Professional Documents
Culture Documents
com
بحث محكم
قسم الدراسات الدينية
08يناير 2024
امللخص:
تروم هذه ال ّدراسة فهم الطريقة التي تناول بها العقل الفقهي موضوعات الس ّياسة؛ وذلك من خالل الرتكيز
عىل مسألة اإلمامة ورشوطها عند أيب حامد الغزايل ،وسنعمل عىل مقاربة تلك املسألة وما يتّصل بها من قضايا
(سياسية ورشعية) باالستناد إىل منهج التحليل النقديّ .نقتحم عربها مدارج فقه السياسة الرشعية يف تاريخ
اإلسالم ،كام سنلج بواسطتها إىل فكر الغزايل للتعرف عىل مختلف القضايا التي يطرق من خاللها موضوعات
الس ّياسة ،وتت ّبع مسارات تفكريه فيها؛ سعياً إىل إدراك منطق العقل الفقهي يف التعاطي مع املشكالت السياس ّية
التي يجد نفسه -يف الكثري من األحيان -مضطراً إىل االنخراط يف ح ّلها ملا له من سلطة رمز ّية ،وبيان ما إذا
كان هذا «العقل» يعترب اإلمامة موضوعاً س ّياسياًّ أم ينظر إليها كقض ّية كالم ّية دين ّية رشع ّية أم إنه يزاوج بني
هذا وذاك يف سبيل الحفاظ عىل وحدة األمة وقوة الدّولة ومتاسك املجتمع ودرء الفتنة .وسيكون سؤال :كيف
ّمتت مقاربة الواقع الس ّيايس من طرف العقل الفقهي يف تاريخ اإلسالم؟ هو ما يؤطر هذا البحث .أما سؤال:
هل الفقهاء تعاملوا بطوباوية أم بواقعية يف نظرهم لسياسة الدّنيا ،فهو الذي ي ّوجهه.
5
مقـدمة:
من يطالع الرتاث اإلسالمي ،يجد ّأن ّمثة أجناسا فكر ّية عدّة تناولت املسألة الس ّياس ّية (الدّولة ّ
والسلطة
تتجسد يف أعامل أيب نرص الفارايب ،الذيوالحكم ،واإلمامة والخالفة)؛ من بني أه ّمها الفلسفة الس ّياس ّية التي ّ
الفلسفي ،وهي املتم ّثلة يف «املدينة الفاضلة» ،التي تخالف
ّ حاول تأسيس دولة طوباوية تستند إىل العقل
السلطان ّية) املستلهم للنموذجايس (=اآلداب ّ
السلطان ّية التي كان يعيش يف كنفها ،ثم األدب الس ّي ّمتاماً الدّولة ّ
بالسلطة الدّينية فجرت مقاربتها يف حقل السلطة الس ّياس ّية ّ
الفاريس يف حكم الدّولة .أ ّما فيام يخص عالقة ّ
ّ
الثقافة اإلسالم ّية يف إطار فقه الس ّياسة الرشع ّية ،1وهو جنس من الخطاب أو القول عمل فيه الفقهاء عىل
ترشيد الس ّياسة عىل أساس الرشيعة اإلسالم ّية درءاً للتعارض بينهام؛ وسعياً إىل تحقيق االنسجام بني منطوق
السيايس ومستجدّاته التي
ّ الشع ملقتضيات الواقع ايس .وغالباً ما ينتهون إىل إخضاع ّ
ّيني والفعل الس ّي ّ
الن ّّص الد ّ
الفقهي االجتهاد إلصدار أحكام توافق الظروف .وهذا ما يتناغم جوهرياًّ مع ما نجده يف علم ّ تفرض عىل العقل
الكالم ،الذي يرك ّز أصحابه عىل اإلمامة 2باعتبارها مسألة س ّياس ّية من الفقه ّيات ال بوصفها قض ّية عقد ّية من
الشع ّية ،سنحاولاألقل .ومن باب الجدل الكالمي وفقه الس ّياسة ّ العقائد والعبادات *3عند فرقة السنّة عىل ّ
استهدفت يف البداية كتاباً له مخصوص هو «االقتصادُ اسـي عند أيب حامد الغزايل ،الذي
مالمسة الفكر الس ّي ّ
يف االعتقاد» ،غري ّأن رسعان ما انتبهت إىل ّأن هذه املوضوعة مطروقة عنده يف كتب أخرى من بينها «التّرب
املسبوك يف نصيحة امللوك» و«فضائح الباطن ّية» ،وهو املؤلف الذي يكنى أيضاً بـ«املستظهري» ،ثم بشكل
واضح وأكرث يف «إحياء علوم الدّين» .لهذا ،سأحاول الوقوف عند هذه التأليفات الستجالء تصور الغزايل من
املوضوعات السياسية؛ وذلك من خالل البث يف إشكال اإلمامة بني الرشع الديني والواقع السيايس عنده؛ لبيان
الكيفية التي تعاطى بها العقل الفقهي -عموماً -مع تلك املوضوعات.
هكذا ،تروم هذه الدراسة الوقوف عند املقاربة الفقه ّية ملوضوعات الس ّياسة ،وبشكل خاص مسألة
اإلمامة ورشوطها عند رجل فذ يجمع بني الفلسفة والفقه والتّص ّوف ،وسنعمل عىل تناول تلك املسألة وما
يتصل بها من قضايا (الدّين والدّولة) باالعتامد عىل منهج ّية تحليلية نقد ّية .وحتى يتيرس الولوج إىل فقه
-1أغلب ما كتب في صنف السيّاسة الشرعيّة في تاريخ اإلسالم بنيّ على حديث «األئمّة من قريش» ،الذي من المرجّ ح أنّه اخترعه معاوية بن أبي
سفيان ،لكونه بدأ معه فجأة ،حيث هو أوّل من وظفّه ض ّد خصومه من الشيعة الخوارج ،دون أن نعثر له على أثر عند أصحاب المصادر التاريخيّة
الكُبرى في تاريخ اإلسالم :ال عند ابن إسحاق وال عند ابن هشام وال عند البالذري وال عند الطبري وال عند المسعودي ...وال هو ذكره أحد الصحابة
الصديق أو عمر بن الخطاب أو أبو عبيدة الجراح ،)..ولكنّنا نجده بعدها عند البخاري ومسلمالكبار الذين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة(أبو بكر ّ
والترمذي !
-2عند مطالعة تاريخ الفكر اإلسالمي نجد أنّ ثمّة شبه إجماع عند «المسلمين» من فقهاء ومتكلّمين ،عند الشيعة والسنّة ،على أنّ اإلمامة واجب شرعيّ ؛
ألنّ حياة النّاس متوقّفة عليها ،غير أنّ أساس هذا الوجوب اختلف الرّ أي بشأنه بينها؛ ففرقة السّ نة ترى هذا األساس في اإلجماع؛ بينما ترى الشيعة بأن
سنده التفويض اإللهي لتنصيب اإلمام المعصوم .أمّا المعتزلة فتذهب إلى أنّ العقل هو أساس اإلجماع ،غير أنّ من المعتزلة من يعتبر بأنّ أساس وجوب
نصب اإلمام مزدوج فهو عقلي وشرعي في ذات اآلن.
-3على الرّ غم من غيّاب التشريع الدّينيّ للمسألة السيّاسيّة نجد في تراث اإلسالم من قال بذلك وهم الشيعة ،الفرقة التي تقول بأنّ اإلمامة تكون بالنّص،
وهي استئناف للنبوّة ال في شقّها الدّنيويّ السيّاسيّ فحسب ،بل أيضا في جانبها الدّينيّ .وبالتالي تحسبها من أركان اإلسالم؛ إذ ال يكتمل اإليمان عند
ال بالتسليم باإلمام المعصوم .على خالفها تذهب السنة إلى أنّ االمامة/الخالفة تتم باالختيار؛ بحيث يترك لجماعة الناس أمر اختيار من يدبّر الشيعة إ ّ
لها أمورها من خالل أهل الحلّ والعقد.
6
السياسة الرشعية بعامة؛ وإىل فكر الغزايل بخاصة ميكننا االسرتشاد باالستفهام التايل :ما هي القضايا التي يطرق
ايس أم باعتبارها
من خاللها الغزايل موضوع الس ّياسة؟ هل حديثه عن اإلمامة كالم عنها بوصفها موضوع س ّي ّ
قض ّية كالم ّية دين ّية رشع ّية؟ وكيف ّمتت مقاربة اإلمامة عنده :هل بعقل الفقيه ّ
املتبص بأحوال الواقع أم برؤية
الفيلسوف املعياري الحامل بإمامة ُيخلف فيها اإلمام األول؟ وهل يراعي الغزايل الظروف التاريخ ّية ،وهو يقارب
السيايس (الدّنيويّ ) للغزايل؟
ّ موضوعاً س ّياسياّ أم يقفز عليها؟ وكيف يحرض ّ
الشع (الدّيني) يف الفكر
رأى أبو حامد الغزايل النور بطوس إحدى مدن خراسان سنة (1059املوافق للعام الهجري ،4)450وقد
أخذ طرفاً من الفقه عىل ي ّد أحمد بن محمد الراذكاين ثم رحل إىل جرجان ،وهو دون سن العرشين .وقد
أخذ نصيباً من الفقه عن اإلمام أيب نرص اإلسامعييل ثم عاد إىل طوس ومكث فيها ثالث سنوات حفظ فيها ما
السلطة والجاه واملال يف حياة هذاعلقه عن اإلمام اإلسامعييل يف جرجان 5.ثم انتقل إىل نيسابور وهنا بداية ّ
ال ّرجل .ففي نيسابور ،أخذ الغزايل العلم عن أيب املعايل الجويني (إمام الحرمني) وهو إمام الشافعية هناك،
وأحد منظري مذهب األشعرية ،وكان أستاذاً محلياًّ يف جميع فروع املعرفة وعلوم العرص وقتئذ .وبعدها صار
أبو املعايل أستاذاً يف املدرسة النظام ّية تلك ،التي درس الغزايل فيها مختلف علوم العرص واستفاد من أستاذه
كثرياً إىل درجة التفوق عليه .وقد عرف ّأن الجويني قال لتلميذه« :هال أمهلتني حتّى أموت» إشارة إىل نباهة
الغزايل وتف ّوقه لهذا كان هذا األستاذ يقول ّإن الغزايل بحر مغدق من املعرفة .وأثناء إقامة هذا األخري يف
نيسابور ،قرأ وأ ّلف يف كثري من صنوف العلم املعروفة يف عرصه .وحينام تويف الجويني (إمام الحرمني) سنة
السلجوقي،478هـ1085/م ،خرج الغزايل إىل املعسكر قاصداً الوزير نظام امللك ،الذي كان وزيراً للملك شاه ّ
عي فيها الغزايل
وقد كان هذا الوزير من مح ّبي العلم وأهله ،وقد ّأسس يف بغداد املدرسة النظام ّية ،التي ّ
مد ِّرساً سنة 484هـ1091/م .وقد بلغ وقتها الغزايل السنة الخامسة والثالثني من عمره .ويف هذه املرحلة،
سيقرأ الفلسفة وسيتع ّمق يف دراستها ،ليؤلف كتابه «مقاصد الفالسفة» الذي يدل عىل سعة ّاطالعه ومعرفته
نصب الدقيقة بالفلسفة ،وفيه تج ّلت ح ّياد ّية الغزايل يف نقله للمذاهب الفلسف ّية وأفكارها ،لكن رسعان ما ّ
نفسه «فقيها أصولياًّ» يك ّفر الفالسفة ويبدّعهم يف كتابه «تهافت الفالسفة» .قىض أبو حامد حوايل أربع سنوات
م ّر فيها الغزايل بأزمات نفس ّية وفكر ّية عميقة وصفها ببالغة يف كتابه «املنقذ من الضالل» قاده هذا الرصاع
النفيس إىل ترك التدريس جاع ًال أخاه أحمد الغزايل ينوب عنه يف املهمة ليغادر بغداد .ومل يقترص الغزايل عىل
ّ
الفلسفة فحسب ،بل تع ّمق يف دراسة الفقه واألصول والعقائد والتص ّوف ،وله مؤ ّلفات عدّة يف هذه امليادين.
