You are on page 1of 218

‫نور يهدي ال قي ٌد أيسر‬

‫دراسات يف فقه الواقع وآفاق االنفتاح‬

‫د‪ .‬حممد حبش‪.‬‬

‫‪2021‬‬
‫نور يهدي ال قي ٌد يأسر‬
2021 ‫الطبعة األولى‬
‫جميع الحقوق محفوظة‬
‫ محمد حبش‬.‫ د‬:‫المؤلف‬
‫هذه الطبعة من إصدار مركز الدراسات لبحوث التنوير والحضارة‬
‫دار متخصصة بالدراسات اإلنسانية وإخاء األديان‬
‫ اإلمارات‬- ‫ الشارقة‬- ‫ شارع الشيخ محمد بن زايد‬-‫ مدينة الشارقة للنشر‬-19
0097165545544 :‫هاتف‬
habash2005@gmail.com
www.mohammadhabash.org

First Edition 2021


All Rights Reserved
Mohamad Habash
This edition is issued by the Studies Center for Civilization and
Enlightenment Research.
The center specializes in human studies and brotherhood of religions
Address: 19- Sharjah Publishing City - Sheikh Mohammed Bin Zayed Rd -
Sharjah - UAE
Tel: 0097165545544
habash2005@gmail.com
www.mohammadhabash.org
‫ل ت ت تتس‬ ‫و ت ت ت ت ت تت لمدرلس ت ت تتس‬ ‫يشت ت تت ال ت ت ت تتمجل لمن ت ت تتسا وت ت تت‬
‫تتت ت‬ ‫لم ت ت ت تتر‬ ‫ل تتتت‬ ‫لملق ت ت ت تتسال لم ت ت ت تتع نش ت ت ت تترتس لمل م ت ت ت ت‬
‫و ت ت ت ت لم ت ت ت تتور‬ ‫لمقت ت ت تتر لفديت ت ت تتدا ست ت ت تتدت ويت ت ت تتس قت ت ت تتدر ل س ت ت ت ت‬
‫لالس جسو حلسجس لمولقع ونسء لملس قبل‪.‬‬
‫نور‬
‫نور‪ ...‬لم قل ٌ‬
‫لموحي ٌ‬
‫لمنور ال ي فئ لمنور‬
‫لو رشد‬
‫‪ | 1‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫متهيد‬
‫هتدف هذه الدراسة إىل املسامهة يف إحياء الَّتيَّار العقالني يف اإلسالم القائم على‬
‫َّص‬ ‫ٍّ‬
‫عقالني جيمع بني احرتام الن ي‬ ‫ٍّي‬
‫استدالل‬ ‫اتباع العقل واحرتام النقل‪ ،‬وبناء منط‬
‫املقدَّس واالستجابة حلاجات احلياة وتطوراهتا ومتغرياهتا اهلائلة‪.‬‬

‫الشريعة اإلسالميَّة بوصفها كائناً حياً‬


‫كما هتدف إىل التأكيد على إمكان تطوير َّ‬
‫َّقليدي الذي‬
‫الرتقيَّة ومزيد من االكتمال‪ ،‬وذلك يف مواجهة التَّ يَّار الت ي‬
‫قابالً للتطور و َّ‬
‫أن جمد اإلسالم يف تصلبه وأنَّه غري قابل يف تشريعاته للتطوير والتحديث‪.‬‬ ‫يرى َّ‬

‫صرحوا هبذا‬ ‫وتلتمس هذه احملاولة جذورها من َّ‬


‫أن أعالماًكباراً يف التَّاريخ اإلسالمي َّ‬
‫املوقف‪ ،‬وحكموا به أيضاً‪ ،‬وجنحوا يف إنتاج تشريعات متطورة يف عصورهم تستضيء‬
‫ابلقرآن وتنافس جتارب األمم الناجحة وتليب حاجة األمة يف القوة واالزدهار واحلرية‪.‬‬

‫وتُع ُّد هذه الدراسة َّ‬


‫الرسول الكرمي مؤسساً هلذا الفكر املتنور‪ ،‬بوساطة مواقفه الكثرية‬
‫َّص القرآني نوراً يهدي ال قيداً أيسر‪ ،‬وقيامه بشجاعة وحكمة‬ ‫وطريقة تعامله مع الن ي‬
‫السنة الشريفة‪ ،‬والتَّحول‬
‫بنسخ حنو عشرين آية من القرآن الكرمي ومثانية وأربعني من ُّ‬
‫إىل أحكام جديدة تناسب تطور العصر‪ ،‬على َّ‬
‫أن التَّحول احلضاري بني مكة واملدينة‬
‫كان حمدوداً وقصري األجل‪.‬‬
‫نص الوحي‪،‬‬
‫وقد متَّ هذا التطور الكبري دون أن يسيء الرسول الكرمي إىل قداسة ي‬
‫ودون أن أيمر إبلغاء شيء منه وكان واضحاً يف دعوة األمة لرتتيل هذه النصوص‬
‫وتدبرها دون أن تذهب إىل االحتكام إليها‪.‬‬
‫‪ | 2‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫كما ميكن التماس هذا اجلهد النبيل لدى أعالم الفكر اإلسالمي يف عصر السلف‬
‫األول وعلى رأسهم عمر بن اخلطاب وعبد هللا بن عباس وعائشة بنت أيب بكر‬ ‫َّ‬
‫ومعاوية بن أيب سفيان وعمرو بن العاص وسكينة بنت احلسني وعائشة بنت طلحة‪،‬‬
‫َّص املقدَّس‬
‫ولو مجعت ما أثر عن هؤالء األعالم لكان مدهشاً جلهة احرتامهم للن ي‬
‫وشجاعتهم يف االختيار حلياهتم اجلديدة من هدي العقل وجتارب األمم‪.‬‬
‫على َّ‬
‫أن أتصيل هذه املواقف التَّشريعيَّة متَّ يف القرن الثان على يد اإلمام اجلليل أيب‬
‫يعد مؤسس علم الفقه اإلسالمي؛ إذ أطلق قدرة املسلم يف‬ ‫حنيفة النعمان الذي ُّ‬
‫االستحسان بعنوانه الكبري‪ :‬هو اجتهاد ينقدح يف عقل اجملتهد يعسر التعبري عنه‪،‬‬
‫أو هو ترك ظاهر النص والتزام مقاصده‪ ،‬أو بتعبري أشهر‪ :‬ترك القياس واألخذ مبا‬
‫هو أوفق للنَّاس‪.‬‬
‫ويف السياق إايه كان املعتزلة يفسرون هذا املوقف العقالن ويكتبون بوفرة حول‬
‫وجوب الثقة ابلعقل يف اختياراته‪ ،‬وتطوير االستدالل به للوصول إىل العقل اجلماعي‬
‫التشريعي (الربملان)‪ ،‬وقد أخذ هبذه املناهج عدد من اخللفاء املتنورين وعلى رأسهم‬
‫الوليد بن عبد امللك وعمر بن عبد العزيز والرشيد واملأمون واملعتصم‪ ،‬وكانوا يرمسون‬
‫الد ولة احلديثة وفق نور العقل وجتارب األمم مع االحرتام املطلق لنصوص‬ ‫أسس َّ‬
‫السنة املشرفة‪.‬‬
‫الكتاب العزيز و ُّ‬
‫وفيما بعد متَّ أتصيل هذا املنهج بلغة فلسفية حمكمة بوساطة فالسفة اإلسالم الكبار‬
‫وخباصة ابن سينا والفارايب وإخوان الصفا والبريون وابن رشد يف السياق‬ ‫َّ‬
‫األبستمولوجي واجلمع بني نور الوحي ونور العقل‪ ،‬فيما قام الفقهاء بتقرير املسائل‬
‫أصوالً وفروعاً يف السياق احلقوقي‪ ،‬واستطاعوا أن يعدوا نظاماً متكامالً لتطوير‬
‫‪ | 3‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫الشريعة واجلمع بني الدليل النقلي والدليل العقلي‪ ،‬عرب ما أمسوه مصادر التشريع‬
‫َّص مباشرة أو تبعاً وهي‬
‫اإلسالمي وقد بلغت عشرة مصادر‪ ،‬منها ثالثة تلتزم الن َّ‬
‫الكتاب والسنة والقياس‪ ،‬فيما تتحرك سبعة مصادر أخرى يف إطار العقل وهي‬
‫اإلمجاع واالستحسان واالستصالح واالستصحاب والعرف والذرائع واملقاصد‪.‬‬

‫بت مقتنعاً أننا منتلك منهاجاً حقيقياً لتطوير اإلسالم يفرتض أنه حظي اترخيياً‬
‫وقد ُ‬
‫بتأييد تيار عريض من اخللفاء والفقهاء والفالسفة‪ ،‬فيما يرفض هذا التوجه بشدة‬
‫آخر كبري يلتزم منطق ما وجدان عليه‬ ‫معظم رجال الدين ومعهم ابلطبع مجهور ُ‬
‫آابءان‪ ،‬ويرى يف رجال الدين ورثة لألنبياء‪ ،‬ويُع ُّد ما اختاره الفقهاء والفالسفة من‬
‫تطوير اإلسالم ليس إال جتاوزاً للثوابت‪ ،‬وأن املطلوب منهم ليس بيان برهاهنم‬
‫السلف من رجال ال يدين‪ ،‬وحتديد‬‫وحججهم بل التوبة والعودة إىل ما كان عليه َّ‬
‫مصادر الشريعة مبصدرين اثنني فقط مها الكتاب والسنة‪ ،‬والتشكيك ابملصادر‬
‫َّص‬
‫األخرى ابعتبارها عبثاً ابلثوابت‪ ،‬وأن األفق العقلي املأذون به هو فقط تفسري الن ي‬
‫الديين واالجتهاد فيه وذلك وفق قواعد وشروط معقدة متنع التفكري خارج الصندوق‬
‫َّص وتلزمه‬
‫وتوجب على اجملتهد اتباع منهاجية صارمة متنع االجتهاد يف مورد الن ي‬
‫التفكري واالجتهاد وفق ما أجنزه األولون‪ ،‬وحيصر مقاصد الشريعة واالستنباط منها‬
‫ابلقدر الذي أجنزه األولون والرواية عنهم ال غري‪ ،‬وتكاد تنحصر فرصة االجتهاد‬
‫عند هؤالء على املسائل املستجدة والقياس على ما سبق من مسائل‪.‬‬
‫نص الكتاب والسنة‪ ،‬فإن كاتب‬ ‫وبعيداً عن العبادات والغيب اليت يلتزم فيها املؤمن َّ‬
‫اإلسالمي يف املعامالت يتطور ابستمرار‪ ،‬و َّ‬
‫أن الفقهاء‬ ‫َّ‬ ‫هذه السطور يعتقد َّ‬
‫أن الفقه‬
‫واخلرباء سواء أئمة الشريعة كانوا أم من أهل االختصاص من القانونيني وعلماء‬
‫االجتماع الذين ختتارهم َّ‬
‫الدولة لتنظيم القطاعات احليوية يف اجملتمع والتيجارة‬
‫‪ | 4‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫والصناعة والسياحة والنقل والدفاع يقومون بدور كبري وحقيقي يف تطوير الفقه‬
‫اإل سالمي‪ ،‬واالستجابة لتحدايت العصر اجلديد‪ ،‬وتقدمي البدائل احلقيقية للتشريع‬
‫السعيد‪ ،‬وميكن القول إن الدساتري احلالية يف ثالث ومخسني دولة إسالمية من أصل‬
‫سبع ومخسني دولة هي دساتري متطورة وحتكم ابلعقل واملنطق والربهان‪ ،‬وهي التطور‬
‫املثال للفقه اإلسالمي يف إطار املعامالت‪ ،‬وأن ما يلزمنا هو إقناع اجليل بتكامل‬
‫الصراع املستمر بني الشَّرع والقانون كما يطالب كثري‬
‫الشرع والقانون وليس إبعالن ي‬
‫من رجال الدين‪.‬‬
‫وجيب القول َّ‬
‫إن ما نطالب به من رؤية متجددة للفقه اإلسالمي قد ابت اليوم أيضاً‬
‫السياسيَّة للقادة العرب واملسلمني‪ ،‬ولن تواجه‬
‫واضحاً وظاهراً يف معظم التوجهات ي‬
‫هذه األفكار صداماً ذا ابل مع معظم احلكومات العربية واإلسالمية‪ ،‬اليت ابتت‬
‫تق يدم يف اجلملة خطاابً إسالمياً متساحماً واقعياً‪ ،‬وتتجنب فتاوى التشدد واالستعالء‪،‬‬
‫وتفسح اجملال للخطاب التنويري بقدر ما يتناسب مع مصاحلها‪ ،‬وابت من الواقعي‬
‫أن نعول على اخلطاب الرمسي للحكومات العربية واإلسالمية يف قضااي التنوير كليها‬
‫مع التَّحفظ الشديد ابلطبع على ما متارسه تلك األنطمة من سلوكيات ابطشة‬
‫خلدمة االستبداد يتناقض ابلكليَّة مع شعاراهتا وبراجمها‪.‬‬
‫‪ | 5‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫حمس ر لمن سا‪:‬‬


‫‪ :‬لمقرآ لمنرمي ‪َّ -‬‬
‫لمقدلس لمَّشريع‪.‬‬ ‫لحملور ل‬
‫ور يهدي ال قتي ٌد أيسر‬
‫نٌ‬
‫وقد اختارت ال يدراسة عنوان‪" :‬نور يهدي ال قيد أيسر"‪ ،‬وقصدان يف هذا احملور‬
‫َّص ال يديين‪،‬‬
‫َّص ال يديين عموماً‪ ،‬وجتاوز أشكال الغلو يف اتباع الن ي‬
‫تصحيح العالقة ابلن ي‬
‫نص معبود إىل ٍّي‬
‫نص‬ ‫َّص‪ ،‬والتَّحول من ٍّي‬
‫ورفض ما مارسته األمم األوىل من عبادة الن ي‬
‫نص يستضيء ابلعقل ويغنيه ويثريه‪،‬‬ ‫نص يتسامى على العقل إىل ٍّي‬ ‫مشهود‪ ،‬ومن ي‬
‫نص يكتمل‪ ،‬ومن ٍّي‬
‫نص‬ ‫نص مكتمل إىل ٍّي‬ ‫نص مفتوح‪ ،‬ومن ٍّي‬ ‫نص مغلق إىل ٍّي‬ ‫ومن ٍّي‬
‫ٍّ‬
‫مستعل مفارق إىل نص يعيش مع النَّاس يتفاعل حبياهتم ويستجيب ملطالبهم‪ ،‬ومن‬
‫بوي و ٍّي‬
‫أديب حيتمل قراءات كثرية ومتعددة‪.‬‬ ‫قانوني جاف حاسم إىل ٍّي‬
‫نص تر ٍّي‬ ‫نص ٍّ‬ ‫ٍّي‬
‫لحملور لمثسين‪ :‬حتديد لملقسصد لم ويس موقرآ ‪.‬‬
‫لملقسصد لم ويس موقرآ‬

‫وقصدان فيه إىل بيان التأصيل العقلي والنقلي للمقاصد العليا يف القرآن وإمكانية‬
‫شك يف َّ‬
‫أن جتلية هذه املقاصد‬ ‫قياس التشريعات على ضوء حتقيق هذه املقاصد‪ ،‬وال َّ‬
‫سيمنحنا القدرة على ع يد هذه املقاصد العليا مبنزلة منابع إلنتاج التشريعات املستمرة‬
‫يف خمتلف الظروف واألحوال والبلدان واألزمان‪ ،‬وهذا ابلضبط ما تتعامل به الدولة‬
‫تسمى عادةً املبادئ فوق الدستورية‪.‬‬
‫احلديثة مع املبادئ العليا اليت َّ‬
‫‪ | 6‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫نس ‪.‬‬ ‫لحملور لمثسمث‪ :‬صسحل منل ز س‬


‫لكل زمان ومكان‪،‬‬‫أبن القرآن الكرمي صاحل ي‬ ‫ونناقش يف هذا احملور الفكرة املشهورة َّ‬
‫ابلزمان واملكان‪ ،‬و َّ‬
‫أن تعميم ظاهر‬ ‫وتتبىن هذه الدراسة مبدأ أ َّن القرآن الكرمي حمكوم ي‬
‫اللفظ على األزمنة مجيعاً واألمكنة مجيعاً ال يستقيم تنزيالً وال أتويالً‪ ،‬وتقدم الدراسة‬
‫األمثلة على ذلك‪.‬‬
‫وتؤكد الدراسة َّ‬
‫أن العبارة ميكن أن تكون مقبولة حني نستخدم أدوات الشريعة يف‬
‫االجتهاد والتأويل ومنلك تطوير اإلسالم وجتديده ابستمرار‪.‬‬

‫ت وير ل حنس جتديد ل س ‪.‬‬ ‫لحملور لمرلوع‪ :‬لملنهج لمنبوي‬


‫وأستعرض يف هذا الفصل منهج النيب الكرمي يف نسخ والتقييد والتخصيص والتأويل‬
‫للظاهر‪ ،‬واعتماده أسلوابً دميقراطياً يساعده يف الوصول إىل رأي النَّاس والبناء عليه‬
‫الستخراج األحكام األكثر مناسبة حلاجات اجملتمع‪ ،‬وهي مسائل قد بسطت القول‬
‫اطي))‪ ،‬ولكنين اخرتت منها هنا طائفة من‬
‫فيها إبسهاب يف كتايب ((النيب الدميقر ُّ‬
‫املسائل لبيان وجه املرونة يف التشريع النبوي وقيادته ملبدأ تطور األحكام بتطور‬
‫األزمان‪.‬‬
‫‪ | 7‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لحملور لخلس س‪ :‬أصو لمفقه كقول د م نظيم لم قل لالج هسدي‪.‬‬


‫وقصدت يف هذا احملور اكتشاف القدرات الفقهية العقلية اليت قررها الفقهاء يف‬
‫َّص القرآن وقد طرحت يف هذه املسألة رؤيتني‪:‬‬
‫التاريخ للتعامل مع الن ي‬
‫• قواعد العقل األربعون‪.‬‬
‫• األساليب اخلمسة لعقلنة التشريع ابلن ي‬
‫َّص‪.‬‬

‫ت وير لمشري ‪.‬‬ ‫لحملور لمسسدس‪ :‬جهود لمفقهسء‬

‫• هل اإلسالم صاحل ي‬
‫لكل زمان ومكان‬
‫• تطوير اإلسالم‬
‫لكل زمان ومكان؟ مثَّ قصدت‬
‫وفيه أجبت عن السؤال التقليدي‪ :‬هل اإلسالم صاحل ي‬
‫إىل جهود الفقهاء الكرام عرب التاريخ يف تطوير الشريعة ومبدأ تغري األحكام بتغري‬
‫األزمان‪ ،‬وسجلت رصداً ألكثر من مئة حكم شرعي طُورت خالل التاريخ‬
‫اإلسالمي بيد أئمة الفقه وأصوله املعتربين‪ ،‬والرتكيز بدقة على أن آفة علم أصول‬
‫لكن رجال الدين يعدونه علماً قد أنضجه السلف وأن‬‫الفقه أنه علم جميد وشجاع و َّ‬
‫علينا أن نروي عنهم ما أجنزوه وليس أن ننسج على منواهلم‪.‬‬

‫تقدمي لم قل لحرتل لمنقل‪.‬‬ ‫لحملور لمسسوع‪ :‬جهود لمفقهسء‬


‫• الن ُّ‬
‫َّص صحيح وليس عليه العمل‬
‫• احلقيقة واجملاز يف التعبري القرآن‬
‫‪ | 8‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وفيه كتبت إبسهاب يف مشروع اإلمام سمك و أنس‪ُّ :‬‬


‫النص صحيح وليس عليه‬
‫العمل‪ ،‬ومجعت ما قرره اإلمام مالك وهو على مسافة قرن واحد من عهد النبوة ويف‬
‫املدينة النبوية ذاهتا مل خيرج منها‪ ،‬وكيف أمكنه أن يؤكد بوضوح ال لبس فيه أن‬
‫لكل زمان ومكان‪ ،‬بل إن هناك نصوصاً كثرية‬
‫املروي ال تصلح ي‬
‫ي‬ ‫بنصها‬
‫الشريعة ي‬
‫صحيحة وليس عليها العمل‪ ،‬وبينت منهج اإلمام مالك الذي َّ‬
‫يعد أصالً يف تقدمي‬
‫َّص‪.‬‬
‫املصلحة على ظاهر الن ي‬
‫لحملور لمثس ‪ :‬لم وير فياس سنت فيه لمنَّص‪.‬‬
‫ويعاجل هذا احملور املقولة الشائعة أبن الشريعة قد حسمت الرأي يف املسائل مجيعها‪،‬‬
‫وأنَّه ما من جديد إال وله أصل يستند عليه احلكم الشرعي‪ ،‬وقدمت ما يبطل الفكرة‬
‫الصبيانية القائمة على أن أحكام الدُّنيا واآلخرة منصوص عليها‪ ،‬وبينت َّ‬
‫أن هذا‬
‫أن احلقيقة هي أن‬‫التصور ليس نقطة قوة يف اإلسالم بل نقطة ضعف وقمع‪ ،‬و َّ‬
‫الشرع سكت عن أشياء وأن حجم املسكوت عنه أكرب بكثري مما نتصور وهو أفق‬
‫أي قيود إال مقاصد الشريعة السمحاء‪.‬‬
‫لالجتهاد احملض دون ي‬
‫أ لس ارلره‪.‬‬ ‫لحملور لم سسع‪ :‬لك اس ل س‬
‫ويف هذا احملور توقفت عند الفكرة السائدة أبن الشريعة قد اكتملت يف عصر النبوة‪،‬‬
‫أن االكتمال ليس‬‫وأنه مل يعد أمام األمة إال التقليد واالتباع‪ ،‬وقد تبنت الدراسة َّ‬
‫ألي فكر حي‪ ،‬واالكتمال أخو النقص والتخلف بل املطلوب التفاعل والتطور‬ ‫جمداً ي‬
‫والتوثب‪ ،‬وهو ما قدمته القراءة اإلسالمية خالل النجاحات احلضارية اليت قدَّمها‬
‫املسلمون‪.‬‬
‫‪ | 9‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫َّص القرآن‪ :‬ﱡﭐﱪﱫﱬﱭﱮﱯ‬


‫ويرتكز احلوار يف هذه النقطة عند الن ي‬
‫ﱰﱱﱲﱳﱴﱵﱠ [المائدة‪]٣ :‬‬
‫كل صالة يف‬ ‫كل إبداع ضاللة‪ ،‬و َّ‬
‫أن َّ‬‫َّص الذي مضى إىل ح يد َّ‬
‫والفهم احلريف هلذا الن ي‬
‫النَّار‪ ،‬وتطالب ال يدراسة مبراجعة عميقة هلذه الفكرة والتأكيد على َّ‬
‫أن اكتمال ال يدين‬
‫الذي متَّ يف السنة العاشرة ال يعين التوقف عن اإلبداع إىل آخر الدهر‪ ،‬بل هو حكم‬
‫يتصل ابلعرب يف تلك املرحلة‪ ،‬وهو يتصل بشؤون العبادات وال يعين إطالقاً اكتماله‬
‫يف شؤون املعامالت والتطور احلضاري والسياق اإلنسان‪.‬‬
‫وقد استعنت يف هذا احملور ابلذات برؤية إقبال املتوثبة اليت ترفض الوقوف على‬
‫األطالل‪ ،‬وتناولته يف ثالث دراسات‪:‬‬

‫• هل اكتمل اإلسالم؟‬
‫• تطور الشريعة عند حممد إقبال‪.‬‬
‫• اإلسالم ومولد العقل االستدالل‪.‬‬
‫‪ | 10‬نور يهدي ال قيد يأسر‬
‫‪ | 11‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لحملور ل َّ ‪ :‬لمقرآ لمنرمي ‪َّ -‬‬


‫لمقدلس لمَّشريع‬
‫لمفرضي‬
‫َّيب الكرمي حممد ﷺ‪ ،‬وهو اإلشراق‬ ‫القرآن الكرمي وحي من هللا أشرق به يف قلب الن ي‬
‫نفسه الذي شعر به األنبياء واحلكماء والفالسفة خالل التاريخ‪ ،‬وما زال إهلاماً يف‬
‫األرواح النقيَّة والقلوب السليمة‪.‬‬
‫القرآن نص أديب وتربوي‪ ،‬ولذلك فهو محيال أوجه وحيتمل أتويالت كثرية‪ ،‬وهو ليس‬
‫هن‬
‫كتاابً حقوقياً قانونياً صارماً حبيث يكون له أتويل واحد‪ ،‬وفيه آايت حمكمات َّ‬
‫ُّأم الكتاب وفيه آايت متشاهبات ال يعلم أتويلها إال هللا‪ ،‬وهو شفاء ورمحة للمؤمنني‬
‫وال يزيد الظاملني إال خساراً‪.‬‬
‫ليس يف القرآن الكرمي تفاصيل وافية عن العبادات واملعامالت‪ ،‬بل فيه إشارات‬
‫ملهمة‪ ،‬ال يتكون منها نظام ٍّ‬
‫كاف للحياة‪ ،‬ومن مثَّ فإن هذه النصوص هي نور‬
‫فيتم استكماهلا مبا روي من األحاديث الكرمية‬
‫يهدي وليس قيداً أيسر‪َّ ،‬أما العبادات ُّ‬
‫وهدي العارفني ابهلل‪ ،‬وأما املعامالت فقد حكم عليها الرسول الكرمي بقوله‪" :‬أنت م‬
‫أ وم أب ر دنتيسكم"‪ ،1‬واألمة بربملاانهتا وجمالس التشريع فيها تسرتشد بنوره ولكنها‬
‫حتتكم إىل مصاحل الناس وقواعد العقد االجتماعي‪.‬‬
‫والقرآن نص مقدَّس ولكنه حمكوم ابلزمان واملكان‪ ،‬تقيده أسباب النزول وظروف‬
‫التنزيل‪ ،‬وقد تعرضت عشرون آية منه للنسخ يف حياة الرسول‪ ،‬كما استمر الفقهاء‬

‫‪ 1‬حديث صحيح‪ ،‬أخرجه‪ :‬مسلم في صحيح مسلم‪ ،‬ص‪.2363‬‬


‫‪ | 12‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫يف حتديد مناطه وظروفه ودالالته وألجل ذلك ابتكروا منطق ختصيص العام وتقييد‬
‫املطلق وأتويل الظاهر والقول ابملتشابه‪ ،‬ويف األحول كافة فهو أيضاً حقيقة وجماز‪.‬‬

‫َّأما النظر إليه على أنه نص قانون وكتاب حقوقي يفصل األحكام كلَّها ويلزم َّ‬
‫كل‬
‫زمان ومكان فهو موقف غلو ومبالغة‪ ،‬وهو املقصود بوصية القرآن‪ :‬ﱡﭐﱁ‬

‫ﱌﱠ [النساء‪]١٧١ :‬‬


‫ﱍ‬ ‫ﱂﱃﱄﱅﱆﱇﱈ ﱉﱊﱋ‬
‫‪ | 13‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ور يهدي ال قيد أيسر‬


‫نٌ‬
‫يواجة العقل املسلم يف هذه األايم الصاخبة صرخات متناقضة‪ ،‬تدور بني تق يديس‬
‫كل شيء‪ ،‬بني االنتماء للتاريخ اإلسالمي وع يد َهدي السلف‬ ‫كل شيء ورفض ي‬ ‫ي‬
‫خري هدي القرون‪ ،‬ودعوة البشرية إىل العودة هلدي السلف‪ ،‬وبني تيارات أخرى‬
‫اإلسالمي برمته صار عبئاً على احلياة والتطور وسبباً للقطيعة مع‬
‫َّ‬ ‫ترى َّ‬
‫أن الرتاث‬
‫العامل وأنَّه ال خالص هلذه األمة إال بنبذ املاضي كله وع يده كذبة ضارة حالت بني‬
‫هذه األمة وبني حلاقها ابألمم‪.‬‬
‫لكل متابع‪ ،‬ولن تنفعنا اجملاملة يف شيء‬
‫أن هذه الصورة غاية يف الوضح ي‬ ‫شك َّ‬
‫وال َّ‬
‫فض َحنا عامل التواصل االجتماعي وكشفت لنا املنابر املفتوحة على مواقع‬‫فقد َ‬
‫التواصل كالً من التيارين الساخطني‪ ،‬وقد توفر ٍّي‬
‫لكل منهما مجاهري مليونية غاضبة‬
‫ال سبيل إلنكارها إال بقدر كبري من التعسف واملكابرة‪ ،‬وقد ابت من املؤكد أن‬
‫األصوات األكثر صراخاً وتعصباً يف اجلانبني هي من حيصد اجلماهري اهلادرة فيما‬
‫يتخافت صوت االعتدال واملنطق حىت يكون اندايً خنبوايً يكتب حبذر ومداراة على‬
‫حروف املعان مث ينصرف مذعوراً من ضعف احليلة وقلة النصري‪.‬‬
‫الدموي املؤمل يف بالد الشام والعراق ومصر وليبيا‬
‫ُّ‬ ‫الصراع‬
‫ويف السنوات األخرية تفجر ي‬
‫جمتمعي خطر‪ ،‬بني الرؤية اإلسالمية‬
‫يٍّ‬ ‫تكرس من انقسام‬‫واليمن‪ ،‬وكان من تداعياته ما َّ‬
‫والرؤية العلمانية‪ ،‬وابت االنقسام بني اجلانبني مريراً وقاسياً‪ ،‬تتناوله الريب الصارمة‪،‬‬
‫وحتولت اخلصومة إىل عداء‪ ،‬واالختالف إىل صراع‪ ،‬واالهتام إىل اغتيال‪ ،‬وما زال‬
‫أن البالد العربية تشهد متاماً العصر‬‫املشهد يشي مبزيد من الرعب والتشاؤم‪ ،‬وبدا َّ‬
‫األورويب يف انتقاله من العصور الوسطى إىل العصور احلديثة‪ ،‬وابت املشاركون يف‬
‫‪ | 14‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫معمعة اخلصام ال يبالون أن أيخذوا بالدهم إىل مواجهات فاصلة على مستوى‬
‫ابرتلميو وحرب الثالثني عامأً يف سبيل انتصار ما يراه ُّ‬
‫كل فريق احلق الذي ال مرية‬
‫فيه‪.‬‬
‫أن األسباب اجلوهرية الشتعال املنطقة إمنا هي االستبداد يف املقام األول‪،‬‬‫ومع َّ‬
‫احلكام ال يؤمنون ابحلرية وال حقوق اإلنسان‪ ،‬ولكن‬‫والظلم الذي مارسه جيل من َّ‬
‫هذا االستبداد الضاري استفاد ألقصى غاية من التناقض الثقايف يف اجملتمع‪،‬‬
‫واستخدم الشعارات املتناقضة من اإلسالم والعلمانية والسلفية والليربالية‪ ،‬وأجاد‬
‫مرٍّة اثئرين غاضبني يقاتلون حتت راايت‬ ‫كل َّ‬
‫توظيفها خصماً وحكماً‪ ،‬ووجد يف ي‬
‫عميَّة‪ ،‬ويف النهاية خيدمون االستبداد من حيث يريدون أو ال يريدون‪.‬‬
‫أن السبب األول لسقوطنا وختلفنا هو اجلانب السياسي ولكنين أعتقد َّ‬
‫أن‬ ‫ومع َّ‬
‫معركة املثقف ال تقل عن معركة احملارب‪ ،‬وقد صار السيف والقلم يف ساحة اختبار‬
‫لكل منهما أداة انتصاره وانكساره‪ ،‬فال القلم قادر أن ميحق السيف وال‬
‫عنيف‪ ،‬و ي‬
‫السيف قادر أن يسحق القلم‪.‬‬
‫ويف هذه السنوات القاسية كنت أق يدم رساليت بوضوح يف وجوب اكتشاف املشرتك‬
‫فيما بيننا وبناء هنضتنا على وفق ما أجنزته األمم الناجحة وفق سنن هللا تعاىل يف‬
‫أخالقي يدفعين لالصطفاف يف اخلندقني‬
‫يٍّ‬ ‫أي مربر‬
‫اآلفاق واألنفس‪ ،‬ومل أجد َّ‬
‫املتقابلني واخرتت عن بصرية ويقني يف السياسة والشريعة مكان يف الطريق الثالث‪،‬‬
‫واملنزلة بني املنزلتني‪ ،‬وتدوير الزوااي‪ ،‬وبنيت عالقيت ابلتاريخ على اختيار أجود ما‬
‫فيه‪ ،‬واالنفتاح على الواقع الختيار أجود ما فيه‪ ،‬وصناعة مستقبل يليق ابألمة وحيقق‬
‫آماهلا أمة واثقة بني األمم‪ ،‬واستبدلت فكرة املاضي املقدس ابملستقبل املقدس‪ ،‬وهو‬
‫‪ | 15‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫طموح ال ميكن بلوغه إال عندما نعصف ابأليقوانت مجيعاً‪ ،‬وتتيح للناس أن ختتار‬
‫من ماضيها وحاضرها‪ ،‬واثقة ابلعقل واعية ابلنقل‪ ،‬نتقبل عنهم أحسن ما عملوا‬
‫ونتجاوز عن سيئاهتم‪.‬‬
‫نور يهدي ال قيد أيسر‪ ،‬هكذا اخرتت عنوان رساليت يف العالقة مع التاريخ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وهي قراءة تستنري ابملاضي على بصرية‪ ،‬ومع أهنا تباهي بصانعي اجملد‬
‫من اآلابء ولكنها حتاكمهم ومتارس عليهم النقد العميق وترفض بشدة ثقافة التصنيم‪.‬‬
‫نور يهدي ال قيد أيسر‪ ،‬هي عالقة واعية وبصرية للتعامل مع القرآن الكرمي ومع‬
‫السنة النبوية الشريفة واجتهادات الفقهاء وإمجاعهم‪ ،‬وستقدم هذه الدراسات‬
‫الرأي‪ ،‬وتنجز احرتام النقل واتباع‬
‫َّص و َّ‬
‫الصورة الواعية اليت متنحنا التوازن بني الن ي‬
‫ُّ‬
‫العقل‪.‬‬
‫نور يهدي ال قيد أيسر‪ ،‬هي ابلضبط القراءة اليت مارسها كبار فقهاء اإلسالم عرب‬
‫التاريخ وعلى َّ‬
‫أن تسليمهم املطلق برابنية الوحي‪ ،‬ولكنهم رمسوا مالمح النسخ فيه‬
‫والتقييد ملطلقاته والتخصيص لعمومه والتأويل لظاهره‪ ،‬وجلؤوا إىل التوقف والقول‬
‫ابملتشابه فيما ال يستقيم تفسريه‪ ،‬واختاروا أن حيتكموا ببصرية وهدى إىل نور الربهان‬
‫وجنحوا يف منح العقل منصته اخلالقة الختيار الصالح واألصلح يف حياة الناس‪.‬‬
‫نور يهدي ال قيد أيسر‪ ،‬منطق ال يكتم أسلوبه االنتقائي‪ ،‬بل يتبناه ويدافع عنه‪،‬‬
‫وهو ليس يف ذلك بدعاً من املنهج بل هو منهج النبوة نفسه الذي مارس االنتقائية‬
‫يف كل منعطف جديد‪ ،‬وأعلن مبدأ تغري األحكام بتغري األزمان واألوطان‪ ،‬وظل‬
‫يرتل للناس دون حتفظ آايت الغفران وآايت القتال‪ ،‬وآايت العفو وآايت الصلب‪،‬‬
‫‪ | 16‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وهو مدرك متاماً أبن العقل الرشيد ال يعجزه االختيار من هذا الرتاث على سبيل‬
‫من البصرية ومصاحل األمة احلقيقية‪.‬‬
‫مضر كوضع السيف يف موضع الندى‬ ‫ووضع الندى يف موضع السيف ابلعال‬

‫َّص املقدَّس‪ ،‬واحرتام‬


‫نور يهدي ال قيد أيسر‪ ،‬هو املنطق اإلجيايب للتعامل مع الن ي‬
‫دوره اهلائل يف بناء حضارة حقيقية هي أكثر أايمنا واترخينا إشراقاً وحضوراً‪ ،‬وهو‬
‫َّص‪ ،‬والتعامل معه بعقل رشيد‪،‬‬
‫قائم على الثقة ابالجتهاد التارخيي الذي قام حول الن ي‬
‫دون حتطيم وال تصنيم‪.‬‬
‫نور يهدي ال قيد أيسر‪ ،‬هو منهج مارسه اإلمجاع اإلسالمي يف أكثر من ثالمثئة‬
‫نص الوحي برشد واحرتام‪ ،‬يرتلون نصوصه‬
‫صورة‪ ،‬تعامل فيها الفقهاء الراشدون مع ي‬
‫إبجالل وخشوع‪ ،‬ولكنهم ينجزون األصلح للناس واألقرب إىل مقاصد العدل‬
‫واإلحسان‪ ،‬وقاموا بثقة واقتدار بصرفه عن ظاهره وذهبوا إىل حكم العقل وخربة‬
‫األمم ونور احلياة‪.‬‬
‫نور يهدي ال قيد أيسر‪ ،‬هو ابلضبط صورة ما مارسه الفقهاء العاقلون خالل التاريخ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬واستطاعوا أن يديروا به دوالً حقيقية يف مراحل خمتلفة من التاريخ‪ ،‬ويف‬
‫النهاية استطاعوا أن يكتبوا اليوم ثالثة ومخسني دستوراً واقعياً للدول اإلسالمية‬
‫وينص صراحة على إخاء‬‫يستنري ابلقرآن والسنة وال يغلق نوافذه على جتارب األمم‪ُّ ،‬‬
‫األداين وكرامة اإلنسان‪ ،‬وينتقل بوعي وبصرية من اجلهاد واجلزية والغزو والفتح إىل‬
‫اجليش الوطين‪ ،‬ومن العقوابت اجلسدية إىل العقوابت اإلصالحية لتكون عدالة‬
‫وليس انتقاماً‪ ،‬وإصالحاً وليس إابدة‪.‬‬
‫‪ | 17‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لكل حكمة‬
‫كل نور‪ ،‬فهو زميل ي‬ ‫نور يهدي ال قيد أيسر‪ ،‬نقتبس منه كما نقتبس من ي‬
‫لكل معرفة يف احلياة‪ ،‬والوحي نور والعقل نور‬
‫لكل بصرية يف احلكمة‪ ،‬و ي‬
‫يف العامل‪ ،‬و ي‬
‫وجتارب األمم نور والنور ال يطفئ النور‪.‬‬
‫لكل مدارس احلكمة والتشريع يف العامل‪ ،‬يضيئها‬
‫نور يهدي ال قيد أيسر‪ ،‬فهو زميل ي‬
‫ويستضيئ هبا‪ ،‬ومينحها النور ويقتبس منها النور‪ ،‬وما هو بني مصابيح احلكمة إال‬
‫قنديل ضياء‪ ،‬نور على نور يهدي هللا لنوره من يشاء ويضرب هللا األمثال للناس‬
‫وهللا بكل ٍّ‬
‫شيء عليم‪.‬‬ ‫ي‬
‫نور يهدي ال قيد أيسر‪ ،‬هو تطبيق عملي لقول هللا تعاىل يف القرآن الكرمي‪:‬‬
‫ﱡﭐﲙﲚﲛﲜﲝﱠ [الزمر‪]١٨ :‬‬
‫ﱡﭐﲹﲺﲻﲼﲽﲾﲿﱠ [الزمر‪]٥٥ :‬‬
‫إهنا حمض إشارات‪َّ ،‬أما التفاصيل فستجدها يف نصوص ما نقدمه لك يف صفحات‬
‫هذا الكتاب‪ ،‬وأنمل أن يكون لبنة نضيفها إىل خطاب الوعي والنهضة يف جمتمعنا‬
‫اإلسالمي الكرمي‪.‬‬
‫‪ | 18‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ﳉ ﳋﳌ ﳍ‬
‫ﳊ‬ ‫ﳁ ﳃ ﳄ ﳅﳆ ﳇ ﳈ‬
‫ﳂ‬ ‫ﱡﭐﲾﲿﳀ‬

‫ﳎﳏ ﱠ‬

‫[الرعد‪]١٧ :‬‬
‫‪ | 19‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لحملور لمثسين‪ :‬حتديد لملقسصد لم ويس موقرآ‬


‫لمفرضي ‪:‬‬
‫نسيب بني احلكماء‪ ،‬وأنَّه ال‬ ‫َّ‬
‫تفرتض هذه الدراسة أن القيم العليا للبشرية حمل اتفاق ٍّي‬
‫يعسر حتديد هذه القيم‪ ،‬واالتفاق عليها بني شعوب األرض‪ ،‬و َّ‬
‫أن هذه القيم العليا‬
‫اليت تعرفها الفطرة اإلنسانية السليمة تؤكدها نصوص القرآن الكرمي كما تؤكدها‬
‫نصوص الكتب املقدَّسة يف األداين‪.‬‬
‫وتقرتح ال يدراسة عشرة مقاصد عليا للبشرية‪ ،‬وجتزم أ َّهنا حمل احرتام لدى احلكماء‬
‫مجيعهم‪ ،‬وتقدم األدلة عليها من القرآن الكرمي‪ ،‬والسنة النبوية الكرمية‪.‬‬
‫ومع أن هذا الرتتيب للقيم العشرة قد ال يتطابق مع رؤية آخرين يف النوع والرتبة‪،‬‬
‫ولكنه حمل قبول من احلكماء والعقالء‪ ،‬وهو يرحب مبا يقدمه اآلخرون من حتديد‬
‫القيم العليا‪ ،‬ويف النهاية فإن االستناد إىل القيم العليا هو الذي تتأسس بناءً عليه‬
‫معظم األحكام القانونية يف هذا العامل‪.‬‬
‫خباصة فقهاء املالكية وهو وعي صحيح‬
‫وتشري الدراسة إىل فقه املقاصد الذي أطلقه ًّ‬
‫مبنطق التشريع‪ ،‬ولكن هذه الدراسة تنادي ابعتبار املقاصد أصالً تستخرج منها‬
‫األحكام‪ ،‬وتتم من خالله مراجعتها ومساءلتها وليس كما انتهى احلال إىل ع يدها‬
‫عمالً وصفياً ملا منارسه من تشريعات وأحكام‪.‬‬
‫وتعترب هذه الدراسة أن مبدأ املقاصد العليا اليت حررها فقهاء اإلسالم‪ ،‬هو نفسه ما‬
‫لعل خري تفسري هلا هو ما حرره الفيلسوف‬
‫ابت يعرف اليوم ابملواد فوق الدستورية‪ ،‬و َّ‬
‫الشهري "إمانويل كانط" يف كتابه ((الدين يف جمرد حدود العقل))‪.‬‬
‫‪ | 20‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لملقسصد لم ويس موقرآ ‪:‬‬


‫املقاصد العليا للقرآن هي‪ :‬املقاصد العليا لإلنسانية‪ ،‬وهي ال حتتاج ملصنفات وال‬
‫كتب شارحة‪ ،‬هي الفطرة اليت فطر الناس عليها‪ ،‬وهي القيم اليت كان يعرفها األعرايب‬
‫َّيب ساعة من زمان ويعلن إسالمه ويتحول إىل قومه مبشراً وداعياً‪...‬‬ ‫حني جيالس الن َّ‬
‫َّإهنا ليست أشياء تعلمها وال هي نصوص قرأها وال تفاسري وال شروح‪ ،‬إهنا ببساطة‬
‫حىت يعلن املرء التزامها‬
‫القيم املغروسة يف اإلنسان‪ ،‬اليت حتتاج فقط لإلرادة والعزمية َّ‬
‫والعمل هبا‪.‬‬
‫مات الرسول‪ ،‬وليس للمسلمني فكرة عن مصحف مكتوب ينسخ العقل ويفرض‬
‫احلقائق من الغيب‪ ،‬ومييز هلم اخلري من الشر‪ ،‬وحني اقرتح عمر بن اخلطاب مجع‬
‫أي أمر‬ ‫القرآن اعرتض أبو بكر غاية االعرتاض‪َّ ،‬‬
‫وعد ذلك ترفاً ال مربر له‪ ،‬فلم يرد ُّ‬
‫عن الرسول هبذا الشأن‪ ،‬ويف النهاية جرى االتفاق على مجع الواثئق ألسباب معرفية‬
‫وتراثية حبتة‪ ،‬ومل خترج الواثئق من حجرة حفصة بنت عمر إىل منتصف عهد عثمان‪.‬‬
‫أن الناس كلَّهم كانوا حيفظون‬ ‫ٍّ‬
‫خاللئذ دون قيم وال مبادئ؟ أم َّ‬ ‫هل كانت األمة‬
‫القرآن من اجللدة إىل اجللدة وال حاجة للتدوين؟ يروي البخاري يف "الصحيح"‬
‫أن الذين حفظوا القرآن كلَّه على عهد النيب الكرمي هم فقط أربعة أشخاص كلُّهم‬
‫َّ‬
‫أيب بن كعب وأبو زيد‪ ،‬واألخري ليس له‬‫من اخلزرج وهم زيد بن اثبت وأبو الدرداء و ُّ‬
‫ترمجة‪ ،‬واألربعة ليسوا هم اخللفاء وال قادة الفتوح وال أمراء السرااي وال املستشارون‬
‫الكبار‪ ،‬إهنم اخلرباء الواثئقيون الذين يديرون يف العادة املكتبة الوطنية يف جو أبعد‬
‫ما يكون عن السياسة واإلدارة واحلرب‪.‬‬
‫‪ | 21‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫إن املقاصد العليا للقرآن ليست أسراراً بوهيمية وال عجائب متخيلة َّإهنا القيم ذاهتا‬
‫َّ‬
‫الذي ما زال اإلنسان يناضل من أجلها بفطرته ونقائه وصفائه‪ ،‬هي‪ :‬التوحيد والعدل‬
‫واملساواة والرمحة والعفاف والسالم والفضيلة واخلري‪ ،‬والرذائل هي ابلضبط ما يناضل‬
‫اإلنسان ملواجهته منذ فجر التَّاريخ وهي‪ :‬الشر واملكر والغدر واخليانة والسرقة‬
‫والفحشاء‪ ،‬ومع َّ‬
‫أن فقهاء اإلسالم كتبوا طويالً يف املقاصد والقيم العليا لإلسالم‪،‬‬
‫ورمبا كانت أوضح هذه احلوارات يف التاريخ اإلسالمي هي حوارات احلسن والقبح‬
‫العقليني اليت اشتهر هبا املعتزلة‪ ،‬ودخلت يف فقه أهل السنة واجلماعة بوساطة أيب‬
‫منصور املاتريدي‪ ،‬مع اختالف يف األلفاظ واملصطلحات‪.‬‬
‫أن الوصول إىل قيم الفطرة هذه هو شأن خاص‬ ‫ولكن من الوهم أن نتصور َّ‬
‫ابملسلمني‪ ،‬بل هي القيم اإلنسانية إايها اليت حتدث عنها احلكماء والفالسفة يف‬
‫كل‬
‫كل حكمة ويف ي‬
‫كل دين ويف ي‬
‫العصور كليها‪ ،‬اليت ميكن ببساطة اكتشافها يف ي‬
‫دستور وطين أيضاً‪.‬‬
‫ورمبا كنا مدينني يف فهم هذه احلقيقة بوجهها احلضاري للفيلسوف األملان إمانويل‬
‫كانط (‪1805-1724‬م) وقد كتبه يف سياق دراساته العميقة عن الدين‬
‫وخباصة يف كتابه "الدين يف حدود جمرد العقل"‪ ،‬وهو يهدف إىل مجع‬
‫َّ‬ ‫واإلنسان‪،‬‬
‫القوى اإلجيابية من الدين واألخالق والعدالة لصياغة سلوك أخالقي ينسجم مع‬
‫العلم واحلرية والعدالة‪.‬‬
‫ويؤكد كانط َّ‬
‫أن األخالق قيم إنسانية حقيقية‪ ،‬ويتعني على الدين أن ينظم وعيه مبا‬
‫يتناسب مع القيم األخالقية‪ ،‬والدين الذي يرفض العقل والواقع سيصبح مع مرور‬
‫الزمن غري قادر على الصمود‪ .‬إ ين الوهم والتعصب الديين هو املوت األخالقي‬
‫‪ | 22‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫للعقل‪ ،‬ودون العقل لن يكون هناك دين ممكن‪ .‬ومن هنا كان كانط يطرح فكرته‬
‫الشاملة‪ :‬وكيف يتأتى لنا اخلروج من الدين الطقوسي الشعائري إىل الدين العقلي‬
‫خيص طوائف معينة أو شعوابً خاصة‬
‫الكومسولوجي؟ من دين حيمل بعداً اترخيانياً ُّ‬
‫لكل شعوب العامل البشري؟‬
‫إىل دين عقلي كون صاحل ي‬
‫وهي ابلضبط وفق التعبري القرآن ما أوحي إليك وإىل الرسل من قبلك وهي مقاصد‬
‫التوراة واإلجنيل وشريعة محورايب وتشريعات جوستنيان وما قال لك إال ما قد قيل‬
‫للرسل من قبلك‪ ،‬وهي صحف إبراهيم وصحف موسى ورسالً قد قصصناهم عليك‬
‫من قبل ورسالً مل نقصصهم عليك‪.‬‬
‫أي جلنة من‬ ‫كيف يتم حتديد الفضائل والرذائل؟ وما هي القيم وما هي الكبائر؟ َّ‬
‫إن َّ‬
‫احلقوقيني اخلرباء جتتمع يف مكة أو نيوزيالندا أو مونرتايل أو كلكتا ستصل إىل نتائج‬
‫متقاربة‪ ،‬ولدي جتربة مهمة تتصل بذلك يف عام ‪ 2014‬دعيت إىل فيينا عرب منظمة‬
‫إل أن أشارك يف جلنة تضم‬ ‫االنرتفاكشن اليت تضم رؤساء العامل السابقني وطلب َّ‬
‫خرباء من رجال األداين اخلمسة يف العامل‪ :‬اإلسالم‪ ،‬واملسيحية‪ ،‬واليهودية‪ ،‬والبوذية‪،‬‬
‫واهلندوكية‪ .‬وخرباء حقوقيني لوضع ميثاق عاملي للقيم لعرضه على األمم املتحدة‪،‬‬
‫وابلفعل جلسنا مطوالً وحتاوران ويف النهاية توصلنا إىل اتفاق على الفضائل العليا‬
‫للبشرية ميكن االستدالل هلا من القرآن واالجنيل والتوراة واملهاهباراات والفيدا وإعالن‬
‫حقوق اإلنسان‪ ،‬ومل خنتلف إال يف البنود السياسية وعلى رأسها‪ :‬بند تناقض الفيتو‬
‫وحق اإلنسان يف التمرد على احلرب الظاملة‪ ،‬وهي يف الواقع قيم‬ ‫مع القيم اإلنسانية‪ُّ ،‬‬
‫سياسية مل يكن من احلكمة إدراجها يف سعي نبيل كهذا‪.‬‬
‫‪ | 23‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫َّ‬
‫إن تكليف أي جلنة من فقهاء الشريعة الكبار وحقوقيني وتربويني أكادمييني لوضع‬
‫القيم األخالقية العليا سيحقق نتائج متشاهبة سواء كانت هذه اللجنة برائسة مكة‬
‫أو ماليزاي أو تركيا او أندونيسيا أو جزر القمر‪.‬‬

‫ستقول‪ :‬ولكن الغرب سيضع اإلابحية اجلنسية يف الفضائل!‬


‫والصواب‪َّ :‬‬
‫إن هذا وهم‪ ،‬ولدى حكماء الغرب وعقالئه ورجال دينه من النضال يف‬
‫سبيل العفاف وحماربة اإلدمان مثل ما لدينا وأكثر‪ ،‬والفضائح اجلنسية تسوق احلكام‬
‫والنبالء واملشاهري يف الغرب إىل السجون‪ ،‬واجملتمع الغريب خيوض نضاال ضارايً ضد‬
‫شركات الفحشاء عرب منظمات األسرة والدين واجملتمع والطفولة‪ ،‬وما زالت الدول‬
‫اليت خضعت البتزاز شركات الفحشاء قليلة وحمدودة‪ ،‬والذين يشرعنون هذه‬
‫املمارسات الرذيلة هم يف الغالب ال ينكرون خطرها وال بشاعتها‪ ،‬ولكنَّهم يرون َّ‬
‫أن‬
‫من واجب القانون أن يتدخل لتقليل أخطارها ومساعدة املتورطني فيها على العودة‬
‫إىل الرشاد‪.‬‬
‫إن الوصول إىل الفضائل بوساطة القرآن الكرمي هو أمر علمي متاماً ولكن ال جيوز‬ ‫َّ‬
‫أن نفرتض تناقضه مع القيم العليا اليت يصل إليها أحرار العامل وشرفاؤه‪ ،‬وقناعيت َّ‬
‫أن‬
‫البحث العلمي احلقوقي االجتماعي سيجد تطابقاً بني القيم اليت ينادي هبا القرآن‬
‫وبني روح الدساتري اليت حيتكم إليها العامل املتحضر‪ ،‬وافرتاض التناقض بني هذه القيم‬
‫هو حاجة دوغمائية دمياغوجية أكثر مما هو مطلب أبستمولوجي‪.‬‬
‫‪ | 24‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ل س ‪:‬‬ ‫لمقيم لم شر‬


‫وأنقل فيما يلي حماولة سبق أن قدمتها يف كتايب ((نظام احلكم يف اإلسالم)) وفيها‬
‫لكل نشاط يقوم به‬
‫أن القرآن الكرمي جعلها هدفاً ي‬ ‫أحدد القيم العشرة اليت أعتقد َّ‬
‫اجملتمع املسلم‪ ،‬وخالصةً لغاايت الدين وأهدافه النبيلة‪ ،‬وهي قراءة شخصية بكل‬
‫أتكيد ومن املمكن أن تكون هناك قراءات أخرى ولكنها يف اجلملة لن تعدو هذه‬
‫القيم العشرة وهي حمل احرتام وتبجيل يف الدايانت كليها ومدارس احلكمة يف األرض‪.‬‬
‫ومنضي يف حتديد هذه القيم من منطلق َّأهنا فطرة هللا اليت فطر النًّاس عليها‪ ،‬و َّأهنا‬
‫القيم اليت تكررت يف هدي األنبياء‪ :‬ﱡﭐﲑﲒﲓﲔﲕﲖﲗﲘﲙﲚﱠ‬
‫[فصلت‪]٤٣ :‬‬
‫أكدته رساالت األنبياء هو يف اجلوهر ما اندى به املصلحون خالل التاريخ‪،‬‬ ‫وما َّ‬
‫واليوم فإن املذاهب الفكريَّة واالجتماعيَّة مجيعها اليت حتقق هلا قبول يف األرض تدعو‬
‫إىل قيم متشاهبة‪ ،‬ومجيعها متفقة على فضيلة الصدق واألمانة والوفاء‪ ،‬ومتفقة على‬
‫رذيلة الكذب واخللف والغدر‪ ،‬وهكذا فهي قيَّم اتفاقية يف الفطرة اإلنسانية‪ ،‬أمجع‬
‫كل زمان ومكان وجيل‪.‬‬
‫عليها العقالء يف ي‬
‫وهنا خنتار هذه القيم العشرة اليت وجدانها مؤيدة يف كتاب هللا وسنة رسوله‪ ،‬ونعتقد‬
‫السلم‪ ،‬واملساواة‪،‬‬
‫أهنا فضائل متفق عليها بني األمم‪ ،‬وهي‪ :‬العدل‪ ،‬والشورى‪ ،‬و ي‬
‫والتكافل‪ ،‬والطَّهارة‪ ،‬والعفاف‪ ،‬واحلرية‪ ،‬والنيظام‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪.‬‬
‫وال نزعم ابلطبع أهنا القيَّم الوحيدة‪ ،‬وقد يكتب آخرون يف تصنيف آخر‪ ،‬ولكننا‬
‫أي حال لن جند من يعرتض على هذه القيم من حيث املبدأ‪ ،‬إهنا قيم اإلسالم‬
‫على ي‬
‫األوىل‪ ،‬وجنزم أهنا أيضاً قيم حمرتمة لدى احلضارات الناجحة مجيعها‪.‬‬
‫‪ | 25‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لم د ‪:‬‬
‫َّ‬
‫عد اإلسالم حتقيق العدالة اهلدف األمسى والنهائي إلرسال األنبياء والرسل‪ ،‬ويف‬
‫القرآن الكرمي‪ :‬ﱡﭐﱁﱂﱃﱄﱅﱆﱇﱈ‬
‫ﱉﱊﱠ [الحديد‪]٢٥ :‬‬
‫فجعل حتقيق العدالة غاية الرساالت وهدف النبوات وجوهر األداين‪.‬‬

‫وقد أعلن النيب الكرمي مبدأالعدالة غاية إهلية عليا‪ ،‬ويف احلديث القدسي‪" :‬ي بسدي‬
‫‪2‬‬
‫إين ح َّر ت لمظوم و نتفسي ج و ه وتيتننم حم َّر سً ف تظسماول"‬

‫وقد أرسى اإلسالم قيماً راسخة للعدالة وحتقيق املساواة بني الناس‪ ،‬ومنع بغي‬
‫بعضهم على بعض‪ ،‬وميكننا أن نتابع هنا جمموعة من أساليب الشريعة حلماية‬
‫العدالة‪:‬‬

‫• اختيار هللا تعاىل للفظ العدل امساً لذاته سبحانه‪.‬‬


‫• َّ‬
‫عد العدل غاية إرسال األنبياء ونزول الكتب السماوية‪.‬‬

‫• اقرتان العدل ابإلميان‪ ،‬واقرتان الظُّلم ابلكفر يف نصوص القرآن الكرمي‪.‬‬

‫• دعوة النَّاس إىل إقامة العدل فيما بينهم‪ُّ ،‬‬


‫وعد العدل مسؤولية فردية‬
‫وجمتمعية وحكومية‪.‬‬
‫• اشرتاط العدالة يف وظائف َّ‬
‫الدولة والدين كلها‪ ،‬وع يدها شرطاً يف الفتوى‬
‫والرواية‪.‬‬

‫‪ 2‬حديث صحيح أخرجه مسلم والترمذي عن أبي ذر الغفاري ج‪ 2‬ص ‪.188‬‬


‫‪ | 26‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫• إقامة القضاء واحملاكم وفرض شروط قاسية وصارمة الختيار القضاة‬


‫وعملهم وحماسبتهم‪.‬‬

‫• حتقيق استقالل القضاء عن السلطة التنفيذية؛ إذا كان اخللفاء يعينون الوال‬
‫ويعينون القاضي‪ ،‬وال يكون ألحدمها سلطان على اآلخر‪.‬‬

‫• تعميق حس احملاسبة واملسؤولية يف األمة‪ ،‬فال أحد فوق القانون وال أحد‬
‫فوق احملاسبة‪.‬‬

‫لمشورى‪:‬‬
‫َّص يف القرآن الكرمي مبيناً‬ ‫شك َّ‬
‫أن الشورى من أصول هذه الشريعة وقد جاء الن ُّ‬ ‫ال َّ‬
‫يف واجب االلتزام ابلشورى من قبل احلاكم‪ ،‬كما يف قوله تعاىل‪ :‬ﱡﭐ ﲎﲏ‬

‫ﱥ‬
‫ﱟﱡ ﱢ ﱣﱤ ﱦ‬
‫ﱠ‬ ‫ﲐﱠ [الشورى‪ ،]٣٨ :‬وقوله تعاىل‪ :‬ﱡﭐﱝﱞ‬

‫ﱧﱨﱩﱪﱫﱠ [آل عمران‪ ،]١٥٩ :‬والشورى مصلحة حقيقية لإلمام‬


‫الرعية‪ ،‬وعلى املستشار أن يكون أميناً انصحاً واملستشار الذي يزين لسيده فعاله‬
‫و َّ‬
‫وال جيرؤ أن ينصحه أو يبني له خطأ فهو مستشار سوء‪ ،‬ال ميكن الركون إليه‪ ،‬وهو‬
‫صورة فساد يعود وابهلا على األمة‪ ،‬ويف هذا املعىن كتب اين سينا يف كتاب السياسة‪:‬‬
‫رجوا َعن ُسلْطَان‬
‫أحق النَّاس ابلنُّصح وأحوجهم إلَْيه الرؤساء‪ ،‬فَإن َه ُؤَالء ملا َخ ُ‬ ‫"و ُّ‬
‫التثبت َو َعن َملكة التَّصنُّع ترُكوا االكرتاث للسقطات َوتعقب اهلفوات ابلندمات‬
‫فاستمرت َع َادهتم على َكثْ َرة االسرتسال َوقلة االحتشام إَّال قَليال مْن ُهم برعت عُ ُق ْ‬
‫وهلم‬
‫ورجحت أحالمهم ونفذت يف ضبط أنفسهم بصائرهم فحسنت سريهتم واستقامت‬
‫‪ | 27‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫َّعبري ابملعايب‬
‫طريقتهم َوممَّا َزاد يف عظم بالئهم ابكتتام عيوهبم أَهنم هيبوا َعن الت ْ‬
‫‪3‬‬
‫اجهة‪َ ،‬و َعن النَّ ْقص والذم مشافهة وخيفوا يف إعالن الثلب والعضب والشنع‪.‬‬ ‫ُم َو َ‬
‫وقد اختلف الف قهاء يف طبيعة الشورى اليت أمرت هبا الشريعة وهل الشورى ملزمة‬
‫أم معلمة؟‬
‫ومن املمكن حترير املسألة كاآليت‪:‬‬
‫املستشارون على نوعني‪ :‬نوع خيتارهم احلاكم لنفسه ليستعني هبم يف فهم األمور‬
‫حق تعيينهم وعزهلم‪ ،‬فالشورى هنا معلمة وغري ملزمة‪،‬‬‫والنظر فيها‪ ،‬وميلك وحده َّ‬
‫ونوع آخر من املستشارين خيتارهم الشعب وتكون هلم صفة متثيلية دستورية يلتزم هبا‬
‫احلاكم والناس‪ ،‬على وفق الدستور الذي احتكموا إليه‪ ،‬وهنا تكون الشورى ملزمة‬
‫وليست معلمة‪ ،‬وهذا كلُّه حيدده الدُّستور الذي توافق عليه احلاكم والناس‪ ،‬وهو‬
‫املقصود مباشرة بقول هللا تعاىل‪ :‬ﱡﭐﱺﱻﱼﱽﱾﱠ [المائدة‪]١ :‬‬
‫نؤصل لنظرية متكاملة يف الدميقراطية والشورى من الكتاب‬
‫وابلطبع ال ميكن أن ي‬
‫والسنة‪ ،‬وال ميكن حتديد عدد النواب وشروط ترشيحهم وشكل انتخاهبم وعدد‬
‫الغرف الربملانية ونسبة الناخبني من القرآن وال من السنة‪ ،‬وابلتأكيد فليس هذا مراد‬
‫القرآن وال غايته‪ ،‬بل هو إهلام لألمة اإلسالمية أن ختتار منطاً مناسباً من الشورى‪،‬‬
‫دون التقييد بنمط حمدد‪.‬‬

