You are on page 1of 23

‫محددات خطاب التجديد الديني المعاصر‬

‫من حيث إعادة االعتبار للعقل والواقع‬

‫استمارة المشاركة‬

‫االسم واللقب‪ :‬حباسي خالد‬


‫الدرجة العلمية‪ :‬دكتوراه يف العقيدة والفلسفة‬
‫المؤسسة األصلية‪:‬كلية العلوم اإلسالمية جامعة اجلزائر‬
‫الدولة‪ :‬اجلزائر‬
‫رقم الهاتف‪ /‬الفاكس‪0666215802:‬‬
‫الوظيفة اإلدارية في الجامعة‪ :‬رئيس قسم العلوم اإلنسانية جامعة الوادي‬
‫البريد اإللكتروني‪habkhaled@gmail.com :‬‬
‫املشاركة يف املؤمترات والندوات‪:‬‬
‫‪ -‬اخلطاب الديين يف املنظومة الرتبوية‪،‬‬
‫‪-‬الفلسفة التطبيقية ومتثالهتا ملشكالت اإلنسان املعاصر‪...‬‬

‫مح ==ور البحث‪ :‬الفك ==ر الع ==ربي المعاص ==ر بين التبعي ==ة و اإلب ==داع‪" .‬في الموض ==وع والمنهج الخط ==اب‬
‫الديني"‪.‬‬

‫عنوان المداخلة‪:‬‬
‫محددات خطاب التجديد الديني المعاصر من حيث إعادة االعتبار للعقل والواقع‬

‫‪1‬‬
‫محددات خطاب التجديد الديني المعاصر‬
‫من حيث إعادة االعتبار للعقل والواقع‬

‫كمقارنة بني من اصطلح ‪-‬من لدن البعض‪ -1‬على تسميته باملفكر أو "املثقف" الديين والفقيه التقليدي؛‬
‫سنالحظ أن هناك تطلعات وأهدافًا اجته حنوها األول بعيدًا عن التحفظات واملسالك اليت ورثها الثاين‪.‬‬
‫وإلبراز هذا املعىن سنسلط الضوء على مواقف عدد من املفكرين الرواد‪ ،‬بعضهم يزدوج فيه احلال من امتالك‬
‫ناصية كل من املثقف من جهة‪ ،‬والفقيه أو املفسر املختص من جهة أخرى‪ ،‬لكن خصال الثقافة والفقه معا فيه‬
‫بارزة إىل درجة غري قليلة من حيث ميوله وتكوينه الفكري‪ ،‬كما هو احلال مع حممد عبده‪ 2‬امللقب بالشيخ‬
‫اإلمام‪ ،‬وبدرجة مغايرة مع تلميذه رشيد رضا‪ ،3‬وكذلك صاحب الثمرة الناضجة جلهود املدرسة اإلصالحية‬
‫واملتميز –كما يبدو من خالل دراسة خطابه‪ -‬يف مدرسة اجلامعة اإلسالمية معاصرنا حممد الغزايل‪ ،‬الذي أرى‬
‫من خالل دراسة آثاره بأنه أحسن من مثل الدور اإلجيايب للفريقني وأخذ باحلسىن من كال الطرفني‪.‬‬

‫ال أحد خيطر يف باله أن الشيخ الغزايل قد ابتغى صوغ منظومة فكرية تصورية حمكومة بآليات‬
‫املنطق التقين ومنهجيات العلم الطبيعي السائرة‪ ،‬على ما جتد عند املفكرين والفالسفة أو الالهوتيني أو‬
‫املتكلمني احملرتفني أو فالسفة العلوم الوضعية‪ ،‬ألن منظومته اليت متثلها وأحياها وسعى على الدوام إىل‬
‫نشرها كانت "اإلسالم" نفسه‪ ،‬يف مجلته‪ ،‬ويف وجوهه التفصيلية املختلفة االقتصادية والسياسية‬
‫واالجتماعية واخللقية والروحية‪ ،‬وألن املبدأ الرئيس املوجه لتجربته وحياته متثل يف أن "اإلسالم للحياة"‪.‬‬

‫‪ - 1‬من هؤالء حممد حيي وزكي امليالد‪...‬‬

‫‪ - 2‬محمد عبده بن حسن خير اهلل (‪ 1323 - 1266‬هـ = ‪ 1905 -1849‬م) أحد رجال الفكر اإلسالمي النابغني يف مصر يف القرن التاسع عشر‬
‫وأوائل القرن العشرين‪ ،‬وعامل من علماء األزهر ومفيت الديار املصرية‪.‬كان خبًريا بالشريعة ومقاصدها ودارًس ا جيًد ا للقانون‪ .‬حاول أن يضع تفكري املسلمني‬
‫يف خط انسجام وتوافق مع املكتشفات العلمية وظروف العصر احلديث‪ ،‬وكان يدعو إىل حترير الفكر من قيود التقليد وكانت جلهوده وأفكاره آثارها يف‬
‫النهضة اإلسالمية‪ .‬األعالم للزركلي‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪.252‬‬

‫‪ - 3‬محمد رشيد رضا (‪1354-1282‬ه‪1935 -1865 ،‬م)‪ .‬أحد رجال اإلصالح والفكر اإلسالمي يف مصر والعامل العريب‪ ،‬من الكتاب العلماء‬
‫باحلديث واألدب والتاريخ والتفسري‪ُ .‬و لد يف قرية القلمون قرب طرابلس الشام‪ ،‬وتتلمذ على يد الشيخ حسني اجلسر صاحب كتاب الرسالة احلميدية ‪.‬‬
‫ُمنح شهادة العاملية عام ‪ 1897‬م‪ .‬تأثر بأفكار األفغاين وحممد عبده عن طريق جريدة العروة الوثقى‪ ،‬من آثاره جريدة املنار؛ تفسري القرآن الكرمي؛ تاريخ‬
‫اإلمام الشيخ حممد عبده‪ .‬ينظر‪-:‬الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ ‪- . 1/288 ،‬مشاهري علماء جند وغريهم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫وواقع األمر أن املبادئ "املوضوعية" اليت أسست "العقل" لدى محمد الغزالّي ‪ 4‬كانت ماثلة على‬
‫الدوام يف مجيع أعماله العلمية والفكرية اليت نتداوهلا ونقلبها من أجل النظر والتأمل‪ ،‬أو من أجل البحث‪،‬‬
‫أو من أجل نشدان الفائدة‪.‬‬
‫كما أن الذين استمعوا إىل دروسه أو التقوا به وبادلوه احلوار أو اجلدل أو السجال يعرفون ذلك حقًا‪.‬‬
‫وهذه املبادئ املوّج هة أربعة رئيسة هي‪ :‬اإليمان والعقل والعلم والعاطفة الوجدانية‪.‬‬
‫وقد ميكننا ردها إىل حدين مركزيني ترتدد بينهما مجيع هذه املبادئ ومها‪:‬‬
‫حدا اإليمان من طرف أول‪ ،‬وإليه يرد مبدأ العاطفة الوجدانية‪ ،‬والعقل من طرف ثان‪ ،‬وإليها يرد العلم‬
‫أساسًا‪.5‬‬
‫وعود على بدء أن ممن استشهدنا هبم هنا ال ينتمي إىل ما ذكرناه من التخصص الفقهي أو التفسريي‪،‬‬
‫لكنه ذو معرفة عالية بالشؤون اإلسالمية وثقافة واسعة يف ما عداها من قضايا الواقع‪ ،‬كما يتجلى األمر لدى‬
‫عبد الرحمن الكواكبي‪.6‬‬
‫وبالتايل فإن من املمكن مقارنة املواقف املعرفية هلؤالء املفكرين مع نظائرها اليت تعود إىل الفقيه‪ .‬فالذي‬
‫يطلع على أفكار هؤالء يرى أهنم يقفون موقفًا مغايرا للنهج الذي ارتسمه مجلة من الفقهاء قدميًا وحديثًا‪،‬‬
‫وقد اتصفت آراؤهم باجلرأة والصراحة‪.7‬‬

‫المحددات المنهجية لخطاب المفكرين الدينيين‪:‬‬

‫‪ - 4‬محمد الغزالي (‪ 1335‬هـ‪ 20 -‬شوال ‪ 1416‬هـ ‪ 22 /‬سبتمرب ‪ 9-1917‬مارس ‪1996‬م) عامل ومفكر إسالمي مصري‪ ،‬يعد أحد دعاة الفكر‬
‫اإلسالمي يف العصر احلديث‪ُ ،‬ع رف عنه جتديده يف الفكر اإلسالمي وكونه من "املناهضني للتشدد والغلو يف الدين" كما يقول أبو العال ماضي‪ ،‬كما ُعرف‬
‫بأسلوبه األديب الرصني يف الكتابة واشتهر بلقب أديب الدعوة‪ .‬سببت انتقادات الغزايل لألنظمة احلاكمة يف العامل اإلسالمي العديد من املشاكل له سواء أثناء‬
‫إقامته يف مصر أو يف السعودية‪.‬‬

‫‪ - 5‬إسالمية املعرفة‪ ،‬مقال‪ ،‬العامل بني حدين‪ :‬نظرة يف املبادئ املوجهة للتجربة الغزايل‪ ،‬فهمي جدعان‪ ،‬ص ص ‪.72.71‬‬

‫‪ - 6‬عبد الرحمن بن أحمد بن مسعود الكواكبي‪1902 -1855( ،‬م)‪ .‬رحالة من الكتاب األدباء ومن رجال اإلصالح اإلسالمي‪ُ .‬و لد وتعلم يف‬
‫حلب‪ ،‬وأنشأ فيها جريدة الشهباء فأغلقتها احلكومة‪ ،‬وجريدة االعتدال‪ ،‬فُعِّطلت‪ .‬له من الكتب أم القرى؛ طبائع االستبداد‪ ،‬وكان هلما عند صدورمها ردود‬
‫فعل قوية‪ .‬وكان كبًري ا يف عقله ومهته وعلمه ومن كبار رجال النهضة احلديثة وكان كبريا يف عقله ومهته‪ .‬تناول يف كتابه أم القرى أسباب احنطاط اجملتمع‬
‫اإلسالمي بتوسع وتفصيل‪ ،‬حبث الكواكيب يف هذه األسباب على شكل حوار بني عدد من الشخصيات اليت ختَّيلها‪ ،‬وتناوهلا بالتفصيل وبإيراد اُحلجج‬
‫والرباهني‪ ،‬فكانت حتليًال علمًيا لواقع اجملتمع العريب اإلسالمي يف هناية القرن التاسع عشر امليالدي وعلمه‪ ،‬ولسامي الدهان‪ ،‬كتاب (عبد الرمحن الكواكيب ‪-‬‬
‫ط) يف سريته‪ .‬واألعالم للزركلي ‪ ،3/298‬واملوسوعة العربية العاملية‪.20/149‬‬