-4أحمد شمس الدين ،الغزالي :حياته ،آثاره ،فلسفته ،ط( 1بيروت :دار الكتب العلمية ،)1990 ،ص14
-5أبو حامد الغزالي ،االقتصاد في االعتقاد ،تحقيق مصطفى عبد الجواد عمران ،ط( 1مصر :دار البصائر ،)2009 ،ص15
7
ويورد عمران مصطفى عمران يف مقدمة تحقيقه لكتاب «االقتصاد يف االعتقاد» قوال لشيخ أزهري -وهو
محمد مصطفى مراغي -يصف فيه مدى موسوع ّية فكر الغزايل ،حيث يقول« :إذا ذكرت أسامء العلامء ا ّتجه
الفكر إىل ما ميتاز به من فروع العلم وشعب املعرفة؛ فإذا ذكر ابن سينا أو الفارايب خطر بالبال فيلسوفان
عظيامن من فالسفة اإلسالم...أ ّما إذا ذكر الغزايل ،فقد تشعبت النواحي ومل يخطر بالبال رجل واحد ،بل يخطر
لكل واحد قدره وقيمته .يخطر بالبال الغزايل األصو ّيل الحاذق املاهر ،والغزايل الفقيه
بالبال رجال متعدّدون ّ
االجتامعي الخبري بأحوال العامل وخف ّيات الضامئر
ّ الح ّر ،والغزايل املتك ّلم إمام السنّة وحامي حامها ،والغزايل
ومكنونات القلوب ،والغزايل الفيلسوف .وإن شئت ،فقل إ ّنه يخطر بالبال رجل هو دائرة معارف عرصه؛ رجل
كل يشء .نهم إىل جميع فروع املعرفة» 6.وهذه إشارة إىل سعة اطالع الغزايل وق ّوة فكره متعطش إىل معرفة ّ ّ
وقدرته عىل التأليف يف مختلف أنواع املعرفة املتاحة يف عرصه .وقد انتهت الحال بالغزايل إىل التص ّوف بعد
مغادرته بغداد ،حيث قرر اإلعراض عن املال والجاه واألوالد والعيّال واألصحاب.
بأهميته يف السياسة
ّ :2-1الرأسامل الديني ووعي الغزايل
ندرك األفق الفكري للغزايل وغريه من الفقهاء والتيارات السلفية الالحقة ،ال بأس من أن نعود إىل تاريخ
صدر اإلسالم ،حيث يخربنا أ ّنه بعد وفاة ال ّرسول محمد بن عبد الله صىل الله عليه وس ّلم ،الذي كان الشخص
الوحيد الذي يجمع بني السلطتني الدّينية والزمن ّية بوصفه نبياّ مرس ًال من جهة ،وباعتباره قائداً س ّياس ّياً من جهة
للنبي إىل اعتقاد خاطئ راسخ لدى أغلب املسلمني ،وهو التالزم بني ثانية ،سيتح ّول هذا االزدواج الوظيفي ّ
النبي ،حيث سيحاول الخلفاء الراشدون ايس يف اإلسالم ،ما سيؤ ّثر عىل التاريخ ال ّالحق عىل وفاة ّ ّيني والس ّي ّ
الد ّ
النبي الذي يرسي عليه ما ال يرسي عليهم .مع بالسلطة الدّين ّية ،رغم علمهم أن النب ّوة ختمت مع ّ التشبث ّ
السلطة الس ّياس ّية منذ ذلك الحني ترشعن بالدّين ال لوجود تنصيص عليها يف تعاليم اإلسالمّ ،
وإنا ذلك ،صارت ّ
السيايس واملرشعنة له .ووعياًّ بأهم ّية الرأسامل الد ّ
ّيني يف ّ لكون الدّين أحد املق ّومات الرئيسة املس ّوغة للحكم
يتوسلون بالفقهاء الحاملني لهذا الرأسامل ويستثمرونه تطويع الرع ّية كان أغلب الخلفاء والسالطني واألمراء ّ
باالستعانة بهم ،لكن ال ينبغي ْأن يفهم من هذا ّأن اإلسالم قامت فيه سلطة دين ّية كام حدث يف تاريخ
ألن الذي كان يحصل هو تواطؤ الفقهاء واألمراء ملصالح متبادلة بينهام: اطي؛ ّاملسيح ّية إ ّبان الحكم الثيوقر ّ
فهؤالء يسبغون الرشع ّية عىل س ّياسة السالطني ،وأولئك يستفيدون من االمتيازات والحظوات تلقاء الخدمة
التي يقدمونها للسالطني والخلفاء .مع مالحظة الب ّد منها هو ّأن انتهاز ّية الفقهاء تخفي أيضاً واقعية تتم ّثل يف
وعيهم بواقع االنقسام والفنت والرصاعات والحروب التي تشهدها البالد االسالم ّية وقتئذ .لهذا ،ركزوا عىل ّ
كل
السلطان الفاجر«أن طاعة ّ ما من شأنه ْأن يجمع شتات األ ّمة ويحفظ وحدها ،األمر الذي جعل بعضهم يعترب ّ
مقبولة إذا كان عىل ضامن األمن قادر وللفتنة قاهر»؛ معنى هذا ّأن الفقهاء كانوا تابعني لألمراء ،ويحصل
أن يتواطؤوا معهم فيستفيدون من امتيازات ،وقد يفرض مذهبهم بالق ّوة الس ّياس ّية ال بالسلطة املعرف ّية،
-6الغزالي ،المرجع السابق ،ص ص21 ،22
8
مثل مذهب املعتزلة الذي فرضته الدّولة الع ّباس ّية يف عهد املأمون واملعتصم والواثق ،ثم مذهب أهل السنّة
والجامعة ،الذي اعتمده بعدهم الخليفة املتو ّكل .يف حني فرضت الدّولة العثامن ّية املذهبني الحنفي والشافعي.
الشيعي .وهنا يظهر مالك بن أنس كفقيه
ّ أ ّما يف مركز سن ّّي مثل إيران ،فقد فرضت الصفوية اإلمام ّية املذهب
استثنايئ حينام رفض طلب الخليفة هارون الرشيد حينام استأذنه بتطبيق الدّولة العباس ّية لكتابه املوطأ
كمذهب رسمي لها .فكان أن أبدى رفضه ذاهبا إىل ّأن املوطأ «كتاب من ورق» وال يحقّ استغالله أليّ هدف
ايس ،ولعل هذا رس عدم انتشار الفقه املاليك.
س ّي ّ
كل الفرق ،غري أن االختالف ومن املعلوم ّأن النّص الدّيني يف اإلسالم ،أعني القرآن والسنّة هو مرجع ّ
بينها سيظهر بعد االنتقال من ال ّرواية الشفو ّية ـــ التي سادت طيلة مدّة تش ّكله يف العهد النبوي إىل الحقبة
الخليف ّية ـــ إىل التدوين ،أقصد كتابة القرآن والحديث؛ إذ م ّكن هذا العمل السلطة الس ّياس ّية من احتكار
النص الدّيني واإلرشاف عليه من أجل استثامره كرأسامل رمزي مفيد يف بسط الهيمنة الس ّياس ّية .وعليه بدءا
من جمع القرآن وتدوين علومه وعلوم الحديث وعلوم التفسري ،توالت عمل ّية احتكار هذا الرأسامل مع
الدّولتني األمو ّية والع ّباس ّية.
السلطة يف عهد الخلفاء الراشدين ،سيشهد التاريخ اإلسالمي وبعد رصاعات سياس ّية بصبغة دين ّية حول ّ
مرحلة أخرى من الحكم األموي ،رفقتها أحداث ووقائع ستؤدي يف النهاية إىل أفول دولة األمويني لتفتح
الطريق أمام الدولة الع ّباس ّية ،التي ستتوىل زمام الشؤون الس ّياس ّية ،التي حاولت ــ كام هو شأن من سبقوها
ملحة إىل العلامء والفقهاء للقيام بهذه
السلطة .من هذا املنطلق ،كانت حاجتها ّ ــ إضفاء الرشع ّية الدّين ّية عىل ّ
ألن الفقيه هو من كان له وزن كبري نظراً لقدرته الهائلة عىل توجيه العا ّمة .ويف هذا الس ّياق بالتحديد امله ّمة؛ ّ
9
سيظهر أبو حامد الغزايل ،الذي سيلعب دوراً مه ًّام يف خدمة السلطة الدّين ّية للوزير نظام امللك ،بعبارة أخرى
سيصبح فقه الغزايل بضاعة مطلوبة س ّياسياًّ ،وهنا ال ينبغي ْأن ننىس ّأن الغزايل كان فقيهاً قريباً من نظام امللك.
