Professional Documents
Culture Documents
اإلهداء
2
بسم اهلل الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد هلل نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ،ونعوذ باهلل من شرور
أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ،ومن يهده اهلل فال مضل له ،ومن يضلل فال هادي
له ،وأشهد أال إله إال اهلل وحده ال شريك له ،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(آل عمران ،آية "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اهللَّ حَقَّ تُقَاتِهِ وَالَ تَمُوتُنَّ إِالَّ وَأَنتُم مُّسلِمُونَ"
.)102 :
جهَا وَبَثَّ ق مِنهَا زَو َ "يَا أ َُّيهَا النَّاسُ اتَّقُوا ر ََّبكُمُ الَّذِي خَلَ َقكُم مِّن نَّفسٍ وَاحِ َدةٍ وَخَلَ َ
اهلل الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَاألَرحَامَ إِنَّ اهللَّ كَانَ
ال كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُوا َّ مِن ُهمَا رِجَا ً
عَلَيكُم َرقِيبًا" (النساء ،آية .)1 :
أما بعد،
إن الشعوب اإلسالمية تمر بمرحلة جديدة في تاريخها المعاصر فقد أذن اهلل
لها لها بالنهوض والتخلص من اإلستبداد والنظم الجيرية الدكتاتورية وبدأت
نقطة اإلنطالق في تونس الحبيبة العزيزة التي أذاقها نظام بن علي سوء
العذاب ،فعمل على تجفيف منابع الهدى واإليمان والتُقى وأوقع البالد في
3
الفقر والذل والبطالة والضنك فكانت البداية من هذا الشعب المتحضر
المتمدن.
وبدأنا نرى قول اهلل تعالى يتحقق في حياتنا" :وَُنرِيدُ أَن َّنمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
ِمةً وَنَجعََلهُمُ الوَارِثِينَ * وَ ُنمَكِّنَ َلهُم فِي
استُضعِفُوا فِي األَرضِ وَنَجعََلهُم أَئ َّ
األَرضِ وَ ُنرِي فِرعَونَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنهُم مَّا كَانُوا يَحذَرُونَ" (القصص ،آية :
5ـ .)6
إن الثورة التونسية المباركة أرض عقبة بن نافع الذي دعا للقيروان عام
62هـ ،وكان مجاب الدعوة عندما تحرك بجيوشه منها إلى ساحل المحيط
األطلسي في المغرب ،وقد استخلف عليها زهير البلوي دعا لها قائالً" :يا رب
أمألها علماً وفقهاً وأمألها بالمطيعين لك ،واجعلها عزاً لدينك ،وذالً على من
كفر بك ،وأمنعها من جبابرة األرض ،وقد فتحت لإلنسانية صفحات جديدة في
تاريخها.
الثورة التونسية أرض الزيتونة التي تخرج منها العلماء والفقهاء واألدباء
والمفكرون والقراء والزهاد والعبَّاد.
تونس أرض أبو القاسم الشابي صاحب القصيدة الثورية المشهورة التي تغنى
بها التونسيون في ثورتهم المباركة:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فال بد أن يستجيب القدر
وال بد لليل أن ينجلي
وال بد للقيد أن ينكسر
وانجلى الليل بفضل اهلل ،وانكسر القيد برحمته.
وكان لهذه الثورة السلمية الحضارية اإلنسانية ،أثر على عقول الناس وقلوبهم
وأفكارهم ومشاعرهم ،فغير اهلل بها النفوس واألفكار والمشاعر ،ووصل صداها
4
في آفاق المعمورة وتفاعل معها وأيدها األحرار من بني اإلنسان في كل مكان،
فكانت مصر على استعداد تام لدفع الظلم وإزالة الظالم ،فمصر العظيمة
بتاريخها وحضارتها وثقافتها كانت على موعد قدري " َوكَانَ أَمرُ اهللَِّ قَ َدرًا
مَّقدُورًا" ،واستلهمت روح الثورة التونسية وطورتها واستفادت منها ،وأحدث
المصريون ما لم يتوقعه إال من عرف تاريخ هذا الشعب المحب للحرية ،المتعطش
للعدالة ،الرافض للظلم ،واالستبداد ،المتطلع إلى دوره الطبيعي في الحياة.
إن كسر قيود االستبداد وقهر الديكتاتورية ،وانطالق المصريين ألهدافهم السامية،
كالحرية والعدالة والكرامة والشورى ،بداية نهضة لهذه األمة التي ال تستغني
عن دورهم الريادي عبر العصور وتوالي الدهور ،فالذي نتوقعه في العقود القادمة
نهضة ال مثيل لها في العالم اإلسالمي ،فاألمة بدأت تتوجه بمجموعها إلعادة
دورها الحضاري ،والشهادة على الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
إن الثوار في بالدنا العربية ،تونس ،مصر ،ليبيا ،اليمن وسوريا قالوا لشعوبهم
بلسان الحال والمقال:
أضيئوا األنوار لينتهي الفساد.
أضيئوا األنوار لتتكسر قيود الحرية.
أضيئوا األنوار لتنتهي البطالة.
أضيئوا األنوار لتشرق تونس ،مصر ،ليبيا ،اليمن وسوريا.
فاستجابت تلـك الشـعوب ،وأضاءت كـل أوطانها لكي تتخـذ خطوات جادة فـي
الحياة والعمل والمأكل والمشرب أوالً ثم التعليم ،والصحة والحريات
والديمقراطية الحقيقية ،المستمدة من قيمنا وحضارتنا وثقافتنا وديننا.
إن هذه الثورات قامت لكي يعيش اإلنسان الذي يبني الدولة ويصنع
الحضارات ،وينشر دين اهلل في اآلفاق.
5
كان للثورة التونسية والمصرية فضل السبق ،وأخرجت الثورات نماذج وطنية
ساهمت في صناعة التاريخ الجديد لهذه الشعوب ،وخلد التاريخ المعاصر
صور من التضحيات والبذل والعطاء ال تمحى من ذاكرة الشعوب.
وأما ليبيا فكانت كعادتها يأتي منها الجديد ،فالثورة الليبية اختلفت عن مصر
وتونس وخرجت من السلمية إلى حرب نضال وكفاح وجهاد وتحرير ،تركت
آالم وأحزان وقتلى وشهداء وأرامل وأيتام ،ودمار في المدن والقرى
ومؤسسات الدولة ،وفرض عليهم النظام هذا التوجه بدون خيار منهم.
استمدت الثورة الليبية وكل الثورات العربية روح النضال من عقيدتها ،ولكن
تميزت الثورة الليبية بكثرة التكبير والسعي للشهادة في سبيل اهلل ،ألنها كانت
حرباً طاحنة ،والتاريخ أعاد للذاكرة تضحيات الليبيين في الزنتان والجبل
الغربي ونالوت ويفرن وجاد والفريان والزاوية ومصراطة وبنغازي
والبيضاء وطبرق وطرابلس وغيرها ضد إيطاليا 1911م ،وفي كل ليبيا في
الشرق والغرب والجنوب والشمال ،أي بعد مائة عام خرج أحفاد سليمان
البارون ورمضان السويحلي وعبد النبي بالخير الورفلي ،وأحمد المريض،
وعمر المختار وأحمد الشريف السنوسي وغيرهم من قادة الجهاد.
انتشرت صور عمر المختار ورمضان السويحلي واستمد األحفاد من األجداد
البسالة والعزيمة والنضال والكفاح وانتصرت الثورة في ليبيا بحمد اهلل
وفضله بعد ملحمة بطولية دموية في إزالة نظام الظلم واالستبداد والقمع.
ويريد الشعب الليبي أن يخرج من نفق الظلم ويلملم جراحه ،ويبني مستقبله
ويعمر بالده دار دار ،شارع شارع ،زنقة زنقة ،مدينة مدينة وقرية قرية.
ويريد أن يحافظ على الحريات العامة وذلك بمراعاة أحكام الشريعة
اإلسالمية ،والمواثيق والمعاهدات الدولية للحقوق والحريات ،والقيم والعادات
والتقاليد الليبية األصيلة.
6
ويتطلع إلى تحقيق طموحاته في الحرية والتنمية والعدالة والشورى ،وأن
يتأسس اقتصاد حر مستدام قادر على االندماج في االقتصاد العالمي ،ومتنوع
وتنافسي كفيل بأن يلبي احتياجات المواطن الليبي اآلنية ،والمستقبلية ،وتأمين
فرص أفضل للجميع ومستوى معيشي مرتفع ،مع تقريب الفوارق بين
الطبقات.
وأن يرى مؤسسة قضائية مستقلة تكون بمثابة صمام األمان للمجتمع الليبي
بكافة مؤسساته وأفراده ،وضمانة جوهرية الستقراره وحفظ حقوق أفراده.
وأن يكون نظام متكامل للرعاية الصحية يقدم خدمات صحية وقائية وعالجية
عالية الجودة ،والئقة لكل مواطن وأن تبني الدولة استراتيجية وطنية للرعاية
الصحية يكون من أولى أولوياتها تحسين خدمات المستشفيات ،وضمان
تطوير الرعاية المستمرة ،وخدمات الصحة النفسية ،وتقديم خدمات الطوارئ،
ورفع كفاءتها ،ويتمنى الشعب بناء نظام تعليمي يواكب المعايير العالمية
المعاصرة ،ويضاهي أفضل النظم التعليمية في العالم ،ويرسخ مبادئ الحرية،
وينشر ثقافة قبول اآلخر ،ويدعو للحوار ،ويؤمن بالعمل الجماعي ،وروح
الفريق ،وااليجابية والمبادرة ،وترعى القيم والتقاليد والثوابت.
وأن تحل أزمة السكن والعمل وتطور الرياضة ،وتعاد بناء المنظومة
الرياضية في ليبيا تنظيمياً وتشريعياً بشكل احترافي علمي مدروس ،األمر
الذي يؤدي إلى زيادة االهتمام بالنشاط الرياضي في كافة مراحل التعليم ،مع
نشر الوعي الرياضي ومكافحة التعصب واالهتمام بالنشيء وغير ذلك من
األهداف التي تسعى الشعوب لتحقيقها.
وهذا ال يمكن بدون عدالة ومصالحة وطنية لتجاوز مرحلة الحرب واآلثار
التي تركتها ،إن تحقيق العدالة والمصالحة الوطنية فريضة شرعية وضرورة
دينية والثورات التي تنجح في تحقيق المصالحة الوطنية ستحقق أهدافها والتي
تفشل تعجز عن الوصول إليها.
7
وهذا الكتاب يركز على أهمية تحقيق العدالة والمصالحة ألنها الطريق
للوصول لألهداف المذكورة.
فاهلل عز وجل قال في محكم كتابه" :وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا َفأَصلِحُوا
بَي َن ُهمَا َفإِن َبغَت إِحدَاهُمَا عَلَى األُخرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَم ِر اهللَِّ
سطِينَ * إ َِّنمَااهلل يُحِبُّ المُق ِ
سطُوا إِنَّ ََّ َفإِن فَاءت َفأَصلِحُوا بَي َن ُهمَا بِالعَدلِ وَأَق ِ
حمُونَ" (الحجرات ، المُؤمِنُونَ إِخ َوةٌ َفأَصلِحُوا بَينَ أَخَوَيكُم وَاتَّقُوا اهللََّ َلعََّلكُم تُر َ
آية 9 :ـ .)10
وقال تعالى " :وَالصُّلحُ خَيرٌ" (النساء ،آية .)128 :
والمصالحة الوطنية التي ندعوا إليها مستمدة من كتاب اهلل ،والسنة النبوية
والتجربة التاريخية اإلسالمية واإلنسانية ،فهي من أولويات العمل الوطني،
وهي مسؤولية كافة أبناء الشعب ،وأساسها العدل واالنصاف القائم على إعادة
الحقوق إلى أصحابها ورد المظالم ،وجبر الضرر واالعتراف بحق الضحايا
ورد االعتبار إليهم وتكريس االحساس بالمواطنة تحقيقاً للسلم واألمن
األهليين.
وقد كان للملتقى األول لمجالس الحكماء والشورى بليبيا (من أجل المصالحة
الوطنية) في الزاوية في الفترة من 1ـ 3محرم 1433هـ الموافق 28ـ 11ـ
2011م جهود مشكورة وبيان ختامي جميل أصدر فيه المجتمعون من العلماء
والحكماء مجموعة من التوصيات ،من أهمها:
1ـ التأكيد على أن الشريعة اإلسالمية هي القاعدة األساسية ألي مصالحة
وطنية.
2ـ التعجيل بإصدار قانون العدالة االنتقالية وبما يحفظ حقوق الليبيين وتفعيل
األجهزة األمنية والضبطية والدوائر الجنائية بالمحاكم والتعجيل بإحالة
المحتجزين والمتحفظ عليهم إلى القضاء.
8
3ـ ضرورة تقديم كل من سفك دماء الليبيين أو انتهك أعراضهم أو اختلس
أموالهم أو شارك أو حرض على ارتكاب هذه الجرائم ضدهم إلى المحاكم.
4ـ إنشاء صندوق مالي تموله الدولة لتعويض المتضررين من اعتداءات
قوات وأعوان الطاغية ،ويشمل التعويض عن األضرار المادية والمعنوية.
5ـ العمل على خلق البيئة المناسبة والظروف الموضوعية المالئمة لتحقيق
السلم واألمن االهليين ،وذلك باالسراع بتأسيس الجيش واألمن الوطنيين
وتنظيم حمل السالح ،واستيعاب الثوار فيها وفقاً لرغباتهم وتأهلهم مهنياً،
وخلق فرص عمل مناسبة لهم الدماجهم في المجتمع الجديد الذي ثاروا من
أجله.
6ـ العمل على وضع ميثاق شرف لوسائل االعالم بحيث تلتزم هذه الوسائل
بالعمل على تعزيز الوحدة الوطنية واالبتعاد عن كل ما من شأنه اثارة
النعرات القبلية أو الجهوية أو العرقية أو المذهبية.
7ـ اعادة النظر ومراجعة السياسة التربوية ،والمناهج التعليمية بحيث ترسخ
روح الوحدة الوطنية وتسهم في نشر ثقافة التسامح والسلم االجتماعيين ونبذ
العنف وتأكيد ثقافة الحوار بين األفراد والجماعات وزرع روح المصالحة في
أوساط الشباب.
8ـ عدم اللجوء إلى ممارسات العقاب الجماعي ،كالتهجير وحرق المساكن
والحرمان من الخدمات العامة.
9ـ دعوة الوعاظ وأئمة المساجد إلى أن يضمنوا خطبهم ومواعظهم الدعوة
للتصالح والمصالحة والتسامح والعفو.
10ـ االستفادة من تجارب الدول التي مرت بظروف مماثلة ،واالستعانة
بالمنظمات الدولية المختصة مع مراعاة خصوصيات المجتمع الليبي.
9
11ـ إعادة هيكلة مؤسسات الدولة التي مارست أعمال قمع ضد الشعب الليبي
وتطهيرها من أعوان النظام المنهار ،وإعادة النظر في مهامها لتكون في
خدمة الوطن والمواطن ،بدالً من التجسس عليه ،وقمعه واضطهاده.
12ـ دعم أسر الشهداء والمفقودين ورعايتهم واالهتمام برعاية أوضاع
الجرحى والمعتقلين للتخفيف من األضرار المادية والنفسية والتي لحقت بهم
ولتوفير معيشي الئق لهم.
13ـ االسراع بتنفيذ برامج االعمار في المناطق المتضررة لما له من أثر
الزالة اآلثار السلبية ،والتأهيل النفسي تمهيداً لولوج عهد جديد يسوده التفكير
االيجابي لتحقيق المصالحة.
14ـ حث مؤسسات المجتمع المدني على المساهمة الفاعلة في إنجاح
خطوات المصالحة الوطنية.
وهذه التوصيات مهمة وتحتاج لتحقيقها ثقافة واسعة في مفهوم العدالة
والمصالحة ،وتسعفنا التجربة النبوية في فتح مكة ،عندما تمكن من أعداء
الدعوة االسالمية والذين اعترضوا على الوحدانية ،وكذبوا باليوم اآلخر،
واعترضوا على الرسول صلى اهلل عليه وسلم في رسالته ،واعتبروا القرآن
الكريم ضرباً من الشعر.
ولم يفتر المشركون عن أذى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منذ أن صدع
بدعوته إلى أن خرج من بين أظهرهم ،وأظهره اهلل عليهم ويدل على ذلك مبلغ
األذى تلك اآليات الكثيرة التي كانت تتنزل عليه في هذه الفترة ،تأمره بالصبر
وتدله على وسائله وتنهاه عن الحزن وتضرب له أمثلة من واقع أخوانه
المرسلين ،مثل قوله تعالى " :وَاصبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهجُرهُم هَجرًا
جمِيالً"(المزمل ،آية .)10 :
َ
10
في هذا الكتاب بعض صور البالء التي كانت تصر عليها قريش تجاه النبي
صلى اهلل عليه وسلم ،واستمر العداء للرسالة والرسول والمؤمنين ،وعندما
دخل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مكة ماذا فعل بخصومه وأعدائه؟:
ـ مع أبي سفيان بن الحارث ابن عمه وعبد اهلل بن أمية ابن عمته ،فكان األول
يهجوه بشعره كثيراً ،وأما الثاني فقال لرسول اهلل :فواهلل ال أؤمن بك حتى
تتخذ إلى السماء سلماً ثم ترتقي فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ،ثم تأتي بصك
معه أربعة من المالئكة يشهدون لك كما تقول ،ثم وايم اهلل لو فعلت ذلك ما
ظننت أني أصدقك ،ومع فداحة جرمهما فإن النبي صلى اهلل عليه وسلم عفا
عنهما ،وقبل عذرهما ،وهذا مثال عال في الرحمة والعفو والتسامح ،فلم يتعلل
بعظم االساءة سواء لشخصه أو لإلسالم والمسلمين ،بل تجاوز ذلك بأن صفح
عنهما صفحاً جميالً كان له أثراً إيجابياً بعد أن انتشر خبر العفو بين أهل مكة،
وهو في الطريق إليها.
ـ وأما زعيم قريش الذي قاد الجيوش في أحد وفي الخندق ،فقد عفا عنه وجعل
له نصيباً من الفخر (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ،ومن أغلق بابه فهو
آمن ،ومن دخل المسجد فهو آمن).
لقد كان لتلك الطريقة المحمدية أثرها في أبي سفيان الذي تغير من الوالء
الكامل للدعوة الجديدة ،فكان له مواقف كبيرة في الجهاد مع رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم في معركة حنين ،كما كان هذا األسلوب النبوي الكريم عامالً
في امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان زعيم قريش وبرهن له بأن المكانة
التي كانت عند قومه ،لم تنتقص شيئاً في االسالم ،إن هو أخلص له وبذل في
سبيله.
ـ وهذا صفوان بن أمية ،لقد حاول قتل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مع
عمير بن وهب ،ومع هذا فقد أعطاه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم األمان،
ثم خيره في األمر أربعة أشهر وعمل على كسبه بإعطائه من مال العطايا
الكبيرة التي ال تقدر من إنسان عادي ،وقد وصف لنا صفوان بن أمية عطاء
11
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقال :واهلل لقد أعطاني رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ما أعطاني ،وانه ألبغض الناس إليَّ ،فما برح يعطيني حتى أنه
ألحب الناس إليَّ.
ـ وهذا عكرمة بن أبي جهل ،فقد كان سلوك النبي صلى اهلل عليه وسلم في
فتح مكة لطيفاً حانياً ،يكفي وحده الجتذابه إلى االسالم ،فقد أعجل نفسه عن
لبس ردائه وابتسم له ورحب به ،وفي رواية :مرحباً بالركب المهاجر ،وأسلم
وحسن إسالمه ،واستشهد بعد ذلك في اليرموك.
ـ وهذا شاعر قريش عبد اهلل الزبعري كان من أشد الناس عداوة لإلسالم
وهجاءً لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قبل رسول اهلل توبته ودخوله في
اإلسالم وآنسه وخلع عليه حلة ،وقال بعد ذلك شعراً كثيراً يعتذر فيه إلى
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وكان الشعراء مثل الفضائيات في التأثير
االعالمي ،ومما قال ابن الزبعري:
أيام تأمرني بأغوى خطة
سهم وتأمرني بها مخزوم
وأمد أسباب الردى ويقودني
أمر الغواة وأمرهم مشؤوم
فاليوم آمن بالنبي محمد
قلبي ومخطئ هذه محروم
مضت العداوة وانقضت أسبابها
ودعت أواصر بيننا وحلوم
فاغفر فدى لك والديَّ كالهما
زللي فإنك راحم مرحوم
12
ـ وهذا زعيم هوازن مالك بن عوف الذي قاد المشركين في حنين ،فبعد
هزيمته أرسل إليه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ووعده برد أهله وأمواله
عليه ،وإكرامه بمائة من االبل إن قدم عليه مسلماً ،فجاء مالك مسلماً فأكرمه
وأمَّره على قومه ،وبعض القبائل المجاورة ،ولقد تأثر مالك وجادت قريحته
لمدح النبي صلى اهلل عليه وسلم فقال:
ما إن رأيت وال سمعت بمثله
في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتذى
ومتى تشاء يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عردت أنيابها
بالسمهري وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله
وسط الهباءة 1خادر في مرصد
فهذه المنهجية النبوية في التعامل مع الخصوم بعد هزيمتهم في الحرص على
كسبهم واالستفادة من خبرتهم وفتح أبواب األمل والتوبة والبناء لمستقبلهم
تحتاج للتأمل والتفكر كي نستفيد منها في حياتنا.
وقد نال أهل مكة عفواً عاماً برغم أنواع األذى التي ألحقوها بالرسول صلى
اهلل عليه وسلم ودعوته ،ورغم قدرة الجيش اإلسالمي على إبادتهم ،وقد جاء
إعالن العفو عنهم وهم مجتمعون قرب الكعبة ،ينتظرون حكم الرسول صلى
اهلل عليه وسلم فقال لهم :ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا خيراً ،أخ كريم،
هلل لَكُم وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ".
وابن أخ كريم ،فقال" الَ تَثرَيبَ عَلَيكُمُ اليَومَ يَغفِرُ ا ُّ
وفي رواية :فأذهبوا فأنتم الطلقاء.
1الهباء :غبار الحرب :الخادر :المقيم في عرينه.
13
وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ األنفس من القتل أو السبي وأصبحت
األراضي بيد أصحابها ،وعدم فرض الخراج عليها.
إلى جانب ذلك الصفح الجميل كان هناك الحزم األصيل الذي البد أن تتصف
به القيادة الحكيمة الرشيدة ،ولذلك استثنى قرار العفو الشامل بضعة عشر
رجالً أمر بقتلهم ـ وإن وجدوا معقلين بأستار الكعبة ـ ألنه عظمت جرائمهم
في حق اهلل ورسوله وحق اإلسالم ،ولما كان يخشاه منهم من إثارة الفتنة بين
الناس بعد الفتح ،ومن هؤالء من قتل ومنهم من جاء مسلماً تائباً فعفا عنه
الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،وحسن إسالمه.
إن الخبرة التاريخية من فتح مكة تؤكد الفرق الواضح بين العفو والمصالحة
من جهة وبين العدالة الحاسمة لفتح كافة الملفات السابقة ومالحقة كل
الجزيئات مما يشغل الوطن بأسره لسنوات أو عقود ال أحد يقدر نهايتها ،ثم
إلى متى سنواصل تطبيق تلك العدالة بدون أي تحول تجاه االنتقام والتوسع
في القصاص ،مما يعود بنا من جديد لنقطة البداية ،فيصبح الظالم مظلوماً
يطالب هو بتطبيق العدالة الحاكمة على من كان مظلوماً وضحية باألمس
القريب ،كان العفو في فتح مكة انطالقة جديدة لإلسالم والمسلمين ودعوتهم
بين العالمين.
وماذا لو استسلم المسلمون لمشاعرهم البشرية الراغبة بأقل تقدير في تنزيل
العدل الحاسم الذي تفصل فيه التهم وتجمع فيه األدلة ويصبح للقضاء كلمته
األخيرة ،وغالباً ما يضيق مجال الصفح بعد أن تنكأ الجراحات من جديد،
وبالتأكيد فإن تطبيق هذا العدل الحاسم كان سيقضي على شخصيات مهمة
شاركت في رسم تاريخ البشرية جمعاء في حركة الفتوحات اإلسالمية وتقوية
الدولة وإدارة الحكم ونشر العلم.
إن امتناع القيادة واألصحاب عن المطالبة بالعدالة الصارمة لغايات أسمى
وأهداف أعظم كان الخيار األصوب من الناحية السياسية واألمنية
واالقتصادية واالجتماعية ،والثقافية والدينية ،فمن الناحية السياسية يحفظ العفو
14
الجميل وحدة األمة السياسية حيث يركز على حركة ما بعد العفو على
تصحيح األخطاء وتقوية الدولة وإشراك الجميع دون إقصاء ،وتعميق مفاهيم
الشراكة والتعاون والتعايش وتثقيف وتنشئة األجيال عليه.
وأما من جهة األمن فإن العدل الحاسم قد يقود إلى رفض بعض من سيمسهم
هذا العدل بسبب مخاوف من نتائجه التي قد تكون سلباً للحياة أو األموال
والنفوذ وهو ما لن يقبله الكثير ممن كان مع النظام سابقاً.
وهي إذ ترفض هذه الفكرة فإنها ال تزال تملك الكثير من عناصر القوة
الميدانية والسياسية مما يجعل األوطان تقف على شفا حروب وصراعات
أهلية قد ال يخرج منها أي منتصر ،وال نحصد منها سوى ترسيخ ثقافة االنتقام
والمالحقة ،وتشكيل قوى معارضة في الداخل والخارج وتجد من يمدها
ويدعمها من الدول التي كانت تدعمنا سابقاً فال ثبات في عالم السياسة وإنما
مصالح الدول هي الحاكمة في العالقات.
وأما من الناحية االقتصادية ،فإننا لن نختلف كثيراً في تلمس ما يترتب على
رفض العفو والمصالحة والتغافر من آثار على الوطن والمواطن بعدما
يتخندق المتخاصمون وتنطلق مدافع الحرب.
وأما االعتبارات اإلجتماعية ،فإن العفو العام يزيد بال شك من تآلف مكونات
ووشائج المجتمع المتنوعة ثقافياً ولغوياً وعرقياً ودينياً في حال اختالف
األديان.
وهذا مقصد بعيد المدى يجب التفكير فيه بدالً من اإلصرار على طريقة تنتهي
إلى التنافر وتمزق مكونات المجتمع وإعادة تخندقها خوفاً من االنتقام باسم
العدالة.
وأخيراً ال آخراً فإن العفو يصنع خبرة تاريخية تتأسس عليها ثقافة األجيال،
األمر الذي يوحد ضمير الوطن ويزيد من مساحات التعايش والقبول
15
باالختالف وتتعمق ثقافة تقديم المصلحة العامة على الخاصة ،والممتدة على
اآلنية المؤقتة.
إننا في وطننا اليوم بحاجة إلى أن نتماسك ونتغافر ،لنؤسس ونمهد لخبرة
العدل في إحقاق الحقوق والقسط في مراعاة المشاعر والعفو والتسامح لفتح
شموس اآلمال وصروح البناء التي ستتحول إلى مناهج للتعليم وموجهات
للفكر ،ومحددات للثقافة وإطار لبناء دستور الدولة التي ال يقوم على االقصاء
واالنتقام واللمز ،كما هو واقع الحال في بعض الدساتير التي تغلبت نزعة
االنتقام على واضعيها.
وأما في القرآن الكريم فقصة يوسف عليه السالم مثل رفيع ،وقدوة حسنة ،في
التغلب على التقاطع وآالم الماضي وأحزانه ،فلما اعترف اخوة يوسف
بتفضيل اهلل له وأقروا بخطئهم وقدموا له المعذرة وشعروا بعظم الذنب قال
اهلل َلكُم وَهُوَ أَرحَ ُم
لهم يوسف عليه السالم " الَ تَثرَيبَ عَلَيكُمُ اليَومَ يَغفِ ُر ُّ
حمِينَ" (يوسف ،آية .)92 :
الرَّا ِ
ال تثريب عليكم :أي ال لوم وال تعنيف "عَلَيكُمُ اليَومَ" ،ويتنازل عن كل حق له
ويأبى خلقه الكريم في ذلك اليوم الذي قدر فيه العفو حتى عن مجرد توجيه
اللوم إلى الذين ألقوه في غيابة الجب ،إن اليوم في نظره أولى أن تبدأ به
صفحة جديدة من الصفا والمودة ،وفي مجرد توجيه اللوم ،عودة إلى الماضي
البغيض ،وإحياء له ،وهذا يتعارض مع الصفحة البيضاء النقية التي يريد أن
يبدأ بها هذا اليوم.
لقد مرت تلك األيام المتعبة بخيرها وشرها ،فيجب أن يسدل الستار على
حلوها ومرها ولم يبق إال أن يطرد أشباحها المروعة عن مسرح الخيال،
ويتحاشى المطالعة في ذلك التاريخ المظلم ،فقد طوى سريعاً هذه الصفحة
السوداء مما كان بينه وبين اخوته وغطى على آثارها بالصفح الجميل.
لقد عفا عفواً تاماً من غير تعبير لهم عن ذكر الذنب السابق ،ودعا لهم
بالمغفرة وهذا نهاية االحسان الذي ال يتأتى إال من الخواص ،وما أنسب ما
16
ظمِينَ الغَيظَ
وقع من يوسف بالمراتب الثالثة المذكورة في قوله تعالى " :وَالكَا ِ
س وَاهللُّ يُحِبُّ المُحسِنِينَ"(آل عمران ،آية .)134 :
َوالعَافِينَ عَنِ النَّا ِ
فيوسف عليه السالم كظم غيظه بقوله " :الَ تَثرَيبَ عَلَيكُمُ
اليَومَ" ،ثم عفا عنهم بقوله " :يَغ ِفرُ اهللُّ َلكُم".
ثم أحسن إليهم بقوله بعد ذلك مباشرة " :وَأتُونِي ِبأَهِلكُم أَج َمعِينَ" (يوسف ،آية
.)93 :
إن يوسف عليه السالم آثر العفو عن اخوته والعدول عن االنتقام إلى العفو
والغفران ،وهذه من الفضائل الحميدة من أخالق األنبياء عليهم السالم وأخالق
المؤمنين.
ـ وهذا أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه كان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته
منه وفقره ،وكان ممن وقع في حديث االفك ولم يتثبت وخاض فيه ضد السيدة
عائشة ،فقال الصديق :واهلل ال أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال في
عائشة ما قال ،ولما أنزل اهلل براءة السيدة عائشة في سورة النور ،وكان من
اآليات التي ذكرت في الحادثة قوله تعالى" :وَالَ يَأتَلِ أُولُوا الفَضلِ مِنكُم
ن فِي سَبِيلِ اهللَِّ وَليَعفُواجرِي ََالس َعةِ أَن يُؤتُوا أُولِي القُربَى وَالمَسَاكِينَ وَال ُمهَا ِ و َّ
ِن الَّذِينَ يَرمُونَوَليَصفَحُوا أَالَ تُحِبُّونَ أَن يَغفِ َر اهللَُّ َلكُم وَاهللَُّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إ َّ
عظِيمٌ"
خرَ ِة وََلهُم عَذَابٌ َ ت الغَا ِفالَتِ المُؤمِنَاتِ ُلعِنُوا فِي الدُّنيَا وَاآل ِ المُحصَنَا ِ
(النور ،آية 22 :ـ .)23
قال أبو بكر :بلى واهلل إني أحب أن يغفر اهلل لي ،فأرجع إلى مسطح النفقة
التي كان ينفق عليه ،قال :واهلل ال أنزعها أبداً.
ـ وفي حروب الردة ،كان ألبي بكر بعد نظر وبصيرة نافذة ومعرفة بعواقب
األمور ،ولذلك كان يستخدم الحزم في محله والعفو عندما تقتضي إليه
الحاجة ،فقد كان حريصاً على جمع شتات القبائل تحت راية اإلسالم ،فكان
من سياسته الحكيمة عفوه عن زعماء القبائل المعاندة بعد رجوعهم إلى الحق،
17
فإنه لما استخضع قبائل اليمن المرتدة وأراهم سطوة دولة المسلمين وقوة
شكيمتهم ومضاء عزيمتهم واعترفت القبائل بما أنكرت واستكانت لحكم
االسالم ،وأطاعوا خليفة رسول اهلل رأى أبو بكر أنه من تأليف القلوب ترك
استعمال القوة مع زعماء هذه القبائل ،بل اللين هنا والرفق أوفق ،فرفع
العقوبة عنهم وأالن القول لهم ،ووظف نفوذهم في قبائلم لصالح اإلسالم
والمسلمين ،فعفا عن ذلتهم وأحسن إليهم ،فقد فعل ذلك مع قيس بن يغوث
المرادي ،وعمرو بن معد يكرب ،واألشعث بن قيس الكندي ،فقد ،فقد كانوا
من صناديد العرب وأفرسهم وأكثرهم شجاعة ،ويجد الباحث شيء من
التفصيل في فقه الصديق في التعامل مع مثل هذه القيادات في الدولة.
ـ وأما الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اهلل عنهما قاد الصلح مع معاوية
وفق مراحل ،ودوافع وشروط وترتب عليه نتائج وسمي ذلك االتفاق الذي
تنازل فيه الحسن لمعاوية بعام الجماعة ،ويجد القارئ شيئاً من التفصيل في
هذا الكتاب ،لقد قامت هذه المصالحة على إعطاء األمن للناس والعودة إلى
الشرعية المتأسسة على المرجعية المتفق عليها في المجتمع وتقديم وحدة األمة
على المصالح الفئوية ،والمتابع لمسار تاريخ المسلمين بعد المصالحة يلحظ
بوضوح اآلثار الكبيرة التي ترتبت عليها سواء بتحقيق األمن والرفاه
االجتماعي أو بتوسع رقعة الدولة وزيادة مواردها ،وهو أمر يحتم علينا اليوم
السعي بغية الوصول إلى صيغ المصالحة بين فئات المجتمع المتنوعة
وتطبيقات راسخة تؤسس لمرحلة جديدة من األمن االستقرار ،وهو أمر
يسترعي انتباهنا إلى أن الحوار مع كل فئات المجتمع مهما اختلفت بات أمراً
ملحاً ال يجوز التراخي فيه فضالً عن فداحة الخطأ في إشاحة النظر عنه،
فمجتمعنا وبرغم الكثير من االحتكاكات التي سقط جراء بعضها قتلى في كل
االتجاهات وعلى مختلف الجبهات ال يزال يملك استناداً لهذه الخبرة التاريخية
أن يفتح باباً واسعاً للحوار والمصالحة ربما يصير بعد ذلك نموذجاً ومثاالً
يحتذى به.
ـ وأما التجارب اإلنسانية المعاصرة ،فقد اطلعت على مجموعة كبيرة منها:
18
أوغندا /هيئة التحريات حول اختفاء األشخاص.
بوليفيا /الهيئة الوطنية للتحريات حول االختفاءات.
األرجنتين /الهيئة الوطنية.
الفلبين /الهيئة الرئاسية حول حقوق األشخاص.
رواندا /الهيئة الدولية للبحث حول انتهاكات حقوق االنسان.
تشيلي /الهيئة الوطنية حول الحقيقة والمصالحة.
السلفادور /لجنة تقصي الحقائق بشأن السلفادور.
سيراليون /هيئة الحقيقة والمصالحة.
غانا /مفوضية المصالحة الوطنية.
البراغواي /هيئة الحقيقة والعدالة.
صربيا /هيئة الحقيقة والمصالحة.
المغرب /هيئة االنصاف والمصالحة.
جنوب أفريقيا /مفوضية جنوب أفريقيا للحقيقة والمصالحة.
وكانت تجربة جنوب أفريقيا من أهم التجارب لذلك اهتممت بها في هذا
الكتاب ،ووجدت رسالة من نيلسون مانديال للثورات العربية تستحق القراءة،
جاء فيها:
اخوتي في بالد العرب:
اخوتي في تونس ومصر:
اعتذر أوالً عن الخوض في شؤونكم الخاصة ،وسامحوني إن كنت دسست
أنفي فيما ال ينبغي التقحم فيه ،لكنني أحسست أن واجب النصح أوالً ،والوفاء
19
ثانياً لما أوليتمونا أياه من مساندة أيام قراع الفصل العنصري يحتمان علي رد
الجميل وإن بإبداء رأي محّصته التجارب وعجمتُه األيام ،وأنضجته السجون
أحبتي ثوار العرب.
الزلت أذكر ذلك اليوم بوضوح ،كان يوماً مشمساً من أيام كيب تاون .خرجت
من السجن بعد أن سلخت بين جدرانه عشرة آالف يوم .خرجت إلى الدنيا بعد
وًوريت عنها سبعاً وعشرين سنة ألني حلمت أن أرى بالدي خالية من الظلم
والقهر واالستبداد.
ورغم أن اللحظة أمام سجن فكتور فستر كانت كثيفة على المستوى الشخصي
إذ سأرى وجوه أطفالي وأمهم بعد كل هذا الزمن ،إال أن السؤال الذي مأل
جوانحي حينها هو ،كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدالً؟
أكاد أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم .لقد خرجتم لتوكم من سجنكم
الكبير ،وهو سؤال قد تُحدد اإلجابة عليه طبيعة االتجاه الذي ستنتهي إليه
ثوراتكم.
إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم .فالهدم فعل سلبي والبناء فعل
إيجابي .أو على لغة أحد مفكريكم ـ حسن الترابي ـ فإن إحقاق الحق أصعب
بكثير من إبطال الباطل.
أنا ال أتحدث العربية لألسف ،لكن ما أفهمه من الترجمات التي تصلني عن
تفاصيل الجدل السياسي اليومي في مصر وتونس تشير بأن معظم الوقت
هناك مهدر في سب وشتم كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة باألنظمة
السابقة ،فذاك أمر خاطئ في نظري ،أنا أتفهم األسى الذي يعتصر قلوبكم
وأعرف أن مرارات الظلم ماثلة ،إال أنني أرى أن استهداف هذا القطاع
الواسع من مجتمعكم قد يسبب للثورة متاعب خطيرة ،فمؤيدو النظام السابق
كانوا يسيطرون على المال العام وعلى مفاصل األمن والدولة ،وعالقات البلد
مـع الخارج ،فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن سيكون اجهاض الثورة أهم هدف لهم
20
في هذه المرحلة التي تتميز عادة بالهشاشة األمنية وغياب التوازن .أنتم في
غنى عن ذلك احبتي.
إن أنصار النظام السابق ممسكون بمعظم المؤسسات االقتصادية التي قد
يشكل استهدافها أو غيابها أو تحييدها كارثة اقتصادية أو عدم توازن أنتم في
غنى عنه اآلن.
عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون لهذا
البلد ،فاحتواؤهم ومسامحتهم هي أكبر هدية للبالد في هذه المرحلة ،ثم إنه ال
يمكن جمعهم ورميهم في البحر أو تحييدهم نهائياً ثم إن لهم الحق في التعبير
عن أنفسهم وهو حق ينبغي أن يكون احترامه من أبجديات ما بعد الثورة.
أعلم أن مما يزعجكم أن تروا ذات الوجوه التي كانت تنافق للنظام السابق
تتحدث اليوم ممجدة الثورة ،لكن األسلم أن ال تواجهوهم بالتبكيت إذا مجدوا
الثورة ،بل شجعوهم على ذلك حتى تحيدوهم وثقوا أن المجتمع في النهاية لن
ينتخب إال من ساهم في ميالد حريته.
إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند
تفاصيل الماضي المرير.
أذكر جيداً أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحد واجهني هو أن قطاعاً
واسعاً من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام
السابق ،لكنني وقفت دون ذلك وبرهنت األيام أن هذا كان الخيار األمثل
ولواله النجرفت جنوب إفريقيا إما إلى الحرب األهلية أو إلى الديكتاتورية من
جديد ،لذلك شكلت "لجنة الحقيقة والمصالحة" التي جلس فيها المعتدي
والمعتدى عليه وتصارحا وسامح كل منهما اآلخر.
إنها سياسة مرة لكنها ناجعة.
أرى أنكم بهذه الطريقة ـ وأنتم أدرى في النهاية ـ سترسلون رسائل اطمئنان
إلى المجتمع الملتف حول الديكتاتوريات األخرى أن ال خوف على مستقبلهم
21
في ظل الديمقراطية والثورة ،،مما يجعل الكثير من المنتفعين يميلون إلى
التغيير ،كما قد تحجمون خوف وهلع الديكتاتوريات من طبيعة وحجم ما
ينتظرها ،تخيلوا لو أننا في جنوب إفريقيا ركزنا ـ كما تمنى الكثيرون ـ على
السخرية من البيض وتبكيتهم واستثنائهم وتقليم أظافرهم؟ لو حصل ذلك لما
كانت قصة جنوب إفريقيا واحدة من أروع قصص النجاح اإلنساني اليوم.
أتمنى أن تستحضروا قولة نبيكم" :أذهبوا فأنتم الطلقاء".
نلسون روهالال مانديال ـ هوانتون ـ جوهانزبيرغ
هذا الخطاب فيه من الحكم والدروس والعبر وتجارب الحياة الشيء الكثير
ولذلك لم نغفل عنه.
كما أنني في هذا الكتاب أضفت الجهود الفكرية والعلمية والحلول العملية التي
قدمت إلنجاح المصالحة الوطنية فاعتبرتها وثائق مهمة ال نستغنى عنها
اضفتها للكتاب.
وختمته بالحديث عن خطر الذنوب وعواقبها على الفرد والمجتمع ،والدعوة
إلى التوبة وبيان شروطها ،وأثر التوبة في حد الحرابة ،وفي حد القتل ،فيما
يتعلق بحقوق العباد المالية ،وغير المالية وفي تكفير الكبائر ،وعلى اإلنسان
وعلى الناحية الصحية والنفسية واإلجتماعية والخلقية ثم الخاتمة.
هذا وقد أنهيت كتاب العدالة والمصالحة الوطنية في 2012/1/12م الساعة
الثانية وعشر دقائق ظهراً الموافق 1433/2/18هـ.
والفضل هلل من قبل ومن بعد ،وأسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته
العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً ،ولعباده نافعاً ،وأن يثيبني على كل
حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكل
ما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع ،ونرجو من كل مسلم يطلع
22
على هذا الكتاب أال ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته
َي وَعَلَى
ورضوانه من دعائه " :رَبِّ أَوزِعنِي أَن أَش ُكرَ نِعمَ َتكَ الَّتِي أَنعَمتَ عَل َّ
وَالِدَيَّ وَأَن أَعمَلَ صَالِحًا تَرضَا ُه وَأَدخِلنِي ِبرَحمَ ِتكَ فِي عِبَا ِدكَ الصَّالِحِينَ"
(النمل ،آية .)19 :
سكَ َلهَا َومَا يُمسِك َفالَ
اهلل لِلنَّاسِ مِن رَّح َمةٍ َفالَ مُم ِ
ـ وقال تعالى " :مَا يَفتَحِ َُّ
حكِيمُ" (فاطر ،آية .)2 : مُرسِلَ َلهُ مِن بَع ِدهِ وَهُوَ ال َعزِيزُ ال َ
23
المدخل
إن المصالحة الوطنية بين أبناء الشعب الليبي ضرورة دينية ،وإنسانية،
وحضارية ،واقتصادية ،واجتماعية ،وسياسية ،ونفسية ،ال يستغنى عنها ليبي
وال ليبية من أجل تأكيد التالحم بين أبناء الشعب ،وترسيخ قواعد الوحدة
الوطنية وإشاعة أجواء المحبة واالنسجام بين مكوناته المختلفة ولمعالجة
اآلثار التي تركها النظام الديكتاتوري االستبدادي ،وظروف حرب التحرير
من الظلم والجور واالنتقام ،فيجب على أبناء هذا الشعب شيباً وشباباً رجاالً
ونساء السعي الحثيث والعمل المتواصل الدؤوب للوصول إلى األهداف
والمقاصد السامية والقيم اإلنسانية الرفيعة التي خرجت من أجلها الشعوب.
فالمصلحة الوطنية ضرورة دينية :ألن اهلل تعالى أمر المسلمين بعد إنتهاء
الحرب بينهم بالصلح على مبادئ العدل وقيم القسط وبين سبحانه وتعالى
المنهجية التامة والكاملة في القتال بين المسلمين والمراحل التي يجب علينا أن
نلتزم بها:
1ـ قال تعالى" :وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا َفأَصلِحُوا بَينَهُمَا َفإِن َبغَت
اهلل َفإِن فَاءتإِحدَا ُهمَا عَلَى األُخرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمرِ َِّ
سطِينَ * إ َِّنمَا المُؤمِنُونَ إِخوَ ٌة
اهلل يُحِبُّ المُق ِ
سطُوا إِنَّ ََّ َفأَصلِحُوا بَي َن ُهمَا بِالعَدلِ وَأَق ِ
حمُونَ" (الحجرات ،آية 9ـ .)10 َفأَصلِحُوا بَينَ أَخَوَيكُم وَاتَّقُوا اهللََّ َلعََّلكُم تُر َ
ففي هذه اآلية الكريمة بيان للتعاليم الربانية التي يجب على المسلمين االلتزام
بها ،فقد أثبت سبحانه وتعالى صفة اإليمان للمسلمين المتقاتلين ولم ينزع عنهم
صفة اإليمان بسبب القتال.
وعند اندالع القتال بين المسلمين أمر اهلل بالعمل على ايقافه بالسعي لإلصالح،
فإن امتنعت إحدى الطائفتين عن اإلصالح وإيقاف القتال أمر اهلل المسلمين
جميعاً بالعمل على قتال الفئة الباغية الظالمة الجائرة حتى ترجع وتنقاد ألحكام
الشريعة اإلسالمية ،فإن رجعت أو انهزمت أمام الطائفة األخرى ،فعلى
المسلمين أن يجتهدوا في إصالح ذات البين على أسس العدل وأصول القسط،
24
وبين سبحانه وتعالى إن اهلل يحب المقسطين ،مرغباً لنا للوصول إلى محبة اهلل
عز وجل ،والفرق بين العدل والقسط ،هو أن القسط عدل مع مراعاة المشاعر
واألحاسيس والنفوس للمهزومين والمكلومين والمصابين في هذا القتال ،فال بد في
المصالحة الوطنية أن تقوم على العدل ومراعاة مشاعر وأحاسيس ونفوس الناس.
ثم بين سبحانه وتعالى بأن المؤمنين إخوة ،وحرك العواطف األخوية المتبلدة
بسبب الحرب في أعماق النفس البشرية ،مذكراً بمعاني األخوة الخالدة في
عقيدتنا وديننا لكي تتغير النفوس من أعماقها نحو قيم السلم واألمن والتسامح
والعفو والصفح وتتجاوز تبعات مرحلة القتال بالبعد اإليماني األخوي الذي
يقرب به العبد المؤمن لخالقه جل في عاله.
وأمر المولى عز وجل القيادات المؤثرة في المجتمع وأفراد الشعب باإلصالح
بين اإلخوة وإزالة آثار الحرب النفسية واالجتماعية واالقتصادية .وذكرهم
بالخوف من اهلل وإتقاء سخطه وعقبه وذلك بتقواه في األعمال واألقوال وفي
مشاعر االنتقام أو تشوق النفس لقهر وإذالل المغلوب ،أو سيطرة الضغائن
واألحقاد على المشهد العام بعد إنتهاء الحرب ،ألن هذه التقوى الطريق لرحمة
اهلل لهذا الشعب وهذا الوطن المحبب إلينا جميعاً.
2ـ وبين سبحانه وتعالى في سورة النساء أن حديث الناس وكالمهم ال خير
في كثير منه إال من أمر بصدقة أو المعروف أو اإلصالح بين الخلق ،قال
ال خَيرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجوَاهُم إِالَّ مَن َأمَ َر بِصَ َد َقةٍ أَو مَعرُوفٍ أَو إِصالَحٍ
تعالىَّ " :
ت اهللِّ فَسَوفَ نُؤتِيهِ أَجرًا عَظِيمًا" (اآليةس َومَن يَفعَل ذَِلكَ اب َتغَاء مَرضَا ِ بَينَ النَّا ِ
ـ .)114
فاإلصالح بين الناس من األعمال الصالحة التي يترتب عليها األجر العظيم
من الخالق الجواد الكريم إذا كان السعي يراد به مرضاة اهلل ووجهه الكريم
ومعنى " بَينَ النَّاسِ" أي عموم الناس ولو كان بين يهود ونصارى أو غير
ذلك.
25
فاآلية الكريمة تلقي بظاللها على النفس المتعلقة بخالقها لتحقيق هذه العبودية
التي نحن في أشد الحاجة إليها في مجتمعنا الجديد بعد الخروج من عقود
الظلم واالستبداد والجهل والتخلف.
هلل وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اهللَّ 3ـ قال تعالى" :يَسأَلُو َنكَ عَنِ األَنفَالِ قُلِ األَنفَالُ ِِّ
اهلل َورَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤمِنِينَ * إِنَّمَا المُؤمِنُونَ وَأَصلِحُوا ذَاتَ بِي ِنكُم وََأطِيعُوا َّ
اهلل وَجِلَت قُلُو ُبهُم وَإِذَا تُلِيَت عَلَيهِم آيَا ُتهُ زَادَتهُم إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِم
الَّذِينَ إِذَا ُذ ِكرَ ُّ
الصالَ َة َومِمَّا َرزَقنَاهُم يُنفِقُونَ * أُولَـئِكَ هُمُ المُؤمِنُونَن َّ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُو َ
ق َكرِيمٌ" (األنفال ،آية 1 :ـ .)4 ت عِندَ ر َِّبهِم َومَغ ِفرَ ٌة َورِز ٌ حَقًّا َّلهُم َدرَجَا ٌ
فقد بين سبحانه وتعالى بأن تقوى اهلل عز وجل هي القوة الدافعة إلصالح ذات
البين وأنه من طاعة اهلل ورسوله والحرص على ذلك من شعب اإليمان التي
يحبها المولى عز وجل.
