Professional Documents
Culture Documents
*
اإلسالم خارج الحكم الشرعي
(العلمــاني اإلســالمي)
شيرمان جاكسون ،ترجمة :عمر عبد الرازق شاهين
2
التــي تســعى إىل معالجــة مــأزق املســلمني يف العــامل ـاص مــع
جاكســون يف هــذه الورقــة) ،وهــذا االســتثامر لــه تنـ ٌّ
الحديــث ،ســواء بتوســيع مفهــوم الرشيعــة أو بالتأكيــد عــى كتابــات تشــارلز تايلــور وعملــه عــر علــاين ،وطــال أســد
مفهــوم االجتهــاد وتوســيعه ،والتــي يحاورهــا يف أكــر مــن وكتابــه تشـكُّالت العلــاين يف املســيحية والحداثــة واإلســام،
مناســبة .ومــن املزالــق التــي يحـذّر منهــا جاكســون تحميــل وخوســيه كازانوفــا وورقتــه املعن َونــة «العلــاين والعلامنيات»
ـأت خطــاب الشــارع ملخاطبتهــا اإلســام مســؤولية أمــور مل يـ ِ وكتابــه األديــان العامــة يف العــر الحديــث((( ،التــي أُحيــل
مبــارشة ،وأن يُدخــل يف أفــق التقاليــد اإلســامية والفقهيــة مــا إليهــا يف الورقــة وتوفــر ســياقًا مناس ـبًا لتأطريهــا.
ليــس منهــا مــن تقاليــد كانــت مجـ َّرد اجتهــادات «علامنيــة» ويف طــ ْرح جاكســون يف هــذه الورقــة تحــ ٍّد لتعميــم
تاريخيــة للعلــاء يف مواجهــة مســتجدات عرصهــم. التجربــة األوروبيــة عــى غــر األورويب التــي باتــت تحــ ِّدد
لــن تكــون لهــذه الورقــة أهميــة إلَّ بقــدر مــا تتجــاوز مــا هــو دينــي ومــا هــو علــاين ومــا بينهــا ،فلِ ـ َم يبقــى
قراءتهــا التحي ـزات والتصنيفــات املســبقة ،فــا ب ـ َّد أن ت ُثــر ـلم كان أو غــر مســلم -يف موقــع املشــتغل باإلســاميات -مسـ ً
ج ـ َّد ُة طرحهــا مواط ـ َن خــاف ،ســواء يف فكرتهــا الكليــة أو املتحـ ِّـر الــذي ال يقــدر عــى الحــوار يف حــدود الترشيــع يف
بنيانهــا التفصيــي ،لكــن رهــاين أن األســئلة التــي تثريهــا حضــارة اإلســام؟ أو املتطــرف الــذي يــرى الــر َع ُملِـ ًّـا بــكل
ســتكون مختلفــة عـاَّ اعتدنــاه ،لتســتكمل مــا بــدأه آخــرون املوضوعــات ،مــع أن هــذا خطــأ واضــح(((؟ واإلســام الــذي
يف ضــ ِّخ دمــاء جديــدة يف مقاربــة هــذه املوضوعــات يعنيــه جاكســون يف كلمــة «العلــاين اإلســامي» هــو مجــال
اإلشــكالية ورؤيتهــا ومناقشــتها. رضا يفالعمــل خــارج حــدود الرشيعــة الــذي يظــل مســتح ً
أمــا الرتجمــة فقــد ســعيت إىل أن تكــون ســهلة و ُمعينــة فكــره وتصوراتــه وســلوكياته نظــرة اللــه املرا ِقبــة لــه(((.
للقــارئ يف قراءتــه ومناقشــته ألفــكار الورقــة ،وحرصــت عــى هــذه النظــرة اإللهيــة الشــاملة تجعــل مــن العســر
العــودة يف االقتباســات إىل املصــادر األصليــة ،وإىل ترجامتهــا واملســتحيل تصــ ُّو َر حيــا ٍة تُعــاش «كــا لــو أن اإللــه غــر
العربيــة حــال توفرهــا ،وهــي التــي أثبتهــا ،أمــا يف النصــوص موجــود»؛ ولذلــك فــإن جاكســون يحــاول يف البدايــة متييــز
الرتاثيــة فقــد عــدت إىل مواضــع اإلحالــة وأضفــت يف الهامش العلــاين يف اإلســام عــن التجربــة الغربيــة ،ثــم يحــاول متييــز
مــا اســتلزمه الســياق. ــن :دائــرة «الرشعــي» ودائــرة «الدينــي»، َــن مختلفتَ ْ
دائرت ْ
وأخـ ًرا ،أشــكر الصدي َقـ ْـن عمــر عبــد الغفــار وعمــر عبــد فليــس كل دينــي رشع ًّيــا (مبعنــى الخطاب الرشعــي الرصيح)،
القــادر عــى مناقشــاتهام الرثيَّة. وليــس الحــل اســتبدال العالقــة الوجدانيــة بــن العبــد وربــه
يف اســتحضار معيــة اللــه وطلــب رضــاه يف كل أعاملــه (مــا
والله من وراء القصد.
نــص عليهــا الــرع ومــا مل ينــص) بتوســيع مفهــوم الرشيعــة
عمر عبد الرازق شاهني ليشــمل كل موضوعــات الحيــاة املعيشــة.
ويــراوح جاكســون يف طرحــه بــن دارس اإلســاميات
املستكشــف للمجــال العلــاين يف الخــرة التاريخيــة
اإلســامية العمليــة والفقهيــة والكالميــة ،وبــن صاحــب
الطــرح املدافــع عــن صالحيــة اعتــاد فكــرة «العلــاين
اإلســامي» يف مقابــل محــاوالت اإلصــاح واالجتهــاد الحاليــة
وجميعهــا مرتجمــة إىل العربيــة :األول ترجمــه نوفــل الحــاج لطيــف (((
ونرشتــه دار جــداول عــام 2020م ،والثــاين ترجمــه محمــد العــريب
كتــاب األديــان
َ ونرشتــه أيضً ــا دار جــداول عــام 2017م ،وتر َجــ َم
العامــة يف العــر الحديــث قســ ُم اللغــات الحيــة والرتجمــة يف
جامعــة البلمنــد ونرشتــه املنظمــة العربيــة للرتجمــة عــام 2005م.
أحمــد عاطــف أحمــد« ،إســامي علــاين م ًعــا :حــوار بــدأه صديقــي (((
األســتاذ شــرمان (عبــد الحكيــم) جاكســون» ،مركــز نهوض للدراســات
والبحــوث 13 ،أبريــل 2020م.
كلمة جاكسون عن «العلامين اإلسالمي» ،عىل الرابط: (((
.Dtjo-UaTRMW/be.youtu//:https
3
اإلسالم خارج الحكم الشرعي
العالقــة العدائيــة مــع الديــن مــن ســياقها الغــريب ،وت ُق َحــم ملخص
ّ
فيهــا جميــع األديــان يف العــامل ،ال ســيام يف العــامل الحديــث
متأصــا بــن
ً مــن الشــائع القــول بــأن مثــة صدا ًمــا
(أو يُفــرض أن العالقــة يجــب أن تكــون كذلــك) .وبالــرورة
ماهيــة مقولــة «الديــن» ومقولــة «العلــاين» عــى أســاس
كــا يشــر خوســيه كازانوفــا (« :)José Casanovaمل تكــن
رفــض الديــن املبــديئ للفصــل بــن املقــ َّدس والدنيــوي،
األديــان التــي لطاملــا حملــت توج ًهــا ’دنيويًّــا‘ و’عاديًّــا‘
ويُقــال أيضً ــا إن هــذا الصــدام يبلــغ ذروتــه مــع اإلســام .لكن
بحاجــة للخضــوع لعمليــة العلمنــة .فــأن ت ُعل ِمــن يعنــي أن عندمــا نقــول إن اإلســام يرفــض ثنائيــة املق ـ َّدس والدنيــوي،
’تُ َدنْـ ِـن‘ (تجعلــه دنيويًّــا) … وهــي عمليــة ال معنــى لهــا يف فرمبــا تنفتــح طــرق أخــرى لتعريــف العلــاين يف اإلســام
ســياقات حضاريــة كهــذه»(.((1 والتفكــر يف عالقتــه مــع الديــن .وهــو مــا تنــري لــه هــذه
لكــن هــذه اإلســهامات -بالرغــم مــا فيهــا مــن بصــرة- الورقــة ،التــي تأخــذ الرشيعــة نقطــة انطــاقٍ لهــا ،فتنظــر إىل
ال تعــد بالكثــر عندمــا يكــون املوضــوع هــو اإلســام، حدودهــا التــي قررتهــا لنفســها باعتبارهــا الح ـ َّد بــن نســق
فيُفــرض أن العــداء بــن «العلــاين» و«الدينــي» يبلــغ ذروتــه تقييــم الفعــل اإلنســاين القائــم عىل نصــوص الوحــي املكتملة
يف اإلســام بالرغــم مــن دنيويتــه؛ إذ يُفهــم اإلســام عــى (أو امتداداتهــا) ونســق تقييــم الفعــل اإلنســاين املســتقل عن
أنــه يتحــدى التمييــز بــن املقــ َّدس والدنيــوي ،ويبــدو أن هــذه النصــوص ،ولكنــه ليــس بالــرورة خــارج حســاب الله.
الحــركات اإلســامية الحديثــة ُمص ّممــة عــى رفــض الحــدود إن واقــع «غــر الرشعــي» هــذا -إن جــاز التعبــر -هــو واقــع
بــن الدينــي والعلــاين وتركهــا مفتوحــة لتُحكّــم فيهــا «العلــاين اإلســامي» ،هــو «علــاين» بقــدر مــا هــو متاميــز
الدينــي .ونتيجــة ذلــك هــي تأســيس ثنائيــة بــن «اإلســامي» عــن الرشيعــة يف أســاس تقييــم الفعــل اإلنســاين ،ومــع
و«العلــاين» ،ينبغــي مبوجبهــا وصــف الفعــل أو الفكــرة أو ذلــك يظــل «إســام ًّيا» ومــن ث َ ـ َّم «دين ًّيــا» يف رفضــه فكــرة
املؤسســة بأنهــا إســامية أو علامنيــة ،ولكــن يســتحيل جمــع التــرف َوفْـ َـق مقولــة «كــا لــو أن اإللــه غــر موجــود» .كــا
رســخ يف أذهــان الكثرييــن رضورة االثنــن م ًعــا ،وهــو مــا ّ ـأبي أن التفرقــة بــن الرشعــي وغــر الرشعــي لهــا أصولهــا سـ ّ
االختيــار بــن االثنــن. الراســخة يف التقليــد الفقهــي (والكالمــي) اإلســامي .ومــن
فهــا ثَـ َّم فإننــا أقــرب إىل التنقيــب عــن مقولــة العلــاين اإلســامي
ســأقرتح يف هــذه الورقــة قــراء ًة لإلســام تقــ ّدم ً
مغايــ ًرا لعالقتــه مــع العلــاين .هــذه العالقــة تكشــفها مــن اخرتاعنــا إياهــا.
وتيرسهــا قــراءة متم ّعنــة للرشيعــة التــي تفــرض وضــع مقدمة
الحــدود الفقهيــة عــى هــذه العالقــة ،وبذلــك تتحــدى فكــرة مــا يــزال مصطلــح العلــاين يشــر عــاد ًة إىل عالقــة
أن حــدود الرشيعــة هــي نفســها حــدود اإلســام بوصفــه عدائيــة مــع الديــن((( ،وبالرغــم مــن تن ُّبــه ع ـ َّدة إســهامات
دي ًنــا .إن هــذه العالقــة يف جوهرهــا هــي املســاحة بــن معــارصة لاللتبــاس املفهومــي الــذي يحدثــه ،فقــد اكتســب
الرشيعــة املحــدودة باعتبارهــا مدونــة محــددة للســلوك، هــذه الداللــ َة الشــائعة كونــه منت ًجــا للحداثــة الغربيــة
ومجــال اإلســام غــر املحــدود باعتبــاره دي ًنــا أو فلنقــل حيــاة الناشــئة أو مشــاركًا يف نشــأتها((( .ودامئــا مــا ت ُجــرد هــذه
ووفقــا لــرأي أشــيس نانــدي ( ،)Ashis Nandyفــإن هوليــوك قــد صــاغ هــذا
املصلــح يف عــام 1850م ،يف وقـ ٍ
ـت كان مــا يـزال «مالمئًــا للديــن» .انظــر: وال شـ َّـك أن «الديــن» بــدوره يثــر ً
التباســا مفهوميًّــا كذلــك .انظــر (((
“The Politics of Secularism and the Recovery of Religious Tolerance,” in
عــى ســبيل املثــال:
R. T. McCutcheon, “The Category ‘Religion’ in Recent Publications: A
Secularism and Its Critics, 327. Critical Survey,” Numen 42, no. 3 (October 1995): 284-309; J. Z. Smith,
وكانــت «حــرب الثالثــن عا ًمــا» رصا ًعــا دينيًّــا مدمــ ًرا بــن الكاثوليــك “Religion, Religions, Religious,” Critical Terms for Religious Studies
والربوتســتانت ،يف الظاهــر ،أودت بحيــاة املاليــن وانتهــت بـ«صلح وســتفاليا» (Chicago: University of Chicago Press, 1998), 84-269.
( .)Peace of Westphaliaوأســجل هنــا وجهــة نظــر مغايــرة عــن أهميــة
الحــروب الدينيــة يف أوروبــا ،انظــر: وف ًقــا ملــا ي ـراه تريلــويك نــاث مــادان« ،فكلمــة ’علمنــة‘ اس ـتُخدمت (((
W. Cavanaugh, The Myth of Religious Violence: Secular Ideology and the ألول مــرة عــام 1648م يف نهايــة «حــرب الثالثــن عا ًمــا» يف أوروبــا
Roots of Modern Conflict (New York: Oxford University Press, 2009), لإلشــارة إىل نقــل ممتلــكات الكنيســة مللكيــة األمــراء الخاصــة».
123-80. انظــر:
( ((1وقــد أشــار كازانوفــا ع َرضً ــا إىل الكونفوشــية والطاويــة كأمثلــة يف هــذا T. N. Madan, “Secularism in Its Place,” Secularism and Its Critics, ed.
الشــأن .انظــر: R. Bhargava, 6th ed. (New Delhi: Oxford University Press, 2007), 297.
J. Casanova, “Secularization Revisited: A Reply to Talal Asad,” Powers ويقــول إن اإلنجليــزي جورج جاكــوب هوليــوك ()George Jacob Holyoake
of the Modern Secular: Talal Asad and His Interlocutors, ed. D. Scott قــد صــاغ هــذا املصطلــح ألول مــرة عــام 1851م .انظــر :املرجــع الســابق،
and C. Hirschkind (Stanford: Stanford University Press, 2006), 19-20. ص.298
4
الســلطة والتقاليــد ،مبــا يف ذلــك الكتــاب املقــ َّدس ورؤيــة تســتحرض مع َّيــة اللــه ومراقبتــه .وهــذه املســاحة هــي مــا
اإلنســان الالهوتيــة يف جوهرهــا للكــون»(.((1 يؤســس للمجــال «العلــاين اإلســامي» .يظــل هــذا النطــاق ّ
ـي باألزمــة قبــل ذلــك .فــكان علامن ًّيــا بقــدر مــا هــو متاميــز ،باصطــاح ماكس فيــر (Max
وقــد تنامــى شــعور يومـ ّ
أحــد الدوافــع الكبــرة وراء ظهــور العلــاين الغــريب -بحســب ،)Weberمبعنــى ألَّ حكــم وال ق ـرار فيــه لنصــوص الوحــي
نومــي ســتولزنربغ ( -)Nomi Stolzenbergيتمثَّــل يف الواضحــة وال امتداداتــه املعتــرة يف أصــول الفقــه اإلســامي.
«قبــول حتميــة تدنــس القانــون اإللهــي و ُمثُــل العدالــة ويظــل إســاميًّا كذلــك مــا دام محص ًنــا ضــد الدافــع الــذي
املق َّدســة يف ’العــامل الزمنــي‘«( .((1وهــو مــا ولّــد مخــاوف عـ ّـر عنــه هوغــو غروشــيوس ( )Hugo Grotiusألول مــرة
مــن احتــال إفســاد الديــن ومؤسســاته وتقويــض ســلطانه يف القــرن الســابع عــر بــأن نعيــش «كــا لــو أن اإللــه
عــر التطبيــع مــع هــذا الدنــس .وكانــت ردة الفعــل -ال غــر موجــود» ( .((1()etsi Deus non dareturويف هــذه
ســيام مــن الربوتســتانتية -هــي إنشــاء واقـعٍ بديــلٍ تحكمــه القــراءة ،ال يكــون العلــاين والدينــي -مــع اختالطهــا
ِقيــ ٌم وســلطاتٌ واختصاصــاتٌ غــر دينيــة ال يضــر الديــن ومتايزهــا عــن بعضهــا بعضً ــا -أنــدا ًدا متخاصمــن كــا يف
ومؤسســاته وال يفســدهام االســتهزاء بهــا أو تســفيهها .ومل العلامنيــة الغربيــة .كــا ال يكــون العلــاين علامن ًّيــا لقدرتــه
يكــن هــذا مجـ َّرد رضب مــن مامرســة االنكفــاء عــى الديــن عــى الرقابــة عــى الديــن أو تدجينــه إيــاه ،وال يتخــذ منهــا
حقيقــي أو إزاحــة املؤسســات ،فقــد كان هنــاك اهتــام قيمتــه .فالعلــاين اإلســامي ليــس مفروضً ــا عــى اإلســام (وال
ٌّ
بالحاجــات العمليــة والتطلعــات اليوميــة .وكــا يُلخــص الرشيعــة) مــن الخــارج ،بــل منبثــق نتيجــة الحــدود الفقهيــة
شــيلدون وولــن ( )Sheldon Wolinمخـ َ
ـاوف مارتــن لوثــر التــي فرضتهــا الرشيعــة عــى نفســها طواعي ـةً.
( )Martin Lutherبقولــه« :سيســتحيل العــامل فــوىض تلــزم عــن هــذه القـراءة لــوازم وتحديــات سأشــتبك مــع
ُ
الرجــال حك َمــه باإلنجيــل»( .((1إذن ،فقــد نشــأ إذا حــاول أبرزهــا خــال مناقشــتي .لكــن قبــل ذلــك ،وتفاديًــا لاللتباس،
العلــاين الغــريب يف البدايــة لحاميــة الديــن واملجتمــع .وال أوضــح طبيعــة التداخــل بــن العلــاين اإلســامي والعلــاين
يلــزم عــن هــذا أن طريقــة العلامنيــة يف العمــل بعــد ذلــك الغــريب ودرجــة التبايــن بينهــا .وهــو مــا يقربنــا مــن إدراك
كانــت تطبيقًــا لجوهرهــا أو عــودة إىل أصولهــا. أهميــة أطروحتــي .وذلــك أن أهــم الفــوارق املؤثــرة بــن
يف املقابــل ،مل يستنســخ تاري ـ ُخ اإلســام قبــل الحديــث العلــاين الغــريب واإلســامي ال ت ْك ُمــن يف جوهرهــا ،بــل يف
تجربــ َة «حــرب الثالثــن عا ًمــا» عــى أي صعيــد ،وال حتــى وظيفتهــا .ويرجــع هــذا االختــاف إىل الوقائــع التاريخيــة
الـراع العثــاين الصفــوي الــذي مل يكــن لــه النــرة الدينيــة املختلفــة التــي واجهتهــا املســيحية (الغربيــة) واإلســام،
نفســها وال تداعياتهــا ،فلــم ينتــج املســلمون أي يشء ميكــن باإلضافــة إىل اختالفهــا يف الــروح والبنيــة .ويُشــار هنــا إىل
مقارنتــه بعــر «التنويــر» .ويف الحقيقــة ،لقــد ســعى الفقهاء التحديــات السياســية الدينيــة التــي انعكســت خــال «حــرب
املســلمون إىل توســيع نطــاق القانــون الدينــي عــن طريــق الثالثــن عا ًمــا» (1648-1618( )Thirty Years’ Warم)(.((1
القيــاس ،واالستحســان ،واملصالــح املرســلة ،وســد الذرائــع، فوف ًقــا لجوناثــان إرسائيــل ( ،)Jonathan Israelفقــد ولَّــدت
والقواعــد الفقهيــة ،وحتــى اســتقراء نصــوص الرشيعــة. الحــرب كذلــك ظهــور فصيــل مــن املتمرديــن والجمهوريــن
وكان الهــدف مــن ذلــك كلــه -كــا كان يف العلــاين الغــريب الذيــن تصــوروا أنــه «قــد يكــون هنــاك منطــق فلســفي
املبكِّــر -حاميــة مصالــح املجتمــع والحفــاظ عــى ســيادة وعلــاين متا ًمــا لتفكيــك ســلطة اإلكلــروس [وتعزيــز] حريــة
القانــون املقـ َّدس .ويف هــذه املقاربــة باتــت للطاعــة للقانــون الفكــر واســتقاللية الضمــر الفــردي»( ،((1وكانــت تلــك بدايــة
الدينــي بنيــة متغـ ّـرة مــع الوقــت ،فعــى ســبيل املثــال ظلــت بواكــر عــر التنويــر ( ،)Early Enlightenmentويف القلــب
منــه كان نقــاش الهــويت ،وشــبح االنقــاب عــى «كل أشــكال
5
اإلسالم خارج الحكم الشرعي
كان يُعــد محــل النظــر يف هــذه النقاشــات .ولكنــه ظهــر الفتــوى يف املذهــب الحنفــي قرونًــا عــى عــدم جــواز بيــع
منافســا
ً منت ًجــا ثانويًّــا «بريئًــا» إىل حــد مــا ،ليــس خصـ ًـا أو الوفــاء ،إىل أن صــار الفقهــاء يفتــون بجــوازه عنــد الحاجــة.
