You are on page 1of 26

www.mominoun.

com
‫بحث محكم‬
‫قسم الدراسات الدينية‬
‫‪ 08‬يناير ‪2024‬‬

‫جميع الحقوق محفوظة © ‪2024‬‬


‫ايس‪:‬‬
‫ّ‬ ‫مقاربة العقل الفقهي للواقع الس ّي‬
‫منوذج الغزايل‬
‫‪4‬‬

‫امللخص‪:‬‬

‫تروم هذه ال ّدراسة فهم الطريقة التي تناول بها العقل الفقهي موضوعات الس ّياسة؛ وذلك من خالل الرتكيز‬
‫عىل مسألة اإلمامة ورشوطها عند أيب حامد الغزايل‪ ،‬وسنعمل عىل مقاربة تلك املسألة وما يتّصل بها من قضايا‬
‫(سياسية ورشعية) باالستناد إىل منهج التحليل النقديّ ‪ .‬نقتحم عربها مدارج فقه السياسة الرشعية يف تاريخ‬
‫اإلسالم‪ ،‬كام سنلج بواسطتها إىل فكر الغزايل للتعرف عىل مختلف القضايا التي يطرق من خاللها موضوعات‬
‫الس ّياسة‪ ،‬وتت ّبع مسارات تفكريه فيها؛ سعياً إىل إدراك منطق العقل الفقهي يف التعاطي مع املشكالت السياس ّية‬
‫التي يجد نفسه ‪ -‬يف الكثري من األحيان ‪ -‬مضطراً إىل االنخراط يف ح ّلها ملا له من سلطة رمز ّية‪ ،‬وبيان ما إذا‬
‫كان هذا «العقل» يعترب اإلمامة موضوعاً س ّياسياًّ أم ينظر إليها كقض ّية كالم ّية دين ّية رشع ّية أم إنه يزاوج بني‬
‫هذا وذاك يف سبيل الحفاظ عىل وحدة األمة وقوة الدّولة ومتاسك املجتمع ودرء الفتنة‪ .‬وسيكون سؤال‪ :‬كيف‬
‫ّمتت مقاربة الواقع الس ّيايس من طرف العقل الفقهي يف تاريخ اإلسالم؟ هو ما يؤطر هذا البحث‪ .‬أما سؤال‪:‬‬
‫هل الفقهاء تعاملوا بطوباوية أم بواقعية يف نظرهم لسياسة الدّنيا‪ ،‬فهو الذي ي ّوجهه‪.‬‬
‫‪5‬‬

‫مقـدمة‪:‬‬

‫من يطالع الرتاث اإلسالمي‪ ،‬يجد ّأن ّمثة أجناسا فكر ّية عدّة تناولت املسألة الس ّياس ّية (الدّولة ّ‬
‫والسلطة‬
‫تتجسد يف أعامل أيب نرص الفارايب‪ ،‬الذي‬‫والحكم‪ ،‬واإلمامة والخالفة)؛ من بني أه ّمها الفلسفة الس ّياس ّية التي ّ‬
‫الفلسفي‪ ،‬وهي املتم ّثلة يف «املدينة الفاضلة»‪ ،‬التي تخالف‬
‫ّ‬ ‫حاول تأسيس دولة طوباوية تستند إىل العقل‬
‫السلطان ّية) املستلهم للنموذج‬‫ايس (=اآلداب ّ‬
‫السلطان ّية التي كان يعيش يف كنفها‪ ،‬ثم األدب الس ّي ّ‬‫متاماً الدّولة ّ‬
‫بالسلطة الدّينية فجرت مقاربتها يف حقل‬ ‫السلطة الس ّياس ّية ّ‬
‫الفاريس يف حكم الدّولة‪ .‬أ ّما فيام يخص عالقة ّ‬
‫ّ‬
‫الثقافة اإلسالم ّية يف إطار فقه الس ّياسة الرشع ّية‪ ،1‬وهو جنس من الخطاب أو القول عمل فيه الفقهاء عىل‬
‫ترشيد الس ّياسة عىل أساس الرشيعة اإلسالم ّية درءاً للتعارض بينهام؛ وسعياً إىل تحقيق االنسجام بني منطوق‬
‫السيايس ومستجدّاته التي‬
‫ّ‬ ‫الشع ملقتضيات الواقع‬ ‫ايس‪ .‬وغالباً ما ينتهون إىل إخضاع ّ‬
‫ّيني والفعل الس ّي ّ‬
‫الن ّّص الد ّ‬
‫الفقهي االجتهاد إلصدار أحكام توافق الظروف‪ .‬وهذا ما يتناغم جوهرياًّ مع ما نجده يف علم‬ ‫ّ‬ ‫تفرض عىل العقل‬
‫الكالم‪ ،‬الذي يرك ّز أصحابه عىل اإلمامة‪ 2‬باعتبارها مسألة س ّياس ّية من الفقه ّيات ال بوصفها قض ّية عقد ّية من‬
‫الشع ّية‪ ،‬سنحاول‬‫األقل‪ .‬ومن باب الجدل الكالمي وفقه الس ّياسة ّ‬ ‫العقائد والعبادات‪ *3‬عند فرقة السنّة عىل ّ‬
‫استهدفت يف البداية كتاباً له مخصوص هو «االقتصاد‬‫ُ‬ ‫اسـي عند أيب حامد الغزايل‪ ،‬الذي‬
‫مالمسة الفكر الس ّي ّ‬
‫يف االعتقاد»‪ ،‬غري ّأن رسعان ما انتبهت إىل ّأن هذه املوضوعة مطروقة عنده يف كتب أخرى من بينها «التّرب‬
‫املسبوك يف نصيحة امللوك» و«فضائح الباطن ّية»‪ ،‬وهو املؤلف الذي يكنى أيضاً بـ«املستظهري»‪ ،‬ثم بشكل‬
‫واضح وأكرث يف «إحياء علوم الدّين»‪ .‬لهذا‪ ،‬سأحاول الوقوف عند هذه التأليفات الستجالء تصور الغزايل من‬
‫املوضوعات السياسية؛ وذلك من خالل البث يف إشكال اإلمامة بني الرشع الديني والواقع السيايس عنده؛ لبيان‬
‫الكيفية التي تعاطى بها العقل الفقهي ‪ -‬عموماً ‪ -‬مع تلك املوضوعات‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬تروم هذه الدراسة الوقوف عند املقاربة الفقه ّية ملوضوعات الس ّياسة‪ ،‬وبشكل خاص مسألة‬
‫اإلمامة ورشوطها عند رجل فذ يجمع بني الفلسفة والفقه والتّص ّوف‪ ،‬وسنعمل عىل تناول تلك املسألة وما‬
‫يتصل بها من قضايا (الدّين والدّولة) باالعتامد عىل منهج ّية تحليلية نقد ّية‪ .‬وحتى يتيرس الولوج إىل فقه‬

‫‪ -1‬أغلب ما كتب في صنف السيّاسة الشرعيّة في تاريخ اإلسالم بنيّ على حديث «األئمّة من قريش»‪ ،‬الذي من المرجّ ح أنّه اخترعه معاوية بن أبي‬
‫سفيان‪ ،‬لكونه بدأ معه فجأة‪ ،‬حيث هو أوّل من وظفّه ض ّد خصومه من الشيعة الخوارج‪ ،‬دون أن نعثر له على أثر عند أصحاب المصادر التاريخيّة‬
‫الكُبرى في تاريخ اإلسالم‪ :‬ال عند ابن إسحاق وال عند ابن هشام وال عند البالذري وال عند الطبري وال عند المسعودي‪ ...‬وال هو ذكره أحد الصحابة‬
‫الصديق أو عمر بن الخطاب أو أبو عبيدة الجراح‪ ،)..‬ولكنّنا نجده بعدها عند البخاري ومسلم‬‫الكبار الذين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة(أبو بكر ّ‬
‫والترمذي !‬
‫‪ -2‬عند مطالعة تاريخ الفكر اإلسالمي نجد أنّ ثمّة شبه إجماع عند «المسلمين» من فقهاء ومتكلّمين‪ ،‬عند الشيعة والسنّة‪ ،‬على أنّ اإلمامة واجب شرعيّ ؛‬
‫ألنّ حياة النّاس متوقّفة عليها‪ ،‬غير أنّ أساس هذا الوجوب اختلف الرّ أي بشأنه بينها؛ ففرقة السّ نة ترى هذا األساس في اإلجماع؛ بينما ترى الشيعة بأن‬
‫سنده التفويض اإللهي لتنصيب اإلمام المعصوم‪ .‬أمّا المعتزلة فتذهب إلى أنّ العقل هو أساس اإلجماع‪ ،‬غير أنّ من المعتزلة من يعتبر بأنّ أساس وجوب‬
‫نصب اإلمام مزدوج فهو عقلي وشرعي في ذات اآلن‪.‬‬
‫‪ -3‬على الرّ غم من غيّاب التشريع الدّينيّ للمسألة السيّاسيّة نجد في تراث اإلسالم من قال بذلك وهم الشيعة‪ ،‬الفرقة التي تقول بأنّ اإلمامة تكون بالنّص‪،‬‬
‫وهي استئناف للنبوّة ال في شقّها الدّنيويّ السيّاسيّ فحسب‪ ،‬بل أيضا في جانبها الدّينيّ ‪ .‬وبالتالي تحسبها من أركان اإلسالم؛ إذ ال يكتمل اإليمان عند‬
‫ال بالتسليم باإلمام المعصوم‪ .‬على خالفها تذهب السنة إلى أنّ االمامة‪/‬الخالفة تتم باالختيار؛ بحيث يترك لجماعة الناس أمر اختيار من يدبّر‬ ‫الشيعة إ ّ‬
‫لها أمورها من خالل أهل الحلّ والعقد‪.‬‬
‫‪6‬‬

‫السياسة الرشعية بعامة؛ وإىل فكر الغزايل بخاصة ميكننا االسرتشاد باالستفهام التايل‪ :‬ما هي القضايا التي يطرق‬
‫ايس أم باعتبارها‬
‫من خاللها الغزايل موضوع الس ّياسة؟ هل حديثه عن اإلمامة كالم عنها بوصفها موضوع س ّي ّ‬
‫قض ّية كالم ّية دين ّية رشع ّية؟ وكيف ّمتت مقاربة اإلمامة عنده‪ :‬هل بعقل الفقيه ّ‬
‫املتبص بأحوال الواقع أم برؤية‬
‫الفيلسوف املعياري الحامل بإمامة ُيخلف فيها اإلمام األول؟ وهل يراعي الغزايل الظروف التاريخ ّية‪ ،‬وهو يقارب‬
‫السيايس (الدّنيويّ ) للغزايل؟‬
‫ّ‬ ‫موضوعاً س ّياسياّ أم يقفز عليها؟ وكيف يحرض ّ‬
‫الشع (الدّيني) يف الفكر‬

‫السياق التاريخي لتشكل فكر الغزايل‬


‫ّ‬ ‫‪-1‬‬

‫‪ :1-1‬النّشأة الفكرية للغزايل‬

‫رأى أبو حامد الغزايل النور بطوس إحدى مدن خراسان سنة ‪(1059‬املوافق للعام الهجري ‪ ،4)450‬وقد‬
‫أخذ طرفاً من الفقه عىل ي ّد أحمد بن محمد الراذكاين ثم رحل إىل جرجان‪ ،‬وهو دون سن العرشين‪ .‬وقد‬
‫أخذ نصيباً من الفقه عن اإلمام أيب نرص اإلسامعييل ثم عاد إىل طوس ومكث فيها ثالث سنوات حفظ فيها ما‬
‫السلطة والجاه واملال يف حياة هذا‬‫علقه عن اإلمام اإلسامعييل يف جرجان‪ 5.‬ثم انتقل إىل نيسابور وهنا بداية ّ‬
‫ال ّرجل‪ .‬ففي نيسابور‪ ،‬أخذ الغزايل العلم عن أيب املعايل الجويني (إمام الحرمني) وهو إمام الشافعية هناك‪،‬‬
‫وأحد منظري مذهب األشعرية‪ ،‬وكان أستاذاً محلياًّ يف جميع فروع املعرفة وعلوم العرص وقتئذ‪ .‬وبعدها صار‬
‫أبو املعايل أستاذاً يف املدرسة النظام ّية تلك‪ ،‬التي درس الغزايل فيها مختلف علوم العرص واستفاد من أستاذه‬
‫كثرياً إىل درجة التفوق عليه‪ .‬وقد عرف ّأن الجويني قال لتلميذه‪« :‬هال أمهلتني حتّى أموت» إشارة إىل نباهة‬
‫الغزايل وتف ّوقه لهذا كان هذا األستاذ يقول ّإن الغزايل بحر مغدق من املعرفة‪ .‬وأثناء إقامة هذا األخري يف‬
‫نيسابور‪ ،‬قرأ وأ ّلف يف كثري من صنوف العلم املعروفة يف عرصه‪ .‬وحينام تويف الجويني (إمام الحرمني) سنة‬
‫السلجوقي‪،‬‬‫‪478‬هـ‪1085/‬م‪ ،‬خرج الغزايل إىل املعسكر قاصداً الوزير نظام امللك‪ ،‬الذي كان وزيراً للملك شاه ّ‬
‫عي فيها الغزايل‬
‫وقد كان هذا الوزير من مح ّبي العلم وأهله‪ ،‬وقد ّأسس يف بغداد املدرسة النظام ّية‪ ،‬التي ّ‬
‫مد ِّرساً سنة ‪484‬هـ‪1091/‬م‪ .‬وقد بلغ وقتها الغزايل السنة الخامسة والثالثني من عمره‪ .‬ويف هذه املرحلة‪،‬‬
‫سيقرأ الفلسفة وسيتع ّمق يف دراستها‪ ،‬ليؤلف كتابه «مقاصد الفالسفة» الذي يدل عىل سعة ّاطالعه ومعرفته‬
‫نصب‬ ‫الدقيقة بالفلسفة‪ ،‬وفيه تج ّلت ح ّياد ّية الغزايل يف نقله للمذاهب الفلسف ّية وأفكارها‪ ،‬لكن رسعان ما ّ‬
‫نفسه «فقيها أصولياًّ» يك ّفر الفالسفة ويبدّعهم يف كتابه «تهافت الفالسفة»‪ .‬قىض أبو حامد حوايل أربع سنوات‬
‫م ّر فيها الغزايل بأزمات نفس ّية وفكر ّية عميقة وصفها ببالغة يف كتابه «املنقذ من الضالل» قاده هذا الرصاع‬
‫النفيس إىل ترك التدريس جاع ًال أخاه أحمد الغزايل ينوب عنه يف املهمة ليغادر بغداد‪ .‬ومل يقترص الغزايل عىل‬
‫ّ‬
‫الفلسفة فحسب‪ ،‬بل تع ّمق يف دراسة الفقه واألصول والعقائد والتص ّوف‪ ،‬وله مؤ ّلفات عدّة يف هذه امليادين‪.‬‬

‫‪ -4‬أحمد شمس الدين‪ ،‬الغزالي‪ :‬حياته‪ ،‬آثاره‪ ،‬فلسفته‪ ،‬ط‪( 1‬بيروت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،)1990 ،‬ص‪14‬‬
‫‪ -5‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬االقتصاد في االعتقاد‪ ،‬تحقيق مصطفى عبد الجواد عمران‪ ،‬ط‪( 1‬مصر‪ :‬دار البصائر‪ ،)2009 ،‬ص‪15‬‬
‫‪7‬‬

