You are on page 1of 8

‫من أجل فقه الحضارة الرشيد‬

‫( ُن َقط ونُ َكت في مشروعية منظمة األمم المتحدة باعتبارها نظاما دوليا ضابطا)‬

‫بقلم‪ :‬عفة األمنية إسماعيل‬

‫احلمد هلل الذي خلقنا شعوبا وقبائال ليتعارف بعضنا على بعض‪ ،‬ورفعنا بالتقوى على سائر األمم‪،‬‬
‫وجعلنا أمة وسطا لنكون‪ -‬شهداء على الناس كافةً‪ .‬والصالة‪ -‬والسالم على خري األنام‪ ،‬الذي أقر‬
‫بأن الناس سواسية كأسنان‪ -‬املشط فال فضل لألبيض‪ -‬على األسود واألمحر إال بالتقوى‪ ،‬وقد جعله‬
‫وُأمةً‪ ،‬ومن‬
‫حبق من اآلل ذريةً َّ‬
‫اهلل علينا شهيدا وأرسله للعاملني رمحةً‪ ،‬وعلى كل من انتسب إليه ٍّ‬
‫العلماء العاملني صحابةً وتابعني وورثةً‪ .‬أما بعد‪.‬‬

‫فيهمين أن أحتدث أمام حضراتكم يف موضوع "مشروعية منظمة األمم املتحدة باعتبارها نظاما‬
‫دوليا ضابطا"‪ ،‬من حيث أين سوف أذكر بإجياز نَِقاطاً مهمة اليت ال بد من أخذها بعني االعتبار يف‬
‫هذا املضمار‪ ،‬مث أتعرج بعد ذلك إىل الكالم‪ -‬على نِ ٍ‬
‫كات بارزة وهي مواضع التأمل الفكري وحماور‬
‫التجديد الفقهي فيما حنن بصدده‪.‬‬