‫‪ 3‬ابن سينا‪ ،‬أبو علي الشيخ الرئيس‪ ،‬الحسين بن عبد هللا‪ ،‬من محموع في السياسة تحقيق فؤاد عبد‬
‫المنعم‪،‬ص ‪.88‬‬
‫‪ | 28‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ومن معامل الشورى يف نظام احلكم الرشيد‪:‬‬

‫• منزلة الشورى كما بينها القرآن والسنة‪ ،‬ﱡﭐﲎﲏﲐﱠ [الشورى‪:‬‬


‫‪.]٣٨‬‬
‫• شورى هللا للمالئكة يف اخللق مع أنَّه غين عن العاملني‪.‬‬

‫• شورى َّ‬
‫الرسول للصحابة مع أنَّه مؤيد ابلوحي‪.‬‬

‫• التشريع ابإلمجاع الذي هو نوع رفيع من الشورى الرشيدة‪.‬‬

‫• الشورى ليس صواتً وعدداً بل هي مسؤولية وحماسبة‪.‬‬

‫• الشورى َّ‬
‫خاصة أبهل العقل واالستقامة وليس كل أحد أهالً أبن يستشار‪.‬‬

‫• االستبداد ي‬
‫بكل صوره مناقض للشورى‪ ،‬وال ميكن لنظام مستبد أن يكون‬
‫إسالمياً‪.‬‬

‫لمسوم‪:‬‬
‫السالم‪،‬‬
‫السلم‪ ،‬وامسه مشتق من السلم‪ ،‬وهللا تعاىل هو َّ‬
‫السلم‪ ،‬ورسالته ي‬
‫اإلسالم دين ي‬
‫السالم‪ ،‬وحتية أهل اجلنة‬
‫السالم‪ ،‬ويف اجلنة ابب يقال له‪ :‬ابب َّ‬
‫وحتية املسلمني َّ‬
‫ين‪.‬‬
‫وها َخالد َ‬
‫السالم‪ ،‬ويقال هلم‪ :‬سالم عليكم طْب تُم فَ ْاد ُخلُ َ‬
‫َّ‬
‫ويف ثقافة املسلم اليت أمرت هبا السنة النبوية‪ ،‬أن تقرأ السالم على من عرفت ومن‬
‫مل تعرف‪.‬‬
‫ويف الفقه اإلسالمي فإن الفرض دوماً أفضل من السنة وأعظم أجراً‪ ،‬إال يف ابب‬
‫ورد السالم فرض‪ ،‬ومع ذلك فإن السنة هنا أفضل‬ ‫السالم فإن إلقاء السالم سنة ُّ‬
‫‪ | 29‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫من الفريضة‪ ،‬وإذا تصافح املؤمنان أنزل هللا مئة رمحة تسع وتسعون منها ألبشهما‬
‫يف وجه صاحبه‪.‬‬

‫السالم شعار أهل اإلسالم‪ ،‬وقال‪" :‬ال حيل ماسوم أ يتهجر أ سهٌ فتوق‬
‫وجعل َّ‬
‫مس "‪.‬‬
‫‪ ،‬يتو قيس فتيت رض تمجل يت رض تمجل‪ ،‬يهس لممجي يتبدأ صسحبه ب َّ‬ ‫ث‬

‫ويف احلديث عن بناء الدولة النبوية األوىل ستجد أن الرسول الكرمي خاض مخس‬
‫جتارب لبناء الدولة يف مكة واحلبشة والطائف واحلرية واملدينة‪ ،‬وأنَّه واجه أعىت صدود‬
‫أي سالح أو عنف يف هذه احملاوالت‬ ‫وظلم وقهر‪ ،‬ولكنه مل يستخدم على اإلطالق َّ‬
‫بد من أتكيد القول‪ :‬إنه‬ ‫اخلمس‪ ،‬وهذا مما اتفق عليه املسلمون وخصومهم‪ ،‬وال َّ‬
‫أجنز ذلك كلَّه دون عنف وال دماء أتكيداً لروح السلم يف الرسالة اإلسالمية الكرمية‪.‬‬

‫ومن املؤكد أنه دعا إىل اجلهاد بعد قيم الدولة وذلك بعد أن أصبح مسؤوالً حقوقياً‬
‫وأخالقياً عن محاية َّ‬
‫الدولة والنَّاس‪.‬‬
‫ويف األحوال كليها فقد اخرتان إرجاء احلديث عن اجلهاد إىل فصل مستقل يف الباب‬
‫الثالث املخصص للمسائل اإلشكالية؛ إذ تتم اإلجابة على أسئلة كثرية تتصل‬
‫ابجلهاد‪.‬‬
‫وميكن القول إن اإلسالم حقق السلم ثقافة وسلوكاً بوساطة سلسلة من النجاحات‬
‫يف احلقل السلمي نلخصها يف اآليت‪:‬‬

‫• على املستوى الداخلي لإلنسان‪ ،‬فاسم اإلسالم مشتق من السلم‪ ،‬والسالم‬


‫شعرية من شعائر الدين وهو حتية الصالة وحتية اجلنة‪.‬‬
‫‪ | 30‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫• على مستوى الدولة املسلمة وجرياهنا فاألصل يف بناء العالقات الدولية هو‬
‫السلم ال احلرب‪ ،‬وقد رسخ الرسول هذا املنهج بوساطة صلته ابلنجاشي‬
‫واملقوقس واملنذر بن ساوى‪.‬‬

‫• على مستوى األداين؛ إذ أسس لسلم بني أتباع األداين َّ‬


‫وعد اإلميان‬
‫وعد احلفاظ على‬ ‫ابألنبياء والكتب جزءاً ال يتجزأ من أركان اإلميان‪َّ ،‬‬
‫الصوامع والبيع والصلوات واملساجد مسوؤلية الدولة املسلمة‪ ،‬وإرادة هللا يف‬
‫الدفع بني الناس‪.‬‬

‫عد احلرب كرهاً وشراً‪ ،‬ﱡﭐﱁﱂﱃﱄﱅﱆﱠ [البقرة‪:‬‬


‫• َّ‬
‫‪ ]٢١٦‬ووصفها القرآن أبهنا صنع األشرار كلما أوقدوا انراً للحرب أطفاها‬
‫هللا‬
‫أي اشتباك عسكري مهما كانت أهدافه ﱡﭐ ﳈ‬ ‫• َّ‬
‫عد السلم غاية هنائية يف ي‬
‫ﳉﳊ ﳋﳌﳍﳎﳏﳐﱠ [األنفال‪.]٦١ :‬‬
‫• الدعوة إىل السلم غاية هنائية‪ ،‬تشمل الناس كافة‪ُّ ،‬‬
‫وعد احلرب والقتال‬
‫سبيل الشيطان‪ :‬ﱡﭐﲝﲞﲟﲠﲡﲢﲣﲤ‬

‫ﲧﲩﲪﲫﲬﲭﱠ [البقرة‪]٢٠٨ :‬‬


‫ﲨ‬ ‫ﲥﲦ‬

‫لملسس ل ‪:‬‬
‫وخباصة أنه‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫إن حتقيق املساواة واحد من أبرز أهداف اإلسالم النبيلة يف األرض‪،‬‬
‫بعث يف جمتمع يعترب األصل بني الناس التفاضل والتفاوت‪ ،‬وقد كانت نقمة قريش‬
‫على الرسالة اإلسالمية أهنا تسوي بني األحرار والعبيد وبني السوقة والسراة‪.‬‬
‫‪ | 31‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وميكن اإلشارة إىل أهم اجلوانب اليت حققها اإلسالم يف إطار املساواة‪:‬‬

‫املساواة بني املرأة والرجل يف االعتبار اإلنسان والكرامة اإلنسانية ﱡﭐﲁ‬

‫ﲅﲇﲈﲉﲊﲋ ﱠ‬
‫ﲆ‬ ‫ﲂﲃ ﲄ‬
‫[التوبة‪]٧١ :‬‬
‫وبعد تقرير املساواة يف الكرامة واحلقوق قام الشرع بتوزيع املسؤوليات وفق التزامات‬
‫كل جانب وظروفه وما فطر عليه‪.‬‬
‫ي‬
‫بكل سبيل‪ ،‬وقد استخدم‬‫املساواة بني األحرار والعبيد‪ ،‬والدعوة إىل إعتاق العبيد ي‬
‫الشرع أساليب كثرية لتحرير العبيد تبدأ ابإلعتاق الطوعي مث الكفارات والنذور‬
‫والصدقات‪ ،‬مث املكاتبة والتدبري ونظام أم الولد‪ ،‬مث الدعوة إىل التحرير بوساطة‬
‫مصارف الزكاة‪ ،‬وعلى الرغم من عودة الرق بعد موت الرسول‪ ،‬ولكن الرسول أجنز‬
‫برانجماً حتررايً فريداً‪ ،‬وميكن القول‪َّ :‬‬
‫إن العبيد واإلماء قد متَّ حتويلهم إىل موال معتقني‬
‫ومل يرتك رسول هللا يف ملكه عبداً وال أمة‪.‬‬
‫ومن معامل املساواة يف اإلسالم‪:‬‬

‫• إعالن املساواة بني األحرار والعبيد‪ ،‬ووجوب عمل األمة على حترير العبيد‬
‫كلهم‪.‬‬

‫• إعالن املساواة بني النساء والرجال يف املسؤوليات العامة‪ ،‬ويف احلساب‬


‫الدنيوي واألخروي‪ ،‬والتأكيد على أن القوامة هي مسؤولية وتكليف‬
‫وليست امتيازاً وتشريفاً‪ ،‬و َّ‬
‫أن املرأة قادرة على اشرتاط العصمة هلا يف أصل‬
‫العقد‪.‬‬
‫‪ | 32‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫• َّ‬
‫إن التمييز بني النساء والرجال يف املرياث يرجع العتبارات حقوقية تتصل‬
‫ابالنفاق وااللتزامات وليس ملزااي غيبية منحت للرجال‪.‬‬

‫جاي إ َّال‬ ‫و‬ ‫• إعالن املساواة بني العرب والعجم‪" ،‬ال فضل م ر‬
‫بمتَّقوى"‪.‬‬

‫• تقرير مزيد من املسؤولية يكافئ املزااي اليت حيصل عليها املقربون وأبناء‬
‫املسؤولني‪ :‬ﱡﭐ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ‬
‫ﳄﱠ [األحزاب‪]٣٠ :‬‬
‫ﳅ‬ ‫ﳃ‬
‫ت‬ ‫ٍّ‬ ‫• ويف املعىن نفسه احلديث‪َ " :‬و ْأميُ هللا لَ ْو أ َّ‬
‫ت لََقطَ ْع ُ‬
‫ت ُحمَ َّمد َسَرقَ ْ‬
‫َن فَاط َمةَ بْن َ‬
‫‪4‬‬
‫يَ َد َها"‬

‫• التأكيد على املساواة املطلقة يف احلساب األخروي‪ ،‬ومن ذلك قول الرسول‬
‫الكرمي نفسه‪" :‬أََّما أَ َان فَ َال أَ ْدر ْي َما يَ ْف َع ُل هللاُ يب" وهو موقف ملهم لتأكيد‬
‫املساواة يف املسؤولية واحملاسبة بني الناس‪.‬‬

‫لم نسفل‬
‫إ َّن التَّكافل هو أحد القيم اإلسالمية الرئيسة اليت حققها نظام احلكم يف اإلسالم‪،‬‬
‫وجاره إىل جنبه جائع‬
‫مبؤمن من ابت شبعان ُ‬‫وهو مقتضى قول النيب الكرمي‪ " :‬ليس ٍّ‬
‫يعلم"‬
‫وهو ُ‬

‫‪ 4‬متفق عليه‪ ،‬رواه البخاري في الجامع الصحيح عن عائشة‪ ،‬ج ‪ 4‬ص ‪.175‬‬
‫‪ | 33‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لكن‬ ‫ومبىن التكافل على مسؤولية َّ‬


‫الدولة جتاه األفراد ومسؤولية األفراد جتاه الدولة‪ ،‬و َّ‬
‫لعل األهم من ذلك هو مسؤولية‬ ‫هذا اجلانب احلكومي ليس إال جانباً من التكافل‪ ،‬و َّ‬
‫اجملتمع املدن الذي ال ميلك قراراً سياسياً‪ ،‬ولكنه ينشط يف حتقيق التكافل والتكامل‪.‬‬

‫وتندرج يف نشاطات التكافل املعتربة يف الشريعة‪:‬‬

‫• الزكاة وفق املصارف الثمانية اليت حددهتا اآلية ﱡﭐﲐﲑﲒﲓ‬

‫ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ‬
‫ﲤ ﲦﲧ‬
‫ﲠ ﲢﲣ ﲥ‬
‫ﲡ‬ ‫ﲛ ﲜﲝ ﲞ ﲟ‬
‫ﲨ ﲩ ﱠ [التوبة‪ ،]٦٠ :‬فهذه كلُّها جوانب من التكافل‬
‫االجتماعي لقيام اجملتمع مبسؤولية التكافل بني أفراده‪.‬‬
‫• الصدقات‪ :‬وهو ابب مفتوح من اخلري ازدهر يف اإلسالم وحققت دعوات‬
‫الرسول الكرمي للمبادرة يف الصدقة الطوعية جناحاً كبرياً يف أتمني التكافل‬
‫االجتماعي‪.‬‬

‫• الوقف‪ :‬وهو حبس العني ومتليك املنفعة‪ ،‬وقد حقق الوقف أعظم جناح‬
‫على املستوى التكافلي يف اجملتمع‪ ،‬وأصبحت معظم مرافق املدينة‬
‫اإلسالمية القدمية أوقافاً يصرفها األغنياء على جاحات اجملتمع وترتبط‬
‫ابمسهم والدعاء هلم‪.‬‬

‫• التكافل اجلربي‪ :‬وهي إجراءات قامت هبا الشريعة أتكيداً ملسؤولية التكافل‬
‫وإلزاماً هبا حني يتقاعس الناس عن التكافل الطَّوعي‪ ،‬ومن صور التكافل‬
‫اجلربي الذي فرضه اإلسالم‪ :‬نظام املرياث‪ :‬وهو نظام جربي ملزم لتحقيق‬
‫التكافل على مستوى القرابة والعصوبة والرحم‪ .‬ونظام الدايت‪ :‬وهو نظام‬
‫‪ | 34‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫تكافل جربي فرضه الشارع لتحقيق العدالة والتكافل‪ ،‬وتوفري تعويض ٍّ‬
‫جمز‬
‫ملن نكب بقرابته ومساعدة من تورط ابلقتل اخلطأ إلعادة أتهيله يف‬
‫اجملتمع‪.‬‬

‫الكفارات والنذور‪ :‬وهي أبواب من التكافل االجتماعي كستها‬ ‫• الصدقات و َّ‬


‫الشريعة ثوابً دينياً مكلالً بثواب هللا تعاىل ورضوانه‪ ،‬وكان هلا أعظم األثر‬
‫يف حتقيق التكافل االجتماعي‪.‬‬
‫وإمنا أوردان هذه األبواب على سبيل املثال‪ ،‬وسبل التكافل االجتماعي يف التاريخ‬
‫مشرعة‪.‬‬
‫اإلسالمي كثرية وأبوابه َّ‬
‫لم هسر ‪:‬‬

‫ال نعرف ديناً من األداين أو ثقافةً من الثقافات أكدت االهتمام ابلطهارة والصحة‬
‫كما قدَّمها اإلسالم‪ ،‬فقد اعتربت الطهارة شرطاً للصالة والصيام واحلج‪ ،‬وابت فقه‬
‫الطهارة َّأو ُل ما يتلقاه طالب العلم على مقاعد الدَّرس‪.‬‬

‫نص الرسول الكرمي على منزلة الطهارة فقال‪" :‬الطُّ ُه ُ‬


‫ور َشطُْر اإلميَان"‪ ،‬وأمر هللا‬ ‫وقد َّ‬
‫كل صالة‪ :‬ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ‬
‫هبا عند ي‬
‫ﱑﱠ‬
‫ﱒ‬ ‫ﱉﱊﱋﱌ ﱍﱎ ﱏ ﱐ‬
‫[المائدة‪]٦ :‬‬
‫كل جوانب العناية الصحية وازدهار‬
‫يضم يف معانيه َّ‬ ‫شك َّ‬
‫أن مصطلح الطهارة ُّ‬ ‫وال َّ‬
‫علوم الطب والصيدلة واألقراابذين اليت ابتت مسة احلضارة اإلسالمية عرب التاريخ‪.‬‬
‫‪ | 35‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ومن املمكن رصد جوانب عدَّة من الطهارة بوصفها قيمة عليا يف الدين ومقصد‬
‫أساسي من مقاصد الشريعة الغراء يف بناء احلياة‪:‬‬
‫ُّ‬
‫شك َّ‬
‫أن ارتباطها‬ ‫• الطهارة شرط الصالة وشرط الصيام وشرط احلج وال َّ‬
‫ابلنسك الديين مينحها منزلة سامية يف سلم األولوايت يف نظام احلكم‬
‫اإلسالمي‪.‬‬

‫كل علم نبيل حيقق طهارة األجساد وسالمتها‬ ‫• الطهارة أصل يندرج حتته ُّ‬
‫وعافيتها‪ ،‬وهي أم الطب وسر العافية‪ ،‬يقول العز بن عبد السالم‪" :‬الطب‬
‫كال شرع وضع جللب مصاحل السالمة والعافية‪ ،‬ولدرء مفاسد األعطاب‬
‫واألسقام" ويقول اإلمام الشافعي‪" :‬ال أَعلَم ع ْل َماً بَ ْع َد احلالل َواحلرام أَنْبَ ُل‬
‫ب"‪.‬‬
‫م َن الطي ي‬
‫• َّ‬
‫إن حتقيق طهارة اجملتمع مادايً وروحياً‪ ،‬وتوفري جمتمع نظيف وطاهر مكاانً‬
‫وجسداً هو غاية حقيقية لألمة‪ُّ ،‬‬
‫ويعد جناح اجملتمع يف جوانب النظافة‬
‫والصحة‪ ،‬وتطور علومها مؤشراً على التزام هذا النظام بقيم اإلسالم‬
‫العظيمة‪.‬‬

‫لم فست‪:‬‬
‫رمبا كان من العفاف واحداً من القيم اليت ينفرد به النظام اإلسالمي‪ ،‬أو أنه يوليها‬
‫يعد العفاف قيمة وغاية ورسالة وهدفاً‪ُّ ،‬‬
‫ويعد العفاف‬ ‫اهتماماً أكرب من غريه؛ إذ ُّ‬
‫مقياساً اللتزام اجملتمع بقيم اإلسالم وروحه ورسالته‪ ،‬فيما يبدو العفاف يف الثقافة‬
‫السياسية عموماً شأانً اثنوايً يتصل ابحلرية الفريدة‪.‬‬
‫‪ | 36‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫واإلسالم يتجه لبناء اجملتمع العفيف‪ ،‬الذي حتظى فيه األسرة ابملكانة الالئقة‪،‬‬
‫ويسودها احلب واالحرتام والوفاء‪.‬‬

‫ﱵﱷﱸﱹ‬
‫ﱶ‬ ‫ﱡﭐ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ‬
‫ﱺﱻﱠ [النور‪]٣ :‬‬
‫ولتحقيق هذه الغاية فإن اإلسالم َّ‬
‫عد الفاحشة سبباً مدمراً لألسرة‪ ،‬وشرع سلسلة‬
‫من اإلجراءات اليت تفرض العفاف يف اجملتمع وحتول دون انتشار اخلالعة واجملون‬
‫واالحنالل األخالقي واألسري‪ ،‬وميكن القول إن مستوى العفاف يف اجملتمعات‬
‫اإلسالمية زال متفوقاً على نظرائه من اجملتمعات‪ ،‬على الرغم من التقدم احلضاري‬
‫اهلائل الذي أجنزه الغرب‪.‬‬

‫وميكن رصد عدد من هذه اإلجراءات‪:‬‬

‫• حترمي أشكال التواصل اجلنسي كليها إال يف إطار الزواج الشرعي‪ ،‬وذلك‬
‫محاية لنظام النسل واالسرة الذي عليه قوام اجملتمعات واحلضارات‪.‬‬

‫• وضع ضوابط حمددة لضبط نظام األسرة يف إطار الزواج والطالق واملرياث‬
‫والوصااي‪ ،‬حبيث تكون نظاماً عاماً للمجتمع ال يسمح ابخلروج عليه‪.‬‬

‫• تشريع عدد من املؤيدات والوسائل املعتربة لتشجيع الزواج والرتويج له‬


‫وتيسري سبل نفقاته والتزاماته‪.‬‬

‫• تشريع عدد من العقوابت اجلزائية ضد العابثني بنظام العفاف واألسرة يف‬


‫اجملتمع – عقوبة الزان‪ ،‬عقوبة الشذوذ‪ ،‬عقوبة الزواج غري املشروع‪.‬‬
‫‪ | 37‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫• تشريع عدد من القوانني الصارمة فيما يتصل ابلنسب واالستلحاق‪،‬‬


‫وحاالت جمهول النسب‪ ،‬وذلك ملنع العبث بنظام األسرة‪.‬‬

‫• محاية العفاف والفضيلة ومنع التهتك والنشاط اإلابحي‪ ،‬وتقييد احلرايت‬


‫اجلسدية مبا ال يؤذي عفاف اجملتمع‪.‬‬

‫لحلري ‪:‬‬
‫قامت الرسالة اإلسالمية على مبدأ حترير الرقاب وتوفري احلرية للمحرومني والقضاء‬
‫الرق ونظام اإلماء‪.‬‬
‫على ي‬
‫الرق‪ ،‬وهو أمر يتفق عليه املسلم‬
‫وال ينكر أحد مدى ما حققه اإلسالم يف حماربة ي‬
‫وغري املسلم‪ ،‬ومع ذلك جيب اإلشارة إىل أن موقف حماربة الرق يف حياة الرسول‬
‫ﷺ كان أقوى وأرسخ من العصور التالية اليت تراجعت كثرياً عن رتبة النبوة يف احلرية‬
‫والتحرر‪.‬‬
‫ومل تكن مسألة حترير العبيد إال جانباً واحداً من قضااي التحرر اليت أعلنتها الرسالة‬
‫اإلسالمية وعملت على حتقيقها يف اجملتمع‪.‬‬
‫وميكن رصد عدد من اجلوانب اليت أجنز فيها اإلسالم انتصاراً حقيقياً للحرية من‬
‫خالل اجلوانب اآلتية‪:‬‬
‫حرية الذات‪ :‬وتشتمل على حترير الرقاب واإلعتاق ومساعدة اإلماء على نيل احلرية‪،‬‬
‫والدفع ابجتاه احلرية‪ ،‬وهذا ما ميكن االطالع عليه يف الفصل اخلاص حول الدولة‬
‫النبوية وإجنازها يف احلرية‪ ،‬ومن معامل حترير الذات يف اإلسالم‪:‬‬
‫‪ | 38‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫• حترمي االسرتقاق مطلقاً واعتبار ما جرى يف خيرب منسوخاً آبية ﱡﭐﱼﱽ‬


‫ﱾﱿﲀﱠ [محمد‪ ]٤ :‬وكذلك بفعل النيب الكرمي يوم حنني‪.5‬‬
‫• حترير ي‬
‫الرقاب على أساس الطاعة والعبادة والقربة إىل هللا‪.‬‬

‫• حترير الرقاب على أساس املسؤولية اجلزائية (الكفارات والنذور واحلنث)‪.‬‬

‫• حترير الرقاب على أساس كفاءة العبد وقدرته (املكاتبة)‪.‬‬

‫• حترير العبيد على أساس مسؤولية الدولة املباشرة وفق نص القرآن‪ :‬ﱡﭐﲙ‬

‫ﲚﱠ [التوبة‪]٦٠ :‬‬


‫• جناح الرسول الكرمي يف القضاء على الرق يف املدينة وحتويل العبيد كلهم‬
‫إىل موال‪.‬‬

‫• إن عودة ي‬
‫الر يق بعد الرسول ليس دليالً على مشروعيته‪ ،‬وهو متاماً كفشو‬
‫اخلمور والغلمان يف قصور اخللفاء واالستهانة هبا‪.‬‬

‫• جرى اإلمجاع اليوم على حترمي االسرتقاق بصوره كافة‪ ،‬وقد دخلت الدول‬
‫اإلسالمية كلها بال استثناء يف عقود دولية ملزمة شرعاً وقانوانً حترم الرق‬
‫كله‪.‬‬

‫حري لمل قد‪ :‬ومع أن هذه املسألة حتظى عادة ابخلالف بني الفقهاء ولكن من‬
‫املؤكد أن القرآن الكرمي طافح ابلتأكيد على حرية املعتقد‪ :‬ﱡﭐﳎﳏﳐﳑ ﱠ‬
‫[البقرة‪]٢٥٦ :‬‬

‫‪ 5‬هذه المسالة خالفية‪ ،‬ويراها بعضهم من باب المباح‪ ،‬ولكن الخالف فيها انتهى بترجيح والة األمر في‬
‫العالم اإلسالمي كله بمنع الرق‪ ،‬ومن المعلوم أن ولي األمر له ان يحظر بعض المباح اتفاقاً‪.‬‬
‫‪ | 39‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ﱟ ﱡﱢﱣ ﱤﱥ‬
‫ﱠ‬ ‫ﱡﭐ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ‬

‫ﱦﱧﱠ [يونس‪]٩٩ :‬‬


‫ويقوم اجلدل ابستمرار بني الفقهاء يف مسألة ح يد الردة‪ ،6‬ولكن مجهرة كبرية من‬
‫ضد الدولة والناس‪ ،‬و َّ‬
‫أن‬ ‫حد الردة مرتبط مبمارسة احلرابة َّ‬ ‫نصوا على َّ‬
‫أن َّ‬ ‫الفقهاء ُّ‬
‫عقاب املرتد مقدر مبمارساته وليس أبفكاره‪ ،‬ويف ذلك يقول اإلمام النووي‪:‬‬
‫"كما اتفق الفقهاء وكتب السري أن الرسول الكرمي مل يطبق َّ‬
‫حد الردة قط‪ ،‬وأن قتل‬
‫ثالثة من املهدورين يوم الفتح كان يف ظروف احلرب والقتال‪ ،‬وكان نتيجة أفعال‬
‫اقرتفوها وليس نتيجة خيار فكري"‪.‬‬

‫حري لم بي‪ :‬أتكدت حرية التعبري من اختالف الصحابة يف الفتوى منذ فجر‬
‫األول‪ ،‬وظهرت‬
‫اإلسالم األول‪ ،‬فقد ابت اخلالف يف التعبري صورة اجملتمع اإلسالمي َّ‬
‫قسمة أهل الرأي وأهل احلديث‪ ،‬وأهل العقل وأهل األثر‪ ،‬وأهل االجتهاد وأهل‬
‫َّص‪ ،‬وأهل الظاهر وأهل التأويل‪ ،‬مث تكرست هذه احلرية الفكرية يف ظهور مذاهب‬
‫الن ي‬
‫حباهلا ختتلف يف األصول والفروع‪ ،‬ولكنها قائمة على االحرتام والتقدير‪ ،‬وهو ما‬
‫تقرؤه يف كتب احلنفية والشافعية واملالكية واحلنبلية كلها‪ ،‬إال قلة من أهل التعصب‬
‫غري ذات ابل‪.‬‬

‫حري لملوق لمسيسسي‪ :‬ومع أن االستبداد اترخيياً كان يقمع الرأي املخالف‪ ،‬وهو‬
‫أمر ال ميكن تربيره وال الدفاع عنه‪ ،‬ولكننا نستطيع أن جند اختالف الرأي يف أكرب‬
‫الص يديق اليت كانت َّأول قرار اختذ‬
‫املسائل السياسية منذ فجر اإلسالم‪ ،‬فعند بيعة ي‬
‫وصرحت فاطمة بنت‬ ‫صرح سعد بن عبادة برفض البيعة َّ‬ ‫بعد وفاة الرسول فقد َّ‬
‫‪ 6‬مدار حد الردة على حديث‪ :‬من بدل دينه فاقتلوه‪ ،‬وهو حديث انفرد به عكرمة‪ ،‬وال يصح أن تراق‬
‫الدماء بحديث آحاد‪ ،‬كما أنه شاذ لمخالفته الصريحة والجلية لنص القرآن الكريم‪ :‬ال إكراه في الدين‪.‬‬
‫‪ | 40‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫رسول هللا بذلك‪ ،‬ومع كل منهما عشرات من الصحابة‪ ،‬ولكن كتب التاريخ كليها‬
‫تتفق على احرتام األمة ملنزلة السيدة فاطمة ومنزلة سعد بن عبادة َّ‬
‫أشد االحرتام‬
‫كل كتب التاريخ َّ‬
‫أن مؤرخاً مسلماً معترباً ذكر فاطمة‬ ‫ووافر التقدير‪ ،‬وال نعلم يف ي‬
‫بسوء أو ذكر سعد بن عبادة بسوء‪.‬‬

‫حق النَّاس يف اختيار عاداهتم وتقاليدهم‪،‬‬ ‫حري لم سدل لم قسميد‪َّ :‬‬


‫أقر اإلسالم َّ‬
‫أقر الرسول ما كان جيري يف فرح األنصار من الغناء واللهو والفرح والطرب‪َّ ،‬‬
‫وعد‬ ‫و َّ‬
‫هم أبو بكر أن ينهى النساء عن‬ ‫احرتام هذه العادات أمراً حمموداً يف الشرع‪ ،‬وحني َّ‬
‫فإهنَا َّأايم ع ٍّ‬
‫يد‬ ‫ْر‪ُ َّ ،‬‬ ‫الغناء يف يوم عيد األنصار هناه رسول هللا وقال‪َ " :‬د ْع ُهما اي َأاب بَك ٍّ‬
‫‪7‬‬
‫"‬
‫وقد استقر الفقهاء على قاعدة شهرية ال نعلم هلا خمالفاً‪ ،‬وهي أن األصل يف العبادات‬
‫احلرمة إال ما ورد فيه نص‪ ،‬واألصل يف العادات اإلابحة إال ما ورد يف النهي عنه‬
‫نص‪.‬‬
‫كل ما يروج من منع الناس من عادات معينة وأفراح معتادة هو‬ ‫وميكننا القول‪َّ :‬‬
‫إن َّ‬
‫جتاوز لطبيعة الشريعة‪ ،‬وتقيدد حلرية الناس بغري حق‪ ،‬وهو غري مألوف يف الشريعة‪.‬‬

‫حري لمسفر‪ :‬لقد أكدت الشريعة على حرية السفر َّ‬


‫وحق اإلنسان يف االنتقال بني‬
‫بالد هللا َّ‬
‫وحق ه يف العودة إىل بالده‪ ،‬والنصوص القرآنية يف هذا املعىن أكثر من أن‬
‫حتصى‪ ،‬ﱡﭐﱽﱾﱿﱠ [سبأ‪ ،]١٨ :‬ﱡﭐﲁﲂﲃﲄﲅﲆ‬

‫‪ 7‬متفق عليه‪ ،‬وهو في صحيح البخاري عن عائشة‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.23‬‬


‫‪ | 41‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ﱟﱡ‬
‫ﱠ‬ ‫ﱠ [سبأ‪ ،]١٨ :‬ﱡﭐﱔﱕﱖﱗﱘﱙﱚﱛﱜﱝﱞ‬ ‫[‬

‫ﱢﱣﱠ [الملك‪.]١٥ :‬‬


‫حق اإلنسان يف السفر والتشجيع فرض اإلسالم نصيباً خاصاً يف‬ ‫ويف سبيل توفري ي‬
‫خزينة الدولة البن السبيل‪ ،‬ومعناه خدمة املسافرين يف األرض وتوفري اخلاانت والنزل‬
‫واخلانقاهات على دروب السفر؛ ليجد النَّاس الراحة واألمان واملتعة يف السفر‬
‫وليتمكنوا من السفر والعودة حيث يشاؤون‪.‬‬
‫احلرية االقتصادية‪ :‬ميكن اعتبار احلرية االقتصادية مبدأ اثبتاً يف هدي النيب الكرمي‬
‫حق اإلنسان يف التملك ومسؤولية‬ ‫لبناء دولته‪ ،‬تشريعات اإلسالم كليها قائمة على ي‬
‫الدولة يف محاية األموال واألعراض‪ ،‬وأن متلك املال والتصرف به حق من حقوق‬
‫األفراد ال تتدخل الدولة فيه إال عندما يتقاطع مع حقوق اآلخرين‪.‬‬
‫ويف سبيل ذلك ميكن أن نالحظ أحكام البيع والشراء واملعاوضة واملساقاة واملهاأية‬
‫واملزارعة والتجارة واالستصناع واهلبة واملرياث والوصااي والوقف مبسوطة ابلتفصيل‬
‫حق اإلنسان يف التصرف مبا ميلك وحترمي‬ ‫يف كتب الفقه اإلسالمي ومدارها على ي‬
‫تدخل الدولة يف االقتصاد الفردي إال بقدر حقوق َّ‬
‫الدولة املشروعة‪.‬‬
‫‪ | 42‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لمنظس ‪:‬‬
‫إن احلديث عن احلرية قيمة عليا يف اإلسالم ال يعين َّ‬
‫أن احلرايت سائبة منفلتة بال‬ ‫َّ‬
‫قيود‪ ،‬بل يعين بوضوح َّ‬
‫أن احلرية حتتاج أيضاً إىل نظام حيميها ويرعاها‪ ،‬وهذا ما‬
‫حققه اإلسالم أيضاً كقيمة عليا من قيم اجملتمع‪.‬‬
‫والنظام واألمن يف اجملتمع ليس مسألة أمان ومواعظ يقدمها اخللفاء بل هو جهد‬
‫ونشاط حقيقي وعمل حيوي‪ ،‬ولقد كانت أداته الفعالة هي اجلهاد‪.‬‬
‫ورمبا كان اإلسالم هو الدين الوحيد الذي مارس أوالً دور النبوة ابهلداية واإلرشاد‬
‫واملوعظة‪ ،‬مث مارس دور احلاكم ابإلدارة والتنظيم والتدبري‪ ،‬وهو يتطلب متييز ما بني‬
‫املرحلتني وحدود ما بني الرسالتني‪ ،‬رسالة الوحي واهلدى واملوعظة‪ ،‬ورسالة اإلدارة‬
‫والتنظيم والتنمية‪.‬‬
‫أدق الدراسات اليت انقشت هذه املسألة ما كتبه السيد سعد الدين العثمان‬
‫ومن ي‬
‫يف التفريق بني تصرفات الرسول ابإلمامة وتصرفاته ابلنبوة‪.‬‬
‫وابلفعل فقد حقق اإلسالم جمتمعاً واضحاً يسود فيه القانون وال يبغي بعض الناس‬
‫على بعض‪ ،‬وتسود قيم العدالة‪ ،‬وال يفرق فيه بني الناس‪.‬‬
‫وأمجع الفقهاء أنه ال حيق لألفراد االفتئات على الدولة فيما هو واجبها ومسؤوليتها‪،‬‬
‫فال حيق لألفراد إقامة احلدود ولو عطلها احلكام‪ ،‬وال حيل هلم إعالن اجلهاد مهما‬
‫كانوا على علم وتقوى‪ ،‬بل إن إعالن اجلهاد من اختصاص ول األمر وحده‪ ،‬ولو‬
‫كان أقل الناس تقوى وعبادة واستقامة‪.‬‬
‫‪ | 43‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫شك َّ‬
‫أن األداة املادية األساسية حلفظ النظام وحتقيق صالبته وفعاليته تتمثل يف‬ ‫وال َّ‬
‫شك َّ‬
‫أن اجلهاد سنام هذا األمر‪ ،‬وهو األصل يف حتقيق النظام‬ ‫اجلهاد أساساً‪ ،‬وال َّ‬
‫واستمراره واحلفاظ عليه‪.‬‬
‫ومن املناسب أن نشري إىل بعض معامل النظام املقررة يف اإلسالم حلفظ األوطان‬
‫وكرامة اإلنسان‪:‬‬

‫• وجوب الطاعة يف املعروف ملن ول أمر األمة‪.‬‬

‫• أتكيد ي‬
‫حق ول األمر (الدولة) يف حظر بعض املباح وفرض بعضه‪ ،‬وهو‬
‫طبيعة القوانني الوضعية‪ ،‬ووجوب الطاعة يف ذلك‪.‬‬

‫• تشريع احلسبة واجلهاد وسائل محاية األمن والنظام‪ ،‬فاألوىل شعبية والثانية‬
‫حكومية‪ ،‬واألوىل داخلية والثانية خارجية‪ ،‬وكالمها حيقق هدف محاية‬
‫النظام واألمن واالستقرار‪.‬‬

‫• النهي الصريح والواضح للرسول الكرمي من اخلروج على احلاكم وإن ظهر‬
‫فسقه‪ ،‬إال أن يكون كفراً بواحاً عندكم فيه من هللا برهان‪.‬‬
‫وسنرتك احلديث عن اجلهاد إىل املسائل اإلشكالية يف الباب الرابع نظراً ألمهية األمر‬
‫واحلاجة إىل إفراده ابلدراسة‪.‬‬
‫‪ | 44‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لخلي‪:‬‬
‫اخلري قيمة نبيلة جامعة ملقاصد احلكم اإلسالمي الرشيد‪ ،‬وقد ورد األمر ابلعمل‬
‫للخري والسعي يف سبيل اخلري يف نصوص كثرية يف القرآن الكرمي‪ :‬ﱡﭐﲅﲆ‬

‫ﲇﲈﲉﲊ ﲋﲌﲍﲎﲏ‬

‫ﲐﲑﲒﱠ [الحج‪]٧٧ :‬‬


‫واخلري يف اإلسالم مربأ عن الغرض مهما كان نبيالً‪ ،‬بل هو مقصود لذاته‪ ،‬وال يصح‬
‫اشرتاك شيء مقابل اخلري‪ ،‬فهو إحسان إلنسان بغض النظر عن لونه ودينه وجنسه‬
‫وماله‪.‬‬
‫ويف اخلرب أن وثنياً سأل النيب الكرمي من الصدقة‪ ،‬فدعاه إىل اإلسالم فأىب‪ ،‬فأنزل‬
‫ﱲ ﱴﱵ‬
‫ﱳ‬ ‫هللا معاتباً ﱡﭐﱪﱫﱬﱭﱮﱯﱰﱱ‬

‫ﱿ ﲁﲂﲃ‬
‫ﱸﱺﱻﱼﱽﱾ ﲀ‬
‫ﱹ‬ ‫ﱶﱷ‬

‫ﲄﲅﲆﲇﲈﲉﲊﱠ [البقرة‪.]٢٧٢ :‬‬


‫واخلري الذي يقبله هللا تعاىل هو ما صحت فيه النية وابتغى املنفق فيه وجه هللا‪،‬‬
‫ولذلك فإنه حيبطه املن واالذى‪ :‬ﱡﭐﲯﲰﲱﲲﲳ ﲴﲵ‬

‫ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀﱠ [البقرة‪:‬‬
‫‪.]٢٦٤‬‬
‫واخلري مطلوب من األفراد ومطلوب من َّ‬
‫الدولة‪ ،‬ويف احلالتني يشرتط فيه اإلخالص‬ ‫‪.‬‬

‫احملض بغض النظر عن الفائدة اليت ميكن أن جننيها‬


‫هلل وابتغاء وجهه‪ ،‬والعمل للخري ي‬
‫أفراداً أو حكومات‪.‬‬
‫‪ | 45‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وتؤكد آايت القرآن الكرمي أن اخلري مهما كان ضئيالً فإنه عند هللا مبكان‪ ،‬وهو‬
‫مسؤولية املسلم ومسؤولية الدولة املسلمة‪ ،‬وقد ذكر القرآن الكرمي من اخلري املكنوز‬
‫عند هللا الفتيل والنقري والقطمري‪ ،‬وهي أشياء يف منتهى اهلوان والقلة‪ ،‬وقيمتها أقل‬
‫َّق يف بذرة التمرة‪ ،‬والنقري‪ :‬هو النَّقرة على‬
‫من قيمة بذرة التمرة‪ ،‬فالفتيل‪ :‬هو الش ُّ‬
‫ظهر نواة التمرة‪ ،‬والقطمري‪ :‬هو الغشاء احمليط هبا‪ .‬وقد قال تعاىل‪ :‬ﱡﭐ ﱹ‬

‫ﱺﱻﱼﱽﱾﱿﱠ [النساء‪]١٢٤ :‬‬


‫مث أشارت اآلية إىل ما هو أبلغ فذكر مثقال الذرة‪ ،‬و َّ‬
‫الذرة هي اهلباب الصغري الذي‬
‫نشاهده عندما نكنس السجاد يف الشمس‪ ،‬فالذرة الواحدة لو قسمت أربعة‬
‫وعشرين قسماء صارت ثرياط ذرة‪ ،‬ولكن إن قسمت مثانية واربعني قسماً كانت‬
‫مثقال ذرة‪ ،‬وقد قال تعاىل‪ :‬ﱡﭐﲓﲔﲕﲖﲗ ﲘﲙﲚﲛﲜ‬

‫ﲝﲞﲟﲠﱠ [الزلزلة‪]٨ – ٧ :‬‬


‫ومن الواضح أن اآلايت مل تشرتط يف اخلري أن يكون من مسلم أو موجهاً إىل مسلم‪،‬‬
‫بل ذكرته خرياً إنسانياً حمضاً‪ ،‬بصيغة عموم شاملة‪ ،‬فمن يعمل‪ ،‬بل إهنا ذكرته مراراً‬
‫خاصاً بغري املسلمني‪ ،‬كما يف آية آل عمران يف احلديث عن أهل الكتاب‪ :‬ﱡﭐﲽ‬

‫ﳂﳄﳅﳆﳇ ﱠ [آل عمران‪]١١٥ :‬‬


‫ﳃ‬ ‫ﲾ ﲿ ﳀﳁ‬
‫وأمام هذه احلقائق فإن الدولة املسلمة مسؤولة عن اخلري اإلنسان‪ ،‬وجيب أن تكون‬
‫خاصة تتوىل اإلنفاق يف اخلري اإلنسان والنهوض مبسؤولية الدولة‬
‫له وزارة أو هيئة َّ‬
‫املسلمة يف األزمات والكوارث واحلروب والزالزل يف العامل‪ ،‬وإطالق الربامج املستدامة‬
‫يف اخلري يف الداخل واخلارج مبا حتقق األمة فيه مسؤوليتها وواجبها جتاه هللا والناس‪.‬‬
‫‪ | 46‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وتقوم الدُّول اإلسالمية اليوم بتحقيق هذه األهداف النبيلة بوساطة مؤسسات‬
‫الوقف وهيئاته‪ ،‬ومؤسسات اهلالل األمحر اليت تنهض ابملسؤولية الوطنية يف رعاية‬
‫اخلري واإلسهام فيه سواء كان على مستوى أفراد الشعب وهيئاته أم على مستوى‬
‫وخباصة يف النكبات واحلروب‬
‫َّ‬ ‫األسرة اإلقليمية و َّ‬
‫الدولية‪ ،‬واإلسهام يف اخلري‬
‫والكوارث‪.‬‬

‫كرس اإلسهام يف اخلري عمالً‬ ‫بد أن نشري هنا إىل نظام الوقف اإلسالمي الذي َّ‬ ‫وال َّ‬
‫نبيالً حممياً مستمراً‪ ،‬وهو حبس العني وتسبيل املنفعة‪ ،‬ودفع ابجتاه ابتكار اخلري‬
‫ودعم املشاريع املبتكرة يف اخلري‪ُّ ،‬‬
‫ويعد الوقف أبرز األنظمة الذكية للخري يف الفقه‬
‫اإلسالمي؛ إذ حقق اخلري املستدام‪ ،‬ومسح للمنفقني أن ينالوا منه اجملد‪َّ ،‬‬
‫وعد شرط‬
‫الواقف كنص الشارع‪ ،‬وألزم َّ‬
‫الدولة مسؤوليات حمددة جتاه الوقف يف تنميته واستثماره‬
‫ومحايته‪ ،‬وقد كان للوقف يف التاريخ اإلسالمي أبلغ األثر يف التنمية والرفاه‬
‫االجتماعي‪ ،‬وقد جتاوزت كثري من الوقفيات اإلسالمية اليوم ألف عام وما تزال خرياً‬
‫مستداماً للناس‪.‬‬
‫وميكن اإلشارة إىل جانب من مسؤولية الدولة املسلمة يف دعم اخلري كقيمة عليا يف‬
‫اجملتمع‪:‬‬

‫• الدعوة إىل اخلري بصوره كليها واعتباره مرضاة هلل تعاىل‬

‫• حتييد اخلري عن املصاحل الشخصية أو السياسية‪.‬‬

‫• الدعوة إىل ابتكار اخلري‪ ،‬واعتبار مبتكر اخلري صاحب ٍّي‬


‫حق حممي له أجرها‬
‫وأجر من عمل هبا إىل يوم القيامة‪.‬‬
‫‪ | 47‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫• تشريع الوقف اإلسالمي أبنظمته الذكية وروحه املتنامية‪ ،‬الذي تكون فيه‬
‫العقارات ملكاً ألصحاهبا ولكنها تكرس للخري‪.‬‬

‫• قيام الدولة اإلسالمية بواجبها يف توفري حاجات الناس سواء كانت‬


‫استحقاقاً مبا أداه الناس من التزام أم خرياً حمضاً بدافع الشكر هلل تعاىل‬
‫ونشر اخلري يف األرض‪.‬‬

‫• قيام الدولة اإلسالمية بواجبها يف مساندة الشعوب املنكوبة مهما كانت‬


‫سياساهتا وبراجمها‪.‬‬

‫• إنشاء الوقفيات املستدامة لدعم البحث العلمي‪ ،‬والربامج التعليمية‬


‫والصحية والثقافية‪.‬‬
‫وهكذا فإن هذه املقاصد العشرة اليت ال ينازع فيها أحد جديرة أن متنح الشرعني يف‬
‫كل جمتمع‬
‫اإلسالم البوصلة الدقيقة للوصول إىل جتديد الشريعة وفق حاجات ي‬
‫وانبثاقاً من األهداف العليا لإلسالم‪ ،‬اليت رأيناها مؤيدةً بنصوص الوحي الكرمي‪،‬‬
‫وعلى هديها سار أئمة اهلدى يف التاريخ اإلسالمي‪.‬‬

‫صسدر لم شريع‪:‬‬ ‫أ اس لم قل‬

‫العقل هو أبرز مصادر الشريعة‪ ،‬ومن املؤسف أن املعتزلة هم من قال بذلك وأننا‬
‫خناف من التصريح هبذا‪ ،‬ولكن املصادر التشريعية اليت ابتكرها الفقهاء احملرتمون يف‬
‫التاريخ اإلسالمي هي يف الواقع داللة العقل املنظمة‪ ،‬ومنها االستحسان عند احلنفية‬
‫واالستصالح عند املالكية واالستصحاب عند الشافعية والعرف عند احلنابلة‬
‫واحلنفية‪ ،‬فهذه املصادر األربعة اليت التزمها الفقهاء على تفاوت بينهم هي يف قوانني‬
‫‪ | 48‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫العقل االستنباطي‪ ،‬خالل التاريخ اإلسالمي الطويل‪ ،‬وهبا حكمت الدولة األموية‬
‫الزنكية والسلجوقية واململوكية والدول احلقيقية كلها اليت قامت‬
‫والعباسية واأليوبية و َّ‬
‫يف التاريخ اإلسالمي والتزمت واحداً من هذه املذاهب احملرتمة‪ ،‬وعدَّها مجيعاً مصادر‬
‫حقيقية للشريعة‪ ،‬قبل أن يستيقظ العقل السلفي مؤخراً ويعلن رفض املصادر كلها‬
‫إال الكتاب والسنة‪ ،‬يف تراجع خطري إىل الشعار القدمي الذي رفعته اخلوارج ال حكم‬
‫وضد االجتهاد َّ‬
‫وضد املصادر‬ ‫ضد العقل َّ‬ ‫إال هلل‪ ،‬وهو شعار عدَّه اخللفاء الراشدون َّ‬
‫الشرعية األخرى‪.‬‬
‫‪ | 49‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫نس‬ ‫لحملور لمثسمث‪ :‬صسحلٌ منل ز س‬


‫لمفرضي ‪:‬‬
‫تذهب هذه الدراسة إىل َّ‬
‫أن نصوص القرآن الكرمي والسنة النبوية حمكومة ابلزمان‬
‫واملكان‪ ،‬كما ترشد له أسباب النزول يف القرآن وأسباب الورود يف احلديث الشريف‪،‬‬
‫كل زمان ومكان‪.‬‬
‫وأن تطبيقهما احلريف ال ميكن أن يتم يف ي‬
‫وتستعرض ال يدراسة اآلايت واألحاديث النبوية اليت أشارت إىل حدود تطبيق‬
‫األحكام‪ ،‬واحلاجة إىل تغيريها كلما انقضى زمان جديد ومكان جديد‪.‬‬
‫لكل زمان ومكان ليست عبارة علميَّة ومل ترد قط يف‬ ‫وتؤكد الدراسة َّ‬
‫أن عبارة صاحل ي‬
‫كتب األقدمني من الفقهاء وأهنا وردت لدى املتأخرين يف سياق املناكفات مع‬
‫التيارات العلمانيَّة واالستشراقية‪.‬‬
‫لكل زمان ومكان إذا تقبل اجملتمع اإلسالمي‬
‫وتقبل هذه الدراسة مصطلح صاحل ي‬
‫القدرة املستمرة للفقهاء على إنتاج األحكام وتغيريها وفق مصاحل الناس بوساطة‬
‫إحياء حقيقي لقواعد أصول الفقه اإلسالمي‪.‬‬
‫‪ | 50‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لم شريع‬ ‫لمو ي بملنس لمز س‬


‫ألي معطى علمي دون اقرتانه ابلزمان‬
‫الزمن هو البعد الرابع لألشياء‪ ،‬وال معىن ي‬
‫أي جغرافيا خارج مصر واجلزيرة‬ ‫واملكان‪ ،‬ويف الواقع َّ‬
‫فإن القرآن الكرمي مل يذكر َّ‬
‫العربية‪ ،‬ومل يذكر شيئاً عن الشعوب العاملية من غري نسل إبراهيم‪ ،‬وهذا يف الواقع‬
‫حيدد األفق الذي تنزل القرآن فيه‪ ،‬لتنذر أم القرى وما حوهلا‪ ،‬مع أنه جاء رمحة‬
‫للعاملني‪ ،‬فليس يف القرآن الكرمي ذكر أورواب وال أمريكا وال اهلند وال الصني‪ ،‬وليس‬
‫فيه ذكر السالف وال الرببر وال اآلريني وال الفايكنغ وال الكارولنجيني‪ ،‬هذا كلَّه ال‬
‫يعيبه وال ينقصه‪ ،‬ولكن يفرض موضوعياً علينا حنن أهل القرآن والتوحيد أن ال حنمل‬
‫القرآن ما ليس فيه وأن ال نستنطقه مبا مل ينطق فيه‪ ،‬وأن نرتك أفقاً أكرب للعقل يف‬
‫املسكوت عنه يف النص‪.‬‬
‫لو سألتين‪ ،‬ما حكم البوذيني أو اهلندوس أو الشنتو أو السيخ أو األوموتو أو اجلينية‬
‫أو الزرادشتية؟ فاجلواب ببساطة‪َّ :‬أهنم غري مذكورين يف القرآن وحكمهم هو االجتهاد‬
‫والعقل والنظر والبحث فيما ميكن أن نستفيد منهم أو نتضرر إذا بنينا معهم مصاحلنا‬
‫ورؤيتنا‪.‬‬
‫بل إن املشهد املسيحي اليوم بكاثوليكه وأرثوذكسه وبرتستانته ليس مذكوراً يف‬
‫السنة‪ ،‬وما أخرب عنه القرآن هم قوم غابرون قال عقب احلديث‬‫القرآن وال يف ُّ‬
‫ﳎﳐ ﳑ ﳒ‬
‫ﳏ‬ ‫ﳇﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ‬
‫ﳈ‬ ‫عنهم‪ :‬ﱡﭐﳄﳅﳆ‬

‫ﳓﳔﳕ ﱠ [البقرة‪]١٣٤ :‬‬


‫ولو سألتين‪ ،‬ما حكم الدميقراطية والعلمانية واالشرتاكية والرأمسالية والشيوعية‬
‫والليربالية؟ فمن التعسف والتكلف أن أجد اجلواب يف القرآن الكرمي‪ ،‬وهي نظم‬
‫‪ | 51‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫سياسية ولدت يف القرون األخرية‪ ،‬وإمنا السبيل ملعرفة حكمها هو النضال املعريف‬
‫والكفاح الوطين والتعاون مع الشرفاء والنبالء للوصول إىل ما ينفع الناس وميكث يف‬
‫األرض‪.‬‬

‫ابختصار‪ ،‬القرآ ُن نور يهدي وليس قيداً أيسر‪.‬‬

‫نس ؟‬ ‫تل لمقرآ صسحل منل ز س‬


‫اجلواب‪ :‬ابإلجياب والنفي‪ ،‬وهو حمكوم ابلسؤال‪ :‬هل يتعني علينا أن نطبق ظاهر‬
‫النَّص أم مقاصده؟‬
‫الشاطيب يف احلفاظ على‬
‫ُّ‬ ‫َّأما النَّظر يف مقاصد الشريعة الكربى كما حدَّدها اإلمام‬
‫لكل زمان‬
‫الدين والنفس والعرض والعقل واملال ‪ ...‬فبالتأكيد يصلح القرآن هنا ي‬
‫ومكان؛ ألنه حمكوم مبصاحل البشر‪ ،‬وجيب أتويله مبا حيقق مصاحلهم‪.‬‬
‫لكل زمان ومكان‪ ،‬وهو احلقيقة اليت أعلن‬
‫َّأما ظاهر النص فهو يف الواقع ال يصلح ي‬
‫عنها الرسول نفسه بقوله‪ " :‬أنت م أ وم أب ر دنتيسكم"‪ ،‬وأعلن عنها بقوله‪َّ :‬‬
‫"لمشستد‬
‫يترى س ال يترله لمغسئب" والتزمها الصحابة يف بناء الدولة‪ ،‬ففرضوا حدوداً جديدة‬
‫وشرعوا أبواابً‬
‫وعطلوا أخرى قدمية‪ ،‬ودخلوا يف نظم حديثة يعارضها ظاهر النص‪َّ ،‬‬
‫َّص‪ ،‬وأطلقوا حروابً‬
‫َّص‪ ،‬وأوقفوا حروابً كثرية أمرهم هبا ظاهر الن ي‬
‫للزكاة مل يشر هلا الن ُّ‬
‫َّص‪.‬‬
‫أخرى هناهم عنها ظاهر الن ي‬
‫وكانت ه ذه اإلجراءات الثورية اليت نتابعها يف حلقات هذه السلسلة صادمة ألهل‬
‫الظاهر‪ ،‬وقد عارضها اخلوارح بشدة بوساطة شعارهم البيوريتان‪ :‬ال حكم إال هلل‪،‬‬
‫َّص هرطقة وضالالً‬
‫كل أتويل يف الن ي‬ ‫ورفضوا التأويل يف أي نص من كتاب هللا ُّ‬
‫وعدوا َّ‬
‫‪ | 52‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ولو كان من اجتهاد أمري املؤمنني علي ابب مدينة العلم‪ ،‬انهيك عن معاوية أو‬
‫عمرو بن العاص أو عبد هللا بن الزبري‪.‬‬
‫هذه الدراسة ليست مقاالً بل هي قراءة دقيقة لواقع التفكري يف اإلسالم يف التاريخ‪،‬‬
‫وإبمكان أن أصفه ابلسطور اآلتية‪:‬‬
‫َّص يف غياب َّ‬
‫الدولة‪ ،‬وكان ظاهر النص ينتعش يف‬ ‫كانت األمة حتتكم إىل ظاهر الن ي‬
‫احلركات الثورية ويف شبه الدولة؛ إذ يتم التطبيق بصورة انفعالية اثئرة‪ ،‬حىت إذا حتولت‬
‫احلركة الثورية إىل دولة فإن التشريع املدن (الفقه) سواء كان يستنبط من النص أم‬
‫من اجتهاد حمض‪ ،‬استحساان أو استصالحاً أو عرفاً‪ ،‬هو الذي كان يسود‪ ،‬وبذلك‬
‫قامت الدول اليت أضافت قيمة حضارية للبشرية‪ ،‬الراشدون واألمويون والعباسيون‬
‫واحلمدانيون والسالجقة والغزنويون والطولونيون واألدارسة واألغالبة ودول األندلس‬
‫والفاطميون واملماليك والعثمانيون‪ ،‬هتتدي ابلقرآن وتستنري به ولكنها تنظم حياهتا‬
‫يف قوانني مدنية‪.‬‬
‫ووفق ما قامت به الدول اإلسالمية التارخيية فإن ‪ 54‬دولة اليوم من أصل ‪ 57‬دولة‬
‫إسالمية تعتمد تشريعات وضعية فقهية‪ ،‬وال تقبل االحتكام إىل ظاهر النص وهو‬
‫الطبيعي لواقع احلال الذي كان جيري خالل التاريخ يف البلدان‬
‫ً‬ ‫ما أعتربه االمتداد‬
‫اإلسالمية‪.‬‬
‫‪ | 53‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫هذا الصراع بدا واضحاً منذ فجر التشريع اإلسالمي بني أهل االجتهاد وأهل النص‪،‬‬
‫وميكن رصد مثان مواجهات تناوبت يف التاريخ بني التيارات املختلفة تعرب عن هذا‬
‫املشهد نفسه وهو االحنصار بني ثنائيات متتالية‪:‬‬
‫الصحابة يف مقابل اخلوارج‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫املؤولة يف مقابل املفوضة‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫أهل الرأي يف مقابل أهل احلديث‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫أهل العقل يف مقابل أهل األثر‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫‪ .5‬املعتزلة يف مقابل أهل الرواية‪.‬‬
‫‪ .6‬الفقهاء يف مقابل الظاهرية‪.‬‬
‫‪ .7‬املذاهب يف مقابل السلفية‪.‬‬

‫واليوم هو الصراع نفسه بني‪:‬‬


‫‪ .8‬العلمانية يف مقابل األصولية‪.‬‬
‫‪ .9‬النص يف مقابل الدميقراطية‪.‬‬

‫وحيثما قرأت يف التاريخ فستجد نفسك أمام ثنائية منها‪ ،‬كان األول منها يطالب‬
‫َّص‬
‫َّص‪ ،‬فيما كان الثان يطالب ابالحتكام إىل ظاهر الن ي‬
‫بعقلنة الفقه‪ ،‬وأتويل ظاهرالن ي‬
‫أي أتويل فيه‪.‬‬
‫ويرفض َّ‬
‫وترسم هذه الثنائية وهذا اجلدل حيوية احلياة ودفع هللا النَّاس بعضهم ببعض‪ ،‬ولو‬
‫شاء هللا جلعل الناس أمة واحدة وال يزالون خمتلفني‪.‬‬
‫‪ | 54‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫نص ديين‪ ،‬ذهب مجهور‬ ‫والدراسة اليت أقدمها هنا هي مطالعة يف حنو ‪ٍّ 700‬ي‬
‫الفقهاء إىل ترك العمل هبا‪ ،‬وهي يف القرآن والبخاري ومسلم‪ ،‬وحني نقول العلماء‬
‫فاملقصود علماء الفقه اإلسالمي واملفسرون واألصوليون الذين حيظون ابحرتام العامل‬
‫اإلسالمي وتقدير مجاهريه‪.‬‬
‫ومن أبرزهم علماء الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عباس وعائشة وابن‬
‫مسعود ومن التابعني احلسن البصري وابن شهاب وعمر بن عبد العزيز واألوزاعي‪،‬‬
‫ومن الفقهاء أبو حنيفة ومالك والشافعي‪ ،‬مث الفخر الرازي والطويف والقرطيب‬
‫َّص‬
‫واآلمدي واملاوردي والشاطيب وغريهم كثري‪ ،‬وكلهم كان ينادي ابلعمل بروح الن ي‬
‫وترك ظاهره‪ ،‬وهو جهد نعتربه موصوالً مبدرسة التنوير والتجديد اليت أحياها األفغان‬
‫وحممد عبده وحممد إقبال وبيغوفيتش ومالك بن نيب‪ ،‬وحناول حنن أن ننتمي إىل‬
‫مدرستهم يف الفقه والنور‪.‬‬
‫إن ما أريد توكيده هو َّ‬
‫أن تيار العقل والفقه واالجتهاد هو التيار الغالب يف التاريخ‬
‫اإلسالمي منذ عهد اخلليفة عمر بن اخلطاب على األقل‪ ،‬و َّ‬
‫أن التيار الرافض‬
‫لالجتهاد هو دوماً تيار يعرب عن األقلية وال يعرب عن األكثرية‪ ،‬وغالباً ما يكون‬
‫مجهور الفقهاء يف تيار االستقرار والعقل واالجتهاد‪ ،‬ولو كتبوا أو خطبوا أو وعظوا‬
‫خبالف ذلك‪.‬‬
‫َّص صحيح وليس عليه العمل‪،‬‬ ‫مل ميلك سائر الفقهاء جرأة اإلمام مالك ليقولوا‪ :‬الن ُّ‬
‫ولكنهم فعلوا ذلك بكل أتكيد‪ ،‬وذهبوا إىل ترك العمل بظاهر النصوص ولو مل‬
‫صرح به اإلمام مالك‪ ،‬وقد مجعت يف القرآن الكرمي ويف البخاري ومسلم‬ ‫يصرحوا مبا َّ‬
‫ي‬
‫‪ | 55‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫اضح ترك فيه الفقهاء العمل بظاهر النص واختاروا العمل مبقاصد‬
‫‪ 700‬مثال و ٍّ‬
‫الشريعة‪.‬‬
‫إهنا قرآن كرمي نقرؤه ونرتله ونتلوه ونتعبد به ونصلي‪ ،‬ولكن ال جيوز العمل مبا نقرؤه‬
‫كل فقهاء اإلسالم تقريبا ابستثناء الظاهرية وبعض املنكرين‬
‫ونتلوه‪ ،‬وهذا مذهب ي‬
‫للنسخ من الباحثني اجلدد‪.‬‬