للديــن أو القانــون الدينــي .ومــرة أخــرى ،يف حــن يتشــارك ولكنهــم يف الحالتَـ ْـن يخ ّرجــون الحكــم داخــل إطــار الفقه(،((1
العلــاين اإلســامي والغــريب الكثــر يف الجوهــر ،أي اســتناده نفســه ميكــن أن نعـ ّدد أمثلــة كثــرة( .((1فلــم وعــى املنــوال ِ
إىل مصــادر وســلطات خــارج حــدود نصــوص (تحديــدات) يــؤ ِّد اتجــاه الفقهــاء املركَّــب نحــو توســيع الطاعــة وفهمهــا
الديــن (ويف حالــة اإلســام :الرشيعــة) ،فــإن وظيفتــه ب ّينــة باعتبارهــا بنيــة متغـ ّـرة إىل ســعيهم -أو شــعورهم بالحاجــة
االختــاف عــن الــدور الــذي أداه التصنيــف «علــاين» يف ـي رصيــح، إىل الســعي -نحــو إنشــاء مجــال مســتقل غــر دينـ ّ
الغــرب. (((1
يكــون بديـ ًـا عــن الديــن أو مراقبًــا لــه.
إن مــا يجمــع بــن التصــورات املختلفــة حــول العلــاين كــا بقــي اإلدراك الــكيل لألصــول اإللهيــة للقانــون
الغــريب هــو اإلشــارة إىل وظيفتــه التنظيميــة يف مواجهــة الدينــي إىل جانــب فهــم اإلســام للتوحيــد عــى أنــه يعنــي:
الديــن .إذ يشــر طــال أســد ( )Talal Asadيف عملــه أن مــا أراده اللــه وأمــر بــه هــو وحــده مــا ميلــك رشعيــة
البــارز تشــكالت العلــاين إىل أن جان ًبــا مــن أبــرز معــاين القانــون الدينــي .فعبــارة «ال حكــم إلَّ للــه» التــي صــاح
العلــاين (الغربيــة) ي ْك ُمــن يف اإلزاحــة الدامئــة التــي يفرضهــا بهــا الخــوارج -ورأتهــا األغلبيــة ُغلُــ ًّوا -مل تكــن خاطئــة يف
عــى الديــن عــر تأســيس وحشــد سلســلة مــن املتقابــات جوهرهــا وال شــاذة( ،((2والوتــر الــذي رضبــت عليــه عــاد
املعرفيــة (العقل/األســطورة ،العام/الخــاص ،االســتقاللية/ ينبــض إبَّــان صعــود املعتزلــة يف القــرن الثــاين الهجــري/
الخضــوع) ،وجميعهــا ُصممــت و ُوظفــت معياريًّــا لتأســيس الثامــن امليــادي عندمــا بــات الســؤال عــن نطــاق الخطــاب
تفــوق العلــاين عــى الدينــي وتعزيــزه( .((2وبعبــارة أخــرى، اإللهــي القانــوين تحديـ ًدا محـ َّـل نقــاش .ويف النهايــة ،ســيظهر
ال يتعــارض العلــاين مــع الدينــي فحســب ،بــل يُتوقــع منــه العلــاين اإلســامي (أو باألحــرى ســينتهي بــه املطــاف) مــا
أن يســيطر عليــه .ونجــد إدراكًا مقاربًــا يف وصــف كازانوفــا
الــذي يح ـ ّدد العلــاين باللحظــة التــي يتجــاوز فيهــا النــاس
ثنائيــة الديني/العلــاين .فيقــول« :تعـ ّـر كلمــة علــاين عــن ( ((1انظــر عــى ســبيل املثــال :مصطفــى الزرقــا ،فتــاوى مصطفــى الزرقــا
تعلمــن مطلــق ومكتـ ٍ (دمشــق :دار القلــم1420 ،هـــ1999/م) ،ص.405
أناســا ليســوا
ـف بذاتــه عندمــا تصــف ً
مجــرد «ال مبالــن دين ًّيــا» ،وإمنــا أنــاس محصنــون متا ًمــا ( ((1عــى ســبيل املثــال :ينقــل ابــن رشــد (الحفيــد) اإلجــا َع عــى أن
املســلم ال يــرث غــر املســلم ،بينــا مييــل ابــن تيميــة وابــن قيــم
ضــد أي صــورة مــن صــور التعــايل القابعــة فيــا وراء إطــار الجوزيــة الحنبليــان إىل جــواز أن يــرث َمــ ْن أســلم أقربــاءه غــر
املحايثــة العلــاين املحــض»(.((2 املســلمني[ ،فــإن يف توريــث املســلمني منهــم ترغي ًبــا يف اإلســام
ملــن أراد الدخــول فيــه مــن أهــل الذمــة ،فــإن كثـ ًرا منهــم مينعهــم
مــن الدخــول يف اإلســام خــوف أن ميــوت أقاربهــم ،ولهــم أمــوال
واســتنا ًدا إىل اســتبصارات فيــر ،يحــ ّدد كازانوفــا فــا يرثــون منهــم شــيئًا] .انظــر :ابــن رشــد ،بدايــة املجتهــد ونهايــة
والتخصــص غــر
ُّ العلــا َّين بصعــود وانتشــار حقــول البحــث املقتصــد (القاهــرة :دار الفكــر ،بــدون تاريــخ) .264/2 ،وابــن قيــم
الجوزيــة ،أحــكام أهــل الذمــة 3 ،أج ـزاء ،تحقيــق :يوســف البكــري
الدينيــة؛ إذ إنهــا هدمــت جــدران الديــر التــي صانــت تعــايل وشــاكر العــاروري (الدمــام :الرمــادي للنــر1418 ،هـــ1998/م)،
الديــن وانفصالــه عــن الحيــاة الدنيــا .وعندمــا انهــارت هــذه ،72-853/2وخاصــ ًة .53-852/2
ـكل مــن العلــاين( ((1ميكننــا النظــر إىل حالــة واليــة املظــامل بوصفهــا شـ ً
املعــرف بــه ،إال أنهــا كانــت نظا ًمــا بديـ ًـا إلنفــاذ القانــون وليــس
للقانــون يف حــد ذاتــه .وهــو االنطبــاع الــذي يحصــل عليــه املــرء
(21) T. Asad, Formations of the Secular: Christianity, Islam, Moder- مــن الوصــف املوثــق كــا عنــد املــاوردي ،إذ يقــول« :نظــر املظــامل
nity (Stanford: Stanford University Press, 2003), 21-66. ال يبيــح مــن األحــكام مــا حظــره الــرع» .انظــر :أبــو الحســن
[الرتجمــة العربيــة :تشــكالت العلــاين يف املســيحية والحداثــة واإلســام، عــي بــن محمــد املــاوردي ،األحــكام الســلطانية والواليــات الدينيــة،
ترجمــة :محمــد العــريب (بــروت :جــداول للنــر والرتجمــة والتوزيــع، تحقيــق :أحمــد مبــارك البغــدادي (الكويــت :مكتبــة دار ابــن قتيبــة،
2017م) ،ص - .81-35املرتجــم]. 1409هـــ1989/م) ،ص ،126-102واالقتبــاس مــن ص.115
[يقــول املــاوردي« :ثــم انتــر األمــر بعــده [عــي بــن أيب طالــب]
(22) J. Casanova, “The Secular and Secularisms,” Social Research 17, حتــى تجاهــر النــاس بالظلــم والتغالــب ومل يكفهــم زواجــر العظــة
no. 4 (2009): 1052. عــن التامنــع والتجــاذب ،فاحتاجــوا يف ردع املتغلبــن وإنصــاف
[يقــول كازانوفــا عــن إطــار املحايثــة« :قــام تشــارلز تايلــور يف كتابــه عــر املتظلمــن إىل نظــر املظــامل الــذي ميتــزج بــه قــوة الســلطنة بنصــف
علــاين بإعــادة تأســيس الســرورة التــي أصبــح عربهــا مــا يســميه ’إطــار القضــاء» .انظــر :املرجــع نفســه ،ص - .104املرتجــم].
املحايثــة‘ يتبــدى فينومينولوج ًّيــا ككوكبــة متشــابكة مــن ثالثــة نُظُــم حديثــة
ومتاميــزة :النظــام الكــوين واالجتامعــي واألخالقــي .وأصبحــت هــذه النظــم ( ((2عــى ســبيل املثــال ،يقــرر الفقيــه املعــارص محمــد أبــو زهــرة أن «اإلجــاع
الثالثــة مدركــة بوصفهــا نظـ ًـا علامنيــة محايثــة بشــكل محــض ،نظـ ًـا مفرغة يف اإلســام قــد انعقــد عــى أن الحاكــم يف اإلســام هــو اللــه تعــاىل ،وأنــه ال
متا ًمــا مــن أيــة تعــال ،ومــن ثَـ َّم تــؤدي عملهــا كــا لــو أن اإللــه غــر موجود». رشع إال مــن اللــه» .انظــر :محمــد أبــو زهــرة ،أصــول الفقــه (القاهــرة :دار
انظــر« :العلــاين والعلامنيــات» ،ترجمــة :طــارق عثــان ،أوراق منــاء - .84 الفكــر العــريب ،بــدون تاريــخ) ،ص[ .69هنــاك خطــأ يف التوثيــق ،يف األصــل
املرتجــم]. ص - .63املرتجــم].
6
للنمــوذج األمريــي -بينهــا [أي العلامنيــة] وبــن «حياديــة الجــدران انكشــف النظــام األريض أمــام العلــاين وبــات
الدولــة»( ،((2حيــث تدجــن الدولــة العلامنيــة الديـ َن وترشعن ـال لغارتــه ،حتــى آل األمــر بالديــن ِ
نفســه ليصــر باحثًــا مجـ ً
نفســها مبوجــب وعــد ضمنــي بحاميــة املجتمــع منــه .كــا عــن مــكان لــه يقاتــل دفا ًعــا عنــه .وبهــذا تتأكَّــد -مــرة
(((2
تتض َّمــن أوصافًــا أخــرى« :إعــادة تكييــف للديــن … كعنــر أخــرى -العالقــة الهرم َّيــة «األبويَّــة» بــن العلــاين والدينــي.
يقــع تحــت إدارة وتدخــل مســتمرين ،وإعــادة تشــكيل لقــد كان ِذك ـ ُر كازانوفــا لـ«إطــار املحايثــة» إشــار ًة منــه إىل
الحيــاة الدينيــة وحساســياتها مبــا يتوافــق مــع االفرتاضــات عمــل تشــارلز تايلــور ( )Charles Taylorالضخــم عــر
املســبقة واملتطلبــات املســتمرة للحكــم الليـرايل»( .((2ويظهــر علــاين ،حيــث يصــف تايلــور -مثلــه مثــل طــال أســد-
العلــاين -مــرة أخــرى -يف كل هــذه الصــور كأنــه عمــدة الحــدود بــن العلــاين والدينــي باملســامية ،لكــن العلــاين
املدينــة الجديــد الــذي يــأيت ليح ـ ّدد ويضبــط حــدود الديــن هــو مــن يح ـ ّدد الســياق الــكيل« ،إطــار املحايثــة»( ((2الــذي
املناســبة .ويف املقابــل ،ال يفــرض العلــاين اإلســامي وجــود يقيــد و«يضغــط» عــى املجــاالت األصغــر للتأثــر الدينــي.
حاجــة أو أحق َّيــة لســلطة تقــوم بتحديــد الدينــي أو ضبطــه، وهــذا الضغــط يســحب وجــود اللــه مــن الحيــاة العامــة،
بــل هــو أقــرب إىل أن يكــون نتيجــة ســعي القانــون الدينــي ويُســهم يف النفــور العــام مــن املشــاعر واملامرســات الدينيــة،
نفســه ليضــع حــدو ًدا لنفســه .وأك ـ ِّرر أن حــدود الرشيعــة إىل أن يصــر الحفــاظ عــى اإلميــان مســتعص ًيا( .((2وباختصــار،
-يف قــراءيت هــذه -هــي إلــزام ذايت وليســت تراج ًعــا وال تتعاظــم وظيفــة العلــاين باعتبارهــا قــوة فاعلــة يف الحيــاة،
تقلصــا نتيجــة مواجهــة ســلطة مســتقلة وخارجيــة ت ُدعــى ً بينــا يتضــاءل الديــن إىل دور ســلبي ورجعــي.
«العلــاين».
تتض َّمــن املفاهيــم البديلــة عــن العلــاين (الغــريب)
شــك أن وضــع الرشيعــة يف بــؤرة النقــاش حــول وال َّ تنويعـ ٍ
ـات مــن الالئكيــة الفرنســية( ((2واملواقــف التــي ترفــض
العلــاين يحوجنــا إىل التربيــر عــى مــا يبــدو؛ إذ إن القانــون حيــاة «تجعــل اللــه أولويتهــا» ،ويســاوي البعــض -تب ًعــا
(((2
يف الغــرب -يف نهايــة املطــاف -نظــام علــاين دنيــوي محــض،
ويبــدو ألَّ جــدوى مــن اســتخالص تبايــن بينــه وبــن العلامين.
لكننــا قــد نجــد مــا يدعمنــا يف دراســتنا املقارنــة لالنقســام (23) J. Casanova, Public Religions in the Modern World (Chicago:
الثنــايئ التقليــدي بــن املق ـ َّدس والدنيــوي .ففــي مناقشــته University of Chicago Press, 1994), 15, 20-25.
[يقــول كازانوفــا« :ولعــل الصــورة املعــرة التــي ذكرهــا ماكــس فيــر عــن
للمق ـ َّدس ومقابلــه يشــر طــال أســد إىل: انهيــار جــدران الديــر أفضــل تعبــر بيــاين عــن إعــادة الهيكلــة املكانيــة
الجذريــة تلــك .فالجــدار الفاصــل بــن اململكتَـ ْـن الدينيــة والزمنيــة داخــل
أن محــاوالت تقديــم مفهــوم موحــد عــن «املقــ َّدس» ’هــذا العــامل‘ ينهــار ،والفصــل بــن ’هــذا العــامل‘ و’العــامل اآلخــر‘ -حتــى اآلن
عــى األقــل -يظــل قامئًــا ،ولكــن ومــن اآلن فصاع ـدًا ،ســوف يكــون هنالــك
يف اللغــات غــر األوروبيــة قوبلــت بأزمــات كاشــفة عــى عــامل واحــد’ ،هــذا العــامل‘ العــامل الزمنــي ،وال بـ َّد أن يجــد الديــن فيــه موقعــه
مســتوى الرتجمــة .هكــذا ،وبالرغــم مــن أن الكلمــة العربيــة الخــاص .ولــن كانــت اململكــة الدينيــة تبــدو ســابقًا كأنهــا الواقــع الجامــع
الــذي وجــدت اململكــة الزمنيــة ضمنــه موقعهــا الخــاص ،فقــد أضحــى النطاق
«قداســة» تقابلهــا باإلنجليزيــة كلمــة «،»sacredness الزمنــي الواقــع الجامــع الــذي يجــب أن يتكيــف معــه النطــاق الدينــي».
انظــر :خوســيه كازانوفــا ،األديــان العامــة يف العــر الحديــث ،ترجمــة :قســم
فإنهــا ســتبقى الحالــة التــي ال تصلــح لــكل الســياقات التــي اللغــات الحيــة والرتجمــة يف جامعــة البلمنــد (بــروت :املنظمــة العربيــة
يســتخدم فيهــا املصطلــح باإلنجليزيــة يف الوقــت الحــايل .إن للرتجمــة2005 ،م) ،ص - .30املرتجــم].
(24) C. Taylor, A Secular Age (Cambridge, MA: Belknap Press,
2007), 594.
( ((2انظر عىل سبيل املثال: (25) Ibid., 2-3.
A. March, “Are Secularism and Neutrality Attractive to Religious
Minorities: Islamic Discussions of Western Secularism in the (26) See O. Roy, Secularism Confronts Islam, trans. G. Holoch (New
”‘Jurisprudence of Muslim Minorities’ (Fiqh al-Aqallīyāt) Discourse, York: Columbia University Press, 2007), xii-xiii, 7-8, 59
Cardoza Law Review 30, no. 6 (2009): 2821-54; A. An-Na‘im, Islam (ومو َّز ًعا عىل صفحات الكتاب).
and the Secular State: Negotiating the Future of Shari‘a (Cambridge: [الرتجمــة العربيــة :أوليفييــه روا ،اإلســام والعلامنيــة ،ترجمــة :صالــح األشــمر
Harvard University Press, 2008), 1. (بــروت :دار الســاقي2016 ،م) .وفيــه يفـ ّرق روا بــن العلامنيــة يف طريقتهــا
الفرنســية باعتبارهــا -1 :فلســفة :فهــي مفهــوم للقيــم واملجتمع-األمــة يرتكــز
(29) See H. A. Agrama, Questioning Secularism: Islam, Sovereignty, عــى فلســفة األنــوار واألخــاق العقالنيــة -2 .نتيجــة للقانــون :تنظيــم الدينــي
and the Rule of Law in Modern Egypt (Chicago: University of يف املجــال العــام ،أي العلامنيــة هــي مجموعــة قوانــن -3 .مبــدأ ســيايس:
Chicago Press, 2012), 24. ويعنــي بــه إرادة فــك االرتبــاط بــن الدولــة واملجتمــع والكنيســة .انظــر:
[الرتجمــة العربيــة :حســن عــي عجرمــة ،مســاءلة العلامنيــة :اإلســام ص - .45-33املرتجــم].
والســيادة وحكــم القانــون يف مــر الحديثــة ،ترجمــة :مصطفــى عبــد
الظاهــر (بــروت :مركــز منــاء للبحــوث والدراســات2017 ،م) ،ص- .50 (27) S. L. Carter, God’s Name in Vain: The Wrongs and Rights of
املرتجــم]. Religion in Politics (New York: Basic Books, 2000), 4.