‫فمن هذه النقط أو النقاط املهمة‪:‬‬

‫فقه احلضارة هي جمموعة من احملدِّدات الفكرية واآلليات املنهجية واملفاهيم العلمية اليت‬ ‫‪‬‬
‫تؤدي مبراعاهتا إىل فهم صحيح للنصوص والواقع كخطوات أولية لرتسيم خطوط التقدم‬
‫وُأم ٍة من األمم‪ .‬واحلضارة نفسها‪ :‬مجلة من املوجودات‬
‫وبلوغه لشعب من الشعوب َّ‬
‫املعنوية‪ -‬واملادية اليت تؤثر وتتيح جملتمع ما أن يوفر لكل فرد من أفراده مجيع الضمانات‬
‫السياسية واالجتماعية الالزمة لتقدمه وبلوغ مآربه وطموحاته املشروعة‪ .‬فاحلضارة لزوم‬
‫التقدم‪ ،‬وضدها البداوة اليت هي التقهقر إىل املاضي أو اجلمود على احلاضر املتدهور‪.‬‬
‫‪ ‬يتكون‪ -‬فقه احلضارة من وجهني متالزمني أيضا‪ :‬األمور املعنوية النظرية‪ ،‬وهو الذي‬
‫اصطلح عليه بعض املتأخرين بـ "العقل" أو الوعي بصفته جمموعة من النظريات واملفاهيم‪-‬‬
‫املرشدة؛ واألمور الوجودية الواقعية (السياسية‪ -‬واالجتماعية) اليت هي ممارسات وتطبيقات‬
‫لتلك النظريات واملفاهيم‪ -‬يف أرض الواقع‪.‬‬
‫واألمور املعنوية‪ -‬سابقة يف وجودها على األمور الواقعية‪ .‬أو العكس‪ -.‬هذا حمل خالف بني‬ ‫‪‬‬
‫املذاهب‪ -‬الفلسفية‪ .‬وإمنا يهمنا أن نقول إن مثة ترابطا بينهما يف عالقة جدلية التأثري والتأثر‬
‫اليت ال تتوقف إىل أن يرث اهلل األرض وما عليها‪ .‬فمن هنا نفهم‪ ،‬كلما يكون الواقع يف‬
‫املقدمة وجير النظر‪ ،‬فكلما يدل ذلك على تقهقر الفقه أمام الواقع‪ .‬وكلما تقهقر الفقه‬
‫كان ذلك مؤشرا على احلاجة امللحة إىل جتديده‪ .‬وجتديد فقه احلضارة إمنا يكون بإعادته‬
‫إىل مكانه ووظيفته كمعلم وأستاذ للحضارة‪ .‬األمر الذي يذكرنا باحلكمة اجلاوية املأثورة‪:‬‬
‫( ‪ing ngarso sung tulodo, ing madyo mangun karso, tut‬‬
‫‪ ،)wuri handayani‬وتعريبه‪ :‬يف املقدمة يكون قدوة‪ ،‬ويف األواسط يكون‪ -‬ملهما‬
‫وموجها‪ ،‬ومن اخللف يكون باعثا ودافعا‪.‬‬
‫ويظهر تقهقر الفقه وختلفه جبلية من ثباته على ما يلزم التغري فيه‪ .‬ومن خالل معاجلاته‬ ‫‪‬‬
‫ملشاكل املاضي بالنسبة ألقطاب احلضارة املثلثة‪ -:‬اإلنسان‪ -،‬املكان‪ ،‬الزمان‪ .‬وهو غائب كليا‬
‫أو نسبيا عن مشاكل احلاضر ونوازله املتجددة‪ .‬فتوقفت احلضارة عن التقدم‪ ،‬وأما أقطاهبا‬
‫وإن حتركت فهي متحركة على حاله ومكانه‪ ،‬بل تراجعت وجتمدت‪ .‬فمهمة فقه احلضارة‬
‫حتريك اجلامدات على أساس تلك القاعدة املتبعة‪ -،‬وهي من شعارات مجعية هنضة العلماء‬
‫املعروفة‪" :‬احملافظة على القدمي الصاحل واألخذ باجلديد األصلح"‪.‬‬
‫وقضايا التجديد يف فقه احلضارة كثرية ومرتامية األطراف‪ .‬وقد أقامت مجعية هنضة العلماء‬ ‫‪‬‬
‫حلقات نقاشية وندوات علمية جديرة باالهتمام‪ ،‬وقد انعقدت يف أكثر من مائتني‬
‫ومخسني حمفال‪ ،‬تقود هبا اجلمعية دعوة التجديد إىل فقه احلضارة الرشيد متهيدا هلذا املؤمتر‬
‫العاملي العامر‪ .‬ومن أهم توصياهتا‪ :‬ضرورة تفعيل مناهج التفكري اإلسالمي آلية وأصوال‬
‫ومقاصد من أجل إنتاج أفكار ِ‬
‫مبتكرة قادرة على الوفاء مبتطلبات احلاضر ويُ ْستشرف هبا‬ ‫َ‬
‫املستقبل‪ .‬ال جمرد إعادة إنتاج املاضي يف حيز احلاضر‪ .‬وإال‪ ،‬ستتسع اهلوة‪ -‬الفاصلة بني‬
‫النظري والفقهي يف ضفة وبني الواقع املعيشي يف ضفة أخرى‪ ،‬فعجز الفقيه‪ -‬على عبورها‪:‬‬
‫العبور من الفقه القدمي إىل الواقع املتجدد‪ .‬وعاش اإلنسان – وهو قطب أقطاب احلضارة‬
‫املفرتض – مصابا حبالة اإلغماء عن واقعه‪ ،‬فاعرتته عقدة انفصام الشخصية احلائلة دون‬
‫ومعطيات هذا الواقع‪ ،‬فضال عن اختاذ مواقف صحيحة بإزائها‪.‬‬
‫تصور حقائق ُ‬
‫فليس يف اإلمكان‪ -‬ترك ما كان‪ .‬الكائن املوروث جيب استيعابه والعمل به قدر اإلمكان‪-،‬‬ ‫‪‬‬
‫إمهال‪ .‬فعلى هذا‪ ،‬وجب أن تظل‬ ‫لننطلق منه ونتجاوز به إىل ما سيكون‪ -.‬جتاوز إعمال ال ٍ‬
‫ُ‬
‫جذورها يف طبقات أرض الواقع املرتتبة عرب األزمنة املتالحقة‪-.‬‬ ‫ِ‬
‫الرشيد‬ ‫ألصول ِ‬
‫فقه احلضارة‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫وهي أصول املناهج للتفكري وأصول األفكار اليت يستند أو يقاس عليه‪ .‬ومها بعبارة‬
‫األصوليني‪ :‬أدوات االجتهاد ومصادره‪ .‬وذلك لإلجابة مثال ‪-‬حسب ما حنن بصدده‬
‫اآلن‪ -‬على سؤال‪ :‬هل مشروعية منظمة األمم املتحدة باعتبارها نظاما عامليا ضابطا‬
‫صارت أمرا مفروغا منه؟ أو هي يف حاجة إىل مزيد التنظري والتأصيل‪ -‬والتخريج الفقهي؟‬

