Professional Documents
Culture Documents
استمارة المشاركة
مح ==ور البحث :الفك ==ر الع ==ربي المعاص ==ر بين التبعي ==ة و اإلب ==داع" .في الموض ==وع والمنهج الخط ==اب
الديني".
عنوان المداخلة:
محددات خطاب التجديد الديني المعاصر من حيث إعادة االعتبار للعقل والواقع
1
محددات خطاب التجديد الديني المعاصر
من حيث إعادة االعتبار للعقل والواقع
كمقارنة بني من اصطلح -من لدن البعض -1على تسميته باملفكر أو "املثقف" الديين والفقيه التقليدي؛
سنالحظ أن هناك تطلعات وأهدافًا اجته حنوها األول بعيدًا عن التحفظات واملسالك اليت ورثها الثاين.
وإلبراز هذا املعىن سنسلط الضوء على مواقف عدد من املفكرين الرواد ،بعضهم يزدوج فيه احلال من امتالك
ناصية كل من املثقف من جهة ،والفقيه أو املفسر املختص من جهة أخرى ،لكن خصال الثقافة والفقه معا فيه
بارزة إىل درجة غري قليلة من حيث ميوله وتكوينه الفكري ،كما هو احلال مع حممد عبده 2امللقب بالشيخ
اإلمام ،وبدرجة مغايرة مع تلميذه رشيد رضا ،3وكذلك صاحب الثمرة الناضجة جلهود املدرسة اإلصالحية
واملتميز –كما يبدو من خالل دراسة خطابه -يف مدرسة اجلامعة اإلسالمية معاصرنا حممد الغزايل ،الذي أرى
من خالل دراسة آثاره بأنه أحسن من مثل الدور اإلجيايب للفريقني وأخذ باحلسىن من كال الطرفني.
ال أحد خيطر يف باله أن الشيخ الغزايل قد ابتغى صوغ منظومة فكرية تصورية حمكومة بآليات
املنطق التقين ومنهجيات العلم الطبيعي السائرة ،على ما جتد عند املفكرين والفالسفة أو الالهوتيني أو
املتكلمني احملرتفني أو فالسفة العلوم الوضعية ،ألن منظومته اليت متثلها وأحياها وسعى على الدوام إىل
نشرها كانت "اإلسالم" نفسه ،يف مجلته ،ويف وجوهه التفصيلية املختلفة االقتصادية والسياسية
واالجتماعية واخللقية والروحية ،وألن املبدأ الرئيس املوجه لتجربته وحياته متثل يف أن "اإلسالم للحياة".
- 2محمد عبده بن حسن خير اهلل ( 1323 - 1266هـ = 1905 -1849م) أحد رجال الفكر اإلسالمي النابغني يف مصر يف القرن التاسع عشر
وأوائل القرن العشرين ،وعامل من علماء األزهر ومفيت الديار املصرية.كان خبًريا بالشريعة ومقاصدها ودارًس ا جيًد ا للقانون .حاول أن يضع تفكري املسلمني
يف خط انسجام وتوافق مع املكتشفات العلمية وظروف العصر احلديث ،وكان يدعو إىل حترير الفكر من قيود التقليد وكانت جلهوده وأفكاره آثارها يف
النهضة اإلسالمية .األعالم للزركلي ،ج ،6ص.252
- 3محمد رشيد رضا (1354-1282ه1935 -1865 ،م) .أحد رجال اإلصالح والفكر اإلسالمي يف مصر والعامل العريب ،من الكتاب العلماء
باحلديث واألدب والتاريخ والتفسريُ .و لد يف قرية القلمون قرب طرابلس الشام ،وتتلمذ على يد الشيخ حسني اجلسر صاحب كتاب الرسالة احلميدية .
ُمنح شهادة العاملية عام 1897م .تأثر بأفكار األفغاين وحممد عبده عن طريق جريدة العروة الوثقى ،من آثاره جريدة املنار؛ تفسري القرآن الكرمي؛ تاريخ
اإلمام الشيخ حممد عبده .ينظر-:الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ - . 1/288 ،مشاهري علماء جند وغريهم.
2
وواقع األمر أن املبادئ "املوضوعية" اليت أسست "العقل" لدى محمد الغزالّي 4كانت ماثلة على
الدوام يف مجيع أعماله العلمية والفكرية اليت نتداوهلا ونقلبها من أجل النظر والتأمل ،أو من أجل البحث،
أو من أجل نشدان الفائدة.
كما أن الذين استمعوا إىل دروسه أو التقوا به وبادلوه احلوار أو اجلدل أو السجال يعرفون ذلك حقًا.
وهذه املبادئ املوّج هة أربعة رئيسة هي :اإليمان والعقل والعلم والعاطفة الوجدانية.
وقد ميكننا ردها إىل حدين مركزيني ترتدد بينهما مجيع هذه املبادئ ومها:
حدا اإليمان من طرف أول ،وإليه يرد مبدأ العاطفة الوجدانية ،والعقل من طرف ثان ،وإليها يرد العلم
أساسًا.5
وعود على بدء أن ممن استشهدنا هبم هنا ال ينتمي إىل ما ذكرناه من التخصص الفقهي أو التفسريي،
لكنه ذو معرفة عالية بالشؤون اإلسالمية وثقافة واسعة يف ما عداها من قضايا الواقع ،كما يتجلى األمر لدى
عبد الرحمن الكواكبي.6
وبالتايل فإن من املمكن مقارنة املواقف املعرفية هلؤالء املفكرين مع نظائرها اليت تعود إىل الفقيه .فالذي
يطلع على أفكار هؤالء يرى أهنم يقفون موقفًا مغايرا للنهج الذي ارتسمه مجلة من الفقهاء قدميًا وحديثًا،
وقد اتصفت آراؤهم باجلرأة والصراحة.7
- 4محمد الغزالي ( 1335هـ 20 -شوال 1416هـ 22 /سبتمرب 9-1917مارس 1996م) عامل ومفكر إسالمي مصري ،يعد أحد دعاة الفكر
اإلسالمي يف العصر احلديثُ ،ع رف عنه جتديده يف الفكر اإلسالمي وكونه من "املناهضني للتشدد والغلو يف الدين" كما يقول أبو العال ماضي ،كما ُعرف
بأسلوبه األديب الرصني يف الكتابة واشتهر بلقب أديب الدعوة .سببت انتقادات الغزايل لألنظمة احلاكمة يف العامل اإلسالمي العديد من املشاكل له سواء أثناء
إقامته يف مصر أو يف السعودية.