السالم ،سنجد ّأن العلوم الرشع ّية أو علوم العقيدة مل إذا عدنا إىل عرص النّبي محمد بن عبد الله عليه ّ
تتأسس بعد؛ أل ّنه مل تكن ّمثة حاجة إليها ،ذلك أ ّنه ك ّلام اعرتض النّاس يشء يف أمر الدّنيا والدّين عادوا إىل
ال ّرسول الكريم للحسم فيه ،غري أ ّنه بعد الفتوحات اإلسالم ّية ستختلط األمور يف شبه جزيرة العرب؛ فهناك من
تم ستظهر مشاكل وأفكار تستلزم وجود علوم مد ّونة منها علم الكالم. دخل اإلسالم ح ّباًّ ومن دخل كيداً ،ومن ّ
والشع ال ّذي انخرط فيه كثري من املف ّكرين وعىل رأسهم أيب حامد الغزايل ،ال ّذي سيحاول التوفيق بني العقل ّ
وسطي معتدل لألمور؛ ّ يف مختلف القضايا العقد ّية والكالم ّية والس ّياس ّية العتبارات مختلفة ،سعياً منه إىل فهم
ذلك ّأن الفرق الكالم ّية يف تاريخ اإلسالم ا ّتخذت يف الغالب موقفاً ينحو ،إ ّما نحو اإلفراط أو يخبو يف منحى
التفريط .ومن شأن القارئ لتاريخ اإلسالم ْأن يلحظ كيف افرتقت النِّحل يف املجتمع وتحزّبت وانقسمت بني
السلطة .يف مظنون الغزايل نجد مف ِرط وم َف ِّرط تبعاً العتبارات هي يف الغالب س ّياسة ال دين ّية ترتبط بهاجس ّ
ّأن الحشوية غالت يف التجسيم ففرطوا ،كام غالت املعتزلة يف التنزيه محرتزين من التشبيه فأفرطوا ،كام غلوا
يف استخدام عقولهم .وهنا يزعم الغزايل أ ّنه من الذين و ّفقهم الله سبحانه ــ ضمن «أهل السنّة والجامعة» ــ
كل عاقل بأ ّنه «االقتصاد تفطنوا للمسلك القصد .وهذا السبيل هو ما يعرف عن ّ للق ّيام بالحقّ ،أولئك ال ّذين ّ
يتجل يف التزام اإلنسان «العبد» بالوسط ّية واالعتدال حتّى يف مسألة األفعال ال ّبرش ّية، يف االعتقاد» ،والذي ّ
الطوعي والجرب االكراهي اإلخضاعي ،حيث نجد تفريطاً عند الجربية ،إذ تجعل ّ املرتاوحة بني االختيار الح ّر
السيايس ،مجرباً عىل ما يؤتيه من أفعاله؛ والغرض األساس من ذلك هو ّ السلطان
من اإلنسان ،مبا يف ذلك ّ
السالطني .يف مقابل التّص ّور الجربيّ ،نلفي فرقة القدر ّية ،التي تعترب
تربير تعقيدات الس ّياسة وتسويغ أعامل ّ
مم يجعله متح ّم ًال للمسؤول ّية يف مجال العقيدة ويف ميدان الس ّياسة يف ّأن لإلنسان حر ّية واختيارا تامنيّ ،
اآلن ذاتها .وعىل أنقاض هذا املبدأ ،سينشأ ما يعرف «باألمر باملعروف والنهي عن املنكر» 7.وهذا مبدأ خطري
ملغوم ُيحتاج إليه كثرياً لتربير تعقيدات الس ّياسة ،رغم ما قد يبدو فيه من نفحة دين ّية .ومن املسائل التي
يرى الغزايل ّأن فيها فرطا من جهتني كذلك ،نجد مسألة مرتكب الكبرية بني املرجئة ،والخوارج .وبدءاً من القرن
الثاين الهجري ،أصبح الحديث عن الفاسق (الذي هو يف منزلة بني املنزلتني حسب واصل بن عطاء املعتزيل).
ومع مرور السنني شهد الجدل العقدي بني الفرق الكالم ّية نوعاً من االستقرار مال عموماً إىل االنتصار لحر ّية
-7للتعرف على حيثيات هذا المبدأ يمكن مطالعة مؤلف :كوك ،مايكل ،األمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر اإلسالمي ،ترجمة رضوان السيد.
بيروت :الشبكة العربية لألبحاث .2009 ،وأيضاً :فيصل ،سعد ،األمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر اإلسالمي القديم .بيروت :المركز الثقافي
العربي ومؤسسة مؤمنون بال حدود2014 ،
10
-8في هذا الصدد يقول الغزالي« :ثم إنّي ابتدأت بعلم الكالم فحصلته وعقلته ،وطالعت كتب المحققين منهم ،وصنفت فيه ما أردت أن أصنف .فصادفته
علما وافيا بمقصوده ،غير واف بمقصودي ،وإنّما مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البّدعة( )...ثم إني ابتدأت بعد الفراغ من
علم الكالم بعلم الفلسفة( )...فشمرت على ساق الج ّد في تحصيل ذلك العلم من الكتب ،بمجرد المطالعة من غير استعانة بأستاذ ،وأقبلت على ذاك في
أوقات فراغي في التصنيف والتدريس في العلوم الشرعية وأنا ممنو [(=مبتلى)] بالتدريس واإلفادة لثالثمائة نفر من الطلبة ببغداد[ .وبعد اطالعه على
الفالسفة وجدت] أنهم على كثرة فرقهم واختالف مذاهبهم ،ينقسمون إلى ثالثة أقسام :الدهريون ،والطبيعيون ،واإللهيون ».محمد ،الغزالي ،المنقذ من
الضالل( ،بيروت :المكتبة الشعبية ،د .ت) ص ،39-35 :بتصرّ ف.
11
من الجدير بالذكر أن الحقبة التاريخ ّية التي عايشها الغزايل كانت ج ّد متوترة فكرياًّ ،ومضطربة اجتامعياً،
ّعصب والغل ّو ،مع ما رافق ذلك من ومحمومة س ّياسياًّ ،وقد عرفت اختالفات مذهب ّية وكالم ّية إىل درجة الت ّ
حروب وقتاالت واغتياالت متبادلة و«فنت» ،كام ّأن هذه املرحلة من التاريخ كانت فيها الخالفة اإلسالم ّية
مط ّوقة يف جميع أطرافها :من طرف الفرس رشقاً ،ومن قبل الفاطميني غرباً ،ومن جهة الصليبني املهاجمني
الشامل ،وال ّذين ميثلون «دار الكفر» حسب التّقسيم املعروف .وقد سادت حروب ساخنة لـ«دار اإلسالم» يف ّ
السالجقة وباردة بني «الدارين» ،بل نجد هذه الحروب حتّى داخل نفس «الدّار» بني السنّة والشيعة ،وقد كان ّ
السالجقة ينارصون منارصين للسنّة ض ّد الشيعة الباطن ّية ،لكن «اإلمام» الغزايل قد شهد فرتتني :األوىل كان فيها ّ
أيب حنيفة النّعامن ومعهم الوزير الكبري عميد امللك منصور بن أحمد الكندي ،وفرتة أخرى حدث فيها
السلجوقي نظام امللك .هكذا ،إذن، للشافعي عىل حساب الوزير ّ االنقالب عىل املذهب الحنفي واالنتصار ّ
كان عرص الغزايل عهد تعدّد الفرق الكالم ّية ،التي كان الجدل بينها سياسياًّ يف جوهره ،رغم مسحته الدّين ّية
التسويغ ّية ،وهو اإل ّبان نفسه الذي عرف انقسام اإلسالم إىل مذاهب متنازعة أه ّمها السنّة والشيعة ،وقد
السالجقة والعباس ّيني بخلف ّية دين ّية
كانت الغلبة لهذه األخرية يف مرص عكس بغداد وبالد فارس .وسيواجه ّ
الشيعي واإلسامعيل ّية الباطن ّية،
ّ -متمثلة يف املذهب الشافعي رشيعة واملذهب األشعري عقيدة -املذهب
والسلب والنّهب ،وقد قتل تلك الفرقة التي ما تركت من فعل شنيع إ ّال ون ّفذته ،مبا يف ذلك القتل ّ
والسفك ّ
نظام امللك عىل أيديهم طعنا يف قلبه من طرف طفل صغري سنة 485هـ ،ويف هذه األجواء أيضاً ظهرت فرقة
الحش ّاشني 9.وال ننىس كذلك ّأن هذا املف ّكر والفقيه الغزايل قد عاش يف بالط ُ
الخلفاء الع ّباس ّيني ،وبني حاش ّية ّ
ملوك السالجقة .لهذه الحيث ّيات ك ّلها ،مل يكن غريباً ْأن نجد الغزايل يف ّكر بطريقة فقه ّية مقاصد ّية وس ّياس ّية
واقع ّية ،فهو يستحرض منطق املفاسد واملصالح ،ويأخذ بعني االعتبار الظروف الواقع ّية ،فنلفه يدعو إىل ما
ايس ،وما يح ّقق االعتدال والوسط ّية يف االعتقاد ،كام ّأن قرب يح ّقق التوازن واالستقرار عىل املستوى الس ّي ّ
السالجقة كان له كبري أثر عىل حياته وفكره الس ّيايس ونظرته ألصول الحكم ،والس ّيام الغزايل من وزراء دولة ّ
ّأن الظروف االجتامع ّية والس ّياس ّية وقتئذ كانت متو ّترة بشدّة ،نظراً لتفاقم مشكلة الخالفة واإلمامة وانقسام
لكل واحدة منها مذهب تشيعه ،وفكر تؤيده ،وحكم تنارصه ،كام ظهرت فرق فقه ّية اإلسالمي إىل جزر ّ
ّ العامل
السجال الكالمي ومتك ّلمة ّ
لكل منها وجهة نظرها ،الفكر ّية-الس ّياس ّية ،يف األمر .وقد انخرط كثري من الفقهاء يف ّ
الدّائر عندئذ ث ّلة من املف ّكرين والفقهاء وعىل رأسهم اإلمام الغزايل ،الذي استثمر يف ذلك معرفته ال ّواسعة
لجوقي ،ومدافعاً عن الخالفة ّ يف علم األصول ،والفقه ،وأمور الرشع ،والس ّياسة .منارصاً يف موقفه الحكم ّ
الس
ّاريخي الذي أفرزته املرجع ّية
الع ّباس ّية ورشع ّيتها .وحتّى نظرة الغزايل الس ّياس ّية مل تكن بعيدة عن هذا املناخ الت ّ
-9طائفة شيعية باطنية إسماعيلية نزارية ،أسسها الحسن بن الصباح ،الذي اتخذ من القالع الحصينة في قمم الجبال مركزا لنشر دعوته وترسيخ أركان
دولته ،وخاصة قلعة الموت في بالد فارس وأخرى في بالد الشام .وكانت هذه الفرقة تقوم باغتياالت عنيفة وواسعة النطاق ينفذها فدائيوها ،مما زرع
الرعب في قلوب الناس والحكام واألمراء المعادين لها مثل السالجقة والخوارزميين والزنكيين واأليوبيين ،وقد اغتالوا شخصيّات سيّاسيّة منها نظام
ال المغول بزعامة هوالكو عام 1256م. الملك الوزير السلجوقي ،والخليفة العباسي المسترشد .ولم يقض على هذه الطائفة إ ّ
12
التّي ينطلق منها مفكري «الس ّياسة الرشعية» .فكون الغزايل قريبا من بالط الع ّباسيني جعله ير ّد ّ
بكل ما أويت
الشيعة ال ّباطن ّية ،منطلقاً من مرجع ّية سن ّية أشعر ّيةّ ،
غي من قدرة فكر ّية عىل خصوم خالفتهم ويف مقدّمتهم ّ
ولعل هذا ما يستبني أمره من تنازله عن بعض رشوط اإلمامة، ّأن ال ّرجل «بـحكم الوقت» سيعدّل من مواقفهّ ،
رغم تأكيده عىل وجوب نصب اإلمام ،وهذا ما سيضح ذلك يف املحور الثالث ،وقبله سننرصف -هنا -للحديث
عن رضورية اإلمامة.
يرى الغزايل «أن للناس يف الصحابة والخلفاء إرساف يف أطراف؛ فمن مبالغ يف الثناء حتى يدعي العصمة
لألمئة ،ومنهم متهجم عىل الطعن بطلق اللسان بذم الصحابة .فال تكنن من الفريقني واسلك طريق االقتصاد
النبي لهم
ويرصح كذلك أن القرآن يثني عىل املهاجرين واألنصار ،وتواترت األخبار بتزكية ّ ّ 10
يف االعتقاد».