‫فمن هنا آن األوان‪ -‬للشروع يف نكات رئيسية يف هذا املوضوع‪ .‬والنكت‪ -‬مجع النكتة‪ ،‬وهي مسألة‬
‫علمية دقيقة أخرجت بدقة النظر وإمعان‪ -‬الفكر‪ .‬فوضع هذه النكت عمليا تكون على ثالث‬
‫خطوات على الرتتيب‪ -:‬التأصيل‪ ،‬والتخريج‪ ،‬والتنظري‪.‬‬

‫أما التأصيل فهو اجلواب عن السؤال‪ :‬هل ملثل هذه املنظمة ووظيفتها‪ -‬باعتبارها‪ -‬نظاما ضابطا‬
‫أصوهلا يف مصادر الفقه املعتربة‪ :‬القرآن‪ ،‬والسنة‪ ،‬واإلمجاع‪ ،‬والقياس‪ ،‬وغريها من املصادر؟ وال‬
‫شك أن اجلواب يأيت باإلجياب‪ :‬نعم‪ .‬وقد تضافرت اآليات القرآنية وأحاديث السرية النبوية‪ -‬لتؤيد‬
‫هذا اجلواب‪ .‬كما ميكن متهيد ما سنقوم به من التخرجيات والتنظريات‪ -‬املقبلة بذكر ما يصلح من‬
‫آلية االستدالل بالقياس لعلة جامعة‪.‬‬

‫فج ُّل اآليات القرآنية املتعلقة بالعالقة العادلة والسلمية بني أبناء البشرية‪ ،‬والصلح‪ ،‬والوفاء بالعهد‪،‬‬
‫ُ‬
‫ؤسسا لشرعية اجتماع الناس على جممع واحد للقيام بتنظيم‬
‫والوفاء بالعقود‪ ،‬كلها تصلح دليال ُم ِّ‬
‫أمورهم وتيسري شؤوهنم ودفع الظلم واإلصالح فيما بينهم‪ .‬وال دليل من القرآن الكرمي ما مينع‬
‫انعقاد الصلح الدائم بني املسلمني وغريهم‪ ،‬بل الثابت‪ -‬أنه تعاىل قال فيه‪" :‬ال ينهاكم اهلل عن الذين‬
‫مل يقاتلوكم يف الدين ومل خيرجوكم من دياركم أن تربوهم وتقسطوا إليهم إن اهلل حيب‬
‫املقسطني"‪( .‬سورة املمتحنة‪.)8 :‬‬
‫وهناك أحاديث السرية النبوية‪ -‬تدل على أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قام فعال بتدشني املعاهدات‬
‫والتحالفات واملؤاخات‪ -،‬سواء كانت بني املسلمني وإخواهنم‪ ،‬وبني املسلمني وغريهم‪ .‬ومنها‪:‬‬
‫الروايات التارخيية اليت حتكي قصة حتالف وقع بني الدولة اإلسالمية بقيادة رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وبني كيان آخر من الكيانات غري اإلسالمية‪ ،‬وهو قبيلة خزاعة‪ .‬وقد تصرف النيب‬
‫مبوجبه وقرر فتح مكة من أجله‪.‬‬

