ ،‬آية ‪ ،)188 :‬أي ال يأكل بعضكم مال بعض‬
‫بالباطل من غير الوجه الذي أباحه اهلل‪ ،‬وأصل الباطل‪ :‬الشيء الذاهب‪،‬‬
‫واألكل بالباطل أنواع‪ ،‬قد يكون بطريق الغصب والنهب‪ ،‬وقد يكون بطريق‬
‫اللهو كالقمار‪ ،‬وقد يكون بطريق الرشوة والخيانة‪..‬الخ‪.‬‬
‫وإذا أراد العبد التوبة‪ ،‬وكان أخذ ماالً بصورة من الصور السابقة أو بغيرها‬
‫وجب عليه رده إلى مالكه‪ ،‬أو استحالله منه‪ ،‬إن كان معروفاً وأمكن الوصول‬
‫إليه‪.4‬‬

‫‪ 1‬سنن الترمذي‪ ،‬باب الدعوات رقم ‪.106‬‬


‫‪ 2‬مدارج السالكين (‪.)399 / 1‬‬
‫‪ 3‬التوبة في ضوء القرآن الكريم صـ‪.359‬‬
‫‪ 4‬معالم التنزيل للبغوي (‪ 165 / 1‬ـ ‪.)166‬‬

‫‪205‬‬
‫أما إذا كان المالك مفقوداً كان لم يسطع الوصول إليه‪ ،‬أو كان مسافراً‪ ،‬أو‬
‫مات ولم تعرف ورثته‪ ،،‬أو انقرضوا فعليه أن يتصدق بهذا المال في حالة‬
‫اليأس في الوصول إلى صاحبه‪ ،‬أما إذا كان مال من الدولة فعليه إرجاعه‬
‫إليها ألنه ملك لكل الشعب‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أثر التوبة فيما يتعلق بحقوق العباد غير المالية‪:‬‬
‫إن الغيبة‪ ،‬والنميمة‪ ،‬والشتم‪ ،‬والتجسس‪ ،‬والخيانة‪ ،‬والمكر‪ ،‬والخديعة‪ ،‬والغدر‪،‬‬
‫وعدم الوفاء‪ ،‬بالعهد‪ ،‬وشهادة الزور والظلم‪ ،‬والكذب‪ ،‬وعقوق الواليدن‪،‬‬
‫وهجر األقارب‪ ..‬هي من األمور التي نهى اهلل تعالى عنها وحذر من فعلها في‬
‫كتابه الكريم وسنة نبيه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ولكن قد يقع المرء في إحدى‬
‫هذه المنهيات‪ ،‬فما هو أثر التوبة في هذه األمور حتى يسقط عنه العذاب‬
‫األخروي‪.1‬‬
‫فمثالً المغتاب إذا تاب فعلم به من اغتابه فيجب عليه في هذه الحالة استحالله‬
‫وطلب العفو منه لقوله صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬من كانت عنده مظلمة ألخيه‬
‫فليتحلله منها‪ ،‬فإنه ليس ثم دينار وال درهم‪ ،‬من قبل أن يؤخذ ألخيه من‬
‫حسناته‪ ،‬فإن لم يك له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه‪.2‬‬
‫أما إذا لم يعلم المغتاب باألمر‪ ،‬فإنه يستغفر له وال يعلمه‪ ،‬ألن في إعالمه جلباً‬
‫للعداوة والبغضاء في النفوس وإيذاء لمن اغتيب‪.3‬‬
‫وعلى التائب‪ :‬أن يفعل مع المظلوم حسنات كالدعاء له واالستغفار وعمل‬
‫صالح يهدي إليه يقوم مقام إغتياله وقذفه‪ ،‬قال الحسن البصري‪ :‬كفارة الغيبة‬
‫أن تستغفر لمن اغتبته‪.4‬‬
‫والشتم والتجسس وغير ذلك من حقوق اآلدميين فإنها تحمل على ما سبق‪ ،‬أما‬
‫شهادة الزور فيشترط في صحة التوبة منها أن يندم عليها ويعزم على عدم‬
‫‪ 1‬التوبة في ضوء القرآن الكريم صـ‪.459‬‬
‫‪ 2‬البخاري‪ ،‬ك الرقائق‪ ،‬باب القصاص (‪.)197 / 7‬‬
‫‪ 3‬التوبة في ضوء القرآن صـ‪.467‬‬
‫‪ 4‬مختصر الفتاوي المصرية البن تيمية صـ‪.254‬‬

