Professional Documents
Culture Documents
الحمد هلل الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا اإلسالم دين ا ،والص الة والس الم على المبع وث رحم ة للع المين
وحجة هللا على الخلق أجمعين نبي الرحمة وإمام الهدى البشير النذير والسراج المنير عليه أفضل الصالة وأتم التسليم.
شيخنا اإلمام ،أصحاب الفضيلة والسعادة والسماحة ،أساتذتي العلماء ،إخواني الدعاة السالم عليكم ورحمة هللا وبركاته.
لقد التأم شملنا في هذه البلدة الكريم ة ،لنحتفي احتف اءا ليس كالمعت اد ،بقم ة س امقة وقام ة قارع ة من جب ال العلم وأرك ان
المعرفة وأرباب السلوك ،نلتقي لنقتفي بإمام من أئمة الهدى في هذا العصر ،وسيع العلم ثاقب النظ ر ،عمي ق الفك ر ،عظيم
الت أثير ،غزي ر اإلنت اج ،يمث ل تجرب ة علمي ة حركي ة متكامل ة ،له ا س ماتها المتم يزة ،وإض افاتها المعت برة ،وخصائص ها
المتفردة ،ويجيئ هذا االحتفاء في صورة ما توافقنا عليه على تسميته "ملتقى اإلمام القرضاوي م ع األص حاب والتالمي ذ".
راجين أن يكون اجتماعا مثمرا له ما بعده.
أيها اإلخوة واألخوات نجتمع هذه األيام والليالي تحقيقا لمقاصد كريمة وغايات نبيلة نجملها فيما يلي:
أوال:
العلَم الشامخ ،وعرفانا بعطاء هذا الطود األشم ،الذي َّبذ الجميع في ساحة الرأي والفكر ،وقوة العلم والعقل،
وفاءا بحق هذا َ
وجرأة اللسان والقلم .هز النفوس الجامدة ،وحرك العقول الراكدة ،وترك دويا مأل س مع الزم ان وآف اق الك ون الم تراحب،
وغرس في ساحة األمة المسلمة بذور الكلمة الواعية والحكمة الراشدة؛ التي بارك هللا فيها فغدت دوحة فيح اء يس تظل به ا
رواد اإلصالح وجيل الصحوة وهداة األمة .قفى شيخنا الجليل آثار الصالحين وأعالم الهدى ومشاعل النور ،وض رب مثال
شرودا في إخالصه لدينه وأمته وحضارته ودياره ،أقوى ما يكون المثل رسوخا وشموخا وثناءا وسنى ،ذلكم شيخنا الجليل
اإلمام العالمة يوسف القرضاوي؛ بركة هذا العصر فقيه األمة ،أستاذ الدعاة ،ش يخ الم ربين ،أمت ع هللا بط ول بق اءه ،ونف ع
بمتواصل عطائه ،وتقبل منه أحسن ما يتقبل من عباده الصالحين .أحسب أنه يحسن أن أنوه إلى أن سائر ما س لف في ه ذه
ث عن شيخنا اإلمام وسائر ما يرد فيها تاليا فيها وفي س واها من أعم ال ه ذا الملتقى المب ارك؛ ك ل ه ذا من
الكلمة من حدي ٍ
لسان الصدق وعاجل بشرى المؤمن ،الذي يستحقه ش يخنا الجلي ل عن ج دارة ،فه و ليس أب دا من ب اب الم دح ال ذي يقط ع
العنق ويقصم الظهر ،وإنما هو من باب اإلنصاف ،الذي يفضي بالناس إلى التأسي ،وهو بعد ضربٌ من ضروب التعريف
بأقدار الرجال وإنزالهم منازلهم ،ونحن إذ نسوقه ال نسوقه إال تعبيرا عن عميق امتنانا للشيخ اإلمام وعظيم جهوده ،ورغبة
صادقة في أن ينسج على منوال جده واجتهاده ناسج.
