Professional Documents
Culture Documents
مذاهــب
َ قــد اختلفــت األمــة اإلســامية
حــا عقديــ ًة ،وتباينــت فقهيــ ًة ،ونِ ً
مواقــف كل مذهــب وفرقــة مــن هــذا
االختــاف بــن ُمتســاهلٍ و ُمتشــد ٍد ،لكــن
اســتقر األمــر عــى أ َّن اختــاف املذاهــب
الفقهيــة اختــاف رحمــة ،واملجتهــد
فيــه مأجــور عــى كل حــا ٍل ،وترســخ أ َّن
اختــاف الفــرق العقديــة اختــاف فتنــة،
واملجتهــد فيــه مأجــور يف حــال واحــد،
وهــو إصابتــه الحــق ،أمــا إذا أخطــأ؛ فإنَّــه
يســتحق الكفــر أو الفســق ،بحســب
املســألة املجتهــد فيهــا ،وهــو مــا أفــى
(*) باحــث يف ســلك الدكتــوراه مبؤسســة دار الحديــث
الحســنية ،وحــدة العقيــدة والقــرآن ،الربــاط -
املغــرب ،الربيــد اإللكــروين:
yassineessalmi@gmail.com
19 || 18
دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية
تلــك بعــض األســئلة التــي نجيــب عنهــا بــكل نِحلــة إىل اعتبــار مذهبهــا هــو
يف هــذه املقالــة ،باالســتناد إىل مــا جــاء مذهــب الحــق الــذي ال يجــوز خالفــه،
عنــد املعتزلــة أنفســهم يف كتبهــم التــي مــا نتــج عنــه تكفــر الفــرق بعضهــا َّ
وصلتنــا ،يف محاولــة حثيثــة لتبــن موقــف كل طائفــة منهــا بعضً ــا ،وتفســيق ِّ
املعتزلــة مــن االختــاف العقــدي ،وذلــك الطوائـ َـف األخــرى ،ولـــم يســلم مــن هــذا
مــن خــال املحــاور اآلتيــة: األمــر حتــى بعــض الطوائــف التــي دعــت
إىل النظــر العقــي ،ونبــذ التقليــد ،أعنــي:
ً
أوَّل :أصول الدين عند المعتزلة: املعتزلــة.
إ َّن الناظــر يف املذاهــب الكالميــة يجــد
أ َّن ك َُّل فريــق مــن تلــك الفــرق يدعــي أ َّن لقــد أوىل املعتزلــة العقــل مكانــة رفيعــة،
فرقتــه هــي الفرقــة الناجيــة ،وأ َّن الفــرق ودعــوا إىل اســتعامله يف أصــول الديــن،
التــي ســواها كلهــا هلــى ،كــا يجتهــد يف بــل أوجبــوا ذلــك عــى املكلــف ،لكــن
بيــان (أصــول الديــن) التــي يخالــف غــره النظــر العقــي يبقــى عمليــة اجتهاديــة
بهــا ،ثــم يجتهــد مــرة أخــرى يف البحــث يصيــب صاحبهــا ويخطــئ ،وهــو مــا
عــن أدلــة تلــك األصــول ،بــل ونســبتها يعنــي أ َّن النظــر مظنــة اختــاف النظــار،
إىل الصحابــة والتابعــن؛ كل ذلــك مــن فهــل معنــى دعــوة املعتزلــة إىل النظــر
أجــل البحــث عــن مرشوعيــة ملذهبــه، أنَّهــا دعــوة إىل االجتهــاد الــذي يُــؤ ِّدي إىل
ومرشوعيــة إلقصائــه املذاهــب األخــرى، االختــاف؟ وإذا لـــم يكــن األمــر كذلــك
وهــو مــا نجــده أيضً ــا عنــد املعتزلــة فــا حكــم هــذا االختــاف الواقــع بــن
أنفســهم. النظــار مــن الفــرق اإلســامية؟ بــل ومــا
حكــم املخالــف؟ هــل هــو فاســق أم
ويكفينــا يف الداللــة عــى ذلــك أن ننظر يف كافــر؟ وإن حكــم عليــه بأحــد هذيــن
كتــاب (بــاب ذكــر املعتزلــة وطبقاتهــم)؛ الوصفــن فلِــ َم لـــم يُــرا َع أنَّــه ُمتــأ ِّول؟
لنجــد مؤلفــه أحمــد بــن يحيــى املرتــى أم إ َّن التأويــل واالجتهــاد ال مينــع مــن
(تُــويف 840هـــ) ينقــل عن أيب إســحاق بن التكفــر عنــد املعتزلــة؟
العدد 1
خريف عام 2016م
العقيــدة التــي هــي أصــول الديــن عنــد عيــاش قولــه إ َّن ســند املعتزلــة «يتصــل
املعتزلــة خمســة فقــط؛ بــل يعنــي أ َّن ـال ظاهـ ًرا شــاه ًرا،
إىل واصــل وعمــرو اتصـ ً
هــذه الخمســة تشــتمل عــى أمهــات وهــا أخـذَا عــن محمــد بــن عــي بــن أيب
األصــول األخــرى؛ إذ مــا مــن أصــل دينــي طالــب ،وابنــه أيب هاشــم عبــد اللــه بــن
إلَّ ويرجــع إىل أحــد هذه الخمســة ،بل إ َّن رب واصـ ًـا، محمــد ،ومحمــد هــو الــذي َّ
القــايض عبــد الجبــار (تُــويف 415هـــ) قــد وعلَّمــه حتــى تخــرج واســتحكم ،ومحمــد
قلــص هــذا العــدد يف (مخترص الحســنى)، أخــذ عــن أبيــه عــي بــن أيب طالــب عليــه
فجعــل أصــول الديــن أربعــة( :التوحيــد، الســام عــن رســول اللــه صــى اللــه عليــه
والعــدل ،والنبــوات ،والرشائــع)(((؛ وجعــل وســلم»((( .ثــم ذكــر طبقــات املعتزلــة
مــا عــدا ذلــك -مــن الوعــد والوعيــد، بــد ًءا مــن الطبقــة األوىل التــي عــد فيهــا
واألســاء واألحــكام ،واألمــر باملعــروف الخلفــاء األربعــة ،ثــم التابعــن ...مــع أ َّن
والنهــي عــن املنكــر -داخـ ًـا يف الرشائــع. االعتــزال يف حقيقــة األمــر لـــم يبــدأ َّإل
ثــم إنَّــه اختــزل تلــك األصــول يف كتــاب ـوف ســنة مــع واصــل بــن عطــاء الــذي تُـ ِّ
«املغنــي» يف اثنــن فقــط :التوحيــد (131هـ)!
والعــدل ،واعتــر أ َّن النبــوات والرشائــع
داخــان يف العــدل ،فظهــر بذلــك أ َّن هــذا هــذا بالنســبة إىل دعــوى املعتزلة يف ســند
را ألصــول الديــن؛ التعديــد ليــس حــ ً مذهبهــا ،أ َّمــا بالنســبة إىل أصولهــا؛ فــإ َّن
وإنَّ ــا هــو عمليــة إجرائيــة فقــط تحــر املشــهور أ َّن أصــول الديــن عنــد املعتزلــة
مــا ميكــن أن نســميه أبــواب أصــول خمســة ،وهــي :التوحيــد ،والعــدل،
الديــن؛ بحيــث ينــدرج تحــت كل بــاب والوعــد والوعيــد ،واملنـــزلة بني املنـــزلتني،
منهــا أصــول أخــرى. واألمــر باملعــروف والنهــي عــن املنكــر.
