You are on page 1of 21

‫تجربة ملف العلمانية‬

‫*‬
‫اإلسالم خارج الحكم الشرعي‬
‫(العلمــاني اإلســالمي)‬
‫شيرمان جاكسون‪ ،‬ترجمة‪ :‬عمر عبد الرازق شاهين‬

‫للمجــال العلــاين يف اإلســام‪ .‬ويف ســعيه هــذا يتجــاوز الكثــر‬ ‫(((‬


‫مقدمة المترجم‬
‫ـب اهتاممهــا عــى‬ ‫مــن الخطابــات األيديولوجيــة التــي ينصـ ُّ‬
‫العلامنيــة بوصفهــا مذه ًبــا سياســ ًّيا وقال ًبــا فكريًّــا جاهــ ًزا‬
‫ــر‬ ‫تشــبه الكتابــ ُة يف موضــوع العلامنيــة واإلســام َّ‬
‫الس ْ َ‬
‫يف حقــل ألغــام‪ ،‬ومــن ث َـ َّم تحتــاج إىل دقَّــة وحيطــة وحــذر‪،‬‬
‫للعالقــة بــن الديــن والدولــة أو الديــن واملجــال العــام‪ ،‬التــي‬
‫وإىل جســارة وشــجاعة واعتــداد بــاألدوات املنهجيــة الالزمــة‪،‬‬
‫انحــر فيهــا الفكــر العــريب طويـ ًـا مكــر ًرا أســئلة مــن قبيــل‪:‬‬
‫َّإل أن هــذا ليــس بعاصــمٍ مــن ســوء الفهــم أو االلتبــاس أو‬
‫هــل نقبــل العلامنيــة أم نرفضهــا؟ ننقدهــا أم نؤولهــا(((؟‬
‫القـراءة الخاطئــة‪ ،‬ألســباب ال تعــود إىل وضــوح غايــة املؤلــف‬
‫وهــو ال يُع َنــى بالعلامنيــة مذهبًــا سياسـيًّا وال «منوذ ًجــا‬ ‫وحججــه مــن عدمــه‪ ،‬بــل تعــود إىل تبايــن َوقْــع املصطلحــات‬
‫ـال للتاميُــز‬
‫معرف ًّيــا»‪ ،‬وإمنــا بالعلــاين تصني ًفــا معرف ًيــا ومجـ ً‬ ‫واملفاهيــم والنــاذج عــى القــارئ باختــاف ســياقاته‪ .‬ومــن‬
‫يقصــد بــه «مجــاالت الســعي التــي تكــون ماهيتهــا ومادتهــا‬ ‫ث َ ـ َّم فالــكالم يف مجــال العلامنيــة واإلســام تح ُّفــه خطابــات‬
‫وأدواتهــا مســتقلة عــن الخطــاب اإللهــي الرشعــي»(((‪ .‬ويف‬ ‫عديــدة تفرضهــا ثنائيــات وخالفــات ُمك َّرســة‪ ،‬ناهيــك عــن‬
‫تركيــزه عــى العلــاين إمنــا يســتثمر معنــاه باعتبــاره «مقولــة‬ ‫املتخصصــة‬
‫ِّ‬ ‫االســتخدامات املختلفــة بــن األكادمييــات‬
‫مركزيــة حديثــة (الهوتية‪-‬فلســفية‪ ،‬وقانونية‪-‬سياســية‪،‬‬ ‫واملناقشــات السياســية والثقافيــة واالجتامعيــة‪ ،‬فتكتســب‬
‫وثقافية‪-‬أنرثوبولوجيــة)‪ ،‬تســعى إىل تأســيس وتنســيق وفهــم‬ ‫املفــردات املســتخدمة معانيهــا الخاصــة يف كل ســياقٍ بشــكل‬
‫وتجربــة واقــع مغايــر للدينــي»((( (واملغايــر للرشعــي يف رأي‬ ‫مســتقل ومتداخــل يف آن م ًعــا‪ ،‬فليســت هــي واحــدة عنــد‬
‫الحداثيــن العــرب‪ ،‬وال الحــركات اإلســامية املعــارصة‪ ،‬وال هي‬
‫بالــرورة نفســها عنــد داريس اإلســام مــن أكادمي ِّيــي الغــرب‪.‬‬
‫األمثلــة يف هــذا الصــدد أكــر مــن أن ت ُحــى‪ ،‬لكــن راجــع عــى ســبيل‬ ‫(‪)2‬‬
‫املثــال‪ :‬عبــد الوهــاب املســري وعزيــز العظمــة‪ ،‬العلامنيــة تحــت‬ ‫والطــرح الــذي يق ِّدمــه شــرمان جاكســون يف هــذه‬
‫املجهــر‪ :‬حــوارات لعــر جديــد (دار الفكــر‪ :‬دمشــق‪ ،‬ط‪2014 ،4‬م)؛‬
‫جــورج طرابيــي‪ ،‬هرطقــات ‪ :2‬عــن العلامنيــة كإشــكالية إســامية‬ ‫الورقــة إمنــا يســعى إىل تقديــم رؤيــة جديــدة يف األطروحــة‬
‫إســامية (بــروت‪ :‬دار الســاقي‪2008 ،‬م)‪ ،‬خاصــ ًة الجــزء األول مــن‬ ‫النظريــة للعالقــة بــن املجــال العلــاين واإلســام‪ ،‬أو باألحــرى‬
‫ص‪ 9‬إىل ص‪.97‬‬
‫مــن كلمــة جاكســون عــن «العلــاين اإلســامي» يف «جامعــة جــورج‬ ‫(((‬
‫تــاون يف قطــر»‪ ،‬عــى الرابــط‪:‬‬
‫‪https://youtu.be/UaTRMW-Dtjo.‬‬ ‫ـرت هــذه الورقــة يف املجلــة األمريكيــة للعلــوم االجتامعيــة اإلســامية‬‫* نُـ ِ‬
‫(‪ ،)American Journal of Islamic Social Sciences‬العــدد ‪ 2‬مــن املجلــد‬
‫خوســيه كازانوفــا‪« ،‬العلــاين والعلامنيــات»‪ ،‬ترجمــة‪ :‬طــارق عثــان‪،‬‬ ‫(((‬ ‫‪2017( 34‬م)‪ .‬عــى الرابــط‪:‬‬
‫أوراق منــاء ‪( 84‬بــروت‪ :‬مركــز منــاء للبحــوث والدراســات)‪.‬‬ ‫‪https//:www.ajis.org/index.php/ajiss/issue/view/2.‬‬

‫‪2‬‬
‫التــي تســعى إىل معالجــة مــأزق املســلمني يف العــامل‬ ‫ـاص مــع‬
‫جاكســون يف هــذه الورقــة)‪ ،‬وهــذا االســتثامر لــه تنـ ٌّ‬
‫الحديــث‪ ،‬ســواء بتوســيع مفهــوم الرشيعــة أو بالتأكيــد عــى‬ ‫كتابــات تشــارلز تايلــور وعملــه عــر علــاين‪ ،‬وطــال أســد‬
‫مفهــوم االجتهــاد وتوســيعه‪ ،‬والتــي يحاورهــا يف أكــر مــن‬ ‫وكتابــه تشـكُّالت العلــاين يف املســيحية والحداثــة واإلســام‪،‬‬
‫مناســبة‪ .‬ومــن املزالــق التــي يحـذّر منهــا جاكســون تحميــل‬ ‫وخوســيه كازانوفــا وورقتــه املعن َونــة «العلــاين والعلامنيات»‬
‫ـأت خطــاب الشــارع ملخاطبتهــا‬ ‫اإلســام مســؤولية أمــور مل يـ ِ‬ ‫وكتابــه األديــان العامــة يف العــر الحديــث(((‪ ،‬التــي أُحيــل‬
‫مبــارشة‪ ،‬وأن يُدخــل يف أفــق التقاليــد اإلســامية والفقهيــة مــا‬ ‫إليهــا يف الورقــة وتوفــر ســياقًا مناس ـبًا لتأطريهــا‪.‬‬
‫ليــس منهــا مــن تقاليــد كانــت مجـ َّرد اجتهــادات «علامنيــة»‬ ‫ويف طــ ْرح جاكســون يف هــذه الورقــة تحــ ٍّد لتعميــم‬
‫تاريخيــة للعلــاء يف مواجهــة مســتجدات عرصهــم‪.‬‬ ‫التجربــة األوروبيــة عــى غــر األورويب التــي باتــت تحــ ِّدد‬
‫لــن تكــون لهــذه الورقــة أهميــة إلَّ بقــدر مــا تتجــاوز‬ ‫مــا هــو دينــي ومــا هــو علــاين ومــا بينهــا‪ ،‬فلِ ـ َم يبقــى‬
‫قراءتهــا التحي ـزات والتصنيفــات املســبقة‪ ،‬فــا ب ـ َّد أن ت ُثــر‬ ‫ـلم كان أو غــر مســلم‪ -‬يف موقــع‬ ‫املشــتغل باإلســاميات ‪-‬مسـ ً‬
‫ج ـ َّد ُة طرحهــا مواط ـ َن خــاف‪ ،‬ســواء يف فكرتهــا الكليــة أو‬ ‫املتحـ ِّـر الــذي ال يقــدر عــى الحــوار يف حــدود الترشيــع يف‬
‫بنيانهــا التفصيــي‪ ،‬لكــن رهــاين أن األســئلة التــي تثريهــا‬ ‫حضــارة اإلســام؟ أو املتطــرف الــذي يــرى الــر َع ُملِـ ًّـا بــكل‬
‫ســتكون مختلفــة عـاَّ اعتدنــاه‪ ،‬لتســتكمل مــا بــدأه آخــرون‬ ‫املوضوعــات‪ ،‬مــع أن هــذا خطــأ واضــح(((؟ واإلســام الــذي‬
‫يف ضــ ِّخ دمــاء جديــدة يف مقاربــة هــذه املوضوعــات‬ ‫يعنيــه جاكســون يف كلمــة «العلــاين اإلســامي» هــو مجــال‬
‫اإلشــكالية ورؤيتهــا ومناقشــتها‪.‬‬ ‫رضا يف‬‫العمــل خــارج حــدود الرشيعــة الــذي يظــل مســتح ً‬
‫أمــا الرتجمــة فقــد ســعيت إىل أن تكــون ســهلة و ُمعينــة‬ ‫فكــره وتصوراتــه وســلوكياته نظــرة اللــه املرا ِقبــة لــه(((‪.‬‬
‫للقــارئ يف قراءتــه ومناقشــته ألفــكار الورقــة‪ ،‬وحرصــت عــى‬ ‫هــذه النظــرة اإللهيــة الشــاملة تجعــل مــن العســر‬
‫العــودة يف االقتباســات إىل املصــادر األصليــة‪ ،‬وإىل ترجامتهــا‬ ‫واملســتحيل تصــ ُّو َر حيــا ٍة تُعــاش «كــا لــو أن اإللــه غــر‬
‫العربيــة حــال توفرهــا‪ ،‬وهــي التــي أثبتهــا‪ ،‬أمــا يف النصــوص‬ ‫موجــود»؛ ولذلــك فــإن جاكســون يحــاول يف البدايــة متييــز‬
‫الرتاثيــة فقــد عــدت إىل مواضــع اإلحالــة وأضفــت يف الهامش‬ ‫العلــاين يف اإلســام عــن التجربــة الغربيــة‪ ،‬ثــم يحــاول متييــز‬
‫مــا اســتلزمه الســياق‪.‬‬ ‫ــن‪ :‬دائــرة «الرشعــي» ودائــرة «الدينــي»‪،‬‬ ‫َــن مختلفتَ ْ‬
‫دائرت ْ‬
‫وأخـ ًرا‪ ،‬أشــكر الصدي َقـ ْـن عمــر عبــد الغفــار وعمــر عبــد‬ ‫فليــس كل دينــي رشع ًّيــا (مبعنــى الخطاب الرشعــي الرصيح)‪،‬‬
‫القــادر عــى مناقشــاتهام الرثيَّة‪.‬‬ ‫وليــس الحــل اســتبدال العالقــة الوجدانيــة بــن العبــد وربــه‬
‫يف اســتحضار معيــة اللــه وطلــب رضــاه يف كل أعاملــه (مــا‬
‫والله من وراء القصد‪.‬‬
‫نــص عليهــا الــرع ومــا مل ينــص) بتوســيع مفهــوم الرشيعــة‬
‫عمر عبد الرازق شاهني‬ ‫ليشــمل كل موضوعــات الحيــاة املعيشــة‪.‬‬
‫ويــراوح جاكســون يف طرحــه بــن دارس اإلســاميات‬
‫املستكشــف للمجــال العلــاين يف الخــرة التاريخيــة‬
‫اإلســامية العمليــة والفقهيــة والكالميــة‪ ،‬وبــن صاحــب‬
‫الطــرح املدافــع عــن صالحيــة اعتــاد فكــرة «العلــاين‬
‫اإلســامي» يف مقابــل محــاوالت اإلصــاح واالجتهــاد الحاليــة‬

‫وجميعهــا مرتجمــة إىل العربيــة‪ :‬األول ترجمــه نوفــل الحــاج لطيــف‬ ‫(((‬
‫ونرشتــه دار جــداول عــام ‪2020‬م‪ ،‬والثــاين ترجمــه محمــد العــريب‬
‫كتــاب األديــان‬
‫َ‬ ‫ونرشتــه أيضً ــا دار جــداول عــام ‪2017‬م‪ ،‬وتر َجــ َم‬
‫العامــة يف العــر الحديــث قســ ُم اللغــات الحيــة والرتجمــة يف‬
‫جامعــة البلمنــد ونرشتــه املنظمــة العربيــة للرتجمــة عــام ‪2005‬م‪.‬‬
‫أحمــد عاطــف أحمــد‪« ،‬إســامي علــاين م ًعــا‪ :‬حــوار بــدأه صديقــي‬ ‫(((‬
‫األســتاذ شــرمان (عبــد الحكيــم) جاكســون»‪ ،‬مركــز نهوض للدراســات‬
‫والبحــوث‪ 13 ،‬أبريــل ‪2020‬م‪.‬‬
‫كلمة جاكسون عن «العلامين اإلسالمي»‪ ،‬عىل الرابط‪:‬‬ ‫(((‬
‫‪.Dtjo-UaTRMW/be.youtu//:https‬‬

‫‪3‬‬
‫اإلسالم خارج الحكم الشرعي‬

‫العالقــة العدائيــة مــع الديــن مــن ســياقها الغــريب‪ ،‬وت ُق َحــم‬ ‫ملخص‬
‫ّ‬
‫فيهــا جميــع األديــان يف العــامل‪ ،‬ال ســيام يف العــامل الحديــث‬
‫متأصــا بــن‬
‫ً‬ ‫مــن الشــائع القــول بــأن مثــة صدا ًمــا‬
‫(أو يُفــرض أن العالقــة يجــب أن تكــون كذلــك)‪ .‬وبالــرورة‬
‫ماهيــة مقولــة «الديــن» ومقولــة «العلــاين» عــى أســاس‬
‫كــا يشــر خوســيه كازانوفــا (‪« :)José Casanova‬مل تكــن‬
‫رفــض الديــن املبــديئ للفصــل بــن املقــ َّدس والدنيــوي‪،‬‬
‫األديــان التــي لطاملــا حملــت توج ًهــا ’دنيويًّــا‘ و’عاديًّــا‘‬
‫ويُقــال أيضً ــا إن هــذا الصــدام يبلــغ ذروتــه مــع اإلســام‪ .‬لكن‬
‫بحاجــة للخضــوع لعمليــة العلمنــة‪ .‬فــأن ت ُعل ِمــن يعنــي أن‬ ‫عندمــا نقــول إن اإلســام يرفــض ثنائيــة املق ـ َّدس والدنيــوي‪،‬‬
‫’تُ َدنْـ ِـن‘ (تجعلــه دنيويًّــا) … وهــي عمليــة ال معنــى لهــا يف‬ ‫فرمبــا تنفتــح طــرق أخــرى لتعريــف العلــاين يف اإلســام‬
‫ســياقات حضاريــة كهــذه»(‪.((1‬‬ ‫والتفكــر يف عالقتــه مــع الديــن‪ .‬وهــو مــا تنــري لــه هــذه‬
‫لكــن هــذه اإلســهامات ‪-‬بالرغــم مــا فيهــا مــن بصــرة‪-‬‬ ‫الورقــة‪ ،‬التــي تأخــذ الرشيعــة نقطــة انطــاقٍ لهــا‪ ،‬فتنظــر إىل‬
‫ال تعــد بالكثــر عندمــا يكــون املوضــوع هــو اإلســام‪،‬‬ ‫حدودهــا التــي قررتهــا لنفســها باعتبارهــا الح ـ َّد بــن نســق‬
‫فيُفــرض أن العــداء بــن «العلــاين» و«الدينــي» يبلــغ ذروتــه‬ ‫تقييــم الفعــل اإلنســاين القائــم عىل نصــوص الوحــي املكتملة‬
‫يف اإلســام بالرغــم مــن دنيويتــه؛ إذ يُفهــم اإلســام عــى‬ ‫(أو امتداداتهــا) ونســق تقييــم الفعــل اإلنســاين املســتقل عن‬
‫أنــه يتحــدى التمييــز بــن املقــ َّدس والدنيــوي‪ ،‬ويبــدو أن‬ ‫هــذه النصــوص‪ ،‬ولكنــه ليــس بالــرورة خــارج حســاب الله‪.‬‬
‫الحــركات اإلســامية الحديثــة ُمص ّممــة عــى رفــض الحــدود‬ ‫إن واقــع «غــر الرشعــي» هــذا ‪-‬إن جــاز التعبــر‪ -‬هــو واقــع‬
‫بــن الدينــي والعلــاين وتركهــا مفتوحــة لتُحكّــم فيهــا‬ ‫«العلــاين اإلســامي»‪ ،‬هــو «علــاين» بقــدر مــا هــو متاميــز‬
‫الدينــي‪ .‬ونتيجــة ذلــك هــي تأســيس ثنائيــة بــن «اإلســامي»‬ ‫عــن الرشيعــة يف أســاس تقييــم الفعــل اإلنســاين‪ ،‬ومــع‬
‫و«العلــاين»‪ ،‬ينبغــي مبوجبهــا وصــف الفعــل أو الفكــرة أو‬ ‫ذلــك يظــل «إســام ًّيا» ومــن ث َ ـ َّم «دين ًّيــا» يف رفضــه فكــرة‬
‫املؤسســة بأنهــا إســامية أو علامنيــة‪ ،‬ولكــن يســتحيل جمــع‬ ‫التــرف َوفْـ َـق مقولــة «كــا لــو أن اإللــه غــر موجــود»‪ .‬كــا‬
‫رســخ يف أذهــان الكثرييــن رضورة‬ ‫االثنــن م ًعــا‪ ،‬وهــو مــا ّ‬ ‫ـأبي أن التفرقــة بــن الرشعــي وغــر الرشعــي لهــا أصولهــا‬ ‫سـ ّ‬
‫االختيــار بــن االثنــن‪.‬‬ ‫الراســخة يف التقليــد الفقهــي (والكالمــي) اإلســامي‪ .‬ومــن‬
‫فهــا‬ ‫ثَـ َّم فإننــا أقــرب إىل التنقيــب عــن مقولــة العلــاين اإلســامي‬
‫ســأقرتح يف هــذه الورقــة قــراء ًة لإلســام تقــ ّدم ً‬
‫مغايــ ًرا لعالقتــه مــع العلــاين‪ .‬هــذه العالقــة تكشــفها‬ ‫مــن اخرتاعنــا إياهــا‪.‬‬
‫وتيرسهــا قــراءة متم ّعنــة للرشيعــة التــي تفــرض وضــع‬ ‫مقدمة‬
‫الحــدود الفقهيــة عــى هــذه العالقــة‪ ،‬وبذلــك تتحــدى فكــرة‬ ‫مــا يــزال مصطلــح العلــاين يشــر عــاد ًة إىل عالقــة‬
‫أن حــدود الرشيعــة هــي نفســها حــدود اإلســام بوصفــه‬ ‫عدائيــة مــع الديــن(((‪ ،‬وبالرغــم مــن تن ُّبــه ع ـ َّدة إســهامات‬
‫دي ًنــا‪ .‬إن هــذه العالقــة يف جوهرهــا هــي املســاحة بــن‬ ‫معــارصة لاللتبــاس املفهومــي الــذي يحدثــه‪ ،‬فقــد اكتســب‬
‫الرشيعــة املحــدودة باعتبارهــا مدونــة محــددة للســلوك‪،‬‬ ‫هــذه الداللــ َة الشــائعة كونــه منت ًجــا للحداثــة الغربيــة‬
‫ومجــال اإلســام غــر املحــدود باعتبــاره دي ًنــا أو فلنقــل حيــاة‬ ‫الناشــئة أو مشــاركًا يف نشــأتها(((‪ .‬ودامئــا مــا ت ُجــرد هــذه‬

‫ووفقــا لــرأي أشــيس نانــدي (‪ ،)Ashis Nandy‬فــإن هوليــوك قــد صــاغ هــذا‬
‫املصلــح يف عــام ‪1850‬م‪ ،‬يف وقـ ٍ‬
‫ـت كان مــا يـزال «مالمئًــا للديــن»‪ .‬انظــر‪:‬‬ ‫وال شـ َّـك أن «الديــن» بــدوره يثــر ً‬
‫التباســا مفهوميًّــا كذلــك‪ .‬انظــر‬ ‫(((‬
‫‪“The Politics of Secularism and the Recovery of Religious Tolerance,” in‬‬
‫عــى ســبيل املثــال‪:‬‬
‫‪R. T. McCutcheon, “The Category ‘Religion’ in Recent Publications: A‬‬
‫‪Secularism and Its Critics, 327.‬‬ ‫‪Critical Survey,” Numen 42, no. 3 (October 1995): 284-309; J. Z. Smith,‬‬
‫وكانــت «حــرب الثالثــن عا ًمــا» رصا ًعــا دينيًّــا مدمــ ًرا بــن الكاثوليــك‬ ‫‪“Religion, Religions, Religious,” Critical Terms for Religious Studies‬‬
‫والربوتســتانت‪ ،‬يف الظاهــر‪ ،‬أودت بحيــاة املاليــن وانتهــت بـ«صلح وســتفاليا»‬ ‫‪(Chicago: University of Chicago Press, 1998), 84-269.‬‬
‫(‪ .)Peace of Westphalia‬وأســجل هنــا وجهــة نظــر مغايــرة عــن أهميــة‬
‫الحــروب الدينيــة يف أوروبــا‪ ،‬انظــر‪:‬‬ ‫وف ًقــا ملــا ي ـراه تريلــويك نــاث مــادان‪« ،‬فكلمــة ’علمنــة‘ اس ـتُخدمت‬ ‫(((‬
‫‪W. Cavanaugh, The Myth of Religious Violence: Secular Ideology and the‬‬ ‫ألول مــرة عــام ‪1648‬م يف نهايــة «حــرب الثالثــن عا ًمــا» يف أوروبــا‬
‫‪Roots of Modern Conflict (New York: Oxford University Press, 2009),‬‬ ‫لإلشــارة إىل نقــل ممتلــكات الكنيســة مللكيــة األمــراء الخاصــة»‪.‬‬
‫‪123-80.‬‬ ‫انظــر‪:‬‬
‫(‪ ((1‬وقــد أشــار كازانوفــا ع َرضً ــا إىل الكونفوشــية والطاويــة كأمثلــة يف هــذا‬ ‫‪T. N. Madan, “Secularism in Its Place,” Secularism and Its Critics, ed.‬‬
‫الشــأن‪ .‬انظــر‪:‬‬ ‫‪R. Bhargava, 6th ed. (New Delhi: Oxford University Press, 2007), 297.‬‬
‫‪J. Casanova, “Secularization Revisited: A Reply to Talal Asad,” Powers‬‬ ‫ويقــول إن اإلنجليــزي جورج جاكــوب هوليــوك (‪)George Jacob Holyoake‬‬
‫‪of the Modern Secular: Talal Asad and His Interlocutors, ed. D. Scott‬‬ ‫قــد صــاغ هــذا املصطلــح ألول مــرة عــام ‪1851‬م‪ .‬انظــر‪ :‬املرجــع الســابق‪،‬‬
‫‪and C. Hirschkind (Stanford: Stanford University Press, 2006), 19-20.‬‬ ‫ص‪.298‬‬