‫‪206‬‬
‫العودة إليها‪ ،1‬ويعلن براءته من تلك الشهادة الكاذبة فيعمل على إصالح ما‬
‫أفسد بشهادته المزورة ضد ذلك اإلنسان أو الجماعة وكذلك شأن النمام‪.2‬‬
‫‪ 5‬ـ أثر التوبة في تكفير الكبائر‪:‬‬
‫إن من ارتكب كبيرة وستر نفسه ولم يقم عليه الحد وتاب توبة نصوحاً‪ ،‬فإنه‬
‫يكون داخالً تحت عفو اهلل ورحمته ومغفرته‪ ،‬وهذا ما ذهب إليه جمهور‬
‫العلماء والذي يؤكد توبة مرتكب الكبيرة عموم األدلة من القرآن الكريم والسنة‬
‫التي تفتح األمل أمام توبة التائبين في االقبال على اهلل‪ ،‬والعودة إلى رحابه‬
‫تعالى‪.‬‬
‫أ ـ قال تعالى‪ " :‬وَهُوَ الَّذِي يَقبَلُ التَّو َبةَ عَن عِبَا ِدهِ وَيَعفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ويَعلَم ما‬
‫يَفعَلُون" (الشورى ‪ ،‬آية ‪ ،)25 :‬تجيء هذه اآلية لترغيب من يريد التوبة‬
‫والرجوع عما هو فيه من ضاللة قبل أن يُقضى في األمر القضاء األخير‬
‫ويفتح لهم الباب على مصراعيه‪ ،‬فاهلل يقبل عنهم التوبة ويعفو عن السيئات‪،‬‬
‫فه يعلم التوبة الصادقة ويقبلها‪ ،‬كما يعلم ما أسلفوا من السيئات ويغفرها‪.3‬‬
‫عمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهتَدَى" (طه ‪،‬‬
‫ب ـ قال تعالى‪ " :‬وَإِنِّي َلغَفَّا ٌر ِّلمَن تَابَ وَآمَنَ وَ َ‬
‫آية ‪.)82 :‬‬
‫ج ـ وعن معاذ بن جبل رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫يا معاذ أتدري ما حق اهلل على العباد؟ قال‪ :‬اهلل ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪ :‬أن يعبدوه‬
‫وال يشركوا به شيئاً‪ .‬أتدري ما حقهم عليه؟ قال‪ :‬اهلل ورسوله أعلم قال‪ :‬أن ال‬
‫يعذبهم‪.4‬‬
‫س ـ وعن جابر رضي اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬أتى النبي صلى اهلل عليه وسلم رجل‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬ما الموجبتان؟ فقال‪ :‬من مات ال يشرك باهلل شيئاً دخل‬
‫الجنة‪ ،‬ومن مات يشرك باهلل شيئاً دخل النار‪.5‬‬

‫‪ 1‬التوبة في شوء القرآن صـ‪.468‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه صـ‪.468‬‬
‫‪ 3‬في ظالل القرآن (‪.)3157 / 5‬‬
‫‪ 4‬البخاري ك التوحيد (‪.)163 / 8‬‬
‫‪ 5‬مسلم‪ ،‬ك اإليمان (‪.)52 / 1‬‬

‫‪207‬‬
‫ش ـ عن عبادة بن الصامت رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ :‬من قال‪ :‬أشهد أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وحده ال شريك له‪ ،‬وأن محمداً‬
‫عبده ورسوله‪ ،‬وأن عيسى عبد اهلل‪ ،‬وابن أمته‪ ،‬وكلمته ألقاها إلى مريم وروح‬
‫منه وأن الجنة حق‪ ،‬وأن النار حق‪ ،‬أدخله اهلل من أي أبواب الجنة اثمانية‬
‫شاء‪.1‬‬
‫‪ 6‬ـ أثر التوبة على اإلنسان‪:‬‬
‫َهرِينَ" (البقرة‪ ،‬آية ‪.)222 :‬‬ ‫اهلل يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُ َتط ِّ‬
‫ن َّ‬ ‫قال تعالى‪َّ ِ" :‬‬
‫وعن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪:‬‬
‫قال اهلل عز وجل‪ :‬أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني‪ ،‬واهلل هلل‬
‫أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بفالة‪ ،‬ومن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت‬
‫إليه باعاً‪ ،‬وإذا أقبل إليَّ يمشي أقبلت إليه أهرول‪.2‬‬
‫التوبة ندامة على ما ماضي سيء‪ ،‬وعهد وإصرار على مستقبل مشرق‪،‬‬
‫وتسام‪ ،‬وإرادة‪ ،‬ونبل‪ ،‬وعزيمة‪ ،‬وتصميم وهي ميزات القدرة اإلنسانية‬
‫وصالبتها لمستقبل جديد‪ ،‬وهي تغيير جذري لنفس اإلنسان‪ ،‬وسلوكه‪،‬‬
‫وتفكيره‪ ،‬فهي عنصر أساسي لتكامل الشخصية المسلمة‪ ،‬وإذا تقبل التائب‬
‫نفسه شع بين جنبات نفسه أنوار السعادة والقرب اإللهي‪ ،‬فينطلق بإرادة قوية‪،‬‬
‫وعزيمة صادقة لطاعة ربه‪ ،‬صادقاً في عزيمته على التغلب على أهوائه‬
‫وشهواته وتوجيه طاقاته نحو األمثل واألكمل مراقباً لسلوكه‪ ،‬وتصرفاته‪.3‬‬
‫‪7‬ـ أثر التوبة على الصحة النفسية‪:‬‬
‫إن التزام المسلم بالتمسك بتعاليم القرآن الكريم تزيل عن نفسه اإلكتئاب‬
‫واإلحباط‪ ،‬أو أي توتر نفسي‪ ،‬والتوبة هي الدعوة اإللهية لإلنقاذ من أي‬
‫اضطراب نفسي وآالم نفسية تدعو إلى اليأس والقنوط‪ ،4‬وهي تحرر المذنب‬
‫من آثامه وخطاياه‪ ،‬وتشعره بالتفاؤل والراحة النفسية‪.5‬‬
‫اهلل‬
‫ال تَق َنطُوا مِن رَّحمَ ِة َِّ‬
‫سهِم َ‬
‫ـ قال تعالى‪ ":‬قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَس َرفُوا عَلَى أَنفُ ِ‬
‫جمِيعًا إ َِّنهُ هُوَ الغَفُو ُر الرَّحِيمُ" (الزمر‪ ،‬آية ‪.)53 :‬‬ ‫إِنَّ اهللََّ يَغفِ ُر الذُّنُوبَ َ‬
‫ال تَق َنطُوا" إشارة إلى أن المؤمن يجب أن يكون دائماً في حالة‬ ‫ففي قوله " َ‬
‫وسط ال يسرف وال يتجاوز الحدود حتى في تأنيب الضمير وتعذيب النفس‪،‬‬