((( ينظــر :عبــد الجبــار ،الهمــذاين« ،رشح األصــول
غــر أ َّن هــذا الحــر ال يعنــي أ َّن مســائل
الخمســة» ،تعليــق :مانكديــم أحمــد بــن
الحســن بــن أيب هاشــم ،حققــه وقــدم لــه: ((( أحمــد بــن يحيــى ،املرتــى« ،بــاب ذكــر املعتزلــة
عبــد الكريــم عثــان ،القاهــرة ،مكتبــة وهبــة، وطبقاتهــم» ،تحقيــق :تومــا آرنلــد ،لنــدن ،دار
(1427هـــ2006/م)( ،ص.)122 / الــوراق (2008م)( ،ص.)10 /
21 || 20
دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية
أصــول الديــن بالغًــا مــا بلــغ العــدد، ذلــك مــا يُؤكِّــده أحمــد بــن الحســن
وبذلــك ســتكون أصــول الديــن أكــر مــن بــن أيب هاشــم امللقــب مبانكديــم (تُــويف
خمســة .وســواء أكانــت أصــول الديــن 425هـــ) يف تعليقــه «رشح األصــول
-عنــد املعتزلــة -خمســة أم أكــر؛ فــإ َّن الخمســة» ،حيــث يذكــر عــدم إفــراد
الــذي يهمنــا هــو بيــان تشــدد املعتزلــة القــايض عبــد الجبــار النبــوات واإلمامــة
يف هــذه األصــول ،وجعــل القــول بهــا هــو بالذكــر يف جملــة أصــول الديــن ،واعتذاره
ســبيل النجــاة ،وجعــل خالفهــا موج ًبــا عــن ذلــك «بــأ َّن الخــاف يف ذلــك يدخــل
للكفــر أو الفســق أو الخطــأ ،كــا س ـراه تحــت هــذه األبــواب ،فــا يجــب إفـراده
الح ًقــا. بالذكــر» ،ثــم يعقــب عليــه مانكديــم
ُمعتــ ًرا «أ َّن هــذا العــذر ليــس بواضــح؛
إ َّن هــذا التشــديد ســيجعل املعتزلــة فــإ َّن الخــاف يف الوعــد والوعيــد واملنـــزلة
يوجبــون عــى النــاس اتبــاع أصولهــم؛ بــن املنـــزلتني وغريهــا ،مـ َّـا يدخــل يف
العتبــار أ َّن اإلميــان ال يتــم إلَّ بهــا ،غــر العــدل ،ثــم أفــرده بالذكــر ،فهــا أفــرد
أنَّهــم لـــم يرضــوا اتباعهــم تقليــ ًدا ،بــل مــا ذكرنــاه أيضً ــا بالذكــر .والصحيــح أنَّــه
أوجبــوا عــى ك ُِّل مكلــف معرفــة تلــك يقتــر عــى مــا أورده يف «املغنــي» ،أو
األصــول عــن طريــق النظــر واالســتدالل، يـزاد عــى الخمــس ويذكــر بال ًغــا مــا بلغ،
وهــو مــا نوضحــه يف: فعــى هــذا يجــري الــكالم يف ذلــك»(((.
ثاني ًا :واجب المكلف عند
المعتزلة: وبذلــك؛ فــإ َّن رأي مانكديــم يف تعديــد
أوجــب املعتزلــة عــى جميــع املكلفــن أصــول الديــن هــو االختيــار بــن أمريــن
معرفــة أصــول الديــن بطريــق النظــر اثنــن :إ َّمــا أن يقتــر عــى أصلــن اثنــن
واالســتدالل ،ثــم فرقــوا بــن العالـــم كــا يف كتــاب «املغنــي»؛ أعنــي :التوحيــد
ـرض العالـــم معرفتَها
والعامــي ،فجعلــوا فـ َ والعــدل ،باعتبــار كل األصــول األخــرى
بالتفصيــل ،وأوجبــوا عــى العامــي ترجــع إليهــا .وإ َّمــا أن يذكــر جميــع
ـال؛ «أل َّن َمــن لـــم يعــرف
معرفتهــا إجـ ً ((( املرجع السابق( ،ص.)125 /
العدد 1
خريف عام 2016م
ملتبســا
ً عمــا قلبيًّــا
ً ولـــا كان النظــر
َّ هــذه األصــول ال عــى الجملــة ،وال عــى
بغــره مــن أفعــال القلــوب كاالعتقــاد، التفصيــل ،لـــم يتكامــل علمــه بالتوحيــد
واإلرادة؛ فقــد بـ َّـن أ َّن النظــر يتم َّيــز عنهــا والعــدل»(((.
بأحــكام خاصــة ،منهــا(((:
ومرجــع ذلــك -عندهــم -أ َّن أصــول الدين
-أ َّن فيــه مــن املشــقة والتعــب مــا ليــس ال يقبــل فيهــا َّإل العلــم ،وطريــق العلــم
يف اإلرادة واالعتقــاد. إنَّ ــا هــو النظــر واالســتدالل ،دون غــره،
ولتوضيــح ذلــك نقــول:
يتأت إلَّ مع التجويز والشك.
-أنَّه ال َّ
إ َّن العالقــة بــن النظــر والعلــم -عنــد
-أنَّــه مزيــل للَّبــس إذا وقــع عــى وجــه املعتزلــة -هــي عالقــة إنتــاج وتوليــد،
مخصــوص. يكــون النظــر فيهــا ُمولِّـ ًدا للعلــم ،والعلــم
مولَّــ ًدا عــن النظــر.
علــا،
-أنَّــه يؤثــر يف وقــوع االعتقــاد ً
وال ح ـ َّظ لغــره مــن املعــاين يف أن يصــر ـص عـــندوهـــذه املـصـطـلـحـــات تـخـتــ ُّ
مولـ ًدا لالعتقــاد عــى وجــه يكــون علـ ًـا. املعتزلــة بـخـــصائص ال بُــدَّ مــن بيانهــا:
وبهــذا الوصــف األخــر يظهــر ســبب
تشــدد املعتزلــة يف إيجــاب النظــر عــى النظر:
كل مكلــف؛ إذ إ َّن أصــول الديــن -التــي يعــرف القــايض عبــد الجبــار النظــ َر
هــي اعتقــادات -ال بُـ َّد فيهــا مــن العلــم، بالفكــر فيقــول:
والعلــم عنــد املعتزلــة تنحــر طريقــه يف «اعلــم أ َّن النظــر الــذي نريــد إثباتــه
النظــر. هاهنــا إنَّ ــا هــو الفكــر»(((.
بتحقيقــه ونــره :يــان پــرس ،بــروت ،لبنــان ،دار ((( املرجع السابق( ،ص.)124 /
املــرق1999( ،م).)199 /3( ، ((( عبــد الجبــار ،الهمــذاين ،كتــاب «املجمــوع يف
((( املرجع السابق.)200 ،199 /3( ، املحيــط بالتكليــف» ،جمعــه ابــن متويــه ،عنــي
23 || 22
دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية
يضــاف إىل ذلــك أ َّن أكــر املعتزلــة ويف رشح معنــاه يقــول القــايض عبــد
يــرون أ َّن هــذا التوليــد يكــون بطريــق الجبــار« :وقــال الشــيخ أبــو الهذيــل
اإليجــاب؛ إذ عندهــم أ َّن «األســباب -رحمــه اللــه -وشــيوخنا -رحمهــم اللــه-
موجبــة ملســبباتها»((( ،ومــن ث َــ َّم وجــب بعــده :إ َّن العبــد يفعــل اإلرادة واملــراد
أن يُنســب إىل فاعــل الســبب األول كل
((( عبــد الكريــم ،الشهرســتاين« ،امللــل والنحــل»،
نتائجــه ومســب َباته ،وهــو مــا يعنــي -فيــا تصحيــح وتعليــق :أحمــد فهمــي محمــد ،بــروت،
يخــص مســألتنا -أ َّن فعــل النظــر ينتــج لبنــان ،دار الكتــب العلميــة1413( ،هـــ1992/م)،
العلــم بطريــق التوليــد ،ومــن ث َــ َّم فــإ َّن (.)56 /1
((( عبــد الجبــار ،الهمــذاين« ،املغنــي» ،الجزء التاســع:
((( املرجع السابق.)12 ،11 /9( ، التوليــد ،تحقيــق :توفيــق الطويــل ،وســعيد زايــد،
((( أبــو الحســن ،األشــعري ،كتــاب «مقــاالت راجعــه :إبراهيــم مدكــور ،بــإرشاف طــه حســن،
اإلســاميني» ،عنــي بتصحيحــه :هلمــوت رت ّــر، القاهــرة ،وزارة الثقافــة واإلرشــاد القومــي،
بــإرشاف املعهــد األملــاين للدراســات الرشقيــة، املؤسســة املرصيــة العامــة للتأليــف واألنبــاء
بــروت ،لبنــان ،مطبعــة املتوســط ،نــر( :كالوس والنــر ،الــدار املرصيــة للتأليــف والرتجمــة،
شــڤارتس فــرالغ) برلــن2005 ( ،م)( ،ص.)412 / سلســلة تراثنــا( ،د.ن).)12 - 11 /9( ،
العدد 1
خريف عام 2016م
25 || 24
دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية
ولــ َّـا كانــت العقائــد الدينيــة مـ َّـا يطلب وأ َّمــا إذا وقــع النظــر يف األمــارة؛ فإنَّ ــا
فيــه العلــم فقــد فــرض املعتزلــة عــى يدعــو عل ُمــه باألمــارة إىل غالــب الظـ ِّن ال
الجميــع النظــر واالســتدالل -مــع التفريق عــى أن يكــون نظــره مول ـ ًدا لــه.