بألفاظ مختلفة .وهذا أمر ينبغي االعتقاد به يف حقهم ،كام ينبغي حسن الظن بهم من دون تعصب وال سوء
تأويل ،فأغلب التأويالت تجانب العقل والصواب ،فقد زورت الكثري من األخبار واألحداث واألشخاص يف تاريخ
اإلسالم .ويدعو الغزايل إىل عدم إساءة الظن إىل معاوية يف قتاله مع عيل ومسري عائشة إىل البرصة ،التي ينبغي
أن يرجح الظن يف كونها كانت تطلب تطفئة الفتنة ،غري ّأن األمر خرج عن السيطرة؛ ذلك أن أواخر األمور ال
تبقى عىل وفق طلب أوائلها ،بل تنسل عن الضبط بتعبري صاحب «االقتصاد يف االعتقاد» ،والذي يتبني أنه
يفكر بشكل واقعي واع منسبا األحكام ومتجنبا إصدار أحكام قيمة عن األشخاص ،وخاصة الصحابة ،إذا يجد
تسويغات لألحداث التاريخية السياسية تتفادى سوء الظن ،ولعل هذا ما يتضح يف الظن مبعاوية عىل أنه كان
عىل تأويل وظن فيام كان يتعاطاه .ودعوته إىل عدم تصديق كل ما يحىك من روايات أحادية الجانب (وبلغة
الفينومينولوجيني ينبغي وضع األحداث بني قوسني وتعليق األحكام مادام ليس فيها قول جازم وخرب مؤكد)؛
ألنه غالبا ما يختلط فيها الصحيح بالباطل ،والتي يعود أكرث االختالف فيها إىل اخرتاعات الروافض والخوارج
وأرباب الفضول حسب الغزايل .لهذا يجب إنكار كل ما مل يثبت ،وما ثبت يستنبط له تأويال ،وما تعذر تأويله
فاألحسن القول بإمكانية وجود تأويل له وأن املرء تعذر عليه االطالع عليه .فالسكوت عن يشء أفضل من
الطعن يف شخص أو اغتيابه ،بالتايل لزم حسن الظن بكافة املسلمني وإطالق اللسان بالثناء عىل جميع السلف
الصالح وهذا حكم الصحابة .أ ّما عن الخلفاء الراشدين ،فريى الغزايل أنهم أفضل من غريهم وترتيبهم عند أهل
السنة كرتتيبهم يف اإلمامة ،وال يعني بهذا أن محل أحدهم أفضل من اآلخر عند الله فهذا ،عنده ،من الغيبيات
التي يختص بها الله ورسوله إن أطلعه الله عليها ،لهذا ينبغي الثناء عليهم .وال مجال الستنباط الرتجيحات
يف الفضل من دقائق ثناء النبي عليهم ،ألن «يعرف الفضل عند الله تعاىل باألعامل مشكل أيضا وغايته رجم
ظن ،فكم من شخص متحرم الظاهر ،وهو عند الله مبكان ليس يف قلبه وخلق خفي يف باطنه ،وكم من مزين
بالعبادات الظاهرة ،وهو يف سخط الله لخبث مستكن يف باطنه فال مطلع عىل الرسائر إال الله» 11.ولكن إذا
ثبت أن معرفة فضله تتم بالوحي حرصا ،والذي يعرف من النبي بالسامع ،وأوىل الناس يف السامع عن النبي هم
أصحابه املالزمني ألحواله .فإن تفاوت فضل الصحابة يعودوا إىل إجامعهم عىل تقديم أيب بكر ،ثم عمر وبعده
أجمعوا عىل عثامن وأخريا عىل عيل بن أيب طالب .فال تظن خيانتهم يف دين الله لغرض ما ،وإجامعهم هو خري
ما يستدل به عىل مراتبهم يف الفضل ،ومن هذا املنطلق اعتقد أهل السنة بهذا الرتتيب يف الفضل مستندين
إىل الصحابة وأهل اإلجامع ،وهذه أحكام اإلمامة التي اقترص عليها الغزايل.
لعل النّاظر املتأمل يف املتون الفكر ّية للغزايل يعرث ال محالة عىل ما ّ
يدل عىل أ ّنه كان صاحب رؤية س ّياس ّية ّ
وحسبي شاهد عىل ذلك ما ّ يف بعض ما يكتبه ،أو لنقل إ ّنه ف ّكر يف الس ّياسة من حيث يدري أو ال يدري.
نلفيه يف كتابه «االقتصاد يف االعتقاد» من حديث حول اإلمامة ،التي حسبها رضور ّية لنظام الدّين والدّنيا،
وهي – عنده -من أرشف الصناعات وأفضل العبادات عنده رشط ا ّتصافها بالعدل واإلخالص .بالتايل فث ّمة
حاجة رضورية إىل تنصيب إمام ُمطاع ،ي ّربر ذلك بكون «نظام الدّنيا واألمن عىل األنفس واألموال ال ينتظم إ ّال
وإن ذلك لو دام ومل يتدارك بنصب السالطني واألمئةّ ،بسلطان مطاع ،فتشهد له مشاهدة أوقات الفنت مبوت ّ
كل غلب سلطان آخر مطاع دام الهرج وعم السيف وشمل القحط وهلكت املوايش وبطلت الصناعات ،وكان ّ
السيوف؛ لهذا قيل :الدّين سلب ومل يتفرغ أحد للعبادة والعلم إن بقي ح ًّيا ،واألكرثون يهلكون تحت ظالل ّ
أس له فمهدوم ،وما ال حارس له فضائع، والسلطان حارس ،وما ال ّأسّ ، والسلطان توأمان؛ ولهذا قيل :الدّين ّ ّ
وعىل الجملة ال يتامرى العاقل يف ّأن الخلق عىل اختالف طبقاتهم ،وما هم عليه من تشتّت األهواء وتباين
اآلراء ،لو خلوا ورا َءهم ،ومل يكن رأي مطاع يجمع شتاتهم ،لهلكوا من عند آخرهم ،وهذا ال عالج له إ ّال
السلطان رضوري يف نظام الدّنيا ،ونظام الدّنيا رضوري يف بسلطان قاهر مطاع ،يجمع شتات اآلراء ،فبان ّأن ّ
نظام الدّين ،ونظام الدّين رضوري يف الفوز بسعادة اآلخرة ،وهو مقصود األنب ّياء قطعاً ،فكان وجوب نصب
اإلمام من رضوريات الرشع الذي ال سبيل إىل تركها» 12.وهذا بيان يحسم فيه الغزايل برضورة ق ّيام اإلمامة،
طاملا ّأن يف وجودها خري كثري يضيع عند بطالنها ،والسيام أن لهذا البطالن عواقب سلب ّية وخيمة عىل حياة
والخاصة .فاإلمام ،وإن ُع ّد عند الغزايل من رضورات الرشع ،هو باألساس «سلطان قاهر مطاع»، ّ النّاس العا ّمة
يستطيع أن يجمع الشتات ،ويجنّب النّاس التدافع واالقتتال وما يؤدي إليه من نتائج دموية ،كام أ ّنه يحارب
الفنت ،ويضمن األمن ويحمي الدّين ويرعى العلم .هنا نفهم ّأن اإلمامة عند الغزايل ليست قض ّية دين ّية كام قد
يبدو ،بل مسألة رشع ّية .لهذا ال غرابة يف أن نجده يجمع بني الرشع والقهر يف نفس اإلمام ،الذي هو رضوري
لنظام الدّين والدّنيا معاً ،لكونه هو ما سيتيح للرعايا التمتّع باألمن والخري يف الدّنيا ،والفوز ّ
بالسعادة األخروية
عند طاعته ،غري ّأن ما ينبغي التنبيه إليه هو ّأن صاحب «املنقذ من الضالل» مل يكن قصده جعل «الحاكم
الس ّيايس» شخصاً مقدّساًّ عىل النّحو الذي ك ّرسته نظرية «الحقّ اإللهي» يف الفكر الغريب املسيحي؛ ذلك ّأن
منطلقات ال ّرجل الرشع ّية؛ وغايته األخالق ّية (سعادة اآلخرة) مل تكن لتمنع عنه النّظر إىل «الس ّياسة» برؤية
واقع ّية يحاول من خالله تربير تعقيدات الفعل الس ّيايس بشكل ال يخرجه عن إطار الرشع االسالمي.