‫‪ 1‬مسلم‪ ،‬ك اإليمان (‪.)33 / 1‬‬


‫‪ 2‬مسلم‪ ،‬ك التوبة‪ 489 /2( ،‬ـ ‪.)290‬‬
‫‪ 3‬التوبة في ضوء القرآن الكريم صـ ‪.517‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه صـ ‪.517‬‬
‫‪ 5‬المصدر نفسه صـ ‪.517‬‬

‫‪208‬‬
‫والتيقظ من الغفالت والشعور بالتقصير من جانب اهلل تعالى‪ ،‬ألن اليأس القاتل‬
‫ال محل له في النفس المؤمنة مهما كثرت الذنوب والهموم واآلآلم نتيجة‬
‫الشعور بفداحة المعاصي والذنوب‪ ،‬والتوبة النصوح من أهم مظاهر الصحة‬
‫النفسية المترتب عليها‪ ،‬أن يتقبل اإلنسان ذاته‪ ،‬ويرضى عن إمكانياته‪،‬‬
‫واستعداداته‪ ،‬وقدراته التي منحها اهلل تعالى له‪.1‬‬
‫إن للتوبة قيمة عظيمة في تمتع الفرد بالصحة العقلية والنفسية‪ ،‬فال يفقد المسلم‬
‫األمل إطالقاً وال يمكن أن يستسلم لليأس‪ ،‬فباب اإلصالح دائماً مفتوح‪،2‬‬
‫والشعور باألمان النفسي واالطمئنان إنما يولده اإلحساس بقبول التوبة‪ ،‬وقد‬
‫نص القرآن في كثير من آياته على قبول التوبة ومغفرة الذنوب‪ ،‬يقول تعالى‪":‬‬
‫جمِيعًا إ َِّنهُ هُوَ الغَفُو ُر الرَّحِيمُ" (الزمر‪ ،‬آية ‪.)53 :‬‬ ‫إِنَّ اهللََّ يَغفِ ُر الذُّنُوبَ َ‬
‫وهذا ما يحتاج التائب أن يعمله ويدركه‪ ،‬ليعيد الثقة في نفسه وروحه‪ ،‬بل‬
‫واألعظم من ذلك أن يعلم أن اهلل عز وجل ال يغفر له ذنوبه فقط‪ ،‬بل أن توبته‬
‫ِال مَن تَابَ وَآمَنَ‬ ‫الصادقة سبب لدخوله الجنة وحجابه‪ ،‬قال عز وجل ‪ ":‬إ َّ‬
‫عمِلَ صَالِحًا َفأُولَ ِئكَ يَدخُلُونَ الج ََّنةَ وَالَ يُظَلمُونَ شَيئًا" (مريم‪ ،‬آية ‪.)60 :‬‬ ‫وَ َ‬
‫ـ وقال عز وجل‪ ":‬يَا أ َُّيهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اهللَِّ تَوبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُم أَن‬
‫ال يُخزِي اهللَُّ‬ ‫ت تَجرِي مِن تَح ِتهَا األَنهَارُ يَومَ َ‬ ‫ُيك َِّفرَ عَنكُم سَيِّئَا ِتكُم وَيُدخَِلكُم جَنَّا ٍ‬
‫النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا َم َعهُ نُورُهُم يَسعَى بَينَ أَيدِيهِم وَ ِبأَيمَا ِنهِم يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتمِم لَنَا‬
‫نُورَنَا وَاغفِر لَنَا إ َِّنكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ" (التحريم‪ ،‬آية ‪.)8 :‬‬
‫وقال تعالى‪ ":‬الَّذِينَ يَحمِلُونَ العَرشَ َومَن حَولَ ُه يُسَبِّحُونَ بِحَمدِ ر َِّبهِم وَيُؤمِنُونَ‬
‫ِبهِ وَيَستَغ ِفرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعتَ كُلَّ شَيءٍ رَّحمَ ًة وَعِلمًا فَاغفِر لِلَّذِينَ تَابُوا‬
‫وَاتَّ َبعُوا سَبِيلَكَ َو ِقهِم عَذَابَ الجَحِيمِ" (غافر‪ ،‬آية ‪.)7 :‬‬
‫‪8‬ـ أثر التوبة في الناحية اإلجتماعية والخلقية‪:‬‬
‫والمتتبع آليات التوبة في القرآن الكريم يجد أنها في مجموعها دعوة ربانية‬
‫للتطهير من المعاصي واآلثام‪ ،‬فتارة يعرض التوبة من جريمة القتل‪ ،‬وأخرى‬
‫التوبة من الحرابة واإلفساد في األرض‪ ،‬وتارة التوبة من انتهاك األعراض‬
‫بالزنا‪ ،‬وهكذا سواء كانت الذنوب كبائر أم صغائر‪ ،‬فهي في مجموعها تدل‬
‫على كرم اهلل وفضله في تقبل توبة التائبين ورفعهم إلى البررة األطهار‬
‫األخيار من المؤمنين الصالحين وكأن هذا المنهج الرباني في قبوله توبة‬
‫المؤمنين يعلم المؤمنين في المجتمعات المسلمة كيفية التعامل مع من تاب‬