‫ولنقف قليال فيما عمله النيب صلى اهلل عليه وسلم من املعاهدات اليت جاءت بصيغة‪ -‬التأبيد كما‬
‫جاءت يف وثيقة املدينة املشهورة‪ ،‬وكذلك معاهدته ألهل جنران‪ ،‬وأهل خيرب وبين ضمرة‪ .‬جاءت‬
‫يف نص معاهدة بين ضمرة‪" :‬أهنم آمنون‪ -‬على أمواهلم وأن هلم النصر على من دمههم بظلم‪ ،‬وعليهم‬
‫صوفةً‪ ."...‬فأشار نص املعاهدة‪ -‬إىل أهنا متت بني طرفني‬
‫حبر ُ‬
‫بل ٌ‬‫نصر النيب صلى اهلل عليه وسلم ما َّ‬
‫متعادلني يف الرتبة متكافئني يف القوة ‪ ،‬وأهنا تستلزم احملافظة على األموال واألنفس‪ ،‬كما تستلزم‬
‫حبر صوفةً"‪ ،‬وهو‬
‫بل ٌ‬‫املناصرة ضد االعتداءات‪ -‬اخلارجية‪ .‬كما أهنا تتضمن أيضا تعبريا‪ -‬عربيا‪" :‬ما ّ‬
‫تعبري يدل على الدميومة؛ ألن خاصية البلل دائمة يف ماء البحر‪ .‬ومن أهم املعطيات التارخيية اليت‬
‫دلت عليها هذه املعاهدات‪ -‬أن النيب صلى اهلل عليه وسلم مل يفرض على األطراف األخرى اجلزية‪.‬‬
‫فجاءت عبارة "عليهم بذلك ذمة اهلل ورسوله" مبعناها لغوي‪ ،‬ال ذمة اصطالحية املتعارفة الحقا؛‬
‫وذلك لوجوب املناصرة املسلحة عليهم وعدم إلزامهم دفع اجلزية‪.‬‬

‫مث لنعد إىل ِح ْل ف الفضول لتتضح الصورة أكثر‪ .‬وهو من األحالف اجلاهلية اليت شهدهتا قريش‪،‬‬
‫وقد انعقد بني عدد من عشائر قبيلة قريش يف مكة‪ ،‬يف شهر ذي القعدة‪ -‬سنة ‪ 590‬م حيث‬
‫تعاهدوا فيه على أن‪" :‬ال يظلم أحد يف مكة إال ردوا ظالمته"‪ .‬واهلدف األساسي منه‪ :‬حفظ‬
‫النظام العام وتسيري العالقات التجارية بني مكة أم القرى والبلدان‪ -‬اجملاورة‪ -‬املستوردة واملصدرة‪-.‬‬
‫وقد شهد النيب حممد هذا احللف قبل بعثته‪ -‬وله من العمر ‪ 20‬سنة‪ ،‬وقال عنه الح ًقا إنه لو دعي به‬
‫يف اإلسالم‪ -‬ألجاب‪.‬‬

‫واملتأمل‪ -‬أن هذا احللف عبارة عن اجتماع بعض رؤساء القبائل وأسياد العشائر إلعطاء ضمانات‬
‫َّ‬
‫كافية جلريان التعامالت‪ -‬اليومية باملعروف حىت ينضبط هبا سري التعايش بني الناس فردا ومجاعة‪.‬‬
‫وقد قام نظام الدولة القومية‪ -‬الوطنية‪ -‬احلديثة مقام هذه القبائل والعشائر يف عصرنا الراهن‪ ،‬مما يفتح‬
‫أفقا واسعا لقياس نظام منظمة دولية كعصبة األمم أو منظمة األمم املتحدة على تلك العشائر‬
‫املتعاهدة‪ -‬والقبائل املتحالفة (أي قامت بإبرام احللف ‪ /‬العهد ‪ /‬الوعد)‪ ،‬مث قياس ميثاق األمم‬
‫املتحدة على ِحلف الفضول‪ ،‬حىت تتحقق به مصاحل مشرتكة واألمن العام لسائر الناس‪.‬‬

‫وقد جاء لنا يف تاريخ الدعوة اإلسالمية يف جزر األرخبيل (نوسانتارا ‪ /‬إندونيسيا) أمثلة كثرية من‬
‫املعاهدات والتحالفات بني أفراد ومجاعة‪ ،‬املسلمة وغريها‪ ،‬بل بني اململكة اإلسالمية‪ -‬وغريها‬
‫لتحقيق أهداف مشرتكة‪ .‬منها‪ :‬املعاهدة والتحالفات بني مملكة ماجاباهيت‪ -‬الوثنية وبعض‬
‫اإلمارات املسلمة حلفظ النظام العام‪ ،‬والتحالف بني سلطنة دمياك بقيادة األمري عبد القادر بن‬
‫يونس وبعض اإلمارات غري املسلمة يف احلرب ضد االحتالل الربتغايل‪ .‬كل ذلك من أجل ضبط‬
‫احلياة العامة وضمان األمن يف املنطقة‪ .‬وقد استند هؤالء الرواد على ما فعله النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم واقتدوا‪ -‬به إذ أقاموا اتفاقية‪ -‬دفاع مشرتك مع كيانات غري إسالمية وأنشأوا‪ -‬معهم ما ميكن‬
‫تسميته حسب املصطلح املعاصر باحللف اإلقليمي أو املنظمة اإلقليمية‪.‬‬