‫وها حنن نوردها ابإلمجال وسنفصلها يف ما أييت من مقام‪:‬‬

‫• ‪َّ 145‬‬
‫نصاً يف القرآن الكرمي‪.‬‬
‫• ‪َّ 191‬‬
‫نصاً يف صحيح البخاري‪.‬‬
‫• ‪َّ 304‬‬
‫نصاً يف صحيح مسلم‪.‬‬

‫والنُّصوص اليت ترك الفقهاء إعماهلا يف القرآن الكرمي إمجاالُ قبل أن نوردها تفصيالً‪:‬‬

‫• جمموعة النصوص املنسوخة وهي من ‪.247 – 21‬‬


‫أي اجلمهور)‬
‫وفق السيوطي ‪ 21‬آية (وهو ر ُّ‬
‫وفق ابن حزم ‪ 214‬آية‪.‬‬
‫وفق ابن اجلوزي ‪ 247‬آية‪.‬‬
‫• جمموعة نصوص ملك اليمني والعبيد ‪ 15‬آية‪.‬‬
‫• جمموعة نصوص قتل املشركني كافة وحيث وجدمتوهم ‪ 15‬آية‪.‬‬
‫• جمموعة نصوص ثبات األرض ودوران الشمس حوهلا ‪ 9‬آايت‪.‬‬
‫• جمموعة نصوص اخللود يف النار للعصاة من املسلمني ‪ 29‬آية‪.‬‬
‫‪ | 56‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫والتأويل بروح النَّص وترك ظاهره هو مذهب مجهور األمة‪ ،‬وقد ابلغ الفقهاء فيه‬
‫مبالغة عظيمة حىت قال البلقيين‪" :‬ما من آية يف كتاب هللا إال طرأ عليها تقييد أو‬
‫ختصيص أو أتويل‪ ،‬وال يعمل إبطالق ظاهرها‪ ،‬إال قوله تعاىل‪ :‬ﱡﭐﳌﳍﳎ‬

‫ﳏﱠ‬
‫َّص القرآن ابلروحية نفسها‬ ‫اخلالصة‪َّ :‬‬
‫إن الوعي اإلسالمي يتعامل منذ قرون مع الن ي‬ ‫و َّ‬
‫اليت يتعامل هبا الوعي املسيحي مع نصوص اإلجنيل‪ :‬االحرتام والتقديس والرتتيل‪...‬‬
‫ولكن عند التشريع فالتأويل حاضر‪ ،‬واحلكم يف النهاية للعقل واخلربة ومصلحة‬
‫الناس‪ ،‬إال إذا قرر االستبداد غري ذلك‪.‬‬
‫وتسري هذه احلقيقة اليوم يف احلقل التشريعي يف البلدان اإلسالمية ابستثناء إيران‬
‫والسعودية‪ ،‬وبنسبة أقل يف الصومال والسودان وموريتانيا وأفغانستان‪.‬‬
‫والفارق اجلوهري هو َّ‬
‫أن الوعي املسيحي يعلن ذلك بوضوح‪ ،‬فيما ال يزال الوعي‬
‫اإلسالمي (الفقه اإلسالمي العملي) يطبق ذلك دون أن يعلنه صراحةً‪.‬‬
‫يصر التيار الظاهري (أمحد بن حنبل وابن تيمية) على وجوب العودة إىل‬
‫فيما ُّ‬
‫ظاهر النص‪ ،‬ورفض التطور الفقهي (ابو حنيفة ومالك) ألنه يقع يف مصادمة‬
‫النصوص‪.‬‬
‫‪ | 57‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ت وير ل حنس‬ ‫لحملور لمرلوع‪ :‬لملنهج لمنبوي‬


‫لمفرضي ‪:‬‬
‫تذهب هذه الدراسة إىل أتكيد اعتماد القيم الدميقراطية يف هدي الرسول الكرمي‬
‫سواء يف اإلدارة أم يف التشريع‪.‬‬
‫ومع َّ‬
‫أن احلديث عن األسلوب الدميقراطي للرسول يف اإلدارة قدمي ومشهور‪ ،‬ولكن‬
‫بعض املعايري الدميقراطية يف التشريع‬
‫هذه الدراسة تنفرد يف التأكيد على أنَّه كان يلتزم َ‬
‫أن الشريعة اإلسالمية كانت أيضاً حصيلة نضال دميقراطي‬ ‫أيضاً‪ ،‬وتؤكد الدراسة َّ‬
‫أقرهتا الشريعة‪.‬‬
‫ومطالبات ابحلقوق سبق هبا الناس و َّ‬
‫وهتدف الدراسة إىل إحياء النزعة الدميقراطية لدى املسلمني يف التشريع واالجتهاد‪،‬‬
‫اتباعاً هلدي الرسول الكرمي‪ ،‬والتوقف عن االعتماد التقليدي على ما ورثناه من‬
‫السلف الصاحل من الرواية‪ ،‬ومن مثَّ الدعوة إىل دور أكرب للربملاانت واللجان التشريعية‬
‫يف إنتاج األحكام املناسبة ووضع التشريعات املالئمة للزمان واملكان ابعتبار ذلك‬
‫جوهر السنة النبوية يف التشريع‪.‬‬

‫وهتدف الدراسة إىل اعتبار كفاح النيب الكرمي يف اإلدارة والتشريع كفاحاً بشرايً رائداً‬
‫يعتمد األساليب العلمية وميتلك املرونة الكافية يف النسخ والتبديل والتغيري والتقييد‬
‫والتخصيص‪ ،‬وإنشاء األحكام اجلديدة هبدى العقل وقوة اجلماعة‪.‬‬
‫‪ | 58‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لمنيب لمدميقرلطي‪:‬‬
‫يصرح رسوهلا‬
‫اطي حمرياً ومتناقضاً‪ ،‬فكيف ميكن لشريعة ي‬ ‫َّيب ال يدميقر ُّ‬
‫ويبدو مصطلح الن ُّ‬
‫أبنه يتلقى عن ربه األمر والنهي وأنه وحي يوحى وما ينطق عن اهلوى‪ ،‬كيف ميكن‬
‫لشريعة هبذا الوضوح مساوية املصدر إطالقية العبارة هنائية احلسم‪ ،‬أن تتنزل إىل األفق‬
‫الدميقراطي القائم على اجلدل والتغيري والتعديل وامليل مع رغبات األكثرية؟‬
‫لغ عن هللا‪ ،‬وأنه ال ميلك‬
‫يصرح رسوهلا أنَّه حمض مبَّ ٍّ‬
‫وكيف ميكن أن تكون شريعة ي‬
‫أن حيذف أو يضيف‪ ،‬ولو تقول بعض األقاويل ألخذان منه ابليمني مث لقطعنا منه‬
‫الوتني! كيف ميكن لرسول كهذا وشريعة كهذه أن تكون نضاالً ديقراطياً؟‬
‫وما جدوى ربط هذا اجلهاد النبوي ابلقييم الدميقراطية؟ وهل أحدمها حباجة لآلخر‪،‬‬
‫أم أن َّ‬
‫كالً منهما يف غىن عن اآلخر؟‬
‫اطي‪ :‬قد يبدو صادماً أن تستخدم عنواانً كهذا يف وقت ما تزال كثري‬ ‫َّيب ال يدميقر ُّ‬
‫الن ُّ‬
‫من املؤسسات اإلسالمية ال تؤمن ابلدميقراطية‪ ،‬وترى فيها احنرافاً عن هنج النبوة‪،‬‬
‫وهو املعىن الذي دفع طالئع اإلسالم السياسي يف اخلمسينيات إىل رجم الدميقراطية‬
‫ابحلجارة واهتام الربملاانت أبهنا أواثن القرن العشرين والدعوة إىل وجوب الرباءة منها‬
‫ومن تبعاهتا التشريعية اليت ُوصفت أبهنا مناوأة مباشرة للشرع‪.‬‬
‫ومع أن هذه األصوات خفتت يف الثمانينيات والتسعينيات من القرن املاضي‪ ،‬نتيجة‬
‫جهود العلماء يف توضيح الدميقراطية‪ ،‬ولكنها اليوم عادت حتظى جبمهور كبري بعد‬
‫البؤس الذي عاد به الربيع العريب يف الدُّول املنكوبة‪ ،‬األمر الذي رسم صورة سوداء‬
‫لآلمال الدميقراطية‪ ،‬ومن مثَّ أساء غاية اإلساءة للحوار اإلسالمي الدميقراطي‪،‬‬
‫‪ | 59‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫واحلوار بني املسلمني والعامل‪ ،‬وعزز فرص التطرف والراديكالية وبذلك أعاد املشروع‬
‫الدميقراطي عقوداً َّ‬
‫عدةً إىل الوراء يف الشرق األوسط‪.‬‬
‫أتمل هذه الدراسة أن تضيء على جوانب جميدة من كفاح الرسول الكرمي بوصفه‬
‫قائداً دميقراطياً حقيقياً عمل بصدق وشجاعة من أجل خدمة اإلنسان‪ ،‬وانضل‬
‫َّ‬
‫ضد االستبداد والثيوقراطية واألوتوقراطية‪ ،‬وكافح من أجل جمتمع عدالة وحرية‬
‫ودميقراطية يؤمن إبخاء األداين وكرامة اإلنسان‪.‬‬
‫أعلن النيب الكرمي والدة دولة املدنية تتوجياً لنضال دميقراطي فريد استمر ثالثة عشر‬
‫عاماً واكتمل يف يوم خالد مطلع ربيع األول من السنة األوىل للهجرة املوافق عام‬
‫‪ 622‬ميالدية‪ ،‬يوم غنيت صبااي املدينة يف يوم سالم وفرح وزهور احتفاالً بقيام‬
‫الدولة اإلسالمية األوىل األغنية الرائعة‪ :‬طوع لمبدر ويتنس ثنيَّس لمودلع!‬

‫لقد شهد املشروع النبوي لبناء دولة املدنية والعدالة مخس حماوالت متتابعة‪ ،‬يف مكة‬
‫واحلبشة والطائف واحلرية وأخرياً يف املدينة املنورة‪ ،‬وقد اتصفت كلُّها ابلسلمية التَّامة‪،‬‬
‫وقد أخفقت أربعة منها فيما كتب للخامسة النجاح والنصر‪.‬‬
‫ال أبتغي هنا تقدمي سرد للسرية النبوية‪ ،‬ولكنين معين جبانب واحد‪ :‬وهو َّ‬
‫أن الرسول‬
‫الكرمي يف هذه احملاوالت اخلمس مل يستخدم إال الدعوة واحلوار واحلجة واملوعظة‬
‫احلسنة‪ ،‬وعلى الرغم مما واجهه من صدود واضطهاد واعتداء وقتل لعدد من الصحابة‬
‫أصر على مبادئه السلمية‪ ،‬ونقول بكل ثقة‪ :‬إنَّه ليس يف كتب املؤمنني ابلرسالة‬
‫فإنَّه َّ‬
‫أي رواية صحيحة أو حسنة أو ضعيفة تشري إىل َّ‬
‫أن‬ ‫وال يف كتب الكارهني للرسالة ُّ‬
‫أي قطعة من السالح‪ ،‬وال حىت سكني‬
‫رسول هللا استخدم يف حماوالته اخلمس َّ‬
‫مطبخ‪ ،‬أو أنه جلأ إىل أي لون من العنف!‬
‫‪ | 60‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫أي سياق َّ‬


‫أن الرسول الكرمي قام إبرسال‬ ‫وال يستطيع أحد على اإلطالق أن يشري يف ي‬
‫أفراد مسلحني للقيام أبعمال معينة لتخفيف الضغظ املرير واحلصار الذي كان‬
‫يعانيه‪ ،‬وال حىت لإلفراج عن األسرى من املستضعفني الذين كانت قريش توثقهم يف‬
‫احلديد‪.‬‬
‫كما أنَّه مل يشأ أن يعلن دولته يف املدينة بعد العقبة األوىل حيث كان عدد املسلمني‬
‫قليال‪ ،‬وإمنا َّ‬
‫أعد بعناية وصرب مشروعه السلمي ومل يتوجه إىل املدينة ومل يعلن دولته‬
‫فيها إال بعد أن صار يشكل بكل يقني أغلبة مرحية يف املدينة تتجاوز مخسني ابملئة‪،‬‬
‫وتسمح له إبعالن حكم دميقراطي ترمسه األغلبية‪.‬‬
‫أي جدل بني املؤمنني وغري‬‫وتسمح لنا هذه احلقائق االتفاقية اليت ال يوجد حوهلا ُّ‬
‫املؤمنني‪ ،‬وبني الدراسات الروائية والدراسات التحليلية وكذلك الدراسات‬
‫االستشراقية‪ ،‬تسمح لنا هذه أن نقول بثقة َّ‬
‫إن النيب الكرمي مارس نضاالً دميقراطياً‬
‫نظيفاً متاماً يف قيام دولته وإعالن رسالته‪.‬‬
‫وبعد أن جنح سلمياً يف بناء الدولة على األرض‪ ،‬أعلن عن قيام جيشه الوطين بعد‬
‫ذلك حتت عنوان جيش اجلهاد‪ ،‬ليقوم بواجبه يف الدفاع عن الدولة والناس‪ ،‬وأتمني‬
‫محاية الثغور‪ ،‬وكل ما روي عن الرسول يف العنف فهو بعد قيام الدولة وليس قبل‬
‫قيامها‪ ،‬فالدولة هي اليت جاءت ابجليش وليس اجليش هو من جاء ابلدولة‪.‬‬
‫ويف وثيقته األوىل اليت كتبها دستوراً لدولة املدينة الناشئة يظهر احرتام املواطنة على‬
‫أساس من املساواة بغض النظر عن الدين والنسب‪ ،‬وحني رحل إىل هللا مل يكن يف‬
‫وصيته فرض حكم ثيوقراطي على الناس وإمنا ترك األمر شورى ومتَّ تداول السلطة‬
‫‪ | 61‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫بعده يف اخلالفة الراشدة على وجه جيد من الشورى بغض النظر عن األحساب‬
‫واألنساب والثروات‪ ،‬قبل أن تتحول اخلالفة إىل ملك عضوض‪.‬‬
‫لقد كان موقفه عند الرحيل كموقفه عند الوصول دميقراطياً حكيماً‪ ،‬فلم يدخل‬
‫املدينة إال ببيعة األغلبية‪ ،‬وحني رحل مل يشأ أن يصادر األغلبية يف شخصه وترك‬
‫األمة شورى ختتار من تشاء ملستقبلها وهو أدق فصول الدميقراطية والشورى‪.‬‬
‫وقد أاثر موقفه يف الرحيل الغرابة نفسها اليت أاثرها موقفه يف الوصول‪ ،‬فقد كانوا‬
‫يسم هلم من خيلفهم من بعده وحيسم اجلدل الطويل؟‬
‫يتساءلون مل مل ي‬
‫أما وصوله فقد كان تكريساً للكفاح البشري‪ ،‬وأتكيداً على دور اإلنسان يف القيام‬
‫أبمره‪ ،‬وأما رحيله فقد كان تكريساُ لقيم الدميقراطية يف االختيار والشورى‪.‬‬
‫إن وقوفنا أمام معامل بشريته لن ينقص من وجهة نظري حبنا واحرتامنا ملقامه املعصوم‪،‬‬
‫بل إنه سيعزز االحرتام لعطائه ورسالته‪ ،‬فهو بشر أيكل الطعام وميشي يف األسواق‪،‬‬
‫وما كان من قبله من املرسلني إال بشراً أيكلون الطعام وميشون يف األسواق ولو كان‬
‫يف األرض مالئكة ميشون مطمئنني لنزل هللا عليهم من السماء ملكاً رسوالً‪.‬‬
‫إهنا ليست قراءة علمانية حلقائق الغيب‪ ،‬ولكنها نصوص الكتاب العزيز نقدمها‬
‫كما رواها صاحب التنزيل‪ ،‬ﱡﭐ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱠ‬
‫[النجم‪ ]٥ – ٤ :‬وهي نصوص أشارت يف ‪ 118‬موضعاً إىل كونه بشراً يكافح على‬
‫األرض من أجل بناء اإلنسان واحلياة‪.‬‬
‫ويف كفاحه على األرض كان يواجه قومه حبوار العقل‪ ،‬ولكنَّهم كانوا يطالبونه‬
‫ابملعجزات‪ ،‬على ما هي عادة الشعوب الواهنة حني تُبعث فيهم األنبياء‪ ،‬ولكن‬
‫سياق رسالته كان يتأىب على منطق اخلوارق‪ ،‬فقد كان الرجل صاحب زند وجد‪،‬‬
‫‪ | 62‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وكفاح وجراح‪ ،‬وكان يؤذن يف البشرية بعصر جديد حيكم فيه العقل وتنسحب‬
‫اخلوارق‪.‬‬

‫قالوا له اخرق لنا اجلبال وافتق لنا األرض‪ ،‬فقال هلم‪ :‬ﱡﭐﲭﲮﲯﲰﲱ‬

‫ﲲﲳﱠ [التوبة‪ ،]١٠٥ :‬ومراراً كانوا يسألونه اخلوارق‪ ،‬ويذكرونه‬


‫مبواهب األنبياء من قبله يف هذا السبيل‪ ،‬ويسألونه‪ :‬أنت نيب؟ ملَ مل تؤيدك السماء‬
‫مبثل طوفان نوح وانر اخلليل؟ أين هي عصا موسى منك؟ وأين هي كف املسيح؟‬
‫ولن نؤمن لك حىت تفجر لنا من األرض ينبوعاً‪ ،‬أو تكون لك جنة من خنيل‬
‫وأعناب فتفجر األهنار خالهلا تفجرياً‪ ،‬أو تسقط السماء علينا كما زعمت كسفاً‬
‫أو أتيت ابهلل واملالئكة قبيالً أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى يف السماء ولن‬
‫نؤمن لرقيك حىت تنزل علينا كتاابً نقرؤه‪ ...‬إىل آخر القائمة الطويلة من املطالب‬
‫والتحدي‪...‬‬
‫كانوا يسألونه بصيغ التحدي كلها ويطلبون منه آية من تلك اليت أخرب هبا عن‬
‫اتريخ األنبياء‪ ،‬كان اجلواب صارماً‪ :‬ﱡﭐ ﲍ ﲎ ﲏﲐ ﲑﲒﲓ ﲕ‬
‫ﲔﲖ‬

‫ﲗﲘﲙﲚﱠ [األنعام‪ ،]٥٧ :‬ولو أن عندي ما تستعجلون به لقضي‬


‫األمر بيين وبينكم‪.‬‬
‫وحني كانت طبيعته البشرية تتأمل لالبتزاز كان يبسط يديه للسماء رجاء أن أتتيه‬
‫تضن عليه بذلك وأتمره مرة أخرى‬
‫عجائب األنبياء من قبله‪ ،‬ولكن كانت السماء ي‬
‫ابستئناف الكفاح البشري‪ ،‬ﱡﭐﱎﱏﱐﱑﱒﱓ ﱕ‬
‫ﱔﱖﱗﱘ ﱙﱚ‬

‫ﱛﱜﱝﱞﱟﱠﱡﱢﱠ [األنعام‪]٣٧ :‬‬


‫‪ | 63‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ﲙﲛﲜﲝﲞﲟﲠﲡﲢ‬
‫ﲚ‬ ‫ﱡﭐ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ‬
‫ﲣﲤﱠ [العنكبوت‪]٥٠ :‬‬
‫إن اإلميان الذي أييت ابخلوارق يرحل برحيلها‪ ،‬وال معىن لرسالة جاءت إلنقاذ البشرية‬
‫أن تعتمد يف براهينها على املخاريق والعجائب‪.‬‬

‫ﱡﭐ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﳀ‬
‫ﲿﳁ ﳂﳃﳄ ﳆ‬
‫ﳅ‬

‫ﳇﳈﳉﳊﳋﳌﳍﳎﱠ [األنعام‪]١٠٩ :‬‬


‫وحني استيئس ذات يوم وأعرب جبرأة عن قناعته بضرورة جميء املعجزات يف كفاحه‪،‬‬
‫على سنن من قبله من األنبياء جاء القرآن جبواب غري متوقع وال مألوف يتضمن‬
‫أتنيباً شديداً‪ :‬ﱡﭐﳊﳋﳌﳍﳎﳏﳐﳑﳒﳓﳔﳕ‬

‫ﳢﳤﳥﳦ‬
‫ﳣ‬ ‫ﳛﳝﳞ ﳟﳠﳡ‬
‫ﳜ‬ ‫ﳖﳗﳘﳙﳚ‬

‫ﱅ ﱇﱈﱉ ﱊﱋ ﱌﱍ‬
‫ﱆ‬ ‫ﳧ ﳨ ﱁﱂﱃﱄ‬
‫ﱠ [األنعام‪]٣٦ – ٣٥ :‬‬
‫إهنا ابختصار رسالة العقل‪ ،‬وهي آتية على غري نسق األنبياء يف اخلوارق والعجائب‪،‬‬
‫حتمل الناس إىل عصر املعرفة والعلم والنور‪.‬‬
‫هكذا اختار له هللا مكانه بني األنبياء ينطلق يف خدمة العامل‪ ،‬يقرأ أسرار الكون‬
‫ويبين على سنن اآلفاق واألنفس‪ ،‬عماد رسالته العقل والربهان‪ ،‬يلهب زفريه كفاح‬
‫األحرار‪ ،‬ويوري بزنده انر الفداء‪.‬‬
‫‪ | 64‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫إهنا حماولة لقراءة الرسول الكرمي رجل كفاح دميقراطي‪ ،‬آمن ابلعدالة وكفر‬
‫ابالستبداد‪ ،‬وعمل للحرية وقارع الظلم‪ ،‬وأجنز املساواة يف أوضاع اجملتمع اجلاهلي‪،‬‬
‫وعمل إبخالص وكفاءة لبناء جمتمع العدالة والتنمية يف األرض‪.‬‬
‫تتناول الدراسة أكثر من مخسني موقفاً ديقراطياً للنيب الكرمي‪ ،‬يف اإلدارة والتشريع‪،‬‬
‫قام فيها ابختيار قراره أو بتعديله أوتبديله بناءً على اخليارات الدميقراطية‪ ،‬وتكشف‬
‫كيف أسست هذه املمارسات لسلسلة قواعد دميقراطية يف التشريع مسيت فيما بعد‬
‫االستحسان واالستصالح والعرف والذرائع‪ ،‬صارت يف عهد اجملد اإلسالمي منبعاً‬
‫لألحكام التشريعية املتدفقة وتولت اإلجابة على أسئلة الزمان واملكان‪ ،‬وحققت‬
‫رايدة واضحة للحالة التشريعية يف عصر اجملد اإلسالمي‪.‬‬
‫ال أعرف يف العامل ديناً أو فلسفة أكثر قدرة على التطور واملرونة من هذه الشريعة‬
‫االسالمية‪ ،‬فقد أطلق الرسول الكرمي رسالته العظيمة إلصالح الناس‪ ،‬وبدأ التشريع‬
‫مرتافقاً مع التجديد والتطوير‪ ،‬وال أعرف يف التاريخ نبياً دميقراطياً استجاب ملطالب‬
‫اجلمهور وأجرى ابستمرار تعديالت يف الشريعة أكثر من النيب الدميقراطي حممد ﷺ‬
‫وخالل حياته التشريعية القصرية اليت مل تزد على ثالث وعشرين سنة فإنه متَّ نسخ‬
‫إحدى وعشرين آيةً من القرآن الكرمي‪ ،‬وتوقف العمل مبا فيها مع أهنا ابقية يف نص‬
‫القرآن الكرمي ويقرؤها املسلمون‪ ،‬وفيها حدود وحالل وحرام‪ ،‬ولكن احلاجة اليت‬
‫أملت نزول النص فيها تغريت يف تلك الفرتة القصرية‪ ،‬ودار احلكم مع علته وجوداً‬
‫وعدماً‪ ،‬ومتَّ وقف العمل هبذه النصوص القرآنية الكرمية حبضرة الرسول الكرمي وأبمره‬
‫ومتابعته‪.‬‬
‫‪ | 65‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ومن املفيد أن نشري إىل بعض هذه التغيريات التشريعية املهمة اليت متت خالل حياة‬
‫الرسول الكرمي من خالل النسخ‪:‬‬

‫• نسخ اآلية اليت كانت تقضي حببس النساء اخلاطئات يف البيوت حىت‬
‫الوفاة‪.‬‬
‫• نسخ آية جواز الوصية للوارثني‪ ،‬والتحول إىل قاعدة‪ :‬ال وصية لوارث‪.‬‬
‫• نسخ اآلية اليت أمرت اعتداد املتوىف عنها زوجها ملدة سنة واستبداهلا ابآلية‬
‫اليت جعلتها مئة وثالثني يوماً‪.‬‬
‫• نسخ اآلية اليت أمرت بدفع صدقة ملزمة عند االلتقاء ابلرسولﭐﱡﭐﱁﱂ‬
‫ﱃﱄﱅﱆﱇﱈﱉﱊﱋﱠ [المجادلة‪]١٢ :‬‬
‫ﱣﱥ‬
‫ﱤ‬ ‫• نسخ اإلذن ابإلفطار ملن ال يرغب ابلصيام‪ :‬ﱡﭐﱢ‬
‫ﱯﱱﱲ‬
‫ﱰ‬ ‫ﱦﱧ ﱨﱩﱪﱫﱬﱭﱮ‬
‫ﱽﱿ ﲀ‬
‫ﱶﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱾ‬
‫ﱷ‬ ‫ﱳﱴ ﱵ‬
‫ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﱠ [البقرة‪ ،]١٨٤ :‬وإعالن وجوب‬
‫الصيام على كل قادر‪.‬‬
‫• نسخ اإلشادة ابخلمر ومنافعه إىل التحرمي املطلق‪ :‬ﱡﭐﲱ ﲲﲳﲴ‬

‫ﲵﲷﲸﲹﲺﲻﲼﱠ [البقرة‪]٢١٩ :‬‬


‫ﲶ‬
‫وهذه كلها أحكام قرآنية نزل هبا الوحي وال يزال املسلم يرتلها يف صالته‪ ،‬وقد مت‬
‫تطبيقها زمناً مث حصل تطور جوهري يف واقع األمة استدعى أن يتم تغيري احلكم ملا‬
‫هو مصلحة حقيقية للناس‪ ،‬وحيثما كانت املصلحة فثم وجه هللا‪.‬‬
‫‪ | 66‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وتفاصيل هذا النسخ مذكورة يف كتب التفسري والرواية كليها تقريباً‪ ،‬وال يوجد بني‬
‫املفسرين حوهلا خالف جدي‪.‬‬
‫وما قلناه يف القرآن الكرمي ينطبق أيضاً على السنة النبوية فقد مت نسخ حنو ٍّ‬
‫مثان‬
‫وأربعني حكماً حكم به الرسول الكرمي‪ ،‬ومل يكن الرسول ليرتدد يف القول برجوعه‬
‫و ميني‬ ‫من رأي إىل رأي‪ ،‬وكان يقول‪ " :‬للا إين _إ شسء للا_ ال أحو‬
‫‪8‬‬
‫مييين"‬ ‫يل نتهس إال أتيت لممجي تو ي‪َّ ،‬‬
‫كفر‬ ‫فأرى غيتس ً‬
‫ويف احلديث بيان مرونة هذه الشريعة وقدرهتا على االستجابة لألحداث وتطور‬
‫األحوال‪ ،‬فمن املعلوم َّ‬
‫أن حلف اليمني بوساطة النيب الكرمي ال يكون إال على ما‬
‫هو يقني بال ريب‪ ،‬ولكنه ال يرتدد أبداً يف ترك ما أقسم عليه إذا ظهر له يف سواه‬
‫وجه أكثر مالءمة وعدالة‪.‬‬
‫شك َّ‬
‫أن النسخ إمنا يكون يف األوامر والنواهي من حالل وحرام‪ ،‬وال يكون يف‬ ‫وال َّ‬
‫اخلرب وال يف الفضائل وال يف االعتقاد‪ ،‬فهي حقائق اثبتة ال تتغري بتغري األزمان‪.‬‬
‫واملسلمون متفقون بال استثناء على نسخ الشرائع بعضها ببعض‪ ،‬فقد أشار القرآن‬
‫الكرمي إىل مواضع كثرية نسخت فيها أحكام فرضت على األمم األوىل‪ ،‬ومنها قوله‬
‫ﲸﲺﲻ ﲼﲽ‬
‫ﲹ‬ ‫تعاىل‪:‬ﱡﭐ ﲲ ﲳﲴﲵ ﲶﲷ‬
‫ﳉﳋ‬
‫ﳊ‬ ‫ﲾ ﲿﳀﳁﳂﳃﳄﳅﳆﳇ ﳈ‬
‫ﳍﳏﳐﳑ ﱠ [األنعام‪]١٤٦ :‬‬
‫ﳎ‬ ‫ﳌ‬

‫‪ 8‬حديث صحيح‪ ،‬رواه البخاري ومسلم‪ ،‬وهو في البخاري ج‪ 8‬ص‪.127‬‬


‫‪ | 67‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وجاء البيان القرآن واضحاً أبن هذا التحرمي كان بسبب غييهم وتش يددهم ومل يكن‬
‫حكماً سرمدايً يف كل زمان ومكان‪.‬‬
‫ويف آية أخرى يشري القرآن الكرمي إىل رسالة السيد املسيح أبهنا جاءت لتغيري‬
‫بعض األحكام الشرعية املفروضة على بين إسرائيل‪:‬ﭐﱡﭐﲚﲛﲜﲝ‬
‫ﲥﲧﲨﲩ‬
‫ﲦ‬ ‫ﲞ ﲟﲠ ﲡ ﲢﲣ ﲤ‬
‫ﲪ ﲫﲬﲭﲮﱠ [آل عمران‪]٥٠ :‬‬
‫ويف آية أخرى‪:‬‬

‫ﱡﭐﲹﲺﲻﲼﲽﲾﲿ ﳀ ﳂ‬
‫ﳁ ﳃ ﳄ ﳅﳆ ﳇ‬
‫ﳈﳉﱠ [النحل‪]١١٨ :‬‬
‫أي اعرتاض عليها‪ ،‬وقد َّبني‬
‫وتكررت هذه النصوص يف القرآن‪ ،‬وال يوجد فقهياً ُّ‬
‫َّص الواضح هبذا الشأن بقوله‪:‬‬
‫القرآن الكرمي الن َّ‬

‫ﲎ ﲐ ﲑ ﲒﲓﲔ ﲕ ﲖ‬
‫ﲏ‬ ‫ﱡﭐﲉﲊﲋﲌﲍ‬

‫ﲚﲜﲝﱠ [المائدة‪]٤٨ :‬‬


‫ﲛ‬ ‫ﲗﲘ ﲙ‬
‫ويتحدث الفقهاء عادةً عن احلكمة العظيمة اليت اقتضت أن يتم تغيري األحكام‬
‫بتغري األزمان‪ ،‬و َّ‬
‫أن التطور الفقهي والتشريعي مبا يناسب الناس مطلوب كلما تطورت‬
‫اجملتمعات‪ ،‬وأن رساالت األنبياء ينسخ بعضها بعضاً‪ ،‬ولكل منهم شرعة ومنهاج‪،‬‬
‫ولكنهم ال يقبلون يف الغالب األمر نفسه يف الشريعة اإلسالمية بل يسود االعتقاد‬
‫اتمة فال تقبل‬ ‫َّ‬
‫أبن األمة قد بلغت أخرياً سن الرشد يف الرسالة اخلامتة ونزلت الشريعة َّ‬
‫أي تطوير أو جتديد‪ ،‬ويتعني العمل على ما مات عليه الرسول!‬
‫َّ‬
‫‪ | 68‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وال أملك إال األسف يف الواقع هلذا املوقف‪ ،‬وقناعيت أن الشريعة تكتمل ابستمرار‪،‬‬
‫أي شريعة أن يتوقف عن التطور‪،‬‬ ‫ألي قانون أو ي‬
‫وتتجدد ابستمرار‪ ،‬وليس جمداً ي‬
‫فاحلياة مستمرة واجلديد كل يوم‪ ،‬والشريعة متلك الروح املتوثبة القادرة على االجتهاد‬
‫يف كل جديد وتعديل األحكام وفق مصلحة األمة‪ ،‬وهو ما اتفق عليه الفقهاء بعبارة‬
‫ال ينكر تغري األحكام بتغري األزمان‪.‬‬

‫إن اآلية اليت أشارت إىل اكتمال الدين‪ :‬ﱡﭐﱫﱬﱭﱮﱯﱰ‬

‫ﱱﱲﱳﱴﱵﱠ [المائدة‪]٣ :‬‬


‫إمنا تتناول قضااي العبادات والغيب اليت ال سبيل للعقل أن يبلغها‪.‬‬
‫َّأما قواعد الدنيا من سياسات واقتصاد وحقوق فهي تتجدد ابستمرار‪ ،‬واكتماهلا‬
‫نقطة ضعف وليس نقطة قوة‪ ،‬وحيكمها احلديث الذهيب‪" :‬أنت م أ وم أب ر‬
‫‪9‬‬
‫دنتيسكم"‪.‬‬

‫ورمبا كان أوضح مثال على حيوية الشريعة وإصرارها على التطور والتجدد هو ما‬
‫نقرؤه يف مسألة نسخ القبلة‪ ،‬فالقبلة أرسخ ثوابت اإلسالم وهي احملور الذي يلتقي‬
‫أهل القبلة‪ ،‬وانتشر‬
‫عليه املسلمون يف كل مكان يف األرض‪ ،‬حىت ُمسيي املسلمون َ‬
‫بني املذاهب اإلسالمية مجيعاً شعار‪ :‬ال نكفر أحداً من أهل القبلة‪ ،‬ومع ذلك فإن‬
‫هذا األصل الراسخ تعرض للتغيري مرتني يف حياة الرسول؛ إذ بدأ الرسول ابلصالة‬
‫إىل الكعبة‪ ،‬مث حتول إىل بيت املقدس ثالثة عشر عاماً‪ ،‬مث أمره هللا أن يول وجهه‬
‫شطر املسجد احلرام واستقرت القبلة يف مكة املكرمة‪.‬‬

‫‪ 9‬حديث صحيح‪ ،‬روام اإلمام مسلم في الجامع الصحيح‪ ،‬ج‪ 4‬ص ‪.1836‬‬
‫‪ | 69‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫مير‬
‫كل اعتبار مل ي‬
‫إن هذا املوقف الشجاع الذي يكرس مصلحة األمة واإلنسان فوق ي‬
‫أي تغيري يف شعائر الدين مهما‬
‫دون نقد شديد من كهنة أهل الكتاب الذين رأوا َّ‬
‫كان ضرورايً لألمة عبثاً ابإلميان‪ :‬ﱡﭐ ﱂﱃﱄﱅﱆﱇﱈﱉﱊ‬

‫ﱑﱓﱔﱕﱖﱗﱘﱙﱠ [البقرة‪:‬‬
‫ﱒ‬ ‫ﱌ ﱎ ﱏﱐ‬
‫ﱍ‬ ‫ﱋ‬
‫‪]١٤٢‬‬
‫ويف أعقاب نسخ القبلة وما أشاعه اليهود من استهزاء ابإلسالم نزلت ثالثون آية‬
‫يف سورة البقرة تشرح حقيقة الروح املتطورة يف الشريعة‪ ،‬اليت تكرس االهتمام ابملقاصد‬
‫الكربى للشريعة يف كرامة اإلنسان ومصاحل األمة العليا‪ ،‬وذلك بعد أن صار اليهود‬
‫والنصارى يتهمون النيب أبنه ال ميلك قبلة وال ميلك ديناً مستقالً‪ ،‬وأن اإلسالم كلَّه‬
‫جمرد هرطقة واحنراف عن النصرانية واليهودية‪ ،‬وبوصلة اتئهة‪ ،‬وهكذا فقد حان‬
‫الوقت لتظهر الرسالة اإلسالمية يف مكاهنا الطبيعي ديناً مستقالً شامالً عاملياً للناس‬
‫ونصه وأنبياؤه‪.‬‬
‫له قبلته ُّ‬
‫ومن اآلايت اليت نزلت لتوضيح احلاجة إىل التغيري كلما دعت مصلحة األمة‪:‬‬

‫❖ ﱡﭐ ﲩ ﲪﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲﲳﲴ‬

‫ﲵﲷﲸﲹﲺﲻ ﱠ [النحل‪]١٠١ :‬‬


‫ﲶ‬

‫ﱌ ﱎﱏ ﱐﱑ‬
‫ﱍ‬ ‫❖ ﱡﭐ ﱂ ﱃﱄ ﱅ ﱆ ﱇﱈ ﱉﱊ ﱋ‬

‫ﱒﱓﱔﱕﱖﱠ [البقرة‪]١٠٦ :‬‬

‫ﳎﳐﳑﳒ‬
‫ﳏ‬ ‫ﳇﳉ ﳊﳋﳌﳍ‬
‫ﳈ‬ ‫❖ ﱡﭐ ﳄ ﳅ ﳆ‬

‫ﳓﳔﳕ ﱠ [البقرة‪]١٣٤ :‬‬


‫‪ | 70‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ﱜ ﱞﱟﱠ [البقرة‪]١٤٨ :‬‬


‫ﱝ‬ ‫❖ ﱡﭐﱙﱚﱛ‬
‫وكانت اآلايت واضحة يف تعليل تغيري القبلة أبنَّه ضرورة اجتماعية لقطع ارتباط‬
‫الرسالة اجلديدة عن الكهنة احملتكرين للدين العتيق‪:‬‬

‫ﲋﲍﲎﲏﲐ‬
‫ﲌ‬ ‫ﱡﭐ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ‬

‫ﲑ ﲒﲓﲔﲕﲖﲗﲘﲙﲚ ﲛﲜﲝ‬

‫ﲞﲟﲠﲡﲢ ﲣﲤﱠ [البقرة‪]١٥٠ :‬‬


‫يتم بصورة االستجابة‬
‫وخباصة أنَّه ُّ‬
‫َّ‬ ‫وقد بدأ أمر النسخ مذهالً لكثري من الفقهاء‪،‬‬
‫ملطالب اجلمهور‪ ،‬ورآه بعضهم مناقضاً لنصوص القرآن الكرمي نفسه‪:‬‬

‫❖ ﱡﭐ ﲲﲳﲴﲵﲶﱠ [البقرة‪]١٤٠ :‬‬


‫❖ ﱡﭐ ﱌ ﱍﱎﱏﱐﱑﱒﱓﱠ [الملك‪]١٤ :‬‬
‫وقد أنكر أبو مسلم األصفهان واملعتزلة ظاهرة النسخ‪ ،‬واعتربوا أهنا تستلزم العبث‬
‫يف الشريعة‪ ،‬والقصور يف اخلالق؛ إذ بدا له األمر ومل يكن ابدايً من قبل وهو يستلزم‬
‫النقص يف اخلالق وهو حمال‪ ،‬أو أنه علم شيئاً بعد أن كان جيهله‪ ،‬والواقع أن النسخ‬
‫أمور يبديها ال أمور يبتديها‪ ،‬وهو كشف ال انكشاف‪ ،‬وإظهار ال ظهور‪ ،‬وإعالم‬
‫ال علم‪ ،‬وإطالع ال اطالع‪ ،‬وإخبار ال خرب‪ ،‬ويف النهاية هو تغري يف حال املخلوقني‬
‫وليس تغرياً يف حال اخلالق‪.‬‬
‫حد الزان على النساء من احلبس يف‬ ‫ويف داللة مباشرة فإن احلاجة اليت طرأت لتغري َّ‬
‫البيوت إىل اجللد مل تكن قط بسبب تغري يف اخلالق وإمنا بسبب تغري يف واقع اجملتمع‬
‫‪ | 71‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وتوفر جهاز قضاء ميكن من خالله نقل العقوبة من التصرف األسري الذكوري إىل‬
‫تصرف الدولة احلقوقي‪.‬‬
‫وهناك اليوم تيار غري قليل يف الفكر اإلسالمي احلديث ينكر النسخ‪ ،‬وجيتهد يف‬
‫إحياء رأي أيب مسلم األصفهان واملعتزلة الذين أنكروا النسخ وأتولوا اآلايت القرآنية‬
‫اليت تتحدث عن النسخ على أهنا وردت يف نسخ اليهودية واملسيحية ابإلسالم‪،‬‬
‫شك أهنم‬
‫ونسخ التوراة واإلجنيل ابلقرآن وليس نسخ القرآن بعضه بعضاً‪ ،‬وال َّ‬
‫ينطلقون من هدف نبيل وهو استحالة أن أيمر الشرع بشيء مث ينهى عنه‪ ،‬وأن هذا‬
‫يستلزم النقص يف كمال هللا وعلمه‪ ،‬وأنه بدا له بعد أن مل يكن ابدايً وعرف بعد أن‬
‫مل يكن عارفاً!‬
‫ومع أنين من جهة املبدأ كثري الولع إبنصاف اآلراء الفقهية اليت مل تنل إقرار اجلمهور‬
‫ولكنين أجد نفسي هنا متفقاً مع مجهور الفقهاء يف إثبات النسخ عقالً ونقالً ‪،‬‬
‫وأجده أوضح األدلة على تطور الشريعة وقدرهتا على االستجابة حلاجات الناس‪.‬‬
‫وهكذا فإن النسخ واحد من أوضح األدلة على قدرة هذه الشريعة على التطور‬
‫لكل جديد وأتمني مصاحل األمة‪.‬‬
‫واالستجابة ي‬
‫وقد وقع نسخ القرآن ابلقرآن ونسخ السنة ابلقرآن‪ ،‬كما وقع نسخ السنية ابلسنية‬
‫ونسخ القرآن نفسه ابلسنية‪ ،‬وهو مذهب اجلمهور‪ ،‬وحتفَّظ الشافعي على نسخ‬
‫أقر ذلك‪ ،‬وقد أعلن النيب الكرمي بوضوح أنه ال يرتدد‬
‫القرآن ابلسنة‪ ،‬ولكن اجلمهور َّ‬
‫حكم إذا رأى فيه مصلحة راجحة‪ ،‬واشتهرت يف هذا‬ ‫يف التحول من حكم إىل ٍّ‬
‫املعىن أحاديث‪" :‬كنت قد هنيتكم واآلن آمركم‪ ،‬أو كنت قد أمرتكم واآلن‬
‫أهناكم"‪ ...‬وهي أحاديث شهرية يعدل الرسول فيها توجيهاته حبسب حال األمة‪.‬‬
‫‪ | 72‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫النيب الكرمي وهو مصدر التشريع يصدر عنه احلكم مراراً مث يراجع فيه‪،‬‬
‫فإذا كان ُّ‬
‫ويقر عشرات املرات أبن غري ما قضى به كان أحكم‪ ،‬ويف سياق قريب من ذلك‬‫ُّ‬
‫نذكر مسألة حتول القبلة مرتني ومسألة أسارى بدر وندمه على ما قضاه بشأهنم‬
‫بعد عتب القرآن عليه‪ ،‬وإذنه للمتخلفني مث مراجعة القرآن الكرمي له‪ ،‬وإابحته حلوم‬
‫احلمر األهلية مث هنيه عنها‪ ،‬وإابحته للمتعة مث هنيه عنها‪ ،‬ومنعه من ادخار حلوم‬
‫األضاحي مث إابحته هلا‪ ،‬وفتواه ابملفارقة يف مسألة الظهار مث رجوعه عن ذلك وإقراره‬
‫الكفارة بعد جمادلة املرأة ابحلجة والربهان‪ ،‬وفتواه ابحل يد على هالل بن أمية حني‬
‫قذف امرأته بشريك بن سحماء مث رجوعه عن ذلك‪ ،‬وتشريع املالعنة يف قاذف‬
‫الزوجة خصوصاً‪ ،‬وإعداده الصلح مع غطفان وهوازن يوم حنني مث اتباعه لرأي‬
‫السعدين يف الكف عن املصاحلة‪ ،‬وقراره لزوم املدينة ملواجهة جيش أحد مث تغيري‬
‫تعد ابلعشرات إن مل نقل ابملئات‬ ‫رأيه فيما بعد وخروجه إىل جبل أحد‪ ،‬وهي مواقف ُّ‬
‫وكانت ترسم يف النهاية استجابة واضحة ملطالب الناس والتزاماً مبا ثبت برهانه ودليله‬
‫ولو كان خبالف ما سبق من الوحي كتاابً وسنة‪ ،‬سواء كان ظهوراً حلقيقة علمية أم‬
‫استجالء رأي شعيب أو مصلحة عليا لألمة‪.‬‬

‫إنَّه ُّ‬
‫النيب الذي أعلن ختم النبوات‪ ،‬وهناية االتكاء على السماء يف بناء األرض‪ ،‬إنه‬
‫هناية ضباب اخلوارق وبدء عصر السنن‪ ،‬هناية عصر الغيب وبداية عصر الشهادة‪،‬‬
‫هناية عصر اخلرافة وبدء عصر العقل‪ ،‬هناية االستبداد وبداية الدميقراطية‪.‬‬
‫‪ | 73‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لحملور لخلس س‪ :‬أصو لمفقه قول د ت وير لمشري‬


‫لمفرضي ‪:‬‬
‫وتذهب هذه الدراسة َّ‬
‫أن قواعد أصول الفقه اإلسالمي هي قواعد جميدة‪ ،‬وهي يف‬
‫اجلملة قواعد العقل وضوابطه‪ ،‬وهي حمل احرتام لدى األمم كليها‪.‬‬
‫كما أن املصادر اجلديدة اليت ابتكرها الفقهاء من اإلمجاع واالستحسان‬
‫واالستصالح والعرف والذرائع هي مصادر حرة ومتينة وكافية للتشريع اجلديد‪ ،‬وهي‬
‫القواعد نفسها اليت تقوم هبا األمم املتحضرة إبنتاج تشريعاهتا‪.‬‬
‫وتلخص الدراسة مشكلة التشريع أبننا نروي هذه املصادر املتينة‪ ،‬ولكننا مننع من‬
‫إن املفارقة تكمن يف َّ‬
‫أن املصادر‬ ‫تطبيقها وندعو إىل التزام تطبيقات األولني‪َّ ،‬‬
‫التشريعية حية ومتجددة وال قيمة ملا اختاره األولون إال على سبيل الرواية والتوثيق‪،‬‬
‫َّأما القيمة احلقيقية فهي ملا ننتجه أبنفسنا من التشريع استناداً إىل هذه املصادر‪.‬‬
‫‪ | 74‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫قول د لم قل ل رو و ‪:‬‬
‫قواعد العقل األربعون… أصول الفقه بني القمع واالجتهاد‬
‫َّص الديين القمع على حرايت النَّاس‪ ،‬وفرض أحكاماً جاهزة ال يصح‬
‫هل مارس الن ُّ‬
‫خالفها؟‬
‫ال يوجد جواب واحد هلذا السؤال‪ ،‬فمن مييل إىل القمع سيجد ألف دليل وشاهد‪،‬‬
‫ومن مييل إىل اخليار الدميقراطي سيجد ألف دليل وشاهد‪ ،‬فهذه هي طبيعة التاريخ‬
‫وهذا هو سياقه وال توجد مندوحة من اللجوء إىل االنتقائية يف رواية التاريخ فهذا‬
‫التاريخ ديوان أمة هائلة يف قيامها ورقودها‪ ،‬وعثارها وهنوضها‪ ،‬وانتقاء الرجل قطعة‬
‫من عقله‪.‬‬
‫للقراء الكرام أربعني قاعدة دميقراطية اعتمدها الفقهاء‬
‫يف هذه الدراسة سأقدم َّ‬
‫واملفسرون وعلماء األصول للوصول إىل حلول تشريعية‪ ،‬تتجاوز ظاهر النص وأتذن‬
‫بفضاء واسع من احلرية االجتهادية‪ ،‬ومناقشة احللول‪.‬‬
‫يعد علم أصول الفقه قانون العقل ومنهج التفكري يف اإلسالم‪ ،‬وبعكس الصورة‬ ‫ُّ‬
‫َّص واتباعه‪ ،‬فالصورة اجلوهرية هلذا العلم‬
‫النمطية السائدة هلذا العلم أبنَّه علم التزام الن ي‬
‫َّص يف سبيل حياة أفضل ومن مث اللقاء والتكامل بني العقل والنص‪،‬‬ ‫هي تسخري الن ي‬
‫وبني الديين واالجتماعي يف احلياة‪.‬‬
‫وخبالف القاعدة السائدة ال اجتهاد يف مورد النص َّ‬
‫فإن علم أصول الفقه يبحث يف‬
‫فصوله معظمها ابب االجتهاد يف مورد النص وأصول هذا االجتهاد‪ ،‬ويقدم جتارب‬
‫متتالية عن اجتهاد السلف يف مورد النص‪ ،‬ومن أشهر هذا اللون من التطبيق تقييد‬
‫‪ | 75‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫املطلق يف النص وختصيص العام فيه‪ ،‬والقول ابجملاز واحلقيقة والقول ابملتشابه فيه‪،‬‬
‫فهذه كلها آليات لالجتهاد يف مورد النص‪.‬‬
‫ونتحدث هنا عن القواعد األصولية املشتهرة لدى الفقهاء‪ ،‬ونقصد ابلقواعد تلك‬
‫العناوين الرائزة يف اجتهاد الفقهاء اليت كانوا حيتكمون إليها بوصفها مسلمات فقهية‬
‫ال مناقشة فيها‪ ،‬وأن االستدالل هلا من الكتاب والسنة أمر حمسوم‪ ،‬وال شائبة فيه‪.‬‬

‫وقد قمنا بتصنيف هذه القواعد يف مخس جمموعات‪:‬‬

‫‪ :‬قواعد تدل على تغري األحكام بتغري األزمان‪ ،‬ومن مثَّ تكرس َّ‬
‫حق‬ ‫لمقس ت ت تتم ل‬
‫األمة يف تشريع أحكام جديدة تالئم واقع اجملتمع‪.‬‬

‫ال ينكر تغري األحكام بتغري األزمان‪.‬‬ ‫‪.1‬‬


‫احلكم يدور مع علته وجوداً وعدماً‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫ما ثبت بعلة يزول بزواهلا‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫إذا زال املانع عاد املمنوع‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫‪ .5‬الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه‪.‬‬
‫‪ .6‬اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم‪.‬‬
‫هذه قواعد تكاد تكون اتفاقية بني علماء أصول الفقه‪ ،‬وهي واضحة يف َّ‬
‫أن التشريع‬
‫جيب أن يتحلى ابلبصرية‪ ،‬وال معىن لالجتهاد يف غياب البصرية‪ ،‬فاألحكام معللة‪،‬‬
‫واحلكم ابلشيء فرع من تصوره‪ ،‬ومن املنطقي متاماً أن جيري تغيري األحكام الفقهية‬
‫تبعاً للعلل اليت من أجلها شرعت هذه األحكام‪.‬‬
‫‪ | 76‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وأتسيساً على هذه األصول ميكن مثالً االنتقال من العقوابت اجلسدية من رجم‬
‫وصلب وقطع إىل عقوابت إصالحية ليس فيها تعذيب وال انتقام‪ ،‬وذلك بناء على‬
‫انتهاء العلة املوجبة هلذا العقاب وتوفر بدائل إصالحية كافية لقمع اجلرمية وإصالح‬
‫اجملرم‪ ،‬وتصبح بذلك اآلايت الكرمية املتصلة ابحلدود كلها أحكاماً معللة تزول بزوال‬
‫علتها‪.‬‬

‫لمقسم لمثسين‪ :‬قواعد تدعو إىل رفع احلرج عن الناس والتشريع لرفع معاانهتم‪ ،‬واعتبار‬
‫التيسري على الناس أصالً يف الشريعة‪ ،‬وبذلك تؤكد ارتباط التشريع مبصلحة اجلمهور‪.‬‬
‫‪ .7‬االستحسان ترك القياس والعمل مبا هو أوفق للناس‪.‬‬
‫‪ .8‬املشقة جتلب التيسري‪.‬‬
‫‪ .9‬يريد هللا بكم اليسر وال يريد بكم العسر‪.‬‬
‫‪ .10‬إذا ضاق األمر اتسع‪.‬‬
‫‪ .11‬الضرر يزال‪.‬‬
‫‪ .12‬درء املفاسد أوىل من جلب املصاحل‪.‬‬
‫‪ .13‬األصل يف األشياء اإلابحة‪.‬‬
‫‪ .14‬الضرورات تبيح احملظورات‪.‬‬
‫‪ .15‬احلاجة تنزل منزلة الضرورة‪.‬‬
‫وأتسيساً على هذه القواعد االتفاقية ميكننا مثالً أن نتحدث عن تيسري أحكام‬
‫املصارف يف االقرتاض والسداد‪ ،‬بعد أن تغري واقع احلياة وأصبح االقرتاض التجاري‬
‫أي قرض فيه‬
‫جزءاً أساسياً من التنمية‪ ،‬وابت التمسك ابألحكام القدمية من منع ي‬
‫‪ | 77‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫زايدة‪ ،‬عائقاً حقيقياً يف وجه البناء االقتصادي‪ ،‬وسبباً رئيساً لتأخر اجملتمع يف قيامه‬
‫وهنضته وتوفري حاجات الناس الضرورية يف احلياة‪.‬‬

‫لمقسم لمثسمث‪ :‬قواعد تدعو إىل االستماع إىل رأي األغلبية والتشريع وفق حاجات‬
‫اجملتمع‪ ،‬وتشريع األحكام اجلديدة بناء على حاجات اجملتمع وخياره الدميقراطي‪.‬‬
‫‪ .16‬حيثما كانت املصلحة فثم شرع هللا‪.‬‬
‫‪ .17‬العادة حمكمة‪.‬‬
‫‪ .18‬استعمال الناس حجة جيب العمل هبا‪.‬‬
‫‪ .19‬الزم سواد الناس األعظم‪.‬‬
‫‪ .20‬ال جتتمع األمة على ضاللة‪.‬‬
‫‪ .21‬يد هللا على اجلماعة‬
‫‪ .22‬املعروف عرفاً كاملشروط شرطاً‪.‬‬
‫‪ .23‬التعيني ابلعرف كالتعيني ابلنص‪.‬‬
‫‪ .24‬العربة للغالب ال للشائع النادر‪.‬‬
‫وأتسيساً على هذه القواعد العميقة ميكن التأصيل للعمل الربملان وجمالس الشورى‬
‫وجمالس األعيان اليت تقوم بدور أساسي يف العملية التشريعية يف اجملتمع‪ ،‬وهي األقدر‬
‫على معرفة رأي السواد األعظم‪ ،‬وحتديد العرف والعادة املتبعة‪ ،‬ومعرفة اجتماع األمة‬
‫على أمر تشريعي‪ ،‬وتقدير الغالب من النادر‪ ،‬وهو جوهر القضااي األصولية اليت‬
‫نتحدث عنها‪.‬‬

‫لمقسم لمرلوع‪ :‬قواعد تدعو إىل النظر يف املآالت واملقاصد ومصاحل اجملتمع ولو‬
‫أدى ذلك إىل جتاوز ظاهر النص‪ ،‬وهي تشري إىل مبدأ تقدمي العقل وأتويل النقل‪.‬‬
‫‪ | 78‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫‪ .25‬الدليل إذا تطرق إليه االحتمال سقط به االستدالل‪.‬‬


‫‪ .26‬ال يلزم من صحة الدليل صحة املدلول‪.‬‬
‫‪ .27‬قد يثبت النص وليس عليه العمل‪.‬‬
‫‪ .28‬قد يصح السند وال يصح املنت‪.‬‬
‫‪ .29‬العربة للمقاصد واملعان ال لأللفاظ واملبان‪.‬‬
‫‪ .30‬األمور مبقاصدها‪.‬‬
‫‪ .31‬التصرف على الرعية منوط ابملصلحة‪.‬‬
‫‪ .32‬شرط الواقف كنص الشارع‪.‬‬
‫‪ .33‬ال ضرر وال ضرار‪.‬‬
‫‪ .34‬ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب‪.‬‬
‫وأتسيساً على هذه القواعد الفقهية أعيد النظر يف التاريخ اإلسالمي يف كثري من‬
‫األحكام الشرعيَّة اليت كانت دائرة بني احلالل واحلرام‪ ،‬وأوقف العمل بكثري من‬
‫تطرق إليها االحتمال‪ ،‬ويف سياق هذه القواعد جرى االتفاق على حترمي‬
‫األدلة اليت ي‬
‫الرق وملك اليمني وقد كان السابقون يدرجوهنا يف املباحات بال حرج‪ ،‬وجرى‬ ‫ي‬
‫كذلك تغيري املوقف من التصوير والتماثيل وقد كان السابقون حيرموهنا بال تردد‪،‬‬
‫بناء على ظواهر النصوص‪ ،‬ولكن أوقف العمل بظاهر هذه النصوص رعاية للحكمة‬
‫واملصلحة واملقاصد اجملتمعية‪.‬‬

‫لمقسم لخلس س‪ :‬قواعد تدعو إىل تقييد النص مبتغريات الزمان واملكان‪ ،‬ووقف‬
‫اإلطالق يف دالالت النصوص ومقاصدها ومعانيها‪.‬‬
‫‪ .35‬إذا تعذرت احلقيقة يصار إىل اجملاز‪.‬‬
‫‪ | 79‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫‪ .36‬الشاهد يرى ما ال يراه الغائب‬


‫‪ .37‬إذا تعذر إعمال الكالم يهمل‪.‬‬
‫‪ .38‬ال حجة مع االحتمال‪.‬‬
‫‪ .39‬الصحيح إذا خالف ما هو أصح منه صار شاذاً‪.‬‬
‫‪ .40‬ما ثبت على خالف القياس فغريه عليه ال يقاس‪.‬‬
‫وأتسيساً على هذه القواعد جنح علماء أصول الفقه يف وقف العمل بنصوص كثرية‬
‫أتمر بقتال اجلوار املخالفني يف الدين وقتال الناس حىت يقولوا ال إله إال هللا‪ ،‬وقتل‬
‫املرتد وغريها من األحكام اخلطرة اليت ميكن أن جتعل املسلمني يف حرب دائمة مع‬
‫األمم‪ ،‬ومتنع الوفاق والسالم يف األرض‪.‬‬
‫فهذه حنو أربعني قاعدة شرعية‪ ،‬حتظى ابحرتام الفقهاء مجيعاً‪ ،‬ومنها ما حيظى‬
‫ابتفاقهم‪ ،‬وال خيلو منها كتاب من كتب أصول الفقه‪ ،‬وقد اخرتت أن أرويها لك‬
‫من دون تفاصيل‪ ،‬لوضوحها ووضوح مراميها ومعانيها‪ ،‬وكلها تؤكد حقيقة واحدة‬
‫أن التشريع يف اإلسالم مرتبط حباجات اجملتمع وأن إمكان التطوير والتعديل فيه‬
‫حمققة ومشروعة‪ ،‬وأن الوحي الكرمي معين مبصاحل الناس‪ ،‬وأنه قد يعرض له‬
‫التخصيص أو التقييد أو النسخ ويف ذلك كله ميكننا التماس مصلحة الناس الراجحة‬
‫اليت تفرض تغري األحكام بتغري األزمان واألوضاع واألحوال‪.‬‬
‫ومدار هذه القواعد معظمها على اختيار الناس ومصاحلهم‪ ،‬وهذا مطلب دميقراطي‬
‫جوهري‪ ،‬وال بد من استعمال األدوات الدميقراطية اليت تكشف رأي اجلمهور‪ ،‬وهذا‬
‫هو جوهر العملية الدميقراطية يف التشريع‪.‬‬
‫‪ | 80‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لقد كانت هذه القواعد الفقهية أشبه بدستور االجتهاد‪ ،‬وكان فقهاؤان يف العهد‬
‫الذهيب للتشريع اإلسالمي يطبقون هذه القواعد الدميقراطية من غري نكري‪ ،‬وكان‬
‫هذا التطبيق رمبا يصرف نصوصاً عن ظاهرها‪ ،‬أو يفرض فيها التخصيص أو القيد‪،‬‬
‫أو يصرفها إىل اجملاز‪ ،‬أو ينشئ أحكاماً جديدة تالئم مصاحل العباد‪.‬‬
‫ومن املؤسف القول‪ :‬إن رواية هذه القواعد أو إعماهلا اليوم يواجه ابستنكار التيارات‬
‫السلفية اليت تتوجه عادة للعمل بظاهر النص وترفض هذه القواعد األصولية الفقهية‬
‫الدميقراطية اليت حققت اترخيياً تطوير الشريعة وجمد الفقه اإلسالمي‪.‬‬
‫وبدالً من الروح العلمية والفقهية العميقة اليت سادت يف التاريخ اإلسالمي ووفرت‬
‫نظماً حتكم هبا دول متحضرة‪ ،‬فإن اخليار السلفي يعود بنا إىل حلظة معصومة من‬
‫التاريخ مينع االجتهاد عليها أو التغيري فيها‪ ،‬ويطالب إبطالق األحكام وفق ظاهر‬
‫النص ولو عادت هذه األحكام على مصاحل الناس ابحلرج والضرر نظراً إىل اختالف‬
‫الزمان واملكان‪.‬‬
‫ومع أن هذه القواعد كانت عناوين الدراسات الفقهية اليت قدمها الفقهاء يف عصر‬
‫اجملد الذهيب لإلسالم‪ ،‬ولكن مشاخينا اليوم ضربوا هبا عرض احلائط يف سياق التوجه‬
‫السلفي القائم على خريية القرون األوىل ووجوب اتباعهم يف أدق التفاصيل‪.‬‬
‫ونشري هنا إىل بعض اإلطالقيات اليت يستخدمها الظاهرية اليوم ملنع االجتهاد‬
‫والتطوير يف الشريعة مهما كان مطلباً اجتماعياً ضرورايً‪ ،‬واالكتفاء بظاهر النص‪:‬‬

‫• ال اجتهاد يف مورد النص‪.‬‬


‫• قف على ما وقف عليه األولون فإهنم عن علم وقفوا‪.‬‬
‫• وكل خري يف اتباع من سلف وكل شر يف ابتداع من خلف‪.‬‬
‫‪ | 81‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫• لو كان الدين ابلرأي لكان أسفل اخلف أوىل ابملسح من أعاله‪.‬‬