‫ويورد عمران مصطفى عمران يف مقدمة تحقيقه لكتاب «االقتصاد يف االعتقاد» قوال لشيخ أزهري ‪ -‬وهو‬
‫محمد مصطفى مراغي ‪ -‬يصف فيه مدى موسوع ّية فكر الغزايل‪ ،‬حيث يقول‪« :‬إذا ذكرت أسامء العلامء ا ّتجه‬
‫الفكر إىل ما ميتاز به من فروع العلم وشعب املعرفة؛ فإذا ذكر ابن سينا أو الفارايب خطر بالبال فيلسوفان‬
‫عظيامن من فالسفة اإلسالم‪...‬أ ّما إذا ذكر الغزايل‪ ،‬فقد تشعبت النواحي ومل يخطر بالبال رجل واحد‪ ،‬بل يخطر‬
‫لكل واحد قدره وقيمته‪ .‬يخطر بالبال الغزايل األصو ّيل الحاذق املاهر‪ ،‬والغزايل الفقيه‬
‫بالبال رجال متعدّدون ّ‬
‫االجتامعي الخبري بأحوال العامل وخف ّيات الضامئر‬
‫ّ‬ ‫الح ّر‪ ،‬والغزايل املتك ّلم إمام السنّة وحامي حامها‪ ،‬والغزايل‬
‫ومكنونات القلوب‪ ،‬والغزايل الفيلسوف‪ .‬وإن شئت‪ ،‬فقل إ ّنه يخطر بالبال رجل هو دائرة معارف عرصه؛ رجل‬
‫كل يشء‪ .‬نهم إىل جميع فروع املعرفة»‪ 6.‬وهذه إشارة إىل سعة اطالع الغزايل وق ّوة فكره‬ ‫متعطش إىل معرفة ّ‬ ‫ّ‬
‫وقدرته عىل التأليف يف مختلف أنواع املعرفة املتاحة يف عرصه‪ .‬وقد انتهت الحال بالغزايل إىل التص ّوف بعد‬
‫مغادرته بغداد‪ ،‬حيث قرر اإلعراض عن املال والجاه واألوالد والعيّال واألصحاب‪.‬‬

‫بأهميته يف السياسة‬
‫ّ‬ ‫‪ :2-1‬الرأسامل الديني ووعي الغزايل‬

‫ندرك األفق الفكري للغزايل وغريه من الفقهاء والتيارات السلفية الالحقة‪ ،‬ال بأس من أن نعود إىل تاريخ‬
‫صدر اإلسالم‪ ،‬حيث يخربنا أ ّنه بعد وفاة ال ّرسول محمد بن عبد الله صىل الله عليه وس ّلم‪ ،‬الذي كان الشخص‬
‫الوحيد الذي يجمع بني السلطتني الدّينية والزمن ّية بوصفه نبياّ مرس ًال من جهة‪ ،‬وباعتباره قائداً س ّياس ّياً من جهة‬
‫للنبي إىل اعتقاد خاطئ راسخ لدى أغلب املسلمني‪ ،‬وهو التالزم بني‬ ‫ثانية‪ ،‬سيتح ّول هذا االزدواج الوظيفي ّ‬
‫النبي‪ ،‬حيث سيحاول الخلفاء الراشدون‬ ‫ايس يف اإلسالم‪ ،‬ما سيؤ ّثر عىل التاريخ ال ّالحق عىل وفاة ّ‬ ‫ّيني والس ّي ّ‬
‫الد ّ‬
‫النبي الذي يرسي عليه ما ال يرسي عليهم‪ .‬مع‬ ‫بالسلطة الدّين ّية‪ ،‬رغم علمهم أن النب ّوة ختمت مع ّ‬ ‫التشبث ّ‬
‫السلطة الس ّياس ّية منذ ذلك الحني ترشعن بالدّين ال لوجود تنصيص عليها يف تعاليم اإلسالم‪ّ ،‬‬
‫وإنا‬ ‫ذلك‪ ،‬صارت ّ‬
‫السيايس واملرشعنة له‪ .‬ووعياًّ بأهم ّية الرأسامل الد ّ‬
‫ّيني يف‬ ‫ّ‬ ‫لكون الدّين أحد املق ّومات الرئيسة املس ّوغة للحكم‬
‫يتوسلون بالفقهاء الحاملني لهذا الرأسامل ويستثمرونه‬ ‫تطويع الرع ّية كان أغلب الخلفاء والسالطني واألمراء ّ‬
‫باالستعانة بهم‪ ،‬لكن ال ينبغي ْأن يفهم من هذا ّأن اإلسالم قامت فيه سلطة دين ّية كام حدث يف تاريخ‬
‫ألن الذي كان يحصل هو تواطؤ الفقهاء واألمراء ملصالح متبادلة بينهام‪:‬‬ ‫اطي؛ ّ‬‫املسيح ّية إ ّبان الحكم الثيوقر ّ‬
‫فهؤالء يسبغون الرشع ّية عىل س ّياسة السالطني‪ ،‬وأولئك يستفيدون من االمتيازات والحظوات تلقاء الخدمة‬
‫التي يقدمونها للسالطني والخلفاء‪ .‬مع مالحظة الب ّد منها هو ّأن انتهاز ّية الفقهاء تخفي أيضاً واقعية تتم ّثل يف‬
‫وعيهم بواقع االنقسام والفنت والرصاعات والحروب التي تشهدها البالد االسالم ّية وقتئذ‪ .‬لهذا‪ ،‬ركزوا عىل ّ‬
‫كل‬
‫السلطان الفاجر‬‫«أن طاعة ّ‬ ‫ما من شأنه ْأن يجمع شتات األ ّمة ويحفظ وحدها‪ ،‬األمر الذي جعل بعضهم يعترب ّ‬
‫مقبولة إذا كان عىل ضامن األمن قادر وللفتنة قاهر»؛ معنى هذا ّأن الفقهاء كانوا تابعني لألمراء‪ ،‬ويحصل‬
‫أن يتواطؤوا معهم فيستفيدون من امتيازات‪ ،‬وقد يفرض مذهبهم بالق ّوة الس ّياس ّية ال بالسلطة املعرف ّية‪،‬‬
‫‪ -6‬الغزالي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪21 ،22‬‬
‫‪8‬‬

‫مثل مذهب املعتزلة الذي فرضته الدّولة الع ّباس ّية يف عهد املأمون واملعتصم والواثق‪ ،‬ثم مذهب أهل السنّة‬
‫والجامعة‪ ،‬الذي اعتمده بعدهم الخليفة املتو ّكل‪ .‬يف حني فرضت الدّولة العثامن ّية املذهبني الحنفي والشافعي‪.‬‬
‫الشيعي‪ .‬وهنا يظهر مالك بن أنس كفقيه‬
‫ّ‬ ‫أ ّما يف مركز سن ّّي مثل إيران‪ ،‬فقد فرضت الصفوية اإلمام ّية املذهب‬
‫استثنايئ حينام رفض طلب الخليفة هارون الرشيد حينام استأذنه بتطبيق الدّولة العباس ّية لكتابه املوطأ‬
‫كمذهب رسمي لها‪ .‬فكان أن أبدى رفضه ذاهبا إىل ّأن املوطأ «كتاب من ورق» وال يحقّ استغالله أليّ هدف‬
‫ايس‪ ،‬ولعل هذا رس عدم انتشار الفقه املاليك‪.‬‬
‫س ّي ّ‬

‫النبي‪ ،‬ستعرف فرتة الخالفة الراشدة رصاعاً محموماً حول ّ‬


‫السلطة الس ّياس ّية‬ ‫عىل خالف ما حصل يف زمن ّ‬
‫مكتسياًّ لبوساً دينياًّ‪ .‬بدأه بطنان قريشيان كبريان هام‪ :‬األمويون والهاشميون‪ .‬ومن أجل تهدئة األوضاع ّمتت‬
‫تولية أيب بكر الصديق‪ ،‬ليعهد أبو بكر الخالفة بعده لعمر بن الخطاب‪ ،‬الذي جمع القرآن وقام بحرق النسخ‪،‬‬
‫ولعل حمله لقب «أمري املؤمنني» إعالن عن تداخل‬ ‫ايس‪ّ ،‬‬ ‫اإلسالمي الس ّي ّ‬
‫ّ‬ ‫وهنا بداية مسار جديد يف التاريخ‬
‫السلطتني الدّين ّية والزّمن ّية عند الخليفة‪ .‬وبعد الحكم العمري (نسبة إىل عمر بن الخطاب) وضع أول إطار‬
‫سيايس يف اإلسالم متم ّثال يف «الشورى»‪ ،‬التي ّمتت من خالله إعالن عثامن بن عفان خليفة للمسلمني‪ .‬لكن‬ ‫ّ‬
‫حكمه مل مير بسالم‪ ،‬حيث تت ّبع الهاشميون عرثاته‪ ،‬فوقعت خالفات آواخر حكمه قادت إىل الزحف عىل قرصه‬
‫ومحارصته‪ ،‬وحصل اغتياله من طرف أيب لؤلؤة الخارجي‪ .‬وبعده متت بيعة عيل بن أيب طالب‪ ،‬وبه وصل بنو‬
‫هاشم إىل الحكم أل ّول مرة‪ ،‬وذاك أمر مل يكن لرييح بال بني أمية‪ .‬لهذا‪ ،‬ال غرابة أن وجد معارضة انتهت‬
‫مبعركة الجمل ونشوب الحرب‪ ،‬ليقتل عيل يف نهاية املطاف من طرف الخوارج‪ .‬هكذا يتبني ّأن فرتة الخلفاء‬
‫الراشدين يف تاريخ اإلسالم مل تكن فرتة سلم‪ ،‬كام أن انتقال الحكم من خليفة إىل آخر مل مير بسالم كام يزعم‬
‫أنصار أسطورة «العرص الذهبي» يف العد الخليفي‪.‬‬

‫كل الفرق‪ ،‬غري أن االختالف‬ ‫ومن املعلوم ّأن النّص الدّيني يف اإلسالم‪ ،‬أعني القرآن والسنّة هو مرجع ّ‬
‫بينها سيظهر بعد االنتقال من ال ّرواية الشفو ّية ـــ التي سادت طيلة مدّة تش ّكله يف العهد النبوي إىل الحقبة‬
‫الخليف ّية ـــ إىل التدوين‪ ،‬أقصد كتابة القرآن والحديث؛ إذ م ّكن هذا العمل السلطة الس ّياس ّية من احتكار‬
‫النص الدّيني واإلرشاف عليه من أجل استثامره كرأسامل رمزي مفيد يف بسط الهيمنة الس ّياس ّية‪ .‬وعليه بدءا‬
‫من جمع القرآن وتدوين علومه وعلوم الحديث وعلوم التفسري‪ ،‬توالت عمل ّية احتكار هذا الرأسامل مع‬
‫الدّولتني األمو ّية والع ّباس ّية‪.‬‬

‫السلطة يف عهد الخلفاء الراشدين‪ ،‬سيشهد التاريخ اإلسالمي‬ ‫وبعد رصاعات سياس ّية بصبغة دين ّية حول ّ‬
‫مرحلة أخرى من الحكم األموي‪ ،‬رفقتها أحداث ووقائع ستؤدي يف النهاية إىل أفول دولة األمويني لتفتح‬
‫الطريق أمام الدولة الع ّباس ّية‪ ،‬التي ستتوىل زمام الشؤون الس ّياس ّية‪ ،‬التي حاولت ــ كام هو شأن من سبقوها‬
‫ملحة إىل العلامء والفقهاء للقيام بهذه‬
‫السلطة‪ .‬من هذا املنطلق‪ ،‬كانت حاجتها ّ‬ ‫ــ إضفاء الرشع ّية الدّين ّية عىل ّ‬
‫ألن الفقيه هو من كان له وزن كبري نظراً لقدرته الهائلة عىل توجيه العا ّمة‪ .‬ويف هذا الس ّياق بالتحديد‬ ‫امله ّمة؛ ّ‬
‫‪9‬‬

‫سيظهر أبو حامد الغزايل‪ ،‬الذي سيلعب دوراً مه ًّام يف خدمة السلطة الدّين ّية للوزير نظام امللك‪ ،‬بعبارة أخرى‬
‫سيصبح فقه الغزايل بضاعة مطلوبة س ّياسياًّ‪ ،‬وهنا ال ينبغي ْأن ننىس ّأن الغزايل كان فقيهاً قريباً من نظام امللك‪.‬‬

‫‪ :3-1‬موقف الغزايل من الفرق الكالمية واملذاهب الفقهية يف تاريخ اإلسالم‬

‫‪ :1-3-1‬الجدل الكالمي وعالقته بالواقع الس ّيايس‬

‫السالم‪ ،‬سنجد ّأن العلوم الرشع ّية أو علوم العقيدة مل‬ ‫إذا عدنا إىل عرص النّبي محمد بن عبد الله عليه ّ‬
‫تتأسس بعد؛ أل ّنه مل تكن ّمثة حاجة إليها‪ ،‬ذلك أ ّنه ك ّلام اعرتض النّاس يشء يف أمر الدّنيا والدّين عادوا إىل‬
‫ال ّرسول الكريم للحسم فيه‪ ،‬غري أ ّنه بعد الفتوحات اإلسالم ّية ستختلط األمور يف شبه جزيرة العرب؛ فهناك من‬
‫تم ستظهر مشاكل وأفكار تستلزم وجود علوم مد ّونة منها علم الكالم‪.‬‬ ‫دخل اإلسالم ح ّباًّ ومن دخل كيداً‪ ،‬ومن ّ‬
‫والشع‬ ‫ال ّذي انخرط فيه كثري من املف ّكرين وعىل رأسهم أيب حامد الغزايل‪ ،‬ال ّذي سيحاول التوفيق بني العقل ّ‬
‫وسطي معتدل لألمور؛‬ ‫ّ‬ ‫يف مختلف القضايا العقد ّية والكالم ّية والس ّياس ّية العتبارات مختلفة‪ ،‬سعياً منه إىل فهم‬
‫ذلك ّأن الفرق الكالم ّية يف تاريخ اإلسالم ا ّتخذت يف الغالب موقفاً ينحو‪ ،‬إ ّما نحو اإلفراط أو يخبو يف منحى‬
‫التفريط‪ .‬ومن شأن القارئ لتاريخ اإلسالم ْأن يلحظ كيف افرتقت النِّحل يف املجتمع وتحزّبت وانقسمت بني‬
‫السلطة‪ .‬يف مظنون الغزايل نجد‬ ‫مف ِرط وم َف ِّرط تبعاً العتبارات هي يف الغالب س ّياسة ال دين ّية ترتبط بهاجس ّ‬
‫ّأن الحشوية غالت يف التجسيم ففرطوا‪ ،‬كام غالت املعتزلة يف التنزيه محرتزين من التشبيه فأفرطوا‪ ،‬كام غلوا‬
‫يف استخدام عقولهم‪ .‬وهنا يزعم الغزايل أ ّنه من الذين و ّفقهم الله سبحانه ــ ضمن «أهل السنّة والجامعة» ــ‬
‫كل عاقل بأ ّنه «االقتصاد‬ ‫تفطنوا للمسلك القصد‪ .‬وهذا السبيل هو ما يعرف عن ّ‬ ‫للق ّيام بالحقّ ‪ ،‬أولئك ال ّذين ّ‬
‫يتجل يف التزام اإلنسان «العبد» بالوسط ّية واالعتدال حتّى يف مسألة األفعال ال ّبرش ّية‪،‬‬ ‫يف االعتقاد»‪ ،‬والذي ّ‬
‫الطوعي والجرب االكراهي اإلخضاعي‪ ،‬حيث نجد تفريطاً عند الجربية‪ ،‬إذ تجعل‬ ‫ّ‬ ‫املرتاوحة بني االختيار الح ّر‬
‫السيايس‪ ،‬مجرباً عىل ما يؤتيه من أفعاله؛ والغرض األساس من ذلك هو‬ ‫ّ‬ ‫السلطان‬
‫من اإلنسان‪ ،‬مبا يف ذلك ّ‬
‫السالطني‪ .‬يف مقابل التّص ّور الجربيّ ‪ ،‬نلفي فرقة القدر ّية‪ ،‬التي تعترب‬
‫تربير تعقيدات الس ّياسة وتسويغ أعامل ّ‬
‫مم يجعله متح ّم ًال للمسؤول ّية يف مجال العقيدة ويف ميدان الس ّياسة يف‬ ‫ّأن لإلنسان حر ّية واختيارا تامني‪ّ ،‬‬
‫اآلن ذاتها‪ .‬وعىل أنقاض هذا املبدأ‪ ،‬سينشأ ما يعرف «باألمر باملعروف والنهي عن املنكر»‪ 7.‬وهذا مبدأ خطري‬
‫ملغوم ُيحتاج إليه كثرياً لتربير تعقيدات الس ّياسة‪ ،‬رغم ما قد يبدو فيه من نفحة دين ّية‪ .‬ومن املسائل التي‬
‫يرى الغزايل ّأن فيها فرطا من جهتني كذلك‪ ،‬نجد مسألة مرتكب الكبرية بني املرجئة‪ ،‬والخوارج‪ .‬وبدءاً من القرن‬
‫الثاين الهجري‪ ،‬أصبح الحديث عن الفاسق (الذي هو يف منزلة بني املنزلتني حسب واصل بن عطاء املعتزيل)‪.‬‬
‫ومع مرور السنني شهد الجدل العقدي بني الفرق الكالم ّية نوعاً من االستقرار مال عموماً إىل االنتصار لحر ّية‬