- 5إسالمية املعرفة ،مقال ،العامل بني حدين :نظرة يف املبادئ املوجهة للتجربة الغزايل ،فهمي جدعان ،ص ص .72.71
- 6عبد الرحمن بن أحمد بن مسعود الكواكبي1902 -1855( ،م) .رحالة من الكتاب األدباء ومن رجال اإلصالح اإلسالميُ .و لد وتعلم يف
حلب ،وأنشأ فيها جريدة الشهباء فأغلقتها احلكومة ،وجريدة االعتدال ،فُعِّطلت .له من الكتب أم القرى؛ طبائع االستبداد ،وكان هلما عند صدورمها ردود
فعل قوية .وكان كبًري ا يف عقله ومهته وعلمه ومن كبار رجال النهضة احلديثة وكان كبريا يف عقله ومهته .تناول يف كتابه أم القرى أسباب احنطاط اجملتمع
اإلسالمي بتوسع وتفصيل ،حبث الكواكيب يف هذه األسباب على شكل حوار بني عدد من الشخصيات اليت ختَّيلها ،وتناوهلا بالتفصيل وبإيراد اُحلجج
والرباهني ،فكانت حتليًال علمًيا لواقع اجملتمع العريب اإلسالمي يف هناية القرن التاسع عشر امليالدي وعلمه ،ولسامي الدهان ،كتاب (عبد الرمحن الكواكيب -
ط) يف سريته .واألعالم للزركلي ،3/298واملوسوعة العربية العاملية.20/149
- 7حممد حيي ،دراسة منشورة على شبكة اإلنرتنت ،بعنوان" أسس التفكري لدى املثقف والفقيه :عنوان الرابط:
،http://fahmaldin.com/index.php?id=336تاريخ التصفح ،11/02/2014:الساعة.13.45 :
3
كإبراز للمحددات المنهجية اليت خطها فصيل املفكرين أو املثقفني خلطاهبم ،سيربز لدينا ما يلي:
الدعوة إلى تجديد النظر في الموروث الفكري الديني: -1
لعل أول حمدد منهجي مييز املفكر الديين ،والذي ميثله يف شرحنا هذا –حممد عبده ورشيد رضا
وحممد الغزايل الذين مجعوا بني الثقافة والفكر والفقه ،-وكانت مرجعيتهم املعرفية ومنطلقاهتم
االبستمولوجية اجلمع بني النص والواقع معا ،أي":اجلمع بني القراءتني" ،هو أهنم دعوا إىل جتديد
النظر يف املوروث الفكري الديين ،ومل يتوقفوا عند حد فتح باب االجتهاد باملعىن التقليدي.8
وهم هبذا يعدون أنفسهم غري مرتبطني بالفقيه واملفسر التقليدي لعدة اعتبارات كالتايل:
أـ نبذ العمل بالتقليد:
مل يعمد املفكر إىل العمل على األقل بالتقليد الذي هو شأن غالب الفقهاء ،بل أنه يعده من أهم
أسباب احنطاط األمة وختلفها .بل يف أحيان معينة جند أن املثقف واملفكر الديين ينكر التقليد كليًا ويعده
من الشرك الذي جتب حماربته من غري هوادة كالذي يذهب إليه حممد عبده وتلميذه رشيد رضا.
ومن ذلك تنديد هذا األخري مبقلدة الفقهاء حيث ساروا بطريق خيالفون فيه نصوص اآليات أو
ظواهرها ،مستشهدًا مبا نقله الفخر الرازي 9عن أحد شيوخه قائًال:
(قد شاهدت مجاعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثرية من كتاب اهلل تعاىل يف بعض املسائل
وكانت مذاهبهم خبالف تلك اآليات فلم يقبلوا تلك اآليات ومل يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إيل
كاملتعجب ،يعين كيف ميكن العمل بظواهر هذه اآليات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خالفها.
ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريًا يف عروق االكثرين من أهل الدنيا).10
وقد اعترب رشيد رضا أن هذه الظاهرة ظلت متفشية بقوة مع مّر الزمن إىل عصرنا هذا.
- 9أبو عبد اهلل محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين606-544( .هـ1210 - 1150 ،م).
أخذ العلم عن كبار علماء عصره ،ومنهم والده ،حىت برع يف علوم شىت واشتهر ،فتوافد عليه الطالب من كل مكان.كان الرازي عا ا يف التفسري وعلم
ًمل
الكالم والفلك والفلسفة وعلم األصول ويف غريها .ترك مؤلفات كثرية أبرزها تفسريه الكبري املعروف مبفاتيح الغيب ،وهو تفسري جامٌع ملسائل كثرية يف
التفسري وغريه من العلوم اليت تبدو دخيلة على القرآن الكرمي ،وقد غلب على تفسريه املذهب العقلي الذي كان يتبعه املعتزلة يف التفسري ،فحوى تفسريه كل
غريب وغريبة كما قال ابن خلكان.اخُتلف يف سبب وفاته ،وقيل مات مسموًم ا.وفيات األعيان ، 486 :1وطبقات الشافعية ،90 :4واألعالم للزركلي،
.6/313
- 10املنار ،ج ،8ص.169
4
كما كان الشيخ الغزايل يرفض التقليد األعمى واملطلق لألئمة السابقني ،ال سيما من أهل العلم ،بل
عليهم أن يستكملوا نقصهم العلمي ،وأدواهتم الثقافية ،حىت يبلغوا الدرجة اليت يتمكنوا فيها من النظر
والرتجيح بني األقوال ،كما اجتهد األولون ألزماهنم وبيئاهتم.
