You are on page 1of 279

‫سلسلة اإلمامة اإلهلية بني القرآن والربهان (‪)1‬‬

‫اإلمامة اإللهية‬
‫في الفكر الشيعي‬

‫تقريرات بحوث سامحة السيد ضياء اخلباز القطيفي‬


‫(حفظه اهلل تعاىل)‬

‫بقلم‬

‫أمحد طالل صفر‬

‫الطبعة األوىل – ‪1440‬ـه ‪2019 /‬م‬


‫هل يعرفون قدر اإلمامة وحملها من األمة فيجوز فيها اختيارهم؟!‬

‫إنَّ اإلمامة أجلّ قدرًا‪..‬‬

‫وأعظم شأنًا‪..‬‬

‫وأعلى مكانًا‪..‬‬

‫وأمنع جانبًا‪..‬‬

‫وأبعد غورًا‪..‬‬

‫من أن يبلغها الناس بعقوهلم‪..‬‬

‫أو ينالوها بآرائهم‪..‬‬

‫أو يقيموا إمامًا باختيارهم‪..‬‬

‫اإلمام علي بن موسى الرضا (عليه الصالة والسالم)‬


‫ابتهالٌ‬

‫«بسم اهلل الرمحن الرحيم‬

‫اللهم أهلمنا طاعتك‪ ،‬وجنبنا معصيتك‪ ،‬ويرس لنا بلوغ ما نتمنى من ابتغاء رضوانك‪،‬‬
‫وأحللنا بحبوحة جنانك‪ ،‬واقشع عن بصائرنا سحاب االرتياب‪ ،‬واكشف عن قلوبنا أغشية‬
‫املرية واحلجاب‪ ،‬وأزهق الباطل عن ضامئرنا‪ ،‬وأثبت احلق يف رسائرنا‪ ،‬فإن الشكوك والظنون‬
‫لواقح الفتن‪ ،‬ومكدرة لصفو املنائح واملنن‪.‬‬

‫اللهم امحلنا يف سفن نجاتك‪ ،‬ومتعنا بلذيذ مناجاتك‪ ،‬وأوردنا حياض حبك‪ ،‬وأذقنا‬
‫حالوة ودك وقربك‪ ،‬واجعل جهادنا فيك‪ ،‬ومهنا يف طاعتك‪ ،‬وأخلص نياتنا يف معاملتك‪ ،‬فإنا‬
‫بك ولك‪ ،‬وال وسيلة لنا إليك إال أنت‪.‬‬

‫إهلي اجعلني من املصطفني األخيار‪ ،‬وأحلقني بالصاحلني األبرار‪ ،‬السابقني إىل املكرمات‪،‬‬
‫املسارعني إىل اخلريات‪ ،‬العاملني للباقيات الصاحلات‪ ،‬الساعني إىل رفيع الدرجات‪ ،‬إنك عىل‬
‫كل يشء قدير‪ ،‬وباإلجابة جدير‪ ،‬برمحتك يا أرحم الرامحني» (‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬الصحيفة السجادية‪ :‬ص‪.411‬‬


‫مقدمة املقرَّر له‬

‫حممد ِ‬
‫وآله الطاهرين ‪،‬‬ ‫واحلمد هلل رب العاملني ‪ ،‬وصىل اهلل عىل أرشف بريته وخري خلقه ٍ‬
‫ِّ‬
‫واللعن املؤبد عىل أعدائهم أمجعني ‪.‬‬
‫ُ‬

‫(‪)1‬‬

‫من مجلة البحوث الكالمية التي ُأشبعت بحث ًا وحتقيقاً عىل مدى قرون متتالية ‪ :‬بحث‬
‫ِ‬
‫لكونه بحث ًا حموري ًا يف منظومة الفكر الديني ‪ ،‬بل يأيت عىل رأس‬ ‫اإلمامة ‪ ،‬وال بدع يف ذلك ؛ نظراً‬

‫قائمة البحوث العقدية اخلالفية بني الشيعة اإلمامية وغريهم من فرق املسلمني ‪.‬‬

‫ومع ذلك ‪َّ ،‬‬


‫فإن مسألة اإلمامة ال زالت حبىل باجلديد من األبحاث ‪ ،‬سيام يف‬
‫وتنوع أدلتها‬ ‫ِّ‬
‫ظل املراجعات البحثية املتواصلة هلذه املسألة وشؤوهنا املتعددة والواسعة ‪ّ ،‬‬
‫وبراهينها ‪ ،‬واحتدام الشبهات حول خمتلف تفاصيلها وجزئياهتا ‪ ،‬مما يرتك جماالً واسع ًا للبحث‬
‫والتت ّبع والتحقيق ‪.‬‬

‫كتاب جديدٌ هناك يدوران حول هذه‬


‫ٌ‬ ‫بديع هنا أو‬
‫بحث ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫فال تتعجب إِ ْن َ‬
‫طر َق سم َع َك‬
‫ِ‬
‫تقضيان بذلك وتفضيان إليه ‪.‬‬ ‫املسألة املحورية ‪َّ ،‬‬
‫فإن أمه ّية موقعيتها وسعة آفاقها‬

‫(‪)2‬‬
‫بكل ما هو جديد ‪ ،‬ولكننا نزعم أنه مل ُ‬
‫خيل‬ ‫وال تفهم من ذلك أننا جئناك يف هذا الكتاب ّ‬
‫ومن ٍ‬
‫نواح متعددة ‪ ،‬فإننا من ناحية قد سعينا إىل بلورة بعض‬ ‫من ذلك ‪ ،‬وعىل مستويات خمتلفة ِ‬
‫مقدمة المقرَّر له‬ ‫‪8‬‬

‫األبحاث املقدمية األساسية التي تساعد القارئ عىل الولوج يف أبحاث اإلمامة وفهم الكثري من‬
‫أبعادها ‪ ،‬ومن ناحية أخرى حاولنا أن نستفيد من املنهج العلمي احلوزوي يف التعامل مع أدلة‬
‫اإلمامة وإبراز نكاهتا اهلامة باملقدار الذي ساعدت عليه ظروف التناول ‪ ،‬ومن ناحية ثالثة وقفنا‬
‫وقفات نقدية فاحصة عند الكثري من الشبهات اجلديدة التي ُأثريت يف السنوات األخرية ‪ ،‬سواء‬
‫من املخالفني أو من بعض اإلمامية الذين عثرت أقدامهم يف طريق البحث العلمي ‪ ،‬فانتهوا إىل‬
‫نتائج غري صائبة فيام يرتبط بفهم مقام اإلمامة وشؤونه الكربى ‪.‬‬

‫ومع ذلك ك ّله فإننا نعرتف بالقصور والتقصري ‪ ،‬وأنه ال زال أمامنا الكثري مما تنبغي معاجلته‬
‫وجتليته من أبحاث هذه املسألة وقضاياها املعرفية ‪ ،‬وهو ما نسأل اهلل تعاىل أن يوفقنا للقيام به‬
‫يف مستقبل األيام ‪ ،‬بحق ٍ‬
‫حممد وآله الكرام ‪.‬‬

‫(‪)3‬‬

‫إعجاب الشاب املوفق ‪،‬‬


‫َ‬ ‫بعض أبحاث هذا الكتاب‬
‫عَل أن نالت ُ‬ ‫َ‬
‫وكان من نعم اهلل تعاىل َ َّ‬
‫املتع ّلم عىل سبيل نجاة ‪ ،‬واملتفقه يف علوم األئمة اهلداة ‪ ،‬ذي اخللق اجلميل واألدب الرفيع ‪،‬‬
‫األخ العزيز ‪ :‬أمحد طالل صفر ( دامت توفيقاته ) فسعى إىل حتريرها وتقريرها سعياً مشكور ًا ‪،‬‬
‫وبذلك كانت باكورة تقريره لبقية أبحاث اإلمامة التي تناوهلا هذا الكتاب ‪.‬‬

‫وقد أتعب نفسه كثري ًا يف تقريرها وصياغتها ‪ ،‬وتوثيق براهينها وأدلتها ‪ ،‬وتعضيد نتائجها‬
‫ونكاهتا ‪ ،‬مما كشف عن حسن سليقته ‪ ،‬وقوة موهبته ‪ ،‬وجودة فهمه ومعرفته ‪ ،‬وإين إذ أبارك له‬
‫هذه اجلهود واملواهب أسأل اهلل تعاىل أن يأخذ بيده ‪ ،‬ويسدّ د خطاه ‪ ،‬ويمدّ ه باملزيد من التوفيق‬
‫يف طريق العلم والعمل ‪ ،‬إنه جواد كريم ‪.‬‬
‫‪9‬‬ ‫مقدمة المقرَّر له‬

‫(‪)4‬‬
‫لقرة‬
‫وال يسعني أن أطوي هذه املقدمة القصرية قبل أن أتقدم بالشكر الوافر اجلزيل ّ‬
‫خل ُلق اللطيف ‪ ،‬األخ العزيز ‪ :‬مهدي بن احلاج‬
‫عيني ‪ ،‬ورسور قلبي ‪ ،‬ذي الفكر احلصيف ‪ ،‬وا ُ‬
‫املؤمن عبد العزيز العبكري ( دامت توفيقاته ) ‪ ،‬فإنه – مضاف ًا لتكفله بتقرير كامل أبحاث‬
‫( آية املودة ) من هذا الكتاب تقرير ًا فائق ًا رائق ًا – قد آزرين يف مراجعة الكتاب ك ّله ‪ ،‬من ألفه إىل‬
‫وألفت نظري إىل موارد النقص التي‬
‫َ‬ ‫يائه ‪ ،‬وأبدى من املالحظات ما كان يستحق االهتامم ‪،‬‬
‫كانت حتتاج إىل اإلكامل واإلمتام ‪ ،‬وأبىل يف ذلك وغريه بال ًء حسن ًا ‪ ،‬فل ّله دره ‪ ،‬وعليه أجره ‪.‬‬

‫يبق يل أن أقول إال ‪ :‬اللهم تق ّبل منّا مجيع ًا هذا القليل بأحسن القبول ‪ ،‬وأوصل‬
‫ويف اخلتام مل َ‬
‫وأرضه ِبه عنّا ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ثوابه إىل رفيع مقام إمام زماننا وو ّيل نعمتنا وحجتك علينا ( أرواحنا فداه ) ‪،‬‬
‫واكتبنا عندك يف محاة الدين ‪ ،‬ونارصي رشيعة سيد املرسلني ‪ ،‬وباذيل مهجهم دون األئمة‬
‫الطاهرين ( صلواتك عليهم أمجعني ‪ ،‬أبدَ اآلبدين ) ‪.‬‬

‫رب العاملني‬
‫وآخر دعوانا أن احلمد هلل ِّ‬

‫العبد اآلثم‬

‫ضياء السيد عدنان اخلباز القطيفي‬

‫ضحى اجلمعة ‪ 1440 / 4 / 13 :‬هـ‬


‫مقدمة املقرِّر‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬وصىل اهلل عىل حممد وآله الطاهرين‪ ،‬واللعن الدائم عىل أعدائهم‬
‫إىل قيام يوم الدين‪..‬‬

‫شك يف َّ‬
‫أن علم العقيدة أرشف العلوم وأعظمها وأسامها منزلة‪ ،‬ولذلك دأب علامؤنا‬ ‫ال َّ‬
‫الذب عن‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫وحتقيقا‪ ،‬وأحسنوا يف‬ ‫العظام (رضوان اهلل عليهم مجي ًعا) عىل اخلوض فيها بح ًثا‬
‫حياضها وتشييد معاملها والدفاع عن حريمها‪ ،‬فأ ّلفوا فيها األسفار احلاوية عىل نرباس اهلداية‪،‬‬
‫حق اجلهاد‪ ،‬كام َّ‬
‫أن رشف وعظم وخطورة‬ ‫والكافية ملن قصد احلق والسداد‪ ،‬وجاهد يف اهلل ‪ّ ‬‬
‫أي موضوع يكمن يف متع ّلقه وآثاره‪ ،‬ومن هنا عُدِّ ت اإلمامة أبرز مصداق لذلك‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫ّ‬
‫موضوعها ‪ -‬من جهة ‪ -‬هو البحث عن إمامة أهل بيت النبوة وموضع الرسالة وأفضل اخللق‬
‫بعد سيد البرش ‪ ،‬ومن جهة أخرى َّ‬
‫فإن أثر احلديث عنها يف جانب إمامتهم وواليتهم عىل‬
‫األمة بعد رسول اهلل ‪ ‬هو النجاة يف الدنيا واآلخرة عىل كا ّفة األصعدة‪ ،‬وملَّا كان البحث هبذا‬
‫املستوى من األمهية تُك ِّلم فيه وصار ميزانًا ّ‬
‫للحق والباطل‪.‬‬

‫أهم وأسمى املطالب حول اإلمامة وأد ّلتها‬


‫يرس لنا بلوغ ما نتمنّى من البحث يف ّ‬
‫هذا وقد ّ‬
‫تقريرا جلملة من املحارضات ألقاها ّ‬
‫العالمة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫وفك معضالهتا وجواب إشكاالهتا‪ ،‬وكان ذلك‬
‫املحقق الس ّيد ضياء اخل ّباز (دام ضياؤه)‪ ،‬خرجت لكم بح ّلة ذهبية تكشف أغشية املرية عن‬
‫ّ‬
‫القلوب‪ ،‬وتزهق الباطل عن الضامئر‪ ،‬وتثبت احلق يف الرسائر‪َّ « ،‬‬
‫فإن الشكوك والظنون لواقح‬
‫الفتن‪ ،‬ومكدّ رة لصفو املنائح واملنن»‪.‬‬
‫مقدمة المقرِّر‬ ‫‪12‬‬

‫وهذا الكتاب ٍ‬
‫حاو لشتى املسائل واملباحث بأوضح بيان‪ ،‬وهو مشتمل عىل ثالثة فصول‪:‬‬

‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإلهلية يف الفكر الشيعي‪.‬‬

‫وفيه تسعة أبحاث‪:‬‬

‫‪ .1‬البحث األول‪ :‬أمهية البحث حول اإلمامة‪.‬‬


‫‪ .2‬البحث الثاين‪ :‬مفهوم اإلمامة اإلهلية‪.‬‬
‫‪ .3‬البحث الثالث‪ :‬الفرق املفهومي بني النبي والرسول واإلمام‪.‬‬
‫‪ .4‬البحث الرابع‪ :‬أفضلية منصب اإلمامة عىل منصبي النبوة والرسالة‪.‬‬
‫‪ .5‬البحث اخلامس‪ :‬اإلمامة اإلهلية منصب إهلي‪.‬‬
‫‪ .6‬البحث السادس‪ :‬اإلمامة اإلهلية منصب أصايل ال نيايب‪.‬‬
‫‪ .7‬البحث السابع‪ :‬اإلمامة اإلهلية أصل من أصول الدين‪.‬‬
‫‪ .8‬البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإلهلية‪.‬‬
‫‪ .9‬البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإلهلية لإلمامة السياسية‪.‬‬

‫الفصل الثاين‪ :‬اإلمامة اإلهلية يف القرآن الكريم‪.‬‬

‫وفيه‪ :‬مقدمة حول االستدالل بالقرآن الكريم‪ ،‬ومن ثم التعرض لألدلة اخلمسة‪:‬‬

‫‪ .1‬الدليل األول‪ :‬آية الوالية‪.‬‬


‫‪ .2‬الدليل الثاين‪ :‬آية التطهري‪.‬‬
‫‪ .3‬الدليل الثالث‪ :‬آية املودة‪.‬‬
‫‪ .4‬الدليل الرابع‪ :‬آية علم الكتاب‪.‬‬
‫‪ .5‬الدليل اخلامس‪ :‬آية املباهلة‪.‬‬
‫‪13‬‬ ‫مقدمة المقرِّر‬

‫الفصل الثالث‪ :‬اإلمامة اإلهلية يف األحاديث الرشيفة‪.‬‬

‫واألدلة فيه تنقسم إىل عامة وخاصة‪:‬‬

‫‪ .1‬األدلة العامة‪ ،‬وفيه يتعرض لدليلني‪:‬‬


‫• الدليل األول‪ :‬حديث الثقلني‪.‬‬
‫• الدليل الثاين‪ :‬حديث االثني عرش‪.‬‬
‫‪ .2‬األدلة اخلاصة‪ ،‬وفيه مخسة أدلة‪:‬‬
‫• الدليل األول‪ :‬حديث الغدير‪.‬‬
‫• الدليل الثاين‪ :‬حديث املنزلة‪.‬‬
‫• الدليل الثالث‪ :‬حديث مدينة العلم‪.‬‬
‫• الدليل الرابع‪ :‬حديث عَل مع القرآن‪.‬‬
‫• الدليل اخلامس‪ :‬حديث عَل مني وأنا منه‪.‬‬

‫كثريا عىل توفيقه ألداء هذا العمل‪ ،‬راج ًيا من اهلل ‪‬‬
‫ويف هناية املطاف أمحد اهلل ‪ ‬محدً ا ً‬
‫القبول‪ ،‬وأسأله أن ينفع به‪ ،‬وأن يو ّفقنا للدفاع عن ّ‬
‫احلق وأهله‪ ،‬وأن حيرشنا يف زمرة س ّيد األنبياء‬
‫حممد وأهل بيته الط ّيبني الطاهرين (صلوات اهلل عليهم أمجعني)‪ ،‬إنه أكرم األكرمني‪.‬‬
‫واملرسلني ّ‬

‫مشهد جوار رضيح اإلمام الرؤوف عَل بن موسى الرضا ‪‬‬

‫أمحد صفر‬

‫يوم الثالثاء ‪ 9‬من شهر شوال ‪1438‬هـ‬


‫الفصل األول‬

‫اإلمامة اإلهلية يف الفكر الشيعي‬


‫وفيه تسعة أبحاث‪:‬‬
‫• أمهية البحث حول اإلمامة‪.‬‬
‫• مفهوم اإلمامة اإلهلية‪.‬‬
‫• الفرق املفهومي بني النبي والرسول واإلمام‪.‬‬
‫• أفضلية منصب اإلمامة عىل منصبي النبوة والرسالة‪.‬‬
‫• اإلمامة اإلهلية منصب إهلي‪.‬‬
‫• اإلمامة اإلهلية منصب أصايل ال نيايب‪.‬‬
‫• اإلمامة اإلهلية أصل من أصول الدين‪.‬‬
‫• تاريخ عقيدة اإلمامة اإلهلية‪.‬‬
‫• شمول اإلمامة اإلهلية لإلمامة السياسية‪.‬‬
‫البحث األول‪ :‬أهمية البحث حول اإلمامة‬

‫توطئة‪:‬‬

‫كثريا ما‬
‫قبل الرشوع يف مباحث اإلمامة ال بأس بذكر توطئة مهمة حول أمهيتها؛ ألنه ً‬
‫ٍ‬
‫زمنية‬ ‫إن إثارة موضوع اإلمامة ال ثمرة مرتتبة عليه‪ ،‬لكوهنا مسألة قد وقعت يف ٍ‬
‫فرتة‬ ‫ُير َّدد‪ّ :‬‬
‫مفر منه فال يتغري أو يتبدل‪ ،‬وعىل ذلك فالبحث حول أحقية أمري املؤمنني‬
‫بعيدة‪ ،‬وما وقع ال َّ‬
‫أمر تارخيي قد مىض وال جدوى من اخلوض فيه‪.‬‬
‫‪ ‬بخالفة النبي ‪ٌ ‬‬

‫أن الدعوة إىل إغامض العني وإسدال الستار عىل مسألة اإلمامة‪َّ ،‬‬
‫وأن عل ًّيا‬ ‫ولكن احلق َّ‬
‫‪ ‬كان هو األحق باخلالفة واإلمامة بعد النبي األعظم ‪ ‬دعوة يف غاية اخلطورة؛ لكون‬
‫أن عل ًيا ‪ ‬هو األجدر واألحق‬‫مه ٍية بالغة‪ ،‬واخلوض فيها وإثبات َّ‬
‫مسألة اإلمامة ذات أ ّ‬
‫وثمرات مهمة سيأيت ذكرها‪ ،‬فال ينبغي إسدال السرت عىل هذا‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫بحث له فوائدُ كبرية‬ ‫باإلمامة‬
‫البحث وإغامض العني عنه بزعم أنَّه ٌ‬
‫نبش يف القضايا التأرخيية‪.‬‬

‫ونكتفي إلثبات ذلك ببيان أمرين‪:‬‬

‫األمر األول‪ :‬ترسيخ عقيدة اإلمامة وظيفة رشعية الزمة‪.‬‬

‫ونتيمن هاهنا بذكر بعض األحاديث الدالة عىل ذلك‪:‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪18‬‬

‫احلديث األول‪ :‬عن سليامن بن خالد‪ ،‬قال‪ :‬قلت أليب عبد اهلل ‪« :‬إن يل أهل بيت وهم‬
‫ِ‬
‫يسمعون مني‪ ،‬أفأدعوهم إىل هذا األمر؟ فقال‪ :‬نعم‪ ،‬إن اهلل ‪ ‬يقول يف كتابه‪َ ﴿ :‬يا َأ ه َُّيا ا َّلذ َ‬
‫ين‬
‫آمنُوا ُقوا َأ ْن ُفسكُم و َأهلِيكُم نَارا و ُقودها النَّاس و ِْ‬
‫احل َج َار ُة﴾» (‪.)1‬‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ْ َ ْ ْ ً َ َُ‬ ‫َ‬

‫احلديث الثاين‪ :‬عن حممد بن سنان‪ ،‬عن املفضل‪ ،‬قال‪« :‬سألت الصادق ‪ ‬عن قول اهلل‬
‫رس﴾‪ ،‬قال ‪ :‬العْص عْص خروج القائم ‪﴿ ،‬إِ َّن‬ ‫ان َل ِفي ُخ ْ ٍ‬ ‫نس َ‬ ‫ْص * إِ َّن ِ‬
‫اإل َ‬ ‫‪َ ﴿ :‬وا ْل َع ْ ِ‬
‫احل ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ان َل ِفي ُخ ْ ٍ‬
‫ات﴾‬ ‫الص َ‬ ‫رس﴾ يعني أعداءنا‪﴿ ،‬إِالَّ ا َّلذ َ‬
‫ين آ َمنُوا﴾ يعني بآياتنا‪َ ﴿ ،‬و َعم ُلوا َّ‬ ‫نس َ‬ ‫ِ‬
‫اإل َ‬
‫الص ْ ِرب﴾ يعني‬
‫اص ْوا بِ َّ‬
‫احل ِّق﴾ يعني باإلمامة‪َ ﴿ ،‬وت ََو َ‬ ‫اص ْوا بِ ْ َ‬‫يعني بمواساة اإلخوان‪َ ﴿ ،‬وت ََو َ‬
‫بالفرتة» (‪.)2‬‬

‫ِ‬
‫احلديث الثالث‪ :‬عن عبد الرمحن بن كثري‪ ،‬عن أيب عبد اهلل ‪ ‬يف قوله‪﴿ :‬إِالَّ ا َّلذ َ‬
‫ين آ َمنُوا‬
‫الص ْ ِرب﴾ فقال‪« :‬استثنى أهل صفوته من خلقه‪،‬‬ ‫و َع ِم ُلوا الص ِ ِ‬
‫اص ْوا بِ َّ‬ ‫اص ْوا بِ ْ َ‬
‫احل ِّق َوت ََو َ‬ ‫احلات َوت ََو َ‬‫َّ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ان َل ِفي ُخ ْ ٍ‬
‫ين آ َمنُوا﴾ يقول‪ :‬آمنوا بوالية أمري املؤمنني ‪،‬‬ ‫رس * إِالَّ ا َّلذ َ‬ ‫نس َ‬ ‫حيث قال‪﴿ :‬إِ َّن ِ‬
‫اإل َ‬
‫اص ْوا﴾ هبا وصربوا عليها» (‪.)3‬‬ ‫اص ْوا بِ ْ َ‬
‫احل ِّق﴾ ذرياهتم ومن خلفوا بالوالية‪َ ﴿ ،‬وت ََو َ‬ ‫﴿ َوت ََو َ‬

‫احلديث الرابع‪ :‬عن حممد بن عَل‪ ،‬عن أيب عبد اهلل ‪ ‬قال‪« :‬استثنى اهلل سبحانه أهل‬
‫ِ‬ ‫ان َل ِفي ُخ ْ ٍ‬
‫رس * إِالَّ ا َّلذ َ‬
‫ين آ َمنُوا﴾ بوالية أمري املؤمنني‬ ‫نس َ‬ ‫صفوته من خلقه‪ ،‬حيث قال‪﴿ :‬إِ َّن ِ‬
‫اإل َ‬
‫‪﴿ ،‬و َع ِم ُلوا الص ِ ِ‬
‫اص ْوا‬ ‫اص ْوا بِ ْ َ‬
‫احل ِّق﴾ أي بالوالية‪َ ﴿ ،‬وت ََو َ‬ ‫احلات﴾ أي أدوا الفرائض‪َ ﴿ ،‬وت ََو َ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ‬
‫الص ْ ِرب﴾ أي وصوا ذرارُّيم ومن خلفوا من بعدهم هبا‪ ،‬و بالصرب عليها» (‪.)4‬‬ ‫بِ َّ‬

‫(‪ )1‬الكايف الرشيف‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.211‬‬


‫(‪ )2‬كامل الدين‪ :‬ص‪.656‬‬
‫(‪ )3‬تفسري القمي‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.441‬‬
‫(‪ )4‬بحار األنوار‪ :‬ج‪ ،24‬ص‪.215‬‬
‫‪19‬‬ ‫البحث األول‪ :‬أهمية البحث حول اإلمامة‬

‫وداللة األحاديث املذكورة – وأمثاهلا – عىل وجوب ترسيخ إمامة أهل البيت ‪‬‬
‫وإيصاهلا لألجيال الالحقة‪ ،‬ممّا ال خفاء فيها‪.‬‬

‫األمر الثاين‪ :‬فلسفة قرن املصري األخروي باإلمامة‪.‬‬

‫ولكي يتضح الكالم يف هذا األمر ينبغي التمهيد بعرض النصوص الْصحية الصحيحة‬
‫الواردة عند الفريقني الدالة عىل َّ‬
‫أن عدم معرفة اإلمام تنتهي باإلنسان إىل املوت عىل اجلاهلية‪.‬‬

‫وإليك بعض تلكم األحاديث الواردة ن طرق العامة‪:‬‬

‫أحاديث العامة‪:‬‬

‫• احلديث األول‪« :‬من مات بغري إمام مات ميتة جاهلية» (‪.)1‬‬
‫• احلديث الثاين‪« :‬من مات ومل يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» (‪.)2‬‬
‫• احلديث الثالث‪« :‬ومن مات وليس يف عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» (‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬مسند أيب داود الطياليس ج‪ 3‬ص‪ ،425‬ومسند أمحد بن حنبل ج‪ 28‬ص‪ ،89‬بتحقيق األرنؤوط‪ ،‬وقد علق عليه ً‬
‫قائال‪« :‬حديث‬
‫صحيح لغريه‪ ،‬وهذا إسناد حسن من أجل عاصم ‪ -‬وهو ابن هبدلة ‪ -‬وبقية رجاله ثقات رجال الشيخني غري أن أبا بكر ‪ -‬وهو ابن‬
‫عياش ‪ -‬إنام روى له مسلم يف املقدمة‪ ،‬وهو صدوق حسن احلديث‪ .‬أبو صالح‪ :‬هو ذكوان السامن‪.‬‬
‫وأخرجه ابن أيب عاصم يف السنة (‪ ،)1057‬وأبو يعىل (‪ ،)7357‬وابن حبان (‪ ،)4573‬والطرباين يف الكبري ‪ ،)769( /19‬من طرق‬
‫عن أيب بكر بن عياش‪ ،‬هبذا اإلسناد‪.‬‬
‫وأخرجه الطرباين يف األوسط (‪ ،)5816‬وأورده اهليثمي يف املجمع ‪ ،225/5‬وقال‪ :‬رواه الطرباين يف األوسط‪ ،‬وفيه العباس بن‬
‫احلسني القنطري‪ ،‬ومل أعرفه‪ ،‬وبقية رجاله رجال الصحيح»‪.‬‬
‫(‪ )2‬كامل الدين ومتام النعمة (ص‪ )409‬لرئيس املحدثني الشيخ الصدوق (قدس اهلل نفسه الزكية)‪ ،‬وقد أرسله التفتازاين يف رشح‬
‫املقاصد (ج‪ ،2‬ص‪ )275‬إرسال املسلامت‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.1478‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪20‬‬

‫• احلديث الرابع‪« :‬من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية» (‪.)1‬‬
‫• احلديث اخلامس‪« :‬من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية» (‪.)2‬‬

‫وإليك بعض األحاديث الواردة بطرق اخلاصة‪:‬‬

‫أحاديث اخلاصة (أعزهم اهلل)‪:‬‬

‫احلديث األول‪ :‬عن الفضيل بن يسار قال‪« :‬ابتدأنا أبو عبد اهلل ‪ ‬يو ًما وقال‪ :‬قال رسول‬
‫اهلل ‪ :‬من مات وليس عليه إمام فميتته ميتة جاهلية‪ ،‬فقلت‪ :‬قال ذلك رسول اهلل ‪‬؟ فقال‪:‬‬
‫إي واهلل قد قال‪ ،‬قلت‪ :‬فكل من مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية؟! قال‪ :‬نعم» (‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬صحيح ابن حبان بتحقيق األرنؤوط‪ :‬ج‪ ،10‬ص‪ .434‬وقد علق عليه األرنؤوط ً‬
‫قائال‪« :‬حديث صحيح‪ ،‬حممد بن يزيد بن‬
‫رفاعة‪ :‬هو حممد بن يزيد بن حممد بن كثري العجَل خمتلف فيه‪ ،‬وقد توبع‪ ،‬وعاصم بن أيب النجود حسن احلديث‪ ،‬وباقي السند رجاله‬
‫رجال الصحيح‪ .‬أبو صالح‪ :‬هو ذكوان السامن املدين‪ .‬وهو يف "مسند أيب يعىل" ورقة ‪.1/345‬‬
‫وأخرجه أمحد ‪ 96/4‬عن أسود بن عامر‪ ،‬والطرباين ‪ 769/19‬من طريق حييى بن احلامين‪ ،‬كالمها عن أيب بكر بن عياش‪ ،‬هبذا‬
‫ا إلسناد‪ .‬واملراد بامليتة اجلاهلية‪ :‬حالة املوت كموت أهل اجلاهلية عىل ضالل وليس له إمام مطاع‪ ،‬ألهنم كانوا ال يعرفون ذلك‪...‬‬
‫إلخ»‪.‬‬
‫اهلِيةِ‬
‫اجل ِ‬ ‫ِ‬
‫ات َم ْي َت ًة ْ َ َّ‬ ‫وال بأس باإلشارة إىل ما ذكره أبو حاتم ابن حبان عن معنى احلديث فقال‪َ « :‬ق ْو ُل ُه َص َّىل اهللَُّ َع َل ْيه [وآله] َو َس َّل َم‪َ :‬م َ‬
‫ث‪َ ،‬والن ََّو ِاز ِل‪ُ ،‬م ْقتَنِ ًعا ِيف‬‫اد ِ‬
‫احلو ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اإل ْس َال ِم بِه عنْدَ ْ َ َ‬ ‫َّاس إِ َىل َطاع َِة اهللَِّ َحتَّى َيكُو َن ِق َوا ُم ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫ات َو َمل ْ َي ْعتَقدْ أَ َّن َل ُه إِ َما ًما َيدْ عُو الن َ‬
‫َم ْعنَا ُه‪َ :‬م ْن َم َ‬
‫ِ ِ‬ ‫االن ِْقي ِ‬
‫ِ‬
‫وحسن احلديث حمققهم األلباين يف كتابه‬ ‫ات َميْتَ ًة َجاهليَّ ًة» صحيح ابن حبان‪ :‬ج‪ ،10‬ص‪ّ .434‬‬ ‫اد ع ََىل َم ْن َليْ َس َن َعتُ ُه َما َو َص ْفنَا َم َ‬ ‫َ‬
‫"التعقليات احلسان عىل صحيح ابن حبان"‪ :‬ج‪ ،7‬ص‪.20‬‬
‫أقول‪ :‬وهذه التعليقة من ابن حبان – وهو من هو – كافية يف دحض محل احلديث عىل احلاكم؛ فإن احلاكم قد ال يكون كذلك‬
‫بالرضورة‪ ،‬والشواهد التأرخيية خري دليل عىل ذلك‪.‬‬
‫(‪ )2‬مسند أيب يعىل‪ :‬ج‪ ،13‬ص‪ .366‬وقال حمقق الكتاب حسني سليم أسد‪" :‬إسناده حسن"‪.‬‬
‫(‪ )3‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.376‬‬
‫‪21‬‬ ‫البحث األول‪ :‬أهمية البحث حول اإلمامة‬

‫احلديث الثاين‪ :‬عن ابن أيب يعفور قال‪« :‬سألت أبا عبد اهلل ‪ ‬عن قول رسول اهلل ‪:‬‬
‫من مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬ميتة كفر؟ قال‪ :‬ميتة ضالل‪ ،‬قلت‪ :‬فمن‬
‫مات اليوم وليس له إمام‪ ،‬فميتته ميتة جاهلية؟ فقال‪ :‬نعم» (‪.)1‬‬

‫احلديث الثالث‪ :‬عن احلارث بن املغرية قال‪« :‬قلت أليب عبد اهلل ‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫‪ :‬من مات ال يعرف إمامه مات ميتة جاهلية؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قلت‪ :‬جاهلية جهالء أو جاهلية‬
‫ال يعرف إمامه؟ قال‪ :‬جاهلية كفر ونفاق وضالل» (‪.)2‬‬

‫كلمة من وحي األحاديث‪:‬‬


‫والذي نستفيده من هذه األحاديث الواردة بأسانيد صحيحة من طريق الفريقني‪َّ :‬‬
‫أن‬
‫البحث حول اإلمامة‪ ،‬ومعرفة من هو اإلمام؛ مسألة حمورية مهمة‪َّ ،‬‬
‫وأن مصري املهمل هلا هو‬
‫املوت ميتة جاهلية‪ ،‬وال شك يف َّ‬
‫أن هذا املصري يرسم املصري األخروي وحيدّ د منتهاه‪.‬‬

‫والرس يف هذه املحورية هو‪َّ :‬‬


‫أن اهلل تعاىل قد أراد حْص مصدر التلقي للدين يف األئمة ‪‬؛‬
‫ألنَّه املصدر الوحيد الذي ُحيرز – بمقتىض عصمته اإلهلية – صيانة الدين معه عن اخلطأ‬
‫واالشتباه والتحريف‪ ،‬ومن خالله تصل املنظومة الدينية الوحيانية يف العقيدة والترشيع‬
‫واألخالق – والتي مت ّثل الدستور املتكامل للحياة – إىل الناس بالنحو الذي يريده اهلل تعاىل‪،‬‬
‫وحيفظ املصالح الواقعية – املتناسبة مع النظام األتم – ويصون عن املفاسد الواقعية‪.‬‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.376‬‬


‫(‪ )2‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.376‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪22‬‬

‫وهذا هو ما اختزلته الصدّ يقة الزهراء ‪ ‬يف خطبتها املباركة‪ ،‬حني قالت‪« :‬وجعل‪...‬‬
‫طاعتنا نظا ًما للم ّلة‪ ،‬وإمامتنا أمانًا من الفرقة» (‪.)1‬‬

‫إن اإلمامة تعادل الرسالة يف هذه اجلهة‪ ،‬فكام َّ‬


‫أن اهلل تعاىل قد حْص‬ ‫ومن املمكن أن ُيقال‪َّ :‬‬
‫وحذر من تلقي الدين من غريهم‪ ،‬حفا ًظا عىل‬
‫ّ‬ ‫الرشائع والرساالت يف أشخاص مع ّينني‪،‬‬
‫ً‬
‫وحتقيقا للمصالح وجتن ًبا للمفاسد‪ ،‬كذلك هو الغرض من‬ ‫تعاليمه ومنظومته الدينية الكاملة‪،‬‬
‫حْص اإلمامة يف أشخاص مع ّي نني‪ ،‬وجعل إمامتهم هي املحور الذي تدور عليه الرحى بعد‬
‫ختم الرساالت الساموية‪.‬‬

‫ٌ‬
‫بحث رضوري له ثمراته‬ ‫فاخلالصة‪ّ :‬‬
‫إن مسألة إمامة أهل البيت ‪ ‬والبحث يف أدلتها‬
‫خصوصا‬
‫ً‬ ‫وفوائده‪ ،‬وجتنّب مثل هذه األبحاث موجب للردى والضالل‪ ،‬فيتأكّد البحث عنها‬
‫يف زماننا احلارض‪.‬‬

‫(‪ )1‬االحتجاج‪ :‬ص‪.134‬‬


‫البحث الثاني‪ :‬مفهوم اإلمامة اإلهلية‬

‫لقد ُع ِّرفت اإلمامة يف كلامت املتكلمني بتعريفات خمتلفة‪ ،‬إال َّ‬


‫أن أحسن وأمجع ما يمكن‬
‫تعريف اإلمامة به هو قول اإلمام عَل بن موسى الرضا ‪َّ « :‬‬
‫إن اإلمامة خالفة اهلل» (‪.)1‬‬

‫وبيان ذلك‪:‬‬

‫إن االستخالف اإلهلي يف األرض قد حتدّ ث عنه القرآن الكريم يف قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ َق َال‬ ‫َّ‬
‫ض َخلِي َف ًة َقا ُلوا َأ َ ْجت َع ُل فِ َيها َم ْن ُي ْف ِسدُ فِ َيها َو َي ْس ِف ُك الدِّ َما َء‬
‫اع ٌل ِيف ْاألَ ْر ِ‬ ‫رب َك ل ِ ْلم َالئِك َِة إِ ِّين ج ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َه‬
‫ون﴾ (‪.)2‬‬‫َون َْح ُن ن َُس ِّب ُح بِ َح ْم ِد َك َون َُقدِّ ُس َل َك َق َال إِ ِّين َأ ْع َل ُم َما َال َت ْع َل ُم َ‬

‫فمثال لو كان‬ ‫ِ‬


‫ستخلف وكامالته‪ً ،‬‬‫لغة وعر ًفا ‪ -‬هو‪ :‬احلاكي لصفات املُ‬
‫واملراد من اخلليفة ‪ً -‬‬
‫هنالك عامل‪ ،‬وكان له تلميذان‪ :‬أحدمها حيمل صفاته‪ ،‬واآلخر ال حيملها‪َّ ،‬‬
‫فإن األول ُيوصف‬
‫بأنه (خليفة) أستاذه دون الثاين‪.‬‬

‫أن اهلل ‪ ‬حينام يستخلف يف األرض َّ‬


‫فإن‬ ‫فإن االستخالف اإلهلي يعني َّ‬
‫وعىل ذلك‪َّ ،‬‬
‫ومظهرا حلكمته‪ ،‬وجتل ًيا لصفاته وكامالته‪،‬‬
‫ً‬ ‫خليفته ال بدَّ أن يكون ترمجانًا لعلمه‪ ،‬وحاك ًيا لقدرته‪،‬‬
‫وقد أشار القرآن الكريم إىل جتَل الصفات اإلهلية يف خلفاء اهلل تعاىل يف عدة آيات‪ ،‬ومنها‪ :‬جتَل‬
‫صفة اخللق‪ ،‬وإبراء األكمه واألبرص‪ ،‬وإحياء املوتى‪ ،‬واإلنباء بالغيب‪ ،‬يف نبي اهلل عيسى ‪،‬‬
‫رسائِ َيل َأ ِّين َقدْ ِج ْئ ُتك ُْم بِآ َي ٍة ِم ْن َر ِّبك ُْم َأ ِّين َأ ْخ ُل ُق َلك ُْم ِم َن‬ ‫حيث قال تعاىل‪َ ﴿ :‬و َر ُس ً ِ ِ ِ‬
‫وال إ َىل َبني إ ْ َ‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.200‬‬


‫(‪ )2‬سورة البقرة‪.30 :‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪24‬‬

‫ص َو ُأ ْح ِي املَْ ْوتَى بِإِ ْذ ِن‬ ‫ِ‬ ‫ني ك ََه ْي َئ ِة ال َّط ْ ِري َف َأ ْن ُف ُخ فِ ِيه َف َيك ُ‬
‫ُون َط ْ ًريا بِإِ ْذن اهللَِّ َو ُأ ْب ِر ُئ ْاألَك َْم َه َو ْاألَ ْب َر َ‬ ‫ال ِّط ِ‬

‫ني﴾ (‪.)1‬‬ ‫ون ِيف ُب ُيوتِك ُْم إِ َّن ِيف َذل ِ َك َآل َي ًة َلك ُْم إِ ْن ُكنْت ُْم ُم ْؤ ِمن ِ َ‬ ‫ون َو َما تَدَّ ِخ ُر َ‬
‫اهللَِّ َو ُأ َن ِّب ُئك ُْم بِ َام َت ْأ ُك ُل َ‬

‫مظهرا تا ًما لكامل اهلل تعاىل‪ ،‬وجتل ًيا حقيق ًيا‬


‫ً‬ ‫ولكن ال خيفاك َّ‬
‫أن خليفة اهلل تعاىل وإن كان‬
‫ومفتقرا إليه‬
‫ً‬ ‫لصفاته التامة‪ ،‬إال أنّه مع ذلك يبقى عبدً ا هلل سبحانه‪ ،‬وخملو ًقا له تبارك وتعاىل‪،‬‬
‫أشد االفتقار‪ ،‬وهذا ما اختزله اإلمام صاحب العْص والزمان ‪ ‬يف قوله‪« :‬فجعلتهم معادن‬
‫لكلامتك‪ ،‬وأركانًا لتوحيدك وآياتك ومقاماتك‪ ،‬التي ال تعطيل هلا يف كل مكان‪ ،‬يعرفك هبا من‬
‫عرفك‪ ،‬ال فرق بينك وبينها إال أهنم عبادك وخلقك» (‪.)2‬‬

‫ٍ‬
‫ورأفة وغريها ‪-‬‬ ‫ٍ‬
‫ورمحة‬ ‫ٍ‬
‫وحكمة‬ ‫أن الصفات اإلهلية ‪ -‬من عل ٍم‬
‫وممّا ذكرناه تعرف معنى َّ‬
‫ثابتة هلل سبحانه باألصالة واالستقالل‪ ،‬بينام ثبوهتا للنبي ‪ ‬وأهل بيته ‪ ‬باإلفاضة واملدد من‬
‫قطع عنهم هذا املدد حلظة واحدة ملا كان هلم منها أي يشء‪.‬‬
‫اهلل سبحانه‪ ،‬بحيث لو َ‬

‫أيضا يف ظل ذلك خطأ‬ ‫فظهر من مجيع ما ذكرناه‪ :‬معنى َّ‬


‫أن اإلمامة خالفة اهلل ‪ ،‬كام ظهر ً‬
‫الكثري من التعاريف التي ُع ِّرفت هبا اإلمامة‪ ،‬ومنها التعريف املشهور القائل‪( :‬اإلمامة رئاسة‬
‫عامة يف الدين والدنيا)‪ ،‬فإنه تعريف ببعض شؤون اإلمامة‪ ،‬مع َّ‬
‫أن شؤوهنا أكرب وأكثر وأوسع‬
‫من ذلك‪ ،‬وال تستوفيها إال العبارة الرضوية‪( :‬اإلمامة خالفة اهلل)‪.‬‬

‫يتم‬
‫وسيأيت مزيد كالم حول هذا التعريف خالل البحث الالحق إن شاء اهلل تعاىل‪ ،‬بل ال ّ‬
‫ما ذكرناه هاهنا ّإال به‪.‬‬

‫(‪ )1‬سورة آل عمران‪.49 :‬‬


‫(‪ )2‬مصباح املتهجد لشيخ الطائفة‪ :‬ص‪.803‬‬
‫البحث الثالث‪ :‬الفرق املفهومي بني النيب والرسول واإلمام‬

‫من املسائل الشائكة واملعضلة يف أبحاث اإلمامة‪ :‬مسألة الفرق بني العناوين الثالثة‪ :‬النبي‬
‫والرسول واإلمام‪َّ ،‬‬
‫فإن هذه العناوين وإن اشرتكت يف عنوان واحد جامع بينها‪ ،‬وهو عنوان‬
‫(احلجة)‪ ،‬إال أهنا متباينة وخمتلفة‪ ،‬فلزم الوقوف عندها ألجل جتلية الفرق بينها‪.‬‬

‫وبام َّ‬
‫أن العناوين املذكورة هلا ُب ْعدٌ لغوي‪ ،‬لذا لزم بيان الفارق اللغوي بينها يف املرحلة‬
‫نبني الفارق بينها – بحسب‬
‫ثم ّ‬ ‫ٍ‬
‫بشكل تقريبي عىل معناها االصطالحي‪َّ ،‬‬ ‫األوىل‪ ،‬ليطل بنا ولو‬
‫يتم يف مقامني‪:‬‬
‫فالكالم حوهلا ه‬
‫ُ‬ ‫االصطالح الديني الرشعي – يف املرحلة الثانية‪،‬‬

‫‪ /1‬املقام األول‪ :‬بيان الفارق اللغوي بني العناوين الثالثة‪.‬‬

‫حمصل الكالم حوهلا‪:‬‬


‫وال يتضح إال ببيان املقصود منها واحدً ا واحدً ا‪ ،‬وإليك ّ‬

‫‪ –1‬املفردة األوىل‪ :‬النبي‪.‬‬

‫مهموزا‪ ،‬أو غري مهموز‪ ،‬وعىل ضوء اختالفهم‬


‫ً‬ ‫وقد اختلفوا يف كون أصل هذه املفردة‬
‫أيضا يف حتديد معناه‪ ،‬وهلم يف ذلك أقوال‪:‬‬
‫هذا اختلفوا ً‬

‫(خرب) أو (أخرب)؛ إذ (اإلنباء) هو‬


‫أ – القول األول‪ :‬إهنا مأخوذة من (ن َّبأ) أو (أنبأ) بمعنى َّ َ‬
‫(اإلخبار)‪ ،‬فالنبيء – باهلمز – أو النبي – بغري اهلمز(‪ –)1‬عىل هذا املعنى عىل وزن فعيل‪ ،‬وهو‬

‫وحيتمل أ َّن اهلمز قد‬


‫(‪ )1‬ذكر بعضهم‪ :‬أ َّن النبيء باهلمز ليس من لغة قريش‪ ،‬وذكر بعض آخر‪ :‬أ َّن (النبي) من غري اهلمز هو األبلغ‪ُ ،‬‬
‫ُحذف للتسهيل‪ ،‬فكثر استعامله كذلك‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪26‬‬

‫إما بمعنى فاعل‪ ،‬أي‪ :‬املخرب عن اهلل تعاىل‪ ،‬وإما بمعنى مفعول‪ ،‬وهو املُن ّبأ عن اهلل تعاىل‪ ،‬وسيأيت‬
‫حتديد املعنى املقصود منها إن شاء اهلل تعاىل‪.‬‬

‫ب – القول الثاين‪ :‬إهنا مأخوذة من ( َن َب َأ) أي‪ :‬ارتفع وظهر‪ ،‬وقيل‪ :‬من (النَ ْب َوة) وهي‪ :‬ما‬
‫أيضا‪ ،‬واملعنى‬
‫ارتفع من األرض واملوضع الرشيف منها‪ ،‬أو من (النباوة) وهي بنفس املعنى ً‬
‫املتحصل من اجلميع واحد‪ ،‬فالنبي ُس ّمي نب ًّيا الرتفاعه –بمقام النبوة – عىل َمن سوا ُه من اخللق‪.‬‬
‫ّ‬

‫ج – القول الثالث‪ :‬إهنا مأخوذة من (النبيء) – مع اهلمز وبدونه – وهو‪ :‬الطريق‬


‫الواضح‪ ،‬وال خيفى وجه املناسبة بني هذا املعنى وبني تسمية النبي بالنبي‪ ،‬فإنه هو الطريق‬
‫الواضح إىل اهلل ‪ ‬ورصاطه املستقيم‪.‬‬

‫‪ – 2‬املفردة الثانية‪ :‬الرسول‪.‬‬

‫وهي – بحسب أصلها – ترجع إىل أحد معنيني‪:‬‬

‫أ – املعنى األول‪ :‬البعث عىل توئدة‪ ،‬ويكون معنى (الرسول) – عىل ضوء هذا املعنى –‬
‫ِ‬ ‫علام َّ‬
‫نادرا‪.‬‬
‫أن (فعول) مل تأت بمعنى (مفعول) إال ً‬ ‫هو املبعوث أو فقل (املُرسل)‪ً ،‬‬

‫(ر َسل اللبن) وهو ما ينزل من الرضع متتاب ًعا‪،‬‬ ‫ِ‬


‫ب – املعنى الثاين‪ :‬اإلنزال مع التتابع‪ ،‬من َ‬
‫وقد ُس ّمي الرسول – بلحاظ هذه املناسبة – بالرسول من جهة تتابع الوحي عليه‪.‬‬

‫‪ – 3‬املفردة الثالثة‪ :‬اإلمام‪.‬‬

‫وهو اسم َمن ُيؤتم به‪ ،‬كاإلزار اسم ملا ُيؤتزر به‪ ،‬ومعناه‪ :‬القدوة‪ ،‬أو َمن يقتدى به يف قوله‬
‫حمقا أو ً‬
‫مبطال‪.‬‬ ‫أو فعله‪ ،‬سواء كان ً‬
‫‪27‬‬ ‫البحث الثالث‪ :‬الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام‬

‫‪ / 2‬املقام الثاين‪ :‬بيان الفارق االصطالحي بني العناوين الثالثة‪.‬‬

‫وابتدا ًء ال بدَّ من االلتفات إىل َّ‬


‫أن هذه العناوين الثالثة قد استعملها الشارع يف لسانه‪،‬‬
‫وهذا يقتيض مالحظة النصوص الرشعية – قرآنًا وسنّة – ملعرفة َّ‬
‫أن الشارع األقدس هل أراد‬
‫ٍ‬
‫معان جديدة‬ ‫هبا معانيها اللغوية؟ أم أنه تْصف فيها زياد ًة ونقيصة؟ أم أنه اصطلحها عىل‬
‫خمرتعة؟‬

‫وبالرجوع للنصوص الرشيفة نجد أهنا فر ّقت بني العناوين الثالثة بلحاظني‪:‬‬

‫• حلاظ كيفية التلقي من اهلل تعاىل‪.‬‬


‫• حلاظ املهام اإلهلية‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪28‬‬

‫أ – اللحاظ األول‪ :‬حلاظ كيفية التلقي من اهلل تعاىل‪.‬‬

‫وقد أوضحت ذلك عدة من النصوص‪ ،‬منها‪ :‬صحيحة زرارة قال‪« :‬سألت أبا جعفر‬
‫وال نَّبِ ًّيا﴾ ما الرسول وما النبي؟ قال‪ :‬النبي الذي يرى يف‬
‫َان َر ُس ً‬
‫‪ ‬عن قول اهلل ‪َ ﴿ :‬وك َ‬
‫منامه ويسمع الصوت وال يعاين امللك‪ ،‬والرسول الذي يسمع الصوت ويرى يف املنام ويعاين‬
‫امللك‪ ،‬قلت‪:‬اإل مام ما منزلته؟ قال‪ :‬يسمع الصوت وال يرى وال يعاين امللك‪.)1( » ..‬‬

‫ِ‬
‫احل َس ُن ْب ُن ا ْل َع َّب ِ‬
‫اس‬ ‫َب ْ َ‬ ‫ومنها‪ :‬ما رواه يف الكايف بسنده َع ْن إِ ْس َامع َيل ْب ِن َم َّر ٍار َق َال‪َ « :‬كت َ‬
‫واإل َما ِم؟ َق َال‪:‬‬ ‫ول والنَّبِ ِّي ِ‬ ‫ني الرس ِ‬
‫رب ِين َما ا ْل َف ْر ُق َب ْ َ َّ ُ‬
‫اك َأ ْخ ِ ْ‬‫الر َضا ‪ُ :‬ج ِع ْل ُت فِدَ َ‬ ‫ويف إِ َىل ِّ‬‫املَْ ْع ُر ِ ه‬
‫ربئِ ُيل َف َ َرياه‬ ‫واإلما ِم‪َ :‬أ َّن الرس َ ِ‬
‫ول ا َّلذي ينز ُل َع َل ْيه َج ْ َ‬ ‫َّ ُ‬
‫ِ‬
‫الر ُسول والنَّبِ ِّي ِ َ‬ ‫ني َّ‬ ‫َب َأ ْو َق َال‪ :‬ا ْل َف ْر ُق َب ْ َ‬ ‫َف َكت َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم ‪ ،‬والنَّبِ هي ُر َّب َام‬ ‫ور َّب َام َر َأى ِيف َمنَامه ن َْح َو ُر ْؤ َيا إِ ْب َراه َ‬
‫زل َع َل ْيه ا ْل َو ْح ُي‪ُ ،‬‬ ‫و َي ْس َم ُع ك ََال َمه‪ ،‬وينْ ُ‬
‫ام ُه َو ا َّل ِذي َي ْس َم ُع ا ْلك ََال َم َ‬
‫وال َي َرى‬ ‫ومل َي ْس َم ْع‪ِ ،‬‬
‫واإل َم ُ‬ ‫ص َْ‬ ‫ور َّب َام َر َأى َّ‬
‫الش ْخ َ‬
‫ِ‬
‫َسم َع ا ْلك ََال َم‪ُ ،‬‬
‫الش ْخ َ‬
‫ص» (‪.)2‬‬ ‫َّ‬

‫ومنها‪ :‬عن أمحد بن حممد بن أيب نْص‪ ،‬عن ثعلبة‪ ،‬عن زرارة‪ ،‬قال‪ :‬سألت أبا جعفر ‪‬‬
‫وال نَّبِ ًّيا﴾‪ ،‬قلت‪ :‬ما هو الرسول ِمن النبي؟ قال‪« :‬النبي هو الذي‬
‫َان َر ُس ً‬
‫عن قول اهلل ‪َ ﴿ :‬وك َ‬
‫يرى يف منامه ويسمع الصوت وال يعاين امللك‪ ،‬والرسول يعاين امللك ويكلمه‪ ،‬قلت‪ :‬فاإلمام‬
‫ما منزلته؟ قال‪ :‬يسمع الصوت وال يرى وال يعاين» (‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.176‬‬


‫(‪ )2‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.176‬‬
‫(‪ )3‬بصائر الدرجات‪ :‬ص‪.388‬‬
‫‪29‬‬ ‫البحث الثالث‪ :‬الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام‬

‫واملتحصل من هذه األخبار بضميمة أخبار أخرى‪َّ :‬‬


‫أن الفارق بني العناوين الثالثة – من‬
‫حيث كيفية التلقي من اهلل تعاىل – يكون بالنحو التايل‪:‬‬

‫زل َع َل ْيه‬ ‫ِ‬


‫اليقظة و َي َراه و َي ْس َم ُع ك ََال َمه‪ ،‬وقد ينْ ُ‬ ‫إن الرسول هو‪ :‬ا َّل ِذي ينز ُل َع َل ْيه املَ َلك يف‬ ‫• َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم ‪.‬‬ ‫ور َّب َام َر َأى ذلك ِيف َمنَامه ن ْ‬
‫َح َو ُر ْؤ َيا إِ ْب َراه َ‬ ‫با ْل َو ْحي ً‬
‫أيضا‪ُ ،‬‬

‫• وأما النبي فهو‪ :‬الذي يرى امللك يف منامه ويسمع منه الوحي‪ ،‬ولكنه ال يعاين امللك‬
‫يف اليقظة‪ ،‬وربام رآه يف اليقظة ولكن من غري أن يسمع الوحي منه يف هذه احلال‪.‬‬

‫• وأما اإلمام فهو‪ :‬الذي يسمع كالم اهلل سبحانه وتعاىل بواسطة امللك جربائيل أو روح‬
‫القدس (‪ ، )1‬ولكنه ال يعاين امللك يف اليقظة حال نزوله بكالم اهلل تعاىل‪ ،‬وال حتى يراه يف منامه‬
‫أيضا‪.‬‬
‫يف هذا احلال ً‬

‫تنبيهات مهمة‪:‬‬

‫ولكن هاهنا تنبيهات مهمة – مرتبطة بالفوارق املذكورة – ينبغي االلتفات إليها جيدً ا‪:‬‬

‫(‪ ) 1‬وقد وصفته بعض الروايات الرشيفة‪ :‬بأنه خلق أعظم من جربئيل وميكائيل‪ .‬عن أيب بصري قال‪« :‬سألت أبا عبد اهلل ‪ ‬عن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُنت تَدْ ِري َما ا ْلكت ُ‬
‫َاب َو َال ْ ِ‬
‫اإل َيامن﴾؟ قال‪ :‬خلق من خلق اهلل ‪‬‬ ‫وحا ِّم ْن َأ ْم ِرنَا َما ك َ‬
‫﴿و َك َذل َك َأ ْو َح ْينَا إِ َل ْي َك ُر ً‬
‫قول اهلل تبارك وتعاىل‪َ :‬‬
‫أعظم من جربئيل وميكائيل‪ ،‬كان مع رسول اهلل ‪ ‬خيربه ويسدده‪ ،‬وهو مع األئمة من بعده»‪.‬‬
‫وعن أيب محزة قال‪« :‬سألت أبا عبد اهلل ‪ ‬عن العلم‪ ،‬أهو علم يتعلمه العامل من أفواه الرجال؟ أم يف الكتاب عندكم تقرؤونه‬
‫ُنت تَدْ ِري‬
‫وحا ِّم ْن َأ ْم ِرنَا َما ك َ‬ ‫ِ‬
‫﴿وك ََذل َك َأ ْو َحيْنَا إِ َليْ َك ُر ً‬
‫فتعلمون منه؟ قال‪ :‬األمر أعظم من ذلك وأوجب‪ ،‬أما سمعت قول اهلل ‪َ :‬‬
‫َاب َو َال ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫اإل َيامن﴾ ثم قال‪ :‬أي يشء يقول أصحابكم يف هذه اآلية‪ ،‬أيقرون أنه كان يف حال ال يدري ما الكتاب وال اإليامن؟‬ ‫َما ا ْلكت ُ‬
‫فقلت‪ :‬ال أدري ‪ -‬جعلت فداك ‪ -‬ما يقولون! فقال [يل]‪ :‬بىل قد كان يف حال ال يدري ما الكتاب وال اإليامن حتى بعث اهلل تعاىل‬
‫فلام أوحاها إليه علم هبا العلم والفهم‪ ،‬وهي الروح التي يعطيها اهلل تعاىل من شاء‪ ،‬فإذا أعطاها عبدً ا‬
‫الروح التي ذكر يف الكتاب‪َّ ،‬‬
‫علمه الفهم»‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪30‬‬

‫إن رصيح بعض الروايات الرشيفة هو َّ‬


‫أن امللك الذي ينزل بالوحي عىل‬ ‫• التنبيه األول‪َّ :‬‬
‫الرسل‪ ،‬ويعاينونه يف اليقظة ويسمعونه‪ ،‬هو جربائيل ‪.‬‬

‫ففي صحيحة األحول‪ ،‬قال‪ :‬سألت أبا جعفر ‪ ‬عن الرسول والنبي واملحدث؟ قال‪:‬‬
‫«الرسول الذي يأتيه جربئيل ُق ُب ًال فرياه ويكلمه‪ ،‬فهذا الرسول‪ ،‬وأما النبي فهو الذي يرى يف‬
‫منامه نحو رؤيا إبراهيم‪ ،‬ونحو ما كان رأى رسول اهلل ‪ ‬من أسباب النبوة قبل الوحي‪ ،‬حتى‬
‫أتاه جربئيل ‪ ‬من عند اهلل بالرسالة‪ ،‬وكان حممد ‪ ‬حني مجع له النبوة‪ ،‬وجاءته الرسالة من‬
‫عند اهلل‪ ،‬جييئه هبا جربئيل ويكلمه هبا ُق ُب ًال‪ ،‬ومن األنبياء من مجع له النبوة ويرى يف منامه ويأتيه‬
‫الروح ويكلمه وحيدثه‪ ،‬من غري أن يكون يرى يف اليقظة‪ ،‬وأما املحدث فهو الذي حيدث‬
‫فيسمع‪ ،‬وال يعاين وال يرى يف منامه» (‪.)1‬‬

‫• التنبيه الثاين‪َّ :‬‬


‫إن العديد من الروايات الرشيفة – كصحيحة األحول املتقدمة – قد‬
‫استبدلت كلمة (اإلمام) بكلمة (املُحدَّ ث)‪ ،‬وليس ذلك ألجل ترادف العنوانني‪ ،‬رضورة َّ‬
‫أن‬
‫أعم من األول (‪ ،)2‬ولكن لع ّله من باب مناسبة احلكم واملوضوع‪َّ ،‬‬
‫فإن صفة اإلمام املناسبة‬ ‫الثاين ه‬
‫لبيان الفرق بينه وبني النبي والرسول يف مقام التلقي هي كونه ُحمدّ ًثا‪.‬‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.176‬‬


‫اك و َطهر ِك واص َط َف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اك‬ ‫اص َط َف َ َّ َ َ ْ‬ ‫﴿وإِ ْذ َقا َلت املَْ َالئ َك ُة َيا َم ْر َي ُم إِ َّن اهللََّ ْ‬
‫(‪ )2‬وتشهد بذلك اآلية والرواية‪ ،‬أما اآلية فقوله يف سورة آل عمران‪َ :‬‬
‫ُوح ِ‬
‫يه إِ َليْ َك َو َما ُكن َْت َلدَ ُّْيِ ْم إِ ْذ‬ ‫بن ِ‬ ‫اء ا ْل َغيْ ِ‬‫اء ا ْلعاملَِنيَ * يا مريم ا ْقنُتِي لِرب ِك واسج ِدي وارك َِعي مع الراكِ ِعنيَ * َذل ِ َك ِمن َأ ْنب ِ‬ ‫َع َىل نِس ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ِّ َ ْ ُ‬ ‫َ ََْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ت املَْ َالئِ َك ُة يا مريم إِ َّن اهللََّ يب ِّرش ِك بِكَلِم ٍة ِمنْه اسمه املَْ ِس ِ‬ ‫خيت َِصمو َن * إِ ْذ َقا َل ِ‬
‫يسى‬ ‫يح ع َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ ْ ُ ُ‬ ‫َُ ُ‬ ‫َ ََْ ُ‬ ‫ُي ْل ُقو َن َأ ْق َال َم ُه ْم أَ ه ُُّي ْم َي ْك ُف ُل َم ْر َي َم َو َما ُكن َْت َلدَ ُّْيِ ْم إِ ْذ َ ْ ُ‬
‫ا ْب ُن َم ْر َي َم َو ِجي ًها ِيف الده ْن َيا َو ْاآلَ ِخ َر ِة َو ِم َن املُْ َق َّر ِبنيَ ﴾‪ ،‬فإ َّن هذه اآليات تدل عىل أ َّن مريم ‪ ‬حمدّ ثة‪ ،‬رغم عدم كوهنا من األئمة‪.‬‬
‫وأما الرواية‪ :‬فعن أيب بصري‪ ،‬عن أيب عبد اهلل الصادق ‪ ‬قال‪« :‬كان عَل ‪ ‬حمد ًثا‪ ،‬وكان سلامن حمد ًثا‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬فام آية املحدث؟‬
‫قال‪ :‬يأتيه ملك فينكت يف قلبه كيت وكيت»‪ .‬بصائر الدرجات‪ ،342 :‬وهي األخرى تشهد بأعمية عنوان املحدّ ث من عنوان اإلمام‪،‬‬
‫لوضوح أ َّن سلامن ‪ ‬مل يكن إما ًما‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫البحث الثالث‪ :‬الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام‬

‫وقد اشتهر يف كلامهتم الرشيفة توصيف أنفسهم ‪ ‬هبذا العنوان‪ ،‬فعن حممد بن إسامعيل‪،‬‬
‫قال‪ :‬سمعت أبا احلسن ‪ ‬يقول‪« :‬األئمة علامء‪ ،‬صادقون‪ ،‬مفهمون حمدثون» (‪.)1‬‬

‫بل يظهر من بعضها أهنم ‪ ‬كانوا مهتمني بتطبيق هذا العنوان عليهم‪ ،‬وترسيخه يف‬
‫األذهان‪ ،‬فعن عبيد بن زرارة قال‪« :‬أرسل أبو جعفر ‪ ‬إىل زرارة أن يعلم احلكم بن عتيبة‬
‫أن أوصياء حممد (عليه وعليهم السالم) حمدّ ثون» (‪.)2‬‬

‫• التنبيه الثالث‪َّ :‬‬


‫إن نفي الروايات عنهم ‪ ‬رؤية امللك (جربائيل) يف اليقظة والنوم‪ ،‬إنام‬
‫ُيراد به عدم رؤيتهم له حال حتديثه بكالم اهلل تعاىل‪ ،‬وإال فإهنم يرونه يف غري هذا احلال‪ ،‬وتشهد‬
‫مر‬
‫بذلك روايات كثرية جدً ا‪ ،‬منها‪ :‬موثقة أيب خدجية‪ ،‬قال‪ :‬سمعت أبا عبد اهلل ‪ ‬يقول‪َّ « :‬‬
‫بأيب ‪ ‬رجل وهو يطوف‪ ،‬فرضب بيده عىل منكبه‪ ،‬ثم قال‪ :‬أسألك عن خصال ثالث ال‬
‫يعرفهن غريك وغري رجل آخر‪ ،‬فسكت عنه حتى فرغ من طوافه‪ ،‬ثم دخل احلجر فصىل ركعتني‬
‫فلام فرغ نادى ‪ :‬أين هذا السائل؟ فجاء فجلس بني يديه‪ ،‬فقال له‪ :‬سل‪ ،‬فسأله‬
‫وأنا معه‪َّ ،‬‬
‫عن ﴿ن َوا ْل َق َل ِم َو َما َي ْس ُط ُر َ‬
‫ون﴾ فأجابه‪ ،‬ثم قال‪ :‬حدثني عن املالئكة حني ردوا عىل الرب‪،‬‬
‫حيث غضب عليهم‪ ،‬وكيف ريض عنهم؟ فقال‪َّ :‬‬
‫إن املالئكة طافوا بالعرش سبعة آالف سنة‬
‫يدعونه ويستغفرونه ويسألونه أن يرىض عنهم‪ ،‬فريض عنهم بعد سبع سنني‪ ،‬فقال‪ :‬صدقت‪،‬‬
‫ثم قال‪ :‬حدثني عن رضا الرب عن آدم؟ فقال‪ :‬إن آدم أنزل فنزل يف اهلند‪ ،‬وسأل ربه تعاىل هذا‬
‫أسبوعا‪ ،‬ويأيت منى وعرفات فيقىض مناسكه كلها‪ ،‬فجاء من‬
‫ً‬ ‫البيت‪ ،‬فأمره أن يأتيه فيطوف به‬
‫اهلند وكان موضع قدميه حيث يطأ عليه عمران‪ ،‬وما بني القدم إىل القدم صحارى ليس فيها‬

‫وعليه‪ ،‬فكل إمام حمدث‪ ،‬ولكن ليس كل حمدث إما ًما‪.‬‬


‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.271‬‬
‫(‪ )2‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.270‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪32‬‬

‫أسبوعا‪ ،‬وأتى مناسكه فقضاها كام أمره اهلل‪ ،‬فقبل اهلل منه التوبة‪،‬‬
‫ً‬ ‫يشء‪ ،‬ثم جاء إىل البيت فطاف‬
‫وغفر له‪ ،‬قال‪ :‬فجعل طواف آدم ملا طافت املالئكة بالعرش سبع سنني‪ ،‬فقال جربئيل‪ :‬هنيئا‬
‫لك يا آدم قد غفر لك‪ ،‬لقد طفت هبذا البيت قبلك بثالثة آالف سنة‪ ،‬فقال آدم‪ :‬يا رب اغفر يل‬
‫صدقت ومىض‪ ،‬فقال أيب ‪:‬‬
‫َ‬ ‫ولذريتي من بعدي‪ ،‬فقال‪ :‬نعم َمن آمن منهم يب وبرسَل‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫هذا جربئيل أتاكم يعلمكم معامل دينكم» (‪.)1‬‬

‫• التنبي ُه الرابع‪ :‬يظهر من بعض الروايات الرشيفة – بل هو رصحيها – َّ‬


‫أن اإلمام ‪‬‬
‫يتلقى كالم اهلل تعاىل من امل َلك حال املعاينة ً‬
‫وجها لوجه‪ ،‬ومنها‪ :‬ما عن أيب بصري‪ ،‬قال‪« :‬سمعت‬
‫أبا عبد اهلل ‪ ‬يقول‪ :‬إنا لنزاد يف الليل والنهار‪ ،‬ولو مل نزد لنفد ما عندنا‪ ،‬قال أبو بصري‪ :‬جعلت‬
‫إن منا ملَن ُينقر يف قلبه كيت وكيت‪ ،‬و َّ‬
‫إن منا ملن‬ ‫إن منّا َمن يعاين‪ ،‬و َّ‬
‫فداك‪َ ،‬من يأتيكم به؟ قال‪َّ :‬‬
‫يسمع بأذنه َو ْق ًعا كوقع السلسلة يف الطست‪ .‬قال‪ :‬فقلت له‪َ :‬من الذي يأتيكم بذلك؟ قال‪:‬‬
‫خلق أعظم من جربئيل وميكائيل» (‪.)2‬‬

‫إن منّا ملن ُينكت يف أذنه‪ ،‬و َّ‬


‫إن‬ ‫وعن ابن أيب محزة‪ ،‬قال‪ :‬سمعت أبا عبد اهلل ‪ ‬يقول‪َّ « :‬‬
‫منّا ملن يؤتى يف منامه‪ ،‬وإ َّن منّا ملن يسمع الصوت مثل صوت السلسلة يقع عىل الطست‪ ،‬و َّ‬
‫إن‬
‫م ّنا ملن يأتيه صورة أعظم من جربئيل وميكائيل» (‪.)3‬‬

‫وقد ُيتوهم التنايف بني هذه الطائفة والروايات املتقدمة الدالة عىل عدم معاينة اإلمام‬
‫ولكن الصحيح – بعد التن ّبه إىل ما ذكرناه يف األمر األول‬
‫َّ‬ ‫للملك حال تلقيه للكالم الساموي‪،‬‬
‫من َّ‬
‫أن امللك املقصود يف تلك الروايات هو جربائيل ‪ – ‬عدم التنايف بينها وبني الروايات‬

‫(‪ )1‬علل الرشائع‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.407‬‬


‫(‪ )2‬بصائر الدرجات‪ :‬ص‪.252‬‬
‫(‪ )3‬بصائر الدرجات‪ :‬ص‪.252‬‬
‫‪33‬‬ ‫البحث الثالث‪ :‬الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام‬

‫األخرية‪َّ ،‬‬
‫فإن عقد السلب يف تلك غري عقد اإلجياب يف هذه‪ ،‬فهذه تثبت معاينة الروح (روح‬
‫القدس)‪ ،‬بينام تلك تنفي رؤية جربائيل ‪َّ ،‬‬
‫ولعل ذلك الختصاص مهمته بالتبليغ للرسل‬
‫‪ ،‬واهلل العامل‪.‬‬

‫• التنبي ُه اخلامس‪ :‬قد ُيستوحى من الروايات املتقدمة – التي تفرعت عنها الفوارق‬
‫املذكورة – أفضلية منصب الرسالة عىل منصب النبوة‪ ،‬ومنصب النبوة عىل منصب اإلمامة؛ إذ‬

‫أن الرسول يعاين امل َلك ً‬


‫وجها لوجه حال التلقي‪ ،‬بينام النبي ال يراه متلق ًّيا منه‬ ‫حتصل منها‪َّ :‬‬
‫قد ّ‬
‫إال حال نومه‪ ،‬وأما اإلمام فال يراه حال التلقي ً‬
‫يقظة وال نو ًما‪ ،‬وهذا ظاهر يف التفاضل املذكور‪.‬‬

‫أخريا – عدم متامية ذلك‪َّ ،‬‬


‫فإن اإلمام وإن كان ال‬ ‫ً‬ ‫والصحيح – عىل ضوء ما ذكرناه‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫ولعل ذلك الختصاصه – كام ذكرنا – بالتبليغ‬ ‫يعاين املَ َلك جربائيل ‪ ‬حال التلقي‪،‬‬
‫للرسل واألنبياء ‪ ،‬ولكنّه يعاين َمن هو أعظم من جربائيل وميكائيل ‪ – ‬كام تقدم يف‬
‫أن ذلك من خمتصاهتم ‪،‬‬ ‫روايات سابقة – وهو روح القدس‪ ،‬وقد ور َد يف الروايات الرشيفة َّ‬
‫ِ‬
‫فعن أيب بصري قال‪« :‬سألت أبا عبد اهلل ‪ ‬عن قول اهلل ‪َ ﴿ :‬وك ََذل َك َأ ْو َح ْينَا إِ َل ْي َك ُر ً‬
‫وحا ِّم ْن‬
‫ِ‬
‫اإل َيام ُن﴾؟ قال‪ :‬خلق من خلق اهلل ‪ ‬أعظم من جربئيل‬ ‫ُنت تَدْ ِري َما ا ْلكت ُ‬
‫َاب َو َال ْ ِ‬ ‫َأ ْم ِرنَا َما ك َ‬
‫وميكائيل‪ ،‬كان مع رسول اهلل ‪ ‬خيربه ويسدده‪ ،‬وهو مع األئمة من بعده» (‪.)1‬‬

‫وعن عَل بن أسباط قال‪« :‬سأله رجل من أهل هيت ‪ -‬وأنا حارض ‪ -‬عن قول اهلل ‪:‬‬
‫ِ‬
‫﴿ َوك ََذل َك َأ ْو َح ْينَا إِ َل ْي َك ُر ً‬
‫وحا ِّم ْن َأ ْم ِرنَا﴾؟ فقال‪ :‬منذ أنزل اهلل ‪ ‬ذلك الروح عىل حممد ‪‬‬
‫ما صعد إىل السامء‪ ،‬وإنه لفينا» (‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬بصائر الدرجات‪ :‬ص‪.475‬‬


‫(‪ )2‬بصائر الدرجات‪ :‬ص‪.477‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪34‬‬

‫أيضا قال‪« :‬سألت أبا عبد اهلل ‪ ‬عن قول اهلل ‪َ ﴿ :‬و َي ْس َأ ُلون ََك َع ِن‬
‫وعن أيب بصري ً‬
‫وح ِم ْن َأ ْم ِر َر ِّيب﴾؟ قال‪ :‬خلق أعظم من جربئيل وميكائيل‪ ،‬كان مع رسول اهلل‬ ‫وح ُق ِل ه‬
‫الر ُ‬ ‫الر ِ‬
‫ه‬
‫‪ ،‬وهو مع األئمة‪ ،‬وهو من امللكوت» (‪.)1‬‬

‫وإن أبيت عن داللة هذه الروايات عىل االختصاص فدونك معتربة أيب بصري‪ ،‬فإهنا نص‬
‫وح ُق ِل‬ ‫َك َع ِن ه‬
‫الر ِ‬ ‫فيه‪ ،‬حيث جاء فيها عنه أنه قال‪« :‬سمعت أبا عبد اهلل ‪ ‬يقول‪َ ﴿ :‬و َي ْس َأ ُلون َ‬
‫وح ِم ْن َأ ْم ِر َر ِّيب﴾ قال ‪ :‬خلق أعظم من جربئيل وميكائيل‪ ،‬مل يكن مع أحد ممن مىض غري‬ ‫الر ُ‬
‫ه‬
‫حممد ‪ ،‬وهو مع األئمة يسددهم» (‪.)2‬‬

‫لتوهم التفاضل املذكور بني املناصب‪ ،‬بل َّ‬


‫إن مقتىض هذه الروايات هو‬ ‫وعليه‪ ،‬فال جمال ّ‬
‫قدرا من منصبي النبوة والرسالة‪.‬‬
‫كون اإلمامة اخلاصة أعىل ً‬

‫(‪ )1‬بصائر الدرجات‪ :‬ص‪.482‬‬


‫(‪ )2‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.273‬‬
‫‪35‬‬ ‫البحث الثالث‪ :‬الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام‬

‫ب – اللحاظ الثاين‪ :‬حلاظ املهام اإلهلية‪.‬‬

‫واملستفاد من الروايات الرشيفة‪َّ :‬‬


‫أن العناوين الثالثة (النبي‪ ،‬الرسول‪ ،‬اإلمام) تتفاوت‬
‫من حيث املهام املُناطة هبا بالبيان التايل‪:‬‬

‫‪ – 1‬العنوان األول‪ :‬النبي‪ ،‬ومهمته هي تلقي الوحي ليكون عار ًفا بالدين اإلهلي وحمي ًطا‬
‫مهم سيأيت إن شاء اهلل تعاىل‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫تفصيل ٍّ‬ ‫به‪ ،‬وليس من مهمته اإلبالغ عن اهلل تعاىل‪ ،‬عىل‬

‫‪ – 2‬العنوان الثاين‪ :‬الرسول‪ ،‬ومهمته تلقي املعارف الوحيانية وإيصاهلا إىل الناس‪ ،‬وهذه‬
‫املهمة تتفرع عن املهمة السابقة‪ ،‬كام ال خيفى‪.‬‬

‫ويمكن أن ُيستشهد عىل هذا الفرق بني العنوانني بمعتربة هشام بن سامل‪ ،‬قال‪ :‬قال أبو‬
‫عبد اهلل ‪« :‬األنبياء واملرسلون عىل أربع طبقات‪:‬‬

‫أ – فنبي منبأ يف نفسه ال يعدو غريها (‪.)1‬‬

‫ب – ونبي يرى يف النوم ويسمع الصوت وال يعاينه يف اليقظة‪ ،‬ومل ُيبعث إىل أحد‪ ،‬وعليه‬
‫إمام‪ ،‬مثلام كان إبراهيم عىل لوط ‪.)2( ‬‬

‫وحيتمل أن يكون املقصود هو أ َّن نبوته‬


‫(‪ُ )1‬حيتمل أن يكون املقصود هو أ َّن طريقة تلقيه تنحْص باإلهلام النفيس‪ ،‬وال يعدوه إىل غريه‪ُ ،‬‬
‫يرجح االحتامل‬
‫تنحْص به‪ ،‬وال تعدوه إىل غريه من الناس‪ ،‬ولك َّن عدول الرواية من التعبري بـ (منبأ لنفسه) إىل التعبري بـ (منبأ يف نفسه) ّ‬
‫األول عىل الثاين‪ ،‬ويؤيده التقابل بني الطبقات األربع يف كيفية التلقي‪ ،‬واهلل العامل‪.‬‬
‫(‪ )2‬ليس املقصود من هذه الفقرة‪ :‬التمثيل بالنبي لوط ‪ ‬هلذا الصنف من األنبياء‪ ،‬رضورة أ َّن لو ًطا ‪ ‬كان من املرسلني‪ ،‬كام هو‬
‫ول َأ ِمنيٌ ﴾‪ ،‬وإنام املقصود هو‬
‫وط أَ َال َتتَّ ُقو َن‪ *‬إِ ِّين َلك ُْم َر ُس ٌ‬
‫وه ْم ُل ٌ‬ ‫رصيح قوله تعاىل‪﴿ :‬ك ََّذب ْت َقوم ُل ٍ‬
‫وط املُْ ْر َسلِنيَ ‪ *‬إِ ْذ َق َال هلَ ُ ْم أَ ُخ ُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ‬
‫التمثيل بالنبي إبراهيم ‪ ‬للنبي الذي يكون إما ًما ويكون حتته نبي آخر‪ ،‬وهذا النبي اآلخر هو نبي اهلل لوط ‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪36‬‬

‫ج – ونبي يرى يف منامه ويسمع الصوت ويعاين امللك‪ ،‬وقد ُأرسل إىل طائفة قلوا أو‬
‫َ‬
‫زيدون﴾‪ ،‬قال‪ :‬يزيدون‪:‬‬ ‫كثروا‪ ،‬كيونس‪ ،‬قال اهلل ليونس ‪﴿ :‬و َأرسلناه إِىل ِمائ َِة َأ ٍ‬
‫لف َأو َي‬ ‫َ َ ُ‬
‫ثالثني أل ًفا‪ ،‬وعليه إمام‪.‬‬

‫د – والذي يرى يف نومه ويسمع الصوت ويعاين يف اليقظة‪ ،‬وهو إمام مثل أويل العزم‪،‬‬
‫َّاس إِ َما ًما َق َال َو ِم ْن‬
‫اع ُل َك لِلن ِ‬
‫وقد كان إبراهيم ‪ ‬نبيا وليس بإمام‪ ،‬حتى قال اهلل‪﴿ :‬إِ ِّين ج ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫صنام أو وثنًا ال يكون إما ًما» (‪.)1‬‬ ‫ني﴾‪َ ،‬من عبد ً‬ ‫ُذ ِّر َّيتِي﴾ فقال اهلل‪َ ﴿ :‬ال َين َُال َع ْه ِدي ال َّظامل ِ َ‬

‫املشكالت املعرتضة ومعاجلتها‪:‬‬

‫ولكن هذا التفريق بني العنوانني تعرتضه عدة من املشكالت اهلامة‪ ،‬فال بدَّ من الوقوف‬
‫َّ‬
‫عندها وحماولة معاجلتها‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫ِ‬ ‫َان النَّاس ُأم ًة و ِ‬


‫ين َو ُمنْذ ِر َ‬
‫ين‬ ‫ني ُم َب ِّ ِ‬
‫رش َ‬ ‫احدَ ًة َف َب َع َث اهللَُّ النَّبِ ِّي َ‬ ‫ُ َّ َ‬ ‫أ – املشكلة األوىل‪ :‬قوله ‪﴿ :‬ك َ‬
‫اخ َت َل ُفوا فِ ِيه﴾ (‪ ،)2‬وظاهر العموم يف اآلية َّ‬
‫أن‬ ‫َّاس فِ َيام ْ‬
‫ني الن ِ‬ ‫احل ِّق ل ِ َي ْحك َُم َب ْ َ‬
‫َاب بِ ْ َ‬
‫ِ‬
‫َو َأن َْز َل َم َع ُه ُم ا ْلكت َ‬
‫مجيع األنبياء مبرشون ومنذرون‪ ،‬وبام أنه ليس التبليغ سوى ذلك التبشري واإلنذار‪ ،‬فيثبت‬
‫بذلك َّ‬
‫أن مجيع األنبياء مكلفون بالتبليغ‪.‬‬

‫ُ‬
‫معاجلة املشكلة األوىل‪:‬‬

‫ويمكن أن تُعالج هذه املشكلة بإحدى معاجلتني‪:‬‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.174‬‬


‫(‪ )2‬سورة البقرة‪.213 :‬‬
‫‪37‬‬ ‫البحث الثالث‪ :‬الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام‬

‫ثمة قرينة يف اآلية املباركة متنع من إرادة مجيع األنبياء ‪،‬‬ ‫‪ – 1‬املعاجلة األوىل‪ :‬أن ُيقال‪َّ :‬‬
‫إن ّ‬
‫وهي اشتامهلا عىل كلمة ﴿ َف َب َع َث﴾‪َّ ،‬‬
‫فإن وجود هذه الكلمة يف صدر اآلية يض ّيق املقصود من‬
‫ويعني َّ‬
‫أن املراد هبم خصوص األنبياء املبعوثني‪ ،‬فال نظر هلا لغريهم‪،‬‬ ‫األنبياء املذكورين فيها‪ّ ،‬‬
‫وبالتايل فال تتعارض مع ما جاء يف الرواية الرشيفة‪.‬‬

‫أن بعضهم مبعوث لبيان‬ ‫إن مجيع األنبياء ‪ ‬مبعوثون‪ ،‬غري َّ‬
‫‪ – 2‬املعاجلة الثانية‪ :‬أن ُيقال‪َّ :‬‬
‫ٌ‬
‫مبعوث من اهلل تعاىل‪ ،‬بينام‬ ‫يبني أنه‬ ‫ِ‬
‫مطلق املعارف الوحيانية التي أنبأه اهلل تعاىل هبا‪ ،‬من غري أن ّ‬
‫ألمة خاصة أو ملجتمع خاص‪ ،‬ليتحدث معهم بعنوان أنه‬ ‫رسالة خاصة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫البعض اآلخر مبعوث ب‬
‫(رسول من اهلل تعاىل) إليهم‪ ،‬ولذلك فإنه حيتاج إىل املعجزة واآلية اإلهلية ليثبت هلم اتصاله باهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬وأنه رسوله‪ ،‬وإذا مل يستجيبوا له فإهنم يستحقون العذاب‪ ،‬لرفضهم رسالة اهلل تعاىل‬
‫إليهم‪ ،‬واألول هو املُعنون بـ (النبي)‪ ،‬والثاين هو (الرسول)‪.‬‬

‫فإن ما تنفيه الصحيحة املتقدمة عن الطبقتني األُوليني من األنبياء هو عدم بعثتهم‬


‫وعليه َّ‬
‫مطلقا‪ ،‬وهبذا ال يبقى ٍ‬
‫تناف بينها وبني اآلية املتقدمة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫برسالة خاصة‪ ،‬ال عدم بعثتهم‬

‫ويمكن استكشاف هذا الفارق – املذكور يف هذه املعاجلة – من خالل اإلضاءات التالية‪:‬‬

‫اإلضاءة األوىل‪ :‬استخدام القرآن الكريم للفظ (اإلرسال) يف موارد تكليف اهلل تعاىل‬
‫رسل باإلبالغ‪ ،‬ويمكن استكشاف ذلك من خالل اآليات التالية‪ ،‬ومثلها كثري‪:‬‬
‫للم َ‬
‫ُ‬

‫ين ُك ِّل ِه َو َل ْو ك َِر َه‬


‫احل ِّق ل ِ ُي ْظ ِه َر ُه َع َىل الدِّ ِ‬ ‫اهلُدَ ى َو ِد ِ‬
‫ين ْ َ‬ ‫• ﴿ ُه َو ا َّل ِذي َأ ْر َس َل َر ُسو َل ُه بِ ْ‬
‫املُْ ْ ِ‬
‫رشك َ‬
‫ُون﴾ (‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬سورة التوبة‪.33 :‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪38‬‬

‫اع ُبدُ وا اهللََّ َما َلك ُْم ِم ْن إِ َل ٍه غَ ْ ُري ُه إِ ِّين َأ َخ ُ‬


‫اف‬ ‫ُوحا إِ َىل َق ْو ِم ِه َف َق َال َيا َق ْو ِم ْ‬
‫• ﴿ َل َقدْ َأ ْر َس ْلنَا ن ً‬
‫اب َي ْو ٍم َعظِي ٍم﴾ (‪.)1‬‬ ‫َع َل ْيك ُْم َع َذ َ‬
‫• ﴿و َل َقدْ َأرس ْلنَا موسى بِ َآياتِنَا َأ ْن َأ ْخ ِرج َقوم َك ِمن ال هظ ُلام ِ‬
‫ت إِ َىل الن ِ‬
‫هور َو َذك ِّْر ُه ْم بِ َأ َّيا ِم اهللَِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ُور﴾ (‪.)2‬‬ ‫ار َشك ٍ‬ ‫ات لِك ُِّل َص َّب ٍ‬
‫إِ َّن ِيف َذل ِ َك َآلَي ٍ‬
‫َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ون بِ َآياتِنَا وس ْل َط ٍ‬
‫ان ُمبِ ٍ‬
‫ْربوا‬ ‫ني * إِ َىل ف ْر َع ْو َن َو َم َلئه َف ْ‬
‫اس َتك َ ُ‬ ‫وسى َو َأ َخا ُه َه ُار َ َ َ ُ‬
‫• ﴿ ُث َّم َأ ْر َس ْلنَا ُم َ‬
‫ني﴾ (‪.)3‬‬ ‫َوكَانُوا َق ْو ًما َعال ِ َ‬

‫اع ُبدُ وا اهللََّ َفإِ َذا ُه ْم َف ِر َيقا ِن َ ْ‬


‫خيت َِص ُم َ‬ ‫ِ‬
‫احلا َأ ِن ْ‬
‫ون﴾ (‪.)4‬‬ ‫• ﴿ َو َل َقدْ َأ ْر َس ْلنَا إِ َىل َث ُمو َد َأ َخ ُ‬
‫اه ْم َص ً‬

‫كَه ْي َئ ِة‬
‫ني َ‬ ‫وال إِ َىل َبنِي إِ ْرسائِ َيل َأ ِّين َقدْ ِج ْئ ُتك ُْم بِ َآ َي ٍة ِم ْن َر ِّبك ُْم َأ ِّين َأ ْخ ُل ُق َلك ُْم ِم َن ال ِّط ِ‬
‫َ‬ ‫• ﴿ َو َر ُس ً‬
‫ص َو ُأ ْحيِي املَْ ْوتَى بِإِ ْذ ِن اهللَِّ َو ُأ َن ِّب ُئ ُك ْم‬ ‫ال َّط ْ ِري َف َأ ْن ُف ُخ فِ ِيه َف َي ُك ُ‬
‫ون َط ْ ًريا بِإِ ْذ ِن اهللَِّ َو ُأ ْب ِر ُئ ْ َ‬
‫األك َْم َه َو ْاألَ ْب َر َ‬
‫ني﴾ (‪.)5‬‬ ‫ون ِيف ُب ُيوتِك ُْم إِ َّن ِيف َذلِ َك َآلَ َي ًة َلك ُْم إِ ْن ُكنْت ُْم ُم ْؤ ِمن ِ َ‬ ‫ون َو َما تَدَّ ِخ ُر َ‬
‫بِ َام َت ْأ ُك ُل َ‬

‫تْصيح املعنونني بعنوان (الرسول) أهنم (رسل اهلل) إىل الناس‪ ،‬وتشهد‬
‫ُ‬ ‫اإلضاءة الثانية‪:‬‬
‫لذلك العديد من اآليات املباركات‪ ،‬وإليك بعضها‪:‬‬

‫ول اهللَِّ إِ َل ْيك ُْم َف َل َّام َزاغُ وا‬ ‫وسى ل ِ َق ْو ِم ِه َيا َق ْو ِم ِمل َ ت ُْؤ ُذونَنِي َو َقدْ َت ْع َل ُم َ‬
‫ون َأ ِّين َر ُس ُ‬ ‫• ﴿ َوإِ ْذ َق َال ُم َ‬
‫ني﴾ (‪.)6‬‬ ‫اس ِق َ‬ ‫َأ َزا َغ اهللَُّ ُق ُلوهبم واهللَُّ َال ُّي ِدي ا ْل َقوم ا ْل َف ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َُ ْ َ‬

‫(‪ )1‬سورة األعراف‪.59 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة إبراهيم‪.5 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة املؤمنون‪.46 ،45 :‬‬
‫(‪ )4‬سورة النمل‪.45 :‬‬
‫(‪ )5‬سورة آل عمران‪.49 :‬‬
‫(‪ )6‬سورة الصف‪.5 :‬‬
‫‪39‬‬ ‫البحث الثالث‪ :‬الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام‬

‫ني َيدَ َّي ِم َن‬


‫ول اهللَِّ إِ َل ْيك ُْم ُم َصدِّ ًقا َمل ِا َب ْ َ‬
‫رسائِ َيل إِ ِّين َر ُس ُ‬ ‫ِ ِ‬
‫يسى ا ْب ُن َم ْر َي َم َيا َبني إ ْ َ‬
‫ِ‬
‫• ﴿ َوإِ ْذ َق َال ع َ‬
‫ني *‬ ‫َات َقا ُلوا َه َذا ِس ْح ٌر ُمبِ ٌ‬ ‫ول ي ْأ ِيت ِمن بع ِدي اسمه َأ ْمحَدُ َف َلام جاءهم بِا ْلبين ِ‬
‫َّ َ َ ُ ْ َ ِّ‬ ‫ْ ُُ‬ ‫ْ َْ‬ ‫رشا بِ َر ُس ٍ َ‬
‫ِ‬
‫الت َّْو َراة َو ُم َب ِّ ً‬
‫حييِي‬ ‫ول اهللَِّ إِ َليكُم َمجِيعا ا َّل ِذي َله م ْل ُك السامو ِ‬
‫ض َال إِ َل َه إِ َّال ُه َو ُ ْ‬‫ات َو ْاألَ ْر ِ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ْ ْ ً‬ ‫َّاس إِ ِّين َر ُس ُ‬‫ُق ْل َيا َأ ه َُّيا الن ُ‬
‫ون﴾ (‪.)1‬‬ ‫يت َف َآ ِمنُوا بِاهللَِّ َو َر ُسول ِ ِه النَّبِ ِّي ْاألُ ِّم ِّي ا َّل ِذي ُي ْؤ ِم ُن بِاهللَِّ َوكَلِ َامتِ ِه َواتَّبِ ُعو ُه َل َع َّلك ُْم َ ْهتتَدُ َ‬ ‫َو ُي ِم ُ‬
‫ني * ُأب ِّل ُغكُم ِرس َاال ِ‬‫ِ‬ ‫• ﴿ َق َال يا َقو ِم َليس ِيب َض َال َل ٌة و َلكِنِّي رس ٌ ِ‬
‫ت َر ِّيب‬ ‫ْ َ‬ ‫ول م ْن َر ِّب ا ْل َعاملَ َ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ْ َ‬
‫َو َأن َْص ُح َل ُك ْم َو َأ ْع َل ُم ِم َن اهللَِّ َما َال َت ْع َل ُم َ‬
‫ون﴾ (‪.)2‬‬

‫ون * إِ ِّين َلك ُْم َر ُس ٌ‬


‫ول‬ ‫ُوح َأ َال َتت َُّق َ‬
‫وه ْم ن ٌ‬ ‫ني * إِ ْذ َق َال َهل ُ ْم َأ ُخ ُ‬ ‫ُوح املُْ ْر َسلِ َ‬
‫• ﴿ك ََّذ َب ْت َق ْو ُم ن ٍ‬
‫ون * َو َما َأ ْس َأ ُلك ُْم َع َل ْي ِه ِم ْن َأ ْج ٍر إِ ْن َأ ْج ِر َي إِ َّال َع َىل َر ِّب ا ْل َعاملَ ِ َ‬
‫ني * َفات َُّقوا‬ ‫ني * َفات َُّقوا اهللََّ و َأطِيع ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َأ ِم ٌ‬
‫ون﴾ (‪.)3‬‬ ‫اهللََّ و َأطِيع ِ‬
‫َ ُ‬

‫ول َأ ِم ٌ‬
‫ني *‬ ‫ون * إِ ِّين َلك ُْم َر ُس ٌ‬ ‫وه ْم ُهو ٌد َأ َال َتت َُّق َ‬‫ني * إِ ْذ َق َال َهل ُ ْم َأ ُخ ُ‬ ‫• ﴿ك ََّذ َب ْت َعا ٌد املُْ ْر َسلِ َ‬
‫ني﴾ (‪.)4‬‬ ‫ون * َو َما َأ ْس َأ ُلك ُْم َع َل ْي ِه ِم ْن َأ ْج ٍر إِ ْن َأ ْج ِر َي إِ َّال َع َىل َر ِّب ا ْل َعاملَ ِ َ‬ ‫َفات َُّقوا اهللََّ و َأطِيع ِ‬
‫َ ُ‬

‫ول َأ ِم ٌ‬
‫ني‬ ‫ون * إِ ِّين َلك ُْم َر ُس ٌ‬ ‫وه ْم َصال ِ ٌح َأ َال َتت َُّق َ‬‫ني * إِ ْذ َق َال َهل ُ ْم َأ ُخ ُ‬ ‫• ﴿ك ََّذ َب ْت َث ُمو ُد املُْ ْر َسلِ َ‬
‫ني﴾ (‪.)5‬‬‫ون * َو َما َأ ْس َأ ُلك ُْم َع َل ْي ِه ِم ْن َأ ْج ٍر إِ ْن َأ ْج ِر َي إِ َّال َع َىل َر ِّب ا ْل َعاملَ ِ َ‬ ‫* َفا َّت ُقوا اهللََّ و َأطِيع ِ‬
‫َ ُ‬

‫(‪ )1‬سورة األعراف‪.158 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة األعراف‪.62 ،61 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة الشعراء‪.110 – 105 :‬‬
‫(‪ )4‬سورة الشعراء‪.127 – 123 :‬‬
‫(‪ )5‬سورة الشعراء‪.145 – 141 :‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪40‬‬

‫ون * إِ ِّين َلك ُْم َر ُس ٌ‬ ‫• ﴿ك ََّذب ْت َقوم ُل ٍ‬


‫وط املُْ ْر َسلِ َ‬
‫ول‬ ‫وط َأ َال َتت َُّق َ‬
‫وه ْم ُل ٌ‬ ‫ني * إِ ْذ َق َال َهل ُ ْم َأ ُخ ُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ني﴾ (‪.)1‬‬ ‫ون * َو َما َأ ْس َأ ُلك ُْم َع َل ْي ِه ِم ْن َأ ْج ٍر إِ ْن َأ ْج ِر َي إِ َّال َع َىل َر ِّب ا ْل َعاملَ ِ َ‬ ‫ني * َفات َُّقوا اهللََّ و َأطِيع ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َأ ِم ٌ‬

‫ون * إِ ِّين َلك ُْم َر ُس ٌ‬


‫ول‬ ‫ني * إِ ْذ َق َال َهل ُ ْم ُش َع ْي ٌ‬
‫ب َأ َال َتت َُّق َ‬ ‫اب ْاألَ ْيك َِة املُْ ْر َسلِ َ‬
‫• ﴿ك ََّذ َب َأ ْص َح ُ‬
‫ني﴾ (‪.)2‬‬ ‫ون * َو َما َأ ْس َأ ُلك ُْم َع َل ْي ِه ِم ْن َأ ْج ٍر إِ ْن َأ ْج ِر َي إِ َّال َع َىل َر ِّب ا ْل َعاملَ ِ َ‬ ‫ني * َفات َُّقوا اهللََّ و َأطِيع ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َأ ِم ٌ‬

‫اإلضاءة الثالثة‪ :‬تزويد املعنونني بعنوان (الرسل) باآليات والبينات‪ ،‬ألجل إقامة احلجة‬
‫عىل َمن أرسلوا إليه‪ ،‬وهذا ما تشهد به العديد من اآليات‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫ول حتَّى ي ْأتِينَا بِ ُقرب ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫ان َت ْأ ُك ُل ُه الن َُّار ُق ْل َقدْ‬ ‫ين َقا ُلوا إِ َّن اهللََّ َع ِهدَ إِ َل ْينَا َأ َّال ن ُْؤم َن ل َر ُس ٍ َ َ َ ْ َ‬ ‫• ﴿ا َّلذ َ‬
‫ني * َفإِ ْن َّ‬
‫كَذ ُب َ‬
‫وك َف َقدْ‬ ‫اد ِق َ‬
‫َات وبِا َّل ِذي ُق ْلتُم َفلِم َق َت ْلتُموهم إِ ْن ُكنْتُم ص ِ‬
‫ْ َ‬ ‫ُ ُ ْ‬ ‫ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َجا َءك ُْم ُر ُس ٌل م ْن َق ْبَل بِا ْل َب ِّين َ‬
‫َاب املُْن ِ ِري﴾ (‪.)3‬‬
‫الز ُب ِر َوا ْلكِت ِ‬ ‫ك ُِّذب رس ٌل ِمن َقبلِ َك جاءوا بِا ْلبين ِ‬
‫َات َو ه‬ ‫َ ِّ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ ُ ُ‬

‫ون﴾ (‪.)4‬‬ ‫َات ُث َّم إِ َّن كَثِ ًريا ِمن ُْه ْم َب ْعدَ َذلِ َك ِيف ْاألَ ْر ِ‬
‫ض ملَُ ْ ِ‬
‫رس ُف َ‬ ‫• ﴿و َل َقدْ جاء ْهتم رس ُلنَا بِا ْلبين ِ‬
‫َ ِّ‬ ‫َ َ ُْ ُ ُ‬ ‫َ‬

‫َات َف َام كَانُوا ل ِ ُي ْؤ ِمنُوا‬


‫• ﴿تِ ْل َك ا ْل ُقرى ن َُقص َع َلي َك ِمن َأ ْنب ِائها و َل َقدْ جاء ْهتم رس ُلهم بِا ْلبين ِ‬
‫َ َ ُ ْ ُ ُ ُ ْ َ ِّ‬ ‫ْ َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫بِ َام ك ََّذ ُبوا ِم ْن َق ْب ُل ك ََذل ِ َك َي ْط َب ُع اهللَُّ َع َىل ُق ُل ِ‬
‫وب ا ْلكَاف ِر َ‬
‫ين﴾ (‪.)5‬‬

‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ين ِم ْن َق ْبلِ ِه ْم َق ْو ِم ن ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫يم َو َأ ْص َح ِ‬
‫اب َمدْ َي َن‬ ‫ُوح َو َعاد َو َث ُمو َد َو َق ْو ِم إِ ْب َراه َ‬ ‫• ﴿ َأ َمل ْ َي ْأهتِ ْم َن َبأُ ا َّلذ َ‬
‫ون﴾ (‪.)6‬‬‫َان اهللَُّ ل ِ َي ْظلِ َم ُه ْم َو َلكِ ْن كَانُوا َأ ْن ُف َس ُه ْم َي ْظلِ ُم َ‬ ‫َات َأ َتتْهم رس ُلهم بِا ْلبين ِ‬
‫َات َف َام ك َ‬ ‫ُ ْ ُ ُ ُ ْ َ ِّ‬
‫واملُْ ْؤت َِفك ِ‬
‫َ‬

‫(‪ )1‬سورة الشعراء‪.164 – 160 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة الشعراء‪.180 – 176 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة آل عمران‪.184 ،183 :‬‬
‫(‪ )4‬سورة املائدة‪.32 :‬‬
‫(‪ )5‬سورة األعراف‪.101 :‬‬
‫(‪ )6‬سورة التوبة‪.70 :‬‬
‫‪41‬‬ ‫البحث الثالث‪ :‬الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام‬

‫ول َع َىل ا َِّ‬


‫هلل‬ ‫ني * َح ِق ٌيق َع َىل َأ ْن َال َأ ُق َ‬
‫ول ِم ْن َر ِّب ا ْل َعاملَ ِ َ‬
‫وسى َيا فِ ْر َع ْو ُن إِ ِّين َر ُس ٌ‬ ‫• ﴿ َو َق َال ُم َ‬
‫احل َّق َقدْ ِج ْئ ُتكُم بِبين ٍَة ِمن ربكُم َف َأر ِس ْل م ِعي بنِي إِرسائِ َيل * َق َال إِ ْن ُكن َْت ِج ْئ َت بِ َآي ٍة َف ْأ ِ‬
‫ت ِ َهبا‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ َ ِّ ْ ْ‬ ‫ْ َ ِّ‬ ‫إِ َّال ْ َ‬
‫ني﴾ (‪.)1‬‬ ‫اد ِق َ‬
‫إِ ْن ُكن َْت ِمن الص ِ‬
‫َ َّ‬

‫ني * إِ َىل فِ ْر َع ْو َن َو َم َلئِ ِه َفا َّت َب ُعوا َأ ْم َر فِ ْر َع ْو َن َو َما‬ ‫• ﴿و َل َقدْ َأرس ْلنَا موسى بِ َآياتِنَا وس ْل َط ٍ‬
‫ان ُمبِ ٍ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ْ َ ُ َ‬ ‫َ‬
‫يد﴾ (‪.)2‬‬ ‫َأمر فِر َعو َن بِر ِش ٍ‬
‫ُْ ْ ْ َ‬

‫اإلضاءة الرابعة‪ :‬إحلاق العذاب باألمم التي مل تستجب لرسل اهلل تعاىل إليها‪ ،‬بعد إقامة‬
‫احلجج عليهم من خالل اآليات والبينات‪ ،‬وتكذيبهم هلم‪ ،‬وتشهد بذلك العديد من اآليات‪،‬‬
‫ومنها‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫َرض ُع َ‬
‫ون﴾ (‪.)3‬‬ ‫الرضاء َل َع َّل ُه ْم َيت َ َّ‬ ‫• ﴿ َو َل َقدْ َأ ْر َس ْلنَا إِ َىل ُأ َم ٍم م ْن َق ْبلِ َك َف َأ َخ ْذن ُ‬
‫َاه ْم بِا ْل َب ْأ َساء َو َّ َّ‬

‫• ﴿ َو َما ُكنَّا ُم َع ِّذبِ َ‬


‫ني َحتَّى َن ْب َع َث َر ُس ً‬
‫وال﴾ (‪.)4‬‬

‫امل ِ َ‬
‫ون﴾ (‪.)5‬‬ ‫اب َو ُه ْم َظ ُ‬ ‫• ﴿و َل َقدْ جاءهم رس ٌ ِ‬
‫ول من ُْه ْم َفك ََّذ ُبو ُه َف َأ َخ َذ ُه ُم ا ْل َع َذ ُ‬ ‫َ َُ ْ َ ُ‬ ‫َ‬
‫ون ِمن َقبلِكُم ملََّا َظ َلموا وجاء ْهتم رس ُلهم بِا ْلبين ِ‬
‫َات َو َما كَانُوا‬ ‫ُ َ َ َ ُ ْ ُ ُ ُ ْ َ ِّ‬ ‫• ﴿ َو َل َقدْ َأ ْه َل ْكنَا ا ْل ُق ُر َ ْ ْ ْ‬
‫ني﴾ (‪.)6‬‬‫كَذلِ َك ن َْج ِزي ا ْل َق ْو َم املُْ ْج ِر ِم َ‬
‫ل ِ ُي ْؤ ِمنُوا َ‬

‫(‪ )1‬سورة األعراف‪.106 – 104 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة هود‪.97 ،96 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة األنعام‪.42 :‬‬
‫(‪ )4‬سورة اإلرساء‪.15 :‬‬
‫(‪ )5‬سورة النحل‪.113 :‬‬
‫(‪ )6‬سورة يونس‪.13 :‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪42‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫• ﴿ َو َل َقدْ َأ ْر َس ْلنَا م ْن َق ْبلِ َك ُر ُس ًال إِ َىل َق ْوم ِه ْم َف َجا ُء ُ‬
‫وه ْم بِا ْل َب ِّينَات َفا ْنت ََق ْمنَا م َن ا َّلذ َ‬
‫ين‬
‫ني﴾ (‪.)1‬‬ ‫َْص املُْ ْؤ ِمن ِ َ‬ ‫َأ ْج َر ُموا َوك َ‬
‫َان َح ًّقا َع َل ْينَا ن ْ ُ‬

‫َات َف َك َف ُروا َف َأ َخ َذ ُه ُم اهللَُّ إِ َّن ُه َق ِوي َش ِديدُ‬


‫َت َت ْأتِ ِيهم رس ُلهم بِا ْلبين ِ‬
‫ْ ُ ُ ُ ْ َ ِّ‬ ‫• ﴿ َذلِ َك بِ َأ َّهن ُ ْم كَان ْ‬
‫ا ْل ِع َق ِ‬
‫اب﴾ (‪.)2‬‬

‫الفارق األدق بني (النبي) و (الرسول)‪:‬‬


‫فرق بني‬
‫وعىل ضوء هذه املعاجلة – وما اشتملت عليه من اإلضاءات األربع – ينبغي أن ُي ّ‬
‫العنوانني املتقدمني ٍ‬
‫ببيان أدق‪ ،‬فيقال‪:‬‬

