You are on page 1of 24

‫‪18‬‬

‫دراسات ومقاالت حرة‬


‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫موقف المعتزلة من االختالف العقدي الواقع‬


‫بين الفرق اإلسالمية‬

‫‪ -‬ياسين السالمي* ‪-‬‬

‫مذاهــب‬
‫َ‬ ‫قــد اختلفــت األمــة اإلســامية‬
‫حــا عقديــ ًة‪ ،‬وتباينــت‬ ‫فقهيــ ًة‪ ،‬ونِ ً‬
‫مواقــف كل مذهــب وفرقــة مــن هــذا‬
‫االختــاف بــن ُمتســاهلٍ و ُمتشــد ٍد‪ ،‬لكــن‬
‫اســتقر األمــر عــى أ َّن اختــاف املذاهــب‬
‫الفقهيــة اختــاف رحمــة‪ ،‬واملجتهــد‬
‫فيــه مأجــور عــى كل حــا ٍل‪ ،‬وترســخ أ َّن‬
‫اختــاف الفــرق العقديــة اختــاف فتنــة‪،‬‬
‫واملجتهــد فيــه مأجــور يف حــال واحــد‪،‬‬
‫وهــو إصابتــه الحــق‪ ،‬أمــا إذا أخطــأ؛ فإنَّــه‬
‫يســتحق الكفــر أو الفســق‪ ،‬بحســب‬
‫املســألة املجتهــد فيهــا‪ ،‬وهــو مــا أفــى‬
‫(*) باحــث يف ســلك الدكتــوراه مبؤسســة دار الحديــث‬
‫الحســنية‪ ،‬وحــدة العقيــدة والقــرآن‪ ،‬الربــاط ‪-‬‬
‫املغــرب‪ ،‬الربيــد اإللكــروين‪:‬‬
‫‪yassineessalmi@gmail.com‬‬

‫‪19 || 18‬‬
‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫تلــك بعــض األســئلة التــي نجيــب عنهــا‬ ‫بــكل نِحلــة إىل اعتبــار مذهبهــا هــو‬
‫يف هــذه املقالــة‪ ،‬باالســتناد إىل مــا جــاء‬ ‫مذهــب الحــق الــذي ال يجــوز خالفــه‪،‬‬
‫عنــد املعتزلــة أنفســهم يف كتبهــم التــي‬ ‫مــا نتــج عنــه تكفــر الفــرق بعضهــا‬ ‫َّ‬
‫وصلتنــا‪ ،‬يف محاولــة حثيثــة لتبــن موقــف‬ ‫كل طائفــة منهــا‬ ‫بعضً ــا‪ ،‬وتفســيق ِّ‬
‫املعتزلــة مــن االختــاف العقــدي‪ ،‬وذلــك‬ ‫الطوائـ َـف األخــرى‪ ،‬ولـــم يســلم مــن هــذا‬
‫مــن خــال املحــاور اآلتيــة‪:‬‬ ‫األمــر حتــى بعــض الطوائــف التــي دعــت‬
‫إىل النظــر العقــي‪ ،‬ونبــذ التقليــد‪ ،‬أعنــي‪:‬‬
‫ً‬
‫أوَّل‪ :‬أصول الدين عند المعتزلة‪:‬‬ ‫املعتزلــة‪.‬‬
‫إ َّن الناظــر يف املذاهــب الكالميــة يجــد‬
‫أ َّن ك َُّل فريــق مــن تلــك الفــرق يدعــي أ َّن‬ ‫لقــد أوىل املعتزلــة العقــل مكانــة رفيعــة‪،‬‬
‫فرقتــه هــي الفرقــة الناجيــة‪ ،‬وأ َّن الفــرق‬ ‫ودعــوا إىل اســتعامله يف أصــول الديــن‪،‬‬
‫التــي ســواها كلهــا هلــى‪ ،‬كــا يجتهــد يف‬ ‫بــل أوجبــوا ذلــك عــى املكلــف‪ ،‬لكــن‬
‫بيــان (أصــول الديــن) التــي يخالــف غــره‬ ‫النظــر العقــي يبقــى عمليــة اجتهاديــة‬
‫بهــا‪ ،‬ثــم يجتهــد مــرة أخــرى يف البحــث‬ ‫يصيــب صاحبهــا ويخطــئ‪ ،‬وهــو مــا‬
‫عــن أدلــة تلــك األصــول‪ ،‬بــل ونســبتها‬ ‫يعنــي أ َّن النظــر مظنــة اختــاف النظــار‪،‬‬
‫إىل الصحابــة والتابعــن؛ كل ذلــك مــن‬ ‫فهــل معنــى دعــوة املعتزلــة إىل النظــر‬
‫أجــل البحــث عــن مرشوعيــة ملذهبــه‪،‬‬ ‫أنَّهــا دعــوة إىل االجتهــاد الــذي يُــؤ ِّدي إىل‬
‫ومرشوعيــة إلقصائــه املذاهــب األخــرى‪،‬‬ ‫االختــاف؟ وإذا لـــم يكــن األمــر كذلــك‬
‫وهــو مــا نجــده أيضً ــا عنــد املعتزلــة‬ ‫فــا حكــم هــذا االختــاف الواقــع بــن‬
‫أنفســهم‪.‬‬ ‫النظــار مــن الفــرق اإلســامية؟ بــل ومــا‬
‫حكــم املخالــف؟ هــل هــو فاســق أم‬
‫ويكفينــا يف الداللــة عــى ذلــك أن ننظر يف‬ ‫كافــر؟ وإن حكــم عليــه بأحــد هذيــن‬
‫كتــاب (بــاب ذكــر املعتزلــة وطبقاتهــم)؛‬ ‫الوصفــن فلِــ َم لـــم يُــرا َع أنَّــه ُمتــأ ِّول؟‬
‫لنجــد مؤلفــه أحمــد بــن يحيــى املرتــى‬ ‫أم إ َّن التأويــل واالجتهــاد ال مينــع مــن‬
‫(تُــويف ‪840‬هـــ) ينقــل عن أيب إســحاق بن‬ ‫التكفــر عنــد املعتزلــة؟‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫العقيــدة التــي هــي أصــول الديــن عنــد‬ ‫عيــاش قولــه إ َّن ســند املعتزلــة «يتصــل‬
‫املعتزلــة خمســة فقــط؛ بــل يعنــي أ َّن‬ ‫ـال ظاهـ ًرا شــاه ًرا‪،‬‬
‫إىل واصــل وعمــرو اتصـ ً‬
‫هــذه الخمســة تشــتمل عــى أمهــات‬ ‫وهــا أخـذَا عــن محمــد بــن عــي بــن أيب‬
‫األصــول األخــرى؛ إذ مــا مــن أصــل دينــي‬ ‫طالــب‪ ،‬وابنــه أيب هاشــم عبــد اللــه بــن‬
‫إلَّ ويرجــع إىل أحــد هذه الخمســة‪ ،‬بل إ َّن‬ ‫رب واصـ ًـا‪،‬‬ ‫محمــد‪ ،‬ومحمــد هــو الــذي َّ‬
‫القــايض عبــد الجبــار (تُــويف ‪415‬هـــ) قــد‬ ‫وعلَّمــه حتــى تخــرج واســتحكم‪ ،‬ومحمــد‬
‫قلــص هــذا العــدد يف (مخترص الحســنى)‪،‬‬ ‫أخــذ عــن أبيــه عــي بــن أيب طالــب عليــه‬
‫فجعــل أصــول الديــن أربعــة‪( :‬التوحيــد‪،‬‬ ‫الســام عــن رســول اللــه صــى اللــه عليــه‬
‫والعــدل‪ ،‬والنبــوات‪ ،‬والرشائــع)(((؛ وجعــل‬ ‫وســلم»(((‪ .‬ثــم ذكــر طبقــات املعتزلــة‬
‫مــا عــدا ذلــك ‪-‬مــن الوعــد والوعيــد‪،‬‬ ‫بــد ًءا مــن الطبقــة األوىل التــي عــد فيهــا‬
‫واألســاء واألحــكام‪ ،‬واألمــر باملعــروف‬ ‫الخلفــاء األربعــة‪ ،‬ثــم التابعــن ‪ ...‬مــع أ َّن‬
‫والنهــي عــن املنكــر‪ -‬داخـ ًـا يف الرشائــع‪.‬‬ ‫االعتــزال يف حقيقــة األمــر لـــم يبــدأ َّإل‬
‫ثــم إنَّــه اختــزل تلــك األصــول يف كتــاب‬ ‫ـوف ســنة‬ ‫مــع واصــل بــن عطــاء الــذي تُـ ِّ‬
‫«املغنــي» يف اثنــن فقــط‪ :‬التوحيــد‬ ‫(‪131‬هـ)!‬
‫والعــدل‪ ،‬واعتــر أ َّن النبــوات والرشائــع‬
‫داخــان يف العــدل‪ ،‬فظهــر بذلــك أ َّن هــذا‬ ‫هــذا بالنســبة إىل دعــوى املعتزلة يف ســند‬
‫را ألصــول الديــن؛‬ ‫التعديــد ليــس حــ ً‬ ‫مذهبهــا‪ ،‬أ َّمــا بالنســبة إىل أصولهــا؛ فــإ َّن‬
‫وإنَّ ــا هــو عمليــة إجرائيــة فقــط تحــر‬ ‫املشــهور أ َّن أصــول الديــن عنــد املعتزلــة‬
‫مــا ميكــن أن نســميه أبــواب أصــول‬ ‫خمســة‪ ،‬وهــي‪ :‬التوحيــد‪ ،‬والعــدل‪،‬‬
‫الديــن؛ بحيــث ينــدرج تحــت كل بــاب‬ ‫والوعــد والوعيــد‪ ،‬واملنـــزلة بني املنـــزلتني‪،‬‬
‫منهــا أصــول أخــرى‪.‬‬ ‫واألمــر باملعــروف والنهــي عــن املنكــر‪.‬‬
‫((( ينظــر‪ :‬عبــد الجبــار‪ ،‬الهمــذاين‪« ،‬رشح األصــول‬
‫غــر أ َّن هــذا الحــر ال يعنــي أ َّن مســائل‬
‫الخمســة»‪ ،‬تعليــق‪ :‬مانكديــم أحمــد بــن‬
‫الحســن بــن أيب هاشــم‪ ،‬حققــه وقــدم لــه‪:‬‬ ‫((( أحمــد بــن يحيــى‪ ،‬املرتــى‪« ،‬بــاب ذكــر املعتزلــة‬
‫عبــد الكريــم عثــان‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬مكتبــة وهبــة‪،‬‬ ‫وطبقاتهــم»‪ ،‬تحقيــق‪ :‬تومــا آرنلــد‪ ،‬لنــدن‪ ،‬دار‬
‫(‪1427‬هـــ‪2006/‬م)‪( ،‬ص‪.)122 /‬‬ ‫الــوراق (‪2008‬م)‪( ،‬ص‪.)10 /‬‬

