Professional Documents
Culture Documents
103
مجان ًا مع العدد ( )146من مج َّلة «الدوحة» -ديسمرب 2019 -
ُي َوزَّع ّ
هذا الكتاب:
عب عن آراء مؤ ِّلفه ،وال ُي ِّ
عب -بالرضورة -عن رأي وزارة الثّقافة والرياضة أو مج ّلة الدوحة ُي ِّ
مقـالـة
في التربية
عبداهلل الم ّراش
()1900 - 1839
أمـة برجالهـا ،وال رجـال ّإل بالرتبيـة؛ ألنهـا هـي التـي تعين قـوام كلّ ّ
ٍ
صحة ،وإرهاف ذهنه يف سـداد ،وتقويم ٍ الطبيعـة على إمناء بـدن الولد يف َّ
له ألن يكـون رج ً
ال يؤه ُ
ـبه مـن صفـات الرجوليـة مـا ِّكس ُرشـاد ،و ُت ِ
ٍ سيرته يف
شـب.
ّ ح ّقاً ،إذا
واملـراد بالرجـل ،هنـا ،ذاك الـذي عنـاه أحـد الفالسـفة بقولـه« :إنـه
أليسر عليـك أن تلقـى يف شـوارع أثينا إلهـ ًا من أن تلقى فيها رجلاً » .والذي
يتطوف
ّ ؤي يف رابعة النهـار وبيده مصبـاح وهو عنـاه فيلسـوف آخـر ،وقـد ُر َ
ُ
ـن يطلب شـيئ ًا ال يكاد م َ
ف
ُّ َ ْ تطـو بالنـاس، ـة الغاص
ّ املدينـة تلـك شـوارع يف
عما يطلـب ،فقـال :أطلـب رجلاً .هـذا هـو املعنـى املـراد فسـئل َّيـرىُ ،
وأمـا الرجـال ،باملعنى املتعـارف ،فكثريون، بالرجـال هنـا ،وقليـل ما همّ .
در القائـل ،وإن بالـغ:
وللـه ّ
5
واللـه يعلـم إنـي لـم أقـل َف َندا مـا أكثـر الناس ال بل ما أق َّل ُ
هم
على كثيرٍ ،ولكن ما أرى أحدا ألغلـق عيني ثـم أفتحها إ ّنـي ُ
وكلّ مـن يتصفَّـح كتـب التأريـخ القديـم والتأريخ الحديث يجـد أنه قلَّام
أمـة عـن منزلتهـا ّإل ألنهـا عدمـت رجالهـا ،وأنها ما عدمـت رجالها انحطَّ ـت ّ
حـق العنايـة برتبيتهـم صغـاراً ،فلـم يكـن لها منهـم كبار ًا
ّإل ألنهـا مل ُت ْع َـن ّ
سـوى أشـخاص ،ال يشء لهـم من الرجولية سـوى االسـم.
فـن الرتبيـة بحـر زاخـر اليـكاد يكـون لـه سـاحل وال قـرار؛ وأعلـم أن ّ
فلذلـك ال ينتظـر م ّنـا أن نسـتقيص البحـث فيه ،تفصيلاً ،يف مقالـة موجزة
مثـل هـذه ،وإمنـا نجتـزئ بالغـوص على يشء مـن درره ،ونكتفـي باإلملـاع
األوليـة يف مص َّنفـات
تفـرق مـن قواعـده الكل ِّّيـة وأركانـه َّ
إجماالً ،إىل مـا َّ
يطبـق مـن أحكامهـا على علامئـه األفاضـل .وعلى املطالـع الفطـن أن ّ
أحـوال عصره ومصره وأحوال نفسـه ومـن يلوذ به ،مـا كان تطبيقـه ممكن ًا
أو سـهالً.
6
األول)
(املطلب َّ
فـن ،غايتـه تأهيـل الولـد عـرف القدمـاء واملحدثـون الرتبيـة بأنهـا ّ قـد َّ
ألن يكـون رجلاً باملعنـى الـذي عرفتـه ،وذلـك بـأن تبلـغ مـا ُر ِك َ
ـز يف ِ
ج ِبلَّته
مـن خصـال الخري وصفـات اإلنسـان إىل أقىص غاياتهـا ،بقدر االسـتطاعة،
وتسـتأصل مـا ُر ِكـز فيهـا مـن جراثيـم وخلال البهيمـة ،بقـدر الطاقـة،
شـب.
ّ وتؤهلـه -يف الجملـة -ألن يكـون خليقـ ًا بـأن ُيدعـى رجلاً ،إذا
ِّ
بتتبـع ثالث طـرق متوازية ،تفضي كلّها إىل تلـك الغاية:
يتـم ّ
وهـذا إمنـا ّ
الصحـة .والثانيـة إرهـاف ذهنـه حتـىَّ أوالهـا تربيـة بدنـه بحسـب قوانين
ينفـذه نـور املعرفـة ،وتنـزاح عنـه ظلمـة الغبـاوة .والثالثـة تقويـم سيرته
العـي
ّ وهدايـة خطواتـه إىل السـبل املسـتقيمة والتنكيـب بهـا عـن سـبل
امللتويـة ،ثـم تهذيـب أخالقـه بحسـب النواميـس األزليـة الفارقـة يف كلّ
9
والشر واإلحسـان واإلسـاءة((( .ولعـلّ األحـرى
ّ عصر ومصر ،بين الخير
النمـو الصالـح ،بقـدر
ّ أن يقـال إن غايـة الرتبيـة إعانـة هـذه األشـياء على
االسـتطاعة.
مهمني:وأعلـم أن تربيـة الصغـار ،كسياسـة الكبـار ،قامئـة عىل ركنين ّ
املـرب ،وثانيهما الطاعـة باإلضافـةِّ أحدهما السـلطان باإلضافـة إىل
حـزم؛ أي
ٍ إىل الولـدّ .إل أن السـلطان ينبغـي أن يكـون مقرتنـ ًا بالرفـق يف
من َّزهـاً عـن العنـف يف غير موضعـه ،وعـن الرخصـة والتسـامح يف غير
مبربيه،
ِّ موضعهما ،كما أن الطاعـة ينبغـي أن تكـون ناشـئة عـن ثقة الولـد
املحبـة لـه ،ال الخـوف مـن
ّ وعـن االحترام والهيبـة اللذيـن تبعثـه عليهما
عقابـه .فـإن أُ ِ
همـل مـن الرتبيـة ،واحـد ٌة مـن تلـك الطـرق أو ُعـدم منها أحد
هذيـن الركنين ،فسـدت وفاتـت الخلّـة املقصـودة منهـا.
املتقـدم ذكرهـا ،مـا كان منهـا كامنـ ًا يف
ّ ونعنـي بالخصـال والخلال
بـدن الولـد كمـون الشـجرة يف النـواة ،ويف ذهنـه وأخالقـه كمـون النـار يف
الحجـر كما سـبقت إىل ذلـك اإلشـارة .ونعني بالولـد كلّ صغري ،ذكـر ًا كان
أو أنثـى ،يف نشـأته األوىل ،لتكـون الرتبيـة لـه مبنزلـة نشـأة أخـرى ينتقـل
ال لنشـأتهبهـا مـن الحيوانيـة املحضة إىل اإلنسـانية ،ولـك أن تدعوها تكمي ً
أمـر هـذا
يتميـز بـه عـن سـائر الحيـوان .وقـد نـاط اللـه (سـبحانه) َ َّ األوىل
وحولهم من السـلطان َّ التكميـل باألبويـن أصالـةً ،ثم باملعلِّـم نيابةً عنهام،
والكفـاءة ،مـا إذا أحسـنوا اسـتعامله أقدرهـم على القيـام مبـا نيـط بهـم.
للمـرب ،إذاً ،مـن السـلطان ،وللولـد مـن الطاعـة؛ أي االنقيـاد
ّ فالبـد
ّ
مربيـه ،واالمتثال للقوانين التي يفرضهـا عليه ،ألن
ِّ بـه يأمـره ملـا واإلذعـان
املـرب والولـد ،يف هـذا األمـر ،كالفـارس وفرسـه ،فالفـارس -مهما كان ّ
بارعـ ًا يف الفروسـية ،خبير ًا بتمريـن الخيل على الجري واقتحـام العقبات-
مل يسـتغنِ عـن اللجـام ،ومل يسـتطع -مـع ذلـك -أن يفـوز بالسـبق يف
((( -كل فعل ينشأ عنه أو يرتتب عليه ،يف الحال أو االستقبال ،نفع ما ،فهو خري وإحسان؛ وكل فعل ينشأ
عنه أو يرتتب عليه ،يف الحال أو االستقبال ،رضر ما ،فهو رشّ وإساءة.
10
امليـدان ،مـا مل يكـن الفـرس نفسـه مطيع ًا لحركـة يده؛ فإن حـرن أو جمح
سـدى .وكذلـك الولـد ،إن مل يكـن سـلس القيـاد، سـعي الفـارس ً
ُ ذهـب
ال ناشـئ ًا عن تيقُّنـه بأنه ّ
يحبـه ،وبأنه ال مربيه امتثا ً
ممت ّثلاً ملـا يحملـه عليـه ِّ
فن
مجـرد التحكم ،سـقط مـن ّ ّ يأمـره بـه سـوى نجاحـه وفالحه ال
ُ يريـد مبـا
الرتبيـة أحـد ركنيـه ،وفسـدت.
تعلـق بالجسـم والذهـن ،معـاً ،وجـب -أوالً -أن يكون ٌ وملّـا كان للرتبيـة
تدرج ًا كسير الطبيعة نفسـها؛ حتى تكون إحداهام معاونة لألخرى سيرها ُّ
تعانـد بينهما ،ووجـب -ثانيـاً -أن تلازم الولـد مـن سـاعة يولد إىل ٍ عـن غير
منـو يديـه وذهنـه .وهـذا البلـوغ يختلـف ـده ،أي إىل أن يتكامـل ّ أش ّأن يبلـغ ُ
أشـده إذا
ّ شـيئ ًا باختلاف البلاد ،ونحـن نفـرض -هنـا -أن الولـد م ّنـا يبلـغ
(((
مـدة الرتبيـة -بهـذا االعتبـار- ناهـز الثماين عشرة مـن عمـره؛ ولـذا تقسـم ّ
تربيـة أبويـه
ُ أولهـا
الفـنّ :
ّ قسـمها أكثر علماء هـذا إىل ثالثـة أدوار كما ّ
إيـاه ،وذلـك مـن سـاعة يولـد إىل السـنة السادسـة أو السـابعة مـن عمـره. ّ
األم منهام، ّ ام سـي
َّ وال أبويه، باعتنـاء قائم الـدور، هـذا يف تربيتـه، ومعظـم
برتبيـة يديـه أي مبعاونـة الطبيعـة على إمناء قوى جسـمه بحسـب قوانني
الصحـة ،غير غافلين -مـع ذلـك -طرفـةَ عين عـن إرهـاف ذهنـه وتقويـم ّ
السـن .ثانيها
ّ تلك يف وهـو ذلك، يطيـق ما مبقـدار أخالقـه وتهذيـب سيرته
البـد منه مـن القـراءة والكتابة ومبـادئ املعارف البسـيطة دور تعليمـه مـا ّ
التـي تالئـم سـ ّنه ،وتناسـب طبقـة أهلـه ،والحرفـة التـي عسـاه أن يحرتفهـا
شـب .وهـذه الرتبيـة تـدوم ،يف الغالـب ،إىل نحـو السـنة الثانيـة عرشة ّ إذا
مـن عمـره ،وأمرهـا منـوط باملعلّـم سـواء أكان ذلـك يف الك ّتـاب أم كان
يـد فيهـا ،واطِّ لاع عليها. يف البيـت ،ويحسـن -مـع ذلـك -أن يكـون لألبويـن ٌ
الثالـث دور تربيتـه إذا خـرج مـن الك ّتـاب ،وذلـك إىل نحـو السـنة الثامنـة
الحارة الهواء يعترب الولد بالغ ًا بني األربع عرشة والخمس عرشة من س ِّنه ،وذلك رشع ًا ّ
إل ّ ((( -يف البالد
وأما يف البالد الباردة الهواء فإنه يعترب بالغاً ،رشع ًا وعرفاً ،إذا تجاوز العرشين .ويروى أن
غيهّ .
أن العرف َّ
إل إذا بلغ العرشين من عمره ،فقالت: األمهات من اإلفرنج قيل لها :إن تربية الولد ال تنقطع وال تهمل ّ
بعض ّ
يا ويلتنا! هذا عناء طويل وتعب جزيل ،فقالت جارتها ،وكانت ذات عقل راجح وخاطر رسيع :لقد وهمت ،يا
سن العرشين ،وك ّنا قد أهملنا تربيته.
سيديت ،وإمنا يبتدئ عناؤنا إذا بلغ ولدنا ّ ِّ
11
عشرة مـن عمـره ،وهـذه الرتبيـة تكـون وهـو يف إحـدى املـدارس العالية،
الخاصـة الذين ميكنهم
ّ يشـتغل باملعـارف الكامليـة؛ هـذا إن كان من أوالد
أن يسـتغنوا عـن اشـتغاله مبـا يكسـب بـه معاشـه ،وت َّتسـع ذات يدهـم،
أيضـاً ،للقيـام بالنفقـة التـي ترت َّتـب على إقامتـه بإحـدى تلـك املـدارس.
فـإن مل يكـن مـن تلـك الطبقة ،فما سـنذكره مـن دور الرتبية الرابـع يبتدئ
بالنظـر إليـه بعـد الـدور الثـاين .ولكن ،يحسـن -مـع ذلك -أن يلتفـت إىل ما
اسـتعداد للتعلُّم،
ٌ سـجيته
َّ فـوق القـراءة والكتابة من املعارف ،إن كان يف
حلقـات
ُ َـم ،يف البلاد التـي توفَّـر حظّ هـا مـن الحضـارة،
ورغبـة فيـه ،فث َّ
ٍ
درس ُتقـام ليلاً ينتابهـا األسـاتذة ،ويلقـون فيهـا دروسـ ًا يف أكثر املعـارف
ِ
تصدهـم صناعاتهـم أو ح َرفهـم ّ والعلـوم ،على األحـداث والفتيـان الذيـن
التفـرغ ،نهـاراً ،لغري كسـب معاشـهم.
ّ عـن
وإن كان الولـد مـن أهـل املـدارس العاليـة التـي أرشنا إليهـا ،فال ينبغي
تتوهـم أنـه إذا بلـغ السـنة الثامنـة عشرة مـن عمـره ،وأحكـم فيهـم آخر أن ّ
درس ألقـاه عليـه أسـتاذه ،ونـال اإلجـازة أو الشـهادة مـن الفاحصين ،فقد
أوالً ،ألن أكثر مـا يتعلَّمـه األوالد
كلّ .
متـت -بذلـك -تربيتـهّ .
ـم تعليمـه ،و َّ َت َّ
يف املدرسـة إمنـا هـو -يف األغلـب -طريقـة التعلُّـم بعـد خروجهـم منهـا،
يشء آخـر ،كما يعلـم ذلـك كلّ مـن عانـاه .ثانيـ ًا ألن الرتبيـة -باملعنـى ٌ ال
حـد إذا بلغتـه ٌّ امل َّتسـع املـراد منهـا ههنـا -ليـس لهـا ،يف الحقيقـة،
وقفـت عنـده ،ومل تتجـاوزه؛ ألنهـا ملّـا كانـت غايتهـا تبليـغ اإلنسـان ،بقـدر
البـد
ّ بالحـق ،كان
ّ االسـتطاعة ،إىل أقصى مـدى غايتهـا حتـى يصير رجلاً
لهـا أن ترافقـه سـحابة عمـره ،مـن الصبـوة إىل الكهولـة؛ عسى أن يتسـ ّنى
حـد الكمال املتعـارف املمكـن لـه بهـا أن يبلـغ درجـة ُتدنيـه شـيئ ًا مـن ّ
وجوده يف
َ تتصـورَّ وجـوده يف الخـارج ،ألن الكمال ،بإطلاق اللفـظ ،وكما
تـدرك اليـوم .وعىل فـرض أن أحد ًا من النـاس أدركها ،فإنه الذهـن ،غايـةٌ ال َ
ال يسـعد بهـا ،بـل يشـقى ألنـه يكـون بهـا وحيـد ًا يف نوعـه ،فيعيـش عيشـ ًا
منغصـاً ،ثـم ميـوت كمداً.
َّ
تدرجه؛ فكام
وقلنـا إن َس ْير الرتبيـة ينبغـي أن يرافـق َس ْير الطبيعـة يف ُّ
12
أن الطبيعـة سـ ّنت أن يكـون الولد ،حني والده ،ضعيـف البنية واإلدراك ،ثم
تتـدرج تربيته
َّ ويتقـوى رويـد ًا رويد ًا وعلى التدريج ،فكذلـك ينبغي أن
ّ ينشـأ
فيعـود يديـه ،شـيئ ًا فشـيئاً ،على مـا يصلـح لـه ويناسـبه ّ بتـدرج نشـوئه،
ُّ
الصحـة ،ومـا يطيقـه ومييل إليه مـن صنـوف الرياضة، ّ قوانين مراعـاة مـن
مـواد التعليـم والتهذيـب مـا يالئـم طبعـه ويناسـب ّ ويلقـى إىل فهمـه مـن ُ
ترشبه ،وخصوص ًا سـ ّنه ،ويصلـح لتجريحه وإرهـاف ذهنه ،ويقوى هو على ُّ
يحبـه مـن ذلـك جميعه ،ومـا يجـد يف تعلّمه لـذّ ةً ،أو مييـل إىل االطِّ الع مـا ّ
على حياتـه ميلاً غريزيـاً ،من تلقـاء نفسـه ،ال مكرهـ ًا عليه.