‫‪ -7‬للتعرف على حيثيات هذا المبدأ يمكن مطالعة مؤلف‪ :‬كوك‪ ،‬مايكل‪ ،‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر اإلسالمي‪ ،‬ترجمة رضوان السيد‪.‬‬
‫بيروت‪ :‬الشبكة العربية لألبحاث‪ .2009 ،‬وأيضاً‪ :‬فيصل‪ ،‬سعد‪ ،‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر اإلسالمي القديم‪ .‬بيروت‪ :‬المركز الثقافي‬
‫العربي ومؤسسة مؤمنون بال حدود‪2014 ،‬‬
‫‪10‬‬

‫الفلسفي الذي كان الغزايل أحد‬


‫ّ‬ ‫مم فتح الطريق الزدهار الفكر‬ ‫االختيار‪ ،‬واإلرادة ال ّبرشية‪ ،‬والعقل اإلنسا ّين‪ّ ،‬‬
‫أعالمه قراءة وتأليفا‪ 8ً.‬لهذا ال غرابة يف أن نجد يف فكره مسحة فلسف ّية‪ ،‬رغم ردّته عىل الفالسفة‪ ،‬وتحامله‬
‫عليهم فيام بعد كام يظهر يف بعض تآليفه‪ ،‬وبشكل واضح يف كتابه الجد ّيل «تهافت الفالسفة»‪ ،‬حيث بدّعهم يف‬
‫سبع عرشة مسألة وكفرهم يف ثالث مسائل كام هو معلوم عند أهل الفلسفة‪ .‬والذي ر ّد عليه هو أبو الوليد بن‬
‫رشد بكتاب «تهافت التهافت»‪ ،‬غري ّأن من غريب ما حصل داخل حقل الثقافة العرب ّية اإلسالم ّية هو استقبال‬
‫واملتخصصني‪ .‬وإن كان هذا مل مينع من‬ ‫ّ‬ ‫الكتاب األول بحفاوة‪ ،‬يف حني ق ّلام يقرأ ال ّثاين ال ّلهم إ ّال عند النخبة‬
‫وبخاصة وهو يتناول مسألة اإلمامة ورشوطها كقض ّية يتداخل فيها‬ ‫ّ‬ ‫حضور النّفس الفلسفي يف فكر الغزايل‪،‬‬
‫يايس» كام سرنى‪ .‬ومن املشاكل الجدلية الكالم ّية التي طرحت يف ذلك الوقت أيضاً‪ ،‬نجد‬ ‫«الس ّ‬
‫ّيني» مع ّ‬ ‫«الد ّ‬
‫مسألة «حر ّية اإلنسان»‪ ،‬وهي القض ّية األساس ّية التي ُكث النّقاش والجدل حولها من قبل الفرق الكالم ّية يف‬
‫وبخاصة بني فرقة القدر ّية‪ ،‬التي تز ّعمها معبد بن عبد الله الجهمي‪ ،‬وتعترب بأ ّنه «ال قدر واألمر أنف»؛‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالم‪،‬‬
‫تدخل اإلنسان فيها‪ ،‬كام تعترب أ ّنه من املمكن ْأن‬ ‫الشع ّية وفتح إمكان ّية ّ‬ ‫وذلك من أجل إثبات أهم ّية األوامر ّ‬
‫تحدث أمور خارجة عن إرادة القدر‪ .‬وفرقة الجرب ّية بق ّيادة جهم بن صفوان‪ ،‬وتذهب هذه الفرقة إىل نفي‬
‫تسيه األقدار كيفام تشاء‪ .‬ويف عرص‬ ‫السامء ّ‬ ‫تدخل لإلنسان يف أفعاله؛ ذلك أ ّنها ترى العبد كال ّريشة يف ّ‬ ‫أيّ ّ‬
‫الخليفة عيل بن أيب طالب‪ ،‬ستربز مشكلة مرتكب الكبرية‪ ،‬وبتأثري ظروف س ّياس ّية ستظهر بذلك فرق أخرى‬
‫مختلفة ل ّعل أبرزها‪ :‬الخوارج هذه الفرقة التي ترى يف مرتكب الكبرية كافرا ومصريه النّار إذا مات دون توبة‪،‬‬
‫يرض مع اإلميان معص ّية كام ال ينفع‬ ‫ثم املرجئة تلك الفرقة التي تزعم أ ّنه ال ّ‬ ‫وهذا يف حسبان الغزايل إفراط‪ّ ،‬‬
‫مع الكفر طاعة‪ ،‬وهذا تفريط‪ .‬يف حني ّأن فرقة املعتزلة قد أفرطت يف استعامل العقل والثقة به‪ ،‬ومؤسس‬
‫مذهب االعتزال هو واصل بن عطاء‪ ،‬ونجد إىل جانبه تلميذه وصديقه (امللقب بشيخ املعتزلة) عمرو بن‬
‫عبيد‪ .‬ومن أبرز آراء هؤالء املعتزلة قولهم ببديل ثالث هو «املنزلة بني املنزلتني» بخصوص مرتكب الكبرية‪،‬‬
‫ونفيهم أن تكون لله صفات وجود ّية قدمية‪ ،‬كام يعتقدون ّأن اإلنسان خالق ألفعاله االختيار ّية‪ّ ،‬‬
‫وأن الله تعاىل‬
‫واجب عليه فعل الصالح واألصلح‪ .‬والحال أ ّنه ما بني إفراط املعتزلة يف توظيف العقل يف أمور الرشع وتفريط‬
‫النص‪ ،‬وما بني تفريط الخوارج يف الحكم بالكفر‬ ‫املش ّبهة الحشو ّية يف ذلك لكونها وقفت عند حدود ظواهر ّ‬
‫عىل مرتكب الكبرية‪ ،‬واعتبار ّأن مصريه النار ْإن هو بقي عىل تلك الحال‪ ،‬واملرجئة التي وقعت يف التفريط‪،‬‬
‫يرض مع اإلميان معص ّية كام ال ينفع مع الكفر‬ ‫لكونها ترتك أمر الحكم إىل الله يف العامل اآلخر؛ إذ تعترب أ ّنه ال ّ‬
‫طاعة‪ ،‬وما بني هؤالء وأولئك سيعود أبو حامد الغزايل إىل هذه القضايا الكالم ّية للحسم فيها متخذاً موقفاً‬
‫وسطاً معتدال ال إفراط فيه وال تفريط‪.‬‬

‫‪ -8‬في هذا الصدد يقول الغزالي‪« :‬ثم إنّي ابتدأت بعلم الكالم فحصلته وعقلته‪ ،‬وطالعت كتب المحققين منهم‪ ،‬وصنفت فيه ما أردت أن أصنف‪ .‬فصادفته‬
‫علما وافيا بمقصوده‪ ،‬غير واف بمقصودي‪ ،‬وإنّما مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البّدعة(‪ )...‬ثم إني ابتدأت بعد الفراغ من‬
‫علم الكالم بعلم الفلسفة(‪ )...‬فشمرت على ساق الج ّد في تحصيل ذلك العلم من الكتب‪ ،‬بمجرد المطالعة من غير استعانة بأستاذ‪ ،‬وأقبلت على ذاك في‬
‫أوقات فراغي في التصنيف والتدريس في العلوم الشرعية وأنا ممنو [(=مبتلى)] بالتدريس واإلفادة لثالثمائة نفر من الطلبة ببغداد‪[ .‬وبعد اطالعه على‬
‫الفالسفة وجدت] أنهم على كثرة فرقهم واختالف مذاهبهم‪ ،‬ينقسمون إلى ثالثة أقسام‪ :‬الدهريون‪ ،‬والطبيعيون‪ ،‬واإللهيون‪ ».‬محمد‪ ،‬الغزالي‪ ،‬المنقذ من‬
‫الضالل‪( ،‬بيروت‪ :‬المكتبة الشعبية‪ ،‬د‪ .‬ت) ص‪ ،39-35 :‬بتصرّ ف‪.‬‬
‫‪11‬‬

‫‪ :2-3-1‬الختالف املذهبي يف التاريخ اإلسالمي‬

‫من الجدير بالذكر أن الحقبة التاريخ ّية التي عايشها الغزايل كانت ج ّد متوترة فكرياًّ‪ ،‬ومضطربة اجتامعياً‪،‬‬
‫ّعصب والغل ّو‪ ،‬مع ما رافق ذلك من‬ ‫ومحمومة س ّياسياًّ‪ ،‬وقد عرفت اختالفات مذهب ّية وكالم ّية إىل درجة الت ّ‬
‫حروب وقتاالت واغتياالت متبادلة و«فنت»‪ ،‬كام ّأن هذه املرحلة من التاريخ كانت فيها الخالفة اإلسالم ّية‬
‫مط ّوقة يف جميع أطرافها‪ :‬من طرف الفرس رشقاً‪ ،‬ومن قبل الفاطميني غرباً‪ ،‬ومن جهة الصليبني املهاجمني‬
‫الشامل‪ ،‬وال ّذين ميثلون «دار الكفر» حسب التّقسيم املعروف‪ .‬وقد سادت حروب ساخنة‬ ‫لـ«دار اإلسالم» يف ّ‬
‫السالجقة‬ ‫وباردة بني «الدارين»‪ ،‬بل نجد هذه الحروب حتّى داخل نفس «الدّار» بني السنّة والشيعة‪ ،‬وقد كان ّ‬
‫السالجقة ينارصون‬ ‫منارصين للسنّة ض ّد الشيعة الباطن ّية‪ ،‬لكن «اإلمام» الغزايل قد شهد فرتتني‪ :‬األوىل كان فيها ّ‬
‫أيب حنيفة النّعامن ومعهم الوزير الكبري عميد امللك منصور بن أحمد الكندي‪ ،‬وفرتة أخرى حدث فيها‬
‫السلجوقي نظام امللك‪ .‬هكذا‪ ،‬إذن‪،‬‬ ‫للشافعي عىل حساب الوزير ّ‬ ‫االنقالب عىل املذهب الحنفي واالنتصار ّ‬
‫كان عرص الغزايل عهد تعدّد الفرق الكالم ّية‪ ،‬التي كان الجدل بينها سياسياًّ يف جوهره‪ ،‬رغم مسحته الدّين ّية‬
‫التسويغ ّية‪ ،‬وهو اإل ّبان نفسه الذي عرف انقسام اإلسالم إىل مذاهب متنازعة أه ّمها السنّة والشيعة‪ ،‬وقد‬
‫السالجقة والعباس ّيني بخلف ّية دين ّية‬
‫كانت الغلبة لهذه األخرية يف مرص عكس بغداد وبالد فارس‪ .‬وسيواجه ّ‬
‫الشيعي واإلسامعيل ّية الباطن ّية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬متمثلة يف املذهب الشافعي رشيعة واملذهب األشعري عقيدة ‪ -‬املذهب‬
‫والسلب والنّهب‪ ،‬وقد قتل‬ ‫تلك الفرقة التي ما تركت من فعل شنيع إ ّال ون ّفذته‪ ،‬مبا يف ذلك القتل ّ‬
‫والسفك ّ‬
‫نظام امللك عىل أيديهم طعنا يف قلبه من طرف طفل صغري سنة ‪485‬هـ‪ ،‬ويف هذه األجواء أيضاً ظهرت فرقة‬
‫الحش ّاشني‪ 9.‬وال ننىس كذلك ّأن هذا املف ّكر والفقيه الغزايل قد عاش يف بالط ُ‬
‫الخلفاء الع ّباس ّيني‪ ،‬وبني حاش ّية‬ ‫ّ‬
‫ملوك السالجقة‪ .‬لهذه الحيث ّيات ك ّلها‪ ،‬مل يكن غريباً ْأن نجد الغزايل يف ّكر بطريقة فقه ّية مقاصد ّية وس ّياس ّية‬
‫واقع ّية‪ ،‬فهو يستحرض منطق املفاسد واملصالح‪ ،‬ويأخذ بعني االعتبار الظروف الواقع ّية‪ ،‬فنلفه يدعو إىل ما‬
‫ايس‪ ،‬وما يح ّقق االعتدال والوسط ّية يف االعتقاد‪ ،‬كام ّأن قرب‬ ‫يح ّقق التوازن واالستقرار عىل املستوى الس ّي ّ‬
‫السالجقة كان له كبري أثر عىل حياته وفكره الس ّيايس ونظرته ألصول الحكم‪ ،‬والس ّيام‬ ‫الغزايل من وزراء دولة ّ‬
‫ّأن الظروف االجتامع ّية والس ّياس ّية وقتئذ كانت متو ّترة بشدّة‪ ،‬نظراً لتفاقم مشكلة الخالفة واإلمامة وانقسام‬
‫لكل واحدة منها مذهب تشيعه‪ ،‬وفكر تؤيده‪ ،‬وحكم تنارصه‪ ،‬كام ظهرت فرق فقه ّية‬ ‫اإلسالمي إىل جزر ّ‬
‫ّ‬ ‫العامل‬
‫السجال الكالمي‬ ‫ومتك ّلمة ّ‬
‫لكل منها وجهة نظرها‪ ،‬الفكر ّية‪-‬الس ّياس ّية‪ ،‬يف األمر‪ .‬وقد انخرط كثري من الفقهاء يف ّ‬
‫الدّائر عندئذ ث ّلة من املف ّكرين والفقهاء وعىل رأسهم اإلمام الغزايل‪ ،‬الذي استثمر يف ذلك معرفته ال ّواسعة‬
‫لجوقي‪ ،‬ومدافعاً عن الخالفة‬ ‫ّ‬ ‫يف علم األصول‪ ،‬والفقه‪ ،‬وأمور الرشع‪ ،‬والس ّياسة‪ .‬منارصاً يف موقفه الحكم ّ‬
‫الس‬
‫ّاريخي الذي أفرزته املرجع ّية‬
‫الع ّباس ّية ورشع ّيتها‪ .‬وحتّى نظرة الغزايل الس ّياس ّية مل تكن بعيدة عن هذا املناخ الت ّ‬

‫‪ -9‬طائفة شيعية باطنية إسماعيلية نزارية‪ ،‬أسسها الحسن بن الصباح‪ ،‬الذي اتخذ من القالع الحصينة في قمم الجبال مركزا لنشر دعوته وترسيخ أركان‬
‫دولته‪ ،‬وخاصة قلعة الموت في بالد فارس وأخرى في بالد الشام‪ .‬وكانت هذه الفرقة تقوم باغتياالت عنيفة وواسعة النطاق ينفذها فدائيوها‪ ،‬مما زرع‬
‫الرعب في قلوب الناس والحكام واألمراء المعادين لها مثل السالجقة والخوارزميين والزنكيين واأليوبيين‪ ،‬وقد اغتالوا شخصيّات سيّاسيّة منها نظام‬
‫ال المغول بزعامة هوالكو عام ‪1256‬م‪.‬‬ ‫الملك الوزير السلجوقي‪ ،‬والخليفة العباسي المسترشد‪ .‬ولم يقض على هذه الطائفة إ ّ‬
‫‪12‬‬