‫‪21 || 20‬‬
‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫أصــول الديــن بالغًــا مــا بلــغ العــدد‪،‬‬ ‫ذلــك مــا يُؤكِّــده أحمــد بــن الحســن‬
‫وبذلــك ســتكون أصــول الديــن أكــر مــن‬ ‫بــن أيب هاشــم امللقــب مبانكديــم (تُــويف‬
‫خمســة‪ .‬وســواء أكانــت أصــول الديــن‬ ‫‪425‬هـــ) يف تعليقــه «رشح األصــول‬
‫‪-‬عنــد املعتزلــة‪ -‬خمســة أم أكــر؛ فــإ َّن‬ ‫الخمســة»‪ ،‬حيــث يذكــر عــدم إفــراد‬
‫الــذي يهمنــا هــو بيــان تشــدد املعتزلــة‬ ‫القــايض عبــد الجبــار النبــوات واإلمامــة‬
‫يف هــذه األصــول‪ ،‬وجعــل القــول بهــا هــو‬ ‫بالذكــر يف جملــة أصــول الديــن‪ ،‬واعتذاره‬
‫ســبيل النجــاة‪ ،‬وجعــل خالفهــا موج ًبــا‬ ‫عــن ذلــك «بــأ َّن الخــاف يف ذلــك يدخــل‬
‫للكفــر أو الفســق أو الخطــأ‪ ،‬كــا س ـراه‬ ‫تحــت هــذه األبــواب‪ ،‬فــا يجــب إفـراده‬
‫الح ًقــا‪.‬‬ ‫بالذكــر»‪ ،‬ثــم يعقــب عليــه مانكديــم‬
‫ُمعتــ ًرا «أ َّن هــذا العــذر ليــس بواضــح؛‬
‫إ َّن هــذا التشــديد ســيجعل املعتزلــة‬ ‫فــإ َّن الخــاف يف الوعــد والوعيــد واملنـــزلة‬
‫يوجبــون عــى النــاس اتبــاع أصولهــم؛‬ ‫بــن املنـــزلتني وغريهــا‪ ،‬مـ َّـا يدخــل يف‬
‫العتبــار أ َّن اإلميــان ال يتــم إلَّ بهــا‪ ،‬غــر‬ ‫العــدل‪ ،‬ثــم أفــرده بالذكــر‪ ،‬فهــا أفــرد‬
‫أنَّهــم لـــم يرضــوا اتباعهــم تقليــ ًدا‪ ،‬بــل‬ ‫مــا ذكرنــاه أيضً ــا بالذكــر‪ .‬والصحيــح أنَّــه‬
‫أوجبــوا عــى ك ُِّل مكلــف معرفــة تلــك‬ ‫يقتــر عــى مــا أورده يف «املغنــي»‪ ،‬أو‬
‫األصــول عــن طريــق النظــر واالســتدالل‪،‬‬ ‫يـزاد عــى الخمــس ويذكــر بال ًغــا مــا بلغ‪،‬‬
‫وهــو مــا نوضحــه يف‪:‬‬ ‫فعــى هــذا يجــري الــكالم يف ذلــك»(((‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬واجب المكلف عند‬
‫المعتزلة‪:‬‬ ‫وبذلــك؛ فــإ َّن رأي مانكديــم يف تعديــد‬
‫أوجــب املعتزلــة عــى جميــع املكلفــن‬ ‫أصــول الديــن هــو االختيــار بــن أمريــن‬
‫معرفــة أصــول الديــن بطريــق النظــر‬ ‫اثنــن‪ :‬إ َّمــا أن يقتــر عــى أصلــن اثنــن‬
‫واالســتدالل‪ ،‬ثــم فرقــوا بــن العالـــم‬ ‫كــا يف كتــاب «املغنــي»؛ أعنــي‪ :‬التوحيــد‬
‫ـرض العالـــم معرفتَها‬
‫والعامــي‪ ،‬فجعلــوا فـ َ‬ ‫والعــدل‪ ،‬باعتبــار كل األصــول األخــرى‬
‫بالتفصيــل‪ ،‬وأوجبــوا عــى العامــي‬ ‫ترجــع إليهــا‪ .‬وإ َّمــا أن يذكــر جميــع‬
‫ـال؛ «أل َّن َمــن لـــم يعــرف‬
‫معرفتهــا إجـ ً‬ ‫((( املرجع السابق‪( ،‬ص‪.)125 /‬‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫ملتبســا‬
‫ً‬ ‫عمــا قلبيًّــا‬
‫ً‬ ‫ولـــا كان النظــر‬
‫َّ‬ ‫هــذه األصــول ال عــى الجملــة‪ ،‬وال عــى‬
‫بغــره مــن أفعــال القلــوب كاالعتقــاد‪،‬‬ ‫التفصيــل‪ ،‬لـــم يتكامــل علمــه بالتوحيــد‬
‫واإلرادة؛ فقــد بـ َّـن أ َّن النظــر يتم َّيــز عنهــا‬ ‫والعــدل»(((‪.‬‬
‫بأحــكام خاصــة‪ ،‬منهــا(((‪:‬‬
‫ومرجــع ذلــك ‪-‬عندهــم‪ -‬أ َّن أصــول الدين‬
‫‪ -‬أ َّن فيــه مــن املشــقة والتعــب مــا ليــس‬ ‫ال يقبــل فيهــا َّإل العلــم‪ ،‬وطريــق العلــم‬
‫يف اإلرادة واالعتقــاد‪.‬‬ ‫إنَّ ــا هــو النظــر واالســتدالل‪ ،‬دون غــره‪،‬‬
‫ولتوضيــح ذلــك نقــول‪:‬‬
‫يتأت إلَّ مع التجويز والشك‪.‬‬
‫‪ -‬أنَّه ال َّ‬
‫إ َّن العالقــة بــن النظــر والعلــم ‪-‬عنــد‬
‫‪ -‬أنَّــه مزيــل للَّبــس إذا وقــع عــى وجــه‬ ‫املعتزلــة‪ -‬هــي عالقــة إنتــاج وتوليــد‪،‬‬
‫مخصــوص‪.‬‬ ‫يكــون النظــر فيهــا ُمولِّـ ًدا للعلــم‪ ،‬والعلــم‬
‫مولَّــ ًدا عــن النظــر‪.‬‬
‫علــا‪،‬‬
‫‪ -‬أنَّــه يؤثــر يف وقــوع االعتقــاد ً‬
‫وال ح ـ َّظ لغــره مــن املعــاين يف أن يصــر‬ ‫ـص عـــند‬‫وهـــذه املـصـطـلـحـــات تـخـتــ ُّ‬
‫مولـ ًدا لالعتقــاد عــى وجــه يكــون علـ ًـا‪.‬‬ ‫املعتزلــة بـخـــصائص ال بُــدَّ مــن بيانهــا‪:‬‬
‫وبهــذا الوصــف األخــر يظهــر ســبب‬
‫تشــدد املعتزلــة يف إيجــاب النظــر عــى‬ ‫النظر‪:‬‬
‫كل مكلــف؛ إذ إ َّن أصــول الديــن ‪-‬التــي‬ ‫يعــرف القــايض عبــد الجبــار النظــ َر‬
‫هــي اعتقــادات‪ -‬ال بُـ َّد فيهــا مــن العلــم‪،‬‬ ‫بالفكــر فيقــول‪:‬‬
‫والعلــم عنــد املعتزلــة تنحــر طريقــه يف‬ ‫«اعلــم أ َّن النظــر الــذي نريــد إثباتــه‬
‫النظــر‪.‬‬ ‫هاهنــا إنَّ ــا هــو الفكــر»(((‪.‬‬

‫بتحقيقــه ونــره‪ :‬يــان پــرس‪ ،‬بــروت‪ ،‬لبنــان‪ ،‬دار‬ ‫((( املرجع السابق‪( ،‬ص‪.)124 /‬‬
‫املــرق‪1999( ،‬م)‪.)199 /3( ،‬‬ ‫((( عبــد الجبــار‪ ،‬الهمــذاين‪ ،‬كتــاب «املجمــوع يف‬
‫((( املرجع السابق‪.)200 ،199 /3( ،‬‬ ‫املحيــط بالتكليــف»‪ ،‬جمعــه ابــن متويــه‪ ،‬عنــي‬

‫‪23 || 22‬‬
‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫وســائر مــا يحــل يف جوارحــه مــن األكــوان‬ ‫التولد‪:‬‬


‫واالعتــادات وغريهــا‪ ،‬وأ َّن املتولــد هــو‬ ‫ينســب إحــداث القــول بالتولــد إىل بــر‬
‫مــن فعــل اإلنســان‪ ،‬حـ َّـل يف بعضــه أو يف‬ ‫بــن املعتمــر (تُــويف ‪210‬هـــ) مؤســس‬
‫غــره‪ ،‬وأ َّن املــوات ال يجــوز أن نثبــت لــه‬ ‫املدرســة املعتزليــة ببغــداد؛ إذ بحســب‬
‫فعــا؛ ال طب ًعــا‪ ،‬وال اختيــا ًرا»(((‪.‬‬
‫ً‬ ‫الشهرســتاين؛ فإنَّــه «هــو الــذي أحــدث‬
‫القــول بالتولــد وأفــرط فيــه»(((‪ ،‬وقــد‬
‫وهــو مــا يعنــي أ َّن الــيء املتولِّــد عــن‬ ‫خالفــه يف ذلــك الجاحــظ (تُــويف ‪255‬هـــ)‪،‬‬
‫فعــل اإلنســان هــو أيضً ــا مــن فعلــه‪،‬‬ ‫ومثامــة بن أرشس (تُويف ‪213‬هـــ)‪ ،‬والنظام‬
‫مثــا‪ ،‬ينســب لــه فعــل‬ ‫ً‬ ‫فالضــارب‬ ‫(تُــويف بــن ‪231 -221‬هـــ)‪ ،‬ووافقــه ســائر‬
‫الــرب‪ ،‬كــا ينســب لــه الفعــل املتولــد‪،‬‬ ‫املعتزلــة يف القــول بالتولــد عــى الجملــة‪،‬‬
‫وهــو األلـــم‪.‬‬ ‫وإن اختلفــوا يف التفصيــل(((‪.‬‬

‫يضــاف إىل ذلــك أ َّن أكــر املعتزلــة‬ ‫ويف رشح معنــاه يقــول القــايض عبــد‬
‫يــرون أ َّن هــذا التوليــد يكــون بطريــق‬ ‫الجبــار‪« :‬وقــال الشــيخ أبــو الهذيــل‬
‫اإليجــاب؛ إذ عندهــم أ َّن «األســباب‬ ‫‪-‬رحمــه اللــه‪ -‬وشــيوخنا ‪-‬رحمهــم اللــه‪-‬‬
‫موجبــة ملســبباتها»(((‪ ،‬ومــن ث َــ َّم وجــب‬ ‫بعــده‪ :‬إ َّن العبــد يفعــل اإلرادة واملــراد‬
‫أن يُنســب إىل فاعــل الســبب األول كل‬
‫((( عبــد الكريــم‪ ،‬الشهرســتاين‪« ،‬امللــل والنحــل»‪،‬‬
‫نتائجــه ومســب َباته‪ ،‬وهــو مــا يعنــي ‪-‬فيــا‬ ‫تصحيــح وتعليــق‪ :‬أحمــد فهمــي محمــد‪ ،‬بــروت‪،‬‬
‫يخــص مســألتنا‪ -‬أ َّن فعــل النظــر ينتــج‬ ‫لبنــان‪ ،‬دار الكتــب العلميــة‪1413( ،‬هـــ‪1992/‬م)‪،‬‬
‫العلــم بطريــق التوليــد‪ ،‬ومــن ث َــ َّم فــإ َّن‬ ‫(‪.)56 /1‬‬
‫((( عبــد الجبــار‪ ،‬الهمــذاين‪« ،‬املغنــي»‪ ،‬الجزء التاســع‪:‬‬
‫((( املرجع السابق‪.)12 ،11 /9( ،‬‬ ‫التوليــد‪ ،‬تحقيــق‪ :‬توفيــق الطويــل‪ ،‬وســعيد زايــد‪،‬‬
‫((( أبــو الحســن‪ ،‬األشــعري‪ ،‬كتــاب «مقــاالت‬ ‫راجعــه‪ :‬إبراهيــم مدكــور‪ ،‬بــإرشاف طــه حســن‪،‬‬
‫اإلســاميني»‪ ،‬عنــي بتصحيحــه‪ :‬هلمــوت رت ّــر‪،‬‬ ‫القاهــرة‪ ،‬وزارة الثقافــة واإلرشــاد القومــي‪،‬‬
‫بــإرشاف املعهــد األملــاين للدراســات الرشقيــة‪،‬‬ ‫املؤسســة املرصيــة العامــة للتأليــف واألنبــاء‬
‫بــروت‪ ،‬لبنــان‪ ،‬مطبعــة املتوســط‪ ،‬نــر‪( :‬كالوس‬ ‫والنــر‪ ،‬الــدار املرصيــة للتأليــف والرتجمــة‪،‬‬
‫شــڤارتس فــرالغ) برلــن‪2005 ( ،‬م)‪( ،‬ص‪.)412 /‬‬ ‫سلســلة تراثنــا‪( ،‬د‪.‬ن)‪.)12 - 11 /9( ،‬‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫اإلنســان ‪-‬مــن حالــه‪ -‬مــن التفرقــة‬ ‫فعــا‬