‫• النبي هو‪َ :‬من تكون مهمته تلقي الوحي واملعارف اإلهلية‪ ،‬ثم إبالغ الناس بام أنبأه اهلل‬
‫تعاىل به‪ ،‬من غري أن يقرتن ذلك بدعوى الرسالة عن اهلل تعاىل‪.‬‬

‫ٍ‬
‫رسالة عن اهلل ‪ ‬إىل‬ ‫• الرسول هو‪َ :‬من تكون مهمته تلقي املعارف الوحيانية‪ ،‬وإيصال‬
‫سفريا عن اهلل باآليات والبينات‪.‬‬
‫ً‬ ‫الناس‪ ،‬بعد إثبات كونه‬

‫ْس َو ِْ‬
‫اجل ِّن‬ ‫اإلن ِ‬‫ني ْ ِ‬ ‫ب – املشكلة الثانية‪ :‬قوله ‪َ ﴿ :‬وك ََذلِ َك َج َع ْلنَا لِك ُِّل نَبِ ٍّي َعدُ ًّوا َش َياطِ َ‬
‫رت َ‬ ‫ِ‬ ‫ي ِ‬
‫وحي َب ْع ُض ُه ْم إِ َىل َب ْع ٍ‬
‫ون﴾(‪،)3‬‬ ‫ورا َو َل ْو َشا َء َر هب َك َما َف َع ُلو ُه َف َذ ْر ُه ْم َو َما َي ْف َ ُ‬
‫ف ا ْل َق ْول غُ ُر ً‬‫ض ُز ْخ ُر َ‬ ‫ُ‬
‫اد ًيا َون َِص ًريا﴾ (‪َّ ،)4‬‬ ‫ني و َك َفى بِرب َك ه ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فإن‬ ‫َ ِّ َ‬ ‫ومثله قوله‪َ ﴿ :‬وك ََذل َك َج َع ْلنَا لكُ ِّل نَبِ ٍّي َعدُ ًّوا م َن املُْ ْج ِرم َ َ‬
‫رصيح هاتني اآليتني َّ‬
‫أن مجيع األنبياء عىل اإلطالق هلم أعداء‪ ،‬ومن الواضح أنه ال وجه لكون‬

‫(‪ )1‬سورة الروم‪.47 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة غافر‪.22 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة األنعام‪.112 :‬‬
‫(‪ )4‬سورة الفرقان‪.31 :‬‬
‫‪43‬‬ ‫البحث الثالث‪ :‬الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام‬

‫ناهضا بأعباء النبوة ومبلغًا عن اهلل ‪ ،‬فيدل ذلك عىل كون مجيع‬
‫النبي ذا أعداء إال إذا كان ً‬
‫األنبياء مبلغني‪.‬‬

‫ُ‬
‫معاجلة املشكلة الثانية‪:‬‬

‫ويمكن أن تُعالج هذه املشكلة بأن ُيقال‪ :‬إنَّه ال مالزمة بني العداوة والتبليغ؛ إذ كام يمكن‬
‫أن يكون تبليغه منش ًأ ملعاداته‪ ،‬يمكن ً‬
‫أيضا أن يكون نفس سلوكه اخلارجي – املخالف للسلوك‬
‫العام – باع ًثا عىل بغضه وعدائه‪ ،‬وعليه فال مالزمة بني ثبوت األعداء للنبي وكونه مبلغًا‪.‬‬

‫َان َر ُس ً‬
‫وال‬ ‫وسى إِ َّن ُه ك َ‬
‫َان ُخم ْ َل ًصا َوك َ‬ ‫َاب ُم َ‬ ‫ج – املشكلة الثالثة‪ :‬قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وا ْذك ُْر ِيف ا ْلكِت ِ‬

‫اد َق ا ْل َو ْع ِد َوك َ‬
‫َان َر ُس ً‬
‫وال‬ ‫ان ص ِ‬ ‫ِ‬ ‫أيضا قوله‪َ ﴿ :‬وا ْذك ُْر ِيف ا ْلكِت ِ‬
‫َاب إِ ْس َامع َيل إِ َّن ُه كَ َ َ‬ ‫نَبِ ًّيا﴾ (‪ ،)1‬وكذا ً‬
‫نَبِ ًّيا﴾ (‪ ،)2‬وجهة اإلشكال – عىل ضوء اآليتني الكريمتني – هي‪ :‬أهنام ظاهرتان يف الثناء واملدح‪،‬‬
‫ومن الواضح َّ‬
‫أن مقتىض قوانني املحاورة هو التدرج يف املدح من األدنى لألعىل‪ ،‬وليس‬
‫العكس‪ ،‬وه ذا يقتيض أن يكون مقام النبوة أعىل من مقام الرسالة‪ ،‬وهو خالف ما يقتضيه‬
‫الفارق املتقدم‪.‬‬

‫ول النَّبِ َّي ْاألُ ِّم َّي ا َّل ِذي َجيِدُ و َن ُه َم ْكتُو ًبا‬
‫الر ُس َ‬
‫ون َّ‬ ‫ين َيتَّبِ ُع َ‬ ‫ِ‬
‫واعطف عىل اآليتني قوله ‪﴿ :‬ا َّلذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِعنْدَ ُه ْم ِيف الت َّْو َر ِاة َو ْ ِ‬
‫اإلن ِ‬
‫اه ْم َع ِن املُْنْك َِر َو ُحي هل َهل ُ ُم ال َّط ِّي َبات َو ُ َ‬
‫حي ِّر ُم‬ ‫يل َي ْأ ُم ُر ُه ْم بِاملَْ ْع ُروف َو َين َْه ُ‬
‫ْج ِ‬

‫َت َع َليْ ِه ْم﴾ (‪.)3‬‬ ‫غْال َل ا َّلتِي كَان ْ‬ ‫رص ُه ْم َو ْاألَ َ‬ ‫ِ‬ ‫َع َلي ِهم ْ ِ‬
‫اخل َبائ َث َو َي َض ُع َعن ُْه ْم إ ْ َ‬‫ْ ُ َ‬

‫(‪ )1‬سورة مريم‪.51 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة مريم‪.54 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة األعراف‪.157 :‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪44‬‬

‫ُ‬
‫معاجلة املشكلة الثالثة‪:‬‬

‫ويمكن أن تُع الج هذه املشكلة بإحدى املعاجلات اآلتية‪:‬‬

‫‪ – 1‬املعاجلة األوىل‪ :‬أن حيمل لفظ (النبي) يف اآليات املباركات عىل املعنى اللغوي‪ ،‬وهو‬
‫األرفع شأنًا واألعىل مقا ًما باإلضافة إىل غريه‪.‬‬

‫‪ – 2‬املعاجلة الثانية‪ :‬أن ُيقال َّ‬


‫بأن تقديم عنوان (الرسول) عىل عنوان (النبي) هو مقتىض‬
‫عرب عنه بالرتتّب الطبعي؛ إذ اإلنباء – أي‪ :‬اإلخبار – فرع اإلرسال‪ ،‬كام هو ظاهر‪.‬‬
‫ما ُي ّ‬

‫‪ – 3‬املعاجلة الثالثة‪ :‬أن ُيقال بأنه حال من الضمري يف ﴿ َر ُس ً‬


‫وال﴾‪ ،‬والعامل يف احلال ما يف‬
‫ً‬
‫مرسال حال‬ ‫(رسول) من معنى (يرسل)‪ ،‬فيكون معنى اآليتني‪ :‬كان موسى – وكذا إسامعيل –‬
‫احل هق ُم َصدِّ ًقا﴾ (‪.)1‬‬
‫نبوته‪ ،‬وهي حال مؤكدة‪ ،‬كام يف قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬و ُه َو ْ َ‬

‫فإهنا تقتيض تقديم األرشف‬ ‫‪ – 4‬املعاجلة الرابعة‪ :‬أن يكون التقديم بلحاظ نكتة األرشفية‪َّ ،‬‬
‫ين َال‬ ‫ذكرا عىل ما دونه يف الرشف‪ ،‬كام يف قوله تعاىل‪ُ ﴿ :‬ق ْل ه ْل يست َِوي ا َّل ِذين يع َلم َ ِ‬
‫ون َوا َّلذ َ‬ ‫َ َْ ُ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ً‬
‫َي ْع َل ُم َ‬
‫ون﴾ (‪.)2‬‬

‫إن ذلك إنام يتّجه يف غري مورد خطاب املدح والثناء‪ ،‬وأما يف مورده َّ‬
‫فإن تقديم‬ ‫وال ُيقال‪َّ :‬‬
‫األرشف ه‬
‫خيل باهلدف املنشود منه‪.‬‬

‫ألنه ُيقال‪َّ :‬‬


‫إن كون اآليات املذكورة يف مقام املدح مما ال دليل عليه‪ ،‬والظاهر أهنا يف مقام‬
‫مثال‪ ،‬فيتأتى تقديم الصفة األرشف‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫لنكتة من النكات‪ ،‬كالتعريف ً‬ ‫بيان رسد الصفات‬

‫(‪ )1‬سورة البقرة‪.91 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة الزمر‪.9 :‬‬
‫‪45‬‬ ‫البحث الثالث‪ :‬الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام‬

‫فإن بعض هذه املعاجلات وإن كان ال خيلو عن املالحظة‪ ،‬إال َّ‬
‫أن بعضها اآلخر‬ ‫وباجلملة‪َّ ،‬‬
‫مما ال بأس به‪ ،‬وبه تنحل املشكلة املذكورة‪.‬‬

‫عودة لعنوان (اإلمام)‪:‬‬

‫والذي ننتهي إليه – عرب هذه الرحلة الطويلة – َّ‬


‫أن الفارق الذي اخرتناه بني الرسول‬
‫والنبي ممّا ال يعرتضه يشء من املشكالت املذكورة‪ ،‬وهو مقتىض الروايات واآليات املتقدّ مة‪،‬‬
‫وعىل ضوئه ننتهي لبيان العنوان الثالث من العناوين‪ ،‬وهو عنوان (اإلمام)‪.‬‬

‫‪ – 3‬العنوان الثالث‪ :‬اإلمام‪ ،‬ويمكن تعريفه بتعريفني‪:‬‬

‫أ‪ -‬التعريف األول‪ :‬اهلداية األمرية‪.‬‬

‫فاإلمام هو من تكون مهمته تلقي املعارف الوحيانية‪ ،‬وإيصاهلا إىل الناس‪ ،‬وهدايتهم‬
‫باهلداية األمرية‪.‬‬

‫وألجل إيضاح هذا التعريف ينبغي بيان نقاط مخس‪:‬‬

‫‪ / 1‬النقطة األوىل‪ :‬الفرق بني اهلداية اإلرائية واهلداية اإليصالية‪.‬‬

‫ٍ‬
‫عنوان َّما فإنك تارة تصف له ذلك العنوان‪ ،‬وترشده إىل موقعه‬ ‫شخص عن‬ ‫حينام يسألك‬
‫ٌ‬
‫مستعينًا بتحديد اجلهات والطرق والبيوت‪ ،‬وتار ًة تأخذ بيده وتوقفه عىل العنوان بنفسك‪ ،‬وعىل‬
‫كال التقديرين فإنك قد قمت هبدايته‪ ،‬ولكنك عىل التقدير األول قد أريته املطلوب‪ ،‬بينام عىل‬
‫عرب عن هذا باهلداية‬
‫عرب عن ذاك باهلداية اإلرائية‪ ،‬و ُي ّ‬
‫التقدير الثاين قد أوصلته إليه‪ ،‬ولذا ُي ّ‬
‫اإليصالية‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪46‬‬

‫‪ / 2‬النقطة الثانية‪ :‬الفرق بني اهلداية الترشيعية واهلداية التكوينية‪.‬‬

‫إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم َّ‬


‫أن اهلداية اإلرائية قد ُيصطلح عليها بـ (اهلداية الترشيعية)‪،‬‬
‫واهلداية اإليصالية قد ُيصطلح عليها بـ (اهلداية التكوينية)‪ ،‬والوج ُه يف ذلك‪َّ :‬‬
‫أن اهلداية‬
‫الترشيعية ال تعني أكثر من هداية اآلخرين من خالل أمرهم باإلتيان بام فيه املصلحة‪ ،‬وهنيهم‬
‫عن اإلتيان بام فيه املفسدة‪ ،‬وال شك يف أهنم إذا فعلوا ذلك وصلوا إىل الغاية والنهاية‪.‬‬

‫بينام اهلداية التكوينية تعني‪ :‬هداية اآلخرين من خالل التأثري فيهم‪ ،‬بإخراجهم من ظلامت‬
‫اجلهل والضالل إىل نور اليقني واحلق واهلدى تكوينًا‪.‬‬

‫فناسب أن تُطلق اهلداية اإلرائية عىل اهلداية الترشيعية؛ ألهنا – كام اتضح – تُري املطلوب‬
‫وال توصل إليه بالرضورة‪ ،‬وأن تُطلق اهلداية اإليصالية عىل اهلداية التكوينية؛ ألهنا تتكفل‬
‫بإيصال املهتدي إىل املطلوب تكوينًا‪.‬‬

‫‪ / 3‬النقطة الثالثة‪ :‬وجه تسمية اهلداية اإليصالية باألمرية‪.‬‬

‫ووج ُه التعبري عن اهلداية (اإليصالية) أو (التكوينية) بـ (األمرية) يبتني عىل مقدمتني‪:‬‬

‫َاه ْم َأئِ َّم ًة‬


‫إن هداية األئمة ‪ ‬قد أضافها القرآن لألمر‪ ،‬حيث قال‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن ُ‬
‫أ – األوىل‪َّ :‬‬

‫فصح التعبري عنها بـ (األمرية) بمقتىض اإلضافة‪.‬‬


‫َّ‬ ‫ون بِ َأ ْم ِرنَا﴾ (‪،)1‬‬
‫َ ُّْيدُ َ‬

‫إن األمر يف اآل ية املذكورة هو األمر التكويني‪ ،‬وهو األمر املشار إليه يف قوله‬ ‫ب – الثانية‪َّ :‬‬
‫ُن َف َي ُك ُ‬
‫ون﴾ (‪.)2‬‬ ‫َش ٍء إِ َذا َأ َر ْدنَا ُه َأ ْن ن َُق َ‬
‫ول َل ُه ك ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تعاىل‪﴿ :‬إن ََّام َق ْو ُلنَا ل َ ْ‬

‫(‪ )1‬سورة األنبياء‪.73 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة النحل‪.40 :‬‬
‫‪47‬‬ ‫البحث الثالث‪ :‬الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام‬

‫وبمقتىض هاتني املقدمتني َّ‬


‫فإن اهلداية بام أهنا منسوبة لألمر التكويني‪ ،‬فصح التعبري عنها‬
‫باهلداية األمرية‪ ،‬كام صح التعبري عنها باهلداية التكوينية‪.‬‬

‫‪ / 4‬النقطة الرابعة‪ :‬وجه تسمية اهلداية اإليصالية بامللكوتية‪.‬‬

‫اصطالحا ثال ًثا ً‬


‫أيضا‪ ،‬وهو (اهلداية امللكوتية)‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وجدير بالذكر َّ‬
‫أن للهداية اإليصالية‬ ‫ٌ‬
‫ووجهه‪َّ :‬‬
‫أن اإلنسان له حيثيتان‪:‬‬

‫والتدرج واحلركة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بالتغري والتبدّ ل‬
‫ّ‬ ‫• إحدامها‪ :‬حيثية اخللق‪ ،‬وهي احليثية املقرتنة‬
‫كجسده املادي وتْصفاته اخلارجية‪ ،‬وهي احليثية املحسوسة‪.‬‬

‫القارة التي يكون هلا الثبات والبقاء وعدم‬


‫• واألخرى هي‪ :‬احليثية األمرية‪ ،‬وهي احليثية ّ‬
‫التغري‪ ،‬وهي التي مت ّثل حقيقة وواقعية املوجودات – كروح اإلنسان وحقيقته الباطنية – وهذه‬
‫ّ‬
‫املعرب عنها عندهم بـ (امللكوت)‪ ،‬وهي حيثية باطنية غري حمسوسة‪.‬‬
‫احليثية هي ّ‬

‫وإذا عرفت ذلك‪َّ ،‬‬


‫فإن اهلداية الترشيعية تتعلق باإلنسان من حيث احليثية األوىل‪ ،‬بينام‬
‫اهلداية التكوينية تتعلق به من حيث احليثية الثانية؛ إذ َّ‬
‫أن اإلمام له الوال ية واإلحاطة عىل القلوب‬
‫والسيطرة التامة عىل األرواح‪ ،‬فيهدُّيا باألمر امللكويت التكويني‪ ،‬ولذا ُع ّرب عنها بـ (اهلداية‬
‫امللكوتية)‪.‬‬

‫تفرع اهلداية اإليصالية عن اهلداية اإلرائية‪.‬‬


‫‪ / 5‬النقطة اخلامسة‪ّ :‬‬

‫َّ‬
‫إن نقطة البداية هي اهلداية الترشيعية اإلرائية‪ ،‬فإهنا ترسم خارطة الوصول إىل املطلوب‪،‬‬
‫تقربه من اهلل تعاىل‪ ،‬وإذا صار‬
‫وحينئذ فإن سار اإلنسان عىل وفق هدُّيا وضوء تعاليمها فإهنا ّ‬
‫قري ًبا منه هتيأ وعاؤه الوجودي لفيض اهلداية األمرية اإليصالية فتفيض به إىل املطلوب‪َّ ،‬‬
‫ولعل‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪48‬‬

‫اهدُ وا فِينَا َلن َْه ِد َين َُّه ْم ُس ُب َلنَا َوإِ َّن اهللََّ ملَ َع املُْ ْح ِسن ِ َ‬
‫ني﴾ (‪،)1‬‬ ‫ِ‬
‫ذلك ُيستلهم من قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وا َّلذ َ‬
‫ين َج َ‬
‫أن مآل جهاد اإلنسان يف اهلل تعاىل هو الفوز باهلداية اإلهلية‪ ،‬وبام َّ‬
‫أن اجلهاد يف اهلل‬ ‫فإنه ظاهر يف َّ‬
‫ال يكون إال عىل ضوء اهلداية الترشيعية‪َّ ،‬‬
‫فإن اهلداية التي تتعقبه ال تكون بالرضورة إال اهلداية‬
‫األمرية التكوينية‪.‬‬

‫َّ‬
‫ولعل ذلك ُيستفاد من بعض كلامت العالمة الطباطبائي ‪ ‬حيث يقول‪« :‬واآليات يف‬
‫أصال‪،‬‬ ‫أمرا اضطرار ًيا ال صنع فيه للعبد ً‬ ‫حْص اهلداية فيه تعاىل كثرية‪ ،‬وال يستلزم ذلك كوهنا ً‬
‫اهدُ وا فِينَا َلن َْه ِد َين َُّه ْم ُس ُب َلنَا َوإِ َّن اهللََّ َمل َع‬ ‫ِ‬
‫فإهنا اختيارية باملقدمة‪ ،‬كام يشري إليه قوله‪َ ﴿ :‬وا َّلذ َ‬
‫ين َج َ‬
‫ميرسا لإلنسان‪ ،‬وهو اإلحسان يف العمل» (‪.)2‬‬ ‫أن للهداية اإلهلية ً‬
‫طريقا ً‬ ‫ني﴾ يفيد َّ‬ ‫املُْ ْح ِسن ِ َ‬

‫وبعد بيان هذه النقاط اخلمس نقول‪َّ :‬‬


‫إن الرسل واألئمة ‪ ‬مجي ًعا يقومون بدور اهلداية‪،‬‬
‫ولكن هداية األنبياء من قبيل اهلداية اإلرائية الترشيعية‪ ،‬بينام هداية األئمة من قبيل اهلداية‬
‫َّ‬
‫التكوينية اإليصالية األمرية‪.‬‬

‫والدليل عىل ذلك يبتني عىل ثالث مقدمات‪:‬‬

‫‪ / 1‬املقدمة األوىل‪َّ :‬‬


‫إن منصب اإلمامة أعىل من منصب الرسالة‪ ،‬وهذه املقدمة مفروغ‬
‫والزم هذه املقدمة َّ‬
‫أن احلائز عىل املناصب الثالثة –‬ ‫ُ‬ ‫عنها كام سيأيت إثباته يف أبحاث الحقة‪،‬‬
‫النبوة‪ ،‬والرسالة‪ ،‬واإلمامة – يرتقى من النبوة إىل الرسالة‪ ،‬ومنها إىل اإلمامة‪.‬‬

‫إن الرسل مجي ًعا يقومون بدور اهلداية الترشيعية؛ إذ َّ‬


‫أن وظيفة الرسل‬ ‫‪ / 2‬املقدمة الثانية‪َّ :‬‬
‫– كام تقدم – هي تلقي املعارف اإلهلية وإيصاهلا إىل الناس‪ ،‬ويشهد بذلك قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬و َما‬

‫(‪ )1‬سورة العنكبوت‪.69 :‬‬


‫(‪ )2‬تفسري امليزان‪ :‬ج‪ ،12‬ص‪.243‬‬
‫‪49‬‬ ‫البحث الثالث‪ :‬الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام‬

‫ِ‬ ‫ن ُْر ِس ُل املُْ ْر َسلِ َ‬


‫ف َع َل ْي ِه ْم َو َال ُه ْم َ ْ‬
‫حي َز ُن َ‬
‫ون *‬ ‫ين َو ُمنْذ ِر َ‬
‫ين َف َم ْن َآ َم َن َو َأ ْص َل َح َف َال َخ ْو ٌ‬ ‫رش َ‬ ‫ني إِ َّال ُم َب ِّ ِ‬

‫اب بِ َام كَانُوا َي ْف ُس ُق َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ون﴾ (‪.)1‬‬ ‫ين ك ََّذ ُبوا بِ َآ َياتنَا َي َم هس ُه ُم ا ْل َع َذ ُ‬
‫َوا َّلذ َ‬

‫‪ / 3‬املقدمة الثالثة‪َّ :‬‬


‫إن اهلداية املنسوبة لألئمة يف موضعني من القرآن الكريم هي اهلداية‬
‫وكل َمن ارتقى إىل منصب اإلمامة كان هاد ًيا هبذا السنخ من اهلداية‪ ،‬فإنه يف موض ٍع‬ ‫األمرية‪ ،‬ه‬
‫الز َك ِاة‬
‫الص َال ِة َوإِيتَا َء َّ‬
‫ام َّ‬
‫ِ‬
‫اخل ْ َريات َوإِ َق َ‬
‫ِ‬ ‫َاه ْم َأئِ َّم ًة َ ُّْيدُ َ‬
‫ون بِ َأ ْم ِرنَا َو َأ ْو َح ْينَا إِ َل ْي ِه ْم ف ْع َل ْ َ‬ ‫قد قال‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن ُ‬
‫ربوا َوكَانُوا‬ ‫ين﴾ (‪ ،)2‬وقال يف اآلخر‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلنَا ِمن ُْه ْم َأئِ َّم ًة َ ُّْيدُ َ‬
‫ون بِ َأ ْم ِرنَا ملََّا َص َ ُ‬
‫ِ‬
‫َوكَانُوا َلنَا َعابِد َ‬
‫ُون﴾ (‪ ،)3‬و ُيفهم من هاتني اآليتني أهنام بصدد تفسري اإلمامة‪ ،‬وبيان حقيقة املجعول‪.‬‬ ‫بِ َآياتِنَا ي ِ‬
‫وقن َ‬ ‫َ ُ‬

‫وقد حتدث السيد العالمة ‪ ‬عن هذه اجلهة‪ ،‬فقال‪« :‬والذي نجده يف كالمه تعاىل‪ :‬إنه‬
‫كلام تعرض ملعنى اإلمامة َت َع َّر َض معها للهداية َت َع هر َض التفسري‪ ،‬قال تعاىل يف قصص إبراهيم‬
‫َاه ْم َأئِ َّم ًة َ ُّْيدُ َ‬
‫ون‬ ‫ني * َو َج َع ْلن ُ‬
‫اق ويع ُقوب نَافِ َل ًة وك ًُّال جع ْلنَا ص ِ‬
‫احل َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫‪َ ﴿ :‬و َو َه ْبنَا َل ُه إِ ْس َح َ َ َ ْ َ‬
‫ون بِ َأم ِرنَا ملََّا صربوا وكَانُوا بِآياتِنَا ي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقن َ‬
‫ُون﴾‪،‬‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َُ َ‬ ‫بِ َأ ْم ِرنَا﴾‪ ،‬وقال ‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلنَا من ُْه ْم َأئ َّم ًة َ ُّْيدُ َ ْ‬
‫فبني َّ‬
‫أن اإلمامة ليست مطلق اهلداية‪ ،‬بل هي‬ ‫فوصفها باهلداية وصف تعريف‪ ،‬ثم قيدها باألمر‪ّ ،‬‬
‫اهلداية التي تقع بأمر اهلل‪ ،‬وهذا األمر هو الذي ّبني حقيقته فيقوله‪﴿ :‬إِن ََّام َأ ْم ُر ُه إِ َذا َأ َرا َد َش ْي ًئا َأ ْن‬
‫وت ك ُِّل َيش ٍء﴾‪ ،‬وقوله‪﴿ :‬وما َأمرنَا إِالَّ و ِ‬ ‫ان ا َّل ِذي بِ َي ِد ِه َم َل ُك ُ‬
‫ُون * َف ُس ْب َح َ‬
‫ُن َف َيك ُ‬
‫احدَ ٌة‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُْ‬ ‫ْ‬ ‫ول َل ُه ك ْ‬
‫َي ُق َ‬
‫َك َل ْم ٍح بِا ْل َب َ ِ‬
‫ْص﴾» (‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬سورة األنعام‪.49 – 48 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة األنبياء‪.73 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة السجدة‪.24 :‬‬
‫(‪ )4‬تفسري امليزان‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.272‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪50‬‬

‫وعىل ضوء هذه املقدمات ُيقال‪َّ :‬‬


‫إن هذه اهلداية إما ُيراد هبا اهلداية الترشيعية أو التكوينية‪،‬‬
‫فإن كانت األوىل هي املرادة كانت هداية اإلمام هي نفسها هداية الرسول‪ ،‬وهذا يلغي حصول‬
‫الرتقي باالنتقال من منصب الرسالة إىل منصب اإلمامة؛ إذ َّ‬
‫أن ما حظي به اإلمام – عىل هذا‬
‫الفرض – هو نفسه ما سبق أن حصل عليه الرسول‪ ،‬فيتعني أن تكون اهلداية الثابتة للرسول‬
‫بعد ترقيه إىل منصب اإلمامة غري اهلداية التي كانت ثابتة له قبل الرتقي‪ ،‬وليست هي إال اهلداية‬
‫خمتصات األئمة – هي اهلداية التكوينية (‪.)1‬‬ ‫التكوينية‪ ،‬فثبت َّ‬
‫أن اهلداية األمرية – والتي هي من ّ‬

‫وعليه‪َّ ،‬‬
‫فإن الرسل ‪ُّ ‬يدون الناس باهلداية الترشيعية اإلرائية‪ ،‬ومن اتبعهم واهتدى‬
‫هبداهم هتيأ وعاؤه للهداية التكوينية األمرية‪ ،‬فيصله حينئذ – بمقدار قابليته واستعداده –‬
‫فيضها اخلاص بواسطة الواسطة يف الفيض‪ ،‬وهم األئمة الطاهرون ‪ ،‬ملا هلم من السيطرة‬
‫التامة عىل ملكوت املوجودات‪.‬‬

‫مالحظات عىل التعريف األول‪:‬‬

‫ُسجل عىل مقدمات هذا االستدالل – بعد االعرتاف بثبوت اهلداية األمرية‬
‫ويمكن أن ت ّ‬
‫ألئمة أهل البيت ‪ – ‬مالحظاتان‪:‬‬

‫‪ / 1‬املالحظة األوىل‪َّ :‬‬


‫إن االستدالل املذكور يبتني عىل أن يكون لسان اآليتني – اللتني‬
‫تتحدثان عن هداية األئمة – لسان التفسري والتعريف‪ ،‬ومل يتضح الوجه فيه‪ ،‬الحتامل أن يكون‬
‫لساهنام لسان املدح والثناء‪ ،‬وبيان ما يتصف به األئمة من اخلصائص والكامالت‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫(‪ )1‬ال خيفى أ َّن هذا التعريف من إفادات العالمة الطباطبائي ‪ ‬يف تفسريه (امليزان)‪ ،‬وقد تعرض ملضامينه يف موارد متناثرة ومتفرقة‬
‫أيضا من كلامت الفقيه السبزواري ‪ ‬يف تفسريه (مواهب‬
‫من تفسريه الرشيف‪ ،‬منها‪ :‬ج‪ 1‬ص‪ ،273‬و ج‪ 14‬ص‪ ،304‬ويستفاد ً‬
‫الرمحن) ج‪ 2‬ص‪ ،20‬فالحظ‪.‬‬
‫‪51‬‬ ‫البحث الثالث‪ :‬الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام‬

‫(اهلداية بأمر اهلل تعاىل‪ ،‬وفعل اخلريات‪ ،‬وإقام الصالة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬والصرب‪ ،‬واليقني)‪ ،‬ويؤيد‬
‫اخلري ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫هذا االحتامل تعقيب اآلية عىل عبارة ﴿ َُّيدُ َ ِ‬
‫ات‬ ‫ون بِ َأ ْمرنَا﴾ بعبارة ﴿ َو َأ ْو َح ْينَا إ َل ْيه ْم ف ْع َل ْ َ ْ َ‬ ‫ْ‬
‫الزك ِ‬
‫الص َال ِة َوإِيتَا َء َّ‬
‫فإن هذه املزايا مما ال ختتص باألئمة‪ ،‬بل هي ثابتة حتى للرسل ‪‬‬ ‫َاة﴾‪َّ ،‬‬ ‫َوإِ َق َ‬
‫ام َّ‬
‫أيضا عىل ما تقدم‪ ،‬مما يعني َّ‬
‫أن هذا االحتامل إن مل يكن أظهر من االحتامل األول فال أقل من‬ ‫ً‬
‫مكافئته له‪.‬‬

‫وكيف كان‪ ،‬فإذا مل تكن اآلية بصدد تفسري املجعول‪ ،‬فال يثبت أهنا بصدد بيان خصوصية‬
‫لإلمامة ليست لغريها من املناصب اإلهلية؛ إذ َّ‬
‫أن املدح كام يصح أن يكون ببيان الصفات‬
‫اخلاصة كذلك يصح أن يكون ببيان الصفات املشرتكة‪.‬‬

‫املفرسة لآليتني متنع من محل األمر يف آيتي‬ ‫‪ / 2‬املالحظة الثانية‪َّ :‬‬


‫إن النصوص الروائية ّ‬
‫اإلمامة عىل األمر التكويني‪ ،‬لكوهنا رصحية – أو كالْصحية – يف إرادة األمر الترشيعي‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬موثقة طلحة بن زيد‪ ،‬عن أيب عبد اهلل الصادق ‪ ‬قال‪ :‬قال‪َّ « :‬‬
‫إن األئمة يف كتاب‬
‫ون بِ َأ ْم ِرنَا﴾ ال بأمر الناس‪ ،‬يقدمون أمر اهلل‬ ‫َاه ْم َأئِ َّم ًة َ ُّْيدُ َ‬
‫اهلل ‪ ‬إمامان‪ ،‬قال اهلل ‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن ُ‬
‫َّار﴾ يقدّ مون أمرهم‬ ‫َاه ْم َأئِ َّم ًة َيدْ ُع َ‬
‫ون إِ َىل الن ِ‬ ‫قبل أمرهم‪ ،‬وحكم اهلل قبل حكمهم‪ ،‬قال‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن ُ‬
‫قبل أمر اهلل‪ ،‬وحكمهم قبل حكم اهلل‪ ،‬ويأخذون بأهوائهم خالف ما يف كتاب اهلل ‪.)1( »‬‬

‫وهذا النص – كام ترى – رصيح أو كالْصيح يف إرادة األمر الترشيعي من اآليتني‬
‫الكريمتني‪ ،‬فإنه هو الذي يقدمه األئمة ‪ ‬عىل أمرهم‪ ،‬بينام يقدّ م أئمة النار أمرهم عليه‪ ،‬بداهة‬
‫ٍ‬
‫ألحد أن يقدّ م أمره عليه‪.‬‬ ‫َّ‬
‫أن األمر التكويني هلل تعاىل ال يمكن‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.216‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪52‬‬

‫وال ُيقال‪َّ :‬‬


‫إن محل مفردة األمر يف اآليتني عىل األمر الترشيعي – دون األمر التكويني –‬
‫يلزم منه إلغاء أفضلية منصب اإلمامة عىل منصب الرسالة املستفادة من قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ق َال إِ ِّين‬
‫ألن األمر الترشيعي عىل هذا سيكون مشرتكًا بني منصبي الرسالة‬ ‫اع ُل َك لِلن ِ‬
‫َّاس إِ َما ًما﴾؛ َّ‬ ‫ج ِ‬
‫َ‬
‫واإلمامة‪ ،‬وهو خالف ما ثبت من أفضلية منصب اإلمامة‪ ،‬كام تقدمت اإلشارة إليه‪.‬‬

‫ألنه ُيقال‪ :‬إنام يلزم ذلك لو كانت اآليتان بصدد تفسري اإلمامة وبيان حقيقتها‪ ،‬وأهنا‬
‫ليست إال اهلداية باألمر‪َّ ،‬‬
‫فإن محل األمر حينئذ عىل األمر الترشيعي ال يلتئم مع نكتة الرتقي‬
‫أن ذلك حمل منع ظاهر‪َّ ،‬‬
‫وأن األظهر كوهنا بصدد‬ ‫والتفاضل بني املنصبني‪ ،‬ولكن قد اتضح َّ‬
‫املدح والثناء‪ ،‬فال يلزم من محل األمر يف اآليتني عىل األمر الترشيعي أي حمذور يف البني؛ إذ ال‬
‫ٍ‬
‫بصفات ومزايا أخرى‪.‬‬ ‫ثبوت التفاضل والرتقي ألحد املنصبني‬ ‫املدح بالصفة املشرتكة‬
‫َ‬ ‫يناقض ُ‬

‫ب – التعريف الثاين‪ :‬اخلالفة اإلهلية املطلقة‪.‬‬

‫فاإلمام هو من له اخلالفة اإلهلية املطلقة‪ ،‬وهذا التعريف قد ور َد يف معتربة املفضل بن‬


‫عمر‪ ،‬عن اإلمام الصادق ‪ ،‬قال‪« :‬اإلمامة خالفة اهلل ‪ ‬يف أرضه» (‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬كامل الدين ومتام النعمة‪ :‬ص‪ .359‬وال مغم ز يف السند إال من ناحية (جعفر بن حممد بن مالك الفزاري الكويف)؛ لتضعيف ابن‬
‫الغضائري له‪ ،‬واحلق – مضا ًفا لعدم ثبوت نسبة كتاب الرجال البن الغضائري – أ َّن تضعيفه ال يقاوم توثيق الشيخ الطويس ‪‬‬
‫للرجل‪ ،‬ومتريضه للقول بضعفه‪ ،‬عىل أنه ممن كثرت رواية الثقات األثبات عنه – كأيب غالب الرازي‪ ،‬وحممد بن مهام أيب عَل‬
‫اإلسكايف‪ ،‬وحممد بن حييى الع ّطار‪ ،‬وسعد بن عبد اهلل األشعري‪ ،‬وعبد اهلل بن جعفر احلمريي‪ ،‬واحلسني بن عَل بن سفيان البزوفري‬

‫– وال جتتمع رواية مجيع هؤالء وأرضاهبم عن رجل ثابت الضعف‪ ،‬كام أ َّن الشيخ أبا القاسم الكويف ‪ ‬قد ّ‬
‫رصح بوثاقته يف كتاب‬
‫حممد بن مالك الكويف»‪.‬‬
‫(االستغاثة يف بدع الثالثة)‪ ،‬حيث قال‪« :‬حدّ ثنا مجاعة من مشاخينا الثقات‪ ،‬منهم جعفر بن ّ‬
‫‪53‬‬ ‫البحث الثالث‪ :‬الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام‬

‫ً‬
‫مفصال‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫طويلة عن اإلمام الرضا ‪ ،‬حتدث فيها عن اإلمامة حدي ًثا‬ ‫كام ور َد يف رواية‬
‫فكان يف مجلة ما قاله قوله ‪« :‬إن اإلمامة خالفة اهلل» (‪.)1‬‬

‫أضواء عىل التعريف‪:‬‬

‫والظاهر َّ‬
‫أن هذا التعريف – الوارد يف لسان املعصوم ‪ – ‬من باب تفسري الالزم‬
‫بامللزوم‪ ،‬ويتضح املقصود منه ببيان ثالث نقاط مهمة‪:‬‬

‫لغة وعر ًفا‪.‬‬


‫‪ / 1‬النقطة األوىل‪ :‬معنى اخلالفة ً‬

‫ف‪ :‬اخلليفة بمنزلة مال يذهب ف ُي ْخلِ ُ‬


‫ف اهلل‬ ‫قال اخلليل بن أمحد الفراهيدي ‪« :‬واخلَ َل ُ‬
‫خللِي َف ُة‪َ :‬من استُخلف‬
‫َخ َل ًفا‪ ،‬ووالد يموت فيكون ابنه َخ َل ًفا له‪ ،‬أي‪ :‬خليفة فيقوم مقامه‪ ..‬وا َ‬
‫مكان َمن قبله‪ ،‬ويقوم مقامه» (‪.)2‬‬

‫وقال ابن فارس يف املقاييس‪"« :‬خلف" اخلاء والالم والفاء أصول ثالثة‪ ،‬أحدها‪:‬‬
‫أن جييء يشء بعد يشء يقوم مقامه‪ ..‬اخلالفة‪ ،‬وإنام سميت خالفة َّ‬
‫ألن الثاين جييء بعد األول‬

‫ٍ‬
‫بطرق خمتلفة‪ ،‬فنقلها ثقة اإلسالم الكليني يف الكايف‪،‬‬ ‫اهتم املحدثون بنقل هذه الرواية يف جماميعهم‬
‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪ .200‬وقد َّ‬
‫والشيخ الصدوق يف ك ٍل من عيون أخبار الرضا وكامل الدين ومعاين األخبار‪ ،‬وابن شعبة احلراين يف حتف العقول‪ ،‬والنعامين يف الغيبة‪،‬‬
‫والشيخ الطربيس يف االحتجاج‪ ،‬وهي وإن كانت معلولة سندً ا بجهالة َمن تنتهي إليه مجيع طرقها‪ ،‬وهو (عبد العزيز بن مسلم) –‬
‫لعدم ذكره يف يشء من كتب الرجال سوى كتاب الرجال للشيخ الطويس ‪ ، ‬ومل يزد فيه عىل أكثر من كونه من أصحاب اإلمام‬
‫جل املحد ّثني بنقلها‪ ،‬مما جيعلها بمنأى عن الغمز والوهن‪،‬‬
‫الرضا ‪ – ‬إال أ َّن مطابقة مضامني الرواية لألخبار املعتربة‪ ،‬واهتامم ّ‬
‫ولعله ألجل ذلك قد وصفها املحقق اخلوئي ‪ ‬يف (معجم رجال احلديث‪ )39 / 11 :‬بالرواية الرشيفة‪ ،‬حيث قال‪« :‬وروى هو‬
‫عن الرضا ‪ ‬رواية مبسوطة رشيفة فيها بيان مقام اإلمام ‪ ،‬وأن منزلة اإلمامة منزلة األنبياء‪ ،‬وأهنا خالفة اهلل وخالفة الرسول‬
‫‪ ‬ومقام أمري املؤمنني ‪ ‬ومرياث احلسن واحلسني ‪ ،‬وفيها االستدالل باآليات عىل انحصار اإلمامة يف املعصومني سالم اهلل‬
‫عليهم أمجعني»‪.‬‬
‫(‪ )2‬كتاب العني‪ :‬ج‪ ،4‬ص‪.266‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪54‬‬

‫قائام مقامه‪ ..‬ويقولون يف الدعاء‪ :‬خلف اهلل عليك‪ ،‬أي‪ :‬كان اهلل تعاىل اخلليفة عليك ملن فقدت‬
‫ً‬
‫من أب أو محيم‪ ..‬وأخلف اهلل لك‪ ،‬أي‪ :‬عوضك من الَشء الذاهب ما يكون يقوم بعده‬
‫وخيلفه» (‪.)1‬‬

‫وهذا املعنى اللغوي للخالفة هو نفسه املعنى اجلاري يف االستعامالت العرفية‪ ،‬ولذا حني‬
‫يموت شخص وله عدة من األوالد‪ ،‬أو أستاذ وله عدة من التالميذ‪ُ ،‬يطلق عنوان (اخلليفة)‬
‫عىل َمن يقوم مقام والده من األوالد‪ ،‬و َمن يقوم مقام أستاذه من التالمذة‪ ،‬وال يتحقق ذلك إال‬

‫حائزا عىل صفات املُستَخ َلف‪ ،‬ليكون ً‬


‫قائام مقامه‪ ،‬فيتحقق عنوان (اخلالفة)‪،‬‬ ‫فيام لو كان اخلليفة ً‬
‫ويصدق عليه عنوان (اخلليفة)‪.‬‬

‫‪ / 2‬النقطة الثانية‪ :‬معنى اخلالفة اإلهلية‪.‬‬

‫عىل ضوء ما تقدم يتضح معنى العنوان الرتكيبي اإلضايف (خالفة اهلل)‪ ،‬ولكن حتى يتسنى‬
‫فهمه ٍ‬
‫بنحو حتليَل نقول‪َّ :‬‬
‫إن هذا العنوان يقتيض وجود ثالثة أطراف‪:‬‬

‫• األول‪ :‬املُستَخلِف‪ ،‬وهو اهلل تعاىل‪.‬‬


‫• الثاين‪ :‬اخلليفة‪ ،‬وهو اإلمام ‪.‬‬
‫ِ‬
‫ستخلف –‬ ‫• الثالث‪ :‬اخلالفة‪ ،‬وهي العالقة القائمة بني املُست ِ‬
‫َخلف – بام هو ُم‬
‫واخلليفة‪ ،‬والتي أوضحنا أهنا‪ :‬قيامه مقامه ومتثيله له‪.‬‬

‫ولكي نضع النقاط عىل احلروف‪ ،‬ونط ّبق الكربى عىل صغراها‪ ،‬نحتاج بيان التايل‪:‬‬

‫(‪ )1‬مقاييس اللغة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.210‬‬


‫‪55‬‬ ‫البحث الثالث‪ :‬الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام‬

‫• ا‬
‫أوال‪َّ :‬‬
‫أن اهلل ‪ ‬هو َمن له األسامء احلسنى‪ ،‬وهو املتصف بالصفات العليا اجلاملية‬
‫واجلاللية‪ ،‬وهو املنزه يف نفسه عن كل نقص‪ ،‬واملقدس يف فعله عن كل رش‪.‬‬

‫ً‬
‫خليفة إال إذا كان حاك ًيا للمستخلف‬ ‫• وثان ايا‪َّ :‬‬
‫إن اخلليفة – عىل ضوء ما تقدم – ال يكون‬
‫يف مجيع شؤنه الوجودية وآثاره وأحكامه وتدابريه بام هو ُمستخلِف‪.‬‬

‫إن (خالفة اهلل تعاىل) – عىل ضوء ما تقدم – تكون بمعنى َّ‬
‫أن اإلمام ‪ ‬هو‬ ‫• وثال اثا‪َّ :‬‬
‫جمىل صفات اهلل ‪ ‬وأسامئه اجلاملية واجلاللية‪ ،‬فعلمه حيكي علمه‪ ،‬وحكمته حتكي حكمته‪،‬‬
‫وقدرته حتكي قدرته‪ ،‬وحلمه حيكي حلمه‪ ،‬ورمحته حتكي رمحته‪ ،‬وحاكميته حتكي حاكميته‪،‬‬
‫وهكذا‪.‬‬

‫ويتضح مما عرضناه ثالثة أمور‪:‬‬

‫األمر األول‪َّ :‬‬


‫إن كون (اإلمامة)‪( :‬خالفة اهلل ‪ )‬تعني متثيل اإلمام هلل تعاىل يف أسامئه‬
‫لعجز يف املُستخلِف أو غيابه – كام يف سائر‬
‫ٍ‬ ‫وصفاته‪ ،‬وحكايته عن شؤونه وكامالته‪ ،‬وليس ذلك‬
‫موارد االستخالف – وإنام هو دور وجودي اقتضته اخللقة النورية‪.‬‬

‫األمر الثاين‪َّ :‬‬


‫إن الزم كون اإلمام حاك ًيا عن صفات اهلل تعاىل وكامالته هو أن يكون القدوة‬
‫لغريه مهام ارتقى شأنه وعلت رتبته‪ ،‬وهو َمن جتب متابعته يف مجيع شؤونه‪ ،‬وأقواله وأفعاله‪،‬‬
‫يؤم)‪،‬‬
‫(أم ه‬
‫وحركاته وسكناته‪ ،‬وأخالقه وملكاته‪ ،‬وهذا هو معنى (اإلمام)‪ ،‬فإنه مأخوذ من مادة َّ‬
‫سابقا‪َّ :‬‬
‫إن تفسري‬ ‫وباعتبار لزوم متابعته واالئتامم به ُس ّم َي إما ًما‪ ،‬ومن هنا يتضح ما عنيناه بقولنا ً‬
‫اإلمامة باخلالفة اإلهلية املطلق إنام هو من قبيل تفسري الالزم بامللزوم‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪56‬‬

‫األمر الثالث‪َّ :‬‬


‫إن احلاكمية هي إحدى الصفات اإلهلية‪ ،‬وإذا كانت اإلمامة تعني حكاية‬
‫اإلمام عن مجيع الصفات والكامالت اإلهلية‪ ،‬فهذا يعني َّ‬
‫أن اإلمامة السياسية واحلاكمية ما هي‬
‫إال ُب ْعد من أبعاد اإلمامة اإلهلية‪ ،‬وجزء صغري من رحاهبا الواسعة‪ ،‬وليست مساوقة هلا‪ ،‬كام‬
‫تومهت ذلك مدرسة أهل اخلالف و َمن تأثر هبا‪ ،‬وهذه نقطة جوهرية فارقة يف أبحاث اإلمامة‬
‫ينبغي أن ال ُيغفل عنها‪.‬‬

‫‪ / 3‬النقطة الثالثة‪ :‬مدلول إطالق اخلالفة‪.‬‬

‫عرفا‬ ‫من امللفت جدً ا يف تعريف اإلمامة املتقدم‪َّ :‬‬


‫أن اإلمامني الصادق والرضا ‪ ‬حينام ّ‬
‫اإلمامة بأهنا‪( :‬خالفة اهلل تعاىل) مل يذكرا جهة االستخالف وال متعلق اخلالفة‪ ،‬وهذا يقتيض‬
‫ظهور اخلالفة يف كون اإلمام ‪ ‬خليفة هلل تعاىل شأنه يف خمتلف الشؤون وكافة األمور‪ ،‬كام‬
‫َّ‬
‫أن خالفته ال ختتص ببعض دون بعض‪ ،‬بل هو خليفة عىل اجلميع‪.‬‬

‫وهذا املعنى هو ما اختْصه الدعاء الرجبي الوارد عن الناحية املقدسة (أرواحنا لصاحبها‬
‫الفداء)‪ ،‬حيث قال‪« :‬ال فرق بينك وبينهم إال أهنم عبادك وخلقك» (‪َّ ،)1‬‬
‫فإن هذه الفقرة الرشيفة‬
‫عىل اختصارها قد اختزلت كل املعاين املتقدمة عىل سعتها‪.‬‬

‫ومن ذلك ظهر‪َّ :‬‬


‫أن معنى منصب اإلمامة – الذي ترقى إليه بعض األنبياء والرسل ‪ ‬يف‬
‫عرب عنه يف اصطالحات‬
‫منتهى قوس الصعود – هو اخلالفة اإلهلية باملعنى املتقدم‪ ،‬وهو ما قد ُي ّ‬
‫بعض العلوم الدينية بـ (مقام اإلنسان الكامل)‪.‬‬

‫(‪ )1‬مصباح املتهجد‪ :‬ص‪.803‬‬


‫‪57‬‬ ‫البحث الثالث‪ :‬الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام‬

‫وحتى ال يبقى يشء من اإلمجال نقول‪َّ :‬‬


‫إن النبوة ال تقتيض أكثر من كون النبي أكمل أهل‬
‫زمانه‪ ،‬وذا اتصال غيبي مع اهلل ‪ ،‬ليب ّلغ ما أنبأه اهلل به إىل قومه‪ ،‬وأما الرسالة فتزيد عليها‬
‫بتكليف اهلل تعاىل للرسول أن يقوم بتبليغ رسالة خاصة عنه ملجتمع حمدد أو ألمة معينة‪ ،‬ومتى‬
‫احلجة عليهم ومل يؤمنوا استحقوا نزول العذاب‪ ،‬وال يقتيض هذا املنصب سوى زيادة‬
‫ما أقام ّ‬
‫بعض الكامالت التي تقتضيها وظيفته اإلهلية‪ ،‬كتزويده بالقدرة التكوينية واآليات البينات التي‬
‫رسل‪ ،‬وأما اإلمامة فهي االرتقاء إىل درجة اخلالفة اإلهلية‪ ،‬بحيث‬ ‫يثبت من خالهلا اتصاله باملُ ِ‬

‫ٍ‬
‫بنحو مطلق‪ ،‬مع فارق الذاتية‬ ‫يكون اإلمام حاك ًيا عن اهلل تعاىل كامالته وصفاته وشؤونه‬
‫واالستقالل‪ ،‬فيكون له بذلك ما ليس للرسل واألنبياء ممن مل يرتقوا إىل هذه الرتبة‪ ،‬فال ُيقاس‬
‫علمهم إىل علمه‪ ،‬وال واليتهم إىل واليته‪ ،‬وال عصمتهم إىل عصمته‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫وهذا ما جيعله إمام األولني واآلخرين وقائدهم وزعيمهم وصاحب السيادة عليهم؛ إذ‬
‫أنّه أرشفهم‪ ،‬وأفضلهم‪ ،‬وأكملهم‪ ،‬وأعلمهم‪ ،‬وأحكمهم‪ ،‬وأحلمهم‪ ،‬وأقدرهم‪ ،‬وأشجعهم‪،‬‬
‫وأكرمهم‪ ،‬وأزكاهم‪ ،‬وأنقاهم‪ ،‬وأقواهم‪ ،‬وأرضاهم‪ ،‬وأقضاهم‪ ،‬وأمجعهم للفضائل‬
‫واخلصائص والكامالت‪ ،‬وأحكاهم للشؤون اإلهلية والصفات‪.‬‬

‫ُ‬
‫كلمة اخلتام‪:‬‬

‫وبام ذكرناه يف النقاط الثالث يكون الفارق – بحسب اللحاظني املتقدمني – قد ظهر جل ًّيا‬
‫بني العناوين الثالثة‪.‬‬

‫• خال ًفا ملا أفاده شيخنا العالمة املجليس ‪ ‬بقوله‪« :‬وال تصل عقولنا إىل فرق بني‬
‫النبوة واإلمامة» (‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬بحار األنوار‪ :‬ج‪ ،26‬ص‪ ،82‬مرآة العقول‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.290‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪58‬‬

‫• وما أفاده جدنا األكرب العالمة الشيخ عبد اهلل آل عمران ‪ – ‬من علامء القرن‬
‫الثاين عرش اهلجري – بقوله‪ « :‬والوالية هبذا املعنى ترادف اإلمامة التي هي‬
‫خالفة النبوة‪ ،‬والتي ال فرق بينها وبينها إال يف تلقي الوحي اإلهلي» (‪ ،)1‬وقوله‪:‬‬
‫«اإلمامة والنبوة حقيقة واحدة بالذات‪ ،‬متغايرة باالعتبار» (‪.)2‬‬
‫• وما أفاده السيد الفقيه الشفتي ‪ ‬بقوله‪ « :‬وال يقدح يف ذلك صدقها عىل أويل‬
‫ألن فيهم مرتبة اإلمامة كام عرفت‪ ،‬إال َّ‬
‫أن االمتياز إنام هو‬ ‫العزم من األنبياء‪َّ ،‬‬
‫باحليثية‪ ،‬فمن حيث أنه مبلغ األحكام من اهلل بال واسطة غريه من أفراد اإلنسان‬
‫نبي ورسول‪ ،‬وما عليه إال البالغ‪ ،‬ومن حيث كونه ق ّي ًام عىل العباد إمام» (‪.)3‬‬
‫ٌ‬

‫فقد ظهر َّ‬


‫أن الفارق بني املنصبني مما يمكن أن تصل إليه العقول بمعونة النصوص‬
‫الرشيفة‪ ،‬كام اتضح َّ‬
‫أن الفارق بينهام فارق ذايت جوهري‪ ،‬وليس جمرد فارق اعتباري أو حيثي‪.‬‬

‫(‪ )1‬اهلداية يف إثبات اإلمامة والوالية‪ :‬ص‪.150‬‬


‫(‪ )2‬اهلداية يف إثبات اإلمامة والوالية‪ :‬ص‪.206‬‬
‫(‪ )3‬اإلمامة‪ :‬ص‪.23‬‬
‫البحث الرابع‪ :‬أفضلية منصب اإلمامة على منصيب النبوة والرسالة‬

‫توطئة هامة‪:‬‬

‫مما جيدر التن ّبه له وااللتفات إليه يف بداية هذا البحث‪َّ :‬‬
‫أن هاهنا مسألتني ينبغي التمييز‬
‫وعدم اخللط بينهام‪:‬‬

‫املسألة األوىل‪ :‬التفاضل بني املناصب اإلهلية الثالثة‪ ،‬وهي‪ :‬منصب النبوة ومنصب‬
‫الرسالة ومنصب اإلمامة‪.‬‬

‫املسألة الثانية‪ :‬التفاضل بني شخوص األئمة ‪ ‬وشخوص األنبياء والرسل ‪.‬‬

‫ناظرا للمسألة الثانية‪ ،‬وإنام هو ناظر للمسألة األوىل فقط‪.‬‬


‫وكالمنا يف هذا البحث ليس ً‬

‫فإن الذي نجنح إليه يف هذه املسألة هو أفضلية منصب اإلمامة عىل ٍ‬
‫كل‬ ‫عرفت ذلك‪َّ ،‬‬
‫َ‬ ‫وإذا‬
‫من منصبي النبوة والرسالة‪ ،‬ولنا أن نستدل عىل ذلك بنوعني من األدلة‪:‬‬

‫‪ / 1‬النوع األول‪ :‬األدلة القرآنية‪.‬‬


‫اهيم ربه بِكَلِام ٍ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت َف َأ َمت َّ ُه َّن‬ ‫وأهم ما يمكن االستدالل به يف املقام هو قوله ‪َ ﴿ :‬وإِذ ا ْبت ََىل إِ ْب َر َ َ ه ُ َ‬
‫أن‬ ‫ني﴾ (‪ ،)1‬بتقريب‪ّ :‬‬ ‫َّاس إِ َما ًما َق َال َو ِم ْن ُذ ِّر َّيتِي َق َال َال َين َُال َع ْه ِدي ال َّظامل ِ َ‬
‫اع ُل َك لِلن ِ‬
‫َق َال إِ ِّين ج ِ‬
‫َ‬

‫(‪ )1‬سورة البقرة‪.127 :‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪60‬‬

‫نبي اهلل إبراهيم ‪ ‬منصب اإلمامة‪ ،‬وهي تشتمل‬


‫هذه اآلية الكريمة تتحدّ ث عن قض ّية إعطاء ّ‬
‫نبي اهلل إبراهيم ‪ ،‬أي‪ :‬بعد تل ّبسه‬
‫عىل عدّ ة قرائن تؤكّد وقوع هذه القض ّية يف أواخر عمر ّ‬
‫رشف اهلل به نب ّيه إبراهيم ‪ ‬هي‪ :‬رتبة‬ ‫النبوة والرسالة‪ ،‬ممّا يؤكّد ّ‬
‫أن آخر رتبة قد ّ‬ ‫بعنوان ّ‬
‫كالنبوة والرسالة؛ إذ ال معنى‬
‫ّ‬ ‫اإلمامة‪ ،‬وهذا يعني بالرضورة كوهنا أعىل ممّا سبقها من املراتب‪،‬‬
‫ً‬
‫وفضال من غريها من املراتب‬ ‫لترشيف اهلل تعاىل لنب ّيه ‪ ‬يف أواخر عمره برتبة هي أدنى رش ًفا‬
‫التي سبق وأن حصل عليها‪ّ ،‬‬
‫فإن ذلك خلف الترشيف‪ ،‬ممّا حيتّم كون رتبة اإلمامة هي س ّيدة‬
‫املراتب‪ ،‬وأعالها شأنًا وفضيلة‪.‬‬

‫والقرائن الدا ّلة عىل وقوع هذه القض ّية يف أواخر عمر ّ‬
‫نبي اهلل إبراهيم ‪ ‬عبارة عن‬
‫ثالث قرائن‪ ،‬وقبل بياهنا ال بدَّ من الفراغ عن مقدمة مهمة‪ ،‬وهي‪َّ :‬‬
‫أن (جاعل) صيغة اسم‬
‫أن اسم الفاعل ال يعمل إذا كان ً‬
‫داال عىل املايض وال يأخذ‬ ‫املقرر يف األدبيات‪َّ :‬‬
‫فاعل‪ ،‬ومن ّ‬
‫ً‬
‫مفعوال – وهو‪( :‬إما ًما) – وهذا يقتيض بالرضورة أنه‬ ‫ً‬
‫مفعوال‪ ،‬بينام هو يف اآلية قد عمل وأخذ‬
‫سيكون بمعنى احلال أو االستقبال‪ ،‬فيكون بمعنى سأجعلك‪ ،‬وعليه َّ‬
‫فإن هذه اآلية تتحدث‬
‫عن مرحلة جديدة من مراحل حياة النبي إبراهيم ‪ ،‬وليست ناظرة ملراحل حياته املتقدمة‪،‬‬
‫ومن هنا فلن يمكن تفسري (اإلمامة) يف اآلية الرشيفة بـ (النبوة) أو (الرسالة)؛ ألهنام مما سبق‬
‫جعلهام له‪ ،‬فال يصح جعلهام من جديد‪.‬‬

‫وإذا فرغنا من ذلك‪َّ ،‬‬


‫فإن القرائن الثالث التي أرشنا إليها هي‪:‬‬

‫نبي‬
‫أن وقوع هذا الترشيف كان بعد جتاوز ّ‬ ‫أن اآلية الرشيفة رصحية يف ّ‬ ‫أ‪ /‬القرينة األوىل‪ّ :‬‬
‫اهيم ربه بِكَلِامت َف َأ َمتهن َق َال إِ ِّين ج ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اع ُل َك‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ َّ‬ ‫اهلل إبراهيم ‪ ‬ملرحلة االبتالء‪َ ﴿ :‬وإِذ ا ْبت ََىل إِ ْب َر َ َ ه ُ َ‬
‫نبوته ورسالته‪،‬‬ ‫أن هذه املرحلة من عمره الرشيف كانت متزامنة مع ّ‬ ‫لِلن ِ‬
‫َّاس إِ َما ًما﴾‪ ،‬وال ريب يف ّ‬
‫‪61‬‬ ‫البحث الرابع‪ :‬أفضلية منصب اإلمامة على النبوة والرسالة‬

‫عرب عنها القرآن‬ ‫ومن مجلة شواهدها وما ّ‬


‫يدل عليها قض ّية ذبحه لولده إسامعيل ‪ ،‬حيث ّ‬
‫الس ْع َي َق َال َيا ُبن ََّي إِ ِّين َأ َرى ِيف املَْنَا ِم َأ ِّين‬
‫ني)‪ ،‬وذلك يف قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ف َل َّام َبلَغَ َم َع ُه َّ‬ ‫ال ُء املُْبِ ُ‬
‫بـ(ا ْل َب َ‬
‫ِ‬ ‫ت ا ْف َع ْل ما ت ُْؤمر ست ِ‬ ‫َأ ْذبح َك َفان ُظر ما َذا تَرى َق َال يا َأب ِ‬
‫َجدُ ِين إِن َشا َء اهللُ م َن َّ‬
‫الصابِ ِر َ‬
‫ين * َف َل َّام َأ ْس َل َام‬ ‫َ َُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ ُ‬
‫هذا‬‫ني * إِ َّن َ‬ ‫ـح ِسن ِ َ‬ ‫ِ‬
‫الر ْؤ َيا كَذل َك ن َْج ِزي املُْ ْ‬‫يم * َقدْ َصدَّ ْق َت ه‬
‫ِ‬ ‫َو َت َّل ُه ل ِ ْل َجبِ ِ‬
‫ني * َونَا َد ْينَا ُه َأن َياإِ ْب َراه ُ‬
‫أن هذا االبتالء كان أوان نبوته‪ ،‬بشهادة تلقيه‬ ‫ال ُء املُْبِ ُ‬
‫ني﴾ (‪ ،)1‬وال شك وال ريب يف َّ‬ ‫َهل ُ َو ا ْل َب َ‬
‫للوحي اإلهلي‪.‬‬

‫وبام َّ‬
‫أن جعل اإلمامة كان بعد جتاوز إبراهيم ‪ ‬ملرحلة االبتالءات هذه – والتي كانت‬
‫نبوته ورسالته – فهذا يعني َّ‬
‫أن اإلمامة مرتبة متأخرة عنهام‪.‬‬ ‫متزامنة مع ّ‬

‫اع ُل َك لِلن ِ‬
‫َّاس إِ َما ًما﴾ قرينة‬ ‫إن نفس خماطبته بقوله تعاىل‪﴿ :‬إِ ِّين ج ِ‬
‫َ‬ ‫ب‪ /‬القرينة الثانية‪َّ :‬‬
‫ٍ‬
‫متصل بالسامء‪ ،‬وإذا‬ ‫ٍ‬
‫لسفري‬ ‫يتم إال‬ ‫أخرى عىل كونه قد سبقت نبوته؛ إذ َّ‬
‫أن الوحي الساموي ال ه‬
‫كان إبراهيم ‪ ‬نب ًّيا قبل خماطبته هبذا اخلطاب‪ ،‬فهذا يعني َّ‬
‫أن املنصب املجعول له يف هذه‬
‫املرحلة ليس هو منصب النبوة‪ ،‬وإنام هو منصب جديد‪ ،‬قد ُأوتيه بعد املنصب السابق‪ ،‬فتأمل‪.‬‬

‫ج‪ /‬القرينة الثالثة‪ :‬قوله ‪ ‬يف اآلية الرشيفة‪َ ﴿ :‬و ِمن ُذ ِّر َّيتِي﴾‪ ،‬فإنّه ظاهر يف وجود‬
‫الذر ّية لديه‪ ،‬ووجود الذر ّية لديه إنّام كان يف مرحلة متقدّ مة من عمره الرشيف‪ ،‬كام هو رصيح‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ب ِيل َع َىل ا ْلكِ َ ِرب إِ ْس َام ِع َيل َوإِ ْس َح َ‬ ‫ِ‬
‫اق إِ َّن َر ِّيب َل َسم ُ‬
‫يع‬ ‫احلَ ْمدُ هللِ ا َّلذي َو َه َ‬
‫القرآن الكريم‪ْ ﴿ :‬‬
‫الذر ّية لديه ‪ ‬أنّه يف بداية األمر مل يكن معتقدً ا بأنّه‬ ‫ِ (‪)2‬‬
‫الده َعاء﴾ ‪ ،‬ووجه ظهوره يف وجود ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم *‬ ‫سريزق ذر ّية ختلفه‪ ،‬كام يرشد إىل ذلك القرآن الكريم يف قوله‪َ ﴿ :‬و َن ِّب ْئ ُه ْم َعن َض ْيف إِ ْب َراه َ‬

‫(‪ )1‬سورة الصا ّفات‪ 102 :‬ـ ‪.106‬‬


‫(‪ )2‬سورة إبراهيم‪.39 :‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪62‬‬

‫رش َك بِ ُغالَم َعلِيم *‬ ‫ِ‬ ‫ال ًما َق َال إِنَّا ِمنك ُْم َو ِج ُل َ‬
‫ون * َقا ُلوا الَ ت َْو َج ْل إنَّا ُن َب ِّ ُ‬ ‫إِ ْذ َد َخ ُلوا َع َل ْي ِه َف َقا ُلوا َس َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َاك بِ ْ َ‬
‫احل ِّق َف َ‬
‫ال ُتكُن ِّم َن‬ ‫رشن َ‬ ‫ون * َقا ُلوا َب َّ ْ‬ ‫رب َفبِ َم ُت َب ِّ ُ‬
‫رش َ‬ ‫رش ُمتُوين َع َىل َأن َم َّسن َي ا ْلك َ ُ‬ ‫َق َال َأ َب َّ ْ‬
‫الذر ّية لديه؛ إذ لو كان‬ ‫ني﴾ ‪ ،‬بينام ظاهر كالمه ‪ ‬يف اآلية السابقة اعتقاده بوجود ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫ا ْل َقانِطِ َ‬
‫املفرسين السيد الطباطبائي ‪:‬‬ ‫عالمة ّ‬ ‫عىل اعتقاده السابق مل يطلب اإلمامة لذريته‪ ،‬وكام يقول ّ‬
‫اع ُل َك لِلن ِ‬
‫َّاس إِ َما ًما﴾ قول َمن يعتقد لنفسه‬ ‫«وقوله‪﴿ :‬و ِمن ُذريتِي﴾ بعد قوله تعاىل‪﴿ :‬إِ ِّين ج ِ‬
‫َ‬ ‫ِّ َّ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫خطاب‬ ‫وخاصة مثل إبراهيم اخلليل – يف‬
‫ّ‬ ‫ذر ّية‪ ،‬وكيف يسع َمن له أدنى دربة بأدب الكالم –‬
‫ّ‬
‫يتفوه بام ال علم له به؟ ولو كان ذلك لكان من الواجب أن يقول‪ :‬ومن‬
‫خياطب به ر ّبه اجلليل أن ّ‬
‫ذر ّية‪ ،‬أو ما يؤ ّدي هذا املعنى» (‪.)2‬‬
‫ذر ّيتي إن رزقتني ّ‬
‫ّ‬

‫أن منصب اإلمامة قد ُأوتيه نبي اهلل إبراهيم ‪ ‬يف‬


‫واملتحصل من جمموع ما ذكرناه‪ّ :‬‬
‫أواخر حياته بعد إيتائه منصب النبوة والرسالة‪ ،‬وبام أنه منصب ترشيفي قد ُأعطي إلبراهيم‬
‫‪ ‬إزاء صربه عىل االبتالءات اإلهلية‪ ،‬ويقينه بربه تعاىل‪ ،‬فهذا يقتيض بالرضورة أن يكون أعىل‬
‫ً‬
‫رتبة من املنصبني السابقني‪ ،‬كام هو ظاهر‪.‬‬

‫‪ / 2‬النوع الثاين‪ :‬األدلة الروائية‪.‬‬

‫وهي عبارة عن عدّ ة من الروايات الرشيفة‪ ،‬وهي رصحية – أو كالْصحية – يف كون مرتبة‬
‫النبي أو الرسول يف حركة‬
‫النبوة‪ ،‬وأهنا آخر املراحل واملراتب التي يطوُّيا ّ‬
‫اإلمامة أعىل من مرتبة ّ‬
‫سريه التكامَل‪ ،‬ممّا يعني بالرضورة كوهنا أعىل املراتب وأرشفها وأفضلها‪ ،‬وإليكها‪:‬‬

‫(‪ )1‬سورة احلجر‪ 51 :‬ـ ‪.55‬‬


‫(‪ )2‬امليزان يف تفسري القرآن‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.267‬‬
‫‪63‬‬ ‫البحث الرابع‪ :‬أفضلية منصب اإلمامة على النبوة والرسالة‬

‫أ‪ /‬الرواية األوىل‪ :‬رواية الشيخ الصدوق‪ ،‬بإسناده عن اإلمام الرضا ‪ - ‬يف حديث‬
‫خص اهلل ‪ ‬هبا إبراهيم اخلليل (صلوات اهلل عليه وآله) بعد‬ ‫طويل ‪ -‬قال ‪ّ « :‬‬
‫إن اإلمامة ّ‬
‫اع ُل َك لِلن ِ‬
‫َّاس‬ ‫النبوة واخل ّلة‪ ،‬مرتبة ثالثة‪ ،‬وفضيلة رشفه هبا‪ ،‬وأشاد هبا ذكره‪ ،‬فقال ‪﴿ :‬إِ ِّين ج ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫رسورا هبا‪َ ﴿ :‬و ِمن ُذ ِّر َّيتِي﴾؟ َق َال اهلل ‪﴿ :‬الَ َين َُال َع ْه ِدي‬
‫ً‬ ‫إِ َما ًما﴾‪ ،‬فقال اخلليل ‪‬‬
‫ال َّظامل ِ َ‬
‫ني﴾» (‪.)1‬‬

‫سمعت أبا‬
‫ُ‬ ‫الشحام‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ب‪ /‬الرواية الثانية‪ :‬رواية الشيخ الكليني ‪ ‬بسنده عن زيد‬
‫وأن اهلل ّاختذه‬
‫إن اهلل تبارك وتعاىل ّاختذ إبراهيم عبدً ا قبل أن يتّخذه نب ًّيا‪ّ ،‬‬
‫عبد اهلل ‪ ‬يقول‪ّ « :‬‬
‫وأن اهلل ّاختذه ً‬
‫خليال قبل‬ ‫خليال‪ّ ،‬‬
‫رسوال قبل أن يتّخذه ً‬ ‫ً‬ ‫وأن اهلل ّاختذه‬
‫رسوال‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫نب ًّيا قبل أن يتّخذه‬
‫اع ُل َك لِلن ِ‬
‫َّاس إِ َما ًما﴾‪ ،‬قال‪ :‬فمن عظمها يف‬ ‫أن جيعله إماما‪ ،‬فلام مجع له األشياء قال‪﴿ :‬إِ ِّين ج ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫عني إبراهيم قال‪َ ﴿ :‬و ِمن ُذ ِّر َّيتِي﴾؟ قال‪﴿ :‬الَ َين َُال َع ْه ِدي ال َّظامل ِ َ‬
‫ني﴾» (‪.)2‬‬

‫إن اهلل ّاختذ‬


‫ج‪ /‬الرواية الثالثة‪ :‬رواية جابر عن أيب جعفر ‪ ،‬قال‪ :‬سمعته يقول‪ّ « :‬‬
‫ً‬
‫رسوال قبل أن‬ ‫رسوال‪ّ ،‬‬
‫واختذه‬ ‫ً‬ ‫إبراهيم ‪ ‬عبدً ا قبل أن يتّخذه نب ًّيا‪ّ ،‬‬
‫واختذه نب ًّيا قبل أن يتّخذه‬
‫فلام مجع له هذه األشياء وقبض يده‪ ،‬قال‬ ‫ً‬
‫خليال قبل أن يتّخذه إما ًما‪ّ ،‬‬ ‫خليال‪ّ ،‬‬
‫واختذه‬ ‫ً‬ ‫يتّخذه‬
‫رب‪َ ،‬و ِمن ُذ ِّر َّيتِي؟‬
‫َّاس إِ َما ًما﴾‪ ،‬فمن عظمها يف عني إبراهيم قال‪ :‬يا ّ‬ ‫اع ُل َك لِلن ِ‬
‫له‪﴿ :‬إِ ِّين ج ِ‬
‫َ‬
‫قال‪﴿ :‬الَ َين َُال َع ْه ِدي ال َّظامل ِ َ‬
‫ني﴾» (‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬األمايل‪ ،774 :‬عيون أخبار الرضا عليه السالم‪ ،196 / 1 :‬كامل الدين ومتام النعمة‪ ،676 :‬معاين األخبار‪ ،97 :‬وتقدم الكالم‬
‫حول سندها يف البحث السابق‪.‬‬
‫(‪ )2‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.175‬‬
‫(‪ )3‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.175‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪64‬‬

‫د‪ /‬الرواية الرابعة‪ :‬معتربة هشام بن سامل‪ ،‬قال‪ :‬قال أبو عبد اهلل ‪« :‬األنبياء واملرسلون‬
‫عىل أربع طبقات‪:‬‬

‫أ – فنبي منبأ يف نفسه ال يعدو غريها‪.‬‬

‫ب – ونبي يرى يف النوم ويسمع الصوت وال يعاينه يف اليقظة‪ ،‬ومل ُيبعث إىل أحد‪ ،‬وعليه‬
‫إمام‪ ،‬مثل ما كان إبراهيم عىل لوط ‪.‬‬

‫ج – ونبي يرى يف منامه ويسمع الصوت ويعاين امللك‪ ،‬وقد ُأرسل إىل طائفة قلوا أو‬
‫َ‬
‫زيدون﴾‪ ،‬قال‪ :‬يزيدون‪:‬‬ ‫كثروا‪ ،‬كيونس‪ ،‬قال اهلل ليونس ‪﴿ :‬و َأرسلناه إِىل ِمائ َِة َأ ٍ‬
‫لف َأو َي‬ ‫َ َ ُ‬
‫ثالثني أل ًفا‪ ،‬وعليه إمام‪.‬‬

‫د – والذي يرى يف نومه ويسمع الصوت ويعاين يف اليقظة‪ ،‬وهو إمام مثل أويل العزم‪،‬‬
‫َّاس إِ َما ًما َق َال َو ِم ْن‬
‫اع ُل َك لِلن ِ‬
‫وقد كان إبراهيم ‪ ‬نبيا وليس بإمام‪ ،‬حتى قال اهلل‪﴿ :‬إِ ِّين ج ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫صنام أو وثنًا ال يكون إما ًما» (‪.)1‬‬ ‫ني﴾‪َ ،‬من عبد ً‬ ‫ُذ ِّر َّيتِي﴾ فقال اهلل‪َ ﴿ :‬ال َين َُال َع ْه ِدي ال َّظامل ِ َ‬

‫واملتحصل من جمموع هذه األخبار‪َّ :‬‬


‫أن اإلمامة أعىل رتبة من النبوة والرسالة‪ ،‬وقد عرفت‬
‫أن فيها ما هو معترب السند‪ ،‬وعىل فرض املناقشة يف أسانيدها‪َّ ،‬‬
‫فإن موافقتها للقرآن الكريم كافية‬ ‫َّ‬
‫العتبارها‪.‬‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.174‬‬


‫البحث اخلامس‪ :‬اإلمامة اإلهلية منصب إهلي‬

‫وهنا مبحثان‪:‬‬

‫‪ /1‬املبحث الكربوي‪ :‬أقسام املناصب والفرق بينها‪.‬‬

‫وفيه مسألتان‪:‬‬

‫املسألة األوىل‪ :‬أقسام املناصب‪.‬‬

‫املناصب عىل قسمني‪:‬‬

‫أ‪ -‬القسم األول‪ :‬املناصب الوضعية‪ ،‬وهي‪ :‬املناصب اخلاضعة للتواضع البرشي‬
‫واالعتبار العقالئي‪ ،‬ومن أمثلتها‪ :‬امللك ورئاسة الدولة والوزارة وما شاكلها‪.‬‬

‫ب‪ -‬القسم الثاين‪ :‬املناصب اإلهلية‪ ،‬وهي عىل نحوين‪:‬‬

‫النحو األول‪ :‬املناصب إهلية اجلعل والتطبيق‪.‬‬

‫من قبيل منصب النبوة‪ ،‬فهو من املناصب اإلهلية التي يكون جعلها وتطبيقها من قبل املوىل‬
‫‪ ،‬أي‪َّ :‬‬
‫أن اهلل ‪ ‬يتوىل تطبيق املنصب عىل أشخاص مع ّينني بأسامئهم‪ ،‬حمددين بخصوصياهتم‬
‫ّ‬
‫ومشخصاهتم‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪66‬‬

‫وهكذا احلال يف منصب اإلمامة‪ ،‬فكام جعل اهلل منصب اإلمامة وط ّبقه عىل إبراهيم النبي‬
‫حمصورا يف اثني عرش‬
‫ً‬ ‫نص املوىل ‪ ‬عىل منصب اإلمامة يف هذه األمة‪ ،‬وجعله‬
‫‪ ،‬كذلك ّ‬
‫إما ًما‪ ،‬أوهلم أمري املؤمنني ‪ ‬وآخرهم اإلمام املهدي ‪ ،‬ولذلك ُيقال‪َّ :‬‬
‫إن منصب اإلمامة‬
‫إهلي اجلعل والتطبيق‪ ،‬وسيأيت الربهان عىل ذلك يف اجلهة الصغروية‪.‬‬

‫النحو الثاين‪ :‬املناصب إهلية اجلعل برشية التطبيق‪.‬‬

‫من قبيل منصب املرجعية الدينية‪ ،‬فإنّه منصب إهلي جمعول بجعل اهلل ‪ ،‬واحلجة يف ذلك‬
‫هو‪ّ :‬‬
‫أن األصل عدم أحقية أحد من البرش بالترشيع والتحليل والتحريم؛ إذ هو حق منحْص‬
‫ومكوهنم‪ ،‬ويشري إىل االنحصار قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬و َال ت َُقو ُلوا‬ ‫ّ‬ ‫باهلل ‪ ،‬ألنه مالك البرش‪ ،‬وخالقهم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َمل ِا ت َِص ُ ِ‬
‫رت َ‬
‫ون َع َىل‬ ‫رتوا َع َىل اهللَِّ ا ْلكَذ َب إِ َّن ا َّلذ َ‬
‫ين َي ْف َ ُ‬ ‫ف َأ ْلسنَ ُتك ُُم ا ْلكَذ َب َه َذا َح َال ٌل َو َه َذا َح َر ٌام ل َت ْف َ ُ‬
‫أن الترشيع ممنوع حتى عىل‬ ‫ون﴾ (‪ ،)1‬بل تشري بعض اآليات القرآنية إىل َّ‬ ‫اهللَِّ ا ْلك َِذ َب َال ُي ْفلِ ُح َ‬
‫يل *‬ ‫او ِ‬‫األنبياء‪ ،‬بل حتى عىل أفضل األنبياء ‪ ،‬قال اهلل ‪َ ﴿ :‬و َل ْو ت ََق َّو َل َع َل ْينَا َب ْع َض ْاألَ َق ِ‬

‫ني * ُث َّم َل َق َط ْعنَا ِمنْ ُه ا ْل َوتِ َ‬


‫ني﴾ (‪.)2‬‬ ‫َألَ َخ ْذنَا ِمنْ ُه بِا ْل َي ِم ِ‬

‫أن حق الترشيع قد ُف ّوض من قبل اهلل ‪ ‬إىل ثالثة أصناف من اخللق‪:‬‬


‫غري َّ‬

‫الصنف األول‪ :‬األنبياء واملرسلون‪.‬‬

‫الصنف الثاين‪ :‬املعصومون‪ ،‬كالزهراء وأئمة أهل البيت ‪.‬‬

‫(‪ )1‬سورة النحل‪.116 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة احلاقة‪.46 - 44 :‬‬
‫‪67‬‬ ‫البحث الخامس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب إلهي‬

‫ولوال تفويضه ‪ ‬هلم صالحية الترشيع والتقنني ملا ثبت ذلك هلم‪ ،‬وبعد إعطائهم ‪‬‬
‫صالحية الترشيع جاز هلم التحليل والتحريم ً‬
‫طبقا ملا أوالهم اهلل تعاىل من العلم‪ ،‬وأطلعهم‬
‫عليه من املصالح واملفاسد الواقعية‪.‬‬

‫الصنف الثالث‪ :‬الفقهاء ومراجع الدين‪ ،‬وهذا هو الصنف الذي ُف ّوض له الترشيع من‬
‫قبل املعصومني ‪ ‬بأمر منه ‪ ،‬فإن أهل البيت ‪ ‬قد جعلوا هلؤالء منصب املرجعية الدينية‪،‬‬
‫وقد د ّلت عىل ذلك األدلة املذكورة يف حملها‪ ،‬من قبيل ما ورد عن اإلمام العسكري ‪« :‬فأما‬
‫من كان من الفقهاء صائنًا لنفسه‪ ،‬حاف ًظا لدينه‪ ،‬خمال ًفا عىل هواه‪ ،‬مطي ًعا ألمر مواله‪ ،‬فللعوام أن‬
‫حق ألحدهم أن‬ ‫يق ّلدوه» (‪ ،)1‬ولوال َّ‬
‫أن اهلل تعاىل قد جعل هذا املنصب للعلامء والفقهاء ملا ّ‬
‫يتصدّ ر هذا املنصب‪.‬‬

‫مهم‪:‬‬
‫تنبيه ٌّ‬

‫والذي جيدر االلتفات إليه هو َّ‬


‫أن مرادنا من تفويض الترشيع إىل الفقهاء ليس أحقيتهم‬
‫بالترشيع يف قبال ترشيع املعصوم ‪ ،‬بل مرادنا ّ‬
‫أن الشارع قد أجاز هلم نسبة ما يستنبطونه‬
‫أقرها الشارع لصناعة الفتوى – إىل‬
‫من األحكام – من األدلة الرشعية املعتربة‪ ،‬وبالرشائط التي ّ‬
‫الرشيعة املقدسة‪.‬‬

‫ومن ذلك يظهر َّ‬


‫أن حيث ّية اجلعل متوفرة يف منصب املرجعية الدينية‪ ،‬ولكن تطبيقها بيد‬
‫الناس‪َّ ،‬‬
‫ألن اهلل تعاىل مل حيدد املرجعية الدينية يف أسامء معينة‪ ،‬ومل يطبق هذا املنصب عىل أفراد‬
‫مشخصني بأسامئهم ‪ -‬كام يف منصبي النبوة واإلمامة ‪ ،-‬وإنام جعل رشو ًطا للمرجع الديني‪،‬‬
‫ّ‬

‫(‪ )1‬وسائل الشيعة‪ :‬ج‪ ،27‬ص‪.131‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪68‬‬

‫متى ما تو ّفرت يف رجل كان ً‬


‫أهال للمرجعية الدينية‪ ،‬ويكون تطبيق رشوط الشارع املقدس عىل‬
‫املصاديق يف اخلارج من قبل البرش القادرين عىل التطبيق (‪.)1‬‬

‫املسألة الثانية‪ :‬الفرق بني املناصب اإلهلية والوضعية‪.‬‬

‫وحمصل ما يمكن قوله يف بيان الفرق بني املنصبني اإلهلي والوضعي أنّه ينبثق من جهتني‪:‬‬
‫ّ‬

‫اجلهة األوىل‪ :‬جهة اجلعل‪.‬‬

‫َّ‬
‫فإن املناصب الوضعية جمعولة باجلعل البرشي‪ ،‬وأما املناصب اإلهلية ‪ -‬كالنبوة والرسالة‬
‫‪ -‬فهي مناصب جمعولة باجلعل اإلهلي الترشيعي‪ ،‬وليست من جعل البرش‪ .‬وعند الرجوع إىل‬
‫آيات القرآن الكريم نجدها تؤكد عىل أن هذه املناصب جمعولة من قبله تعاىل‪ ،‬وإليك بعضها‪:‬‬

‫ون َو ِز ًيرا﴾ (‪ ،)2‬فالذي آتى‬


‫َاب َو َج َع ْلنَا َم َع ُه َأ َخا ُه َه ُار َ‬ ‫ِ‬
‫وسى ا ْلكت َ‬
‫اآلية األوىل‪َ ﴿ :‬و َل َقدْ آ َت ْينَا ُم َ‬
‫نبي اهلل موسى ‪ ‬الكتاب هو اهلل ‪ ،‬وكذلك من أعطى الوزارة والوصاية هلارون ‪ ‬هو‬
‫اهلل ‪ ،‬وبام َّ‬
‫أن اهلل ‪ ‬هو اجلاعل فهي مناصب إهلية ال وضعية برشية‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫وب َو َج َع ْلنَا ِيف ُذ ِّر َّيته ال هن ُب َّو َة َوا ْلكت َ‬
‫َاب﴾ (‪ ،)3‬ومفاد‬ ‫اآلية الثانية‪َ ﴿ :‬و َو َه ْبنَا َل ُه إِ ْس َح َ‬
‫اق َو َي ْع ُق َ‬
‫نسب‬
‫اآلية أن اهلل ‪ ‬هو الذي أعطى وجعل النبوة والكتاب يف ذرية نبي اهلل إبراهيم ‪ ،‬وقد َ‬
‫اهلل جعلها إىل نفسه‪.‬‬

‫(‪ )1‬وقد تناولنا مسألة (املرجعية الدينية) بالتفصيل يف كتابنا (املرجعية الدينية مرشوع السامء يف زمن الغيبة)‪.‬‬
‫(‪ )2‬سورة الفرقان‪.35 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة العنكبوت‪.27 :‬‬
‫‪69‬‬ ‫البحث الخامس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب إلهي‬

‫الص َال ِة‬ ‫ِ‬


‫اخل ْ َريات َوإِ َق َ‬
‫ام َّ‬
‫ِ‬ ‫َاه ْم َأئِ َّم ًة َ ُّْيدُ َ‬
‫ون بِ َأ ْم ِرنَا َو َأ ْو َح ْينَا إِ َل ْي ِه ْم ف ْع َل ْ َ‬ ‫اآلية الثالثة‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن ُ‬
‫ِ‬ ‫وإِيتَاء َّ ِ‬
‫أن اهلل ‪ ‬هو الذي جعل‬ ‫أيضا َّ‬ ‫ين﴾ (‪ ،)1‬وهذه اآلية الكريمة تبني ً‬ ‫الزكَاة َوكَانُوا َلنَا َعابِد َ‬ ‫َ َ‬
‫واختار من البرش أئمة ُّيدون بأمره‪.‬‬
‫َ‬

‫جعَل باجلعل الترشيعي‪ ،‬بل‬


‫ٌ‬ ‫إهلي‬
‫منصب ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ومن هنا تو ّلدت عقيدة الشيعة يف َّ‬
‫أن اإلمامة‬
‫قابال لالنتخاب واالختيار؛ إذ َّ‬
‫أن النكتة التي عىل أساسها‬ ‫أيضا‪ ،‬وليست منص ًبا ً‬
‫والتكويني ً‬
‫أيضا‪ ،‬ووحد ُة النكتة يف النبوة‬
‫إهلي‪ ،‬هي نفسها متوفرة يف اإلمامة ً‬
‫منصب ٌ‬
‫ٌ‬ ‫تقرر َّ‬
‫أن النبوة‬ ‫ّ‬
‫واإلمامة تقتيض أن تكون اإلمامة هي األخرى منص ًبا إهل ًيا‪.‬‬

‫إن النكتة يف كون النبوة منص ًبا إهل ًيا هي‪َّ :‬‬
‫أن اهلل ‪ ‬يف كتابه الكريم قد‬ ‫وبعبارة أخرى‪َّ :‬‬
‫أن نفس النكتة متوفرة‬ ‫نسب جعلها إليه يف غري موضع‪ ،‬وبام َّ‬ ‫أن النبوة من جعله حني َ‬ ‫نص عىل َّ‬
‫َاه ْم َأ ِئ َّم ًة َ ُّْيدُ َ‬
‫ون بِ َأ ْم ِرنَا َو َأ ْو َح ْينَا إِ َل ْي ِه ْم‬ ‫أيضا يف مسألة اإلمامة؛ لقول القرآن الكريم‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن ُ‬ ‫ً‬
‫ين﴾‪ ،‬ويف آية أخرى‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلنَا ِمن ُْه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ات وإِ َقام الص َال ِة وإِيتَاء َّ ِ‬
‫الزكَاة َوكَانُوا َلنَا َعابِد َ‬ ‫َ َ‬ ‫اخل ْ َري َ َ َّ‬
‫ِ‬
‫ف ْع َل ْ َ‬
‫ِ‬
‫ون بِ َأم ِرنَا ملََّا صربوا وكَانُوا بِآياتِنَا ي ِ‬ ‫ِ‬
‫أن القرآن الكريم عندما‬ ‫ُون﴾ (‪ ،)2‬فهذا يعني َّ‬ ‫وقن َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َُ َ‬ ‫َأئ َّم ًة َ ُّْيدُ َ ْ‬
‫حتدث عن اإلمامة جعلها عىل وزان النبوة يف اجلعل واالصطفاء‪ ،‬ومن خالل ما تقدم من آيات‬
‫ٌ‬
‫جمعولة من‬ ‫ٌ‬
‫جمعولة من قبل اهلل تعاىل‪ ،‬كذلك اإلمامة‬ ‫القرآن تبني أنه ال فرق بينهام‪ ،‬فكام َّ‬
‫أن النبوة‬
‫قبل اهلل تعاىل‪.‬‬

‫(‪ )1‬سورة األنبياء‪.73 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة السجدة‪.24 :‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪70‬‬

‫اجلهة الثانية‪ :‬اختالف املناصب باختالف االعتبارات‪.‬‬

‫لتغري االعتبارات‪ ،‬فامللك‬


‫فاملناصب الوضعية ‪ -‬من قبيل امللك والرئاسة ‪ -‬تتغري تب ًعا ّ‬
‫ً‬
‫مثال قد يكون لشخص يو ًما ولكنه ينزع منه يو ًما آخر‪ ،‬فاليوم هو رئيس الدولة‪ ،‬ولكن بمجرد‬
‫لتغري االعتبارات‪ ،‬مما يعني‬
‫وتتغري تب ًعا ّ‬
‫ّ‬ ‫أن ينقلب الشعب عليه ويرفض رئاسته تزول رئاسته‬
‫لتغري االعتبارات‪.‬‬ ‫َّ‬
‫أن املناصب الوضعية تتغري تب ًعا ّ‬

‫تغريت‬
‫وأما املناصب اإلهلية ‪ -‬من قبيل النبوة والرسالة واإلمامة ‪ -‬فإهنا ال تتغري وإن ّ‬
‫ٍ‬
‫طويل له عن اإلمامة‪ ،‬وسوف‬ ‫ٍ‬
‫حديث‬ ‫اعتبارات الناس‪ ،‬وعن ذلك حتدث اإلمام الرضا ‪ ‬يف‬
‫نبني حمل الشاهد منه‪ ،‬واحلديث هو ما رواه عنه عبد العزيز بن‬
‫ننقله بطوله لرشافته وأمهيته‪ ،‬ثم ّ‬
‫مسلم بقوله‪:‬‬

‫«كنا مع الرضا ‪ ‬بمرو‪ ،‬فاجتمعنا يف اجلامع يوم اجلمعة يف بدء مقدمنا‪ ،‬فأداروا أمر‬
‫اإلمامة‪ ،‬وذكروا كثرة اختالف الناس فيها‪ ،‬فدخلت عىل سيدي ‪ ‬فأعلمته خوض الناس‬
‫فيه‪ ،‬فتبسم ‪ ‬ثم قال‪ :‬يا عبد العزيز‪ ،‬جهل القوم وخدعوا عن آرائهم‪َّ ،‬‬
‫إن اهلل ‪ ‬مل يقبض‬
‫ني فيه احلالل واحلرام‪،‬‬ ‫نبيه ‪ ‬حتى أكمل له الدين‪ ،‬وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل يشء‪َ ،‬ب َّ َ‬
‫َاب ِم ْن‬ ‫كمال‪ ،‬فقال ‪َ ﴿ :‬ما َف َّر ْطنَا ِيف ا ْلكِت ِ‬ ‫واحلدود واألحكام‪ ،‬ومجيع ما حيتاج إليه الناس ً‬
‫يش ٍء﴾‪ ،‬وأنزل يف حجة الوداع وهي آخر عمره ‪﴿ :‬ا ْل َي ْو َم َأك َْم ْل ُت َلك ُْم ِدينَك ُْم َو َأ ْمت َ ْم ُت‬ ‫َ ْ‬
‫اإل ْس َال َم ِدينًا﴾‪ ،‬وأمر اإلمامة من متام الدين‪ ،‬ومل يمض ‪ ‬حتى‬ ‫َع َل ْيك ُْم نِ ْع َمتِي َو َر ِض ُ‬
‫يت َلك ُُم ْ ِ‬

‫ّبني ألمته معامل دينهم وأوضح هلم سبيلهم وتركهم عىل قصد سبيل احلق‪ ،‬وأقام هلم عل ًيا ‪‬‬
‫علام وإمام وما ترك [هلم] شي ًئا حيتاج إليه األمة إال ب ّينه‪ ،‬فمن زعم أن اهلل ‪ ‬مل يكمل دينه فقد‬
‫ً‬
‫ر ّد كتاب اهلل‪ ،‬ومن ر ّد كتاب اهلل فهو كافر به‪.‬‬
‫‪71‬‬ ‫البحث الخامس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب إلهي‬

‫قدرا‬ ‫هل يعرفون قدر اإلمامة وحملها من األمة فيجوز فيها اختيارهم؟! َّ‬
‫إن اإلمامة أجل ً‬
‫غورا من أن يبلغها الناس بعقوهلم‪ ،‬أو ينالوها‬
‫وأعظم شأنًا وأعال مكانًا وأمنع جان ًبا وأبعد ً‬
‫بآرائهم‪ ،‬أو يقيموا إما ًما باختيارهم‪.‬‬

‫خص اهلل ‪ ‬هبا إبراهيم اخلليل ‪ ‬بعد النبوة واخللة مرتبة ثالثة‪ ،‬وفضيلة‬ ‫إن اإلمامة ّ‬ ‫َّ‬
‫رسورا هبا‪:‬‬
‫ً‬ ‫َّاس إِ َما ًما﴾‪ ،‬فقال اخلليل ‪‬‬ ‫اع ُل َك لِلن ِ‬ ‫رشفه هبا وأشاد هبا ذكره‪ ،‬فقال‪﴿ :‬إِ ِّين ج ِ‬
‫َ‬
‫ني﴾‪ ،‬فأبطلت هذه اآلية إمامة‬ ‫﴿ َو ِم ْن ُذ ِّر َّيتِي﴾‪ ،‬قال اهلل تبارك وتعاىل‪َ ﴿ :‬ال َين َُال َع ْه ِدي ال َّظامل ِ َ‬
‫كل ظامل إىل يوم القيامة وصارت يف الصفوة‪ ،‬ثم أكرمه اهلل تعاىل بأن جعلها يف ذريته أهل الصفوة‬
‫َاه ْم َأئِ َّم ًة‬
‫ني * َو َج َع ْلن ُ‬
‫اق ويع ُقوب نَافِ َل ًة وك ًُّال جع ْلنَا ص ِ‬
‫احل َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫والطهارة فقال‪َ ﴿ :‬و َو َه ْبنَا َل ُه إِ ْس َح َ َ َ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ات وإِ َقام الص َال ِة وإِيتَاء َّ ِ‬ ‫ون بِ َأم ِرنَا و َأوحينَا إِ َلي ِهم فِع َل ْ ِ‬
‫ين﴾‪.‬‬‫الزكَاة َوكَانُوا َلنَا َعابِد َ‬ ‫َ َ‬ ‫اخلَ ْ َري َ َ َّ‬ ‫َ ُّْيدُ َ ْ َ ْ َ ْ ْ ْ ْ‬

‫فلم تزل يف ذريته يرثها بعض عن بعض قرنًا فقرنًا حتى ورثها اهلل تعاىل النبي ‪ ،‬فقال‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين آ َمنُوا َواهللَُّ َو ِ هيل‬‫ين ا َّت َب ُعو ُه َو َه َذا النَّبِ هي َوا َّلذ َ‬ ‫َّاس بِإِ ْب َراه َ‬
‫يم َل َّلذ َ‬ ‫جل وتعاىل‪﴿ :‬إِ َّن َأ ْو َىل الن ِ‬

‫ني﴾ فكانت له خاصة‪ ،‬فق ّلدها ‪ ‬عل ًيا ‪ ‬بأمر اهلل تعاىل عىل رسم ما فرض اهلل‪،‬‬ ‫املُْ ْؤ ِمن ِ َ‬
‫ين ُأوتُوا‬ ‫ِ‬
‫فصارت يف ذريته األصفياء الذين آتاهم اهلل العلم واإليامن‪ ،‬بقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ق َال ا َّلذ َ‬
‫اإل َيامن َل َقدْ َلبِ ْثت ُْم ِيف كِتَاب اهللَّ إِ َىل َي ْوم ا ْل َب ْعث َف َه َذا َي ْوم ا ْل َب ْعث﴾ فهي يف ولد عَل ‪‬‬ ‫ا ْل ِع ْلم َو ْ ِ‬

‫خاصة إىل يوم القيامة‪ ،‬إذ ال نبي بعد حممد ‪ ،‬فمن أين خيتار هؤالء اجلهال؟!‬

‫إن اإلمامة هي منزلة األنبياء‪ ،‬وإرث األوصياء‪َّ ،‬‬


‫إن اإلمامة خالفة اهلل وخالفة الرسول‬
‫‪ ‬ومقام أمري املؤمنني ‪ ‬ومرياث احلسن واحلسني ‪ ،‬إن اإلمامة زمام الدين‪ ،‬ونظام‬
‫املسلمني‪ ،‬وصالح الدنيا وعز املؤمنني‪ ،‬إن اإلمامة أس اإلسالم النامي‪ ،‬وفرعه السامي‪ ،‬باإلمام‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪72‬‬

‫متام الصالة والزكاة والصيام واحلج واجلهاد‪ ،‬وتوفري الفيء والصدقات‪ ،‬وإمضاء احلدود‬
‫واألحكام‪ ،‬ومنع الثغور واألطراف‪.‬‬

‫اإلمام حيل حالل اهلل‪ ،‬وحيرم حرام اهلل‪ ،‬ويقيم حدود اهلل‪ ،‬ويذب عن دين اهلل‪ ،‬ويدعو إىل‬
‫سبيل ربه باحلكمة‪ ،‬واملوعظة احلسنة‪ ،‬واحلجة البالغة‪ .‬اإلمام كالشمس الطالعة املجللة بنورها‬
‫للعامل وهي يف األفق بحيث ال تناهلا األيدي واألبصار‪.‬‬

‫اإلمام البدر املنري‪ ،‬والرساج الزاهر‪ ،‬والنور الساطع‪ ،‬والنجم اهلادي يف غياهب الدجى‬
‫وأجواز البلدان والقفار‪ ،‬وجلج البحار‪ ،‬اإلمام املاء العذب عىل الظامء والدال عىل اهلدى‪،‬‬
‫واملنجي من الردى‪ ،‬اإلمام النار عىل اليفاع‪ ،‬احلار ملن اصطىل به والدليل يف املهالك‪ ،‬من فارقه‬
‫فهالك‪ ،‬اإلمام السحاب املاطر‪ ،‬والغيث اهلاطل والشمس املضيئة‪ ،‬والسامء الظليلة‪ ،‬واألرض‬
‫البسيطة‪ ،‬والعني الغزيرة‪ ،‬والغدير والروضة‪.‬‬

‫اإلمام األنيس الرفيق‪ ،‬والوالد الشفيق‪ ،‬واألخ الشقيق‪ ،‬واألم الربة بالولد الصغري‪،‬‬
‫ومفزع العباد يف الداهية النآد‪ ،‬اإلمام أمني اهلل يف خلقه‪ ،‬وحجته عىل عباده وخليفته يف بالده‪،‬‬
‫والداعي إىل اهلل‪ ،‬والذاب عن حرم اهلل‪.‬‬

‫اإلمام املطهر من الذنوب واملربأ عن العيوب‪ ،‬املخصوص بالعلم‪ ،‬املرسوم باحللم‪ ،‬نظام‬
‫الدين‪ ،‬وعز املسلمني وغيظ املنافقني‪ ،‬وبوار الكافرين‪ .‬اإلمام واحد دهره‪ ،‬ال يدانيه أحد‪ ،‬وال‬
‫يعادله عامل‪ ،‬وال يوجد منه بدل وال له مثل وال نظري‪ ،‬خمصوص بالفضل كله من غري طلب منه‬
‫له وال اكتساب‪ ،‬بل اختصاص من املفضل الوهاب‪.‬‬

‫فمن ذا الذي يبلغ معرفة اإلمام‪ ،‬أو يمكنه اختياره‪ ،‬هيهات هيهات‪ ،‬ضلت العقول‪،‬‬
‫وتاهت احللوم‪ ،‬وحارت األلباب‪ ،‬وخسئت العيون وتصاغرت العظامء‪ ،‬وحتريت احلكامء‪،‬‬
‫‪73‬‬ ‫البحث الخامس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب إلهي‬

‫وتقارصت احللامء‪ ،‬وحْصت اخلطباء‪ ،‬وجهلت األلباء‪ ،‬وكلت الشعراء‪ ،‬وعجزت األدباء‪،‬‬
‫وعييت البلغاء‪ ،‬عن وصف شأن من شأنه‪ ،‬أو فضيلة من فضائله‪ ،‬وأقرت بالعجز والتقصري‪،‬‬
‫وكيف يوصف بكله‪ ،‬أو ينعت بكنهه‪ ،‬أو يفهم يشء من أمره‪ ،‬أو يوجد من يقوم مقامه ويغني‬
‫غناه‪ ،‬ال كيف وأنى؟ وهو بحيث النجم من يد املتناولني‪ ،‬ووصف الواصفني‪ ،‬فأين االختيار‬
‫من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟!‬

‫أتظنون أن ذلك يوجد يف غري آل الرسول حممد ‪ ،‬كذبتهم واهلل أنفسهم‪ ،‬ومنتهم‬
‫دحضا‪ ،‬تزل عنه إىل احلضيض أقدامهم‪ ،‬راموا إقامة اإلمام‬
‫ً‬ ‫األباطيل فارتقوا مرتقى صع ًبا‬
‫بعقول حائرة بائرة ناقصة‪ ،‬وآراء مضلة‪ ،‬فلم يزدادوا منه إال بعدً ا‪َ ﴿ ،‬قا َت َل ُه ُم اهللَُّ َأنَّى ُي ْؤ َفكُ َ‬
‫ون﴾‪،‬‬
‫ضالال بعيدً ا‪ ،‬ووقعوا يف احلرية‪ ،‬إذ تركوا اإلمام عن‬ ‫ً‬ ‫ولقد راموا صع ًبا‪ ،‬وقالوا إفكًا‪ ،‬وضلوا‬
‫ين﴾‪.‬‬
‫ْص َ‬‫يل َوكَانُوا ُم ْس َت ْب ِ ِ‬
‫السبِ ِ‬
‫ان َأ ْع َام َهل ُ ْم َف َصدَّ ُه ْم َع ِن َّ‬
‫الش ْي َط ُ‬
‫بصرية‪َ ﴿ ،‬و َز َّي َن َهل ُ ُم َّ‬

‫رغبوا عن اختيار اهلل واختيار رسول اهلل ‪ ‬وأهل بيته إىل اختيارهم‪ ،‬والقرآن ينادُّيم‪:‬‬
‫رشك َ‬ ‫اىل َع َّام ُي ْ ِ‬ ‫َان َهلم ْ ِ‬
‫اخل َ َري ُة ُس ْب َح َ‬
‫ُون﴾‪ ،‬وقال ‪:‬‬ ‫ان اهللَِّ َو َت َع َ ى‬ ‫خيت َُار َما ك َ ُ ُ‬
‫خي ُل ُق َما َي َشا ُء َو َ ْ‬
‫﴿ َو َر هب َك َ ْ‬
‫اخل َ َري ُة ِم ْن َأ ْم ِر ِه ْم﴾‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ُون َهلم ْ ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫﴿وما ك َ ِ ِ‬
‫َان ُمل ْؤم ٍن َو َال ُم ْؤمنَة إِ َذا َق َىض اهللَُّ َو َر ُسو ُل ُه َأ ْم ًرا َأن َيك َ ُ ُ‬ ‫َ َ‬
‫ون * َأ ْم َلك ُْم َأ ْي َام ٌن‬ ‫ِ ِ‬ ‫َاب فِ ِيه تَدْ ُر ُس َ ِ‬ ‫ِ‬
‫َري َ‬ ‫ون * إ َّن َلك ُْم فيه ملَا َخت َّ ُ‬ ‫ون * َأ ْم َلك ُْم كت ٌ‬ ‫ف َ ْحتك ُُم َ‬ ‫﴿ َما َلك ُْم َك ْي َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َع َل ْينَا َبالِغ ٌَة إِ َ ىىل َي ْو ِم ا ْل ِق َيا َم ِة إِ َّن َلك ُْم ملَا َ ْحتك ُُم َ‬
‫رشكَا ُء َف ْل َي ْأتُوا‬‫يم * َأ ْم َهل ُ ْم ُ َ‬ ‫ون * َس ْل ُه ْم َأ ه ُُّيم بِ َىذل َك َزع ٌ‬
‫ني﴾‪.‬‬ ‫اد ِق َ‬
‫بِ ُرشكَائِ ِهم إِن كَانُوا ص ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬

‫اهلَا﴾ أم طبع اهلل عىل قلوهبم فهم ال‬ ‫وب َأ ْق َف ُ‬ ‫آن َأ ْم َع َىل ُق ُل ٍ‬ ‫وقال ‪َ ﴿ :‬أ َفال َيتَدَ َّب ُر َ‬
‫ون ا ْل ُق ْر َ‬
‫ين َال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يفقهون؟ أم ﴿ َقا ُلوا َس ِم ْعنَا َو ُه ْم َال َي ْس َم ُع َ ِ‬
‫الص هم ا ْل ُبك ُْم ا َّلذ َ‬
‫اب عندَ اهللَِّ ه‬
‫رش الدَّ َو ِّ‬ ‫ون * إ َّن َ َّ‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪74‬‬

‫ون * َو َل ْو َعلِ َم اهللَُّ فِ ِيه ْم َخ ْ ًريا َّألَ ْس َم َع ُه ْم َو َل ْو َأ ْس َم َع ُه ْم َلت ََو َّلوا َّو ُهم هم ْع ِر ُض َ‬
‫ون﴾ أم ﴿ َقا ُلوا‬ ‫َي ْع ِق ُل َ‬
‫َس ِم ْعنَا َو َع َص ْينَا﴾ بل هو ﴿ َف ْض ُل اهللَِّ ُي ْؤتِ ِيه َمن َي َشا ُء َواهللَُّ ُذو ا ْل َف ْض ِل ا ْل َعظِي ِم﴾‪.‬‬

‫فكيف هلم باختيار اإلمام؟! واإلمام عامل ال جيهل‪ ،‬وراع ال ينكل‪ ،‬معدن القدس‬
‫والطهارة‪ ،‬والنسك والزهادة‪ ،‬والعلم والعبادة‪ ،‬خمصوص بدعوة الرسول ‪ ‬ونسل املطهرة‬
‫البتول‪ ،‬ال مغمز فيه يف نسب‪ ،‬وال يدانيه ذو حسب‪ ،‬يف البيت من قريش والذروة من هاشم‪،‬‬
‫والعرتة من الرسول ‪ ،‬والرضا من اهلل ‪ ،‬رشف األرشاف‪ ،‬والفرع من عبد مناف‪ ،‬نامي‬
‫العلم‪ ،‬كامل احللم‪ ،‬مضطلع باإلمامة‪ ،‬عامل بالسياسة‪ ،‬مفروض الطاعة‪ ،‬قائم بأمر اهلل ‪،‬‬
‫ناصح لعباد اهلل‪ ،‬حافظ لدين اهلل‪.‬‬