‫• من أحدث يف أمران ما ليس منه فهو رد‪.‬‬
‫• كل حمدثة بدعة وكل بدعة ضاللة وكل ضاللة يف النار‪.‬‬
‫وتنسب األخرياتن إىل الرسول الكرمي‪ ،‬وقد اختار السادة السلفية أن يكون هذا‬
‫احلديث يف صدر خطاابهتم ومواعظهم كلها ابعتباره نصاً إطالقياً حامساً يف منع‬
‫االجتهاد والتزيد‪ ،‬فيما ميكن القول ببساطة إنه عام خمصوص وهو مسائل العبادات‬
‫اليت شأهنا التسليم دون مسائل احلياة اليت شأهنا االجتهاد والنظر وأنتم أعلم أبمور‬
‫دنياكم‪.‬‬
‫ويستخدم الواعظون عادة هذه الصيغ اإلطالقية ملنع الناس من االجتهاد يف الرأي‪،‬‬
‫ابعتبار أن األولني قد كفوان مؤونة االجتهاد والنظر يف املسائل‪ ،‬وأن األمر مسألة‬
‫اتباع وخضوع وليس مسألة اجتهاد ونظر‪ ،‬وأن علينا التسليم واخلضوع ليس إال‪.‬‬
‫أرجو أن تكون القواعد األربعون اليت أوردهتا كافية ملواجهة هذه اإلطالقيات‬
‫ونظائرها‪ ،‬ولندرك أننا نستطيع أن نبين مستقبلنا من دون أن ننقلب على ماضينا‪،‬‬
‫ونستطيع أن نصنع املستقبل من دون أن نكفر ابملاضي‪ ،‬ففي التاريخ كله حداثيون‬
‫وتقليديون‪ ،‬وأصوليون ومعاصرون‪ ،‬وجمتهدون ومقلدون‪ ،‬وأهل نقل وأهل عقل‪،‬‬
‫وقناعيت وثقيت أن املراحل اليت ازدهرت فيها احلضارة اإلسالمية هي املراحل اليت‬
‫ازدهرت فيها قدرهتم على التشريع واإلهلام واالجتهاد‪.‬‬
‫‪ | 82‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لمنَّص‪:‬‬ ‫ل سسميب لخلاس م قون لمَّشريع‬


‫أس تبق التنبيه للقارى الكرمي أبن األس اليب اليت س نش رحها يف وقف العمل‬
‫ابلنص وص ليس ت اجتهاداً مبتدائً بل هي نقل عن األئمة املعتمدين لدى التيار‬
‫احملافظ يف اإلس الم‪ ،‬فنحن ننقل هنا ما أعلنه كبار الفقهاء يف التاريخ اإلس المي‪،‬‬
‫ونعيد ترتيبه فقط‪ ،‬وهو ما درس ناه بعمق يف املدارس الش رعية وما نزال ندرس ه‪،‬‬
‫ولكننا ما نزال نرفض أن نبين عليها النتيجة املنطقية الالزمة من هذا البحث‪.‬‬
‫السنة يصح العمل هبا؟ وهل يتعني على اهليئة الدستورية‬
‫كل نصوص الكتاب و ُّ‬ ‫هل ُّ‬
‫َّص كما تدل حروفه؟ وهل أننا حني ال حنتكم‬ ‫واللجان القانوني ة أن تلتزم ظاهر الن ي‬
‫يعد التش ريع الذي‬‫إىل ظاهر النص حنكم بغري ما أنزل هللا ونتبع الطاغوت؟ وهل ُّ‬
‫يتجاوز نصاً قرآنياً أو نبوايً تشريعاً كافراً؟‬
‫احلقيقة أن األمة اإلس المية بوعيها احلض اري مل تتعامل مع القرآن على أنه ص نم‬
‫لفي اليوم‪ ،‬ب ل‬
‫الس ُّ‬
‫يعب د‪ ،‬ومل متض إىل إطالق ات ه ابلطريق ة اليت يتع ام ل هب ا التَّي ار َّ‬
‫كانت واض حة يف بناء احلياة وتش ريع القوانني على أس اس من مص لحة الناس‬
‫بغض النطر عن الس ياق الذي ورد فيه ظاهر النص كتاابً أو س نة‪ ،‬وال يوجد‬
‫مذهب إس المي من املذاهب املعتربة إال وله مش كلة مع عش رات النص وص يف‬
‫الكتاب والسنة ولكنه يتعامل معها بواحد من هذه املسالك اخلمسة‪.‬‬
‫‪ | 83‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫إن القرآن الكرمي مصدره الوحي‪ ،‬وهو يف ضمري األمة اإلسالمية كتاب معصوم ال‬ ‫َّ‬
‫أيتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه‪ ،‬هذا ال يعين أنَّه ال خيالف العقل والواقع‪،‬‬
‫فاحلياة متغرية ومتبدلة ومتطورة وقد عرض للقرآن النسخ عشرين مرة يف حياة الرسول‬
‫نفسه‪ ،‬وهذا تقريباً حمل اتفاق بني الفقهاء املعتربين‪ ،‬وبعد رحيل الرسول وضع‬
‫َّص القرآن وأتويلها وهي ابب احلقيقة‬
‫الفقهاء مخسة أساليب لتطوير مقاصد الن ي‬
‫واجملاز‪ ،‬وابب ختصيص العام وابب تقييد املطلق وابب القول ابملتشابه إضافة إىل‬
‫ابب النسخ الذي كان مفتوحاً خالل فرتة النبوة‪.‬‬
‫أي حاجة خالل التاريخ‬
‫مع توفر هذه الوسائل اخلمسة مل جيد الفقهاء املسلمون َّ‬
‫أي آية‪ ،‬وال توجد اليوم أي حاجة هلذا‪ ،‬ومن املمكن أن يستمر القرآن مقدساً‬ ‫لرد ي‬
‫يتعبد الناس بتالوته يف أعلى درج االحرتام والتكرمي وفيه املنسوخ واجملاز واملخصوص‬
‫واملقيد واملتشابه‪.‬‬
‫ولكن هذه احلالة من القداسة للقرآن ليست من حق الفقيه‪ ،‬ومن املنطقي أن نقبل‬
‫قول فالن ونرد قول فالن‪ ،‬ولسنا ملزمني أن نتأول هلم كما صنعنا يف القرآن والسنة‬
‫الصحيحة‪ ،‬فإمنا نتأول للمعصوم‪ ،‬وال نتأول لغريه‪ ،‬وهذا هو ابلضبط الفرق بني قال‬
‫هللا وقال الفقيه‪.‬‬
‫وأبرز املس الك اليت س لكها الفقهاء املس لمون عرب التاريخ لوقف إعمال ظاهر‬
‫النصوص بشكل أساسي هي مخسة‪:‬‬
‫ابب النسخ‪ ،‬وابب اجملاز‪ ،‬وابب التخصيص‪ ،‬وابب التقييد‪ ،‬وابب التشابه‪.‬‬
‫أما النس خ فقد كان الس بيل الذي اتبعه الس لف منذ عص ر النبوة لوقف العمل‬
‫آبايت قرآني ة كرمي ة وأح ادي ث نبوي ة ش ريف ة ألهن ا ابت ت ال تالئم أحواالً ج دي دة‬
‫‪ | 84‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لألمة‪ ،‬وال يرتدد الس لف الص احل ابلتص ريح ابلناس خ واملنس وخ وقد أفرده ابلدراس ة‬
‫عدد كبري من الفقهاء أش هرهم ابن أيب ش امة والنَّحاس ومكي بن أيب طالب ونقل‬
‫عنهما املفسرون كلهم بعدهم بال استثناء‬
‫والنس خ هو إزالة احلكم ابحلكم‪ ،‬واملنس وخ كثري ومنه آية الوص ية وآية القبلة وآية‬
‫اخلمر وآية مناجاة الرس ول وآية العدة وآية تزويج الزان‪ ،‬وليعذرن القارئ الكرمي إذ‬
‫أكتفي إبيراد أمساء اآلايت املنس وخة دون ش رحها درءاً لإلطالة وهي موجودة يف‬
‫كتب التفاسري كليها بال استثناء وليس لدي على ما قالوه مزيد‪.‬‬
‫وفقهاء السلف مل يكونوا يرون القرآن هبذه الصمدية واملعبودية اليت منارسها‪ ،‬وتكرر‬
‫عن الص حابة والس لف قوهلم عن آية الس يف نس خت س بعني آية‪ ،‬ومع حتفظي‬
‫على ه ذه العب ارة‪ ،‬ولكنه ا مهم ة لن درك أهنم م ا ك انوا يرون ص م دي ة اآلايت‬
‫كل‬
‫األمة فوق ي‬
‫وإطالقيتها كما يريد مشاخينا اليوم أن نقول وكانوا يرون أن مصلحة َّ‬
‫اعتبار‪.‬‬
‫إننا نقرأ اليوم آية الوص ية للوالدين‪ ،‬والفقهاء جممعون على أنَّه ال حت ُّل الوص ية‬
‫للوالدين إذ ال وص ية لوارث‪ ،‬ومع ذلك فاآلية مقدس ة ومعظمة ومكرمة ومظهرة‬
‫نتلوها يف الص الة ولكن ال نلتزمها يف التش ريع‪ ،‬وال يص ح أن نلتزمها يف التش ريع‪،‬‬
‫قاض مس لم وص ية أوص ى فيها املتوىف للوالدين لوجب عليه‬ ‫أي ٍّ‬
‫ولو عرض ت على ي‬
‫ردها وإبطاهلا مع أن ظاهر اآلية يقول خالف ذلك‪.‬‬
‫ُّ‬
‫واملسلك الثان الذي اعتمده فقهاء التنوير لدرء تعارض العقل والنقل هو‬
‫التخصيص للعام وهو إخراج فرد من أفراد من توجه إليهم احلكم بدليل من نقل‬
‫أو عقل‪ ،‬فاآلايت مثالً أتمر ابلنفري يف اجلهاد خفافاً وثقاالً ولكن األعمى‬
‫‪ | 85‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫َّص والسجني واحملصور مستثىن منها بداللة‬


‫واألعرج مستثىن من داللة اآلية ابلن ي‬
‫العقل‪ ،‬واآلية مثال أتمر من استطاع من الناس كلهم ابحلج واالفاضة‪ ،‬ولكن الفقه‬
‫تدخل ملنع غري املسلم من احلج مع أنَّه من الناس‪ ،‬وحىت يف العقيدة يقول هللا‬
‫تعاىل‪ :‬ﱡﭐﲅﲆﲇﲈﲉﲊﲋﱠ [البقرة‪]٢٠ :‬‬
‫ولكن علم اء الكالم كلهم ق الوا‪ :‬إن الق درة هن ا تتعلق ابملمكن ات وال تتعلق‬
‫ابلواجبات وال ابملس تحيالت‪ .‬فهذه أمثلة على املخص وص وهي يف القرآن كثرية‬
‫جداً حىت قال البلقيين‪" :‬ما من آية يف كتاب هللا إال ودخلها التخص يص إال قوله‬
‫تعاىل‪{ :‬إ َّن هللاَ ب ُك يل َش ْي ٍّء َعليم}‪.‬‬
‫وأما املسلك الثان فهو التقييد للمطلق وهو كثري أيضاً يف القرآن فمنه مثالً قوله‬
‫تعاىل‪ :‬ﱡﭐﲳﲴﲵﲶﲷﲸﲹﲺﲻ ﲼﲽﲾﱠ‬
‫[البقرة‪ ،]٤٧ :‬فقد اتفق املفسرون إال الثعاليب على َّ‬
‫أن بين إسرائيل ليسوا أفضل‬
‫العاملني وإمنا هي مقيدة بعاملي زماهنم! وهذا قيد عقلي حمض ليس فيه كتاب وال‬
‫سنة‪.‬‬
‫ومن التقييد أيضاً قوله تعاىل‪ :‬ﱡﭐﱏﱐﱑﱒﱠ [المائدة‪:‬‬
‫‪ ،]٣٨‬فقد اتفق املفسرون أنه تقطع كف واحدة وليس يداً وال يدين وال ٍّ‬
‫أايد‪ ،‬وهذا‬
‫تقييد عقلي حمض خالف ما دل له ظاهر اآلية‪ ،‬مث ذهبوا إىل وقف تطبيق هذا احل يد‬
‫ألسباب كثرية‪.‬‬
‫ومن التقييد قوله تعاىل‪ :‬ﱡﭐﲯﲰﲱﲲﲳﲴﲵﱠ [البقرة‪:‬‬
‫‪]٢٢٣‬‬
‫إتياهنن يف موضع احلمل‬
‫َّ‬ ‫فقد ذهب اجلمهور إىل تقييدها ابلدليل العقلي وحده وهو‬
‫وحترمي ما سواه‪.‬‬
‫‪ | 86‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫و َّأما اجملاز فهو كثري جداً وقد أفرده أئمة كثر يف كتب مستقلة أشهرهم وأوهلم أبو‬
‫عبيد معمر بن املثىن‪ ،‬وعدَّد فيه عشرات النصوص اليت ال يستقيم فهمها على‬
‫الظاهر وأهنا وردت على سبيل اجملاز وال يصح العمل بظاهرها‪ .‬ومن ذلك آايت‪:‬‬
‫ستهزاء‬
‫ش هللا‪َ ،‬و َانقَة هللا‪َ ،‬وُرو ُح هللا‪َ ،‬وَم ْك ُر هللا‪َ ،‬وا َ‬‫اق هللا‪َ ،‬و َع ْر ُ‬ ‫يَ ُّد هللا‪َ ،‬‬
‫وعني هللا‪َ ،‬و َس ُ‬
‫ك‬
‫ضح ُ‬ ‫صبَ ُع هللا‪َ ،‬ور ْج ُل هللا‪َ ،‬و َح ُّق هللا‪َ ،‬و َ‬
‫السنَة‪ :‬إ ْ‬
‫هللا‪َ ،‬وَكْي ُد هللا‪َ ،‬ونسيَا ُن هللا‪ .‬ومن ُّ‬
‫ألن هللا ليس كمثله شيء‪،‬‬ ‫ب هللا‪َ ،‬وَه ْرَولَةُ هللا‪ ،‬وغريها كثري‪ .‬وهي جماز؛ َّ‬ ‫هللا‪َ ،‬وتَ َع ُج ُ‬
‫ومن األمثلة املشهور قوله‪ :‬ﱡﭐﲊﲋﲌﲍﲎﲏﲐﲑﲒﱠ‬
‫[يوسف‪ ،]٨٢ :‬فاملراد اسأل أهل القرية واسأل أصحاب العري وهذا كثري جداً يف‬
‫القرآن ويف كالم العرب‪ ،‬والظاهر منه غري مراد قطعاً بل املعىن‪.‬‬
‫أما املتشابه فهو كثري وقد أشارت إليه آية صرحية يف مطلع آل عمران ﱡﭐ ﲇﲈ‬
‫و َّ‬
‫ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓﱠ [آل‬
‫عمران‪]٧ :‬‬
‫وقد عرفه الفقهاء أبنه ما انقطع علمه وال سبيل اىل معرفة غاايته ومضمونه‪ ،‬وعادة‬
‫ما يدخلون فيه األحرف املقطعة أوائل السور كما يدخلون فيه آايت تنزيه هللا تعاىل‬
‫عن مشاهبة احلوادث‪.‬‬
‫هذه إشارات سريعة ملا اعتمده املسلمون يف عصر اجملد يف بناء حضارهتم‪ ،‬من‬
‫احرتام للقرآن واعتدال يف التعامل معه وتوفري مكان أكرب للعقل والتجربة والربهان‪.‬‬
‫أن هذه القواعد كلها أص بحت مرفوض ة لدى التيار الس لفي الذي‬ ‫ومن املؤس ف َّ‬
‫يكرس القرآن والس نة فوق العقل وفوق العلم وال يؤمن ابجملاز وال يؤمن ابملتش ابه‬
‫وال يوافق يف التخص يص والتقييد‪ ،‬وابت يرى ذلك مؤش راً على خروج األمة من‬
‫‪ | 87‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫الدين ورفضها احلاكمية مع َّ‬


‫أن تقرير هذه املسائل واالحتكام إليها هو دأب الدولة‬
‫اإلسالمية التارخيية منذ عهد عمر بن اخلطاب إىل قيام احلركات السلفية املتشددة‪.‬‬
‫لقد قمت إبحص اء دقيق هلذه اآلايت الكرمية اليت طرأ عليها بش كل ظاهر نس خ‬
‫أو ختص يص أو تقييد أو جماز حبيث يتغري فيها احلكم فكانت يف القرآن الكرمي حنو‬
‫حق األمة أن‬
‫‪ 300‬آية وأكثر من ذلك يف السنة الصحيحة‪ ،‬وأعتقد أنَّه ابت من ي‬
‫تض يف إليها أيض اً النص وص اليت فرض ها التطور أيض ا وأوجب فيها التخص يص‬
‫والتقييد واجملاز‪.‬‬

‫• املنسوخ ‪ 21‬آية‬
‫• املخصوص ‪ 78‬آية‬
‫• املقيد ‪ 82‬آية‬
‫• اجملاز ‪ 120‬آايت‬
‫• واجملموع ‪ 301‬آية‬

‫ابلطبع ال يس تويف هذا اإلحص اء كل املنس وخ واملقيد واملخص وص واجملاز وإمنا‬


‫اخرتت ما كان واضحاً جلياً ويؤدي إىل تغري حقيقي يف املعىن‪.‬‬
‫كما أن علماء األص ول لديهم عبارات مش اهبة مثل التأويل‪ ،‬وحتقيق املناط وتنقيح‬
‫املناط وختريج املناط والتفس ري اإلش اري والتفس ري ابألوىل ورفع املش كل وتفص يل‬
‫املبهم والوقف يف النص وغري ذل ك واملض مون عموماً ال خيرج عن ه ذه األبواب‬
‫اخلمسة‪.‬‬
‫‪ | 88‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫نص احلنفية بوض وح َّ‬


‫أن النص الديين يدور يف مثانية أبواب‪ :‬أربعة يف الوض وح‬ ‫وقد َّ‬
‫وهي‪ :‬الظاهر والنص واملفص ل واحملكم‪ ،‬وأربعة يف عدم الوض وح وهي‪ :‬اخلفي‬
‫واملشكل واجململ واملتشابه‪ ،‬كما أفردوا املنسوخ يف ابب مستقل‪.‬‬
‫فص ل القول يف هذه األبواب اإلمام احلنفي البزدوي ونش ر نص ه كامالً تلميذه‬
‫وقد َّ‬
‫العالء البخاري يف كتاب مهم ينبئ عنوانه عن معناه‪" :‬كش ف األس رار عن أص ول‬
‫فخر اإلسالم البزدوي"‪.‬‬
‫ويف هذا الس ياق تندرج مئات الكتب العلمية اليت ص نفها األص وليون حتت عنوان‬
‫درء تع ارض العق ل والنق ل‪ ،‬وتنزي ه القرآن عن املط اعن‪ ،‬ومش ك ل القرآن‪ ،‬وغري‬
‫ذلك‪ ،‬وكذلك ما كتبوه يف ابب املقاص د القائمة على اس تخدام العقل يف إعمال‬
‫النص وإمهاله‪.‬‬
‫َّص القرآن هي اليت تفرض مكانه كتاب هداية إرش اد وليس‬ ‫َّ‬
‫إن هذه احلقيقة يف الن ي‬
‫الرس ول نفس ه ملا أراد أن‬ ‫كتاب كيمياء وفلك واتريخ وقانون‪ ،‬وألجل ذلك َّ‬
‫فإن َّ‬
‫َّ‬
‫حيكم املدينة كتب دس توراً وض عياً اتفاقياً بلغة القانون وليس بلغة األدب‪ ،‬ومل يقل‬
‫كما يقول إخوتنا السلفية دستوران القرآن والسنة!‬
‫س يقولون‪ :‬إهنا وص فة جاهزة للتخلي عن القرآن‪ ،‬وجوايب‪ :‬بل هو الس بيل الوحيد‬
‫لدرء تعارض العقل والنقل‪َّ ،‬إهنا العودة إىل ما انتهجته الدول اإلس المية الناجحة‬
‫كلَّها خالل التاريخ قبل قيام احلركات الس لفية الظواهرية‪ ،‬وإهنا االعتدال والكف‬
‫عن الغلو يف الدين الذي ذمه القرآن يف عشرات النصوص‪.‬‬

‫قناعيت َّأهنا الوص فة الوحيدة الحرتام القرآن وترتيله وتقديس ه وإجالله ليس ٍّي‬
‫كنص‬
‫س حري فوق العقل وفوق العلم‪ ،‬بل ٍّي‬
‫كنص اترخيان أديب فيه هداية وحكمة ونور‬
‫‪ | 89‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫حتتاجه األمة حني تقتحم املش هد احلض اري بعقول منفتحة وإرادة بص رية وش ورى‬
‫دميقراطية صحيحة‪.‬‬
‫‪ | 90‬نور يهدي ال قيد يأسر‬
‫‪ | 91‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ت وير لمشري‬ ‫لحملور لمسسدس‪ :‬جهود لمفقهسء‬


‫لمفرضي ‪:‬‬
‫تذهب هذه الدراسة إىل التأكيد على َّ‬
‫أن دور الفقهاء يف التاريخ اإلسالمي هو‬
‫إنتاج األحكام املالئمة يف شؤون املعامالت مجيعها‪ ،‬وليس روايتها كما يقوم به‬
‫احملدثون‪.‬‬
‫وتفرق َّ‬
‫الدراسة بشدَّة بني طبقة رجال الدين وطبقة الفقهاء‪ ،‬فبينما يقوم رجال الدين‬
‫ومعهم الرواة واحملدثون مبهمة النقل فإن مهمة الفقهاء ومعهم احلقوقيون هي إعمال‬
‫العقل وإنتاج األحكام بناء على مصاحل األمة وجتارب األمم واالستنارة بنور القرآن‬
‫الكرمي‪.‬‬
‫والفقهاء يف هذه الدراسة هم علماء االجتماع والقانون واألساتذة احلقوقيون الذين‬
‫درسوا الشريعة إبتقان‪ ،‬ودرسوا شرائع األمم وأصول االستنباط وابتوا قادرين على‬
‫التشريع مبا يناسب الزمان واملكان‪.‬‬
‫‪ | 92‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ت وير ل س ‪:‬‬
‫لم سريخ ل س ي‬ ‫ئ حنم فقهي تَّ ت ويرتس‬ ‫قرلء‬
‫اشتهرت بني الفقهاء قاعدة تطور األحكام بتطور األزمان‪ ،‬أو تغري األحكام بتغري‬
‫الذهيب لإلسالم طبيعية ال حتتاج إىل‬ ‫َّ‬
‫األزمان‪ ،‬ومع أن هذه القاعدة كانت يف العصر ي‬
‫برهان ولكنها تعرضت يف القرون األخرية هلجوم شديد وظهر تيار سلفي صارم ال‬
‫أبي تطوير يف الشريعة ويعتصم بظواهر النصوص اليت حرمت البدعة ونصت‬
‫أيذن ي‬
‫على اكتمال اإلسالم يوم حجة الوداع ﱡﭐ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ‬

‫ﱱﱲﱳﱴﱵﱠ [المائدة‪]٣ :‬‬


‫مرة أو‬
‫القائمة اليت نقدمها هنا تتضمن مئة مثال مت خالهلا تغيري احلكم الشرعي َّ‬
‫مرات عدة بني عصر وآخر‪ ،‬وتلقى املسلمون هذا التطور ابرتياح ورضا‪ ،‬أو على‬
‫ظل التيار السلفي يعتقد َّ‬
‫أن هذا التطور‬ ‫األقل تلقاه عدد كبري منهم كذلك‪ ،‬فيما َّ‬
‫ممنوع شرعاً وسيؤدي إىل انداثر الشريعة‪.‬‬
‫املقال أتس يس ي‪ ،‬وهو يقدم أمثلة على هيئة روزانمة زمنية لتطور األحكام بتطور‬
‫األزمان‪ ،‬بدءأ من فجر الرسالة إىل وفاة الرسول الكرمي مث إىل هناية العصر الراشدي‬
‫واألموي والعباسي والدول املتتابعة والعثمان والدولة احلديثة‪.‬‬
‫وقد قص دان ش رح كل موقف بكلمات قليلة تكفي إلدراك األمر‪ ،‬ومل نذكر توثيق‬
‫كل أمر‪ ،‬فنحن على ثقة مبا ننقل‪ ،‬وقد ابتت مص ادر التحص يل على‬‫الرواية يف ي‬
‫أيس ر ما يكون من خالل البحث احلاس ويب الذي حقق للطالبني س بيل الوص ول‬
‫للمعلومة أبوثق وأدق سبيل‪.‬‬
‫‪ | 93‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وقد أعرض نا عن اجلدل يف األس انيد ألننا ال نتبىن هنا موقفاً منها لنقوم ابلرتجيح‬
‫والتوثيق ومقابلة الدليل على الدليل‪ ،‬بل حنن نرويها يف س ياق التأمل واالعتبار‪،‬‬
‫والتأكيد على حص ول ذلك يف التاريخ اإلس المي‪ ،‬وهذا حمل اتفاق بني املش تغلني‬
‫ابلرتاث اإلس المي‪ ،‬ف اجلميع متفقون أن ه ذه األح داث ق د وقع ت‪ ،‬ولكنهم‬
‫خيتلفون يف تفسريها‪ ،‬وابلتأكيد سيستمر هنا اجلدل‪ ،‬وال نزعم أننا ننفيه‪.‬‬
‫وجي ب القول‪َّ :‬‬
‫إن م ا نروي ه هن ا ال يه دف إىل رس م ص ورة املقبول واملردود يف‬
‫الش ريعة‪ ،‬إنَّه حمض اعتبار وأمثلة‪ ،‬وحنن غري ملزمني بذلك كله‪ ،‬كما كان الفقهاء‬
‫الراشدون يف التاريخ غري ملزمني بذلك كله‪ ،‬فكانوا خيتارون لزماهنم‪ ،‬وخنتار لزماننا‪،‬‬
‫وهم رجال وحنن رجال‪.‬‬
‫إن ما نود أتكيده هو أن التش ريع مس تمر حتليالً وحترمياً أبدوات الفقه وأص وله‬
‫املعتربة حبس ب ظروف الزمان واملكان‪ ،‬وأنه ليس من مص لحة اإلس الم أبداً أن‬
‫يكتمل‪ ،‬فاالكتمال هناية اإلبداع‪ ،‬إنه تدفق مس تمر خالل التاريخ‪ ،‬وس يبقى‬
‫يتدفق‪.‬‬
‫الثواب ت اليت ال تتغري هي القيم العلي ا لإلنس اني ة من الع دل والرمح ة والعف اف‬
‫كل يوم يف شأن جديد‪.‬‬
‫والفضيلة‪ ،‬وهي متحدة يف العقل والدين‪َّ ،‬أما املعامالت ف ُّ‬
‫هدف املقال بوض وح‪ :‬ال ختافوا من تطوير اإلس الم‪ ،‬فهو س يزيد من قوته وص البته‬
‫وواقعيته‪ ،‬ولن يؤدي أبداً إىل انداثره أو ضياعه‪.‬‬
‫وهذه مئة حكمة فقهيَّة طورت اترخيياً يف مراحل خمتلفة‪ ،‬وقد قبل املس لمون ذلك‬
‫التغيري بروح واقعية‪ ،‬ونقسمها إىل مخسة أقسام‪:‬‬
‫‪ | 94‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫‪ :‬ما َّ‬
‫غريه رسول هللا من األحكام‪.‬‬ ‫لمقسم ل‬

‫لمقسم لمثسين‪ :‬ما َّ‬


‫غريه اخللفاء الراشدون‪.‬‬

‫لمقسم لمثسمث‪ :‬ما َّ‬


‫غريه الفقهاء ابجتهادات جديدة يف العصر األموي والعباسي‪.‬‬

‫لمقسم لمرلوع‪ :‬ما َّ‬


‫غريه الفقهاء املعاصرون‪.‬‬

‫لمقس ت ت ت ت تتم لخلتتس س‪ :‬م ا حنت اج تغيريه اليوم من األحك ام اليت ال تن اس ب الواقع‬
‫احلضاري‪.‬‬

‫طريق نسخ‬ ‫صر لمنبو‬ ‫‪:‬أحنس شر ي تغي‬ ‫لمقسم ل‬


‫لمقرآ بمسن نسخ لمسن بمقرآ‬
‫‪ .1‬لمقبو ‪ :‬وهي أرسخ الثوابت يف اإلسالم‪ ،‬ومع ذلك فقد تغريت مرتني يف حياة‬
‫رس ول هللا‪ ،‬فكانت إىل الكعبة املش رفة أول اإلس الم‪ ،‬مث توجه النيب الكرمي إىل‬
‫بيت املقدس متييزاً لإلس الم عن الوثنية‪ ،‬وقد اس تمر الرس ول الكرمي ابلص الة‬
‫ص وب القدس أربعة عش ر عاماً‪ ،‬مث ص ار األنس ب للمس لمني االس تقالل عن‬
‫أهل الكتاب والبدء مبش روعهم كأمة مس تقلة‪ ،‬وابلفعل حتولت القبلة إىل‬
‫الكعبة‪ ،‬وقد ورد هذا التغيري حتت اس م النَّاس‪ ،‬وأنت جتد أن التغيري كلَّه متَّ‬
‫أن القبلة يف خدمة النَّاس وليس اإلنس ان يف خدمة‬ ‫بناءً على مص احل األمة‪ ،‬و َّ‬
‫القبلة‪.‬‬
‫‪ | 95‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫‪ .2‬لمقبو لملف وح ‪ :‬ورد نص قرآن آخر يدل يف عمومه صراحة على أن القبلة هلل‬
‫ﲌﲎﲏﲐ‬
‫ﲆ ﲈﲉﲊﲋ ﲍ‬
‫ﲇ‬ ‫كل مكان‪ ،‬ﱡﭐ ﲄ ﲅ‬
‫يف ي‬
‫ﲑﲒ ﱠ [البقرة‪ ،]١١٥ :‬ومن الواضح َّ‬
‫أن اآلية يف ظاهرها دليل على َّ‬
‫أن‬
‫القبلة مفتوحة وأنك حيث وليت وجهك فانت تستقبل املوىل سبحانه‪ ،‬ولكن‬
‫الفقهاء أمجعوا أنه ال يصح االستدالل بظاهر اآلية وأن العربة فيها خبصوص‬
‫أن واجب املسلم التوجه إىل الكعبة املشرفة دون‬ ‫السبب ال بعموم اللفظ‪ ،‬و َّ‬
‫سواها لتصح الصالة‪.‬‬
‫‪ .3‬زير لمقبور‪ :‬كانت حراماً‪ ،‬ورأى الرس ول َّ‬
‫أن زايرة القبور قد تقود إىل الش رك‬
‫فنهى عنها‪ ،‬مث بدا له بع د ذلك‪ ،‬فنس خ احلكم األول وأذن بزايرة القبور ملا‬
‫فيها من املوعظة وص لة الرحم‪ ،‬وقال‪" :‬كنت قد هنيتكم عن زايرة القبور أال‬
‫فزوروها فإهنا تذكركم الدار اآلخرة"‪.‬‬
‫‪ .4‬حلو ل ض ت تتسحي‪ :‬ش كى الفقراء للنَّيب الكرمي أن األغنياء ينحرون األض احي‬
‫فيأكلون منها وجيففون الباقي ويدخرونه وهو التش ريق‪ ،‬وال يتص دقون منها‬
‫بش يء على الفقراء‪ ،‬فص عد النيب الكرمي املنرب وقال‪" :‬إن هللا ورس وله ينهاكم‬
‫عن ادخار حلوم األضاحي"‪ ،‬وقد س رى ذلك احلكم يف التحرمي س نة أو أكثر‪،‬‬
‫فاش تكى أبناء الطبقة الوس طى الذي تكون هلم ش اة أو ش اتني فإذا قاموا‬
‫بنحرها وجب التص دق هبا وحرم ادخارها وهذا رهق ش ديد على الطبقة‬
‫الوس طى‪ ،‬وبدا أن منع االدخار يؤدي اىل تلف اللحم‪ ،‬فص عد املنرب وقال‬
‫بشجاعة‪" :‬كنت قد هنيتكم عن ادخار حلوم األضاحي‪ ،‬أال فكلوا وادخروا"‪.‬‬
‫‪ .5‬حلو لحلار ل توي ‪ :‬أذن الرس ول الكرمي أبكل حلوم احلمر األهلية‪ ،‬مث بدا له‬
‫من خالل دراس ات وخربة وجتارب أنَّه ض ار ابإلنس ان‪ ،‬إض افة إىل ما يؤدي‬
‫‪ | 96‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫من فوات منفعة الركوب على الدواب وهي مص لحة للناس‪ ،‬وأعلن يف الناس‪:‬‬
‫"إن هللا ورسوله ينهاكم عن حلوم احلمر األهلية"‪.‬‬
‫‪ .6‬د لموفت تتس ‪ :‬كانت عدة الوفاة للمرأة حوالً كامالً‪ ،‬يعين سنة كاملة‪ ،‬وكان‬
‫ذلك نصاً يف صريح القرآن ﱡﭐ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ‬
‫ﱟﱠ ﱡﱢﱣﱤﱥﱦﱠ [البقرة‪،]٢٤٠ :‬‬
‫واهلدف ابلطبع توفري فرصة أمان للمرأة لتمكث يف دارها بعد وفاة الزوج‪ ،‬ولكن‬
‫ذلك عاد برهق كبري على النساء‪ ،‬وابت أشبه ابلسجن بعد رحيل الزوج‪ ،‬فتم‬
‫تغيري احلكم آبية قرآنية أخرى اكتفت بتحديد فرتة أربعة أشهر وعشرة أايم كما‬
‫يف آية البقرة‪ ،‬وهذا مما اتفق فيه علماء اإلسالم من القول ابلنسخ‪.‬‬
‫ند نسجس لمرسو ‪ :‬نزلت آية كرمية توجب على املسلمني‬ ‫‪ .7‬تقدمي لمصدق‬
‫دفع الصدقة إذا أرادوا احلديث مع الرسول ﱡﭐﱁﱂﱃﱄﱅﱆ‬
‫ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋﱠ [المجادلة‪ ، ]١٢ :‬فصار أداء الصدقة عند‬
‫مناجاة الرسول واجباً‪ ،‬ومنع الناس من الدخول على الرسول حىت يدفعوا صدقة‬
‫مقررة‪ ،‬ولكن تبني أن ذلك رهق على الناس‪ ،‬واشتكى الفقراء من ذلك‪ ،‬وقد‬
‫أصبح واضحاً أن الفقراء لن ينالوا من جمالسة الرسول نصيباً وأنه سيحتكرها‬
‫األغنياء‪ ،‬فنزلت آية انسخة لذلك‪ :‬ﱡﭐ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ‬
‫ﱠﱢﱣﱤ ﱥﱦﱧﱨﱩﱪﱫﱬﱭ‬
‫ﱡ‬
‫ﱮﱰﱱﱲﱳﱴﱠ [المجادلة‪]١٣ :‬‬
‫ﱯ‬
‫‪ .8‬ويع لمسوم‪ :‬حني وصل الرسول الكرمي إىل املدينة وجدهم يسلفون يف الزرع‪،‬‬
‫والسلف أو السلم أن يبيع الفالح حمصوله للتاجر قبل ظهور الثمر‪ ،‬ويف ذلك‬
‫بيع جمهول‪ ،‬وتغري السعر بعامل الزمن وكالمها من موارد الراب‪ ،‬فأعلن حترمي بيع‬
‫‪ | 97‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫السلم‪ ،‬ولكن اشتكى الفالحون وشرحوا للنيب الكرمي أن ذلك غري ممكن‬
‫حرمه من السلم‪،‬‬
‫عما كان َّ‬
‫وسيعطل النشاط الزراعي كله‪ ،‬فرجع رسول هللا َّ‬
‫وأذن هلم به ووضع بعض شروط ضامنة وقال‪" :‬من أسلف فليسلف يف مثر‬
‫معلوم وكيل معلوم إىل أجل معلوم"‪.‬‬
‫‪ .9‬ننسح لمل ‪ :‬كان حالالً يف القرآن ﱡﭐ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ‬

‫ﱠ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪﱠ‬
‫ﱡ‬ ‫ﱟ‬
‫[النساء‪ ،]٢٤ :‬وقد اشتهر هذا اللون من النكاح وعمل به صحابة كثر‪ ،‬وقد‬
‫أبيح مرتني وحرم مرتني‪ ،‬ومات رسول هللا وهو شائع يف الناس‪ ،‬واستمر إىل‬
‫عهد عمر‪ ،‬وقد وضعنا نكاح املتعة يف هذا القسم على أساس أنَّه حرم حبديث‬
‫الرسول فيما يرى فقهاء آخرون أنه حرم يف عهد عمر ومل يكن حمرماً‪ ،‬وسنأيت‬
‫على بيان ذلك بعد قليل‪.‬‬
‫لحلر ‪ :‬يف حجة الوداع أعلن النَّيب الكرمي حترمي قطع‬ ‫‪ .10‬ق ع لمشجر‬
‫الشجر‪ ،‬استناداً إىل آية صرحية كرمية‪ :‬ﱡﭐﲔﲕﲖﲗ ﲘﲙ‬

‫ﲚ ﲛﲜﲝﱠ [المائدة‪ ،]٢ :‬وقال ﷺ‪ :‬إ َّن َم َّكةَ ُكلُّ َها َحَرام‪َ ،‬حَرام‬
‫صْي ُد ُها"‪ ،‬وذلك يف هدف‬ ‫حبُْرَمة هللا إىل يَوم القيَ َامة َال يُ ْقطَع شجرها‪َ ،‬وَال يُنَف َُّر َ‬
‫نبيل حلماية الثروة الزراعية يف مكة‪ ،‬وتشجيع الرقعة اخلضراء‪ ،‬ولكن الصحابة‬
‫اشتكوا للنيب الكرمي من الرهق يف ذلك وطلب العباس بن عبد املطلب من النيب‬
‫الكرمي بعض االستثناءات وخصوصاً شجر اإلذخر الذي كان خشباً صلباً‬
‫يستخدم كعمود للبيوت لشدة صالبته‪ ،‬وابلفعل تراجع الرسول الكرمي عن رأيه‬
‫وقال‪ :‬إال اإلذخر‪ ،‬ملا له من فائدة وضرورة‪ ،‬فأذن بقطع شجر اإلذخر استثناء‬
‫من عموم التحرمي‪.‬‬
‫‪ | 98‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫‪ .11‬لموصي موولمدي ‪ :‬نصت آية البقرة يف القرآن الكرمي على أن الوصية‬


‫للوالدين‪ :‬ﱡﭐ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ‬

‫ﲸﲺﲻﲼﲽﱠ [البقرة‪ ،]١٨٠ :‬ولكن‬


‫ﲹ‬ ‫ﲶﲷ‬
‫تطبيق ذلك أدى إىل تداعيات كثرية؛ إذ ال ينال الوالدين إال ما أوصى به‬
‫املتوىف‪ ،‬ورمبا تسلط الوالد على ولده فكتب له املال كله وحرم أوالده‪ ،‬فأعلن‬
‫ث"‪ ،‬وصارت الوصية‬ ‫الرسول الكرمي تغيري احلكم كله‪ ،‬وقال‪َ ":‬ال وصيَّةَ لوار ٍّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫للوالدين غري انفذة إال برضا الوارثني‪ ،‬وقال بعض الفقهاء بل ال تنفذ مطلقاً‬
‫على َّ‬
‫أن اآلية يف القرآن الكرمي وهي تتلى كل يوم‪.‬‬
‫‪ .12‬لموصتتي مرقروني‪ :‬وهو األمر نفس ه؛ إذ كان حيق للمتوىف أن يوص ي مباله‬
‫ملن يشاء من القرابة فيوصي لولد وحيرم آخر‪ ،‬ويوصي لعم وحيرم األخ‪ ،‬وبذلك‬
‫ص ارت الوص ية مبعثاً للخص ام ورمبا للكيد واالنتقام‪ ،‬فأعلن الرس ول الكرمي‬
‫وقف العمل هبذا احلكم وقال‪ :‬ال وص ية لوارث‪ ،‬وقد بقيت اآلية يف القرآن‬
‫الكرمي يتلوها الناس ولكنها منسوخة ال حيل العمل هبا‪.‬‬
‫و لممجي ي يقونه‪ :‬كان الص يام يف القرآن اختيارايً‪ ،‬يؤديه من يش اء‬ ‫‪.13‬‬
‫ويرتكه من يش اء ويس تعيض عنه ابلفدية بناء على ظاهر هذه اآلية‪ ،‬مث أوجبه‬
‫الرسول على كل قادر‪ ،‬فصارت الفدية ال تقبل إال من العاجز واملريض‪.‬‬
‫حترمي ننسح غي لملسواس ‪ :‬نزلت يف ذلك آية كرمية‪ :‬ﱡﭐ ﱢﱣ‬ ‫‪.14‬‬
‫ﱤ ﱥ ﱦﱠ [البقرة‪ ، ]٢٢١ :‬فكان النيكاح حراماً بغري‬
‫املسلمة‪ ،‬وملا فتحت أبواب العالقات اإلجيابية مع أهل الكتاب‪ ،‬رأى الرسول‬
‫اجملتمعي وأنَّه يقرب بني الناس فأذن به وجاءت‬ ‫الكرمي َّ‬
‫أن ذلك يفيد يف التالحم‬
‫ي‬
‫‪ | 99‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫آية كرمية مؤكدة على ذلك‪ :‬ﱡﭐﲶﲷﲸﲹ ﲺﲻ‬

‫ﲼﲽﲾﲿﱠ [المائدة‪.]٥ :‬‬


‫‪ .15‬تولر ل و لمدي ‪ :‬كان التوارث يف َّأول اإلسالم بني اإلخوة يف‬
‫الدين‪ ،‬وكان املسلم والكافر ال يتواراثن ولو كاان أخوين أو زوجني‪ ،‬وعقد رسول‬
‫هللا اإلخاء بني الصحابة من املهاجرين واألنصار فلو قد مات أحدمها ورثه‬
‫اآلخر‪ ،‬وذلك مدلول ظاهر اآلية‪ :‬ﱡﭐﲷﲸﲹﲺ‬

‫ﲻﱠ [النساء‪ ،]٣٣ :‬ولكن ذلك َّ‬


‫تغري بعد مدة‪ ،‬وحني استقرت العوائل‬ ‫ﲼ‬
‫يف املدينة ابت من املنطقي أن يتوارث الناس وفق تظام العائلة‪ ،‬وابلفعل نسخ‬
‫احلكم السابق ونزلت آية جديدة‪ :‬ﱡﭐﳈﳉﳊﳋﳌﳍﳎ‬

‫ﳏﱠ [األنفال‪ ، ]٧٥ :‬وهكذا فاآلية ابقية يف املصحف ولكن ال يصح العمل‬
‫هبا‪ ،‬وإن كانت تتلى يف الصالة والعبادة‪.‬‬
‫‪ .16‬ضرا لمنسسء‪ :‬كان ضرب النيساء حكماً شرعياً َّ‬
‫نص عليه القرآن الكرمي‬
‫يف اآلية‪ :‬ﱡﭐ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ‬

‫ﱞ ﱟﱠ [النساء‪ ،]٣٤ :‬ولكن كثرت الشكوى من ذلك‪،‬‬


‫وطاف آبل حممد نساء كثر يشكون ظلم أزواجهن وضرهبم‪ ،‬فنهى النيب عن‬
‫أن اآلية بقيت يف املصحف ولكن‬ ‫هبن إال لئيم"‪ ،‬ومع َّ‬
‫ذلك وقال‪" :‬ال يضر َّ‬
‫العمل هب ا توقف بعد أن وصف رسول هللا من يضرب النساء أبنه لئيم‪ ،‬ال‬
‫يضرهبن إال لئيم وال يغلنب إال الكرمي‪.‬‬
‫‪ | 100‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لخلد ‪ :‬نزلت اآلايت الكرمية يف وجوب استنفار الناس‬ ‫‪ .17‬إ فسء لمل سق‬
‫ونصت اآلية على أنه‪َ{ :‬ال يَ ْستَوي ال َقاع ُدو َن م َن‬
‫مجيعاً للجهاد‪ ،‬خفافاً ثقاالً‪َّ ،‬‬
‫ني} و{ َوامل َجاه ُدو َن يف َسبيل هللا}‪ ،‬وقد أاثرت هذه اآلية حرجاً شديداً‬ ‫املُْؤمن َ‬
‫ُ‬
‫على ذوي اإلعاقة؛ إذ تنص اآلية على أهنم ال يستوون يف األجر وال الثواب‬
‫مع اجملاهدين‪ ،‬واعرتض عبد هللا بن أم مكتوم وكان رجالً أعمى على احلكم‬
‫وطالب بتعديله‪ ،‬وابلفعل نزل جربيل األمني بثالث كلمات وتتضمن االستثناء‬
‫الضَرر}‪ ،‬وطلب ضمها إىل اآلية فصارت‪ :‬ﱡﭐﱁﱂﱃﱄ‬
‫‪َ {:‬غ ْريُ أُْول َّ‬
‫ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱠ [النساء‪:‬‬
‫‪.]٩٥‬‬
‫لمساك لفرلد‪ :‬نزلت اآلية الكرمية ‪ :‬ﱡﭐ ﱁﱂﱃﱄﱅ‬ ‫‪.18‬‬
‫ﱆﱠ [المائدة‪ ،]٣ :‬ولكن حترمي امليتة جاء شامالً فدخل فيه السمك‬
‫واجلراد‪ ،‬وحترمي الدم جاء شامالً ودخلت فيه اللحوم املدماة مجيعها‪ ،‬فاشتكى‬
‫الناس للرسول الكرمي‪ ،‬وابلفعل فإن النيب الكرمي استجاب لذلك وقال‪" :‬أحلت‬
‫لنا ميتتان ودمان‪ ،‬السمك واجلراد‪ ،‬والكبد والطحال"‪ ،‬ومع َّ‬
‫أن اآلية ما تزال‬
‫يف املصحف شاملة لتحرمي السمك واجلراد ولكن متَّ تعديل احلكم واستثناء‬
‫األصناف املذكورة حلاجة الناس لذلك‪.‬‬
‫‪ .19‬لمنبد لم حس ‪ :‬وهو ما بيَّناه يف احلديث الس ابق حني اش تكى الناس‬
‫أن كثرياً من اللحم ال خيلو من دم كم ا يف الكب د والطح ال‪ ،‬وال ينبغي أن‬
‫يكون التحرمي ش امالً‪ ،‬بل يتعني حترمي ما يض ر اإلنس ان دون س واه‪ ،‬وابلفعل‬
‫فقد استجاب الرسول لذلك‪ ،‬وقال‪" :‬وأحل لنا دم الكبد ودم الطحال"‪.‬‬
‫‪ | 101‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫‪َّ .20‬‬
‫كفسر لمظهسر‪ :‬نزلت س ورة اجملادلة وفيها َّ‬
‫كفارة ش ديدة على من يظاهر‬
‫علي كظهر أمي‪ ،‬فك ان‬
‫من امرأت ه‪ ،‬والظه ار أن يقول المرأت ه‪ :‬أن ت حرام َّ‬
‫احلكم فيه ا الطالق‪ ،‬وق د أفىت الرس ول ب ذل ك خول ة بن ت ثعلب ة‪ ،‬ولكنه ا‬
‫اعرتضت وقدمت دليلها‪ ،‬فاستجاب هبا هللا ونزلت سورة اجملادلة اليت فرضت‬
‫َّ‬
‫كفارة مرتبة عتق رقبة أو ص يام ش هرين أو إطعام س تني مس كيناً‪ ،‬الكفارة‬
‫إطعام ستني مسكيناً‪ ،‬ومع ذلك فقد جاءه أعرايب فقري ظاهر من امرأته‪ ،‬فأمره‬
‫بعتق رقبة فعجز‪ ،‬فأمره بص وم ش هرين فعجز‪ ،‬فأمره إبطعام س تني مس كيناً‬
‫فعجز‪ ،‬ودفع إلي ه طع ام اً وأمره أن ينفق ه على الفقراء فق ال األعرايب‪ :‬ال أج د‬
‫أفقر مين‪ ،‬فض حك رس ول هللا ودفعه لألعرايب ينفقها على نفس ه وعياله‪،‬‬
‫وذلك خالفاً ملا تدل عليه اآلايت الكرمية‪.‬‬
‫‪ .21‬لحلبس لمبيو ‪ :‬كانت عقوبة املرأة الزانية احلبس يف البيوت َّ‬
‫حىت املوت‪،‬‬
‫ويف ذلك نزلت آية كرمية‪ :‬ﱡﭐ ﱁﱂﱃﱄﱅﱆ‬

‫ﱉﱋﱌﱍﱎ ﱏﱐﱑ‬
‫ﱊ‬ ‫ﱇﱈ‬

‫ﱒﱓﱔﱕﱖﱗﱘﱠ [النساء‪ ،]١٥ :‬وقد َّ‬


‫ظل احلكم على‬
‫أن احلكم شديد وال حيقق هدفاً إصالحياً فنزلت آية جديدة‬ ‫ذلك زمناً‪ ،‬مثَّ تبني َّ‬
‫أتمر بعقاب الزانة مئة جلدة وعودهتن للحياة الطبيعية‪ ،‬فبذلك تطور احلكم‬
‫أي تغيري‪.‬‬ ‫ص ٍّ‬
‫ابق يف القرآن الكرمي ومل يطرأ عليه ُّ‬ ‫وتغري على َّ‬
‫أن النَّ َّ‬
‫لخلار‪ :‬ذكر اخلمر يف القرآن الكرمي سكراً ورزقاً حسناً‪ ،‬وكان الصحابة‬ ‫‪.22‬‬
‫يشربونه زمناً دون نكري‪ ،‬واستمر احلكم حنو مخسة عشر عاماً‪ ،‬مثَّ نزل حترمي‬
‫‪ | 102‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫اخلمر فانتهى ذلك كله‪ ،‬واآلية ابقية يف القرآن الكرمي‪ :‬ﱡﭐ ﱦﱧﱨ‬

‫ﱩﱪﱫﱬﱭﱮﱠ [النحل‪.]٦٧ :‬‬


‫لمست تتنر قبل لمص ت ت ‪ :‬كان املس لمون يش ربون اخلمر زمناً فنهوا عن‬ ‫‪.23‬‬
‫الصالة وهم سكارى‪ ،‬فكانوا يشربوهنا يف غري وقت الصالة دون نكري‪ ،‬ولكن‬
‫األمر تطور بعد ذلك وظهر مفاسد السكر وشروره‪ ،‬فجاء النهي عاماً شديداً‬
‫رغم أن آايت إابح ة اخلمر يف غري وق ت الص الة بقي ت موجودة يف القرآن‬
‫الكرمي‪.‬‬
‫لمشهر لحلرل ‪ :‬كان القتال يف الشهر احلرام حراماً بشكل مطلق‪،‬‬ ‫‪ .24‬لمق س‬
‫وفيه نزلت اآلية‪{ :‬ﭐﱡﭐﲔﲕﲖﲗﲘﲙﲚ ﲛﲜﲝ‬
‫ﱠ [المائدة‪ ،]٢ :‬ولكن هذا احلكم أدى إىل حرج شديد يف خطط املواجهة مع‬
‫املشركني‪ ،‬وكان يفرتض أتجيل كثري من املواجهات مما يرتتب عليه خرق لألمن‬
‫اصة إذا‬
‫الدفاعي لألمة‪ ،‬فرأى النيب الكرمي ضرورة القتال يف األشهر احلرم خب َّ‬
‫فتم تعديل احلكم ونزلت اآلية‪ :‬ﱡﭐﱷﱸﱹﱺ‬
‫ابدر املشركون لذلك‪َّ ،‬‬
‫ﱻﱼﱠ [البقرة‪ ،]١٩٤ :‬وقد قاتل النيب نفسه يف الشهر احلرام‪.‬‬
‫فهذه أمثلة التطوير يف القرآن الكرمي‪ ،‬وال خيتلف املسلمون أنه قد متَّ تعديلها إىل ما‬
‫هو أوفق للناس وأنسب ألحواهلم‪ ،‬وكلها مسطورة بصريح القرآن الكرمي وما زالت‬
‫تتلى يف احملاريب ولكن ال يصح العمل بظاهرها‪.‬‬
‫وهذه طائفة أخرى مما متَّ تعديله يف حياة الرس ول الكرمي مما ورد يف كتب الس نن‬
‫اصة يف البخاري ومسلم‪.‬‬
‫املعتمدة وخب َّ‬
‫‪ | 103‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫‪ .25‬ويع لمل د ‪ :‬هنى الرس ول الكرمي عن بيع املعدوم‪ ،‬ولكن الص حابة الكرام‬
‫طلبوا الس ماح هلم ببيع الس لم؛ لش دة حاجتهم إليه‪ ،‬والس لم هو بيع احملص ول‬
‫الس ليم ال‬
‫قبل أن يثمر وهذا مص لحة للفالح ومص لحة للتاجر‪ ،‬وبدون َّ‬
‫يس تطيع الفالح زراعة أرض ه وال اس تئجار العمل وش راء األمسدة‪ ،‬فأذن هلم‬
‫رسول هللا يف السلم ورجع عن عموم هنيه‪.‬‬
‫‪ .26‬لم حسم ع غي لملس تتواني‪ :‬أخرج البخاري يف الص حيح َّ‬
‫أن رس ول هللا‬
‫قال‪" :‬ال حلف يف اإلسالم"‪ ،‬يريد أنَّه ال يصح أن يتحالف املسلمون مع غري‬
‫املس لمني‪ ،‬وذلك لقطع األحالف اليت كانت بني بعض الص حابة وبني كفار‬
‫قريش‪ ،‬ولكن ذلك تغري مع األايم وقد احتاج املس لمون إلنش اء أحالف‬
‫ض روري ة‪ ،‬وابلفع ل دخل ت خزاع ة يف حلف مع الرس ول الكرمي وهم غري‬
‫مسلمني‪ ،‬وكان ذلك دليالً على تغري احلكام بتغري األزمان‪.‬‬
‫لمزرل ‪ :‬ورد النهي عن الزراعة ص رحياً يف ص حيح البخاري‬ ‫‪ .27‬لمنهي‬
‫أن النيب الكرمي دخل بيت ص حايب فرأى فيه حمرااثً فقال‪ :‬ما دخل هذا‬‫وفيه‪َّ :‬‬
‫لكن الرس ول الكرمي فيما بعد ش ارك يف الزراعة‬
‫بيت قوم إال أص اهبم الذل‪ ،‬و َّ‬
‫وزرع وحص د وأثىن على الش جر‪ ،‬وبقي احلديث يف البخاري موجوداً‪ ،‬وقد‬
‫أش ار الفقهاء أنه قص د االش تغال ابلزرع وترك اجلهاد مع حاجة األمة للدفاع‬
‫واألمن‪.‬‬
‫‪ .28‬إص ح لمقضسء‪ :‬يف حديث ابلغ األمهية يقول الرسول الكرمي‪َّ " :‬إمنا أان‬
‫ض‪،‬‬ ‫ض ُك ْم أ ْن يَكو َن أ ْحلَ َن حبُ َّجته من بَ ْع ٍّ‬ ‫بَ َشر وإنَّ ُك ْم َختْتَص ُمو َن ََّ‬
‫إل‪ ،‬ولَ َع َّل بَ ْع َ‬
‫ت له من َح يق أخيه شيئًا‪ ،‬فال َأيْ ُخ ْذهُ َّ‬
‫فإمنا‬ ‫ضْي ُ‬‫فمن قَ َ‬ ‫أمسَ ُع‪َ ،‬‬
‫فأقْضي علَى َْحنو ما ْ‬
‫أقْطَ ُع له قطْ َعةً م َن النَّار‪ .‬ويف احلديث أتكيد شديد أن احلكم ولو كان صادراً‬
‫‪ | 104‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫من النيب نفسه قد يعرض له اخلطأ أو التضليل‪ ،‬وعلى األمة ابتكار طرائق‬
‫حازمة ملنع التالعب ابلقضاء‪.‬‬
‫‪ .29‬لمنصتو لملنستو ‪ :‬ويف إشارة واضحة إىل َّ‬
‫أن يف القرآن الكرمي نصوصاً‬
‫قد نس خت ومل تكتب يف املص حف وروى البخاري عن عائش ة حديثاً ابلغ‬
‫األمهي ة‪ ،‬وهو‪ :‬إ َّن النيب الكرمي مسع رجال يقرأ من القرآن‪ ،‬فق ال‪" :‬مقتد أْكرين‬
‫ست تور كمجل كمجل"‪ ،‬ويف احلديث تص ريح‬ ‫كمجل كمجل آي ً‪ ،‬كنت أست تق تهس‬
‫ص القرآن تطور خالل العهد النبوي ونس خ منه كثري‪ ،‬وهو ما‬ ‫واض ح َّ‬
‫أن النَّ َّ‬
‫أكده القرآن الكرمي يف عشرات اآلايت‪.‬‬
‫‪ .30‬لمل ن ‪ :‬جاء هالل بن أمية غاضباً اثئراً إىل النيب الكرمي وقذف امرأته‬
‫بشريك بن سحماء‪ ،‬وقال‪ :‬اي رسول هللا! رأيتهما يفعالن الفاحشة‪ ،‬وعلى‬
‫الفور طلب منه الرسول الكرمي أربعة شهود كما تدل آية النور الصرحية‪ :‬ﱡﭐ‬
‫ﱼﱽﱾﱿ ﲀﲁﲂﲃ ﲄﲅﲆﲇ‬
‫ﲋﲍﲎﲏﲐﱠ [النور‪ ،]٤ :‬ولكن هالل قال‬
‫ﲈﲉﲊ ﲌ‬
‫إنه ال ميلك أي شاهد‪ ،‬فأخربه الرسول أنه إذن سيجلد مثانني جلدة؛ ألنه‬
‫قذف امرأته دون شهود‪ ،‬ولكن هالل اعرتض بشدة‪ ،‬وقال‪ :‬اي رسول هللا! هللا‬
‫أعدل من هذا‪ ،‬وما زال حيلف ويقسم حىت تغري احلكم ونزلت آية جديدة‬
‫أن الرجل إذا قذف زوجته ال يكلف ابلشهود‪ ،‬بل حيلف اليمني أمام‬ ‫وفيها َّ‬
‫املأل مخسة أميان مغلَّظة فيربأ ظهره من العقاب‪ ،‬وبذلك تدان املراة ولكنها تربأ‬
‫هي إن حلفت أيضاً مخسة أميان مغلَّظة وعند ذلك يتفارقان فرقة مؤبدة‪ ،‬وهذا‬
‫ما يسمى اللعان‪ ،‬واملقصود من إيراد القصة أن اآلية نفسها تعرضت للتطوير‬
‫يف حياة الرسول استجابة لألحداث‪.‬‬
‫‪ | 105‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫‪ .31‬حترمي لحلرير و لمرجس ‪ :‬أورد البخاري ومسلم أحاديث َّ‬


‫عدة تفيد حترمي‬
‫احلرير على الرجال من املس لمني‪ ،‬وأنَّه حل للنس اء‪ ،‬ولكن عدداً من الص حابة‬
‫ومنهم عبد الرمحن بن عوف طلبوا اس تثناء من احلكم‪ ،‬ويقدر بعض الرواة أنه‬
‫ك ان اببن عوف حكم يف جل ده‪ ،‬ف أذن هلم ا النيب الكرمي ومع أن النص بقي‬
‫على حاله‪ ،‬ولكن صار ابإلمكان استثناء ذوي احلاجة منه‪.‬‬
‫‪ .32‬لحلرق بمنسر‪ :‬أرسل النيب محزة األسلمي يف سرية ضد بعض قطاع الطرق‬
‫وأمره إن ظفر هبم أن حيرقهم‪ ،‬ولكنه بعد أن مض ى طلبه فعاد فقال له‪" :‬ال‬
‫حترق بمنَّتسر‪ ،‬ال حيرق بمنَّتسر إال را لمنَّتسر"‪ ،‬فك ان ذل ك إذانً حبرق اجملرمني‪،‬‬
‫مث هنى عن حرقهم وب ذل ك تطور احلكم من إابح ة التحريق إىل منع التحريق‬
‫وحترميه‪.‬‬
‫ر ضس ‪ :‬هنى النيب الكرمي عن إتيان النساء يف رمضان‬ ‫لموقسء لمز جي‬ ‫‪.33‬‬
‫كله بعد النوم‪ ،‬فكان الرجل إذا انم بعد اإلفطار ولو دقائق معدودة حرمت‬
‫عليه النساء‪ ،‬وكان ذلك رهقاً شديداً على الناس‪ ،‬فاشتكى عدد من الصحابة‬
‫وطلبوا تعديل احلكم الشرعي‪ ،‬فنزلت اآلية تلبية ملطالبهم‪ :‬ﱡﭐﱁﱂﱃ‬

‫ﱄﱅﱆﱇﲊﱠ [البقرة‪.]١٨٧ :‬‬


‫‪ .34‬لم جنيد ل مزل ي و لمنل‪ :‬كان األمر ابجلهاد عاماً وشامالً وينص على‬
‫القادرين وغريهم‪ ،‬وفق نص اآلية‪ :‬ﱡﭐﱁﱂﱃﱠ [التوبة‪،]٤١ :‬‬
‫ولكن هذا احلكم الشديد مل ميكن تطبيقه نظراً للحرج الشديد على ذوي‬
‫العاهات وكبار السن الذي يثقل هبم اخلروج للجهاد‪ ،‬فغري احلكم واستثين منه‬
‫املسنون واملرضى والنساء وغري ذلك‪ ،‬وقد بقيت اآلية يف صيغة شاملة ال تقبل‬
‫‪ | 106‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫االستثناء‪ ،‬وهي ترتل يف الصالة ولكن ال يصح العمل بظاهرها على أرض‬
‫الواقع‪.‬‬
‫‪ | 107‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ل حنس َّ‬
‫لمشر يَّ‬ ‫غيه لخلوفسء لمرلشد‬
‫لمقسم لمثسين‪ :‬س َّ‬
‫إن َّأول ما ظهر فيه اجتهاد املسلمني يف تطوير‬ ‫ع لمقرآ لمنرمي‪َّ :‬‬ ‫‪.35‬‬
‫الشريعة هو قيامهم جبمع القرآ ن الكرمي‪ ،‬وهي مهمة مل يرد فيها أمر وال هني‬
‫ومتس أهم ثوابت اإلسالم الكربى‪ ،‬وهو القرآن الكرمي‪ ،‬وقد واجه اخلليفة‬
‫الراشدي هذه الفكرة ابعرتاض شديد‪ ،‬وقال لعمر بن اخلطاب‪ :‬كيف أفعل‬
‫شيئاً مل يفعله رسول هللا؟ ولكن عمر بن اخلطاب ما زال يقدم بيان املصاحل‬
‫الصديق بذلك‬‫املرجوة والفوائد املتوخاة من تدوين القرآن ومجعه حىت اقتنع ي‬‫َّ‬
‫وبدأت عملية مجع القرآن ونسخه فيما بعد اليت تع ُّد حبق أول بدعة يف اإلسالم‪،‬‬
‫أي دليل شرعي ظاهر‪ ،‬ولكنها مصلحة حقيقية لألمة وقد استقر‬
‫ليس عليها ُّ‬
‫األمر على مجع القرآن الكرمي بيد الصحابة على الرغم من عدم وجود ٍّي‬
‫نص‬
‫آمر‪ ،‬بل وجود نصوص تنهى عن ذلك يف الظاهر كقوله‪ :‬ﱡﭐﳎﳏﳐ‬