وقلنا إن الرتبية تبتدئ من سـاعة يولد؛ ألن الطفل إذا اسـتهلّ فسـكَّ تته
أمـه ،أو طلـب الرضـاع فأرضعتـه ،فذلـك تربيـة لـه .ثـم إذا هدهدتـه ليكّ ـف ّ
قبلتـه ،وهـو يف مهـده أو يف حجرهـا، َّ أو ناغتـه أو البـكاء أو الصيـاح عـن
فذلـك -أيضـاً -تربية لـه .وإذا العبته مرتعرع ًا أو ألهتـه بالحكايات والقصص
املمتعـة التـي ترتـاح إليها نفسـه ،أو حذّ رته سـوء عواقب الخطـأ والحرام،
ربته،غريزيـان يف األوالد ،فقـد ّ
ّ العتـو والبغـي اللذيـن هما
ّ أو كبحتـه عنـه
كما أن آخـر درس يلقيـه عليـه أسـتاذه هـو تربيـة لـه .ويف الجملـة ،كلّ مـا
حمـل هـو عىل فعلـه أو تركه أو يقال له من أمـر ونهي وتكليف ُيفعـل بـه أو ُي َ
وزجـر وتفقيـه وتهذيـب ،سـواء أكان ذلـك يف بيـت أبويـه أو كان يف الك َّتاب
أولـه إىل آخـره -تربية له وال ينـوى به ،يف جاريأو يف املدرسـة ،فهـو -مـن َّ
يقصد به سـوى ترشـيحه العادة ،سـوى صالحه وفالحه نفسـاً وجسـداً ،وال َ
للدخـول يف الـدور الرابـع مـن أدوار الرتبيـة ،ومعـه مـن اآللـة والسلاح ما
يؤهلـه للمقاومـة ويجعلـه عىل ثقـة من الفـوز والنجاح. ِّ
وهـذا الـدور الرابـع ندعـوه دور تربيـة املـرء نفسـه بنفسـه ،ولـك أن
تدعـوه ،أيضـاً ،تربيـة مخالطـة النـاس أو تخريحـ ًا وتحنيـك ًا مبعـارشة أبنـاء
الجنـس ،أو مبـا شـئت مـن األلفـاظ التـي تـدلّ على أن الرتبيـة فيـه تكـون
باملامرسـة لفـوات وقتهـا بالتلقين ،وأن حقيقتهـا اسـتثامر مـا سـبق زرعـه
املتنوعة يف األدوار السـابقة ،وإخراجها منّ يف اإلنسـان مـن بذور الرتبيـة
القـوة إىل الفعـل .إذا علمـت هذا علمت أن هذه الرتبية األخرية رضبة الزب ّ
13
املتوحش
ّ أحـد منهم ّإل
على كلّ البشر ،ال ُيسـتغنى عنها ،وال ُيعفى منها ٌ
أو الـذي يعتـزل النـاس ب ّتـةً ،وينقطـع يف رأس جبـل .ولكن ال يسـتفيد منها
املتقدمـة عليهـا؛ ألن
ّ حـق االسـتفادة ّإل الـذي أُت ِقنـت تربيتـه يف األدوار
ّ
ترشـح ًا لهـا ،وذلك إمنـا يكون
أعظـم النـاس انتفاعـ ًا بهـا مـن كان أحسـنهم ُ
قـوي
ّ مبـا اعتـاده واكتسـبه واسـتعاده يف الرتبيـات األخـرى حتـى أصبـح
متهيئاً -يف
َّ البـدن والنفـس ،مشـحوذ الذهـن والحجـى ،بقـدر االسـتطاعة،
اللجـة ،فيقتحمهـا وهو يرجـو ،إذا وفّاهـا رشوطها، الجملـة -القتحـام هـذه ّ
ومل يحجـم عـن أهوالهـا ،أن يكـون خليقـاً ،بعدهـا ،بـأن يدعـى رجالً.
14
(املطلب الثاين)
املربني
ّ يف
األبو ْين
َ ٌ
فصل يف
َـع مـا وصـل إلينـا مـن كتـب التعليـم العربيـة ،جـاز لـه ـن طال َ
كل َم ْ
أن يجـزم بـأن مص ِّنفيهـا كانـوا ُع َّزابـاً ،وأنهـم إمنـا ص َّنفوهـا لتعليـم ُعـ ّزاب
فن
واألمهـات ّ
ّ مثلهـم؛ ألنـه ال يـكاد يـرى فيهـا شـيئ ًا مـن أمـر تعليم اآلبـاء
أهـم ما يجب عليهـم تعليمه وتعلُّمه. ّ الفن من
ّ تربيـة األوالد ،مـع أن هـذا
تأملنـا يف مـا قيـل لنا عن سـعة معارف األقدمني مـن مص ّنفي ونحـن ،إذا َّ
علما وال ف ّنـ ًا معروفـ ًا يف ّأيامهـم ّإل ص ّنفوا فيهً العـرب ،وأنهـم مل يرتكـوا
الفـن عجيباً.
ّ مص ّنفـات عديـدة ،وجدنـا إغفالهـم هـذا
شـدة انصبابهـم،
وأعجـب منـه أن نـرى النـاس ،يف ّأيامنـا هـذه ،مـع ّ
شـبان ،على تعلُّـم لغـات اإلفرنـج ،وتهافتهـم على قـراءة مـا فيهـا
وهـم ّ
17
يعربـون شـيئ ًا
مـن القصـص املل ّفقـة ،وتعريـب أكرثهـا ،اليطالعـون وال ّ
يفيدهـم إذا صـاروا آبـاء ،وهـذا مـع أن حيـاة األوالد الذيـن عسـاهم أو
ٌ
موقـوف عىل كيفية غيهـم ،كلّ ذلك
يولـدوا لهـم ،أو موتهـم ورشـادهم أو ّ
تربيتهـم.
أقـدم -مثلاً -على تعاطـي التجـارة ،وهـو الَ فلـو أن أحـد ًا مـن النـاس
السـتحمقناه ،وترقّبنـا
ُ يـدري مـن علـم الحسـاب ومسـك الدفاتـر شـيئاً،
نصـب الحجـام قـد ّ
ّ ال عليـه .ولـو رأينـا جارنـا أن تكـون عاقبـة تجارتـه وبـا ً
لتعجبنـاّ الطـب أو الترشيـح،
ّ جراحـ ًا مـن ق َْبـل أن يتعلّـم
نفسـه طبيبـ ًا أو ّ
عمل فيهـم مباضعـه .لكننا إن مـن جرأتـه ،ورثينـا لحـال املـرىض الذيـن ُي ِ
ويسـن سـنناً ،ويشترع رشائع تجري ّ ينصب نفسـه لرتبية أوالده، رأينـا أبـ ًا ّ
أحكامهـا على أبدانهـم وأذهانهـم وأخالقهـم ،وهـو ال يـدري شـيئ ًا من أمر
تهوره،
تتعجب مـن ُّ ّ الصحـة وتخريـج العقـل وتقويـم السيرة ،مل ّ قوانين
وال رثينـا لحـال أوالده املسـاكني الذيـن أقـدم على تربيتهـم ،وهـو على
هـذه الحال.
ألسـنا نـرى ،كلّ يـوم ،أن عـدد ًا وافـر ًا مـن األوالد ميوتون بسـبب جهل
الصحـة ،وأن الذيـن ينجـون مـن املـوت منهـم ّ ِ
والديْهـم بأبسـط قوانين
ِ
أيسر فإمنـا يعيشـون مسـاقيم ضعفـاء البنيـة ،عاجزيـن عـن احتمال
املشـاق ،محرومين التم ُّتـع مبـلء الهنـاء ،قارصيـن عـن إدراك كثير ّ
مـن األوطـار واألمـاين التـي يدركهـا أترابهـم ،وكانـوا جديريـن بإدراكهـا،
وصحـة أبدانهـم.
ّ قوتهـم كغريهـم ،لـوال مـا فاتهـم مـن ّ
ممراض ،قـاال :هذا رزء أب ُتلينا به،
ٌ قصـع أو
ٌ وإن رأى األبـوان أن ولدهما
ونسـباه إىل سـوء بختهما ،وكان الوجـه أن ينسـباه إىل سـوء تدبريهما؛
ألنـه مـا مـن معلـول طبيعـي ّإل ولـه طبيعـة ،وعلّـة سـقم ولدهما ،يف
أغلـب األمـر ،جهلهما برتبيتـه .ولـو قـال لهما الطبيـب إن وحيدهما قـد
فأيـة تعزيـة لهما يف أن األب صحتـهّ ،
هلـك لعـدم معرفتهما مبـداراة َّ
منهما قـد قـرأ -مثلاً -كتـاب «األغاين» مـن الدفّـة إىل الدفّـة ،ويف أن ّ
األم
منهما قـد تفرنسـت ،على جهـل منهـا بالفرنسـوية الحقيقيـة؟.
18
نعم .إن بعض أمراض األوالد موروثة كبعض مناقبهم وشوائبهم ،فال
مسـبب عن جهل َّ مبجرد املداراة والتمريضّ ،إل أن أكرثها
َّ ميكن شـفاؤها
أبـو ّي الولـد برتبيـة بدنـه؛ فهما -لهـذه العلّـة -مطالبـان بالتباعـة ألنهما،
َ
ملّـا اقرتنـا بعقـد الزواج ،تعاهـدا بالتضمين (حتى ال نقـول بالترصيح) أن
يحسـنا القيـام على تربيـة مـن عسـاه أن يولـد لهما مـن األوالد ،لكنهما
تقاعـدا أو كسلا أو عجـزا عـن تعلّـم مـا مـن شـأنه أن ميكِّ نهام مـن الوفاء
مبـا ضمنـا ،فجهلهام بأبسـط قوانين الرتبيـة وأصولها ،ذنـب ال ُيغتفر؛ إذ
عنـه تنشـأ أكثر أوامرهما ونواهيهام وسـننهام ورشائعهام السـخيفة التي
تهـدم ،يومـ ًا فيومـاً ،وسـاعة فسـاعة ،بنيـةَ أوالدهما ،بـل أوالد أوالدهام،
أيضاً.
وأمـا تربيـة الذهـن ،أي إعانـة الطبيعـة هـذا مـن قبيـل تربيـة البـدنّ ،
على شـحذه وإرهافـه فأنـت خبير بـأن ذلك ال يكـون كيفما جـرى وا َّتفق،
بـل مبقتضى نواميـس طبيعيـة ،ال ينبغـي أن يجهـل األبـوان مبادئهـا عىل
األقـل ،ألن كلّ والـد يجهلهـا ال يصلـح إلعانـة الطبيعة عىل إمتـام فعلها، ّ
أول ماـرج ذهنهَّ ،
يتخ َّبـل كثير ًا ما يعاندها .وسـيجيء ،بعد هذا ،أن الولد َ
وتنبه له فطنتـه عفو ًا
ـرج ،مبـا يعيـه ،شـيئ ًا فشـيئاً ،من تلقـاء نفسـهّ ، يتخ َّ
َ
مـن الخواطـر البسـيطة واملعـاين املفـردة ،حتـى إذا اجتمـع لـه طائفـة
تـذرع بهـا إىل معرفـة ذلـك الشيء ّ متجانسـة منهـا ،يف يشء بعينـه،
يسـهال لذهنـه تحصيل ّ مبقـدار مـا يسـتطيع .فمـن واجبات أبويـه ،إذاً ،أن
تلـك الخواطـر واملعـاين؛ وذلـك بـأن ُي ِع ّ
ـدا لـه ،يومـ ًا فيومـاً ،من األشـياء
تتنبـه لـه فطنتـه ،ويفهم بعـض أمره حواسـه مـا َّ
ّ واألمـور التـي تقـع تحـت
بسـهولة ،حتـى إذا أدرك شـيئ ًا مـن كنهـه ،بالخبرة واملعاينـة واملالبسـة
بنفسـه ،انتقـش معنـاه يف لـوح ذهنه .فـإن كان األبوان أنفسـهام يجهالن
كيـف تتولّـد املعـاين املفـردة يف ذهـن ولدهما ،وكيـف تخطـر الخواطـر
أول مـا تخطر ،مل يصلحا إلعانـة الطبيعة عىل تنوير البسـيطة يف جنانـهَّ ،
بصريته.
أمـا جهـل األبوين ميـا يتعلَّق بتقويم سيرة الولد وتهذيـب أخالقه ،فال
ّ
19
ينقـص عـن جهلهما مبـا يتعلَّـق برتبيـة بدنـه وإنـارة ذهنـه ،حتـى ال نقول
السـن ،فـإن األب منهام ّ إنـه يزيـد عليـه .انظـر إىل هذيـن الوالدين حديثَي
بـاألم ،يتعلّـم مـن قواعـد العلـوم الفلسـفية مـا ال يكاد ّ كان ،قبـل اقرتانـه
مما يفهمـه أو مـا ال يجديـه نفعـ ًا كبير ًا أن فهمـه ،لكنـه مل يتعلّـم شـيئ ًا ّ
وو ِلـد لـه ولـد ،أن يفقـه على مـا يجـب عليـه فعلـه يف تـزوج ُ
عسـاه ،إذا ّ
املدة
ّ تقويـم سيرته وتهذيـب أخالقـه .ثم ملّـا خرج من املدرسـة ،قضى
والتردد على املالعب، ُّ مـرت بين خروجـه منهـا وزواجـه ،يف اللهو التـي ّ
األم منهما ،فإنهـا األبـوة .وكذلـك ّ
ّ وأهمـل كلّ يشء يقفـه على واجبـات َ
املدةّ قضـت ثـم األعاجـم، ولغـات التطريـز ّـمل تتع زواجهـا، قبـل كانـت،
التـي مضـت ،بين خروجهـا مـن املدرسـة وزواجهـا ،يف زيـارة أترابهـا أو
العـزف على البيانـو أو تطريـز مـا ال حاجـة بهـا إليـه أو قـراءة القصـص
امللفَّقـة بلغـات اإلفرنـج ،بحيـث ال تغـادر منهـا سـوى القصـص التـي
موضوعهـا الرتبيـة ،لكنهـا مل تلتفـت أقـلّ التفـات إىل واجبـات األمومـة
فلم
يهيئها لـه أحدّ ، تهيئ لذلك نفسـها ،ومل ِّ التـي هـي صائـرة إليهـا ،ومل ِّ
اقرتنـت ببعلهـا ورزقهما اللـه أوالداً ،وشـعرا مبـا أُ ِلقي على كاهليهام من
عـبء تربيتهم:
20
وربـا أمـراه بالصـدق يف أقوالـه ،ثـم الخلـوص واألنفـة وظلـف النفـسَّ ،
فيجرئانه ،بذلك ،عىل اإلخالف
ِّ يعدانـه وال ينجـزان ،أو يعدانه وال يفعلان
ِ
والنكـث والكـذب ،ويصيران له فيهـا قـدوة ،ويأمرانه بطول األنـاة والحلْم
مم ال يسـتوجب ـات و ُت ّر ٍ
هات لعلّها ّ والتاملـك ثـم يسـخطان عليه ألجل ه ّن ٍ
فيدربانـه -بذلـك -على الغضـب ورشاسـة األخلاق. ّ السـخط،
21
فصل يف املعلِّم
إن القدمـاء واملحدثين ،مـن أهـل البلاد التـي توفَّـر حظّ هـا مـن
املـؤدب
ِّ املـرب أو
ّ يقـدرون املعلِّـم أي
ِّ املدنيـة ،كانـوا (وال يزالـون)
ّ
ويبجلونـه ،وينزلونـه فـوق منزلـة الطبيـب بـل فـوق منزلـة ّ قـدره، حـق
ّ
الحاكـم؛ ألن الطبيـب إن داوى أسـقام البـدن وشـفاها وهيهـات ،فلا
يقـدر أن يـداوي أسـقام النفـس ويشـفيها ،بـل هـذا مـن واليـة املعلِّـم،
وألن الحاكـم إمنـا يعاقـب الجـاين إذا جنـى ،ولكـن ليـس مـن واليتـه أن
خير ًا عزوفـ ًا مـن اقتراف الجرائـم ،بـل هـذا منـوط باملعلّـم، يجعلـه ِّ
الرشيـر إذا أذنـب ،وقـد يقصيـه أو يعتقلـه ّ الحـد على
ّ والحاكـم يقيـم
الجراح ّ رشه ،حينـ ًا مـا ،فمثلـه يف ذلك مثـل ليؤدبـه ويريـح النـاس مـن ّ ّ
إل أن الـذي يقطـع مـن أعضـاء الجسـم مـا كان مؤوفّـ ًا ليسـلم سـائرهاّ ،
الشر مـن جرثومتـه ،وكثير ًا ما ينجـح يف ما ّ املعلِّـم يحـاول اسـتئصال
يتعهـد نفـس الولـد فضلاً َّ ـن كان يف واليتـه أن ـرم أن َم ْ يحاولـه .ال َج َ
ويهتـم بلعبه ودرسـه بـل فرحه وترحـه ،لجدير بـأن يكون ّ عـن جسـمه،
عـايل املنزلـة؛ ولـذا كان اليونـان يدعـون سـقراط وأفالطـون وأرسـطو
طاليـس وغريهـم من الفالسـفة ،معلّمين وآباء ،وال بـدع؛ ألن املعلّم-
أب ثـانٍ للولـد ،وإن شـئت دعوتـه أبـاه الروحـاين ،كما أن يف الحقيقـةٌ -
أحـد يف الدنيـا َأ ْوىل مـن األبوين ٌ الوالـد أبـوه الجسماين .وملّـا مل يكـن
يبجلهما الولـد ويحرتمهما ،وكان املعلّـم نائبـ ًا عنهما يف تربيتـه، بـأن ّ
إذا غابـا ،ورشيـك ًا لهام فيها ،إذا حرضا ،كان -بحكم الرضورة -مسـتح ّق ًا
لشيء مـن ذلـك التبجيـل عينه .وإمنـا اسـتنابه األبوان عنهما يف تربية
ولدهما؛ ألنـه قـد ي َّتفـق أن ال يكـون لهما ِق َبـل بهـا أو كفـاءة لهـا ،إذا
حـان دورهـا الثـاين ،أو ال يسسـتطيعانها وحدهما ألن اهتاممهما بأمـر
يصدهما عنـه ّ املعـاش وتدبير املنـزل أو غير ذلـك مـن الشـؤون،
تنوعـ ًا مـن أن تكفيهـا أهـم وأكثر ّ ّ التفـرغ لهـا .وأ نـت قـد عرفـت أنهـا ّ
يتولهـا أن يو ِّفـر أوقاته ممن ّ ّ تقتضي بـل النهـار، مـن سـاعتان أو سـاعة
كلّهـا عليهـا ،وأن ال يكـون لـه شـغل غريهـا ،وهـذا ال يسـتطيعه األبـوان
22
ب أنهام يسـتطيعانه ،فقد ي َّتفق أن وه ْ
تقدم من شـواغلهامَ . دامئـاً ؛ ملـا ّ
قليلي الخبرة بتأديـب األوالد يف هـذا الدور ،وإن كانا من أحسـن َ يكونـا
سـيام الرتبيـة الذهنيـة ،يف هـذا فـن الرتبيـة ،وال ِّ
تأدبـاً؛ ألن ّالنـاس ُّ
مسـت الـدور ،أوسـع مـن أن يحيط بجميـع تفاصيله سـائر الناس؛ ولذا ّ
يتفرغ له ،ودعـت الرضورة ،أيضاً، ّ مـرب ذي كفـاءة وخربة
ٍّ الحاجـة إىل
أن يسـتنيبه األبـوان عن أنفسـهام ،يف ذلك ،ليعينهما ،ويعني الطبيعة
يحسـن أن
ُ املتقـدم أنـه
ّ نفسـها عليـه .وهـذا سـبب قولنـا يف الفصـل
يكـون لألبويـن اطِّ لاع على تربية ولدهما ،وهـو يف الك ّتـاب؛ أي إذا حان
دورهـا الثـاين ،وذلـك ألنهـا ال تكـون يف هـذا الـدور كاملـة متقنـة ،بقدر
إل إذا عـاون األبـوان املعلّـم عليها ألنهام أعلـم الناس مبا االسـتطاعةّ ،
يالئـم ولدهما وأكرثهـم معرفـةً بسـجاياه وأخالقـه وشـوائبه ومعايبـه،
يتجشـمه مـن تهذيبهـا َّ وأوالهـم بإطلاع املعلِّـم عليهـا تسـهي ً
ال ملـا
وتثقيـف منآدهـا بالرتبيـة.
أب ثـانٍ للولـد؛ ولـذا قـال اإلسـكندر يومـ ًا إنه،
فصـح ،إذاً ،أن املعلـم ٌ
ّ
جسما فهـو ابـن أرسـطوطاليس نفسـاً؛ ً وإن كان ابـن فيلبـس املكـدوين
ألنـه إن كان فيلبـس سـبب ًا لحياتـه فأرسـطوطاليس هـو الـذي علّمـه كيف
مكرمـاً ،ومـا أحسـن مـا قال الشـاعر:يعيـش َّ
ْ
والشرف وإن كان لي من والدي الفخر أقدم ُأستاذي على فضل والدي
ّ
وذاك مربّي الجسم ،والجسم من َص َد ْف فذاك مربّي الروح ،والروح جوه ٌر
وال يكفـي أن يكـون املعلّـم ذا كفـاءة للرتبيـة وخبرة بها ،بـل ينبغي،
محبـة للولـد تدفعـه إىل أن يعنـى بـه عنايـة الوالـد ّ أيضـاً ،أن يكـون ذا
يسـتحق أن ُيدعـى أبـ ًا ثانيـ ًا لـهّ .