‫إن األنبياء واألئمة صلوات اهلل عليهم يوفقهم اهلل ويؤتيهم من خمزون علمه وحكمه ما‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫ال يؤتيه غريهم‪ ،‬فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان‪ ،‬يف قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬أ َف َمن َ ُّْيدي إِ َىل ْ َ‬
‫احل ِّق‬
‫ون﴾‪ ،‬وقوله تبارك وتعاىل‪َ ﴿ :‬و َم ْن‬ ‫َأ َح هق َأن ُي َّت َب َع َأ َّمن َّال َُّيِدِّ ي إِ َّال َأن ُ ُّْيدَ ىى َف َام َلك ُْم َك ْي َ‬
‫ف َ ْحتك ُُم َ‬
‫ِ‬ ‫ي ْؤ َت ِْ‬
‫ويت َخ ْ ًريا كَث ًريا﴾‪ ،‬وقوله يف طالوت‪﴿ :‬إِ َّن اهللََّ ْ‬
‫اص َط َفا ُه َع َل ْيك ُْم َو َزا َد ُه َب ْس َط ًة‬ ‫احلك َْم َة َف َقدْ ُأ ِ َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِيف ا ْل ِع ْل ِم َو ِْ‬
‫يم﴾‪ ،‬وقال لنبيه ‪َ ﴿ :‬و َأ َنز َل اهللَُّ‬ ‫اجل ْس ِم َواهللَُّ ُي ْؤ ِيت ُم ْل َك ُه َمن َي َشا ُء َواهللَُّ َواس ٌع َعل ٌ‬
‫َان َف ْض ُل اهللَِّ َع َل ْي َك َعظِ ًيام﴾‪ ،‬وقال يف األئمة‬ ‫َع َلي َك ا ْلكِتَاب و ِْ‬
‫احلك َْم َة َو َع َّل َم َك َما َمل ْ َتكُن َت ْع َل ُم َوك َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬
‫َاه ُم اهللَُّ ِمن‬‫َّاس َع َ ىىل َما آت ُ‬ ‫من أهل بيت نبيه وعرتته وذريته صلوات اهلل عليهم‪َ ﴿ :‬أ ْم َ ْ‬
‫حي ُسدُ َ‬
‫ون الن َ‬
‫َاهم هم ْلكًا َعظِ ًيام * َف ِمن ُْهم َّم ْن آ َم َن بِ ِه َو ِمن ُْهم‬ ‫اهيم ا ْلكِتَاب و ِْ‬
‫احلك َْم َة َوآ َت ْين ُ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َف ْضله َف َقدْ آ َت ْينَا َآل إِ ْب َر َ‬
‫َّمن َصدَّ َعنْ ُه َو َك َف ىى بِ َج َهن ََّم َس ِع ًريا﴾‪.‬‬

‫َّ‬
‫وإن العبد إذا اختاره اهلل ‪ ‬ألمور عباده‪ ،‬رشح صدره لذلك‪ ،‬وأودع قلبه ينابيع احلكمة‪،‬‬
‫يعي بعده بجواب‪ ،‬وال حيري فيه عن الصواب‪ ،‬فهو معصوم مؤيد‪،‬‬
‫وأهلمه العلم إهلا ًما‪ ،‬فلم َ‬
‫‪75‬‬ ‫البحث الخامس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب إلهي‬

‫موفق مسدد‪ ،‬قد أمن من اخلطايا والزلل والعثار‪ ،‬خيصه اهلل بذلك ليكون حجته عىل عباده‪،‬‬
‫وشاهده عىل خلقه‪ ،‬وذلك فضل اهلل يؤتيه من يشاء واهلل ذو الفضل العظيم‪.‬‬

‫فهل يقدرون عىل مثل هذا فيختارونه؟! أو يكون خمتارهم هبذه الصفة فيقدمونه؟! تعدوا‬
‫‪ -‬وبيت اهلل ‪ -‬احلق ونبذوا كتاب اهلل وراء ظهورهم كأهنم ال يعلمون‪ ،‬ويف كتاب اهلل اهلدى‬
‫والشفاء‪ ،‬فنبذوه واتبعوا أهواءهم‪ ،‬فذمهم اهلل ومقتهم وأتعسهم‪ ،‬فقال جل وتعاىل‪َ ﴿ :‬و َم ْن‬
‫ني﴾‪ ،‬وقال‪َ ﴿ :‬ف َت ْع ًسا َهل ُ ْم‬ ‫َري ُهدً ى ِّم َن اهللَِّ إِ َّن اهللََّ َال َ ُّْي ِدي ا ْل َق ْو َم ال َّظامل ِ َ‬
‫َأ َض هل ِمم َّ ِن ا َّت َب َع َه َوا ُه بِغ ْ ِ‬

‫ب‬ ‫ين آ َمنُوا ك ََذلِ َك َي ْط َب ُع اهللَُّ َع َىل ك ُِّل َق ْل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َرب َم ْقتًا عنْدَ اهللَِّ َوعنْدَ ا َّلذ َ‬ ‫َو َأ َض َّل َأ ْع َام َهل ُ ْم﴾‪ ،‬وقال‪﴿ :‬ك ُ َ‬
‫كثريا» (‪.)1‬‬ ‫َرب َج َّب ٍ‬
‫ُم َتك ِّ ٍ‬
‫تسليام ً‬
‫ً‬ ‫ار﴾‪ ،‬وصىل اهلل عىل النبي حممد وآله وسلم‬

‫ّ‬
‫وحمل الشاهد من احلديث ثالث فقرات‪:‬‬

‫الفقرة األوىل‪« :‬هل يعرفون قدر اإلمامة وحملها من األمة فيجوز فيها اختيارهم؟! َّ‬
‫إن‬
‫غورا‪ ،‬من أن يبلغها الناس‬
‫قدرا‪ ،‬وأعظم شأنًا‪ ،‬وأعال مكانًا‪ ،‬وأمنع جان ًبا‪ ،‬وأبعد ً‬
‫اإلمامة أجل ً‬
‫بعقوهلم‪ ،‬أو ينالوها بآرائهم‪ ،‬أو يقيموا إما ًما باختيارهم»‪.‬‬

‫الفقرة الثانية‪« :‬فمن ذا الذي يبلغ معرفة اإلمام‪ ،‬أو يمكنه اختياره‪ ،‬هيهات هيهات‪،‬‬
‫ضلت العقول‪ ،‬وتاهت احللوم‪ ،‬وحارت األلباب‪ ،‬وخسئت العيون وتصاغرت العظامء‪،‬‬
‫وحتريت احلكامء‪ ،‬وتقارصت احللامء‪ ،‬وحْصت اخلطباء‪ ،‬وجهلت األلباء‪ ،‬وكلت الشعراء‪،‬‬
‫وعجزت األدباء‪ ،‬وعييت البلغاء‪ ،‬عن وصف شأن من شأنه‪ ،‬أو فضيلة من فضائله‪ ،‬وأقرت‬
‫بالعجز والتقصري‪ ،‬وكيف يوصف بكله‪ ،‬أو ينعت بكنهه‪ ،‬أو يفهم يشء من أمره‪ ،‬أو يوجد من‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪ - 198‬ص‪.203‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪76‬‬

‫يقوم مقامه ويغني غناه‪ ،‬ال كيف وأنى؟ وهو بحيث النجم من يد املتناولني‪ ،‬ووصف‬
‫الواصفني‪ ،‬فأين االختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟!»‪.‬‬

‫الفقرة الثالثة‪« :‬رغبوا عن اختيار اهلل واختيار رسول اهلل ‪ ‬وأهل بيته إىل اختيارهم‪،‬‬
‫َان َهلم ْ ِ‬
‫اخل َ َري ُة ُس ْب َح َ‬
‫اىل َع َّام‬ ‫ان اهللَِّ َو َت َع َ ى‬ ‫خيت َُار َما ك َ ُ ُ‬ ‫خي ُل ُق َما َي َشا ُء َو َ ْ‬
‫والقرآن ينادُّيم‪َ ﴿ :‬و َر هب َك َ ْ‬
‫ون َهلم ْ ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ُون﴾‪ ،‬وقال ‪﴿ :‬وما ك َ ِ ِ‬
‫اخل َ َري ُة‬ ‫َان ُمل ْؤم ٍن َو َال ُم ْؤمنَة إِ َذا َق َىض اهللَُّ َو َر ُسو ُل ُه َأ ْم ًرا َأن َي ُك َ ُ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫رشك َ‬ ‫ُي ْ ِ‬

‫ون * إِ َّن َلك ُْم فِ ِيه ملَا‬ ‫َاب فِ ِيه تَدْ ُر ُس َ‬ ‫ِ‬
‫ون * َأ ْم َلك ُْم كت ٌ‬ ‫ف َ ْحتك ُُم َ‬ ‫ِم ْن َأ ْم ِر ِه ْم﴾‪ ،‬وقال‪َ ﴿ :‬ما َلك ُْم َك ْي َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون * َأ ْم َلك ُْم َأ ْي َام ٌن َع َل ْينَا َبالِغ ٌَة إِ َ ىىل َي ْو ِم ا ْل ِق َيا َم ِة إِ َّن َلك ُْم ملَا َ ْحتك ُُم َ‬
‫ون * َس ْل ُه ْم َأ ه ُُّيم بِ َىذل َك َزع ٌ‬
‫يم‬ ‫َخت َّ ُ‬
‫َري َ‬

‫ني﴾»‪.‬‬ ‫اد ِق َ‬‫* َأم َهلم ُرشكَاء َف ْلي ْأتُوا بِ ُرشكَائِ ِهم إِن كَانُوا ص ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُْ َ ُ َ‬

‫منصب إهلي‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫فاملستفاد من احلديث الرشيف – عرب الفقرات الثالث ‪َّ -‬‬
‫أن منصب اإلمامة‬
‫يغريوا منها شي ًئا‪ ،‬ولذلك ملَّا غُ ِص َبت اخلالفة من‬
‫ال يتم إال باختيار اهلل ‪ ،‬والناس ال يمكن أن ّ‬
‫وأيضا ملَّا صالح اإلمام‬
‫أمري املؤمنني ‪ ،‬وبايع الناس سواه‪ ،‬مل تسقط إمامة أمري املؤمنني ‪ً ،‬‬
‫احلسن ‪ ‬معاوية مل يكن معاوية إما ًما ومل تسلب اإلمامة من اإلمام احلسن ‪ ،‬وهذا هو‬
‫بتغري االعتبارات‪ ،‬بل هي ٌ‬
‫ثابتة ما دام جعل اهلل ثابتًا هلا‪.‬‬ ‫معنى َّ‬
‫أن املناصب اإلهلية ال تتغري ّ‬
‫‪77‬‬ ‫البحث الخامس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب إلهي‬

‫‪ /2‬املبحث الصغروي‪ :‬إهلية منصب اإلمامة‪.‬‬

‫اعرتاضا عا ًما للقوم عىل كون اإلمامة منص ًبا إهل ًيا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ويف هذه اجلهة من البحث سنورد‬
‫واستدالهلم عىل ذلك بجملة من اآليات الرشيفة‪ ،‬ثم نورد ما عندنا من مالحظات‪ ،‬ومن‬
‫خالهلا يتبني الدليل عىل كون اإلمامة منص ًبا إهل ًيا ال دخل للبرش يف جعله‪.‬‬

‫تدل عىل ما يدّ عيه الشيعة من َّ‬


‫أن اإلمامة‬ ‫أن آيات القرآن الكريم ال ّ‬
‫وحاصل اعرتاضهم‪َّ :‬‬
‫منصب جعَل راجع إىل اهلل ‪ ،‬لوجود آيات قرآنية تنقض هذا املدّ عى وتدل عىل خالفه‪،‬‬
‫واستدلوا عىل ذلك بثالث آيات‪:‬‬

‫اخلن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫َاز َير َو َع َبدَ الطَّاغُ َ‬
‫وت﴾(‪ ،)1‬وتقريب مدعاهم‪:‬‬ ‫أ‪ -‬اآلية األوىل‪َ ﴿ :‬و َج َع َل من ُْه ُم ا ْلق َر َد َة َو ْ َ‬
‫أيضا َّ‬
‫بأن‬ ‫إن القول َّ‬
‫بأن اإلمامة منصب إهلي يلزم منه ‪-‬بمقتىض هذه اآلية الرشيفة‪ -‬أن ُيلتزم ً‬ ‫َّ‬
‫عبادة الطاغوت منصب إهلي؛ إذ أن اهلل ‪ ‬قد نسب جعل عبادة الطاغوت إليه‪ ،‬وبام َّ‬
‫أن هذا‬
‫الالزم باطل فامللزوم مثله يف البطالن‪ ،‬وعىل ذلك فال يمكن االلتزام َّ‬
‫بأن اإلمامة منصب جمعول‬
‫من قبل اهلل ‪ ،‬إذ يلزم من ذلك حمذور ال يقبله مسلم‪.‬‬

‫ض إِ ِّين ح ِف ٌ ِ‬
‫اج َع ْلنِي َع َىل َخ َزائِ ِن ْاألَ ْر ِ‬
‫يم﴾ (‪ ،)2‬وتقريب‬
‫يظ َعل ٌ‬ ‫َ‬ ‫ب‪ -‬اآلية الثانية‪َ ﴿ :‬ق َال ْ‬
‫مدعاهم‪ :‬إن نبي اهلل يوسف ‪ ‬قد طلب من امللك أن جيعله عىل خزائن األرض وأن يكون‬
‫صح له أن يطلبه من امللك‪ ،‬بل كان عليه أن يطلبه من‬
‫وزيرا‪ ،‬ولو كانت الوزارة منص ًبا إهل ًيا ملا َّ‬
‫ً‬

‫(‪ )1‬سورة املائدة‪.60 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة يوسف‪.55 :‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪78‬‬

‫اهلل ‪‬؛ إذ هو اجلاعل ال غري‪ ،‬وعليه فطلبه من ملك زمانه دليل عىل أهنا ليست منص ًبا إهل ًيا‪،‬‬
‫وإنام هي منصب وضعي برشي خيتاره امللك أو الناس أو يتم عن طريق عملية االنتخاب‬
‫والشورى‪ ،‬فد ّلت هذه اآلية عىل بطالن معتقد الشيعة ً‬
‫أيضا‪.‬‬

‫َّار﴾ (‪ ،)1‬وهي أقوى اآليات التي‬ ‫َاه ْم َأئِ َّم ًة َيدْ ُع َ‬


‫ون إِ َىل الن ِ‬ ‫ج‪ -‬اآلية الثالثة‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن ُ‬
‫َاه ْم َأئِ َّم ًة َ ُّْيدُ َ‬
‫ون بِ َأ ْم ِرنَا﴾‪،‬‬ ‫إن القرآن الكريم كام قال‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن ُ‬ ‫يتمسكون هبا‪ ،‬وتقريب مدعاهم‪َّ :‬‬
‫دل التعبري األول يف اآلية‬ ‫َّار﴾‪ ،‬فلو ّ‬ ‫َاه ْم َأئِ َّم ًة َيدْ ُع َ‬
‫ون إِ َىل الن ِ‬ ‫كذلك قال يف موضع آخر‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن ُ‬
‫أيضا عىل َّ‬
‫أن إمامة أهل‬ ‫املذكورة عىل َّ‬
‫أن اإلمامة منصب إهلي فهذا يستلزم داللة التعبري الثاين ً‬
‫النار وأئمة الضالل من جعل اهلل ‪ ،‬وهذا الالزم باطل ال يمكن للشيعة أن يلتزموا به؛ فيبطل‬
‫بأن التعبري األول دال عىل َّ‬
‫أن اإلمامة جمعولة من قبل اهلل ‪.‬‬ ‫قوهلم َّ‬

‫وأنت ترى أن الشبهات الثالث تنصب يف جهة واحدة‪ ،‬وهي النقض عىل ما يذهب إليه‬
‫اإلمامية من كون اإلمامة منص ًبا إهل ًيا‪ ،‬متسكًا منهم بنسبة اهلل جعل اإلمامة إىل نفسه‪.‬‬

‫ولنا عىل هذه الدعوى جوابان‪:‬‬

‫اجلواب األول‪ :‬اجلواب اإلمجايل‪.‬‬

‫وحاصله‪َّ :‬‬
‫أن اآليات الثالث بتاممها ال تدل عىل ما يدعيه القوم‪ ،‬وعقيدة اإلمامة عند‬
‫الشيعة حمفوظة غري منقوضة‪ ،‬وتوضيح ذلك من خالل مطلبني‪:‬‬

‫املطلب األول‪ :‬بيان مفهوم اجلعل يف القرآن الكريم‪.‬‬


‫وإيضاحه من خالل مقدمات إذا ُض ِّمت إىل بعضها َ‬
‫بان املقصود‪:‬‬

‫(‪ )1‬سورة القصص‪.41 :‬‬


‫‪79‬‬ ‫البحث الخامس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب إلهي‬

‫أ‪ /‬املقدمة األوىل‪ :‬استخدام القرآن ملفردة اجلعل‪ ،‬حيث يمكن استفادة أمرين من خالل‬
‫النظر يف آيات القرآن التي حتدثت عن جعل اإلمامة‪:‬‬

‫األمر األول‪ :‬مالزمة اجلعل اإلهلي لإلمامة يف آيات الذكر احلكيم‪.‬‬

‫أن القرآن الكريم قد استخدم يف مجيعها مفردة اجلعل‪،‬‬ ‫فعندما نأيت إىل آيات اإلمامة نجد َّ‬
‫اهيم ربه بِكَلِام ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت َف َأ َمت َّ ُه َّن َق َال‬ ‫كاآلية التي حتدثت عن إمامة نبي اهلل إبراهيم ‪َ ﴿ :‬وإِذ ا ْبت ََىل إِ ْب َر َ َ ه ُ َ‬
‫أن من‬ ‫ني﴾ (‪ ،)1‬وذلك يعني َّ‬ ‫َّاس إِ َما ًما َق َال َو ِم ْن ُذ ِّر َّيتِي َق َال َال َين َُال َع ْه ِدي ال َّظامل ِ َ‬
‫اع ُل َك لِلن ِ‬
‫إِ ِّين ج ِ‬
‫َ‬
‫ينصب اإلمام للناس هو اهلل ‪ ‬ال غري؛ إذ املالحظ َّ‬
‫أن كل آية تعرضت لإلمامة قد نسبت اجلعل‬
‫هلل ‪.‬‬

‫األمر الثاين‪ :‬معاين اجلعل يف آيات القرآن الكريم‪.‬‬

‫وبيانه‪َّ :‬‬
‫أن معنى اجلعل يف املعاجم اللغوية املعتربة هو اإلحداث والتصيري‪ ،‬فقد جاء يف‬
‫لسان العرب البن منظور‪« :‬ويقال‪ :‬جعلته أحذق الناس بعمله أي صريته‪ .‬وقوله تعاىل‪:‬‬
‫وجعلنا من املاء كل يشء حي‪ ،‬أي خلقنا‪ .‬وإذا قال املخلوق جعلت هذا الباب من شجرة كذا‬
‫فمعناه صنعته‪ .‬وقوله ‪ :‬فجعلهم كعصف مأكول؛ أي صريهم» (‪.)2‬‬

‫وكذلك يف هتذيب اللغة لألزهري‪« :‬جعل‪ :‬أبو العباس عن ابن األعرايب قال‪ :‬جعل‪:‬‬
‫صري‪ .‬وجعل‪ :‬أقبل‪ .‬وجعل‪ :‬خلق‪ .‬وجعل‪ :‬قال‪ ،‬ومنه قوله‪﴿ :‬إِنَّا َج َع ْلنَا ُه ُق ْرآنًا َع َربِ ًّيا﴾ أي‬
‫قلناه‪ .‬وقال غريه‪ :‬صريناه‪ .‬ويقال جعل فالن يصنع كذا وكذا‪ ،‬كقولك طفق وعلق يفعل كذا‬
‫وكذا‪ .‬ويقال جعلته أحذق الناس بعمله‪ ،‬أي صريته‪ .‬وقول اهلل ‪ِ ﴿ :‬س ِّج ٍ‬
‫يل * َف َج َع َل ُه ْم‬

‫(‪ )1‬سورة البقرة‪.124 :‬‬


‫(‪ )2‬لسان العرب‪ :‬ج‪ ،11‬ص‪.111‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪80‬‬

‫اء ك َُّل َيش ٍء َح ٍّي﴾؛ أي خلقنا‪ .‬وإذا‬


‫ُول﴾ معناه صريهم‪ .‬وقال ‪﴿ :‬وجع ْلنَا ِمن املَْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ف م ْأك ٍ‬‫ٍ‬
‫َك َع ْص َّ‬
‫قال املخلوق جعلت هذا الباب من شجرة كذا‪ ،‬فمعناه صريته» (‪.)1‬‬

‫ويستخلص مما تقدم من كالمهام هذا‪َّ :‬‬


‫أن اجلعل معناه اإلحداث والتصيري‪ ،‬وهذا‬
‫اإلحداث والتصيري عىل نحوين‪:‬‬

‫• النحو األول‪ :‬اجلعل يف عامل التكوين‪.‬‬


‫• النحو الثاين‪ :‬اجلعل يف عامل الترشيع‪.‬‬

‫يش ٍء َح ٍّي﴾ (‪ ،)2‬ومفاد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫أما ما يف عامل التكوين فهو نظري قول اهلل ‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلنَا م َن املَْاء ك َُّل َ ْ‬
‫وصري من املاء كل موجود ذي حياة‪ ،‬وقال ‪ ‬يف آية أخرى‪:‬‬
‫ّ‬ ‫اآلية املباركة أن اهلل ‪ ‬قد أحدث‬
‫ين َح ِص ًريا﴾ (‪ ،)3‬ومن الواضح أن جعل جهنم‬ ‫ِ ِ‬
‫حصريا للكافرين ليس‬
‫ً‬ ‫﴿ َو َج َع ْلنَا َج َهن ََّم ل ْلكَاف ِر َ‬
‫ً‬
‫جعال ترشيع ًيا‪ ،‬وإنام هو جعل تكويني عىل األقرب‪.‬‬

‫وتارة أخرى يكون اإلحداث والتصيري يف عامل الترشيع والقوانني واللوائح الدستورية‪،‬‬
‫ين ِم ْن َح َر ٍج﴾ (‪ ،)4‬بمعنى َّ‬
‫أن اهلل ينفي جعل احلرج‬ ‫كام يف قول اهلل ‪َ ﴿:‬و َما َج َع َل َع َل ْيك ُْم ِيف الدِّ ِ‬

‫ضمن قوانينه ولوائحه الترشيعية‪ ،‬فال يوجد ترشيع من ترشيعاته ‪ ‬يوجب احلرج عىل‬
‫املكلفني‪ ،‬وكام ترى فإن هذا اإلحداث والتصيري الذي نفاه اهلل تعاىل يرجع إىل عامل الترشيع‪،‬‬
‫يعرب عنه باجلعل الترشيعي‪.‬‬
‫وهو ما ّ‬

‫(‪ )1‬هتذيب اللغة ج‪ 1‬ص‪.240‬‬


‫(‪ )2‬سورة األنبياء‪.30 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة اإلرساء‪.8 :‬‬
‫(‪ )4‬سورة احلج‪.78 :‬‬
‫‪81‬‬ ‫البحث الخامس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب إلهي‬

‫منصب من املناصب‪ ،‬ومل يعارض يف‬


‫ٌ‬ ‫ب‪ /‬املقدمة الثانية‪َّ :‬‬
‫إن اإلمامة – باتفاق املسلمني –‬
‫ذلك معارض‪ ،‬إال َّ‬
‫أن النزاع بني املسلمني يف كوهنا منص ًبا إهل ًيا أم وضع ًيا‪ ،‬وأما أصل منصبية‬
‫اإلمامة فهو مما جرى عليه اتفاق مجيع املسلمني؛ ولذلك يقول املحقق اإلجيي ‪ -‬وهو من علامء‬
‫العامة ‪ -‬يف كتابه (املواقف) عندما يتطرق لتعريف اإلمامة‪« :‬املقصد األول يف وجوب نصب‬
‫ُقض‬ ‫اإلمام‪ ،‬وال بدَّ من تعريفها ً‬
‫أوال‪ ،‬قال قوم اإلمامة‪ :‬رياسة عامة يف أمور الدين والدنيا‪ ،‬ون َ‬
‫بالنبوة‪ ،‬واألَوىل أن يقال‪ :‬هي خالفة الرسول يف إقامة الدين‪ ،‬بحيث جيب اتباعه عىل كافة‬
‫األمة» (‪.)1‬‬

‫وعىل كال التعريفني اللذين نقلهام اإلجيي – أي‪ :‬الرئاسة العامة‪ ،‬وخالفة الرسول ‪- ‬‬
‫تكون اإلمامة منص ًبا من املناصب‪ ،‬فال شك يف كون اخلالفة والرياسة منص ًبا من املناصب املهمة‬
‫بعد منصب النبوة والرسالة‪ ،‬وعليه فاخلالف بني املسلمني إنام هو يف تصنيف املنصب ضمن‬
‫املناصب اإلهلية الترشيعية أو املناصب البرشية الوضعية‪ ،‬وإال َّ‬
‫فإن أصل كوهنا منص ًبا مما مل‬
‫خيتلف فيه اثنان‪.‬‬

‫ج‪ /‬املقدمة الثالثة‪َّ :‬‬


‫إن إسناد فعل من األفعال إىل فاعل معني يدل عىل صدور ذلك الفعل‬
‫كتبت‪ ،‬فإن العبارة‬
‫كتب الطالب أو ُ‬ ‫منه‪ ،‬وهو من البدُّييات يف اللغة العربية‪ً ،‬‬
‫فمثال حني يقال‪َ :‬‬
‫األوىل تدل عىل صدور الكتابة من الطالب ال غري‪ ،‬والعبارة التي ُأسند فيها الفعل إىل ضمري‬
‫املتكلم تدل عىل صدور الفعل منه‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫ظهور يف صدور ذلك الفعل منه‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫فاعل َّما له‬ ‫واحلاصل‪َّ :‬‬
‫أن إسناد أي فعل إىل‬

‫(‪ )1‬املواقف لإلجيي‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.574‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪82‬‬

‫نتيجة املقدمات الثالث‪:‬‬

‫نضمها إىل بعضها البعض‪ ،‬ونطبقها عىل ما سبق من آيات‬


‫وبعد بيان املقدمات الثالث ّ‬
‫الذكر احلكيم التي حتدثت عن اإلمامة واخلالفة‪ ،‬كقوله تعاىل‪:‬‬

‫ون بِ َأم ِرنَا ملََّا صربوا وكَانُوا بِآياتِنَا ي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ُون﴾ (‪.)1‬‬ ‫وقن َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َُ َ‬ ‫• ﴿ َو َج َع ْلنَا من ُْه ْم َأئ َّم ًة َ ُّْيدُ َ ْ‬
‫الص َال ِة‬
‫ام َّ‬
‫ِ‬ ‫ون بِ َأ ْم ِرنَا َو َأ ْو َح ْينَا إِ َل ْي ِه ْم فِ ْع َل ْ‬
‫اخلَ ْ َريات َوإِ َق َ‬ ‫َاه ْم َأئِ َّم ًة َ ُّْيدُ َ‬
‫• ﴿ َو َج َع ْلن ُ‬
‫ِ‬ ‫وإِيتَاء َّ ِ‬
‫ين﴾ (‪.)2‬‬ ‫الزكَاة َوكَانُوا َلنَا َعابِد َ‬ ‫َ َ‬
‫َّاس إِ َما ًما َق َال َو ِم ْن‬
‫اع ُل َك لِلن ِ‬
‫ت َف َأ َمتهن َق َال إِ ِّين ج ِ‬
‫َ‬ ‫َّ ُ َّ‬
‫اهيم ربه بِكَلِام ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫• ﴿ َوإِذ ا ْبت ََىل إِ ْب َر َ َ ه ُ َ‬
‫ني﴾ (‪.)3‬‬ ‫ُذ ِّر َّيتِي َق َال َال َين َُال َع ْه ِدي ال َّظامل ِ َ‬
‫ض َخلِي َف ًة﴾ (‪.)4‬‬
‫اع ٌل ِيف ْاألَ ْر ِ‬ ‫• ﴿وإِ ْذ َق َال رب َك ل ِ ْلم َالئِك َِة إِ ِّين ج ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َه‬ ‫َ‬

‫فنجد أن مجيع هذه اآليات الرشيفة تشرتك يف استخدامها لكلمة (اجلعل) يف اإلمامة‬
‫مر بنا يف املقدمات الثالث اتفاق املسلمني عىل َّ‬
‫أن اإلمامة منصب من املناصب‪،‬‬ ‫واخلالفة‪ ،‬ولقد َّ‬
‫أن معنى اجلعل يف اللغة هو اإلحداث والتصيري‪َّ ،‬‬
‫وأن إسناد الفعل إىل الفاعل يدل‬ ‫مر علينا َّ‬
‫كام َّ‬
‫نسب‬ ‫عىل صدوره منه‪ ،‬ومقتىض ذلك أن يلتزم‪َّ :‬‬
‫بأن القرآن الكريم يف اآليات املذكورة بعد أن َ‬
‫جعل اإلمامة إىل اهلل تعاىل يعني كونه هو اجلاعل واملحدث‪ ،‬بمقتىض ما تقدم من َّ‬
‫أن إسناد الفعل‬
‫ثبت َّ‬
‫أن منصب اإلمامة جمعول باجلعل اإلهلي‪،‬‬ ‫إىل الفاعل دليل عىل صدور الفعل منه‪ ،‬وبذلك َ‬
‫وليس للناس اختيار فيه‪ ،‬وهذا يعني كونه من املناصب اإلهلية ال الوضعية‪.‬‬

‫(‪ )1‬سورة السجدة‪.24 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة األنبياء‪.73 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة البقرة‪.124 :‬‬
‫(‪ )4‬سورة البقرة‪.30 :‬‬
‫‪83‬‬ ‫البحث الخامس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب إلهي‬

‫وبعبارة أخرى‪َّ :‬‬


‫إن اآليات املذكورة قد حتدثت عن منصب من املناصب باتفاق املسلمني‬
‫مجي ًعا‪ ،‬وهو منصب اإلمامة‪ ،‬وقد نسبت جعله ‪ -‬بمعنى اإلحداث والتصيري ‪ -‬إىل اهلل ‪ ،‬وهذا‬
‫وصريه هو اهلل ‪ ‬ال غري‪ ،‬بمقتىض َّ‬
‫أن إسناد كل فعل إىل‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫أحدث هذا املنصب‬ ‫يعني َّ‬
‫أن الذي‬
‫منصب من‬
‫ٌ‬ ‫أن هذا الفعل – وهو جعل اإلمامة‪ ،‬التي هي‬ ‫ٍ‬
‫فاعل يدل عىل صدوره منه‪ ،‬وبام َّ‬
‫املناصب – قد ُأسندَ إىل اهلل تعاىل فإنّه ّ‬
‫يدل عىل ّ‬
‫أن اإلمامة منصب إهلي‪.‬‬

‫املطلب الثاين‪ :‬بيان ضابطة التأويل‪.‬‬

‫ومفادها‪َّ :‬‬
‫إن كل آية أو رواية يؤخذ بظهورها إال إذا قامت قرينة رشعية أو عقلية قطعية‬
‫متنع من األخذ بالظهور‪ ،‬فحينئذ تُرفع اليد عن ظهور اآلية‪ ،‬وتُؤول ً‬
‫طبقا ملعنى آخر حيتمله‬
‫اللفظ‪.‬‬

‫مثاال‪ ،‬وهو قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬يدُ اهللَِّ َف ْو َق َأ ْي ِدُّيِ ْم﴾ (‪َّ ،)1‬‬
‫فإن هلذه اآلية‬ ‫ولتقريب املطلب نذكر ً‬
‫ظهورا يف َّ‬
‫أن هلل تعاىل يدً ا كام أن لإلنسان يدً ا‪ ،‬غري أنّه ال يمكن األخذ هبذا الظهور‪ ،‬بل‬ ‫ً‬ ‫الرشيفة‬
‫جيب رفع اليد عنه‪ ،‬وذلك لوجود مانع يمنع من األخذ به‪ ،‬وهو القرينة القطعية عىل تنزيه اهلل‬
‫نظرا لقيام األدلة القطعية الرشعية والعقلية ‪ -‬املذكوره يف حملها ‪ -‬عىل تنزُّيه‬
‫‪ ‬عن اجلسمية؛ ً‬
‫‪ ‬عن اجلسمية‪ ،‬إذ ّ‬
‫أن جسميته تلزم منها لوازم باطلة تدل عىل بطالن ملزومها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬احتياجه ‪ ‬إىل ما ُركّب منه من أعضاء؛ إذ وجود كل مركب يتوقف عىل وجود‬
‫فقري حيتاج إىل غريه‪ ،‬واملحتاج إىل غريه ال يمكن أن‬ ‫أجزائه‪ ،‬ومن الظاهر َّ‬
‫أن املحتاج إىل أجزائه ٌ‬
‫يكون واجب الوجود بالذات‪.‬‬

‫(‪ )1‬سورة الفتح‪.10 :‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪84‬‬

‫إن معنى‬‫مثال‪َّ :‬‬


‫وعليه جيب تأويل اآلية ومحل اليد عىل حممل صحيح يناسب اللفظ‪ ،‬فيقال ً‬
‫﴿ َيدُ اهللَِّ َف ْو َق َأ ْي ِدُّيِ ْم﴾ هو َّ‬
‫أن قدرة اهلل فوق قدرهتم‪ ،‬كام لو قلت‪" :‬بطش األمري بيده" فإنّه‬
‫بمعنى أنه قد بطش بقدرته وقوته‪ ،‬وليس املقصود منه أنه رضب الناس بيده اجلارحة‪ ،‬وهكذا‬
‫هو احلال يف اآلية الكريمة‪َّ ،‬‬
‫فإن اليد فيها حتمل عىل هذا املعنى الوارد يف لسان العرب‪.‬‬

‫وهذه الضابطة تنطبق عىل بعض اآليات التي استدلوا هبا عىل نقض عقيدة الشيعة يف‬
‫اإلمامة‪ ،‬كام سيأيت إيضاحه‪.‬‬

‫اجلواب الثاين‪ :‬اجلواب التفصييل‪.‬‬

‫وسنتناول فيه اآليات واحد ًة تلو األخرى‪:‬‬

‫اجلواب عن اآلية األوىل‪:‬‬

‫اخلن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫َاز َير َو َع َبدَ الطَّاغُ َ‬
‫وت﴾ (‪،)1‬‬ ‫أما اآلية األوىل‪ ،‬وهي قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬و َج َع َل من ُْه ُم ا ْلق َر َد َة َو ْ َ‬
‫فإهنا ال تنقض ما ذكرناه؛ وذلك ألمرين‪:‬‬

‫األمر األول‪ :‬اختالف املقام‪ ،‬وبيانه‪ :‬إن اآليات التي استدللنا هبا عىل جعل اإلمامة قد‬
‫ٍ‬
‫منصب من املناصب باتفاق املسلمني‪ ،‬بينام عبادة الطاغوت ليست منص ًبا من‬ ‫حتدثت عن‬
‫أن اإلمامة من املناصب واهلل ‪ ‬قد نسبها إىل نفسه فقد َّ‬
‫دل ذلك عىل كوهنا منص ًبا‬ ‫املناصب‪ ،‬وبام َّ‬
‫إهل ًيا‪.‬‬

‫(‪ )1‬سورة املائدة‪.60 :‬‬


‫‪85‬‬ ‫البحث الخامس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب إلهي‬

‫وبعبارة أخرى‪َّ :‬‬


‫إن هذه اآلية ال تنقض اآليات السابقة؛ وذلك ألننا ال نتمسك يف‬
‫االستدالل هبا بمفردة اجلعل فقط‪ ،‬بل نضم إليها كون اإلمامة منص ًبا من املناصب‪ ،‬باإلضافة‬
‫إىل كون إسناد الفعل إىل الفاعل يدل عىل صدوره منه‪ ،‬وهذه اآلية وإن وردت فيها مفردة اجلعل‬
‫أن عبادة الطاغوت ليست منصبا‪ ،‬فال يكون هلا ظهور ٍ‬
‫مناف لظهور تلك اآليات‪.‬‬ ‫إال َّ‬
‫ً‬

‫األمر الثاين‪ :‬وجود املانع العقَل من األخذ بظاهر هذه اآلية‪ ،‬وهو َّ‬
‫أن اهلل ‪ ‬ال خيلق إال‬
‫ً‬
‫مطلقا‪ ،‬ولذلك نجد يف كلامت بعض املفرسين‬ ‫اخلري والكامل‪ ،‬وال يصدر من جهته رش‬
‫هلل‬
‫–كالزخمرشي– حماولة ملعاجلة هذه اإلشكالية‪ ،‬حيث يقول‪« :‬فإن قلت‪ :‬كيف جاز أن جيعل ا َّ‬
‫منهم عباد الطاغوت؟ قلت‪ :‬فيه وجهان‪ ،‬أحدمها‪ :‬أنه خذهلم حتى عبدوه‪ .‬والثاين‪ :‬أنه حكم‬
‫الر ْمح ِن إِنا ًثا﴾» (‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫عليهم بذلك ووصفهم به‪ ،‬كقوله تعاىل‪﴿ :‬وجع ُلوا املَْالئِ َ ِ‬
‫كَة ا َّلذ َ‬
‫ين ُه ْم عبا ُد َّ‬ ‫َ َ َ‬

‫وما هذه املحاولة من الزخمرشي إال ألجل التخلص من املحذور املذكور‪ ،‬وسيأيت مزيد‬
‫توضيح ملعاجلة إشكالية هذه اآلية من خالل معاجلة اإلشكالية الثالثة‪.‬‬

‫اجلواب عن اآلية الثانية‪:‬‬

‫ض إِ ِّين ح ِف ٌ ِ‬
‫اج َع ْلنِي َع َىل َخ َزائِ ِن ْاألَ ْر ِ‬
‫يم﴾ (‪ ،)2‬فإهنا ال ربط‬
‫يظ َعل ٌ‬ ‫َ‬ ‫وأما اآلية الثانية‪َ ﴿ :‬ق َال ْ‬
‫ً‬
‫متعلقا باإلمامة‪ ،‬وإنام طلب نبي اهلل يوسف‬ ‫هلا بام نحن فيه‪َّ ،‬‬
‫ألن ما طلبه يوسف ‪ ‬مل يكن‬
‫‪ ‬من ملك زمانه أن يكون أمينًا عىل مستودعات وخزائن الدولة‪ ،‬باعتبار أن الدولة‬
‫ستتعرض إىل أزمات يف القحط وسنوات من الشدة‪ ،‬وخزائن الدولة حتتاج إىل من يديرها‬
‫ويرعى شؤوهنا‪ ،‬بحيث تكفي الناس يف سنوات القحط والشدة‪.‬‬

‫(‪ )1‬تفسري الزخمرشي‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.563 - 562‬‬


‫(‪ )2‬سورة يوسف‪.55 :‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪86‬‬

‫اج َع ْلنِي َع َىل َخ َزائِ ِن ْاألَ ْر ِ‬


‫ض﴾‪ ،‬فهو مل يطلب إمامة‬ ‫واآلية القرآنية واضحة يف ذلك‪َ ﴿ :‬ق َال ْ‬
‫أو وزارة‪ ،‬وإنام طلب أن يكون أمينًا عىل مستودعات وخزائن الدولة‪ ،‬وع ّلل ذلك بقوله‪﴿ :‬إِ ِّين‬
‫قادر عىل تدبريها‬‫يم﴾ أي‪ٌ :‬‬
‫ِ‬
‫قادر عىل حفظ هذه املستودعات وما فيها‪َ ﴿ ،‬عل ٌ‬
‫يظ﴾ أي إنني ٌ‬ ‫َح ِف ٌ‬
‫وخبري بكيفية تْصيفها‪.‬‬
‫ٌ‬

‫واخلالصة‪َّ :‬‬
‫فإن نبي اهلل يوسف ‪ ‬مل يطلب منص ًبا إهليًا من ملك زمانه‪ ،‬وإنام طلب‬
‫منص ًبا وضع ًيا برش ًيا‪ ،‬وهو األمانة عىل مستودعات الدولة‪ ،‬واملنصب الوضعي يطلب من أمثال‬
‫ٌ‬
‫أجنبية عام نعتقده نحن الشيعة‪.‬‬ ‫أيضا‬
‫هؤالء‪ ،‬فهذه اآلية ً‬

‫اجلواب عن اآلية الثالثة‪:‬‬

‫َّار﴾ (‪ ،)1‬فإنه ال يلزم منها ما أفادوه‪،‬‬ ‫َاه ْم َأئِ َّم ًة َيدْ ُع َ‬


‫ون إِ َىل الن ِ‬ ‫وأما اآلية الثالثة‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن ُ‬
‫وقد التزم كبار املفرسين من العامة قبل اخلاصة بتأويلها وعدم محلها عىل ظاهرها؛ لوجود مانع‬
‫من التمسك بالظاهر‪ ،‬وهو لزوم كون اهلل ‪ً ‬‬
‫خالقا للرش؛ إذ أنَّه تعاىل لو كان هو اجلاعل –‬
‫واملصري – إلمامة أئمة النار‪ ،‬لكان الز م ذلك صدور القبيح منه تعاىل‪ ،‬وهو‬
‫ِّ‬ ‫بمعنى املحدث‬
‫جعل اإلمامة ألهل الضالل والغواية‪ ،‬وال يمكن صدور ذلك منه تعاىل؛ ألنَّه تعاىل إنام خلق‬
‫الناس للهداية والكامل‪ ،‬فال يمكن أن ينقض غرضه بجعل اإلمامة ملحاريب دينه ورساالته‪.‬‬

‫وبعبارة أخرى‪َّ :‬‬


‫إن الظاهر من اآلية هو جعل اهلل اإلمامة للداعني إىل النار‪ ،‬وهذا مما‬
‫ً‬
‫مقبوال؛ ألن اهلل ‪ ‬إنام بعث الرسل‬ ‫يرتتب عليه إضالل الناس‪ ،‬فال يمكن أن يكون هذا الظاهر‬
‫واألنبياء ‪ ‬للهداية ال لإلضالل‪ ،‬فيقبح حينئذ أن ُينسب إليه ‪ ‬ما ينايف غرضه السامي من‬
‫اخللقة‪.‬‬

‫(‪ )1‬سورة القصص‪.41 :‬‬


‫‪87‬‬ ‫البحث الخامس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب إلهي‬

‫مفرسي العامة واخلاصة‪:‬‬


‫وقد التزم بذلك مجاعة من ّ‬

‫أ‪ -‬أما مفرسو العامة‪ ،‬فإليك كلامت بعضهم‪:‬‬

‫اع ُل َك لِلن ِ‬
‫َّاس إِ َما ًما﴾ يعني يف اخلري‪ ،‬وقد‬ ‫‪ /1‬قال السمعاين‪« :‬وقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ق َال إِ ِّين ج ِ‬
‫َ‬
‫َّار﴾»(‪.)1‬‬ ‫َاه ْم َأئِ َّم ًة َيدْ ُع َ‬
‫ون إِ َىل الن ِ‬ ‫يكون اإلمام يف الرش عىل طريق املجاز‪ ،‬كام قال تعاىل‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن ُ‬

‫َّار﴾‪ ،‬أخرب أهنم يكونون‬ ‫َاه ْم َأئِ َّم ًة َيدْ ُع َ‬


‫ون إِ َىل الن ِ‬ ‫‪ /2‬وقال املاتريدي‪« :‬كقوله‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن ُ‬
‫أئمة هلم يف اآلخرة» (‪.)2‬‬

‫َّار﴾ فقد‬ ‫َاه ْم َأ ِئ َّم ًة َيدْ ُع َ‬


‫ون إِ َىل الن ِ‬ ‫‪ /3‬وقال الفخر الرازي يف تفسريه‪« :‬أما قوله‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن ُ‬
‫خالقا للخري والرش‪ ،‬قال اجلبائي‪ :‬املراد بقوله‪:‬‬ ‫ً‬ ‫متسك به األصحاب يف كونه تعاىل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أي‪ :‬ب ّينا ذلك من حاهلم وسميناهم به‪ ،‬ومنه قوله‪َ ﴿ :‬و َج َع ُلوا املَْ َالئك ََة ا َّلذ َ‬
‫ين ُه ْم‬ ‫﴿ َو َج َع ْلن ُ‬
‫َاه ْم﴾ ّ‬
‫وبخيال‪ ،‬ال أنه خلقهم‬ ‫ً‬ ‫مح ِن إِنَا ًثا﴾‪ ،‬وتقول أهل اللغة يف تفسري فسقه وبخله جعله ً‬
‫فاسقا‬ ‫الر ْ َ‬ ‫ِ‬
‫ع َبا ُد َّ‬
‫َاه ْم َأئِ َّم ًة﴾ من‬‫أطفاال‪ ،‬وقال الكعبي‪ :‬إنام قال‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن ُ‬‫ً‬ ‫أئمة؛ ألهنم حال خلقهم هلم كانوا‬
‫حيث ّ‬
‫خىل بينهم وبني ما فعلوه ومل يعاجل بالعقوبة‪ ،‬ومن حيث كفروا ومل يمنعهم بالقرس‪،‬‬
‫وذلك كقوله‪َ ﴿ :‬ف َزا َد ْ ُهت ْم ِر ْج ًسا﴾ ملا زادوا عندها‪ ،‬ونظري ذلك َّ‬
‫أن الرجل يسأل ما يثقل عليه‪،‬‬
‫وإن أمكنه فإذا بخل به قيل للسائل جعلت فالنًا ً‬
‫بخيال أي قد بخلته‪ ،‬وقال أبو مسلم‪ :‬معنى‬
‫عجل اهلل تعاىل هلم العذاب صاروا متقدمني ملن وراءهم من الكافرين» (‪.)3‬‬
‫فلام َّ‬
‫اإلمامة التقدم‪َّ ،‬‬

‫(‪ )1‬تفسري السمعاين‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.135‬‬


‫(‪ )2‬تفسري املاتريدي‪ :‬ج‪ ،6‬ص‪.179‬‬
‫(‪ )3‬تفسري الرازي‪ :‬ج‪ ،24‬ص‪.601‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪88‬‬

‫شطرا من كلامهتم‪:‬‬
‫ب‪ -‬وأما مفرسو اخلاصة‪ ،‬فإليك ا‬

‫‪ /1‬قال شيخ الطائفة ‪« :‬أخرب اهلل تعاىل إنّه جعل فرعون وقومه ﴿ َأئِ َّم ًة َيدْ ُع َ‬
‫ون إِ َىل‬
‫عرفنا الناس أهنم كانوا كذلك‪ ،‬كام يقال‪ :‬جعله رجل‬ ‫َّار﴾‪ ،‬وقيل يف معناه قوالن‪ :‬أحدمها‪ :‬إنَّا ّ‬ ‫الن ِ‬

‫رش بتعريفه حاله‪ .‬والثاين‪ :‬إنَّا حكمنا عليهم بذلك‪ ،‬كام قال‪َ ﴿ :‬ما َج َع َل اهللَُّ ِم ْن َب ِح َري ٍة َوال‬
‫اجل َّن﴾‪ ،‬وإنام قال ذلك‪ ،‬وأراد أهنم حكموا بذلك‪،‬‬ ‫َسائِ َب ٍة﴾‪ ،‬وكام قال‪َ ﴿ :‬و َج َع ُلوا هللَِّ ُرشكَا َء ِْ‬
‫َ‬
‫وسموه» (‪.)1‬‬

‫َّار﴾ وهذا‬ ‫َاه ْم َأئِ َّم ًة َيدْ ُع َ‬


‫ون إِ َىل الن ِ‬ ‫‪ /2‬وقال الشيخ الطربيس ‪ ‬يف جممع البيان‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن ُ‬
‫حيتاج إىل تأويل؛ َّ‬
‫ألن ظاهره يوجب أنه تعاىل جعلهم أئمة يدعون إىل النار‪ ،‬كام جعل األنبياء‬
‫أئمة يدعون إىل اجلنة‪ ،‬وهذا ما ال يقول به أحد‪ ،‬فاملعنى أنه أخرب عن حاهلم بذلك‪ ،‬وحكم بأهنم‬
‫كذلك‪ ،‬وقد حتصل اإلضافة عىل هذا الوجه بالتعارف‪ ،‬وجيوز أن يكون أراد بذلك أنه ملا أظهر‬
‫حاهلم عىل لسان أنبيائه ‪ ‬حتى عرفوا‪ ،‬فكأنه جعلهم كذلك‪ ،‬ومعنى دعائهم إىل النار أهنم‬
‫يدعون إىل األفعال التي يستحق هبا دخول النار من الكفر واملعايص» (‪.)2‬‬

‫فاحلاصل‪َّ :‬‬
‫أن املراد من اآلية الرشيفة ليس هو معناها احلقيقي الظاهرة فيه‪ ،‬وإنام معناها‬
‫املجازي‪ ،‬وهو تعريفهم عند الناس بالعنوان املذكور‪ ،‬أو هو جعل التسمية هلم‪ ،‬فيكون معنى‬
‫اسام‪ ،‬وهو إمامة أهل النار‪،‬‬
‫َّار﴾ أي أحدثنا هلم ً‬ ‫َاه ْم َأئِ َّم ًة َيدْ ُع َ‬
‫ون إِ َىل الن ِ‬ ‫اآلية الكريمة‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن ُ‬
‫وليس املراد أن اهلل ‪ ‬نصبهم إلضالل الناس‪.‬‬

‫(‪ )1‬التبيان يف تفسري القرآن‪ :‬ج‪ ،8‬ص‪.155‬‬


‫(‪ )2‬تفسري جممع البيان‪ :‬ج‪ ،7‬ص‪.440‬‬
‫‪89‬‬ ‫البحث الخامس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب إلهي‬

‫َدخل و َدفع‪:‬‬

‫وإن قيل لدفع هذا املعنى‪َّ :‬‬


‫أن الظاهر من اآلية بعيدٌ عن املعنى التأويَل‪ ،‬بل يكاد أن يكون‬
‫ممجوجا‪.‬‬
‫ً‬ ‫هذا املعنى معنى‬

‫إن هذا املعنى ‪ -‬وهو جعل التسمية ‪ -‬ليس ببعيد عن ظاهر اآلية املباركة؛ لوجود‬ ‫قلنا‪َّ :‬‬
‫مح ِن إِنَا ًثا﴾ (‪ ،)1‬فإنّه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الر ْ َ‬ ‫نظائر له يف القرآن الكريم‪ ،‬كقوله ‪َ ﴿ :‬و َج َع ُلوا املَْ َالئك ََة ا َّلذ َ‬
‫ين ُه ْم ع َبا ُد َّ‬
‫عمن جعلوا املالئكة إنا ًثا أهنم ّ‬
‫صوروا املالئكة وأحدثوهم عىل هيئة اإلناث‬ ‫ال يقصد يف حديثه ّ‬
‫أو جعلوهم بجنس اإلناث‪ ،‬والنكتة يف ذلك واضحة؛ إذ َّ‬
‫أن املالئكة موجودات خلقها اهلل ‪‬‬
‫يغري تلك اهليئة التي خلقها اهلل ‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫عىل هيئة معينة‪ ،‬وال يمكن ألحد أن ّ‬

‫فليس املراد من اجلعل يف اآلية إال جعل التسمية‪ ،‬أي أهنم أطلقوا لفظ اإلناث عىل‬
‫املالئكة‪ ،‬واعتربوهم كذلك‪ ،‬وبام َّ‬
‫أن القرآن قد استخدم جعل التسمية يف آياته‪ ،‬فيكون تطبيقه‬
‫َّار﴾ غري ٍ‬ ‫َاه ْم َأئِ َّم ًة َيدْ ُع َ‬
‫ون إِ َىل الن ِ‬
‫بعيد‪ ،‬إذ أنه ال يمكن تصور اجلعل احلقيقي يف‬ ‫عىل آية ﴿ َو َج َع ْلن ُ‬
‫تؤول عىل ما أشار إليه القرآن يف آية أخرى‪،‬‬
‫اآلية املباركة للمحذور املتقدم‪ ،‬وبالتايل فال بدَّ أن ّ‬
‫عرب عنهم لشدة ضالهلم وإضالهلم بأهنم أئمة أهل النار‪،‬‬
‫وهو جعل التسمية‪ ،‬بمعنى أن اهلل ‪ّ ‬‬
‫وعىل ذلك َّ‬
‫فإن هذه اآلية املباركة ال تنقض ما يدّ عيه اإلمامية (أنار اهلل برهاهنم)‪.‬‬

‫نؤول آيات اإلمامة – ونحملها عىل جعل التسمية – كام ّأولنا هذه اآلية؟‬ ‫ِ‬
‫فإن قيل‪ :‬ومل ال ّ‬

‫تم بيانه من‬ ‫إن القاعدة التي طبقت يف هذا املورد ال تنطبق عىل آيات اإلمامة‪َّ ،‬‬
‫ألن ما َّ‬ ‫قلنا‪َّ :‬‬
‫ضابطة التأويل ‪ -‬وهو محل اآلية عىل غري ظاهرها عند وجود مانع يمنع من األخذ به – ال‬

‫(‪ )1‬سورة الزخرف‪.19 :‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪90‬‬

‫ينطبق عىل اآليات التي تتحدث عن اإلمامة؛ إذ ال توجد قرينة متنع من األخذ بظاهرها‪ ،‬فيجب‬
‫ٍ‬
‫ألحد أن يشاركه يف‬ ‫محلها عىل ظاهرها‪ ،‬وهو أن اهلل تعاىل قد جعل اإلمامة بنفسه‪ ،‬وال حيق‬
‫جعلها‪ ،‬بينام آية جعل اإلمامة للداعني إىل النار ليست كذلك‪.‬‬
‫‪91‬‬ ‫البحث الخامس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب إلهي‬

‫خامتة يف نقد نظريتي الشورى والبيعة‬

‫ويف ختام هذا املبحث نتعرض لنظريتني‪:‬‬

‫النظرية األوىل‪ :‬ثبوت اإلمامة بالشورى‪.‬‬

‫أيضا‪َ ﴿ :‬و َش ِ‬
‫او ْر ُه ْم‬ ‫استدل لذلك بقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬و َأ ْم ُر ُه ْم ُش َ‬
‫ورى َب ْين َُه ْم﴾ (‪ ،)1‬وقوله ً‬ ‫ّ‬ ‫وقد‬
‫فإن هاتني اآليتني دالتان عىل أن النظام اإلسالمي‬ ‫ِيف ْاألَ ْم ِر َفإِ َذا َع َز ْم َت َفت ََوك َّْل َع َىل اهللَِّ﴾ (‪َّ ،)2‬‬
‫لإلمامة واخلالفة هو نظام الشورى‪ ،‬وأمرها موكول للناس‪ ،‬وهذا يعني َّ‬
‫أن اإلمامة من املناصب‬
‫الوضعية البرشية ال اإلهلية‪.‬‬

‫وجياب عن هذا االستدالل ببيان أمرين‪:‬‬


‫ُ‬

‫مر عليك قري ًبا– هو َّ‬


‫أن نظام اإلمامة‬ ‫األمر األول‪َّ :‬‬
‫إن املستفاد من القرآن الكريم –كام َّ‬
‫واحلكومة خاضع للنص اإلهلي‪ ،‬وتشهد به مجلة من اآليات الكريمة‪ ،‬وإليك بعضها‪:‬‬

‫َّاس إِ َما ًما َق َال َو ِم ْن ُذ ِّر َّيتِي َق َال َال َين َُال َع ْه ِدي‬
‫اع ُل َك لِلن ِ‬
‫أ‪ /‬اآلية األوىل‪َ ﴿ :‬ق َال إِ ِّين ج ِ‬
‫َ‬
‫ال َّظامل ِ َ‬
‫ني﴾‪ ،‬فإهنا رصحية يف َّ‬
‫أن جعل اإلمامة يعود إىل اهلل ‪ ،‬وذلك إلضافة اجلعل إليه تعاىل‬
‫ذكره‪ ،‬فهو الذي جيعل اإلمامة فيمن يريد‪ ،‬ومن طريق إضافة اجلعل إىل اهلل ‪ ‬نعلم َّ‬
‫بأن مبدأ‬
‫نظام اإلمامة هو النص وليس الشورى‪.‬‬

‫(‪ )1‬سورة الشورى‪.38 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة آل عمران‪.159 :‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪92‬‬

‫فإن القرآن‬ ‫َاه ْم َأئِ َّم ًة َ ُّْيدُ َ‬


‫ون بِ َأ ْم ِرنَا﴾‪ ،‬وهذه اآلية كسابقتها‪َّ ،‬‬ ‫ب‪ /‬اآلية الثانية‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن ُ‬
‫الكريم مل يضف اجلعل للناس‪ ،‬بل أضاف اجلعل لنفسه ‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن ُ‬
‫َاه ْم﴾ أي نحن من‬
‫جعلهم‪ ،‬وهذا يعني اختصاص جعل اإلمامة باهلل تعاىل‪ ،‬وال يد للناس فيه‪.‬‬

‫ض َخلِي َفة﴾‪َّ ،‬‬


‫فإن املستفاد من إضافة اجلعل – جعل‬ ‫ج‪ /‬اآلية الثالثة‪﴿ :‬إِ ِّين ج ِ‬
‫اع ٌل ِيف ْاألَ ْر ِ‬ ‫َ‬
‫اخلليفة – لنفسه تعاىل‪ ،‬هو كون اإلمامة منص ًبا إهل ًيا‪.‬‬

‫واحلاصل‪َّ :‬‬
‫فإن القرآن يف جمموع آياته عندما حتدّ ث عن جعل اإلمامة واخلالفة يف آياته‬
‫فإنّه قد أضاف اجلعل إىل اهلل ‪ ،‬وهذا تأكيدٌ عىل َّ‬
‫أن مبدأ نظام اإلمامة واحلكومة هو مبدأ النص‬
‫من ِق َب ِل اهلل تعاىل‪ ،‬وليس هو مبدأ الشورى‪.‬‬

‫إن اآليات السابقة التي حتدّ ثت عن الشورى ال ه‬


‫تدل عىل مرشوعية الشورى‬ ‫األمر الثاين‪َّ :‬‬
‫يف مسألة اإلمامة‪ ،‬وبيان ذلك‪:‬‬

‫فإهنا قد قالت‪ :‬أمرهم‪ ،‬أي‪ّ :‬أهنا أضافت‬ ‫أ‪ /‬أما اآلية األوىل‪َ ﴿ :‬و َأ ْم ُر ُه ْم ُش َ‬
‫ورى َب ْين َُه ْم﴾‪ّ ،‬‬
‫األمر للناس‪ ،‬فيكون هلا ظهور يف َّ‬
‫أن ما كان من أمور الناس فهو شورى بينهم‪ ،‬وبالتايل فهي‬
‫أجنبية عن املدعى؛ إذ غاية ما تدل عليه اآلية هو أن الشورى تكون فيام يعود ألمور الناس‪،‬‬
‫ً‬
‫مشموال لآلية‪ ،‬ومن الواضح أن اإلمامة – كام هو رصيح‬ ‫وأ َّما ما ليس من أمورهم فليس‬
‫اآليات السابقة – ليست من أمورهم‪ ،‬وإنَّام هي من أمور اهلل تعاىل‪.‬‬

‫ب‪ /‬وأما اآلية الثانية‪َ ﴿ :‬و َش ِ‬


‫او ْر ُه ْم ِيف ْاألَ ْم ِر َفإِ َذا َع َز ْم َت َفت ََوك َّْل َع َىل اهللَِّ﴾ فال يمكن محل‬
‫األمر فيها عىل اإلمامة أو ما يعمها‪ ،‬ملا يستلزمه ذلك من التايل الفاسد‪ ،‬وهو اهتام النبي ‪‬‬
‫بعدم امتثال أوامر اهلل تعاىل؛ إذ من املعلوم عند الشيعة والعامة م ًعا َّ‬
‫أن النبي ‪ ‬مل يسترش أحدً ا‬
‫يف أمر اإلمامة – سواء كانت بالنص أم ال – وعليه فلو كان املقصود باألمر يف اآلية اإلمامة أو‬
‫‪93‬‬ ‫البحث الخامس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب إلهي‬

‫ما يعمها‪ ،‬لكان معنى ذلك َّ‬


‫أن النبي ‪ ‬قد خالف أمر اهلل تعاىل برتكه للمشاورة فيها‪ ،‬وهو ما‬
‫يتفوه به مسلم‪.‬‬
‫ال يمكن أن ّ‬

‫واحلاصل‪ :‬فاآليتان ال ربط هلام بمسألة اإلمامة أبدً ا‪.‬‬

‫النظرية الثانية‪ :‬ثبوت اإلمامة بالبيعة‪.‬‬

‫وهي ترتكز عىل مقدمتني‪:‬‬

‫رشعي لثبوت الوالية‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫طريق‬ ‫أ‪ /‬الكربى‪َّ :‬‬
‫إن البيعة ٌ‬

‫فإن هذه البيعة‬ ‫شخص ٍ‬


‫معني‪َّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫واملراد من ذلك‪َّ :‬‬
‫أن الناس عندما جتتمع كلمتهم عىل مبايعة‬
‫رشعا عىل الناس‪.‬‬ ‫تكون ً‬
‫طريقا إلثبات واليته ً‬

‫ب‪ /‬الصغرى‪َّ :‬‬


‫إن أمري املؤمنني ‪ - ‬كبقية الناس – قد بايع املتصدين لألمر قبله‪.‬‬

‫والنتيجة‪َّ :‬‬
‫إن والية املتصدين لألمر قبل أمري املؤمنني ‪ ‬كانت والية رشعية‪ ،‬وبذلك‬
‫نصا من اهلل ‪ ‬ملا‬ ‫يبطل ما يقوله الشيعة‪ :‬من َّ‬
‫أن اإلمامة نص إهلي نبوي؛ إذ لو كانت اإلمامة ً‬
‫صح لإلمام ‪ ‬أن يبايع أحدً ا‪.‬‬
‫ّ‬

‫ومناقشة هذا االستدالل تستدعي عقد البحث يف عدّ ة جهات‪:‬‬

‫اجلهة األوىل‪ :‬حقيقة البيعة‪.‬‬

‫وحمصل الكالم يف هذه اجلهة‪َّ :‬‬


‫أن البيعة مصدر لكلمة (بايع)‪ ،‬وحقيقتها وحقيقة (البيع)‬
‫ٍ‬
‫ومشرت يبذل ثمنًا بإزاء تلك‬ ‫متقاربة‪ ،‬فكام يوجد يف املعاملة البيعية التجارية بائع يبذل سلعة‬
‫أيضا يوجد طرفان‪:‬‬
‫السلعة‪ ،‬وتتم معاملة البيع بذلك‪ ،‬كذلك يف البيعة ً‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪94‬‬

‫األول‪ :‬املبايِع‪ ،‬وهو الذي يبذل إمكاناته بني يدي من يبايعه‪ ،‬بحيث يكون رهن إشارته‪.‬‬

‫يتعهد بأن يرعى شؤون املبايعني اخلاصة والعامة‪.‬‬


‫الثاين‪ :‬املبا َيع‪ ،‬وهو الذي ّ‬

‫خمترصا بأهنا‪( :‬املعاهدة عىل الطاعة)‪ ،‬فحني يقال‪ :‬فالن بايع فالنًا‪ ،‬فهذا‬
‫ا‬ ‫وتُعرف البيعة‬
‫يعني أنه عاهده عىل طاعته وامتثال أوامره‪ ،‬وعدم خمالفته يف يشء مما يطلب منه‪.‬‬

‫اجلهة الثانية‪ :‬هل البيعة طريق لثبوت الوالية؟‬

‫وهذه هي اجلهة التي أراد املخالف أن يبني عليها االستدالل‪ ،‬وهي‪َّ :‬‬
‫أن البيعة طريق‬
‫أن كلمة الناس إذا اجتمعت عىل مبايعة شخص‪َّ ،‬‬
‫فإن ذلك الشخص‬ ‫لثبوت الوالية‪ ،‬بمعنى َّ‬

‫يكون ول ًيا عليهم‪ ،‬وقد است ُِدل عىل ذلك بثالثة أنواع من األدلة‪:‬‬

‫يض اهللَُّ َع ِن املُْ ْؤ ِمن ِ َ‬


‫ني إِ ْذ‬ ‫ِ‬
‫أ‪ /‬النوع األول‪ :‬القرآن الكريم‪ ،‬كام يف قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ل َقدْ َر َ‬
‫َك إِن ََّام ُي َبايِ ُع َ‬
‫ين ُي َبايِ ُعون َ‬ ‫ِ‬ ‫يبايِعون ََك َ ْحت َت َّ ِ‬
‫ون اهللََّ َيدُ اهللَِّ َف ْو َق‬ ‫الش َج َرة﴾ (‪ ،)1‬وقوله تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن ا َّلذ َ‬ ‫َُ ُ‬
‫اهدَ َع َل ْي ُه اهللََّ َف َس ُي ْؤتِ ِيه َأ ْج ًرا َعظِ ًيام﴾ (‪.)2‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫َأ ْي ِدُّيِ ْم َف َم ْن َنك َ‬
‫َث َفإِن ََّام َينْك ُ‬
‫ُث َع َىل َن ْفسه َو َم ْن َأ ْو َف بِ َام َع َ‬

‫وتقريب االستدالل هبام‪َّ :‬‬


‫أن اآليتني متدحان من يتمسك بالبيعة وتذمان من ينكثها‪ ،‬وهذا‬
‫يعني أهنا رشعية تُلزم املبايعني‪.‬‬

‫مناقشة االستدالل بالقرآن عىل رشعية البيعة‪:‬‬

‫ويالحظ عىل هذا االستدالل‪َّ :‬‬


‫إن اآليتني ال نظر هلام إىل إثبات الوالية بالبيعة‪ ،‬ألهنام‬
‫تتحدثان عن مبايعة النبي ‪ ،‬وال شك يف َّ‬
‫أن والية النبي ‪ ‬ووجوب طاعته عىل الناس‬

‫(‪ )1‬سورة الفتح‪.18 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة الفتح‪.10 :‬‬
‫‪95‬‬ ‫البحث الخامس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب إلهي‬

‫أيضا فإهنا ثابتة قبل البيعة‪،‬‬


‫ثابتان قبل البيعة بال إشكال‪ ،‬وهكذا هي والية اإلمام املعصوم ‪ً ‬‬
‫طريقا إلثباهتا‪ ،‬غاية األمر َّ‬
‫أن الغرض منها هو إنشاء معاهدة ووثيقة‬ ‫ً‬ ‫وبالتايل َّ‬
‫فإن البيعة ليست‬
‫عىل الطاعة واخلضوع واالنقياد‪ ،‬ال إثبات وجوب الطاعة يف مرتبة متأخرة عن البيعة‪.‬‬

‫ب‪ /‬النوع الثاين‪ :‬الروايات الواردة عن أهل البيت ‪ ،‬فإهنا تدل عىل َّ‬
‫أن البيعة طريق‬
‫رشعي لثبوت الوالية‪ ،‬من قبيل ما ورد عن أمري املؤمنني ‪« :‬أُّيا الناس‪ ،‬إنكم بايعتموين‬
‫عىل ما بويع عليه َمن كان قبَل‪ ،‬وإنام اخليار للناس قبل أن يبايعوا‪ ،‬فإذا بايعوا فال خيار هلم» (‪،)1‬‬
‫وذم من ختلف عنها‪ ،‬وليس ذلك‬ ‫ووجه داللتها‪َّ :‬‬
‫أن أمري املؤمنني ‪ ‬قد احتج بمسألة البيعة ّ‬
‫إال ألنه يراها ً‬
‫طريقا لثبوت واليته‪.‬‬

‫مناقشة االستدالل بالروايات عىل رشعية البيعة‪:‬‬

‫ويالحظ عىل هذا االستدالل‪َّ :‬‬


‫أن هذا النص –وأمثاله‪ -‬إنام ورد يف مقام االحتجاج عىل‬
‫األطراف األخرى التي كانت تتبنى رشعية البيعة ‪ -‬كمعاوية‪ ،‬وطلحة‪ ،‬والزبري‪ ،‬واخلوارج ‪-‬‬
‫الذين بايعوا أمري املؤمنني ‪ ‬ثم نكثوا البيعة‪َّ ،‬‬
‫فإن هؤالء مجي ًعا قد بايعوا َمن سبق أمري املؤمنني‬
‫‪ ، ‬والتزموا ببيعتهم له‪ ،‬ومل ينكثوها‪ ،‬فأراد أمري املؤمنني ‪ ‬أن يقيم عليهم احلجة بذلك‪،‬‬
‫ومل يكن ‪ ‬بصدد إثبات رشعية واليته هبا‪.‬‬

‫ج‪ /‬النوع الثالث‪ :‬السرية املعصومية‪ ،‬حيث َّ‬


‫إن املعصومني ‪ ‬كانوا يطلبون من الناس أن‬
‫يبايعوهم‪ ،‬كام حصل يوم غدير خم‪ ،‬وعند وفاة أمري املؤمنني ‪ ‬حني طلب من الناس أن‬
‫يبايعوا اإلمام احلسن ‪ ،‬وكذلك حيصل عند ظهور ويل اهلل املنتظر (أرواحنا فداه)‪ ،‬كام جاء‬
‫يف بعض األخبار‪.‬‬

‫(‪ )1‬بحار األنوار‪ :‬ج‪ ،32‬ص‪.33‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪96‬‬

‫مناقشة االستدالل بسرية املعصومني ‪ ‬عىل رشعية البيعة‪:‬‬

‫ويسجل عىل هذا االستدالل‪َّ :‬‬


‫أن املعصومني ‪ ‬مل يكونوا يطلبون البيعة إلثبات واليتهم‪،‬‬
‫وإنام كانوا يطلبوهنا ألخذ وثيقة معاهدة من املبايعني عىل االلتزام بطاعتهم ‪.‬‬

‫اجلهة الثالثة‪ :‬بيان حقيقة البيعة العلوية‪.‬‬

‫وال بدَّ هاهنا من عرض األخبار الواردة يف بيعة أمري املؤمنني ‪ ‬لغريه‪ ،‬لنرى هل تُثبت‬
‫أنه بايع غريه أم ال؟ وهذا يستدعي عقد البحث يف مقامني‪:‬‬

‫أ‪ /‬املقام األول‪ :‬الروايات الواردة عند أهل اخلالف‪.‬‬

‫وهنا طائفتان من األخبار‪:‬‬

‫الطائفة األوىل‪ :‬األخبار التي تنتهي إىل أيب سعيد اخلدري‪ ،‬ويروُّيا البيهقي يف سننه (‪،)1‬‬
‫واحلاكم يف مستدركه (‪ ،)2‬وهي رصحية يف َّ‬
‫أن أمري املؤمنني ‪ ‬قد بايع بعد وفاة رسول اهلل ‪‬‬
‫فلام قعد أبو بكر ‪ ‬عىل‬
‫بشكل مبارش‪ ،‬فعن أيب سعيد اخلدري –واللفظ لسنن البيهقي‪َّ « :-‬‬
‫املنرب‪ ،‬ن َظر يف وجوه القوم‪ ،‬فلم ير عل ًيا ‪ ‬فسأل عنه فقام ناس من األنصار فأتوا به‪ ،‬فقال أبو‬
‫تشق عصا املسلمني؟‬
‫أردت أن َّ‬
‫َ‬ ‫بكر ‪ :‬ابن عم رسول اهلل صىل اهلل عليه [وآله] وسلم وختنه‬
‫فقال‪ :‬ال تثريب يا خليفة رسول اهلل‪ ،‬فبايعه» (‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬سنن البيهقي‪ :‬ج‪ ،8‬ص‪.246‬‬


‫(‪ )2‬املستدرك‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.76‬‬
‫(‪ )3‬سنن البيهقي‪ :‬ج‪ ،8‬ص‪.246‬‬
‫‪97‬‬ ‫البحث الخامس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب إلهي‬

‫الطائفة الثانية‪ :‬ما ينتهي إىل عائشة بنت أيب بكر‪ ،‬ويروُّيا الشيخان يف صحيحيهام‪،‬‬
‫ومؤداها َّ‬
‫أن أمري املؤمنني مل يبايع بعد وفاة رسول اهلل ‪ ‬مبارشة‪ ،‬وإنام بايع بعد ستة أشهر حني‬
‫توفيت الصديقة الزهراء ‪ ،‬فعن البخاري يف صحيحه قال‪« :‬وكان لعَل من الناس وجه حياة‬
‫عَل وجوه الناس‪ ،‬فالتمس مصاحلة أيب بكر ومبايعته‪ ،‬ومل يكن يبايع‬
‫فلام توفيت استنكر ٌ‬
‫فاطمة‪َّ ،‬‬
‫تلك األشهر» (‪.)1‬‬

‫والتحقيق أن يقال‪:‬‬

‫إن هاتني الطائفتني متعارضتان إىل حدِّ التكاذب‪ ،‬كام هو واضح؛ إذ َّ‬
‫أن األوىل تنص‬ ‫ا‬
‫أوال‪َّ :‬‬
‫عىل أن أمري املؤمنني ‪ ‬قد بايع بعد وفاة رسول اهلل ‪ ‬مبارشة‪ ،‬بينام الثانية تنص عىل َّ‬
‫أن أمري‬
‫املؤمنني ‪ ‬مل يبايع إال بعد وفاة رسول اهلل ‪ ‬بستة أشهر‪ ،‬ومقتىض هذا التعارض تساقط‬
‫الروايات الواردة يف هذا الشأن‪.‬‬

‫وثان ايا‪ :‬هب أنه يمكن اجلمع بينهام‪ ،‬وأهنام م ًعا تفضيان للقول َّ‬
‫بأن أمري املؤمنني ‪ ‬قد‬
‫رشعا‪ ،‬وذلك باعتبار َّ‬
‫أن البيعة‬ ‫بايع أبا بكر‪ ،‬إال أن هذا ال يفيد َّ‬
‫أن البيعة طريق لثبوت الوالية ً‬
‫التي تفيد الوالية الرشعية ‪ -‬بنا ًء عىل متامية الكربى ‪ -‬إنام هي البيعة االختيارية‪ ،‬وأما البيعة‬
‫اإلكراهية فليست كذلك‪ ،‬وحاهلا يف هذا حال املعامالت‪َّ ،‬‬
‫فإن املعامالت إنام تتم برتايض‬
‫مكرها أو تزوج‬
‫ً‬ ‫مكرها أو طلق‬
‫ً‬ ‫مكرها ‪-‬كام لو باع‬
‫ً‬ ‫الطرفني‪ ،‬وأما لو كان أحد األطراف‬
‫مكرها‪َّ -‬‬
‫فإن املعاملة تكون حمكومة بالبطالن‪ ،‬وال أثر هلا‪ ،‬والبيعة من سنخ املعاملة فال تتم إال‬ ‫ً‬
‫بالرضا‪.‬‬

‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪ :‬ج‪ ،5‬ص‪.139‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪98‬‬

‫فإن رواية أيب سعيد اخلدري تدل عىل َّ‬


‫أن أمري املؤمنني ‪ ‬كان‬ ‫وإذا كان األمر كذلك‪َّ ،‬‬
‫مكرها‪ ،‬لقرينتني‪:‬‬
‫ً‬

‫القرينة األوىل‪ :‬قوله‪« :‬فقام ناس من األنصار فأتوا به» َّ‬


‫فإن إتيان األنصار به للمسجد يدل‬
‫عىل أنه مل يكن قد حرض باختياره‪ ،‬بل خضع إىل القرس والضغط‪.‬‬

‫القرينة الثانية‪ :‬قول املتصدي للخالفة‪« :‬أتريد أن تشق عصا املسلمني؟!»‪ ،‬وهذا التعبري‬
‫يدل عىل أن موقف أمري املؤمنني ‪ ‬كان موقف املعارض وغري الرايض‪ ،‬بل َّ‬
‫إن هذا النوع من‬
‫التعبري ‪ -‬ويف هذا السياق ‪ -‬دال عىل نوع من اإلنكار واحلدّ ة‪.‬‬

‫فتحصل َّ‬
‫أن البيعة قد متّت حتت اإلكراه‪ ،‬وبالتايل فهي ال تدل عىل ثبوت الوالية ألولئك‪.‬‬ ‫ّ‬

‫أيضا‪ ،‬وذلك بقرينة قوهلا‪« :‬استنكر عَل وجوه‬


‫وأما رواية عائشة فإهنا دالة عىل اإلكراه ً‬
‫الناس‪ ،‬فالتمس مصاحلة أيب بكر ومبايعته»‪ ،‬مما يعني َّ‬
‫أن الناس قد قاطعوا أمري املؤمنني ‪‬‬
‫مقاطعة مجاعية‪ ،‬وتركوه وحيدً ا فريدً ا‪ ،‬وهو نوع من الضغط االجتامعي والنفيس‪ ،‬وبالتايل َّ‬
‫فإن‬
‫مبايعته – إن متّت – مل تكن برضاه‪.‬‬

‫وحمصل ما تقدم‪ :‬أن الروايات الواردة عند أهل اخلالف روايات دالة عىل أن البيعة إنام‬
‫وقعت منه ‪ ‬حتت اإلكراه والضغط‪ ،‬فال تدل عىل رشعية خالفة مناوئيه‪.‬‬

‫ب‪ /‬املقام الثاين‪ :‬الروايات الواردة من طرق الشيعة‪.‬‬

‫ً‬
‫الحقا‪ ،‬وللعلامء إزاءها رأيان‪:‬‬ ‫والروايات يف هذا املقام عديدة‪ ،‬وسنشري إىل بعضها‬
‫‪99‬‬ ‫البحث الخامس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب إلهي‬

‫الرأي األول‪ :‬ما ذهب إليه الشيخ املفيد يف (الفصول املختارة) ونسبه إىل املحققني من‬
‫علامء اإلمامية‪ ،‬وهو َّ‬
‫أن أمري املؤمنني مل يبايع أحدً ا قط‪ ،‬حيث قال ‪« :‬واملحققون من أهل‬
‫اإلمامة يقولون‪ :‬مل يبايع ساعة قط» (‪.)1‬‬

‫وقال يف موضع آخر‪« :‬فثبت بام بيناه‪َّ :‬‬


‫أن أمري املؤمنني ‪ ‬مل يبايع أبا بكر عىل يشء من‬
‫الوجوه‪ ،‬كام ذكرناه وقدمناه» (‪.)2‬‬

‫الرأي الثاين‪ :‬ما ذهب إليه الرشيف املرتىض ‪ ‬يف كتابه (الشايف يف اإلمامة) وهو‪َّ :‬‬
‫أن‬
‫مكرها بأشد أنواع اإلكراه‪ ،‬وساق عىل ذلك مجلة من الروايات الواردة يف‬
‫ً‬ ‫عل ًّيا ‪ ‬قد بايع‬
‫كتب الفريقني‪ ،‬قال ‪« :‬وكيف يشكل عىل م ِ‬
‫نصف َّ‬
‫أن بيعة أمري املؤمنني ‪ ‬مل تكن عن‬ ‫ُ‬
‫رضا‪ ،‬واألخبار متظاهرة بني كل من روى السري بام يقتيض ذلك‪ ،‬حتى َّ‬
‫أن َمن تأمل ما روي يف‬

‫هذا الباب مل يبق عليه يشء يف أنه ‪ُ ‬أ َ‬


‫جلئ عىل البيعة‪ ،‬وصار إليها بعد املدافعة واملحاجزة‪،‬‬
‫ألمور اقتضت ذلك‪ ،‬ليس من مجلتها الرضا» (‪.)3‬‬

‫ولسنا هنا بصدد حماكمة الرأيني‪ ،‬وترجيح أحدمها‪ ،‬وذلك َّ‬


‫ألن ما ُّيمنا هو حمصلهام‪،‬‬
‫موضوعا‪ ،‬وإن‬
‫ً‬ ‫حيث إننا إن بنينا عىل الرأي األول فهذا يعني عدم حتقق البيعة من األمري ‪‬‬
‫حكام‪ ،‬والنتيجة واحدة‪.‬‬
‫بنينا عىل الرأي الثاين فهذا يعني عدم حتقق البيعة منه ‪ً ‬‬

‫(‪ )1‬الفصول املختارة‪ :‬ص‪.56‬‬


‫(‪ )2‬الفصول املختارة‪ :‬ص‪.57‬‬
‫(‪ )3‬الشايف يف اإلمامة‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.240‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪100‬‬

‫صحت‪ -‬تتفق مجي ًعا عىل َّ‬


‫أن البيعة قد متّت باإلكراه‪ ،‬حيث‬ ‫وأما الروايات؛ فإهنا ‪-‬إن ّ‬
‫ُو ِصف ‪ ‬يف بعضها بأنه قيد ليبايع «كام يقاد اجلمل املخشوش» (‪ ،)1‬ويف بعضها‪ :‬أنه قيد‬
‫«بأعنف العنف» (‪ ،)2‬ويف بعضها‪ :‬أنه «ما بايع حتى رأى الدخان قد دخل بيته» (‪ ،)3‬ويف بعضها‬
‫اآلخر بأنه بايع وقد «ض ّم يده اليمنى» (‪ ،)4‬وإنام حصل اإلكراه ألنه ‪« ‬مل جيد أعوانًا» كام جاء‬
‫يف بعضها (‪ ،)5‬ولتهديده بالقتل كام جاء يف بعضها اآلخر (‪ ،)6‬ولئال يتفرق أمر املسلمني كام جاء‬
‫يف بعضها الثالث (‪.)7‬‬

‫واملحصلة هي‪َّ :‬‬


‫أن بيعة األمري ‪-‬إن متت‪ -‬فهي بحكم العدم؛ ألهنا مل تكن باالختيار‪ ،‬كام‬
‫أهنا ‪-‬لو حتققت‪ -‬ليست بيعة إجيابية‪ ،‬بمعنى املعاهدة عىل الطاعة‪ ،‬وإنام بمعنى البيعة السلبية‪،‬‬
‫أي‪ :‬السلمية وعدم املناهضة‪ ،‬ومع ذلك فإهنا مل تكن بيعة مطلقة‪ ،‬بل كانت بيعة مرشوطة‪ ،‬كام‬
‫يشري إىل ذلك قوله ‪« :‬ألسلمن ما سلمت أمور املسلمني» (‪.)8‬‬

‫(‪ )1‬رشح النهج‪ :‬ج‪ ،15‬ص‪.184‬‬


‫(‪ )2‬بحار األنوار‪ :‬ج‪ ،28‬ص‪.388‬‬
‫(‪ )3‬بحار األنوار‪ :‬ج‪ ،28‬ص‪.390‬‬
‫(‪ )4‬بحار األنوار‪ :‬ج‪ ،28‬ص‪.392‬‬
‫(‪ )5‬بحار األنوار‪ :‬ج‪ ،28‬ص‪.254‬‬
‫(‪ )6‬بحار األنوار‪ :‬ج‪ ،28‬ص‪.393‬‬
‫(‪ )7‬بحار األنوار‪ :‬ج‪ ،28‬ص‪.392‬‬
‫(‪ )8‬هنج البالغة‪ :‬ص‪.102‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫البحث السادس‪ :‬اإلمامة اإلهلية منصبٌ أصاليٌّ ال نيابيٌّ‬

‫حترير حمل البحث‪:‬‬

‫واملقصود من هذا البحث‪ :‬بيان َّ‬


‫أن منصب اإلمامة هل هو منصب يف طول منصب‬
‫الرسالة ونيابة عنه‪ ،‬بمعنى أنه إن مل يكن هنالك رسول فال يكون هنالك إمام يقوم بدور اخلالفة‬
‫عنه؟ أم أنه منصب أصيل‪ ،‬ويف عرض منصب الرسالة‪ ،‬بمعنى َّ‬
‫أن اإلمام يكون إما ًما‪ ،‬سواء‬
‫كان هنالك رسول ينوب عنه أم ال‪ ،‬وسواء كان هنالك إمام غريه أم ال؟ والصحيح هو الثاين‪.‬‬

‫أدلة األصالة‪:‬‬

‫ويدل عىل أصالة منصب اإلمامة – باملعنى املذكور – عدة أدلة‪ ،‬نكتفي بعرض دليلني‬
‫منها فقط‪:‬‬

‫َّاس إِ َما ًما َق َال َو ِم ْن ُذ ِّر َّيتِي َق َال َال َين َُال َع ْه ِدي‬
‫اع ُل َك لِلن ِ‬
‫الدليل األول‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬إِ ِّين ج ِ‬
‫َ‬
‫ال َّظامل ِ َ‬
‫ني﴾ (‪ ،)2‬وتقريب االستدالل به يتو ّقف عىل ذكر مقدمتني‪:‬‬

‫إن نبي اهلل إبراهيم ‪ ‬كان من أويل العزم من الرسل‪ ،‬ومن الواضح ّ‬
‫أن هؤالء‬ ‫األوىل‪ّ :‬‬

‫ُيناب عنهم وال ينوبون عن أحد‪ ،‬فإعطاء اإلمامة له يعني كوهنا من املناصب األصل ّية ال النيابية‪.‬‬

‫(‪ )1‬مقتبس من كتاب سامحته (روايات لعب اإلمامني احلسنني ‪ ‬يف امليزان‪ :‬ص‪.)164 - 161‬‬
‫(‪ )2‬سورة البقرة‪.124 :‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪102‬‬

‫إن هذا املنصب األصيل الذي أعطي إلبراهيم ‪ ‬أعطي نفسه لسادات اخللق‬ ‫الثانية‪ّ :‬‬

‫أن ذيل اآلية الرشيفة‪َ ﴿ :‬ق َال َو ِم ْن ُذ ِّر َّيتِي َق َال َال َين َُال َع ْه ِدي ال َّظامل ِ َ‬
‫ني﴾‬ ‫حممد وآل حممد ‪‬؛ إذ ّ‬
‫رصيح يف إعطاء منصب اإلمامة نفسه لغري الظاملني من ذرية إبراهيم ‪ ،‬كام َّ‬
‫أن قوله ‪:‬‬
‫﴿ َو َج َع َل َها كَلِ َم ًة َب ِاق َي ًة ِيف َع ِقبِ ِه﴾ (‪ )1‬بضميمة ما ورد يف تفسريه من النصوص‪ ،‬هو اآلخر يدل‬
‫عىل ذلك‪.‬‬

‫والنصوص الواردة يف تفسري هذه اآلية الرشيفة كثرية جدً ا‪ ،‬بعضها وارد عن طريقنا‬
‫أحب اال ّطالع عليها فلريجع‬ ‫وبعضها عن طريق غرينا‪ ،‬مما ال يدع ً‬
‫جماال للشك يف صحتها‪ ،‬ومن ّ‬
‫إىل جماميع التفسري الروائية‪ ،‬كتفسريي الربهان ونور الثقلني (‪.)2‬‬

‫تيمنًا بنقل أحدها‪ ،‬وهو ما رود عن أمري املؤمنني ‪ ،‬قال‪« :‬فأنا من رسول اهلل‬
‫وال بأس ّ‬
‫‪ ‬بمنزلة هارون من موسى إال النبوة‪ ،‬والعلم يف عقبنا إىل أن تقوم الساعة‪ .‬ثم قرأ‪َ ﴿ :‬و َج َع َل َها‬
‫كَلِ َم ًة َب ِاق َي ًة ِيف َع ِقبِ ِه﴾ ثم قال‪ :‬كان رسول اهلل عقب إبراهيم‪ ،‬ونحن أهل البيت عقب إبراهيم‪،‬‬
‫وعقب حممد ‪.)3( »‬‬

‫الدليل الثاين‪ :‬ما رواه ثقة اإلسالم الكليني ‪ ‬يف كتابه (الكايف) ً‬
‫قائال‪« :‬عدة من‬
‫أصحابنا‪ ،‬عن أمحد بن حممد بن عيسى‪ ،‬عن ابن حمبوب‪ ،‬عن هشام بن سامل‪ ،‬عن يزيد الكنايس‪،‬‬
‫قال‪ :‬سألت أبا جعفر ‪ ‬أكان عيسى ابن مريم ‪ ‬حني تكلم يف املهد حجة هلل عىل أهل‬
‫زمانه؟‬

‫(‪ )1‬سورة الزخرف‪.28 :‬‬


‫(‪ )2‬تفسري نور الثقلني‪ :‬ج‪ ،4‬ص‪.594‬‬
‫(‪ )3‬كتاب سليم بن قيس‪ :‬ص‪.462‬‬
‫‪103‬‬ ‫البحث السادس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب أصالي ال نيابي‬

‫فقال‪ :‬كان يومئذ نب ًيا حجة هلل غري مرسل‪ ،‬أما تسمع لقوله حني قال‪َ ﴿ :‬ق َال إِ ِّين َع ْبدُ اهللَِّ‬
‫الزك ِ‬ ‫الص َال ِة َو َّ‬ ‫َاب َو َج َع َلنِي نَبِ ًّيا * َو َج َع َلنِي ُم َب َاركًا َأ ْي َن َما ك ُ‬ ‫آت ِ ِ‬
‫َاة َما ُد ْم ُت‬ ‫ُنت َو َأ ْو َص ِاين بِ َّ‬ ‫َاين ا ْلكت َ‬
‫َ‬
‫َح ًّيا﴾‪.‬‬

‫قلت‪ :‬فكان يومئذ حجة هلل عىل زكريا يف تلك احلال وهو يف املهد؟‬

‫فقال‪ :‬كان عيسى يف تلك احلال آية للناس ورمحة من اهلل ملريم حني تكلم‪ ،‬فعرب عنها‪،‬‬
‫وكان نب ًيا حجة عىل من سمع كالمه يف تلك احلال‪ ،‬ثم صمت فلم يتكلم حتى مضت له سنتان‪،‬‬
‫وكان زكريا احلجة هلل ‪ ‬عىل الناس بعد صمت عيسى بسنتني‪ ،‬ثم مات زكريا فورثه ابنه حييى‬
‫َاب بِ ُق َّو ٍة َوآ َت ْينَا ُه‬ ‫ِ ِ‬
‫حي َي ىى ُخذ ا ْلكت َ‬
‫الكتاب واحلكمة وهو صبي صغري‪ ،‬أما تسمع لقوله ‪َ ﴿ :‬يا َ ْ‬
‫احلك َْم َصبِ ًّيا﴾‪.‬‬
‫ُْ‬

‫فلام بلغ عيسى ‪ ‬سبع سنني تكلم بالنبوة والرسالة حني أوحى اهلل تعاىل إليه‪ ،‬فكان‬
‫َّ‬
‫عيسى احلجة عىل حييى وعىل الناس أمجعني‪ ،‬وليس تبقى األرض يا أبا خالد يو ًما واحدً ا بغري‬
‫حجة هلل عىل الناس منذ يوم خلق اهلل آدم ‪ ‬وأسكنه األرض‪.‬‬

‫فقلت‪ :‬جعلت فداك‪ ،‬أكان عَل ‪ ‬حجة من اهلل ورسوله عىل هذه األمة يف حياة رسول‬
‫اهلل ‪‬؟‬

‫علام ودعاهم إىل واليته وأمرهم بطاعته‪ ،‬قلت‪:‬‬


‫فقال‪ :‬نعم يوم أقامه للناس ونصبه ً‬
‫وكانت طاعة عَل ‪ ‬واجبة عىل الناس يف حياة رسول اهلل ‪ ‬وبعد وفاته؟‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪104‬‬

‫فقال‪ :‬نعم ولكنه صمت فلم يتكلم مع رسول اهلل ‪ ،‬وكانت الطاعة لرسول اهلل ‪‬‬
‫عىل أمته وعىل عَل ‪ ‬يف حياة رسول اهلل ‪ ،‬وكانت الطاعة من اهلل ومن رسوله عىل الناس‬
‫حكيام عاملًا» (‪.)1‬‬
‫ً‬ ‫كلهم لعَل ‪ ‬بعد وفاة رسول اهلل ‪ ،‬وكان عَل ‪‬‬

‫وداللة هذه الرواية الرشيفة عىل املدّ عى يف غاية الوضوح‪ ،‬فال حاجة لتقريب داللتها عىل‬
‫املدّ عى بأكثر مما هي ظاهرة فيه‪.‬‬

‫ومن هنا قال شيخنا املفيد ‪ ‬فيام ن ُِسب له‪:‬‬

‫« وقد ذهب قوم من أصحابنا اإلمامية إىل أن اإلمامة كانت لرسول اهلل ‪ ،‬وأمري املؤمنني‬
‫‪ ،‬واحلسن واحلسني ‪ ‬يف وقت واحد‪ ،‬إال َّ‬
‫أن النطق واألمر والتدبري كان للنبي ‪ ‬مدة‬
‫حياته دوهنم‪ ،‬وكذلك كان األمر والتدبري ألمري املؤمنني ‪ ‬دون احلسن واحلسني ‪ ،‬وجعل‬
‫اإلمام يف وقت صاحبه صامتًا وجعل األول ً‬
‫ناطقا» (‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬كتاب احلجة‪ ،‬باب حاالت األئمة ‪ ‬يف الست‪ ،‬احلديث رقم ‪ ،1‬والرواية من حيث السند يف غاية االعتبار‪ ،‬بل هي من‬
‫قسم الصحيح األعالئي‪ ،‬كام يقولون‪.‬‬
‫(‪ )2‬تصحيح اعتقادات اإلمامية‪ :‬ص‪.130‬‬
‫البحث السابع‪ :‬اإلمامة اإلهلية أص ٌل من أصول الدين‬

‫والبحث حول كون اإلمامة من أصول الدين يقع يف جهات‪:‬‬

‫اجلهة األوىل‪ :‬بيان الفرق بني األصل والرضوري‪.‬‬

‫إن املنظومة العقائدية الشيعية تشتمل عىل عناوين خمتلفة‪ :‬كاألصل واملس ّلم‪،‬‬
‫وحاصله‪َّ :‬‬
‫ً‬
‫مفصال يف بعض كتبنا (‪،)1‬‬ ‫والرضوري وغري الرضوري‪ ،‬وقد بحثنا الفرق بني هذه العناوين‬
‫ولكننا نكتفي هاهنا ببيان ما يرتبط بمحل بحثنا‪ ،‬وهو الفرق بني األصل والرضوري‪ ،‬فنقول‪:‬‬

‫وجيمع عىل ًأصول ‪ -‬فهو ينقسم إىل قسمني‪:‬‬


‫أما األصل – ُ‬

‫األول‪ :‬أصول الدين‪ ،‬وهي‪ :‬املسائل التي ال يتحقق االنتامء إىل الدين إال باالعتقاد هبا‪.‬‬

‫الثاين‪ :‬أصول املذهب‪ ،‬وهي املسائل التي ال يتحقق االنتامء إىل املذهب إال باالعتقاد هبا‪.‬‬

‫كل ما له دخل يف حتقق اإلسالم الظاهري فهو من أصول الدين‪،‬‬ ‫إن َّ‬
‫وبتعبري آخر‪َّ :‬‬
‫وكل ما له دخل‬ ‫ٍ‬
‫خالف يف املعاد اجلسامين ‪َّ ،-‬‬ ‫وينحْص ذلك يف التوحيد والنبوة واملعاد ‪ -‬عىل‬
‫يف حتقق اإلسالم الواقعي –املتّحد مع املذهب احلق‪ -‬دون الظاهري فهو من أصول املذهب‪،‬‬
‫ً‬
‫مستقال‪ ،‬وإن اشتهر ذلك يف‬ ‫وهو منحْص يف اإلمامة‪ ،‬وأما العدل فالصحيح عدم كونه ً‬
‫أصال‬
‫األلسنة‪.‬‬

‫(‪ )1‬املهدوية اخلامتة لسامحة العالمة السيد ضياء اخلباز (حفظه اهلل)‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.104 - 103‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪106‬‬

‫أن إنكار األصل –دين ًيا كان أو مذهب ًيا‪-‬‬‫ويرتتب عىل هذا الفارق الدقيق أمر مهم‪ ،‬وهو‪َّ :‬‬
‫خرج‬ ‫ٍ‬ ‫ولو لشبهة يوجب خروج صاحبه من دائرته‪ ،‬فإن أنكر ً‬
‫أصال من أصول الدين ولو لشبهة َ‬
‫خرج من املذهب‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫من الدين‪ ،‬وإن أنكر ً‬
‫أصال من أصول املذهب ولو لشبهة َ‬

‫أيضا‪:‬‬
‫وأما الرضوري‪ ،‬فهو عىل قسمني ً‬

‫األول‪ :‬رضوري الدين‪ ،‬من قبيل االعتقاد بوجود اجلنة والنار‪ ،‬والثواب والعقاب‪،‬‬
‫واحلساب‪.‬‬

‫الثاين‪ :‬رضوري املذهب‪ ،‬من قبيل االعتقاد َّ‬


‫بأن األئمة ‪ ‬اثنا عرش إما ًما‪ ،‬واالعتقاد‬
‫بعصمتهم وعصمة الصدّ يقة الزهراء ‪.‬‬

‫واجلامع املشرتك بينهام‪ :‬بلوغ القضية حدًّ ا من الوضوح يف ذهن مجيع املنتمني إىل الدين أو‬
‫املذهب‪ ،‬صغارهم وكبارهم‪ ،‬باختالف مراتبهم وأجناسهم ومستوياهتم العلمية أو العمرية‪،‬‬
‫من غري حاجة إىل إقامة الدليل عىل هذه القضية‪.‬‬

‫وزياد اة يف إيضاح ما ذكرناه نقول‪:‬‬

‫وخرج عن‬ ‫خرج عن الدين إن كان األصل دين ًيا‪،‬‬ ‫ٍ‬


‫لشبهة‬ ‫َّ‬
‫إن من أنكر (األصل) ولو‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫املذهب إن كان األصل مذهب ًيا‪ ،‬بل لو أنكر ً‬
‫أصال مذهب ًّيا وكان إنكاره راج ًعا إىل تكذيب النبي‬
‫‪ ‬خرج عن الدين‪.‬‬

‫وأما منكر (الرضوري) دين ًيا كان أو مذهب ًيا فال خيرج عنهام إال برشوط ثالثة‪:‬‬

‫• األول‪ :‬العلم برضوريته‪ ،‬فال يشمل احلكم من أسلم أو تشيع حدي ًثا‪ ،‬أو كان‬
‫يعيش يف املناطق النائية ً‬
‫مثال‪.‬‬
‫‪107‬‬ ‫البحث السابع‪ :‬اإلمامة اإللهية أصل من أصول الدين‬

‫• الثاين‪ :‬عدم الشبهة حول رضوريته‪.‬‬


‫• الثالث‪ :‬االلتفات إىل املالزمة بني اإلنكار وتكذيب الشارع‪َّ ،‬‬
‫فإن كونه رضور ًيا‬
‫تيق ُن الثبوت واالنتساب للشارع‪ ،‬وبالتايل َّ‬
‫فإن إنكاره تكذيب‬ ‫يعني أنه ُم َ‬
‫للشارع‪.‬‬

‫شخصا ينتمي إىل مذهب أهل البيت ‪ ‬قد أنكر مسألة من املسائل‬ ‫أن‬ ‫ِ‬
‫وعليه‪ ،‬فلو َّ‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫لشبهة ‪ ،-‬مع االلتفات إىل املالزمة بني إنكاره وتكذيب من‬ ‫الرضورية كعدد األئمة ‪ - ‬ال‬
‫ثبتت عنده عصمتهم والذين يكون تكذيبهم تكذي ًبا للرشيعة املقدّ سة – باألدلة القاطعة ‪َّ ،-‬‬
‫فإن‬
‫هذا الشخص ُحيكم عليه باخلروج عن املذهب‪ ،‬بل عن الدين‪.‬‬

‫اجلهة الثانية‪ :‬آراء العلامء حول كون اإلمامة من األصول‪.‬‬

‫اختلف العلامء يف هذه املسألة عىل آراء ثالثة‪:‬‬

‫الرأي األول‪ :‬إن اإلمامة من أصول الدين حدو ًثا –أي‪ :‬يف عْص الترشيع النبوي‪ -‬وبقا ًء‬
‫– أي‪ :‬ما بعد هذا العْص‪ ،-‬وبنا ًء عىل هذا الرأي َّ‬
‫فإن املسلمني مطالبون منذ زمن النبوة‬
‫ليتم إسالمهم‪ ،‬وهذا الرأي ظاهر كلامت مجهور املتقدمني من علامئنا كالسيد‬
‫باالعتقاد باإلمامة ّ‬
‫املرتىض (‪ )1‬والشيخ املفيد (‪ ، )2‬وأرص عليه املحقق البحراين ‪.)3( ‬‬

‫(‪ )1‬رسائل املرتىض‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.211‬‬


‫(‪ )2‬أوائل املقاالت‪ :‬ص‪.44‬‬
‫(‪ )3‬احلدائق النارضة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.85‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪108‬‬

‫الرأي الثاين‪ :‬إن اإلمامة من رضوريات الدين حدو ًثا ال بقا ًء‪ ،‬فمن أنكر اإلمامة يف زمن‬
‫خرج منه‪ ،‬وهو ما‬ ‫خارجا من الدين‪ ،‬وأما إن أنكرها من غري شبهة‬ ‫ٍ‬
‫لشبهة مل يكن‬ ‫النبي ‪‬‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫ذهب إليه املحقق االسرتآبادي ‪.)1( ‬‬

‫خروجا من املذهب ال‬


‫ً‬ ‫الرأي الثالث‪ :‬إن اإلمامة أصل من أصول املذهب‪ ،‬فإنكارها يعد‬
‫الدين‪ ،‬وهذا الرأي هو الذي يذهب إليه مجهور علامئنا املتأخرين واملعارصين‪:‬‬

‫منهم‪ :‬السيد اخلميني ‪ ‬يف كتاب الطهارة‪ ،‬حيث قال‪« :‬فاإلمامة من ُأصول املذهب‪ ،‬ال‬
‫الدين» (‪.)2‬‬

‫ومنهم‪ :‬السيد األستاذ الروحاين (دام ظله الوارف) يف أجوبة املسائل‪ ،‬حيث قال‪« :‬إذا‬
‫كان الدين ُيراد به املذهب احلق فاإلمامة من أصول الدين‪ ،‬وإن كان املراد منه اإلسالم‪ -‬الذي‬
‫به حتقن الدماء وتُصان األعراض – فهي ليست من أصوله» (‪.)3‬‬

‫ومنهم‪ :‬الشيخ التربيزي ‪ ‬يف رصاط النجاة‪ ،‬حيث قال‪« :‬وأما بالنسبة لالعتقادات‬
‫التي جتب معرفتها عىل كل مكلف عينًا‪ ،‬واالعتقاد هبا اعتقا ًدا جزم ًيا‪ ،‬بعضها من أصول الدين‪،‬‬
‫كالتوحيد والنبوة اخلاصة‪ ،‬واملعاد اجلسامين‪ ،‬والقسم اآلخر من االعتقادات من أصول املذهب‪،‬‬
‫كاالعتقاد باإلمامة لألئمة ‪ ‬بعد النبي ‪ ،‬واالعتقاد بالعدل‪ ،‬فإنه جيب عىل كل مكلف‬
‫االعتقاد هبا‪ ،‬إال أن عدم االعتقاد واملعرفة باألول خيرج الشخص عن اإلسالم‪ ،‬ويف الثاين ال‬
‫خيرجه عن اإلسالم‪ ،‬وإنام خيرج عن املذهب» (‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬الفوائد املدنية‪ :‬ص‪.252‬‬


‫(‪ )2‬كتاب الطهارة للخميني‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.437‬‬
‫(‪ )3‬أجوبة املسائل‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.44‬‬
‫(‪ )4‬رصاط النجاة‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.416‬‬
‫‪109‬‬ ‫البحث السابع‪ :‬اإلمامة اإللهية أصل من أصول الدين‬

‫وغريهم من العلامء‪.‬‬

‫اجلهة الثالثة‪ :‬سبب االختالف‪.‬‬

‫و أمام هذا االختالف ينبغي توضيح أمرين‪:‬‬

‫ونظرا‬
‫ً‬ ‫إن الغاية من وراء كل علم ختتلف عن الغاية من وراء العلم اآلخر‪،‬‬ ‫األول‪َّ :‬‬
‫ٍ‬
‫مسألة واحدة‪ ،‬فإ َّن النتيجة التي قد يتوصل‬ ‫فإن ِ‬
‫الع ْلمني حتى لو َب َحثا عن‬ ‫الختالف الغايات َّ‬
‫تتفق مع نتيجة العلم اآلخر‪ ،‬بل طبيعة اختالف الغايات‬ ‫إليها أحدُ ِ‬
‫الع ْلمني ليس من الالزم أن َ‬
‫تقتيض عاد ًة اختالف املنهج والنتائج‪.‬‬

‫الثاين‪ :‬إن اإلسالم – يف كلامت الفقهاء – ُيستخدم بمعنيني‪:‬‬

‫• األول‪ :‬اإلسالم الظاهري‪.‬‬


‫• الثاين‪ :‬اإلسالم الواقعي‪.‬‬

‫أن األول ما يكون أثره دنيو ًيا‪ ،‬وهو الذي يتحقق بمجرد التلفظ‬ ‫والفرق بينهام‪َّ :‬‬
‫بالشهادتني؛ إذ ِبه ُحتقن الدماء‪ُ ،‬‬
‫وحتفظ الفروج‪ُ ،‬‬
‫وحترتم األموال‪ ،‬بينام الثاين ما يكون أثره‬
‫ِّ‬
‫وبكل ما جيب‬ ‫أخرو ًيا‪ ،‬وهو الفوز باجلنة‪ ،‬وهذا هو الذي يتحقق باإليامن التام باهلل تعاىل‬
‫االعتقاد به‪.‬‬

‫ٍ‬
‫شخص واحد‪ ،‬وقد ينفكان‪ ،‬فيكون‬ ‫ومن الواضح َّ‬
‫أن اإلسالمني قد جيتمعان لدى‬
‫مسلام باإلسالم الواقعي‪ ،‬كام هو احلال عند‬
‫ً‬ ‫مسلام باإلسالم الظاهري‪ ،‬ولكنه ليس‬
‫ً‬ ‫الشخص‬
‫املنافقني‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪110‬‬

‫املائز بني املنهج الفقهي والكالمي‪:‬‬

‫عرفت ما ذكرناه ضمن األمرين املذكورين‪ ،‬تعرف الوجه يف تعدد اآلراء املتقدمة؛ إذ‬
‫َ‬ ‫إذا‬
‫عام له ارتباط باجلانب العمَل يف حياة املكلف‪ ،‬أي‪ :‬ما يلزم وما‬ ‫َّ‬
‫أن الغاية للفقيه إنام هي البحث ّ‬
‫ال يلزم؛ ولذا فإنَّه عندما يبحث حول أصول الدين فإنه يبحث عنها ِمن زاوية ما جيب التلفظ‬
‫وإظهار االعتقاد به منها وما ال جيب‪ ،‬فام كان جيب التلفظ به فهو ٌ‬
‫أصل من أصول الدين وإال‬
‫فال‪ ،‬وهو هبذه الغاية ال يتجاوز دائرة اإلسالم الظاهري‪.‬‬

‫عام له ارتباط باجلانب‬ ‫ِ‬


‫بينام الغاية عند املتكلم – عامل الكالم والعقائد – خمتلفة‪ ،‬فهو يبحث ّ‬
‫االعتقادي يف حياة املكلف‪ ،‬أي‪ :‬ما يلزمه أن يعتقد به‪ِ ،‬‬
‫وبه تكون نجاته يف اآلخرة‪ ،‬وما ال يلزمه‬
‫االعتقاد به‪ ،‬مما ال يتوقف عليه مصريه األخروي‪ ،‬فام انتهى إىل لزوم االعتقاد به اعتربه من‬
‫أصول الدين‪ ،‬وما انتهى إىل عدم لزوم االعتقاد به اعتربه من فروع املعارف العقائدية‪.‬‬

‫فإن الفقيه – ِمن زاويته – إما أن يرى انحصار أصول الدين يف أصلني‪،‬‬
‫ومن هذا املنطلق‪َّ :‬‬
‫أصال ثال ًثا وهو املعاد – كام صن َع ذلك‬
‫كام هو الرأي الشائع بني الفقهاء‪ ،‬وإما أن يضم لألصلني ً‬
‫املحقق اخلوئي ‪ – )1( ‬إذا قام الدليل عنده عىل دخالته يف حتقق اإلسالم الظاهري‪.‬‬