‫‪ - 7‬حممد حيي‪ ،‬دراسة منشورة على شبكة اإلنرتنت‪ ،‬بعنوان" أسس التفكري لدى املثقف والفقيه‪ :‬عنوان الرابط‪:‬‬
‫‪ ،http://fahmaldin.com/index.php?id=336‬تاريخ التصفح‪ ،11/02/2014:‬الساعة‪.13.45 :‬‬
‫‪3‬‬
‫كإبراز للمحددات المنهجية اليت خطها فصيل املفكرين أو املثقفني خلطاهبم‪ ،‬سيربز لدينا ما يلي‪:‬‬
‫الدعوة إلى تجديد النظر في الموروث الفكري الديني‪:‬‬ ‫‪-1‬‬
‫لعل أول حمدد منهجي مييز املفكر الديين‪ ،‬والذي ميثله يف شرحنا هذا –حممد عبده ورشيد رضا‬
‫وحممد الغزايل الذين مجعوا بني الثقافة والفكر والفقه‪ ،-‬وكانت مرجعيتهم املعرفية ومنطلقاهتم‬
‫االبستمولوجية اجلمع بني النص والواقع معا‪ ،‬أي‪":‬اجلمع بني القراءتني"‪ ،‬هو أهنم دعوا إىل جتديد‬
‫النظر يف املوروث الفكري الديين‪ ،‬ومل يتوقفوا عند حد فتح باب االجتهاد باملعىن التقليدي‪.8‬‬
‫وهم هبذا يعدون أنفسهم غري مرتبطني بالفقيه واملفسر التقليدي لعدة اعتبارات كالتايل‪:‬‬
‫أـ نبذ العمل بالتقليد‪:‬‬
‫مل يعمد املفكر إىل العمل على األقل بالتقليد الذي هو شأن غالب الفقهاء‪ ،‬بل أنه يعده من أهم‬
‫أسباب احنطاط األمة وختلفها‪ .‬بل يف أحيان معينة جند أن املثقف واملفكر الديين ينكر التقليد كليًا ويعده‬
‫من الشرك الذي جتب حماربته من غري هوادة كالذي يذهب إليه حممد عبده وتلميذه رشيد رضا‪.‬‬
‫ومن ذلك تنديد هذا األخري مبقلدة الفقهاء حيث ساروا بطريق خيالفون فيه نصوص اآليات أو‬
‫ظواهرها‪ ،‬مستشهدًا مبا نقله الفخر الرازي‪ 9‬عن أحد شيوخه قائًال‪:‬‬
‫(قد شاهدت مجاعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثرية من كتاب اهلل تعاىل يف بعض املسائل‬
‫وكانت مذاهبهم خبالف تلك اآليات فلم يقبلوا تلك اآليات ومل يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إيل‬
‫كاملتعجب‪ ،‬يعين كيف ميكن العمل بظواهر هذه اآليات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خالفها‪.‬‬
‫ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريًا يف عروق االكثرين من أهل الدنيا)‪.10‬‬
‫وقد اعترب رشيد رضا أن هذه الظاهرة ظلت متفشية بقوة مع مّر الزمن إىل عصرنا هذا‪.‬‬

‫‪ - 8‬الكواكيب‪ :‬طبائع اإلستبداد‪ ،‬ص‪.493‬‬

‫‪ - 9‬أبو عبد اهلل محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين‪606-544( .‬هـ‪1210 - 1150 ،‬م)‪.‬‬
‫أخذ العلم عن كبار علماء عصره‪ ،‬ومنهم والده‪ ،‬حىت برع يف علوم شىت واشتهر‪ ،‬فتوافد عليه الطالب من كل مكان‪.‬كان الرازي عا ا يف التفسري وعلم‬
‫ًمل‬
‫الكالم والفلك والفلسفة وعلم األصول ويف غريها‪ .‬ترك مؤلفات كثرية أبرزها تفسريه الكبري املعروف مبفاتيح الغيب‪ ،‬وهو تفسري جامٌع ملسائل كثرية يف‬
‫التفسري وغريه من العلوم اليت تبدو دخيلة على القرآن الكرمي‪ ،‬وقد غلب على تفسريه املذهب العقلي الذي كان يتبعه املعتزلة يف التفسري‪ ،‬فحوى تفسريه كل‬
‫غريب وغريبة كما قال ابن خلكان‪.‬اخُتلف يف سبب وفاته‪ ،‬وقيل مات مسموًم ا‪.‬وفيات األعيان‪ ، 486 :1‬وطبقات الشافعية ‪ ،90 :4‬واألعالم للزركلي‪،‬‬
‫‪.6/313‬‬
‫‪ - 10‬املنار‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.169‬‬
‫‪4‬‬
‫كما كان الشيخ الغزايل يرفض التقليد األعمى واملطلق لألئمة السابقني‪ ،‬ال سيما من أهل العلم‪ ،‬بل‬
‫عليهم أن يستكملوا نقصهم العلمي‪ ،‬وأدواهتم الثقافية ‪ ،‬حىت يبلغوا الدرجة اليت يتمكنوا فيها من النظر‬
‫والرتجيح بني األقوال‪ ،‬كما اجتهد األولون ألزماهنم وبيئاهتم‪.‬‬
‫ويرى الشيخ أنه البد للفقيه املعاصر أن ينظر يف املرياث العلمي للعلماء املتقدمني يف أعصار اإلسالم‬
‫املختلفة نظرة جديدة‪ ،‬يف ضوء مقررات الكتاب والسنة‪ ،‬ومقاصد اإلسالم وكلياته القطعية‪ ،‬ويأخذ من‬
‫أقوال الشراح ويدع‪ ،‬فالنصوص معصومة‪ ،‬ولكن أفهام الشراح وأقواهلم يف تفسريها غري معصومة‪.11‬‬

‫ب ـ إنكار المفكر الديني للتنطعات والتدقيقات الفقهية‪:‬‬

‫ومن ذلك أن الكواكيب اعترب أن توسيع الفقهاء لدائرة األحكام أدى إىل تضييق الدين على‬
‫املسلمني تضييقًا أوقع األمة يف ارتباك عظيم‪ ،‬حبيث جعل املسلم ال يكاد يستطيع أن يعد نفسه مسلمًا‬
‫ناجيًا‪ ،‬لتعذر تطبيق مجيع عباداته ومعامالته تبعًا لطلبات الفقهاء املتشددين اآلخذين بالعزائم ‪.‬‬
‫‹‹فبذلك أصبح اجلمهور األكرب من املسلمني يعتقدون يف أنفسهم التهاون اضطرارًا‪ ،‬فيهون عليهم التهاون‬
‫اختيارًا كالغريق ال حيذر البلل‪.‬‬
‫ألنه كيف يطمئن احلنفي العامي حق االطمئنان يف االسترباء لتصح طهارته؟‬
‫وكيف حيسن خمارج احلروف كلها وقد أفسدت العجمة لسانه لتصح صالته؟‬
‫وكذلك كيف يصحح الشافعي العامي نيته على مذهب إمامه يف الصالة؟ أو يعرف شّد ات الفاحتة‬
‫الثالث عشرة وينتبه إلظهارها كلها ليكون أدى فريضته؟››‪.12‬‬
‫وقد ضرب الكواكيب مثًال بارزًا على التوسع املغايل يف اآلراء الكثرية املتعلقة بالسواك‪.‬‬
‫إذ جاء عن النيب ‪ ‬قوله‪‹‹ :‬لوال أن أشق على أميت ألمرهتم بالسواك››‪ ،13‬فعلى هذا احلديث تشعبت‬
‫اآلراء واتسعت‪ ،‬حيث أخذ الفقهاء يبحثون عن نوع العود املستخدم يف السواك‪ ،‬وعن طوله وطريقة‬
‫استعماله‪ ،‬واألمكنة واألوقات اليت ينبغي فيها استخدامه‪ ،‬وما إىل ذلك من تفريعات منافية للمقصد‬
‫الشرعي‪.14‬‬
‫‪ - 11‬إسالمية املعرفة‪ ،‬مقال‪ ،‬نظرات يف تراث الشيخ الغزايل‪ ،‬يوسف القرضاوي‪ ،‬ص‪.26‬‬
‫‪ -1312‬الكواكيب‪ :‬أم القرى‪ ،‬ص‪.344‬‬
‫‪ -13‬رواه البخاري (‪ )887‬ومسلم (‪)252‬‬
‫‪ -14‬أم القرى‪ ،‬ص‪326‬ـ‪.327‬‬
‫‪5‬‬
‫كما أن حممد عبده هو اآلخر قد ندد بطريقة حبث الفقهاء يف التوسيع والتفريع واصفًا إياها بأهنا‬
‫هي اليت ضيعت الدين‪ ،‬حيث أن الفرد العامي الذي يسعى إىل كسب معاشه ال يسعه صرف سنني طويلة‬
‫يف تعلم أحكام الطهارة وسائر العبادات من الكتب الطويلة الصعبة املألوف استخدامها لدى الفقهاء كما‬
‫يف األزهر‪ ،‬فعلى حد قوله‪‹‹ :‬أي حاجة إىل هذه األحباث الطويلة؟ والتدقيقات يف مسائل املياه والطهارة‬
‫والصالة؟! قال ‪:‬صلوا كما رأيتموين أصلي‪ 15 ‬وشرح صالته ووضوءه‪ ،‬مما ميكن بيانه يف ورقات‬
‫قليلة‪ ،16‬وكل ماء يشرب وينقى به البدن يطهر به‪.‬‬