4ـ وقد ذكر سبحانه وتعالى بأن الصلح من جنس الخيرية المطلقة التي حث
اهلل عليها عباده ،قل تعالى" :وَإِنِ امرَأَ ٌة خَافَت مِن بَعِلهَا نُشُوزًا أَو إِعرَاضًا فَالَ
ضرَتِ األَن ُفسُ الشُّحَّ
جُنَاحَ عَلَي ِهمَا أَن يُصلِحَا بَي َن ُهمَا صُلحًا وَالصُّلحُ خَيرٌ وَأُح ِ
وَإِن تُحسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اهللَّ كَانَ ِبمَا تَعمَلُونَ خَبِيرًا" (النساء ،آية .)128 :
واإلصالح يحتاج إلى عدم التقصي في استيفاء الحقوق بين المتنازعين بترك
كل فريق بعضاً من حقه ليجتمعا على كلمة سواء ،ولكن طبيعة النفس البشرية
شحيحة في التنازل عن حقوقها للوصول للصلح لذلك بين سبحانه وتعالى إن
اإلحسان وتقوى اهلل ،ومراقبته في الصغائر والكبائر ،وفي السر والعلن ،كفيلة
بالتغلب على شح النفوس المانعة من المصالحة ،قال تعالى" :وَإِن تُحسِنُوا
ِن اهللَّ كَانَ ِبمَا تَعمَلُونَ خَبِيرًا" (النساء ،آية .)128 :
وَتَتَّقُوا َفإ َّ
ح َكمًا مِّن أَهِلهِ وَحَكَمًا مِّن أَهلِهَا
5ـ قال تعالى" :وَإِن خِفتُم شِقَاقَ بَي ِن ِهمَا فَابعَثُوا َ
اهلل كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا" (النساء ،آية : إِن ُيرِيدَا إِصالَحًا يُو َِّفقِ اهللُّ بَي َن ُهمَا إِنَّ َّ
،)35وهذه اآلية تتحدث في الخالفات الزوجية وفي كيفية اإلصالح بين
الرجل والمرأة في األسرة الصغيرة ،وبين المولى عز وجل أهمية النية
26
والقصد في تحقيق هدف الحكمين ،فكيف إذا كان اإلصالح على مستوى
الشعب واألمة فالنوايا مطايا وحسن القصد والتوجه الذي يراد به وجه اهلل
يعين المصلحين على تحقيق المقصود والمأمول من الوساطة ،فهذا المعنى في
قوله تعالى" :إِن ُيرِيدَا إِصالَحًا يُو َِّفقِ اهللُّ بَينَهُمَا" (النساء ،آية .)35 :
6ـ قال تعالىَ " :فمَا أُوتِيتُم مِّن شَيءٍ َفمَتَاعُ الحَيَا ِة الدُّنيَا وَمَا عِندَ اهللَِّ خَيرٌ وَأَبقَى
ش وَإِذَالِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى ر َِّبهِم يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجتَنِبُونَ كَبَا ِئرَ اإلِثمِ وَالفَوَاحِ َ
ْ شُورَى الصالَ َة وَأَم ُرهُ
مَا غَضِبُوا هُم يَغ ِفرُونَ * وَالَّذِينَ استَجَابُوا ِلر َِّبهِم وََأقَامُوا َّ
بَي َنهُم َومِمَّا َرزَقنَاهُم يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَا َبهُمُ البَغيُ هُم يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاء
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثُلهَا َفمَن عَفَا وَأَصلَحَ َفأَج ُر ُه عَلَى اهللَِّ إ َِّنهُ الَ يُحِبُّ الظَّاِلمِينَ * وََلمَنِ
صرَ بَعدَ ظُلمِ ِه َفأُولَ ِئكَ مَا عَلَيهِم مِّن سَبِيلٍ * إ َِّنمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظِلمُونَ انتَ َ
ك َلهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ * وََلمَن صَ َبرَ وَغَ َفرَ َق أُولَئِ َ
النَّاسَ وَيَبغُونَ فِي األَرضِ ِبغَيرِ الح ِّ
األمُورِ"الشورى ،آية 36 :ـ .)43 إِنَّ ذَِلكَ َلمِن عَزمِ ُ
صرُونَ""وَالَّذِينَ إِذَا أَصَا َبهُمُ البَغيُ" أي :وصل إليهم من أعدائهم "هُم يَنتَ ِ
لقوتهم وعزتهم ،ولم يكونوا أذالّء عاجزين ،عن االنتصار ،فوصفهم باإليمان
والتوكل على اهلل ،واجتناب الكبائر والفواحش الذي تكفر به الصغائر واالنقياد
التام ،واالستجابة لربهم وإقامة الصالة ،واإلنفاق في وجوه اإلحسان،
والمشاورة في أمورهم والقوة ،واالنتصار على أعدائهم ،فهذه خصال الكمال
قد جمعوها ،ويلزم من قيامها فيهم فِعل ما هو دونها وإنتفاء ضدها.
جزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثُلهَا َفمَن عَفَا وَأَصلَحَ َفأَج ُرهُ عَلَى اهللَِّ إِنَّهُ الَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
" وَ َ
صرَ بَعدَ ظُل ِمهِ َفأُولَ ِئكَ مَا عَلَيهِم مِّن سَبِيلٍ * إ َِّنمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ * وََلمَنِ انتَ َ
َق أُولَ ِئكَ َلهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ * وََلمَن س وَيَبغُونَ فِي األَرضِ ِبغَيرِ الح ِّ يَظِلمُونَ النَّا َ
األمُورِ"الشورى ،آية 40 :ـ .)43 صَ َبرَ وَغَ َفرَ إِنَّ ذَِلكَ َلمِن عَزمِ ُ
ذكر اهلل في هذه اآلية مراتب العقوبات وإنها على ثالث مراتب ،عدل،
وفضل ،وظلم ،فمرتبة العدل جزاء سيئة بسيئة مثلها ،ال زيادة وال نقص،
فالنفس بالنفس وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها والمال يضمن بمثله.
27
ومرتبة الفضل :العفو واإلصالح عن المسيء ولهذا قال " َفمَن عَفَا وَأَصلَ َ
ح
َفأَج ُر ُه عَلَى اهللَِّ" يجزيه أجراً عظيماً وثواباً كثيراً ،وشرط اهلل في العفو
واإلصالح فيه ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني ال يليق بالعفو عنه وكانت
المصالحة الشرعية تقتضي عقوبته ،فإنه في هذه الحال ال يكون مأموراً به،
وفي جعل أجر العافي على اهلل مما يهيج على العفو وأن يعامل العبد الخلق
بما يحب أن يعامله اهلل به ،فكما يحب أن يعفو اهلل عنه فليعف عنهم ،وكما
يحب أن يسامحه اهلل ،فليسامحهم.
ال يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" :الذين يجنون على
وأما مرتبة الظلم فقد ذكرها بقوله " :إِنَّهُ َ
غيرهم ابتداءً ،أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته ،فالزيادة ظلم.
" إ َِّنمَا السَّبِيلُ" أي :إنما تتوجَّه الحجَّة بالعقوبة الشرعية "عَلَى الَّذِينَ يَظِلمُونَ
َق " .وهذا شامل للظلم والبغي على الناس النَّاسَ وَيَبغُونَ فِي األَرضِ ِبغَيرِ الح ِّ
في دمائهم وأموالهم وأعراضهم" ،أُولَ ِئكَ َلهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ" أي موجع للقلوب
واألبدان بحسب ظلمهم وبغيهم" ،وََلمَن صَ َبرَ" :على ما يناله من أذى الخلق
األمُورِ" ،أي"وَغَفَ َر " لهم بأن سمح لهم عما يصدر منهم "إِنَّ ذَِلكَ َلمِن عَزمِ ُ
من األمور التي حث اهلل عليها وأكَّدها وأخبر أنه ال يلقَّاها إال أهل الصبر
والحظوط العظيمة ،ومن األمور التي ال يوفق لها إال أولو العزائم والهمم
وذوو األلباب والبصائر ،فإن ترك االنتصار للنفس بالقول أو الفعل من أشق
شيء عليها ،والصبر على األذى والصفح عنه ومغفرته ومقابلته باإلحسان
أشقَّ وأشقَّ ولكنه يسير على من يسَّره اهلل عليه ،وجاهد نفسه على االتصاف
به ،واستعان اهلل على ذلك ،ثم إذا ذاق العبد حالوته ووجد آثاره تلقاه برحب
الصدر وسعة الخلق ،والتلذُّذ فيه.1
7ـ وقال تعالى" :وَإِن عَاقَبتُم َفعَاقِبُوا ِبمِثلِ مَا عُوقِبتُم ِبهِ وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ
ك إِالَّ بِاهللِّ وَالَ تَحزَن عَلَيهِم وَالَ َتكُ فِي ضَيقٍ مِّمَّا
لِّلصَّابِرينَ * وَاصبِر وَمَا صَبرُ َ
اهلل مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحسِنُونَ" (النحل ،آية 126 :ـ يَم ُكرُونَ *إِنَّ َّ
)128يقول اهلل تعالى مبيحاً للعدل ونادباً للفضل واإلحسان "وَإِن عَاقَبتُم" :من
1تفسير السعدي صـ.90
28
أساء إليكم بالقول والفعل "فَعَاقِبُوا بِمِثلِ مَا عُوقِبتُم بِهِ" من غير زيادة منكم على
ما أجراه معكم "وَلَئِن صَبَرتُم" :عن المعاقبة وعفوتم عن جرمهم "َلهُوَ خَيرٌ
لِّلصَّابِرينَ" من االستيفاء وما عند اهلل خير لكم وأحسن عاقبة.
ثم أمر رسوله بالصبر على دعوة الخلق إلى اهلل واالستعانة باهلل على ذلك
وعدم االتكال على النفس ،فقال" :وَاصبِر وَمَا صَبرُكَ إِالَّ بِاهللِّ" هو الذي يعينك
عليه ويثبتك "وَالَ تَحزَن عَلَيهِم "إذا دعوتهم فلم تر منهم قبوالً لدعوتك ،فإن
الحزن ال يجدي عليك شيئاً" ،وَالَ َتكُ فِي ضَيقٍ " أي شدّة وحرج "مِّمَّا
يَم ُكرُونَ" فإن مكرهم عائداً إليهم ،وأنت من المتقين المحسنين واهلل مع المتقين
المسحينين بعونه وتوفيقه وتسديده وهم الذين اتقوا الكفر والمعاصي وأحسنوا
في عبادة اهلل ،بأن عبدوا اهلل كأنهم يرونه ،فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم،
واإلحسان إلى الخلق ببذل النفع لهم من كل وجه.1
وقد تحدث المفسرون كما تحدثت كتب علوم القرآن عن أسباب نزول هذه
اآلية " وَإِن عَاقَبتُم َفعَاقِبُوا ِبمِثلِ مَا عُوقِبتُم ِبهِ "..إلى آخر سورة النحل فذكر
جمع من المفسرين :أن هذه اآليات نزلت في أعقاب غزوة أحد وروى الحافظ
البزار عن أبي هريرة :أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقف على حمزة
بن عبد المطلب حين أستشهد فنظر إلى منظر لم يُنظر أوجع للقلب منه ،وقد
مثل المشركون به فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :لقد كنت وصوالً
للرحم فعوالً للخيرات ،واهلل لوال حزن من بعدك عليك ،لسرَّني أن أتركك
حتى يحشرك اهلل من بطون السباع أما واهلل ألمثلن بسبعين منهم مكانك فنزلت
هذه اآلية ،فكفر رسول اهلل عن يمينه.2
وقد ذكر بعض العلماء :أن هذه اآليات الثالثة األخيرة من سورة النحل ،تكرر
نزولها ،فنزلت يوم أحد ،ونزلت عند فتح مكة والحكمة في تكرير نزولها:
شدة الحاجة إلى العمل بمعانيها ،عند الرغبة في التشفي ودعوة القرآن إلى
الصبر.
1تفسير السعدي صـ.519
2قال السيوطي في الدر :وأخرج ابن سعد ،والبزار ،وابن المنذر ،وابن مردوية ،والحاكم وصححه ،والبيهقي في الدالئل.
29
وهذه اآليات دعوة إلهية إلى الصبر واالحتمال ،وهي دستور مفيد لإلنسان
وللجماعات واألمم ،وسواء كان نزولها في غزوة أحد أو عند فتح مكة أو عند
حياة المسلمين بمكة قبل الهجرة ،فإن معانيها عامة وأوامرها وآدابها مطلوبة
للحياة واألفراد.1
30
المرتبة الرابعة :دفع السيئة بالهجر الجميل:
جمِيالً" (المزمل ،آية :
قال تعالى ":وَاصبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهجُرهُم هَجرًا َ
.)10
المرتبة الخامسة :مواجهة السيئة بطلب الصلح:
قال تعالى ":وَإِنِ امرََأةٌ خَافَت مِن بَعِلهَا نُشُوزًا أَو إِعرَاضًا فَالَ جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَن
يُصلِحَا بَي َن ُهمَا صُلحًا وَالصُّلحُ خَيرٌ" (النساء ،آية .)138 :
المرتبة السادسة :دفع السيئة بسيئة مثلها من غير زيادة:
جزَاء سَيِّ َئةٍ سَيِّئَةٌ مِّثُلهَا َفمَن عَفَا وَأَصلَحَ َفأَج ُر ُه عَلَى اهللَِّ إ َِّنهُ الَ
قال تعالى ":وَ َ
يُحِبُّ الظَّاِلمِينَ" (الشورى ،آية .)40 :
فمن ألتزم بهذه القواعد فقد سيطر على أخالقه.
ظمِينَ الغَيظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاهللُّ يُحِبُّ المُحسِنِينَ" (آل
قال تعالى ":وَالكَا ِ
عمران ،آية .)134 :
2ـ اَلستجابة لداعي اإلصًلح:
على المتنازعين أن يتقوا اهلل ،ويسارعوا إلى إنهاء الخصام ويلبوا داعي
الصلح إذا تقدم به الراغبون إلصالح ما بينهم فال تأخذهم العزة باإلثم فتمنعوا
عن قبول دعوة المصالحة ،ويستمروا بالمقاطعة والهجر ،فيفوتهم قبول
األعمال وكسب األجر من اهلل وقد أخبرنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن
بغض اهلل تعالى لمن كانت صفته شديد الخصومة واللجاج.
أ ـ قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :أبغض الرجال إلى اهلل األلد الخصم.1
واأللد الشديد اللدد ،أي الجدال ومن كانت هذه صفته وطباعه فهو شر على
مجتمعه ،وخطر على أمنهم ،فهو يهدم وال يبني ،عمله اإلفساد في األرض
31
وأما من يستجيب للصلح ،ويرغب فيه ،ويميل إليه ،فهو خير الناس ،وقد بين
النبي صلى اهلل عليه وسلم فضله بقوله ":وخيرهما الذي يبدأ بالسالم".1
فالذي يبادر إلى إصالح ذات البين ،فهو في ميزان اإلسالم من الخيرين ،وهذا
دليل على طهارة القلب وسموا النفس ،وطيب المعدن ،فهذه الصفات جعلته
يحوز على الفضل بسبب قبول الصلح.
3ـ عدم اَلستجابة لوسوسة الشيطان في إيقاع النزاع:
إن الشيطان حريص على التحريش بين الناس ،وزرع الخصومات والعداوات
وتفكيك األسر ،والتفريق بين المتحابين والمتآخين فهو عدو لإلنسانية ،قال
عدُوًّا إ َِّنمَا يَدعُو حِز َبهُ لِ َيكُونُوا مِن
تعالى ":إِنَّ الشَّيطَانَ َلكُم عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ َ
السعِيرِ" (فاطر ،آية .)6 : ب َّ أَصحَا ِ
فالعاقل من يحرص على وحدة الصفح وتجاوز اآلآلم والجروح والمصائب
التي وقعت ويحب الخير للجميع ،يعفو عن من ظلمه ويعطي من حرمه وهذا
ما ينبغي أن يتصف به المسلم ،ألن التنازع له مضار عديدة فهو يؤدي إلى
الفشل ،وتمزق المجتمع وضعف الدولة مما يمكن أعداء الشعب من التدخل
في شؤونه ،كما أنه مدخل واسع من مداخل الشيطان ،يتمكن به من افساد ذات
البين ونشر الكراهية بين الناس وإشاعة البغضاء بين أبناء األسر واألخ وأخيه
واإلبن وأبيه.
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :أن الشيطان قد آسى أن يعبده المصلون
في جزيرة العرب ولكن في التحريش 2بينهم.3
فالشيطان حريص على إيقاع الخصام بين الناس ،فاإلسالم يدعو إلى التصالح
ويحث أتباعه على سلوك هذا المنهج ،ولنا اسوة في مسلك الواعظ البر
الرافض للشر أبو ذر عمر بن ذر فقد شتمه رجل ،فقال :يا هذا ،ال تغرقن في
32
شتمنا ودع للصلح موضعاً فإنا ال نكافئ من عصى اهلل فينا بأكثر من أن نطيع
اهلل فيه.1
4ـ التنازل عن جزء من بعض حقه:
على الخصم أن يتنازل عن جزء من حقه رغبة في تقريب وجهات النظر،
وتأليفاً للخصم اآلخر ،حتى يقبل الصلح المؤدي إلى تأليف القلوب وتسكين
الغضب وتهدئة ثوراته ودليل ذلك ما ورد من مواقف كثيرة في زمن الرسول
صلى اهلل عليه وسلم حيث تنازل بعض أصحاب الحق عن جزء من حقهم،
كموقف كعب بن مالك مع خصمه حين ارتفعت أصواتهما ،حتى سمع رسول
اهلل كالمهما وهو في بيته ،فخرج إليهما رسول اهلل صلى اهلل عله وسلم حتى
كشف سجف حجرته ،فنادى كعب بن مالك فقال ":يا كعب" فقال لبيك يا
رسول اهلل فأشار بيده ،أن ضع الشطر ،فقال كعب :قد فعلت يا رسول اهلل،
فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ":قم فاقض فعندما يتنازل الخصم عن
بعض حقه فهو يعمل المعروف.2
ومن المواقف الخالدة في التاريخ ،تنازل الحسن بن علي رضي اهلل عنه عن
الخالفة لمعاوية بن أبي سفيان رضي اهلل عنهما حيث تآلف المسلمون
واجتمعوا واصطلحوا حتى سمي ذلك العام بعام الجماعة.3
وكان الحسن رضي اهلل عنه يتمتع بقوة ،وكانت الكتائب أمثال الجبال ،ومع
ذلك قبل الصلح ،وتنازل عن ملك رغبة في تحقيق حديث رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم " :إن ابني هذا سيد ،ولعل اهلل يصلح به بين فئتين من المسلمين".4
فإن الحسن ترك الملك ال لقلة ،وال لذلة ،وال لعلة ،بل لرغبته فيما عند اهلل لما
رآه من حقن دماء المسلمين ،وراعى أمر الدين ومصلحة األمة ،وفيه فضيلة
اإلصالح بين الناس ،وال سيما في حقن دماء المسلمين.1
1حلية األولياء وطبقات األصفياء ( )113 /5أبو نعيم األصفهاني.
2البخاري رقم .2710
إصالح ذات البين صـ 141كامل أحمد.
3البداية والنهاية البن كثير (.)16 / 8
4فتح الباري ( 306 / 5ـ )307رقم .2704
33
وسيأتي الحديث عن صلح الحسن مفصالً بإذن اهلل.
5ـ اَلستعانة بالوسطاء الخيرين:
قد يقع اإلنسان في خطأ ثم يأسف عما بدر منه ،ويريد المسامحة ،فما عليه إال
أن يعتذر إلى من أساء إليه بنفسه ،أو بواسطة اآلخرين ممن يتوسم فيهم
القدرة على اإلصالح ،كما حصل لعبد اهلل بن الزبير رضي اهلل عنهما ،قال
في بيع أو عطاء أعطته أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها "واهلل لتنهين
عائشة أو ألحجرن عليها ،2فقالت :أهو قال هذا؟ قالوا :نعم ،قالت :هو واهلل
عليَّ نذر ال أكلم ابن الزبير أبداً ،فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة،
فقالت :ال واهلل ،ال أشفع فيه أبداً ،وال أحنث إلى نذره ،فلما طال ذلك على ابن
الزبير كلم المسور بن مخرمة ،3وعبد الرحمن بن األسود بن يغوث وقال
لهما :أنشدكما باهلل لما أدخلتماني على عائشة فإنها ال يحل لها أن تنذر
قطيعتي ،فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على
عائشة ،فقاال :السالم عليكم ورحمة اهلل تعالى وبركاته ،أندخل؟ قالوا :كلنا4؟
قالت :نعم أدخلوا كلكم وال تعلم أن معهما ابن الزبير ،فلما دخلوا دخل ابن
الزبير الحجاب فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي ،وطفق المسور وعبد
الرحمن يناشدانها أال كلمته ،5وقبلت منه ،ويقولون :إن النبي صلى اهلل عليه
وسلم نهى عما قد عملت من الهجر ،فإنه ال يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق
ثالث ليال ،ولما أكثروا على عائشة من التذكير والتحريج ،طفقت تذكرهما
وتبكي وتقول :إني نذرت والنذر شديد ،فلم يزاال بها حتى كلمت ابن الزبير،
واعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة ،وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى
تبل دموعها خمارها.6
34
فإن ابن الزبير قد استعان بهؤالء النفر من الصحابة رضوان اهلل عنهم ـ
ليوفقوا بينه وبين عائشة رضي اهلل عنهما ،وقد استعمال الحيلة حتى تمكن ابن
الزبير رضي اهلل عنه من الدخول على خالته عائشة ليرضاها وليعتذر منها،
وحاول هو ومن معه ليرضيها حتى رضيت ـ رضي اهلل عنهماـ وانتهت
القطيعة وحلت األلفة وعادت المياه إلى أراضيها فرضي اهلل عن الجميع.1
6ـ الرضى بالحكم بعد صدوره:
عندما يختار المتخاصمان من يصلح بينهما يكون ذلك على أساس الثقة
بالصلح ،وأنه قادر على معرفة القضية وإصدار الحل المناسب المرضي
للطرفين ،وأنه نزيه وعادل ،وغير مجامل ،وأنه سيصدر عنه الصلح بما
يوافق الحق والصواب.
والغرض من هذا هو فض النزاع وإيصال المظلوم إلى حقه ،أو بعض حقه،
ودفع إثم الظلم عن الظالم ،ودليل ذلك حادثة الزبير رضي اهلل عنه وأخيه
األنصاري الذي خاصمه في شراج ذي الحرة ،فاحتكما إلى رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم ،فأراد الرسول صلى اهلل عليه وسلم أن يسلك بهما مسلك
الصلح ،فقال للزبير :أسق يا زبير ،ثم أرسل إلى جارك ،2فالرسول صلى اهلل
عليه وسلم أصدر الحكم على أساس أنه صلح ،والصلح هو تنازل عن جزء
من الحق بغرض إنهاء الخصام ،ولكن األنصاري لم يرض بهذا الصلح
الصادر عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقال مقالته التي أغضبت رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،مما جعله يصدر الحكم قضاءً وحكماً" :أسق ثم
أحبس حتى يبلغ الجدر" ،3فقد استوعى للزبير حقه في صريح الحكم ،4وهذه
الواجبات التي ذكرناها من أهم األمور التي تحقق إصالح ذات البين وتعين
على إنهاء الخصام وإحالل المودة والوئام بين أفراد المجتمع.5
35
ثانياا :إصًلح ذات البين في القصاص ،والدية و الحدود
الصلح في القصاص أمر جائز ،بل هو أفضل من االستيفاء والعفو أفضل من
ص فِي القَتلَى الحُرُّالصلح ،لقوله تعالى ":يَا أ َُّيهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ القِصَا ُ
ي َلهُ مِن أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ ُر وَالعَبدُ بِالعَبدِ وَاألُنثَى بِاألُنثَى َفمَن عُفِ َ بِالح ِّ
ن ذَِلكَ تَخفِيفٌ مِّن ر َِّّبكُم َورَحمَ ٌة َفمَنِ اعتَدَى بَعدَ ذَِلكَ
ف وَأَدَاء إِلَيهِ بِإِحسَا ٍ
بِالمَعرُو ِ
فََلهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (البقرة ،آية .)178 :
وقد جاءت السنة مؤكدة لما نص عليه القرآن.
وعن ابن عباس رضي اهلل عنهما ،كانت في بني إسرائيل قصاص ولم تكن
ص فِي القَتلَى" إلى هذه
فيهم الدية ،فقال اهلل لهذه األمة ":كُتِبَ عَلَيكُمُ القِصَا ُ
اآليةَ ":فمَن عُ ِفيَ َلهُ مِن أَخِيهِ شَيءٌ" قال ابن عباس :فالعفو أن يقبل الدية في
العمل ،قال ":فَاتِّبَاعٌ بِالمَعرُوفِ" أن يطلب بمعروف ويؤدي إليه بإحسان.1
والصلح جائز في القصاص بأكثر من الدية.2
والذي يملك العفو عن القصاص:
1ـ عفو الورثة:
العفو حق لجميع الورثة عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل في
المشهور عنه ،ومالك في رواية عنه ،يستوي في ذلك من يرث بالفرض ،أو
التعقيب ويدخل في ذلك الزوج والزوجة وإن مات أحد الورثة انتقل الحق
أيضاً إلى ورثته.3
والدليل على ذلك قول الرسول صلى اهلل عليه وسلم في حديث أبي هريرة
رضي اهلل عنه :ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ،إما أن يودي وإما أن
يقاد ،4وهذا الحديث عام للرجال والنساء وروى عن معمر عن األعشى ،عن
1فتح الباري (.)305 / 12
2إصالح ذات البين صـ .168
3فتح القدير للشوكاني (.)223 / 3
4البخاري ،ك الديات ،باب من قتل له قتيل.
36
زيد بن وهب ،أن عمر بن الخطاب رفع إليه رجالً قتل رجالً ،فجاء أولياء
المقتول ،يريدون قتله ،فقالت أخت القاتل ،وهي امرأة المقتول :قد عفوت عن
حصتي من زوجي ،فقال عمر :عُتق الرجل من القتل . 1فهذه األحاديث
واآلثار تدل على أن القصاص حق مشترك بين الجميع ،والعفو حق لكل
الورثة ،وقد اعتبر عمر رضي اهلل عنه عفو الزوجة عن دم زوجها مسقطاً
للقصاص عن القاتل ،ولم ينكر عليه أحد من الصحابة.2
2ـ عفو القتيل قبل وفاته:
ذهب بعض الفقهاء إلى اعتبار عفو المجني عليه مسقطاً للقصاص عن الجاني
س وَالعَينَ بِالعَينِ وَاألَنفَ بِاألَنفِ س بِالنَّف ِ
لقوله تعالىَ ":وكَتَبنَا عَلَيهِم فِيهَا أَنَّ النَّف َ
جرُوحَ قِصَاصٌ َفمَن تَصَدَّقَ ِبهِ َفهُوَ كَفَّارَ ٌة َّلهُ وَاألُذُنَ بِاألُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَال ُ
ك هُمُ الظَّالِمُونَ" (المائدة ،آية .)45 : َومَن لَّم يَحكُم ِبمَا أنزَلَ اهللُّ َفأُولَـئِ َ
جزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثُلهَا َفمَن عَفَا وَأَصلَحَ َفأَجرُ ُه عَلَى اهللَِّ إِنَّهُ الَ
ـ وقال تعالى ":وَ َ
يُحِبُّ الظَّاِلمِينَ" (الشورى ،آية .)40 :
ـ وعن أبي الدرداء رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم":
ما من رجل يصاب بشيء في جسده ويتصدق به إال رفعه اهلل به درجة ،وحط
عنه به خطيئته.3
وعن األشعث بن سؤر عن أبي بكر بن حفص قال ":كان بين قوم من بني
عدي وبين حي من األحياء قتال ،ورمي بالحجارة وضرب بالنعال ،فأصيب
غالم من آل عمر ،فأبى على نفسه ،فلما كان قبل خروج نفسه قال ،إني
عفوت رجاء الثواب لإلصالح بين قومي ،فأجازه ابن عمر.4
وهذا القول موافق لروح الشريعة ومقاصدها الكبرى.
37
3ـ عفو الولي نيابة عن الصغير:
اتفق الفقهاء على أن ولي الصغير ال يملك العفو عن القصاص الواجب له إذا
كان العفو إلى غير مال ،أو إلى مال ال تدعو حاجة الصغير إليه ،قال اإلمام
الكاساني :أن يكون العفو من صاحب الحق ،ألنه إسقاط للحق ،وإسقاط الحق ـ
وال حق محال ـ فال يصح العفو من األجنبي لعدم الحق وال من األب ،والجد
في قصاص وجب للصغير ،ألن الحق للصغير ال لهما ،وإنما لهما والية
االستيفاء لحق وجب للصغير والعفو ضرر محض ،ألنه إسقاط الحق أصالً
ورأساً ال يملكانه.1
4ـ عفو السلطان:
إذا قتل شخص وليس له وارث يطالب بدمه ،فإن وليه السلطان بإجماع
الفقهاء ،ألن إرثه ثابت لعامة المسلمين ،والسلطان من ينوب عنهم في استيفاء
حقوقهم.2
ثالثاا :الشروط الواجب توافرها للحكم بصحة العفو:
اشترط الفقهاء عدة شروط وهي:
1ـ أن يكون العافي بالغاً والدليل قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :رفع
القلم عن ثالث :عن النائم حتى يستيقظ ،وعن الصبي حتى يحتلم ،وعن
المجنون حتى يعقل.3
2ـ العقل :فال يصح عفو زائل العقل للحديث السابق.
3ـ أن يكون مختاراً :فال يصح العفو من المكره ،فالقرآن الكريم والسنة ال
تعتبر بأفعال المكره ،لقوله تعالى ":إِالَّ مَن أُك ِرهَ َوقَل ُب ُه مُطمَئِنٌّ بِاإلِيمَانِ"
(النحل ،آية .)106 :
38
وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :إن اهلل تجاوز ألمتي عن الخطأ
والنسيان ،وما استكرهوا عليه.1
رابعاا :سقوط القصاص بإصًلح ذات البين:
إذا تم الصلح بالشروط المعروفة التي تجعل الصلح صحيحاً ،فقد أجمع العلماء
على أن الصلح عن دم العمد مسقط للقصاص عن الجاني ،سواء كان العوض
المصالح عليه مالياً أو غير مالي ،قليالً أو كثيراً ،وكان الصلح من قبل ورثة
المجني عليه أو بعضهم ،2وذلك ألن القصاص حق ثابت لكل واحد منهم،
فملك المصالحة عنه ،كما هو الشأن في سائر الحقوق المشتركة ،وإذا سقط
نصيب أحد األولياء في القصاص بمصالحته ،سقط نصيب الباقي ،ألن
القصاص ال يتجزأ ولمن يصالح من أولياء الدم له حق المطالبة بحصته من
الدية ،ألنه تعذر القصاص ،نتيجة لمصالحة بعض األولياء فيصير إلى الدية.3
خامساا :إصًلح ذات البين في الدية:4
يصح الصلح عن دم العمد بما يزيد وينقص عنها ،5وتكون الدية عقوبة
أصلية كما في القتل والجرح والقطع خطأ أو تكون بديلة عن القصاص إذا
صالح مستحق القصاص على مال ،حيث يجوز بالزيادة على قدر الدية.
أما إذا كانت الدية بديلة عن القصاص العمد جاز أن تكون على قدر دية
الخطأ ،أو أكثر ،أو أقل من جنس الدية ،أو من غير جنسها حالة أو مؤجلة
ألن هذا مال وجب بعقد فيجب فيه ما اتفق عليه ،أما الدية الواجبة بالقتل ،أو
القطع ،أو الجرح الخطأ فهي مقدرة بالشرع ،وهي مال من األموال للمجني
39
عليه قررته الشريعة ،وحددت مقداره فال يجوز الزيادة عليها ،1والصلح في
الدية حق لجميع الورثة.2
سادساا :إصًلح ذات البين في الحدود:
تتفاوت آراء الفقهاء في قضية الصلح في الحدود بناء على طبيعة الحد بحسب
البيان اآلتي:
1ـ ما كان حق اهلل غالباً عليه مثل الزنا ،والسرقة ،فال يجوز فيه الصلح.
2ـ ما كان حق العبد غالباً فيه ،فيجوز فيه الصلح ،مثل القصاص.
3ـ ما اختلف فيه الفقهاء في كونه حقاً هلل أو للعبد ،كالقذف ،فمن رجح أن
حق اهلل غالباً عليه قال :بعدم جواز الصلح فيه ،ومن رجح أن حق العبد غالب
عليه ،قال :بجواز الصلح فيه.3
فلو صالح زانياً أو شارباً للخمر ،أو سارقًا على أال يقيم عليهم الحد لم يصح
الصلح مع هؤالء ،لكون هذه الحدود حقاً محضاً هلل عز وجل ،وحقوق اهلل ال
يجوز الصلح عنها باتفاق الفقهاء ،ودليلهم ما رواه البخاري ،عن أبي هريرة
وزيد بن خالد رضي اهلل عنهما قاال" :كنا عند النبي صلى اهلل عليه وسلم فقام
رجل ،فقال :أنشدك باهلل إال ما قضيت بيننا بكتاب اهلل ،فقام خصمه وكان أفقه
منه ،فقال :أقض بيننا بكتاب اهلل وأذن لي ،قال :قل ،قال :إن ابني هذا كان
عسيفاً 4على هذا فزنا بإمرأته ،فافتديت منه بمائة شاة وخادم ،ثم سألت رجاالً
من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام ،وعلى أمرأته
الرجم ،فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم" :والذي نفسه بيده ألقضين بينكما
بكتاب اهلل جل ذكره ،المائة شاة والخادم رد وعلى ابنك جلد مائة وتغريب
عام ،واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فأرجمها.5
40
قال ابن حجر وفيه ان الحد ال يقبل الفداء ،وهو مجمع عليه في الزنا والسرقة
والحرابة وشرب المسكر ،واختلف في القذف ،والصحيح كغيره ،وإنما يجزئ
الفداء في البدن ،كالقصاص في النفس واألطراف ،وأن الصلح المبني على
غير الشرع يرد ويعاد المال المأخوذ فيه.1
فالرسول صلى اهلل عليه وسلم قد أبطل الصلح الواقع بين زوج المرأة ووالد
العسيف المؤدي إلى اسقاط الحد مع حرصه ـ عليه السالم ـ وحبه الصالح
ذات البين ،لكنه رفض هذا الصلح المبطل لحدود اهلل ،وأمر بتنفيذ الحد إن
اعترفت المرأة ،كما هو في كتاب اهلل ،وظاهر الحديث يدل على جواز الصلح
عن الحدود قبل رفعها إلى الحاكم ،حيث أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لم
يُعنف على من أصلح بينهم ،ويؤيد ذلك ما رواه عبد اهلل بن عمر رضي اهلل
عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال" :تعافوا الحدود فيما بينكم ،فما
بلغني من حد فقد وجب".2
وكذلك ما رواه مالك بن الزبير بن العوام رضي اهلل عنهما أنه لقي رجالً قد
أخذ سارقاً وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان فيشفع له الزبير ليرسله ،فقال:
ال أبلغ به السلطان ،فقال الزبير :إذ بلغت به السلطان فلعن الشافع 3والمشفع.
ولما رواه مالك على ابن شهاب عن صفوان بن أمية قيل له :إن لم تهاجر
هلكت ،فقدم صفوان إلى المدينة فنام في المدينة وتوسد رداءه فجاء سارق
وأخذ رداءه فأخذ صفوان السارق وجاء به إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم فأمر به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن تقطع يده ،فقال صفوان إني
لم أرده بهذا هو عليه صدقة ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم" :أال كان
قبل أن تأتيني به" ،4فالصلح جائز قبل الرفع إلى الحاكم ،أما بعد رفعه فال
يجوز الصلح في الحد.5
41
سابعاا :المصالحة في األحاديث النبوية:
1ـ قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم" :كل سالمي من الناس عليه صدقة،
كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين االثنين صدقة ،وتعين الرجل في دابته
وتحمله عليها ،أو ترفع له عليها متاعه صدقة ،والكلمة الطيبة صدقة وبكل
خطوة تمشيها إلى الصالة صدقة ،وتميط األذي صدقة.1
2ـ وعن أم كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط رضي اهلل عنها قالت :سمعت
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول" :ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس
فينمي خيراً أو يقول خيراً".2
3ـ عن أبي أيوب األنصاري أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال" :ال
يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثالث ليالٍ ،يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا
وخيرهما الذي يبدأ بالسالم"3
4ـ عن أبي هريرة رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال:
"تفتح أبواب الجنة يوم االثنين ويوم الخميس ،فيغفر لكل عبد مسلم ال يشرك
باهلل شيئاً ،إال رجلٌ كانت بينه وبين أخيه شحناء ،فقال :انظروا هذين حتى
يصطلحا ،انظروا هذين حتى يصطلحا.4
1متفق عليه.
2متفق عليه.
3رواه مالك في الموطأ.
4المصدر نفسسه.
42
فأدموه ،وهو يمسح الدم عن وجهه ،ويقول :اللهم اغفر لقومي فإنهم ال
يعلمون.1
2ـ عن أبي هريرة رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه قال" :ليس
الشديد بالصرعة ،إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".2
3ـ وعن أبي هريرة رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال:
"ما نقصت صدقة من مال ،وما زاد اهلل عبداً بعفو إال عزاً وما تواضع أحد هلل
إال رفعه اهلل".3
4ـ وعن أنس بن مالك رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
قال" :ال تباغضوا وال تحاسدوا وال تدابروا ،وكونوا عباد اهلل اخواناً ،وال يحل
لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثالث ليالٍ".4
5ـ عن أبي هريرة رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال" :من
نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس اهلل عنه كربة من كرب يوم
القيامة ،ومن يسر على معسر يسر اهلل عليه في الدنيا واآلخرة ،ومن ستر
مسلماً ستره اهلل في الدنيا واآلخرة".5
6ـ وعن أبي موسى األشعري قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً".6
7ـ وعن النعمان بن بشير رضي اهلل عنهما قال :قال رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم" :مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا
اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".7
1متفق عليه.
2متفق عليه.
3رواه مسلم.
4رواه مالك في الموطأ.
5رواه مسلم.
6متفق عليه.
7متفق عليه.
43
تاسعاا :إصًلح ذات البين َل يحل الحرام وَل يحرم الحًلل:
1ـ شرع الصلح إلحقاق الحق وإصالح المعوج ،وتحقيق إصالح ذات البين،
فلو أن شخصاً صالح آخر على تحريم حالل أو تحليل حرام فهذا ال يجوز فقد
نهى عن ذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقد قال :الصلح جائز بين
المسلمين إال صلحاً حرم حالالً ،أو أحلّ حرامًا. 1
عاشراا :فضل إصًلح ذات البين في السنة:
1ـ عن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما عمل
ابن آدم شيئاً أفضل من الصالة وإصالح ذات البين وخلق حسن.2
2ـ وعن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي اهلل عنه ،قال :قال رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم :أال أخبركم بأفضل من درجة الصوم والصالة والصدقة،
قالوا :بلى ،قال :إصالح ذات البين ،وفساد ذات البين الحالقة.3
الحادي عشر :أهمية إصًلح ذات البين:
1ـ تخفيف العبء عن القضاء:
قد يتم الصلح بين الخصوم قبل رفع الدعوى أمام القضاء ،وهذا العمل يخفف
العبء عن العاملين في مجال القضاء الرسمي ،وصدق القائل:
لو أنصف الناس استراح القاضي
وبات كلّ عن أخيه راضي
2ـ تخفيف العبء عن الخصوم:
إن إنهاء النزاع بين الخصوم صلحاً فيه تخفيف كبير عنهم ،وذلك من خالل
إجراءات الترافع بجلسة أو جلستين وسهولتها وانهائها ،أما ما يجري في
44
المحاكم فيها كثير من التعقيد والمشقة كما أنها تستغرق وقتاً وجهداً وتكاليف
باهظة وفي هذا مشقة وتعب واستنزاف لجهودهم ،وأموالهم.
3ـ تحقيق العدالة:
إن حسم الخالف بين طرفي النزاع عن طريق الصلح أدعى إلى اإلنصاف
وأدنى إلى تحقيق العدالة ،حيث إن المتخاصمين أعلم من غيرهم بمعرفة
استحقاق كل منهم فيما يدعيه ،أو فيما يدعي عليه ،ألن كال منهما يعلم في
قرارة نفسه أين الحق ،ولمن هو الحق المتنازع عليه.
وهذا المعنى قد أشار إليه الرسول صلى اهلل عليه وسلم في الحديث الذي روته
أم سلمة رضي اهلل عنها قالت :جاء رجالن من األنصار يختصمان إلى رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ،1ليس بينهما بيّنة،
فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :إنكم تختصمون إلىّ وإنما أنا بشر ،ولعل
بعضكم ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع ،فمن
قضيت له من حق أخيه شيئاً فال يأخذه ،فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها
أسطامًا 2في عنقه يوم القيامة ،فبكى الرجالن وقال كل واحد منهما :حقي
ألخي .فقال رسول اهلل :أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما ،ثم توخيا الحق ،ثم استهما،
ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه.3
4ـ نشر الوعي اإلجتماعي:
ذلك أنه يستأصل شأفة الخصومة ويؤلف القلوب المتنافرة ،ويضع حداً لما
تتركه الخصومات من أحقاد في النفوس ،وضغناء في الصدور.
5ـ إشاعة السالم بين أفراد المجتمع:
45
عندما يصطلح الناس ،وتزال العداوات والمخاصمات فيما بينهم ،ويحل الوفاق
محل الخالف ،عند ذلك يأمن الناس بعضهم بعضاً ،ويحلّ السالم االجتماعي
بين أفراد المجتمع.
6ـ تأليف القلوب:
الشك أن الخصام يفرق المتاحبين ،ويعمق بينهم العداوة والخالف ،وتتنافر
القلوب وتتباغض ،فعندما يتم اإلصالح والتصالح 1ـ على أسس العدل ،وقيم
القسط وإحقاق الحقوق والتصافح ،والتغافر والتراحم ،تتآلف القلوب.
الثاني عشر :وسائل إصًلح ذات البين:
فوسائل إصالح ذات البين كثيرة منها الشفهية والسمعية والبصرية ،أو
المقروءة وتشمل كل من االتصال الفردي والخطبة والمحاضرة والندوة
والمذياع والشريط المسموع والمسرح والتلفزيون ،والكتاب والصحيفة
والمجلة واإلنترنت وأجهزة االتصال وغيرها ولو استخدمت هذه الوسائل
بحق لعاش الناس في حب وإخاء وتآلف ولضاق الخصام والشجار على
مستوى األفراد والجماعات والقبائل والدول.
1ـ دور المجتمع في إصالح ذات البين:
أ ـ األسرة :فالبيت إن أحسن فيه تربية األبناء ،فإن المجتمع الكبير سيستقبل
األعضاء الذين يحسنون إدارة وتوجيه دفة الحكم ،فالبيت يتعلم فيه الكبير
والصغير دروساً في الحب أوالكراهية وعندما يكون األب قدوة في البيت فال
خصام في داخل األسرة وال شجار خارج البيت وإنما يعيش كل فرد من أفراد
األسرة في جو متسامح يتسم بالعفو عمن ظلمه وينبذ الخالف ويكره الشقاق،
فالبيت بيت مسلم يقتدى بالنبي صلى اهلل عليه وسلم في تحمل األذى والعفو
والصفح ،فعندما ذهب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى الطائف قام بالدعوة
ال يدع أحداً من أشرافهم إال جاءه وكلمه فلم يجيبوه وخافوا على أحداثهم،
46
فقالوا :يا محمد اخرج من بلدنا والحق بمحابك من األرض وأغروا سفهاءهم،
فجعلوا يرجمونه بالحجارة حتى إن رجليه لتدميان ،1ورجع رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم متجهًا إلى مكة بعد خروجه من الحائط 2كئيباً محزوناً كسير
القلب ،فلما بلغ قرن المنازل بعث إليه جبريل ومعه ملك الجبال يستأمره أن
يعلق عليهم األخشبين ،قال النبي صلى اهلل عليه وسلم :بل أرجو أن يخرج اهلل
من أصالبهم من يعبد اهلل ـ عز وجل ـ وحده ال شريك به شيئاً.3
فهذه سماحته وعفوه وصفحه صلى اهلل عليه وسلم مع خصومه ،بل شعوره أن
اهلل سيخرج من أصالبهم شباباً يعبدونه وحده ال شريك له ،فاألسرة هي
المحضن ـ الحصن األول ـ يقول اإلمام علي رضي اهلل عنه :علموهم
وأدبوهم ،4فاألسرة هي الدرع الحصين التي يحتمي بها اإلنسان عند الحاجة
ويتقوى بها ،5فعلى األسرة أن تتعلم كي تعلم أفرادها ،يقول الصحابي الجليل
عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه :تعلموا تعلموا ،فإن علمتم فأعملوا.6
فاألسرة عليها أن تؤهل نفسها لتؤهل أبناءها.
ب ـ المجتمع:
تتجدد مسؤولية المجتمع عند تربية أبنائه وتوجيهها إلى الخير أو الشر فهو
الوسط الذي ينشأ فيه األفراد ومن خالل تعاملهم مع بعضهم البعض يؤثرون
ويتأثرون سلباً وإيجاباً ،لذلك فهو يؤثر على جميع األفراد والجماعات المكونة
لهذا المجتمع ،وقد روي عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قصة القاتل الذي
ينبغي التوبة من جرائمه السابقة ،ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم،7
عن أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه وفيه ... :انطلق إلى أرض كذا وكذا،
فإن بها أناساً يعبدون اهلل ،فأعبد اهلل معهم وال ترجع إلى أرضك ،فإنها أرض
47
سوء ،1أنظر كيف دلّه على البيئة الصالحة والمجتمع النظيف الطاهر العابد
لربه ،فالمجتمع يعمل على التأثير في الشخص سلباً ،أو إيجاباً بل المجتمع
ربما يكون رادعاً ومؤثراً في سلوك الشخص ،فقد اتخذ رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم المجتمع وسيلة لتأديب الرجل الذي كان يؤذي جاره ،فقد ورد
حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه قال :قال رجل يا رسول اهلل :إن لي جاراً
يؤذني .فقال :انطلق فأخرج متاعك إلى الطريق .فانطلق فاخرج متاعه
فاجتمع الناس عليه فقالوا :ما شأنك؟ قال :لي جار يؤذيني فذكرت ذلك للنبي
صلى اهلل عليه وسلم فقال :انطلق فأخرج متاعك إلى الطريق ،فجعلوا يقولون:
اللهم ألعنه ،اللهم أخزه فبلغه ما قالوه ،فأتاه فقال :أرجع إلى منزلك فواهلل ال
أؤذيك.2
ج ـ المسجد :فالمسجد مكان إلقامة المحاضرات والندوات والدروس العلمية
والمواعظ اإليمانية التي تدعو الناس إلى التحاب وسالمة الصدور ،وإصالح
ذات البين وكل ذلك من خالل كالم اهلل تعالى ،ومن خالل كالم رسوله صلى
اهلل عليه وسلم ،وفعله وفعل أصحابه واتباعه من أهل الفضل والكرم رضي
اهلل عنهم جميعاً.3
2ـ دور المؤسسات التربوية في المصالحة:
أ ـ المنهج:
فالتعليم عمود النهضة وعمادها وذخر أي أمة وسندها ،فاألمة اإلسالمية أمة
العلم والتعلم إذ هي التي بدأ كتابها السماوي "القرآن الكريم" بكلمة "أقرأ" في
أول ما أنزل على محمد صلى اهلل عليه وسلم ،فالمنهج يغرس في المتعلم العلم
والخلق والسلوك واإلخالص واألمانة ،ال سيما إذا تضمن نماذج من صور
القرآن وسيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم من خالل القصص والحكايات
الصحيحة والواقعية ،يختار لهم من القصص الداعمة للحب والوفاء واأللفة
48
والتسامح وإصالح ذات البين ونبذ الحقد والحسد والتباغض واالختالف
والمنازعات والمخاصمات ،ولذلك نجد أن القرآن الكريم ،والسنة النبوية قد
رسخت معاني الحب والتسامح ،فهذا أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه يصفح
عن مسطح عندما سمع اآلية تدعو إلى العفو .1فالمنهج اإلسالمي له أبلغ
التأثير في الصلح والتصالح.2
ب ـ المعلم:
يعتبر األساس ،بل هو الدعامة األساسية لبناء المجتمع وتقدمه ،فشخصية
المعلم لها أثر عظيم في عقول التالميذ ونفوسهم ،وذلك ألنه يؤثر بمظهره
وشكله وتعامله وحبه وبغضه وكراهيته وسلوكه الذي يبدو منه ،وما أجمل
المعلم حين يغرس في قلوب أبنائه روح المحبة والتسامح والعفو والصفح،
ولين الجانب ،ونكران الذات ،ونبذ الخالف والشقاق والنزاع والحسد والبغض
والحقد واالنتقام.3
ولقد كرَّم اإلسالم المعلِّم فأشاد به الرسول صلى اهلل عليه وسلم حين أعلن عن
نفسه أنه معلم ،فقال" :إنما بعثت معلِّماً" .4فالمعلم مقامه عظيم حيث إنه
اهلل عَلَى المُؤمِنِينَ إِذ َبعَثَوارث النبوة في مجال التعليم ،قال تعالى" :لَقَد مَنَّ ُّ
فِيهِم رَسُوالً مِّن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَا ِتهِ وَيُزَكِّيهِم وَ ُيعَِّل ُمهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَ َة وَإِن
كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَاللٍ مُّبِينٍ" (آل عمران ،آية .)164 :
ج ـ المدرسة :من أخطر المؤسسات التربوية التي يقضي فيها الفرد شطرًا
كبيراً من عمره ،وهي المحيط المناسب لتوعية الطالب بأهمية إصالح ذات
البين ومعرفة طرق وأساليب حل الخصومات عبر الحلول اإلرضائية التي
تمارس في المدرسة عند حدوث أي خصام بين الطالب ،فتحل مشكلتهم عن
طريق الصلح ،فالمدرسة هي الركيزة األساس لتنمية القيم واألخالق
اإلسالمية ،ونشر ثقافة الحب والتسامح والتواضع والعطف على اآلخرين
1تفسير القرآن العظيم البن كثير (.)287 / 3
2إصالح ذات البين صـ .238
3إصالح ذات البين صـ ..239
4سنن ابن ماجة رقم .225
49
والرحمة في اآلخرين والتنازل عمن أساء وتجاوز حد األدب ،فالمدرسة تعمل
على تعميق وغرس القيم والمعايير والتصورات والعقائد في الفرد والمجتمع
وتحويلها إلى سلوك عملي في الواقع ،وتكون بذلك عملية فريدة ومتميزة،
ومقصده صياغة وتشكيل العقل والوجدان والنفس وتحديد المواقف الكلية.1
3ـ دور اإلعالم :اإلعالم بوسائلة المقروءة والمسموعة والبصرية وغيرها له
تأثير كبير على النمو المعرفي واالنفعالي واالجتماعي للشعوب يزداد
تعاظمها وأهميتها في مجتمعنا الحديث خاصة ،فما من بيت يخلو من إحدى
هذه الوسائل كالمذياع والتلفاز ،والصحيفة والشريط ،فهذه الوسائل تعمل على
التوجيه وحفظ مقومات األمة وثباتها أمام التيارات المختلفة ،وفي تحصين
الفرد والجماعة.
إن لهذه الوسائل دوراً كبيراً في تعزيز التسامح ونبذ العنف من خالل
استضافة عالم ،أو داعية يتحدث عن أهمية إصالح ذات البين ويبين خطورة
الخصومة ومضارها على الفرد والمجتمع.2
50
ـ رضي اهلل عنه ـ :أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ،1وأشاد بهم وبما
قدموا لدينهم وإلخوانهم المهاجرين ،وذكر من فضائلهم ومآثرهم ما لم يذكره
خطباؤهم ،ثم بدأ في إخراج األمر من اإلطار الذي وضعه خطيب األنصار
فيه ،فاألمر ليس مقصوراً على المدينة ـ وحدها ـ فالجزيرة اليوم تستظل بظل
اإلسالم وإن كان المهاجرون القاطنون في المدينة يمكن أن يسلموا إلخوانهم
األنصار بالخالفة ويعرفوا فضلهم ،فإن بقية العرب لن تسلم لغير قريش ،فبين
لهم األمر بهذا الخطاب الواضح حتى يسلموا األمر إلخوانهم من قريش.2
2ـ االسترضاء:
قد يكون للطرف اآلخر شكوى منطقية ،وحق يطالبك به ،فما عليك إال
االعتراف بهذا الحق وإرجاعه ما أمكن ،ثم استرضاؤه ،لينتهي النزاع وال
يطول بقول فولتير :3النزاع الطويل يعني أن كال من الطرفين على خطأ.4
وقد استرضى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه وعرض نفسه
للقصاص قائالً :من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه ،ومن كنت
شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه .5فهذا استرضاء منه وطلب للعفو
والمسامحة في الدنيا قبل اآلخرة.
