Professional Documents
Culture Documents
اإلمامة اإللهية
في الفكر الشيعي
بقلم
وأعظم شأنًا..
وأعلى مكانًا..
وأمنع جانبًا..
وأبعد غورًا..
اللهم أهلمنا طاعتك ،وجنبنا معصيتك ،ويرس لنا بلوغ ما نتمنى من ابتغاء رضوانك،
وأحللنا بحبوحة جنانك ،واقشع عن بصائرنا سحاب االرتياب ،واكشف عن قلوبنا أغشية
املرية واحلجاب ،وأزهق الباطل عن ضامئرنا ،وأثبت احلق يف رسائرنا ،فإن الشكوك والظنون
لواقح الفتن ،ومكدرة لصفو املنائح واملنن.
اللهم امحلنا يف سفن نجاتك ،ومتعنا بلذيذ مناجاتك ،وأوردنا حياض حبك ،وأذقنا
حالوة ودك وقربك ،واجعل جهادنا فيك ،ومهنا يف طاعتك ،وأخلص نياتنا يف معاملتك ،فإنا
بك ولك ،وال وسيلة لنا إليك إال أنت.
إهلي اجعلني من املصطفني األخيار ،وأحلقني بالصاحلني األبرار ،السابقني إىل املكرمات،
املسارعني إىل اخلريات ،العاملني للباقيات الصاحلات ،الساعني إىل رفيع الدرجات ،إنك عىل
كل يشء قدير ،وباإلجابة جدير ،برمحتك يا أرحم الرامحني» (.)1
حممد ِ
وآله الطاهرين ، واحلمد هلل رب العاملني ،وصىل اهلل عىل أرشف بريته وخري خلقه ٍ
ِّ
واللعن املؤبد عىل أعدائهم أمجعني .
ُ
()1
من مجلة البحوث الكالمية التي ُأشبعت بحث ًا وحتقيقاً عىل مدى قرون متتالية :بحث
ِ
لكونه بحث ًا حموري ًا يف منظومة الفكر الديني ،بل يأيت عىل رأس اإلمامة ،وال بدع يف ذلك ؛ نظراً
قائمة البحوث العقدية اخلالفية بني الشيعة اإلمامية وغريهم من فرق املسلمني .
()2
بكل ما هو جديد ،ولكننا نزعم أنه مل ُ
خيل وال تفهم من ذلك أننا جئناك يف هذا الكتاب ّ
ومن ٍ
نواح متعددة ،فإننا من ناحية قد سعينا إىل بلورة بعض من ذلك ،وعىل مستويات خمتلفة ِ
مقدمة المقرَّر له 8
األبحاث املقدمية األساسية التي تساعد القارئ عىل الولوج يف أبحاث اإلمامة وفهم الكثري من
أبعادها ،ومن ناحية أخرى حاولنا أن نستفيد من املنهج العلمي احلوزوي يف التعامل مع أدلة
اإلمامة وإبراز نكاهتا اهلامة باملقدار الذي ساعدت عليه ظروف التناول ،ومن ناحية ثالثة وقفنا
وقفات نقدية فاحصة عند الكثري من الشبهات اجلديدة التي ُأثريت يف السنوات األخرية ،سواء
من املخالفني أو من بعض اإلمامية الذين عثرت أقدامهم يف طريق البحث العلمي ،فانتهوا إىل
نتائج غري صائبة فيام يرتبط بفهم مقام اإلمامة وشؤونه الكربى .
ومع ذلك ك ّله فإننا نعرتف بالقصور والتقصري ،وأنه ال زال أمامنا الكثري مما تنبغي معاجلته
وجتليته من أبحاث هذه املسألة وقضاياها املعرفية ،وهو ما نسأل اهلل تعاىل أن يوفقنا للقيام به
يف مستقبل األيام ،بحق ٍ
حممد وآله الكرام .
()3
وقد أتعب نفسه كثري ًا يف تقريرها وصياغتها ،وتوثيق براهينها وأدلتها ،وتعضيد نتائجها
ونكاهتا ،مما كشف عن حسن سليقته ،وقوة موهبته ،وجودة فهمه ومعرفته ،وإين إذ أبارك له
هذه اجلهود واملواهب أسأل اهلل تعاىل أن يأخذ بيده ،ويسدّ د خطاه ،ويمدّ ه باملزيد من التوفيق
يف طريق العلم والعمل ،إنه جواد كريم .
9 مقدمة المقرَّر له
()4
لقرة
وال يسعني أن أطوي هذه املقدمة القصرية قبل أن أتقدم بالشكر الوافر اجلزيل ّ
خل ُلق اللطيف ،األخ العزيز :مهدي بن احلاج
عيني ،ورسور قلبي ،ذي الفكر احلصيف ،وا ُ
املؤمن عبد العزيز العبكري ( دامت توفيقاته ) ،فإنه – مضاف ًا لتكفله بتقرير كامل أبحاث
( آية املودة ) من هذا الكتاب تقرير ًا فائق ًا رائق ًا – قد آزرين يف مراجعة الكتاب ك ّله ،من ألفه إىل
وألفت نظري إىل موارد النقص التي
َ يائه ،وأبدى من املالحظات ما كان يستحق االهتامم ،
كانت حتتاج إىل اإلكامل واإلمتام ،وأبىل يف ذلك وغريه بال ًء حسن ًا ،فل ّله دره ،وعليه أجره .
يبق يل أن أقول إال :اللهم تق ّبل منّا مجيع ًا هذا القليل بأحسن القبول ،وأوصل
ويف اخلتام مل َ
وأرضه ِبه عنّا ،
ِ ثوابه إىل رفيع مقام إمام زماننا وو ّيل نعمتنا وحجتك علينا ( أرواحنا فداه ) ،
واكتبنا عندك يف محاة الدين ،ونارصي رشيعة سيد املرسلني ،وباذيل مهجهم دون األئمة
الطاهرين ( صلواتك عليهم أمجعني ،أبدَ اآلبدين ) .
رب العاملني
وآخر دعوانا أن احلمد هلل ِّ
العبد اآلثم
احلمد هلل رب العاملني ،وصىل اهلل عىل حممد وآله الطاهرين ،واللعن الدائم عىل أعدائهم
إىل قيام يوم الدين..
شك يف َّ
أن علم العقيدة أرشف العلوم وأعظمها وأسامها منزلة ،ولذلك دأب علامؤنا ال َّ
الذب عن
ّ ً
وحتقيقا ،وأحسنوا يف العظام (رضوان اهلل عليهم مجي ًعا) عىل اخلوض فيها بح ًثا
حياضها وتشييد معاملها والدفاع عن حريمها ،فأ ّلفوا فيها األسفار احلاوية عىل نرباس اهلداية،
حق اجلهاد ،كام َّ
أن رشف وعظم وخطورة والكافية ملن قصد احلق والسداد ،وجاهد يف اهلل ّ
أي موضوع يكمن يف متع ّلقه وآثاره ،ومن هنا عُدِّ ت اإلمامة أبرز مصداق لذلكَّ ،
فإن ّ
موضوعها -من جهة -هو البحث عن إمامة أهل بيت النبوة وموضع الرسالة وأفضل اخللق
بعد سيد البرش ،ومن جهة أخرى َّ
فإن أثر احلديث عنها يف جانب إمامتهم وواليتهم عىل
األمة بعد رسول اهلل هو النجاة يف الدنيا واآلخرة عىل كا ّفة األصعدة ،وملَّا كان البحث هبذا
املستوى من األمهية تُك ِّلم فيه وصار ميزانًا ّ
للحق والباطل.
وهذا الكتاب ٍ
حاو لشتى املسائل واملباحث بأوضح بيان ،وهو مشتمل عىل ثالثة فصول:
وفيه :مقدمة حول االستدالل بالقرآن الكريم ،ومن ثم التعرض لألدلة اخلمسة:
كثريا عىل توفيقه ألداء هذا العمل ،راج ًيا من اهلل
ويف هناية املطاف أمحد اهلل محدً ا ً
القبول ،وأسأله أن ينفع به ،وأن يو ّفقنا للدفاع عن ّ
احلق وأهله ،وأن حيرشنا يف زمرة س ّيد األنبياء
حممد وأهل بيته الط ّيبني الطاهرين (صلوات اهلل عليهم أمجعني) ،إنه أكرم األكرمني.
واملرسلني ّ
أمحد صفر
توطئة:
كثريا ما
قبل الرشوع يف مباحث اإلمامة ال بأس بذكر توطئة مهمة حول أمهيتها؛ ألنه ً
ٍ
زمنية إن إثارة موضوع اإلمامة ال ثمرة مرتتبة عليه ،لكوهنا مسألة قد وقعت يف ٍ
فرتة ُير َّددّ :
مفر منه فال يتغري أو يتبدل ،وعىل ذلك فالبحث حول أحقية أمري املؤمنني
بعيدة ،وما وقع ال َّ
أمر تارخيي قد مىض وال جدوى من اخلوض فيه.
بخالفة النبي ٌ
أن الدعوة إىل إغامض العني وإسدال الستار عىل مسألة اإلمامةَّ ،
وأن عل ًّيا ولكن احلق َّ
كان هو األحق باخلالفة واإلمامة بعد النبي األعظم دعوة يف غاية اخلطورة؛ لكون
أن عل ًيا هو األجدر واألحقمه ٍية بالغة ،واخلوض فيها وإثبات َّ
مسألة اإلمامة ذات أ ّ
وثمرات مهمة سيأيت ذكرها ،فال ينبغي إسدال السرت عىل هذا
ٌ ٌ
بحث له فوائدُ كبرية باإلمامة
البحث وإغامض العني عنه بزعم أنَّه ٌ
نبش يف القضايا التأرخيية.