‫‪4‬‬
‫الســلطة والتقاليــد‪ ،‬مبــا يف ذلــك الكتــاب املقــ َّدس ورؤيــة‬ ‫تســتحرض مع َّيــة اللــه ومراقبتــه‪ .‬وهــذه املســاحة هــي مــا‬
‫اإلنســان الالهوتيــة يف جوهرهــا للكــون»(‪.((1‬‬ ‫يؤســس للمجــال «العلــاين اإلســامي»‪ .‬يظــل هــذا النطــاق‬ ‫ّ‬
‫ـي باألزمــة قبــل ذلــك‪ .‬فــكان‬ ‫علامن ًّيــا بقــدر مــا هــو متاميــز‪ ،‬باصطــاح ماكس فيــر (‪Max‬‬
‫وقــد تنامــى شــعور يومـ ّ‬
‫أحــد الدوافــع الكبــرة وراء ظهــور العلــاين الغــريب ‪-‬بحســب‬ ‫‪ ،)Weber‬مبعنــى ألَّ حكــم وال ق ـرار فيــه لنصــوص الوحــي‬
‫نومــي ســتولزنربغ (‪ -)Nomi Stolzenberg‬يتمثَّــل يف‬ ‫الواضحــة وال امتداداتــه املعتــرة يف أصــول الفقــه اإلســامي‪.‬‬
‫«قبــول حتميــة تدنــس القانــون اإللهــي و ُمثُــل العدالــة‬ ‫ويظــل إســاميًّا كذلــك مــا دام محص ًنــا ضــد الدافــع الــذي‬
‫املق َّدســة يف ’العــامل الزمنــي‘«(‪ .((1‬وهــو مــا ولّــد مخــاوف‬ ‫عـ ّـر عنــه هوغــو غروشــيوس (‪ )Hugo Grotius‬ألول مــرة‬
‫مــن احتــال إفســاد الديــن ومؤسســاته وتقويــض ســلطانه‬ ‫يف القــرن الســابع عــر بــأن نعيــش «كــا لــو أن اإللــه‬
‫عــر التطبيــع مــع هــذا الدنــس‪ .‬وكانــت ردة الفعــل ‪-‬ال‬ ‫غــر موجــود» (‪ .((1()etsi Deus non daretur‬ويف هــذه‬
‫ســيام مــن الربوتســتانتية‪ -‬هــي إنشــاء واقـعٍ بديــلٍ تحكمــه‬ ‫القــراءة‪ ،‬ال يكــون العلــاين والدينــي ‪-‬مــع اختالطهــا‬
‫ِقيــ ٌم وســلطاتٌ واختصاصــاتٌ غــر دينيــة ال يضــر الديــن‬ ‫ومتايزهــا عــن بعضهــا بعضً ــا‪ -‬أنــدا ًدا متخاصمــن كــا يف‬
‫ومؤسســاته وال يفســدهام االســتهزاء بهــا أو تســفيهها‪ .‬ومل‬ ‫العلامنيــة الغربيــة‪ .‬كــا ال يكــون العلــاين علامن ًّيــا لقدرتــه‬
‫يكــن هــذا مجـ َّرد رضب مــن مامرســة االنكفــاء عــى الديــن‬ ‫عــى الرقابــة عــى الديــن أو تدجينــه إيــاه‪ ،‬وال يتخــذ منهــا‬
‫حقيقــي‬ ‫أو إزاحــة املؤسســات‪ ،‬فقــد كان هنــاك اهتــام‬ ‫قيمتــه‪ .‬فالعلــاين اإلســامي ليــس مفروضً ــا عــى اإلســام (وال‬
‫ٌّ‬
‫بالحاجــات العمليــة والتطلعــات اليوميــة‪ .‬وكــا يُلخــص‬ ‫الرشيعــة) مــن الخــارج‪ ،‬بــل منبثــق نتيجــة الحــدود الفقهيــة‬
‫شــيلدون وولــن (‪ )Sheldon Wolin‬مخـ َ‬
‫ـاوف مارتــن لوثــر‬ ‫التــي فرضتهــا الرشيعــة عــى نفســها طواعي ـةً‪.‬‬
‫(‪ )Martin Luther‬بقولــه‪« :‬سيســتحيل العــامل فــوىض‬ ‫تلــزم عــن هــذه القـراءة لــوازم وتحديــات سأشــتبك مــع‬
‫ُ‬
‫الرجــال حك َمــه باإلنجيــل»(‪ .((1‬إذن‪ ،‬فقــد نشــأ‬ ‫إذا حــاول‬ ‫أبرزهــا خــال مناقشــتي‪ .‬لكــن قبــل ذلــك‪ ،‬وتفاديًــا لاللتباس‪،‬‬
‫العلــاين الغــريب يف البدايــة لحاميــة الديــن واملجتمــع‪ .‬وال‬ ‫أوضــح طبيعــة التداخــل بــن العلــاين اإلســامي والعلــاين‬
‫يلــزم عــن هــذا أن طريقــة العلامنيــة يف العمــل بعــد ذلــك‬ ‫الغــريب ودرجــة التبايــن بينهــا‪ .‬وهــو مــا يقربنــا مــن إدراك‬
‫كانــت تطبيقًــا لجوهرهــا أو عــودة إىل أصولهــا‪.‬‬ ‫أهميــة أطروحتــي‪ .‬وذلــك أن أهــم الفــوارق املؤثــرة بــن‬
‫يف املقابــل‪ ،‬مل يستنســخ تاري ـ ُخ اإلســام قبــل الحديــث‬ ‫العلــاين الغــريب واإلســامي ال ت ْك ُمــن يف جوهرهــا‪ ،‬بــل يف‬
‫تجربــ َة «حــرب الثالثــن عا ًمــا» عــى أي صعيــد‪ ،‬وال حتــى‬ ‫وظيفتهــا‪ .‬ويرجــع هــذا االختــاف إىل الوقائــع التاريخيــة‬
‫الـراع العثــاين الصفــوي الــذي مل يكــن لــه النــرة الدينيــة‬ ‫املختلفــة التــي واجهتهــا املســيحية (الغربيــة) واإلســام‪،‬‬
‫نفســها وال تداعياتهــا‪ ،‬فلــم ينتــج املســلمون أي يشء ميكــن‬ ‫باإلضافــة إىل اختالفهــا يف الــروح والبنيــة‪ .‬ويُشــار هنــا إىل‬
‫مقارنتــه بعــر «التنويــر»‪ .‬ويف الحقيقــة‪ ،‬لقــد ســعى الفقهاء‬ ‫التحديــات السياســية الدينيــة التــي انعكســت خــال «حــرب‬
‫املســلمون إىل توســيع نطــاق القانــون الدينــي عــن طريــق‬ ‫الثالثــن عا ًمــا» (‪1648-1618( )Thirty Years’ War‬م)(‪.((1‬‬
‫القيــاس‪ ،‬واالستحســان‪ ،‬واملصالــح املرســلة‪ ،‬وســد الذرائــع‪،‬‬ ‫فوف ًقــا لجوناثــان إرسائيــل (‪ ،)Jonathan Israel‬فقــد ولَّــدت‬
‫والقواعــد الفقهيــة‪ ،‬وحتــى اســتقراء نصــوص الرشيعــة‪.‬‬ ‫الحــرب كذلــك ظهــور فصيــل مــن املتمرديــن والجمهوريــن‬
‫وكان الهــدف مــن ذلــك كلــه ‪-‬كــا كان يف العلــاين الغــريب‬ ‫الذيــن تصــوروا أنــه «قــد يكــون هنــاك منطــق فلســفي‬
‫املبكِّــر‪ -‬حاميــة مصالــح املجتمــع والحفــاظ عــى ســيادة‬ ‫وعلــاين متا ًمــا لتفكيــك ســلطة اإلكلــروس [وتعزيــز] حريــة‬
‫القانــون املقـ َّدس‪ .‬ويف هــذه املقاربــة باتــت للطاعــة للقانــون‬ ‫الفكــر واســتقاللية الضمــر الفــردي»(‪ ،((1‬وكانــت تلــك بدايــة‬
‫الدينــي بنيــة متغـ ّـرة مــع الوقــت‪ ،‬فعــى ســبيل املثــال ظلــت‬ ‫بواكــر عــر التنويــر (‪ ،)Early Enlightenment‬ويف القلــب‬
‫منــه كان نقــاش الهــويت‪ ،‬وشــبح االنقــاب عــى «كل أشــكال‬

‫‪(14) Israel, Enlightenment Contested, 65.‬‬


‫(‪ ((1‬مقتبس من‪:‬‬
‫‪(15) N. Stolzenberg, “The Profanity of the Law,” Law and the Sacred,‬‬ ‫‪C. Taylor, “Modes of Secularism,” Secularism and Its Critics, 34.‬‬
‫‪ed. A. Sarat, L. Douglas, and M. M. Umphrey (Stanford: Stan-‬‬
‫‪ford University Press, 2007), 34.‬‬ ‫راجع الهامش رقم (‪.)10‬‬ ‫(‪((1‬‬
‫‪(16) S. Wolin, Politics and Vision: Politics and Change in Western‬‬ ‫‪(13) J. Israel, Enlightenment Contested: Philosophy, Modernity, and‬‬
‫‪Political Thought (Princeton: Princeton University Press, 2006),‬‬ ‫‪the Emancipation of Man 1670-1752 (New York: Oxford Uni-‬‬
‫‪147.‬‬ ‫‪versity Press, 2006), 64.‬‬

‫‪5‬‬
‫اإلسالم خارج الحكم الشرعي‬

‫كان يُعــد محــل النظــر يف هــذه النقاشــات‪ .‬ولكنــه ظهــر‬ ‫الفتــوى يف املذهــب الحنفــي قرونًــا عــى عــدم جــواز بيــع‬
‫منافســا‬
‫ً‬ ‫منت ًجــا ثانويًّــا «بريئًــا» إىل حــد مــا‪ ،‬ليــس خصـ ًـا أو‬ ‫الوفــاء‪ ،‬إىل أن صــار الفقهــاء يفتــون بجــوازه عنــد الحاجــة‪.‬‬
‫للديــن أو القانــون الدينــي‪ .‬ومــرة أخــرى‪ ،‬يف حــن يتشــارك‬ ‫ولكنهــم يف الحالتَـ ْـن يخ ّرجــون الحكــم داخــل إطــار الفقه(‪،((1‬‬
‫العلــاين اإلســامي والغــريب الكثــر يف الجوهــر‪ ،‬أي اســتناده‬ ‫نفســه ميكــن أن نعـ ّدد أمثلــة كثــرة(‪ .((1‬فلــم‬ ‫وعــى املنــوال ِ‬
‫إىل مصــادر وســلطات خــارج حــدود نصــوص (تحديــدات)‬ ‫يــؤ ِّد اتجــاه الفقهــاء املركَّــب نحــو توســيع الطاعــة وفهمهــا‬
‫الديــن (ويف حالــة اإلســام‪ :‬الرشيعــة)‪ ،‬فــإن وظيفتــه ب ّينــة‬ ‫باعتبارهــا بنيــة متغـ ّـرة إىل ســعيهم ‪-‬أو شــعورهم بالحاجــة‬
‫االختــاف عــن الــدور الــذي أداه التصنيــف «علــاين» يف‬ ‫ـي رصيــح‪،‬‬ ‫إىل الســعي‪ -‬نحــو إنشــاء مجــال مســتقل غــر دينـ ّ‬
‫الغــرب‪.‬‬ ‫(‪((1‬‬
‫يكــون بديـ ًـا عــن الديــن أو مراقبًــا لــه‪.‬‬
‫إن مــا يجمــع بــن التصــورات املختلفــة حــول العلــاين‬ ‫كــا بقــي اإلدراك الــكيل لألصــول اإللهيــة للقانــون‬
‫الغــريب هــو اإلشــارة إىل وظيفتــه التنظيميــة يف مواجهــة‬ ‫الدينــي إىل جانــب فهــم اإلســام للتوحيــد عــى أنــه يعنــي‪:‬‬
‫الديــن‪ .‬إذ يشــر طــال أســد (‪ )Talal Asad‬يف عملــه‬ ‫أن مــا أراده اللــه وأمــر بــه هــو وحــده مــا ميلــك رشعيــة‬
‫البــارز تشــكالت العلــاين إىل أن جان ًبــا مــن أبــرز معــاين‬ ‫القانــون الدينــي‪ .‬فعبــارة «ال حكــم إلَّ للــه» التــي صــاح‬
‫العلــاين (الغربيــة) ي ْك ُمــن يف اإلزاحــة الدامئــة التــي يفرضهــا‬ ‫بهــا الخــوارج ‪-‬ورأتهــا األغلبيــة ُغلُــ ًّوا‪ -‬مل تكــن خاطئــة يف‬
‫عــى الديــن عــر تأســيس وحشــد سلســلة مــن املتقابــات‬ ‫جوهرهــا وال شــاذة(‪ ،((2‬والوتــر الــذي رضبــت عليــه عــاد‬
‫املعرفيــة (العقل‪/‬األســطورة‪ ،‬العام‪/‬الخــاص‪ ،‬االســتقاللية‪/‬‬ ‫ينبــض إبَّــان صعــود املعتزلــة يف القــرن الثــاين الهجــري‪/‬‬
‫الخضــوع)‪ ،‬وجميعهــا ُصممــت و ُوظفــت معياريًّــا لتأســيس‬ ‫الثامــن امليــادي عندمــا بــات الســؤال عــن نطــاق الخطــاب‬
‫تفــوق العلــاين عــى الدينــي وتعزيــزه(‪ .((2‬وبعبــارة أخــرى‪،‬‬ ‫اإللهــي القانــوين تحديـ ًدا محـ َّـل نقــاش‪ .‬ويف النهايــة‪ ،‬ســيظهر‬
‫ال يتعــارض العلــاين مــع الدينــي فحســب‪ ،‬بــل يُتوقــع منــه‬ ‫العلــاين اإلســامي (أو باألحــرى ســينتهي بــه املطــاف) مــا‬
‫أن يســيطر عليــه‪ .‬ونجــد إدراكًا مقاربًــا يف وصــف كازانوفــا‬
‫الــذي يح ـ ّدد العلــاين باللحظــة التــي يتجــاوز فيهــا النــاس‬
‫ثنائيــة الديني‪/‬العلــاين‪ .‬فيقــول‪« :‬تعـ ّـر كلمــة علــاين عــن‬ ‫(‪ ((1‬انظــر عــى ســبيل املثــال‪ :‬مصطفــى الزرقــا‪ ،‬فتــاوى مصطفــى الزرقــا‬
‫تعلمــن مطلــق ومكتـ ٍ‬ ‫(دمشــق‪ :‬دار القلــم‪1420 ،‬هـــ‪1999/‬م)‪ ،‬ص‪.405‬‬
‫أناســا ليســوا‬
‫ـف بذاتــه عندمــا تصــف ً‬
‫مجــرد «ال مبالــن دين ًّيــا»‪ ،‬وإمنــا أنــاس محصنــون متا ًمــا‬ ‫(‪ ((1‬عــى ســبيل املثــال‪ :‬ينقــل ابــن رشــد (الحفيــد) اإلجــا َع عــى أن‬
‫املســلم ال يــرث غــر املســلم‪ ،‬بينــا مييــل ابــن تيميــة وابــن قيــم‬
‫ضــد أي صــورة مــن صــور التعــايل القابعــة فيــا وراء إطــار‬ ‫الجوزيــة الحنبليــان إىل جــواز أن يــرث َمــ ْن أســلم أقربــاءه غــر‬
‫املحايثــة العلــاين املحــض»(‪.((2‬‬ ‫املســلمني‪[ ،‬فــإن يف توريــث املســلمني منهــم ترغي ًبــا يف اإلســام‬
‫ملــن أراد الدخــول فيــه مــن أهــل الذمــة‪ ،‬فــإن كثـ ًرا منهــم مينعهــم‬
‫مــن الدخــول يف اإلســام خــوف أن ميــوت أقاربهــم‪ ،‬ولهــم أمــوال‬
‫واســتنا ًدا إىل اســتبصارات فيــر‪ ،‬يحــ ّدد كازانوفــا‬ ‫فــا يرثــون منهــم شــيئًا]‪ .‬انظــر‪ :‬ابــن رشــد‪ ،‬بدايــة املجتهــد ونهايــة‬
‫والتخصــص غــر‬
‫ُّ‬ ‫العلــا َّين بصعــود وانتشــار حقــول البحــث‬ ‫املقتصــد (القاهــرة‪ :‬دار الفكــر‪ ،‬بــدون تاريــخ)‪ .264/2 ،‬وابــن قيــم‬
‫الجوزيــة‪ ،‬أحــكام أهــل الذمــة‪ 3 ،‬أج ـزاء‪ ،‬تحقيــق‪ :‬يوســف البكــري‬
‫الدينيــة؛ إذ إنهــا هدمــت جــدران الديــر التــي صانــت تعــايل‬ ‫وشــاكر العــاروري (الدمــام‪ :‬الرمــادي للنــر‪1418 ،‬هـــ‪1998/‬م)‪،‬‬
‫الديــن وانفصالــه عــن الحيــاة الدنيــا‪ .‬وعندمــا انهــارت هــذه‬ ‫‪ ،72-853/2‬وخاصــ ًة ‪.53-852/2‬‬
‫ـكل مــن العلــاين‬‫(‪ ((1‬ميكننــا النظــر إىل حالــة واليــة املظــامل بوصفهــا شـ ً‬
‫املعــرف بــه‪ ،‬إال أنهــا كانــت نظا ًمــا بديـ ًـا إلنفــاذ القانــون وليــس‬
‫للقانــون يف حــد ذاتــه‪ .‬وهــو االنطبــاع الــذي يحصــل عليــه املــرء‬
‫‪(21) T. Asad, Formations of the Secular: Christianity, Islam, Moder-‬‬ ‫مــن الوصــف املوثــق كــا عنــد املــاوردي‪ ،‬إذ يقــول‪« :‬نظــر املظــامل‬
‫‪nity (Stanford: Stanford University Press, 2003), 21-66.‬‬ ‫ال يبيــح مــن األحــكام مــا حظــره الــرع»‪ .‬انظــر‪ :‬أبــو الحســن‬
‫[الرتجمــة العربيــة‪ :‬تشــكالت العلــاين يف املســيحية والحداثــة واإلســام‪،‬‬ ‫عــي بــن محمــد املــاوردي‪ ،‬األحــكام الســلطانية والواليــات الدينيــة‪،‬‬
‫ترجمــة‪ :‬محمــد العــريب (بــروت‪ :‬جــداول للنــر والرتجمــة والتوزيــع‪،‬‬ ‫تحقيــق‪ :‬أحمــد مبــارك البغــدادي (الكويــت‪ :‬مكتبــة دار ابــن قتيبــة‪،‬‬
‫‪2017‬م)‪ ،‬ص‪ - .81-35‬املرتجــم]‪.‬‬ ‫‪1409‬هـــ‪1989/‬م)‪ ،‬ص‪ ،126-102‬واالقتبــاس مــن ص‪.115‬‬
‫[يقــول املــاوردي‪« :‬ثــم انتــر األمــر بعــده [عــي بــن أيب طالــب]‬
‫‪(22) J. Casanova, “The Secular and Secularisms,” Social Research 17,‬‬ ‫حتــى تجاهــر النــاس بالظلــم والتغالــب ومل يكفهــم زواجــر العظــة‬
‫‪no. 4 (2009): 1052.‬‬ ‫عــن التامنــع والتجــاذب‪ ،‬فاحتاجــوا يف ردع املتغلبــن وإنصــاف‬
‫[يقــول كازانوفــا عــن إطــار املحايثــة‪« :‬قــام تشــارلز تايلــور يف كتابــه عــر‬ ‫املتظلمــن إىل نظــر املظــامل الــذي ميتــزج بــه قــوة الســلطنة بنصــف‬
‫علــاين بإعــادة تأســيس الســرورة التــي أصبــح عربهــا مــا يســميه ’إطــار‬ ‫القضــاء»‪ .‬انظــر‪ :‬املرجــع نفســه‪ ،‬ص‪ - .104‬املرتجــم]‪.‬‬
‫املحايثــة‘ يتبــدى فينومينولوج ًّيــا ككوكبــة متشــابكة مــن ثالثــة نُظُــم حديثــة‬
‫ومتاميــزة‪ :‬النظــام الكــوين واالجتامعــي واألخالقــي‪ .‬وأصبحــت هــذه النظــم‬ ‫(‪ ((2‬عــى ســبيل املثــال‪ ،‬يقــرر الفقيــه املعــارص محمــد أبــو زهــرة أن «اإلجــاع‬
‫الثالثــة مدركــة بوصفهــا نظـ ًـا علامنيــة محايثــة بشــكل محــض‪ ،‬نظـ ًـا مفرغة‬ ‫يف اإلســام قــد انعقــد عــى أن الحاكــم يف اإلســام هــو اللــه تعــاىل‪ ،‬وأنــه ال‬
‫متا ًمــا مــن أيــة تعــال‪ ،‬ومــن ثَـ َّم تــؤدي عملهــا كــا لــو أن اإللــه غــر موجود»‪.‬‬ ‫رشع إال مــن اللــه»‪ .‬انظــر‪ :‬محمــد أبــو زهــرة‪ ،‬أصــول الفقــه (القاهــرة‪ :‬دار‬
‫انظــر‪« :‬العلــاين والعلامنيــات»‪ ،‬ترجمــة‪ :‬طــارق عثــان‪ ،‬أوراق منــاء ‪- .84‬‬ ‫الفكــر العــريب‪ ،‬بــدون تاريــخ)‪ ،‬ص‪[ .69‬هنــاك خطــأ يف التوثيــق‪ ،‬يف األصــل‬
‫املرتجــم]‪.‬‬ ‫ص‪ - .63‬املرتجــم]‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫للنمــوذج األمريــي‪ -‬بينهــا [أي العلامنيــة] وبــن «حياديــة‬ ‫الجــدران انكشــف النظــام األريض أمــام العلــاين وبــات‬
‫الدولــة»(‪ ،((2‬حيــث تدجــن الدولــة العلامنيــة الديـ َن وترشعن‬ ‫ـال لغارتــه‪ ،‬حتــى آل األمــر بالديــن ِ‬
‫نفســه ليصــر باحثًــا‬ ‫مجـ ً‬
‫نفســها مبوجــب وعــد ضمنــي بحاميــة املجتمــع منــه‪ .‬كــا‬ ‫عــن مــكان لــه يقاتــل دفا ًعــا عنــه ‪ .‬وبهــذا تتأكَّــد ‪-‬مــرة‬
‫(‪((2‬‬

‫تتض َّمــن أوصافًــا أخــرى‪« :‬إعــادة تكييــف للديــن … كعنــر‬ ‫أخــرى‪ -‬العالقــة الهرم َّيــة «األبويَّــة» بــن العلــاين والدينــي‪.‬‬
‫يقــع تحــت إدارة وتدخــل مســتمرين‪ ،‬وإعــادة تشــكيل‬ ‫لقــد كان ِذك ـ ُر كازانوفــا لـ«إطــار املحايثــة» إشــار ًة منــه إىل‬
‫الحيــاة الدينيــة وحساســياتها مبــا يتوافــق مــع االفرتاضــات‬ ‫عمــل تشــارلز تايلــور (‪ )Charles Taylor‬الضخــم عــر‬
‫املســبقة واملتطلبــات املســتمرة للحكــم الليـرايل»(‪ .((2‬ويظهــر‬ ‫علــاين‪ ،‬حيــث يصــف تايلــور ‪-‬مثلــه مثــل طــال أســد‪-‬‬
‫العلــاين ‪-‬مــرة أخــرى‪ -‬يف كل هــذه الصــور كأنــه عمــدة‬ ‫الحــدود بــن العلــاين والدينــي باملســامية‪ ،‬لكــن العلــاين‬
‫املدينــة الجديــد الــذي يــأيت ليح ـ ّدد ويضبــط حــدود الديــن‬ ‫هــو مــن يح ـ ّدد الســياق الــكيل‪« ،‬إطــار املحايثــة»(‪ ((2‬الــذي‬
‫املناســبة‪ .‬ويف املقابــل‪ ،‬ال يفــرض العلــاين اإلســامي وجــود‬ ‫يقيــد و«يضغــط» عــى املجــاالت األصغــر للتأثــر الدينــي‪.‬‬
‫حاجــة أو أحق َّيــة لســلطة تقــوم بتحديــد الدينــي أو ضبطــه‪،‬‬ ‫وهــذا الضغــط يســحب وجــود اللــه مــن الحيــاة العامــة‪،‬‬
‫بــل هــو أقــرب إىل أن يكــون نتيجــة ســعي القانــون الدينــي‬ ‫ويُســهم يف النفــور العــام مــن املشــاعر واملامرســات الدينيــة‪،‬‬
‫نفســه ليضــع حــدو ًدا لنفســه‪ .‬وأك ـ ِّرر أن حــدود الرشيعــة‬ ‫إىل أن يصــر الحفــاظ عــى اإلميــان مســتعص ًيا(‪ .((2‬وباختصــار‪،‬‬
‫‪-‬يف قــراءيت هــذه‪ -‬هــي إلــزام ذايت وليســت تراج ًعــا وال‬ ‫تتعاظــم وظيفــة العلــاين باعتبارهــا قــوة فاعلــة يف الحيــاة‪،‬‬
‫تقلصــا نتيجــة مواجهــة ســلطة مســتقلة وخارجيــة ت ُدعــى‬ ‫ً‬ ‫بينــا يتضــاءل الديــن إىل دور ســلبي ورجعــي‪.‬‬
‫«العلــاين»‪.‬‬
‫تتض َّمــن املفاهيــم البديلــة عــن العلــاين (الغــريب)‬
‫شــك أن وضــع الرشيعــة يف بــؤرة النقــاش حــول‬ ‫وال َّ‬ ‫تنويعـ ٍ‬
‫ـات مــن الالئكيــة الفرنســية(‪ ((2‬واملواقــف التــي ترفــض‬
‫العلــاين يحوجنــا إىل التربيــر عــى مــا يبــدو؛ إذ إن القانــون‬ ‫حيــاة «تجعــل اللــه أولويتهــا» ‪ ،‬ويســاوي البعــض ‪-‬تب ًعــا‬
‫(‪((2‬‬
‫يف الغــرب ‪-‬يف نهايــة املطــاف‪ -‬نظــام علــاين دنيــوي محــض‪،‬‬
‫ويبــدو ألَّ جــدوى مــن اســتخالص تبايــن بينــه وبــن العلامين‪.‬‬
‫لكننــا قــد نجــد مــا يدعمنــا يف دراســتنا املقارنــة لالنقســام‬ ‫‪(23) J. Casanova, Public Religions in the Modern World (Chicago:‬‬
‫الثنــايئ التقليــدي بــن املق ـ َّدس والدنيــوي‪ .‬ففــي مناقشــته‬ ‫‪University of Chicago Press, 1994), 15, 20-25.‬‬
‫[يقــول كازانوفــا‪« :‬ولعــل الصــورة املعــرة التــي ذكرهــا ماكــس فيــر عــن‬
‫للمق ـ َّدس ومقابلــه يشــر طــال أســد إىل‪:‬‬ ‫انهيــار جــدران الديــر أفضــل تعبــر بيــاين عــن إعــادة الهيكلــة املكانيــة‬
‫الجذريــة تلــك‪ .‬فالجــدار الفاصــل بــن اململكتَـ ْـن الدينيــة والزمنيــة داخــل‬
‫أن محــاوالت تقديــم مفهــوم موحــد عــن «املقــ َّدس»‬ ‫’هــذا العــامل‘ ينهــار‪ ،‬والفصــل بــن ’هــذا العــامل‘ و’العــامل اآلخــر‘ ‪-‬حتــى اآلن‬
‫عــى األقــل‪ -‬يظــل قامئًــا‪ ،‬ولكــن ومــن اآلن فصاع ـدًا‪ ،‬ســوف يكــون هنالــك‬
‫يف اللغــات غــر األوروبيــة قوبلــت بأزمــات كاشــفة عــى‬ ‫عــامل واحــد‪’ ،‬هــذا العــامل‘ العــامل الزمنــي‪ ،‬وال بـ َّد أن يجــد الديــن فيــه موقعــه‬
‫مســتوى الرتجمــة‪ .‬هكــذا‪ ،‬وبالرغــم مــن أن الكلمــة العربيــة‬ ‫الخــاص‪ .‬ولــن كانــت اململكــة الدينيــة تبــدو ســابقًا كأنهــا الواقــع الجامــع‬
‫الــذي وجــدت اململكــة الزمنيــة ضمنــه موقعهــا الخــاص‪ ،‬فقــد أضحــى النطاق‬
‫«قداســة» تقابلهــا باإلنجليزيــة كلمــة «‪،»sacredness‬‬ ‫الزمنــي الواقــع الجامــع الــذي يجــب أن يتكيــف معــه النطــاق الدينــي»‪.‬‬
‫انظــر‪ :‬خوســيه كازانوفــا‪ ،‬األديــان العامــة يف العــر الحديــث‪ ،‬ترجمــة‪ :‬قســم‬
‫فإنهــا ســتبقى الحالــة التــي ال تصلــح لــكل الســياقات التــي‬ ‫اللغــات الحيــة والرتجمــة يف جامعــة البلمنــد (بــروت‪ :‬املنظمــة العربيــة‬
‫يســتخدم فيهــا املصطلــح باإلنجليزيــة يف الوقــت الحــايل‪ .‬إن‬ ‫للرتجمــة‪2005 ،‬م)‪ ،‬ص‪ - .30‬املرتجــم]‪.‬‬
‫‪(24) C. Taylor, A Secular Age (Cambridge, MA: Belknap Press,‬‬
‫‪2007), 594.‬‬
‫(‪ ((2‬انظر عىل سبيل املثال‪:‬‬ ‫‪(25) Ibid., 2-3.‬‬
‫‪A. March, “Are Secularism and Neutrality Attractive to Religious‬‬
‫‪Minorities: Islamic Discussions of Western Secularism in the‬‬ ‫‪(26) See O. Roy, Secularism Confronts Islam, trans. G. Holoch (New‬‬
‫”‪‘Jurisprudence of Muslim Minorities’ (Fiqh al-Aqallīyāt) Discourse,‬‬ ‫‪York: Columbia University Press, 2007), xii-xiii, 7-8, 59‬‬
‫‪Cardoza Law Review 30, no. 6 (2009): 2821-54; A. An-Na‘im, Islam‬‬ ‫(ومو َّز ًعا عىل صفحات الكتاب)‪.‬‬
‫‪and the Secular State: Negotiating the Future of Shari‘a (Cambridge:‬‬ ‫[الرتجمــة العربيــة‪ :‬أوليفييــه روا‪ ،‬اإلســام والعلامنيــة‪ ،‬ترجمــة‪ :‬صالــح األشــمر‬
‫‪Harvard University Press, 2008), 1.‬‬ ‫(بــروت‪ :‬دار الســاقي‪2016 ،‬م)‪ .‬وفيــه يفـ ّرق روا بــن العلامنيــة يف طريقتهــا‬
‫الفرنســية باعتبارهــا‪ -1 :‬فلســفة‪ :‬فهــي مفهــوم للقيــم واملجتمع‪-‬األمــة يرتكــز‬
‫‪(29) See H. A. Agrama, Questioning Secularism: Islam, Sovereignty,‬‬ ‫عــى فلســفة األنــوار واألخــاق العقالنيــة‪ -2 .‬نتيجــة للقانــون‪ :‬تنظيــم الدينــي‬
‫‪and the Rule of Law in Modern Egypt (Chicago: University of‬‬ ‫يف املجــال العــام‪ ،‬أي العلامنيــة هــي مجموعــة قوانــن‪ -3 .‬مبــدأ ســيايس‪:‬‬
‫‪Chicago Press, 2012), 24.‬‬ ‫ويعنــي بــه إرادة فــك االرتبــاط بــن الدولــة واملجتمــع والكنيســة‪ .‬انظــر‪:‬‬
‫[الرتجمــة العربيــة‪ :‬حســن عــي عجرمــة‪ ،‬مســاءلة العلامنيــة‪ :‬اإلســام‬ ‫ص‪ - .45-33‬املرتجــم]‪.‬‬
‫والســيادة وحكــم القانــون يف مــر الحديثــة‪ ،‬ترجمــة‪ :‬مصطفــى عبــد‬
‫الظاهــر (بــروت‪ :‬مركــز منــاء للبحــوث والدراســات‪2017 ،‬م)‪ ،‬ص‪- .50‬‬ ‫‪(27) S. L. Carter, God’s Name in Vain: The Wrongs and Rights of‬‬
‫املرتجــم]‪.‬‬ ‫‪Religion in Politics (New York: Basic Books, 2000), 4.‬‬