إنّ أول ما يلفت النظر لملتقانا هذا أنه يكرس ما جد في العق ود األخ يرة من نهج التلم ذة المعاص رة ،ال ذي يمت از عن ذل ك
النهج القديم في األخذ والتلقي عن األش ياخ ،بس بب من ت راكم المعرف ة من جه ة وبس بب وس ائل االتص ال البالغ ة الحداث ة
والتطور من جهة أخرى .فإذا كان في الزمن الماضي البد من اللقاء والمش افهة وط ول المجالس ة بين التالم ذة واألش ياخ؛
فإنه في ه ذا الزم ان ق د يكفي اللق اء واللق اءان بين الش يخ وتالمذت ه ،لتب دأ من رحل ة الت درج على منهج الش يخ ،والق راءة
والتثقف بما يقدمه من كتاب مطبوع أو مقال منش ور أو محاض رة مس جلة أو م ادة تتناقله ا الماليين في ذات اللحظ ة ع بر
1
الشبكة العنكبوتية العجيبة .هذا وإن لم يعن االستغناء الكامل عن أنماط التلقي التقليدية وال األفضلية ،إذ تبقى خاصية اللق اء
والمباشرة في العالقة بين األجيال ض رورية ومهم ة وال ريب في مج ال التربي ة والس لوك ،وال تي من أعظم س بلها التلقي
المباشر والمعايشة الحية واالتساء المبارك ،إال أنه يشير إلى خاصية من خواص هذا ال زمن وهي أن نع اظم من اإلس تفادة
منها على وجهها ،وقديما قال الفاروق عمر -رضي هللا عنه" :-الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم".
أما عما يخص ملتقانا بهذا الحديث؛ فإنه جمع بين طبقات ممن لهم صلة بشيخنا الجليل المحتفى به ،فثمة من طالت صحبته
بشيخنا الجليل حتى جاوزت العقود ذوات العدد ،وثمة من لم يلتقه إال مرات معدودة ،بل ثمة من لم يحظى بهذا الش رف إال
في هذه المناسبة ،إال أن الكل مشتركون في التلمذة على كتبه ورسائله وخطب ه ومحاض راته ،وهي تلم ذة المنهج والطريق ة
القائمة على مراعاة األصول المتجذرة ال تقليد الف روع المتغ يرة ،وعلى التجدي د ال التقلي د ال ذي ه و إبط ال منفع ة العق ل،
وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يهملها ويمشي في الظلمة ،وهذا مما يجعلها مش روعا مش رع الص فحات للكس ب
اإلبداعي واإلضافة المتجددة .نؤكد من هذا ضرورة أال يتأخر جيل عن أن يقدم كس به وإبداع ه وخبرت ه الخاص ة ليض يف
إلى جهد من سبقه ،مستفيدا من الخبرة المتراكم ة ،مج ددا في الطرائ ق والوس ائل ،مقتحم ا بك ل ج رأة وثق ة ووعي أيض ا
قضايا عصره ونوازله ،وهذا من أعظم ما يستفيده الناظر في سيرة شيخنا الجليل.
ثالثا:
إن تكريمنا إلمامنا يلمع إلى االحتفاء بالمنهج الذي يعد الشيخ رائده الكبير في هذا العصر ،فقد نذر للوس طية نفس ه وعم ره
وال يزال ،وأعطاها فكره ووجدانه ،ودعى إليها بلسانه وقلمه وخطبه وكتب ه وجه اده واجته اده ،فعن الوس طية ي دعو وبه ا
يتمسك ،وقد أفضت به الوسطية إلى مذهب مُيسر ،بال تش دد غ ال وال ت رخص ج اف ،ه ذه الوس طية ال تي ع بر عنه ا في
كلماته الجوامع" :أن نقدم فكرا إسالميا مرتبطا بالزمان والمكان واإلنسان ،موصال بالواقع ،مشروحا بلغة العص ر ،منفتح ا
على االجتهاد والتجديد ،من أهله في محله ،ال على الجمود والتقليد ،جامعا بين النقل الصحيح والعقل الصريح ،محافظا في
األهداف ،متطورا في الوس ائل ،ثابت ا في الكلي ات ،مرن ا في الجزئي ات ،مبش را في ال دعوة ،ميس را في الفت وى ،مس تلهما
للماضي ،معايشا للحاضر ،مستشرفا للمستقبل ،م َُر حِّ با بكل قديم نافع ،منتفعا بكل جديد صالح ،منفتحا على الحض ارات بال
ذوبان ،مراعيا للخصوصية بال انغالق ،ملتمسا للحكمة من أي وعاء خرجت ،مرتبطا باألصل ،متصال بالعصر".
وهذا النهج الوسطي الرشيد حفر مجراه عبر التاريخ أعالما كبار ،حتى تفجر ينبوعا عذبا نم يرا س ائغا فرات ا زاوج وا في ه
بين الدراية والرواية ،وألفوا فيه بين تراث السلف ومعارف الخلف ،وهو يمث ل في حياتن ا المعاص رة في تي ار ول ود داف ق
بالحيوية ،ال يزال عطاؤه موصال وثماره يانعة ،وقطوفه دانية منذ بدايات النهضة العلمي ة واألدبي ة والحركي ة ،من ذ الق رن
التاسع عشر الميالدي ،ونرج و أن يك ون ملتقان ا ه ذا س انحة طيب ة ،على خطى ش يخنا اإلم ام لتعمي ق الجس ور بين رواده
الباقين تالقحا لألفكار وتبادال للتجارب وتجديدا للعطاء وإبداعا في المسير.