احلديث األول :عن سليامن بن خالد ،قال :قلت أليب عبد اهلل « :إن يل أهل بيت وهم
ِ
يسمعون مني ،أفأدعوهم إىل هذا األمر؟ فقال :نعم ،إن اهلل يقول يف كتابهَ ﴿ :يا َأ ه َُّيا ا َّلذ َ
ين
آمنُوا ُقوا َأ ْن ُفسكُم و َأهلِيكُم نَارا و ُقودها النَّاس و ِْ
احل َج َار ُة﴾» (.)1 ُ َ َ ْ َ ْ ْ ً َ َُ َ
احلديث الثاين :عن حممد بن سنان ،عن املفضل ،قال« :سألت الصادق عن قول اهلل
رس﴾ ،قال :العْص عْص خروج القائم ﴿ ،إِ َّن ان َل ِفي ُخ ْ ٍ نس َ ْص * إِ َّن ِ
اإل َ َ ﴿ :وا ْل َع ْ ِ
احل ِ
ِ ِ ِ ان َل ِفي ُخ ْ ٍ
ات﴾ الص َ رس﴾ يعني أعداءنا﴿ ،إِالَّ ا َّلذ َ
ين آ َمنُوا﴾ يعني بآياتناَ ﴿ ،و َعم ُلوا َّ نس َ ِ
اإل َ
الص ْ ِرب﴾ يعني
اص ْوا بِ َّ
احل ِّق﴾ يعني باإلمامةَ ﴿ ،وت ََو َ اص ْوا بِ ْ َيعني بمواساة اإلخوانَ ﴿ ،وت ََو َ
بالفرتة» (.)2
ِ
احلديث الثالث :عن عبد الرمحن بن كثري ،عن أيب عبد اهلل يف قوله﴿ :إِالَّ ا َّلذ َ
ين آ َمنُوا
الص ْ ِرب﴾ فقال« :استثنى أهل صفوته من خلقه، و َع ِم ُلوا الص ِ ِ
اص ْوا بِ َّ اص ْوا بِ ْ َ
احل ِّق َوت ََو َ احلات َوت ََو ََّ َ َ
ِ ان َل ِفي ُخ ْ ٍ
ين آ َمنُوا﴾ يقول :آمنوا بوالية أمري املؤمنني ، رس * إِالَّ ا َّلذ َ نس َ حيث قال﴿ :إِ َّن ِ
اإل َ
اص ْوا﴾ هبا وصربوا عليها» (.)3 اص ْوا بِ ْ َ
احل ِّق﴾ ذرياهتم ومن خلفوا بالواليةَ ﴿ ،وت ََو َ ﴿ َوت ََو َ
احلديث الرابع :عن حممد بن عَل ،عن أيب عبد اهلل قال« :استثنى اهلل سبحانه أهل
ِ ان َل ِفي ُخ ْ ٍ
رس * إِالَّ ا َّلذ َ
ين آ َمنُوا﴾ بوالية أمري املؤمنني نس َ صفوته من خلقه ،حيث قال﴿ :إِ َّن ِ
اإل َ
﴿ ،و َع ِم ُلوا الص ِ ِ
اص ْوا اص ْوا بِ ْ َ
احل ِّق﴾ أي بالواليةَ ﴿ ،وت ََو َ احلات﴾ أي أدوا الفرائضَ ﴿ ،وت ََو َ َّ َ َ
الص ْ ِرب﴾ أي وصوا ذرارُّيم ومن خلفوا من بعدهم هبا ،و بالصرب عليها» (.)4 بِ َّ
وداللة األحاديث املذكورة – وأمثاهلا – عىل وجوب ترسيخ إمامة أهل البيت
وإيصاهلا لألجيال الالحقة ،ممّا ال خفاء فيها.
ولكي يتضح الكالم يف هذا األمر ينبغي التمهيد بعرض النصوص الْصحية الصحيحة
الواردة عند الفريقني الدالة عىل َّ
أن عدم معرفة اإلمام تنتهي باإلنسان إىل املوت عىل اجلاهلية.
أحاديث العامة:
• احلديث األول« :من مات بغري إمام مات ميتة جاهلية» (.)1
• احلديث الثاين« :من مات ومل يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» (.)2
• احلديث الثالث« :ومن مات وليس يف عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» (.)3
( )1مسند أيب داود الطياليس ج 3ص ،425ومسند أمحد بن حنبل ج 28ص ،89بتحقيق األرنؤوط ،وقد علق عليه ً
قائال« :حديث
صحيح لغريه ،وهذا إسناد حسن من أجل عاصم -وهو ابن هبدلة -وبقية رجاله ثقات رجال الشيخني غري أن أبا بكر -وهو ابن
عياش -إنام روى له مسلم يف املقدمة ،وهو صدوق حسن احلديث .أبو صالح :هو ذكوان السامن.
وأخرجه ابن أيب عاصم يف السنة ( ،)1057وأبو يعىل ( ،)7357وابن حبان ( ،)4573والطرباين يف الكبري ،)769( /19من طرق
عن أيب بكر بن عياش ،هبذا اإلسناد.
وأخرجه الطرباين يف األوسط ( ،)5816وأورده اهليثمي يف املجمع ،225/5وقال :رواه الطرباين يف األوسط ،وفيه العباس بن
احلسني القنطري ،ومل أعرفه ،وبقية رجاله رجال الصحيح».
( )2كامل الدين ومتام النعمة (ص )409لرئيس املحدثني الشيخ الصدوق (قدس اهلل نفسه الزكية) ،وقد أرسله التفتازاين يف رشح
املقاصد (ج ،2ص )275إرسال املسلامت.
( )3صحيح مسلم :ج ،3ص.1478
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 20
• احلديث الرابع« :من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية» (.)1
• احلديث اخلامس« :من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية» (.)2
احلديث األول :عن الفضيل بن يسار قال« :ابتدأنا أبو عبد اهلل يو ًما وقال :قال رسول
اهلل :من مات وليس عليه إمام فميتته ميتة جاهلية ،فقلت :قال ذلك رسول اهلل ؟ فقال:
إي واهلل قد قال ،قلت :فكل من مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية؟! قال :نعم» (.)3
( )1صحيح ابن حبان بتحقيق األرنؤوط :ج ،10ص .434وقد علق عليه األرنؤوط ً
قائال« :حديث صحيح ،حممد بن يزيد بن
رفاعة :هو حممد بن يزيد بن حممد بن كثري العجَل خمتلف فيه ،وقد توبع ،وعاصم بن أيب النجود حسن احلديث ،وباقي السند رجاله
رجال الصحيح .أبو صالح :هو ذكوان السامن املدين .وهو يف "مسند أيب يعىل" ورقة .1/345
وأخرجه أمحد 96/4عن أسود بن عامر ،والطرباين 769/19من طريق حييى بن احلامين ،كالمها عن أيب بكر بن عياش ،هبذا
ا إلسناد .واملراد بامليتة اجلاهلية :حالة املوت كموت أهل اجلاهلية عىل ضالل وليس له إمام مطاع ،ألهنم كانوا ال يعرفون ذلك...
إلخ».
اهلِيةِ
اجل ِ ِ
ات َم ْي َت ًة ْ َ َّ وال بأس باإلشارة إىل ما ذكره أبو حاتم ابن حبان عن معنى احلديث فقالَ « :ق ْو ُل ُه َص َّىل اهللَُّ َع َل ْيه [وآله] َو َس َّل َمَ :م َ
ثَ ،والن ََّو ِاز ِلُ ،م ْقتَنِ ًعا ِيفاد ِ
احلو ِ ِ ِ
اإل ْس َال ِم بِه عنْدَ ْ َ َ َّاس إِ َىل َطاع َِة اهللَِّ َحتَّى َيكُو َن ِق َوا ُم ْ ِ ِ
ات َو َمل ْ َي ْعتَقدْ أَ َّن َل ُه إِ َما ًما َيدْ عُو الن َ
َم ْعنَا ُهَ :م ْن َم َ
ِ ِ االن ِْقي ِ
ِ
وحسن احلديث حمققهم األلباين يف كتابه ات َميْتَ ًة َجاهليَّ ًة» صحيح ابن حبان :ج ،10صّ .434 اد ع ََىل َم ْن َليْ َس َن َعتُ ُه َما َو َص ْفنَا َم َ َ
"التعقليات احلسان عىل صحيح ابن حبان" :ج ،7ص.20
أقول :وهذه التعليقة من ابن حبان – وهو من هو – كافية يف دحض محل احلديث عىل احلاكم؛ فإن احلاكم قد ال يكون كذلك
بالرضورة ،والشواهد التأرخيية خري دليل عىل ذلك.
( )2مسند أيب يعىل :ج ،13ص .366وقال حمقق الكتاب حسني سليم أسد" :إسناده حسن".
( )3الكايف :ج ،1ص.376
21 البحث األول :أهمية البحث حول اإلمامة
احلديث الثاين :عن ابن أيب يعفور قال« :سألت أبا عبد اهلل عن قول رسول اهلل :
من مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية ،قال :قلت :ميتة كفر؟ قال :ميتة ضالل ،قلت :فمن
مات اليوم وليس له إمام ،فميتته ميتة جاهلية؟ فقال :نعم» (.)1
احلديث الثالث :عن احلارث بن املغرية قال« :قلت أليب عبد اهلل :قال رسول اهلل
:من مات ال يعرف إمامه مات ميتة جاهلية؟ قال :نعم ،قلت :جاهلية جهالء أو جاهلية
ال يعرف إمامه؟ قال :جاهلية كفر ونفاق وضالل» (.)2
وهذا هو ما اختزلته الصدّ يقة الزهراء يف خطبتها املباركة ،حني قالت« :وجعل...
طاعتنا نظا ًما للم ّلة ،وإمامتنا أمانًا من الفرقة» (.)1
ٌ
بحث رضوري له ثمراته فاخلالصةّ :
إن مسألة إمامة أهل البيت والبحث يف أدلتها
خصوصا
ً وفوائده ،وجتنّب مثل هذه األبحاث موجب للردى والضالل ،فيتأكّد البحث عنها
يف زماننا احلارض.
