Professional Documents
Culture Documents
( ُن َقط ونُ َكت في مشروعية منظمة األمم المتحدة باعتبارها نظاما دوليا ضابطا)
احلمد هلل الذي خلقنا شعوبا وقبائال ليتعارف بعضنا على بعض ،ورفعنا بالتقوى على سائر األمم،
وجعلنا أمة وسطا لنكون -شهداء على الناس كافةً .والصالة -والسالم على خري األنام ،الذي أقر
بأن الناس سواسية كأسنان -املشط فال فضل لألبيض -على األسود واألمحر إال بالتقوى ،وقد جعله
وُأمةً ،ومن
حبق من اآلل ذريةً َّ
اهلل علينا شهيدا وأرسله للعاملني رمحةً ،وعلى كل من انتسب إليه ٍّ
العلماء العاملني صحابةً وتابعني وورثةً .أما بعد.
فيهمين أن أحتدث أمام حضراتكم يف موضوع "مشروعية منظمة األمم املتحدة باعتبارها نظاما
دوليا ضابطا" ،من حيث أين سوف أذكر بإجياز نَِقاطاً مهمة اليت ال بد من أخذها بعني االعتبار يف
هذا املضمار ،مث أتعرج بعد ذلك إىل الكالم -على نِ ٍ
كات بارزة وهي مواضع التأمل الفكري وحماور
التجديد الفقهي فيما حنن بصدده.
فقه احلضارة هي جمموعة من احملدِّدات الفكرية واآلليات املنهجية واملفاهيم العلمية اليت
تؤدي مبراعاهتا إىل فهم صحيح للنصوص والواقع كخطوات أولية لرتسيم خطوط التقدم
وُأم ٍة من األمم .واحلضارة نفسها :مجلة من املوجودات
وبلوغه لشعب من الشعوب َّ
املعنوية -واملادية اليت تؤثر وتتيح جملتمع ما أن يوفر لكل فرد من أفراده مجيع الضمانات
السياسية واالجتماعية الالزمة لتقدمه وبلوغ مآربه وطموحاته املشروعة .فاحلضارة لزوم
التقدم ،وضدها البداوة اليت هي التقهقر إىل املاضي أو اجلمود على احلاضر املتدهور.
يتكون -فقه احلضارة من وجهني متالزمني أيضا :األمور املعنوية النظرية ،وهو الذي
اصطلح عليه بعض املتأخرين بـ "العقل" أو الوعي بصفته جمموعة من النظريات واملفاهيم-
املرشدة؛ واألمور الوجودية الواقعية (السياسية -واالجتماعية) اليت هي ممارسات وتطبيقات
لتلك النظريات واملفاهيم -يف أرض الواقع.
واألمور املعنوية -سابقة يف وجودها على األمور الواقعية .أو العكس -.هذا حمل خالف بني
املذاهب -الفلسفية .وإمنا يهمنا أن نقول إن مثة ترابطا بينهما يف عالقة جدلية التأثري والتأثر
اليت ال تتوقف إىل أن يرث اهلل األرض وما عليها .فمن هنا نفهم ،كلما يكون الواقع يف
املقدمة وجير النظر ،فكلما يدل ذلك على تقهقر الفقه أمام الواقع .وكلما تقهقر الفقه
كان ذلك مؤشرا على احلاجة امللحة إىل جتديده .وجتديد فقه احلضارة إمنا يكون بإعادته
إىل مكانه ووظيفته كمعلم وأستاذ للحضارة .األمر الذي يذكرنا باحلكمة اجلاوية املأثورة:
( ing ngarso sung tulodo, ing madyo mangun karso, tut
،)wuri handayaniوتعريبه :يف املقدمة يكون قدوة ،ويف األواسط يكون -ملهما
وموجها ،ومن اخللف يكون باعثا ودافعا.