ينبغي أن نؤكد دوما عبر إطارنا النظري وممارستنا العملية أن هذا التيار تيار رحب يض م بين ال رؤى واختالف االجته اد
ومدارس اإلصالح ومذاهب التجديد ومنازل الحركة وآفاق العمل ،فلم يكن يوما وال ينبغي أن يكون كتلة صماء وال تخن دقا
في مسلك دون غيره ،وال توقعا في منحى دون سواه ،بل ينبغي أن يكون دوما ميدان فسيح متعدد الجبهات ،يض ع في ه ك ل
2
عامل مخلص غرسه وفسيله على النحو الذي يوفقه هللا تعالى إلي ه ،مراعي ا التكام ل والتق اطع م ع غ رائس وفس ائل س ائر
العاملين المخلصين ،ومن ش أن ه ذه النظ رة أن تجع ل من عم ل من الع املين لص الح ه ذا ال دين ولص الح اإلنس انية بن اءا
متراكبا وثيقا يضع ك ٌل لبنته ،ومن ثم يكون ثمة رجاء أن يبلغ البنيان يوما تمامه وتصل القافل ة إلى غايته ا ،وحينه ا يف رح
المؤمنون بنصر هللا.
لقد داوم شيخنا الجليل في أقوال من خالف ومن وافق ،إن خالف خالف بحجة وإن وافق وافق بدليل ،ولن تخطأك منه كلمة
ناصحة أو رأي صائب أو نقد متوازن أو رد جميل.
قرأ شيخنا وتأثر بأفذاذ العلماء من القدامى والمعاصرين ،فكان يقدر كل منهم حق قدره لكنه ال يقدسهم إذ ال ُي َق ِّدس الرج ال
إال من سفه نفسه .كتب وأثر في أجيال متتابعة فلم يحب أن يتبعه أحد تقليدا وال أن يتحاش ى ص احب علم نق د علم ص احب
علم ونظر ،إذ ال يرقو العلم وال تسمو المعرفة إال بالنقد البناء والتالقح المثري ،وإن المنصف مهما ب دا ل ه أن يختل ف م ع
شيخنا الجليل في مسألة أو في موقف ال يسعه إال أن يحترمه ويجله؛ ألنه يصدر عن حجة نيرة وبي ان ع ف ومنط ق س ليم
وإنصاف العدو قبل الصديق ،وإن من اإلنصاف أن يكتال المرء لخصمه بالصاع الذي يكتال به لنفس ه ،ف إن في ك ل ش يء
وفاءا وتطفيفا .وهذان النقد البن اء والتالقح الم ثري من أهم م ا يجب أن نح رص علي ه في ملتقان ا عن د تعاطين ا م ع ت راث
السلف ومعارف الخلف ،مقدرين أه ل العلم والفض ل دون تق ديس أو تبخيس ،فليس ثم ة من تتقط ع األعن اق دون كماالت ه
سوى المصطفى -صلى هللا عليه وسلم.-
لقد دعى شيخنا اإلمام إلى المنهج العلمي القويم ،القائم على االجته اد ال التقلي د ،وال تزم ه و نفس ه فيم ا أخ رج من كتاب ات
وساهم من نشاطات ،وفي هذا نقول للذي يبحث عن الحقيقة وهو مقيد بالتقلي د لم ذهب أو إم ام أو فرق ة أو اتج اه ال يخ رج
عنه شبرا وال يحيد عنه قيد أنمل ة ،لم يتعام ل م ع النص وص واألدل ة إال من حيث هي أدوات لنص رة الم ذهب المتب وع أو
الفرقة التي ينتمي إليها ،إن المقلد المتعصب لما يقلد ليس حرا في فك ره إذا فك ر ،وال مس تقال في بحث ه إذا بحث ،إنم ا ه و
أسير لما التزمه من قبل كما يلمسه كل منصف في عامة المقلدين المنتسبين للفرق العقدية أو الم ذاهب الفقهي ة أو الم دارس
الفكرية أو الجماعات السياسية ،إنه ال يفكر برأسه بل برأس غيره.