وبيان ذلك:
إن االستخالف اإلهلي يف األرض قد حتدّ ث عنه القرآن الكريم يف قوله تعاىلَ ﴿ :وإِ ْذ َق َال َّ
ض َخلِي َف ًة َقا ُلوا َأ َ ْجت َع ُل فِ َيها َم ْن ُي ْف ِسدُ فِ َيها َو َي ْس ِف ُك الدِّ َما َء
اع ٌل ِيف ْاألَ ْر ِ رب َك ل ِ ْلم َالئِك َِة إِ ِّين ج ِ
َ َ َه
ون﴾ (.)2َون َْح ُن ن َُس ِّب ُح بِ َح ْم ِد َك َون َُقدِّ ُس َل َك َق َال إِ ِّين َأ ْع َل ُم َما َال َت ْع َل ُم َ
ص َو ُأ ْح ِي املَْ ْوتَى بِإِ ْذ ِن ِ ني ك ََه ْي َئ ِة ال َّط ْ ِري َف َأ ْن ُف ُخ فِ ِيه َف َيك ُ
ُون َط ْ ًريا بِإِ ْذن اهللَِّ َو ُأ ْب ِر ُئ ْاألَك َْم َه َو ْاألَ ْب َر َ ال ِّط ِ
ني﴾ (.)1 ون ِيف ُب ُيوتِك ُْم إِ َّن ِيف َذل ِ َك َآل َي ًة َلك ُْم إِ ْن ُكنْت ُْم ُم ْؤ ِمن ِ َ ون َو َما تَدَّ ِخ ُر َ
اهللَِّ َو ُأ َن ِّب ُئك ُْم بِ َام َت ْأ ُك ُل َ
ٍ
ورأفة وغريها - ٍ
ورمحة ٍ
وحكمة أن الصفات اإلهلية -من عل ٍم
وممّا ذكرناه تعرف معنى َّ
ثابتة هلل سبحانه باألصالة واالستقالل ،بينام ثبوهتا للنبي وأهل بيته باإلفاضة واملدد من
قطع عنهم هذا املدد حلظة واحدة ملا كان هلم منها أي يشء.
اهلل سبحانه ،بحيث لو َ
يتم
وسيأيت مزيد كالم حول هذا التعريف خالل البحث الالحق إن شاء اهلل تعاىل ،بل ال ّ
ما ذكرناه هاهنا ّإال به.
من املسائل الشائكة واملعضلة يف أبحاث اإلمامة :مسألة الفرق بني العناوين الثالثة :النبي
والرسول واإلمامَّ ،
فإن هذه العناوين وإن اشرتكت يف عنوان واحد جامع بينها ،وهو عنوان
(احلجة) ،إال أهنا متباينة وخمتلفة ،فلزم الوقوف عندها ألجل جتلية الفرق بينها.
وبام َّ
أن العناوين املذكورة هلا ُب ْعدٌ لغوي ،لذا لزم بيان الفارق اللغوي بينها يف املرحلة
نبني الفارق بينها – بحسب
ثم ّ ٍ
بشكل تقريبي عىل معناها االصطالحيَّ ، األوىل ،ليطل بنا ولو
يتم يف مقامني:
فالكالم حوهلا ه
ُ االصطالح الديني الرشعي – يف املرحلة الثانية،
إما بمعنى فاعل ،أي :املخرب عن اهلل تعاىل ،وإما بمعنى مفعول ،وهو املُن ّبأ عن اهلل تعاىل ،وسيأيت
حتديد املعنى املقصود منها إن شاء اهلل تعاىل.
ب – القول الثاين :إهنا مأخوذة من ( َن َب َأ) أي :ارتفع وظهر ،وقيل :من (النَ ْب َوة) وهي :ما
أيضا ،واملعنى
ارتفع من األرض واملوضع الرشيف منها ،أو من (النباوة) وهي بنفس املعنى ً
املتحصل من اجلميع واحد ،فالنبي ُس ّمي نب ًّيا الرتفاعه –بمقام النبوة – عىل َمن سوا ُه من اخللق.
ّ
أ – املعنى األول :البعث عىل توئدة ،ويكون معنى (الرسول) – عىل ضوء هذا املعنى –
ِ علام َّ
نادرا.
أن (فعول) مل تأت بمعنى (مفعول) إال ً هو املبعوث أو فقل (املُرسل)ً ،
وهو اسم َمن ُيؤتم به ،كاإلزار اسم ملا ُيؤتزر به ،ومعناه :القدوة ،أو َمن يقتدى به يف قوله
حمقا أو ً
مبطال. أو فعله ،سواء كان ً
27 البحث الثالث :الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام
وبالرجوع للنصوص الرشيفة نجد أهنا فر ّقت بني العناوين الثالثة بلحاظني:
وقد أوضحت ذلك عدة من النصوص ،منها :صحيحة زرارة قال« :سألت أبا جعفر
وال نَّبِ ًّيا﴾ ما الرسول وما النبي؟ قال :النبي الذي يرى يف
َان َر ُس ً
عن قول اهلل َ ﴿ :وك َ
منامه ويسمع الصوت وال يعاين امللك ،والرسول الذي يسمع الصوت ويرى يف املنام ويعاين
امللك ،قلت:اإل مام ما منزلته؟ قال :يسمع الصوت وال يرى وال يعاين امللك.)1( » ..
ِ
احل َس ُن ْب ُن ا ْل َع َّب ِ
اس َب ْ َ ومنها :ما رواه يف الكايف بسنده َع ْن إِ ْس َامع َيل ْب ِن َم َّر ٍار َق َالَ « :كت َ
واإل َما ِم؟ َق َال: ول والنَّبِ ِّي ِ ني الرس ِ
رب ِين َما ا ْل َف ْر ُق َب ْ َ َّ ُ
اك َأ ْخ ِ ْالر َضا ُ :ج ِع ْل ُت فِدَ َ ويف إِ َىل ِّاملَْ ْع ُر ِ ه
ربئِ ُيل َف َ َرياه واإلما ِمَ :أ َّن الرس َ ِ
ول ا َّلذي ينز ُل َع َل ْيه َج ْ َ َّ ُ
ِ
الر ُسول والنَّبِ ِّي ِ َ ني َّ َب َأ ْو َق َال :ا ْل َف ْر ُق َب ْ َ َف َكت َ
ِ ِ
يم ،والنَّبِ هي ُر َّب َام ور َّب َام َر َأى ِيف َمنَامه ن َْح َو ُر ْؤ َيا إِ ْب َراه َ
زل َع َل ْيه ا ْل َو ْح ُيُ ، و َي ْس َم ُع ك ََال َمه ،وينْ ُ
ام ُه َو ا َّل ِذي َي ْس َم ُع ا ْلك ََال َم َ
وال َي َرى ومل َي ْس َم ْعِ ،
واإل َم ُ ص َْ ور َّب َام َر َأى َّ
الش ْخ َ
ِ
َسم َع ا ْلك ََال َمُ ،
الش ْخ َ
ص» (.)2 َّ
ومنها :عن أمحد بن حممد بن أيب نْص ،عن ثعلبة ،عن زرارة ،قال :سألت أبا جعفر
وال نَّبِ ًّيا﴾ ،قلت :ما هو الرسول ِمن النبي؟ قال« :النبي هو الذي
َان َر ُس ً
عن قول اهلل َ ﴿ :وك َ
يرى يف منامه ويسمع الصوت وال يعاين امللك ،والرسول يعاين امللك ويكلمه ،قلت :فاإلمام
ما منزلته؟ قال :يسمع الصوت وال يرى وال يعاين» (.)3
• وأما النبي فهو :الذي يرى امللك يف منامه ويسمع منه الوحي ،ولكنه ال يعاين امللك
يف اليقظة ،وربام رآه يف اليقظة ولكن من غري أن يسمع الوحي منه يف هذه احلال.
• وأما اإلمام فهو :الذي يسمع كالم اهلل سبحانه وتعاىل بواسطة امللك جربائيل أو روح
القدس ( ، )1ولكنه ال يعاين امللك يف اليقظة حال نزوله بكالم اهلل تعاىل ،وال حتى يراه يف منامه
أيضا.
يف هذا احلال ً
تنبيهات مهمة:
ولكن هاهنا تنبيهات مهمة – مرتبطة بالفوارق املذكورة – ينبغي االلتفات إليها جيدً ا:
( ) 1وقد وصفته بعض الروايات الرشيفة :بأنه خلق أعظم من جربئيل وميكائيل .عن أيب بصري قال« :سألت أبا عبد اهلل عن
ِ ِ
ُنت تَدْ ِري َما ا ْلكت ُ
َاب َو َال ْ ِ
اإل َيامن﴾؟ قال :خلق من خلق اهلل وحا ِّم ْن َأ ْم ِرنَا َما ك َ
﴿و َك َذل َك َأ ْو َح ْينَا إِ َل ْي َك ُر ً
قول اهلل تبارك وتعاىلَ :
أعظم من جربئيل وميكائيل ،كان مع رسول اهلل خيربه ويسدده ،وهو مع األئمة من بعده».
وعن أيب محزة قال« :سألت أبا عبد اهلل عن العلم ،أهو علم يتعلمه العامل من أفواه الرجال؟ أم يف الكتاب عندكم تقرؤونه
ُنت تَدْ ِري
وحا ِّم ْن َأ ْم ِرنَا َما ك َ ِ
﴿وك ََذل َك َأ ْو َحيْنَا إِ َليْ َك ُر ً
فتعلمون منه؟ قال :األمر أعظم من ذلك وأوجب ،أما سمعت قول اهلل َ :
َاب َو َال ْ ِ ِ
اإل َيامن﴾ ثم قال :أي يشء يقول أصحابكم يف هذه اآلية ،أيقرون أنه كان يف حال ال يدري ما الكتاب وال اإليامن؟ َما ا ْلكت ُ
فقلت :ال أدري -جعلت فداك -ما يقولون! فقال [يل] :بىل قد كان يف حال ال يدري ما الكتاب وال اإليامن حتى بعث اهلل تعاىل
فلام أوحاها إليه علم هبا العلم والفهم ،وهي الروح التي يعطيها اهلل تعاىل من شاء ،فإذا أعطاها عبدً ا
الروح التي ذكر يف الكتابَّ ،
علمه الفهم».