وهذا محمد الحنفية رضي اهلل عنه جرى بينه وبين أخيه الحسين بن علي
رضي اهلل عنهما كالم :فانصرفا متغاضبين ،فلما وصل محمد إلى منزله أخذ
رقعة وكتب فيها بعد البسملة :من محمد بن علي بن أبي طالب إلى أخيه
الحسين بن علي ،أما بعد :فإن لك شرفاً ال أبلغه ،وفضالً ال أدركه ،فإن أمي
امرأة من بني حنيفة وأمك فاطمة بنت محمد صلى اهلل عليه وسلم ،ولو كان
ملء األرض نساء مثل أمي ما وفين بأمك ،فإذا قرأت رقعتي هذه فألبس
رداءك ونعليك وسر إليّ فترضاني ،وإياك أن أكون سابقك إلى هذا الفضل
51
الذي أنت أولى به مني والسالم ،فلبس الحسين رداءه ونعليه وجاء إليه
وترضاه.1
3ـ المصارحة والمواجهة الهادئة:
اقتداء بالرسول صلى اهلل عليه وسلم في الصفح والعفو وامتثاالً لقوله تعالى":
اهلل إ َِّنهُ الَ يُحِبُّ الظَّاِلمِينَ" (الشورى ،آية .)40 :
َفمَن عَفَا وَأَصلَحَ َفأَجرُ ُه عَلَى َِّ
فقد واجه من قومه كل أنواع األذى هو وأصحابه من رمي بالحجارة
والسخرية واالستهزاء ،وما حادثة الطائفة إال خير دليل على رحمته
وتسامحه ،فقد جاء ملك الجبال ،يريد أن يطلق عليهم األخشبين فقال صلى اهلل
عليه وسلم :بل أرجو أن يخرج اهلل من أصالبهم من يعبد اهلل ـ عز وجل ـ ال
يشرك به شيئاً.2
دعا لهم بالمغفرة من قلبه الطاهر فقال ":اللهم أغفر لقومي فإنهم ال يعلمون"،
بل زيادة على ما ذكر فإنه كان يحاور أعداءه بلين الجانب والهدوء التام في
حواراته وخطاباته ،فهذا عتبة بن ربيعة والذي كان سيداً من سادات قومه
طلب من قومه أن يكلم الرسول صلى اهلل عليه وسلم ويعرض عليه أموراً،
فأذنوا ،فجاء النبي صلى اهلل عليه وسلم حتى جلس ،وبدأ بالحديث مع النبي
صلى اهلل عليه وسلم فقال :قل يا أبا الوليد ،وألتفت إليه بهدوء تام ،حتى انتهى
من كالمه ،ثم قال له :أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم ،3فهذه أخالقه مع
خصومه وأعدائه ومنه نتعلم كيف نواجه الخصم بهدوء تام ،وقوة تحكم في
المشاعر واألحاسيس وقسمات الوجه وتعبيراته ،وعدم االنفعال والغضب ،بل
علمنا كيف نحاور خصومنا بهدوء ،ونستمع إليهم بإنصات حتى إذا انتهوا من
كالمهم نبدأ بتوضيح فكرتنا وبيان خطئهم ،وصوالً إلى إقناعهم بخطأ فكرتهم
52
أو خطأ سلوكهم ،ثم طلبهم بعدم التكرار لمثل هذه االعمال غير المرغوبة مع
إخبار الخصم إذا اقتنع بخطأ ما أقدم عليه.1
53
ج ـ الحكمة :والحكمة إصابة الحق بالعلم والعقل ،وال يسمى الرجل حكيماً إال
إذا جمع بين العلم والعمل به ،وقيل :الحكمة وضع كل شيء في موضعه وقيل
سرعان الجواب مع اإلصابة ،1فالمصلح الحكيم هو الذي ينظر في القضايا
المعروضة عليه ببصيرة ثاقبة ويوفق بين اآلراء ويقرب بين األطراف
ويتريث ويتأنى ،فال يعجل في اصدار األحكام والحكمة تقوم على ثالثة أركان
هي :العلم والحلم واألناة ،وآفاتها وأضدادها ومعاول هدمها :الجهل ،والطيش،
والعجلة ،فال حكمة لجاهل ،وال طائش وال عجول ،2فالمصلح البد أن يتمتع
بسعة الصدر ،والقدرة على احتواء المواقف وحسن االستماع إلى
المتخاصمين ،والتمكن من تهدئة المواقف ،ليصل المصلح إلى اطفاء جذوة
الخالف وإزالة أسباب الخصومة وإجالل المصافاة والمسالمة كما ينبغي على
المصلح أن يكون له معرفة في الدين والفقه في التأويل وسجية تعينه على
الفهم.
ح ـ الصدق :قال تعالى ":يَا أ َُّيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اهللَّ َوكُونُوا مَعَ الصَّا ِدقِينَ"
(التوبة ،آية .)119 :
القائم على إصالح ذات البين البد أن يتصف بهذه الصفة حتى يقبل قوله
ويكون أهالً لثقة الناس بهم ،ويحصل الصلح بواسطته وعل المصلحين أن
يفهموا أن ما يصدر منهم من حلول لقضايا الناس ال يقبل وال يستقر في
القلوب إال إذا كان المصلح خالصاً في نيته ،صادقاً في لهجته ،وال يراعي إال
اهلل في عمله ،فإن صدق المصلح في اإلصالح ،جعل اهلل على يديه الوفاق
واالتفاق وإنهاء الخصام ،فالمصلح عندما يبتغي بصلحه رضي اهلل ثم رضي
الخصمين ،فهذا أج ّل الصلح وأحقه ،وهو يعتمد على العلم والعدل فيكون
المصلح عالماً بالوقائع ،عارفاً بالواجب قاصداً للعدل ،فدرجة هذا أفضل من
درجة الصائم القائم.3
54
س ـ المبادرة :البد ألهل الخير والصالح أن يبادروا إلنهاء الخصومات
والعداوات التي تحصل بين أفراد المجتمع حتى يكون متماسكاً بعيداً عن
حكُم"
الخالفات والنزاعات .قال تعالى ":وَالَ تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِي ُ
(األنفال ،آية .)46 :
وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أول المبادرين ألنهاء الخصومات
بين أصحابه ،فها هو يأمر أصحابه بقوله ":أذهبوا بنا نصلح بينهم".1
وذكر ابن القيم عن عبد اهلل بن حبيب ابن أبي ثابت ،قال :كنت جالساً مع
محمد بن كعب القرظي ،فأتاه رجل فقال محمد بن كعب :أصبت لك مثل أجر
المجاهدين ،ثم قرأ ":الَّ خَيرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجوَاهُم إِالَّ مَن َأ َمرَ بِصَ َد َقةٍ أَو
ح بَينَ النَّاسِ" (النساء ،آية .)114 : ف أَو إِصالَ ٍ
مَعرُو ٍ
ش ـ التواضع :على القائمين بإصالح ذات البين أن يتصفوا بصفة التواضع،
وخفض الجناح ،ولين الجانب مع المتخاصمين ومع كل من له عالقة بالقضية
المعروضة عليه ،فكما أنه يجب أن يكون قوياً في غير عنف ،يجب أن يكون
متواضعاً في غير ضعف ليكسب القلوب ،فيسعى الجميع لقبول قوله وحكمه،
ك لِلمُؤمِنِينَ" (الحجر ،آية .)88 :
قال تعالى ":وَاخفِض جَنَاحَ َ
ويقول الرسول الكريم صلى اهلل عليه وسلم :إن اهلل أوحى إلي أن تواضعوا،
حتى ال يفخر أحد وال يبغى أحد على أحد ،2وقد كان الرسول األعظم صلى
اهلل عليه وسلم مثاالً للتواضع ،واخفض الجناح ،ولين الجانب وسماحة النفس،
حتى أن الجارية لتأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت ،فعن أنس رضي اهلل عنه
قال :إن كانت األمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد النبي صلى اهلل عليه وسلم
فتنطلق به ،هكذا ،كان التواضع متجسداً في شخصية الرسول صلى اهلل عليه
وسلم ،وهكذا يجب أن يكون في قادة األمة والمصلحين ،بل وفي كل فرد
مسلم.3
55
ع ـ الجود والكرم :اشتهر عن العرب بذلهم المال إلصالح ذات البين فهذا
هرم بن سنان والحارث بن عوف سيد بني مرة اللذان حقنا دماء قبيلتي عبس
وذبيان بعد حرب طويلة ،إذ يتحمال ديات القتلى ،ويقال إنها كانت ثالثة اآلف
بعير وقد جاء اإلسالم فاقر تلك المحامد والخصال الكريمة واألفعال النبيلة
فشرع في مصارف الزكاة حقاً لقضاء المغارم التي دفعت للخصومات
والمنازعات وإنهاء القتل واالقتتال.1
56
فكل مسالة خرجت عن العدل إلى الجور ليست من الشريعة.1
فالمصلح حتى يوفق في إزالة الشقاق وإحالل الوفاق ،البد أن يعدل بين
المتخاصمين ويصلح بينهما بالعدل ،قال تعالىَ ":فأَصلِحُوا بَي َن ُهمَا بِالعَدلِ
سطِينَ" (الحجرات ،آية .)9 :سطُوا إِنَّ اهللََّ يُحِبُّ المُق ِ
وَأَق ِ
واإلصالح هنا بإزالة آثار القتل بعد اندفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم
فقال ":بِالعَدلِ" فكأنه قال :واحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأصلحوا
بالعدل مما يكون بينهما.2
والغرض من إصالح ذات البين إيصال العدل والذي رغب فيه الرسول صلى
اهلل عليه وسلم وبين فضيلته بقوله ":كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الناس
صدقة".3
يقول ابن القيم :الصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضى اهلل
سبحانه وتعالى ورضى الخصمين ،فهذا أعدل الصلح وأحقه وهو يعتمد على
العلم والعدل فيكون المصلح عالماً بالواقع ،عارفاً بالواجب قاصداً العدل
فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم.4
3ـ رجاحة العقل:
بالعقل يعرف اإلنسان حقائق األمور ،ويفصل بين الحسنات والسيئات ،5ومن
خالل العقل تزداد المعرفة وتتضح الفكرة ويبين الحق ،فالعقل ينمو إن
استعمل وينقص إن اهمل ،فالمصلح يعمل في العادة عقله وفكره الستنباط
الحلول المناسبة المرضية للخصمين ،واهلل يدعونا للتدبر والتفكر والتأمل ،قال
َكرَ أُولُوا األَلبَابِ" (ص،
ك لِّيَد ََّّبرُوا آيَا ِتهِ وَلِيَتَذ َّ
تعالى ":كِتَابٌ أَنزَلنَاهُ إِلَيكَ مُبَارَ ٌ
آية .)29 :وليتعظ بالقرآن أولوا العقول ،6وأولوا االلباب أصحاب العقول
1المجتمع اإلسالمي محمد الصادق عفيفي صـ .99
2التفسير الكبير للرازي (.)129 / 28
3متفق عليه.
4إعالم الموقعين ( 109 / 1ـ .)110
5اإلنسان والمال في الغسالم صـ 121عبد النعيم حسنين.
6تفسير النسفي صـ .40
57
الراجحة الذين يدركون األمور على حقيقتها ويعرفون العواقب جراء إهمال
إصالح ذات البين ،فعليهم أن يقوموا بإصالح ذات البين على أكمل وجه ،فهذا
واجب العقالء من الناس ومسؤوليتهم على إنجاح حل القضايا وإنهاء
الخصومات بأسرع وقت ممكن وقد اهتمت الشريعة اإلسالمية بعقل اإلنسان
أيما اهتمام وأعطته قدراً وافراً من الرعاية وأحاطته بما يوفر له القيام
بوظائفه.1
4ـ القدرة على التركيز:
البد للمصلح أن يكون قوي الذاكرة يتذكر المواقف المختلفة بين الخصوم
ويذكر اسماء المتخاصمين ،ونوع قضاياهم ،وأن يكون ملماً بكل قضية،
يعرف أطراف النزاع ومحل النزاع ،ونوع النزاع ،حتى تكون الصورة
واضحة للقضية التي تطرح عليه فهو يعرف أسبابها وكيف حصلت ،ولديه
جميع المعلومات حتى يتمكن من الحلول.2
5ـ التميّز:
كلما كان المصلح صاحب مكانة عالية وقيادة متميزة ،وشخصية متكاملة
وشجاعة قوية ،وحلم وعلم ،أو سن يكرم ألجله أو قرابة حميمة من
المتخاصمين ،فإن ذلك أدعى لقبول المتخاصمين لعرض مشكلتهم عليه ليقوم
بحلها ورضاهم لحكمه والنزول عند قوله وااللتزام بقضائه ،3وعن هاني بن
يزيد بن نهيك رضي اهلل عنه قال :إنه لما وفد إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم مع قومه سمعهم وهم يكنونه بأبي الحكم ،فدعاه رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم فقال له :إن اهلل هو الحكم ،وإليه الحكم فلم تكنى أبا الحكم؟ فقال :
إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم ،فرضي كال الفريقين ،فقال
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :ما أحسن هذا؟ فمالك من الولد ،قال لي شريح
58
وعبد اهلل ،قال :فمن أكبرهم؟ قال :شريح ،1قال :فأنت أبو شريح ،2فقد أعجب
الرسول صلى اهلل عليه وسلم بفعله هذا واستحسنه.3
59
وهم أبناء نبي ،وتضخم في أعينهم حكاية آيثار أبيهم له ،بالحب حتى توازى
القتل أكبر الجرائم بعد الشرك باهلل تعالى.1
ولقد حسد إخوة يوسف أخاهم يوسف ـ عليه السالم ـ ألن الغرض الذي يطلبه
ويتمناه كل واحد منهم في أن يرث زعامة األسرة ورئاستها من بعد أبيه أو أن
يكون له نصيب من ميراث النبوة من بعد يعقوب ـ عليه السالم ـ هذا الغرض
قد بدأ أنهم على وشك أن يفقدوه بسبب هذا الحب الكبير من يعقوب ليوسف ـ
عليهما السالم ـ ولذلك حسدوا أخاهم يوسف على شدَّة حب أبيه له خوفاً من
أن يورّثه أبوه يعقوب زعامة األسرة ورئاستها أو أن يؤثره بميزان النبوة
عنهم.2
60
1ـ من فيض نور اآلية الكريمة:
أ ـ الجريمة دائماً ال تفيد ،وإنما تؤدي إلى ردود عكسياً فبعد تنفيذ األخوة
لمؤامراتهم ضد أخيهم يوسف وضد أبيهم يعقوب لم يجدوا منه إال التولي
واإلعراض عنهم.
ب ـ الحسد البغيض يثير الحقد في النفس ويحجب نور الحق حتى يرتكب
صاحبه ما حرم اهلل.
ج ـ صالح الحال والمآل وسعادة الدارين ال يكون إال بالعمل الصالح وليس
بإرتكاب الجرائم.
س ـ طلب محبة الغير تكون بفعل ما يحب ال بفعل ما يضره ويحزنه ويبكيه.
ش ـ الحب الخالص هلل في القلب ال يحجبه بعد مكان وال طول زمان.
ك ـ التوبة في اإلسالم العظيم باب واسع من رحمة اهلل تعالى جعلها رب العزة
لمن يستحق قبولها.1
2ـ إخوة يوسف كانوا خاطئين:
اهلل عَلَينَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ" ( يوسف ،آية :
َاهلل لَقَد آ َث َركَ ُّ
قال تعالى ":قَالُوا ت ِّ
.)91
لما ذكر يوسف ـ عليه السالم ـ إلخوته أن اهلل تعالى من عليه ،وأن من يتقى
ويصبر فإن اهلل ال يضيعه صدقوه فيه واعترفوا له بالفضل والمزية فقالوا":2
تَاهللِّ لَقَد آ َث َركَ اهللُّ عَلَينَا" فقد اقسموا بين يديه معلنين ذلك ومعترفين بالخطأ
الذي ارتكبوه فـي حقه وفـي حـق أخيه وفـي حـق أبيه ـ عليه السالم ـ وبهذا
61
رجعوا إلى الحق وانقادوا له وندموا على ما فعلوا وتابوا وتمنوا لو يصفح
عنهم أخوهم يوسف ويعفو عنهم.1
2ـ العوامل التي ساهمت في توبه إخوة يوسف:
أ ـ العامل األول:
فأما العامل األول من عوامل التغيير والتطوير فهو فشلهم في تحقيق مآربهم
والوصول إلى غايتهم ،وهم قوم إنما يسعوا إلى ارتكاب جريمتهم من أجل
الحصول على قلب أبيهم ،ومن أجل أن يخلو لهم وجهه ،وإذ بهم بعد ارتكاب
جريمتهم ال يزدادون منه إال بعداً وال يزيد لهم إال مقتاً ومنهم إال نفوراً،
وكيف يحظون بقلبه الذي فجعوه بأعز عزيز وأحب حبيب؟ وهل أكافئ من
يطعن قلبي في العميم بأن أمنحه هذا القلب؟ إنه ألمر عجيب .المهم أن يعقوب
لم يزد من جهتهم إال وحشة وهانوا عليه أضعاف ما كانوا ومن هنا جاء
عتابه لهم رقيقًا مريراً قصيراً مفعماً مشحونا يظهر األلم من كل كلمة فيه.
جمِيلٌ وَاهللُّ المُستَعَانُ عَلَى مَا
سكُم أَمرًا فَصَبرٌ َ
قال تعالى":سَوَّلَت َلكُم أَنفُ ُ
تَصِفُونَ".
ونستغرب لم لم يطلب يعقوب منهم أن يحضروا ولده له ،وهو يعلم أنه لم يقتل
وهذا بعد ذاته دليل على يأسه من أبنائه وفقده األمل فيهم ونقص اليد من
جهتهم ولو علم فيهم خيراً لطلب منهم إحضاره من المكان الذي فيه تركوه.
وأما العامل الثاني:
وأما العامل الثاني فيمكن في عنصر الزمن ،وال ريب أن كر السنين على من
عنده خميرة من اإليمان ينضج في نفسه اإلحساس بااللم على خطيئته ،وال
يتصور من إخوة يوسف أبناء النبي وإحفاد النبي ومن يمتون البراهيم بأوثق
الصالت ومن تربوا في حجر من يتلقى تعليمات السماء ال نتصور إال أنهم
كانوا على شيء من اإليمان يمكن أن يستيقظ فيهم إذا مرت عليهم السنون،
1المصدر نفسه (.)1423 / 2
62
وأبوهم لم يتغير قيد شعرة ،فلم يسلُ يوسف ولم يخل قلبه منه ولم يتوجه
وجهه إليهم ،وعامل الزمن كذلك يذهب نزف الشباب وحدّته وطيشه ورعونته
وخفته وتفكيراته الهوجاء اللجوجة وحلوله الصبيانية ،ويعلي من النظرة إلى
األشياء ويصوب من الموازين ،ويعدل في كثير من األوضاع المقلوبة ،فمن
لم يكن منهم تزوج فقد تزوج وأنجب البنين وأحب صغيرهم أكثر من كبيرهم
تماماً كما كانوا يجدون من أبيهم ،كل هذا لعب دوره في تصفية كدورات
نفوسهم وقلوبهم وأذهب عنهم الحمية الفارغة.1
وأما العامل الثالث :يمكن فيما أصابهم من قحط وجدب فأهلك زرعهم وأذاب
شحمهم وأجاع ولدهم وابكى صبيانهم وأطلق أحزانهم وهمومهم ومن منطلق
إيمانهم يعلمون أن ما أصابهم من مصائب انما هو بما كسبت أيديهم وبما
صنعوا ألخيهم ،فال ريب يعود لهم الرشد المفقود والوعي الغائب.2
تأمل ما ال قوه من معاناة وقد فقد أبوهم بصره وهم يشعرون أنهم السبب في
ذلك واستمع إليهم يعودون من عند أبيهم إلى العزيز وهم يقولون ":يَا أ َُّيهَا
ف لَنَا الكَيلَ وَتَصَدَّق عَلَينَآ
عةٍ مُّزجَا ٍة َفأَو ِ
ال َعزِيزُ مَسَّنَا وَأَهلَنَا الضُّرُّ وَجِئنَا بِبِضَا َ
َدقِينَ"
إِنَّ اهللَّ يَجزِي المُتَص ِّ
إن الرجل الحر العزيز يقتله أن يقف في موقف استجداء الصدقة وهم
يطلبونها صراحة ال تعرضاً وال تلميحاً ،وعندما علم اهلل تعالى أن كبرياءهم
قد تطامن وأن غرورهم قد اكتسح ،وعندما علم أنهم لم يجدوا في قلوبهم ملجأ
إال اهلل تعالى أمر عبده يوسف بأن يزيل ما بينه وبينهم من حجب ويكشف لهم
السير.
قال تعالى ":قَا َل هَل عَلِمتُم مَّا َفعَلتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذ أَنتُم جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ
ِن
سفُ وَهَـذَا أَخِي قَد مَنَّ اهللُّ عَلَينَا إ َِّنهُ مَن يَتَّقِ وَيِصبِر َفإ َّ سفُ قَا َل أَنَا يُو ُ
ألََنتَ يُو ُ
ال يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ". اهللَّ َ
63
كل هذه المسيرة الطويلة من السنين والسلسلة المتصلة من االحداث ،والمعاناة
اآلخذ بعضها برقاب بعض والفشل المتالحق ،كل هذا عمل عمله في تطوير
شخصية إخوة يوسف إلى أن غدوا كواكب كما وصفهم القرآن وإلى أن
استحقوا أن يستغفر لهم يعقوب ربه ولو على وعد مع التسويف ":سَوفَ
أَستَغ ِفرُ َلكُم ر َِّبيَ".
وهكذا تألقت نفوس اإلخوة وصفت نحو أبيهم وأنفسهم وأخيهم يوسف وانتقلوا
من منتهى التكبر عليه إلى منتهى التواضع له.1
قال تعالى ":وَخَرُّوا لَ ُه سُجَّدًا َوقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأوِيلُ رُؤيَايَ مِن قَبلُ قَد جَعَلَهَا
رَبِّي حَقًّا َوقَد أَحسَنَ بَي إِذ أَخرَجَنِي مِنَ السِّجنِ وَجَاء ِبكُم مِّنَ البَدوِ مِن بَعدِ أَن
حكِيمُ".
نَّزغَ الشَّيطَانُ بَينِي وَبَينَ إِخوَتِي إِنَّ رَبِّي َلطِيفٌ ِّلمَا يَشَاء إ َِّنهُ هُوَ ال َعلِيمُ ال َ
ومن الفوائد من توبة اخوة يوسف عليه السالم:
ـ االعتراف بالحق واالقرار به فضيلة عظيمة من فضائل اإليمان.
ـ موقف الندم والحسرة والتأسف من اخوة يوسف على ما فعلوه.
ـ وال يحيق المكر السيء إال بأهله ،فهل من معتبر؟
ـ االعتراف بالذنب والخطأ سبيل الحظوة بالصفح والعفو.
ـ رجاء االخوة العظيم في أن يعفو أخوهم يوسف عما فعلوا.2
4ـ مصدر قوة يوسف عليه السالم:
نشأ يوسف عليه السالم على عبادة ربه وأنزعت جوانب قلبه بحبه ،ونطقت
جوارحه ولهج لسانه بذكره وشكره ،عشقت نفسه الزكية صفاة الكمال ،ودلت
مالمحه وأقواله وأعماله على أنه سيكون له شأن عظيم ،فحبب إليه الصبر
والحلم والعفة واألمانة ،والعلم والحكم والعدل ،والعفو واإلحسان ،وحسده
64
اخوته فألقوه في غيابة الجب وأخرجته السيارة فباعوه بيع العبيد ،وكادت له
امرأة العزيز فزج في ضيق السجن ،وصبر على أذى االخوة ،وكيد امرأة
العزيز ومكر النسوة ،على ما في الفاحشة من المفاسد ،وما في العدول عنها
من المصالح ،فآثر األعلى عن األدنى ،واختار عقوبة الدنيا بالسجن على
ارتكاب الحرام ،فكانت العاقبة أن نجاه اهلل تعالى منهم ،ورفعه فوق اخوته
وأذل له العزيز وامرأته ،وأقرت المرأة والنسوة ببراءته ،ومكن له تعالى في
األرض وجعل له العاقبة والنصر والملك والحكم ،والعاقبة للمتقين ،وال
عدوان إال على الظالمين.1
ِمةً
قال تعالى " :وَ ُنرِيدُ أَن َّنمُنَّ عَلَى الَّذِينَ استُضعِفُوا فِي األَرضِ وَنَجعََلهُم أَئ َّ
وَنَجعََلهُمُ الوَارِثِينَ" (القصص ،آية .)5 :
وقال تعالىَ " :وكَذَِلكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي األَرضِ يَتَبَوَّأُ مِنهَا حَيثُ يَشَاء نُصِيبُ
خرَ ِة خَي ٌر لِّلَّذِينَ
ِبرَحمَتِنَا مَن نَّشَاء وَالَ نُضِيعُ أَج َر المُحسِنِينَ {} 56وَألََجرُ اآل ِ
آمَنُوا َوكَانُوا يَتَّقُونَ" (يوسف ،آية 56 :ـ .)57
5ـ عفو وصفح ودعاء بالمغفرة:
ال تَثرَيبَ عَلَيكُمُ اليَومَ يَغفِرُ اهللُّ لَكُم وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ" (يوسف
قال تعالىَ " :
،آية .)92 :
ولما احترفوا بتفضيل اهلل عليهم وأقروا بخطئهم وقدم لهم المعذرة ،أجابهم ـ
ال تَثرَيبَ عَلَيكُمُ اليَومَ" أنه ـ عليه السالم ـ مع
عليه السالم ـ بالصفح ،وقالَ " :
قدرته وتمكنه مع ما سلف من اساءتهم ،لم يقل لهم إال قول الكرام ،اقتداء
ال تَثرَيبَ" أي :ال لوم وال تعنيف وال هالك، باخوانه من األنبياء والرسل " َ
"عَلَيكُمُ اليَومَ" وإن كان هذا الوقت مظنة للوم والتأنيب ،فإذا انتفى ذلك فما
الظن بما بعده.2
65
إن احساس االخوة العميق بعظم الذنب ،جعلهم يقفون عند حد االعتراف ،وال
يتعدونه إلى طلب العفو ،وربما كانوا مهيئين هذا الطلب لعرضه في اللحظة
المناسبة أثناء الحديث الذي اعتقدوا أنه سيطول مع أخيهم ،ولكن يوسف عليه
السالم وفر عليهم مشقة هذا الطلب ،ولم يحوجهم للخوض في المسألة التي ال
تخص سواه ألكثر من االعتراف الذي أدلوا به بمحض إرادتهم ،إنه ـ عليه
السالم ـ يتنازل عن كل حق له ويأبى خلقه الكريم في ذلك اليوم الذي قدر فيه
فعفا ،حتى عن مجرد توجيه اللوم إلى الذين ألقوه في غيابة الجب ،إن اليوم
في نظره ـ عليه السالم ـ أولى أن تبدأ به صفحة جديدة ،من الصفا والمودة،
وبمجرد توجيه اللوم ،وعودة إلى الماضي البعيد ،وهذا يتعارض مع الصفحة
البيضاء النقية التي يريد أن يبدأ بها هذا اليوم .لقد مرت تلك األيام المتعبة
بخيرها وشرها ،فيجب أن نسدل الستار على حلوها ومرها ،ولم يبق إال أن
نطرد أشباحها المروعة عن مسرح الخيال ونتحاشى المطالعة في ذلك التاريخ
المظلم ،لكأنه ـ عليه السالم ـ يقول لهم ما قاله الشاعر:
يا من عدى ثم اعتدى ثم اغترف
ثم انتهى ثم أرعوى ثم اعترف
أبشر بقول اهلل في آياته
إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
فحيث حملوا شهادة التوبة بأيديهم وأقروا بخطئهم وذنبهم وشفيع المذنب
إقراره ،فال تثريب عليهم اليوم ،اإلنسان يصيب ويخطئ ،ويسرع ويبطئ،
فتقبل يوسف ـ عليه السالم ـ االعتذار ،وآثر العفو عن اخوته ،والعدول عن
االنتقام إلى العفو والغفران عن فضيلة عالية ،وهو خلق األنبياء ـ عليهم
السالم ـ جميعاً وخلق المؤمنين.1
66
إن يوسف عليه السالم ،قد طوى سريعاً هذه الصفحة السوداء مما كان بينه
وبين اخوته ،ويغطي على آثارها بالصفح الجميل.
إنه ال بد أن نعرف أن العفو مقصور على الذين يستحقونه ،فانه بالنسبة لمن
عفا أبلغ وأنفع من أية وسيلة أخرى ،وإن هناك نفوساً أخرى ال يجدى معها
إال استئصال الشأفة.1
ونكتفي في هذه المناسبة بذكر حادثة واحدة في سيرة المصطفى صلى اهلل
عليه وسلم بعد ما جرى للمسلمين في غزوة (أحد) ما جرى ،وبلغه صلى اهلل
عليه وسلم أن أبا سفيان يريد أن يغير على المدينة مرة أخرى الستئصال
البقية الباقية من المسلمين ،خرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى القوم،
حتى انتهى إلى حمراء األسد ،وهي من المدينة على ثمانية أميال ،وأخذ
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في جهة ذلك أبا عزة الجمحي ،وكان رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد أسره ببدر ،ثم منَّ عليه فقال :يا رسول اهلل أقلني،
فقال صلى اهلل عليه وسلم" :واهلل ال تمسح عارضيك بمكة بعدها ،وتقول
خدعت محمد مرتين ،اضرب عنقه يا زبير" ،فضرب عنقه ،قال ابن هشام:
وبلغني عن سعيد بن المسيب أنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
"إن المؤمن ال يلدغ من جحر مرتين" ،اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت"،
فضرب عنقه.2
وهذا ما أخذ به القانون الدولي في الحروب ،فاألسير الذي أسر في الحرب
وفك أسره ،إذا عاد إلى القتال مرة أخرى ،وأسر يقتل.
ولما أعفاهم ـ عليه السالم ـ من التثريب كانوا في مظنة السؤال عن كمال
العفو المزيل للعقاب من اهلل تعالى ،فأتبعه الجواب عن ذلك بالدعاء لهم ،فقال:
حمِينَ" ،أي :إذا رحمتكم أنا وعفوت عنكم ،فهو
"يَغفِ ُر اهللُّ َلكُم وَهُوَ أَرحَمُ الرَّا ِ
يغفر لكم باألولى ،فأنه أرحم مني ،ألنه أرحم الراحمين كلهم ،وهو يغفر
الصغائر والكبائر ،ويتفضل على التائب.
1الشأفة :األصل.
2السيرة النبوية ( )110 / 3البن هشام.
67
لقد سمح لهم ـ عليه السالم ـ سماحاً تاماً من غير تعبير لهم على ذكر الذنب
السابق ،ودعا لهم بالمغفرة ،وهذا نهاية االحسان الذي ال يتأتى إال من
خواص.1
وما أنسب ما وقع من يوسف بالمراتب الثالثة المذكورة في قوله تعالى:
ن الغَيظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاهللُّ يُحِبُّ المُحسِنِينَ" (آل عمران ،آية
ظمِي َ
"وَالكَا ِ
.)134 :
فيوسف عليه السالم كظم غيظه بقوله" :الَ تَثرَيبَ عَلَيكُمُ اليَومَ".
اهلل َلكُم" ،ثم أحسن إليهم بقوله بعد ذلك مباشرة
ثم عفا عنهم بقوله" :يَغفِ ُر ُّ
"وَأتُونِي ِبأَهِلكُم أَج َمعِينَ".
6ـ من فيض نور اآلية الكريمة:
ـ كان يوسف ـ عليه السالم ـ مثالً رائعًا في العفو الصفح ،فقد عفا عنهم
وصفح الصفح الجميل ثم دعا لهم بالمغفرة والرحمة من اهلل الرحمن الرحيم.
ـ العفو مع القدرة يورث العزة والرفعة.
ـ إن يوم تصفية النفوس والبغضاء والشحناء ،والعودة بها إلى نور الصفاء
واالخاء والمحبة هو يوم عيد عظيم.
ـ على كل مسلم أن يتأسى باخالق االنبياء في العفو و الصفح والمغفرة ،فهذا
هو خلق القرآن الكريم وخلق سيد المرسلين محمد صلى اهلل عليه وسلم.
ـ تمثل الرسول صلى اهلل عليه وسلم لما فتح باخيه يوسف عليه السالم فعفا
عن أهل مكة العفو العظيم وهم الذين آذوه وقاتلوه وأخرجوه من مكة ،وكان
ذلك العفو سبباً في دخول الناس في دين اهلل أفواجا.
68
السابع عشر :فتح مكة والعفو الشامل:
كان القرشيون قد حاربوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بضراوة ال مثيل لها
استمرت عقدين من العداء المستحكم توجه قريش إلى اإلسالم كرسالة وإلى
النبي صلى اهلل عليه وسلم كإنسان مرسل ،وإلى المسلمين كجماعة مؤمنة
وتنوعت مظاهر العداء ومست كل ما يتعلق باألسالم فكان العداء منصباً على
مبادئ اإلسالم والرسول الكريم ،وأصحابه من المسلمين ونعرض هنا أمثلة
ترسم صورة لهذا العداء؟
أوَلا :العداء المبادئ اإلسالم ،كان عداء قريش الدعوة الجديدة التي أرسل بها
النبي الكريم صلى اهلل عليه وسلم واضحاً ومستعراً من وجوه ذلك:
ـ اعتراضهم على مبدأ الوحدانية:
لم يكن كفار مكة ينكرون بأن اهلل خلقهم وخلق كل شئ ،قال تعالى " :وَلَئِن
ال
اهللَّ قُلِ الحَم ُد هللَِّ بَل أَك َثرُهُم َ
السمَاوَاتِ وَاألَرضَ لَيَقُولُنَّ ُ
ق َّسأَل َتهُم مَّن خَلَ َ
َ
يَعَلمُونَ" (لقمان ،آية .)25 :
هلل
لكنهم كانوا يعبدون االصنام ويزعمون أنها تقربهم إلى اهلل قال تعالى" :أَالَ َِّ
اهلل
الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُو ِنهِ أَولِيَاء مَا نَعبُدُهُم إِالَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى َِّ
ال يَهدِي مَن هُوَ كَاذِبٌ زُلفَى إِنَّ اهللََّ يَحكُمُ بَينَهُم فِي مَا هُم فِيهِ يَختَلِفُونَ إِنَّ اهللََّ َ
كَفَّا ٌر" (الزمر ،آية ٍ.)3 :
ـ كفرهم باآلخرة:
أما دعوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم إلى اإليمان باليوم اآلخر ،فقد قابلها
المشركون بالسخرية والتكذيب ،قال تعالىَ ":وقَالَ الَّذِينَ كَ َفرُوا هَل نَدُُّلكُم عَلَى
اهلل كَذِبًا أَم
ق جَدِيدٍ * أَف َترَى عَلَى َِّ ق إ َِّنكُم لَفِي خَل ٍ
رَجُلٍ يُنَبِّ ُئكُم إِذَا مُزِّقتُم كُلَّ ُممَزَّ ٍ
ال يُؤمِنُونَ بِاآلخِرَةِ فِي العَذَابِ وَالضَّالَلِ البَعِيدِ" (سبأ ،آية 7 : ِبهِ جِنَّ ٌة بَلِ الَّذِينَ َ
ـ .)8
ـ اعتراضهم على الرسول صلى اهلل عليه وسلم:
69
اعترضوا على شخص الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،فقد كانوا يتصوّرون:
أن ال يكون بشراً مثلهم ،وأنه ينبغي أن يكون ملكاً أو مصحوباً بالمالئكة وقال
اهلل بَشَرًا
تعالىَ " :ومَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤمِنُوا إِذ جَاء ُهمُ الهُدَى إِالَّ أَن قَالُوا أَ َبعَثَ ُّ
رَّسُوالً"(اإلسراء ،آية .)94 :
ضيَ األمرُ ثُمَّ الَ
ك وَلَو أَنزَلنَا مََلكًا لَّقُ ِ
وقال تعالى َ " :وقَالُوا لَوال أُنزِلَ عَلَيهِ مَلَ ٌ
ال وَلَلَبَسنَا عَلَيهِم مَّا يَلبِسُونَ" (األنعام ،جعَلنَا ُه رَجُ ً
جعَلنَاهُ مََلكًا لَّ َ
ظرُونَ * َولَو َ
يُن َ
آية .)9 ، 8 :
4ـ موقعهم من القرآن الكريم :كذلك لم يصدقوا أن القرآن الكريم منزل من
عند اهلل ،واعتبروه ضرباً من الشَّعر ،الذي كان ينظمه الشعراء ،مع أن كل
من قارن بين القرآن ،وأشعار العرب يعلم أنه مختلف عنها قال تعالىَ " :ومَا
عَلَّمنَاهُ الشِّعرَ َومَا يَنبَغِي َلهُ إِن هُوَ إِالَّ ذِكرٌ َوقُرآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا
وَيَحِقَّ القَولُ عَلَى الكَا ِفرِينَ" (يس ،آية 69 :ـ .)70
70
إلى هذا المرائي؟ أيكم يقوم إلى جزور آل فالن فيعمد إلى فرثها ،ودمها،
وسالها فيجيء به ،ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ وثبت النبي
صلى اهلل عليه وسلم ساجداً ،فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من
الضحك ،فانطلق منطلق إلى فاطمة عليها السالم ـ وهي جويرية ـ فأقبلت
تسعى ،وثبت النبي صلى اهلل عليه وسلم ساجداً حتى ألقته عنه ،وأقبلت عليهم
تسبهم ،فلمَّا قضى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الصالة ،اللهم عليك
بقريش ،اللهم عليك بقريش ،ثم سمَّى اللهم عليك بعمرو بن هشام ،وعتبة بن
ربيعة ،وشيبة بن ربيعة ،والوليد بن عتبة ،وأمية بن خلف ،وعقبة بن أبي
معيط ،قال ابن مسعود :فواهلل لقد رأيتهم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى
القَلِيب 1ـ قليب بدر ـ ثم قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :وأتبع أصحاب
القليب 2لعنة ،وقد بينت الروايات الصحيحة األخرى :أن الذي رمى الروث
عليه هو عقبة بن أبي معيط وأن الذي حرَّضه هو أبو جهل ،3وأن المشركين
تأثَّروا بدعوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم وشق عليهم األمر ،ألنهم يرون أن
الدعوة بمكة مستجابة.4
ـ إجتماع المأل من قريش وضربهم الرسول صلى اهلل عليه وسلم :اجتمع
إشراف قريش يوماً في الحجر فذكروا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقالوا
ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط ،سفه أحالمنا ،وسب
آلهتنا ،لقد صرنا منه على أمر عظيم ،فبينما هم في ذلك ،إذ طلع عليهم رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم فوثبوا وثبة رجل واحد ،وأحاطوا به يقولون :أنت
الذي تقول كذا وكذا ـ لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم ـ فيقول ـ نعم ،أنا
الذي أقول ذلك ،ثمَّ أخذ رجل منهم بمجمع ردائه ،فقام أبو بكر رضي اهلل عنه
دونه ،وهو يبكي ويقول :أتقتلون رجالً أن يقول ربي اهلل.5
71
هذا بعض ما القاه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أذيَّة المشركين ،وقد
ختم المشركون أذاهم لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بمحاولة قتله في أواخر
المرحلة المكية وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يذكر ما القاه من أذى
قريش قبل أن ينال األذى من أحد من أتباعه ،يقول" :لقد أُخِفت في اهلل عز
وجل وما يخاف أحد ،ولقد أوذيت في اهلل وما يؤذي أحد ،ولقد أتت عليَّ
ثالثون من بين يوم وليلة ،وما لي وال لبالل طعام يأكله ذو كبد إال شيء
يواريه ،ومع ماله صلى اهلل عليه وسلم من عظيم القدر ،ومنتهى الشرف إال
أنه قد حظي من البالء بالحمل الثقيل ،والعناء الطويل منذ أول يوم صدع فيه
بالدعوة ،ولقي النبي صلى اهلل عليه وسلم من سفهاء قريش أذى كثيراً ،فكان
إذا مرَّ على مجالسهم بمكة استهزؤوا به ،وقالوا ساخرين :هذا ابن أبي
كبشة ،1يكلم من السماء ،وكان أحدهم يمرُّ على رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم فيقول له ساخراً :أما كُلِّمت اليوم من السَّماء؟2
ولم يقتصر األمر على مجرَّد السخرية ،واالستهزاء ،واإليذاء النفسي ،بل
عدو اهلل أمية بن
تعدَّاه إلى اإليذاء البدني ،بل قد وصل األمر إلى أن يبصق َّ
خلف في وجه النبي صلى اهلل عليه وسلم.3
وحتى بعد هجرته ـ عليه السالم ـ إلى المدينة ،لم تتوقف حدَّة االبتالء،
واألذى ،بل أخذت خطاً جديداً ،بظهور أعداء جدد ،فبعد أن كانت العداوة تكاد
تكون مقصورة على قريش بمكة صار له صلى اهلل عليه وسلم أعداء من
المنافقين المجاورين بالمدينة ،ومن اليهود ،والفرس والروم ،وأحالفهم ،وبعد
أن كان األذى بمكة شتماً وسخرية ،وحصاراً ،وضرباً ،صار مواجهة
عسكرية مسلحة ،حامية الوطيس ،فيها فر وكر وضرب ،وطعن ،فكان ذلك
بالء في األموال واألنفس على السَّواء.4
72
وهكذا كانت فترة رسالته صلى اهلل عليه وسلم وحياته ،سلسلة متصلة من
المحن واالبتالء ،فما وهن لما أصابه في سبيل اهلل ،بل صبر ،واحتسب حتى
لقي ربه ،1لقد واجه الرسول صلى اهلل عليه وسلم من الفتن واألذى ،والمحن
ما ال يخطر على بال ،في مواقف متعددة ،وكان ذلك على قدر الرسالة التي
حُمِّلها ،ولذلك استحق المقام المحمود والمنزلة الرفيعة عند ربه ،وقد صبر
على ما أصابه ،إشفاقاً على قومه أن يصيبهم مثل ما أصاب األمم الماضية
من العذاب ،وليكون قدوة للدعاة والمصلحين ،2فإذا كان االعتداء األثيم قد نال
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فلم يعد هناك أحد أكبر من االبتالء والمحنة،
وتلك سنة اهلل في الدّعوات ،فعن أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه قلت :يا
رسول اهلل ،أي الناس أشدُّ بالء؟ قال :األنبياء ،ثم األمثل فاألمثل ،يُبتلى الرجل
على حسب دينه ،فإن كان دينه صلباً ،اشتد بالؤه ،وإن كان دينه رقة ابتلى
حسب دينه ،فما يبرح البالء بالعبد حتى يتركه يمشي على األرض وما عليه
خطيئة.3
73
قالت لقائدهم ،يا نوفل ،إنا قد دخلنا حرم إلهك ،فقال نوفل :ال إله اليوم ،يا بني
بكر أصيبوا ثأركم عندئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي ،في أربعين من
خزاعة ،حتى قدموا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في المدينة وأخبروه
بما كان من بني بكر ،وبمن أصيب منهم وبمناصرة قريش بني بكر عليهم،
ووقف عمرو بن سالم على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو جالس في
المسجد بين ظهراني الناس ،وإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعد أن سمع
وتأكد من الخبر أرسل إلى قريش فقال لهم :أما بعد ،فإنكم إن تبرؤوا من حلف
بني بكر ،أتُدوا 1خزاعة ،وإال أوذنكم بحرب ،فقال قرظة بن عبد عمرو بن
نوفل بن عبد مناف صهر معاوية :إن بني بكر قوم مشائيم ،فال ندري ما قتلوا
لنا سيد وال لبد ،2وال نبرأ من حلفهم ،فلم يبق على ديننا أحد غيرهم ولكن
نؤذنه بحرب.3
وبهذا الكتاب أكد النبي صلى اهلل عليه وسلم عدم الغدر بقريش ،بل أبلغهم
بموقفه بوضوح تام كان أبو سفيان ممن خالفوا رأي قريش في خيار حرب
المسلمين ،ولذا حاول بقدومه المدينة أن يعيد للصلح مكانه ويطيل أمده ،إال
أنه لم يجد استجابة للمسلمين.
1ـ ميزان القوى يرجح كفة المسلمين:
أ ـ اقتصادياا :إن قريش لم تكن مستعدة للحرب ال على المستوى االقتصادي
حيث لم يعادل اقتصادها اقتصاد دولة المسلمين التي اتسعت رقعتها بإسالم
أغلب القبائل العربية األمر الذي زاد من موارد الدولة.
ب ـ سياسياا :لم تكن قريش سياسياً في حالة تسمح لها بمواجهة الوحدة
السياسية للمسلمين بعد أن تخلصوا من يهود المدينة بعد محاولتهم الغدر
واغتيال النبي الكريم ،في المقابل كانت قريش منقسمة في مواقفها تجاه
المسلمين ،فأبوا سفيان والعديد معه لم يكونوا مع خيار الحرب.
74
ج ـ عسكرياا :كما أن الميزان العسكري لم يكن كذلك متساوياً ،فالمسلمين
أعدوا بسهولة جيشاً من عشرة اآلف مقاتل ولم يكن لقريش ثلث هذا العدد
وهكذا كانت كل الظروف لصالح المسلمين وكان من الممكن أن يقضوا على
قريش دون أي مقاومة تذكر.
ومع هذا تجاوز سلوك النبي الكريم والمسلمين كل ما يمكن أن يتوقعه
اإلنسان ،فالعفو أمام هذا التراكم من اإليذاء والنكران البد أن يصدر عن
صاحب رسالة تعلو باإلنسان فوق نفسه وحظوظها ألجل غاية تستحق هذا
الترفع الممدوح.
2ـ بوادر العفو والغفران:
خرج أبو سفيان بن الحارث ،وعبد اهلل بن أمية بن المغيرة من مكة ،فلقيا
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بثنية العقاب فيما بين مكة والمدينة ،فالتمسا
الدخول عليه ،فكلمته أم سلمة ،فقالت :يا رسول اهلل ،ابن عمك وابن عمتك
وصهرك ،فقال :ال حاجة لي فيهما ،أما ابن عمي فهتك عرضي ،وأما ابن
عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال فلما خرج الخبر إليهما بذلك،
ومع أبي سفيان بن الحارث ابن له ،فقال واهلل ليأذنن رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم أو ألخذن بيد ابني هذا ثم لتذهبن في االرض حتى نموت عطشا ،أو
جوعاً فلما بلغ ذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رق لهما ،فدخل عليه،
فأنشده أبو سفيان قوله في إسالمه واعتذاره مما كان مضى فيه وجاء في
األبيات:
هداني هاد غير نفسي ودلني
على اهلل من طرّدت كل مطرّد
75
فلما أنشد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :على اهلل من طردت كل مطرّد،
ضرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في صدره ،فقال :أنت طرّدتني كل
مطرّد.1
كان أبو سفيان بن الحارث يهجو بشعره رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
كثيراً ،وأما عبد اهلل بن أمية ،فقد قال لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :فواهلل
ال أؤمن بك حتى تتخذ إلى السماء سلماً ،ثم ترتقي فيه ،وأنا أنظر إليك حتى
تأتيها ،ثم تأتي بصك معه أربعة من المالئكة يشهدون لك ،كما تقول ،ثم وايم
اهلل ،لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك.2
ومع فداحة جرمهما فإن النبي صلى اهلل عليه وسلم عفا عنهما ،وقبل عذرهما،
وهذا مثال عال في الرحمة والعفو ،والتسامح ،ولقد كفرّ أبو سفيان بن
الحارث عن أشعاره السابقة بالقصيدة البليغة التي قالها في مدح النبي صلى
اهلل عليه وسلم وبيان اهتدائه به ،ولقد حسن إسالمه ،وكان له موقف مشرف
في الجهاد مع رسول اهلل في معركة حنين.3
إن النبي صلى اهلل عليه وسلم لم يقف عند فداحة جرمهم بل عفا عنهما وقبل
عذرهما ،ولم يتعلل بعظم االساءة سواء لشخصه صلى اهلل عليه وسلم أو
لإلسالم والمسلمين بل تجاوز ذلك بأن صفح عنهما صفحاً جميالً ،وكان له
أثراً ايجابياً بعد أن انتشر خبر العفو بين أهل مكة.
3ـ العفو يتواصل مع سيد قريش:
جاء أبو سفيان الذي خرج يلتقط األخبار ،إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم
صحبة عمه العباس رضي اهلل عنه فلم ينشغل النبي صلى اهلل عليه وسلم في
محاسبة أبي سفيان ولم يصرف في مقاضاته وهو كاألسير داخل معسكر
المسلمين ،بل توجه ليحدثه عن هدف سام عاش النبي صلى اهلل عليه وسلم
ألجله هو الدعوة إلى اهلل فوجه كالمه ألبي سفيان :ويحك يا أبا سفيان ،ألم
1السيرة النبوية البن هشام ( 43 /4ـ .)44
2المصدر نفسه ( 295 / 1ـ ،)300السيرة للصالبي (.)398 / 2
3التاريخ اإلسالمي للحميدي ()182 / 7
76
يأت لك أن تعلم أنه ال إله إال اهلل ،قال :بأبي أنت وأمي ،ما أحلمك وأكرمك
وأوصلك .واهلل لقد ظننت أن لو كان مع اهلل إله غيره لقد اغنى عني بعد قال:
ويحك يا أبا سفيان ،ألم يأن لك تعلم أني رسول اهلل؟ قال :بأبي أنت وأمي ما
أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه واهلل في النفس منها حتى اآلن شيئاً ،فقال له
العباس :ويحك أسلم قبل أن تضرب عنقك ،قال :فشهد شهادة الحق فأسلم قال
العباس :قلت يا رسول اهلل إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فأجعل له شيئاً ،قال:
نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ،ومن أغلق بابه فهو آمن ،ومن دخل
المسجد فهو آمن.1
لقد كان لتلك الطريقة المحمدية أثرها في أبي سفيان الذي تغير إلى الوالء
الكامل للدعوة الجديدة وكانت له موقف كبيرة في الجهاد مع رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم في معركة حنين ،كما كان هذا األسلوب النبوي الكريم عامالً
في امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان زعيم قريش وبرهن له بأن المكانة
التي كانت عند قومه لن تنتقص شيئاً في اإلسالم ،إن هو أخلص له وبذل في
سبيله.
ونحن إذ نعيش ظروفاً في وطننا فإننا ندعو أبناء هذا الوطن إلى التفاوض،
طبعاً بعد التعويض الكامل لكل من مسه األذى ولقيه العنت ووقع عليه الظلم،
وإقامة العدل والقسط على القتلة ومن تورط في االغتصاب ،لنمضي تجاه
المستقبل فليس فينا من هو خير من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الذي قابل
عظيم الجرم واإلساءة بعظيم الرحمة والعفو والتسامح ،لقد فعل هذا مع قوم
إلى جانب اإليذاء واالساءة الكبيرة ،فإنهم لم يكونوا مسلمين وأما نحن وقومنا
فاإلسالم يجمعنا في منطقة وسط نلتقي فيها للتصالح.
4ـ تأمين األجواء للعفو العام:
77
لقد أعلن في مكة قبيل دخول جيش المسلمين أسلوب منع التجوال ،لكي
يتمكنوا من دخول مكة بأقل قدر من االشتباكات واالستفزازات ،وإراقة الدماء
واعطى الناس أماناً بالتزام أحد ثالث
ـ من دخل المسجد فهو آمن.
ـ ومن أغلق بابه فهو آمن.
ـ ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
وجعل صلى اهلل عليه وسلم لدار أبي سفيان مكانة خاصة كي يكون أبو سفيان
ساعده في اقناع المكيين بالسلم والهدوء ،ويستخدمه كمفتاح أمان يفتتح أمامه
الطريق إلى مكة دون إراقة دماء ،ويشيع في نفسه عاطفة الفخر التي يحبها
أبو سفيان حتى يتمكن اإليمان في قلبه.1
لقد دخل أبو سفيان إلى مكة مسرعاً ،ونادى بأعلى صوته :يا معشر قريش
هذا محمد جاءكم فيما ال قبل لكم به ،فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن،
حمِيث الدِّسم
فقامت إليه هند بنت عتبة ،فأخذت بشاربه ،فقالت :أقتلوا ال َ
االحمسَ ـ تشبّهه بالزق لسمنه ـ قُبّح من طليعة قوم ،قال :ويلكم ،ال تغرنكم
هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما ال قبل لكم به ،فمن دخل دار أبي سفيان فهو
آمن ،قالوا :قاتلك اهلل وما تغني عنا دارك؟ قال :ومن أغلق عليه بابه فهو آمن،
ومن دخل المسجد فهو آمن ،وتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.2
ولقد دخلت قوات المسلمين مكة دون مقاومة تذكر إال ما كان من جهة خالد
بن الوليد الذي قابل عكرمة بن أبي جهل في نفر ممن خافوا االنتقام ،فهزمهم
خالد فهربوا خارج مكة ،ثم عاد عكرمة ليأخذ أماناً وعفواً من رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ويسلم ويشارك في الجهاد في فتوحات الشام ويقتل في
اليرموك شهيداً.