بــن واجــب العلــاء وواجــب العامــة-
وهــو مــا ســينبني عليــه اختالفهــم يف فأ َّما إذا وقع يف شبهة:
حكــم العامــي الــذي اعتقــد الحــق فقــد يكــون بــأن يعتقــد املــرء أنَّهــا داللــة،
تقليــ ًدا مــن غــر نظــر واســتدالل.
((( عبــد الجبــار ،الهمــذاين ،كتــاب «املجمــوع يف
((( املرجع السابق.)204 /3( ، املحيــط بالتكليــف» ،مرجــع ســابق.)201 /3( ،
العدد 1
خريف عام 2016م
لك َّنــه لـــم يوضــح درجــة ذلــك الــذم موقف المعتزلة من إيمان
املتعلــق بتــارك النظــر ،هــل هــو مــن المقلد:
بــاب الكفــر أو الفســق أو غريهــا.
الــيء نفســه يقــع عنــد املالحمــي (تُــويف إ َّن حــر طريــق معرفــة اللــه -تعــاىل -يف
536هـــ) حيــث يقــول« :وأ َّمــا املقلــد النظــر ،يُــؤ ِّدي مبــارشة إىل القــول بفســاد
لإلســام؛ فقــد اختلفــوا يف تكفــره»(((؛ طريــق
ُ الطــرق األخــرى ،ومــن ذلــك:
فهــو يُشــر إىل أ َّن املســألة مختلــف فيهــا. التقليــد ،وهــو مــا يشــعر ابتــداء بعــدم
ويف الســياق نفســه يفصــل عبــد القاهــر صحــة إميــان املقلــد؛ ألنَّــه غــر عــارف
البغــدادي (تُــويف 429هـ) -من األشــاعرة- باللــه -تعــاىل -فينـــزل مرتبــة الجاهــل أو
هــذا الخــاف نو ًعــا مــن التفصيــل فيقول: ـاك ،والجهــل باللــه -تعــاىل -والشـ ّـكالشـ ّ
«واختلــف الذيــن قالــوا منهــم :إ َّن املعرفة فيــه ،خصلــة مــن خصــال الكفــر عنــد
باللــه وكتبــه ورســله اكتســاب عــن نظــر املعتزلــة(((.
واســتدالل ،فيمــن اعتقــد الحــق تقلي ـ ًدا:
فمنهــم َمــن قــال :إنَّــه فاســق برتكــه إ َّن املعتزلــة حــن قــرروا وجــوب النظــر،
النظــر واالســتدالل ،فالفاســق عندهــم ال فقــد رت َّبــوا عــى ذلــك آثــار اإليجــاب
مؤمــن وال كافــر .ومنهــم مــن زعــم أنَّــه مد ًحــا وذ ًّمــا؛ وهــو مــا يبينــه القــايض
كافــر لـــم تصــح توبتــه عــن كفــره لرتكــه صــح فيــا
عبــد الجبــار بقولــه« :وقــد َّ
بعــض فروضــه»(((. يجــب عــى املكلــف أنَّــه يســتحق بــه
املــدح والثــواب ،وباإلخــال بــه الــذم
((( محمــود بــن محمــد ،املالحمي،كتــاب «الفائــق والعقــاب»(((.
يف أصــول الديــن» ،حققــه وقــدم لــه وعلــق عليــه:
فيصــل بديــر عــون ،القاهــرة ،مطبعــة دار الكتــب ((( أبــو القاســم ،البســتي ،كتــاب «البحــث عــن أدلة
والوثائــق القوميــة1431( ،هـــ2010/م)( ،ص/ التكفــر والتفســيق» ،تحقيــق ومقدمــة :ويلفــرد
.)602 مادلونــك ،وزابينــه اشــميتكه ،كولونيــا (أملانيــا) -
((( عبــد القاهــر ،البغــدادي ،كتــاب «أصــول الديــن»، بغــداد ،منشــورات الجمــل2009( ،م)( ،ص.)10 /
مطبعــة الدولــة ،إســتانبول1928( ،م)( .ص،254 / ((( عبــد الجبــار ،الهمــذاين« ،املغنــي» ،مرجــع
.)255 ســابق.)444 /12( ،
27 || 26
دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية
النفــس ،وبذلــك قــال بــأ َّن املقلــد للحــق وإىل جانــب هذيــن الرأيــن ،يوجــد
معــذور ومصيــب(((. رأي آخــر ،وهــو القائــل بصحــة إميــان
املقلــد ،وهــو محــي عــن أيب إســحاق بــن
مستند القائلين بالتكفير: عيــاش((( ،وأيب القاســم الكعبــي(((.
ذهــب هــؤالء إىل أ َّن املعرفــة واجبــة،
بطريــق النظــر واالســتدالل ،وال يشء يظهــر إذن أ َّن الخــاف واقــع بــن
يس ـ ُّد مس ـ َّدها ،و ِمــن ث َ ـ َّم قالــوا :إ َّن َمــن املعتزلــة يف حكــم املقلــد ،وقــد وصــف
ـأت بهــا فقــد كفــر ،وصــورة ذلــك: لـــم يـ ِ أبــو القاســم البســتي (تُــويف 420هـــ) هذا
إنَّــه ال طريــق إىل معرفــة اللــه -تعــاىلَّ -إل الخــاف بـ(الشــديد)(((:
النظر واالســتدالل. -فمنهم من ذهب إىل تكفريه.
-ومنهم من ذهب إىل تفسيقه.
وإذ كان العــوام املقلــدة ال ينظــرون -ومنهــم مــن ذهــب إىل القــول بصحــة
وال يســتدلون؛ فإنَّهــم ال يعرفــون اللــه إميانــه.
-تعــاىل -ومــن ث َــ َّم فهــم كفــار.
مستند القائلين باإليمان:
ـب
وقــد أشــار البســتي إىل أ َّن هــذا املذهـ َ والذيــن ذهبــوا إىل صحــة إميانــه ،خالفــوا
«حــر مذهــب أيب هاشــم وأصحابــه» .
(((
املعتزلــة يف مفهــوم العلــم؛ فأبــو القاســم
ومســتند هــذا املذهــب هــو قيــاس الكعبــي اعتــر أ َّن العلــم إنَّ ــا هــو اعتقــاد
ِّ
الشــاك باللــه املقلــد عــى الجاهــل أو الــيء عــى مــا هــو بــه ،وإن لـــم يكــن
تعــاىل .يقــول البســتي« :ورمبــا يجــري عــن دليــل ،ولـــم يشــرط يف ذلــك ســكون
شــيوخنا زوال املعرفــة الواجبــة مجــرى
الجهــل والشــك يف بــاب الكفــر ،ويجعلون ((( محمــود بــن محمــد ،املالحمــي ،كتــاب «الفائــق
انتفــاء املعرفــة الواجبــة جهــة يف كــون يف أصــول الديــن» ،مرجــع ســابق( ،ص.)35 /
((( أبــو القاســم ،البســتي ،البحــث عــن أدلــة التكفــر
((( املرجع السابق( ،ص.)33 ،32 / والتفســيق ،مرجــع ســابق( ،ص.)32 /
((( املرجع السابق( ،ص.)33 / ((( املرجع السابق( ،ص.)33 /
العدد 1
خريف عام 2016م
طب ًعــا( -متكلمــن) مبــا تحملــه الكلمــة مــن وجبــت عليــه كافـ ًرا عــى أصلهــم يف
مــن معنــى ،بحيــث يســتطيعون تحريــر اســتحقاق الــذم»(((.