ويرى الشيخ أنه البد للفقيه املعاصر أن ينظر يف املرياث العلمي للعلماء املتقدمني يف أعصار اإلسالم
املختلفة نظرة جديدة ،يف ضوء مقررات الكتاب والسنة ،ومقاصد اإلسالم وكلياته القطعية ،ويأخذ من
أقوال الشراح ويدع ،فالنصوص معصومة ،ولكن أفهام الشراح وأقواهلم يف تفسريها غري معصومة.11
ومن ذلك أن الكواكيب اعترب أن توسيع الفقهاء لدائرة األحكام أدى إىل تضييق الدين على
املسلمني تضييقًا أوقع األمة يف ارتباك عظيم ،حبيث جعل املسلم ال يكاد يستطيع أن يعد نفسه مسلمًا
ناجيًا ،لتعذر تطبيق مجيع عباداته ومعامالته تبعًا لطلبات الفقهاء املتشددين اآلخذين بالعزائم .
‹‹فبذلك أصبح اجلمهور األكرب من املسلمني يعتقدون يف أنفسهم التهاون اضطرارًا ،فيهون عليهم التهاون
اختيارًا كالغريق ال حيذر البلل.
ألنه كيف يطمئن احلنفي العامي حق االطمئنان يف االسترباء لتصح طهارته؟
وكيف حيسن خمارج احلروف كلها وقد أفسدت العجمة لسانه لتصح صالته؟
وكذلك كيف يصحح الشافعي العامي نيته على مذهب إمامه يف الصالة؟ أو يعرف شّد ات الفاحتة
الثالث عشرة وينتبه إلظهارها كلها ليكون أدى فريضته؟››.12
وقد ضرب الكواكيب مثًال بارزًا على التوسع املغايل يف اآلراء الكثرية املتعلقة بالسواك.
إذ جاء عن النيب قوله‹‹ :لوال أن أشق على أميت ألمرهتم بالسواك›› ،13فعلى هذا احلديث تشعبت
اآلراء واتسعت ،حيث أخذ الفقهاء يبحثون عن نوع العود املستخدم يف السواك ،وعن طوله وطريقة
استعماله ،واألمكنة واألوقات اليت ينبغي فيها استخدامه ،وما إىل ذلك من تفريعات منافية للمقصد
الشرعي.14
- 11إسالمية املعرفة ،مقال ،نظرات يف تراث الشيخ الغزايل ،يوسف القرضاوي ،ص.26
-1312الكواكيب :أم القرى ،ص.344
-13رواه البخاري ( )887ومسلم ()252
-14أم القرى ،ص326ـ.327
5
كما أن حممد عبده هو اآلخر قد ندد بطريقة حبث الفقهاء يف التوسيع والتفريع واصفًا إياها بأهنا
هي اليت ضيعت الدين ،حيث أن الفرد العامي الذي يسعى إىل كسب معاشه ال يسعه صرف سنني طويلة
يف تعلم أحكام الطهارة وسائر العبادات من الكتب الطويلة الصعبة املألوف استخدامها لدى الفقهاء كما
يف األزهر ،فعلى حد قوله‹‹ :أي حاجة إىل هذه األحباث الطويلة؟ والتدقيقات يف مسائل املياه والطهارة
والصالة؟! قال :صلوا كما رأيتموين أصلي 15 وشرح صالته ووضوءه ،مما ميكن بيانه يف ورقات
قليلة ،16وكل ماء يشرب وينقى به البدن يطهر به.
كما أننا جند الغزايل يندد بتوسع الفقهاء وخباصة يف ميدان العبادات وبعض أبواب املعامالت حىت أنه
حفـل بأخيلة جتعل املرء يضحك حينا ،وجتعله يدهش أحيانا خلصوبة األذهان اليت تعرضت ألبعد الصور،
وأعقد القضايا بالتقريب واحلل ،ويف موضع من كتبه يصف التوسع يف هذه املباحث بالورم السرطاين
الذي يتضخم يف اجلسم على حساب أعضاء أخرى ،وإذا ضربنا مثال لذلك من الناحية السياسية فإن
الغزايل وفيما خيص النزعة االستبدادية حتديدًا يذكر (أن الفقه الذي يرشح أصحابه خلدمة الوحدة
اإلسالمية حيتاج إىل إضافات واجتهادات جديدة ،يستحيل أن تعجز عنها أصول الفقه عندنا…
وقد حتدث العلماء القدامى يف السياسة الشرعية ،والرتاتيب اإلدارية ،بيد أن حديثهم كان قليال ،ويبدو
أهنم أوجزوا حىت ال يصطدموا بالساسة ،ويتعرضوا للمحن…
ومع إجيازهم فقد وقفوا عند حاجات عصرهم ،وقد مضت قرون طويلة ،وهذا الضرب من ثقافتنا
اإلسالمية ال يعدو حاجات املسلمني حىت القرن السابع اهلجري ،فهل ينشط الفقهاء املسلمون ليجعلوا
التشريعات اإلدارية ،والدستورية ،والدولية ،مناسبة ملطالع القرن اخلامس عشر الذي احتفلنا مبقدمه من
بضع سنني ؟.17)..
- 115أخرجه البخاري يف صحيحه من حديث مالك بن احلويرث ،كتاب األذان باب .18
( -16األعمال الكاملة لإلمام حممد عبده ،حتقيق حممد عمارة ،املؤسسة العربية للدراسات والنشر)1973 ،م ،ج ،3ص.196
- 17حممد الغزايل ،سر تأخر العرب واملسلمني ،دار البعث ،قسنطينة ،اجلزائر ،ص.180
6
ولطاملا جند الشيخ قد ركز على هذه املفاهيم يف كتبه وحماضراته ولّو ح بلسان النقد إىل ضرورة
تعريج فقهاء القانون بغية معاجلة هذا اخللل اجللل الذي أصابنا يف حياتنا السياسية.
ويف هذا النص الذي سنسرده ما يشري إىل األخطاء املتمثلة يف اهتمام فقهائنا بناحية على حساب
نواحي أخرى ،تناوهلا الغزايل بقلمه املسطر ،وعقله املفكر ،فأبلغ يف العبارة ،وأوضح ما ينتج جراء
تقصرينا يف العناية مبثل هذه األمور جزائنا املنتظر ،من التخلف والتأخر ،وواجبنا يف االستفادة من جتارب
البشر يف هذا امليدان فقال( :كان من أخطاء الفكر اإلسالمي األوىل بذله جهدا مضنيا يف حبوث ما وراء
املادة ،فبّد د هبذا قدرا كبريا من طاقته دون جدوى ،ولغري سبب ،وخالف هبذا التفكري منهج القرآن
الكرمي يف البحث والنظر ،فإن اهلل يف كتابه أمرنا بالتأمل يف املادة ال فيما وراءها ،ويف الكون املشهود ،
ال يف الغيبيات املفرتضة واملوهومة ،وهذا العوج الفكري الذي حاربه العلماء احملافظون أساء إلينا يف
ناحية من حياتنا االجتماعية والثقافية.