78
5ـ دخول خاشع متواضع:
دخل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير
إحرام وهو واضع رأسه تواضعاً هلل ،حين رأى ما أكرمه اهلل به من الفتح،
حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرجل ودخل وهو يقرأ سورة الفتح مستشعراً
نعمة الفتح وغفران الذنوب وإفاضة النصر العزيز.1
وعندما دخل مكة فاتحاً ـ وهي قلب جزيرة العرب ومركزها الروحي
والسياسي ،رفع كل شعار من شعائر العدل والمساواة والتواضع والخضوع،
فأردف أسامة بن زيد وهو ابن مولى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ولم
يردف أحداً من أبناء بني هاشم ،وأبناء أشراف قريش ،وهم كثير وكان ذلك
يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان سنة ثمان من الهجرة.2
يقول محمد الغزالي في وصف دخول النبي صلى اهلل عليه وسلم لمكة:
على حين كان الجيش الزاحف يتقدم ،ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على
ناقته تتوج هامته عمامة سوداء ،ورأسه خفيض من شدة التخشع هلل ،لقد انحنى
على رحله ،وبدأ عليه التواضع الجم ،إن الموكب الضخم المهيب الذي ينساب
به حثيثاً إلى جوف الحرم ،والفيلق الدّارع الذي يحفُّ به ينتظر إشارة منه فال
يبقى بمكة شيء آمن ،إن هذا الفتح المبين ليذكره بماض طويل منصوراً مؤيداً
وأي كرامة عظمى حقه اهلل بها هذا الصباح الميمون ،وكلما استشعر هذه
النعماء ازداد هلل على راحلته خشوعاً وانحناء.3
6ـ هذا يوم يعظم اهلل فيه الكعبة:
حرص النبي صلى اهلل عليه وسلم على تأمين الجبهة الداخلية في مكة عند
دخوله يوم الفتح ،ولذلك عندما بلغه مقولة سعد بن عبادة ألبي سفيان :اليوم
79
يوم الملحمة ،اليوم تستحل الكعبة ،قال صلى اهلل عليه وسلم :هذا يوم يُعظم اهلل
فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة.1
وأخذ الراية من سعد بن عبادة ،وسلمها ألبنه قيس بن سعد ،وبهذا التصرف
الحكيم حال دون أي احتمال لمعركة جانبية هم في غنى عنها ،وفي نفس
الوقت لم يُثره وال آثار االنصار ،فهو لم يأخذ الراية من انصاري ويسلمها
لمهاجر ،بل أخذها من أنصاري وسلمها البنه ،ومن طبيعة البشر أال يرضى
اإلنسان بأن يكون أحد أفضل منه إال ابنه.2
ولما نزل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بمكة ،واطمأن خرج حتى جاء
البيت ،فطاف به ،وفي يده قوس ،وحول البيت وعليه ثالثمائة وستون صنماً،
ن
َق َوزَ َهقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَا َ
فجعل يطعنها بالقوس ويقول َ ":وقُل جَاء الح ُّ
َق َومَا يُبدِئُ البَاطِلُ
زَهُوقًا" (اإلسراء ،آية .)81 :وقال تعالى ":قُل جَاء الح ُّ
َومَا ُيعِيدُ" (سبأ ،آية .)49 :
واألصنام تتساقط على وجوهها ،3وإنه لمنظر رائع لنصر اهلل ،وعظيم تأييده
لرسوله صلى اهلل عليه وسلم ،إذ كان يطعن تلك اآللهة الزائفة المنثورة حول
الكعبة بعصا معه ،فما يكاد يطعن الواحد منها بعصاه حتى ينكفئ على وجهه،
أو ينقلب على ظهره جذاذ ، 4ورأى في الكعبة الصور ،والتماثيل ،فأمر
بالصور وبالتماثيل فكسرت ،5وأبى أن يدخل جوف الكعبة حتى أخرجت
الصور ،وكان فيها صورة يزعمون أنها صورة إبراهيم وإسماعيل وفي
أيديهما من االزالم ،فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم :قاتلهم اهلل ،لقد علموا ما
استقسما بها قط .6ثم دخل البيت وكبّر في نواحيه ثم صلى ،فقد روى ابن
عمر :أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة وبالل
وعثمان بن طلحة ،فأغلقها عليه ،ثم مكث فيها ،قال ابن عمر :فسألت بالالً
1البخاري رقم .4280
2السيرة النبوية للصالبي (.)406 / 2
3السيرة النبوية للندوي صـ .339
4فقه السيرة للسيوطي صـ .282
5السيرة النبوية للندوي صـ .329
6البخاري رقم .4288
80
حين خرج :ما صنع رسول اهلل؟ قال :جعل عمودين عن يساره ،وعموداً عن
يمينه ،وثالثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى.1
7ـ يوم بر ووفاء:
كان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة قبل أن يسلم فأراد علي رضي اهلل عنه
أن يكون المفتاح له مع السقاية لكن النبي صلى اهلل عليه وسلم دفعه إلى
عثمان بعد أن خرج من الكعبة ،ورده إليه قائالً :اليوم يوم بر ووفاء ،2وكان
صلى اهلل عليه وسلم قد طلب من عثمان بن طلحة المفتاح قبل أن يهاجر إلى
المدينة ،فأغلظ له القول ،ونال منه ،فحلم عنه ،وقال :يا عثمان ،لعلك ترى
هذا المفتاح يوماً بيدي ،أضعه حيث شئت .فقال :لقد هلكت قريش يومئذ،
وذلّت ،فقال :بل عمرت وعزت يومئذ ووقعت كلمته من عثمان بن طلحة
موقعاً ،وظن أن األمر سيصير إلى ما قال ،3ولقد أعطى له رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم مفاتيح الكعبة قائالً له :هاك مفتاحك يا عثمان ،اليوم يوم بر
ووفاء ،4خذوها خالدة تالدة ،ال ينزعها منكم إال ظالم.5
وهكذا لم يشأ النبي صلى اهلل عليه وسلم أن يستبد بمفتاح الكعبة ،بل لم يشأ أن
يضعه في أحد من بني هاشم ،لما في ذلك من اإلثارة أوالً ،ولما به من
مظاهر السيطرة ،وبسيط النفوذ ،وليست هذه من مهام النبوة بإطالق هذا هو
مفهوم الفتح األعظم في شرعة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم البر والوفاء
حتى للذين غدروا ،ومكروا وتطاولوا.
إذاً لن يعيبنا اليوم أن نلتزم هذا النهج الكريم وأن نبثه بيننا نحن أبناء الوطن
الواحد ،مهما تعاظمت االختالفات ،ومهما توالت االساءات والمظالم ،فالعفو
والصفح والتغافر هو األفضل للمتخاصمين ،وللوطن ولالجيال القادمة وهذا
بالطبع ما سطره لنا التاريخ في فتح مكة.
81
إن االقتداء بهذه الخبرة التاريخية شرف لنا قبل أن تكون حالً ناجحاً لمشاكلنا
واختالفاتنا.
8ـ إعًلن العفو العام:
نال أهل مكة عفواً عاماً برغم أنواع األذى التي ألحقوها بالرسول صلى اهلل
عليه وسلم ودعوته ،ورغم قدرة الجيش اإلسالمي على إبادتهم ،وقد جاء
إعالن العفو عنهم ،وهم مجتمعون قرب الكعبة ،ينتظرون حكم الرسول صلى
اهلل عليه وسلم فيهم ،فقال :ما تظنون أني فاعل بكم ،فقالوا :خيراً ،أخ كريم
وابن أخ كريم ،فقال ":الَ تَثرَيبَ عَلَيكُمُ اليَومَ يَغ ِفرُ اهللُّ َلكُم" :1أذهبوا فأنتم
الطلقاء.
وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ األنفس من القتال أو السبي ،وإيفاء
األموال المنقولة ،واألراضي بيد أصحابها ،وعدم فرض الخراج عليها.2
9ـ إهدار النبي صلى اهلل عليه وسلم لبعض الدماء:
إلى جانب ذلك الصفح الجميل كان هناك الحزم االصيل الذي البد أن تتصف
به القيادة الحكيمة الرشيدة ،ولذلك استثنى قرار العفو الشامل بضعة عشر
رجالً أمر بقتلهم ـ وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة ـ ألنه عظمت جرائمهم
في حق اهلل ورسوله وحق اإلسالم ،ولما كان يخشاه منهم من إثارة الفتنة بين
الناس بعد الفتح .3قال الحافظ ابن حجر في الفتح :وقد جمعت اسماءهم من
متفرقات األخبار ،وهم عبد العزى بن خطل ،وعبد اهلل بن سعد بن أبي
السرح ،وعكرمة بن أبي جهل ،والحويرث بن نُقيد ـ مصغراً ومقيس بن
صبابة ،وهبار بن االسود ،وقينتان البن األخطل "فَرتَنَي ،وقُريبة" كانتا
تغنيان بهجو النبي صلى اهلل عليه وسلم ،وسارة مواالة بني عبد المطلب،
82
وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طُالطل الخزاعي ،وذكر الحاكم:
أن فيمن أهدر دمه كعب بن زهير ،ووحشي بن حرب ،وهند بنت عتبة.1
ومن هؤالء من قتل ،ومنهم من جاء مسلماً تائباً فعفا عنه الرسول صلى اهلل
عليه وسلم ،وحسن إسالمه.2
10ـ خطبة النبي صلى اهلل عليه وسلم وإسًلم أهل مكة:
وفي غداة الفتح بلغ النبي صلى اهلل عليه وسلم أن خزاعة حلفاءه عدت على
رجل من هذيل ،فقتلوه وهو مشرك برجل قتل في الجاهلية ،فغضب وقام بين
الناس خطيباً ،فقال :يا أيها الناس ،إن اهلل قد حرم مكة يوم خلق السموات
واالرض فهي حرام بحرمة اهلل إلى يوم القيامة ،فال يحل المرئ يؤمن باهلل
واليوم اآلخر أن يسفك فيها دماً ،وال يعضد ـ يقطع ـ فيها شجراً ،لم تحل ألحد
كان قبلي ،وال تحل ألحد يكون بعدي ولم تحل لي إال هذه الساعة غضباً على
أهلها ثم قد رجعت كجرمتها باألمس ،فليبلغ الشاهد منكم الغائب ،فمن قال
لكم :إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد قاتل فيها ،فقولوا :إن اهلل قد أحلها
لرسوله ولم يُحلها لكم.
يا معشر خزاعة ،أرفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر القتل إن نفع ،لقد قتلتم قتيالً
ألدينه فمن قتل بعد مقامي هذا ،فأهله بخير النظرين ،إن شاءوا فدم قاتله ،وإن
شاءوا فعقله.3
كان من أثر عفو النبي صلى اهلل عليه وسلم الشامل عن أهل مكة ،والعفو عن
بعض من أهدر دماءهم أن دخل أهل مكة رجاالً ونساء وأحراراً وموالي في
دين اهلل طواعية واختياراً ،وبدخول مكة تحت راية اإلسالم دخل الناس في
دين اهلل أفواجاً ،وتمت النعمة ووجب الشكر ،وبايع رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم الناس جميعاً ،الرجال والنساءن والكبار والصغار ،وبدأ بمبايعة الرجال
83
فقد جلس لهم على الصفا ،فأخذ عليهم البيعة على اإلسالم والسمع والطاعة هلل
ولرسوله فيما استطاعوا.1
11ـ العفو عن هند بنت عتبة وإسًلمها:
ولما فرغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من بيعة الرجال بايع النساء ،وفيهن
هند بنت عتبة متنكرة ،خوفاً من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يعرفها،
لما صنعت بحمزة ـ على اال يشركن باهلل شيئاً وال يسرقن وال يزنين وال يقتلن
أوالدهن ،وال يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن ،وأرجلهن وال يعصين في
معروف ،ولما قال النبي صلى اهلل عليه وسلم :وال يسرقن قالت هند :يا رسول
اهلل ،إن أبا سفيان رجل شحيح ال يعطيني ما يكفيني ويكفي بني ،فهل عليّ من
حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال لها صلى اهلل عليه وسلم :خذي من
ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف .ولما قال" :وال يزنين" قالت هند :وهل تزني
الحرة؟ ولما عرفها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال لها :وإنك هند بنت
عتبة؟ قالت :نعم ،فأعف عما سلف عفا اهلل عنك.2
12ـ قدرة رفيعة في التعامل مع النفوس:
أ ـ إسًلم سهيل بن عمرو:
قال سهيلٍ بن عمرو :لما دخل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وظهر
انقحمت 3بيتي وأغلقت عليّ بابي ،وأرسلت إلى ابني عبد اهلل بن سهيل :أن
اطلب لي جواراً من محمد ،وإني ال آمن من أن أقتل وجعلت أتذكر أثري عند
محمد وأصحابه ،فليس أحد أسوا أثراً مني ،وأني لقيت رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ،يوم الحديبية بما لم يلحقه أحد ،وكنت الذي كاتبته ،مع حضوري
بدراً وأحداً ،وكلما تحركت قريش ،كنت فيها ،فذهب عبد اهلل بن سهيل إلى
رسول اهلل فقال :يا رسول اهلل تؤمنه؟ فقال :آمن بأمان اهلل ،فليظهر ،ثم قال
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لمن حوله :من لقي سهيل بن عمرو فال يشد
1السيرة النبوية للصالبي (.)410 / 2
2البخاري رقم .5288
3انقحمت :رميت بنفسي.
84
النظر إليه ،فليخرج فلعمري إن سهيالً له عقل وشرف ،وما مثل سهيل جهل
اإلسالم ،ولقد رأى ما كان يوضع فيه :أنه لم يكن له بنافع ،فخرج عبد اهلل إلى
أبيه ،فقال سهيل :كان واهلل براً صغيراً وكبيراً ،فكان سهيل يقبل ويدبر،
وخرج سهيل إلى حنين مع النبي صلى اهلل عليه وسلم وهو على شركه حتى
أسلم بالجعرانة.1
لقد كانت لهذه الكلمات التربوية االثر الكبير على سهيل بن عمرو ،حيث أثنى
على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالبرّ طوال عمره ،ثم دخل في اإلسالم
بعد ذلك وقد حسن إسالمه ،وكان مكثراً من األعمال الصالحة ،2يقول الزبير
بن بكار :كان سهيل بعد كثير الصالة والصوم والصدقة ،خرج بجماعته إلى
الشام مجاهداً ،ويقال :إنه صام وتهجد حتى شحب لونه وتغير ،وكان كثير
البكاء إذا سمع القرآن ،وكان أميراً على كُردوسة 3يوم اليرموك.4
ب ـ إسًلم صفوان بن أمية:
قال عبد اهلل بن الزبير رضي اهلل عنه... :وأما صفوان بن أمية فهرب حتى
أتى الشُعيبة ،5وجعل يقول لغالمه يسار ـ وليس معه غيره ـ :ويحك ،أنظر
من ترى ،قال :هذا عمير بن وهب ،قال صفوان :ما أصنع بعمير؟ واهلل ما
جاء إال يريد قتلي ،قد ظهر محمداً عليّ فلحقه .فقال :يا عمير ،ما كفاك ما
صنعت بي؟ حمّلتني دينك وعيالك ثم جئت تريد قتلي! قال أبا وهب جُعلت
فداك ،جئت من عند أبرّ الناس ،وأوصل الناس ،وقد كان عمير قال لرسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم :يا رسول اهلل سيد قومي خرج هارباً ليقذف نفسه في
البحر ،وخاف أال تؤمنه فداك أبي وأمي ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
قد أمنته فخرج في أثره ،فقال صفوان :ال واهلل ال أرجع معك حتى تأتيني
بعالمة أعرفها ،فرجع إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقال :يا رسول
85
اهلل جئت صفوان هارباً يريد أن يقتل نفسه ،فأخبرته بما أمنته فقال :ال أرجع
حتى تأتي بعالمة أعرفها ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :خذ عمامتي.
قال :فرجع عمير إليه بها ،وهو البرد الذي دخل فيه رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم يومئذ معتجراً 1به ،برد حبرة ،2فخرج عمير في طلبه ثانية حتى جاء
بالبرد ،فقال :أبا وهب جئتك من عند خير الناس ،وأوصل الناس وأبر الناس
وأحلم الناس ،مجده مجدك ،وعزه عزك ،وملكه ملكك ،أبن أمك وأبيك ،أذكر
اهلل في نفسك.
قال له :أخاف أن أقتل ،قال :قد دعاك إلى أن تدخل في اإلسالم ،فإن رضيت
وإال سيرك شهرين فهو أوفى الناس وأبرّهم وقد بعث إليك ببرده الذي دخل
فيه معتجراً تعرفه؟ قال :نعم فأخرجه ،فقال :نعم هو هو ،فرجع صفوان حتى
أنتهى إلى رسول اهلل ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يصلي بالمسلمين
العصر بالمسجد ،فوقف فقال صفوان :كم تصلون في اليوم والليلة؟ قال:
خمس صلوات ،قال :يُصلى بهم محمد؟ قال :نعم فلما سلم صاح صفوان :يا
محمد ،إن عمير بن وهب جاءني ببردك ،وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك
فإن رضيت أمراً ،وإال سيرتني شهرين ،قال :أنزل أبا وهب ،قال :ال واهلل
حتى تبين لي ،قال :بل تسير أربعة أشهر فنزل صفوان.3
وخرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قِبل هوازن ،وخرج معه صفوان ،وهو
كافر ،وأرسل إليه يستعيره سالحه ،فاعاده سالحه مئة درع بادائها فقال:
طوعاً ،أو كرهاً ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :عارية مؤدّاة، 4
فأعاره ،فأمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فحملها إلى حنين ،فشهد حنيناً،
والطائف ثم رجع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الجعرانة ،فبينما رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم يسير في الغنائم ينظر إليها ومعه صفوان بن أمية ،جعل
صفوان ينظر إلى شعب مُلى نعما ،وشاء ورعاء ،فأدام إليه النظر ورسول اهلل
1االعتجار بالعمامة هو أن يلفها على رأسه.
2الحبرة :ضرب من ثياب اليمن.
3البيهقي في الدالئل ()46 / 5
4سنن أبي داود رقم .3562
86
صلى اهلل عليه وسلم يرمقه فقال :أبا وهب ،يعجبك هذا الشعب؟ قال :نعم،
قال :هو لك وما فيه .فقال صفوان عند ذلك :ما طابت نفسي أحد بمثل هذا إال
نفس نبي ،أشهد أن ال إله إال اهلل ،وأن محمداً عبده ورسوله ،وأسلم مكانه.1
ونالحظ في هذا الخبر أن النبي صلى اهلل عليه وسلم حاول أن يتألف صفوان
بن أمية إلى اإلسالم حتى أسلم وذلك بإعطائه األمان ،ثم بتخييره في األمر
أربعة أشهر ،ثم بإعطائه من مال العطايا الكبيرة التي ال تصدر من إنسان
عادي ،فأعطاه أوالً مائة من اإلبل مع عدد من زعماء مكة ،ثم أعطاه ما في
أحد الشعاب من اإلبل والغنم ،فقال :ما طابت نفس أحد بهذا إال نفس نبي ،ثم
أسلم مكانه ،2وقد وصف لنا صفوان بن أمية عطاء النبي صلى اهلل عليه وسلم
فقال :واهلل ،لقد أعطاني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما أعطاني ،وإنه
ألبغض الناس إليّ ،فما برح يعطيني حتى إنه ألحب الناس إليّ.3
ج ـ إسًلم عكرمة بن أبي جهل:
قال عبد اهلل بن الزبير رضي اهلل عنه :قالت أم حكيم امرأة عكرمة بن أبي
جهل رضي اهلل عنها :يا رسول اهلل ،قد هرب عكرمة منك إلى اليمن ،وخاف
أن تقتله فأمنه ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :هو آمن ،فخرجت أم
حكيم في طلبه ،ومعها غالم لها رومي ،فراودها عن نفسها ،فجعلت تمنيه
ي من عك ،4فأستغاثتهم عليه ،فأوثقوه رباطاً ،وأدركت حتى قدمت على ح ّ
عكرمة وقد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة ،فركب البحر ،فجعل نوتي
السفينة يقول له :أخلص ،فقال :أي شيء أقول :قال :قل ال إله إال اهلل ،قال
عكرمة :ما هربت إال من هذا فجاءت أم حكيم على هذا الكالم ،فجعلت تلح
عليه ،وتقول :يا ابن عم جئت من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس،
ْاًَ
ال تُهلك نفسك ،فوقف لها حتى أدركته ،فقالت :إني قد استأمنت لك محمد
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،قال :أنت فعلت؟ قالت :نعم ،أنا كلمته ،فأمنك
1كنز العمال رقم ،30170المغازي للواقدي (.)853 / 2
2التاريخ اإلسالمي للحميدي (.)220 / 7
3مسلم رقم .2313
4عك :مخالف من مخاليف مكة التهامية.
87
فرجع معها وقال :ما لقيت من غالمك الروميّ؟ فخبرته خبره ،فقتله عكرمة،
وهو يومئذ لم يسلم ،فلما دنا من مكة؟ قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
ألصحابه :يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً ،فال تسبوا أباه ،فإن سب
الميت يؤذي الحي ،وال يبلغ الميت.
قال :وجعل عكرمة يطلب امرأته يُجامعها فتأبى عليه وتقول :إنك كافر ،وأنا
مسلمة ،فيقول :إن أمراً منعك مني ألمر كبير ،فلما رأى النبي صلى اهلل عليه
وسلم عكرمة ،وثب إليه ـ وما على النبي صلى اهلل عليه وسلم رداء ـ فرحًا
بعكرمة ثم جلس رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فوقف بين يديه ،وزوجته
متنقبة ،فقال :يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني ،فقال رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم :صدقت فأنت آمن ،فقال عكرمة :فإلى ما تدعو يا محمد؟ قال:
أدعوك إلى أن تشهد أن ال إله إال اهلل وأني رسول اهلل ،وأن تقيم الصالة
وتؤتي الزكاة وتفعل وتفعل ،حتى عدّ خصال اإلسالم ،فقال عكرمة :واهلل ما
دعوت إال إلى الحق ،وأمر حسن جميل ،قد كنت واهلل فينا قبل أن تدعو إلى ما
دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثاً ،وأبرنا برّاّ ،ثم قال عكرمة :فإني أشهد أن ال
إله إال اهلل ،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ،فسر بذلك رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم .1وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :ال تسألني اليوم شيئاً
أعطيه أحداً إال أعطيتكه ،فقال عكرمة :فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة
عاديتكها أو مسير وصنعت فيه ،أو مقام لقيتك فيه أو كالم قلته في وجهك ،أو
وأنت غائب عنه ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :اللهم اغفر له كل
عداوة عادانيها ،وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد بذلك المسير إطفاء
نورك ،فأغفر له ما نال مني عرض في وجهي أو غائب عنه ،فقال عكرمة:
رضيت يا رسول اهلل ،ال أدع نفقة كنت أنفقها في صدّ عن سبيل اهلل إال أنفقت
ضعفها في سبيل اهلل وال قتاالً كنت أقاتل في صدّ عن سبيل اهلل إال أبليت
88
ضعفه في سبيل اهلل ،ثم اجتهد في القتال حتى قتل شهيداً ،1وبعد أن أسلم رد
رسول اهلل امرأته بذلك النكاح األول.2
كان سلوك النبي صلى اهلل عليه وسلم في تعامله مع عكرمة لطيفاً حانياً ،يكفي
وحده الجتذابه إلى اإلسالم ،فقد أعجل نفسه عن لبس ردائه ،وابتسم له،
ورحب به ،وفي رواية قال له :مرحباً بالركب المهاجر.3
فتأثر عكرمة من ذلك الموقف ،فأهتزت مشاعره ،وتحركت أحاسيسه ،فأسلم،
كما كان لموقف أم حكيم بنت الحارث بن هشام أثر في إسالم زوجها ،فقد
أخذت له األمان من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وغامرت بنفسها تبحث
عنه لعل اهلل يهديه إلى اإلسالم كما هداها إليه ،وعندما أرادها زوجها ،امتنعت
عنه وعللت ذلك بأنه كافر وهي مسلمة ،فعظم اإلسالم في عينه وأدرك أنه
أمام دين عظيم ،وهكذا خطت أم حكيم في فكر عكرمة بداية التفكير في
اإلسالم ،ثم توّج بإسالمه بين يدي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وكان
صادقاً في إسالمه ،فلم يطلب من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ديناً ،وإنما
سأله أن يغفر اهلل تعالى له كل ما وقع فيه من ذنوب ماضية ،ثم أقسم أمام
النبي صلى اهلل عليه وسلم بأن يحمل نفسه على اإلنفاق في سبيل اهلل تعالى
بضعف ما كان ينفق في الجاهلية وأن يُبلى في الجهاد في سبيل اهلل بضعف ما
كان يبذله في الجاهلية ولقد برّ بوعده ،فكان من أشجع المجاهدين ،والقادة في
سبيل اهلل تعالى في حروب الردة ،ثم في فتوح الشام حتى وقع شهيداً في
معركة اليرموك بعد أن بذل نفسه وماله في سبيل اهلل.4
س ـ إسًلم فضالة بن عمير وعفو النبي صلى اهلل عليه وسلم عنه:
أراد فُضالة بن عمير بن الملوح الليثي قتل النبي صلى اهلل عليه وسلم وهو
يطوف بالبيت عام الفتح ،فلما دنا منه ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
أفضالة؟ قال :نعم فضالة يا رسول اهلل ،قال :ماذا كنت تحدّث به نفسك؟ قال:
1يعني يوم اليرموك.
2مغازي الواقدي ( 851 / 2ـ .)853
3سنن الترمذي رقم .2735
4التاريخ اإلسالمي ( 223 / 7ـ .)225
89
ال شيء ،كنت أذكر اهلل ،قال :فضحك النبي صلى اهلل عليه وسلم ثم قال:
استغفر اهلل ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه ،فكان فضالة يقول :واهلل ما
رفع يده عن صدري حتى ما من خلق اهلل شيء أحبّ إلي منه ،قال فضالة:
فرجعت إلى أهلي فمررت بأمرأة كنت اتحدث إليها ،فقالت :هلم إلى الحديث،
فقلت :ال وانبعث فضالة يقول:
قالت هلم إلى الحديث فقلت ال
يأبى عليك اهلل واإلسالم
لو ما رأيت محمد وقبيله
بالفتح يوم تكسر األصنام
لرأيت دين اهلل أضحى بيناً
والشرك يغشى وجهه اإلظالم1
ش ـ أجرنا من أجرت يا أم هاني:
قالت أم هاني بنت أبي طالب :لما نزل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بأعلى
مكة ،فرّ إليّ رجالن من أحمائ ،من بني مخزوم ـ وكانت عند هبيرة بن أبي
وهب المخزومي ـ قالت :فدخل عليّ علي بن أبي طالب أخي فقال :واهلل
ألقتلنهما ،فأغلقت عليهما باب بيتي ،ثم جئت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
وهو بأعلى مكة ،فوجدته يغتسل من جفنة إن فيها من أثر العجين ،وفاطمة
ابنته تستره بثوبه ،فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به ،ثم صلى ثماني الضحى،
ثم انصرف إليّ فقال :مرحباً وأهالً يا أم هانيء ،ما جاء بك؟ فأخبرته خير
الرجلين وخبر عليّ ،فقال :قد أجرنا من أجرت ،وأمّنا من أمنت فال يقتلهما.2
ع ـ إسًلم شاعر قريش "عبد اهلل بن الزببعري":
90
لمّا فتحت مكة فرّ عبد اهلل بن الزبعري السهمي إلى نجران ،فلحقه قوافي
حسّان ،فقد كان خصماً عنيداً لإلسالم ،فراح يعيره بالجبن والفرار فقال له:
ال تعدمن رجالً أحلّك بغصُنُه
نجران في عيش أحذَّ لئيم1
أي :فليبق اهلل لنا محمداً صلى اهلل عليه وسلم هذا الرجل العظيم الذي أحلّك
بغضه ديار نجران ،وليُدم اهلل عليك ابن الزبعري عيشاً مهيناً أشأم ثم راح
حسان يستنزل غضب اهلل ومقته على ابن الزبعري ونجله ،ويسأل اهلل أن
يخلده في سوء العذاب وأليمه.2
فتطايرت تلك االبيات ووصلت إلى ابن الزبعري وقام ولم يقعد ،وقلب أموره
ثم أراد اهلل به الخير ،فعزم على الدخول في اإلسالم ،ثم توجه إلى مكة،
وقصد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأعلن اسالمه ،وطلب من رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم أن يستغفر له كل عداوة له ،ولإلسالم ،فقال له رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم إن اإلسالم يجب ما قبله ،3ثم أدناه رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم منه وآنسه ،ثم خلع عليه حلة ،وقد أجمع الرواة أن ابن الزبعري
رضي اهلل عنه قال بعد إسالمه شعراً كثيراً حسناً يعتذر فيه إلى رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم.4
قال ابن كثير :كان من أكبر أعداء اإلسالم ومن الشعراء الذين استعملوا قواهم
في هجاء المسلمين ،ثم من اهلل عليه بالتوبة واإلنابة والرجوع إلى اإلسالم
والقيام بنصره والذّب عنه.5
ومن القصائد الرائعة التي قالها في مدح النبي صلى اهلل عليه وسلم وندمه
على محاربة اإلسالم ،وتأخره في الدخول فيه:
91
منع الرُّقادَ بالبلٌ وهموم1
والليل معتلجُ الرواق بهيم2
ممّا أتاني أن أحمد المني
فيه فبت كأنني محموم
يا خير من حملت على أوصالها
ح اليدين غشوم4
سرُ ُ
عيرانةُ ،3
إني لمعتذر إليك من الذي
أسديت إذ أنا في الضالل أهيم
أيام تأمرني بأغوى خُطة
سهم وتأمرني بها مخزوم
وأمدُّ أسباب الرّدى ويقودني
أمر الغواة وأمرهم مشؤوم
فاليوم آمن بالنبي محمد
قلبي ومخطئ هذه محروم
مضت العداوة وانقضت أسبابها
ودعت أواصر بيننا وحلوم
فاغفر فِدىً لك والديّ كالهما
92
زلليء فإنك راحم مرحوم
وهكذا انتهى الفتح األكبر ولم يهتك ألهل مكة عرض أو ينهب منهم درهم ،بل
كان يوم دخول المسلمين أكثر أمناً من اليوم الذي سبقه ،فقد أخذت قريش
األمان قبل أن تطلبه ،ولم يضطرها المسلمون بقيادة محمد صلى اهلل عليه
وسلم إلى التفاوض فضالً عن االستجداء وهكذا تمكن النبي صلى اهلل عليه
وسلم بعفوه العظيم أن يهز ضمائر قريش ،ولم يترك لهم فرصة في التفكير
سوى سماحة هذا الدين الكريم ،وبقوة العفو وعمق الغفران دخل اإلسالم
قلوب المكيين ،فحولهم من أعداء إلى أكثر الناس والء للمسلمين ودعوته
اإلنسانية إن هذا العفو وتلك العدالة المتسامحة تزداد اشراقاً كلما تفكرنا فيها،
وأجلنا النظر في تفاصيلها.
إن بالدنا والكثير من بالد المسلمين بل واإلنسانية جمعاً بحاجة أن تقف ملياً
عند هذه الوقائع ليس فقط لتبدي دهشتها أمام صورتين متناقضتين األولى
وقفت فيها قريش بكل جبروتها وظلمها وقهرها للمسلمين ،والثانية ترسم لنا
حقيقة المسلمين بقيادة نبيهم وهدي رسالته وقد تغاضت عن ذلك الماضي
االسود بالظلم لتستبدله بعفو كامل ،وعدالة شاملة.
إننا نهيب بكل أبناء الوطن من ظلم منهم ومن ظلم إلى اإلطالع والوقوف
والتأمل ومن ثم االقتداء بما قدمه الرسول وأصحابه من طي صفحة الماضي
أمام قريش والتعلق بالحاضر والمستقبل ،والسير قدماً نحو البناء وتقاسم
الواجبات ،وحفظ الحقوق.
93
َاهلل
ن * ثُمَّ يَتُوبُ اهللُّ مِن بَعدِ ذَِلكَ عَلَى مَن يَشَاء و ُّ
جزَاء الكَا ِفرِي َ
كَ َفرُوا وَذَِلكَ َ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (التوبة ،آية 25 :ـ )27
ـ بين القرآن الكريم أن المسلمين انهزموا ،وهربوا ماعدا النبي صلى اهلل عليه
وسلم ،ونفر يسير من أصحابه " وَضَاقَت عَلَيكُمُ األَرضُ ِبمَا رَحُبَت ثُمَّ وَلَّيتُم
مُّد ِبرِينَ".
ـ بين القرآن الكريم أن اهلل نصر رسوله صلى اهلل عليه وسلم في هذه
المعركة ،وأكرمه بإنزال السكينة عليه وعلى المؤمنين ،فقال تعالى ":ثُمَّ أَنَزلَ
سكِينَ َتهُ عَلَى رَسُوِلهِ وَعَلَى المُؤمِنِينَ".
اهللُّ َ
ـ بين القرآن الكريم أن اهلل أمد نبيه محمد صلى اهلل عليه وسلم بالمالئكة في
جزَاء
َعذبَ الَّذِينَ كَ َفرُوا وَذَلِكَ َ
حنين ،قال تعالى ":وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّم َترَوهَا و َّ
الكَا ِفرِينَ".
وأكد سبحانه على أنه يقبل التوبة من عباده ،ويوفق من شاء إليها ،قال
َاهلل غَفُورٌ رَّحِيمٌ".
اهلل مِن بَعدِ ذَِلكَ عَلَى مَن يَشَاء و ُّ
تعالى ":ثُمَّ يَتُوبُ ُّ
انتصر المسلمون على هوازن بفضل اهلل ووقع من ابنائهم ونسائهم في سبي
المسلمين وبعد انتهاء المعركة جاء وفد هوازن لرسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم بالجعرانة وقد أسلموا فقالوا :يا رسول اهلل! إنا أصل وعشيرة ،وقد
أصابنا من البالء مالم يخف عليك ،فامنن علينا من اهلل عليك ،وقام خطيبهم
زهير بن صرد أبو صرد فقال :يا رسول اهلل ،إنما في الحظائر من السبايا
خاالتك وحواضنك االتي كن يكفلنك ولو أنا ملحنا البن أبي شمر أو النعمان
بن المنذر ثم أصابنا منها مثل الذي أصابنا منك ،رجونا عائدتهما وعطفهما،
وأنت رسول اهلل خير المكفولين ،ثم أنشأ يقول:
أمنن علينا رسول اهلل في كرم
فإنك المرءُ نرجوه وتنتظر
94
إلى أن قال:
أمنن على نسوة قد كنت ترضعها
إذ فوك بملوءه من محضها دررٌ
أمنن على نسوة قد كنت ترضعها
وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
فكان سبب اعتاقهم عن بكرة أبيهم ،فعادت فواضله عليه السالم عليهم قديماً
ًْ ،وخصوصاً وعموماً 1فلما سمع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من وحديثاَ
الوفد قال لهم :نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم اموالكم فقالوا يا رسول اهلل
خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا؟ بل أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا ،فقال رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم :أما ما كان لي ،ولبني عبد المطلب ،فهو لكم وإذا أنا
صليت بالناس فقوموا ،فقولوا إنا نستشفع برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى
المسلمين ،وبالمسلمين إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في أبنائنا ونسائنا،
فإني سأعطيكم عند ذلك ،وأسأل لكم ،فلما صلى رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم بالناس الظهر قاموا ،فقالوا ما أمرهم به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم،
فقال :أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم فقال المهاجرون :وما كان لنا
فهو ولرسول اهلل ،وقالت االنصار :وما كان لنا فهو لرسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم وقال األقرع بن حابس :أما أنا وبنو سليم فال ،وقال عُيينة :أما أنا وبنو
فزارة فال ،وقال العباس بن مرداس السُّلمُّي :أما أنا وبنو سليم فال فقالت بنو
سليم :بل ما كان لنا فهو لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،قال عباس بن
مرداس لبني سليم وهنتموني؟ فقال رسول اهلل :من أمسك منكم بحقه فله بكل
إنسان ستُ فرائض من أول فيء نصيبه ،فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم.2
وفي رواية ... :فخطب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في المؤمنين فقال :إن
إخوانكم هؤالء جاؤونا تائبين ،وإني أردت أن أرد إليهم سبيهم ،فمن أحبّ
1البداية والنهاية ( 363 / 4ـ .)364
2مسند أحمد (.)184 / 2
95
منكم أن يطيب ذلك فليفعل ،ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه
من أول ما يفيء اهلل علينا ،فليفعل .فقال الناس :طيبنا يا رسول اهلل لهم ،فقال
لهم :إنا ال ندري من أذن منكم فيه ممن لم يأذن ،فارجعوا حتى يرفع إلينا
عرفاؤكم أمركم .فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ،ثم رجعوا إلى النبي صلى
اهلل عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا ،وأذنوا.1
1ـ إسًلم زعيم هوازن :مالك بن عوف:
وقد سر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بإسالم هوازن وسألهم عن زعيمهم
مالك بن عوف النصري ،فأخبروه أنه في الطائف مع ثقيف ،فوعدهم بردّ
أهله ،وأمواله عليه ،وإكرامه بمائة من اإلبل إن قدم عليه مسلماً ،فجاء مالك
مسلماً ،فأكرمه وأمّره على قومه ،وبعض القبائل المجاورة ،ولقد تأثر مالك بن
عوف وجادت قريحته لمدح النبي صلى اهلل عليه وسلم فقال:
ما إن رأيت وال سمعت بمثله
في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتذى
فمتى تشاء يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها
بالسمهري وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله
وسط الهباءة2خادرٌ في مرصد3
96
لقد كانت سياسته صلى اهلل عليه وسلم مع خصومه مرنة إلى أبعد الحدود
وبهذه السياسة الحكيمة استطاع صلى اهلل عليه وسلم أن يكسب هوازن
وحلفاءها إلى صف اإلسالم ،واتخذ من هذه القبيلة القوية رأس حربة يضرب
بها قوى الوثنية في المنطقة ويقودها زعيمهم مالك بن عوف الذي قاتل ثقيف
في الطائف حتى ضيق عليهم ،وقد فكر زعماء ثقيف في الخالص من المأزق
بعد أن أحاط اإلسالم بالطائف من كل مكان ،فال تستطيع تحركاً وال تجارة،
فمال بعض زعماء ثقيف إلى اإلسالم مثل عروة بن مسعود الثقفي الذي سارع
إلى اللحاق برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو في طريقه إلى المدينة بعد
أن قسم غنائم حنين ،واعتمر من الجعرانة ،فالتقى به قبل أن يصل إلى
المدينة ،وأعلن إسالمه ،وعاد إلى الطائف وكان من زعماء ثقيف محبوباً
عندهم ،فدعاهم إلى اإلسالم وأذّن في أعلى منزله ،فرماه بعضهم بسهام،
فأصابوا فطلب من قومه أن يدفنوه مع شهداء المسلمين في حصار الطائف.1
إن اإلنسان ليعجب من فقه النبي صلى اهلل عليه وسلم في معاملة النفوس ،وفي
سعيه الحثيث لتمكين دين اهلل تعالى ،لقد استطاع أن يزيل معالم الوثنية،
وبيوتات العبادة الكفرية في مكة ،وما حولها ،ورتب صلى اهلل عليه وسلم
األمور التنظيمية لألراضي التي أضيفت للدولة اإلسالمية ،فعين عتاب بن
أسيد أميراً على مكة ،وجعل معاذ بن جبل مرشداً ،وموجهاً ومعلماً ةمربياً،2
وعين على هوازن مالك بن عوف قائداً ،3ومجاهداً ،ثم اعتمر ،ورجع إلى
المدينة صلى اهلل عليه وسلم.
2ـ إسًلم كعب بن زهير ـ الشاعر ـ:
لما قدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من الطائف ،جاءه كعب بن زهير ـ
الشاعر ابن الشاعر ـ وكان قد هجا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ثم
ضاقت به األرض ،وضاقت عليه نفسه ،وحثه أخوه "بُجَيرة" على أن يأتي
97
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تائباً مسلماً ،وحذَّره من سوء العاقبة ،إن لم
يفعل ذلك ،فقال قصيدته التي يمدح فيها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم،
والتي اشتهرت بقصيدة "بانت سعاد" فقدم المدينة ،وغدا إلى رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم حيث صلَّى الصبح ،ثم جلس إليه ووضع يده في يده ،وكان
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال يعرفه ،فقال لرسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم :إن كعب بن زهير جاء يستأمنك تائباً مسلماً ،فهل أنت قابل منه؟ فوثب
عليه رجل من األنصار ،فقال :يا رسول اهلل دعني وعدو اهلل أضرب عنقه،
فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :دعه عنك ،فقد جاء تائباً ،...وأنشد كعب
قصيدته الآلَّمية التي قال فيها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيمٌ إثرها لم يفد مكبول1
وما سعاد غداة الطرف إذ رحلوا
إال أغنُّ قرير العين مكحول2
ومنها:
إن الرسول لنور يستضاء به
مهند من سيوف اهلل مسلول
في عصبة من قريش قال قائلهم
ببطن مكة لما أسلموا زُولُوا
سهُم
شُمُّ العرانين أبطال لبُو ُ
من نسج داود في الهيجا سرابيل
1مكبول :مقيد.
2السيرة النبوية ،ألبي شهبة (.)487 / 2
98
ويقال :إنه لما أنشد رسول اهلل قصيدته ،أعطاه بردته ،وهي التي صارت إلى
الخلفاء.1
قال ابن كثير :هذا من األمور المشهورة جداً2.
ويقال :إن الرسول صلى اهلل عليه وسلم قال له بعد ذلك :لوال ذكرت األنصار
بخير ،فإن األنصار لذلك أهل ،3فقال:
من سرّه كرم الحياة فال يزال
في مقنب من صالحي األنصار4
ورثوا المكارم كابراً عن كابر
إن الخيار هم بنو األخيار
المكرهين السّمهريَّ بأذرُع
كسولف الهندي غير قصار
والناظرين بأعين محمرة
كالجمر غير كليلة األبصار
والبائعين نفوسهم لنبيهم
للموت يوم تعانق وكرار
والقائدين الناس عن أديانهم
بالمشرفي وبالقنا الخطَّار5
1المصدر نفسه.
. 2البداية والنهاية (.)373 / 4
3المصدر نفسه.
4مقنب :جماعة.
5المشرفي :السيف والقنا :الرماح :الخطار :المهتز.
99
يتطهرون يرونه نسكاً لهم
بدماءِ من خلقوا من الكفار
إلى أن قال:
لو يعلم األقوام علمي كله
فيهم لصدَّقني الذين ُأمَاري1
قوم إذا خوت النجوم فإنهم
للطارقين 2النازلين مقاري3
وبإسالم كعب بن زهير تستطيع القول بأن الشعراء المعارضين للدَّعوة
اإلسالمية قد انتهى دورهم ،فقد أسلم ضرار بن الخطاب ،وعبد اهلل بن
الزَّبعري ،وأبو سفيان بن الحارث ،والحارث بن هشام ،والعباس بن مرداس،
وتحوَّلوا إلى الصَّفِّ اإلسالمي واستظلوا بلوائه عن قناعة ،وإيمان ،ولم يكتف
بعضهم بأن تكون كلمته في الدفاع عن اإلسالم ،بل كل سيفه إلى جانب كلمته،
وهذا من بركات فتح مكة.4
1أماري :أجادل.
2خوت :سقطت ،الطارقون :الذين يأتون الليل.
3السيرة النبوية البن هشام (.)168 ، 167 / 4
4من معين السيرة للشامي صـ.433، 432 ،431
100
التاسع عشر :عفو الصديق رضي اهلل عنه:
1ـ حديث اإلفك:
حاك المنافقون في أعقاب غزوة بني المصطلق حادثة اإلفك بعد فشل كيدهم
في المحاولة األولى إلثارة النعرة الجاهلية ،فقد ألمت بالبيت النبوي هذه
النازلة الشديدة ،والمحنة العظيمة التي كان القصد منها النيل من النبي صلى
اهلل عليه وسلم ومن أهل بيته األطهار ،وكانت حلقة من سلسلة فنون اإليذاء
والمحن التي لقيها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أعداء الدين ،وكان من
لطف اهلل تعالى بنبيِّه وبالمؤمنين أن كشف اهلل زيفها ،وبطالنها ،وقد سجل
التاريخ بروايات صحيحة موقف المؤمنين من هذه الفرية ،ال سيما موقف أبي
أيوب ،وأم أيوب ،وهي مواقف يتأسى بها المؤمنون عندما تعرض لهم في
حياتهم مثل هذه الفرية ،فقد انقطع الوحي ،وبقيت الدروس لتكون عبرة،
وعظة لألجيال إلى أن يرث اهلل األرض ومن عليها.1
وتحدثنا عائشة رضي اهلل عنها عن براءتها ونزول الوحي في ذلك:
وقد لبث الوحي شهراً ال يوحي إليه في شأني بشيء ،قال :فتشهد رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم حيث جُلس ،ثم قال :أما بعد :يا عائشة ،فإنه قد بلغني
عنك كذا وكذا ، 2فإن كنت بريئة فسيبرِّئك اهلل ،وإن كنت ألممت بذنب،
فاستغفري اهلل وتوبي إليه ،فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى اهلل تاب اهلل
عليه ،فلما قضي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مقالته ،قلص 3دمعي حتى
ما أحس منه قطرة ،فقلت ألبي :أجب رسول اهلل عني فيما قال :قال :واهلل ما
أدري ما أقول لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقلت ألمي :أجيبي رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ،قالت :ما أدري ما أقول لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
قالت :فقلت وأنا جارية حديثة السن ال أقرأ كثيراً من القرآن :إني واهلل لقد
علمت ،لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم ،وصدقتم به ،فلئن قلت
101
لكم ،إني بريئة ،واهلل يعلم أني بريئة ،ال تصدِّقوني بذلك ولئن اعترفت لكم
بأمر واهلل يعلم أنِّي منه بريئة لتصدقُني ،واهلل ما أجد لي ولكم مثالً إال قول
أبي يوسف.1
جمِيلٌ وَاهللُّ المُس َتعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ" (يوسف ،آية .)18 :
قال " :فَصَبرٌ َ
قالت :ثم تحولت ،فاضطجعت على فراشي ،قالت :وأنا حينئذ أعلم أنِّي بريئة،
وأن اهلل مبرِّني ببراءتي ،ولكن واهلل ما كنت أظن أن اهلل منزل في شأني وحياً
يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم اهلل فيَّ بأمر يتلى ،ولكن كنت
أرجو أن يرى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في النوم رؤيا ببرِّئني اهلل بها.
قالت :فواهلل ما رام 2رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وال خرج أحد من أهل
البيت حتى أنزل عليه ،فأخذه ما كان يأخذه من ال ُبرَحاءِ 3حتى أنه ليتحدر منه
العرق مثل الجمان ،4وهو يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه .قالت:
فلما سُرِّي ،5عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو يضحك ،فكانت أوَّل
كلمة تكَّلم بها :يا عائشة أما اهلل عز وجل ـ فقد برَّأك ـ فقالت أمي قومي إليه،
قالت :واهلل ال أقوم إليه وال أحمد إال اهلل عز وجل ،وأنزل اهلل " :إِنَّ الَّذِينَ
ئ مِّنهُم جَاؤُوا بِاإلِفكِ عُص َبةٌ مِّنكُم الَ تَحسَبُوهُ شَرًّا َّلكُم بَل هُوَ خَيرٌ َّلكُم ِلكُلِّ امرِ ٍ
سمِع ُتمُوهُ عظِيمٌ * لَوالَ إِذ َ مَّا اكتَسَبَ مِنَ اإلِثمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِب َرهُ مِنهُم َلهُ عَذَابٌ َ
سهِم خَيرًا َوقَالُوا هَذَا إِفكٌ مُّبِينٌ * لَوالَ جَاؤُوا عَلَيهِ ظَنَّ المُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ ِبأَنفُ ِ
ِالشهَدَاء َفأُولَ ِئكَ عِندَ اهللَِّ هُمُ الكَاذِبُونَ * وَلَوالَ فَضلُ شهَدَاء َفإِذ لَم يَأتُوا ب ُّ ِبأَر َب َعةِ ُ
َسكُم فِي مَا َأفَضتُم فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذ خرَ ِة َلم َّ
اهللَِّ عَلَيكُم َورَحمَ ُتهُ فِي الدُّنيَا وَاآل ِ
علمٌ وَتَحسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ تَلَقَّو َنهُ ِبأَلسِنَ ِتكُم وَتَقُولُونَ ِبأَفوَا ِهكُم مَّا لَيسَ َلكُم ِبهِ ِ
سمِع ُتمُوهُ قُلتُم مَّا َيكُونُ لَنَا أَن نَّ َتكَلَّمَ ِبهَذَا سُبحَا َنكَ هَذَا بُهتَانٌ
عظِيمٌ * وَلَوالَ إِذ َ اهللَِّ َ
ظكُمُ اهللَُّ أَن َتعُودُوا ِلمِثلِ ِه أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اهللَُّ لَكُمُ اآليَاتِ
عظِيمٌ * َي ِع ُ َ
102
حكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَ ُة فِي الَّذِينَ آمَنُوا َلهُم عَذَا ٌ
ب وَاهللَُّ عَلِيمٌ َ
اهلل عَلَيكُم
ال تَعَلمُونَ * وَلَوالَ فَضلُ َِّ خ َرةِ وَاهللَُّ يَعلَمُ وَأَنتُم َ
أَلِيمٌ فِي الدُّنيَا وَاآل ِ
اهلل رَؤُوفٌ رَحِيمٌ" (النور ،آية 11 :ـ .)20 َورَحمَتُ ُه وَأَنَّ َّ
فلما أنزل اهلل هذا في براءتي ،قال أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه وكان ينفق
على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره ـ وكان ممن وقع في الحديث ولم
يتثبت وخاض فيه ـ واهلل ال أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ما
َالس َعةِ أَن يُؤتُوا أُولِي القُربَى قال ،فأنزل اهلل" :وَالَ يَأتَلِ أُولُوا الفَضلِ مِنكُم و َّ
جرِينَ فِي سَبِيلِ اهللَِّ وَليَعفُوا وَليَصفَحُوا أَالَ تُحِبُّونَ أَن يَغ ِفرَ اهللَُّوَالمَسَاكِينَ وَال ُمهَا ِ
َلكُم وَاهللَُّ غَفُو ٌر رَّحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَرمُونَ المُحصَنَاتِ الغَا ِفالَتِ المُؤمِنَاتِ ُلعِنُوا
عظِيمٌ" (النور ،آية 22 :ـ .)23 خ َرةِ وََلهُم عَذَابٌ َ
فِي الدُّنيَا وَاآل ِ
قال أبو بكر :بلى واهلل! إنِّي أحبُّ أن يغفر اهلل لي ،فأرجع إلى مسطح النفقة
التي كان ينفق عليه ،قال :واهلل ال أنزعها منه أبداً.1
2ـ العفو في حروب الردة:
كان ألبي بكر بعد نظر ،وبصيرة نافذة ،ونظرة بعواقب األمور ،ولذلك كان
يستعمل الحزم في محله ،والعفو عندما تقتضي إليه الحاجة ،فقد كان حريصًا
على جمع شتات القبائل تحت راية اإلسالم ،فكان من سياسته الحكيمة عفوه
عن زعماء القبائل المعاندة بعد رجوعهم إلى الحق ،فإنه لما استخضع قبائل
اليمن المرتدة وأراهم سطوة دولة المسلمين وقوة شكيمتهم ومضاء عزيمتهم،
واعترفت القبائل بما أنكرت واستكانت لحكم اإلسالم وأطاعوا خليفة رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم رأى أبو بكر أنه من تأليف القلوب ترك استعمال
القوة مع زعماء هذه القبائل ،بل اللين هنا والرفق أوفق ،فرفع العقوبة عنهم
وأالن القول لهم ،ووظف نفوذهم في قبائلهم لصالح اإلسالم والمسلمين.2
103
فعفا عن زلتهم وأحسن إليهم ،فقد فعل ذلك مع قيس بن يغوث المرادي
وعمرو بن معد يكرب ،فقد كانوا من صناديد العرب وأفرسهم وأكثرهم
شجاعة ،فعزّ على أبي بكر أن يخسرهما وحرص على أن يستخلصهما
لإلسالم ويستفذهما من التردد بين اإلسالم والردة ،فقد قال أبو بكر لعمرو :أما
تخزي أنك كل يوم مهزوم أو مأسور لو نصرت هذا الدين لرفعك اهلل ،فقال
عمرو :ال جرم ألفعلن ،ولن أعود فأطلقه الصديق ،ولم يرتد عمرو بعده قط،
بل أسلم وحسن إسالمه ،ونصره اهلل وأصبح له بالء عظيم في الفتوحات.