من يقرأ للاموردي «األحكام السلطان ّية والواليات الدّين ّية» ،13أو «أدب الدّنيا والدّين» 14و«تسهيل النظر
وتعجيل الظفر» ،15أو يط ّلع عىل «غياث األمم يف التياث الظلم» 16للجويني ،أو «السياسة الرشعية إلصالح
ال ّراعي وال ّرعية» 17البن تيمية ،أو «الطرق الحكمية يف السياسة الرشعية» 18البن القيم الجوز ّية أو عىل غريها
من تآليف فقهاء السياسة الرشعية يف اإلسالم سيكتشف ّأن نفس هذه الرؤية هي التي وسمت فكرهم وتحكم
أفقهم النّظري يف ذلك العهد .وتتّضح هذه املرجع ّية التي حكمت العقل الفقهي عند الغزايل يف مواضع متفرقة
املهمت ،وليس من املعقوالت فيها «إن النّظر يف اإلمامة ليس من ّ من كتاباته ،ويف كثري من أقواله ،ومنها قولهّ :
للتعصبات واملعرض عن الخوض فيها أسلم من الخائض ،بل وإن أصاب ،فكيف ّ من الفقهيات ،ثم أنها مثار
فإن القلوب عن املنهج إذا أخطأ .ولكن ،إذا جرى الرسم باختتام املعتقدات به أردنا أن نسلك املنهج املعتادّ ،
املخالف للأملوف شديدة النفار 19».فهذا القول يربز ّأن اإلمامة عند الغزايل ليست شأن نظريّ من «املهامت»،
وإنا يعتربها شأناً فقهياًّ رشعياًّ مرتبط بالواقع الس ّيايس ،رغم ّأن
وال هي أمر ميتافيزيقي من «املعقوالت»ّ ،
ولعل ما مي ّيز الغزايل ،أيضاً ،عىل فالسفة
السابقني عليه درجوا عىل تناول اإلمامة يف مجال العقيدةّ . الفقهاء ّ
اإلسالم (كالفارايب وابن سينا وابن رشد )...هو دعوته إىل عدم اختيار اإلمام مبواصفات الفكر الس ّيايس ال ّيوناين،
بل يذهب إىل ّأن وجوب نصب اإلمام ليس مأخوذ من العقل ،بل من الرشع قطعاً .ومفهوم الواجب ،كحكمة
إله ّية عند األشاعرة ،مرتبطة بإرادة الله العادلة ،وليس وجوباً عقلياًّ كام ترى املعتزلة .هنا نجد الغزايل يزعم
ّأن خوضه يف اإلمامة ،مبا هي مسألة عقدية يف مظهرها وقض ّية س ّياس ّية يف الجوهر ،اتباع ملنهج علامء الكالم
-13أبو الحسن الماوردي ،األحكام السلطانية والواليات الدينية( ،بيروت :دار الكتب العلمية[ ،د.ت])
-14أبو الحسن الماوردي ،أدب الدنيا والدين( .بيروت :دار الفكر.)2000 ،
-15أبو الحسن الماوردي ،تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخالق الملك وسياسة الملك ،تحقيق رضوان السيد( ،بيروت :المركز اإلسالمي للبحوث،
.)1987
-16الجويني العالي عبد المالك ،غياث األمم في التياث الظلم( ،بيروت :دار الكتب العلمية.)2003 ،
-17ابن تيمية تقي الدين أحمد ،السياسة الشرعية في إصالح الراعي والراعية ،ط( .4بيروت :دار الكتب العلمية.)1993 ،
-18ابن القيم الجوزية ،الطرق الحكمية في السياسة الشرعية( .بيروت :دار الكتب العلمية.)1995 ،
-19الغزالي ،االقتصاد في االعتقاد ،مرجع سابق ،ص504
15
واقتفاء بأثر الفقهاء الذين يتناولون اإلمامة يف إطار العقائد ،وسرياً عىل منوالهم املعتاد ،لكون القلوب متيل
إىل املألوف من األمور وتنفر من املخالف .هكذا ،نجد ال ّرجل الفقيه املتك ّلم يتّسم بذكاء واقعي؛ ألنه يتّبع
وإنا تلك حيلة ذك ّية لتربير اإلمامة من زاوية معروفة لتسهيل ال ّرائج يف عرصه ،ليس من أجل التّقليد فحسبّ ،
مترير أفكاره للجمهور وجعل املعارضني له مطمئنني لها .ويعترب الغزايل ّأن علامء الكالم قد نجحوا يف الدّفاع
عن الدّين والر ّد عىل الخصوم؛ أل ّنهم استخدموا نفس سالحهم املتم ّثل يف املنطق ،الذي صارت قواعده معروفة
مم مي ّكن من اختصار الوقت ،ولكنّهم فشلوا يف كونهم استعملوا قواعد املنطق عند الخصم ال تحتاج للتع ّلمّ ،
األرسطي يف الدّين ،وبالتحديد حاولوا تطبيقها عىل اإلله ّيات ،األمر الذي أحدث حرية يف العقائد بدل ما ّ
األرسطي
ّ سيوظف املنطق الشع من يقني وتصديق .غري ّأن الغريب يف األمر هو ّأن الغزايل نفسه ّ
20 يستلزمه ّ
املتمثل يف الق ّياس ،الذي حاول من خالله إثبات وجوب نصب اإلمام ،حيث مل يعتمد الق ّياس الرشعي أو
الشع. الفقهي ،بل لجأ إىل الق ّياس العقيل املنطقي ،منطلقا من مقدمتني؛ األوىل :نظام الدّين مقصود لصاحب ّ
أ ّما املقدمة الثانية :ال يحصل أمر نظام الدّين إ ّال بإمام مطاع ،ليصل إىل هذه النتيجة :ال يحصل مقصود صاحب
الرشع إ ّال بإمام مطاع (وجوب نصب اإلمام) .وقد ّ
قسم املقدّمة الثان ّية إىل اثنتني ر ّداًّ عىل املعرتضني ،املقدمة
األوىل :نظام الدّين ال يحصل إ ّال بنظام الدنيا ،بينام املقدمة الثانية :نظام الدّنيا ال يحصل إ ّال بإمام مطاع.
وبناء عليهام تكون النتيجة ّأن نظام الدّين ال يحصل إ ّال بإمام مطاع .وقصد الر ّد عىل املعرتضني يف تضاد أمر
الدّنيا والدّين ،لجأ إىل حيلة تحويل لفظ «الدّنيا» إىل لفظ مشرتك يقال مبعنيني؛ املعنى األول :فضول التن ّعم
كل ما هو محتاج إليه قبل املوت .وقد اعترب ّأن املعنى األ ّول والتل ّذذ والز ّيادة عىل الرضورة .أما املعنى الثاينّ :
ض ّد الدّين يف حني ّأن املعنى ال ّثاين رشط له ،ثم ّبي العالقة بني نظام الدّين ونظام الدّنيا :ذلك ّأن األ ّول يقوم
بصحة البدن ،وبقاء الحياة ،وسالمة قدر توصل إليه إال باالستناد إىل الثاين؛ املتع ّلق ّ
عىل املعرفة والعبادة وال ُي ّ
الحاجات من ال ِّكسوة واملسكن واألقوات واألمن ،وبعدها عاد إىل املقدّمة ال ّثان ّية حتّى يربط بني نظام الدّنيا
الطاعة؛والحاجة إىل إمام مطاع21؛ مبعنى أ ّنه ال ميكن تحقيق أمن األنفس واألموال إ ّال بسلطان س ّيايس تقدّم له ّ
ولعل املس ّلمة ال ّثاوية يف فكر الغزايل هي
الصناعاتّ . سيعم القتل والقحط وهالك املوايش وبطالن ّ ّ إذ يف غ ّيابه
ايس
والظلم من طباع النّفوس البرش ّية ،وهذا يذكرنا باألطروحة التي سيبلورها يف الفكر الس ّي ّ اعتباره ّأن التّغ ّلب ّ
الحديث أحد فالسفة العقد االجتامعي ،وهو الفيلسوف اإلنجليزي توماس هوبز ،الذي يذهب إىل ّأن «اإلنسان
ذئب لإلنسان» ما يعني ّأن هذا الكائن رشير بالطبع .ومن أجل ردع هذا النزوع العدواين ّ
املتأصل يف اإلنسان،
والسلطة توأمني. ال ب ّد من حاكم مستبد ،وعىل هذا األساس نجد الغزايل يجعل الدّين ّ
-20يذكرنا هذا تماما بما يذهب إلى أبي الوليد بن رشد ،حينما يدعو إلى الفصل بين الشريعة والحكمة منهجياًّ في الوسائل ،ألن الدين مصدره الوحي،
الذي يتعامل معه باإليمان والتصديق ،بينما الفلسفة تنتج بالعقل وتدرك به وتستخدم المنطق ،دون أن يمنع ذلك من وحدة غايتهما التي هي معرفة الحق.
للتوسع أكثر أنظر كتاب «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال»( ،سلسلة التراث الفلسفي العربي) ،مؤلفات ابن رشد ،ط ( ،3بيروت:
مركز دراسات الوحدة العربية.)2002 ،
-21الغزالي ،االقتصاد في االعتقاد ،مرجع سابق ،ص ص505 ،506
16
ومم ينبغي االلتفات إليه ،يف هذا املعرضّ ،أن الغزايل حينام يتحدّث عن وجوب نصب اإلمام ،فهو ال ّ
يقصد إماماً متخ ّي ًال معصوماً كام ترى ال ّباطن ّيةّ ،
وإنا يقصد «سلطاناً» إنسانياًّ متغ ّلباًّ ومتح ّققاًّ عىل أرض ال ّواقع
الطاعة .إ ّنه كان يقصد وقتئذ الخليفة العبايس املستظهر الس ّيايس ،والذي ينبغي أن يسلم له ا ُمللك وتقدّم له ّ
مستحقاًّ للوالية ،وجديراً بالحكم ملا يت ّوفر فيه من رشوط تفرضها اإلمامة .وهذه من ِ بال ّله ،الذي يعتربه إماماً
بني األمور التي يؤاخذ عليها فكر الس ّياسة عند الغزايل ،وهي كونه يوايل هذا الخليفة ُ
والخلفاء الع ّباسيني عا ّمة
إىل درجة تربير سلطانهم وطغيانهم ،وكأ ّنه يدافع عن دولة «استبداد ّية مطلقة» ،ويربر ق ّيام «دولة الفقهاء»،22
بأن الس ّياسة غري الدّين ،بل ّإن مواقفه تلك تصدر من باب غري ّأن هذا ال يعني ّأن ال ّرجل مل يكن عىل وعي ّ
الشع والدّين ،وإن كان الكثريون ينظرون إليهام كاسمني لنفس املس ّمى. الرشع ،وشتّان ما بني ّ
ولعل النّاظر يف كتب «الس ّياسة الرشع ّية» -املذكورة آنفا -يجد ّأن رشوط اإلمامة التّي وضعها ال ُفقهاء ّ
قد راعت جوانب عدّة تشمل ما هو ديني ،وما هو خلقي ،وما هو عقيل ،وما هو علمي ،وما هو عميل .لهذا
يعدو الفصل بني شؤون الد ّين وس ّياسة الدّنيا أمراً صعباًْ ،إن مل نقل مستحي ًال يف اإلمامة ،التي تشمل الجانبني
ّيني والدّنيوي) يف الوقت نفسه عند الكثري من الفقهاء كالشهرستاين .ويوافقه اإلمام ال ّرازي ال ّذي يعترب (الد ّ
والسالم ،وأيضاً املّاوردي الذي يحدّها بأ ّنها
الصالة ّ
للنبي عليه ّ
اإلمامة ر ّياسة عا ّمة يف أمر الدّين والدّنيا خالفة ّ
فإن الغزايل من جانبه يؤكد عىل موضوعة لخالفة النّبي يف ح ّراسة الدّين وس ّياسة الدّنيا .وملا كان األمر كذلكّ ،
وإنا ال ب ّد لها من خاصيتني وجوب ق ّيام االمامة قائ ًال إ ّنها ال تقوم عىل التش ّهي واملزاج وعشوائية االختيارّ ،
رئيستني؛ الخاص ّية األوىل يف نفس اإلمام :األهل ّية يف تدبري شؤون النّاس وحملهم عىل مراشدهم؛ وذلك بالعلم
نص عليه حديث« :األمئة من قريش» ،23يف حني ّأن والكفاية والورع (خصائص القضاة) ونسب قريش ،ال ّذي ّ
يولالخاص ّية ال ّثانية من جهة الغري :التّفويض والتّولية لإلمام .وبناء عىل ذلك ،ينبغي تدقيق النّظر يف صفة من ّ
ألن اإلمامة ال متنح أليّ كان ،بل ال ب ّد يف اإلمام من خاص ّية أساس ّية تصدر من أمور ثالثة ،قد تكون إ ّما إماماً؛ ّ
يعي لوالية العهد شخصاً من أوالده أو سائر قريش ،أو التّنصيص من جهة النّبي أو من جهة إمام العرص بأن ّ
التّفويض باإلمامة لرجل ذي شوكة ،يقتيض انق ّياده وتفويضه متابعة اآلخرين له ومبادرتهم إىل املبايعة ،طاملا
24
السلطان.