‫التّي ينطلق منها مفكري «الس ّياسة الرشعية»‪ .‬فكون الغزايل قريبا من بالط الع ّباسيني جعله ير ّد ّ‬
‫بكل ما أويت‬
‫الشيعة ال ّباطن ّية‪ ،‬منطلقاً من مرجع ّية سن ّية أشعر ّية‪ّ ،‬‬
‫غي‬ ‫من قدرة فكر ّية عىل خصوم خالفتهم ويف مقدّمتهم ّ‬
‫ولعل هذا ما يستبني أمره من تنازله عن بعض رشوط اإلمامة‪،‬‬ ‫ّأن ال ّرجل «بـحكم الوقت» سيعدّل من مواقفه‪ّ ،‬‬
‫رغم تأكيده عىل وجوب نصب اإلمام‪ ،‬وهذا ما سيضح ذلك يف املحور الثالث‪ ،‬وقبله سننرصف ‪ -‬هنا ‪ -‬للحديث‬
‫عن رضورية اإلمامة‪.‬‬

‫‪ :3-3-1‬اإلمامة وفق عقيدة أهل السنة والجامعة من الصحابة والخلفاء الراشدين‬

‫يرى الغزايل «أن للناس يف الصحابة والخلفاء إرساف يف أطراف؛ فمن مبالغ يف الثناء حتى يدعي العصمة‬
‫لألمئة‪ ،‬ومنهم متهجم عىل الطعن بطلق اللسان بذم الصحابة‪ .‬فال تكنن من الفريقني واسلك طريق االقتصاد‬
‫النبي لهم‬
‫ويرصح كذلك أن القرآن يثني عىل املهاجرين واألنصار‪ ،‬وتواترت األخبار بتزكية ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪10‬‬
‫يف االعتقاد»‪.‬‬
‫بألفاظ مختلفة‪ .‬وهذا أمر ينبغي االعتقاد به يف حقهم‪ ،‬كام ينبغي حسن الظن بهم من دون تعصب وال سوء‬
‫تأويل‪ ،‬فأغلب التأويالت تجانب العقل والصواب‪ ،‬فقد زورت الكثري من األخبار واألحداث واألشخاص يف تاريخ‬
‫اإلسالم‪ .‬ويدعو الغزايل إىل عدم إساءة الظن إىل معاوية يف قتاله مع عيل ومسري عائشة إىل البرصة‪ ،‬التي ينبغي‬
‫أن يرجح الظن يف كونها كانت تطلب تطفئة الفتنة‪ ،‬غري ّأن األمر خرج عن السيطرة؛ ذلك أن أواخر األمور ال‬
‫تبقى عىل وفق طلب أوائلها‪ ،‬بل تنسل عن الضبط بتعبري صاحب «االقتصاد يف االعتقاد»‪ ،‬والذي يتبني أنه‬
‫يفكر بشكل واقعي واع منسبا األحكام ومتجنبا إصدار أحكام قيمة عن األشخاص‪ ،‬وخاصة الصحابة‪ ،‬إذا يجد‬
‫تسويغات لألحداث التاريخية السياسية تتفادى سوء الظن‪ ،‬ولعل هذا ما يتضح يف الظن مبعاوية عىل أنه كان‬
‫عىل تأويل وظن فيام كان يتعاطاه‪ .‬ودعوته إىل عدم تصديق كل ما يحىك من روايات أحادية الجانب (وبلغة‬
‫الفينومينولوجيني ينبغي وضع األحداث بني قوسني وتعليق األحكام مادام ليس فيها قول جازم وخرب مؤكد)؛‬
‫ألنه غالبا ما يختلط فيها الصحيح بالباطل‪ ،‬والتي يعود أكرث االختالف فيها إىل اخرتاعات الروافض والخوارج‬
‫وأرباب الفضول حسب الغزايل‪ .‬لهذا يجب إنكار كل ما مل يثبت‪ ،‬وما ثبت يستنبط له تأويال‪ ،‬وما تعذر تأويله‬
‫فاألحسن القول بإمكانية وجود تأويل له وأن املرء تعذر عليه االطالع عليه‪ .‬فالسكوت عن يشء أفضل من‬
‫الطعن يف شخص أو اغتيابه‪ ،‬بالتايل لزم حسن الظن بكافة املسلمني وإطالق اللسان بالثناء عىل جميع السلف‬
‫الصالح وهذا حكم الصحابة‪ .‬أ ّما عن الخلفاء الراشدين‪ ،‬فريى الغزايل أنهم أفضل من غريهم وترتيبهم عند أهل‬
‫السنة كرتتيبهم يف اإلمامة‪ ،‬وال يعني بهذا أن محل أحدهم أفضل من اآلخر عند الله فهذا‪ ،‬عنده‪ ،‬من الغيبيات‬
‫التي يختص بها الله ورسوله إن أطلعه الله عليها‪ ،‬لهذا ينبغي الثناء عليهم‪ .‬وال مجال الستنباط الرتجيحات‬
‫يف الفضل من دقائق ثناء النبي عليهم‪ ،‬ألن «يعرف الفضل عند الله تعاىل باألعامل مشكل أيضا وغايته رجم‬
‫ظن‪ ،‬فكم من شخص متحرم الظاهر‪ ،‬وهو عند الله مبكان ليس يف قلبه وخلق خفي يف باطنه‪ ،‬وكم من مزين‬

‫‪ -10‬أبو حامد‪ ،‬الغزالي‪ ،‬االقتصاد في االعتقاد‪ ،‬ص‪510.‬‬


‫‪13‬‬

‫بالعبادات الظاهرة‪ ،‬وهو يف سخط الله لخبث مستكن يف باطنه فال مطلع عىل الرسائر إال الله»‪ 11.‬ولكن إذا‬
‫ثبت أن معرفة فضله تتم بالوحي حرصا‪ ،‬والذي يعرف من النبي بالسامع‪ ،‬وأوىل الناس يف السامع عن النبي هم‬
‫أصحابه املالزمني ألحواله‪ .‬فإن تفاوت فضل الصحابة يعودوا إىل إجامعهم عىل تقديم أيب بكر‪ ،‬ثم عمر وبعده‬
‫أجمعوا عىل عثامن وأخريا عىل عيل بن أيب طالب‪ .‬فال تظن خيانتهم يف دين الله لغرض ما‪ ،‬وإجامعهم هو خري‬
‫ما يستدل به عىل مراتبهم يف الفضل‪ ،‬ومن هذا املنطلق اعتقد أهل السنة بهذا الرتتيب يف الفضل مستندين‬
‫إىل الصحابة وأهل اإلجامع‪ ،‬وهذه أحكام اإلمامة التي اقترص عليها الغزايل‪.‬‬

‫‪ -2‬اإلمامة مسألة رضورية للدين والدنيا‬

‫‪ :1-2‬وجوب نصب اإلمام‬

‫لعل النّاظر املتأمل يف املتون الفكر ّية للغزايل يعرث ال محالة عىل ما ّ‬
‫يدل عىل أ ّنه كان صاحب رؤية س ّياس ّية‬ ‫ّ‬
‫وحسبي شاهد عىل ذلك ما‬ ‫ّ‬ ‫يف بعض ما يكتبه‪ ،‬أو لنقل إ ّنه ف ّكر يف الس ّياسة من حيث يدري أو ال يدري‪.‬‬
‫نلفيه يف كتابه «االقتصاد يف االعتقاد» من حديث حول اإلمامة‪ ،‬التي حسبها رضور ّية لنظام الدّين والدّنيا‪،‬‬
‫وهي – عنده ‪ -‬من أرشف الصناعات وأفضل العبادات عنده رشط ا ّتصافها بالعدل واإلخالص‪ .‬بالتايل فث ّمة‬
‫حاجة رضورية إىل تنصيب إمام ُمطاع‪ ،‬ي ّربر ذلك بكون «نظام الدّنيا واألمن عىل األنفس واألموال ال ينتظم إ ّال‬
‫وإن ذلك لو دام ومل يتدارك بنصب‬ ‫السالطني واألمئة‪ّ ،‬‬‫بسلطان مطاع‪ ،‬فتشهد له مشاهدة أوقات الفنت مبوت ّ‬
‫كل غلب‬ ‫سلطان آخر مطاع دام الهرج وعم السيف وشمل القحط وهلكت املوايش وبطلت الصناعات‪ ،‬وكان ّ‬
‫السيوف؛ لهذا قيل‪ :‬الدّين‬ ‫سلب ومل يتفرغ أحد للعبادة والعلم إن بقي ح ًّيا‪ ،‬واألكرثون يهلكون تحت ظالل ّ‬
‫أس له فمهدوم‪ ،‬وما ال حارس له فضائع‪،‬‬ ‫والسلطان حارس‪ ،‬وما ال ّ‬‫أس‪ّ ،‬‬ ‫والسلطان توأمان؛ ولهذا قيل‪ :‬الدّين ّ‬ ‫ّ‬
‫وعىل الجملة ال يتامرى العاقل يف ّأن الخلق عىل اختالف طبقاتهم‪ ،‬وما هم عليه من تشتّت األهواء وتباين‬
‫اآلراء‪ ،‬لو خلوا ورا َءهم‪ ،‬ومل يكن رأي مطاع يجمع شتاتهم‪ ،‬لهلكوا من عند آخرهم‪ ،‬وهذا ال عالج له إ ّال‬
‫السلطان رضوري يف نظام الدّنيا‪ ،‬ونظام الدّنيا رضوري يف‬ ‫بسلطان قاهر مطاع‪ ،‬يجمع شتات اآلراء‪ ،‬فبان ّأن ّ‬
‫نظام الدّين‪ ،‬ونظام الدّين رضوري يف الفوز بسعادة اآلخرة‪ ،‬وهو مقصود األنب ّياء قطعاً‪ ،‬فكان وجوب نصب‬
‫اإلمام من رضوريات الرشع الذي ال سبيل إىل تركها»‪ 12.‬وهذا بيان يحسم فيه الغزايل برضورة ق ّيام اإلمامة‪،‬‬
‫طاملا ّأن يف وجودها خري كثري يضيع عند بطالنها‪ ،‬والسيام أن لهذا البطالن عواقب سلب ّية وخيمة عىل حياة‬
‫والخاصة‪ .‬فاإلمام‪ ،‬وإن ُع ّد عند الغزايل من رضورات الرشع‪ ،‬هو باألساس «سلطان قاهر مطاع»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫النّاس العا ّمة‬
‫يستطيع أن يجمع الشتات‪ ،‬ويجنّب النّاس التدافع واالقتتال وما يؤدي إليه من نتائج دموية‪ ،‬كام أ ّنه يحارب‬
‫الفنت‪ ،‬ويضمن األمن ويحمي الدّين ويرعى العلم‪ .‬هنا نفهم ّأن اإلمامة عند الغزايل ليست قض ّية دين ّية كام قد‬

‫‪ -11‬أبو حامد‪ ،‬الغزالي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪512 ،513.‬‬


‫‪ -12‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬االقتصاد في االعتقاد‪ ،‬تحقيق مصطفى عبد الجواد عمران‪ ،‬ط‪( 1‬مصر‪ :‬دار البصائر‪ ،)2009 ،‬ص ص‪505 ،506‬‬
‫‪14‬‬

‫يبدو‪ ،‬بل مسألة رشع ّية‪ .‬لهذا ال غرابة يف أن نجده يجمع بني الرشع والقهر يف نفس اإلمام‪ ،‬الذي هو رضوري‬
‫لنظام الدّين والدّنيا معاً‪ ،‬لكونه هو ما سيتيح للرعايا التمتّع باألمن والخري يف الدّنيا‪ ،‬والفوز ّ‬
‫بالسعادة األخروية‬
‫عند طاعته‪ ،‬غري ّأن ما ينبغي التنبيه إليه هو ّأن صاحب «املنقذ من الضالل» مل يكن قصده جعل «الحاكم‬
‫الس ّيايس» شخصاً مقدّساًّ عىل النّحو الذي ك ّرسته نظرية «الحقّ اإللهي» يف الفكر الغريب املسيحي؛ ذلك ّأن‬
‫منطلقات ال ّرجل الرشع ّية؛ وغايته األخالق ّية (سعادة اآلخرة) مل تكن لتمنع عنه النّظر إىل «الس ّياسة» برؤية‬
‫واقع ّية يحاول من خالله تربير تعقيدات الفعل الس ّيايس بشكل ال يخرجه عن إطار الرشع االسالمي‪.‬‬

‫‪ :2-2‬اإلمامة بني الديني والسيايس يف فقه السياسة الرشعية‬

‫من يقرأ للاموردي «األحكام السلطان ّية والواليات الدّين ّية»‪ ،13‬أو «أدب الدّنيا والدّين»‪ 14‬و«تسهيل النظر‬
‫وتعجيل الظفر»‪ ،15‬أو يط ّلع عىل «غياث األمم يف التياث الظلم»‪ 16‬للجويني‪ ،‬أو «السياسة الرشعية إلصالح‬
‫ال ّراعي وال ّرعية»‪ 17‬البن تيمية‪ ،‬أو «الطرق الحكمية يف السياسة الرشعية»‪ 18‬البن القيم الجوز ّية أو عىل غريها‬
‫من تآليف فقهاء السياسة الرشعية يف اإلسالم سيكتشف ّأن نفس هذه الرؤية هي التي وسمت فكرهم وتحكم‬
‫أفقهم النّظري يف ذلك العهد‪ .‬وتتّضح هذه املرجع ّية التي حكمت العقل الفقهي عند الغزايل يف مواضع متفرقة‬
‫املهمت‪ ،‬وليس من املعقوالت فيها‬ ‫«إن النّظر يف اإلمامة ليس من ّ‬ ‫من كتاباته‪ ،‬ويف كثري من أقواله‪ ،‬ومنها قوله‪ّ :‬‬
‫للتعصبات واملعرض عن الخوض فيها أسلم من الخائض‪ ،‬بل وإن أصاب‪ ،‬فكيف‬ ‫ّ‬ ‫من الفقهيات‪ ،‬ثم أنها مثار‬
‫فإن القلوب عن املنهج‬ ‫إذا أخطأ‪ .‬ولكن‪ ،‬إذا جرى الرسم باختتام املعتقدات به أردنا أن نسلك املنهج املعتاد‪ّ ،‬‬
‫املخالف للأملوف شديدة النفار‪ 19».‬فهذا القول يربز ّأن اإلمامة عند الغزايل ليست شأن نظريّ من «املهامت»‪،‬‬
‫وإنا يعتربها شأناً فقهياًّ رشعياًّ مرتبط بالواقع الس ّيايس‪ ،‬رغم ّأن‬
‫وال هي أمر ميتافيزيقي من «املعقوالت»‪ّ ،‬‬
‫ولعل ما مي ّيز الغزايل‪ ،‬أيضاً‪ ،‬عىل فالسفة‬
‫السابقني عليه درجوا عىل تناول اإلمامة يف مجال العقيدة‪ّ .‬‬ ‫الفقهاء ّ‬
‫اإلسالم (كالفارايب وابن سينا وابن رشد‪ )...‬هو دعوته إىل عدم اختيار اإلمام مبواصفات الفكر الس ّيايس ال ّيوناين‪،‬‬
‫بل يذهب إىل ّأن وجوب نصب اإلمام ليس مأخوذ من العقل‪ ،‬بل من الرشع قطعاً‪ .‬ومفهوم الواجب‪ ،‬كحكمة‬
‫إله ّية عند األشاعرة‪ ،‬مرتبطة بإرادة الله العادلة‪ ،‬وليس وجوباً عقلياًّ كام ترى املعتزلة‪ .‬هنا نجد الغزايل يزعم‬
‫ّأن خوضه يف اإلمامة‪ ،‬مبا هي مسألة عقدية يف مظهرها وقض ّية س ّياس ّية يف الجوهر‪ ،‬اتباع ملنهج علامء الكالم‬