‫انعدام التوازن في المباحث الفقهية "عبادات ومعامالت"‪:‬‬

‫كما أننا جند الغزايل يندد بتوسع الفقهاء وخباصة يف ميدان العبادات وبعض أبواب املعامالت حىت أنه‬
‫حفـل بأخيلة جتعل املرء يضحك حينا‪ ،‬وجتعله يدهش أحيانا خلصوبة األذهان اليت تعرضت ألبعد الصور‪،‬‬
‫وأعقد القضايا بالتقريب واحلل‪ ،‬ويف موضع من كتبه يصف التوسع يف هذه املباحث بالورم السرطاين‬
‫الذي يتضخم يف اجلسم على حساب أعضاء أخرى‪ ،‬وإذا ضربنا مثال لذلك من الناحية السياسية فإن‬
‫الغزايل وفيما خيص النزعة االستبدادية حتديدًا يذكر (أن الفقه الذي يرشح أصحابه خلدمة الوحدة‬
‫اإلسالمية حيتاج إىل إضافات واجتهادات جديدة‪ ،‬يستحيل أن تعجز عنها أصول الفقه عندنا…‬
‫وقد حتدث العلماء القدامى يف السياسة الشرعية‪ ،‬والرتاتيب اإلدارية‪ ،‬بيد أن حديثهم كان قليال‪ ،‬ويبدو‬
‫أهنم أوجزوا حىت ال يصطدموا بالساسة ‪ ،‬ويتعرضوا للمحن…‬
‫ومع إجيازهم فقد وقفوا عند حاجات عصرهم‪ ،‬وقد مضت قرون طويلة‪ ،‬وهذا الضرب من ثقافتنا‬
‫اإلسالمية ال يعدو حاجات املسلمني حىت القرن السابع اهلجري‪ ،‬فهل ينشط الفقهاء املسلمون ليجعلوا‬
‫التشريعات اإلدارية‪ ،‬والدستورية‪ ،‬والدولية‪ ،‬مناسبة ملطالع القرن اخلامس عشر الذي احتفلنا مبقدمه من‬
‫بضع سنني ؟‪.17)..‬‬

‫‪ - 115‬أخرجه البخاري يف صحيحه من حديث مالك بن احلويرث‪ ،‬كتاب األذان باب ‪.18‬‬
‫‪( -16‬األعمال الكاملة لإلمام حممد عبده‪ ،‬حتقيق حممد عمارة‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر)‪1973 ،‬م ‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.196‬‬
‫‪ - 17‬حممد الغزايل ‪ ،‬سر تأخر العرب واملسلمني ‪ ،‬دار البعث ‪ ،‬قسنطينة‪ ،‬اجلزائر ‪ ،‬ص‪.180‬‬
‫‪6‬‬
‫ولطاملا جند الشيخ قد ركز على هذه املفاهيم يف كتبه وحماضراته ولّو ح بلسان النقد إىل ضرورة‬
‫تعريج فقهاء القانون بغية معاجلة هذا اخللل اجللل الذي أصابنا يف حياتنا السياسية‪.‬‬
‫ويف هذا النص الذي سنسرده ما يشري إىل األخطاء املتمثلة يف اهتمام فقهائنا بناحية على حساب‬
‫نواحي أخرى‪ ،‬تناوهلا الغزايل بقلمه املسطر‪ ،‬وعقله املفكر‪ ،‬فأبلغ يف العبارة‪ ،‬وأوضح ما ينتج جراء‬
‫تقصرينا يف العناية مبثل هذه األمور جزائنا املنتظر‪ ،‬من التخلف والتأخر‪ ،‬وواجبنا يف االستفادة من جتارب‬
‫البشر يف هذا امليدان فقال‪( :‬كان من أخطاء الفكر اإلسالمي األوىل بذله جهدا مضنيا يف حبوث ما وراء‬
‫املادة‪ ،‬فبّد د هبذا قدرا كبريا من طاقته دون جدوى‪ ،‬ولغري سبب‪ ،‬وخالف هبذا التفكري منهج القرآن‬
‫الكرمي يف البحث والنظر‪ ،‬فإن اهلل يف كتابه أمرنا بالتأمل يف املادة ال فيما وراءها‪ ،‬ويف الكون املشهود ‪،‬‬
‫ال يف الغيبيات املفرتضة واملوهومة‪ ،‬وهذا العوج الفكري الذي حاربه العلماء احملافظون أساء إلينا يف‬
‫ناحية من حياتنا االجتماعية والثقافية‪.‬‬
‫وّمث عوج آخر أساء إلينا يف ناحية من حياتنا السياسية‪ ،‬وهو فيما أرى نقص معامل الفقه‬
‫الدستوري من حياتنا الفقهية الرحبة‪ ،‬مع وفرة مادته يف مواريثنا السماوية‪ ،‬ومع احلاجة املاسة إليه يف‬
‫سرينا التارخيي الطويل‪.‬‬
‫وأعين بالفقه الدستوري‪ :‬هذه الدراسات التشريعية اليت حتدد وظيفة احلاكم وصلته باألمة والسلطات اليت‬
‫ميلكها‪ ،‬وطرائق الشورى اليت فرضها اإلسالم عليه واحلقوق والواجبات املتبادلة بني شىت األجهزة اإلدارية‬
‫اليت تشّك ـل عموما نظام الدولة‪.‬‬
‫إن كلمة ‪َ‬و َأْم ُر ُه ْم ُش وَر ى َبْيَنُه ْم ‪[‬الشورى‪ ]38:‬ال يكفي أن يلقيها واعظ من فوق منرب‪ ،‬أو‬
‫يرسلها قارئ يف اهلواء‪ ،‬فال تأخذ جمراها يف احلياة العامة قوانني ملزمة‪ ،‬واختصاصات واضحة‪.‬‬
‫صحيح أن األّم ـة تدارست يف حلقات العلم حقائق كثرية يف ذلك اجملال‪ ،‬لكن هذه الدراسات مل تأخذ‬
‫طريق االستبصار واالستبحار‪ ،‬الذي يقدم للمجتمع اإلسالمي ضمانات وثيقة‪ ،‬فال يتعرض لألزمات اليت‬
‫تكّو ن منه حاكما مسعورا‪ ،‬أو اليت تقوده كارها إىل طريق الدمار…‬
‫إن الفقه اإلسالمي‪ -‬يف ميدان العبادات واملعامالت‪ -‬حفـل بأخيلة جتعل املرء يضحك حينا‪ ،‬وجتعله‬
‫يدهش أحيانا خلصوبة األذهان اليت تعرضت ألبعد الصور ‪ ،‬وأعقد القضايا بالتقريب واحلل ‪ ،‬ومع ذلك‬
‫فإن هذه الناحية الدستورية مل تأخذ من العناية ما أخذته أبواب الغسل يف العبادات‪ ،‬وال ما أخذته أبواب‬
‫البيوع يف املعامالت !!…‬

‫‪7‬‬
‫ومن يدري؟ لعل االحنراف األساسي يف تكوين السلطات العليا هو الذي أغرى بتلك النقائض؟‬
‫ويف رأيي أن اإلفادة من جتارب البشر يف هذا امليدان عظيمة اجلدوى‪ ،‬إن البشر يف أقطار فيحاء‪،‬‬
‫وعلى آماد متطاولة لدغتهم آثام احلكم الفردي‪ ،‬وهنشت حلمهم فال عجب إذا عملوا بنداء الفطرة على‬
‫حتصني أنفسهم ضدها‪ ،‬وعلى وضع الدساتري اليت تتضمن العرب املستخلصة من صراع الظاملني معهم ‪،‬‬
‫وصراعهم مع الظاملني… وليس هذا نقال لفكر أجنيب يزاحم مواريث الدين‪ ،‬أو يوهم بعدم كفايتها‬
‫حلاجات العصور‪.‬‬
‫كال إمنا هو نقل لوسائل متجددة بطبيعتها‪ ،‬لتحقيق الغايات اليت جاء هبا الدين وإلنفاذ النصوص اليت‬
‫تضمنتها)‪.18‬‬

‫ج ـ الطرق المعرفية الممارسة من لدن المفكر "المثقف" الديني‪.‬‬


‫واملفكر "املثقف" الديين إذ ال يعول على الفقيه بالتقليد وال يعمل بالتنطعات والتدقيقات الفقهية‬
‫فإن له طرقًا معرفية عدة قام مبمارستها‪.‬‬
‫وميكن تصنيفها طرق رئيسة هي‪ :‬انفتاحه على النص مباشرة‪ ،‬وممارسة النظر والرتجيح بني اآلراء‬
‫العلمية‪ ،‬مث االعتماد على مصادر معرفية أخرى‪.‬‬
‫أما بيان هذه الطرق فسيكون كما يلي‪:‬‬