ألن املقصود هو جمع شتات اآلراء لشخص مطاع هو اإلمام أو ّ ّأن يف تفويضه كفاية عن غريه؛ ّ
تتجل واقع ّية الغزايل ونباهة فكره الس ّيايس؛ أل ّنه يف ّكر من منطلق ّأن وجود اإلمام «املستبد العادل» وهنا ّ
خري من غ ّيابه اإلمام أص ًال ،ملا يف وجوده من فوائد؛ منها حاجة النّاس إىل رادع إذا أردنا أن تستقيم األمور يف
ميدان السياسة ،بل ّإن ال ّرجل بدأ يف ّكر مبنطق ال ّبدائل ،حيث يقول« :وقد ال يتّفق ذلك لشخص واحد ،بل
الطاعة ،بل أقول:تتم ّلشخصني أو ثالثة أو جامعة؛ فال ب ّد من اجتامعهم وبيعتهم واتفاقهم عىل التّفويض حتّى ّ
لو مل يكن بعد وفاة اإلمام القريش واحد مطاع متّبع فنهض باإلمامة وتو ّالها بنفسه ونشأ بشوكته وتشاغل بها
وبخاصة فقهاء السيّاسة الشرعيّة
ّ -22للوقوف عند التداخالت الحاصلة بين الدّيني (الشرعي) والسيّاسي (الدّنيوي) ،كما تناولها الفكر العربي اإلسالمي،
يمكن مراجعة كتاب :نبيل فازيو ،دولة الفقهاء ،بحث في الفكر السياسي اإلسالمي( ،بيروت :منتدى المعارف.)2015 ،
-23حديث رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما ،والترمذي واإلمام أحمد في مسنده.
-24الغزالي ،االقتصاد في االعتقاد ،مرجع سابق ،صص507 ،506
17
واستتبع كا ّفة الخلق بشوكته وكفايته ،ويف منازعته إثارة الفنت إ ّال ّأن من هذا حاله ،فال يعجز أيضا عن أخذ
البيعة من أكابر الزّمان من أهل الحل والعقد؛ وذلك أبعد من الشبهة فلذلك ال يتفق مثل هذا يف العادة إ ّال
عن بيعة وتفويض 25».واملستنتج من هذا ّأن اإلمامة من الرضورات التي من غري املمكن االستغناء عنها يف أيّ
مرص وعرص .وبالتايل ،يكون ق ّيام اإلمامة ووجود الدّولة هو األهم ،وليس من يحكم أو أسلوب الحكم أو عدد
الذين يحكمون.
إذا كان الغزايل يحسب اإلمامة مسألة رضور ّية ألمر الدّنيا والدّين ،فهل ينبغي طاعة الحاكم السيايس دامئاً
أم ّمثة ما قد يقتيض مخالفته وخلعه؟ وهل يجوز الخروج عىل ّ
السلطان؟
قبل أن نشري إىل ر ّد الغزايل عن هذا السؤال ،دعنا نذ ّكر بأن الخروج عىل اإلمام يع ّد بغياً عند أغلب فقهاء
الس ّياسة الرشع ّية ،ويعرف البغي عندهم إجامالً بكونه «الخروج عن اإلمام الحقّ بغري وجه حق» .ونجد ّأن
للغزايل رأيا يف هذا املوضوع؛ إذ يعترب ّأن صاحب ال ّرأي املطاع هو من يجمع شتات األ ّمة ومينع الحرب والقتال،
ويحرص عىل مصالح النّاس يف معاشهم ومعادهم ،ويراجع العلامء ويأخذ بقولهم ،لكنّه ال يتو ّفـر عىل رشوط
الشوط ك ّلها القضاء ،هنا يقطع الغزايل بوجوب «خلعه إن قدر عىل أن يستبدل عنه من هو موصوف بجميع ّ
ألن ما يفوتنا من غري إثارة فتنة وتهييج قتال ،وإن مل يكن ذلك إ ّال بتحريك قتال وجبت طاعته وحكم بإمامتها؛ ّ
من املصارفة بني كونه عاملاً بنفسه أو مستفتياًّ من غريه دون ما يفوتنا بتقليد غريه إذا افتقرنا إىل تهييج فتنة ال
وربا يؤدي ذلك إىل هالك النّفوس واألموال ،وز ّيادة صفة العلمّ ،إنا تراعى مز ّية وتتّمة املصالح،
ندري عاقبتهاّ .
فال يجوز أن يعطل أصل املصالح يف التّش ّوق إىل مزاياها وتكمالتها ،وهذه مسائل فقه ّية فيلون املستبعد
مم يظنه ،وقد استقصينا هذا املعنى ملخالفته املشهود عىل نفسه استبعاده ولينزل من غلوائه ،فاألمر أهون ّ
ينم عن وعيه الس ّيايس، يف الكتاب امللقب باملستظهري املصنف يف الرد عىل الباطن ّية 26».وهذا كالم من فقيه ّ
يتحسب الخسائر واألرباح ،قبل إصدار األحكام والدّعوة إىل خلع اإلمام الذي ال يستويف الرشوط ،وحتّى حيث ّ
إذا تع ّلق األمر بصفة العلم .وقد انتبه إىل أ ّنه من شأن قائل أن يعرتض عىل هذا األمر ،فنجد ال ّرجل قد أع ّد
فإن تسامحتم فيه بخصلة العلم لزمكم التّسامح بخصلة العدالة له جواباً ي ّربر به دعوته ،إذ يقول« :فإن قيل ّ
الضورات تبيح املحظورات 27».فمن وغري ذلك من الخصال ،قلنا :ليست هذه مسامحة عن االخت ّيار ،ولكن ّ
الشوط الكاملة ،وهو عاجز عن إيجاد من يستح ّقـها ،فإ ّنه يقيض ببطالن اإلمامة لعدم تو ّفر اإلمام عىل ّ
والشتات صعب صدّه ،حيث سيعزل ال ُقضاة وتبطل الواليات وال تعقد األنكحة وال بذلك قد فتح باباً للفتنة ّ
كلترصفات الوالة يف جميع أقطاب الوالية ،ولن يستطيعوا إدارة شؤون النّاس .وبالتايل ستعطل بذلك ّ تنفذ ّ
-25الغزالي ،المرجع السّ ابق ،ص ص.507 ،508
-26الغزالي ،المرجع السابق ،ص508
-27الغزالي ،المرجع السابق ،ص509
18
الضورات يف جميع األقطاب .وغ ّياب تلك اإلدارة الس ّياس ّية التّرصفات املنوطة بالقضاة ،تلك التّي تع ّد من ّ
سيفيض إىل إقدام الخلق عىل الحرام ،وستكون نتيجة ذلك تعطيل املعايش ك ّلها .لهذا يجب عىل العاقل
الضرين» ّ
«أخف ّ «اختيار البعيد عند وجود األبعد» ،و«اختيار أهون الرشين» ،أو بتعبري الفقهاء أنفسهم
السديد؛ أل ّنهم تع ّودوا عىل املألوف تع ّوداً شديداً ليس
أفضل .أ ّما ِضعاف النّفوس ،فصعب عليهم هذا الفهم ّ
من اليسري فطامهم عليه بتعبري الغزايل .وعندما يستعمل ال ّرجل هذه القواعد الفقه ّية ،فال يعني ّأن الدّين هو
الغاية ،بل هو منطلق لتأسيس نوع من فقه ال ّواقع أو س ّياسة رشع ّية ،ت ّربر األحداث الواقع ّية من منطلقات
السلطان وتقديم الوالء له ،رغم عدم تو ّفره عىل الرشوط مس ّلم بها من لدن العا ّمة ،التي ليس لها سوى بيعة ّ
السء خري من ال ّالحكم .والواقع ّأن يف فكر الغزايل مم يجعل الحكم ّ جميعها طاملا أ ّنه ليس هناك بديل أفضلّ ،
السلطان يف تتجسد يف جوازه إمكان ّية الخروج عن ّ «ثورة» عىل ما درج عليه معظم فقهاء اإلسالم إىل ال ّيومّ ،
حالة وجود من هو أفضل منه وأكمل رشوطاً وأوصافاً أو أكرث شوكة وتغ ّلباًّ رشط أ ّال يكون يف ذلك رضر كبري
السلطةوالخاصة ،حيث تستمر اإلمامة مع هذا السلطان املتغ ّلب ،مام يفيد أن وجود ّ ّ عىل حياة النّاس العا ّمة
السيايس هو األهم ال من يتو ّالها .ويف ذات الس ّياق ،يستحرض الغزايل ما تدّعيه بعض اإلمام ّية واستمرار الحكم ّ
ينص النبي والخليفة لقطع دابر االختالف .فري ّد عليهم بأنه لو كان يف قولهم إ ّنه من الواجب نصب اإلمام كام ّ
لنص عليه الرسول عليه السالم ،أو الخلفاء الراشدين الذين متت إمامتهم بالتفويض .وبهذا ينتهي إىل أنه واجباً ّ
بالبيعة وبالتفويض وباإلجامع يقطع دابر االختالف .وبالتايل ،ينترص إىل ّأن التأسيس للدولة أمر سيايس ال شأن
ديني كام يحاول الكثريون الرتويج له .وهذا التأكيد ال نلفيه فقط يف كتاب «االقتصاد يف االعتقاد» ،بل نجد
بني ثنايا املؤلفات األخرى التي يتناول فيها الغزايل موضوعات السياسة مثل «إحياء علوم الدّين» ،الذي هو
كتاب يف التص ّوف باألساس ،لكن ال يعدم أن نعرث يف مواطن متفرقة منه عىل قضايا متعلقة باإلمامة ،وتنظيم
الحسبة ،واملوارد املال ّية واملظامل ،وغريها من املسائل التي تدور يف فلك الس ّياسة الرشع ّية .وأيضاً كتاب « ّ
رس
العاملني وكشف ما يف الدارين» ،الذي يربز فيه كيف ّية الوصول إىل الحكم وتك ّون العصب ّية املساندة ،وس ّياسة،
امللك وترتيب الخالفة والوالة .ورغم ّأن هذا الكتاب األخري الصغري قد تناول مسائل كثرية يف ميدان الس ّياسة،
إ ّال أ ّنه مل ُينتبه إليه كام هو شأن بق ّية كتب الغزايل املعلومة يف الفقه الس ّيايس؛ ومنها كتاب «الترب املسبوك يف
السلجوقي ،ويتناول أصول العدل واإلنصاف السلطان محمد بن مالك ّ موجه إىل ّ
نصيحة امللوك» ،وهو خطاب ّ
للسلطان شملت حتّى أدق قسمها إىل عرشة ،ويشري فيه إىل مسؤول ّية الحاكم تجاه ال ّرع ّية ،ويقدم نصائح ّ التي ّ
تفاصيل الحياة من مأكل ومرشب وملبس ونوم ،وكتاب «فضائح الباطن ّية وفضائل املستظهرية» ،الذي يس ّمى
خاصةكذلك «املستظهري» ،وقد حاول فيه الغزايل تعر ّية الفرقة الشيع ّية ال ّباطن ّية وكشف زيف عقائدهاّ ،
موقفها من اإلمامة والعصمة والتأويل .ويتناول فيه أيضاً أهم ّية اإلمامة ورشوط اإلمام وما يتّصل بذلك من
مسائل 28تدبري «الشأن العام» يف عالقتها بالرشع اإلسالمي.