‫‪7‬‬
‫اإلسالم خارج الحكم الشرعي‬

‫والــام تعظيـ ًـا‪ ،‬توكي ـ ًدا لهــذا املعنــى‪ ،‬فهــو اللــه مالــك كل‬ ‫ترجمــة كلمــة «املق ـ َّدس» تســتدعي العديــد مــن الكلــات‬
‫يشء»(‪ .((3‬إن غايــة الرشيعــة يف هــذا الســياق ال تســعى ‪-‬كــا‬ ‫(محــرم‪ ،‬مطهــر‪ ،‬مختــص بالعبــادة‪ ،‬ومــا إىل ذلــك) كل منهــا‬
‫يف الدولــة الرومانيــة‪ -‬إىل تعيــن امللكيــة ونقلهــا‪ ،‬وإمنــا إىل‬ ‫يتصــل بنــوع مختلــف مــن الســلوك(‪.((3‬‬
‫إظهــار أن مــا يأمــر بــه اللــه واق ـ ٌع ضمــن ملكــه وحكمــه‪،‬‬ ‫إذن‪ ،‬فليــس مــن العســر إدراك أن املرادفــات لكلمــة‬
‫هــو خطــاب جوهــري غايتــه توجيــه ســلوك البــر‪.‬‬ ‫«‪ »sacred‬تقــع كلهــا يف إطــار الرشيعــة وســلطانها‪ ،‬فهــي‬
‫ويف ظــل تلــك امللكيــة اإللهيــة النافــذة يف كل يشء‬ ‫األســاس الــذي يحــ ّدد داللتهــا‪ .‬ويف هــذا الســياق‪ ،‬ميكــن‬
‫يف الوجــود التــي أرشنــا إليهــا‪ ،‬تظهــر صعوبــة الفصــل بــن‬ ‫اعتبــار الرشيعــة حافظــة وميــرة لحــدود مــن نــو ٍع مــا‪.‬‬
‫املق ـ َّدس والدنيــوي باملعنــى الغــريب الــذي أملــح إليــه أســد‪.‬‬ ‫َــن‬
‫وســواء كانــت هــذه الحــدود تقســم العــامل إىل «نطاق ْ‬
‫لكــن معــامل الخطــاب اإلســامي الرشعــي ميكــن متييزهــا‬ ‫يحــوي أحدهــا كل مــا هــو مق ـ َّدس‪ ،‬واآلخــر كل مــا هــو‬
‫عــن معــامل الخطــاب غــر الرشعــي‪ .‬وإذا مــا انفــرد الخطــاب‬ ‫مدنَّــس»‪ ،‬باســتخدام ألفــاظ دوركايــم(‪ ،((3‬أو تق ّيــد رؤيــة‬
‫البــات يف توجيــه ســلوك‬
‫ّ‬ ‫الرشعــي بتمثّــل خطــاب اللــه‬ ‫العــامل‪ ،‬حتــى باعتبــاره نطاقًــا واحــ ًدا‪ ،‬مــن خــال عدســة‬
‫البــر‪ ،‬فــإن الرشيعــة بهــذا املعنــى متــارس دور املحــ ِّدد‬ ‫الرشعــي‪ ،‬فــإن هــذا ســؤال مســتقل (ومــع ذلــك‪ ،‬فهــو وثيــق‬
‫الــذي أرشت إليــه يف تأســيس مقولــة العلــاين اإلســامي‬ ‫الصلــة باملوضــوع)‪ .‬لقــد الحــظ أســد يف بدايــات مناقشــته‬
‫والحفــاظ عليهــا‪.‬‬ ‫أنــه «يف الجمهوريــة الرومانيــة الالتينيــة كانت كلمــة ‘‪’sacer‬‬
‫الرشيعة‪ :‬نسق غري محدود يف مقابل واقع محدود‬ ‫(املق ـ َّدس) تشــر إىل يشء كان ميتلكــه أي إلــه‪ ،‬ثــم اســتولت‬
‫عليــه الدولــة مــن منطقــة الـــ‘‪( ’profane‬الدنيــوي)‪ ،‬ومررتــه‬
‫يُصــور نطــاق الرشيعــة عــاد ًة عــى أنــه غــر‬ ‫إىل منطقــة الـــ‘‪( ’sacrum‬املق ـ َّدس)»(‪.((3‬‬
‫محــدود‪ ،‬فكــا قــال املســترشق الشــهري جوزيــف شــاخت‬
‫(‪ ،)Joseph Schacht‬فــإن «الرشيعــة هــي مجموعــة شــاملة‬ ‫وهــو عــى النقيــض مــا يقــي بــه اإلســام مــن أن للــه‬
‫مــن الواجبــات الدينيــة‪ ،‬أي جملــة أوامــر اللــه التــي تنظّــم‬ ‫أول وآخــ ًرا‪ .‬ويف الواقــع‪ ،‬يــورد البيهقــي (ت‪.‬‬‫ملــك كل يشء ً‬
‫حيــاة كل مســلم يف جميــع مظاهرهــا‪ .‬وهــي تشــمل عــى‬ ‫‪458‬هـــ‪1065/‬م) رأيًــا لغويًّــا عــن أصل اشــتقاق لفــظ الجاللة‬
‫قــدم املســاواة أحكا ًمــا تخــص الصــاة والشــعائر‪ ،‬وكذلــك‬ ‫«اللــه» بقولــه‪« :‬الهــاء التــي هــي حــرف الكنايــة عــن الغائب‬
‫قواعــد سياســية وفقهيــة باملعنــى الضيــق لكلمــة فقــه»(‪.((3‬‬ ‫ثــم زيــدت فيــه الم املِلــك؛ فصــار ’لــه‘‪ ،‬ثــم زيدت فيــه األلف‬
‫وع ـ ّرف وائــل حـ ّـاق الرشيعــة مؤخ ـ ًرا بأنهــا «ممثلــة إلرادة‬
‫اللــه الســيادية‪ ،‬التــي تنظّــم مجــال النظــام اإلنســاين بأكملــه‪،‬‬
‫‪(30) Asad, Formations, 36-37, nt. 41.‬‬
‫إمــا بصــورة مبــارشة أو مــن خــال تفويــض محــدد جي ـ ًدا‬ ‫[الرتجمــة العربيــة‪ :‬تشــكالت العلــاين‪ ،‬ص‪ ،51‬وقــد ترجمهــا املقــدس‬
‫ومحــدود»(‪ .((3‬لكــن هــذه التصــورات تحمــل ‪-‬باإلضافــة‬ ‫واملدنــس‪ ،‬وأميــل إىل ترجمتهــا املقــدس والدنيــوي‪ - .‬املرتجــم]‪.‬‬
‫‪(31) Ibid., 31, nt. 24.‬‬
‫[هكــذا أوردهــا طــال أســد وترجمهــا محمــد العــريب‪ ،‬ولكنــي أورد مــا‬
‫قالــه دوركايــم يف األشــكال األوليــة للحيــاة الدينيــة ففيــه فائــدة تق ّربنــا‬
‫(‪ ((3‬انظــر‪ :‬أبــو بكــر أحمــد بــن الحســن بــن عــي بــن عبــد اللــه بــن مــوىس‬ ‫مــن فهــم مــا يعنيــه وطبيعــة الفصــل بــن عاملــي املقــدَّس والدنيــوي يف‬
‫البيهقــي‪ ،‬كتــاب األســاء والصفــات (بــروت‪ :‬دار الكتــب العلميــة‪ ،‬بــدون‬ ‫التصــور «الغــريب»‪ ،‬يقــول‪« :‬ال يبقــى بــن أيدينــا لتعريــف املق ـدَّس بالنســبة‬
‫تاريــخ)‪ ،‬ص‪.35‬‬ ‫إىل الدنيــوي إال التبايــن بينهــا‪ .‬غــر أن مــا يجعــل هــذا التبايــن كاف ًيــا‬
‫[وقــد أورد البيهقــي هــذا الــرأي اللغــوي مــع عـدَّة آراء حــول أصــل‬ ‫لتوصيــف هــذا التصنيــف لألشــياء‪ ،‬ولتمييــزه مــن أي تصنيــف آخــر‪ ،‬هــو‬
‫لفــظ الجاللــة‪ ،‬وط ّعــم كل رأي بــدالالت إميانيــة‪ ،‬فقــال‪« :‬الهــاء التــي‬ ‫أنــه شــديد الخصوصيــة ألنــه ’مطلــق‘؛ إذ مل يعــرف تاريــخ الفكــر اإلنســاين‬
‫هــي كنايــة عــن الغائــب وذلــك ألنهــم أثبتــوه موجــودًا يف فطــر‬ ‫ـال آخــر عــن فئتَـ ْـن لألشــياء متاميزتَـ ْـن بهــذا العمــق‪ ،‬ومتعارضتَـ ْـن بهــذه‬
‫مثـ ً‬
‫عقولهــم … ثــم زيــدت فيــه الم امللــك‪ ،‬إذ علمــوا أنــه خالــق األشــياء‬ ‫الجذريــة‪ .‬والتعــارض التقليــدي بــن الخــر والــر ال يُ َع ـ ُّد شــيئًا يذكــر أمــام‬
‫ومالكهــا»‪ .‬انظــر‪ :‬البيهقــي‪ ،‬كتــاب أســاء اللــه وصفاتــه املعــروف‬ ‫هــذا التعــارض؛ ألن الخــر والــر صنفــان متعاكســان مــن النــوع عينــه‪ ،‬أي‬
‫باألســاء والصفــات‪ ،‬تحقيــق‪ :‬محمــد محــب الديــن أبــو زيــد‬ ‫َــن‬
‫ــن مختلف ْ‬ ‫النــوع األخالقــي‪ ،‬مثلــا ال تكــون الصحــة واملــرض إلَّ ملم َح ْ‬
‫(القاهــرة‪ :‬مكتبــة التوعيــة اإلســامية ودار الشــهداء‪ ،‬بــدون تاريــخ)‪،‬‬ ‫لنســق وقائــع واحــد هــو الحيــاة‪ ،‬يف حــن أن الذهــن البــري كثـ ًرا مــا تصــور‬
‫ص‪ - .142-141‬املرتجــم]‪.‬‬ ‫َــن‪ ،‬وكأنهــا‬ ‫ــن منفصل ْ‬ ‫‪-‬ويف كل مــكان‪ -‬املقــدَّس والدنيــوي بوصفهــا نو َع ْ‬
‫عاملــان ليــس بينهــا مــا هــو مشــرك»‪ ،‬ويــردف‪« :‬يبلــغ مــن هــذا التبايــن‬
‫)‪(34‬‬ ‫‪Joseph Schacht, An Introduction to Islamic Law (Oxford: Clar-‬‬ ‫أنــه كث ـ ًرا مــا يتحــول إىل تضــاد حقيقــي‪ .‬فالعاملــان ليســا ُمص َّممــن ليكونــا‬
‫‪endon Press, 1964), 1.‬‬ ‫منفصلــن فحســب‪ ،‬بــل ليكونــا متعاديــن ومتنافســن بش ـدَّة أحدهــا مــع‬
‫[الرتجمــة العربيــة‪ :‬جوزيــف شــاخت‪ ،‬مدخــل إىل الفقــه اإلســامي‪ ،‬ترجمــة‪:‬‬ ‫اآلخــر»‪ .‬انظــر‪ :‬إميــل دوركايــم‪ ،‬األشــكال األوليــة للحيــاة الدينيــة‪ :‬املنظومــة‬
‫حــادي ذويــب (بــروت‪ :‬دار املــدار اإلســامي‪2018 ،‬م)‪ ،‬ص‪ - .11‬املرتجــم]‪.‬‬ ‫الطوطميــة يف أسـراليا‪ ،‬ترجمــة‪ :‬رنــدة بعــث (الدوحة‪/‬بــروت‪ :‬املركــز العــريب‬
‫لألبحــاث ودراســة السياســات‪2019 ،‬م)‪ ،‬ص‪ - .66-59‬املرتجــم]‪.‬‬
‫‪(35) W. B. Hallaq, The Impossible State: Islam, Politics, and Mo-‬‬
‫‪dernity’s Moral Predicament (New York: Columbia University‬‬ ‫‪(32) Ibid., 30.‬‬
‫‪Press, 2013), 51.‬‬ ‫[الرتجمة العربية‪ :‬تشكالت العلامين‪ ،‬ص‪.]44‬‬

‫‪8‬‬
‫وبعبــارة أخــرى‪ ،‬متثّــل الرشيعــة والدولــة الحديثــة‬ ‫إىل رفــض اإلســام املفــرض لثنائيــة املقــ َّدس والدنيــوي‪-‬‬
‫َــن مــن الســيادة‪ .‬وكذلــك‬ ‫َــن غــر محدودت ْ‬ ‫صدا ًمــا لصورت ْ‬ ‫نفســها عــن كــون القانــون هــو املانــع‬
‫االفرتاضــات الشــائعة َ‬
‫فــإن مثــة الز ًمــا آخــر إذا ع ّرفنــا الرشيعــة بأنهــا ال متناهيــة‬ ‫ضــد اســتغالل اإلنســان لإلنســان‪ .‬أو كــا قــال جــون لــوك‬
‫النطــاق‪ ،‬وهــو أننــا بذلــك نقــي «الشــعب» مــن املشــاركة‬ ‫(‪« :)John Locke‬يبتــدئ الطغيــان حيــث تنتهــي ســلطة‬
‫يف التفــاوض عــى نُظُمــه االجتامعيــة السياســية واالقتصاديــة‪.‬‬ ‫القانــون»(‪ .((3‬وهــذا االرتبــاط اإليجــايب بــن الرشيعــة وحكــم‬
‫فبقــدر مــا تكــون الرشيعــة هــي أســاس اإلســام الوحيــد‬ ‫القانــون يحظــى بشــعبية يف األوســاط اإلســامية الحديثــة‪.‬‬
‫للحكــم عــى أفعــال البــر‪ ،‬يكــون الفقهــاء وحدهــم ‪-‬وهــم‬ ‫وباختصــار‪ ،‬فــإن التصــور الــذي يقــي بــا محدوديــة‬
‫املخ ّولــون بتحديــد موادهــا‪ -‬هــم أصحــاب القــدرة عــى‬ ‫الرشيعــة‪ ،‬ومطالبتهــا مبعالجــة جوانــب الحيــاة كافَّــة‪ ،‬لهــو‬
‫التأثــر يف صياغــة نظــام اإلســام املعيــاري(‪.((3‬‬ ‫مــن الذيــوع مبــكانٍ يف الخطابــات الحديثــة اإلســامية منهــا‬
‫إذا كان ذلــك كذلــك‪ ،‬فــإن مثــة قـراء ًة للتقاليــد الفقهيــة‬ ‫وغــر اإلســامية‪.‬‬
‫اإلســامية تبــدو وكأنهــا تـ ّرر فهـ ًـا شــمول ًّيا للرشيعــة‪ .‬فمنــذ‬ ‫ومــن املؤكَّــد أن لهــذا الفهــم لــواز َم بعيــدة املــدى‪.‬‬
‫اللحظــة التــي أُق ـ َّر عندهــا القيــاس وســيل ًة لتوســيع نطــاق‬ ‫فعــى ســبيل املثــال‪ ،‬إذا كانــت الدولــة املســلمة قــد ُوجــدت‬
‫األحــكام الفقهيــة تحديـ ًدا‪ ،‬اكتســب الفقــه ‪-‬ظاهريًّــا‪ -‬قــدر ًة‬ ‫‪-‬كــا قيــل‪« -‬لهــدف رئيــس هــو إنفــاذ القانــون»(‪[ ،((3‬وإذا‬
‫غــر محــدودة لتجــاوز حــدود نــص الوحــي املبــارش‪ .‬لكــن‬ ‫كان القانــون غــر محــدود]‪ ،‬فــإن هــذه الدولــة ســتجد مــا‬
‫القيــاس ظــل بعي ـ ًدا عــن أن يكــون محـ َّـل إجــاع لقــرون‪.‬‬
‫يـ ّرر ويؤيــد توســيع ســلطاتها التنفيذيــة لتتناســب مــع هــذا‬
‫الســنة يف قضيــة نطــاق الرشيعــة مبج ـ َّرد‬ ‫وقــد خــاض أهــل ُّ‬ ‫القانــون غــر املحــدود‪ .‬وهــو مــا أكَّــده وائــل حـ ّـاق تأكيـ ًدا‬
‫مناقشــتهم مســألة اعتبــار القيــاس‪ .‬فعــى ســبيل املثــال‪،‬‬
‫غــر مبــارش‪ ،‬حيــث يــرى أن الســيادة غــر املحــدودة للدولــة‬
‫كان الظاهريــة ‪-‬الذيــن ظهــروا يف القــرن الثالــث الهجــري‪/‬‬
‫ـدام مــع دولــة‬
‫الحديثــة (العلامنيــة) ال ب ـ َّد أن تضعهــا يف صـ ٍ‬
‫العــارش امليــادي ومل يكونــوا «نصوصيــن» كــا يشــيع عنهم‪-‬‬
‫إســامية قامئــة عــى الرشيعــة(‪.((3‬‬
‫يرفضــون القيــاس لســبب مح ـ َّدد‪ ،‬وهــو أنــه ليــس بوســع‬
‫املــرء أن يتجــاوز مــا ح َّددتــه مصــادر الوحــي مبــارشة (وليس‬
‫«حرف ًّيــا» كــا أشــاروا)(‪ .((4‬وكــا أشــار كيفــن راينهــارت‬ ‫[الرتجمــة العربيــة‪ :‬وائــل حــاق‪ ،‬الدولــة املســتحيلة‪ :‬اإلســام والسياســة‬
‫(‪ ،)A. Kevin Reinhart‬فــإن الظاهريــة أكَّــدوا أن «حكــم‬ ‫ومــأزق الحداثــة األخالقــي‪ ،‬ترجمــة‪ :‬عمــرو عثــان (بــروت‪ :‬املركــز العــريب‬
‫لألبحــاث ودراســة السياســات‪2014 ،‬م)‪ ،‬ص‪ - .111‬املرتجــم]‪.‬‬
‫نصــت عليــه األدلَّــة الرشعيــة‬‫الوحــي ال ينطبــق إلَّ عــى مــا َّ‬
‫رصاحـ ًة … إنــه يُطبَّــق بحــزم‪ ،‬ولكــن الحــاالت التــي يُطبَّــق‬ ‫‪(36) J. Locke, Two Treatises of Government, ed. P. Laslett (New York:‬‬
‫‪The New American Library, 1965), 448.‬‬
‫[«أي كلــا هتكــت حرمــة القانــون وأنــزل الــرر باآلخريــن»‪ .‬انظــر‪ :‬جــون‬
‫لــوك‪ ،‬يف الحكــم املــدين‪ ،‬ترجمــة‪ :‬ماجــد فخــري (بــروت‪ :‬اللجنــة الدوليــة‬
‫لرتجمــة الروائــع‪1959 ،‬م)‪ ،‬ص‪ - .265‬املرتجــم]‪.‬‬
‫(‪ ((3‬يواجــه عوميــر أنجــم (‪ )Ovamir Anjum‬مشــكلة اســتبعاد املجتمــع مــن‬
‫التفــاوض عــى نظــام الحيــاة اليوميــة يف كتابــه‪:‬‬ ‫”‪(37) N. J. Coulson, “The State and the Individual in Islamic Law,‬‬
‫‪Politics, Law, and Community in Islamic Thought: The Taymiyan Mo-‬‬ ‫‪International and Comparative Law Quarterly 6 (January 1957):‬‬
‫‪ment (Cambridge: Cambridge University Press, 2012).‬‬ ‫‪49.‬‬
‫يبــن إغنــاس غولدتســيهر يف عملــه البــارز أن قضيــة الظاهريــة مل‬ ‫ّ‬ ‫(‪((4‬‬ ‫حــاق بعــد أن بــ َّن شــمولية الدولــة الحديثــة فيــا‬ ‫(‪ ((3‬كتــب وائــل ّ‬
‫تكــن الحرفيــة يف حــد ذاتهــا‪ ،‬وإمنــا كانــوا يحاولــون معارضــة الــرأي‬ ‫يتعلَّــق بأحكامهــا الســيادية‪« :‬ويف حــن تتحكَّــم الدولــة الحديثــة‬
‫الــذي ال يســتند مبــارش ًة إىل مصــادر الوحــي‪ .‬انظــر‪:‬‬ ‫مبؤسســاتها الدينيــة وتنظّمهــا‪ ،‬مخضع ـ ًة إياهــا إلرادتهــا القانونيــة‪،‬‬
‫‪I. Goldziher, The Zahiris: Their Doctrine and Their History, trans.‬‬ ‫فــإن الرشيعــة تتح َّكــم باملنظومــة الكاملــة مــن املؤسســات العلامنيــة‬
‫‪W. Behn (Leiden: E. J. Brill, 1971).‬‬ ‫وتنظّمهــا‪ .‬وإذا كانــت هــذه املؤسســات علامنيــة أو تتعامــل مــع مــا‬
‫[وقــد صــدرت الرتجمــة العربيــة لهــذا الكتــاب‪ :‬إغنــاس غولدتســيهر‪،‬‬ ‫هــو علــاين‪ ،‬فهــي تقــوم بذلــك يف إطــار اإلرادة األخالقيــة الرقابيــة‬
‫الظاهريــة‪ :‬مذهبهــم وتاريخهــم‪ ،‬ترجمــة‪ :‬محمــد أنيــس مــورو (بــروت‪:‬‬ ‫أي شــكل ســيايس أو‬ ‫الشــاملة التــي هــي للرشيعــة‪ .‬ولذلــك‪ ،‬فــإن َّ‬
‫مركــز منــاء للدراســات والبحــوث‪2021 ،‬م)‪ - .‬املرتجــم]‪.‬‬ ‫مؤسســة سياســية (أو اجتامعيــة أو اقتصاديــة)‪ ،‬مبــا فيهــا الســلطات‬
‫نفســه‪ ،‬يقـ ّر ابــن حــزم (ت‪456 .‬هـــ‪1064/‬م) ‪-‬الــذي يُ َعـ ُّد أحــد‬ ‫ويف الوقــت ِ‬ ‫التنفيذيــة والقضائيــة‪ ،‬هــي يف النهايــة خاضعــة للرشيعــة»‪ .‬انظــر‪:‬‬
‫أبــرز ممثــي الظاهريــة‪ -‬رصاحـ ًة مبرشوعيــة املتشــابهات [أو ظــن التعــارض]‬ ‫‪[ .51 ,Hallaq, The Impossible State‬ويف الرتجمــة العربيــة‪:‬‬
‫يف بعــض النصــوص‪ .‬انظــر عــى ســبيل املثــال‪ :‬اإلحــكام يف أصــول األحــكام‪،‬‬ ‫ص‪ .]111‬وبالنظــر إىل رســوخ هــذه الرؤيــة‪ ،‬وجــزء منــه بســبب‬
‫‪ 8‬مجلــدات‪ ،‬تحقيــق‪ :‬أحمــد محمــد شــاكر (بــروت‪ :‬دار اآلفــاق الجديــدة‪،‬‬ ‫وضوحهــا‪ ،‬فقــد يصعــب عــى القـ َّراء الرتكيــز عــى النقطــة األساســية‬
‫‪1308‬هـ‪1993/‬م)‪.28/2 ،‬‬ ‫التــي أطرحهــا هنــا‪ .‬ويكفــي أن نقــول إن مثــة فارقًــا بــن الرشيعــة‬
‫[كان ابــن حــزم يــورد يف هــذا املقــام الــر َّد عــى مــا «ادعــاه قــوم مــن تعــارض‬ ‫واإلســام‪ ،‬وحيــث تنتهــي أحــكام الرشيعــة‪ ،‬فإنــه ال ميكنهــا تنظيــم‬
‫النصــوص»‪ ،‬ولعــل جاكســون يقصــد إق ـراره بــورود هــذا التعــارض ليــس إلَّ‬ ‫مســألة مــا مبــارشةً‪ ،‬حتــى لــو بقيــت املســألة نفســها ضمــن نطــاق‬
‫يف معــرض الــكالم عــن موقــف الظاهريــة مــن الحرفيــة والــرأي والقيــاس‪- .‬‬ ‫قيــم اإلســام وفضائلــه‪ .‬باختصــار‪ ،‬إن كان لإلســام دخــل يف كل‬
‫املرتجــم]‪.‬‬ ‫املســائل‪ ،‬فــإن الرشيعــة ليــس لهــا مثــل هــذا الــدور‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫اإلسالم خارج الحكم الشرعي‬