‫العلــم ‪-‬عنــد املعتزلــة‪ -‬ســيصبح ً‬
‫بــن مــا يحصــل لــه مــن االعتقــاد عنــد‬ ‫للناظــر؛ ألنَّــه مولَّــد عــن فعلــه (النظــر)‪.‬‬
‫املشــاهدة‪ ،‬وبــن مــا يحصــل لــه عــى غري‬
‫هــذا الطريــق»(((‪ ،‬وهــو مــا فــره بعــض‬ ‫العلم‪:‬‬
‫املعتزلــة ب ُبعــد صاحبــه عن الشـ ِّـك إذا رام‬ ‫إ َّن العلــم عنــد املعتزلــة معنــى مــن‬
‫غــره أن يشــككه(((‪ .‬ومــن ثَـ َّم؛ فــإ َّن العلم‬ ‫جنــس االعتقــاد‪ ،‬غــر أ َّن هــذا االعتقــاد ال‬
‫عنــد املعتزلــة اعتقــاد مخصــوص‪ ،‬مــع‬ ‫يكــون علـ ًـا َّإل برشطــن‪ :‬األول‪ :‬مطابقــة‬
‫رشط ســكون النفــس إىل ذلــك االعتقــاد‪.‬‬ ‫االعتقــاد للواقــع‪ .‬والثــاين‪ :‬ســكون النفس‪.‬‬
‫غــر أ َّن الجاحــظ ســيعرتض عــى هــذا‬ ‫والــرط الثــاين هــو أســاس التعريــف‪،‬‬
‫الــرط ‪-‬أعنــي‪ :‬ســكون النفــس‪ -‬بدليــل‬ ‫وجوهــر الخــاف بــن املعتزلــة وغريهــم‬
‫أ َّن الجاهــل أيضً ــا قــد تســكن نفســه إىل‬ ‫يف حــد العلــم‪ ،‬بــل أصبــح العلــم عندهــم‬
‫معتقــده وتطمــن إليــه‪ ،‬وقــد أجــاب‬ ‫ال يعــرف إلَّ بــه؛ ومــن تعاريفــه مــا يعــر‬
‫قائــا‪« :‬ومــا‬
‫عنــه القــايض عبــد الجبــار ً‬ ‫عنــه القــايض بقولــه‪« :‬العلــم هــو املعنــى‬
‫ادعــاه أبــو عثــان ‪-‬رحمــه اللــه‪ -‬مــن‬ ‫الــذي يقتــي ســكون نفس العالـــم إىل ما‬
‫أ َّن نفــس الجاهــل تســكن‪ ،‬فذلــك تقديــر‬ ‫تناولــه‪ ،‬وبذلــك ينفصــل مــن غــره‪ ،‬وإن‬
‫مــن الجاهــل‪ ،‬ال أنَّــه‪ ،‬يف الحقيقــة‪ ،‬ســاكن‬ ‫كان ذلــك املعنــى ال يختــص بهــذا الحكــم‬
‫النفــس»(((‪.‬‬ ‫َّإل إذا كان اعتقــا ًدا‪ ،‬معتقَــده عــى مــا‬
‫هــو بــه واق ًعــا عــى وجــه مخصــوص»(((‪.‬‬
‫((( عبــد الجبــار‪ ،‬الهمــذاين‪ ،‬كتــاب «املجمــوع يف‬ ‫ومعنــى ســكون النفــس «مــا يجــده‬
‫املحيــط بالتكليــف»‪ ،‬مرجــع ســابق‪.)205 /3( ،‬‬
‫((( املرجع السابق‪.)205 /3( ،‬‬ ‫((( عبــد الجبــار‪ ،‬الهمــذاين‪« ،‬املغنــي»‪ ،‬النظــر‬
‫((( عبد الجبار‪ ،‬الهمذاين‪« ،‬املغني»‪ ،‬الجزء الثاين‬ ‫واملعــارف‪ ،‬تحقيــق‪ :‬إبراهيــم مدكــور‪ ،‬بــإرشاف‬
‫عرش‪ :‬النظر واملعارف‪ ،‬تحقيق‪ :‬إبراهيم مدكور‪،‬‬ ‫طــه حســن‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬وزارة الثقافــة واإلرشــاد‬
‫بإرشاف طه حسني‪ ،‬القاهرة‪ ،‬وزارة الثقافة واإلرشاد‬ ‫القومــي‪ ،‬املؤسســة املرصيــة العامــة للتأليــف‬
‫القومي‪ ،‬املؤسسة املرصية العامة للتأليف واألنباء‬ ‫واألنبــاء والنــر‪ ،‬الــدار املرصيــة للتأليــف‬
‫والنرش‪ ،‬الدار املرصية للتأليف والرتجمة‪ ،‬سلسلة‬ ‫والرتجمــة‪ ،‬سلســلة تراثنــا‪ ،‬مطبعــة مــر‪( ،‬د‪.‬ن)‪،‬‬
‫تراثنا‪( ،‬د‪.‬ن) مطبعة مرص‪.)37 /12( ،‬‬ ‫(‪.)13 /12‬‬

‫‪25 || 24‬‬
‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫فــا يقــع عنــده مــن الجهــل ال يكــون‬ ‫المنظور فيه‪:‬‬


‫ُمتولِّ ـ ًدا عــن النظــر‪.‬‬
‫يظهــر مـ َّـا ســبق أ َّن العالقــة بــن النظــر‬
‫وأ َّمــا إذا لـــم يعتقــده داللــة بأن ســبق له‬ ‫والعلــم هــي عالقــة إنتــاج وتوليــد؛ إذ‬
‫العلــم بأنَّهــا شــبهة‪ ،‬فقــد يجــوز أن يكــون‬ ‫النظــر مولــد للعلــم‪ ،‬موجــب لحصولــه‪،‬‬
‫نظــره؛ لينكشــف لــه الوجــه الــذي منــه‬ ‫لكــن العلــم ال يحصــل عــن كل نظــر‪،‬‬
‫صــار شــبهة أو لينكشــف لــه بطالنهــا‪،‬‬ ‫وإنَّ ــا عــن النظــر يف الدليــل؛ إذ ال يخلــو‬
‫وعــى كال هذيــن الوجهــن يجــوز أن‬ ‫النظــر مــن أن يتعلَّــق بالداللــة‪ ،‬أو‬
‫يحصــل العلــم لــه عــن النظــر(((‪.‬‬ ‫األمــارة‪ ،‬أو الشــبهة(((‪:‬‬

‫وخالصة األمر‪:‬‬ ‫فــإذا وقــع النظــر يف الدليــل‪ ،‬وقــد علمــه‬


‫ـدل‪ ،‬أوجــب‬ ‫الناظــر عــى الوجــه الــذي يـ ُّ‬
‫إ َّن النظــر املولِّــد للعلــم‪ ،‬هــو النظــر يف‬ ‫نظـ ُره العلـ َم‪ ،‬وإن لـــم يعلمه عــى الوجه‬
‫الدليــل عــى الوجــه الــذي ُّ‬
‫يــدل‪ ،‬ومــا‬ ‫ـدل لـــم يُولِّــد هــذا النظــر شــيئًا‪،‬‬
‫الــذي يـ ُّ‬
‫دون ذلــك‪ ،‬فهــو إ َّمــا غالــب ظــن‪ ،‬وإ َّمــا‬ ‫ومــا يعتقــده عنــد ذلــك هــو عــى ســبيل‬
‫جهــل‪.‬‬ ‫االبتــداء‪.‬‬

‫ولــ َّـا كانــت العقائــد الدينيــة مـ َّـا يطلب‬ ‫وأ َّمــا إذا وقــع النظــر يف األمــارة؛ فإنَّ ــا‬
‫فيــه العلــم فقــد فــرض املعتزلــة عــى‬ ‫يدعــو عل ُمــه باألمــارة إىل غالــب الظـ ِّن ال‬
‫الجميــع النظــر واالســتدالل ‪-‬مــع التفريق‬ ‫عــى أن يكــون نظــره مول ـ ًدا لــه‪.‬‬
‫بــن واجــب العلــاء وواجــب العامــة‪-‬‬
‫وهــو مــا ســينبني عليــه اختالفهــم يف‬ ‫فأ َّما إذا وقع يف شبهة‪:‬‬
‫حكــم العامــي الــذي اعتقــد الحــق‬ ‫فقــد يكــون بــأن يعتقــد املــرء أنَّهــا داللــة‪،‬‬
‫تقليــ ًدا مــن غــر نظــر واســتدالل‪.‬‬
‫((( عبــد الجبــار‪ ،‬الهمــذاين‪ ،‬كتــاب «املجمــوع يف‬
‫((( املرجع السابق‪.)204 /3( ،‬‬ ‫املحيــط بالتكليــف»‪ ،‬مرجــع ســابق‪.)201 /3( ،‬‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫لك َّنــه لـــم يوضــح درجــة ذلــك الــذم‬ ‫موقف المعتزلة من إيمان‬
‫املتعلــق بتــارك النظــر‪ ،‬هــل هــو مــن‬ ‫المقلد‪:‬‬
‫بــاب الكفــر أو الفســق أو غريهــا‪.‬‬
‫الــيء نفســه يقــع عنــد املالحمــي (تُــويف‬ ‫إ َّن حــر طريــق معرفــة اللــه ‪-‬تعــاىل‪ -‬يف‬
‫‪536‬هـــ) حيــث يقــول‪« :‬وأ َّمــا املقلــد‬ ‫النظــر‪ ،‬يُــؤ ِّدي مبــارشة إىل القــول بفســاد‬
‫لإلســام؛ فقــد اختلفــوا يف تكفــره»(((؛‬ ‫طريــق‬
‫ُ‬ ‫الطــرق األخــرى‪ ،‬ومــن ذلــك‪:‬‬
‫فهــو يُشــر إىل أ َّن املســألة مختلــف فيهــا‪.‬‬ ‫التقليــد‪ ،‬وهــو مــا يشــعر ابتــداء بعــدم‬
‫ويف الســياق نفســه يفصــل عبــد القاهــر‬ ‫صحــة إميــان املقلــد؛ ألنَّــه غــر عــارف‬
‫البغــدادي (تُــويف ‪429‬هـ) ‪-‬من األشــاعرة‪-‬‬ ‫باللــه ‪-‬تعــاىل‪ -‬فينـــزل مرتبــة الجاهــل أو‬
‫هــذا الخــاف نو ًعــا مــن التفصيــل فيقول‪:‬‬ ‫ـاك‪ ،‬والجهــل باللــه ‪-‬تعــاىل‪ -‬والشـ ّـك‬‫الشـ ّ‬
‫«واختلــف الذيــن قالــوا منهــم‪ :‬إ َّن املعرفة‬ ‫فيــه‪ ،‬خصلــة مــن خصــال الكفــر عنــد‬
‫باللــه وكتبــه ورســله اكتســاب عــن نظــر‬ ‫املعتزلــة(((‪.‬‬
‫واســتدالل‪ ،‬فيمــن اعتقــد الحــق تقلي ـ ًدا‪:‬‬
‫فمنهــم َمــن قــال‪ :‬إنَّــه فاســق برتكــه‬ ‫إ َّن املعتزلــة حــن قــرروا وجــوب النظــر‪،‬‬
‫النظــر واالســتدالل‪ ،‬فالفاســق عندهــم ال‬ ‫فقــد رت َّبــوا عــى ذلــك آثــار اإليجــاب‬
‫مؤمــن وال كافــر‪ .‬ومنهــم مــن زعــم أنَّــه‬ ‫مد ًحــا وذ ًّمــا؛ وهــو مــا يبينــه القــايض‬
‫كافــر لـــم تصــح توبتــه عــن كفــره لرتكــه‬ ‫صــح فيــا‬
‫عبــد الجبــار بقولــه‪« :‬وقــد َّ‬
‫بعــض فروضــه»(((‪.‬‬ ‫يجــب عــى املكلــف أنَّــه يســتحق بــه‬
‫املــدح والثــواب‪ ،‬وباإلخــال بــه الــذم‬
‫((( محمــود بــن محمــد‪ ،‬املالحمي‪،‬كتــاب «الفائــق‬ ‫والعقــاب»(((‪.‬‬
‫يف أصــول الديــن»‪ ،‬حققــه وقــدم لــه وعلــق عليــه‪:‬‬
‫فيصــل بديــر عــون‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬مطبعــة دار الكتــب‬ ‫((( أبــو القاســم‪ ،‬البســتي‪ ،‬كتــاب «البحــث عــن أدلة‬
‫والوثائــق القوميــة‪1431( ،‬هـــ‪2010/‬م)‪( ،‬ص‪/‬‬ ‫التكفــر والتفســيق»‪ ،‬تحقيــق ومقدمــة‪ :‬ويلفــرد‬
‫‪.)602‬‬ ‫مادلونــك‪ ،‬وزابينــه اشــميتكه‪ ،‬كولونيــا (أملانيــا) ‪-‬‬
‫((( عبــد القاهــر‪ ،‬البغــدادي‪ ،‬كتــاب «أصــول الديــن»‪،‬‬ ‫بغــداد‪ ،‬منشــورات الجمــل‪2009( ،‬م)‪( ،‬ص‪.)10 /‬‬
‫مطبعــة الدولــة‪ ،‬إســتانبول‪1928( ،‬م)‪( .‬ص‪،254 /‬‬ ‫((( عبــد الجبــار‪ ،‬الهمــذاين‪« ،‬املغنــي»‪ ،‬مرجــع‬
‫‪.)255‬‬ ‫ســابق‪.)444 /12( ،‬‬