وندم قيس على ما فعل ،فعفا عنه الصديق ،وكان للعفو عن هذين البطلين من
أبطال عرب اليمن آثاره العميقة والعريضة ،فقد تألف به الصديق قلوب أقوام
قد عادوا إلى اإلسالم بعد الردة خوفاً أو طمعاً ،وعفا عن االشعث بن قيس،1
وبذلك أسر الصديق قلوبهم ،وامتلك أفئدتهم ،فكانوا في مستقبل األيام نصراً
لإلسالم وقوة المسلمين ،وأصبحت لهم يد عظيمة في هذا المجال2
أ ـ األشعث بن قيس الكندي:
كان ممن قاتل المسلمين مع المرتدين في اليمن ولما تم القضاء على ردة كندة
وعاد عكرمة بن أبي جهل ومعه السبايا واألخماس ،وبرفقتهم األشعث بن
قيس ،الذي صار مبغضاً إلى قومه ،والسيما نساؤهم ،ألنهم عدوه سبب ذلتهم
وألنه عندما صالح المسلمين كان أول ما بدأ به اسمه ،فكانت نساء قومه
يسمينه :عُرف النار ،ومعناه بلغتهم الغادر ،3ولما قدم األشعث على أبي بكر،
قال :ماذا تراني أصنع بك ،فإنك قد فعلت ما علمت؟ قال :تمنُّ علي فتفكني
من الحديد وتزوجني أختك ،فإني قد راجعت وأسلمت ،فقال أبو بكر :قد فعلت
فزوجه أم فروة أبنة أبي قحافة ،فكان في المدينة حتى فتح العراق.4
وفي رواية جاء فيها :فلما خشى أن يقع به قال :أو تحتسب في خير فتطلق
إساري وتقيلني عثرتي وتقبل إسالمي ،وتفعل بي مثل ما فعلته بأمثالي وترد
1الصديق أول الخلفاء للشرقاوي صـ .116 ، 115
2تاريخ الدعوة إلى اإلسالم صـ .256
3حركة الردة للعتوم صـ .107
4تاريخ الطبري (.)155 / 4
104
على زوجتي وقد كان خطب أم فروة بنت أبي قحافة مقدمه على رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم فزوجه وأخرها إلى أن يقدم الثانية فمات رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ،وفعل االشعث ما فعل ،فخشيى أال ترد عليه ،قال تجدني
خير أهل بالدي لدين اهلل تعالى ،فتجافى له عن عدمه ،وقبل منه ورد عليه
أهله ،وقال :انطلق فليبلغني عنك خير وخلى عن القوم فذهبوا ،وقسم أبو بكر
في الناس الخمس.1
ب ـ وفد بني أسد وغطفان إلى الصديق وحكمه عليهم:
لما قدم وفد بزاخة ـ أسد وغطفان ـ على أبي بكر يسأله الصلح ،خيّرهم أبو
بكر بين حرب مُجلية أو خطة مخزية ،فقالوا :يا خليفة رسول اهلل أما الحرب
المجلية فقد عرفناها ،فما الخطة المخزية؟ تؤخذ منكم الحلقة أي السالح ـ
والكُراع وتتركون أقواماً تتبعون أذناب اإلبل حتى يُرى اهلل خليفة نبيه
والمؤمنين أمراً يعذرونكم به ،وتؤدون ما أصبتم منا ،وال نؤدي ما أصابنا
منكم ،وتشهدون أن قتالنا في الجنة ،وأن قتالكم في النار ،وتدون قتالنا وال
ندي قتالكم ،فقال عمر :أما قولك تدون قتالنا ،فإن قتالنا قتلوا على أمر اهلل ال
ديات لهم ،فامتنع عمر وقال عمر في الثاني :نعم ما رأيت وأخذ الصديق
برأي الفاروق رضي اهلل عنه وخضعت بنو أسد وغطفان لشروط أبي بكر.2
ج ـ عيينة بن حصن وطليحة األسدي:
بعد أن تم القضاء على قوة طليحة األسدي ببزاخة ،عاد فريق كبير من العرب
إلى حظيرة اإلسالم ،فقد أقبلت بنو عامر بعد هزيمة بزاخة يقولون :ندخل فيما
خرجنا منه فبايعهم خالد على ما بايع عليه أهل بزاخة من أسد وغطفان
وطيء قبلهم وأعطوه بأيديهم على اإلسالم ولم يقبل أحداً من أسد وال غطفان
وال هوازن وال سليم وال طيء إال أن يأتوه بالذين حرقوه ومثلوا وعدوا على
أهل اإلسالم في حال ردتهم فأتوه بهم ..فمثل خالد بن الوليد بالذين عدوا على
اإلسالم ،فأحرقهم بالنيران ،ورضخهم بالحجارة ورمى بهم من الجبال،
1نفس المصدر السابق.
2أبو بكر الصديق للصالبي صـ .210
105
ونكسهم في اآلبار ،وخزقهم بالنبال ،وبعث بقرّة بن هبيرة باألسارى ،وكتب
إلى أبي بكر :إن بني عامر أقبلت بعد إعراض ،ودخلت في اإلسالم بعد
تربص ،وإني لم أقبل من أحد قاتلني أو سالمني شيئاً حتى يجيئوني بمن عدا
على المسلمين فقتلتهم كل قتلة وبعثت إليك بقرّة وأصحابه ،1وكان عيينة بن
حصن من بين األسرى فأمر خالد بشد وثاقه تنكيالً به وبعثه إلى المدينة ويداه
إلى عنقه ،إزراء عليه وإرهاباً لسواه فلما دخل المدينة على هيئته تلقاه صبيان
المدينة مستهزئين وأخذوا يلكزونه بأيديهم الصغيرة قائلين :أي عدو اهلل،
ارتددت عن اإلسالم فيقول :واهلل ما كنت آمنت قط ،وجيء به إلى خليفة
رسول اهلل ،ولقي من الخليفة سماحة لم يصدقها وأمر بفك يديه ،ثم استتابه،
فأعلن عيينة توبة نصوحاً واعتذر عما كان منه وأسلم وحسن إسالمه.2
ومضى طليحة حتى نزل كلبا ،3على النقع ،فأسلم ولم يزل مقيماً في كلب
حتى مات أبو بكر ،وكان إسالمه هناك حين بلغه أن أسداً ،وغطفان ،وعامرًا
قد أسلموا ثم خرج نحو مكة معتمراً في إمارة أبي بكر ،ومرّ بجنبات المدينة،
فقيل ألبي بكر :هذا طليحة ،فقال :ما أصنع به خلوا عنه ،فقد هداه اهلل
لإلسالم ،4وقد جاء عند ابن كثير :وأما طليحة فإنه راجع اإلسالم بعد ذلك
أيضاً وذهب مكة معتمراً أيام الصديق واستحى أن يواجهه مدة حياته وقد منع
الصديق المرتدين من المشاركة في فتوحاته بالعراق والشام ،ويحتمل أن
يكون ذلك من باب االحتياط ألمر األمة ،ألن من كان له سوابق في الضالل
والكيد للمسلمين ال يؤمن أن يكون رجوعه من باب االستسالم لقوة المسلمين،
فأبو بكر رضي اهلل عنه ،من األئمة الذين يرسمون للناس خط سيرهم ويتأسى
بهم الناس بأقوالهم وأفعالهم فهو لذلك يأخذ بمبدأ االحتياط لما فيه صالح األمة،
وإن كان في ذلك وضع من شأن بعض األفراد ،5وهذا درس عظيم تتعلمه
106
األمة في عدم وضع الثقة بمن كانت لهم سوابق في اإللحاد ثم ظهر منهم
العودة إلى االلتزام بالدين.1
إن وضع الثقة الكاملة بهؤالء وإسناد األعمال القيادية لهم قد جرّ على األمة
أحياناً ويالت كثيرة وأوصلها إلى مآزق خطيرة ،على أن أخذ الحذر من مثل
هؤالء ال يعني اتهامهم في دينهم وال نزع الثقة منهم بالكلية ،وهذا معلم من
سياسة الصديق في التعامل مع أمثال هؤالء.2
رجع طليحة االسدي إلى دار قومه ،فأقام بها حتى خرج إلى العراق ،3وقد
كان إسالمه صحيحاً ولم يغمض عليه فيه.4
إن أبا بكر الصديق رضي اهلل عنه لم يستعن في حروب الردة وال في حركة
الفتوحات بمرتد ،فقد كتب إلى عماله أال يستعينوا بمرتد في جهاد العدو،
ويؤكد على خالد بن الوليد وعياض بن غنم أال يغزو معهم أحد قد ارتد حتى
يرى رأيهم فيهم ،فلم تشهد أيامه مرتداً ،5ويقول الشعبي :كان أبو بكر رضي
اهلل عنه ال يستعين في حروبه بأحد من الردة حتى مات.6
ولذلك كان بعض من ارتد وحسن إسالمهم بعد ذلك يستحيون من مواجهة أبي
بكر فطليحة بن خويلد مثالً يذهب إلى مكة معتمراً ،وما استطاع مقابلة أبي
بكر حتى مات ،وأما عمر رضي اهلل عنه فقد استنفرهم بعد أن تابوا وصلح
حالهم وأخذوا قسطاً من التربية اإلسالمية إال أنه لم يول منهم أحداً ،7وقد جاء
في رواية أنه قال لسعد بن أبي وقاص في شأن طليحة بن خويلد األسدي
وعمرو بن معدي كرب الزبيدي :استعن بهما وال تولينهما على مائة، 8
107
فنستفيد من سنة الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر اللذين قال عنهما رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم :اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر.1
نستفيد من سنتهما أن أبواب التوبة والرجوع مفتوحة لمن أراد ،ويكون
معصوم الدم والمال ،وله ما للمسلمين وعليه ما عليهم غير أنه ال يُولى شيئاً
من أمور المسلمين المهمة خاصة االعمال القيادية ،وذلك الحتمال أن تكون
توبته نفاقاً ،وإذا كانت كذلك ،وتولى قيادة المسلمين ،فإنه يفسد في االرض
ويقلب موازين الحياة فيقرب أمثاله من المفسدين ويبعد المصلحين الصادقين،
ويحوّل المجتمع اإلسالمي إلى مجتمع تسوده مظاهر الفساد ،فكانت هذه السنة
الراشدة من الخليفتين الراشدين لحماية المجتمع من تسلل المفسدين إلى قيادته
وتوجيهه ولعل حكم هذه السنة أيضاً مالحظة عقوبة المفسدين بنقيض
قصدهم ،الذين يفسدون من أجل الحصول على الزعامات والقيادات ،إذا
أظهروا التوبة ،وعادوا إلى الحق والعدل ،يحرمون من هذه القيادات عقوبة
لهم ،وردعاً لكل من تسوّل له نفسه أن يخرج عن الصواب ويبحث عن
الزعامة لو بمعاداة الخير والهدى والرشاد وتعطي لهم فرصة للرجوع
واإلندماج.
108
والمصالحة والعفو في مفهومنا نحن المسلمين وال توجد الكثير من الحوادث
في التاريخ اإلنساني تروي لنا تنازل القادر على الحكم واستبداله بحياة بسيطة
وكان الحسن يطلب معنى عميقاً هو حماية نفسه من سؤال اهلل تعالى له عن
دماء تراق بسببه ،كما إن الحسن ترفع عن مبررات حاول الكثير من اتباعه
أن يذكرونه بها تتمثل في أن معاوية هو من قاتل والده علي رضي اهلل عنه،
ولكن الحسن كان عزمه ال يلين على أن المصالحة بين فئات األمة
ومجموعاتها هي األولى وفيها المصلحة الراجحة وبالتالي تقدم على ما سواها
من مشاعر ومعاني خاصة وشخصية.
لم تنقص الحسن رضي اهلل عنه الشرعية ،فقد بويع الحسن بيعة عامة وبايعه
األمراء الذين كانوا مع والده وكل الناس الذين بايعوا ألمير المؤمنين علي
رضي اهلل عنه ،وباشر سلطته كخليفة ،فرتب اعمال وأمرّ األمراء وجند
الجنود وفرق العطايا ،وزاد المقاتلة في العطاء مائة فاكتسب بذلك
رضاءهم ،1وكان في وسعه أن يخوض حرباً ال هوادة فيها ضد معاوية
وكانت شخصيته الفذة من الناحية السياسية والعسكرية ،واألخالقية والدينية
تساعد على ذلك مع وجود عوامل كوجود قيس ين سعد بن عبادة ،وحاتم بن
عدي الطائي وغيرهم من قادة المسلمين الذين لهم من القدرات القيادية الشيء
الكثير ،إال أن الحسن بن علي مال إلى السلم والصلح لحقن الدماء ،وتوحيد
األمة ،ورغبة فيما عند اهلل وزهده في الملك ،وغير ذلك من االسباب التي
سيأتي بيانها وتفصيلها وقد تنازل الحسن بن علي من موقف قوة ،وهناك
دالئل تشير إلى ذلك منها:
1ـ الشرعية التي كان يملكها:
لقد اختير الحسن بن علي بعد والده اختياراً شورياً وأصبح الخليفة الشرعي
على الحجاز واليمن والعراق وكل األماكن التي كانت خاضعة لوالده ،وقد
استمر في خالفته ستة أشهر ،وتلك المدة تدخل ضمن الخالفة الراشدة التي
أخبر عنها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بأن مدتها ثالثون سنة ثم تكون
1تاريخ العراق في ظل الحكم األموي صـ 67علي حسن الخربوطلي.
109
ملكاً ،فقد روى الترمذي بإسناده إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حيث
قال :الخالفة في أمتي ثالثون سنة ثم ملك بعد ذلك.1
وقد علق ابن كثير على هذا الحديث فقال :إنما كملت الثالثون بخالفة الحسن
بن علي ،فإنه نزل عن الخالفة لمعاوية في ربيع األول سنة إحدى وأربعين،
وذلك كمال ثالثين سنة من موت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فإنه توفى
في ربيع األول سنة إحدى عشرة من الهجرة ،وهذا من دالئل نبوة سيدنا
محمد صلى اهلل عليه وسلم وبذلك يكون الحسن بن علي خامس الخلفاء
الراشدين.2
وقد تحدث عن شرعية الحسن بن علي بالخالفة كثير من علماء أهل السنة
منهم :أبو بكر العربي ،3والقاضي عياض ،وابن كثير ،4وشارح الطحاوية،5
والمناوي ،6وابن حجر الهيثمي ،7ولو أراد الحسن أن يتعب معاوية بحكم أن
الشرعية معه ألمكن ذلك ،ولقام بترتيب حملة إعالمية منظمة في أوساط أهل
الشام لكسب ثقتهم أو على األقل زعزعة موقف معاوية بينهم ،فقد كان يملك
قوة معنوية ونفوذاً روحياً ال يستهان به بحكم الشرعية التي يستند إليها،
ولكونه حفيد الرسول صلى اهلل عليه وسلم.8
2ـ تقييم الحسن بن علي للموقف وقدراته القيادية:
فعندما قال له نفير الحضرمي :إن الناس يزعمون أنك تريد الخالفة ،فقال:
كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت ،ويحاربون من حاربت
فتركتها ابتغاء وجه اهلل ،9فهذه شهادة الحسن رضي اهلل عنه ،فإنه كان في
وضع قوي ،وبأن أتباعه على استعداد لمحاربة من يريد أو مسالمتهم ،كما
1سنن الترمذي مع شرحة تحفة األحوذي ( 397 / 6ـ .)395
2مرويات خالفة معاوية ،خالد الغيث صـ .155
3شرح النووي على صحيح مسلم (.)201 / 12
4البداية والنهاية (.)134 / 11
5شرح الطحاوية صـ .545
6فيض القدير (.)409 / 2
7الصواعق المحرقة (.)206 / 11
8الدولة األموية للصالبي (.)183 / 1
9البداية والنهاية (.)206 / 11
110
كان رضي اهلل عنه يملك من الملكات الخطابية والفصاحة البيانية ،وصدق
العاطفة وقوة التأثير والقرب من رسول اهلل ما يجعله أكثر قوة وتماسكاً.
111
3ـ وجود بعض القيادات الكبيرة في صفة:
كان معسكر الحسن بن علي فيه من القيادات الكبيرة ،كأخيه الحسين رضي
اهلل عنه ،وعبد اهلل بن جعفر ،وقيس بن سعد بن عبادة ،وهو من دهاة العرب،
وعدي بن حاتم وغيرهم فلو أراد الخالفة ألعطى المجال لقيادته للتحرك نحو
تعبئة الناس والدخول في الحرب مع معاوية ،وعلى األقل يكون خليفة على
دولته إلى حين.1
4ـ معرفته لنفسية أهل العراق:
كانت له قدرات خاصة في التعامل مع أهل العراق ،ومعرفة نفوسهم ،ولذلك
زاد لهم في العطاء منذ بداية خالفته ،كما أن مهمته التي قادها في نجاح
مشروعه اإلصالحي كانت أصعب من حربه لمعاوية ،ومع ذلك تغلب على
الكثير من العوائق التي واجهته ،ومع ذلك تغلب على الكثير من العوائق التي
واجهته ،فقد حاولوا قتله ،ورفض بعض الناس الصلح ،وغير ذلك من العوائق
إال أنه تغلب عليها كلها وحقق األهداف التي رسمها من حقن الدماء ،ووحدة
األمة ،وأمن السبيل ،وعودة حركة الفتوح ..الخ مما يدل على قدراته القيادية
الفذة.2
5ـ تقييم عمرو بن العاص ومعاوية لقوات الحسن رضي اهلل عنه:
فقد جاء في البخاري :استقبل واهلل الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال
الجبال ،فقال عمرو بن العاص :إني أرى كتائب ال تولى حتى تقتل أقرانها،
فقال معاوية :أي عمرو ،إن قتل هؤالء من لي بأمور الناس؟ من لي بنسائهم؟
من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس عبد
الرحمن بن سمرة ،وعبد اهلل بن عامر بن كرير ،فقال :اذهبا إلى هذا الرجل
فأعرضا عليه وقوال له واطلبا إليه.3
112
ـ فعمرو بن العاص رضي اهلل عنه ،القائد العسكري الشهير ،والسياسي
المحنك ،والذي عركته الحروب يقول :إني أرى كتائب ال تولي حتى تقتل
أقرانها.
ـ وأما معاوية رضي اهلل عنه ،فتقييمه للموقف العسكري بأنه ال يستطيع أحد
أن ينتصر ويحقق حسماً عسكرياً إال بعد خسائر فادحة للطرفين ،وال يستطيع
معاوية حتى لو كان هو المنتصر أن يتحمل تركة الحرب من أرامل وأيتام
وقتل خير المسلمين ،وما يترتب على ذلك من مفاسد كبرى اجتماعية
وسياسية واقتصادية وأخالقية لألمة اإلسالمية ،ولذلك اختار معاوية
شخصيتين كبيرتين من أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ومن
أصحاب النفوذ في المجتمع اإلسالمي ،ولهم حضور واحترام عند الحسن
وهما من قريش فالشخصيتان اللتان أرسلهما معاوية رضي اهلل عنه تدل على
حرصه نجاح الصلح مع الحسن ،بأي ثمن ممكن ،وقد ظل زمام الموقف بيد
الحسن بن علي رضي اهلل عنهما ويد انصاره ،ولو لم يكن الحسن مرهوب
الجانب لما احتاج معاوية إلى أن يفاوض ويوافق على ما طلب من الشروط
والضمانات ،ولكان عرف ضعف جانب الحسن ،وانحالل قوته عن طريق
عيونه ولدخل الكوفة من غير أن يكلف نفسه مفاوضة أحد أو ينزل على
شروطه ومطالبه.1
كان الحسن بن علي رضي اهلل عنهما ذا خلق يجنح إلى السلم ،وكان رضي
اهلل عنه يملك رؤية إصالحية واضحة المعالم خضعت لمراحل وبواعث،
وتغلب على العوائق وكتب شروطه ،وترتب على صلحه نتائج ،وأصبح هذا
الصلح من مفاخر الحسن على مر العصور وتوالي االزمان فكان في صلحه
مع معاوية ،وحقنه لدماء المسلمين ،كعثمان في جمعه للقرآن ،وكأبي بكر في
حربه للمرتدين.2
113
6ـ أهم مراحل الصلح:
مر الصلح بمراحل من أهمها:
المرحلة األولى:
دعوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم للحسن بأن يصلح اهلل به بين فئتين
عظيمتين من المسلمين ،فتلك الدعوة المباركة التي دفعت الحسن رضي اهلل
عنه إلى اإلقدام على الصلح بكل ثقة وتصميم ،1فقد قال صلى اهلل عليه وسلم:
إن ابني هذا سيد ،ولعل اهلل أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين،2
فلم تكن نبوءة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،عن الحسن بن علي أنه
سيصلح اهلل به بين فئتين من المسلمين مجرد أنباء يسمعه الحسن والمسلمون
ويصد قوته كالنبوءات النبوية األخرى ،بل كانت الكلمة الموجهة الرائدة
للحسن بن علي رضي اهلل عنه في اتجاهاته وتصرفاته ومنهج حياته ،البد أنها
حلت في قرارة نفسه ،واستولت على مشاعره ،وامتزجت بلحمه ودمه
واعتبرها كوصية من الرسول صلى اهلل عليه وسلم ـ وهو نبيه وجده ـ وهو
يتكلم بهذه الكلمات رأى السرور في أسارير وجهه والبريق في عينيه صلى
اهلل عليه وسلم ،فتمسك به كهدف من أهداف حياته ،وكالمثل األعلى له في
مستقبله ،ولقد ظهرت آثار هذه النبوءة في جميع حركاته وسكناته حتى في
الحديث مع والده الكبير الذي يحبه حب االبناء البررة لآلباء العظام الذين
خصهم اهلل بمواهب ومناقب ،قلما يشاركهم فيها أفراد األمة ،وكان من أعرف
الناس بها بحكم النبوة ،والصحبة ،ويجعله إجالل العارفين والمعجبين ،وقد
أشار على أبيه علي بن أبي طالب بعد مقتل عثمان :أن يعتزل الناس إلى حيث
شاء من األرض حتى تثوب إلى العرب عوازب أحالمها ،وقال له :لو كنت
في جحر ضب الستخرجوك منها فبايعوك دون أن تعرض نفسك لهم ،وما
عزم علي على قتال أهل الشام ،وعزم على التجهز ،وخرج من المدينة وهو
114
عازم على أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه ،جاء إليه الحسن بن علي وقال :يا
أبت دع هذا ،فإن فيه سفك دماء المسلمين ووقوع االختالف بينهم.1
ولكن علي لم يقبل ما اشار به الحسن ،ولمن يكن ليترك الناس في فتنة دون
أن يؤدي ما يدين اهلل به من أمر بمعروف ونهي عن منكر ،ورد األمر إلى
نصابه والحق إلى أصحابه لكل وجهة هو موليها ،2وكان علي رضي اهلل عنه
مصيباً في رأيه ،وقد ظهرت المعجزة النبوية ،وبلغت ذروتها بتربية الحسن
بن علي على التربية الربانية ،من كون هذا االمام الفذ سيداً جليالً.
وليست السيادة بالقهر وسفك الدماء أو إهدار األموال والحرمات ،بل السيادة
بصيانتها وإزالة البغضاء والشحناء ،فصلحه وحقنه لدماء المسلمين بلغ فيه
ذروة السيادة التي ال يستطيعها من فكر بالقوة ،وهو يملك طرفاً منها ،وقد
صالح الحسن معاوية وحوله األلوف ،فيهم من هو طامع مدسوس ،ولكن فيهم
الكثير الكثير من المخلصين األوفياء ،فما أراد أن تراق بسببه قطرة دم ،أو
يخدش مسلم في هذا السبيل ،وإن الرئاسة لألقوام إن لم تكن لصيانتها
وحياطتها وحفظها وترقيتها ،فهي نوع من الطاغوت األعمى والتهور
األحمق ،والمغامرة والمقامرة التي تجلب معها الدمار والخراب واالذالل
والسباب ،وينتهي أصحابها إلى غضب اهلل ،ولعنة التاريخ ،وهل تدافع أمواج
الدماء البشرية عبر العصور والقرون إال من الحرص على الرئاسة والسلطان
والتكالب على الدنيا ،لقد كان الحسن زاهداً في الدنيا والملك والرئاسة ،ولو
أرادها ألدار الحرب الطحون سنين وسنين ،ولكنه كان ينظر إلى الدار
اآلخرة ،ويريد حفظ دماء أمة محمد صلى اهلل عليه وسلم.3
المرحلة الثانية:
شرط البيعة الذي وضعه الحسن رضي اهلل عنه أساساً لقبوله مبايعة أهل
العراق له ،ذلك الشرط الذي نص على أنهم يسالمون من يسالم ويحاربون من
115
يحارب ،1فقد أدخل الحسن رضي اهلل عنه بشرطه في عقلية العراقيين بأن
خيار السلم قابل للنقاش واألخذ والعطاء ،وليس فيه إرادة السلم على الحرب،
فهو يشتمل عليهما معاً ،وإن كان يوحي بالسلم ،وهذا دليل على عبقريته
وحسن قيادته ،ومعرفته باألمور ،كما أنه رضي اهلل عنه تقدم للخالفة لما
كانت مصلحة االسالم والمسلمين في ذلك.2
المرحلة الثالثة:
وقوع المحاولة األولى الغتيال الحسن رضي اهلل عنه بعد أن كشف عن نيته
في الصلح مع معاوية رضي اهلل عنه ،وهذه المحاولة يبدو أنها قد جرت بعد
استخالفه بقليل.
المرحلة الرابعة:
خروج الحسن بجيش العراق من الكوفة إلى المدائن وإرساله للقوة الضاربة
من الجيش وهي الخميس إلى مسكن بقيادة قيس بن سعد بن عبادة.3
المرحلة الخامسة:
خروج معاوية رضي اهلل عنه من الشام وتوجهه إلى العراق بعد أن وصل
خبر خروج الحسن من الكوفة إلى المدائن بجيوشه.
المرحلة السادسة:
تبادل الرسل بين الحسن ومعاوية ووقوع الصلح بينهما رضوان اهلل عليهما.
المرحلة السابعة:
محاولة اغتيال الحسن رضي اهلل عنه ،فبعد نجاح مفاوضات الصلح بين
الحسن ومعاوية رضي اهلل عنهما شرع الحسن رضي اهلل عنه في تهيئة نفوس
أتباعه على تقبل الصلح الذي تم ،فقام فيهم خطيباً ليبين لهم ما تم بينه وبين
1مرويات خالفة معاوية في تاريخ الطبري صـ.156
2خامس الخلفاء الراشدين للصالبي صـ.290
3المصدر نفسه صـ.291
116
معاوية ،وفيما هو يخطب هجم عليه بعض عسكره محاولين قتله ،لكن اهلل
سبحانه وتعالى أنجاه كما أنجاه من قبل.1
وكان موقف الحسن تجاه ما حصل له في معسكره وهو ما أخرجه ابن سعد
من طريق هالل بن خباب ،قال :جمع الحسن بن علي رؤوس أصحابه في
قصر المدائن فقال :يا أهل العراق ،لو لم تذهل نفسي 2عنكم إال لثالث خصال
لذهلت :مقتلكم أبي ومطعنكم بغلتي ،وانتهابكم ثقلي ،أو قال :ردائي عن
عاتقي ،وإنكم قد بايعتموني أن تسالموا من سالم وتحاربوا من حارب ،وإني
قد بايعت معاوية ،فأسمعوا له وأطيعوا ،قال :ثم نزل فدخل القصر.3
المرحلة الثامنة:
تنازل الحسن بن علي عن الخالفة وتسليمه األمر إلى معاوية رضوان اهلل
عليهم أجمعين :بعد أن أنجا اهلل سبحانه وتعالى الحسن بن علي من الفتنة التي
وقعت في معسكره ،ترك المدائن وسار إلى الكوفة ،وخطب في أهلها فقال:
أما بعد فإن أكيس الكيس 4التُقى ،وإن أحمق الحمق الفجور ،فإن هذا األمر
الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إما كان حق لي تركته لمعاوية إرادة إصالح هذه
األمة وحقن دمائهم ،أو يكون حقاً كان المرئ كان أحق به مني ،ففعلت ذلك:
" وَإِن أَدرِي َلعَلَّ ُه فِتنَةٌ َّلكُم َومَتَاعٌ إِلَى حِينٍ" (األنبياء ،آية .)111 :
7ـ من أهم أسباب ودوافع الصلح:
وأما أهم األسباب والدوافع للصلح الذي تم بين الحسن ومعاوية فهي:
أ ـ الرغبة فيما عند اهلل وإرادة إصًلح هذه األمة:
117
قال الحسن بن علي رضي اهلل عنهما رداً على نفير بن الحضرمي عندما قال
له :إن الناس يزعمون أنك تريد الخالفة ،فقال :كانت جماجم العرب بيدي،
يسالمون من سالمت ،ويحاربون من حاربت ،فتركتها ابتغاء وجه اهلل.1
ب ـ دعوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم:
إن دعوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم بأن يصلح بين فئتين عظيمتين من
المسلمين ،2دفعت الحسن إلى التخطيط واالستعداد النفسي للصلح والتغلب
على العوائق التي في الطريق ،فقد كان هذا الحديث الكلمة الموجهة الرائدة
للحسن في إتجاهاته وتصرفاته ومنهج حياته ،فقد حلت في قرارة نفسه،
واستولت على مشاعره وأحاسيسه ،واختلطت بلحمه ودمه ،ومن خالل هذا
التوجيه ،واستيعابه وفهمه له ،بنى مشروعه االصالحي ،وقسم مراحله ،وكان
متيقناً من نتائجه ،فالحديث النبوي كان دافعاً أساسياً وسبباً مركزياً في إندفاع
الحسن لالصالح.
ج ـ حقن دماء المسلمين:
قال الحسن رضي اهلل عنه ..:خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفاً ،أو
أكثر أو أقل كلهم تنضج أوداجهم دماً ،كلهم يستعدي اهلل فيم هُريق دمه3؟
وقال رضي اهلل عنه :أال إن أمر اهلل واقع ،إذ ماله دافع وإن كره الناس ،إني
ما أحببت أن لي من أمة محمد مثقال حبة من خردل يهراق فيه محجمة من
دم،قد علمت ما ينفعني ممّا يضرني ،الحقوا بطيتكم.4
ج ـ الحرص على وحدة األمة:
قام الحسن بن علي رضي اهلل عنهما خطيباً في إحدى مراحل الصلح ،فقال:
أيها الناس ،إني قد أصبحت غير محتمل على مسلم ضغينة ،5وإني ناظر لكم
1البداية والنهاية (.)206 / 11
2البخاري رقم .7109
3البداية والنهاية (.)206 / 11
4بطيتكم :جهتكم ونواحيكم.
5الضغينة :الحقد.
118
كنظري لنفسي ،وأرى رأيا فال تزدروا علي رأيي إن الذين تكرهون من
الجماعة أفضل مما تحبون من الفرقة.1
وقد تحقق بفضل اهلل ثم حرص الحسن على وحدة األمة ذلك المقتصد العظيم،
فقد ارتأى رضي اهلل عنه أن يتنازل عن الخالفة حقناً لدماء المسلمين وتجنباً
للمفاسد العظيمة التي ستلحق األمة كلها في المآل إذا بقي مصراً على موقفه،
من استمرار الفتنة وسفك الدماء ،وقطع األرحام ،واضطراب السبل وتعطيل
الثغور وغيرها وقد تحققت ـ بحمد اهلل ـ وحدة األمة بتنازله عن عرض زائل
من أعراض الدنيا حتى سمّي ذلك العام عام الجماعة ،2وهذا يدل على فقه
الحسن في معرفته العتبار المآالت ،ومراعاته التصرفات.
ونلحظ أن الحسن بن علي كان يناقش أتباعه ويبين لهم دوافعه ويرتقي بهم
نحو قناعته ولم يكن ممن تقوده الجماهير ،وهمه ما يطلبه المستمعون ،وإنما
شق طريقه وفق تصوراته وفهمه لحقائق األمور ونأى بنفسه أن يتأثر بضغط
عوام الناس ما دامت الخطوات التي يسير بها فيما رضي اهلل ،ومصلحة
المسلمين ،وهذا درس كبير لكثير من القيادات الشعبية في كون القائد هو الذي
يقود عامة الناس ويرتقي بهم نحو أهدافهم ،وفي مثل ظروف الحسن عادة
يكون الزعماء بين أمور:
ـ ما تطلبه الجماهير.
ـ من ال يهتم وال يرد على أحد.
ـ عمل الصواب والحق واإلرتقاء بالجماهير.
ونرى الحسن بن علي اختار الطريق الثالث وهو عمل الصواب والحق
واإلرتقاء بالجماهير نحو األهداف السامية التي رسمها ،ولذلك قام بتقديم رؤية
واضحة وخطوات تنفيذية عبر مراحل وتمهيدات ،ووضع شروط وتغلب على
عوائق ،واهتم بإقناع المخالفين لوجهة نظره وهذا هو الصواب واهلل أعلم.
1خامس الخلفاء الراشدين للصًّالًّبي صـ .308
2اعتبارات المآالت ومراعاة نتائج التعرفات صـ .167
119
ولهذا لما قيل للحسن من بعض المعترضين على الصلح :يا عار المؤمنين،
قال :للعار خير من النار ،1وفي روايا ابن سعد ... :إني اخترت العار على
النار.2
خ ـ مقتل أمير المؤمنين علي:
ومن األسباب التي دعت أمير المؤمنين الحسن بن علي إلى الصلح ما روّع
به من مقتل أبيه ،فقد ذلك فراغاً كبيراً في جبهة العراق ،وأثر اغتياله على
نفسية الحسن رضي اهلل عنه ،فقد ترك ذلك فراغاً كبيراً في جبهة العراق،
وأثر اغتياله على نفسية الحسن رضي اهلل عنه ،فترك فيها حزناً وأسى
شديدين ،فقد قتل هذا اإلمام العظيم بدون وجه حق ،ولم يرع الخوارج سابقته
في اإلسالم وأفضاله العظيمة ،ولخدماته الجليلة التي قدمها لإلسالم فقد كانت
حياته حافلة بالقيم والمثل والعمل على تكريس أحكام الشريعة على مستوى
الدولة والشعب.
لقد كان علياً رضي اهلل عنه معلماً من معالم الهدى وفارقاً بين الحق والباطل،
فكان طبيعي أن يتأثر المسلمون لفقده ،ويشعروا بالفراغ الكبير الذي تركه،
فقد كان وقع مصيبة مقتله على المسلمين عظيماً ،فجللهم الحزن ،وفاضت
مآقيهم بالدموع ولهجت ألسنتهم بالثناء والترحم عليه ،وكان مقتله سبباً في
تزهيد الحسن في أهل العراق؛ أولئك الذين غمرتهم مكارم أخالق أمير
المؤمنين وشرف صحبته ،فأضلتهم الفتن واألطماع ،وانحرفوا عن الصراط
المستقيم ،ونستثني من أولئك الصادقين المخلصين لدينهم وخليفتهم الرّاحل
العظيم رضي اهلل عنه وأرضاه ،فقد كان مقتله ضربة قوية وجهت لعهد
الخالفة الراشدة ،وكانت من أسباب زوالها فيما بعد.
س ـ شخصية معاوية:
120
إن تسليم الحسن بن علي الخالفة إلى معاوية ،مع أنه كان معه أكثر من
أربعين ألفاً بايعوه على الموت ،فلو لم يكن أهالً لها لما سلمها السبط الطيب
إليه ،ولحاربه.1
ك ـ اضطراب جيش العراق وأهل الكوفة:
كان لخروج الخوارج أثر في إضعاف أمير المؤمنين علي رضي اهلل عنه،
كما أن الحروب في الجمل وصفين والنهروان تسببت في ملل أهل العراق
للحرب ،ونفورهم منها ،وخاصة أهل الشام في صفين ،فإن حربهم ليست
كحرب غيرهم ،فمعركة صفين الطاحنة لم تفارق مخيلتهم ،فكم يتَّمت من
األطفال ،ورمّلت من النساء ،بدون أن يتحقق مقصودهم ،ولوال الصلح أو
التحكيم الذي رحب به أمير المؤمنين علي وكثير من أصحابه لكانت مصيبة
على العالم اإلسالمي ال يتخيل آثارها السيئة ،فكان هذا التخاذل عن المسير
مع علي رضي اهلل عنه إلى الشام مرة أخرى إلى فريق منهم تميل إليه
نفوسهم وإن كانوا يعلمون أنا علياً على حق ،2فقد استلم الحسن رضي اهلل
عنه الخالفة ،وجيش العراق مضطرب وأهل الكوفة مترددون في أمرهم،3
وهذا ليس على إطالقه؛ فجيش الحسن يمكن تقويته ،كما أن هناك فصائل منه
على استعداد للقتال ،وعلى رأسهم قيس بن سعد الخزرجي وغيره من القادة.4
ع ـ قوة جيش معاوية:
وفي الجانب اآلخر كان معاوية رضي اهلل عنه يعمل بشتى الوسائل سراً
وعالنية على إضعاف جانب أهل العراق منذ عهد علي رضي اهلل عنه،
فاستغل ما اصاب جيشه من تفكك وخالف ،واجتمعت لمعاوية رضي اهلل عنه
عوامل ساعدت على قوة جبهته ،منها طاعة الجيش له ،واتفاق الكلمة عليه
من أهل الشام ،وخبرته اإلدارية في والية الشام ،وثبات مصادره المالية،
121
وعدم تحرجه من دفع األموال من أجل تحقيق أهدافه التي يراها مصلحة
لألمة.1
8ـ شروط الصلح:
تحدثت الكتب التاريخية والمصادر الحديثة ،وأشارت إلى حصول الصلح وفق
شروط وضعها الطرفان ،ومن أهم شروط الصلح:
أ ـ العمل بكتاب اهلل وسنة نبيه وسيرة الخلفاء:
وقد ذكر هذا الشرط مجموعة من العلماء منهم :ابن حجر الهيثمي ،حيث ذكر
صورة الصلح بين الحسن ومعاوية ،وجاء فيها :صالحه على أن يُسلم إليه
والية المسلمين ،وأن يعمل فيهم بكتاب اهلل وسنة رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين ،2وهذا دليل على توقير الحسن بن
علي ألبي بكر وعمر وعثمان وعلي إلى حدِّ جعل من إحدي الشروط على
معاوية بن أبي سفيان رضي اهلل عنهم :أن يعمل ويحكم في الناس بكتاب اهلل
وسنة رسوله والخلفاء الراشدين ،3ففي هذا الشرط ضبط لدولة معاوية في
دستورها ومرجعيتها ومنهجها في الحياة.
ب ـ األموال:
ذكر البخاري في صحيحه أن الحسن قال لوفد معاوية ،عبد الرحمن بن
سمرة ،وعبد اهلل بن عامر بن كريز ،إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا
المال ،فمن لي بهذا؟ قاال :نحن لك به.4
ورُوي أن الحسن قال لمعاوية :إن عليّ عِدَات ودُيواناً فأطلق له بيت المال
نحو أربعمائة ألف أو أكثر ،5وذكر ابن عساكر :يسلم له بيت المال فيقضي
منه ديونه ومواعيده التي عليه ،ويتحمل منه هو ومن معه عيال أهل أبيه
1الدولة األموية (.)191 / 1
2الصواعق المرسلة (.)399 / 2
3الشيعة وأهل البيت صـ.54
4البخاري ،ك الصلح رقم .2704
5تاريخ اإلسالم للذهبي ،عهد معاوية صـ .64
122
وولده وأهل بيته ،1وذهب بعض المؤرخين إلى أن ابقاءه ما في بيت المال
معه "خمسة ماليين درهم" استبقاه ألولئك المحاربين الذين كانوا معه ،يوزعه
بينهم ،ويبقى لمعيشته له وألهل بيته وألصحابه ،2وال شك أن توزيع األموال
على بعض الجنود يساعد في تخفيف شدة التوتر.3
ج ـ العفو العام:
ويتضمن اتفاق الصلح بين الجانبين أن الناس كلهم آمنون ،ال يؤخذ أحد منهم
بهفوة أو إحنة ،ومما جاء في رواية البخاري :أن الحسن قال لوفد معاوية.. :
وإن هذه األمة عاشت في دمائها ،فكفل الوفد للحسن العفو للجميع فيما أصابوا
من الدماء ،4وقد تم االتفاق على عدم مطالبة أحد بشيء كان في أيام علي،
وهي قاعدة بالغة األهمية تحاول دون االلتفات إلى الماضي وتركز على فتح
صفحة جديدة تركز على الحاضر والمستقبل ،5وقد تم التوافق المبني على
االلتزام والشرعية ،حيث تم الصلح على أساس العفو المطلق من كل ما كان
بين الفريقين قبل إبرام الصلح ،وبالفعل لم يعاقب معاوية أحداً بذنب سابق،
وتأسس بذلك صلح الحسن على اإلحسان والعفو ،وتأليف القلوب.
وبهذا الصلح أخرج الحسن األمة من مشكلة استمرت منذ إغتيال عثمان ،ولم
تنته إال بإغتيال علي رضي اهلل عنهما.
إن هذه المصالحة قامت على إعطاء األمان للناس والعودة إلى الشرعية
المتأسسة على المرجعية المتفق عليها في المجتمع وتقديم وحدة األمة على
المصالح الفئوية ،والمتابع لمسار تاريخ المسلمين بعد المصالحة يلحظ
بوضوح اآلثار الكبيرة التي ترتبت عليها سواء بتحقيق األمن والرفاه
االجتماعي أو بتوسع رقعة الدولة وزيادة مواردها ،وهو أمر يحتم علينا اليوم
السعي بغية الوصول إلى صيغ المصالحة بين فئات المجتمع المتنوعة،
123
وتطبيقات راسخة تؤسس لمرحلة جديدة من األمن واالستقرار ،وهو أمر
يسترعي انتباهنا إلى أن الحوار مع كل فئات المجتمع مهما اختلفت بات أمراً
ملحاً ،ال يجوز التراخي فيه فضالً عن فداحة الخطأ في إشاحة النظر عنه،
فمجتمعنا وبرغم الكثير من االحتكاكات التي سقط جراء بعضها قتلى في كل
االتجاهات وعلى مختلف الجبهات اليزال يملك استناداً لهذه الخبرة التاريخية
أن يفتح باباً واسعاً للحوار والمصالحة ربما يصير بعد ذلك نموذجاً ومثاالً
يحتذى به.
س ـ مبدأ الشورى واَلختيار:
وأشارت شروط الصلح إلى مبدأ الشورى واالختيار جاء في نهي الصلح الذي
ذكره ابن حجر الهيثمي .. :بل يكون األمر من بعده "أي معاوية" شورى بين
المسلمين وروى عن الحسن قوله :أما والية األمر من بعده ،فيما أنا بالراغب
في ذلك ولو أردت هذا األمر لم أسلمه .هنا يتأكد لنا هذا الفهم الدقيق الذي
استمر عليه المسلمون حتى بعد ما مروا به من صعوبات جمة أدت إلى العديد
من المواجهات الداخلية الدامية إال أن الحسن رجع باألمة ألصلها األول وهو
أن الحكم مبدأه وانتهاؤه الشورى بين المسلمين خصوصاً وهو من قال ألبيه
رضي اهلل عنهما عند بيعته أن يوسع دائرة االختيار لتشمل كافة أقاليم الدولة
المسلمة وكان الحسن ينظر برؤية الشاب الذي يعي متطلبات عصره والتطور
الذي لحق بتركيبة المجتمع المسلم بعد أن دخلته شعوب كبيرة وعريقة،
وبغض النظر بعد ذلك من توريث معاوية األمر البنه يزيد ،فإن األساس
العلمي والبناء القيمي يؤكد أن المسلمين لم يكن لهم من سبيل سوى الشورى
الختيار الحاكم ومراقبة سير السلطة.1
9ـ نتائج المصالحة بين المسلمين:
ما أن تمت المصادقة على المصالحة بين المسلمين في الشام والعراق
وإعالنها بين الناس ،حتى باتت تظهر بجالء نتائجها اإليجابية ،فاجتمعت
124
األمة فيما عرف بعام الجماعة وانطلقت عجلة الفتوحات بعد أن توقفت سنين
عديدة ،وازدهرت الحركة العلمية في المدينة المنورة التي قادها الصحابة
العلماء ومن تلك النتائج:
أ ـ توحد األمة تحت قيادة واحدة:
نقش في الذاكرة التاريخية للمسلمين بأن العام الذي تمت فيه المصالحة
الكبرى عام 41هـ اسم عام الجماعة ،فمنذ ذلك التاريخ لعقود عديدة كانت
تقود األمة حكومة واحدة ومن عاصمة سياسية واحدة ،ومما الشك فيه أن
الفضل فيه هلل ثم لإلمام الحسن بن علي رضي اهلل عنه ،وقد قادت المصالحة
أن بايع كل الصحابة األحياء معاوية وفي ذلك يقول ابن حزم :فبويع الحسن ثم
سُلّم األمر إلى معاوية وبايع الصحابة كلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية،
ورأى أمامته ،ونتعلم من فقه الحسن وموقف الصحابة من بيعة معاوية فهمهم
العميق آليات النهي عن االختالف.
ق ِبكُم عَن
صرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَالَ تَتَّ ِبعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّ َ
قال تعالى ":وَأَنَّ هَـذَا ِ
سَبِيلِهِ ذَِلكُم وَصَّاكُم ِبهِ َلعََّلكُم تَتَّقُونَ" (األنعام ،آية .)153 :
ونهى اهلل سبحانه وتعالى هذه األمة عمّا وقعت فيه األمم السابقة من االختالف
والتفرق من بعد ما جاءتهم البينات وأنزل اهلل إليهم الكتب فقال سبحانه " وَال
َرقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَـئِكَ َلهُم عَذَابٌ
َتكُونُوا كَالَّذِينَ تَف َّ
عظِيمٌ" (آل عمران ،آية .)105 : َ
لقد تحقق بفضل اهلل ثم بنجاح الحسن بن علي في صلحه مع معاوية مقصد
عظيم من مقاصد الشريعة من وحدة المسلمين واجتماعهم والمصالحة بين
المسلمين والسعي إليها واألخذ باالسباب نحو تأليف قلوب المسلمين ،وتوحيد
صفهم من أعظم الجهاد في نظر اإلسالم ،ألن هذه الخطوة مهمة جداً في
إعزاز المسلمين ،وإقامة دولتهم وبسط العدل بين الناس ورفع الظلم عنهم.
125
وهذا يلقي علينا اليوم مسئوليات كبيرة تجاه الوطن ويجعل مسائل الحفاظ على
لحمة مجتمعنا وهويته ،وإقامة العدل وتحقيق المساواة وحماية الحريات ،هي
أولويات خطاب وتطبيقات المصالحة بعيداً عن أي تنازع سياسي يحاول فيه
كل طرف أن يثبت أحقيته في الحكم ،بل األولى اليوم أن تتوافق على بناء
الوطن وإرجاع الحقوق وبناء دولة القانون وتربية المواطن الصالح المتعلم
والمتدرب على قيم العدل والحرية والشورى.
ب ـ عودة الفتوحات إلى ما كانت عليه:
لقد كانت من أهم األعمال التي انطلقت منذ عهد النبي صلى اهلل عليه وسلم
وحتى مقتل عثمان رضي اهلل عنه حركة الفتوحات العظيمة التي حملت
اإلسالم للناس بقيمه الرفيعة ومبادئه الحميدة ومقاصده الكريمة ،وكانت
النتيجة أن دخل الناس في دين اهلل أفواجاً ولكن فتنة مقتل عثمان رضي اهلل
عنه أكبر معوق أصاب الدعوة اإلسالمية بعد حركة الردة في عهد أبي بكر
حيث أدى استشهاد عثمان إلى توقف الجهاد واتجاه سيوف المسلمين إلى
بعضهم في فتنة كادت تعصف باألمة اإلسالمية لوال أن تداركتها رحمة اهلل
سبحانه وتعالى بصلح الحسن بن علي مع معاوية رضي اهلل عنهما وقد
امتألت المصادر التاريخية بالنصوص التي تبين أثر الفتنة في انحسار حركة
الجهاد وكانت من نتائج المصالحة عودة حركة الجهاد إلى ما كانت وأصبحت
تعمل في عهد معاوية على ثالث جبهات رئيسية هي جبهة الروم ،وجبهة
المغرب ،وجبهة سجستان وخراسان وما وراء النهر ،إن توقف حركة
الفتوحات يدل على مدى األزمة التي تنجر إليها الدولة والمجتمع عندما تنقسم
القوى ،وتتعارض اإلرادات ،وتستبد باألمر بعضها دون اآلخر ،وبالمصالحة
تعود الدولة والمجتمع إلى العافية وتنطلق في عملية نهضوية واسعة وعميقة
وتنمو الموارد ،ولن تقوم مصالحة بعيداً عن صياغة دستورية واضحة المعالم
تبين الحقوق وتحفظها وتسرد الواجبات وتكفل االلتزام بها ولقد مررنا في
وطننا باختناقات عديدة على المستوى السياسي والثقافي والتربوي
واالقتصادي والحقوقي والعسكري ،واألمني واالجتماعي ،ونحن اليوم أحوج
126
ما نكون لصياغة مصالحة ال تستثني أحداً لعلنا ننطلق في البناء ونتراجع عن
الهدم.
ج ـ تحقيق األمن الداخلي:
ومن نتائج المصالحة المهمة أن الدولة تفرغت لحركة تمرد واسعة تمثلت في
الخوارج ،فقد تربت على المصالحة التضييق والتصدي للخوارج واتسمت
حركة الخوارج في عهد معاوية بالعشوائية واالرتجال وقلة التنظيم ،وكانت
أشبه ما يكون بعمليات انتحار جماعي ألنهم يخرجون بفئات قليلة ال تلبث أن
تستأصل لمواجهة العنف الداخلي في أي مجتمع البد من دولة قوية يلتف
حولها شعبها والبد من مصالحة داخل الوطن تنهي حالة االحتقان وتقطع
الطريق على أي محاولة الستغالل أوضاع سياسية أو اقتصادية أو ثقافية غير
طبيعية وذلك بالحوار والمصالحة وإصالح تلك األوضاع بحلول وإجابات
تنطلق من صعوبة الواقع وليس فقط تجريد االفكار.
س ـ بروز النهضة العلمية:
في المدينة بعد المصالحة ترك الحسن الكوفة بعد تنازله لمعاوية ورجع بمن
معه من أصحابه وبني هاشم إلى المدينة واستقر بها ،وكان الهاشميون محل
اإلجالل والتكريم واالحترام من معاوية وكانت زعامتهم عند الحسن بن علي
وكانت المدينة في تلك الفترة يسكنها عدد كبير من علماء الصحابة يضاف
إليهم عدد من التابعين ممن تتلمذوا على الصحابة العلماء وساروا بسيرتهم
ونهجوا وهؤالء كانوا خليطاً من المهاجرين واألنصار ومن غير المهاجرين
واألنصار ،وقد نتج عن المصالحة استقرار أدى إلى حدوث نهضة عليمة
واسعة قادها علماء الصحابة من أمثال الحسن بن علي ،وعبد اهلل بن عمر،
وعبد اهلل بن عباس ،وأبو هريرة ،وأبو سعيد الخدري ،وجابر بن عبد اهلل،
وكانت أجواء المدينة خيراً على الحياة العلمية حيث تفرغ طالب العلم فيها
لرواية الحديث وتفسير القرآن ،واستنباط األحكام الفقهية ،فقصدها الناس من
أجل العلم ،فقد كان بها الهدوء واالطمئنان الذي يساعد على العلم والبحث.