ويظهر تقهقر الفقه وختلفه جبلية من ثباته على ما يلزم التغري فيه .ومن خالل معاجلاته
ملشاكل املاضي بالنسبة ألقطاب احلضارة املثلثة -:اإلنسان -،املكان ،الزمان .وهو غائب كليا
أو نسبيا عن مشاكل احلاضر ونوازله املتجددة .فتوقفت احلضارة عن التقدم ،وأما أقطاهبا
وإن حتركت فهي متحركة على حاله ومكانه ،بل تراجعت وجتمدت .فمهمة فقه احلضارة
حتريك اجلامدات على أساس تلك القاعدة املتبعة -،وهي من شعارات مجعية هنضة العلماء
املعروفة" :احملافظة على القدمي الصاحل واألخذ باجلديد األصلح".
وقضايا التجديد يف فقه احلضارة كثرية ومرتامية األطراف .وقد أقامت مجعية هنضة العلماء
حلقات نقاشية وندوات علمية جديرة باالهتمام ،وقد انعقدت يف أكثر من مائتني
ومخسني حمفال ،تقود هبا اجلمعية دعوة التجديد إىل فقه احلضارة الرشيد متهيدا هلذا املؤمتر
العاملي العامر .ومن أهم توصياهتا :ضرورة تفعيل مناهج التفكري اإلسالمي آلية وأصوال
ومقاصد من أجل إنتاج أفكار ِ
مبتكرة قادرة على الوفاء مبتطلبات احلاضر ويُ ْستشرف هبا َ
املستقبل .ال جمرد إعادة إنتاج املاضي يف حيز احلاضر .وإال ،ستتسع اهلوة -الفاصلة بني
النظري والفقهي يف ضفة وبني الواقع املعيشي يف ضفة أخرى ،فعجز الفقيه -على عبورها:
العبور من الفقه القدمي إىل الواقع املتجدد .وعاش اإلنسان – وهو قطب أقطاب احلضارة
املفرتض – مصابا حبالة اإلغماء عن واقعه ،فاعرتته عقدة انفصام الشخصية احلائلة دون
ومعطيات هذا الواقع ،فضال عن اختاذ مواقف صحيحة بإزائها.
تصور حقائق ُ
فليس يف اإلمكان -ترك ما كان .الكائن املوروث جيب استيعابه والعمل به قدر اإلمكان-،
إمهال .فعلى هذا ،وجب أن تظل لننطلق منه ونتجاوز به إىل ما سيكون -.جتاوز إعمال ال ٍ
ُ
جذورها يف طبقات أرض الواقع املرتتبة عرب األزمنة املتالحقة-. ِ
الرشيد ألصول ِ
فقه احلضارة ِ
ُ
وهي أصول املناهج للتفكري وأصول األفكار اليت يستند أو يقاس عليه .ومها بعبارة
األصوليني :أدوات االجتهاد ومصادره .وذلك لإلجابة مثال -حسب ما حنن بصدده
اآلن -على سؤال :هل مشروعية منظمة األمم املتحدة باعتبارها نظاما عامليا ضابطا
صارت أمرا مفروغا منه؟ أو هي يف حاجة إىل مزيد التنظري والتأصيل -والتخريج الفقهي؟
فمن هنا آن األوان -للشروع يف نكات رئيسية يف هذا املوضوع .والنكت -مجع النكتة ،وهي مسألة
علمية دقيقة أخرجت بدقة النظر وإمعان -الفكر .فوضع هذه النكت عمليا تكون على ثالث
خطوات على الرتتيب -:التأصيل ،والتخريج ،والتنظري.
أما التأصيل فهو اجلواب عن السؤال :هل ملثل هذه املنظمة ووظيفتها -باعتبارها -نظاما ضابطا
أصوهلا يف مصادر الفقه املعتربة :القرآن ،والسنة ،واإلمجاع ،والقياس ،وغريها من املصادر؟ وال
شك أن اجلواب يأيت باإلجياب :نعم .وقد تضافرت اآليات القرآنية وأحاديث السرية النبوية -لتؤيد
هذا اجلواب .كما ميكن متهيد ما سنقوم به من التخرجيات والتنظريات -املقبلة بذكر ما يصلح من
آلية االستدالل بالقياس لعلة جامعة.