‫‪27 || 26‬‬
‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫النفــس‪ ،‬وبذلــك قــال بــأ َّن املقلــد للحــق‬ ‫وإىل جانــب هذيــن الرأيــن‪ ،‬يوجــد‬
‫معــذور ومصيــب(((‪.‬‬ ‫رأي آخــر‪ ،‬وهــو القائــل بصحــة إميــان‬
‫املقلــد‪ ،‬وهــو محــي عــن أيب إســحاق بــن‬
‫مستند القائلين بالتكفير‪:‬‬ ‫عيــاش(((‪ ،‬وأيب القاســم الكعبــي(((‪.‬‬
‫ذهــب هــؤالء إىل أ َّن املعرفــة واجبــة‪،‬‬
‫بطريــق النظــر واالســتدالل‪ ،‬وال يشء‬ ‫يظهــر إذن أ َّن الخــاف واقــع بــن‬
‫يس ـ ُّد مس ـ َّدها‪ ،‬و ِمــن ث َ ـ َّم قالــوا‪ :‬إ َّن َمــن‬ ‫املعتزلــة يف حكــم املقلــد‪ ،‬وقــد وصــف‬
‫ـأت بهــا فقــد كفــر‪ ،‬وصــورة ذلــك‪:‬‬ ‫لـــم يـ ِ‬ ‫أبــو القاســم البســتي (تُــويف ‪420‬هـــ) هذا‬
‫إنَّــه ال طريــق إىل معرفــة اللــه ‪-‬تعــاىل‪َّ -‬إل‬ ‫الخــاف بـ(الشــديد)(((‪:‬‬
‫النظر واالســتدالل‪.‬‬ ‫‪ -‬فمنهم من ذهب إىل تكفريه‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم من ذهب إىل تفسيقه‪.‬‬
‫وإذ كان العــوام املقلــدة ال ينظــرون‬ ‫‪ -‬ومنهــم مــن ذهــب إىل القــول بصحــة‬
‫وال يســتدلون؛ فإنَّهــم ال يعرفــون اللــه‬ ‫إميانــه‪.‬‬
‫‪-‬تعــاىل‪ -‬ومــن ث َــ َّم فهــم كفــار‪.‬‬
‫مستند القائلين باإليمان‪:‬‬
‫ـب‬
‫وقــد أشــار البســتي إىل أ َّن هــذا املذهـ َ‬ ‫والذيــن ذهبــوا إىل صحــة إميانــه‪ ،‬خالفــوا‬
‫«حــر مذهــب أيب هاشــم وأصحابــه» ‪.‬‬
‫(((‬
‫املعتزلــة يف مفهــوم العلــم؛ فأبــو القاســم‬
‫ومســتند هــذا املذهــب هــو قيــاس‬ ‫الكعبــي اعتــر أ َّن العلــم إنَّ ــا هــو اعتقــاد‬
‫ِّ‬
‫الشــاك باللــه‬ ‫املقلــد عــى الجاهــل أو‬ ‫الــيء عــى مــا هــو بــه‪ ،‬وإن لـــم يكــن‬
‫تعــاىل‪ .‬يقــول البســتي‪« :‬ورمبــا يجــري‬ ‫عــن دليــل‪ ،‬ولـــم يشــرط يف ذلــك ســكون‬
‫شــيوخنا زوال املعرفــة الواجبــة مجــرى‬
‫الجهــل والشــك يف بــاب الكفــر‪ ،‬ويجعلون‬ ‫((( محمــود بــن محمــد‪ ،‬املالحمــي‪ ،‬كتــاب «الفائــق‬
‫انتفــاء املعرفــة الواجبــة جهــة يف كــون‬ ‫يف أصــول الديــن»‪ ،‬مرجــع ســابق‪( ،‬ص‪.)35 /‬‬
‫((( أبــو القاســم‪ ،‬البســتي‪ ،‬البحــث عــن أدلــة التكفــر‬
‫((( املرجع السابق‪( ،‬ص‪.)33 ،32 /‬‬ ‫والتفســيق‪ ،‬مرجــع ســابق‪( ،‬ص‪.)32 /‬‬
‫((( املرجع السابق‪( ،‬ص‪.)33 /‬‬ ‫((( املرجع السابق‪( ،‬ص‪.)33 /‬‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫طب ًعــا‪( -‬متكلمــن) مبــا تحملــه الكلمــة‬ ‫مــن وجبــت عليــه كافـ ًرا عــى أصلهــم يف‬
‫مــن معنــى‪ ،‬بحيــث يســتطيعون تحريــر‬ ‫اســتحقاق الــذم»(((‪.‬‬
‫الــكالم يف املســائل الكالميــة جليلهــا‬
‫ودقيقهــا‪ ،‬ويدفعــون الشــبه بالحجــج‪،‬‬ ‫موقف القاضي عبد الجبار من‬
‫ويناظــرون يف ذلــك بالقواعــد املرســومة‬ ‫العامي‪:‬‬
‫لهــذا الفــن‪.‬‬
‫رأينــا أ َّن أبــا هاشــم الجبــايئ (تُــويف‬
‫غــر أ َّن القــايض عبــد الجبــار ســيخالفه يف‬ ‫‪321‬هـــ) قــد جعــل نتيجــة تــرك النظــر‬
‫ذلــك معت ـ ًرا أ َّن تكليــف التفصيــل عــى‬ ‫هــي الكفــر‪ ،‬فهــل موقــف القــايض عبــد‬
‫الجميــع تكليــف مبــا ال يُطــاق‪ ،‬فيقــول‪:‬‬ ‫الجبــار هــو نفــس موقــف أيب هاشــم؟‬
‫«وليــس غرضنــا بذلــك أ َّن عــى ك ُِّل‬ ‫لقــد قــرر القــايض ‪-‬فيــا رأينــا ســابقًا‪-‬‬
‫ـف أن يعــرف تفاصيــل هــذه األدلــة‪،‬‬ ‫ُمكلَّـ ٍ‬ ‫فســاد التقليــد‪ ،‬وهــو بذلــك ال يــرى‬
‫األسـوِلة(((‪،‬‬
‫ومــا به تحــل الشــبهة‪ ،‬وتدفــع ْ‬ ‫كفايتــه يف اإلميــان‪ ،‬ويف الوقت نفســه لـــم‬
‫ويحــرز مــن النقــوض‪ ،‬وأن يعــرف تحرير‬ ‫يغـ ُـل غلــو أيب هاشــم الــذي نُقــل عنــه أنَّه‬
‫العبــارة يف هــذه الجمــل؛ ألنَّــا لــو قلنــا‬ ‫كان يقــول إنَّ‪« :‬الكافــر لــو اعتقــد جميــع‬
‫ذلــك الخرتجنــا كثـ ًرا مــن مكلفــي العــوام‬ ‫أركان ديــن اإلســام‪ ،‬واعتقــد جميــع‬
‫مــن لــزوم ذلــك لهــم‪ .‬وإنَّ ــا نريــد بــه‬ ‫أصــول أيب هاشــم‪ ،‬وعــرف دليــل كل‬
‫مــا ال تتعــذر عــى العامــي معرفتــه مــن‬ ‫أصــل لــه؛ إلَّ أصـ ًـا واح ـ ًدا جهــل دليلــه‬
‫جمــل هــذه األبــواب»(((‪.‬‬ ‫مــن أصــول العــدل والتوحيــد عنــده فهــو‬
‫كافــر‪ ،‬ومقلــدوه كلهــم كفــرة عنــده»(((‪.‬‬
‫((( أي‪ :‬األســئلة‪ .‬ويف املطبــوع‪ :‬األمســولة‪ ،‬وهــو‬ ‫إ َّن مــا يفهــم ابتــداء مــن كالم أيب هاشــم‬
‫تصحيــف ظاهــر‪.‬‬
‫هــو أن يصــر معتنــق اإلســام ‪-‬والعامــة‬
‫((( عبــد الجبــار الهمــذاين‪ ،‬كتــاب «املجمــوع يف‬
‫املحيــط بالتكليــف»‪ ،‬عنــي بتصحيحــه ونــره‪:‬‬
‫جــن يوســف هوبــن اليســوعي‪ ،‬بــروت‪ ،‬معهــد‬ ‫((( املرجع السابق‪( ،‬ص‪.)15 /‬‬
‫اآلداب الرشقيــة‪ ،‬املطبعــة الكاثوليكيــة‪1965( ،‬م)‪،‬‬ ‫((( عبــد القاهــر‪ ،‬البغــدادي‪ ،‬كتــاب «أصــول الديــن»‪،‬‬
‫(‪.)10 /1‬‬ ‫مرجــع ســابق‪( ،‬ص‪.)255 ،254 /‬‬