7
اإلسالم خارج الحكم الشرعي
والــام تعظيـ ًـا ،توكي ـ ًدا لهــذا املعنــى ،فهــو اللــه مالــك كل ترجمــة كلمــة «املق ـ َّدس» تســتدعي العديــد مــن الكلــات
يشء»( .((3إن غايــة الرشيعــة يف هــذا الســياق ال تســعى -كــا (محــرم ،مطهــر ،مختــص بالعبــادة ،ومــا إىل ذلــك) كل منهــا
يف الدولــة الرومانيــة -إىل تعيــن امللكيــة ونقلهــا ،وإمنــا إىل يتصــل بنــوع مختلــف مــن الســلوك(.((3
إظهــار أن مــا يأمــر بــه اللــه واق ـ ٌع ضمــن ملكــه وحكمــه، إذن ،فليــس مــن العســر إدراك أن املرادفــات لكلمــة
هــو خطــاب جوهــري غايتــه توجيــه ســلوك البــر. « »sacredتقــع كلهــا يف إطــار الرشيعــة وســلطانها ،فهــي
ويف ظــل تلــك امللكيــة اإللهيــة النافــذة يف كل يشء األســاس الــذي يحــ ّدد داللتهــا .ويف هــذا الســياق ،ميكــن
يف الوجــود التــي أرشنــا إليهــا ،تظهــر صعوبــة الفصــل بــن اعتبــار الرشيعــة حافظــة وميــرة لحــدود مــن نــو ٍع مــا.
املق ـ َّدس والدنيــوي باملعنــى الغــريب الــذي أملــح إليــه أســد. َــن
وســواء كانــت هــذه الحــدود تقســم العــامل إىل «نطاق ْ
لكــن معــامل الخطــاب اإلســامي الرشعــي ميكــن متييزهــا يحــوي أحدهــا كل مــا هــو مق ـ َّدس ،واآلخــر كل مــا هــو
عــن معــامل الخطــاب غــر الرشعــي .وإذا مــا انفــرد الخطــاب مدنَّــس» ،باســتخدام ألفــاظ دوركايــم( ،((3أو تق ّيــد رؤيــة
البــات يف توجيــه ســلوك
ّ الرشعــي بتمثّــل خطــاب اللــه العــامل ،حتــى باعتبــاره نطاقًــا واحــ ًدا ،مــن خــال عدســة
البــر ،فــإن الرشيعــة بهــذا املعنــى متــارس دور املحــ ِّدد الرشعــي ،فــإن هــذا ســؤال مســتقل (ومــع ذلــك ،فهــو وثيــق
الــذي أرشت إليــه يف تأســيس مقولــة العلــاين اإلســامي الصلــة باملوضــوع) .لقــد الحــظ أســد يف بدايــات مناقشــته
والحفــاظ عليهــا. أنــه «يف الجمهوريــة الرومانيــة الالتينيــة كانت كلمــة ‘’sacer
الرشيعة :نسق غري محدود يف مقابل واقع محدود (املق ـ َّدس) تشــر إىل يشء كان ميتلكــه أي إلــه ،ثــم اســتولت
عليــه الدولــة مــن منطقــة الـــ‘( ’profaneالدنيــوي) ،ومررتــه
يُصــور نطــاق الرشيعــة عــاد ًة عــى أنــه غــر إىل منطقــة الـــ‘( ’sacrumاملق ـ َّدس)»(.((3
محــدود ،فكــا قــال املســترشق الشــهري جوزيــف شــاخت
( ،)Joseph Schachtفــإن «الرشيعــة هــي مجموعــة شــاملة وهــو عــى النقيــض مــا يقــي بــه اإلســام مــن أن للــه
مــن الواجبــات الدينيــة ،أي جملــة أوامــر اللــه التــي تنظّــم أول وآخــ ًرا .ويف الواقــع ،يــورد البيهقــي (ت.ملــك كل يشء ً
حيــاة كل مســلم يف جميــع مظاهرهــا .وهــي تشــمل عــى 458هـــ1065/م) رأيًــا لغويًّــا عــن أصل اشــتقاق لفــظ الجاللة
قــدم املســاواة أحكا ًمــا تخــص الصــاة والشــعائر ،وكذلــك «اللــه» بقولــه« :الهــاء التــي هــي حــرف الكنايــة عــن الغائب
قواعــد سياســية وفقهيــة باملعنــى الضيــق لكلمــة فقــه»(.((3 ثــم زيــدت فيــه الم املِلــك؛ فصــار ’لــه‘ ،ثــم زيدت فيــه األلف
وع ـ ّرف وائــل حـ ّـاق الرشيعــة مؤخ ـ ًرا بأنهــا «ممثلــة إلرادة
اللــه الســيادية ،التــي تنظّــم مجــال النظــام اإلنســاين بأكملــه،
(30) Asad, Formations, 36-37, nt. 41.
إمــا بصــورة مبــارشة أو مــن خــال تفويــض محــدد جي ـ ًدا [الرتجمــة العربيــة :تشــكالت العلــاين ،ص ،51وقــد ترجمهــا املقــدس
ومحــدود»( .((3لكــن هــذه التصــورات تحمــل -باإلضافــة واملدنــس ،وأميــل إىل ترجمتهــا املقــدس والدنيــوي - .املرتجــم].
(31) Ibid., 31, nt. 24.
[هكــذا أوردهــا طــال أســد وترجمهــا محمــد العــريب ،ولكنــي أورد مــا
قالــه دوركايــم يف األشــكال األوليــة للحيــاة الدينيــة ففيــه فائــدة تق ّربنــا
( ((3انظــر :أبــو بكــر أحمــد بــن الحســن بــن عــي بــن عبــد اللــه بــن مــوىس مــن فهــم مــا يعنيــه وطبيعــة الفصــل بــن عاملــي املقــدَّس والدنيــوي يف
البيهقــي ،كتــاب األســاء والصفــات (بــروت :دار الكتــب العلميــة ،بــدون التصــور «الغــريب» ،يقــول« :ال يبقــى بــن أيدينــا لتعريــف املق ـدَّس بالنســبة
تاريــخ) ،ص.35 إىل الدنيــوي إال التبايــن بينهــا .غــر أن مــا يجعــل هــذا التبايــن كاف ًيــا
[وقــد أورد البيهقــي هــذا الــرأي اللغــوي مــع عـدَّة آراء حــول أصــل لتوصيــف هــذا التصنيــف لألشــياء ،ولتمييــزه مــن أي تصنيــف آخــر ،هــو
لفــظ الجاللــة ،وط ّعــم كل رأي بــدالالت إميانيــة ،فقــال« :الهــاء التــي أنــه شــديد الخصوصيــة ألنــه ’مطلــق‘؛ إذ مل يعــرف تاريــخ الفكــر اإلنســاين
هــي كنايــة عــن الغائــب وذلــك ألنهــم أثبتــوه موجــودًا يف فطــر ـال آخــر عــن فئتَـ ْـن لألشــياء متاميزتَـ ْـن بهــذا العمــق ،ومتعارضتَـ ْـن بهــذه
مثـ ً
عقولهــم … ثــم زيــدت فيــه الم امللــك ،إذ علمــوا أنــه خالــق األشــياء الجذريــة .والتعــارض التقليــدي بــن الخــر والــر ال يُ َع ـ ُّد شــيئًا يذكــر أمــام
ومالكهــا» .انظــر :البيهقــي ،كتــاب أســاء اللــه وصفاتــه املعــروف هــذا التعــارض؛ ألن الخــر والــر صنفــان متعاكســان مــن النــوع عينــه ،أي
باألســاء والصفــات ،تحقيــق :محمــد محــب الديــن أبــو زيــد َــن
ــن مختلف ْ النــوع األخالقــي ،مثلــا ال تكــون الصحــة واملــرض إلَّ ملم َح ْ
(القاهــرة :مكتبــة التوعيــة اإلســامية ودار الشــهداء ،بــدون تاريــخ)، لنســق وقائــع واحــد هــو الحيــاة ،يف حــن أن الذهــن البــري كثـ ًرا مــا تصــور
ص - .142-141املرتجــم]. َــن ،وكأنهــا ــن منفصل ْ -ويف كل مــكان -املقــدَّس والدنيــوي بوصفهــا نو َع ْ
عاملــان ليــس بينهــا مــا هــو مشــرك» ،ويــردف« :يبلــغ مــن هــذا التبايــن
)(34 Joseph Schacht, An Introduction to Islamic Law (Oxford: Clar- أنــه كث ـ ًرا مــا يتحــول إىل تضــاد حقيقــي .فالعاملــان ليســا ُمص َّممــن ليكونــا
endon Press, 1964), 1. منفصلــن فحســب ،بــل ليكونــا متعاديــن ومتنافســن بش ـدَّة أحدهــا مــع
[الرتجمــة العربيــة :جوزيــف شــاخت ،مدخــل إىل الفقــه اإلســامي ،ترجمــة: اآلخــر» .انظــر :إميــل دوركايــم ،األشــكال األوليــة للحيــاة الدينيــة :املنظومــة
حــادي ذويــب (بــروت :دار املــدار اإلســامي2018 ،م) ،ص - .11املرتجــم]. الطوطميــة يف أسـراليا ،ترجمــة :رنــدة بعــث (الدوحة/بــروت :املركــز العــريب
لألبحــاث ودراســة السياســات2019 ،م) ،ص - .66-59املرتجــم].
(35) W. B. Hallaq, The Impossible State: Islam, Politics, and Mo-
dernity’s Moral Predicament (New York: Columbia University (32) Ibid., 30.
Press, 2013), 51. [الرتجمة العربية :تشكالت العلامين ،ص.]44
8
وبعبــارة أخــرى ،متثّــل الرشيعــة والدولــة الحديثــة إىل رفــض اإلســام املفــرض لثنائيــة املقــ َّدس والدنيــوي-
َــن مــن الســيادة .وكذلــك َــن غــر محدودت ْ صدا ًمــا لصورت ْ نفســها عــن كــون القانــون هــو املانــع
االفرتاضــات الشــائعة َ
فــإن مثــة الز ًمــا آخــر إذا ع ّرفنــا الرشيعــة بأنهــا ال متناهيــة ضــد اســتغالل اإلنســان لإلنســان .أو كــا قــال جــون لــوك
النطــاق ،وهــو أننــا بذلــك نقــي «الشــعب» مــن املشــاركة (« :)John Lockeيبتــدئ الطغيــان حيــث تنتهــي ســلطة
يف التفــاوض عــى نُظُمــه االجتامعيــة السياســية واالقتصاديــة. القانــون»( .((3وهــذا االرتبــاط اإليجــايب بــن الرشيعــة وحكــم
فبقــدر مــا تكــون الرشيعــة هــي أســاس اإلســام الوحيــد القانــون يحظــى بشــعبية يف األوســاط اإلســامية الحديثــة.
للحكــم عــى أفعــال البــر ،يكــون الفقهــاء وحدهــم -وهــم وباختصــار ،فــإن التصــور الــذي يقــي بــا محدوديــة
املخ ّولــون بتحديــد موادهــا -هــم أصحــاب القــدرة عــى الرشيعــة ،ومطالبتهــا مبعالجــة جوانــب الحيــاة كافَّــة ،لهــو
التأثــر يف صياغــة نظــام اإلســام املعيــاري(.((3 مــن الذيــوع مبــكانٍ يف الخطابــات الحديثــة اإلســامية منهــا
إذا كان ذلــك كذلــك ،فــإن مثــة قـراء ًة للتقاليــد الفقهيــة وغــر اإلســامية.
اإلســامية تبــدو وكأنهــا تـ ّرر فهـ ًـا شــمول ًّيا للرشيعــة .فمنــذ ومــن املؤكَّــد أن لهــذا الفهــم لــواز َم بعيــدة املــدى.
اللحظــة التــي أُق ـ َّر عندهــا القيــاس وســيل ًة لتوســيع نطــاق فعــى ســبيل املثــال ،إذا كانــت الدولــة املســلمة قــد ُوجــدت
األحــكام الفقهيــة تحديـ ًدا ،اكتســب الفقــه -ظاهريًّــا -قــدر ًة -كــا قيــل« -لهــدف رئيــس هــو إنفــاذ القانــون»([ ،((3وإذا
غــر محــدودة لتجــاوز حــدود نــص الوحــي املبــارش .لكــن كان القانــون غــر محــدود] ،فــإن هــذه الدولــة ســتجد مــا
القيــاس ظــل بعي ـ ًدا عــن أن يكــون محـ َّـل إجــاع لقــرون.
يـ ّرر ويؤيــد توســيع ســلطاتها التنفيذيــة لتتناســب مــع هــذا
الســنة يف قضيــة نطــاق الرشيعــة مبج ـ َّرد وقــد خــاض أهــل ُّ القانــون غــر املحــدود .وهــو مــا أكَّــده وائــل حـ ّـاق تأكيـ ًدا
مناقشــتهم مســألة اعتبــار القيــاس .فعــى ســبيل املثــال،
غــر مبــارش ،حيــث يــرى أن الســيادة غــر املحــدودة للدولــة
كان الظاهريــة -الذيــن ظهــروا يف القــرن الثالــث الهجــري/
ـدام مــع دولــة
الحديثــة (العلامنيــة) ال ب ـ َّد أن تضعهــا يف صـ ٍ
العــارش امليــادي ومل يكونــوا «نصوصيــن» كــا يشــيع عنهم-
إســامية قامئــة عــى الرشيعــة(.((3
يرفضــون القيــاس لســبب مح ـ َّدد ،وهــو أنــه ليــس بوســع
املــرء أن يتجــاوز مــا ح َّددتــه مصــادر الوحــي مبــارشة (وليس
«حرف ًّيــا» كــا أشــاروا)( .((4وكــا أشــار كيفــن راينهــارت [الرتجمــة العربيــة :وائــل حــاق ،الدولــة املســتحيلة :اإلســام والسياســة
( ،)A. Kevin Reinhartفــإن الظاهريــة أكَّــدوا أن «حكــم ومــأزق الحداثــة األخالقــي ،ترجمــة :عمــرو عثــان (بــروت :املركــز العــريب
لألبحــاث ودراســة السياســات2014 ،م) ،ص - .111املرتجــم].
نصــت عليــه األدلَّــة الرشعيــةالوحــي ال ينطبــق إلَّ عــى مــا َّ
رصاحـ ًة … إنــه يُطبَّــق بحــزم ،ولكــن الحــاالت التــي يُطبَّــق (36) J. Locke, Two Treatises of Government, ed. P. Laslett (New York:
The New American Library, 1965), 448.
[«أي كلــا هتكــت حرمــة القانــون وأنــزل الــرر باآلخريــن» .انظــر :جــون
لــوك ،يف الحكــم املــدين ،ترجمــة :ماجــد فخــري (بــروت :اللجنــة الدوليــة
لرتجمــة الروائــع1959 ،م) ،ص - .265املرتجــم].
( ((3يواجــه عوميــر أنجــم ( )Ovamir Anjumمشــكلة اســتبعاد املجتمــع مــن
التفــاوض عــى نظــام الحيــاة اليوميــة يف كتابــه: ”(37) N. J. Coulson, “The State and the Individual in Islamic Law,
Politics, Law, and Community in Islamic Thought: The Taymiyan Mo- International and Comparative Law Quarterly 6 (January 1957):
ment (Cambridge: Cambridge University Press, 2012). 49.
يبــن إغنــاس غولدتســيهر يف عملــه البــارز أن قضيــة الظاهريــة مل ّ (((4 حــاق بعــد أن بــ َّن شــمولية الدولــة الحديثــة فيــا ( ((3كتــب وائــل ّ
تكــن الحرفيــة يف حــد ذاتهــا ،وإمنــا كانــوا يحاولــون معارضــة الــرأي يتعلَّــق بأحكامهــا الســيادية« :ويف حــن تتحكَّــم الدولــة الحديثــة
الــذي ال يســتند مبــارش ًة إىل مصــادر الوحــي .انظــر: مبؤسســاتها الدينيــة وتنظّمهــا ،مخضع ـ ًة إياهــا إلرادتهــا القانونيــة،
I. Goldziher, The Zahiris: Their Doctrine and Their History, trans. فــإن الرشيعــة تتح َّكــم باملنظومــة الكاملــة مــن املؤسســات العلامنيــة
W. Behn (Leiden: E. J. Brill, 1971). وتنظّمهــا .وإذا كانــت هــذه املؤسســات علامنيــة أو تتعامــل مــع مــا
[وقــد صــدرت الرتجمــة العربيــة لهــذا الكتــاب :إغنــاس غولدتســيهر، هــو علــاين ،فهــي تقــوم بذلــك يف إطــار اإلرادة األخالقيــة الرقابيــة
الظاهريــة :مذهبهــم وتاريخهــم ،ترجمــة :محمــد أنيــس مــورو (بــروت: أي شــكل ســيايس أو الشــاملة التــي هــي للرشيعــة .ولذلــك ،فــإن َّ
مركــز منــاء للدراســات والبحــوث2021 ،م) - .املرتجــم]. مؤسســة سياســية (أو اجتامعيــة أو اقتصاديــة) ،مبــا فيهــا الســلطات
نفســه ،يقـ ّر ابــن حــزم (ت456 .هـــ1064/م) -الــذي يُ َعـ ُّد أحــد ويف الوقــت ِ التنفيذيــة والقضائيــة ،هــي يف النهايــة خاضعــة للرشيعــة» .انظــر:
أبــرز ممثــي الظاهريــة -رصاحـ ًة مبرشوعيــة املتشــابهات [أو ظــن التعــارض] [ .51 ,Hallaq, The Impossible Stateويف الرتجمــة العربيــة:
يف بعــض النصــوص .انظــر عــى ســبيل املثــال :اإلحــكام يف أصــول األحــكام، ص .]111وبالنظــر إىل رســوخ هــذه الرؤيــة ،وجــزء منــه بســبب
8مجلــدات ،تحقيــق :أحمــد محمــد شــاكر (بــروت :دار اآلفــاق الجديــدة، وضوحهــا ،فقــد يصعــب عــى القـ َّراء الرتكيــز عــى النقطــة األساســية
1308هـ1993/م).28/2 ، التــي أطرحهــا هنــا .ويكفــي أن نقــول إن مثــة فارقًــا بــن الرشيعــة
[كان ابــن حــزم يــورد يف هــذا املقــام الــر َّد عــى مــا «ادعــاه قــوم مــن تعــارض واإلســام ،وحيــث تنتهــي أحــكام الرشيعــة ،فإنــه ال ميكنهــا تنظيــم
النصــوص» ،ولعــل جاكســون يقصــد إق ـراره بــورود هــذا التعــارض ليــس إلَّ مســألة مــا مبــارشةً ،حتــى لــو بقيــت املســألة نفســها ضمــن نطــاق
يف معــرض الــكالم عــن موقــف الظاهريــة مــن الحرفيــة والــرأي والقيــاس- . قيــم اإلســام وفضائلــه .باختصــار ،إن كان لإلســام دخــل يف كل
املرتجــم]. املســائل ،فــإن الرشيعــة ليــس لهــا مثــل هــذا الــدور.
9
اإلسالم خارج الحكم الشرعي
وبطبيعــة الحــال ،أمكــن حــل الخــاف حــول مســألة فيهــا قليلــة [نســب ًّيا]»( .((4وباختصــار ،فإنهــم أكَّــدوا عــى أن
النطــاق يف النهايــة لصالــح الــرأي القائــل بتوســيع نطــاق العديــد مــن القضايــا هــي خــارج حــدود النــص ،وظلَّــت
الرشيعــة ،والقبــول بالقيــاس ،ووضــع املبــاح يف منزل ـ ٍة بــن كذلــك دون معالجــة ،وأنــه مــن الخطــأ ادعــاء أن للــه أم ـ ًرا
الواجــب والحـرام باعتبــاره جــز ًءا مــن خطــاب اللــه الرشعــي. ترشيع ًّيــا رصي ًحــا يف كل القضايــا.