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 30
ففي صحيحة األحول ،قال :سألت أبا جعفر عن الرسول والنبي واملحدث؟ قال:
«الرسول الذي يأتيه جربئيل ُق ُب ًال فرياه ويكلمه ،فهذا الرسول ،وأما النبي فهو الذي يرى يف
منامه نحو رؤيا إبراهيم ،ونحو ما كان رأى رسول اهلل من أسباب النبوة قبل الوحي ،حتى
أتاه جربئيل من عند اهلل بالرسالة ،وكان حممد حني مجع له النبوة ،وجاءته الرسالة من
عند اهلل ،جييئه هبا جربئيل ويكلمه هبا ُق ُب ًال ،ومن األنبياء من مجع له النبوة ويرى يف منامه ويأتيه
الروح ويكلمه وحيدثه ،من غري أن يكون يرى يف اليقظة ،وأما املحدث فهو الذي حيدث
فيسمع ،وال يعاين وال يرى يف منامه» (.)1
وقد اشتهر يف كلامهتم الرشيفة توصيف أنفسهم هبذا العنوان ،فعن حممد بن إسامعيل،
قال :سمعت أبا احلسن يقول« :األئمة علامء ،صادقون ،مفهمون حمدثون» (.)1
بل يظهر من بعضها أهنم كانوا مهتمني بتطبيق هذا العنوان عليهم ،وترسيخه يف
األذهان ،فعن عبيد بن زرارة قال« :أرسل أبو جعفر إىل زرارة أن يعلم احلكم بن عتيبة
أن أوصياء حممد (عليه وعليهم السالم) حمدّ ثون» (.)2
أسبوعا ،وأتى مناسكه فقضاها كام أمره اهلل ،فقبل اهلل منه التوبة،
ً يشء ،ثم جاء إىل البيت فطاف
وغفر له ،قال :فجعل طواف آدم ملا طافت املالئكة بالعرش سبع سنني ،فقال جربئيل :هنيئا
لك يا آدم قد غفر لك ،لقد طفت هبذا البيت قبلك بثالثة آالف سنة ،فقال آدم :يا رب اغفر يل
صدقت ومىض ،فقال أيب :
َ ولذريتي من بعدي ،فقال :نعم َمن آمن منهم يب وبرسَل ،فقال:
هذا جربئيل أتاكم يعلمكم معامل دينكم» (.)1
وقد ُيتوهم التنايف بني هذه الطائفة والروايات املتقدمة الدالة عىل عدم معاينة اإلمام
ولكن الصحيح – بعد التن ّبه إىل ما ذكرناه يف األمر األول
َّ للملك حال تلقيه للكالم الساموي،
من َّ
أن امللك املقصود يف تلك الروايات هو جربائيل – عدم التنايف بينها وبني الروايات
األخريةَّ ،
فإن عقد السلب يف تلك غري عقد اإلجياب يف هذه ،فهذه تثبت معاينة الروح (روح
القدس) ،بينام تلك تنفي رؤية جربائيل َّ ،
ولعل ذلك الختصاص مهمته بالتبليغ للرسل
،واهلل العامل.
• التنبي ُه اخلامس :قد ُيستوحى من الروايات املتقدمة – التي تفرعت عنها الفوارق
املذكورة – أفضلية منصب الرسالة عىل منصب النبوة ،ومنصب النبوة عىل منصب اإلمامة؛ إذ
وعن عَل بن أسباط قال« :سأله رجل من أهل هيت -وأنا حارض -عن قول اهلل :
ِ
﴿ َوك ََذل َك َأ ْو َح ْينَا إِ َل ْي َك ُر ً
وحا ِّم ْن َأ ْم ِرنَا﴾؟ فقال :منذ أنزل اهلل ذلك الروح عىل حممد
ما صعد إىل السامء ،وإنه لفينا» (.)2
أيضا قال« :سألت أبا عبد اهلل عن قول اهلل َ ﴿ :و َي ْس َأ ُلون ََك َع ِن
وعن أيب بصري ً
وح ِم ْن َأ ْم ِر َر ِّيب﴾؟ قال :خلق أعظم من جربئيل وميكائيل ،كان مع رسول اهلل وح ُق ِل ه
الر ُ الر ِ
ه
،وهو مع األئمة ،وهو من امللكوت» (.)1
وإن أبيت عن داللة هذه الروايات عىل االختصاص فدونك معتربة أيب بصري ،فإهنا نص
وح ُق ِل َك َع ِن ه
الر ِ فيه ،حيث جاء فيها عنه أنه قال« :سمعت أبا عبد اهلل يقولَ ﴿ :و َي ْس َأ ُلون َ
وح ِم ْن َأ ْم ِر َر ِّيب﴾ قال :خلق أعظم من جربئيل وميكائيل ،مل يكن مع أحد ممن مىض غري الر ُ
ه
حممد ،وهو مع األئمة يسددهم» (.)2
– 1العنوان األول :النبي ،ومهمته هي تلقي الوحي ليكون عار ًفا بالدين اإلهلي وحمي ًطا
مهم سيأيت إن شاء اهلل تعاىل. ٍ
تفصيل ٍّ به ،وليس من مهمته اإلبالغ عن اهلل تعاىل ،عىل
– 2العنوان الثاين :الرسول ،ومهمته تلقي املعارف الوحيانية وإيصاهلا إىل الناس ،وهذه
املهمة تتفرع عن املهمة السابقة ،كام ال خيفى.
ويمكن أن ُيستشهد عىل هذا الفرق بني العنوانني بمعتربة هشام بن سامل ،قال :قال أبو
عبد اهلل « :األنبياء واملرسلون عىل أربع طبقات:
ب – ونبي يرى يف النوم ويسمع الصوت وال يعاينه يف اليقظة ،ومل ُيبعث إىل أحد ،وعليه
إمام ،مثلام كان إبراهيم عىل لوط .)2(
ج – ونبي يرى يف منامه ويسمع الصوت ويعاين امللك ،وقد ُأرسل إىل طائفة قلوا أو
َ
زيدون﴾ ،قال :يزيدون: كثروا ،كيونس ،قال اهلل ليونس ﴿ :و َأرسلناه إِىل ِمائ َِة َأ ٍ
لف َأو َي َ َ ُ
ثالثني أل ًفا ،وعليه إمام.
د – والذي يرى يف نومه ويسمع الصوت ويعاين يف اليقظة ،وهو إمام مثل أويل العزم،
َّاس إِ َما ًما َق َال َو ِم ْن
اع ُل َك لِلن ِ
وقد كان إبراهيم نبيا وليس بإمام ،حتى قال اهلل﴿ :إِ ِّين ج ِ
َ ً
صنام أو وثنًا ال يكون إما ًما» (.)1 ني﴾َ ،من عبد ً ُذ ِّر َّيتِي﴾ فقال اهللَ ﴿ :ال َين َُال َع ْه ِدي ال َّظامل ِ َ
ولكن هذا التفريق بني العنوانني تعرتضه عدة من املشكالت اهلامة ،فال بدَّ من الوقوف
َّ
عندها وحماولة معاجلتها ،وهي:
ُ
معاجلة املشكلة األوىل:
ثمة قرينة يف اآلية املباركة متنع من إرادة مجيع األنبياء ، – 1املعاجلة األوىل :أن ُيقالَّ :
إن ّ
وهي اشتامهلا عىل كلمة ﴿ َف َب َع َث﴾َّ ،
فإن وجود هذه الكلمة يف صدر اآلية يض ّيق املقصود من
ويعني َّ
أن املراد هبم خصوص األنبياء املبعوثني ،فال نظر هلا لغريهم، األنبياء املذكورين فيهاّ ،
وبالتايل فال تتعارض مع ما جاء يف الرواية الرشيفة.
أن بعضهم مبعوث لبيان إن مجيع األنبياء مبعوثون ،غري َّ
– 2املعاجلة الثانية :أن ُيقالَّ :
ٌ
مبعوث من اهلل تعاىل ،بينام يبني أنه ِ
مطلق املعارف الوحيانية التي أنبأه اهلل تعاىل هبا ،من غري أن ّ
ألمة خاصة أو ملجتمع خاص ،ليتحدث معهم بعنوان أنه رسالة خاصة ٍ ٍ البعض اآلخر مبعوث ب
(رسول من اهلل تعاىل) إليهم ،ولذلك فإنه حيتاج إىل املعجزة واآلية اإلهلية ليثبت هلم اتصاله باهلل
تعاىل ،وأنه رسوله ،وإذا مل يستجيبوا له فإهنم يستحقون العذاب ،لرفضهم رسالة اهلل تعاىل
إليهم ،واألول هو املُعنون بـ (النبي) ،والثاين هو (الرسول).