وّمث عوج آخر أساء إلينا يف ناحية من حياتنا السياسية ،وهو فيما أرى نقص معامل الفقه
الدستوري من حياتنا الفقهية الرحبة ،مع وفرة مادته يف مواريثنا السماوية ،ومع احلاجة املاسة إليه يف
سرينا التارخيي الطويل.
وأعين بالفقه الدستوري :هذه الدراسات التشريعية اليت حتدد وظيفة احلاكم وصلته باألمة والسلطات اليت
ميلكها ،وطرائق الشورى اليت فرضها اإلسالم عليه واحلقوق والواجبات املتبادلة بني شىت األجهزة اإلدارية
اليت تشّك ـل عموما نظام الدولة.
إن كلمة َو َأْم ُر ُه ْم ُش وَر ى َبْيَنُه ْم [الشورى ]38:ال يكفي أن يلقيها واعظ من فوق منرب ،أو
يرسلها قارئ يف اهلواء ،فال تأخذ جمراها يف احلياة العامة قوانني ملزمة ،واختصاصات واضحة.
صحيح أن األّم ـة تدارست يف حلقات العلم حقائق كثرية يف ذلك اجملال ،لكن هذه الدراسات مل تأخذ
طريق االستبصار واالستبحار ،الذي يقدم للمجتمع اإلسالمي ضمانات وثيقة ،فال يتعرض لألزمات اليت
تكّو ن منه حاكما مسعورا ،أو اليت تقوده كارها إىل طريق الدمار…
إن الفقه اإلسالمي -يف ميدان العبادات واملعامالت -حفـل بأخيلة جتعل املرء يضحك حينا ،وجتعله
يدهش أحيانا خلصوبة األذهان اليت تعرضت ألبعد الصور ،وأعقد القضايا بالتقريب واحلل ،ومع ذلك
فإن هذه الناحية الدستورية مل تأخذ من العناية ما أخذته أبواب الغسل يف العبادات ،وال ما أخذته أبواب
البيوع يف املعامالت !!…
7
ومن يدري؟ لعل االحنراف األساسي يف تكوين السلطات العليا هو الذي أغرى بتلك النقائض؟
ويف رأيي أن اإلفادة من جتارب البشر يف هذا امليدان عظيمة اجلدوى ،إن البشر يف أقطار فيحاء،
وعلى آماد متطاولة لدغتهم آثام احلكم الفردي ،وهنشت حلمهم فال عجب إذا عملوا بنداء الفطرة على
حتصني أنفسهم ضدها ،وعلى وضع الدساتري اليت تتضمن العرب املستخلصة من صراع الظاملني معهم ،
وصراعهم مع الظاملني… وليس هذا نقال لفكر أجنيب يزاحم مواريث الدين ،أو يوهم بعدم كفايتها
حلاجات العصور.
كال إمنا هو نقل لوسائل متجددة بطبيعتها ،لتحقيق الغايات اليت جاء هبا الدين وإلنفاذ النصوص اليت
تضمنتها).18
ويؤكد الغزايل على ضرورة العناية بكتاب اهلل ،وتقدميه على ماسواه ،بقوله" :الذي أراين مضطرا
إىل التنبيه إليه هو ضرورة العناية القصوى بالقرآن نفسه ،فإن ناسا أدمنوا النظر يف كتب احلديث واختذوا
القرآن مهجورا ،فنمت أفكارهم معوجة ،وطالت حيث جيب تقصر ،وقصرت حيث جيب أن تطول،
وحتمسوا حيث ال مكان للحماس ،وبردوا حيث جتب الثورة.
إن الوعي مبعاين القرآن وأهدافه ،يعطي اإلطار العام للرسالة اإلسالمية ،ويبني األهم فاملهم من
التعاليم الواردة ،ويعني على تثبيت السنن يف مواضعها الصحيحة..
واإلنسان املوصول بالقرآن دقيق النظر إىل الكون ،خبري بازدهار احلضارات واهنيارها ،نري الذهن
باألمساء احلسىن والصفات العلى ،حاضر احلس مبشاهدة القيامة وما وراءها ،مشدود إىل أركان األخالق
والسلوك ومعاقد اإلميان ،وذلك كله وفق نسب ال يطغى بعضها على بعض ،وعندما يضم إىل ذلك
السنن الصحاح مفسرة للقرآن ومتممة هلداياته فقد أويت رشده".22
ومع أن للقلب أحكامًا ال يعرفها العقل –مثلما تقول عبارة باسكال 29الشهرية -فإن العقل جنده يشكل
مبدأ ومنطلقا وموجهًا أساسيًا يف املعرفة عند الشيخ الغزايل ،وثقته فيه أعظم بكثري من ثقة باسكال فيه،
-29بليس باسكال ( 1662 -1623م) .فيزيائي ،ورياضي وفيلسوف فرنسي اشتهر بتجاربه على السوائل يف جمال الفيزياء ،وبأعماله اخلاصة بنظرية
االحتماالت يف الرياضياتُ .و لد باسكال يف مدينة كلري مونت ـ فرياند بفرنسا .وقد أظهر نبوغا يف الرياضيات منذ أن كان طفًال ،واشتغل يف حركة دينية
تسمى اجلانسينية ،ويف أواخر عام 1654م دخل ديًر ا من أديرة هذه اجلماعة يف مدينة بورت ـ رويال .ظل باسكال يدافع منذ عام 1658م وحىت وفاته
عن عقيدته .وقد ُو جدت بعض أجزاء من عمله هذا الذي مل يكن قد اكتمل يف ذلك الوقت بعد وفاته ،وطبع باسم بنسيز .ويعرب هذا العمل عن إميان
باسكال بأن هناك حدوًد ا للحقائق اليت ميكن أن يدركها العقل ،وأن اإلميان من القلب بالرسالة املسيحية هو املرشد الرئيسي إىل احلقائق.