‫وبطبيعــة الحــال‪ ،‬أمكــن حــل الخــاف حــول مســألة‬ ‫فيهــا قليلــة [نســب ًّيا]»(‪ .((4‬وباختصــار‪ ،‬فإنهــم أكَّــدوا عــى أن‬
‫النطــاق يف النهايــة لصالــح الــرأي القائــل بتوســيع نطــاق‬ ‫العديــد مــن القضايــا هــي خــارج حــدود النــص‪ ،‬وظلَّــت‬
‫الرشيعــة‪ ،‬والقبــول بالقيــاس‪ ،‬ووضــع املبــاح يف منزل ـ ٍة بــن‬ ‫كذلــك دون معالجــة‪ ،‬وأنــه مــن الخطــأ ادعــاء أن للــه أم ـ ًرا‬
‫الواجــب والحـرام باعتبــاره جــز ًءا مــن خطــاب اللــه الرشعــي‪.‬‬ ‫ترشيع ًّيــا رصي ًحــا يف كل القضايــا‪.‬‬
‫لكــن ال يجــب أن يُ َع ـ َّد هــذا متناقضً ــا مــع الح َّجــة القائلــة‬ ‫ظــل املذهــب الظاهــري بــارزًا حتــى القــرن الخامــس‬
‫بــأن الفقهــاء املســلمني ظلــوا منتبهــن ملســألة النطــاق‪ ،‬بــل‬ ‫الهجري‪/‬الحــادي عــر امليــادي تقري ًبــا‪ ،‬وقــد ض َّمهــم‬
‫حافظــوا عــن يشء مــن الريبــة ‪-‬ورمبــا النقد‪ -‬تجــاه التصورات‬ ‫الفقيــه الشــافعي الشــهري أبــو إســحاق الش ـرازي يف كتابــه‬
‫التــي تجعــل الرشيعــة شــمولي ًة بطريقــة عشــوائية‪ .‬ويف‬ ‫طبقــات الفقهــاء ‪-‬الــذي يحــوي كل أســاء ومذاهــب «مــن‬
‫الحقيقــة‪ ،‬يكشــف التحليــل الدقيــق أن جمهــور الفقهــاء‬ ‫يعتــر قولــه يف انعقــاد اإلجــاع ويُعتـ ّد بــه يف الخــاف»(‪-((4‬‬
‫موســ ًعا وإيجابيًّــا للرشيعــة‪ -‬ظلّــوا‬ ‫الســنة األربعــة األخــرى بالرغــم مــن رفضهــم‬ ‫إىل مذاهــب ُّ‬
‫‪-‬الذيــن أقــ ّروا مفهو ًمــا ِّ‬ ‫القيــاس ومــا يلــزم عنــه مــن طــرق ُم ِ‬
‫وصلــة إىل األحــكام‪.‬‬
‫منتبهــن إىل أن للرشيعــة حــدو ًدا ال تســتطيع تجاوزهــا ‪.‬‬
‫(‪((4‬‬

‫والخالصــة أنــه حتــى يف فــرة مــا بعــد التكويــن(‪- ((4‬عندمــا‬ ‫وبعيـ ًدا عــن الظاهريــة‪ ،‬فقــد انعكســت أهميــة مســألة‬
‫اتخــذت الرشيعــة شــكلَها املكتمــل‪ -‬ظــل يُنظــر إىل الرشيعــة‬ ‫النطــاق يف الجــدل املب ِّكــر حــول التصنيــف الفقهــي «املباح»‪:‬‬
‫بوصفهــا مســألة محــدودة النطــاق‪ ،‬ال غــر محــدودة‪.‬‬ ‫أهــو يشــر إىل مــا قــال اللــه بإباحتــه؟ أم مــا هــو يقــع خــارج‬
‫حــدود خطــاب اللــه الرشعــي مــن قبيــل املصادفــة إن جــاز‬
‫العلامين اإلسالمي‪ :‬الرشعي يف مقابل غري الرشعي‬ ‫التعبــر(‪((4‬؟ وهــي املســألة التــي ســتظل محـ َّـل نقــاش حتــى‬
‫دارت كثــ ٌر مــن أعــايل حــول أفــكار الفقيــه املالــي‬ ‫القــرن الســادس الهجري‪/‬الثــاين عــر امليــادي‪ ،‬كــا نراهــا يف‬
‫املــري الكبــر شــهاب الديــن القـرايف (ت‪684 .‬هـــ‪1285/‬م)‪،‬‬ ‫اختصــار ابــن رشــد الحفيــد لكتــاب الغـزايل املُســتصفَى(‪.((4‬‬
‫وأظهــرت أنــه كان واض ًحــا ورصي ًحــا يف وضــع قيــود فقهيــة‬ ‫والغــرض مــن إثــارة هــذه املســألة هــو أن مثــة قلَّــة مــن‬
‫عــى الرشيعــة(‪ .((4‬وقــد يعطــي هــذا انطبا ًعــا بأنــه قــد تفـ َّرد‬ ‫كبــار الفقهــاء ظلــوا لقــرون متق ّبلــن أو واضعــن يف اعتبارهم‬
‫يف ذلــك‪ ،‬لكــن الحــال ليــس كذلــك‪ ،‬لــوال أن املقــام ال يتســع‬ ‫الفكــرة القائلــة بأنــه ليــس للــه أوامــر مبــارشة أو عــن طريــق‬
‫للحــر‪ ،‬إلَّ أن مــا يــي فيــه الكفايــة‪.‬‬ ‫القيــاس يف كل يشء‪ ،‬وأن األغلبيــة م َّمــن يرفضــون هــذا الــرأي‬
‫ـتحق تكفــر أصحابــه أو تبديعهــم أو‬ ‫مل ت َـ َر فيــه تجدي ًفــا يسـ ُّ‬
‫تفســيقهم‪ .‬وخالصــة األمــر أن القــول بحــدود فقهيــة عــى‬
‫(‪ ((4‬جــزء مــن املســألة التــي يجــب أن أعرضهــا هــو أنــه حتــى عندمــا تتطلــب‬ ‫ـول جديـ ًدا‪ ،‬وليــس هــذا‬ ‫الخطــاب اإلســامي الرشعــي ليــس قـ ً‬
‫الرشيعــة فعـ ًـا أو االمتنــاع عــن فعــل‪ ،‬فقــد تظــل هنــاك قواعــد تقييميــة‬ ‫القــول ‪-‬نظــ ًرا لعراقتــه التاريخيــة‪ -‬مفروضً ــا مــن الغــرب‬
‫أخــرى مت ِّكــن مــن تقييــم كيفيــة القيــام بهــذا الفعــل أو االمتنــاع بشــكل‬
‫يتــاءم مــع الواقــع الزمــاين واملــكاين‪ .‬وهنــا قــد نف ِّكــر يف حــدود الرشيعــة‬ ‫الحديــث الناشــئ امل ُعل ِمــن‪ ،‬وبالقطــع ليــس أيضً ــا خار ًجــا‬
‫مــن حيــثُ العمــق يف مقابــل النطــاق‪ .‬انظــر مــا ســيأيت‪.‬‬ ‫السـ ّن ّي‪.‬‬
‫عــن نطــاق الـراث ُّ‬
‫(‪ ((4‬التقســيم إىل فــريت «التكويــن» و«مــا بعــد التكويــن» محــل خــاف‪،‬‬
‫رب‬
‫ســواء مــن حيــث الزمــن أو املعنــى أو األثــر‪ .‬وقــد عرضــت انتصــار ّ‬
‫بديــا‪ ،‬مشــرة إىل‬
‫ً‬ ‫(‪ )Intisar Rabb‬مؤخــ ًرا مفهــوم «فــرة التأســيس»‬
‫ثــاث مراحــل متميــزة‪ )1( :‬فــرة التأســيس (مــن القــرن الســابع إىل القــرن‬ ‫‪(41) A. K. Reinhart, Before Revelation: The Boundaries of Muslim‬‬
‫التاســع امليــادي)‪ )2( .‬فــرة النصوصيــة (القرنــان العــارش والحــادي عــر‬ ‫‪Moral Thought (New York: State University of New York Press,‬‬
‫امليالديــان) وتشــمل «إغــاق أبــواب االجتهــاد» املزعــوم‪ )3( .‬فــرة توليــف‬ ‫‪1995), 16.‬‬
‫الســلطة النصيــة والتفســرية‪ .‬انظــر‪:‬‬
‫‪I. Rabb, Doubt in Islamic Law: A History of Legal Maxims, Interpre-‬‬ ‫(‪ ((4‬انظــر‪ :‬أبــو إســحاق الش ـرازي‪ ،‬طبقــات الفقهــاء‪ ،‬تحقيــق‪ :‬إحســان عبــاس‬
‫‪tation, and Islamic Criminal Law (Cambridge: Cambridge University‬‬ ‫(بــروت‪ :‬دار الرائــد العــريب‪1970 ،‬م)‪.‬‬
‫‪Press, 2015), 8-9.‬‬
‫رب‪ ،‬قاعــدة الشــك عنــد الفقهــاء املســلمني‪:‬‬
‫[الرتجمــة العربيــة‪ :‬انتصــار ّ‬ ‫ملناقشة عامة حول هذه النقطة‪ ،‬انظر عىل سبيل املثال‪:‬‬ ‫(‪((4‬‬
‫تاريــخ القواعــد الفقهيــة والتأويــل والفقــه الجنــايئ اإلســامي‪ ،‬ترجمــة‪:‬‬ ‫‪Reinhart, Boundaries, 128-32.‬‬
‫ســعيد منتــاق (بــروت‪ :‬مؤمنــون بــا حــدود للدراســات واألبحــاث‪2018 ،‬م)‪.‬‬
‫‪ -‬املرتجــم]‪.‬‬ ‫(‪ ((4‬انظــر‪ :‬ابــن رشــد (الحفيــد)‪ ،‬الــروري يف أصــول الفقــه أو مختــر‬
‫املســتصفى‪ ،‬تحقيــق‪ :‬جــال الديــن العلــوي (بــروت‪ :‬دار الغــرب اإلســامي‪،‬‬
‫(‪ ((4‬يعود تاريخ ذلك إىل أطروحتي يف الدكتوراه‪:‬‬ ‫يتبــن ســقوط قــول مــن قــال املبــاح‬ ‫‪1994‬م)‪ ،‬ص‪[ .48-47‬قــال‪« :‬وهنــا ّ‬
‫‪“In Defense of Two-Tiered Orthodoxy: A Study of Shihāb al-Dīn‬‬ ‫مأمــور بــه‪ ،‬وكذلــك يتبـ ّـن أنــه ليــس مــن التكليــف‪ ،‬إذ التكليــف طلــب‬
‫‪al-Qarāfī’s Kitāb al-Iḥkām fī Tamyīz al-Fatāwā ‘an al-Aḥkām wa‬‬ ‫مــا فيــه كلفــة‪ ،‬ومــن سـ َّـاه تكلي ًفــا وذهــب يف ذلــك إىل أنــه الــذي كلّفنــا‬
‫‪Taṣarrufāt al-Qāḍī wa al-Imām” (PhD diss., University of Pennsyl-‬‬ ‫اعتقــاد إباحتــه يف الــرع‪ ،‬أو أنــه الــذي كلّفنــا اعتقــاد كونــه مــن الــرع‪،‬‬
‫‪vania, 1991).‬‬ ‫فهــو مســتكره يف التســمية…»‪ - .‬املرتجــم]‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫الشــافعي (ت‪204 .‬هـــ‪819 /‬م)(‪ ((5‬وتالميــذه يف تعاملهــم مع‬ ‫ســنجد بعــض الدالئــل إذا مــا عدنــا إىل النبــي ﷺ‪.‬‬
‫هــذه األمــور التقديريــة‪ ،‬كتحديــد اتجــاه القبلــة‪ ،‬أو إجــازة‬ ‫حيــث تــورد كتــب الســرة النبويــة املعتــرة أنــه عندمــا‬
‫شــهادة العــدل ومثلهــا‪ .‬وكــا الحــظ أحمــد الشــميس‪:‬‬ ‫تعليــات لجيــش املســلمني يف غــزوة بــدر‪ ،‬ســأله‬ ‫ٍ‬ ‫أصــدر‬
‫«بالرغــم مــن أن تحديــد اتجــاه القبلــة هــو مســألة تجريبية‪،‬‬ ‫الصحــايب الحبــاب بــن املنــذر‪ :‬أهــو وحــي أم مجــ َّرد رأي‬
‫بينــا النظريــة الفقهيــة تقــوم عــى األحــكام التفســرية‪ ،‬ال‬ ‫ـزل أنزلكــه اللــه ليــس لنا أن‬ ‫النبــي؟ [أرأيــت هــذا املنــزل‪ ،‬أمنـ ً‬
‫يبــدو أن الشــافعية يف القــرون املب ِّكــرة كانــوا مييــزون بــن‬ ‫نتقــدم وال نتأخــر عنــه‪ ،‬أم هــو الــرأي والحــرب واملكيــدة؟]‪،‬‬
‫االثنــن»(‪ .((5‬لكــن يف النصــف األول مــن القــرن الثالــث‬ ‫فــر َّد النبــي بأنــه الــرأي والحــرب واملكيــدة‪ .‬وعندهــا اقــرح‬
‫الهجري‪/‬التاســع امليــادي‪ ،‬مــع أحمــد بــن حنبــل (ت‪.‬‬ ‫الحبــاب خطتــه التــي ارتضاهــا النبــي(‪ .((4‬كــا نقــرأ يف كتــب‬
‫‪241‬هـــ‪855 /‬م)‪ ،‬بــدا االعـراف بالحــدود الفقهيــة للنصــوص‬ ‫الصحــاح‪« :‬قــدم نبــي اللــه صــى اللــه عليــه وســلم املدينــة‪،‬‬
‫ب ّي ًنــا؛ ففــي حديــث الطــري (ت‪310 .‬هـــ‪923 /‬م) عــن محنة‬ ‫وهــم يؤبــرون النخــل‪ ،‬يقولــون يلقحــون النخــل‪ ،‬فقــال‪’ :‬مــا‬
‫جــواب ابــن حنبــل األ ّو ّيل‪:‬‬
‫َ‬ ‫خلــق القــرآن املشــهورة‪ ،‬أو َرد‬ ‫تصنعــون؟‘‪ ،‬قالــوا‪ :‬كنــا نصنعــه‪ ،‬قــال‪’ :‬لعلكــم لــو مل تفعلــوا‬
‫«هــو كالم اللــه‪ ،‬ال أزيــد عليهــا» ‪ ،‬وهــو مــا يُظهــر أن‬
‫(‪((5‬‬ ‫كان خـ ًرا‘‪ ،‬فرتكــوه‪ ،‬فنفضــت أو فنقصــت‪ ،‬قــال‪ :‬فذكــروا ذلك‬
‫ربــا فهــم ابــن‬ ‫َ‬ ‫لــه‪ ،‬فقــال‪’ :‬إمنــا أنــا بــر‪ ،‬إذا أمرتكــم بــيء مــن دينكــم‬
‫ســؤال «هــل القــرآن مخلــوق أم ال؟»‪ ،‬أو ّ‬
‫حنبــل لهــذا الســؤال يف ذلــك الوقــت‪ ،‬أمـ ٌر خــارج نطــاق مــا‬ ‫فخــذوا بــه‪ ،‬وإذا أمرتكــم بــيء مــن رأيــي‪ ،‬فإمنــا أنــا بــر‘‪،‬‬
‫اعت َق ـ َد ابــن حنبــل أن النــص يتوجــه إليــه رصاح ـةً‪.‬‬ ‫وقــال‪’ :‬ولكــن إذا حدثتكــم عــن اللــه شــيئًا‪ ،‬فخــذوا بــه‪ ،‬فــإين‬
‫لــن أكــذب عــى اللــه عــز وجــل‘«(‪ ،((4‬ثــم يُــورِد مســلم قــول‬
‫ثــم بــات التمييــز بــن الرشعــي وغــر الرشعــي‬ ‫ويــدل ذلــك عــى‬ ‫ُّ‬ ‫النبــي‪« :‬أنتــم أعلــم بأمــر دنياكــم»(‪.((5‬‬
‫أكــر تحديــ ًدا‪ .‬فعــى ســبيل املثــال‪ ،‬وبَّــخ الغــزايل‬ ‫فهــم لحــدود النــص اإللهــي مــن جهــة مجموعــة القضايــا‬
‫(ت‪505 .‬هـــ‪1111/‬م) َمـ ْن دعاه بـ«صديق اإلســام الجاهل»‪،‬‬ ‫التــي ينظِّمهــا‪ ،‬ويكــون فيهــا ملز ًمــا للمســلمني إلزا ًمــا رشعيًّــا‬
‫الــذي أنكــر علــوم غــر املســلمني الطبيعيــة ظ ًّنــا منــه أنهــا‬ ‫واض ًحــا‪.‬‬
‫تخالــف الرشيعــة‪ .‬بينــا يقـ ِّرر الغـزايل أن «ليــس يف الــرع‬ ‫ونــرى يف األجيــال التــي جــاءت بعــد العهــد النبــوي‬
‫تعـ ُّر ٌض لهــذه العلــوم بالنفــي وال باإلثبــات»(‪ .((5‬لكننــا نجــد‬ ‫ضبابيــ ًة يف الحــدود بــن مــا هــو رشعــي يف جوهــره ومــا‬
‫هــو غــر رشعــي‪ .‬فمنــذ وقــت مب ِّكــر‪ ،‬نــرى أن تقديــر اإلمــام‬
‫مالــك (ت‪179 .‬هـــ‪795/‬م) الواقعــي لنفقــة الزوجــة مــن‬
‫والفاكهــة‪ ،‬ويُفــرض الخــل والزيــت والحطــب وامللــح واملــاء واللحــم‬
‫املــرة بعــد املــرة…»‪ .‬انظــر‪ :‬ابــن الحاجــب‪ ،‬جامــع األمهــات‪،‬‬ ‫أنــواع املــأكل وك ّميتــه قــد ت ـ َّم بغطــاء فقهــي‪ ،‬بالرغــم مــن‬
‫ص‪ - .331‬املرتجــم]‪.‬‬ ‫عــدم اســتناده إىل نــص رصيــح(‪ .((5‬ونجــد ذلــك أيضً ــا عنــد‬
‫(‪ ((5‬انظــر عــى ســبيل املثــال‪ :‬الرســالة‪ ،‬تحقيــق‪ :‬أحمــد محمــد شــاكر‬
‫(القاهــرة‪ :‬املكتبــة العلميــة‪1358 ،‬هـــ‪1939/‬م)‪ ،‬ص‪ ،503-487‬يف االجتهــاد‪.‬‬
‫”‪(53) A. El-Shamsy, “Rethinking Taqlīd in the Early Shafi‘i School,‬‬ ‫(‪ ((4‬انظــر عــى ســبيل املثــال‪ :‬ابــن هشــام‪ ،‬الســرة النبويــة‪ ،‬تحقيــق‪:‬‬
‫‪Journal of the American Oriental Society 128, no. 1 (2008): 14-‬‬ ‫مصطفــى الســقا‪ ،‬إبراهيــم اإلبيــاري‪ ،‬عبــد الحفيــظ شــلبي (دمشــق‪:‬‬
‫‪15.‬‬ ‫دار ابــن كثــر‪1426 ،‬هـــ‪2005/‬م)‪ ،‬ص‪.523‬‬
‫[«فقــال‪ :‬يــا رســول اللــه‪ ،‬فــإن هــذا ليــس مبنــزل‪ ،‬فانهــض بالنــاس‬
‫(‪ ((5‬انظــر‪ :‬أبــو جعفــر محمــد بــن جريــر الطــري‪ ،‬تاريــخ الطــري‪ 6 ،‬مجلــدات‬ ‫حتــى نــأيت أدىن مــاء مــن القــوم‪ ،‬فننزلــه‪ ،‬ثــم نغــور مــا وراءه مــن‬
‫(بــروت‪ :‬دار الكتــب العلميــة‪1433 ،‬هـــ‪2012/‬م)‪.190/5 ،‬‬ ‫القلــب‪ ،‬ثــم نبنــي عليــه حوضً ــا فنملــؤه مــاء‪ ،‬ثــم نقاتــل القــوم‪،‬‬
‫فنــرب وال يرشبــون‪ ،‬فقــال رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم‪:‬‬
‫(‪ ((5‬انظــر‪ :‬الغــزايل‪ ،‬املنقــذ مــن الضــال واملوصــل إىل ذي العــزة والجــال‪،‬‬ ‫لقــد أرشت بالــرأي»‪ .‬انظــر‪ :‬ســرة ابــن هشــام‪ ،‬ط‪.‬عيــى الحلبــي‪،‬‬
‫تحقيــق‪ :‬جميــل صليبــا وكامــل عيــاد (بــروت‪ :‬دار األندلــس‪ ،‬بــدون‬ ‫‪1955‬م‪ - .620/1 ،‬املرتجــم]‪.‬‬
‫تاريــخ)‪ ،‬ص‪ .102‬ومــا مــن شـ ٍّـك يف أن الغـزايل مل يــر عــى طريــق واحــد‬
‫يف معالجــة هــذه املســألة‪ ،‬فيذكــر يف املســتصفى ‪-‬عــى ســبيل املثــال‪ -‬ثالثــة‬ ‫(‪ ((4‬انظــر‪ :‬مســلم بــن الحجــاج‪ ،‬صحيــح مســلم‪ 5 ،‬مجــدات (بــروت‪ :‬دار‬
‫أنــواع مــن العلــوم‪« :‬عقــي محــض‪ ،‬ال يحــث الشــارع عليــه وال ينــدب إليــه‪،‬‬ ‫ابــن حــزم ‪.1464/4 ،)1995/1416‬‬
‫كالحســاب والهندســة والنجــوم وأمثالهــا مــن العلــوم‪ ،‬فهــي بــن ظنــون‬
‫كاذبــة ال ثقــة بهــا وبــن علــوم صادقــة ال منفعــة فيهــا»‪ .‬وقــد انتقــد رأيَــه‬ ‫(‪ ((5‬نفسه‪.‬‬
‫ابــ ُن رشــيق املالــي (ت‪632 .‬هـــ‪1235/‬م) يف تعليقــه عــى املســتصفى‪،‬‬
‫مؤكــدًا أنــه «ال يجــوز إطــاق القــول بأنــه ال منفعــة فيهــا»‪ .‬انظــر‪:‬‬ ‫(‪ ((5‬انظــر عــى ســبيل املثــال‪ :‬ابــن الحاجــب‪ ،‬جامــع األمهــات‪ ،‬تحقيــق‪:‬‬
‫حســن بــن رشــيق املالــي‪ ،‬لبــاب املحصــول يف علــم األصــول‪ ،‬مجلــدان‪،‬‬ ‫أبــو عبــد الرحمــن األخــري (دمشــق‪ :‬الياممــة للطباعــة والنــر‬
‫تحقيــق‪ :‬محمــد غـزايل عمــر جــايب (ديب‪ :‬دار البحــوث للدراســات اإلســامية‬ ‫والتوزيــع‪1421 ،‬هـــ‪2000/‬م)‪ ،‬ص‪ 331‬ومــا بعدهــا‪.‬‬
‫وإحيــاء ال ـراث‪1422 ،‬هـــ‪2001/‬م)‪ .189/1 ،‬ومــن املؤكَّــد أن كليهــا كان‬ ‫[قــال ابــن الحاجــب‪« :‬وقــ َّد َر مالــك امل ُــ َّد يف اليــوم‪ ،‬وقــدَّر ابــن‬
‫محكو ًمــا بســياق تاريخــي محــدد فيــا يتعلَّــق بدرجــة تعــرض العلــوم غــر‬ ‫القاســم أوقيتــن ونصفًــا يف الشــهر إىل ثــاث؛ ألن مالــكًا باملدينــة‬
‫اإلســامية بشــكل عــام أو عــدم تعرضهــا لقضايــا تتعلَّــق بالديــن أو تحتمــل‬ ‫وابــن القاســم مبــر‪ .‬وقــال وإن أكل النــاس الشــعري أكلتــه‪ ،‬وأمــر‬
‫إصابتــه‪.‬‬ ‫اإلدام كذلــك‪ ،‬قــال‪ :‬وال يُفــرض مثــل العســل والســمن والحالــوم‬