ويمكن استكشاف هذا الفارق – املذكور يف هذه املعاجلة – من خالل اإلضاءات التالية:
اإلضاءة األوىل :استخدام القرآن الكريم للفظ (اإلرسال) يف موارد تكليف اهلل تعاىل
رسل باإلبالغ ،ويمكن استكشاف ذلك من خالل اآليات التالية ،ومثلها كثري:
للم َ
ُ
كَه ْي َئ ِة
ني َ وال إِ َىل َبنِي إِ ْرسائِ َيل َأ ِّين َقدْ ِج ْئ ُتك ُْم بِ َآ َي ٍة ِم ْن َر ِّبك ُْم َأ ِّين َأ ْخ ُل ُق َلك ُْم ِم َن ال ِّط ِ
َ • ﴿ َو َر ُس ً
ص َو ُأ ْحيِي املَْ ْوتَى بِإِ ْذ ِن اهللَِّ َو ُأ َن ِّب ُئ ُك ْم ال َّط ْ ِري َف َأ ْن ُف ُخ فِ ِيه َف َي ُك ُ
ون َط ْ ًريا بِإِ ْذ ِن اهللَِّ َو ُأ ْب ِر ُئ ْ َ
األك َْم َه َو ْاألَ ْب َر َ
ني﴾ (.)5 ون ِيف ُب ُيوتِك ُْم إِ َّن ِيف َذلِ َك َآلَ َي ًة َلك ُْم إِ ْن ُكنْت ُْم ُم ْؤ ِمن ِ َ ون َو َما تَدَّ ِخ ُر َ
بِ َام َت ْأ ُك ُل َ
تْصيح املعنونني بعنوان (الرسول) أهنم (رسل اهلل) إىل الناس ،وتشهد
ُ اإلضاءة الثانية:
لذلك العديد من اآليات املباركات ،وإليك بعضها:
ول اهللَِّ إِ َل ْيك ُْم َف َل َّام َزاغُ وا وسى ل ِ َق ْو ِم ِه َيا َق ْو ِم ِمل َ ت ُْؤ ُذونَنِي َو َقدْ َت ْع َل ُم َ
ون َأ ِّين َر ُس ُ • ﴿ َوإِ ْذ َق َال ُم َ
ني﴾ (.)6 اس ِق َ َأ َزا َغ اهللَُّ ُق ُلوهبم واهللَُّ َال ُّي ِدي ا ْل َقوم ا ْل َف ِ
ْ َ َْ َُ ْ َ
ول َأ ِم ٌ
ني * ون * إِ ِّين َلك ُْم َر ُس ٌ وه ْم ُهو ٌد َأ َال َتت َُّق َني * إِ ْذ َق َال َهل ُ ْم َأ ُخ ُ • ﴿ك ََّذ َب ْت َعا ٌد املُْ ْر َسلِ َ
ني﴾ (.)4 ون * َو َما َأ ْس َأ ُلك ُْم َع َل ْي ِه ِم ْن َأ ْج ٍر إِ ْن َأ ْج ِر َي إِ َّال َع َىل َر ِّب ا ْل َعاملَ ِ َ َفات َُّقوا اهللََّ و َأطِيع ِ
َ ُ
ول َأ ِم ٌ
ني ون * إِ ِّين َلك ُْم َر ُس ٌ وه ْم َصال ِ ٌح َأ َال َتت َُّق َني * إِ ْذ َق َال َهل ُ ْم َأ ُخ ُ • ﴿ك ََّذ َب ْت َث ُمو ُد املُْ ْر َسلِ َ
ني﴾ (.)5ون * َو َما َأ ْس َأ ُلك ُْم َع َل ْي ِه ِم ْن َأ ْج ٍر إِ ْن َأ ْج ِر َي إِ َّال َع َىل َر ِّب ا ْل َعاملَ ِ َ * َفا َّت ُقوا اهللََّ و َأطِيع ِ
َ ُ
اإلضاءة الثالثة :تزويد املعنونني بعنوان (الرسل) باآليات والبينات ،ألجل إقامة احلجة
عىل َمن أرسلوا إليه ،وهذا ما تشهد به العديد من اآليات ،ومنها:
ون﴾ (.)4 َات ُث َّم إِ َّن كَثِ ًريا ِمن ُْه ْم َب ْعدَ َذلِ َك ِيف ْاألَ ْر ِ
ض ملَُ ْ ِ
رس ُف َ • ﴿و َل َقدْ جاء ْهتم رس ُلنَا بِا ْلبين ِ
َ ِّ َ َ ُْ ُ ُ َ
ني * إِ َىل فِ ْر َع ْو َن َو َم َلئِ ِه َفا َّت َب ُعوا َأ ْم َر فِ ْر َع ْو َن َو َما • ﴿و َل َقدْ َأرس ْلنَا موسى بِ َآياتِنَا وس ْل َط ٍ
ان ُمبِ ٍ َ َ ُ ْ َ ُ َ َ
يد﴾ (.)2 َأمر فِر َعو َن بِر ِش ٍ
ُْ ْ ْ َ
اإلضاءة الرابعة :إحلاق العذاب باألمم التي مل تستجب لرسل اهلل تعاىل إليها ،بعد إقامة
احلجج عليهم من خالل اآليات والبينات ،وتكذيبهم هلم ،وتشهد بذلك العديد من اآليات،
ومنها:
امل ِ َ
ون﴾ (.)5 اب َو ُه ْم َظ ُ • ﴿و َل َقدْ جاءهم رس ٌ ِ
ول من ُْه ْم َفك ََّذ ُبو ُه َف َأ َخ َذ ُه ُم ا ْل َع َذ ُ َ َُ ْ َ ُ َ
ون ِمن َقبلِكُم ملََّا َظ َلموا وجاء ْهتم رس ُلهم بِا ْلبين ِ
َات َو َما كَانُوا ُ َ َ َ ُ ْ ُ ُ ُ ْ َ ِّ • ﴿ َو َل َقدْ َأ ْه َل ْكنَا ا ْل ُق ُر َ ْ ْ ْ
ني﴾ (.)6كَذلِ َك ن َْج ِزي ا ْل َق ْو َم املُْ ْج ِر ِم َ
ل ِ ُي ْؤ ِمنُوا َ
• النبي هوَ :من تكون مهمته تلقي الوحي واملعارف اإلهلية ،ثم إبالغ الناس بام أنبأه اهلل
تعاىل به ،من غري أن يقرتن ذلك بدعوى الرسالة عن اهلل تعاىل.
ٍ
رسالة عن اهلل إىل • الرسول هوَ :من تكون مهمته تلقي املعارف الوحيانية ،وإيصال
سفريا عن اهلل باآليات والبينات.
ً الناس ،بعد إثبات كونه
ْس َو ِْ
اجل ِّن اإلن ِني ْ ِ ب – املشكلة الثانية :قوله َ ﴿ :وك ََذلِ َك َج َع ْلنَا لِك ُِّل نَبِ ٍّي َعدُ ًّوا َش َياطِ َ
رت َ ِ ي ِ
وحي َب ْع ُض ُه ْم إِ َىل َب ْع ٍ
ون﴾(،)3 ورا َو َل ْو َشا َء َر هب َك َما َف َع ُلو ُه َف َذ ْر ُه ْم َو َما َي ْف َ ُ
ف ا ْل َق ْول غُ ُر ًض ُز ْخ ُر َ ُ
اد ًيا َون َِص ًريا﴾ (َّ ،)4 ني و َك َفى بِرب َك ه ِ ِ ِ ِ ِ
فإن َ ِّ َ ومثله قولهَ ﴿ :وك ََذل َك َج َع ْلنَا لكُ ِّل نَبِ ٍّي َعدُ ًّوا م َن املُْ ْج ِرم َ َ
رصيح هاتني اآليتني َّ
أن مجيع األنبياء عىل اإلطالق هلم أعداء ،ومن الواضح أنه ال وجه لكون
ناهضا بأعباء النبوة ومبلغًا عن اهلل ،فيدل ذلك عىل كون مجيع
النبي ذا أعداء إال إذا كان ً
األنبياء مبلغني.
ُ
معاجلة املشكلة الثانية:
ويمكن أن تُعالج هذه املشكلة بأن ُيقال :إنَّه ال مالزمة بني العداوة والتبليغ؛ إذ كام يمكن
أن يكون تبليغه منش ًأ ملعاداته ،يمكن ً
أيضا أن يكون نفس سلوكه اخلارجي – املخالف للسلوك
العام – باع ًثا عىل بغضه وعدائه ،وعليه فال مالزمة بني ثبوت األعداء للنبي وكونه مبلغًا.
َان َر ُس ً
وال وسى إِ َّن ُه ك َ
َان ُخم ْ َل ًصا َوك َ َاب ُم َ ج – املشكلة الثالثة :قوله تعاىلَ ﴿ :وا ْذك ُْر ِيف ا ْلكِت ِ
اد َق ا ْل َو ْع ِد َوك َ
َان َر ُس ً
وال ان ص ِ ِ أيضا قولهَ ﴿ :وا ْذك ُْر ِيف ا ْلكِت ِ
َاب إِ ْس َامع َيل إِ َّن ُه كَ َ َ نَبِ ًّيا﴾ ( ،)1وكذا ً
نَبِ ًّيا﴾ ( ،)2وجهة اإلشكال – عىل ضوء اآليتني الكريمتني – هي :أهنام ظاهرتان يف الثناء واملدح،
ومن الواضح َّ
أن مقتىض قوانني املحاورة هو التدرج يف املدح من األدنى لألعىل ،وليس
العكس ،وه ذا يقتيض أن يكون مقام النبوة أعىل من مقام الرسالة ،وهو خالف ما يقتضيه
الفارق املتقدم.
ول النَّبِ َّي ْاألُ ِّم َّي ا َّل ِذي َجيِدُ و َن ُه َم ْكتُو ًبا
الر ُس َ
ون َّ ين َيتَّبِ ُع َ ِ
واعطف عىل اآليتني قوله ﴿ :ا َّلذ َ
ِ ِ ِ ِعنْدَ ُه ْم ِيف الت َّْو َر ِاة َو ْ ِ
اإلن ِ
اه ْم َع ِن املُْنْك َِر َو ُحي هل َهل ُ ُم ال َّط ِّي َبات َو ُ َ
حي ِّر ُم يل َي ْأ ُم ُر ُه ْم بِاملَْ ْع ُروف َو َين َْه ُ
ْج ِ
َت َع َليْ ِه ْم﴾ (.)3 غْال َل ا َّلتِي كَان ْ رص ُه ْم َو ْاألَ َ ِ َع َلي ِهم ْ ِ
اخل َبائ َث َو َي َض ُع َعن ُْه ْم إ ْ َْ ُ َ
ُ
معاجلة املشكلة الثالثة:
– 1املعاجلة األوىل :أن حيمل لفظ (النبي) يف اآليات املباركات عىل املعنى اللغوي ،وهو
األرفع شأنًا واألعىل مقا ًما باإلضافة إىل غريه.
فإهنا تقتيض تقديم األرشف – 4املعاجلة الرابعة :أن يكون التقديم بلحاظ نكتة األرشفيةَّ ،
ين َال ذكرا عىل ما دونه يف الرشف ،كام يف قوله تعاىلُ ﴿ :ق ْل ه ْل يست َِوي ا َّل ِذين يع َلم َ ِ
ون َوا َّلذ َ َ َْ ُ َ َ ْ ً
َي ْع َل ُم َ
ون﴾ (.)2
إن ذلك إنام يتّجه يف غري مورد خطاب املدح والثناء ،وأما يف مورده َّ
فإن تقديم وال ُيقالَّ :
األرشف ه
خيل باهلدف املنشود منه.
فإن بعض هذه املعاجلات وإن كان ال خيلو عن املالحظة ،إال َّ
أن بعضها اآلخر وباجلملةَّ ،
مما ال بأس به ،وبه تنحل املشكلة املذكورة.
فاإلمام هو من تكون مهمته تلقي املعارف الوحيانية ،وإيصاهلا إىل الناس ،وهدايتهم
باهلداية األمرية.
ٍ
عنوان َّما فإنك تارة تصف له ذلك العنوان ،وترشده إىل موقعه شخص عن حينام يسألك
ٌ
مستعينًا بتحديد اجلهات والطرق والبيوت ،وتار ًة تأخذ بيده وتوقفه عىل العنوان بنفسك ،وعىل
كال التقديرين فإنك قد قمت هبدايته ،ولكنك عىل التقدير األول قد أريته املطلوب ،بينام عىل
عرب عن هذا باهلداية
عرب عن ذاك باهلداية اإلرائية ،و ُي ّ
التقدير الثاين قد أوصلته إليه ،ولذا ُي ّ
اإليصالية.
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 46
بينام اهلداية التكوينية تعني :هداية اآلخرين من خالل التأثري فيهم ،بإخراجهم من ظلامت
اجلهل والضالل إىل نور اليقني واحلق واهلدى تكوينًا.