إننا نرجو أن تكون لنا بوصفنا المنتسبين لتيار الوسطية ،المعقودة عليه آمال لألمة أن تكون لنا مساهمة فاعل ة على طريق ة
النهضة الحضارية الشاملة ،بدءا من المساهمة في تحصيل شروط النهضة إلى شهود والدة متجددة لألمة ،وتص ورنا له ذه
النهضة الشاملة من التأكيد على أن مشكلة كبوتنا الراهنة ليست في جوهرها العميق مشكلة وسائل وإمكانات مادية بقدر م ا
هي مشكلة أفكار ،أفكار ننظم بها خطانا في ثب ات األديم ،ون دفع به ا طاقاتن ا في فض اء العزيم ة ،ونحش د به ا وس ائلنا في
3
أرض اإلنجاز .نهضتنا المنشودة ِوالدة جديدة لألمة المس لمة ،ب دأ في جمي ع المج االت بالعقي دة الدافع ة والش رعة الرافع ة
والمقاصد الحافظة والقيم الحاكمة واألمة الجامعة والسنن الفاعلة والحضارة الشاهدة ،من خالل عناصر إيجابية من الجدي ة
واإلتقان واستثمار األوقات واس تغالل الم وارد الطبيعي ة والبش رية والتخطي ط العلمي ،وال ب د في ه ذا الس ياق من تحوي ل
األفكار العظيمة إلى مشروعات ،واآلمال الطموحة إلى خطط وبرامج ،ال بد من توفر ش روط تحقي ق أم ل النهض ة كي ال
يبقى حلما تاريخيا ولننتقل من دائرة اإلمكان الحض اري ل دائرة الفع ل الحض اري للت داعي إلى تق ديم ه ذا المنهج الوس طي
الرشيد مشروعا حضاريا متكامال إلحياء األمة اإلسالمية واإلنسانية باإلسالم ،وتجديد دنياها بدينها المتجدد دوما وأبدا.
أيها اإلخوة واألخوات إن من أعظم أهداف هذا اللقاء أن نعمل على ترجمة األهداف المبتغاة والنتائج المرجوة إلى مش اريع
عملية وبرامج تنفيذية نرابط بتنفيذها باإلشتغال بها على ثغور األمة المختلفة ،وجبهاتها المتعددة لتتحص ن األم ة بمص دات
واقية تعكس بصرا بالواقع واستشرافا لغد مشرق مأمول ،وال يكون هذا على النحو األجود إال باعتبار مبادئ العمل الجامع
بروح الفريق الضامنة فاعلية المؤسسة ،استمرارا واس تقرارا ،ق درة وفاعلي ة ،كف اءة وج دارة ع بر وض ع االس تراتيجيات
وتخطيط البرامج واحتضان الكفاءات المتخصصة في مختلف المجاالت .وانطالقا من هذا التصور وضعت اللجنة المنظمة
لهذا الملتقى عددا من أفك ار المش اريع وال برامج ال تي س يكون من أهم أعم ال ملتقان ا خالل ه ذه األي ام تقليب النظ ر فيه ا
وفحصها في مختلف جوانبها إلقرار الصالح منها للتنفيذ.
إننا نود بهذا الملتقى أن نقول ألمتنا بلسان الحال والمقال ،إن من وراء كل داجية في تاريخ اإلسالم نجم ا بالهداي ة يش رق،
وصوتا بالنهضة يهتف ،يعيش شاهدا ويمضي أمال ،تاركا بعده ما تترك الش مس من ش عاع يه دي الس ائرين الم دلجين إلى
حين ،وإن شيخنا اإلمام القرضاوي نجم مشرق وص وت ه ادف وش عاع ه ادي فلنجع ل من اجتماعن ا حول ه منهج ا وق دوة
وفرصة لتجفيف الدموع وإيقاد الشموع واستراحة يجب أن تطول من البكاء على األطالل والهروب إلى ماض ي لن ينفعن ا
إال بما حصلنا من روحه.
ُ
والحوادث َتفع ُل ِبـبُْؤ سى و ُنعْ مى فـإن تكـن األيـا ُم فيـنا َتبـَ َّدلَ ْ
ت
ً
صـليـبة * وال ذلَّلـ ْتـنا للتي ليـس تجْ ُم ُل فـما ليَّـ َنت م َّنـا قنـا ًة
ً
كريـمة * ُتحمَّـ ُل ما ال يُستـطا ُع فتحم ُل ولكن رحـلنـاها نفـوسا ً
ّت لنا األعراضُ والناسُ ه َُّزل و َقيْنا بحسن الصبر منا ُنفـو َسنا * َف َ
صح ْ
إن أمتنا تنتظر منا تحركا ملموسا وشيئا ماديا على أرض الواقع ،ال مجرد تنظيرات وأماني.
4
َنبني َكما كا َنت َأواِئلُنا * َتبني َو َنف َع ُل مِث َل ما َف َعلوا
ال يفوتنا في ختام هذه الكلمة أن نتوجه بخالص الشكر لكل من ساهم في إع داد ه ذا الملتقى ،وال نس مي أح دا كي ال ننس ى
أحدا ،وهللا نسأل أن يجزي الجميع خير الجزاء.
5