127
ش ـ الخبرة التاريخية من فتح مكة وصلح الحسن بن علي رضي اهلل عنه:
تؤكد الخبرتان التاريخيتان الفرق الواضح بين العفو والمصالحة من جهة
وبين العدالة الحاسمة التي تسعى لفتح كافة الملفات السابقة ومالحقة كل
الجزيئات مما يشغل الوطن بأسره لسنوات أو عقود ال أحد يقدر نهايتها ،ثم
إلى متى سنواصل تطبيق تلك العدالة بدون أي تحول تجاه االنتقام والتوسع
في القصاص ،مما يعود بنا من جديد لنقطة البداية ،فيصبح الظالم مظلوماً
يطالب هو بتطبيق العدالة الحاسمة على من كان مظلوماً وضحية باألمس
القريب كان العفو في فتح مكة انطالقة جديدة لإلسالم والمسلمين ودعوتهم
بين العالمين وماذا لو استسلم المسلمون لمشاعرهم البشرية الراغبة بأقل تقدير
في تقدير العدل الحاسم الذي تفصل فيه التهم وتجمع األدلة ويصبح للقضاء
كلمته األخيرة ،وغالباً ما يضيق مجال الصفح بعد أن تنكأ الجراحات من
جديد ،وبالتأكيد فإن تطبيق هذا العدل الحاسم كان سيقضي على شخصيات
مهمة شاركت في رسم تاريخ البشرية جمعاء في حركة الفتوحات اإلسالمية
ونظام الحكم ونشر العلم ،الذين بنوا وأسسوا دولة مهمة في مجمل التاريخ
اإلنساني وما كان لنا أن نقرأ صفحات من تاريخ الحركة العلمية والفكرية،
والفقهية واتجاهات الزهد ومدارس التصوف ،والعلوم التطبيقية التي ساهمت
كالطب والهندسة ،والكيمياء وما سواها في تاريخ المسلمين.
لقد كان الكثير مما ذكرنا وأكثر ،مما نتج عن حركة االستعاضة بالعفو
والصفح الجميل عن تطبيق مفهوم العدل الحاسم ،األمر الذي تحقق بامتناع
القيادة ،واألصحاب عن المطالبة بالعدالة الصارمة لغايات أسمى وأهداف
أعظم من الناحية السياسية واألمنية واالقتصادية واالجتماعية والثقافية
والدينية.
فمن الناحية السياسية يحفظ العفو الجميل وحدة األمة السياسية حيث يركز في
حركة ما بعد العفو على تصحيح األخطاء وتقوية الدولة وإشراك الجميع دون
إقصاء لمن كان مهيمنا على األمر من قبل وتعميق مفاهيم الشراكة والتعاون
128
والتعايش ،وتوثيق وتدوين مبادئ هذا التشارك والتعايش وتثقيف وتنشئة
األجيال عليه.
وأما من جهة األمن فإن العدل الحاسم قد يقود إلى رفض بعض من سيمسهم
هذا العدل بسبب مخاوف من نتائج هذا العدل التي قد تكون سلباً للحياة أو
األموال والنفود وهو ما لن تقبله الكثير من الجهات الحاكمة سابقاً.
وهي إذ ترفض هذه الفكرة فإنها ال تزال تملك الكثير من عناصر القوة
الميدانية والسياسية مما يجعل األوطان تقف على شفا حروب وصراعات
أهلية قد ال يخرج منها أي منتصر وال نحصد منها سوى ترسخ ثقافة االنتقام
والمالحقة.
وأما من الناحية االقتصادية ،فإننا لن نختلف كثيراً في تلمس ما يترتب على
رفض العفو والمصالحة والتغافر من آثر على الوطن والمواطن بعد أن
يتخندق المتخاصمون وتنطلق مدافع الحرب وأما االعتبارات اإلجتماعية ،فإن
العفو العام يزيد بال شك من تآلف مكونات ووشائح المجتمع المتنوعة ثقافيا
ولغوياً وعرقياً ودينياً في حال اختالف األديان وهذا مقصد استراتيجي يجب
التفكير فيه بدال من اإلصرار على طريقة تنتهي إلى تنافر وتمزق مكونات
المجتمع ،وإعادة تخندقها خوفاً من االنتقام باسم العدالة .وأخيراً ال آخراً فإن
العفو يضع خبرة تاريخية تتأسس عليها ثقافة األجيال األمر الذي يوحد ضمير
الوطن ويزيد من مساحات التعايش والقبول باالختالف وتتعمق ثقافة تقديم
المصلحة العامة على الخاصة والممتدة إلى اآلنية المؤقتة.
إننا في وطننا اليوم بحاجة إلى أن نتماسك ونتغافر ،لنؤسس ونمهد لخبرة
العدل في إحقاق الحقوق والقسط في مراعاة المشاعر والعفو والتسامح لفتح
شموس األمل ،وصروح البناء التي ستتحول إلى مناهج للتعليم وموجهات
للفكر ومحددات للثقافة ،وإطار لبناء دستور الدولة التي ال يقوم على اإلقصاء
واالنتقام واللمز كما هو واقع الحال في بعض الدساتير التي تغلبت نزعة
االنتقام على واضعيها.
129
الحادي والعشرون:
جنوب إفريقيا :التوازن بين العدل والمسؤولية واَلستقرار والسًلم المدني
والمصالحة:1
دشن اإلفراج عن الزعيم نيلسون مانديال بتاريخ 90/2/11بداية مسار معقد
ومتفاوض حوله ،خص السلم المدني واالنتقال الديمقراطي بين حكومة البيض
وتجمع المؤتمر الوطني ،وأعلن رسمياً عن ذلك بيان الرئيس دي كليرك في
نفس الشهر الذي أفرج فيه عن مانديال.
انصبت المفاوضات بين الطرفين في مرحلة أولى ـ دامت قرابة 3أشهر ـ
على وضع أسس التفاوض والتدابير المستعجلة ،وصدر "بيان الكاب" في
شهر ماي ،1990والذي عبر عن "االلتزام المشترك لتبديد مناخ العنف
والتهديد أيا كان مصدرهما ،فضال عن تحقيق االلتزام وفق عملية متفاوضة
سلمية".
لفهم السياق وما يشمله من المسارات والصيغ واألشكال التي طرح بها،
وعولج على ضوئها موضوع تصفية ماضي االنتهاكات الجسيمة لحقوق
اإلنسان ،يتعين استحضار الشروط الخاصة للصراع المرير الذي عرفته
جنوب إفريقيا.
على خالف باقي التجارب التي كان الصراع فيها من أجل استالم السلطة أو
استعادتها مدنياً ،واجه السود نظام األبارتيد ـ تأسس رسمياً منذ 1948م ـ بما
هو نظام فصل عنصري حكمته سياسة الحديد والنار وأطرته أنظمة قانونية
خاصة ،كقانون مناطق الجماعات ،قوانين األرض واإلقامة والطوارئ
وتسجيل السكان وتنقلهم.
وفي ظله أختبر ومارس النظام العنصري كل أشكال االنتهاكات الجسيمة،
وبالمقابل واجهت هذا النظام حركات سياسية عسكرية مدنية وثقافية ظلت
1الحديث عن جنوب أفريقيا أخذ من كتاب دليل حول العدالة االنتقالية ،إعداد أحمد شوقي بنيوب تقديم الدكتور الطيب البكوش بدعم من
مؤسسة الصندوق الوطني للدمقراطية.
130
مستفيدة على الدوام من دعم إنساني عالمي متنام ،ومن القيادة المعنوية
لنيلسون مانديال.
وعرفت المواجهة كل فنون الحرب المدنية والعسكرية ،وهي المواجهة التي
انتهت بعد قرابة ثالثة عقود إلى وضعية "ال غالب وال مغلوب" أو كما
وصفها فيما بعد عند بدء المفاوضات ،القس "ديسموند توتو" نحن أهل جنوب
إفريقيا ال يمكن أن ننجو وننتصر إال معاً ،سوداً وبيضاً باعتبارنا مرتبطين
بالظروف والتاريخ ،مكافحين من أجل الخروج من هذا المستنقع المتمثل في
نظام االبارتيد ،ال يمكن ألية مجموعة أن تنتصر وحدها.
على مدار قرابة ست سنوات ،خضع مسلسل تصفية ملفات االنتهاكات
الجسيمة لعدة مراحل في مرحلة أولى ،وبمقتضى اتفاق "الكاب" ماي ،90
اتفق على آليات وإجراءات ومساطر متدرجة في الزمان والمكان في أفق
التصفية الشاملة ومن بينها بصفة رئيسية:
ـ إنشاء فريق عمل عهد إليه بإعداد "تعريف للجرائم السياسية في الحالة
الخاصة بجنوب إفريقيا على قاعدة اإلفادة من القواعد واآلليات الالزمة
لموضوع اإلفراج عن المعتقلين السياسيين ومنح الحصانة فيما يتعلق بالجرائم
السياسية لمن يتواجدون داخل جنوب إفريقيا وخارجها".
ـ قيام الحكومة باتخاذ اإلجراءات لمنح الحصانة المؤقتة لقياديين وأعضاء في
المؤتمر الوطني بهدف "تمكينهم من العودة للمساهمة في تنفيذ التزامات بيان
الكاب".
وعلى ضوء تقرير أعد بخصوص تعريف الجرائم السياسية ،أبرم الطرفان
(الحكومة وحزب المؤتمر الوطني) اتفاقاً ثانياً في غشت 1990م عرف
بمذكرة بريتوريا ،وضعت بموجبها خطة "لإلفراج عن السجناء النتصلين
بالمؤتمر الوطني وبعدم إجراء محاكمات مباشرة".1
131
بعد حصول هذا االتفاق ،وتتويجاً إلجراءات هذه المرحلة األولى ،صدر في
نونبر 1990م بالجريدة الرسمية إعالن حكومي لوزارة العدل أقر المبادئ
التوجيهية لتعريف الجرائم السياسية ومنح المعتقلين والمنفيين المتورطين في
النزاعات المسلحة العفو واإلعفاء من المقاضاة والحصانة المؤقتة.
مكن هذا اإلعالن والذي صاغ بدقة المصالح المتوازنة للطرفين من إضفاء
الشرعية على المبادئ التوجيهية التفاق الكاب "ماي "90ومذكرة بريتوريا
"غشت "90وفي إطارها تمت دراسة كل حالة على حدة حسب "الباعث
السياسي للجرم والسياق الذي اقترف فيه وطبيعة الهدف السياسي وطابعه
القانوني ومستوى فداحته وهدفه والعالقة بين الفعل والهدف السياسي المراد
تحقيقه وفيما إذا كان قد اقترف تنفيذاً ألمر أو بموافقة المنظمة أو المؤسسة أو
الهيئة المعنية".
شكلت هذه اإلجراءات مدخالً مهماً لرفع حاالت الطوارئ وإطالق سراح
المعتقلين وفي استعادة أجواء األمن والشروع في المفاوضات حول الدستور
االنتقالي وتسريع وتيرة التحاق باقي االطراف واألحزاب السياسية بعملية
المصالحة الوطنية التي ستنتظم كقوى سياسية إلى جانب حزب المؤتمر
الوطني في "المجلس التنفيذي االنتقالي" "ومجلس التفاوض المتعدد".
في سياق هذا الوضع وعلى خلفيته طرحت بصفة متداخلة ثالثة قضايا بالغة
التعقيد :البحث في االنتهاكات وتعويض الضحايا وإعادة تأهيلهم والعفو العام
في إطار قضية واحدة هي المصالحة الوطنية.
ولدعم مسار الوحدة الوطنية والمصالحة ،كمسار سياسي انتقالي بالدرجة
األولى ،أصل الدستور االنتقالي لمبدأ المصالحة ذاته بتأكيده على أن:
"يضع هذا الدستور جسراً تاريخياً بين ماضي مجتمع مزقته االنقسامات
والصراعات والمعانات والظلم وبين مستقبل مبني على االعتراف بحقوق
اإلنسان والديمقراطية والتعايش السلمية وآفاق االعتراف بتنمية ممنوحة
لجميع سكان جنوب إفريقيا كيفما كان لون بشرتهم أو عرقهم أو طبقتهم
132
االجتماعية أو جنسهم ،كما أن البحث عن الوحدة الوطنية والرفاهية لجميع
سكان جنوب إفريقيا يفترضان المصالحة بينهم جميعاً".
طريقة مستوية فقد المرحلة االنتقالية أمراً سهالً أو على لم يكن إنجاز
1990إلى انتخاب المرحلة قرابة أربع سنوات من يناير استغرقت هذه
التي وصفها القس بتاريخ 1994/4/27م ،وهي المرحلة مانديال رئيساً
ساخن وعلى حافة حدود 1994كنا نعيش فوق صفيح ديسموند "إلى
الهاوية".
كان من بين القرارات األولى التي اتخذها نيلسون مانديال بعد انتخابه من
طرف الجمعية الوطنية المنتخبة ديمقراطياً تشكيله لمفوضية الحقيقة
والمصالحة ودعوته الجميع إلى التعاون معها.
انشئت مفوضية جنوب إفريقيا للحقيقة والمصالحة من 17شخصية مشهود
لها بالكفاءة والتخصص من عالم الطب والقضاء والحقوق ،وروعيت فيها
التمثيلية اإلقليمية والسياسية والدينية وتوزع أعضاؤها على ثالث لجن
رئيسية :لجنة االنتهاكات ،ولجنة إصالح الضرر وإعادة االعتبار ،ولجنة
العفو.
أسندت رئاسة اللجنة إلى رجل الدين البارز والعميد السابق لجوهانسبيرج
القس "ديسموند توتو" يمثل الكتاب القيم "ال مستقبل دون صفح" للقس
ديسموند عن تجربة مفوضية الحقيقة والمصالحة مصدراً ثريًا لفهم أعمق
لتجربة جنوب إفريقيا وفضالً عن كونه صادراً عن رئيس اللجنة فإن صاحبه
في نفس الوقت شخصية قادمة من أعماق التسامح ومن مذهب عقدي يحتل
فيه االعتراف مكانة بارزة في النسق الديني.
أما بخصوص المرتكزات الفلسفية ،اإلنسانية ،الحقوقية ،لهذه التجربة فيمكن
الوقوف على مالمح رئيسية منها:
133
ـ أستند عمل مفوضية الحقيقة والمصالحة على التأصيل الدستوري لمفهوم
المصالحة واستهدف في عملها إيجاد "توازن دقيق بين متطلبات العدل
والمسؤلية والسالم المدني والمصالحة".
ـ أستبعدت اللجنة خيار "نورنبورغ" الذي أحدث غداة الحرب العالمية
لمحاكمة مجرمي النازية ،حيث "ال أحد من المعسكرين كان في موقع فرض
عدالة المنتصرين فال أحد منهما انتصر انتصاراً حاسماً يسمح له بذلك ،بل
وصلنا إلى مأزق على المستوى العسكري".
ـ بخصوص طبيعة اللجنة ،وفيما إذا كانت جهازاً قضائياً أو شبه قضائي وهو
إشكال أثير في كل التجارب ،اعتبر رئيسها "أن المفوضية وسيلة أكثر فعالية
من المحكمة للوصول إلى الحقيقة ،مادام أن المعنيين كانوا مطالبين باالدالء
باعترافات كاملة من أجل الحصول على العفو ،وهكذا انقلبت العملية القضائية
وأصبح على المهتمين أن يثقلوا كاهلهم بالوقائع وهم مستعدون للبوح بكل
شيء".
فيما يتعلق بتقدير وسائل االتهام واإلثبات ضد المسؤولين عن االنتهاكات
الجسيمة وقوة األدلة ـ وهي من أعتقد اإلشكاليات التي اعترضت الخبراء
الدوليين ،ـ يؤكد القس توتو بعض استنتاجاته المريرة في بعض جوانب هذا
الموضوع.
" لقد سمح الحفاظ على السر والسلطوية معا على إخفاء الحقيقة في مناطق
الظل من تاريخنا ،والملفات أصبحت صعبة التناول والشهود مجهولين في
الغالب أو ماتوا ،أو يرفضون التحدث ،وكل ما تبقى فعلياً ،وفي أغلب
الحاالت هو الذكريات المؤلمة والشكوك الغريزية والخطيرة والصادقة
بالنسبة لمن بقوا على قيد الحياة ،لكنها شكوك يستحيل تحويلها على حجج
دامغة وموضوعية يسند بعضها البعض وتصمد أمام صرامة القانون" علماً
أن عدداً هاماً من الذين مثلوا أمام لجنة الحقيقة والمصالحة كانوا من" مرتكبي
134
الجرائم واإلنتهاكات والجنح والذين لم يفتهم استعمال الوسائل المهمة للدولة
إلتالف الدالئل وإخفاء جرائمهم".
ـ وبخصوص إشكالية العفو على الجناة ،وضعها وحلها في مرتكزات التوازن
بين العدل والمسؤلية واإلستقرار والسلم المدني كمكونات أساسية لمعادلة
المصالحة ولم يتم النظر في العفو بصفة عامة أو آلية.
" في حالة جنوب افريقيا ما كان للعفو ان يكون عاماً أو توماتيكياً ،كان من
الضروري ان يتقدم طالبوه بطلب فردي ،ثم التقدم امام لجنة هي الوحيدة
المؤهلة إلتخاذ القرار إذا كان يستجيب للشروط الصارمة المطلوبة حتى يمنح
لهم العفو ...لهذا السبب تم استبعاد الخيار الثاني المتعلق بعفو عام إذ بإلضافة
إلى االسباب التي سبق ذكرها ،أحسسنا إحسساً عميقاً بان طلب العفو العام
يشبه رغبة في فقدان الذاكرة ،ولقد الحظ أحدنا بأن ال أحد منا له السلطة في
محو الماضي بضربة من العصا السحرية.
وضعت اللجنة قضية العفو كخيار ثالث بين اختيارين متطرفين :محاكمة
نورنبورغ او فقدان الذاكرة وهنا تبرز قيمة اإلجتهاد الذي قدمته جنوب
إفريقيا.
تجلى هذا اإلختيار في عفو ممنوح بشكل فردي مقابل اعترافات كاملة ذات
عالقة باإلنتهاكات الخطيرة المرتبكة".
يتعين التذكير بأن سلطة المفوضية في إقرار العفو أو رفضه استندت إلى
اختصاص تشريعي أقره البرلمان وحددت شروطه بدقة في:
ـ أن تكون االفعال التي يطلب بسببها العفو ،قد اقترفت ما بين السنة شهدت
مجزرة شاربفيل ـ بداية الستينات ـ وسنة تولي الرئيس مانديال ـ منتصف
التسعينات ـ .
ـ ان تكون ذات دوافع سياسية ،ومورست من طرف حركات معترف بها
رسمياً.
135
ـ أن يتقدم المعنيون اعترافات المدانة قد احترمت قاعدة التناسب.
كما نص القانون على انه عند استكمال هذه الشروط يصبح العفو قائمًا
وبإمكان الضحايا اإلعتراض عليه وتبريره باعتبار أن القضاء هو الجهة
المختصة لعرض استئنافهم بخصوصه.1
136
اإلنسان والديمقراطية والتعايش السلمي بين مواطني جنوب إفريقيا ،بغض
النظر عن اللون والعرق والطبقة والعقيدة والجنس.
ـ إحقاق الحقيقة فيما يتعلق بأحداث الماضي ،وبالدوافع واالحداث التي
ارتكبت خاللها انتهاكات جسيمة لحقوق اإلنسان ،وإعالنها ،حتى ال يتكرر
ارتكاب أفعال مماثلة في المستقبل.
ـ أن السعي إلى الوحدة الوطنية ورفاهية كل مواطني جنوب إفريقيا والسالم
كما ينص على ذلك الدستور وإقرار المصالحة بين مواطني جنوب إفريقيا
وإعادة إعمار المجتمع.
3ـ العضوية والتكوين:
ـ تميزت مفوضية جنوب إفريقيا من هيئة مركزية ومن لجان خاصة.
3/1تشكيل المفوضية
تكونت المفوضية من:
ـ عدد ال يقل عن 11وال يزيد عن 17مفوضاً.
ـ يقوم الرئيس بتعيين المفوضين بالتشاور مع مجلس الوزراء.
ـ اختير المفوضون من بين أشخاص مناسبين والئقين غير منحازين وال
يحتلون مكانة سياسية عالية.
ـ عدم اختيار أكثر من شخصين ليسا من مواطني جنوب إفريقيا.
ـ أعلن قرار الرئيس بتعيين المفوضين في الجريدة الرسمية.
ـ أعلن الرئيس أحد المفوضين رئيساً ،وآخر نائبًا لرئيس المفوضية.
ـ جاز ألي مفوض أن يستقيل من منصبه كمفوض في أي وقت شاء ،بتقديم
استقالة مكتوبة إلى الرئيس.
137
ـ جاز للرئيس أن يقيل أي مفوض من منصبه بسبب إساءة التصرف ،أو
العجز أو عدم الكفاءة التي تحددها لجنة مشتركة بعد تلقي كتاب من الجمعية
الوطنية ومن مجلس الشيوخ.
اللجان الخاصة:
عملت اللجان الخاصة تحت إشراف المفوضية باعتبارها متفرعة عنها،
ورفعت إليها تقارير مؤقتة وتوصيات ،وعند إتمام مهامها قدمت تقريراً شامالً
عن كل أنشطتها وقراراتها المرتبطة بإنجاز مهامها ،وهذه اللجن هي:
أ ـ لجنة انتهاكات حقوق اإلنسان
تكونت من رئيس ونائبي رئيس ،وهما مفوضان عينتهما المفوضية،
ومفوضون آخرون في وظائف حددتها اللجنة ،كما استعانت اللجنة بمواطنين
من جنوب إفريقيا مناسبين مؤهلين ،ذوو خبرة بإجراءات التحقيق وتقصي
الحقائق.
ب ـ لجنة العفو
تكونت من رئيس ونائب رئيس وثالثة أعضاء آخرين مناسبين ومؤهلين.
عين رئيس الجمهورية رئيس اللجنة ،وهو قاض ،ونائباً للرئيس ،وعضواً
آخر ،كما عين بعد التشاور مع المفوضية ،مفوضين اثنين كأعضاء في
اللجنة.
3/2لجنة التعويض وإعادة التأهيل
تتكون اللجان من رئيس ونائب للرئيس وخمسة أعضاء على األكثر
ومفوضين تعينهم المفوضية ،كما تعين اللجنة أشخاصاً مناسبين مؤهلين،
ويبقى رئيس اللجنة ونائبه من المفوضين الذين تعينهم المفوضية.
اَلختصاصات وتحديد المسؤوليات وقضية العفو
138
4ـ اَلختصاص الزمني
حدد القانون االختصاص الزمني في الفترة التاريخية الممتدة من 1
مارس 1960إلى الفترة المسماة بتاريخ االنقطاع المقترح في الدستور ،وبذلك
فإن االختصاص الزمني قد شمل ما يربو على 34سنة.
5ـ اَلختصاص النوعي
ورد اإلختصاص النوعي العائد للمفوضية بمقتضى القانون من خالل الفقرة
المتعلقة باألهداف ومن خالل اإلحاالت الخاصة بموضوع اإلنتهاكات
الجسيمة لحقوق اإلنسان.
أكدت اَلهداف على:
ـ تعزيز الوحدة والمصالحة الوطنية في روح من التفاهم تتعالى فوق
صراعات وإنقسامات الماضي من خالل:
ـ رسم صورة كاملة قدر اإلمكان لطبيعة وأسباب ومدى اإلنتهاكات الجسيمة
لحقوق اإلنسان ،والتي ارتكبت خالل الفترة من 1مارس /آذار 1960إلى
تاريخ اإلنقطاع ،ويتضمن ذلك سوابق ،وظروف ،وعوامل وسياق تلك
اإلنتهاكات ،ووجهات نظر الضحايا ،ودوافع ،ووجهات نظر األشخاص
المسؤولين عن ارتكاب اإلنتهاكات ،وذلك من خالل إجراء تحقيقات وعقد
جلسات استماع.
ـ تسهيل منح العفو لألشخاص الذين يكشفون كشفا كامالً عن كل الحقائق
المتعلقة بأفعال مرتبطة بهدف سياسي ،والذين يمتثلون لكل مستلزمات هذا
القانون.
ـ تحديد وإعالن مصير ومكان الضحايا ،ورد الكرامة المدنية واإلنسانية
لهؤالء الضحايا ،بإعطائهم فرصة لسرد رواياتهم الخاصة عن هذه االنتهاكات
139
التي كانوا ضحاياها ،وبالتوصية بإجراءات تعويضية .بخصوص هذه
االنتهاكات.
ـ إعداد تقرير يعطي بياناً كامالً قدر اإلمكان لفعاليات واستنتاجات الموفضية،
ويتضمن توصيات إلجراءات للحيلولة دون إنتهاك حقوق اإلنسان في
المستقبل.
كما أكد القانون بخصوص موضوع اَلنتهاكات الجسيمة لحقوق اإلنسان
على:
االنتهاكات الجسيمة لحقوق اإلنسان ،بما فيها االنتهاكات التي كانت جزءاً من
نمط منتظم من اإلساءة.
طبيعة وأسباب ومدى االنتهاكات الجسيمة لحقوق اإلنسان ،ويتضمن ذلك
السوابق والظروف ،والعوامل والسياق ،والدوافع ووجهات النظر التي أدت
إلى إرتكاب هذه اإلنتهاكات.
هوايات كل األشخاص والسلطات ،والمؤسسات والتنظيمات المتورطة في هذه
اإلنتهاكات.
تحديد ما إذا كانت هذه اإلنتهاكات نتيجة تخطيط مقصود من جانب الدولة أو
أو من جانب دولة سابقة أو أي من أجهزتهما ،أو أي تنظيم سياسي ،أو حركة
تحرير أو أية مجموعة أخرى أو فرد آخر.
المسؤول عن هذه االنتهاكات ،سواء كانت سياسية أو غير سياسية.
وبخصوص مفهوم اَلنتهاكات الجسيمة لحقوق اإلنسان حدد قانون
المفوضية بأنها ،تعني إنتهاك حقوق اإلنسان من خًلل:
القتل ،أو االختطاف ،أو التعذيب أو المعاملة المهينة ألي شخص.
أية محاولة أو مؤامرة ،أو تحريض أو إثارة ،أو أ/ر أو تدبير ارتكاب فعل،
يكون قد نتج عن صراعات الماضي ،وتم ارتكابه خالل الفترة من 1
140
مارس/آذار 1960إلى تاريخ االنقطاع داخل أو خارج الجمهورية ،وكان
ارتكابه نتيجة ،أو تخطيطاً ،أو توجيهاً أو أمراً من أي شخص يتصرف بدافع
سياسي.
6ـ تحديد المسؤوليات وقضية العفو:
أشرنا في معرض القسم المتعلق بتاريخ العدالة اإلنتقالية إلى السياق الخاص
بجنوب إفريقيا وإلى موضوع تحديد المسؤوليات كما فسره رئيس المفوضية
القس ديسموندتوتو.
ـ اندمج موضوع تحديد المسؤوليات في تجربة جنوب إفريقيا مع قضية العفو
المشروط في تالزم متداخل.
ـ قاربت تجربة جنوب إفريقيا موضوع المسؤوليات في إطار توازن دقيق
دمج بين متطلبات السلم المدني والتوجه إلى المستقبل وإعادة البناء مستلهمة
في ذلك روح المصالحة القوية بين أطراف النزاع ومقومات الثقافة الدينية
المسيحية.
ـ أصل قانون المفوضية لموضوع المسؤوليات من خالل إشارات وتأكيدات
قوية ودالة ،بحيث تم التنصيص ـ في الديباجة وفي صلب القانون ـ صراحة
على أن
ـ " هناك حاجة إلى التفاهم وليس إلى اإلنتقام.
ـ هناك حاجة إلى إإلصالح وليس إلى الرد بالمثل.
ـ هناك حاجة إلى النزعة اإلنسانية وليس إلى التمثيل بالغير
ـ مثل العفو قيمة خاصة من قيم المصالحة ،كما جسد آلية مهمة في إطار
الكشف عن الحقيقة.
ـ وإعتبار للمكانة التي احتلها العفو في تجربة جنوب إفريقيا ،فيتعين التوقف
عنده بتفصيل ،وذلك إدراكاً لسياقه وقواعده وشروطه وعالقته مع قضية
141
المصالحة ،كما يتعين التذكير بأن العفو في تجربة جنوب إفريقيا شمل األفراد
من الجهتين معا ،أعوان الدولة وأعضاء الحركات المسلحة المعارضة.
ـ استندت ديباجة قانون المفوضية على التأصيل الدستوري القاضي ":وبما أن
الدستور يذكر أنه من أجل تعزيز مثل هذه المصالحة وإعادة البناء ،فإن العفو
سيمنح فيما يخص أفعاال وإغفاالت وإساءات مرتبطة بأهداف سياسية تم
ارتكابها في سياق صراعات الماضي".
ـ يتجلى العفو المشروط كما أكده قانون المفوضية ،في شرط حسن النية وتم
منحه بعد الكشف عن الحقائق ،يؤكد القانون:
ـ إذا كان مقدم الطلب قد كشف عن كل الحقائق ذات الصلة ،فإن اللجنة تمنح
العفو فيما يخص هذا الفعل ،أو اإلهمال أو اإلساءة.
ـ في هذا القانون ،طالما ال يدل السياق على خالفه ،فإن تعبير " فعل مرتبط
بهدف سياسي" يعني أي فعل أو إهمال يؤدي إلى إساءة أو جنحة ترتبط بهدف
سياسي وفق نصيحة ،أو مخطط ،أو توجيه ،أو أمر أو اقتراف داخل أو
خارج الجمهورية خالل الفترة من 1مارس /آذارإلى تاريخ اإلنقطاع قام به:
ـ أي عضو أو مناصر لمنظمة سياسية أو حركة تحرير معروفة للعموم،
لمصلحة تلك المنظمة أو الحركة ،بنية حسنة لتأييد صراع سياسي قامت به
مثل تلك المنظمة أو الحركة ضد الدولة أو ضد أية دولة سابقة أو ضد أية
منظمة سياسية او حركة تحرير معرفة للعموم.
ـ أي موظف في الدولة أو في أية دولة سابقة ،أو أي عضو في قوات أمن
الدولة أو أية دولة سابقة خالل او في مجال واجباته وضمن مجال سلكته
الظاهرة أو الضمنية ،موجه ضد منظمة سياسية أو حركة تحرير معروفة
للعموم ومتورطة في صراع سياسي ضد دولة أو أية دولة سابقة أو ضد أي
أعضاء أو مناصرين لمثل تلك المنظمة أو الحركة ،والذي تم اقترافه بحسن
نية بهدف مجابهة أو مقاومة الصراع المذكور.
142
ـ ولتقرير ما إذا كان الفعل ،يكتسي صبغة اإلهمال واالساءة ،ومرتبطا بهدف
سياسي ،تم الرجوع إلى المعايير التالية:
ـ دافع الشخص الذي اقترف الفعل ،أو االهمال أو االساءة.
ـ السياق الذي من خالله وقع الفعل ،أو االهمال أو االساءة ،وبشكل خاص ما
إذا كان الفعل أو االهمال أو االساءة قد تم اختراقها من ثورة سياسية ،أو
شغب ،أو رد فعل لذلك.
ـ الطبيعة القانونية الواقعية للفعل ،أو االهمال أو االساءة ،بما في ذلك جسامة
الفعل ،أو االهمال أو االساءة.
ـ موضوع أو هدف الفعل ،أو االهمال أو االساءة ،وخاصة إذا كان الفعل ،أو
االهمال أو االساءة ،موجهة بشكل أساسي ضد معارض سياسي أو موظفين
للدولة أو ضد أمالك خاصة ،أو ضد أفراد.
ـ إذا كان الفعل ،أو االهمال أو االساءة قد تم اغترافها خالل تنفيذ أمر صادر
من ،أو لمصلحة أو بموافقة المنظمة ،أو المؤسسة ،أو الحركة أو مجموعة
التحرير التي كان مقترف الفعل عضواً فيها ،أو عميالً أو مناصراً لها.
ـ العالقة بين الفعل ،أو االهمال أو االساءة وبين الهدف السياسي المقصود،
وبشكل خاص الصفة المباشرة أو العالقة القريبة ،وكذلك حجم الفعل ،أو
االهمال أو االساءة بالنسبة إلى الهدف المقصود ،بدون أن يشمل أي فعل ،أو
اهمال أو اساءة أي شخص مذكور قد تصرف:
ـ لفائدة شخصية :بشرط أال يتم استبعاد أي فعل ،أو اهمال أو اساءة اقترفها
شخص تصرف أو تلقى أمواالً أو أي شيء ذي قيمة بوصفه مخبراً لدولة ،أو
أي دولة سابقة ،أو لمنظمة سياسية ،أو حركة تحرير ،على أساس أن هذا
الشخص قد تلقى نقوداً أو أي شيء ذي قيمة لقاء معلوماته .أو:
143
انطالقة من ضغينة شخصية ،أو بغض ،أو نكاية موجهة ضد ضحية األفعال
المقترفة.
كما حدد قانون المفوضية ،حاَلت موضوع العفو ،المعروضة على القضاء،
أو تلك التي صدرت بشأنها أحكام قضائية ،وهكذا نص على:
إذا كان أي شخص:
ـ قد تم اتهامه أو كان تحت المحاكمة بخصوص اساءة ناتجة عن فعل أو
اهمال تم منح العفو عنها وفق شروط هذا البند.
ـ أو قد تمت ادانته ،أو ال يزال ينتظر الحكم ،أو كان تحت الحجز بغرض
انهاء حكم في السجن مفروض بخصوص اساءة ناتجة عن فعل أو اهمال ،تم
منح العفو عنها ،فإن االجراءات الجنائية تصبح ملغاة فوراً حال نشر
االعالن ،وكذلك ينتهي مفعول الحكم المفروض حال هذا النشر ،وكذلك يتم
اطالق سراح الشخص الموضوع تحت الحجز فور النشر.
إذا تم منح عفو لشخص فيما يخص أي فعل أو اهمال قد شكال سنداً لحكم
مدني تم النطق به في أي وقت قبل منح العفو ،فإن نشر االعالن لن يكون له
أي تأثير على تنفيذ الحكم المعني على هذا الشخص.
عندما يكون قد تمت ادانة شخص بأي اساءة ناتجة عن فعل أو اهمال
مرتبطين بهدف سياسي وبخصوصها قد تم منح عفو وفق شروط هذا القانون،
فإن أي تدوين أو تسجيل لهذه االدانة يعتبر محذوفاً من كل الوثائق الرسمية،
وكذلك فإن االدانة لكل األغراض بما فيها تطبيق أي قانون للبرلمان أو أي
قانون آخر ،تعتبر كأنها لم تحدث :شرط أن تتمكن اللجنة من إصدار توصية
إلى الجهة المختصة بإتخاذ هذه االجراءات بالطريقة التي تراها ضرورية
لحماية األمن العام.
وإذا قررت اللجنة رفض منح العفو فإن عليها اعالم الشخص الذي قدم طلب
العفو ،وأي شخص يعتبر ضحية للفعل ،أو االهمال أو االساءة التي هي
144
موضوع الطلب ،وتعلن المفوضية كتابة بقرارها وأسباب رفضها ،وإذا تم
تعليق أي محاكمات جنائية أو مدنية إلى حين إتخاذ قرار بشأن طلب للعفو.
وإذا تم رفض هذا الطلب ،فإنه يجب أن يتم اخبار المحكمة المعنية بهذا
الرفض ،وال يجب أن تستنتج المحكمة المعنية أي استنتاجات سلبية من متابعة
المحاكمات التي تم تعليقها إلى حين إتخاذ قرار بشأن طلب للعفو.1
رسالة من نلسون مانديًل للعرب تستحق القراءة
145
أكاد أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم .لقد خرجتم لتوكم من سجنكم
الكبير ،وهو سؤال قد تُحدد اإلجابة عليه طبيعة االتجاه الذي ستنتهي إليه
ثوراتكم.
إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم .فالهدم فعل سلبي والبناء فعل
إيجابي .أو على لغة أحد مفكريكم ـ حسن الترابي ـ فإن إحقاق الحق أصعب
بكثير من إبطال الباطل.
أنا ال أتحدث العربية لألسف ،لكن ما أفهمه من الترجمات التي تصلني عن
تفاصيل الجدل السياسي اليومي في مصر وتونس تشير بأن معظم الوقت
هناك مهدر في سب وشتم كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة باألنظمة
السابقة ،فذاك أمر خاطئ في نظري ،أنا أتفهم األسى الذي يعتصر قلوبكم
وأعرف أن مرارات الظلم ماثلة ،إال أنني أرى أن استهداف هذا القطاع
الواسع من مجتمعكم قد يسبب للثورة متاعب خطيرة ،فمؤيدو النظام السابق
كانوا يسيطرون على المال العام وعلى مفاصل األمن والدولة ،وعالقات البلد
مع الخارج ،فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن سيكون اجهاض الثورة أهم هدف
لهم في هذه المرحلة التي تتميز عادة بالهشاشة األمنية وغياب التوازن .أنتم
في غنى عن ذلك احبتي.
إن أنصار النظام السابق ممسكون بمعظم المؤسسات االقتصادية التي قد
يشكل استهدافها أو غيابها أو تحييدها كارثة اقتصادية أو عدم توازن أنتم في
غنى عنه اآلن.
عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون لهذا
البلد ،فاحتواؤهم ومسامحتهم هي أكبر هدية للبالد في هذه المرحلة ،ثم إنه ال
يمكن جمعهم ورميهم في البحر أو تحييدهم نهائياً ثم إن لهم الحق في التعبير
عن أنفسهم وهو حق ينبغي أن يكون احترامه من أبجديات ما بعد الثورة.
أعلم أن مما يزعجكم أن تروا ذات الوجوه التي كانت تنافق للنظام السابق
تتحدث اليوم ممجدة الثورة ،لكن األسلم أن ال تواجهوهم بالتبكيت إذا مجدوا
146
الثورة ،بل شجعوهم على ذلك حتى تحيدوهم وثقوا أن المجتمع في النهاية لن
ينتخب إال من ساهم في ميالد حريته.
إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند
تفاصيل الماضي المرير.
أذكر جيداً أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحد واجهني هو أن قطاعاً
واسعاً من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام
السابق ،لكنني وقفت دون ذلك وبرهنت األيام أن هذا كان الخيار األمثل
ولواله النجرفت جنوب إفريقيا إما إلى الحرب األهلية أو إلى الديكتاتورية من
جديد ،لذلك شكلت "لجنة الحقيقة والمصالحة" التي جلس فيها المعتدي
والمعتدى عليه وتصارحا وسامح كل منهما اآلخر.
إنها سياسة مرة لكنها ناجعة.
أرى أنكم بهذه الطريقة ـ وأنتم أدرى في النهاية ـ سترسلون رسائل اطمئنان
إلى المجتمع الملتف حول الديكتاتوريات األخرى أن ال خوف على مستقبلهم
في ظل الديمقراطية والثورة ،،مما يجعل الكثير من المنتفعين يميلون إلى
التغيير ،كما قد تحجمون خوف وهلع الديكتاتوريات من طبيعة وحجم ما
ينتظرها ،تخيلوا لو أننا في جنوب إفريقيا ركزنا ـ كما تمنى الكثيرون ـ على
السخرية من البيض وتبكيتهم واستثنائهم وتقليم أظافرهم؟ لو حصل ذلك لما
كانت قصة جنوب إفريقيا واحدة من أروع قصص النجاح اإلنساني اليوم.
أتمنى أن تستحضروا قولة نبيكم" :أذهبوا فأنتم الطلقاء".
نلسون روهالال مانديال ـ هوانتون ـ جوهانزبيرغ
الثالث والعشرون :مقترح تم تقديمه من خبراء قانونيين للمجلس الوطني
اَلنتقالي المؤقت :بخصوص قانون العدالة اإلنتقالية:
147
بعد االطالع على االعالن الدستوري المؤقت الصادر في 3أغسطس
.2011
ـ وعلى القانون المدني:
ـ وعلى قانون المرافعات المدنية والتجارية.
ـ وعلى قانون العقوبات والقوانين المكملة له.
ـ وعلى قانون االجراءات الجنائية وتعديالته.
ـ وعلى التشريعات العسكرية النافذة.
ـ وعلى القانون رقم 19لسنة 1989م بشأن اقرار مزايا لقتلى العمليات
العسكرية والمفقودين واألسرى.
ـ وعلى القانون رقم 2006/6بشأن نظام القضاء وتعديالته.
ـ وعلى القانون رقم 2010/4بشأن والتحكيم.
ـ وعلى ما أصدره المجلس الوطني االنتقالي المؤقت من بيانات بشأن
الحريات العامة وحقوق االنسان.
على ما عرضه مسؤول شؤون العدل وحقوق االنسان بالمكتب ـ وبنًا
التنفيذي.
أصدر القانون اآلتي:
1
الفصل األول
أحكام عامة
مادة ()1
1
قام بتقديم هذه المسودة للمجلس الوطني االنتقالي كل من الدكتور الكوني عبودة والدكتور الهادي بو حمرة.
148
تعريفات
في هذا القانون تعني المصطلحات اآلتية المعاني المبينة قرين لكل منها:
ـ العدالة اَلنتقائية :مجموعة من االجراءات التشريعية والقضائية
واإلدارية واالجتماعية التي تعالج ما حدث خالل فترة النظام السابق في
ليبيا وما قامت به الدولة من انتهاكات لحقوق االنسان وحرياته األساسية
والعمل على اصالح ذات البين بالطرق الودية بين بعض فئات المجتمع.
الهيئة :هي هيئة تقصي الحقائق والمصالحة المنصوص عليها في هذا
القانون.
الوقائع :كل فعل يشكل جرم ا أو انتهاك ا لحقوق اَلنسان.
تسري أحكام هذا القانون على الوقائع التي حدثت من 1سبتمبر 1969إلى
حين تحقيق األهداف المرجوة من هذا القانون وَل تسري على األشخاص
الذين أتموا الصلح في ظل النظام السابق كما َل تسري على المنازعات التي
صدرت بشأنها أحكام قضائية تم تنفيذها.
مادة ()3
أهداف القانون
149
4ـ تحديد مسؤوليات أجهزة الدولة عن انتهاكات حقوق االنسان.
5ـ توثيق الوقائع موضوع العدالة االنتقالية وحفظها ثم تسليمها للجهات
الوطنية المختصة.
6ـ تعويض الضحايا والمتضررين.
7ـ تحقيق مصالحات اجتماعية.
الفصل الثاني
هيئة تقصي الحقائق والمصالحة
مادة ()4
تنشأ هيئة مستقلة تسمى هيئة تقصي الحقائق والمصالحة مقرها مدينة
طرابلس ،ويكون لها الشخصية االعتبارية والذمة المالية المستقلة على أن
يكون لها فرع في كل دائرة مجلس محلي ..وتختص بما يلي:
1ـ تقصي الحقائق حول الوقائع المتعلقة بانتهاكات حقوق االنسان في الفترة
المشار إليها في المادة ( )2واتخاذ ما يلزم من اجراءات بشأنها بما في ذلك
التوصية بإحالة المسؤولين عن ارتكابها إلى القضاء المختص.
2ـ دراسة وتحقيق الوقائع ذات الطبيعة الجماعية وأعمال العنف واالعتداء
الممنهج أو العشوائي من جماعات أو تشكيالت نظامية أو غيرنظامية
واألضرار التي لحقت باألرواح واألعراض أو األموال بسببها.
3ـ اعداد تقرير عن كل واقعة تعرض عليها على أن يشمل التقرير ما يلي:
أـ بياناً وافياً بالوقائع مدعوماً باألدلة.
150
ب ـ النتائج التي تم التوصل إليها من خالل الدراسة والتحقيق متضمنة تحديداً
دقيقاً للمسئولية ولألشخاص ذوي العالقة بها.
ج ـ ما قامت به الهيئة في سبيل محاوالت الصلح بين األطراف.
د ـ توصيات الهيئة بشأن طرق معالجة األمر أو حل المنازعة بما في ذلك
التوصية بإحالة أشخاص أو وقائع إلى المحاكم المختصة.
4ـ مواصلة البحث بشأن حاالت االختفاء القسري والكشف عن مصير
المختصين مع إيجاد الحلول المناسبة بالنسبة لمن لم تثبت وفاتهم.
5ـ تقديم مقترحات بتفعيل عملية نزع السالح وتسريح المقاتلين ودمجهم في
المجتمع.
6ـ تنمية وإثراء سلوك الحوار وإرساء مقومات المصالحة دعماً للتحول
الديمقراطي والتواصل مع مؤسسات المجتمع المدني والتعريف بأداة الهيئة
واختصاصاتها.
مادة 5
يكون للهيئة مجلس إدارة يتكون من رئيس وعدد عشرة أعضاء ويصدر
بتسميتهم قرار من المجلس الوطني االنتقالي المؤقت ويعتبر مجلس اإلدارة
هو السلطة العليا للهيئة يتولى إدارة شؤونها وتمثيلها في عالقاتها بالغير وأمام
القضاء.
مادة 6
يختص مجلس اإلدارة بما يلي:
1ـ تسمية رئيس وأعضاء اللجان الفرعية في المجالس المحلية.
2ـ وضع الالئحة الداخلية لعمل الهيئة واللجان التابعة لها.
3ـ مراجعة تقارير اللجان ووضع التقرير النهائي عند انتهاء عملها.
151
مادة 7
يشترط فيمن يختار عضواً في الهيئة أو اللجان لها ما يلي:
1ـ أن يكون ليبي الجنسية وأن يكون من ذوي الخبرة والكفاءة والحيدة
والدراية والحكمة والقدرة على انجاز العمل.
2ـ أن يكون حسن السير والسلوك.
3ـ أال يكون ممن انخرط في حركة اللجان الثورية أو كان أحد أفراد الحرس
الثوري أو الحرس الشعبي أو األجهزة األمنية السرية.
4ـ أال يكون محكوماً عليه في جريمة تتعلق بالوظيفة العامة أو المهنة أو أي
جريمة مخلة بالشرف.
5ـ أال يكون قد فصل من الوظيفة أو المهنة بقرار تأديبي.
6ـ أال يقل عمره عن أربعين سنة.
مادة 8
يحلف رئيس وأعضاء مجلس إدارة الهيئة وأعضاء اللجان قبل مباشرة
أعمالهم اليمين التالية:
(أقسم باهلل العظيم أن أؤدي عملي باألمانة والصدق والنزاهة) ويكون أداء
اليمين بالنسبة لرئيس وأعضاء المجلس أمام المجلس الوطني االنتقالي المؤقت
وحلف أعضاء اللجان أمام رئيس مجلس إدارة الهيئة.
مادة 9
تبادر الهيئة ولجانها الفرعية القيام باتخاذ ما يلزم للنظر في المنازعات كما
يتولى عرض المنازعات على الهيئة كل من:
1ـ وزير العدل أو وزير الداخلية.
152
2ـ النائب العام.
3ـ أطراف المنازعة أو احدهم ويجوز أن يكون العرض من وكالئهم وفقاً لما
تنص عليه أحكام قانون المرافعات المدنية والتجارية وللهيئة سلطة تقدير
صفة وأهلية أطراف المنازعة.
المادة 10
للهيئة واللجان التي تشكلها حق االطالع على كافة المستندات واألدلة تحت
أي يد كانت واالستماع إلى أقوال من ترى حاجة لالستماع إليهم.
مادة 11
تكون جلسات اللجان علنية ما لم تقرر هذه اللجان العتبارات تتعلق بالنظام
العام أو اآلداب العام إجراءها في سرية.
مادة 12
ليس في أحكام هذا القانون ما يخل بحق المتضرر أو وكيله في سلك سبل
االنتصاف القضائي لجبر األضرار عن االنتهاكات المرتكبة حقه أو في غل
يد النيابة العامة عن رفع ومباشرة الدعوى الجنائية تجاه المتهمين بارتكاب
تلك االنتهاكات.
مادة 13
تعتمد الهيئة قرارات اللجان الفرعية المسببة وتمنحها قوة السند الواجب النفاذ
وإذا تبين لها أن هناك نقصاً أو قصوراً في التحقيقات أو تناقضاً في النتائج أن
تعيد التقرير إلى اللجنة الفرعية المختصة لمزيد من الدراسة والتقصي وجمع
األدلة مع األخذ في االعتبار ماتراه مناسباً بشأن الموضوع المعروض
وتختص الهيئة بالنظر في المنازعات المثار بشأنها تنازع في اختصاص أكثر
من لجنة فرعية.
مادة 14
153
مع عدم اإلخالل بأحكام القانون رقم 19لسنة 1989المشار إليه لكل من
تضرر بسبب جرائم النظام السابق الحق في الحصول على التعويض المناسب
ويكون التعويض بصورة أو أكثر من الصور اآلتية:
1ـ دفع تعويض مادي يتم تحديده بقرار مسبب من الهيئة وفقاً للمعايير
والضوابط المنصوص عليها بالالئحة التنفيذية لهذا القانون ويعطي قرار
الهيئة قوة السند الواجب النفاذ.
2ـ تعويض معنوي ويشمل االعتذار للمتضرر أو اإلقرار له بما ارتكب في
حقه من تجاوزات أو انتهاكات.
3ـ تخليد الذكرى على النحو الذي يحدده مجلس الوزراء.
4ـ بأي صورة من الصور األخرى التي يصدر بتحديدها قرار من مجلس
الوزراء بناءاً على اقتراح الهيئة.
مادة 15
ينشأ صندوق يسمى "صندوق تعويض الضحايا" تكون له الشخصية القانونية
والذمة المالية المستقلة يتولى دفع التعويضات المستحقة بموجب هذا القانون
وتحدد بقرار من المجلس الوطني االنتقالي موارد الصندوق وكيفية تمويله
ويصدر بتنظيم الصندوق الئحة تنفيذية تصدر من مجلس الوزراء على أن
تتضمن طريقة دفع التعويضات ومواعيدها وكيفيتها ويحل الصندوق محل
صاحب الحق في مطالبة الملزم بالتعويض.
مع مرعاة المادة 88من القانون المدني للصندوق اتخاذ إجراءات الحجز
اإلداري على أموال المدين وفقًا ألحكام القانون رقم 1970/152بشأن
الحجز اإلداري.
مادة 16
154
كل من يمتنع عن تمكين الجهات المختصة بتنفيذ هذا القانون من االطالع
على أي أدلة أو مستندات في حوزته أو قام بإتالفها أو حجبها أو يرفض
المثول أمام لجان تقصي الحقائق والمصالحة يعاقب بالعقوبات المقررة قانوناً
مع مراعاة تدابير العفو المعمول بها بهذا الشأن.
مادة 17
تصدر الالئحة التنفيذية لهذا القانون بقرار من رئيس مجلس الوزراء.
مادة 18
يعمل بهذا القانون من تاريخ صدوره وينشر في الجريدة الرسمية.
155
الصحيح ":أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف
ليصلح بينهم (البخاري رقم .)643
ومن أحكام الصلح المرغب فيه ما يلي:
1ـ أن من ثبت له من المتخاصمين الحق ،من دم أو عرض أو مال ،األفضل
له بعد ثبوت حقه وبيانه له أن يتسامح ويتجاوز ويتصدق بالحق على صاحبه،
فذلك كفارة له ،قال تعالى بعد أن ذكر أن " أَنَّ النَّفسَ بِالنَّفسِ وَالعَينَ بِالعَينِ
ص" قال َ ":فمَن جرُوحَ قِصَا ٌ وَاألَنفَ بِاألَنفِ وَاألُذُنَ بِاألُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَال ُ
تَصَدَّقَ ِبهِ َفهُوَ كَفَّا َر ٌة َّلهُ" (المائدة ،آية .)45 :
2ـ التصالح والتسامح المرغب فيه شرعاً ،إنما يكون مع من صدرت منه
الهفوة والخطأ وتاب منه ،فهذا هو المعني بالعفو والصلح في قوله تعالى":
َفمَن عَفَا َوأَصلَحَ" (الشورى ،آية )40 :وقوله ":وََلمَن صَبَرَ وَغَ َفرَ إِنَّ ذَِلكَ َلمِن
األمُورِ" (الشورى ،آية .)43 :وقوله تعالى ":وَالَ تَستَوِي الحَسَ َنةُ وَالَ عَزمِ ُ
السَّيِّ َئةُ" (فصلت ،آية .)34 :
أما من كان مشهوراً بالبغي مجاهرًا بالعدوان واإلجرام ،فاالنتصار
والقصاص منه شرعًا أولى لقول اهلل تعالى ":وَالَّذِينَ إِذَا أَصَا َبهُمُ البَغيُ هُم
صرُونَ" (الشورى ،آية .)39 :فقد جاءت الىية في معرض المدح عقب يَنتَ ِ
قوله تعالى ":وَالَّذِينَ استَجَابُوا ِلر َِّبهِم" (الشورى ،آية .)38 :ومحلها من كان
مشهوراً بالبغي والعدوان.