‫وأما املتكلم فإنه – ِمن زاويته – يرى دائرة األصول أوسع من ذلك؛ إذ هو يبحث عن‬
‫ِّ‬
‫كل ما تتوقف عىل معرفته النجا ُة يف اآلخرة‪ ،‬ومتييزه عام ال تتوقف عليه؛ ولذا تراه ال يكتفي‬
‫أيضا عىل ٍ‬
‫رأي آخر‪.‬‬ ‫بذكر التوحيد والنبوة حتى يعطف عليهام املعاد واإلمامة‪ ،‬و العدل ً‬

‫(‪ )1‬التنقيح يف رشح العروة الوثقى‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.53‬‬


‫‪111‬‬ ‫البحث السابع‪ :‬اإلمامة اإللهية أصل من أصول الدين‬

‫أن اإلمامة من رضوريات الدين حدو اثا‪ ،‬وأصول املذهب‬


‫اجلهة الرابعة‪ :‬إثبات َّ‬
‫بقاء‪.‬‬
‫ا‬

‫فهاهنا دعويان ينبغي إثباهتام‪:‬‬

‫الدعوى األوىل‪ :‬اإلمامة من رضوريات الدين حدو اثا‪.‬‬

‫أما الدعوى األوىل‪ :‬فإن إثباهتا يتوقف عىل إيضاح أمر أساس‪ ،‬وهو البحث حول العوامل‬
‫املوجبة لكون العقيدة الدينية من الرضوريات‪ ،‬وهي عوامل ثالثة‪:‬‬

‫عوامل صريورة املعرفة الدينية من الرضوريات‪:‬‬

‫العامل األول‪ :‬رصاحة الدليل الرشعي ووضوحه يف َّ‬


‫أن القضية الدينية قضية حمورية‬
‫وركنية وأساسية للدين‪.‬‬

‫العامل الثاين‪ :‬الكثرة الكمية للدليل الرشعي‪ ،‬وذلك من خالل تظافر األدلة الرشعية عىل‬
‫هذه العقيدة‪ ،‬بحيث تكون مستفيضة قد تصل إىل حدِّ التواتر‪ ،‬فتكون هلا قوة إثباتية‪.‬‬

‫العامل الثالث‪ :‬ذيوع القضية وانتشارها بني املنتمني للدين أو املنتمني للمذهب‪ ،‬ولكن‬
‫ليس الذيوع السيايس الذي يكون عىل طبق مصالح احلكام‪ ،‬وإنام الذيوع الطبيعي الذي يكون‬
‫بمقتىض وضوح األدلة وتكثرها‪.‬‬

‫إذا اتضح ذلك‪ ،‬نقول‪َّ :‬‬


‫إن عقيدة اإلمامة تتوفر عىل هذه العوامل الثالثة‪:‬‬

‫أن اإلمامة قضية‬ ‫أما العامل األول‪ :‬فقد دلت النصوص الرشيفة كتا ًبا وسنة رصاحة عىل َّ‬
‫حمورية ركنية للدين‪ ،‬ومنها آيات الغدير‪ ،‬كقوله تعاىل‪﴿ :‬ا ْل َي ْو َم َأك َْم ْل ُت َلك ُْم ِدينَك ُْم َو َأ ْمت َ ْم ُت‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪112‬‬

‫اإل ْس َال َم ِدينًا﴾ (‪ ،)1‬والتي نزلت عندما نصب النبي ‪ ‬عل ًيا ‪‬‬ ‫َع َل ْيك ُْم نِ ْع َمتِي َو َر ِض ُ‬
‫يت َلك ُُم ْ ِ‬

‫إما ًما عىل املسلمني يف غدير خم‪.‬‬

‫ول َب ِّل ْغ َما ُأن ِْز َل إِ َل ْي َك ِم ْن َر ِّب َك َوإِ ْن َمل ْ َت ْف َع ْل َف َام َب َّلغ َ‬
‫ْت‬ ‫ومنها قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬يا َأ ه َُّيا َّ‬
‫الر ُس ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِر َسا َل َت ُه َواهللَُّ َي ْع ِص ُم َك ِم َن الن ِ‬
‫ين﴾ (‪ ،)2‬وقد وردت الروايات‬ ‫َّاس إِ َّن اهللََّ َال َ ُّْيدي ا ْل َق ْو َم ا ْلكَاف ِر َ‬
‫مستفيضة من طرقنا بأهنا نزلت يف اإلمامة‪.‬‬

‫وأما العامل الثاين‪ :‬وهو الكثرة الكمية‪َّ ،‬‬


‫فإن النبي ‪ ‬مل يرتك مناسبة إال وحتدث فيها عن‬
‫إمامة أمري املؤمنني ‪ ،‬بد ًءا من يوم الدار إىل حلظة وفاته‪ ،‬وال توجد عقيدة أو ترشيع من‬
‫الترشيعات حتدث عنه الشارع وأواله أمهية كام حتدث عن والية عَل ‪ ،‬ومن هنا صنف‬
‫العالمة احلَل ‪ ‬كتاب األلفني‪ ،‬حيث ذكر فيه ألفي دليل من العقل والنقل يف إثبات اإلمامة‪،‬‬
‫وهذا يعني حتقق العامل الثاين يف اإلمامة‪.‬‬

‫أيضا‪ -‬كان‬ ‫وأما العامل الثالث‪ :‬وهو الذيوع واالنتشار بني املنتمني للدين‪َّ ،‬‬
‫فإن هذا – ً‬
‫ً‬
‫متحققا بالنسبة لإلمامة‪ ،‬وقد حتقق يف يوم الغدير عندما مجع النبي اآلالف املؤلفة فذاعت قضية‬
‫اإلمامة بينهم وانترشت وأصبحت من الواضحات‪.‬‬

‫إن حديث الغدير ال داللة واضحة له عىل اإلمامة؛ إذ حيتمل َّ‬


‫أن النبي ‪ ‬كان‬ ‫فإن قيل‪َّ :‬‬
‫يتحدث عن حمبة أمري املؤمنني ‪.‬‬

‫قلنا‪َّ :‬‬
‫إن هذا التوجيه ال يقبله عقل وال منطق؛ إذ كيف جيوز يف منطق العقل أن يوقف‬
‫حر اهلجري ليقول هلم إين أحب عل ًيا ‪‬؟! عىل َّ‬
‫أن تقديم النبي‬ ‫النبي ‪ ‬آالف املسلمني يف ِّ‬

‫(‪ )1‬سورة املائدة‪.3 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة املائدة‪.67 :‬‬
‫‪113‬‬ ‫البحث السابع‪ :‬اإلمامة اإللهية أصل من أصول الدين‬

‫‪ ‬لتْصحيه بعبارة «ألست أوىل بكم من أنفسكم» يقطع الطريق عىل كل من يتأول لفظ‬
‫(املوىل) بغري األولوية بالنفوس‪.‬‬

‫أن اإلمامة من رضوريات الدين حدو ًثا‪ ،‬فمن أنكرها يف عْص الرسالة –ال‬
‫ومن هنا ُعلم َّ‬
‫ٍ‬
‫لشبهة – فهو حمكوم بالكفر‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬إذا كانت القضية رضورية يف عْص الرسالة‪ ،‬فام هو وجه انقالهبا عن العنوان‬
‫املذكور يف العصور املتأخرة؟‬

‫قلنا‪َّ :‬‬
‫إن ذلك ممتنع لو ُخ َّل وطبعه‪ ،‬ولكنه من اإلمكان بمكان فيام لو تبنّت السلطة‬
‫اإلعالمية – بمساندة السلطة احلاكمة – حرف مسار األمور‪َّ ،‬‬
‫فإن ذلك ال يتطلب أكثر من‬
‫التعتيم عىل احلقيقة الرضورية‪ ،‬ومصادرة النصوص الدينية الْصحية الدالة عليها‪ ،‬وتكميم‬
‫األصوات املخالفة للقرار الرسمي‪ ،‬فليس حيتاج األمر بعد ذلك ألكثر من ٍ‬
‫جيل أو جيلني حتى‬
‫وتتجرد عام كانت عليه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تنزع احلقيقة ثوب الرضورة‪،‬‬

‫أردت تصديق ذلك فهناك أمثلة كثرية يف عامل الرضوريات تؤكد ذلك‪ ،‬فكم من‬
‫َ‬ ‫وإن‬
‫الترشيعات التي كانت حليتها من الرضوريات يف العْص النبوي‪ ،‬قد صارت اآلن عند بعضهم‬
‫رضورية احلرمة‪ ،‬من قبيل زواج املتعة املتفق عىل حليته يف عْص الرسالة‪ ،‬فإنه ملَّا تبنّت السلطة‬
‫احلاكمة بعد ذلك العْص حتريمه‪ ،‬وجرت بقية املذاهب عىل هذا التحريم حتى يومنا هذا‪ ،‬مل‬
‫تعد حقيقة احللية رضورية لدى سائر املسلمني‪ ،‬إن مل يكن قد حصل العكس‪ ،‬كام ال خيفى‪.‬‬

‫وهذا يف قضية ترشيعية فرعية‪ ،‬فام بالك بقضية عقدية أصولية هي والسلطة عىل طريف‬
‫النقيض؟! ال شك يف أهنا ستكون أدعى للتعتيم واإلقصاء وشتى أساليب املحاربة واإلبادة‪،‬‬
‫فال عجب يف انسالخها عن عنوان الرضورة‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪114‬‬

‫بقاء‪.‬‬
‫الدعوى الثانية‪ :‬اإلمامة من أصول املذهب ا‬

‫وأما الدعوى الثانية‪ :‬وهي أن اإلمامة من أصول املذهب بقا ًء‪َّ ،‬‬
‫فإن الدليل عليها يتضح‬
‫من خالل الوقوف عىل طائفتني من الروايات‪:‬‬

‫الطائفة األوىل‪ :‬الروايات الدالة عىل َّ‬


‫أن من ترك عل ًيا ‪ ‬فهو كافر‪.‬‬

‫منها‪ :‬عن الفضيل بن يسار‪ ،‬عن أيب جعفر ‪ ‬قال‪« :‬إن اهلل عز و جل نصب عل ًيا ‪‬‬
‫كافرا‪ ،‬ومن جهله كان ً‬
‫ضاال‪ ،‬ومن‬ ‫علام بينه وبني خلقه‪ ،‬فمن عرفه كان مؤمنًا‪ ،‬ومن أنكره كان ً‬
‫ً‬
‫نصب معه شي ًئا كان مرشكًا‪ ،‬ومن جاء بواليته دخل اجلنة» (‪.)1‬‬

‫ومنها‪ :‬عن أيب محزة قال‪ :‬سمعت أبا جعفر ‪ ‬يقول‪َّ « :‬‬
‫إن عل ًيا ‪ ‬باب فتحه اهلل‪ ،‬فمن‬
‫كافرا» (‪.)2‬‬
‫دخله كان مؤمنًا‪ ،‬ومن خرج منه كان ً‬

‫وهذه الطائفة واضحة يف َّ‬


‫أن من مل يكن معتقدً ا باإلمامة فهو كافر‪.‬‬

‫أن اإلسالم يتحقق بغري الوالية‪َّ ،‬‬


‫وأن ترك الوالية‬ ‫الطائفة الثانية‪ :‬الروايات التي تدل عىل َّ‬
‫ال يوجب الكفر‪.‬‬

‫منها‪ :‬موثقة سامعة‪ ،‬عن أيب عبد اهلل الصادق ‪ ‬أنه قال‪ « :‬اإلسالم شهادة أن ال إله إال‬
‫وعليه جرت املناكح واملواريث‪ ،‬وعىل ظاهره‬‫ِ‬ ‫اهلل‪ ،‬والتصديق برسوله ‪ِ ،‬به ُحقنت الدماء‪،‬‬
‫مجاعة الناس» (‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.437‬‬


‫(‪ )2‬املصدر السابق‪.‬‬
‫(‪ )3‬الكايف‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.25‬‬
‫‪115‬‬ ‫البحث السابع‪ :‬اإلمامة اإللهية أصل من أصول الدين‬

‫وهي واضحة يف َّ‬


‫أن اإلسالم يتحقق بالشهادتني‪ ،‬وال دخل للوالية يف حتققه‪.‬‬

‫ولكن الصحيح ما‬


‫ّ‬ ‫فن الصناعة َّ‬
‫أن الطائفتني متعارضتان‪،‬‬ ‫وقد يتصور من ال خربة له يف ّ‬
‫ب ّينه العلامء من أنه ال تعارض بني الطائفتني‪ ،‬وذلك ببيان‪َّ :‬‬
‫أن الكفر عىل مراتب‪ ،‬فمرتبة تطلق‬
‫يف مقابل اإلسالم‪ ،‬وأخرى تطلق يف مقابل اإليامن‪ ،‬والروايات التي تطلق لفظ الكفر عىل غري‬
‫املؤمن باإلمامة إنام هي بمعنى الكفر يف مقابل اإليامن ال اإلسالم‪ ،‬وهذا ما يستفاد من قرينة‬
‫املقابلة الواردة يف الروايات الرشيفة‪ ،‬حيث قابلت الكفر باإليامن ومل تقابله باإلسالم‪ ،‬ومنه‬
‫ُيعلم أن اإلمامة من أركان اإليامن ال اإلسالم‪ ،‬وملَّا كانت كذلك فهي من أصول املذهب (‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬ألجل إيضاح الفكرة املذكورة أعاله ال بدَّ من تسليط الضوء عليها بَشء من التفصيل بمقدار ما يتّسع له املقام‪ ،‬فنقول‪ :‬إ َّن الكفر‬
‫هو سرت احلق اعتقا ًدا أو لسانًا أو ً‬
‫عمال‪ ،‬وهذا يقتيض بالرضورة أن تكون للكفر مراتب كمراتب اإليامن‪ ،‬وبالتايل فقد يكون اإلنسان‬
‫كافرا بالنسبة إىل مرتبة وهو مؤمن بالنسبة إىل مرتبة أخرى‪.‬‬
‫ً‬
‫ولإلمام الصادق ‪ ‬حديث مفصل يكشف القناع عن هذه احلقيقة‪ ،‬قال فيه‪« :‬الكفر يف كتاب اهلل عىل مخسة أوجه‪:‬‬
‫فمنها كفر اجلحود‪ ،‬واجلحود عىل وجهني‪ ،‬والكفر برتك ما أمر اهلل‪ ،‬وكفر الرباءة‪ ،‬وكفر النعم‪ .‬فأما كفر اجلحود فهو اجلحود‬
‫﴿و َما‬
‫بالربوبية‪ ،‬وهو قول من يقول‪ :‬ال رب وال جنة وال نار‪ ،‬وهو قول صنفني من الزنادقة يقال هلم‪ :‬الدهرية‪ ،‬وهم الذين يقولون َ‬
‫ُ ُّْيلِ ُكنَا إِال الدَّ ْه ُر﴾‪ ،‬وهو دين وضعوه ألنفسهم باالستحسان عىل غري تثبت منهم وال حتقيق لَشء مما يقولون‪ ،‬قال اهلل ‪﴿ :‬إِ ْن ُه ْم‬
‫إِال َي ُظنهو َن﴾ أن ذلك كام يقولون‪ ،‬وقال‪﴿ :‬إِ َّن ا َّل ِذي َن َك َف ُروا َس َوا ٌء َع َليْ ِه ْم َأ َأن َْذ ْر َ ُهت ْم َأ ْم َمل ْ تُن ِْذ ْر ُه ْم ال ُيؤْ ِمنُو َن﴾ يعني بتوحيد اهلل تعاىل‪،‬‬
‫فهذا أحد وجوه الكفر‪.‬‬
‫﴿و َج َحدُ وا ِ َهبا‬ ‫وأما الوجه اآلخر من اجلحود عىل معرفة‪ ،‬وهو أن جيحد اجلاحد وهو يعلم أنه حق قد استقر عنده‪ ،‬وقد قال اهلل ‪َ :‬‬
‫﴿وكَانُوا ِمن َقبْ ُل َي ْستَ ْفتِ ُحو َن َع َىل ا َّل ِذي َن َك َف ُروا فَ َل َّام َجا َء ُهم َّما ع ََر ُفوا َك َف ُروا بِ ِه َف َل ْعنَ ُة‬‫َو ْاستَيْ َقنَتْ َها َأن ُف ُس ُه ْم ُظ ْل ًام َو ُع ُل ًّوا﴾ وقال اهلل ‪َ :‬‬
‫اهللَِّ َع َىل ا ْلكَافِ ِري َن﴾ فهذا تفسري وجهي اجلحود‪.‬‬
‫﴿ه َذا ِمن َف ْض ِل َر ِّيب لِيَبْ ُل َو ِين َأ َأ ْشك ُُر َأ ْم َأ ْك ُف ُر َو َمن‬ ‫والوجه الثالث من الكفر كفر النعم‪ ،‬وذلك قوله تعاىل حيكي قول سليامن ‪َ :‬‬
‫يم﴾ وقال‪َ ﴿ :‬لئِن َشك َْرت ُْم َألَ ِزيدَ َّنك ُْم َو َلئن َك َف ْرت ُْم ِإ َّن ع ََذ ِايب َل َشديدٌ ﴾ وقال‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َشك ََر َف ِإن ََّام َي ْشك ُُر لنَ ْفسه َو َمن َك َف َر َفإِ َّن َر ِّيب غَني ك َِر ٌ‬
‫وين َأ ْذكُركُم و ْاشكُروا ِيل و َال تَ ْك ُفر ِ‬
‫ون﴾‪.‬‬ ‫﴿ َفا ْذك ُُر ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ْ َ‬
‫﴿وإِ ْذ َأ َخ ْذنَا ِميثَا َق ُك ْم َال ت َْس ِفكُو َن ِد َما َءك ُْم َو َال ُخت ِْر ُجو َن أَن ُف َسكُم ِّمن‬
‫والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر اهلل ‪ ‬به وهو قول اهلل ‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫ِد َي ِارك ُْم ثُ َّم َأ ْق َر ْرت ُْم َو َأنت ُْم ت َْش َهدُ و َن * ثُ َّم َأنت ُْم َىهؤُ َالء َت ْقتُ ُلو َن َأن ُف َسك ُْم َو ُخت ِْر ُجو َن فَ ِري ًقا ِّمنكُم ِّمن د َي ِار ِه ْم َت َظ َ‬
‫اه ُرو َن َع َليْ ِهم بِ ْ ِ‬
‫اإلثْ ِم‬ ‫ِ‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪116‬‬

‫نعم‪ ،‬اتفق علامؤنا عىل أن اإلمامة من أصول الدين بمعنى أهنا مدار النجاة واهلالك‪ ،‬فمن‬
‫قال باإلمامة واعتقد هبا فهو ناج يوم القيامة‪ ،‬وأما من مل يعتقد باإلمامة – ال لشبهة ‪ -‬فليس‬
‫كذلك كام سيتضح‪.‬‬

‫اجلهة اخلامسة‪ :‬أدلة أن اإلمامة من األصول‪.‬‬

‫أن اإلمامة من أصول الدين بعدّ ة أد ّلة‪ ،‬نكتفي منها بدليلني‪:‬‬


‫وقد استدلوا عىل َّ‬

‫ض﴾‪ ،‬فكفرهم برتك ما‬ ‫ض ا ْلكِت ِ‬


‫َاب َوتَ ْك ُف ُرو َن بِبَ ْع ٍ‬ ‫اج ُه ْم أَ َفتُؤْ ِمنُو َن بِبَ ْع ِ‬
‫وه ْم َو ُه َو حمُ ََّر ٌم َع َليْك ُْم إِ ْخ َر ُ‬‫ان َوإِن َي ْأتُوك ُْم ُأ َس َار ىى تُ َفا ُد ُ‬
‫وا ْلعدْ و ِ‬
‫َ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أمر اهلل ‪ ‬به ونسبهم إىل اإليامن ومل يقبله منهم ومل ينفعهم عنده‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬ف َام َجزَ ا ُء َمن َي ْف َع ُل َىذل َك منك ُْم إِ َّال خزْ ٌي ِيف ْ‬
‫احلَيَاة الده ْنيَا‬
‫اب َو َما اهللَُّ ِب َغافِ ٍل ع ََّام َت ْع َم ُلو َن﴾‪.‬‬
‫َو َي ْو َم ا ْل ِق َيا َم ِة ُي َر هدو َن ِإ َ ىىل َأ َشدِّ ا ْل َع َذ ِ‬

‫والوجه اخلامس من الكفر‪ :‬كفر الرباءة‪ ،‬وذلك قوله ‪ ‬حيكي قول إبراهيم ‪َ ﴿ :‬ك َف ْرنَا بِ ُك ْم َو َبدَا َبيْنَنَا َو َبيْنَك ُُم ا ْل َعدَ َاو ُة َوا ْلبَغ َْضا ُء‬
‫َأ َبدً ا َحت ىَّى تُؤْ ِمنُوا بِاهللَِّ َو ْحدَ ُه﴾ يعني تربأنا منكم‪ ،‬وقال يذكر إبليس وتربئته من أوليائه من اإلنس يوم القيامة‪﴿ :‬إِ ِّين َك َف ْر ُت بِ َام‬
‫احليَ ِاة الده ْنيَا ُث َّم َي ْو َم ا ْل ِقيَا َم ِة َي ْك ُف ُر َب ْع ُضكُم بِبَ ْع ٍ‬
‫ض َو َي ْل َع ُن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون ِمن َقبْ ُل﴾ وقال‪﴿ :‬إِن ََّام َّ َ‬
‫اخت ْذتُم ِّمن ُدون اهللَِّ أَ ْو َثانًا َّم َو َّد َة َبيْن ُك ْم ِيف ْ َ‬
‫َأ ْرش ْكتُم ِ‬
‫َ ُ‬
‫َب ْع ُضكُم َب ْع ًضا﴾ يعني يتربأ بعضكم من بعض»‪ ،‬الكايف الرشيف‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.389‬‬

‫وقد علق الفقيه الكبري السيد السبزواري ‪ ‬يف تفسريه الرشيف (مواهب الرمحن‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪ )118 - 117‬تعلي ًقا ً‬
‫مهام‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫«يمكن جعل مجيع ما يف هذه الرواية من التقسيم العقَل‪ ،‬بأن ُيقال‪ :‬الكافر إما ال يعتقد بمبدأ ً‬
‫أصال‪ ،‬وهو الكافر املطلق‪ ،‬و ُيطلق عليه‬
‫أيضا‪.‬‬
‫اجلاحد باملعنى العام ً‬
‫كفر اجلحود باملعنى اخلاص‪.‬‬
‫أو يعتقد به يف اجلملة ثم جيحده‪ ،‬وهو ُ‬
‫أو يعتقد به وال جيحده‪ ،‬ولكن يكفر بنعمه‪ ،‬وهو كفر النعم‪.‬‬
‫أو يعتقد به لكن يرتك ما أمر اهلل به‪ ،‬وهو كفر ترك الطاعة‪ ،‬ويشمل هذا ترك كل واجب رشعي‪ ،‬أو إتيان كل ما هنى اهلل عنه‪.‬‬
‫عدوه وال يتواىل ول ّيه‪ ،‬وهو كفر الرباءة‪.‬‬
‫أو يعتقد بذلك كله‪ ،‬ولكن يربأ من ّ‬
‫ومن هذا احلديث يعرف بيان ما أطلق فيه الكفر عىل تارك الصالة‪ ،‬أو عىل إتيان بعض املحرمات‪ ،‬أو التويل ألعداء اهلل‪ ،‬أو التربي‬
‫من أولياء اهلل‪ .‬فهذا احلديث هو اجلامع جلميع أنواع الكفر‪ ،‬ولكن الكفر االصطالحي الذي يبحث عنه يف الفقه‪ ،‬املوجب ألحكام‬
‫خاصة‪ ،‬خيتص ببعض األقسام دون اجلميع»‪( .‬انتهى)‬
‫ّ‬
‫‪117‬‬ ‫البحث السابع‪ :‬اإلمامة اإللهية أصل من أصول الدين‬

‫أ‪ /‬الدليل األول‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ا ْل َي ْو َم َأك َْم ْل ُت َلك ُْم ِدينَك ُْم َو َأ ْمت َ ْم ُت َع َل ْيك ُْم نِ ْع َمتِي َو َر ِض ُ‬
‫يت‬
‫اإل ْس َال َم ِدينًا﴾ (‪ ، )1‬ومتامية االستدالل هبا يتوقف عىل مقدمتني‪:‬‬ ‫َلك ُُم ْ ِ‬

‫املقدمة األوىل‪َّ :‬‬


‫إن هذه اآلية نزلت يف يوم غدير خم بعدما أعلن رسول اهلل ‪ ‬والية أمري‬
‫املؤمنني ‪ ، ‬وعىل ذلك إمجاع الشيعة (أعزهم اهلل)‪ ،‬ووافقهم يف ذلك كبار احلفاظ واملحدثني‬
‫واملفرسين من علامء السنة‪ ،‬قال العالمة األميني ‪« :‬أصفقت اإلمامية عن بكرة أبيهم عىل‬
‫نزول هذه اآلية الكريمة حول نص الغدير بعد إصحار النبي ‪ ‬بوالية موالنا أمري املؤمنني‬
‫فاحتج به من بلغه‬
‫ّ‬ ‫نصا جل ًيا عرفته الصحابة وفهمته العرب‪،‬‬
‫‪ ‬بألفاظ دريه رصحية‪ ،‬فتضمن ً‬
‫اخلرب‪ ،‬وصافق اإلمامية عىل ذلك كثريون من علامء التفسري وأئمة احلديث وحفظة اآلثار من‬
‫أهل السنة» (‪ ،)2‬وقد أور َد العالمة األميني ‪ ‬مجلة من كلامهتم يف الغدير‪ ،‬فمن أحب‬
‫فلرياجع (‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬سورة املائدة‪.3 :‬‬


‫(‪ )2‬موسوعة الغدير‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.230‬‬
‫(‪ )3‬منها ما ُذكر يف (الغدير‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪ ،)235 – 230‬وممن ذكر كلامهتم‪:‬‬
‫‪ - 1‬احلافظ أبو جعفر حممد بن جرير الطربي املتوف ‪ ،310‬روى يف كتاب الوالية بإسناده عن زيد بن أرقم نزول اآلية الكريمة يوم‬
‫غدير خم يف أمري املؤمنني ‪ ‬يف احلديث الذي مر ص‪.215‬‬
‫‪ - 2‬احلافظ ابن مردويه األصفهاين املتوف ‪ ،410‬روى من طريق أيب ه ارون العبدي عن أيب سعيد اخلدري‪ :‬إهنا نزلت عىل رسول‬
‫اهلل صىل اهلل عليه [وآله] وسلم يوم غدير خم حني قال لعَل‪ :‬من كنت مواله فعَل مواله‪ ،‬ثم رواه عن أيب هريرة وفيه‪ :‬إنه اليوم الثامن‬
‫عرش من ذي احلجة‪ ،‬يعني مرجعه ‪ ‬من حجة الوداع‪ .‬تفسري ابن كثري‪ :‬ج ‪ ،2‬ص‪.14‬‬
‫وقال السيوطي يف (الدر املنثور‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪ :)259‬أخرج ابن مردويه وابن عساكر بسند ضعيف عن أيب سعيد اخلدري قال‪ :‬ملَّا نصب‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه [وآله] وسلم عل ًيا يوم غدير خم فنادى له بالوالية هبط جربئيل عليه هبذه اآلية‪ :‬اليوم أكملت لكم دينكم‪.‬‬
‫و أخرج ابن مردويه واخلطيب وابن عساكر بسند ضعيف عن أيب هريرة قال‪ :‬ملَّا كان غدير خم وهو اليوم الثامن عرش من ذي احلجة‬
‫قال النبي صىل اهلل عليه [وآله] وسلم‪ :‬من كنت مواله فعَل مواله فأنزل اهلل‪ :‬اليوم أكملت لكم دينكم‪ .‬وروى عنه يف (اإلتقان‪ :‬ج‪،1‬‬
‫ص‪ ،31‬ط سنة ‪ )1360‬بطريقيه‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪118‬‬

‫وذكر البدخَش يف (مفتاح النجا) عن عبد الرزاق الرسعني عن ابن عباس ما مر ص‪ 220‬ثم قال‪ :‬وأخرج ابن مردويه عن أيب سعيد‬
‫اخلدري ‪ ‬مثله‪ ،‬ويف آخره فنزلت‪ :‬اليوم أكملت لكم دينكم‪ ...‬اآلية‪ .‬فقال النبي صىل اهلل عليه [وآله] وسلم‪ :‬اهلل أكرب عىل إكامل‬
‫الدين‪ ،‬وإمتام النعمة‪ ،‬ورضا الرب برسالتي والوالية لعَل بن أيب طالب‪.‬‬
‫ونقله هبذا اللفظ عن تفسريه األربَل يف (كشف الغمة‪ :‬ص‪.)95‬‬
‫وقال القطيفي يف الفرقة الناجية‪ :‬روى أبو بكر ابن مردويه احلافظ بإسناده إىل أيب سعيد اخلدري‪ :‬إن النبي ‪ ‬يوم دعا الناس إىل‬
‫غدير خم أمر بام كان حتت الشجرة من شوك فقم وذلك يوم اخلميس‪ ،‬ودعا الناس إىل عَل فأخذ بضبعيه فرفعهام حتى نظر الناس‬
‫إىل بياض إبط رسول اهلل‪ ،‬فلم يفرتقا حتى نزلت هذه اآلية‪ :‬اليوم أكملت لكم دينكم‪ ...‬اآلية‪ .‬فقال‪ .‬إىل آخر ما يأيت عن أيب نعيم‬
‫األصبهاين حرفيًا‪.‬‬
‫‪ - 3‬احلافظ أبو نعيم األصبهاين املتوف ‪ ،430‬روى يف كتابه (ما ن زل من القرآن يف عَل) قال‪ :‬حدثنا حممد بن أمحد بن عَل بن خملد‬
‫(املحتسب املتوف ‪ ) 357‬قال‪ :‬حدثنا حممد بن عثامن بن أيب شيبة قال‪ :‬حدثني حييى احلامين قال‪ :‬حدثني قيس بن الربيع عن أيب هارون‬
‫العبدي عن أيب سعيد اخلدري ‪ : ‬أن النبي صىل اهلل عليه [وآله] وسلم دعا الناس إىل عَل يف غدير خم أمر بام حتت الشجرة من‬
‫الشوك فقم وذلك يوم اخلميس فدعا عليًا فأخذ بضبعيه فرفعهام حتى نظر الناس إىل بياض إبطي رسول اهلل‪ ،‬ثم مل يتفرقوا حتى نزلت‬
‫هذه اآلية‪ :‬اليوم أكملت لكم دينكم‪ ...‬اآلية‪ ،‬فقال رسول اهلل صىل اهلل عليه [وآله] وسلم‪ :‬اهلل أكرب عىل إكامل الدين‪ ،‬وإمتام النعمة‪،‬‬
‫ورضا الرب برسالتي‪ ،‬وبالوالية لعَل ‪ ‬من بعدي‪ .‬ثم قال‪ :‬من كنت مواله فعَل مواله‪ ،‬اللهم وال من وااله‪ ،‬وعاد من عاداه‪،‬‬
‫وانْص من نْصه‪ ،‬واخذل من خذله‪ .‬فقال حسان‪ :‬ائذن يل يا رسول اهلل أن أقول يف عَل أبياتًا تسمعهن‪ .‬فقال‪ :‬قل عىل بركة اهلل‪ .‬فقام‬
‫حسان فقال‪ :‬يا معرش مشيخة قريش‪ ،‬أتبعها قويل بشهادة من رسول اهلل يف الوالية ماضية‪ .‬ثم قال‪:‬‬
‫ينادُّيم يوم الغدير نبيهم * بخم فأسمع بالرسول مناديا‬
‫يقول‪ :‬فمن موالكم ووليكم؟ * فقالوا ومل يبدوا هناك التعاميا‬
‫إهلك موالنا وأنت ولينا * ومل تر منا يف الوالية عاصيا‬
‫فقال له‪ :‬قم يا عَل فإنني * رضيتك من بعدي إما ًما وهاديا‬
‫فمن كنت مواله فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا‬
‫هناك دعا‪ :‬اللهم وال وليه * وكن للذي عادى عليًا معاديا‬
‫وهبذا اللفظ رواه الشيخ التابعي سليم بن قيس اهلاليل يف كتابه عن أيب سعيد اخلدري قال‪ :‬إن رسول اهلل دعا الناس بغدير خم فأمر‬
‫بام كان حتت الشجر من الشوك فقم‪ ،‬وكان ذلك يوم اخلميس‪ ،‬ثم دعا الناس إليه وأخذ بضبع عَل بن أيب طالب فرفعها حتى نظرت‬
‫إىل بياض إبط رسول اهلل‪ :‬احلديث بلفظه‪.‬‬
‫‪ - 4‬احلافظ أبو بكر اخلطيب البغدادي املتوف ‪ ،463‬روى يف تارخيه ج‪ 8‬ص‪ 290‬عن عبد اهلل بن عَل بن حممد بن برشان عن احلافظ‬
‫عَل بن عمر الدارقطني‪ ،‬عن حبشون اخلالل‪ ،‬عن عَل بن سعيد الرمَل عن ضمرة عن ابن شوذب عن مطر الوراق عن ابن حوشب‬
‫عن أيب هريرة عن النبي صىل اهلل عليه [وآله] وسلم‪.‬‬
‫‪119‬‬ ‫البحث السابع‪ :‬اإلمامة اإللهية أصل من أصول الدين‬

‫وعن أمحد بن عبد اهلل النريي عن عَل بن سعيد عن ضمرة عن ا بن شوذب عن مطر عن ابن حوشب عن أيب هريرة عن النبي صىل‬
‫شهرا‪ .‬وهو يوم غدير خم ملَّا أخذ النبي‬
‫اهلل عليه [وآله] وسلم أنه قال‪ :‬من صام يوم ثامن عرش من ذي احلجة كتب له صيام ستني ً‬
‫صىل اهلل عليه [وآله] وسلم بيد عَل بن أيب طالب فقال‪ :‬ألست أوىل باملؤمنني؟ قالوا‪ :‬بىل يا رسول اهلل؟ قال من كنت مواله فعَل‬
‫مواله‪ .‬فقال عمر بن اخلطاب‪ :‬بخ بخ يا بن أيب طالب أصبحت موالي وموىل كل مسلم‪ .‬فأنزل اهلل‪ :‬اليوم أكملت لكم دينكم‪...‬‬
‫اآلية‪.‬‬
‫‪ - 5‬احلافظ أبو سعيد السجستاين املتوف ‪ ،477‬يف كتاب الوالية بإسناده عن حييى بن عبد احلميد احلامين الكويف عن قيس بن الربيع‬
‫عن أيب هارون عن أيب سعيد اخلدري‪ :‬أن رسول اهلل صىل اهلل عليه [وآله] وسلم ملَّا دعا الناس بغدير خم أمر بام كان حتت الشجرة‬
‫من الشوك فقم وذلك يوم اخلميس‪ ...‬إىل آخر اللفظ املذكور بطريق أيب نعيم األصبهاين‪.‬‬
‫‪ - 6‬أبو احلسن ابن املغازيل الشافعي املتوف ‪ ، 483‬روى يف مناقبه عن أيب بكر أمحد بن حممد بن طاوان قال‪ :‬أخربنا أبو احلسني أمحد‬
‫بن احلسني بن السامك قال‪ :‬حدثني أبو حممد جعفر بن حممد بن نصري اخللدي‪ ،‬حدثني عَل بن سعيد بن قتيبة الرمَل قال‪ :‬حدثني‬
‫ضمرة بن ربيعة القريش عن ابن شوذب عن مطر الوراق عن شهر بن حوشب بن أيب هريرة‪ ...‬إىل آخر اللفظ املذكور بطريق اخلطيب‬
‫البغدادي (العمدة ص‪ )52‬وذكره مجع آخرون‪.‬‬
‫‪ - 7‬احلافظ أبو القاسم احلاكم احلسكاين (املرتجم ص‪ ) 112‬قال‪ :‬أخربنا أبو عبد اهلل الشريازي‪ ،‬قال‪ :‬أخربنا أبو بكر اجلرجاين‪ .‬قال‪:‬‬
‫حدثنا أبو أمحد البْصي‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا أمحد بن عامر بن خالد‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا حييى بن عبد احلميد احلامين‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا قيس بن الربيع عن‬
‫أيب هارون العبدي عن أيب سعيد اخلدري‪ :‬أن رسول اهلل ‪ ‬ملَّا نزلت هذه اآلية‪ :‬اليوم أكملت لكم دينكم‪ .‬قال‪ :‬اهلل أكرب عىل إكامل‬
‫الدين‪ ،‬وإمتام النعمة‪ ،‬ورضا الرب برسالتي‪ ،‬ووالية عَل بن أيب طالب من بعدي‪ .‬وقال‪ :‬من كنت مواله فعَل مواله‪ ،‬اللهم وال من‬
‫وااله‪ ،‬وعاد من عاداه‪ ،‬وانْص من نْصه‪ ،‬واخذل من خذله‪.‬‬
‫‪ - 8‬احلافظ أبو القاسم بن عساكر الشافعي الدمشقي املتوف ‪ ،571‬روى احلديث املذكور بطريق ابن مردويه عن أيب سعيد وأيب‬
‫هريرة كام يف الدر املنثور ج‪ 2‬ص‪.259‬‬
‫‪ - 9‬أخطب اخلطباء اخلوارزمي املتوف ‪ ،568‬قال يف املناقب ص‪ :80‬أخربنا سيد احلفاظ أبو منصور شهردار بن شريويه بن شهردار‬
‫الديلمي فيام كتب إيل من مهدان‪ :‬أخربين أبو الفتح عبدوس بن عبد اهلل بن عبدوس اهلمداين كتابة‪ ،‬حدثني عبد اهلل بن إسحاق‬
‫البغوي‪ ،‬حدثني احلسن بن علي ل الغنوي‪ ،‬حدثني حممد بن عبد الرمحن الزراع‪ ،‬حدثني قيس بن حفص‪ ،‬حدثني عَل بن احلسن‬
‫العبدي عن أيب هارون العبدي عن أيب سعيد اخلدري إنه قال‪ :‬إن النبي ‪ ‬يوم دعا الناس إىل غدير خم أمر بام كان حتت الشجرة‬
‫من الشوك فقم وذلك يوم اخلميس‪ ،‬ثم دعا الناس إىل عَل فأخذ بضبعه فرفعها حتى نظر الناس إىل إبطيه حتى نزلت هذه اآلية‪:‬‬
‫اليوم أكملت لكم دينكم‪ ...‬اآلية إىل آخر احلديث بلفظ مر بطريق أيب نعيم األصفهاين‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪120‬‬

‫ِ‬
‫رش َع ًة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إن الرشائع متعددة بنص اآلية املباركة‪﴿ :‬لك ٍُّل َج َع ْلنَا منْك ُْم ْ‬
‫املقدمة الثانية‪َّ :‬‬
‫اجا﴾ (‪ ،)1‬فلكل ٍ‬
‫نبي من األنبياء رشعة ختتلف عن رشعة النبي اآلخر‪ ،‬وأما الدين فهو‬ ‫ِ‬
‫َومن َْه ً‬
‫ضم النصوص القرآنية إىل بعضها البعض‪ ،‬حيث يقول تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن‬ ‫واحد كام يفهم ذلك من ّ‬
‫اإل ْس َال ُم﴾ (‪ ،)2‬ويقول عىل لسان يوسف ‪﴿ :‬ت ََو َّفنِي ُم ْسلِ ًام﴾ (‪ ،)3‬ويقول عىل‬ ‫ين ِعنْدَ اهللَِّ ْ ِ‬
‫الدِّ َ‬
‫يم َبن ِ ِيه‬ ‫ِ‬
‫ني﴾ ‪ ،‬ويقول‪َ ﴿ :‬و َو َّّص ِ َهبا إِ ْب َراه ُ‬
‫(‪)4‬‬
‫ربا َوت ََو َّفنَا ُم ْسلِ ِم َ‬
‫لسان السحرة‪َ ﴿ :‬ر َّبنَا َأ ْف ِر ْغ َع َل ْينَا َص ْ ً‬
‫ين َف َال َمتُوت َُّن إِ َّال َو َأ ْنت ُْم ُم ْسلِ ُم َ‬ ‫ِ‬
‫ون﴾ (‪ ،)5‬ومن كل هذا‬ ‫اص َط َفى َلك ُُم الدِّ َ‬ ‫وب َيا َبن َّي إِ َّن اهللََّ ْ‬ ‫َو َي ْع ُق ُ‬
‫ُيعلم أن الدين هو تلك األصول واألساسيات التي تتفق فيها مجيع الرشائع املتعددة‪ ،‬وهو ما‬
‫أطلق عليه القرآن الكريم عنوان (اإلسالم)‪.‬‬

‫وروى يف املناقب ص‪ 94‬باإلسناد عن احلافظ أمحد بن احلسني البيهقي‪ ،‬عن احلافظ أيب عبد اهلل احلاكم‪ ،‬عن أيب يعىل الزبري بن عبد‬
‫اهلل الثوري‪ ،‬عن أيب جعفر أمحد بن عبد اهلل البزاز‪ ،‬عن عَل بن سعيد الرمَل‪ ،‬عن ضمرة عن ابن شوذب عن مطر الوراق‪ ...‬إىل آخر‬
‫ما مر عن اخلطيب البغدادي سندً ا ومتنًا‪.‬‬
‫‪ - 10‬أبو الفتح النطنزي‪ ،‬روى يف كتابه (اخلصايص العلوية) عن أيب سعيد اخلدري بلفظ مر ص‪ ،43‬وعن اخلدري وجابر‬
‫األنصاري أهنام قاال‪ :‬ملَّا نزلت‪ :‬اليوم أكملت لكم دينكم‪ ...‬اآلية‪ ،‬قال النبي صىل اهلل عليه [وآله] وسلم‪ :‬اهلل أكرب عىل إكامل الدين‪،‬‬
‫وإمتام النعمة‪ ،‬ورضا الرب برسالتي‪ ،‬ووالية عَل بن أيب طالب بعدي‪.‬‬
‫ويف اخلصايص بإسناده عن اإلمامني الباقر والصادق ‪ ‬قاال‪ :‬نزلت هذ ه اآلية (يعني آية التبليغ) يوم الغدير‪ .‬وفيه نزلت‪ :‬اليوم‬
‫أكملت لكم دينكم‪ .‬قال‪ :‬وقال الصادق ‪ : ‬أي‪ :‬اليوم أكملت لكم دينكم بإقامة حافظه‪ ،‬وأمتمت عليكم نعمتي أي‪ :‬بواليتنا‪،‬‬
‫أيضا عن أيب هريرة حديث صوم الغدير بلفظ مر بطريق‬
‫ورضيت لكم اإلسالم دينًا أي‪ :‬تسليم النفس ألمرنا‪ .‬وبإسناده يف خصايصه ً‬
‫اخلطيب البغدادي وفيه نزول اآلية يف عَل يوم الغدير‪( .‬انتهى)‪‬‬
‫(‪ )1‬سورة املائدة‪.48 :‬‬
‫(‪ )2‬سورة آل عمران‪.19 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة يوسف‪.101 :‬‬
‫(‪ )4‬سورة األعراف‪.126 :‬‬
‫(‪ )5‬سورة البقرة‪.132 :‬‬
‫‪121‬‬ ‫البحث السابع‪ :‬اإلمامة اإللهية أصل من أصول الدين‬

‫ونتيجة هاتني املقدمتني‪َّ :‬‬


‫أن اإلمامة أصل من أصول الدين وعقيدة أساسية مشرتكة بني‬
‫رصح يف آية اإلكامل – بضميمة النصوص املفرسة – أنّه أكمل هبا‬ ‫مجيع الرشائع‪َّ ،‬‬
‫ألن اهلل ‪ ‬قد ّ‬
‫الدين ال رشيعة اإلسالم فحسب‪ ،‬وإىل ذلك أشارت مجلة من الروايات الرشيفة‪ ،‬كمعتربة ابن‬
‫بالنبوة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫سنان عن اإلمام الصادق ‪« :‬كان امليثاق مأخو ًذا عليهم هلل بالربوب ّية‪ ،‬ولرسوله‬
‫وألمري املؤمنني واألئمة باإلمامة» (‪.)1‬‬

‫ب‪ /‬الدليل الثاين‪ :‬قول النبي األعظم ‪« :‬من مات بغري إمام مات ميتة جاهلية» (‪،)2‬‬
‫وله ألفاظ غري هذا اللفظ كلها تصب يف نفس املعنى‪:‬‬

‫• اللفظ األول‪ :‬من مات ومل يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية‪.‬‬
‫• اللفظ الثاين‪ :‬ومن مات وليس يف عنقه بيعة مات ميتة جاهلية‪.‬‬
‫• اللفظ الثالث‪ :‬من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية‪.‬‬
‫• اللفظ الرابع‪ :‬من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية‪.‬‬

‫أن أهل اجلاهلية كانوا يموتون عىل الكفر‪ ،‬وبام َّ‬


‫أن َمن مات‬ ‫وتقريب االستدالل باحلديث‪َّ :‬‬
‫بغري معرفة إمام زمانه مات ميتة جاهلية‪ ،‬فهذا يعني موته عىل الكفر بمقتىض هذه األحاديث‪،‬‬
‫وإذا كان اجلهل هبا موج ًبا للكفر‪ ،‬فهذا يعني ّأهنا من األصول التي يدور الدين مدارها‪.‬‬

‫القمي‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.247‬‬


‫(‪ )1‬تفسري ّ‬
‫(‪ )2‬تقدّ م خترجيه يف البحث األول ص‪.19‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪122‬‬

‫اجلهة السادسة‪ :‬نقد شبهة تكفري املسلمني‪.‬‬

‫وأمام املد الشيعي العارم الذي بدأ‬


‫َ‬ ‫وعىل ضوء ما أثبتناه من َّ‬
‫أن اإلمامة من أصول الدين‪،‬‬
‫ينري مدن العامل‪ ،‬حياول اإلعالم املخالف تشويه معامل مذهب أهل البيت ‪ ‬من خالل ا ّدعاء َّ‬
‫أن‬
‫الشيعة يك ّفرون املسلمني لقوهلم َّ‬
‫بأن اإلمامة أصل من أصول الدين‪ ،‬وبناء عىل قوهلم هذا فمن‬
‫مل يؤمن هبا فهو كافر‪.‬‬

‫ويف مقام نقد هذه الشبهة‪ ،‬توجد ثالثة أجوبة‪:‬‬

‫اجلواب األول‪ :‬التفريق بني اإلمامة العامة واإلمامة اخلاصة‪.‬‬

‫وحاصله‪ :‬أنّه ال بدّ من التفريق بني قسمني من أقسام اإلمامة‪:‬‬

‫القسم األول‪ :‬اإلمامة العامة‪ ،‬وهي‪ :‬االعتقاد ّ‬


‫بأن اهلل تعاىل ال بدَّ أن ينصب أئمة‪ ،‬فكام‬
‫بغض النظر عن هويتهم وأسامئهم وشخوصهم‪.‬‬
‫يرسل أنبياء ال بدَّ أن ينصب أئمة‪ّ ،‬‬

‫القسم الثاين‪ :‬اإلمامة اخلاصة‪ ،‬وهي االعتقاد بإمامة أهل البيت ‪.‬‬

‫اخلاصة‪ ،‬وبام ّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬ ‫واإلمامة التي هي من أصول الدّ ين هي اإلمامة العا ّمة‪ ،‬وليست اإلمامة‬
‫بغض النظر َع َّم ْن هم األئمة (‪ ،)1‬فإذن مجيع املسلمني حمكومون‬
‫مجيع املسلمني يعتقدون باإلمامة ّ‬
‫باإلسالم‪.‬‬

‫(‪ ) 1‬وإليك تْصيح كوكبة من علامئهم يف أمهية اإلمامة وتنصيب اإلمام‪ ،‬وكوهنا من واجبات الدين‪ ،‬بل من أعظمها‪ ،‬وقوام الدين‬
‫هبا‪:‬‬
‫أيضا أن الصحابة رضوان اهلل تعاىل عليهم أمجعني‬
‫أ‪ /‬األول‪ :‬ابن حجر اهليتمي يف صواعقه ج‪ 1‬ص‪ ،26 - 25‬حيث قال‪« :‬اعلم ً‬
‫أمجعوا عىل أن نصب اإلمام بعد انقراض زمن النبوة واجب بل جعلوه أهم الواجبات‪ ،‬حيث اشتغلوا به عن دفن رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه [وآله] وسلم واختالفهم يف التعيني ال يقدح يف اإلمجاع املذكور‪ ...‬ثم ذلك الوجوب عندنا معرش أهل السنة واجلامعة‪ ،‬وعند‬
‫‪123‬‬ ‫البحث السابع‪ :‬اإلمامة اإللهية أصل من أصول الدين‬

‫أكثر املعتزلة‪ :‬بالسمع‪ ،‬أي‪ :‬من جهة ال تواتر واإلمجاع املذكور‪ ،‬وقال كثري‪ :‬بالعقل‪ ،‬ووجه ذلك الوجوب أنه صىل اهلل عليه [وآله]‬
‫وسلم أمر بإقامة احلدود وسد الثغور وجتهيز اجليوش للجهاد وحفظ بيضة اإلسالم‪ ،‬وما ال يتم الواجب املطلق إال به‪ ،‬وإن كان‬
‫مقدورا فهو واجب‪ ،‬وألن يف نصبه جلب منافع ال حتىص‪ ،‬ودفع مضار ال تستقىص‪ ،‬وكل ما كان كذلك يكون واجبًا‪ .‬أما الصغرى‪:‬‬
‫ً‬
‫عىل ما يف رشح املقاصد فتكاد تلحق بالرضوريات‪ ،‬بل باملشاهدات بشهادة ما نراه من الفتن والفساد وانفصام أمور العباد‪ ،‬بمجرد‬
‫موت اإلمام وإن مل يكن عىل ما ينبغي من الصالح والسداد»‪.‬‬
‫ب‪ /‬الثاين‪ :‬ابن تيمية يف كتابه (السياسة الرشعية‪ :‬ص‪ ،)129‬حيث قال‪ « :‬فصل جيب أن يعرف أن والية أمر الناس من أعظم‬
‫واجبات الدين بل ال قيام للدين وال للدنيا إال هبا‪ .‬فإن بني آدم ال تتم مصلحتهم إال باالجتامع حلاجة بعضهم إىل بعض‪ ،‬وال بد هلم‬
‫عند االجتامع من رأس حتى قال النبي صىل اهلل عليه [وآله] وسلم‪« :‬إذا خرج ثالثة يف سفر فليؤمروا أحدهم»‪ .‬رواه أبو داود‪ ،‬من‬
‫حديث أيب سعيد‪ ،‬وأيب هريرة‪ .‬وروى اإلمام أمحد يف املسند عن عبد اهلل بن عمرو‪ ،‬أن النبي صىل اهلل عليه [وآله] وسلم قال‪« :‬ال حيل‬
‫لثالثة يكونون بفالة من األرض إال أمروا عليهم أحدهم»‪ .‬فأوجب صىل اهلل عليه [وآله] وسلم تأمري الواحد يف االجتامع القليل‬
‫العارض يف السفر‪ ،‬تنبي ًها بذلك عىل سائر أنواع االجتامع‪ .‬وألن اهلل تعاىل أوجب األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬وال يتم ذلك إال‬
‫بقوة وإمارة‪ .‬وكذلك سائر ما أوجبه من اجلهاد والعدل وإقامة احلج واجلمع واألعياد ونْص املظلوم وإقامة احلدود‪ ،‬ال تتم إال بالقوة‬
‫واإلمارة»‪.‬‬
‫ج‪ /‬الثالث‪ :‬القرطبي يف تفسريه (ج‪ ،1‬ص‪ ،)265 – 264‬حيث قال‪« :‬الرابعة ‪ -‬هذه اآلية أصل يف نصب إمام وخليفة يسمع له‬
‫ويطاع‪ ،‬لتجتمع به الكلمة‪ ،‬وتنفذ به أحكام اخلليفة‪ .‬وال خالف يف وجوب ذلك بني األمة وال بني األئمة إال ما روي عن األصم‬
‫حيث كان عن الرشيعة أصم‪ ،‬وكذلك كل من قال بقوله واتبعه عىل رأيه ومذهبه‪ ،‬قال‪ :‬إهنا غري واجبة يف الدين بل يسوغ ذلك‪ ،‬وأن‬
‫األمة متى أقاموا حجهم وجهادهم‪ ،‬وتناصفوا فيام بينهم‪ ،‬وبذلوا احلق من أنفسهم‪ ،‬وقسموا الغنائم والفيء والصدقات عىل أهلها‪،‬‬
‫وأقاموا احلدود عىل من وجبت عليه‪ ،‬أجزأهم ذلك‪ ،‬وال جيب عليهم أن ينصبوا إماما يتوىل ذلك‪ .‬ودليلنا قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬إِ ِّين ج ِ‬
‫اع ٌل‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫احلاتِ‬‫ض﴾‪ ،‬وقال‪﴿ :‬وعَدَ اهللَُّ ا َّل ِذين آمنُوا ِمنْكُم وع َِم ُلوا الص ِ‬
‫َاك َخلِي َف ًة ِيف ْاألَ ْر ِ‬
‫ض َخلِي َفة﴾‪ ،‬وقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬يا َد ُاوو ُد إِنَّا َج َع ْلن َ‬
‫ِيف ْاألَ ْر ِ‬
‫َّ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫َليَ ْستَخْ لِ َفنَّ ُه ْم ِيف ْاألَ ْر ِ‬
‫ض﴾ أي‪ :‬جيعل منهم خلفاء‪ ،‬إىل غري ذلك من اآلي‪ .‬وأمجعت الصحابة عىل تقديم الصديق بعد اختالف وقع‬
‫بني املهاجرين واألنصار يف سقيفة بني ساعدة يف التعيني‪ ،‬حتى قالت األنصار‪ :‬منا أمري ومنكم أمري‪ ،‬فدفعهم أبو بكر وعمر‬
‫واملهاجرون عن ذلك‪ ،‬وقالوا هلم‪ :‬إن العرب ال تدين إال هلذا احلي من قريش‪ ،‬ورووا هلم اخلرب يف ذلك‪ ،‬فرجعوا وأطاعوا لقريش‪.‬‬
‫فلو كان فرض اإلمامة غري واجب ال يف قريش وال يف غريهم ملا ساغت هذه املناظرة واملحاورة عليها‪ ،‬ولقال قائل‪ :‬إهنا ليست بواجبة‬
‫ال يف قريش وال يف غريهم‪ ،‬فام لتنازعكم وجه وال فائدة يف أمر ليس بواجب‪ ،‬ثم إن الصديق ‪ ‬ملَّا حرضته الوفاة عهد إىل عمر يف‬
‫اإلمامة‪ ،‬ومل يقل له أحد هذا أمر غري واجب علينا وال عليك‪ ،‬فدل عىل وجوهبا وأهنا ركن من أركان الدين الذي به قوام املسلمني‪،‬‬
‫واحلمد هلل رب العاملني»‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪124‬‬

‫د‪ /‬الرابع‪ :‬الغزايل يف كتابه االقتصاد يف االعتقاد ص‪ ،127‬حيث قال‪« :‬وال ينبغي أن تظن أن وجوب ذلك مأخوذ من العقل‪ ،‬فإنا‬
‫ب ّينا أن الوجوب يؤخذ من الرشع إال أن يفرس الواجب بالفعل الذي فيه فائدة ويف تركه أدنى مرضة‪ ،‬وعند ذلك ال ينكر وجوب‬
‫نصب اإلمام ملا ف يه من الفوائد ودفع املضار يف الدنيا‪ ،‬ولكنا نقيم الربهان القطعي الرشعي عىل وجوبه ولسنا نكتفي بام فيه من إمجاع‬
‫األمة‪ ،‬بل ننبه عىل مستند اإلمجاع ونقول‪ :‬نظام أمر الدين مقصود لصاحب الرشع ‪ ‬قط ًعا‪ ،‬وهذه مقدمة قطعية ال يتصور النزاع‬
‫فيها‪ ،‬ونضيف إليها مقدمة أخرى وهو أنه ال حيصل نظام الدين إال بإمام مطاع فيحصل من املقدمتني صحة الدعوى وهو وجوب‬
‫نصب اإلمام»‪.‬‬
‫وقال يف موضع آخر ص‪ « :128‬فكان وجوب نصب اإلمام من رضوريات الرشع الذي ال سبيل إىل تركه فاعلم ذلك»‪.‬‬
‫ه‪ /‬اخلامس‪ :‬اآلمدي يف غاية املرام يف علم الكالم ص‪ ،366‬حيث قال‪« :‬فإ ًذا نصب اإلمام من أهم مصالح املسلمني وأعظم عمد‬
‫الدين فيكون واج ًبا‪ ،‬حيث عرف بالسمع أن ذلك مقصود للرشع‪ ،‬وليس ممّا يمكن القول بوجوبه ً‬
‫عقال»‪.‬‬
‫الصحابة‬ ‫ثم إ َّن نصب اإلمام واجب قد عرف وجوبه يف ّ‬
‫الرشع بإمجاع ّ‬ ‫و‪ /‬السادس‪ :‬ابن خلدون يف تارخيه ص‪ ،240‬حيث قال‪ّ « :‬‬
‫والتّابعني»‪.‬‬
‫ز‪ /‬السابع‪ :‬السفاريني احلنبَل يف لوامع األنوار البهية وسواطع األرسار األثرية لرشح الدرة املضية ج‪ 2‬ص‪ ،419‬حيث قال‪( :‬الباب‬
‫السادس يف ذكر اإلمامة ومتعلقاهتا)‬
‫(وال غنى ألمة اإلسالم‪ ...‬يف كل عْص كان عن إمام)‬
‫(يذب عنها كل ذي جحود‪ ...‬ويعتني بالغزو واحلدود)‬
‫(وفعل معروف وترك نكر‪ ...‬ونْص مظلوم وقمع كفر)‬
‫(وأخذ مال الفيء واخلراج‪ ...‬ونحوه والْصف يف منهاج)‬
‫قال علامؤنا كغريهم‪ :‬نصب اإلمام األعظم فرض كفاية ألن الصحابة ‪ ‬أمجعوا عىل أن نصبه واجب بعد انقراض زمن النبوة‪ ،‬بل‬
‫جعلوه أهم الواجبات حيث اشتغلوا به عن دفن رسول اهلل ‪ -‬صىل اهلل عليه [وآله] وسلم ‪ ، -‬واختالفهم يف تعيينه ال يقدح يف اإلمجاع‬
‫املذكور»‪.‬‬
‫ح‪ /‬الثامن‪ :‬ابن األزرق يف بدائع السلك ص‪ ،70 - 69‬حيث قال‪« :‬إ َّن مدرك وجوب نصبه عند أهل احلق رشعي ال عقَل‪ ،‬وقرره‬
‫من وجهني‪ ،‬أحدمها‪ :‬اعتباري‪ ،‬وهو أن حكمة نصبه كام يتقرر منها بعد أن شاء اهلل يقتيض بحسب اعتبارها رشعًا وجوب التكليف‬
‫به مطل ًقا‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬إمجاعي‪ ،‬قال ابن التلمساين ‪ -‬وهو املعتمد القاطع ألهل السنة ‪ -‬وقرره بام نقل عن السلف واخللف من امتناع خلو األرض‬
‫من إمام قائم بأمر اهلل»‪.‬‬
‫ويف موضع آخر ص‪ ،71‬قال‪« :‬إن حقيقة هذا الوجوب الرشعي راجعة إىل النيابة عن الشارع يف حفظ الدين وسياسة الدنيا به‬
‫ويسمى باعتبار هذه خالفة وإمامة وذلك ألن الدين هو املقصود يف إجياد اخللق ال الدنيا فقط»‪.‬‬
‫‪125‬‬ ‫البحث السابع‪ :‬اإلمامة اإللهية أصل من أصول الدين‬

‫اجلواب الثاين‪ :‬التفريق بني الدين الواقعي والدين الظاهري‪.‬‬

‫فاإلمامة أصل من أصول الدين الواقعي‪ ،‬وهو الذي حتصل به النجاة يف اآلخرة‪ ،‬وأما‬
‫الدين الظاهري فهو الذي به ُحتقن الدماء ُ‬
‫وحترتم األعراض واألموال‪ ،‬فمن قال باإلمامة‬
‫حصلت له النجاة يف اآلخرة‪ ،‬وأما من مل يقل هبا فهو حمكوم باإلسالم‪ ،‬وهو عىل الدين‬
‫الظاهري‪ ،‬فيحرم دمه وماله وعرضه‪ ،‬وتنطبق عليه سائر األحكام اخلاصة باملسلمني‪.‬‬

‫اجلواب الثالث‪ :‬التفريق بني اجلهل القصوري واإلنكار اجلحودي‪.‬‬

‫ببيان‪َّ :‬‬
‫أن احلجة إذا قامت عىل شخص َّما بكون اإلمامة ألهل البيت ‪ ،‬ومع ذلك مل‬
‫يعتقد هبا‪ ،‬فهو منكر جاحد حمكوم بالكفر؛ َّ‬
‫ألن إنكاره يؤول إىل تكذيب اهلل عز و جل ورسوله‬
‫ٍ‬
‫لقصور فيه‪ ،‬فهو مسلم‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫لتقصري منه‪ ،‬بل‬ ‫‪ ،‬وأما إذا مل تقم عنده احلجة عىل إمامتهم ‪ ‬ال‬
‫عرب عنه يف القرآن الكريم والروايات الرشيفة باملستضعف‪ ،‬كام يف قوله تعاىل‪ِ ﴿ :‬إ َّال‬ ‫وهو املُ َّ‬
‫ون َسبِ ًيال * َف ُأو َلئِ َك‬
‫ون ِحي َل ًة َو َال َ ُّْيتَدُ َ‬
‫ان َال َي ْستَطِي ُع َ‬ ‫ِ‬ ‫ني ِم َن الر َج ِ‬
‫اء وا ْل ِو ْلدَ ِ‬
‫ال َوالن َِّس َ‬ ‫ِّ‬ ‫املُْ ْست َْض َع ِف َ‬
‫َع َسى اهللَُّ َأ ْن َي ْع ُف َو َعن ُْه ْم َوك َ‬
‫َان اهللَُّ َع ُف ًّوا غَ ُف ً‬
‫ورا﴾ (‪.)1‬‬

‫وعىل ضوء ذلك يتضح‪ :‬أنه ال مالزمة بني االعتقاد بكون اإلمامة من أصول الدين‪،‬‬
‫والقول بكفر سائر املسلمني‪ ،‬فتأ ّمل يف ذلك جيدً ا (‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬سورة النساء‪.99 - 98 :‬‬


‫(‪ )2‬ومما جيدر ذكره هاهنا‪ :‬أ َّن بعض علامء العامة يظهر منه القول بكون اإلمامة من األصول‪ ،‬بل هو رصيح كلامت غري واحد منهم‪،‬‬
‫ومنهم‪:‬‬
‫أبو زرعة عبيد اهلل بن عبد الكريم الرازي‪ ،‬وأبو حاتم حممد بن إدريس املنذر الرازي‪ ،‬ومجاعة من السلف‪ ،‬كام يشهد بذلك قول الشيخ‬
‫هبة اهلل بن احلسن بن منصور ال طربي الاللكائي يف كتابه (رشح أصول اعتقاد أهل السنة واجلامعة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪« :)197‬أخربنا حممد‬
‫بن املظفر املقرئ‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا احلسني بن حممد بن حبش املقرئ‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا أبو حممد عبد الرمحن بن أيب حاتم‪ ،‬قال‪ :‬سألت أيب وأبا‬
‫زرعة عن مذهب أهل السنة يف أصول الدين‪ ،‬وما أدركا ع ليه العلامء يف مجيع األمصار‪ ،‬وما يعتقدان من ذلك‪ ،‬فقاال‪ :‬أدركنا العلامء‬
‫يف مجيع األمصار – حجازً ا وعرا ًقا وشا ًما ويمنًا – فكان من مذهبهم‪ :‬اإليامن قول وعمل يزيد وينقص‪ ،‬والقرآن كالم اهلل غري خملوق‬
‫بجميع جهاته‪ ،‬والقدر خريه ورشه من اهلل ‪ ، ‬وخري هذه األمة بعد نبيها (عليه الصالة والسالم) أبو بكر الصديق‪ ،‬ثم عمر بن‬
‫اخلطاب‪ ،‬ثم عثامن بن عفان‪ ،‬ثم عَل بن أيب طالب‪ ،‬وهم اخللفاء الرشدون املهديون»‪.‬‬
‫فظهر من كالمهام‪ :‬أ َّن اإلمامة عند أهل السنة من أصول الدين‪ ،‬ولع ّله ألجل هذه اجلهة ذهب بعض علامء السنة إىل تكفري َمن قدح‬
‫يف خالفة أيب بكر‪ ،‬ومنهم‪ :‬املفرس القرطبي – يف تفسريه (اجلامع ألحكام القرآن‪ :‬ج‪ ،8‬ص‪ – )148‬حيث يقول‪« :‬وقد جاء يف السنة‬
‫أحاديث صحيحة يدل عىل أنّه اخلليفة بعده‪ ،‬وقد انعقد اإلمجاع عىل ذلك‪ ،‬ومل يبق منهم خمالف‪ ،‬والقادح يف خالفته مقطوع بخطئه‬
‫وتفسيقه‪ ،‬وهل يكفر أم ال؟ ُخيتلف فيه‪ ،‬واألظهر تكفريه»‪.‬‬
‫وقد ط َّبق الشيخ افتخار الدين البخاري – من أبرز علامء احلنفية – ذلك عىل الشيعة‪ ،‬فقال يف كتابه الفقهي املشهور (خالصة الفتاوى‪:‬‬
‫كافرا‪ ،‬وإن كان يفضل‬
‫ص ‪ ،256‬كتاب ألفاظ الكفر) ما هذا نصه‪« :‬وما يتصل هبذا‪ :‬الرافيض إذا كان يسب الشيخني ويلعنهام يكون ً‬
‫كافرا لكنه مبتدع»‪.‬‬
‫عليًا عىل أيب بكر وعمر ريض اهلل عنهم ال يكون ً‬
‫اهلامم يف كتابه (فتح القدير‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪ – ) 350‬من كتب الفقه احلنفي –‪« :‬ويف الروافض أ َّن َمن َّ‬
‫فضل عليًا عىل الثالثة‬ ‫وقال ابن ّ‬
‫فمبتدع‪ ،‬وإن أنكر خالفة الصدّ يق أو عمر ‪ ‬فهو كافر»‪.‬‬
‫ومنهم‪ :‬القايض البيضاوي يف متنه األصويل الشهري (منهاج الوصول‪ :‬ص‪ ،)76 – 75‬حيث قال متحد ًثا عن القسم الثاين من‬
‫األخبار‪« :‬الفصل الثاين‪ :‬فيام علم كذبه‪ :‬وهو قسامن‪:‬‬
‫ً‬
‫استدالال‪.‬‬ ‫األول‪ :‬ما علم خالفه رضور ًة أو‬
‫صح لتوفرت الدواعي عىل نقله‪ ،‬كام يعلم أن ال بلدة بني مكة واملدينة أكرب منهام‪ ،‬إذ لو كان لنقل‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬ما لو َّ‬
‫وادعت الشيعة أن النص دل عىل إمامة عَل ‪ ،‬ومل يتواتر كام مل تتواتر اإلقامة‪ ،‬والتسمية‪ ،‬ومعجزات الرسول (عليه الصالة‬
‫والسالم)‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬األوالن من الفروع‪ ،‬وال كفر وال بدعة يف خمالفتهام‪ ،‬بخالف اإلمامة‪ ،‬وأما تلك املعجزات‪ :‬فلقلة املشاهدين»‪.‬‬
‫والشاهد هو قوله‪( :‬بخالف اإلمامة) فإنه بمقتىض مقابلته هلا بقوله‪( :‬األوالن من الفروع) ُيعلم أ َّن اإلمامة بنظر القايض البيضاوي‬
‫من أصول الدين‪ ،‬ال من فروعه‪.‬‬
‫رشاح (املنهاج)‪ ،‬وإليك كلامت بعضهم‪:‬‬
‫وهذا هو ما فهمه غري واحد من ُ َّ‬
‫صحيحا لكانت الدواعي‬
‫ً‬ ‫أ‪ -‬قال السبكي يف (اإلهباج يف رشح املنهاج‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪« :)296 – 295‬القسم الثاين‪ :‬اخلرب الذي لو كان‬
‫أمرا غريبًا‪ ،‬كسقوط اخلطيب عن املنرب وقت اخلطبة‪ ،‬أو لتعلق أصل من أصول الدين به‪ ،‬كالنص الذي‬
‫متوفرة عىل نقله‪ ،‬إما لكونه ً‬
‫تزعم الروافض أنه ّ‬
‫دل عىل إمامة عَل بن أيب طالب ‪ ،‬فعدم تواتره دليل عىل عدم صحته‪ ،‬وهلذا إنّا نقطع بأنه ال بلدة بني مكة‬
‫واملدينة أكرب منهام‪ ،‬وليس مستند هذا القطع إال أنه لو كان لتواتر‪.‬‬
‫وقالت الشيعة‪ :‬ما ندعيه من النص الدال عىل إمامة عَل ‪ ‬مل يتواتر كام مل تتواتر كلامت اإلقامة من أهنا مثنى أو فرادى‪ ،‬والتسمية يف‬
‫الصالة‪ ،‬ومعجزات الرسول ‪ ‬التي مل تتواتر ‪ -‬كحنني اجلذع إليه‪ ،‬وتسليم احلجر عليه‪ ،‬ووقوف الشجر بني يديه‪ ،‬وتسبيح احلىص‬
‫يف يمينه ‪ -‬مع توفر الدواعي عىل نقلها‪ ،‬فدل ذلك عىل أ ّن عدم تواتر ما تتوفر الدواعي عىل نقله ليس ً‬
‫دليال عىل عدم صحته‪.‬‬
‫األولني ‪ -‬أعني‪ :‬اإلقامة والتسمية ‪ -‬بأهنام من مسائل الفروع‪ ،‬وال كفر وال بدعة يف خمالفتهام‪ ،‬فلم تتوفر الدواعي عىل‬
‫وأجاب عن ّ‬
‫فلام مل تتوفر ّ‬
‫دل عىل‬ ‫نقلهام لذلك‪ ،‬بخالف اإلمامة فإهنا من األصول وخمالفتها بدعة‪ ،‬ومؤثرة يف الفتن‪ ،‬فتتوفر الدواعي عىل نقلها‪َّ ،‬‬
‫عدم صحته»‪.‬‬
‫متواترا؛‬
‫ً‬ ‫صح لكان‬
‫ب‪ -‬وقال اجلاربردي يف (الرساج الوهاج يف رشح املنهاج‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪« :)731 – 729‬الثاين‪ :‬أن يكون بحيث لو ّ‬
‫لتوفر الدواعي عىل نقله‪ ،‬إما لكونه ً‬
‫أصال من أصول الدين‪ ،‬أو لغرابته‪ ،‬ثم انفرد واحد بنقله‪ ،‬فإنه ُيعلم كذبه‪ ،‬والدليل عىل كونه‬
‫كذ ًبا‪ :‬أنه لو كان صد ًقا جلاز أن يكون بني مكة واملدينة بلدة أعظم منهام‪ ،‬ومل ُينقل إلينا‪ ،‬وهو معلوم البطالن‪.‬‬
‫وخالف الشيعة يف ذلك ‪ -‬أي‪ :‬يف وجوب كون مثل ذلك اخلرب كذ ًبا ‪ -‬وقالوا‪ :‬النص دل عىل إمامة عَل ‪ ‬ومل يتواتر‪ ،‬كام مل يتواتر‬
‫أ ّن اإلقامة مثنى كانت يف زمانه (عليه الصالة والسالم) أو فرادى‪ ،‬وأ ّن التسمية كانت باجلهر أو باخلفاء‪ ،‬وكام مل تتواتر معجزات‬
‫الرسول (عليه الصالة والسالم) من تسبيح احلىص‪ ،‬وحنني اجلذع‪ ،‬وتسليم الغزالة‪ ،‬مع توفر الدواعي عىل نقل هذه األشياء‪ ،‬فدل‬
‫ذلك عىل أنه مل جيب تواتر ما تتوفر الدواعي عىل نقله‪.‬‬
‫األولني ‪ -‬أي‪ :‬اإلقامة والتسمية ‪ -‬ال نس ّلم أهنام مما تتوفر الدواعي عىل نقله؛ ألهنام من الفروع‪ ،‬وال كفر وال بدعة‬
‫وأجاب عنه‪ :‬بأ ّن ّ‬
‫داال عىل إمامة عَل ‪ ‬فإ ّن يف خمالفته بدعة عظيمة»‪.‬‬
‫يف خمالفتهام‪ ،‬بخالف النص الذي يكون ً‬
‫وقال شمس الدين اإلصفهاين يف (رشح املنهاج‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪ « :)535 – 533‬الثاين‪ :‬اخلرب الذي انفرد به واحد يف الَشء الذي تتوفر‬
‫الدواعي عىل نقله‪ ،‬لتعلقه بأصل الدين‪ ،‬أو لغرابته‪ ،‬أو لكليهام‪ ،‬وقد يشاركه خلق كثري يف مشاهدة ذلك الَشء‪ ،‬كام لو انفرد شخص‬
‫فلام مل يتواتر‬ ‫واحد بأ ّن بني مكة واملدينة بلدة أعظم منهام‪ ،‬فإنه يعلم قط ًعا أنه كاذب؛ ألنه لو ّ‬
‫صح لتوفرت الدواعي عىل نقله فتواتر‪َّ ،‬‬
‫‪ -‬وقد شاركه خلق كثري فيه ‪ُ -‬علم كذبه قط ًعا‪.‬‬
‫وا ّدعت الشيعة‪ :‬أ ّن النص ّ‬
‫دل عىل إمامة عَل ‪ ‬ومل يتواتر‪ ،‬فإنه جائز أن ال يتواتر مثل هذا النص وإن تعلق بأمر عظيم يف الدين‪ ،‬كام‬
‫مل تتواتر اإلقامة والتسمية ومعجزات الرسول ‪ -‬كانشقاق القمر‪ ،‬وتسبيح احلىص يف يده‪ ،‬وحنني اجلذع إليه‪ ،‬وتسليم الغزالة عليه ‪-‬‬
‫فإهنا نُقلت آحا ًدا مع أهنا من الوقائع التي تتوفر الدواعي عىل نقلها‪.‬‬
‫أجاب املصنّف بأ ّن األولني ‪ -‬اإلقامة والتسمية ‪ -‬من الفروع‪ ،‬فال كفر وال بدعة يف خمالفتهام‪ ،‬فلم تتوفر الدواعي عىل نقلها‪ ،‬بخالف‬
‫واترا»‪.‬‬ ‫اإلمامة فإهنا من أصول الدين‪ ،‬وخمالفتها بدعة‪ ،‬فلو كان نص عىل إمامة عَل ‪ ‬مل يتساهلوا فيه‪ ،‬ونقلوه ً‬
‫نقال مت ً‬
‫ج‪ -‬وقال البدخيش يف (مناهج العقول يف رشح منهاج الوصول‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪« :)226 – 225‬الثاين‪ :‬ما مل يتواتر من األخبار‪ ،‬ومن شأنه‬
‫أنه لو صح لتوفرت الدواعي عىل نقله‪ ،‬لكونه من أصول الدين كاإلمامة‪ ،‬أو لغرابته كسقوط املؤذن عن املنارة ينكر! املشهد من أهل‬
‫متواترا‪.‬‬
‫ً‬ ‫املدينة‪ ،‬أو هلام مجي ًعا كاملعجزات؛ إذ عدم تواتره دليل عدمه‪ ،‬كام ُيعلم أن ال بلدة بني مكة واملدينة أكرب منهام؛ إذ لو كان لنقل‬
‫ال يقال‪ :‬هذا إثبات للقاعدة الكلية باملثال اجلزئي‪.‬‬
‫ألنّا نقول‪ :‬القاعدة رضورية‪ ،‬وإيراد املثال للتنبيه‪.‬‬
‫وادعت الشيعة خال ًفا لنا‪ :‬أ ّن النص اجلَل ّ‬
‫دل عىل إمامة عَل ‪ ‬ومل يتواتر ‪ -‬وإن كان من األصول ‪ -‬كام مل تتواتر اإلقامة أهنا مثنى‬
‫أو فرادى‪ ،‬والتسمية أهنا باجلهر أو اإلرسار‪ ،‬ومعجزات الرسول (عليه الصالة والسالم)‪ ،‬أي‪ :‬آحادها ‪ -‬كانشقاق القمر‪ ،‬وتسبيح‬
‫احلىص‪ ،‬وحنني اجلذع‪ ،‬وتسليم الغزالة‪ ،‬إىل غري ذلك ‪ -‬مع توفر الدواعي إىل نقلها‪ ،‬فذلك ال يستلزم كذب اخلرب إذا مل يتواتر الكذب‬
‫هبذه األمور‪ ،‬والالزم باطل‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬األوالن ‪ -‬أي‪ :‬اإلقامة والتسمية ‪ -‬من الفروع ‪ -‬أي‪ :‬فروع الدين ‪ -‬وال كفر وال بدعة يف خمالفتهام‪ ،‬فلم يتوفر الدواعي عىل‬
‫نقلهام‪ ،‬بخالف اإلمامة فإهنا من األصول‪ ،‬وخمالفتها تقتيض إىل أحد األمرين‪ ،‬فهي مما تتوفر الدواعي إىل نقله»‪.‬‬
‫د‪ -‬وقال اآلسنوي يف (هناية السول يف رشح منهاج األصول‪ :‬ص‪« :)263‬وخالفت الشيعة يف القسم الثاين‪ ،‬فادعت أ ّن النص اجلَل‬
‫ّ‬
‫دل عىل إمامة عَل ‪ ‬ومل يتواتر‪ ،‬كام مل يتواتر غريه من األمور املهمة‪ ،‬كاإلقامة‪ ،‬والتسمية يف الصالة‪ ،‬ومعجزات الرسول (صىل اهلل‬
‫عليه [وآله] وسلم) ‪ -‬كحنني اجلذع‪ ،‬وتسبيح احلىص‪ ،‬ونحومها ‪ -‬وهلذا اختلفوا يف إفراد اإلقامة ويف إثبات التسمية‪.‬‬
‫واجلواب عن األولني ‪ -‬ومها‪ :‬اإلقامة والتسمية ‪ -‬بأهنام من الفروع‪ ،‬واملخطئ فيهام ليس بكافر وال مبتدع‪ ،‬فلذلك مل تتوفر الدواعي‬
‫عىل نقلهام‪ ،‬بخالف اإلمامة فإهنا من أصول الدين‪ ،‬وخمالفتها فتنة وبدعة»‪.‬‬
‫ه‪ -‬وقال ابن إمام الكاملية يف (تيسري الوصول‪ :‬ج‪ ،4‬ص‪« :)287‬الثاين‪ :‬ما لو صح ‪ -‬أي‪ :‬اخلرب الذي لو صح ‪ -‬لتوفرت الدواعي‬
‫عىل نقله‪ ،‬إما لغرابته‪ ،‬كسقوط اخلطيب عن املنرب يوم اجلمعة‪ ،‬أو لتعلقه بأصل من أصول الدين‪ ،‬كالنص عىل إمامة عَل ‪ ،‬فعدم‬
‫تواتره يدل عىل عدم صحته؛ ملخالفته للعادة‪.‬‬
‫إىل أن قال‪ :‬وادعت الشيعة‪ :‬إنّا ال نقطع بكذبه‪ ،‬لتجويز العقل صدقه‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬إن النص دل عىل إمامة عَل (كرم اهلل وجهه) نحو‪" :‬أنت اخلليفة بعدي" ومل يتواتر‪ ،‬كام مل يتواتر غريه من األمور املهمة؛ ألن‬
‫احلوامل املقدرة عىل كتامن األخبار كثرية ال يمكن ضبطها‪ ،‬فكيف اجلزم بعدمها؟! ومع جوازها ال حيصل اجلزم‪.‬‬
‫فمن ذلك‪ :‬اإلقامة‪ ،‬فإنه تعم به البلوى‪ ،‬ومتس احلاجة إليها‪ ،‬ونُقل آحا ًدا إفرادها وتثنيتها‪ ،‬وقراءة التسمية يف الصالة وتركها‪ ،‬وكذلك‬
‫معجزات الرسول (صىل اهلل عليه [وآله] وسلم) ‪ -‬كانشقاق القمر‪ ،‬وتسبيح احلىص يف يده‪ ،‬ومَش الشجر‪ ،‬ونحوها‪ ،‬فلم ُينقل‬
‫متواترا بل آحا ًدا‪.‬‬
‫ً‬
‫قلنا‪ :‬األوالن ‪ -‬ومها‪ :‬اإلقامة والتسمية ‪ -‬من الفروع‪ ،‬وال كفر وال بدعة يف خمالفتهام‪ ،‬وإن كان املخالف فيهام خمطئًا‪ ،‬فليست مما‬
‫ذكرنا‪ ،‬لعدم توفر الدواعي عىل نقلها‪ ،‬بخالف اإلمامة فإهنا من أصول الدين»‪.‬‬
‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإلهلية‬

‫متهيد‪:‬‬

‫وفيه أمران‪:‬‬

‫األمر األول‪ :‬إطاللة عىل نظرية القراءة املنسية‪.‬‬

‫مرت بمرحلتني‪:‬‬ ‫أثار بعض املعارصين(‪َّ )1‬‬


‫أن عقيدة اإلمامة – عند الشيعة اإلمامية – قد ّ‬
‫املرحلة األوىل‪ :‬مرحلة القرن األول والثاين من تاريخ اإلسالم‪ ،‬وكانت عقيدة اإلمامية‬
‫آنذاك بمقدار أن اإلمامة بمعنى الرئاسة العامة‪َّ ،‬‬
‫وأن اإلمام عامل بالقرآن وعامل به‪ ،‬ومقيم‬
‫للعدل واحلق‪.‬‬

‫طر َح هذه األطروحة عدد من ال ُكتّاب اإليرانيني‪ ،‬ومنهم‪ :‬حيدر عَل قلمداران يف كتابيه (طريق االحتاد) و(دراسة ومتحيص يف‬
‫(‪َ )1‬‬
‫روايات النص عىل األئمة ‪ ،) ‬وحسني املدريس الطباطبائي يف كتابه (حتول الفكر الشيعي)‪ ،‬وحمسن كديور يف كتابه (القراءة املنسية)‪،‬‬
‫وقد اعتمدنا عىل كتابه هذا يف معرفة أبعاد هذه األطروحة‪ ،‬والتي تلقفها منهم بعض ال ُكتّاب العرب وقاموا برتوجيها‪.‬‬
‫ومما جيدر التنبيه عليه يف املقام‪ :‬أ َّن هناك عدة دعوات إلعادة قراءة التشيع‪ ،‬وتنتهي مجيع هذه الدعوات إىل وجود نسختني للتشيع‪،‬‬
‫نسخة أصيلة قد طواها الزمن‪ ،‬ونسخة بديلة هي النسخة املتداولة اآلن‪ ،‬ولكن أصحاب هذه الدعوات قد اختلفوا يف حتديد‬
‫النسختني‪ ،‬فطرح د‪ .‬عَل رشيعتي أطروحة التشيع العلوي والصفوي‪ ،‬وقد اعترب أ َّن التشيع قبل الدولة الصفوية هو التشيع العلوي‪،‬‬
‫وهو النسخة األصيلة‪ ،‬وأ َّن التشيع بعد الدولة الصفوية هو التشيع املزيف‪ ،‬بينام طرح آخرون أطروحة القراءة املنسية‪ ،‬وهي‬
‫األطروحة الرائجة اآلن‪ ،‬ومفادها‪ :‬أ َّن هنالك قراءتني لإلمامة – باعتبارها القضية املحورية للتشيع ‪ -‬ومها‪ :‬القراءة البرشية والقراءة‬
‫فوق البرشية‪ ،‬واألوىل هي النسخة األصيلة التي كانت رائجة يف القرنني األولني اهلجريني‪ ،‬والثانية هي النسخة البديلة التي راجت‬
‫برشا عاد ًيا‪ ،‬غاية األمر أنه متقدم عىل غريه يف العلم والعمل‪،‬‬
‫يف القرون الالحقة حتى زماننا‪ ،‬وأصحاب القراءة األوىل يقرؤون اإلمام ً‬
‫بينام أصحاب القراءة الثانية يقرؤونه ذا جنبة فوق البرشية‪ ،‬يعلم الغيب وال خيطئ وال يغفل وال يسهو‪ ،‬وبام أ َّن هذه القراءة هي‬
‫القراءة السائدة اليوم فقد اصطلح أصحاب هذه األطروحة عىل القراءة السابقة بـ (القراءة املنسية)‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪130‬‬

‫طور‬
‫املرحلة الثانية‪ :‬مرحلة القرن الثالث والرابع فام بعد‪ ،‬ويف هذه احلقبة الزمنية قد ّ‬
‫أمورا مل تكن ضمنها يف املرحلة السابقة‪ ،‬من قبيل اعتبار‬ ‫الشي ُ‬
‫عة عقيدة اإلمامة فأضافوا إليها ً‬
‫اإلمامة من األصول‪ ،‬وأهنا ال تكون إال بالنص من قبل النبي ‪ ،‬وأن اإلمام ال بد أن يكون‬
‫معصو ًما عاملًا بالغيب‪ ،‬وواسطة يف الفيض وصاحب والية تكوينية وترشيعية‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫بني وواضح‪ ،‬فالشيعة يف القرنني األوليني كانوا يلحظون البعد‬


‫والتفاوت بني املرحلتني ّ ٌ‬
‫البرشي‪ ،‬وأما يف القرون الالحقة فإهنم صاروا يرون اإلمام فوق البرش‪ ،‬والسبب وراء‬
‫استحداث هذه الرؤية هو وجود قسم من الرواة كانوا أصحاب اجتاه باطني‪ ،‬وهؤالء هم الذين‬
‫وطوروها‪ ،‬وإال فإهنا ال عني وال أثر‬ ‫أسسوا ّ‬
‫خلط الغلو‪ ،‬ثم تلقف املتكلمون منهم هذه العقيدة ّ‬ ‫ّ‬
‫هلا يف كلامت األئمة ‪ ‬أنفسهم وكلامت أصحاهبم من الرعيل األول‪.‬‬

‫واحلاصل‪َّ :‬‬
‫فإن الصورة املرسومة اآلن يف الذهنية الشيعية لإلمام واإلمامة ليست هي‬
‫نفس الصورة الواقعية التي رسمها األئمة ‪ ،‬وإنام هي صورة الرتاكامت الكالمية والفلسفية‬
‫والعرفانية التي استحدثت عىل هامش روايات خط الغالة‪.‬‬

‫إن النظرية املذكورة تتناول بعدين‪:‬‬


‫األمر الثاين‪َّ :‬‬

‫أ – البعد األول‪ُ :‬بعد الصفات؛ إذ املدعى َّ‬


‫أن الصفات التي يعتربها الشيعة يف اإلمام –‬
‫كالعصمة‪ ،‬وعلم الغيب – إنام هي صن اعة القراءة فوق البرشية لإلمامة‪ ،‬وأما القراءة البرشية‬
‫أبرارا‪.‬‬
‫فإهنا ال ترى يف األئمة ‪ ‬أكثر من كوهنم علامء ً‬

‫ب – ال ُبعد الثاين‪ُ :‬بعد العدد؛ إذ املدعى َّ‬


‫أن انحصار عدد األئمة ‪ ‬يف االثني عرش‪ ،‬مما‬
‫أضافته النسخة البديلة‪ ،‬وأما النسخة األصيلة فهي خالية عن ذلك‪.‬‬
‫‪131‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫سيتوزع عىل مقامني‪:‬‬


‫ّ‬ ‫ومن هنا‪َّ ،‬‬
‫فإن نقدنا للنظرية املذكورة‬

‫‪ / 1‬املقام األول‪ :‬نقد نظرية القراءة املنسية يف بعدها الصفتي‪.‬‬

‫ولكي نضع النقاط عىل احلروف فإننا نحتاج لبيان أدلة القوم ً‬
‫أوال‪ ،‬ثم نعطف عليها ببيان‬
‫مواطن اخللل واإلشكال فيها‪ ،‬فالكالم يف جهات ثالث‪:‬‬

‫‪ – 1‬اجلهة األوىل‪ :‬أدلة النظرية‪.‬‬

‫وأهم أدلة هذه النظرية ً‬


‫إمجاال ثالثة‪:‬‬ ‫ه‬

‫أ – الدليل األول‪ :‬أحاديث األئمة ‪ ‬ورواياهتم‪.‬‬

‫ونكتفي بعرض بعضها‪:‬‬

‫احل ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ام‬
‫ارض وق َي ُ‬ ‫احل َّب َة و َب َر َأ الن ََّس َم َة‪َ ،‬ل ْو َال ُح ُض ُ‬
‫ور ْ َ‬ ‫• قال أمري املؤمنني ‪َ « :‬أ َما وا َّلذي َف َل َق ْ َ‬
‫َّارص‪ ،‬وما َأ َخ َذ اهللَّ َع َىل ا ْلع َلام ِء‪َ ،‬أ َّال ي َقاروا َع َىل كِ َّظ ِة َظ ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫ْ ِ‬
‫وال َسغ ِ‬
‫َب َم ْظ ُلو ٍم‪،‬‬ ‫املٍ َ‬ ‫ُ ه‬ ‫ُ َ‬ ‫احل َّجة بِ ُو ُجود الن ِ َ‬ ‫ُ‬
‫أن مالك ثبوت اإلمامة هو اجتامع‬ ‫ار ِ َهبا» (‪ ،)1‬واملفهوم من هذا النص َّ‬ ‫ألَ ْل َق ْي ُت َح ْب َل َها َع َىل غَ ِ‬

‫الكلمة واتفاقها‪ ،‬وليس هو النص‪ ،‬خال ًفا ملا تدعيه النسخة البديلة‪.‬‬
‫تاب‪َ ،‬واآلْ ِخ ُذ‬
‫عام ُل بِا ْلكِ ِ‬
‫• وقال سيد الشهداء احلسني ‪َ « :‬ف َلعمري ما اإلْمام إِالَّ ا ْل ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫هلل» (‪ ،)2‬وهو رصيح يف َّ‬ ‫احلابِس َن ْفسه َعىل ِ‬ ‫ط‪َ ،‬والدّ ائِ ُن بِ ْ‬
‫بِا ْل ِقس ِ‬
‫أن اإلمام ال ُيعترب‬ ‫ذات ا ِ‬ ‫َ ُ‬ ‫احلَ ِّق‪َ ،‬و ْ ُ‬ ‫ْ‬
‫فيه إال االتصاف بصفات أربع‪ ،‬وهي‪ :‬العمل بكتاب اهلل تعاىل‪ ،‬واحلكم بالعدل‪ ،‬والتدين‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ص‪.50‬‬


‫(‪ )2‬كلامت اإلمام احلسني ‪ :‬ص‪.379‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪132‬‬

‫باحلق‪ ،‬وهتذيب النفس‪ ،‬وبمقتىض هذه الرواية ال ُيعترب يف اإلمام يشء مما اعتربته فيه النسخة‬
‫املستحدثة للتشيع‪ ،‬كالعصمة والنص‪.‬‬
‫النصان إال جمرد نامذج ملا ُيستدل به‪ ،‬وإال َّ‬
‫فإن هلام نظائر سنأيت عليها يف اجلهة‬ ‫وما هذان ّ‬
‫الثانية إن شاء اهلل تعاىل‪ ،‬فرتقب‪.‬‬

‫ب – الدليل الثاين‪ :‬مواقف أصحاب األئمة ‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ما رواه الشيخ الصدوق ‪ ‬بقوله‪ :‬حدثنا حممد بن عَل ماجيلويه ‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا‬
‫عَل بن إبراهيم بن هاشم‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن حممد بن أيب عمري‪ ،‬قال‪« :‬ما سمعت وال استفدت من‬
‫هشام بن احلكم يف طول صحبتي إياه شي ًئا أحسن من هذا الكالم يف صفة عصمة اإلمام‪ ،‬فإين‬
‫سألته يو ًما عن اإلمام‪ ،‬أهو معصوم؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬فقلت‪ :‬وما صفة العصمة فيه‪ ،‬وبأي يشء‬
‫تعرف؟ قال‪ :‬إن مجيع الذنوب هلا أربعة أوجه ال خامس هلا‪ :‬احلرص واحلسد‪ ،‬والغضب‪،‬‬
‫والشهوة‪ ،‬فهذه منفية عنه‪.)1( » ...‬‬

‫وهذه احلادثة تؤكد عدم كون عصمة اإلمام ‪ ‬من الواضحات لدى الشيعة‪ ،‬وإال ملا‬
‫سأل ابن أيب عمري – وهو الفقيه املشهور – عن أصل ثبوهتا‪.‬‬

‫واعطف عىل ذلك موقف حجر بن عدي مع اإلمام احلسن ‪ ،‬حيث قال له حني‬
‫صالح معاوية بن أيب سفيان‪« :‬السالم عليك يا مذل املؤمنني» (‪ ،)2‬وهذا مما يؤكد عدم كون‬
‫تسليام‪.‬‬
‫ً‬ ‫عصمة اإلمام احلسن الزكي ‪ ‬مرتكزة يف ذهنه‪ ،‬وإال خلضع وأذعن وسلم‬

‫(‪ )1‬األمايل‪ ،‬للشيخ الصدوق‪ :‬ص‪.731‬‬


‫(‪ )2‬دالئل اإلمامة‪ :‬ص‪.166‬‬
‫‪133‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫ج – الدليل الثالث‪ :‬إقرار علامء الشيعة بتحول بعض معارف الشيعة من الغلو إىل‬
‫الرضورة‪.‬‬

‫ومن هؤالء األعالم‪ :‬الفقيه الكبري العالمة املامقاين ‪ ،‬حيث يقول‪َّ « :‬‬
‫وإن أكثر ما ُيعده‬
‫اليوم من رضوريات املذهب يف أوصاف األئمة ‪ ‬كان القول به معدو ًدا يف العهد السابق من‬
‫الغلو» (‪.)1‬‬

‫وشاركه يف هذه الرؤية عدّ ة ممن تقدم عليه من األعالم أو تأخر عنه‪ ،‬ومنهم‪ :‬املحقق‬
‫الشيخ الوحيد البهباين ‪ ،)2( ‬والسيد الربوجردي ‪ )3( ‬وغريمها‪.‬‬

‫وتدل هذه الرؤية عىل وجود نسختني من التشيع‪ ،‬كانت األصيلة منهام تعترب َّ‬
‫أن من الغلو‬
‫ما تعتقد النسخة األخرى أنه من الرضوريات‪.‬‬

‫‪ – 2‬اجلهة الثانية‪ :‬مناقشة النظرية‪.‬‬

‫ويمكن أن تناقش هذه النظرية بمناقشتني‪:‬‬

‫أ – املناقشة اإلمجالية‪.‬‬

‫تم االلتفات إليها لذهبت هذه النظرية أدراج‬ ‫وحاصلها‪َّ :‬‬


‫أن هنالك ثالثة أمور حمورية لو َّ‬
‫الرياح‪ ،‬ولذا ال بدَّ من عرضها يف بداية األمر‪ ،‬ومنها سيتضح مدى اخللل والتهالك يف أسس‬
‫النظرية وأدلتها‪.‬‬

‫(‪ )1‬تنقيح املقال‪ :‬ص‪ ،1‬ج‪.211‬‬


‫(‪ )2‬التعليقة عىل منهج املقال‪.348 ،237 ،204 :‬‬
‫(‪ )3‬البدر الزاهر يف صالة اجلمعة واملسافر‪ :‬ص‪.291‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪134‬‬

‫األمر األول‪ :‬حمورية املوروث الروائي‪.‬‬

‫إن املوروث الروائي – املجموع يف الكتب األربعة وغريها من كتب احلديث – يم ّثل‬
‫َّ‬
‫الفكر الشيعي‪ ،‬أو فقل‪ :‬يم ّثل حقيقة التشيع‪ ،‬والنسخة احلقيقية منه‪.‬‬

‫ويف قبال هذا الطرح ُيوجد هنالك طرح آخر يطرحه املخالفون – ّ‬
‫وتلقفه منهم بعض‬
‫أن املوروث املذكور ال يم ّثل الفكر الشيعي األصيل؛ وذلك للفاصلة‬
‫التنويريني – وخالصته‪َّ :‬‬
‫الزمنية الطويلة بني عْص األئمة ‪ ‬وعْص أصحاب املجاميع؛ إذ َّ‬
‫أن أقدمهم وهو ثقة اإلسالم‬
‫الشيخ الكليني ‪ ‬قد تويف سنة ‪ 328‬هـ‪ ،‬بينام كانت وفاة اإلمام العسكري ‪ – ‬والتي‬
‫اقرتنت بغيبة ولده اإلمام املهدي ‪ ‬آخر األئمة االثني عرش – سنة ‪ 260‬هـ‪.‬‬

‫و ُيالحظ عىل هذا الطرح‪َّ :‬‬


‫أن االهتامم احلديثي يف مدرسة التشيع قد متثل يف مهمتني‬
‫هامتني‪:‬‬

‫أ – املهمة األوىل‪ :‬مهمة احلفظ والتدوين‪ ،‬وقد تكفل هبذه املهمة الروا ُة املعارصون لألئمة‬
‫‪ ،‬وكانت ثمرهتا – بحسب إحصائية العالمة الطربيس ‪ – ‬أربعامئة أصل تضمنت ما ور َد‬
‫عن األئمة ‪ ،)1( ‬وستة آالف وستامئة كتاب (‪.)2‬‬

‫والفرق بني األصل والكتاب‪َّ :‬‬


‫أن األول هو ما اشتمل عىل الروايات التي سمعها الراوي‬ ‫ُ‬
‫أعم منه‪.‬‬
‫من املعصوم ‪ ‬بشكل مبارش‪ ،‬والثاين ه‬

‫(‪ )1‬قال يف كتابه (إعالم الورى بأعالم اهلدى‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪« :)200‬وروى عن الصادق ‪ ‬يف أبوابه من مشهوري أهل العلم أربعة‬
‫آالف إنسان‪ ،‬وصنف من جواباته يف املسائل أربعامئة كتاب هي معروفة بكتب األصول‪ ،‬رواها أصحابه وأصحاب أبيه من قبله‪،‬‬
‫وأصحاب ابنه أيب احلسن موسى ‪ ،‬ومل يبق فن من فنون العلم إال روي عنه ‪ ‬فيه أبواب»‪.‬‬
‫(‪ )2‬قال الشيخ احلر العامَل ‪ – ‬يف موسوعته وسائل الشيعة‪ :‬ج‪ ،30‬ص‪ – 165‬متحد ًثا عن الكتب التي نقل عنها املتقدمون‪:‬‬
‫«وأما ما نقلوا منه ‪ -‬ومل يْصحوا باسمه ‪ -‬فكثري جدً ا‪ ،‬مذكور يف كتب الرجال يزيد عىل ستة آالف وستامئة كتاب عىل ما ضبطناه»‪.‬‬
‫‪135‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫وكانت هذه األصول والكتب احلديثية مشهورة جدً ا عند الشيعة اإلمامية يتداولوهنا‬
‫ويستنسخوهنا ويتوارثوهنا‪.‬‬

‫ب – املهمة الثانية‪ :‬مهمة الرتتيب والتبويب‪ ،‬وهي التي تكفل هبا أعالم الطائفة يف زمن‬
‫تفرق الرواة يف خمتلف مراكز التشيع‬ ‫الغيبة‪َّ ،‬‬
‫فإن األصول والكتب بعد أن كانت متفرقة بسبب ّ‬
‫آنذاك‪ ،‬وبام أهنا كانت تتكفل بجمع كل ما يسمعه الراوي بشكل مبارش من اإلمام ‪ ‬من غري‬
‫تبويب وتنسيق‪ ،‬لذلك جاءت املجاميع احلديثية األربعة لتجمع متفرقاهتا ضمن تبويب‬
‫وترتيب مذهلني‪.‬‬

‫وإىل هذه اجلهة يشري الشيخ الصدوق ‪ ‬يف مقدمة كتابه احلديثي الشهري ( َمن ال حيرضه‬
‫الفقيه)‪ ،‬حيث يقول‪« :‬ومجيع ما ِ‬
‫فيه مستخرج من كتب مشهورة‪ ،‬عليها املعول وإليها املرجع‪،‬‬ ‫ُ‬
‫مثل كتاب حريز بن عبد اهلل السجستاين‪ ،‬وكتاب عبيد اهلل بن عَل احللبي‪ ،‬وكتب عَل بن مهزيار‬
‫األهوازي‪ ،‬وكتب احلسني بن سعيد‪ ،‬ونوادر أمحد بن حممد بن عيسى‪ ،‬وكتاب نوادر احلكمة‬
‫تصنيف حممد بن أمحد بن حييى بن عمران األشعري‪ ،‬وكتاب الرمحة لسعد بن عبد اهلل‪ ،‬وجامع‬
‫شيخنا حممد بن احلسن بن الوليد ‪ ،‬ونوادر حممد بن أيب عمري‪ ،‬وكتب املحاسن ألمحد بن أيب‬
‫عبد اهلل الربقي‪ ،‬ورسالة أيب ‪ ‬إيل‪ ،‬وغريها من األصول واملصنفات» (‪.)1‬‬

‫ومما ذكرناه يتضح َّ‬


‫أن املهمة األوىل هي نواة املهمة الثانية‪ ،‬وقد جاءت الثانية امتدا ًدا هلا‬
‫ً‬
‫ومكملة ملسريهتا‪ ،‬وألجل هذه اجلهة فقد استغنى الشيعة شي ًئا فشي ًئا عن تلك األصول‬
‫تبق منها اليوم إال الق ّلة القليلة‪.‬‬
‫والكتب‪ ،‬حتى اندثر أكثرها بمرور الزمن‪ ،‬ومل َ‬

‫(‪ )1‬من ال حيرضه الفقيه‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.3‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪136‬‬

‫وبذلك ننتهي إىل َّ‬


‫أن دعوى وجود الفاصلة الزمنية بني عْص املجاميع احلديثية األربعة‬
‫وعْص الرواة دعوى جمانبة للصواب‪ ،‬مما يفيض بنا إىل القول َّ‬
‫بأن هذا الرتاث احلديثي املوجود‬
‫اآلن يم ّثل حقيقة املذهب احلق بالنحو الذي رسمه أهل البيت ‪ ،‬وبالرجوع هلذا الرتاث نجد‬
‫املعرب عنها بـ (ما فوق البرشية)‪.‬‬ ‫َّ‬
‫أن عقيدة اإلمامة حارضة فيه بكل تفاصيلها ّ‬

‫وهذا أول أمر يوهن نظرية (القراءة املنسية) ويدّ ك أساسها‪.‬‬

‫األمر الثاين‪ :‬رضورة القراءة املوضوعية للموروث احلديثي‪.‬‬

‫ونعني بـ (القراءة املوضوعية)‪ :‬القراءة التي تتجاوز نحوين من القراءة‪:‬‬

‫• النحو األول‪ :‬القراءة التبعيضية‪ ،‬وهي‪ :‬قراءة بعض النصوص وإغفال قراءة غريها‪.‬‬
‫• النحو الثاين‪ :‬القراءة املقتطعة‪ ،‬وهي‪ :‬قراءة النص مع اقتطاعه عن سياقاته التي ورد‬
‫فيها‪.‬‬
‫وعىل ذلك‪َّ ،‬‬
‫فإن من يريد قراءة التشيع قراءة موضوعية ال يصح منه أن يقْص نظره عىل‬
‫بعض األحاديث والروايات‪ ،‬ويغض عن غريها‪ ،‬كام ال يصح منه اقتطاع النص املقروء عن‬
‫سياقاته التي وقع فيها؛ إذ القراءة املوضوعية تقتيض تسليط الضوء عىل مجيع املوروث الروائي‬
‫من غري تبعيض أو تقطيع‪ ،‬وبذل اجلهد يف اجلمع بني متعارضاته إن كانت‪ ،‬وهو يف هذه اجلهة‬
‫نظري أي موروث آخر حينام يقرؤه املهتمون قراءة موضوعية‪ ،‬فينبغي التعامل معه كام ينبغي‬
‫التعامل مع غريه‪.‬‬

‫وبااللتفات إىل هذا األمر‪ ،‬وأخذه بعني االعتبار‪ ،‬ستسقط ورقة االستدالل باألدلة‬
‫املتقدمة – وغريها من األدلة – عىل نظرية القراءة املنسية؛ َّ‬
‫ألن قراءة املتبنني هلذه النظرية لألدلة‬
‫‪137‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫إما هي من قبيل القراءة التبعيضية‪ ،‬وإما هي من قبيل القراءة التقطيعية – كام سيتضح ذلك‬
‫ً‬
‫مفصال – وال بأس أن نسوق هاهنا نموذجني ملا ندعيه‪.‬‬

‫أ – النموذج األول‪ :‬قول أمري املؤمنني ‪ ‬الذي تقدم استدالل أصحاب هذه النظرية‬
‫احلج ِة بِوج ِ‬ ‫احل ِ ِ ِ‬ ‫به‪ ،‬وهو‪َ « :‬أ َما وا َّل ِذي َف َل َق ْ‬
‫ود‬ ‫ام ْ ُ َّ ُ ُ‬ ‫ارض وق َي ُ‬ ‫احلَ َّب َة و َب َر َأ الن ََّس َم َة‪َ ،‬ل ْو َال ُح ُض ُ‬
‫ور ْ َ‬
‫َّارص‪ ،‬وما َأ َخ َذ اهللَّ َع َىل ا ْلع َلام ِء‪َ ،‬أ َّال ي َقاروا َع َىل كِ َّظ ِة َظ ِ‬
‫ِ‬
‫َب َم ْظ ُلو ٍم‪ ،‬ألَ ْل َق ْي ُت َح ْب َل َها‬
‫وال َسغ ِ‬
‫املٍ َ‬ ‫ُ ه‬ ‫ُ َ‬ ‫الن ِ َ‬
‫أن هذه الكلمة ألمري املؤمنني ‪‬‬ ‫فإن التمسك به مثال للقراءة التبعيضية؛ إذ َّ‬ ‫َع َىل غَ ِ‬
‫ار ِ َهبا» (‪َّ ،)1‬‬
‫وال‬‫آل ُحم َ َّم ٍد ِم ْن َه ِذه األُ َّم ِة َأ َحدٌ ‪َ ،‬‬ ‫اس بِ ِ‬ ‫تقابلها كلامت أخرى له ‪ ،‬ومنها‪ :‬قوله ‪َ « :‬ال ُي َق ُ‬
‫وهبِ ْم‬ ‫ني‪ ،‬إِ َل ْي ِه ْم َي ِفي ُء ا ْلغ ِ‬
‫َايل ِ‬ ‫وع َام ُد ا ْل َي ِق ِ‬
‫ين ِ‬‫اس الدِّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُي َس َّوى ِهبِ ْم َم ْن َج َر ْت ن ْع َمت ُُه ْم َع َل ْيه َأ َبدً ا‪ُ ،‬ه ْم َأ َس ُ‬
‫ص َح ِّق ا ْل ِو َال َي ِة‪ ،‬وفِ ِيه ُم ا ْل َو ِص َّي ُة وا ْل ِو َرا َث ُة» (‪ ،)2‬وهذه الكلمة العلوية‬ ‫ِ‬
‫وهل ُ ْم َخ َصائ ُ‬ ‫ُي ْل َح ُق الت ِ‬
‫َّايل‪َ ،‬‬
‫تدل بالْصاحة عىل َّ‬
‫أن الوصية فيهم ‪ ‬إىل جانب توفرهم عىل مؤهالت اإلمامة‪ ،‬فمن يتجاوز‬
‫هذا الكلمة وأمثاهلا ويقتْص عىل الكلمة األوىل فقد قرأ التشيع قراءة تبعيضية غري موضوعية‪.‬‬