‫فإذا كانت الغاية من هذه التحالفات واملعاهدات‪( -‬وهو األصل املقيس‪ -‬عليه ههنا) تكمن يف حتقيق‬
‫مصاحل اجلماعات وحتقيق أمن املنطقة‪ -‬بشكل حمدود‪ ،‬فليس هناك ما مينع اتساع هذه الغاية لتمتد‬
‫إىل حتقيق مصاحل أهل األرض كله وضمان األمان هلذا الكل بال أدىن متييز وال تفرقة‪ ،‬وذلك‬
‫بالنسبة مليثاق منظمة األمم املتحدة واهليئات التابعة‪ -‬هلا؛ ألن "العام یبقى على عمومه"‪.‬‬

‫واملالحظ أيضا أن حكم هذه التحالفات واملعاهدات واملواثيق‪ ،‬وبالتايل‪ :‬حكم ما تفرع منه‬
‫(كميثاق األمم املتحدة ومنظمتها) ال يتعلق هذا احلكم بذات التحالفات واملعاهدات واملواثيق ٍ‬
‫كل‬
‫على ِح َد ة‪ ،‬وإمنا يتعلق مبا يقوم عليه‪ .‬فإهنا إذا كانت قائمة على التناصر بالباطل وعلى البغي‪-‬‬
‫والعدوان كانت حمرمة‪ .‬أما إذا كانت قائمة على مصلحة الدفاع املشرتك‪ -‬وعلى نصر املظلوم وعلى‬
‫التأسي‪ -‬يف املعاش فليست حمرمة قطعا‪ .‬أمل نر بأن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان معجبا أميا‬
‫إعجاب ِحب لف الفضول‪ ،‬وأبرم املعاهدات‪ ،‬واهلدنات كصلح احلديبية‪ ،‬وعمل ميثاقا بينه وبني‬
‫الكيانات غري اإلسالمية كوثيقة‪ -‬املدينة‪ ،‬بل ثبت تارخييا أنه صلى اهلل عليه وسلم استعان‪ -‬بغري‬
‫املسلمني يف بعض التحركات ذات الطابع السياسي‪ -‬والدويل املنسوبة إليه‪.‬‬
‫على أنه ينبغي أيضا ألولياء أمور املسلمني والقائمني على الدولة أن يراعوا مبدأ احلفاظ على سيادة‬
‫الدولة‪ ،‬وأاَّل يؤدي انضمام الدولة اإلسالمية‪ -‬أو املسلمة يف مثل هذه املنظمات الدولية إىل مفاسد‬
‫شرعية كثرية‪ ،‬كاخلضوع والركون إىل الدول الظاملة أو احملتلة إن سياسيا أو اقتصاديا‪ ،‬واملواالة‪-‬‬
‫والتناصر ألي مصاحل خارجية ضد املسلمني‪ .‬قال تعاىل‪" :‬وال تركنوا إىل الذين ظلموا فتمسكم‬
‫النار" (سورة هود‪)113 :‬‬

‫وأما اخلطوة التالية‪ ،‬فهي التخريج والتنظري‪ -،‬أو قل‪ :‬التجديد من خالل التخريج‪ .‬وهو عبارة عن‬
‫تفريع األحكام الشرعية العملية على نصوص املذهب وقواعده‪ -‬بطرق معلومة‪ .‬وليس ذلك من قبيل‬
‫"اقتطاف" عبارات الكتب الفقهية‪ -‬إلسقاطها يف الواقع الراهن‪ ،‬دون مراعاة االختالفات القائمة بني‬
‫ذاك املاضي وهذا احلاضر‪ .‬وهو انتهاج مسالك "التقليد القويل" احملض‪ ،‬وهو العاجز ال حمالة عن‬
‫"استثمار اجلديد من القدمي"‪.‬‬