‫‪11‬‬
‫اإلسالم خارج الحكم الشرعي‬

‫املثــال‪[ -‬أن األحــكام املأخــوذة مــن العقــل كالعلــم بــأن‬ ‫مــع الق ـرايف التعبــر األوضــح(‪ ،((5‬فهــو يــورد أمثلــة للعلــوم‬
‫العــامل حــادث‪ ،‬ومــن الحــس كالعلــم بــأن النــار محرقــة‪ ،‬أو‬ ‫غــر الرشعيــة «مــن الحســابيات والهندســيات‪ ،‬وكذلــك‬
‫مــن الوضــع واالصطــاح كالعلــم بــأن الفاعــل مرفــوع] تخرج‬ ‫األمــور العاديــة كالطبيــات وغريهــا ال يتوقــف دركهــا عــى‬
‫ٍ‬
‫كلــات تذكِّرنــا‬ ‫عــن دائــرة الحكــم الدينــي‪ ،‬بــل يقــول يف‬ ‫الرشائــع»(‪.((5‬‬
‫بالقــرايف‪« :‬املــراد بالرشعيــة … مــا ال يــدرك لــوال خطــاب‬ ‫ومل يتوقــف هــذا اإلقــرار األســايس بحــدود الرشعــي‬
‫الشــارع»(‪ .((6‬وهنــا يتضــح أن فكــرة أن الرشيعــة (وتتبعهــا‬ ‫عنــد الق ـرايف‪ ،‬فابــن تيميــة (ت‪728 .‬هـــ‪1328/‬م) يستشــهد‬
‫صفتهــا‪ :‬رشعــي) محــدودة ال غــر محــدودة ليســت ابتدا ًعــا‬ ‫مـرا ًرا بحــاالت مل يتعــرض فيهــا التقليــد الرشعــي ال نف ًيــا وال‬
‫مــن الق ـرايف‪ ،‬وإمنــا هــي محــل اتفــاق يف التفكــر الفقهــي‬
‫إثباتًــا ملفهــوم وافــد أو مصطلــح عمــي(‪ .((5‬كــا يؤكِّــد عــى‬
‫شــق طريقــه إىل العــر‬ ‫اإلســامي قبــل الحديــث الــذي َّ‬ ‫أن االدعــاءات العقليــة املحضــة (كصحــة املنطــق اليونــاين)‬
‫الحديــث(‪.((6‬‬
‫ال يجــوز أن ت ُصحــح بالنقــل‪ ،‬وإمنــا مبجــرد العقــل(‪.((5‬‬
‫يــريس هــذا الفهــم املقيــد لفئة الرشعــي دعامــة تعريفي‬ ‫وكذلــك يؤكِّــد الفقيهــان الشــافعيان تقــي الديــن الســبيك‬
‫للعلــاين اإلســامي‪« :‬فهــو معرفــة قامئــة بذاتهــا دون اعتــاد‬ ‫(ت‪756 .‬هـــ‪1355/‬م) وابنــه تــاج الديــن الســبيك (ت‪.‬‬
‫عــى نصــوص الرشيعــة وال أدوات أصــول الفقــه»‪ .‬وقــد‬ ‫‪771‬هـــ‪1369/‬م) يف اإلبهــاج يف رشح املنهــاج ‪-‬وهــو رشح‬
‫يبــدو هــذا للوهلــة األوىل إعــادة اســتخدام متكلــف ملفهــوم‬ ‫منهــاج الوصــول إىل علــم األصــول للقــايض البيضــاوي (ت‪.‬‬
‫العلــاين‪ ،‬نظ ـ ًرا لالرتبــاط الوثيــق بــن العلــاين واالســتهانة‬ ‫‪685‬هـــ‪1286/‬م)‪ -‬عــى التفرقــة بــن األحــكام التــي تتوقــف‬
‫بالديــن إن مل يكــن معاداتــه‪ .‬فــإذا كانــت الرشيعــة هــي‬ ‫معرفتهــا عــى معرفــة الــرع [والــرع هــو الحكــم‬
‫الوســيط الــذي نعــرف مــن خاللــه حكــم اللــه بشــكل واضح‪،‬‬ ‫والشــارع هــو اللــه تعــاىل] وبــن غريهــا مــن األحــكام التــي‬
‫وميكــن التح ُّقــق منــه موضوع ًّيــا (أعنــي باملوضوعيــة اإلتاحــة‬ ‫ال ت ُ َع ـ ُّد رشعيــة(‪ ،((6‬أي التــي ال تقــع ضمــن حــدود الــرع‪.‬‬
‫يف املجــال العــام‪ ،‬حيــث الجميــع عــى قــدم املســاواة يف‬
‫الوصــول إليهــا)‪ ،‬وإذا كانــت الرشيعــة ال تعالــج كل القضايــا‬ ‫ثــم يواصــل الفقيــه املتأخّــر ابــن عابديــن (ت‪.‬‬
‫نفســه‪ ،‬فيذكــر ‪-‬عــى ســبيل‬ ‫‪1258‬هـــ‪1842/‬م) عــى املنــوال ِ‬
‫بشــكل مبــارش‪ ،‬فإنهــا تعــرف بوجــود أُســس وقواعــد‬
‫أخــرى للتقويــم‪ .‬وهــو مــا ينســجم مــع الســمة األساســية‬
‫التــي منحهــا كازانوفــا للعلــاين‪ ،‬وهــي «التاميــز»(‪ .((6‬ويف‬ ‫(‪ ((5‬انظر عميل‪:‬‬
‫التخصــص يف حقــول اهتــام‬‫ُّ‬ ‫القلــب مــن هــذا التاميــز يقــع‬ ‫‪Islamic Law and the State: The Constitutional Jurisprudence of Shihāb‬‬
‫‪al-Dīn al-Qarāfī (Leiden: E. J. Brill, 1996), 113-41.‬‬
‫مختلفــة‪ :‬دينيــة وسياســية واقتصاديــة‪ ،‬ومــا إىل ذلــك‪ .‬وبينــا‬
‫ال يشــ ِّدد اإلســام عــى هــذا التقســيم الرصيــح والشــكيل‬ ‫(‪ ((5‬انظــر‪ :‬القــرايف‪ ،‬رشح تنقيــح الفصــول يف اختصــار املحصــول يف األصــول‪،‬‬
‫تحقيــق‪ :‬املزيــدي (بــروت‪ :‬دار الكتــب العلميــة‪1399 ،‬هـــ‪1979 /‬م)‪،‬‬
‫للمعرفــة‪ ،‬فــإن التفرقــة بــن الرشعــي وغــر الرشعــي هــي يف‬ ‫ص‪[ .109‬عــدت إىل ط‪ .‬طــه عبــد الــرؤوف ســعد (القاهــرة‪ :‬رشكــة الطباعــة‬
‫التخصــص‪ .‬فالعلــاين هــو التاميــز عــن‬ ‫الحقيقــة تعبـ ٌر عــن‬ ‫الفنيــة املتحــدة‪1393 ،‬هـــ‪1973 /‬م)‪ ،‬ص‪ - .89‬املرتجــم]‪.‬‬
‫ُّ‬
‫الديــن عنــد كازانوفــا‪ ،‬أمــا يف عمــي عــن العلــاين اإلســامي‬ ‫(‪ ((5‬انظــر عــى ســبيل املثــال‪ :‬ابــن تيميــة‪ ،‬درء تعــارض العقــل والنقــل‪11 ،‬‬
‫مجلـدًا‪ ،‬تحقيــق‪ :‬محمــد رشــاد ســامل (الريــاض‪ :‬جامعــة اإلمــام محمــد بــن‬
‫فهــو التاميــز عــن الرشعــي [ال الدينــي]‪.‬‬ ‫ســعود اإلســامية‪1399 ،‬هـــ‪1979/‬م)‪.146/4 ،‬‬
‫وليــس هــذا الفهــم الجوهــري واملقــ ّدر «للتاميــز»‬ ‫(‪ ((5‬انظــر عــى ســبيل املثــال‪ :‬جــال الديــن الســيوطي‪ ،‬جهــد القريحــة يف‬
‫بحكـ ٍر عــى كازانوفــا‪ ،‬فقــد أدرك طــال أســد هــو اآلخــر دور‬ ‫تجريــد النصيحــة (بريوت‪ :‬املكتبــة العرصيــة‪1430 ،‬هـــ‪2009/‬م)‪ ،‬ص‪.92-91‬‬
‫وهــو مختــر نصيحــة أهــل اإلميــان يف الــرد عــى منطــق اليونــان البــن‬
‫تيميــة‪ .‬وهــذا ال يعنــي أن النــص ليــس لــه رأي بالــرورة نابــع مــن موقــع‬
‫دينــي يف ادعــاء عقــي محــدد‪ .‬واألمــر ببســاطة هــو أن هــذه الدعــوى‬
‫عقــا لتحديــد ماهيتهــا قبــل الحديــث عــن الحكــم‬ ‫يجــب أن تفحــص ً‬
‫(‪ ((6‬رد املحتــار عــى الــدر املختــار رشح تنويــر األبصــار‪ 12 ،‬مجل ـدًا‪ ،‬تحقيــق‪:‬‬ ‫الرشعــي‪ .‬وهنــا مالحظــة أخــرى‪ ،‬فمــن الواضــح هنــا أين ال أتفــق مــع وجهــة‬
‫عــادل أحمــد عبــد املوجــود وعــي أحمــد معــوض (بــروت‪ :‬دار الكتــب‬ ‫نظــر زميــي الســابق جــون والربيــدج (‪ )John Walbridge‬حــن كتــب‪:‬‬
‫العلميــة‪1415 ،‬هـــ‪1994/‬م)‪.118/1 ،‬‬ ‫ـلفي الكبــر‪ -‬العقـ َـل‬
‫«وقــد أبغــض اب ـ ُن تيميــة ‪-‬مجــد ُد القــرن الرابــع السـ ُّ‬
‫أينــا تجـ َّـى يف الحيــاة الفكريــة اإلســامية»‪ .‬انظــر كتابــه‪:‬‬
‫(‪ ((6‬كتَــب العــامل املتأخــر محمــد الخــر حســن‪« :‬و َمــن أم َعــن النظــر‪،‬‬ ‫‪God and Logic in Islam: The Caliphate of Reason (Cambridge: Cam-‬‬
‫رأى الفــرق واض ًحــا بــن مــا أرشــد إليــه الديــن ومــا تركــه لتجربــة‬ ‫‪bridge University Press, 2011), 5.‬‬
‫املخلوقــن»‪ .‬انظــر دراســات يف الرشيعــة اإلســامية (دمشــق‪ :‬دار‬ ‫[الرتجمــة العربيــة‪ :‬اللــه واملنطــق يف اإلســام‪ :‬خالفــة العقــل‪ ،‬ترجمــة‪ :‬تــريك‬
‫الفــارايب للمعــارف‪1426 ،‬هـــ‪2005/‬م)‪ ،‬ص‪.13‬‬ ‫املصطفــى (بــروت‪ :‬مركــز منــاء للبحــوث والدراســات‪2018 ،‬م)‪ - .‬املرتجــم]‪.‬‬
‫‪(63) Casanova, Public Religions, 21-25.‬‬ ‫(‪ ((6‬انظــر‪ :‬اإلبهــاج يف رشح املنهــاج‪ 3 ،‬مجلــدات (بــروت‪ :‬دار الكتــب العلميــة‪،‬‬
‫[ويف الرتجمة العربية‪ :‬ص‪.]41-34‬‬ ‫‪1424‬هـــ‪2004/‬م)‪.30/1 ،‬‬

‫‪12‬‬
‫ـتقل بــإدراك املــآالت األخالقيــة‬
‫بــأن العقــل بوســعه أن يسـ َّ‬ ‫التاميــز ومركزيتــه عندمــا كتــب‪« :‬عندمــا يُقــال عــن أمـ ٍر مــا‬
‫لألفعــال ومــا تســتحقه من ثــواب أو عقــاب) أدت إىل شــيوع‬ ‫إنــه منســوب إىل ’الديــن‘‪ ،‬ويكــون باإلمــكان منازعــة ذلــك‬
‫الســنة يف الدراســات الغربيــة بوصفهــم‬ ‫النظــر إىل أهــل ُّ‬ ‫القــول‪ ،‬يكــون ’العلــاين‘ قــد ظهــر بصورتــه األجــى»(‪.((6‬‬
‫رافضــن الســتعامل العقــل يف تقديــر األحــكام العتبــارات‬ ‫وكذلــك تشــارلز تايلــور عندمــا يتحــ َّدث يف إطــار فهمــه‬
‫دينيــة فحســب‪ ،‬مــا أدى إىل االف ـراض الشــائع بــأن املعيــار‬ ‫للعلــاين عــن «األخــاق السياســية املســتقلة» املتحـ ّررة مــن‬
‫املعتمــد يف اإلســام هــو «النصوصيــة» (‪.)scripturalism‬‬ ‫الــوالءات الطائفيــة(‪.((6‬‬
‫لكــن ميكننــا االدعــاء بــأن أهــم مــا خالــف فيــه أهـ ُـل الســنة‬ ‫وال ريــب أن مفهومــي عــن العلــاين اإلســامي ‪-‬نظ ـ ًرا‬
‫املعتزلـ َة هــو «إلهياتهــم» والقــول بــأن الوحــي ُملـ َزم بقبــول‬ ‫ملنحــاه الفقهــي‪ -‬قــد ال يصمــد أمــام مختلــف االســتبصارات‬
‫مــا يصــل إليــه العقــل مــن املــآالت األخالقيــة لألفعــال ومــا‬ ‫السوســيولوجية واألنرثوبولوجيــة النافــذة ملعالجــات العلــاين‬
‫يســتتبعها مــن ج ـزاء(‪ .((6‬وهــذا ال يعنــي أن العقــل عاج ـ ٌز‬ ‫هــذه (وغريهــا)‪ .‬ولكــن مــا يقطــع شــوطًا يسـ ّوغ اســتخدامي‬
‫عــن إصــدار أحــكام قيميــة متصلــة بالديــن ومســتقلة عــن‬ ‫للمفهــوم‪ ،‬وميثّــل نقطــة التقــاء لــه مــع الخطابــات الراســخة‬
‫الوحــي وال أنــه ممنــوع مــن القيــام بذلــك‪.‬‬
‫عــن العلــاين‪ ،‬هــو اتخــاذي التاميــز نقطــ ًة لالنطــاق‪،‬‬
‫وهــذا واضــح يف ردود األشــاعرة‪ ،‬ألــ ّد خصــوم‬ ‫باإلضافــة إىل القــول بــأن الفقــه مل يكــن املنــر الوحيــد‬
‫املعتزلــة‪ ،‬وخاصــ ًة األشــاعرة املتأخريــن‪ ،‬فالجوينــي (ت‪.‬‬ ‫ملناقشــة قيمــة الســلوكيات اإلنســانية‪.‬‬
‫‪478‬هـــ‪1085/‬م) ‪-‬عــى ســبيل املثــال‪ -‬يقـ ُّر يف كتــاب اإلرشــاد‬
‫العقل والوحي‬
‫بــأن املجتمعــات بحكــم اطـراد العــادات تستحســن الحســن‪،‬‬
‫وتســتقبح القبيــح‪ ،‬وإن مل يحــر لهــم ســمع(‪ .((6‬ويشــر‬ ‫أعــود ألقــول إن القــول بــأن الرشيعــة مل تتنــاول مســألة‬
‫الغــزايل يف كتــاب االقتصــاد يف االعتقــاد رصاحــ ًة إىل أن مــا‬ ‫محــددة بخطــاب رصيــح ال يعنــي أن اإلســام غــر مكــرث‬
‫اعتُــر دامئًــا حســ ًنا أو قبي ًحــا مرتبــط بالنفــع أو الــرر‬ ‫بهــا‪ .‬بــل إن املســلم يف الحقيقــة ال ميلــك خيــار إهــال‬
‫وباملصالــح أو الحاجــات الفرديــة والجامعيــة التــي ميكــن‬ ‫هــذه املســألة؛ ألن وعيــه اإلســامي هــو مــا ســيقوده‬
‫معرفتهــا مبعـ ِز ٍل عــن الوحــي(‪ .((6‬ويؤكِّــد فخــر الديــن الـرازي‬ ‫إىل تقديــر حجــم املصلحــة أو املفســدة الراجحــة يف كل‬
‫شــك أن ماهيــة «املصلحــة»‬ ‫مســألة‪ .‬وبعبــارات أوضــح‪ ،‬ال َّ‬
‫و«املفســدة» الحقيقيــة بحاجــة إىل تعريــف‪ ،‬وســيكون‬
‫رب موقــف املعتزلــة فيــا يــي‪« :‬الفكــرة هــي أن مثــة‬ ‫(‪ ((6‬تلخــص انتصــار ّ‬ ‫لإلســام أو الرشيعــة دور واضــح يف هــذا‪ .‬لكــن بعي ـ ًدا عــن‬
‫نظا ًمــا أخالق ًّيــا متداخـ ًـا يف نســيج هــذا العــامل ميكــن للبــر متييــزه بالعقــل‪،‬‬
‫وقــد تــرك اللــه البــر أحـرا ًرا يف اتبــاع إرشــادات تلــك األخــاق أو تجاهلهــا‪،‬‬ ‫فعــا‬
‫اإلقــرار األســايس بــأن اإلســام أو الرشيعــة يوجبــان ً‬
‫ووعدهــم مبجازاتهــم عــى هــذا األســاس … ومــا كان الفكــر البــري ينظــر‬ ‫معي ًنــا أو يســتح ّبانه أو يكتفيــان بإباحتــه‪ ،‬فــإن الســؤال‬
‫إليــه أخالقيًّــا عــى أنــه صــواب أو خطــأ فهــو كذلــك عنــد اللــه … وبعبــارة‬
‫أخــرى‪ ،‬األخــاق موضوعيــة‪ ،‬مبعنــى أن تصــورات القيمــة األخالقيــة ال‬ ‫العمــي عــن الصــورة املخصوصــة األفضــل لتمثيــل املصالــح‬
‫ينبغــي أن تختلــف بــن اللــه والبــر»‪ .‬انظــر كتابهــا‪Doubt in Islamic :‬‬
‫‪ .Law, 273‬وأو ُّد أن أقــول إن واقعيــة املعتزلــة ال ملكــة حكــم العقــل‬ ‫املرتبطــة بهــا ليــس مــن أعــال املــداوالت الرشعيــة‬
‫الســنة الذيــن فضلــوا‬ ‫يف حــد ذاتهــا هــي مــا كانــت محــل انتقــاد أهــل ُّ‬ ‫باملعنــى الدقيــق للكلمــة‪ .‬وبعبــارة أخــرى‪ ،‬فــإن القــول بــأن‬
‫مقاربــة إراديــة تقــدر اللــه وقدرتــه وفعلــه املســتقل‪ .‬وال شـ َّـك أن إرادة اللــه‬
‫الســني نفســه‪ .‬فعــى ســبيل‬ ‫ذاتهــا ســتكون محـ َّـل خــاف داخــل املذهــب ُّ‬ ‫الرشيعــة تدعــم أو تشـ ّجع قيمــة خلــق الــروة يشء‪ ،‬والقــول‬
‫املثــال‪ ،‬بينــا اعتــر ابــن تيميــة موقــف املعتزلــة ضعي ًفــا‪ ،‬فقــد رفــض متا ًمــا‬
‫«الطبيعيــات الواهيــة» لألشــاعرة‪ .‬فهــو يرفــض قولهــم إذا تحــدث القــرآن‬ ‫بــأن الرشيعــة (أو اإلســام) هــي مصــدر مبــارش لألفعــال أو‬
‫عــن النبــي‪{ :‬يأمرهــم باملعــروف وينهاهــم عــن املنكــر}‪« :‬فحقيقــة ذلــك‬
‫عندهــم أنــه يأمرهــم مبــا يأمرهــم‪ ،‬وينهاهــم عـ َّـا ينهاهــم‪ ،‬ويحــل لهــم مــا‬
‫السياســات التــي تخلــق الــروة يشء آخــر‪.‬‬
‫يحــل لهــم‪ ،‬ويحــرم عليهــم مــا يحــرم عليــه‪ .‬بــل األمــر والنهــي والتحليــل‬
‫والتحريــم‪ ،‬ليــس يف نفــس األمــر عندهــم ال معــروف وال منكــر وال طيــب‬ ‫يف نهايــة املطــاف‪ ،‬ســيعيدنا هــذا إىل الجــدل القديــم‬
‫وال خبيــث»‪ .‬انظــر‪ :‬مجمــوع الفتــاوى‪ 37 ،‬مجلـدًا‪ ،‬تحقيــق‪ :‬عبــد الرحمــن‬ ‫حــول دور العقــل ومكانتــه يف اإلســام؛ ألن العقــل ســيكون‬
‫بــن محمــد بــن قاســم (الريــاض‪ :‬مكتبــة املعــارف‪ ،‬بــدون تاريــخ)‪.433/8 ،‬‬
‫هــو البديــل الظاهــر عــن الرشيعــة يف معالجــة املســائل‪.‬‬
‫(‪ ((6‬انظــر‪ :‬اإلرشــاد إىل قواطــع األدلــة يف أصــول االعتقــاد‪ ،‬تحقيــق‪ :‬زكريــا‬ ‫الســنية عــى املعتزلــة األوائــل (الذيــن قالــوا‬
‫عمــرات (بــروت‪ :‬دار الكتــب العلميــة‪1416 ،‬هـــ‪1995/‬م)‪ ،‬ص‪.110‬‬ ‫لكــن اإلجابــة ُّ‬
‫(‪ ((6‬االقتصــاد يف االعتقــاد (القاهــرة‪ :‬البــايب الحلبــي وأوالده‪ ،‬بــدون تاريــخ)‪،‬‬
‫ص‪.82-80‬‬
‫[وقــد رجعــت إىل الكتــاب بتحقيــق مصطفــى عمـران لتعـرُّ وصــويل‬ ‫‪(64) Asad, Formations, 237.‬‬
‫لهــذه النســخة التــي عــاد إليهــا الكاتــب‪ ،‬ومل يذكــر الغ ـزايل رصاح ـ ًة‬ ‫[ويف الرتجمة العربية‪ :‬ص‪.]259‬‬
‫جملــة «مبعــزل عــن الوحــي»‪ ،‬وإمنــا يفهــم ذلــك مــن كالمــه‪ ،‬وهــذا‬
‫متامــه‪« :‬وهــذا االنقســام ثابــت يف العقــل‪ ،‬فالــذي يوافــق الفاعــل‬ ‫‪(65) C. Taylor, “Secular Imperative,” 32-33.‬‬