‫ب – النموذج الثاين‪ :‬كلمة سيد الشهداء احلسني ‪ – ‬التي تقدم استدالل أصحاب‬
‫ط‪َ ،‬والدّ ائِ ُن‬
‫تاب‪ ،‬واآلْ ِخ ُذ بِا ْل ِقس ِ‬
‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مام إِالَّ ا ْلعام ُل بِا ْلك ِ َ‬
‫هذه النظرية هبا – وهي‪َ « :‬ف َل َع ْمري َما اإلْ ُ‬
‫ِ‬
‫معني‪ ،‬فال يصح اقتطاعها من‬ ‫احلابِ ُس َن ْف َس ُه َعىل ذات اهللِ» ‪ ،‬فإهنا واردة يف سياق ّ‬ ‫بِ ْ َ‬
‫احل ِّق‪َ ،‬و ْ‬
‫(‪)3‬‬

‫سياقها؛ إذ أهنا واردة يف كتاب اإلمام احلسني ‪ ‬ألهل الكوفة بعد موت معاوية‪ ،‬حيث قال‪:‬‬

‫«بسم اهلل الرمحن الرحيم‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ص‪.50‬‬


‫(‪ )2‬هنج البالغة‪ :‬ص‪.47‬‬
‫(‪ )3‬كلامت اإلمام احلسني ‪ :‬ص‪.379‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪138‬‬

‫من احلسني بن عَل إىل املأل من املسلمني واملؤمنني‪.‬‬

‫أما بعد‪ :‬فإن هان ًئا وسعيدً ا قدما عَل بكتبكم‪ ،‬وكانا آخر من قدم عَل من رسلكم‪ ،‬وقد‬
‫فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم‪ ،‬ومقالة جلكم‪ :‬أنه ليس علينا إمام فأقبل لعل اهلل أن جيمعنا‬
‫بك عىل اهلدى واحلق‪ .‬وإين باعث إليكم أخي وابن عمي وثقثي من أهل بيتي‪ ،‬فإن كتب إيل‬
‫أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي احلجى والفضل منكم عىل مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت‬
‫يف كتبكم‪ ،‬أقدم عليكم وشيكًا إن شاء اهلل‪ .‬فلعمري ما اإلمام إال احلكم بالكتاب‪ ،‬القائم‬
‫بالقسط‪ ،‬الدائن بدين احلق‪ ،‬احلابس نفسه عىل ذات اهلل‪ ،‬والسالم» (‪.)1‬‬

‫وإذا كانت هذه الكلمة واردة يف السياق املذكور‪َّ ،‬‬


‫فإن هذا السياق يوجب ظهورها يف بيان‬
‫صفات احلاكم واإلمامة السياسية‪ ،‬ال بيان مفهوم اإلمامة اإلهلية‪.‬‬

‫أن الكلمة املذكورة تدل عىل َّ‬


‫أن‬ ‫إن مدعى أصحاب القراءة املنسية هو َّ‬
‫وبعبارة أوضح‪َّ :‬‬
‫مفهوم اإلمامة عند األئمة الطاهرين ‪ ‬خيتلف عن مفهومها لدى الشيعة اآلن‪ ،‬فذاك ال يعدو‬
‫ولكن صحة هذا املدّ عى – كام ال خيفى – تتوقف عىل إثبات َّ‬
‫أن‬ ‫َّ‬ ‫اجلنبة البرشية بخالف هذا‪،‬‬
‫يتم إال إذا اقتطعنا النص عن مورده‬
‫النص املذكور بصدد بيان مفهوم اإلمامة‪ ،‬وهذا ال ّ‬
‫وسياقاته‪ ،‬وإال فبمجرد إرجاعه إىل سياقه ومعرفة َّ‬
‫أن اإلمام احلسني ‪ ‬كان بصدد بيان‬
‫صفات اإلمام الذي كان يطلبه أهل الكوفة – وهو احلاكم – ُيعلم َّ‬
‫أن اإلمام ‪ ‬مل يكن بصدد‬
‫بيان مفهوم اإلمامة‪ ،‬ليكون هذا النص شاهدً ا عىل كون اإلمامة برشية حمضة عند الشيعة‬
‫األوائل‪ ،‬وإنام كان بصدد بيان صفات َمن له مقاليد اإلمامة السياسية‪ ،‬ومن الواضح َّ‬
‫أن احلاكم‬
‫السيايس ال ُيطلب فيه أكثر من تلكم الصفات‪.‬‬

‫(‪ )1‬اإلرشاد‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.39‬‬


‫‪139‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫األمر الثالث‪ :‬الرتاكمية املعرفية والتطور العلمي‪.‬‬

‫إن من مجلة احلقائق املسلمة يف تاريخ العلوم‪َّ :‬‬


‫أن مجيع العلوم يف بداية أمرها تتكون من‬ ‫َّ‬
‫مسائل حمدودة‪ ،‬ثم يزداد حجمها وتتوسع رقع تها بالتدريج‪ ،‬وهذه الزيادة عىل نحوين‪:‬‬

‫• النحو األول‪ :‬الزيادة الكم ّية‪ ،‬وذلك بزيادة عدد مسائلها‪.‬‬


‫• النحو الثاين‪ :‬الزيادة الكيفية‪ ،‬وذلك بنضج مبانيها وتبلور مفاهيمها‪.‬‬

‫وهذا األمر عىل مستوى العلوم األكاديمية يف غاية الوضوح‪ ،‬فال يمكن قياس علم الطب‬
‫الكم‪ ،‬حيث كانت مسائله حمصورة حمدودة‪،‬‬
‫يف بداية أمره عىل عىل الطب اآلن‪ ،‬ال من حيث ّ‬
‫ٍ‬
‫ختصص منه ختصصات متفرعة عنه ال ُحتىص كثرة‪ ،‬وال من حيث‬ ‫بينام أصبح اآلن ولكل‬
‫الكيف؛ إذ َّ‬
‫أن الرتاكم املعريف قد أ ّدى إىل بلورة الكثري من املفاهيم وجتلية الكثري من الغوامض‬
‫والدقائق‪.‬‬

‫وهكذا هو احلال بالنسبة لعلم الكالم والعقائد‪َّ ،‬‬


‫فإن بعض معارفه – لعدة عوامل‬
‫وأسباب سيأيت احلديث عنها – مل تتضح جلميع أصحاب األئمة ‪ ‬بمستوى واحد‪ ،‬وإنام‬
‫اتضحت بعد ارتفاع املعوقات واملوانع وتالقح مراكز الفكر الشيعي آنذاك‪.‬‬

‫ٍ‬
‫بمثال يوقفك عىل حقيقتها‪ ،‬وهو إيامن املوىل أيب‬ ‫وال بأس بإيضاح هذه القضية املهمة‬
‫طالب ‪ ،‬فإنه اليوم قد أصبح من رضوريات التش ّيع‪ ،‬بل هو من الفوارق الواضحة بني‬
‫مدرسة التشيع وغريها من املدارس اإلسالمية‪ ،‬غري أنه مل يكن كذلك يف األزمنة الغابرة‪.‬‬

‫ويشهد لذلك‪ :‬ما رواه السيد عبد العظيم احلسني ‪ ‬قال‪ :‬كتبت لإلمام عَل بن موسى‬
‫الرضا ‪« :‬عرفني يا ابن رسول اهلل عن اخلرب املروي‪َّ :‬‬
‫إن أبا طالب يف ضحضاح من نار يغَل‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪140‬‬

‫فكتب إليه اإلمام الرضا ‪ :‬بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬أما بعد‪ :‬فإنك إن شككت‬
‫َ‬ ‫منه دماغه؟‬
‫يف إيامن أيب طالب كان مصريك إىل النار» (‪.)1‬‬

‫والذي نستكشفه من هذا النص الرشيف‪َّ :‬‬


‫أن مسألة إيامن أيب طالب ‪ ‬كانت من‬
‫ً‬
‫الحقا نتيجة الرتاكامت املعرفية التي حصلت بجمع‬ ‫املسائل املشوشة‪ ،‬غري أهنا قد تبلورت‬
‫أساس‬
‫ُ‬ ‫الروايات املتفرقة‪ ،‬إىل احلدّ الذي أصبحت فيه من رضوريات التش ّيع‪ ،‬وهبذا يسقط‬
‫حتول بعض‬
‫الدليل الثالث املتقدم الذي استند إليه أصحاب نظرية القراءة املنسية‪ ،‬فإنَّنا نعزو ّ‬
‫والتوسع العلمي‪ ،‬وليس لوجود‬
‫ّ‬ ‫املسائل من مستوى الغلو إىل مستوى الرضورة للرتاكم املعريف‬
‫قراءة جديدة للتشيع ال تنتمي للقراءة السابقة وال متت إليها بصلة‪ ،‬كام هو مدّ عى أصحاب هذه‬
‫النظرية‪.‬‬

‫حمصلة األمور الثالثة‪:‬‬

‫فتحصل من جمموع األمور الثالثة التي عرضناها‪َّ :‬‬


‫أن األسس التي ُبنيت عليها نظرية‬ ‫ّ‬
‫القراءة املنسية أسس غري قويمة‪ ،‬وهذا مما يكفي لدحض النظرية وتوهينها‪ ،‬ولكنَّنا لن نكتفي‬
‫بذلك‪ ،‬بل سنناقشها – من خالل ما يأيت – مناقشة تلقي بالضوء عىل العديد من جزئياهتا‬
‫وتفاصيلها‪.‬‬

‫(‪ )1‬بحار األنوار‪ :‬ج‪ ،35‬ص‪.111‬‬


‫‪141‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫ب – املناقشة الثانية‪ :‬املناقشة التفصيلية‪.‬‬

‫وهلا ثالثة حماور رئيسية‪:‬‬

‫‪ / 1‬املحور األول‪ :‬معاجلة النصوص الظاهرة يف نفي العصمة‪.‬‬

‫زعام منهم أهنا تنايف العصمة‪ ،‬وسوف‬


‫وقد متسك القوم ببعض النصوص يف هنج البالغة ً‬
‫وأهم هذه النصوص امللتبسة‬
‫ه‬ ‫ونبني زيف مزاعمهم‪،‬‬
‫نستعرض النصوص التي متسكوا هبا ّ‬
‫نصان‪:‬‬
‫ّ‬

‫‪ – 1‬النص األول‪ :‬قوله ‪« :‬ما أمهني ذنب أمهلت بعده حتى أصَل ركعتني» (‪.)1‬‬

‫واجلواب عنه‪َّ :‬‬


‫إن هذا النص له ضبطان‪:‬‬

‫• الضبط األول‪« :‬ما أمهني ذنب»‪.‬‬


‫• والضبط الثاين‪« :‬ما أمهني أمر أمهلت بعده‪ ،‬حتى أصىل ركعتني‪ ،‬وأسأل اهلل‬
‫العافية» (‪ ، )2‬وهذا الضبط هو املوجود يف رشح النهج البن أيب احلديد‪.‬‬

‫ومقتىض القواعد هو تقديم الضبط الثاين عىل الضبط األول؛ وذلك ألننا إذا رجعنا للنهج‬
‫الرشيف سوف نلتقي بالعديد من النصوص الدالة عىل العصمة‪ ،‬وإليك بعضها‪:‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،4‬ص‪.72‬‬


‫(‪ )2‬رشح هنج البالغة البن أيب احلديد‪ :‬ج‪ ،19‬ص‪.205‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪142‬‬

‫• ما َّ‬
‫دل عىل العصمة عن الشبهة والشك يف الدين‪.‬‬
‫ومن ذلك قوله ‪« :‬ما شككت يف احلق مذ أريته» (‪.)1‬‬

‫• ما َّ‬
‫دل عىل العصمة القولية والعملية‪.‬‬
‫وهو عبارة عن عدة من الكلامت‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫* قوله ‪« :‬وقد علمتم موضعي من رسول اهلل ‪ ‬بالقرابة القريبة‪ ،‬واملنزلة‬


‫اخلصيصة‪ .‬وضعني يف حجره وأنا ولد يضمني إىل صدره‪ ،‬ويكنفني إىل فراشه‪ ،‬ويمسني جسده‬
‫ويشمني عرفه‪ .‬وكان يمضغ الَشء ثم يلقمنيه‪ .‬وما وجد يل كذبة يف قول‪ ،‬وال خطلة يف فعل»‬
‫(‪ ،)2‬والشاهد قوله ‪ ‬يف ذيل كالمه‪" :‬وما وجد يل كذبة يف قول‪ ،‬وال خطلة يف فعل"‪ ،‬فإنه –‬
‫أن اخلطلة هي اخلطأ – ُيقال‪َّ :‬‬
‫إن الكذبة واخلطلة قد جاءتا نكرتني يف سياق النفي‪،‬‬ ‫بعد معرفة ّ‬
‫ومن املحرر يف علم األصول َّ‬
‫أن ورود النكرة يف سياق النفي مما يفيد العموم‪ ،‬فيدل كالمه ‪‬‬
‫أن رسول اهلل األعظم ‪ ‬مل جيد له خط ًأ عىل اإلطالق‪ ،‬وليس معنى العصمة سوى هذا‪.‬‬
‫عىل َّ‬

‫وتقريب االستدالل به هو‬


‫ُ‬ ‫كذبت كذبة» (‪،)3‬‬
‫ُ‬ ‫* وقوله ‪« :‬واهلل ما كتمت وشمة وال‬
‫القذة ّ‬
‫بالقذة‪.‬‬ ‫نفسه تقريب االستدالل بسابقه حذو ّ‬

‫صادعا‪،‬‬
‫ً‬ ‫* وقوله ‪« :‬ونشهد أن ال إله غريه وأن حممدً ا عبده ورسوله‪ .‬أرسله بأمره‬
‫وبذكره ً‬
‫ناطقا‪ .‬فأدى أمينًا ومىض رشيدً ا‪ .‬وخلف فينا راية احلق من تقدمها مرق‪ ،‬ومن ختلف‬
‫عنها زهق‪ ،‬ومن لزمها حلق» (‪ُ ،)4‬‬
‫وحمل الشاهد منه قوله ‪« :‬وخلف فينا راية احلق» فإنه‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.39‬‬


‫(‪ )2‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.157‬‬
‫(‪ )3‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.48‬‬
‫(‪ )4‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.193‬‬
‫‪143‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫كناية عن كوهنم ‪ ‬امتدا ًدا للرسول األعظم ‪ ‬يف متثيل احلق‪ ،‬وأنه يدور مدارهم‪ ،‬كام كان‬
‫فرع أمري املؤمنني ‪ ‬عىل ذلك بقوله‪« :‬من تقدمها مرق‪،‬‬
‫يدور مدار رسول اهلل ‪‬؛ ولذا َّ‬
‫ُ‬
‫وكون احلق يدور مدارهم يدل عىل أهنم ال يفارقون‬ ‫ومن ختلف عنها زهق‪ ،‬ومن لزمها حلق»‪،‬‬
‫احلق وال يفارقهم‪ ،‬وليس معنى العصمة إال ذلك؛ إذ لو صدرت منهم أي خمالفة للحق لفارقهم‬
‫وفارقوه‪ ،‬وهو خالف ما نطق به النص املذكور‪.‬‬

‫* وقوله ‪« :‬انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم‪ ،‬واتبعوا أثرهم‪ ،‬فلن خيرجوكم‬
‫من هدى‪ ،‬ولن يعيدوكم يف ردى‪ .‬فإن لبدوا فالبدوا وإن هنضوا فاهنضوا‪ .‬وال تسبقوهم‬
‫فتضلوا‪ ،‬وال تتأخروا عنهم فتهلكوا» (‪ ، )1‬وداللة هذه الكلمة العلوية الرشيفة عىل العصمة يف‬
‫غاية الوضوح‪َّ ،‬‬
‫فإن أمره ‪ ‬بلزوم سمت أهل البيت ‪ – ‬وهو أحدهم – واتّباع أثرهم‪،‬‬
‫والدوران مدارهم‪ ،‬بالنهوض عند هنوضهم واللبد عند لبدهم‪ ،‬وحتذيره من التقدم عليهم‬
‫الستلزامه الضالل‪ ،‬والتأخر عنهم الستلزامه اهلالك‪ ،‬مع تنبيهه عىل َّ‬
‫أن املتابعة املطلقة هلم ‪‬‬
‫لن خترج اإلنسان من اهلدى عىل نحو النفي املطلق املستفاد من أداة (لن) الدالة عىل التأبيد‪ُ ،‬‬
‫كل‬
‫ذلك يدل برضس قاطع عىل عصمتهم؛ إذ لو مل يكونوا معصومني عصمة مطلقة ملا استلزم‬
‫خمرجا عن اهلدى‪.‬‬ ‫ً‬
‫مطلقا‪ ،‬وملا امتنع أن يكون اتباعهم فيام خيطئون فيه ً‬ ‫التقدم عليهم الضالل‬

‫• ما َّ‬
‫دل عىل العصمة عن خمالفة الدين واالختالف فيه‪.‬‬

‫ومنه قوله ‪« :‬فالتمسوا ذلك من عند أهله فإهنم عيش العلم وموت اجلهل‪ .‬هم الذين‬
‫خيربكم حكمهم عن علمهم‪ ،‬وصمتهم عن منطقهم‪ ،‬وظاهرهم عن باطنهم‪ .‬ال خيالفون الدين‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.189‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪144‬‬

‫ُ‬
‫وداللة هذا النص العلوي‬ ‫وال خيتلفون فيه‪ ،‬فهو بينهم شاهد صادق‪ ،‬وصامت ناطق» (‪،)1‬‬
‫اشتباها – خلالفوا بذلك الدين‪ ،‬كام أهنم لو‬
‫ً‬ ‫أيضا؛ إذ لو كان يصدر منهم اخلطأ – ولو‬
‫ظاهرة ً‬
‫كانوا يتعاملون مع الدين ً‬
‫طبقا لفهمهم اخلاص الختلفوا فيه‪ ،‬واحلال أهنم بْصيح هذا النص‬
‫ال خيالفون الدين وال خيتلفون فيه‪ ،‬وليس معنى العصمة إال ذلك‪.‬‬

‫• ما َّ‬
‫دل عىل العصمة عن خمالفة القرآن الكريم‪.‬‬
‫وتقريب االستدالل‬
‫ُ‬ ‫ومن ذلك‪ :‬قوله ‪« :‬وإن الكتاب ملعي‪ ،‬ما فارقته مذ صحبته» (‪،)2‬‬
‫به‪َّ :‬‬
‫أن الصحبة املقصودة ليست هي الصحبة املادية؛ إذ ال امتياز هلا‪ ،‬لكوهنا متاحة لكل‬
‫فيتعني أن يكون املقصود هبا الصحبة املعنوية‪ ،‬وهي‪َّ :‬‬
‫أن أقواله وأفعاله ‪ ‬مطابقة‬ ‫ّ‬ ‫شخص‪،‬‬
‫ً‬
‫وعمال‪ ،‬وليس معنى العصمة إال هذا‪ ،‬كام ال خيفى‪.‬‬ ‫فكرا‬
‫للقرآن الكريم وال تفارقه ً‬

‫واحلاصل‪َّ :‬‬
‫فإن نصوص هنج البالغة طافحة بإثبات العصمة‪ ،‬مما جيعلها من القضايا التي‬
‫ِ‬
‫وعليه فحني يأتينا نص بضبطني‪ ،‬أحدمها يتالءم مع فكرة العصمة‪ ،‬واآلخر‬ ‫ُيستدل هبا ال عليها‪،‬‬
‫يصادمها‪ ،‬تكون تلك النصوص املستفيضة قرينة عىل ترجيح الضبط األول‪.‬‬

‫أبيت عن كل الذي ذكرناه‪َّ ،‬‬


‫فإن الضبط الثاين ال يمكن ترجيحه عىل الضبط األول‪،‬‬ ‫وإن َ‬
‫وبذلك يتساقطان م ًعا‪ ،‬وال يصح االحتجاج ٍ‬
‫بأي منهام‪.‬‬

‫‪ - 2‬النص الثاين‪ :‬قوله ‪« :‬فإين لست يف نفيس بفوق أن أخطئ‪ ،‬وال آمن ذلك من‬
‫فعَل‪ ،‬إال أن يكفي اهلل من نفيس ما هو أملك به مني‪ .‬فإنام أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب ال رب‬
‫غريه» (‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.32‬‬


‫(‪ )2‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.236‬‬
‫(‪ )3‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.201‬‬
‫‪145‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫إن هذا النص ال ينقض نصوص العصمة املتقدمة؛ ألننا نعتقد َّ‬
‫أن عصمتهم‬ ‫واجلواب عنه‪َّ :‬‬
‫لطف إهلي أفاضه اهلل ‪ ‬عليهم‪ ،‬وبالتايل فهم ليسوا بمعصومني من تلقاء أنفسهم‪ ،‬وإنام هم‬
‫ٍ‬
‫بلطف من اهلل ‪ ، ‬فال يصلح النص املذكور لنقض فكرة العصمة‪.‬‬ ‫معصومون‬

‫ولك أن تقول‪َّ :‬‬


‫إن النصوص املتقدمة تثبت عصمته‪ ،‬بينام النص املستدل به ينفي‬
‫االستقالل يف العصمة‪ ،‬فال منافاة بينه وبينها‪.‬‬

‫وما ذكرناه للتوفيق بني النصوص ليس مج ًعا تربع ًيا‪ ،‬بل له شاهد‪ ،‬وشاهده هو ذيل النص‬
‫املذكور‪ ،‬والذي جرت عادة املستدلني به عىل برته وعدم ذكره‪َّ ،‬‬
‫فإن النص هكذا يقول‪« :‬فإين‬
‫لست يف نفيس بفوق أن أخطئ‪ ،‬وال آمن ذلك من فعَل إال أن يكفي اهلل من نفيس ما هو أملك‬
‫به مني» (‪ ،)1‬ومعناه‪ :‬أنني يف نفيس وبالذات – وعىل نحو االستقالل – لست فوق اخلطأ‪ ،‬وال‬
‫آمن منه عىل فعَل إال إذا كفاين اهلل ‪ ، ‬وهذا هو معنى العصمة يف الفكر الشيعي‪ ،‬إذ أننا ال‬
‫إن املعصوم مستقل عن رمحة اهلل ولطفه الذي يفيضه عىل من يشاء من عباده‪ ،‬بل إنه ملَّا‬
‫نقول َّ‬
‫كان حما ًطا برمحة اهلل ولطفه صار معصو ًما‪ ،‬فقوله هذا شبيه بقول نبي اهلل يوسف ‪َ ﴿ :‬و َما‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم﴾ (‪.)2‬‬ ‫السوء إِ َّال َما َرح َم َر ِّيب إِ َّن َر ِّيب غَ ُف ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫ُأ َب ِّر ُئ َن ْفيس إِ َّن النَّ ْف َس َألَ َّم َار ٌة بِ ه‬

‫بل َّ‬
‫إن هذا هو أدب مجيع األنبياء ‪ ،‬فإهنم – فيام يتمتعون به من الكامالت واملقامات ‪-‬‬
‫ينفون االستقالل عن أنفسهم‪ ،‬ويعرتفون بفضل اهلل ‪ ‬عليهم‪ ،‬وأهنم مل يصلوا إىل تلك‬
‫املقامات الرفيعة – والتي منها العصمة – إال بلطف اهلل تعاىل وفضله‪.‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.201‬‬


‫(‪ )2‬سورة يوسف‪.53 :‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪146‬‬

‫‪ / 2‬املحور الثاين‪ :‬معاجلة النصوص الظاهرة يف نفي العلم الغيبي‪.‬‬

‫والنص الذي استدل به أصحاب القراءة املنسية هو َّ‬


‫أن بعض أصحاب أمري املؤمنني ‪‬‬ ‫ه‬
‫قد قال له‪ :‬لقد ُأعطيت يا أمري املؤمنني علم الغيب؟ فضحك ‪ ‬وقال للرجل وكان كلب ًيا‪:‬‬
‫«يا أخا كلب‪ ،‬ليس هو بعلم غيب‪ ،‬وإنام هو تعلم من ذي علم‪ ،‬وإنام علم الغيب علم الساعة‬
‫اع ِة َو ُين َِّز ُل ا ْل َغ ْي َث َو َي ْع َل ُم َما ِيف ْاألَ ْر َحا ِم َو َما تَدْ ِري‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وما عدّ َد اهلل ‪ ‬بقوله‪﴿ :‬إِ َّن اهللََّ عنْدَ ُه ع ْل ُم َّ‬
‫الس َ‬
‫ِ‬ ‫ب غَ دً ا َو َما تَدْ ِري َن ْف ٌس بِ َأ ِّي َأ ْر ٍ‬ ‫ِ‬
‫يم َخبِ ٌري﴾‪ ،‬فيعلم ‪ ‬ما يف‬ ‫وت إِ َّن اهللََّ َعل ٌ‬ ‫ض َمت ُ ُ‬ ‫َن ْف ٌس َما َذا َتكْس ُ‬
‫األرحام من ذكر أو أنثى‪ ،‬وقبيح أو مجيل‪ ،‬وسخي أو بخيل‪ ،‬وشقي أو سعيد‪ ،‬ومن يكون يف‬
‫ً‬
‫مرافقا‪ ،‬فهذا علم الغيب الذي ال يعلمه أحد إال اهلل‪ ،‬وما سوى‬ ‫النار حط ًبا‪ ،‬أو يف اجلنان للنبيني‬
‫ذلك فعلم ع ّل مه اهلل نبيه فعلمنيه‪ ،‬ودعا يل بأن يعيه صدري‪ ،‬وتضطم عليه جوانحي» (‪.)1‬‬

‫و ُيمكن أن ُيعالج هذا النص بالبيان التايل‪ ،‬فيقال‪َّ :‬‬


‫إن النصوص التي تناولت العلم‬
‫بالغيب يف هنج البالغة طائفتان‪:‬‬

‫أ – الطائفة األوىل‪ :‬ما د ّلت عىل علم أمري املؤمنني ‪ ‬بالغيب‪.‬‬

‫وإليك بعضها‪:‬‬

‫النص األول‪ :‬قوله ‪« :‬واهلل لو شئت أن أخرب كل رجل منكم بمخرجه وموجله ومجيع‬
‫شأنه لفعلت‪ ،‬ولكن أخاف أن تكفروا ِ َّيف برسول اهلل ‪ ،‬أال وإين مفضيه إىل اخلاصة ممن يؤمن‬

‫ذلك منه‪ ،‬والذي بعثه باحلق واصطفاه عىل اخللق ما أنطق إال صاد ًقا‪ ،‬وقد عهد َّ‬
‫إيل بذلك كله‪،‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.11‬‬


‫‪147‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫وبمهلك من ُّيلك ومنجى من ينجو‪ ،‬ومآل هذا األمر‪ ،‬وما أبقى شي ًئا يمر عىل رأيس إال أفرغه‬
‫يف أذين وأفىض به إيل» (‪.)1‬‬

‫ظهر منها وما‬


‫ومفا ُد هذا النص هو‪ :‬إحاطته ‪ ‬بجميع احلوادث املرتبطة بمعارصيه‪ ،‬ما َ‬
‫بطن‪ ،‬ومجيع ما يتعلق بشؤوهنم اخلاصة والعامة‪ ،‬وهذه هي إحدى مراتب علمه الغيبي‪.‬‬

‫النص الثاين‪ :‬قوله ‪« :‬فاسألوين قبل أن تفقدوين‪ ،‬فوالذي نفيس بيده ال تسألوين عن‬
‫يشء فيام بينكم وبني الساعة‪ ،‬وال عن فئة هتدي مائة وتضل مائة إال أنبأتكم بناعقها وقائدها‬
‫وسائقها ومناخ ركاهبا وحمط رحاهلا‪ ،‬ومن يقتل من أهلها ً‬
‫قتال‪ ،‬ويموت منهم موتًا» (‪.)2‬‬

‫ومفاد هذا النص‪ :‬أنَّه ‪ ‬حييط بجميع احلوادث الغيبية – الطولية والعرضية – التي‬
‫ِ‬
‫وهذه هي املرتبة‬ ‫تتخلل ما بني زمانه وزمان قيام الساعة‪ ،‬بال استثناء لَشء منها عىل اإلطالق‪،‬‬
‫األخرى من مراتب علمه الغيبي‪.‬‬

‫النص الثالث‪ :‬قوله ‪« :‬أُّيا الناس سلوين قبل أن تفقدوين‪َ ،‬ف َألنا بطرق السامء أعلم‬
‫مني بطرق األرض» (‪.)3‬‬

‫أن أمري املؤمنني ‪ ‬أعلم بعامل امللكوت من عامل امللك‪َّ ،‬‬


‫وأن عامل‬ ‫ومفاد هذا النص‪َّ :‬‬
‫امللكوت بكل ما فيه – من جنة ونار ومالئكة وغريها – يف خزائن القلب العلوي املقدس‪،‬‬
‫وهذه هي املرتبة األعىل من مراتب علمه الغيبي‪.‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.89‬‬


‫(‪ )2‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.183‬‬
‫(‪ )3‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.130‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪148‬‬

‫ضم بعضها إىل البعض‪َّ :‬‬


‫أن ألمري املؤمنني ‪‬‬ ‫واملتحصل من جمموع هذه النصوص بعدَ ّ‬
‫ّ‬
‫ً‬
‫مطلقا بالغيب ال ُيستثنى منه يشء‪.‬‬ ‫علام‬
‫ً‬

‫ب – الطائفة الثانية‪ :‬ما قد ُيستظهر منها عدم علم أمري املؤمنني ‪ ‬بالغيب‪.‬‬

‫وهي تتمثل يف الرواية السابقة التي استند إليها أصحاب نظرية القراءة املنسية‪ ،‬و َمن حذا‬
‫حذوهم وتأثر بفكرهم‪.‬‬

‫وبعد الوقوف عند هاتني الطائفتني يمكن أن ُيقال‪َّ :‬‬


‫إن اجلمع بينهام يقتيض مالحظة النسبة‬
‫بينهام‪ ،‬ومن الظاهر َّ‬
‫أن النسبة بني الطائفتني هي نسبة اإلطالق والتقييد‪ ،‬ومقتىض الصناعة يف‬
‫مثل املقام أن ُحيمل املطلق عىل املق ّيد‪ ،‬فيكون حاصل اجلمع بينهام َّ‬
‫أن أمري املؤمنني ‪ ‬يعلم‬
‫بجميع الغيب ما خال ما استثنته الطائفة الثانية‪ ،‬وهو ما ذكره القرآن الكريم بقوله‪﴿ :‬إِ َّن ا ََّ‬
‫هلل‬
‫ِ‬ ‫ِعنْدَ ه ِع ْلم الس َ ِ‬
‫اعة َو ُين َِّز ُل ا ْل َغ ْي َث َو َي ْع َل ُم َما ِيف ْاألَ ْر َحا ِم َو َما تَدْ ِري َن ْف ٌس َما َذا َت ْكس ُ‬
‫ب غَ دً ا َو َما‬ ‫ُ ُ َّ‬
‫ِ‬ ‫تَدْ ِري َن ْف ٌس بِ َأ ِّي َأ ْر ٍ‬
‫أن عدم علمه ‪ ‬هبذه‬ ‫يم َخبِ ٌري﴾ (‪ ،)1‬ومن الواضح َّ‬ ‫وت إِ َّن اهللََّ َعل ٌ‬ ‫ض َمت ُ ُ‬
‫املستثنيات ال ينايف علمه بغريها من املغيبات‪.‬‬

‫إن النصوص املتقدمة قد د ّلت عىل علمه بالغيب عىل نحو العموم‪ ،‬بينام هذا‬
‫وبتعبري آخر‪َّ :‬‬
‫النص قد استثنى بعض موارد الغيب‪ ،‬ومقتىض اجلمع بينها هو القول بتضييق دائرة العلم‬
‫بالغيب‪ ،‬ال نفي العلم بالغيب من رأس‪.‬‬

‫(‪ )1‬سورة لقامن‪.34 :‬‬


‫‪149‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫تأمل يف املعاجلة‪:‬‬

‫والذي ينبغي أن ُيقال‪َّ :‬‬


‫إن الرواية العلوية – التي استُظهر منها نفي الغيب – وكذا اآلية‬
‫الرشيفة التي أشار إليها أمري املؤمنني ‪ – ‬يف الرواية – ال يمكن األخذ بظاهرمها جز ًما‪،‬‬
‫ألن ظاهر اآلية الكريمة – بضميمة نكتة تقديم الظرف عىل املبتدأ يف قوله‪﴿ :‬إِ َّن اهللََّ ِعنْدَ ُه‬
‫وذلك َّ‬
‫أن اخلمسة‬ ‫اع ِة﴾ املفيد للحْص بحسب القوانني البالغية‪ ،‬وعطف ما تاله عليه(‪ – )1‬هو َّ‬ ‫ِ‬
‫ع ْل ُم َّ‬
‫الس َ‬
‫املذكورة يف اآلية املباركة – وهي‪ :‬القيامة‪ ،‬ونزول املطر‪ ،‬وما يف األرحام‪ ،‬واألفعال املستقبلية‪،‬‬
‫واآلجال – مما ال يعلم هبا إال اهلل ‪ ،‬وهذا ما ال يمكن االلتزام به؛ إذ َّ‬
‫أن نفس القرآن الكريم‬
‫قد أثبت علم بعض العباد ببعض تلك األمور‪ ،‬ولنا عىل ذلك عدة شواهد‪:‬‬

‫الس ْج ِن‬ ‫ِ‬


‫الشاهد األول‪ :‬ما جاء يف قوله تعاىل عىل لسان نبيه يوسف ‪َ ﴿ :‬يا َصاح َب ِي ِّ‬
‫يض ْاألَ ْم ُر ا َّل ِذي فِ ِيه‬‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ب َف َت ْأك ُُل ال َّط ْ ُري م ْن َر ْأسه ُق َ‬ ‫َأ َّما َأ َحدُ ك َُام َف َي ْس ِقي َر َّب ُه َ ْ‬
‫مخ ًرا َو َأ َّما ْاآلَ َخ ُر َف ُي ْص َل ُ‬
‫ان﴾ (‪ ،)2‬فإنه رصيح يف معرفته ‪ ‬باآلجال يف اجلملة‪.‬‬ ‫تَس َت ْفتِي ِ‬
‫ْ َ‬

‫الشاهد الثاين‪ :‬ما جاء فيه عىل لسان اخلرض ‪َ ﴿ :‬فا ْن َط َل َقا َحتَّى إِ َذا َل ِق َيا غُ َال ًما َف َق َت َل ُه‬
‫يع َم ِع َي‬ ‫ِ‬
‫َّك َل ْن ت َْستَط َ‬ ‫س َل َقدْ ِج ْئ َت َش ْي ًئا ُنك ًْرا * َق َال َأ َمل ْ َأ ُق ْل َل َك إِن َ‬ ‫َق َال َأ َق َت ْل َت َن ْف ًسا َزكِ َّي ًة بِغ ْ ِ‬
‫َري َن ْف ٍ‬

‫ٍ‬
‫بمكان من اإلمكان‪ ،‬ولكن‬ ‫ُ‬
‫فحمل ما أتى ذكره بعد (علم الساعة) عىل االستئناف‬ ‫(‪ )1‬جدير بالذكر أننا لو كنَّا نحن واآلية الكريمة‬
‫يمتنع هذا احلمل بعد مالحظة الروايات التي استشهدت باآلية الرشيفة أو فرسهتا‪ ،‬فإهنا قد جعلت اخلمسة يف سياق واحد‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫ما ورد عن اإلمام الصادق ‪ ‬أنه قال‪ :‬قال يل أيب‪ :‬أال أخربك بخمسة مل يطلع اهلل عليها أحدً ا من خلقه؟ قلت‪ :‬بىل‪ ،‬قال‪﴿ :‬إِ َّن اهللََّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وت إِ َّن اهللََّ عَل ٌ‬
‫يم‬ ‫ض َمت ُ ُ‬ ‫الساعَة َو ُينَزِّ ُل ا ْل َغيْ َث َو َي ْع َل ُم َما ِيف ْاأل َ ْر َحا ِم َو َما تَدْ ِري َن ْف ٌس َما َذا َتكْس ُ‬
‫ب غَدً ا َو َما تَدْ ِري َن ْف ٌس بِ َأ ِّي َأ ْر ٍ‬ ‫عنْدَ ُه علْ ُم َّ‬
‫َخبِ ٌري﴾‪ .‬كتاب اخلصال‪ :‬ص‪.290‬‬
‫(‪ )2‬سورة يوسف‪.41 :‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪150‬‬

‫َني َف َخ ِشينَا َأ ْن ُي ْر ِه َق ُه َام ُط ْغ َيانًا‬


‫َان َأ َب َوا ُه ُم ْؤ ِمن ْ ِ‬
‫ربا﴾ (‪ ،)1‬ثم قوله بعد ذلك‪َ ﴿ :‬و َأ َّما ا ْلغ َُال ُم َفك َ‬
‫َص ْ ً‬
‫َو ُك ْف ًرا﴾ (‪ ،)2‬فإنه هو اآلخر رصيح يف علم العبد الصالح ‪ ‬باألفعال املستقبلية‪.‬‬
‫الشاهد الثالث‪ :‬ما جاء فيه عن نبي اهلل عيسى ‪َ ﴿ :‬ف َأ َش َار ْت إِ َل ْي ِه َقا ُلوا َك ْي َ‬
‫ف ُن َك ِّل ُم َم ْن‬
‫ْت‬ ‫َاب َو َج َع َلنِي نَبِ ًّيا * َو َج َع َلنِي ُم َب َاركًا َأ ْي َن َما ُكن ُ‬ ‫َان ِيف املَْه ِد صبِيا * َق َال إِ ِّين َعبدُ اهللَِّ َآت ِ ِ‬
‫َاين ا ْلكت َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ ًّ‬ ‫ك َ‬
‫جي َع ْلنِي َج َّب ًارا َش ِق ًّيا﴾ (‪ ،)3‬فإنه رصيح‬ ‫ِ‬ ‫و َأوص ِاين بِالص َال ِة و َّ ِ‬
‫الزكَاة َما ُد ْم ُت َح ًّيا * َو َب ًّرا بِ َوالدَ ِيت َو َمل ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ َ‬
‫أيضا يف علمه ‪ ‬منذ والدته بام سيكسبه يف مستقبل أيامه وما سيكون عليه‪.‬‬
‫ً‬

‫رسائِ َيل‬ ‫أيضا‪َ ﴿ :‬و َر ُس ً ِ ِ ِ‬


‫وال إ َىل َبني إ ْ َ‬ ‫الشاهد الرابع‪ :‬ما جاء فيه عىل لسان نبي اهلل عيسى ‪ً ‬‬
‫كَه ْي َئ ِة ال َّط ْ ِري َف َأ ْن ُف ُخ فِ ِيه َف َيك ُ‬
‫ُون َط ْ ًريا بِإِ ْذ ِن‬ ‫ني َ‬ ‫َأ ِّين َقدْ ِج ْئ ُتك ُْم بِ َآ َي ٍة ِم ْن َر ِّبك ُْم َأ ِّين َأ ْخ ُل ُق َلك ُْم ِم َن ال ِّط ِ‬

‫ون ِيف ُب ُيوتِك ُْم‬ ‫ون َو َما تَدَّ ِخ ُر َ‬


‫ص َو ُأ ْحيِي املَْ ْوتَى بِإِ ْذ ِن اهللَِّ َو ُأ َن ِّب ُئك ُْم بِ َام َت ْأ ُك ُل َ‬‫اهللَِّ َو ُأ ْب ِر ُئ ْاألَك َْم َه َو ْاألَ ْب َر َ‬
‫إِ َّن ِيف َذلِ َك َآلَ َي ًة َلك ُْم إِ ْن ُكنْت ُْم ُم ْؤ ِمن ِ َ‬
‫ني﴾ (‪ ،)4‬وهو رصيح يف علمه ‪ ‬بام يكسبه اآلخرون يف‬
‫اجلملة‪.‬‬

‫الشاهد اخلامس‪ :‬ما جاء فيه حاك ًيا قصة ناقة نبي اهلل صالح ‪َ ﴿ :‬و َيا َق ْو ِم َه ِذ ِه نَا َق ُة ا َِّ‬
‫هلل‬
‫ٍ‬ ‫وها َت ْأك ُْل ِيف َأ ْر ِ‬
‫وها َف َق َال‬ ‫يب * َف َع َق ُر َ‬ ‫اب َق ِر ٌ‬
‫وها بِ ُسوء َف َي ْأ ُخ َذك ُْم َع َذ ٌ‬ ‫ض اهللَِّ َو َال َمت َ هس َ‬ ‫َلك ُْم َآ َي ًة َف َذ ُر َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫كْذ ٍ‬ ‫َمت َ َّت ُعوا ِيف َد ِارك ُْم َث َال َث َة َأ َّيا ٍم َذل ِ َك َوعْدٌ غَ ْ ُري َم ُ‬
‫ين َآ َمنُوا‬ ‫وب * َف َل َّام َجا َء َأ ْم ُرنَا ن ََّج ْينَا َصاحلًا َوا َّلذ َ‬
‫ِ‬ ‫ٍِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫معه بِر ْ َ ٍ ِ‬
‫الص ْي َح ُة‬
‫ين َظ َل ُموا َّ‬ ‫محة منَّا َوم ْن خ ْز ِي َي ْومئذ إِ َّن َر َّب َك ُه َو ا ْل َق ِو هي ا ْل َع ِز ُيز * َو َأ َخ َذ ا َّلذ َ‬ ‫ََُ َ‬

‫(‪ )1‬سورة الكهف‪.75 ،74 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة الكهف‪.80 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة مريم‪.32 – 29 :‬‬
‫(‪ )4‬سورة آل عمران‪.49 :‬‬
‫‪151‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫ار ِه ْم َجاثِ ِم َ‬
‫ني﴾ (‪ ،)1‬فإنه رصيح يف علمه ‪ ‬بآجال قومه بنحو الدقة‬ ‫َف َأ ْص َب ُحوا ِيف ِد َي ِ‬

‫والتحديد‪.‬‬

‫ات‬‫الشاهد السادس‪ :‬ما جاء فيه عن نبي اهلل يوسف ‪﴿ :‬و َق َال املَْلِ ُك إِ ِّين َأرى سبع ب َقر ٍ‬
‫َ َ َْ َ َ‬ ‫َ‬
‫أل َأ ْفت ِ‬ ‫رض و ُأ َخر يابِسا ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِس َام ٍن َي ْأ ُك ُل ُه َّن َس ْب ٌع ِع َج ٌ‬
‫ُوين ِيف ُر ْؤ َي َ‬
‫اي إِ ْن‬ ‫ت َيا َأ ه َُّيا املَْ َ ُ‬ ‫اف َو َس ْب َع ُسنْ ُب َالت ُخ ْ ٍ َ َ َ َ‬
‫ني * َو َق َال ا َّل ِذي ن ََجا‬ ‫يل ْاألَ ْح َال ِم بِ َعامل ِ َ‬ ‫َاث َأ ْح َال ٍم َو َما ن َْح ُن بِ َت ْأ ِو ِ‬
‫ون * َقا ُلوا َأ ْضغ ُ‬
‫رب َ‬ ‫ِ‬
‫ُكنْت ُْم ل هلر ْؤ َيا َت ْع ُ ُ‬
‫ف َأُّيا الصدِّ ُيق َأ ْفتِنَا ِيف سب ِع ب َقر ٍ‬ ‫ِِ ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ات‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫وس ُ ه َ ِّ‬ ‫من ُْه َام َوا َّدك ََر َب ْعدَ ُأ َّمة َأنَا ُأ َن ِّب ُئك ُْم بِ َت ْأ ِويله َف َأ ْرس ُلون * ُي ُ‬
‫ات َل َع َِّل َأ ْر ِج ُع إِ َىل الن ِ‬ ‫رض و ُأ َخر يابِس ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِس َام ٍن َي ْأ ُك ُل ُه َّن َس ْب ٌع ِع َج ٌ‬
‫َّاس َل َع َّل ُه ْم‬ ‫اف َو َس ْب ِع ُسنْ ُب َالت ُخ ْ ٍ َ َ َ َ‬
‫ون * ُث َّم‬ ‫ني َد َأ ًبا َف َام َح َصدْ ت ُْم َف َذ ُرو ُه ِيف ُسنْ ُبلِ ِه إِ َّال َقلِ ًيال ِممَّا َت ْأ ُك ُل َ‬ ‫ون َس ْب َع ِسن ِ َ‬ ‫ون * َق َال ت َْز َر ُع َ‬ ‫َي ْع َل ُم َ‬
‫ُون * ُث َّم َي ْأ ِيت ِم ْن َب ْع ِد َذلِ َك‬ ‫َي ْأ ِيت ِم ْن َب ْع ِد َذلِ َك َس ْب ٌع ِشدَ ا ٌد َي ْأ ُك ْل َن َما َقدَّ ْمت ُْم َهل ُ َّن إِ َّال َقلِ ًيال ِممَّا ُ ْحت ِصن َ‬
‫أيضا يف معرفته ‪ ‬بام سيكسبه الناس‬ ‫ون﴾ (‪ ،)2‬فإنه رصيح ً‬ ‫ْص َ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ام فِ ِيه ُيغ ُ‬
‫َّاس َوفيه َي ْع ُ‬ ‫َاث الن ُ‬ ‫َع ٌ‬
‫ّ‬
‫سيحل عليهم يف مستقبل أيامهم‪.‬‬ ‫وما‬

‫رش ِك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫الشاهد السابع‪ :‬ما جاء فيه عن السيدة مريم ‪﴿ :‬إ ْذ َقا َلت ا َْمل َالئك َُة َيا َم ْر َي ُم إ َّن اهللََّ ُي َب ِّ ُ‬
‫َّاس‬‫ني * َو ُي َك ِّل ُم الن َ‬ ‫يسى ا ْب ُن َم ْر َي َم َو ِج ًيها ِيف الده ْن َيا َو ْاآلَ ِخ َر ِة َو ِم َن املُْ َق َّربِ َ‬ ‫بِكَلِم ٍة ِمنْه اسمه املَْ ِس ِ‬
‫يح ع َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ ْ ُُ‬
‫ون ِيل و َلدٌ و َمل يمسسنِي ب َرش َق َال ك ََذلِ ِ‬ ‫ِيف املَْه ِد وكَه ًال و ِمن الص ِ‬
‫هلل‬
‫ك ا َُّ‬ ‫ني * َقا َل ْت َر ِّب َأنَّى َي ُك ُ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ٌ‬ ‫احل َ‬ ‫ْ َ ْ َ َ َّ‬
‫ون﴾ (‪ ،)3‬فإنه رصيح جدً ا يف علمها ‪ ‬بام يف‬ ‫ُن َف َيكُ ُ‬‫ول َل ُه ك ْ‬ ‫خي ُل ُق َما َي َشا ُء إِ َذا َق َىض َأ ْم ًرا َفإِن ََّام َي ُق ُ‬
‫َْ‬
‫علام تفصيل ًيا ال خيطئ الواقع‪.‬‬
‫رمحها ً‬

‫(‪ )1‬سورة هود‪.67 – 64 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة يوسف‪.49 – 43 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة آل عمران‪.47 – 45 :‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪152‬‬

‫ٍ‬
‫بحرف بالنسبة ألصل‬ ‫وعني هذا الكالم الذي ذكرناه بالنسبة لآلية الكريمة جيري حر ًفا‬
‫ُ‬
‫أيضا‪ ،‬فإهنا هي األخرى ال بدَّ من رفع اليد عن ظاهرها؛ الستفاضة علم األئمة ‪‬‬
‫الرواية ً‬
‫ببعض ما ُذكر من األمور اخلمسة‪ ،‬وإليك بعض الشواهد الروائية عىل ذلك‪:‬‬

‫الشاهد األول‪ :‬ما ورد يف أحوال أمري املؤمنني ‪ ‬ليلة التاسع عرش من شهر رمضان‪:‬‬
‫قائام وقاعدً ا وراك ًعا وساجدً ا‪ ،‬ثم خيرج ساعة بعد ساعة يقلب طرفه يف‬ ‫أنه ومل يزل تلك الليلة ً‬
‫السامء وينظر يف الكواكب وهو يقول‪ :‬واهلل ما َك َذبت وال ُك ِذ بت‪ ،‬وإهنا الليلة التي وعدت هبا‪،‬‬
‫ثم يعود إىل مصاله ويقول‪ :‬اللهم بارك يل يف املوت‪ ،‬ويكثر من قول‪( :‬إنا هلل وإنا إليه راجعون)‬
‫و(ال حول وال قوة إال باهلل العَل العظيم) (‪.)1‬‬

‫الشاهد الثاين‪ :‬قول سيد الشهداء ‪ ‬يف خطبته بمكة‪« :‬خط املوت عىل ولد آدم خمط‬
‫القالدة عىل جيد الفتاة‪ ،‬وما أوهلني إىل أساليف اشتياق يعقوب إىل يوسف‪ ،‬وخري يل مْصع أنا‬
‫ً‬
‫أكراشا‬ ‫القيه‪ ،‬كأين بأوصايل تقطعها عسالن الفلوات‪ ،‬بني النواويس وكربال‪ ،‬فيمألن مني‬
‫جوف وأجربة سغبى‪ ،‬ال حميص عن يوم خط بالقلم» (‪.)2‬‬

‫وهذا الشاهد وسابقه يدالن عىل علم األئمة ‪ ‬بمصائرهم وبأي أرض يموتون‪ ،‬ووقت‬
‫شهادهتم وما جيري عليهم‪ ،‬وهلام يف الروايات عرشات األمثال‪.‬‬

‫الصالح ينعى إىل الرجل‬


‫عامر قال‪« :‬سمعت العبد ّ‬
‫الشاهد الثالث‪ :‬ما رواه إسحاق بن ّ‬
‫إيل شبه املغضب‬
‫نفسه‪ ،‬فقلت يف نفيس‪ :‬وإنّه ليعلم متى يموت الرجل من شيعته! فالتفت ّ‬
‫وقال‪ :‬يا إسحاق قد كان رشيد اهلجري يعلم علم املنايا والباليا‪ ،‬واإلمام أوىل بعلم ذلك‪.‬‬

‫(‪ )1‬بحار األنوار‪ :‬ج‪ ،42‬ص‪.277‬‬


‫(‪ )2‬بحار األنوار‪ :‬ج‪ ،44‬ص‪.367‬‬
‫‪153‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫ثم قال‪ :‬يا إسحاق اصنع ما أنت صانع فإ ّن عمرك قد فنى‪ ،‬وإنّك متوت إىل سنتني‪،‬‬
‫ّ‬
‫بعضا‪ ،‬حتّى‬
‫تفرق كلمتهم‪ ،‬وخيون بعضهم ً‬ ‫وإخوتك وأهل بيتك ال يلبثون َّإال ً‬
‫يسريا حتّى ت ّ‬
‫عدوهم‪ ،‬فكان هذا يف نفسك‪ ،‬فقلت‪ :‬فإ ّين أستغفر اهلل ممّا عرض يف صدري‪ ،‬فلم‬
‫يشمت هبم ّ‬
‫يسريا حتى مات‪ ،‬فام أتى عليهم َّإال قليل حتّى قام بنو ّ‬
‫عامر‬ ‫يلبث إسحاق بعد هذا املجلس َّإال ً‬
‫بأموال النّاس فأفلسوا» (‪.)1‬‬

‫حممد ‪ ‬حني أخذ املهتدي يف‬


‫حممد‪ ،‬قال‪« :‬كتبت إىل أيب ّ‬
‫الشاهد الرابع‪ :‬عن أمحد بن ّ‬
‫قتل املوايل‪ :‬يا س ّيدي احلمد هلل الذي شغله عنّا‪ ،‬فقد بلغني أنّه ُّيدّ دك ويقول واهلل ألجلينّهم عن‬

‫جديد األرض‪ ،‬فو ّقع أبو ّ‬


‫حممد بخطه ‪ :‬ذاك أقْص لعمره‪ ،‬عد من يومك هذا مخسة أ ّيام‪،‬‬
‫يمر به‪ ،‬فكان كام قال ‪.)2( »‬‬
‫السادس بعد هوان واستخفاف ّ‬
‫ويقتل يف اليوم ّ‬

‫السمري رابع‬
‫الشاهد اخلامس‪ :‬التّوقيع الصادر عن اإلمام املهدي ‪ ‬إىل أيب احلسن ّ‬
‫حممد السمري‪ ،‬أعظم اهلل أجر إخوانك‬
‫عَل بن ّ‬
‫الرمحن الرحيم‪ ،‬يا ّ‬
‫الوكالء األربعة‪« :‬بسم اهللَّ ّ‬
‫ِ‬
‫توص إىل أحد يقوم مقامك بعد‬ ‫فيك‪ ،‬فإنّك م ّيت ما بينك وبني ستّة أيام‪ ،‬فامجع أمرك وال‬
‫وفاتك‪ ،‬فقد وقعت الغيبة التّامة‪ ،‬فال ظهور َّإال بعد إذن اهلل تعاىل ذكره‪ ،‬وذلك بعد طول األمد‬
‫جورا‪ ،‬وسيأيت من شيعتي من يدّ عي املشاهدة‪ ،‬أال فمن ا ّدعى‬
‫وقسوة القلوب وامتالء األرض ً‬
‫العَل‬ ‫قوة َّإال باهلل‬ ‫والصيحة فهو كاذب ٍ‬
‫مفرت‪ ،‬وال حول وال ّ‬ ‫ّ‬ ‫السفياين‬
‫املشاهدة قبل خروج ّ‬
‫ّ‬
‫العظيم‪.‬‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.484‬‬


‫(‪ )2‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.501‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪154‬‬

‫السادس عادوا إليه وهو جيود‬


‫فلام كان اليوم ّ‬
‫فنسخوا هذا التّوقيع وخرجوا من عنده‪َّ ،‬‬
‫بنفسه‪ ،‬فقال له بعض النّاس‪ :‬من وص ّيك بعدك‪ ،‬فقال‪ :‬هلل أمر هو بالغه‪ ،‬وقىض‪ ،‬فهذا آخر كالم‬
‫سمع منه ريض اهلل عنه وأرضاه» (‪.)1‬‬

‫وهذه الشواهد الثالثة األخرية تدل عىل علم األئمة الطاهرين ‪ ‬بآجال غريهم‬
‫ومصائرهم عىل نحو الدقة والتفصيل‪.‬‬

‫الشاهد السادس‪ :‬ما ورد من َّ‬


‫أن اإلمام الرضا ‪ ‬حني استسقى بخراسان قال‪« :‬اللهم‬
‫يا رب أنت عظمت حقنا أهل البيت‪ ،‬فتوسلوا بنا كام أمرت‪ ،‬وأملوا فضلك ورمحتك‪ ،‬وتوقعوا‬
‫إحسانك ونعمتك‪ ،‬فاسقهم سق ًيا ناف ًعا عا ًما غري رايث وال ضائر‪ ،‬وليكن ابتداء مطرهم بعد‬
‫انْصافهم من مشهدهم هذا إىل منازهلم ومقارهم‪.‬‬

‫قال‪ :‬فو الذي بعث حممدً ا باحلق نب ًيا لقد نسجت الرياح يف اهلواء الغيوم‪ ،‬وأرعدت‬
‫وأبرقت‪ ،‬وحترك الناس كأهنم يريدون التنحي عن املطر‪ ،‬فقال الرضا ‪ :‬عىل رسلكم أُّيا‬
‫الناس فليس هذا الغيم لكم‪ ،‬إنام هو ألهل بلد كذا‪ ،‬فمضت السحابة وعربت‪ ،‬ثم جاءت‬
‫سحابة أخرى تشتمل عىل رعد وبرق فتحركوا‪ ،‬فقال‪ :‬عىل رسلكم فام هذه لكم‪ ،‬إنام هي ألهل‬
‫بلد كذا‪ ،‬فام زالت حتى جاءت عرش سحابات وعربت‪ ،‬ويقول عَل بن موسى الرضا ‪ :‬يف‬
‫كل واحدة‪ :‬عىل رسلكم ليست هذه لكم‪ ،‬إنام هي ألهل بلد كذا‪ ،‬ثم أقبلت سحابة حادية عرش‬
‫فقال‪ :‬أُّيا الناس هذه سحابة بعثها اهلل ‪ ‬لكم‪ ،‬فاشكروا اهلل عىل تفضله عليكم‪ ،‬وقوموا إىل‬
‫مقاركم ومنازلكم‪ ،‬فإهنا مسامة لكم ولرؤوسكم‪ ،‬ممسكة عنكم‪ ،‬إىل أن تدخلوا إىل مقاركم‪ ،‬ثم‬
‫يأتيكم من اخلري ما يليق بكرم اهلل تعاىل وجالله‪ ،‬ونزل من عىل املنرب وانْصف الناس‪ ،‬فام زالت‬

‫(‪ )1‬االحتجاج‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.269‬‬


‫‪155‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫السحابة ممسكة إىل أن قربوا من منازهلم‪ ،‬ثم جاءت بوابل املطر فمألت األودية واحلياض‬
‫والغدران والفلوات‪ ،‬فجعل الناس يقولون‪ :‬هنيئا لولد رسول اهلل ‪ ‬كرامات اهلل ‪.)1( »‬‬

‫وهذا الشاهد – كام ترى – يدل عىل علم األئمة الطاهرين ‪ ‬بوقت نزول الغيث واملطر‬
‫ومقداره عىل نحو الدقة والتفصيل‪ ،‬بل علمهم حتى بخصوصيات كل سحابة وموضع‬
‫هطوهلا‪.‬‬

‫الشاهد السابع‪ :‬عن اإلمام الصادق ‪ ‬قال‪« :‬واهلل لقد أعطينا علم األولني واآلخرين‪،‬‬
‫فقال له رجل من أصحابه‪ :‬جعلت فداك أعندكم علم الغيب؟ فقال له‪ :‬إين ألعلم ما يف‬
‫أصالب الرجال وأرحام النساء» (‪.)2‬‬

‫وهذا الشاهد رصيح يف إحاطتهم ‪ ‬بام يف األصالب واألرحام‪ ،‬ومعرفتهم به‪ ،‬وهو مما‬
‫أكّدوه يف العديد من رواياهتم وأحاديثهم وأخبارهم‪ ،‬نظري قول النبي ‪ ‬لسيد الشهداء احلسني‬
‫‪« :‬يا حسني‪ ،‬خيرج من صلبك رجل يقال له زيد‪ ،‬يتخطى وهو وأصحابه يوم القيامة رقاب‬
‫حمجلني‪ ،‬يدخلون اجلنة بال حساب» (‪.)3‬‬
‫غرا ّ‬
‫الناس‪ًّ ،‬‬

‫كيفية توجيه هذين النصني‪:‬‬


‫واملتحصل عىل ضوء الشواهد املتقدمة‪َّ :‬‬
‫أن اآلية والرواية املذكورتني ال يمكن األخذ‬
‫بظاهرمها‪ ،‬بل ال بدَّ من توجيههام بام يتالءم مع مجيع تلك الشواهد املتقدمة‪ ،‬والذي يمكن ذكره‬
‫للتوجيه يف املقام أحد وجوه ثالثة‪:‬‬

‫(‪ )1‬عيون أخبار الرضا ‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.179‬‬


‫(‪ )2‬مناقب آل أيب طالب‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.373‬‬
‫(‪ )3‬األمايل‪ ،‬للشيخ الصدوق‪ :‬ص‪.409‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪156‬‬

‫أ – الوجه األول‪ :‬أن ُحتمل اآلية والرواية عىل نفي العلم باخلمسة املذكورة من غري تعليم‬
‫اهلل ‪ ، ‬وأما بعد تعليمه فال مانع من اإلحاطة هبا؛ ولذا علمت مريم ‪ ‬بام يف رمحها بعد تعليم‬
‫اهلل تعاىل هلا‪ ،‬وعلم اخلرض ‪ ‬بام سيكتسبه الغالم – الذي قام بقتله – يف مستقبل أيامه بعد‬
‫تعليم اهلل تعاىل له‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فتُحمل مجيع الشواهد املتقدمة عىل العلم بأحد اخلمسة بتعليم اهلل‬
‫‪ ‬وإفاضته‪.‬‬

‫ولو قيل‪َّ :‬‬


‫إن مجيع الغيب ال يمكن العلم به إال بتعليم اهلل تعاىل‪ ،‬وال خصوصية للخمسة‬
‫املذكورة‪ ،‬فام هو الوجه يف إفرادها بالذكر دون غريها؟‬

‫أهم مصاديق العلم بالغيب‪ ،‬وإما كوهنا جوامع‬ ‫قلنا‪َّ :‬‬


‫إن الوجه يف إفرادها بالذكر إما كوهنا ّ‬
‫الغيب التي ترجع إليها سائر أفراده‪.‬‬

‫ومما يشهد هلذا الوجه‪ :‬ما ورد عن اإلمام الصادق ‪َّ « :‬‬
‫إن هلل علمني‪ ،‬علم تعلمه‬
‫مالئكته ورسله‪ ،‬وعلم ال يعلم غريه‪ ،‬فام كان مما يعلمه مالئكته ورسله فنحن نعلمه‪ ،‬وما خرج‬
‫من العلم الذي ال يعلمه غريه فإلينا خيرج» (‪ ،)1‬فإنه رصيح يف َّ‬
‫أن ما ال يعلمه إال اهلل تعاىل قد‬
‫خيرج‪ ،‬وإذا خرج فإنه خيرج إليهم ‪ ،‬وال غرو يف ذلك بعد كوهنم واسطة الفيض‪ ،‬كام ّ‬
‫حققناه‬
‫يف كتابنا (الوالية التكوينية بني القرآن والربهان)‪.‬‬

‫ومما يقرب ذلك‪ :‬ما ورد عن أمري املؤمنني ‪ ‬أنه قال‪« :‬يا سلامن أما قرأت قول اهلل ‪‬‬
‫ب َف َال ُي ْظ ِهر َع َىل غَ ْيبِ ِه َأ َحدً ا * إِ َّال م ِن ارت ََىض ِمن رس ٍ‬
‫ول﴾؟ فقلت‪ :‬بىل‬ ‫ِ‬
‫امل ا ْل َغ ْي ِ‬
‫َّ ُ‬ ‫َ ْ ى‬ ‫ُ ى‬ ‫حيث يقول‪َ ﴿ :‬ع ُ‬

‫(‪ )1‬بصائر الدرجات‪ :‬ص‪.132‬‬


‫‪157‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫يا أمري املؤمنني‪ ،‬فقال ‪ :‬أنا ذلك املرتىض من الرسول الذي أظهره اهلل ‪ ‬عىل غيبه‪ ،‬أنا‬
‫عَل الشدائد فطوى له البعيد» (‪.)1‬‬
‫هون اهلل ّ‬
‫العامل الرباين‪ ،‬أنا الذي ّ‬

‫تغيريا وال‬
‫ً‬ ‫ب – الوجه الثاين‪ :‬أن ُحتمل اآلية والرواية عىل العلم احلتمي – الذي ال يقبل‬
‫ً‬
‫تبديال – وحتمل الشواهد املذكورة عىل العلم باألمور اخلمسة ولكن عىل نحو العلم البدائي‬
‫غري احلتمي القابل للتغيري والتبديل‪.‬‬

‫ويشهد هلذا الوجه‪ :‬ما ورد عن أمري املؤمنني ‪ ‬أنه قال‪« :‬لوال آية يف كتاب اهلل‬
‫ألخربتكم بام كان وبام يكون وبام هو كائن إىل يوم القيامة‪ ،‬وهي هذه اآلية‪َ ﴿ :‬ي ْم ُحو اهللَُّ َما َي َشا ُء‬
‫َو ُي ْثبِ ُت َو ِعندَ ُه ُأ هم ا ْلكِت ِ‬
‫َاب﴾» (‪.)2‬‬
‫أن هذا املعنى قد تكرر بيانه عىل لسان األئمة ‪ ،‬حتى َّ‬
‫أن صاحب قرب‬ ‫وجدير بالذكر َّ‬
‫ٌ‬
‫اإلسناد قد روى املعنى املذكور ً‬
‫قائال‪« :‬قال أبو عبد اهلل‪ ،‬وأبو جعفر‪ ،‬وعَل بن احلسني‪ ،‬واحلسني‬
‫بن عَل‪ ،‬واحلسن بن عَل‪ ،‬وعَل بن أيب طالب ‪ :‬واهلل لوال آية يف كتاب اهلل حلدثناكم بام يكون‬
‫إىل أن تقوم الساعة‪َ ﴿ :‬ي ْم ُحو اهللَُّ َما َي َشا ُء َو ُي ْثبِ ُت َو ِعندَ ُه ُأ هم ا ْلكِت ِ‬
‫َاب﴾» (‪.)3‬‬

‫ج – الوجه الثالث‪ :‬عكس الوجه السابق‪ ،‬بأن ُحتمل اآلية والرواية عىل ما يمكن جريان‬
‫البداء فيه من األمور اخلمسة‪ُ ،‬‬
‫وحتمل الشواهد املتقدمة عىل ما ُقيض ُ‬
‫وحسم أمره منها‪.‬‬

‫أيضا مما تشهد له العديد من الروايات‪ ،‬وإليك بعضها‪:‬‬


‫وهذا ً‬

‫(‪ )1‬بحار األنوار‪ :‬ج‪ ،42‬ص‪.53‬‬


‫(‪ )2‬بحار األنوار‪ :‬ج‪ ،4‬ص‪.97‬‬
‫(‪ )3‬قرب اإلسناد‪ :‬ص‪.353‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪158‬‬

‫ان‪:‬‬‫مح َر ُ‬‫ني َي ْس َأ ُل َأ َبا َج ْع َف ٍر ‪َ « ..‬ف َق َال َله ُ ْ‬ ‫ان ْب َن َأ ْع َ َ‬ ‫الص ْ َري ِ ِّيف َق َال‪َ :‬س ِم ْع ُت ُ ْ‬
‫مح َر َ‬ ‫ِ‬
‫* عن َسد ٍير َّ‬
‫ب َفال ُي ْظ ِه ُر َعىل غَ ْيبِه َأ َحدً ا﴾؟ َف َق َال َأ ُبو َج ْع َف ٍر ‪﴿ :‬إِ َّال‬ ‫ِ‬
‫عامل ا ْل َغ ْي ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫َأرأ ْي َت َق ْو َله َج َّل ذ ْك ُره‪ُ ﴿ :‬‬
‫ب﴾ َفإِ َّن اهللَّ ‪‬‬ ‫ِ‬
‫عامل ا ْل َغ ْي ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫م ِن ارتَىض ِم ْن رس ٍ‬
‫َان واهللَّ ُحم َ َّمدٌ ممَّن ْارت ََضاه‪ ،‬وأ َّما َق ْو ُله‪ُ ﴿ :‬‬ ‫ول﴾ وك َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ْ‬
‫يش ٍء و َي ْق ِضيه ِيف ِع ْل ِمه َق ْب َل َأ ْن َ ْ‬
‫خي ُل َقه و َق ْب َل َأ ْن ُي ْف ِض َيه إِ َىل‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اب َع ْن َخ ْلقه ف َيام َي ْقد ُر م ْن َ ْ‬
‫ِ‬
‫َعامل ٌ بِ َام غَ َ‬
‫وف ِعنْدَ ه‪ ،‬إِ َل ْيه فِيه املَْ ِشي َئ ُة‪َ ،‬ف َي ْق ِضيه إِ َذا َأ َرا َد‪ ،‬و َي ْبدُ و َله فِيه َف َال‬
‫ان ِع ْل ٌم َم ْو ُق ٌ‬ ‫املَْ َالئِك َِة‪َ ،‬ف َذلِ َك َيا ُ ْ‬
‫مح َر ُ‬
‫هلل‬
‫ول ا َّ‬‫ُيم ِضيه‪َ ،‬ف َأما ا ْل ِع ْلم ا َّل ِذي ُي َقدِّ ره اهللَّ ‪َ ‬ف َي ْق ِضيه و ُيم ِضيه َف ُه َو ا ْل ِع ْلم ا َّل ِذي ا ْنت ََهى إِ َىل رس ِ‬
‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫‪ُ ‬ث َّم إِ َل ْينَا» (‪.)1‬‬

‫* وعن أيب بصري‪ ،‬عن أيب عبد اهلل ‪ ‬قال‪« :‬إن هلل علمني‪ :‬علم مكنون خمزون‪ ،‬ال يعلمه‬
‫إال هو‪ ،‬من ذلك يكون البداء‪ ،‬وعلم علمه مالئكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه» (‪.)2‬‬

‫وباجلملة‪َّ ،‬‬
‫فإن اآلية الكريمة والرواية العلوية الرشيفة املفرسة هلا ال يمكن محلهام عىل ما‬
‫مها ظاهرتان فيه من انحصار العلم باألمور اخلمسة املذكورة باهلل ّ‬
‫جل جالله‪ ،‬بل هو متاح لغريه‬
‫بتعلي ٍم منه تعاىل‪ ،‬سيام ما قضاه وحسم أمره منها‪ ،‬وبالتايل َّ‬
‫فإن الرواية املذكورة – عىل مجيع‬
‫التقادير والوجوه – ال تصلح أن تكون ً‬
‫دليال ألصحاب نظرية القراءة املنسية عىل عدم علم‬
‫األئمة ‪ ‬بالغيب‪ ،‬كام قد اتضح بام ال مزيد عليه‪.‬‬

‫وإن كانت ثمة كلمة ينبغي أن تُقال يف املقام فهي‪َّ :‬‬


‫أن مسألة علم املعصومني ‪ ‬من املسائل‬
‫نظرا لكثرة األخبار فيها وتعدد‬
‫املعضلة جدً ا‪ ،‬بل هي من مزالق األقدام وعثرات األقالم‪ً ،‬‬
‫ٌ‬
‫مشكل جدً ا‪ ،‬واجلمع بينها أشكل‪ ،‬واألوىل‬ ‫طوائفها واختالف ألسنتها‪ ،‬فالرتجيح لَشء منها‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.257‬‬


‫(‪ )2‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.147‬‬
‫‪159‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫هو االعتقاد اإلمجايل بأهنم ‪ ‬يعلمون بام كان وما يكون وما هو كائن إىل يوم القيامة‪ ،‬كام هو‬
‫مفاد العديد من كلامهتم الرشيفة‪ ،‬وأما كيفية علمهم بذلك فاألوىل إرجاعها إليهم ‪.‬‬

‫‪ / 3‬املحور الثالث‪ :‬معاجلة النصوص الظاهرة يف نفي النص عىل اإلمام‪.‬‬

‫أيضا ببعض نصوص هنج‬


‫وقد متسك املنكرون ألصالة العقيدة الشيعية يف هذا املحور ً‬
‫زعام منهم أهنا تنايف االعتقاد برضورة النص عىل اإلمام‪ ،‬وسوف نستعرض النصوص‬
‫البالغة‪ً ،‬‬
‫وأهم هذه النصوص امللتبسة ثالثة نصوص‪:‬‬
‫ه‬ ‫ونبني زيف مزاعمهم‪،‬‬
‫التي متسكوا هبا ّ‬

‫النص األول‪ :‬قول أمري املؤمنني ‪« :‬إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثامن‬
‫عىل ما بايعوهم عليه‪ ،‬فلم يكن للشاهد أن خيتار وال للغائب أن يرد‪ ،‬وإنام الشورى للمهاجرين‬
‫واألنصار‪ ،‬فإن اجتمعوا عىل رجل وسموه إما ًما كان ذلك هلل رضا» (‪.)1‬‬
‫وحاصل ما يزعمه أصحاب النظرية ّ‬
‫أن هذا النص دال عىل أن مالك اإلمامة هو االجتامع‬
‫ِ‬
‫نسخته املعارصة‪.‬‬ ‫والشورى وليس النص‪ ،‬وهذا مما يكفي إلثبات خطأ االعتقاد الشيعي يف‬

‫معاجلة النص األول‪:‬‬

‫ويمكن أن ُيعالج هذا النص من خالل مالحظة ظرف صدوره‪َّ ،‬‬


‫فإن فهم سياقات الكالم‬
‫وظروفه املحيطة به مما يعني عىل فهم املقصود به‪.‬‬

‫وعند الرجوع ملناسبة الصدور نجد أنّه قد صدر من أمري املؤمنني ‪ ‬عندما رفض‬
‫يقرب كونه ‪ ‬قد أراد بكالمه املذكور إلزام معاوية بن أيب‬ ‫ُ‬
‫معاوية اخلضوع إلمامته‪ ،‬وهذا مما ّ‬
‫سفيان باملباين التي يلتزم هبا يف كيفية انعقاد اإلمامة‪.‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.7‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪160‬‬

‫وهذه املناسبة وإن كان الرشيف الريض ‪ ‬مل يذكرها يف النهج‪ ،‬جلريان عادته غال ًبا عىل‬
‫املؤرخ نْص بن مزاحم قد سجلها يف كتابه (وقعة صفني)‪،‬‬
‫أن ّ‬ ‫االكتفاء بنقل النصوص‪ ،‬غري َّ‬
‫جريرا كتابه ملعاوية‪ ،‬وقال له‪« :‬ائت معاوية بكتايب‪،‬‬
‫ً‬ ‫محل‬ ‫حيث روى َّ‬
‫أن أمري املؤمنني ‪ ‬قد ّ‬
‫أمريا‪ ،‬وأن العامة ال‬
‫فإن دخل فيام دخل فيه املسلمون وإال فانبذ إليه‪ ،‬وأعلمه أين ال أرىض به ً‬
‫ترىض به خليفة»‪ ،‬فانطلق جرير حتى أتى الشام ونزل بمعاوية‪ ،‬فدخل عليه فحمد اهلل وأثنى‬
‫عليه‪ ،‬وقال‪« :‬أما بعد يا معاوية‪ ،‬فإنه قد اجتمع البن عمك أهل احلرمني‪ ،‬وأهل املْصين‪ ،‬وأهل‬
‫احلجاز‪ ،‬وأهل اليمن‪ ،‬وأهل مْص‪ ،‬وأهل العروض وعامن‪ ،‬وأهل البحرين والياممة‪ ،‬فلم يبق‬
‫إال أهل هذه احلصون التي أنت فيها‪ ،‬لو سال عليها سيل من أوديته غرقها‪ .‬وقد أتيتك أدعوك‬
‫إىل ما يرشدك وُّيديك إىل مبايعة هذا الرجل»‪ ،‬ودفع إليه كتاب عَل بن طالب‪ ،‬وفيه‪« :‬بسم اهلل‬
‫الرمحن الرحيم‪ ،‬أما بعد فإن بيعتي باملدينة لزمتك وأنت بالشام‪ ،‬ألنه بايعني القوم الذين بايعوا‬
‫أبا بكر وعمر وعثامن عىل ما بويعوا عليه‪ ،‬فلم يكن للشاهد أن خيتار‪ ،‬وال للغائب أن يرد‪ .‬وإنام‬
‫الشورى للمهاجرين واألنصار‪ ،‬فإذا اجتمعوا عىل رجل فسموه إما ًما كان ذلك هلل رضا» (‪.)1‬‬

‫ومن الظاهر جدً ا لكل َمن يلحظ سياقات صدور هذا النص أنه نص إلزامي ليس إال‪،‬‬
‫وكأن أمري املؤمنني ‪ ‬يقول ملعاوية‪ :‬إنك قد قبلت خالفة َمن سبقوين َّ‬
‫ألن املهاجرين‬ ‫َّ‬
‫واألنصار قد اجتمعت كلمتهم – بحسب زعمكم – عليهم‪ ،‬وهذا يقتيض أن ختضع خلالفتي‬
‫عَل كام قد اجتمعت عليهم‪.‬‬ ‫أيضا؛ َّ‬
‫ألن الكلمة قد أمجعت َّ‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫كونه‬ ‫أبيت عن هذا التوجيه‪ ،‬وزعمت أنه ال يرقى إىل مستوى الظهور‪ ،‬فال َّ‬
‫أقل من‬ ‫وإن َ‬
‫احتامال معتدً ا به عر ًفا‪ ،‬وهو مما يمنع االستدالل بالنص لتصحيح نظرية القراءة املنسية‪.‬‬
‫ً‬

‫(‪ )1‬وقعة صفني‪ :‬ص‪.29‬‬


‫‪161‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫النص الثاين‪ :‬قول أمري املؤمنني ‪« :‬دعوين والتمسوا غريي‪ ...‬وإن تركتموين‬

‫فأنا كأحدكم‪ ،‬و لعَل أسمعكم وأطوعكم ملن و ّليتموه أمركم‪ ،‬وأنا لكم ً‬
‫وزيرا خري لكم مني‬
‫أمريا» (‪ ،)1‬فإنه ظاهر يف َّ‬
‫أن اإلمامة لو كانت معينة بالنص ألمري املؤمنني ‪ ‬ملا طلب من الناس‬ ‫ً‬
‫ناقض آخر لعقيدة اإلمامة عند الشيعة بصيغتها املعارصة‪.‬‬
‫تركه والتامس غريه‪ ،‬وهذا ٌ‬

‫معاجلة النص الثاين‪:‬‬

‫ويمكن أن ُيعالج هذا النص ببيان مطلبني‪:‬‬

‫‪ – 1‬املطلب األول‪ّ :‬‬


‫إن السنة الرشيفة – بام يف ذلك كلامت أمري املؤمنني ‪ – ‬كالقرآن‬
‫الكريم من ناحية اشتامهلا عىل املتشابه واملحكم‪ ،‬والعام واخلاص‪ ،‬واملطلق واملقيد‪ ،‬وما ُّيمنا‬
‫هاهنا هو اشتامهلا عىل املتشابه واملحكم‪ ،‬واملقصود من املحكم هو النص الذي ال حيتمل إال‬
‫معنى واحدً ا‪ ،‬واملقصود من النصوص املتشاهبة ما حتتمل عدة وجوه‪ ،‬وال يمكن حتديد الوجه‬
‫الصحيح منها إال بالرجوع إىل املحكم‪.‬‬

‫ويشهد الشتامل األخبار عىل هذا النوع من النصوص قول اإلمام الرضا ‪« :‬من ر َّد‬
‫دي إىل رصاط مستقيم‪ ،‬ثم قال‪َّ :‬‬
‫إن يف أخبارنا متشا ًهبا كمتشابه‬ ‫متشابه القرآن إىل حمكمه ُه َ‬
‫وحمكام كمحكم القرآن‪ ،‬فر ّدوا متشاهبها إىل حمكمها‪ ،‬وال تتبعوا متشاهبها دون حمكمها‬
‫ً‬ ‫القرآن‪،‬‬
‫فتضلوا» (‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.182 - 181‬‬


‫(‪ )2‬عيون أخبار الرضا ‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.261‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪162‬‬

‫وعىل ضوء ذلك ال يصح التشبث بالنص املذكور مع عدم رصاحته يف عدم النص‪،‬‬
‫والنص عليه‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫ّ‬ ‫وإمهال النصوص العلوية األخرى الْصحية يف ثبوت احلق له‬

‫• قوله ‪« :‬ال يقاس بآل حممد ‪ ‬من هذه األمة أحد‪ ،‬وال يسوى هبم من جرت‬
‫نعمتهم عليه أبدً ا‪ ،‬هم أساس الدين‪ ،‬وعامد اليقني‪ ،‬إليهم يفيء الغايل‪ ،‬وهبم يلحق التايل‪،‬‬
‫وهلم خصائص حق الوالية‪ ،‬وفيهم الوصية والوراثة‪ ،‬اآلن إذ رجع احلق إىل أهله ونقل إىل‬
‫منتقله» (‪َّ ،)1‬‬
‫فإن قوله‪« :‬وفيهم الوصية» بعد قوله‪« :‬وهلم خصائص حق الوالية» إن مل يكن‬
‫حيا فهو كالْصيح يف إرادة النص من الوصية‪.‬‬
‫رص ً‬
‫عَل منذ قبض اهلل نبيه ‪ ‬حتى‬
‫مستأثرا ّ‬
‫ً‬ ‫مدفوعا عن حقي‬
‫ً‬ ‫• وقوله ‪« :‬فواهلل ما زلت‬
‫أيضا يف كون اخلالفة ً‬
‫حقا له ‪ ‬عىل نحو التعيني‪ ،‬ولذا‬ ‫يوم الناس هذا» (‪ ،)2‬وهذا رصيح ً‬
‫تظ ّلم حني استأثر هبا آخرون وزووه عنها (‪.)3‬‬
‫• قوله ‪ ‬يف اخلطبة الشقشقية‪« :‬أما واهلل لقد تقمصها فالن‪ ،‬وإنه ليعلم أن حمَل منها‬
‫إيل الطري‪ ،‬فسدلت دوهنا ثو ًبا وطويت‬
‫حمل القطب من الرحى‪ ،‬ينحدر عني السيل وال يرقى ّ‬
‫كشحا‪ ،‬وطفقت أرتئي بني أن أصول بيد جذاء أو أصرب عىل طخية عمياء‪ُّ ،‬يرم فيها الكبري‬
‫ً‬ ‫عنها‬
‫ويشيب فيها الصغري‪ ،‬ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه‪ ،‬فرأيت أن الصرب عىل هاتا أحجى‪،‬‬
‫فصربت ويف العني قذى ويف احللق شجا‪ ،‬أرى تراثي هن ًبا» (‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.30‬‬


‫(‪ )2‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.42‬‬
‫رصح فيها أمري املؤمنني ‪ ‬بأ َّن‬ ‫(‪ )3‬ومن اللطائف‪ :‬أ َّن ابن أيب احلديد يف (رشح النهج) ‪ 306 / 9‬قد ّ‬
‫رصح بتواتر األخبار التي ّ‬
‫تعسف يف توجيهها‪ ،‬ونحن نقبل منه الرواية ونر ّد عليه الدراية‪.‬‬
‫اخلالفة والوالية حق له‪ ،‬ولكنه ّ‬
‫(‪ )4‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.31 - 30‬‬
‫‪163‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫مهامت خطبه – فإنه ال بأس‬ ‫وبام َّ‬


‫أن الكالم قد بلغ إىل هذه اخلطبة الرشيفة – وهي من ّ‬
‫بتسليط الضوء عليها من ناحيتني‪:‬‬

‫الناحية األوىل‪ :‬صدورها عن أمري املؤمنني ‪.‬‬

‫نصوا عىل َّ‬


‫أن ثبوت صدورها‬ ‫والظاهر َّ‬
‫أن هذه الناحية عند علامء الشيعة مفروغ عنها‪ ،‬فقد ّ‬
‫عنه ‪ ‬مما ال ين بغي االرتياب فيه‪ ،‬وإليك كلمة علمني من أعالم اإلمامية يف هذا الشأن‪:‬‬

‫األول‪ :‬الشيخ املفيد ‪ ،‬قال‪« :‬فأما خطبته ‪ ‬التي رواها عبد اهلل بن عباس فهي‬
‫أشهر من أن ندل عليها لشهرهتا‪ ،‬وهي التي يقول ‪ ‬يف أوهلا‪ :‬واهلل لقد تقمصها ابن أيب‬
‫قحافة‪ ،‬وإنه ليعلم أن حمَل منها حمل القطب من الرحى‪ ،‬ينحدر عني السيل‪ ،‬وال يرقى إيل الطري‪،‬‬
‫كشحا» (‪.)1‬‬
‫ً‬ ‫فسدلت دوهنا ثو ًبا‪ ،‬وطويت عنها‬

‫الثاين‪ :‬العالمة األميني ‪ ،‬قال‪« :‬هذه اخلطبة تسمى بالشقشقية‪ ،‬وقد كثر الكالم‬
‫حوهلا‪ ،‬فأثبتها مهرة الفن من الفريقني‪ ،‬ورأوها من خطب موالنا أمري املؤمنني الثابتة التي ال‬
‫مغمز فيها» (‪.)2‬‬

‫وأما علامء السنة‪ ،‬فقد أنكر مجلة منهم نسبتها إىل أمري املؤمنني ‪ ‬وقالوا إهنا من وضع‬
‫الرشيف الريض‪ ،‬ولكن بطالن هذا الكالم من الواضحات‪ ،‬ونحن نذكر قرينتني تدالن عىل‬
‫ذلك‪:‬‬

‫(‪ )1‬اجلمل للشيخ املفيد‪ :‬ص‪.62‬‬


‫(‪ )2‬الغدير‪ :‬ج‪ ،7‬ص‪.82‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪164‬‬

‫إن اخلطبة الشقشقية موجودة يف كتب ومصنفات قد أ ّلفت قبل أن يولد‬


‫القرينة األوىل‪َّ :‬‬
‫رصح بشهرهتا وعدم احتياجها‬ ‫الرشيف الريض ‪ ،‬ويشهد لذلك َّ‬
‫أن الشيخ املفيد ‪ ‬قد ّ‬
‫إىل توثيق‪ ،‬وهو أستاذ الريض ومتقدم عليه‪ ،‬كام َّ‬
‫أن الشيخ الصدوق ‪ ‬قد رواها مسندة يف‬
‫معاين األخبار(‪ )1‬وعلل الرشائع(‪ )2‬وهو أسبق من املفيد ‪.‬‬

‫القرينة الثانية‪ :‬تْصيح كبار علامء العامة بمعرفتهم بذوق الرشيف الريض ‪ ‬األديب‪،‬‬
‫وأنّه ال يستطيع أن يأيت هبكذا خطبة‪ ،‬وإليك كالم شارح النهج ابن أيب احلديد املعتزيل الذي‬
‫يقول فيه‪ « :‬فحدثني شيخي أبو اخلري مصدق بن شبيب الواسطي يف سنة ثالث وستامئة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فلام انتهيت إىل‬
‫قرأت عىل الشيخ أيب حممد عبد اهلل بن أمحد املعروف بابن اخلشاب هذه اخلطبة‪َّ ،‬‬
‫هذا املوضع‪ ،‬قال يل‪ :‬لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له‪ :‬وهل بقي يف نفس ابن عمك‬
‫أمر مل يبلغه يف هذه اخلطبة لتتأسف‪ ،‬أال يكون بلغ من كالمه ما أراد! واهلل ما رجع عن األولني‬
‫وال عن اآلخرين‪ ،‬وال بقي يف نفسه أحد مل يذكره إال رسول اهلل ‪.‬‬

‫قال مصدق‪ :‬وكان ابن اخلشاب صاحب دعابة وهزل‪ ،‬قال‪ :‬فقلت له‪ :‬أتقول إهنا‬
‫كثريا‬
‫منحولة! فقال‪ :‬ال واهلل‪ ،‬وإين ألعلم أهنا كالمه‪ ،‬كام أعلم أنك مصدق‪ .‬قال فقلت له‪ :‬إن ً‬
‫من الناس يقولون إهنا من كالم الريض ‪ .‬فقال‪ :‬أنّى للريض ولغري الريض هذا النفس وهذا‬
‫األسلوب! قد وقفنا عىل رسائل الريض‪ ،‬وعرفنا طريقته وفنه يف الكالم املنثور‪ ،‬وما يقع مع هذا‬
‫الكالم يف خل وال مخر‪ .‬ثم قال‪ :‬واهلل لقد وقفت عىل هذه اخلطبة يف كتب صنفت قبل أن خيلق‬
‫الريض بامئتي سنة‪ ،‬ولقد وجدهتا مسطورة بخطوط أعرفها‪ ،‬وأعرف خطوط من هو من العلامء‬
‫وأهل األدب قبل أن خيلق النقيب أبو أمحد والد الريض‪.‬‬

‫(‪ )1‬معاين األخبار‪ :‬ص‪.362 - 361‬‬


‫(‪ )2‬علل الرشائع‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.151 - 150‬‬
‫‪165‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫كثريا من هذه اخلطبة يف تصانيف شيخنا أيب القاسم البلخي إمام‬


‫قلت‪ :‬وقد وجدت أنا ً‬
‫البغداديني من املعتزلة‪ ،‬وكان يف دولة املقتدر قبل أن خيلق الريض بمدة طويلة‪.‬‬

‫كثريا منها يف كتاب أيب جعفر بن قبة أحد متكلمي اإلمامية وهو الكتاب‬
‫أيضا ً‬
‫ووجدت ً‬
‫املشهور املعروف بكتاب (اإلنصاف)‪ ،‬وكان أبو جعفر هذا من تالمذة الشيخ أيب القاسم‬
‫البلخي ‪ ،‬ومات يف ذلك العْص قبل أن يكون الريض ‪ ‬موجو ًدا» (‪.)1‬‬

‫واحلاصل‪َّ :‬‬
‫فإن صدور اخلطبة الشقشقية عن أمري املؤمنني ‪ ‬مما ال ريب فيه‪ ،‬وال شبهة‬
‫تعرتيه‪.‬‬

‫الناحية الثانية‪ :‬داللة اخلطبة‪.‬‬

‫واملتعني فيه‪َّ ،‬‬


‫وأن‬ ‫ّ‬ ‫حقه الرشعي املُ ّ‬
‫عني له‬ ‫أن اخلالفة ّ‬
‫والذي هيمنا يف املقام‪ :‬داللتها عىل َّ‬
‫اآلخرين قد غصبوا منه هذا احلق وجتاوزوا عليه‪.‬‬

‫وقد استخدم أمري املؤمنني ‪ ‬يف خطبته الرشيفة لبيان ذلك عدة أساليب‪ ،‬منها‪:‬‬

‫األسلوب األول‪ :‬أسلوب التشبيه‪ ،‬حيث قال‪« :‬أما واهلل لقد تقمصها ابن أيب قحافة‪ ،‬وإنه‬
‫ليعلم أن حمَل منها حمل القطب من الرحى‪ ،‬ينحدر عني السيل وال يرقى إيل الطري‪ ،‬فسدلت‬
‫كشحا» (‪ ،)2‬فش ّبه ‪ً ‬‬
‫أوال نفسه بالقطب‪ ،‬واخلالفة بالرحى‪ ،‬ويريد‬ ‫ً‬ ‫دوهنا ثو ًبا وطويت عنها‬
‫بذلك أنَّه كام َّ‬
‫أن الرحى من غري قطب ال أثر هلا وال قيمة‪ ،‬بل هي جمرد صورة‪ ،‬كذلك اخلالفة‬

‫(‪ )1‬رشح هنج البالغة البن أيب احلديد‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.206 - 205‬‬
‫(‪ )2‬علل الرشائع‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.150‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪166‬‬

‫من غريه ‪ ‬جمرد صورة ال أثر هلا وال قيمة‪ ،‬وهذا يعني أهنا له ‪ ‬دون سواه‪ ،‬وهو روحها‬
‫وبه وجودها‪.‬‬

‫األسلوب الثاين‪ :‬أسلوب التظ ّلم‪ ،‬وال ختفى داللته عىل ثبوت احلق؛ إذ َّ‬
‫أن التظلم فرع‬
‫واملظلوم هو َمن ُسلب‬
‫ُ‬ ‫ثبوت احلق له واختصاصه به‪ ،‬باعتبار َّ‬
‫أن التظلم إنام يصح من املظلوم‪،‬‬
‫حقه‪ ،‬فيكون هذا بيانًا آخر الختصاص اخلالفة به وتع ّينها فيه‪ ،‬وجتاوز غريه عىل هذا احلق‪.‬‬

‫رصح َّ‬
‫بأن اخلالفة‬ ‫ِ‬
‫األسلوب الثالث‪ :‬أسلوب التْصيح‪ ،‬فإنه ‪ ‬مل يكتف بام تقدم حتى ّ‬
‫تراثه‪ ،‬وأهنا قد ُهنبت منه‪ ،‬ومع ذلك فإنه قد صرب ويف عينه قذى ويف حلقه شجا‪ ،‬ومل يقاتل‪ ،‬ولو‬
‫قاتل يف سبيلها لكان ً‬
‫حمقا‪ ،‬فقال‪« :‬وطفقت أرتئي بني أن أصول بيد جذاء أو أصرب عىل طخية‬
‫عمياء‪ُّ ،‬يرم فيها الكبري ويشيب فيها الصغري‪ ،‬ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه‪ ،‬فرأيت أن‬
‫الصرب عىل هاتا أحجى‪ ،‬فصربت ويف العني قذى ويف احللق شجا‪ ،‬أرى تراثي هن ًبا»‪ ،‬وهبذا يكون‬
‫أمام كل َمن يقرأ اخلطبة فيحاول تأويلها أو رصفها عن وجهها واملقصود منها‪.‬‬
‫قد قطع الطريق َ‬

‫أن نصوص النهج الرشيف رصحية يف كون اإلمامة ً‬


‫حقا‬ ‫واملحصلة من مجيع ما ذكرناه‪َّ :‬‬
‫ألمري املؤمنني ‪ ‬ال يشاركه فيه سواه‪ ،‬وقد ثبت له هذا احلق بالوصية ووراثة العلم‪ ،‬وعليه‬
‫َّ‬
‫فإن النص املذكور – الذي تشبث به أصحاب نظرية القراءة املنسية – ال يقاوم رصاحة‬
‫النصوص املتقدمة‪ ،‬بل ينبغي إرجاعه إليها من باب إرجاع املتشابه إىل حمكمه‪.‬‬

‫‪ – 2‬املطلب الثاين‪ :‬رفع الغشاوة عن النص العلوي املذكور‪َّ ،‬‬


‫فإن طلبه ‪ ‬أن يدعه القوم‬
‫ويلتمسوا غريه – رغم ِ‬
‫كونه هو صاحب احلق – حيتاج إىل البيان والتوجيه‪ ،‬وحاصل ما يمكن‬ ‫َ‬
‫قوله يف توجيهه‪َّ :‬‬
‫إن رفض أمري املؤمنني ‪ ‬لقبول البيعة يف بداية األمر إنام هو ألجل حتقيق‬
‫ثالثة أهداف مهمة‪:‬‬
‫‪167‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫اهلدف األول‪ :‬تقديم العذر بني يدي األمة لعدم قدرته عىل حتقيق ما ينشدونه من أهداف‪،‬‬
‫حيث كان الناس يتصورون أن أمري املؤمنني ‪ ‬قادر عىل تغيري شأن األمة وإصالح ما فسد‬
‫وإصالحا جوهر ًيا‪ ،‬ولكنه ‪ ‬كان يرى نفسه مكتوف اليد غري قادر عىل‬
‫ً‬ ‫تغيريا جذر ًيا‬
‫ً‬ ‫منها‬
‫رسخه األوائل يف نفوس الناس‪.‬‬
‫التغيري بسبب ما ّ‬

‫والشاهد عىل ذلك‪ :‬ما رواه الشيخ الطربيس يف االحتجاج عنه ‪ ‬أنه قال‪« :‬لقد عمل‬
‫الوالة قبَل بأمور عظيمة خالفوا فيها رسول اهلل متعمدين لذلك‪ ،‬ولو محلت الناس عىل تركها‬
‫وحولتها إىل مواضعها التي كانت عليها عىل عهد رسول اهلل لتفرق عني جندي‪ ،‬حتى أبقى‬
‫وحدي إال ً‬
‫قليال من شيعتي‪ ،‬الذين عرفوا فضَل وإمامتي من كتاب اهلل وسنة نبيه ‪.‬‬

‫أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم ‪ ‬فرددته إىل املكان الذي وضعه فيه رسول اهلل‪،‬‬
‫ورددت فدك إىل ورثة فاطمة سالم اهلل عليها‪ ،‬ورددت صاع رسول اهلل ومده إىل ما كان‪،‬‬
‫وأمضيت إىل قطايع كان رسول اهلل ‪ ‬أقطعها للناس سنني‪ ،‬ورددت دار جعفر بن أيب طالب‬
‫إىل ورثته‪ ،‬وهدمتها وأخرجتها من املسجد‪ ،‬ورددت اخلمس إىل أهله‪ ،‬ورددت قضاء كل من‬
‫قىض بجور‪ ،‬ورددت سبي ذراري بني تغلب‪ ،‬ورددت ما قسم من أرض خيرب‪ ،‬وحموت ديوان‬
‫العطاء‪ ،‬وأعطيت كام كان يعطي رسول اهلل ‪ ،‬ومل أجعلها دولة بني األغنياء‪.‬‬

‫واهلل لقد أمرت الناس‪ :‬أن ال جيمعوا يف شهر رمضان إال يف فريضة‪ ،‬فنادى بعض أهل‬
‫عسكري ممن يقاتل وسيفه معي‪ :‬أنعى اإلسالم وأهله‪.)1( » ...‬‬

‫اهلدف الثاين‪ :‬إقامة احلجة عىل املتخلفني عن بيعته ‪َّ ،‬‬


‫فإن األول قد متت له اخلالفة‬
‫الظاهرية باجتامع أهل احلل والعقد – كام يقولون – يف سقيفة بني ساعدة وال يعلم بذلك إال‬

‫(‪ )1‬االحتجاج للشيخ الطربيس‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.393‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪168‬‬

‫من حرض هناك‪ ،‬بينام الثاين قد متت خالفته باختيار األول له‪ ،‬من غري أن يكون ألهل احلل‬
‫والعقد رأي يف ذلك‪ ،‬وأما الثالث فقد متت بيعته عن طريق الشورى‪ ،‬فأراد أمري املؤمنني ‪‬‬
‫احتجاجا‪،‬‬
‫ً‬ ‫– وهو يرى املستقبل املضني أمامه – أن يعتمد خطة أخرى تكون أقوى إثباتًا وألزم‬
‫فرفض أن يبا َيع إال يف املسجد بحضور مجيع الناس لتتم بذلك احلجة عىل اجلميع‪.‬‬

‫اهلدف الثالث‪ :‬هتيئة األمة لقبول رشوطه‪ ،‬ويشهد لذلك قوله ‪« :‬دعوين والتمسوا‬
‫أمرا له وجوه وألوان‪ ،‬ال تقوم له القلوب وال تثبت عليه العقول‪َّ ،‬‬
‫وإن‬ ‫غريي‪ ،‬فإنا مستقبلون ً‬
‫اآلفاق قد أغامت واملحجة قد تنكرت‪ ،‬واعلموا أين إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم‪ ،‬ومل أصغ‬
‫أخريكم بني‬
‫إىل قول القائل وعتب العاتب‪ ،‬وإن تركتموين فأنا كأحدكم» ‪ ،‬وكأنه يقول‪ :‬إنني ّ‬
‫(‪)1‬‬

‫خيارين‪ :‬إما أن ترتكوين فأكون كأحدكم‪ ،‬وإما أن تبايعوين فأقوم بتطبيق الرشيعة الواضحة‪،‬‬
‫فال حيق لكم حينئذ أن تعاتبوين‪ ،‬وإن فعلتم فلن أصغي لقولكم ولن أعبأ بعتبكم‪.‬‬

‫ومن تلك الرشوط التي اشرتطها أمري املؤمنني ‪ ‬عليهم‪ :‬أن يكون بيت املال بيده‪،‬‬
‫يتْصف فيه ً‬
‫طبقا للمصلحة التي تعود عىل املجتمع اإلسالمي‪ ،‬ويشهد عىل هذا الرشط قوله‬
‫إيل وأتيتم‪ ،‬وإين قائل لكم ً‬
‫قوال إن قبلتموه قبلت أمركم‪ ،‬وإال فال‬ ‫‪« :‬إنكم قد اختلفتم ّ‬
‫حاجة يل فيه‪ ،‬قالوا‪ :‬ما قلت من يشء قبلناه إن شاء اهلل‪ ،‬فجاء فصعد املنرب‪ ،‬فاجتمع الناس إليه‪،‬‬
‫كارها ألمركم‪ ،‬فأبيتم إال أن أكون عليكم‪ ،‬أال وإنه ليس يل أمر دونكم إال‬
‫فقال‪ :‬إين قد كنت ً‬
‫مها دونكم‪ ،‬رضيتم؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أن مفاتيح مالكم معي‪ ،‬أال وإنه ليس يل أن آخذ منه در ً‬
‫اللهم اشهد عليهم‪ ،‬ثم بايعهم عىل ذلك» (‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.182‬‬


‫(‪ )2‬تأريخ الطربي‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.451‬‬
‫‪169‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫املحصلة األخرية‪:‬‬

‫فظهر بام ال مزيد عليه‪َّ :‬‬


‫أن النص العلوي املذكور ال ينفي حقه يف الوالية واخلالفة‪ ،‬بعد‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫رفض آين‪ ،‬أراد من خالله أمري‬ ‫رصاحة النصوص األخرى يف ثبوته له‪ ،‬وإنام هو يعرب عن‬
‫املؤمنني ‪ ‬أن يقيم احلجة‪ ،‬ويرس م خارطة الطريق‪ ،‬ويضع الرشوط امللزمة‪ ،‬ليقطع الطريق‬
‫تسول له نفسه أن ينقلب عليه أو يعرتض عىل سياسته الصارمة‪.‬‬ ‫أمام ّ‬
‫كل من ّ‬

‫قو َم األود وداوى العمد‪،‬‬


‫النص الثالث‪ :‬قول أمري املؤمنني ‪« :‬هلل بالء فالن‪ ،‬فقد َّ‬
‫خلف الفتنة وأقام السنة‪ ،‬ذهب نقي الثوب قليل العيب‪ ،‬أصاب خريها وسبق رشها‪ ،‬أدى إىل‬
‫اهلل طاعته واتّقاه بحقه‪ ،‬رحل وتركهم يف طرق متشعبة ال ُّيتدي فيها الضال وال يستيقن‬
‫املهتدي» (‪.)1‬‬

‫ٍ‬
‫شخص كانت له سيطرة‬ ‫واملقصود من فالن أحد األولني؛ إذ النص ظاهر يف مدح‬
‫وقوم األود‪ ،‬ومل يكن أحد هبذه الصفات إال أحدمها‪،‬‬
‫وهيمنة‪ ،‬وقد استفاد منها فأقام السنة ّ‬
‫فيدل هذا عىل احرتام أمري املؤمنني ‪ ‬هلام‪ ،‬وهو خيدش فيام عليه الشيعة من اعتقاد أنه صاحب‬
‫صح صدور هذا املدح والثناء عنه‪.‬‬
‫احلق املنصوص عليه دون سواه‪ ،‬إذ لو كان األمر كذلك ملا َّ‬

‫معاجلة النص الثالث‪:‬‬

‫ويمكن أن ُيعالج هذا النص بإحدى معاجلتني‪:‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.222‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪170‬‬

‫املعاجلة األوىل‪ :‬ما أفادها املريزا اخلوئي ‪ ‬يف منهاج الرباعة‪ ،‬وحاصلها‪ّ :‬‬
‫إن القول بأن‬
‫املقصود من (فالن) هو أحد األولني قول ال دليل عليه‪ ،‬بل الدليل عىل خالفه؛ ألن الصفات‬
‫املذكورة يف اخلرب تنطبق عىل غريمها‪.‬‬

‫قو َم األود وداوى العمد‪ ،‬وأقام‬


‫وإن قيل‪َ :‬من هو هذا الغري ذو السلطة واهليمنة الذي َّ‬
‫السنة‪ ،‬وذهب نقي الثوب قليل العيب‪ ،‬وقد أصاب خريها وسبق رشها‪ ،‬بعد أن أدى إىل اهلل‬
‫طاعته واتّقاه بحقه‪ ،‬ثم رحل وتركهم يف طرق متشعبة ال ُّيتدي فيها الضال وال يستيقن‬
‫املهتدي؟!‬

‫قلنا‪ :‬من املحتمل جدً ا أن يكون هو مالك األشرت ‪ ،‬فإنه كان وال ًيا عىل مْص‪ ،‬وكان له‬
‫دور كبري يف تقريب املْصيني نحو أمري املؤمنني ‪ ،‬وقد مدحه أمري املؤمنني ‪ ‬يف موارد‬
‫متفرقة من النهج الرشيف‪ ،‬وليكن هذا بعض مدحه‪.‬‬

‫وأما غريه فتكفيك اخلطبة الشقشقية املتقدّ مة لنفي أن يكون هو املقصود من النص يقينًا‬
‫وجز ًما (‪.)1‬‬

‫املعاجلة الثانية‪ :‬ما أفادها الشهيد مطهري ‪ ،‬وحاصلها‪ّ :‬‬


‫أن املراد من (فالن) هو الثاين‪،‬‬
‫أن الكالم املذكور ليس ألمري املؤمنني ‪ ،‬وإنام هو لغريه ولكنه حكاه ثم ع ّلق عليه‪،‬‬
‫غري َّ‬
‫ويشهد له ما رواه ابن عساكر يف تاريخ دمشق‪« :‬عن أوف بن حكيم قال‪ :‬ملَّا كان اليوم الذي‬
‫ً‬
‫مغتسال‪ ،‬فجلس فأطرق ساعة‪ ،‬ثم رفع رأسه فقال‪ :‬هلل در باكية‬ ‫هلك فيه عمر خرج علينا عَل‬
‫قوم األود وأبرأ العمد‪ ،‬واعمراه مات نقي الثوب قليل العيب‪ ،‬وا عمراه‬
‫عمر‪ ،‬قالت‪ :‬وا عمراه ّ‬

‫(‪ )1‬منهاج الرباعة يف رشح هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،14‬ص‪.375 - 372‬‬


‫‪171‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫ذهب بالسنة وأبقى الفتنة» (‪ ، )1‬وبعد أن حكى هذا القول عن اجلارية قال‪« :‬واهلل ما قالت‬
‫ولكنها ُق ِّو َلت» (‪ ، )2‬وال خيلو هذا التعليق عن غمز ومهز‪ ،‬كام ال خيفى عىل املتأمل‪.‬‬

‫وعىل ضوء هذه املعاجلة تكون نسبة الرشيف الريض ‪ ‬هذا النص ألمري املؤمنني ‪‬‬
‫اشتباها‪ ،‬فإنه مت ّثل به وحكاه‪ ،‬فاشتبه األمر عليه (‪.)3‬‬
‫ً‬

‫ملتبسا‪ ،‬وال يصح االستناد إليه‬


‫ً‬ ‫مبهام‬ ‫وسواء متت هاتان املعاجلتان أم ال‪َّ ،‬‬
‫فإن النص يبقى ً‬
‫– واحلال هذه – لنقض عقيدة اإلمامة بصيغتها املعارصة‪.‬‬

‫(‪ )1‬تاريخ مدينة دمشق البن عساكر‪ :‬ج‪ ،44‬ص‪.457‬‬


‫(‪ )2‬تاريخ مدينة دمشق البن عساكر‪ :‬ج‪ ،44‬ص‪.458‬‬
‫(‪ )3‬يف رحاب هنج البالغة‪ :‬ص‪.127‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪172‬‬

‫ُ‬
‫تأصيل عقيدة اإلمامة يف هنج البالغة‪.‬‬ ‫‪ – 3‬اجلهة الثالثة‪:‬‬

‫توطئة‪:‬‬

‫إن اهلدف من هذه اجلهة بيان َّ‬


‫أن عقيدة اإلمامة بمفهومها املعارص هي نفسها اإلمامة التي‬ ‫َّ‬
‫غرسها أمري املؤمنني ‪ ‬واألئمة الطاهرون ‪ ،‬وهذا ما يمكن استكشافه من نفس نصوص‬
‫هنج البالغة‪ ،‬ووج ُه تركيزنا عىل هذه الزاوية يعود لثالثة اعتبارات‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫االعتبار األول‪َّ :‬‬