‫األولى‪ :‬االنفتاح على النص مباشرة‪:‬‬


‫ذلك أن املفكر الديين انفتح على النص مباشرة دون وسائط الفقهاء عادة‪.‬‬
‫فمثًال شدد الكواكيب يف (طبائع االستبداد) على ضرورة فهم القرآن من غري تقييد‪ ،‬طبقًا ملسلمة كون‬
‫الدين مبنيًا على العقل‪ ،‬وأنه ال بد من التبصر يف مقاصده‪.‬‬
‫فالقرآن الكرمي من أوله إىل آخره إذا ما لوحظت مقاصده وتفهم أسباب نزول آياته ال جتد فيه من حكم‬
‫إال وتلّق اه العقل باإلجالل واإلعظام دون حاجة للرجوع إىل الغري ممن يعملون بالتوسعة والتدقيق‪ ،‬ومن مث‬
‫التشويش والتضليل‪.19‬‬
‫كما طالب حممد عبده بقراءة القرآن وفهمه مباشرة بعيدًا عن التفاسري‪ ،‬بل إنه حّذ ر من هذه التفاسري‬
‫وقال وهو خياطب أعضاء مجعية العروة الوثقى‪:‬‬
‫‪ - 18‬حممد الغزايل ‪ ،‬معركة املصحف يف العامل اإلسالمي ‪ ،‬ص‪. 98 – 97‬‬
‫‪ - 19‬الكواكيب‪ :‬طبائع اإلستبداد‪ ،‬ص‪.508‬‬
‫‪8‬‬
‫‹‹داوْم على قراءة القرآن وتفّه م أوامره ونواهيه‪ ،‬ومواعظه وعربه‪ ،‬كما كان ُيتلى على املؤمنني‬
‫والكافرين أيام الوحي‪ ،‬وحاذر النظر إىل وجوه التفاسري إال لفهم لفظ مفرد غاب عنك مراد العرب منه‪،‬‬
‫أو ارتباط مفرد بآخر خفي عليك متصله‪ ،‬مث اذهب إىل ما يشخصك القرآن إليه‪ ،‬وامحل بنفسك على ما‬
‫حيمل عليه‪ ،‬وضع إىل ذلك مطالعة السرية النبوية واقفًا عند الصحيح املعقول‪ ،‬حاجزًا عينيك عن الضعيف‬
‫واملبذول››‪.20‬‬
‫وعلى هذه الشاكلة اعترب أن لكل مسلم أن يفهم عن اهلل من كتابه‪ ،‬وعن رسوله من كالمه‪ ،‬بغري وساطة‬
‫أحد من سلف وال خلف‪ ،‬وإمنا جيب عليه قبل ذلك العلم بالوسائل اليت تؤهله للفهم‪ ،‬كقواعد اللغة‬
‫العربية وآداهبا وأساليبها‪ ،‬وأحوال العرب والناس زمن البعثة النبوية‪ ،‬وما وقع من احلوادث وقت نزول‬
‫الوحي‪ ،‬وشيء من الناسخ واملنسوخ من اآلثار‪ ،‬فإن مل تسمح له حاله بالوصول إىل ما يعده لفهم‬
‫الصواب من السنة والكتاب فليس عليه إال أن يسأل العارفني هبما‪.‬‬
‫كما عليه أن يطالب اجمليب بالدليل‪ ،‬ال فرق يف ذلك إن كان السؤال يف العقائد أو يف الفقه واألحكام‬
‫‪.21‬‬
‫العملية ‹‹فليس يف اإلسالم ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه››‬

‫ويؤكد الغزايل على ضرورة العناية بكتاب اهلل ‪ ،‬وتقدميه على ماسواه‪ ،‬بقوله‪" :‬الذي أراين مضطرا‬
‫إىل التنبيه إليه هو ضرورة العناية القصوى بالقرآن نفسه‪ ،‬فإن ناسا أدمنوا النظر يف كتب احلديث واختذوا‬
‫القرآن مهجورا‪ ،‬فنمت أفكارهم معوجة‪ ،‬وطالت حيث جيب تقصر‪ ،‬وقصرت حيث جيب أن تطول‪،‬‬
‫وحتمسوا حيث ال مكان للحماس‪ ،‬وبردوا حيث جتب الثورة‪.‬‬
‫إن الوعي مبعاين القرآن وأهدافه‪ ،‬يعطي اإلطار العام للرسالة اإلسالمية‪ ،‬ويبني األهم فاملهم من‬
‫التعاليم الواردة‪ ،‬ويعني على تثبيت السنن يف مواضعها الصحيحة‪..‬‬
‫واإلنسان املوصول بالقرآن دقيق النظر إىل الكون‪ ،‬خبري بازدهار احلضارات واهنيارها‪ ،‬نري الذهن‬
‫باألمساء احلسىن والصفات العلى‪ ،‬حاضر احلس مبشاهدة القيامة وما وراءها ‪ ،‬مشدود إىل أركان األخالق‬
‫والسلوك ومعاقد اإلميان‪ ،‬وذلك كله وفق نسب ال يطغى بعضها على بعض‪ ،‬وعندما يضم إىل ذلك‬
‫السنن الصحاح مفسرة للقرآن ومتممة هلداياته فقد أويت رشده"‪.22‬‬

‫‪ - 20‬حممد عبده‪ :‬األعمال الكاملة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.183‬‬


‫‪ - 21‬األعمال الكاملة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.286‬‬
‫‪ - 22‬إسالمية املعرفة‪ ،‬مقال‪ ،‬نظرات يف تراث الشيخ الغزايل‪ ،‬يوسف القرضاوي‪ ،‬ص‪.21‬‬
‫‪9‬‬
‫فالقرآن الكرمي املصدر األول لتعاليم اإلسالم‪ ،‬وهو من املصادر األخرى مبنزلة اجلذع من فروع‬
‫الشجرة ومثارها‪ ،‬ويعجب ألقوام يقدمون على كالم اهلل وأحكامه كالما آخر وأحكاما أخرى‪.‬‬
‫فيقول‪-‬رمحه اهلل‪" -‬وأنت ترى يف األنظمة العامة اليت حتكم اجلماعات دساتري أصلية‪ ،‬مث قوانني إدارية‬
‫وجنائية وشخصية وجتارية‪ ،‬مث لوائح وقرارات ومذكرات تفسريية‪...‬إخل‪.‬‬
‫واملفروض يف الدساتري أهنا جممع القواعد اخلطرية يف احلكم والتشريع والتنفيذ‪ ،‬وأهنا تضم أمهات‬
‫املسائل اليت ينبين النص عليها وال ترتك للتقديرات املختلفة‪ ،‬وأن ماعداها يرتكز عليها ويستمد على‬
‫حرمتها منها‪.‬‬
‫ولذلك ال ميكن أن حيتوي ماخيالفها نصا أو روحا‪.‬‬
‫فإذا وجد هذا املخالف ألغي من تلقاء نفسه ‪.‬‬
‫كذلك كتاب اهلل ‪ ،‬هو قطب اإلسالم ‪ ،‬ومنبع شرائعه ‪ ،‬والدستور الذي يقتعد الصدارة فيما يضم‬
‫‪.23‬‬
‫من توجيه وأدب‪ ،‬ووصايا وأحكام"‬

‫الثانية‪ :‬ممارسة النظر والترجيح بين اآلراء العلمية‪:‬‬


‫ذلك أن املفكر الديين قام مبمارسة الرتجيح بني اآلراء العلمية املوروثة يف احلاالت اليت ال يسعفه‬
‫النص وال جيد طريقة أخرى تقربه إىل التحقيق‪ ،‬فنجد الغزايل يذكر أن املذاهب املشهورة وغريها حتتوي‬
‫على تراث نفيس من األفكار وجهد عقلي ونقلي قد يقصر أغلبنا يف بلوغ مستواه‪ ،‬بيد أن القول‬
‫املشهور شيء والتحقيق العلمي شيء آخر‪...‬‬
‫وقد نبهت يف مكان آخر أن ابن تيمية رد فقه األئمة األربعة يف إيقاع الطالق البدعي واحلق معه‬
‫عند التأمل‪ ،‬وأن ابن حزم هدي إىل أحكام فقهية أوىل باحلياة من غريها‪.24‬‬

‫الثالثة‪ :‬االعتماد على مصادر معرفية أخرى‪:‬‬


‫ذلك أن املفكر الديين اعتمد على مصدرين هامني من مصادر املعرفة‪ ،‬مها العقل والواقع‪ ،‬رغم أن‬
‫بعضهم ال ميلك تقنينًا منهجيًا واضحًا وصرحيًا كالذي نراه لدى الفقيه‪ ،‬إذا استثنينا الغزايل الذي يعترب‬
‫كما يؤكد يف عديد كتبه أن مصدر العلم الذي عال به آدم على املالئكة‪ ،‬الكون وال يكون علم بالكون‬
‫إال عرب واسطة العقل وبوابته‪.‬‬
‫‪ - 23‬حممد الغزايل ‪ ،‬ليس من اإلسالم ‪ ،‬ط‪ ،1‬الدار الشامية بريوت‪1420 ،‬ه‪1999-‬م ص‪.30 – 29‬‬
‫‪ – ) (24‬حممد الغزايل‪ ،‬مائة سؤال عن اإلسالم‪. 216 ،‬‬
‫‪10‬‬
‫إن العلم بالكون هو صميم اإلنسانية‪ ،‬واجلهل به ال يعوض عنه شيء‪ ،‬وقد أبان القرآن لنا ثالثة‬
‫أسباب هلذا العلم الكوين الواسع‪..‬‬
‫األول‪ :‬داللته على اهلل‪...‬وقد شرحنا ذلك يف أماكن أخرى‪...‬‬
‫ِل‬
‫الثاني‪ :‬ارتباط احلياة اإلنسانية ضروراهتا ومرفهاهتا هبذا الكون‪َ.‬و اَأْلْر َض َبْع َد َذ َك َدَح اَه ا (‪َ )30‬أْخ َر َج‬
‫ِم ْنَه ا َم اَءَه ا َو َمْر َعاَه ا (‪َ )31‬و اِجْلَباَل َأْر َس اَه ا (‪َ )32‬م َتاًعا َلُك ْم َو َأِلْنَعاِم ُك ْم (‪[  )33‬النازعات]‪.‬‬
‫إن أغذيتنا وأدويتنا وألبستنا من هذه األرض ‪ ،‬واألرض جزء حمدود من عامل ممدود‪ ،‬بل إن ثقبا يف بعض‬
‫األغلفة يتهدد أرضنا بالفناء‪ .‬كأن هذا الكون كله خلق من أجلنا‪ ...‬أليس يدعو للكآبة أن املسلمني‬
‫املعاصرين آخر من يعلم هذه احلقيقة؟‪.‬‬
‫إن فقه الكون واحلياة فريضة أسبق من فرائض أخرى صنعها أصحاب الثقافات املغشوشة‪ ،‬زعموها دينا‬
‫وهي أبعد ماتكون عن الدين‪...‬‬
‫الثالث‪ :‬محاية احلقوق واحلقائق‪ ،‬فالويل لنا يوم يكون أهل البيت مسلحني باحلجارة واللصوص مسلحون‬
‫بقذائف قريبة املدى أو بعيدة املدى سينهب احلق وتطمس احلقيقة‪..25‬‬
‫الصدور عن رؤية معرفية شاملة‪:‬‬
‫ذلك أن املفكر الديين ال يقنع باسترياد اإلجابات الغربية اجلاهزة على األسئلة اليت يطرحها عليه‬
‫الواقع‪ ،‬ويتسم بأنه بالضرورة خطاب شامل‪ ،‬فهو على املستوى اجلماهريي يطرح شعار (اإلسالم هو‬
‫احلل)‪ ،‬ولكن على املستوى الفلسفي يطرح شعار (اإلسالم هو رؤية للكون)‪ ،‬وهو يتعامل مع كل من‬
‫اليومي واملباشر والسياسي والكلي والنهائي؛ أي أن اخلطاب اإلسالمي هنا يصدر عن رؤية معرفية شاملة‬
‫يولد منها منظومات فرعية خمتلفة‪ :‬أخالقية وسياسية واقتصادية ومجالية‪ ،‬فهو منظومة إسالمية شاملة‬
‫تفكر يف املعمار واحلب والزواج واالقتصاد وبناء املدن والقانون ويف كيفية التحلي والتفكري‪ ،‬ويف توليد‬
‫مقوالت حتليلية مستقلة‪ ،‬ولذا فاخلطاب اإلسالمي ال يقدم خطاًبا للمسلمني فحسب وإمنا لكل الناس‪،‬‬
‫حًال ملشاكل العامل احلديث‪ ،‬متاًم ا مثلما كان اخلطاب اإلسالمي أيام الرسول‪.‬‬