3ـ الصلح المرغب فيه شرطه أال يحل حراماً أو يحرم حالالً ،قال صلى اهلل
عليه وسلم ":الصلح جائز بين المسلمين إال صلحاً حرم حالالً أو أحل حراماً،
والمسلمون على شروطهم إال شرطاً حرم حالالً أو أحل حراماً" (الترمذي
رقم .)1272
4ـ ال يجوز إقرار مبدأ في الصلح يترتب عليه ظلم بريء ،وذلك مثل إقرار
عقوبة جماعية على أهل بلدة بأسرها وقع منها على الحرمات والدماء ،ألن
156
البالد المتهمة بالتعدي البد أن يوجد فيها الصغير والمرفوع عنه القلم والكبير
العاجز ومن لم يرض بفعل أهلها ،وال قدرة له على منعهم ،فإقرار مبدأ
عقوبتهم جميعاً ،كتهجيرهم من ديارهم هو صلح بما حرمه اهلل تعالى من
الظلم ،وقد قال اهلل تعالىَ ":ومَن يَظلِم مِّنكُم نُذِقهُ عَذَابًا كَبِيرًا" (الفرقان ،آية :
شهَدَاء بِالقِسطِ" .)19وقال تعالى ":يَا أ َُّيهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ هللِِّ ُ
(المائدة ،آية .)8 :وقال تعالى ":وَالَ تَكسِبُ كُلُّ نَفسٍ إِالَّ عَلَيهَا وَالَ تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزرَ أُخرَى" (األنعام ،آية .)146 :
5ـ ال يجوز ألحد ظلم أن يتولى القصاص من الظالم بنفسه ،بل عليه أن يرفع
ذلك إلى القضاء فالقصاص واسترداد المظالم ال يكون إال عن طريق األئمة
والحكام ،وذلك بإجماع األمة.
6ـ الحاكم الذي يرفع إليه األطراف خصوماتهم لينظر فيها يندب له أن يأمر
األطراف بالصلح والعفو ،وال يحوجهم إلى تتبع الصغير والكبير من حقوقهم،
وذلك بشرطين:
األول :موافقة جميع األطراف على مصالحته والرضا بها ،فإن رد أحد
األطراف الصلح يجب على من يتولى الصلح استيفاء الحق ألصحابه ،لقول
النبي صلى اهلل عليه وسلم للزبير حين رد خصمه الصلح على النبي صلى اله
عليه وسلم " :أسقِ ثمَّ احبس يَبلُغَ الجَدرَ" إحالة (البخاري رقم .)2509
الثاني :أن ال يتبين للحاكم الحق بعد أن يكون قد نظر في الدعاوي وسماع
البينات ،فحينها ،ـ أن تبين له ـ فال بد أن يبين لصاحب الحق حقه ،بعد أن ذلك
إن أراد أن يترك صاحب الحق حقه فاألمر له ،وذلك لما جاء في رسالة عمر
رضي اهلل عنه إلى أبي موسى األشعري( :فالحرص على الصلح ما لم يتبين
لك فصل القضاء).
7ـ الصلح والتنازل عن الحق كله أو بعضه ،ال يكون إال ممن ملك ذلك
الحق ،فال يجوز الصلح أو التنازل عن الحق من غير صاحبه الذي يملكه،
سواء كان الذي ال يملكه الدولة أو األفراد ،فقد قال اهلل تعالىَ " :ومَن قُتِلَ
157
جعَلنَا لِوَل ِِّيهِ سُلطَانًا" (اإلسراء ،آية ،)33 :ومعنى هذا أنه ليس
مَظلُومًا فَقَد َ
ألحد أياً كان ،الحكومة أو غيرها ،أن تعفو عن أحد أجرم في حق الوطن،
بقتل أو نهب مال أو غيره ،إال ممن له والية على ذلك شرعاً.
8ـ المهجرون عن بلدانهم يجوز عند الخوف من الثأر واالنتقام منهم إبقاؤهم
بأماكن مؤقتة خارج مناطقهم التي دارت فيها المعارك بينهم وبين جيرانهم،
وذلك إلى قيام المحاكم اإلنتقالية لتنظر في قضاياهم ،ليعرف المذنب من
البرئ ،وحينها يقع القصاص من الظالم عن طريق المحاكم ،ويرجع األبرياء
إلى ديارهم وذويهم.
9ـ إلى أن يتم تفعيل المصالحة ،إما بإنشاء المحاكم ،أو بالعمل على تهدئة
النفوس ،المطلوب من الدولة أن تؤوي هؤالء المهجرين في وضع الئق ،ألن
بقاءهم الجئون دون إيواء يثير فيهم االحساس بالمذلة ،وإحياء الثارات القبلية
القديمة مع جيرانهم ،فيلجأون إلى حمل السالح.
10ـ المطلوب من الدولة أن تسرع بإنشاء هذه المحاكم الخاصة بالمصلحة
الوطنية ،ألن اإلسراع بها يخفف من التوتر واالحتقان الحاصل بين الطرفين.
11ـ المصالحة الوطنية تعد من القضايا الوطنية العامة ،أي تعني الوطن كله،
وليست قضية خاصة بين البلدين المطلوب المصالحة بينهما ،لذا يجب أن
تتبناها الدولة ،وال تترك على أنها قضية خاصة يوكل أمرها إلى األطراف
التي تضررت ،ألن الخصم ال يكون حكماً.
12ـ الكتائب الذين قاتلوا الثوار ،يؤخذ كل واحد منهم بما وقع منه من تعد
على الدماء والحرمات واألموال ،فإن الباغي إذا كان خروجه لعناد وعصبية
من غير تأويل ،فإنه يضمن بخروجه على اإلمام العدل كل ما أتلفه من نفس
ومال وجراح وفروج ،فيقتص منه في األطراف والنفوس ،ويرد منه المال إن
كان قائماً ويغرمه إن فات إال أن يشاء صاحب الحق أن يترك حقه فله ذلك.
158
13ـ المصالحة الوطنية المتعلقة بتولي مناصب الدولة ال تكون بإسناد
مناصب قيادية في اإلدارات والمؤسسات إلى من تعاونوا مع نظام القذافي من
الفئات التالية:
أ ـ من تلطخت أيديهم بالدماء.
ب ـ من كان معروفاً بسرقات األموال واستغالل النفوذ.
ج ـ من كان معروفاً من اللجان الثورية بالنشاط وحضور الملتقيات وقول
الزور بالمدح الكاذب والنفاق ومالحقة األبرياء والوشاية بهم وذلك ألن هؤالء
جميعاً ال يجوز إسناد المناصب القيادية إليهم ،فإن مارتكبوه يعد جرحة بالغة
تسلب عدالتهم ،وال يجوز أن يولي غير العدل ،لقوله تعالى " :اجعَلنِي عَلَى
خزَآئِنِ األَرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" (يوسف ،آية .)55 :
َ
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
ذو القعدة ـ 1432هـ ـ 26
الخامس والعشرون
159
ج ـ لجنة التعويضات ورد االعتبار :وتختص بمتابعة وتقدير ما لحق
بالضحايا من أضرار مادية ومعنوية ،ووضع آليات تعويضهم وتحديد أساليب
االعتذار لهم.
د ـ لجنة التسامح والعفو :وتختص بالنظر في طلبات العفو المقدمة بشأن
الجرائم التي ارتكبت ألسباب سياسية وبالتصرف على ضوء ذلك.
تعمل هذه اللجان جميعها تحت إشراف الهيئة الوطنية للمصالحة التي ينبغي
أن تكون مستقلة وال تتبع ألي جهة ،ويتم تحديد صالحيات هذه اللجان وحدود
اختصاصاتها وآليات اختيارها وعالقاتها ببعضها بالئحة من الهيئة الوطنية
للمصالحة.
2ـ توفير االمكانيات الالزمة لقيام الهيئة بمهامها.
3ـ اتخاذ ما يلزم من ترتيبات سياسية واقتصادية واجتماعية لتحقيق
المصالحة الوطنية.
4ـ االهتمام بالثوار من خالل استيعابهم وتنمية قدراتهم وتقديم الدعم المادي
لهم في شكل منح وإعانات وحوافز نقدية وعينية من أجل ال يتجاوز السنة،
واالهتمام بأسر الشهداء والجرحى والمفقودين.
5ـ فتح حوار واسع مع أسر الشهداء وضحايا النظام لتحديد المطالب
واألولويات.
6ـ إعادة بناء مؤسسات الجيش واألمن الوطني ومؤسسات االصالح والتأهيل
واالستفادة من خبرات الدول في مجال المصالحة والعدالة االنتقالية.
7ـ اطالق حمالت في الصحف ووسائل االعالم المختلفة وعن طريق
منظمات المجتمع المدني لتعميق حالة الوعي بأهمية المصالحة ،والحث على
التمسك بها والعمل من أجلها وخلق مناخ عام تسوده مشاعر الصفح والتسامح
والعفو واالعتذار.
160
8ـ ضرورة العمل على حشد التأييد والدعم الدولي لهذا التوجه.
9ـ ضرورة االستفادة من مجالس الحكماء والشورى بكل منطقة واعتمادها
لجان توعية قاعدية تسهم في تهيئة ظروف الحوار حول عديد الموضوعات
مهما كانت مؤلمة وحساسة.
10ـ اتخاذ ما يلزم من إجراءات الثبات قدرة الدولة على تأمين الحدود
وفرض األمن والنظام من خالل ممارسة مهام الضبط واالحضار ،ومهام
الدوريات الثابتة (البوابات) والمتحركة ،وإدارة المنافذ بأنواعها ،وكذلك منع
المظاهر المسلحة في الميادين والشوارع والشروع في تجميع وسحب
األسلحة.
11ـ ضرورة توخي نوايا صادقة ،وقراءة صحيحة لألوضاع الراهنة
والمستقبلية وهو ما يتطلب البدء الفوري في مشاورات ومناقشات بمختلف
أنحاء البالد حتى تتكون قناعة عامة أن المصالحة الوطنية هي الخيار األمثل.
12ـ ضرورة وضع برنامج زمني إلنجاز المصالحة الوطنية في أمد ال
يجاوز خمسة عشر شهراً.
13ـ اإلعالن عن ميثاق وطني للمصالحة يلتزم به جميع الليبيين.
14ـ البحث في مدى ضرورة إعداد قانون يحقق العدالة االنتقالية والنظر في
إمكانية العمل به.
15ـ إزالة رواسب الماضي ومحو آثاره من خالل:
أ ـ الكف عن المضايقات وأعمال القبض غير القانونية والمداهمات والوقوف
بحزم ضد أي أعمال انتقامية فردية كانت أم جماعية.
ب ـ االستعداد للصفح وتحميل تبعات ما جرى للنظام السابق واعتبار الليبيين
جميعاً ضحايا له.
161
ج ـ االهتمام بالجرحى والمفقودين والمحتجزين من ضحايا النظام ورعاية
أسرهم.
د ـ وضع حد الستمرار معاناة النازحين جراء األحداث والبحث في إمكانية
إعادة أسر الفارين إلى الخارج وتقديم ضمانات لعودتهم لممارسة حياتهم
ببالدهم بحرية وكرامة.
هـ ـ اتخاذ اإلجراءات الكفيلة بسرعة إعادة إعمار المناطق المتضررة وتهيئة
ظروف عودة حياة آمنة ومستقرة بها.
و ـ نبذ أي أعمال خارجة عن القانون تقع مستقبالً ،وتصنيفها على أنها أعمال
فردية ،وعدم سحبها على المكون االجتماعي الذي ينتمي إليه مقترفها،
وتحميل من قام بها تبعاتها ومسؤوليتها.
16ـ إقامة مؤتمر عام للمصالحة الوطنية ،بالتنسيق مع الجهات المعنية.
مقدمة من :بلقاسم رمضان بريبش
حكماء ومجلس شورى الصيعان (بدرـ تيجي)
163
السادس والعشرون
منتدى خبراء طرابلس
وثيقة مبادئ المصالحة الوطنية
"فلنتصافح لخدمة ليبيا"
ال خَي َر فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجوَاهُم إِالَّ مَن َأ َمرَ بِصَ َد َقةٍ
" َّ
ح بَينَ النَّاسِ"
أَو مَعرُوفٍ أَو إِصالَ ٍ
" َومَا ُأرِيدُ أَن أُخَالِ َفكُم إِلَى مَا أَنهَاكُم عَنهُ إِن ُأرِيدُ إِالَّ اإلِصالَحَ
مَا اس َتطَعتُ َومَا تَوفِيقِي إِالَّ بِاهللِّ"
"صدق اهلل العظيم"
يعي الليبيون جميعاً أن نظام الطاغية ومن خالل الحرب القذرة التي فرضها
علينا ،عمل بخبث ومهارة شيطانية على استهداف اللحمة الوطنية واستقصد
زرع بذور الشقاق والفتنة وبواعث االحتراب بين القبائل والمدن الليبية بغية
إدخال البالد في سرداب الفوضى األهلية المظلم ،ولألسف كل أنواع العدوان
والتخريب والفساد مارسه في الغالب ليبيون ضد ليبيين سواء على مستوى
أفراد أو قبائل أو حتى مدن ،مما أوجد جروحاً وآالماً عميقة في النسيج
164
االجتماعي الليبي ،ولكن وبحمد اهلل وتوفيقه ،ال زال الشعب الليبي على قدر
من الوعي واالدراك لدرء مكامن الفتنة وبذور الشقاق ومثلما هو حريص
على تطبيق شرع اهلل في القصاص والعدل ومحاسبة كل من أجرم في حقه،
فهو أيضاً مدرك ألهمية المصالحة الوطنية كخيار حضاري ومطلب شعبي ال
غنى عنه للنهوض بالوطن وبناء ليبيا الجديدة على أسس المحبة واالخاء
والعدل والقانون ونبذ سياسة العنف والتطرف والتهميش واالقصاء.
بهذا الخصوص ،وفي سبيل تحقيق المصالحة الوطنية على الوجه األكمل دون
إضاعة حقوق أو تكريس مظالم ،كان واجب علينا أال نجعل من التشفي
واالنتقام والثارات والعقاب الجماعي سبيالً نسلكه ،وأن نرد األمر لصاحب
األمر سبحانه وتعالى فهو الذي منَّ علينا بهذا النصر " َومَا النَّصرُ إِالَّ مِن عِندِ
اهللِّ" ،وأن نجعل من كتاب اهلل وسنة الحبيب المصطفى مرجعاً ودليالً للخروج
بوثيقة مباديء للمصالحة الوطنية يتفق عليها كل الليبيون كأساس ومرجع
للمصالحة بحيث تحدد مفهوم المصالحة وآلية تنفيذها وتبين حقوق وواجبات
جميع األطراف.
أولى منتدى خبراء طرابلس منذ تأسيسه إهتماماً خاصاً لمسألة المصالحة
الوطنية لما فيها من خير البالد والعباد وعكف في العديد من اجتماعاته على
دراسة ومناقشة مختلف األفكار والحلول وخرج بوثيقة مباديء للمصالحة
الوطنية كفيلة إن شاء اهلل بنزع الحقد والضغائن من القلوب وترضية النفوس
واحقاق الحق وإقامة الحد واالعتراف بالذنب وتسوية النزاعات بالطرق
السلمية حتى يتفرغ الليبيون الصالح ما تم افساده طيلة األربع عقود الماضية
واالنطالق في مرحلة البناء والتشييد في جو تسوده الطمأنينة واألمن
واالستقرار.
أوَلا :الثوابت والمسلمات:
165
ـ تظل المصالحة الوطنية ضرورة ملحة ومطلباً أولياً لتوطيد واستتباب األمن
واالستقرار والذي هو حجر األساس لبناء الدولة الجديدة ،وهي هدف شعبي
ومجتمعي يهم كل شرائح المجتمع.
ـ لن تكون هناك دولة ناجحة بدون تصالح ومصالحة وطنية بكل ما تحمله
هاتان الكلمتان من معاني ،فالتصالح والمصالحة هما العمود الفقري للنهوض
والتقدم واالستقرار.
ـ علينا أن نعي جميعاً بأنه ال خيار سلمي وحضاري لنا في هذه الظروف
التاريخية الحرجة غير تحقيق التصالح والمصالحة بين كل الفرقاء إذا كنا
فعالً نريد بناء دولة مدنية ديمقراطية دستورية مؤسساتية ،قوامها القانون
والعدالة االجتماعية.
ـ المصالحة الوطنية هي تكريس وتجسيد اللحمة الوطنية على أساس اإلخاء
والتسامح والتآزر ،ونبذ مظاهر التنازع والتنافر والفتن.
167
ـ عالج الجرحي والمصابين.
ـ تسليم المتهمين في القتل واالجرام من أعوان النظام السابق إلى جهات
االختصاص والذين كانوا طرفاً في ما آلت إليه البالد من كوارث وتهجير
بتلك المناطق.
ـ توفير أماكن إقامة الئقة تتوفر بها كافة وسائل العيش الكريم للعائالت التي
تضررت من الحرب وتركت أماكن إقامتها األصلية إلى حين إيجاد ما يناسب
هذه المشكلة من حلول ،قد تستغرق مدة طويلة.
ـ إتاحة الفرصة لكل من أجرم في حق الشعب لالعتذار وطلب العفو من
شعبنا الكريم.
168
ـ قبول شروط الطرف المتضرر من قبل المسبب للضرر ما لم تخالف شرع
اهلل.
خامساا :آليات تحقيق المصالحة:
ـ تشكيل لجنة وطنية عليا للمصالحة تحت رئاسة الهيئة العامة لألوقاف على
أن تضم في عضويتها:
ـ مندوب عن األوقاف (يرأس اللجنة).
ـ مجموعة من شيوخ الدين والوعاظ.
ـ مجموعة من القانونيين.
ـ مندوبين عن القبائل يتم ترشيحهم من قبل مدنهم وقبائلهم.
ـ اخصائيين في علم االجتماع وعلم النفس.
ـ مندوب حقوق اإلنسان.
ـ مندوبين عن مؤسسات المجتمع المدني الراغبة في ذلك.
ـ مجموعة متميزة من اإلعالميين.
ـ يتم تعيين أعضاء اللجنة على أساس الكفاءة والنزاهة والمقدرة على إنجاز
أهداف اللجنة.
ـ تشكيل لجان فرعية متخصصة لتقصي الحقائق والقيام بمهام المبادرات
الميدانية.
ـ تشكيل لجان الحكماء واالعيان بمختلف المناطق مهمتها االتصال بكل
الخيّرين في كل المدن والمناطق والقبائل والتشاور معهم في كيفية حل
مشاكلنا اإلجتماعية والسياسية.
سادساا :اختصاصات اللجنة وصًلحياتها:
169
ـ تصنيف انواع النزاع (قتل ـ عرض ـ سرقة ـ تعدي ـ استيالء).
ـ تحديد المناطق التي تحتاج الى تدخل اللجنة للصلح.
ـ إعتبار قرار اللجنة الوطنية العليا بعد التوافق عليه من طرف المتنازعين
حال نهائيا لالشكال وله من القوة ما يجعله سندا قانونيا.
ـ اعداد وثيقة شرف تنشيد بدور القبائل التي تنازلت عن جزء من حقها
لغرض اتمام المصالحة الوطنية.
ـ االطالع على أية معلومات أو وثائق أو سجالت لها عالقة بأداء مهامها
وإستجواب أي شخص مهما كان منصبه وطالما له عالقة باألمر.
ـ عقد جلسات إستماع علنية ومفتوحة للجمهور على ان يسمح للشخص ذي
الصلة أن يقدم طلبا للجنة بعقد الجلسات خلف أبواب مغلقة.
ـ التوصية بإصدار العفو على من يستحقه وهذا العفو ال يمكن تحقيقه إال بعد
توفر الشروط التالية:
ـ أن يعترف المتهم أمام اللجنة بكل الحقيقة وال يخفي منها شيئاً.
ـ أن يكون المتهم قد اقترف الجرم بناء على أوامر أتت إليه من رؤسائه.
ـ أنه اعتقد بتنفيد هذه اآلوامر يقدم خدمة للوطن.
الملتقى األول لمجالس الحكماء والشورى بليبيا
"من أجل المصالحة الوطنية"
الزاوية في الفترة من 1ـ 3محرم الحرام 1433هـ الموافق 26ـ
2011/11/28م
170
بسم اهلل الرحمن الرحيم
والصًلة والسًلم على سيدنا محمد أشرف األنبياء والمرسلين الصادق
الوعد األمين
السابع والعشرين :ميثاق شرف للمصالحة الوطنية
نحن المجتمعون في الملتقى األول لمجالس الحكماء والشورى بليبيا المنعقد
بمدينة الزاوية خالل الفترة من غرة محرم الحرام وحتى الثالث منه 1433
هجري الموافق 26ـ 2011/11/28ميالدية تحت شعار "من أجل
المصالحة الوطنية" ،وتحت راية االستقالل التي تمثل استحضارا لتضحيات
األجداد واآلباء من أجل استقالل وتوحيد ليبيا وطنا موحدا حرا لجميع الليبيين
بنسيجهم الحضاري والثقافي والتاريخي المتنوع ،وتثمينا لتضحيات الجيل
الحاضر في سبيل التخلص من حكم الطغيان والظلم واالستبداد.
واستلهاما لمبادئ الشريعة اإلسالمية الغراء التي تحض على العفو والتسامح
َاتقُوا اهللَّ َوأَصِلحُوا ذَاتَ بِي ِنكُم
وتدعو إلى العدل واإلنصاف مصداقاً لقوله تعالى":ف َّ
اهلل َورَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤمِنِينَ" ،ووفاءً لدماء الشهداء الذين ضحوا
وََأطِيعُوا َّ
بأرواحهم وبذلوا دماءهم الزكية لرفع الظلم وإنهاء االستبداد وتحقيق الحرية
لكي ينعم بها كل الليبيين والليبيات ،وعقدا للعزم على معالجة ما نشأ عن
معارك التحرير المجيدة من تبعات وأثار سلبية ،وتطلعا إلى مستقبل مشرق
يتطلب توجيه كل الجهود والطاقات والموارد نحو بناء ليبيا الجديدة التي تقوم
على احترام حقوق اإلنسان وسيادة القانون والمساواة بين المواطنين.
وإدراكاً بأن ما شهده المجتمع الليبي خالل حرب التحرير هو ثورة شعبية عارمة تهدف
إلى تحول سياسي واجتماعي وتاريخي ينهي وإلى األبد عهد الظلم واالستبداد،
ويتطلع إلى فجر مشرق تسود فيه الحرية ويتحقق فيه العدل واإلنصاف.
فقد تم التوافق على اآلتي:
171
أوَلا :المصالحة الوطنية من أولويات العمل الوطني وهي مسئولية الجميع
وأساسها العدل واإلنصاف القائم على المساءلة وإعادة الحقوق إلى أصحابها
ورد المظالم وجبر الضرر واالعتراف بحق الضحايا ورد االعتبار إليهم
وتكريس اإلحساس بالمواطنة تحقيقا للسلم واألمن األهليين.
ثانياا :التأكد على شخصية العقوبة وعدم اللجوء إلى ممارسات العقاب
الجماعي والتهجير وحرق المساكن والحرمان من الخدمات العامة...الخ،
إمتثاالً لقوله تعالى":أَالَّ َت ِزرُ وَا ِزرَ ٌة وِز َر أُخرَى".
ثالثاا :عدم استيفاء الحق بالذات ،واللجوء إلى القضاء فيما ينشأ بين الليبيين من
خالفات أو نزاعات ،ومنع االحتكام للسالح ،وتبني لغة الحوار والوسائل السلمية
إلتزاماً بمبادئ الشريعة اإلسالمية واسترشاداً بالعرف االجتماعي السائد.
رابعاا :االلتزام بالوحدة بين أبناء الشعب وتعزيز اللحمة الوطنية وذلك بنبذ
الجهوية والمركزية واإلقصاء والتهميش على أسس قبلية أو عرقية أو مذهبية،
وتحقيق العدالة االجتماعية والتنمية المتوازنة المستدامة لجميع مدن وقرى ليبيا.
خامساا :االلتزام بحماية ثورة السابع عشر من فبراير والعمل على تحقيق
اهدافها المتمثلة في الحرية واحترام حقوق اإلنسان وكرامته وسيادة القانون
وتسخير موارد ليبيا وثرواتها لمصلحة الشعب الليبي من أجل تحقيق رفاهيته
وضمان مستقبل األجيال القادمة ،فال نكوص عن هذه األهداف وال عودة
للظلم واالستبداد والطغيان.
المجد والخلود للشهداء األبرار
عاشت ليبيا حرة أبية
واهلل ولي التوفيق
الملتقى األول لمجالس الحكماء والشورى بليبيا
صدر بمدينة الزاوية في الثالث من محرم الحرام 1433هـ الموافق
2011/11/28م
الثامن والعشرين :الملتقى األول لمجالس الحكماء والشورى بليبيا
"من أجل المصالحة الوطنية"
172
الزاوية في الفترة من 1ـ 3محرم الحرام 1433هـ الموافق 26ـ
2011/11/28م
البيان الختامي للملتقى
بسم اهلل الرحمن الرحيم
والصًلة والسًلم على أشرف األنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين
أيها الشعب الليبي العظيم:
السًلم عليكم ورحمة اهلل وبركاته
إن الملتقى األول لمجالس الحكماء والشورى بليبيا المنعقد بمدينة الزاوية
المجاهدة وهو يختتم أعماله مساء هذا اليوم ليترحم على شهداء ثورة السابع
عشر من فبراير المجيدة ،ويتمنى الشفاء العاجل للجرحى والسالمة والعودة
للمفقودين ،ويهنئ األسرى على سالمتهم ،ويسجل بكل فخر واعتزاز االمتنان
للثوار الذين سجلوا ملحمة بطولية رائعة شهد بها العالم ،وأنهت أكثر من
أربعة عقود من الظلم والقمع واالستبداد ،وأنارت بدمائهم الزكية دروب العزة
والكرامة والشموخ ألبناء هذا الشعب العظيم ،وإذ نسجل ذلك فإننا نحيي كل
الذين وقفوا مع قضيتنا من بلدان وهيئات ومنظمات دولية وإقليمية ،كما نحيي
كافة قادة وشعوب الدول الشقيقة والصديقة التي احتضنت مشروع ثورتنا
وساهمت في إنجاحها ،وفي نفس الوقت فإنه ال يفوتنا إال ان نتقدم بالشكر
الجزيل لكل مجالس الحكماء والشورى والخبراء والمشايخ واألعيان وأهل
الرأي والمشورة والبحاث والمشاركين وأصحاب المداخالت واللجان المشرفة
الذين ساهموا في إنجاح هذا الملتقى وما نتج عنه من ميثاق شرف للمصالحة
الوطنية وتوصيات ،كما نتوجه بجزيل الشكر والعرفان لكافة وسائل اإلعالم
التي لعبت دوراً فعاالً في إنجاح ملتقانا هذا ،وفي الوقت نفسه نتقدم باالعتذار
173
لكل من كان الوقت حاجزا دون تمكينه من المشاركة أو إيداء الرأي كما
نلتمس العذر عن أي تقصير قد حصل أثناء انعقاد هذا الملتقى.
وختاماً نأمل من المولى عز وجل أن يكلل أعمالنا بالنجاح ويجنب بالدنا
ويالت الفتن والمكائد ويحمي ثورتنا وشبابنا ،كما ندعوه سبحانه وتعالى ان
يبارك كل الجهود التي تبذل في الصلح والمصالحة وبناء الدولة الجديدة على
أسس سليمة أساسها العدل والقانون والمساوة واحترام اإلنسان وحقوقه
وآدميته وكرامته ،وأن يحقق األمن والسالم في كافة ربوع ليبيا الحبيبة.
هذا وقد أصدر الملتقى التوصيات التالية:
1ـ تشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية على مستوى ليبيا تتبعها لجان فرعية
في المدن والمناطق المختلفة ،ولجنة لمتابعة تنفيذ التوصيات على ان تتكون
هذه اللجان من أهل الرأي والمشورة وممن لهم خبرة في فض المنازعات
وتسوية الخالفات.
2ـ تستعين اللجنة العليا للمصالحة الوطنية باللجان الفرعية في بعض المدن
والمناطق لفض النزاعات وحل الخالفات فيما بين المدن والمناطق األخرى،
في حين تقوم اللجان الفرعية بحل الخالفات التي تقع في مدنها ومناطقها.
3ـ التأكيد على أن الشريعة اإلسالمية هي القاعدة األساسية ألي مصالحة وطنية.
4ـ التعجيل بإصدار قانون العدالة االنتقالية وبما يحفظ حقوق الليبيين وتفعيل
األجهزة األمنية والضبطية والدوائر الجنائية بالمحاكم ،والتعجيل بإحالة
المحتجزين والمتحفظ عليهم إلى القضاء.
5ـ ضرورة تقديم كل من سفك دماء الليبيين أو انتهك أعراضهم أو اختلس
أموالهم أو شارك أو حرض على ارتكاب هذه الجرائم ضدهم إلى المحاكم.
6ـ إنشاء صندوق مالي تموله الدولة لتعويض المتضررين من اعتداءات
قوات وأعوان الطاغية ويشمل التعويض عن األضرار المادية والمعنوية.
174
7ـ العمل على خلق البيئة المناسبة والظروف الموضوعية المالئمة لتحقيق
السلم واألمن األهليين وذلك باإلسراع بتأسيس الجيش واألمن الوطنيين،
وتنظيم حمل السالح ،واستيعاب الثوار فيهما وفقاً لرغباتهم وتأهلهم مهنيا،
وخلق فرص عمل مناسبة لهم إلدماجهم في المجتمع الجديد الذي ثاروا من
أجله.
8ـ العمل على وضع ميثاق شرف لوسائل اإلعالم بحيث تلتزم هذه الوسائل
بالعمل على تعزيز الوحدة الوطنية واالبتعاد عن كل ما من شأنه إثارة
النعرات القبلية أو الجهوية أو العرقية أو المذهبية.
9ـ إعادة النظر ومراجعة السياسة التربوية والمناهج التعليمية بحيث ترسخ
روح الوحدة الوطنية وتسهم في نشر ثقافة التسامح والسلم االجتماعيين ونبذ
العنف وتأكيد ثقافة الحوار بين األفراد والجماعات وزرع روح المصالحة في
أوساط الشباب.
10ـ عدم اللجوء إلى ممارسات العقاب الجماعي كالتهجير وحرق المساكن
والحرمان من الخدمات العامة.
11ـ ضرورة مشاركة المرأة مشاركة فعالة في لجان المصالحة الفرعية
ولجنة المصالحة العليا.
12ـ ضرورة أن تساند الدولة عمليات المصالحة بتسخير إمكانياتها المادية
للمساهمة في تنفيذها.
13ـ دعوة الوعاظ وأئمة المساجد إلى أن يضمنوا خطبهم ومواعظهم الدعوة
للتصالح والمصالحة والتسامح والعفو.
14ـ االستفادة من تجارب الدول التي مرت بظروف مماثلة ،واالستعانة
بالمنظمات الدولية المختصة مع مراعاة خصوصيات المجتمع الليبي.
175
15ـ إصدار قانون للعزل السياسي يتضمن منع من ارتكبوا جرائم وانتهاكات في
حق الشعب الليبي أو سرقوا أموال ُه من تولي مناصب قيادية في أجهزة ومؤسسات
الدولة.
16ـ إعادة هيكلة مؤسسات الدولة التي مارست أعمال قمع ضد الشعب الليبي
وتطهيرها من أعوان النظام المنهار وإعادة النظر في مهامها لتكون في خدمة
ال من التجسس عليه وقمعه واضطهاده.الوطن والمواطن بد ً
17ـ دعم أسر الشهداء والمفقودين ورعايتهم واالهتمام برعاية أوضاع الجرحى
والمعتقلين للتخفيف من األضرار المادية والنفسية التي لحقت بهم ولتوفير مستوي
معيشي الئق لهم.
18ـ اإلسراع بتنفيذ برامج اإلعمار في المناطق المتضررة لما له من أثر إلزالة
اآلثار السلبية والتأهيل النفسي تمهيداً لولوج عهد جديد يسوده التفكير اإليجابي
لتحقيق المصالحة.
19ـ حث مؤسسات المجتمع المدني على المساهمة الفاعلة في إنجاح خطوات
المصالحة الوطنية.
20ـ إعادة هيكلة الجامعات والمعاهد العليا والتعليم اإلسالمي بما يضمن تحقيق
التواصل بين الشباب والطلبة من مدن ليبيا المختلفة.
وفي الختام نكرر شكرنا وتقديرنا وامتناننا للجميع
والمجد والخلود للشهداء األبرار
وعاشت ليبيا حرة أبية
واهلل ولي التوفيق
الملتقى األول لمجالس الحكماء والشورى بليبيا
صدر بمدينة الزاوية في الثالث من محرم الحرام 1433هـ الموافق
2011/11/28م
176
التاسع والعشرون :مشروع المصالحة الوطنية شروط وآليات
توطئة األستاذ سليمان عبد القادر
ل لنظام الظلم والفساد واإلستبداد ،أن ال يخفى على عاقل ،بعد اإلرث الطوي ٌ
الوطن في حاجة إلى خطوة تهيئٌ لمرحلة البناء وإقامة الدولة المدنيةٌ التي
تستند إلى قيمٌ اإلسالم .هذه الخطوة تتمثل في مشروع للمصالحة الوطنيةٌ
يتٌحقق فيه تبيان الحقائق ،وإرساء العدالة ،وتحقيق المصالحة .والحقيقٌة إن
شعار المصالحة الوطنيةٌ تردد على األلسنة و طرق األذان طوال الفترة
الماضيةٌ ،لكن األمر المهم المستهدف في هذه الوريقٌات هو كيفٌ يكٌون هذا
المشروع مستوعبا لكل ما حدث في الفترة الماضيةٌ من تجاوزات وإنتهاكات
مارسها النظام بأذرع من أبناء الشعب المغرر بهم أو الذ ين أعمتهم سؤرة
الطمع والجشع؟ ،بمعنى أن يكون مشروع المصالحة الوطنيةٌ لجل ما حدث
في البلد من إنتهاكات طوال األربع عقود الماضيةٌ وأال قٌتصر على ما حدث
أيام ثورة السابع عشر من فبراير المجيدٌة .والثاني أن نضع اآلليات المناسبة
التي تجعل من هذا المشروع واقعا ملموسا يأٌخذ مداه الطبيعي ولكن يصٌل
بعون اهلل سبحانه وتعالى إلى غايته ومستقره ،حتى ال يختزل في شعارات
وهتافات قد ال تتجاوز الحناجر.
أوال معالم المصالحة الوطنية:
1ـ يتبادر إلى بعض األذهان أن مشروع المصالحة الوطنيةٌ التي نريدٌ هو
معالجة لما حدث أثناء ثورة السابع
عشر من فبراير ،متناسين أن هذه الثورة و ماحدث فيها ،نتاج منطقي للظلم
والفساد واإلستبداد الذي عشعش
طوال األربعة عقود الماضية ،ولم يكن وليد اللحظة ،وال يمكن إختزاله في
حادث معين أو قضيةٌ بعينها.
177
لقد شوه النظام السابق جهاد األبطال الذين صنعوا اإلستقالل وشوه نضاال
وحراكا ثقافياٌ و إجتماعياٌ كان من
أسس هذا اإلستقالل ،و شوه النظام نخبة ثقافية وأودعها السجون حقبة
السبعينيات ،واستولى على أموال
الموسرين بحجة تصفيةٌ البرجوازيةٌ وصادر الممتلكات الخاصة وحارب
الناس في قوت أوالدهم ،وانبرى
يطٌلق األوصاف المقيتة لكل معارضيهٌ ،وادخل البلد في حروب ال طائل من
ورائها ذهب جرائها أالف
الضحايا من أبناء هذا الشعب ،و جني الوطن من وراءها فقدا لعدد كبير من
أبنائه باإلضافة إلى قائمة طويلة
من اليتامى والمتضررين .وأعدم معارضيه على رؤوس األشهاد وزج
باألالف من أبناء الشعب في السجون
والمعتقالت ليواجهوا أقذر أساليب الكبت والتعذيب ،وشرد أالف األسر من
ورائهم في الداخل بقانون العقوبات
الجماعية الذي هدم بموجبه حتى البيوت ،أما من تمكنوا من الهجرة القسرية،
قام بمالحقتهم قتال وتهديدا
ورصدا و تشويها ،وحارب الناس في قوتهم وسهل سبل الفساد حتى صار
الشعار "رزق حكومة "’،
"واخنب واهرب" و " اللي ما تاخذه ،يأخذه غيرك" .و لم تكن هذه
اإلنتهاكات تنفذ من رأس النظام مباشرة،
بل استخدم فيها أذرعا من أبناء الشعب ،معتمدا في التغرير على تجاذبات
قبليةٌ وجهويةٌ ،وأطماع شخصيةٌ
178
استجاب لها السذج وضعاف النفوس ،ومعتمدا على الضيق في فرص العمل
والكسب الذي نتج عن سياساته
المتقلبة ونظرياته المزعومة ،حتى ألجأ قطاعا عريضا من الموظفين
والعاطلين والشباب بل وحتى من
المتقاعدين والنساء المطلقات إلى العمل ضمن جهاز األمن الداخلي في كتابة
التقارير والوشايةٌ بالمواطنين من
أجل لقمة العيش ،ليحصد الوطن جراء ذلك جرحا غائرا بأياديه! فمن من وقع
عليهم اإلنتهاك هم من أبناءه،
ومن مارس هذا اإلنتهاك من أبناءه أيضا ،وقد يتذبذب البعض بين الصنفين
حيناً من الزمن.
إن اإلنتهاك لدى البعض لم ينته بمجرد موت رأس النظام وهروب أعوانه
المقربين وكتائبه بل كل من مارس
اإلنتهاك بطريق مباشر أو غير مباشر ال بد أن يقع في دائرة إسترداد
الحقوق!! .،وليس المقام لمناقشة هذه
الرؤية و مدى أحقية هذا الرأي ،ولكن يجب التأكيد على إن مشروع
المصالحة الوطنية ال بد أن يكون البلسم
الذي نعالج به بعد توفيق اهلل سبحانه وتعالى هذه الجروح ونزيل به األلغام
اإلجتماعية التي خلفها نظام الظلم
والفساد واإلستبداد بين أبناء المجتمع الواحد.
2ـ كما هو معلوم فإن اإلنتهاكات التي مارسها النظام البائد ،مارسها باذرع
من أبناء هذا الشعب ،واعتمد فيها على تجاذبات قبلية وجهوية كغطاء تضيع
به حقائق األشياء وبشاعة الجرائم .والحقيقة أن التجييش القبلي والجهوي
والمناطقي ،ما انفك متكئا لكل ناعق يحاول بإثارته تحقيق مطالبه الشخصية،
179
حتى أصبحت القبيلة والمنظقة لدى البعض ،المشجب الذي يعلق عليه ضعف
ما يرفع من شعارات ،والصهوة القصيرة التي يمتطيها لتحقيق مطامعه
الشخصية ،فيرفع شعار القبيلة و ما القته من تهميش ،أو يرفع شعار الجهة
وما القته من تهميش ،فقط ليجمع حوله المناصرين .من هنا نقول :إن مشروع
المصالحة الوطنية يجب أن ينحى إلى شخصنة
القضايا قدر اإلستطاعة والممكن ،بحيث ال تكون القضية قضية قبيلة معينة
ضد قبيلة أخرى ،أو قضية جهة
ضد جهة أخرى أو منطقة ضد منطقة أخرى ،بل قضية فرد أو أفراد ضد فرد
أخر أو أفراد آخرين .إننا يجب
أن نجرد القضايا من البعد القبلي والجهوي ألنهما بعدان تستثار فيهما
الحميات والنعرات التي تحجب حقائق
األشياء وتشوش على صوت العقل والمنطق واإلنصاف .يجب أن ينحى
مشروع المصالحة إلى تحديد
المسئولية الفردية فيما وقع ويقفل الطريق على كل ما من شأنه أن يخرق
النسيج اإلجتماعي للمجتمع الليبي.
3ـ ما حدث خالل األربعة عقود الماضية يفوق الوصف ،وبعض الجرائم ال
يتخيلها العقل السوي و تأباها النفوس
المتزنة ،وإال ما ذنب أطفال صغار يحرموا من حقوقهم المدنية و يحرموا
حتى من لقمة العيش لجرم أقترفه
أبوهم أوأحد أفراد أسرتهم ،هذا إذا سلمنا بالجرم! .ما ذنب أسرة يهدم عليها
بيتها و تشرد في الشارع بال مأوى
وال حتى سقف يظلهم لمخالفة أقترفها أحد أبناءهم ،هذا إذا سلمنا بالمخالفة!.
كيف يستسيغ المنطق أن يمثل
180
بجثث المعارضين وتنبش قبورهم! .ولكن على بشاعة ما حدث وفظاعته فإن
سفينة األمان في المجتمع يجب
أال تخرق بأيادي العابثين ،والمصالحة الوطنية يجب أال تخول أحدا -كائنا
من كان -أن يسترد حقه أو مظلمته
بشكل فردي ،مهما كان حجم الظلم الذي وقع عليه ،بل ال بد من أطر قانونية
تنصف المظلوم وتجبر الضرر
وترد الحقوق ،حتى ال يتحول المجتمع إلى ثقافة الغابة التي يأخذ فيها كل حقه
بيده .بل إن مشروع المصالحة
يجب أن يذهب أبعد من ذلك ،بأن يعتبر كل فعل يمارس بذريعة إسترداد
الحقوق خارج األطر القانونية ،
جريمٌة يعاقب صاحبها مهما كان بشاعة الظلم واإلنتهاك الذي وقع عليه .وهذا
ليس إستخفافا باإلنتهاكات وال
تهميشاً للمظلومين ،بل حتى ال يتحول المجتمع إلى مجتمع أدغال.و ألن
ظاهرة استرداد الحقوق بشكل فردي
ودون أطر قانونية ،إذا فتح بابها ،فإن المئات ستسول لهم أنفسهم اإلعتداء
على األعراض والممتلكات بحجة
إستراداد الحقوق ،وحينها يفقد األمن الذي هو األساس الذي تقوم عليه الدولة ،
ونقع في عين ما كان يعاب
على النظام البائد.
4ـ إن ما وقع من إنتهاكات لم يقتصر على الضرر المادي من اإلستيالء على
االمالك إلى الحبس والتشريد وحتى القتل ،بل هناك إنتهاكات معنوية تمثلت
في تشويه األفراد واألفكار ،ومشروع المصالحة الوطنية يجب أن
181
ينحى إلى تبيين الحقائق كأساس تقوم عليه المصالحة ،ثم يأتي بعد ذلك مسألة
جبر الضرر وهذا جٌب أن
تتحمل فيه الدولة المسئولية ،ألننا سنواجه قضايا متشابكة وخصوصا في
مسألة األمالك .البد ان تجذر لشيئين
ال ينفك عنهما مشروع المصالحة الوطنية ،هما القدرة على العفو والتحل به،
وهذا ليس ضد جبر الضرر في شيء ،بل هو أمر ال بد منه لطي صفحة
الماضي وعدم العودة إليها بتاتا ،وهنا يجب التأكيد على ان مصلحة
الوطن تتطلب قدوات تنبري تؤصل لهذا الشرف العظيم من أنفسهم وأموالهم
كما فعل ذلك رسول اهلل صلى
عليه وسلم يوم فتح مكة حيث وضع الثأر لدم ابن عمه ،ووضع ربا عمه
العباس رض اهلل عنه.
واألمر اآلخر نبذ عقلية ونفسية اإلنتقام ،ألنها نار إذا ما اشتعل أوارها لن
تبقي أخضر وال يابس .إن ثورتنا
المجيدة لم تقم لتنتقم طائفة من طائفة أخرى وال قبيلة من قبائل أخرى وال
منطقة أو جهة من مناطق وجهات
أخرى ،هذه الثورة ليست لتغيير السلم اإلجتماعي لينخفض أفراد و يصعد
أخرون ،و ال لتغيير الخارطة
اإلجتماعيةٌ لتذل قبائل وتعز قبائل أخرى ،بل إن الثورة جاءت لتبيين الحقائق
ورفع الظلم وأسبابه ومظاهره،
الثورة لينعم كل مواطن ليبي بحقوقه على أي بقعة من تراب هذا الوطن،
ليتحصل كل مواطن ليبي على
الرعاية الكاملة وحقه في الحرية والعيش الكريم ،ليس ألنه ابن قبيلة معينة ،
وليس ألنه ابن مدينة معينة،
182
وليس ألنه قام بدور معين ،بل ألنه مواطن ليبي فحسب .وهذا ال ينفي أن
نعترف ألهل الفضل بفضلهم ،ولكن
ال نريد لهذا الفضل الذي قام به البعض تجاه وطنهم وشعبهم أن يتحول إلى
قيد تقمع به الحريات وتهدر به
الحقوق وتجنى به المميزات .إننا ال نريد أن ندفع ظلما بظلم آخر ،و ال نريد
أن ندفع إنتهاكا بإنتهاك أخر وال
نريد أن نسترد حقوقا بمنع حقوق األخرين .إننا نريد أن نجذر لمجتمع يقوم
على العدل ونبذ الظلم ،نريد أن
نجذر لمجتمع يحترم الحقوق وينبذ اإلنتهاك ،نريد أن نبني مجتمعا يقدس
الحريات العامة و ينبذ مصادرتها،
وبالتالي فإنه من األهمية بمكان ان ال يتحول الضحية في وقت مضى إلى
جالد ،وال نريد أن يتحول المجني عليه إلى جاني ،نريد لثقافة اإلنتهاك أن
تختفي من عقول األجيال القادمة ولهذا فعلينا أن نحذر ونحن نسترد
الحقوق ونرفع المظالم من أن نؤصل لإلنتهاك والظلم في صورة جديدة
وبأيادي أخرى ،فسلمية الوسائل
وقانونية اإلجراءات وتغليب العفو والبعد عن اإلنتقام هي السمات الحقيقية
لهذه المصالحة الوطنية.
5ـ إن المنطلق الذي ننطلق منه في مشروع المصالحة الوطنية هو أهميتها
لكي تتعافى األجيال القادمة من ويالت
الظلم واإلنتهاك ،وأهميتها من أجل المحافظة على اللحمة الوطنية ،وأهميتها
لطي مرحلة الماضي وعدم تكرارها في صورة أخرى من أجل ذلك فإن
الدولة المتمثلة في السلطات التشريعية والتنفيذية يجب أن تتحمل المسئولية في
عملية الجبر وتتحمل المسئولية في عملية إعادة التأهيل .إننا سنواجه قضايا
183
متشابكة تتجلى فيها الحقيقة و تعجز آداة اإلنتهاك عن الجبر او أن تكون
الحقوق المسلوبة انتقلت إلى طرف ثالث و رابع بصورة قانونية و قامت
عليها أنشطة ومشاريع تستفيد منها اطراف أخرى كقضايا العقارات مثال،
وهنا البد ان تكون الدولة كما اسلفت هي الطرف الرئيس الذي يقع عليه
المسئولية ألهمية طي هذه الصفحة للوطن .ومن ناحية أخرى أن قضايا
اإلنتهاك وتناولها عبر مشروع المصالحة الوطنية الغرض منه هو سل
السخائم واالحقاد ليعيش المجتمع حياة إجتماعية صحية وبقدر ما في هذا
المشروع من اجترار للماضي البغيض إال أنه من األهمية بمكان ،األمر
الذي يحتم المحافظة على سرية ملفاته والتعامل معها بمنتهى الحرص و
السرية من ناحية ارتباطها باألشخاص ،وهذا ال يمنع شفافية األداء بالقدر
الذي يمنع اإلهمال او الفساد.ومسئولية الدولة في إعادة التأهيل ومسئولية
الدولة في سرية هذا الملف بحيث ال تتناوله وسائل اإلعالم إال بالنذر الذي
يبرز العمل فيه دون التطرق إلى أسماء األشخاص وال القضايا المتعلقة بهم.
ثانيا أهداف المصالحة الوطنية
مشروع المصالحة الوطنية مشروع يعكس أوال وآخرا رقي هذا الشعب
وعظمة القيم اإلسالمية التي يستند إليها ،وهو عالوة على ذلك سيحقق إن شاء
اهلل األهداف التالية:
• إرساء السلم اإلجتماعي
• إرساء ثقافة اإلحتكام إلى القانون
• الحفاظ على اللحمة الوطنية
• إعادة التأهيل والتعويض المعنوي
• تجنيب الوطن ويالت اإلنتقام
• نشر ثقافة العفو والتسامح
184
• نشر ثقافة الشفافية
ثالثا آليات إطالق مشروع المصالحة الوطنية
• عرض مشروع المصالحة الوطنية على المجلس الوطن اإلنتقالي،
والحكومة المؤقتة بغية إعتمادها المبدئ وإستكمال اللوائح التسييرية وربط ما
صٌدر عنها بالمنظومة القضائية و إعطاء ما يصدر عنها صفة االحكام
القضائية ملزمة التنفيذ.
• تبني هذا المشروع دستوراٌ ليكون أحد األسس الذي تقوم عليه دولة ليبيا
الجديدة ،ويحظى بالعناية والتنفيذ من
قبل هيئات الدولة المتعاقبة.
• إختيار شخصيات من المجتمع تقوم على هذه المؤسسة يتوفر فيها الرمزية
اإلجتماعية ،والتخصص ،والخبرة
الحقوقية ،و المصداقية لدى الشعب الليبي ،وألهمية المصداقية فيجب أن
يترك المجال مفتوحا -بعد اإلعالن
عن المؤسسة -لجميع المواطنين ،إذا كان هناك مطعن أو تحفظ على شخصية
من القائمين على هذه المؤسسة،
حتى يتقدموا به إلى الهيئة القضائية في ظرف شهر من اإلعالن عن
المؤسسة.
• إطالق مؤسسة تقوم على إبراز الحقيقة و إرساء مبدأ العفو والتعويضات
المادية والمعنوية تحظى بالحصانة
الدستورية وتسمى بـ "هيئة الحقيقة والعدالة و المصالحة" ،يكون لها فروع
في كل مدينة ومنطقة بشكل يضمن وصولها إلى كل المواطنين في ليبيا.
185
• اإلعالن عن هذه الهيئة عبر مؤتمر صحفي يتٌواجد فيه القائمون على هذه
الهيئة و ممثلون عن المجلس والحكومة باإلضافة إلى مؤسسات المجتمع
المدني .
• يتم التعريف بهذه الهيئة في القنوات المحلية والفضائية وعبر المجالس
المحلية في المدن وتوجيه المساجد
لتناول موضوع المصالحة والتنويه على أهميته والهيئة التي تقوم عليه
وعنوان الفرع في كل مدينة من المدن ،بحيث نضمن اإللمام بها من قبل
جميع المواطنين.
• طباعة مطويات تعريفية بالهيئة واهدافها وآليات عملها وتوزيعها في جميع
المدن والتنويه إلى فرع الهيئة في كل مدينة من المدن ومنطقة من المناطق
وطرق اإلتصال به.
• عمل رقم تلفون للهيئة يمكن من خالله التعرف على عنوان الفرع ويمكن
من خالله التواصل مع المركز
الرئيس بغية تقديم أي شكاوى على أداء أي فرع من الفروع.
رابعا هيكل "هيئة الحقيقة والعدالة والمصالحة"
187
( )4مدير العالقات واإلعالم وله دائرة تقوم على التعريف بالهيئة وعمل
الوسائل المساعدة التي تمكن من وصولها لكل المواطنين والمقيمين إقامة
قانونية.
2ـ الفروع
188
أجهزته األمنية واللجان الثورية وغيرها.
هـ ـ مسئول دائرة جرائم اإلعتداء على الممتلكات وهي تعنى بجرائم اإلستيالء
على المباني والشركات واألراض والمصانع واألليات التي مارستها األجهزة
األمنية واللجان الثورية والمتنفذين.
و ـ مسئول دائرة الجرائم النيابية والقضائية وهي تعنى بقضايا الرشوة
وإستخدام السلطات لإلستصدار أحكام قضائية تنتهك حقوق أخرين.