‫إن من يطرح فكرة القراءة املنسية يأمر بالرجوع إىل كتاب (هنج البالغة)‪،‬‬
‫وحيتج بنصوصه‪ ،‬ملعرفة َّ‬
‫أن اإلمامة الواقعية التي يعتقدها أهل البيت ‪ ‬ختتلف عام يعتقده‬
‫حكام ً‬
‫فصال‪.‬‬ ‫ونظرا لذلك َّ‬
‫فإن االستدالل بنهج البالغة يكون ً‬ ‫ً‬ ‫الشيعة‪،‬‬

‫االعتبار الثاين‪َّ :‬‬


‫إن كتاب هنج البالغة ليس مما أمجعت اإلمامية عىل اعتباره يف اجلملة‬
‫فحسب‪ ،‬بل حتى الزيدية الذين خيتلفون معنا اختال ًفا تا ًما يف مسألة اإلمامة وبلورهتا وحدودها‬
‫قد ا ّدعي اإلمجاع يف كلامهتم عىل صحة كتاب هنج البالغة (‪.)1‬‬

‫ويضاف إىل الزيدية‪ :‬املنصفون من علامء اجلمهور من املتقدمني واملتأخرين‪َّ ،‬‬


‫فإن الذين‬
‫حكموا بصحة النهج ليسوا بالقليل‪ ،‬فمن املتقدمني ابن أيب احلديد املعتزيل‪ ،‬ومن املتأخرين‬
‫الشيخ حممد عبده صاحب الرشح املعروف عىل هنج البالغة‪ ،‬وهذا مما يسد الباب أمام من‬
‫يدعي َّ‬
‫أن هنج البالغة قد وضعه الشيعة اإلمامية لتثبيت عقائدهم وفكرهم‪.‬‬

‫(‪ )1‬قال العالمة عبد اهلل بن اإلمام اهلادي احلسن بن حييى القاسمي – أحد علامء الزيدية – يف كتابه (اجلداول الصغرى املختْصة‬
‫من الطبقات الكربى) ‪ « :238 / 2‬قال السيد الوزيري‪ :‬ما كان يف هنج البالغة فهو صحيح‪ .‬وقال السيد العالمة داود بن حييى‪:‬‬
‫انعقد إمجاع العرتة عىل أن هنج البالغة كالم عَل ‪.»‬‬
‫‪173‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫وجدير بالذكر‪َّ :‬‬


‫أن الرشيف الريض ‪ ‬وإن كان مل يوثق مصادر الكتاب إال يف موارد‬
‫قليلة‪ ،‬وبذلك فسح املجال خلصوم الشيعة ليطعنوا يف الكتاب‪ ،‬ويتهموه بأنَّه هو الذي وضع‬
‫نصوص هنج البالغة ً‬
‫طبقا خلارطة الفكر الشيعي‪.‬‬

‫ّإال َّ‬
‫أن بعض علامئنا قد قاموا بجهود مباركة يف خدمة هنج البالغة ودفع شبهة الوضع عن‬
‫الرشيف الريض ‪ ، ‬وممن قام بذلك‪ :‬العالمة السيد عبد الزهراء اخلطيب ‪ ،‬فقد أ ّلف‬
‫كتا ًبا من أربعة جملدات أسامه (مصادر هنج البالغة وأسانيده)‪ ،‬وقد تتبع فيه املصادر التي سبقت‬
‫والدة الرشيف الريض‪ ،‬واستخرج خطب هنج البالغة من تلك املصادر ووثقها‪ ،‬وكانت أكثر‬
‫من مائة مصدر‪ ،‬و الكثري منها ليس من مصادر الشيعة‪ ،‬بل هو من مصادر غريهم‪ ،‬كتاريخ‬
‫الطربي‪ ،‬والبيان والتبيان للجاحظ‪ ،‬واملقتىض للمربد‪ ،‬واملعارف البن قتيبة‪ ،‬وغريب احلديث‬
‫البن سالم‪.‬‬

‫وهذا مما يكفي لتعرية شبهة وضع الرشيف الريض ‪ ‬خلطب النهج وكلامته‪ ،‬عىل َّ‬
‫أن‬
‫خاصا ليس لغريه‪،‬‬
‫نفسا ً‬ ‫العارف بأساليب أمري املؤمنني ‪ ‬اإلنشائية والبالغية يدرك َّ‬
‫أن له ً‬
‫أنفاسا خاصة مت ّيز كل واحد منهم عن غريه من الشعراء‪،‬‬
‫ً‬ ‫كام َّ‬
‫أن للمتنبي وأيب متام والبحرتي‬
‫طافحا يف كلامت هنج البالغة‬
‫ً‬ ‫والنَ َف ُس العلوي املذكور يلمسه العارفون بأساليب الكالم‬
‫وخطبه ورسائله‪.‬‬

‫ومما يشهد لذلك‪ :‬ما تقدّ م نقله عن ابن أيب احلديد املعتزيل يف رشح هنج البالغة – عند‬
‫وصوله إىل رشح اخلطبة الشقشقية – حيث قال‪« :‬وأما قول ابن عباس‪" :‬ما أسفت عىل‬
‫كالم‪ "...‬إىل آخره‪ ،‬فحدثني شيخي أبو اخلري مصدق بن شبيب الواسطي يف سنة ثالث‬
‫وستامئة‪ ،‬قال‪ :‬قرأت عىل الشيخ أيب حممد عبد اهلل بن أمحد املعروف بابن اخلشاب هذه اخلطبة‪،‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪174‬‬

‫فلام انتهيت إىل هذا املوضع‪ ،‬قال يل‪ :‬لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له‪ :‬وهل بقي يف‬
‫َّ‬
‫نفس ابن عمك أمر مل يبلغه يف هذه اخلطبة لتتأسف‪ ،‬أال يكون بلغ من كالمه ما أراد! واهلل ما‬
‫رجع عن األولني وال عن اآلخرين‪ ،‬وال بقي يف نفسه أحد مل يذكره إال رسول اهلل ‪.‬‬

‫قال مصدق‪ :‬وكان ابن اخلشاب صاحب دعابة وهزل‪ ،‬قال‪ :‬فقلت له‪ :‬أتقول أهنا‬
‫كثريا‬
‫منحولة! فقال‪ :‬ال واهلل‪ ،‬وإين ألعلم أهنا كالمه‪ ،‬كام أعلم أنك مصدق‪ .‬قال فقلت له‪ :‬إن ً‬
‫من الناس يقولون إهنا من كالم الريض ‪ .‬فقال‪ :‬أنّى للريض ولغري الريض هذا النفس وهذا‬
‫األسلوب! قد وقفنا عىل رسائل الريض ‪ ،‬وعرفنا طريقته وفنه يف الكالم املنثور‪ ،‬وما يقع مع هذا‬
‫الكالم يف خل وال مخر‪ ،‬ثم قال‪ :‬واهلل لقد وقفت عىل هذه اخلطبة يف كتب صنفت قبل أن خيلق‬
‫الريض بامئتي سنة‪ ،‬ولقد وجدهتا مسطورة بخطوط أعرفها‪ ،‬وأعرف خطوط من هو من العلامء‬
‫وأهل األدب قبل أن خيلق النقيب أبو أمحد والد الريض‪.‬‬

‫كثريا من هذه اخلطبة يف تصانيف شيخنا أيب القاسم البلخي إمام‬


‫قلت‪ :‬وقد وجدت أنا ً‬
‫أيضا‬
‫البغداديني من املعتزلة‪ ،‬وكان يف دولة املقتدر قبل أن خيلق الريض بمدة طويلة‪ ،‬ووجدت ً‬
‫كثريا منها يف كتاب أيب جعفر بن قبة أحد متكلمي اإلمامية‪ ،‬وهو الكتاب املشهور املعروف‬
‫ً‬
‫بكتاب (اإلنصاف)‪ ،‬وكان أبو جعفر هذا من تالمذة الشيخ أيب القاسم البلخي ‪ ،‬ومات يف‬
‫ذلك العْص قبل أن يكون الريض ‪ ‬موجو ًدا» (‪.)1‬‬

‫االعتبار الثالث‪َّ :‬‬


‫إن كتاب (هنج البالغة) ُيعترب من أقدم وأعرق املصادر التي ترتجم الفكر‬
‫أهم املنابع التي يمكن التعرف من‬
‫الشيعي‪ ،‬وترسم خطوطه العريضة‪ ،‬وهذا يعني أنه من َّ‬
‫أسس له أئمة أهل البيت ‪.‬‬
‫خالهلا عىل منظومة التشيع الفكرية والعقدية بالنحو الذي ّ‬

‫(‪ )1‬رشح هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.206 - 205‬‬


‫‪175‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫وبعد هذه التوطئة نعود للكالم حول موضوع (تأصيل عقيدة اإلمامة يف هنج البالغة)‪،‬‬
‫ولدينا فيه حموران سنكتشف من خالل ما نعرضه فيهام َّ‬
‫أن عقيدة اإلمامة بنسختها احلالية‬
‫ضاربة اجلذور يف الفكر الشيعي‪ ،‬وليست نسخة مستحدثة أو مصحفة‪ ،‬وإليك التفصيل‪:‬‬

‫املحور األول‪ :‬مالمح اإلمامة اإلهلية يف هنج البالغة‪.‬‬

‫َّ‬
‫ولعل أهم املالمح – التي نقرأها يف هنج البالغة – أربعة‪:‬‬

‫أ‪ /‬امللمح األول‪ :‬مصطلح اإلمامة واإلمام‪.‬‬

‫ومن تتبع كلامت أمري املؤمنني ‪ ‬يف النهج يقف بوضوح عىل ورود هذا االصطالح‬
‫فيه‪ ،‬ونكتفي يف املقام بعرض كلمتني من كلامته الرشيفة‪:‬‬

‫الكلمة األوىل‪ :‬قوله ‪« :‬أال وإن لكل مأموم إما ًما يقتدي به ويستيضء بنور علمه‪ ،‬أال‬
‫وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه‪ ،‬ومن طعمه بقرصيه» (‪.)1‬‬

‫الكلمة الثانية‪ :‬قوله ‪« :‬أُّيا الناس‪ ،‬إين قد بثثت لكم املواعظ التي وعظ األنبياء هبا‬
‫أممهم‪ ،‬وأديت إليكم ما أدت األوصياء إىل َمن بعدهم‪ ،‬وأدبتكم بسوطي فلم تستقيموا‪،‬‬
‫وحدوتكم بالزواجر فلم تستوثقوا‪ ،‬هلل أنتم! أتتوقعون إما ًما غريي يطأ بكم الطريق ويرشدكم‬
‫السبيل؟!» (‪.)2‬‬

‫ب‪ /‬امللمح الثاين‪ :‬اإلمامة تنصيص وتنصيب‪.‬‬

‫نصان‪:‬‬
‫ويشهد لذلك ّ‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.70‬‬


‫(‪ )2‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.108‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪176‬‬

‫آل ُحم َ َّم ٍد ‪ِ ‬م ْن َه ِذه األُ َّم ِة َأ َحدٌ ‪َ ،‬‬


‫وال ُي َس َّوى ِ ِهب ْم َم ْن‬ ‫اس بِ ِ‬
‫النص األول‪ :‬قوله ‪َ « :‬ال ُي َق ُ‬
‫وهبِ ْم ُي ْل َح ُق الت ِ‬
‫َّايل‪،‬‬ ‫ني‪ ،‬إِ َل ْي ِه ْم َي ِفي ُء ا ْلغ ِ‬
‫َايل ِ‬ ‫وع َام ُد ا ْل َي ِق ِ‬
‫ين ِ‬‫اس الدِّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َج َر ْت ن ْع َمت ُُه ْم َع َل ْيه َأ َبدً ا‪ُ ،‬ه ْم َأ َس ُ‬
‫اآلن إِ ْذ َر َج َع احلَ هق إِ َىل َأ ْهلِ ِه‪َ ،‬و ُن ِق َل إِ َىل‬
‫ص َح ِّق ا ْل ِو َال َي ِة‪ ،‬وفِ ِيه ُم ا ْل َو ِص َّي ُة وا ْل ِو َرا َث ُة‪َ ،‬‬ ‫ِ‬
‫وهل ُ ْم َخ َصائ ُ‬ ‫َ‬
‫ُمنْ َت َقلِ ِه» (‪.)1‬‬

‫ش غُ ِرسوا ِيف ه َذا ا ْلب ْط ِن ِمن ه ِ‬ ‫ِ ِ‬


‫اش ٍم‪َ ،‬ال ت َْص ُل ُح‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫النص الثاين‪ :‬قوله ‪« :‬إ َّن األَئ َّم َة م ْن ُق َر ْي ٍ ُ‬
‫تعني اإلمامة يف‬ ‫فإن هذا النص يدل عىل ّ‬ ‫وال ت َْص ُل ُح ا ْل ُو َال ُة ِم ْن غَ ْ ِري ِه ْم» (‪َّ ،)2‬‬
‫َع َىل ِس َو ُاه ْم‪َ ،‬‬
‫القرشيني‪ ،‬بل يف بني هاشم عىل نحو التحديد‪.‬‬

‫ج‪ /‬امللمح الثالث‪ :‬رضورة اإلمامة يف كل زمان‪.‬‬

‫مشهورا أو‬
‫ً‬ ‫ظاهرا‬
‫ً‬ ‫ويشهد لذلك قوله ‪« :‬ال ختلو األرض من قائم هلل بحجة‪ ،‬إما‬
‫مغمورا‪ ،‬لئال تبطل حجج اهلل وب ّيناته» (‪.)3‬‬
‫ً‬ ‫خائ ًفا‬

‫د‪ /‬امللمح الرابع‪ :‬أصالة اإلمامة‪.‬‬

‫بمعنى‪ :‬أهنا من أصول الدين ال من فروعه‪.‬‬

‫ويشهد لذلك قوله ‪ « :‬وإنام األئمة قوام اهلل عىل خلقه‪ ،‬وعرفاؤه عىل عباده‪ ،‬ال يدخل‬
‫اجلنة إال من عرفهم وعرفوه‪ ،‬وال يدخل النار إال من أنكرهم وأنكروه» (‪ ،)4‬فإنه يدل عىل َّ‬
‫أن‬
‫اإلمامة من أصول الدين وليست من فروعه؛ إذ كام َّ‬
‫أن النجاة ودخول اجلنة تدور مدار التوحيد‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.30‬‬


‫(‪ )2‬هنج البالغة‪ :‬ص‪.201‬‬
‫(‪ )3‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،4‬ص‪.37‬‬
‫(‪ )4‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.41‬‬
‫‪177‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫والنبوة؛ ألهنام أصالن‪ ،‬كذلك فإهنا – بمقتىض هذا النص – تدور مدار والية أهل البيت ‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬عىل غرار التوحيد والنبوة‪.‬‬
‫وهذا يعني كوهنا من األصول ً‬

‫املحور الثاين‪ :‬صفات اإلمام يف هنج البالغة‪.‬‬

‫وأهم ما حفل به كتاب هنج البالغة من صفات اإلمام مخس صفات‪:‬‬


‫ه‬

‫أ‪ /‬الصفة األوىل‪ :‬األفضلية عىل مجيع الناس‪.‬‬

‫آل ُحم َ َّم ٍد ‪ِ ‬م ْن َه ِذه‬ ‫اس بِ ِ‬ ‫مر عليك قري ًبا – عنه ‪َ « :‬ال ُي َق ُ‬ ‫فقد جاء يف النهج – كام ّ‬
‫وع َام ُد ا ْل َي ِق ِ‬
‫ني‪ ،‬إِ َل ْي ِه ْم‬ ‫ين ِ‬ ‫اس الدِّ ِ‬ ‫ِ‬
‫وال ُي َس َّوى ِهبِ ْم َم ْن َج َر ْت ن ْع َمت ُُه ْم َع َل ْيه َأ َبدً ا‪ُ ،‬ه ْم َأ َس ُ‬ ‫األُ َّم ِة َأ َحدٌ ‪َ ،‬‬

‫ص َح ِّق ا ْل ِو َال َي ِة‪ ،‬وفِ ِيه ُم ا ْل َو ِص َّي ُة وا ْل ِو َرا َث ُة» (‪.)1‬‬ ‫ِ‬
‫وهل ُ ْم َخ َصائ ُ‬ ‫َّايل‪َ ،‬‬ ‫َي ِفي ُء ا ْلغ ِ‬
‫َايل ِ ِ‬
‫وهب ْم ُي ْل َح ُق الت ِ‬

‫ب‪ /‬الصفة الثانية‪ :‬األعلمية‪.‬‬

‫فقد جاء يف النهج عنه ‪« :‬أين الذين زعموا أهنم الراسخون يف العلم دوننا كذ ًبا وبغ ًيا‬
‫علينا‪ ،‬أن رفعنا اهلل ووضعهم‪ ،‬وأعطانا وحرمهم‪ ،‬وأدخلنا وأخرجهم‪ ،‬بنا يستعطى اهلدى‬
‫ويستجىل العمى» (‪.)2‬‬

‫ج‪ /‬الصفة الثالثة‪ :‬االرتباط بعامل امللكوت‪.‬‬

‫ويمكن االستشهاد عىل ذلك بكلمتني‪:‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.30‬‬


‫(‪ )2‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.27‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪178‬‬

‫الكلمة األوىل‪ :‬قوله ‪« :‬ومل جيمع بيت واحد يومئذ يف اإلسالم غري رسول اهلل ‪‬‬
‫وخدجية وأنا ثالثهام‪ .‬أرى نور الوحي والرسالة‪ ،‬وأشم ريح النبوة‪ ،‬ولقد سمعت رنة الشيطان‬
‫حني نزل الوحي عليه ‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬ما هذه الرنة؟ فقال‪ :‬هذا الشيطان أيس من‬
‫عبادته‪ .‬إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إال أنك لست بنبي‪ ،‬ولكنك وزير‪ ،‬وإنك لعىل‬
‫خري»(‪.)1‬‬

‫الكلمة الثانية‪ :‬قوله ‪« :‬نحن شجرة النبوة‪ ،‬وحمط الرسالة‪ ،‬وخمتلف املالئكة‪ ،‬ومعادن‬
‫العلم‪ ،‬وينابيع احلكم‪ ،‬نارصنا وحمبنا ينتظر الرمحة» (‪.)2‬‬

‫د‪ /‬الصفة الرابعة‪ :‬العصمة‪.‬‬

‫سابقا‪َّ :‬‬
‫أن كلامت أمري املؤمنني ‪ - ‬يف النهج ‪ -‬تثبت العصمة ألئمة أهل‬ ‫وقد ذكرنا ً‬
‫البيت ‪ ‬من زوايا متعددة‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫• الزاوية األوىل‪ :‬العصمة عن الشبهة والشك يف الدين‪.‬‬

‫وتشهد لذلك عدة كلامت‪ ،‬منها‪:‬‬

‫الكلمة األوىل‪ :‬قوله ‪« :‬وإين لعىل يقني من ريب‪ ،‬وغري شبهة من ديني» (‪.)3‬‬

‫الكلمة الثانية‪ :‬قوله ‪« :‬ما شككت يف احلق مذ أريته» (‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.158‬‬


‫(‪ )2‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.215‬‬
‫(‪ )3‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.60‬‬
‫(‪ )4‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.39‬‬
‫‪179‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫• الزاوية الثانية‪ :‬العصمة القولية والعملية‪.‬‬

‫وتشهد لذلك الكلامت التالية‪:‬‬

‫الكلمة األوىل‪ :‬قوله ‪« :‬وقد علمتم موضعي من رسول اهلل ‪ ‬بالقرابة القريبة‪،‬‬
‫واملنزلة اخلصيصة‪ .‬وضعني يف حجره وأنا ولد يضمني إىل صدره‪ ،‬ويكنفني إىل فراشه‪،‬‬
‫ويمسني جسده‪ ،‬ويشمني عرفه‪ ،‬وكان يمضغ الَشء ثم يلقمنيه‪ ،‬وما وجد يل كذبة يف قول‪،‬‬
‫وال خطلة يف فعل» (‪.)1‬‬

‫الكلمة الثانية‪ :‬عنه ‪« :‬ونشهد أن ال إله غريه وأن حممدً ا عبده ورسوله‪ ،‬أرسله بأمره‬
‫ناطقا‪ ،‬فأ ّدى أمينًا‪ ،‬ومىض رشيدً ا‪ ،‬وخ ّلف فينا راية احلق‪ ،‬من تقدّ مها مرق‪،‬‬
‫صادعا‪ ،‬وبذكره ً‬
‫ً‬
‫ومن خت ّلف عنها زهق‪ ،‬ومن لزمها حلق‪ ،‬دليلها مكيث الكالم» (‪.)2‬‬

‫الكلمة الثالثة‪ :‬عنه ‪« :‬انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم‪ ،‬واتبعوا أثرهم‪ ،‬فلن‬
‫خيرجوكم من هدى‪ ،‬ولن يعيدوكم يف ردى‪ ،‬فإن لبدوا فالبدوا‪ ،‬وإن هنضوا فاهنضوا‪ ،‬وال‬
‫تسبقوهم فتضلوا‪ ،‬وال تتأخروا عنهم فتهلكوا» (‪.)3‬‬

‫• الزاوية الثالثة‪ :‬العصمة عن خمالفة الدين واالختالف فيه‪.‬‬

‫ويشهد لذلك قوله ‪« :‬فالتمسوا ذلك من عند أهله فإهنم عيش العلم وموت اجلهل‪.‬‬
‫هم الذين خيربكم حكمهم عن علمهم‪ ،‬وصمتهم عن منطقهم‪ ،‬وظاهرهم عن باطنهم‪ .‬ال‬
‫خيال فون الدين وال خيتلفون فيه‪ ،‬فهو بينهم شاهد صادق‪ ،‬وصامت ناطق» (‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.157‬‬


‫(‪ )2‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.193‬‬
‫(‪ )3‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.189‬‬
‫(‪ )4‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.32‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪180‬‬

‫• الزاوية الرابعة‪ :‬ما َّ‬


‫دل عىل العصمة عن خمالفة القرآن الكريم‪.‬‬

‫ويشهد لذلك‪ :‬قوله ‪« :‬وإن الكتاب ملعي‪ ،‬ما فارقته مذ صحبته» (‪.)1‬‬

‫وقد قربنا – فيام سبق – داللة هذه الكلمة وما سبقها من الكلامت عىل العصمة‪ ،‬فراجع‪.‬‬

‫هـ‪ /‬الصفة اخلامسة‪ :‬العلم الغيبي‪.‬‬

‫وتشهد لذلك عدة من كلامت النهج الرشيف‪:‬‬

‫الكلمة األوىل‪ :‬قوله ‪« :‬أُّيا الناس‪ ،‬سلوين قبل أن تفقدوين‪ ،‬فألنا بطرق السامء أعلم‬
‫مني بطرق األرض» (‪.)2‬‬

‫الكلمة الثانية‪ :‬قوله ‪« :‬فاسألوين قبل أن تفقدوين‪ ،‬فوالذي نفيس بيده ال تسألوين عن‬
‫يشء فيام بينكم وبني الساعة‪ ،‬وال عن فئة هتدي مائة وتضل مائة إال أنبأتكم بناعقها وقائدها‬
‫وسائقها‪ ،‬ومناخ ركاهبا وحمط رحاهلا‪ ،‬ومن يقتل من أهلها ً‬
‫قتال‪ ،‬ويموت منهم مو ًتا‪ .‬ولو قد‬
‫فقدمتوين ونزلت بكم كرائه األمور وحوازب اخلطوب ألطرق كثري من السائلني وفشل كثري‬
‫من املسؤولني» (‪.)3‬‬

‫الكلمة الثالثة‪ :‬قوله ‪« :‬واهلل لو شئت أن أخرب كل رجل منكم بمخرجه وموجله ومجيع‬
‫شأنه لفعلت‪ ،‬ولكن أخاف أن تكفروا ّيف برسول اهلل ‪ ،‬أال وإين مفضيه إىل اخلاصة ممن يؤمن‬
‫ذلك منه‪ .‬والذي بعثه باحلق واصطفاه عىل اخللق ما أنطق إال صاد ًقا‪ .‬وقد عهد إيل بذلك كله‪،‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.236‬‬


‫(‪ )2‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.130‬‬
‫(‪ )3‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.183‬‬
‫‪181‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫وبمهلك من ُّيلك ومنجى من ينجو‪ ،‬ومآل هذا األمر‪ ،‬وما أبقى شي ًئا يمر عىل رأيس إال أفرغه‬
‫يف أذين وأفىض به إيل» (‪.)1‬‬

‫املحصلة األخرية‪:‬‬

‫فتحصل من مجيع ما ذكرناه‪َّ :‬‬


‫أن عقيدة اإلمامة – بنسختها املعارصة – راسخة اجلذور‬ ‫ّ‬
‫بجميع تفاصيلها يف أحد أهم مصادر الفكر الشيعي املتقدّ مة‪ ،‬فال ُيصغى بعد ذلك ملزاعم‬
‫أصحاب نظرة القراءة املنسية‪ ،‬جلالء خطئها وجمانبتها للصواب‪.‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.89‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪182‬‬

‫‪ / 2‬املقام الثاين‪ :‬نقد نظرية القراءة املنسية يف بعدها العددي‪.‬‬

‫كلمة بني يدي املقام الثاين‪:‬‬

‫سابقا‪َّ :‬‬
‫أن لنظرية القراءة املنسية بعدين‪:‬‬ ‫ذكرنا ً‬

‫أ – البعد األول‪ُ :‬بعد الصفات؛ إذ املدعى َّ‬


‫أن الصفات التي يعتربها الشيعة يف اإلمام‬
‫–كالعصمة‪ ،‬وعلم الغيب – إنام هي صناعة القراءة فوق البرشية لإلمامة‪ ،‬وأما القراءة البرشية‬
‫أبرارا‪.‬‬
‫فإهنا ال ترى يف األئمة ‪ ‬أكثر من كوهنم علامء ً‬

‫ب – ال ُبعد الثاين‪ُ :‬بعد العدد؛ إذ املدعى َّ‬


‫أن انحصار عدد األئمة ‪ ‬يف االثني عرش‪ ،‬مما‬
‫أضافته النسخة البديلة‪ ،‬وأما النسخة األصيلة فهي خالية عن ذلك‪.‬‬

‫وقد تقدمت مناقشة النظرية يف بعدها األول‪ ،‬وأوضحنا زيفها ووهنها بام ال مزيد عليه‪،‬‬
‫وقد حان الوقت ملناقشتها يف بعدها الثاين‪ ،‬وهو ما نحن بصدده يف هذا املقام‪.‬‬

‫وقبل الرشوع يف بيان مدعى القوم ومناقشته‪ ،‬فلنقف ً‬


‫قليال عند ما يعتقده الشيعة اإلمامية‪،‬‬
‫وما يستدلون به عليه‪ ،‬ثم نعود لنظرية القراءة املنسية لنضع مبضعنا عىل مواطن التصدّ ع فيها‪.‬‬

‫إطاللة عىل عقيدة اإلمامة يف بعدها العددي‪:‬‬

‫(أعز اهلل كلمتهم) هو َّ‬


‫أن األئمة بعد النبي‬ ‫وحاصل القول هاهنا‪َّ :‬‬
‫أن ما تعتقده اإلمامية َّ‬ ‫ُ‬
‫‪ ‬اثنا عرش إما ًما ال يزيدون وال ينقصون‪ ،‬ابتدا ًء بأمري املؤمنني ‪ ‬وانتها ًء بخاتم احلجج‬
‫والوصيني اإلمام املهدي ‪.‬‬
‫‪183‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫ودليلهم عىل ذلك هي النصوص البالغة – لكثرهتا وتعدد طرقها – حد التواتر‪ ،‬بل فوق‬
‫التواتر‪ ،‬ويمكن تصنيفها إىل سبع طوائف‪:‬‬

‫أمريا‪،‬‬
‫الطائفة األوىل‪ :‬األخبار املتواترة الدالة عىل َّأهنم اثنا عرش إما ًما أو ول ًّيا أو خليفة أو ً‬
‫ً‬
‫مفصال إن شاء اهلل‬ ‫نظري قول النبي ‪« :‬بعدي اثنا عرش خليفة» (‪ ،)1‬وسيأيت احلديث عنها‬
‫تعاىل عند حديثنا حول أدلة اإلمامة‪ ،‬فالحظ‪.‬‬

‫ومتتاز هذه الطائفة بأهنا مروية من طريق الفريقني‪ ،‬وهي متواترة‪ ،‬بل َّ‬
‫إن طرقها عند كل‬
‫واحد من الفريقني تفوق حد التواتر؛ إذ يروُّيا من طريق العامة فقط مخسة عرش صحاب ًيا‪،‬‬
‫وبعرشات الطرق‪ ،‬وقد أوردها أصحاب الصحاح‪ ،‬كالبخاري ومسلم‪ ،‬مما جيعل عقيدة (االثني‬
‫عرشية) عقيدة إسالمية ال ختتص بالشيعة اإلمامية فقط‪.‬‬

‫أضيق‬
‫ُ‬ ‫الطائفة الثانية‪ :‬األخبار الدالة عىل َّأهنم اثنا عرش إما ًما من قريش‪ ،‬وهذه الطائفة‬
‫دائرة –مفهو ًما– من سابقتها‪ ،‬وقد استفاض نقلها يف صحاح القوم‪ ،‬ومنها‪ :‬ما رواه البخاري‬
‫يف صحيحه بسنده عن جابر بن سمرة‪ ،‬قال‪« :‬سمعت النبي صىل اهلل عليه [وآله] وسلم يقول‪:‬‬
‫أمريا‪ ،‬فقال كلمة مل أسمعها‪ ،‬فقال أيب‪ :‬أنه قال‪ :‬كلهم من قريش» (‪.)2‬‬
‫يكون اثنا عرش ً‬

‫الطائفة الثالثة‪ :‬األخبار الدالة عىل َّأهنم اثنا عرش إما ًما‪ ،‬وكلهم من بني هاشم‪ ،‬وهذه‬
‫أضيق مفهو ًما من سابقتها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الطائفة واردة يف بعض كتب القوم‪ ،‬وهلا مقارب يف كتبنا (‪ ،)3‬وهي‬

‫(‪ )1‬عيون أخبار الرضا عليه السالم‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.55‬‬


‫(‪ )2‬صحيح البخاري‪ :‬ج‪ ،8‬ص‪.127‬‬
‫اش ٍم َال ت َْص ُل ُح ع ََىل ِس َو ُاه ْم‪َ ،‬‬
‫وال ت َْصلُ ُح‬ ‫ش غ ُِرسوا ِيف َه َذا ا ْلب ْط ِن ِمن َه ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِ ِ‬
‫(‪ )3‬ومن ذلك‪ :‬قول أمري املؤمنني ‪« :‬إ َّن األَئ َّم َة م ْن ُق َر ْي ٍ ُ‬
‫ا ْل ُو َال ُة ِم ْن غ ْ ِ‬
‫َري ِه ْم»‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪184‬‬

‫إال أهنا قليلة جدً ا‪ ،‬ومن مجلة روايات هذه الطائفة‪ :‬ما رواه القندوزي يف (الينابيع) ً‬
‫قائال‪ :‬عن‬
‫عبد امللك بن عمري‪ ،‬عن جابر بن سمرة ‪ ‬قال‪« :‬كنت مع أيب عند رسول اهلل (صىل اهلل عليه‬
‫[وآله] وسلم) فسمعته يقول‪ :‬بعدي اثنا عرش خليفة‪ ،‬ثم أخفى صوته‪ ،‬فقلت أليب‪ :‬ما الذي‬
‫أخفى صوته؟ قال‪ :‬قال‪ :‬كلهم من بني هاشم» (‪.)1‬‬

‫الطائفة الرابعة‪ :‬األخبار الدالة عىل َّأهنم من أهل بيته ‪ ،‬وقد ض ّيقت هذه الطائفة دائرة‬
‫املفهوم من (بني هاشم) إىل خصوص (أهل البيت ‪ ،)‬وهذه الطائفة تصل إىل قرابة اخلمسني‬
‫حدي ًثا‪ ،‬وأكثرها من طرقنا‪ ،‬وهذا ما جيعلها يف حد التواتر‪ ،‬ومنها‪ :‬قول النبي ‪« :‬األئمة اثنا‬
‫عرش من أهل بيتي» (‪.)2‬‬

‫الطائفة اخلامسة‪ :‬األخبار الدالة عىل َّأهنم عَل واحلسن واحلسني وتسعة من صلب احلسني‬
‫‪ ،‬وهي أضيق من سابقاهتا‪ ،‬وتصل إىل قرابة املائة حدي ًثا‪ ،‬وبذلك تكون متواترة‪ ،‬وأكثرها‬
‫من طرقنا‪ ،‬وقليل منها من طرقهم‪.‬‬

‫ومن هذه الطائفة‪ :‬ما رواه يف (كفاية األثر) بسنده عن زيد بن أرقم قال‪ :‬سمعت رسول‬
‫اهلل صىل اهلل عليه [وآله] وسلم يقول لعَل ‪« :‬أنت اإلمام واخلليفة بعدي‪ ،‬وابناك سبطاي‪،‬‬
‫ومها سيدا شباب أهل اجلنة‪ ،‬وتسعة من صلب احلسني أئمة معصومون‪ ،‬ومنهم قائمنا أهل‬
‫البيت» (‪.)3‬‬

‫و ُيستفاد من هذه الطائفة مطالب ثالثة‪:‬‬

‫(‪ )1‬ينابيع املودة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.315‬‬


‫(‪ )2‬عيون أخبار الرضا عليه السالم‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.62‬‬
‫(‪ )3‬كفاية األثر‪ :‬ص‪.100‬‬
‫‪185‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫• األول‪ :‬خروج أوالد أمري املؤمنني ‪ ‬من غري السيدة فاطمة الزهراء ‪ ،‬وكذا‬
‫خروج أوالد اإلمام احلسن ‪.‬‬
‫• الثاين‪ :‬إثبات إمامة اإلمام زين العابدين ‪‬؛ ألنه مل يكن لإلمام احلسني ‪ ‬بعد‬
‫مقتله ولدٌ سواه‪ ،‬وبام َّ‬
‫أن اإلمامة يف صلبه فتع ّينت فيه‪.‬‬
‫• الثالث‪ :‬ثبوت اإلمامة يف صلب اإلمام زين العابدين ‪ ،‬وامتدادها يف ذريته‬
‫املباركة ونسله الطاهر‪.‬‬

‫الطائفة السادسة‪ :‬األخبار الدالة عىل أسامئهم‪ ،‬وهذه الطائفة تتجاوز اخلمسني حدي ًثا‪،‬‬
‫وفيها الصحاح واحلسان واملعتربات‪ ،‬ومن أشهرها احلديث املعروف بـ (حديث اللوح)‪ ،‬وقد‬
‫نُقل القليل منها يف كتب العامة‪.‬‬

‫يف كتابه فرائد السبطني‪ ،‬والذي ألجل روايته ملثل هذه‬ ‫احلموي(‪)1‬‬
‫ومنها‪ :‬ما أورده‬
‫األحاديث ُرمي بالتش ّيع‪ ،‬مع أنه شيخ الذهبي (‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬قال عنه الذهبي يف (تذكرة احلفاظ‪ :‬ج‪ ،4‬ص‪ « :)199‬وسمعت من اإلمام املحدث األوحد األكمل فخر اإلسالم صدر الدين‬
‫إبراهيم بن حممد ابن املؤيد بن محويه اخلراساين اجلويني شيخ الصوفية‪ ،‬قدم علينا طالب حديث [و]روى لنا عن رجلني من أصحاب‬
‫حلا‪ ،‬وعىل يده أسلم غازان‬
‫املؤيد الطويس‪ ،‬وكان شديد االعتناء بالرواية وحتصيل األجزاء حسن القراءة مليح الشكل مهي ًبا دينًا صا ً‬
‫امللك‪ ،‬مات سنة اثنتني وعرشين وسبعامئة وله ثامن وسبعون سنة‪ ،‬رمحه اهلل تعاىل»‪.‬‬
‫(‪ )2‬ويمكن استفادة تلمذ الذهبي عليه من خالل شواهد كثرية‪ ،‬منها‪ :‬تْصيح الذهبي بذلك يف موضعني‪:‬‬
‫املوضع األول‪ :‬يف معجم الشيوخ الكبري (ج‪ ،1‬ص‪« :)158 – 157‬إبراهيم بن حممد بن املؤيد بن عبد اهلل بن عَل بن حممد بن محويه‬
‫الشيخ القدوة صدر الدين أبو املجامع اجلويني اخلراساين الصويف املحدث‪ ،‬مولده سنة أربع وأربعني وست مائة‪.‬‬
‫وسمع يف سنة أربع وستني من عثامن بن موفق وغريه‪ ،‬وكان صاحب حديث واعتنى بالرواية‪.‬‬
‫قدم علينا بعدما أسلم عىل يد غازان ملك التتار بواسطة نائبه نورور‪ ،‬فسمع معنا من أيب حفص بن القواس وطائفة‪ ،‬ثم حج بآخره‬
‫يف سنة عرشين وسبع مائة‪ ،‬وحدث فذكر يل احلافظ صالح الدين أنه سمع منه‪ ،‬فذكر له أنه قد يصل له إىل اآلن رواية مائتي جزء‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪186‬‬

‫وقد نقل عنه القندوزي‪ ،‬حيث قال‪ « :‬ويف فرائد السمطني‪ :‬بسنده عن جماهد‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪ ‬قال‪ :‬قدم ُّيودي يقال له نعثل‪ ،‬فقال‪ :‬يا حممد أسألك عن أشياء تلجلج يف صدري‬
‫منذ حني فإن أجبتني عنها أسلمت عىل يديك‪.‬‬

‫قال‪ :‬سل يا أبا عامرة‪.‬‬

‫فقال‪ :‬يا حممد صف يل ربك‪.‬‬

‫فقال ‪ : ‬ال يوصف إال بام وصف به نفسه‪ ،‬وكيف يوصف اخلالق الذي تعجز العقول‬
‫أن تدركه واألوهام أن تناله‪ ،‬واخلطرات أن حتده‪ ،‬واألبصار أن حتيط به‪ ،‬جل وعال عام يصفه‬
‫الواصفون‪ ،‬نا ٍء يف قربه‪ ،‬وقريب يف نأيه‪ ،‬هو ك ّيف الكيف‪ ،‬وأ ّين األين‪ ،‬فال يقال له أين هو؟‬

‫معظام بني الصوفية إىل‬


‫ً‬ ‫خريا‪ ،‬مليح الكتابة حسن الفهم‬
‫مليحا مهي ًبا ً‬
‫ً‬ ‫وأربعني جز ًءا كلها أربعينات‪ ،‬وكان صدر الدين تام الشكل‬
‫الغاية ملكان والده الشيخ سعد الدين بن محويه‪.‬‬
‫وبلغنا موته بخراسان يف سنة اثنتني وعرشين وسبع مائة فتويف يف خامس املحرم‪.‬‬
‫قرأت عىل إ براهيم بن محويه‪ ،‬نا عثامن بن املوفق بإسفرايني‪ ،‬أنا املؤيد بن حممد الطويس‪ .‬وأخربنا أمحد بن هبة اهلل‪ ،‬عن املؤيد‪ ،‬نا هبة‬
‫اهلل بن سهل‪ ،‬نا سعيد بن حممد‪ ،‬أنا زاهر بن أمحد‪ ،‬أنا إبراهيم بن عبد الصمد‪ ،‬نا أبو مصعب‪ ،‬ثنا مالك عن أيب حازم‪ ،‬عن سهل بن‬
‫سعد‪ ،‬أن رسول اهلل صىل اهلل عليه [وآله] وسلم قال‪" :‬ال يزال الناس بخري ما عجلوا الفطر"»‪.‬‬
‫املوضع الثاين‪ :‬ما يف كتاب املعجم املختص باملحدثني للذهبي‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪ .‬حممد احلبيب اهليلة‪ ،‬ص‪« :66 - 65‬إبراهيم بن حممد بن‬
‫املؤيد بن عبد اهلل بن عَل بن حممد بن محويه‪ ،‬اإلمام الكبري املحدث شيخ املشائخ صدر الدين أبو اجلامع اخلراساين اجلويني الصويف‪،‬‬
‫ولد سنة أربع وأربعني وست مائة‪ ،‬وسمع بخراسان بغداد والشام واحلجاز‪ ،‬وكان ذا اعتناء هبذا الشأن وعىل يده أسلم امللك غازان‪.‬‬
‫تويف بخراسان يف سنة اثنتني وعرشين وسبع مائة‪.‬‬
‫قرأنا عىل أيب املجامع إبراهيم بن محوي ه سنة مخس وتسعني وست مائة‪ ،‬أنا أبو عمر‪ ،‬وعثامن بن املوفق األذكاين بقراءيت سنة أربع‬
‫وستني وست مائة‪ ،‬أنا املؤيد بن حممد الطويس‪ ،‬وأنا أمحد بن هبة اهلل‪ ،‬عن املؤيد‪ ،‬أنا هبة اهلل بن سهل‪ ،‬أنا سعيد بن حممد البحريي‪،‬‬
‫أنا زاهر بن أمحد الفقيه‪ ،‬أنا إبراهيم بن عبد الصمد ‪ ،‬أنا أبو مصعب‪ ،‬نا مالك بن سمي موىل أيب بكر بن عبد الرمحن‪ ،‬عن أيب صالح‬
‫السامن‪ ،‬عن أيب هريرة‪ ،‬أن رسول اهلل صىل اهلل عليه [وآله] وسلم قال‪" :‬العمرة إىل العمرة كفارة ملا بينهام‪ ،‬واحلج املربور ليس له جزاء‬
‫إال اجلنة"»‪.‬‬
‫‪187‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫وهو منقع الكيفية‪ ،‬واألينونية‪ ،‬فهو األحد الصمد كام وصف نفسه‪ ،‬والواصفون ال يبلغون‬
‫كفوا أحد‪.‬‬
‫نعته‪ ،‬مل يلد ومل يولد‪ ،‬ومل يكن له ً‬

‫قال‪ :‬صدقت يا حممد‪ ،‬فأخربين عن قولك إنه واحد ال شبيه له‪ ،‬أليس اهلل واحدً ا واإلنسان‬
‫واحدً ا؟ فقال ‪ : ‬اهلل (عز وعال) واحد حقيقي‪ ،‬أحدي املعنى‪ ،‬أي ال جزء وال تركب له‪،‬‬
‫واإلنسان واحد ثنائي املعنى‪ ،‬مركب من روح وبدن‪.‬‬

‫قال‪ :‬صدقت‪ ،‬فأخربين عن وصيك من هو؟ فام من نبي إال وله ويص‪ ،‬وإن نبينا موسى‬
‫بن عمران أوّص يوشع بن نون‪ .‬فقال‪ :‬إن وصيي عَل بن أيب طالب‪ ،‬وبعده سبطاي احلسن‬
‫واحلسني‪ ،‬تتلوه تسعة أئمة من صلب احلسني‪.‬‬

‫قال‪ :‬يا حممد فسمهم يل؟ قال‪ :‬إذا مىض احلسني فابنه عَل‪ ،‬فإذا مىض عَل فابنه حممد‪ ،‬فإذا‬
‫مىض حممد فابنه جع فر‪ ،‬فإذا مىض جعفر فابنه موسى‪ ،‬فإذا مىض موسى فابنه عَل‪ ،‬فإذا مىض‬
‫عَل فابنه حممد‪ ،‬فإذا مىض حممد فابنه عَل‪ ،‬فإذا مىض عَل فابنه احلسن‪ ،‬فإذا مىض احلسن فابنه‬
‫احلجة حممد املهدي‪ ،‬فهؤالء اثنا عرش» (‪.)1‬‬

‫الطائفة السابعة‪ :‬األخبار الدالة عىل إمامة كل إمام بشكل مستقل‪ ،‬وهي ال حتىص لكثرهتا‪.‬‬

‫املحصلة األخرية‪:‬‬

‫وقد تبني مما تقدم‪َّ :‬‬


‫أن جمموع هذه الطوائف السبع يفوق حد التواتر‪ ،‬فال يبقى جمال للشك‬
‫بصدور هذه األحاديث‪ ،‬وتع ّينها يف األئمة االثني عرش الذين تعتقد الشيعة بإمامتهم‪.‬‬

‫(‪ )1‬ينابيع املودة‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.282‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪188‬‬

‫عودة إىل إشكالية نظرية القراءة املنسية حول البعد العددي لإلمامة‪:‬‬

‫وبعد أن أوضحنا أن عقيدة الشيعة اإلمامية االثني عرشية يف اإلمامة – من زاوية بعدها‬
‫عام يواجه‬
‫رسختها السنة املطهرة‪ ،‬تصل النوبة إىل البحث ّ‬
‫العددي – عقيدة إسالمية أصيلة‪ ،‬قد ّ‬
‫هذه النظرية من اإلثارة واإلشكال‪ ،‬وهي عبارة عن ثالث إشكاليات‪:‬‬

‫نصوصا متواترة كام تقرر‪،‬‬


‫ً‬ ‫أ – اإلشكالية األوىل‪َّ :‬‬
‫إن نصوص االثني عرشية إذا كانت‬
‫فكيف حدث االفرتاق عند الشيعة‪ ،‬ونشأت العديد من الفرق الشيعية التي ال تؤمن بانحصار‬
‫األئمة ‪ ‬يف اثني عرش إما ًما‪ ،‬كالزيدية واإلسامعيلية والفطحية والواقفة وغريها؟! وهذا ما‬
‫دعا بعض ال ُكتّاب إىل تبني َّ‬
‫أن عقيدة االثني عرشية نتاج القرن الرابع اهلجري‪ ،‬مؤكدً ا دعواه‬
‫َّ‬
‫بأن الشيخ ابن بابويه ‪ ‬مل يذكرها ض من كتابه (اإلمامة والتبْصة)‪ ،‬وكذلك النوبختي يف‬
‫(فرق الشيعة)‪.‬‬

‫ب – اإلشكالية الثانية‪َّ :‬‬


‫إن عقيدة اإلمامة إذا كانت متواترة ومتأصلة ‪ -‬بالبيان املتقدم ‪-‬‬
‫فام هو الوجه يف سؤال أصحاب األئمة ‪ ‬لإلمام السابق عن اإلمام الالحق‪ ،‬مع َّ‬
‫أن هذا السؤال‬
‫كاشف عن عدم معرفتهم باألئمة ‪ ‬وعدم تواتر النص عليهم بأسامئهم‪ ،‬إذ لو كان النص‬
‫متواترا ملا كان للسؤال وجه!!‬
‫ً‬ ‫عليهم بأسامئهم‬

‫ج – اإلشكالية الثالثة‪َّ :‬‬


‫إن نصوص االثني عرشية لو كانت قد أسمت األئمة ‪ ‬بأسامئهم‬
‫واحدً ا واحدً ا – كام هو زعم الشيعة املطابق للطائفة السادسة املتقدمة – ملا بقي تفسري متعقل‬
‫مر هبا أجالء أصحاب األئمة ‪ ‬عند رحيل بعضهم ‪ ،‬كحرية زرارة بن‬
‫حلالة احلرية التي َّ‬
‫أعني ‪ ‬عند موت اإلمام الصادق ‪َّ ،‬‬
‫فإن هذا مؤرش واضح عىل كون العقيدة املذكورة من‬
‫األوهام التي ال واقع هلا‪.‬‬
‫‪189‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫اإلجابة عن اإلشكالية األوىل‪:‬‬

‫ولإلجابة عن اإلشكالية األوىل نحتاج أن نبحث حول حماور ثالثة‪:‬‬

‫املحور األول‪ :‬عدم التامنع بني وجود النص ونشوء املذاهب والفرق‪.‬‬

‫مما ال ينبغي الشك فيه‪َّ :‬‬


‫أن وجود النص ال يمنع من حدوث الفرقة واالختالف‪ ،‬وإذا كان‬
‫أصحاب هذه الشب هة يرفضون العمل بالروايات الواضحة‪ ،‬فال شك يف أهنم لن يرفضوا العمل‬
‫أن وجود النص ال يمنع من الترشذم واالختالف‪ ،‬وقد‬ ‫حيا َّ‬
‫بالقرآن الكريم الذي أوضح رص ً‬
‫اخ َت َل ُفوا ِم ْن َب ْع ِد َما َجا َء ُه ُم ا ْل َب ِّي َن ُ‬
‫ات‬ ‫ين َت َف َّر ُقوا َو ْ‬ ‫ِ‬
‫حتدث عن ذلك بقوله‪َ ﴿ :‬و َال َتكُونُوا كَا َّلذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم﴾ (‪ ، )1‬كام جاء بالعديد من الشواهد الدالة عىل ذلك‪ ،‬ونكتفي منها‬ ‫َو ُأو َلئ َك َهل ُ ْم َع َذ ٌ‬
‫اب َعظ ٌ‬
‫باستعراض شاهدين‪:‬‬

‫الشاهد األول‪ :‬استخالف نبي اهلل موسى ‪ ‬ألخيه هارون‪ ،‬فإنه رغم استخالفه له‬
‫وتنصيصه عليه‪ ،‬إال أن ذلك مل يمنع قومه من االختالف والتفرق‪ ،‬وقد حتدث القرآن الكريم‬
‫اخ ُل ْفنِي ِيف‬ ‫ون ْ‬‫وسى ِألَ ِخ ِيه َه ُار َ‬ ‫عن تنصيص النبي موسى عىل أخيه هارون ‪ ‬فقال‪َ ﴿ :‬و َق َال ُم َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾ (‪ ، )2‬ثم حتدث عن متردهم عىل هذا النص فقال‪:‬‬ ‫َق ْومي َو َأ ْصل ْح َو َال َتتَّبِ ْع َسبِ َيل املُْ ْفسد َ‬
‫وسى ِم ْن َب ْع ِد ِه ِم ْن ُحلِ ِّي ِه ْم ِع ْج ًال َج َسدً ا َل ُه ُخ َو ٌار َأ َمل ْ َي َر ْوا َأ َّن ُه َال ُي َك ِّل ُم ُه ْم َو َال َ ُّْي ِدُّيِ ْم‬
‫﴿ َو َّاخت ََذ َق ْو ُم ُم َ‬
‫يكتف بذلك بل أوضح موقف النبي موسى ‪ ‬من‬ ‫ِ‬ ‫ني﴾ (‪ ،)3‬ومل‬ ‫َسبِ ًيال َّاخت َُذو ُه َوكَانُوا َظامل ِ َ‬
‫وين ِم ْن َب ْع ِدي﴾ (‪.)4‬‬
‫ان َأ ِس ًفا َق َال بِ ْئ َس َام َخ َل ْفت ُُم ِ‬
‫وسى إِ َىل َق ْو ِم ِه غَ ْض َب َ‬
‫متردهم‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬وملََّا َر َج َع ُم َ‬

‫(‪ )1‬سورة آل عمران‪.105 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة األعراف‪.142 :‬‬
‫(‪ )3‬سورة األعراف‪.148 :‬‬
‫(‪ )4‬سورة األعراف‪.150 :‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪190‬‬

‫وكام ترى‪َّ ،‬‬


‫فإن هذه اآليات رصحية يف استخالف موسى هلارون ‪ ،‬ورصحية يف اختالف‬
‫قوم موسى وتفرقهم وانحرافهم عن هارون ‪ ،‬رغم وضوح استخالف موسى ‪ ‬له‪.‬‬

‫الشاهد الثاين‪ :‬حكاية القرآن الكريم لتبشري النبي عيسى ‪ ‬بنبوة رسول اهلل ‪ ،‬ولكن‬
‫النصارى مل يؤمنوا بنبوته ‪ ‬رغم وضوحها يف التوراة واإلنجيل وتبشري النبي عيسى ‪ ‬هبا‪،‬‬
‫رسائِ َيل إِ ِّين َر ُس ُ‬
‫ول اهللَِّ إِ َل ْيك ُْم ُم َصدِّ ًقا‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ويدل عىل ذلك قوله ‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ َق َال ع َ‬
‫يسى ا ْب ُن َم ْر َي َم َيا َبني إ ْ َ‬
‫ول ي ْأ ِيت ِمن بع ِدي اسمه َأ ْمحَدُ َف َلام جاءهم بِا ْلبين ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َمل ِا َب ْ َ‬
‫َات َقا ُلوا َه َذا‬ ‫َّ َ َ ُ ْ َ ِّ‬ ‫ْ ُُ‬ ‫ْ َْ‬ ‫رشا بِ َر ُس ٍ َ‬‫ني َيدَ َّي م َن الت َّْو َراة َو ُم َب ِّ ً‬
‫ني﴾ (‪ ،)1‬وقوله ‪ ‬حاك ًيا عن موقفهم إزاء هذا النص‪َ ﴿ :‬يا َأ ْه َل ا ْلكِت ِ‬
‫َاب ِمل َ َت ْلبِ ُس َ‬
‫ون‬ ‫ِس ْح ٌر ُمبِ ٌ‬
‫احل َّق َو َأ ْنت ُْم َت ْع َل ُم َ‬
‫ون﴾ (‪.)2‬‬ ‫احل َّق بِا ْل َباطِ ِل َو َت ْكت ُُم َ‬
‫ون ْ َ‬ ‫َْ‬

‫أيضا يف تنصيص النبي عيسى ‪ ‬عىل نبوة خاتم‬ ‫وكام ترى‪َّ ،‬‬
‫فإن هذه اآليات رصحية ً‬
‫األنبياء حممد ‪ ،‬ووجود هذا النص يف التوراة واإلنجيل‪ ،‬غري َّ‬
‫أن ذلك مل يمنع من عدم إيامن‬
‫النصارى واملسيح بنبوته ‪.‬‬

‫واحلاصل‪ :‬فإن القرآن قد طرح شواهد واضحة الختالف األمم وترشذمها وتفرقها مع‬
‫وجود النص العاصم هلا من الفرقة والترشذم‪ ،‬مما جيعل الشبهة املتقدمة ‪ -‬التي يتبجح هبا‬
‫أصحاب نظرية القراءة املنسية ‪ -‬واهية باطلة بنص القرآن الكريم الذي يتفق عليه اجلميع‪.‬‬

‫أضف إىل ذلك‪َّ :‬‬


‫أن أحاديث االثني عرشية رغم كوهنا واردة يف صحاح املسلمني‪ ،‬وهي‬
‫تفيض لالعتقاد َّ‬
‫بأن األئمة واخللفاء ال ينقصون عن اثني عرش وال يزيدون‪ ،‬إال أنك ال جتد‬
‫انعكاسا عىل فكر أي طائفة من املسلمني إال طائفة الشيعة اإلمامية‪.‬‬
‫ً‬ ‫لذلك‬

‫(‪ )1‬سورة الصف‪.6 :‬‬


‫(‪ )2‬سورة آل عمران‪.71 :‬‬
‫‪191‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫املحور الثاين‪ :‬عوامل اختالف الشيعة وافرتاقهم‪.‬‬

‫حني نرجع إىل الكتب املختصة التي تناولت الفرق واملذاهب وسلطت النظر عىل الفرق‬
‫الشيعية‪ ،‬نالحظ أن الفرق التي ذكرت يف هذه الكتب قد اضمحلت ومل تبق منها إال فرقتان‬
‫فقط‪ ،‬ومها‪ :‬الزيدية واإلسامعيلية‪ ،‬ولكن بعد مالحظة هذه الفرق ‪-‬حتى املندرس منها‪-‬‬
‫ودراسة أسباب نشوئها‪ ،‬فإنن ا نقف عىل ثالثة عوامل رئيسية قد أدت إىل نشوئها‪:‬‬

‫العامل األول‪ :‬الطمع واهلوى‪ ،‬وهذا ما غلب عىل أصحاب تلك الفرق‪ ،‬كالواقفية‪ ،‬وهي‬
‫الفرقة التي وقفت عىل إمامة اإلمام الكاظم ‪ ‬ومل تقل بإمامة اإلمام الرضا ‪َّ ،‬‬
‫فإن الذي‬
‫محل رؤساءهم عىل ذلك هو طمعهم يف األموال التي كانت بحوزهتم‪.‬‬

‫ويشهد لذلك‪ :‬ما رواه الشيخ الكَش عن أمحد بن حممد‪ ،‬قال‪« :‬أحد القوم عثامن بن‬
‫عيسى‪ ،‬وكان يكون بمْص‪ ،‬وكان عنده مال كثري وست جوار‪ ،‬فبعث إليه أبو احلسن ‪ ‬فيهن‬
‫واحتج‬
‫ّ‬ ‫صحت األخبار بموته‪،‬‬ ‫ويف املال‪ ،‬وكتب إليه‪ّ :‬‬
‫إن أيب قد مات وقد اقتسمنا مرياثه‪ ،‬وقد ّ‬
‫عليه‪ .‬قال‪ :‬فكتب إليه‪ :‬إن مل يكن أبوك مات فليس من ذلك يشء‪ ،‬وإن كان قد مات عىل ما‬
‫حتكي فلم يأمرين بدفع يشء إليك‪ ،‬وقد أعتقت اجلواري» (‪.)1‬‬

‫العامل الثاين‪ :‬العاطفة املفرطة‪ ،‬فقد روى الشيخ الكَش عن ابن أيب يعفور أن اإلمام‬
‫جزعا عليه‪،‬‬
‫ً‬ ‫الصادق ‪ ‬قال يف حق اإلمام الكاظم ‪« :‬يضل به قوم من شيعتنا بعد موته‬
‫فيقولون‪ :‬مل يمت‪ ،‬وينكرون األئمة من بعده‪ ،‬ويدعون الشيعة إىل ضالهلم‪ ،‬ويف ذلك إبطال‬
‫حقوقنا وهدم دين اهلل‪ ،‬يا ابن أيب يعفور فاهلل ورسوله منهم بريء‪ ،‬ونحن منهم براء» (‪ ،)2‬ومن‬

‫(‪ )1‬اختيار معرفة الرجال‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.860‬‬


‫(‪ )2‬اختيار معرفة الرجال‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.762‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪192‬‬

‫هذا النص يظهر َّ‬


‫أن العاطفة قد قادت مجاعة من الشيعة إىل القول بحياة اإلمام الكاظم ‪‬‬
‫وإنكار إمامة ولده اإلمام الرضا ‪.‬‬

‫العامل الثالث‪ :‬القصور املعريف‪ ،‬فإن الشيعة آنذاك ‪-‬كام هم اليوم‪ -‬فيهم العامل واجلاهل‪،‬‬
‫وفيهم الفطن وغريه‪ ،‬وفيهم احلريص عىل املعرفة وغري اآلبه هبا‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫وهذا القصور املعريف املوجود لدى بعضهم قد قاده إىل القول بإمامة من مل يكن ً‬
‫أهال‬
‫لإلمامة‪ ،‬ويظهر ذلك من ذهاب بعض الشيعة آنذاك إىل القول بإمامة عبد اهلل األفطح ابن اإلمام‬
‫الصادق ‪ ،‬مستدلني بحديث رووه عن اإلمام الصادق ‪« :‬اإلمامة يف األكرب من ولد‬
‫اإلمام إذا مىض» (‪ ،)1‬واحلال َّ‬
‫أن النص قد كان له قيد مهم‪ ،‬ولعله مل يصل إىل بعض الشيعة‬
‫تقصريا‪ ،‬وهو‪« :‬أن األمر يف الكبري ما مل يكن به عاهة» (‪ ،)2‬ومن الواضح أن عبد اهلل‬
‫ً‬ ‫قصورا أو‬
‫ً‬
‫كان أفطح الرجل وهي عاهة معروفة‪ ،‬فالقول بإمامته – واحلال هذه – ال يكون إال لقصور‬
‫معريف واضح‪.‬‬

‫ونظري هؤالء من وقفوا عىل إمامة اإلمام الرضا ‪ ‬وأنكروا إمامة اإلمام اجلواد ‪،‬‬
‫زعام منهم أن اجلواد ليس بعامل؛ ألنه ابن سبع سنوات‪ ،‬بينام اإلمام جيب أن يكون عاملًا‪ ،‬وهذا‬
‫ً‬
‫أيضا قصور معريف واضح كام ال خيفى‪ ،‬وهو ما استدعى من اإلمام الرضا ‪ ‬أن ينبه عىل هذا‬
‫ً‬
‫األمر ويزيح هذه الشبهة‪ ،‬ولذا أكّد عىل استحقاق اإلمام اجلواد ‪ ‬لإلمامة عىل صغر سنه‪،‬‬
‫وقام بتأصيل القضية‪ ،‬ويشهد لذلك ما رواه الشيخ الكليني ‪ ‬عن احلسني بن حممد‪ ،‬عن‬
‫اخلرياين‪ ،‬عن أبيه قال‪« :‬كنت واق ًفا بني يدي أيب احلسن ‪ ‬بخراسان‪ ،‬فقال له قائل‪ :‬يا سيدي‬

‫(‪ )1‬اختيار معرفة الرجال‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.525‬‬


‫(‪ )2‬اختيار معرفة الرجال‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.565‬‬
‫‪193‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫إن كان كون فإىل من؟ قال‪ :‬إىل أيب جعفر ابني‪ ،‬فكأن القائل استصغر سن أيب جعفر ‪ ،‬فقال‬
‫ً‬
‫رسوال نب ًيا‪ ،‬صاحب رشيعة مبتدأة‪،‬‬ ‫أبو احلسن ‪ :‬إن اهلل تبارك وتعاىل بعث عيسى ابن مريم‬
‫يف أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر ‪.)1( »‬‬

‫وبااللتفات هلذه العوامل – وما شاكلها – يتّضح الوجه يف وقوع االختالف والترشذم‬
‫بني الشيعة آنذاك رغم وجود النصوص اجلل ّية الْصحية‪.‬‬

‫املحور الثالث‪ :‬أصالة عقيدة االثني عرشية‪.‬‬

‫والذي نعتقده‪َّ :‬‬


‫أن عقيدة انحصار اإلمامة يف اثني عرش إما ًما عقيدة أصيلة متجذرة منذ‬
‫زمن رسول اهلل ‪ ‬واألئمة األطهار ‪ ‬يف بعدُّيا النظري والتطبيقي‪ ،‬وليست عقيدة مستحدثة‬
‫يف القرن الرابع اهلجري‪ ،‬كام زعم البعض‪.‬‬

‫أما يف بعدها النظري ‪ -‬أي‪ :‬أن األئمة بعد النبي اثنا عرش‪ -‬فال شك يف أصالتها‪ ،‬وقد نقل‬
‫ذلك املسلمون كافة عن رسول اهلل ‪ ‬بام هو فوق حد التواتر‪ ،‬حتى َّ‬
‫أن البغوي يف كتابه (رشح‬
‫السنة) قد قال ً‬
‫معلقا عىل حديث االثني عرش‪« :‬هذا حديث متفق عىل صحته» (‪.)2‬‬

‫أن أوهلم أمري املؤمنني وآخرهم املهدي ‪َّ -‬‬


‫فإن النصوص‬ ‫وأما يف بعدها التطبيقي ‪ -‬أي‪َّ :‬‬
‫أمرا أص ًيال‪،‬‬ ‫عن أجالء ووجوه الشيعة تؤكد عىل َّ‬
‫أن تطبيق االثني عرش عىل أئمتنا ‪ ‬قد كان ً‬
‫وليس مستحد ًثا‪.‬‬

‫نصوصا ثالثة للتأكيد عىل هذا األمر‪:‬‬


‫ً‬ ‫وننقل يف املقام‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.322‬‬


‫(‪ )2‬رشح السنة‪ :‬ج‪ ،15‬ص‪.31‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪194‬‬

‫النص األول‪ :‬للشيخ عَل بن بابويه القمي ‪ - ‬املتوف سنة ‪ 329‬هـ ‪ -‬والد الشيخ‬
‫معارصا لزمن الغيبة الصغرى‪ ،‬فإنه قال يف‬
‫ً‬ ‫الصدوق ‪ ،‬وهو من علامء القرن الثالث‪ ،‬وكان‬
‫ً‬
‫وغفال‪ ،‬ملا وردت األخبار‬ ‫ً‬
‫مهمال عن العدد‬ ‫كتابه الشهري (اإلمامة والتبْصة)‪« :‬ولو كان أمرهم‬
‫الوافرة بأخذ اهلل ميثاقهم عىل األنبياء وسالف الصاحلني من األمة‪.‬‬

‫ويدلك عىل ذلك‪ :‬قول أيب عبد اهلل ‪ ‬حني سئل عن نوح ‪ ‬ملا ذكر (استوت سفينته‬
‫عىل اجلودي هبم)‪ :‬هل عرف نوح عددهم؟‬

‫فقال‪ :‬نعم‪ ،‬وآدم ‪.‬‬

‫وكيف خيتلف عدد يعرفه أبو البرش‪ ،‬ومن درج من عرتته‪ ،‬واألنبياء من عقبه‪ ،‬عىل رشذمة‬
‫من ذريته وبقية يسرية من ولده؟!‬

‫وأي تأويل يدخل عىل حديث اللوح‪ ،‬وحديث الصحيفة املختومة‪ ،‬واخلرب الوارد عن‬
‫جابر يف صحيفة فاطمة ‪‬؟» (‪.)1‬‬

‫فإن هذا النص بعد تْصحيه بوجود عدد حمدد حلجج اهلل تعاىل‪ ،‬وتْصحيه َّ‬
‫بأن العدد مذكور‬ ‫َّ‬
‫يف حديث اللوح والصحيفة املختومة وخرب جابر ٍ‬
‫بنحو ال يقبل التأويل‪ ،‬يدل عىل أصالة عقيدة‬
‫االثني عرشية آنذاك؛ إذ َّ‬
‫أن العدد املذكور يف األحاديث املذكورة هو االثنا عرش‪.‬‬

‫النص الثاين‪ :‬للشيخ سعد بن عبد اهلل األشعري ‪ ،‬وهو من وجهاء الشيعة وأجالء‬
‫علامئهم يف القرن الثالث – تويف قري ًبا من سنة ‪ 300‬هـ ‪ -‬كام أنه كان من أصحاب اإلمام احلسن‬
‫العسكري ‪ ،‬قال يف كتاب (املقاالت والفرق)‪« :‬ففرقة منها ‪ -‬وهي املعروفة باإلمامية ‪-‬‬

‫(‪ )1‬اإلمامة والتبْصة‪ :‬ص‪.12 - 11‬‬


‫‪195‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫قالت‪ :‬هلل يف أرضه بعد ميض احلسن بن عَل حجة عىل عباده وخليفة يف بالده‪ ،‬قائم بأمره من‬
‫ولد احلسن بن عَل بن حممد بن عَل الرضا‪ ،‬آمر ٍ‬
‫ناه مبلغ عن آبائه مو ّدع عن أسالفه ما استودعوه‬
‫من علوم اهلل وكتبه وأحكامه وفرائضه وسننه‪ ،‬عامل بام حيتاج إليه اخللق من أمر دينهم ومصالح‬
‫دنياهم‪ ،‬خلف ألبيه‪ ،‬وويص له‪ ،‬قائم باألمر بعده‪ ،‬هاد لألمة‪ ،‬مهدي عىل املنهاج األول‪،‬‬
‫والسنن املاضية من األئمة اجلارية» (‪.)1‬‬

‫مقرون بوفاته‪ ،‬موقنون مؤمنون‬


‫إىل أن يقول‪« :‬فنحن متمسكون بإمامة احلسن بن عَل‪ّ ،‬‬
‫بأن له خل ًفا من صلبه‪ ،‬متد ّينون بذلك‪ ،‬وأنه اإلمام بعد أبيه احلسن بن عَل‪ ،‬وأنه يف هذه احلالة‬
‫مسترت خائف مغمور مأمور بذلك‪ ،‬حتى يأذن اهلل ‪ ‬له فيظهر ويعلن أمره» (‪.)2‬‬

‫النص الثالث‪ :‬للشيخ إبراهيم بن نوبخت ‪ ‬املعارص للشيخ ابن بابويه ‪-‬املتقدم‪،-‬‬
‫حيث نقل يف كتابه (الياقوت) – وهو تقري ًبا أول مؤ َّلف عقائدي قد وصلنا من أصحاب األئمة‬
‫‪ ، ‬وقد تواله األعالم بالرشح‪ ،‬ومن أهم رشوحه رشح العالمة احلَل ‪ - ‬قال‪« :‬القول يف‬
‫متواترا النص عليهم بأسامئهم من‬
‫ً‬ ‫إمامة األحد عرش بعده (أي بعد عَل ‪ )‬ن َْق ُل أصحابنا‬
‫الرسول ‪ ‬يدل عىل إمامتهم‪ ،‬وكذلك نقل النص من إمام عىل إمام وكتب األنبياء سال ًفا يدل‬
‫وخصوصا خرب مرسوق يعرتفون به» (‪.)3‬‬
‫ً‬ ‫عليهم‪،‬‬

‫واحلاصل‪َّ :‬‬
‫فإن هذه ثالثة نصوص مهمة ملربزي علامء الشيعة يف القرن الثالث اهلجري‪،‬‬
‫وهي تكشف عن أن العقيدة الشيعية املتعارفة اليوم هي نفسها التي كان عليها سلفنا الصالح‪،‬‬

‫(‪ )1‬املقاالت والفرق لألشعري‪ :‬ص‪.102‬‬


‫(‪ )2‬املقاالت والفرق‪ :‬ص‪.103‬‬
‫(‪ )3‬الحظ األصل يف أنوار امللكوت يف رشح الياقوت للعالمة احلَل ‪ :‬ص‪.229‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪196‬‬

‫ً‬
‫وتطبيقا عىل أئمتنا الطاهرين ‪ ،‬وهذا كاشف‬ ‫تنظريا‬
‫ً‬ ‫وقد وصلتهم ‪-‬كام وصلتنا‪ -‬بالتواتر‬
‫متأصلة‪ ،‬وليست مستحدثة يف القرن الرابع كام قال بعض‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫متجذرة‬ ‫قطعي عن كوهنا عقيدة‬
‫الوامهني‪.‬‬

‫كلامت أبناء العامة‪:‬‬

‫أردت زيادة عىل ذلك‪ ،‬لترتقى يف مراتب اليقني‪ ،‬فدونك بعض النصوص من مصادر‬
‫َ‬ ‫وإن‬
‫غري اإلمامية – عىل اختالفهم – وستنتهي منها إىل نفس النتيجة املتقدمة‪:‬‬

‫النص األول‪ :‬قال القايض نشوان احلمريي –أحد كبار علامء الزيدية املتوف عام ‪ 573‬هـ‪-‬‬
‫يف كتابه (احلور العني) متحد ًثا عن الشيعة‪« :‬وقالوا بعد ذلك‪ :‬إن اإلمام بعد حممد بن علي ابنه‬
‫علي بن حممد‪ ،‬وإن اإلمام بعد علي ابنه احلسن بن علي‪ ،‬وهو املعروف بالعسكري‪ ،‬ومات‬
‫العسكري ‪ -‬وهو احلسن بن علي بن حممد بن علي بن موسى بن جعفر بن حممد ‪-‬يف شهر‬
‫ربيع األول لثمان خلون منه‪ ،‬سنة ستني ومائتني‪ ،‬وال ولد للعسكري‪ ،‬فاختلط عليهم أمره‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬إن له ولدًا مكتو ًما يظهره اهلل عز وجل إذا شاء‪ ،‬وإنه القائم املهدي املنتظر عندهم‪ ،‬وإن‬
‫خواص شيعته تعرفه وتلقاه‪ ،‬وإنه يظهر إذا شاء اهلل‪.‬‬

‫ورووا أخبا ًرا عن أسالفهم‪ :‬أن األئمة من آل حممد اثنا عشر إمامًا‪ ،‬ال يزيدون وال‬
‫ينقصون‪ ،‬أوهلم عَل ثم احلسن ثم احلسني‪ ،‬ثم علي بن احلسني‪ ،‬ثم حممد بن علي‪ ،‬ثم جعفر بن‬
‫حممد‪ ،‬ثم موسى بن جعفر‪ ،‬ثم علي بن موسى‪ ،‬ثم حممد بن علي‪ ،‬ثم علي بن حممد‪ ،‬ثم احلسن‬
‫بن علي العسكري‪ .‬قالوا‪ :‬فهؤالء أحد عشر إمامًا‪ ،‬والثاين عشر هو ولد العسكري هذا املستور‬
‫الذي ادعوه‪ ،‬وهو املهدي املنتظر عندهم‪.‬‬
‫‪197‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫وهؤالء يسمون‪ :‬القطعية واالثني عشرية‪ ،‬وهم أكثر الشيعة عد ًدا على وجه األرض»(‪.)1‬‬
‫إن هذا النص يعود للقرن السادس‪ ،‬فال يفيدنا شي ًئا؛ َّ‬
‫ألن مدعى أصحاب نظرية‬ ‫وال ُيقال‪َّ :‬‬
‫تم تأسيسها يف القرن الرابع‪.‬‬ ‫القراءة املنسية َّ‬
‫أن عقيدة االثني عرشية قد َّ‬

‫إن النص املذكور وإن كان يعود للقرن السادس‪ ،‬غري َّ‬
‫أن املصادر التي ينقل‬ ‫ألنه ُيقال‪َّ :‬‬
‫عنها تعود للقرن الثالث‪ ،‬فإنه بعد أن كتب ما كتبه حول الشيعة قال‪« :‬فهذه الشيعة يف اإلمامة‬
‫على ما حكاه عنهم أبو عيسى الوراق‪ ،‬وزرقان بن موسى‪ ،‬وأبو القاسم البلخي يف كتبهم» (‪.)2‬‬

‫ف ُيعلم من هذا النص‪َّ :‬‬


‫أن املصادر التي اعتمد عليها نشوان احلمريي ثالثة‪:‬‬

‫أ‪ /‬األول‪ :‬حممد بن هارون (أبو عيسى الوراق)‪ ،‬صاحب كتاب (اختالف الشيعة‬
‫معارصا لإلمامني العسكريني ‪ ،‬وقد ّأرخ‬
‫ً‬ ‫واملقاالت)‪ ،‬ويظهر أنه من املعتزلة (‪ ،)3‬وكان‬
‫الزركَل عام وفاته بسنة ‪ 247‬هـ (‪.)4‬‬

‫سمى هبذا االسم‪ ،‬فمن‬


‫ب‪ /‬والثاين‪ :‬زرقان بن موسى‪ ،‬وال يوجد يف كتب الرتاجم َمن ُي ّ‬
‫املحتمل جدً ا أن يكون هو حممد بن شداد بن عيسى‪ ،‬ولكن وقع التصحيف يف اسم جده‪ ،‬مع‬
‫يقوي هذا االحتامل أنه هو املعروف بـ (زرقان)‪ ،‬وهو‬
‫اختصار اسمه كام هو املتعارف‪ ،‬والذي ّ‬
‫أحد املؤلفني املعروفني يف الفرق واملذاهب؛ إذ هو صاحب كتاب (املقاالت)‪ ،‬كام أنه معتزيل‬
‫كصاحبيه ا لسابق والالحق‪ ،‬وإذا كان هو املقصود فهو من املعارصين للغيبة الصغرى‪ ،‬بل‬
‫قبلها؛ إذ َّ‬
‫أن وفاته كانت سنة ‪ 278‬أو ‪ 279‬هـ‪.‬‬

‫(‪ )1‬احلور العني‪ :‬ص‪.165‬‬


‫(‪ )2‬احلور العني‪ :‬ص‪.170‬‬
‫(‪ )3‬الفهرست‪ ،‬البن النديم‪ :‬ص‪.216‬‬
‫(‪ )4‬األعالم‪ :‬ج‪ ،7‬ص‪.128‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪198‬‬

‫ج‪ /‬والثالث‪ :‬أبو القاسم البلخي‪ ،‬وهو شيخ املعتزلة يف زمانه‪ ،‬ومن كبار املتكلمني‪ ،‬وله‬
‫معرفة واسعة بمذاهب الناس‪ ،‬وقد صنّف يف ذلك كتابه (املقاالت)‪ ،‬وتويف سنة ‪ 327‬هـ‪.‬‬

‫وبالتعرف عىل هؤالء الثالثة ُيعلم َّ‬


‫أن املصادر التي استند إليها (نشوان احلمريي) يف‬
‫التعريف بعقيدة االثني عرشية تعود إىل القرن الثالث‪ ،‬حيث عْص األئمة ‪ ،‬مما يؤكّد عراقتها‬
‫وأصالتها ومعروفيتها – منذ ذلك العْص – حتى عند غري الشيعة أنفسهم‪.‬‬

‫النص الثاين‪ :‬قال أبو احلسن األشعري مؤسس مذهب األشاعرة – املتوف سنة ‪ 324‬هـ‪:‬‬
‫سموا (قطعية) ألهنم قطعوا عىل موت (موسى بن‬
‫«فالفرقة األوىل منهم وهم (القطعية)‪ ،‬وإنام ّ‬
‫النبي صىل اهللّ عليه [وآله] وسلم‬
‫أن ّ‬ ‫جعفر بن حممد بن عَل)‪ ،‬وهم مجهور الشيعة‪ ،‬يزعمون َّ‬
‫نص عىل إمامة ابنه‬ ‫نص عىل إمامة (عَل بن أيب طالب) واستخلفه بعده بعينه واسمه‪َّ ،‬‬
‫وأن عل ًّيا ّ‬ ‫ّ‬
‫نص عىل إمامة أخيه (احلسني بن عَل)‪ ،‬وأن احلسني بن‬ ‫(احلسن بن عَل)‪َّ ،‬‬
‫وأن احلسن بن عَل ّ‬
‫نص عىل إمامة ابنه (حممد بن‬
‫نص عىل إمامة ابنه (عَل بن احلسني)‪ ،‬وأن عَل بن احلسني ّ‬
‫عَل ّ‬
‫نص عىل‬ ‫نص عىل إمامة ابنه (جعفر بن حممد)‪َّ ،‬‬
‫وأن جعفر بن حممد ّ‬ ‫عَل)‪ ،‬وأن حممد بن عَل ّ‬
‫نص عىل إمامة ابنه (عَل بن موسى)‪ ،‬وأن‬ ‫إمامة ابنه (موسى بن جعفر)‪َّ ،‬‬
‫وأن موسى بن جعفر ّ‬
‫نص عىل إمامة‬ ‫نص عىل إمامة ابنه (حممد بن عَل بن موسى)‪َّ ،‬‬
‫وأن حممد بن عَل َّ‬ ‫عَل بن موسى ّ‬
‫نص عىل إمامة ابنه‬ ‫ابنه (عَل بن حممد بن عَل بن موسى)‪َّ ،‬‬
‫وأن عَل بن حممد بن عَل بن موسى ّ‬
‫نص‬
‫بسامرا‪ ،‬وأن احلسن بن عَل ّ‬
‫ّ‬ ‫(احلسن بن عَل بن حممد بن عَل بن موسى)‪ ،‬وهو ا ّلذي كان‬
‫عىل إمامة ابنه (حممد بن احلسن بن عَل)‪ ،‬وهو الغائب املنتظر عندهم الذي يدّ عون أنه يظهر‬
‫جورا» (‪.)1‬‬
‫ظلام و ً‬ ‫فيمأل األرض ً‬
‫عدال بعد أن ملئت ً‬

‫(‪ )1‬مقاالت اإلسالميني‪ :‬ص‪.17‬‬


‫‪199‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫النص الثالث‪ :‬قال املؤرخ املسعودي ‪ -‬املتوف سنة ‪ 346‬هـ ‪ -‬يف (مروج الذهب)‪« :‬ويف‬
‫سنة ستني ومائتني قبض أبو حممد احلسن بن عَل بن حممد بن عَل بن موسى بن جعفر بن حممد‬
‫بن عَل بن احلسني بن عَل بن أيب طالب يف خالفة املعتمد‪ ،‬وهو ابن تسع وعرشين سنة‪ ،‬وهو‬
‫أبو املهدي املنتظر‪ ،‬واإلمام الثاين عرش عند القطعية من اإلمامية‪ ،‬وهم مجهور الشيعة» (‪.)1‬‬

‫النص الرابع‪ :‬قال القايض أبو حنيفة النعامن بن حممد التميمي املغريب – املتوف سنة‬
‫‪ 363‬هـ وهو من أبرز علامء اإلسامعيلية ‪ -‬يف كتابه (افتتاح الدعوة)‪ ،‬متحد ًثا عن (منصور‬
‫اليمن) وهو (أبو القاسم احلسن بن فرج بن حوشب بن زادان الكويف‪ ،‬املتوف سنة ‪ 268‬هـ)‪:‬‬
‫« وكان ابتداء أمر أيب القاسم صاحب دعوة اليمن –فيام أخربنا به أهل العلم والثقة من‬
‫وقومه‬
‫أصحابه– أنه كان من أهل الكوفة‪ ،‬من أهل بيت علم وتشيع‪ ،‬وكان قد قرأ القرآن ّ‬
‫وطلب احلديث والفقه‪ ،‬وكان ممن يذهب إىل مذهب اإلمامية االثني عرشية‪ ،‬أصحاب حممد‬
‫بن احلسن بن عَل بن حممد بن عَل بن موسى بن جعفر بن حممد‪ ،‬الذين كانوا يرون أنه املهدي‪،‬‬
‫وأنه يظهر ويكون من أمره ما يكون عىل ما جاءت به األخبار عن رسول اهلل ‪.)2( »‬‬

‫واملتحصل من مجيع هذه النصوص‪َّ :‬‬


‫أن عقيدة االثني عرشية – باعرتاف الزيدية‬
‫واإلسامعيلية واملعتزلة واألشاعرة – تعود إىل القرن الثالث‪ ،‬حيث زمن املعصومني ‪ ‬أنفسهم‪،‬‬
‫يدعي حداثتها بعد كل ذلك إال مكابر معاند‪.‬‬
‫وهذا مما يكفي لتأكيد أصالتها‪ ،‬فال ّ‬

‫وهبذا يتضح اجلواب عن اإلشكالية األوىل‪ ،‬وفيام يَل نستعرض اجلواب عن اإلشكالية‬
‫الثانية‪.‬‬

‫(‪ )1‬مروج الذهب‪ :‬ج‪ ،4‬ص‪.112‬‬


‫(‪ )2‬افتتاح الدعوة‪ :‬ص‪.7 – 6‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪200‬‬

‫اإلجابة عن اإلشكالية الثانية‪:‬‬

‫مر قري ًبا – َّ‬


‫أن عقيدة اإلمامة إذا كانت متواترة ومتأصلة ‪ -‬بالبيان‬ ‫وحمصل اإلشكالية – كام َّ‬
‫املتقدم ‪ -‬فام هو الوجه يف سؤال أصحاب األئمة ‪ ‬لإلمام السابق عن اإلمام الالحق‪ ،‬مع َّ‬
‫أن‬
‫هذا السؤال كاشف عن عدم معرفتهم باألئمة ‪ ‬وعدم تواتر النص عليهم بأسامئهم‪ ،‬إذ لو‬
‫متواترا ملا كان للسؤال وجه!!‬
‫ً‬ ‫كان النص عليهم بأسامئهم‬

‫واجلواب عن هذه اإلشكالية يتوقف عىل إيضاح نقطتني‪:‬‬

‫النقطة األوىل‪ :‬عدم التالزم بني تواتر القضية ووضوحها لدى اجلميع‪.‬‬

‫وبيان ذلك‪ّ :‬‬


‫إن القضية املتواترة هي تلك القضية التي ينقلها مجاعة كثرية إىل احلد الذي‬
‫يمتنع معه اجتامعهم عىل الكذب‪ ،‬فالتواتر يتقوم بكثرة النقل مع تعدد الناقلني واختالف‬
‫مشارهبم‪ ،‬مما يمتنع معه بحسب العادة التواطؤ عىل الكذب‪ ،‬والقضية املنقولة بالتواتر تورث‬
‫اليقني بصدقها بال شك‪ ،‬وذلك– كام عليه منطق االستقراء – من باب تراكم القيم االحتاملية‬
‫املوجبة الرتفاع نسبة الصدق وتضاؤل نسبة الكذب يف اخلرب‪ ،‬وهذا أمر وجداين يبني عليه‬
‫العقالء يف سائر شؤوهنم وقضاياهم اليومية‪.‬‬

‫وأحد الشواهد عىل ذلك هو‪ :‬تعامل الناس مع األخبار التي يسمعوهنا من نرشات‬
‫ً‬
‫تعامال يقين ًيا قطع ًيا ال تشوبه شائبة‬ ‫األخبار – فيام لو تعددت جهات النقل وكثر الناقلون –‬
‫الشك‪ ،‬وما ذلك إال ملا تنتجه تلك املقدمات من تراكم االحتامالت املو ّلد للجزم واليقني‪.‬‬

‫أن النقطة اجلديرة باالهتامم هي‪ :‬أنه رب قضية متواترة ولكنها ال تكون واضحة لدى‬
‫إال َّ‬
‫اجلميع؛ إذ بعد وضوح َّ‬
‫أن التواتر يتقوم بكثرة النقل والناقلني‪ ،‬فمن اطلع عىل تلك الكثرة‬
‫‪201‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫ارتفعت عنده القيمة االحتاملية لصدق اخلرب حتى تصل إىل القطع واليقني‪ ،‬ولكن من مل يطلع‬
‫عليها َّ‬
‫فإن القضية ال تكون متواترة عنده بطبيعة احلال‪ ،‬وإن كانت متواترة يف نفسها‪.‬‬

‫ولتقريب الفكرة باملثال‪َّ :‬‬


‫فإن حاصل رضب العدد مخسة يف العدد سبعة هو مخسة‬
‫وثالثون‪ ،‬وهذه القضية يقينية قطعية يف علم الرياضيات‪ ،‬إال أنك لو ألقيتها إىل شخص مبتدئ‬
‫يف هذا الفن فإهنا لن تكون واضحة لديه إال بعد أن يقوم بعملية حسابية ذهنية‪ ،‬وحينئذ سيذعن‬
‫بيقينيتها‪ ،‬وهكذا هو األمر يف سائر القضايا اليقينية‪.‬‬

‫أن تواتر القضية عند اجلميع يتوقف عىل ِ‬


‫اال ّطالع عىل عوامل‬ ‫ويتلخص من كل ذلك‪ّ :‬‬
‫التواتر ومناشئه الدخيلة يف توليده لليقني‪.‬‬

‫النقطة الثانية‪ :‬بيان أسباب عدم وضوح قضية التنصيص عىل أسامء األئمة ‪ ‬لدى مجيع‬
‫الشيعة‪.‬‬

‫ويمكن إرجاع ذلك إىل ثالثة عوامل‪:‬‬

‫أ‪ /‬العامل األول‪ :‬اعتامد األئمة سياسة التعتيم عىل أسامء السلسلة االثني عرشية‪ ،‬من أجل‬
‫احلفاظ عليهم ‪ ،‬والشاهدُ عىل ذلك ما رواه الكليني ‪ ‬عن هشام بن سامل أنه بعد أن علم‬
‫بإمامة اإلمام الكاظم ‪ ‬سأله ً‬
‫قائال‪ُ « :‬جعلت فداك‪ ،‬أسألك عام كنت أسأل أباك؟ فقال‪ :‬سل‬
‫ُخت َْرب وال ت ُِذع‪ ،‬فإن أذعت فهو الذبح‪ .‬فسألته فإذا هو بحر ال ينزف‪ ،‬قلت‪ :‬جعلت فداك‪،‬‬

‫أخذت َ ّ‬
‫عَل الكتامن؟ قال‪ :‬من‬ ‫َ‬ ‫شيعتك وشيعة أبيك ُض ّالل فألقي إليهم وأدعوهم إليك‪ ،‬وقد‬
‫آنست منه رشدً ا ِ‬
‫فألق إليه‪ ،‬وخذ عليه الكتامن‪ ،‬فإن أذاعوا فهو الذبح‪ ،‬وأشار بيده إىل حلقه»(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.352‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪202‬‬

‫والذي يؤكد عىل هذا العامل شاهدان‪:‬‬

‫املالحظ عند مقارنة طوائف الروايات الدالة عىل عقيدة َّ‬


‫أن األئمة اثنا‬ ‫َ‬ ‫الشاهد األول‪ّ :‬‬
‫إن‬
‫بأن األئمة اثنا عرش‪ّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫عرش هو التفاوت بينها من حيث الكمية‪ ،‬فالروايات التي رصحت ّ‬
‫تسعة منهم من صلب اإلمام احلسني ‪ ،‬وأهنم من أهل بيت النبي ‪ ...‬إىل غري ذلك من‬
‫فصلت أسامءهم‪ ،‬فالروايات التي‬
‫الطوائف املجملة العامة‪ ،‬نجد أهنا أكثر من الروايات التي ّ‬
‫أمجلت قريبة من الـ ‪ 100‬رواية‪ ،‬بينام الروايات التي فصلت قريبة من الـ ‪ 50‬رواية‪ ،‬وهذا شاهد‬
‫ومنبه عىل تعمد األئمة ‪ ‬التعتيم عىل األسامء وعدم التْصيح هبا لكل أحد‪.‬‬

‫الشاهد الثاين‪ :‬اعتامد األئمة ‪ ‬عىل أسلوب العالمات ملعرفة املعصوم وتشخيصه‪ ،‬فإهنم‬
‫قد ذكروا لتشخيص اإلمام مجلة من العالمات‪ ،‬كحيازته لسالح رسول ‪ ‬ودرعه‪ ،‬وأنه‬
‫ِ‬
‫وعليه فمتى ما توفرت‬ ‫صاحب العلم والعامل بام كان وما يكون‪ ،‬وما إىل ذلك من عالمات‪،‬‬
‫ٍ‬
‫شخص َما من أهل البيت ُعرف أنه هو صاحب األمر‪ ،‬وأنه هو اإلمام احلق‪.‬‬ ‫هذه العالمات يف‬

‫وتركيز األئمة ‪ ‬عىل أسلوب العالمات يف معرفة اإلمام – مع َّ‬


‫أن التنصيص عىل األسامء‬ ‫ُ‬
‫أسلس وأسهل – شاهد آخر عىل اعتامدهم سياسة التعتيم‪.‬‬

‫ب‪ /‬العامل الثاين‪ :‬تفاوت الشيعة أنفسهم – آنذاك – يف االهتامم املعريف‪ ،‬فبعضهم كان‬
‫مهتام‬ ‫مهتام بمعرفة معامل دينه من عقائد وأحكام‪ ،‬وبعضهم مل يكن كذلك‪ ،‬كام َّ‬
‫أن بعضهم كان ً‬ ‫ً‬
‫مهتام بذلك‪ ،‬بل كان يكفيه انتامؤه لألئمة‬
‫بمعرفة أسامء األئمة ‪ ،‬بينام بعضهم اآلخر مل يكن ً‬
‫األطهار ‪ ،‬والبناء عىل االئتامم بإمام احلق أ ًيا كان‪ ،‬فكان يعتمد عىل عامل الوقت ملعرفة‬
‫اإلمام‪ ،‬أو ال يسأل عن ذلك إال عند احلاجة‪ ...‬وهكذا‪ ،‬ومن الطبيعي أن ينعكس هذا التفاوت‬
‫يف االهتامم املعريف عىل معرفة عموم الشيعة بأسامء األئمة ‪ ،‬فيعلمها قوم وجيهلها آخرون‪.‬‬
‫‪203‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫تفرق الرواة واملحدثني من أصحاب األئمة ‪ ‬يف أنحاء البلدان‪َّ ،‬‬


‫فإن‬ ‫ج‪ /‬العامل الثالث‪ّ :‬‬
‫مراكز الشيعة كانت متفرقة حينها‪ ،‬وتب ًعا لتفرقها تفرق الرواة‪ ،‬فبعضهم كان يف خراسان‪،‬‬
‫والبعض يف قم‪ ،‬والبعض يف بغداد‪ ،‬والبعض يف الكوفة‪ ،‬وهكذا يف املدينة والبْصة وغريها من‬
‫األماكن واملراكز‪.‬‬

‫ونظرا لتفرق الرواة يف البلدان‪ ،‬ووجود روايات األسامء عند بعضهم‪ ،‬وضعف التواصل‬
‫ً‬
‫أوجب أن تكون معرفة‬
‫َ‬ ‫بينهم‪ ،‬بسبب ظروف ذلك الزمان وحمدودية إمكانياته‪ّ ،‬‬
‫فإن ذلك‬
‫األسامء املنصوصة مقصورة عىل َمن وصلهم النص من الرواة والشيعة دون غريهم‪.‬‬

‫واحلاصل‪ :‬فمع االلتفات هلذه العوامل واألسباب يزول التعجب عن ظاهرة عدم معرفة‬
‫بعض الشيعة بأسامء أئمة أهل البيت ‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪204‬‬

‫اإلجابة عن اإلشكالية الثالثة‪:‬‬

‫وحمصل اإلشكالية – كام تقدم – هو عدم االنسجام بني دعوى تواتر نصوص االثني‬
‫ّ‬
‫مر هبا بعض أجالء‬
‫عرشية‪ ،‬والتنصيص عىل األئمة ‪ ‬بأسامئهم وأعياهنم‪ ،‬وبني احلرية التي َّ‬
‫أصحاب األئمة الطاهرين ‪ ‬يف معرفة اإلمام الالحق عند رحيل اإلمام السابق‪ ،‬نظري حرية‬
‫زرارة بن أعني ‪ ‬عند موت اإلمام الصادق ‪‬؛ إذ َّ‬
‫أن هذا من املؤرشات الواضحة عىل‬
‫كون العقيدة املذكورة من األوهام التي ال واقع هلا‪.‬‬

‫وقد جرى ديدن أصحاب هذه الشبهة عىل التمسك بعدة نامذج – من كبار األجالء –‬
‫لتثبيت القول بأن تواتر النص عىل أسامئهم ‪ ‬باطل‪ ،‬ومنهم‪:‬‬

‫النموذج األول‪ :‬زرارة بن أعني‪.‬‬

‫فقد روى الشيخ الصدوق ‪ ‬يف (كامل الدين) قال‪« :‬حدثنا أيب ‪ ‬قال‪ :‬حدثنا حممد بن‬
‫حييى العطار‪ ،‬عن حممد بن أمحد بن حييى بن عمران األشعري‪ ،‬عن أمحد بن هالل‪ ،‬عن حممد‬
‫بن عبد اهلل بن زرارة‪ ،‬عن أبيه قال‪ :‬ملَّا بعث زرارة عبيدً ا ابنه إىل املدينة ليسأل عن اخلرب بعد ميض‬
‫فلام اشتد به األمر أخذ املصحف وقال‪ :‬من أثبت إمامته هذا املصحف فهو‬
‫أيب عبد اهلل ‪َّ ،‬‬
‫رب من إرسال زرارة ابنه إىل املدينة‪ ،‬وقوله‪« :‬من أثبت هذا‬
‫إمامي» ‪ ،‬وما اشتمل عليه هذا اخل ُ‬
‫(‪)1‬‬

‫املصحف إمامته فهو إمامي» دليل عىل عدم معرفته باإلمام بعد الصادق ‪.‬‬

‫النموذج الثاين‪ :‬هشام بن سامل‪.‬‬

‫النموذج الثالث‪ :‬مؤمن الطاق‪.‬‬

‫(‪ )1‬كامل الدين ومتام النعمة‪ :‬ص‪.76 - 75‬‬


‫‪205‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫فقد روى الكليني ‪ ‬يف الكايف‪« :‬عن هشام بن سامل قال‪ :‬كنّا باملدينة بعد وفاة أيب عبد‬
‫اهلل ‪ ‬أنا وصاحب الطاق‪ ،‬والناس جمتمعون عىل عبد اهلل بن جعفر أنه صاحب األمر بعد‬
‫أبيه‪ ،‬فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق والناس عنده‪ ،‬وذلك أهنم رووا عن أيب عبد اهلل ‪ ‬أنه‬
‫قال‪" :‬إن األمر يف الكبري ما مل تكن به عاهة"‪ ،‬فدخلنا عليه نسأله عام كنا نسأل عنه أباه‪ ،‬فسألناه‬
‫عن الزكاة يف كم جتب؟ فقال‪ :‬يف مائتني مخسة‪ ،‬فقلنا‪ :‬ففي مائة؟ فقال‪ :‬درمهان ونصف‪ ،‬فقلنا‪:‬‬
‫واهلل ما تقول املرجئة هذا‪ ،‬قال‪ :‬فرفع يده إىل السامء فقال‪ :‬واهلل ما أدري ما تقول املرجئة‪.‬‬

‫ضال ًال ال ندري إىل أين نتوجه أنا وأبو جعفر األحول‪ ،‬فقعدنا يف‬
‫قال‪ :‬فخرجنا من عنده ّ‬
‫بعض أزقة املدينة باكني حيارى ال ندري إىل أين نتوجه؟ وال من نقصد؟ ونقول‪ :‬إىل املرجئة؟‬
‫ً‬
‫شيخا ال‬ ‫إىل القدرية؟ إىل الزيدية؟ إىل املعتزلة؟ إىل اخلوارج؟ فنحن كذلك إذ رأيت ً‬
‫رجال‬
‫إيل بيده‪ ،‬فخفت أن يكون عينًا من عيون أيب جعفر املنصور‪ ،‬وذلك أنه كان له‬
‫أعرفه‪ ،‬يومي ّ‬
‫باملدينة جواسيس ينظرون إىل من اتفقت شيعة جعفر ‪ ‬عليه‪ ،‬فيرضبون عنقه‪ ،‬فخفت أن‬
‫يكون منهم‪ ،‬فقلت لألحول‪ :‬تنح فإين خائف عىل نفيس وعليك‪ ،‬وإنام يريدين ال يريدك‪ ،‬فتنح‬
‫عني ال هتلك وتعني عىل نفسك‪ ،‬فتنحى غري بعيد‪ ،‬وتبعت الشيخ‪ ،‬وذلك أين ظننت أين ال أقدر‬
‫عىل التخلص منه‪ ،‬فام زلت أتبعه وقد عزمت عىل املوت حتى ورد يب عىل باب أيب احلسن ‪،‬‬
‫ثم خالين ومىض‪.‬‬

‫فإذا خادم بالباب فقال يل‪ :‬ادخل رمحك اهلل‪ ،‬فدخلت فإذا أبو احلسن موسى ‪ ،‬فقال‬
‫إيل‬
‫يل ابتداء منه‪ :‬ال إىل املرجئة وال إىل القدرية وال إىل الزيدية وال إىل املعتزلة وال إىل اخلوارج‪ّ ،‬‬
‫إيل‪ ،‬فقلت‪ :‬جعلت فداك مىض أبوك؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قلت‪ :‬مىض موتًا؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قلت‪ :‬فمن لنا‬
‫ّ‬
‫من بعده؟ فقال‪ :‬إن شاء اهلل أن ُّيديك هداك‪ ،‬قلت‪ :‬جعلت فداك َّ‬
‫إن عبد اهلل يزعم أنه من بعد‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪206‬‬

‫أبيه‪ ،‬قال‪ :‬يريد عبد اهلل أن ال يعبد اهلل‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬جعلت فداك فمن لنا من بعده؟ قال‪ :‬إن‬
‫شاء اهلل أن ُّيديك هداك‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬جعلت فداك فأنت هو؟ قال ال‪ ،‬ما أقول ذلك‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فقلت يف نفيس‪ :‬مل أصب طريق املسألة‪ ،‬ثم قلت له‪ :‬جعلت فداك عليك إمام؟ قال‪ :‬ال‪،‬‬
‫فداخلني يشء ال يعلمه إال اهلل ‪ ‬إعظا ًما له وهيبة أكثر مما كان حيل يب من أبيه إذا دخلت عليه‪.‬‬

‫ثم قلت له‪ :‬جعلت فداك أسألك عام كنت أسأل أباك؟ فقال‪ :‬سل خترب وال تذع‪ ،‬فإن‬
‫أذعت فهو الذبح‪ .‬فسألته فإذا هو بحر ال ينزف‪ ،‬قلت‪ :‬جعلت فداك شيعتك وشيعة أبيك‬
‫ُض ّالل فألقي إليهم وأدعوهم إليك‪ ،‬وقد أخذت عَل الكتامن؟ قال‪ :‬من آنست منه رشدً ا ِ‬
‫فألق‬ ‫ّ‬
‫إليه‪ ،‬وخذ عليه الكتامن‪ ،‬فإن أذاعوا فهو الذبح‪ ،‬وأشار بيده إىل حلقه‪.‬‬

‫قال‪ :‬فخرجت من عنده‪ ،‬فلقيت أبا جعفر األحول فقال يل‪ :‬ما وراءك؟ قلت‪ :‬اهلدى‪،‬‬
‫فحدّ ثته بالقصة‪ ،‬قال‪ :‬ثم لقينا الفضيل وأبا بصري فدخال عليه وسمعا كالمه وساءاله وقطعا‬
‫أفواجا‪ ،‬فكل من دخل عليه قطع‪ ،‬إال طائفة عامر وأصحابه‪،‬‬
‫ً‬ ‫عليه باإلمامة‪ ،‬ثم لقينا الناس‬
‫فلام رأى ذلك قال‪ :‬ما حال الناس؟ فأخرب َّ‬
‫أن‬ ‫وبقي عبد اهلل ال يدخل إليه إال قليل من الناس‪َّ ،‬‬
‫هشا ًما صد عنك الناس‪ ،‬قال هشام‪ :‬فأقعد يل باملدينة غري واحد ليرضبوين» (‪.)1‬‬

‫فظهر مما ذكرناه‪َّ :‬‬


‫أن غري واحد من أجالء األصحاب – أمثال‪ :‬زرارة‪ ،‬وهشام بن سامل‪،‬‬
‫وأبو جعفر األحول (مؤمن الطاق) – مل يكونوا عارفني بإمامة اإلمام الكاظم ‪ ،‬بل كانوا‬
‫متحريين بعد وفاة اإلمام الصادق ‪ ، ‬وعليه فحتى لو أغمضنا الطرف عن قضية‬
‫ّ‬ ‫تائهني‬
‫جهل بعض الشيعة بأسامء األئمة ‪ ‬للعوامل املتقدّ مة‪ ،‬إال َّ‬
‫أن قضية جهل األجالء مما ال يمكن‬
‫حمكام عىل عدم صحة دعوى تواتر نصوص األسامء ومعروفيتها‪.‬‬ ‫تربيرها بام تقدّ م‪ ،‬فتبقى ً‬
‫دليال ً‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.352 - 351‬‬


‫‪207‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫ترسب شبهة الزيدية إىل أصحاب نظرية القراءة املنسية‪:‬‬

‫وجدير بالذكر‪َّ :‬‬


‫أن هذه اإلشكالية ليست وليدة اليوم‪ ،‬بل هي مطروحة منذ عرشة قرون‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫ولعل أول من أثارها هم الزيدية‪ ،‬وقد أجاب علامؤنا ‪ ‬عنها وأبطلوها‪ ،‬وب ّينوا زيفها يف‬
‫مصنفاهتم‪ ،‬وممن تناوهلا ووقف عندها الشيخ الصدوق ‪ ‬يف كتابه (كامل الدين ومتام النعمة)‪،‬‬
‫نبني جوابنا عن هذه اإلشكالية‪.‬‬
‫ونحن ننقل نص كالمه‪ ،‬ملا فيه من فوائد كثرية‪ ،‬ثم ّ‬

‫صحيحا ملا‬
‫ً‬ ‫قال الشيخ الصدوق ‪« :‬قالت الزيدية‪ :‬لو كان خرب األئمة االثني عرش‬
‫كان الناس يشكّون بعد الصادق جعفر بن حممد ‪ ‬يف اإلمامة‪ ،‬حتى تقول طائفة من الشيعة‬
‫بعبد اهلل‪ ،‬وطائفة بإسامعيل‪ ،‬وطائفة تتحري‪ ،‬حتى أن الشيعة منهم من امتحن عبد اهلل بن‬
‫فلام مل جيد عنده ما أراد خرج وهو يقول‪ :‬إىل أين؟ إىل املرجئة أم إىل القدرية؟ أم‬
‫الصادق ‪َّ ‬‬
‫إىل احلرورية؟ َّ‬
‫وإن موسى بن جعفر سمعه يقول هذا فقال له‪" :‬ال إىل املرجئة‪ ،‬وال إىل القدرية‪،‬‬
‫إيل"‪.‬‬
‫وال إىل احلرورية‪ ،‬ولكن ّ‬

‫فانظروا من كم وجه يبطل خرب االثني عرش‪:‬‬

‫• أحدها‪ :‬جلوس عبد اهلل لإلمامة‪.‬‬


‫• والثاين‪ :‬إقبال الشيعة إليه‪.‬‬
‫• والثالث‪ :‬حريهتم عند امتحانه‪.‬‬
‫• والرابع‪ :‬أهنم مل يعرفوا أن إمامهم موسى بن جعفر ‪ ‬حتى دعاهم موسى إىل‬
‫نفسه‪ ،‬ويف هذه املدة مات فقيههم زرارة بن أعني‪ ،‬وهو يقول واملصحف عىل‬
‫صدره‪" :‬اللهم إين أئتم بمن أثبت إمامته هذا املصحف"‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪208‬‬

‫إن هذا كله غرور من القول وزخرف‪ ،‬وذلك أنّا مل ند ِع َّ‬


‫أن مجيع الشيعة عرف‬ ‫فقلنا هلم‪َّ :‬‬
‫إن رسول اهلل ‪ ‬أخرب َّ‬
‫أن األئمة‬ ‫يف ذلك العْص األئمة االثني عرش ‪ ‬بأسامئهم‪ ،‬وإنام قلنا‪َّ :‬‬
‫بعده االثنا عرش‪ ،‬الذين هم خلفاؤه‪َّ ،‬‬
‫وأن علامء الشيعة قد رووا هذا احلديث بأسامئهم‪ ،‬وال‬
‫ينكر أن يكون فيهم واحد أو اثنان أو أكثر مل يسمعوا باحلديث‪.‬‬

‫فأما زرارة بن أعني‪ :‬فإنه مات قبل انْصاف من كان وفده ليعرف اخلرب‪ ،‬ومل يكن سمع‬
‫بالنص عىل موسى بن جعفر ‪ ‬من حيث قطع اخلرب عذره‪ ،‬فوضع املصحف الذي هو القرآن‬
‫عىل صدره‪ ،‬وقال‪ :‬اللهم إين أئتم بمن يثبت هذا املصحف إمامته‪ ،‬وهل يفعل الفقيه املتد ّين‬
‫عند اختالف األمر عليه إال ما فعله زرارة؟!‬

‫عىل أنه قد قيل‪ :‬إن زرارة قد كان علم بأمر موسى بن جعفر ‪ ‬وبإمامته‪ ،‬وإنام بعث ابنه‬
‫عبيدا ليتعرف من موسى بن جعفر ‪ :‬هل جيوز له إظهار ما يعلم من إمامته؟ أو يستعمل‬
‫التقية يف كتامنه؟ وهذا أشبه بفضل زرارة بن أعني وأليق بمعرفته‪.‬‬

‫حدثنا أمحد بن زياد بن جعفر اهلمداين ‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا عَل بن إبراهيم بن هاشم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫حدثني حممد بن عيسى بن عبيد‪ ،‬عن إبراهيم بن حممد اهلمداين ‪ ،‬قال‪ :‬قلت للرضا ‪ :‬يا‬
‫ابن رسول اهلل أخربين عن زرارة‪ ،‬هل كان يعرف حق أبيك ‪‬؟ فقال‪ :‬نعم‪ ،‬فقلت له‪ :‬فلم‬
‫بعث ابنه عبيدً ا ليتعرف اخلرب إىل من أوّص الصادق جعفر بن حممد ‪‬؟ فقال‪َّ :‬‬
‫إن زرارة كان‬
‫ونص أبيه عليه‪ ،‬وإنام بعث ابنه ليتعرف من أيب ‪ ‬هل جيوز له أن يرفع‬
‫يعرف أمر أيب ‪ّ ‬‬
‫ونص أبيه عليه؟ وأنه ملَّا أبطأ عنه ابنه طولب بإظهار قوله يف أيب ‪ ‬فلم‬
‫التقية يف إظهار أمره ّ‬
‫حيب أن يقدم عىل ذلك دون أمره‪ ،‬فرفع املصحف وقال‪ :‬اللهم َّ‬
‫إن إمامي من أثبت هذا‬
‫املصحف إمامته من ولد جعفر بن حممد ‪.‬‬
‫‪209‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫واخلرب الذي احتجت به الزيدية ليس فيه َّ‬