الــكالم يف املســائل الكالميــة جليلهــا
ودقيقهــا ،ويدفعــون الشــبه بالحجــج، موقف القاضي عبد الجبار من
ويناظــرون يف ذلــك بالقواعــد املرســومة العامي:
لهــذا الفــن.
رأينــا أ َّن أبــا هاشــم الجبــايئ (تُــويف
غــر أ َّن القــايض عبــد الجبــار ســيخالفه يف 321هـــ) قــد جعــل نتيجــة تــرك النظــر
ذلــك معت ـ ًرا أ َّن تكليــف التفصيــل عــى هــي الكفــر ،فهــل موقــف القــايض عبــد
الجميــع تكليــف مبــا ال يُطــاق ،فيقــول: الجبــار هــو نفــس موقــف أيب هاشــم؟
«وليــس غرضنــا بذلــك أ َّن عــى ك ُِّل لقــد قــرر القــايض -فيــا رأينــا ســابقًا-
ـف أن يعــرف تفاصيــل هــذه األدلــة، ُمكلَّـ ٍ فســاد التقليــد ،وهــو بذلــك ال يــرى
األسـوِلة(((،
ومــا به تحــل الشــبهة ،وتدفــع ْ كفايتــه يف اإلميــان ،ويف الوقت نفســه لـــم
ويحــرز مــن النقــوض ،وأن يعــرف تحرير يغـ ُـل غلــو أيب هاشــم الــذي نُقــل عنــه أنَّه
العبــارة يف هــذه الجمــل؛ ألنَّــا لــو قلنــا كان يقــول إنَّ« :الكافــر لــو اعتقــد جميــع
ذلــك الخرتجنــا كثـ ًرا مــن مكلفــي العــوام أركان ديــن اإلســام ،واعتقــد جميــع
مــن لــزوم ذلــك لهــم .وإنَّ ــا نريــد بــه أصــول أيب هاشــم ،وعــرف دليــل كل
مــا ال تتعــذر عــى العامــي معرفتــه مــن أصــل لــه؛ إلَّ أصـ ًـا واح ـ ًدا جهــل دليلــه
جمــل هــذه األبــواب»(((. مــن أصــول العــدل والتوحيــد عنــده فهــو
كافــر ،ومقلــدوه كلهــم كفــرة عنــده»(((.
((( أي :األســئلة .ويف املطبــوع :األمســولة ،وهــو إ َّن مــا يفهــم ابتــداء مــن كالم أيب هاشــم
تصحيــف ظاهــر.
هــو أن يصــر معتنــق اإلســام -والعامــة
((( عبــد الجبــار الهمــذاين ،كتــاب «املجمــوع يف
املحيــط بالتكليــف» ،عنــي بتصحيحــه ونــره:
جــن يوســف هوبــن اليســوعي ،بــروت ،معهــد ((( املرجع السابق( ،ص.)15 /
اآلداب الرشقيــة ،املطبعــة الكاثوليكيــة1965( ،م)، ((( عبــد القاهــر ،البغــدادي ،كتــاب «أصــول الديــن»،
(.)10 /1 مرجــع ســابق( ،ص.)255 ،254 /
29 || 28
دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية
يلــزم الجميــع أن يســتأنفوا النظــر إ َّن القــايض عبــد الجبــار إذ يقــول بإيجاب
واالســتدالل» ( (( . النظــر عــل جميــع املكلفــن؛ فإنَّــه يقــر
بــأ َّن درجــات هــذا النظــر تختلــف
بذلــك ميكــن القــول إ َّن القــايض عبــد باختــاف الناظــر ،وهــو بذلــك مييــز بــن
الجبــار قــد حــاول التوفيــق بــن موقفــه العامــة ،ويطلــق عليهــم (أهــل ال ُجمــل)،
مــن إيجــاب النظــر ،وبــن مراعــاة واقــع الذيــن ينظــرون يف جمــل األدلــة ،وبــن
العامــة وقدراتهــم ،فقــال بصحــة إميــان العلــاء الذيــن ينظــرون يف التفاصيــل،
العامــي املقلــد بــرط أن يكــون قــد ويجعــل لــكل صاحــب مرتبــة درجــة
اطلــع عــى أوائــل األدلــة ،وفهمهــا ولــو يقــدر عليهــا ،ويف ذلــك يقــول« :الواجــب
بشــكل جمــي .لكــن مــع ذلــك يبقــى يف كل الديانــات عــى املكلــف أن يعرفــه
موقفــه مــن إميــان املقلــد الــذي لـــم بأدلتــه ،فــإن كان مــن أهــل ال ُجمــل نظــر
ينظــر ال يف جمــل األدلــة ،وال يف تفصيلهــا يف جمــل األدلــة((( ،وإن كان مــن العلــاء
غــر واضــح ،واألنســب مبذهبــه هــذا :إ َّمــا نظــر فيهــا ويف تفصيلهــا ،ثــم ينظــر فيــا
القــول برفــع التكليــف عنهــم ألنَّهــم ال يــرد مــن الشــبه ،فــإن كانــت ال تقــدح يف
يســتدركون األدلــة ،وإ َّمــا بتكفريهــم أو (((
األصــول وجــب عــى أصحــاب الجمــل
تفســيقهم؛ ألنَّهــم اســروحوا إىل التقليــد التوقــف فيهــا إذا لـــم ينتهــوا لوجــه
مــع متكنهــم مــن النظــر يف األدلــة، حلهــا((( ،وأن يثبتــوا عــى األصــول فيهــا،
والثــاين أظهــر؛ لقولــه يف بعــض النصــوص: ويجــب عــى العلــاء أن يتشــاغلوا بحلها.
«العامــي أيضً ــا يلزمــه معرفــة هــذه فــإن كانــت قادحــة يف الداللــة،
األصــول عــى ســبيل الجملــة ،وإن لـــم
يلزمــه معرفتهــا عــى ســبيل التفصيــل؛ ((( يف املطبــوع :فــإن كان مــن أهــل الحمــل نظــر
أل َّن مــن لـــم يعــرف هــذه األصــول ال عىل يف حمــل األدلــة .وال معنــى لــه يف هــذا الســياق،
الجملــة وال عــى التفصيــل ،لـــم يتكامــل والــذي يؤكــد اختيارنــا مقابلتــه بعــد هــذا الصنف
بأهــل التفصيــل.
((( عبــد الجبــار ،الهمــذاين« ،املغنــي» ،مرجــع ســابق، ((( يف املطبوع :الحمل.
(.)533 /12 ((( يف املطبوع :حدها.
العدد 1
خريف عام 2016م
املقلــد لغريهــم! .أ َّمــا بالنســبة إىل الناظــر علمــه بالتوحيــد والعــدل»((( .فقولــه:
املخالــف؛ فهــو مــا نبينــه يف النقطــة «لـــم يتكامــل علمــه بالتوحيــد والعــدل»
الثالثــة. مــؤذن بإخــراج العــوام مــن جملــة
املؤمنــن.
ثال ًثا :حكم الناظر المخالف:
رأينــا قبــل قليــل أ َّن املعتزلــة يذهبــون إىل مــن خــال مــا ســبق :يظهــر لنــا
إيجــاب النظــر العقــي عــى كل مكلــف، أ َّن املعتزلــة يتشــددون يف املطالبــة
ومــن املعلــوم أ َّن النظــر مــا هــو َّإل مبوافقتهــم يف أصولهــم موافقــة مركبــة،
عمليــة اجتهاديــة ،قــد تختلــف نتائجهــا ترتكــب مــن الجانــب املعــريف مــن جهــة،
باختــاف ال ُّنظَّــار ،فهــل يُفهــم مــن ذلــك ومــن الجانــب االســتداليل مــن جهــة
أ َّن املعتزلــة مــن دعــاة االختــاف؟ أم أخــرى ،وهــو تشــدد أفــى ببعضهــم إىل
إ َّن النظــر عنــد املعتزلــة ال يُــؤ ِّدي إىل تكفــر العامــي الــذي قلَّــد مذهبهــم مــن
االختــاف؟ وإن كان الشــأن كذلــك فلامذا غــر نظــر.