وإنـا ّ بابنـه؛ ألنـه إن مل يكـن كذلـك مل
ـن يبـذل وسـعه يف اقتفـاء آثـار يسـتحق هـذا اللقـب ،مـن املعلِّمينَ ،م ْ
ّ
أولئـك األفاضـل الذيـن سـبقت إليهـم اإلشـارة ،وينسـج على منوالهم ما
أمـر عسير ال يسـتطيعه كلّ أحـد ،بـل اسـتطاع .نعـم ،إن إدراك شـأوهم ٌ
ال يـكاد يـرام ،ولكـن «ال يكلِّـف اللـه نفسـ ًا ّإل وسـعها» .فعلى اإلنسـان
23
ينصـب نفسـه للتعليـم أن يسـعى يف أن يحذو حذوهـم ،عىل قدر الـذي ّ
ـن يفعـل كلّ مـا يقـدر عليـه فقـد َف َعـل كلّ مـا يجـب عليـهطاقتـه؛ ألن َم ْ
ِ
تصـدى ملـا ال ق َبـل لـه
ّ وإل فليـدع أمـر التعليـم والرتبيـة لغيره؛ ألنـه إن
ّ
ينصـب نفسـه لتعليمهـم، بـه ،ولما ليـس مـن أهلـه كان ،هـو والذيـن ّ ِ
عمـى ،يقتـاد عميانـاً. ٍ
كقائـد ذي ً
24
(املطلب الثالث)
27
تفقُّـد غذائهـم وانتظـام أوقاتـه ،وتـرى اآلخـر ،وقد احترف الزراعـة أو تربية
السـامئة ،فصـار من أدرى الناس بالسماد األصلح إلمناء الـزرع ،وأعلمهم
بوجـوب إعفـاء ثـوره مـن الحـرث وكـرب األرض ،على إثـر تناولـه العلـف،
وأعرفهـم بتسـمني العجـول والحملان ،لكنـه بقـي مـن أجهلهـم وجـوب
إعفـاء ولـده من الدرس وسـائر األعمال العقلية ،على إثر تناولـه الطعام،
وأقلّهـم معرفـة بالغـذاء األصلـح له.
فـإن لُمـت أحـد هـؤالء الرجال على إهامله من أمـر أوالده ،مـا ال يهمله
تعهـد إسـطبل الخيـل ومـذود مـن أمـر أنعامـه ،مل يعجـز أن يقـول لـك إن ُّ
البقـر وحظيرة الغنـم يغنيـه؛ ألنـه إن أحسـن القيـام على الفـرس أحرز به
سـمن العجـول والحملان باعهـا بأعلى قصبـات السـبق يف امليـدان ،وإن ّ
األم أو الخادمـة.
أمـا تربيـة ولـده فلا تعنيـه ،بـل هـي مـن واليـة ّ األمثـانّ .
األم ال تـدري مـن أمـور الدنيـا سـوى التطريـز أو العـزف على ولعـلّ هـذه ّ
البيانـو ،أو التكلُّـم باإلفرنجيـة .ولعـلّ هـذه الخادمة ال تعرف مـن أمر تربية
األوالد سـوى مزاعـم وأوهـام تلقَّتهـا مـن أهـل طبقتهـا أو مـن جـارة جاهلـة
مثلهـا أو أجهـل منهـاّ ،إل أن ها َت ْين املرأ َت ْين هما ،يف نظـر األب ،أكثر
كفـاء ًة منـه ،وأصلـح لرتبيـة ولـده.
وال تعجـب مـن مقايسـتنا تربيـة اإلنسـان برتبيـة الحيـوان؛ فإنـا مل
العامـة التـي
ّ نفعـل ذلـك عـن مجازفـة بـل اسـتناد ًا إىل نواميـس الطبيعـة
تجـري أحكامهـا على أنـواع الحيـوان كافّـة ،سـواء فيهـا الفرس واإلنسـان؛
مييـزه عـن
واحـد مـن تلـك األنـواع ،وال يشء ّ ٌ ألن اإلنسـان -يف الحقيقـة-
سـائرها سـوى النطـق؛ ال النطـق الخـارج اللفظـي بـل الباطن العقلي الذي
ـد األخـرس ناطقـاً ،وإن كان ال يسـتطيع أن يفـوه بلفظـة .فـإن كان بـه ُي َع ّ
ليتقـوى فيـه هـذا النطـق ،ويصير بـه إنسـاناً،
ّ البـد للولـد مـن تربيـة ذهنـهّ
البـد مـن تربيـة بدنه كام َسـ َّنت الطبيعـة؛ ليكون ،من هـذه الجهة،
ّ فكذلـك
واملـرب،
ّ األبويـن على واجـب فـرض وذلـك الحقيقـة. على أيضـاً ،رجلاً
أمـة وفالحهـا بـل اسـتقاللها ،موقـوفال يسـعهم إغفالـه؛ إذ إن نجـاح كلّ ّ
وجلَدهـم وضالعتهم؛ ألن مـن كانه ضعيـف البنية شـدة بـأس رجالهـا َعلى ّ
28
مهمتـه ،وال أن يقـدم على أمـر ٍ
واهـي القـوى ال يسـتطيع أن يقـوم بأعبـاء ّ
وصحة البـدن كاسـتخراج املعادن واألسـفار ّ مما ُيحتـاج فيـه إىل النشـاط ّ
وركـوب البحـار وحـرث األرض ،وغير ذلك مـن األعامل الشـاقّة التـي كثري ًا
مـا تدعـو إليهـا الصناعـة أو التجـارة أو الزراعـة .وزد على ذلـك أنـه إذا
األمـة إىل الدفع عن نفسـها يف ميدان الحرب؛ صيانةً السـتقاللها اضطـرت ّ
ّ
أو ذود ًا عـن حوزتهـا أو حاميـة لذمارهـا ،فـإن مل يكـن رجالهـا ذوي بـأس
عدوهـم ،وإن ّ ونجـدة خـارت قواهـم يف القتـال ،وفشـلوا ،وتغلّـب عليهـم
ـدداً. ـدد ًا ُ
وع َ كانـوا يفوقونـه َع َ
وقـد رسـخ يف أذهـان كثير من الناس أن ما يشـعر بـه األوالد بل الكبار،
والحـر والتعـب وغير ذلـك ،ال
ّ مـس الجـوع والعطـش والبرد
ّ أيضـاً ،مـن
ينبغـي االلتفـات إليـه وال االعتـداد بـه ،وهـذا زعـم يرتتـب عليـه أن رضوب
فتأمـل.
الحـس إمنـا ُخلقـت ،يف البشر ،لتضلّهـم ال لتهديهـمَّ ،
ّ
وحقيقـة األمـر ،يف هـذا الزعـم ،أن الذيـن يزعمونـه إمنـا ينظـرون إىل
املعلـوالت ،ويذهلـون مـن عللهـا ،ولـو أنعـم أحدهم نظـره يف القضيـة لوجد
متعـددة ألنهـم يطيعـون مـا
ِّ يعرضـون أنفسـهم ألسـواء وأدواء أن البشر ال ّ
حسـهم ،بـل ألنهـم يعصـون أمـره .فهـم ال ميرضـون ألنهـم إذا يأمرهـم بـه ّ
يسـتمرون على األكل
ّ جاعـوا جاعـوا أكلـوا ،وإذا عطشـوا رشبـوا ،بـل ألنهـم
والـري ،وال يسـقمون ألنهـم يستنشـقون هـذا النسـيم ّ والشرب بعـد الشـبع
األصحـاء ،بـل ألنهـم يتن ّفسـون ذلـك الهـواء الفاسـد، ّ الـذي يسـتطيبه كلّ
مضر بالرئتين .وال يعتلـون ألنهـم يطيعـون ٍ
مـع شـعورهم بأنـه مـؤذ للصـدرّ ،
يكـدون
مـا تأمرهـم بـه ،وتدفعهـم إليـه الطبيعـة مـن رياضـة الجسـم؛ ألنهـم ّ
كدهـا يف األعمال الشـاقّة أجسـامهم يف عمـل مـا ،بـل ألنهـم يثابـرون على ّ
مـدة مديـدة ،مـن غير رضورة ،ومـن بعـد شـعورهم بأنهـم قـد نهكـوا وبـأن ّ
يلـد لهـم
ُّ مـا يف فكرهـم إعمال هـم يرض
ّ وال ً.
ا حينـ بالراحـة، تأمرهـم الطبيعـة
يرضهـم مثابرتهم عىل إعمال فكرهم وإجهـاد قريحتهم بعد البحـث عنـه ،بل ّ
مـا يشـعرون به مـن الصداع وحـرارة الوجه واألذنين ،وغري ذلك مـن اإلمارات
التـي تدلّهـم أن الطبيعـة تتقـاىض منهـم أن ميسـكوا عـن ذلـك ،إىل حين.
29
الحـس قـد تكون بالنظـر إىل بعض الناس غير صادقة، ّ نعـم ،إن داللـة
املتقدمـة؛
ِّ دامئـاً ّ ،إل أن هـذا مـن الشـذوذ الـذي ال تنقـض بـه القاعـدة
فـإن الـذي يقضي سـحابة يومـه منقطعـ ًا يف حجـرة مغلقـة النوافـذ ،ال
يخـرج منهـا ،وال يـكاد يبرح مكانـه ،والـذي يكثر مـن إعمال فكـره ويقـلّ
ألـح عليـه ،أو طاعـةً
مـن رياضـة بدنـه ،والـذي يـأكل مجـارا ًة لصديقـه إذا ّ
ملـا يأمـره بـه أذان املـؤذِّ ن أو عقـرب السـاعة ،ال ملـا تأمره به معدتـه ..كلّ
حسـهم قـد فسـدت ،حتـى صـارت تضلّهـم هـؤالء جائـز أن تكـون رضوب ّ
قررناهـا؛ ألنـهيخـل بالقاعـدة التـي َّ
يف كثير مـن األحـوالّ .إل أ ن ذلـك ال ّ
ليـس -يف الحقيقـة -سـوى عاقبـة مـا جنـوه على أنفسـهم بعصيانهـم
نواميـس الطبيعـة ،فلـوال أنهـم جعلـوا دأبهـم ،منـذ صباهـم ،أن يخالفـوا
صحتـه ،دلي ً
ال حسـهم ،بـل لبـث ،وهو يف مـلء َّ تلـك النواميـس ملـا فسـد ّ
يرضهـم.
عما ّ صادقـ ًا يقودهـم إىل مـا ينفعهـم ،وينكِّ ـب بهـم ّ
فصل يف الغذاء
اعتنـــاء
ً وثـــم أربعـــة أشـــياء ،ينبغـــي أن ُيع َت َنـــى بهـــا يف تربيـــة البـــدن
ّ
خصوصيـــاً ،هـــي :الغـــذاء ،والكســـوة ،والســـكنى ،والرياضـــة.
ويحكّ م الصحـةُ ،
ّ وكيفيتـه قوانين
َّ كم َّيتـه
فالغـذاء ينبغـي أن تراعـى يف ِّ
دليـل الصـواب ال املزاعـم واألوهـام .فمـن جملـة هـذه املزاعـم واألوهـام
كـف األوالد عن الطعـام كلّام قضينـا -تحكُّ امً- مـا جـرت بـه عادة أكرثنـا من ّ
أنهـم قـد نالـوا منـه حاجتهـم ،مع أنهم يسـتزيدون منـه .وإمنـا نك ّفهم ألننا
البشـم إن أطلقنـا لهـم العنـان، َ ـد
نزعـم أنهـم يشـطّ ون يف األكل ،إىل َح ّ
الحجـة هـذه ،إذ ليـس لنـا فيها من دليـل يدلّنا عىل الفـرق بني َح ّد
َّ وبئسـت
وحـد البشـم سـوى وهمنـا ،وأوىل بنـا أن نسـتدلّ على شـبع األوالد ّ الشـبع
بالدليـل الطبيعـي وهـو زوال شـهوتهم للطعـام كلّما قضوا منه وطـراً ،ألنه
صـادق يف أمرهـم كما هـو صـادق يف أمـر الرضيـع واملريـض ،بـل ٌ دليـلٌ
كـف عـن الرضـاع مـن تلقـاء نفسـه، الحيـوان ،أيضـاً .فالرضيـع إذا شـبع ّ
30
كف عـن األكل ،وكذلـك الحيوان إذا واملريـض إذا نـال حاجتـه مـن الغذاء ّ
اكتفـى مـن العلـفّ .إل أن الذيـن يك ّفون الولـد عن الطعام ،مع أنه يسـتزيد
مجرد زعمهـم أو وهمهمّ منـه ،ال دليـل لهـم عىل أنـه نال منه كفايته سـوى
كما قلنـا ،فمـن أيـن يعرفون -ياليـت شـعري -أنه نـال حاجته مـن الغذاء،
وشـبع ،وهـو يطلـب املزيـد؟ فهـل لهـم يف جوفـه جاسـوس يعلمهـم
ذلـك؟ .أمـا كان أجـدر بهـم أن يعلمـوا أنـه -على صغـر جثَّته -أحـوج منهم
إىل الغـذاء الـوايف؛ وذلـك ال تعويضـ ًا ملـا يفنـى ،كلّ يـوم بـل كلّ سـاعة،
إمنـاء لبدنـه أيضـاً .وإمنـا يفنـى يشء مـن أعضائه
ً مـن أعضائـه ،فقـط ،بـل
وأعضائنـا ،أيضـاً ،لقيامهـا مبـا نيـط بهـا مـن األعمال مـن لـدن الـوالدة إىل
سـاعة املـوت ،فالغـذاء هـو الـذي ُيخلـف عليهـا مـا يفنـى منها.
مضر ،بـل هـذا
ّ وليـس مرادنـا ،ههنـا ،أن ننكـر أن اإلكثـار مـن األكل
متعـددة هي
ِّ مسـلَّم ،ولكـن مرادنـا أن نقـول إن لإلقلال منـه ،أيضـاً ،آفـات
شـفاء من
ً يسـببها الجوع أعرسّ أشـد رضر ًا مـن اإلكثـار؛ ألن األمـراض التي
ّ
البشـم.
يسـببها َ ّ التـي
حـد ال ِكظّ ـة كما يفعـل
وبعـد ،فـإن األوالد قلّما يتمادون يف األكل إىل ّ
الشره وأربـاب البطْ نـة مـن البالغين .وهنـا ،مجـال م َّتسـع لحكمـة َ أهـل
األبويـن واملعلّـم يف التمييـز بين الشـبع الطبيعـي ،أي نيـل الحاجـة مـن
املضر،
ّ البشـم
املـؤدي إىل َ
ّ الطعـام؛ دليـل ذهـاب الشـهوة ،وبين النهـم
ً
نهما َحذَّ روا الولد من سـوء عواقبـه ،وك ّفوه فـإن تيق ّنـوا ،بحكمتهـم ،أن َث َّم
عـن التامدي ،باملالطفـة والنصح واإلقناع ال بالفظاظـة والعنف .وال ينبغي
النهم مثـرة الحرمان،
أن يغـرب عنهـم ،يف هـذا املوطـن ،أن أكرث ما يكـون َ
بـرد الفعل،
ونتيجـة املنـع ،وذلـك مبقتىض النامـوس الطبيعـي املعروف ّ
الشـد ترخـي ،وأن
ّ العامـة مـن أن كثرة
ّ حـد مـا جـاء يف أمثـالوهـذا على ّ
ـن كان صامئـ ًا فأفطـر،يفسر لـك نهـم َم ْ
املمنـوع محبـوب ومتبـوع؛ وهـذا ّ
ممـن مل يكـن صامئاً. فهـو أرشه على الطعـام َّ
كف
ومـن جملـة تلـك املزاعـم ،أيضـاً ،اعتقـاد كثري مـن الناس أنـه يجب ّ
الولـد عـن أن يتنـاول مـن األطعمـة الحلـوة شـيئ ًا زائـد ًا على املقـدار الـذي
31
توهم بعض النـاس أن ميل أمـه أو حاضنتـه بأنـه ٍ
كاف له؛ وهذا سـببه ُّ قضـت ّ
رسـخ هـذا الوهـم يفاألوالد إىل األشـياء الحلـوة محـض نهـم ورشه ،وقـد ّ
األذهـان مـن قديـم الزمـان ،والحقيقـة خالفـه؛ وذلـك أن طبيعـة الصغـار-
وهـي ،يف هـذه القضيـة ،أيضـاً ،صادقـة الداللـة على مـا يالمئهـم -تدفعهم
املواد الحلوة أفضل األشـياء ،بعد اللحم واملآكل
ّ إىل تطلُّـب الحلاوات ألن
الدسـمة ،توليـد ًا للحـرارة الغريزيـة يف األبدان؛ وذلك ألنها تسـتحيل -بفعل
الكبـد -إىل عنصر مولّـد للحـرارة يخلـف على الجسـم مـا يتلـف مـن حرارتـه
للصحـة مثـل اللحـمّ ،إل أن األوالد -ألسـباب
ّ بالتشـمع؛ فهـي -إذاً -رضوريـة
ُّ
يبـق لتوليد الحـرارة يف أبدانهم
يحبـون اللحم كثيراً ،فلم َّ ال رشحهـا- يطـول
املواد
ّ يشء أصلـح مـن األطعمـة التي يدخل يف تركيبها السـكّر أو غيره من
الحلوة كالعسـل والدبـس؛ لهذه العلّة صارت طبيعتهم تسـتدعيها ،وصاروا
ظلـم فاحش ،ألنه
ٌ حبـ ًا غريزيـاًَ ،
فم ْن ُعهـم عنهـا ،متى أرادوهـا، يحبونهـا ّ
هـم ّ
ومنوهم.
ّ لصحتهـم
َّ مبنزلـة حرمانهـم مـا هـو رضوري
يحبونهـا؛
ومـا قيـل عـن الحلاوات ُيقـال ،أيضـاً ،عـن الفواكـه ،فإنهـم ّ
ال ملـا فيهـا مـن عنصر الحلاوة ،فقـط ،بـل ملـا فيهـا ،أيضـاً ،مـن عنصر
واألطبـاء كلّهم يقولون لـك إن الحامض
ّ الحموضـة مختلطـ ًا بتلـك الحلاوة
يقـوي الجسـم؛ لذا تسـتدعيه الطبيعة ،فيجـب -إذاً -أن نطعـم األوالد ،مع ّ
الطعـام ،شـيئ ًا مـن يانـع الثمارّ ،
وإل أكلـوا كلّ مـا تقـع عليـه أيديهـم منها
فجـ ًا كان أو يانعـاً ،ويف غير أوقـات الطعـام.