‫فاألحكام الشرعية إذا تعلقت بالواقع فإما أن تكون من الثوابت‪ ،‬وهي أصول املعتقدات‪-‬‬
‫والعمليات واألخالقيات املندرجة حتت مسمى "املعلوم من الدين بالضرورة"؛ وإما أن تكون من‬
‫املتغريات‪ -‬اليت تقبل التحول واالختالف ويستلزم إعادة النظر بشكل مستمر‪ .‬فههنا‪ ،‬حنن يف حاجة‬
‫إىل علم أصول الفقه يف عصوره احليوية؛‪ -‬تلك العصور عندما عاش الفقهاء األصوليون‪ -‬وهم يؤدون‬
‫وظائفهم العلمية مؤثرين ومتأثرين‪ ،‬وموجهني ومتوجهني بتوجهات اجملتمعات الذين عاشوا فيها‪.‬‬
‫سواء كانوا على طريقة الفقهاء من ساداتنا األحناف؛ عندما انطلقوا من جزئيات النوازل املتغرية‪-‬‬
‫للوصول إىل قواعد األحكام الشرعية؛ أم كانوا على طريقة األصوليني الشافعية من أهل النظر‬
‫فَأص لوا وقعدوا أوال إلنزال األحكام على أرض الواقع ثانيا‪ .‬والعمل بالطريقتني بشكل‬
‫والتنظري‪َّ ،‬‬
‫متواز أوىل من االكتفاء‪ -‬بإحدامها‪ .‬فمسالك اجلمع أوىل من الرتجيح‪ .‬حىت ال يغيب الفقيه عن‬
‫الواقع يف جانب‪ ،‬وال ينحرف عن جادة استقامة‪ -‬اخلطة الفكرية املصممة ثانيا‪.‬‬

‫وقد سار الفقهاء األقدمون وانتهجوا‪" -‬منهجا فكريا" قادرا على انتاج نتائج علمية‪ ،‬وهي عبارة‬
‫عن األحكام الفقهية الثرية اليت تتسم بالتنوع وقابل لالختالف‪ .‬فقد رأينا أئمة املذاهب يطورون‬
‫آراءهم الفكرية على اختالف األزمنة واألئمة‪ ،‬فنرى مثال الشافعي بقوليه القدمي واجلديد‪ ،‬ونرى‬
‫اإلمام األعظم أبا حنيفة وتالمذته الثالثة‪ :‬أبا يعقوب‪ ،‬وحممد بن احلسن‪ ،‬وزفر‪ ،‬خيتلفون فيما بينهم‬
‫أو يتفقون‪ -،‬مع اتفاقهم يف منهج اإلنتاج الفقهي املتبع‪.‬‬

‫فمن أيسر الطريق يف زماننا احلاضر الستثمار القدمي وإنتاج اجلديد‪ ،‬وأنفعها وأحكمها‪ ،‬أن نقوم ب ـ‬
‫"التقليد املنهجي"‪ -‬لطرق استنباط األحكام عند األئمة اجملتهدين‪ ،‬واالستفادة من مسالكهم‪ ،‬وذلك‬
‫مثل االستحسان واالستصالح ومراعاة عمل أهل املدينة‪ -‬عند اإلمام مالك‪ ،‬وعند اإلمام أيب حنيفة‪:‬‬
‫القياس‪ ،‬واالستحسان‪ ،‬واملصاحل املرسلة‪ ،‬وعند اإلمام الشافعي‪ :‬االستقراء من الواقع‪ ،‬واالعتداد‬
‫بالعرف‪ ،‬باإلضافة إىل املناسب املرسل وتعليل األحكام عند اإلمام أمحد بن حنبل وقد أدى كل‬
‫واحد منهما إىل ثراء الرتاث الفقهي – عند ساداتنا احلنابلة—والكثري منه قابل للعمل به وتطبيقه‬
‫غريها من أدوات التفكري ومصادرها الثانوية‪ -‬عند الفقهاء‬
‫يف زماننا اآلن‪ .‬مث أضف إىل ذلك َ‬
‫األصوليني‪.‬‬