يختلــف ال ُّنظَّــار؟ ومــا حكــم َمــن خالــف
مذهــب املعتزلــة بنــاء عــى نظــره؟ يظهــر لنــا أنَّ املعتزلــة يتشــددون
جوابًــا عــى هــذه األســئلة نقــول ابتــداء: يف املطالبــة مبوافقتهــم يف أصولهــم
إ َّن املعتزلــة يرفضــون االختــاف العقــدي موافقــة مركبــة ،ترتكــب مــن الجانــب
رفضً ــا شــدي ًدا ،بنــا ًء عــى التمييز املشــهور املعــريف مــن جهــة ،ومــن الجانــب
بــن االجتهــاد يف أصــول الديــن واالجتهــاد االســتداليل مــن جهــة أخــرى.
يف فــروع الديــن؛ إذ أغلــب املتكلمــن
عــى املنــع مــن االجتهــاد يف أصــول
الديــن ،وهــو مــا يعنــي رفــض االختــاف ــي املقلــد ُ
حــال العا ِّم ِّ وإذا كان هــذا
العقــدي ،وهــو مــا قــد ب َّينــه القــايض للمعتزلــة؛ فلنــا أن نتصــور حكــم العامــي
عبــد الجبــار يف مواضــع مــن كتبــه ،ومــن
ذلــك مــا ذكــره -يف «املغنــي» يف أبــواب ((( عبــد الجبــار ،الهمــذاين« ،رشح األصول الخمســة»،
مرجــع ســابق( ،ص.)124 /
31 || 30
دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية
ومنــه يفهــم أ َّن القــايض عبــد الجبــار التوحيــد والعــدل -يف التفريــق بــن مــا
يذهــب إىل التفريــق بــن االجتهــاد يف ـح فيــه تصويــب املذاهــب املختلفــة يصـ ُّ
األصــول وبــن االجتهــاد يف الفــروع بنــاء مـ َّـا ال يصــح ،حيــث عقــد فصـ ًـا يف (بيان
عــى أمريــن مرتابطــن: الــروط التــي معهــا يصــح تصويــب
املذاهــب املختلفــة) ،ومـ َّـا جــاء فيــه:
أول :التفريــق بــن مــا يطلــب فيــه ً متنــاول
ً «اعلــم أ َّن مــن حقــه أن يكــون
االعتقاد/العلــم ،وبــن مــا يطلــب فيــه لتكليــف الفعــل والــرك ،ومــن حقــه أن
العمــل: يكــون ذلــك الحكــم تاب ًعــا لغالــب الظــن،
مم يطلــب فيهفــإذا كانــت فــروع الديــن َّ ومــن حــق غالــب الظــن أن يكــون تاب ًعــا
العمــل ،وبتعبــر القــايض «تكليــف الفعل ألمــارة صحيحــة ،ومــن حقــه أن يكــون
والــرك» ،فهــذا مـ َّـا ال ميتنــع «أن يختلــف التوصــل إىل العلــم واليقــن متعــذ ًرا(((؛
التعبــد بــه بحســب الــروط واالجتهــاد، ـح مــا فــإذا اجتمعــت هــذه الرشائــط صـ َّ
وال ميتنــع فيــا هــذا حالــه أن يكــون كل ذكرنــاه.
مجتهــد فيــه ُمصي ًبــا ،وأن يكــون الحــق
يف الــيء ومــا خالفــه ،فــا هــذا حالــه وقــد ب َّي َّنــا مــن قبــل :أ َّن املذاهــب إذا
يجــوز التعبــد بــه عــى هــذه الطريقــة، كانــت تتنــاول االعتقــاد كالتوحيــد
إذا اختــص بالرشائــط التــي معهــا يصــح والعــدل ،ومــا يتصــل بهــا؛ فغــر جائــز أن
ذلــك فيــه»(((. يكــون الحــق َّإل واحـ ًدا مــن ذلــك .(((»...
وخالفًــا لذلــك؛ فــإ َّن أصــول الديــن ال ((( يف املطبوع :متعذيا ،وال معنى له.
يجــوز «أن يكــون الحــق منهــا إلَّ واح ـ ًدا ((( عبــد الجبــار ،الهمــذاين« ،املغنــي» ،الجــزء
الســابع عــر :الرشعيــات ،حــرر نصــه :أمــن
دون مــا خالفــه؛ أل َّن هــذه األصــول إنَّ ــا الخــويل ،بــإرشاف :طــه حســن ،القاهــرة ،وزارة
ورد التعبــد فيهــا باالعتقــادات التــي هــي الثقافــة واإلرشــاد القومــي ،املؤسســة املرصيــة
العامــة للتأليــف واألنبــاء والنــر ،الــدار املرصيــة
((( عبــد الجبــار ،الهمــذاين« ،املغنــي» ،مرجــع ســابق، للتأليــف والرتجمــة ،سلســلة تراثنــا ،مطبعــة دار
(.)355 /17 الكتــب1382( ،هـــ1963/م).)357 /17( ،
العدد 1
خريف عام 2016م
وكــذب،
ٌ جهــل
ٌ بعضَ هــا ِعلــ ٌم ،وبعضَ هــا العلــوم ،وأن يعلــم كــون املعلــوم الــذي
ومــا كان هــذا حالــه؛ فــإ َّن الحــق فيــه كلفنــا العلــم بــه عــى الصفــات التــي
واحــد وهــو العلــم. ـح أن يكــون هــو عليهــا .واملعلــو ُم ال يصـ ُّ
يف نفســه عــى صفتــن متنافيتــن ،فــإذا
ثانيـ ًا :التفريــق بــن مــا يقــع عــن دليــل مختصــا بصفــة مخصوصــة ،فاعتقــاد ً كان
ومــا يقــع عــن أمــارة: َمــن يعتقــد أنَّــه ليــس عليهــا ،أو أنَّــه
عــى خالفهــا يكــون جهـ ًـا ،وخــره بذلــك
إضافــة إىل املعيــار الســابق يف التفريــق عنــه يكــون كذبًــا ،وال يجــوز ورود التعبــد
بــن فــروع الديــن وأصــول الديــن، بالجهــل والكــذب ...فقــد ثبــت بهــذه
املتمثــل يف التفريــق بــن العمــي الجملــة أ َّن الحــق مــن أصــول الديــن
والعلمــي منهــا؛ فــإ َّن القــايض يُضيــف يجــب أن يكــون واحــ ًدا ،وأ َّن املذاهــب
معيــا ًرا ثانيًــا ،مرتبطًــا بــاألول ،وهــو تعلق يصــح أن يكــون ُّ املختلفــة يف ذلــك ال
العمــل بالظــن ،وتعلــق العلــم القطــع. جمي ُعهــا ح ًّقــا ،وليــس هكــذا الرشعيــات
إ َّن فــروع الديــن إنَّ ــا جــاز فيهــا تصويــب .(((»...