فناسب أن تُطلق اهلداية اإلرائية عىل اهلداية الترشيعية؛ ألهنا – كام اتضح – تُري املطلوب
وال توصل إليه بالرضورة ،وأن تُطلق اهلداية اإليصالية عىل اهلداية التكوينية؛ ألهنا تتكفل
بإيصال املهتدي إىل املطلوب تكوينًا.
إن األمر يف اآل ية املذكورة هو األمر التكويني ،وهو األمر املشار إليه يف قوله ب – الثانيةَّ :
ُن َف َي ُك ُ
ون﴾ (.)2 َش ٍء إِ َذا َأ َر ْدنَا ُه َأ ْن ن َُق َ
ول َل ُه ك ْ
ِ ِ
تعاىل﴿ :إن ََّام َق ْو ُلنَا ل َ ْ
والتدرج واحلركة،
ّ بالتغري والتبدّ ل
ّ • إحدامها :حيثية اخللق ،وهي احليثية املقرتنة
كجسده املادي وتْصفاته اخلارجية ،وهي احليثية املحسوسة.
َّ
إن نقطة البداية هي اهلداية الترشيعية اإلرائية ،فإهنا ترسم خارطة الوصول إىل املطلوب،
تقربه من اهلل تعاىل ،وإذا صار
وحينئذ فإن سار اإلنسان عىل وفق هدُّيا وضوء تعاليمها فإهنا ّ
قري ًبا منه هتيأ وعاؤه الوجودي لفيض اهلداية األمرية اإليصالية فتفيض به إىل املطلوبَّ ،
ولعل
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 48
اهدُ وا فِينَا َلن َْه ِد َين َُّه ْم ُس ُب َلنَا َوإِ َّن اهللََّ ملَ َع املُْ ْح ِسن ِ َ
ني﴾ (،)1 ِ
ذلك ُيستلهم من قوله تعاىلَ ﴿ :وا َّلذ َ
ين َج َ
أن مآل جهاد اإلنسان يف اهلل تعاىل هو الفوز باهلداية اإلهلية ،وبام َّ
أن اجلهاد يف اهلل فإنه ظاهر يف َّ
ال يكون إال عىل ضوء اهلداية الترشيعيةَّ ،
فإن اهلداية التي تتعقبه ال تكون بالرضورة إال اهلداية
األمرية التكوينية.
َّ
ولعل ذلك ُيستفاد من بعض كلامت العالمة الطباطبائي حيث يقول« :واآليات يف
أصال، أمرا اضطرار ًيا ال صنع فيه للعبد ً حْص اهلداية فيه تعاىل كثرية ،وال يستلزم ذلك كوهنا ً
اهدُ وا فِينَا َلن َْه ِد َين َُّه ْم ُس ُب َلنَا َوإِ َّن اهللََّ َمل َع ِ
فإهنا اختيارية باملقدمة ،كام يشري إليه قولهَ ﴿ :وا َّلذ َ
ين َج َ
ميرسا لإلنسان ،وهو اإلحسان يف العمل» (.)2 أن للهداية اإلهلية ً
طريقا ً ني﴾ يفيد َّ املُْ ْح ِسن ِ َ
وقد حتدث السيد العالمة عن هذه اجلهة ،فقال« :والذي نجده يف كالمه تعاىل :إنه
كلام تعرض ملعنى اإلمامة َت َع َّر َض معها للهداية َت َع هر َض التفسري ،قال تعاىل يف قصص إبراهيم
َاه ْم َأئِ َّم ًة َ ُّْيدُ َ
ون ني * َو َج َع ْلن ُ
اق ويع ُقوب نَافِ َل ًة وك ًُّال جع ْلنَا ص ِ
احل َ َ َ َ َ َ ﴿ :و َو َه ْبنَا َل ُه إِ ْس َح َ َ َ ْ َ
ون بِ َأم ِرنَا ملََّا صربوا وكَانُوا بِآياتِنَا ي ِ ِ ِ
وقن َ
ُون﴾، َ ُ َ َُ َ بِ َأ ْم ِرنَا﴾ ،وقال َ ﴿ :و َج َع ْلنَا من ُْه ْم َأئ َّم ًة َ ُّْيدُ َ ْ
فبني َّ
أن اإلمامة ليست مطلق اهلداية ،بل هي فوصفها باهلداية وصف تعريف ،ثم قيدها باألمرّ ،
اهلداية التي تقع بأمر اهلل ،وهذا األمر هو الذي ّبني حقيقته فيقوله﴿ :إِن ََّام َأ ْم ُر ُه إِ َذا َأ َرا َد َش ْي ًئا َأ ْن
وت ك ُِّل َيش ٍء﴾ ،وقوله﴿ :وما َأمرنَا إِالَّ و ِ ان ا َّل ِذي بِ َي ِد ِه َم َل ُك ُ
ُون * َف ُس ْب َح َ
ُن َف َيك ُ
احدَ ٌة َ َ َ ُْ ْ ول َل ُه ك ْ
َي ُق َ
َك َل ْم ٍح بِا ْل َب َ ِ
ْص﴾» (.)4
وعليهَّ ،
فإن الرسل ُّ يدون الناس باهلداية الترشيعية اإلرائية ،ومن اتبعهم واهتدى
هبداهم هتيأ وعاؤه للهداية التكوينية األمرية ،فيصله حينئذ – بمقدار قابليته واستعداده –
فيضها اخلاص بواسطة الواسطة يف الفيض ،وهم األئمة الطاهرون ،ملا هلم من السيطرة
التامة عىل ملكوت املوجودات.
ُسجل عىل مقدمات هذا االستدالل – بعد االعرتاف بثبوت اهلداية األمرية
ويمكن أن ت ّ
ألئمة أهل البيت – مالحظاتان:
( )1ال خيفى أ َّن هذا التعريف من إفادات العالمة الطباطبائي يف تفسريه (امليزان) ،وقد تعرض ملضامينه يف موارد متناثرة ومتفرقة
أيضا من كلامت الفقيه السبزواري يف تفسريه (مواهب
من تفسريه الرشيف ،منها :ج 1ص ،273و ج 14ص ،304ويستفاد ً
الرمحن) ج 2ص ،20فالحظ.
51 البحث الثالث :الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام
(اهلداية بأمر اهلل تعاىل ،وفعل اخلريات ،وإقام الصالة ،وإيتاء الزكاة ،والصرب ،واليقني) ،ويؤيد
اخلري ِ ِ ِ ِ هذا االحتامل تعقيب اآلية عىل عبارة ﴿ َُّيدُ َ ِ
ات ون بِ َأ ْمرنَا﴾ بعبارة ﴿ َو َأ ْو َح ْينَا إ َل ْيه ْم ف ْع َل ْ َ ْ َ ْ
الزك ِ
الص َال ِة َوإِيتَا َء َّ
فإن هذه املزايا مما ال ختتص باألئمة ،بل هي ثابتة حتى للرسل َاة﴾َّ ، َوإِ َق َ
ام َّ
أيضا عىل ما تقدم ،مما يعني َّ
أن هذا االحتامل إن مل يكن أظهر من االحتامل األول فال أقل من ً
مكافئته له.
وكيف كان ،فإذا مل تكن اآلية بصدد تفسري املجعول ،فال يثبت أهنا بصدد بيان خصوصية
لإلمامة ليست لغريها من املناصب اإلهلية؛ إذ َّ
أن املدح كام يصح أن يكون ببيان الصفات
اخلاصة كذلك يصح أن يكون ببيان الصفات املشرتكة.
ومنها :موثقة طلحة بن زيد ،عن أيب عبد اهلل الصادق قال :قالَّ « :
إن األئمة يف كتاب
ون بِ َأ ْم ِرنَا﴾ ال بأمر الناس ،يقدمون أمر اهلل َاه ْم َأئِ َّم ًة َ ُّْيدُ َ
اهلل إمامان ،قال اهلل َ ﴿ :و َج َع ْلن ُ
َّار﴾ يقدّ مون أمرهم َاه ْم َأئِ َّم ًة َيدْ ُع َ
ون إِ َىل الن ِ قبل أمرهم ،وحكم اهلل قبل حكمهم ،قالَ ﴿ :و َج َع ْلن ُ
قبل أمر اهلل ،وحكمهم قبل حكم اهلل ،ويأخذون بأهوائهم خالف ما يف كتاب اهلل .)1( »
وهذا النص – كام ترى – رصيح أو كالْصيح يف إرادة األمر الترشيعي من اآليتني
الكريمتني ،فإنه هو الذي يقدمه األئمة عىل أمرهم ،بينام يقدّ م أئمة النار أمرهم عليه ،بداهة
ٍ
ألحد أن يقدّ م أمره عليه. َّ
أن األمر التكويني هلل تعاىل ال يمكن
ألنه ُيقال :إنام يلزم ذلك لو كانت اآليتان بصدد تفسري اإلمامة وبيان حقيقتها ،وأهنا
ليست إال اهلداية باألمرَّ ،
فإن محل األمر حينئذ عىل األمر الترشيعي ال يلتئم مع نكتة الرتقي
أن ذلك حمل منع ظاهرَّ ،
وأن األظهر كوهنا بصدد والتفاضل بني املنصبني ،ولكن قد اتضح َّ
املدح والثناء ،فال يلزم من محل األمر يف اآليتني عىل األمر الترشيعي أي حمذور يف البني؛ إذ ال
ٍ
بصفات ومزايا أخرى. ثبوت التفاضل والرتقي ألحد املنصبني املدح بالصفة املشرتكة
َ يناقض ُ
( )1كامل الدين ومتام النعمة :ص .359وال مغم ز يف السند إال من ناحية (جعفر بن حممد بن مالك الفزاري الكويف)؛ لتضعيف ابن
الغضائري له ،واحلق – مضا ًفا لعدم ثبوت نسبة كتاب الرجال البن الغضائري – أ َّن تضعيفه ال يقاوم توثيق الشيخ الطويس
للرجل ،ومتريضه للقول بضعفه ،عىل أنه ممن كثرت رواية الثقات األثبات عنه – كأيب غالب الرازي ،وحممد بن مهام أيب عَل
اإلسكايف ،وحممد بن حييى الع ّطار ،وسعد بن عبد اهلل األشعري ،وعبد اهلل بن جعفر احلمريي ،واحلسني بن عَل بن سفيان البزوفري
– وال جتتمع رواية مجيع هؤالء وأرضاهبم عن رجل ثابت الضعف ،كام أ َّن الشيخ أبا القاسم الكويف قد ّ
رصح بوثاقته يف كتاب
حممد بن مالك الكويف».