‫ولنعد إىل ما حنن بصدده حاال وحنن مستفيدون أوال من منهج االستقراء عند األصوليني عامة‬
‫واإلمام الشافعي خاصة‪ .‬واحلاجة ملحة إىل تطوير هذا االستقراء‪ ،‬أو توسيع موضوعاته من‬
‫املوضوعات الطبيعية‪ -‬حصرا إىل املوضوعات‪ -‬األدبية السياسية‪ -.‬لِنَجد أن اجلماعات اإلنسانية قد‬
‫حتولت كليا أو عامة إىل منط االجتماع جبامع الدم والنسل (القبيلة) إىل االجتماع جبامع القومية‬
‫دول بالفعل بأحناء املعمورة‪ ،‬فال نكاد جند اآلن منطقة أرضية تسودها سلطة قبيلة‬
‫والوطن‪ .‬وقامت ٌ‬
‫من القبائل إال وهي خاضعة حتت سلطة دولة قومية حديثة‪ .‬وال جمال إلنكار قيام هذه الدول‬
‫بشكله احلاضر‪ ،‬وهي دولة هلا حدودها وسيادهتا القانونية‪ .‬وقد صارت عرفا معروفا بني الناس‪.‬‬
‫واستعمال الناس هلذا العرف حجة جيب العمل هبا‪.‬‬

‫مث إنه قد تتفق هذه الدول يف أمر أو اختلفت‪ ،‬بل تنازعت بسبب اختالف املصاحل وتنوع‪-‬‬
‫االجتاهات‪ .‬فشأن هذه الدول شأن اإلنسان‪ :‬إهنا يف حاجة إىل نظام يضبطه وينظمه‪ .‬وهو نظام‬
‫دويل مؤسس على االتفاقيات واملعاهدات‪ -‬له قوة إلزام كل دولة خرجت عن الشرعية الدولية‬
‫املتفق عليها لتعود إىل حاضرهتا بطريقة أو أخرى‪.‬‬

‫مث نقول بناء على قاعدة املصلحة املرسلة‪ ،‬حىت يتسىن لنا ضبط سري هذه املنظمة الدولية (أي‬
‫منظمة األمم املتحدة)‪ ،‬إهنا أسست لتحقيق مصاحل الناس كافة‪ ،‬وهي مصاحل تتبلور يف‪ :‬الكرامة‪-‬‬
‫اإلنسانية‪ ،‬واحلرية‪ ،‬والعدالة الشاملة‪ ،‬والسالم‪ .‬فيقال إن هذه املنظمة قامت فعال بالواجبات‬
‫وقصرت إن كليا أو نسبيا بقدر عجزها عن‬
‫املنوطة‪ -‬هبا إذا حتققت هذه املصاحل يف أرض الواقع‪َّ ،‬‬
‫حتقيق هذه املصاحل املركزية إلنسان هذا العصر‪ ،‬ومكانه وزمانه‪ .‬أو قل للحضارة اإلنسانية‬
‫املعاصرة‪ .‬األمر الذي يستلزم إصالح هذه املنظمة بشكل متواصل‪ ،‬ال هدمها أو عدم االعتداد‬
‫بقراراهتا وسلطاهتا‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬ولعلي قد سرت بكم من خالل هذا العرض املتواضع كيفية بناء احلضارة اإلنسانية‪ -‬الشاملة‪:‬‬
‫ثقافةً وعُمرانا ومتدنا من منظور الفقه اإلسالمي‪ -،‬وقد حاولنا من خالله إلثبات شرعية منظمة‬
‫األمم املتحدة باعتبارها نظاما ضابطا‪ ،‬حيث ابتدأنا‪ -‬من املصادر األساسية لفقه هذه احلضارة من‬
‫املنظور األصويل اإلسالمي‪ ،‬وهي القرآن والسنة واإلمجاع والقياس‪ ،‬كلها أو بعضها‪ ،‬كما‬
‫استأنسنا‪ -‬باملصادر الثانوية كاالستقراء والعرف واملصاحل املرسلة‪ .‬وال شك أن تفاصيل هذه األفكار‬
‫حتتاج إىل ما هو أوسع من هذا الوقت‪ -‬وهذا املكان‪ -‬لبسطها‪ .‬واهلل ويل التوفيق‪ .‬شكرا لكم على‬
‫حسن االهتمام‪.‬‬

You might also like