املجتهديــن لكونهــا قامئــة عــى غالــب
الظــن؛ ولذلــك يكفــي فيهــا االســتدالل وبهــذا الفــرق جــاز أن تكــون املســائل
باألمــارات الصحيحــة دون األدلــة ،وقــد العمليــة -التــي هــي فــروع الديــن-
ســبق لنــا أن رأينــا تفريــق القــايض بــن ُمتع َّبــ ًدا فيهــا باألمريــن املختلفــن،
الدليــل واألمــارة والشــبهة ،وبيانــه أ َّن بخــاف املســائل العلميــة االعتقاديــة
األمــارات إنَّ ــا يطلــب فيهــا غالــب الظـ ِّن -التــي هــي أصــول الديــن -فــإ َّن ذلــك
مــن غــر أن يكــون هــذا الظــن ُمولَّــ ًدا ال يجــوز؛ أل َّن االختــاف فيهــا يعنــي أ َّن
عــن النظــر. ((( أبــو الحســن ،البــري« ،رشح العمــد» ،تحقيــق
ودراســة :الدكتــور عبــد الحميــد بــن عــي أبــو
وخالف ـاً لذلــك؛ فــإ َّن أصــول الديــن إنَّ ــا زنيــد ،القاهــرة ،دار املطبعــة الســلفية1410( ،
عــر عنــه هـــ) .)246 /2( ،وعبــد الجبــار ،الهمــذاين،
يطلــب فيهــا القطــع -وقــد َّ «املغنــي» ،مرجــع ســابق.)355 /17( ،
33 || 32
دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية
القــول بــأ َّن اللــه -تعــاىل -قد نصــب يف كل هنــا بالعلــم واليقــن ،-وذلــك ال يكــون َّإل
مســألة مــن مســائل أصــول الديــن دليـ ًـا بالنظــر يف الدليــل ،وقــد رأينــا أ َّن النظــر
الحــق يف االختــافِّ قاط ًعــا يُفــي إىل يف الدليــل -عنــد املعتزلــة -يُولِّ ـ ُد العلــم.
فيهــا؛ إذ إنَّــه -تعــاىل -كــا نصــب األدلــة ومــن ث َــ َّم؛ فقــد أوجــب املعتزلــة عــى
القطعيــة عــى فســاد األديــان األخــرى، اللــه -تعــاىل -أن ينصــب األدلــة ليحســن
فكذلــك قــد أقــام تعــاىل -يف املذاهــب التكليــف ،وقــد عقــد القــايض عبــد
اإلســامية -الداللــة عــى الحــق منهــا، ـن «أنَّــه -تعــاىل- الجبــار يف ذلــك فصـ ًـا يُبـ ِّ ُ
ومــن ث َ ـ َّم؛ فــإ َّن «االجتهــاد الــذي يُــؤ ِّدي يجــب أن يكــون ممك ًنــا للمكلَّــف بنصــب
إىل خالفــه يجــب أن يكــون فاســ ًدا»(((. صــح أ َّن العلــم ال
األدلــة»(((؛ ألنَّــه «إذا َّ
ـح أن يكتســب إلَّ بالنظــر يف الداللــة يصـ ُّ
فــإذا ورد يف مســألة مــا نصــوص رشعيــة املعلومــة ،فقــد صــار فقدهــا يف أنَّــه
ظنيــة ،كاآليــات املتشــابهة؛ فــإ َّن الحاكــم يُوجــب تعـذُّر ذلــك مبنـــزلة فقــد اآلالت؛
فيهــا هــو العقــل ،وخالفُهــا يُــ َؤ َّول مبــا فلذلــك وجــب عليــه -ســبحانه -أن
يقتضيــه العقــل «أل َّن مــن ســبيل الكتــاب ينصــب األدلــة حتــى يحســن أن يكلــف،
والســنة أن يكونــا مرتبــن عــى مــا كــا وجــب أن ميكن بــاآلالت وغريهــا»(((.
يقتضيــه العقــل ،فــا يجــوز أن يكــون وهــذا التأصيــل قــد أ َّدى باملعتزلــة إىل
املــراد بهــا مــا مينــع دليــل العقــل.
((( عبــد الجبــار ،الهمــذاين« ،املغنــي» ،الجــزء
ومنــه إذا كان دليــل العقــل إنَّ ــا يــدل عىل الحــادي عــر :التكليــف ،تحقيــق :محمــد عــي
صحــة مذهــب واحــد دون مــا خالفــه، النجــار ،وعبــد الحليــم النجــار ،مراجعــة :إبراهيــم
مدكــور ،بــإرشاف طــه حســن ،القاهــرة ،وزارة
وجــب القطــع عــى كونــه ح ًّقــا دون مــا
الثقافــة واإلرشــاد القومــي ،املؤسســة املرصيــة
ســواه ،ونحــن نحمــل الكتــاب والســنة العامــة للتأليــف واألنبــاء والنــر ،الــدار املرصيــة
عــى موافقتــه؛ أل َّن تجويــز خالفــه يفســد للتأليــف والرتجمــة ،سلســلة تراثنــا ،مطبعــة
عيــى البايب الحلبــي ورشكاه1358( ،هـــ1965/م)،
((( أبــو الحســن ،البــري« ،رشح العمــد» ،مرجــع (.)408 /11
ســابق.)247 /2( ، ((( املرجع السابق.)409 /11( ،
العدد 1
خريف عام 2016م
طريقــة واحــدة ،ومــن ث َ ـ َّم؛ فــإ َّن ال ُّنظَّــار طريــق العلــم بصحــة الكتاب والســنة»(((؛
وإن اختلفــت أعيانهــم؛ فــإ َّن نتائــج إذ إ َّن صحتهــا إنَّ ــا ُعلمــت -يف أول األمر-
أنظارهــم ال ينبغــي أن تختلــف؛ «أل َّن بطريــق النظــر العقــي ،فــإذا تـ َّم الطعــن
توليــد النظــ ِر العلــ َم ال يختلــف»(((. يف العقــل كان ذلــك طع ًنــا يف الــرع.
ومبــا أ َّن الواقــع يشــهد بوقــوع الخــاف
بــن النظــار؛ فقــد ذهــب البعــض إىل أصلــه املعتزلــة يفإ َّن هــذا التأصيــل الــذي َّ
ـح القــول رفــض القــول بالتوليــد؛ إذ لــو صـ َّ التفريــق بــن أصــول الديــن وفروعــه بنــاء
بــه لَــ َـا وقــع االختــاف ،لكــن القــايض عــى العلــم القطعــي والعمــل الظنــي،
عبــد الجبــار يــرد ذلــك بــأ َّن الخطــأ سـ ُيؤ ِّدي مبــارشة إىل القــول بــأ َّن املجتهــد
ليــس يف التوليــد وعالقتــه بالنظــر ،وإنَّ ــا املصيــب يف أصــول الديــن واحــد ،ومــن
ِ
يســتوف يف الناظــر نفســه؛ إذ إنَّــه لـــم عــداه مخطــئ ،وهــو مــا يعنــي رفــض
رشوط النظــر ،أو حالــت دونــه ودون االجتهــاد يف أصــول الديــن ،وبــه رفــض
الحــق -يعنــي :مذهــب املعتزلــة -عوائــق االختــاف العقــدي.
ذاتيــة أو موضوعيــة ،يبينهــا القــايض عبــد
الجبــار بقولــه: ومــن ث َــ َّم يفهــم أ َّن دعــوة املعتزلــة إىل
ـح ذلــك وجــب متــى علمنــا يف «فــإذا صـ َّ النظــر العقــي يف أصــول الديــن إنَّ ــا هــي
املخالــف أنَّــه يعتقــد الخطــأ أن نعلــم أنَّه دعــوة مقصــورة ومقيــدة بالنظــر الــذي
إن((( لـــم ينظــر يف الداللــة ،أو نظــر فيهــا يُــؤ ِّدي إىل النتائــج نفســها التــي توصــل
ولـــم يعلمهــا عــى الوجــه الــذي يــدل. إليهــا املعتزلــة أنفســهم ،وهــو مــا يفهــم
هــذا لــو لـــم نعــرف حالهــم ،فكيــف منــه الدعــوة إىل التقليــد يف االســتدالل
ونحــن نعلــم عنــد املناظــرة ،وعنــد -مــع أ َّن املعتزلــة مــن أشــد معــاريض
التقليــد! -ولبيــان ذلــك نقــول:
((( عبــد الجبــار ،الهمــذاين« ،املغنــي» ،مرجــع ســابق، إ َّن املعتزلــة حــن قالــوا بــأ َّن النظــر يُ َولِّــد
(.)119 /12 العلــم؛ فقــد جعلــوه ُمنت ًجــا لــه عــى
((( لعلَّهــا زيــادة مــن النســاخ؛ إذ الســياق ال
يقتضيهــا . ((( املرجع السابق.)247 /2( ،
35 || 34
دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية
ال مينــع مــن اإلكفــار» يقــول فيــه: وعمو ًمــا؛ فــإ َّن الجملــة املذكــورة يف هــذا
«اعلــم أ َّن التأويــل هــو أن يذهــب إليــه النــص تُفيــد بــأ َّن املخالــف لالعتــزال
مذه ًبــا خطــأ((( ،ويحتــج لــه بظاهــر محجــوج غــر معــذور ،بنــا ًء عــى مــا
ٌ
الكتــاب والســنة ،واختلفــوا يف ذلــك. ذكرنــاه ســابقًا يف التمييــز بــن االجتهــاد
فمنهــم مــن قــال :إن التأويــل ال مينــع الفقهــي واالجتهــاد العقــدي؛ فــإذا كان
مــن كــون املذهــب خطــأ ،ومينــع مــن كل مجتهــد يف الفقهيــات مصي ًبــا مأجــو ًرا؛
اإلكفــار بــه .وقــال العنــري :مننــع مــن فــإ َّن املجتهــد املخطــئ يف العقديــات ال
كونــه خطــأ أيضً ــا. يخلــو إ َّمــا أن يكــون كاف ـ ًرا أو فاس ـقًا أو
مخطئًــا.