‫ﳑﳒﱠ [القيامة‪ ،]١٧ :‬وقوله‪ :‬ﱡﭐﲇﲈﲉﲊﲋﲌﲍ‬

‫ﲎﱠ [الحجر‪.]٩ :‬‬


‫‪ .36‬تسايَّ لمسور‪ :‬مات رسول هللا‪ ،‬وإن سور القرآن منثورة على الرقاع‪ ،‬وقد‬
‫رأينا جدهلم يف مجع القرآن الكرمي‪ ،‬وقد اثر جدل مثله يف تسمية السور فقد‬
‫مات رسول هللا وليس للسور أمساء توقيفية وكانوا يقولون السورة اليت تذكر فيها‬
‫البقرة والسورة اليت يذكر فيها آل عمران‪ ،‬ولكن الصحابة استحبوا اختيار أمساء‬
‫مناسبة للسور‪ ،‬وبعد نقاش وأخذ ورد استقر األمر على حسن هذه البدعة‪،‬‬
‫وجرى العمل على ذلك وهو املسطور يف مصاحف الدنيا مجيعها‪ ،‬مع اتفاقهم‬
‫أن ذلك مت ابجتهاد حمض وليس فيه دليل قطعي‪.‬‬ ‫َّ‬
‫‪ | 108‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫‪ .37‬فسق وول لملشركني حيث ثقف اوتم‪ :‬وهذا ُّ‬


‫نص قرآن صريح يف وجوب‬
‫كل من ال يسلم من‬
‫قتال املشركني وعدم مهادنتهم‪ ،‬ومقتضاه أن يتم قتل ُّ‬
‫املشركني‪ ،‬وكانت هذه اآلية مؤسسة حلروب الردة‪ ،‬ولكن الراشدين فيما بعد‬
‫أوقفوا احلروب مع املشركني إال احملارب منهم‪ ،‬وأنه ال يصح قتل املشرك لشركه‪،‬‬
‫وأن هذا نقيض اآلية الكرمية‪ :‬ﱡﭐﳎﳏﳐﳑﱠ [البقرة‪ ،]٢٥٦ :‬وألجل‬
‫ذلك فقد أوقف عمر بن اخلطاب العمل هبذه اآلية‪ ،‬وقبل الصلح مع اجملوس‬
‫وهم يعبدون النار‪ ،‬مع أن اآلية صرحية وواضحة وهي تتلى يف الصالة ولكن ال‬
‫يصح العمل بظاهرها‪.‬‬
‫‪ .38‬ننسح لمل ‪ :‬واملقصود به الزواج املؤقت ابالتفاق بني الطرفني‪ ،‬وقد أشران‬
‫أن املتعة كانت جائزة ومشروعة وقد نصت عليها آية كرمية يف‬ ‫قبل قليل إىل َّ‬
‫ﱠﱢﱣ‬
‫ﱡ‬ ‫سورة النساء‪ :‬ﱡﭐ ﱚ ﱛﱜ ﱝ ﱞﱟ‬

‫ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪﱠ [النساء‪ ،]٢٤ :‬وقد اختلفت‬


‫وظل عدد كبري من الصحابة يرون َّأهنا حالل‪ ،‬ويستدلون‬
‫الرواايت يف حترميها‪َّ ،‬‬
‫بظاهر هذه اآلية‪ ،‬ولكن عمر بن اخلطاب ملا ول اخلالفة رأى يف ذلك مفسدة‬
‫عظيمة وعلى الرغم من معارضة الصحابة وقوة دليلهم وعلى رأسهم ابن عباس‬
‫إال َّ‬
‫أن عمر بن اخلطاب أعلن حترمي املتعة إبطالق‪ ،‬كما سيأيت‪.‬‬
‫لحلج‪ :‬املتعة يف احلج أن يصل احلاج مبكراً فيؤدي العمرة مث يتحلل‬ ‫‪.39‬‬
‫من إحرامه ويعيش حراً يغتسل وستطيب وأييت النساء إىل يوم عرفة فيحرم من‬
‫جديد‪ ،‬وقد ورد اإلذن مبتعة احلج يف صريح القرآن الكرمي‪ ،‬وهو قوله تعاىل‪ :‬ﱡﭐ‬

‫ﳇﳈﳉﳊﳋﳌﳍﳎﳏﱠ [البقرة‪ ،]١٩٦ :‬وقد كان ذلك‬


‫‪ | 109‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫شأن القادرين من الناس أهنم أيتون ابكراً إىل مكة فيعتمرون مثَّ يتمتعون ما‬
‫شاؤوا‪ ،‬ويبدو أنه شاع فيهم أيضاً خالل ذلك نكاح املتعة‪ ،‬فكان الرجل يواعد‬
‫املرأة يف فرتة متعة احلج فينكحها نكاح متعة‪ ،‬ونكاح املتعة ومتعة احلج كالمها‬
‫منصوص عليه بصريح القرآن‪ ،‬وقد ازداد ذلك يف عهد عمر بن اخلطاب‪ ،‬وبدا‬
‫ذلك مسيئاً لكرامة البيت احلرام وشعائر احلج اليت شأهنا الزهد والنسك والعبادة‬
‫وليس التمتع ابلنساء‪ ،‬حىت وصف جابر حال الصحابة أبهنم كانوا أيتون عرفة‬
‫وهم يف شبق من الولع ابلنساء‪ ،‬فغضب عمر وهنى عن ذلك ‪ ،‬فاعرتض كثري‬
‫من الصحابة وقالوا إنك حترم ما أحلَّه رسول هللا‪ ،‬فصعد املنرب وقال بوضوح‪:‬‬
‫"متعتان كانتا على عهد رسول هللا حالالً أان أحرمهما وأعاقب عليهما‪ :‬متعة‬
‫احلج‪ ،‬ومتعة النساء"‪ ،‬وبذلك قطع الباب كله‪.‬‬
‫‪ .40‬لمل مف قووسم‪ :‬نزل القرآن الكرمي صرحياً وواضحاً يف منح سهم خاص‬
‫للمؤلفة قلوهبم من مال الزكاة‪ ،‬وكان ذلك يقتضي أن يؤخذ من مال الزكاة‬
‫اصة إذا كانوا من أهل‬
‫قسط يدفع للدعوة إىل هللا وأتلف قلوب املهتدين‪ ،‬وخب َّ‬
‫املنزلة يف قومهم وذلك لتشجيعهم على الدخول يف اإلسالم‪ ،‬وقد أدى رسول‬
‫هللا ذلك لعشرات من زعماء القبائل وكتب هلم ديوان كانوا أيخذون فيه نصيبهم‬
‫كل عام ومنهم أبو سفيان وصفوان بن أمية واألقرع بن حابس وغريهم‪ ،‬ولكن‬
‫عمر بن اخلطاب رأى أن هذا األمر مل يعد مربراً وأن هؤالء وغريهم ليسوا أهالً‬
‫ليأخذوا من مال الزكاة ويف املسلمني الفقري واملسكني‪ ،‬وأوقف عنهم هذا‬
‫العطاء‪ ،‬فاحتجوا ابآلية الكرمية يف سورة التوبة‪ :‬ﱡﭐ ﲗ ﲘ ﱠ‬
‫لكل‬
‫[التوبة‪ ،]٦٠ :‬ولكن عمر بن اخلطاب رفض ذلك‪ ،‬ومل يعتربه حكماً ي‬
‫زمان ومكان‪ ،‬ورأى أن ذلك جاز يف حالة ضعف اإلسالم واخلوف من انقالب‬
‫‪ | 110‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫أي معىن لتألف الناس‬ ‫الطلقاء عليه‪ ،‬ولكن اإلسالم ابت قوايً ومل يعد هناك ُّ‬
‫ابملال‪ ،‬فمن آمن يريد املال فما آمن‪ ،‬ومع أن اآلية موجودة يف القرآن نرتلها‬
‫يف الصالة‪ ،‬ولكن عمر أوقف العمل هبا يف هؤالء املؤلفة ويف غريهم‪ ،‬وقناعيت‬
‫َّ‬
‫أن كل اإلنفاق يف الدعوة إىل هللا ال يصح أبداً من مال الزكاة الذي ينبغي أن‬
‫يكون يف مكافحة الفقر واملسكنة ويف حتقيق التنمية‪.‬‬
‫ق ع يد لمسسرق‪ :‬نصت اآلية الكرمية على قطع يد السارق‪ :‬ﱡﭐﱏ‬ ‫‪.41‬‬
‫ﱘﱚﱛ‬
‫ﱐﱑ ﱒﱓﱔﱕﱖﱗ ﱙ‬

‫ﱜﱝﱠ [المائدة‪ ]٣٨ :‬ويذهب الفقهاء اليوم إىل وجوب قطع السارق‬
‫إذا سرق ربع دينار‪ ،‬ولكن عمر بن اخلطاب رفض قطع يد السارق‪ ،‬ومع أن‬
‫األمر وقع يف عام الرمادة وهو عام فقر وجوع‪ ،‬ولكن عمر مل يعد إىل هذا‬
‫احلكم قط ‪ ،‬وميكن التأسيس على موقف عمر بن اخلطاب العتبار أن عقاب‬
‫أن األمة قادرة على التحول‬‫القطع حمكوم خبصوص السبب ال بعموم اللفظ‪ ،‬و َّ‬
‫عنه إىل سواه‪ ،‬وابلفعل فإن قطع يد السارق مل جير يف التاريخ اإلسالمي إال يف‬
‫حاالت اندرة واستثنائية‪ ،‬ويف السعودية اليت تطبق قطع يد السارق مل يتم تنفيذ‬
‫هذا احلكم منذ أربعني عاماً إال أربع مرات‪.‬‬

‫‪ .42‬قسا ل رلضي و لمفسحتني‪ :‬وهو ما فهمه الناس من ظاهر اآلية‬


‫الكرمية‪ :‬ﱡﭐ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱠ [األنفال‪:‬‬
‫‪ ،]٤١‬ومقتضى ذلك أن ابقي الغنيمة وهو أربعة أمخس الغنائم أيخذها‬
‫احملاربون‪ ،‬ومنها األراضي اليت تفتح‪ ،‬وحني ذهب الصحابة يف فتوح الشام‬
‫والعراق طلبوا من عمر أن يقسم هلم األرض‪ ،‬ويف الواقع فإن عمر رأى ذلك‬
‫‪ | 111‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ظلماً عظيماً ‪ ،‬فلماذا تقسم األرض؟ ويطرد منها أصحاهبا وهي أرضهم‪ ،‬وقال‬
‫بغضب إهنا أرضهم دافعوا عنها يف اجلاهلية وقاتلوا عليها يف اإلسالم‪ ،‬ومع أن‬
‫عدداً من الصحابة اشتدوا يف املطالبة ومنهم عمار بن ايسر وطلحة والزبري‪،‬‬
‫ولكن عمر رفض ذلك إبصرار‪ ،‬ومنع أن تتحول الفتوح إىل مغامن عسكرية‬
‫وجتارات مصاحل‪ ،‬ومع أن اآلية صرحية وواضحة ولكن عمر رفض العمل‬
‫بظاهرها‪ ،‬وأمرهم أبن يرتكوا األرض بيد أهلها‪.‬‬
‫‪ .43‬لس ا ك ل رلضي مود م ‪ :‬منع رسول هللا احلمى وقال كما يف البخاري‪:‬‬
‫"ال محى إال هلل ورس وله"‪ ،‬ومقتض ى ذلك أنَّه ال حيل للحكام أن حيموا من‬
‫أن األرض مش اع يف الناس‪ ،‬فمن زرعها ملكها‪ ،‬وذلك وفق‬ ‫األرض ش يئاً و َّ‬
‫احلديث الكرمي‪" :‬من أحيا أرضاً ميتة فهي له"‪ ،‬ولكن مع األايم تبني أن ذلك‬
‫ال حيقق مص احل األمة الكربى‪ ،‬وقد ترى األمة احلاجة حلمى بعض األراض ي‬
‫ومتنع الناس من الزرع فيها أو الرعي فيها وهو ما نس ميه يف زماننا ابألرض‬
‫احملمية‪ ،‬وابلفعل فقد أمر عمر حبماية عدد من األراض ي يف الربذة وغريها يف‬
‫خم الف ة لظ اهر احل ديثني‪ ،‬وذل ك لتحقيق ه دف اإلس الم من رع اي ة األرض‬
‫عامة للجمهور عرب حق الدولة يف اس تمالك األرض وإعالء‬
‫وتوفري خدمات َّ‬
‫احملميات الزراعية والصناعية والسياحية‪.‬‬
‫‪ .44‬أحنس لفزي ‪ :‬نصت اآلايت الكرمية أن اجلزية تؤخذ من املشركني احملاربني‬
‫رغماً وعنوة‪ ،‬وأشارت اآلية أنه جيب أن يظهر فيها صغار املشركني وعزة‬
‫اإلسالم‪ :‬ﱡﭐ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﱠ [التوبة‪:‬‬
‫‪ ، ]٢٩‬ولكن عمر بن اخلطاب جتاوز ذلك وأعلن أ َّن اجلزية ال يشرتط فيها‬
‫بكل احرتام وكرامة‪ ،‬وترك‬
‫الصغار والذلة‪ ،‬وأخذ اجلزية من أهل إيلياء القدس ي‬
‫‪ | 112‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫هلم حكم مدينتهم‪ ،‬ومل يفرض عليهم حاكماً من قبله‪ ،‬وقد أسس موقف عمر‬
‫بن اخلطاب احلكيم ملا شرحه فيما ابن رشد بقوله‪" :‬اجلزية جزية صغار وجزية‬
‫كل جزية أن يكون املشركون عن يد وهم‬
‫عهد وجزية صلح‪ ،‬وال يشرتك يف ي‬
‫صاغرون‪ ،‬مع أن اآلية صرحية وابقية وهي تتلى يف الصالة‪.‬‬

‫لمشأ لم س‬ ‫ل حنس‬ ‫لمقسم لمثسمث‪ :‬س جرى تغييه‬


‫لم صر ل وي لم بسسي تو صر ك سو مجلتب لمفقهسء لملفسري‬
‫‪ .45‬نقط لمقرآ لمنرمي شتنوه‪ :‬مات رسول هللا وإن القرآن الكرمي متناثر يف‬
‫الص حائف دون نقط وال ش كل‪ ،‬ومجعه الص ديق دون نقط وال ش كل وكذلك‬
‫لكن احلاجة فيما بعد اش تدت لنقط القرآن الكرمي وتش كيله‪،‬‬
‫نسخه عثمان‪ ،‬و َّ‬
‫واثر يف ذلك نزاع ش ديد منذ عص ر اخلليفة علي بن أيب طالب وامتد إىل‬
‫العص ر األموي بني الفقهاء فمنعه قوم ورض يه قوم‪ ،‬ولكن املص لحة العامة‬
‫غلبت يف النهاية على ظاهر النص‪ ،‬وقبل املس لمون التطور الض روري يف نقط‬
‫اإلعراب‪ ،‬مث نقط اإلع دام‪ ،‬مث طرأت بع د ذل ك عالم ات الوقف وامل د وغريه ا‬
‫نص عليها‪ ،‬ولكنها مص لحة راجحة‬ ‫من قواعد االص طالح وكلُّها بدع ال َّ‬
‫تقبَّلها املسلمون‪.‬‬
‫‪ .46‬تفضيل وين إسرلئيل‪َّ :‬‬
‫نص القرآن مرات َّ‬
‫عدة بصراحة ووضوح على تفضيل‬
‫بين إسرائيل على العاملني‪ ،‬وقال‪ :‬ﱡﭐﲝﲞﲟﲠﲡ ﲢﲣﱠ‬
‫[الدخان‪ ،]٣٢ :‬ومقتضى ذلك أهنم أفضل األمم إبطالق‪ ،‬إذ مل يرد يف هذا‬
‫النص خمصص وال قيد‪ ،‬وقد بقي األمر مسلمة اعتقادية مل جيادل هبا السلف‪،‬‬
‫ص ال يقبل على‬ ‫حىت جاء عصر التفسري‪ ،‬وقد ذهب أكثر املفسرين إىل َّ‬
‫أن النَّ َّ‬
‫‪ | 113‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫إطالقه‪ ،‬وأدخلوا على ظاهر النَّص القيد والتخصيص‪ ،‬وقالوا‪ :‬إمنا فضلوا على‬
‫عاملي زماهنم دون سائر العوامل‪ ،‬وهذا كما هو واضح صرف لآلية عن ظاهرها‬
‫نص يٍّي‪ ،‬ولكن الفقهاء واملفسرين عموماً اعتمدو دليل العقل واملنطق‬
‫دون دليل َّ‬
‫واملقاصد الشرعية‪ ،‬واع ُّدوا احلكم خاصاً بعصر بين إسرائيل وقيدوا إطالق النص‬
‫أبدلة من العقل‪.‬‬
‫ع غي لملسواني‪ :‬ورد يف القرآن حترمي اختاذ اليهود والنصارى‬ ‫‪ .47‬لم حسم‬
‫أولياء مرات َّ‬
‫عدة وبصيغ خمتلفة كلها شديدة يف حترمي التحالف واملواالة مع غري‬
‫املسلمني‪ ،‬ولكن اخللفاء قاموا ابختاذهم وزراء وأعواانً ويف عهد عمر بن عبد‬
‫العزيز متت تسمية يوحنا الدمشقي وزيراً للمالية‪ ،‬وكان قد شغلها بشكل غري‬
‫رمسي منذ أايم عبد امللك بن مروان‪ ،‬كما استقدم الوليد بن عبد امللك مئة من‬
‫البنَّائني البيزنطيني لبناء اجلامع األموي يف دمشق واملسجد النبوي يف املدينة‬
‫املنورة‪ ،‬وقد قاموا بذلك بنجاح وهم غري مسلمني‪ ...‬وتتابع الفقهاء على تسمية‬
‫وزراء من النصارى يف العصور كليها ‪ ،‬ومت تقييد اآلية‪ :‬ﱡﭐ ﱅ ﱆ ﱇ‬

‫ﱉﱋﱌﱍﱠ [المائدة‪ ]٥١ :‬أبهنا ختص احملاربني منهم‬


‫ﱊ‬ ‫ﱈ‬
‫دون املواطنني املساملني‪.‬‬
‫‪ .48‬فسق وول لملشركني حيث جدمتوتم‪ :‬ورد يف القرآن الكرمي نصوص عدة‬
‫تشبه هذه اآلية الكرمية وكلُّها تدعو إىل دوام اجلهاد ضد املشركني‪ ،‬ومنها‪ :‬ﱡﭐ‬

‫ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱠ [التوبة‪:‬‬
‫أي صلح مع‬
‫‪ ،]١٢٣‬وقد أخذ بذلك شيوخ السلفية اجلهادية ورأوا أنه ال حيل ُّ‬
‫املشركني وال تفاوض إال جال الضعف حىت إذا اشتدت األمة عوداً ووجب‬
‫عليها العودة للقتال‪ ،‬ولكن هذا الفهم املتشدد رفضه خلفاء كثر وعلى رأسهم‬
‫‪ | 114‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫عمر بن عبد العزيز؛ إذ أوقف العمل هبذه اآلية‪ ،‬ودعا إىل الصلح مع املشركني‪،‬‬
‫ورد اجليوش من القسطنطينية ومن ثغور الصني‪ ،‬ودعا اىل صلح دائم مع‬ ‫ي‬
‫املشركني‪ ،‬وعلى ذلك جرى عمل اخللفاء يف التاريخ وعُدَّت اآلية خمصصة مبن‬
‫كل مشرك‪.‬‬ ‫يقاتلكم من املشركني بعد أن كان فهم السلف هلا أب َّهنا ُّ‬
‫ختص َّ‬
‫لملس ت ت ت ت تتسجتد‪ :‬ال خيتلف الفقه اء على حترمي بن اء القبور يف‬ ‫ونتسء لمقبور‬ ‫‪.49‬‬
‫املساجد أو تركها فيها‪ ،‬وينص ون على حترمي الصالة يف املسجد الذي فيه قرب‪،‬‬
‫ويتغلَّظ التحرمي إذا كان القرب يف جهة القبلة أو تتص ور الص الة يف اجتاهه‪،‬‬
‫ولكن الفقهاء أقروا فيما بعد قرب حيىي عليه الس الم داخل املس جد األموي وما‬
‫يرافق هذا القرب من بدع غري مألوفة من العلو ابلقرب وتغليفه ووض ع الش موع‬
‫فيه وبناء القبة عليه وجرن التعميد جبانبه وهذه كلها خمالفات ظاهرة واض حة‬
‫وال يعرف يف اتريخ فقه اء بالد الش ام املعتربين َّ‬
‫أن خليف ة من اخللف اء أطاع‬
‫املتش ددين يف هدم القرب أو اإلس اءة إليه على الرغم من خمالفة هذا القرب‬
‫لعشرات األدلة الظاهرة يف السنن املروية يف الصحاح‪.‬‬
‫كل ما‬ ‫لم س ‪َّ :‬‬
‫نص القرآن الكرمي على أن اآلايت بيَّنت َّ‬ ‫‪ .50‬لحملر س‬
‫حرمه هللا علينا من األطعمة‪ ،‬وذلك بصريح اآلية‪ :‬ﱡﭐﱋﱌﱍﱎﱏ‬ ‫َّ‬
‫ﱠ [األنعام‪ ،]١١٩ :‬وهكذا َّ‬
‫فإن القرآن قد حصر احملرمات ابمليتة والدم وحلم‬
‫اخلنزير‪ ،‬ولكن مع األايم ظهرت أشكال من املطاعم ال خيفى ضررها وفسادها‬
‫ونص فقهاء الشافعيَّة‬
‫ومل يذكرها القرآن فحرمها الفقهاء كالطيور اجلوارح‪َّ ،‬‬
‫كل ذي خملب من الطري‪ ،‬ويف‬
‫كل ذي انب من السباع و ي‬
‫واحلنابلة على حترمي ي‬
‫زماننا ظهر كثري من السموم والضرر يف األطعمة ُّ‬
‫أشد من هذا كاملخدرات‬
‫‪ | 115‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫والسموم وكذلك كل ما أثبت العلم ضرره‪ ،‬فلم يرتدد العلماء أن أضافوا إىل‬
‫احملرمات ألواانً مع َّ‬
‫أن النص حاسم وصريح وحيرم الزايدة على ما حرم هللا‪.‬‬
‫لمقصس ‪ :‬عمل املسلمون زمناً ابلتفريق بني ي‬
‫احلر والعبد يف‬ ‫‪ .51‬لملسس ل‬
‫الرجل واملرأة‪ ،‬ولكن ذلك تغري مع تطور‬‫القصاص عمالً بظاهر اآلية‪ ،‬وبني َّ‬
‫األايم واتفاق العامل على حترمي العبودية واملساواة بني الناس يف حرمة األموال‬
‫والدماء‪ ،‬وتراجعت الدول اإلسالمية قاطبة عن تنفيذ أحكام متييزية َّ‬
‫ضد النساء‬
‫وضد العبيد على الرغم من الداللة الصرحية لذلك يف آية البقرة‪ :‬ﱡﱼﱽ‬
‫َّ‬

‫ﲀﲂﲃﲄﲅﲆﱠ [البقرة‪ ،]١٧٨ :‬وقد َّ‬


‫ظل‬ ‫ﲁ‬ ‫ﱾﱿ‬
‫الراجح يف مذاهب املتقدمني من الشافعية واحلنابلة التفريق بني احلر والعبد يف‬
‫الدماء‪ ،‬ولكن ذلك تغري مع املتأخرين‪ ،‬وعاد املفسرون والفقهاء مجيعهم إىل‬
‫احلكم العام الذي ورد يف شريعة بين إسرائيل‪ :‬النفس ابلنفس‪.‬‬
‫‪ .52‬ل رض لملقدست لمع ك ب للا منم‪ :‬ذهب الس لف من املفس رين إىل َّ‬
‫أن‬
‫اآلي ة نص يف حق اليهود يف فلس طني‪ ،‬كم ا ذكر الطربي وابن كثري‪ ،‬ولكن‬
‫الفقهاء فيما بعد أبطلوا هذه الداللة بعموم آية األرض هلل يورثها من يش اء‬
‫من عباده‪ ،‬واليوم أمجعوا أن فلسطني مل يكتبها هللا تعاىل لليهود‪ ،‬بل هي أرض‬
‫ألهلها‪ ،‬على الرغم من أن اآلية ص رحية يف أن هللا كتب هلم األرض املقدس ة‪،‬‬
‫وذلك التزاماً بقواعد الش ريعة يف العدل واإلنص اف‪ ،‬وجرى أتويل ظاهر اآلية‬
‫على أن هذا احلق قد اس تحقوه يف عص ر األنبياء وأهنم ال حق هلم اليوم فيه‪،‬‬
‫وهذا يشبه أن يكون إمجاعاً يف األمة‪.‬‬
‫ص يف ه ذه اآلي ة يف غ اي ة‬ ‫‪ .53‬ميحنم أتتل لالييتل تس أنز للا فيته‪َّ :‬‬
‫إن النَّ َّ‬
‫الوضوح‪ ،‬إ َّن النَّصارى مأمورون أن حيتكموا إىل اإلجنيل وأن يعملوا مبا أنزل هللا‬
‫‪ | 116‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫نص وا على عدم قبول ذلك منهم‪ ،‬وع ُّدوا ذلك‬


‫فيه‪ ،‬ولكن الفقهاء واملفس رين ُّ‬
‫منس وخاً‪ ،‬وألزموهم االحتكام إىل الش ريعة اخلامتة يف احلدود والقص اص‬
‫والدايت‪ ،‬خالفاً لظاهر نص القرآن الكرمي‪.‬‬
‫مست ت ت م و شت ت تتيء حو تقياول لم ورل لالييل‪ :‬ويف اآلية أمر مباش ر‬ ‫‪.54‬‬
‫لليهود والنص ارى إبقامة التوراة واإلجنيل والعمل مبا فيها‪ ،‬وأهنم لن يكونوا عند‬
‫هللا مبكان رضى وقبول حىت يطبقوا ما ورد يف التوراة واإلجنيل‪ ،‬وعلى الرغم من‬
‫وض وح الداللة يف اآلية فإن اجلمهور من الفقهاء أمجع على عدم قبول ذلك‬
‫منهم‪ ،‬وأن ه ذه اآلي ة ليس ت ابقي ة يف احلكم على إطالقه ا وأهن ا إىل ابب‬
‫املنس وخ أقرب مع أننا نقرؤها يف الص الة‪ ،‬وقد قرر الفقهاء عدم قبول ذلك‬
‫منهم‪ ،‬وأعلنوا أنه ال يقبل من أبناء األداين اتباع كتبهم وال التوراة وال االجنيل‪،‬‬
‫وهذا كله يف مصادمة ظاهر النص القرآن‪.‬‬
‫حق الرجل‬
‫إن ظاهر اآلية واض ح وجلي وهو ُّ‬ ‫‪ .55‬فأتول حرثنم أىن ش ت ت تتئ م‪َّ :‬‬
‫واملرأة يف اجلماع على الوجه الذي يرغبان وليس يف اآلية أدىن إش ارة إىل حترمي‬
‫اإلتيان من ُّ‬
‫الدبر‪ ،‬وفيها التص ريح حبرية املعاش رة اجلنس ية حيث أراد الرجل‬
‫دل عليه ظاهر اآلية بوض وح مل يتم قبوله لدى‬ ‫واملرأة‪ ،‬ولكن هذا الفهم الذي َّ‬
‫الفقهاء‪ ،‬وقد ذهب اجلمهور منهم إىل القول بتحرمي إتيان النس اء من الدبر‪،‬‬
‫والتشدد يف ذلك على الرغم من ظاهر اآلية الواضح يف جواز ذلك‪.‬‬
‫‪ .56‬ك سو لمدَّي ‪ :‬جاءت آية املداينة يف سورة البقرة شديدة وواضحة يف وجوب‬
‫كتابة كل دين‪ :‬ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ‬

‫ﱊﱠ [البقرة‪ ،]٢٨٢ :‬ولكن الفقهاء يف التطبيق رأوا احلرج الشديد يف‬
‫ﱋ‬
‫‪ | 117‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫تنفيذ هذا يف كل َدين‪ ،‬وأن هذا سيعيق املعامالت االقتصادية بني الناس‬
‫فاختاروا أن األمر لالستحباب وليس للوجوب خبالف ظاهر اآلية‪.‬‬
‫نصت اآلية بوضوح على َّ‬
‫أن األم ترث‬ ‫لمليل ‪َّ :‬‬ ‫‪ .57‬لمثوث نصيب ل‬
‫نص اآلية‪ :‬ﱡﭐﲨﲩﲪﲫﲬﲭﲮ‬
‫الثلث إذا مل يكن للمتوىف ولد‪ ،‬وفق ي‬
‫ﲱ ﱠ [النساء‪ ،]١١ :‬ولكن الفقهاء رأوا أن هذا سيؤدي إىل أن‬
‫ﲲ‬ ‫ﲯﲰ‬
‫أتخذ األم ضعف األب يف عدد من الصور‪ ،‬وهو خالف روح التوريث‬
‫تغري معىن اآلية‪ ،‬وهي َّ‬
‫أن املقصود‬ ‫ومسؤولياته‪ ،‬فأقر الفقهاء قاعدة جديدة ي‬
‫ابلثلث هو ثلث الباقي فقط‪ ،‬وليس ثلث الرتكة وهذا خالف ظاهر لآلية‬
‫الواضحة‪ ،‬ولكن الفقهاء رأوا ضرورة تطبيق هذا التعديل الستقامة قوانني اإلرث‬
‫اليت ينال فيها الذكر مثل حظ األنثيني‪.‬‬
‫حترمي ح ئل لمربئب‪ :‬وردت اآلية يف سورة النساء أبن الرجل ال حيل‬ ‫‪.58‬‬
‫له أن يتزوج من ﱡﭐﲗﲘﲙﲚﲛﱠ [النساء‪:‬‬
‫‪ ،]٢٣‬واملراد زوجة االبن‪ ،‬وقد قيدت اآلية احلكم ابالبن الصليب يعين االبن‬
‫احلقيقي املولود من صلب الرجل وليس ابن زوجته‪ ،‬فهو ابن للزوجة وربيب‬
‫لكم وليس ابناً لكم من أصالبكم‪ ،‬ولكن الفقهاء رأوا أن االبن الربيب له‬
‫حكم ابن الصلب‪ ،‬وبذلك فال حيل للرجل أن يتزوج من زوجة ربيبه إذا تركها‪،‬‬
‫ص الذي‬ ‫شك أن إضافة الرابئب هنا مصادمة مباشرة وصرحية لظاهر النَّ ي‬
‫وال َّ‬
‫حدد حالئل أبنائكم الذين من أصالبكم فضم هلا الفقهاء رابئبكم أيضاً‪ ،‬وهو‬
‫اجتهاد يف مورد النص‪ ،‬ولكنهم بنوه على روح النص ومقاصدة‪.‬‬
‫لمرضت ت ت ت تتسع‪ :‬ويف س ياق اآلية َّإايها‪ ،‬فقد أدخل‬ ‫حترمي ز جس لالو‬ ‫‪.59‬‬
‫ص ظاهر يف أن املقص ود‬
‫الفقهاء أيض اً حالئل أبنائكم من الرض اع مع أن النَّ َّ‬
‫‪ | 118‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ابلتحرمي هو فقط زوجات أبنائكم من أصالبكم‪ ،‬وذلك أيضاً ابعتبار مقاص د‬


‫النص وغاايته وخبالف داللة النص الظاهرة‪.‬‬
‫‪ .60‬صيد لمبحر‪ :‬جاء القرآن الكرمي ابلنص صراحة على إابحة صيد البحر‬
‫وطعامه‪ ،‬بقوله تعاىل‪ :‬ﱡﭐﱁﱂﱃﱄﱅﱠ [المائدة‪ ،]٩٦ :‬ومع‬
‫كل صيد‪ ،‬ولكن الفقهاء تدخلوا يف عموم اآلية وذكروا‬
‫أن النص عام ومطلق يف ي‬
‫عدداً من أشكال صيد البحر ال حيل أكلها ‪ ،‬ومنها الربمائيات وفرس البحر‬
‫شك َّ‬
‫أن هذا األمر برمته ابت مرتوكاً للهيئات الصحية والغذائية‬ ‫وغري ذلك‪ ،‬وال َّ‬
‫والطبية وليس من شأن اهليئات الفقهية اليوم‪ ،‬وهو يف النهاية اجتهاد يف مورد‬
‫ص وغاايته الكرمية‪.‬‬‫النص مارسه الفقهاء عمالً مبقاصد النَّ ي‬
‫‪ .61‬مغو لمياني‪ :‬وردت اآلايت متتابعة َّ‬
‫أن هللا تعاىل ال يؤاخذ بلغو اليمني‪،‬‬
‫ومنها قوله تعاىل‪ :‬ﱡﭐ ﲋﲌﲍﲎﲏﲐﲑﲒﲓ‬

‫ﲕﱠ [المائدة‪ ،]٨٩ :‬ولكن الفقهاء نظروا يف مقصد من مقاصد‬


‫ﲖ‬ ‫ﲔ‬
‫الشريعة ملنع استهتار الناس أبلفاظ الطالق‪ ،‬فأجروا الطالق يف كل لفظ ينطق‬
‫به الزوج جاداً أو هازالً‪ ،‬قاصداً أو الغياً‪ ،‬وهذا اجتهاد مباشر يقع يف مصادمة‬
‫النَّص القرآن مباشرة‪ ،‬ومع ذلك فهو املختار يف املذاهب األربعة‪.‬‬
‫أن األحاديث كثرية يف بيان حناس ة الكلب‬‫‪ .62‬يسس ت ت ت ت لمنوب‪ :‬من املؤكد َّ‬
‫ووجوب الغس ل من لعاب الكلب س بعاً إحداهن ابلرتاب‪ ،‬ويف ص حيح مس لم‬
‫من حديث أيب هريرة‪" :‬إْل مغ لمنوب إنء أحدكم فتويتغست ت ت ت توه ست ت ت ت تبت سً‬
‫إحتدلت َّ بمرتلا"‪ ،‬وعلى ذلك الش افعيَّة واحلنابلة‪ ،‬ولكن فقهاء املالكية مل‬
‫يروا ذلك كله‪ ،‬وأخذوا بطهارة س ؤر الكلب‪ ،‬إذ هو آلة الص يد املش روعة‬
‫‪ | 119‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ك أن كالً الفريقني وقع يف االجتهاد يف‬


‫املعلمة‪ ،‬وهلم يف ذلك تفص يل‪ ،‬وال ش َّ‬
‫ص مباشرة‪.‬‬
‫مصادمة النَّ ي‬
‫لموضوء‪ :‬ورد احلديث يف البخاري أن النساء‬ ‫لمنسسء‬ ‫لشرتلك لمرجس‬ ‫‪.63‬‬
‫والرجال كانوا يش رتكون يف الوض وء من إانء واحد يف زمن النيب الكرمي‪ ،‬وعلى‬
‫ذلك عمل الص حابة كما يف رواية البخاري‪ ،‬ولكن الفقهاء فيما بعد مض وا‬
‫إىل إلغاء ظاهر هذا احلديث وفرض وا الفص ل بني الرجال والنس اء يف الوض وء‬
‫ص‬
‫بش كل ص ارم كما نراه اليوم‪ ،‬وهذا كما هو واض ح اجتهاد يف مواجهة النَّ ي‬
‫مباشرة‪.‬‬
‫حر لمص ‪ :‬كانت الصالة يف حرم واحد‪ ،‬للرجال والنساء‬ ‫‪ .64‬لالشرتلك‬
‫على الس واء‪ ،‬وهو ما نش اهده اليوم يف احلرم الش ريف‪ ،‬رأى الفص ل يف‬
‫املس اجد‪ ،‬فأفردوا للرجال مكاانً وللنس اء مكاانً‪ ،‬وهذا اجتهاد يف مورد النص‬
‫بناءً على سد الذرائع ومواجهة الفنت‪.‬‬
‫مغي لمقبو ‪ :‬وردت األحاديث كثرية كما يف البخاري ومس لم أن‬ ‫‪ .65‬لمص ت‬
‫رس ول هللا ﷺ كان يص لي النافلة حيث اجتهت راحلته‪ ،‬دون حرج‪ ،‬ولكن‬
‫الفقه اء اختلفوا يف أتيي د ذل ك‪ ،‬ورأى أكثر الفقه اء املنع من ذل ك‪ ،‬وأوجبوا‬
‫على املصلي استقبال القبلة يف الفريضة والنافلة على السواء‪.‬‬
‫‪ .66‬لم يب لحملر ‪ :‬روى اإلمام مس لم يف الص حيح عن عائش ة قالت‪" :‬طيبت‬
‫رس ول هللا حلرمه حني أحرم وحلله قبل أن يطوف ابلبيت"‪ ،‬والنص ص ريح‬
‫وظ اهر يف جواز الطي ب للمحرم‪ ،‬ولكن الفقه اء هنوا عن الطي ب للمحرم‬
‫وتشدد بعضهم يف ذلك حىت أوجب عليه الدم‪.‬‬
‫‪ | 120‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫‪ .67‬مث لمنوب‪ :‬ورد يف البخاري النهي الص ريح عن مثن الكلب‪ ،‬وقد قرن‬
‫الرس ول ذلك مبهر البغي وحلوان الكاهن‪ ،‬تش ديداً على منعه‪ ،‬وحترمي اقتناء‬
‫الكالب‪ ،‬ولكن الفقهاء اختلفوا بعد ذلك اختالفاً كبرياً وأجاز املالكية ش راء‬
‫يقرها‬
‫الكل ب وبيع ه‪ ،‬وهو اليوم حاج ة أكي دة للمزارع واحلاجات الش رطي ة‪ُّ ،‬‬
‫ص صريح وال حيتمل االجتهاد‪.‬‬ ‫اجلميع على الرغم من أن النَّ َّ‬
‫ميه‪ :‬والنص ص ريح يف رواية أيب داود يف ص يام الرجل‬ ‫‪ .68‬ص تتو لمرجل‬
‫عن وليه‪ ،‬لوفاء نذر أو قض اء ص وم‪ ،‬ولكن الفقهاء رفض وا ذلك أتس يس اً على‬
‫قواع د الش ريع ة من وجوب أداء التكليف على املكلف و َّ‬
‫أن ك َّل نفس مب ا‬
‫كسبت رهينة‪ ،‬وعموم الفقهاء على منع ذلك‪.‬‬
‫تفضتتيل لمنيب و ل نبيسء‪ :‬ورد النص الص ريح ابلنهي عن تفض يل النيب‬ ‫‪.69‬‬
‫على األنبياء ويف البخاري قال رس ول هللا ﷺ ال ختريون على موس ى بن‬
‫مىت‪ ،‬ولكن الفقهاء أمجعوا فيما بعد على أن‬
‫عمران‪ ،‬ويف رواية على يونس بن َّ‬
‫رسول هللا أفضل العاملني‪ ،‬وأنه ال يصح مساواته ٍّي‬
‫أبي من األنبياء‪.‬‬
‫ت ري لموق ت ‪ :‬ورد يف ص حيح البخ اري وجوب التعريف ابللقط ة‬ ‫‪.70‬‬
‫ص بذلك ص ريح ومباش ر‪ ،‬ولكن الفقهاء رأوا َّ‬
‫أن هذا ال‬ ‫ثالثة أعوام‪ ،‬والنَّ ُّ‬
‫يس تقيم وأنه رهق ملن يلتقظ اللقطة وقد يكون فس اداً هلا فاختاروا التعريف‬
‫س ن ة واح دة يف م ا ميكن حفظ ه ويف املطعوم ات بق در م ا تبقى وال تتلف‪،‬‬
‫وذلك كله اجتهاد يف مص ادمة النص ولكنه موافق لقاص ده وغاايته‪.‬مث ص ار‬
‫الفقهاء إىل االكتفاء بعام‪.‬‬
‫رض لم ريق‪ :‬ورد النص ص رحياً يف البخاري أن الرس ول قض ى يف‬ ‫‪.71‬‬
‫الطريق بس بعة أذرع‪ ،‬ولكن األمة رأت أن هذا التخص يص من النيب ﷺ ال‬
‫‪ | 121‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫يس تقيم يف الزمان واملكان‪ ،‬وأن احلاجة لطرق عريض ة وفس يحة مؤكدة وال‬
‫يصح التقييد بسبعة أزرع وعلى هذا كل فقهاء اإلسالم بال منازع‪.‬‬
‫تب ته‬ ‫لهلب ت ‪ :‬روى البخ اري عن رس ول هللا ﷺ‪" :‬لم تتسئتتد‬ ‫‪ .72‬لم ود‬
‫قتيئته"‪ ،‬وهو هتديد ش ديد ملن يعود ابهلدية على من أهداها له‪،‬‬ ‫كتسم تسئتد‬
‫اص ة يف هدااي اخلاطبني‬
‫ولكن الفقهاء رأوا أن هذا ال يعم يف اهلدااي كلها وخب َّ‬
‫إذا تفرقت اخلطوبة‪ ،‬مث صار الفقهاء جييزون العود يف اهلبة‪.‬‬
‫لمننسح‪ :‬وردت األحاديث صرحية ومباشرة يف البخاري ومسلم‬ ‫‪ .73‬لمشرط‬
‫وغريمها يف وجوب تنفيذ ش روط عقد النكاح‪ ،‬وقال النيب الكرمي ﷺ‪" :‬أحق‬
‫لمش ت ت ت ت تر ط أ توفول وتته تتس لس ت ت ت ت ت حوو م وتته لمفر "‪ ،‬ومع ال دالل ة الظ اهرة‬
‫أن الش رط ليس ملزماً‬ ‫والص رحية للحديث ولكن كثرياً من الفقهاء ذهبوا إىل َّ‬
‫ومن املؤس ف أن قوانني األحوال الش خص ية يف البالد العربية أنكرت هذا‬
‫اص ة ش رط الرجل َّأال يتزوج على امرأته‪،‬‬
‫احلديث واعتربت الش رط غري ملزم‪ ،‬خب َّ‬
‫واس تخدموا عبارة ص ح العد وبطل الش رط‪ ،‬وهذا خالف ظاهر احلديث‬
‫وخالف مقاصد اإلسالم يف الوفاء ابلعقود‪.‬‬
‫جوا لموص ت تتي ‪َّ :‬‬
‫نص رواية البخاري على وجوب الوص ية على املس لم‬ ‫‪.74‬‬
‫حق امرئ مس لم يبيت ليلتني إال ووص يته مكتوبة حتت رأس ه‪ ،‬ولكن‬ ‫وما ُّ‬
‫ص واختاروا تفص يالً يف أمر الوص ية‪ ،‬ونص وا على اعتبار‬
‫الفقهاء تركوا هذا النَّ َّ‬
‫الوصية مستحبة‪ ،‬بل كره بعض الفقهاء الوصية اكتفاء ابإلرث‪.‬‬
‫‪ .75‬سحر لمنيب‪ :‬اشتهر حديث سحر النيب الكرمي يف صحيح البخاري وعدد‬
‫من كت ب الرواي ة األخرى‪ ،‬ولكن ع دداً من الفقه اء رفض وا دالل ة احل دي ث‬
‫ورفض وا س حر النيب ابلكلية وعدُّوه مص ادماً ألس اس العقيدة‪ ،‬ومن هؤالء‬
‫‪ | 122‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫الرازي اجلص اص‪ ،‬وقد ص ار كثري من الفقهاء ال يقبلون هذا أيض اً‪ ،‬وعلى‬
‫الرغم من ورود احلديث يف ص حيح البخاري ولكن ميكننا القول دون تردد‪:‬‬
‫إن الذين ينكرونه مجلة وتفص يالً ص اروا أكثر من الذين يتقبلونه يف اجملتمع‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫‪ .76‬لمغفرل موزلني ‪ :‬واحلديث يف البخاري وهو مش هور ومعروف‪" :‬غفر للا‬
‫لم ش فتنتزمت وئرل‬ ‫وين إس ت ت ت ترلئيل رأ كوبسً يوهث لمثَّترى‬ ‫مزلني‬
‫وقته تس فس ت ت ت ت تق تت لمنوتب فتغفر للا هل تس"‪ ،‬وعلى الرغم من ال دالل ة‬ ‫فار‬
‫الواض حة للنص فقد ذهب فقهاء الس لفية خص وص اً إىل أن هذا احلديث ال‬
‫يص ح يف القول بغفران ذنبه ا‪ ،‬وأن عقوبته ا واجب ة‪ ،‬وهو خالف م ا ظ اهر‬
‫احلديث الصحيح‪.‬‬
‫دلم لمصحسو ‪ :‬اختار الفقهاء عدالة الصحابة‪ ،‬مع أن القرآن الكرمي‬ ‫‪.77‬‬
‫يشري إىل رجال كثر كانوا يف الصحابة وهم هالكون‪ ،‬ومن ذلك قوله تعاىل‪ :‬ﱡﭐ‬

‫ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝﱠ‬
‫[التوبة‪ ،]٧٤ :‬وكذلك يف البخاري َّ‬
‫أن انساً من أصحاب النيب أيتون يوم‬
‫القيامة فيعذبون‪ ،‬فيقول رسول هللا ﷺ‪ :‬أصحايب أصحايب‪ ،‬فيقال‪ :‬إنك ال‬
‫الرغم من وضوح األدلة َّ‬
‫أبن يف الصحابة‬ ‫تدري ماذا أحدثوا بعدك‪ ،‬وعلى َّ‬
‫منافقون ومرتدون وعصاة فإن الفقهاء رأوا أن حيكموا بعدالة كل الصحابة دون‬
‫استثناء‪.‬‬
‫مغي أويه‬ ‫لد‬
‫لالس ت ت وحسق بمنس ت تتب‪ :‬ورد يف ص حيح البخاري‪َّ " :‬‬ ‫‪.78‬‬
‫كفر"‪ ،‬وهو حترمي قاطع لالدعاء لغري األب وأنه كفر‪ ،‬ولكن الفقهاء ذهبوا إىل‬
‫عدوا أن االس تلحاق معص ية وأهنا ال توجب الكفر‪،‬‬‫إخراج النص عن ظاهره و ُّ‬
‫‪ | 123‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وذهبوا يف تفص يل ذلك إىل مذاهب معروفة‪ ،‬وابت الفقهاء ال يرونه كفراً قوالً‬
‫واحداً‪.‬‬
‫أمق لمس ‪َّ :‬‬
‫نص القرآن الكرمي بوضوح أن من ألقى السالم‬ ‫‪ .79‬حنم‬
‫عليك فقد صار مسلماً‪ ،‬ﱡﭐ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ‬

‫ﲤﱠ [النساء‪ ،]٩٤ :‬ومع وضوح داللة اآلية ومطلقيتها فإن الفقهاء ذهبوا‬
‫إىل أن إلقاء السالم ال يعصم ذمة وال يثبت إمياانً وال خيرج من كفر‪ ،‬وهذا‬
‫اجتهاد صريح يف مصادمة نص واضح من القرآن الكرمي قطعي الثبوت قطعي‬
‫الداللة‪.‬‬
‫حترمي ننسح لمزلني ‪ :‬وهو نص صريح يف القرآن الكرمي‪ :‬ﱡﭐﱨﱩﱪﱫ‬ ‫‪.80‬‬
‫ﱵﱷﱸﱹ ﱺﱻﱠ‬
‫ﱶ‬ ‫ﱬﱭ ﱮﱯﱰﱱﱲﱳﱴ‬
‫[النور‪،]٣ :‬ولكن الفقهاء مجيعاً ذهبوا إىل القول بنسخ هذه اآلية وأن داللتها‬
‫غري مرادة‪ ،‬وأنه حيل للمؤمنني النكاح من الزانية وهو نكاح صحيح‪.‬‬
‫‪ | 124‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ت س‬ ‫و‬ ‫طورتس لمفقهسء لمل سصر‬


‫لمقسم لمرلوع‪ :‬أ ثو قريب َّ‬
‫ل ثو لمقريب‬ ‫لمرسو لمنرمي‪،‬‬
‫كسنت ويه ز َّ‬
‫‪ .81‬حترمي لم بتس ت ‪ :‬مع ظهور الطب اع ة يف القرن اخل امس عش ر انتش رت‬
‫الفتاوى مرتافدة يف العواص م اإلس المية يف حترمي الطباعة‪ ،‬واش تدت الفتاوى‬
‫خص وص اً يف حترمي طباعة املص حف الش ريف؛ ألن ذلك بدعة س وء فقد جرى‬
‫العمل على كتابة املص حف خبط اليد‪ ،‬وأنه ال يؤمن جانب الكفار يف طباعة‬
‫القرآن‪ ،‬ومع أن الطبعات األوىل ظهرت يف استامبول منذ القرن السادس عشر‬
‫ولكن الفقهاء أفتوا بتحرميها‪ ،‬ومتت مص ادرهتا وإتالفها أبمر اخلليفة العثمان‪،‬‬
‫وظل حترمي الطباعة س ائداً لقرنني اتليني حىت طبع املص حف يف روس يا أايم‬ ‫َّ‬
‫امللكة كاترين ‪1787‬م وانتش رت يف بالد الروس والص قالبة‪ ،‬فتغريت فتوى‬
‫الفقهاء وبدؤوا يفتون ابجلواز‪ ،‬وبعد عقود قليلة س ادت فتوى جواز الطباعة‬
‫كل املدن‬
‫كل مكان وابدرت الدول اإلس المية إىل طباعة املص احف يف ي‬ ‫يف ي‬
‫اإلس المية‪ ،‬ومن املفيد أن نذكر أ َّن األزهر نفس ه أتخر كثرياً يف إابحة طباعة‬
‫حيرم طباعة املص حف إىل مطلع القرن العش رين‪ ،‬حىت‬ ‫وظل ي‬
‫القرآن الكرمي‪َّ ،‬‬
‫خاص ة للقرآن الكرمي فتوقفت فتاوى التحرمي‪ ،‬وقد‬‫أص در امللك فؤاد طبعة َّ‬
‫ابتت طباعة املص حف اليوم ش أن البالد اإلس المية كليها دون نكري‪ ،‬ومل يبق‬
‫أثر لفت اوى حترمي الطب اع ة على الرغم من أهن ا فت اوى املفتني يف العواص م‬
‫اإلسالمية الرئيسة يف مكة واملدينة واستامبول والقاهرة لقرون عدة‪.‬‬
‫‪ | 125‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫على إابحة ملك‬ ‫‪10‬‬


‫وك لمياني‪ :‬مض ى العمل منذ العص ر األموي‬ ‫‪.82‬‬
‫اليمني‪ ،‬وجرى التوس ع فيه بش كل خمز‪ ،‬وازدمحت قص ور اخللفاء ابلعبيد‬
‫واجلواري‪ ،‬وكتب يف ذلك األدب والش عر ورويت مئات األحاديث يف احلفاظ‬
‫على ملكية الس ادة ووجوب خض وع العبيد لطاعة أس يادهم وحترمي اإلابق‬
‫عنهم‪ ،‬ولكن ذل ك كل ه تغري يف القرن العش رين‪ ،‬وب دا الفقه اء يفتون بتحرمي‬
‫العبودي ة بع د أن دخ ل ول األمر يف اتف اقي ات منع العبودي ة‪ ،‬وانتهى الرق يف‬
‫البالد اإلسالمية مع أواخر القرن العشرين‪.‬‬
‫‪ .83‬لمسيب‪ :‬جرى العمل يف التاريخ اإلسالمي على تبيئة نظام السيب يف الفقه‬
‫اإلسالمي استدالالً ابآلايت الكرمية ﱡﭐ ﲝ ﲞ ﲟﱠ‬
‫[النساء‪ ،]٣٦ :‬اليت تكررت يف القرآن الكرمي اثنتني وعشرين مرة‪ ،‬وتنص كتب‬
‫الفقه على تفاصيل مؤملة يف حق اجملاهدين ابلسيب ووطء املسبيات دون رضاهن‬
‫وما ينشؤ عن ذلك من أحكام فقهية تتصل ابلعبودية والتحرر‪ ،‬ولكن ذلك‬
‫اصة بعد قيام بعض اجلماعات املتطرفة بتطبيق‬ ‫كلَّه ابت حمل استنكار كبري خب َّ‬
‫الفقه الشافعي واحلنبلي بدقة فيما يتصل ابإلماء‪ ،‬األمر الذي متَّ استنكاره على‬
‫نطاق واسع بني فقهاء الشريعة‪ ،‬وابت ميكننا القول‪ :‬إن الفتوى اجلديدة تذهب‬
‫إىل حترمي االسرتقاق‪ ،‬وع يده لوانً من ممارسات املاضي ال يلزمنا يف شيء‪.‬‬
‫‪ .84‬لم صتوير لمرستم‪ :‬تغريت الفتوى يف شأن التص وير والرس م فقد كان ذلك‬
‫يش به أن يكون حراماً ابإلمجاع قبل مئة عام‪ ،‬وليس يف اتريخ اإلس الم كله‬

‫‪ 10‬يعتقد كاتب هذه السطور أن الرق بكل أشكاله قد تم التخلص منه في عهد النبوة وأن الرسول الكريم‬
‫مات وليس في المدينة وال مكة ع بد وال أمة‪ ،‬وقد مضى ذلك األمر في عهد الخالفة الراشدة‪ ،‬ولكن الرق‬
‫عاد بقوة بدءا ً من العصر األموي‪ ،‬فيما ال يزال جمهور المؤرخين والفقهاء يقولون بأن الرق استمر في‬
‫عهد النبوة والخلفاء الراشدين‪ ،‬مع اتفاق الجميع أن الرسول حارب الرق وحرر العبيد‪.‬‬
‫‪ | 126‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ص ورة للنيب وال ألحد من الص حابة وال لفقيه من الفقهاء‪ ،‬وال ألي ذات‬
‫روح‪ ،‬وكان الفقهاء يروون حديث‪" :‬أش ُّد الناس عذاابً املص ورون" إبطالق ال‬
‫اس تثناء فيه‪ ،‬ولكنهم اليوم يكادون جيمعون على تغري الفتوى رغم ثبات النص‬
‫وداللته‪ ،‬وابت ظهور املش ايخ حىت من التيار الس لفي املتش دد يف وس ائل‬
‫اإلعالم أمراً عادايً ال يستنكره أحد‪.‬‬
‫‪ .85‬لمنحت‪ :‬تش دد الفقهاء كثرياً يف حترمي النحت‪َّ ،‬‬
‫وعد النحت مهنة حمرمة‪،‬‬
‫ولوانً من الوثني ة والع ب ث ابلتوحي د والعبور إىل عب ادة غري هللا‪ ،‬وال يوج د يف‬
‫ألي نيب أو خليفة أو فقيه‪ ،‬ولكن ذلك تغري مع‬ ‫التاريخ اإلس المي منحوتة ي‬
‫األايم وص ار من الطبيعي متاماً أن يتم حنت األش خاص والص ور للتعليم‬
‫والرتويج من دون نكري‪ ،‬ومل نعد نس مع اليوم اس تنكاراً وجيهاً ذا معىن يص در‬
‫ضد النحت بوصفه عمالً فنياً أو وسيلة تعليمية‪.‬‬‫من فقيه معترب َّ‬
‫ش ت ت تتأ لملوس ت ت تتيقس‪ :‬وكانت الفتوى يف املوس يقا ش ديدة‬ ‫تغي لمف وى‬ ‫‪.86‬‬
‫وص ارمة‪ ،‬وس ادت أحاديث حترمي املعازف حىت أوش كت أن تكون إمجاعاً‪،‬‬
‫ولكن األمر تغري اليوم‪ ،‬ومل تعد هناك دولة إس المية متنع املوس يقا‪ ،‬وابت‬
‫اس تخ دامه ا يف الربامج ال ديني ة أمراً ع ادايً متبع اً‪ ،‬وال ينكره إال قلي ل من‬
‫املتعصبني‪.‬‬
‫‪ .87‬لمغنسء‪ :‬كانت الفتوى الس ائدة بتحرمي الغناء من الرجال والنس اء‪ ،‬اس تناداً‬
‫إىل عموم نص وص تنهى عن التمطيط والتثين واخلض وع ابلقول‪ ،‬ولكن هذا‬
‫األمر قد مت جتاوزه بش كل كامل يف الرجال‪َّ ،‬أما النس اء فقد تقبلت اجملتمعات‬
‫اإلس المية إنش اد املرأة وغناءها فيما ال تربج فيه‪ ،‬ومل يعد ينكر ذلك إال‬
‫املتشددون‪.‬‬
‫‪ | 127‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫‪ .88‬لملصت ت تتسرت ل س ت ت ت ي ‪ :‬من املعلوم أن الفتاوى مألت اجملامع الفقهية يف‬


‫القرن املاض ي بتحرمي العمل املص ريف‪ ،‬أبش كاله كليها‪ ،‬وحني قامت املص ارف‬
‫اإلس المية تلقاها ش يوخ املنهج الس لفي ابإلنكار الش ديد‪ ،‬والتحرمي القاطع‪،‬‬
‫ولكنها متكنت من إجناز إص الحات ش كلية حتت عنوان املص ارف اإلس المية‬
‫وصارت مقبولة بال نكري‪.‬‬
‫‪ .89‬لملص ت ت تتسرت لم س ‪ :‬مل ترتدد اجملامع الفقهية اإلس المية يف الفتوى بتحرمي‬
‫التعامل مع املص ارف العامة‪ ،‬وعدها مص ارف ربوية آمثة‪ ،‬والفتاوى يف ذلك‬
‫أكثر من أن حتص ى‪ ،‬ولكن مع انتش ار النُّظم املص رفية‪ ،‬وتعامل الناس هبا‬
‫ختافت ص وت التحرمي وأدرك الناس أن العمل املص ريف ش بكة من التبادل‬
‫العملي بني املصارف كلها‪ ،‬وأنه ال سبيل لفصل نظام مصريف عن نظام آخر‪،‬‬
‫ويف النهاية فإن األمور مبقاص دها‪ ،‬وإن الراب احلرام هو ما كان فيه ظلم للناس‬
‫وابتزاز للفقري‪ ،‬وجيب االعرتاف يف هذه النقطة ابلذات أبن اجلدل ما زال قوايً‬
‫فيها ومل حتسم املسألة بعد‪.‬‬
‫‪ .90‬لرتدلء لمنستسء لملوو لمل صتفر‪ :‬كانت الفتاوى قبل عقود ال جتيز للمرأة‬
‫إال الثوب األس ود‪ ،‬وال تزال إىل اليوم جمتمع ات اخلليج ال تتقب ل إال اللون‬
‫األس ود‪ ،‬ولكن ذلك تغري على نطاق واس ع‪ ،‬واختارت النس اء يف الش عوب‬
‫اإلس المية من األلوان والزركش ة والتطريز ألواانً خمتلفة وأص نافاً ش ىت‪ ،‬ومل يعد‬
‫يتمس ك هبذه الفتوى اليوم إال أهل اجلزيرة العربية‪ ،‬وابت من املعروف للجميع‬
‫أهنا تقاليد املنطقة فإذا حتولت املرأة املس لمة من بلد إىل بلد تغري لباس ها‬
‫واختارت ما يعجبها من األصناف واأللوان دون نكري‪.‬‬
‫‪ | 128‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫‪ .91‬لرتتدلء لمرجتس أثولا لم جم‪ :‬واألمثل ة كثرية ج داً وكلها كانت إىل عه د‬
‫نص على أن لباس البنطلون والكرافة وس فور الرأس من ابب احملظور‬
‫قريب ت ُّ‬
‫عند الفقهاء‪ ،‬وأنه يس قط العدالة‪ ،‬ولكنها اليوم ص ارت يف اس تخدامها‬
‫وإابحتها شائعة بني الفقهاء املعاصرين بدون أي نكري يذكر‪.‬‬
‫‪ .92‬لمنقسا‪ :‬وقد كانت الفتاوى مرتافدة على وجوبه على املسلمات‪ ،‬وبذلك‬
‫أفىت كثري من الش يوخ املع اص رين‪ ،‬ك ابن ابز وبن عثيمني وعرت والبوطي‬
‫والص ابون وغريهم‪ ،‬ولكن العم ل اليوم على غري ذل ك‪ ،‬وق د ابت مجهور‬
‫الفقه اء اليوم يفتون أبن النق اب غري مطلوب من املرأة املس لم ة‪ ،‬وحتول ت‬
‫الفتوى من وجوبه إىل اس تحبابه فيما يتوىل اليوم عدد من الش يوخ الس لفية‬
‫القول أبنه تزيد يف الدين وغلو‪ ،‬وابتت كليات الش ريعة يف العامل اإلس المي‬
‫عامرة ابملعلمات الفاضالت السافرات لوجههن دون نكري‪.‬‬
‫‪ .93‬حترمي قيسد لمست ت تتيسر ‪ :‬مع ظهور الس يارة ترافدت فتاوى الفقهاء يف منع‬
‫النس اء من قيادة الس يارة اس تدالالً بظواهر نص وص الوالية والقوامة وعموم‬
‫أحكام الذرائع وس يد الفنت‪ ،‬وظلت املرأة ممنوعة من قيادة الس يارة لعقود َّ‬
‫عدة‬
‫هلن يف ذلك‪ ،‬واس تمر املنع يف‬‫‪ ،‬حىت بدأت البالد اإلس المية ابلس ماح َّ‬
‫الس عودية إىل عام ‪2020‬م‪ ،‬وظهرت كتب كثرية يف حترمي ذلك وبيان أدلة‬
‫شرعية خمتلفة حترم هذا وتعده من مفاسد الدين والدنيا‪ ،‬وعلى الرغم من مساح‬
‫الدول اإلس المية قاطبة للمرأة هبذا احلق فما زال بعض الس ادة الس لفية‬
‫ينكرون هذا ويعتربونه من البالء والفنت‪.‬‬
‫‪ | 129‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫‪ .94‬ل رلضي ل يي ‪ :‬أاثر الفقهاء األحناف يف العصر العثمان مسألة عمل‬