12
مثلما هي أعظم بكثري من ثقة مجلة فقهاء اإلسالم و"أصحاب احلديث" فيه ،ومن ثقة املتصوفة الذين
يزحيونه أصًال وابتداًء من الطريق.
والرأي عند مجلة من الدارسني والباحثني أن الشيخ الغزايل يتمثل يف هذه املسألة موقفًا يتفوق فيه
صراحة على مجلة جتارب الفكر اإلسالمي الكالسيكي اليت خّلفها املعتزلة والفالسفة ،وخباصة الغزايل
وابن رشد منهم ،واملتصوفة ،فضًال عن "أصحاب احلديث" بطبيعة احلال.
وأنا أعتقد أن رؤية الشيخ الغزايل للعقل –وأنا ال أحترج من أن أمسيها بــ"العقالنية الواقعية" -تبدو
يف سياق مرجعي إسالمي ،أكثر موافقة من تلك الرؤى لواقع األحوال البشرية يف عاملنا املعاصر.
ال شك يف أهنا ال تتوسل للتعبري عن نفسها باجلهاز الفلسفي واملنطقي الذي يستند إليه النظام املعريف
االعتزايل ،أو النظر االصطالحي الذي أتقنه أبو حامد الغزايل وبرع فيه ابن رشد ،لكنها تدرك الغايات
اليت تسعى إليها بآليات "إنسانية" أقرب إىل "احلس العام" و"البداهة" و"الطبع" و"الضمري".30
فالغزايل يؤكد مرارا أن اإلنسان عقل وقلب...
"وأريد أن أقرر دون تردد أن جهاد العقل اإلنساين ومكاسبه اليت ظفر هبا موضع احرتامنا ،وأن هذا
اجلهاد إن كان قد مضى يف طريقه منفردا ،مل يستصحب الدين معه فليس هو امللوم يف ذلك.
فإن كثريا من أهل الدين أساءوا إىل رهبم وإىل أنفسهم يوم خبسوا العقل قيمته ،وافتعلوا العراقيل أمام
حركته....إن عظمة اإلنسان تقوم على نشاط عقلي ال حدود له ،يواكبه نشاط عقلي ال يقل عنه
كفاءة ،بل يربو عليه".31
- 30إسالمية املعرفة ،مقال ،العامل بني حدين :نظرة يف املبادئ املوجهة للتجربة الغزايل ،فهمي جدعان ،ص ص .74.73
– 31حممد الغزايل ،ركائز اإلميان بني العقل والقلب ،دار القلم ،دمشق ،ط1420-4ه1999-م ،ص 23ـ . 24
13
الواقع كمصدر رئيس للمعرفة لدى المفكر الديني:
كذلك فبنظر هؤالء املصلحني يعترب الواقع مصدرًا رئيسًا للمعرفة ال غىن عنه.
فمحمد إقبال عرّب عن هذا املصدر بالتجارب واملالحظات واخلربات ،بل ورأى أن هناك اجتاها جتريبيًا
عامًا للقرآن يتبدى من خالل ما يستهدفه من ضرورة التأمل للطبيعة 32مؤكدًا أن النظر يف الكون
واآلفاق واألنفس ،وكذا الوقوف على أخبار األولني ،هي من مصادر املعرفة اإلنسانية حبسب القرآن
الكرمي.33
أما مرجعية الواقع بنظر الكواكيب فإهنا تشمل خمتلف امليادين ،مبا فيها الواقع الغريب ،وكذا التجارب
احلضارية واحلاجات االجتماعية ومجيع أصناف الثقافة املعتمدة على املوضوعات اخلارجية؛ كالعلوم
االجتماعية من احلقوق والسياسة واالقتصاد والفلسفة العقلية والتاريخ القومي واجلغرايف والطبيعي
والسياسي واالدارة الداخلية واحلربية.34
وإذا كان البعض من الرواد أبدى أنه ال يعمل بغري الكتاب والسنة ،كالذي نراه لدى حممد عبده
وتلميذه رشيد رضا ،فألن هذه التصرحيات أتت كرد على مسلك الفقهاء املقلدين الذين وضعوا
النصوص املباشرة من الكتاب والسنة خلف أظهرهم.
وهو ما يتبني مما ذكره رشيد رضا نقًال عن حممد عبده بأن شيخًا من أكرب الشيوخ سنًا وشهرًة يف
العلم قال يف جملس إدارة األزهر على مسمع املأل من العلماء‹‹ :من قال إنين أعمل بالكتاب والسنة فهو
زنديق›› ،مبعىن أنه ال جيوز العمل إال بكتب الفقهاء.
فرّد عليه حممد عبده قائًال‹‹ :من قال إنين أعمل يف ديين بغري الكتاب والسنة فهو الزنديق››.35
صحيح أن هذين الَعَلمني ومثلهما اإلمام حممد الغزايل يعملون بالكتاب والسنة كمختصني ال
خيتلفون من هذه الناحية عن الفقيه ،إال أهنما مل يتوقفا عند هذا احلد ،بل أضافا إىل ذلك مصدرًا معرفيًا
- 32حممد إقبال :جتديد التفكري الديين يف اإلسالمي ،ترمجة عباس حممود ،الطبعة الثانية ،1968 ،ص.21
- 33املصدر نفسه ،ص144ـ.145
- 34طبائع اإلستبداد ،ص.530
- 35املنار ،ج ،4ص.283
14
هامًا مستمدًا من الواقع ،إىل احلد الذي عمال فيه على تأويل النص لصاحل الواقع ،أو ترجيح مطالب هذا
األخري على األول ،سيما إذا ما أخذنا بنظر االعتبار حجم ضغط احلاجات الزمنية واحلضارية اليت
صادفتهما.
ويكفي أن نعلم بأن رشيد رضا قد رّج ح العلوم الكونية على الفقهية والكالمية يف فهم القرآن،36
وأنه اعترب إدخال العلوم الطبيعية أهم أركان التفسري والعمل هبدي القرآن المتالئه بذكر آيات اهلل يف
خلق السماوات واألرض .37األمر الذي دعاه إىل اجلمع بني العلمني الكوين والديين.38
كل ذلك مما له داللة على ما للواقع من مرجعية معرفية تأسيسية لفهم النص.