والــذي ُّ
يــدل عــى أنَّــه ال مينــع منهــا
أنَّــه ال يخــرج املذهــب مــن كونــه خطــأ وهــو مــا يفهــم منــه عــدم قبــول
وذنبًــا؛ أل َّن الجهــل ال يتغــر بذلــك ،وال االختــاف العقــدي عنــد املعتزلــة ،حتــى
يخــرج مــن كونــه جهـ ًـا ،وال الخــر عــن ـأول ،مســتن ًدا
لــو كان هــذا املخالــف متـ ً
كونــه كذبًــا .وانضــام التأويــل الفاســد إىل نظــر يف دليــل مــن األدلــة ،التــي هــي
إىل املذهــب الفاســد يزيــد يف املعصيــة، ظواهــر الكتــاب والســنة ،بنــاء عــى قــول
وال يصــر للمكلــف عــذر يف تــرك النظــر القــايض الســابق« :وأ َّن تأويلــه ال يغــر
الصحيــح؛ ألنَّــه مكلــف بالبحــث يف األدلــة حالــه»؛ إذ إ َّن املخالــف -مــع تأ ُّولــه-
والتأويــل الصحيــح ،فــا يجــوز أن ينتقــص يصــح تكفــره عــى مذهــب معتزلــة ُّ
عقابــه بذلــك»(((. (((
البــرة؛ «إذ أكــر الكفــار متــأول»
عندهــم ،وقــد عقــد املالحمــي يف بيــان
وبذلــك ســيكون موقــف املعتزلــة مــن ذلــك بابًــا بعنــوان« :بــاب يف أ َّن التأويــل
أكــر الفــرق املتأولــة هــو التكفــر ،وهــو
((( أحمــد بــن يحيــى بــن املرتــى املعتــزيل ،كتــاب
((( كذا ،وال تخلو العبارة من ركاكة. «القالئــد يف تصحيــح العقائــد» ،حققــه وقــدم لــه
((( محمــود بــن محمــد ،املالحمــي ،كتــاب «الفائــق وأعــده :ألبــر نــري نــادر ،بــروت ،لبنــان ،دار
يف أصــول الديــن» ،مرجــع ســابق( ،ص.)605 / املــرق ش م م1985( ،م)( ،ص.)136 /
37 || 36
دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية
ال تكفــر وال تفســيق فيهــا ،ومييــزون بــن مــا نجــده رصي ًحــا عنــد املعتزلة أنفســهم؛
األصــول الفــروع يف العقديــات ،ثــم إذا فــإ َّن املالحمــي ينقــل عــن شــيوخ املعتزلة
وقــع الخــاف مــن الخصــوم ،لـــم يفرقــوا تكفريهــم بعــض الفــرق اإلســامية،
بــن أصــل وفــرع ،بــل يجعلــون الــكل كاملشــبهة ،واملجــرة ،والصفاتيــة(((.
رتبــة واحــدة ،فــإن ُدعــوا إىل التفريــق،
لجــؤوا إىل اإللــزام. ومبقابــل تكفــر هــذه الفــرق؛ فإنَّــه يقــر
بعــدم تكفــر فــرق أخــرى كالخــوارج
بــل إ َّن تكفــر املعتزلــة للفــرق الســابقة واملرجئــة ،وذلــك لحصــول املوافقــة
أغلبــه إن لـــم نقــل كلــه قائــم عــى بينهــم ،إال يف أمــور يســرة لـــم يــدل
إلزامــات ال يلتزمهــا أصحابهــا ،ومــن ذلــك الدليــل عــى أنَّهــا تســتوجب تكفريهــم،
تكفريهــم الصفاتيــة -وخاصــة األشــاعرة- فتكــون بذلــك مــن الخطــأ الــذي ال
فــإ َّن تكفريهــم قائــم عــى إلـزام ال يلتزمه يســتحق فســقًا وال كفــ ًرا(((.
األشــاعرة ،وبيــان ذلــك أن نقــول:
وهــو مــا يفهــم منــه أ َّن املعتزلــة وإن
إ َّن املعتزلــة قــد ألزمــوا األشــاعرة تشــددوا يف الدعــوة إىل موافقتهــم يف
بإثبــات (قديــم) مــوا ٍز للــه -تعــاىل -يف أصولهــم جملــة وتفصيـ ًـا؛ فإنَّهــم قبلــوا
ال ِقــدم واألزليــة ،وكأنَّهــم تصــوروا أ َّن بعــض االختالفــات ،ال عــى أنَّهــا اجتهــاد
إثبــات الصفــات -بالطريقــة التــي ِ يف مأجــور ،وإنَّ ــا عــى أنَّهــا خطــأ مغفــور،
رشحهــا األشــاعرة -إثبــاتَ أشــيا َء أخــرى وخاصــة تلــك االختالفــات الواقعــة بــن
قامئ ـ ٍة بذاتهــا ،وأ َّن يف فصــل الصفــة عــن املعتزلــة أنفســهم ،وهــو مــا قــد يفهــم
الــذات إثباتًــا لعــدة أغيــار ،وبذلــك فإنَّهم منــه أن املعتزلــة يزِنــون مســائل الخــاف
سيقيســون إثبــات الصفــات عــى إثبــات مبيزانــن؛ فيجعلــون مــا كان مــن ذلــك
آلهــة أخــرى ُمشــارِك ٍة للــه يف القــدم بــن األصحــاب مــن بــاب الفــروع التــي
واألزليــة ،ومــن ث َ ـ َّم ســيكفرون األشــاعرة
((( املرجع السابق( ،ص ،593 /وما بعدها).
بتهمــة القــول بتعــدد القدمــاء ،والخــروج
((( املرجع السابق( ،ص.)604 ،603 /
العدد 1
خريف عام 2016م
وقــد تنبَّــه إىل هــذا اإلشــكال أبــو القاســم عــن (التوحيــد) الــذي هــو أصــل أصــول
البســتي-من معتزلــة الزيديــة -فرفــض الديــن.
هــذا املنهــج القائــم عــى التفريــق بــن
املوالــف واملخالــف ،فذكــر أ َّو ًل بعــض وال يخفــى مــا يف هــذا اإللــزام مــن
األخطــاء التــي وقــع فيهــا بعــض شــيوخ الخطــأ والتضليــل؛ بــل قــد تع ـ َّدى األمــر
قائــا:
املعتزلــة ً إىل قيــاس مذهــب الكُّالبيــة واألشــاعرة
يف إثبــات الصفــات والقــول بقدمهــا،
«أال تــرى أ َّن النظــام اعتقــد أ َّن اللــه عــى كفــر النصــارى بالتثليــث ،و َمــن
-تعــاىل -ال يقــدر عــى مــا لــو فعلــه لــكان حــذا حذوهــم((( .يظهــر إذن أ َّن إثبــات
قبي ًحــا ...والشــيخ أبــو عــي وأصحابــه األشــاعرة لصفــات قدميــة قــد فهــم منــه
أنكــروا مــا عليــه القديــم ،وقالــوا :يخالــف املعتزلــة إثبــات قدمــاء يــوازون آلهــة
بأحــكام صفاتــه ،وال يخالــف بصفــة املرشكــن ،وأقانيــم النصــارى ،ومــن ث َ ـ َّم؛
زائــدة ،واســتعظموا هــذا القــول .وقــد فقــد ألزموهــم بهــذا الفهــم ،ثــم حكمــوا
قــال الشــيخ أبــو عبــد اللــه إ َّن للــه تعــاىل عليهــم وعــى الكالبيــة وســائر الصفاتيــة
(أحــوالً ) بعــدد املعلومــات إن كانــت بالكفــر.