‫‪29 || 28‬‬
‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫يلــزم الجميــع أن يســتأنفوا النظــر‬ ‫إ َّن القــايض عبــد الجبــار إذ يقــول بإيجاب‬
‫واالســتدالل» ( (( ‪.‬‬ ‫النظــر عــل جميــع املكلفــن؛ فإنَّــه يقــر‬
‫بــأ َّن درجــات هــذا النظــر تختلــف‬
‫بذلــك ميكــن القــول إ َّن القــايض عبــد‬ ‫باختــاف الناظــر‪ ،‬وهــو بذلــك مييــز بــن‬
‫الجبــار قــد حــاول التوفيــق بــن موقفــه‬ ‫العامــة‪ ،‬ويطلــق عليهــم (أهــل ال ُجمــل)‪،‬‬
‫مــن إيجــاب النظــر‪ ،‬وبــن مراعــاة واقــع‬ ‫الذيــن ينظــرون يف جمــل األدلــة‪ ،‬وبــن‬
‫العامــة وقدراتهــم‪ ،‬فقــال بصحــة إميــان‬ ‫العلــاء الذيــن ينظــرون يف التفاصيــل‪،‬‬
‫العامــي املقلــد بــرط أن يكــون قــد‬ ‫ويجعــل لــكل صاحــب مرتبــة درجــة‬
‫اطلــع عــى أوائــل األدلــة‪ ،‬وفهمهــا ولــو‬ ‫يقــدر عليهــا‪ ،‬ويف ذلــك يقــول‪« :‬الواجــب‬
‫بشــكل جمــي‪ .‬لكــن مــع ذلــك يبقــى‬ ‫يف كل الديانــات عــى املكلــف أن يعرفــه‬
‫موقفــه مــن إميــان املقلــد الــذي لـــم‬ ‫بأدلتــه‪ ،‬فــإن كان مــن أهــل ال ُجمــل نظــر‬
‫ينظــر ال يف جمــل األدلــة‪ ،‬وال يف تفصيلهــا‬ ‫يف جمــل األدلــة(((‪ ،‬وإن كان مــن العلــاء‬
‫غــر واضــح‪ ،‬واألنســب مبذهبــه هــذا‪ :‬إ َّمــا‬ ‫نظــر فيهــا ويف تفصيلهــا‪ ،‬ثــم ينظــر فيــا‬
‫القــول برفــع التكليــف عنهــم ألنَّهــم ال‬ ‫يــرد مــن الشــبه‪ ،‬فــإن كانــت ال تقــدح يف‬
‫يســتدركون األدلــة‪ ،‬وإ َّمــا بتكفريهــم أو‬ ‫(((‬
‫األصــول وجــب عــى أصحــاب الجمــل‬
‫تفســيقهم؛ ألنَّهــم اســروحوا إىل التقليــد‬ ‫التوقــف فيهــا إذا لـــم ينتهــوا لوجــه‬
‫مــع متكنهــم مــن النظــر يف األدلــة‪،‬‬ ‫حلهــا(((‪ ،‬وأن يثبتــوا عــى األصــول فيهــا‪،‬‬
‫والثــاين أظهــر؛ لقولــه يف بعــض النصــوص‪:‬‬ ‫ويجــب عــى العلــاء أن يتشــاغلوا بحلها‪.‬‬
‫«العامــي أيضً ــا يلزمــه معرفــة هــذه‬ ‫فــإن كانــت قادحــة يف الداللــة‪،‬‬
‫األصــول عــى ســبيل الجملــة‪ ،‬وإن لـــم‬
‫يلزمــه معرفتهــا عــى ســبيل التفصيــل؛‬ ‫((( يف املطبــوع‪ :‬فــإن كان مــن أهــل الحمــل نظــر‬
‫أل َّن مــن لـــم يعــرف هــذه األصــول ال عىل‬ ‫يف حمــل األدلــة‪ .‬وال معنــى لــه يف هــذا الســياق‪،‬‬
‫الجملــة وال عــى التفصيــل‪ ،‬لـــم يتكامــل‬ ‫والــذي يؤكــد اختيارنــا مقابلتــه بعــد هــذا الصنف‬
‫بأهــل التفصيــل‪.‬‬
‫((( عبــد الجبــار‪ ،‬الهمــذاين‪« ،‬املغنــي»‪ ،‬مرجــع ســابق‪،‬‬ ‫((( يف املطبوع‪ :‬الحمل‪.‬‬
‫(‪.)533 /12‬‬ ‫((( يف املطبوع‪ :‬حدها‪.‬‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫املقلــد لغريهــم!‪ .‬أ َّمــا بالنســبة إىل الناظــر‬ ‫علمــه بالتوحيــد والعــدل»(((‪ .‬فقولــه‪:‬‬
‫املخالــف؛ فهــو مــا نبينــه يف النقطــة‬ ‫«لـــم يتكامــل علمــه بالتوحيــد والعــدل»‬
‫الثالثــة‪.‬‬ ‫مــؤذن بإخــراج العــوام مــن جملــة‬
‫املؤمنــن‪.‬‬
‫ثال ًثا‪ :‬حكم الناظر المخالف‪:‬‬
‫رأينــا قبــل قليــل أ َّن املعتزلــة يذهبــون إىل‬ ‫مــن خــال مــا ســبق‪ :‬يظهــر لنــا‬
‫إيجــاب النظــر العقــي عــى كل مكلــف‪،‬‬ ‫أ َّن املعتزلــة يتشــددون يف املطالبــة‬
‫ومــن املعلــوم أ َّن النظــر مــا هــو َّإل‬ ‫مبوافقتهــم يف أصولهــم موافقــة مركبــة‪،‬‬
‫عمليــة اجتهاديــة‪ ،‬قــد تختلــف نتائجهــا‬ ‫ترتكــب مــن الجانــب املعــريف مــن جهــة‪،‬‬
‫باختــاف ال ُّنظَّــار‪ ،‬فهــل يُفهــم مــن ذلــك‬ ‫ومــن الجانــب االســتداليل مــن جهــة‬
‫أ َّن املعتزلــة مــن دعــاة االختــاف؟ أم‬ ‫أخــرى‪ ،‬وهــو تشــدد أفــى ببعضهــم إىل‬
‫إ َّن النظــر عنــد املعتزلــة ال يُــؤ ِّدي إىل‬ ‫تكفــر العامــي الــذي قلَّــد مذهبهــم مــن‬
‫االختــاف؟ وإن كان الشــأن كذلــك فلامذا‬ ‫غــر نظــر‪.‬‬
‫يختلــف ال ُّنظَّــار؟ ومــا حكــم َمــن خالــف‬
‫مذهــب املعتزلــة بنــاء عــى نظــره؟‬ ‫يظهــر لنــا أنَّ املعتزلــة يتشــددون‬
‫جوابًــا عــى هــذه األســئلة نقــول ابتــداء‪:‬‬ ‫يف املطالبــة مبوافقتهــم يف أصولهــم‬
‫إ َّن املعتزلــة يرفضــون االختــاف العقــدي‬ ‫موافقــة مركبــة‪ ،‬ترتكــب مــن الجانــب‬
‫رفضً ــا شــدي ًدا‪ ،‬بنــا ًء عــى التمييز املشــهور‬ ‫املعــريف مــن جهــة‪ ،‬ومــن الجانــب‬
‫بــن االجتهــاد يف أصــول الديــن واالجتهــاد‬ ‫االســتداليل مــن جهــة أخــرى‪.‬‬
‫يف فــروع الديــن؛ إذ أغلــب املتكلمــن‬
‫عــى املنــع مــن االجتهــاد يف أصــول‬
‫الديــن‪ ،‬وهــو مــا يعنــي رفــض االختــاف‬ ‫ــي املقلــد‬ ‫ُ‬
‫حــال العا ِّم ِّ‬ ‫وإذا كان هــذا‬
‫العقــدي‪ ،‬وهــو مــا قــد ب َّينــه القــايض‬ ‫للمعتزلــة؛ فلنــا أن نتصــور حكــم العامــي‬
‫عبــد الجبــار يف مواضــع مــن كتبــه‪ ،‬ومــن‬
‫ذلــك مــا ذكــره ‪-‬يف «املغنــي» يف أبــواب‬ ‫((( عبــد الجبــار‪ ،‬الهمــذاين‪« ،‬رشح األصول الخمســة»‪،‬‬
‫مرجــع ســابق‪( ،‬ص‪.)124 /‬‬

‫‪31 || 30‬‬
‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫ومنــه يفهــم أ َّن القــايض عبــد الجبــار‬ ‫التوحيــد والعــدل‪ -‬يف التفريــق بــن مــا‬
‫يذهــب إىل التفريــق بــن االجتهــاد يف‬ ‫ـح فيــه تصويــب املذاهــب املختلفــة‬ ‫يصـ ُّ‬
‫األصــول وبــن االجتهــاد يف الفــروع بنــاء‬ ‫مـ َّـا ال يصــح‪ ،‬حيــث عقــد فصـ ًـا يف (بيان‬
‫عــى أمريــن مرتابطــن‪:‬‬ ‫الــروط التــي معهــا يصــح تصويــب‬
‫املذاهــب املختلفــة)‪ ،‬ومـ َّـا جــاء فيــه‪:‬‬
‫أول‪ :‬التفريــق بــن مــا يطلــب فيــه‬ ‫ً‬ ‫متنــاول‬
‫ً‬ ‫«اعلــم أ َّن مــن حقــه أن يكــون‬
‫االعتقاد‪/‬العلــم‪ ،‬وبــن مــا يطلــب فيــه‬ ‫لتكليــف الفعــل والــرك‪ ،‬ومــن حقــه أن‬
‫العمــل‪:‬‬ ‫يكــون ذلــك الحكــم تاب ًعــا لغالــب الظــن‪،‬‬
‫مم يطلــب فيه‬‫فــإذا كانــت فــروع الديــن َّ‬ ‫ومــن حــق غالــب الظــن أن يكــون تاب ًعــا‬
‫العمــل‪ ،‬وبتعبــر القــايض «تكليــف الفعل‬ ‫ألمــارة صحيحــة‪ ،‬ومــن حقــه أن يكــون‬
‫والــرك»‪ ،‬فهــذا مـ َّـا ال ميتنــع «أن يختلــف‬ ‫التوصــل إىل العلــم واليقــن متعــذ ًرا(((؛‬
‫التعبــد بــه بحســب الــروط واالجتهــاد‪،‬‬ ‫ـح مــا‬ ‫فــإذا اجتمعــت هــذه الرشائــط صـ َّ‬
‫وال ميتنــع فيــا هــذا حالــه أن يكــون كل‬ ‫ذكرنــاه‪.‬‬
‫مجتهــد فيــه ُمصي ًبــا‪ ،‬وأن يكــون الحــق‬
‫يف الــيء ومــا خالفــه‪ ،‬فــا هــذا حالــه‬ ‫وقــد ب َّي َّنــا مــن قبــل‪ :‬أ َّن املذاهــب إذا‬
‫يجــوز التعبــد بــه عــى هــذه الطريقــة‪،‬‬ ‫كانــت تتنــاول االعتقــاد كالتوحيــد‬
‫إذا اختــص بالرشائــط التــي معهــا يصــح‬ ‫والعــدل‪ ،‬ومــا يتصــل بهــا؛ فغــر جائــز أن‬
‫ذلــك فيــه»(((‪.‬‬ ‫يكــون الحــق َّإل واحـ ًدا مــن ذلــك ‪.(((»...‬‬

‫وخالفًــا لذلــك؛ فــإ َّن أصــول الديــن ال‬ ‫((( يف املطبوع‪ :‬متعذيا‪ ،‬وال معنى له‪.‬‬
‫يجــوز «أن يكــون الحــق منهــا إلَّ واح ـ ًدا‬ ‫((( عبــد الجبــار‪ ،‬الهمــذاين‪« ،‬املغنــي»‪ ،‬الجــزء‬
‫الســابع عــر‪ :‬الرشعيــات‪ ،‬حــرر نصــه‪ :‬أمــن‬
‫دون مــا خالفــه؛ أل َّن هــذه األصــول إنَّ ــا‬ ‫الخــويل‪ ،‬بــإرشاف‪ :‬طــه حســن‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬وزارة‬
‫ورد التعبــد فيهــا باالعتقــادات التــي هــي‬ ‫الثقافــة واإلرشــاد القومــي‪ ،‬املؤسســة املرصيــة‬
‫العامــة للتأليــف واألنبــاء والنــر‪ ،‬الــدار املرصيــة‬
‫((( عبــد الجبــار‪ ،‬الهمــذاين‪« ،‬املغنــي»‪ ،‬مرجــع ســابق‪،‬‬ ‫للتأليــف والرتجمــة‪ ،‬سلســلة تراثنــا‪ ،‬مطبعــة دار‬
‫(‪.)355 /17‬‬ ‫الكتــب‪1382( ،‬هـــ‪1963/‬م)‪.)357 /17( ،‬‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫وكــذب‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫جهــل‬
‫ٌ‬ ‫بعضَ هــا ِعلــ ٌم‪ ،‬وبعضَ هــا‬ ‫العلــوم‪ ،‬وأن يعلــم كــون املعلــوم الــذي‬
‫ومــا كان هــذا حالــه؛ فــإ َّن الحــق فيــه‬ ‫كلفنــا العلــم بــه عــى الصفــات التــي‬
‫واحــد وهــو العلــم‪.‬‬ ‫ـح أن يكــون‬ ‫هــو عليهــا‪ .‬واملعلــو ُم ال يصـ ُّ‬
‫يف نفســه عــى صفتــن متنافيتــن‪ ،‬فــإذا‬
‫ثانيـ ًا‪ :‬التفريــق بــن مــا يقــع عــن دليــل‬ ‫مختصــا بصفــة مخصوصــة‪ ،‬فاعتقــاد‬ ‫ً‬ ‫كان‬
‫ومــا يقــع عــن أمــارة‪:‬‬ ‫َمــن يعتقــد أنَّــه ليــس عليهــا‪ ،‬أو أنَّــه‬
‫عــى خالفهــا يكــون جهـ ًـا‪ ،‬وخــره بذلــك‬
‫إضافــة إىل املعيــار الســابق يف التفريــق‬ ‫عنــه يكــون كذبًــا‪ ،‬وال يجــوز ورود التعبــد‬
‫بــن فــروع الديــن وأصــول الديــن‪،‬‬ ‫بالجهــل والكــذب ‪ ...‬فقــد ثبــت بهــذه‬
‫املتمثــل يف التفريــق بــن العمــي‬ ‫الجملــة أ َّن الحــق مــن أصــول الديــن‬
‫والعلمــي منهــا؛ فــإ َّن القــايض يُضيــف‬ ‫يجــب أن يكــون واحــ ًدا‪ ،‬وأ َّن املذاهــب‬
‫معيــا ًرا ثانيًــا‪ ،‬مرتبطًــا بــاألول‪ ،‬وهــو تعلق‬ ‫يصــح أن يكــون‬ ‫ُّ‬ ‫املختلفــة يف ذلــك ال‬
‫العمــل بالظــن‪ ،‬وتعلــق العلــم القطــع‪.‬‬ ‫جمي ُعهــا ح ًّقــا‪ ،‬وليــس هكــذا الرشعيــات‬
‫إ َّن فــروع الديــن إنَّ ــا جــاز فيهــا تصويــب‬ ‫‪.(((»...‬‬
‫املجتهديــن لكونهــا قامئــة عــى غالــب‬
‫الظــن؛ ولذلــك يكفــي فيهــا االســتدالل‬ ‫وبهــذا الفــرق جــاز أن تكــون املســائل‬
‫باألمــارات الصحيحــة دون األدلــة‪ ،‬وقــد‬ ‫العمليــة ‪-‬التــي هــي فــروع الديــن‪-‬‬
‫ســبق لنــا أن رأينــا تفريــق القــايض بــن‬ ‫ُمتع َّبــ ًدا فيهــا باألمريــن املختلفــن‪،‬‬
‫الدليــل واألمــارة والشــبهة‪ ،‬وبيانــه أ َّن‬ ‫بخــاف املســائل العلميــة االعتقاديــة‬
‫األمــارات إنَّ ــا يطلــب فيهــا غالــب الظـ ِّن‬ ‫‪-‬التــي هــي أصــول الديــن‪ -‬فــإ َّن ذلــك‬
‫مــن غــر أن يكــون هــذا الظــن ُمولَّــ ًدا‬ ‫ال يجــوز؛ أل َّن االختــاف فيهــا يعنــي أ َّن‬
‫عــن النظــر‪.‬‬ ‫((( أبــو الحســن‪ ،‬البــري‪« ،‬رشح العمــد»‪ ،‬تحقيــق‬
‫ودراســة‪ :‬الدكتــور عبــد الحميــد بــن عــي أبــو‬
‫وخالف ـاً لذلــك؛ فــإ َّن أصــول الديــن إنَّ ــا‬ ‫زنيــد‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬دار املطبعــة الســلفية‪1410( ،‬‬
‫عــر عنــه‬ ‫هـــ)‪ .)246 /2( ،‬وعبــد الجبــار‪ ،‬الهمــذاين‪،‬‬
‫يطلــب فيهــا القطــع ‪-‬وقــد َّ‬ ‫«املغنــي»‪ ،‬مرجــع ســابق‪.)355 /17( ،‬‬