‫‪ 1‬التوجيه واإلرشاد النفسي حامد زهران صـ ‪.332‬‬


‫‪ 2‬التوبة وصحة المسلم العقلية مجلة كلية الملك خالد صـ ‪ 70‬ـ ‪.71‬‬

‫‪209‬‬
‫وأناب وصدق في توبته من المعاصي مهما تنوعت أو كثرت‪ ،‬ألن اإلنسان قد‬
‫فُطر على الحياة وسط الجماعة‪ ،‬فال يسعد إال بتكوين عالقات اجتماعية‬
‫مرضية مع اآلخرين وهو بذلك يشعر بذاته فيحس باالنتماء لهم‪.1‬‬
‫والتوبة سالح خلقي عظيم‪ ،‬ففيها الندم والتغيير والتحول وهي عالج‬
‫لألمراض الخلقية عند اإلنسان المذنب وذلك برجوعه إلى رحاب اهلل تعالى‪،‬‬
‫والندم على ما اقترفته يد اإلنسان من معاصي وآثام‪ ،‬وتغير أخالقيات التائب‬
‫إنما هي ثمار التوبة النصوح‪ ،‬فنراه صادقاً مخلصاً في أعماله صابراً‪.‬‬
‫إن التوبة تدفع اإلنسان عادة إلى إصالح الذات وتقويمها حتى ال يقع مرة‬
‫أخرى في األخطاء والمعصي‪ ،‬ويساعد ذلك على تقدير اإلنسان لنفسه والقرآن‬
‫الكريم نبه وكذلك السنة إلى تقويم التوبة لما اعوج من سلوك وأخالقيات‪،‬‬
‫وهذا التأثير إنما هو مقترن بصالح العمل‪ ،‬قال تعالى‪َ ":‬فإِن تَابَا وَأَصلَحَا‬
‫ن تَوَّابًا رَّحِيمًا" (النساء‪ ،‬آية ‪.)16 :‬‬ ‫َفأَعرِضُوا عَن ُهمَا إِنَّ اهللَّ كَا َ‬
‫اهلل هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (التوبة‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫وقال تعالى‪ ":‬ثُمَّ تَابَ عَلَيهِم لِيَتُوبُوا إِنَّ َّ‬
‫‪.)118‬‬
‫فالتوبة تغيير في أخالقيات التائب وسلوكه وأفكاره الخاطئة وتجعله قريباً من‬
‫اهلل‪ ،‬قريباً من اآلخرين‪.2‬‬

‫‪ 1‬التوبة في ضوء القرآن الكريم صـ ‪.524‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه صـ ‪.522‬‬

‫‪210‬‬
‫الخاتمة‬

‫وبعد‪ ،‬فهذا ما يسره اهلل لي من جمع وترتيب وتحليل في‬


‫هذا الكتاب‪ ،‬فيما يتعلق (بالعدالة والمصالحة الوطنية)‪.‬‬
‫فما كان فيه من صواب فهو محض فضل اهلل عليَّ‪ ،‬فله‬
‫الحمد والمنَّة‪ ،‬وما كان فيه من خطأ فاستغفر اهلل تعالى‬
‫وأتوب إليه واهلل ورسوله بريء منه‪ ،‬وحسبي أني كنت‬
‫حريصاً أال أقع في الخطأ‪ ،‬وعسى أال أحرم من األجر‪.‬‬
‫وأدعو اهلل تعالى أن ينفع بهذا الكتاب أخواني المسلمين‪،‬‬
‫وأن يذكرني من يقرؤه في دعائه‪ ،‬فإن دعوة األخ ألخيه‬
‫في ظهر الغيب مستجابة إن شاء اهلل تعالى‪.‬‬
‫وأختم هذا الكتاب بقول اهلل تعالى‪ " :‬رَبَّنَا اغفِر لَنَا‬
‫ن سَبَقُونَا بِاإلِيمَانِ وَالَ تَجعَل فِي ُقلُوبِنَا غِالًّ‬
‫وَإلِِخوَانِنَا َّالذِي َ‬
‫ف رَّحِيمٌ" (الحشر ‪ ،‬آية ‪.)10 :‬‬ ‫ن آمَنُوا رَبَّنَا إ َِّنكَ َرؤُو ٌ‬‫لَِّّلذِي َ‬

‫‪211‬‬
‫فهرس الكتاب‬
‫‪1‬‬ ‫‪1‬ـ المقدمة‬

‫‪28‬‬ ‫أوَلا‪ :‬واجبات الخصمين لتحقيق اإلصًلح ذات البين‬


‫‪28‬‬ ‫‪1‬ـ دفع السيئة بالتي هي أحسن‬
‫‪29‬‬ ‫‪2‬ـ اإلستجابة لداعي اإلصًلح‬
‫‪30‬‬ ‫‪3‬ـ عدم اإلستجابة لوسوسة الشيطان‬
‫‪31‬‬ ‫‪4‬ـ التنازل عن جزء من بعض حقه‬
‫‪32‬‬ ‫‪5‬ـ اإلستعانة بالوسطاء الخيرين‬
‫‪33‬‬ ‫‪6‬ـ الرضا بالحكم بعد صدوره‬