مــا يعــد ،»...وذكــر عــدة األحــوال َّ
أمثلــة ،ثــم قــال: وواضــح أ َّن هــذا الفهــم ال يصــح مطل ًقــا،
وحتــى وإن ُس ـلِّم أنَّــه صحيــح يف نفســه؛
«وإنَّ ــا لـــم نسـ ِ
ـتوف مســائلهم أل َّن ذلــك قــول
فــإ َّن مثبتــي الصفــات ال يلتزمونــه ً
يجــري مجــرى التشــنيع ،فاكتفينــا بذلــك لهــم ،وإذا قــرر عليهــم؛ فإنَّهــم ينفونــه
وإل فــا شــيخ يذكــر َّإل ويف املثــالَّ ، غايــة النفــي ،فكيــف يتهمــون بــه بعــد
مذهبــه اعتقــاد متعلقــه القديــم تعــاىل، ذلــك ،وكيــف يُك َّفــرون بقــول ال يقولــون
وهــو عندنــا جهــل ،فيلزمنــا تكفريهــم»(((. بــه؟
39 || 38
دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية
يُطــرد ذلــك أيضً ــا عــى الخــاف الواقــع يظهــر إذن أ َّن البســتي يتعامــل مــع
بــن املذاهــب األخــرى. الخــاف ،ومــع مســألة اإللــزام بهــذا
الخــاف ،مبوضوعيــة ،يــرى أنَّهــا لــو
وبذلــك يكــون أبــو القاســم البســتي مــن طُــردت للــزم تكفــر مشــايخه ،وبالطبــع
املعتزلــة القالئــل الذيــن ميكــن اعتبارهــم فإنَّــه ال يكفرهــم ،غــر أنَّــه ينبــه بعــد
أمنوذ ًجــا لعــذر املخالــف وقبــول تأويلــه ذلــك عــى أنَّــه مثلــا لـــم يقــع الحكــم
وعــدم تكفــره ،مقابــل كثــر مــن املعتزلــة بكفــر شــيوخ املعتزلــة بــازم خالفاتهــم،
الذيــن يرفضــون االختــاف العقــدي، فكذلــك ينبغــي القــول يف الفــرق األخــرى
ويقصــون كثــ ًرا مــن الفــرق اإلســامية املخالفــة للمعتزلــة ،وهــو مــا يعــر عنــه
بالتكفــر. بقولــه -مردفًــا النــص -الســابق:
«ومتــى تأ َّولنــا مذاهبهــم وقلنــا :قــد
وقبــل الختــم ال بُ ـ َّد مــن إشــارة تتعلــق عرفــوا اللــه يف الجملــة ،وغلطُهــم يف غــر
بحكــم املخالفــن مــن الفــرق اإلســامية القديــم ،أو رصفنــا خالفهــم إىل عبــارة
الذيــن وقــع تكفريهــم مــن قبــل املعتزلة؛ أمكــن ذكــر مثــل مــا يعتــذر بــه عنهــم يف
إذ كــا هــو معلــوم؛ فــإ َّن التكفــر حكــم كثــر مــن املخالفــن»(((.
رشعــي لــه آثــار فقهيــة ترتتــب عليــه،
كاســتحالل الــدم ،ومنــع اإلرث واملناكحــة وبــه فــإذا كان اإلميــان املجمــل باألصــول
...فهــل ذهــب املعتزلــة إىل الدعــوة إىل الكــرى ،ال يــر معــه الخــاف يف الفــروع
تأويــا
ً ترتيــب تلــك اآلثــار؟ أم إن لهــم الــر َر الــذي يبلــغ حــ َّد الكفــر؛ فــإ َّن
آخــر؟ هــذا ينطبــق عــى جميــع املذاهــب،
ـب بــه دون وال موجــب لتخصيــص مذهـ ٍ
يجيبنــا عــن ذلــك أحمــد بــن يحيــى غــره .وإن أُ ِّول الخــاف الدائــر بــن
املرتــى ،فيقــول: أصحــاب مذهــب واحــد عــى أنَّــه خــاف
«مســألة :البلخــي عــن املعتزلــة جمي ًعــا: لفظــي (خــاف يف عبــارة) ،فــا بــأس أن
إ َّن املجــرة واملشــبهة كفــار يجــب
((( املرجع السابق( ،ص.)31 ،30 /
العدد 1
خريف عام 2016م
علــا يُفــي إىل اليقــن والقطــع، بهــا ً اســتتابتهم ،وال يُصــى عليهــم ،ونحــوه.
ولـــا كان العلــم عندهــم ال يحصــل َّإل َّ أبــو عــي ،وقــايض القضــاة ،وابــن مبــر:
بالنظــر العقــي؛ فقــد أوجبــوه أيضً ــا مــن لهــم حكــم املرتــد.
بــاب «مــا ال يتــم الواجــب َّإل بــه؛ فهــو أحــد قــويل أيب هاشــم وثُ امــة :بــل حكــم
واجــب» ،وهــو مــا نشــأ عنــه اختــاف الذمــي.
بينهــم يف حكــم العامــي املقلــد أفــى البلخــي :بــل حكــم املســلمني يف املعاملــة،
بأكرثهــم إىل تكفــره ،أو تفســيقه .ولـــم وإنَّ ــا الــكالم يف العقــاب ...
يختلــف الحــال بالنســبة إىل املخالــف لنــا :إذا ثبــت لهــم الكفــر لزمــت
الــذي انبنــى خالفــه عــى نظــر واســتدالل أحكامــه ،فــإن تشــهدوا ثــم أظهــروا الجــر
وتأويــل ،فقــد ذهــب عامــة املعتزلــة فمرتــدون» (((.
إىل رفــض االجتهــاد العقــدي الواقــع يظهــر بذلــك أ َّن عامــة املعتزلــة عــى
بــن الفــرق اإلســامية ،وهــو رفــض قــد القــول برتتيــب أحــكام الكفــر عــى أهــل
نتــج عنــه تكفــر املخالــف يف كثــر مــن تلــك الفــرق ،ولـــم يتســاهل يف ذلــك َّإل
األحيــان ،وبــه يظهــر أ َّن دعــوة املعتزلــة البلخــي الــذي اعتــر أ َّن التكفــر هنــا
إىل النظــر العقــي ،والحكــم بإيجابهــا عىل حكــم متعلــق باآلخــرة ال بالدنيــا ،فصــار
ك ُِّل مكلــف ،ليســت دعــوة إىل االجتهــاد التكفــر عنــده مبنـــزلة التفســيق؛ إذ ال
العقــدي ،وإنَّ ــا هــي دعــوة إىل التقليــد مينــع معاملــة املخالــف مبعاملــة أهــل
يف الدليــل ،وهــو مــا يتعــارض مــع مبــدأ اإلســام ،كــا ال يقــول بنجاتــه يف اآلخــرة.
املعتزلــة يف القــول بفســاد التقليــد!
خاتمة:
ومــن ث َ َّم لـــم يصــح ُمطلقًا اتخــاذ املعتزلة رأينــا خــال هــذا العــرض أ َّن املعتزلــة قــد
أمنوذ ًجــا للحريــة واالنفتــاح العقــي، تشـ َّددوا يف أصولهــم التــي جعلوها أصول
و(محنــة خلــق القــرآن) املشــهورة دليــل الديــن ،وقــد أوجبــوا عــى الجميــع العلــم
عمــي واضــح عــى ذلــك.
((( أحمــد بــن يحيــى ،املرتــى ،كتــاب «القالئــد يف
تم ،والحمد لله. تصحيــح العقائــد» ،مرجــع ســابق( ،ص.)136 /
41 || 40