‫‪ -13‬أبو الحسن الماوردي‪ ،‬األحكام السلطانية والواليات الدينية‪( ،‬بيروت‪ :‬دار الكتب العلمية‪[ ،‬د‪.‬ت])‬
‫‪ -14‬أبو الحسن الماوردي‪ ،‬أدب الدنيا والدين‪( .‬بيروت‪ :‬دار الفكر‪.)2000 ،‬‬
‫‪ -15‬أبو الحسن الماوردي‪ ،‬تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخالق الملك وسياسة الملك‪ ،‬تحقيق رضوان السيد‪( ،‬بيروت‪ :‬المركز اإلسالمي للبحوث‪،‬‬
‫‪.)1987‬‬
‫‪ -16‬الجويني العالي عبد المالك‪ ،‬غياث األمم في التياث الظلم‪( ،‬بيروت‪ :‬دار الكتب العلمية‪.)2003 ،‬‬
‫‪ -17‬ابن تيمية تقي الدين أحمد‪ ،‬السياسة الشرعية في إصالح الراعي والراعية‪ ،‬ط‪( .4‬بيروت‪ :‬دار الكتب العلمية‪.)1993 ،‬‬
‫‪ -18‬ابن القيم الجوزية‪ ،‬الطرق الحكمية في السياسة الشرعية‪( .‬بيروت‪ :‬دار الكتب العلمية‪.)1995 ،‬‬
‫‪ -19‬الغزالي‪ ،‬االقتصاد في االعتقاد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪504‬‬
‫‪15‬‬

‫واقتفاء بأثر الفقهاء الذين يتناولون اإلمامة يف إطار العقائد‪ ،‬وسرياً عىل منوالهم املعتاد‪ ،‬لكون القلوب متيل‬
‫إىل املألوف من األمور وتنفر من املخالف‪ .‬هكذا‪ ،‬نجد ال ّرجل الفقيه املتك ّلم يتّسم بذكاء واقعي؛ ألنه يتّبع‬
‫وإنا تلك حيلة ذك ّية لتربير اإلمامة من زاوية معروفة لتسهيل‬ ‫ال ّرائج يف عرصه‪ ،‬ليس من أجل التّقليد فحسب‪ّ ،‬‬
‫مترير أفكاره للجمهور وجعل املعارضني له مطمئنني لها‪ .‬ويعترب الغزايل ّأن علامء الكالم قد نجحوا يف الدّفاع‬
‫عن الدّين والر ّد عىل الخصوم؛ أل ّنهم استخدموا نفس سالحهم املتم ّثل يف املنطق‪ ،‬الذي صارت قواعده معروفة‬
‫مم مي ّكن من اختصار الوقت‪ ،‬ولكنّهم فشلوا يف كونهم استعملوا قواعد املنطق‬ ‫عند الخصم ال تحتاج للتع ّلم‪ّ ،‬‬
‫األرسطي يف الدّين‪ ،‬وبالتحديد حاولوا تطبيقها عىل اإلله ّيات‪ ،‬األمر الذي أحدث حرية يف العقائد بدل ما‬ ‫ّ‬
‫األرسطي‬
‫ّ‬ ‫سيوظف املنطق‬ ‫الشع من يقني وتصديق‪ .‬غري ّأن الغريب يف األمر هو ّأن الغزايل نفسه ّ‬
‫‪20‬‬ ‫يستلزمه ّ‬
‫املتمثل يف الق ّياس‪ ،‬الذي حاول من خالله إثبات وجوب نصب اإلمام‪ ،‬حيث مل يعتمد الق ّياس الرشعي أو‬
‫الشع‪.‬‬ ‫الفقهي‪ ،‬بل لجأ إىل الق ّياس العقيل املنطقي‪ ،‬منطلقا من مقدمتني؛ األوىل‪ :‬نظام الدّين مقصود لصاحب ّ‬
‫أ ّما املقدمة الثانية‪ :‬ال يحصل أمر نظام الدّين إ ّال بإمام مطاع‪ ،‬ليصل إىل هذه النتيجة‪ :‬ال يحصل مقصود صاحب‬
‫الرشع إ ّال بإمام مطاع (وجوب نصب اإلمام)‪ .‬وقد ّ‬
‫قسم املقدّمة الثان ّية إىل اثنتني ر ّداًّ عىل املعرتضني‪ ،‬املقدمة‬
‫األوىل‪ :‬نظام الدّين ال يحصل إ ّال بنظام الدنيا‪ ،‬بينام املقدمة الثانية‪ :‬نظام الدّنيا ال يحصل إ ّال بإمام مطاع‪.‬‬
‫وبناء عليهام تكون النتيجة ّأن نظام الدّين ال يحصل إ ّال بإمام مطاع‪ .‬وقصد الر ّد عىل املعرتضني يف تضاد أمر‬
‫الدّنيا والدّين‪ ،‬لجأ إىل حيلة تحويل لفظ «الدّنيا» إىل لفظ مشرتك يقال مبعنيني؛ املعنى األول‪ :‬فضول التن ّعم‬
‫كل ما هو محتاج إليه قبل املوت‪ .‬وقد اعترب ّأن املعنى األ ّول‬ ‫والتل ّذذ والز ّيادة عىل الرضورة‪ .‬أما املعنى الثاين‪ّ :‬‬
‫ض ّد الدّين يف حني ّأن املعنى ال ّثاين رشط له‪ ،‬ثم ّبي العالقة بني نظام الدّين ونظام الدّنيا‪ :‬ذلك ّأن األ ّول يقوم‬
‫بصحة البدن‪ ،‬وبقاء الحياة‪ ،‬وسالمة قدر‬ ‫توصل إليه إال باالستناد إىل الثاين؛ املتع ّلق ّ‬
‫عىل املعرفة والعبادة وال ُي ّ‬
‫الحاجات من ال ِّكسوة واملسكن واألقوات واألمن‪ ،‬وبعدها عاد إىل املقدّمة ال ّثان ّية حتّى يربط بني نظام الدّنيا‬
‫الطاعة؛‬‫والحاجة إىل إمام مطاع‪21‬؛ مبعنى أ ّنه ال ميكن تحقيق أمن األنفس واألموال إ ّال بسلطان س ّيايس تقدّم له ّ‬
‫ولعل املس ّلمة ال ّثاوية يف فكر الغزايل هي‬
‫الصناعات‪ّ .‬‬ ‫سيعم القتل والقحط وهالك املوايش وبطالن ّ‬ ‫ّ‬ ‫إذ يف غ ّيابه‬
‫ايس‬
‫والظلم من طباع النّفوس البرش ّية‪ ،‬وهذا يذكرنا باألطروحة التي سيبلورها يف الفكر الس ّي ّ‬ ‫اعتباره ّأن التّغ ّلب ّ‬
‫الحديث أحد فالسفة العقد االجتامعي‪ ،‬وهو الفيلسوف اإلنجليزي توماس هوبز‪ ،‬الذي يذهب إىل ّأن «اإلنسان‬
‫ذئب لإلنسان» ما يعني ّأن هذا الكائن رشير بالطبع‪ .‬ومن أجل ردع هذا النزوع العدواين ّ‬
‫املتأصل يف اإلنسان‪،‬‬
‫والسلطة توأمني‪.‬‬ ‫ال ب ّد من حاكم مستبد‪ ،‬وعىل هذا األساس نجد الغزايل يجعل الدّين ّ‬

‫‪ -20‬يذكرنا هذا تماما بما يذهب إلى أبي الوليد بن رشد‪ ،‬حينما يدعو إلى الفصل بين الشريعة والحكمة منهجياًّ في الوسائل‪ ،‬ألن الدين مصدره الوحي‪،‬‬
‫الذي يتعامل معه باإليمان والتصديق‪ ،‬بينما الفلسفة تنتج بالعقل وتدرك به وتستخدم المنطق‪ ،‬دون أن يمنع ذلك من وحدة غايتهما التي هي معرفة الحق‪.‬‬
‫للتوسع أكثر أنظر كتاب «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال»‪( ،‬سلسلة التراث الفلسفي العربي)‪ ،‬مؤلفات ابن رشد‪ ،‬ط ‪( ،3‬بيروت‪:‬‬
‫مركز دراسات الوحدة العربية‪.)2002 ،‬‬
‫‪ -21‬الغزالي‪ ،‬االقتصاد في االعتقاد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص‪505 ،506‬‬
‫‪16‬‬

‫ومم ينبغي االلتفات إليه‪ ،‬يف هذا املعرض‪ّ ،‬أن الغزايل حينام يتحدّث عن وجوب نصب اإلمام‪ ،‬فهو ال‬ ‫ّ‬
‫يقصد إماماً متخ ّي ًال معصوماً كام ترى ال ّباطن ّية‪ّ ،‬‬
‫وإنا يقصد «سلطاناً» إنسانياًّ متغ ّلباًّ ومتح ّققاًّ عىل أرض ال ّواقع‬
‫الطاعة‪ .‬إ ّنه كان يقصد وقتئذ الخليفة العبايس املستظهر‬ ‫الس ّيايس‪ ،‬والذي ينبغي أن يسلم له ا ُمللك وتقدّم له ّ‬
‫مستحقاًّ للوالية‪ ،‬وجديراً بالحكم ملا يت ّوفر فيه من رشوط تفرضها اإلمامة‪ .‬وهذه من‬ ‫ِ‬ ‫بال ّله‪ ،‬الذي يعتربه إماماً‬
‫بني األمور التي يؤاخذ عليها فكر الس ّياسة عند الغزايل‪ ،‬وهي كونه يوايل هذا الخليفة ُ‬
‫والخلفاء الع ّباسيني عا ّمة‬
‫إىل درجة تربير سلطانهم وطغيانهم‪ ،‬وكأ ّنه يدافع عن دولة «استبداد ّية مطلقة»‪ ،‬ويربر ق ّيام «دولة الفقهاء»‪،22‬‬
‫بأن الس ّياسة غري الدّين‪ ،‬بل ّإن مواقفه تلك تصدر من باب‬ ‫غري ّأن هذا ال يعني ّأن ال ّرجل مل يكن عىل وعي ّ‬
‫الشع والدّين‪ ،‬وإن كان الكثريون ينظرون إليهام كاسمني لنفس املس ّمى‪.‬‬ ‫الرشع‪ ،‬وشتّان ما بني ّ‬

‫ولعل النّاظر يف كتب «الس ّياسة الرشع ّية» ‪ -‬املذكورة آنفا ‪ -‬يجد ّأن رشوط اإلمامة التّي وضعها ال ُفقهاء‬ ‫ّ‬
‫قد راعت جوانب عدّة تشمل ما هو ديني‪ ،‬وما هو خلقي‪ ،‬وما هو عقيل‪ ،‬وما هو علمي‪ ،‬وما هو عميل‪ .‬لهذا‬
‫يعدو الفصل بني شؤون الد ّين وس ّياسة الدّنيا أمراً صعباً‪ْ ،‬إن مل نقل مستحي ًال يف اإلمامة‪ ،‬التي تشمل الجانبني‬
‫ّيني والدّنيوي) يف الوقت نفسه عند الكثري من الفقهاء كالشهرستاين‪ .‬ويوافقه اإلمام ال ّرازي ال ّذي يعترب‬ ‫(الد ّ‬
‫والسالم‪ ،‬وأيضاً املّاوردي الذي يحدّها بأ ّنها‬
‫الصالة ّ‬
‫للنبي عليه ّ‬
‫اإلمامة ر ّياسة عا ّمة يف أمر الدّين والدّنيا خالفة ّ‬
‫فإن الغزايل من جانبه يؤكد عىل‬ ‫موضوعة لخالفة النّبي يف ح ّراسة الدّين وس ّياسة الدّنيا‪ .‬وملا كان األمر كذلك‪ّ ،‬‬
‫وإنا ال ب ّد لها من خاصيتني‬ ‫وجوب ق ّيام االمامة قائ ًال إ ّنها ال تقوم عىل التش ّهي واملزاج وعشوائية االختيار‪ّ ،‬‬
‫رئيستني؛ الخاص ّية األوىل يف نفس اإلمام‪ :‬األهل ّية يف تدبري شؤون النّاس وحملهم عىل مراشدهم؛ وذلك بالعلم‬
‫نص عليه حديث‪« :‬األمئة من قريش»‪ ،23‬يف حني ّأن‬ ‫والكفاية والورع (خصائص القضاة) ونسب قريش‪ ،‬ال ّذي ّ‬
‫يول‬‫الخاص ّية ال ّثانية من جهة الغري‪ :‬التّفويض والتّولية لإلمام‪ .‬وبناء عىل ذلك‪ ،‬ينبغي تدقيق النّظر يف صفة من ّ‬
‫ألن اإلمامة ال متنح أليّ كان‪ ،‬بل ال ب ّد يف اإلمام من خاص ّية أساس ّية تصدر من أمور ثالثة‪ ،‬قد تكون إ ّما‬ ‫إماماً؛ ّ‬
‫يعي لوالية العهد شخصاً من أوالده أو سائر قريش‪ ،‬أو‬ ‫التّنصيص من جهة النّبي أو من جهة إمام العرص بأن ّ‬
‫التّفويض باإلمامة لرجل ذي شوكة‪ ،‬يقتيض انق ّياده وتفويضه متابعة اآلخرين له ومبادرتهم إىل املبايعة‪ ،‬طاملا‬
‫‪24‬‬
‫السلطان‪.‬‬
‫ألن املقصود هو جمع شتات اآلراء لشخص مطاع هو اإلمام أو ّ‬ ‫ّأن يف تفويضه كفاية عن غريه؛ ّ‬
‫تتجل واقع ّية الغزايل ونباهة فكره الس ّيايس؛ أل ّنه يف ّكر من منطلق ّأن وجود اإلمام «املستبد العادل»‬ ‫وهنا ّ‬
‫خري من غ ّيابه اإلمام أص ًال‪ ،‬ملا يف وجوده من فوائد؛ منها حاجة النّاس إىل رادع إذا أردنا أن تستقيم األمور يف‬
‫ميدان السياسة‪ ،‬بل ّإن ال ّرجل بدأ يف ّكر مبنطق ال ّبدائل‪ ،‬حيث يقول‪« :‬وقد ال يتّفق ذلك لشخص واحد‪ ،‬بل‬
‫الطاعة‪ ،‬بل أقول‪:‬‬‫تتم ّ‬‫لشخصني أو ثالثة أو جامعة؛ فال ب ّد من اجتامعهم وبيعتهم واتفاقهم عىل التّفويض حتّى ّ‬
‫لو مل يكن بعد وفاة اإلمام القريش واحد مطاع متّبع فنهض باإلمامة وتو ّالها بنفسه ونشأ بشوكته وتشاغل بها‬
‫وبخاصة فقهاء السيّاسة الشرعيّة‬
‫ّ‬ ‫‪ -22‬للوقوف عند التداخالت الحاصلة بين الدّيني (الشرعي) والسيّاسي (الدّنيوي)‪ ،‬كما تناولها الفكر العربي اإلسالمي‪،‬‬
‫يمكن مراجعة كتاب‪ :‬نبيل فازيو‪ ،‬دولة الفقهاء‪ ،‬بحث في الفكر السياسي اإلسالمي‪( ،‬بيروت‪ :‬منتدى المعارف‪.)2015 ،‬‬
‫‪ -23‬حديث رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما‪ ،‬والترمذي واإلمام أحمد في مسنده‪.‬‬
‫‪ -24‬الغزالي‪ ،‬االقتصاد في االعتقاد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬صص‪507 ،506‬‬
‫‪17‬‬