‫اص ة يف األرايف‪ ،‬وبدا واض حاً أن‬
‫املرأة وكدها وجهدها يف الزرع واحلص اد خب َّ‬
‫حتديد نص يبها ابلثمن من مال الزوج أو ابلنص ف من الذكر ال حيقق العدالة‬
‫املطلوبة‪ ،‬فعمد الفقهاء إىل ابتكار نظام األراض ي األمريية وهي أر ٍّ‬
‫اض زراعية‬
‫مينحها الس لطان للرعية وينص أبهنا تقس م ابلتس اوي بني الذكر واألنثى‪،‬‬
‫وكذلك تؤول إىل ورثتهم ابلتس اوي‪ ،‬ومع أن هذا األمر خمالف لص ريح القرآن‬
‫الكرمي‪ ،‬ولكن الفقهاء احلنفية عللوا ذلك ابالس تحس ان الذي هو العدول عن‬
‫خفي‪ ،‬وأنه ابملرأة عدل وإحس ان وهذا من مقاص د‬‫جلي إىل قياس يٍّ‬
‫قياس يٍّ‬
‫الشريعة‪.‬‬
‫‪ .95‬لموصتتي لمولجب ‪ُّ :‬‬
‫تنص أحكام اإلرث على توريث األوالد ما يرتكه أبوهم‬
‫من املرياث‪ ،‬ف إذا م ات اجل د ول ه ثالث ة من األوالد مثالً وابن متوىف ول ه أوالد‪،‬‬
‫ف إن األحي اء يرثون وال يرث املتوىف‪ ،‬وب ذل ك ي ذه ب اإلرث إىل أبن اء األحي اء‬
‫وحيرم منه اليتامى وهو عكس مقاص د الش ريعة‪ ،‬فابتكر الفقهاء نظاماً يص لح‬
‫أن الوص ية من اجلد ألحفاده واجبة‪ ،‬لتحقيق العدالة‪ ،‬وإذا‬‫هذه املظلمة فعدوا َّ‬
‫مل يقم اجل د هب ذا الواج ب ف إن احملكم ة تقوم ب ه لزوم اً وأمسوا ذل ك الوص ي ة‬
‫الواجبة‪ ،‬وقد أخذت هبا القوانني يف البالد اإلس المية ابس تحس ان ورض ا‪،‬‬
‫وابتت من مفاخر اإلصالح الفقهي يف حقل املرياث‪.‬‬
‫‪ .96‬ونتسء لمقبتسا و لمقبور‪ :‬ال ختتلف الرواي ة عن د الس لف يف حترمي بن اء‬
‫القب اب على مق ابر الص احلني ووجوب ه دم ه ذه القب اب وتس وي ة القبور‬
‫ابألرض‪ ،‬وهو ما تلتزمه إىل اليوم البالد اليت تتبع الفقه الس لفي‪ ،‬ولكن عموم‬
‫املدائن الكربى يف اإلس الم كدمش ق وبغداد والقاهرة واس تامبول ومراكش‬
‫‪ | 130‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وآالف املدن األخرى تزدحم ش وارعها وس احاهتا بقبور األولياء والص احلني‬
‫وتقام عندها احملاريب وتقام فوقها القباب اخلض راء واحلمراء‪ ،‬ويزورها الناس‬
‫على اختالف مذاهبهم على الرغم من خمالفة ذلك لألدلة الص رحية يف الس نن‬
‫املروي ة ‪ ،‬وق د اخت ار عموم الفقه اء يف ه ذه امل دن اجلليل ة إقرار ه ذه القبور‬
‫والقباب والزايرهتا وعقد جمالس العلم فيها‪ ،‬وهو ما ال يزال ينكره بش دة التيار‬
‫السلفي يف اإلسالم فيما يتقبله اإلسالم الشعيب دون أي نكري‪.‬‬
‫‪ .97‬لمقبور لمد لرس‪ :‬تتض افر الرواايت من الس نن على وجوب تس وية القبور‬
‫ابألرض ومنع ظهوره ا‪ ،‬وأن خري القبور ال دوارس‪ ،‬وهو م ا فرض ه الوه ابيون‬
‫على عموم ممالك احلجاز وجند وما وص لت إليه س لطتهم من اجلزيرة العربية؛‬
‫إذ هدمت القبور كلها وس ويت ابألرض مبا يف ذلك مقربة البقيع يف املدينة‬
‫املنورة؛ إذ هدمت قبور عثمان وفاطمة وجعفر وابن عوف وزوجات الرس ول‬
‫وغريها مما كان يف البقيع‪ ،‬وس ويت ابألرض‪ ،‬ولكن املس لمني يف بلدان العامل‬
‫أمجع جتاوزوا ذلك كله‪ ،‬واختاروا تكرمي القبور‪ ،‬وابلغ بعضهم يف تعظيم القبور‪،‬‬
‫ولكن االعتدال يف القبور وتكرميها وبناء الش واخص املكتوبة عليها هو ُس نَّة‬
‫املس لمني يف كل مكان يف األرض على الرغم مما يريه الس ادة الس لفيون من‬
‫حترمي شديد‪.‬‬
‫‪ .98‬لملومد لمنبوي‪ :‬يع ُّد احتفال املسلمني ابملولد النبوي بدعة اتمة‪ ،‬فال يوجد‬
‫على اإلطالق يف كالم الس لف أي إش ارة إىل املولد وال ميلك أي مؤرخ أو‬
‫مفس ر أو حمقق أن جيزم بتاريخ مولد الرس ول أو أن يض يف من نص وص‬
‫الش ريعة املعتربة أي دليل على جواز االحتفال فيه عند الس لف‪ ،‬ومل تعرف‬
‫اجملتمعات اإلس المية أي ش كل من ااالحتفال ابملولد النبوي حنو س بعة قرون‪،‬‬
‫‪ | 131‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ولكن األمر تغري بع د ذل ك ب دءاً من القرن الس ابع اهلجري حني ب دأت‬
‫اجملتمعات اإلس المية االحتفال ابملولد النبوي‪ ،‬وانتش رت هذه العادة الطيبة‬
‫عمت العامل اإلس المي كله‪ ،‬وتقام اليوم احتفاالت مليونية يف أندونس يا‬ ‫حىت َّ‬
‫وماليزاي وزجنبار وتنزانيا والبالد العربية واإلس المية كلها بذكرى املولد النبوي‪،‬‬
‫ويش ارك فيها الفقهاء واملفتون والواعظون واألئمة‪ ،‬وعلى الرغم من ض عف‬
‫االس تدالل جبوازها وفض لها ولكن اجملتمعات اإلس المية قاطبة تقبلتها وهي‬
‫متارسها حبب وحبور ابستثناء السادة السلفية‪.‬‬
‫‪ .99‬هتنئ لمنص ت ت ت تتسرى أب يسدتم‪ :‬ال ختتلف الفتوى عند القدماء يف حترمي هتنئة‬
‫ونص ابن القيم أن هتنئة النص ارى أبعيادهم تش جيع‬
‫النص ارى أبعيادهم‪َّ ،‬‬
‫للش رك والكفر وهي أكرب إمث اً عن د هللا من الزان وقت ل النفس بغري حق!‬
‫كل س بيل‪ ،‬ولكن العص ور احلديثة فتحت‬ ‫والفتاوى هبذا املعىن مرتافدة يف ي‬
‫أبواب التواص ل االجتماعي بني املس لمني وجرياهنم من النص ارى‪ ،‬وميكن‬
‫القول‪َّ :‬‬
‫إن املفتني والفقهاء يف العامل اإلسالمي كله ابتوا يقرون هتنئة غري املسلم‬
‫أبعياده ويقومون بزايرهتم يف كنائس هم ومراكزهم ويقدمون هلم التهنئة‪ ،‬وعلى‬
‫رأس هم ش يوخ األزهر األجالء‪ ،‬وما زالت املؤس س ة الدينية الرمسية الوحيدة اليت‬
‫متتنع عن هذا يف العامل اإلسالمي هي السعودية وإيران‪.‬‬
‫‪ .100‬ونسء لمل سود مغي لملس ت ت ت تتواني‪ :‬ال ختتلف الفتوى عند القدماء يف منع بناء‬
‫نص الفقه اء علي ه هو جواز‬
‫الكنائس واملعاب د يف داير املس لمني‪ ،‬وغاي ة ما َّ‬
‫بقاء املعابد القدمية وترميم ما هتدم منها دون بناء جديد‪ ،‬وقد مض ت الفتوى‬
‫على ذلك قروانً طويلة والتزمها املس لمون يف البالد اإلس المية كلها‪ ،‬ولكن‬
‫العص ور احلديثة وقد حققت انتش اراًكبرياً للمس لمني يف العامل ووفوداًكبرياً لغري‬
‫‪ | 132‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫املس لمني إىل عواص م اإلس الم فرض ت تغيري هذا الواقع ومن مثَّ؛ تغري الفتوى‪،‬‬
‫وقد ابتت دور العبادة اجلديدة لغري املس لمني تش يد يف مدن اإلس الم الكربى‬
‫مجيعها دون نكري‪ ،‬وتقوم هيئات إس المية رمسية مبتابعة هذا الش أن وع يده‬
‫مص لحة حقيقة للمس لمني ابلنظر إىل حاجة املس لمني إىل إقامة معابدهم يف‬
‫داير غري املسلمني‪ ،‬وما تزال البلد الوحيدة اليت ترفض بناء معابد غري إسالمية‬
‫على أراضيها هي السعودية وإيران‪.‬‬

‫حو‬
‫ل حنس َّ‬ ‫لمقسم لخلس س‪ :‬س حن س لميو ت ويره ت ديوه‬
‫قسصد ل س‬ ‫يس قيم ع صسحل ل‬
‫َّ‬
‫إن م ا حنت اج ه اليوم هو اس تمرار ه ذه الروح التج دي دي ة والتطويري ة اليت عرفه ا‬
‫املس لمون خالل التاريخ‪ ،‬وحنتاج ابلفعل إىل اجتهادات عميقة حتقق دولة املواطنة‬
‫واملس اواة‪ ،‬ولو متَّ التخلي عن كثري من ظواهر النص وص اليت تدل على خالف‬
‫ذلك‪ ،‬ومن هذه النصوص‪:‬‬

‫• كل ما يتناقض مع املس اواة التامة بني الرجال والنس اء؛ إذ أص بحت هذه‬
‫القضية اليوم من املسلمات النهائية يف الكفاح احلضاري اإلنسان‪.‬‬
‫• ُّ‬
‫كل ما يتناىف مع املس اواة الكاملة بني املواطنني على أس اس أدايهنم أو‬
‫مذاهبهم أو أعراقهم؛ إذ أمجعت اإلنس انية اليوم على بناء الدولة احلديثة‬
‫على أساس املساواة بني املواطنني مهما كانت أدايهنم أو مذاهبهم‪.‬‬
‫• ُّ‬
‫كل ما يدعو إىل اس تدامة احلرب بني املس لمني والعامل‪ ،‬بعد أن دخلت‬
‫اإلنس انية يف عهد الدولة احلديثة وفرض ت على الدول احرتام العالقات‬
‫‪ | 133‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫الدبلوماس ية على أس اس القانون الدول‪ ،‬ومنع تغيري احلدود ابحلروب‬


‫والغزو‪.‬‬
‫• تص حيح ثقافة اجلهاد‪ ،‬ووقف العمل ببعض النص وص اليت توهم َّ‬
‫حق‬
‫يب أو االس رتقاق أو جين املغامن بعد أن دخلت األمة‬
‫اجملاهدين يف الس ي‬
‫اإلسالمية يف عقود رمسية مع العامل وقد أمر هللا تعاىل ابلوفاء ابلعقود‪.‬‬
‫• التحرمي النهائي لنش ر ال دعوة عن طريق احلرب والغزو والقتال‪ ،‬بع د أن‬
‫صارت الدنيا قرية مفتوحة تصل فيها األفكار دون حواجز وال قيود‪.‬‬
‫• االنتق ال من احل دود اجلس دي ة إىل العق اب اإلص الحي بع د أن اتفق‬
‫احلقوقيون يف الع امل كلي ه على حترمي التع ذي ب اجلس دي‪ ،‬وبع د أن ابتكر‬
‫العقاب اإلصالحي املناسب لكرامة اإلنسان‪.‬‬

‫وهذه ابلطبع بعض أمثلة‪ ،‬وما زال يف اجلعبة كثري منها‪.‬‬


‫وجيب القول اآلن‪ :‬إن هذه األمثلة املئة الواض حة يف بيان تطور اإلس الم يف س ياقه‬
‫التش ريعي اترخيياً ليس ت إال حمض أمثلة ملهمة‪ ،‬وليس عس رياً أن جنمع آالف‬
‫األمثلة على نسق ذلك‪ ،‬فهذه طبيعة احلياة وهذا شأن األمم احليوية اليت تستمر يف‬
‫جتددها وتوثبها وتطورها‪ ،‬وهو س ياق موجود يف اإلس الم كما هو موجود يف كل‬
‫األمم بال اس تثناء‪ ،‬واألمم اليت ال تتطور تتحنط‪ ،‬والش رائع اليت ال تتطور تؤول إىل‬
‫قيود من حديد متنع األمة من قيامها وانطالقها‪.‬‬
‫ومن روائع الفقه احلض اري أن اإلمام الش افعي وهو مؤس س علم أص ول الفقه كتب‬
‫م ذهب ه الفقهي ك امالً يف العراق يف كت اب خ اص مسَّاه ((احلج ة))‪ ،‬وك ان يفيت ب ه‬
‫للناس‪ ،‬وبعد س نوات رحل اإلمام الش افعي إىل مص ر‪ ،‬وكانت مص ر عاملاً خمتلفاً‬
‫‪ | 134‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وأح دااثً خمتلف ة وحض ارة خمتلف ة‪ ،‬وعلى الفور توقف الش افعي عن الفتوى‪ ،‬مث‬
‫عكف على مراجع ات عميق ة وأجنز كت اب ه األم وفي ه م ذهب ه اجل دي د‪ ،‬وق ال للن اس‪:‬‬
‫ال أحل ألحد أن يفيت مبذهيب القدمي ‪ ...‬والفتوى على املذهب اجلديد!‬
‫وال أش ك أنه لو ظهر فينا اإلمام الش افعي اليوم‪ ،‬فإنه يقيناً لن يفيت مبذهبه القدمي‬
‫وال مبذهبه اجلديد‪ ...‬بل س يقفز اثين عش ر قرانً‪ ،‬ويتخري مذهبه اجلديد اليوم من‬
‫تراث اإلس الم وجتارب احلض ارات وخربات األمم الناجحة‪ ،‬وس يدعوان إىل ما حييينا‬
‫يف هذا العصر املتالطم‪.‬‬

‫وتتغري األحكام بتغري األزمان وتغري األوطان‪ ...‬والثابت هللا‪.‬‬


‫واخلالص ة‪َّ :‬‬
‫إن اإلس الم يف حال تطور مس تمر‪ ،‬وهو إذ يعلن االكتمال يف ش عائره‬
‫ومناس كه فهو يفتح الباب إىل الغاية يف التطوير يف تش ريعاته وأحكامه يف ش ؤون‬
‫كل تطور إجيايب‪ ،‬حيرتم العقل وحيقق للناس‬
‫احلياةكلها‪ ،‬وعلينا أن نس عى يف دعم ي‬
‫السعادة وحيقق السالم واإلخاء بني املسلمني وبني جرياهنم على هذا الكوكب‪.‬‬
‫‪ | 135‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫تقدمي لم قل لحرتل لمنقل‬ ‫لحملور لمسسوع‪:‬‬


‫لمفرضي ‪:‬‬
‫تذهب هذه الدراس ة إىل أ َّن منهج تقدمي العقل على النقل هو منهج اتبعه الفقهاء‬
‫كافة خالل التَّاريخ اإلسالمي وإن اعرتض عليه احملدثون‪.‬‬

‫وتؤكد الدراسة أ َّن تقدمي العقل على النقل ال يشتمل على ي‬


‫أي إساءة للقرآن الكرمي‬
‫والس نة النبوية بل هو حترير لظرف الزمان واملكان اليت جاءت يف األحكام واختيار‬
‫ما هو أصلح للناس وأرفق أبحواهلم‪.‬‬
‫وتقدم الدراس ة عش رات النص وص الواض حة اليت قام الفقهاء بتجاوزها بوض وح‬
‫وإنت اج أحك ام خم الف ة هل ا‪ ،‬نظراً لتغري الزم ان واملك ان‪ ،‬مع احرتامهم الكبري ملك ان‬
‫هذه النصوص يف الوحي املبني يف الكتاب والسنة‪.‬‬
‫وهت دف ه ذه ال دراس ة إىل منح الفقه اء الق درة واإلرادة إلنت اج أحك ام ج دي دة‬
‫تناس ب الناس يف أحواهلم ومعاش هم والتوقف عن التزام ما ورثناه عن الس لف من‬
‫أحكام تتعلق بزماهنم ومكاهنم‪.‬‬
‫‪ | 136‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لمنَّص صحيح ميس ويه لم ال‪:‬‬

‫املالكي‪:‬‬
‫ي‬ ‫والعبارة لإلمام اجلليل مالك بن أنس إمام دار اهلجرة ومؤسس املذهب‬
‫ص صحيح وليس عليه العمل‪.‬‬
‫وقد أثبتها يف املوطأ سبع عشرة مرة‪ :‬النَّ ُّ‬
‫وقد أنكر ابن حزم الظاهري ذلك على اإلمام مالك أش َّد اإلنكار ونس ب إليه يف‬
‫مثان وس تني موض عاً أن اإلمام مالك روى احلديث ص حيحاً وقال‪" :‬ليس عليه‬ ‫ٍّ‬
‫العمل"‪.‬‬
‫ليس هذا اخرتاعاً خترتعه‪ ...‬وإمنا هو وص ف حلقيقة فقهية وعلمية س نش ري إليها‬
‫تفصيال‪.‬‬
‫يراها بعض هم اس تدابرا من الفقهاء لكتاب هللا وأن عليهم أن يرتاجعوا عن ذلك‪،‬‬
‫ولكنين أراها فهماً مس تقيما لكتاب هللا وتطوراً طبيعياً يف فهم س ياقه وس باقه يف‬
‫عامل متحول متجدد حيتاج كل يوم لفقه جديد‪.‬‬
‫لكل‬
‫إهنا ببس اطة أوض ح دليل على وعي الفقهاء أبنه ما من نص يف الدنيا يص لح ي‬
‫أن القرآن الكرمي حمكوم أبسباب النزول‪ ،‬و َّ‬
‫أن السنة املشرفة حمكومة‬ ‫زمان ومكان‪ ،‬و َّ‬
‫أبس باب الورود‪ ،‬ومن اخلطأ تعميم األمر على العص ور كلها والبلدان والش عوب‪،‬‬
‫حق األمة أن تتخري ما يناسب واقعها ومستقبلها‪.‬‬
‫بل إن من ي‬
‫وال َّ‬
‫بد أوالً من حتديد بعض املصطلحات‪:‬‬
‫وعن دم ا نقول مجهور الفقه اء فه ذا يعين‪ :‬ثالث ة من امل ذاه ب األربع ة املعتم دة‪ ،‬أو‬
‫اثنان منها إذا صدر الباقون عن أكثر من رأي يف املسألة‪.‬‬
‫‪ | 137‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وعندما نقول إنه مجهور املفس رين فهذا يعين‪ :‬س تة من العش رة‪ :‬الطربي والزخمش ري‬
‫والرازي والسيوطي والقرطيب والنيسابوري وابن كثري والبغوي والنسفي واآللوسي‪.‬‬
‫وأشري هنا أنين غري معين ابملرة ابالنتصار لقول على قول‪ ،‬وال لفقيه على فقيه‪ ،‬وال‬
‫أبي رأي منها‪ ...‬غاية األمر أنين أقول لك‪ :‬لقد حص ل‬ ‫أحس ب نفس ي ملتزماً ي‬
‫ذلك‪ ،‬وهنا تنحصر مسؤولييت يف إثبات حصول األمر وال أتبناه وال أدافع عنه‪ ،‬وال‬
‫أدعو التباعه‪ ،‬بل أدعو للعمل بروح الفقه والنص‪ ،‬والنس ج على منوال ذلك ملا‬
‫يناسب زماننا وليس ملا يناسب زماهنم‪.‬‬

‫ﱖﱘﱙ‬
‫ﱗ‬ ‫ﱒﱔ ﱕ‬
‫ﱓ‬ ‫‪ .1‬ﱡﭐ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ‬

‫ﱚﱛﱠ [البقرة‪]٧ :‬‬


‫ظ اهر النص أن اخلتم ح اص ل على قلوهبم فال ف ائ دة من إن ذارهم أو إخب ارهم‪،‬‬
‫ومقتصى العدالة أن ال حساب عليهم وال عقاب‪.‬‬
‫مجهور الفقهاء على أهنم حماس بون عن كل ما يفعلون واخلتم ال حيول بينهم وبني‬
‫اهلدى‪ ،‬وهي مسؤوليتهم وليست جرباً أرادهم عليه هللا‪.‬‬

‫‪ .2‬ﱡﭐﲻﲼﲽﲾﲿﳀﳁﳂﱠ [البقرة‪]١٥ :‬‬


‫ظاهر النص أن هللا يوصف ابملستهزئ‪.‬‬
‫مجهور الفقهاء على وجوب تنزيه هللا تعاىل عن ص فة االس تهزاء ابلعص اة وأن‬
‫الكلمة وردت يف اآلية على سبيل املشاكلة وظاهرها غري مراد‪.‬‬

‫‪ .3‬ﱡﭐ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﱠ‬
‫[البقرة‪]٤٧ :‬‬
‫‪ | 138‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ظاهر اآلية اإلطالق‪ ،‬وهو أن بين إسرائيل أفضل العاملني مبا فضلهم هللا‪ ،‬وقد أصر‬
‫املفسر الثعليب على الظاهر وقال‪ :‬إن بين إسرائيل أفضل األمم‪ ،‬مبا فيهم أمة حممد‪.‬‬
‫مجهور الفقهاء واملفس رين أن ظاهر اآلية غري مراد‪ ،‬وأن طائفة من بين إس رائيل‬
‫فضلوا على كفار زماهنم‪ ،‬واآلية ليست حكماُ يف كل زمان ومكان‪.‬‬

‫ﱌ ﱎﱏﱐﱑﱒ‬
‫ﱍ‬ ‫‪ .4‬ﱡﭐ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ‬

‫ﱓﱔﱕﱖﱠ [البقرة‪]١٠٦ :‬‬


‫واآلية نص يف أن هللا هو كامل القدرة وهو املطلق‪ ،‬وأما آايته فيعرض هلا النس خ‬
‫والتبديل‪...‬‬
‫واآلية نص يف أن القرآن الكرمي يطاله النسخ‪ ،‬وهذا رأي مجهور الفقهاء واملفسرين‪،‬‬
‫وأنكر ذلك أبو مس لم األص فهان من علماء الس نة‪ ،‬وقال ابس تحالة نس خ كتاب‬
‫هللا ألنه يلزم من ذلك صفة العجز واجلهل على هللا‪.‬‬
‫ومجهور الفقهاء أن القرآن الكرمي ينس خ مبثله وينس خ ابلس نة‪ ،‬واعرتض الش افعي‬
‫على نسخ القران ابلسنة‪ ،‬واجلمهور ال يرى يف النسخ نقصاً على هللا‪ ،‬فالنسخ تغري‬
‫يف ح ال املخلوق وليس يف ح ال احل الق‪ ،‬والنس خ إب داء وليس ب داء‪ ،‬وهي أمور‬
‫يبديها وال يبتديها‪ ،‬يزهرها وال تظهر له‪.‬‬

‫‪ .5‬ﱡﭐ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ‬

‫ﳎﳏﳐﳑﳒﱠ [البقرة‪]٤٨ :‬‬


‫ظاهر النص أن ال ش فاعة ألحد يف اآلخرة‪ ،‬ألنه نكرة يف س ياق العموم فيكون‬
‫عاماً‪ ،‬وليس يف اآلية استثناء ألحد‪.‬‬
‫‪ | 139‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ومجهور العلماء على أن الرسول ﷺ له يف اآلخرة الشفاعة‪ ،‬وقد جاءت بذلك‬


‫أحاديث صحيحة يقبلها مجهور الفقهاء واملفسرين‪.‬‬

‫ﲌﲎﲏﲐﲑﲒ ﱠ‬
‫ﲆ ﲈﲉﲊ ﲋ ﲍ‬
‫ﲇ‬ ‫‪ .6‬ﱡﭐﲄﲅ‬
‫[البقرة‪]١١٥ :‬‬
‫ظاهر النص أن أي جهة يتوالها املسلم فهي وجه هللا‪ ،‬ومقتضى ذلك صحة‬
‫الصالة إىل أي اجتاه‪.‬‬
‫ومجهور الفقهاء على أن الظاهر غري مراد‪ ،‬وقد جاء النص املتأخر انسخاُ للنص‬
‫املتقدم وأوجب استقبال القبلة إىل الكعبة خبالف ظاهر هذه اآلية‪.‬‬
‫وال بد من التوجه للقبلة اليت أمر هللا تعاىل هبا وهي البيت احلرام الكعبة‪.‬‬
‫‪ .7‬آايت ملك اليمني يف القرآن الكرمي‪ ،‬وهذه هي وعدهتا ‪ 13‬آية‪:‬‬
‫ﲌﲎ ﲏﲐﲑﲒﱠ‬
‫ﲍ‬ ‫• ﱡﭐ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ‬
‫[النساء‪]٣ :‬‬
‫ﭐ‬ ‫• ﱡﭐ ﱂﱃﱄﱅﱆﱇﱈﱠ [النساء‪]٢٤ :‬ﭐ‬

‫• ﱡﭐ ﱲ ﱳﱴﱵ ﱶﱷﱸ ﱹﱺﱻ‬

‫ﲁﱠ [النساء‪]٢٥ :‬‬


‫ﲂ‬ ‫ﱼﱽﱾﱿ ﲀ‬

‫• ﱡﭐ ﲛﲜﲝﲞﲟﱠ [النساء‪]٣٦ :‬‬

‫• ﱡﭐ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ‬

‫ﱡﱢﱣﱤﱥﱠ [المؤمنون‪]٦ – ٥ :‬‬


‫‪ | 140‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫• ﱡﭐ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ‬

‫ﲷﱠ [النور‪]٣١ :‬‬

‫ﲩﱠ‬
‫ﲪ‬ ‫• ﱡﭐ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ‬
‫[النور‪]٥٨ :‬‬
‫• ﱡﭐﱸﱹﱺﱻﱼﱽﱾﱿﲀﲁﲂ‬

‫ﲃﲄﲅ ﱠ [الروم‪]٢٨ :‬‬

‫• ﱡﭐ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ‬

‫ﲔﲕﲖﲗﲘﱠ [األحزاب‪]٥٠ :‬‬

‫• ﱡﭐ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﱠ‬
‫[األحزاب‪]٥٠ :‬‬
‫• ﱡﭐﱶﱷﱸﱹﱺﱻﱼﱠ [األحزاب‪]٥٢ :‬‬

‫• ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ‬

‫ﱍﱎﱏﱐﱑﱒﱓﱔﱕﱠ [األحزاب‪]٥٥ :‬‬

‫• ﱡﭐ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ‬

‫ﱡﱢﱣﱤﱥﱠ [المؤمنون‪]٦ – ٥ :‬‬


‫‪ .8‬ومبثل معىن هذه اآلايت وردت أحاديث كثرية منها‪:‬‬
‫ولميه فتقد كفر ح َّو يترجع‬ ‫• عن جرير أنه مسعه يقول‪" :‬أميس بد أوق‬
‫إميهم" وقد ورد هذا احلديث يف الشاملة أربع وستني َّ‬
‫‪11‬‬
‫مرة‪.‬‬

‫‪ 11‬رواه مسلم في الصحيح‪.‬‬


‫‪ | 141‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫• "ث ث ٌ ال جتس ز ص هتم آْلَنم لم بد لآلوق ح َّو يترجع ل رأ ٌ بتت‬


‫‪12‬‬
‫ط إ س قتو تم مه كسرتو "‬ ‫ز جهس ويتهس سس ٌ‬
‫إبقه د ل لمنَّسر إ كس‬ ‫• وروى البيهقي عن جابر‪" :‬أَّميس ب ٌد س‬
‫سبيل للا تت سىل"‪.‬‬ ‫قل‬

‫وظاهر النص يف هذه اآلايت واألحاديث أبن ملك اليمني هو حق للمالك‪ ،‬وأنه‬
‫ال لوم عليه يف ممارسة احلب (الوطء) مع السبااي‪ ،‬وفيها استهجان أن يستوي‬
‫خاصة مللك اليمني‪ ،‬وأجاز عدد‬
‫اإلنسان مع ما ملكت ميينه‪ ،‬وفيها اإلذن أبحكام َّ‬
‫من الصحابة والتابعني استالالً بظاهر اآلايت املذكورة إسقاط العورة املخففة بني‬
‫املرأة وغالمها‪ ،‬كما بني الرجل وأمته‪.‬‬
‫ويف هذه األحاديث بيان واضح أن من الكبائر العبد اآلبق من مواله‪ ،‬بل صرحت‬
‫رواية اإلمام مسلم أن إابق العبد يف طلب احلرية كفر!‬
‫ولكن هذا الظاهر الذي ذهب إليه املفسرون يف املاضي مل يقبله املسلمون املعاصرون‬
‫من فقهاء وعلماء‪ ،‬ودخل املسلمون يف اإلرادة الدولية يف حترمي الرقيق‪ ،‬وصران نتغىن‬
‫أن من حماسن اإلسالم أنه ألغى الرق‪ ،‬وخلَّص البشرية من شره‪.‬‬ ‫َّ‬

‫إن الفقهاء الذين فسروا القرآن أبنه جييز للناس استمرار العبودية‪ ،‬وهم هنا تسعة‬
‫من أصل عشرة من املفسرين املعتربين كانوا يف الواقع يعكسون ثقافة عصرهم‪ ،‬وقد‬
‫صار هذا األمر مستهجنا ومستنكرا يف زماننا‪.‬‬

‫‪ 12‬رواه الترمذي‬
‫‪ | 142‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وال يوجد اليوم من يؤيد اسرتقاق السبااي إال عدد قليل من أهل الظاهر مل نكن‬
‫نسمع هبم لوال قيام دولة داعش اليت طبقت ذلك بشكل فظيع ومرير‪.‬‬
‫وقد اتفقت الدول اإلسالمية كلُّها اليوم بتأييد من فقهائها وعلمائها على أن الرق‬
‫ممنوع كله‪ ،‬وأن اإلسالم رسالة حترير وأن العبيد واإلماء جزء من املاضي الذي حاربه‬
‫اإلسالم‪ ،‬وقد وقعت الدول اإلسالمية كلها على االتفاقية الدولية ملنع االجتار ابلبشر‬
‫وابت االجتار ابلبشر حراماً حبكم الفقه والقانون‪ ،‬وذلك خبالف ما تشري إليه ظاهر‬
‫اآلايت الكرمية واألحاديث الشريفة‪.‬‬

‫‪ .9‬ﱡﭐﱁﱂﱃﱄﱅﱆﱇﱈﱉﱠ [البقرة‪]١٢٠ :‬‬


‫كذب قول‬‫يقول البغدادي ومن زعم أنه ميكنه أن يعيش مع النصارى ويوادهم فقد َّ‬
‫ص َارى َح َّىت تَتَّب َع ملَّتَ ُهم} وهذا دليل‬
‫ود َوَال النَّ َ‬
‫ك اليَ ُه ُ‬
‫ضى َعْن َ‬
‫هللا تعاىل‪َ { :‬ولَن تَ ْر َ‬
‫واضح على حترمي اإلقامة بينهم ووجوب اهلجرة إىل دار اخلالفة‪.‬‬
‫ولكن مجاهري الفقهاء خالل التاريخ اإلسالمي مل متض هبذه اآلية على ظاهرها وإمنا‬
‫خاصة مبن هو حمارب حماد هلل ولرسوله‪ ،‬وليس يف شأن‬‫أخضعتها للتأويل وعدَّهتا َّ‬
‫عموم اليهود والنصارى‪ ،‬وقد كان رسول هللا يعاملهم ويواسيهم وحيفظ حقهم يف‬
‫املدينة‪ ،‬ومات ودرعه مرهونة عند يهودي بصاع من شعري‪.‬‬
‫وبذلك فإن هذا اليهودي وأمثاله من الذين عاش وا يف كنف الدولة املس لمة ال‬
‫يتناوهلم عموم اآلية‪ ،‬فقد رض وا عن الدولة اإلس المية وأقرت س لوكهم وواقعهم‬
‫وتركت معابدهم وصلباهنم وكنائسهم وكنسهم‪.‬‬
‫ومن أوض ح األدلة على ذلك بقاء الكنائس والكنس والبيع يف بالد املس لمني هذه‬
‫القرون املتطاولة قبل أن تقوم داعش وبوكو حرام بتدمري ما وصلت يدها إليه‪.‬‬
‫‪ | 143‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ﱡﭐ ﱭﱮ ﱯﱰﱱ ﱲﱳﱴﱵﱶ‬ ‫‪.10‬‬


‫ﱷﱸﱹﱺﱻﱼﱽﱾﱿﲀﲁﲂ‬

‫ﲃﲄﲅﲆﲇﲈﲉﲊﱠ [التوبة‪]٢٩ :‬‬


‫هذه اآلية واض حة ويفهم منها وجوب مقاتلة النص ارى حىت يعطوا اجلزية وهم‬
‫ص اغرون‪ ،‬وابلفعل فقد أخذ هبذا الرأي فقهاء كثري يف املاض ي‪ ،‬ونقل ابن املنذر‬
‫اإلمجاع على ذلك‪.‬‬
‫ولكن تطور احلياة وقيام الدولة احلديثة دقع املسلمني لرتك العمل هبذا النص‪،‬‬
‫والتحول إىل مقصده وغاايته‪ ،‬واتفقوا على عدم قتال من مل يبدأان بقتال‪ ،‬و ُّ‬
‫عدوا‬
‫النص يف سورة التوبة عاماً‪ ،‬والنص يف سورة البقرة خاصاً‪ :‬ﱡﭐﲾﲿﳀ‬

‫ﳁﳂﳃﱠ [البقرة‪ ، ]١٩٠ :‬وجيب محل العام على اخلاص‪ ،‬كما‬


‫توقفوا عن أخذ اجلزية من النصارى منذ مئات السنني‪ ،‬والنصارى يف الشام ال‬
‫يدفعون اجلزية منذ أايم صالح الدين األيويب قبل تسعمئة عام‪.‬‬
‫واألمة مبجموعها اليوم وبوس اطة فقهاءها وعلمائها يف أربع ومخس ني دولة إس المية‬
‫خاص ة كانت يف دولة‬
‫نص اً حمكوماً بظروف َّ‬ ‫مل تقبل ظاهر النص هذا‪ ،‬وعدَّته َّ‬
‫الرس ول الكرمي‪ ،‬وأنه ال يتعني اليوم أخذ اجلزية من النص ارى‪ ،‬بعد أن قامت دولة‬
‫املواطنة‪ ،‬ومت إجناز عقد اجتماعي جديد بني الناس بوص فهم ش ركاء يف عق د‬
‫املواطنة وال يبغي أحد على أحد‪.‬‬
‫‪ | 144‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ﱡﭐ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ‬ ‫‪.11‬‬
‫ﲣﲥﲦﲧﲨ ﲩﲪ‬
‫ﲤ‬ ‫ﲟ ﲠﲡﲢ‬

‫ﲬﲮﲯﲰﲱﲲﱠ [التوبة‪]٥ :‬‬


‫ﲭ‬ ‫ﲫ‬
‫إن الفهم الظاهري لآلية يقتضي أن نقوم بقتل املشركني حيث وجدوا‪ ،‬وأن نستمر‬
‫يف قتاهلم إىل أن يقيموا الصالة ويؤتوا الزكاة‪ ،‬ومن املؤكد أن هذا يعين استمرار احلرب‬
‫إىل آخر الدهر‪.‬‬
‫وقد تعامل مجهور الفقهاء مع هذه احلقيقة مبقاص د النص وليس بداللته احلرفية‪،‬‬
‫وميثل هذا النص حلظة التنزيل حاجة ض رورية لألمة لردع أعدائها‪ ،‬ولكنه ال يص لح‬
‫أبداً أن يطبق يف كل زمان ومكان‪.‬‬

‫ﱡﭐﱱﱲﱳﱴﱵﱶﱷﱸﱹﱺﱻﱼﱽﱾﱿ‬ ‫‪.12‬‬
‫ﲀﲁﲂﲃﲄﱠ [محمد‪]٤ :‬‬
‫إن الفهم الظاهري هلذه اآلية يقتض ي أن تكون طبيعة لقاء املس لمني ابآلخرين هي‬
‫احلرب والقت ال‪ ،‬وابلفع ل هك ذا فهم الظ اهري ة واخلوارج‪ ،‬ب ل إن ع دداً من الفقه اء‬
‫املعاصرين من األكادمييني ذهب إىل هذا وقالوا األصل يف العالقة مع غري املسلمني‬
‫هو احلرب‪ ،‬وجيب القتال حىت يدخل الناس يف اإلسالم‪.‬‬
‫ولكن مجهور الفقهاء تعاملوا مع هذه اآلية مبقاص دها‪ ،‬ورفض وا الداللة الظاهرة‪،‬‬
‫خاص اً حبال احلرب اليت تفرض على األمة‪ ،‬ويقوم أعداءها بفرض‬
‫نص اً َّ‬
‫وعدُّوها َّ‬
‫القتال عليها‬
‫‪ | 145‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ﱡﭐ ﲳﲴ ﲵﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺﲻ ﲼ ﲽ ﲾ‬ ‫‪.13‬‬
‫ﱠ [البقرة‪]٤٧ :‬‬
‫ظاهر هذه اآلية أن بين إسرائيل هم أعظم الشعوب يف التاريخ قاطبة وأكثرها أمهية‬
‫وقبوالً عند هللا‪ ،‬وأهنم شعب هللا املختار‪ ،‬وأن هللا فضلهم خبصائص مل تؤت لغريهم‪،‬‬
‫منها أن إمياهنم معجزة وأن هجرهتم معجزة وشق البحر هلم معجزة ومن املعجزات‬
‫اليت أكرموا هبا يف طريق هجرهتم الطوفان واجلراد والقمل والضفادع والدم آايت‬
‫مفصالت‪ ،‬ويف القرآن الكرمي مما يؤيد تفوق اليهود وعلمهم وفضلهم قوله تعاىل‪ :‬ﱡﭐ‬
‫ﲩﱠ‬
‫ﲪ‬ ‫ﲝﲞﲟﲠﲡﲢﲣ ﲤﲥﲦﲧﲨ‬
‫[يونس‪ ،]٩٤ :‬وكذلك قوله‪ :‬ﱡﭐﱇﱈﱉﱊﱋﱌﱍﱎﱏ‬

‫ﱐﱑ ﱠ [الرعد‪ ،]٤٣ :‬وكذلك قوله‪ :‬ﱡﭐﱊﱋ ﱌﱍﱎﱏﱐ‬

‫ﱑﱠ [النحل‪ ،]٤٣ :‬ولكن الفقهاء واملفسرين رفضوا هذا املعىن الظاهر وكل ما تعلق‬
‫به املؤيديون وعدُّوه مبالغة غري مربرة‪ ،‬وقالوا أبن بين إسرائيل أمة من األمم هلم ما‬
‫لألمم وعليهم ما على األمم‪ ،‬وليس هلل شعب خمتار‪ ،‬وهذا النص وارد فقط على‬
‫ضد االستكبار والظلم‪ ،‬ففضلهم‬‫مجاعة من بين إسرائيل صربوا مع موسى يف نضاله َّ‬
‫هللا على عامل زماهنم‪ ،‬وال شك أ َّن هذا التأويل خمالف لظاهر النص‪ ،‬ولكن األمة‬
‫تكاد تكون متفقة عليه وهو خالف الظاهر‪ ،‬وذلك التزاماً مبقاصد الشريعة احلكيمة‪.‬‬
‫وابس تثناء الثعليب الذي أص ر على أن بين إس رائيل أفض ل األمم‪ ،‬فإن كل املفس رين‬
‫مل يقبلوا عموم اآلية الواض ح يف فض ل بين إس رائيل على العاملني‪ ،‬ومل يقولوا العربة‬
‫بعموم اللفظ ال خبص وص الس بب‪ ،‬ومل يقولوا إنه حكم هللا يف كل زمان ومكان‪،‬‬
‫ومل يقولوا إن ه ال أيتي ه الب اط ل من بني ي دي ه وال من خلف ه‪ ،‬ومل يقولوا أأنتم أعلم أم‬
‫هللا‪ ،‬ومل يقولوا أتعلمون هللا ب دينكم‪ ،‬ومل يقولوا ومن أص دق من هللا ح ديث اً‪ ،‬ومل‬
‫‪ | 146‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫يقولوا هللا يص طفي من يش اء‪ ،‬وإمنا واجهوا كل هذه النص وص العاطفية اإلنس ائية‬
‫خبطاب العقل واملنطق واملقاص د‪ ،‬وقالوا‪ :‬الناس س واس ية‪ ،‬وليس هلل ش عب خمتار‪،‬‬
‫هلا ما كسبت وعليها ما اكتسبت‪ ،‬وكل نفس مبا كسبت رهينة‪.‬‬

‫ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ‬ ‫‪.14‬‬
‫ﱋﱍﱎﱏﱐﱑﱒ ﱠ [التوبة‪]١٢٣ :‬‬
‫ﱌ‬ ‫ﱊ‬
‫ظاهر هذه اآلية وجوب مقاتلة جرياننا من غري املسلمني‪ ،‬وقد جرى ذلك ابلفعل‬
‫عدة قرون من اتريخ اإلسالم حيث كان العامل قائماً على شرعية املتغلب‪ ،‬وحتت‬
‫هذا دونت أعمال الفتوح يف التاريخ اإلسالمي‪ ،‬ولكن ذلك تغري يف الظروف الدولية‬
‫اجلديدة‪ ،‬وقد بدأ اخللفاء منذ العصر العباسي إبقامة العالقات الدبلوماسية مع غري‬
‫املسلمني من الكفار وفق شروط قائمة على تبادل املنافع واملصاحل‪.‬‬
‫واليوم فهناك إمجاع يف البلدان اإلسالمية السبعة واخلمسني على بناء عالقات‬
‫حسن جوار مع األمم األخرى مهما كانت دايانهتا ومذاهبها‪ ،‬و َّ‬
‫أن هذا النص‬
‫جاء مطلقاً‪ ،‬ولكن طرأ عليه القيد من خالل دخول األمة اإلسالمية يف عقود‬
‫ومصاحل ومنافع دبلوماسية حمددة ومل يعد لتنفيذ ظاهره وجه على اإلطالق‪ ،‬بل‬
‫وجب تنفيذ ما أبرمه املسلمون من عقود مع األمم األخرى تنفيذا لظاهر قوله‬
‫تعاىل‪ :‬ﱡﭐﱺﱻﱼﱽﱾﱠ [المائدة‪]١ :‬‬
‫كل سوم يقيم وني أظهر لماشركني"‪ ،‬قسمول‪ :‬ي‬ ‫‪ .15‬قوله ﷺ‪" :‬أن وريءٌ‬
‫رسو َّ‬
‫لَّلل ِل؟ ‪ ...‬قس ‪ :‬ال ترلءى نرلهس"‪ .‬رواه أبو داود والرتمذي والطربان‬
‫والنسائي‬
‫‪ | 147‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫تذهب الس لفية اجلهادية إىل القول بتحرمي اإلقامة بني ظهران املش ركني‪ ،‬وحترمي‬
‫حتص يل اجلنس ية األجنبية‪ ،‬وهذا ابلفعل هو ظاهر اآلية واحلديث وفق دالالت‬
‫اللغة العرببة‪.‬‬
‫ولكن مجهور الفقهاء ال أيخذون هبذا‪ ،‬وما زال املس لمون منذ فجر اإلس الم‬
‫يقيمون بني ظهران املش ركني منذ إقامتهم ابحلبش ة س بع س نني بعد هجرة النيب إىل‬
‫املدينة‪ ،‬وصوالً إىل زماننا الذين يقيم فيه ‪ 350‬مليون مسلم يف بالد غري إسالمية‪،‬‬
‫وفيهم فقهاء وعلماء وابحثون إس الميون وجامعات إس المية وكليات ش رعية‪ .‬فهل‬
‫هؤالء مجيعهم واقعون ابإلمث بس ب ب وجود نص؟ وه ل من العق ل مط الب ة هؤالء‬
‫ابلرحيل من البالد اليت يعيشون فيها؟ واالنتقال إىل العامل اإلسالمي املأزوم‪.‬‬

‫حو يشتهد ل أ ال إمه َّإال‬‫‪ .16‬قال رس ول هللا ﷺ‪" :‬أ ر أ أقستل لمنَّسس َّ‬
‫ص ت ت ت ت ‪ ،‬يت تول َّ‬
‫لمزكس ‪ ،‬فإْل فت وول‬ ‫لَّلل‪ ،‬أ َّ حم َّا ًدل رس ت ت ت تتو َّ‬
‫لَّلل‪ ،‬يقياول لم َّ‬ ‫َّ‬
‫ْمك صاول ين د سءتم أ ولهلم َّإال ق ل س ‪ ،‬حسسسم و َّ‬
‫لَّلل‪".‬‬

‫ووفق ظاهر هذا النص فإنه جيب قتال الناس حىت يدخلوا يف اإلس الم‪ ،‬وهذا هو‬
‫ما عرب عنه البغدادي يف خطابه بقوله‪" :‬إن هللا بعث حممداً ابلس يف وليس ابحلوار‬
‫وال ابلسلم‪ ،‬فمن أسلم فقد عصم دمه‪ ،‬وإال فالسيف هو احلكم بيننا وبينه"‪.‬‬
‫ولكن مجهور الفقهاء عرب التاريخ‪ ،‬ال يقولون هبذا ويعدُّن هذا احلديث خمصوصاً مبن‬
‫قاتلنا وحاربنا من األعداء‪ ،‬وليس يف كل مشرك‪.‬‬

‫وكلمة (الناس) عموم أريد به اخلصوص كما يف سورة آل عمران‪ :‬ﱡﭐﳅﳆﳇ‬

‫ﳈﳉﳊﳋﳌﳍﳎﱠ [آل عمران‪ ،]١٧٣ :‬فالناس يف صدر‬


‫‪ | 148‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫اآلية هو شخص واحد امسه بشر بن سفيان الكعيب‪ ،‬وكلمة (الناس) الثانية عام‬
‫أريد به اخلصوص وهو أبو سفيان بن حرب ومن معه من كفار قريش‪ ،‬ويف آية‬
‫واحدة دلت اللفظة على معنيني خمتلفني‪ ،‬ال يتصالن ابلعموم الذي ورد يف اآلية‪.‬‬
‫والناس هنا يف احلديث هم احملاربون املقاتلون الذين اختاروا مقاتلة املسلمني‪ ،‬وال‬
‫جيوز أبداً إطالق هذا النص وعده صاحلاً يف كل زمان ومكان‪ ،‬وهذا على األقل‬
‫هو موقف الفقهاء املعاصرين يف املذاهب األربعة‪.‬‬

‫‪ .1‬يقول هللا تعاىل‪ :‬ﱡﭐﲔﲕﲖﲗﲘﲙﲚﲛﲜ‬

‫ﲝﱠ [المائدة‪]٤٤ :‬‬

‫‪ .2‬ويقول‪ :‬ﱡﭐﲶ ﲷﲸﲹﲺﲻﲼﲽﲾﲿ ﱠ‬


‫[المائدة‪]٤٥ :‬‬
‫‪ .3‬ويقول‪ :‬ﱡﭐ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱠ‬
‫[المائدة‪]٤٧ :‬‬
‫وال شك أن هذه النصوص الثالثة هي مدخل السلفية اجلهادية لتكفري العامل‬
‫اإلسالمي كله بوصفه ال حيكم مبا أنزل هللا‪ ،‬واحلقيقة أن املسلمني اليوم ال حيكمون‬
‫ابلقطع واجللد والرجم وهو مما أنزله هللا يف كتابه‪ ،‬وال شك أن مجهور األمة مل يقبلوا‬
‫قط إعمال ظاهر هذه اآلية واختاروا أتويلها‪ ،‬وقبلوا إسالم الشعوب اإلسالمية‬
‫املتفرقة يف العامل ولو مل تكن برملاانهتا حتكم بظاهر القرآن الكرمي‪ ،‬وقد صرحت معظم‬
‫دساتري العامل اإلسالمي أبن الشعب هو مصدر السلطات‪ ،‬وأن الفقه اإلسالمي‬
‫مصدر من مصادرالتشريع‪.‬‬
‫ومع ذل ك ف إن الفقه اء يف الع امل اإلس المي يع دون ابأللوف يف األزهر وكلي ات‬
‫الش ريعة يف العامل اإلس المي‪ ،‬وكلهم يتأولون ظاهر اآلية ويرتكون إعمال ظاهر هذه‬
‫‪ | 149‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫اآلية وال يرون احلكم بكفر القوانني اليت تتبع أحكاماً مدنية واقتص ادية أوعقوابت‬
‫جنائية خمتلفة عما يف القرآن الكرمي‪.‬‬
‫وأمجعوا على أن النصوص متناهية واألحداث غري متناهية وأن ما يتناهى ال يضبط‬
‫ما ال يتناهى‪ ،‬وهو حكم عقلي وشرعي ال ينكره أحد‪.‬‬
‫وال ش ك أن اس تعراض األدلة وتفاص يلها ليس من ش أن هذه املقاالت الش عبية‬
‫العامة‪ ،‬وأمنا هو من شأن أهل االختصاص‪ ،‬ولكن من املؤكد أن ما نقدمه هنا هو‬
‫رأي مجهور كبري من الفقهاء وليس راي فرد منهم أو عدة أفراد‪.‬‬

‫ﱡﭐ ﱹﱺﱻﱼﱽﱾﱿ ﲀﲁﲂﲃﲄ‬ ‫‪.17‬‬


‫ﲅﱠ [البقرة‪]٦٥ :‬‬

‫ويف اآلية حتذير شديد من االعتداء على يوم السبت‪ ،‬ووجوب التزام الراحة فيه‪،‬‬
‫وهو يف الواقع مذهب املتشددين اليهود إىل اليوم فال يصطادون وال يعملون وال‬
‫يطبخون وال يغسلون‪ ،‬وهذا كله يف الواقع نسخ إبمجاع الفقهاء والعقالء‪ ،‬ولكن ما‬
‫زالت طائفة من أهل الكتاب تتمسك به متسكاً شديداً وترفض أي تعديل فيه ألنه‬
‫كالم هللا وأمره‪ ،‬وال يبطل إال بكالم جديد‪.‬‬
‫وظاهر هذه اآلية أتكيد احلكم ال إلغاؤه‪ ،‬وهي عند احلنفية واملالكية من ابب شرع‬
‫من قبلنا وعليه العمل ما مل أيت ما يلغيه يف ش رعنا‪ ،‬وها هنا فقد جاء ما يعض ده‬
‫وليس ما يلغيه‪ ،‬وهو بيان غض ب هللا على الناكثني املعتدين يف الس بت‪ ،‬ومل يرد يف‬
‫شرعنا ما يلغي هذا‪ ،‬ومع ذلك كله فقد ذهب الفقهاء مبن فيهم من استدل بشرع‬
‫من قبلنا إىل القول أبن النص صحيح وليس عليه العمل‪.‬‬
‫‪ | 150‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ﲕ‬
‫ﲖ‬ ‫ﭐﱡﭐ ﲌ‬
‫ﲋ ﲍﲎ ﲏﲐﲑ ﲒﲓﲔ‬ ‫‪.18‬‬
‫ﲗﲘﲙﲚﱠ [البقرة‪]٨١ :‬‬
‫ظاهر اآلية أن مرتكب الكبرية خالد يف النار‪ ،‬فمن كسب سيئة ومل يتب منها‬
‫وأحاطت به اخلطيئة فهو خالد يف النار بدون هناية‪ ،‬كما دلت هذه اآلية وآايت‬
‫كثرية منها آية النساء أيضاً ومن قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب‬
‫هللا عليه ولعنه‪.‬‬
‫لقد ذهبت اإلابض ية وهي مذهب إس المي كرمي إىل التزام ظاهر النص وقالوا أبن‬
‫من يرتكب الكبرية فهو خالد يف النار ال خيرج منها إىل أبد اآلبدين كلما نضجت‬
‫جلوهم بدلناهم جلوداً غريها ليذوقوا العذاب‪.‬‬
‫ولكن مجهور الفقه اء والعلم اء رفض وا ه ذا اإلطالق ولو َّ‬
‫دل ل ه ظ اهر الكت اب‬
‫ونص الفقهاء على أن مرتكب الكبرية ال خيلد يف النار اس تدالالً آبايت‬ ‫العزيز‪َّ ،‬‬
‫ك}‪ ،‬وحديث‬ ‫أخرى منها االس تثناء يف س ورة هود يف قوله تعاىل‪{ :‬إَّال َما َش اءَ َربُّ َ‬
‫لَّلل"‪ ،‬وقول النيب الكرمي‪:‬‬ ‫البخ اري وفي ه‪" :‬أ رجول لمنتَّسر قتتس ال إمتته َّإال َّ‬
‫قس ال إمه إ َّال للا د ل لفنَّ "‪.‬‬ ‫"‬

‫واس تقر األمر عند أهل الس نة واجلماعة أبن مرتكب الكبرية ال خيلد يف النار‪ ،‬وأن‬
‫هللا خيرجه منها على الرغم من ص ريح الظاهر الذي أخذت به اإلابض ية وهو أن‬
‫وظل فقهاء املذاهب األربعة يقولون‪ :‬النص صحيح‬‫العصاة خالدون يف انر جهنم‪َّ ،‬‬
‫وليس عليه العمل‪.‬‬
‫‪ | 151‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ﱡﭐ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱻ‬
‫ﱺ ﱼﱽﱾﱿﲀﲁﲂ‬ ‫‪.19‬‬
‫ﲆ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﱠ [البقرة‪:‬‬
‫ﲇ‬ ‫ﲃﲄﲅ‬
‫‪]١٥٨‬‬
‫ظاهر اآلية أن الصفا واملروة من الشعائر اليت جيوز الطواف هبا‪ ،‬كما جيوز ترك‬
‫الطواف هبا‪ ،‬وال إمث وال حرج على احلجاج أن يرتكوها‪ ،‬وهذا الظاهر هو ما فهمه‬
‫صحابة كثر‪ ،‬حىت إن فقيها كبريا من التابعني هو عروة بن الزبري سأل يف ذلك‬
‫عائشة حيث تقتضي البداهة أن ال حرج على من مل يطف ابلصفا واملروة وأنه ليس‬
‫ت َعلَى‬ ‫ُخيت ‪َّ ،‬إهنَا لَ ْو َكانَ ْ‬
‫س َما قُلْت َاي ابْ َن أ ْ‬ ‫ركناً وال واجباً‪ ،‬فأجابت عائشة‪" :‬بْئ َ‬
‫صار‬ ‫ف هب َما‪َّ ،‬إمنَا َكا َن َه َذا ا ْحلَ ُّي م ْن ْاألَنْ َ‬
‫اح َعلَْيه أََّال يَطََّّو َ‬‫َما َأت ََّولْتَ َها لَ َكا َن فَ َال ُجنَ َ‬
‫قَ ْب َل أَ ْن يُ ْسل ُموا يُهلُّو َن ل َمنَاةَ الطاغيَة اليت كانوا يعبدون عند امل َشلَّل‪ ،‬فكان َم ْن أ ََه َّل‬
‫ُ‬
‫ك‪،‬‬ ‫ل‬
‫َْ َ َ‬‫ذ‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ﷺ‬ ‫اَّلل‬
‫َّ‬ ‫رسول‬ ‫يتحَّر ُج أن يطُوف ابلصفا واملروة‪ ،‬فلما أسلموا سألوا‬ ‫ل َمنَاةَ َ‬
‫اَّلل تعاىل‪:‬‬ ‫لص َفا َوالْ َم ْرَوة‪ ،‬فأنزل َّ‬ ‫وف اب َّ‬‫اَّلل‪َّ ،‬إان ُكنَّا نَتَ َحَّر ُج أَ ْن نَطُ َ‬
‫فَ َقالوا‪ :‬اي رسول َّ‬
‫َح ٍّد‬
‫س يَْن بَغي أل َ‬ ‫اف بَْي نَ ُه َما‪ ،‬فَلَْي َ‬‫الطو َ‬
‫اَّلل ﷺ َ‬ ‫الص َفا َوالْ َم ْرَوةَ } ُمثَّ َس َّن رسول َّ‬ ‫{إن َّ‬
‫ع الطََّو َ‬
‫اف بَْي نَ ُه َما"‪.‬‬ ‫أَ ْن يَ َد َ‬
‫وهكذا فظاهر اآلية ليس فيه إجياب الس عي بني الص فا واملروة ولكن الفقهاء‬
‫متفقون أن ه واج ب‪ ،‬ال يتم احلج إال ب ه‪ ،‬أو بكف ارة عن ه‪ ،‬وه ذا كل ه خالف ظ اهر‬
‫اآلية‪ ،‬وتبني كما تقول عائشة أن النص نزل هبذه الصيغة التخيريية بسبب الظروف‬
‫احمليطة؛ إذ كان هذا النسك مرتبطا بشعائر اجلاهلية‪.‬‬
‫وهكذا فقد تقرر جلياً هنا أن العربة هنا خبص وص الس بب وليس بعموم اللفظ‪،‬‬
‫فاللفظ بعمومه ال يشري أبداً إىل وجوب السعي‪ ،‬ولكن سبب النزول هو ما أخرجه‬
‫عن ظاهره‪.‬‬
‫‪ | 152‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ﲀﲂﲃﲄ‬
‫ﲁ‬ ‫ﱡﭐ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ‬ ‫‪.20‬‬
‫ﲅﲆﲇﱠ [البقرة‪]١٧٨ :‬‬
‫ظاهر هذه اآلية َّ‬
‫أن القصاص املطلوب إمنا يكون يف متاثل اجلنس احلر ابحلر والعبد‬
‫ابلعبد واألنثى ابألنثى‪ ،‬وواض ح أنه ال قص اص ٍّ‬
‫حلر قتل عبداً‪ ،‬وال ٍّ‬
‫لرجل قتل امرأة‪،‬‬
‫وال ألنثى قتلت رجالً‪.‬‬
‫ولكن هذا الظاهر ال يس تقيم مع قيم العدالة‪ ،‬وال مع قيم اإلس الم الذي قرر أن ال‬
‫فض ل لعريب على أعجمي إال ابلتقوى‪ ،‬وأن املؤمنني واملؤمنات بعض هم أولياء‬
‫بعض‪ ،‬وأن املرأة والرجل كلهما روح إنس انية كاملة‪ ،‬وال فرق بني قتل الرجل وقتل‬
‫املرأة‪ ،‬وأن احلر والعبد بش ر يس توون أمام هللا‪ ،‬وأن بالل بن رابح العبد أقرب إىل‬
‫هللا من ذؤابة بين هاشم إذا مل يلتزموا أمر هللا وهنيه‪.‬‬
‫وهن ا أمجع الفقه اء على أن الرج ل يقت ل ابملرأة واملرأة ابلرج ل والعب د ابحلر واحلر‬
‫ابلعبد‪ ،‬ونقل القاض ي ابن العريب اإلمجاع على ذلك يف الرجل واملرأة‪ ،‬واخلالف يف‬
‫أمر احلر والعبد‪ ،‬وذلك لدرء احلد ابلشبهة‪.‬‬
‫وفضل الفقهاء مجيعهم أن أيخذوا بعموم آية املائدة الواردة يف أهل الكتاب من‬
‫شرع من قبلنا‪ :‬ﱡﭐ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡﲢﲣﲤﲥ ﲿ ﱠ‬
‫[المائدة‪ ،]٤٥ :‬على ظاهر آية البقرة هذه يف التفريق بني الذكر واألنثى يف القصاص‪.‬‬
‫ظل فقهاء كثريون يلتزمون ظاهر النص دون مض مونه‪ :‬ونقل الش نقيطي‬‫ومع ذلك َّ‬
‫يف أض واء البيان هذا الرأي يف رواية الش عيب عن مجاعة منهم علي واحلس ن وعثمان‬
‫البيت وأمحد يف رواية عنه أنه ال يقتل هبا‪.‬‬
‫‪ | 153‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وال شك أ َّن بقاء هذا التمييز يف القصاص بني الرجل واملرأة أو احلر والعبد فضيحة‬
‫ال جيوز الس كوت عليها‪ ،‬وقد س بق القرطيب إىل إنكار ذلك ونفى لقاء الش عيب‬
‫بعلي ونفى بذلك هذه الرواية‪.‬‬

‫ﱡﭐ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ‬ ‫‪.21‬‬
‫ﲸﲺﲻﲼﲽﱠ [البقرة‪]١٨٠ :‬‬
‫ﲹ‬ ‫ﲷ‬
‫يف اآلية بيان واضح وصريح أبن الوصية تكون للوالدين واألقربني؛ إذ يصح لصاحب‬
‫املال أن يوصي ألبويه أو أن خيص ولداً من أوالده ابلوصية أو من قرابته‪.‬‬
‫ولكن هذا يؤدي إىل تعطيل نظام اإلرث كليه‪ ،‬وهذا يتناقض مع أهداف الش رع‬
‫احلكيم يف توزيع عادل ألنص باء املرياث‪ ،‬ذلك خيلق حزازات وعداوات ال تنتهي‬
‫بني األوالد‪ ،‬ومن ج ان ب آخر ق د حيم ل كثري من األوالد على التغرير آبابءهم‬
‫ليكتبوا هلم الوصااي اليت حتتكر هلم مرياث إخوهتم وأخواهتم يف غياب الوارثني‪.‬‬
‫عدها الفقهاء منس وخة‬‫كل هذه احلقائق كانت وراء إلغاء حكم هذه اآلية‪ ،‬وقد َّ‬
‫حبديث النيب الكرمي‪" :‬ال وص ية لوارث"‪ ،‬وهنا ال حيل للرجل أن يوص ي لوالديه أو‬
‫قرابته الوارثني خالفاً ملا نص عليه ظاهر اآلية الكرمية‪.‬‬
‫جزم الفقه اء مجيع اً أبن اآلي ة ال جيوز العم ل بظ اهره ا‪ ،‬وأهن ا منس وخ ة وذه ب‬
‫اجلمهور إىل أن النس خ جرى ابحلديث الش ريف "ال وص ية لوارث"‪ ،‬فيما قال‬
‫الش افعي‪ :‬إن النس خ جرى ابآلية وليس ابحلديث؛ أي‪ :‬آية املواريث اليت أعطت‬
‫كل ذي حق حقه‪.‬‬