فج ُّل اآليات القرآنية املتعلقة بالعالقة العادلة والسلمية بني أبناء البشرية ،والصلح ،والوفاء بالعهد،
ُ
ؤسسا لشرعية اجتماع الناس على جممع واحد للقيام بتنظيم
والوفاء بالعقود ،كلها تصلح دليال ُم ِّ
أمورهم وتيسري شؤوهنم ودفع الظلم واإلصالح فيما بينهم .وال دليل من القرآن الكرمي ما مينع
انعقاد الصلح الدائم بني املسلمني وغريهم ،بل الثابت -أنه تعاىل قال فيه" :ال ينهاكم اهلل عن الذين
مل يقاتلوكم يف الدين ومل خيرجوكم من دياركم أن تربوهم وتقسطوا إليهم إن اهلل حيب
املقسطني"( .سورة املمتحنة.)8 :
وهناك أحاديث السرية النبوية -تدل على أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قام فعال بتدشني املعاهدات
والتحالفات واملؤاخات -،سواء كانت بني املسلمني وإخواهنم ،وبني املسلمني وغريهم .ومنها:
الروايات التارخيية اليت حتكي قصة حتالف وقع بني الدولة اإلسالمية بقيادة رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ،وبني كيان آخر من الكيانات غري اإلسالمية ،وهو قبيلة خزاعة .وقد تصرف النيب
مبوجبه وقرر فتح مكة من أجله.
ولنقف قليال فيما عمله النيب صلى اهلل عليه وسلم من املعاهدات اليت جاءت بصيغة -التأبيد كما
جاءت يف وثيقة املدينة املشهورة ،وكذلك معاهدته ألهل جنران ،وأهل خيرب وبين ضمرة .جاءت
يف نص معاهدة بين ضمرة" :أهنم آمنون -على أمواهلم وأن هلم النصر على من دمههم بظلم ،وعليهم
صوفةً ."...فأشار نص املعاهدة -إىل أهنا متت بني طرفني
حبر ُ
بل ٌنصر النيب صلى اهلل عليه وسلم ما َّ
متعادلني يف الرتبة متكافئني يف القوة ،وأهنا تستلزم احملافظة على األموال واألنفس ،كما تستلزم
حبر صوفةً" ،وهو
بل ٌاملناصرة ضد االعتداءات -اخلارجية .كما أهنا تتضمن أيضا تعبريا -عربيا" :ما ّ
تعبري يدل على الدميومة؛ ألن خاصية البلل دائمة يف ماء البحر .ومن أهم املعطيات التارخيية اليت
دلت عليها هذه املعاهدات -أن النيب صلى اهلل عليه وسلم مل يفرض على األطراف األخرى اجلزية.
فجاءت عبارة "عليهم بذلك ذمة اهلل ورسوله" مبعناها لغوي ،ال ذمة اصطالحية املتعارفة الحقا؛
وذلك لوجوب املناصرة املسلحة عليهم وعدم إلزامهم دفع اجلزية.
مث لنعد إىل ِح ْل ف الفضول لتتضح الصورة أكثر .وهو من األحالف اجلاهلية اليت شهدهتا قريش،
وقد انعقد بني عدد من عشائر قبيلة قريش يف مكة ،يف شهر ذي القعدة -سنة 590م حيث
تعاهدوا فيه على أن" :ال يظلم أحد يف مكة إال ردوا ظالمته" .واهلدف األساسي منه :حفظ
النظام العام وتسيري العالقات التجارية بني مكة أم القرى والبلدان -اجملاورة -املستوردة واملصدرة-.
وقد شهد النيب حممد هذا احللف قبل بعثته -وله من العمر 20سنة ،وقال عنه الح ًقا إنه لو دعي به
يف اإلسالم -ألجاب.