‫‪13‬‬
‫اإلسالم خارج الحكم الشرعي‬

‫ودون ذلــك‪ ،‬ســيكون مــن املر َّجــح اتهــام مقولــة «العلــاين‬ ‫(‪606‬هـــ‪1209/‬م) يف كتــاب األربعــن يف أصــول الديــن عــى‬
‫اإلســامي» بأنهــا نــو ٌع مــن االنحـراف الــذي يســعى إىل منــح‬ ‫أنــه يف الواقــع «ال ن ـزاع يف أنــا نعــرف بعقولنــا كــون بعــض‬
‫ســلطة ودور غــر مســتحقني للعقــل‪ .‬لكــن يف الوقــت ِ‬
‫نفســه‬ ‫األشــياء مالمئًــا لطباعنــا‪ ،‬وبعضهــا منافـ ًرا لطباعنــا»(‪ .((6‬وعلينــا‬
‫علينــا أن ننتبــه إىل أن الفهــم اإلســامي التقليــدي للعقــل كان‬ ‫أن نشــر إىل أن هــذا ليــس موقــف األشــاعرة وحدهــم‪،‬‬
‫أوســع مــن مج ـ َّرد التفكــر النظــري‪ ،‬بــل األدق أن نتح ـ َّدث‬ ‫فاملاتريديــة وأهــل الحديــث يتفقــون معهــم(‪ .((7‬حتــى‬
‫عــن طــرق يف معرفــة الواقــع‪ ،‬واإلملــام بــه‪ ،‬وتصـ ُّوره‪ ،‬وحتــى‬ ‫والســنة‬
‫رح بــأن القــرآن ُّ‬ ‫الحنبــي «املتز ّمــت» ابــن تيميــة يـ ّ‬
‫الحــدس بــه‪ .‬وبهــذا الفهــم يشــمل العقــل أشــياء مــن قبيــل‪:‬‬ ‫(الوحــي) «ال ُيكــن أن يــز ّود البــر بــكل مــا يحتاجــون‬
‫والتجــي‬
‫ّ‬ ‫اإلدراك الحــي‪ ،‬والعــرف‪ ،‬و«الــذوق»‪ ،‬واملخيلــة‪،‬‬ ‫إليــه لنجــاح حياتهــم الدنيويــة‪ ،‬بــل وال كل مــا يحتاجــون‬
‫الروحــي‪ ،‬ومــا شــابه(‪ .((7‬وال ب ـ َّد مــن أخــذ ذلــك يف االعتبــار‬ ‫إليــه لخالصهــم األخــروي»(‪ .((7‬والعقــل عنــده قــادر متا ًمــا‬
‫حــن نقــارب تطبيقــات العلــاين اإلســامي‪.‬‬ ‫عــى متييــز املصلحــة واملفســدة‪ ،‬ولــو مل يــرد الــرع‪ ،‬ولكــن‬
‫املقتضيات العملية للعلامين اإلسالمي‬ ‫ال يلــزم مــن حصــول الحســن أو القبــح إثابــة الفاعــل أو‬
‫معاقبتــه يف اآلخــرة إذا مل يــرد رشع بذلــك(‪.((7‬‬
‫نجــم عــن التص ـ ّور املتصلّــب لتعــارض الديــن والعقــل‬
‫الســنية مل‬
‫ويف املحصلــة‪ ،‬فــإن جميــع مذاهــب االعتقــاد ُّ‬
‫‪-‬بالتزامــن مــع نفــوذ الفهــم الغــريب ملفهــوم «العلــاين»‪-‬‬
‫أساســا وحيــدً ا لألحــكام القيمية‪ ،‬ال ســيام يف‬
‫تكـ ّرس الرشيعــة ً‬
‫ثالثــة مواقــف عــى األقــل للمســلمني املعارصيــن يف تعاملهم‬
‫الواقــع العمــي‪ .‬ومــن ث َـ َّم فــإن القــول بــأن النــص يغطّــي كل‬
‫مــع العلــاين‪ .‬األول‪ :‬رفضــه بالكليــة (باعتبــاره غري إســامي)‪،‬‬
‫ـول غــر دقيــق‪ .‬وهــو‬‫نقاشــات املســلم يف حياتــه اليوميــة قـ ٌ‬
‫ومــن ثَـ َّم تــرك جميــع القضايــا التــي تــدور يف فلكــه للصدفــة‬
‫أمــر شــديد األهميــة يف فهــم معنــى العلــاين اإلســامي‪.‬‬
‫والعشــوائية وعــدم التنظيــم‪ .‬والثــاين‪ :‬رفضــه (أو باألحــرى‬
‫تجاهلــه) (ومــرة أخــرى‪ ،‬باعتبــاره غــر إســامي)‪ ،‬ولكــن‬
‫هــذه املــرة عــن طريــق إدراجــه يف املجــال الرشعــي ليــس‬ ‫يُســ َّمى حســ ًنا يف حقــه‪ ،‬وال معنــى لحســنه إال موافقتــه لغرضــه‪،‬‬ ‫=‬
‫إلَّ ‪ ،‬ومحاولــة تنظيــم كل يشء بقواعــد الرشيعــة وأدواتهــا‪.‬‬ ‫والــذي ينــايف غرضــه يُس ـ َّمى قبي ًحــا‪ ،‬وال معنــى لقبحــه إال منافاتــه‬
‫لغرضــه»‪ .‬ويف الهامــش‪« :‬يقــول صاحــب املواقــف وشــارحها‪ :‬وقــد‬
‫والثالــث‪ :‬تب ّنيــه‪ ،‬وهنــا يف شــكله الغــريب باعتبــاره نقيــض‬ ‫يعــر عــن الحســن والقبــح بهــذا املعنــى باملصلحــة واملفســدة»‪.‬‬
‫الديــن أو رقي ًبــا ومروضً ــا لــه‪ .‬وذلــك ر ًّدا عــى فشــل الرشيعــة‬ ‫انظــر‪ :‬الغــزايل‪ ،‬االقتصــاد يف االعتقــاد‪ ،‬تحقيــق‪ :‬مصطفــى عمــران‬
‫(القاهــرة‪ ،‬دار البصائــر‪2008 ،‬م)‪ ،‬ص‪ - .420‬املرتجــم]‪.‬‬
‫امل ُتص ـ َّور يف التعاطــي مــع املصالــح اإلنســانية املرشوعــة‪.‬‬
‫(‪ ((6‬كتــاب األربعــن يف أصــول الديــن‪ ،‬تحقيــق‪ :‬محمــود عبــد العزيــز محمــود‬
‫ولكننــا نــرى تهافــت الرفــض التــام للعلــاين (أي‬ ‫(بــروت‪ :‬دار الكتــب العلميــة‪2009 ،‬م)‪ ،‬ص‪.244‬‬
‫باعتبــاره بنيــةً) عنــد التفكــر يف أســئلة أ َّول َّيــة مــن قبيــل‪:‬‬ ‫(‪ ((7‬عــن موقــف املاتريديــة‪ ،‬انظــر عــى ســبيل املثــال‪ :‬كــال بــن محمــد بــن‬
‫الســن القانــوين لقيــادة الســيارات‪ ،‬أو مــا ينبغــي أن‬ ‫محمــد بــن أيب رشيــف املقــديس‪ ،‬كتــاب املســامرة يف رشح املســايرة‪،‬‬
‫مجلــدان (القاهــرة‪ :‬املكتبــة األزهريــة للـراث‪2006 ،‬م)‪ .38/2 ،‬عبــد الرحيــم‬
‫تكــون عليــه خطــة الرعايــة الصحيــة الوطنيــة‪ ،‬أو سياســة‬ ‫بــن عــي بــن املؤيــد شــيخ زاده‪ ،‬نظــم الفرائــد وجمــع الفوائــد يف املســائل‬
‫املختلــف فيهــا بــن الســادة األشــعرية والســادة املاتريديــة‪ ،‬مخطــوط رقــم‬
‫الهجــرة‪ .‬ومــن الواضــح أنهــا أســئلة ال ميكــن تجاهلهــا ألنهــا‬ ‫‪ ،875‬علــم الــكالم‪ 14 ،‬مجل ـدًا (دار الكتــب املرصيــة)‪.‬‬
‫متــس مصالــح عموميــة واســعة يق ّرهــا اإلســام والرشيعــة‬ ‫ُّ‬ ‫(‪ ((7‬انظــر‪ :‬أمـراض القلــوب وشــفاؤها (القاهــرة‪ :‬املطبعــة الســلفية ومكتبتهــا‪،‬‬
‫كالهــا‪ ،‬ويســعيان يف رعايتهــا (مثــل حفــظ الحيــاة)‪ ،‬ويف‬ ‫‪1386‬هـــ‪1966/‬م)‪ ،‬ص‪.13-12‬‬
‫ـح ُيــي ماهيــة هــذه‬ ‫الوقــت ِ‬ ‫[مل أقــف عــى هــذا العــزو‪ ،‬وإمنــا كان كالم ابــن تيميــة أن اإلنســان‪،‬‬
‫ـص واضـ ٌ‬ ‫نفســه ليــس مثــة نـ ٌّ‬ ‫«وإن كان أقـ َّر بــأن محمـدًا رســول اللــه وأن القــرآن حـ ٌّـق عــى ســبيل‬
‫اإلجــال‪ ،‬فأكــر مــا يحتــاج إليــه مــن العلــم مبــا ينفعــه ويــره ومــا‬
‫أمــر بــه ومــا نهــى عنــه يف تفاصيــل األمــور وجزئياتهــا مل يعرفــه‪ ،‬ومــا‬
‫عرفــه فكثــر منــه مل يعملــه‪ ،‬ولــو قــدر أنــه بلغــه‌كل أمــر‌ونهــي يف‬
‫(‪ ((7‬كان العقــل كــا اســتخدمه الفقهــاء واملتكلمــون املســلمون قبــل الحداثــة‬ ‫والســنة إمنــا تذكــر فيهــا األمــور العامــة‬
‫والســنة‪ ،‬فالقــرآن ُّ‬‫القــرآن ُّ‬
‫يشــمل الوجــدان والعنــارص التــي ســعى «التنويــر» إىل إزاحتهــا عــن بنيــة‬ ‫الكليــة‪ ،‬ال ميكــن غــر ذلــك ال يذكــر مــا يخــص بــه كل عبــد‪ ،‬ولهــذا‬
‫العقــل‪ .‬فعندمــا يتح ـدَّث املعتزلــة (وغريهــم) عــن خرييــة إنقــاذ الغريــق‬ ‫أمــر اإلنســان يف مثــل ذلــك بســؤال الهــدى إىل الـراط املســتقيم»‪.‬‬
‫والــر يف اتهــام الــريء زو ًرا عــى أنهــا بديهيــة عقليــة‪ ،‬فمــن الواضــح أن‬ ‫‪ -‬املرتجــم]‪.‬‬
‫هــذا العقــل يتجــاوز قواعــد العقــل باعتبــاره ملكــة مســتقلة غــر محــدودة‬
‫أو مسـ ّـرة مــن الثقافــة‪ ،‬أو املشــاعر‪ ،‬أو العــرف‪ .‬وهــو نقيــض العقــل الــذي‬ ‫(‪ ((7‬مجمــوع الفتــاوى‪[ .435-434/8 ،‬وقــد جــاءت يف معــرض حديــث ابــن‬
‫دعــا إليــه مفكــرو عــر «التنويــر» أمثــال إميانويــل كانــط (‪Immanuel‬‬ ‫تيميــة يف ســياق الــكالم عــن التحســن والتقبيــح عــن «أن يكــون الفعــل‬
‫‪)Kant‬؛ إذ دعــوا إىل «ملكــة مســتقلة مبعنــى أنهــا ذاتيــة الحكــم‪ ،‬تؤســس‬ ‫ـتمل عــى مصلحــة أو مفســدة‪ ،‬ومل يــرد الــرع بذلــك‪ ،‬كــا يعلــم أن‬ ‫مشـ ً‬
‫أحكامهــا الخاصــة وتتبعهــا‪ ،‬ومســتقلة عــن مصالــح السياســة والثقافــة‬ ‫العــدل مشــتمل عــى مصلحــة العــامل‪ ،‬والظلــم مشــتمل عــى فســادهم‪،‬‬
‫والالوعــي»‪ .‬عــن هــذه النقطــة‪ ،‬انظــر‪:‬‬ ‫فهــذا النــوع هــو حســن وقبيــح‪ ،‬وقــد يعلــم بالعلــم والــرع قبــح ذلــك ال‬
‫‪F. C. Beiser, The Fate of Reason: German Philosophy from Kant to Fichte‬‬ ‫أنــه أثبــت للفعــل صفــة مل تكــن؛ لكــن ال يلــزم مــن حصــول هــذا القبــح أن‬
‫‪(Cambridge, MA: Harvard University Press, 1987), 8.‬‬ ‫يكــون فاعلــه معاقبًــا يف اآلخــرة‪ ،‬إذا مل يــرد رشع بذلــك…»‪ - .‬املرتجــم]‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫الدينــي (بالرغــم مــن أنــه مل ينــص عليــه كــا هو واضــح)‪ ،‬يف‬ ‫القواعــد ســواء مبــارشة أو بالقيــاس‪ .‬ومــن املؤكَّــد أنــه قــد‬
‫حــن ميكــن قــول ذلــك عــن وجــوب إعالــة األرسة واجتنــاب‬ ‫يُقــال إن النصــوص توجــه املســلمني توجي ًهــا غــر مبــارش يف‬
‫الخمــر‪ .‬ولكــن مــن غــر الصحيــح غالبًــا القــول بــأن تحديــد‬ ‫هــذا الشــأن بإلزامهــم تج ُّنــب الــرر وحفــظ االحتياجــات‬
‫ســن القيــادة أو صياغــة خطــة للرعايــة الصحيــة هــي أمــور‬ ‫اإلنســانية األساســية (أي حفــظ النفــس وحفــظ النســل ومــا‬
‫«غــر دينيــة»‪ ،‬ناهيــك عــن القــول بتعارضهــا مــع الديــن؛ ألن‬ ‫إىل ذلــك)‪.‬‬
‫الديــن قــد يكــون مصــدر إلهــام يف هــذه املســائل‪.‬‬ ‫لكــن هــذه األســئلة تتجــاوز مــا هــو نظــري إىل مــا‬
‫رمبــا تكــون أبــرز مظاهــر امليــل لدمــج العلــاين يف‬ ‫هــو عمــي لتنظــر يف الســن األصلــح للقيــادة‪ ،‬أو يف خطــة‬
‫مجــال الرشيعــة يف العديــد مــن الدوائــر اإلســامية هــو‬ ‫أي سياســة هجــرة هــي‬ ‫الرعايــة الصحيــة األنفــع‪ ،‬أو يف ِّ‬
‫الرتكيــز املفــرط عــى االجتهــاد‪ .‬وال شـ َّـك أن االجتهــاد مه ـ ٌّم‬ ‫كاف‪ .‬وهــذا‬‫أفضــل للمجتمــع وتخــدم مصالحــه بشــكل ٍ‬
‫يف إطــار الســعي إىل تجــاوز معطيــات عــامل مــا قبــل الحداثــة‬ ‫مــا ال ميكــن تقديــره بالعــودة إىل النصــوص‪ ،‬أو اللــوازم‬
‫وافرتاضاتــه وآرائــه الســائدة‪ ،‬واإلبحــار وســط هــذه األمزجــة‬ ‫الرشعيــة‪ ،‬بــل يجــب أن تتبعهــا وســائل علامنيــة غــر‬
‫الجديــدة والظــروف املتغــرة‪ .‬لكــن هــذا يرتبــط باملجــال‬ ‫رشعيــة (مثــل‪ :‬املالحظــة اإلمربيقيــة‪ ،‬والتجربــة العمليــة‪،‬‬
‫الرشعــي الرصيــح باملعنــى الدقيــق للكلمــة(‪ .((7‬ومــن ث َــ َّم‬ ‫وعلــم نفــس الطفولــة‪ ،‬والطــب الحديــث‪ ،‬واإلدارة العامــة‪،‬‬
‫فــإن الرتكيــز املفــرط عــى االجتهــاد يــرك التجســيد امللمــوس‬ ‫والعلــوم الحســابية [االكتواريــة] ومــا شــابهها) وجميعهــا ال‬
‫واألمثــل للقيــم اإلســامية أو الرشعيــة وأظهــره يف حالــة مــن‬ ‫تســتم ُّد ماهيتهــا أو ســلطتها مــن الرشيعــة‪ ،‬وبالــرورة ال‬
‫االلتبــاس واإلهــال‪ .‬وعــاد ًة مــا تكــون النتيجــة اعتــا ًدا يف‬ ‫نوســع مــن أفــق نظرنــا ليشــمل‪ :‬لوائــح‬
‫تعارضهــا‪ .‬وعندمــا ّ‬
‫غــر محلــه عــى النشــاط الفقهــي اإلســامي‪ ،‬وتنافـ ًرا محبطًــا‬ ‫إدارة الطــران‪ ،‬والسياســة النقديــة‪ ،‬وأكــواد تنظيــم البنــاء‪،‬‬
‫بــن إدراك املُثُــل اإلســامية أو الرشعيــة‪ ،‬والواقــع اليومــي‬ ‫وسياســة التعليــم‪ ،‬وقوانــن تقســيم املناطــق‪ ،‬وإجــراءات‬
‫امللكيــة‪ ،‬ولوائــح جــوازات الســفر‪ ،‬وقامئــة مــا ال يحــى مــن‬
‫الحديــث‪.‬‬
‫قضايــا املجــال العــام‪ ،‬ســيتضح هــذا النطــاق وتــرز أهميتــه‪.‬‬
‫فــإذا ســعينا إىل تقليــل هــذا التنافــر بتكثيــف االجتهــاد‬
‫وحتــى تتضــح الح َّجــة هنــا‪ ،‬فهــي ليســت دعــوة‬
‫ـري بنــا يف كثــر‬
‫زاد األمــر إشــكاليةً‪ .‬ولنفــرض ‪-‬كــا هــو حـ ّ‬ ‫للتفكــر يف هــذه القضايــا عــى نحــ ٍو يخلــو متا ًمــا مــن‬
‫مــن الحــاالت‪ -‬أن املشــكلة ليســت يف فحوى الحكــم الرشعي‬
‫االعتبــارات الرشعيــة وســلطانها‪ .‬فعــى ســبيل املثــال‪ ،‬قــد‬
‫بحــد ذاتــه‪ ،‬أو أنــه ُمح َكــم وال مجــال فيــه «للتأويــل» (مثــل‬
‫ميثّــل رأي الرشيعــة يف اعتبــار الشــفقة والحنــان رضوريَّـ ْـن‬
‫تحريــم الزنــا)‪ ،‬فــإن اإلشــكال ينبغــي أن يكــون يف تنزيــل‬
‫لتخصــص علــم نفــس الطفــل‪ ،‬أو‬ ‫لصالــح الطفــل مرشً ــدا ُّ‬
‫الحكــم وتجســيده يف الواقــع(‪ .((7‬فــإذا كان ذلــك كذلــك‪ ،‬فــإن‬ ‫رأيهــا يف رضورة احــرام حقــوق الجــار يف بنــاء املســاكن‬
‫االجتهــاد ‪-‬مبــا هــو اســتنباط لألحــكام مــن مصادرهــا‪ -‬يغــدو‬ ‫لتخصــص الهندســة املعامريــة‪ .‬لكــن بينــا غــرض‬ ‫مرشــ ًدا ُّ‬
‫الرشيعــة هــو إصــدار األحــكام‪ ،‬فــإن معايــر تقييــم الكفــاءة‬
‫(‪ ((7‬قــد يُعــرض عــى كالمــي بدعــوى أنــه تب ـ ٌع لتعريفــي الضيــق لالجتهــاد‪.‬‬
‫واألمــان والربــح والجــال واملــرح ليســت مقــوالت رشعيــة‪.‬‬
‫لكــن أي محاولــة للعــودة إىل منظــور فــرة التكويــن الترشيعــي‪ ،‬حيــث‬ ‫ومــع ذلــك‪ ،‬فقــد تكــون رضوريـ ًة لتحقيــق مــا يقـ ّره اإلســام‬
‫كانــت الحــدود بــن التفســر والتجريــب غــر محــددة أو غائبــة‪ ،‬ســتق ّر‬
‫بهــذا التعريــف‪ .‬وباإلضافــة إىل ذلــك‪ ،‬ال بـ َّد أن نأخــذ يف االعتبــار االنتهــاكات‬ ‫‪-‬ورمبــا الرشيعــة‪ -‬مــن مصالــح‪ .‬فعــى ســبيل املثــال‪ ،‬ال ميكــن‬
‫املحتملــة للفقــه إذا طُبــق االجتهــاد مــن هــذا املنظــور يف العــر الحديــث‪.‬‬
‫أي دعــوة أو إقـرار بالتمييــز بــن علــاء النصــوص وعلــاء الواقــع‬
‫االدعــاء بــأن ســن القيــادة الــذي ال يراعــي الســامة‪ ،‬أو‬
‫وثان ًيــا‪ :‬إن َّ‬
‫ـي بــأن مــا يُـراد يف كثـرٍ مــن الحــاالت ليــس‬ ‫اف ضمنـ ٍّ‬‫ال بـ َّد أن تقــرن باعـر ٍ‬ ‫إق ـرار خطــة رعايــة صحيــة وطنيــة غــر ف َّعالــة‪ ،‬أم ـ ٌر يخــدم‬
‫حكــم الرشيعــة‪ ،‬وإمنــا أحــكام تقييمــة أخــرى‪ .‬وإال فإننــا ســنبقى يف حــدود‬
‫املجــال الرشعــي‪ ،‬ويف نطــاق علــاء النصــوص عمليًّــا‪.‬‬ ‫الغايــات واملقاصــد التــي تسـ ّوغها الرشيعــة بــل وتنــادي بهــا‪.‬‬
‫ومــن ث َ ـ َّم فــا ميكــن الجمــع بــن تجاهــل فئــات التقييــم‬
‫(‪ ((7‬حتــى قاســم أمــن ‪-‬عــى ســبيل املثــال‪ -‬يذكــر أن مشــكلته ليســت يف‬
‫الحجــاب ذاتــه‪ ،‬وإمنــا عــى شــكلٍ منــه تعــارف عليــه النــاس يف مــر يف‬ ‫العلامنيــة هــذه‪ ،‬وتحــري تحقيــق املصالــح التــي يق ّرهــا‬
‫نصوصــا تقــي بالحجــاب‬‫ً‬ ‫ذلــك الوقــت‪« :‬لــو أن يف الرشيعــة اإلســامية‬
‫ي اجتنــاب‬ ‫عــى مــا هــو معــروف اآلن عنــد بعــض املســلمني لوجــب ع ـ َّ‬
‫اإلســام أو تؤ ّمنهــا الرشيعــة‪.‬‬
‫رة‬‫البحــث فيــه‪ ،‬ولَـ َـا كتبــت حرفًــا يخالــف تلــك النصــوص مهــا كانــت مـ َّ‬
‫يف ظاهــر األمــر؛ ألن األوامــر اإللهيَّــة يجــب اإلذعــان لهــا بــدون بحــث وال‬ ‫ومــع ذلــك‪ ،‬ال ميكــن القــول بــأن ســن القيــادة القانــوين‬
‫نصــا يف الرشيعــة يوجــب الحجــاب عــى الطريقــة‬ ‫مناقشــة‪ ،‬لكننــا ال نجــد ًّ‬ ‫ـي» أو ضــد «القانــون‬
‫املعهــودة»‪ .‬انظــر كتابَــه تحريــر املــرأة يف‪ :‬قاســم أمــن‪ ،‬األعــال الكاملــة‪،‬‬ ‫أو خطــة الرعايــة الصحيــة «قانــون إلهـ ّ‬
‫تحقيــق‪ :‬محمــد عــارة (القاهــرة‪ :‬دار الــروق‪1409 ،‬هـــ‪1989/‬م)‪ ،‬ص‪.352‬‬ ‫اإللهــي»‪ ،‬حتــى وإن اندرجــت ضمــن النطــاق العــام للقانــون‬

‫‪15‬‬
‫اإلسالم خارج الحكم الشرعي‬

‫ميارســه النــاس فـرادى وجامعــات باشــتباكهم الثقــايف الواعــي‬ ‫غــر مجـ ٍـد(‪.((7‬‬
‫مــع العلــاين اإلســامي‪ .‬لكــن محمــد عبــده بــدل أن يلتفــت‬ ‫فعــى ســبيل املثــال‪ ،‬يف معــرض ٍ‬
‫نقــد الذع لشــكل‬
‫إىل هــذا ال ُب ْعــد العلــاين‪ ،‬غــر الرشعــي مــن املشــكلة‪،‬‬ ‫الــزواج يف أوائــل القــرن العرشيــن‪ ،‬انتقــد محمــد عبــده‬
‫بــدا وكأنــه يكثــف االجتهــاد بالعــودة إىل نصــوص القــرآن‬ ‫(ت‪1905 .‬م) الفقهــاء بســبب نظرتهــم املثــرة للشــفقة إىل‬
‫والســنة‪ ،‬وتك ـرار رشوطهــا لتحقيــق الســعادة الزوجيــة‪ ،‬ال‬ ‫ُّ‬ ‫مؤسســة الــزواج‪ ،‬ال ســيام أنهــا تحـ ُّط من قــدر املــرأة‪ .‬فيقول‬
‫ســيام بالنســبة إىل النســاء‪ ،‬فيقــول‪« :‬ومــا علينــا إال أن نســمع‬
‫إن تعريفــات الفقهــاء ال تركِّــز إال عــى متتُّــع الرجــل بجســد‬
‫ـح‬
‫صــوت رشيعتنــا‪ ،‬ونتبــع أحــكام القــرآن الكريــم‪ ،‬ومــا صـ َّ‬ ‫زوجتــه‪ ،‬و«كلهــا خاليــة عــن اإلشــارة إىل الواجبــات األدبيــة‬
‫مــن ُسـ َّنة النبــي صــى اللــه عليــه وســلم‪ ،‬وأعــال الصحابــة‪،‬‬
‫[التــي هــي أعظــم مــا يطلبــه شــخصان مهذبــان كل منهــا‬
‫لتتــم لهــا [للنســاء] الســعادة يف الــزواج»(‪.((7‬‬
‫مــن اآلخــر]»(‪ ،((7‬ومــن ثَـ َّم انحـ َّط الــزواج إىل منزلــة وضيعــة‪،‬‬
‫وبالرغــم مــن ن َّيــة محمــد عبــده الحســنة وعذوبــة‬ ‫بــدل أن يكــون نظا ًمــا جميـ ًـا أساســه املــودة والرحمــة بــن‬
‫منطقــه‪ ،‬فــإن طريقتــه هنــا يه ّددهــا عــدم اســتيعاب قــدرة‬ ‫الز َو ْجــن‪ .‬وباملناســبة‪ ،‬يــرى طــال أســد أن النفــوذ األورويب‬
‫رشعــي مــا‪ ،‬تأثــر‬
‫ٍّ‬ ‫الثقافــة عــى التأثــر يف اســتقبال حكــمٍ‬ ‫كان يوجــه الخطــاب املــري حــول الجنــس يف هــذا الوقــت‬
‫ال يقـ ُّـل عــن فحــوى الحكــم ذاتــه‪ .‬فحتــى لــو أك ـ َّن الرجــل‬ ‫بالتحديــد(‪.((7‬‬
‫لزوجتــه بالــغ املــودة والرحمــة‪ ،‬فــإن ذلــك وحــده ال يضمــن‬
‫شــعورها بالحــب والحنــان‪ .‬بــل إن ذلــك يعتمــد عــى قدرتــه‬ ‫لكنــي لــن أركِّــز عــى نقــد محمــد عبــده‪ ،‬وإمنــا عــى‬
‫عــى ترجمــة هــذه املشــاعر إىل أفعــال صادقــة ينقلهــا إىل‬ ‫الحــل الــذي يبــدو أنــه َعرضــه‪ .‬ويبــدو مــن املنطقــي‬
‫زوجتــه‪ .‬وهــذا أقــرب إىل كونــه شــأنًا ثقاف ًّيــا مــن كونــه‬ ‫افـراض أن الفقهــاء أغفلــوا «الواجبــات األدبيــة»‪ ،‬ال لقســوة‬
‫معرفــة أو التزا ًمــا بالقانــون الدينــي يف حــد ذاتــه‪ .‬فاملســلم‬ ‫فيهــم‪ ،‬وإمنــا ألنهــا تقــع خــارج نطــاق اختصاصهــم الرشعــي‪،‬‬
‫«التقبيــل» (أو‬
‫َ‬ ‫«الصالــح»‪ ،‬عــى كل حــال‪ ،‬قــد ال يجيــد‬ ‫باعتبــار أنهــا واجبــاتٌ ال ميكــن للرشيعــة أن تضــع لهــا‬
‫التأنُّــق أو طيــب الــكالم)‪ ،‬ومــن ث َـ َّم فــإن تكثيــف النصائــح‬ ‫تجســيدات جوهريــة يف شــكل أفعــا ٍل محــددة‪ .‬بعبــارة‬ ‫ٍ‬
‫املنصــوص عليهــا (ال ســيام أنهــا موجــودة يف حالتنــا هــذه)‬ ‫أخــرى‪ ،‬فـ«املــودة والرحمــة» قــد تعنيــان أشــياء مختلفــة‬
‫عــن املــودة والرحمــة‪ ،‬ليــس لــه عظيــم أثــر‪ .‬بينــا يبــدو‬ ‫تب ًعــا الختــاف الســياقات‪ ،‬ومــن ث َــ َّم ميكــن تجســيدهام‬
‫أن التعديــات الثقافيــة ‪-‬مبــا يف ذلــك تعزيــز املعرفــة‬ ‫متغــرة ومرتبطــة بالثقافــة‬ ‫ّ‬ ‫بطــرقٍ ال ت ُحــى‪ ،‬طــرق‬
‫الثقافيــة‪ -‬تش ـكِّل جــز ًءا كب ـ ًرا مــن الحــل‪ ،‬فالثقافــة توجــه‬ ‫االجتامعيــة‪ ،‬مــن إحضــار الزهــور إىل رشاء قطعــة مميــزة من‬
‫بشــكل أســايس طريقــة تجســيد القانــون‪ ،‬مبــا يف ذلــك قيمــه‬ ‫اللحــم‪ .‬أي إن تجســيدهام مل يكــن أم ـ ًرا رشع ًّيــا‪ ،‬بــل نشــاطًا‬
‫الدينيــة‪ ،‬والفضائــل‪ ،‬والرؤيــة العامــة‪ ،‬وتجلّيــه يف واقــع‬
‫الزمــان واملــكان؛ ففــي حالتنــا هــذه ‪-‬عــى ســبيل املثــال‪-‬‬
‫ميكــن أن نــرى بوضــو ٍح كيــف يخــدم االفتتــان والجاذبيــة‬ ‫(‪ ((7‬قــد يســوغ لنــا ذلــك إلقــاء نظــرة عــى مالحظــة طــارق رمضــان‪ ،‬أحــد أبــرز‬
‫دعــاة االجتهــاد‪« :‬بعــد التأصيــل املســتمر لالجتهــاد والتجديــد واإلصــاح‬
‫ــن مقاصــد الرشيعــة يف الســكن الزوجــي‪.‬‬ ‫غــر الرشعيَّ ْ‬ ‫عــى مــدار أكــر مــن قــرن‪ ،‬مــا يـزال املســلمون ‪-‬ســواء يف املجتمعــات ذات‬
‫األغلبيــة املســلمة أو املجتمعــات الغربيــة‪ -‬يجــدون صعوبـ ًة يف التغلُّــب عىل‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬فــإن اإلنتــاج الثقــايف يف حــد ذاتــه ليــس‬ ‫األزمــات املتالحقــة التــي ميــرون بهــا‪ ،‬وتقديــم أكــر مــن مجــرد إجابــات‬
‫جزئيــة؛ حتــى هــذه اإلجابــات ظلــت اعتذاريــة أو [ناتجــة] عــن مواقــف‬
‫اجتهــا ًدا رشع ًّيــا‪ .‬فــإن كان القانــون يحــدد األبعــاد التــي‬ ‫دفاعيــة يف غالبهــا»‪ .‬انظــر كتابــه‪:‬‬
‫يجــب عــى الثقافــة أن تعمــل فيهــا‪ ،‬فــا تســتطيع األحــكام‬ ‫‪Radical Reform: Islamic Ethics and Liberation (New York: Oxford Uni-‬‬
‫‪versity Press, 2009), 30.‬‬
‫‪-‬حتــى يف نطــاق الحــال‪ -‬أن تخربنــا مــا الجميــل؟ أو املــرح؟‬ ‫[الرتجمــة العربيــة للكتــاب‪ :‬طــارق رمضــان‪ ،‬اإلصــاح الجــذري‪:‬‬
‫األخالقيــات اإلســامية والتحــرر‪ ،‬ترجمــة‪ :‬أمــن األيــويب (بــروت‪،‬‬
‫أو العاطفــي؟ أو األنيــق؟ … إلــخ‪ .‬فإنتــاج الثقافــة ببســاطة‬ ‫الشــبكة العربيــة لألبحــاث والنــر‪2009 ،‬م)]‪.‬‬
‫ليــس مــن اختصــاص الفقهــاء‪ ،‬بــل العكــس‪ ،‬إنــه مجــال‬ ‫ومــن الغريــب أنــه يبــدو أحيانًــا واق ًعــا يف رشك تضخيــم الفقــه إىل‬
‫حــد إســباغ أهميــة لــه تتجــاوز مــا هــو قانــوين‪ .‬وعندمــا يصــل الفقــه‬
‫العلــاين اإلســامي‪ ،‬ويضطلــع «النــاس» بــه‪ .‬وبينــا يقــ ّرر‬ ‫إىل منتهــاه‪ ،‬يشـدّد عــى األخــاق باعتبارهــا بديـ ًـا مناسـبًا‪ ،‬وهــو مــا‬
‫االجتهــاد جوهــر القانــون‪ ،‬فــإن الثقافــة تشــارك مبــارش ًة‬ ‫أراه تهافتًــا للمقــرب األخالقــي‪ ،‬انظــر مــا ســيأيت‪.‬‬
‫(‪ ((7‬محمــد عبــده‪ ،‬الــزواج‪ ،‬يف‪ :‬األعــال الكاملــة لإلمــام محمــد عبــده‪،‬‬
‫‪ 5‬مجلــدات‪ ،‬تحقيــق‪ :‬محمــد عــارة (القاهــرة‪ :‬دار الــروق‪،‬‬
‫‪1427‬هـــ‪2006/‬م)‪( 70/2 ،‬واملقــال مــن ص ‪ 70‬إىل ص‪.)75‬‬
‫(‪ ((7‬محمــد عبــده‪ ،‬الــزواج‪ ،‬ص‪ .73‬وباملناســبة‪ ،‬ليــس غــريض مــن رضب هــذا‬
‫املثــال أن أقــول إن محمــد عبــده أخفـ َـق ‪-‬بشــكل عــام‪ -‬يف إدراك العلــاين‬ ‫‪(78) Asad, Formations, 232-34.‬‬
‫اإلســامي‪.‬‬ ‫[يف الرتجمة العربية‪ :‬ص‪.]257-253‬‬