لكــن ال يجــب أن يُ َع ـ َّد هــذا متناقضً ــا مــع الح َّجــة القائلــة ظــل املذهــب الظاهــري بــارزًا حتــى القــرن الخامــس
بــأن الفقهــاء املســلمني ظلــوا منتبهــن ملســألة النطــاق ،بــل الهجري/الحــادي عــر امليــادي تقري ًبــا ،وقــد ض َّمهــم
حافظــوا عــن يشء مــن الريبــة -ورمبــا النقد -تجــاه التصورات الفقيــه الشــافعي الشــهري أبــو إســحاق الش ـرازي يف كتابــه
التــي تجعــل الرشيعــة شــمولي ًة بطريقــة عشــوائية .ويف طبقــات الفقهــاء -الــذي يحــوي كل أســاء ومذاهــب «مــن
الحقيقــة ،يكشــف التحليــل الدقيــق أن جمهــور الفقهــاء يعتــر قولــه يف انعقــاد اإلجــاع ويُعتـ ّد بــه يف الخــاف»(-((4
موســ ًعا وإيجابيًّــا للرشيعــة -ظلّــوا الســنة األربعــة األخــرى بالرغــم مــن رفضهــم إىل مذاهــب ُّ
-الذيــن أقــ ّروا مفهو ًمــا ِّ القيــاس ومــا يلــزم عنــه مــن طــرق ُم ِ
وصلــة إىل األحــكام.
منتبهــن إىل أن للرشيعــة حــدو ًدا ال تســتطيع تجاوزهــا .
(((4
والخالصــة أنــه حتــى يف فــرة مــا بعــد التكويــن(- ((4عندمــا وبعيـ ًدا عــن الظاهريــة ،فقــد انعكســت أهميــة مســألة
اتخــذت الرشيعــة شــكلَها املكتمــل -ظــل يُنظــر إىل الرشيعــة النطــاق يف الجــدل املب ِّكــر حــول التصنيــف الفقهــي «املباح»:
بوصفهــا مســألة محــدودة النطــاق ،ال غــر محــدودة. أهــو يشــر إىل مــا قــال اللــه بإباحتــه؟ أم مــا هــو يقــع خــارج
حــدود خطــاب اللــه الرشعــي مــن قبيــل املصادفــة إن جــاز
العلامين اإلسالمي :الرشعي يف مقابل غري الرشعي التعبــر(((4؟ وهــي املســألة التــي ســتظل محـ َّـل نقــاش حتــى
دارت كثــ ٌر مــن أعــايل حــول أفــكار الفقيــه املالــي القــرن الســادس الهجري/الثــاين عــر امليــادي ،كــا نراهــا يف
املــري الكبــر شــهاب الديــن القـرايف (ت684 .هـــ1285/م)، اختصــار ابــن رشــد الحفيــد لكتــاب الغـزايل املُســتصفَى(.((4
وأظهــرت أنــه كان واض ًحــا ورصي ًحــا يف وضــع قيــود فقهيــة والغــرض مــن إثــارة هــذه املســألة هــو أن مثــة قلَّــة مــن
عــى الرشيعــة( .((4وقــد يعطــي هــذا انطبا ًعــا بأنــه قــد تفـ َّرد كبــار الفقهــاء ظلــوا لقــرون متق ّبلــن أو واضعــن يف اعتبارهم
يف ذلــك ،لكــن الحــال ليــس كذلــك ،لــوال أن املقــام ال يتســع الفكــرة القائلــة بأنــه ليــس للــه أوامــر مبــارشة أو عــن طريــق
للحــر ،إلَّ أن مــا يــي فيــه الكفايــة. القيــاس يف كل يشء ،وأن األغلبيــة م َّمــن يرفضــون هــذا الــرأي
ـتحق تكفــر أصحابــه أو تبديعهــم أو مل ت َـ َر فيــه تجدي ًفــا يسـ ُّ
تفســيقهم .وخالصــة األمــر أن القــول بحــدود فقهيــة عــى
( ((4جــزء مــن املســألة التــي يجــب أن أعرضهــا هــو أنــه حتــى عندمــا تتطلــب ـول جديـ ًدا ،وليــس هــذا الخطــاب اإلســامي الرشعــي ليــس قـ ً
الرشيعــة فعـ ًـا أو االمتنــاع عــن فعــل ،فقــد تظــل هنــاك قواعــد تقييميــة القــول -نظــ ًرا لعراقتــه التاريخيــة -مفروضً ــا مــن الغــرب
أخــرى مت ِّكــن مــن تقييــم كيفيــة القيــام بهــذا الفعــل أو االمتنــاع بشــكل
يتــاءم مــع الواقــع الزمــاين واملــكاين .وهنــا قــد نف ِّكــر يف حــدود الرشيعــة الحديــث الناشــئ امل ُعل ِمــن ،وبالقطــع ليــس أيضً ــا خار ًجــا
مــن حيــثُ العمــق يف مقابــل النطــاق .انظــر مــا ســيأيت. السـ ّن ّي.
عــن نطــاق الـراث ُّ
( ((4التقســيم إىل فــريت «التكويــن» و«مــا بعــد التكويــن» محــل خــاف،
رب
ســواء مــن حيــث الزمــن أو املعنــى أو األثــر .وقــد عرضــت انتصــار ّ
بديــا ،مشــرة إىل
ً ( )Intisar Rabbمؤخــ ًرا مفهــوم «فــرة التأســيس»
ثــاث مراحــل متميــزة )1( :فــرة التأســيس (مــن القــرن الســابع إىل القــرن (41) A. K. Reinhart, Before Revelation: The Boundaries of Muslim
التاســع امليــادي) )2( .فــرة النصوصيــة (القرنــان العــارش والحــادي عــر Moral Thought (New York: State University of New York Press,
امليالديــان) وتشــمل «إغــاق أبــواب االجتهــاد» املزعــوم )3( .فــرة توليــف 1995), 16.
الســلطة النصيــة والتفســرية .انظــر:
I. Rabb, Doubt in Islamic Law: A History of Legal Maxims, Interpre- ( ((4انظــر :أبــو إســحاق الش ـرازي ،طبقــات الفقهــاء ،تحقيــق :إحســان عبــاس
tation, and Islamic Criminal Law (Cambridge: Cambridge University (بــروت :دار الرائــد العــريب1970 ،م).
Press, 2015), 8-9.
رب ،قاعــدة الشــك عنــد الفقهــاء املســلمني:
[الرتجمــة العربيــة :انتصــار ّ ملناقشة عامة حول هذه النقطة ،انظر عىل سبيل املثال: (((4
تاريــخ القواعــد الفقهيــة والتأويــل والفقــه الجنــايئ اإلســامي ،ترجمــة: Reinhart, Boundaries, 128-32.
ســعيد منتــاق (بــروت :مؤمنــون بــا حــدود للدراســات واألبحــاث2018 ،م).
-املرتجــم]. ( ((4انظــر :ابــن رشــد (الحفيــد) ،الــروري يف أصــول الفقــه أو مختــر
املســتصفى ،تحقيــق :جــال الديــن العلــوي (بــروت :دار الغــرب اإلســامي،
( ((4يعود تاريخ ذلك إىل أطروحتي يف الدكتوراه: يتبــن ســقوط قــول مــن قــال املبــاح 1994م) ،ص[ .48-47قــال« :وهنــا ّ
“In Defense of Two-Tiered Orthodoxy: A Study of Shihāb al-Dīn مأمــور بــه ،وكذلــك يتبـ ّـن أنــه ليــس مــن التكليــف ،إذ التكليــف طلــب
al-Qarāfī’s Kitāb al-Iḥkām fī Tamyīz al-Fatāwā ‘an al-Aḥkām wa مــا فيــه كلفــة ،ومــن سـ َّـاه تكلي ًفــا وذهــب يف ذلــك إىل أنــه الــذي كلّفنــا
Taṣarrufāt al-Qāḍī wa al-Imām” (PhD diss., University of Pennsyl- اعتقــاد إباحتــه يف الــرع ،أو أنــه الــذي كلّفنــا اعتقــاد كونــه مــن الــرع،
vania, 1991). فهــو مســتكره يف التســمية…» - .املرتجــم].
10
الشــافعي (ت204 .هـــ819 /م)( ((5وتالميــذه يف تعاملهــم مع ســنجد بعــض الدالئــل إذا مــا عدنــا إىل النبــي ﷺ.
هــذه األمــور التقديريــة ،كتحديــد اتجــاه القبلــة ،أو إجــازة حيــث تــورد كتــب الســرة النبويــة املعتــرة أنــه عندمــا
شــهادة العــدل ومثلهــا .وكــا الحــظ أحمــد الشــميس: تعليــات لجيــش املســلمني يف غــزوة بــدر ،ســأله ٍ أصــدر
«بالرغــم مــن أن تحديــد اتجــاه القبلــة هــو مســألة تجريبية، الصحــايب الحبــاب بــن املنــذر :أهــو وحــي أم مجــ َّرد رأي
بينــا النظريــة الفقهيــة تقــوم عــى األحــكام التفســرية ،ال ـزل أنزلكــه اللــه ليــس لنا أن النبــي؟ [أرأيــت هــذا املنــزل ،أمنـ ً
يبــدو أن الشــافعية يف القــرون املب ِّكــرة كانــوا مييــزون بــن نتقــدم وال نتأخــر عنــه ،أم هــو الــرأي والحــرب واملكيــدة؟]،
االثنــن»( .((5لكــن يف النصــف األول مــن القــرن الثالــث فــر َّد النبــي بأنــه الــرأي والحــرب واملكيــدة .وعندهــا اقــرح
الهجري/التاســع امليــادي ،مــع أحمــد بــن حنبــل (ت. الحبــاب خطتــه التــي ارتضاهــا النبــي( .((4كــا نقــرأ يف كتــب
241هـــ855 /م) ،بــدا االعـراف بالحــدود الفقهيــة للنصــوص الصحــاح« :قــدم نبــي اللــه صــى اللــه عليــه وســلم املدينــة،
ب ّي ًنــا؛ ففــي حديــث الطــري (ت310 .هـــ923 /م) عــن محنة وهــم يؤبــرون النخــل ،يقولــون يلقحــون النخــل ،فقــال’ :مــا
جــواب ابــن حنبــل األ ّو ّيل:
َ خلــق القــرآن املشــهورة ،أو َرد تصنعــون؟‘ ،قالــوا :كنــا نصنعــه ،قــال’ :لعلكــم لــو مل تفعلــوا
«هــو كالم اللــه ،ال أزيــد عليهــا» ،وهــو مــا يُظهــر أن
(((5 كان خـ ًرا‘ ،فرتكــوه ،فنفضــت أو فنقصــت ،قــال :فذكــروا ذلك
ربــا فهــم ابــن َ لــه ،فقــال’ :إمنــا أنــا بــر ،إذا أمرتكــم بــيء مــن دينكــم
ســؤال «هــل القــرآن مخلــوق أم ال؟» ،أو ّ
حنبــل لهــذا الســؤال يف ذلــك الوقــت ،أمـ ٌر خــارج نطــاق مــا فخــذوا بــه ،وإذا أمرتكــم بــيء مــن رأيــي ،فإمنــا أنــا بــر‘،
اعت َق ـ َد ابــن حنبــل أن النــص يتوجــه إليــه رصاح ـةً. وقــال’ :ولكــن إذا حدثتكــم عــن اللــه شــيئًا ،فخــذوا بــه ،فــإين
لــن أكــذب عــى اللــه عــز وجــل‘«( ،((4ثــم يُــورِد مســلم قــول
ثــم بــات التمييــز بــن الرشعــي وغــر الرشعــي ويــدل ذلــك عــى ُّ النبــي« :أنتــم أعلــم بأمــر دنياكــم»(.((5
أكــر تحديــ ًدا .فعــى ســبيل املثــال ،وبَّــخ الغــزايل فهــم لحــدود النــص اإللهــي مــن جهــة مجموعــة القضايــا
(ت505 .هـــ1111/م) َمـ ْن دعاه بـ«صديق اإلســام الجاهل»، التــي ينظِّمهــا ،ويكــون فيهــا ملز ًمــا للمســلمني إلزا ًمــا رشعيًّــا
الــذي أنكــر علــوم غــر املســلمني الطبيعيــة ظ ًّنــا منــه أنهــا واض ًحــا.
تخالــف الرشيعــة .بينــا يقـ ِّرر الغـزايل أن «ليــس يف الــرع ونــرى يف األجيــال التــي جــاءت بعــد العهــد النبــوي
تعـ ُّر ٌض لهــذه العلــوم بالنفــي وال باإلثبــات»( .((5لكننــا نجــد ضبابيــ ًة يف الحــدود بــن مــا هــو رشعــي يف جوهــره ومــا
هــو غــر رشعــي .فمنــذ وقــت مب ِّكــر ،نــرى أن تقديــر اإلمــام
مالــك (ت179 .هـــ795/م) الواقعــي لنفقــة الزوجــة مــن
والفاكهــة ،ويُفــرض الخــل والزيــت والحطــب وامللــح واملــاء واللحــم
املــرة بعــد املــرة…» .انظــر :ابــن الحاجــب ،جامــع األمهــات، أنــواع املــأكل وك ّميتــه قــد ت ـ َّم بغطــاء فقهــي ،بالرغــم مــن
ص - .331املرتجــم]. عــدم اســتناده إىل نــص رصيــح( .((5ونجــد ذلــك أيضً ــا عنــد
( ((5انظــر عــى ســبيل املثــال :الرســالة ،تحقيــق :أحمــد محمــد شــاكر
(القاهــرة :املكتبــة العلميــة1358 ،هـــ1939/م) ،ص ،503-487يف االجتهــاد.
”(53) A. El-Shamsy, “Rethinking Taqlīd in the Early Shafi‘i School, ( ((4انظــر عــى ســبيل املثــال :ابــن هشــام ،الســرة النبويــة ،تحقيــق:
Journal of the American Oriental Society 128, no. 1 (2008): 14- مصطفــى الســقا ،إبراهيــم اإلبيــاري ،عبــد الحفيــظ شــلبي (دمشــق:
15. دار ابــن كثــر1426 ،هـــ2005/م) ،ص.523
[«فقــال :يــا رســول اللــه ،فــإن هــذا ليــس مبنــزل ،فانهــض بالنــاس
( ((5انظــر :أبــو جعفــر محمــد بــن جريــر الطــري ،تاريــخ الطــري 6 ،مجلــدات حتــى نــأيت أدىن مــاء مــن القــوم ،فننزلــه ،ثــم نغــور مــا وراءه مــن
(بــروت :دار الكتــب العلميــة1433 ،هـــ2012/م).190/5 ، القلــب ،ثــم نبنــي عليــه حوضً ــا فنملــؤه مــاء ،ثــم نقاتــل القــوم،
فنــرب وال يرشبــون ،فقــال رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم:
( ((5انظــر :الغــزايل ،املنقــذ مــن الضــال واملوصــل إىل ذي العــزة والجــال، لقــد أرشت بالــرأي» .انظــر :ســرة ابــن هشــام ،ط.عيــى الحلبــي،
تحقيــق :جميــل صليبــا وكامــل عيــاد (بــروت :دار األندلــس ،بــدون 1955م - .620/1 ،املرتجــم].
تاريــخ) ،ص .102ومــا مــن شـ ٍّـك يف أن الغـزايل مل يــر عــى طريــق واحــد
يف معالجــة هــذه املســألة ،فيذكــر يف املســتصفى -عــى ســبيل املثــال -ثالثــة ( ((4انظــر :مســلم بــن الحجــاج ،صحيــح مســلم 5 ،مجــدات (بــروت :دار
أنــواع مــن العلــوم« :عقــي محــض ،ال يحــث الشــارع عليــه وال ينــدب إليــه، ابــن حــزم .1464/4 ،)1995/1416
كالحســاب والهندســة والنجــوم وأمثالهــا مــن العلــوم ،فهــي بــن ظنــون
كاذبــة ال ثقــة بهــا وبــن علــوم صادقــة ال منفعــة فيهــا» .وقــد انتقــد رأيَــه ( ((5نفسه.
ابــ ُن رشــيق املالــي (ت632 .هـــ1235/م) يف تعليقــه عــى املســتصفى،
مؤكــدًا أنــه «ال يجــوز إطــاق القــول بأنــه ال منفعــة فيهــا» .انظــر: ( ((5انظــر عــى ســبيل املثــال :ابــن الحاجــب ،جامــع األمهــات ،تحقيــق:
حســن بــن رشــيق املالــي ،لبــاب املحصــول يف علــم األصــول ،مجلــدان، أبــو عبــد الرحمــن األخــري (دمشــق :الياممــة للطباعــة والنــر
تحقيــق :محمــد غـزايل عمــر جــايب (ديب :دار البحــوث للدراســات اإلســامية والتوزيــع1421 ،هـــ2000/م) ،ص 331ومــا بعدهــا.
وإحيــاء ال ـراث1422 ،هـــ2001/م) .189/1 ،ومــن املؤكَّــد أن كليهــا كان [قــال ابــن الحاجــب« :وقــ َّد َر مالــك امل ُــ َّد يف اليــوم ،وقــدَّر ابــن
محكو ًمــا بســياق تاريخــي محــدد فيــا يتعلَّــق بدرجــة تعــرض العلــوم غــر القاســم أوقيتــن ونصفًــا يف الشــهر إىل ثــاث؛ ألن مالــكًا باملدينــة
اإلســامية بشــكل عــام أو عــدم تعرضهــا لقضايــا تتعلَّــق بالديــن أو تحتمــل وابــن القاســم مبــر .وقــال وإن أكل النــاس الشــعري أكلتــه ،وأمــر
إصابتــه. اإلدام كذلــك ،قــال :وال يُفــرض مثــل العســل والســمن والحالــوم
11
اإلسالم خارج الحكم الشرعي
املثــال[ -أن األحــكام املأخــوذة مــن العقــل كالعلــم بــأن مــع الق ـرايف التعبــر األوضــح( ،((5فهــو يــورد أمثلــة للعلــوم
العــامل حــادث ،ومــن الحــس كالعلــم بــأن النــار محرقــة ،أو غــر الرشعيــة «مــن الحســابيات والهندســيات ،وكذلــك
مــن الوضــع واالصطــاح كالعلــم بــأن الفاعــل مرفــوع] تخرج األمــور العاديــة كالطبيــات وغريهــا ال يتوقــف دركهــا عــى
ٍ
كلــات تذكِّرنــا عــن دائــرة الحكــم الدينــي ،بــل يقــول يف الرشائــع»(.((5
بالقــرايف« :املــراد بالرشعيــة … مــا ال يــدرك لــوال خطــاب ومل يتوقــف هــذا اإلقــرار األســايس بحــدود الرشعــي
الشــارع»( .((6وهنــا يتضــح أن فكــرة أن الرشيعــة (وتتبعهــا عنــد الق ـرايف ،فابــن تيميــة (ت728 .هـــ1328/م) يستشــهد
صفتهــا :رشعــي) محــدودة ال غــر محــدودة ليســت ابتدا ًعــا مـرا ًرا بحــاالت مل يتعــرض فيهــا التقليــد الرشعــي ال نف ًيــا وال
مــن الق ـرايف ،وإمنــا هــي محــل اتفــاق يف التفكــر الفقهــي
إثباتًــا ملفهــوم وافــد أو مصطلــح عمــي( .((5كــا يؤكِّــد عــى
شــق طريقــه إىل العــر اإلســامي قبــل الحديــث الــذي َّ أن االدعــاءات العقليــة املحضــة (كصحــة املنطــق اليونــاين)
الحديــث(.((6
ال يجــوز أن ت ُصحــح بالنقــل ،وإمنــا مبجــرد العقــل(.((5
يــريس هــذا الفهــم املقيــد لفئة الرشعــي دعامــة تعريفي وكذلــك يؤكِّــد الفقيهــان الشــافعيان تقــي الديــن الســبيك
للعلــاين اإلســامي« :فهــو معرفــة قامئــة بذاتهــا دون اعتــاد (ت756 .هـــ1355/م) وابنــه تــاج الديــن الســبيك (ت.
عــى نصــوص الرشيعــة وال أدوات أصــول الفقــه» .وقــد 771هـــ1369/م) يف اإلبهــاج يف رشح املنهــاج -وهــو رشح
يبــدو هــذا للوهلــة األوىل إعــادة اســتخدام متكلــف ملفهــوم منهــاج الوصــول إىل علــم األصــول للقــايض البيضــاوي (ت.