(االستغاثة يف بدع الثالثة) ،حيث قال« :حدّ ثنا مجاعة من مشاخينا الثقات ،منهم جعفر بن ّ
53 البحث الثالث :الفرق المفهومي بين النبي والرسول واإلمام
ً
مفصال، ٍ
طويلة عن اإلمام الرضا ،حتدث فيها عن اإلمامة حدي ًثا كام ور َد يف رواية
فكان يف مجلة ما قاله قوله « :إن اإلمامة خالفة اهلل» (.)1
والظاهر َّ
أن هذا التعريف – الوارد يف لسان املعصوم – من باب تفسري الالزم
بامللزوم ،ويتضح املقصود منه ببيان ثالث نقاط مهمة:
وقال ابن فارس يف املقاييس"« :خلف" اخلاء والالم والفاء أصول ثالثة ،أحدها:
أن جييء يشء بعد يشء يقوم مقامه ..اخلالفة ،وإنام سميت خالفة َّ
ألن الثاين جييء بعد األول
ٍ
بطرق خمتلفة ،فنقلها ثقة اإلسالم الكليني يف الكايف، اهتم املحدثون بنقل هذه الرواية يف جماميعهم
( )1الكايف :ج ،1ص .200وقد َّ
والشيخ الصدوق يف ك ٍل من عيون أخبار الرضا وكامل الدين ومعاين األخبار ،وابن شعبة احلراين يف حتف العقول ،والنعامين يف الغيبة،
والشيخ الطربيس يف االحتجاج ،وهي وإن كانت معلولة سندً ا بجهالة َمن تنتهي إليه مجيع طرقها ،وهو (عبد العزيز بن مسلم) –
لعدم ذكره يف يشء من كتب الرجال سوى كتاب الرجال للشيخ الطويس ، ومل يزد فيه عىل أكثر من كونه من أصحاب اإلمام
جل املحد ّثني بنقلها ،مما جيعلها بمنأى عن الغمز والوهن،
الرضا – إال أ َّن مطابقة مضامني الرواية لألخبار املعتربة ،واهتامم ّ
ولعله ألجل ذلك قد وصفها املحقق اخلوئي يف (معجم رجال احلديث )39 / 11 :بالرواية الرشيفة ،حيث قال« :وروى هو
عن الرضا رواية مبسوطة رشيفة فيها بيان مقام اإلمام ،وأن منزلة اإلمامة منزلة األنبياء ،وأهنا خالفة اهلل وخالفة الرسول
ومقام أمري املؤمنني ومرياث احلسن واحلسني ،وفيها االستدالل باآليات عىل انحصار اإلمامة يف املعصومني سالم اهلل
عليهم أمجعني».
( )2كتاب العني :ج ،4ص.266
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 54
قائام مقامه ..ويقولون يف الدعاء :خلف اهلل عليك ،أي :كان اهلل تعاىل اخلليفة عليك ملن فقدت
ً
من أب أو محيم ..وأخلف اهلل لك ،أي :عوضك من الَشء الذاهب ما يكون يقوم بعده
وخيلفه» (.)1
وهذا املعنى اللغوي للخالفة هو نفسه املعنى اجلاري يف االستعامالت العرفية ،ولذا حني
يموت شخص وله عدة من األوالد ،أو أستاذ وله عدة من التالميذُ ،يطلق عنوان (اخلليفة)
عىل َمن يقوم مقام والده من األوالد ،و َمن يقوم مقام أستاذه من التالمذة ،وال يتحقق ذلك إال
عىل ضوء ما تقدم يتضح معنى العنوان الرتكيبي اإلضايف (خالفة اهلل) ،ولكن حتى يتسنى
فهمه ٍ
بنحو حتليَل نقولَّ :
إن هذا العنوان يقتيض وجود ثالثة أطراف:
ولكي نضع النقاط عىل احلروف ،ونط ّبق الكربى عىل صغراها ،نحتاج بيان التايل:
• ا
أوالَّ :
أن اهلل هو َمن له األسامء احلسنى ،وهو املتصف بالصفات العليا اجلاملية
واجلاللية ،وهو املنزه يف نفسه عن كل نقص ،واملقدس يف فعله عن كل رش.
ً
خليفة إال إذا كان حاك ًيا للمستخلف • وثان اياَّ :
إن اخلليفة – عىل ضوء ما تقدم – ال يكون
يف مجيع شؤنه الوجودية وآثاره وأحكامه وتدابريه بام هو ُمستخلِف.
إن (خالفة اهلل تعاىل) – عىل ضوء ما تقدم – تكون بمعنى َّ
أن اإلمام هو • وثال اثاَّ :
جمىل صفات اهلل وأسامئه اجلاملية واجلاللية ،فعلمه حيكي علمه ،وحكمته حتكي حكمته،
وقدرته حتكي قدرته ،وحلمه حيكي حلمه ،ورمحته حتكي رمحته ،وحاكميته حتكي حاكميته،
وهكذا.
وهذا املعنى هو ما اختْصه الدعاء الرجبي الوارد عن الناحية املقدسة (أرواحنا لصاحبها
الفداء) ،حيث قال« :ال فرق بينك وبينهم إال أهنم عبادك وخلقك» (َّ ،)1
فإن هذه الفقرة الرشيفة
عىل اختصارها قد اختزلت كل املعاين املتقدمة عىل سعتها.
ٍ
بنحو مطلق ،مع فارق الذاتية يكون اإلمام حاك ًيا عن اهلل تعاىل كامالته وصفاته وشؤونه
واالستقالل ،فيكون له بذلك ما ليس للرسل واألنبياء ممن مل يرتقوا إىل هذه الرتبة ،فال ُيقاس
علمهم إىل علمه ،وال واليتهم إىل واليته ،وال عصمتهم إىل عصمته ،وهكذا.
وهذا ما جيعله إمام األولني واآلخرين وقائدهم وزعيمهم وصاحب السيادة عليهم؛ إذ
أنّه أرشفهم ،وأفضلهم ،وأكملهم ،وأعلمهم ،وأحكمهم ،وأحلمهم ،وأقدرهم ،وأشجعهم،
وأكرمهم ،وأزكاهم ،وأنقاهم ،وأقواهم ،وأرضاهم ،وأقضاهم ،وأمجعهم للفضائل
واخلصائص والكامالت ،وأحكاهم للشؤون اإلهلية والصفات.
ُ
كلمة اخلتام:
وبام ذكرناه يف النقاط الثالث يكون الفارق – بحسب اللحاظني املتقدمني – قد ظهر جل ًّيا
بني العناوين الثالثة.
• خال ًفا ملا أفاده شيخنا العالمة املجليس بقوله« :وال تصل عقولنا إىل فرق بني
النبوة واإلمامة» (.)1
• وما أفاده جدنا األكرب العالمة الشيخ عبد اهلل آل عمران – من علامء القرن
الثاين عرش اهلجري – بقوله « :والوالية هبذا املعنى ترادف اإلمامة التي هي
خالفة النبوة ،والتي ال فرق بينها وبينها إال يف تلقي الوحي اإلهلي» ( ،)1وقوله:
«اإلمامة والنبوة حقيقة واحدة بالذات ،متغايرة باالعتبار» (.)2
• وما أفاده السيد الفقيه الشفتي بقوله « :وال يقدح يف ذلك صدقها عىل أويل
ألن فيهم مرتبة اإلمامة كام عرفت ،إال َّ
أن االمتياز إنام هو العزم من األنبياءَّ ،
باحليثية ،فمن حيث أنه مبلغ األحكام من اهلل بال واسطة غريه من أفراد اإلنسان
نبي ورسول ،وما عليه إال البالغ ،ومن حيث كونه ق ّي ًام عىل العباد إمام» (.)3
ٌ
توطئة هامة:
مما جيدر التن ّبه له وااللتفات إليه يف بداية هذا البحثَّ :
أن هاهنا مسألتني ينبغي التمييز
وعدم اخللط بينهام:
املسألة األوىل :التفاضل بني املناصب اإلهلية الثالثة ،وهي :منصب النبوة ومنصب
الرسالة ومنصب اإلمامة.
املسألة الثانية :التفاضل بني شخوص األئمة وشخوص األنبياء والرسل .
فإن الذي نجنح إليه يف هذه املسألة هو أفضلية منصب اإلمامة عىل ٍ
كل عرفت ذلكَّ ،
َ وإذا
من منصبي النبوة والرسالة ،ولنا أن نستدل عىل ذلك بنوعني من األدلة:
والقرائن الدا ّلة عىل وقوع هذه القض ّية يف أواخر عمر ّ
نبي اهلل إبراهيم عبارة عن
ثالث قرائن ،وقبل بياهنا ال بدَّ من الفراغ عن مقدمة مهمة ،وهيَّ :
أن (جاعل) صيغة اسم
أن اسم الفاعل ال يعمل إذا كان ً
داال عىل املايض وال يأخذ املقرر يف األدبياتَّ :
فاعل ،ومن ّ
ً
مفعوال – وهو( :إما ًما) – وهذا يقتيض بالرضورة أنه ً
مفعوال ،بينام هو يف اآلية قد عمل وأخذ
سيكون بمعنى احلال أو االستقبال ،فيكون بمعنى سأجعلك ،وعليه َّ
فإن هذه اآلية تتحدث
عن مرحلة جديدة من مراحل حياة النبي إبراهيم ،وليست ناظرة ملراحل حياته املتقدمة،
ومن هنا فلن يمكن تفسري (اإلمامة) يف اآلية الرشيفة بـ (النبوة) أو (الرسالة)؛ ألهنام مما سبق
جعلهام له ،فال يصح جعلهام من جديد.