‫‪33 || 32‬‬
‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫القــول بــأ َّن اللــه ‪-‬تعــاىل‪ -‬قد نصــب يف كل‬ ‫هنــا بالعلــم واليقــن‪ ،-‬وذلــك ال يكــون َّإل‬
‫مســألة مــن مســائل أصــول الديــن دليـ ًـا‬ ‫بالنظــر يف الدليــل‪ ،‬وقــد رأينــا أ َّن النظــر‬
‫الحــق يف االختــاف‬‫ِّ‬ ‫قاط ًعــا يُفــي إىل‬ ‫يف الدليــل ‪-‬عنــد املعتزلــة‪ -‬يُولِّ ـ ُد العلــم‪.‬‬
‫فيهــا؛ إذ إنَّــه ‪-‬تعــاىل‪ -‬كــا نصــب األدلــة‬ ‫ومــن ث َــ َّم؛ فقــد أوجــب املعتزلــة عــى‬
‫القطعيــة عــى فســاد األديــان األخــرى‪،‬‬ ‫اللــه ‪-‬تعــاىل‪ -‬أن ينصــب األدلــة ليحســن‬
‫فكذلــك قــد أقــام تعــاىل ‪-‬يف املذاهــب‬ ‫التكليــف‪ ،‬وقــد عقــد القــايض عبــد‬
‫اإلســامية‪ -‬الداللــة عــى الحــق منهــا‪،‬‬ ‫ـن «أنَّــه ‪-‬تعــاىل‪-‬‬ ‫الجبــار يف ذلــك فصـ ًـا يُبـ ِّ ُ‬
‫ومــن ث َ ـ َّم؛ فــإ َّن «االجتهــاد الــذي يُــؤ ِّدي‬ ‫يجــب أن يكــون ممك ًنــا للمكلَّــف بنصــب‬
‫إىل خالفــه يجــب أن يكــون فاســ ًدا»(((‪.‬‬ ‫صــح أ َّن العلــم ال‬
‫األدلــة»(((؛ ألنَّــه «إذا َّ‬
‫ـح أن يكتســب إلَّ بالنظــر يف الداللــة‬ ‫يصـ ُّ‬
‫فــإذا ورد يف مســألة مــا نصــوص رشعيــة‬ ‫املعلومــة‪ ،‬فقــد صــار فقدهــا يف أنَّــه‬
‫ظنيــة‪ ،‬كاآليــات املتشــابهة؛ فــإ َّن الحاكــم‬ ‫يُوجــب تعـذُّر ذلــك مبنـــزلة فقــد اآلالت؛‬
‫فيهــا هــو العقــل‪ ،‬وخالفُهــا يُــ َؤ َّول مبــا‬ ‫فلذلــك وجــب عليــه ‪-‬ســبحانه‪ -‬أن‬
‫يقتضيــه العقــل «أل َّن مــن ســبيل الكتــاب‬ ‫ينصــب األدلــة حتــى يحســن أن يكلــف‪،‬‬
‫والســنة أن يكونــا مرتبــن عــى مــا‬ ‫كــا وجــب أن ميكن بــاآلالت وغريهــا»(((‪.‬‬
‫يقتضيــه العقــل‪ ،‬فــا يجــوز أن يكــون‬ ‫وهــذا التأصيــل قــد أ َّدى باملعتزلــة إىل‬
‫املــراد بهــا مــا مينــع دليــل العقــل‪.‬‬
‫((( عبــد الجبــار‪ ،‬الهمــذاين‪« ،‬املغنــي»‪ ،‬الجــزء‬
‫ومنــه إذا كان دليــل العقــل إنَّ ــا يــدل عىل‬ ‫الحــادي عــر‪ :‬التكليــف‪ ،‬تحقيــق‪ :‬محمــد عــي‬
‫صحــة مذهــب واحــد دون مــا خالفــه‪،‬‬ ‫النجــار‪ ،‬وعبــد الحليــم النجــار‪ ،‬مراجعــة‪ :‬إبراهيــم‬
‫مدكــور‪ ،‬بــإرشاف طــه حســن‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬وزارة‬
‫وجــب القطــع عــى كونــه ح ًّقــا دون مــا‬
‫الثقافــة واإلرشــاد القومــي‪ ،‬املؤسســة املرصيــة‬
‫ســواه‪ ،‬ونحــن نحمــل الكتــاب والســنة‬ ‫العامــة للتأليــف واألنبــاء والنــر‪ ،‬الــدار املرصيــة‬
‫عــى موافقتــه؛ أل َّن تجويــز خالفــه يفســد‬ ‫للتأليــف والرتجمــة‪ ،‬سلســلة تراثنــا‪ ،‬مطبعــة‬
‫عيــى البايب الحلبــي ورشكاه‪1358( ،‬هـــ‪1965/‬م)‪،‬‬
‫((( أبــو الحســن‪ ،‬البــري‪« ،‬رشح العمــد»‪ ،‬مرجــع‬ ‫(‪.)408 /11‬‬
‫ســابق‪.)247 /2( ،‬‬ ‫((( املرجع السابق‪.)409 /11( ،‬‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫طريقــة واحــدة‪ ،‬ومــن ث َ ـ َّم؛ فــإ َّن ال ُّنظَّــار‬ ‫طريــق العلــم بصحــة الكتاب والســنة»(((؛‬
‫وإن اختلفــت أعيانهــم؛ فــإ َّن نتائــج‬ ‫إذ إ َّن صحتهــا إنَّ ــا ُعلمــت ‪-‬يف أول األمر‪-‬‬
‫أنظارهــم ال ينبغــي أن تختلــف؛ «أل َّن‬ ‫بطريــق النظــر العقــي‪ ،‬فــإذا تـ َّم الطعــن‬
‫توليــد النظــ ِر العلــ َم ال يختلــف»(((‪.‬‬ ‫يف العقــل كان ذلــك طع ًنــا يف الــرع‪.‬‬
‫ومبــا أ َّن الواقــع يشــهد بوقــوع الخــاف‬
‫بــن النظــار؛ فقــد ذهــب البعــض إىل‬ ‫أصلــه املعتزلــة يف‬‫إ َّن هــذا التأصيــل الــذي َّ‬
‫ـح القــول‬ ‫رفــض القــول بالتوليــد؛ إذ لــو صـ َّ‬ ‫التفريــق بــن أصــول الديــن وفروعــه بنــاء‬
‫بــه لَــ َـا وقــع االختــاف‪ ،‬لكــن القــايض‬ ‫عــى العلــم القطعــي والعمــل الظنــي‪،‬‬
‫عبــد الجبــار يــرد ذلــك بــأ َّن الخطــأ‬ ‫سـ ُيؤ ِّدي مبــارشة إىل القــول بــأ َّن املجتهــد‬
‫ليــس يف التوليــد وعالقتــه بالنظــر‪ ،‬وإنَّ ــا‬ ‫املصيــب يف أصــول الديــن واحــد‪ ،‬ومــن‬
‫ِ‬
‫يســتوف‬ ‫يف الناظــر نفســه؛ إذ إنَّــه لـــم‬ ‫عــداه مخطــئ‪ ،‬وهــو مــا يعنــي رفــض‬
‫رشوط النظــر‪ ،‬أو حالــت دونــه ودون‬ ‫االجتهــاد يف أصــول الديــن‪ ،‬وبــه رفــض‬
‫الحــق ‪-‬يعنــي‪ :‬مذهــب املعتزلــة‪ -‬عوائــق‬ ‫االختــاف العقــدي‪.‬‬
‫ذاتيــة أو موضوعيــة‪ ،‬يبينهــا القــايض عبــد‬
‫الجبــار بقولــه‪:‬‬ ‫ومــن ث َــ َّم يفهــم أ َّن دعــوة املعتزلــة إىل‬
‫ـح ذلــك وجــب متــى علمنــا يف‬ ‫«فــإذا صـ َّ‬ ‫النظــر العقــي يف أصــول الديــن إنَّ ــا هــي‬
‫املخالــف أنَّــه يعتقــد الخطــأ أن نعلــم أنَّه‬ ‫دعــوة مقصــورة ومقيــدة بالنظــر الــذي‬
‫إن((( لـــم ينظــر يف الداللــة‪ ،‬أو نظــر فيهــا‬ ‫يُــؤ ِّدي إىل النتائــج نفســها التــي توصــل‬
‫ولـــم يعلمهــا عــى الوجــه الــذي يــدل‪.‬‬ ‫إليهــا املعتزلــة أنفســهم‪ ،‬وهــو مــا يفهــم‬
‫هــذا لــو لـــم نعــرف حالهــم‪ ،‬فكيــف‬ ‫منــه الدعــوة إىل التقليــد يف االســتدالل‬
‫ونحــن نعلــم عنــد املناظــرة‪ ،‬وعنــد‬ ‫‪-‬مــع أ َّن املعتزلــة مــن أشــد معــاريض‬
‫التقليــد!‪ -‬ولبيــان ذلــك نقــول‪:‬‬
‫((( عبــد الجبــار‪ ،‬الهمــذاين‪« ،‬املغنــي»‪ ،‬مرجــع ســابق‪،‬‬ ‫إ َّن املعتزلــة حــن قالــوا بــأ َّن النظــر يُ َولِّــد‬
‫(‪.)119 /12‬‬ ‫العلــم؛ فقــد جعلــوه ُمنت ًجــا لــه عــى‬
‫((( لعلَّهــا زيــادة مــن النســاخ؛ إذ الســياق ال‬
‫يقتضيهــا ‪.‬‬ ‫((( املرجع السابق‪.)247 /2( ،‬‬

‫‪35 || 34‬‬
‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫فكذلــك القــول يف أصــول الديــن»(((‪.‬‬ ‫الكشــف‪ ،‬أنَّهــم ينظــرون يف الشــبه‬