ّ
التنوق يف مآكلهم ،والشـطط يف أبازيرها
ّ شـدة
وكذلك يجب أن نجت َّنب ّ
الكم ّية ،ميلأ جوفهم دون
وتوابلهـا ،ونحـرص عىل أن يكـون طعامهم وايف ّ
جيـدة التغذيـة وسـهلة االنهضـام
مـواد ّ
ّ حـد الكظّ ـة -وأن يكـون مركّ بـ ًا مـن
ّ
كاللحـم الغريـض والسـمك والبيض واللبن وبعض البقـول والقطاين؛ ألن
النمـو ،وأن نخالـف لهم بين ألوانه كلّ يـوم ،بل
ّ ذلـك أعـون ألبدانهـم على
يف كلّ وجبـة ،منـه ليكـون أمـر ًا يف ذوقهـم ،وأدعـى لهم إىل تناوله بشـهوة
فيصير ،لهـذه العلّة ،أسـهل انهضاماً.
ليحفـظ ،بذلـك ،حسـن
معينـة ُ
ّ ويحسـن أن تكـون أوقـات طعامهـم
32
تشـدد يف هـذا األمر
ّ النظـام يف البيـت والك ّتـاب واملدرسـة ،ولكـن من غري
حـد منعهـم عـن تنـاول يشء يسير من الطعـام إذا جاعـوا وطلبوه يف إىل ّ
غير تلـك األوقات ،كما أنه ال ينبغي أن نكرههم على األكل إذا مل يكن بهم
أمـا الولـد الـذي مل يتكامـل
يحبونـه مـن األلـوانّ .
جـوع ،وال على أكل مـا ال ّ
بعـد ،على هضـم أجزائـه ُ تقـو معدتـه،
طلـوع أسـنانه ملضـغ اللحـم ،ومل َ
الصلبـة فيجـب أن يكـون ما نغـذوه به منه قليلاً ،ومطبوخ ًا طبخ ًا مسـتويف
ِ
مرقـه ،دون الثفـل. الشروط ،حتـى يغتـذي بجوهـره أي بعصارتـه أو
ـوغها وخريهـا للأوالد فأس َ
أمـا األرشبـة ْهـذا مـا كان مـن أمـر األطعمـةّ .
املـاء القـراح الـزاللُ ،ي ْسـقَ ونه كلّام عطشـوا وطلبـوا الرشب ،اللهـم ّإل إذا
ُ
ٍ
حينئـذ- كان عطشـهم على إثـر اللغـوب أي التعـب املفـرط؛ ألنـه يكـون-
عطشـ ًا كاذبـاً ،وإذا صبروا عليـه هنيهـةً ،زال.
فصل يف الكسوة
33
الـزي الـذي ي َّتفـق
ّ مفصلـة بحسـب ّ أوالدهـن رقيقـة النسـج صافيـة اللـون، ّ
لزعمهـن
ّ رديـاً ،وذلـكالـزي الـدارج ،وإن كان ّ ّ أن يكـون عنـد تفصيلهـا هـو
مرضةّ أن الثيـاب التـي هـذه صفتهـا تـروق النظـر ،وتزيـد حسـناً ،وإن كانـت
مضارهـا أن الولـد ،إذا دفعـت بـه طبيعتـه إىل املـرح ّ بصحتـه .فمـن أيسر َّ
أمـه أو ظئره أو ّ بـه صاحـت ً،
ا أيضـ التراب، يف غ التمـر
ّ بـل والقفـز واللعـب
تصده ّ يتخـرق قفطانـه ،وهكـذا ّ أو جوربـه سـخ ت
ّ ي ال كـف؛ حتـى خادمتـه :أن ّ
اسـتبقاء
ً وتعرضـه للقصـع وغيره مـن اآلفات ّ لنمـوه،
ّ عـن رياضـة رضوريـة
ست إىل وثـم ،يف بلاد اإلفرنـج ،عـاد ٌة أخـرى سـمجة ،وقـد َ َ على ثيابـهّ .
يحبون محـاكاة اإلفرنـج يف كلّ عاداتهم، بالدنـا ،واحتذاهـا نفـر من الذيـن ّ
بحجـة أن تعريـض ّ وهـي تعريـة سـاقَي الولـد وذراعيـه وعضديـه ،أحيانـاً،
حجة واهية بإقرار علامئهم أنفسـهم، يقويها ،وهـذه ّ هـذه األعضـاء للهواء ّ
مضارهـا أن الولـد ،إذا سـقط ،يف أثنـاء لعبـه أو رياضتـه ،على ّ ومـن أيسر
مما يقيهـا. لتعريهـا ّّ موضـع خشـن مـن األرض ،انسـجحت برشتـه
أمـا األحذيـة ،فأحسـنها لألوالد ما كانـت نعالها من السـحتيان الثخني،
ّ
ودروزهـا محكمـة اإللصـاق؛ حتـى ال تنفذهـا الرطوبـة ،ويجـب أن ال تكـون
مـن السـعة بحيـث تغلـق فيهـا أقدامهـم ،وال مـن الضيـق بحيـث تضغـط
شـدة الحـزق ،ويف كال األمريـن تعويـق لهـم عـن
األقـدام وتعرصهـا مـن ّ
الصحـة يف أمـر
ّ الجـري واللعـب .ويجـب ،يف الجملـة ،أن تراعـي قوانين
الحر
ّ كسـوتهم كما نراعيها يف أمر كسـوتنا ،ألنهـم مثلنا يف الشـعور بلفح
صدهـم عـن االنتقـال ،فجـأةً ،مـن موضـعوقـرس البرد ،وأن نحـرص على ّ
ٍ
بـارد ،وهم عـراة أو يـكادون ،وعن امليش حفـا ًة كام جرت حـار إىل موضـع
ٍّ
مسـامهم للبرد ،وهـم
ّ تعريـض سـببها أمراضهـم أكثر ألن عادتهـم؛ بـه
عـراة ،وأقدامهـم للرطوبـة ،وهـم حفـاة.
فصل يف السكنى
الجيـد
ّ «أول رشوط العافيـة الهـواءواحـد مـن مشـاهري األطبـاءَّ :
ٌ قـال
جيـد ًا ّ
نقيـاً ،فإنهما يغنياين وهـواء ّ
ً مـاء زال ً
ال النقـي» .وقـال آخـر« :أعطنـي ً
34
عـن سـائر األدويـة يف معالجـة األسـقام.
النقـي
ّ الجيـد
ّ نعـم .ليـس بالهـواء وحـده يحيـا اإلنسـان ،لكـن الهـواء
يسـهل هضـم ّ جيـد ًا أعظـم معين لـه على الحيـاة؛ ألنـه يولّـد فيـه دمـ ًا ّ
ويقويهـا .فينبغـي أن يحـرص الوالـدون ّ الطعـام ،ويقـوت أعضـاء الجسـم
وي َر َّب ْـون ،وأن يفتحوا
تعهـد الحجرة التـي ينام فيهـا األوالدُ ،واملربـون على ُّ
ّ
أشـعة
ّ وتنفذها السـاكن، هواؤها د ليتجد
َّ ، قـلَّ
ألا عىل يـوم، كلّ ةمـر كواهـا
ّ
الشـمس ،وأن يعنـوا ،أيضـاً ،بتنظيفها وتعديل درجة الحـرارة فيها ،وتقدير
ا ِّتسـاعها على نسـبة األوالد املقيمين بهـا.
أمـا الكتاتيـب واملـدارس ،فيحسـن أن تكـون يف ضواحـي املـدن ال يف ّ
وسـطها ،وأحسـن مـن ذلـك أن تكون يف األريـاف واألمكنة النزيهـة البعيدة
عـن عمـق امليـاه وأبخـرة املسـتنقعات ،ومـا يرت َّتـب على ذلـك مـن فسـاد
الهـواء ،وأن يكـون لهـا سـاحات وأقنيـة رحبـة ،أو جنائـن م َّتسـعة؛ ليسـهل
جرا.
وهلـم ّ
َّ ـدو ًا وقفـزاً..
على األوالد أن يلعبـوا فيهـا َع ْ
فصل يف الرياضة
سـيام
لنمو الولد ،وال َّّ أشـد األشـياء رضور ًة
ّ أما رياضة الجسـم فهي من ّ
كبـ ًا عىل
ُ ّ م النهـار، مـن سـاعات بضـع فيـه يقضي وصـار ـاب، ت
ّ الك دخـل إذا
يتـأت لـه معـه أن يبرح مكانـه ،كلّما أراد؛ فلذلـك ينبغـي الـدرس إكبابـ ًا ال ّ
متعـددة ،يقضيهـا األوالد بالرياضـة ّ أن يتخلّـل سـاعات الـدرس فترات
عـد لهـم أو يضـع بين أيديهـم مـا واللعـب ،كما يجـب على املعلّـم أن ُي ّ
يسـتلفت أنظارهـم مـن فنـون اللعـب الـذي يقتضي الحركـة ومجانبـة
ويشـتد
ّ السـكون؛ حتـى يلعبـوا فتمـرن -بذلـك -أبدانهـم يف لين معاطـف،
عضلهـم وتصلـب أعضاؤهـم مـن غير ُجـأ ٍة .ولكـن ،يجـب عليـه ،أيضـاً ،أن
صدهم عن يحبونـه ،ومـن ّ يتفـادى مـن إكراههـم على صنـف من اللعـب ال ّ
يحبونـه؛ ألن أنفـع اللعـب لهـم مـا مي ِّتعهـم ومـا يلعبونـه مـن تلقاء صنـف ّ
أنفسـهم ،ويجـدون فيـه لـذّ ة ورسوراً .وفائـدة الرياضـة كلّها قامئـة يف هذا
35
األمـر ،وهـو أن يلعـب األوالد اللعـب الـذي يغتبطونـه بـه ،ويخرتعونـه أو
قترح عليهم؛ وهـذا بديهي ألنهم يختارونـه هـم ألنفسـهم ال اللعب الـذي ُي َ
يحبونـه ،وال مي ِّتعهـم مل يجـدوا فيـه ُ
إن أكرهـوا على صنـف مـن اللعـب ال ّ
لـذّ ة وال لهـواً ،بـل كان لهـم مبنزلـة مداومـة للـدرس مـن غير انقطـاع وال
فترة ،فتفـوت -بذلـك -النكتـة املـرادة منـه؛ وهـي إعفاؤهـم مـن الـدرس
برهـةً ،لراحـة أذهانهـم وترويـح نفوسـهم ورشح صدورهـم .وزد على ذلـك
أن اللعـب مبنزلـة جائـزة لهـم ،ينالونهـا على مـا قاسـوه مـن املضـض يف
أحب
ّ إكبابهـم على القـراءة والكتابـة والـدرس ،فكلَّما كانـت تلـك الجائـزة
إليهـم كانـوا على اكتسـابها أحـرص.
ومـن صنـوف الرياضـة التي تحسـن آثارها فيهـم ،ال يف صباهم فقط بل
والتمشي إىل األريـاف واملنازه يف
ّ يف شـيبتهم ،أيضـاً ،الرقـص والسـباحة
مما يفعله
األيـام املصحيـة ،وكذلـك ركـوب الخيـل والتـزاوف ،وهـو يشء ّ
ّ
البلهوان.
ثـم إنـه مـن البغـي أن يزجرهـم عريفهـم أو معلّمهـم عـن الضجيـج
بحجـة أنه يشـمئ ّز من
والضوضـاء والطقطقـة والقهقهـة يف أثنـاء اللعـب؛ ّ
ممن
ذلـك ،فـإن هـذه أفعـال طبيعية لهـم ،وترت ّتب على لعبهم ،فلا أظلم َّ
يردعهـم عنهـا فـرار ًا مـن احتمال مشـ ّقة يسيرة بسـببها.
وكذلـك يحسـن أن يرشكهـم عريفهـم يف اللعـب؛ ترغيبـ ًا لهـم فيـه،
وتجرئـةً لهـم عليـه؛ ألنـه إن اعتـزل اللعب معهم شـعروا بأنـه رقيب عليهم
ال غير ،فمقتـوه ألن كلّ رقيـب ممقـوت بغيـض.
ويحسـن ،أيضـاً ،أن يكـون لعبهـم على رهـن أو جائـزة زهيـدة ،من نحو
ـن كان أبرعهم يف فنـون اللعب؛ كتـاب أو غيره ينالهـا ،يف ختـام السـنةَ ،م ْ
يرغبهـم يف هـذا الضرب من الرياضـة ،ويحملهم على املغايرة، ألن ذلـك ّ
شـبوا ،ألنهم يعتادون
وينشـطهم عىل املباراة فتحسـن آثار ذلك فيهم إذا ّ ِّ
املضـار ،واجتلاب
ّ البـد منهـا ،يف هـذه الدنيـا ،لدفـع
ّ بـه املغالبـة التـي
املنافع.
36
(املطلب الرابع)
39
مـن الرتبيـة ،وذريعـة مـن ذرائعهـا ال الرتبيـة كلهـا كما يذهـب إليـه بعض
الناس.
التامـة ،هـي عمـلٌ عظيـمّ العامـة
ّ والرتبيـة ،بإطلاق اللفـظ ،أي الرتبيـة
السير واألدوار ،مختلف متنوع الكيفيـات ،متفاوت ّ
ّ متعدد األسـاليب
ّ مهـم
ّ
األغـراض ّإل أن جوهـره واحـد كما أن غايتـه واحـدة ،وهـي إعانـة الطبيعـة
على إمنـاء بـدن الولـد ،وتنويـر ذهنـه ،وتقويـم سيرته ،وتهذيـب أخالقـه،
وكلّ ذلـك بقـدر االسـتطاعة ،وعلى الوجـه األصلـح لـه فيما سـيصري إليه،
املـرب ،سـواء أكان أب ًا أم
ّ واألصلـح للجمهـور أيضـاً .وهـذه الغايـة يدركهـا
متعـددة قد ارتبـط بعضها ببعـض ،إلبراز ّ أمـ ًا أم معل ً
ّما أم أسـتاذاً ،بذرائـع ّ
فعلهـا ،ارتبـاط بعـض دواليـب السـاعة ببعـض حتـى أصبحـت وال غنـى
إلحداهـا عـن األخرى.
تقـدم منهـا يف موضعه مـا يغنينا عـن تكراره، فذرائـع تربيـة البـدن قـد َّ
أهمها مـا نحن بصـدده مـن التعليمّ .إل أمـا ذرائـع تنويـر الذهن فمـن ّ هنـاّ .
ـدأ فيـه باألشـياء ،أي بتفهيـم الولـد معـاين أن هـذا التعليـم ينبغـي أن ُيب َت َ
الحي؛ أي بالتلقني
ّ حواسـه ،وتفسيرها له بالصوت ّ األشـياء التي تقع تحت
الشـفاهي ،ومبجاوبة األسـئلة التي ال يفرت عن طرحها باإلشـارة أو باللسان،
غريـزي قد فُطـر عليه األوالد كافّةً .انظـر إىل هذا الطفل،
ّ ألن طلـب التعلُّـم
وهـو َب ْعـد يف مهـده ،فـإن تحديقـه النظـر يف كلّ غريـب يدنو منـه ،وتناوله
ويعض عليـه ..كلّ ذلك اسـتفهامّ كل مـا تقـع عليـه يـده ليحمله إىل فمـه،
تنـور عقلـه فيشرع يف غريـزي ورغبـة طبيعيـة يف االسـتطالع ،بهـا يبتـدئ ُّ
وتفهمهـا باالختبـار واالمتحـان مـن تلقـاء نفسـه ،وعلى ّ إدراك املـدركات،
قـدر اسـتطاعته ،وهـذا أكثر أنـواع التعليـم والتعلّـم فائـدة .وانظـر ،أيضاً،
أمـه أو ظئره أو حاضنتـه إىل البسـتان أو إىل هـذا الصغير إذا ذهبـت بـه ّ
أحـد املنـازه ،فإنـه قلّما يقطـف زهـرة أو يصطـاد فراشـة أو يلتقـط حصـاة
ـن يكـون معـه ،ويف بريـق عينيـه وتهلُّـل وجهـه دليـل؛ ال ّإل جـاء بهـا إىل َم ْ
على اغتباطـه مبـا وجد ،فقـط ،بل عىل رغبتـه ،أيضـاً ،يف معرفة يشء من
أمـره يطلـب ذلـك -تارةً -باإلشـارة والتلميح ،وتـار ًة بالترصيـح بقوله :ملاذا؟
40
ومـاذا؟ ،ومـا جـرى هـذا املجرى من األسـئلة التـي ال يكاد يفرت عـن طرحها
محتجني بأنـه ال يليـق مبن كان ِّ علينـا ،وال نـكاد نحـن نفتر عـن زجـره عنهـا
متطـالً ،حتـى أننـا إذا جاوبنـاه عليهـا ،فكثير ًا ّ سـنه أن يكـون فضوليـ ًا يف ّ
إمـا جهلاً أو مـا نجعـل جوابنـا قليـل الفائـدة أو مخالفـ ًا للحقيقـة؛ وذلـك ّ
تؤهـل اإلنسـان، مـر بـك أن الرتبيـة غايتهـا أن ِّ كسلاً أو لعلّـة أخـرى .وقـد ّ
شـب؛ وهـذا يقتضي مـن ّ بالحـق ،إذا
ّ منـذ حداثـة سـ ّنه ،ألن يكـون رجلاً ،
املـرب ،كائنـاً مـن كان ،أن ُيعنـى بإعانـة الطبيعـة على إمنـاء ذهـن الولـد ِّ
ـرام بالكرمـة؛ فكما أن الـزارع وتقويتـه عنايـةَ الـزارع بالـزرع وعنايـة الكَ ّ
يتعهـد الـزرع ،ويقتلـع مـا ينبـت ،يف خاللـه ،مـن شـوك يخنقـه ،وزؤان َّ
يتعهدهـا بالتقضيب َّ بـل لشـأنها، الكرمـة يترك ال امـر
ّ الكَ أن وكما يفسـده،
املـرب أن يحـرص على تقويـة ّ على يجـب فكذلـك والتعريـش والسـقي،
سـيلقى إليـه من املعـارف ،وما َس ُـي َل ّقنه ذهـن الولـد وإرهافـه ،وتهيئتـه ملا ُ
مـن التهذيـب ،ألن الرتبيـة إمناء وتقويـة ال لبدنه ،فقط ،بل لذهنـه أيض ًا ّإل
أنهـا ينبغـي أن تكـون يف أمـر الذهن كام هـي يف أمر البدن ،أي رويـد ًا رويد ًا
وبحسـب ترتيـب الطبيعـة ،وتبعـ ًا ملجراهـا ال ابتسـار ًا ألن كلّ مـا ابترستـه
تحـب أن يربزها ،فقـد أمنيته ّ تقـوه إلبـراز الثمار التـي أو أمنيتـه قسر ًا أو مل ّ
وعرضتـه لوشـيك الذبـول واليبـس ملخالفتـك فيـه مجـرى الطبيعة، عبثـاًَّ ،
طيبـة ،بـل يف بيـت مـن وكنـت فيـه كالـذي يسـتنبت شـجرة ال يف أرض ّ
مـاء طبيعي ًا الزجـاج ،ويغذوهـا سماد ًا كياموياً ،ويسـقيها مـاء العقاقري ال ً
النمو بحـرارة النارّ مـن مطـر الغمار أو ندى األسـحار ،ويحملها على رسعة
الطيـب ،ثـم يطمـع يف أن تثمـر مثر ًا ّ أو البخـار ال بأشـعة الشـمس والهـواء
زكيـاً ،لكنهـا قلَّام تثمـر! وإن فعلت فثمرها يكـون ،يف الغالب ،تفه ًا صالحـ ًا ّ
ال يسـتلذّ ه أحـد ،ثـم إنهـا ،وإن سـمقت أغصانهـا ،تبقـى ضعيفـة قلقة؛ ألن
أصولهـا غير راسـخة يف أرض تالمئهـا ،فـإذا ُزعزعت أيرس زعزعـة انقلعت.