‫‪ – 25‬تراثنا الفكري يف ميزان الشرع والعقل‪ ،‬ص ‪. 22-21‬‬


‫‪11‬‬
‫توسعة المصادر المعرفية بإعادة االعتبار للعقل‪:‬‬ ‫‪-2‬‬
‫لقد أعاد املفكر "املثقف" الديين العقل إىل إطاره الطليعي كمصدر مهم للفهم والتوليد املعريف‪،‬‬
‫وبذلك عرّب الكواكيب من أنه ‹‹أضحى املسلمون حمتاجني للحكمة العقلية اليت كادت جتعل الغربيني أدرى‬
‫‪.26‬‬
‫مّنا حىت يف مباين ديننا››‬
‫وهو يؤكد بأن ميزة الدين اإلسالمي كونه مبنيًا على العقل احملض‪ ،‬وبالتايل أنه ‹‹أفضل صارف‬
‫للفكر عن الوقوع يف مصائد املخرفني‪ ،‬وأنفع وازع يضبط النفس من الشطط‪ ،‬وأقوى مؤثر لتهذيب‬
‫األخالق‪ ،‬وأكرب معني على حتمل مشاق احلياة‪ ،‬وأعظم منشط على األعمال املهمة اخلطرة‪ ،‬وأجل مثبت‬
‫على املبادئ الشريفة‪ ،‬ويف النتيجة يكون أصح مقياس يستدل به على األحوال النفسية يف األمم واألفراد‬
‫‪.27‬‬
‫رقيًا واحنطاطًا››‬
‫ومثل ذلك عّد حممد عبده ‹‹العقل من أجّل القوى‪ ،‬بل هو قوة القوى اإلنسانية وعمادها‪،‬‬
‫والكون صحيفته اليت ينظر فيها وكتابه الذي يتلوه‪ ،‬وكل ما يقرأ فيه فهو هداية إىل اهلل وسبيل للوصول‬
‫إليه››‪.28‬‬
‫وهو قد أعاد االعتبار ألولئك الذين ُأهتموا بالبدع ممن جلأوا إىل مرجعية العقل مثل املعتزلة‪.‬‬

‫منزلة العقل في خطاب الغزالي‪:‬‬

‫ومع أن للقلب أحكامًا ال يعرفها العقل –مثلما تقول عبارة باسكال‪ 29‬الشهرية‪ -‬فإن العقل جنده يشكل‬
‫مبدأ ومنطلقا وموجهًا أساسيًا يف املعرفة عند الشيخ الغزايل‪ ،‬وثقته فيه أعظم بكثري من ثقة باسكال فيه‪،‬‬

‫‪ -26‬أم القرى‪ ،‬ص‪302‬ـ‪.303‬‬


‫‪ -27‬طبائع االستبداد‪ ،‬ص‪.508‬‬
‫‪ -328‬األعمال الكاملة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،183‬عن املقدم حممد عمارة‪.‬‬

‫‪ -29‬بليس باسكال (‪ 1662 -1623‬م)‪ .‬فيزيائي‪ ،‬ورياضي وفيلسوف فرنسي اشتهر بتجاربه على السوائل يف جمال الفيزياء‪ ،‬وبأعماله اخلاصة بنظرية‬
‫االحتماالت يف الرياضيات‪ُ .‬و لد باسكال يف مدينة كلري مونت ـ فرياند بفرنسا‪ .‬وقد أظهر نبوغا يف الرياضيات منذ أن كان طفًال‪ ،‬واشتغل يف حركة دينية‬
‫تسمى اجلانسينية‪ ،‬ويف أواخر عام ‪1654‬م دخل ديًر ا من أديرة هذه اجلماعة يف مدينة بورت ـ رويال‪ .‬ظل باسكال يدافع منذ عام ‪1658‬م وحىت وفاته‬
‫عن عقيدته‪ .‬وقد ُو جدت بعض أجزاء من عمله هذا الذي مل يكن قد اكتمل يف ذلك الوقت بعد وفاته‪ ،‬وطبع باسم بنسيز‪ .‬ويعرب هذا العمل عن إميان‬
‫باسكال بأن هناك حدوًد ا للحقائق اليت ميكن أن يدركها العقل‪ ،‬وأن اإلميان من القلب بالرسالة املسيحية هو املرشد الرئيسي إىل احلقائق‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫مثلما هي أعظم بكثري من ثقة مجلة فقهاء اإلسالم و"أصحاب احلديث" فيه‪ ،‬ومن ثقة املتصوفة الذين‬
‫يزحيونه أصًال وابتداًء من الطريق‪.‬‬
‫والرأي عند مجلة من الدارسني والباحثني أن الشيخ الغزايل يتمثل يف هذه املسألة موقفًا يتفوق فيه‬
‫صراحة على مجلة جتارب الفكر اإلسالمي الكالسيكي اليت خّلفها املعتزلة والفالسفة‪ ،‬وخباصة الغزايل‬
‫وابن رشد منهم‪ ،‬واملتصوفة‪ ،‬فضًال عن "أصحاب احلديث" بطبيعة احلال‪.‬‬
‫وأنا أعتقد أن رؤية الشيخ الغزايل للعقل –وأنا ال أحترج من أن أمسيها بــ"العقالنية الواقعية"‪ -‬تبدو‬
‫يف سياق مرجعي إسالمي‪ ،‬أكثر موافقة من تلك الرؤى لواقع األحوال البشرية يف عاملنا املعاصر‪.‬‬
‫ال شك يف أهنا ال تتوسل للتعبري عن نفسها باجلهاز الفلسفي واملنطقي الذي يستند إليه النظام املعريف‬
‫االعتزايل‪ ،‬أو النظر االصطالحي الذي أتقنه أبو حامد الغزايل وبرع فيه ابن رشد‪ ،‬لكنها تدرك الغايات‬
‫اليت تسعى إليها بآليات "إنسانية" أقرب إىل "احلس العام" و"البداهة" و"الطبع" و"الضمري"‪.30‬‬
‫فالغزايل يؤكد مرارا أن اإلنسان عقل وقلب‪...‬‬
‫"وأريد أن أقرر دون تردد أن جهاد العقل اإلنساين ومكاسبه اليت ظفر هبا موضع احرتامنا‪ ،‬وأن هذا‬
‫اجلهاد إن كان قد مضى يف طريقه منفردا‪ ،‬مل يستصحب الدين معه فليس هو امللوم يف ذلك‪.‬‬
‫فإن كثريا من أهل الدين أساءوا إىل رهبم وإىل أنفسهم يوم خبسوا العقل قيمته‪ ،‬وافتعلوا العراقيل أمام‬
‫حركته‪....‬إن عظمة اإلنسان تقوم على نشاط عقلي ال حدود له‪ ،‬يواكبه نشاط عقلي ال يقل عنه‬
‫كفاءة‪ ،‬بل يربو عليه"‪.31‬‬

‫‪ - 30‬إسالمية املعرفة‪ ،‬مقال‪ ،‬العامل بني حدين‪ :‬نظرة يف املبادئ املوجهة للتجربة الغزايل‪ ،‬فهمي جدعان‪ ،‬ص ص ‪.74.73‬‬
‫‪ – 31‬حممد الغزايل ‪ ،‬ركائز اإلميان بني العقل والقلب ‪ ،‬دار القلم ‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪1420-4‬ه‪1999-‬م‪ ،‬ص ‪ 23‬ـ ‪. 24‬‬
‫‪13‬‬
‫الواقع كمصدر رئيس للمعرفة لدى المفكر الديني‪:‬‬

‫كذلك فبنظر هؤالء املصلحني يعترب الواقع مصدرًا رئيسًا للمعرفة ال غىن عنه‪.‬‬
‫فمحمد إقبال عرّب عن هذا املصدر بالتجارب واملالحظات واخلربات‪ ،‬بل ورأى أن هناك اجتاها جتريبيًا‬
‫عامًا للقرآن يتبدى من خالل ما يستهدفه من ضرورة التأمل للطبيعة‪ 32‬مؤكدًا أن النظر يف الكون‬
‫واآلفاق واألنفس‪ ،‬وكذا الوقوف على أخبار األولني‪ ،‬هي من مصادر املعرفة اإلنسانية حبسب القرآن‬
‫الكرمي‪.33‬‬