‫‪34‬‬ ‫ثانياا‪ :‬إصًلح ذات البين في القصاص والدية والحدود‬


‫‪34‬‬ ‫‪1‬ـ عفو الورثة‬
‫‪2‬ـ عفو القتيل قبل وفاتهذ‬
‫‪35‬‬
‫‪3‬ـ عفو الولي نيابة عن الصغير‬
‫‪36‬‬
‫‪36‬‬ ‫عفو السلطان‬

‫‪36‬‬ ‫ثالثاا‪ :‬الشروط الواجب توافرها للحكم بصحة العفو‬

‫‪37‬‬ ‫رابعاا‪ :‬سقوط القصاص بإصًلح ذات البين‬

‫‪38‬‬ ‫خامساا‪ :‬إصًلح ذات البين في الدية‬

‫‪38‬‬ ‫سادساا‪ :‬إصًلح ذات البين في الحدود‬

‫‪40‬‬ ‫سابعاا‪ :‬المصالحة في األحاديث النبوية‬

‫‪212‬‬
‫‪41‬‬ ‫ثامناا‪ :‬العفو في األحاديث النبوية‬

‫‪42‬‬ ‫تاسعاا‪ :‬اإلصًلح ذات البين َل يحل الحرام وَل يحرم الحًلل‬

‫‪42‬‬ ‫عاشراا‪ :‬فضل إصًلح ذات البين في السنة‬

‫‪43‬‬ ‫الحادي عشر‪ :‬أهمية إصًلح ذات البين‬


‫‪43‬‬ ‫‪1‬ـ تخفيف العبء عن القضاء‬
‫‪43‬‬ ‫‪2‬ـ تخفيف العبء عن الخصوم‬
‫‪43‬‬ ‫‪3‬ـ تحقيق العدالة‬
‫‪44‬‬ ‫‪4‬ـ نشر الوعي اإلجتماعي‬
‫‪44‬‬ ‫‪5‬ـ إشاعة السًلم بين أفراد المجتمع‬
‫‪44‬‬ ‫‪6‬ـ تأليف القلوب‬

‫‪44‬‬ ‫الثاني عشر‪ :‬وسائل إصًلح ذات البين‬


‫‪45‬‬ ‫‪1‬ـ دور المجتمع في إصًلح ذات البين‬
‫‪45‬‬ ‫أ ـ األسرة‬
‫‪46‬‬ ‫ب ـ المجتمع‬
‫‪47‬‬ ‫ج ـ المسجد‬
‫‪47‬‬ ‫‪2‬ـ دور المؤسسات التربوية في المصالحة‬
‫‪47‬‬ ‫أ ـ المنهج‬
‫‪47‬‬ ‫ب ـ المعلم‬
‫‪48‬‬ ‫ج ـ المدرسة‬
‫‪48‬‬ ‫‪3‬ـ دور اإلعًلم‬

‫‪49‬‬ ‫الثالث عشر‪ :‬أساليب عملية إلصًلح ذات البين‬


‫‪49‬‬ ‫‪1‬ـ المكاشفة‬
‫‪50‬‬ ‫‪2‬ـ اإلسترضاء‬
‫‪50‬‬ ‫‪3‬ـ المصارحة والمواجهة الهادئة‬

‫‪51‬‬ ‫الرابع عشر‪ :‬صفات المصلح القائم بإصًلح ذات البين‬


‫‪213‬‬
‫‪51‬‬ ‫‪1‬ـ مواصفات شخصية‬
‫‪52‬‬ ‫أ ـ اإلخًلص‬
‫‪52‬‬ ‫بـ الصبر‬
‫‪52‬‬ ‫ج ـ الحكمة‬
‫‪53‬‬ ‫ح ـ الصدق‬
‫‪53‬‬ ‫س ـ المبادرة‬
‫‪54‬‬ ‫ش ـ التواضع‬
‫‪54‬‬ ‫ع ـ الجود والكرم‬

‫‪55‬‬ ‫الخامس عشر‪ :‬مواصفات علمية وعقلية بإصًلح ذات البين‬


‫‪55‬‬ ‫‪1‬ـ العلم‬
‫‪55‬‬ ‫‪2‬ـ العدل‬
‫‪56‬‬ ‫‪3‬ـ رجاحة العقل‬
‫‪56‬‬ ‫‪4‬ـ القدرة على التركيز‬
‫‪57‬‬ ‫‪5‬ـ التميبز‬

‫‪57‬‬ ‫السادس عشر‪ :‬يوسف عليه السًلم‬


‫‪60‬‬ ‫‪1‬ـ من فيض نور اآلية الكريمة‬
‫‪60‬‬ ‫‪2‬ـ إخوة يوسف كانوا خاطئين‬
‫‪61‬‬ ‫‪3‬ـ العوامل التي ساهمت في توبة إخوة يوسف‬
‫‪63‬‬ ‫‪4‬ـ مصدر قوة يوسف عليه السًلم‬
‫‪64‬‬ ‫‪5‬ـ عفو وصفح ودعاء بالمغفرة‬
‫‪67‬‬ ‫‪6‬ـ من فيض نور اآلية الكريم‬

‫‪68‬‬ ‫السابع عشر‪ :‬فتح مكة والعفو الشامل‬


‫‪68‬‬ ‫أوَلا‪ :‬العداء لمبادئ اإلسًلم‬
‫‪68‬‬ ‫‪1‬ـ اعتراضهم على مبدأ الوحدانية‬
‫‪68‬‬ ‫‪2‬ـ كفرهم باآلخرة‬
‫‪68‬‬ ‫‪3‬ـ اعتراضهم على الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫‪69‬‬ ‫‪4‬ـ موقفهم من القرآن الكريم‬