وهـذا الضرب من اإلمناء االبتسـاري القرسي ألذهـان األوالد هو عني ما
نـراه يف بالدنـا ،بـل يف غريهـا مـن البلاد ،أيضاً ،فما أكرث املـدارس عندنا،
ُ
ولكـن مـا أقـلّ نفعهـا؛ وإمنـا قـلَّ نفعهـا ألن ّ
القيمين عليهـا ال يلتفتـون إىل
تربيـة األوالد فيهـا بحسـب مـا سـ َّنت الطبيعـة ،وال يراعـون يف ذلـك مـا
41
تقتضيـه الحـال ،بل بحسـب زعمهم أو وهمهم أو بحسـب مـا تحدوهم إليه
مصلحتهـم أو مـا يحدوهـم إليـه زهوهـم وزهـو الوالديـن ،أيضـاً ،فيحشـون
رأس الولـد قواعـد علـوم ال تالئـم طبعـه ،وال توافـق ميلـه واسـتعداده ،وال
يرشـحوه لها منتناسـب سـ ّن ُه وطبقة أهله ،وال يفهمها هو نفسـه ألنهم مل ِّ
يربونـه هكـذا يصبـح -وهـو ابـن أربع عرشة سـنة- قبـل ذلـك ،فالولـد الـذي ّ
أعجوبـة زمانـه نابغـة عصرهَ ،ح ِفظ ًا ألنـواع البديـع وأبيات األلفية وأسماء
بحـور الشـعر وأصنـاف الزحـاف واصطالحـات املناطقـة ،لكنـه يبقى -طول
عمـره -مائقـ ًا مغ َّفلاً بليـداً ،إن اسـتكتبته بضعـة أسـط ٍر شـحنها تسـجيعاً،
لحـن فيهـا مـراراً ،باعتبار اللفـظ وأخطأ املرمـى باعتبـار املعنى .وإن لكنـه َ
استنشـدته بيتـ ًا مل ُيقـم وزنـه ،وإن غالطتـه بقياس سوفسـطايئ مل يد ِر من
أيـن دخلـت عليـه املغالطة.
نتنوهـم أن تربيتهم
َّ وإمنـا كانـت هـذه حالة أكثر األوالد يف بالدنـا؛ ألننا
مبجـرد تدريسـهم بعـض قواعـد العلـوم ،ف ُنكرههـم على تعلُّمهـا، ّ قامئـة
سـن ال تصلـح لهـا ،وطبع واألوىل أن تقـول (على تحفظهـا غيبـاً) ،وهـم يف ّ
نهيئهـم إلدراك مغزاها بالذرائع العملية البديهية، ينفـر منها ،ومن قبل أن ِّ
أوالً ،وتقويتهـا ،شـيئ ًا فشـيئاً ،وذلـك بالخطـاب قبـل أي بتنويـر أذهانهـمَّ ،
يرتشـحوا لقبـول الـدروس التـي سـ ُتلقى عليهـم بعـد ذلـك، ّ الكتـاب حتـى
ويترشبونهـا ،ويبقـون أحكامهـا الكل ِّّيـة عىل ما يجـري كلّ يوم، َّ فيتهمونهـا،
ّ
على مسـمع منهـم ومرأى مـن األحـوال والحـوادث الجزئيـة ،ويكونون إىل
الجزئيـات
ّ أرسع ،ألنهـم تيقَّنـوا انطباقهـا على َ صحـة تلـك األحـكامتحقُّـق ّ
أمـا القواعـد التـي نحملهم التـي البسـوها واختربوهـا بأنفسـهم ،مـن قبـلّ .
على تحفُّظهـا غيبـاً ،ومـن غير فهـم عملي ملعانيهـا ،فتكـون عندهـم مـن
قبيـل األلغـاز واألحاجـي ،ويصير مثلهـم فيهـا «كمثـل الحمار يحمـل
تسـتقر يف ذاكرتهـم ّإل حينـاً ،ثـم ينسـونها ب ّتـةً .
ّ أسـفاراً» ،وال
تبجحنـا إذا ختـم الولـد م ّنـا دروسـه هـذه ،ونـال الشـهادة أو
ومـا أكثر ُّ
أشـد مباهاتنا مبا يسرده ،يومئـذ ،علينا
ّ حـاز اإلجـازة مـن الفاحصين! ومـا
وعلى أصدقائنـا ،مـن ُجمـل مطنطنة ال يـدري معناها ،ومـن قواعد عويصة
42
مسـاكني هم األوالد الذين
ٌ مسـت الحاجة!. ال يقدر أن يبني عليها شـيئ ًا إذا َّ
هـذه حالهـم؛ فهم ينشـؤون وينمـون ،ولكن تفوتهـم الرتبيـة الحقيقية؛ أي
املنبـه والعقـل املسـتنري ،وغري ذلك مـن صفات َّ املخـرج والفهـم
ِّ الذهـن
الـذكاء التـي ،بهـا ال بسـواها ،ميكنهـم أن يتعلَّمـوا كلّ مـا يصلـح لهـم ومـا
يؤهلهـم ألن يكونـوا رجاالً.
ّ
43
(املطلب الخامس)
التهجي ،حتـى إذا حفظ أسماء حروف ّ ويحملونـه -بـادئ بـدء -على تعلُّـم
سـن ال تصلـح
ٍّ الهجـاء أخـذوا يف تعليمـه القـراءة بالكتـب ،وهـو بعـد يف
لذلـك .ولـو كانـت الكتـب التـي يحملونـه على تعلُّـم القـراءة بهـا ،قريبـة
املأخـذ سـهلة العبـارة تشـتمل عىل قصص يسـتلذّ ها ويرتـاح ملعرفتها ،أو
على فوائـد بسـيطة تشـفي ما يف صـدره من غليل االسـتطالع واالسـتعالم،
لـكان الخطـب أهـون ،لكنهـم يحملونـه عىل قراءة كتـب ،اليـكاد يفهم أكرث
ترب َم الزنجـي إذا حملته عىل
فيتبرم الولـد بتلك الكتـب وبقراءتها ُّ
ّ معانيهـا،
رسد ألفـاظ بلغـة اليونـان أو بلغـة أهل الصين ،ويفيض به ذلـك إىل كراهة
وإلقاء
ً ((( -كام يفعل أكرث الناس يف بالدنا ،وذلك تخلُّص ًا من عرام الولد يف أثناء بضع ساعات من النهار،
لهذا العبء عىل كاهل املعلّم.
45
القراءة والكتب والعلوم بأرسها.
املتمدنـة ،يعلـم أنـه ال
ِّ وكلّ مـن عـاىن أمـر تعليـم األوالد يف البلاد
جـداً ،وأنه إذا حـان وقت وضعه ينبغـي وضـع الولـد يف الك َّتـاب وهو صغري ّ
ألقـل ،فلا ينبغـي أن فيـه ،أي إذا بلـغ السـنة السادسـة مـن عمـره ،على ا َ
نحملـه -بـادئ بـدء -على التعلُّـم بالكتـب ،بـل ينبغـي أن نـداوم على مـا
ك ّنـا نفعلـه بـه وهـو ،بعـد ،يف البيـت؛ أي على تعليمـه باألشـياء ،واملـراد
حواسـه أو تخطـر ببالـه أو تسـتلفت نظـره، ّ بذلـك األشـياء التـي تقـع تحـت
فيسـأل عنهـا ،سـواء أكانـت يف البيـت أم يف السـوق أم يف يف البسـتان أم
يف الك ّتـاب ،أم كانـت مـن أعضـاء جسـمه أو ثيابـه أو مـن قماش البيـت أو
جـرا .وال نفتـح الكتب ّإل مـن أنـواع الطير والحيـوان أو مـن أفعالهـا ،وهلَّم ّ
وأشـد رسـوخ ًا
ّ أحب إليه إذا نفـذت هـذه األشـياء ألن مـا يتعلَّمه هكذا يكون َّ
تنبه له ،وسـعى يف تحصيلـه ،وانتقل وتأصلاً يف ذهنـه ،إذ يكـون هـو الذي ّ
ُّ
إليـه فكـره ،وصـار -لهـذه العلّـة -صاحبه ،فـكان أوىل أن يحتفظ بـه ،ويغار
مما لـو تلقَّنـه مـن الكتـب أو أخـذه عنهـا حفظ ًا عـن ظهر القلـب ،من عليـه ّ
يحصلـه هكذا ال يلبث
ِّ غير فهـم ملعنـاه ،وال عناء بـه ،وال رغبة فيه ،ألن ما
أن ينسـاه رسيعاً.
وفضلاً عـن هذا ،فـإن التعلُّم باألشـياء إمنا يكون باملبارشة واملالبسـة
يـد؛ فهـو -لذلـك -أفضل مـن التعلُّم واالمتحـان واالختبـار بالنفـس ،ال عـن ٍ
أول األمـر -تسـليم
بالكتـب ألن ذاك تي ّقـن بالخبرة الشـخصية ،وهـذا -يف َّ
مبـا يقولـه الغري ،وشـ ّتان ما بينهما .وأضف إىل ذلك أن العبـارات واأللفاظ
التـي يف الكتـب ،مهما كانـت قريبـة املأخـذ سـهلة اإلشـارة مألوفـة ،ال
متتد إليـه معرفته
ّ تولّـد يف ذهـن الولـد شـيئ ًا مـن الخواطـر ّإل عىل قدر مـا
باألشـياء واألفعـال واملعـاين التي ُو ِضعت تلـك األلفاظ للداللـة عليها .ثم
العامـة العويصـة التـي تتعب
ّ إن تعليمـه بالكتـب ،ومبـا فيهـا مـن القواعـد
البالغين أنفسـهم ،يجـري على خلاف مجـرى الطبيعـة يف تنويـر الذهـن
46
يتنـور؛ وبذلـك يقـع التعاند بني فعـل املعلِّم وفعلهـا .ألن التعليم َّ أول مـا ّ
الجزئيـات التـي تؤلّفهـا ،وسير الطبيعـة ّ قبـل ـات ّي
ّ ل بالكُ فيـه ـدأ ت
َ ب ي
ُ بالكتـب
بالجزئيـات ثـم االنتقـال منهـا ،رويـد ًا رويداً،
ّ االبتـداء أي العكـس؛ يقتضي
تقـدم العلـلتتقـدم على املركَّ بـات ُّ
ّ حـق البسـائط أنإىل الكل ّّيـات ألن مـن ّ
واملقدمات على نتائجها .والعلامء الذيـن وضعوا قواعد ّ على معلوالتهـا،
يتوصلوا إىل وضعها ّإل بعد اسـتقرائهم املفردات الداخلة ّ العلوم كلّها مل
يتوصـل إىل وضـع قواعـد املنطلق ّإل بعد ّ يف حكمهـا .فأرسـطوطاليس مل
اسـتقرائه طـرق النـاس يف التعليـل والربهـان واالسـتدالل ورضب األقيسـة
واسـتنتاج النتائـج .وأبـو األسـود الـدؤيل (أو سـيبويه) مل يضـع أحدهما
قواعـد النحـو ّإل اسـتناد ًا إىل مـا اسـتقرأه مـن أسـاليب العـرب يف التعبير
عما يف أنفسـها ،وتغيريهـا أحـوال الكلـم تبعـ ًا للمعنى الذي تريـده ،ال عن ّ
والجـار واملجـرور والفاعـل واملفعـول .والخليل مل ّ علـم منهـا بالترصيـف
يضـع قواعـد العـروض ّإل اسـتناد ًا إىل مـا اسـتقرأه من األشـعار التي كانت
العـرب تنظمهـا موزونـة مطَّ ـردة الـرؤى والقافيـة ،على غير معرفـة منهـا
جـرا .فالقواعـد ،إذاً ،نتيجـةباألسـباب واألوتـاد والعلـل والزحـاف ..وهلّـم ّ
البين أن
اسـتقراء األحـوال املفـردة ،وتلخيـص لهـا؛ لـذا كان مـن الغلـط ِّ
نشرع يف تعليـم الولـد قواعـد العلـوم كعلـم النحـو ،مثلاً ،مـن قبـل أن
املتنوعـة التـي يرتكَّ ـب منهـا الـكالم يف اصطلاح ّ يعـرف شـيئ ًا مـن الجمـل
النحـاة ،بـل مـن قبـل أن يعـرف معـاين األلفـاظ املفـردة التـي تتألَّـف منهـا
العامـة التـي تخاطبـه بها
ّ تلـك الجمـل؛ إذا إنـه ال يعـرف ،بعـد ،سـوى لغـة
أمـه أو ظئره أو خادمتـه ،وهـي لغـة تـكاد تكـون مالطيـة؛ لكثرة مـا دخـل ّ
متعـددة ،على مـاِّ وجـوه مـن فسـادها ولكثرة األخـرى، اللغـات مـن فيهـا
بلغـة تـكاد تكـون ،للبالغينٍ أمـا عبـارة الكتـب ،فهـي -غالبـاً- هـو معلـومّ .
أنفسـهم ،مبنزلـة اللغـة الالتينيـة أو اليونانيـة القدمية لإلفرنـج املحدثني.
ومهما يكـن مـن هـذا ،فـإن الولـد ال يفهـم عبارة كتـب العلـوم؛ ألنهـا بلغة
العاميـة التـي ال يعـرف ،بعـد ،سـواها .وقـد أسـلفنا أن تعليمـه ّ غير لغتـه
سـن
القواعـد ،بالكتـب ،يبتـدئ عندنـا قبـل ّإبانـه؛ أي حينما يكون الولد يف ٍّ
العامة التـي تحمله على تعلُّمها؛ لعدم ّ ال يسـتطيع معهـا أن يـدرك األمـور
47
الخاصـة التـي تتألَّـف تلـك األمـور منهـا ،فكأننـا نحملـه على
ّ علمـه باألمـور
تعلُّـم الرمـوز قبـل أن يعرف األشـياء املرموز إليها ،والدالالت قبل األشـياء
املدلـول عليهـا ،ويكـون مثلـه يف ذلك كمثـل الب ّنـاء الذي يحـاول أن يعقد
سـقف البيـت مـن قبـل أن يقيـم الجـدران التـي ُتقلّـه .وهـذه الطريقـة مـن
التعليـم تجعـل ذاكرتـه كمعجـم ُتقَ َّيد فيه ألفـاظ بعض اللغـات املامتة أو
حصلَـه غريه مـن الباحثين ،وكان كدفتر ُتجمـع فيـه خواطـر اآلخريـن ومـا ّ
واملحصـل لها.
ّ األحـرى أن يكـون هـو نفسـه الباحـث عـن الخواطـر
فلا بـدع ،والحالـة هـذه ،أن كثير ًا مـن األوالد إذا خرجـوا مـن الك ّتـاب
أو املدرسـة ينسـون كلّ القواعـد التـي أتعبناهـم يف تح ّفظهـا ،وإن مل
يترشبوها
َّ ينسـوها كلّهـا فالتـي يذكرونهـا منهـا ال تفيدهـم شـيئاً؛ ألنهـم مل
صحتهـا بأنفسـهم ،وال انطبقـت أحكامهـا عندهـم كما ينبغـي ،والختبروا َّ
على معلومـات بسـيطة تعلَّموهـا صغـاراً ،وسـبق رسـوخها يف أذهانهـم،
بحيـث إذا انضافـت إليهـا تلـك القواعـد امتزجـت بهـا وارتبطـت ،ولـذا تبقى
ـمُ -يقلّهـا ،ومنفـردة غريبـة ألنـهيف أذهانهـم متقلقلـة ألنـه ال يشء -مـن َث َّ
وتنضـم إليه ،وهم أنفسـهم ال يقـدرون أن ّ ال يشءَ -ث َّـم -مـن جنسـها تألفـه
مسـت إىل ذلك الحاجة؛ ألنهم -يف الغالب- يسـتعملوها يف مواضعها إذا ّ
توصلـوا ،بعـد العناء الطويـل وإجهـاد القريحة، ـب أنهـم َّوه ْ
مل يفهموهـاَ .
إىل إدراك معناهـا وهـم ،بعـد ،يف املدرسـة ،فكثير ًا مـا ي َّتفـق أنهـم إذا
إياهـا ،وتـرك العـادة يـورث البلادة. خرجـوا تركـوا اسـتعاملها؛ ملقتهـم ّ
48
(املطلب السادس)
ِ
والح َرف يف الرتبية ،باعتبار الصناعات
51
وقلنـا الصناعـة أو الحرفـة التـي مييـل إليهـا الولـد وتالئـم طبعـه؛ ألننـا
حمـل الولـد على معانـاة صناعـة أو احتراف حرفـة نـرى مـن الخطـأ أن ُي َ
سـجيته اسـتعداد لهـا ،أو على ا ّتبـاع حرفـة أبيـه ،وإن ّ ميقتهـا أو ليـس يف
نجار ًا أو حائـك ًا وفقيه ًا وطبيبـاً؛ ال لعلّة
كان مزاجـه ال يصلـح لهـا ،فنجعلـه ّ
قتسر أخـرى ّإل ألن أبـاه كان كذلـك؛ فـإن هـذا اقتسـار للطبـع .وكلّ مـن ُي َ
طبعـه هكـذا ،ال ميكنـه أن ميهـر يف صناعـة أو يبرع يف حرفـة ،كائنـةً مـا
كانـت .ولـذا كان األقدمـون ،مـن اليونـان وغريهـم ،كثير ًا مـا يذهبـون
ليتجولوا
ّ بأوالدهـم إىل املتاحـف ودور الصناعـات ،ويطلقـون لهـم العنـان
فيهـا ،وينظـروا إىل مـا تشـتمل عليه مـن صنوف الفنـون املختلفـة وأدوات
املتعـددة ،ويراقبونهـم عـن بعـد حتـى إذا عرفـوا ،بعـد طـول ِّ الصناعـات
أي يشء هـو أكثر اسـتيقان ًا للولد ،واسـتلفات ًا لنظـره ،ا َّتخذوا من املراقبـةّ ،
يرجـح عندهـم أن يف طبعـه ميلاً خصوصيـ ًا إىل ذلـك الشيء، ذلـك دليلاً ّ
فرشـحوه لتعلُّـم مـا ي ّتصل بـه أو يكون منه بسـبب. واسـتعداد ًا غريزيـ ًا لـهّ ،
املربـون إىل الوالـد مـن
ّ وكذلـك ،يجـب يف هـذه الرتبيـة أن يلتفـت
األمـة التـي ينتمـي إليهـا ،وأن ال يذهلـوا عـن
حيـث هـو ذكـر أو أنثـى ،وإىل ّ
أمـر بلاده وأمـر النـاس الذين عسـاه أن يقيم بين ظهرانيهم؛ حتـى ال تكون
كيفياتهـا وأعراضهـا ،وإن كان
ّ تربيـة الغلام -مثلاً -كرتبيـة الجاريـة يف كلّ
جوهرهـا واحـداً ،وال تربيـة املصري كرتبيـة اإلفرنسي ،وال تربيـة الهنـدي
الصقلي ،وال تربيـة ابـن القريـة كرتبيـة ابـن املدينـة الكبيرة.