‫أما مرجعية الواقع بنظر الكواكيب فإهنا تشمل خمتلف امليادين‪ ،‬مبا فيها الواقع الغريب‪ ،‬وكذا التجارب‬
‫احلضارية واحلاجات االجتماعية ومجيع أصناف الثقافة املعتمدة على املوضوعات اخلارجية؛ كالعلوم‬
‫االجتماعية من احلقوق والسياسة واالقتصاد والفلسفة العقلية والتاريخ القومي واجلغرايف والطبيعي‬
‫والسياسي واالدارة الداخلية واحلربية‪.34‬‬
‫وإذا كان البعض من الرواد أبدى أنه ال يعمل بغري الكتاب والسنة‪ ،‬كالذي نراه لدى حممد عبده‬
‫وتلميذه رشيد رضا‪ ،‬فألن هذه التصرحيات أتت كرد على مسلك الفقهاء املقلدين الذين وضعوا‬
‫النصوص املباشرة من الكتاب والسنة خلف أظهرهم‪.‬‬
‫وهو ما يتبني مما ذكره رشيد رضا نقًال عن حممد عبده بأن شيخًا من أكرب الشيوخ سنًا وشهرًة يف‬
‫العلم قال يف جملس إدارة األزهر على مسمع املأل من العلماء‪‹‹ :‬من قال إنين أعمل بالكتاب والسنة فهو‬
‫زنديق››‪ ،‬مبعىن أنه ال جيوز العمل إال بكتب الفقهاء‪.‬‬
‫فرّد عليه حممد عبده قائًال‪‹‹ :‬من قال إنين أعمل يف ديين بغري الكتاب والسنة فهو الزنديق››‪.35‬‬
‫صحيح أن هذين الَعَلمني ومثلهما اإلمام حممد الغزايل يعملون بالكتاب والسنة كمختصني ال‬
‫خيتلفون من هذه الناحية عن الفقيه‪ ،‬إال أهنما مل يتوقفا عند هذا احلد‪ ،‬بل أضافا إىل ذلك مصدرًا معرفيًا‬

‫‪ - 32‬حممد إقبال‪ :‬جتديد التفكري الديين يف اإلسالمي‪ ،‬ترمجة عباس حممود‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1968 ،‬ص‪.21‬‬
‫‪ - 33‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪144‬ـ‪.145‬‬
‫‪ - 34‬طبائع اإلستبداد‪ ،‬ص‪.530‬‬
‫‪ - 35‬املنار‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.283‬‬
‫‪14‬‬
‫هامًا مستمدًا من الواقع‪ ،‬إىل احلد الذي عمال فيه على تأويل النص لصاحل الواقع‪ ،‬أو ترجيح مطالب هذا‬
‫األخري على األول‪ ،‬سيما إذا ما أخذنا بنظر االعتبار حجم ضغط احلاجات الزمنية واحلضارية اليت‬
‫صادفتهما‪.‬‬
‫ويكفي أن نعلم بأن رشيد رضا قد رّج ح العلوم الكونية على الفقهية والكالمية يف فهم القرآن‪،36‬‬
‫وأنه اعترب إدخال العلوم الطبيعية أهم أركان التفسري والعمل هبدي القرآن المتالئه بذكر آيات اهلل يف‬
‫خلق السماوات واألرض‪ .37‬األمر الذي دعاه إىل اجلمع بني العلمني الكوين والديين‪.38‬‬
‫كل ذلك مما له داللة على ما للواقع من مرجعية معرفية تأسيسية لفهم النص‪.‬‬

‫‪ - 36‬املنار‪ ،‬ج‪ ،1‬هامش ص‪.182‬‬


‫‪ - 37‬املنار‪ ،‬ج‪ ،9‬ص‪.177‬‬
‫‪ - 38‬املنار‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.44‬‬
‫‪15‬‬
‫الحقائق العلمية الحديثة لخدمة الحقائق الدينية‪:‬‬

‫والشأن مع الغزايل نفسه إذ أن من املبادئ املوّج هة لتجربته املعرفية والروحية ولدعائم النظر‬
‫والعمل عنده مبدأ‪ :‬العلم‪ .‬والغزايل ليس "عاملًا طبيعيًا" وال "فيلسوف علم"‪ ،‬لكن الناظر يف مصنفاته‬
‫يدرك جبالء أنه كان حريصًا بالغ احلرص على أن يتزود من املعارف العلمية‪ ،‬ويتابع قضايا العلم‬
‫ومكتشفاته ليتسىن له اإلفادة منها يف نشاطه "الدعوي"‪.‬‬
‫ومالحقة املسائل العلمية أمر تعلق به رجال النهضة اإلسالمية منذ أواخر القرن التاسع عشر‪،‬‬
‫واشتد تعلقهم هبا مع انتشار عدد من الفلسفات الطبيعية ذات السمة "اإلحلادية" وخباصة (الداروينية)‪،‬‬
‫وعلى وجه اإلمجال (املادية)‪.‬‬
‫وقد اعتقد هؤالء املفكرون الذين تصدوا هلذه الفلسفات بالتحليل والنقد والرد أن االستقصاء‬
‫العلمي والتعمق يف مسائل العلم وقضاياه ومناهجه ييسر هلم هذه الرسالة‪ ،‬ويؤدي إليهم أسلحة دفاعية‬
‫وهجومية من الطراز األول يف معركة الذب عن اإلسالم ورد هجمات خصومه "العلميني"‪.‬‬
‫وقد كان الشيخ اللبناين الطرابلسي حسني اجلسر‪ )1909-1745( 39‬أبرع من جرد أسلحة ماضية‬
‫يف وجه الداروينية‪ ،‬كما كان املصري طنطاوي جوهري‪ )1940-1870( 40‬من أبرز من عنوا مبتابعة‬
‫اجملاالت املختلفة للعلوم وجواهرها‪ ،‬ولعجائب الكون اليت يكشف عنها العلم الطبيعي‪ ،‬وللتعريف بالعلوم‬
‫العصرية‪ ،‬وتقرير مساوقتها لنظام اإلسالم وآلي القرآن الكرمي‪.‬‬

‫‪ - 39‬الشيخ حسين الجسر‪ )1909-1845( :‬هو ابن الشيخ حممد اجلسر املعروف "بأيب األحوال"‪ ،‬مما قاله رشيد رضا عن شيخه اجلسر‪" :‬وكان‬
‫أستاذنا العالمة الشيخ حسني اجلسر األزهري هو املدير هلا بعد أن كان هو الذي سعى لتأسيسها‪ ،‬ألن رأيه أن األمة اإلسالمية ال تصلح وترقى إال باجلمع بني‬
‫علوم الدين وعلوم الدنيا على الطريقة العصرية األوروبية مع الرتبية اإلسالمية الوطنية جتاه الرتبية األجنبية يف مدارس الدول األوروبية واألمريكانية‪."..‬‬
‫صدر له أول كتبه‪" :‬نزهة الفكر يف مناقب موالنا الشيخ حممد اجلسر" وكذلك "الرسالة احلميدية يف حقيقة الديانة اإلسالمية وحقيقة الشريعة احملمدية"‪.‬‬

‫‪ - 40‬طنطاوي جوهري ‪ُ :‬و لد يف قرية كفر عوض اهلل حجازي مبحافظة الشرقية عام ‪1862‬م‪ ،‬التحق الشيخ طنطاوي يف مطلع حياته بكَّتاب القرية‪ ،‬وأمت‬
‫فيه حفظ القرآن‪ ،‬وبعد أن أمت احلفظ ظهر عليه ولُعه بالعلم‪ ،‬فالتحق باجلامع األزهر عام ‪1877‬م‪ ،‬ويف هذه الفرتة ظهر نبوغه كما ظهر ذكاؤه احلاّد‪ ،‬فأجاد‬
‫علوم اللغة العربية والفقه اإلسالمي‪ ،‬وأَّمل مبذهب اإلمام الشافعي‪ .‬مل يكن الشيخ طنطاوي عا ا كسائر العلماء‪ ،‬بل متَّيز يف كل نواحي العلوم‪ ،‬فكان العامل‬
‫ًمل‬
‫الديين الوطين‪ ،‬كما كان العامل االجتماعي العاملي‪ ،‬مجع بني الثقافتني الدينية والطبيعية واإلنسانية‪ ،‬فمزج املسائل الدينية باآلراء االجتماعية والسياسية‪ ،‬كما‬
‫جاهد بقلمه ورأيه لرفعة شأن اإلسالم‪ ،‬وكان يرمي إىل أن العلم إذا حُس ن فهُم ه كان أداًة صاحلًة لتفُّه م روح الدين‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫واحلقيقة أنه يتعذر متاما أن نلقى أحدًا من املصلحني املسلمني احملدثني واملعاصرين إال وقد ُعين‬
‫مبسألة العلم ووشائجه بالدين‪ .‬وهلم يف ذلك مناهج وأنظار وفهوم ليس هذا القول موضعها‪.41‬‬
‫والقضية عند الشيخ الغزايل قاطعة حمسومة‪" :‬إن الدين احلق والعلم مها تصوير متكامل للوجود"‪.‬‬
‫وإن "العقول الذكية" هي وحدها اليت تستطيع "اخرتاق أسرار الكون ومعرفة آيات اهلل يف شىت‬
‫األمكنة واألزمنة"‪ ،‬وهي وحدها اليت "متيز احلق من الباطل وتعرف حقائق الوحي" ‪.42‬‬
‫لقد خلقت العقول "للتجاوب مع حقائق الكون" و "لتكون مفاتح خزائنه وكواشف أسراره"‪ ،‬واحلضارة‬
‫اإلسالمية نفسها قامت على "العقل والبصر"‪.43‬‬
‫وأبلغ من هذا وأبعد غورًا ما يصرح به من القول‪" :‬وحنن –باسم اإلسالم‪ -‬نعترب تصديق احلقائق‬
‫العلمية دينا"‪ .44‬وتأسيسًا على هذا القول يوجب "على علماء الكون واحلياة أن يروا تصديق احلقائق‬
‫الدينية العلمية العادية"‪ .‬والعلة بّينة‪ ،‬وهي أن اهلل هو مصدر احلقيقتني‪ :‬الدينية والعلمية‪.‬‬
‫وهلذا السبب نفسه ميتنع متام االمتناع أن ينشأ تعارض أو تناقض حقيقي بني احلدين‪ .‬وال ميلك الناظر‬
‫وهو يتأمل هذا الفهم إال أن يذكر ابن رشد وتقريره املشهور يف أمر االتصال بني العقل والشريعة‪ ،‬وإن‬
‫كان من احلق أن نقول إنه ال يذهب مذهبه يف التأويل الذي يبدو وكأنه يقدم العقل على النص‪.‬‬