والشأن مع الغزايل نفسه إذ أن من املبادئ املوّج هة لتجربته املعرفية والروحية ولدعائم النظر
والعمل عنده مبدأ :العلم .والغزايل ليس "عاملًا طبيعيًا" وال "فيلسوف علم" ،لكن الناظر يف مصنفاته
يدرك جبالء أنه كان حريصًا بالغ احلرص على أن يتزود من املعارف العلمية ،ويتابع قضايا العلم
ومكتشفاته ليتسىن له اإلفادة منها يف نشاطه "الدعوي".
ومالحقة املسائل العلمية أمر تعلق به رجال النهضة اإلسالمية منذ أواخر القرن التاسع عشر،
واشتد تعلقهم هبا مع انتشار عدد من الفلسفات الطبيعية ذات السمة "اإلحلادية" وخباصة (الداروينية)،
وعلى وجه اإلمجال (املادية).
وقد اعتقد هؤالء املفكرون الذين تصدوا هلذه الفلسفات بالتحليل والنقد والرد أن االستقصاء
العلمي والتعمق يف مسائل العلم وقضاياه ومناهجه ييسر هلم هذه الرسالة ،ويؤدي إليهم أسلحة دفاعية
وهجومية من الطراز األول يف معركة الذب عن اإلسالم ورد هجمات خصومه "العلميني".
وقد كان الشيخ اللبناين الطرابلسي حسني اجلسر )1909-1745( 39أبرع من جرد أسلحة ماضية
يف وجه الداروينية ،كما كان املصري طنطاوي جوهري )1940-1870( 40من أبرز من عنوا مبتابعة
اجملاالت املختلفة للعلوم وجواهرها ،ولعجائب الكون اليت يكشف عنها العلم الطبيعي ،وللتعريف بالعلوم
العصرية ،وتقرير مساوقتها لنظام اإلسالم وآلي القرآن الكرمي.
- 39الشيخ حسين الجسر )1909-1845( :هو ابن الشيخ حممد اجلسر املعروف "بأيب األحوال" ،مما قاله رشيد رضا عن شيخه اجلسر" :وكان
أستاذنا العالمة الشيخ حسني اجلسر األزهري هو املدير هلا بعد أن كان هو الذي سعى لتأسيسها ،ألن رأيه أن األمة اإلسالمية ال تصلح وترقى إال باجلمع بني
علوم الدين وعلوم الدنيا على الطريقة العصرية األوروبية مع الرتبية اإلسالمية الوطنية جتاه الرتبية األجنبية يف مدارس الدول األوروبية واألمريكانية."..
صدر له أول كتبه" :نزهة الفكر يف مناقب موالنا الشيخ حممد اجلسر" وكذلك "الرسالة احلميدية يف حقيقة الديانة اإلسالمية وحقيقة الشريعة احملمدية".
- 40طنطاوي جوهري ُ :و لد يف قرية كفر عوض اهلل حجازي مبحافظة الشرقية عام 1862م ،التحق الشيخ طنطاوي يف مطلع حياته بكَّتاب القرية ،وأمت
فيه حفظ القرآن ،وبعد أن أمت احلفظ ظهر عليه ولُعه بالعلم ،فالتحق باجلامع األزهر عام 1877م ،ويف هذه الفرتة ظهر نبوغه كما ظهر ذكاؤه احلاّد ،فأجاد
علوم اللغة العربية والفقه اإلسالمي ،وأَّمل مبذهب اإلمام الشافعي .مل يكن الشيخ طنطاوي عا ا كسائر العلماء ،بل متَّيز يف كل نواحي العلوم ،فكان العامل
ًمل
الديين الوطين ،كما كان العامل االجتماعي العاملي ،مجع بني الثقافتني الدينية والطبيعية واإلنسانية ،فمزج املسائل الدينية باآلراء االجتماعية والسياسية ،كما
جاهد بقلمه ورأيه لرفعة شأن اإلسالم ،وكان يرمي إىل أن العلم إذا حُس ن فهُم ه كان أداًة صاحلًة لتفُّه م روح الدين.
16
واحلقيقة أنه يتعذر متاما أن نلقى أحدًا من املصلحني املسلمني احملدثني واملعاصرين إال وقد ُعين
مبسألة العلم ووشائجه بالدين .وهلم يف ذلك مناهج وأنظار وفهوم ليس هذا القول موضعها.41
والقضية عند الشيخ الغزايل قاطعة حمسومة" :إن الدين احلق والعلم مها تصوير متكامل للوجود".
وإن "العقول الذكية" هي وحدها اليت تستطيع "اخرتاق أسرار الكون ومعرفة آيات اهلل يف شىت
األمكنة واألزمنة" ،وهي وحدها اليت "متيز احلق من الباطل وتعرف حقائق الوحي" .42
لقد خلقت العقول "للتجاوب مع حقائق الكون" و "لتكون مفاتح خزائنه وكواشف أسراره" ،واحلضارة
اإلسالمية نفسها قامت على "العقل والبصر".43
وأبلغ من هذا وأبعد غورًا ما يصرح به من القول" :وحنن –باسم اإلسالم -نعترب تصديق احلقائق
العلمية دينا" .44وتأسيسًا على هذا القول يوجب "على علماء الكون واحلياة أن يروا تصديق احلقائق
الدينية العلمية العادية" .والعلة بّينة ،وهي أن اهلل هو مصدر احلقيقتني :الدينية والعلمية.
وهلذا السبب نفسه ميتنع متام االمتناع أن ينشأ تعارض أو تناقض حقيقي بني احلدين .وال ميلك الناظر
وهو يتأمل هذا الفهم إال أن يذكر ابن رشد وتقريره املشهور يف أمر االتصال بني العقل والشريعة ،وإن
كان من احلق أن نقول إنه ال يذهب مذهبه يف التأويل الذي يبدو وكأنه يقدم العقل على النص.