‫ﭐ ﭐﱡﭐﱱﱲﱳﱴﱵﱶﱠ [البقرة‪]١٨٤ :‬‬ ‫‪.22‬‬


‫‪ | 154‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫واضح من هذه اآلية َّ‬


‫أن الصوم اختياري فمن شاء صام ومن شاء أطعم مسكيناً‬
‫ومل يصم‪.‬‬
‫وهذا الفهم هو الظاهر املطابق لآلية وهو ما فهمه مجاعة من الص حابة والتابعني‪،‬‬
‫ومنهم عن عبد هللا بن مس عود وابن عمر وابن عباس وس لمة بن األكوع وعلقمة‬
‫والزهري وعكرمة كما نقله عنهم اجلص اص يف قوله‪َ { :‬و َعلَى َّ‬
‫الذي َن يُطي ُقونَهُ ف ْديَةُ‬
‫كني} قال‪ :‬كان من ش اء ص ام ومن ش اء أفطر وافتدى وأطعم كل يوم‬ ‫طَ َعام مس ٍّ‬
‫ْ‬
‫مسكيناً‪.‬‬
‫ولكن مجهور الفقهاء فيما بعد ذهبوا إىل أن اآلية منسوخة ال يصح العمل هبا‪ ،‬وأن‬
‫الناسخ هو قوله تعاىل‪ :‬ﱡﭐ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘﱠ [البقرة‪:‬‬
‫‪ ،]١٨٥‬فعدَّت اآلية منسوخة وال حيل العمل بظاهرها مع أننا نقرؤها ونرتلها كل‬
‫يوم‪.‬‬
‫وما يزال بعض الكاتبني بني احلني واآلخر يطالبون ابلعمل بظاهر اآلية ويش ريون‬
‫إىل ما روي عن ابن عباس وحيس بون الص وم اختيارايً أخذاً بظاهر القرآن‪ ،‬وهو‬
‫موقف يرفضه فقهاء املذاهب األربعة إمجاعاً‪.‬‬

‫ﱡﭐ ﱣ ﱤﱥ ﱦ ﱧ ﱨﱩﱪ ﱫ ﱬﱠ‬ ‫‪.23‬‬


‫[البقرة‪ ،]١٨٧ :‬واحلقيقة أن العامل اإلس المي كله ال يض بط ميقات الفجر‬
‫ابخليط األبيض واألس ود‪ ،‬بل يعتمد طلوع الفجر الص ادق‪ ،‬وبناءً عليه فقط‬
‫ألن االس ت دالل‬‫تكت ب مواقي ت الص الة‪ ،‬وتعتم ده ا ال دول كله ا‪ ،‬وذل ك َّ‬
‫ابخليطني غري منض بط‪ ،‬وليس يف القرآن بيان ش رطه وض بطه‪ ،‬وإمنا هو طريقة‬
‫ملساعدة الناس قبل أن يكون لديهم هذه األزايج واملراصد والتقنيات‪.‬‬
‫‪ | 155‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وبعد‪ ......‬فهذه األمثلة املتتابعة اليت استقر عليها عمل الفقهاء املسلمني يف بلدان‬
‫العامل اإلسالمي كلها‪ ،‬وهي حىت اآلن مخسون نصاً من أصل سبعمئة قد مجعتها‬
‫من نصوص القرآن الكرمي والبخاري ومسلم‪ ،‬وهي تؤكد لنا أن النص الديين نور‬
‫يهدي وليس قيداً أيسر‪ ،‬وأنه على عظيم مكانه ومتنزله وقدسيته هو نص عريب قد‬
‫يطرأ عليه النسخ والتبديل والتخصيص والتقييد والتأويل عن الظاهر والتشابه املوجب‬
‫لوقف العمل مبا نص عليه‪.‬‬
‫إهنا جتارب من نور نقرؤها ونرتلها ونعلم أهنا كالم هللا‪ ،‬ولكننا نتبع هدي الفقهاء‬
‫أن النيص فيها مص روف عن ظاهره‪ ،‬أو‬ ‫الراس خني يف العلم الذين رأوا بوض وح َّ‬
‫ص رف عن ظاهره يف س ياق تطور احلياة وهو ما‬‫بتعبريهم عام خمص وص‪ ،‬أو أنه ُ‬
‫يعرب عنه األص وليون بعبارة‪" :‬عام طرأ عليه اخلص وص"‪ ،‬واألمر نفس ه يف املطلق‬
‫الذي أريد به التقييد أو املطلق الذي طرأ عليه التقييد‪ ،‬وقد فص ل الس يوطي يف‬
‫((اإلتق ان))‪ ،‬والزركش ي يف ((البي ان))‪ ،‬والزرق ان يف ((من اه ل العرف ان)) ه ذه‬
‫كل األحوال فاملآل يف هذا إىل‬ ‫القاعدة النفيس ة فلريجع إليها من أراد التوس ع‪ ،‬ويف ي‬
‫األمة املعتربة أوىل ابالعتبار‬
‫ما قرره اإلمام الطويف احلنبلي بوض وح وهو أن مص احل َّ‬
‫من ظاهر النص‪.‬‬
‫لن تغري هذه احلقائق ش يئاً يف كتاب هللا وال يف س نة رس وله‪ ،‬وس يبقى مكان القرآن‬
‫يف الرتتيل والتعبد واس تخالص العرب واحلكم‪ ،‬واالهتداء ابلتجربة مس تمراً إىل قيام‬
‫الس اعة‪ ،‬ولكن املطلوب هو االنتقال من العبارة اإلنش ائية اخلطابية إىل عبارات‬
‫أهل الفقه والعلم والبص رية‪ :‬العمل ابلتأويل‪ ،‬واحلكم خبالف الظاهر‪ ،‬وظاهر النص‬
‫غري مراد‪ ،‬عام خمص وص‪ ،‬عام أريد به اخلص وص‪ ،‬ظاهره مؤول‪ ،‬مطلق طرأ عليه‬
‫‪ | 156‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ص ص حيح وليس عليه العمل‪ ،‬وال ينكر تغري األحكام بتغري األزمان‪،‬‬
‫القيد‪ ،‬والنَّ ُّ‬
‫وحيث كانت مصلحة األمة فثم شرع هللا‪ ،‬ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً‪.‬‬
‫إن األمثل ة اليت ق دمن اه ا ال ميكن لع اق ل أن ين ازع فيه ا‪ ،‬وعلين ا أن خنت ار بني عب ادة‬
‫النص واإلص رار على التمس ك بكل معىن فيه والكفر ابلزمان واملكان والظروف‬
‫واألحوال اليت جاء فيها‪.‬‬

‫وبذلك فإنه جيب عقالً أن خنتار واحداً من منهجني اثنني‪:‬‬


‫األول‪ :‬ما تطالبنا به حركات اإلسالم الثوري األصول وعلى رأسها اخلالفة املزعومة‬
‫يف املوص ل والنص رة يف الش ام وبوكو حرام يف أفريقيا والقاعدة يف أفغانس تان واليمن‬
‫وهي ت دعو إىل إعم ال ظ اهر اللفظ‪ ،‬ورفض ك يل أتوي ل خيرج النص عن ظ اهره‪،‬‬
‫واعتبار األمة اإلسالمية متآمرة على اإلسالم وملحدة آبايت هللا البينات حىت تقوم‬
‫بظاهر النص وال أتخذها فيه لومة الئم‪.‬‬
‫الثان‪ :‬اختيار منهج الفقهاء الراس خني خالل التاريخ من خمتلف املذاهب والفرق‬
‫اص ة احلنفية واملالكية الذين قرروا االس تحس ان واالس تص الح‪ ،‬ومثلهم عدد من‬
‫وخب َّ‬
‫فقهاء الش افعية واحلنابلة أيض ا الذين أتولوا الظاهر ابلنس خ والتقييد والتخص يص‬
‫وجزموا أب َّن النص نور يهدي وليس قيداً أيس ر‪ ،‬وأن علينا أن هنتدي بنور القرآن‬
‫ومقاص ده الكربى‪ ،‬وأن هذه املقاص د هي ما حيقق مص احل األمة احلقيقية املتبدلة‬
‫املتغرية بني بلد وآخر وعص ر وآخر‪ ،‬وهو ابلنتيجة فحوى كلمة اإلمام ابن القيم‪:‬‬
‫"حيثما كانت مصلحة األمة فثم شرع هللا"‪.‬‬
‫إنه ليس ابتداعاً نبتدعه وال اخرتاعاً خنرتعه‪ ،‬ولكنه يف الواقع ش رح حلقيقة معروفة‬
‫يعلمها كل فقيه يف اإلس الم‪ ،‬وهو أن ظاهر النص قد يكون مراداً وقد ال يكون‪،‬‬
‫‪ | 157‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وأن األمة يف اس تحس اهنا واجتهادها قد تص رف كثرياً من النص عن ظاهره وختتار‬


‫أتويالً له خيتلف عن ظاهر اللفظ‪.‬‬
‫خنتار هذه النص وص املقدس ة يف القرآن والس نة ونص يرح ابلقول‪ :‬إنه ال يصح العمل‬
‫مبا فيها‪ ،‬وعبارة الفقهاء فيها على ص يغ واض حة وجريئة‪ ،‬منها قوهلم‪ :‬العمل على‬
‫خالف الظاهر‪ ،‬أو النص ص حيح وليس عليه العمل‪ ،‬أو هو منس وخ‪ ،‬أو هو‬
‫مطلق جرى تقييده‪ ،‬أو هو عام جرى ختص يص ه‪ ،‬أو أن ظاهره غري مراد‪ ،‬أو العمل‬
‫على أتويل ظاهره‪.‬‬
‫وليس منهج األخذ ببعض الكتاب وأتويل بعضه منهجاً خاصاً ابلتيار التنويري يف‬
‫اإلس الم‪ ،‬بل إن أش د حركات التكرف متارس هذا أيض اً‪ ،‬حىت أش د التيارات‬
‫الس لفية اليوم ليس ت ظاهرية ابملعىن البيوريتان‪ ،‬بل إهنا متارس أيض ا التأويل وتقرر‬
‫بدورها أن العمل على خالف الظاهر يف نص وص كثرية‪ ،‬وتش مل هذه النص وص‬
‫كل آايت الصفح والغفران والرمحة واحلرية الواردة يف القرآن الكرمي‪.‬‬
‫ومما تعده هذه التيارات معطالً أو موقوفاً او منسوخاً قوله تعاىل‪:‬‬

‫ﳑﱠ [البقرة‪ ،]٢٥٦ :‬نسختها آية السيف‪.‬‬


‫ﳒ‬ ‫ﱡﭐﳎﳏﳐ‬ ‫•‬
‫ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱠ [الجاثية‪،]١٤ :‬‬ ‫•‬
‫نسختها آية السيف‪.‬‬
‫ﲙﲛ ﲜ ﲝ ﲞﲟ ﲠ ﱠ‬
‫ﲚ‬ ‫ﱡﭐﲔ ﲕﲖﲗ ﲘ‬ ‫•‬
‫[البقرة‪ ،]١٠٩ :‬نسختها آية السيف‪.‬‬
‫ﱡﭐ ﳉﳊ ﳋﳌﳍﳎﳏﳐﱠ [األنفال‪ ،]٦١ :‬نسختها‬ ‫•‬
‫آية السيف‪.‬‬
‫‪ | 158‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وهناك قريب من س بعني آية يف كتاب هللا أتمر ابلص فح واحلوار واملوادعة واملوادة‬
‫يعتربها فقه اخلوارج منسوخة ال يصح العمل هبا وعلى ذلك مذهب الدواعش‪.‬‬
‫هناك إذن طائفتان من النص وص‪ :‬طائفة من النص وص يرى أهل الس لفية اجلهادية‬
‫أنه ال يصح العمل بظاهرها وجيب فيها التأويل‪ ،‬وطائفة أخرى يرى مجهور الفقهاء‬
‫أنه ال يصح العمل بظاهرها أيضاً وجيب أتويلها أو القول بنسخها‪.‬‬
‫وما بني الطائفتني واجلدل املس تمر ميكننا أن نفهم ملاذا جيب حترير هذه احلقيقة‬
‫وهي أن القرآن نور يهدي وليس قيداً أيس ر‪ ...‬ومثله كذلك الس نة النبوية الش ريفة‬
‫الصحيحة‪.‬‬
‫إن احرتام القرآن الكرمي والس نة النبوية عظيم عند كل مؤمن‪ ،‬ولكن الفقهاء الكرام‬
‫سبقوا يف تقرير أسباب النزول وأسباب الورود‪ ،‬وما طرأ على التص من انسخ وقيد‬
‫وش رط وحتص يص وأتويل‪ ،‬وهو ما خيرج النص عن ظاهره‪ ،‬ومل جيدوا حرجاً أن‬
‫يص رحوا بوض وح إن هذا النص ال يص لح العمل بظاهره بل يتعني وقف العمل مبا‬
‫فيه‪.‬‬
‫إن عبارة ص احل لكل زمان ومكان هي عبارة خطابية إنش ائية مل نس معها من أهل‬
‫العلم من الص حابة أو التابعني أو أئمة الفقه املعتربين‪ ،‬بل كانوا يتحدثون يف كل‬
‫وعامه‪ ،‬ومطلقه ومقيده‪ ،‬وتنقيح املناط وختريج‬‫وخاص ه ي‬
‫ي‬ ‫مناس بة عن ظاهره ومؤوله‪،‬‬
‫املن اط وحنقيق املن اط‪ ،‬وذل ك كل ه خيتلف اختالف اً ج ذرايً عن العب ارة اخلط ابي ة‬
‫لكل زمان ومكان!‬
‫اإلنشائية اليت نرددها بدون وعي مبآالهتا‪ :‬صاحل ي‬
‫‪ | 159‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫واألقرب إىل روح اإلسالم ومقاصده من العبارات النبوية والقرآنية‪ :‬ﱡﭐﲄﲅ‬

‫ﲆﲇ ﲈﱠ [الشورى‪ ، ]٧ :‬ﱡﭐ ﲋﲌﲍ ﲎﱠ [المائدة‪:‬‬

‫‪ ،]٤٨‬ﱡﭐ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜﱠ [البقرة‪ ،]١٤٨ :‬ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ‬


‫ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏﱐ‬
‫ﱑﱒﱠ [البقرة‪ ، ]٦٢ :‬ﱡﭐ ﲥﲦ ﲧﲨﱠ [الزخرف‪ ، ]٤٤ :‬ﱡﭐ‬
‫ﱭﱮﱯﱰﱱﱠ [يس‪ ،]٦ :‬إهنا لك وليست ألحد من بعدك‪.‬‬
‫ص حمكوم بسبب نزوله وسبب وروده قرآانً وسنة‪،‬‬ ‫واألمثلة كثرية جداً على َّ‬
‫أن النَّ َّ‬
‫وأن اإلفراط يف إطالق النص يف الزمان واملكان ال يع ُّد وفاءً للنص بل يع ُّد إساءة‬
‫له‪ ،‬وحتميله ما ال حيمل‪.‬‬
‫إن النص املق َّدس من القرآن والس نة الذي تناول من جغرافيا العامل منطقة اجلزيرة‬
‫العريبة والشام ومصر فقط‪ ،‬ومل يذكر كلمة واحدة عن أورواب والصني واهلند وأمريكا‬
‫وأس رتاليا ال ميكن القول أبنَّه ٍّ‬
‫كاف لتش ريع ما يرس م العالقات الدولية بني الش عوب‬
‫والدول واألمم‪.‬‬
‫وتناول يف الطعام والش راب هذه البيئة بعينها من النخيل والعنب واحلب والزيتون‬
‫والتني ومل يذكر ش يئا عن األرز والش اي والبندورة والبطاطا وآالف األنواع من‬
‫املطاعم واملش ارب اليت أيكلها مليارات البش ر ال ميكن القول إنه حيتوي على‬
‫نصوص فقهية تكفي لتقرر احلالل واحلرام يف ثقافات العامل‪.‬‬
‫وتناول يف األش خاص رجال املنطقة حتديداً نوح يف تركيا وجبل اجلودي‪ ،‬وإبراهيم‬
‫يف العراق‪ ،‬وموس ى يف مص ر‪ ،‬وس ائر األنبياء يف الش ام وجزيرة العرب‪ ،‬ومل يذكر‬
‫كلمة واحدة عن س قراط وأرس طو وأفالطون وبوذا وكونفوش يوس ومان ومزدك‬
‫‪ | 160‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وزرادش ت وأفلوطني وجس تنيان‪ ،‬وهي أعالم ثبت اليوم أهنا كانت متأل الدنيا‬
‫والن اس‪ ،‬ال يكفي للحكم على ه ذه الثق اف ات والفلس ف ات مجيعه ا‪ ،‬وحي دد م ا‬
‫أص اب ت في ه وم ا أخط أت‪ ،‬ليقول ق ائ ل‪ :‬ه ذا حكم هللا يف احلكم ة اليوانين ة أو‬
‫الرومانية أو اهلندية أو الصينية‪.‬‬
‫ويف القرآن الكرمي بيان لبعض أحكام األحوال الش خص ية‪ ،‬وعقوابت بعض اجلرائم‬
‫الس ائدة يف عص ره‪ ،‬وليس فيه ش يء لبيان عقوابت التزوير والتهرب الض رييب‬
‫واملخ درات وآالف اجلرائم املس تح دث ة‪ ،‬وليس في ه بي ان ق انون للمرور وق انون‬
‫للمالحة وقانون لالس ترياد والتص دير وقانون حلماية البيئة وقانون للنظام الص حي‬
‫وقانون للنش اط الفض ائي وقانون للعالقات الدولية‪ ،‬وهذا كله نش اط بش ري ينبغي‬
‫أن نش ارك فيه كمس لمني أمة بني األمم‪ ،‬وليس من حقنا أن حنتكر خمرجاته أبهنا‬
‫حمسومة يف الكتاب احلكيم‪.‬‬
‫إن هذه احلقائق ابلطبع ال تغض من قدر القرآن الكرمي ومكانه‪ ،‬ولكنها تس عى‬
‫إلص الح وعين ا ابلقرآن الكرمي‪ ،‬والتوقف عن افرتاض العج ائ ب واملعجزات‬
‫واألس اطري‪ ،‬والتحول إىل الوعي الص حيح ابلقرآن الكرمي كنص تربوي وأخالقي‬
‫مينحنا سكينة القلب وطمأنينة الروح بتالوته وتدبره‪.‬‬
‫‪ | 161‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وبعد‪ ...‬فهذه األمثلة املتتابعة اليت اس تقر عليها عمل الفقهاء املس لمني يف بلدان‬
‫العامل اإلس المي أمجع‪ ،‬ختتار أن يكون النص الديين نوراً يهدي وليس قيداً أيس ر‪،‬‬
‫إهن ا جت ارب من نور نقرؤه ا ونرتله ا ونعلم أهن ا كالم هللا‪ ،‬ولكنن ا نتبع ه دي الفقه اء‬
‫الراس خني يف العلم الذين رأوا بوض وح أن النص فيها مص روف عن ظاهره‪ ،‬وأن‬
‫مصاحل األمة أوىل ابالعتبار من ظاهر النص‪.‬‬
‫لن تغري هذه احلقائق ش يئاً يف كتاب هللا وال يف س نة رس وله‪ ،‬وس يبقى مكان القرآن‬
‫يف الرتتيل والتعبد واس تخالص العرب واحلكم‪ ،‬واالهتداء ابلتجربة مس تمراً إىل قيام‬
‫الس اعة‪ ،‬ولكن املطلوب هو االنتقال من العبارة اإلنش ائية اخلطابية إىل عبارات‬
‫أهل الفقه والعلم والبص رية‪ :‬العمل ابلتأويل‪ ،‬واحلكم خبالف الظاهر‪ ،‬وظاهر النص‬
‫غري مراد‪ ،‬والنص ص حيح وليس علي ه العم ل‪ ،‬وال ينكر تغري األحك ام بتغري‬
‫األزمان‪ ،‬وحيث كانت مص لحة األمة فثم ش رع هللا‪ ،‬ولكل جعلنا منكم ش رعة‬
‫ومنهاجاً‪.‬‬
‫إن األمثل ة اليت ق دمن اه ا ال ميكن لع اق ل أن ين ازع فيه ا‪ ،‬وعلين ا أن خنت ار بني عب ادة‬
‫النص واإلص رار على التمس ك بكل معىن فيه والكفر ابلزمان واملكان والظروف‬
‫واألحوال اليت ج اء فيه ا‪ ،‬وابلت ال ف إن ه جي ب عقالً أن نتقب ل دعوات البغ دادي إىل‬
‫إعمال ظاهر اللفظ‪ ،‬واعتبار األمة اإلس المية متآمرة على اإلس الم وملحدة آبايت‬
‫هللا البين ات‪ ،‬أو اإلقرار أبن النص نور يه دي وليس قي داً أيس ر‪ ،‬وأن علين ا أن‬
‫هنتدي بنور القرآن‪ ،‬ولكن مص احل األمة احلقيقية وهي متبدلة متغرية بني بلد وآخر‬
‫وعصر وآخر‪ ،‬تبقى يف أعلى درج االهتمام يف سلوك املسلم‪.‬‬
‫‪ | 162‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لم بي لمقرآين‬ ‫لحلقيق لجملسز‬


‫إهنم يعبدون النص وال يستنريون به‬

‫يف ظاهرة إنكار اجملاز‪...‬‬


‫أطلق أبو عبيدة معمر بن املثىن املتوىف عام ‪ 209‬كتابه الش هري ((جماز القرآن))‪،‬‬
‫وأس س بذلك مدرس ة لغوية دقيقة يف فهم النص القرآن والوقوف على ما فيه من‬
‫وجوه البالغة واإلجياز واجملاز واإلطناب‪.‬‬
‫ولكن أمهي ة الكت اب ال تتوقف أب داً عن د اجل ان ب البالغي‪ ،‬إهن ا من وجه ة نظري‬
‫تتص ل ابجلانب األص ول والتش ريعي للكتاب العزيز‪ ،‬وكانت جرأةً ابلغة من أيب‬
‫عبيدة أن يقتحم هذا الباب ليعلن منذ القرن الثان أن القرآن الكرمي نص أديب وأنه‬
‫ليس فقط يس ري على نس ق النص وص األدبية بل هو يلهم األدب العريب والبالغة‬
‫العربية كثرياً من فنوهنا‪ ،‬وأنه إذن ليس نص اً يعمل بظاهره وإمنا يعمل مبقاص ده‬
‫ومراميه‪.‬‬
‫ويف هذا الكتاب اجلليل ميكنك أن ترص د أكثر من مئة موض ع قال فيها أبو عبيد‪:‬‬
‫والنص غري مراد‪ ،‬أو ال يص ح اتب اع ه‪ ،‬أو ال يلزم من ه الوجوب مع أن ص يغت ه‬
‫الوجوب‪ ،‬وال يلزم منه التحرمي مع أن صيغته التحرمي!‬
‫مر هذا الكتاب على األمة اإلس المية مسناً وعس الً وتقبلته األمة املس لمة يف‬
‫لقد َّ‬
‫ذلك العص ر احلض اري؛ إذ كانت الدولة العباس ية يف فرتة انطالقها وكانت الدولة‬
‫القائمة كما هو حال الدولة اإلس المية يف كل العص ور دولة مدنية طبيعية‪ ،‬تنتج‬
‫تش ريعاهتا وفق مص احل الناس‪ ،‬وال ابس أن نعرتف أبن مص احل الناس كانت يف‬
‫‪ | 163‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫الواقع هدفاً اتلياً بعد مص احل احلاكم‪ ،‬ولكن التش ريع يف النهاية كان س ياق تطور‬
‫جمتمعي يتحدد حباجات اجملتمع أكثر مما حتكمه نص وص س رمدية ال أيتيها اجملاز‬
‫من بني يديها وال من خلفها‪.‬‬
‫وفكرة اجملاز يف القرآن تعرض ت لنقد ش ديد من قبل الفقهاء املعاص رين له‬
‫اص ة عندما أدركوا املقص ود احلقيقي منها وهو إيقاظ‬
‫والالحقني بعد أيب عبيدة‪ ،‬وخب َّ‬
‫العقل ووقف االس تغناء ابلنقل‪ ،‬وكان األص معي يغض ب كلما ذكر له كتاب أيب‬
‫عبيدة‪ ،‬أما الفراء فقد اش تد يف نقده حىت طالب أن يض رب أبو عبيدة ملس لكه ىف‬
‫تفس ري القرآن‪ ،‬ورأى أبو حامت أنه ال حتل كتابة «اجملاز» وال قراءته إال ملن يص حح‬
‫األزهري منه‪.‬‬
‫ي‬ ‫ويغريه وكذلك كان موقف الزجاج‪ ،‬والنحاس‪ ،‬و‬
‫خطأه ويبينه ي‬
‫وفيما بعد ظهر معارض ون كثر لفكرة اجملاز يف القرآن‪ ،‬وعدوا أن القول ابجملاز هو‬
‫اعرتاف ابلكذب والقرآن مربأ منه‪ ،‬ومن الذين أنكروا اجملاز أبو إس حق اإلس فرايين‬
‫وابن تيمية ويف عص ران ابن ابز وابن عثيمني وقد كتب الش يخ السلفي حممد األمني‬
‫الشنقيطي كتااب خاصاً بعنوان منع جواز اجملاز‪.‬‬
‫وق د رأى هؤالء وغريهم أن القول ابجمل از يف القرآن الكرمي مرفوض ألن ه يس تلزم‬
‫ابلضرورة منع التشريع ابلقرآن؛ ألن نصوصه جمازية وغري واقعية و ُّ‬
‫عدوا ذلك هرطقة‬
‫وردة‪.‬‬
‫ولكن م ا اخت اره أبو عبي د حظي ابحرتام ع دد كبري ج داً من الفقه اء يف الت اريخ‬
‫فقد اعتمد عليه ابن قتيبة (ت ‪ )276‬ىف كتابيه ((مش كل القرآن)) و ((غريب‬
‫القرآن)) ونقل عنه البخاري (ت ‪ )255‬ىف الص حيح‪ ،‬واعتمد عليه الطربي (ت‬
‫‪ | 164‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫‪ )310‬ىف تفس ريه ‪ ،‬والزجاج (ت ‪ )311‬ىف معانيه‪ ،‬وابن النحاس (ت ‪)333‬‬


‫ىف معان القرآن‪ ،‬وكثري من الفقهاء عرب التاريخ‪.‬‬
‫ومن األمثلة القريبة على اجملاز يف القرآن عرش هللا‪ ،‬وكرس ي هللا‪ ،‬وي د هللا‪ ،‬وعني‬
‫هللا‪ ،‬وإذن هللا‪ ،‬وس اق هللا‪ ،‬ويف الس نة‪ :‬ض حك هللا‪ ،‬ومش ي هللا‪ ،‬ورجل هللا‪ ،‬وهرولة‬
‫هللا‪ ،‬وشرب هللا‪ ،‬وابع هللا‪ ...‬وهي كلُّها مصطلحات متناقضة مع العقيدة يف الظاهر‬
‫ومجاهري الفقهاء يرون صرفها عن ظاهرها واجباً شرعياً وإال وقعنا يف الشرك‪.‬‬
‫ومن املفارقة أن القرآنيني املنكرين للس نة يرفض ون االعرتاف ابجملاز‪ ،‬وقد كتب‬
‫الدكتور الش حرور يف كتابه ((الكتاب والقرآن)) أن اجملاز والرتادف حيس نان يف‬
‫الش عر وال حيس نان يف القرآن‪ ،‬وأن القرآن ٍّ‬
‫خال متاماً من اجملاز ومن الرتادف‪ ،‬ويف‬
‫احلقيقة فإن هذا الرد ينس جم مع فكرة ص مدية القرآن‪ ،‬فالنص الذي س يحكم يف‬
‫كل زمان ومكان ال جيوز أن يكون فيه جماز وال ترادف‪.‬‬
‫وابلطبع فإن النتائج اليت وص ل إليها القرآنيون من إنكارهم للمجاز ال تش به يف‬
‫ش يء تلك اليت وص ل إليها الس لفيون من إنكار اجملاز‪ ،‬وإن كان الس بيل الذي‬
‫سلكوه واحداً‪.‬‬
‫قناعيت أن موقف أيب عبيد الش جاع من اجملاز ليس إال تقريراً حلقيقة حتتاجها األمة‬
‫وهي احرتام القرآن وإجالل ه‪ ،‬والنظر يف مق اص ده وجت اوز م ا دل ت علي ه ظ اهر‬
‫العبارة‪ ،‬وهذا املوقف هو أيض اً ما قرره علماء التفس ري على خمتلف مذاهبهم من‬
‫تقرير وقوع الناس خ واملنس وخ يف القرآن وكذلك الظاهر واملؤول والعام واخلاص‬
‫واملطلق واملقي د‪ ،‬وهي أبواب كثرية فتحه ا الفقه اء وهي خت دم حقيق ة واح دة وهي‬
‫أن النص القرآن نص أديب مجي ل‪ ،‬ولكن ال يص ح أن ننتظر من ه بي ان احلق ائق‬
‫‪ | 165‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫الفزايئية واجلغرافية واالجتماعية‪ ،‬وهو نور يس تض اء به ونص يس تأنس إبش اراته‬


‫ولكن ال ينبغي انتظ ار بي ان األحك ام التش ريعي ة من خالل ظ اهر لفظ ه ب ل من‬
‫خالل مقاصد عباراته ومعانيه‪.‬‬
‫اإلقرار ابجمل از يف القرآن هو ال ذي يوفر هل ذا الكت اب العزيز حق ه من االحرتام‬
‫واإلجالل يف عص ر العلم‪ ،‬أما تنزيله منزلة النص التش ريعي على النس ق الذي حترر‬
‫به القوانني فسيقودك إىل نتائج متناقضة وهو ابلضبط ما نراه يف اختالف املذاهب‬
‫والتفاس ري‪ ،‬وهذا االختالف حيول دون اس تنباط أحكام هنائية بلغة قانونية حامسة‬
‫ب ل يلزم ك االختي ار من ه ذه امل ذاه ب‪ ،‬وابلت ال ف إن احتي اران من امل ذاه ب يف‬
‫التش ريع يعين اننا منارس االجتهاد الذي أمر به القرآن الكرمي نفس ه‪ ،‬ونتحرر من‬
‫قيد ظاهر النص‪.‬‬
‫أما أولئك الذين يص رون على ظاهر اللفظ‪ ،‬ويرفض ون أن يطرأ عليه أي نس خ أو‬
‫ختص يص أو تقي يد أو تش ابه أو جماز فإهنم يف الواقع خيالفون منطق األش ياء‬
‫وخي الفون أول م ا خي الفون مج اهري األص وليني ال ذين قرروا وجود ه ذه احلق ائق يف‬
‫القرآن ومل يروا أبداً أهنا تنقص من قدس يته ونوره‪ ،‬وقد أدى متس كهم بظاهر اللفظ‬
‫إىل نتائج مض حكة‪ ،‬فمثالً عند قوله وهللا جعل لكم األرض بس اطاً فإن إئمة كبار‬
‫كاخلازن وابن عطية والقرطيب يذهبون إىل أن األرض مس طحة وإن القول بكروية‬
‫األرض هو جحود للنص القرآن واحتكام حماد ملا أنزل هللا‪ ،‬ومن العجيب أن هذه‬
‫اص ة بعد أن أص بح أتس يس قناة‬
‫الفتاوى تعود اليوم لالنتش ار بش كل واس ع وخب َّ‬
‫فض ائية على اليُتيوب أمراً متاحاً لكل فرد‪ ،‬ومل يعد عليه رقيب وال حس يب‪ ،‬وقد‬
‫اتبعن ا على كثري من الفض ائي ات فت اوى متت الي ة حترم القول بكروي ة األرض وحترم‬
‫القول بدوران األرض حول الش مس‪ ،‬وهي فتوى الش يخ بن ابز والش يخ ص احل‬
‫‪ | 166‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫الفوزان والش يخ ابن جربين وهم من هيئة كبار العلماء يف اململكة وهي مناص ب‬
‫تع ُّد أعلى ما يف العامل اإلسالمي من املناصب الدينية‪.‬‬
‫وحىت نكون منص فني فأان ال أهتم أحداً ابلعلم أو اجلهل‪ ،‬وإبمكان أن أقول عن‬
‫بص رية أبن القرآن الكرمي ميكن أن ي دل على ثب ات األرض وميكن أن ي دل على‬
‫دوراهنا‪ ،‬وكذلك فهو يدل على كروية األرض ويدل على تس طحها‪ ،‬ويدل على‬
‫حقيقة النجوم ويدل على رمزيتها وأهنا حمض مص ابيح ويدل على أن الش هب هي‬
‫الثقب األسود ويدل على أهنا رجوم الشياطني‪...‬‬
‫وال ميكن اخلروج من هذا التناقض إال ابالعرتاف ابجملاز واملنسوخ واملتشابه واملقيد‬
‫واملخصص يف القرآن‪ ،‬أما اإلصرار على اللغة اإلطالقية الصماء فإنه من وجهة‬
‫نظري ال خيدم القرآن وال خيدم املسلمني‪.‬‬

‫ذات يوم سئل الشيخ ابن ابز ما هي داللة قوله تعاىل‪ :‬ﱡﭐﱈﱉﱊﱋﱌﱍ‬
‫ﱠ [طه‪ ،]٥٢ :‬فقال‪ :‬نثبت هلل تعاىل صفة عدم النسيان‪ ،‬فسأله‪ :‬وما هي داللة‬
‫قوله‪ :‬ﱡﭐ ﲢ ﲣ ﲤﱠ [التوبة‪ ، ]٦٧ :‬فأجاب‪ :‬نثبت هلل تعاىل صفة‬
‫النسيان‪!.‬‬
‫إهنم يعبدون النص وال يتبعونه‪ ،‬ويغالون يف دينهم ويقولون على هللا وكتابه غري احلق‪،‬‬
‫فينكرون اجملاز فيه وينكرون النسخ فيه حىت يغدو نصاً جاهزاً للحاكمية على احلياة‬
‫ويرسلون العقل يف إجازة فال حاجة للعقول طاملا أن قوانيننا وأحكامنا مسطورة‬
‫مفصلة يف السماء تقد على كل زمان ومكان‪ ،‬وال معىن بعد ذلك هلذه األدمغة‬
‫البالية يف الرؤوس‪ ،‬فقد كفى هللا املؤمنني القتال وكان هللا قوايً عزيزاً‪.‬‬
‫‪ | 167‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لحملور لمثس ‪ :‬لم وير فياس سنت فيه لمنص‬


‫لمفرضي ‪:‬‬

‫أي موقف ش رعي‪،‬‬ ‫تذهب هذه الدراس ة إىل َّ‬


‫أن كثرياً من مس ائل احلياة مل يرد فيها ُّ‬
‫وهذه نقطة قوة يف الشريعة وليست نقطة ضعف‪.‬‬
‫وحتاول الدراس ة مواجهة ثقافة التغول اليت مارس ها رجال الدين على الش ؤون‬
‫احلياتية؛ إذ أنتجوا لكل مسألة حكماً شرعياً‪ ،‬مع أن من أصول الرسالة أن هللا أمر‬
‫أبشياء وهنى عن أشياء وسكت عن أشياء‪.‬‬
‫إن دائرة املسكوت عنه يف الشريعة كبرية جداً‪ ،‬وهي تتسع مع األايم‪ ،‬وهذا خالف‬
‫ما مارس ه رجال الدين الذين اجتهوا لتقييد هذه الدائرة‪ ،‬وتوس عوا يف دائرة املنطوق‬
‫واملفهوم واستنطقوا النص فيما مل ينطق فيه ليشمل مجيع ما كان وما يكون‪.‬‬
‫‪ | 168‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ل س‬ ‫نه‬ ‫لملسنو‬
‫كيف حنكم على ‪ %95‬من املسائل املعاصرة اليت ليس فيها كتاب وال سنة؟‬
‫تبقى أكرب مشكلة يف الوعي اإلسالمي املعاصر هي عالقة املسلم هبذا العامل‪،‬‬
‫وتتأسس هذه العالقة مدرسياً على فكرة حمددة وهي أن هذا العامل تنكب عن‬
‫اإلسالم بعد إذ تبني له احلق فأضله هللا على علم ومأواه جهنم وبئس املصري‪.‬‬
‫وقد مت تبين هذه الفكرة على أساس قياس الشعوب احلاضرة على الشعوب اليت‬
‫عاصرت الرسول ومل تدخل يف اإلسالم‪ ،‬وفق احلديث املروي‪" :‬ال يسمع يب أحد‬
‫من هذه األمة يهودي أو نصران مث مل يؤمن يب إال كان من أصحاب النار"‪.‬‬
‫وتبدو هذه الفكرة من مسلمات التعليم الديين يف مدارسنا ورمبا كذلك التعليم العام‬
‫يف البلدان اإلسالمية‪ ،‬وتشمل بديهياً شعوب األرض يف القارات اخلمس ابستثناء‬
‫من ختلى عن دينه واعتنق اإلسالم‪.‬‬
‫ولن تتم معاجلة هذه الفكرة مهما ألقينا عليها من مساحيق التجميل‪ ،‬فاالعتقاد‬
‫أهنم أهل اجلحيم يعين حكماً الشعور بغبائهم ودونيتهم ومحاقتهم ووجوب بغضهم‬
‫يف هللا! وستتطور األمور إىل ما تريده السلفية اجلهادية من وجوب محلهم ابجلهاد‬
‫إىل اخلضوع حلكم هللا وأمره‪ ،‬على حد تعبري سيد قطب‪" :‬إن الناس لن تتخلى عن‬
‫أهوائها من أجل مثل أخالقية"!‬
‫وحني نقول إنه جيب معاملتهم معاملة حسنة وحني نورد روائع األدب اإلسالمي يف‬
‫التعامل مع الناس فإن العقل الفضول سينصرف مباشرة إىل تساؤل بريء إذا كان‬
‫‪ | 169‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫هللا يكرههم وسيشويهم يف اجلحيم فلماذا أكون أرحم من هللا‪ ،‬أأنتم أرحم أم هللا؟‬
‫أال يعلم من خلق وهو اللطيف اخلبري‪.‬‬
‫وأم ا القول أبن علين ا االس تف ادة منهم يف املنجزات احلض اري ة واحتق ارهم يف‬
‫عقائدهم الش ركية فال يغري من األمر ش يئاً وس تبقى رايح الكراهية حتت الرماد‪،‬‬
‫طاملا أن املس تكن يف القلوب هو بغض هم يف هللا وكراهيتهم واحتقار أدايهنم‪ ،‬إضافة‬
‫إىل ما حيمله هذا املوقف اللئيم من انتهازية ونفعية ال تليق أبخالق املسلم وطهره‪.‬‬
‫حناول هنا أن نقدم جواابً آخر مس تندين إىل نص وص الكتاب والس نة اليت كانت‬
‫من وجهة نظري أشد وعياً من فقهائنا املعاصرين بتحول الزمان واملكان‪.‬‬
‫أخربت السنة الصحيحة مبا يقطع الشك أن هللا أمر أبشياء فال ترتكوها‪ ،‬وهنى عن‬
‫أشياء فال تقربوها‪ ،‬وسكت عن أشياء رمحة بكم غري نسيان فال تسألوا عنها‪.‬‬
‫فاملس كوت عنه أمر حقيقي اثبت ابلنص وهو يتناول أش ياء كانت موجودة يف‬
‫وظل الناس خمتلفني فيها‬
‫عص ر النبوة ولكنها مل حتظ حبكم ش رعي يلزم املس لمني َّ‬
‫دون بيان من صاحب البيان‪.‬‬
‫بعضهم يظن أن سكوت الشريعة عن أمر ما ضعف ونقص‪ ،‬ال أشارك هذه النظرة‬
‫أبداً بل هو كمال وحكمة وحيوية‪.‬‬
‫ولكن أص دقاءان اليوم يف الش ريعة ال يعتقدون ما اعتقده رس ول هللا‪ ،‬ويرون أبن‬
‫الش ريعة فصلت القول يف كل ش يء من أمر الدنيا والدين‪ ،‬وأنه ما نسقط من ورقة‬
‫وال حبة يف ظلمات األرض وال رطب وال ايبس إال جيب على الفقهاء أن حيكموا‬
‫فيها حالالً وحراماً ووجوابً وامتناعاً‪.‬‬
‫‪ | 170‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫أي مدى كان هذا الكالم واقعياً؟‬


‫فإىل ي‬
‫منذ فجر اإلس الم واجه املس لمون مش كلة املس كوت عنه‪ ،‬وكان اخللفاء يقولون‬
‫نناشد هللا رجال مسع من رسول هللا شيئا يف هذا األمر أن أيتينا به‪ ،‬وكانت األجوبة‬
‫أتيت حيناً وال أتيت أحياانً كثرية‪ ،‬فيجتهد الناس يف ما يصلح لدينهم ودنياهم‪.‬‬
‫َّأول مش كلة واجهتهم كانت اكتش افهم ش عباً جديداً مل يرد ذكره يف القرآن وال يف‬
‫الس نة‪ ،‬وهو اجملوس‪ ،‬وبعد جدل طويل بني الص حابة اختاروا موقفاً حكيماً وهو‬
‫القياس؛ إذ سنوا هبم سنة أهل الكتاب‪.‬‬
‫ولكن اجملوس ليس وا هناية العامل ومل يكونوا إال ش عباً جاراً وقريباً من اجلزيرة العربية‬
‫وس تنش أ ابس تمرار مش اكل من هذا النوع حول موقف املس لم من العامل وال ميكن‬
‫على االطالق قي اس الع امل كل ه والت اريخ كل ه على مع ايري اجلزيرة العربي ة يف القرن‬
‫السابع امليالدي‪.‬‬
‫واملس كوت عنه ليس مس ألة أو مس ألتني كما يتص ور بعض أص دقائنا حبيث نفيت‬
‫فيهما برأي وتستمر احلياة‪ ،‬فما هو حجم املسكوت عنه حقيقة يف هذا العامل؟‬
‫جغرافي اً املس كوت عن ه هو ‪ 95‬ابملئ ة من ه ذا الع امل على أق ل تق دير‪ ،‬ف القرآن‬
‫والس نة حتداث عن احلجاز واليمن والش ام ومص ر والعراق‪ ،‬ويف القرآن الكرمي مل يرد‬
‫من أمساء املدن أوالبالد إال س تة وهي مكة واملدينة ومص ر واألرض املقدس ة‬
‫واألحقاف واببل وال ش يء أكثر من ذلك‪ ،‬على أن املذكور يف الكتاب والس نة ال‬
‫يتجاوز جزيرة العرب ومص ر واحلبش ة‪ ،‬فيما ال يوجد يف القرآن والس نة حرف واحد‬
‫عن اهلند والص ني والياابن وأس رتاليا وأمريكا وأوراب وإفريقيا‪ ،‬وميكن القول حني‬
‫‪ | 171‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫نراقب خريطة العامل دون أدىن ش ك أن املذكور يف الكتاب والس نة من اجلغرافيا هو‬
‫‪ 5‬ابملئة ال غري‪.‬‬
‫اترخيياً‪ :‬مل يذكر يف القرآن الكرمي وال يف السنة النبوية شيء عن أخبار األمم األوىل‬
‫إال ما كان منها بني أرارات واليمن والنيل والفرات وهذه ابلضبط هي منازل األنبياء‬
‫املذكورين يف القرآن‪ ،‬وهذه هي ابلضبط احلضارات اليت ذكرت يف القرآن الكرمي‪،‬‬
‫ولكن مل يذكر يف الكتاب وال يف السنة أي كلمة عن حضارات امليديني واحلثيني‬
‫والعموريني والعيالميني والسومريني وهي حضارات حملية انهيك عن احلضارات‬
‫األخرى كحضارة الصني واهلند واإلغريق واملااي واألزيتا والفايكنغ‪ ،‬بل إن القرآن‬
‫نفسه ينص على هذه احلقيقة نصاً فيقول‪ :‬ﱡﭐﱞﱟﱠﱡ ﱢ‬
‫ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧﱠ [النساء‪ ،]١٦٤ :‬فاملسكوت عنه كثري وما‬
‫أخربت به غيض من فيض‪.‬‬
‫وميكن القول دون أدىن مبالغة إن القرآن والس نة مل يش ريا اترخيياً إال لنحو مخس ة يف‬
‫املئة من حض ارات التاريخ‪ ،‬وأن املس كوت عنه يتجاوز ‪ 95‬يف املئة على أقل‬
‫تقدير‪.‬‬
‫مدنياً‪ :‬فإن املذكور يف الكتاب والس نة ال يعدو أيض اً مخس ة يف املئة مما نس تخدمه‬
‫اليوم‪ ،‬ففي جم ال الطع ام مل ي ذكر القرآن الكرمي ش يئ اً عن القمح والقطن واألرز‬
‫والس كر والبطاطا والبن دورة واخليار والبازالء والفاص ولي اء‪ ،‬ويف البنيان ال ذكر‬
‫لألبراج وال للفيالت وال للفنادق‪ ،‬ويف النقل ال ذكر للطائرات وال للس يارات وال‬
‫للص واريخ وال للقطارات‪ ،‬ويف احليوان ذكر أربعة عش ر ص نفاً يف حني أن املص نف‬
‫اآلن من أمساء احليوان يزيد على ثالمثئة ألف وليس يف القرآن والس نة ذكر للض بع‬
‫والفهد والكنغر والتمس اح والبطريق والزرافة‪ ...‬واألمر ال خيفى على أي مالحظ‪،‬‬
‫‪ | 172‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وال شك أبداً أن هذا ليس نقصاُ يف القرآن على اإلطالق بل هو من كمال القرآن‬
‫الكرمي وضيائه يف كل زمان ومكان‪ ،‬ألنه نور يهدي وليس قفصاً أيسر‪.‬‬

‫فكيف أمكن أن جييب الفقه اإلسالمي على األسئلة كلها؟‬


‫مل جيد الفقهاء حرجا أن يصرحوا هبذه احلقيقة الواضحة‪ ،‬واستخدموا عبارة حكيمة‬
‫تع د من روائع الفقه العاملي‪ ،‬وهي" إ َّن النص وص متن اهي ة واحلوادث غري متن اهي ة‬
‫وإن ما يتناهى ال يضبط ما ال يتناهى"‪.‬‬
‫مثل هذه التص رحيات الفقهية املتينة واحلكيمة يتم وص فها اليوم يف العقل الفقهي‬
‫االنفعال املتعال أبهنا شك ابلقران وكفر ابلسنة‪ ،‬وأن هذا الكتاب ال يغادر صغرية‬
‫وال كبرية إال أحص اها وأنه كتاب هللا وحكمه وأمره لألولني والغابرين واحلاض رين‬
‫واآلتني واآلخرين‪....‬‬
‫وبعي داً عن العق ل االنفعال اإلطالقي ال ذي حياكم األش ياء بعواطف ه وحيجم عن‬
‫حكم العقل وبرهانه فإن األمة منذ عص ر عمر بن اخلطاب أعلنت عن احلاجة إىل‬
‫مصدر إضايف على النص حيقق أهدافه وهو القياس‪ ،‬ونص عبارة عمر بن اخلطاب‬
‫أليب موس ى األش عري‪" :‬الفهم ‪..‬الفهم فيما تلجلج يف ص درك مما ليس يف كتاب‬
‫هللا تعاىل وال سنة نبيه‪ ،‬اعرف األمثال واألشباه وقس األمور بنظائرها"‪.‬‬
‫ولكن القياس على النص نفس ه مل يص مد أكثر من قرن واحد عندما أعلن أبو‬
‫حنيفة أن القياس ال أييت دوما ابحللول املناس بة وأنه جيب العدول عن القياس إىل‬
‫االستحسان وأعلن ابلفعل بداية عصر العقل وانتهاء عصر القياس على النص وأن‬
‫االس تحس ان هو الس بيل ملعرفة األحكام واحلكم على األحداث والش عوب‬
‫واملس تج دات يف ك ل زم ان ومك ان‪ ،‬وعرف ه تعريف ا يقطع ك ل ج دل بقول ه‪:‬‬
‫‪ | 173‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫االستحسان ما يستحسنه اجملتهد بعقله‪ ،‬ويف عبارة أخرى هو دليل ينقدح يف عقل‬
‫اجملتهد يعسر التعبري عنه‪.‬‬
‫مل تكن ثورة أيب حنيفة س هلة‪ ،‬فقد تضمنت اإلعالن الص ريح أننا أمة العقل ال أمة‬
‫النص‪ ،‬ومل متر دون حفلة ختوين هائلة‪ ،‬كان أهوهنا كتاب اإلمام الشافعي الغاضب‬
‫إبطال االس تحس ان ومن اس تحس ن فقد ش رع‪ ،‬وقول س فيان الثوري‪ :‬إنه ينقض‬
‫عرى اإلس الم عروة عروة‪ ،‬وقول اإلم ام م ال ك‪ :‬إن ه يكي د ال دين ومن ك اد ال دين‬
‫كاده هللا!‬
‫ومع ذلك فقد ثبت أبو حنيفة وأص َّر على االستحسان املذهل الذي هو يف الواقع‬
‫احتكام إىل العقل والربهان والشورى مبعايري قد تتجاوز ظاهر النص إىل مقاصده‪.‬‬
‫ابلطبع ذهب بعض الفقهاء فيما بعد إىل اخرتاع تعريفات لالس تحس ان ال يرض اها‬
‫أبو حنيفة وال ترض ي طموحه‪ ،‬وتعيد طموح العقل إىل قفص النص‪ ،‬وجتعله نوعاً‬
‫من القياس وهو أبعد ما يكون عن طموح أيب حنيفة‪.‬‬
‫ملاذا ال حنس ب اليوم أن هذا العامل الذي اكتش فناه يف القرون األخرية وما فيه من‬
‫نظم وقوانني ووسائل هو من املسكوت عنه وسبيل احلكم عليه هو االستحسان ال‬
‫القياس؟‬
‫ش عوب األرض اليت مل يرد ذكرها يف الكتاب والس نة وأنظمة احلكم اليت مل يرد‬
‫ذكرها يف الكتاب والس نة‪ ،‬والنظم االقتص ادية واملص رفية احلديثة‪ ،‬ووس ائل النقل‬
‫وقوانني اهلجرة والضرائب والشحن والعالقات الدولية والدبلوماسية‪ ،‬وكل ما أحدثه‬
‫اإلنس ان يف األرض فإن س بيل الوص ول إليه هو االس تحس ان العقلي الذي متارس ه‬
‫كل األمم ابحرتام وتداول وواقعية‪.‬‬
‫‪ | 174‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫واالستحسان يف أجلى صوره هو العقل اجلماعي وهو الرجوع اىل الشورى واالستماع‬
‫من أهل اخلربة واملعرفة يف كل اختصاص وهو األمر الذي تطبقه نظم العامل املتحضرة‬
‫كلها اليوم‪ ،‬ودون تردد ميكنين القول‪ :‬إن االستحسان هو عنوان التشريع يف سويسرا‬
‫والنمسا والياابن وسنغافورة والدول اإلسكدانفية والعامل األورويب واألمريكي والعامل‬
‫الدميقراطي كله؛ إذ يقدم كل عاقل حجته وبرهانه‪ ،‬وأيكل الفكر بعضه بعضاً‬
‫ﳁﳃﳄ ﳅﳆ‬
‫ﳂ‬ ‫وحتكم عليه قاعدة هللا يف قرآنه‪ :‬ﱡﭐ ﲾ ﲿ ﳀ‬

‫ﳇﳈﳉﱠ [الرعد‪]١٧ :‬‬


‫‪ | 175‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫أ لس ارلره‬ ‫لحملور لم سسع‪ :‬لك اس ل س‬


‫لمفرضي ‪:‬‬
‫تذهب هذه الدراس ة إىل التأكيد على أن اإلس الم كائن حي يتفاعل ويتكامل‬
‫ويتطور‪ ،‬وأن آية اكتمال الش ريعة قد فُهمت بطريقة خاطئة؛ إذ تقض ي على‬
‫اإلبداع واإلض افة‪ ،‬وأن اآلية كانت يف الواقع تبياانً الكتمال رس الة النيب الكرمي يف‬
‫قومه وأنه َّأدى رسالته يف قومه على أمتي وجه‪.‬‬
‫وتعترب الدراس ة أن اإلس الم الذي أتس س ابلنبوة والوحي قد اغتىن اترخيياً جبهود‬
‫علماء كثر وتيارات تنويرية وإص الحية ومدارس فقهية‪ ،‬وتعترب هذه الدراس ة أن كل‬
‫اإلجنارات احلقيقية لإلس الم يف التاريخ أص بحت جزءاً من هوية اإلس الم وقد‬
‫أسهمت بشكل حيوي يف التأثر ابلوحي والتأثري فيه‪.‬‬
‫وتؤكد الدراس ة أن فكرة رفض كل حمدثة واعتبار كل بدعة ض اللة هو تعميم أدى‬
‫إىل عكس املقص ود‪ ،‬وأوص ل األمة إىل نتائج متناقض ة تكرس التقليد وترفض‬
‫اإلبداع وهو عكس ما قصدت إليه الرسالة اإلسالمية‪.‬‬
‫وتذهب الدراسة إىل أن اإلسالم يتوهج كل يوم وال معىن للتوقف عند نقطة حمددة‬
‫قارة بل جدل متالطم‪.‬‬
‫ألن هذا ضد مسري احلياة‪ ،‬فالعامل نفسه ليس حقيقة ي‬
‫‪ | 176‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫تل لك ال ل س ؟‬

‫قراءة يف املعىن االجتماعي آلية اليوم أكملت لكم دينكم‬


‫هل اكتمل اإلسالم؟‬

‫اجلواب التقليدي‪ :‬نعم‪ ،‬ابلطبع‪ ،‬وكان ذلك يوم نزلت اآلية‪ :‬ﱡﭐﱫﱬﱭ‬

‫ﱮﱯ ﱰ ﱱﱲﱳﱴ ﱵﱠ [المائدة‪ ،]٣ :‬وتبدو هذه‬


‫املسألة اتفاقية؛ إذ ال نق ع فيها على قولني بني الفقهاء‪ ،‬فالدين اكتمل يوم موت‬
‫رسول هللا ومل يبق إال االتباع والتقليد‪ ،‬ويف الرواية مت استنطاق النصوص ومحلت ما‬
‫ال حتتمل‪ ،‬حىت قال سلمان‪ :‬لقد علَّمنا الرسول كل شيء حىت (قضاء احلاجة)‬
‫فنهاان أن نستقبل القبلة أو نستدبرها وأن نستنجي بعظم أو روث أو رجيع"‪ ،‬وابتت‬
‫الطريقة املثلى ملعرفة املاضي واحلاضر واملستقبل هي احلصول على رواية مرفوعة إىل‬
‫الرسول الكرمي عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫واس تمرت نزعة االتباع الطاغية اليت نش أت من عبادة اللحظة الداهش ة‪ ،‬حىت‬
‫أصبح خطاب املعرفة السائد‪:‬‬
‫إال احلديث‪ ،‬وإال الفق ه يف الدين‬ ‫ك ل العلوم عن القرآن مش غل ة‬
‫وما س وى ذاك وس واس الش ياطني!‬ ‫ال دين م ا ك ان في ه ق ال ح دثن ا‬

‫ويف هذا الس ياق أص بح التيار الس لفي امللتزم خبيارات الس لف األول هو ص ورة‬
‫اإلسالم االتباعي البيوريتان‪ ،‬ومنوذجه الذي تقدمه املنابر كل مجعة‪.‬‬
‫‪ | 177‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ولكن واقع األمة اإلس المية يف صعودها احلضاري َّ‬


‫قدم قراءة خمتلفة متاماً لإلس الم‪،‬‬
‫وقدم يف وعيه الفقهي والتشريعي ألف دليل على أ َّن اإلسالم مشروع قابل لالغتناء‬
‫والتطوير والرتاكم عرب التاريخ!‬
‫أي يف الع ام الع اش ر للهجرة املوافق ‪631‬‬ ‫ومع َّ‬
‫أن اآلي ة نزل ت يف حج ة الوداع ي‬
‫للميالد‪ ،‬ولكن ال دين ال ذي أعلن القرآن اكتم ال ه مل يكن إال ب داي ة االنطالق‬
‫لنش اط حض اري عظيم…‪ .‬ومقدمة الجتهادات متتالية مرتاكمة‪ ،‬أض افت كثرياً‬
‫من اإلبداع احلضاري واملعريف والفكري وزادت اإلسالم غىن وثراءاً واكتماالً‪.‬‬
‫ففي الس ياس ة‪ :‬فإن أنظمة الس ياس ة اإلس المية كلها من اخلالفة ووالية العهد‬
‫والسلطنة والوالة والقضاة وقادة اجلند ووزير التنفيذ ووزير التفويض مثالً وهو النظام‬
‫الذي أص له الفقهاء منوذجاً للحكم اإلس المي‪ ،‬ووض عت يف خدمته آالف‬
‫النص وص الفقهية والنبوية يف كثري من األحيان مل يكن قد وجد أص الً يف يوم حجة‬
‫الود اع ومل يكن لدى أحد من الص حابة فكرة عن هذه األنظمة اليت هي اجتهاد‬
‫بشري حمض لتدبري أمور الراعي والرعية‪.‬‬
‫ويف االقتص اد فإن ص ك العمالت‪ ،‬ونظم البنوك اإلس المية واملراحبة واملزارعة‬
‫واملهاأية واملس اقاة والتورق اليت ابتكرها الفقهاء مثالً مل تكن قد ذكرت يف النص‬
‫الكرمي‪ ،‬ومل يكن ليعرفها أحد من الصحابة يوم نزل نص إكمال الدين‪.‬‬
‫وبعيداً عن هذه املطالعات املش وش ة فإن احملراب الذي نص لي فيه اليوم على هيئة‬
‫جتويف يف احلائط‪ ،‬مل يكن كذلك يف عهد النبوة‪ ،‬ومل يكن يف املس اجد حماريب‬
‫على هيئة حمراب مرمي وحيىي‪ ،‬ومن املؤرخني من ينس ب أول حمراب إىل عثمان بن‬
‫‪ | 178‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫عفان ومنهم من ينس به إىل عمر بن عبد العزيز‪ ،‬ولكن األش هر أن َّأول حمراب يف‬
‫اإلسالم هو حمراب عقبة بن انفع يف القريوان عام ‪ 50‬هجرية‪.‬‬
‫واملئذنة اليت ص ارت يف العامل اإلس المي رمزاً للمس اجد واإلميان‪ ،‬وارتفعت فوق‬
‫احلرم املك يي واحلرم املدني‪ ،‬وص ارت رمز اإلس الم كله‪ ،‬مل تكن يوم حجة الوداع قد‬
‫خلقت بعد‪ ،‬ومل يكن أحد من الص حابة يعرف املئذنة أو يتص ورها‪ ،‬وليس يف‬
‫القرآن وال يف كتب السنة ذكر لكلمة مئذنة قط‪ ،‬وال حىت إشارة ملعناها!‪.‬‬
‫والقبة اليت ص ارت فخر املعمار اإلس المي وأكثر معامل اإلس الم ش هرة يف األرض مل‬
‫يكن هلا وجود يوم اكتمال الدين‪ ،‬وما يزال كثري من الس لفيني األص وليني حيس بون‬
‫امل آذن والقب اب واحمل اري ب املزخرف ة ب دع اً منكرة‪ ،‬ويعتربوهن ا من أكرب الكب ائر إذا‬
‫أقيمت على ضريح رجل من الصاحلني‪.‬‬
‫ويف التش ريع فإن الس نة النبوية اليت صارت املص در الثان للتش ريع‪ ،‬وأص بح هلا علوم‬
‫كثرية يف الرواية والدراية واالص طالح على الص ورة اليت اس تقرت عليه يف البخاري‬
‫ومس لم‪ ،‬والكتب الس تة‪ ،‬ومل يس مع الص حابة ش يئاً عن الص حيح واحلس ن‬
‫والض عيف‪ ،‬واملس لس ل والعزيز والش اذ‪ ،‬وغريها من أوص اف احلديث املص طلحية‪،‬‬
‫ت لَ ُك ْم‬
‫نص {أَ ْك َملْ ُ‬
‫أي ص ح ايب من أولئ ك ال ذين مسعوا َّ‬
‫ومل يكن ليتص وره ا ُّ‬
‫ديْنَ ُك ْم}‪ ،‬وكانت الس نة حمض رواايت متناثرة مينع اخللفاء من تدوينها وكتابتها‪،‬‬
‫و ُجل د ع دد من الرواة يف زمن عمر بن اخلط اب الحرتافهم رواي ة الس نن‪ ،‬ولكن‬
‫ذلك كله تغري فيما بعد‪ ،‬وأص بحت الس نة النبوية بدءاً من عهد عمر بن عبد‬
‫العزيز املصدر الثان للشريعة‪.‬‬
‫‪ | 179‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ومص ادر التش ريع اليت ظهرت فيما بعد على يد الفقهاء الكرام كاإلمجاع والقياس‬
‫واالس تحس ان واالس تصالح واالس تصحاب والعرف والذرائع وغريها من املصادر مل‬
‫يس مع هبا الص حابة الكرام‪ ،‬ومل ختطر ببال أحد منهم‪ ،‬وال يوجد يف تراث أي من‬
‫مش اهري الص حابة اس تخدام هذه املص طلحات‪ ،‬ولكنها ص ارت خالل التاريخ‬
‫اإلسالمي آلة استنباط األحكام وأتصيلها‪.‬‬
‫بل إن القرآن نفس ه مل يكن قد اكتمل تدويناً ونس خاً ونقطاً‪ ،‬ومل يكن قد ص ار‬
‫مص حفاً ميكن القراءة منه والوص ول إليه ومل يكن قد كتب بني دفتني ومل يكن قد‬
‫نس خ يف النس خ ومل يكن قد عرف نقط اإلعجام ونقط اإلعراب وال الس جدات‬
‫وال الوقوف واالبت داء وال األحزاب وال األرابع وال أمس اء الس ور‪ ،‬وال طب اع ة‬
‫املص حف وال تس جيله وتص ويره وبثه وترميزه‪ ،‬وهي إض افات وتطويرات وابتكارات‬
‫ت لَ ُك ْم ديْنَ ُك ْم} بعهد طويل‪.‬‬
‫مهمة وقعت كلها بعد نص {أَ ْك َم ْل ُ‬
‫إن هذه البدع املتتالية اليت أس همت يف إغناء اإلس الم وحتض ره وتنوره مل تكن‬
‫حاض رة على اإلطالق بص ورهتا اليت اس تقرت عليه يوم مت اإلعالن عن كمال الدين‬
‫والشريعة‪.‬‬
‫والواقع أن األمر يف غاية اليس ر إذا تفهمنا النص القرآن يف س ياقه‪ ،‬فقد متت‬
‫النعمة على الناس بتوحدهم وقيامهم‪ ،‬ومت تش ريع العبادات املفروض ة‪ ،‬ومت حتديد‬
‫ع دد حم دود من احملرم ات‪ ،‬وانطلق العق ل اإلب داعي يف البح ث واالختي ار فيم ا‬
‫يصلح دينه ودنياه‪.‬‬
‫‪ | 180‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وإكم ال ال دين هن ا هو اكتم ال اس تع داد األم ة لإلب داع واالجته اد والتطوير‬