-28عويس عبد الحليم ،كساب وليد عبد الحميد ،الفكر السياسي بين ابن حزم وأبي حامد الغزالي ،ط( 1القاهرة :دار الكلمة للنشر والتوزيع،)2010 ،
ص ص96 ،97
19
ست منها خلقية واألربع املتبق ّية بعدما حسم يف وجوب نصب اإلمام ،اشرتط ت ّوفره عىل عرش صفاتّ ،
مكتسبة .أما الصفات الخلقية ،فقد شدد يف حضورها بالرضورة؛ وأولها البلوغ ،حيث ال تنعقد اإلمامة لصبي مل
ألن التكليف مالك األمر وعصامه ،وثالثها الحر ّية ،أل ّنهيبلغ ،وثانيها العقل ،إذ ال تنعقد اإلمامة ملجنون؛ وذلك ّ
ال تصح إمامة ال ّرقيق ،حيث إ ّنه كاملفقود ،أل ّنه مملوك؛ فاإلمامة تستدعي استغراق األوقات يف شؤون الناس،
ورابعها الذكورية ،حيث ال تعقد اإلمامة المرأة ،وإن ا ّتصفت بالكامل واالستقالل ،فال تصلح املرأة حسب
الغزايل يف القضاء بله أن تصلح لإلمامة ،وخامسها نسب قريش ،فاإلمام يلزمه أن يكون منتسباً إىل األصل
السابقني لعرصه توقفوا عند نسب قريش القريش استنادا إىل حديث «األمئة من قريش» .ويعترب الغزايل ّأن ّ
وأجمعوا عليه .لهذا مل تطلب اإلمامة من أحد غري القرشيني ،وقد ُكث نقاش هذا الرشط إىل درجة الخالف ،غري
ّأن ّمثة أمرا شبه مجمع عليها يف املسألة ،يتو ّقف عىل النّسب القرييش يف حال بقاء قريش وقيامها بأمر الله.
ومنهم من اعترب هذا النّسب رشط كامل ال رشط ِص ّحة كام سنجد عند الغزايل 29.الذي أصبح يدرك ّأن الس ّياسة
هي فنّ املمكنات ،وليس مجاال لالعتقادات واليقين ّيات ،وسادس هذه الصفات هي سالمة الح ّواس ،حيث
السمع وال ّبرص؛ ذلك ّأن األعمى واألصم ال يقدر عىل يفضل أن تكون حواس اإلمام سليمة ،ويؤك ّد عىل حاستي ّ ّ
تدبري نفسه ،فكيف بشؤون غريه .يف حني ّأن باقي األعضاء تغاىض عنها الغزايل مادامت ال تحول دون الق ّيام
كل الرشوط السالفة يزعم الغزايل ّأن رشط النّسب تول صاحبها مهمة اإلمامة .ومن ّ بأساس ّيات الحكم يف حالة ّ
املاسة
فإنا أخذ من الحاجة والرضورة ّ الشوطّ ،القرييش وحده هو ما ورد فيه نص الحديث« ،أ ّما ما عداه من ّ
فإن هذه يف مقصود اإلمامة إليها فكام اشرتطنا :العقل ،والحرية وسالمة الح ّواس ،والهداية والنّجدة ،والورعّ ،
مم ال بد منه يف اإلمامة األمور لو قدر عدمها مل ينتظم أمر اإلمامة بحال من األحوال .وليست رتبة االجتهاد ّ
رضورة ،بل الورع الدّاعي إىل مراجعة أهل العلم فيه كاف 30».وتنازل ال ّرجل هنا عن بعض الرشوط ليس مردّه
إىل تناقض يف فكره كام قد يفهم ،وإمنا لوعيه الحاد بواقعه االجتامعي والس ّيايس.
باالستناد إىل مؤلفاته ،نجد أن الغزايل يحرص رشوط اإلمام التي ينبغي له اكتسابها بالدربة يف صفات
أربع :أولها النَّجدة ،التي يقصد بها ظهور الشوكة ،وموفور العدة ،واالستظهار بالجنود ،وعقد األلوية والبنود،
واالستمكان بتضافر األشياع واألتباع من قمع البغاة والطغاة ،ومجاهدة الكفرة وغريها ،ولكن املالحظ أن
الغزايل -بحكم واقعه التاريخي -تسامح يف استكاملها يف ذات اإلمام ،بل قد يكتفي بتوافرها يف من يتقدم
لتنفيذ كلمته باسمه 31.يف حني ّأن ثاين تلك الصفات هي الكفاية ،ومغزاها التهدّي لحق املصالح يف معضالت
والش ،وتتط ّلب الكفاية الفكر واالطالع عىل املقتصد عند تعارض الرشور ،كالعقل يف التمييز بني الخري ّ األمورّ ،
والتد ّبر (الفطنة والذكاء) ومشاورة ذوي البصائر ،تلك املشاورة التي أمر الله بها نبيه؛ إذ قالَ « :و َشا ِو ْرهُ ْم ِف
ْالَ ْمر 32».ومادام القدر ال ّالزم من الصفات متوفرة يف اإلمام ،فال ضري يف حكمه إن كان ذو شوكة وقادر عىل
فرض األمن وحامية مصالح النّاس الدّين ّية والدّنيو ّية .هنا يتبني ّأن الغزايل يتسامح مع عدم وجود هذه الصفات
مكتملة يف اإلمام ،حيث جعل كفاية اإلمام تتضمن كذلك كفاية الوزير 33.هذا ما حصل متاما بزعم الغزايل
حينام ّمتت بيعة الخليفة املستظهر بال ّله الذي جمع بني أمور الدّين وس ّياسة الدّنيا ،وثالث صفة هي الورع
أو العدالة ،وهذه أع ّز الصفات ،وأجلها ،وأوالها بال ّرعاية ،وهو األساس واألصل الذي عليه مدار األمر كله .إ ّنه
العدل واجتناب الظلم يف طريف العطاء واألخذ34؛ وهو وصف ذايت ال ميكن استعارته ،وال الوصول إىل تحصيله
من جهة الغري ،وآخر تلك الصفات هو العلم ،الذي هو رشط يجب توفره يف اإلمام .ويذهب الغزايل إىل ّأن
إنكار صفة العلم واالجتهاد يع ّد خر ًقا لإلجامع؛ وذلك سرياً عىل خطى أستاذه الجويني ،الذي يعترب ،هو اآلخر،
أن من رشائط اإلمام املتّفق حولها أن يكون من أهل االجتهاد ،حيث ال يحتاج إىل استفتاء غريه يف الحوادث،
غري ّأن الغزايل يف اآلن ذاته تسامح يف هذه الخصلة ،عىل اعتبار ّأن ما عدا رشط النّسب الذي ثبت بالنّص ،فإن
باقي الرشوط أخذت من الرضورة والحاجة املاسة يف مقصود اإلمامة إليها؛ عىل أساس أن رتبة االجتهاد ليست
مم ال ب ّد منه يف اإلمامة رضورة ،بل الورع الداعي إىل مراجعة أهل العلم فيه كاف 35.وقد احتدم الجدل بني ّ
السلطان الجاهل ،فاتفقت املالك ّية والشافعية والحنابلة عىل عدم جواز ذلك املذاهب الفقهية حول تول ّية ّ
السلطان العامل املجتهد؛ ملا يستلزمه القضاء من علم .أ ّما الغزايل ،فقد خرق اإلجامع متنازال عن رشط حاملا وجد ّ
يخص اإلمام؛ ألنه ال دليل عىل وجوب رشعي لذلك ،ولكن عىل هذا اإلمام إذا ما انعقدت له االجتهاد فيام ّ
اإلمامة أن يستند إىل أهل العلم واالجتهاد ويسعى إىل اكتسابه ،وقد تبينت نجاعة هذا األمر يف بعض التجارب
السياسية يف تاريخ الدّولة يف اإلسالم.
بعد ذكره لهذه الرشوط العرشة ،تسامح الغزايل يف بعضها قصداً ،مالزماً مبدأ االحتياط الذي م ّيز فكره
ينم عن وعيه بواقعه الذي كان يعج بالتغريات والحروب والفنت ،ولكن ذلك مل مينع من الس ّيايس ،األمر الذي ّ
توظيف خلف ّيته الفقهية يف حديثه عن رشوط اإلمام ووظائفه .هكذا نجد الغزايل يف الباب العارش من كتابه
«املستظهريّ » 36يذكر الوظائف الدينية التي باملواظبة عليها يدوم استحقاق اإلمامة كشأن سيايس ،والتي
-31الغزالي ،المرجع السابق ،ص184-182.
-32القرآن الكريم ،سورة آل عمران ،اآلية159 :
-33الغزالي ،المرجع السابق ،ص187-185
-34الغزالي ،المرجع السابق ،ص191-188
-35الغزالي ،المرجع السابق ،ص194-191
-36هو االسم الذي يعرف به كتاب الغزالي« :فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية» ،الذي أهداه الغزالي للملك المستظهر باهلل السلجوقي.
21
السعادة القصوى ،ومنها وظائف علم ّية معرف ّية وأخرى عمل ّية أخالق ّية .والذي عند الغزايلتساعد عىل تحصيل ّ
ألن العلم هو األصل والعمل فرع له 37.وملا كانت ّأن الوظائف العلم ّية ينبغي جعلها متقدّمة عىل غريها؛ ّ
العلوم كثرية فقد ر ّكز عىل أربعة أمور ،هي أ ّمهات وأصول ميكن أن نصيغها مرتبة عىل النحو اآليت :األمر األول
السفر أن يعرف الغاية من وجوده ومقصده من الحياة ومطلبه منها ،وثانياًّ أن يدرك أنه مهام عرف ّأن زاد ّ
هو التّقوى ،فعليه أن يعلم ّأن التّقوى محلها ومنبعها القلب .أما ثالثاً ،فأن يعلم ّأن معنى خالفة الله عىل
الخلق هو إصالح للخلق ،ولن يقدر عىل صالح أهل الدّنيا من مل يصلح أهل بلده أهل منزله ونفسه أوالً،
ومن ال يقدر فينبغي أن يبدأ بإصالح القلب وس ّياسة نفسه حتى ال يقع يف الغرور ،ورابعاً -وأخرياً -معرفته
ّأن اإلنسان مركب من صفات ملك ّية وأخرى بهيم ّية ،فهو يف حريى بني األمرين؛ إذ يشبه امللك بالعلم والعبادة
والع ّفة والعدالة والصفات املحمودة ويشبه ال ّبهائم بالشهوة والغضب والصفات املذمومة .بعدها نأيت إىل
الوظائف العمل ّية لإلمام ،38والتي ّ
تتجل يف أمور كثرية ،نذكر منها رضورة تحكيم النّفس يف القضايا التي يتو ّالها
ألن املؤمنني نفس واحدة .وأن يكون وايل األمر متعطشاًّ اإلمام فام ال يرضاه لنفسه ال ينبغي أن يرضاه لغريه؛ ّ
إىل نصيحة العلامء ومتبجحا بها عند سامعها وشاكرا عليها ،كام ال ينبغي أن يستحقر هذا الوايل انتظار أرباب
الحاجات ووقوفهم بالباب يف لحظة واحدة ،فاالهتامم بأمر املسلمني أهم له من نوافل العبادات ،وخري له
من اتباع الشهوات .وعليه أن يرتك الرتفه والتل ّذذ بالشهوات يف املأكوالت وامللبوسات ويعلم ّأن العبادة تيرس
للوالة ما ال يتيرس آلحاد الرعايا .وال ب ّد كذلك أن يكون الرفق يف جميع األمور أغلب من الغلظة ،وأن يوصل
كل مستحق إىل حقه ،وأن يكون أهم املقاصد عنده تحصيل مرضاة الخلق ومحبتهم بطريق يوافق الرشع
وال يخالفه ،وأ ّال يعلم أن رضا الخلق ال يحسن تحصيله إال يف موافقة الرشع ،وأن محبة الخلق ال تنال إال إذا
دعاهم إىل موافقة الرشع ،وأن يعرف أن خطر اإلمامة عظيم كام أن فوائدها يف الدّنيا واآلخرة عظيمة ،وألنها
إن رعيت عىل وجهها األكمل فهي سعادة ،وإن مل تراع فهي شقاوة أكرب .ويكمن هذا الخطر يف أن مييز بني
نفسه وبينه يف الرتفه باملباحات وأن يكون متعطشا إىل نصيحة علامء الدين متعظا مبواعظ الخلفاء الراشدين
ومتصفحاًّ يف مواعظ مشايخ الدّين لألمراء .وأن تكون العادة الغالبة عليه العفو والحلم وحسن الخلق وكظم
الغيظ والعفو عند املقدرة.