- 41إسالمية املعرفة ،مقال ،العامل بني حدين :نظرة يف املبادئ املوجهة للتجربة الغزايل ،فهمي جدعان ،ص.82-81
- 42حممد الغزايل ،اإلسالم واألوضاع االقتصادية( ،القاهرة :دار الصحوة ،ط ،)1987 ،7ص .195-194
- 43حممد الغزايل :هذا ديننا( ،القاهرة ،دار الشروق ،ط ،)1990،1990 ،2ص.42
- 44حممد الغزايل :حقوق اإلنسان ،ص.214
- 45حممد الغزايل :املرجع نفسه ،ص.214
17
واحلق الذي ال جلاج فيه ،يف معتقد الشيخ الغزايل ،هو أن هذا الوجه من املسألة ال ينبغي أن
يشغلنا عن "الغاية العظمى" اليت نـزل القرآن من أجلها.
فالواقع أن القرآن "من قبل ومن بعد ،كتاب هداية جامعة للسلوك اإلنساين الصحيح" ،وهو يف
هذا الشأن "استوعب كل شيء" مما يرجع إىل األمر باخلري أو النهي عن الشر ،ومما يتصل باملبادئ
املوجهة للسلوك البشري كاإلخاء والعدالة واحلرية واملساواة ،ومجلة احلقوق واملبادئ اليت تضمنها
اإلعالن العاملي حلقوق اإلنسان الذي أقرته اجلمعية العامة لألمم املتحدة يف العاشر من ديسمرب (كانون
األول) ،1948أي بعد أربعة عشر قرنًا من نـزول تعاليم اإلسالم يف هذه احلقوق.
وهذا التساوق بني الوحي والعقل السديد ليس أمرًا مبتدعًا ،فقبل أن ينـزل الوحي ويف املواطن
اليت مل تبلغها أشعته بعد أن نـزل ،مل يقف العقل اإلنساين جامدًا ،وإمنا مارس وظيفته يف اإلدراك ويف
استكناه طبيعة احلياة ورسالة اإلنسان فيها ،والكشف عن حقائق كثرية مما يتصل مبعرفة اهلل والعامل ،ويف
أمر العالقة بني اإلنسان وربه وبني اإلنسان وأخيه اإلنسان.
ويالحظ الشيخ الغزايل أن أبا حامد الغزايل قد تنبه يف املنقذ من الضالل إىل التوافق يف السياسة اخللقية
واالجتماعية بني أحكام الدين ومقررات الفالسفة ،وإىل أنه قد أرجعه إىل تأثر هؤالء مبواريث دينية عن
النبوات األوىل.46
ومع أن الشيخ الغزايل يرى أنه "قلما ظهر مذهب فلسفي وأصاب حلق يف نواحيه اإلهلية واخللقية
واالجتماعية كلها" ،وأن "يف التفكري البشري اجملرد آفات جيب أن حُت ذر" ،وخباصة حني تكون املعرفة
سطحية تتعلق بالظواهر ،فإنه يسوق قول أحد مفكري الغرب" :إن القليل من الفلسفة يبعد عن اهلل،
ولكن الكثري منها يرد إليه جل جالله"" .47ومع أن العقل البشري سار طويًال وحده ،إال أن حصيلة
الكثرة العظمى من الفالسفة ،وال قيمة للشواذ".
لكن "الدين –كما جاء من عند اهلل -هو اخلالصة النقية السهلة اليت مجعت احلق كله".48
- 46إسالمية املعرفة ،مقال ،العامل بني حدين :نظرة يف املبادئ املوجهة للتجربة الغزايل ،فهمي جدعان ،ص.83
- 47حممد الغزايل :حقوق اإلنسان ،ص..216-215
- 48املرجع نفسه ،ص.216
18
درء تعارض العقل والنقل:
وال بأس بأن نشرح موقف الشيخ الغزايل يف حتديد العالقة بني هاتني الدعامتني اللتني تقوم عليهما
املعرفة اإلنسانية والفعالية العملية لبين البشر :حد العقل ،وحد الوحي.
واملسألة –كما نعلم -قدمية ،وجهت إليها النصوص الدينية ،وخاض فيها املتكلمون وأصحاب الرأي
منهم خباصة ،وتكلم عليها الفالسفة :من الكندي– 49أوهلم -الذي قرر أن ما جاءت به الرسل قد ورد
"مبقاييس عقلية" 50،إىل ابن رشد –آخرهم -الذي جرد للمسألة رسالة هي فصل املقال وتقرير ما بني
الشريعة واحلكمة من االتصال ،وابن تيمية –شيخ السلفيني املتأخرين -الذي بذل بليغ وسعه إذ وضع
فيها مصنفه الضخم درء تعارض العقل والنقل.
يقول الشيخ حممد الغزايل" :هيهات أن خيتلف العقل والنقل أو تتناقض مثار الوحي والفكر ،ما دام
كالمها تصويرًا جمردًا للحقيقة كما هي دون ريبة أو عوج.
يف العالقة بني العلم والدين جيب أن نعرف أن قول العاقل وعمله ال خيتلفان.
وإذا كان الكون صنع اهلل والدين كالمه –جل شأنه -فيستحيل أن يكون يف املعارف الكونية ما
خيالف العلوم الدينية ،إذ العلم ليس إال وصفًا ملا صنع اهلل يف آفاق األرض والسماء ،وتقريرًا ملا بث فيها
من قوى وخصائص .وهذا البيان ألفعال اهلل يستحيل أن جييء يف وحي اهلل ما خيتلف عنه أو يصطدم به.
إن الدين احلق والعلم احلق مها تصوير متكامل للوجود".51
- 49أبو ُيوُس ف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي( ،؟ 260 -هـ ،؟ 874 -م) ..نشأ يف البصرة منذ العقد األول من القرن الثالث اهلجري.
وهو أحد أبناء ملوك كندة اشتهر بفيلسوف العرب ،تنسب إليه أوىل ترمجات جغرافية لبطليموس ،وقد ظهر تأثريها يف كتابه رسم املعمور من األرض
وللكندي رسالة مهمة يف البحار واملد واجلزر .واشتهر يف جماالت عديدة منها :الطب والفلسفة والفلك واهلندسة واملوسيقى ،ويزيد عدد مؤلفاته على
ثالمثائة .نال مكانة ممتازة لدى كل من املأمون واملعتصم ،لكنه لقي إهانة وأذى من املتوكل.