‫أن زرارة مل يعرف إمامة موسى بن جعفر ‪،‬‬
‫وإنام فيه أنه بعث ابنه عبيدً ا ليسأل عن اخلرب‪.‬‬

‫حدثنا أيب ‪ ‬قال‪ :‬حدثنا حممد بن حييى العطار‪ ،‬عن حممد بن أمحد بن حييى بن عمران‬
‫األشعري‪ ،‬عن أمحد بن هالل‪ ،‬عن حممد بن عبد اهلل بن زرارة‪ ،‬عن أبيه قال‪ :‬ملَّا بعث زرارة‬
‫فلام اشتد به األمر أخذ‬
‫عبيدً ا ابنه إىل املدينة ليسأل عن اخلرب بعد ميض أيب عبد اهلل ‪َّ ،‬‬
‫املصحف وقال‪ :‬من أثبت إمامته هذا املصحف فهو إمامي‪.‬‬

‫وهذا اخلرب ال يوجب أنه مل يعرف‪ ،‬عىل َّ‬


‫أن راوي هذا اخلرب أمحد بن هالل‪ ،‬وهو جمروح‬
‫عند مشاخينا ‪.)1( »‬‬

‫وبعد أن أحطنا بام أفاده الشيخ الصدوق ‪ - ‬وهو مهم جدً ا‪ ،‬كام ظهر – نرشع يف بيان‬
‫جوابنا عن اإلشكالية‪.‬‬

‫عودة إىل رحاب اإلجابة عن اإلشكالية الثالثة‪:‬‬

‫واجلواب يرتكز عىل بيان مقدمات أربع‪:‬‬


‫ُ‬

‫أ‪ /‬املقدمة األوىل‪َّ :‬‬


‫إن ما زعمه بعضهم من وقوع أجالء األصحاب وكبار الرواة يف احلرية‬
‫بعد شهادة اإلمام الصادق ‪ ‬وعدم معرفتهم باإلمام الكاظم ‪ ‬هلو من املبالغات‬
‫أن عدم معرفة الواحد أو الثالثة من األصحاب ال يعني َّ‬
‫أن‬ ‫الواضحة‪ ،‬والواقع عىل خالفه؛ إذ َّ‬
‫جل األصحاب بل ّ‬
‫جل األجالء عىل هذا احلال‪.‬‬ ‫ّ‬

‫(‪ )1‬كامل الدين ومتام النعمة‪ :‬ص‪.76 - 74‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪210‬‬

‫والشاهد عىل ذلك‪ :‬ما ذكره سعد بن عبد اهلل األشعري ‪ - ‬وهو من أصحاب اإلمام‬
‫العسكري ‪ - ‬يف كتابه (الفرق واملقاالت)‪ ،‬حيث قال‪:‬‬

‫«وقالت الفرقة السادسة‪ :‬إن اإلمام موسى بن جعفر بعد أبيه‪ ،‬وأنكروا إمامة عبد اهلل‪،‬‬
‫وخ ّطؤوه يف جلوسه جملس أبيه وا ّدعائه اإلمامة‪ ،‬وكان فيهم من وجوه أصحاب جعفر بن حممد‬
‫مثل‪ :‬هشام بن سامل اجلواليقي‪ ،‬وعبد اهلل بن أيب يعفور‪ ،‬وعمر بن يزيد بياع السابري‪ ،‬وحممد‬
‫بن نعامن أيب جعفر األحول مؤمن الطاق‪ ،‬وعبيد بن زرارة بن أعني‪ ،‬ومجيل بن دراج‪ ،‬وأبان بن‬
‫تغلب‪ ،‬وهشام بن احلكم‪ ،‬وغريهم من وجوه شيعته وأهل العلم منهم والفقه والنظر‪ ،‬وهم‬
‫الذين قالوا بإمامة موسى بن جعفر عند وفاة أبيه‪ ،‬إىل أن رجع إليهم عامة أصحاب جعفر عند‬
‫وفاة عبد اهلل‪ ،‬فاجتمعوا مجي ًعا عىل إمامة موسى» (‪.)1‬‬

‫وهذا الكالم وثيقة مهمة جدً ا‪ ،‬وهو رصيح يف َّ‬


‫أن عامة أصحاب أيب عبد اهلل الصادق ‪‬‬
‫أيضا يف أن من قيل يف‬
‫وأجالءهم كانوا عىل القول بإمامة موسى بن جعفر ‪ ،‬بل هو رصيح ً‬
‫حقهم بأهنم احتاروا يف أمر اإلمام بعد الصادق ‪ ‬كانوا قائلني بإمامة اإلمام الكاظم ‪.‬‬

‫مر هبا اإلمام الكاظم ‪ ‬وشيعة أهل البيت آنذاك‬ ‫ب‪ /‬املقدمة الثانية‪َّ :‬‬
‫إن املحنة التي َّ‬
‫كانت أشد حمنة وأقسى مرحلة وأصعب فرتة عاشها أحد املعصومني‪َّ ،‬‬
‫فإن السجن والتضييق‬
‫والتنكيل باإلمام وشيعته قد بلغ الذروة يف عهد اإلمام الكاظم ‪ ،‬ولنا عىل ذلك ستة‬
‫شواهد‪:‬‬

‫الشاهد األول‪ :‬تأكيد اإلمام الصادق ‪ ‬عىل تداول النص عىل اإلمام الكاظم ‪ ‬يف‬
‫خاصة أصحابه وخ ّلصهم؛ حفا ًظا عىل حياة اإلمام الكاظم ‪.‬‬
‫نطاق ّ‬

‫(‪ )1‬املقاالت والفرق‪ :‬ص‪.89 - 88‬‬


‫‪211‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫ومن ذلك‪ :‬ما رواه الكليني ‪ ‬عن املفضل بن عمر قال‪« :‬كنت عند أيب عبد اهلل ‪‬‬
‫ِ‬
‫استوص به‪ ،‬وضع أمره عند من تثق به من‬ ‫فدخل أبو إبراهيم ‪ ‬وهو غالم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫أصحابك» (‪.)1‬‬

‫ومن ذلك‪ :‬ما رواه الكليني ‪ ‬بسند معترب عن فيض بن املختار‪ ،‬يف حديث طويل يف‬
‫أمر أيب احلسن ‪ ،‬جاء فيه َّ‬
‫أن اإلمام الصادق ‪ ‬قال له‪« :‬هو صاحبك الذي سألت عنه‪،‬‬
‫فأقر له بحقه‪ ،‬فقمت حتى ق ّبلت رأسه ويده ودعوت اهلل ‪ ‬له‪ ،‬فقال أبو عبد اهلل ‪:‬‬
‫فقم إليه ّ‬
‫أما إنه مل يؤذن لنا يف أول منك‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬جعلت فداك فأخرب به أحدً ا؟ فقال‪ :‬نعم أهلك‬
‫فلام أخربهتم‬
‫وولدك‪ ،‬وكان معي أهَل وولدي ورفقائي‪ ،‬وكان يونس بن ظبيان من رفقائي‪َّ ،‬‬
‫محدوا اهلل ‪ ،‬وقال يونس‪ :‬ال واهلل حتى أسمع ذلك منه‪ ،‬وكانت به عجلة‪ ،‬فخرج فأتبعته‪،‬‬
‫فلام انتهيت إىل الباب سمعت أبا عبد اهلل ‪ ‬يقول له‪ - :‬وقد سبقني إليه ‪ -‬يا يونس األمر كام‬
‫َّ‬
‫قال لك فيض‪ ،‬قال‪ :‬فقال‪ :‬سمعت وأطعت‪ ،‬فقال يل أبو عبد اهلل ‪ :‬خذه إليك يا فيض»(‪.)2‬‬

‫الشاهد الثاين‪ :‬متويه اإلمام الصادق ‪ ‬عىل الويص بعده‪ ،‬وهو ما رواه الكليني ‪:‬‬
‫إيل أبو جعفر املنصور يف جوف الليل‪ ،‬فأتيته فدخلت عليه‬
‫«عن أيب أيوب النحوي قال‪ :‬بعث ّ‬
‫فلام سلمت عليه رمى بالكتاب‬
‫وهو جالس عىل كريس وبني يديه شمعة ويف يده كتاب‪ ،‬قال‪َّ :‬‬
‫إيل وهو يبكي‪ ،‬فقال يل‪ :‬هذا كتاب حممد بن سليامن خيربنا َّ‬
‫أن جعفر بن حممد قد مات‪ ،‬فإنا هلل‬ ‫ّ‬
‫وإنا إليه راجعون ‪ -‬ثال ًثا ‪ -‬وأين مثل جعفر؟! ثم قال يل‪ :‬اكتب‪ ،‬قال‪ :‬فكتبت صدر الكتاب‪،‬‬
‫ثم قال‪ :‬اكتب "إن كان أوّص إىل رجل واحد بعينه فقدّ مه وارضب عنقه"‪ ،‬قال‪ :‬فرجع إليه‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.308‬‬


‫(‪ )2‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.309‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪212‬‬

‫اجلواب أنه قد أوّص إىل مخسة‪ ،‬وأحدهم أبو جعفر املنصور‪ ،‬وحممد بن سليامن وعبد اهلل‬
‫وموسى ومحيدة» (‪.)1‬‬

‫الشاهد الثالث‪ :‬االستنفار األمني بح ًثا عن اإلمام الذي جتتمع عليه كلمة الشيعة بعد‬
‫شهادة اإلمام الصادق ‪ ، ‬ويدل عليه ما تقدم عند ذكر ما جرى هلشام بن سامل‪ ،‬حيث قال‪:‬‬
‫إيل بيده‪ ،‬فخفت أن يكون عينًا من عيون‬
‫شيخا ال أعرفه‪ ،‬يومي ّ‬ ‫«فنحن كذلك إذ رأيت ً‬
‫رجال ً‬
‫أيب جعفر املنصور‪ ،‬وذلك أنه كان له باملدينة جواسيس ينظرون إىل من اتّفقت شيعة جعفر ‪‬‬
‫عليه‪ ،‬فيرضبون عنقه»‪.‬‬

‫الشاهد الرابع‪ :‬حتذير اإلمام الكاظم ‪ ‬من املجاهرة بإمامته وإعالهنا إال خلواص‬
‫املؤمنني املوثوقني‪ ،‬ويشهد لذلك قوله املتقدم هلشام‪« :‬قال‪ :‬من آنست منه رشدً ا ِ‬
‫فألق إليه‪ ،‬وخذ‬
‫عليه الكتامن‪ ،‬فإن أذاعوا فهو الذبح ‪ -‬وأشار بيده إىل حلقه ‪.)2( »-‬‬

‫الشاهد اخلامس‪ :‬التكنية عن اسم اإلمام الكاظم ‪ ‬من قبل الرواة حني حيدّ ثون عنه‪،‬‬
‫كتكنيته ‪ ‬بالعبد الصالح‪ ،‬والعامل‪ ،‬والفقيه‪ ،‬والشيخ‪ ،‬والرجل‪ ،‬وأيب احلسن‪ ،‬وأيب احلسن‬
‫نص علامء‬
‫األول‪ ،‬وأيب احلسن املايض‪ ،‬واملايض‪ ،‬وأيب إبراهيم‪ ،‬وهكذا‪ ،‬وهذه الظاهرة ‪-‬كام ّ‬
‫احلديث‪ -‬مل تكن موجودة إال يف التحديث عن اإلمام الكاظم ‪.‬‬

‫تعجب الرواة وأصحاب األئمة ‪ ‬من جماهرة اإلمام الرضا ‪‬‬


‫الشاهد السادس‪ّ :‬‬
‫بإمامته وإعالنه هلا‪ ،‬والروايات يف ذلك كثرية‪ ،‬ومنها ما رواه الشيخ املفيد يف اإلرشاد بسند‬
‫صحيح عن صفوان بن حييى‪ ،‬قال‪« :‬ملَّا مىض أبو إبراهيم ‪ ،‬وتكلم أبو احلسن الرضا ‪‬‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.310‬‬


‫(‪ )2‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.352 - 351‬‬
‫‪213‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫عظيام‪ ،‬وإنا نخاف عليك هذا الطاغية‪،‬‬


‫ً‬ ‫أمرا‬
‫خفنا عليه من ذلك‪ ،‬فقيل له‪ :‬إنك قد أظهرت ً‬
‫مر‬ ‫يدل عىل َّ‬
‫أن ذلك الظرف العصيب الذي ّ‬ ‫عَل» (‪ ،)1‬وهذا ّ‬
‫فقال‪ :‬ليجهد جهده فال سبيل له ّ‬
‫به اإلمام الكاظم ‪ ‬وشيعته قد انتهى برحيله ‪ ‬وبدأت مرحلة جديدة مزامنة إلمامة‬
‫اإلمام الرضا ‪.‬‬

‫وعىل ضوء هذه الشواهد الستة ُيقال‪َّ :‬‬


‫إن فهم ظروف هذه املرحلة العصيبة – مع مالحظة‬
‫ما تقدّ م من جواب الشيخ الصدوق ‪ - ‬ممّا يساعد جدً ا يف فهم موقف بعض أصحاب األئمة‬
‫‪ ‬وما نُسب إليهم من احلرية‪.‬‬

‫ج‪ /‬املقدمة الثالثة‪ :‬جريان البداء يف إمامة إسامعيل‪.‬‬

‫فقد ورد عن اإلمام الصادق ‪« :‬ما بدا هلل يف يشء كام بدا له يف إسامعيل ابني» (‪،)2‬‬
‫ً‬
‫تعويال عىل‬ ‫وتوضيح ذلك‪َّ :‬‬
‫أن بعض الشيعة وأصحاب اإلمام الصادق ‪ ‬كانوا يعتقدون –‬
‫أن اإلمامة يف ولده (إسامعيل)؛ إذ َّ‬
‫أن واحدة من تلكم العالمات أن يكون‬ ‫نصوص العالمات – َّ‬

‫اإلمام أكرب ولد أبيه‪.‬‬

‫متاحا إال للخاصة – كام تقدّ م – تأكّد‬ ‫وبام َّ‬


‫أن النص عىل إمامة اإلمام الكاظم ‪ ‬مل يكن ً‬
‫عندهم َّ‬
‫أن اإلمامة إلسامعيل‪ ،‬ومل ينكشف هلم خطأ اعتقادهم إال حني تويف يف حياة والده ‪،‬‬
‫حريصا عىل اقتالع وهم شبهة إمامته من األذهان‪.‬‬
‫ً‬ ‫وقد كان اإلمام الصادق ‪‬‬

‫وعن ذلك يتحدث زرارة فيقول‪« :‬دخلت عىل أيب عبد اهلل ‪ ‬وعن يمينه سيد ولده‬
‫موسى ‪ ‬وقدامه مرقد مغطى‪ ،‬فقال يل‪ :‬يا زرارة‪ ،‬جئني بداود بن كثري الرقي ومحران وأيب‬

‫(‪ )1‬اإلرشاد‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.255‬‬


‫(‪ )2‬كامل الدين ومتام النعمة‪ :‬ص‪.69‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪214‬‬

‫بصري‪ ،‬ودخل عليه املفضل بن عمر‪ ،‬فخرجت فأحرضته من أمرين بإحضاره‪ ،‬ومل يزل الناس‬
‫فلام حشد املجلس قال‪ :‬يا داود‪،‬‬ ‫يدخلون واحدً ا إثر واحد حتى رصنا يف البيت ثالثني ً‬
‫رجال‪َّ ،‬‬
‫اكشف يل عن وجه إسامعيل‪ ،‬فكشفت عن وجهه‪ ،‬فقال أبو عبد اهلل ‪ :‬يا داود‪ ،‬أحي هو أم‬
‫ميت؟ قال داود‪ :‬يا موالي‪ ،‬هو ميت‪ ،‬فجعل يعرض ذلك عىل رجل رجل حتى أتى عىل آخر‬
‫من يف املجلس وانتهى عليهم بأرسهم‪ ،‬كل يقول‪ :‬هو ميت يا موالي‪ .‬فقال‪ :‬اللهم اشهد‪ ،‬ثم‬
‫فلام فرغ منه قال للمفضل‪ :‬يا مفضل‪ ،‬احرس عن وجهه‪،‬‬ ‫أمر بغسله وحنوطه وإدراجه يف أثوابه‪َّ ،‬‬
‫فحرس عن وجهه‪ ،‬فقال‪ :‬أحي هو أم ميت؟ فقال‪ :‬ميت‪ .‬قال‪ :‬اللهم اشهد عليهم‪ ،‬ثم ُمحِل إىل‬
‫فلام ُو ِضع يف حلده‪ ،‬قال‪ :‬يا مفضل‪ ،‬اكشف عن وجهه‪ ،‬وقال للجامعة‪ :‬أحي هو أم ميت؟‬
‫قربه‪َّ ،‬‬
‫قلنا له‪ :‬ميت‪ .‬فقال‪ :‬اللهم اشهد واشهدوا‪ ،‬فإنه سريتاب املبطلون» (‪.)1‬‬

‫بل ُيستفاد من بعض األخبار‪ :‬أنه ‪ ‬كان يأمر بإنزال جنازته عن الرقاب مرات عديدة‪،‬‬
‫ويف كل مرة كان يأمر بكشف وجهه ويقبله‪ ،‬ثم يأمر بحمله‪.‬‬

‫وهذا هو معنى (ما بدا هلل) يف الرواية املتقدمة‪ ،‬وبتعبري الشيخ الصدوق ‪« :‬ما ظهر هلل‬
‫أمر كام ظهر له يف إسامعيل ابني؛ إذ اخرتمه قبَل؛ ليعلم بذلك أنه ليس بإمام بعدي» (‪.)2‬‬

‫يمر هبا تاريخ اإلمامة‬ ‫والنكتة املهمة يف املقام هي‪َّ :‬‬


‫أن هذه احلادثة هي أول حادثة بداء ه‬
‫الشيعية‪ ،‬ثم تلتها – بعد سنوات طويلة – حادثة وفاة السيد حممد بن اإلمام اهلادي ‪ ‬يف حياة‬
‫أبيه‪ ،‬وظهور إمامة أخيه اإلمام العسكري ‪.‬‬

‫(‪ )1‬الغيبة‪ ،‬للنعامين‪ :‬ص‪.347‬‬


‫(‪ )2‬التوحيد‪ :‬ص‪.336‬‬
‫‪215‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫ج‪ /‬املقدمة الرابعة‪َّ :‬‬


‫إن الرواة كانوا مأمورين بكتامن نصوص األسامء إال عن اخلواص‪،‬‬
‫ويشهد لذلك شاهدان‪:‬‬

‫الشاهد األول‪ :‬قول اإلمام الصادق ‪ ‬إلسحاق بن عامر – بعد أن أطلعه عىل مضمون‬
‫الصحيفة التي بإمالء رسول اهلل ‪ ‬وخط أمري املؤمنني ‪ ،‬وفيها أسامء األئمة ‪« :– ‬يا‬
‫إسحاق‪ ،‬أال أبرشك؟ قلت‪ :‬بىل جعلت فداك يا ابن رسول اهلل‪ ،‬فقال‪ :‬وجدنا صحيفة بإمالء‬
‫رسول اهلل ‪ ‬وخط أمري املؤمنني ‪ ‬فيها‪ :‬بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬هذا كتاب من اهلل العزيز‬
‫احلكيم – وذكر حديث اللوح – ثم قال ‪ :‬يا إسحاق هذا دين املالئكة والرسل‪ ،‬فصنه عن‬
‫غري أهله يصنك اهلل‪ ،‬ويصلح بالك‪ ،‬ثم قال ‪ :‬من دان هبذا أمن عقاب اهلل ‪.)1( »‬‬

‫الشاهد الثاين‪ :‬قول أيب بصري لعبد الرمحن بن سامل بعد أن حدّ ثه بحديث اللوح‪« :‬لو مل‬
‫تسمع يف دهرك إال هذا احلديث لكفاك‪ ،‬فصنه إال عن أهله» (‪ ،)2‬وفيه داللة عىل َّ‬
‫أن أصحاب‬
‫األئمة ‪ ‬كانوا يتناقلون تلك التوصيات بينهم‪ ،‬وال يذيعون نصوص األسامء ألي أحد‪.‬‬

‫(‪ )1‬كامل الدين‪ :‬ص‪.312‬‬


‫(‪ )2‬الكايف‪ ،528 / 1 :‬وإليك احلديث ً‬
‫كامال‪ :‬عن عبد الرمحن بن سامل‪ ،‬عن أيب بصري‪ ،‬عن أيب عبد اهلل ‪ ‬قال‪« :‬قال أيب جلابر بن‬

‫عبد اهلل األنصاري‪ :‬إن يل إليك حاجة‪ ،‬فمتى خيف عليك أن أخلو بك فأسألك عنها؟ فقال له جابر‪ :‬أي األوقات أحببته‪ ،‬فخال به‬

‫يف بعض األيام فقال له‪ :‬ي ا جابر أخربين عن اللوح الذي رأيته يف يد أمي فاطمة ‪ ‬بنت رسول اهلل ‪ ،‬وما أخربتك به أمي أنه يف‬

‫ذلك اللوح مكتوب‪ ،‬فقال جابر‪ :‬أشهد باهلل أين دخلت عىل أمك فاطمة ‪ ‬يف حياة رسول اهلل ‪ ،‬فهنيتها بوالدة احلسني‪ ،‬ورأيت‬

‫لوحا أخرض‪ ،‬ظننت أنه من زمرد‪ ،‬ورأيت فيه كتا ًبا أبيض شبه لون الشمس‪ ،‬فقلت هلا‪ :‬بأيب وأمي يا بنت رسول اهلل ‪ ،‬ما‬
‫يف يدُّيا ً‬

‫هذا اللوح؟ فقالت‪ :‬هذا لوح أهداه اهلل إىل رسول اهلل ‪ ،‬فيه اسم أيب واسم بعَل واسم ابني واسم األوصياء من ولدي‪ ،‬وأعطانيه‬

‫أيب ليبرشين بذلك‪ ،‬قال جابر‪ :‬فأعطتنيه أمك فاطمة ‪ ‬فقرأته واستنسخته‪ ،‬فقال له أيب‪ :‬فهل لك يا جابر‪ :‬أن تعرضه عَل؟ قال‪ :‬نعم‪،‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪216‬‬

‫فمشى معه أيب إىل منزل جابر فأخرج صحيفة من رق‪ ،‬فقال‪ :‬يا جابر انظر يف كتابك ألقرأ [أنا] عليك‪ ،‬فنظر جابر يف نسخته فقرأه‬

‫أيب فام خالف حرف حر ًفا‪ ،‬فقال جابر‪ :‬فأشهد باهلل أين هكذا رأيته يف اللوح مكتو ًبا‪.‬‬

‫بسم ا هلل الرمحن الرحيم‪ ،‬هذا كتاب من اهلل العزيز احلكيم ملحمد نبيه ونوره وسفريه وحجابه ودليله‪ ،‬نزل به الروح األمني من عند‬

‫رب العاملني‪ ،‬ع ّظم يا حممد أسامئي واشكر نعامئي وال جتحد آالئي‪ ،‬إين أنا اهلل ال إله إال أنا قاصم اجلبارين ومديل املظلومني ود ّيان‬

‫وعَل‬
‫ّ‬ ‫الدين‪ ،‬إين أنا اهلل ال إله إال أنا‪ ،‬فمن رجا غري فضَل أو خاف غري عديل‪ ،‬عذبته عذا ًبا ال أعذبه أحدً ا من العاملني‪ ،‬فإياي فاعبد‬

‫فتوكل‪ ،‬إين مل أبعث نب ًيا فأكملت أيامه وانقضت مدته إال جعلت له وص ًيا‪ ،‬وإين فضلتك عىل األنبياء وفضلت وصيك عىل األوصياء‪،‬‬

‫وأكرمتك بشبليك وسبطيك حسن وحسني‪ ،‬فجعلت حسنًا معدن علمي‪ ،‬بعد انقضاء مدة أبيه‪ ،‬وجعلت حسينًا خازن وحيي‪،‬‬

‫وأكرمته بالشهادة وختمت له بالسعادة‪ ،‬فهو أفضل من استشهد وأرفع الشهداء درجة‪ ،‬جعلت كلمتي التامة معه وحجتي البالغة‬

‫عنده‪ ،‬بعرتته أثيب وأعاقب‪ ،‬أوهلم عَل سيد العابدين وزين أوليائي املاضني‪ ،‬وابنه شبه جده املحمود حممد الباقر علمي واملعدن‬

‫حلكمتي‪ ،‬سيهلك املرتابون يف جعفر‪ ،‬الراد عليه كالراد عَل‪ ،‬حق القول مني ألكرمن مثوى جعفر وألرسنه يف أشياعه وأنصاره‬

‫وأوليائه‪ ،‬أتيحت بعده موسى فتنة عمياء حندس‪ ،‬ألن خيط فريض ال ينقطع وحجتي ال ختفى‪ ،‬وأن أوليائي يسقون بالكأس األوف‪،‬‬

‫عَل‪ ،‬ويل للمفرتين اجلاحدين عند انقضاء مدة موسى‬


‫غري آية من كتايب فقد افرتى ّ‬
‫من جحد واحدً ا منهم فقد جحد نعمتي‪ ،‬ومن ّ‬
‫عبدي وحبيبي وخرييت يف عَل وليي ونارصي‪ ،‬ومن أضع عليه أعباء النبوة‪ ،‬وأمتحنه باالضطالع هبا‪ ،‬يقتله عفريت مستكرب‪ ،‬يدفن‬

‫يف املد ينة التي بناها العبد الصالح إىل جنب رش خلقي‪ ،‬حق القول مني ألرسنه بمحمد ابنه وخليفته من بعده ووارث علمه‪ ،‬فهو‬

‫معدن علمي وموضع رسي وحجتي عىل خلقي‪ ،‬ال يؤمن عبد به إال جعلت اجلنة مثواه‪ ،‬وشفعته يف سبعني من أهل بيته كلهم قد‬

‫استوجبوا النار‪ ،‬وأختم بالسعادة البنه عَل وليي ونارصي والشاهد يف خلقي وأميني عىل وحيي‪ ،‬أخرج منه الداعي إىل سبيَل‬

‫واخلازن لعلمي احلسن‪ ،‬وأكمل ذلك بابنه (م ح م د) رمحة للعاملني‪ ،‬عليه كامل موسى وهباء عيسى وصرب أيوب‪ ،‬فيذل أوليائي يف‬

‫زمانه‪ ،‬وتتهادى رؤوسهم كام تتهادى رؤوس الرتك والديلم‪ ،‬فيقتلون وحيرقون و يكونون خائفني مرعوبني وجلني‪ ،‬تصبغ األرض‬

‫بدمائهم‪ ،‬ويفشو الويل والرنا يف نسائهم‪ ،‬أولئك أوليائي ح ًقا‪ ،‬هبم أدفع كل فتنة عمياء حندس‪ ،‬وهبم أكشف الزالزل وأدفع اآلصار‬

‫واألغالل‪ ،‬أولئك عليهم صلوات من رهبم ورمحة وأولئك هم املهتدون‪.‬‬

‫قال عبد الرمحن بن سامل‪ :‬قال أبو بصري‪ :‬لو مل تسمع يف دهرك إال هذا احلديث لكفاك‪ ،‬فصنه إال عن أهله»‪.‬‬
‫‪217‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫ُ‬
‫نتيجة املقدمات األربع‪:‬‬

‫َّ‬
‫إن أجالء األصحاب الذين حصلت هلم حرية بعد وفاة اإلمام الصادق ‪ ،‬وهم قلة‬
‫جدً ا – بمقتىض املقدمة األوىل املتقدمة – ُحيتمل يف ّ‬
‫حقهم أحد احتامالت ثالثة‪ ،‬وكلها ال تتناف‬
‫مع استفاضة نصوص األسامء وتواترها‪ ،‬وإليك هذه االحتامالت‪:‬‬

‫االحتامل األول‪ :‬أن تكون حريهتم – بمقتىض املقدمة الثانية – حرية صورية‪ ،‬ال واقعية‪،‬‬
‫كام حصل ذلك لزرارة بن أعني‪ ،‬ويمكن أن ُيستدل لذلك بمعتربة إبراهيم بن حممد اهلمداين‪:‬‬
‫«قال‪ :‬قلت للرضا ‪ :‬يا ابن رسول اهلل أخربين عن زرارة هل كان يعرف حق أبيك ‪‬؟‬
‫فقال‪ :‬نعم‪ ،‬فقلت له‪ :‬فلم بعث ابنه عبيدً ا ليتعرف اخلرب إىل من أوّص الصادق جعفر بن حممد‬
‫‪‬؟ فقال‪ :‬إن زرارة كان يعرف أمر أيب ‪ ‬ونص أبيه عليه‪ ،‬وإنام بعث ابنه ليتعرف من أيب‬
‫‪ ‬هل جيوز له أن يرفع التقية يف إظهار أمره ونص أبيه عليه‪ ،‬وأنه ملَّا أبطأ عنه ابنه طولب‬
‫بإظهار قوله يف أيب ‪ ‬فلم حيب أن يقدم عىل ذلك دون أمره‪ ،‬فرفع املصحف وقال‪ :‬اللهم إن‬
‫إمامي من أثبت هذا املصحف إمامته من ولد جعفر بن حممد ‪.)1( »‬‬

‫أن التْصف املذكور إنام صدر عن زرارة يف ّ‬


‫ظل ظروف مع ّينة‬ ‫فإن الظاهر من هذه القضية َّ‬
‫َّ‬
‫قد أجربته عليه‪ ،‬ال ألجل عدم معرفته باإلمام الالحق‪ ،‬وتنبغي اإلشارة إىل ّ‬
‫أن ظروف التق ّية مل‬
‫تكن من ناحية زرارة ‪ ،‬وإنام كانت من ناحية اإلمام موسى بن جعفر ‪ ،‬كام يشهد بذلك‪:‬‬
‫ما نقله الشيخ ابن شهر آشوب ‪ ‬عن «داود بن كثري الرقي قال‪ :‬أتى أعرايب إىل أيب محزة الثاميل‬
‫فلام َ‬
‫أفاق قال‪ :‬هل أوّص‬ ‫تويف جعفر الصادق‪ ،‬فشهق شهقة وأغمي عليه‪َّ ،‬‬
‫ربا‪ ،‬فقال‪ّ :‬‬
‫فسأله خ ً‬
‫إىل أحد؟ قال‪ :‬نعم أوّص إىل ابنه عبد اهلل وموسى وأيب جعفر املنصور‪ ،‬فضحك أبو محزة‪،‬‬

‫(‪ )1‬كامل الدين‪ :‬ص‪.75‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪218‬‬

‫وبني لنا عن الكبري‪ ،‬ود ّلنا عىل الصغري‪ ،‬وأخفى عن‬


‫وقال‪ :‬احلمد هلل الذي هدانا إىل املهدي‪ّ ،‬‬
‫أمر عظيم‪ ،‬فسئل عن قوله‪ ،‬فقال‪ّ :‬بني عيوب الكبري‪ّ ،‬‬
‫ودل عىل الصغري‪ ،‬إلضافته إياه‪ ،‬وكتم‬
‫الوصية للمنصور‪ ،‬ألنه لو سأل املنصور عن الويص لقيل أنت‪.‬‬

‫فلام أتاه رمى كتا ًبا إليه وهو‬


‫ودعا أبو جعفر املنصور يف جوف الليل أبا أيوب النحوي‪َّ ،‬‬
‫يبكي‪،‬وقال‪ :‬هذا كتاب حممد بن سليامن خيربنا بأن جعفر بن حممد قد مات‪ ،‬فإنا هلل وإنا إليه‬
‫راجعون‪ ،‬وأين مثل جعفر!! ثم قال له‪ :‬اكتب إن كان أوّص إىل رجل بعينه فقدّ مه وارضب‬
‫عنقه‪ .‬فكتب وعاد اجلواب‪ :‬قد أوّص إىل مخسة‪ :‬أحدهم أبو جعفر املنصور‪ ،‬وحممد بن سليامن‪،‬‬
‫و عبد اهلل‪ ،‬وموسى‪ ،‬ومحيد‪ ،‬قال املنصور‪ :‬ما إىل قتل هؤالء سبيل» (‪.)1‬‬

‫ومن هذا تعرف َّ‬


‫أن تْصف زرارة بن أعني ‪ ‬إنام كان ألجل احلفاظ عىل حياة باب‬
‫احلوائج موسى بن جعفر ‪‬؛ إذ َّ‬
‫أن حياته ‪ ‬الرشيفة كانت يف معرض التهديد‪ ،‬وال غرو‬

‫أن يكون زرارة بن أعني ‪ – ‬وهو املحيط بأرسار أهل البيت ‪ – ‬قد ُأ َ‬
‫ويص من قبلهم بعدم‬
‫التْصيح بإمامة اإلمام الكاظم ‪ ‬حفا ًظا عىل حياته املقدّ سة‪.‬‬

‫حق زرارة –بمقتىض هذه الرواية–‬ ‫صح ثبوته يف ّ‬ ‫وإذا عرفت ذلك‪َّ ،‬‬
‫فإن هذا االحتامل كام َّ‬
‫حق غريه من األجالء الذين ن ُِس َبت احلرية هلم؛ َّ‬
‫فإن حكم األمثال فيام‬ ‫كذلك هو حمتمل جدً ا يف ّ‬
‫جيوز وما ال جيوز واحد‪.‬‬

‫(‪ )1‬مناقب آل أيب طالب‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.435‬‬


‫‪219‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫روايات حرية زرارة يف اإلمامة حتت األضواء‪:‬‬

‫التحري يف أمر اإلمامة‪ ،‬فال بأس أن‬


‫ّ‬ ‫وبمناسبة ما انتهينا إليه من نزاهة زرارة بن أعني عن‬
‫نقف عند الروايات التي أشارت إىل تر ّدد زرارة يف اإلمام الالحق أو عدم معرفته به‪ ،‬وإليكها‬
‫منضمة ملا ّ‬
‫حققه سيد الطائفة اخلوئي ‪ ‬حوهلا‪ ،‬حيث قال‪:‬‬

‫«وأما الروايات الذا ّمة فهي عىل ثالث طوائف‪ ،‬األوىل‪ :‬ما د ّلت عىل َّ‬
‫أن زرارة كان شا ًّكا‬
‫يف إمامة الكاظم ‪ ،‬فإنه ملَّا تويف الصادق ‪ ‬بعث ابنه عبيدً ا إىل املدينة ليخترب أمر اإلمامة‪،‬‬
‫وأنه لعبد اهلل أو للكاظم ‪ ،‬وأنه مات قبل أن يرجع إليه عبيد‪ ،‬وهذه الروايات كام يَل‪:‬‬

‫‪ - 1‬حدثني حممد بن قولويه‪ ،‬قال‪ :‬حدثني سعد بن عبد اهلل بن أيب خلف‪ ،‬قال‪ :‬حدثني‬
‫حممد بن عثامن بن رشيد‪ ،‬قال‪ :‬حدثني احلسن بن عَل بن يقطني‪ ،‬عن أخيه أمحد بن عَل‪ ،‬عن‬
‫أبيه عَل بن يقطني‪ ،‬قال‪ :‬ملَّا كانت وفاة أيب عبد اهلل ‪ ‬قال الناس بعبد اهلل بن جعفر واختلفوا‪،‬‬
‫فقائل قال به وقائل قال بأيب احلسن ‪ ،‬فدعا زرارة ابنه عبيدً ا فقال‪ :‬يا بني‪ ،‬الناس خمتلفون‬
‫يف هذا األمر‪ ،‬فمن قال بعبد اهلل فإنام ذهب إىل اخلرب الذي جاء َّ‬
‫أن اإلمامة يف الكبري من ولد‬
‫اإلمام‪ ،‬فشدّ راحلتك وامض إىل املدينة حتى تأتيني بصحة األمر‪ ،‬فشدّ راحلته ومىض إىل‬
‫فلام حرضته الوفاة سأل عن عبيد فقيل له‪ :‬مل يقدم‪ ،‬فدعا باملصحف فقال‪:‬‬ ‫ّ‬
‫واعتل زرارة‪َّ ،‬‬ ‫املدينة‪،‬‬
‫اللهم إين مصدق بام جاء به نبيك حممد ‪ ‬فيام أنزلته عليه وب ّينته لنا عىل لسانه‪ ،‬وإين مصدق‬
‫بام أنزلته عليه يف هذا اجلامع‪ ،‬وأن عقيديت وديني الذي يأتيني به عبيد ابني وما بينته يف كتابك‪،‬‬
‫عَل‬
‫فإن أمتني قبل هذا فهذه شهاديت عىل نفيس وإقراري بام يأيت به عبيد ابني‪ ،‬وأنت الشهيد ّ‬
‫بذلك‪ ،‬فامت زرارة وقدم عبيد وقصدناه لنس ّلم عليه‪ ،‬فسألوه عن األمر الذي قصده فأخربهم‬
‫أن أبا احلسن ‪ ‬صاحبهم‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪220‬‬

‫أقول‪ :‬هذه الرواية ضعيفة بجهالة حممد بن عثامن بن رشيد وأمحد بن عَل بن يقطني‪.‬‬

‫‪ -2‬حدثني محدويه‪ ،‬قال‪ :‬حدثني يعقوب بن يزيد‪ ،‬قال‪ :‬حدثني عَل بن حديد عن مجيل‬
‫بن دراج‪ ،‬قال‪ :‬ما رأيت ً‬
‫رجال مثل زرارة بن أعني‪ ،‬إنّا كنّا نختلف إليه فام كنا حوله إال بمنزلة‬
‫فلام مىض أبو عبد اهلل ‪ ‬وجلس عبد اهلل جملسه بعث زرارة‬
‫الصبيان يف الكتاب حول املعلم‪َّ ،‬‬
‫مرضا شديدً ا قبل أن يوافيه ابنه‬
‫زائرا عنه ليتعرف اخلرب ويأتيه بصحته‪ ،‬ومرض زرارة ً‬
‫عبيدً ا ابنه ً‬
‫فلام حرضته الوفاة دعا باملصحف فوضعه عىل صدره ثم ق ّبله‪ .‬قال مجيل‪ :‬حكى مجاعة‬
‫عبيد‪َّ ،‬‬
‫ممن حرضه أنه قال‪ :‬اللهم إين ألقاك يوم القيامة وإمامي من بينت يف هذا املصحف إمامته‪ ،‬اللهم‬
‫وأحرم حرامه وأؤمن بمحكمه ومتشاهبه وناسخه ومنسوخه وخاصه وعامه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إين أحل حالله‬
‫عىل ذلك أحيا وعليه أموت إن شاء اهلل‪.‬‬

‫أيضا ضعيفة بعَل بن حديد‪.‬‬


‫أقول‪ :‬هذه الرواية ً‬

‫‪ -3‬حممد بن قولويه‪ ،‬قال‪ :‬حدثني سعد بن عبد اهلل‪ ،‬عن احلسن بن عَل بن موسى بن‬
‫جعفر‪ .‬عن أمحد بن هالل‪ ،‬عن أيب حييى الرضير‪ ،‬عن درست بن أيب منصور الواسطي‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ريب تعاىل‪.‬‬
‫شك يف إمامتي فاستوهبته من ّ‬ ‫سمعت أبا احلسن ‪ ‬يقول‪َّ :‬‬
‫إن زرارة ّ‬

‫أيضا ضعيفة بجهالة احلسن‪ ،‬وأيب حييى‪.‬‬


‫أقول‪ :‬هذه الرواية ً‬

‫‪ -4‬حدثني حممد بن مسعود‪ ،‬قال‪ :‬أخربنا جربئيل بن أمحد‪ ،‬قال‪ :‬حدثني حممد بن عيسى‪،‬‬
‫عن يونس‪ ،‬عن إبراهيم املؤمن‪ ،‬عن نرض بن شعيب‪ ،‬عن عمة زرارة‪ ،‬قالت‪ :‬ملَّا وقع زرارة‬
‫واشتد به‪ ،‬قال‪ :‬ناوليني املصحف‪ ،‬فناولته وفتحته فوضعته عىل صدره وأخذه مني‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا‬
‫عمة اشهدي أن ليس يل إمام غري هذا الكتاب‪.‬‬
‫‪221‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫أيضا ضعيفة‪ ،‬وال أقل من جهة جهالة إبراهيم املؤمن وعمة زرارة» (‪.)1‬‬
‫وهذه الرواية ً‬

‫واحلاصل‪َّ :‬‬
‫فإن مجيع الروايات التي تنسب احلرية لزرارة بن أعني يف أمر اإلمامة ضعيفة‬
‫ُوجه بام ذكرناه‪.‬‬
‫األسناد‪ ،‬وعىل فرض صحتها‪ ،‬فإهنا ت َّ‬

‫للمتحريين‪ ،‬بسبب ما جرت عليه سرية‬


‫ّ‬ ‫االحتامل الثاين‪َّ :‬‬
‫أن نصوص األسامء مل تصل‬
‫الرواة من التكتّم عليها‪ ،‬كام تشهد بذلك املقدمة الرابعة املتقدّ مة‪ ،‬ولذلك مل يط ّلع عليها اجلميع‪،‬‬
‫أو َّ‬
‫أن هذا البعض مل يتفحص عنها‪ ،‬ملا يعلمه من سياسة التعتيم عليها عند أهل البيت ‪ ،‬أو‬
‫بعض منها كخرب آحاد ولكنه سأل عن اإلمام الالحق لتحصيل اليقني املعترب‬
‫أنه قد وصل إليه ٌ‬
‫حتصيله يف اإلمامة‪.‬‬

‫ويقرب هذا االحتامل ما ورد عن حممد بن مسلم‪ ،‬قال‪« :‬قلت أليب عبد اهلل ‪:‬‬
‫ّ‬
‫إن عل ًيا ‪ ‬كان عاملًا‬
‫أصلحك اهلل بلغنا شكواك وأشفقنا‪ ،‬فلو أعلمتنا أو علمتنا من؟ قال‪َّ :‬‬
‫والعلم يتوارث‪ ،‬فال ُّيلك عامل إال بقي من بعده من يعلم مثل علمه أو ما شاء اهلل‪ ،‬قلت‪ :‬أفيسع‬
‫الناس إذا مات العامل أال يعرفوا الذي بعده؟ فقال‪ :‬أما أهل هذه البلدة ‪ -‬يعني املدينة ‪ -‬فال‪،‬‬
‫ُون ل ِ َين ِْف ُروا كَا َّف ًة َف َل ْوال‬
‫َان املُْ ْؤ ِمن َ‬
‫وأما غريها من البلدان فبقدر مسريهم‪ ،‬إن اهلل يقول‪َ ﴿ :‬و َما ك َ‬
‫ين َول ِ ُين ِْذ ُروا َق ْو َم ُه ْم إِ َذا َر َج ُعوا إِ َل ْي ِه ْم َل َع َّل ُه ْم‬
‫َن َف َر ِم ْن ك ُِّل فِ ْر َق ٍة ِمن ُْه ْم َط ِائ َف ٌة ل ِ َي َت َف َّق ُهوا ِيف الدِّ ِ‬

‫حي َذ ُر َ‬
‫ون﴾ قال‪ :‬قلت‪ :‬أرأيت من مات يف ذلك؟ فقال‪ :‬هو بمنزلة من خرج من بيته مهاج ًرا إىل‬ ‫َْ‬
‫اهلل ورسوله ثم يدركه املوت فقد وقع أجره عىل اهلل‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬فإذا قدموا بأي يشء يعرفون‬
‫صاحبهم؟ قال‪ :‬يعطى السكينة والوقار واهليبة» (‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬معجم رجال احلديث‪ :‬ج‪ ،8‬ص‪.239‬‬


‫(‪ )2‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.379‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪222‬‬

‫ظاهرا يف عدم علم الصحايب اجلليل‬


‫ً‬ ‫ُ‬
‫وحمل الشاهد من هذه الرواية صدرها‪ ،‬فإنه وإن كان‬
‫(حممد بن مسلم) بنصوص األسامء‪ ،‬وقد أحاله اإلمام ‪ ‬للعالمة املشرتكة بينهم – وهي‪:‬‬
‫العلم – إال أنه من املمكن محل الرواية عىل وصول نصوص األسامء له كخرب آحاد فأراد القطع‬
‫هبا – إذ هو أحد رواهتا – أو كان ذلك منه قبل أن ُيؤذن له يف التْصيح؛ إذ املستفاد من أخبار‬
‫ٌ‬
‫منوط باإلذن‪ ،‬فتأمل جيدً ا‪.‬‬ ‫زرارة وهشام بن سامل وفيض بن املختار املتقدّ مة َّ‬
‫أن التْصيح‬

‫املتحريين‪ ،‬إال أهنا قد حصل‬


‫ّ‬ ‫االحتامل الثالث‪َّ :‬‬
‫أن نصوص األسامء قد وصلت لبعض‬
‫التشويش عليها ألحد سببني‪:‬‬

‫تم احلديث عنها يف‬


‫السبب األول‪ :‬عدم تبلور مسألة جريان البداء يف اإلمامة – التي َّ‬
‫للتو حادثة؛ إذ َّ‬
‫أن إسامعيل قد تويف – عىل أحد القولني – قبل وفاة‬ ‫املقدمة الثالثة – سيام أهنا ّ‬
‫والده اإلمام الصادق ‪ ‬بخمس سنوات فقط‪ ،‬مما يتيح احتامل جريان البداء مرة أخرى‪،‬‬
‫أن نصوص األسامء قد وصلت لبعض األجالء إال َّ‬
‫أن احتامل جريان البداء يف اإلمامة ما‬ ‫فهب َّ‬

‫للتحري وعدم اجلزم بإمامة اإلمام الالحق نتيجة ضبابية مسألة البداء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫دام وار ًدا‪َّ ،‬‬
‫فإن هذا يكفي‬

‫السبب الثاين‪ :‬عالمة األكربية‪ ،‬فإهنا ألول وهلة جتعل نص االسم ونص العالمة‬
‫متعارضني؛ إذ ّ‬
‫أن نص االسم يرشد إلمامة موسى بن جعفر ‪ ،‬بينام نص العالمة يرشد‬
‫إلمامة إسامعيل – ً‬
‫أوال – وعبد اهلل األفطح ثان ًيا‪.‬‬

‫ألن عالمة األكربية مقيدة بعدم العاهة‪ ،‬واملفروض َّ‬


‫أن‬ ‫قلت‪ :‬ال تعارض يف البني؛ َّ‬
‫وإن َ‬
‫عبد اهلل األفطح كانت له عاهة يف رجله‪ ،‬فالنص منْصف عنه‪.‬‬

‫املتحريين‪ ،‬إما لشبهة مفهومية‪ ،‬بحيث َّ‬


‫أن حقيقة‬ ‫ّ‬ ‫حمرزا لدى‬ ‫قلت‪َّ :‬‬
‫لعل القيد مل ُيكن ً‬ ‫ُ‬
‫مفهوم العاهة مل تكن واضحة عندهم‪ ،‬وإما لشبهة مصداقية‪َّ ،‬‬
‫فإن الفطح يعني كون الَشء‬
‫‪223‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫أن األفطح كان عريض الرأس أو عريض الرجل‪ ،‬ولع ّله‬


‫عريضا‪ ،‬وقد اختلف املؤرخون يف َّ‬
‫ً‬
‫كان يتسرت عىل ذلك بالنحو الذي يوجب حصول الشبهة املصداقية‪.‬‬

‫التحري هلشام بن سامل ومؤمن‬


‫ّ‬ ‫صحة الرواية التي نسبت‬
‫ّ‬ ‫ومن املحتمل – بنا ًء عىل‬
‫أيضا؛ إذ أهنا قد ذكرت أسامء ثالثة أجالء – وهم املفضل‪ ،‬وأبو‬
‫الطاق(‪ –)1‬من هذا القبيل ً‬
‫بصري‪ ،‬وهشام – وكلهم من رواة نصوص األسامء‪ ،‬بل املفضل وأبو بصري من رواة النصوص‬
‫اخلاصة عىل اإلمام الكاظم ‪ ،‬فلعله حصل التشويش عندهم ألحد هذين السببني‪.‬‬

‫أو ُحيمل موقفهم عىل بعض املحامل املتقدّ مة‪.‬‬

‫وباجلملة‪َّ ،‬‬
‫فإن النتيجة التي نننتهي إليها هي عدم التنايف بني معرفة الراوي اجلليل‬
‫بنصوص األسامء وحصول احلرية له‪ ،‬وبذلك تندفع اإلشكالية الثالثة‪.‬‬

‫(‪ )1‬التزم بعض األعالم – كالعالمة املجليس ‪ ‬يف (مرآة العقول) ‪ – 94 / 4‬بضعفها‪ ،‬لوقوع أيب حييى الواسطي يف سندها‪ ،‬ويف‬
‫ذلك كالم‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪224‬‬

‫أن األئمة ثالثة عرش (‪:)1‬‬


‫حتقيق حول الروايات الدالة عىل َّ‬

‫وبام أننا يف املقام بصدد تأصيل عقيدة االثني عرشية‪ ،‬ودفع شبهة استحداثها يف القرن‬
‫الرابع‪ ،‬وقد أثبتنا ذلك بام ال مزيد عليه‪ ،‬فإنه ال يفوتنا – هبذه املناسبة – أن نقف عند الروايات‬
‫الدالة عىل َّ‬
‫أن األئمة ‪ ‬من ذرية أمري املؤمنني والصديقة الزهراء ‪ ‬اثنا عرش إما ًما‪ ،‬وبضميمة‬
‫والدهم أمري املؤمنني ‪ ‬يكون عددهم ثالثة عرش إما ًما‪َّ ،‬‬
‫فإن هذه الروايات ختدش العقيدة‬
‫املذكورة وتناقضها‪ ،‬ولذا ال بدَّ من متحيصها وبيان اإلشكاالت الواردة عليها متنًا وسندً ا‪ ،‬حتى‬
‫تكتمل الصورة حول العقيدة املذكورة‪ ،‬وال يبقى ما يعارضها‪.‬‬

‫والتحقيق‪َّ :‬‬
‫أن مجيع الروايات التي تشري إىل كون األئمة ‪ ‬ثالثة عرش إما ًما‪ ،‬ال ختلو عن‬
‫إشكال‪ ،‬ولنا أن نجيب عنها بجوابني‪:‬‬

‫أ – اجلواب األول‪ :‬اجلواب اإلمجايل‪ ،‬وهو خمالفتها للروايات القطعية املتواترة الدالة عىل‬
‫انقطاع خالفة اهلل تعاىل يف األرض باإلمام املهدي صاحب العْص والزمان ‪.‬‬

‫وإليك بعضها‪:‬‬

‫• ما رواه سليم بن قيس اهلاليل‪ ،‬عن أمري املؤمنني ‪ ،‬عن رسول اهلل ‪ ‬أنه قال‪« :‬أنت‬
‫يا عَل أوهلم‪ ،‬ثم ابني هذا ‪ -‬ووضع يده عىل رأس احلسن – ثم ابني هذا – ووضع يده عىل‬
‫رأس احلسني ‪ -‬ثم سميك ابنه عَل زين العابدين‪ ،‬وسيولد يف زمانك يا أخي فأقرئه مني‬
‫السالم‪ ،‬ثم ابنه حممد الباقر‪ ،‬باقر علمي وخازن وحي اهلل تعاىل‪ ،‬ثم ابنه جعفر الصادق‪ ،‬ثم ابنه‬

‫(‪ )1‬مقتبس من كتاب سامحته (دام عزه)‪( :‬املهدوية اخلامتة)‪.‬‬


‫‪225‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫موسى الكاظم‪ ،‬ثم ابنه عَل الرضا‪ ،‬ثم ابنه حممد التقي‪ ،‬ثم ابنه عَل النقي‪ ،‬ثم ابنه احلسن الزكي‪،‬‬
‫ثم ابنه احلجة القائم‪ ،‬خاتم أوصيائي وخلفائي‪ ،‬واملنتقم من أعدائي‪ ،‬الذي يمأل األرض قس ًطا‬
‫وجورا» (‪.)1‬‬
‫ً‬ ‫ظلام‬ ‫ً‬
‫وعدال كام ملئت ً‬

‫• معتربة حممد بن مسلم‪ ،‬قال‪« :‬قال أبو جعفر ‪ :‬قال رسول اهلل ‪ ‬لعَل بن أيب طالب‬
‫‪« :‬أنا أوىل باملؤمنني من أنفسهم‪ ،‬ثم أنت يا عَل أوىل باملؤمنني من أنفسهم‪ ،‬ثم احلسن أوىل‬
‫باملؤمنني من أنفسهم‪ ،‬ثم احلسني أوىل باملؤمنني من أنفسهم‪ ،‬ثم عَل بن احلسني أوىل باملؤمنني‬
‫من أنفسهم‪ ،‬ثم حممد بن عَل أوىل باملؤمنني من أنفسهم‪ ،‬ثم جعفر بن حممد أوىل باملؤمنني من‬
‫أنفسهم‪ ،‬ثم موسى بن جعفر أوىل باملؤمنني من أنفسهم‪ ،‬ثم عَل بن موسى أوىل باملؤمنني من‬
‫أنفسهم‪ ،‬ثم حممد بن عَل أوىل باملؤمنني من أنفسهم‪ ،‬ثم عَل بن حممد أوىل باملؤمنني من أنفسهم‪،‬‬
‫ثم احلسن بن عَل أوىل باملؤمنني من أنفسهم‪ ،‬ثم احلجة بن احلسن الذي تنتهي إليه اخلالفة‬
‫وظلام» (‪.)2‬‬
‫ً‬ ‫عدال وقس ًطا كام ملئت ً‬
‫جورا‬ ‫والوصاية ويغيب مدة طويلة ثم يظهر ويمأل األرض ً‬

‫• صحيحة حممد بن عبد اجلبار‪ ،‬قال‪« :‬قلت لسيدي احلسن بن عَل ‪ :‬يا ابن رسول‬
‫اهلل ‪ -‬جعلني اهلل فداك ‪ -‬أحب أن أعلم َمن اإلمام وحجة اهلل عىل عباده من بعدك؟ قال ‪:‬‬
‫إن اإلمام وحجة اهلل من بعدي ابني‪ ،‬سمي رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم وكنيه‪ ،‬الذي‬
‫هو خاتم حجج اهلل وآخر خلفائه» (‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬إثبات الرجعة‪ :‬ص‪.21‬‬


‫(‪ )2‬إثبات الرجعة‪ :‬ص‪.40‬‬
‫(‪ )3‬إثبات الرجعة‪ :‬ص‪.48‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪226‬‬

‫• ويف رواية مطولة عن اإلمام الصادق ‪ ‬قال فيها‪« :‬فكانت حجج اهلل تعاىل كذلك‬
‫من وقت وفاة آدم ‪ ‬إىل وقت ظهور إبراهيم ‪ ‬أوصياء مستعلنني ومستخفني‪ ...‬فظهر‬
‫عيسى ‪ ‬يف والدته‪ ،‬معلنًا لدالئله‪ ،‬مظهرا لشخصه‪ ،‬شاهرا لرباهينه‪ ،‬غري ٍ‬
‫خمف لنفسه؛ ألن‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫زمانه كان زمان إمكان ظهور احلجة كذلك‪.‬‬

‫حججا هلل ‪ ‬كذلك مستعلنني ومستخفني إىل وقت ظهور‬ ‫ً‬ ‫ثم كان له من بعده أوصياء‬
‫نبينا ‪ ،‬فقال اهلل ‪ ‬له يف الكتاب‪َّ ﴿ :‬ما ُي َق ُال َل َك إِ َّال َما َقدْ ِق َيل ل ِ هلر ُس ِل ِمن َق ْبلِ َك﴾‪ ،‬ثم قال‬
‫‪ُ ﴿ :‬سن ََّة َمن َقدْ َأ ْر َس ْلنَا َق ْب َل َك ِمن هر ُسلِنَا﴾‪ ،‬فكان مما قيل له ولزم من سنته عىل إجياب سنن‬
‫من تقدمه من الرسل إقامة األوصياء له كإقامة من تقدمه ألوصيائهم‪ ،‬فأقام رسول اهلل ‪‬‬
‫ً‬
‫وعدال كام ملئت‬ ‫أوصياء كذلك وأخرب بكون املهدي خاتم األئمة ‪ ،‬وأنه يمأل األرض قس ًطا‬
‫وظلام» (‪.)1‬‬
‫ً‬ ‫جورا‬
‫ً‬

‫عَل‬
‫• وحدث ظريف أبو نْص اخلادم‪ ،‬قال‪« :‬دخلت عىل صاحب الزمان ‪ ‬فقال‪ّ :‬‬
‫بالصندل األمحر‪ ،‬فأتيته به‪ ،‬ثم قال‪ :‬أتعرفني؟ قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فقال‪ :‬من أنا؟ فقلت‪ :‬أنت سيدي‬
‫فبني يل‪ ،‬قال‪:‬‬
‫وابن سيدي‪ ،‬فقال‪ :‬ليس عن هذا سألتك‪ ،‬قال طريف‪ :‬فقلت‪ :‬جعلني اهلل فداك ّ‬
‫أنا خاتم األوصياء‪ ،‬ويب يدفع اهلل ‪ ‬البالء عن أهَل وشيعتي» (‪.)2‬‬

‫• وعن إسامعيل بن عَل النوبختي‪ ،‬قال‪« :‬فقال له أبو حممد ‪ :‬أبرش يا بني فأنت‬
‫صاحب الزمان‪ ،‬وأنت املهدي‪ ،‬وأنت حجة اهلل عىل أرضه‪ ،‬وأنت ولدي ووصيي وأنا ولدتك‪،‬‬

‫(‪ )1‬كامل الدين ومتام النعمة‪ :‬ص‪.21‬‬


‫(‪ )2‬كامل الدين ومتام النعمة‪ :‬ص‪.441‬‬
‫‪227‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫وأنت حممد بن احلسن بن عَل بن حممد بن عَل بن موسى بن جعفر بن حممد بن عَل بن احلسني‬
‫بن عَل بن أيب طالب ‪.‬‬

‫َو َلدَ ك رسول اهلل ‪ ،‬وأنت خاتم [األوصياء] األئمة الطاهرين‪ّ ،‬‬
‫وبرش بك رسول اهلل‬
‫إيل أيب عن آبائك الطاهرين» (‪.)1‬‬
‫وسامك وكنّاك‪ ،‬بذلك عهد ّ‬
‫‪ّ ‬‬

‫• ويف خطبة الغدير – بحسب رواية الشيخ الطربيس ‪ ‬يف االحتجاج – عن النبي ‪:‬‬
‫«[معارش الناس] إين نبي وعَل ويص‪ ،‬أال ّ‬
‫إن خاتم األئمة منا القائم املهدي‪ ،‬أال إنه الظاهر عىل‬
‫الدين‪ ،‬أال إنه املنتقم من الظاملني‪ ،‬أال إنه فاتح احلصون وهادمها‪ ،‬أال إنه قاتل كل قبيلة من أهل‬
‫الرشك‪ ،‬أال إنه مدرك بكل ثأر ألولياء اهلل‪ ،‬أال إنه النارص لدين اهلل‪ ...‬أال إنه الباقي حجة وال‬
‫حجة بعده‪ ،‬والحق إال معه‪ ،‬وال نور إال عنده‪ ،‬أال إنه ال غالب له وال منصور عليه‪ ،‬أال وإنه‬
‫رسه وعالنيته» (‪.)2‬‬
‫ويل اهلل يف أرضه وحكمه يف خلقه وأمينه يف ّ‬

‫واملتحصل من هذه الروايات – وأمثاهلا يف غاية الكثرة – َّ‬


‫أن اإلمامة والوصاية واحلجية‬ ‫ّ‬
‫قد ختم اهلل نظامها باإلمام املهدي ابن احلسن ‪ ،‬فهو اإلمام وال إمام بعده‪ ،‬وهو احلجة وال‬
‫حجة بعده‪ ،‬وهو اخلاتم خلالفة اهلل تعاىل يف أرضه وسامئه‪ ،‬وهذا تكذيب واضح ّ‬
‫لكل الروايات‬
‫الظاهرة يف استمرار اإلمامة وعدم انقطاعها‪ ،‬وزيادة األئمة عىل اثني عرش إما ًما‪.‬‬

‫ولك أن تقول‪َّ :‬‬


‫إن أحاديث االثني عرش – كام تقدم ويأيت – متواترة من طريق الفريقني‪،‬‬
‫زخرف‪ ،‬ملا ورد يف أخبار الرتجيح من طرح ما خالف‬
‫ٌ‬ ‫بل هي فوق حدّ التواتر‪ ،‬فام خيالفها فهو‬
‫السنة القطعية‪.‬‬

‫(‪ )1‬الغيبة‪ ،‬للشيخ الطويس‪ :‬ص‪.273‬‬


‫(‪ )2‬االحتجاج‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.80‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪228‬‬

‫ب – اجلواب الثاين‪ :‬اجلواب التفصيَل‪ ،‬وحاصله‪َّ :‬‬


‫أن روايات الثالثة عرش بتاممها ال ختلو‬
‫عن تصحيف ومناقشة‪ ،‬وإليك تفصيل الكالم حوهلا‪:‬‬

‫الرواية األوىل‪ :‬رواها الشيخ الكليني ‪ ‬بسنده عن أيب سعيد العصفوري‪ ،‬عن عمرو‬
‫بن ثابت‪ ،‬عن أيب اجلاورد‪ ،‬عن أيب جعفر ‪ ‬قال‪« :‬قال رسول اهلل ‪ :‬إين واثني عرش من‬
‫ولدي وأنت يا عَل زر األرض – يعني أوتادها وجباهلا – بنا أوتد اهلل األرض أن تسيخ بأهلها‪،‬‬
‫فإذا ذهب االثنا عرش من ولدي ساخت األرض بأهلها ومل ينظروا» (‪.)1‬‬

‫وبعد الرجوع إىل أصل أيب سعيد عباد العصفري‪ ،‬نجد الرواية هكذا‪ :‬عن عمرو‪ ،‬عن أيب‬
‫اجلارود‪ ،‬عن أيب جعفر ع قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬إين وأحد عرش من ولدي وأنت يا عَل زر‬
‫األرض – أعني أوتادها وجباهلا – وقد وتّد اهلل األرض أن تسيخ بأهلها‪ ،‬فإذا ذهب األحد‬
‫عرش من ولدي ساخت األرض بأهلها ومل ينظروا» (‪.)2‬‬

‫أيضا بسنده َع ِن ا ْب ِن ُأ َذ ْين ََة‪َ ،‬ع ْن ُز َر َار َة‪َ ،‬ق َال‪:‬‬ ‫الرواية الثانية‪ :‬رواها الشيخ الكليني ‪ً ‬‬
‫ث ِم ْن ُو ْل ِد رس ِ‬ ‫آل ُحم َ َّم ٍد ‪ُ ‬ك هل ُه ْم ُحم َدَّ ٌ‬
‫اإلمام ِم ْن ِ‬ ‫«س ِمع ُت َأبا جع َف ٍر ‪ ‬ي ُق ُ ِ‬
‫ول‬ ‫َ ُ‬ ‫رش ِ َ َ‬ ‫ول‪ :‬اال ْثنَا َع َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ َ ْ‬
‫ول اهللَّ و َع َِل ُمها ا ْلوالِدَ ِ‬‫ور ُس ُ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ان» (‪.)3‬‬ ‫َ َ‬ ‫اهللَّ ‪ ‬وم ْن ُو ْلد َع ٍَّل‪َ ،‬‬

‫واملؤرش عىل وقوع التصحيف يف هذه الرواية‪َّ :‬‬


‫أن الشيخ املفيد ‪ ‬قد نقلها عن الشيخ‬
‫الكليني ‪ٍ ‬‬
‫بنحو آخر‪ ،‬وهذا نصه‪« :‬عن حممد بن يعقوب‪ ،‬عن أيب عَل األشعري‪ ،‬عن احلسن‬
‫بن عبيد اهلل‪ ،‬عن احلسن بن موسى اخلشاب‪ ،‬عن عَل بن سامعة‪ ،‬عن عَل بن احلسن بن رباط‪،‬‬

‫(‪ )1‬الكايف الرشيف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.534‬‬


‫(‪ )2‬األصول الستة عرش‪ :‬ص‪.140‬‬
‫(‪ )3‬الكايف الرشيف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.531‬‬
‫‪229‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫عن عمر بن أذينة‪ ،‬عن زرارة‪ ،‬قال‪ :‬سمعت أبا جعفر ‪ ‬يقول‪ :‬االثنا عرش األئمة من آل حممد‬
‫كلهم حمدث‪ ،‬عَل بن أيب طالب وأحد عرش من ولده‪ ،‬ورسول اهلل وعَل مها الوالدان‪ ،‬صىل اهلل‬
‫عليهام» (‪.)1‬‬

‫اجلار ِ‬
‫ود‪،‬‬ ‫أيضا بسنده عن ابن حمبوب‪َ ،‬ع ْن َأ ِيب ْ َ ُ‬ ‫الرواية الثالثة‪ :‬رواها الشيخ الكليني ‪ً ‬‬
‫ني َيدَ ْ َُّيا‬‫ار ِّي‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬د َخ ْل ُت َع َىل َفاطِ َم َة ‪ ‬و َب ْ َ‬
‫َع ْن َأ ِيب َج ْع َف ٍر ‪َ ،‬ع ْن َجابِ ِر ْب ِن َع ْب ِد اهللَّ األَن َْص ِ‬
‫َلوح فِيه َأسامء األَو ِصي ِ‬
‫آخ ُر ُه ُم ا ْل َقائِ ُم ‪َ ،‬ث َال َث ٌة ِمن ُْه ْم ُحم َ َّمدٌ‬
‫اء ِمن و ْل ِدها‪َ ،‬فعدَ د ُت ا ْثنَي َع َرش ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُ َ َ ْ‬ ‫َْ ُ ْ َ‬ ‫ْ ٌ‬
‫و َث َال َث ٌة ِمن ُْه ْم َع َِل» (‪.)2‬‬

‫واملن ّبه عىل وقوع التصحيف يف هذه الرواية‪ :‬أننا حني نرجع إىل كتب الشيخ الصدوق‬
‫‪ ‬نجد الرواية منقولة بنحو خمتلف‪ ،‬وإليك نصه‪« :‬وحدثنا أمحد بن حممد بن حييى العطار‬
‫‪ ،‬قال‪ :‬حدثني أيب‪ ،‬عن حممد بن احلسني ابن أيب اخلطاب‪ ،‬عن احلسن بن حمبوب‪ ،‬عن أيب‬
‫اجلارود‪ ،‬عن أيب جعفر ‪ ،‬عن جابر بن عبد اهلل األنصاري قال‪ :‬دخلت عىل فاطمة ‪ ‬وبني‬
‫يدُّيا لوح [مكتوب] فيه أسامء األوصياء‪ ،‬فعددت اثني عرش آخرهم القائم‪ ،‬ثالثة منهم حممد‪،‬‬
‫وأربعة منهم عَل ‪.)3( »‬‬

‫ومن الواضح َّ‬


‫أن التشويش يف رواية الكليني ‪ ‬مس ّبب عن عباريت (من ولدها)‬
‫يتبني وقوع التصحيف يف تلك‪.‬‬
‫و(ثالثة منهم عَل)‪ ،‬وبالرجوع لرواية الصدوق ‪ّ ‬‬

‫(‪ )1‬اإلرشاد‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.347‬‬


‫(‪ )2‬الكايف الرشيف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.532‬‬
‫(‪ )3‬كامل الدين وإمتام النعمة‪ :‬ص‪.311‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪230‬‬

‫أيضا بسنده عن أيب سعيد اخلدري‪ ،‬عن أمري‬ ‫الرواية الرابعة‪ :‬رواها الشيخ الكليني ‪ً ‬‬
‫رب ِين َع ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ود هي‪َ :‬أ ْخ ِ ِ‬ ‫املؤمنني ‪« :‬ثم َق َال َله ا ْليه ِ‬
‫ربين َع ْن َهذه األُ َّمة‪،‬ك َْم َهلَا م ْن إِ َما ٍم ُهدً ى؟ و َأ ْخ ِ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َُ‬ ‫ّ‬
‫ني ‪ :‬إِ َّن ِهلَ ِذه‬ ‫اجلن َِّة؟ َف َق َال َله َأ ِم ُري املُْ ْؤ ِمن ِ َ‬ ‫اجلن َِّة؟ و َأ ْخ ِ ِ‬
‫ربين َم ْن َم َعه ِيف ْ َ‬ ‫ْ‬
‫ٍ‬
‫نَبِ ِّيك ُْم ُحم َ َّمد َأ ْي َن َمن ِْز ُله ِيف ْ َ‬
‫اجلن َِّة َف ِفي َأ ْف َض ِل َها‬ ‫ِ‬
‫وه ْم منِّي‪ ،‬و َأ َّما َمن ِْز ُل نَبِ ِّينَا ِيف ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رش إِ َما ًما ُهدً ى م ْن ُذ ِّر َّية نَبِ ِّي َها‪ُ ،‬‬
‫ِ‬
‫األُ َّمة ا ْثن َْي َع َ َ‬
‫رش ِم ْن ُذ ِّر َّيتِه» (‪.)1‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫و َأ ْ ِ‬
‫رشف َها َجنَّة َعدْ ن‪ ،‬و َأ َّما َم ْن َم َعه يف َمن ِْزله ف َيها َف َه ُؤ َالء اال ْثنَا َع َ َ‬
‫َ‬

‫وبالرجوع إىل املصادر األخرى التي نقلت الواقعة التي تك ّلم فيها أمري املؤمنني ‪‬‬
‫هبذا الكالم – وهي اإلجابة عن أسئلة اليهودي يف عهد عمر بن اخلطاب – ُيعلم َّ‬
‫أن هذه الرواية‬
‫–مضا ًفا إىل ضعف أحد سندُّيا‪ ،‬واستحكام شبهة اإلرسال يف سندها اآلخر– قد طال متنها‬
‫يشء من التصحيف‪ ،‬وإليك بعض الشواهد عىل ذلك‪:‬‬

‫• الشاهد األول‪ :‬ما رواه الشيخ الصدوق ‪« :‬قال‪ :‬فأخربين كم هلذه األمة من إمام‬
‫هدى هادين مهديني‪ ،‬ال يرضهم خذالن من خذهلم؟ وأخربين أين منزل حممد ‪ ‬من اجلنة؟‬
‫ومن معه من أمته يف اجلنة؟ قال‪ :‬أما قولك‪ :‬كم هلذه األمة من إمام هدى‪ ،‬هادين مهديني‪ ،‬ال‬
‫يرضهم خذالن من خذهلم‪َّ ،‬‬
‫فإن هلذه األمة اثني عرش إما ًما هادين مهديني‪ ،‬ال يرضهم خذالن‬
‫من خذهلم» (‪.)2‬‬

‫• الشاهد الثاين‪ :‬ما رواه الشيخ الصدوق ‪« :‬قال‪ :‬أخربين عن هذه األمة كم هلا بعد‬
‫نبيها من إمام عدل؟ وأخربين عن منزل حممد أين هو من اجلنة؟ ومن يسكن معه يف منزله؟ قال‬
‫له عَل ‪ :‬يا ُّيودي يكون هلذه األمة بعد نبيها اثنا عرش إما ًما ً‬
‫عدال‪ ،‬ال يرضهم خالف من‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.532‬‬


‫(‪ )2‬كامل الدين وإمتام النعمة‪ :‬ص‪.298‬‬
‫‪231‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫خالف عليهم‪ .‬قال له اليهودي‪ :‬أشهد باهلل لقد صدقت‪ ،‬قال له عَل ‪ :‬وأما منزل حممد ‪‬‬
‫من اجلنة يف جنة عدن‪ ،‬وهي وسط اجلنان وأقرهبا من عرش الرمحن ّ‬
‫جل جالله‪ ،‬قال له‬
‫اليهودي‪ :‬أشهد باهلل لقد صدقت‪ ،‬قال له عَل ‪ :‬والذين يسكنون معه يف اجلنة هؤالء األئمة‬
‫االثنا عرش‪ .‬قال له اليهودي‪ :‬أشهد باهلل لقد صدقت» (‪.)1‬‬

‫• الشاهد الثالث‪ :‬ما رواه الشيخ الصدوق ‪« :‬فقال‪ :‬أخربين عن الثالث األخرى‪،‬‬
‫أخربين عن ٍ‬
‫حممد كم بعده من إمام عدل؟ ويف أي جنة يكون؟ ومن الساكن معه يف جنته؟ فقال‪:‬‬
‫إن ملحمد ‪ ‬من اخللفاء اثنا [اثني] عرش إما ًما ً‬
‫عدال‪ ،‬ال يرضهم خذالن من خذهلم‬ ‫يا هاروين ّ‬
‫وال يستوحشون بخالف من خالفهم‪ ،‬وإهنم أرسب يف الدين من اجلبال الروايس يف األرض‪،‬‬
‫ومسكن حممد ‪ ‬يف جنة عدن‪ ،‬معه أولئك االثنا عرش األئمة العدل‪ ،‬فقال‪ :‬صدقت واهلل الذي‬
‫ال إله إال هو إين ألجدها يف كتاب أيب هارون كتبه بيده وأماله عمي موسى ‪.)2( »‬‬

‫حتصل من مجيع هذه الشواهد – ومثلها غريها – َّ‬


‫أن عبارة «من ذرية نبيها» ال ختلو‬ ‫وقد ّ‬
‫عن تصحيف ظاهر‪ ،‬ومثلها قول أمري املؤمنني ‪« :‬وهم مني»‪.‬‬

‫الرواية اخلامسة‪ :‬رواها اخلزاز القمي‪ ،‬بسنده عن جنادة بن أيب أمية‪ ،‬عن اإلمام احلسن بن‬
‫عَل ‪َّ « :‬‬
‫إن هذا األمر يملكه اثنا عرش إما ًما من ولد عَل ‪ ‬وفاطمة ‪ ،‬ما منّا إال مسموم‬
‫أو مقتول» (‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬كامل الدين وإمتام النعمة‪ :‬ص‪.296‬‬


‫(‪ )2‬كامل الدين وإمتام النعمة‪ :‬ص‪.300‬‬
‫(‪ )3‬كفاية األثر‪ :‬ص‪.227‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪232‬‬

‫ٍ‬
‫بنحو آخر سامل‬ ‫والتعليق‪َّ :‬‬
‫أن اخلزاز نفسه قد روى عن اإلمام احلسن ‪ ‬هذه الرواية‬
‫إن األمر يملكه اثنا عرش إما ًما من أهل بيته وصفوته‪ ،‬ما منّا ّإال مقتول‬
‫عن اإلشكال‪ ،‬وهو‪ّ « :‬‬

‫صحة النقل السابق‪.‬‬ ‫ٍ‬


‫أو مسموم» (‪ ،)1‬وهذا كاف للتشكيك يف ّ‬

‫الرواية السادسة‪ :‬عن أنس بن مالك‪ ،‬عن رسول اهلل األعظم ‪« :‬األئمة بعدي اثنا عرش‬
‫من صلب عَل وفاطمة‪ ،‬هم حواريي وأنصار ديني‪ ،‬عليهم من اهلل التحية والسالم» (‪.)2‬‬

‫والتعليق‪َّ :‬‬
‫أن عنوان (األئمة بعدي) إما هو متضمن لإلمام أمري املؤمنني ‪ ‬أو ال‪ ،‬وبام‬
‫تعني األول ثبت َّ‬
‫أن عدد األئمة ‪ – ‬بام فيهم أمري‬ ‫فيتعني األول‪ ،‬وإذا ّ‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫أن الثاين مقطوع العدم‬
‫املؤمنني ‪ – ‬ال يزيد عن االثني عرش‪ ،‬وهو املطلوب‪.‬‬

‫ٍ‬
‫بحاجة إلبراز الوجه يف التعبري عنهم مجي ًعا بأهنم (من صلب عَل وفاطمة)‪،‬‬ ‫ونبقى فقط‬
‫رغم عدم انطباق هذا العنوان عىل أمري املؤمنني ‪ ،‬وهو من السهولة بمكان؛ الشتهار‬
‫فيعرب عن الوالدين بـ(األبوين) رغم َّ‬
‫أن األم‬ ‫أسلوب التغليب بني أساليب املحاورات العرفية‪ّ ،‬‬
‫أن املغرب ليس مرش ًقا‪ ،‬وهكذا‪،‬‬
‫ويعرب عن املغرب واملرشق بـ(املرشقني) رغم َّ‬
‫ّ‬ ‫ليست أ ًبا‪،‬‬
‫وللتغليب نكات كثرية مذكورة يف حملها‪ ،‬ومنها‪ :‬كثرة أفراد العنوان؛ فإهنا موجبة لتغليب‬
‫عنواهنم عىل أفراد آخرين ال يشرتكون معهم فيه‪ ،‬وإن كانوا مرتبطني هبم بأحد أنحاء االرتباط‪،‬‬
‫ومن هذا ال قبيل‪ :‬تغليب عنوان (ذرية رسول اهلل) أو (ذرية عَل وفاطمة) عىل مجيع األئمة‬
‫الطاهرين ‪ ‬رغم عدم اشرتاك أمري املؤمنني ‪ ‬معهم يف هذا العنوان‪ ،‬وإن كان يرتبط معهم‬
‫من خالل عنوان (األئمة)‪.‬‬

‫(‪ )1‬كفاية األثر‪ :‬ص‪.162‬‬


‫(‪ )2‬كفاية األثر‪ :‬ص‪.69‬‬
‫‪233‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫وتشهد ملا ذكرناه بعض الروايات واألخبار‪ ،‬نظري ما رواه اخلزاز القمي بسنده عن سيد‬
‫الشهداء احلسني ‪ ،‬أنه قال خماط ًبا جده املصطفى ‪« :‬يا رسول اهلل هل يكون بعدك نبي؟‬
‫قوامون بالقسط‪ ،‬كعدد نقباء‬
‫قال‪ :‬ال‪ ،‬أنا خاتم النبيني‪ ،‬ولكن يكون بعدي أئمة من ذريتي‪ّ ،‬‬
‫بني إرسائيل‪ ،‬أوهلم عَل بن أيب طالب‪ ،‬فهو اإلمام واخلليفة بعدي‪ ،‬وتسعة من األئمة من صلب‬
‫هذا ‪ -‬ووضع يده عىل صدري – والقائم تاسعهم يقوم بالدين يف آخر الزمان كام قمت يف‬
‫أوله» (‪.)1‬‬

‫الرواية السابعة‪ :‬وقد رواها اخلصيبي ٍ‬


‫بسند ينتهي إىل اإلمام الباقر ‪ ‬عن جده رسول‬
‫اهلل األعظم ‪ ‬أنه قال يف حق أمري املؤمنني ‪« :‬والذي نفس حممد بيده‪ ،‬لقد ابتدأ بالصحف‬
‫التي أنزهلا اهلل عىل آدم وابنه شيث فتالها من أول حرف إىل آخر حرف‪ ،‬حتى لو حرض شيث‬
‫ألقر بأنه أقرأ هلا منه‪ ،‬ثم تال صحف نوح حتى لو حرض نوح ألقر أنه أقرأ هلا منه‪ ،‬ثم تال صحف‬
‫إبراهيم حتى لو حرض إبراهيم ألقر أنه أقرأ هلا منه‪ ،‬ثم تال زبور داود حتى لو حرض داود ألقر‬
‫أنه أقرأ هلا منه‪ ،‬ثم تال توراة موسى حتى لو حرض موسى ألقر أنه أقرأ‪ ،‬ثم قرأ إنجيل عيسى‬
‫حتى لو حرض عيسى ألقر بأنه أقرأ هلا منه‪ ،‬ثم خاطبني وخاطبته بام خياطب به األنبياء ثم عاد‬
‫إىل طفولتيه‪ ،‬وهكذا سبيل االثني عرش إما ًما من ولده يفعلون يف والدهتم مثله» (‪.)2‬‬

‫تصحح‬
‫ّ‬ ‫أيضا‪ ،‬فهي‬ ‫والتعليق‪َّ :‬‬
‫أن نكتة التغليب اجلارية يف الرواية السالفة جارية هنا ً‬
‫إطالق عنوان (االثني عرش) عىل األئمة ‪ ‬من ولد أمري املؤمنني ‪ ،‬وإن كانوا يف الواقع‬
‫علام َّ‬
‫أن روايات اخلصيبي ميدان لألخذ والر ّد الكبريين‪.‬‬ ‫عرش إما ًما‪ً ،‬‬
‫أحد َ‬

‫(‪ )1‬كفاية األثر‪.173 :‬‬


‫(‪ )2‬اهلداية الكربى‪ :‬ص‪.101 - 100‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪234‬‬

‫الرواية الثامنة‪ :‬ويروُّيا شيخ الطائفة الطويس ‪ ‬بسنده عن األصبغ بن نباتة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫مفكرا‬
‫ً‬ ‫«أتيت أمري املؤمنني ‪ ‬فوجدته ينكت يف األرض‪ ،‬فقلت له‪ :‬يا أمري املؤمنني‪ ،‬ما يل أراك‬
‫تنكت يف األرض؟ أرغبة منك فيها؟ قال‪ :‬ال واهلل ما رغبت فيها وال يف الدنيا قط‪ ،‬ولكني‬
‫عدال وقس ًطا‬
‫تفكّرت يف مولود يكون من ظهر احلادي عرش من ولدي‪ ،‬هو املهدي الذي يمألها ً‬
‫وجورا» (‪.)1‬‬
‫ً‬ ‫ظلام‬
‫كام ملئت ً‬

‫والتعليق‪َّ :‬‬
‫أن هذه الرواية ال ختلو عن تصحيف؛ إذ أهنا قد وردت يف بعض النسخ‬
‫(من ظهري) – كام يف الكايف وكامل الدين (‪ – )2‬ويف بعضها قد جاءت من غري عبارة (من‬
‫ولدي) – كام يف دالئل اإلمامة (‪ – )3‬مع أنه باإلمكان أن تكون عبارة (من ولدي) وص ًفا‬
‫للمولود‪ ،‬وليست وص ًفا للحادي عرش‪ ،‬وعىل ّ‬
‫كل التقادير فاالستدالل بالرواية ممنوع‪.‬‬

‫نبي اهلل‬
‫الرواية التاسعة‪ :‬ويروُّيا سليم بن قيس يف كتابه‪ ،‬عن سلامن املحمدي ‪ ،‬عن ّ‬
‫األعظم ‪ ‬خماط ًبا أمري املؤمنني ‪« :‬أال َّ‬
‫وإن اهلل نظر نظرة ثانية فاختار بعدنا اثني عرش وص ًيا‬
‫من أهل بيتي» (‪.)4‬‬

‫حمقق الكتاب يف مقدمته (‪–)5‬‬ ‫أن هنالك بعض نسخ الكتاب– كام أشار لذلك ّ‬ ‫والتعليق‪ّ :‬‬
‫قد جاءت فيها العبارة‪( :‬فاختار بعدي)‪ ،‬وهذا ٍ‬
‫كاف ملنع االستدالل بالرواية‪ ،‬ويؤ ّيده ما ورد‬

‫(‪ )1‬الغيبة‪ :‬ص‪.165‬‬


‫(‪ )2‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪ .338‬كامل الدين ومتام النعمة‪ :‬ص‪.289‬‬
‫(‪ )3‬دالئل اإلمامة‪ :‬ص‪.530‬‬
‫(‪ )4‬كتاب سليم بن قيس‪ :‬ص‪.380‬‬
‫(‪ )5‬كتاب سليم بن قيس (املقدمة)‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.181‬‬
‫‪235‬‬ ‫البحث الثامن‪ :‬تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية‬

‫يف موضع آخر من كتاب سليم عن النبي ‪َّ « :‬‬


‫إن اهلل نظر نظرة ثالثة فاختار منهم بعدي اثني‬
‫عرش وص ًيا من أهل بيتي‪ ،‬وهم خيار أمتي‪ ،‬منهم أحد عرش إما ًما بعد أخي» (‪.)1‬‬

‫الرواية العارشة‪ :‬ما رواها املؤرخ املسعودي عن كتاب سليم بن قيس اهلاليل‪َّ :‬‬
‫أن النبي‬
‫‪ ‬قال ألمري املؤمنني عَل بن أيب طالب ‪« :‬أنت واثنا عرش من ولدك أئمة احلق» (‪.)2‬‬

‫أن الرواية ال وجود هلا يف كتاب (سليم بن قيس) املوجود بني أيدينا‪ ،‬فلع ّلها‬
‫والتعليق‪َّ :‬‬
‫من مجلة ما ُد َّس عليه‪ ،‬وعليه فهي مما ال يصح االحتجاج به‪.‬‬

‫يد‪َ ،‬ر َف َعه َع ْن‬‫الرواية احلادية عرشة‪ :‬ويروُّيا ثقة اإلسالم الكليني ‪ ‬بسنده َعن َأ ِيب س ِع ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ون‪،‬‬ ‫رش ن َِقي ًبا‪ ،‬ن َُج َبا ُء ُحم َدَّ ُث َ‬
‫ون ُم َف َّه ُم َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ول اهللَّ ‪ :‬م ْن ُو ْلد َي ا ْثنَا َع َ َ‬ ‫َأ ِيب َج ْع َف ٍر ‪َ ‬ق َال‪َ « :‬ق َال َر ُس ُ‬

‫أل َها عَدْ ًال كَ َام ُملِ َئ ْت َج ْو ًرا» (‪.)3‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آخ ُر ُه ُم ا ْل َقائ ُم بِ ْ َ‬
‫احل ِّق‪َ ،‬ي ْم ُ‬

‫أيضا‪ ،‬وشاهد تصحيفها‪ :‬أهنا قد رويت يف نفس أصل أيب سعيد‬


‫مصحفة ً‬
‫ّ‬ ‫وهذه الرواية‬
‫العصفري الواصل إلينا بالنحو التايل‪ :‬رفعه إىل أيب جعفر ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪:‬‬
‫باحلق‪ ،‬يملؤها ً‬
‫عدال كام‬ ‫مفهمون‪ ،‬آخرهم القائم ّ‬ ‫ِ‬
‫«من ولدي أحد عرش نقي ًبا‪ ،‬نجباء‪ ،‬حمدَّ ثون َّ‬
‫جورا» (‪.)4‬‬
‫ملئت ً‬

‫الرواية الثانية عرشة‪ :‬عن النبي األعظم ‪« :‬يا عَل أنت مني وأنا منك‪ ،‬وأنت أخي‬
‫ووزيري‪ ،‬فإذا مت ظهرت لك ضغائن يف صدور قوم‪ ،‬وسيكون بعدي فتنة صامء صيلم يسقط‬

‫(‪ )1‬كتاب سليم بن قيس‪ :‬ص‪.236‬‬


‫(‪ )2‬التنبيه واألرشاف‪ :‬ص‪.198‬‬
‫(‪ )3‬الكايف الرشيف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.534‬‬
‫(‪ )4‬األصول الستة عرش‪ :‬ص‪.136‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪236‬‬

‫فيها كل وليجة وبطانة‪ ،‬وذلك عند فقدان شيعتك اخلامس من السابع من ولدك‪ ،‬حيزن لفقده‬
‫متلهف حريان عند فقده» (‪.)1‬‬
‫متأسف ّ‬
‫أهل األرض والسامء‪ ،‬فكم مؤمن ومؤمنة ّ‬

‫وال خيفى َّ‬


‫أن صدر الرواية من املتشابه‪ ،‬بينام ذيلها من املحكم؛ إذ أهنا تقول بعد‬
‫أسطر‪« :‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬فكم يكون بعدي من األئمة؟ قال‪ :‬بعد احلسني تسعة‪ ،‬والتاسع‬
‫قائمهم» (‪ ،)2‬فينبغي ر ّد متشاهبها إىل حمكمها‪.‬‬

‫وحينئذ فمن املحتمل أن يكون قوله‪( :‬من ولدك) بيانًا للخامس‪ ،‬وليس بيانًا للسابع‪،‬‬
‫ّ‬
‫وكأن الرواية تقول‪« :‬عند فقدان شيعتك اخلامس من ولدك من ولد السابع من األئمة»‪ ،‬كام‬
‫وحيتمل أن تكون كلمة (ولدك) زائدة الكاف ومتأخرة املوقع‪ ،‬وكأهنا قالت‪« :‬عند فقدان‬
‫ُ‬
‫شيعتك اخلامس من ولد السابع»‪ ،‬ويؤ ّيد هذا االحتامل وقوع مثله يف الروايات‪ ،‬كقول اإلمام‬
‫الكاظم ‪« :‬إذا فقد اخلامس من ولد السابع فاهلل اهلل يف أديانكم ال يزيلكم عنها أحد» (‪.)3‬‬

‫التمسك بمتشاهبها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وباجلملة‪َّ ،‬‬
‫فإن حمكم ذيل الرواية يمنع من‬

‫وعىل ضوء ما ذكرناه قد تُثار بعض عالمات االستفهام حول د ّقة الضبط يف كتب وجماميع‬
‫ولكن الذي ينبغي االلتفات إليه هو َّ‬
‫أن نفوذ التصحيف‬ ‫َّ‬ ‫احلديث عندنا – ككتاب الكايف ً‬
‫مثال –‬
‫إىل الرواية وإن كان بسبب تسامح بعض الرواة أحيانًا‪ ،‬أو عدم د ّقة بعض أصحاب املجاميع‬
‫النساخ‪ ،‬وهذا ما يقتيض رضورة االهتامم‬ ‫أحيانًا أخرى‪ ،‬إال أنه يف ٍ‬
‫كثري من األحيان يكون بسبب ّ‬
‫بمقابلة النسخ‪ ،‬وضبط متون األخبار والروايات‪ ،‬من أجل الوصول إىل ٍ‬
‫نص دقيق ونقي‪.‬‬

‫(‪ )1‬كفاية األثر‪ :‬ص‪.158‬‬


‫(‪ )2‬كفاية األثر‪ :‬ص‪.159‬‬
‫(‪ )3‬الكايف‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.336‬‬
‫البحث التاسع‪ :‬مشول اإلمامة اإلهلية لإلمامة السياسية‬

‫وفيه ثالثة حماور رئيسية‪:‬‬

‫املحور األول‪ :‬وقفة مع املصطلح‪.‬‬

‫يرسب إىل الفكر الشيعي‬ ‫ابتدا ًء ال بدَّ من االلتفات إىل َّ‬


‫أن بعض املعارصين قد حاول أن ّ‬
‫اصطالحني ال أساس هلام‪ ،‬وإنام استحدثهام غري الشيعة لتصحيح خالفة األوائل‪ ،‬ومها‪:‬‬

‫• االصطالح األول‪ :‬اإلمامة السياسية‪ ،‬و ُيراد هبا‪ :‬قيادة األمة وتنظيم أمرها‪.‬‬
‫• االصطالح الثاين‪ :‬اإلمامة الدينية‪ ،‬و ُيراد هبا‪ :‬املرجعية يف األمور الدينية‪.‬‬

‫وقد عمد البعض إىل إحداث هذين املصطلحني ألجل إُّيام الناس َّ‬
‫أن النبي ‪ ‬إنام‬
‫أوّص ألهل البيت ‪ ‬باإلمامة الدينية‪ ،‬وأما اخلالفة الظاهرية واحلكومة السياسية فهي‬
‫لغريهم‪ ،‬وهبذا تندفع إشكاالت الشيعة عىل خالفة من َس َب َق أمري املؤمنني ‪.‬‬

‫وال شك يف َّ‬
‫أن التفكيك بني اإلمامة الدينية واإلمامة السياسية إنام يتّجه عىل ضوء مباين‬
‫مدرسة اجلمهور‪ ،‬لتفكيكهم بني العصمة واإلمامة‪ ،‬ولكنه ممتنع جدً ا ً‬
‫وفقا ملباين مدرسة‬
‫اإلمامية؛ ألهنم يؤمنون باإلمامة املعصومة‪ ،‬ومتى كان اإلمام معصو ًما لزم أن تكون مقاليد‬
‫األم ور بيده‪ ،‬ألنه املصون عن اخلطأ دون سواه‪ ،‬فالعجب من بعض الشيعة الذين تناغموا مع‬
‫وروجوا هلا‪ ،‬ومل يلتفتوا إىل خطأ مبانيها‪.‬‬
‫الفكرة ّ‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪238‬‬

‫املحور الثاين‪ :‬أدلة ثبوت اإلمامة السياسية لألئمة ‪.‬‬

‫ولكن مع التنزل‪ ،‬والبناء عىل إمكان التفكيك بني اإلمامتني‪ ،‬فإنه يمكن االستدالل عىل‬
‫ثبوت اإلمامة السياسية ألهل البيت ‪ ‬بنوعني من األدلة‪:‬‬

‫النوع األول‪ :‬األدلة العامة‪ ،‬وهي األدلة التي تثبت اإلمامة اإلهلية بعرضها العريض ألئمة‬
‫أهل البيت ‪ ،‬فإنه يمكن إثبات اإلمامة السياسية هلم ‪ ‬بكل ما يدل عىل إمامتهم اإلهلية؛ َّ‬
‫ألن‬
‫اإلمامة السياسية منطوية ضمنها‪ ،‬كام أوضحناه يف غري موضع من هذا الكتاب‪ ،‬فلرياجع‪.‬‬

‫النوع الثاين‪ :‬األدلة اخلاصة‪ ،‬وهي الناظرة بشكل أويل لإلمامة السياسية ‪ -‬سواء كانت‬
‫أيضا‪ ،‬أم ال – وهذه األدلة كثرية‪ ،‬ولكننا نكتفي منها يف املقام بدليلني‪:‬‬
‫ناظرة لغريها ً‬

‫الدليل األول‪ :‬حديث الدار‪.‬‬

‫وقد ُأ ْر ِسل هذا احلديث إرسال املسلامت يف كتب القوم لكثرة رواته‪ ،‬فقد رواه الطربي يف‬
‫تارخيه(‪ )1‬وتفسريه(‪ ،)2‬وأمحد بن حنبل يف مسنده(‪ ،)3‬والنسائي يف اخلصائص(‪ ،)4‬وإليك احلديث‬
‫–واللفظ للطربي‪« :-‬عن عبد اهلل بن عباس‪ ،‬عن عَل بن أيب طالب‪ ،‬قال‪ :‬ملَّا نزلت هذه اآلية‬
‫ني﴾‪ ،‬دعاين رسول اهلل ‪ ‬فقال يل‪ :‬يا عَل‪َّ ،‬‬
‫إن‬ ‫عىل رسول اهلل ‪َ ﴿ :‬و َأن ِْذ ْر َع ِش َريت َ‬
‫َك األَ ْق َربِ َ‬
‫اهلل أمرين أن أنذر عشرييت األقربني‪ ....‬ثم تكلم رسول اهلل ‪ ، ‬فقال‪ :‬يا بني عبد املطلب‪ ،‬إين‬
‫واهلل ما أعلم شا ًبا يف العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به‪ ،‬إين قد جئتكم بخري الدنيا‬

‫(‪ )1‬تاريخ الطربي ج‪ 2‬ص‪.321 - 319‬‬


‫(‪ )2‬تفسري الطربي‪ :‬ج‪ ،11‬ص‪ ،148‬مع اختالف‪.‬‬
‫(‪ )3‬مسند أمحد بن حنبل بتحقيق األرنؤوط‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.225‬‬
‫(‪ )4‬السنن الكربى للنسائي بإرشاف األرنؤوط‪ :‬ج‪ ،7‬ص‪.432‬‬
‫‪239‬‬ ‫البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية‬

‫واآلخرة‪ ،‬وقد أمرين اهلل تعاىل أن أدعوكم إليه‪ ،‬فأيكم يؤازرين عىل هذا األمر عىل أن يكون أخي‬
‫ووصيي وخليفتي فيكم؟ قال‪ :‬فأحجم القوم عنها مجي ًعا‪ ،‬وقلت‪ :‬وإين ألحدثهم سنًا‪،‬‬
‫وأرمصهم عينًا‪ ،‬وأعظمهم بطنًا‪ ،‬وأمحشهم سا ًقا‪ ،‬أنا يا نبي اهلل أكون وزيرك عليه‪ ،‬فأخذ‬
‫برقبتي‪ ،‬ثم قال‪َّ :‬‬
‫إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم‪ ،‬فاسمعوا له وأطيعوا‪ .‬قال‪ :‬فقام القوم‬
‫يضحكون‪ ،‬ويقولون أليب طالب‪ :‬قد أمرك أن تسمع البنك وتطيع» (‪.)1‬‬

‫وتقريب االستدالل هبذا احلديث عىل اإلمامة السياسية بفقرتني منه‪:‬‬

‫الفقرة األوىل‪ :‬قوله ‪« :‬فأيكم يؤازرين عىل هذا األمر عىل أن يكون أخي ووصيي‬
‫وخليفتي»‪ ،‬فإنه دال عىل احلاكمية بوضوح‪.‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬قوله ‪« :‬فاسمعوا له وأطيعوا»‪َّ ،‬‬


‫فإن أمر النبي ‪ ‬بطاعة عَل ‪ ‬قد‬
‫حاكام وقائدً ا‪ ،‬بقرينة استهزائهم هبذا األمر‪،‬‬
‫ً‬ ‫فهم منه احلارضون آنذاك أنه قد نصبه عليهم‬
‫وقوهلم أليب طالب ‪« :‬قد أمرك أن تسمع البنك وتطيع»‪.‬‬

‫الدليل الثاين‪ :‬حديث الغدير‪.‬‬

‫وهو قول النبي ‪« :‬من كنت مواله فهذا عَل مواله» (‪ ،)2‬وهو مقرتن بقرائن تدل عىل‬
‫َّ‬
‫أن اإلمامة السياسية مقصودة منه‪ ،‬ونحن نكتفي بقرينتني يف املقام‪:‬‬

‫القرينة األوىل‪ :‬التمهيد الذي َم َّهدَ به النبي ‪ ‬حيث سأل الناس‪« :‬ألست أوىل بكم من‬
‫أنفسكم‪ ،‬قالوا‪ :‬بىل»‪ ،‬ويف رواية أخرى‪« :‬من أوىل باملؤمنني من أنفسهم؟ قالوا‪ :‬أنت يا رسول‬

‫(‪ )1‬تاريخ الطربي‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.321 - 319‬‬


‫(‪ )2‬تقدم خترجيه يف ص‪.269‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪240‬‬

‫اهلل» (‪ ،)1‬فإن األولوية بالنفس تعني أحقية التْصف هبا‪ ،‬وهذا يقتيض أنه إذا أمرهم بأمر وجب‬
‫عليهم االمتثال‪ ،‬وإذا هناهم عن يشء وجب عليهم االنتهاء عنه‪ ،‬وهذا هو معنى احلاكمية‬
‫فرع عىل ذلك قوله‪« :‬من كنت مواله فهذا عَل مواله»‪ ،‬وهبذا يثبت َّ‬
‫أن عل ًيا ‪‬‬ ‫والقيادة‪ ،‬ثم ّ‬
‫له نفس مقام الوالية عىل النفس‪.‬‬

‫القرينة الثانية‪ :‬احتجاج أمري املؤمنني والصديقة الزهراء ‪ ‬هبذا احلديث يف مقام‬
‫املحاججة عىل أهنم األحق باإلمامة السياسية‪ ،‬ومل ينكر عليهم أحد من الصحابة ذلك‪ ،‬وال قال‬
‫هلم قائل‪ :‬إننا مل نفهم من قول رسول اهلل ‪ ‬أنك حاكم علينا‪ ،‬وقائد لنا‪ ،‬وأوىل منَّا بأنفسنا‪.‬‬

‫أما احتجاج أمري املؤمنني ‪ : ‬فقد رواه اخلوارزمي يف (املناقب) بسنده عن عامر بن‬
‫واثلة‪ ،‬قال‪« :‬كنت عىل الباب يوم الشورى مع عَل ‪ ‬يف البيت‪ ،‬وسمعته يقول هلم‪ :‬ألحتجن‬
‫عليكم بام ال يستطيع عربيكم وال عجميكم تغيري ذلك‪ ،‬فأنشدكم باهلل‪ :‬هل فيكم أحد قال له‬
‫رسول اهلل ‪ :‬من كنت مواله فعَل مواله‪ ،‬اللهم وال من وااله‪ ،‬وعاد من عاداه‪ ،‬وانْص من‬
‫نْصه‪ ،‬ليبلغ الشاهد الغائب‪ ،‬غريي؟ قالوا‪ :‬اللهم ال» (‪.)2‬‬

‫وأما احتجاج الصديقة الزهراء ‪ :‬فقد رواه الشيخ الطربيس ‪ ‬يف االحتجاج‪:‬‬
‫«وخرجت فاطمة بنت رسول اهلل ‪ ‬إليهم فوقفت خلف الباب ثم قالت‪ :‬ال عهد يل بقوم‬
‫حمرضا منكم‪ ،‬تركتم رسول اهلل ‪ ‬جنازة بني أيدينا‪ ،‬وقطعتم أمركم فيام بينكم‪ ،‬ومل‬
‫ً‬ ‫أسوأ‬
‫تؤمرونا ومل تروا لنا ًّ‬
‫حقا‪ ،‬كأنكم مل تعلموا ما قال يوم غدير خم‪ ،‬واهلل لقد عقد له يومئذ الوالء‬

‫(‪ )1‬مناقب عَل البن املغازيل ص‪ ،46‬فضائل الصحابة ج‪ 2‬ص‪ ،596‬وتفسري الثعلبي ج‪ 4‬ص‪ ،92‬مصنف ابن أيب شيبة ج‪6‬‬
‫ص‪.372‬‬
‫(‪ )2‬املناشدة واالحتجاج بحديث الغدير للعالمة األميني‪ :‬ص‪.4‬‬
‫‪241‬‬ ‫البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية‬

‫ليقطع منكم بذلك منها الرجاء‪ ،‬ولك نكم قطعتم األسباب بينكم وبني نبيكم‪ ،‬واهلل حسيب بيننا‬
‫وبينكم يف الدنيا واآلخرة» (‪.)1‬‬

‫املحور الثالث‪ :‬معاجلة شبهة عدم ثبوت اإلمامة السياسية ألهل البيت ‪.‬‬

‫قد يقال‪ :‬إنَّنا نس ّلم بصدور النصوص املذكورة – وغريها – عن اهلل ورسوله ‪ ،‬بل َّ‬
‫إن‬
‫كثريا منها متواتر عنه ‪ ،‬ولكننا ال نس ّلم بداللتها عىل ثبوت اإلمامة السياسية ألمري املؤمنني‬
‫ً‬
‫‪ ،‬بل غايتها احلديث عن فضائل ومناقب له ‪ ،‬وذلك ألربعة من ّبهات‪:‬‬

‫املنبه األول‪َّ :‬‬


‫إن أمري املؤمنني ‪ ‬نفسه مل يستند إىل النصوص املذكورة إلثبات إمامته‬
‫وخالفته ‪ ،‬فلو كانت هذه النصوص نصوص إمامة الستند ‪ ‬إليها؛ لكوهنا أرصح يف احلجة‬
‫وأقوى يف الربهان أمام خصومه ومناوئيه‪.‬‬

‫املنبه الثاين‪ :‬وهو يرتكز عىل مسلمتني تارخييتني‪:‬‬

‫• األوىل‪َّ :‬‬
‫إن أمري املؤمنني ‪ ‬أشجع الناس‪.‬‬
‫• واألخرى‪ :‬سكوته وسلميته وعدم مطالبته بحقه‪ ،‬من بعد وفاة النبي األعظم‬
‫أن تس ّلم مقاليد احلكم‪.‬‬
‫‪ ‬إىل َّ‬

‫وبنا ًء عليه‪َّ ،‬‬


‫فإن ما يناسب املتسامل تارخي ًيا هو أن تكون النصوص املذكورة نصوص مناقب‬
‫وفضائل علوية ليس إال؛ إذ لو كانت يف مقام التنصيص عىل إمامته ‪ ‬لكان األوىل أن ال‬
‫يسكت عن حقه‪ ،‬وهو أربط العرب ً‬
‫جأشا‪.‬‬

‫(‪ )1‬االحتجاج للشيخ الطربيس‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.105‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪242‬‬

‫املنبه الثالث‪ :‬عدم نجاح أمري املؤمنني ‪ ‬يف حكومته‪َّ ،‬‬


‫فإن هذا مما يوهن احتامل تنصيص‬
‫الشارع عليه وترجيحه عىل غريه‪ ،‬واحلال أنه ال يتصف بالكفاءة املطلوبة لقيادة األمة‪.‬‬

‫املنبه الرابع‪ :‬عدم تصدي أهل البيت ‪ ‬قاطبة لإلمامة السياسية‪ ،‬سوى أمري املؤمنني‬
‫وسيد الشهداء ‪ ،‬بل َّ‬
‫إن بعض األئمة ‪ -‬كاإلمام الرضا ‪ - ‬قد وصلت إليه اإلمامة‬
‫السياسية‪ ،‬ومع ذلك أعرض عنها ومل يتصدَّ هلا‪.‬‬

‫اجلواب عن املنبه األول‪ :‬عدم احتجاج أمري املؤمنني ‪ ‬بنصوص اإلمامة‪.‬‬


‫ُ‬
‫وجياب عن املن ّبه األول‪َّ :‬‬
‫بأن أمري املؤمنني ‪ ‬قد اعتمد أساليب متعدّ دة ومتنوعة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫أسلوب واحد‪ ،‬وذلك ألجل سدَّ املنافذ عىل‬ ‫إلثبات إمامته واالستدالل عليها‪ ،‬ومل يقتْص عىل‬
‫وأهم األساليب التي اعتمدها ثالثة‪:‬‬
‫ه‬ ‫مجيع َمن حياول تربير ختاذله عن نْصته ‪ ‬وبيعته‪،‬‬

‫األسلوب األول‪ :‬إقامة احلجة‪.‬‬

‫وامللفت يف تاريخ أمري املؤمنني ‪ ‬أنه ما كانت متر عليه فرصة – يستطيع من خالهلا أن‬
‫يصدح بقضية خالفته – إال وكان يستغلها ألجل إقامة احلجة عىل أنَّه األوىل باألمر بعد رسول‬
‫اهلل ‪ ،‬وكان ‪ ‬يستند إىل النصوص الدالة عىل إمامته يف مقام إثبات ذلك‪ ،‬ويف هذا كفاية‬
‫عىل داللة تلك النصوص عىل التنصيص‪.‬‬

‫وكان (حديث الغدير) من أهم النصوص التي استند إليها أمري املؤمنني ‪ ‬ألجل إقامة‬
‫احلجة عىل الناس وخماصمتهم‪ ،‬وقد رصدت كتب السري واحلديث العديد من املواقف التي‬
‫استثمرها أمري املؤمنني ‪ ‬يف سبيل إثبات ذلك‪ ،‬وإليك بعضها‪:‬‬
‫‪243‬‬ ‫البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية‬

‫املوقف األول‪ :‬احتجاجه ‪ ‬يف يوم السقيفة حني جاؤوا به مقيدً ا وطلبوا منه البيعة‪،‬‬
‫حيث قال ‪ ‬يومها‪« :‬يا معارش املهاجرين واألنصار‪ ،‬اهلل اهلل ال تنسوا عهد نبيكم إليكم يف‬
‫أمري‪ ،‬وال خترجوا سلطان حممد من داره وقعر بيته إىل دوركم وقعر بيوتكم‪ ،‬وال تدفعوا أهله‬
‫عن حقه ومقامه يف الناس‪.‬‬
‫فواهلل معارش اجلمع َّ‬
‫إن اهلل قىض وحكم ونبيه أعلم‪ ،‬وأنتم تعلمون بأنا أهل البيت أحق‬
‫هبذا األمر منكم‪ ،‬أما كان القارئ منكم لكتاب اهلل الفقيه يف دين اهلل املضطلع بأمر الرعية‪ ،‬واهلل‬
‫إنه لفينا ال فيكم‪ ،‬فال تتبعوا اهلوى فتزدادوا من احلق بعدً ا‪ ،‬وتفسدوا قديمكم برش من حديثكم‪.‬‬