ّ كرتبيـة
عامية، مر ،تقسـم هـذه الرتبيـة إىل ّ
ولزيـادة إيضـاح مرادنـا مـن كلّ مـا َّ
العـوام ،وغلـب على ظ ِّننـا
ّ ومتوسـطة ،وعاليـة .فـإن كان الولـد مـن طبقـة
ّ
أن سـيكون عاملاً بيـده لكسـب معاشـه فلا ينبغي أن يغـرب ع ّنـا أن الرتبية
العام ّيـة وهـي التـي موضوعهـا ،بهذا االعتبـار ،وصناعات اليـد أكرث مالءمةًّ
يرتجـح عندنـا ،بعـد طـول َّ التـي الصناعـة إىل وننظـر إليهـا فنلتفـت لـه،
فرنشـحه لها؛ وذلك بـأن نعلِّمه من أصولها َّ املراقبـة ،أنـه أهل ألن يعاينها،
التفـرغ ،بعـد ذلـك ،لتعلّمهـا باملامرسـة،
ّ ومـا يتعلّـق بهـا مـا يقـدره على
التمـرن فيهـا عمالً ،حتـى إذا حـان له أن يعانيها لكسـب
ّ وتوفير زمانـه على
52
معاشـه كان يف وسـعه أن يوفّيهـا ح ّقهـا مـن اإلتقـان واإلحـكام ،ويصير-
نجـار ًا أو حائـك ًا ماهـر ًا يف صناعتـه .وال بـأس أن يصحـب
حـداد ًا أو ّ
مثلاً ّ -
التعليـم العقلي يشء مـن التعليـم العملي أي املامرسـة االبتدائيـة؛ ألن
هـذا -باإلضافـة إىل ذاك -كالشرح باإلضافـة إىل املتن.
وإن كانـه الولـد مـن أهـل الطبقة املرتفعـة عن هذه ،وغلـب وعىل ظ ِّننا
أنـه سـيكون مـن أربـاب الفنـون أو التجـارة أو مـا يشـاكل ذلـك ،فيجـب أن
نجعـل هـذا األمـر نصـب أعيننـا ،ونصرف شـيئ ًا مـن اهتاممنـا إىل الرتبيـة
ترجـح عندنـا أنه
باملتوسـطة ،وننظـر إىل تلـك الحرفـة التـي ّ
ِّ التـي دعوناهـا
مما ي ّتصل بها ،ما يقـدره ،بعد سـيكون ،يف الغالـب ،مـن أهلهـا ،فنعلّمـهّ ،
ذلـك ،على تعلّمهـا باملامرسـة فـإن غلـب على ظ ّننـا -مثلاً -أنـه سـيكون
تاجـراً ،نعلّمـه مـن املعـارف التجاريـة ،كالحسـاب ومسـك الدفاتـر ،مـا
يؤهلـه لتعاطـي التجـارة ،وبيـده يشء مـن أدواتهـا.
ِّ
ونرشـح ذهنهّ وإن كان مـن أهـل الطبقـة العاليـة فرتبيته بحسـب ذلك،
ملـا سـيقدم على درسـه ،يف املـدارس ،مـن لغـات األعاجـم والعلـوم
يتـوله ،يومـ ًا ما ،من
ّ العاليـة أو الكامليـة التـي بهـا يصير أه ً
ال ملـا عىس أن
السـفارة أو الرئاسـة أو القضـاء أو واليـة األعمال أو قيـادة الجنـد أو تسـيري
الطب أو البحثّ شـق األنهار والترع ،أو فتح الطرق أو تعاطـي
األسـاطيل أو ّ
أمـا الصناعات ِ
والح َرف املهمةّ .
ّ عـن طبائـع األشـياء أو غري ذلك من األمـور
خاصـة ،فهـي معروفـة وال حاجة بنـا إىل ذكرهـا هنا. ّ التـي تالئـم اإلنـاث،
53
(املطلب السابع)
إذا حـان وقـت وضـع الولـد يف الك ّتـاب ،أو آن لـه أن يتعلّـم القـراءة
والكتابـة يف البيـت ،فابـدأ بتعليمـه حـروف الهجـاء بالطريقـة الجديـدة
املصطلـح عليهـا ،اآلن ،ال بالطريقـة القدميـة التـي اعتادهـا آباؤنـا،
وأوشـكت -والحمدللـه -أن تبطـل ب َّتـةً .فـإذا أحكـم معرفـة صـور الحـروف
رسما ومخارجهـا نطقـاً ،فانتقـل بـه إىل الكلمات املفـردة التـي ترتكَّ ـبً
الهـر والكلـب والفـرس ،وغير ذلـك من ّ اسـم
مـن حرفين أو ثالثـة أحـرف كَ ْ
حواسـه ،ويعرفهـا ،أو مـن األفعـال
ّ مسـمياتها تحـت
ّ األسماء التـي تقـع
املألوفـة التـي يفعلهـا هـو ،أو يـراك تفعلهـا كقولـك :أكل ،رشب ،نـام..
تـرق بـه إىل الجمـل القصيرة التـي ترتكّ ـب مـن أمثـال هـذه
جـرا .ثـم َّ
وهلّـم َّ
الصبـي -نبح الكلب
ّ األسماء واألفعـال أو مـا يجـري مجراها ،كقولـك :قفز
الهـرة فـأرة .ثـم تجـاوز ذلـك إىل قصـص قصريةّ -عـدا الفـرس -اصطـادت
ومما يجـد يف قراءتـه لذّ ة،
سـهلة املأخـذ ،مركَّ بـة مـن األلفـاظ املأنوسـة ّ
55
مجـرد القـراءة ،فقط ،بـل األلفـاظ الكتابية،
َّ ـون على تعليمـه؛ ال أع َ
فذلـك ْ
الحـد،
ّ العاميـة التـي مل يتعلّـم ،إىل هـذا
ّ فستهـا لـه باللُّغـة
أيضـاً ،إذا ّ
غريهـا .وهكـذا ،ترتقّـى بـه درجـة فدرجـة ،حتـى ُتب ِلغـه ذروة عاليـة.
فـإن رمـت أن تعلّمـه شـيئ ًا مـن أركان علـم الحسـاب ،فلا تهجـم عليـه
تربص قليلاً وانتهز فرصة
أول وهلة ،بجـداول فيثاغورس ،بل ّ دفعـةً ،ومـن ّ
فراغـه مـن اللعـب بالجـوز ،مثلاً ،لتعلّمـه الجمع والطـرح بـأن تجعله ّ
يعد
جوزاتـه ،ويضيـف إليهـا أو ُيسـقط منهـا شـيئاً ،ليعـرف عـدد مـا يجتمـع لـه
يتوصـل -تدريجيـاً -إىل تعلّم علم الحسـاب كلّه.
ّ منهـا أو مـا يبقـى؛ فبذلـك
وال بـأس يف أن تجعـل تلـك الجـوزات أو الكـرات التـي يلعـب بهـا،
ويرمـي بإحداهـا إىل جانـب األخرى ،ذريعـة لتمرينه عىل تقدير املسـافات
واألبعـاد ونسـبة قـايص األشـياء إىل دانيها ،فهـذا أصل علم املسـاحة وما
عـرف ،عنـد أربابـه ،بـذراع املثلَّثـات ،بـل هـذا أصـل علـم الفلـك.
ُي َ
ّمـه مبـادئ الجغرافيـا؛ أي رسـم األرض مـن حيـث مـت أن تعل ُ وأن ُر َ
مجسـمةً مـن هذه الكرات َّ ِ
يديه كر ًة شـكلها ووضعهـا يف الفلـك ،فضع بني
احـد فإنهـا متثِّـل ،لنظـر ِه
ٍ ـهل اقتناؤهـا على كلّ وس ُ
التـي كثرت يف ّأيامنـاَ ،
وذهنـه ،كـرة األرض دائـر ًة على محورهـا املائـل ،ومرسـوم ًا فيهـا درجـات
وخـط امليـل وغير ذلك مـن اصطالحات ّ وخـط االسـتوآء
ّ الطـول والعـرض
الجغرافيين والفلكيين ،ثـم مواقـع البحـار والجـ ُزر والبرور والجبـال
واألوديـة وتخـوم املاملـك ومواضـع البلـدان ،فذلـك مـن أسـهل األشـياء
لتـه ،وانتقاشـ ًا يف لـوح ذه ِنـه.
مخي ِ ّ رسـوخ ًا يف
ِّمـه شـيئ ًا مـن األشـكال الهندسـية ونسـبة بعضهـا إىل ـت أن تعل ُوأن ُر ْم َ
بعـض فليكـن ذلـك بقطـع مـن الخشـب وبأسلاك مـن املعـدن ونحوهـا
مكعباً،
مربعـاً ،أو َّ
كرويا أو أسـطوانياً ،أو َّ ّ ِ
لنظـره مـا كان من األشـكال متثِّـل
محنيـ ًا أو غير ذلـك؛ فـإن
ّ ام أو إهليلجيـاً ،ومـن الخطـوط مـا كان مسـتقي ً
ّ أو
فهمـه مـن قواعـد إقليـدس ورشوح ِ هـذه الطريقـة مـن التعليـم أقـرب إىل
ٍ
وصـف مهما كان مدقَّقـ ًا بليغـاً. الطـويس ،بـل مـن كلّ
56
التمـدن عنـد الكلـدان
ّ وإمنـا كان هكـذا ابتـداء العلـوم كلّهـا ،وابتـداء
واملرصيين واليونـان وغريهـم من األقدمني ،بـل هكذا كان ابتـداء أمر هذا
توصـل ،اليوم ،إىل االطّ الع على أرسار الطبيعة حتى العلمـة الذي ّ العا ِلـم ّ
فيتأمل يف سـعة األفلاك ،ويرصد ما َّ ِ
بتلسـكوبه إىل السماء، صـار يصعـد
فيهـا مـن شـموس وكواكـب ال تحصى ،ثـم يعـود إىل هـذه الكـرة الصغيرة
التـي نحـن عليهـا ،فينحـدر بفكـر ِه إىل أعامقهـا ،ويسبر غورهـا ،ويكشـف
خفاياهـا ،ثـم يتصفَّـح مـا على سـطحها مـن اآلثـار القدميـة ،ويسـتحرض
عمـن مضى مـن أهلهـا ،ثـم يـزورك يف مـا غبر مـن أزمنتهـا ،ويسـتخربها َّ
منـه ذلـك ،فيرى -بآلتـهِ
طرفـه رائـد ًا يف حجرتـك ،إن أردت ُ ُ بيتـك ،ويرسـل
أودعتـه بطون
ُ حجبـه خشـب الصنـدوق من كنـوزك ،وما ُ الفوتوغرافيـة -مـا
ـه بين د َّف َت ْين مـن كراريسـك ،بـل ماغطّ ُ
ـاه األوراق مـن أرسارك ،ومـا أحرز َت ُ
الجلـد والعضـل مـن عظـام بدنك.
57
(املطلب الثامن)
ِ
ذهنه، املربين أن يع َنـوا بإمناء بـدن الولـد ،وتنويـر
ّ كما يجـب على
ِ ِ
كذلـك يجـب عليهـم أن ُيعنـوا بتقويـم سيرته وتهذيب أخالقـه وإمناء ما
فيـه مـن املناقـب ،واسـتئصال مـا فيه مـن الشـوائب واملعايـب؛ وذلك
ويحملـوه على مالزمتهـا،
ُ لـه الفضائـل وحميـد الخصـال، يحسـنوا ُ
ِّ بـأن
وه
ويحض ُ
ّ لـه الرذائـل وقبيـح الخلال ،ويحـذّ روه مـن عواقبهـا، ويهجنـوا ُ
ِّ
محبـة
ّ ضـوه -باملشـورة واإلرشـاد واملثـال -على ُ ويحر
ّ على مجانبتهـا،
الشر واإلسـاءة((( ،بقـدر االسـتطاعة؛ ألن ّ الخير واإلحسـان وكراهـة
العامـة ،ومرتبـط بها،
ّ مهـم من الرتبيـة
ٌّ فـرع
ٌ هـذا الضرب مـن التهذيـب
((( قد عرفت أن كلّ فعل نشأ عنه أو يرت َّتب عليه ،يف الحال أو االستقبال ،نفع ما ،فهو خري وإحسان ،وأن كلّ
رش وإساءة. فعل يرتتب عليه رضر ما فهو ّ
59
املربين الذين ّ أجـلّ أغراضهـا ،ومـن أوىل األشـياء بعناية ومعـدود مـن َ
ٌ
أهملنـاه منهـا فكأننـا أهملنـا أنفـع يشء فيهـا للولـد يف ُ يتولّونهـا ،فـإن
له وزينـةً .ولكن يجب أن نحرص ِ
معاشـه ومعـاده ،فضلاً عن كونه حليةً ُ ِ ِ
ِ
أخالقـه كلّ الحـرص على أن يكـون تلييننـا لعريكـة الولـد ،وإزالـة مـا يف
َّتـه من املعايب، مـن الرشاسـة الغريزيـة ،وإصالح ما هـو مركوز يف جبل ِ
بالرفـق واملالطفـة ،كلّما كان ذلـك مسـتطاعاً ،وأن ال نلجـأ إىل القهـر
واإلجبـار ّإل بعـد أن نتيقَّـن أن الرفـق ال ينجـع .وكما أن الجوهـري يأخـذ
القطعـة مـن األملـاس الخـام فيجلوها ويصقلهـا ،مـن دون أن يكرسها،
يشـتد به بريقهـا وألالؤهـا ،فتنقلب بذلك ّ ثـم يجعـل لها مـن الخانات ما
رصـع بهـا تيجـان امللـوك ،بعـد أن كانـت قطعـة بلّـو ٍر ال جوهـرة مثينـة ُت ّ
املـرب أن يتلطَّ ـف يف إزالـة ّ يـكاد يحفـل بهـا أحـد ،فكذلـك يجـب على
أخالقـه ،ويعين الطبيعـة نفسـها ُ يدمـث خشـونة الولـد الغريزيـة ،وأن ّ
َّتـه مـن الوداعـة واالسـتقامة وغير ذلـك من على إمنـاء مـا ُر ِكـز يف جبل ِ
الخصـال الحميـدة ،واسـتئصال ما ُر ِكز فيها من جراثيم القسـوة والبغي
سيرته
ُ ويقـوم -يف الجملـة- ّ والغـدر وغير ذلـك مـن الخلال الذميمـة،
ولكـن بالرفـق واملالينـة ،مـا أمكـن ،ال بالعنـف واملحاشـنة .وهـذا إمنـا
غض بعد ،رخـص البنية ّ لـه والولد ،وهوُ , تصدى ُ ّ لـه ،بسـهولة ،إذا يتـأت ُ ّ
فيحبه ّ مربيه،
ـاه ِّ
إي ُ
ده ّ العـود قابـلٌ ألن يعتـاد ،بطبيعة نفس ،كلّ ما ّ
يعو ُ
ويشـب عليـه حتـى يصير ،مـن هـذه الجهـة ،أيضـاً ،خليقـ ًا بـأن يدعـى ّ
عرفـت مـن صفـات اإلنسـانية يف مخالطـة َ مبـا ً
ا صفـ ت
َّ م ً
ا إنسـان أي رجلاً ،
طبقته بينهم؛ ألن التهـذُّ ب والصالح ُ غيره مـن أبناء جنسـه ،مهام كانـت
واجب على الناس كافّـةً ،ال فرق ٌ فـرض
ٌ واال ِّتصـاف بسـائر تلـك الصفـات
ـم فرقـ ًا بين مهذَّ ب والعامـة ،فـإن رأيـت َث َّ ّ الخاصـة
ّ يف جوهـر ذلـك بين
وأعراضـه ،فقـط ،ال يف جوهـر ِه؛ إذ ِ كيفيـات التهـذّ ب ّ وآخـر فهـو يف
والفتـوة وسالسـة األخلاق ورقّـة الحـوايش، ّ والحروريـة
ّ ليسـت األمانـة
مثلاً ،مـن خصائص األكابر وحدهم ،وال االحتشـام والتاملـك والتواضع
مـن مواجـب السـوقة وحدهـم .ونعنـي بالتواضـع ،هنـا ،تلـك الخصلـة
الحميـدة املنـدوب إليهـا ،وهي معرفـة املرء مقدار غريه مـن غري جهلٍ
60
يدعوه النـاس بالرضاعة والتصاغـر ،وإن كان يجب ُ ملقـدار نفسـه ،ال مـا
على ذوي املقامـات العاليـة أن يكونـوا َورِعين نزهـاء النفـوس أمنـاء
محبين للخير مـا اسـتطاعوا ،ونافرين عنّ مجاملين ذوي مـرؤ ٍة ونخـو ٍة
الشر مـا اسـتطاعوا ،فـكلّ ذلك واجـب ،أيضاً ،على غريهم مـن الناس؛ ّ
أرشافهـم فيـه كسـوقتهم ،واإلسـكايف كاملهنـدس ،والفلاح كالتاجر.