العلــاين ،نظ ـ ًرا لالرتبــاط الوثيــق بــن العلــاين واالســتهانة 685هـــ1286/م) -عــى التفرقــة بــن األحــكام التــي تتوقــف
بالديــن إن مل يكــن معاداتــه .فــإذا كانــت الرشيعــة هــي معرفتهــا عــى معرفــة الــرع [والــرع هــو الحكــم
الوســيط الــذي نعــرف مــن خاللــه حكــم اللــه بشــكل واضح، والشــارع هــو اللــه تعــاىل] وبــن غريهــا مــن األحــكام التــي
وميكــن التح ُّقــق منــه موضوع ًّيــا (أعنــي باملوضوعيــة اإلتاحــة ال ت ُ َع ـ ُّد رشعيــة( ،((6أي التــي ال تقــع ضمــن حــدود الــرع.
يف املجــال العــام ،حيــث الجميــع عــى قــدم املســاواة يف
الوصــول إليهــا) ،وإذا كانــت الرشيعــة ال تعالــج كل القضايــا ثــم يواصــل الفقيــه املتأخّــر ابــن عابديــن (ت.
نفســه ،فيذكــر -عــى ســبيل 1258هـــ1842/م) عــى املنــوال ِ
بشــكل مبــارش ،فإنهــا تعــرف بوجــود أُســس وقواعــد
أخــرى للتقويــم .وهــو مــا ينســجم مــع الســمة األساســية
التــي منحهــا كازانوفــا للعلــاين ،وهــي «التاميــز»( .((6ويف ( ((5انظر عميل:
التخصــص يف حقــول اهتــامُّ القلــب مــن هــذا التاميــز يقــع Islamic Law and the State: The Constitutional Jurisprudence of Shihāb
al-Dīn al-Qarāfī (Leiden: E. J. Brill, 1996), 113-41.
مختلفــة :دينيــة وسياســية واقتصاديــة ،ومــا إىل ذلــك .وبينــا
ال يشــ ِّدد اإلســام عــى هــذا التقســيم الرصيــح والشــكيل ( ((5انظــر :القــرايف ،رشح تنقيــح الفصــول يف اختصــار املحصــول يف األصــول،
تحقيــق :املزيــدي (بــروت :دار الكتــب العلميــة1399 ،هـــ1979 /م)،
للمعرفــة ،فــإن التفرقــة بــن الرشعــي وغــر الرشعــي هــي يف ص[ .109عــدت إىل ط .طــه عبــد الــرؤوف ســعد (القاهــرة :رشكــة الطباعــة
التخصــص .فالعلــاين هــو التاميــز عــن الحقيقــة تعبـ ٌر عــن الفنيــة املتحــدة1393 ،هـــ1973 /م) ،ص - .89املرتجــم].
ُّ
الديــن عنــد كازانوفــا ،أمــا يف عمــي عــن العلــاين اإلســامي ( ((5انظــر عــى ســبيل املثــال :ابــن تيميــة ،درء تعــارض العقــل والنقــل11 ،
مجلـدًا ،تحقيــق :محمــد رشــاد ســامل (الريــاض :جامعــة اإلمــام محمــد بــن
فهــو التاميــز عــن الرشعــي [ال الدينــي]. ســعود اإلســامية1399 ،هـــ1979/م).146/4 ،
وليــس هــذا الفهــم الجوهــري واملقــ ّدر «للتاميــز» ( ((5انظــر عــى ســبيل املثــال :جــال الديــن الســيوطي ،جهــد القريحــة يف
بحكـ ٍر عــى كازانوفــا ،فقــد أدرك طــال أســد هــو اآلخــر دور تجريــد النصيحــة (بريوت :املكتبــة العرصيــة1430 ،هـــ2009/م) ،ص.92-91
وهــو مختــر نصيحــة أهــل اإلميــان يف الــرد عــى منطــق اليونــان البــن
تيميــة .وهــذا ال يعنــي أن النــص ليــس لــه رأي بالــرورة نابــع مــن موقــع
دينــي يف ادعــاء عقــي محــدد .واألمــر ببســاطة هــو أن هــذه الدعــوى
عقــا لتحديــد ماهيتهــا قبــل الحديــث عــن الحكــم يجــب أن تفحــص ً
( ((6رد املحتــار عــى الــدر املختــار رشح تنويــر األبصــار 12 ،مجل ـدًا ،تحقيــق: الرشعــي .وهنــا مالحظــة أخــرى ،فمــن الواضــح هنــا أين ال أتفــق مــع وجهــة
عــادل أحمــد عبــد املوجــود وعــي أحمــد معــوض (بــروت :دار الكتــب نظــر زميــي الســابق جــون والربيــدج ( )John Walbridgeحــن كتــب:
العلميــة1415 ،هـــ1994/م).118/1 ، ـلفي الكبــر -العقـ َـل
«وقــد أبغــض اب ـ ُن تيميــة -مجــد ُد القــرن الرابــع السـ ُّ
أينــا تجـ َّـى يف الحيــاة الفكريــة اإلســامية» .انظــر كتابــه:
( ((6كتَــب العــامل املتأخــر محمــد الخــر حســن« :و َمــن أم َعــن النظــر، God and Logic in Islam: The Caliphate of Reason (Cambridge: Cam-
رأى الفــرق واض ًحــا بــن مــا أرشــد إليــه الديــن ومــا تركــه لتجربــة bridge University Press, 2011), 5.
املخلوقــن» .انظــر دراســات يف الرشيعــة اإلســامية (دمشــق :دار [الرتجمــة العربيــة :اللــه واملنطــق يف اإلســام :خالفــة العقــل ،ترجمــة :تــريك
الفــارايب للمعــارف1426 ،هـــ2005/م) ،ص.13 املصطفــى (بــروت :مركــز منــاء للبحــوث والدراســات2018 ،م) - .املرتجــم].
(63) Casanova, Public Religions, 21-25. ( ((6انظــر :اإلبهــاج يف رشح املنهــاج 3 ،مجلــدات (بــروت :دار الكتــب العلميــة،
[ويف الرتجمة العربية :ص.]41-34 1424هـــ2004/م).30/1 ،
12
ـتقل بــإدراك املــآالت األخالقيــة
بــأن العقــل بوســعه أن يسـ َّ التاميــز ومركزيتــه عندمــا كتــب« :عندمــا يُقــال عــن أمـ ٍر مــا
لألفعــال ومــا تســتحقه من ثــواب أو عقــاب) أدت إىل شــيوع إنــه منســوب إىل ’الديــن‘ ،ويكــون باإلمــكان منازعــة ذلــك
الســنة يف الدراســات الغربيــة بوصفهــم النظــر إىل أهــل ُّ القــول ،يكــون ’العلــاين‘ قــد ظهــر بصورتــه األجــى»(.((6
رافضــن الســتعامل العقــل يف تقديــر األحــكام العتبــارات وكذلــك تشــارلز تايلــور عندمــا يتحــ َّدث يف إطــار فهمــه
دينيــة فحســب ،مــا أدى إىل االف ـراض الشــائع بــأن املعيــار للعلــاين عــن «األخــاق السياســية املســتقلة» املتحـ ّررة مــن
املعتمــد يف اإلســام هــو «النصوصيــة» (.)scripturalism الــوالءات الطائفيــة(.((6
لكــن ميكننــا االدعــاء بــأن أهــم مــا خالــف فيــه أهـ ُـل الســنة وال ريــب أن مفهومــي عــن العلــاين اإلســامي -نظ ـ ًرا
املعتزلـ َة هــو «إلهياتهــم» والقــول بــأن الوحــي ُملـ َزم بقبــول ملنحــاه الفقهــي -قــد ال يصمــد أمــام مختلــف االســتبصارات
مــا يصــل إليــه العقــل مــن املــآالت األخالقيــة لألفعــال ومــا السوســيولوجية واألنرثوبولوجيــة النافــذة ملعالجــات العلــاين
يســتتبعها مــن ج ـزاء( .((6وهــذا ال يعنــي أن العقــل عاج ـ ٌز هــذه (وغريهــا) .ولكــن مــا يقطــع شــوطًا يسـ ّوغ اســتخدامي
عــن إصــدار أحــكام قيميــة متصلــة بالديــن ومســتقلة عــن للمفهــوم ،وميثّــل نقطــة التقــاء لــه مــع الخطابــات الراســخة
الوحــي وال أنــه ممنــوع مــن القيــام بذلــك.
عــن العلــاين ،هــو اتخــاذي التاميــز نقطــ ًة لالنطــاق،
وهــذا واضــح يف ردود األشــاعرة ،ألــ ّد خصــوم باإلضافــة إىل القــول بــأن الفقــه مل يكــن املنــر الوحيــد
املعتزلــة ،وخاصــ ًة األشــاعرة املتأخريــن ،فالجوينــي (ت. ملناقشــة قيمــة الســلوكيات اإلنســانية.
478هـــ1085/م) -عــى ســبيل املثــال -يقـ ُّر يف كتــاب اإلرشــاد
العقل والوحي
بــأن املجتمعــات بحكــم اطـراد العــادات تستحســن الحســن،
وتســتقبح القبيــح ،وإن مل يحــر لهــم ســمع( .((6ويشــر أعــود ألقــول إن القــول بــأن الرشيعــة مل تتنــاول مســألة
الغــزايل يف كتــاب االقتصــاد يف االعتقــاد رصاحــ ًة إىل أن مــا محــددة بخطــاب رصيــح ال يعنــي أن اإلســام غــر مكــرث
اعتُــر دامئًــا حســ ًنا أو قبي ًحــا مرتبــط بالنفــع أو الــرر بهــا .بــل إن املســلم يف الحقيقــة ال ميلــك خيــار إهــال
وباملصالــح أو الحاجــات الفرديــة والجامعيــة التــي ميكــن هــذه املســألة؛ ألن وعيــه اإلســامي هــو مــا ســيقوده
معرفتهــا مبعـ ِز ٍل عــن الوحــي( .((6ويؤكِّــد فخــر الديــن الـرازي إىل تقديــر حجــم املصلحــة أو املفســدة الراجحــة يف كل
شــك أن ماهيــة «املصلحــة» مســألة .وبعبــارات أوضــح ،ال َّ
و«املفســدة» الحقيقيــة بحاجــة إىل تعريــف ،وســيكون
رب موقــف املعتزلــة فيــا يــي« :الفكــرة هــي أن مثــة ( ((6تلخــص انتصــار ّ لإلســام أو الرشيعــة دور واضــح يف هــذا .لكــن بعي ـ ًدا عــن
نظا ًمــا أخالق ًّيــا متداخـ ًـا يف نســيج هــذا العــامل ميكــن للبــر متييــزه بالعقــل،
وقــد تــرك اللــه البــر أحـرا ًرا يف اتبــاع إرشــادات تلــك األخــاق أو تجاهلهــا، فعــا
اإلقــرار األســايس بــأن اإلســام أو الرشيعــة يوجبــان ً
ووعدهــم مبجازاتهــم عــى هــذا األســاس … ومــا كان الفكــر البــري ينظــر معي ًنــا أو يســتح ّبانه أو يكتفيــان بإباحتــه ،فــإن الســؤال
إليــه أخالقيًّــا عــى أنــه صــواب أو خطــأ فهــو كذلــك عنــد اللــه … وبعبــارة
أخــرى ،األخــاق موضوعيــة ،مبعنــى أن تصــورات القيمــة األخالقيــة ال العمــي عــن الصــورة املخصوصــة األفضــل لتمثيــل املصالــح
ينبغــي أن تختلــف بــن اللــه والبــر» .انظــر كتابهــاDoubt in Islamic :
.Law, 273وأو ُّد أن أقــول إن واقعيــة املعتزلــة ال ملكــة حكــم العقــل املرتبطــة بهــا ليــس مــن أعــال املــداوالت الرشعيــة
الســنة الذيــن فضلــوا يف حــد ذاتهــا هــي مــا كانــت محــل انتقــاد أهــل ُّ باملعنــى الدقيــق للكلمــة .وبعبــارة أخــرى ،فــإن القــول بــأن
مقاربــة إراديــة تقــدر اللــه وقدرتــه وفعلــه املســتقل .وال شـ َّـك أن إرادة اللــه
الســني نفســه .فعــى ســبيل ذاتهــا ســتكون محـ َّـل خــاف داخــل املذهــب ُّ الرشيعــة تدعــم أو تشـ ّجع قيمــة خلــق الــروة يشء ،والقــول
املثــال ،بينــا اعتــر ابــن تيميــة موقــف املعتزلــة ضعي ًفــا ،فقــد رفــض متا ًمــا
«الطبيعيــات الواهيــة» لألشــاعرة .فهــو يرفــض قولهــم إذا تحــدث القــرآن بــأن الرشيعــة (أو اإلســام) هــي مصــدر مبــارش لألفعــال أو
عــن النبــي{ :يأمرهــم باملعــروف وينهاهــم عــن املنكــر}« :فحقيقــة ذلــك
عندهــم أنــه يأمرهــم مبــا يأمرهــم ،وينهاهــم عـ َّـا ينهاهــم ،ويحــل لهــم مــا
السياســات التــي تخلــق الــروة يشء آخــر.
يحــل لهــم ،ويحــرم عليهــم مــا يحــرم عليــه .بــل األمــر والنهــي والتحليــل
والتحريــم ،ليــس يف نفــس األمــر عندهــم ال معــروف وال منكــر وال طيــب يف نهايــة املطــاف ،ســيعيدنا هــذا إىل الجــدل القديــم
وال خبيــث» .انظــر :مجمــوع الفتــاوى 37 ،مجلـدًا ،تحقيــق :عبــد الرحمــن حــول دور العقــل ومكانتــه يف اإلســام؛ ألن العقــل ســيكون
بــن محمــد بــن قاســم (الريــاض :مكتبــة املعــارف ،بــدون تاريــخ).433/8 ،
هــو البديــل الظاهــر عــن الرشيعــة يف معالجــة املســائل.
( ((6انظــر :اإلرشــاد إىل قواطــع األدلــة يف أصــول االعتقــاد ،تحقيــق :زكريــا الســنية عــى املعتزلــة األوائــل (الذيــن قالــوا
عمــرات (بــروت :دار الكتــب العلميــة1416 ،هـــ1995/م) ،ص.110 لكــن اإلجابــة ُّ
( ((6االقتصــاد يف االعتقــاد (القاهــرة :البــايب الحلبــي وأوالده ،بــدون تاريــخ)،
ص.82-80
[وقــد رجعــت إىل الكتــاب بتحقيــق مصطفــى عمـران لتعـرُّ وصــويل (64) Asad, Formations, 237.
لهــذه النســخة التــي عــاد إليهــا الكاتــب ،ومل يذكــر الغ ـزايل رصاح ـ ًة [ويف الرتجمة العربية :ص.]259
جملــة «مبعــزل عــن الوحــي» ،وإمنــا يفهــم ذلــك مــن كالمــه ،وهــذا
متامــه« :وهــذا االنقســام ثابــت يف العقــل ،فالــذي يوافــق الفاعــل (65) C. Taylor, “Secular Imperative,” 32-33.
13
اإلسالم خارج الحكم الشرعي
ودون ذلــك ،ســيكون مــن املر َّجــح اتهــام مقولــة «العلــاين (606هـــ1209/م) يف كتــاب األربعــن يف أصــول الديــن عــى
اإلســامي» بأنهــا نــو ٌع مــن االنحـراف الــذي يســعى إىل منــح أنــه يف الواقــع «ال ن ـزاع يف أنــا نعــرف بعقولنــا كــون بعــض
ســلطة ودور غــر مســتحقني للعقــل .لكــن يف الوقــت ِ
نفســه األشــياء مالمئًــا لطباعنــا ،وبعضهــا منافـ ًرا لطباعنــا»( .((6وعلينــا
علينــا أن ننتبــه إىل أن الفهــم اإلســامي التقليــدي للعقــل كان أن نشــر إىل أن هــذا ليــس موقــف األشــاعرة وحدهــم،
أوســع مــن مج ـ َّرد التفكــر النظــري ،بــل األدق أن نتح ـ َّدث فاملاتريديــة وأهــل الحديــث يتفقــون معهــم( .((7حتــى
عــن طــرق يف معرفــة الواقــع ،واإلملــام بــه ،وتصـ ُّوره ،وحتــى والســنة
رح بــأن القــرآن ُّ الحنبــي «املتز ّمــت» ابــن تيميــة يـ ّ
الحــدس بــه .وبهــذا الفهــم يشــمل العقــل أشــياء مــن قبيــل: (الوحــي) «ال ُيكــن أن يــز ّود البــر بــكل مــا يحتاجــون
والتجــي
ّ اإلدراك الحــي ،والعــرف ،و«الــذوق» ،واملخيلــة، إليــه لنجــاح حياتهــم الدنيويــة ،بــل وال كل مــا يحتاجــون
الروحــي ،ومــا شــابه( .((7وال ب ـ َّد مــن أخــذ ذلــك يف االعتبــار إليــه لخالصهــم األخــروي»( .((7والعقــل عنــده قــادر متا ًمــا
حــن نقــارب تطبيقــات العلــاين اإلســامي. عــى متييــز املصلحــة واملفســدة ،ولــو مل يــرد الــرع ،ولكــن
املقتضيات العملية للعلامين اإلسالمي ال يلــزم مــن حصــول الحســن أو القبــح إثابــة الفاعــل أو
معاقبتــه يف اآلخــرة إذا مل يــرد رشع بذلــك(.((7
نجــم عــن التص ـ ّور املتصلّــب لتعــارض الديــن والعقــل
الســنية مل
ويف املحصلــة ،فــإن جميــع مذاهــب االعتقــاد ُّ
-بالتزامــن مــع نفــوذ الفهــم الغــريب ملفهــوم «العلــاين»-
أساســا وحيــدً ا لألحــكام القيمية ،ال ســيام يف
تكـ ّرس الرشيعــة ً
ثالثــة مواقــف عــى األقــل للمســلمني املعارصيــن يف تعاملهم
الواقــع العمــي .ومــن ث َـ َّم فــإن القــول بــأن النــص يغطّــي كل
مــع العلــاين .األول :رفضــه بالكليــة (باعتبــاره غري إســامي)،
ـول غــر دقيــق .وهــونقاشــات املســلم يف حياتــه اليوميــة قـ ٌ
ومــن ثَـ َّم تــرك جميــع القضايــا التــي تــدور يف فلكــه للصدفــة
أمــر شــديد األهميــة يف فهــم معنــى العلــاين اإلســامي.
والعشــوائية وعــدم التنظيــم .والثــاين :رفضــه (أو باألحــرى
تجاهلــه) (ومــرة أخــرى ،باعتبــاره غــر إســامي) ،ولكــن
هــذه املــرة عــن طريــق إدراجــه يف املجــال الرشعــي ليــس يُســ َّمى حســ ًنا يف حقــه ،وال معنــى لحســنه إال موافقتــه لغرضــه، =
إلَّ ،ومحاولــة تنظيــم كل يشء بقواعــد الرشيعــة وأدواتهــا. والــذي ينــايف غرضــه يُس ـ َّمى قبي ًحــا ،وال معنــى لقبحــه إال منافاتــه
لغرضــه» .ويف الهامــش« :يقــول صاحــب املواقــف وشــارحها :وقــد
والثالــث :تب ّنيــه ،وهنــا يف شــكله الغــريب باعتبــاره نقيــض يعــر عــن الحســن والقبــح بهــذا املعنــى باملصلحــة واملفســدة».
الديــن أو رقي ًبــا ومروضً ــا لــه .وذلــك ر ًّدا عــى فشــل الرشيعــة انظــر :الغــزايل ،االقتصــاد يف االعتقــاد ،تحقيــق :مصطفــى عمــران
(القاهــرة ،دار البصائــر2008 ،م) ،ص - .420املرتجــم].
امل ُتص ـ َّور يف التعاطــي مــع املصالــح اإلنســانية املرشوعــة.