واملتأمل -أن هذا احللف عبارة عن اجتماع بعض رؤساء القبائل وأسياد العشائر إلعطاء ضمانات
َّ
كافية جلريان التعامالت -اليومية باملعروف حىت ينضبط هبا سري التعايش بني الناس فردا ومجاعة.
وقد قام نظام الدولة القومية -الوطنية -احلديثة مقام هذه القبائل والعشائر يف عصرنا الراهن ،مما يفتح
أفقا واسعا لقياس نظام منظمة دولية كعصبة األمم أو منظمة األمم املتحدة على تلك العشائر
املتعاهدة -والقبائل املتحالفة (أي قامت بإبرام احللف /العهد /الوعد) ،مث قياس ميثاق األمم
املتحدة على ِحلف الفضول ،حىت تتحقق به مصاحل مشرتكة واألمن العام لسائر الناس.
وقد جاء لنا يف تاريخ الدعوة اإلسالمية يف جزر األرخبيل (نوسانتارا /إندونيسيا) أمثلة كثرية من
املعاهدات والتحالفات بني أفراد ومجاعة ،املسلمة وغريها ،بل بني اململكة اإلسالمية -وغريها
لتحقيق أهداف مشرتكة .منها :املعاهدة والتحالفات بني مملكة ماجاباهيت -الوثنية وبعض
اإلمارات املسلمة حلفظ النظام العام ،والتحالف بني سلطنة دمياك بقيادة األمري عبد القادر بن
يونس وبعض اإلمارات غري املسلمة يف احلرب ضد االحتالل الربتغايل .كل ذلك من أجل ضبط
احلياة العامة وضمان األمن يف املنطقة .وقد استند هؤالء الرواد على ما فعله النيب صلى اهلل عليه
وسلم واقتدوا -به إذ أقاموا اتفاقية -دفاع مشرتك مع كيانات غري إسالمية وأنشأوا -معهم ما ميكن
تسميته حسب املصطلح املعاصر باحللف اإلقليمي أو املنظمة اإلقليمية.
فإذا كانت الغاية من هذه التحالفات واملعاهدات( -وهو األصل املقيس -عليه ههنا) تكمن يف حتقيق
مصاحل اجلماعات وحتقيق أمن املنطقة -بشكل حمدود ،فليس هناك ما مينع اتساع هذه الغاية لتمتد
إىل حتقيق مصاحل أهل األرض كله وضمان األمان هلذا الكل بال أدىن متييز وال تفرقة ،وذلك
بالنسبة مليثاق منظمة األمم املتحدة واهليئات التابعة -هلا؛ ألن "العام یبقى على عمومه".
واملالحظ أيضا أن حكم هذه التحالفات واملعاهدات واملواثيق ،وبالتايل :حكم ما تفرع منه
(كميثاق األمم املتحدة ومنظمتها) ال يتعلق هذا احلكم بذات التحالفات واملعاهدات واملواثيق ٍ
كل
على ِح َد ة ،وإمنا يتعلق مبا يقوم عليه .فإهنا إذا كانت قائمة على التناصر بالباطل وعلى البغي-
والعدوان كانت حمرمة .أما إذا كانت قائمة على مصلحة الدفاع املشرتك -وعلى نصر املظلوم وعلى
التأسي -يف املعاش فليست حمرمة قطعا .أمل نر بأن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان معجبا أميا
إعجاب ِحب لف الفضول ،وأبرم املعاهدات ،واهلدنات كصلح احلديبية ،وعمل ميثاقا بينه وبني
الكيانات غري اإلسالمية كوثيقة -املدينة ،بل ثبت تارخييا أنه صلى اهلل عليه وسلم استعان -بغري
املسلمني يف بعض التحركات ذات الطابع السياسي -والدويل املنسوبة إليه.