‫ثــم يــردف هــذا النــص بذكــر أســباب‬ ‫ويقصــدون بالنظــر نــرة مــا ســبقوا‬
‫أخــرى ترجــع يف مجملهــا إىل التعصــب‬ ‫إليــه؟‬
‫والهــوى‪ ،‬وعــدم القيــام بحــق النظــر‪،‬‬
‫وبذلــك يصبــح املجتهــد املخالــف ‪-‬عنــد‬ ‫وهــذه هــي العلــة التــي لهــا يخطئــون؛‬
‫املعتزلــة‪ -‬مخطئًــا يف نظــره واســتدالله‪،‬‬ ‫ألنَّهــم إذا ســبقوا إىل اعتقــاد الباطــل إمــا‬
‫وفيــا توصــل إليــه‪.‬‬ ‫عــى جهــة التقليــد‪ ،‬وإ َّمــا عــى جهــة‬
‫االتفــاق والنشــوء عليــه‪ ،‬وإ َّمــا ابتغــاء‬
‫وهنــا تطــرح مســألة حكــم املجتهــد‬ ‫الرياســة‪ ،‬أو الجتــاب منفعــة‪ ،‬أو دفــع‬
‫املخطــئ يف أصــول الديــن عنــد املعتزلــة‪،‬‬ ‫(((‬
‫مــرة‪ ،‬فهــم مــن بعــد إنَّ ــا يطلبــون‬
‫هــل هــو مأجــور معــذور شــأنه شــأن‬ ‫بالنظــر نــرة مــا ســبقوا إليــه‪ ،‬فيؤديهــم‬
‫املجتهــد يف فــروع الديــن؟ أم إنَّ لــه‬ ‫نظرهــم إىل مــا ميكــن أن ينــر بــه ذلــك‪،‬‬
‫حكــا آخــر؟‬
‫ً‬ ‫ومــا لــه بــه تعلــق‪ ،‬ومــا يشــبه تعلقــه‬
‫مبــا اعتقــدوه بالداللــة‪ .‬فيعتقــدون‪،‬‬
‫يجيبنــا القــايض عبــد الجبــار معق ًبــا عــى‬ ‫عنــد ذلــك‪ ،‬أ َّن ذلــك الوجــه داللــة عــى‬
‫النصــوص املذكــورة آن ًفــا‪ ،‬فيقــول‪« :‬فأ َّمــا‬ ‫مــا اعتقــدوه‪ ،‬وهــو شــبهة‪ .‬فيكــون قــد‬
‫الــكالم يف أ َّن مــن ذهــب عــن الصــواب‬ ‫أخطــأوا يف االعتقــاد األول واالعتقــاد‬
‫محجــوج غــر معــذور‪ ،‬وأن تأويلــه ال‬ ‫الثــاين‪ ،‬ونظرهــم قــد وقــع عــى وجــه‬
‫يغــر حالــه؛ فس ـراه مرشو ًحــا مــن بع ـ ُد‬ ‫ـح‪ ،‬وهــذه الطريقــة ب ِّين ـ ٌة مــن ســائر‬
‫يصـ ُّ‬
‫إن شــاء اللــه»(((‪ .‬لكــن بتتبــع «املغنــي»‬ ‫املخالفــن‪ ،‬إذا فحصــت عــن أحوالهــم‪،‬‬
‫لـــم نجــد رشح ذلــك‪ ،‬ولعلَّــه يكــون فيــا‬ ‫وصــار ســبيلهم يف ذلــك ســبيل مــن ســبق‬
‫فُقــد مــن أجزائــه‪.‬‬ ‫يف الفقــه إىل اعتقــاد مذهــب وقصــد‬
‫مــن بعــد أن ينظــر مــا ينــر بــه ذلــك‪.‬‬
‫((( عبــد الجبــار‪ ،‬الهمــذاين‪« ،‬املغنــي»‪ ،‬مرجــع ســابق‪،‬‬
‫(‪.)120 /12‬‬
‫((( املرجع السابق‪.)122 /12( ،‬‬ ‫((( يف األصل يبطلون‪ ،‬والسياق بعكسه‪.‬‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫ال مينــع مــن اإلكفــار» يقــول فيــه‪:‬‬ ‫وعمو ًمــا؛ فــإ َّن الجملــة املذكــورة يف هــذا‬
‫«اعلــم أ َّن التأويــل هــو أن يذهــب إليــه‬ ‫النــص تُفيــد بــأ َّن املخالــف لالعتــزال‬
‫مذه ًبــا خطــأ(((‪ ،‬ويحتــج لــه بظاهــر‬ ‫محجــوج غــر معــذور‪ ،‬بنــا ًء عــى مــا‬
‫ٌ‬
‫الكتــاب والســنة‪ ،‬واختلفــوا يف ذلــك‪.‬‬ ‫ذكرنــاه ســابقًا يف التمييــز بــن االجتهــاد‬
‫فمنهــم مــن قــال‪ :‬إن التأويــل ال مينــع‬ ‫الفقهــي واالجتهــاد العقــدي؛ فــإذا كان‬
‫مــن كــون املذهــب خطــأ‪ ،‬ومينــع مــن‬ ‫كل مجتهــد يف الفقهيــات مصي ًبــا مأجــو ًرا؛‬
‫اإلكفــار بــه‪ .‬وقــال العنــري‪ :‬مننــع مــن‬ ‫فــإ َّن املجتهــد املخطــئ يف العقديــات ال‬
‫كونــه خطــأ أيضً ــا‪.‬‬ ‫يخلــو إ َّمــا أن يكــون كاف ـ ًرا أو فاس ـقًا أو‬
‫مخطئًــا‪.‬‬
‫والــذي ُّ‬
‫يــدل عــى أنَّــه ال مينــع منهــا‬
‫أنَّــه ال يخــرج املذهــب مــن كونــه خطــأ‬ ‫وهــو مــا يفهــم منــه عــدم قبــول‬
‫وذنبًــا؛ أل َّن الجهــل ال يتغــر بذلــك‪ ،‬وال‬ ‫االختــاف العقــدي عنــد املعتزلــة‪ ،‬حتــى‬
‫يخــرج مــن كونــه جهـ ًـا‪ ،‬وال الخــر عــن‬ ‫ـأول‪ ،‬مســتن ًدا‬
‫لــو كان هــذا املخالــف متـ ً‬
‫كونــه كذبًــا‪ .‬وانضــام التأويــل الفاســد‬ ‫إىل نظــر يف دليــل مــن األدلــة‪ ،‬التــي هــي‬
‫إىل املذهــب الفاســد يزيــد يف املعصيــة‪،‬‬ ‫ظواهــر الكتــاب والســنة‪ ،‬بنــاء عــى قــول‬
‫وال يصــر للمكلــف عــذر يف تــرك النظــر‬ ‫القــايض الســابق‪« :‬وأ َّن تأويلــه ال يغــر‬
‫الصحيــح؛ ألنَّــه مكلــف بالبحــث يف األدلــة‬ ‫حالــه»؛ إذ إ َّن املخالــف ‪-‬مــع تأ ُّولــه‪-‬‬
‫والتأويــل الصحيــح‪ ،‬فــا يجــوز أن ينتقــص‬ ‫يصــح تكفــره عــى مذهــب معتزلــة‬ ‫ُّ‬
‫عقابــه بذلــك»(((‪.‬‬ ‫(((‬
‫البــرة؛ «إذ أكــر الكفــار متــأول»‬
‫عندهــم‪ ،‬وقــد عقــد املالحمــي يف بيــان‬
‫وبذلــك ســيكون موقــف املعتزلــة مــن‬ ‫ذلــك بابًــا بعنــوان‪« :‬بــاب يف أ َّن التأويــل‬
‫أكــر الفــرق املتأولــة هــو التكفــر‪ ،‬وهــو‬
‫((( أحمــد بــن يحيــى بــن املرتــى املعتــزيل‪ ،‬كتــاب‬
‫((( كذا‪ ،‬وال تخلو العبارة من ركاكة‪.‬‬ ‫«القالئــد يف تصحيــح العقائــد»‪ ،‬حققــه وقــدم لــه‬
‫((( محمــود بــن محمــد‪ ،‬املالحمــي‪ ،‬كتــاب «الفائــق‬ ‫وأعــده‪ :‬ألبــر نــري نــادر‪ ،‬بــروت‪ ،‬لبنــان‪ ،‬دار‬
‫يف أصــول الديــن»‪ ،‬مرجــع ســابق‪( ،‬ص‪.)605 /‬‬ ‫املــرق ش م م‪1985( ،‬م)‪( ،‬ص‪.)136 /‬‬

‫‪37 || 36‬‬
‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫ال تكفــر وال تفســيق فيهــا‪ ،‬ومييــزون بــن‬ ‫مــا نجــده رصي ًحــا عنــد املعتزلة أنفســهم؛‬
‫األصــول الفــروع يف العقديــات‪ ،‬ثــم إذا‬ ‫فــإ َّن املالحمــي ينقــل عــن شــيوخ املعتزلة‬
‫وقــع الخــاف مــن الخصــوم‪ ،‬لـــم يفرقــوا‬ ‫تكفريهــم بعــض الفــرق اإلســامية‪،‬‬
‫بــن أصــل وفــرع‪ ،‬بــل يجعلــون الــكل‬ ‫كاملشــبهة‪ ،‬واملجــرة‪ ،‬والصفاتيــة(((‪.‬‬
‫رتبــة واحــدة‪ ،‬فــإن ُدعــوا إىل التفريــق‪،‬‬
‫لجــؤوا إىل اإللــزام‪.‬‬ ‫ومبقابــل تكفــر هــذه الفــرق؛ فإنَّــه يقــر‬
‫بعــدم تكفــر فــرق أخــرى كالخــوارج‬
‫بــل إ َّن تكفــر املعتزلــة للفــرق الســابقة‬ ‫واملرجئــة‪ ،‬وذلــك لحصــول املوافقــة‬
‫أغلبــه إن لـــم نقــل كلــه قائــم عــى‬ ‫بينهــم‪ ،‬إال يف أمــور يســرة لـــم يــدل‬
‫إلزامــات ال يلتزمهــا أصحابهــا‪ ،‬ومــن ذلــك‬ ‫الدليــل عــى أنَّهــا تســتوجب تكفريهــم‪،‬‬
‫تكفريهــم الصفاتيــة ‪-‬وخاصــة األشــاعرة‪-‬‬ ‫فتكــون بذلــك مــن الخطــأ الــذي ال‬
‫فــإ َّن تكفريهــم قائــم عــى إلـزام ال يلتزمه‬ ‫يســتحق فســقًا وال كفــ ًرا(((‪.‬‬
‫األشــاعرة‪ ،‬وبيــان ذلــك أن نقــول‪:‬‬
‫وهــو مــا يفهــم منــه أ َّن املعتزلــة وإن‬
‫إ َّن املعتزلــة قــد ألزمــوا األشــاعرة‬ ‫تشــددوا يف الدعــوة إىل موافقتهــم يف‬
‫بإثبــات (قديــم) مــوا ٍز للــه ‪-‬تعــاىل‪ -‬يف‬ ‫أصولهــم جملــة وتفصيـ ًـا؛ فإنَّهــم قبلــوا‬
‫ال ِقــدم واألزليــة‪ ،‬وكأنَّهــم تصــوروا أ َّن‬ ‫بعــض االختالفــات‪ ،‬ال عــى أنَّهــا اجتهــاد‬
‫إثبــات الصفــات ‪-‬بالطريقــة التــي‬ ‫ِ‬ ‫يف‬ ‫مأجــور‪ ،‬وإنَّ ــا عــى أنَّهــا خطــأ مغفــور‪،‬‬
‫رشحهــا األشــاعرة‪ -‬إثبــاتَ أشــيا َء أخــرى‬ ‫وخاصــة تلــك االختالفــات الواقعــة بــن‬
‫قامئ ـ ٍة بذاتهــا‪ ،‬وأ َّن يف فصــل الصفــة عــن‬ ‫املعتزلــة أنفســهم‪ ،‬وهــو مــا قــد يفهــم‬
‫الــذات إثباتًــا لعــدة أغيــار‪ ،‬وبذلــك فإنَّهم‬ ‫منــه أن املعتزلــة يزِنــون مســائل الخــاف‬
‫سيقيســون إثبــات الصفــات عــى إثبــات‬ ‫مبيزانــن؛ فيجعلــون مــا كان مــن ذلــك‬
‫آلهــة أخــرى ُمشــارِك ٍة للــه يف القــدم‬ ‫بــن األصحــاب مــن بــاب الفــروع التــي‬
‫واألزليــة‪ ،‬ومــن ث َ ـ َّم ســيكفرون األشــاعرة‬
‫((( املرجع السابق‪( ،‬ص‪ ،593 /‬وما بعدها)‪.‬‬
‫بتهمــة القــول بتعــدد القدمــاء‪ ،‬والخــروج‬
‫((( املرجع السابق‪( ،‬ص‪.)604 ،603 /‬‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫وقــد تنبَّــه إىل هــذا اإلشــكال أبــو القاســم‬ ‫عــن (التوحيــد) الــذي هــو أصــل أصــول‬
‫البســتي‪-‬من معتزلــة الزيديــة‪ -‬فرفــض‬ ‫الديــن‪.‬‬
‫هــذا املنهــج القائــم عــى التفريــق بــن‬
‫املوالــف واملخالــف‪ ،‬فذكــر أ َّو ًل بعــض‬ ‫وال يخفــى مــا يف هــذا اإللــزام مــن‬
‫األخطــاء التــي وقــع فيهــا بعــض شــيوخ‬ ‫الخطــأ والتضليــل؛ بــل قــد تع ـ َّدى األمــر‬
‫قائــا‪:‬‬
‫املعتزلــة ً‬ ‫إىل قيــاس مذهــب الكُّالبيــة واألشــاعرة‬
‫يف إثبــات الصفــات والقــول بقدمهــا‪،‬‬
‫«أال تــرى أ َّن النظــام اعتقــد أ َّن اللــه‬ ‫عــى كفــر النصــارى بالتثليــث‪ ،‬و َمــن‬
‫‪-‬تعــاىل‪ -‬ال يقــدر عــى مــا لــو فعلــه لــكان‬ ‫حــذا حذوهــم(((‪ .‬يظهــر إذن أ َّن إثبــات‬
‫قبي ًحــا‪ ...‬والشــيخ أبــو عــي وأصحابــه‬ ‫األشــاعرة لصفــات قدميــة قــد فهــم منــه‬
‫أنكــروا مــا عليــه القديــم‪ ،‬وقالــوا‪ :‬يخالــف‬ ‫املعتزلــة إثبــات قدمــاء يــوازون آلهــة‬
‫بأحــكام صفاتــه‪ ،‬وال يخالــف بصفــة‬ ‫املرشكــن‪ ،‬وأقانيــم النصــارى‪ ،‬ومــن ث َ ـ َّم؛‬
‫زائــدة‪ ،‬واســتعظموا هــذا القــول‪ .‬وقــد‬ ‫فقــد ألزموهــم بهــذا الفهــم‪ ،‬ثــم حكمــوا‬
‫قــال الشــيخ أبــو عبــد اللــه إ َّن للــه تعــاىل‬ ‫عليهــم وعــى الكالبيــة وســائر الصفاتيــة‬
‫(أحــوالً ) بعــدد املعلومــات إن كانــت‬ ‫بالكفــر‪.‬‬
‫مــا يعــد ‪ ،»...‬وذكــر عــدة‬ ‫األحــوال َّ‬
‫أمثلــة‪ ،‬ثــم قــال‪:‬‬ ‫وواضــح أ َّن هــذا الفهــم ال يصــح مطل ًقــا‪،‬‬
‫وحتــى وإن ُس ـلِّم أنَّــه صحيــح يف نفســه؛‬
‫«وإنَّ ــا لـــم نسـ ِ‬
‫ـتوف مســائلهم أل َّن ذلــك‬ ‫قــول‬
‫فــإ َّن مثبتــي الصفــات ال يلتزمونــه ً‬
‫يجــري مجــرى التشــنيع‪ ،‬فاكتفينــا بذلــك‬ ‫لهــم‪ ،‬وإذا قــرر عليهــم؛ فإنَّهــم ينفونــه‬
‫وإل فــا شــيخ يذكــر َّإل ويف‬ ‫املثــال‪َّ ،‬‬ ‫غايــة النفــي‪ ،‬فكيــف يتهمــون بــه بعــد‬
‫مذهبــه اعتقــاد متعلقــه القديــم تعــاىل‪،‬‬ ‫ذلــك‪ ،‬وكيــف يُك َّفــرون بقــول ال يقولــون‬
‫وهــو عندنــا جهــل‪ ،‬فيلزمنــا تكفريهــم»(((‪.‬‬ ‫بــه؟‬