‫القرآن بين الهداية واإلعجاز‪:‬‬


‫بيد أن الشيخ الغزايل يظل مفكرًا "واقعيًا" يدرك متام اإلدراك حدود علوم الكون واحلياة من‬
‫وجه‪ ،‬وحدود الرسالة الدينية ومضمون الوحي من وجه آخر‪.‬‬
‫وذلك أنه يأىب أن يذهب إىل ما ذهب إليه أصحاب (التفسري العلمي) للقرآن‪ ،‬إذ يقرر صراحة‬
‫"أن القرآن الكرمي ليس كتاب مباحث فنية يف علوم الكون واحلياة‪ ،‬وغاية ما أملع إليه أنه –وهو بيين‬
‫اليقني على التأمل يف ملكوت السموات واألرض‪ -‬وصف هذا العامل بكلمات معجزة حالفها الصدق‬
‫على اختالف العصور وارتقاء العقول‪ ،‬فبقيت يف تصوير احلق براقة الدالئل‪ ،‬ال يأتيها الباطل من بني‬
‫يدينها وال من خلفها ألهنا ﴿ َتْنِز يٌل ِم ْن َح ِكيٍم ِمَح يٍد﴾ [فصلت‪.45"]42 :‬‬

‫‪ - 41‬إسالمية املعرفة‪ ،‬مقال‪ ،‬العامل بني حدين‪ :‬نظرة يف املبادئ املوجهة للتجربة الغزايل‪ ،‬فهمي جدعان‪ ،‬ص‪.82-81‬‬
‫‪ - 42‬حممد الغزايل‪ ،‬اإلسالم واألوضاع االقتصادية‪( ،‬القاهرة ‪ :‬دار الصحوة‪ ،‬ط‪ ،)1987 ،7‬ص ‪.195-194‬‬
‫‪ - 43‬حممد الغزايل‪ :‬هذا ديننا‪( ،‬القاهرة‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ،)1990،1990 ،2‬ص‪.42‬‬
‫‪ - 44‬حممد الغزايل‪ :‬حقوق اإلنسان‪ ،‬ص‪.214‬‬
‫‪ - 45‬حممد الغزايل‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.214‬‬
‫‪17‬‬
‫واحلق الذي ال جلاج فيه‪ ،‬يف معتقد الشيخ الغزايل‪ ،‬هو أن هذا الوجه من املسألة ال ينبغي أن‬
‫يشغلنا عن "الغاية العظمى" اليت نـزل القرآن من أجلها‪.‬‬
‫فالواقع أن القرآن "من قبل ومن بعد‪ ،‬كتاب هداية جامعة للسلوك اإلنساين الصحيح"‪ ،‬وهو يف‬
‫هذا الشأن "استوعب كل شيء" مما يرجع إىل األمر باخلري أو النهي عن الشر‪ ،‬ومما يتصل باملبادئ‬
‫املوجهة للسلوك البشري كاإلخاء والعدالة واحلرية واملساواة‪ ،‬ومجلة احلقوق واملبادئ اليت تضمنها‬
‫اإلعالن العاملي حلقوق اإلنسان الذي أقرته اجلمعية العامة لألمم املتحدة يف العاشر من ديسمرب (كانون‬
‫األول) ‪ ،1948‬أي بعد أربعة عشر قرنًا من نـزول تعاليم اإلسالم يف هذه احلقوق‪.‬‬

‫وهذا التساوق بني الوحي والعقل السديد ليس أمرًا مبتدعًا‪ ،‬فقبل أن ينـزل الوحي ويف املواطن‬
‫اليت مل تبلغها أشعته بعد أن نـزل‪ ،‬مل يقف العقل اإلنساين جامدًا‪ ،‬وإمنا مارس وظيفته يف اإلدراك ويف‬
‫استكناه طبيعة احلياة ورسالة اإلنسان فيها‪ ،‬والكشف عن حقائق كثرية مما يتصل مبعرفة اهلل والعامل‪ ،‬ويف‬
‫أمر العالقة بني اإلنسان وربه وبني اإلنسان وأخيه اإلنسان‪.‬‬
‫ويالحظ الشيخ الغزايل أن أبا حامد الغزايل قد تنبه يف املنقذ من الضالل إىل التوافق يف السياسة اخللقية‬
‫واالجتماعية بني أحكام الدين ومقررات الفالسفة‪ ،‬وإىل أنه قد أرجعه إىل تأثر هؤالء مبواريث دينية عن‬
‫النبوات األوىل‪.46‬‬

‫ومع أن الشيخ الغزايل يرى أنه "قلما ظهر مذهب فلسفي وأصاب حلق يف نواحيه اإلهلية واخللقية‬
‫واالجتماعية كلها"‪ ،‬وأن "يف التفكري البشري اجملرد آفات جيب أن حُت ذر"‪ ،‬وخباصة حني تكون املعرفة‬
‫سطحية تتعلق بالظواهر‪ ،‬فإنه يسوق قول أحد مفكري الغرب‪" :‬إن القليل من الفلسفة يبعد عن اهلل‪،‬‬
‫ولكن الكثري منها يرد إليه جل جالله"‪" .47‬ومع أن العقل البشري سار طويًال وحده‪ ،‬إال أن حصيلة‬
‫الكثرة العظمى من الفالسفة‪ ،‬وال قيمة للشواذ"‪.‬‬
‫لكن "الدين –كما جاء من عند اهلل‪ -‬هو اخلالصة النقية السهلة اليت مجعت احلق كله"‪.48‬‬

‫‪ - 46‬إسالمية املعرفة‪ ،‬مقال‪ ،‬العامل بني حدين‪ :‬نظرة يف املبادئ املوجهة للتجربة الغزايل‪ ،‬فهمي جدعان‪ ،‬ص‪.83‬‬
‫‪ - 47‬حممد الغزايل‪ :‬حقوق اإلنسان‪ ،‬ص‪..216-215‬‬
‫‪ - 48‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.216‬‬
‫‪18‬‬
‫درء تعارض العقل والنقل‪:‬‬

‫وال بأس بأن نشرح موقف الشيخ الغزايل يف حتديد العالقة بني هاتني الدعامتني اللتني تقوم عليهما‬
‫املعرفة اإلنسانية والفعالية العملية لبين البشر‪ :‬حد العقل ‪ ،‬وحد الوحي‪.‬‬
‫واملسألة –كما نعلم‪ -‬قدمية‪ ،‬وجهت إليها النصوص الدينية‪ ،‬وخاض فيها املتكلمون وأصحاب الرأي‬
‫منهم خباصة‪ ،‬وتكلم عليها الفالسفة‪ :‬من الكندي‪– 49‬أوهلم‪ -‬الذي قرر أن ما جاءت به الرسل قد ورد‬
‫"مبقاييس عقلية"‪ 50،‬إىل ابن رشد –آخرهم‪ -‬الذي جرد للمسألة رسالة هي فصل املقال وتقرير ما بني‬
‫الشريعة واحلكمة من االتصال‪ ،‬وابن تيمية –شيخ السلفيني املتأخرين‪ -‬الذي بذل بليغ وسعه إذ وضع‬
‫فيها مصنفه الضخم درء تعارض العقل والنقل‪.‬‬
‫يقول الشيخ حممد الغزايل‪" :‬هيهات أن خيتلف العقل والنقل أو تتناقض مثار الوحي والفكر‪ ،‬ما دام‬
‫كالمها تصويرًا جمردًا للحقيقة كما هي دون ريبة أو عوج‪.‬‬
‫يف العالقة بني العلم والدين جيب أن نعرف أن قول العاقل وعمله ال خيتلفان‪.‬‬
‫وإذا كان الكون صنع اهلل والدين كالمه –جل شأنه‪ -‬فيستحيل أن يكون يف املعارف الكونية ما‬
‫خيالف العلوم الدينية‪ ،‬إذ العلم ليس إال وصفًا ملا صنع اهلل يف آفاق األرض والسماء‪ ،‬وتقريرًا ملا بث فيها‬
‫من قوى وخصائص‪ .‬وهذا البيان ألفعال اهلل يستحيل أن جييء يف وحي اهلل ما خيتلف عنه أو يصطدم به‪.‬‬
‫إن الدين احلق والعلم احلق مها تصوير متكامل للوجود"‪.51‬‬

‫‪ - 49‬أبو ُيوُس ف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي‪( ،‬؟ ‪ 260 -‬هـ ‪ ،‬؟ ‪874 -‬م)‪ ..‬نشأ يف البصرة منذ العقد األول من القرن الثالث اهلجري‪.‬‬
‫وهو أحد أبناء ملوك كندة اشتهر بفيلسوف العرب‪ ،‬تنسب إليه أوىل ترمجات جغرافية لبطليموس‪ ،‬وقد ظهر تأثريها يف كتابه رسم املعمور من األرض‬
‫وللكندي رسالة مهمة يف البحار واملد واجلزر‪ .‬واشتهر يف جماالت عديدة منها‪ :‬الطب والفلسفة والفلك واهلندسة واملوسيقى‪ ،‬ويزيد عدد مؤلفاته على‬
‫ثالمثائة‪ .‬نال مكانة ممتازة لدى كل من املأمون واملعتصم‪ ،‬لكنه لقي إهانة وأذى من املتوكل‪.‬‬
‫‪- 50‬أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي‪ ،‬رسائل الكندي الفلسفية‪ ،‬حتقيق حممد عبد اهلادي أبو ريدة‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الفكر‪ ،)1950 ،‬ج‪ ،1‬ص‬
‫‪.254‬‬
‫‪ - 51‬حممد الغزايل‪ ،‬حقوق اإلنسان بني تعاليم اإلسالم وإعالن األمم املتحدة‪( ،‬اإلسكندرية‪ ،‬دار الدعوة‪ ،)1993 ،‬ص ص ‪.214-213‬‬
‫‪19‬‬
‫التصور المبدئي للعقل وميدان عمله عند الشيخ الغزالي‪:‬‬