‫‪16‬‬
‫العلــاين اإلســامي ليــس مرادفًــا لألخــاق‪ ،‬بــاإلذن مــن أولئك‬ ‫فيــا ســاَّ ه بيــر بريغــر (‪ )Peter Berger‬يف ســياقٍ آخــر‬
‫الذيــن يــرون «األخــاق» وحدهــا ترياقًــا «لإلفـراط يف توســيع‬ ‫«بنيــة تســويغ» القانــون(‪ .((8‬إذ يــؤدي منتجــو الثقافــة ‪-‬ال‬
‫مجــال الرشيعــة»(‪ .((8‬ففــي الحقيقــة‪ ،‬ليــس مثــة مــا يربــط‬ ‫الفقهــاء‪ -‬دو ًرا حيويًّــا يف تهيئــة الظــروف االجتامعيــة ونــر‬
‫األخــاق بالعلــاين اإلســامي عــادةً؛ ألن القيــم واملصالــح‬ ‫املعرفــة الثقافيــة لإلحاطــة بأهــداف القانــون ومقاصــده‬
‫محــل النظــر ال تكــون أخالقيــ ًة يف ذاتهــا؛ فمفاهيــم مــن‬ ‫العليــا‪ ،‬ومــن ث َ ـ َّم توليــد الت ـزام طوعـ ّ‬
‫ـي عــام بــه‪.‬‬
‫قبيــل األناقــة أو الفــرح أو الربــح‪ ،‬أو حتــى الكفــاءة‪ ،‬ليســت‬ ‫وبهــذا املعنــى يســوغ لنــا اعتبــار عا َّمــة املســلمني‬
‫أخالقي ـ ًة مبعنــى الكلمــة‪ .‬وإن افرتضنــا مثـ ًـا أن الكفــاءة ‪-‬يف‬ ‫وفقهائهــم مســؤولني عــن الحالــة العا َّمــة للنظــام االجتامعــي‬
‫حقيقتهــا‪ -‬أخالقيــة ألنهــا عكــس التبذيــر‪ ،‬فــإن تحديــد مــا‬ ‫الثقــايف والقانــوين‪ ،‬وأنهــم مشــاركون (ســواء بشــكل ب َّنــاء أو‬
‫هــو كــفء عمل ًّيــا غــر ممكــن باعتبــارات أخالقيــة بحتــة‪.‬‬ ‫غــر ب َّنــاء) يف الحــراك الدينــي(‪ .((8‬أمــا امليــل إىل «اإلفــراط‬
‫إن تحديــد ذلــك سيســتدعي األدوات العلامنيــة التــي ســلف‬ ‫يف توســيع مجــال الرشيعــة» وتجاهــل العلــاين اإلســامي‪،‬‬
‫ذكرهــا‪ ،‬كالتفكــر أو العلــوم الحســابية أو الخيــال الثقــايف أو‬ ‫فيحجــب هــذه الرؤيــة‪ .‬وبهــذا نصــل إىل التعامــل الثالــث‬
‫الخ ـرات القدميــة البســيطة‪.‬‬ ‫للمســلمني املعارصيــن مــع العلــاين‪ ،‬حيــث تتح َّمــل‬
‫وكثــ ًرا مــا تتضــح األهميــة الهامشــية لألخــاق يف‬ ‫الرشيعــة واملؤسســة الدينيــة املســؤولي َة الكاملــة عــن ِّ‬
‫أي‬
‫ملموســا‪ ،‬فقــد‬
‫ً‬ ‫مســاحة اإلنتــاج الثقــايف‪ .‬ولنأخــذ مثــالً‬ ‫تنافــر بــن القانــون الدينــي و« ُمثُــل» الديــن‪ ،‬ناهيــك عــن‬
‫كانــت حركــة أُ َّمــة اإلســام(‪- ((8‬بالرغــم مــن انحرافاتهــا‬ ‫«تطلعــات النــاس املرشوعــة»‪.‬‬
‫ـات ناجعــة للتحديــات‬ ‫العقديــة‪ -‬قــادر ًة عــى إبــداع مقاربـ ٍ‬ ‫وال أعنــي بذلــك أن العلــاين اإلســامي يُختــزل يف‬
‫الثقافيــة والوجوديــة واالجتامعيــة النفســية التــي تواجــه‬ ‫اإلنتــاج الثقــايف‪ .‬ولكــن أهميــة الثقافــة يف هــذا الســياق‪،‬‬
‫املســلمني‪ .‬لقــد م َّكــن ذلــك حركــة أُ َّمــة اإلســام مــن إنتــاج‬ ‫مثلهــا مثــل العــارة وعلــم نفــس الطفــل والعلــوم الحســابية‬
‫هويــة ثقافيــة «إســامية» يــر َّدد صداهــا فعل ًّيــا يف الســياق‬ ‫أو الهندســية يف سـ ٍ‬
‫ـياقات أخــرى (ســالفة الذكــر)‪ ،‬تفيــد بــأن‬
‫األمريــي‪ ،‬دون أن تعتمــد عــى املصنوعــات املاديــة الســائدة‬
‫يف العــامل اإلســامي (مثــل الثــوب والطاقيــة)‪ .‬ومــن الواضــح‬
‫أن غالــب هــذه اإلبداعــات يتحــدى التصنيــف «أخالقي‪/‬غــر‬ ‫‪(80) See P. L. Berger, The Sacred Canopy: Elements of a Sociological‬‬
‫‪Theory of Religion (New York: Anchor Books, 1967), 110-13.‬‬
‫أخالقــي»‪ .‬وحتــى اآلن كان نهجهــم أقــرب إىل النجــاح مــن‬ ‫يــرى بريغــر أن النجــاح الكبــر الــذي حقَّقتــه الربوتســتانتية الحديثــة املب ِّكــرة‬
‫أي عنــارص صوفيــة أو خارقــة الطبيعــة قــد أدى ‪-‬مــن‬ ‫يف تجريــد العــامل مــن ِّ‬
‫غــره يف إنتــاج تعبـرٍ ثقــايف محــي عــن «اإلســام» يف أمريــكا‪،‬‬ ‫بــن أمــور أخــرى‪ -‬إىل إضعــاف قــدرة الديــن عــى الحفــاظ عــى راهنيتــه يف‬
‫العــامل الحديــث‪ ،‬مــا أدى إىل ظهــور وانتشــار رؤيــة علامنيــة (أي غــر دينيــة)‬
‫ـوي بالــذات‪ ،‬وهويــة أخالقيــة‬ ‫متكَّنــوا بــه مــن تأمــن شــعو ٍر قـ ٍّ‬ ‫للعــامل‪ .‬وال أقــول إن ذلــك مــا حــدث يف العــامل اإلســامي (ووضــع املســلمني يف‬
‫مســتقلة‪ ،‬وهــي أمــور توافــق املقاصــد الرشعيــة واإلســامية‬ ‫الغــرب أمــر مختلــف)‪ ،‬بــل وجهــة نظــري ببســاطة هــي أن «إطــار املحايثــة»‬
‫الفكــري والثقــايف الــذي يوجــد فيــه الديــن يؤثــر يف استســاغته بشــكل عــام‬
‫الســنة يف أمريــكا هــذه الســيميائية‬ ‫بوضــوح‪ .‬ولــو اتَّبــع أهــل ُّ‬ ‫أســلوبًا للحيــاة‪.‬‬
‫الثقافيــة‪ ،‬ألعــاق ذلــك جهــود اإلســاموفوبيا الحاليــة يف‬ ‫(‪ ((8‬وهنــا أرى االرتبــاط الشــديد لــرأي إدوارد برنــاي (‪،)Edward Bernays‬‬
‫ال ســيام مــع معطيــات عاملنــا املعــارص املعــومل‪« :‬إن التالعــب الواعــي‬
‫ر مه ـ ٌّم يف املجتمــع‬‫والــذيك بالعــادات املنتظمــة للجامهــر وآرائهــم عن ـ ٌ‬
‫الدميقراطــي‪ .‬أولئــك الذيــن يتالعبــون بهــذه اآلليــة غــر املرئيــة للمجتمــع‬
‫(‪ ((8‬وهــذا يرتبــط ‪-‬فيــا أحســب‪ -‬باالتجــاه إىل مســاواة اإلســام باألخالقيــة‬ ‫يشـكّلون حكومــة غــر مرئيــة‪ ،‬وهــي القــوة الحاكمــة الحقيقيــة لبلدنــا‪ .‬إن‬
‫كأولويــة بالتــوازي مــع افــراض ألَّ قيــم أخــرى (كالنظــام‪ ،‬والخوصصــة‪،‬‬ ‫رجــالً مل نســمع بهــم يحكموننــا‪ ،‬ويقولبــون عقولنــا‪ ،‬ويش ـكّلون أذواقنــا‪،‬‬
‫واألمــان‪ ،‬والخرييــة) تنافــس األخالقيــة‪ .‬ويُنظــر إىل الرشيعــة يف هــذا الســياق‬ ‫ويعـدّون أفكارنــا‪ ،‬إىل حــد كبــر»‪ .‬انظــر كتابــه الــذي ظهــر للمــرة األوىل عام‬
‫عــى أنهــا مســار حــريك أخالقــي يتيــح لنــا مــع األخــاق ضبــط األشــياء‪ .‬ويف‬ ‫‪1928‬م‪ .Propaganda, New York: Ig Publishing, (2005), 37 :‬وقــد‬
‫الوقــت ِ‬
‫نفســه‪ ،‬يغفــل عــن أن األخالقــي مــا يـزال مقرتنًــا بافعــل وال تفعــل‪،‬‬ ‫يوفــر لنــا ذلــك كذلــك الســياق الــذي نق ـدّر فيــه النظــرة التــي عـ ّـر عنهــا‬
‫ومــن ث َـ َّم يســتغلق العــامل عليــه بعيـدًا عــن الخــر والــر‪.‬‬ ‫مؤخـ ًرا الشــيخ يوســف القرضــاوي مــن أن التأثــر الــذي يحتــاج إليــه اإلســام‬
‫ليــس الجهــاد العنيــف‪ ،‬أو التزا ًمــا أشــد جديــة بالعنــف املنظــم‪ ،‬وإمنــا‪:‬‬
‫(‪ ((8‬حركــة أمــة اإلســام (‪ ،)Nation of Islam‬أو البالليــون‪ ،‬هــي حركــة‬ ‫«جيــش ضخــم مــن الدعــاة واملعلمــن والصحفيــن املدربــن القادريــن عــى‬
‫تأسســت يف أمريــكا عــام ‪1930‬م عــى يــد واالس فــرد‬ ‫للمســلمني الســود َّ‬ ‫مخاطبــة الجامهــر بلغــة العــر وأدواتــه‪ ،‬مــن خــال الصــوت‪ ،‬والصــورة‪،‬‬
‫محمــد (‪ ،)Wallace Fard Muhammad‬ومــن أبــرز قادتهــا إليجــا محمــد‬ ‫والكلمــة‪ ،‬ولغــة الجســد‪ ،‬والكتــب‪ ،‬واملنشــورات‪ ،‬واملجــات‪ ،‬والحــوارات‪،‬‬
‫(‪ )Elijah Muhammad‬وابنــه وارث ديــن محمــد (‪Warith Deen‬‬ ‫والوثائــق‪ ،‬والدرامــا‪ ،‬والصــورة املتحركــة‪ ،‬وأي يشء ميكــن أن يربــط النــاس‬
‫‪ .)Mohammed‬وتجمــع أفكارهــا بــن اإلســام وأفــكار القوميــة الســوداء‪.‬‬ ‫باإلســام‪ .‬هــذا الجهــاد الســلمي الــروري الــذي مل نقــم فيــه بواحـ ٍـد مــن‬
‫وقــد تعرضــت للقمــع خــال الحــرب العامليــة الثانيــة‪ ،‬ونشــطت يف‬ ‫األلــف مــا هــو مطلــوب منــا»‪ .‬انظــر‪ :‬يوســف القرضــاوي‪ ،‬فقــه الجهــاد‪،‬‬
‫الخمســينيات والســتينيات بفضــل انخ ـراط مالكــوم إكــس (‪)Malcolm X‬‬ ‫مجلــدان (القاهــرة‪ :‬مكتبــة وهبــة‪1430 ،‬هـــ‪2009/‬م)‪ .403-402/1 ،‬وبالطبع‬
‫فيهــا‪ ،‬ثـ ّم طُـرِد منهــا وقُ ِتــل عــى أيــدي منتســبيها‪ .‬ويقودهــا حاليًّــا لويــس‬ ‫تنــدرج كل هــذه األنشــطة يف إطــار العلــاين اإلســامي؛ فليــس منهــا مســلك‬
‫فرخــان (‪[ .)Louis Farrakhan‬املرتجــم]‬ ‫رشعي‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪17‬‬
‫اإلسالم خارج الحكم الشرعي‬