على أنه ينبغي أيضا ألولياء أمور املسلمني والقائمني على الدولة أن يراعوا مبدأ احلفاظ على سيادة
الدولة ،وأاَّل يؤدي انضمام الدولة اإلسالمية -أو املسلمة يف مثل هذه املنظمات الدولية إىل مفاسد
شرعية كثرية ،كاخلضوع والركون إىل الدول الظاملة أو احملتلة إن سياسيا أو اقتصاديا ،واملواالة-
والتناصر ألي مصاحل خارجية ضد املسلمني .قال تعاىل" :وال تركنوا إىل الذين ظلموا فتمسكم
النار" (سورة هود)113 :
وأما اخلطوة التالية ،فهي التخريج والتنظري -،أو قل :التجديد من خالل التخريج .وهو عبارة عن
تفريع األحكام الشرعية العملية على نصوص املذهب وقواعده -بطرق معلومة .وليس ذلك من قبيل
"اقتطاف" عبارات الكتب الفقهية -إلسقاطها يف الواقع الراهن ،دون مراعاة االختالفات القائمة بني
ذاك املاضي وهذا احلاضر .وهو انتهاج مسالك "التقليد القويل" احملض ،وهو العاجز ال حمالة عن
"استثمار اجلديد من القدمي".
فاألحكام الشرعية إذا تعلقت بالواقع فإما أن تكون من الثوابت ،وهي أصول املعتقدات-
والعمليات واألخالقيات املندرجة حتت مسمى "املعلوم من الدين بالضرورة"؛ وإما أن تكون من
املتغريات -اليت تقبل التحول واالختالف ويستلزم إعادة النظر بشكل مستمر .فههنا ،حنن يف حاجة
إىل علم أصول الفقه يف عصوره احليوية؛ -تلك العصور عندما عاش الفقهاء األصوليون -وهم يؤدون
وظائفهم العلمية مؤثرين ومتأثرين ،وموجهني ومتوجهني بتوجهات اجملتمعات الذين عاشوا فيها.
سواء كانوا على طريقة الفقهاء من ساداتنا األحناف؛ عندما انطلقوا من جزئيات النوازل املتغرية-
للوصول إىل قواعد األحكام الشرعية؛ أم كانوا على طريقة األصوليني الشافعية من أهل النظر
فَأص لوا وقعدوا أوال إلنزال األحكام على أرض الواقع ثانيا .والعمل بالطريقتني بشكل
والتنظريَّ ،
متواز أوىل من االكتفاء -بإحدامها .فمسالك اجلمع أوىل من الرتجيح .حىت ال يغيب الفقيه عن
الواقع يف جانب ،وال ينحرف عن جادة استقامة -اخلطة الفكرية املصممة ثانيا.
وقد سار الفقهاء األقدمون وانتهجوا" -منهجا فكريا" قادرا على انتاج نتائج علمية ،وهي عبارة
عن األحكام الفقهية الثرية اليت تتسم بالتنوع وقابل لالختالف .فقد رأينا أئمة املذاهب يطورون
آراءهم الفكرية على اختالف األزمنة واألئمة ،فنرى مثال الشافعي بقوليه القدمي واجلديد ،ونرى
اإلمام األعظم أبا حنيفة وتالمذته الثالثة :أبا يعقوب ،وحممد بن احلسن ،وزفر ،خيتلفون فيما بينهم
أو يتفقون -،مع اتفاقهم يف منهج اإلنتاج الفقهي املتبع.
فمن أيسر الطريق يف زماننا احلاضر الستثمار القدمي وإنتاج اجلديد ،وأنفعها وأحكمها ،أن نقوم ب ـ
"التقليد املنهجي" -لطرق استنباط األحكام عند األئمة اجملتهدين ،واالستفادة من مسالكهم ،وذلك
مثل االستحسان واالستصالح ومراعاة عمل أهل املدينة -عند اإلمام مالك ،وعند اإلمام أيب حنيفة:
القياس ،واالستحسان ،واملصاحل املرسلة ،وعند اإلمام الشافعي :االستقراء من الواقع ،واالعتداد
بالعرف ،باإلضافة إىل املناسب املرسل وتعليل األحكام عند اإلمام أمحد بن حنبل وقد أدى كل
واحد منهما إىل ثراء الرتاث الفقهي – عند ساداتنا احلنابلة—والكثري منه قابل للعمل به وتطبيقه
غريها من أدوات التفكري ومصادرها الثانوية -عند الفقهاء
يف زماننا اآلن .مث أضف إىل ذلك َ
األصوليني.