‫واحلقيقة أن التصور املبدئي للعقل عند الشيخ الغزايل هو تصور "توليدي"‪ ،‬مبعىن أن العقل ال يدرك‬
‫حقائقه مرة واحدة وإمنا يسري "على طريق اجملهول"؛ إذ هو يدرك حقائق من مجلة احلقائق املستورة‪ ،‬مث ما‬
‫يلبث أن يدرك حقائق أخرى فأخرى وهكذا‪ .‬اجملهول القابل لالكتناه هو عامله‪.‬‬
‫وهذا العامل الرحب املمتد يشتمل على قطاعات ثالثة كربى‪:‬‬
‫‪ .1‬قطاع الكون بعناصره املادية وآفاقه وقوانينه‪.‬‬
‫‪ . 2‬قطاع الشؤون الدنيوية البشرية مما يتصل بارتفاق اإلنسان من الطبيعة وباألنشطة الصناعية والزراعية‬
‫والتجارية واحلرفية‪ ،‬ومجلة اخلربات اإلنسانية‪.‬‬
‫‪ . 3‬قطاع العالقات اإلنسانية القائمة على تعرف القوانني النفسية واخللقية واالجتماعية والسياسية اليت‬
‫حتكم اجلنس اإلنساين يف حياته على األرض‪.‬‬
‫ما هي حدود العقل يف هذه القطاعات الثالثة؟‬
‫ال يرتدد الشيخ الغزايل يف التحديد‪ .‬فالكون مفتوح أمام العقل اإلنساين يستطيع أن يرتاده من غري‬
‫حدود والشؤون الدنيوية البشرية كذلك أيضًا‪ ،‬إذ هي األخرى "جمال فسيح أمام الفكر اإلنساين يتحرك‬
‫فيه دون قيد وإىل غري حد"‪.‬‬
‫أما "قطاع العالقات اإلنسانية والقوانني اليت حتكمها فله شأن خاص‪ .‬ففي املواطن اليت مل تدركها‬
‫تعاليم الدين ينفرد العقل باألحكام‪ .‬أما بعد نـزول الشرائع وحيث تصل تعاليمها فإن الكلمة هلا وحدها‪.‬‬
‫وهو يعتقد أن مجلة ما تقرر عند األمم خارج دائرة الدين ال يضاد الدين وإن كان مث أخطاء تتحمل‬
‫البشرية وزرها‪ ،‬وحتتاج إىل الدين للخالص منها‪ ،‬كما أنه يتابع أبا حامد الغزايل فيما ذهب إليه يف املنقذ‬
‫من الضالل إذ اعتقد أن مجلة ما هو مقبول من األمور اخللقية والسياسية واالجتماعية عند خمتلف األمم‬
‫مما يرتد مباشرة إىل الدين‪ ،‬إمنا يرجع يف أصله إىل الشرائع السماوية القدمية‪.‬‬
‫لكن القول احلاسم النهائي هنا ينبغي أن يكون للدين‪.52‬‬

‫‪ - 52‬حممد الغزايل‪ ،‬دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن املستشرقني‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الكتب اإلسالمية‪ ،‬الطبعة اخلامسة‪ ،)1988 ،‬ص ص ‪-112‬‬
‫‪.113‬‬
‫‪20‬‬
‫أما ما مل يرد فيه نص أو نص حمكم من أمور الشريعة‪ ،‬فإن الشيخ الغزايل يلتزم فيه جانب أهل‬
‫(الرأي)‪ ،‬فيقر للعقل حبرية استخدام ملكته االستنباطية االجتهادية يف االستدالل لألحكام‪ ،‬ويف استنباطها‬
‫وفق أصول االجتهاد اليت توّج ه فقه (أهل الرأي)‪.‬‬
‫بتعبري آخر‪ ،‬للعقل جماله الفذ‪ :‬علوم الطبيعة والكون‪ ،‬وشؤون الدنيا وصناعاهتا‪ ،‬واستنباط األحكام‬
‫الشرعية اليت مل يرد فيها نص‪.‬‬
‫أما جمال الدين فهو القوانني والشرائع اليت حتكم العالقات اإلنسانية‪ ،‬والعقائد والعبادات اليت تصل‬
‫املخلوق باخلالق‪ .‬والوحي هو األصل الذي يرتد إليها كل شيء يف هذا اجملال‪.‬‬
‫وإننا لنجد عند القراءة يف خطاب الغزايل أن العقالنية الغزالية احملدودة تبدي أحكامها يف مسألة‬
‫التحسني والتقبيح العقليني اليت يتعلق هبا املعتزلة‪ ،‬إذ يذهب الشيخ الغزايل مذهبًا "عقالنيًا معتدًال" فيوجه‬
‫النظر على "أن علماء املسلمني احملققني من سلف وخلف يرون أن يف بعض األشياء حسنًا أو قبحًا ذاتيني‬
‫يستطيع العقل معرفتهم ابتداء"‪ ،‬لكنه مع ذلك يقول جازمًا‪" :‬إن العقل ال يغين عن شريعة اهلل‪ ،‬وإن هلل‬
‫من عباده مطالب ال تعرف إال عن طريق النبوة"‪.53‬‬

‫‪ - 53‬حممد الغزايل‪ ،‬دفاع عن العقيدة والشريعة‪ ،‬ص‪.127‬‬


‫‪21‬‬
‫هل يستطيع العقل اكتشاف "وجود" عالم ما بعد الطبيعة؟‪:‬‬
‫ومعىن ذلك كله فإن مملكة العقل ذات حدود "طبيعية" واسعة‪.‬‬
‫لكن هل يستطيع العقل أن يتجاوز حدود الكون الطبيعي‪ ،‬وأطر املعرفة الطبيعية؟‬
‫إنه يستطيع أن يكشف عن "وجود" عامل ما بعد الطبيعة‪ ،‬أي أن "اهلل حق"‪ ،‬لكنه ال يستطيع أن يذهب‬
‫إىل أبعد من ذلك‪.‬‬
‫يستطيع العقل أن يثبت وجود اهلل‪ ،‬لكنه ال يستطيع أن يتكلم على كماالته الذاتية وعلى صفاته‬
‫املاهوية‪.‬‬
‫وعند هذه املسألة "يشتبك" الشيخ الغزايل مع الكالم االعتزايل‪.54‬‬
‫يتساءل الدكتور فهمي جدعان‪ 55‬عند هذا احلد يف دراسة له حول املبادئ املوجهة لتجربة الغزايل‪،‬‬
‫هل كان الشيخ حممد الغزايل قريب نسب روحي بأيب حامد الغزايل؟ ليجيب‪ :‬لست أشك يف هذا البتة‪.‬‬
‫لكنه‪ ،‬واحلق يقال‪ ،‬أقرب إلينا من أيب حامد‪ ،‬وليس ذلك ألنه معاصر لنا فحسب‪ ،‬ولكن ألنه أيضًا‬
‫"معاصر" بإطالق‪ ،‬قلبًا وقالبًا‪.‬‬
‫ومسة "املعاصرة" هذه هي اليت وجهت روحه املتوقدة وفكره "النقدي" –الذي تفجر يف مصنفه الفذ‬
‫السنة النبوية بني أهل الفقه وأهل احلديث‪ -‬إىل استخدام مجلة املبادئ املؤسسة لتجربته الروحية يف سجاله‬
‫احلّي الكبري مع املخالفني املعاصرين الذين مل يدخر وسعًا طيلة حياته املناضلة يف دراسة مذاهبهم‬
‫ومناهجهم‪ ،‬حتليًال ونقدًا وردًا‪ :‬االشرتاكية‪ ،‬والشيوعية‪ ،‬والرأمسالية‪ ،‬واالستشراق‪ ،‬والصليبية والتنصري‪،‬‬
‫واملادية‪ ،‬والداروينية‪ ،‬والعلمانية‪ ،‬والقومية‪.‬‬

‫‪ - 54‬إسالمية املعرفة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.75‬‬

‫‪ -‬فهمي جدعان‪ :‬مفكر أردين من أصول فلسطينية‪ ،‬من مواليد سنة ‪ 1940‬يف بلدة عني غزال الفلسطينية‪ ،‬درس الفلسفة يف جامعة السوربون وحصل منها‬ ‫‪55‬‬
‫على دكتوراه يف الفلسفة اإلسالمية وعلم الكالم سنة ‪ ،1968‬له آراء جدلية حول اإلسالم السياسي حاصل على جوائز عديدة‪ ،‬كما مت اختياره لعنوان‬
‫الشخصية الفكرية لعام ‪ 2013‬من قبل بعض املؤسسات الثقافية يف بلده‪ .‬من أهم أعماله‪ :‬أسس التقدم عند مفكري اإلسالم في العالم العربي الحديث‪ ،‬ط‬
‫‪ ،1‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪1979 ،‬؛ ط‪ ،3‬دار الشروق‪ ،‬عمان‪646( 1988 ،‬ص)‪-.‬احملنة – حبث يف جدلية الديين والسياسي يف‬
‫اإلسالم‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الشروق‪ ،‬عمان ‪1989‬؛ ط‪ ،2‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪502( 2000 ،‬ص)‪-.‬الطريق إلى المستقبل‪ :‬أفكار – قوى‬
‫لألزمنة العربية المنظورة‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪452( 1996 ،‬ص)‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫وقد كان ذلك كله استجابة فريدة لدعوته الدائمة أن "اإلسالم لإلنسان وللحياة"‪.56‬‬

‫‪ - 56‬إسالمية املعرفة‪ ،‬مقال‪ ،‬العامل بني حدين‪ :‬نظرة يف املبادئ املوجهة للتجربة الغزايل‪ ،‬فهمي جدعان‪ ،‬ص‪.85‬‬
‫‪23‬‬

You might also like