‫والتح دي ث وهو الب اب ال ذي مل يغلق قط م ذ فتح ه رس ول هللا إال يف عص ور‬
‫االحنطاط والسقوط احلضاري‪.‬‬
‫هل من مص لحة اإلس الم أن يكتمل؟ اجلواب‪ :‬ابلقطع ال‪ ،‬فاالكتمال هو هناية‬
‫اإلبداع والتجديد واالكتش اف‪ ،‬هو هناية ثورة العقل وبدء مرحلة اهلمود‪ ،‬ونقول‬
‫بدون ش ك َّ‬
‫إن الرتاث الذي ميلكه اإلس الم اليوم أغىن مبئة مرة من الرتاث الذي‬
‫كان بيد الص حابة والس لف‪ ،‬فاإلس الم اليوم ديوان حض ارة تعاقبت يف بنائها‬
‫وت دوينه ا وجتربته ا آالف من العقلي ات املتميزة والعبقرايت الن ادرة‪ ،‬وق د أجنز هؤالء‬
‫إبداعهم وفكرهم وخربهتم حتت مظلة هذا اإلسالم وأغنوا به جتربته وتراثه وحضارته‪.‬‬
‫العامل الطبيعي ال يعرف االكتمال أبداً وقد خلقه هللا أطواراً‪ ،‬وما يزال يبعث نفس ه‬
‫خالق يبعث من ذاته بذور قيامه‪ ،‬وحيقق‬ ‫يف ص عود حلزون متتابع وفق دايلكتيك َّ‬
‫جدل القيام واالنطالق يف كل حلظة‪.‬‬
‫وي ذه ب علم اء االجتم اع ق اطب ة إىل أتكي د حيوي ة األمم يف ق درهت ا على اإلب داع‬
‫واخللق‪ ،‬وأنه حني متوت ه ذه اإلرادة تتحول األمم إىل تي ارات ببغ ائي ة تكرر الق دمي‬
‫وتعجز عن الذهاب إىل املس تقبل‪ ،‬والعامل يف ص يغتيه البيولوجية واالجتماعية عامل‬
‫اثئر ال يهدأ‪ ،‬كما قال هوايتهد‪" :‬العامل ليس حقيقة قارة إنه جدل متالطم"!‬
‫واجل دل ليس ق اع دة بيولوجي ة حبت ة‪ ،‬ب ل هو ق اع دة اجتم اعي ة خالق ة‪ ،‬واالكتم ال‬
‫الذي أش ارت له اآلية ليس إال اكتمال االس تعداد لالنطالق واالجتهاد والتطوير‬
‫وهو ما قامت به األمة اإلسالمية على أمت وجه خالل اترخيها الطويل‪.‬‬
‫‪ | 181‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لقد قص دت أن أقول إن العقل ش هد انطالقته وقيامته يوم أعلن اكتمال الدين‪،‬‬


‫وه ذا عكس م ا تط ال ب ب ه تي ارات اجلمود واهلمود الرافض ة لك يل تنوير يقوم يف‬
‫كل ضاللة‬ ‫فضاء العامل اإلسالمي حتت عنوان‪ :‬إ َّن ال يدين قد متَّ‪ ،‬و ُّ‬
‫كل بدعة ضاللة و ُّ‬
‫يف النَّار‪.‬‬
‫‪ | 182‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫‪13‬‬
‫ند حماد إقبس‬ ‫ت ور لمشري‬
‫هل اكتملت الشريعة؟ اجلواب‪ :‬ابلطبع نعم‪ ،‬ولكن ما معىن االكتمال؟‬
‫االكتمال عند إقبال هو نض ج العقل االس تدالل عند املس لم وامتالكه أدوات‬
‫التفكري والتطور واالجتهاد‪ ،‬واكتمال الوعي ابلغيب فيما أراد هللا أن يعلمه املسلم‪،‬‬
‫إنه هناية عص ر التقليد وبداية عص ر التفكر‪ ،‬وهناية عص ر املعجزات وبداية عص ر‬
‫العقل‪ ،‬وهناية ضباب اخلوارق وبداية عصر السنن‪.‬‬
‫ولكن اكتمال الش ريعة ابت يف العقل التقليدي عكس ذلك متاماً؛ إذ ابت الش ائع‬
‫يف ثقافتنا أن نص وص الغيب قد حس مت ما كان ويكون وما هو كائن إىل يوم‬
‫القيامة! ومل يعد أمام املس لم إال اتباع النص وص املعص ومة اليت ما فرط هللا فيها من‬
‫ش يء! وهي النص وص اليت تص لح لكل زمان ومكان تش ريعاً وتفكرياً وتدبرياً‬
‫وتسيرياً‪.‬‬
‫وبدالً من يقظة العقل وقيامه س ادت ثقافات بوهيمية غيبية اتئهة‪ ،‬تش به ما تبناه‬
‫القديس أوغس طني يف التاريخ املس يحي‪ ،‬حني أفىت بنص حاس م حازم أن الكتاب‬
‫املق دس وح ده هو من حيق ل ه البي ان واحلس م يف ك ل علوم ال دني ا وال دين‪ ،‬وأن‬
‫اجلغرافيا والفلك والفيزايء والرايض يات وس ائر العلوم مكنوزة يف الكتاب املقدس‬
‫وليس أمام املؤمن إال مزيد من التأمل فيه ليدرك كل علوم الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫‪ 13‬سبق أن نشرت هذا الفصل في كتابي إقبال فيلسوف التجديد‪ ،‬وقد رأيته مسيس الصلة بكتابي هذا نور‬
‫يهدي ال قيد يأسر فأوردته هنا مع تصرف ضروري‪.‬‬
‫‪ | 183‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ويف الواقع فنحن اليوم نستمع إىل نسخة من هذا الوهم كل يوم‪ ،‬ويف صيغة شاملة‬
‫أنقل لك بعض ما يرويه مش اخينا املؤس س ون ملنهج اإلعجاز العلمي يف ص يغة‬
‫منسوبة للرسول الكرمي‪:‬‬
‫إن هللا جعل علوم الدنيا يف القرآن الكرمي‪ ،‬وجعل علوم القرآن يف الفاحتة‪ ،‬وجع ل‬ ‫" َّ‬
‫س َّر الفاحتة يف البسملة وجعل س َّر البسملة يف الباء وجعل س َّر الباء يف نقطتها ويف‬
‫‪14‬‬
‫النقطة ما كان وما يكون وما هو كائن إىل يوم الدين"!‬
‫ونُسب إىل ابن القيم يف الكافية الشافية‪:‬‬
‫قال الص حابة هم أولو العرفان‬ ‫ال دين ق ال هللا ق ال رس ول ه‬
‫ب زابل ة األف ك ار واألذه ان‬ ‫ال ع ل م ع ن دك م ي ن ال ب غ ريه ا‬
‫‪15‬‬
‫تنفي الظواهر ح امالت مع ان‬ ‫مس ي ت م وه ق واط ع ا ع ق ل ي ة‬
‫وهكذا راجت ثقافة عبادة النص وص وازدراء العقول‪ ،‬ويف اهلند فقد كانت ثقافة‬
‫كهذه ابلغة االنتش ار يف الوس ط الش عيب عند الس نة والش يعة على الرغم من أهنا ال‬
‫متتلك مس انيد موص ولة ولكنها كانت ثقافة الش ارع وخطب اجلمعة وأس لوب‬
‫الواعظني‪.‬‬
‫قرر إقبال أن يقول احلقيقة الكاملة‪ ،‬وأن يواجه بشجاعة وقوة ثقافة اإلرث املعصوم‬
‫الذي يوجب على اخللف اتباع الس لف‪ ،‬وواجه بش جاعة تلك العبارات اإلطالقية‬
‫اليت تعودها الواعظون على املنابر‪" :‬قف على ما وقف عليه األولون فإهنم عن علم‬

‫‪ 14‬حديث موضوع ال أصل له شائع على ألسنة الوعاظ‪ ،‬ومثله ما نقله الجويباري في تفسير‬
‫البصائر ج‪ 1‬ص ‪ 24‬ونسبه الى االمام علي كرم هللا وجهه‪.‬‬
‫‪ 15‬ابن القيم‪ ،‬محمد بن أبي بكر‪ ،‬متن القصيدة النونية ج‪ 1‬ص‪ 226‬ط مكتبة ابن تيمية –‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫‪ | 184‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وقفوا و َّ‬
‫إن كل خري يف اتباع من سلف‪ ،‬وكل شر يف ابتداع من خلف"‪ ،‬وقد اختار‬
‫إقبال أن يكتب موقفه هنا بلغة النثر ال بلغة الشعر‪ ،‬ليكون أكثر دقة ووضوحاً‪.‬‬
‫لعل من‬
‫وألجل ذلك كتب كتابه اهلائل‪(( :‬جتديد التفكري الديين يف اإلس الم))‪ ،‬و َّ‬
‫إن جمتمعنا اإلس المي الذي ال يزال خيتار ظالم القرون على فجر‬‫الص واب القول‪َّ :‬‬
‫املس تقبل مل يقرأ كتاب إقبال بعد‪ ،‬ورمبا لن يص دق ذلك األفق البعيد الذي أراد‬
‫إقبال أن يبلغه خطاب النهضة اإلسالمي قبل أكثر من مئة عام‪.‬‬
‫يغين ش باب احلركات اإلس المية اليوم كلمات إقبال‪ ،‬ولكنهم مل يطلعوا على ما‬
‫كتب ه إقب ال يف التج دي د ال ديين‪ ،‬ورمب ا لو أتيح لكثري من القس اة التكفرييني أن‬
‫يطلعوا على ما كتبه إقبال فيه لواجهوه ابهتامات اهلرطقة والزندقة كما يص نعون مع‬
‫كل أص حاب األقالم احلرة واألص وات اجلريئة‪ ،‬ولكن يبدو أن قاعدة حيق للش اعر‬
‫ما ال حيق لس واه ليست شأانً لغوايً بل هي شأن اجتماعي أيضاً ويغفر للشاعر ما‬
‫ال يغفر لسواه‪.‬‬
‫يف كتابه ((جتديد التفكري الديين يف اإلس الم)) يطالب إقبال بوض وح ابحلاجة إىل‬
‫عقل إس المي خمتلف‪ ،‬مبلك الش جاعة على االختيار ملس تقبله‪ ،‬ال أتس ره قداس ة‬
‫القدمي وال يبهره بريق اجلديد‪.‬‬
‫لقد أعلن يف ص يحاته عن احلاجة املس تمرة لتطور الش ريعة‪ ،‬إهنا احلق الذي يتطور‬
‫ابس تمرار‪ ،‬إهنا جوهر نظريته يف دايلكتيك الطبيعة‪ ،‬ليس من مص لحة احلقيقة أن‬
‫تكتمل إهنا يف جدل مس تمر‪ ،‬إن قوهتا يف انبثاقها من جديد‪ ،‬إهنا تبلي وختلق‪،‬‬
‫وتعيد الذات روحاً دافقة كل يوم‪.‬‬
‫‪ | 185‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وق د حل ل زكي ميالد ه ذه احلقيق ة بقراءة منطقي ة أص ولي ة "ويرى إقب ال أن الع امل‬
‫اإلس المي لكي ينهض مبهمة التجديد ويتخلص من رواس ب اجلمود حباجة إىل‬
‫االجتهاد املطلق؛ ذلك ألن أحوال العامل اإلسالمي يف نظر إقبال قد تغريت بصورة‬
‫جذرية يف عصره‪ ،‬مما أوجب احلاجة من جديد إىل االجتهاد املطلق‪ ،‬وبواعث هذه‬
‫احلاجة يف نظره‪ ،‬هي‪:‬‬

‫• إ َّن العامل اإلس المي أص بح يتأثر مبا يواجهه من قوى جديدة أطلقها من‬
‫عقاهلا تطور الفكر اإلنسان تطوراً عظيماً يف مجيع مناحيه‬
‫• إ َّن أص حاب املذاهب الفقهية أنفس هم مل يدَّعوا أن تفس ريهم لألمور‪،‬‬
‫واستنباطهم لألحكام هو آخر كلمة تقال فيها‪ ،‬وأهنم مل يزعموا هذا قط‪.‬‬
‫• إ َّن ما ينادي به اجليل احلاض ر من أحرار الفكر يف اإلس الم من تفس ري‬
‫أص ول املبادئ التش ريعية تفس رياً جديداً على ض وء جتارهبم‪ ،‬وعلى هدي‬
‫ما تقلب حياة العص ر من أحوال متغرية‪ ،‬هو رأي له ما يس وغه كل‬
‫التسويغ‪.‬‬
‫• حكم القرآن على الوجود أبنه خلق يزداد ويرتقى ابلتدريج‪ ،‬ويقتض ي أن‬
‫يكون لكل جيل احلق يف أن يهتدي مبا ورثه من آاثر أس الفه‪ ،‬من دون‬
‫أن يعوقه ذلك الرتاث يف تفكريه وحكمه وحل مشكالته اخلاصة‪.‬‬
‫وعندما يريد إقبال أن يثبت حقيقة قابلية الش ريعة اإلس المية للتطور‪ ،‬يقول‪ :‬إن‬
‫التعمق يف درس كتب الفقه والتشريع اهلائلة العدد‪ ،‬البد من أن جيعل الناقد مبنجاة‬
‫من الرأي السطحي على حد وصفه‪ ،‬الذي يرى أبن شريعة اإلسالم شريعة جامدة‬
‫غري قابلة للتطور‪ ،‬وهكذا عندما ندرس أص ول الفقه اإلس المي األربعة املتفق‬
‫عليه ا‪ ،‬وم ا اثر حوهل ا من ظالل‪ ،‬ف إن ذل ك اجلمود املزعوم يتبخر‪ ،‬ويب دو للعي ان‬
‫‪ | 186‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫إمكان حدوث تطور جديد‪ .‬وهذا ما حاول إقبال إثباته والكش ف عنه‪ ،‬عندما‬
‫أراد مناقش ة تلك األص ول‪ ،‬مربهناً كيف أن هذه األص ول تتناغم وفكرة التطور‪،‬‬
‫وكيف أهنا تستجيب لتطور الفكر اإلنسان يف اجملتمع املعاصر‪".16‬‬
‫إن الفقه اإلس المي مارس يف التاريخ تطوراً مس تمراً‪ ،‬ومل يتوقف عند حدود ظاهر‬
‫النص‪ ،‬وابتكر أدوات تطوير الش ريع ة بكف اءة واقت دار‪ ،‬واس تط اع أن يبتكر‬
‫االس تحس ان احلنفي واالس تص الح املالكي واالس تص حاب الش افعي وكلها أدوات‬
‫حقيقية لتطوير الش ريعة وحتقيق اس تجابتها للزمان واملكان‪ ،‬وبكل أتكيد فقد‬
‫كانت هذه اآلليات هي اليت وفرت األحكام املناس بة لكل زمان ومكان‪ ،‬وهي‬
‫اليت حكمت هبا الدول اإلس المية يف العص ر الذهيب لإلس الم‪ ،‬إنه إرادة تطور‬
‫وقيام‪ ،‬متلك س َّر قيامها وهنض تها من جوهر النص وإن كانت تتجاوز كثرياً من‬
‫ظاهره‪.‬‬
‫"والقياس وهو املبدأ األس اس ي يف مذهب أيب حنيفة إذا ما أُحس ن فهمه وتطبيقه‬
‫ك ان كم ا يقول الش افعي حبق مرادفً ا لالجته اد‪ ،‬وهو مطلق احلري ة يف ح دود‬
‫النص وص املنزلة‪ ،‬وميكن إدراك أمهية القياس كمبدأ وأص ل من أص ول التش ريع‬
‫ُ‬
‫إذاعرفنا حقيقة مفادها اتفاق معظم الفقهاء (كما يقول القاض ي الش وكان) على‬
‫أن القي اس أُجيز حىت يف حي اة النيب ﷺ وإن إغالق ابب االجته اد هو حمض‬
‫خرافة ووهم خمتلق أوحى به تبلور الفكر التش ريعي يف اإلس الم من انحية والكس ل‬
‫العقلي من انحية أخرى‪ ،‬ذلك الكس ل الذي ينش أ يف فرتة االحنالل الروحي وحييل‬
‫كبار املفكرين إىل أصنام مقدسة‪.‬‬

‫‪ 16‬ميالد‪ ،‬زكي‪ ،‬مقال بعنوان‪ :‬محمد إقبال وتجديد التفكير الديني في اإلسالم‪ ،‬نشرته مجلة‬
‫مجمع التقريب بين المذاهب اإلسالمية‪ ،‬عدد يناير ‪2002‬‬
‫‪ | 187‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وإذا كان بعض الفقهاء يف العص ور األخرية قد أيَّدوا خرافة إغالق ابب االجتهاد‪،‬‬
‫فاإلسالم احلديث ليس ملزماً هبذا التنازل االختياري عن االستقالل الفكري‪.‬‬
‫ولقد كتب الزركش ي يف القرن الثامن اهلجري وكان على حق يف مالحظته‪" :‬إذا‬
‫كان املؤيدون هلذه اخلرافة يقص دون أن ال ُكتاب الس ابقني كان االجتهاد ابلنس بة‬
‫إليهم أكثر س هولة بينما ازدادت الص عوابت ابلنس بة ملن جاء بعدهم من ال ُكتاب‪،‬‬
‫فهذا هراء‪ ،‬وذلك ألن األمر ال حيتاج إىل كبري فَ ْهم لرتى أن االجتهاد أصبح أيسر‬
‫‪17‬‬
‫عند العلماء الالحقني‪ ،‬منه عند الفقهاء السابقني"‬
‫وهكذا فقد كان موقفه من إغالق ابب االجتهاد حامساً وص ارماً‪ ،‬وعدَّه خرافة‬
‫ومؤامرة على اإلس الم‪ ،‬وتكليس اً للفكر اإلس المي وتص نيماً للموروث التارخيي‪،‬‬
‫واقرتب إقبال أكثر من هذه احلقيقة فناقش العالقة بني اإلميان برس ول هللا وحمبته‬
‫والوالء له وبني االتباع احلريف ملا روي عن رس ول هللا ففي حياته من الس نن القولية‬
‫والفعلية والتقريرية‪ ،‬ويعجبه موقف اإلمام املتنور أيب حنيفة الذي اس تطاع أن يدرك‬
‫ببص ريته أن النص وص اليت وردت يف الس نة حمكومة ابلزمان واملكان‪ ،‬وال جيوز أن‬
‫تكون سرمدية الداللة يف الزمان واملكان‪:‬‬
‫"والطريقة اليت يتبعها النيب هي أن يعليم ويدرب ش عبًا معينًا ويتخذ منهم نواة لبناء‬
‫ش ريع ة ع املي ة‪ ،‬وهو أثن اء أدائ ه ه ذه املهم ة يؤك د املب ادئ اليت تقوم عليه ا احلي اة‬
‫االجتماعية لكل البش ر‪ ،‬ويطبقهاعلى حاالت ملموس ة يف ض وء العادات اخلاص ة‬
‫ل ش عبه الذبي عايش ه مباش رة‪ ،‬وأحكام الش ريعة الناجتة عن هذا التطبيق مثل‬
‫األحكام اخلاص ة بعقوابت اجلرائم وهي أحكام إىل حد ما خاص ة هبذا الش عب‪،‬‬

‫‪ 17‬إقبال‪ ،‬محمد‪ ،‬تجديد التفكير الديني في اإلسالم ‪ ،‬ص ‪.216‬‬


‫‪ | 188‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وملا كانت هذه األحكام ليس ت مقص ودة لذاهتا فال ميكن تطبيقها حبرفييتها يف‬
‫ي‬
‫األجيال القادمة‪.‬‬
‫لعل أاب حنيفة الذي كان انفذ البص رية يف الطابع العاملي لإلس الم‪ ،‬فقد كاد أال‬
‫و َّ‬
‫ث ق در اعتم اده على الرأي‪ ،‬وذل ك يف ض وء وجه ة النظر اليت‬
‫يعتم د األح ادي َ‬
‫قدمناها آن ًفا‪ ،‬فقد أدخل أبو حنيفة االس تحس ان أي التفض يل الفقهي حلكم على‬
‫آخر مما يقتضي الدرس الدقيق لألحوال الواقعية أثناء التفكري التشريعي‪.‬‬
‫ويُلقي هذا املزيد من الض وء على الدوافع اليت حددت موقفه جتاه هذا املص در من‬
‫مصادر الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ويُقال‪ :‬إن أاب حنيفة مل ينتفع كثرياً ابألحاديث؛ ألنه مل‬
‫يكن يف أايمه جمموعة مدونة من األحاديث‪ ،‬ولكن من غري ص حيح القول أبنه مل‬
‫يكن هن اك جمموع ة م دون ة من األح ادي ث يف عه ده‪ ،‬وذل ك ألن جمموع ات‬
‫عبدامللك والزهري كانت مكتوبة قبل وفاة أيب حنيفة مبا ال يقل عن ثالثني ع ًاما‪،‬‬
‫ولكن حىت لو أننا افرتض نا أن هذه اجملموعات مل تص ل إليه أو أهنا مل حتتو على‬
‫أحاديث ذات داللة تش ريعية‪ ،‬فإن أاب حنيفة كان ميكنه بس هولة ويس ر أن جيمع‬
‫األحاديث بنفس ه‪ ،‬لو أنه رأى يف ذلك ض رورة مثل ما فعل مالك وأمحد بن حنبل‬
‫من بعده‪ ،‬ومن َمث فإنىن أرى بصفة عامة أن موقف أيب حنيفة من األحاديث ذات‬
‫الداللة التش ريعية هو موقف ال غبار عليه‪ ،‬وإذا كان احملدثون من أص حاب النزعة‬
‫التحرري ة يق يدرون أن ه من األس لم ع دم اس تخ دام األح ادي ث دون تفريق بينه ا‬
‫احدا من أعظم رجال الفقه اإلس المي‬‫كمص در للتش ريع‪ ،‬فإهنم بذلك إمنا يتبعون و ً‬
‫السنة‪.‬‬
‫بني أهل ُ‬
‫‪ | 189‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫"واملزيد من الدراس ة الناهبة ملا ُكتب عن الس نة واألحاديث إذا اس تخدمناها كدليل‬
‫على الروح اليت فس ر هبا النيب الوحي فإن ذلك س يس اعدان كثرياً على اس تيعاب قيم‬
‫احلي اة الك امن ة يف مب ادئ التش ريع اليت عرب عنه ا القرآن الكرمي بوض وح‪ .‬ه ذا‬
‫االس تيعاب الكامل هلذه القيم ميكن أن يس اعدان يف حماولتنا إلعادة أتويل املبادئ‬
‫‪18‬‬
‫األصولية"‬
‫وال ش ك أن موقف إقبال من الس نة ما هو إال حترير ملوقفه من النص كله‪ ،‬فهو‬
‫يرى أن النص نور يهدي وليس قيداً أيس ر‪ ،‬وأنه يف النهاية حمكوم ابلزمان واملكان‬
‫والظروف اليت نزل هبا‪ ،‬وكان يرى أن مص ادر الش ريعة اليت ابتكرها الفقهاء فيما‬
‫بعد ما هي إال تقرير حقيقي لرس الة العقل يف موازاة النص‪ ،‬وأنه لدى َّأول اش تباك‬
‫س ينحاز إىل العقل فوراً‪ ،‬وس يمارس ما مارس ه الفقهاء الراس خون من أتويل النص‬
‫ليستقيم عند مقاصد العقل‪.‬‬
‫وأود هنا أن أض يف هذه املطالعة اليت تتص ل متاماً مبنهج إقبال يف التعامل مع‬
‫النص الديين‪ ،‬وهو منهج الفقهاء الراس خني الذين قرروا مخس ة أبواب رئيس ة لوقف‬
‫إعمال ظاهر النص وص وهي ابب النس خ‪ ،‬وابب اجملاز‪ ،‬وابب التخص يص‪ ،‬وابب‬
‫التقييد‪ ،‬وابب التشابه‪.‬‬
‫"أما النس خ‪ ،‬فقد كان الس بيل الذي اتبعه الس لف منذ عص ر النبوة؛ لوقف العمل‬
‫آبايت قرآني ة كرمي ة وأح ادي ث نبوي ة ش ريف ة؛ ألهن ا ابت ت ال تالئم أحو ًاال ج دي دة‬
‫لألمة‪ ،‬وال يرتدد الس لف الص احل ابلتص ريح ابلناس خ واملنس وخ‪ ،‬وقد أفرده ابلدراس ة‬

‫‪ 18‬إقبال‪ /‬محمد ‪ ،‬تجديد التفكير الديني في اإلسالم‪ ،‬ص ‪.210‬‬


‫‪ | 190‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫عدد كبري من الفقهاء‪ ،‬أش هرهم ابن أيب ش امة والنحاس ومكي بن أيب طالب‪،‬‬
‫ونقل عنهما املفسرين بعدهم مجيعاً بال استثناء‪.‬‬
‫والنسخ هو إزالة احلكم ابحلكم‪ ،‬واملنسوخ كثري‪ ،‬ومنه آية الوصية‪ ،‬وآية القبلة‪ ،‬وآية‬
‫اخلمر‪ ،‬وآية مناجاة الرسول‪ ،‬وآية العدة‪ ،‬وآية تزويج الزان‪ ،‬وليعذرن القارئ الكرمي‬
‫إذ أكتفي إبيراد أمساء اآلايت املنس وخة دون ش رحها درءًا لإلطالة‪ ،‬وهي موجودة‬
‫يف كتب التفاسري بال استثناء‪ ،‬وليس لدي على ما قالوه مزيد‪.‬‬
‫إننا نقرأ اليوم آية الوص ية للوالدين‪ ،‬والفقهاء جممعون على أنَّه ال حت ُّل الوص ية‬
‫للوالدين؛ إذ ال وصية لوارث‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فاآلية مقدسة ومعظمة ومكرمة ومظهرة‪،‬‬
‫نتلوها يف الص الة‪ ،‬ولكن ال نلتزمها يف التش ريع‪ ،‬وال يص ح أن نلتزمها يف التش ريع‪،‬‬
‫ولو عرض ت على أي قاض مس لم وص ية أوص ى فيها املتوىف للوالدين؛ لوجب عليه‬
‫ردها وإبطاهلا‪ ،‬مع أن ظاهر اآلية يقول خالف ذلك‪.‬‬
‫واملسلك الثان الذي اعتمده فقهاء التنوير لدرء تعارض العقل والنقل هو التخصيص‬
‫للعام‪ ،‬وهو إخراج فرد من أفراد من توجه إليهم احلكم‪ٍّ ،‬‬
‫بدليل من نقل أو عقل‪،‬‬
‫وثقاال‪ ،‬ولكن األعمى واألعرج مستثنيان‬ ‫مثال أتمر ابلنفري يف اجلهاد خفافًا ً‬
‫فاآلايت ً‬
‫من داللة اآلية‪ ،‬بدليل النص‪ ،‬والسجني واحملصور مستثنيان منها‪ ،‬بدليل العقل‪،‬‬
‫مثال أتمر من استطاع من الناس كلهم ابحلج واإلفاضة‪ ،‬ولكن الفقه تدخل‬ ‫واآلية ً‬
‫ملنع غري املسلم من احلج مع أنه من الناس‪ ،‬وحىت يف العقيدة يقول هللا تعاىل‪{ :‬إ َّن‬
‫هللاَ َعلَى ُك يل َش ْيء قَديْر}‪ ،‬ولكن علماء الكالم كلهم قالوا‪ :‬إن القدرة هنا تتعلق‬
‫ابملمكنات وال تتعلق ابلواجبات وال ابملستحيالت‪ ،‬فهذه أمثلة على املخصوص‪،‬‬
‫‪ | 191‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫جدا‪ ،‬حىت قال البلقيين‪" :‬ما من آية يف كتاب هللا إال دخلَها‬ ‫وهي يف القرآن كثرية ً‬
‫التخصيص‪ ،‬إال قوله تعاىل‪{ :‬إ َّن هللاَ ب ُك يل َش ْي ٍّء َعليم}"‪.‬‬
‫مثال‪-‬‬
‫وأما املسلك الثالث فهو التقييد للمطلق‪ ،‬وهو كثري أيضاً يف القرآن‪ ،‬فمنه ‪ً -‬‬
‫قوله تعاىل‪ :‬ﱡﭐﲳﲴﲵﲶﲷﲸﲹﲺﲻ ﲼﲽ‬

‫ﲾﱠ [البقرة‪ ، ]٤٧ :‬فقد اتفق املفسرون إال الثعليب على أن بين إسرائيل ليسوا‬
‫أفضل العاملني‪ ،‬وإمنا هي مقيدة بعاملي زماهنم! وهذا قيد عقلي حمض ليس فيه كتاب‬
‫وال سنة‪.‬‬
‫وأما اجملاز فهو كثري جداً‪ ،‬وقد أفرده أئمة كثر يف كتب مستقلة‪ ،‬أشهرهم وأوهلم أبو‬
‫عبيد معمر بن املثىن‪ 209 ،‬هجرية‪ ،‬وعدَّد فيه عشرات النصوص اليت ال يستقيم‬
‫فهمها على الظاهر‪ ،‬وأهنا وردت على سبيل اجملاز وال يصح العمل بظاهرها‪ ،‬ومن‬
‫ذلك آايت‪ :‬يد هللا‪ ،‬وعني هللا‪ ،‬وساق هللا‪ ،‬وعرش هللا‪ ،‬وانقة هللا‪ ،‬وروح هللا‪ .‬ومن‬
‫السنة‪ :‬إصبع هللا‪ ،‬ورجل هللا‪ ،‬وحقو هللا‪ ،‬وضحك هللا‪ ،‬وتعجب هللا‪ ،‬وهرولة هللا‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫وغريها كثري‪ ،‬وهي جماز؛ ألن هللا ليس كمثله شيء‪ ،‬ومن األمثلة املشهورة قوله‬
‫تعاىل‪ :‬ﱡﭐﲊﲋﲌﲍﲎﲏﲐﲑﲒﱠ [يوسف‪]٨٢ :‬‬
‫فاملراد اسأل أهل القرية واسأل أصحاب العري‪ ،‬وهذا كثري جداً يف القرآن ويف كالم‬
‫العرب‪ ،‬والظاهر منه غري مراد قطعاً بل املعىن‪.‬‬
‫ومن األمثلة القريبة على اجملاز يف القرآن‪ :‬عرش هللا‪ ،‬وكرس ي هللا‪ ،‬ويد هللا‪ ،‬وعني‬
‫هللا‪ ،‬وإذن هللا‪ ،‬وس اق هللا‪ .‬ويف الس نة‪ :‬ض حك هللا‪ ،‬ومش ي هللا‪ ،‬ورجل هللا‪ ،‬وهرولة‬
‫هللا‪ ،‬وشرب هللا‪ ،‬وابع هللا‪ ...‬وهي كلها مصطلحات متناقضة مع العقيدة يف الظاهر‬
‫ومجاهري الفقهاء يرون صرفها عن ظاهرها واجباً شرعياً وإال وقعنا يف الشرك‪...‬‬
‫‪ | 192‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫إن اإلقرار ابجمل از يف القرآن هو ال ذي يوفر هل ذا الكت اب العزيز حق ه من االحرتام‬


‫واإلجالل يف عص ر العلم‪ ،‬أما تنزيله منزلة النص التش ريعي على النس ق الذي حترر‬
‫به القوانني فسيقودك إىل نتائج متناقضة وهو ابلضبط ما نراه يف اختالف املذاهب‬
‫والتفاس ري‪ ،‬وهذا االختالف حيول دون اس تنباط أحكام هنائية بلغة قانونية حامسة‬
‫ب ل يلزم ك االختي ار من ه ذه امل ذاه ب‪ ،‬وب ذل ك ف إن اختي اران من امل ذاه ب يف‬
‫التش ريع يعين أننا منارس االجتهاد الذي أمر به القرآن الكرمي نفس ه‪ ،‬ونتحرر من‬
‫قيد ظاهر النص‪.‬‬
‫أي نسخ‪ ،‬أو‬ ‫أما أولئك الذين يصرون على ظاهر اللفظ‪ ،‬ويرفضون أن يطرأ عليه ُّ‬
‫ختص يص أو تقييد أو تش ابه أو جماز فإهنم يف الواقع خيالفون منطق األش ياء‬
‫وخي الفون َّأول م ا خي الفون مج اهري األص وليني ال ذين قرروا وجود ه ذه احلق ائق يف‬
‫القرآن ومل يروا قط أهنا تنقص من قدس يته ونوره‪ ،‬وقد أدى متس كهم بظاهر اللفظ‬
‫إىل نتائج مض حكة‪ ،‬فمثالً عند قوله وهللا جعل لكم األرض بس اطاً فإن إئمة كبار‬
‫كاخلازن وابن عطية والقرطيب يذهبون إىل أن األرض مس طحة وإن القول بكروية‬
‫األرض هو جحود للنص القرآن‪,‬‬

‫وأما املتشابه فهو كثري‪ ،‬وقد أشارت إليه آية صرحية يف مطلع (آل عمران)‪ :‬ﱡﭐ ﲇ‬

‫ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓﱠ‬
‫[آل عمران‪ ،]٧ :‬وقد عرفه الفقهاء أبنه ما انقطع علمه وال سبيل إىل معرفة غاايته‬
‫ومضمونه‪ ،‬وعادة ما يدخلون فيه األحرف املقطعة أوائل السور‪ ،‬كما يدخلون فيه‬
‫آايت تنزيه هللا تعاىل عن مشاهبة احلوادث‪.‬‬
‫‪ | 193‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وعند املتش ابه ابلذات كان يعتص م فالس فة اإلس الم حني يرتطمون ابلنص‪،‬‬
‫ويستحيل عليهم أتليفه مع مراد العقل‪ ،‬وخيتارونه أسلوابً حكيماً لفصل املقال فيما‬
‫بني احلكمة والشريعة من االتصال‪.‬‬
‫أن كل هذه القواعد أص بحت مرفوض ة لدى التيار الس لفي الذي‬ ‫ومن املؤس ف‪َّ ،‬‬
‫يكرس القرآن والسنة فوق العقل وفوق العلم‪ ،‬وال يؤمن ابجملاز‪ ،‬وال يؤمن ابملتشابه‪،‬‬
‫وال يوافق يف التخص يص والتقييد‪ ،‬وابت يرى ذلك مؤش راً على خروج األمة من‬
‫الدين ورفض ها احلاكمية‪ ،‬مع أن تقرير هذه املس ائل واالحتكام اليها هو دأب‬
‫الدولة اإلس المية التارخيية‪ ،‬منذ عهد عمر بن اخلطاب إىل قيام احلركات الس لفية‬
‫املتشددة‪.19‬‬

‫ومد لم قل لالس داليل‬ ‫ل س‬


‫ال يعرف لفقيه يف اإلس الم اجتهاد يف النبوة والعقل يش به اجتهاد إقبال‪ ،‬فقد بدا‬
‫موقفه من النبوة ص ادماً للتفكري التقليدي‪ ،‬وقد أش ار بوض وح أن النبوة معنية‬
‫ابملاض ي َّأما املس تقبل فإن النبوة ال تكتبه وال ترمسه‪ ،‬وإمنا تبعث فيك إرادة إنتاجه‬
‫وإدارت ه‪ ،‬وفرق كبري بني املتبع حني يتلقى املعرف ة وبني املتبع حني يقوم إبنت اجه ا‪،‬‬
‫وكي ال نتهم ابملبالغة فإننا نقرأ عبارة إقبال مباشرة‪.‬‬
‫قال إقبال‪" :‬إ َّن النبوة يف اإلس الم لتبلغ كماهلا األخري يف إدراك احلاجة إىل إلغاء‬
‫النبوة نفس ها وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق الس تحالة بقاء الوجود معتمداً‬

‫‪ 19‬مقال االساليب الخمسة لعقلنة التشريع بالنص للمؤلف‪ ،‬نشر في جيرون يناير ‪، 2018‬‬
‫والمنقول هنا فقرات مقتبسة منه‪ ،‬وقد تم الفصل بالنقاط بين كل فقرتين‪.‬‬
‫‪ | 194‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫إىل األبد على مقود يقاد منه‪ ،‬وإن اإلنس ان ال ب َّد له يف النهاية أن يعتمد على‬
‫نفسه‪."20‬‬
‫إن إبطال اإلس الم للرهبنة وتوريث امللك ومناش دة القرآن العقل والتجربة ابس تمرار‬
‫واص راره على النظر يف الكون وأخبار األولني ابعتبارها مص درا رئيس ا للمعرفة‪ ،‬كل‬
‫ذلك صور خمتلفة النتهاء النبوة‪.‬‬
‫ويف س ياق عبارات إقبال اجلريئة فيما يتص ل ابنتهاء النبوة واس تمرار اإلش راق ميكننا‬
‫القول‪ :‬إنه الرسول الذي جاء ليخرج الناس من ضباب اخلوارق إىل ضياء السنن‪.‬‬
‫انتهت النبوة بوص فها قيادة من س جاف الغيب لإلنس ان احلائر‪ ،‬ومل يعد هناك‬
‫حاجة حني نص نع الطائرات والس يارات واجلس ور أن نس أل األنبياء ما لوهنا وما‬
‫ش كلها وإن الطري تش ابه علينا‪ ،‬ومل تعد هناك حاجة أن يراوح األنبياء بني الس ماء‬
‫وبني األرض من أج ل اإلج اب ة على أس ئل ة الن اس لق د رفع ت األقالم وجف ت‬
‫الص حف‪ ،‬وانتهى عص ر اخلوارق وجاء عص ر العلم‪ ،‬وانتهى عص ر الغيب وجاء‬
‫عصر الشهادة‪ ،‬وانتهى عصر الوحي وجاء عصر اإلنسان‪.‬‬
‫لقد بدا موقف بين إسرائيل مضحكاً وهم يتعاقبون يف سؤال موسى بن عمران عن‬
‫البقرة‪ ،‬عن عمرها ولوهنا وطبعها وص فاهتا‪ ،‬وبدا موس ى رهقاً من التناوب بني‬
‫الس ماء واألرض وهو ينقل هلم ما يس تجد من وص ف البقرة يف عمرها ولوهنا‬
‫وش كلها‪ ،‬وعكس ت اآلايت ش كل أمة غبية كس ولة خاملة‪ ،‬ومع أن القص ة تتص ل‬
‫مبس ألة عدالة وقض اء‪ ،‬ولكن األمة املأس ورة ابلغيب ابتت عاجزة عن التقدم خطوة‬
‫واحدة يف إص الح نظامها القض ائي والوص ول إىل حكم فص ل يف مس ألة جناية‬

‫‪ 20‬إقبال‪ ،‬محمد‪ ،‬تجديد التفكير الديني في اإلسالم ص ‪198‬‬


‫‪ | 195‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وقعت على رجل من بين إس رائيل‪ ،‬فما فائدة النبوة يف س ياق كهذا‪ ،‬إهنا لن تنتج‬
‫اإلنسان احلقيقي‪ ،‬إهنا بعض ترف اإلنسان الكس ول اخلامل‪ ،‬وقد ابت واضحاً أنه‬
‫لن ميلك يف س ياقه هذا أي توجه حنو املس تقبل وأنه س يس تأنف ألف عام أخرى‬
‫عاجزاً غبياً لن يستطيع أتسيس نظام قضائي حقيقي يقوم على العقل والربهان‪.‬‬
‫واالجتهاد عند إقبال وريث النبوة‪ ،‬وعنوان ختمها‪ ،21‬ومراراً وقف بثبات وش جاعة‬
‫أمام رس ول هللا يس تلهم رس الته يف القيام والنهض ة‪ ،‬فاملطلوب ليس اس تنس اخ جتربته‬
‫وإمنا خلق جتربة جديدة‪ ،‬والس نة ليس ت تقليد األنبياء وإمنا اتباعهم‪ ،‬وفرق ما بني‬
‫التقليد واالتباع أن التقليد ينص ب على النفوس املطموس ة اليت ال حتس ن إبداعاً وال‬
‫جتيد اخرتاعاً‪ ،‬أما االتباع فهو اتباع منهج وس لوك‪ ،‬وال يكون املرء متبعاً حىت خيلق‬
‫جتربته بيديه!‬
‫ليس املطلوب أن هتدم أواثنه‪ ،‬لقد هدمها بيديه‪ ،‬ولكن املطلوب أن هتدم أواثنك‬
‫أنت‪ ،‬ليس املطلوب أن تقرأ برهانه‪ ،‬بل املطلوب أن تنتج برهانك أنت‪ ،‬إنه رجل‬
‫الرساالت الباقيات‪:‬‬

‫يتح دى ال دهر طوف اانً وموج اً‬ ‫ه‬ ‫أيها الثائر يف أواثن‬
‫‪22‬‬
‫فأس ك اجلبار إقداماً ووهجاً‬ ‫أان يف اهل ي ك ل ف ام ن ح ي إذن‬
‫النبوة اخلامتة ميالد العقل االس تدالل‪ ،‬هكذا قال إقبال‪ ،‬إنه اليوم الذي أعلن فيه‬
‫الرس ول االنتقال إىل عص ر العلم‪ ،‬وحدد مكان النبوات مص ابيح إرش اد وليس‬

‫‪ 21‬حمدي‪ ،‬رضا‪ ،‬مقال بعنوان‪ :‬إسالمية المعرفة‪ ،‬مجلة الفكر اإلسالمي المعاصر‪ ،‬عدد ‪ 84‬ص‬
‫‪.99‬‬
‫‪ 22‬نظم محمد حبش‪ ،‬وكذلك األبيات التالية وهي في سياق كالم إقبال في كتابه ((تجديد التفكير الديني في‬
‫اإلسالم)) ص ‪.15‬‬
‫‪ | 196‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫أقفاص اً على العقل‪ ،‬وجتارب ملهمة وليس ت نص وص اً ملزمة‪ ،‬ومقوداً ألهل البص رية‬
‫وليست مركباً للعميان‪:‬‬
‫نورك الفياض ش الل الس ماء‬ ‫أي ه ا اخل امت جم د األن ب ي اء‬
‫ع اد فين ا حمض بؤس وش ق اء‬ ‫إمن ا ال وه م ال ذي ح ارب ت ه‬
‫ويتقدم إقبال بثقة وشجاعة ويطرح على الرسول األسئلة الصعبة اليت نتكامتها وهي‬
‫تغلي يف ض مائران‪ ،‬حاض رة يف قلق جيل كامل‪ ،‬تعص ف ذاته وتذرو رايحه وهتز‬
‫وجوده‪ ،‬ملاذا مل تنجح النبوات يف تغيري اإلنس ان؟ وهل هناك أس رار يف الكتاب ال‬
‫تزال مقفلة مغلقة؟ وهل علينا ان ننتظر قروانً أخرى حىت تظهر حقائق التنزيل اليت‬
‫تبدو عيوننا عاشية عنها فال نرى هلا أثراً يف إنقاذ احلياة‪.‬‬
‫إهنا أس ئلة جيل كامل بطرحها بني يديه اثئراً ص اخباً‪ ،‬ولكنه يدرك هيبة النبوة‬
‫ومقام الرسالة والرسول‪:‬‬
‫ألف مرحى يوم ألغي ت اخلراف ة‬ ‫اي رس ول هللا اي م ن وج ه ه‬
‫ع اد إره اص اً وومه اً وعراف ة‬ ‫إمن ا ال ن ور ال ذي أوق دت ه‬
‫رس الت ك أيه ا النيب اخل امت أكرب من أن تكون دفرتاً للنظ ام ال داخلي ال ذي يطبق ه‬
‫املوظفون بال نور من العقل‪ ،‬وال بص رية من العرفان‪ ،‬الس ماء ص حائف حكمتك‬
‫والنجوم معامل إش راقك‪ ،‬تتدفق احلكمة يف قلبك من الوحي األمني‪ ،‬ترددها روحك‬
‫البيضاء فتشرق يف نفوس حمدثيك‪ ،‬حني يتألأل وجهك كأنه قطعة قمر‪.‬‬
‫غ ري أش واق وأذواق ون ور‬ ‫م ا النبوات اليت ك ان ت لكم‬
‫فجرت أنغ امه ا فوق الس طور‬ ‫أش رقت ش وقاً على أمساعكم‬
‫‪ | 197‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لقد كنا نتابعك بش غف وأمل أيها الرس ول اجمليد‪ ،‬وكنا نرقب كلماتك املنرية يف كل‬
‫حدث جديد‪ ،‬مل نكن نش ك أنك متلك حل مشاكلنا الرهيبة وأنت تش رب فنجاانً‬
‫من القهوة‪ ،‬ف الوحي بني معطفي ك ول دي ك اخلط الس اخن مع هللا‪ ،‬إن أن ت إال‬
‫وحي يوحى علمه ش ديد القوى ذو مرة فاس توى وهو ابألفق األعلى‪ ،‬ولكن ملاذا‬
‫اخرتت الرحيل أيها املعلم؟ وما حكمة انتهاء النبوات؟‬
‫رغم م ا يش ه ده الع امل ه ذا‬ ‫ف ل م اذا خ ت م ت أس راره ا‬
‫ومل اذا ومل اذا ومل اذا؟‬ ‫ومل اذ ط وي ت أن واره ا‬
‫هو ذا العامل بص خبه وطيش ه مل يتغري على الرغم من قوافل األنبياء اليت مل تتوقف‪،‬‬
‫وها حنن حنمل مرياث النبوات مجيعاً ولكننا ال نزال آخر األمم‪ ،‬وها هي تس بقنا‬
‫أمم ليس هلا من النبوات نص يب‪ ،‬وال تعرف يف اترخيها أول عزم من رس ل وأنبياء‪،‬‬
‫فما معىن أن يكون ذلك كله؟ ومل ال تنهض بنا اليوم رايح النبوة؟‬
‫كيف تودع العامل أيها املعلم الكبري وتعلن ختم النبوة وملا تكتمل رس التك بعد؟‬
‫وكيف يكون ختم النبوة والناس ما زالوا يف غمرات يلعبون؟ إنين أمس ك مبعطفك‪،‬‬
‫وآخذ حبقوك أيها املعلم فأخربن ما معىن هذا كله؟‬
‫روح خالقة من‬
‫ويتقدم إقبال يف جواب الش كوى حيمل وص ية املعلم الرس ول يف ٍّ‬
‫البيان والربهان‪ ،‬يشرح أسرار ختم النبوة والتحول من عامل الغيب إىل عامل العقل‬
‫‪ | 198‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫خ دم ة ل ل ع ق ل أهن ي ت ال ن ب وة‬ ‫دي ق ي إن ين‬ ‫ال ت ل م ين اي ص‬


‫ف خ ذوا أق دارك م ع ين ب ق وة‬ ‫مل أش أ أرض ى لكم أوه امكم‬
‫***‬

‫جث ث تس كن يف جوف املق ابر‬ ‫جم دك م يف األرض ال ت رمس ه‬


‫ابر‬ ‫واصعدوا أنتم على تلك املن‬ ‫وا‬ ‫فخذوا أقداركم وانتبه‬
‫أان مل آت إىل هذا العامل ألس وق قطيعاً هائماً ينعق مبا ال يس مع إال دعاء ونداء‬
‫ص م بكم عمي فهم ال يعقلون‪ ،‬لقد جئت إىل هذا العامل وعيون ترنو إىل جيل من‬
‫األبطال أص حاب البص رية يقودون احلياة أبمل ويقني وتش رق يف أمانيهم روافد‬
‫احلكمة‪.‬‬
‫أان مس تمر فيك أيها املس لم‪ ،‬أنت هو النبوة املتدفقة‪ ،‬ليس ت النبوة تراتيل ومتائم‪،‬‬
‫وال هي رقى وتعاويذ‪ ،‬إهنا ثورة الذات وطموح احلياة‪ ،‬جذوهتا أنت ومص باحها‬
‫أنت‪ ،‬حنن ذكراك ولكننا لس نا ذاتك‪ ،‬حنن آابؤك ولكننا لس نا أص نامك‪ ،‬العامل‬
‫مستمر وعليك ان تدرك مكانك كل يوم‪:‬‬
‫نورك الب اقي على مر العص ور‬ ‫إن مص ب احي ال ذي أوق دت ه‬
‫‪23‬‬
‫ل ي س زي يت وأان اب ن ال ق ب ور‬ ‫إمن ا زي ت ك م ن يس رج ه‬

‫‪ 23‬هذه األبيات وما سبقها نظم محمد حبش‪ ،‬وهي في سياق ما شرحه إقبال عن والدة العقل االستداللي‬
‫وختم النبوة‪ ،‬انظر تجديد التفكير الديني في اإلسالم لمحمد إقبال ص ‪ 150-149‬وكذلك ديوان إقبال‬
‫ارمغان حجاز باعتناء الغوري ج ‪ 2‬ص ‪.533‬‬
‫‪ | 199‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫يطرح إقبال فهماً فريداً ملس ألة النبوة‪ ،‬يتجاوز الس ياق التقليدي يف مس ألة الغيب‬
‫والش هود‪ ،‬إنه يطرح أس ئلته بص يغة حقوقية مباش رة جتمع بني احلقوقي والش اعر‪،‬‬
‫وتقارب ما بني الغايتني‪.‬‬
‫وعلى الرغم من موقف إقبال البالغ االحرتام للنبوات كلها‪ ،‬واعتبار اتريخ النبوة هو‬
‫س ياق التاريخ اإلنس ان‪ ،‬وأن األنبياء هم قادة اإلنس انية يف مش وارها الطويل‪،‬‬
‫ومواقفه املش هودة يف اإلميان املطلق ابلنبوات خزائن ملعرفة هللا وبواابت لنعيم اجلنة‬
‫ولكنه ينظر إىل نبوة الرسول الكرمي من منطلق آخر‪.‬‬
‫لق د رأى أن النبوة اخلامتة هي ميالد العق ل االس ت دالل‪ ،‬وهن اي ة العق ل االتباعي‪،‬‬
‫مولد األحرار وهناية القطيع‪ ،‬مولد الفكر وهناية الرواية‪.‬‬
‫يف مقاله‪ :‬س ؤال التجديد وراهنية حممد إقبال كتب عبد هللا أدلكوس يف وص ف‬
‫منهج إقبال يف إحياء العقل االس تدالل‪" :‬من أجل ذلك‪ ،‬كان إقبال يروم ويؤيكد‬
‫ض رورة إعادة تركيب الفكر الديين‪ ،‬مبا يفض ي إىل تقدمي تفس ري جديد غري‬
‫لكل زمان ومكان" أي قائم ابألس اس على‬
‫إيديولوجي ملقولة "اإلس الم ص احل ي‬
‫أنس اق معرفية جديدة ال ميكن بلوغها‪ ،‬دون رؤية للعامل خمتلفة جذرايً"‪ .‬وريمبا هذا‬
‫م ا دفع أبح د منتق دي ه‪ ،‬وهو ال دكتور حمم د البهي‪ ،‬يف كت اب ه الفكر اإلس المي‬
‫وبقوة‬
‫احلديث وص لته ابالس تعمار الغريب إىل االعرتاف مبكانة الرجل العلمية‪ ،‬ي‬
‫عرب عن حركته الفكرية ب "إعادة‬
‫طرحه‪ ،‬ففي نظر الناقد‪ ،‬كان إقبال دقيقاً‪ ،‬عندما ي‬
‫أي حماولة‬
‫بناء الفكر الديين" يف اإلسالم‪ ،‬دون التعبري ب "اإلصالح الديين"؛ أل ين َّ‬
‫إنس انية تدور يف حميط اإلس الم ال تتعلق بتعديل مبادئه‪ ،‬طاملا أ ين مص دره‪ ،‬وهو‬
‫أي حركة إص الحية يف اإلس الم‪ ،‬بعد‬‫القرآن‪ ،‬له ص فة اجلزم‪ ،‬والتأكيد‪ ،‬واألبدية‪ ،‬و َّ‬
‫‪ | 200‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫ذلك هي إذن يف دائرة الفكر اإلس المي حوله‪ ،‬ويف دائرة أفهام املس لمني ملبادئه‪.‬‬
‫تطور لإلس الم نفس ه؛ أل ين الوحي به قد انتهى على عهد الرس ول‬ ‫وليس هناك ي‬
‫ﷺ‪ .‬كما ُختمت برس الته الرس الة اإلهلية‪ ،‬وال يرتقيب إذاً أن يكون هناك إص الح‬
‫ديين يف اإلسالم على النحو الذي مت بصنعة مارتن لوتر يف املسيحية‪ ،‬فعدم التثبت‬
‫يف رواية اإلجني ل‪ ،‬وعدم االتفاق على رواية واحدة مؤيكدة له‪ ،‬أاتح منافذ عديدة‪،‬‬
‫ممر الزمن‪ ،‬جزءاً ال‬
‫فدخل منها إىل رس الة املس يح عادات وأفهام أص بحت على ي‬
‫‪24‬‬
‫يتجزأ عن املسيحية‪ ،‬ومن َمثَّ أاتح فرصة إلصالح لوثر‪ ،‬ومن على شاكلته"‬
‫ي‬
‫ومع أن إقبال كتب هذه التس اؤالت بلغة حقوقية ص ارمة‪ ،‬ولكنه عاد إىل عامله‬
‫الروحي يرمسها بظالل الش اعر‪ ،‬ووقف بثبات وش جاعة أمام النيب الكرمي يس تلهم‬
‫رس الته يف القيام والنهض ة‪ ،‬فاملطلوب ليس اس تنس اخ جتربته وإمنا خلق جتربة‬
‫جديدة‪ ،‬والس نة ليس ت تقليد األنبياء وإمنا اتباعهم‪ ،‬وفرق ما بني التقليد واالتباع‬
‫أن التقليد ينص ب على النفوس املطموس ة اليت ال حتس ن إبداعاً وال جتيد اخرتاعاً‪،‬‬
‫أما االتباع فهو اتباع منهج وسلوك‪ ،‬وال يكون املرء متبعاً حىت خيلق جتربته بيديه‪.‬‬
‫َّ‬
‫إن قوة النبوة إذن عند إقبال ليس يف أهنا أجابت عن أس ئلة املاض ي واحلاض ر‬
‫واملس تقبل كما هو الش ائع يف تص ور الفقهاء‪ ،‬لقد نظر إليها من أفق آخر إهنا‬
‫ميالد العقل االس تدالل‪ ،‬إهنا اللحظة اليت ابت من املمكن للعقل أن ميتلك رش ده‬
‫وأن يكف عن التماس طريقه ودربه من رواايت السماء‪ ،‬إهنا اللحظة اليت حيل فيها‬
‫الش هود حم ل الغي ب‪ ،‬والعق ل حم ل النق ل‪ ،‬والعلم حم ل اخلوارق‪ ،‬والربه ان حم ل‬
‫العجائب‪.‬‬

‫‪ 24‬أدلكوس‪ ،‬عبد هللا‪ ،‬مقال نشره الباحث في مدونة مؤمنون بال حدود‪ ،‬مايو ‪2015‬‬
‫‪https://www.mominoun.com/articles‬‬
‫‪ | 201‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫يقرتب منه يف منص ة حض وره وقراره‪ ،‬لقد فهمت مرادك متاماً حني تريدن أن‬
‫أعتمد على زندي ويدي‪ ،‬وأن أس تض يء بنور العقل وبرهانه‪ ،‬ولكن ما هي إذن‬
‫تلك النبوة اليت مألت العامل ابحلب واألمل؟‪.‬‬
‫إهنا أش واق وأذواق‪ ،‬كنت ترس م فيها ص ورة اإلنس ان اإلعلى‪ ،‬يف قيمه وأخالقه‬
‫وطه ارة روح ه وس ع ادة فؤاده‪ ،‬ومن اهلوان أن هتبط هب ا لتكون جمرد أنظم ة إدارة‬
‫وقضاء واقتصاد‪:‬‬
‫املدارس اليت متأل املدن القدمية‪ ،‬تنتش ي فيها برائحة التاريخ ونس ائمه وذكرايته‪،‬‬
‫ولكنها ابتت عاجزة عن محل رايح التغيري‪ ،‬ومل تس تطع أن تقدم يف ركاب احلداثة‬
‫ما حيتاجه املس لم يف رس الة القيام‪ ،‬لقد ابتت طافحة ابلنص وص والرواايت ولكنها‬
‫تقرأ احلاض ر بعيون املوتى‪ ،‬وتتحدث عن املس تقبل بص يعة املاض ي املس تمر‪ ،‬وابتت‬
‫خيوهلا بال أرجل‪ ،‬وأجنحتها بال ريش‪ ،‬جترت ماض يها وتعجز عن الوثوب للحاض ر‪،‬‬
‫إهن ا حتتوي يف مفرداهت ا روائع احلكم ة‪ ،‬وم اء احلي اة وترايق احلكم ة‪ ،‬ولكنه ا غ ائب ة‬
‫عن روح العص ر‪ ،‬لقد حتول اجرتار هذا املاض ي إىل حبط يقتل أو يكاد‪ ،‬وقد‬
‫بشمن وما تفىن العناقيد‪.‬‬
‫ص ار س قيا من دم مر وس م‬ ‫اهد ما للمستقى‬ ‫أيها الش‬
‫‪25‬‬
‫رمب ا ي ق ت ل ح ب ط اً أو ي ل م‬ ‫إن م اء امل زن ت رايق احل ي اة‬

‫‪ 25‬األبيات من نظم محمد حبش وهي في سياق ما شرحه إقبال في ختم النبوة ووالدة العقل االستداللي‪،‬‬
‫تجديد التفكير الديني في اإلسالم ص ‪ 151‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ | 202‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫إن األنبياء مل يكتبوا فلس فة عميقة وإمنا عزفوا على أواتر ص حيحة‪ ،‬الفلس فة‬
‫نظرايت والدين جتربة حية‪ ،‬وتفاعل‪ ،‬واتص ال وثيق‪ ..‬وهو آخر ما انعرجت عنه‬
‫شفتا حممد قبل رحيله‪.26‬‬

‫‪ 26‬إقبال‪ ،‬محمد‪ ،‬تجديد التفكير الديني في اإلسالم‪ ،‬ص ‪.140‬‬


‫‪ | 203‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫وبعد ‪...‬‬
‫فهذه قراءة اس تقرائية جلهود الفقهاء عرب التاريخ لتطوير الش ريعة عرب الذهاب إىل‬
‫روح القرآن ومقاصده بدالً من الوقوف عند ظاهر حروفه عند حلظة التنزيل‪.‬‬
‫واهلدف الرئيس هلذه الدراس ة هو أتكي د ما نطالب به من تق دمي العق ل واحرتام‬
‫النقل هو املنهج الذي س اد يف التاريخ اإلس المي وطبقه بعناية وش جاعة الفقهاء‬
‫الكرام ال ذين تص دوا ألمر الناس وجنحوا يف تق دمي قوانني وش رائع حيتكم إليها‬
‫اجملتمع‪.‬‬
‫إننا ال نعيد اخرتاع احلروف وال ص ناعة املطبعة‪ ،‬ما نطالب به هو ببس اطة الطريق‬
‫اليت س لكها العامل فجر العص ر احلديث من البحث والنظر والنقد البنَّاء ومتكن عرب‬
‫ذلك من عبور العصور الوسطى املظلمة إىل العصر احلديث‪.‬‬
‫إهنا حكاية واحدة ميكنك رص دها يف أورواب وأمريكا والياابن والص ني وس ائر الدول‬
‫العظمى اليت عاش ت معاانتنا املريرة من ص راع العقل والنقل‪ ،‬وجربت لقرون طويلة‬
‫حس م هذه املعركة العابثة‪ ،‬وأعلن رجال الدين فيها حروابً ص ليبية مقدس ة للقض اء‬
‫على الزاندقة واهلراطقة والعلمانيني‪ ،‬فيما أعلن العلمانيون أهنم س يش نقون آخر‬
‫ملك أبمعاء آخر قس يس‪ ،‬ولكن كل هذه الوعود الثارية مل أتهتم ابلتقدم املأمول‬
‫وال ابحللول الواقعية لنهض ة اجملتمع‪ ،‬ويف النهاية انتص ر ص وت العقل يف العواص م‬
‫احلض ارية الناجحة وتبنت دس اتريها وإعالاانت اس تقالهلا ص يغة من احرتام النقل‬
‫واتباع العقل‪ ،‬وهكذا أشرق فجر احلضارة وتوقفت حروب األداين‪.‬‬
‫‪ | 204‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫هذا ابلضبط ما حنتاج أن نصل إليه لنطوي عصر اخليبات واالصطفافات‪ ،‬وننجح‬
‫أيض اً يف احرتام النقل وإكرام العقل‪ ،‬وبناء جمتمع منس جم ينظر إىل املاض ي ابحرتام‬
‫وينظر إىل املستقبل بقداسة وأمل‬

‫إذا كان ماضينا مقدساً أفليس ابحلري أن يكون مستقبلنا مقدساً؟‬


‫‪ | 205‬نور يهدي ال قيد يأسر‬

‫لمفهرس‬
‫متهيد ‪1....................................................‬‬
‫األول‪ :‬القرآن الكرمي ‪ -‬القدَّاسة والتَّشريع ‪11 ............‬‬
‫احملور َّ‬
‫احملور الثان‪ :‬حتديد املقاصد العليا للقرآن ‪19 ..................‬‬
‫لكل زمان ومكان ‪49 ....................‬‬
‫احملور الثالث‪ :‬صاحل ي‬
‫احملور الرابع‪ :‬املنهج النبوي يف تطوير األحكام ‪57 ..............‬‬
‫احملور اخلامس‪ :‬أصول الفقه وقواعد تطوير الشريعة‪73 ..........‬‬
‫احملور السادس‪ :‬جهود الفقهاء يف تطوير الشريعة ‪91 ...........‬‬
‫احملور السابع‪ :‬يف تقدمي العقل واحرتام النقل‪135 ..............‬‬
‫احملور الثامن‪ :‬التطوير فيما سكت فيه النص ‪167 .............‬‬
‫احملور التاسع‪ :‬اكتمال اإلسالم أم استمراره‪175 ...............‬‬

You might also like