َّقنـهوهـذا الضرب مـن التهـذُّ ب ال يصير يف اإلنسـان ملكـةً ّإل إذا تل ُ
ِ
عليـه منـذ حداثـة سـ ّن ِه ،حتـى ميتـزج بطبعـه رويـد ًا رويـداً ،وترسـخ
عليـه ،ويأتيه عفو ًا ال تكلُّفـاً ،والكرهاً ،والتص ُّنعاً. ِ ويشـبّ فيحب ُهّ أخالقـه،
الكيـس املهـذّ ب، ِّ مييـز الولـد النجيـب ،أي الحسـن الرتبيـة وهـذا مـا ّ
السـيئ الرتبيـة .نعـم ،ليـس كلّ النـاس ،يف ِّ ح ّقـاً ،عـن الولـد الداعـر
كيفيـات هـذا الضرب مـن التهـذّ ب ،سـواء .والبلـوغ إىل أرفـع درجاتـه ّ
واجـب
ٌ جوهـره
ُ أن إل
ّ ـة العام
ّ أوالد على منـه
ُ األعيـان أوالد على أسـهل
واحـد ،كام عرفـت ،وإن ُ ألنـه
ُ طبقتهـم؛ كانـت على النـاس كافّـةً ،مهما
وأسـاليبه باختلاف األمكنـة واألزمنـة واألشـخاص. ُ اتـه
كيفي ُ ّ اختلفـت
فلاح سـاذج بسـيط يلقـاك فيجلّـك ،ويتلطّ ـف بـك على طريقتـه ٍ ب فـر َُّ
ألنـه قـد اعتـاد ذلـك حتـى صار فيـه ملَكـة يعرفها ُ ّـة؛ل والتج ـف التلطُّ يف
ضحـك باألسـلوب الـذي يحتذيـه يف الحفـاوة أنـه ُي ِ منـه كلّ معارفـهّ ،إل ُ ُ
أنـه ال يـدري شـيئ ًا ُ تعلـم أنـك لـوال آخـرق، ً
ا ّـ
ف جا تخالـه
ُ تـكاد حتـى بـك،
وأنـه قليـل املعرفة ُ طبقتـك، وأهـل أنـت ألفتهـا قـد مـن األسـاليب التـي
بفـن الترشيفـات .يريد أن يسـلِّم عليـك ويحتفي بك، ّ مبـا ُيدعـى عندكـم
لكنـه ال يـدري كيـف يسـلِّم ،وال كيـف يتكلَّم بأسـلوب يرضيـك ،وهو -مع ُ
الكيـس الظريـف الـذي يلقاك ِّ الشـاب
ّ ذاك مثـل ب ّ مهـذّ حـر ـى ت
ً ف ذلـك-
-ربـا -كان يف وجه ذاك ٍ
فيحتفـي بـك بأسـلوب رشـيق ولفـظ رقيـق ،بـل َّ
الفلاح ،مـن البشاشـة والب ِْشر والتهلُّـل بلقـاك ،واالبتهـاج برؤيتـك ،مـا ّ
وربـا كان يف عينـي طويتـه ،يف حفاوتـه بـكَّ ، َّ يشـهد إلخالصـه وصفـاء ِ
تحل غري شـيمتهِ مامذق قد ّ ٌ أنـه
ذلـك الغرنـوق الطريـف ما يثبت عندك ُ
ليستر مـا فيـه مـن الشـوائب ،أو لرياعـي مـا يليـق بالطبقـة التـي ينتمـي
اسـتنمت إليه
َ فيـه ،حتى إذا ليغـرك أو ُيغريـك باعتقـاد األمانـة ِ ّ إليهـا ،أو
61
مبرضتـك .ومهما
ّ ائتمنتـه خانـك ،أو ركنـت إليـه كان أدرى ُ غـدر بـك ،أو
ِ
يكـن مـن إخالصـه أو مامذقتـه فالشـيم الحميـدة التـي تراها فيـه ،إن مل ِ
ته،سـجي ِ
َّ ِ
بفطرتـه ،ومنـا يف ومما امتـزجّ اعتـاده منـذ صغـر ِه،
ُ مما
تكـن ّ
بشـق النفـس ،وتكلُفـاً؛ و«ليـس
ّ منـه ّإل
ُ ِ
بنمـو جسـمه ،فإنهـا ال تبـدو ّ
الفلاح السـاذج خير ًاّ التكحـل يف العينين كالكّ حـل» .ويبقـى ذلـك ُّ
ألنـه قد اكتسـب تلك الشمائل وهـو صغري، ُ إيـاه؛منـه ،وأوىل بتكرمينـا ّ ُ
وشـب عليهـا حتى أصبحـت مفاعيلها تـأيت عفو ًا من َّ فصـارت فيـه َملَكة،
مما ِ
عما يف جنانـه ّ ِ
صميـم فـؤاده ،وليسـت لجلجـة لسـانه يف التعبير ّ
تأد ِ
بـه. ِ
أمانتـه أو ُّ ِ
فتوتـه أو يقـدح يف
62
(املطلب التاسع)
65
يتفرع ٍ
واحـد من هذين األصلين َّ حـب النفـس .وكلّ الذهـن ،وهـو األثـرة أي ّ
متعـددة ،تضيـق هـذه املقالـة عـن اسـتيفائها ،وليـس ذلك من ّ عنـه فـروع
ُ
يتفـرع عنهّ حب الشـهواتغرضنـا ،ولكـن نقـول -على سـبيل االجمال -إن ّ
يتفرع عنها الحسـد والحقد والفظاظة ّ الكسـل والنهم والدعارة ،وأن األثرة
والكـذب والبخـل ،ولكـن مـا من خل ٍّة مـن هذه الخلال الذميمـة ّإل وبازائها
عدلتها، تنىي بإمنائها يف الصغر الشـت تلك الخلّة أو َّ
اع َ خصلةٌ حميدةٌ ،إذا ُ
حتـى تجعلهـا مـن املناقـب املمدوحة .كما أن الخصال الحميدة نفسـها،
حد ُه
حـد االعتـدال انقلبـت معايـب؛ ألن كلّ يشء جـاوز َّ إذا ُخـرِج بهـا عـن ّ
ضـد ُه .وهـذا مـا حـدا ببعـض الفضلاء إىل أن يقـول إن الشـوائب َّ جانـس
تدخـل يف تركيـب املناقب دخول السـموم يف تركيب األدويـة ،وإن الحازم
مـن الصيادلـة هـو الـذي يحسـن مزجهـا وتعديـل مقاديرهـا ،حتـى يصنـع
منهـا عالجـ ًا نافعاً.
ألنـه أقـدر
ُ املـرب الحكيـم؛
ّ يل الحـازم يف هـذا املوطـن هـو فالصيـد ّ
النـاس على تربيـة جراثيـم الصلاح واسـتئصال جراثيـم الطلاح يف الولـد،
أنه كلّام اطّ لَع عىل
إرساف وال شـطط ،بل بالتي هي أحسـن؛ وذلك ُ ٍِ من غري
وحملـه -بالرفـق واملالطفة -عىل اإلقلاع عنها
ُ بين لـه رضرها، ٍ
نقيصـة فيـه ّ
تضادهـا بقدر االسـتطاعة ،ومل يجنـح إىل معاقبته ّ ومالزمـة الخصلـة التـي
سـتعرفه ّإل بعـد نفـاد ذرائـع التحذيـر
ُ عليهـا بالعقـاب االصطناعـي الـذي
سـتعرفه ،أيضاً،
ُ مـن سـوء عواقبها ،وبعد تي ّقنـه أن العقاب الطبيعي الذي
إنـه يجب إطـراح العقاب ال يؤ ِّثـر أو ال يكفـي .وليـس مرادنـا أن نقـول ،هنـاُ ،
االصطناعـي ب ّتـةً ،وإمنـا نريـد أن نقـول إن هذا العقـاب ال ينبغـي أن يوضع،
تتـول
ّ الحـد الـذي
ّ موضـع العقـاب الطبيعـي أي
َ دامئـاً ،ويف كلّ النـوازل،
مسـد ُه يف كلّ األحوال،
ّ يسـد
ّ ألنه ال
إقامتـه على الجاين؛ ُ
ُ الطبيعـة نفسـها
كام سـتعلم.
أي يف
وعقابـه فيهْ ،
ُ رش أو خطأ ّإل
إنه ما مـن ّ تقـرر هـذا ،فنقـول ُوإذ قـد ّ
أنـه مـا من خير ّإل وثوابه فيه «سـ ّنة اللـه يف الذيـن خلوا منعاقبتـه ،كما ُ
قبـلُ ،ولـن تجد لسـ ّنة اللـه تبديلاً »ّ .إل أن أنجع أنـواع العقـاب ،وأعدلها ما
66
كـب؛ ومـا ذلـك ّإل ألن الطبيعـة نفسـها ينشـأ ،طبعـاً ،عـن الخطـأ الـذي ار ُت َ
ّمه،
تقيمـه عىل املخطـئ لتعل ُُ ومقـدار ُه ،وهـي التي
َ جنسـه
ُ تعي
هـي التـي ّ
فالشـاب الـذي يواعـد
ّ وعوقـب. أحـد ّإل ُ
ٌ تعـدى نواميسـهاّ أنـه مـا
بالخبرةُ ،
يفوتـه مـا كان مي ّنـي بـه
ُ أصحابـه إىل مجلـس أنـس أو لهـو ،ثـم ال يأتيهـم،ُ
ِّمه،
لـه يعل ُ
قصـاص ُ
ٌ نفسـه مـن األنـس بلقائهـم واللهـو مبفاكهتهـم .وهـذا ُ
منـه
تكـرر ُ بالخبرة ،أن يكـون بعدهـا أوىف مبواعيـده ،فـإن مل يتعلّـم ،بـل ّ
تكـرر عليـه القصـاص ،وأُضيـف إليـه تيقُّـن أصحابـه ُ
أنـه ّ إخلاف الوعـد،
ِ
يعتـدون بقولـه ،الب ّتة ،ثم
ّ ِ
مخلاف ،فلا يثقـون -بعـد ذلـك -مبواعيـده ،وال
باملـرة.
ّ ال يلبـث أن يسـقط مـن أعينهـم
ورب العيـال الـذي ينـال ،بعـد الجهـد الجاهـد ،وظيفـةً أو عملاً لكسـب ّ
قص ِ
فيه َّ أن أو العمـل من بـه نيط مبا القيـام حـق
ّ يقـم مل إن فإنـه
ُ ، ِ
معاشـه
لـه على ُ ً
ا عقابـ ، رزقـه
ُ محـر
ُ َ وي ً
ا مدحـور د طـر وي
ُ َ ُ َ ل عـز ي أن يلبـث أو تـواىن ،فلا
بالء شـديداً .والسمسـار توانيـه ،فيقـايس مـن الفاقة ،واإلضاقة ً ِ تقصير ِه أو
الـذي يواعـد التاجر أن يأتيـه ليتفاوضا يف بيع سـلعة أو رشائها ،ثم ال يأتيه،
لـهفـإن السـلعة ُتبـاع أو تشترى على يـد غير ِه ،ويحـرم السـمرسة؛ عقابـ ًا ُ
ـوم بضائعـه؛ طمع ًا يف زيـادة الربح، على اإلخلاف .والتاجـر الـذي ُيغيل َس ْ
ِ
طمعه بضائعه ثم تتلف ،وتكـون عاقبة ُ ِ
عليـه يجتنبونـه حتى تكسـد ُ فالنـاس
عهد خسران األصـل والربـح .والعميل الـذي ال يبذل جهد الحريـص يف ما ُي َ
حـرم هـو العاملـة ،فـإن وي َ غيرهُ ،ُ إليـه مـن بيـع أو رشاء ،فالنـاس يراسـلون
حانوتـه .والطبيب ُ واضطـر أن يغلق َّ يعاملـه،
ُ لـه َم ْنيبـق ُ
منـه مل َ تكـرر ذلـك ُ ّ
مرضاه؛ كسلاً أو قلّة مبـاالة بأمرهم ،فإنهم ينرصفون ُ زيارة عن يغفـل الـذي
والفلح ّ سـاباط. امحج
ّ مـن أفرغ وهو يصبـح حتی ٍ
واحـد، عنـه ،واحـد ًا بعـد
منـه شـيئ ًا يسـاوي العنـاء ،وال ُ فإنـه ال يـكاد يسـتغلّ ُ زرعـه
ُ يتعهـدَّ الـذي ال
يلبـث أن يصير إىل فقـر مدقـع .لقـد رأيـت أن يف عاقبة كلّ واحـدة من هذه
له ناشـئاً- تردعـه الـروادع الطبيعية ،وقصاص ًا ُ ُ جـزاء وفاقـ ًا ملن ال ً النقائـص
َّ
تتـول ارتكبـه ،وأن الطبيعـة نفسـها هـي التـي ُ بالطبـع -عـن الخطـأ الـذي
تحاكمـه ،من غري حيـف وال محابـاة ،وتقيض ٍ ُ الحـد عليـه ،وهـي التـي ّ إقامـة
أي بشـهادة نفسـه ،ومتضي قضاءهـا صامتـةً ؛ ألنهـا ِ عليـه بشـهادة عـدلٍ ْ ِ
67
تفـرط وال تقبـل شـفاعة تتمهـل يف ذلـك وال تعجـل وال َّّ قوالـة ،وال
فعالـةٌ ال ّ
يتعـدى حدودها مـن البالغني،ّ حـق مـن
وال عـذراً .فـإن كان هـذا فعلهـا يف ّ
حـق األوالد الذيـن يعصـون نواميسـها ،جهلاً أو عمـداً ،فما فهـو كذلـك يف ّ
أحرانـا -والحالـة هـذه -بـأن ُنلقـي عليهـا عـبء معاقتبهـم إذا اخطـأوا ،كلَّام
نتـول ُه بأنفسـنا أو نقـوم فيه مقامهـا ،فإن مل
ّ وجدنـا إىل ذلـك سـبيالً ،وأن ال
نتـول ُه نحـن ،فما أحرانـا ،أيضاً،
ّ نجـد إىل ذلـك سـبيالً ،ودعـت الضرورة أن
ٍ ِ
بـأن نقتـدي بهـا يف تعيين جنـس القصـاص وتقديـره ،مـن غير حيـف وال
ِ
وإمضائـه مـن غير ريـث وال عجل!. تسـامح،
ٍ
يفعله
ُ وال نعنـي بالولـد ،هنا ،الطفل الـذي ال يدرك وال تكليف عليه يف ما
حد الطفوليـة حتى صار يدرك الشر ،جاهلاً ،بل نعني الولد الـذي جاوز ّ ّ مـن
خطيئتـه ،وبالعقـاب ِ الشر واألمـر والنهـي ،ويفهـم مـا ُيـراد بعاقبـة ّ معنـى
إصغائـه إىل التحذيـر منهـا .فالطفـل الـذي يكسر ِ الـذي يرت َّتـب على عـدم
ألنـه ال يعـرف مـا الخطيئـة، ُ فعلـه خطيئـةً
ُ لعبتـه ،مثلاً ،ال يكـون
ُ داحتـه أو
ُ
منهُ رغبـةً ذلـك؛ إىل دفعتـه
ُ الطبيعـة ألن إل
ّ الغالـب- -يف لعبتـه
ُ يكسر ومل
جوفهـا ،وطلب ًا للتعلُّم ،كما عرفت .لكـن الولد الذي يف االطّ لاع على مـا يف ّ
أختـه عمـداً ،ليؤذيها ،أو ليتشـفَّى منها، ِ حـد الطفوليـة ،إن كسر لعبة جـاوز َّ
ألنه أقدم عتب خطيئـة ُ فعله ُي َُ العرام ،فـإن
مجرد ُ َّ التلهـي ،أو عـن ّ أو ملحـض
عقابه ينبغي ُ ِ
عليـهّ ،إل أن عاقب
َ رش؛ فلذلـك يجب أن ُي أنه ٌّ ِ
معرفتـه ُ عليـه مـع
أن يكـون مجانسـ ًا لخطيئتـه ،وناشـئ ًا عنهـا نشـوء ًا طبيعيـ ًا أي مقلِّـد ًا به فعل
عامـ ًا لسـائر أمثالـه ،ال اصطناعيـ ًا أو غير مجانـس للخطيئـة أو ّ ِ الطبيعـة يف
أي داحتـه أو ّ
ُ منـه
الخطايـا ،كائنـةً مـا كانـت .والطريقـة ،يف ذلـك ،أن تؤخـذ ُ
يعـوض عليهـا ما عنـده معـ َّزةً ،ويعطـى ألختـه حتـى َّ ُ لـه يسـاويها يشء آخـر ُ
عقوبته
ُ أتلفـه لهـا ،ويـذوق هـو ،أيضـاً ،يف نوبتـه ،مـرارة الفقـدان ،ويذكـر أن ُ
وخاصة بـه ال كَ حالِ ّ له،
عنـه ،بالطبع ،ومجانسـة ُ مسـببة عـن ذنبه ،وناشـئة ُ َّ
سـواء ،يف معاقبتـه على كلّ ذنـبِ ً التعزيـز أو الضرب اللذيـن نسـتعملهام
منـه ،كائنـ ًا مـا كان ،بحيـث ال يسـتطيع هـذا املسـكني أن يـدرك ،يف يصـدر ُ
أكثر األحـوال ،نسـبة العقوبـة إىل الخطيئـة ،ولـو قلَّدنـا يف معاقبتـه فعـل
وأقـر بعـدل العقوبـة ،وتحـذَّ ر مـن حلولهـا ِ
به َّ الطبيعـة ألدرك تلـك النسـبة،
68
تعديه ناموسـها :إن َح َمله ثانيـةً .وهـاك أمثلـة من معاقبة الطبيعـة ّإياه عىل ْ
املحماة ،فأصاب ّ املحمـي أو املكـواة
ّ العـرام حتـى قبـض على ملقـط النار ُ
ُ
الحـرق ،أو ل َِعـب مبغلاة املـاء حتـى انكفـأت وأريـق مـا فيهـا مـن َ أمل يـده
ُ
املـاء السـخن على عضو من أعضائـه ،فالتذَع أو عدا كاملجنون حتى سـقط
رجلـه حجـراً، ُ موضـع محجـ ٍر مـن األرض ،فانسـحج جلـده أو صدمـت ٍ على
يصيبـه مـن ذلـك هـو ُ فانشـج ،فـكلّ مـا َّ جسما صلبـ ًا
ً رأسـه
ُ قـرعفأملـت ،أو َ
ـد تقيمـه الطبيعة نفسـها عليه ملخالفتـه رشعها وح ٌّ ِ
عرامـهَ ، لـه على عقـاب ُ
املرة
منه -بالخبرة َّ وعـدم إصغائـه إىل التحذيـر مـن سـوء العواقب ،يتعلَّـم ُ
املـذاق -أن يجت َّنـب ،يف املسـتقبل ،تلـك األفعـال التـي جلبـت عليـه هـذه
رغبتـه غايـة الرتغيـب يف معاودتهـا ،مل يفعـل .فما العقوبـات ،حتـى لـو ّ
أحرانـا بـأن نقتـدي بالطبيعـة كلَّما أمكـن ذلـك ،ونجعـل عقوبـة الولـد -إذا
تعـدى نواميسـنا -مجانسـةً لخطيئتـه وناشـئة ،بالطبـع ،عنهـا كما فعلنا يف ّ
ً
أمـر اللعبـة! .ولزيـادة إيضاح ذلك نقـول لألب :إن أعطيت ابنك سـكّينا ليربي
اسـتعامله يف نجـر الخشـب ،أو نحـت ُ قلمـه ،فلـم يحتفـظ بـه أو أسـاء ُ بـه
دعه يـذوق مرارة غريه ،بـل ُ ُ ضـه
تعو ُ حـد ُه ،فال تسرع بأن ّ الحجـر حتـى تثلَّـم ّ
له عىل قلّـة اعتنائه ،وناشـئ ،بالطبع، مـدةً؛ ليشـعر بأن ذلـك قصاص ُ فقـده ّ
ِّينه ،بعـد ذلك ،كان عوضـت عليه سـك ُ عـن خطيئتـه ومجانـس لهـا ،حتـى إذا َّ
العـرام حتـى لطَّ ـخ أكثر احتفاظـ ًا بـه وحرصـ ًا عليـه .وكذلـك إن متـادى يف ُ
ِ
فعله، فبصه سـوء احرتاسـه عليهـا ِّ ْ ِ ثيابـه بالوحـل أو القـذر ،أو م َّزقهـا لقلّـة ُ
فدعه يلبسـها ْ وإل
ّ ً،
ا ممكن ذلك كان إن ، ِ
بنفسـه يرفأها أو فها ينظِّ أن ِّفه
ثم ك ُ
ل
نفسـه منها،
ُ ويتعي هو َّ ويـزدروه ألجلها،
ُ أترابه،
ُ م ّتسـخةً أو مم َّزقـة ليهزأ بـه
فذلـك ،أيضـاً ،قصـاص لـه ُمشـا ِكل لخطيئتـه ،وناشـئ -بالطبع -عنهـا .ولكن
لـه ،مل يكن إن رضبتـه مـن أجلهـا فأوجعتـه ،ثـم أرسعـت بشراء ثياب جـدد ُ
القصـاص مـن جنـس الخطيئـة ،وال ناشـئاً ،بالطبـع ،عنهـا؛ فلذلـك ال يفهـم
ـب أنه ركـن أو أدرك وه ْ بينـه وبينهـا مـن العالقـةَ . ُ معنـاه ،وال يـكاد يـدرك مـا ُ
ينسـاه وشـيكاً ،ثـم يعـاود الذنـب ،بخلاف مـا لـو كان ُ فإنـه ذلـك مـن شـيئ ًا
وبابـه مـن يـد الطبيعـة العميـاء فإنـه ُ القصـاص طبيعيـ ًا ناشـئ ًا عـن الذنـب،
لـه ،بعـد عنـه حتـى إذا اشتريت ُ ـم مبقارفـة الذنـب ،فريتـدع ُ ذكـره كلَّما َه ّ ُ َي
69
أنـه لطَّ خهـا أو م َّزقهـا
ـب ُ وجدتـه أكثر احرتاسـ ًا عليهـاَ .