‫‪214‬‬
‫‪69‬‬ ‫ثانياا‪ :‬إيذاؤهم الجسدي للرسول الكريم‬

‫‪72‬‬ ‫ثالثاا‪ :‬أذهبوا‪ ،‬فأنتم الطلقاء‬


‫‪73‬‬ ‫‪1‬ـ ميزان القوى يرجح كفة المسلمين‬
‫‪74‬‬ ‫‪2‬ـ بوادر العفو والغفران‬
‫‪75‬‬ ‫‪3‬ـ العفو يتواصل مع سيد قريش‬
‫‪76‬‬ ‫‪4‬ـ تأمين األجواء للعفو العام‬
‫‪78‬‬ ‫‪5‬ـ دخول خاشع متواضع‬
‫‪78‬‬ ‫‪6‬ـ هذا يوم يعظم اهلل فيه الكعبة‬
‫‪80‬‬ ‫‪7‬ـ يوم بر ووفاء‬
‫‪81‬‬ ‫‪8‬ـ إعًلن العفو العام‬
‫‪81‬‬ ‫‪9‬ـ إهدار النبي صلى اهلل عليه وسلم لبعض الدماء‬
‫‪82‬‬ ‫‪10‬ـ خطبة النبي صلى اهلل عليه وسلم وإسًلم أهل مكة‬
‫‪83‬‬ ‫‪11‬ـ العفو عن هند بنت عتبة وإسًلمها‬
‫‪83‬‬ ‫‪12‬ـ قدرة رفيعة في التعامل مع النفوس‬
‫‪83‬‬ ‫أ ـ إسًلم سهيل بن عمرو‬
‫‪84‬‬ ‫ب ـ إسًلم صفوان بن أمية‬
‫‪86‬‬ ‫ج ـ إسًلم عكرمة بن أبي جهل‬
‫‪88‬‬ ‫س ـ إسًلم فضالة بن عمير وعفو النبي صلى اهلل عليه وسلم عنه‬
‫‪89‬‬ ‫ش ـ أجرنا من أجرت يا أم هاني‬
‫‪89‬‬ ‫ع ـ إسًلم شاعر قريش عبد اهلل بن الزبعري‬

‫‪92‬‬ ‫الثامن عشر‪ :‬غزوة حنين وتعامله مع هوازن‬


‫‪95‬‬ ‫‪1‬ـ إسًلم زعيم هوازن مالك بن عوف‬
‫‪96‬‬ ‫‪2‬ـ إسًلم كعب زهير الشاعر‬

‫‪100‬‬ ‫التاسع عشر‪ :‬عفو الصديق رضي اهلل عنه‬


‫‪100‬‬ ‫‪1‬ـ حديث اإلفك‬
‫‪102‬‬ ‫‪2‬ـ العفو في حروب الردة‬
‫‪103‬‬ ‫أ ـ األشعث بن قيس الكندي‬
‫‪104‬‬ ‫ب ـ وفد بني أسد وغطفان إلى الصديق وحكمه عليهم‬
‫‪215‬‬
‫‪104‬‬ ‫ج ـ عيينة بن حصن وطليحة األسدي‬

‫‪107‬‬ ‫العشرون‪ :‬صلح الحسن بن علي مع معاوية رضي اهلل عنهما‬


‫‪108‬‬ ‫‪1‬ـ الشرعية التي كان يملكها‬
‫‪109‬‬ ‫‪2‬ـ تقييم الحسن بن علي للموقف وقدراته القيادية‬
‫‪111‬‬ ‫‪3‬ـ وجود بعض القيادات الكبيرة في صفة‬
‫‪111‬‬ ‫‪4‬ـ معرفته لنفسية أهل العراق‬
‫‪111‬‬ ‫‪5‬ـ تقييم عمرو بن العاص ومعاوية لقوات الحسن رضي اله عنهما‬
‫‪113‬‬ ‫‪6‬ـ أهم مراحل الصلح‬
‫‪113‬‬ ‫ـ المرحلة األولى‬
‫‪114‬‬ ‫ـ المرحلة الثانية‬
‫‪115‬‬ ‫ـ المرحلة الثالثة‬
‫‪115‬‬ ‫ـ المرحلة الرابعة‬
‫‪115‬‬ ‫ـ المرحلة الخامسة‬
‫‪115‬‬ ‫ـ المرحلة السادسة‬
‫‪115‬‬ ‫ـ المرحلة السابعة‬
‫‪116‬‬ ‫ـ المرحلة الثامنة‬
‫‪116‬‬ ‫‪7‬ـ من أهم أسباب ودوافع الصلح‬
‫‪116‬‬ ‫أ ـ الرغبة فيما عند اهلل وإرادة إصًلح هذه األمة‬
‫‪117‬‬ ‫ب ـ دعوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم له‬
‫‪117‬‬ ‫ج ـ حقن دماء المسلمين‬
‫‪117‬‬ ‫ح ـ الحرص على وحدة األمة‬
‫‪119‬‬ ‫خ ـ مقتل أمير المؤمنين علي‬
‫‪119‬‬ ‫س ـ شخصية معاوية‬
‫‪120‬‬ ‫ك ـ اضطراب جيش العراق وأهل الكوفة‬
‫‪120‬‬ ‫ع ـ قوة جيش معاوية‬
‫‪121‬‬ ‫‪8‬ـ شروط الصلح‬
‫‪121‬‬ ‫أ ـ العمل بكتاب اهلل وسنة نبيه وسيرة الخلفاء‬
‫‪121‬‬ ‫ب ـ األموال‬
‫‪122‬‬ ‫خ ـ العفو العام‬
‫‪123‬‬ ‫س ـ مبدأ الشورى واإلختيار‬
‫‪216‬‬
‫‪123‬‬ ‫‪ 9‬ـ نتائج المصالحة بين المسلمين‬
‫‪124‬‬ ‫أ ـ توحيد األمة تحت قيادة واحدة‬
‫‪125‬‬ ‫ب ـ عودة الفتوحات إلى ما كانت عليه‬
‫‪126‬‬ ‫ج ـ تحقيق األمن الداخلي‬
‫‪126‬‬ ‫س ـ بروز النهضة العلمية‬
‫‪127‬‬ ‫ش ـ الخبرة التاريخية من فتح مكة وصلح الحسن بن علي‬