- 50أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي ،رسائل الكندي الفلسفية ،حتقيق حممد عبد اهلادي أبو ريدة( ،القاهرة :دار الفكر ،)1950 ،ج ،1ص
.254
- 51حممد الغزايل ،حقوق اإلنسان بني تعاليم اإلسالم وإعالن األمم املتحدة( ،اإلسكندرية ،دار الدعوة ،)1993 ،ص ص .214-213
19
التصور المبدئي للعقل وميدان عمله عند الشيخ الغزالي:
واحلقيقة أن التصور املبدئي للعقل عند الشيخ الغزايل هو تصور "توليدي" ،مبعىن أن العقل ال يدرك
حقائقه مرة واحدة وإمنا يسري "على طريق اجملهول"؛ إذ هو يدرك حقائق من مجلة احلقائق املستورة ،مث ما
يلبث أن يدرك حقائق أخرى فأخرى وهكذا .اجملهول القابل لالكتناه هو عامله.
وهذا العامل الرحب املمتد يشتمل على قطاعات ثالثة كربى:
.1قطاع الكون بعناصره املادية وآفاقه وقوانينه.
. 2قطاع الشؤون الدنيوية البشرية مما يتصل بارتفاق اإلنسان من الطبيعة وباألنشطة الصناعية والزراعية
والتجارية واحلرفية ،ومجلة اخلربات اإلنسانية.
. 3قطاع العالقات اإلنسانية القائمة على تعرف القوانني النفسية واخللقية واالجتماعية والسياسية اليت
حتكم اجلنس اإلنساين يف حياته على األرض.
ما هي حدود العقل يف هذه القطاعات الثالثة؟
ال يرتدد الشيخ الغزايل يف التحديد .فالكون مفتوح أمام العقل اإلنساين يستطيع أن يرتاده من غري
حدود والشؤون الدنيوية البشرية كذلك أيضًا ،إذ هي األخرى "جمال فسيح أمام الفكر اإلنساين يتحرك
فيه دون قيد وإىل غري حد".
أما "قطاع العالقات اإلنسانية والقوانني اليت حتكمها فله شأن خاص .ففي املواطن اليت مل تدركها
تعاليم الدين ينفرد العقل باألحكام .أما بعد نـزول الشرائع وحيث تصل تعاليمها فإن الكلمة هلا وحدها.
وهو يعتقد أن مجلة ما تقرر عند األمم خارج دائرة الدين ال يضاد الدين وإن كان مث أخطاء تتحمل
البشرية وزرها ،وحتتاج إىل الدين للخالص منها ،كما أنه يتابع أبا حامد الغزايل فيما ذهب إليه يف املنقذ
من الضالل إذ اعتقد أن مجلة ما هو مقبول من األمور اخللقية والسياسية واالجتماعية عند خمتلف األمم
مما يرتد مباشرة إىل الدين ،إمنا يرجع يف أصله إىل الشرائع السماوية القدمية.
لكن القول احلاسم النهائي هنا ينبغي أن يكون للدين.52
- 52حممد الغزايل ،دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن املستشرقني( ،القاهرة :دار الكتب اإلسالمية ،الطبعة اخلامسة ،)1988 ،ص ص -112
.113
20
أما ما مل يرد فيه نص أو نص حمكم من أمور الشريعة ،فإن الشيخ الغزايل يلتزم فيه جانب أهل
(الرأي) ،فيقر للعقل حبرية استخدام ملكته االستنباطية االجتهادية يف االستدالل لألحكام ،ويف استنباطها
وفق أصول االجتهاد اليت توّج ه فقه (أهل الرأي).
بتعبري آخر ،للعقل جماله الفذ :علوم الطبيعة والكون ،وشؤون الدنيا وصناعاهتا ،واستنباط األحكام
الشرعية اليت مل يرد فيها نص.
أما جمال الدين فهو القوانني والشرائع اليت حتكم العالقات اإلنسانية ،والعقائد والعبادات اليت تصل
املخلوق باخلالق .والوحي هو األصل الذي يرتد إليها كل شيء يف هذا اجملال.
وإننا لنجد عند القراءة يف خطاب الغزايل أن العقالنية الغزالية احملدودة تبدي أحكامها يف مسألة
التحسني والتقبيح العقليني اليت يتعلق هبا املعتزلة ،إذ يذهب الشيخ الغزايل مذهبًا "عقالنيًا معتدًال" فيوجه
النظر على "أن علماء املسلمني احملققني من سلف وخلف يرون أن يف بعض األشياء حسنًا أو قبحًا ذاتيني
يستطيع العقل معرفتهم ابتداء" ،لكنه مع ذلك يقول جازمًا" :إن العقل ال يغين عن شريعة اهلل ،وإن هلل
من عباده مطالب ال تعرف إال عن طريق النبوة".53
-فهمي جدعان :مفكر أردين من أصول فلسطينية ،من مواليد سنة 1940يف بلدة عني غزال الفلسطينية ،درس الفلسفة يف جامعة السوربون وحصل منها 55
على دكتوراه يف الفلسفة اإلسالمية وعلم الكالم سنة ،1968له آراء جدلية حول اإلسالم السياسي حاصل على جوائز عديدة ،كما مت اختياره لعنوان
الشخصية الفكرية لعام 2013من قبل بعض املؤسسات الثقافية يف بلده .من أهم أعماله :أسس التقدم عند مفكري اإلسالم في العالم العربي الحديث ،ط
،1املؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بريوت1979 ،؛ ط ،3دار الشروق ،عمان646( 1988 ،ص)-.احملنة – حبث يف جدلية الديين والسياسي يف
اإلسالم ،ط ،1دار الشروق ،عمان 1989؛ ط ،2املؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بريوت502( 2000 ،ص)-.الطريق إلى المستقبل :أفكار – قوى
لألزمنة العربية المنظورة ،املؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بريوت452( 1996 ،ص).
22
وقد كان ذلك كله استجابة فريدة لدعوته الدائمة أن "اإلسالم لإلنسان وللحياة".56
- 56إسالمية املعرفة ،مقال ،العامل بني حدين :نظرة يف املبادئ املوجهة للتجربة الغزايل ،فهمي جدعان ،ص.85
23