خامسا آليات عمل "هيئة الحقيقة والعدالة و المصالحة" المباشرة تجاه
المواطنين
189
2ـ التحقيق والتحري وهي مهمة يقٌوم بها موظفون يتمتعون برتبة المستشار
تابعون للدائرة المعنية بالنظر في القضية حسب نوعها وتعنى بالتالي:
الجلوس مع صاحب القضية
التسجيل الدقيق لكل القضية وفق معايير توضع للنظر في القضايا
التدقيق على الوثائق إذا كانت هناك وثائق وأخذ صورمنها
التدقيق على الشهود إذا كان هناك شهود
معرفة أدوات اإلنتهاك الجهة واألشخاص تحديدا ومعلومات عنهم
توثيق التواريخ وعناوين الشهود
الجلوس مع المدعى عليهم ومواجهتهم بالوثائق ومطالبتهم باإلعتراف كجزء
من المصالحة
إصدار القرار فيما يتعلق بالقضية حسب نوعيتها
3ـ الحقيقة والعفو وهذا القسم يعنى بالتالي:
إعتراف الجاني وندمه على ما صدر منه من إنتهاكات
تغليب جانب العفو والصفح من قبل المجني عليه وهذا ال يمنعه من التعويض
المادي أو المعنوي
طي صفحة الماض وعدم اإلنتقام
4ـ التعويضات وهي وحدة تعنى بالتالي:
تقدير التعويضات وفق معايير والئحة توضع للتعويض
إسترداد الممتلكات وفق معايير والئحة توضع لإلسترداد
190
عمل برامج التعويض المعنوي بالنسبة للجرائم ضحايا الحروب واإلختفاء
والتشويه كتسمية الشوارع
والمدارس وعمل المتاحف التاريخية ...الخ
التأكد من أن المجني عليه لم يستلم تعويضات وخصوصا في قضايا
الممتلكات
متابعة التعويض من قبل الجهات المعنية وإعالم اإلدارة العليا
5ـ إعادة التأهيل وهذه الوحدة تقوم على إعادة التأهيل لكل اطراف القضية
التأهيل النفسي للمجني عليه
التأهيل الصحي للمجني عليه
رعاية أبناء المجني عليه وكفالتهم إذا كانت القضية قتل أو إعاقة مانعة
تهجير أهل الجاني إلى منطقة أخرى بحيث يبدأوا حياة جديدة إذا كانت
القضية تستاهل هذا اإلجراء كقضايا
اإلغتصاب وهتك األعراض.
رعاية أبناء الجاني و أسرته إذا استدعى االمر حبسه أو تنفيذ القصاص فيه
رد اإلعتبار للمجني عليه وخصوصا في قضايا التالعب النيابي و القضائي
تزويج من وقع عليهن االغتصاب بشكل يحفظ كرامتهن و ال يخدش بسمعتهن
وأخيراً :هذا المقترح اضعه بين يديك وأتمنى أن ينال حظه من المناقشة
والتصويب ،واهلل أسأل أن يبارك في جهودكم وأن يجعل أعمالنا خالصة
ِن
لوجهه الكريم وأن يجنبنا الزلل وحظوظ النفس (إ َِّنهُ مَن يَأ تِ رَبَّهُ مُج ِرمًا َفإ َّ
عمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأوُلَ ِئكَجهَنَّمَ ال َيمُوتُ فِيهَا وَال يَحيَا * َومَن يَأتِهِ مُؤمِنًا قَد َ
َل ُه َ
الدرَجَاتُ العُلَى * جَنَّاتُ عَدنٍ تَجرِي مِن تَح ِتهَا األ نهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ َلهُمُ َّ
191
جزَاءُ مَن َتزَكَّى) (طه ،آ ية 74 :ـ .)76وأخر دعوانا ان الحمدهلل رب
َ
العالمين
سليمان عبدالقادر .األحد 07 ،صفر 1433 ،الموافق 2012/01/01
الثًلثون :خطر الذنوب وعواقبها على الفرد والمجتمع:
إن الذنوب تؤثر على مرتكبها تأثيراً كبيراً ،وذلك من نواحٍ عدة ،أذكر منها
فيما يؤثر على الفرد:
1ـ اضعاف اَلرادة.
الذنوب تضعف القلب عن إرادته فتقوي إرادة المعصية ،وتضعف إرادة التوبة
شيئاً فشيئاً إى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية ،فلو مات نصفه لما تاب
إلى اهلل.
2ـ استمرارها وصعوبة التخلص منها:
تؤدي الذنوب إلى أن ينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة ،فال يستقبح
من نفسه رؤية الناس وال كالمهم فيه ،وهو عند أرباب الفسوق هو غاية
التفكك وتمام اللذة حتى يفتخر أحدهم بالمعصية يحدث بها من لم يعلم أنه
عملها ،فيقول :يا فالن عملت كذا وكذا.
3ـ الطبع على القلب وتغطيته:
من آثار الذنوب الطبع على القلب وتغطيته ،وقد أخبر القرآن الكريم عن ذلك،
ن نُقَيِّض َلهُ شَيطَانًا َفهُوَ َلهُ َقرِينٌ"
قال تعالىَ ":ومَن يَعشُ عَن ذِكرِ الرَّحمَ ِ
(الزخرف ،آية .)36 :
4ـ إزالة النعم وإحًلل النقم:
والذنوب تؤدي إلى إزالة النعم عن المذنب وإحالل النقم به ،قال تعالىَ ":ومَا
أَصَا َبكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَ ِبمَا كَسَبَت أَيدِيكُم" (الشورى ،آية .)30 :
192
وعن ثوبان رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :ال يزيد
في العمر إال البر ،وال يرد القدر إال الدعاء ،إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب
يصيبه.1
5ـ اَلضطراب والقلق النفسي:
إن المعصية تؤثر على نفس المذنب فتجعله قلقاً متوتر األعصاب ذا نفسية
مضطربة حائرة ،تشعر بالضيق ،وال تحس بلذة الطمأنينة واألمان ،قال
ش ُرهُ يَومَ القِيَامَ ِة
شةً ضَنكًا وَنَح ُ ِن َلهُ َمعِي َ
تعالىَ ":ومَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي َفإ َّ
أَعمَى" (طه ،آية .)124 :
الشعور بالذنب من المشاعر المدمرة لنفسية اإلنسان ،وكثير من األمراض
النفسية الكثيرة االنتشار في أيامنا هذه عودها إلى شعور الفرد الشاعر
بالذنب ،2ولذلك لم يكن غريباً أن يقع الشعور بالذنب ضمن أعراض كثيرة من
األمراض النفسية والعقلية ،فمن بين أعراض مرض القلق يوجد الشعور
بالذنب أو الميل نحو لوم الذات ،وتأنيبها وتعنيفها وعقابها ،ومن بين أعراض
مرض االكتئاب يوجد أيضاً الشعور بالذنب.3
آثار الذنوب على المجتمع:
للذنوب والمعاصي آثارها وعواقبها الوخيمة على المجتمعات واألمم فبسببها
أهلك اهلل األمم الخالية:
ُال أَخَذنَا بِذَنبِهِ َفمِنهُم مَّن أَرسَلنَا عَلَيهِ حَاصِبًا َومِنهُم مَّن أَخَذَت ُه
قال تعالىَ ":فك ًّ
اهلل لِيَظلِمَهُم
ن َُّخسَفنَا ِبهِ األَرضَ َومِنهُم مَّن أَغرَقنَا َومَا كَا َ حةُ َومِنهُم مَّن َ الصَّي َ
سهُم يَظِلمُونَ" (العنكبوت ،آية .)40 : وََلكِن كَانُوا أَنفُ َ
ومن ألوان العذاب التي عاقب اهلل بها أرباب الذنوب والمعاصي في األمة
اإلسالمية جرياً على سنة اهلل في الكون لكل من ابتعد عن منهج اهلل وشرعه
منها:
1ـ انقسام األمة إلى شيع وأحزاب متناحرة:
يخبرنا القرآن الكريم أن األمة اإلسالمية عرضة لهذا العذاب إن حادت عن
منهج اهلل ،يقول تعالى ":قُل هُوَ القَادِ ُر عَلَى أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عَذَابًا مِّن فَوقِكُم أَو
ضكُم بَأسَ بَعضٍ" (األنعام ،آية : سكُم شِيَعاً وَيُذِيقَ بَع َ ت أَرجُِلكُم أَو يَلبِ َ مِن تَح ِ
.)65
193
ومعنى من فوقكم أي ينزل الصواعق ،أو من جهة أمرائكم ،ومعنى أو من
تحت أرجلكم بالخسف والزالزل أو من جهة سفلتكم وخدمكم ومعنى يلبسكم
شيعاً أي يخلط عليكم أمركم فتنقسمون إلى فرق متناحرة وشيع متحاربة.1
2ـ اإلصابة بالجوع والخوف ونقص الثمرات:
إن من أعظم ما تُبتلى به المجتمعات بسبب الذنوب هو الجوع الذي يعني
فقدان أساسيات الحياة من الطعام والشراب ،والخوف الذي يعني انعدام األمن
والطمأنينة النفسية وحلول الفزع والرعب في النفوس.
ضرَبَ اهللُّ مَ َثالً قَر َيةً كَانَت آمِ َنةً مُّطمَئ َِّنةً يَأتِيهَا رِز ُقهَا رَغَدًا مِّن قال تعالى ":وَ َ
ف بِمَا كَانُوا يَصنَعُونَ" اهلل َفأَذَا َقهَا اهللُّ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَو ِ ن َفكَ َفرَت ِبأَنعُمِ ِّ
كُلِّ َمكَا ٍ
(النحل ،آية .)112 :
وقد ربط اهلل بين االستغفار وإنزال الرزق والخيرات من السماء في مواضع
متعددة في القرآن الكريم "وَأَنِ استَغ ِفرُوا ر ََّبكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ يُمَتِّعكُم مَّتَاعًا حَسَنًا
ف عَلَيكُم عَذَابَ ي أَخَا ُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤتِ كُلَّ ذِي فَضلٍ فَضَلهُ وَإِن تَوَلَّوا َفإِنِّ َ
يَومٍ كَبِيرٍ" (هود ،آية .)3 :
السمَاء عَلَيكُم وقال سبحانه ":وَيَا قَومِ استَغ ِفرُوا ر ََّبكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ يُرسِلِ َّ
مِّدرَارًا وَ َيزِدكُم قُوَّ ًة إِلَى قُوَّ ِتكُم وَالَ تَتَوَلَّوا مُج ِرمِينَ" (هود ،آية .)52 :
ويقول تعالى عن نوح عليه السالم ":فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء
ي ويَجْعَل لَّكُ ْم جَنَّاتٍ ويَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا" (نوح ،آية 10 :ـ .)12
عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُ ْم بِأَمْوَال وَبَنِ َ
فمفهوم المخالفة في اآليات يفيد أن االستمرار على المعاصي يمنع هذه
الخيرات ،وأما من ابتعد عن السيئات فإن هذه الخيرات ستكون من نصيبه
وهذا ما أفاده مفهوم الموافقة.2
َاتقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم َب َركَاتٍ مِّنَمثل قوله تعالى ":وَلَو أَنَّ أَهلَ ال ُقرَى آمَنُوا و َّ
السمَاء وَاألَرضِ وَلَـكِن كَذَّبُوا َفأَخَذنَاهُم ِبمَا كَانُوا يَكسِبُونَ" (األعراف ،آية : َّ
.)96
وقال عز وجل ":وَلَو أَنَّ أَهلَ الكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوا َلكَفَّرنَا عَنهُم سَيِّئَا ِتهِم
النعِيمِ * وَلَو أ ََّنهُم َأقَامُوا التَّورَاةَ وَاإلِنجِيلَ َومَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن
ت َّوَألدخَلنَاهُم جَنَّا ِ
ُمةٌ مُّقتَصِ َدةٌ َوكَثِيرٌ مِّنهُم سَاء مَار َِّّبهِم ألكَلُوا مِن فَو ِقهِم َومِن تَحتِ أَرجُِلهِم مِّنهُم أ َّ
يَعمَلُونَ" (المائدة ،آية 65 :ـ .)66
1تفسير األلوسي (.)180 / 7
2التوبة في ضوء القرآن الكريم صـ .129
194
وبين الرسول صلى اهلل عليه وسلم نماذج مختلفة ألنواع العقوبات التي حلت
بالمجتمعات في مقابل ذنوب خاصة ،وعن عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنه
قال :أقبل علينا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال :يا معشر المهاجرين
خمس إذا ابتليتم بهن واعوذ باهلل أن تدركوهن :لم تظهر الفاحشة في قوم قط،
حتى يُعلنوا بها إال فشا فيهم الطاعون واألوجاع التي لم تكن مضت في
اسالفهم الذين مضوا ،ولم ينقصوا المكيال والميزان إال أخذوا بالسنين ،1وشدة
المئونة وجور السلطان عليهم ،ولم يمنعوا زكاة أموالهم إال منعوا القطر من
السماء ،ولوال البهائم لم يمطروا ،ولم ينقضوا عهد اهلل وعهد رسوله ،إال سلط
اهلل عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم ،ومالم تحكم أئمتهم
بكتاب اهلل ،ويتخيروا ،2مما أنزل اهلل إال جعل بأسهم بينهم.3
فقد بين عليه الصالة والسالم أن سبب تسليط العدو وأخذ بعض ما في أيديهم
من السلطان والمال هو نقض المسلمين لعهد اهلل وعهد رسوله الذي أمر اهلل
بالوفاء به ،قال عز وجل ":وَأَوفُوا بِالعَهدِ إِنَّ العَهدَ كَانَ مَسؤُوالً" (اإلسراء ،آية
.)34 :
وأن عدم تحكيمهم لكتاب اهلل سبب للفتن والقالئل والشقاق وزوال األمن ،وهذا
ما نراه واضحاً بينًا في أيامنا هذه من زوال نعمة األمن.4
3ـ اإلصابة بالفتن:
لقد حذر اهلل األمة المسلمة إن خالفت ربها ونبيها ،قال تعالى ":فَليَح َذرِ الَّذِينَ
ن عَن أَم ِرهِ أَن تُصِي َبهُم فِت َنةٌ أَو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ" (النور ،آية .)63 : يُخَالِفُو َ
وهذه الفتنة عامة تشمل مختلف أنواع العقوبات:
كانتشار القتل فيما بينهم ،أو الزالزل والبراكين ،أو تسلط السلطان الجائر
عليهم ،أو ظهور أنواع من األمراض أو الفقر ،أو الشدة في الحياة إلى غير
ذلك . 5وهذه الفتنة إذا نزلت فإنها تعم الجميع فال يستثنى منها أحد لقوله
َآصةً" (األنفال ،آية .)25 : ال تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظََلمُوا مِنكُم خ َّ
تعالى ":وَاتَّقُوا فِتنَةً َّ
ويقول األستاذ سيد قطب ،عند قوله تعالى ":فَليَح َذرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَم ِرهِ"
(النور ،آية .)63 :ليحذروا أن تصيبهم فتنة تضطرب فيها المقاييس ،وتختل
فيها الموازين ،وينتكث فيها النظام ،فيختلط الحق بالباطل والطيب بالخبيث،
195
وتفسد أمور الجماعة وحياتها ،فال يأمن على نفسه أحد ،وال يقف عند حده
أحد ،وال يتميز فيها خير من شر ،وهي فترة شقاء للجميع " أَو يُصِي َبهُم عَذَابٌ
أَلِيمٌ" في الدنيا أو في اآلخرة ،جزاء المخالفة عن أمر اهلل ،ونهجه الذي
أرتضياه.1
ومما تقدم يتضح خطر الذنوب ،األمر الذي يقتضي المسارعة إلى التوبة من
الفرد باالستغفار ،واإلنابة ومن المجتمع بتحكيم شرع اهلل الذي فيه خير الفرد
والمجتمع.2
196
والمراد من اآلية نفي وقوع التوبة الصحيحة من المشركين وأنه ليس من
شأنها أن تكون لهم فقوله " وَالَ الَّذِينَ َيمُوتُونَ وَهُم كُفَّارٌ" ،أي ال توبة ألؤلئك
وال لهؤالء.1
ال يَغ ِفرُ أَن يُشرَكَ ِبهِ وَيَغ ِفرُ مَا دُونَ ذَِلكَ ِلمَن يَشَاء اهلل َ
ـ وقال عز وجل ":إِنَّ َّ
ضالَالً َبعِيدًا" (النساء ،آية .)116 : ِاهلل فَقَد ضَلَّ َ
َومَن يُشرِك ب ِّ
الزكَا َة َفإِخوَا ُنكُم فِي الدِّينِ
الصالَ َة وَآتَوُا َّ
َّ ـ وقال تعالىَ ":فإِن تَابُوا وََأقَامُوا
وَنُفَصِّلُ اآليَاتِ لِقَومٍ يَعَلمُونَ" (التوبة ،آية .)11 :
2ـ اإلخًلص:
وال تصح التوبة الشرعية إال بإخالص ،ومن ترك الذنب لغير اهلل ال يكون
تائباً اتفاقاً.2
والتوبة من األعمال الصالحة ينبغي أن تكون خالصة هلل عز وجل.
جمِيعًا أَيُّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ" (النور ،آية : ـ قال تعالى ":وَتُوبُوا إِلَى اهللَِّ َ
.)31
صغَت قُلُو ُب ُكمَا" (التحريم ،آية .)4 :فقيد ـ وقال تعالى ":إِن تَتُوبَا إِلَى اهللَِّ فَقَد َ
اهلل التوبة في اآلية بأنها تكون خالصة.
ِاهلل وَأَخلَصُوا دِينَهُم هللِِّ
صمُوا ب ِّ ـ وقال عز وجل ":إِالَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصلَحُوا وَاعتَ َ
عظِيمًا" (النساء ،آية : َفأُولَـ ِئكَ مَعَ المُؤمِنِينَ وَسَوفَ يُؤتِ اهللُّ المُؤمِنِينَ أَجرًا َ
.)146
3ـ اَلعتراف بالذنب:
إن الهداية التامة إلى الصراط المستقيم ال تكون مع الجهل بالذنوب ،وال مع
اإلصرار عليها ،فإن األول جهل ينافي معرفة الهدى ،والثاني غي ينافي
قصده وإرادته فلذلك ال تصح إال من بعد معرفة الذنب واإلعتراف به ،وطلب
التخلص من سوء عواقبه أوالً وآخراً.3
4ـ اإلقًلع عن الذنب:
هو الشرط األساسي للتوبة المقبولة ،فالذي يرجع إلى اهلل وهو مقيم على
الذنب ال يعد تائباً وفي قوله " وَتُوبُوا" إشارة إلى معنى اإلقالع عن المعصية،
ألن النفس المتعلقة بالمعصية قلما تخلص في إقبالها على عمل الخير ،لذلك
كان على التائب أن يجاهد نفسه فيقتلع جذور المعاصي من قلبه ،حتى تصبح
197
نفسه قوية على الخير مقبلة عليه ،نافرة عن الشر متغلبة عليه بإذن اهلل
تعالى.1
واإلقالع عن األمر :الكف عنه ،يقال :أقلع فالن عما كان عليه ،أي كف
عنه.2
5ـ الندم:
الندم ركن من أركان التوبة ال تتم إال به وقد أشار النبي صلى اهلل عليه وسلم
إلى قيمة الندم ،فقال :الندم توبة ،3والتوبة لولم يصحبها الندم لربما أدى ذلك
إلى عودة المرء للذنوب ،ألن الندم يجعل التائب متوجعاً متحسراً على
المعصية ،ذاكراً للجريمة التي صنعها منكراً لها ،نافراً منها ،وهذا التصور
يدفع التوبة إلى استدامة التوبة ،كثرة االستغفار ،والقيام بأعمال صالحة،
يرضى اهلل تعالى عنها.4
اهلل َفإ َِّنهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ" (الحج ،آية :
شعَا ِئرَ َِّ
ك َومَن ُيعَظِّم َ قال تعالى ":ذَلِ َ
.)32
قال ابن مسعود رضي اهلل عنه :إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل
يخاف أن يقع عليه ،وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه.5
6ـ العزم على التوبة:
والعزم مترتب على الندم ،وهو يعني اإلصرار على عدم العودة إلى الذنوب
ثانية.
والقرآن الكريم مدح العزم والعزيمة في عدة مواضع ،يقول تعالىَ ":فإِذَا
عزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى اهللِّ" (آل عمران ،آية .)159 : َ
سيَ وَلَم نَجِد لَهُ عَزمًا" (طه ،آية :
عهِدنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبلُ فَنَ ِ
وقال تعالى ":وَلَقَد َ
.)115
أي لم نجد له صبراً وعزيمة ،حيث لم يحترز عن الغفلة من وساوس
الشيطان ،وهذه اآلية تشير إلى أن المؤمن البد وأن تكون عنده عزيمة قوية،
وإرادة فعالة والتائب أكثر الناس حاجة إلى العزيمة واإلرادة القوية ،حتى
يتمكن من السيطرة على شهواته ورغباته ،فيقف أمامها وقفة صمود وقوة،
تجعله ال يعود الذنوب ثانية ،فتكون توبته صحيحة مقبولة.6
1التوبة في ضوء القرآن الكريم صـ .48
2لسان العرب (.)292 / 8
3سنن ابن ماجة رقم الحديث .4252
4التوبة في ضوء القرآن صـ .50
........................... 5
6التوبة في ضوء القرآن الكريم صـ .51
198
7ـ رد المظالم إلى أهلها:
ومن شروط التوبة التي ال تتم إال بها رد المظالم إلى أهلها وهذه المظالم إما
أن تتعلق بأمور مادية أو بأمور غير مادية ،فإن كانت مظالم مادية،
كاغتصاب المال أو سرقته ،فيجب على التائب أن يردها إلى أصحابها إن
كانت موجودة ،أو أن يتحللها منهم ،وإن كانت مظالم غير مادية فيجب على
التائب أن يطلب من المظلوم العفو عن ظالمته وأن يعمل على إرضائه وفي
هذا يقول عليه الصالة والسالم :من كانت عنده مظلمة ألخيه فليتحلله منها،
فإنه ليس ثم دينار وال درهم من قبل أن يؤخذ ألخيه من حسناته ،فإن لم يكن
له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه.1
8ـ اَلستقامة:
إن التائب بعد أن أخلص في توبته ،وأقر بذنوبه نادماً عليها ،البد أن يسلك
درب االستقامة واالعتدال في فعل الطاعات وفي السير على منهج اهلل تعالى.
قال تعالى ":فَاستَقِم َكمَا ُأمِرتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَالَ تَطغَوا إِنَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ"
(هود ،آية .)112 :
9ـ اإلصًلح:
اهلل يَتُوبُ عَلَيهِ إِنَّ اهللَّ غَفُورٌ
ِن َّـ قال تعالىَ ":فمَن تَابَ مِن بَعدِ ظُل ِمهِ وَأَصلَحَ َفإ َّ
رَّحِيمٌ" (المائدة ،آية .)39 :
ـ وقال تعالى ":إِالَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعدِ ذَلِكَ وَأَصلَحُوا فَإِنَّ اهللََّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (آل
عمران ،آية .)89 :
ـ وقال تعالى ":ثُمَّ تَابُوا مِن بَعدِ ذَِلكَ وَأَصلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ"
(النحل ،آية .)119 :
ولقد شجع اهلل على التوبة وعلى مزيد من االعمال الصالحة لمن تاب وأقبل
على اهلل طائعاً ،ووعد من يعمل األعمال الصالحة بأن يبدل اهلل سيئاته
ك
ع َمالً صَالِحًا َفأُولَئِ َ عمِلَ َ حسنات ،فقال جل من قائل ":إِالَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَ َ
اهلل غَفُورًا رَّحِيمًا" (الفرقان ،آية .)70 : يُبَدِّلُ اهللَُّ سَيِّئَا ِتهِم حَسَنَاتٍ َوكَانَ َُّ
10ـ إظهار اَلستقامة:
إذا كانت المعاصي والذنوب التي ارتكبها التائب سابقاً وتاب عليها فيما بينه
وبين ربه وقد ستره اهلل فال حاجة له إلى إعالن توبته منها.
وأما إذا كانت من الذنوب التي اشتهرت بفعلها أو ممارستها ،كمن اشتهر
باإلفساد في االرض ،أو بالسرقة ،أو ترويع األمن براً ،أو بحراً ،أو جواً ،أو
1البخاري ،ك الرقائق ،باب القصاص يوم القيامة (.)197 / 7
199
كان ممن ألف كتباً ضد اإلسالم ،أو دعا فيها إلى مخالفة الشريعة اإلسالمية
في أمر من األمور ،فإنها تحتاج من التائب إلى كتابة أو نشر ما يظهر براءته
مما كتب أو ما كان يمارسه سايقاً بالقول أو الفعل.1
قال تعالى ":إِنَّ الَّذِينَ يَك ُتمُونَ مَا أَنزَلنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِن بَعدِ مَا بَيَّنَّاهُ
اهلل وَيَلعَ ُنهُمُ الالَّعِنُونَ * إِالَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصلَحُوا
لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَ ُنهُمُ ُّ
ك أَتُوبُ عَلَيهِم وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (البقرة ،آية 195 :ـ .)160 وَبَيَّنُوا َفأُولَـئِ َ
إن الثبات على التوبة النصوح والعودة إلى رحاب الطهر والعفاف وإرضاء
الخالق عز وجل يحتاج إلى توفيق اهلل عز وجل ومن الوسائل التي تساعد
اإلنسان على الثبات على التوبة ،هجر أصدقاء السوء ،ومكان المعصية،
ومجاهدة الشيطان ،ومحاسبة النفس واستدامة الندم ،واإلكثار من االستغفار،
وممارسة االعمال الصالحة والذكر والدعاء والرجاء وحسن الظن.2
200
ذلك شيئاً ثم ستره اهلل فهو إلى اهلل إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه ،فبايعناه
على ذلك.1
1ـ أثر التوبة في حد الحرابة:
إن االعتداء على ممتلكات الناس ،وأرواحهم وأعراضهم وإرهابهم وتهديدهم
سواء كان في البر ،أو البحر ،أو الجو ،كل ذلك من اإلفساد في االرض الذي
يجب محاربته توصيداً لألمن الذي هو أجلّ نعمة أنعم اهلل بها على العباد ،وقد
وضع اهلل لهذه الجريمة عقوبة تتالئم مع بشاعتها ،وتأتي عليها وتحقق
اهلل
ن َّ جزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُو َ
الغرض الذي ينشده المجتمع ،قال تعالى ":إ َِّنمَا َ
َورَسُوَلهُ وَيَسعَونَ فِي األَرضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَو يُصَلَّبُوا أَو تُقَطَّعَ أَيدِيهِم
ي فِي الدُّنيَا وََلهُم فِي ف أَو يُنفَوا مِنَ األَرضِ ذَِلكَ َلهُم خِز ٌ وَأَرجُُلهُم مِّن خِال ٍ
عظِيمٌ * إِالَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبلِ أَن تَق ِدرُوا عَلَيهِم فَاعَلمُوا أَنَّ اهللَّ
خرَ ِة عَذَابٌ َ
اآل ِ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (المائدة ،آية 33 :ـ .)34
هذه اآلية الكريمة بيان من اهلل عز وجل عن حكم من أفسد في األرض
وحارب اهلل ورسوله ،ال جزاء له في الدنيا إال القتل ،أو الصلب وقطع اليد
والرجل من خالف ،أو النفي من األرض ،خزياً لهم وأما في اآلخرة إن لم
يتب في الدنيا عذاب عظيم.2
واآلية الكريمة تضمنت أموراً ثالثة هي:
ـ جزاء المحاربين في الدنيا.
ـ جزاء المحاربين في اآلخرة.
ـ توبتهم قبل القدرة عليهم.
أ ـ عقوبة المحارب في الدنيا:
نصت اآلية الكريمة على أن المحاربين مسلمين كانوا أو ذميين ،وإذا لم يتوبوا
فعقوبتهم القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل من خالف أو النفي من
األرض ،وهذه العقوبة تكون حسب جرائمهم ،وهي تعد لهم خزياً وعاراً في
الحياة الدنيا ،والسبب في ذلك شناعة المحارب وعظم ضررها ،ألن فيها سد
سبيل الكسب على الناس.3
201
واهلل سبحانه وتعالى عندما بين عقوبة المحاربين عبّر بحرف (أو) والعلماء قد
اختلفوا فيه :هل هذا العقاب لتنوع الجرائم فتكون بذلك ،أو لتنويع العقاب
بتنوع الجريمة؟ أم أن الواو للتخيير ،فيكون اإلمام مخيراً غير مقيد بنوع
الجريمة ،وهو في هذا ينظر إلى مقدار الترويع بما يتناسب مع قوة الجناة ،من
غير نظر إلى نوع ما ارتكبوه من جرائم وال إلى مقداره ،إنما ينظر فقط إلى
مقدار الزجر والردع.1
ب ـ توبة المحارب وأثرها:
لقد استثنى اهلل تعالى من العقوبات السابقة الذين تابوا قبل القدرة عليهم ،قال
تعالى ":إِالَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبلِ أَن تَق ِدرُوا عَلَيهِم فَاعَلمُوا أَنَّ اهللَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"
(المائدة ،آية .)34 :
والتائب له حالتان:
األولى :توبة المحارب قبل القدرة عليه:
إذا تاب المحاربون قبل القدرة عليهم بعد أن ارتكبوا جريمة من جرائم الحرابة
سقط عليهم حق اهلل تعالى من قتل وصلب ،وقطع اليد والرجل من خالف،
والنفي من األرض ،وأخذوا بحقوق اآلدميين.
وقد فصل صاحب المغنى المسألة وبين في الحكم فيما يختص بحقوق اآلدميين
فقال" :إِالَّ الَّذِينَ تَابُوا" ،أي المحاربون من قبل أن يقدر عليهم سقطت عنهم
حدود اهلل تعالى ،وأخذوا بحقوق اآلدميين من األنفس والجراح واألموال ،إال
أن يعفي لهم عنها ،وال نعلم خالفاً في هذا بين أهل العلم ،وبه قال مالك
والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور ،واألصل في هذا قوله تعالى " :إِالَّ الَّذِينَ
اهلل غَفُورٌ رَّحِيمٌ"(المائدة ،آية .)34 : تَابُوا مِن قَبلِ أَن تَق ِدرُوا عَلَيهِم فَاعَلمُوا أَنَّ َّ
فعلى هذا يسقط عنهم تحتم القتل والصلب والقطع والنفي ،ويبقى عليهم
القصاص في النفس والجراح وغرامة المال والذي ال قصاص فيه.2
وأما إذا ارتكب المحاربون جرائم أخرى غير القتل وأخذ األموال والقذف
والزنا والسرقة وشرب الخمر فإن فيها قولين:
األول :أنها تسقط بالتوبة ،ألنها حدود اهلل إال القذف فإنه ال يسقط ،ألنه حق
من حقوق اآلدميين.
والثاني :أنها ال تسقط ،ألنها حقوق ال تختفي بالحرابة وذكر ابن رشد الحفيد
أقواالً أربعة فيما تسقطه التوبة.1
202
فقال:
القول األول :أن التوبة إنما تسقط عنه حد الحرابة فقط ويؤخذ بما سوى ذلك
من حقوق اهلل وحقوق اآلدميين.
والقول الثاني :أن التوبة تسقط عنه حد الحرابة وجميع حقوق اهلل من الزنا
والشراب والقطع في السرقة ويتبع بحقوق الناس في األموال والدماء ،إال أن
يعفو أولياء المقتل.
والثالث :أن التوبة ترفع جميع حقوق اهلل ويؤخذ بالدماء وفي األموال بما وجد
بعينه في أيديهم وال تتبع دمهم.
والرابع :أن التوبة تسقط جميع حقوق اهلل ،وحقوق اآلدميين من مال ودم إال
من كان من األموال قائم العين بيده.2
والحكمة في اسقاط الجريمة والعقوبة في هذه الحالة عنهم من ناحيتين:
األولى :تقدير توبتهم وهم يملكون العدوان واعتبارها دليل صالح واهتداء.
3
والثاني :تشجيعهم على التوبة وتوفير مؤنة الجهد في قتالهم من أيسر سبيل .
ثانياا :توبة المحارب بعد القدرة عليه:
إذا تاب المحارب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شيء ال من حقوق اهلل وال من
حقوق العباد ،ألن االستشناء في اآلية " إِالَّ الَّذِينَ تَابُوا".
حدد قبول التوبة بما قبل القدرة ، 4قال القرطبي :إنما ال يسقط الحد من
المحاربين بعد القدرة عليهم ألنهم متهمون بالكذب في توبتهم والتصنع فيها،
إذا نالتهم يد اإلمام أو ألنه لما قدر عليهم صاروا بمعرض أن ينكل بهم ،فلم
تقبل توبتهم بعد القدرة عليهم.5
2ـ أثر التوبة في حد القتل:
القتل العمد هو أبشع الجرائم ،وأشدها عند اهلل وعند الناس ،وقد جاءت اآليات
واألحاديث تبين شناعة هذه الجريمة ومصير من تلطح بها.
ـ قال تعالى " :أ ََّنهُ مَن قَتَلَ نَفسًا ِبغَيرِ نَفسٍ أَو فَسَادٍ فِي األَرضِ َف َكأ ََّنمَا قَتَلَ النَّاسَ
جمِيعًا" (المائدة ،آ ية .)32 : جمِيعًا َومَن أَحيَاهَا َفكَأ ََّنمَا أَحيَا النَّاسَ َ َ
جهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اهللُّ جزَآؤُ ُه َ ـ وقال تعالىَ " :ومَن يَقتُل مُؤمِنًا مُّ َتعَمِّدًا فَ َ
عظِيمًا" (النساء ،آية .)93 : عَلَيهِ وََلعَ َنهُ وَأَعَدَّ َلهُ عَذَابًا َ
203
وعن البراء بن عازب أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال لزوال الدنيا
أهون على اهلل من قتل مؤمن بغير حق.1
وقد اتخذ االسالم التدابير الالزمة لحماية النفس وصيانة الجماعة.
وذهب جمهور السلف والخلف إلى القول بأن القاتل له توبة ،ولو كان متعمداً
لعموم اآليات ،واألحاديث الدالة على قبول توبة التائب ،وأن اهلل يغفر الذنوب
جميعاً وإن عظمت:
أ ـ قال تعالى" :وَالَّذِي َن لَا يَدْعُو َن مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُو َن النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا
ب وَآمَ َن
ف لَهُ الْعَذَابُ يَوْ َم الْقِيَامَةِ ويَخْلُ ْد فِيهِ مُ َهانًا * إِلَّا مَن تَا َ
ك يَلْقَ أَثَامًا * يُضَا َع ْ
يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِ َ
204
س ـ وعن أنس رضي اهلل عنه قال :سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
يقول" :قال اهلل تعالى" :يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على
ما كان منك وال أبالي ،يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ،ثم استغفرتني
غفرت لك ،وال أبالي ،يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب األرض خطايا ثم
لقيتني ال تشرك بي شيئاً ألتيتك بقرابها مغفرة.1
فالقاتل إذا تاب إلى اهلل فإن توبته مقبولة إن شاء اهلل تعالى ،ويقول ابن القيم
في ذلك :ويعوَّض اهلل المقتول ،ألن مصيبته لم تجبر بقتل قاتله ،والتوبة
النصوح تهدم ما قبلها ،فيعوض هذا عن مظلمته ،وال يعاقب هذا لكمال
توبته.2
ك ـ التوبة وعقوبة القصاص:
ـ جعل اهلل تعالى لولي القتيل سلطاناً على القاتل ،قال تعالىَ " :ومَن قُتِلَ
جعَلنَا لِوَل ِِّيهِ سُلطَانًا" (اإلسراء ،آية .)33 :
مَظلُومًا فَقَد َ
فكون ولي القتيل له سلطان على القاتل ،فمقتضى ذلك أنه حق من حقوقه ،وال
يسقط هذا الحق بالتوبة ،فولي الدم مخير بين أمور ثالثة :إما القصاص
بواسطة اإلمام ،والدية المغلظة ،أو العفو ،واإلجماع منعقد على ذلك.3
3ـ أثر التوبة فيما يتعلق بحقوق العباد المالية:
حرم اهلل عز وجل أكل أموال الناس بالباطل في قوله تعالى " :وَالَ تَأكُلُوا
أَموَاَلكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ" (البقرة ،آية ،)188 :أي ال يأكل بعضكم مال بعض
بالباطل من غير الوجه الذي أباحه اهلل ،وأصل الباطل :الشيء الذاهب،
واألكل بالباطل أنواع ،قد يكون بطريق الغصب والنهب ،وقد يكون بطريق
اللهو كالقمار ،وقد يكون بطريق الرشوة والخيانة..الخ.
وإذا أراد العبد التوبة ،وكان أخذ ماالً بصورة من الصور السابقة أو بغيرها
وجب عليه رده إلى مالكه ،أو استحالله منه ،إن كان معروفاً وأمكن الوصول
إليه.4
205
أما إذا كان المالك مفقوداً كان لم يسطع الوصول إليه ،أو كان مسافراً ،أو
مات ولم تعرف ورثته ،،أو انقرضوا فعليه أن يتصدق بهذا المال في حالة
اليأس في الوصول إلى صاحبه ،أما إذا كان مال من الدولة فعليه إرجاعه
إليها ألنه ملك لكل الشعب.
4ـ أثر التوبة فيما يتعلق بحقوق العباد غير المالية:
إن الغيبة ،والنميمة ،والشتم ،والتجسس ،والخيانة ،والمكر ،والخديعة ،والغدر،
وعدم الوفاء ،بالعهد ،وشهادة الزور والظلم ،والكذب ،وعقوق الواليدن،
وهجر األقارب ..هي من األمور التي نهى اهلل تعالى عنها وحذر من فعلها في
كتابه الكريم وسنة نبيه صلى اهلل عليه وسلم ،ولكن قد يقع المرء في إحدى
هذه المنهيات ،فما هو أثر التوبة في هذه األمور حتى يسقط عنه العذاب
األخروي.1
فمثالً المغتاب إذا تاب فعلم به من اغتابه فيجب عليه في هذه الحالة استحالله
وطلب العفو منه لقوله صلى اهلل عليه وسلم" :من كانت عنده مظلمة ألخيه
فليتحلله منها ،فإنه ليس ثم دينار وال درهم ،من قبل أن يؤخذ ألخيه من
حسناته ،فإن لم يك له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه.2
أما إذا لم يعلم المغتاب باألمر ،فإنه يستغفر له وال يعلمه ،ألن في إعالمه جلباً
للعداوة والبغضاء في النفوس وإيذاء لمن اغتيب.3
وعلى التائب :أن يفعل مع المظلوم حسنات كالدعاء له واالستغفار وعمل
صالح يهدي إليه يقوم مقام إغتياله وقذفه ،قال الحسن البصري :كفارة الغيبة
أن تستغفر لمن اغتبته.4
والشتم والتجسس وغير ذلك من حقوق اآلدميين فإنها تحمل على ما سبق ،أما
شهادة الزور فيشترط في صحة التوبة منها أن يندم عليها ويعزم على عدم
1التوبة في ضوء القرآن الكريم صـ.459
2البخاري ،ك الرقائق ،باب القصاص (.)197 / 7
3التوبة في ضوء القرآن صـ.467
4مختصر الفتاوي المصرية البن تيمية صـ.254
206
العودة إليها ،1ويعلن براءته من تلك الشهادة الكاذبة فيعمل على إصالح ما
أفسد بشهادته المزورة ضد ذلك اإلنسان أو الجماعة وكذلك شأن النمام.2
5ـ أثر التوبة في تكفير الكبائر:
إن من ارتكب كبيرة وستر نفسه ولم يقم عليه الحد وتاب توبة نصوحاً ،فإنه
يكون داخالً تحت عفو اهلل ورحمته ومغفرته ،وهذا ما ذهب إليه جمهور
العلماء والذي يؤكد توبة مرتكب الكبيرة عموم األدلة من القرآن الكريم والسنة
التي تفتح األمل أمام توبة التائبين في االقبال على اهلل ،والعودة إلى رحابه
تعالى.
أ ـ قال تعالى " :وَهُوَ الَّذِي يَقبَلُ التَّو َبةَ عَن عِبَا ِدهِ وَيَعفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ويَعلَم ما
يَفعَلُون" (الشورى ،آية ،)25 :تجيء هذه اآلية لترغيب من يريد التوبة
والرجوع عما هو فيه من ضاللة قبل أن يُقضى في األمر القضاء األخير
ويفتح لهم الباب على مصراعيه ،فاهلل يقبل عنهم التوبة ويعفو عن السيئات،
فه يعلم التوبة الصادقة ويقبلها ،كما يعلم ما أسلفوا من السيئات ويغفرها.3
عمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهتَدَى" (طه ،
ب ـ قال تعالى " :وَإِنِّي َلغَفَّا ٌر ِّلمَن تَابَ وَآمَنَ وَ َ
آية .)82 :
ج ـ وعن معاذ بن جبل رضي اهلل عنه قال :قال النبي صلى اهلل عليه وسلم:
يا معاذ أتدري ما حق اهلل على العباد؟ قال :اهلل ورسوله أعلم ،قال :أن يعبدوه
وال يشركوا به شيئاً .أتدري ما حقهم عليه؟ قال :اهلل ورسوله أعلم قال :أن ال
يعذبهم.4
س ـ وعن جابر رضي اهلل عنه ،قال :أتى النبي صلى اهلل عليه وسلم رجل،
فقال :يا رسول اهلل ،ما الموجبتان؟ فقال :من مات ال يشرك باهلل شيئاً دخل
الجنة ،ومن مات يشرك باهلل شيئاً دخل النار.5
207
ش ـ عن عبادة بن الصامت رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم :من قال :أشهد أن ال إله إال اهلل ،وحده ال شريك له ،وأن محمداً
عبده ورسوله ،وأن عيسى عبد اهلل ،وابن أمته ،وكلمته ألقاها إلى مريم وروح
منه وأن الجنة حق ،وأن النار حق ،أدخله اهلل من أي أبواب الجنة اثمانية
شاء.1
6ـ أثر التوبة على اإلنسان:
َهرِينَ" (البقرة ،آية .)222 : اهلل يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُ َتط ِّ
ن َّ قال تعالىَّ ِ" :
وعن أبي هريرة رضي اهلل عنه ،عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم أنه قال:
قال اهلل عز وجل :أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني ،واهلل هلل
أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بفالة ،ومن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت
إليه باعاً ،وإذا أقبل إليَّ يمشي أقبلت إليه أهرول.2
التوبة ندامة على ما ماضي سيء ،وعهد وإصرار على مستقبل مشرق،
وتسام ،وإرادة ،ونبل ،وعزيمة ،وتصميم وهي ميزات القدرة اإلنسانية
وصالبتها لمستقبل جديد ،وهي تغيير جذري لنفس اإلنسان ،وسلوكه،
وتفكيره ،فهي عنصر أساسي لتكامل الشخصية المسلمة ،وإذا تقبل التائب
نفسه شع بين جنبات نفسه أنوار السعادة والقرب اإللهي ،فينطلق بإرادة قوية،
وعزيمة صادقة لطاعة ربه ،صادقاً في عزيمته على التغلب على أهوائه
وشهواته وتوجيه طاقاته نحو األمثل واألكمل مراقباً لسلوكه ،وتصرفاته.3
7ـ أثر التوبة على الصحة النفسية:
إن التزام المسلم بالتمسك بتعاليم القرآن الكريم تزيل عن نفسه اإلكتئاب
واإلحباط ،أو أي توتر نفسي ،والتوبة هي الدعوة اإللهية لإلنقاذ من أي
اضطراب نفسي وآالم نفسية تدعو إلى اليأس والقنوط ،4وهي تحرر المذنب
من آثامه وخطاياه ،وتشعره بالتفاؤل والراحة النفسية.5
اهلل
ال تَق َنطُوا مِن رَّحمَ ِة َِّ
سهِم َ
ـ قال تعالى ":قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَس َرفُوا عَلَى أَنفُ ِ
جمِيعًا إ َِّنهُ هُوَ الغَفُو ُر الرَّحِيمُ" (الزمر ،آية .)53 : إِنَّ اهللََّ يَغفِ ُر الذُّنُوبَ َ
ال تَق َنطُوا" إشارة إلى أن المؤمن يجب أن يكون دائماً في حالة ففي قوله " َ
وسط ال يسرف وال يتجاوز الحدود حتى في تأنيب الضمير وتعذيب النفس،
208
والتيقظ من الغفالت والشعور بالتقصير من جانب اهلل تعالى ،ألن اليأس القاتل
ال محل له في النفس المؤمنة مهما كثرت الذنوب والهموم واآلآلم نتيجة
الشعور بفداحة المعاصي والذنوب ،والتوبة النصوح من أهم مظاهر الصحة
النفسية المترتب عليها ،أن يتقبل اإلنسان ذاته ،ويرضى عن إمكانياته،
واستعداداته ،وقدراته التي منحها اهلل تعالى له.1
إن للتوبة قيمة عظيمة في تمتع الفرد بالصحة العقلية والنفسية ،فال يفقد المسلم
األمل إطالقاً وال يمكن أن يستسلم لليأس ،فباب اإلصالح دائماً مفتوح،2
والشعور باألمان النفسي واالطمئنان إنما يولده اإلحساس بقبول التوبة ،وقد
نص القرآن في كثير من آياته على قبول التوبة ومغفرة الذنوب ،يقول تعالى":
جمِيعًا إ َِّنهُ هُوَ الغَفُو ُر الرَّحِيمُ" (الزمر ،آية .)53 : إِنَّ اهللََّ يَغفِ ُر الذُّنُوبَ َ
وهذا ما يحتاج التائب أن يعمله ويدركه ،ليعيد الثقة في نفسه وروحه ،بل
واألعظم من ذلك أن يعلم أن اهلل عز وجل ال يغفر له ذنوبه فقط ،بل أن توبته
ِال مَن تَابَ وَآمَنَ الصادقة سبب لدخوله الجنة وحجابه ،قال عز وجل ":إ َّ
عمِلَ صَالِحًا َفأُولَ ِئكَ يَدخُلُونَ الج ََّنةَ وَالَ يُظَلمُونَ شَيئًا" (مريم ،آية .)60 : وَ َ
ـ وقال عز وجل ":يَا أ َُّيهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اهللَِّ تَوبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُم أَن
ال يُخزِي اهللَُّ ت تَجرِي مِن تَح ِتهَا األَنهَارُ يَومَ َ ُيك َِّفرَ عَنكُم سَيِّئَا ِتكُم وَيُدخَِلكُم جَنَّا ٍ
النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا َم َعهُ نُورُهُم يَسعَى بَينَ أَيدِيهِم وَ ِبأَيمَا ِنهِم يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتمِم لَنَا
نُورَنَا وَاغفِر لَنَا إ َِّنكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ" (التحريم ،آية .)8 :
وقال تعالى ":الَّذِينَ يَحمِلُونَ العَرشَ َومَن حَولَ ُه يُسَبِّحُونَ بِحَمدِ ر َِّبهِم وَيُؤمِنُونَ
ِبهِ وَيَستَغ ِفرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعتَ كُلَّ شَيءٍ رَّحمَ ًة وَعِلمًا فَاغفِر لِلَّذِينَ تَابُوا
وَاتَّ َبعُوا سَبِيلَكَ َو ِقهِم عَذَابَ الجَحِيمِ" (غافر ،آية .)7 :
8ـ أثر التوبة في الناحية اإلجتماعية والخلقية:
والمتتبع آليات التوبة في القرآن الكريم يجد أنها في مجموعها دعوة ربانية
للتطهير من المعاصي واآلثام ،فتارة يعرض التوبة من جريمة القتل ،وأخرى
التوبة من الحرابة واإلفساد في األرض ،وتارة التوبة من انتهاك األعراض
بالزنا ،وهكذا سواء كانت الذنوب كبائر أم صغائر ،فهي في مجموعها تدل
على كرم اهلل وفضله في تقبل توبة التائبين ورفعهم إلى البررة األطهار
األخيار من المؤمنين الصالحين وكأن هذا المنهج الرباني في قبوله توبة
المؤمنين يعلم المؤمنين في المجتمعات المسلمة كيفية التعامل مع من تاب
209
وأناب وصدق في توبته من المعاصي مهما تنوعت أو كثرت ،ألن اإلنسان قد
فُطر على الحياة وسط الجماعة ،فال يسعد إال بتكوين عالقات اجتماعية
مرضية مع اآلخرين وهو بذلك يشعر بذاته فيحس باالنتماء لهم.1
والتوبة سالح خلقي عظيم ،ففيها الندم والتغيير والتحول وهي عالج
لألمراض الخلقية عند اإلنسان المذنب وذلك برجوعه إلى رحاب اهلل تعالى،
والندم على ما اقترفته يد اإلنسان من معاصي وآثام ،وتغير أخالقيات التائب
إنما هي ثمار التوبة النصوح ،فنراه صادقاً مخلصاً في أعماله صابراً.
إن التوبة تدفع اإلنسان عادة إلى إصالح الذات وتقويمها حتى ال يقع مرة
أخرى في األخطاء والمعصي ،ويساعد ذلك على تقدير اإلنسان لنفسه والقرآن
الكريم نبه وكذلك السنة إلى تقويم التوبة لما اعوج من سلوك وأخالقيات،
وهذا التأثير إنما هو مقترن بصالح العمل ،قال تعالىَ ":فإِن تَابَا وَأَصلَحَا
ن تَوَّابًا رَّحِيمًا" (النساء ،آية .)16 : َفأَعرِضُوا عَن ُهمَا إِنَّ اهللَّ كَا َ
اهلل هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (التوبة ،آية :
وقال تعالى ":ثُمَّ تَابَ عَلَيهِم لِيَتُوبُوا إِنَّ َّ
.)118
فالتوبة تغيير في أخالقيات التائب وسلوكه وأفكاره الخاطئة وتجعله قريباً من
اهلل ،قريباً من اآلخرين.2
210
الخاتمة
211
فهرس الكتاب
1 1ـ المقدمة
212
41 ثامناا :العفو في األحاديث النبوية
42 تاسعاا :اإلصًلح ذات البين َل يحل الحرام وَل يحرم الحًلل
214
69 ثانياا :إيذاؤهم الجسدي للرسول الكريم
210 الخاتمة
219
5ـ سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه :شخصيته و
عصره.
6ـ سيرة أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب .شخصيته و عصره.
7ـ الدولة العثمانية :عوامل النهوض والسقوط.
8ـ فقه النصر و التمكين في القرآن الكريم.
9ـ تاريخ الحركة السنوسية في إفريقيا.
10ـ تاريخ دولتي المرابطين و الموحدين في الشمال اإلفريقي.
11ـ عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين.
12ـ الوسطية في القرآن الكريم.
13ـ الدولة األموية ،عوامل اإلزدهار و تداعيات اإلنهيار.
14ـ معاوية بن أبي سفيان ،شخصيته و عصره.
15ـ عمر بن عبد العزيز ،شخصيته وعصره.
16ـ خًلفة عبد اهلل بن الزبير.
17ـ عصر الدولة الزنكية.
18ـ عماد الدين زنكي.
19ـ نور الدين زنكي.
20ـ دولة السًلجقة.
21ـ اإلمام الغزالي وجهوده في اإلصًلح والتجديد.
22ـ الشيخ عبد القادر الجيًلني.
23ـ الشيخ عمر المختار.
24ـ عبد الملك بن مروان بنوه.
25ـ فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة.
26ـ حقيقة الخًلف بين الصحابة.
27ـ وسطية القرآن في العقائد.
28ـ فتنة مقتل عثمان.
29ـ السلطان عبد الحميد الثاني.
30ـ دولة المرابطين.
31ـ دولة الموحدين.
32ـ عصر الدولتين األموية والعباسية وظهور فكر الخوارج.
33ـ الدولة الفاطمية.
34ـ حركة الفتح اإلسًلمي في الشمال اَلفريقي.
220
35ـ صًلح الدين األيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير
البيت المقدس.
36ـ إستراتيجية شاملة لمناصرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم دروس
مستفادة من الحروب الصليبية.
37ـ الشيخ عز الدين بن عبد السًلم سلطان العلماء.
38ـ الحمًلت الصليبية (الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة) واأليوبيون
بعد صًلح الدين.
39ـ المشروع المغولي عوامل اإلنتشار وتداعيات اإلنكسار.
40ـ سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت في عهد المماليك.
41ـ اإليمان باهلل جل جًلله.
42ـ اإليمان باليوم اآلخر.
43ـ الشورى في اإلسًلم.
44ـ السلطان محمد الفاتح.
45ـ اإليمان بالقدر.
46ـ اإليمان بالرسل والرساَلت.
47ـ اإليمان بالمًلئكة.
48ـ اإليمان بالقرآن والكتب السماوية.
49ـ العدالة والمصالحة الوطنية ضرورة دينية وإنسانية.
221