‫‪129‬‬ ‫الحادي والعشرون‪ :‬جنوب أفريقيا التوازن بين العدل والمسؤولية‬


‫واإلستقرار والسًلم المدنب والمصالحة‬

‫‪135‬‬ ‫الثاني والعشرون‪ :‬مفوضية جنوب أفريقيا للحقيقة والمصالحة‬


‫‪144‬‬ ‫ـ رسالة من نيلسون مانديًل للعرب تستحق القرأءة‬

‫‪146‬‬ ‫الثالث والعشرون‪ :‬مقترح تم تقديمه من خبراء قانونيين للمجلس‬


‫الوطني اَلنتقالي بخصوص قواعد المصالحة الوطنية والعدالة اَلنتقالية‬

‫‪154‬‬ ‫الرابع والعشرون‪ :‬أسس شرعية للمصالحة الوطنية‬


‫للشيخ الدكتور صادق الغرياني‬

‫الخامس والعشرون‪ :‬مقترح بآليات وأساليب تحقيق المصالحة الوطنية‬


‫‪158‬‬

‫‪163‬‬ ‫السادس والعشرون‪ :‬منتدى خبراء طرابلس‪،‬‬


‫وثيقة مبادئ المصالحة الوطنية‬

‫‪170‬‬ ‫السابع والعشرون‪ :‬ميثاق شرف للمصالحة الوطنية‬

‫‪171‬‬ ‫الثامن والعشرون‪ :‬الملتقى األول لمجالس الحكماء والشورى بليبيا‬


‫البيان الختامي للملتقى‬

‫‪176‬‬ ‫التاسع والعشرون‪ :‬مشروع المصالحة الوطنية شروط وآليات‬


‫‪217‬‬
‫‪176‬‬ ‫أوَلا‪ :‬معالم المصالحة الوطنية‬
‫‪183‬‬ ‫ثانياا‪ :‬أهداف المصالحة الوطنية‬
‫‪184‬‬ ‫ثالثاا‪ :‬آليات إطًلق مشروع المصالحة الوطنية‬
‫‪185‬‬ ‫رابعاا‪ :‬هيكل هيئة الحقيقة والعدالة والمصالحة‬
‫‪188‬‬ ‫خامساا‪ :‬آليات عمل هيئة الحقيقة والعدالة والمصالحة‬

‫‪191‬‬ ‫الثًلثون‪ :‬خطر الذنوب وعواقبها على الفرد والمجتمع‬


‫‪191‬‬ ‫‪1‬ـ إضعاف اإلرادة‬
‫‪191‬‬ ‫‪2‬ـ استمرارها وصعوبة التخلص منها‬
‫‪191‬‬ ‫‪3‬ـ الطبع على القلب وتغطيته‬
‫‪191‬‬ ‫‪4‬ـ إزالة النعم وإحًلل النقم‬
‫‪192‬‬ ‫‪5‬ـ اَلضطراب والقلق النفسي‬
‫‪192‬‬ ‫ـ آثار الذنوب على المجتمع‬
‫‪192‬‬ ‫‪1‬ـ انقسام األمة إلى شيع وأحزاب متناحرة‬
‫‪193‬‬ ‫‪2‬ـ اإلصابة بالجوع والخوف ونقص الثمرات‬
‫‪194‬‬ ‫‪3‬ـ اإلصابة بالفتن‬

‫‪195‬‬ ‫الحادي والثًلثون‪ :‬الدعوة إلى التوبة وشروطها‬


‫‪195‬‬ ‫‪1‬ـ اإلسًلم‬
‫‪196‬‬ ‫‪2‬ـ اإلخًلص‬
‫‪196‬‬ ‫‪3‬ـ اإلعتراف بالذنب‬
‫‪196‬‬ ‫‪4‬ـ اإلقًلع عن الذنب‬
‫‪197‬‬ ‫‪5‬ـ الندم‬
‫‪197‬‬ ‫‪6‬ـ العزم على التوبة‬
‫‪198‬‬ ‫‪7‬ـ رد المظالم إلى أهلها‬
‫‪8‬ـ اإلستقامة‬
‫‪198‬‬
‫‪198‬‬ ‫‪ 9‬ـ اإلصًلح‬
‫‪198‬‬ ‫‪10‬ـ إظهار اإلستقامة‬