‫واستتبع كا ّفة الخلق بشوكته وكفايته‪ ،‬ويف منازعته إثارة الفنت إ ّال ّأن من هذا حاله‪ ،‬فال يعجز أيضا عن أخذ‬
‫البيعة من أكابر الزّمان من أهل الحل والعقد؛ وذلك أبعد من الشبهة فلذلك ال يتفق مثل هذا يف العادة إ ّال‬
‫عن بيعة وتفويض‪ 25».‬واملستنتج من هذا ّأن اإلمامة من الرضورات التي من غري املمكن االستغناء عنها يف أيّ‬
‫مرص وعرص‪ .‬وبالتايل‪ ،‬يكون ق ّيام اإلمامة ووجود الدّولة هو األهم‪ ،‬وليس من يحكم أو أسلوب الحكم أو عدد‬
‫الذين يحكمون‪.‬‬

‫السلطان عند الفقهاء ورأي الغزايل منه‬


‫‪ :3-2‬الخروج عن ّ‬

‫إذا كان الغزايل يحسب اإلمامة مسألة رضور ّية ألمر الدّنيا والدّين‪ ،‬فهل ينبغي طاعة الحاكم السيايس دامئاً‬
‫أم ّمثة ما قد يقتيض مخالفته وخلعه؟ وهل يجوز الخروج عىل ّ‬
‫السلطان؟‬

‫قبل أن نشري إىل ر ّد الغزايل عن هذا السؤال‪ ،‬دعنا نذ ّكر بأن الخروج عىل اإلمام يع ّد بغياً عند أغلب فقهاء‬
‫الس ّياسة الرشع ّية‪ ،‬ويعرف البغي عندهم إجامالً بكونه «الخروج عن اإلمام الحقّ بغري وجه حق»‪ .‬ونجد ّأن‬
‫للغزايل رأيا يف هذا املوضوع؛ إذ يعترب ّأن صاحب ال ّرأي املطاع هو من يجمع شتات األ ّمة ومينع الحرب والقتال‪،‬‬
‫ويحرص عىل مصالح النّاس يف معاشهم ومعادهم‪ ،‬ويراجع العلامء ويأخذ بقولهم‪ ،‬لكنّه ال يتو ّفـر عىل رشوط‬
‫الشوط ك ّلها‬ ‫القضاء‪ ،‬هنا يقطع الغزايل بوجوب «خلعه إن قدر عىل أن يستبدل عنه من هو موصوف بجميع ّ‬
‫ألن ما يفوتنا‬ ‫من غري إثارة فتنة وتهييج قتال‪ ،‬وإن مل يكن ذلك إ ّال بتحريك قتال وجبت طاعته وحكم بإمامتها؛ ّ‬
‫من املصارفة بني كونه عاملاً بنفسه أو مستفتياًّ من غريه دون ما يفوتنا بتقليد غريه إذا افتقرنا إىل تهييج فتنة ال‬
‫وربا يؤدي ذلك إىل هالك النّفوس واألموال‪ ،‬وز ّيادة صفة العلم‪ّ ،‬إنا تراعى مز ّية وتتّمة املصالح‪،‬‬
‫ندري عاقبتها‪ّ .‬‬
‫فال يجوز أن يعطل أصل املصالح يف التّش ّوق إىل مزاياها وتكمالتها‪ ،‬وهذه مسائل فقه ّية فيلون املستبعد‬
‫مم يظنه‪ ،‬وقد استقصينا هذا املعنى‬ ‫ملخالفته املشهود عىل نفسه استبعاده ولينزل من غلوائه‪ ،‬فاألمر أهون ّ‬
‫ينم عن وعيه الس ّيايس‪،‬‬ ‫يف الكتاب امللقب باملستظهري املصنف يف الرد عىل الباطن ّية‪ 26».‬وهذا كالم من فقيه ّ‬
‫يتحسب الخسائر واألرباح‪ ،‬قبل إصدار األحكام والدّعوة إىل خلع اإلمام الذي ال يستويف الرشوط‪ ،‬وحتّى‬ ‫حيث ّ‬
‫إذا تع ّلق األمر بصفة العلم‪ .‬وقد انتبه إىل أ ّنه من شأن قائل أن يعرتض عىل هذا األمر‪ ،‬فنجد ال ّرجل قد أع ّد‬
‫فإن تسامحتم فيه بخصلة العلم لزمكم التّسامح بخصلة العدالة‬ ‫له جواباً ي ّربر به دعوته‪ ،‬إذ يقول‪« :‬فإن قيل ّ‬
‫الضورات تبيح املحظورات‪ 27».‬فمن‬ ‫وغري ذلك من الخصال‪ ،‬قلنا‪ :‬ليست هذه مسامحة عن االخت ّيار‪ ،‬ولكن ّ‬
‫الشوط الكاملة‪ ،‬وهو عاجز عن إيجاد من يستح ّقـها‪ ،‬فإ ّنه‬ ‫يقيض ببطالن اإلمامة لعدم تو ّفر اإلمام عىل ّ‬
‫والشتات صعب صدّه‪ ،‬حيث سيعزل ال ُقضاة وتبطل الواليات وال تعقد األنكحة وال‬ ‫بذلك قد فتح باباً للفتنة ّ‬
‫كل‬‫ترصفات الوالة يف جميع أقطاب الوالية‪ ،‬ولن يستطيعوا إدارة شؤون النّاس‪ .‬وبالتايل ستعطل بذلك ّ‬ ‫تنفذ ّ‬
‫‪ -25‬الغزالي‪ ،‬المرجع السّ ابق‪ ،‬ص ص‪.507 ،508‬‬
‫‪ -26‬الغزالي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪508‬‬
‫‪ -27‬الغزالي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪509‬‬
‫‪18‬‬

‫الضورات يف جميع األقطاب‪ .‬وغ ّياب تلك اإلدارة الس ّياس ّية‬ ‫التّرصفات املنوطة بالقضاة‪ ،‬تلك التّي تع ّد من ّ‬
‫سيفيض إىل إقدام الخلق عىل الحرام‪ ،‬وستكون نتيجة ذلك تعطيل املعايش ك ّلها‪ .‬لهذا يجب عىل العاقل‬
‫الضرين»‬ ‫ّ‬
‫«أخف ّ‬ ‫«اختيار البعيد عند وجود األبعد»‪ ،‬و«اختيار أهون الرشين»‪ ،‬أو بتعبري الفقهاء أنفسهم‬
‫السديد؛ أل ّنهم تع ّودوا عىل املألوف تع ّوداً شديداً ليس‬
‫أفضل‪ .‬أ ّما ِضعاف النّفوس‪ ،‬فصعب عليهم هذا الفهم ّ‬
‫من اليسري فطامهم عليه بتعبري الغزايل‪ .‬وعندما يستعمل ال ّرجل هذه القواعد الفقه ّية‪ ،‬فال يعني ّأن الدّين هو‬
‫الغاية‪ ،‬بل هو منطلق لتأسيس نوع من فقه ال ّواقع أو س ّياسة رشع ّية‪ ،‬ت ّربر األحداث الواقع ّية من منطلقات‬
‫السلطان وتقديم الوالء له‪ ،‬رغم عدم تو ّفره عىل الرشوط‬ ‫مس ّلم بها من لدن العا ّمة‪ ،‬التي ليس لها سوى بيعة ّ‬
‫السء خري من ال ّالحكم‪ .‬والواقع ّأن يف فكر الغزايل‬ ‫مم يجعل الحكم ّ‬ ‫جميعها طاملا أ ّنه ليس هناك بديل أفضل‪ّ ،‬‬
‫السلطان يف‬ ‫تتجسد يف جوازه إمكان ّية الخروج عن ّ‬ ‫«ثورة» عىل ما درج عليه معظم فقهاء اإلسالم إىل ال ّيوم‪ّ ،‬‬
‫حالة وجود من هو أفضل منه وأكمل رشوطاً وأوصافاً أو أكرث شوكة وتغ ّلباًّ رشط أ ّال يكون يف ذلك رضر كبري‬
‫السلطة‬‫والخاصة‪ ،‬حيث تستمر اإلمامة مع هذا السلطان املتغ ّلب‪ ،‬مام يفيد أن وجود ّ‬ ‫ّ‬ ‫عىل حياة النّاس العا ّمة‬
‫السيايس هو األهم ال من يتو ّالها‪ .‬ويف ذات الس ّياق‪ ،‬يستحرض الغزايل ما تدّعيه بعض اإلمام ّية‬ ‫واستمرار الحكم ّ‬
‫ينص النبي والخليفة لقطع دابر االختالف‪ .‬فري ّد عليهم بأنه لو كان‬ ‫يف قولهم إ ّنه من الواجب نصب اإلمام كام ّ‬
‫لنص عليه الرسول عليه السالم‪ ،‬أو الخلفاء الراشدين الذين متت إمامتهم بالتفويض‪ .‬وبهذا ينتهي إىل أنه‬ ‫واجباً ّ‬
‫بالبيعة وبالتفويض وباإلجامع يقطع دابر االختالف‪ .‬وبالتايل‪ ،‬ينترص إىل ّأن التأسيس للدولة أمر سيايس ال شأن‬
‫ديني كام يحاول الكثريون الرتويج له‪ .‬وهذا التأكيد ال نلفيه فقط يف كتاب «االقتصاد يف االعتقاد»‪ ،‬بل نجد‬
‫بني ثنايا املؤلفات األخرى التي يتناول فيها الغزايل موضوعات السياسة مثل «إحياء علوم الدّين»‪ ،‬الذي هو‬
‫كتاب يف التص ّوف باألساس‪ ،‬لكن ال يعدم أن نعرث يف مواطن متفرقة منه عىل قضايا متعلقة باإلمامة‪ ،‬وتنظيم‬
‫الحسبة‪ ،‬واملوارد املال ّية واملظامل‪ ،‬وغريها من املسائل التي تدور يف فلك الس ّياسة الرشع ّية‪ .‬وأيضاً كتاب « ّ‬
‫رس‬
‫العاملني وكشف ما يف الدارين»‪ ،‬الذي يربز فيه كيف ّية الوصول إىل الحكم وتك ّون العصب ّية املساندة‪ ،‬وس ّياسة‪،‬‬
‫امللك وترتيب الخالفة والوالة‪ .‬ورغم ّأن هذا الكتاب األخري الصغري قد تناول مسائل كثرية يف ميدان الس ّياسة‪،‬‬
‫إ ّال أ ّنه مل ُينتبه إليه كام هو شأن بق ّية كتب الغزايل املعلومة يف الفقه الس ّيايس؛ ومنها كتاب «الترب املسبوك يف‬
‫السلجوقي‪ ،‬ويتناول أصول العدل واإلنصاف‬ ‫السلطان محمد بن مالك ّ‬ ‫موجه إىل ّ‬
‫نصيحة امللوك»‪ ،‬وهو خطاب ّ‬
‫للسلطان شملت حتّى أدق‬ ‫قسمها إىل عرشة‪ ،‬ويشري فيه إىل مسؤول ّية الحاكم تجاه ال ّرع ّية‪ ،‬ويقدم نصائح ّ‬ ‫التي ّ‬
‫تفاصيل الحياة من مأكل ومرشب وملبس ونوم‪ ،‬وكتاب «فضائح الباطن ّية وفضائل املستظهرية»‪ ،‬الذي يس ّمى‬
‫خاصة‬‫كذلك «املستظهري»‪ ،‬وقد حاول فيه الغزايل تعر ّية الفرقة الشيع ّية ال ّباطن ّية وكشف زيف عقائدها‪ّ ،‬‬
‫موقفها من اإلمامة والعصمة والتأويل‪ .‬ويتناول فيه أيضاً أهم ّية اإلمامة ورشوط اإلمام وما يتّصل بذلك من‬
‫مسائل‪ 28‬تدبري «الشأن العام» يف عالقتها بالرشع اإلسالمي‪.‬‬

‫‪ -28‬عويس عبد الحليم‪ ،‬كساب وليد عبد الحميد‪ ،‬الفكر السياسي بين ابن حزم وأبي حامد الغزالي‪ ،‬ط‪( 1‬القاهرة‪ :‬دار الكلمة للنشر والتوزيع‪،)2010 ،‬‬
‫ص ص‪96 ،97‬‬
‫‪19‬‬

‫‪ -3‬رشوط اإلمامة عند الغزايل بني الرشع والواقع السيايس‬

‫‪ :1-3‬الرشوط الفطرية الواجب توفرها يف اإلمام‬

‫ست منها خلقية واألربع املتبق ّية‬ ‫بعدما حسم يف وجوب نصب اإلمام‪ ،‬اشرتط ت ّوفره عىل عرش صفات‪ّ ،‬‬
‫مكتسبة‪ .‬أما الصفات الخلقية‪ ،‬فقد شدد يف حضورها بالرضورة؛ وأولها البلوغ‪ ،‬حيث ال تنعقد اإلمامة لصبي مل‬
‫ألن التكليف مالك األمر وعصامه‪ ،‬وثالثها الحر ّية‪ ،‬أل ّنه‬‫يبلغ‪ ،‬وثانيها العقل‪ ،‬إذ ال تنعقد اإلمامة ملجنون؛ وذلك ّ‬
‫ال تصح إمامة ال ّرقيق‪ ،‬حيث إ ّنه كاملفقود‪ ،‬أل ّنه مملوك؛ فاإلمامة تستدعي استغراق األوقات يف شؤون الناس‪،‬‬
‫ورابعها الذكورية‪ ،‬حيث ال تعقد اإلمامة المرأة‪ ،‬وإن ا ّتصفت بالكامل واالستقالل‪ ،‬فال تصلح املرأة حسب‬
‫الغزايل يف القضاء بله أن تصلح لإلمامة‪ ،‬وخامسها نسب قريش‪ ،‬فاإلمام يلزمه أن يكون منتسباً إىل األصل‬
‫السابقني لعرصه توقفوا عند نسب قريش‬ ‫القريش استنادا إىل حديث «األمئة من قريش»‪ .‬ويعترب الغزايل ّأن ّ‬
‫وأجمعوا عليه‪ .‬لهذا مل تطلب اإلمامة من أحد غري القرشيني‪ ،‬وقد ُكث نقاش هذا الرشط إىل درجة الخالف‪ ،‬غري‬
‫ّأن ّمثة أمرا شبه مجمع عليها يف املسألة‪ ،‬يتو ّقف عىل النّسب القرييش يف حال بقاء قريش وقيامها بأمر الله‪.‬‬
‫ومنهم من اعترب هذا النّسب رشط كامل ال رشط ِص ّحة كام سنجد عند الغزايل‪ 29.‬الذي أصبح يدرك ّأن الس ّياسة‬
‫هي فنّ املمكنات‪ ،‬وليس مجاال لالعتقادات واليقين ّيات‪ ،‬وسادس هذه الصفات هي سالمة الح ّواس‪ ،‬حيث‬
‫السمع وال ّبرص؛ ذلك ّأن األعمى واألصم ال يقدر عىل‬ ‫يفضل أن تكون حواس اإلمام سليمة‪ ،‬ويؤك ّد عىل حاستي ّ‬ ‫ّ‬
‫تدبري نفسه‪ ،‬فكيف بشؤون غريه‪ .‬يف حني ّأن باقي األعضاء تغاىض عنها الغزايل مادامت ال تحول دون الق ّيام‬
‫كل الرشوط السالفة يزعم الغزايل ّأن رشط النّسب‬ ‫تول صاحبها مهمة اإلمامة‪ .‬ومن ّ‬ ‫بأساس ّيات الحكم يف حالة ّ‬
‫املاسة‬
‫فإنا أخذ من الحاجة والرضورة ّ‬ ‫الشوط‪ّ ،‬‬‫القرييش وحده هو ما ورد فيه نص الحديث‪« ،‬أ ّما ما عداه من ّ‬
‫فإن هذه‬ ‫يف مقصود اإلمامة إليها فكام اشرتطنا‪ :‬العقل‪ ،‬والحرية وسالمة الح ّواس‪ ،‬والهداية والنّجدة‪ ،‬والورع‪ّ ،‬‬
‫مم ال بد منه يف اإلمامة‬ ‫األمور لو قدر عدمها مل ينتظم أمر اإلمامة بحال من األحوال‪ .‬وليست رتبة االجتهاد ّ‬
‫رضورة‪ ،‬بل الورع الدّاعي إىل مراجعة أهل العلم فيه كاف‪ 30».‬وتنازل ال ّرجل هنا عن بعض الرشوط ليس مردّه‬
‫إىل تناقض يف فكره كام قد يفهم‪ ،‬وإمنا لوعيه الحاد بواقعه االجتامعي والس ّيايس‪.‬‬