وه ْ ُ ذلـك ،ثيابـ ًا جـدد ًا
عينه مـن الطبيعـة ،كام قلنـا ،وكنت أنت ُ ِ
تجـدد عليـه ذلـك القصـاص َّ ثانيـةً ،
عنده
ُ مبعـزل عـن أن ينسـبك إىل القسـاوة أو يحقد عليك أو يحنـق ،بل بقيت
ره سـوء العواقـب ال عـدو ًا بغيضـ ًا متحك ً
ِّما أبـ ًا شـفيق ًا وصديقـ ًا نصيحـ ًا يحـذّ ُ
له.
ويقب ُ
ّ ّلـه
ويوجعـه ،بعـد أن كان يدل ُ ُ يرضبـه
عنـه مـن الخطايـا اليسيرة والهنـات ُ العـرام ومـا يصـدر هـذا يف أمـر ُ
حـد الغلظـة أو ارتكـب رتهـات الزهيـدة ،فـإن تجـاوز الولـد ذلـك إىل ّ وال ّ
حـد طبيعـي مـن جنسـها، ِ
خطيئـة ال ُيسـتطاع أن ُيقـام عليـه ،مـن أجلهـاّ ،
الحـد عليـه يحـاىك فيهـا فعـل الطبيعـة ،على ّ َـم ذرائـع أخـرى إلقامـة فث َّ
ـه ،وأن
قصاص ُ
َ غلطتـه هـي التـي أوجبـت
ُ قـدر اإلمـكان ،ويزكـن منهـا أن
يـده على
ُ لسـانه أو رفـع
ُ هـذا القصـاص عاقبـة تلـك الغلطـة .إن أطـال
ويسـتغفره،
ُ ئـه ،ولـو بالقهـر ،أن يعتـذر إىل مـن أخطـأ يف ح ّق ِ
ـه أحـد فأل ِْج ٍُ
يـراه مـن
ُ فعلتـه تلـك هـي التـي جنـت عليـه مـا ُ مـد ًة ليزكـن أن
باعـده ّ
ُ ثـم
َّ
يحبـك كما ينبغـي ،لتيقُّنـه ،يف غير فانـه إن كان ّ ُ امتعاضـك وسـخطك،
تحب ُه وتنصـح له ،وتحذّ ره سـوء العواقـب ،وتدفع ذلـك مـن األحـوال ،أنـك ّ
ِ
ـاه وموجدتـك عليـه ،يف هـذه الحـال، إي ُ
عنـه املوبقـات ،كانـت مباعدتـك ّ ُ
عليـه ،وأنجـع فيـه مـن تأديبـك ّايـاه بالضرب. ِ أشـد مضضـ ًا َّ
فـإن ارتكـب خطايـا أعظـم مـن هـذه ،وترقّـى ،مثلاً ،إىل اقتراف ذنـب
رد الرسقـة أو ألجئـه إىل ّ
ُ أوالً ،بالعقـاب الطبيعـي؛ أي ـهَّ ، فعاقب ُ
ْ الرسقـة
لـه مـال ،أو كنـت تعطيـه فلوسـاً ،مـن وقـت تعويضهـا مـن مالـه ،إن كان ُ
ليدخرهـا ،كما جـرت عـادة بعـض اآلبـاء ،ثـم أقـم عليـه ،ثانيـاً، إىل وقـتّ ،
مـد ًة ما،
وباعـده أو احبسـه يف حجرته ُّ ِّبـه،
الحـد االصطناعـي ،أي عـ ِّزره وأن ُ ّ
ترضبـه رضب ًا
ُ ال ولكـن ً،
ا أيضـ بالضرب، التأديـب فـزده
ُ الجرميـة عـاود فـإن
مربحـاً مـن غير رضورة ،بـل اجعـل القصـاص على مقـدار ذنبـه ،ال على ِّ
ِ
هلكته أو مقـدار سـخطك .فـإن ارتكب خطايـا ُيخىش أن تفيض عواقبهـا إىل
هم بجسـمه ،أي أن ل َِعـب بالسلاح ،أو حـاول القفـز من شـاهقٍ ،أو َّ ِ اإلرضار
تصـدى لغير ذلـك مـن األفعـال التـي عاقبتهـا (أعنـي َّ سـام أو
ٍّ بتنـاول يشء
70
عقوبـة الطبيعـة عليهـا) ذات خط ٍر على حياته ،فحذّ ره سـوء العقبى منها،
تعين عليك ،حينئـذ ،أن تك ّف ُه بالكـف عنهـا ،فإن مل َي ْر َعـوِ ،ومل ِ
ينتهَ َّ ، ّ ـر ُه
وم ْ
ُ
بالقـوة املجربة.
ّ عنهـا
أول هـذا الفصل ،أن
أمـا الشـوائب والعيـوب الطبيعية ،فقـد ذكرنا ،يف َّ ّ
طريقـة إصالحهـا حمـل الولد ،بالرفـق واملالينة ،عىل اإلقلاع عنها مبالزمة
تضادها ،فال حاجـة إىل اإلعادة.
ّ املناقـب التـي
املتقدمـة تدلّك عىل الطريقة التي يجب عليك أن تحتذيها ّ وكلّ االمثلـة
يف تقويـم سيرة األوالد ،وتدميـث أخالقهـم ،ومعاقبتهـم على الخطـأ،
ـس عليهـا نظائرها ،ولكن وحملهـم على اإلقلاع عن العـادات الذميمة ،ف ِق ْ
فعـاالً ،ال يكـذب يف حـال مـن األحـوال. ال تسـتنتج أن يف ذلـك عالجـاً ّ
فلعمـري ،إن بعـض الخلال املسـتهجنة قـد تكـون موروثـة مـن اآلبـاء بـل
مـن الجـدود فيتعـذَّ ر إصالحهـا حتى ال نقـول (يسـتحيل) ،وبعضها -وإن مل
تكـن موروثـة -قـد يحـول ،دون إصالحهـا ،حائـل طبيعـي مـن بنيـة الولـد أو
مـن مزاجـه .وكثير ًا مـا نشـاهد أوالداً ،تتسـاوى رشوط تربيتهـم ،وتتفاوت-
املـرب ،يف هذا
ّ يسـتطيعه
ُ وقصـارى ما
َ مـع ذلـك -أخالقهـم؛ لتلـك العلّة.
يقـوي مـا ُر ِكـز يف جبلّـة الولـد مـن جراثيم الصلاح ،بقدر
املوطـن ،هـو أن ّ
الطاقـة ،لعلَّهـا تتغلَّـب على مـا فيـه مـن جراثيـم الطالح.
إنـه مـن املحـال أن نرتقَّـب أن يكـون الولـد اليافـع أو ابـن العرشيـن ثـم ُ
ـب أن ذلـك ممكن فال وه ْ ِ
وخلقـه ،كالكهـل أو ابـن السـ ّتنيَ . ِ
كاملاً يف َخلقـه ُ
تيسر؛ ألن الولد الـذي يبلغ من درجة الكمال ما يبلغه تتم َّن ُـه ،بـل اقنـع مبا َّ
قامتـه قبل الوقـت ،فإنه كثري ًا
ُ تشـب
َّ الكهـل املح ّنـك هـو مبنزلة الولد الذي
محتضراً ،وإن عـاش عـاش سـقيامً .وكذلـك الولـد الـذي يسرع َ مـا ميـوت
ِ
فإنـه ُيفـرِغ مـا يف وطابه وهـو َح َد ٌث ،ثـم يقف.
ُ ِ ِ
نضـج ذهنـه ،قبـل إبانـه،
أحـد مـن
ٌ حـد الكمال املطلَـق
تـرج أن يبلـغ َّ
ُ وبعـد هـذا وذاك ،فلا
النـاس ،ألن ذلـك غير ممكـن يف ّأيامنـا هـذه.
71
خامتة
73
لهالنشـوء بحثـ ًا واسـتقصاء ،حتـى ال يرى يف غريها علّة وال معلـوالً ،وتكون ُ
هـي غايـة املنـى ومنتهى السـؤل .ولكـن ،إذا أعانتـه الرتبية فانبلـج له صبح
ِ
نفسـه بعـد أن كانت عنـه غياهب الجهل ،واسـتنارت قوى العقـل ،ومت َّزقـت ُ
له وتـأت ُ
ّ املـادة،
ّ ـة ،انعكـس األمـر فنشـط هـو مـن عقـال مدلهم ٍ
ّ يف ظلمـة
ِ
أن يـدرك املعقـوالت ،وأصبـح يفهـم معنـى وجـوده يف عـامل اإلنسـانية،
بـه ،ال بسـواه ،قـوام هـذا الوجود،لـه ،قبيـل ذلـك ،أن ِ
يخيـل ُبـل إن مـا كان َّ
أنـه مل يكـن ،باإلضافـة إىل
مـه ،وتيقَّـن ُ
يتوه ُ
رآه ،بنظـر العقـل ،غير مـا كان َّ
وأنـه هـو نفسـه كان منخدعـ ًا
ُ اللـب،
الحقيقـةّ ،إل كالقشر ،باإلضافـة إىل ّ
بحلـم باطـل أو خيـال زائـل .
أخالقه الخسيسـة على الرشيفة،ُ وقـال ثالـث :إن اإلنسـان الذي تتغلَّب
يكـون منحطّ ـ ًا يف درجـة اإلنسـانية ،وإن الـذي يسـتويل عليه الهـوى ال يبقى
تسترقه الشـهوات ُيحجـب عن نفسـه نـور العقل حتى ُ ـدى ،وإن الـذيلـه ُه ً
ُ
بزغ العقل تنغمـس يف الظلام ،فإذا زحزحـت الربية ذاك الحجـاب الكثيف َ
نفسـه كام تبزغ الشـمس على الدنيا مـن وراء الغامم ،وتنري سـاكنيها ِ على
وجهـه ،وتلاىش الهـوى كماُ عنـه
يحـول ُ
ّ عمـن
بنـور ال يخبـو ،وال ينقطـع ّإل َّ
عر ُف
يتلاىش الشـهاب الـذي يسـطع يف الليـل طرفـةَ عين ،ثـم يغيـب فلا ُي َ
لـه حركـة مطّ ـردة ،وال لسير ِه
ـدرى ُ
مـن أيـن أىت ،وال إىل أيـن مضى ،وال ُي َ
ا ِّتجـاه معلوم.
ِ
عقلـه ،ومن هـواه عىل
ُ الرتبيـة مـن تغلُّب
ُ وقالـوا جميعـاً :إن الـذي تقيـه
لـه أن يقمـعصفاتـه الحيوانيـة على صفاتـه اإلنسـانية ،يتسـ َّنى ُ ِ رجحـان
يعدلهـا بحيـث ال يبقـى معهـا عبـد ًا للخـوف الـكاذب ،وال ِ
شـهواته كافّـة ،أو ّ
الحسـاد ،وال يفجعـه الحـزن ،وال ّ ميضـه حسـدزبونـ ًا لألمـل الخائـب ،وال ّ
يسـتطريه الفـرح ،بـل يسير -بسـكينة -يف سـبيل العمـر ،وهـو غير مبـالٍ ُ
بالوجـدان ،وال مكترث بالحرمـان ،كما تسير الشـمس يف مدارهـا ،ال تبايل
بالريـح عصفـت أم ركـدت ،وال تعبـأ بالغيـوم تراكمـت أم انقشـعت.
74
الفهرس
51 ِ
والح َرف ... (املطلب السادس) يف الرتبية ،باعتبار الصناعات
2011
عبد الرحمن الكواكبي طبائع االستبداد 1
غسان كنفاين برقوق نيسان 2
سليامن فياض األمئة األربعة 3
عمر فاخوري الفصول األربعة 4
عيل عبدالرازق اإلسالم وأصول الحكم -بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم 5
نبي
مالك بن ّ رشوط النهضة 6
محمد بغدادي صالح جاهني -أمري شعراء العامية 7
2012
أبو القاسم الشايب نداء الحياة -مختارات شعرية -الخيال الشعري عند العرب 8
سالمة موىس حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ
ّ 9
ميخائيل نعيمة الغربال 10
الشيخ محمد عبده واملدنية
ّ اإلسالم بني العلم 11
بدر شاكر السياب أصوات الشاعر املرتجم -مختارات من قصائده وترجامته 12
الطاهر حداد امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع 13
طه حسني الشيخان 14
محمود درويش ورد أكرث -مختارات شعرية ونرثية 15
توفيق الحكيم يوميات نائب يف األرياف 16
عباس محمود العقاد عبقرية عمر 17
عباس محمود العقاد الصديق
ّ عبقرية 18
عيل أحمد الجرجاوي/صربي حافظ رحلتان إىل اليابان 19
2013
ميخائيل الصقال لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية) 20
محمد حسني هيكل ثورة األدب 21
ريجيس دوبريه يف مديح الحدود 22
اإلمام محمد عبده السياسية
ّ الكتابات 23
عبد الكبري الخطيبي نحو فكر مغاير 24
روحي الخالدي تاريخ علم األدب 25
عباس محمود العقاد عبقرية خالد 26
خمسون قصيدة من الشعر العاملي أصوات الضمري 27
يحيى حقي مرايا يحيى حقي 28
عباس محمود العقاد عبقرية محمد 29
حوار أجراه محمد الداهي عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب 30
مجموعة مؤلفني العربية
ّ فتاوى كبار الك ّتاب واألدباء يف مستقبل اللّغة 31
2014
ترجمة :رشف الدين شكري عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد) 32
خالد النجار عامليني)
ّ ِساج ُّ
الرعاة (حوارات مع كُ تاب 33
ترجمة :مصطفى صفوان مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه) 34
بنسامل ِح ّميش سريت ابن بطوطة وابن خلدون
َ عن 35
ابن طفيل حي بن يقظان -تحقيق :أحمد أمني 36
ميشيل سار اإلصبع الصغرية -ترجمة :د.عبدالرحمن بوعيل 37
محمد إقبال محمد إقبال -مختارات شعرية 38
ترجمة :محمد الجرطي (تأمالت يف الحضارة ،والدميوقراطية ،والغريية)
تزفيتان تودوروف ُّ 39
أحمد رضا حوحو مناذج برشية 40
زيك نجيب محمود الرشق الف ّنان 41
ترجمة :يارس شعبان تشيخوف -رسائل إىل العائلة 42
مختارات شعرية إلياس أبو شبكة «العصفور الصغري» 43
2015
األمري شكيب أرسالن ملاذا تأخر املسلمون؟ وملاذا تقدم غريهم؟ 44
عيل املك مختارات من األدب السوداين 45
جرجي زيدان
ُ رحلة إىل أوروبا 46
عبدالدين حمروش عباد يف سنواته األخرية باألرس
بن َّ
ُعتمد ُ
ُ امل 47
سالمة موىس تاريخ الفنون وأشهر الصور 48
إيدوي بلينيل -ترجمة :عبداللطيف القريش من أجل املسلمني 49
يوسف ذَ نّون زِينة املعنى (الكتابة ،الخط ،الزخرفة) 50
أحمد فارس الشدياق الواسطة يف معرفة أحوال مالطة 51
ُمحسن املوسوي النخبة الفكرية واالنشقاق 52
إيزابيل إيربهاردت ياسمينة وقصص أخرى 53
ترجمة وتقديم :بوداود عمري آباي (كتاب األقوال) 54
ترجمة :عبدالسالم الغرياين مأساة واق الواق 55
2016
مي زيادة والفن والحضارة)
ّ واملد (صفحات يف اللّغة واآلداب
ّ بني الج ْزر 56
(حوارات ونصوص من أرشيف «الدوحة») ظلّ الذّ اكرة 57
تعريب :عبد الكريم أبو علو -تحقيق :رشيد العفاقي املرصية
ّ أليكيس شوتان ..الرحلة الف ّنية إىل الديار 58
إسامعيل مظهر قيرص وكليوبرتا 59
زيك محمود حسن الصني وفنون اإلسالم 60
ترجمة :مي عاشور (مختارات ِش ْع ّ
رية للكاتب الصيني وانغ جو جن) براعم األمل ُ
ُ 61
محمد العرويس املطوي ال ّتوت امل ُّر 62
غونار إيكليوف درب الغريب 63
أحمد حافظ بك من والد إىل ولده 64
بول ُبورجيه التلــــميذ 65
تقديم وترجمة :طه باقر ِ
جلجامش ملحمة
َ 66
الشيخ مصطفى الغالييني أريج ال ّزهر
ُ 67
2017
محمد فريد سيالة
ّ اعرتافات إنسان 68
الطيب صالح مريود 69
عبدالله كنون املقاالت الصحفية 70
نجيب محفوظ قصص قصرية 71
إبراهيم الخطيب بول بولز -يوميات طنجة 72
سالمة موىس الحياة فن َ ّ 73
خري الدين التونيس ك ِف َم ْع ِر َف ِة َأ ْح َوالِ ال َْم َم ِل ِ
ك َأق َْو ُم ال َْم َسا ِل ِ 74
أحمد أمني َ
األخلق كتاب 75
فدوى طوقان ر ِْح َلةٌ َج َب ِل َّيةٌ ر ِْح َلةٌ َص ْع َبة 76
مجموعة من الكتاب ريةُ ِف قَطَ ر) صةُ ا ْلق ِ
َص َ ارات ِمن َا ْل ِق َّ
(مخ َت َ ِق ْ
ـطاف ُ 77
الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية (من رشقي إفريقية إىل غربيها) ج 1 :جول غابرييل فرين ،ترجمة :يوسف اليان رسكيس 78
جول غابرييل فرين ،ترجمة :يوسف اليان رسكيس الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية .ج2 : 79
2018
إسحق موىس الحسيني مذكرات دجاجة 80
نورمان ج .فينكلستاين -ترجمة :أحمد زراقي ماذا يقول غاندي عن الالعنف واملقاومة والشجاعة؟ 81
نزار شقرون نشأة اللوحة املسندية يف الوطن العريب 82
إس .إس .بيو -ترجمة :يعقوب رصوف -فارس منر والعظَ َم ِء الق َُدماء
ُ ِمن ِس َي ا َ
ألبْطَ ال 83
إغناطيوس كراتشكوفسيك العريب
ّ مقاالت ِف األدب ٌ 84
صوف
صموئيل ساميلز -ترجمةَ :يعقُوب َ ُّ س ال َّن َج ِ
اح ِ ُّ 85
ُم َعاو َِية ُم َح َّمد نُور ِم ْن آ َثا ِر ُم َعاو َِية ُم َح َّمد نُور 86
أحمد الهاشمي الع ْ ِ
ص َّية ات َ اء املُكَ ات ََب ِ
ِنش ُ
إ َ 87
ترجمة :عبدالرحمن الخمييس وآخرين السوفْيي ِّتي
ُّ ِ
ر ع
ْ الش
ِّ ن
َ ِ
م ارات
ٌ ت
َ خْ م
ُ - أكتوبر أجراس 88
اختارها وترجمها :جربا إبراهيم جربا حكايات من الفونتني 89
ألبريطو مانْغيل -ترجمة :إبراهيم الخطيب مع بورخيس 90
لوسيان جولدمان ،ناتايل ساروت ،آالن روب الرواية الجديدة والواقع 91
غرييه ،جينفياف مويلو .ترجمة :رشيد بنحدو
2019