‫إىل بصــرة شــهاب الديــن الق ـرايف يف تفرقتــه بــن الرشعــي‬ ‫تصويــر املســلمني يف أمريــكا عــى أنهــم أجانــب ميثلــون‬
‫وغــر الرشعــي‪ .‬فهــو يقـ ِّرر أن األداة الوحيــدة امللزمــة التــي‬ ‫خامســا‪.‬‬
‫ً‬ ‫طابــو ًرا‬
‫ال جــدال فيهــا يف اإلســام هــي الحكــم‪ ،‬لكــن الحكــم ينقســم‬ ‫العلامين اإلسالمي والسياسة الرشعية‬
‫يف الواقــع إىل‪:‬‬
‫رمبــا يــرى الكثــرون يف غالــب مــا ســلف إعــاد َة صياغــة‬
‫‪ -1‬حكــم رشعــي‪ ،‬ويســتند ســلطانه إىل اعتــاده عــى‬ ‫ملفهــوم السياســة الرشعيــة‪ .‬لكــن السياســة الرشعيــة ‪-‬كــا‬
‫النــص (وأدلــة قاعــة املحكمــة كذلــك يف حالــة التقــايض)‪.‬‬ ‫أراهــا‪ ،‬ال ســيام يف شــكلها الحديــث واملشــهور‪ -‬ليســت‬
‫‪ -2‬حكــم اجتهــادي‪ ،‬ويســتند ســلطانه إىل ســلطة الــوايل‬ ‫مقاربـ ًة مناســب ًة للعلــاين اإلســامي وال بديل ًة لهــا‪ .‬فالقرارات‬
‫(أو قُــل الدولــة) يف توخــي مصالــح املجتمــع الراجحــة‪ .‬ثــم‬ ‫والسياســات ‪-‬ال ســيام التقديريــة منهــا الصــادرة عــن الدولــة‪،‬‬
‫يفــ ّوض القــرايف ‪-‬الــذي مل يكــن شــعبويًّا (وال دميقراطيًّــا‬ ‫وفقًــا لهــذه الرؤيــة [الحديثــة] للسياســة الرشعيــة(‪-((8‬‬
‫بالطبــع)‪ -‬ســلطة مه َّمــة «لألُ َّمــة»‪ .‬فهــو يش ـ ِّدد عــى أن مــا‬ ‫ليــس مــن الــروري أن تتأســس مبــارش ًة عــى النصــوص‪،‬‬
‫ين ُفــذ مــن ترصفــات الــوالة والقضــاة ليــس مــا يصــدر منهــم‬ ‫بــل يكفــي أن تتوافــق معهــا(‪ .((8‬لكــن املشــكلة يف هــذه‬
‫ملج ـ َّرد صــدوره منهــم‪ ،‬وإمنــا مــا يجلــب مصلح ـ ًة أو يــدرأ‬ ‫أي تقييــم إىل الســؤال عــن «الجــواز»‬ ‫القاعــدة أنهــا تختــزل َّ‬
‫مفســد ًة(‪ .((8‬وهــو مــا مي ِّكــن املجتمــع مــن مســاءلة هــذه‬ ‫أو «اإلباحــة»‪ ،‬وتغفــل الســؤال الكيفــي عــا هــو أفضــل‬
‫الترصفــات أو رفضهــا إذا رأى فيهــا تعارضً ــا مــع مــا هــو‬ ‫وأنســب يف الواقــع‪ .‬فتب ًعــا لهــا ميكــن أن ميــرر نظريًّــا الحــد‬
‫أفضــل للمصلحــة العا َّمــة(‪.((8‬‬ ‫ميل‪/‬الســاعة عــى الطــرق الرسيعــة‪ ،‬أو‬ ‫األقــى للرسعــة ‪ً 30‬‬
‫‪ 39‬عا ًمــا سـ ًّنا للقيــادة القانونيــة‪ .‬وكذلــك ميكــن للسياســيني‬
‫واعــرف الق ـرايف بنــو ٍع مــن «الق ـرارات الرســمية» غــر‬
‫ـات حكوميــة أو اقتصاديــة كارثيــة‬ ‫أو املســؤولني وضــع سياسـ ٍ‬
‫الحكــم‪َ ،‬وضَ عــه تحــت تصنيــف «التــرف»‪ .‬والفــرق بــن‬
‫دون أن يكــون ذلــك كلــه محـ َّـل جــدل مــن منظــور السياســة‬
‫التــرف والحكــم أن األخــر يُفــرض أنــه ُمل ـزِم وغــر قابــل‬
‫الرشعيــة الحديــث‪ .‬لكنــي أرى ‪-‬عــى النقيــض مــن ذلــك‪-‬‬
‫للجــدل‪ ،‬بينــا األول ُمل ـزِم إىل ح ـ ٍن وقابــل للجــدل‪ .‬ففــي‬
‫أن املشــاركة الناجحــة يف العلــاين اإلســامي ال تتوقــف‬
‫حالــة اإلفــاس ‪-‬عــى ســبيل املثــال‪ -‬يحـ ُّـق للقــايض أن يبيــع‬
‫عنــد مســاحة كافيــة مــن االجتهــاد والنقــاش العقــاين غــر‬
‫حكــا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ممتلــكات املفلــس‪ ،‬ويُ َعــ ُّد هــذا البيــع ترصفًــا ال‬
‫الرشعــي‪ ،‬بــل كذلــك حــق املجتمعــات املــروع يف الضغــط‬
‫وبعبــارة أخــرى‪ ،‬بينــا يُتصــور أن هــذا التــرف صحيــح‬
‫ات وسياسـ ٍ‬
‫ـات صالحــة نوع ًّيــا وعمل ًّيــا‪.‬‬ ‫مــن أجــل ق ـرار ٍ‬
‫و ُمل ـزِم‪ ،‬فهــو يســوي الن ـزاع يف قضيــة بعينهــا‪ ،‬فإنــه ميكــن‬
‫الطعــن فيــه وإلغــاؤه‪ ،‬وهــذا مــا ال يحــدث مــع الحكــم‪.‬‬ ‫وبــدل مقاربــة السياســة الرشعيــة الحديثــة‪ ،‬ســأحيل‬
‫وهــذا يعنــي أن للمديــن أن يعــرض بصــورة مرشوعــة‬
‫ـاض آخــر (أو‬ ‫عــى بيــع ممتلكاتــه بثمــن بخــس‪ .‬وميكــن لقـ ٍ‬
‫(‪ ((8‬أدرك أن إشــاريت هنــا إىل املقاربــة الحديثــة للسياســة الرشعيــة مفرطــة‬
‫مســؤول آخــر) عنــد تلقــي الشــكوى أن يلغــي هــذا البيــع‬ ‫يف التبســيط‪ ،‬لكــن التبايــن الــذي يــدور يف ذهنــي ميكــن أن يتضــح مــع‬
‫إلغــا ًء رشع ًّيــا ويطالــب بثمــن معقــول‪.‬‬ ‫املقارنــة بــن املفهو َمـ ْـن الحديــث والقديــم‪ .‬يــورد محمــد جميــل غــازي يف‬
‫مقدمتــه لكتــاب ابــن قيــم الجوزيــة الطــرق الحكميــة يف معرفــة السياســة‬
‫الرشعيــة تعريـ َـف السياســة عنــد ابــن عقيــل الحنبــي (ت‪513 .‬هـــ‪1119/‬م)‬
‫جنبًــا إىل جنــب مــع تعريــف عبــد الوهــاب خــاف املعــارص‪ .‬فيقــول ابــن‬
‫عقيــل‪« :‬السياســة مــا كان فعـ ًـا يكــون النــاس بــه أقــرب إىل الصــاح وأبعــد‬
‫(‪ ((8‬انظــر عــى ســبيل املثــال‪ :‬القــرايف‪ ،‬الفــروق‪ 4 ،‬مجلــدات (بــروت‪ :‬عــامل‬ ‫عــن الفســاد‪ ،‬وإن مل يضعــه النبــي وال نــزل بــه وحــي»‪ .‬أمــا تعريــف عبــد‬
‫الكتــاب‪ ،‬بــدون تاريــخ)‪ .39/4 ،‬حيــث يناقــش مــا ينفــذ مــن هــذه‬ ‫الوهــاب خــاف فهــو‪« :‬السياســة الرشعيــة هــي تدبــر الشــؤون العامــة‬
‫الترصفــات ومــا ال ينفــذ‪.‬‬ ‫للدولــة اإلســامية مبــا يكفــل تحقيــق املصالــح ودفــع املضــار مــا ال يتعــدى‬
‫حــدود الرشيعــة وأصولهــا الكليــة وإن مل يتفــق وأقــوال األمئــة املجتهديــن»‪.‬‬
‫(‪ ((8‬انظــر عــى ســبيل املثــال‪ :‬القـرايف‪ ،‬اإلحــكام يف متييــز الفتــاوى عــن األحــكام‬ ‫انظــر‪ :‬ابــن قيــم الجوزيــة‪ ،‬الطــرق الحكميــة يف معرفــة السياســة الرشعيــة‪،‬‬
‫وترصفــات القــايض واإلمــام‪ ،‬تحقيــق‪ :‬عبــد الفتــاح أبــو غــدة (حلــب‪:‬‬ ‫تحقيــق‪ :‬محمــد جميــل غــازي (القاهــرة‪ :‬مكتبــة املــدين‪ ،‬بــدون تاريــخ) ص‪،‬‬
‫مكتبــة املطبوعــات اإلســامية‪1387 ،‬هـــ‪1967/‬م)‪ ،‬ص‪ .183‬إذ يــورد حــاالت‪،‬‬ ‫غ‪ .‬وقــد أورد عبــد الوهــاب خــاف التعري َفـ ْـن كذلــك يف كتابــه السياســة‬
‫مثــل إعــان الحاكــم للجهــاد‪ ،‬حيــث ميكــن للمجتمــع أن يتجاهــل ترصفاتــه‬ ‫أي توتــر بينهــا‪.‬‬
‫الرشعيــة (ص‪ ،)17-15‬وعــى مــا يبــدو دون أن يــرى َّ‬
‫إذا رأى أنهــا تفتقــد املضمــون أو الرشعيــة‪.‬‬ ‫وباملناســبة‪ ،‬ميكننــا أن نالحــظ يف تعريــف ابــن عقيــل انطــواءه عــى اعـراف‬
‫[يقــول الق ـرايف‪« :‬النــوع الســادس‪ :‬مــن ترصفــات الحــكام‪ ،‬الفتــاوى‬ ‫بحــدود للرشيعــة‪ ،‬وبعدهــا ينبغــي أن يُعتمــد عــى األفعــال االجتهاديــة‬
‫يف األحــكام يف العبــادات وغريهــا‪ ،‬مــن تحريــم األبضــاع‪ ،‬وإباحــة‬ ‫ـص‪.‬‬
‫فيــا مل يــرد فيــه نـ ٌّ‬
‫االنتفــاع‪ ،‬وطهــارات امليــاه‪ ،‬ونجاســات األعيــان‪ ،‬ووجــوب‌الجهــاد‪،‬‬
‫وغــره مــن الواجبــات‪ ،‬وليــس ذلــك بحكــم‪ ،‬بــل ملــن ال يعتقــد‬ ‫(‪ ((8‬انظر عىل سبيل املثال‪:‬‬
‫ذلــك أن يفتــي بخــاف مــا أفتــى بــه الحاكــم أو اإلمــام األعظــم»‪.‬‬ ‫‪F. Vogel, Islamic Law and Legal System (Leiden: E. J. Brill, 2000), 173-4.‬‬
‫‪ -‬املرتجــم]‪.‬‬ ‫وهو يناقش جوانب هذه املقاربة يف حالة اململكة العربية السعودية‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫أذكــر‪ .‬األوىل‪ :‬عــن طريــق تعزيــز االعـراف الواســع برشعيــة‬ ‫ميكــن للعلــاين اإلســامي ‪-‬باعتبــاره غــر رشعــي‪ -‬أن‬
‫العلــاين اإلســامي‪ ،‬لــن يكــون اتهــام املســؤولني يف كل مــرة‬ ‫يكــون موضــوع الحكــم االجتهــادي يف حالــة واحــدة‪ ،‬عندمــا‬
‫يقرتحــون أو يطبقــون قــرارات أو سياســات ال تســتند إىل‬ ‫يخــدم األخــر برصاحــة وحســم مــا س ـاَّ ه الق ـرايف املصلحــة‬
‫أحــكام رشعيــة بحتــة بانتهــاك اإلســام ذا معنــى‪ .‬الثانيــة‪:‬‬ ‫الراجحــة أو الخالصــة‪ .‬غــر أنــه مــن الصعــب التســليم مبــا‬
‫متكــن املجتمــع مــن فــرض قــد ٍر مــن املســاءلة عــى قادتــه‬ ‫ـات يف مســاحة العلامين‬ ‫ات أو سياسـ ٍ‬‫تتخــذه الدولــة مــن قـرار ٍ‬
‫مــن خــال الحــق املــروع يف مراقبــة جــودة قراراتهــم‬ ‫اإلســامي بنــا ًء عــى أوصــاف غــر حاســمة وال مضبوطــة‪،‬‬
‫االجتهاديــة‪ .‬وأخــرًا‪ :‬إدمــاج الســلطة يف واقــع العلــاين‬ ‫مثــل‪ :‬آمــن وف َّعــال ومثمــر ومتنــور ثقاف ًّيــا… إلــخ‪ .‬بعبــارة‬
‫اإلســامي‪ ،‬باالمتنــاع عــن منــح ســلطة تلقائيــة وحصانــة‬ ‫أخــرى‪ ،‬ليــس العلــاين اإلســامي بشــكل عــام مجـ َ‬
‫ـال الحكــم‪،‬‬
‫للقــرارات والسياســات التــي تقــع داخــل نطاقهــا؛ ألنهــا‬ ‫وإمنــا مجــال التــرف‪ ،‬حيــث ميكــن الطعــن فيــه وإلغــاؤه‬
‫ليســت أحكا ًمــا تســتند إىل الرشيعــة‪.‬‬ ‫بشــكل رشعــي‪ ،‬ســواء يف املجــال الخــاص (كحالــة اإلفــاس)‬
‫أفكار ختامية‬ ‫أو املجــال العــام (كالسياســات العامــة)‪.‬‬
‫بالرغــم مــن توخّــي الحيطــة والحــذر‪ ،‬ســيظل هــذا‬ ‫وفيــا يخــص هــذا األخــر‪ ،‬أي املجــال العــام‪ ،‬فــإن‬
‫للشــك يف أن مــؤدى مفهــوم «العلــاين‬ ‫ِّ‬ ‫التعبــر مثــ ًرا‬ ‫الحــق يف االلتــاس واالعـراض يعــود إىل املجتمــع ككل‪ ،‬مبــا‬
‫اإلســامي» هــو وضــع املســلمني عــى منحــدر االنــزالق‬ ‫تراكــم لديــه مــن حكمــة وبصــرة وخــرة‪ ،‬وميكــن للخـراء أن‬
‫إىل العلمنــة باملعنــى الغــريب والحديــث للكلمــة‪ .‬وشــيئًا‬ ‫يــؤدوا دور املراقبــن والضامنــن يف هــذه العمليــة‪ .‬وبعبــارة‬
‫فشــيئًا‪ ،‬وتحــت وطــأة الثقافــة واملعرفــة الغربيــة املهيمنــة‪،‬‬ ‫أخــرى‪ ،‬ســ ُيعد قــرار الدولــة يف واقــع العلــاين اإلســامي‬
‫ســتحثّ بنيــة العلــاين اإلســامي املســلمني عــى تأويــل أكــر‬ ‫صال ًحــا و ُمل ِز ًمــا مــا مل يُــر اعرتاضً ــا واض ًحــا مــن املجتمــع‪ .‬أمــا‬
‫قــد ٍر مســتطاع مــن ســلطة الرشيعــة؛ لتربيــر توســعة مجــا ٍل‬ ‫إذا فشــل يف التوافــق مــع معايــره‪ ،‬فللمجتمــع أن يســعى‬
‫يرشعــن االعتــاد عــى األدوات العلامنيــة مــن قبيــل‪ :‬العقــل‪،‬‬ ‫يف تقوميــه دون أن يُتَّهــم بــازدراء الســلطة الرشعيــة‪ .‬أمــا‬
‫والعلــم‪ ،‬والــرأي العــام‪ ،‬والعــرف‪ ،‬والخــرة‪ ،‬واملخيــال الثقــايف‪،‬‬ ‫اآلليــات الدقيقــة التــي يجــري مــن خاللهــا التفــاوض عــى‬
‫ومــا شــابه‪.‬‬ ‫هــذا كلــه وموازنتــه‪ ،‬فهــي بطبيعــة الحــال أســئلة تقنيــة ال‬
‫يتســع لهــا املقــام هنــا‪ ،‬ولكــن ميكــن اإلشــارة إىل نقطتَـ ْـن‪.‬‬
‫حقيقــي‪ ،‬عــى أن مــا يؤكِّــد صوابيــة‬‫ٌّ‬ ‫وإنــه لتحــ ٍّد‬
‫مســعاي هــو تذكُّــر حقيقــة أن تجاهــل العلــاين اإلســامي‬ ‫أول‪ :‬أيًّــا مــا كانــت اآلليــات التــي يُتوصــل إليهــا‬ ‫ً‬
‫قــد أدى إىل إثقــال الرشيعــة وتحميلهــا مســؤولية معالجــة‬ ‫للتفــاوض عــى اســتخدام ســلطة الدولــة يف الواقــع غــر‬
‫كافــة املســائل املختلفــة معالجــ ًة عمليــةً‪ .‬وعنــد الفشــل‬ ‫الرشعــي للعلــاين اإلســامي‪ ،‬فإنهــا ســتتولد غالبًــا مــن‬
‫(الحتمــي) لهــذه املعالجــة (فعــى ســبيل املثــال‪ :‬كيــف‬ ‫تخصصــات‪ ،‬وأجهــزة‪،‬‬ ‫مــداوالت هــي نفســها ترتكــز عــى ُّ‬
‫ميكــن للرشيعــة أو كيــف ميكــن للفقهــاء أن يعلمــوا مــا‬ ‫ورؤى‪ ،‬وخـرات غــر رشعيــة‪ .‬مــا يعنــي أن كثـ ًرا مــا يــدور‬
‫يجعــل الزوجــة تشــعر بالحــب والحنــان‪ ،‬أو كيــف ميكــن‬ ‫يف هــذه املــداوالت ســيتجاوز أســئلة الجــواز وعــدم الجــواز‪،‬‬
‫تعظيــم الــروة الشــخصية أو الجامعيــة؟)‪ ،‬ســيؤدي اإلحبــاط‬ ‫ويتوقــف عــى اعتبــارات تجريبيــة (مثــل‪ :‬الكفــاءة‪ ،‬والنظــام‪،‬‬
‫الــذي يتبعــه إىل زيــادة جاذبيــة العلامنيــة باملفهــوم الغــريب‬ ‫والعدالــة‪ ،‬والخصوصيــة‪ ،‬ومــا إىل ذلــك)‪ ،‬وكيفيــة متثيلهــا يف‬
‫والحديــث ليــس إلَّ ‪ .‬وباختصــار‪ :‬بالرغــم مــن جســامة‬ ‫رشوط واضحــة‪ ،‬بــدل االكتفــاء باإلقـرار بهــا نظريًّــا باعتبارهــا‬
‫االســتحقاقات املرتتِّبــة عــى هــذا الخيــار‪ ،‬فإننــا أمــام خياريــن‬ ‫مصالــح راجحــة‪ .‬وعــى هــذا األســاس‪ ،‬لــن يســيطر الفقهــاء‬
‫ال ثالــث لهــا‪ :‬إمــا العلــاين اإلســامي وإمــا العلامنيــة‬ ‫تخصصــات‬‫عــى هــذه املــداوالت‪ ،‬وإمنــا ســتناط بخـراء مــن ُّ‬
‫الغربيــة‪.‬‬ ‫وحقــول أخــرى غــر الحقــل الرشعــي‪ .‬ويف الواقــع‪ ،‬ينبغــي‬
‫إلَّ أننــا ســنظل مقرصيــن إذا تجاهلنــا كلــات‬ ‫االحـراز مــن أن تتحـ َّول ســلطة الفقهــاء الرشعيــة إىل ســلطة‬
‫مونتســكيو (‪ )Montesquieu‬األريبــة‪« :‬ومــن أضمــن‬ ‫كُليَّــة متكِّنهــم‪ ،‬بوصفهــم فقهــاء‪ ،‬مــن التحــ ُّدث بشــكل‬
‫الوســائل أن يها َجــم الديــن بال ُّزلفــى ورغــد العيــش وأمــل‬ ‫ـي يف املجــال غــر الرشعــي للعلــاين اإلســامي‪.‬‬ ‫مرجعـ ّ‬
‫الغنــى‪ ،‬وأال يها َجــم مبــا يُنــذر‪ ،‬بــل مبــا يُنــى بــه‪ ،‬وأال يها َجــم‬ ‫ثان ًيــا‪ :‬للتفريــق بــن الرشعــي وغــر الرشعــي (أي بــن‬
‫مبــا يغيــظ‪ ،‬بــل مبــا يقـ ِـذف يف الفتــور‪ ،‬وذلــك حينــا تؤثــر‬ ‫الحكــم والتــرف) ثــاثُ منافــع يف التأســيس النظــري‪ ،‬مل‬
‫األهــواء األخــرى يف نفوســنا وحينــا يصمــت مــا يوحــي بــه‬ ‫تــرد رصاحـ ًة يف مقاربــة السياســة الرشعيــة الحديثــة‪ ،‬حســبام‬

‫‪19‬‬
‫اإلسالم خارج الحكم الشرعي‬

‫ومــن جهــة أخــرى‪ ،‬فــإن املزيــد مــن االنتبــاه الواعــي‬ ‫الديــن مــن األهــواء»(‪ .((8‬أي إن إفســاح مجــا ٍل أكــر للعلــاين‬
‫إىل العلــاين اإلســامي قــد يدلنــا عــى أن كث ـ ًرا مــا يُ َع ـ ُّد‬ ‫اإلســامي ‪-‬غــر الرشعــي‪ -‬يُســ ِكت الرشيعــة ويج ّمدهــا‬
‫«إســام ًّيا» هــو يف الحقيقــة ليــس تفســ ًرا للنــص‪ ،‬وال‬ ‫(ورمبــا هــذا مــا يطالــب بــه خصومهــا)‪ ،‬وســيؤدي ذلــك ال‬
‫اســتنا ًدا إىل تقري ـرات املذاهــب‪ ،‬وإمنــا اســتعامل فقهــاء مــا‬ ‫محالــة إىل املزيــد مــن الالمبــاالة تجــاه مــا يُعــد دي ًنــا صامتًــا‪.‬‬
‫قبــل الحداثــة (وغريهــم) لعقولهــم وتصوراتهــم ومعارفهــم‬ ‫شــك أن أكــر تهديــد للديــن ليــس االضطهــاد‪ ،‬وإمنــا‬ ‫وال َّ‬
‫الثقافيــة‪ ،‬وغريهــا مــن ال َملَـكَات يف طريقهــم إىل اجتهاداتهــم‬
‫الالمبــاالة املتولــدة مــن عــدم راهنيتــه‪.‬‬
‫وغريهــا مــن االســتخالصات غــر الرشعيــة املناســبة لســياقهم‬
‫الخــاص‪ .‬وبــإدراك ذلــك ميكــن للمســلمني املعارصيــن التحـ ُّرر‬ ‫إلَّ أن مثــة اعتباريــن أمت َّنــى أن يؤخــذا عــى محمــل‬
‫مــا ســبق عليــه الزمــن مــن األع ـراف‪ ،‬واألمنــاط الســائدة‪،‬‬ ‫الجــد يف مواجهــة هــذا التحــدي‪ .‬األول‪ :‬أن دعــاة االجتهــاد ال‬
‫والتفضيــات‪ ،‬والــرؤى‪ ،‬والتحيــزات‪ ،‬واالفرتاضــات ومــا‬ ‫يتوانــون عــن اإلشــارة إىل مضــار التقليــد(‪ .((8‬ويُفــرض بالطبع‬
‫شــابه‪ ،‬مــا قــد ميثّــل ســلط ًة عليهــم‪ .‬فــإذا مل يعتمــد هــؤالء‬ ‫أن التقليــد ال يتض َّمــن قــراءة املصــادر‪ ،‬وإمنــا تقريــرات‬
‫الســابقون بشــكل جوهــري عــى النــص مبــارشة وال ســلطان‬ ‫املذهــب التــي بدورهــا يُفــرض أنهــا قــرأت املصــادر ق ـراء ًة‬
‫الرشعــي‪ ،‬فــإن أقــى مــا ميكــن أن يصلــوا إليــه لــن يعــدو‬ ‫صحيح ـةً‪ .‬وهــو مــا مينــح هــذه الق ـراءات الثابتــة رشعي ـ ًة ال‬
‫خيــارات اجتهاديــة عمليــة‪ ،‬حتــى فقهــاء مــا قبــل الحداثــة‬ ‫تتزحــزح‪ .‬ويتوجــه الجــزء األكــر مــن االهتــام إىل «التقليــد‬
‫يع ّدونهــا مفتوح ـ ًة للنقــد واملراجعــة املســتمرة‪.‬‬
‫الفقهــي»‪ ،‬لكــن تأثــر هــذه الظاهــرة ومنطقهــا ميتــ ُّد إىل‬
‫ومــن ث َــ َّم فإنــه ميكننــا ‪-‬بإدراكنــا للعلــاين اإلســامي‬ ‫املجــال الســيايس واالقتصــادي واالجتامعــي الثقــايف‪ .‬فكــا‬
‫واملشــاركة فيــه‪ -‬تحريــ ُر قــوى العقــل والثقافــة واملخيــال‬ ‫يعــاين املســلمون املعــارصون مــن قيــود االســتنتاجات‬
‫عنــد املســلمني املعارصيــن ‪-‬يف جميــع املجــاالت‬
‫الفقهيــة وشــبه الفقهيــة مــا قبــل الحديثــة‪ ،‬التــي كانــت‬
‫والتخصصــات‪ -‬مــن القيــود غــر املــررة للفهــم املفــرط يف‬ ‫ُّ‬
‫بالــرورة ُمرشبـ ًة بالحقائــق واالفرتاضــات واملشــاعر مــا قبــل‬
‫الشــمولية للرشيعــة والتاريــخ اإلســامي‪ .‬وبذلــك قــد نق ّربهم‬
‫مــن اجتنــاب العلمنــة‪ ،‬عــن طريــق إعفــاء الرشيعــة مــن‬ ‫الحديثــة‪ ،‬فإنهــم رمبــا يعانــون أكــر مــن ســلطة معايــر مــا‬
‫ـأت الرشيعــة‬‫املســؤولية عــن املعالجــة القــارصة لقضايــا مل تـ ِ‬ ‫قبــل الحداثــة االجتامعيــة والثقافيــة والسياســية ونفوذهــا‪،‬‬
‫ملعالجتهــا مــن األســاس‪ ،‬وفتــح الطريــق أمــام املســلمني‬ ‫ـض مــع‬ ‫ـاط غامـ ٍ‬‫التــي تســتم ُّد مكانتهــا املفرتضــة مــن ارتبـ ٍ‬
‫املعارصيــن ‪-‬مبــا فيهــم َمـ ْن هــم خــارج دائــرة علــاء الديــن‬ ‫النصــوص التــي يُفــرض (أو يُزعــم) أنهــا أســاس ســلطتها‪.‬‬
‫أو رمبــا هــم عــى وجــه الخصــوص‪ -‬إىل اســتنفار مواهبهــم‬ ‫ومــن هــذا املنطلــق‪ ،‬فــإن التغلُّــب عــى تأثــر «التقليــد‬
‫رضب مــن الســلطة املعرفيــة والثقافيــة‪ ،‬ميكنهــم‬ ‫الســتعادة ٍ‬ ‫العلــاين» [ملــا قبــل الحداثــة] أصعــب مــن التغلُّــب عــى‬
‫مــن خاللهــا إعــادة تأســيس بنيــة مناســبة وكفــؤة عمليًّــا‬ ‫التقليــد الفقهــي‪ ،‬فهــو أقــل وضو ًحــا‪ ،‬ومــن ث َـ َّم أقــل قابليـ ًة‬
‫لإلســام يف العــامل الحديــث‪.‬‬ ‫للتحليــل النقــدي(‪.((9‬‬
‫ثان ًيــا وأخ ـ ًرا‪ ،‬فكــا كــررت م ـرا ًرا طيلــة هــذا املقــال‪،‬‬
‫َــن‪ ،‬حيــث ينطــوي‬ ‫فــإن الرشعــي والدينــي ليســا مرتادف ْ‬
‫الرشعــي لزا ًمــا عــى الدينــي‪ ،‬ولكــن الدينــي ليــس حكــ ًرا‬ ‫(‪ ((8‬مقت َبس يف‪:‬‬
‫‪J. J. Owen, “Church and State in Stanley Fish’s Antiliberalism,” Ameri-‬‬
‫عــى الرشعــي بالــرورة‪ .‬وهكــذا‪ ،‬فــإذا نتــج عــن مشــاركتنا‬ ‫‪can Political Science Review 93, no. 4 (1999): 922.‬‬
‫[الرتجمــة العربيــة‪ :‬مونتســكيو‪ ،‬روح الرشائــع‪ ،‬ترجمــة‪ :‬عــادل زعيــر‬
‫يف العلــاين اإلســامي راحــة وأمــل ورغــد عيــش‪ ،‬دون أن‬ ‫(القاهــرة‪ :‬مؤسســة هنــداوي للتعليــم والثقافــة‪2013 ،‬م)‪ ،‬ص‪.]816‬‬
‫نعتمــد يف ذلــك عــى «الرشعــي» باملعنــى الضيــق‪ ،‬فــإن ذلــك‬
‫‪(89) Ramadan, Radical Reform, 22.‬‬
‫ال يعنــي ‪-‬بخــاف مونتســكيو‪ -‬الالمبــاالة باإلســام بوصفــه‬
‫دي ًنــا‪ .‬ويف النهايــة‪ ،‬بــن سياســة اقتصاديــة معقولــة وأخــرى‪،‬‬ ‫كل اســتنتاج علــاين توصــل إليــه املســلمون‬ ‫(‪ ((9‬هــذا ال يعنــي أن َّ‬
‫قبــل الحداثــة خاطــئ وغــر رشعــي وال مؤمتــن‪ .‬بــل األمــر ببســاطة‬
‫وبرنامــج لعــاج اإلدمــان وآخــر‪ ،‬وحــد أقــى للرسعــة وآخــر‪،‬‬ ‫ألي مجتمــع أن يســتند بالكليــة إىل القانــون مبعنــى‬ ‫أنــه ال ميكــن ِّ‬
‫الكلمــة‪ ،‬وال حتــى بالنســبة إىل مؤسســاته القانونيــة‪ .‬إذ ســيكون عــى‬
‫مثــة يشء غــر العقــل سريشــدنا إىل الق ـرار النهــايئ‪.‬‬ ‫املجتمــع االعتــاد عــى مختلــف املعايــر واالفرتاضــات غــر النص َّيــة‪.‬‬
‫ومــا هــو خــارج النــص ليــس بالــرورة خطــأ أو غــر رشعــي‪ .‬بــل إن‬
‫وســيظل اإلســام يف هــذا الســياق (أي اإلســام بوصفــه‬ ‫القــرآن أرشــد النبــي والصحابــة إىل االعتــاد عــى أشــكال املعــروف‬
‫دي ًنــا ومنب ًعــا للهدايــة والبصــرة والفضيلــة والرشــاد يتجــاوز‬ ‫املوجــودة يف الجزيــرة العربيــة مــن قبــل اإلســام‪ .‬وتــأيت املشــكلة‬
‫بالطبــع عندمــا تتوســل هــذه األعــراف بســلطة أكــر وأدوم مــا‬
‫يجــب أن تكــون عليــه ســلطتها‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫العقــل) وثيـ َـق الصلــة باملجــال العلــاين اإلســامي‪ .‬وبعبــارة‬
‫أخــرى‪ ،‬فــإن يف أذن العلــاين اإلســامي َوقْــ ًرا مــن مقولــة‬
‫غروشــيوس «كــا لــو أن اإللــه غــر موجــود»‪ .‬وهــذا هــو‬
‫الفــارق الجوهــري األهــم بينــه وبــن العلــاين الغــريب‪ .‬وهــذا‬
‫يُلــزم املســلم ‪-‬حتــى يف أشــد مســاعيه علامني ـةً‪ -‬أن يكــون‬
‫ٍ‬
‫ارتبــاط وجــدا ٍّين دائــمٍ باإلســام بوصفــه دي ًنــا‪ .‬ويف‬ ‫عــى‬
‫النهايــة‪ ،‬وكــا أرشت إىل ذلــك يف موضـعٍ آخــر‪ ،‬قــد ال يفتــح‬
‫القــول بــأن الرشيعــة نطــاق محــدود الطريـ َـق إىل العلمنــة‬
‫نفســه الــذي يفتحــه الشــعور أو االعتقــاد‬ ‫الغربيــة بالقــدر ِ‬
‫الســائد بــن املســلمني بــأن االعتــاد عــى االشــتباك الفكــري‬
‫الخالــص مــع «اإلســام» أو الرشيعــة أو العلــاين اإلســامي‬
‫يكفــي وحــده ‪-‬دون طلــب الهدايــة واإلرشــاد مــن اللــه‪-‬‬
‫إلتقــان فــن الحيــاة(((‪.‬‬

‫((( انظر عىل سبيل املثال عميل‪:‬‬


‫‪“Islamic Law, Muslims and American Politics,” Islamic Law and Society‬‬
‫‪22 (2015): 289.‬‬
‫[يقــول جاكســون يف مقالــه «الرشيعــة واملســلمون والسياســة األمريكيــة»‪،‬‬
‫إنــه لــو كانــت الرشيعــة نظا ًّمــا شــموليًّا فلــن تكــون هنــاك جــدوى مــن‬
‫طلــب الهدايــة مــن اللــه‪ ،‬اللهــم إال يف بدايــة األمــر؛ إذ ســتهمش هــذه النظــرة‬
‫الشــمولية العالقــة الديناميكيــة الوجدانيــة بــن العبــد وربــه‪ ،‬وهــو مــا يعنــي‬
‫أي محاولــة لوضــع حــدود للرشيعــة‪.‬‬ ‫علمنــة لإلســام والرشيعــة أكــر مــن ِّ‬
‫‪ -‬املرتجــم]‪.‬‬

‫‪21‬‬

You might also like