‫‪ :2-3‬رشوط اإلمامة التي تحصل بالدربة واالكتساب‬

‫باالستناد إىل مؤلفاته‪ ،‬نجد أن الغزايل يحرص رشوط اإلمام التي ينبغي له اكتسابها بالدربة يف صفات‬
‫أربع‪ :‬أولها النَّجدة‪ ،‬التي يقصد بها ظهور الشوكة‪ ،‬وموفور العدة‪ ،‬واالستظهار بالجنود‪ ،‬وعقد األلوية والبنود‪،‬‬
‫واالستمكان بتضافر األشياع واألتباع من قمع البغاة والطغاة‪ ،‬ومجاهدة الكفرة وغريها‪ ،‬ولكن املالحظ أن‬

‫‪ -29‬الغزالي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪509‬‬


‫‪ -30‬أبو حامد‪ ،‬الغزالي‪ ،‬فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية‪ ،‬حققه وقدم له عبد الرحمن بدوي‪( ،‬الكويت‪ :‬مؤسسة دار الكتب الثقافية‪ ،‬د‪.‬ت‪،).‬‬
‫ص‪191‬‬
‫‪20‬‬

‫الغزايل ‪ -‬بحكم واقعه التاريخي ‪ -‬تسامح يف استكاملها يف ذات اإلمام‪ ،‬بل قد يكتفي بتوافرها يف من يتقدم‬
‫لتنفيذ كلمته باسمه‪ 31.‬يف حني ّأن ثاين تلك الصفات هي الكفاية‪ ،‬ومغزاها التهدّي لحق املصالح يف معضالت‬
‫والش‪ ،‬وتتط ّلب الكفاية الفكر‬ ‫واالطالع عىل املقتصد عند تعارض الرشور‪ ،‬كالعقل يف التمييز بني الخري ّ‬ ‫األمور‪ّ ،‬‬
‫والتد ّبر (الفطنة والذكاء) ومشاورة ذوي البصائر‪ ،‬تلك املشاورة التي أمر الله بها نبيه؛ إذ قال‪َ « :‬و َشا ِو ْرهُ ْم ِف‬
‫ْالَ ْمر‪ 32».‬ومادام القدر ال ّالزم من الصفات متوفرة يف اإلمام‪ ،‬فال ضري يف حكمه إن كان ذو شوكة وقادر عىل‬
‫فرض األمن وحامية مصالح النّاس الدّين ّية والدّنيو ّية‪ .‬هنا يتبني ّأن الغزايل يتسامح مع عدم وجود هذه الصفات‬
‫مكتملة يف اإلمام‪ ،‬حيث جعل كفاية اإلمام تتضمن كذلك كفاية الوزير‪ 33.‬هذا ما حصل متاما بزعم الغزايل‬
‫حينام ّمتت بيعة الخليفة املستظهر بال ّله الذي جمع بني أمور الدّين وس ّياسة الدّنيا‪ ،‬وثالث صفة هي الورع‬
‫أو العدالة‪ ،‬وهذه أع ّز الصفات‪ ،‬وأجلها‪ ،‬وأوالها بال ّرعاية‪ ،‬وهو األساس واألصل الذي عليه مدار األمر كله‪ .‬إ ّنه‬
‫العدل واجتناب الظلم يف طريف العطاء واألخذ‪34‬؛ وهو وصف ذايت ال ميكن استعارته‪ ،‬وال الوصول إىل تحصيله‬
‫من جهة الغري‪ ،‬وآخر تلك الصفات هو العلم‪ ،‬الذي هو رشط يجب توفره يف اإلمام‪ .‬ويذهب الغزايل إىل ّأن‬
‫إنكار صفة العلم واالجتهاد يع ّد خر ًقا لإلجامع؛ وذلك سرياً عىل خطى أستاذه الجويني‪ ،‬الذي يعترب‪ ،‬هو اآلخر‪،‬‬
‫أن من رشائط اإلمام املتّفق حولها أن يكون من أهل االجتهاد‪ ،‬حيث ال يحتاج إىل استفتاء غريه يف الحوادث‪،‬‬
‫غري ّأن الغزايل يف اآلن ذاته تسامح يف هذه الخصلة‪ ،‬عىل اعتبار ّأن ما عدا رشط النّسب الذي ثبت بالنّص‪ ،‬فإن‬
‫باقي الرشوط أخذت من الرضورة والحاجة املاسة يف مقصود اإلمامة إليها؛ عىل أساس أن رتبة االجتهاد ليست‬
‫مم ال ب ّد منه يف اإلمامة رضورة‪ ،‬بل الورع الداعي إىل مراجعة أهل العلم فيه كاف‪ 35.‬وقد احتدم الجدل بني‬ ‫ّ‬
‫السلطان الجاهل‪ ،‬فاتفقت املالك ّية والشافعية والحنابلة عىل عدم جواز ذلك‬ ‫املذاهب الفقهية حول تول ّية ّ‬
‫السلطان العامل املجتهد؛ ملا يستلزمه القضاء من علم‪ .‬أ ّما الغزايل‪ ،‬فقد خرق اإلجامع متنازال عن رشط‬ ‫حاملا وجد ّ‬
‫يخص اإلمام؛ ألنه ال دليل عىل وجوب رشعي لذلك‪ ،‬ولكن عىل هذا اإلمام إذا ما انعقدت له‬ ‫االجتهاد فيام ّ‬
‫اإلمامة أن يستند إىل أهل العلم واالجتهاد ويسعى إىل اكتسابه‪ ،‬وقد تبينت نجاعة هذا األمر يف بعض التجارب‬
‫السياسية يف تاريخ الدّولة يف اإلسالم‪.‬‬

‫بعد ذكره لهذه الرشوط العرشة‪ ،‬تسامح الغزايل يف بعضها قصداً‪ ،‬مالزماً مبدأ االحتياط الذي م ّيز فكره‬
‫ينم عن وعيه بواقعه الذي كان يعج بالتغريات والحروب والفنت‪ ،‬ولكن ذلك مل مينع من‬ ‫الس ّيايس‪ ،‬األمر الذي ّ‬
‫توظيف خلف ّيته الفقهية يف حديثه عن رشوط اإلمام ووظائفه‪ .‬هكذا نجد الغزايل يف الباب العارش من كتابه‬
‫«املستظهريّ »‪ 36‬يذكر الوظائف الدينية التي باملواظبة عليها يدوم استحقاق اإلمامة كشأن سيايس‪ ،‬والتي‬
‫‪ -31‬الغزالي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪184-182.‬‬
‫‪ -32‬القرآن الكريم‪ ،‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية‪159 :‬‬
‫‪ -33‬الغزالي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪187-185‬‬
‫‪ -34‬الغزالي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪191-188‬‬
‫‪ -35‬الغزالي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪194-191‬‬
‫‪ -36‬هو االسم الذي يعرف به كتاب الغزالي‪« :‬فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية»‪ ،‬الذي أهداه الغزالي للملك المستظهر باهلل السلجوقي‪.‬‬
‫‪21‬‬

‫السعادة القصوى‪ ،‬ومنها وظائف علم ّية معرف ّية وأخرى عمل ّية أخالق ّية‪ .‬والذي عند الغزايل‬‫تساعد عىل تحصيل ّ‬
‫ألن العلم هو األصل والعمل فرع له‪ 37.‬وملا كانت‬ ‫ّأن الوظائف العلم ّية ينبغي جعلها متقدّمة عىل غريها؛ ّ‬
‫العلوم كثرية فقد ر ّكز عىل أربعة أمور‪ ،‬هي أ ّمهات وأصول ميكن أن نصيغها مرتبة عىل النحو اآليت‪ :‬األمر األول‬
‫السفر‬ ‫أن يعرف الغاية من وجوده ومقصده من الحياة ومطلبه منها‪ ،‬وثانياًّ أن يدرك أنه مهام عرف ّأن زاد ّ‬
‫هو التّقوى‪ ،‬فعليه أن يعلم ّأن التّقوى محلها ومنبعها القلب‪ .‬أما ثالثاً‪ ،‬فأن يعلم ّأن معنى خالفة الله عىل‬
‫الخلق هو إصالح للخلق‪ ،‬ولن يقدر عىل صالح أهل الدّنيا من مل يصلح أهل بلده أهل منزله ونفسه أوالً‪،‬‬
‫ومن ال يقدر فينبغي أن يبدأ بإصالح القلب وس ّياسة نفسه حتى ال يقع يف الغرور‪ ،‬ورابعاً ‪ -‬وأخرياً ‪ -‬معرفته‬
‫ّأن اإلنسان مركب من صفات ملك ّية وأخرى بهيم ّية‪ ،‬فهو يف حريى بني األمرين؛ إذ يشبه امللك بالعلم والعبادة‬
‫والع ّفة والعدالة والصفات املحمودة ويشبه ال ّبهائم بالشهوة والغضب والصفات املذمومة‪ .‬بعدها نأيت إىل‬
‫الوظائف العمل ّية لإلمام‪ ،38‬والتي ّ‬
‫تتجل يف أمور كثرية‪ ،‬نذكر منها رضورة تحكيم النّفس يف القضايا التي يتو ّالها‬
‫ألن املؤمنني نفس واحدة‪ .‬وأن يكون وايل األمر متعطشاًّ‬ ‫اإلمام فام ال يرضاه لنفسه ال ينبغي أن يرضاه لغريه؛ ّ‬
‫إىل نصيحة العلامء ومتبجحا بها عند سامعها وشاكرا عليها‪ ،‬كام ال ينبغي أن يستحقر هذا الوايل انتظار أرباب‬
‫الحاجات ووقوفهم بالباب يف لحظة واحدة‪ ،‬فاالهتامم بأمر املسلمني أهم له من نوافل العبادات‪ ،‬وخري له‬
‫من اتباع الشهوات‪ .‬وعليه أن يرتك الرتفه والتل ّذذ بالشهوات يف املأكوالت وامللبوسات ويعلم ّأن العبادة تيرس‬
‫للوالة ما ال يتيرس آلحاد الرعايا‪ .‬وال ب ّد كذلك أن يكون الرفق يف جميع األمور أغلب من الغلظة‪ ،‬وأن يوصل‬
‫كل مستحق إىل حقه‪ ،‬وأن يكون أهم املقاصد عنده تحصيل مرضاة الخلق ومحبتهم بطريق يوافق الرشع‬
‫وال يخالفه‪ ،‬وأ ّال يعلم أن رضا الخلق ال يحسن تحصيله إال يف موافقة الرشع‪ ،‬وأن محبة الخلق ال تنال إال إذا‬
‫دعاهم إىل موافقة الرشع‪ ،‬وأن يعرف أن خطر اإلمامة عظيم كام أن فوائدها يف الدّنيا واآلخرة عظيمة‪ ،‬وألنها‬
‫إن رعيت عىل وجهها األكمل فهي سعادة‪ ،‬وإن مل تراع فهي شقاوة أكرب‪ .‬ويكمن هذا الخطر يف أن مييز بني‬
‫نفسه وبينه يف الرتفه باملباحات وأن يكون متعطشا إىل نصيحة علامء الدين متعظا مبواعظ الخلفاء الراشدين‬
‫ومتصفحاًّ يف مواعظ مشايخ الدّين لألمراء‪ .‬وأن تكون العادة الغالبة عليه العفو والحلم وحسن الخلق وكظم‬
‫الغيظ والعفو عند املقدرة‪.‬‬

‫السلطان الس ّيايس‪ ،‬والتي ينبغي أن تستجيب ملقتضيات‬ ‫تلك‪ ،‬إذن كانت أهم ّ‬
‫الشوط الواجب توفرها يف ّ‬
‫الرشع ولحاج ّيات العرص بشكل أكرث‪.‬‬

‫السلجوقي نظام امللك حسب ما‬‫السلطان ّ‬‫وعىل ال ّرغم من ّأن الغزايل كان يبدي استعداداً كبريا لخدمة ّ‬
‫يرصح به يف مقدمة كتابه «فضائح الباطن ّية»‪ ،‬فإ ّننا يف مؤلفه «إحياء علوم الدّين» نعرث عىل موقف له مخالف‬
‫ّ‬
‫السالطني والحكام الس ّياسيني وتجنّب مخالطتهم‪ ،‬بل أكرث من ذلك اعترب طاعتهم‬ ‫لأل ّول يدعو فيه إىل مقاطعة ّ‬

‫‪ -37‬الغزالي‪ ،‬فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪202-196‬‬


‫‪ -38‬الغزالي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪220-201‬‬
‫‪22‬‬

‫أمراً مذموماً ومكروهاً من النّاح ّية ّ‬


‫الشع ّية؛ ذلك ّأن اإلقبال عليهم يجعل املرء متعرضاًّ ملعص ّية الله مبساندة‬
‫هؤالء الح ّكام ‪ -‬يف ظلمهم ‪ -‬باألقوال أو األفعال أو حتّى باالعتقاد‪ ،‬وتلك أمور لن يسلم منها كل مخالط لهم‪.‬‬
‫والس ّيام ّأن أغلبهم ينهبون أموال النّاس ويأكلونها بالباطل وبدخول الد ّيار املغصوبة كرهاً‪ ،‬كام أ ّنهم يرسفون‬
‫عم دعا إليه الرشع الحنيف‪ .‬لهذا ينبغي عدم مجالستهم‬ ‫ح ّد التبذير يف املأكل واملرشب وامللبس؛ وذاك أبعد ّ‬
‫السالطني‪،‬‬
‫ورفض اعتدائهم وعدم السكوت عن الحق‪ .‬والحال أن العكس هو الذي يحصل عند من يوايل ّ‬
‫حيث يسعى إىل كسب ودّهم والتم ّلق إليهم ومدحهم‪ ،‬وهو أمر ميتعض منه اإلمام الغزايل داعياًّ إىل تجنّب‬
‫السالطني الظاملني واعتزالهم ومتنّي زوالهم‬‫السؤال عن أحوالهم وعدم خدمتهم‪ ،‬كام ينبغي كره مثل هؤالء ّ‬
‫كل ذلك عند الغزايل يدخل يف‬ ‫ألن ّ‬‫وعدم التعامل معهم أو املتاجرة يف األسواق التي بنوها وال السكن فيها؛ ّ‬
‫باب الحرام مادام ّأن أساسه حرام‪ .‬لقد ّ‬
‫خص الغزايل بهذا الكالم العلامء‪/‬الفقهاء أكرث من غريهم من ّبها لهم من‬
‫السالطني‪/‬األمراء ورشعنة جورهم وتربير سلطانهم؛ ذلك ّأن معظم هؤالء‬ ‫السقوط يف مغ ّبة التواطؤ مع ظلم ّ‬ ‫ّ‬
‫غاصبون للحكم؛ أخذوه بالقهر والغلبة من دون جدارة وال استحقاق للخالفة لعدم توفرهم عىل الرشوط‬
‫السالف ذكرها‪ .‬فضال عن كونهم يجهلون أصول األحكام وفروعها‪ ،‬وأحوال الفتاوى وتفاصيلها‪ ،‬وال يعلمون أمور‬
‫البالد‪ ،‬وال يهتمون بشؤون العباد‪ ،‬وال يدركون مقاصد الرشع‪ ،‬لهذا يستندون إىل الفقهاء إخفاء لجهلهم‪ .‬ويعلن‬
‫السالطني ويستق ّلون عنهم‪ ،‬ويتنزّهون عن‬ ‫الصحابة والتابعني الذين كانوا يعتزلون ّ‬ ‫الغزايل إشادة كبرية بعرص ّ‬
‫‪39‬‬
‫أموالهم فال يأخذوا قسطاً منها إ ّال عند التأ ّكد من كونها ماال حالال أو يفعلون للتصدّق به للفقراء املستحقني‪.‬‬