‫‪199‬‬ ‫الثاني والثًلثون‪ :‬الحدود كفارات ألصحابها‬


‫‪218‬‬
‫‪200‬‬ ‫‪1‬ـ أثر التوبة في حد الحرابة‬
‫‪200‬‬ ‫أ ـ عقوبة المحارب في الدنيا‬
‫‪201‬‬ ‫ب ـ توبة المحارب وأثرها‬
‫‪201‬‬ ‫األولى‪ :‬توبة المحارب قبل القدرة عليه‬
‫‪202‬‬ ‫ثانياا‪ :‬توبة المحارب بعد القدرة عليه‬
‫‪202‬‬ ‫‪2‬ـ أثر التوبة في حد القتل‬
‫‪204‬‬ ‫‪3‬ـ أثر التوبة فيما يتعلق بحقوق العباد المالية‬
‫‪205‬‬ ‫‪4‬ـ أثر التوبة فيما يتعلق بحقوق العباد غير المالية‬
‫‪206‬‬ ‫‪5‬ـ أثر التوبة في تكفير الكبائر‬
‫‪207‬‬ ‫‪6‬ـ أثر التوبة على اإلنسان‬
‫‪207‬‬ ‫‪7‬ـ أثر التوبة على الصحة النفسية‬
‫‪208‬‬ ‫‪8‬ـ أثر التوبة في الناحية اإلجتماعية والخلقية‬

‫‪210‬‬ ‫الخاتمة‬

‫‪211‬‬ ‫فهرس الكتاب‬

‫‪218‬‬ ‫كتب صدرت للمؤلف‬

‫كتب صدرت للمؤلف‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ السيرة النبوية‪ :‬عرض وقائع وتحليل أحداث‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ سيرة الخليفة األول أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه‪ :‬شخصيته وعصره‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه‪ :‬شخصيته‬
‫وعصره‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪ :‬شخصيته و‬
‫عصره‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫‪ 5‬ـ سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه‪ :‬شخصيته و‬
‫عصره‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ سيرة أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب‪ .‬شخصيته و عصره‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ الدولة العثمانية‪ :‬عوامل النهوض والسقوط‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ فقه النصر و التمكين في القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ تاريخ الحركة السنوسية في إفريقيا‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ تاريخ دولتي المرابطين و الموحدين في الشمال اإلفريقي‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين‪.‬‬
‫‪12‬ـ الوسطية في القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪13‬ـ الدولة األموية‪ ،‬عوامل اإلزدهار و تداعيات اإلنهيار‪.‬‬
‫‪14‬ـ معاوية بن أبي سفيان‪ ،‬شخصيته و عصره‪.‬‬
‫‪15‬ـ عمر بن عبد العزيز‪ ،‬شخصيته وعصره‪.‬‬
‫‪16‬ـ خًلفة عبد اهلل بن الزبير‪.‬‬
‫‪17‬ـ عصر الدولة الزنكية‪.‬‬
‫‪18‬ـ عماد الدين زنكي‪.‬‬
‫‪19‬ـ نور الدين زنكي‪.‬‬
‫‪20‬ـ دولة السًلجقة‪.‬‬
‫‪21‬ـ اإلمام الغزالي وجهوده في اإلصًلح والتجديد‪.‬‬
‫‪22‬ـ الشيخ عبد القادر الجيًلني‪.‬‬
‫‪23‬ـ الشيخ عمر المختار‪.‬‬
‫‪24‬ـ عبد الملك بن مروان بنوه‪.‬‬
‫‪25‬ـ فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة‪.‬‬
‫‪26‬ـ حقيقة الخًلف بين الصحابة‪.‬‬
‫‪27‬ـ وسطية القرآن في العقائد‪.‬‬
‫‪28‬ـ فتنة مقتل عثمان‪.‬‬
‫‪29‬ـ السلطان عبد الحميد الثاني‪.‬‬
‫‪30‬ـ دولة المرابطين‪.‬‬
‫‪31‬ـ دولة الموحدين‪.‬‬
‫‪32‬ـ عصر الدولتين األموية والعباسية وظهور فكر الخوارج‪.‬‬
‫‪33‬ـ الدولة الفاطمية‪.‬‬
‫‪34‬ـ حركة الفتح اإلسًلمي في الشمال اَلفريقي‪.‬‬
‫‪220‬‬
‫‪35‬ـ صًلح الدين األيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير‬
‫البيت المقدس‪.‬‬
‫‪36‬ـ إستراتيجية شاملة لمناصرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم دروس‬
‫مستفادة من الحروب الصليبية‪.‬‬
‫‪37‬ـ الشيخ عز الدين بن عبد السًلم سلطان العلماء‪.‬‬
‫‪38‬ـ الحمًلت الصليبية (الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة) واأليوبيون‬
‫بعد صًلح الدين‪.‬‬
‫‪39‬ـ المشروع المغولي عوامل اإلنتشار وتداعيات اإلنكسار‪.‬‬
‫‪40‬ـ سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت في عهد المماليك‪.‬‬
‫‪41‬ـ اإليمان باهلل جل جًلله‪.‬‬
‫‪42‬ـ اإليمان باليوم اآلخر‪.‬‬
‫‪43‬ـ الشورى في اإلسًلم‪.‬‬
‫‪44‬ـ السلطان محمد الفاتح‪.‬‬
‫‪45‬ـ اإليمان بالقدر‪.‬‬
‫‪46‬ـ اإليمان بالرسل والرساَلت‪.‬‬
‫‪47‬ـ اإليمان بالمًلئكة‪.‬‬
‫‪48‬ـ اإليمان بالقرآن والكتب السماوية‪.‬‬
‫‪49‬ـ العدالة والمصالحة الوطنية ضرورة دينية وإنسانية‪.‬‬

‫‪221‬‬

You might also like