السلطان الس ّيايس ،والتي ينبغي أن تستجيب ملقتضيات تلك ،إذن كانت أهم ّ
الشوط الواجب توفرها يف ّ
الرشع ولحاج ّيات العرص بشكل أكرث.
السلجوقي نظام امللك حسب ماالسلطان ّوعىل ال ّرغم من ّأن الغزايل كان يبدي استعداداً كبريا لخدمة ّ
يرصح به يف مقدمة كتابه «فضائح الباطن ّية» ،فإ ّننا يف مؤلفه «إحياء علوم الدّين» نعرث عىل موقف له مخالف
ّ
السالطني والحكام الس ّياسيني وتجنّب مخالطتهم ،بل أكرث من ذلك اعترب طاعتهم لأل ّول يدعو فيه إىل مقاطعة ّ
يعب عن تناقض يف فكره بقدر ما والساسة ال ّإن ما قد يظهر من تباين يف مواقف الغزايل من الس ّياسة ّ
وبكل الوسائل املتاحة واملمكنة -وراء الحفاظ عىل وحدة الواقعي املتم ّثل يف سعيه الدائم ّ -
ّ يعكس وعيه
كل ما يهددها داخلياًّ من فنت وتطاحنات ،وخارجياًّ من األمة االسالم ّية واستمرارية حياة الجامعة وحاميتها من ّ
أطامع .وقد كان الرجل يتحدّث عن مصالح املعاد واملعاش ،ويقيم متييزاً بني أصل املصالح ومزاياها وتك ّمالتها.
والذي عنده ،أ ّنه ال ينبغي تعطيل املصالح ق ّياساًّ باملزايا والكامل ّياتّ ،
وظل ينظر بعيداً إىل عواقب األمور ،فهو
السلطان ،وإال ما كان ليدعو إىل حينام يرفض التم ّرد والثورةّ ،إنا درء للفتنة وليس تدعي ًام لظلم أصحاب ّ
اعتزالهم عند العلم بظلمهم.
عىل سبيل االستنتاج ،ميكن القول ّإن هذا املنظور الواقعي واملقاصدي نجده حارضاً عند الغزايل يف الكثري
من أفكاره الس ّياس ّية؛ إذ غالباً ما يستحرض قاعدة «درء املفاسد أوىل من جلب املصالح» أو «الرضورات تبيح
املحظورات» أو «يرتكب أخف الرضرين التقاء أشدهام» ،وهذا يربز الوعي الشديد للرجل مبخاطر السياسة
وإكراهاتها وحيلها.
-39أبو حامد الغزالي ،إحياء علوم الدين ،تحقيق إبراهيم بن عمران ،ط( 1مصر :دار الحديث ،)1998 ،ص200-190
23
هكذا يقود البحث يف موضوع الس ّياسة الرشعية للغزايل ،إىل تسجيل استنتاجات ومالحظات :أولها غ ّياب
بحوث معارصة يف كتب علم الكالم اإلسالمي ،والرتاث يف الفكر العريب بعا ّمة ،ونلحظ عىل وجه التحديد غ ّياب
االهتامم بالغزايل يف حقل الدراسات الفلسف ّية املهتمة بالس ّياسة ،رغم ّأن ّمثة فكرا عميقا عند الرجل ّ
يتسم
بالرتكيز ،وقدرة هائلة عىل الجدل الكالمي والتفكري املنطقي .والغريب ّأن مؤلفات الغزايل مل تلق ،بعد ،القبول
الذي تستحقه عىل مستوى املقاربة الفكرية املنصفة؛ إذ غالبا ما اختُزل فكره يف كونه صادراً من فقيه متص ّوف
ال عن فيلسوف محنك ،لكن قراءة متأن ّية لكتابات هذا املف ّكر من شأنها أن تعكس هذا الزعم وتبدّده ،أو عىل
األقل تلطف من حدّة هذا الحكم ،وتزيل الحاجز النفيس للتصالح مع فكره من أجل فهمهّ .
ولعل االقرتاب
قليال من أسلوب هذا الغزايل يكشف لنا عن كونه أسلوب مر ّكز العبارة ومتناسق الكتابة وسلس التعبري ،حيث
ترتبط عنده فقرة بأخرى كام يتضح لنا يف كتاباته املختلفة ،وباألخص وهو يقارب قضايا «الس ّياس ّية الرشع ّية»
من قبيل «اإلمامة» و«الخالفة» .وهي موضوعات طرقها أيضاً يف كتابه األسايس يف التص ّوف «إحياء علوم
الدّين» ويف «االقتصاد يف االعتقاد» ،بشكل ييش أ ّنه يق ّعد بشكل أصيل لنظر ّية يف الس ّياسة من ناحية فقهية
واعية .ويكشف تص ّور الغزايل حول مسألة الس ّياسة عن الكيف ّية التي يفكر بها «الفقيه» يف «الس ّياسة» ،حيث
جاءت رؤيته جامعة بني املعيارية األخالق ّية؛ والرشع ّية الدّين ّية؛ والواقع ّية السياس ّية .وقد تبني ّأن الرجل كان –
يف وقته عىل األقل – صاحب فكر سيايس فريد من نوعه؛ إذ مل يفكر يف الس ّياسة من خارج سياقها التاريخي،
يرصحّ ،
فإن ما الشع اإلسالمي ،كام ّ وإمنا من صميمه .وعىل الرغم من أ ّنه يقارب مفهوم «اإلمامة» من زاوية ّ
ينم عن تفكري سيايس وواقعي .وإىل ما سبق نضيفّ ،أن ذكاء الغزايل يكمن يف تناوله ينتهي إليه من استنتاجات ّ
مسائل اإلمامة ورشوطها ووظائفها يف إطار علم الكالم وفق ما هو مألوف ومعتاد ،لكونه يعلم ّأن النّاس تنفر
من كل ما مستج ّد («البدعة») ،غري ّأن مقاربته لتلك املسائل مل تكن تخرج عن حدود الواقع الس ّيايس لعرصه
وظروف الخالفة االسالم ّية .فالتفكري يف وحدة األمة ودرء الفتنة؛ والدّفاع عن الخالفة ك ّلها حيثيات شغلت فكره
وجعلته ينخرط يف املوضوع بكل جد ّية ممكنة؛ إذ تجده ينطلق من مسلامت منطقية ليثبت ّأن االمامة من
األمور الواجبة والرضور ّية لسري حياة النّاس عىل صعيد الدّين والدّنيا ،ولكنّه يعلم ّأن الرشوط الواجب توفرها
ّيني أو التفويض اإللهي أو اإلجامع بقدر ما متليها ظروف الواقع يف اإلمام كسلطان دنيوي ال ميليها الرشع الد ّ
الس ّيايس .لهذا ال غرابة يف أن نجد ال ّرجل يتنازل يف أمور قد عدّت فقهياًّ من األساس ّيات ،ال ليشء سوى ّ
ألن
يوظف قواعد رشعية لبيان ّأن االضطرار يدفعك إىل قبول ما هو متاح لالختيار. الرضورة الواقع ّية تفرضها ،بل ّ
نسجل ،عىل ضوء ما تقدم ،محصلة أساسية وهي ّأن تص ّور الغزايل للس ّياسية مل يكن مجرد نظرة طوباوية، ّ
السلطان ،باعتباره كائناً برشياًّ ال يتعاىل عن الرشوط التاريخ ّية
بقدر ما كان يعكس رؤية واقع ّية تنظر إىل ّ
االجتامع ّية والس ّياس ّية ،والتي تؤطر كيفية تدبريه لشؤون النّاس العا ّمة .كام يقارب الس ّياس ّية من حيث هي
ميدان لرصاع املصالح البرشية ،لهذا يؤسس اإلمامة عىل مق ّومات رشع ّية تراعي مصالح النّاس وفق ما تسمح
24
يفس تنازله عن بعض به الظروف املوضوع ّية ،وما يقتضيه «حكم الوقت» وإكراهات الواقع .ولعل هذا ما ّ
الشوط يف اإلمامة ،الذي هو تنازل مدرك وواع وليس تناقض فكري عند هذا الفقيه واملنطقي ،والذي مل ّ
ولربا نجد فيام ت ّقدم ما يستبعد النّظر إىل الغزايل ،حرصاً ،بوصفه فقيه
تسلم الس ّياسة من جدله الكالميّ .
حامل ينطلق من معيارية دين ّية يف حديثه عن اإلمامةّ ،
ويزك كونه عامل متك ّلم بارع ،وفيلسوف خبري بالس ّياسة
الرشعيّة.
وعىل سبيل إنهاء هذا املوضوع يف الجدل بني «الس ّيايس» و«الدّيني» عند الغزايل ،ميكن القول ّإن مفكرا
متعدد املشارب مثل صاحب «املنقذ من الضالل» ال يخفى عليه ّأن الفكر ،أو الفقه ،أو علم الكالم ،أو غريها
من مجاالت املعرفة البرش ّية ال تخرج عن ظروفها التي أنجبتها ،بل إ ّنها ال يسعها (مجاالت املعرفة) سوى أن
متغي .وهذا ما يعكس مدى نباهة العقل ترضخ ملا هو كائن من أجل فهمه وتغيريه أو تجاوزه يف إطار نسبي ّ
الفقهي يف نظرته للس ّياسة ،وهو ما ينبغي علينا الت ّلفت إليه حتّى ندرك ّأن نجاعة الفكر البرشي تكمن يف مدى ّ
اإلسالمي اليوم عليه
ّ قدرته عىل فهم الواقع وآل ّيات اشتغاله وميكانيزماته الذات ّية واملوضوع ّية ،والفكر العر ّيب
أن يواجه بجد ّية هذا التحدّي ،وال س ّيام أن هذا الفكر يف فرتات سالفة من تاريخه ،كان نشيطاً نظرياًّ ومواكباً
لواقعه ال متعالياًّ عليه .ويبقى فقط ْأن نرضب صفحاً يف ُكتب تراثنا الفكري ،لرنى كم من نظر يف موضوعات
لالطالع عليها أن يسعفنا عىل فهم الكثري من «الس ّياسة» و«الدّين» ويف عالقتهام وغريها طمست ،كان ميكن ّ
املسائل ال ّراهنة ،ومجابهة العديد من التحد ّيات واإلجابة عن اإلشكاالت التي ال تزال عالقة.
25