( ((6كتــاب األربعــن يف أصــول الديــن ،تحقيــق :محمــود عبــد العزيــز محمــود
ولكننــا نــرى تهافــت الرفــض التــام للعلــاين (أي (بــروت :دار الكتــب العلميــة2009 ،م) ،ص.244
باعتبــاره بنيــةً) عنــد التفكــر يف أســئلة أ َّول َّيــة مــن قبيــل: ( ((7عــن موقــف املاتريديــة ،انظــر عــى ســبيل املثــال :كــال بــن محمــد بــن
الســن القانــوين لقيــادة الســيارات ،أو مــا ينبغــي أن محمــد بــن أيب رشيــف املقــديس ،كتــاب املســامرة يف رشح املســايرة،
مجلــدان (القاهــرة :املكتبــة األزهريــة للـراث2006 ،م) .38/2 ،عبــد الرحيــم
تكــون عليــه خطــة الرعايــة الصحيــة الوطنيــة ،أو سياســة بــن عــي بــن املؤيــد شــيخ زاده ،نظــم الفرائــد وجمــع الفوائــد يف املســائل
املختلــف فيهــا بــن الســادة األشــعرية والســادة املاتريديــة ،مخطــوط رقــم
الهجــرة .ومــن الواضــح أنهــا أســئلة ال ميكــن تجاهلهــا ألنهــا ،875علــم الــكالم 14 ،مجل ـدًا (دار الكتــب املرصيــة).
متــس مصالــح عموميــة واســعة يق ّرهــا اإلســام والرشيعــة ُّ ( ((7انظــر :أمـراض القلــوب وشــفاؤها (القاهــرة :املطبعــة الســلفية ومكتبتهــا،
كالهــا ،ويســعيان يف رعايتهــا (مثــل حفــظ الحيــاة) ،ويف 1386هـــ1966/م) ،ص.13-12
ـح ُيــي ماهيــة هــذه الوقــت ِ [مل أقــف عــى هــذا العــزو ،وإمنــا كان كالم ابــن تيميــة أن اإلنســان،
ـص واضـ ٌ نفســه ليــس مثــة نـ ٌّ «وإن كان أقـ َّر بــأن محمـدًا رســول اللــه وأن القــرآن حـ ٌّـق عــى ســبيل
اإلجــال ،فأكــر مــا يحتــاج إليــه مــن العلــم مبــا ينفعــه ويــره ومــا
أمــر بــه ومــا نهــى عنــه يف تفاصيــل األمــور وجزئياتهــا مل يعرفــه ،ومــا
عرفــه فكثــر منــه مل يعملــه ،ولــو قــدر أنــه بلغــهكل أمــرونهــي يف
( ((7كان العقــل كــا اســتخدمه الفقهــاء واملتكلمــون املســلمون قبــل الحداثــة والســنة إمنــا تذكــر فيهــا األمــور العامــة
والســنة ،فالقــرآن ُّالقــرآن ُّ
يشــمل الوجــدان والعنــارص التــي ســعى «التنويــر» إىل إزاحتهــا عــن بنيــة الكليــة ،ال ميكــن غــر ذلــك ال يذكــر مــا يخــص بــه كل عبــد ،ولهــذا
العقــل .فعندمــا يتح ـدَّث املعتزلــة (وغريهــم) عــن خرييــة إنقــاذ الغريــق أمــر اإلنســان يف مثــل ذلــك بســؤال الهــدى إىل الـراط املســتقيم».
والــر يف اتهــام الــريء زو ًرا عــى أنهــا بديهيــة عقليــة ،فمــن الواضــح أن -املرتجــم].
هــذا العقــل يتجــاوز قواعــد العقــل باعتبــاره ملكــة مســتقلة غــر محــدودة
أو مسـ ّـرة مــن الثقافــة ،أو املشــاعر ،أو العــرف .وهــو نقيــض العقــل الــذي ( ((7مجمــوع الفتــاوى[ .435-434/8 ،وقــد جــاءت يف معــرض حديــث ابــن
دعــا إليــه مفكــرو عــر «التنويــر» أمثــال إميانويــل كانــط (Immanuel تيميــة يف ســياق الــكالم عــن التحســن والتقبيــح عــن «أن يكــون الفعــل
)Kant؛ إذ دعــوا إىل «ملكــة مســتقلة مبعنــى أنهــا ذاتيــة الحكــم ،تؤســس ـتمل عــى مصلحــة أو مفســدة ،ومل يــرد الــرع بذلــك ،كــا يعلــم أن مشـ ً
أحكامهــا الخاصــة وتتبعهــا ،ومســتقلة عــن مصالــح السياســة والثقافــة العــدل مشــتمل عــى مصلحــة العــامل ،والظلــم مشــتمل عــى فســادهم،
والالوعــي» .عــن هــذه النقطــة ،انظــر: فهــذا النــوع هــو حســن وقبيــح ،وقــد يعلــم بالعلــم والــرع قبــح ذلــك ال
F. C. Beiser, The Fate of Reason: German Philosophy from Kant to Fichte أنــه أثبــت للفعــل صفــة مل تكــن؛ لكــن ال يلــزم مــن حصــول هــذا القبــح أن
(Cambridge, MA: Harvard University Press, 1987), 8. يكــون فاعلــه معاقبًــا يف اآلخــرة ،إذا مل يــرد رشع بذلــك…» - .املرتجــم].
14
الدينــي (بالرغــم مــن أنــه مل ينــص عليــه كــا هو واضــح) ،يف القواعــد ســواء مبــارشة أو بالقيــاس .ومــن املؤكَّــد أنــه قــد
حــن ميكــن قــول ذلــك عــن وجــوب إعالــة األرسة واجتنــاب يُقــال إن النصــوص توجــه املســلمني توجي ًهــا غــر مبــارش يف
الخمــر .ولكــن مــن غــر الصحيــح غالبًــا القــول بــأن تحديــد هــذا الشــأن بإلزامهــم تج ُّنــب الــرر وحفــظ االحتياجــات
ســن القيــادة أو صياغــة خطــة للرعايــة الصحيــة هــي أمــور اإلنســانية األساســية (أي حفــظ النفــس وحفــظ النســل ومــا
«غــر دينيــة» ،ناهيــك عــن القــول بتعارضهــا مــع الديــن؛ ألن إىل ذلــك).
الديــن قــد يكــون مصــدر إلهــام يف هــذه املســائل. لكــن هــذه األســئلة تتجــاوز مــا هــو نظــري إىل مــا
رمبــا تكــون أبــرز مظاهــر امليــل لدمــج العلــاين يف هــو عمــي لتنظــر يف الســن األصلــح للقيــادة ،أو يف خطــة
مجــال الرشيعــة يف العديــد مــن الدوائــر اإلســامية هــو أي سياســة هجــرة هــي الرعايــة الصحيــة األنفــع ،أو يف ِّ
الرتكيــز املفــرط عــى االجتهــاد .وال شـ َّـك أن االجتهــاد مه ـ ٌّم كاف .وهــذاأفضــل للمجتمــع وتخــدم مصالحــه بشــكل ٍ
يف إطــار الســعي إىل تجــاوز معطيــات عــامل مــا قبــل الحداثــة مــا ال ميكــن تقديــره بالعــودة إىل النصــوص ،أو اللــوازم
وافرتاضاتــه وآرائــه الســائدة ،واإلبحــار وســط هــذه األمزجــة الرشعيــة ،بــل يجــب أن تتبعهــا وســائل علامنيــة غــر
الجديــدة والظــروف املتغــرة .لكــن هــذا يرتبــط باملجــال رشعيــة (مثــل :املالحظــة اإلمربيقيــة ،والتجربــة العمليــة،
الرشعــي الرصيــح باملعنــى الدقيــق للكلمــة( .((7ومــن ث َــ َّم وعلــم نفــس الطفولــة ،والطــب الحديــث ،واإلدارة العامــة،
فــإن الرتكيــز املفــرط عــى االجتهــاد يــرك التجســيد امللمــوس والعلــوم الحســابية [االكتواريــة] ومــا شــابهها) وجميعهــا ال
واألمثــل للقيــم اإلســامية أو الرشعيــة وأظهــره يف حالــة مــن تســتم ُّد ماهيتهــا أو ســلطتها مــن الرشيعــة ،وبالــرورة ال
االلتبــاس واإلهــال .وعــاد ًة مــا تكــون النتيجــة اعتــا ًدا يف نوســع مــن أفــق نظرنــا ليشــمل :لوائــح
تعارضهــا .وعندمــا ّ
غــر محلــه عــى النشــاط الفقهــي اإلســامي ،وتنافـ ًرا محبطًــا إدارة الطــران ،والسياســة النقديــة ،وأكــواد تنظيــم البنــاء،
بــن إدراك املُثُــل اإلســامية أو الرشعيــة ،والواقــع اليومــي وسياســة التعليــم ،وقوانــن تقســيم املناطــق ،وإجــراءات
امللكيــة ،ولوائــح جــوازات الســفر ،وقامئــة مــا ال يحــى مــن
الحديــث.
قضايــا املجــال العــام ،ســيتضح هــذا النطــاق وتــرز أهميتــه.
فــإذا ســعينا إىل تقليــل هــذا التنافــر بتكثيــف االجتهــاد
وحتــى تتضــح الح َّجــة هنــا ،فهــي ليســت دعــوة
ـري بنــا يف كثــر
زاد األمــر إشــكاليةً .ولنفــرض -كــا هــو حـ ّ للتفكــر يف هــذه القضايــا عــى نحــ ٍو يخلــو متا ًمــا مــن
مــن الحــاالت -أن املشــكلة ليســت يف فحوى الحكــم الرشعي
االعتبــارات الرشعيــة وســلطانها .فعــى ســبيل املثــال ،قــد
بحــد ذاتــه ،أو أنــه ُمح َكــم وال مجــال فيــه «للتأويــل» (مثــل
ميثّــل رأي الرشيعــة يف اعتبــار الشــفقة والحنــان رضوريَّـ ْـن
تحريــم الزنــا) ،فــإن اإلشــكال ينبغــي أن يكــون يف تنزيــل
لتخصــص علــم نفــس الطفــل ،أو لصالــح الطفــل مرشً ــدا ُّ
الحكــم وتجســيده يف الواقــع( .((7فــإذا كان ذلــك كذلــك ،فــإن رأيهــا يف رضورة احــرام حقــوق الجــار يف بنــاء املســاكن
االجتهــاد -مبــا هــو اســتنباط لألحــكام مــن مصادرهــا -يغــدو لتخصــص الهندســة املعامريــة .لكــن بينــا غــرض مرشــ ًدا ُّ
الرشيعــة هــو إصــدار األحــكام ،فــإن معايــر تقييــم الكفــاءة
( ((7قــد يُعــرض عــى كالمــي بدعــوى أنــه تب ـ ٌع لتعريفــي الضيــق لالجتهــاد.
واألمــان والربــح والجــال واملــرح ليســت مقــوالت رشعيــة.
لكــن أي محاولــة للعــودة إىل منظــور فــرة التكويــن الترشيعــي ،حيــث ومــع ذلــك ،فقــد تكــون رضوريـ ًة لتحقيــق مــا يقـ ّره اإلســام
كانــت الحــدود بــن التفســر والتجريــب غــر محــددة أو غائبــة ،ســتق ّر
بهــذا التعريــف .وباإلضافــة إىل ذلــك ،ال بـ َّد أن نأخــذ يف االعتبــار االنتهــاكات -ورمبــا الرشيعــة -مــن مصالــح .فعــى ســبيل املثــال ،ال ميكــن
املحتملــة للفقــه إذا طُبــق االجتهــاد مــن هــذا املنظــور يف العــر الحديــث.
أي دعــوة أو إقـرار بالتمييــز بــن علــاء النصــوص وعلــاء الواقــع
االدعــاء بــأن ســن القيــادة الــذي ال يراعــي الســامة ،أو
وثان ًيــا :إن َّ
ـي بــأن مــا يُـراد يف كثـرٍ مــن الحــاالت ليــس اف ضمنـ ٍّال بـ َّد أن تقــرن باعـر ٍ إق ـرار خطــة رعايــة صحيــة وطنيــة غــر ف َّعالــة ،أم ـ ٌر يخــدم
حكــم الرشيعــة ،وإمنــا أحــكام تقييمــة أخــرى .وإال فإننــا ســنبقى يف حــدود
املجــال الرشعــي ،ويف نطــاق علــاء النصــوص عمليًّــا. الغايــات واملقاصــد التــي تسـ ّوغها الرشيعــة بــل وتنــادي بهــا.
ومــن ث َ ـ َّم فــا ميكــن الجمــع بــن تجاهــل فئــات التقييــم
( ((7حتــى قاســم أمــن -عــى ســبيل املثــال -يذكــر أن مشــكلته ليســت يف
الحجــاب ذاتــه ،وإمنــا عــى شــكلٍ منــه تعــارف عليــه النــاس يف مــر يف العلامنيــة هــذه ،وتحــري تحقيــق املصالــح التــي يق ّرهــا
نصوصــا تقــي بالحجــابً ذلــك الوقــت« :لــو أن يف الرشيعــة اإلســامية
ي اجتنــاب عــى مــا هــو معــروف اآلن عنــد بعــض املســلمني لوجــب ع ـ َّ
اإلســام أو تؤ ّمنهــا الرشيعــة.
رةالبحــث فيــه ،ولَـ َـا كتبــت حرفًــا يخالــف تلــك النصــوص مهــا كانــت مـ َّ
يف ظاهــر األمــر؛ ألن األوامــر اإللهيَّــة يجــب اإلذعــان لهــا بــدون بحــث وال ومــع ذلــك ،ال ميكــن القــول بــأن ســن القيــادة القانــوين
نصــا يف الرشيعــة يوجــب الحجــاب عــى الطريقــة مناقشــة ،لكننــا ال نجــد ًّ ـي» أو ضــد «القانــون
املعهــودة» .انظــر كتابَــه تحريــر املــرأة يف :قاســم أمــن ،األعــال الكاملــة، أو خطــة الرعايــة الصحيــة «قانــون إلهـ ّ
تحقيــق :محمــد عــارة (القاهــرة :دار الــروق1409 ،هـــ1989/م) ،ص.352 اإللهــي» ،حتــى وإن اندرجــت ضمــن النطــاق العــام للقانــون
15
اإلسالم خارج الحكم الشرعي
ميارســه النــاس فـرادى وجامعــات باشــتباكهم الثقــايف الواعــي غــر مجـ ٍـد(.((7
مــع العلــاين اإلســامي .لكــن محمــد عبــده بــدل أن يلتفــت فعــى ســبيل املثــال ،يف معــرض ٍ
نقــد الذع لشــكل
إىل هــذا ال ُب ْعــد العلــاين ،غــر الرشعــي مــن املشــكلة، الــزواج يف أوائــل القــرن العرشيــن ،انتقــد محمــد عبــده
بــدا وكأنــه يكثــف االجتهــاد بالعــودة إىل نصــوص القــرآن (ت1905 .م) الفقهــاء بســبب نظرتهــم املثــرة للشــفقة إىل
والســنة ،وتك ـرار رشوطهــا لتحقيــق الســعادة الزوجيــة ،ال ُّ مؤسســة الــزواج ،ال ســيام أنهــا تحـ ُّط من قــدر املــرأة .فيقول
ســيام بالنســبة إىل النســاء ،فيقــول« :ومــا علينــا إال أن نســمع
إن تعريفــات الفقهــاء ال تركِّــز إال عــى متتُّــع الرجــل بجســد
ـح
صــوت رشيعتنــا ،ونتبــع أحــكام القــرآن الكريــم ،ومــا صـ َّ زوجتــه ،و«كلهــا خاليــة عــن اإلشــارة إىل الواجبــات األدبيــة
مــن ُسـ َّنة النبــي صــى اللــه عليــه وســلم ،وأعــال الصحابــة،
[التــي هــي أعظــم مــا يطلبــه شــخصان مهذبــان كل منهــا
لتتــم لهــا [للنســاء] الســعادة يف الــزواج»(.((7
مــن اآلخــر]»( ،((7ومــن ثَـ َّم انحـ َّط الــزواج إىل منزلــة وضيعــة،
وبالرغــم مــن ن َّيــة محمــد عبــده الحســنة وعذوبــة بــدل أن يكــون نظا ًمــا جميـ ًـا أساســه املــودة والرحمــة بــن
منطقــه ،فــإن طريقتــه هنــا يه ّددهــا عــدم اســتيعاب قــدرة الز َو ْجــن .وباملناســبة ،يــرى طــال أســد أن النفــوذ األورويب
رشعــي مــا ،تأثــر
ٍّ الثقافــة عــى التأثــر يف اســتقبال حكــمٍ كان يوجــه الخطــاب املــري حــول الجنــس يف هــذا الوقــت
ال يقـ ُّـل عــن فحــوى الحكــم ذاتــه .فحتــى لــو أك ـ َّن الرجــل بالتحديــد(.((7
لزوجتــه بالــغ املــودة والرحمــة ،فــإن ذلــك وحــده ال يضمــن
شــعورها بالحــب والحنــان .بــل إن ذلــك يعتمــد عــى قدرتــه لكنــي لــن أركِّــز عــى نقــد محمــد عبــده ،وإمنــا عــى
عــى ترجمــة هــذه املشــاعر إىل أفعــال صادقــة ينقلهــا إىل الحــل الــذي يبــدو أنــه َعرضــه .ويبــدو مــن املنطقــي
زوجتــه .وهــذا أقــرب إىل كونــه شــأنًا ثقاف ًّيــا مــن كونــه افـراض أن الفقهــاء أغفلــوا «الواجبــات األدبيــة» ،ال لقســوة
معرفــة أو التزا ًمــا بالقانــون الدينــي يف حــد ذاتــه .فاملســلم فيهــم ،وإمنــا ألنهــا تقــع خــارج نطــاق اختصاصهــم الرشعــي،
«التقبيــل» (أو
َ «الصالــح» ،عــى كل حــال ،قــد ال يجيــد باعتبــار أنهــا واجبــاتٌ ال ميكــن للرشيعــة أن تضــع لهــا
التأنُّــق أو طيــب الــكالم) ،ومــن ث َـ َّم فــإن تكثيــف النصائــح تجســيدات جوهريــة يف شــكل أفعــا ٍل محــددة .بعبــارة ٍ
املنصــوص عليهــا (ال ســيام أنهــا موجــودة يف حالتنــا هــذه) أخــرى ،فـ«املــودة والرحمــة» قــد تعنيــان أشــياء مختلفــة
عــن املــودة والرحمــة ،ليــس لــه عظيــم أثــر .بينــا يبــدو تب ًعــا الختــاف الســياقات ،ومــن ث َــ َّم ميكــن تجســيدهام
أن التعديــات الثقافيــة -مبــا يف ذلــك تعزيــز املعرفــة متغــرة ومرتبطــة بالثقافــة ّ بطــرقٍ ال ت ُحــى ،طــرق
الثقافيــة -تش ـكِّل جــز ًءا كب ـ ًرا مــن الحــل ،فالثقافــة توجــه االجتامعيــة ،مــن إحضــار الزهــور إىل رشاء قطعــة مميــزة من
بشــكل أســايس طريقــة تجســيد القانــون ،مبــا يف ذلــك قيمــه اللحــم .أي إن تجســيدهام مل يكــن أم ـ ًرا رشع ًّيــا ،بــل نشــاطًا
الدينيــة ،والفضائــل ،والرؤيــة العامــة ،وتجلّيــه يف واقــع
الزمــان واملــكان؛ ففــي حالتنــا هــذه -عــى ســبيل املثــال-
ميكــن أن نــرى بوضــو ٍح كيــف يخــدم االفتتــان والجاذبيــة ( ((7قــد يســوغ لنــا ذلــك إلقــاء نظــرة عــى مالحظــة طــارق رمضــان ،أحــد أبــرز
دعــاة االجتهــاد« :بعــد التأصيــل املســتمر لالجتهــاد والتجديــد واإلصــاح
ــن مقاصــد الرشيعــة يف الســكن الزوجــي. غــر الرشعيَّ ْ عــى مــدار أكــر مــن قــرن ،مــا يـزال املســلمون -ســواء يف املجتمعــات ذات
األغلبيــة املســلمة أو املجتمعــات الغربيــة -يجــدون صعوبـ ًة يف التغلُّــب عىل
ومــع ذلــك ،فــإن اإلنتــاج الثقــايف يف حــد ذاتــه ليــس األزمــات املتالحقــة التــي ميــرون بهــا ،وتقديــم أكــر مــن مجــرد إجابــات
جزئيــة؛ حتــى هــذه اإلجابــات ظلــت اعتذاريــة أو [ناتجــة] عــن مواقــف
اجتهــا ًدا رشع ًّيــا .فــإن كان القانــون يحــدد األبعــاد التــي دفاعيــة يف غالبهــا» .انظــر كتابــه:
يجــب عــى الثقافــة أن تعمــل فيهــا ،فــا تســتطيع األحــكام Radical Reform: Islamic Ethics and Liberation (New York: Oxford Uni-
versity Press, 2009), 30.