‫فقال بشري بن سعد األنصاري الذي و ّطأ األرض أليب بكر‪ ،‬وقالت مجاعة من األنصار‪:‬‬
‫يا أبا احلسن لو كان هذا األمر سمعته منك األنصار قبل بيعتها أليب بكر ما اختلف فيك اثنان‪.‬‬
‫أدع رسول اهلل مسجى ال أواريه‪ ،‬وأخرج أنازع يف سلطانه‪ ،‬واهلل‬
‫فقال عَل ‪ :‬يا هؤالء كنت ُ‬
‫ما خفت أحدً ا يسمو له وينازعنا أهل البيت فيه‪ ،‬ويستحل ما استحللتموه‪ ،‬وال علمت َّ‬
‫أن‬
‫مقاال‪ ،‬فأنشد اهلل ً‬
‫رجال سمع النبي يوم‬ ‫رسول اهلل ‪ ‬ترك يوم غدير خم ألحد حجة وال لقائل ً‬
‫غدير خم يقول‪" :‬من كنت مواله فهذا عَل مواله‪ ،‬اللهم وال من وااله‪ ،‬وعاد من عاداه‪ ،‬وانْص‬
‫من نْصه‪ ،‬واخذل من خذله" أن يشهد اآلن بام سمع» (‪.)1‬‬

‫عَل ‪‬‬
‫املوقف الثاين‪ :‬احتجاجه يوم الشورى‪ ،‬فعن عن عامر بن واثلة قال‪ :‬كنت مع ّ‬
‫ألحتج ّن عليكم بام ال يستطيع عرب هيكم وال‬
‫ّ‬ ‫فسمعت عل ًيا يقول هلم‪« :‬‬
‫ُ‬ ‫يف البيت يوم الشورى‬
‫فأنشدكم باهلل هل فيكم أحد قال له‬ ‫غري ذلك»‪ ،‬ثم أنه قال هلم يف مجلة ما قال‪ُ « :‬‬ ‫عجم هيكم ُي ّ‬
‫ِ‬
‫وعاد من عاداه‪ ،‬ليب ّلغ الشاهد‬ ‫نت مواله َفعَل مواله‪ ،‬اللهم ِ‬
‫وال من وااله‬ ‫رسول اهلل ‪َ " :‬م ْن ُك ُ‬
‫ّ‬ ‫َ‬

‫(‪ )1‬االحتجاج‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.96‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪244‬‬

‫تنصيصا عىل‬
‫ً‬ ‫اللهم ال» (‪ .)1‬وبه يعلم أنه كان يرى حديث الغدير‬
‫ّ‬ ‫منكم الغائب" غريي؟ قالوا‪:‬‬
‫إمامته‪ ،‬ولذا كان يتحداهم أن يأتوا بمثله (‪.)2‬‬

‫وروى الشيخ الطربيس ‪ ‬عن اإلمام الباقر ‪« :‬إن عمر بن اخلطاب ملَّا حرضته الوفاة‬
‫وأمجع عىل الشورى‪ ،‬بعث إىل ستة نفر من قريش‪ :‬إىل عَل بن أيب طالب‪ ،‬وإىل عثامن بن عفان‪،‬‬
‫وإىل زبري بن العوام‪ ،‬وإىل طلحة بن عبيد اهلل‪ ،‬وعبد الرمحن بن عوف‪ ،‬وسعد بن أيب وقاص‪،‬‬
‫وأمرهم أن يدخلوا إىل ٍ‬
‫بيت وال خيرجوا منه حتى يبايعوا ألحدهم‪ ،‬فإن اجتمع أربعة عىل واحد‬
‫وأبى واحد أن يبايعهم قتل‪ ،‬وإن امتنع اثنان وبايع ثالثة ُقتِال‪ ،‬فأمجع رأُّيم عىل عثامن‪.‬‬

‫هم القوم به من البيعة لعثامن قام فيهم ليتخذ عليهم احلجة‪،‬‬


‫فلام رأى أمري املؤمنني ‪ ‬ما َّ‬
‫َّ‬
‫حقا فاقبلوا‪ ،‬وإن يك ً‬
‫باطال فأنكروا‪...‬‬ ‫فقال ‪ ‬هلم‪ :‬اسمعوا مني كالمي‪ ،‬فإن يك ما أقول ً‬
‫ثم قال‪ :‬نشدتكم باهلل هل فيكم أحد نصبه رسول اهلل ‪ ‬يوم غدير خم بأمر اهلل تعاىل‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫" من كنت مواله فعَل مواله‪ ،‬اللهم وال من وااله‪ ،‬وعاد من عاداه" غريي؟ قالوا‪ :‬ال» (‪.)3‬‬

‫املوقف الثالث‪ :‬احتجاجه ‪ ‬بحديث الغدير يف املسجد أيام خالفة عثامن بن عفان‪،‬‬
‫وقد نقله احلمويني يف (فرائد السمطني) وعنه نقله القندوزي يف (ينابيع املودة)‪ ،‬قال‪ :‬ومنه‪:‬‬

‫(‪ )1‬املناقب‪ ،‬البن املغازيل‪ :‬ص‪.116‬‬


‫(‪ )2‬وال ُيقال‪ :‬إ َّن جمرد االحتجاج ال يعني بالرضورة كون احلديث ً‬
‫نصا عىل اإلمامة؛ ألنه ‪ ‬يف احتجاجه عىل أصحاب الشورى‬
‫قد استدل ببعض أحاديث الفضائل‪ ،‬وليس كل ما استدل به من أحاديث اإلمامة‪ ،‬مثل أ َّن النبي ‪ ‬قد اشرتى له طعا ًما وأطعمه إياه‬
‫وكان جائ ًعا ‪ ،‬وغريها‪.‬‬
‫ألنه ُيقال‪ :‬إ َّن مجيع ما استند إليه أمري املؤمنني ‪ ‬ال بدَّ أن يكون من أدلة اإلمامة‪ ،‬غاية ما هنالك أ َّن بعضها يدل عليها بالداللة‬
‫صح له ‪ ‬أن حيتج هبا عىل‬
‫املطابقية‪ ،‬كحديث الغدير‪ ،‬وبعضها يدل بالداللة االلتزامية‪ ،‬ولو مل تكن األدلة املذكورة تامة الداللة ملا َّ‬
‫صح من القوم السكوت عنه وعدم مقارعة حجته‪.‬‬
‫القوم‪ ،‬وخياصمهم عىل أنه األوىل باألمر واألحق به‪ ،‬وملا َّ‬
‫(‪ )3‬االحتجاج‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.196‬‬
‫‪245‬‬ ‫البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية‬

‫ول َو ُأ ْو ِيل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫الر ُس َ‬‫ين آ َمنُو ْا َأطي ُعو ْا اهللَّ َو َأطي ُعو ْا َّ‬ ‫«فأنشدكم اهلل‪ ،‬أتعلمون حيث نزلت‪َ ﴿ :‬يا َأ ه َُّيا ا َّلذ َ‬
‫الص َ‬
‫ال َة‬ ‫يم َ‬ ‫األَم ِر ِمنكُم﴾؟ وحيث نزلت‪﴿ :‬إِنَّام ولِيكُم اهللُّ ورسو ُله وا َّل ِذين آمنُو ْا ا َّل ِذ ِ‬
‫ون َّ‬ ‫ين ُيق ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ ُ ُ َ‬ ‫َ َ ه ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الزكَا َة َو ُه ْم َراكِ ُع َ‬
‫ين‬ ‫ون﴾؟ وحيث نزلت‪َ ﴿ :‬أ ْم َحس ْبت ُْم َأن ت ْ َ‬
‫ُرتكُو ْا َوملََّا َي ْع َل ِم اهللُّ ا َّلذ َ‬ ‫َو ُي ْؤت َ‬
‫ُون َّ‬
‫يج ًة﴾؟ قال النّاس‪ :‬يا رسول‬ ‫ون اهللِّ والَ رسول ِ ِه والَ ا ُْمل ْؤ ِمن ِ َ ِ‬ ‫َّخ ُذو ْا ِمن د ِ‬
‫جاهدُ و ْا ِمنكُم و َمل يت ِ‬
‫ني َول َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ َْ‬ ‫َ َ‬
‫خاصة يف بعض املؤمنني أم عا ّمة جلميعهم؟ فأمر اهلل ‪ ‬نبيه ‪ ‬أن يع ّلمهم والة أمرهم‪،‬‬ ‫اهلل‪ّ ،‬‬
‫وحجهم‪ ،‬فينصبني للنّاس بغدير‬
‫ّ‬ ‫فرس هلم من صالهتم وزكاهتم‬
‫يفرس هلم من الوالية ما ّ‬
‫وأن ّ‬
‫إن اهلل أرسلني برسالة ضاق هبا صدري‪ ،‬وظننت ّ‬
‫أن النّاس‬ ‫خم ثم خطب وقال‪ّ :‬أُّيا الناس ّ‬
‫ّ‬
‫ثم خطب فقال‪ّ :‬أُّيا النّاس‬
‫بالصالة جامعة ّ‬
‫ثم أمر فنودي ّ‬ ‫مكذيب فأوعدين ألب ّلغها أو ّ‬
‫ليعذبني‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫أتعلمون ّ‬
‫أن اهلل ‪ ‬موالي‪ ،‬وأنا موىل املؤمنني‪ ،‬وأنا أوىل هبم من أنفسهم؟ قالوا‪ :‬بىل يا رسول‬
‫اهلل‪ ،‬قال‪ :‬قم يا عَل‪ ،‬فقمت فقال‪ :‬من كنت مواله فعَل هذا مواله‪ ،‬اللهم وال من وااله وعاد‬
‫من عاداه‪.‬‬

‫فقام سلامن فقال‪ :‬يا رسول اهلل والء كامذا؟ فقال‪ :‬والء كواليتي‪ ،‬من كنت أوىل به من‬
‫نفسه‪ ،‬فعَل أوىل به من نفسه‪ ،‬فأنزل اهلل تعاىل ذكره‪﴿ :‬ا ْل َي ْو َم َأ ْك َم ْل ُت َلك ُْم ِدينَك ُْم َو َأ ْمت َ ْم ُ‬
‫ت َع َل ْيك ُْم‬
‫نبويت ومتام دين اهلل‬ ‫ِ‬ ‫نِ ْع َمتِي َو َر ِض ُ‬
‫يت َلك ُُم ِ‬
‫متام ّ‬ ‫فكرب النبي ‪ ‬وقال‪ :‬اهلل أكرب‪ُ ،‬‬ ‫اإل ْسال ََم دينًا﴾‪ّ ،‬‬
‫خاصة يف عَل؟ قال‪:‬‬
‫والية عَل بعدي‪ ،‬فقام أبو بكر وعمر فقاال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬هؤالء اآليات ّ‬
‫عَل أخي ووزيري‬
‫بىل‪ ،‬فيه ويف أوصيائي إىل يوم القيامة‪ .‬قاال‪ :‬يا رسول اهلل ب ّينهم لنا‪ .‬قال‪ّ :‬‬
‫ثم‬
‫ثم احلسني‪ّ ،‬‬
‫ثم ابني احلسن‪ّ ،‬‬ ‫وويل ّ‬
‫كل مؤمن بعدي‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ووارثي ووص ّيي وخليفتي يف أ ّمتي‬
‫تسعة من ولد ابني احلسني واحد بعد واحد‪ ،‬القرآن معهم وهم مع القرآن‪ ،‬ال يفارقونه وال‬
‫عَل احلوض‪.‬‬
‫يفارقهم حتى يردوا ّ‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪246‬‬

‫فقالوا ك ّلهم‪ :‬ال ّلهم نعم قد سمعنا ذلك وشهدنا كام قلت سواء‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬قد حفظنا‬
‫جل ما قلت‪ ،‬ومل نحفظه ك ّله‪ ،‬وهؤالء ا ّلذين حفظوا أخيارنا وأفاضلنا‪ ،‬فقال عَل ‪ :‬صدقتم‬
‫ّ‬
‫ليس ّ‬
‫كل النّاس يستوون يف احلفظ‪ ،‬أنشد اهلل ‪ ‬من حفظ ذلك من رسول ‪ ‬ملا قام فأخرب به‪.‬‬

‫وعامر فقالوا‪ :‬نشهد لقد‬


‫فقام زيد بن أرقم والرباء بن عازب وسلامن وأبو ذر واملقداد ّ‬
‫حفظنا قول النّبي ‪ ‬وهو قائم عىل املنرب‪ ،‬وأنت إىل جنبه‪ ،‬وهو يقول‪ :‬يا أُّيا النّاس ّ‬
‫إن اهلل ‪‬‬
‫أمرين أن أنصب لكم إمامكم‪ ،‬والقائم فيكم بعدي‪ ،‬ووص ّيي وخليفتي‪ ،‬وا ّلذي فرض اهلل ‪‬‬
‫ريب خشية‬
‫عىل املؤمنني يف كتابه طاعته فقرنه بطاعته وطاعتي‪ ،‬وأمركم بواليته‪ ،‬وإين راجعت ّ‬
‫طعن أهل النّفاق وتكذيبهم فأوعدين ألب ّلغها أو ّ‬
‫ليعذبني‪.‬‬

‫والصوم واحلج‬
‫ّ‬ ‫بالصالة فقد ب ّينتها لكم‪ ،‬وبالزكاة‬ ‫يا ّأُّيا النّاس‪ّ ،‬‬
‫إن اهلل أمركم يف كتابه ّ‬
‫عَل بن‬
‫خاصة ‪ -‬ووضع يده عىل ّ‬
‫وإين أشهدكم ّإهنا هلذا ّ‬
‫وفرسهتا‪ ،‬وأمركم بالوالية ّ‬
‫فب ّينتها لكم ّ‬
‫ثم لألوصياء من بعدهم من ولدهم‪ ،‬ال يفارقون القرآن وال‬
‫ثم البنيه بعده‪ّ ،‬‬
‫أيب طالب ‪ّ - ‬‬
‫يفارقهم القرآن حتى يردوا عىل احلوض‪.‬‬

‫عَل بن‬
‫ّأُّيا النّاس قد ب ّينت لكم مفزعكم بعدي‪ ،‬إمامكم ودليلكم وهاديكم وهو أخي ّ‬
‫أيب طالب‪ ،‬وهو فيكم بمنزلتي فيكم‪ ،‬فق ّلدوه دينكم‪ ،‬وأطيعوه يف مجيع أموركم‪ّ ،‬‬
‫فإن عنده مجيع‬
‫ما ع ّلمني اهلل من علمه وحكمته‪ ،‬فسلوه وتع ّلموا منه ومن أوصيائه بعده‪ ،‬وال تع ّلموهم وال‬
‫واحلق معهم ال يزايلوه وال يزايلهم» (‪.)1‬‬
‫ّ‬ ‫احلق‬ ‫تتقدّ موهم وال خت ّلفوا عنهم‪ّ ،‬‬
‫فإهنم مع ّ‬

‫(‪ )1‬فرائد السمطني‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪ ،314‬ينابيع املودة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.346‬‬


‫‪247‬‬ ‫البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية‬

‫املوقف الرابع‪ :‬مناشدته يف الرحبة يف أيام حكومته (‪.)1‬‬

‫وقد استفاضت املصادر بنقله‪ ،‬وممن نقله ابن األثري يف (أسد الغابة) حيث قال‪ :‬عَل بن‬
‫الناس يف الرحبة َمن سمع النبي صىل اهلل‬
‫َ‬ ‫عَل‬
‫احلسن العبدي‪ ،‬عن األصبغ بن نباتة قال‪« :‬نشد ٌ‬
‫عليه [وآله] يوم غدير خم َما قال إال قام‪ ،‬وال يقوم إال من سمع رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫[وآله]‪ ،‬يقول‪ :‬فقام بضعة عرش ً‬
‫رجال‪ ،‬فيهم أبو أيوب األنصاري‪ ،‬وأبو عمرة بن عمرو بن‬
‫حمصن‪ ،‬وأبو زينب‪ ،‬وسهل بن حنيف‪ ،‬وخزيمة بن ثابت‪ ،‬وعبد اهلل بن ثابت األنصاري‪،‬‬
‫وحبَش بن جنادة السلويل‪ ،‬وعبيد بن عازب األنصاري‪ ،‬والنعامن بن عجالن األنصاري‪،‬‬
‫وثابت بن وديعة األنصاري‪ ،‬وأبو فضالة األنصاري‪ ،‬وعبد الرمحن بن عبد رب األنصاري‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬نشهد أنا سمعنا رسول اهلل صىل اهلل عليه [وآله] يقول‪ :‬أال ّ‬
‫إن اهلل ‪ ‬وليي وأنا ويل‬
‫املؤمنني‪ ،‬أال فمن كنت مواله فعَل مواله‪ ،‬اللهم وال من وااله‪ ،‬وعاد من عاداه‪ ،‬وأحب من‬
‫أحبه‪ ،‬وأبغض من أبغضه‪ ،‬وأعن من أعانه» (‪.)2‬‬

‫األسلوب الثاين‪ :‬اإلرصار عىل ترسيخ فكرة املظلومية ومصادرة احلق‪.‬‬

‫حيا بمظلوميته‪ ،‬وإليك مجلة من تْصحياته‪:‬‬


‫وقد كان أمري املؤمنني ‪ ‬أكثر األئمة ‪ ‬تْص ً‬

‫الترصيح األول‪ :‬حني أشري عليه بأن ال يتبع طلحة والزبري‪ ،‬وال يرصد هلام القتال‪ ،‬فقال‬
‫‪ « :‬واهلل ال أكون كالضبع تنام عىل طول اللدم‪ ،‬حتى يصل إليها طالبها وخيتلها راصدها‪،‬‬
‫عَل‬
‫ولكني أرضب باملقبل إىل احلق املدبر عنه‪ ،‬وبالسامع املطيع العايص املريب أبدً ا حتى يأيت ّ‬

‫فصل حول حديث الغدير يف الفصل الثالث‪.‬‬


‫(‪ )1‬سيأيت خترجيه عند البحث امل َّ‬
‫(‪ )2‬أسد الغابة‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.307‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪248‬‬

‫عَل‪ ،‬منذ قبض اهلل نبيه صىل اهلل عليه حتى يوم‬
‫مستأثرا ّ‬
‫ً‬ ‫مدفوعا عن حقي‬
‫ً‬ ‫يومي‪ ،‬فواهلل ما زلت‬
‫الناس هذا» (‪.)1‬‬

‫الترصيح الثاين‪ :‬خطبته الشقشقية‪ ،‬وهي طافحة بأفصح عبارات الظالمة‪ ،‬وقد تقدم‬
‫ً‬
‫مفصال‪ ،‬فراجع‪.‬‬ ‫احلديث عنها‬

‫الترصيح الثالث‪ :‬جوابه حني قال له األشعث بن قيس –وهو أعدى أعدائه–‪« :‬فام منعك‬
‫يا بن أيب طالب حني بويع أبو بكر أخو بني تيم‪ ،‬وأخو بني عدي بن كعب‪ ،‬وأخو بني أمية‬
‫بعدهم‪ ،‬أن تقاتل وترضب بسيفك؟! وأنت مل ختطبنا خطبة مذ كنت قدمت العراق إال قلت‬
‫فيها قبل أن تنزل عن املنرب‪ :‬واهلل إين ألوىل الناس بالناس‪ ،‬وما زلت مظلو ًما مذ قبض رسول‬
‫اهلل ‪ !‬فام يمنعك أن ترضب بسيفك دون مظلمتك؟!»‪.‬‬

‫فإنه ‪ ‬أجابه بقوله‪ « :‬يا بن قيس اسمع اجلواب‪ ،‬مل يمنعني من ذلك اجلبن وال كراهة‬
‫للقاء ريب‪ ،‬وأن ال أكون أعلم أن ما عند اهلل خري يل من الدنيا والبقاء فيها‪ ،‬ولكن منعني من‬
‫إيل‪ ،‬أخربين رسول اهلل ‪ ‬بام األمة صانعة بعده‪ ،‬فلم أك بام‬
‫ذلك أمر رسول اهلل ‪ ‬وعهده ّ‬
‫صنعوا حني عاينته بأعلم به وال أشدّ استيقانًا مني به قبل ذلك‪ ،‬بل أنا بقول رسول اهلل ‪ ‬أشد‬
‫إيل إذا كان ذلك؟ قال‪ :‬إن وجدت‬
‫يقينًا مني بام عاينت وشهدت‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول اهلل فام تعهد ّ‬
‫أعوانًا فانبذ إليهم وجاهدهم‪ ،‬وإن مل جتد أعوانًا فكف يدك واحقن دمك حتى جتد عىل إقامة‬
‫الدين وكتاب اهلل وسنتي أعوانًا‪ ،‬وأخربين ‪ ‬أن األمة ستخذلني وتبايع غريي» (‪.)2‬‬

‫وال خيفى َّ‬


‫أن الرتكيز عىل فكرة املظلومية وترسيخها ُيراد به حتقيق هدفني ساميني‪:‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.42‬‬


‫(‪ )2‬بحار األنوار‪ :‬ج‪ ،29‬ص‪.467‬‬
‫‪249‬‬ ‫البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية‬

‫أن أمري املؤمنني ‪ ‬كان صاحب حق وقد زوي عن حقه؛ إذ َّ‬


‫أن‬ ‫اهلدف األول‪ :‬إثبات َّ‬
‫ظلام وعدوانًا‪.‬‬ ‫التظ ّلم ال يصح إال مع افرتاض ٍ‬
‫حق ثابت قد متّت مصادرته ً‬

‫اهلدف الثاين‪ :‬ختليد الظالمة وضامن استمراريتها‪َّ ،‬‬


‫فإن الظالمة إنام ختلد برتسيخها‬
‫رسخها حني س ّلط‬ ‫ألن القرآن الكريم قد ّ‬ ‫ومداولتها‪ ،‬ولذا خلدت ظالمة النبي يوسف ‪‬؛ َّ‬
‫ف َوا ْب َي َّض ْت َع ْينَا ُه ِم َن ْ‬
‫احلُ ْز ِن َف ُه َو‬ ‫الضوء عليها يف قوله‪َ ﴿ :‬وت ََو َّىل َعن ُْه ْم َو َق َال َيا َأ َس َفى َع َىل ُي ُ‬
‫وس َ‬
‫ني * َق َال إِن ََّام َأ ْشكُ و‬ ‫ُون ِم َن ْاهلَالِكِ َ‬
‫ُون َح َر ًضا َأ ْو َتك َ‬
‫ف َحتَّى َتك َ‬ ‫وس َ‬ ‫يم * َقا ُلوا تَاهللَِّ َت ْف َت ُأ ت َْذك ُُر ُي ُ‬
‫ِ‬
‫كَظ ٌ‬
‫ون﴾ (‪.)1‬‬ ‫َب ِّثي َو ُح ْز ِين إِ َىل اهللَِّ َو َأ ْع َل ُم ِم َن اهللَِّ َما َال َت ْع َل ُم َ‬

‫وهذا األسلوب القرآين هو ما اعتمده أئمة أهل البيت ‪ ،‬فإهنم قد خ ّلدوا ظالمتهم يف‬
‫نفوس املؤمنني وأحيوها يف هذه األمة‪ ،‬من خالل تركيزهم وإرصارهم عىل مداولة فكرة‬
‫ٍ‬
‫بشكل خاص‪ ،‬فخلدت مظلوميتهم‬ ‫مظلوميتهم بشكل عام‪ ،‬ومظلومية اإلمام احلسني ‪‬‬
‫برتسيخهم وجهود شيعتهم‪.‬‬

‫األسلوب الثالث‪ :‬إلزام القوم بمبانيهم‪.‬‬

‫أن السلطة – بام هي – ال تساوي شي ًئا عنده ‪ ،‬ولكنها – بام هي َم ْع َلم‬


‫فإنّه ال خيفى َّ‬
‫ً‬
‫منطلقا لفرز احلق عن الباطل‪ ،‬ولذا‬ ‫عىل مدرسة احلق املض ّيع – تكون يف غاية األمهية؛ إذ كانت‬
‫يكتف أمري املؤمنني ‪ ‬باستخدام األسلوبني املتقدمني‪ ،‬بل حرص عىل استخدام أسلوب‬ ‫ِ‬ ‫مل‬
‫حيتج عىل خصومه بمعايريهم – التي وضعوها إلثبات األحقية‬
‫آخر يف مطالبته بحقه‪ ،‬فكان ّ‬
‫باخلالفة – يف سبيل إلزامهم وإفحامهم‪ ،‬وال بأس باإلشارة إىل بعض تلك اإللزامات‪:‬‬

‫(‪ )1‬سورة يوسف‪.86 - 84 :‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪250‬‬

‫وع ْث َام َن َع َىل َما‬ ‫ين َبا َي ُعوا َأ َبا َبك ٍْر ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وع َم َر ُ‬ ‫اإللزام األول‪ :‬قوله ملعاوية‪« :‬إنَّه َبا َي َعني ا ْل َق ْو ُم ا َّلذ َ‬
‫الشورى ل ِ ْلم َه ِ‬ ‫وال ل ِ ْلغَائِ ِ‬ ‫اه ِد َأ ْن َ ْ‬ ‫ُن ل ِ َّ‬
‫لش ِ‬
‫اج ِر َ‬
‫ين‬ ‫ُ‬ ‫ب َأ ْن َي ُر َّد‪ ،‬وإِن ََّام ه َ‬ ‫خيت ََار‪َ ،‬‬ ‫وه ْم َع َل ْيه‪َ ،‬ف َل ْم َيك ْ‬‫َبا َي ُع ُ‬
‫َان َذلِ َك هللَِّ ِر ًضا» (‪.)1‬‬ ‫وس َّم ْوه إِ َما ًما ك َ‬ ‫اجت ََم ُعوا َع َىل َر ُج ٍل َ‬
‫واألَنْص ِ ِ‬
‫ار‪َ ،‬فإِن ْ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫لقناعة منه ‪ ‬بمعيارية الشورى أو اجتامع أهل احلل‬ ‫وال خيفى َّ‬
‫أن هذا اخلطاب مل يكن‬
‫والعقد‪ ،‬وإنام ألجل إلزام الطرف اآلخر بام ألزم به نفسه؛ إذ َّ‬
‫أن معاوية قد بايع األول والثاين‬
‫طبقا هلذا املعيار‪ ،‬فال مناص له من التسليم بخالفة أمري املؤمنني ‪‬؛ لتو ّفر نفس املعيار فيها‪.‬‬
‫ً‬

‫اإللزام الثاين‪ :‬قوله ‪ ‬حني قيل له‪ :‬بايع أبا بكر‪« :‬أنا أحق هبذا األمر منكم‪ ،‬ال أبايعكم‬
‫وأنتم أوىل بالبيعة يل‪ ،‬أخذتم هذا األمر من األنصار‪ ،‬واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي ‪،‬‬
‫وتأخذونه منا أهل البيت غص ًبا؟! ألستم زعمتم لألنصار أنكم أوىل هبذا األمر منهم ملا كان‬
‫حممد منكم‪ ،‬فأعطوكم املقادة‪ ،‬وس ّلموا إليكم اإلمارة‪ ،‬وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به‬
‫عىل األنصار‪ ،‬نحن أوىل برسول اهلل ح ًيا وميتًا‪ ،‬فأنصفونا إن كنتم تؤمنون‪ ،‬وإال فبؤوا بالظلم‬
‫وأنتم تعلمون» (‪.)2‬‬

‫فإن القوم ملَّا استندوا – يف مجلة ما استندوا إليه – للقرابة‪ ،‬خصمهم ‪‬‬
‫وكام ترى‪َّ ،‬‬
‫بأقربيته للنبي األعظم ‪ ‬منهم‪ ،‬مع َّ‬
‫أن القرابة يف واقع األمر ليست من وسائل اإلثبات‪ ،‬ولكنه‬
‫‪ ‬أراد إلزامهم من حيث يلتزمون‪.‬‬

‫الص َحا َب ِة وا ْل َق َرا َب ِة؟!»‪.‬‬ ‫ُون ْ ِ‬


‫اخل َال َف ُة بِ َّ‬ ‫اإللزام الثالث‪ :‬قوله ‪َ « :‬وا َع َج َباه َأ َتك ُ‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ص‪.366‬‬


‫(‪ )2‬اإلمامة والسياسة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.18‬‬
‫‪251‬‬ ‫البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية‬

‫وروي أنه قال يف هذا املعنى‪:‬‬

‫غُ ّي ُ‬
‫ب‬ ‫واملشريون‬ ‫هبذا‬ ‫فكيف‬ ‫ملكت أمورهم‬
‫َ‬ ‫كنت بالشورى‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫فإن‬

‫وأقرب(‪)1‬‬ ‫بالنبي‬ ‫أوىل‬ ‫فغريك‬ ‫حججت خصيمهم‬ ‫كنت بالقربى‬


‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وإن َ‬

‫واخلالصة‪َّ :‬‬
‫فإن اعتامد أمري املؤمنني ‪ ‬حتى عىل معايري خصومه يف خماصمتهم دليل‬
‫عىل متسكه البالغ بحقه‪ ،‬وأنه يرى نفسه اخلليفة الرشعي الذي تنحْص به اخلالفة والوالية‬
‫واحلاكمية‪ ،‬وال يرى ألحد سواه حق يف السلطة‪.‬‬

‫اجلواب عن املنبه الثاين‪ :‬عدم االنسجام بني الشجاعة العلوية والسكوت عن احلق‪.‬‬
‫ُ‬

‫وجياب عن املن ّبه الثاين ببيان ثالث جهات‪:‬‬


‫ُ‬

‫اجلهة األوىل‪ :‬بيان وجه املغالطة يف هذا االستدالل‪.‬‬

‫َّ‬
‫إن املن ّبه املذكور خاطئ من أساسه‪ ،‬فهو أشبه باملغالطة؛ ألنه مبني عىل مقدمتني خاطئتني‪:‬‬

‫املقدمة ألوىل‪ :‬عدم التناسب بني سكوته وكونه أشجع الناس‪.‬‬

‫إن ادعاءهم َّ‬


‫أن الشجاعة تساوق الكفاح املسلح‬ ‫وبطالن هذه املقدمة يف غاية الوضوح؛ ف َّ‬
‫ينم عن خطأ فادح يف فهم معنى الشجاعة؛ إذ َّ‬
‫أن الشجاعة والبطولة تارة‬ ‫واملواجهة العسكرية ه‬
‫يقل أ ًملا‬
‫املر‪ ،‬لكون الصرب ال ّ‬
‫تتحقق باملواجهة العسكرية‪ ،‬وتارة أخرى بالصرب عىل الواقع ّ‬
‫كال بحسب ما يمليه الظرف واملقتيض‪ ،‬بل َّ‬
‫إن نتائج املواجهة‬ ‫أن ً‬
‫وجها ًدا عن الكفاح املس ّلح‪ّ ،‬إال َّ‬
‫هتو ًرا ومحاقة‪.‬‬ ‫املسلحة حينام تكون وخيمة وسلبية َّ‬
‫فإن العقالء ال يعدّ وهنا شجاعة‪ ،‬بل يروهنا ّ‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ص‪.501‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪252‬‬

‫إن عل ًّيا ‪ ‬سكت عن ّ‬


‫حقه‪.‬‬ ‫املقدمة الثانية‪َّ :‬‬

‫أيضا غري مس ّلمة؛ ألن أمري املؤمنني ‪ ‬مل يسكت عن حقه‪ ،‬إذ أنه قد رفض‬
‫وهذه املقدمة ً‬
‫مبايعة أيب بكر‪ ،‬وهذا الرفض نحو من أنحاء االحتجاج وعدم الرضا‪ ،‬كام أنه مل يكف عن‬
‫بحقه ك َّلام سنحت له الفرصة‪ ،‬وقد ب ّينا ذلك فيام تقدم عند ذكر مناشداته‪ ،‬فالحظ‪.‬‬
‫املطالبة ّ‬

‫اجلهة الثانية‪ :‬مشاهبة ما جرى عىل أمري املؤمنني ‪ ‬ملا جرى عىل بعض األنبياء ‪.‬‬

‫َّ‬
‫إن ما جرى ألمري املؤمنني ‪ ‬يشكّل امتدا ًدا ملا جرى عىل األنبياء ‪ ‬قبله‪ ،‬فقد ذكر‬
‫القرآن الكريم ّ‬
‫أن عدة من األنبياء ‪ ‬مل ُتتَح هلم الظروف أن يتصدّ وا للحاكمية والسلطة‪،‬‬
‫ظل تلك الظروف‪ ،‬ومع ذلك َّ‬
‫فإن أحدً ا ال يستطيع أن يسلب عنهم حق‬ ‫فرفعوا أيدُّيم عنها يف ّ‬

‫السلطة والوالية‪.‬‬

‫وإليك نامذج ثالثة‪:‬‬

‫ون ِمن د ِ‬
‫هلل‬
‫ون ا َِّ‬ ‫النموذج األول‪ :‬نبي اهلل إبراهيم ‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬و َأ ْعت َِز ُلكُ ْم َو َما تَدْ ُع َ ْ ُ‬
‫ون ِمن د ِ‬ ‫ِ‬
‫ون اهللَِّ َو َه ْبنَا َل ُه‬ ‫ون بِدُ َعاء َر ِّيب َش ِق ًّيا * َف َل َّام ْ‬
‫اعت ََز َهل ُ ْم َو َما َي ْع ُبدُ َ ْ ُ‬ ‫َو َأ ْد ُعو َر ِّيب َع َسى َأ َّال َأ ُك َ‬
‫وب َوك ًُّال َج َع ْلنَا نَبِ ًّيا﴾ (‪.)1‬‬ ‫إِ ْس َح َ‬
‫اق َو َي ْع ُق َ‬

‫فالنبي إبراهيم ‪ ‬قد دعته ظروفه العتزال القوم وما يدعون من دون اهلل ‪ ،‬واحلال‬
‫أنه ملَّا اعتزهلم ورفع يده عنهم كانت له سلطة من اهلل عليهم‪ ،‬ومل يؤ ّثر ذلك عىل ثبوت احلق له‬
‫ٍ‬
‫ملصلحة واقتضاء – مل يستلزم رفع السلطة عنه‪ ،‬فكذلك‬ ‫فيها‪ ،‬وبالتايل فكام َّ‬
‫أن رفعه ليده عنهم –‬
‫ِ‬
‫يقتض ذلك نفي سلطته وأحقيته‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ملصلحة اقتضته – مل‬ ‫أمري املؤمنني ‪ ‬حني اعتزل األمر –‬

‫(‪ )1‬سورة مريم‪.49 - 48 :‬‬


‫‪253‬‬ ‫البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية‬

‫ان‬‫وسى إِ َىل َق ْو ِم ِه غَ ْض َب َ‬ ‫النموذج الثاين‪ :‬نبي اهلل هارون ‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬وملََّا َر َج َع ُم َ‬
‫وين ِمن بع ِدي َأ َع ِج ْلتُم َأمر ربكُم و َأ ْل َقى ْاألَ ْلواح و َأ َخ َذ بِر ْأ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫س َأخيه َ ُ‬
‫جي هر ُه‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ ْ َ َ ِّ ْ َ‬ ‫َأس ًفا َق َال بِ ْئ َس َام َخ َل ْفت ُُم ِ ْ َ ْ‬
‫يب ْاألَعْدَ ا َء َو َال َ ْجت َع ْلنِي َم َع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫إِ َل ْي ِه َق َال ا ْب َن ُأم إِ َّن ا ْل َق ْوم است َْض َع ُف ِ‬
‫وين َوكَا ُدوا َي ْق ُت ُلونَني َف َال ت ُْشم ْت ِ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َّ‬
‫ا ْل َق ْو ِم ال َّظامل ِ َ‬
‫ني﴾ (‪.)1‬‬

‫فنبي اهلل هارون ‪ ‬كانت له والية وسلطة وحاكمية عىل قومه‪ ،‬إال أنه رفع اليد عنهم‪،‬‬
‫واعتذر َّ‬
‫بأن القوم قد استضعفوه وكادوا أن يقتلوه‪ ،‬ومع ذلك مل ُيعزل عن واليته وحاكميته‬
‫وسلطته‪ ،‬وكذلك هو احلال بالنسبة ألمري املؤمنني ‪ ‬حذو القذة بالقذة‪.‬‬

‫ب إِ َ َّيل ِممَّا‬
‫الس ْج ُن َأ َح ه‬
‫النموذج الثالث‪ :‬نبي اهلل يوسف ‪ ،‬قال اهلل ‪َ ﴿ :‬ق َال َر ِّب ِّ‬
‫َيدْ ُعونَنِي إِ َل ْي ِه﴾ (‪.)2‬‬

‫وهذه اآلية رصحية يف َّ‬


‫أن النبي يوسف ‪ - ‬وهو نبي من األنبياء – قد رفع يده عن‬
‫وفضل السجن عىل الواقع الذي كان يعيشه‪ ،‬إال َّ‬
‫أن ذلك مل يوجب سلب الوالية‬ ‫الناس‪َّ ،‬‬
‫واحلاكمية عنه يف فرتة مكوثه يف السجن وعدم مقدرته عىل نيل السلطة‪.‬‬

‫ِ‬
‫أضف إىل هذه النامذج نبينا األعظم ‪ ،‬فإنه قد تصدّ ى للحكم يف املدينة املنورة‪ ،‬بينام مل‬
‫حمارصا يف شعب أيب طالب ‪ ،‬فهل ّ‬
‫أخل ذلك بنبوته ‪‬‬ ‫ً‬ ‫يتمكن من التصدّ ي له حينام كان‬
‫ّ‬
‫وحقه يف السلطة واحلاكمية؟!‬

‫وخالصة الكالم حول اآليات الرشيفة‪ّ :‬‬


‫أن ثبوت احلق لشخص ال يعني بالرضورة أن‬
‫يتصدّ ى للمطالبة به‪ ،‬بل قد يرفع يده عنه إذا اقتضت املصلحة ذلك‪.‬‬

‫(‪ )1‬سورة األعراف‪ :‬ص‪.150‬‬


‫(‪ )2‬سورة يوسف‪.33 :‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪254‬‬

‫وإىل ذلك أشار أمري املؤمنني ‪ ‬فيام نقله عنه الشيخ الطربيس ‪ ‬حيث قال‪« :‬فقال عَل‬
‫عَل ّ‬
‫حقي‪ ،‬فقام إليه األشعث بن قيس فقال‪ :‬يا أمري‬ ‫مستأثرا َ َّ‬
‫ً‬ ‫‪ :‬إين كنت مل أزل مظلو ًما‬
‫املؤمنني ِمل َمل ترضب بسيفك‪ ،‬ومل تطلب بحقك؟ فقال‪ :‬يا أشعث قد َ‬
‫قلت ً‬
‫قوال فاسمع اجلواب‬
‫وعه‪ ،‬واستشعر احلجة‪َّ ،‬‬
‫إن يل أسوة بس تة من األنبياء صلوات اهلل عليهم أمجعني‪.‬‬

‫ِ‬
‫َْص﴾ فإن قال قائل‪ :‬إنه قال هذا لغري‬ ‫رب ﴿ َأ ِّين َم ْغ ُل ٌ‬
‫وب َفانت ْ‬ ‫أوهلم‪ :‬نوح‪ ،‬حيث قال‪ِّ :‬‬
‫خوف فقد كفر‪ ،‬وإال فالويص أعذر‪.‬‬
‫آوي إِ َىل ركْ ٍن َش ِد ٍ‬
‫يد﴾‪ ،‬فإن قال قائل‪:‬‬ ‫وثانيهم‪ :‬لوط‪ ،‬حيث قال‪َ ﴿ :‬ل ْو َأ َّن ِيل بِك ُْم ُق َّو ًة َأ ْو ِ‬
‫ُ‬
‫إنه قال هذا لغري خوف فقد كفر‪ ،‬وإال فالويص أعذر‪.‬‬
‫ون ِمن د ِ‬
‫ون اهللَِّ﴾‪ ،‬فإن قال‬ ‫وثالثهم‪ :‬إبراهيم خليل اهلل‪ ،‬حيث قال‪َ ﴿ :‬و َأ ْعت َِز ُلك ُْم َو َما تَدْ ُع َ‬
‫ُ‬
‫قائل‪ :‬إنه قال هذا لغري خوف فقد كفر‪ ،‬وإال فالويص أعذر‪.‬‬

‫ورابعهم‪ :‬موسى ‪ ،‬حيث قال‪َ ﴿ :‬ف َف َر ْر ُت ِمنك ُْم ملََّا ِخ ْف ُتك ُْم﴾‪ ،‬فإن قال قائل‪ :‬إنه قال‬
‫هذا لغري خوف فقد كفر‪ ،‬وإال فالويص أعذر‪.‬‬

‫وين َوكَا ُدوا َي ْق ُت ُلونَنِي﴾‪،‬‬


‫وخامسهم‪ :‬أخوه هارون‪ ،‬حيث قال‪﴿ :‬ا ْب َن ُأ َّم إِ َّن ا ْل َق ْو َم ْاست َْض َع ُف ِ‬

‫فإن قال قائل‪ :‬إنه قال هذا لغري خوف فقد كفر‪ ،‬وإال فالويص أعذر‪.‬‬

‫وسادسهم‪ :‬أخي حممد خري البرش ‪ ،‬حيث ذهب إىل الغار ونومني عىل فراشه‪ ،‬فإن قال‬
‫قائل‪ :‬إنه ذهب إىل الغار لغري خوف فقد كفر‪ ،‬وإال فالويص أعذر‪.‬‬

‫فقام إليه الناس بأمجعهم فقالوا‪ :‬يا أمري املؤمنني قد علمنا أن القول قولك‪ ،‬ونحن املذنبون‬
‫التائبون‪ ،‬وقد عذرك اهلل» (‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬االحتجاج‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.280‬‬


‫‪255‬‬ ‫البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية‬

‫واحلاصل‪ :‬فإنه بعد وضوح الفرق بني احلاكمية واإلمامة بالنحو الذي أوضحناه ً‬
‫سابقا‪،‬‬
‫َّ‬
‫وأن األوىل جزء من الثانية‪ ،‬وليست السلطة هي عني اإلمامة‪ ،‬يتّضح جل ًيا عدم التالزم بني عدم‬
‫التصدّ ي ملبارشة السلطة بحكم الظروف املحيطة‪ ،‬وبني عدم ثبوهتا‪.‬‬

‫وبتوضيح أجىل‪َّ :‬‬


‫إن اإلمامة منصب إهلي قد جعله اهلل لإلمام ليكون الواسطة بينه وبني‬
‫مجيع خلقه‪ ،‬وترتتّب عىل هذا املنصب مهام عديدة‪ ،‬منها اإلدارة والسلطة‪ ،‬فهي من هذه الزاوية‬
‫أيضا منصب إهلي‪ ،‬والسلطة فرع عنها‪ ،‬وبالتايل فكام َّ‬
‫أن النبوة ثابتة للنبي سواء‬ ‫كالنبوة‪ ،‬إذ َّأهنا ً‬
‫كانت له احلاكمية أو مل تكن‪ ،‬كذلك اإلمامة ثابتة لإلمام سواء تسلم مقاليد احلكم أو ال‪ ،‬وسواء‬
‫قبل الناس به أو مل يقبلوا‪.‬‬

‫اجلهة الثالثة‪ :‬مربرات سكوت أمري املؤمنني ‪ ‬عن املطالبة بحقه‪.‬‬

‫مما يثريه البعض‪ :‬إشكالية التناقض يف مواقفه ‪ ،‬فإنه عىل مدى مخس وعرشين سنة مل‬
‫مسلام للواقع‪ ،‬ولكنه ملَّا تسلم مقاليد احلكم ونازعه معاوية‬
‫ً‬ ‫يطالب باإلمارة والسلطة‪ ،‬بل كان‬
‫وطلحة والزبري وغريمها حارهبم حماربة القاسطني واملارقني والناكثني‪.‬‬

‫ربرات سكوته ‪ ،‬وأمهها اثنان‪:‬‬ ‫إال َّ‬


‫أن هذه اإلشكالية تنحل بوضوح إذا فهمنا م ّ‬

‫املربر األول‪ :‬دفع اخلطر املحدق باإلسالم‪.‬‬

‫فإنه عند الرجوع للتاريخ نجد حقيقتني ال يمكن أن يشكّك هبام أحد‪:‬‬

‫غضا طري العود مل تثبت له قدم‪،‬‬ ‫أ‪ /‬احلقيقة األوىل‪َّ :‬‬


‫إن اإلسالم بعد رحيل النبي ‪ ‬كان ًّ‬
‫فلم يكن قد استقر وفرض نفسه عىل ّ‬
‫كل العامل‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪256‬‬

‫ب‪ /‬احلقيقة الثانية‪َّ :‬‬


‫إن العامل اإلسالمي آنذاك والرسول والرسالة كانت مهددة من قبل‬
‫أربعة أخطار‪ ،‬وكل خطر يفوق اآلخر‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫اخلطر األول‪ :‬خطر اإلمرباطورية الرومانية التي كانت تشكّل الثقل املسيحي‪ ،‬وكانت‬
‫آنذاك تتواجد يف شامل اجلزيرة العربية‪ ،‬وقد برز هلا موقف عدائي من النبي ‪ ‬واإلسالم‪،‬‬
‫وكان النبي ‪ ‬يته ّيأ لقطع دابرها‪ ،‬ولذلك أعدّ جيش أسامة ولعن من خت ّلف عنه‪.‬‬

‫اخلطر الثاين‪ :‬خطر اإلمرباطورية الفارسية التي كانت تشكّل الثقل املجويس‪ ،‬وهي كانت‬
‫مزق احلاكم الكتاب‪ ،‬وطرد‬‫أن النبي ‪ ‬ملَّا بعث برسوله إليهم ّ‬ ‫موتورة من اإلسالم‪ ،‬حتى َّ‬
‫ِ‬
‫يكتف‬ ‫أن ذلك كان – وال يزال – خمال ًفا لألعراف الدولية‪ ،‬ومل‬
‫رسول النبي ‪ ‬من البالد‪ ،‬مع َّ‬
‫بذلك حتى أمر واليه عىل اليمن أن يبعث ً‬
‫رجال لقتل رسول اهلل ‪ ‬يف املدينة‪.‬‬

‫اخلطر الثالث‪ :‬خطر اليهود املوتورين من النبي ‪ ‬وأمري املؤمنني ‪ ،‬وكانوا يشكّلون‬

‫تكت ًّال ً‬
‫كبريا يف املدينة ومكّة وما حييط هبام‪.‬‬

‫قائال‪َ ﴿ :‬و َما‬ ‫اخلطر الرابع‪ :‬اخلطر الداخَل‪ ،‬وهو أشدّ األخطار‪ ،‬والذي حتدث عنه القرآن ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الر ُس ُل َأ َفإِ ْن َم َ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ُحم َ َّمدٌ إِ َّال َر ُس ٌ‬
‫ب‬ ‫ات َأ ْو ُقت َل ان َْق َل ْبت ُْم َع َىل َأ ْع َقابِك ُْم َو َم ْن َين َْقل ْ‬ ‫ول َقدْ َخ َل ْت م ْن َق ْبله ه‬
‫َع َىل َع ِقبي ِه َف َلن ي ُرض اهللََّ َشي ًئا وسيج ِزي اهللَُّ َّ ِ‬
‫ين﴾ (‪ ،)1‬حيث كان املنافقون يسعون الغتيال‬ ‫الشاك ِر َ‬ ‫ْ َ َ َ ْ‬ ‫َ ْ ْ َ َّ‬
‫النبي ‪ ‬والقضاء عىل اإلسالم يف بدايات عهده‪ ،‬وقد كانت هلم عدّ ة حماوالت يف هذا السبيل‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬حماولتهم عند رجوع النبي ‪ ‬من تبوك إىل املدينة املنورة‪ ،‬وقد رواها أمحد بن‬
‫حنبل يف مسنده ً‬
‫قائال‪ « :‬حدثنا يزيد‪ ،‬أخربنا الوليد يعني ابن عبد اهلل بن مجيع‪ ،‬عن أيب الطفيل‪،‬‬

‫(‪ )1‬سورة آل عمران‪.144 :‬‬


‫‪257‬‬ ‫البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية‬

‫قال‪ :‬ملَّا أقبل رسول اهلل ‪ ‬من غزوة تبوك أمر مناد ًيا فنادى‪َّ :‬‬
‫إن رسول اهلل أخذ العقبة‪ ،‬فال‬
‫يأخذها أحد‪ ،‬فبينام رسول اهلل ‪ ‬يقوده حذيفة ويسوق به عامر إذ أقبل رهط متلثمون عىل‬
‫عامرا وهو يسوق برسول اهلل ‪ ،‬وأقبل عامر يرضب وجوه الرواحل‪ ،‬فقال‬
‫الرواحل‪ ،‬غشوا ً‬
‫فلام هبط رسول اهلل ‪ ‬نزل ورجع‬
‫رسول اهلل ‪ ‬حلذيفة‪" :‬قد‪ ،‬قد" حتى هبط رسول اهلل ‪َّ ،‬‬
‫عامر‪ ،‬فقال‪ :‬يا عامر‪ ،‬هل عرفت القوم؟ فقال ‪ :‬قد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون‪ ،‬قال‪:‬‬
‫هل تدري ما أرادوا؟ قال‪ :‬اهلل ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪ :‬أرادوا أن ينفروا برسول اهلل ‪ ‬فيطرحوه‪.‬‬

‫قال‪ :‬فسأل عامر ً‬


‫رجال من أصحاب رسول اهلل ‪ ‬فقال‪ :‬نشدتك باهلل‪ ،‬كم تعلم كان‬
‫أصحاب العقبة؟ فقال‪ :‬أربعة عرش‪ ،‬فقال‪ :‬إن كنت فيهم فقد كانوا مخسة عرش‪ ،‬فعذر رسول‬
‫اهلل ‪ ‬منهم ثالثة قالوا‪ :‬واهلل ما سمعنا منادي رسول اهلل‪ ،‬وما علمنا ما أراد القوم‪ ،‬فقال عامر‪:‬‬
‫أشهد َّ‬
‫أن االثني عرش الباقني حرب هلل ولرسوله يف احلياة الدنيا ويوم يقوم األشهاد‪.‬‬

‫قال الوليد‪ :‬وذكر أبو الطفيل يف تلك الغزوة أن رسول اهلل ‪ ‬قال للناس‪ ،‬و ُذكِر له ّ‬
‫أن‬
‫يف املاء قلة‪ ،‬فأمر رسول اهلل ‪ ‬مناد ًيا فنادى‪" :‬أن ال يرد املاء أحد قبل رسول اهلل"‪ ،‬فورده‬
‫رسول اهلل ‪ ‬فوجد ره ًطا قد وردوه قبله‪ ،‬فلعنهم رسول اهلل ‪ ‬يومئذ» (‪.)1‬‬

‫وإذا عرفت ما ذكرناه لك من احلقيقتني‪َّ ،‬‬


‫فإن األمر بعد وفاة النبي ‪ ‬يدور بني أن جياهد‬
‫يعرض اإلسالم لألخطار املتقدّ مة املحدقة به‪،‬‬
‫أمري املؤمنني ‪ ‬يف سبيل إرجاع حقه‪ ،‬وبذلك ّ‬
‫الغض‪ ،‬وبني أن يصرب – ويف حلقه شجا‪ ،‬ويف عينه قذى – عىل تراثه‬
‫والتي تتهدّ د وجوده ّ‬
‫املنهوب‪ ،‬وبذلك جينّب اإلسالم تلك األخطار الكربى‪ ،‬فإذا ما استقر وثبتت له القدم سعى‬
‫إلعادة األمور إىل نصاهبا‪.‬‬

‫(‪ )1‬مسند أمحد‪ :‬ج‪ 39‬ص‪ ،211‬وعلق عليه األرنؤوط‪« :‬إسناده قوي عىل رشط مسلم‪ .‬يزيد‪ :‬هو ابن هارون»‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪258‬‬

‫ربر يف العديد من كلامته الرشيفة‪.‬‬


‫وقد ذكر أمري املؤمنني ‪ ‬هذا امل ّ‬

‫منها‪ :‬قوله يف خطبته عند مسريه للبْصة بعد أن محد اهلل وصىل عىل رسوله ‪َّ « :‬‬
‫إن اهلل‬
‫ملَّا قبض نبيه استأثرت علينا قريش باألمر‪ ،‬ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة‪،‬‬
‫فرأيت َّ‬
‫أن الصرب عىل ذلك أفضل من تفريق كلمة املسلمني‪ ،‬وسفك دمائهم‪ ،‬والناس حديثو‬
‫عهد باإلسالم‪ ،‬والدين يمخض خمض الوطب‪ ،‬يفسده أدنى وهن‪ ،‬ويعكسه أقل خلف» (‪.)1‬‬

‫ومنها‪ :‬قوله ‪ ‬ملَّا عزموا عىل بيعة عثامن‪« :‬لقد علمتم أين أحق الناس هبا من غريي‪،‬‬
‫التامسا ألجر ذلك‬
‫ً‬ ‫عَل خاصة‪،‬‬
‫وواهلل ألسلمن ما سلمت أمور املسلمني‪ ،‬ومل يكن فيها جور إال ّ‬
‫وفضله‪ ،‬وزهدً ا فيام تنافستموه من زخرفه وزبرجه» (‪.)2‬‬

‫ومنها‪ :‬ملَّا اجتمع الناس عىل بيعة أيب بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول‪ :‬إين ألرى عجاجة‬
‫ال يطفئها إال دم‪ ،‬يا آل عبد مناف‪ :‬فيم أبو بكر من أموركم؟ أين املستضعفان؟ أين األذالن‬
‫لعَل‪ :‬ابسط يدك أبايعك‪ ،‬فواهلل‬
‫حي من قريش؟ ثم قال ّ‬ ‫عَل والعباس؟ ما بال هذا األمر يف ِ‬
‫أقل ّ‬
‫ورجال‪ ،‬فأبى عَل ‪ ‬عليه‪ ،‬فتم ّثل بشعر ّ‬
‫املتلمس‪:‬‬ ‫ً‬ ‫لئن شئت ألمألهنا عليه ً‬
‫خيال‬

‫إال األذالن عري احلي والوتد‬ ‫خسف ُيراد ِبه‬


‫ٍ‬ ‫ولن يقيم عىل‬
‫يشج فال َيبكي له أحد‬
‫ّ‬ ‫وذا‬ ‫هذا عىل اخلسف مربوط برمته‬
‫بغيت لإلسالم‬
‫َ‬ ‫أردت هبذا إال الفتنة‪ ،‬وإنك واهلل طاملا‬
‫َ‬ ‫فزجره عَل وقال‪« :‬واهلل إنك ما‬
‫رشا‪ ،‬ال حاجة لنا يف نصيحتك» (‪.)3‬‬
‫ً‬

‫(‪ )1‬رشح هنج البالغة البن أيب احلديد ج‪ 1‬ص‪ ،308‬لكن تكملة اخلطبة‪« :‬فويل األمر قوم مل يألوا يف أمرهم اجتها ًدا‪ ،‬ثم انتقلوا إىل‬
‫دار اجلزاء‪ ،‬واهلل ويل متحيص سيئاهتم‪ ،‬والعفو عن هفواهتم‪ .‬فام بال طلحة والزبري‪ ،‬وليسا من هذا األمر بسبيل!» ‪.‬‬
‫(‪ )2‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.168‬‬
‫(‪ )3‬الكامل يف التاريخ‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.325‬‬
‫‪259‬‬ ‫البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية‬

‫ومنها‪ :‬قوله يف رسالته ‪ ‬إىل مالك األشرت‪« :‬فأمسكت يدي – أي‪ :‬عن البيعة – حتى‬
‫رأيت راجعة الناس قد رجعت عن اإلسالم‪ ،‬يدعون إىل حمق دين حممد ‪ ،‬فخشيت إن مل‬
‫عَل أعظم من فوت واليتكم‪،‬‬
‫ثلام أو هد ًما تكون املصيبة به ّ‬
‫أنْص اإلسالم وأهله أن أرى فيه ً‬
‫التي إنام هي متاع أيام قالئل‪ ،‬يزول منها ما كان كام يزول الرساب‪ ،‬أو كام ّ‬
‫يتقشع السحاب‪،‬‬
‫فنهضت يف تلك األحداث حتى زاح الباطل وزهق‪ ،‬واطمأن الدين وتنهنه» (‪.)1‬‬

‫املربر الثاين‪ :‬قلة النارص‪.‬‬

‫والشواهد عليه كثرية‪:‬‬

‫منها‪ :‬قوله يف اخلطبة الشقشقية الشهرية‪« :‬وطفقت أرتئي بني أن أصول بيد جذاء أو أصرب‬
‫عىل طخية عمياء‪ُّ ،‬يرم فيها الكبري‪ ،‬ويشيب فيها الصغري‪ ،‬ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه‪،‬‬
‫فرأيت أن الصرب عىل هاتا أحجى‪ ،‬فصربت ويف العني قذى‪ ،‬ويف احللق شجا‪ ،‬أرى تراثي هن ًبا‪،‬‬
‫حتى مىض األول لسبيله» (‪.)2‬‬

‫أن اخليار األول هو القتال الذي‬ ‫أن مقصوده ‪ ‬بقوله‪" :‬أن أصول ٍ‬
‫بيد جذاء" َّ‬ ‫وال خيفى َّ‬
‫ِ‬
‫لكونه بيد جذاء‪ ،‬واملراد هبا اليد‬ ‫تعرب عنه كلمة (أصول)‪ ،‬غري َّ‬
‫أن هذا اخليار ليس براجح‪،‬‬ ‫ّ‬
‫املقطوعة‪ ،‬وهو كناية عن عدم النارص‪ ،‬ولذلك فالصرب – وهو اخليار الثاين – أوىل‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ما جاء يف رسالة معاوية ألمري املؤمنني ‪ « :‬وأعهدك أمس حتمل قعيدة بيتك‬
‫ً‬
‫ليال عىل محار‪ ،‬ويداك يف يدي ابنيك احلسن واحلسني يوم بويع أبو بكر الصديق‪ ،‬فلم تدع أحدً ا‬
‫من أهل بدر والسوابق إال دعوهتم إىل نفسك‪ ،‬ومشيت إليهم بامرأتك‪ ،‬وأدليت إليهم بابنيك‪،‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.119‬‬


‫(‪ )2‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.31‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪260‬‬

‫وا ستنْصهتم عىل صاحب رسول اهلل‪ ،‬فلم جيبك منهم إال أربعة أو مخسة‪ ،‬ولعمري لو كنت‬
‫حمقا ألجابوك‪ ،‬ولكنك ادعيت ً‬
‫باطال‪ ،‬وقلت ما ال يعرف‪ ،‬ورمت ما ال يدرك‪ ،‬ومهام نسيت‬ ‫ً‬

‫فال أنسى قولك أليب سفيان ملَّا ّ‬


‫حركك وه ّيجك‪ :‬لو وجدت أربعني ذوي عزم منهم لناهضت‬
‫القوم‪ ،‬فام يوم املسل مني منك بواحد‪ ،‬وال بغيك عىل اخللفاء بطريف وال مستبدع» (‪.)1‬‬

‫ومنها‪ :‬ما ذكره ابن قتبية يف اإلمامة والسياسة بقوله‪« :‬وخرج عَل كرم اهلل وجهه حيمل‬
‫فاطمة بنت رسول اهلل ‪ ‬عىل دابة ً‬
‫ليال يف جمالس األنصار تسأهلم النْصة‪ ،‬فكانوا يقولون‪ :‬يا‬
‫بنت رسول اهلل‪ ،‬قد مضت بيعتنا هلذا الرجل‪ ،‬ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أيب بكر‬
‫ما عدلنا به‪ ،‬فيقول عَل كرم اهلل وجهه‪ :‬أفكنت أدع رسول اهلل ‪ ‬يف بيته مل أدفنه‪ ،‬وأخرج أنازع‬
‫الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة‪ :‬ما صنع أبو احلسن إال ما كان ينبغي له‪ ،‬ولقد صنعوا ما اهلل‬
‫حسيبهم وطالبهم» (‪.)2‬‬

‫املحصلة‪:‬‬

‫ربرين‪ ،‬تعلم عدم وقوع التناقض يف مواقف أمري املؤمنني ‪،‬‬


‫علام هبذين امل ّ‬
‫أحطت ً‬
‫َ‬ ‫وإذا‬
‫أوال ألجل ذينك السببني‪ ،‬ومها‪ :‬وجود اخلطر املحدق وعدم وجود النارص‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫فإنه مل يقاتل ً‬
‫ذلك مما جيعل اإلسالم – وهو طري العود – يف معرض االندثار والفناء‪ ،‬بينام قاتل ال ً‬
‫حقا‪ ،‬بعد‬
‫أن ّ‬
‫جتذر اإلسالم ورسخت جذوره‪ ،‬ومل تكن يده جذاء لكثرة األتباع واألنصار‪.‬‬

‫وقد حتدث ‪ ‬عن هذه املرحلة يف خطبته الشقشقية فقال‪« :‬أما والذي فلق احلبة وبرأ‬
‫النسمة‪ ،‬لوال حضور احلارض‪ ،‬وقيام احلجة بوجود النارص‪ ،‬وما أخذ اهلل عىل العلامء أن ال يقاروا‬

‫(‪ )1‬رشح هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.47‬‬


‫(‪ )2‬اإلمامة والسياسة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.19‬‬
‫‪261‬‬ ‫البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية‬

‫عىل كظة ظامل وال سغب مظلوم‪ ،‬أللقيت حبلها عىل غارهبا‪ ،‬ولسقيت آخرها بكأس أوهلا‪،‬‬
‫وأللفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» (‪.)1‬‬

‫اجلواب عن املنبه الثالث‪ :‬عدم نجاح حكومة أمري املؤمنني ‪.‬‬


‫ُ‬

‫يثري بعض املغرضني شبهة مفادها‪َّ :‬‬


‫إن عل ًيا ‪ ‬قد فشل يف حكمه وحكومته‪ ،‬ألنه مل‬
‫يستطع أن يصلح االنحرافات املوجودة يف األمة‪ ،‬وقد انتقل بعضهم من هذه الشبهة الدعاء َّ‬
‫أن‬
‫يعني َمن ال‬
‫منصوصا عىل خالفته؛ إذ ال يمكن للشارع أن ّ‬
‫ً‬ ‫أمري املؤمنني ‪ ‬ال يمكن أن يكون‬
‫أهلية له‪.‬‬

‫واجلواب عن ذلك‪:‬‬

‫إن مقياس النجاح – كام هو واضح – يكمن يف حتقيق األهداف‪َّ ،‬‬


‫فإن صاحب‬ ‫ا‬
‫أوال‪َّ :‬‬
‫صح أن يقال عنه‪َّ :‬‬
‫إن مرشوعه ناجح‪ ،‬وأما‬ ‫املرشوع إذا كان قد رسم ملرشوعه أهدا ًفا ّ‬
‫وحققها َّ‬
‫صح أن يقال عنه حينئذ‪َّ :‬‬
‫إن مرشوعه فاشل‪.‬‬ ‫إذا مل ّ‬
‫حيققها َّ‬

‫إن األهداف تارة تكون أهدا ًفا غيبية‪ ،‬وأخرى تكون أهدا ًفا حسية‪ ،‬أما‬
‫وثان ايا‪َّ :‬‬
‫النحو األول من األهداف فإننا نعتقد جازمني موقنني َّ‬
‫بأن أمري املؤمنني ‪ - ‬بمقتىض خالفته‬
‫اإلهلية – قد حققها وأصاهبا‪ ،‬وأما النحو اآلخر من األهداف َّ‬
‫فإن أمري املؤمنني ‪ ‬قد أعلن‬
‫عنه حني تصدّ يه للحكومة‪ ،‬وقد حْصه يف إحياء معامل الدين‪ ،‬وال شك وال ريب يف َّ‬
‫أن أمري‬
‫املؤمنني ‪ ‬قد ّ‬
‫حقق هذا اهلدف عىل أحسن وجه‪ ،‬وربح مكاسب ال يمكن جتاوزها وإغفاهلا‪،‬‬
‫وسنشري هاهنا إىل بعض معامل الدين التي أقامها أمري املؤمنني ‪ ‬وش ّيد أركاهنا‪.‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.37‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪262‬‬

‫املعلم األول‪ :‬إبراز املكانة اإلهلية ألهل البيت ‪.‬‬

‫تعرضت للطمس عىل مدى مخس وعرشين سنة‪ ،‬وهي املدة التي‬ ‫َّ‬
‫فإن هذه املكانة قد ّ‬
‫سبقت حكومة أمري املؤمنني ‪ ،‬وقد حتدّ ث عن ذلك ‪ ‬يف خطبة له حول الفتوحات قال‬
‫فيها‪« :‬ثم نسبت تلك الفتوح إىل آراء والهتا‪ ،‬وحسن تدبري األمراء القائمني هبا‪ ،‬فتأكّد عند‬
‫ال ناس نباهة قوم ومخول آخرين‪ ،‬فكنا نحن ممن مخل ذكره‪ ،‬وخبت ناره‪ ،‬وانقطع صوته وصيته‪،‬‬
‫حتى أكل الدهر علينا ورشب‪ ،‬ومضت السنون واألحقاب بام فيها‪ ،‬ومات كثري ممن يعرف‪،‬‬
‫ونشأ كثري ممن ال يعرف» (‪.)1‬‬

‫وهذه النتيجة طبيعية جدً ا؛ إذ املجتمعات التي طالتها ما تسمى بـ (الفتوحات اإلسالمية)‬
‫مل تُفتح عىل اسم عَل أو فاطمة أو احلسن واحلسني ‪ ،‬وإنام ُفتحت عىل أسامء أخرى‪ ،‬فلم تكن‬
‫شخصا حتدث بفضيلة من فضائلهم أو منقبة‬
‫ً‬ ‫تعرف شي ًئا عن تلك األسامء املباركة‪ ،‬بل لو َّ‬
‫أن‬
‫وحياسب‪ ،‬فلم تسنح الفرصة للحديث عن فضائل أمري‬
‫َ‬ ‫حيارب ويعا َقب‬
‫من مناقبهم كان َ‬
‫املؤمنني وأهل البيت ‪ ‬إال بعد أن تصدى أمري املؤمنني ‪ ‬للحكم‪ ،‬حينها بدأ الصحابة‬
‫حيدثون الناس بام سمعوه من رسول اهلل ‪ ‬من فضائل أمري املؤمنني ‪ ‬وبرزت مكانة أهل‬
‫أهم املعامل التي ّ‬
‫حققها أمري املؤمنني ‪ ‬خالل حكومته املقدسة‪.‬‬ ‫البيت ‪ ،‬وهذا املعلم من ّ‬

‫املعلم الثاين‪ :‬ترسيخ مفهوم اإلمامة اإلهلية‪.‬‬

‫فإن أذهان املسلمني عىل مدى مخس وعرشين سنة قد أرشبت َّ‬
‫بأن اإلمامة إنام هي‬ ‫َّ‬
‫بالشورى والبيعة واجتامع أهل احلل والعقد‪ ،‬إىل أن تسنت الفرصة ألمري املؤمنني ‪ ‬يف‬
‫حكومته‪ ،‬فبدأ حيدّ ث الناس عن أنه كان مسلوب احلق واملقام‪ ،‬وأنه هو األجدر واألحق؛ ألنه‬

‫(‪ )1‬رشح النهج للمعتزيل‪ :‬ج‪ ،20‬ص‪.299‬‬


‫‪263‬‬ ‫البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية‬

‫هو املنصوص عليه من قبل اهلل ‪ ، ‬وأن اإلمامة ال تتم بشورى وال باجتامع أهل حل وعقد‪،‬‬
‫ورسخه بعد أن كان ذلك مغ َّي ًبا عن األذهان‪.‬‬
‫فش ّيد مفهوم اإلمامة اإلهلية ّ‬

‫واحلاصل‪ّ :‬‬
‫فإن أمري املؤمنني ‪ ‬لو مل حيقق من حكومته املباركة إال هذين املكسبني‬
‫لكفى‪ ،‬إذ لواله ملا عرف املسلمون مكانة آل حممد ‪ ،‬وملا ظهر مذهب احلق وبقي راسخ‬
‫اجلذور إىل يوم الناس هذا‪ ،‬لوضوح َّ‬
‫أن جوهر التشيع هو مسألة اإلمامة اإلهلية‪ ،‬وهذه املسألة‬
‫قد ضاعت وانطمست لوال جهود أمري املؤمنني ‪ ‬وتصديه للحكومة‪.‬‬

‫املعلم الثالث‪ :‬سدُّ باب التحريف والتالعب بالدين‪.‬‬

‫فإن التالعب والتحريف قد وقع عند انتقال خاتم األنبياء واملرسلني ‪ ‬إىل العامل األعىل‪،‬‬
‫تعمد وسبق إرصار‪ ،‬ويشهد لذلك‪ :‬ما رواه البخاري يف‬ ‫ٍ‬ ‫غري البعض حقائق الدين عن‬‫وقد ّ‬
‫صحيحه عن الزهري أنه يقول‪ « :‬دخلت عىل أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي‪ ،‬فقلت‪ :‬ما‬
‫يبكيك؟ فقال‪ :‬ال أعرف شي ًئا مما أدركت إال هذه الصالة‪ ،‬وهذه الصالة قد ض ّيعت» (‪.)1‬‬

‫ومن هنا وجد أمري املؤمنني ‪ ‬رضورة تصديه للخالفة‪ ،‬ألجل صيانة الدين من‬
‫التحريف‪ ،‬وتدارك ما يمكن تداركه مما طاله التالعب‪ ،‬وتشهد لذلك نصوص عديدة‪:‬‬

‫منها‪ :‬ما رواه الطربي يف تأرخيه عنه ‪ ‬أنه قال‪« :‬عدا الناس عىل هذا الرجل – وأنا‬
‫معتزل – فقتلوه‪ ،‬ثم و ّلوين وأنا كاره‪ ،‬ولوال خشية عىل الدين مل أجبهم» (‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.112‬‬


‫(‪ )2‬تأريخ الطربي‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.505‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪264‬‬

‫ومنها‪ :‬ما رواه البالذري مسندً ا عن حبيب بن أيب ثابت أنه قال‪« :‬قال عَل ‪ :‬واهلل ما‬
‫تقدّ مت عليها إال خو ًفا من أن ينزو عىل األمر تيس من بني أمية فيلعب بكتاب اهلل ‪.)1( »‬‬

‫املعلم الرابع‪ :‬إحياء السنة النبوية‪.‬‬

‫غريوا من معامل هذا الدين‬


‫غريوا ما ّ‬ ‫فقد تقدم َّ‬
‫أن الوالة الذين سبقوا أمري املؤمنني ‪ّ ‬‬
‫يبني فيها بعض‬
‫وسنة سيد املرسلني ‪ ،‬وقد وردت نصوص كثرية عن أمري املؤمنني ‪ّ ‬‬
‫ِ‬
‫السنن التي ُطم َست ُ‬
‫وح ِّرفت‪.‬‬

‫ومن تلك النصوص‪ :‬الوثيقة اخلطرية التي ينقلها الشيخ الكليني ‪ ‬يف الكايف عنه‪،‬‬
‫وهي طويلة جدً ا‪ ،‬ولكننا نقتبس منها قوله‪« :‬قد عملت الوالة قبَل ً‬
‫أعامال خالفوا فيها رسول‬
‫وحولتها‬
‫مغريين لسنته‪ ،‬ولو محلت الناس عىل تركها‪ّ ،‬‬
‫اهلل ‪ ‬متعمدين خلالفه‪ ،‬ناقضني لعهده‪ّ ،‬‬
‫لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي‪ ،‬أو‬
‫إىل مواضعها‪ ،‬وإىل ما كانت يف عهد رسول اهلل ‪ّ ،‬‬
‫قليل من شيعتي الذين عرفوا فضَل وفرض إمامتي من كتاب اهلل ‪ ‬وسنة رسول اهلل ‪.‬‬

‫• أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم ‪ ‬فرددته إىل املوضع الذي وضعه فيه رسول‬
‫اهلل ‪‬؟‬
‫• ورددت فدك إىل ورثة فاطمة ‪‬؟‬
‫• ورددت صاع رسول ‪ ‬كام كان؟‬
‫• وأمضيت قطائع أقطعها رسول اهلل ‪ ‬ألقوام مل متض هلم ومل تنفذ؟‬
‫• ورددت دار جعفر إىل ورثته وهدمتها من املسجد؟‬
‫• ورددت قضايا من اجلور قيض هبا؟‬

‫(‪ )1‬أنساب األرشاف‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.103‬‬


‫‪265‬‬ ‫البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية‬

‫• ونزعت نسا ًء حتت رجال بغري حق‪ ،‬فرددهتن إىل أزواجهن‪ ،‬واستقبلت هبن‬
‫احلكم يف الفروج واألرحام؟‬
‫• وسبيت ذراري بني تغلب؟‬
‫• ورددت ما قسم من أرض خيرب؟‬
‫• وحموت دواوين العطايا؟‬
‫• وأعطيت كام كان رسول اهلل ‪ ‬يعطي بالسوية‪ ،‬ومل أجعلها دولة بني األغنياء؟‬
‫• وألقيت املساحة؟‬
‫• وسويت بني املناكح؟‬
‫• وأنفذت مخس الرسول كام أنزل اهلل ‪ ‬وفرضه؟‬
‫• ورددت مسجد رسول اهلل ‪ ‬إىل ما كان عليه‪ ،‬وسددت ما فتح فيه من‬
‫األبواب‪ ،‬وفتحت ما سدّ منه؟‬
‫وحرمت املسح عىل اخلفني؟‬
‫ّ‬ ‫•‬
‫• وحددت عىل النبيذ؟‬
‫• وأمرت بإحالل املتعتني؟‬
‫• وأمرت بالتكبري عىل اجلنائز مخس تكبريات؟‬
‫• وألزمت الناس اجلهر ببسم اهلل الرمحن الرحيم؟‬
‫• وأخرجت من أدخل مع رسول اهلل ‪ ‬يف مسجده ممن كان رسول اهلل ‪‬‬
‫أخرجه؟ وأدخلت من أخرج بعد رسول اهلل ‪ ‬ممن كان رسول اهلل ‪ ‬أدخله؟‬
‫• ومحلت الناس عىل حكم القرآن وعىل الطالق عىل السنة؟‬
‫• وأخذت الصدقات عىل أصنافها وحدودها؟‬
‫• ورددت الوضوء والغسل والصالة إىل مواقيتها ورشائعها ومواضعها؟‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪266‬‬

‫• ورددت أهل نجران إىل مواضعهم؟‬


‫• ورددت سبايا فارس وسائر األمم إىل كتاب اهلل وسنة نبيه ‪‬؟‬

‫إ ًذا ّ‬
‫لتفرقوا عني واهلل» (‪.)1‬‬
‫فغري‬
‫وقد كان ألمري املؤمنني ‪ ‬دور كبري يف تقويم هذا العوج‪ ،‬وإبطال هذا التحريف‪ّ ،‬‬
‫ما غُ ّري من هذه السنن التي سنّها اآلخرون‪ ،‬إىل احلد الذي اقرتن فيه اسمه ‪ ‬ببعضها‪ ،‬وقد‬
‫اعرتف بذلك الفخر الرازي – وهو من كبار علامء القوم‪ -‬حيث قال‪« :‬وأما َّ‬
‫أن عَل بن أيب‬
‫طالب ‪ ‬كا ن جيهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر‪ ،‬ومن اقتدى يف دينه بعَل بن أيب طالب فقد‬
‫اهتدى‪ ،‬والدليل عليه قوله ‪ :‬اللهم أدر احلق مع عَل حيث دار» (‪ ،)2‬والشواهد عىل ذلك‬
‫كثرية جدً ا‪.‬‬

‫املعلم اخلامس‪ :‬إقامة العدل وتشييد أركانه‪.‬‬

‫ملَّا تصدى أمري املؤمنني ‪ ‬للحكم وجد الطبقية منترشة يف املجتمع‪ ،‬فقد كان البعض‬
‫ّ‬
‫ويؤخر آخرين‪ ،‬ال لَشء سوى املحسوبيات والقومية الزائفة‪ ،‬كام‬ ‫يم ّيز بني األفراد‪ ،‬فيقدّ م قو ًما‬
‫أوجها آنذاك‪ ،‬حيث كان مبدأ التفاضل يف العطاء هو املبدأ احلاكم‬
‫كانت الطبقية املالية عىل ّ‬
‫واملهيمن حينها‪ ،‬ولكن أمري املؤمنني ‪ ‬منذ أول حلظة تس ّلم فيها احلكم أعلن بوضوح رفضه‬
‫هلذا املبدأ‪ ،‬فقال يف أول خطبة له بعد تسلمه احلكم – كام روى الشيخ الطويس ‪ ‬بسنده عن‬
‫مالك بن أوس –‪ « :‬فأنتم أُّيا الناس عباد اهلل املسلمون‪ ،‬واملال مال اهلل يقسم بينكم بالسوية‪،‬‬
‫وليس ألحد عىل أحد فضل إال بالتقوى‪ ،‬وللمتقني عند اهلل خري اجلزاء وأفضل الثواب‪ ،‬مل جيعل‬
‫فإن عندنا ً‬
‫ماال اجتمع‪،‬‬ ‫اهلل الدنيا للمتقني جزاء‪ ،‬وما عند اهلل خري لألبرار‪ .‬إذا كان غدً ا فاغدوا َّ‬

‫(‪ )1‬الكايف‪ :‬ج‪ ،8‬ص‪.62 - 59‬‬


‫(‪ )2‬مفاتح الغيب‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.205‬‬
‫‪267‬‬ ‫البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية‬

‫حرا‪ .‬احرضوا رمحكم اهلل»‪ ،‬فاجتمعوا‬


‫مسلام ً‬
‫ً‬ ‫فال يتخ ّلفن أحد كان يف عطاء أو مل يكن إذا كان‬
‫من الغد‪ ،‬ومل يتخلف عنه أحد‪ ،‬فقسم بينهم ثالثة دنانري لكل إنسان‪ ،‬الرشيف والوضيع‪،‬‬
‫واألمحر واألسود‪ ،‬مل يفضل أحدً ا (‪.)1‬‬

‫املعلم السادس‪ :‬عدم املساومة يف احلق‪.‬‬

‫رصح ً‬
‫قائال‪« :‬ولكنني آسى أن‬ ‫وقد ظهر ذلك جل ًيا بعزله ‪ ‬للوالة الفاسدين‪ ،‬حيث ّ‬
‫دوال‪ ،‬وعباده ً‬
‫خوال‪ ،‬والصاحلني حر ًبا‪،‬‬ ‫وفجارها‪ ،‬فيتّخذوا مال اهلل ً‬
‫يَل أمر هذه األمة سفهاؤها ّ‬
‫والفاسقني حز ًبا‪َّ ،‬‬
‫فإن منهم الذي قد رشب فيكم احلرام‪ ،‬وجلد حدً ا يف اإلسالم‪ ،‬وإن منهم من‬
‫مل يسلم حتى رضخت له عىل اإلسالم الرضائخ» (‪.)2‬‬

‫ومن أولئك الوالة الذين عزهلم أمري املؤمنني ‪ :‬معاوية بن أيب سفيان‪ ،‬فقد روى‬
‫الشيخ الطويس ‪ ‬عن جبلة بن سحيم عن أبيه‪ ،‬قال‪« :‬ملَّا بويع أمري املؤمنني عَل بن أيب طالب‬

‫أن معاوية قد تو ّقف عن إظهار البيعة له‪ ،‬وقال‪ :‬إن ّ‬


‫أقرين عىل الشام وأعاميل التي‬ ‫‪ ‬بلغه َّ‬
‫ّ‬
‫والنيها عثامن بايعته‪ ،‬فجاء املغرية إىل أمري املؤمنني ‪ ‬فقال له‪ :‬يا أمري املؤمنني‪ ،‬إن معاوية من‬
‫واله الشام من قد كان قبلك‪ ،‬فو ّله أنت كيام تتسق عرى األمور ثم اعزله إن‬
‫قد عرفت‪ ،‬وقد ّ‬
‫بدا لك‪.‬‬

‫فقال أمري املؤمنني ‪ : ‬أتضمن يل عمري يا مغرية فيام بني توليته إىل خلعه؟ قال‪ :‬ال‪،‬‬
‫ُنت مت ِ‬
‫َّخ َذ‬ ‫قال‪ :‬ال يسألني اهلل ‪ ‬عن توليته عىل رجلني من املسلمني ليلة سوداء أبدً ا‪َ ﴿ ،‬و َما ك ُ ُ‬

‫(‪ )1‬األمايل للشيخ الطويس‪ :‬ص‪.727‬‬


‫(‪ )2‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.121‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪268‬‬

‫املُْ ِض ِّل َ‬
‫ني َع ُضدً ا﴾ ‪ ،‬لكن أبعث إليه وأدعوه إىل ما يف يدي من احلق‪ ،‬فإن أجاب فرجل من‬
‫املسلمني له ما هل م وعليه ما عليهم‪ ،‬وإن أبى حاكمته إىل اهلل» (‪.)1‬‬

‫املعلم السابع‪ :‬تطبيق احلكم اإلهلي عىل البغاة من املسلمني‪.‬‬

‫أمرا يم ّيز حكومة أمري‬ ‫توهم – بادئ ذي بدء – َّ‬


‫أن هذا الدور دور اعتيادي‪ ،‬وليس ً‬ ‫وقد ُي َّ‬
‫املؤمنني ‪ ،‬ولكن الواقع ليس كذلك‪َّ ،‬‬
‫فإن أوضح مصداق للبغاة من املسلمني هم اخلوارج‪،‬‬
‫أن ما كان ُين َْقل من أحواهلم يف العبادة والزهد قد أوجب التشويش عىل وصفهم بالبغاة‪.‬‬
‫إال َّ‬

‫يتقربون إىل اهلل تعاىل بلعن أمري املؤمنني ‪ ،‬بل كانوا يك ّفرونه‬
‫وإال فإهنم كانوا ّ‬
‫ويك ّفرون كل من وااله‪ ،‬ومل يتورعوا عن ذبح من كان ه‬
‫يمت ألمري املؤمنني ‪ ‬بصلة‪ ،‬ومن‬
‫ذلك ذبحهم للصحايب اجلليل خباب بن األرت ‪ ‬ال لَشء إال ألنه ريض عن موقف أمري‬
‫املؤمنني ‪ ،‬بل قد عمدوا إىل زوجته وهي حامل وبقروا بطنها قربة هلل تعاىل‪.‬‬

‫الزهاد‬ ‫ٍ‬
‫ولذلك وقعت الفتنة واحلرية يف صفوف املسلمني‪ ،‬فمن جهة كان هؤالء من الع ّباد ّ‬
‫أصحاب الطاعات‪ ،‬ومن جهة أخرى كانوا يك ّفرون عل ًيا ‪ ‬ويلعنونه‪ ،‬وقد خرجوا عليه‬
‫وأعلنوا احلرب ضده‪ ،‬فوقع الناس يف الفتنة واحلرية‪ ،‬وما استطاع أحد أن خي ّلصهم منها إال أمري‬
‫املؤمنني ‪ ،‬ولذا قال ‪« :‬أما بعد أُّيا الناس‪ ،‬فأنا فقأت عني الفتنة‪ ،‬ومل تكن ليجرؤ عليها‬
‫أحد غريي‪ ،‬بعد أن ماج غيهبها واشتدّ كلبها» (‪ ،)2‬فط ّبق عليهم حكم البغاة وقطع دابر الفتنة‪.‬‬

‫(‪ )1‬األمايل للشيخ الطويس‪ :‬ص‪.87‬‬


‫(‪ )2‬هنج البالغة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.182‬‬
‫‪269‬‬ ‫البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية‬

‫املحصلة األخرية‪:‬‬
‫ومما عرضناه يتّضح‪َّ :‬‬
‫أن أمري املؤمنني ‪ ‬مل يفشل – والعياذ باهلل ‪ -‬يف حكومته‪ ،‬بل نجح‬
‫رصح أمري املؤمنني‬ ‫فيها؛ ألنه ّ‬
‫حقق هدفه الذي رسمه ملرشوعه‪ ،‬وهو إحياء معامل الدين‪ ،‬وقد ّ‬
‫ونسب الفشل إىل غريه‪ ،‬حني قال‪« :‬فقمت باألمر حني فشلوا‪ ،‬وتطلعت حني‬
‫َ‬ ‫‪ ‬بنجاحه‪،‬‬
‫تقبعوا‪ ،‬ونطقت حني تعتعوا‪ ،‬ومضيت بنور اهلل حني وقفوا» (‪.)1‬‬

‫اجلواب عن املنبه الرابع‪ :‬عدم تصدي أهل البيت ‪ ‬قاطبة لإلمامة السياسية‪.‬‬
‫ُ‬

‫وأما عدم تصدي أهل البيت ‪ ‬قاطبة لإلمامة السياسية‪ ،‬فتوجد يف مقام اجلواب عنه‬
‫نظريتان‪:‬‬

‫النظرية األوىل‪ :‬نظرية احلكومة الرسية‪.‬‬

‫وهي تعني‪َّ :‬‬


‫أن أهل البيت ‪ ‬وإن مل يتصدّ وا للقيادة بشكل مبارش‪ ،‬إال أهنم كان هلم من‬
‫احلق ودفع اجلور‪ ،‬وهكذا كانت‬
‫أصحاهبم املخلصني من يعمل يف تلك احلكومات ألجل إقامة ّ‬
‫هلم ‪ -‬عرب أصحاهبم النافذين ‪ -‬حكومة رسية داخل احلكومة الفعلية القائمة آنذاك‪ ،‬ويمكن‬
‫إقامة عدّ ة من الشواهد عىل ذلك‪ ،‬وإليك بعضها‪:‬‬

‫وزيرا يف حكومة هارون‬


‫• الشاهد األول‪ :‬تعيني اإلمام الكاظم ‪ ‬لعَل بن يقطني ً‬
‫الرشيد‪.‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ ،‬برشح حممد عبده‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.88‬‬


‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪270‬‬

‫• الشاهد الثاين‪ :‬منع اإلمام الصادق ‪ ‬صفوان اجلامل من عمله يف كراء اجلامل؛ َّ‬
‫ألن‬
‫حكومة املنصور كانت تستفيد منه يف جورها وظلمها‪.‬‬
‫• الشاهد الثالث‪ :‬نصب أهل البيت ‪ ‬للقضاة يف كل بلدة ألجل إقامة احلدود‪.‬‬
‫• الشاهد الرابع‪ :‬مباركتهم ‪ ‬لبعض الثورات‪ ،‬وعدم معارضتها‪ ،‬كثورة الشهيد‬
‫العظيم زيد بن عَل ‪.‬‬
‫وليس خيفى َّ‬
‫أن كل هذه التْصفات من شأن احلكومة واحلاكم‪ ،‬وصدورها منهم ‪ ‬دليل‬
‫عىل ممارستهم إلمامتهم السياسية مع وجود تلك احلكومات الفعلية‪.‬‬

‫النظرية الثانية‪ :‬التفريق بني االستحقاق والفعلية‪.‬‬

‫وحاصلها‪َّ :‬‬
‫إن اإلمامة السياسية هلا جانبان‪:‬‬

‫• اجلانب األول‪ :‬جانب االستحقاق‪.‬‬


‫• اجلانب الثاين‪ :‬جانب الفعلية‪.‬‬

‫أما األول‪ :‬فال ّ‬


‫شك يف ثبوته ألهل البيت ‪ ،‬وأهنم كانوا األليق بالتصدّ ي للشأن‬
‫السيايس وإدارة شؤون األ ّمة‪ ،‬إ ّال َّ‬
‫أن تفعيل هذا املنصب منوط برشوط‪ ،‬ومن هذه الرشوط‪:‬‬

‫يتْصف من غري أن يق ّيده أحد‪.‬‬


‫أ‪ -‬أن يكون اإلمام مبسوط اليد‪ ،‬بحيث يستطيع أن ّ‬
‫ب‪ -‬أن يكون له أنصار يعينونه عىل تفعيل احلق وتق ّلد زمام األمور‪.‬‬

‫وهذا يعني َّ‬


‫أن أهل البيت ‪ ‬كانوا ينظرون إىل اإلمامة السياسية عىل نحو الطريقية ال‬
‫ً‬
‫طريقا إلقامة احلق وبسط العدل ودفع الباطل واجلور تش ّبثوا‬ ‫املوضوعية‪ ،‬بمعنى أهنا إذا كانت‬
‫‪271‬‬ ‫البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية‬

‫هبا ومل يتنازلوا عنها‪ ،‬وأما إذا كانوا مكتويف األيدي‪ ،‬ومل يكن بمقدورهم أن يفعلوا شي ًئا‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫اإلمامة السياسية ال تكون هلا حينئذ قيمة عندهم‪.‬‬

‫وتشهد لذلك نصوص كثرية‪ ،‬ومنها‪ :‬قول أمري املؤمنني ‪« :‬اللهم إنك تعلم أنه مل يكن‬
‫الذي كان منّا منافسة يف سلطان‪ ،‬وال التامس يشء من فضول احلطام‪ ،‬ولكن لنرد املعامل من‬
‫دينك‪ ،‬ونظهر اإلصالح يف بالدك‪ ،‬فيأمن املظلومون من عبادك‪ ،‬وتقام املعطلة من حدودك»(‪.)1‬‬

‫وهبذا ينتهي الكالم حول معاجلة شبهة عدم ثبوت اإلمامة السياسية أئمة ألهل البيت ‪،‬‬
‫يتم الكالم حول اإلمامة السياسية‪،‬‬
‫وهو املحور الثالث واألخري من حماور هذا البحث‪ ،‬وبه ّ‬
‫واحلمدُ هلل رب العاملني‪.‬‬

‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ ،‬رشح حممد عبده‪ :‬ج‪ ،2‬ص‪.13‬‬


‫الفهرس‬
‫ابتهال ‪5............................................................................................‬‬
‫َّ‬
‫المقرر له ‪7..............................................................................‬‬ ‫مقدمة‬
‫مقدمة المقرر ‪11 ................................................................................‬‬
‫البحث األول‪ :‬أهمية البحث حول اإلمامة ‪17 .............................................‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫األمر األول‪ :‬ترسيخ عقيدة اإلمامة وظيفة رشعية الزمة ‪17 ............................‬‬
‫المصي األخروي باإلمامة ‪19 ...................................‬‬ ‫ر‬ ‫الثان‪ :‬فلسفة قرن‬
‫األمر ي‬
‫ٌ‬
‫وح األحاديث ‪21 ..............................................................‬‬
‫ي‬ ‫من‬ ‫كلمة‬
‫الثان‪ :‬مفهوم اإلمامة اإللهية ‪23 ....................................................‬‬
‫ي‬ ‫البحث‬
‫النب والرسول واإلمام ‪25 ........................‬‬
‫المفهوم بي ي‬
‫ي‬ ‫البحث الثالث‪ :‬الفرق‬
‫‪ /1‬المقام األول‪ :‬بيان الفارق اللغوي ربي العناوين الثالثة ‪25 ..........................‬‬
‫‪ –1‬المفردة األوىل‪ :‬ي‬
‫النب ‪25 ..............................................................‬‬
‫‪ – 2‬المفردة الثانية‪ :‬الرسول ‪26 .........................................................‬‬
‫‪ – 3‬المفردة الثالثة‪ :‬اإلمام ‪26 ............................................................‬‬
‫االصطالح ربي العناوين الثالثة ‪27 ....................‬‬
‫ي‬ ‫الثان‪ :‬بيان الفارق‬
‫‪ / 2‬المقام ي‬
‫التلق من هللا تعاىل ‪28 .............................‬‬
‫ي‬ ‫أ – اللحاظ األول‪ :‬لحاظ كيفية‬
‫ّ ٌ‬ ‫ٌ‬
‫مهمة ‪29 .......................................................................‬‬ ‫تنبيهات‬
‫الثان‪ :‬لحاظ المهام اإللهية ‪35 ..........................................‬‬
‫ب – اللحاظ ي‬
‫المشكالت المعيضة ومعالجتها ‪36 .....................................................‬‬
‫ُ‬
‫معالجة المشكلة األوىل ‪36 ............................................................‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪274‬‬

‫(النب) و (الرسول) ‪42 .............................................‬‬‫ي‬ ‫الفارق األدق ربي‬


‫ُ‬
‫معالجة المشكلة الثانية ‪43 ............................................................‬‬
‫ُ‬
‫معالجة المشكلة الثالثة ‪44 ............................................................‬‬
‫ٌ‬
‫عودة لعنوان (اإلمام) ‪45 ..................................................................‬‬
‫أ‪ -‬التعريف األول‪ :‬الهداية األمرية ‪45 .................................................‬‬
‫مالحظات عىل التعريف األول ‪50 ....................................................‬‬
‫الثان‪ :‬الخالفة اإللهية المطلقة ‪52 .................................‬‬
‫ي‬ ‫ب – التعريف‬
‫أضواء عىل التعريف ‪53 ................................................................‬‬
‫ُ‬
‫كلمة الختام ‪57 ..........................................................................‬‬
‫منصب النبوة والرسالة ‪59 ..............‬‬
‫ي‬ ‫البحث الرابع‪ :‬أفضلية منصب اإلمامة عىل‬
‫‪ / 1‬النوع األول‪ :‬األدلة القرآنية ‪59 ......................................................‬‬
‫الثان‪ :‬األدلة الروائية ‪62 .......................................................‬‬
‫ي‬ ‫‪ / 2‬النوع‬
‫البحث الخامس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب ي‬
‫إله ‪65 ........................................‬‬
‫‪ /1‬المبحث الكيوي‪ :‬أقسام المناصب والفرق بينها ‪65 ................................‬‬
‫المسألة األوىل‪ :‬أقسام المناصب ‪65 ....................................................‬‬
‫المسألة الثانية‪ :‬الفرق ربي المناصب اإللهية والوضعية ‪68 .........................‬‬
‫الجهة األوىل‪ :‬جهة الجعل ‪68 .........................................................‬‬
‫الجهة الثانية‪ :‬اختالف المناصب باختالف االعتبارات ‪70 .......................‬‬
‫‪ /2‬المبحث الصغروي‪ :‬إلهية منصب اإلمامة ‪77 ........................................‬‬
‫اإلجماىل ‪78 ....................................................‬‬
‫ي‬ ‫الجواب األول‪ :‬الجواب‬
‫المطلب األول‪ :‬بيان مفهوم الجعل يف القرآن الكريم ‪78 ..........................‬‬
‫الثان‪ :‬بيان ضابطة التأويل ‪83 .............................................‬‬
‫ي‬ ‫المطلب‬
‫التفصيىل ‪84 ...................................................‬‬
‫ي‬ ‫الثان‪ :‬الجواب‬
‫ي‬ ‫الجواب‬
‫‪275‬‬ ‫الفهرس‬

‫الجواب عن اآلية األوىل ‪84 ............................................................‬‬


‫الجواب عن اآلية الثانية ‪85 ...........................................................‬‬
‫الجواب عن اآلية الثالثة ‪86 ...........................................................‬‬
‫َ ٌ َ‬
‫خل ودفع ‪89 ...........................................................................‬‬ ‫د‬
‫يب الشورى والبيعة ‪91 .................................................‬‬
‫خاتمة يف نقد نظر ي‬
‫النظرية األوىل‪ :‬ثبوت اإلمامة بالشورى ‪91 .............................................‬‬
‫النظرية الثانية‪ :‬ثبوت اإلمامة بالبيعة ‪93 ...............................................‬‬
‫الجهة األوىل‪ :‬حقيقة البيعة ‪93 .......................................................‬‬
‫الجهة الثانية‪ :‬هل البيعة طريق لثبوت الوالية؟ ‪94 ...............................‬‬
‫الجهة الثالثة‪ :‬بيان حقيقة البيعة العلوية ‪96 .......................................‬‬
‫ٌّ‬
‫نيان ‪101 ...........................‬‬ ‫ٌّ‬ ‫البحث السادس‪ :‬اإلمامة اإللهية منصب‬
‫أصاىل ال ي‬‫ي‬
‫ّ‬
‫محل البحث ‪101 ...............................................................‬‬ ‫تحرير‬
‫أدلة األصالة ‪101 ........................................................................‬‬
‫البحث السابع‪ :‬اإلمامة اإللهية أصل من أصول الدين ‪105 .............................‬‬
‫الجهة األوىل‪ :‬بيان الفرق ربي األصل والضوري ‪105 ................................‬‬
‫الجهة الثانية‪ :‬آراء العلماء حول كون اإلمامة من األصول ‪107 .....................‬‬
‫الجهة الثالثة‪ :‬سبب االختالف ‪109 .....................................................‬‬
‫الدعويي ‪111 .....................................................‬‬
‫ر‬ ‫الجهة الرابعة‪ :‬إثبات‬
‫ً‬
‫الدعوى األوىل‪ :‬اإلمامة من ضوريات الدين حدوثا ‪111 .........................‬‬
‫الدعوى الثانية‪ :‬اإلمامة من أصول المذهب بقاء ‪114 ............................‬‬
‫ّ ّ‬
‫الجهة الخامسة‪ :‬أدلة أن اإلمامة من األصول ‪116 ....................................‬‬
‫المسلمي ‪122 ....................................‬‬
‫ر‬ ‫الجهة السادسة‪ :‬نقد شبهة ر‬
‫تكفي‬
‫الجواب األول‪ :‬التفريق ربي اإلمامة العامة واإلمامة الخاصة ‪122 ...............‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪276‬‬

‫الواقع والدين الظاهري ‪125 ................‬‬


‫ي‬ ‫الثان‪ :‬التفريق ربي الدين‬
‫ي‬ ‫الجواب‬
‫الجواب الثالث‪ :‬التفريق ربي الجهل القصوري واإلنكار الجحودي ‪125 ........‬‬
‫البحث الثامن‪ :‬تاري خ عقيدة اإلمامة اإللهية ‪129 ........................................‬‬
‫تمهيد ‪129 ..................................................................................‬‬
‫األمر األول‪ :‬إطاللة عىل نظرية القراءة المنسية ‪129 ..............................‬‬
‫الثان‪ :‬بعدا النظرية ‪130 .........................................................‬‬
‫األمر ي‬
‫الصفب ‪131 .................‬‬
‫ي‬ ‫‪ / 1‬المقام األول‪ :‬نقد نظرية القراءة المنسية يف بعدها‬
‫‪ – 1‬الجهة األوىل‪ :‬أدلة النظرية ‪131 ....................................................‬‬
‫أ – الدليل األول‪ :‬أحاديث األئمة ‪ ‬ورواياتهم ‪131 ...............................‬‬
‫الثان‪ :‬مواقف أصحاب األئمة ‪132 ............................... ‬‬
‫ي‬ ‫ب – الدليل‬
‫ج – الدليل الثالث‪ :‬إقرار علماء الشيعة ‪133 .......................................‬‬
‫‪ – 2‬الجهة الثانية‪ :‬مناقشة النظرية ‪133 ...............................................‬‬
‫أ – المناقشة اإلجمالية ‪133 ...........................................................‬‬
‫الروان‪134 ..........................................‬‬
‫ي‬ ‫األمر األول‪ :‬محورية الموروث‬
‫الحديب ‪136 .................‬‬
‫ي‬ ‫الثان‪ :‬ضورة القراءة الموضوعية للموروث‬ ‫األمر ي‬
‫العلم‪139 ..............................‬‬ ‫ّ‬
‫والتطور‬ ‫األمر الثالث‪ :‬الياكمية المعرفية‬
‫ي‬
‫محصلة األمور الثالثة ‪140 ............................................................‬‬
‫ب – المناقشة الثانية‪ :‬المناقشة التفصيلية ‪141 ..................................‬‬
‫‪ / 1‬المحور األول‪ :‬معالجة النصوص الظاهرة يف ي‬
‫نق العصمة ‪141 ............‬‬
‫الغيب ‪146 ........‬‬
‫ي‬ ‫نق العلم‬ ‫الثان‪ :‬معالجة النصوص الظاهرة يف ي‬ ‫‪ / 2‬المحور ي‬
‫تأم ٌل يف المعالجة ‪149 .................................................................‬‬
‫ّ‬
‫كيفية توجيه هذين ّ‬
‫النص ري ‪155 .....................................................‬‬

‫‪ / 3‬المحور الثالث‪ :‬معالجة النصوص الظاهرة يف ي‬


‫نق النص ‪159 ..............‬‬
‫‪277‬‬ ‫الفهرس‬

‫معالجة النص األول ‪159 ..............................................................‬‬


‫الثان ‪161 ..............................................................‬‬
‫معالجة النص ي‬
‫المؤمني ‪163 .............................. ‬‬
‫ر‬ ‫الناحية األوىل‪ :‬صدورها عن ر‬
‫أمي‬
‫الناحية الثانية‪ :‬داللة الخطبة الشقشقية ‪165 .....................................‬‬
‫األخية ‪169 ..................................................................‬‬
‫ر‬ ‫المحصلة‬
‫معالجة النص الثالث ‪169 .............................................................‬‬
‫تأصيل عقيدة اإلمامة يف نهج البالغة ‪172 .....................‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ – 3‬الجهة الثالثة‪:‬‬
‫المحور األول‪ :‬مالمح اإلمامة اإللهية يف نهج البالغة ‪175 ........................‬‬
‫الثان‪ :‬صفات اإلمام يف نهج البالغة ‪177 ..................................‬‬
‫المحور ي‬
‫الثان‪ :‬نقد نظرية القراءة المنسية يف بعدها العددي ‪182 .................‬‬‫‪ / 2‬المقام ي‬
‫ٌ‬
‫إطاللة عىل عقيدة اإلمامة يف بعدها العددي ‪182 ....................................‬‬
‫ٌ‬
‫عودة إىل إشكالية نظرية القراءة المنسية حول البعد العددي لإلمامة ‪188 .......‬‬
‫اإلجابة عن اإلشكالية األوىل ‪189 ........................................................‬‬
‫المحور األول‪ :‬عدم التمانع ربي وجود النص ونشوء المذاهب والفرق ‪189 ...‬‬
‫الثان‪ :‬عوامل اختالف الشيعة وافياقهم ‪191 ............................‬‬ ‫المحور ي‬
‫عشية ‪193 ...................................‬‬‫المحور الثالث‪ :‬أصالة عقيدة االثب ر‬
‫ي‬
‫كلمات أبناء العامة ‪196 ................................................................‬‬
‫اإلجابة عن اإلشكالية الثانية ‪200 ........................................................‬‬
‫النقطة األوىل‪ :‬عدم التالزم ربي تواتر القضية ووضوحها لدى الجميع ‪200 ...‬‬
‫النقطة الثانية‪ :‬بيان أسباب عدم وضوح قضية التنصيص ‪201 .................‬‬
‫اإلجابة عن اإلشكالية الثالثة ‪204 ........................................................‬‬
‫ّ‬
‫المنسية ‪207 ...................‬‬ ‫تشب شبهة الزيدية إىل أصحاب نظرية القراءة‬ ‫ّ‬
‫ٌ‬
‫عودة إىل رحاب اإلجابة عن اإلشكالية الثالثة ‪209 .................................‬‬
‫الفصل األول‪ :‬اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي‬ ‫‪278‬‬

‫ّ‬ ‫ُ‬
‫نتيجة المقدمات األرب ع ‪217 ..........................................................‬‬
‫حية زرارة يف اإلمامة تحت األضواء ‪219 ..................................‬‬
‫روايات ر‬
‫َّ‬
‫تحقيق حول الروايات الدالة عىل أن األئمة ثالثة ر‬
‫عش ‪224 ........................‬‬
‫البحث التاسع‪ :‬شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية‪237 .........................‬‬
‫المحور األول‪ :‬وقفة مع المصطلح ‪237 ...................................................‬‬
‫الثان‪ :‬أدلة ثبوت اإلمامة السياسية لألئمة ‪238 ............................ ‬‬
‫المحور ي‬
‫الدليل األول‪ :‬حديث الدار ‪238 ......................................................‬‬
‫الثان‪ :‬حديث الغدير ‪239 ....................................................‬‬
‫الدليل ي‬
‫المحور الثالث‪ :‬معالجة شبهة عدم ثبوت اإلمامة السياسية ألهل البيت ‪241 ........ ‬‬
‫المؤمني ‪ ‬بنصوص اإلمامة ‪242 ....‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ر‬ ‫المنبه األول‪ :‬عدم احتجاج ر‬
‫أمي‬ ‫الجواب عن‬
‫األسلوب األول‪ :‬إقامة الحجة ‪242 ...................................................‬‬
‫الثان‪ :‬اإلضار عىل ترسيخ فكرة المظلومية ومصادرة الحق ‪247 ....‬‬
‫األسلوب ي‬
‫األسلوب الثالث‪ :‬إلزام القوم بمبانيهم ‪249 .........................................‬‬
‫الثان‪ :‬عدم االنسجام ربي الشجاعة العلوية والسكوت عن الحق ‪251 ...‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الجواب عن المنبه ي‬
‫الجهة األوىل‪ :‬بيان وجه المغالطة يف هذا االستدالل ‪251 ........................‬‬
‫المؤمني ‪ ‬لما جرى عىل بعض األنبياء ‪252 ..... ‬‬
‫ر‬ ‫الجهة الثانية‪ :‬مشابهة ما جرى عىل ر‬
‫أمي‬

‫المؤمني ‪ ‬عن المطالبة بحقه ‪255 ....‬‬


‫ر‬ ‫الجهة الثالثة‪ :‬ميرات سكوت ر‬
‫أمي‬
‫المؤمني ‪261 ........... ‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ر‬ ‫المنبه الثالث‪ :‬عدم نجاح حكومة ر‬
‫أمي‬ ‫الجواب عن‬
‫المعلم األول‪ :‬إبراز المكانة اإللهية ألهل البيت ‪262 ........................... ‬‬
‫الثان‪ :‬ترسيخ مفهوم اإلمامة اإللهية ‪262 ..................................‬‬
‫المعلم ي‬
‫ُّ‬
‫المعلم الثالث‪ :‬سد باب التحريف والتالعب بالدين ‪263 ........................‬‬
‫المعلم الرابع‪ :‬إحياء السنة النبوية ‪264 ..............................................‬‬
‫المعلم الخامس‪ :‬إقامة العدل وتشييد أركانه ‪266 ..................................‬‬
‫‪279‬‬ ‫الفهرس‬

‫المعلم السادس‪ :‬عدم المساومة يف الحق ‪267 .....................................‬‬


‫المسلمي ‪268 ............‬‬
‫ر‬ ‫اإلله عىل البغاة من‬ ‫ي‬ ‫المعلم السابع‪ :‬تطبيق الحكم‬
‫ّ‬
‫األخية ‪269 ..................................................................‬‬
‫ر‬ ‫المحصلة‬
‫ّ‬
‫المنبه الرابع‪ :‬عدم تصدي أهل البيت ‪ ‬قاطبة لإلمامة السياسية ‪269 ........‬‬ ‫ُ‬
‫لجواب عن‬ ‫ا‬
‫النظرية األوىل‪ :‬نظرية الحكومة الشية ‪269 ........................................‬‬
‫النظرية الثانية‪ :‬التفريق ربي االستحقاق والفعلية ‪270 ...........................‬‬
‫الفهرس ‪273 ......................................................................................‬‬

You might also like