‫((( أبــو القاســم‪ ،‬البســتي‪ ،‬كتــاب «البحــث عــن أدلــة‬


‫((( املرجع السابق‪( ،‬ص‪.)30 /‬‬ ‫التكفــر والتفســيق»‪ ،‬مرجــع ســابق‪( ،‬ص‪.)65 /‬‬

‫‪39 || 38‬‬
‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫يُطــرد ذلــك أيضً ــا عــى الخــاف الواقــع‬ ‫يظهــر إذن أ َّن البســتي يتعامــل مــع‬
‫بــن املذاهــب األخــرى‪.‬‬ ‫الخــاف‪ ،‬ومــع مســألة اإللــزام بهــذا‬
‫الخــاف‪ ،‬مبوضوعيــة‪ ،‬يــرى أنَّهــا لــو‬
‫وبذلــك يكــون أبــو القاســم البســتي مــن‬ ‫طُــردت للــزم تكفــر مشــايخه‪ ،‬وبالطبــع‬
‫املعتزلــة القالئــل الذيــن ميكــن اعتبارهــم‬ ‫فإنَّــه ال يكفرهــم‪ ،‬غــر أنَّــه ينبــه بعــد‬
‫أمنوذ ًجــا لعــذر املخالــف وقبــول تأويلــه‬ ‫ذلــك عــى أنَّــه مثلــا لـــم يقــع الحكــم‬
‫وعــدم تكفــره‪ ،‬مقابــل كثــر مــن املعتزلــة‬ ‫بكفــر شــيوخ املعتزلــة بــازم خالفاتهــم‪،‬‬
‫الذيــن يرفضــون االختــاف العقــدي‪،‬‬ ‫فكذلــك ينبغــي القــول يف الفــرق األخــرى‬
‫ويقصــون كثــ ًرا مــن الفــرق اإلســامية‬ ‫املخالفــة للمعتزلــة‪ ،‬وهــو مــا يعــر عنــه‬
‫بالتكفــر‪.‬‬ ‫بقولــه ‪-‬مردفًــا النــص‪ -‬الســابق‪:‬‬
‫«ومتــى تأ َّولنــا مذاهبهــم وقلنــا‪ :‬قــد‬
‫وقبــل الختــم ال بُ ـ َّد مــن إشــارة تتعلــق‬ ‫عرفــوا اللــه يف الجملــة‪ ،‬وغلطُهــم يف غــر‬
‫بحكــم املخالفــن مــن الفــرق اإلســامية‬ ‫القديــم‪ ،‬أو رصفنــا خالفهــم إىل عبــارة‬
‫الذيــن وقــع تكفريهــم مــن قبــل املعتزلة؛‬ ‫أمكــن ذكــر مثــل مــا يعتــذر بــه عنهــم يف‬
‫إذ كــا هــو معلــوم؛ فــإ َّن التكفــر حكــم‬ ‫كثــر مــن املخالفــن»(((‪.‬‬
‫رشعــي لــه آثــار فقهيــة ترتتــب عليــه‪،‬‬
‫كاســتحالل الــدم‪ ،‬ومنــع اإلرث واملناكحــة‬ ‫وبــه فــإذا كان اإلميــان املجمــل باألصــول‬
‫‪ ...‬فهــل ذهــب املعتزلــة إىل الدعــوة إىل‬ ‫الكــرى‪ ،‬ال يــر معــه الخــاف يف الفــروع‬
‫تأويــا‬
‫ً‬ ‫ترتيــب تلــك اآلثــار؟ أم إن لهــم‬ ‫الــر َر الــذي يبلــغ حــ َّد الكفــر؛ فــإ َّن‬
‫آخــر؟‬ ‫هــذا ينطبــق عــى جميــع املذاهــب‪،‬‬
‫ـب بــه دون‬ ‫وال موجــب لتخصيــص مذهـ ٍ‬
‫يجيبنــا عــن ذلــك أحمــد بــن يحيــى‬ ‫غــره‪ .‬وإن أُ ِّول الخــاف الدائــر بــن‬
‫املرتــى‪ ،‬فيقــول‪:‬‬ ‫أصحــاب مذهــب واحــد عــى أنَّــه خــاف‬
‫«مســألة‪ :‬البلخــي عــن املعتزلــة جمي ًعــا‪:‬‬ ‫لفظــي (خــاف يف عبــارة)‪ ،‬فــا بــأس أن‬
‫إ َّن املجــرة واملشــبهة كفــار يجــب‬
‫((( املرجع السابق‪( ،‬ص‪.)31 ،30 /‬‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫علــا يُفــي إىل اليقــن والقطــع‪،‬‬ ‫بهــا ً‬ ‫اســتتابتهم‪ ،‬وال يُصــى عليهــم‪ ،‬ونحــوه‪.‬‬
‫ولـــا كان العلــم عندهــم ال يحصــل َّإل‬ ‫َّ‬ ‫أبــو عــي‪ ،‬وقــايض القضــاة‪ ،‬وابــن مبــر‪:‬‬
‫بالنظــر العقــي؛ فقــد أوجبــوه أيضً ــا مــن‬ ‫لهــم حكــم املرتــد‪.‬‬
‫بــاب «مــا ال يتــم الواجــب َّإل بــه؛ فهــو‬ ‫أحــد قــويل أيب هاشــم وثُ امــة‪ :‬بــل حكــم‬
‫واجــب»‪ ،‬وهــو مــا نشــأ عنــه اختــاف‬ ‫الذمــي‪.‬‬
‫بينهــم يف حكــم العامــي املقلــد أفــى‬ ‫البلخــي‪ :‬بــل حكــم املســلمني يف املعاملــة‪،‬‬
‫بأكرثهــم إىل تكفــره‪ ،‬أو تفســيقه‪ .‬ولـــم‬ ‫وإنَّ ــا الــكالم يف العقــاب ‪...‬‬
‫يختلــف الحــال بالنســبة إىل املخالــف‬ ‫لنــا‪ :‬إذا ثبــت لهــم الكفــر لزمــت‬
‫الــذي انبنــى خالفــه عــى نظــر واســتدالل‬ ‫أحكامــه‪ ،‬فــإن تشــهدوا ثــم أظهــروا الجــر‬
‫وتأويــل‪ ،‬فقــد ذهــب عامــة املعتزلــة‬ ‫فمرتــدون» (((‪.‬‬
‫إىل رفــض االجتهــاد العقــدي الواقــع‬ ‫يظهــر بذلــك أ َّن عامــة املعتزلــة عــى‬
‫بــن الفــرق اإلســامية‪ ،‬وهــو رفــض قــد‬ ‫القــول برتتيــب أحــكام الكفــر عــى أهــل‬
‫نتــج عنــه تكفــر املخالــف يف كثــر مــن‬ ‫تلــك الفــرق‪ ،‬ولـــم يتســاهل يف ذلــك َّإل‬
‫األحيــان‪ ،‬وبــه يظهــر أ َّن دعــوة املعتزلــة‬ ‫البلخــي الــذي اعتــر أ َّن التكفــر هنــا‬
‫إىل النظــر العقــي‪ ،‬والحكــم بإيجابهــا عىل‬ ‫حكــم متعلــق باآلخــرة ال بالدنيــا‪ ،‬فصــار‬
‫ك ُِّل مكلــف‪ ،‬ليســت دعــوة إىل االجتهــاد‬ ‫التكفــر عنــده مبنـــزلة التفســيق؛ إذ ال‬
‫العقــدي‪ ،‬وإنَّ ــا هــي دعــوة إىل التقليــد‬ ‫مينــع معاملــة املخالــف مبعاملــة أهــل‬
‫يف الدليــل‪ ،‬وهــو مــا يتعــارض مــع مبــدأ‬ ‫اإلســام‪ ،‬كــا ال يقــول بنجاتــه يف اآلخــرة‪.‬‬
‫املعتزلــة يف القــول بفســاد التقليــد!‬
‫خاتمة‪:‬‬
‫ومــن ث َ َّم لـــم يصــح ُمطلقًا اتخــاذ املعتزلة‬ ‫رأينــا خــال هــذا العــرض أ َّن املعتزلــة قــد‬
‫أمنوذ ًجــا للحريــة واالنفتــاح العقــي‪،‬‬ ‫تشـ َّددوا يف أصولهــم التــي جعلوها أصول‬
‫و(محنــة خلــق القــرآن) املشــهورة دليــل‬ ‫الديــن‪ ،‬وقــد أوجبــوا عــى الجميــع العلــم‬
‫عمــي واضــح عــى ذلــك‪.‬‬
‫((( أحمــد بــن يحيــى‪ ،‬املرتــى‪ ،‬كتــاب «القالئــد يف‬
‫تم‪ ،‬والحمد لله‪.‬‬ ‫تصحيــح العقائــد»‪ ،‬مرجــع ســابق‪( ،‬ص‪.)136 /‬‬

‫‪41 || 40‬‬

You might also like