-حتــى يف نطــاق الحــال -أن تخربنــا مــا الجميــل؟ أو املــرح؟ [الرتجمــة العربيــة للكتــاب :طــارق رمضــان ،اإلصــاح الجــذري:
األخالقيــات اإلســامية والتحــرر ،ترجمــة :أمــن األيــويب (بــروت،
أو العاطفــي؟ أو األنيــق؟ … إلــخ .فإنتــاج الثقافــة ببســاطة الشــبكة العربيــة لألبحــاث والنــر2009 ،م)].
ليــس مــن اختصــاص الفقهــاء ،بــل العكــس ،إنــه مجــال ومــن الغريــب أنــه يبــدو أحيانًــا واق ًعــا يف رشك تضخيــم الفقــه إىل
حــد إســباغ أهميــة لــه تتجــاوز مــا هــو قانــوين .وعندمــا يصــل الفقــه
العلــاين اإلســامي ،ويضطلــع «النــاس» بــه .وبينــا يقــ ّرر إىل منتهــاه ،يشـدّد عــى األخــاق باعتبارهــا بديـ ًـا مناسـبًا ،وهــو مــا
االجتهــاد جوهــر القانــون ،فــإن الثقافــة تشــارك مبــارش ًة أراه تهافتًــا للمقــرب األخالقــي ،انظــر مــا ســيأيت.
( ((7محمــد عبــده ،الــزواج ،يف :األعــال الكاملــة لإلمــام محمــد عبــده،
5مجلــدات ،تحقيــق :محمــد عــارة (القاهــرة :دار الــروق،
1427هـــ2006/م)( 70/2 ،واملقــال مــن ص 70إىل ص.)75
( ((7محمــد عبــده ،الــزواج ،ص .73وباملناســبة ،ليــس غــريض مــن رضب هــذا
املثــال أن أقــول إن محمــد عبــده أخفـ َـق -بشــكل عــام -يف إدراك العلــاين (78) Asad, Formations, 232-34.
اإلســامي. [يف الرتجمة العربية :ص.]257-253
16
العلــاين اإلســامي ليــس مرادفًــا لألخــاق ،بــاإلذن مــن أولئك فيــا ســاَّ ه بيــر بريغــر ( )Peter Bergerيف ســياقٍ آخــر
الذيــن يــرون «األخــاق» وحدهــا ترياقًــا «لإلفـراط يف توســيع «بنيــة تســويغ» القانــون( .((8إذ يــؤدي منتجــو الثقافــة -ال
مجــال الرشيعــة»( .((8ففــي الحقيقــة ،ليــس مثــة مــا يربــط الفقهــاء -دو ًرا حيويًّــا يف تهيئــة الظــروف االجتامعيــة ونــر
األخــاق بالعلــاين اإلســامي عــادةً؛ ألن القيــم واملصالــح املعرفــة الثقافيــة لإلحاطــة بأهــداف القانــون ومقاصــده
محــل النظــر ال تكــون أخالقيــ ًة يف ذاتهــا؛ فمفاهيــم مــن العليــا ،ومــن ث َ ـ َّم توليــد الت ـزام طوعـ ّ
ـي عــام بــه.
قبيــل األناقــة أو الفــرح أو الربــح ،أو حتــى الكفــاءة ،ليســت وبهــذا املعنــى يســوغ لنــا اعتبــار عا َّمــة املســلمني
أخالقي ـ ًة مبعنــى الكلمــة .وإن افرتضنــا مثـ ًـا أن الكفــاءة -يف وفقهائهــم مســؤولني عــن الحالــة العا َّمــة للنظــام االجتامعــي
حقيقتهــا -أخالقيــة ألنهــا عكــس التبذيــر ،فــإن تحديــد مــا الثقــايف والقانــوين ،وأنهــم مشــاركون (ســواء بشــكل ب َّنــاء أو
هــو كــفء عمل ًّيــا غــر ممكــن باعتبــارات أخالقيــة بحتــة. غــر ب َّنــاء) يف الحــراك الدينــي( .((8أمــا امليــل إىل «اإلفــراط
إن تحديــد ذلــك سيســتدعي األدوات العلامنيــة التــي ســلف يف توســيع مجــال الرشيعــة» وتجاهــل العلــاين اإلســامي،
ذكرهــا ،كالتفكــر أو العلــوم الحســابية أو الخيــال الثقــايف أو فيحجــب هــذه الرؤيــة .وبهــذا نصــل إىل التعامــل الثالــث
الخ ـرات القدميــة البســيطة. للمســلمني املعارصيــن مــع العلــاين ،حيــث تتح َّمــل
وكثــ ًرا مــا تتضــح األهميــة الهامشــية لألخــاق يف الرشيعــة واملؤسســة الدينيــة املســؤولي َة الكاملــة عــن ِّ
أي
ملموســا ،فقــد
ً مســاحة اإلنتــاج الثقــايف .ولنأخــذ مثــالً تنافــر بــن القانــون الدينــي و« ُمثُــل» الديــن ،ناهيــك عــن
كانــت حركــة أُ َّمــة اإلســام(- ((8بالرغــم مــن انحرافاتهــا «تطلعــات النــاس املرشوعــة».
ـات ناجعــة للتحديــات العقديــة -قــادر ًة عــى إبــداع مقاربـ ٍ وال أعنــي بذلــك أن العلــاين اإلســامي يُختــزل يف
الثقافيــة والوجوديــة واالجتامعيــة النفســية التــي تواجــه اإلنتــاج الثقــايف .ولكــن أهميــة الثقافــة يف هــذا الســياق،
املســلمني .لقــد م َّكــن ذلــك حركــة أُ َّمــة اإلســام مــن إنتــاج مثلهــا مثــل العــارة وعلــم نفــس الطفــل والعلــوم الحســابية
هويــة ثقافيــة «إســامية» يــر َّدد صداهــا فعل ًّيــا يف الســياق أو الهندســية يف سـ ٍ
ـياقات أخــرى (ســالفة الذكــر) ،تفيــد بــأن
األمريــي ،دون أن تعتمــد عــى املصنوعــات املاديــة الســائدة
يف العــامل اإلســامي (مثــل الثــوب والطاقيــة) .ومــن الواضــح
أن غالــب هــذه اإلبداعــات يتحــدى التصنيــف «أخالقي/غــر (80) See P. L. Berger, The Sacred Canopy: Elements of a Sociological
Theory of Religion (New York: Anchor Books, 1967), 110-13.
أخالقــي» .وحتــى اآلن كان نهجهــم أقــرب إىل النجــاح مــن يــرى بريغــر أن النجــاح الكبــر الــذي حقَّقتــه الربوتســتانتية الحديثــة املب ِّكــرة
أي عنــارص صوفيــة أو خارقــة الطبيعــة قــد أدى -مــن يف تجريــد العــامل مــن ِّ
غــره يف إنتــاج تعبـرٍ ثقــايف محــي عــن «اإلســام» يف أمريــكا، بــن أمــور أخــرى -إىل إضعــاف قــدرة الديــن عــى الحفــاظ عــى راهنيتــه يف
العــامل الحديــث ،مــا أدى إىل ظهــور وانتشــار رؤيــة علامنيــة (أي غــر دينيــة)
ـوي بالــذات ،وهويــة أخالقيــة متكَّنــوا بــه مــن تأمــن شــعو ٍر قـ ٍّ للعــامل .وال أقــول إن ذلــك مــا حــدث يف العــامل اإلســامي (ووضــع املســلمني يف
مســتقلة ،وهــي أمــور توافــق املقاصــد الرشعيــة واإلســامية الغــرب أمــر مختلــف) ،بــل وجهــة نظــري ببســاطة هــي أن «إطــار املحايثــة»
الفكــري والثقــايف الــذي يوجــد فيــه الديــن يؤثــر يف استســاغته بشــكل عــام
الســنة يف أمريــكا هــذه الســيميائية بوضــوح .ولــو اتَّبــع أهــل ُّ أســلوبًا للحيــاة.
الثقافيــة ،ألعــاق ذلــك جهــود اإلســاموفوبيا الحاليــة يف ( ((8وهنــا أرى االرتبــاط الشــديد لــرأي إدوارد برنــاي (،)Edward Bernays
ال ســيام مــع معطيــات عاملنــا املعــارص املعــومل« :إن التالعــب الواعــي
ر مه ـ ٌّم يف املجتمــعوالــذيك بالعــادات املنتظمــة للجامهــر وآرائهــم عن ـ ٌ
الدميقراطــي .أولئــك الذيــن يتالعبــون بهــذه اآلليــة غــر املرئيــة للمجتمــع
( ((8وهــذا يرتبــط -فيــا أحســب -باالتجــاه إىل مســاواة اإلســام باألخالقيــة يشـكّلون حكومــة غــر مرئيــة ،وهــي القــوة الحاكمــة الحقيقيــة لبلدنــا .إن
كأولويــة بالتــوازي مــع افــراض ألَّ قيــم أخــرى (كالنظــام ،والخوصصــة، رجــالً مل نســمع بهــم يحكموننــا ،ويقولبــون عقولنــا ،ويش ـكّلون أذواقنــا،
واألمــان ،والخرييــة) تنافــس األخالقيــة .ويُنظــر إىل الرشيعــة يف هــذا الســياق ويعـدّون أفكارنــا ،إىل حــد كبــر» .انظــر كتابــه الــذي ظهــر للمــرة األوىل عام
عــى أنهــا مســار حــريك أخالقــي يتيــح لنــا مــع األخــاق ضبــط األشــياء .ويف 1928م .Propaganda, New York: Ig Publishing, (2005), 37 :وقــد
الوقــت ِ
نفســه ،يغفــل عــن أن األخالقــي مــا يـزال مقرتنًــا بافعــل وال تفعــل، يوفــر لنــا ذلــك كذلــك الســياق الــذي نق ـدّر فيــه النظــرة التــي عـ ّـر عنهــا
ومــن ث َـ َّم يســتغلق العــامل عليــه بعيـدًا عــن الخــر والــر. مؤخـ ًرا الشــيخ يوســف القرضــاوي مــن أن التأثــر الــذي يحتــاج إليــه اإلســام
ليــس الجهــاد العنيــف ،أو التزا ًمــا أشــد جديــة بالعنــف املنظــم ،وإمنــا:
( ((8حركــة أمــة اإلســام ( ،)Nation of Islamأو البالليــون ،هــي حركــة «جيــش ضخــم مــن الدعــاة واملعلمــن والصحفيــن املدربــن القادريــن عــى
تأسســت يف أمريــكا عــام 1930م عــى يــد واالس فــرد للمســلمني الســود َّ مخاطبــة الجامهــر بلغــة العــر وأدواتــه ،مــن خــال الصــوت ،والصــورة،
محمــد ( ،)Wallace Fard Muhammadومــن أبــرز قادتهــا إليجــا محمــد والكلمــة ،ولغــة الجســد ،والكتــب ،واملنشــورات ،واملجــات ،والحــوارات،
( )Elijah Muhammadوابنــه وارث ديــن محمــد (Warith Deen والوثائــق ،والدرامــا ،والصــورة املتحركــة ،وأي يشء ميكــن أن يربــط النــاس
.)Mohammedوتجمــع أفكارهــا بــن اإلســام وأفــكار القوميــة الســوداء. باإلســام .هــذا الجهــاد الســلمي الــروري الــذي مل نقــم فيــه بواحـ ٍـد مــن
وقــد تعرضــت للقمــع خــال الحــرب العامليــة الثانيــة ،ونشــطت يف األلــف مــا هــو مطلــوب منــا» .انظــر :يوســف القرضــاوي ،فقــه الجهــاد،
الخمســينيات والســتينيات بفضــل انخ ـراط مالكــوم إكــس ()Malcolm X مجلــدان (القاهــرة :مكتبــة وهبــة1430 ،هـــ2009/م) .403-402/1 ،وبالطبع
فيهــا ،ثـ ّم طُـرِد منهــا وقُ ِتــل عــى أيــدي منتســبيها .ويقودهــا حاليًّــا لويــس تنــدرج كل هــذه األنشــطة يف إطــار العلــاين اإلســامي؛ فليــس منهــا مســلك
فرخــان ([ .)Louis Farrakhanاملرتجــم] رشعي.
ّ
17
اإلسالم خارج الحكم الشرعي
إىل بصــرة شــهاب الديــن الق ـرايف يف تفرقتــه بــن الرشعــي تصويــر املســلمني يف أمريــكا عــى أنهــم أجانــب ميثلــون
وغــر الرشعــي .فهــو يقـ ِّرر أن األداة الوحيــدة امللزمــة التــي خامســا.
ً طابــو ًرا
ال جــدال فيهــا يف اإلســام هــي الحكــم ،لكــن الحكــم ينقســم العلامين اإلسالمي والسياسة الرشعية
يف الواقــع إىل:
رمبــا يــرى الكثــرون يف غالــب مــا ســلف إعــاد َة صياغــة
-1حكــم رشعــي ،ويســتند ســلطانه إىل اعتــاده عــى ملفهــوم السياســة الرشعيــة .لكــن السياســة الرشعيــة -كــا
النــص (وأدلــة قاعــة املحكمــة كذلــك يف حالــة التقــايض). أراهــا ،ال ســيام يف شــكلها الحديــث واملشــهور -ليســت
-2حكــم اجتهــادي ،ويســتند ســلطانه إىل ســلطة الــوايل مقاربـ ًة مناســب ًة للعلــاين اإلســامي وال بديل ًة لهــا .فالقرارات
(أو قُــل الدولــة) يف توخــي مصالــح املجتمــع الراجحــة .ثــم والسياســات -ال ســيام التقديريــة منهــا الصــادرة عــن الدولــة،
يفــ ّوض القــرايف -الــذي مل يكــن شــعبويًّا (وال دميقراطيًّــا وفقًــا لهــذه الرؤيــة [الحديثــة] للسياســة الرشعيــة(-((8
بالطبــع) -ســلطة مه َّمــة «لألُ َّمــة» .فهــو يش ـ ِّدد عــى أن مــا ليــس مــن الــروري أن تتأســس مبــارش ًة عــى النصــوص،
ين ُفــذ مــن ترصفــات الــوالة والقضــاة ليــس مــا يصــدر منهــم بــل يكفــي أن تتوافــق معهــا( .((8لكــن املشــكلة يف هــذه
ملج ـ َّرد صــدوره منهــم ،وإمنــا مــا يجلــب مصلح ـ ًة أو يــدرأ أي تقييــم إىل الســؤال عــن «الجــواز» القاعــدة أنهــا تختــزل َّ
مفســد ًة( .((8وهــو مــا مي ِّكــن املجتمــع مــن مســاءلة هــذه أو «اإلباحــة» ،وتغفــل الســؤال الكيفــي عــا هــو أفضــل
الترصفــات أو رفضهــا إذا رأى فيهــا تعارضً ــا مــع مــا هــو وأنســب يف الواقــع .فتب ًعــا لهــا ميكــن أن ميــرر نظريًّــا الحــد
أفضــل للمصلحــة العا َّمــة(.((8 ميل/الســاعة عــى الطــرق الرسيعــة ،أو األقــى للرسعــة ً 30
39عا ًمــا سـ ًّنا للقيــادة القانونيــة .وكذلــك ميكــن للسياســيني
واعــرف الق ـرايف بنــو ٍع مــن «الق ـرارات الرســمية» غــر
ـات حكوميــة أو اقتصاديــة كارثيــة أو املســؤولني وضــع سياسـ ٍ
الحكــمَ ،وضَ عــه تحــت تصنيــف «التــرف» .والفــرق بــن
دون أن يكــون ذلــك كلــه محـ َّـل جــدل مــن منظــور السياســة
التــرف والحكــم أن األخــر يُفــرض أنــه ُمل ـزِم وغــر قابــل
الرشعيــة الحديــث .لكنــي أرى -عــى النقيــض مــن ذلــك-
للجــدل ،بينــا األول ُمل ـزِم إىل ح ـ ٍن وقابــل للجــدل .ففــي
أن املشــاركة الناجحــة يف العلــاين اإلســامي ال تتوقــف
حالــة اإلفــاس -عــى ســبيل املثــال -يحـ ُّـق للقــايض أن يبيــع
عنــد مســاحة كافيــة مــن االجتهــاد والنقــاش العقــاين غــر
حكــا.
ً ممتلــكات املفلــس ،ويُ َعــ ُّد هــذا البيــع ترصفًــا ال
الرشعــي ،بــل كذلــك حــق املجتمعــات املــروع يف الضغــط
وبعبــارة أخــرى ،بينــا يُتصــور أن هــذا التــرف صحيــح
ات وسياسـ ٍ
ـات صالحــة نوع ًّيــا وعمل ًّيــا. مــن أجــل ق ـرار ٍ
و ُمل ـزِم ،فهــو يســوي الن ـزاع يف قضيــة بعينهــا ،فإنــه ميكــن
الطعــن فيــه وإلغــاؤه ،وهــذا مــا ال يحــدث مــع الحكــم. وبــدل مقاربــة السياســة الرشعيــة الحديثــة ،ســأحيل
وهــذا يعنــي أن للمديــن أن يعــرض بصــورة مرشوعــة
ـاض آخــر (أو عــى بيــع ممتلكاتــه بثمــن بخــس .وميكــن لقـ ٍ
( ((8أدرك أن إشــاريت هنــا إىل املقاربــة الحديثــة للسياســة الرشعيــة مفرطــة
مســؤول آخــر) عنــد تلقــي الشــكوى أن يلغــي هــذا البيــع يف التبســيط ،لكــن التبايــن الــذي يــدور يف ذهنــي ميكــن أن يتضــح مــع
إلغــا ًء رشع ًّيــا ويطالــب بثمــن معقــول. املقارنــة بــن املفهو َمـ ْـن الحديــث والقديــم .يــورد محمــد جميــل غــازي يف
مقدمتــه لكتــاب ابــن قيــم الجوزيــة الطــرق الحكميــة يف معرفــة السياســة
الرشعيــة تعريـ َـف السياســة عنــد ابــن عقيــل الحنبــي (ت513 .هـــ1119/م)
جنبًــا إىل جنــب مــع تعريــف عبــد الوهــاب خــاف املعــارص .فيقــول ابــن
عقيــل« :السياســة مــا كان فعـ ًـا يكــون النــاس بــه أقــرب إىل الصــاح وأبعــد
( ((8انظــر عــى ســبيل املثــال :القــرايف ،الفــروق 4 ،مجلــدات (بــروت :عــامل عــن الفســاد ،وإن مل يضعــه النبــي وال نــزل بــه وحــي» .أمــا تعريــف عبــد
الكتــاب ،بــدون تاريــخ) .39/4 ،حيــث يناقــش مــا ينفــذ مــن هــذه الوهــاب خــاف فهــو« :السياســة الرشعيــة هــي تدبــر الشــؤون العامــة
الترصفــات ومــا ال ينفــذ. للدولــة اإلســامية مبــا يكفــل تحقيــق املصالــح ودفــع املضــار مــا ال يتعــدى
حــدود الرشيعــة وأصولهــا الكليــة وإن مل يتفــق وأقــوال األمئــة املجتهديــن».