‫يعب عن تناقض يف فكره بقدر ما‬ ‫والساسة ال ّ‬‫إن ما قد يظهر من تباين يف مواقف الغزايل من الس ّياسة ّ‬
‫وبكل الوسائل املتاحة واملمكنة ‪ -‬وراء الحفاظ عىل وحدة‬ ‫الواقعي املتم ّثل يف سعيه الدائم ‪ّ -‬‬
‫ّ‬ ‫يعكس وعيه‬
‫كل ما يهددها داخلياًّ من فنت وتطاحنات‪ ،‬وخارجياًّ من‬ ‫األمة االسالم ّية واستمرارية حياة الجامعة وحاميتها من ّ‬
‫أطامع‪ .‬وقد كان الرجل يتحدّث عن مصالح املعاد واملعاش‪ ،‬ويقيم متييزاً بني أصل املصالح ومزاياها وتك ّمالتها‪.‬‬
‫والذي عنده‪ ،‬أ ّنه ال ينبغي تعطيل املصالح ق ّياساًّ باملزايا والكامل ّيات‪ّ ،‬‬
‫وظل ينظر بعيداً إىل عواقب األمور‪ ،‬فهو‬
‫السلطان‪ ،‬وإال ما كان ليدعو إىل‬ ‫حينام يرفض التم ّرد والثورة‪ّ ،‬إنا درء للفتنة وليس تدعي ًام لظلم أصحاب ّ‬
‫اعتزالهم عند العلم بظلمهم‪.‬‬

‫عىل سبيل االستنتاج‪ ،‬ميكن القول ّإن هذا املنظور الواقعي واملقاصدي نجده حارضاً عند الغزايل يف الكثري‬
‫من أفكاره الس ّياس ّية؛ إذ غالباً ما يستحرض قاعدة «درء املفاسد أوىل من جلب املصالح» أو «الرضورات تبيح‬
‫املحظورات» أو «يرتكب أخف الرضرين التقاء أشدهام»‪ ،‬وهذا يربز الوعي الشديد للرجل مبخاطر السياسة‬
‫وإكراهاتها وحيلها‪.‬‬

‫‪ -39‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬إحياء علوم الدين‪ ،‬تحقيق إبراهيم بن عمران‪ ،‬ط‪( 1‬مصر‪ :‬دار الحديث‪ ،)1998 ،‬ص‪200-190‬‬
‫‪23‬‬

‫خامتة‪ :‬خالصات واستنتاجات‬

‫هكذا يقود البحث يف موضوع الس ّياسة الرشعية للغزايل‪ ،‬إىل تسجيل استنتاجات ومالحظات‪ :‬أولها غ ّياب‬
‫بحوث معارصة يف كتب علم الكالم اإلسالمي‪ ،‬والرتاث يف الفكر العريب بعا ّمة‪ ،‬ونلحظ عىل وجه التحديد غ ّياب‬
‫االهتامم بالغزايل يف حقل الدراسات الفلسف ّية املهتمة بالس ّياسة‪ ،‬رغم ّأن ّمثة فكرا عميقا عند الرجل ّ‬
‫يتسم‬
‫بالرتكيز‪ ،‬وقدرة هائلة عىل الجدل الكالمي والتفكري املنطقي‪ .‬والغريب ّأن مؤلفات الغزايل مل تلق‪ ،‬بعد‪ ،‬القبول‬
‫الذي تستحقه عىل مستوى املقاربة الفكرية املنصفة؛ إذ غالبا ما اختُزل فكره يف كونه صادراً من فقيه متص ّوف‬
‫ال عن فيلسوف محنك‪ ،‬لكن قراءة متأن ّية لكتابات هذا املف ّكر من شأنها أن تعكس هذا الزعم وتبدّده‪ ،‬أو عىل‬
‫األقل تلطف من حدّة هذا الحكم‪ ،‬وتزيل الحاجز النفيس للتصالح مع فكره من أجل فهمه‪ّ .‬‬
‫ولعل االقرتاب‬
‫قليال من أسلوب هذا الغزايل يكشف لنا عن كونه أسلوب مر ّكز العبارة ومتناسق الكتابة وسلس التعبري‪ ،‬حيث‬
‫ترتبط عنده فقرة بأخرى كام يتضح لنا يف كتاباته املختلفة‪ ،‬وباألخص وهو يقارب قضايا «الس ّياس ّية الرشع ّية»‬
‫من قبيل «اإلمامة» و«الخالفة»‪ .‬وهي موضوعات طرقها أيضاً يف كتابه األسايس يف التص ّوف «إحياء علوم‬
‫الدّين» ويف «االقتصاد يف االعتقاد»‪ ،‬بشكل ييش أ ّنه يق ّعد بشكل أصيل لنظر ّية يف الس ّياسة من ناحية فقهية‬
‫واعية‪ .‬ويكشف تص ّور الغزايل حول مسألة الس ّياسة عن الكيف ّية التي يفكر بها «الفقيه» يف «الس ّياسة»‪ ،‬حيث‬
‫جاءت رؤيته جامعة بني املعيارية األخالق ّية؛ والرشع ّية الدّين ّية؛ والواقع ّية السياس ّية‪ .‬وقد تبني ّأن الرجل كان –‬
‫يف وقته عىل األقل – صاحب فكر سيايس فريد من نوعه؛ إذ مل يفكر يف الس ّياسة من خارج سياقها التاريخي‪،‬‬
‫يرصح‪ّ ،‬‬
‫فإن ما‬ ‫الشع اإلسالمي‪ ،‬كام ّ‬ ‫وإمنا من صميمه‪ .‬وعىل الرغم من أ ّنه يقارب مفهوم «اإلمامة» من زاوية ّ‬
‫ينم عن تفكري سيايس وواقعي‪ .‬وإىل ما سبق نضيف‪ّ ،‬أن ذكاء الغزايل يكمن يف تناوله‬ ‫ينتهي إليه من استنتاجات ّ‬
‫مسائل اإلمامة ورشوطها ووظائفها يف إطار علم الكالم وفق ما هو مألوف ومعتاد‪ ،‬لكونه يعلم ّأن النّاس تنفر‬
‫من كل ما مستج ّد («البدعة»)‪ ،‬غري ّأن مقاربته لتلك املسائل مل تكن تخرج عن حدود الواقع الس ّيايس لعرصه‬
‫وظروف الخالفة االسالم ّية‪ .‬فالتفكري يف وحدة األمة ودرء الفتنة؛ والدّفاع عن الخالفة ك ّلها حيثيات شغلت فكره‬
‫وجعلته ينخرط يف املوضوع بكل جد ّية ممكنة؛ إذ تجده ينطلق من مسلامت منطقية ليثبت ّأن االمامة من‬
‫األمور الواجبة والرضور ّية لسري حياة النّاس عىل صعيد الدّين والدّنيا‪ ،‬ولكنّه يعلم ّأن الرشوط الواجب توفرها‬
‫ّيني أو التفويض اإللهي أو اإلجامع بقدر ما متليها ظروف الواقع‬ ‫يف اإلمام كسلطان دنيوي ال ميليها الرشع الد ّ‬
‫الس ّيايس‪ .‬لهذا ال غرابة يف أن نجد ال ّرجل يتنازل يف أمور قد عدّت فقهياًّ من األساس ّيات‪ ،‬ال ليشء سوى ّ‬
‫ألن‬
‫يوظف قواعد رشعية لبيان ّأن االضطرار يدفعك إىل قبول ما هو متاح لالختيار‪.‬‬ ‫الرضورة الواقع ّية تفرضها‪ ،‬بل ّ‬

‫نسجل‪ ،‬عىل ضوء ما تقدم‪ ،‬محصلة أساسية وهي ّأن تص ّور الغزايل للس ّياسية مل يكن مجرد نظرة طوباوية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫السلطان‪ ،‬باعتباره كائناً برشياًّ ال يتعاىل عن الرشوط التاريخ ّية‬
‫بقدر ما كان يعكس رؤية واقع ّية تنظر إىل ّ‬
‫االجتامع ّية والس ّياس ّية‪ ،‬والتي تؤطر كيفية تدبريه لشؤون النّاس العا ّمة‪ .‬كام يقارب الس ّياس ّية من حيث هي‬
‫ميدان لرصاع املصالح البرشية‪ ،‬لهذا يؤسس اإلمامة عىل مق ّومات رشع ّية تراعي مصالح النّاس وفق ما تسمح‬
‫‪24‬‬

‫يفس تنازله عن بعض‬ ‫به الظروف املوضوع ّية‪ ،‬وما يقتضيه «حكم الوقت» وإكراهات الواقع‪ .‬ولعل هذا ما ّ‬
‫الشوط يف اإلمامة‪ ،‬الذي هو تنازل مدرك وواع وليس تناقض فكري عند هذا الفقيه واملنطقي‪ ،‬والذي مل‬ ‫ّ‬
‫ولربا نجد فيام ت ّقدم ما يستبعد النّظر إىل الغزايل‪ ،‬حرصاً‪ ،‬بوصفه فقيه‬
‫تسلم الس ّياسة من جدله الكالمي‪ّ .‬‬
‫حامل ينطلق من معيارية دين ّية يف حديثه عن اإلمامة‪ّ ،‬‬
‫ويزك كونه عامل متك ّلم بارع‪ ،‬وفيلسوف خبري بالس ّياسة‬
‫الرشعيّة‪.‬‬

‫وعىل سبيل إنهاء هذا املوضوع يف الجدل بني «الس ّيايس» و«الدّيني» عند الغزايل‪ ،‬ميكن القول ّإن مفكرا‬
‫متعدد املشارب مثل صاحب «املنقذ من الضالل» ال يخفى عليه ّأن الفكر‪ ،‬أو الفقه‪ ،‬أو علم الكالم‪ ،‬أو غريها‬
‫من مجاالت املعرفة البرش ّية ال تخرج عن ظروفها التي أنجبتها‪ ،‬بل إ ّنها ال يسعها (مجاالت املعرفة) سوى أن‬
‫متغي‪ .‬وهذا ما يعكس مدى نباهة العقل‬ ‫ترضخ ملا هو كائن من أجل فهمه وتغيريه أو تجاوزه يف إطار نسبي ّ‬
‫الفقهي يف نظرته للس ّياسة‪ ،‬وهو ما ينبغي علينا الت ّلفت إليه حتّى ندرك ّأن نجاعة الفكر البرشي تكمن يف مدى‬ ‫ّ‬
‫اإلسالمي اليوم عليه‬
‫ّ‬ ‫قدرته عىل فهم الواقع وآل ّيات اشتغاله وميكانيزماته الذات ّية واملوضوع ّية‪ ،‬والفكر العر ّيب‬
‫أن يواجه بجد ّية هذا التحدّي‪ ،‬وال س ّيام أن هذا الفكر يف فرتات سالفة من تاريخه‪ ،‬كان نشيطاً نظرياًّ ومواكباً‬
‫لواقعه ال متعالياًّ عليه‪ .‬ويبقى فقط ْأن نرضب صفحاً يف ُكتب تراثنا الفكري‪ ،‬لرنى كم من نظر يف موضوعات‬
‫لالطالع عليها أن يسعفنا عىل فهم الكثري من‬ ‫«الس ّياسة» و«الدّين» ويف عالقتهام وغريها طمست‪ ،‬كان ميكن ّ‬
‫املسائل ال ّراهنة‪ ،‬ومجابهة العديد من التحد ّيات واإلجابة عن اإلشكاالت التي ال تزال عالقة‪.‬‬
‫‪25‬‬

‫املراجع املعتمدة يف البحث‪:‬‬


‫‪ -‬القرآن الكريم رواية ورش عن نافع‬
‫‪ -‬الحديث النبوي‬
‫‪ -‬الغزايل أبو حامد‪ ،‬االقتصاد يف االعتقاد‪ ،‬تحقيق مصطفى عبد الجواد عمران‪ .‬مرص‪ :‬دار البصائر‪ ،‬الطبعة األوىل‪2009 ،‬‬
‫‪ -‬ـــــــــــــ‪ ،‬فضائح الباطنية وفضائل املستظهرية‪ ،‬حققه وقدم له عبد الرحمن بدوي‪ .‬الكويت‪ :‬مؤسسة دار الكتب‬
‫الثقافية‪( ،‬د‪.‬ت‪.).‬‬
‫‪ -‬ــــــــــــ‪ ،‬املنقد من الضالل‪ ،‬بريوت‪ :‬املكتبة الشعبية‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫‪ -‬ــــــــــــ‪ ،‬إحياء علوم الدين‪ ،‬تحقيق إبراهيم بن عمران‪ .‬مرص‪ :‬دار الحديث‪ ،‬الطبعة األوىل‪1998 ،‬‬
‫‪ -‬أبو الحسن املاوردي‪ ،‬األحكام السلطانية والواليات الدينية (بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪[ ،‬د‪.‬ت])‬
‫‪ -‬ـــــــــــــ‪ ،‬تسهيل النظر وتعجيل الظفر يف أخالق امللك وسياسة امللك‪ ،‬تحقيق رضوان السيد‪( ،‬بريوت‪ :‬املركز اإلسالمي‬
‫للبحوث‪.)1987 ،‬‬
‫‪ -‬ـــــــــــــ‪ ،‬أدب الدنيا والدين‪( .‬بريوت‪ :‬دار الفكر‪.)2000 ،‬‬
‫‪ -‬أبو الوليد بن رشد‪ ،‬فصل املقال فيام بني الحكمة والرشيعة من اتصال‪( ،‬سلسلة الرتاث الفلسفي العريب)‪ ،‬مؤلفات ابن‬
‫رشد‪ ،‬ط ‪( ،3‬بريوت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‪.)2002 ،‬‬
‫‪ -‬الجويني العايل عبد املالك‪ ،‬غياث األمم يف التياث الظلم‪( ،‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪.)2003 ،‬‬
‫‪ -‬ابن تيمية تقي الدين أحمد‪ ،‬السياسة الرشعية يف إصالح الراعي والراعية‪ ،‬ط‪( .4‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪.)1993 ،‬‬
‫‪ -‬ابن القيم الجوزية‪ ،‬الطرق الحكمية يف السياسة الرشعية‪( .‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪.)1995 ،‬‬
‫‪ -‬شمس الدين‪ ،‬أحمد‪ ،‬الغزايل (حياته‪ ،‬آثاره‪ ،‬فلسفته)‪ .‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة األوىل‪1990 ،‬‬
‫‪ -‬عويس‪ ،‬عبد الحليم‪ ،‬عويس وكساب‪ ،‬وليد عبد الحميد‪ ،‬الفكر السيايس بني ابن حزم وأيب حامد الغزايل‪ .‬القاهرة‪ :‬دار‬
‫الكلمة للنرش والتوزيع‪ ،‬الطبعة األوىل‪2010 ،‬‬
‫‪ -‬فازيو‪ ،‬نبيل‪ ،‬دولة الفقهاء‪ ،‬بريوت‪ :‬منتدى املعارف‪2015 ،‬‬
‫‪ -‬فيصل‪ ،‬سعد‪ ،‬األمر باملعروف والنهي عن املنكر يف الفكر اإلسالمي القديم‪ .‬بريوت‪ :‬املركز الثقايف العريب ومؤسسة مؤمنون‬
‫بال حدود‪2014 ،‬‬
‫‪ -‬كوك‪ ،‬مايكل‪ ،‬األمر باملعروف والنهي عن املنكر يف الفكر اإلسالمي‪ ،‬ترجمة رضوان السيد‪ .‬بريوت‪ :‬الشبكة العربية‬
‫لألبحاث‪2009 ،‬‬
info@mominoun.com

You might also like