ولنعد إىل ما حنن بصدده حاال وحنن مستفيدون أوال من منهج االستقراء عند األصوليني عامة
واإلمام الشافعي خاصة .واحلاجة ملحة إىل تطوير هذا االستقراء ،أو توسيع موضوعاته من
املوضوعات الطبيعية -حصرا إىل املوضوعات -األدبية السياسية -.لِنَجد أن اجلماعات اإلنسانية قد
حتولت كليا أو عامة إىل منط االجتماع جبامع الدم والنسل (القبيلة) إىل االجتماع جبامع القومية
دول بالفعل بأحناء املعمورة ،فال نكاد جند اآلن منطقة أرضية تسودها سلطة قبيلة
والوطن .وقامت ٌ
من القبائل إال وهي خاضعة حتت سلطة دولة قومية حديثة .وال جمال إلنكار قيام هذه الدول
بشكله احلاضر ،وهي دولة هلا حدودها وسيادهتا القانونية .وقد صارت عرفا معروفا بني الناس.
واستعمال الناس هلذا العرف حجة جيب العمل هبا.
مث إنه قد تتفق هذه الدول يف أمر أو اختلفت ،بل تنازعت بسبب اختالف املصاحل وتنوع-
االجتاهات .فشأن هذه الدول شأن اإلنسان :إهنا يف حاجة إىل نظام يضبطه وينظمه .وهو نظام
دويل مؤسس على االتفاقيات واملعاهدات -له قوة إلزام كل دولة خرجت عن الشرعية الدولية
املتفق عليها لتعود إىل حاضرهتا بطريقة أو أخرى.
مث نقول بناء على قاعدة املصلحة املرسلة ،حىت يتسىن لنا ضبط سري هذه املنظمة الدولية (أي
منظمة األمم املتحدة) ،إهنا أسست لتحقيق مصاحل الناس كافة ،وهي مصاحل تتبلور يف :الكرامة-
اإلنسانية ،واحلرية ،والعدالة الشاملة ،والسالم .فيقال إن هذه املنظمة قامت فعال بالواجبات
وقصرت إن كليا أو نسبيا بقدر عجزها عن
املنوطة -هبا إذا حتققت هذه املصاحل يف أرض الواقعَّ ،
حتقيق هذه املصاحل املركزية إلنسان هذا العصر ،ومكانه وزمانه .أو قل للحضارة اإلنسانية
املعاصرة .األمر الذي يستلزم إصالح هذه املنظمة بشكل متواصل ،ال هدمها أو عدم االعتداد
بقراراهتا وسلطاهتا.
هذا ،ولعلي قد سرت بكم من خالل هذا العرض املتواضع كيفية بناء احلضارة اإلنسانية -الشاملة:
ثقافةً وعُمرانا ومتدنا من منظور الفقه اإلسالمي -،وقد حاولنا من خالله إلثبات شرعية منظمة
األمم املتحدة باعتبارها نظاما ضابطا ،حيث ابتدأنا -من املصادر األساسية لفقه هذه احلضارة من
املنظور األصويل اإلسالمي ،وهي القرآن والسنة واإلمجاع والقياس ،كلها أو بعضها ،كما
استأنسنا -باملصادر الثانوية كاالستقراء والعرف واملصاحل املرسلة .وال شك أن تفاصيل هذه األفكار
حتتاج إىل ما هو أوسع من هذا الوقت -وهذا املكان -لبسطها .واهلل ويل التوفيق .شكرا لكم على
حسن االهتمام.