( ((8انظــر عــى ســبيل املثــال :القـرايف ،اإلحــكام يف متييــز الفتــاوى عــن األحــكام انظــر :ابــن قيــم الجوزيــة ،الطــرق الحكميــة يف معرفــة السياســة الرشعيــة،
وترصفــات القــايض واإلمــام ،تحقيــق :عبــد الفتــاح أبــو غــدة (حلــب: تحقيــق :محمــد جميــل غــازي (القاهــرة :مكتبــة املــدين ،بــدون تاريــخ) ص،
مكتبــة املطبوعــات اإلســامية1387 ،هـــ1967/م) ،ص .183إذ يــورد حــاالت، غ .وقــد أورد عبــد الوهــاب خــاف التعري َفـ ْـن كذلــك يف كتابــه السياســة
مثــل إعــان الحاكــم للجهــاد ،حيــث ميكــن للمجتمــع أن يتجاهــل ترصفاتــه أي توتــر بينهــا.
الرشعيــة (ص ،)17-15وعــى مــا يبــدو دون أن يــرى َّ
إذا رأى أنهــا تفتقــد املضمــون أو الرشعيــة. وباملناســبة ،ميكننــا أن نالحــظ يف تعريــف ابــن عقيــل انطــواءه عــى اعـراف
[يقــول الق ـرايف« :النــوع الســادس :مــن ترصفــات الحــكام ،الفتــاوى بحــدود للرشيعــة ،وبعدهــا ينبغــي أن يُعتمــد عــى األفعــال االجتهاديــة
يف األحــكام يف العبــادات وغريهــا ،مــن تحريــم األبضــاع ،وإباحــة ـص.
فيــا مل يــرد فيــه نـ ٌّ
االنتفــاع ،وطهــارات امليــاه ،ونجاســات األعيــان ،ووجــوبالجهــاد،
وغــره مــن الواجبــات ،وليــس ذلــك بحكــم ،بــل ملــن ال يعتقــد ( ((8انظر عىل سبيل املثال:
ذلــك أن يفتــي بخــاف مــا أفتــى بــه الحاكــم أو اإلمــام األعظــم». F. Vogel, Islamic Law and Legal System (Leiden: E. J. Brill, 2000), 173-4.
-املرتجــم]. وهو يناقش جوانب هذه املقاربة يف حالة اململكة العربية السعودية.
18
أذكــر .األوىل :عــن طريــق تعزيــز االعـراف الواســع برشعيــة ميكــن للعلــاين اإلســامي -باعتبــاره غــر رشعــي -أن
العلــاين اإلســامي ،لــن يكــون اتهــام املســؤولني يف كل مــرة يكــون موضــوع الحكــم االجتهــادي يف حالــة واحــدة ،عندمــا
يقرتحــون أو يطبقــون قــرارات أو سياســات ال تســتند إىل يخــدم األخــر برصاحــة وحســم مــا س ـاَّ ه الق ـرايف املصلحــة
أحــكام رشعيــة بحتــة بانتهــاك اإلســام ذا معنــى .الثانيــة: الراجحــة أو الخالصــة .غــر أنــه مــن الصعــب التســليم مبــا
متكــن املجتمــع مــن فــرض قــد ٍر مــن املســاءلة عــى قادتــه ـات يف مســاحة العلامين ات أو سياسـ ٍتتخــذه الدولــة مــن قـرار ٍ
مــن خــال الحــق املــروع يف مراقبــة جــودة قراراتهــم اإلســامي بنــا ًء عــى أوصــاف غــر حاســمة وال مضبوطــة،
االجتهاديــة .وأخــرًا :إدمــاج الســلطة يف واقــع العلــاين مثــل :آمــن وف َّعــال ومثمــر ومتنــور ثقاف ًّيــا… إلــخ .بعبــارة
اإلســامي ،باالمتنــاع عــن منــح ســلطة تلقائيــة وحصانــة أخــرى ،ليــس العلــاين اإلســامي بشــكل عــام مجـ َ
ـال الحكــم،
للقــرارات والسياســات التــي تقــع داخــل نطاقهــا؛ ألنهــا وإمنــا مجــال التــرف ،حيــث ميكــن الطعــن فيــه وإلغــاؤه
ليســت أحكا ًمــا تســتند إىل الرشيعــة. بشــكل رشعــي ،ســواء يف املجــال الخــاص (كحالــة اإلفــاس)
أفكار ختامية أو املجــال العــام (كالسياســات العامــة).
بالرغــم مــن توخّــي الحيطــة والحــذر ،ســيظل هــذا وفيــا يخــص هــذا األخــر ،أي املجــال العــام ،فــإن
للشــك يف أن مــؤدى مفهــوم «العلــاين ِّ التعبــر مثــ ًرا الحــق يف االلتــاس واالعـراض يعــود إىل املجتمــع ككل ،مبــا
اإلســامي» هــو وضــع املســلمني عــى منحــدر االنــزالق تراكــم لديــه مــن حكمــة وبصــرة وخــرة ،وميكــن للخـراء أن
إىل العلمنــة باملعنــى الغــريب والحديــث للكلمــة .وشــيئًا يــؤدوا دور املراقبــن والضامنــن يف هــذه العمليــة .وبعبــارة
فشــيئًا ،وتحــت وطــأة الثقافــة واملعرفــة الغربيــة املهيمنــة، أخــرى ،ســ ُيعد قــرار الدولــة يف واقــع العلــاين اإلســامي
ســتحثّ بنيــة العلــاين اإلســامي املســلمني عــى تأويــل أكــر صال ًحــا و ُمل ِز ًمــا مــا مل يُــر اعرتاضً ــا واض ًحــا مــن املجتمــع .أمــا
قــد ٍر مســتطاع مــن ســلطة الرشيعــة؛ لتربيــر توســعة مجــا ٍل إذا فشــل يف التوافــق مــع معايــره ،فللمجتمــع أن يســعى
يرشعــن االعتــاد عــى األدوات العلامنيــة مــن قبيــل :العقــل، يف تقوميــه دون أن يُتَّهــم بــازدراء الســلطة الرشعيــة .أمــا
والعلــم ،والــرأي العــام ،والعــرف ،والخــرة ،واملخيــال الثقــايف، اآلليــات الدقيقــة التــي يجــري مــن خاللهــا التفــاوض عــى
ومــا شــابه. هــذا كلــه وموازنتــه ،فهــي بطبيعــة الحــال أســئلة تقنيــة ال
يتســع لهــا املقــام هنــا ،ولكــن ميكــن اإلشــارة إىل نقطتَـ ْـن.
حقيقــي ،عــى أن مــا يؤكِّــد صوابيــةٌّ وإنــه لتحــ ٍّد
مســعاي هــو تذكُّــر حقيقــة أن تجاهــل العلــاين اإلســامي أول :أيًّــا مــا كانــت اآلليــات التــي يُتوصــل إليهــا ً
قــد أدى إىل إثقــال الرشيعــة وتحميلهــا مســؤولية معالجــة للتفــاوض عــى اســتخدام ســلطة الدولــة يف الواقــع غــر
كافــة املســائل املختلفــة معالجــ ًة عمليــةً .وعنــد الفشــل الرشعــي للعلــاين اإلســامي ،فإنهــا ســتتولد غالبًــا مــن
(الحتمــي) لهــذه املعالجــة (فعــى ســبيل املثــال :كيــف تخصصــات ،وأجهــزة، مــداوالت هــي نفســها ترتكــز عــى ُّ
ميكــن للرشيعــة أو كيــف ميكــن للفقهــاء أن يعلمــوا مــا ورؤى ،وخـرات غــر رشعيــة .مــا يعنــي أن كثـ ًرا مــا يــدور
يجعــل الزوجــة تشــعر بالحــب والحنــان ،أو كيــف ميكــن يف هــذه املــداوالت ســيتجاوز أســئلة الجــواز وعــدم الجــواز،
تعظيــم الــروة الشــخصية أو الجامعيــة؟) ،ســيؤدي اإلحبــاط ويتوقــف عــى اعتبــارات تجريبيــة (مثــل :الكفــاءة ،والنظــام،
الــذي يتبعــه إىل زيــادة جاذبيــة العلامنيــة باملفهــوم الغــريب والعدالــة ،والخصوصيــة ،ومــا إىل ذلــك) ،وكيفيــة متثيلهــا يف
والحديــث ليــس إلَّ .وباختصــار :بالرغــم مــن جســامة رشوط واضحــة ،بــدل االكتفــاء باإلقـرار بهــا نظريًّــا باعتبارهــا
االســتحقاقات املرتتِّبــة عــى هــذا الخيــار ،فإننــا أمــام خياريــن مصالــح راجحــة .وعــى هــذا األســاس ،لــن يســيطر الفقهــاء
ال ثالــث لهــا :إمــا العلــاين اإلســامي وإمــا العلامنيــة تخصصــاتعــى هــذه املــداوالت ،وإمنــا ســتناط بخـراء مــن ُّ
الغربيــة. وحقــول أخــرى غــر الحقــل الرشعــي .ويف الواقــع ،ينبغــي
إلَّ أننــا ســنظل مقرصيــن إذا تجاهلنــا كلــات االحـراز مــن أن تتحـ َّول ســلطة الفقهــاء الرشعيــة إىل ســلطة
مونتســكيو ( )Montesquieuاألريبــة« :ومــن أضمــن كُليَّــة متكِّنهــم ،بوصفهــم فقهــاء ،مــن التحــ ُّدث بشــكل
الوســائل أن يها َجــم الديــن بال ُّزلفــى ورغــد العيــش وأمــل ـي يف املجــال غــر الرشعــي للعلــاين اإلســامي. مرجعـ ّ
الغنــى ،وأال يها َجــم مبــا يُنــذر ،بــل مبــا يُنــى بــه ،وأال يها َجــم ثان ًيــا :للتفريــق بــن الرشعــي وغــر الرشعــي (أي بــن
مبــا يغيــظ ،بــل مبــا يقـ ِـذف يف الفتــور ،وذلــك حينــا تؤثــر الحكــم والتــرف) ثــاثُ منافــع يف التأســيس النظــري ،مل
األهــواء األخــرى يف نفوســنا وحينــا يصمــت مــا يوحــي بــه تــرد رصاحـ ًة يف مقاربــة السياســة الرشعيــة الحديثــة ،حســبام
19
اإلسالم خارج الحكم الشرعي
ومــن جهــة أخــرى ،فــإن املزيــد مــن االنتبــاه الواعــي الديــن مــن األهــواء»( .((8أي إن إفســاح مجــا ٍل أكــر للعلــاين
إىل العلــاين اإلســامي قــد يدلنــا عــى أن كث ـ ًرا مــا يُ َع ـ ُّد اإلســامي -غــر الرشعــي -يُســ ِكت الرشيعــة ويج ّمدهــا
«إســام ًّيا» هــو يف الحقيقــة ليــس تفســ ًرا للنــص ،وال (ورمبــا هــذا مــا يطالــب بــه خصومهــا) ،وســيؤدي ذلــك ال
اســتنا ًدا إىل تقري ـرات املذاهــب ،وإمنــا اســتعامل فقهــاء مــا محالــة إىل املزيــد مــن الالمبــاالة تجــاه مــا يُعــد دي ًنــا صامتًــا.
قبــل الحداثــة (وغريهــم) لعقولهــم وتصوراتهــم ومعارفهــم شــك أن أكــر تهديــد للديــن ليــس االضطهــاد ،وإمنــا وال َّ
الثقافيــة ،وغريهــا مــن ال َملَـكَات يف طريقهــم إىل اجتهاداتهــم
الالمبــاالة املتولــدة مــن عــدم راهنيتــه.
وغريهــا مــن االســتخالصات غــر الرشعيــة املناســبة لســياقهم
الخــاص .وبــإدراك ذلــك ميكــن للمســلمني املعارصيــن التحـ ُّرر إلَّ أن مثــة اعتباريــن أمت َّنــى أن يؤخــذا عــى محمــل
مــا ســبق عليــه الزمــن مــن األع ـراف ،واألمنــاط الســائدة، الجــد يف مواجهــة هــذا التحــدي .األول :أن دعــاة االجتهــاد ال
والتفضيــات ،والــرؤى ،والتحيــزات ،واالفرتاضــات ومــا يتوانــون عــن اإلشــارة إىل مضــار التقليــد( .((8ويُفــرض بالطبع
شــابه ،مــا قــد ميثّــل ســلط ًة عليهــم .فــإذا مل يعتمــد هــؤالء أن التقليــد ال يتض َّمــن قــراءة املصــادر ،وإمنــا تقريــرات
الســابقون بشــكل جوهــري عــى النــص مبــارشة وال ســلطان املذهــب التــي بدورهــا يُفــرض أنهــا قــرأت املصــادر ق ـراء ًة
الرشعــي ،فــإن أقــى مــا ميكــن أن يصلــوا إليــه لــن يعــدو صحيح ـةً .وهــو مــا مينــح هــذه الق ـراءات الثابتــة رشعي ـ ًة ال
خيــارات اجتهاديــة عمليــة ،حتــى فقهــاء مــا قبــل الحداثــة تتزحــزح .ويتوجــه الجــزء األكــر مــن االهتــام إىل «التقليــد
يع ّدونهــا مفتوح ـ ًة للنقــد واملراجعــة املســتمرة.
الفقهــي» ،لكــن تأثــر هــذه الظاهــرة ومنطقهــا ميتــ ُّد إىل
ومــن ث َــ َّم فإنــه ميكننــا -بإدراكنــا للعلــاين اإلســامي املجــال الســيايس واالقتصــادي واالجتامعــي الثقــايف .فكــا
واملشــاركة فيــه -تحريــ ُر قــوى العقــل والثقافــة واملخيــال يعــاين املســلمون املعــارصون مــن قيــود االســتنتاجات
عنــد املســلمني املعارصيــن -يف جميــع املجــاالت
الفقهيــة وشــبه الفقهيــة مــا قبــل الحديثــة ،التــي كانــت
والتخصصــات -مــن القيــود غــر املــررة للفهــم املفــرط يف ُّ
بالــرورة ُمرشبـ ًة بالحقائــق واالفرتاضــات واملشــاعر مــا قبــل
الشــمولية للرشيعــة والتاريــخ اإلســامي .وبذلــك قــد نق ّربهم
مــن اجتنــاب العلمنــة ،عــن طريــق إعفــاء الرشيعــة مــن الحديثــة ،فإنهــم رمبــا يعانــون أكــر مــن ســلطة معايــر مــا
ـأت الرشيعــةاملســؤولية عــن املعالجــة القــارصة لقضايــا مل تـ ِ قبــل الحداثــة االجتامعيــة والثقافيــة والسياســية ونفوذهــا،
ملعالجتهــا مــن األســاس ،وفتــح الطريــق أمــام املســلمني ـض مــع ـاط غامـ ٍالتــي تســتم ُّد مكانتهــا املفرتضــة مــن ارتبـ ٍ
املعارصيــن -مبــا فيهــم َمـ ْن هــم خــارج دائــرة علــاء الديــن النصــوص التــي يُفــرض (أو يُزعــم) أنهــا أســاس ســلطتها.
أو رمبــا هــم عــى وجــه الخصــوص -إىل اســتنفار مواهبهــم ومــن هــذا املنطلــق ،فــإن التغلُّــب عــى تأثــر «التقليــد
رضب مــن الســلطة املعرفيــة والثقافيــة ،ميكنهــم الســتعادة ٍ العلــاين» [ملــا قبــل الحداثــة] أصعــب مــن التغلُّــب عــى
مــن خاللهــا إعــادة تأســيس بنيــة مناســبة وكفــؤة عمليًّــا التقليــد الفقهــي ،فهــو أقــل وضو ًحــا ،ومــن ث َـ َّم أقــل قابليـ ًة
لإلســام يف العــامل الحديــث. للتحليــل النقــدي(.((9
ثان ًيــا وأخ ـ ًرا ،فكــا كــررت م ـرا ًرا طيلــة هــذا املقــال،
َــن ،حيــث ينطــوي فــإن الرشعــي والدينــي ليســا مرتادف ْ
الرشعــي لزا ًمــا عــى الدينــي ،ولكــن الدينــي ليــس حكــ ًرا ( ((8مقت َبس يف:
J. J. Owen, “Church and State in Stanley Fish’s Antiliberalism,” Ameri-
عــى الرشعــي بالــرورة .وهكــذا ،فــإذا نتــج عــن مشــاركتنا can Political Science Review 93, no. 4 (1999): 922.
[الرتجمــة العربيــة :مونتســكيو ،روح الرشائــع ،ترجمــة :عــادل زعيــر
يف العلــاين اإلســامي راحــة وأمــل ورغــد عيــش ،دون أن (القاهــرة :مؤسســة هنــداوي للتعليــم والثقافــة2013 ،م) ،ص.]816
نعتمــد يف ذلــك عــى «الرشعــي» باملعنــى الضيــق ،فــإن ذلــك
(89) Ramadan, Radical Reform, 22.
ال يعنــي -بخــاف مونتســكيو -الالمبــاالة باإلســام بوصفــه
دي ًنــا .ويف النهايــة ،بــن سياســة اقتصاديــة معقولــة وأخــرى، كل اســتنتاج علــاين توصــل إليــه املســلمون ( ((9هــذا ال يعنــي أن َّ
قبــل الحداثــة خاطــئ وغــر رشعــي وال مؤمتــن .بــل األمــر ببســاطة
وبرنامــج لعــاج اإلدمــان وآخــر ،وحــد أقــى للرسعــة وآخــر، ألي مجتمــع أن يســتند بالكليــة إىل القانــون مبعنــى أنــه ال ميكــن ِّ
الكلمــة ،وال حتــى بالنســبة إىل مؤسســاته القانونيــة .إذ ســيكون عــى
مثــة يشء غــر العقــل سريشــدنا إىل الق ـرار النهــايئ. املجتمــع االعتــاد عــى مختلــف املعايــر واالفرتاضــات غــر النص َّيــة.
ومــا هــو خــارج النــص ليــس بالــرورة خطــأ أو غــر رشعــي .بــل إن
وســيظل اإلســام يف هــذا الســياق (أي اإلســام بوصفــه القــرآن أرشــد النبــي والصحابــة إىل االعتــاد عــى أشــكال املعــروف
دي ًنــا ومنب ًعــا للهدايــة والبصــرة والفضيلــة والرشــاد يتجــاوز املوجــودة يف الجزيــرة العربيــة مــن قبــل اإلســام .وتــأيت املشــكلة
بالطبــع عندمــا تتوســل هــذه األعــراف بســلطة أكــر وأدوم مــا
يجــب أن تكــون عليــه ســلطتها.
20
العقــل) وثيـ َـق الصلــة باملجــال العلــاين اإلســامي .وبعبــارة
أخــرى ،فــإن يف أذن العلــاين اإلســامي َوقْــ ًرا مــن مقولــة
غروشــيوس «كــا لــو أن اإللــه غــر موجــود» .وهــذا هــو
الفــارق الجوهــري األهــم بينــه وبــن العلــاين الغــريب .وهــذا
يُلــزم املســلم -حتــى يف أشــد مســاعيه علامني ـةً -أن يكــون
ٍ
ارتبــاط وجــدا ٍّين دائــمٍ باإلســام بوصفــه دي ًنــا .ويف عــى
النهايــة ،وكــا أرشت إىل ذلــك يف موضـعٍ آخــر ،قــد ال يفتــح
القــول بــأن الرشيعــة نطــاق محــدود الطريـ َـق إىل العلمنــة
نفســه الــذي يفتحــه الشــعور أو االعتقــاد الغربيــة بالقــدر ِ
الســائد بــن املســلمني بــأن االعتــاد عــى االشــتباك الفكــري
الخالــص مــع «اإلســام» أو الرشيعــة أو العلــاين اإلســامي
يكفــي وحــده -دون طلــب الهدايــة واإلرشــاد مــن اللــه-
إلتقــان فــن الحيــاة(((.
21