نبي
أن وقوع هذا الترشيف كان بعد جتاوز ّ أن اآلية الرشيفة رصحية يف ّ أ /القرينة األوىلّ :
اهيم ربه بِكَلِامت َف َأ َمتهن َق َال إِ ِّين ج ِ
ِ ِ
اع ُل َك َ َّ ُ َّ اهلل إبراهيم ملرحلة االبتالءَ ﴿ :وإِذ ا ْبت ََىل إِ ْب َر َ َ ه ُ َ
نبوته ورسالته، أن هذه املرحلة من عمره الرشيف كانت متزامنة مع ّ لِلن ِ
َّاس إِ َما ًما﴾ ،وال ريب يف ّ
61 البحث الرابع :أفضلية منصب اإلمامة على النبوة والرسالة
وبام َّ
أن جعل اإلمامة كان بعد جتاوز إبراهيم ملرحلة االبتالءات هذه – والتي كانت
نبوته ورسالته – فهذا يعني َّ
أن اإلمامة مرتبة متأخرة عنهام. متزامنة مع ّ
اع ُل َك لِلن ِ
َّاس إِ َما ًما﴾ قرينة إن نفس خماطبته بقوله تعاىل﴿ :إِ ِّين ج ِ
َ ب /القرينة الثانيةَّ :
ٍ
متصل بالسامء ،وإذا ٍ
لسفري يتم إال أخرى عىل كونه قد سبقت نبوته؛ إذ َّ
أن الوحي الساموي ال ه
كان إبراهيم نب ًّيا قبل خماطبته هبذا اخلطاب ،فهذا يعني َّ
أن املنصب املجعول له يف هذه
املرحلة ليس هو منصب النبوة ،وإنام هو منصب جديد ،قد ُأوتيه بعد املنصب السابق ،فتأمل.
ج /القرينة الثالثة :قوله يف اآلية الرشيفةَ ﴿ :و ِمن ُذ ِّر َّيتِي﴾ ،فإنّه ظاهر يف وجود
الذر ّية لديه ،ووجود الذر ّية لديه إنّام كان يف مرحلة متقدّ مة من عمره الرشيف ،كام هو رصيح ّ
ِ ب ِيل َع َىل ا ْلكِ َ ِرب إِ ْس َام ِع َيل َوإِ ْس َح َ ِ
اق إِ َّن َر ِّيب َل َسم ُ
يع احلَ ْمدُ هللِ ا َّلذي َو َه َ
القرآن الكريمْ ﴿ :
الذر ّية لديه أنّه يف بداية األمر مل يكن معتقدً ا بأنّه ِ ()2
الده َعاء﴾ ،ووجه ظهوره يف وجود ّ
ِ ِ
يم * سريزق ذر ّية ختلفه ،كام يرشد إىل ذلك القرآن الكريم يف قولهَ ﴿ :و َن ِّب ْئ ُه ْم َعن َض ْيف إِ ْب َراه َ
رش َك بِ ُغالَم َعلِيم * ِ ال ًما َق َال إِنَّا ِمنك ُْم َو ِج ُل َ
ون * َقا ُلوا الَ ت َْو َج ْل إنَّا ُن َب ِّ ُ إِ ْذ َد َخ ُلوا َع َل ْي ِه َف َقا ُلوا َس َ
ِ ِ ِ
َاك بِ ْ َ
احل ِّق َف َ
ال ُتكُن ِّم َن رشن َ ون * َقا ُلوا َب َّ ْ رب َفبِ َم ُت َب ِّ ُ
رش َ رش ُمتُوين َع َىل َأن َم َّسن َي ا ْلك َ ُ َق َال َأ َب َّ ْ
الذر ّية لديه؛ إذ لو كان ني﴾ ،بينام ظاهر كالمه يف اآلية السابقة اعتقاده بوجود ّ
()1
ا ْل َقانِطِ َ
املفرسين السيد الطباطبائي : عالمة ّ عىل اعتقاده السابق مل يطلب اإلمامة لذريته ،وكام يقول ّ
اع ُل َك لِلن ِ
َّاس إِ َما ًما﴾ قول َمن يعتقد لنفسه «وقوله﴿ :و ِمن ُذريتِي﴾ بعد قوله تعاىل﴿ :إِ ِّين ج ِ
َ ِّ َّ َ
ٍ
خطاب وخاصة مثل إبراهيم اخلليل – يف
ّ ذر ّية ،وكيف يسع َمن له أدنى دربة بأدب الكالم –
ّ
يتفوه بام ال علم له به؟ ولو كان ذلك لكان من الواجب أن يقول :ومن
خياطب به ر ّبه اجلليل أن ّ
ذر ّية ،أو ما يؤ ّدي هذا املعنى» (.)2
ذر ّيتي إن رزقتني ّ
ّ
وهي عبارة عن عدّ ة من الروايات الرشيفة ،وهي رصحية – أو كالْصحية – يف كون مرتبة
النبي أو الرسول يف حركة
النبوة ،وأهنا آخر املراحل واملراتب التي يطوُّيا ّ
اإلمامة أعىل من مرتبة ّ
سريه التكامَل ،ممّا يعني بالرضورة كوهنا أعىل املراتب وأرشفها وأفضلها ،وإليكها:
أ /الرواية األوىل :رواية الشيخ الصدوق ،بإسناده عن اإلمام الرضا - يف حديث
خص اهلل هبا إبراهيم اخلليل (صلوات اهلل عليه وآله) بعد طويل -قال ّ « :
إن اإلمامة ّ
اع ُل َك لِلن ِ
َّاس النبوة واخل ّلة ،مرتبة ثالثة ،وفضيلة رشفه هبا ،وأشاد هبا ذكره ،فقال ﴿ :إِ ِّين ج ِ
َ ّ ّ
رسورا هباَ ﴿ :و ِمن ُذ ِّر َّيتِي﴾؟ َق َال اهلل ﴿ :الَ َين َُال َع ْه ِدي
ً إِ َما ًما﴾ ،فقال اخلليل
ال َّظامل ِ َ
ني﴾» (.)1
سمعت أبا
ُ الشحام ،قال:
ّ ب /الرواية الثانية :رواية الشيخ الكليني بسنده عن زيد
وأن اهلل ّاختذه
إن اهلل تبارك وتعاىل ّاختذ إبراهيم عبدً ا قبل أن يتّخذه نب ًّياّ ،
عبد اهلل يقولّ « :
وأن اهلل ّاختذه ً
خليال قبل خليالّ ،
رسوال قبل أن يتّخذه ً ً وأن اهلل ّاختذه
رسوالّ ، ً نب ًّيا قبل أن يتّخذه
اع ُل َك لِلن ِ
َّاس إِ َما ًما﴾ ،قال :فمن عظمها يف أن جيعله إماما ،فلام مجع له األشياء قال﴿ :إِ ِّين ج ِ
َ ّ ً
عني إبراهيم قالَ ﴿ :و ِمن ُذ ِّر َّيتِي﴾؟ قال﴿ :الَ َين َُال َع ْه ِدي ال َّظامل ِ َ
ني﴾» (.)2
( )1األمايل ،774 :عيون أخبار الرضا عليه السالم ،196 / 1 :كامل الدين ومتام النعمة ،676 :معاين األخبار ،97 :وتقدم الكالم
حول سندها يف البحث السابق.
( )2الكايف :ج ،1ص.175
( )3الكايف :ج ،1ص.175
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 64
د /الرواية الرابعة :معتربة هشام بن سامل ،قال :قال أبو عبد اهلل « :األنبياء واملرسلون
عىل أربع طبقات:
ب – ونبي يرى يف النوم ويسمع الصوت وال يعاينه يف اليقظة ،ومل ُيبعث إىل أحد ،وعليه
إمام ،مثل ما كان إبراهيم عىل لوط .
ج – ونبي يرى يف منامه ويسمع الصوت ويعاين امللك ،وقد ُأرسل إىل طائفة قلوا أو
َ
زيدون﴾ ،قال :يزيدون: كثروا ،كيونس ،قال اهلل ليونس ﴿ :و َأرسلناه إِىل ِمائ َِة َأ ٍ
لف َأو َي َ َ ُ
ثالثني أل ًفا ،وعليه إمام.
د – والذي يرى يف نومه ويسمع الصوت ويعاين يف اليقظة ،وهو إمام مثل أويل العزم،
َّاس إِ َما ًما َق َال َو ِم ْن
اع ُل َك لِلن ِ
وقد كان إبراهيم نبيا وليس بإمام ،حتى قال اهلل﴿ :إِ ِّين ج ِ
َ ً
صنام أو وثنًا ال يكون إما ًما» (.)1 ني﴾َ ،من عبد ً ُذ ِّر َّيتِي﴾ فقال اهللَ ﴿ :ال َين َُال َع ْه ِدي ال َّظامل ِ َ
وهنا مبحثان:
وفيه مسألتان:
أ -القسم األول :املناصب الوضعية ،وهي :املناصب اخلاضعة للتواضع البرشي
واالعتبار العقالئي ،ومن أمثلتها :امللك ورئاسة الدولة والوزارة وما شاكلها.
من قبيل منصب النبوة ،فهو من املناصب اإلهلية التي يكون جعلها وتطبيقها من قبل املوىل
،أيَّ :
أن اهلل يتوىل تطبيق املنصب عىل أشخاص مع ّينني بأسامئهم ،حمددين بخصوصياهتم
ّ
ومشخصاهتم.
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 66
وهكذا احلال يف منصب اإلمامة ،فكام جعل اهلل منصب اإلمامة وط ّبقه عىل إبراهيم النبي
حمصورا يف اثني عرش
ً نص املوىل عىل منصب اإلمامة يف هذه األمة ،وجعله
،كذلك ّ
إما ًما ،أوهلم أمري املؤمنني وآخرهم اإلمام املهدي ،ولذلك ُيقالَّ :
إن منصب اإلمامة
إهلي اجلعل والتطبيق ،وسيأيت الربهان عىل ذلك يف اجلهة الصغروية.
من قبيل منصب املرجعية الدينية ،فإنّه منصب إهلي جمعول بجعل اهلل ،واحلجة يف ذلك
هوّ :
أن األصل عدم أحقية أحد من البرش بالترشيع والتحليل والتحريم؛ إذ هو حق منحْص
ومكوهنم ،ويشري إىل االنحصار قوله تعاىلَ ﴿ :و َال ت َُقو ُلوا ّ باهلل ،ألنه مالك البرش ،وخالقهم،
ِ ِ ِ ِ َمل ِا ت َِص ُ ِ
رت َ
ون َع َىل رتوا َع َىل اهللَِّ ا ْلكَذ َب إِ َّن ا َّلذ َ
ين َي ْف َ ُ ف َأ ْلسنَ ُتك ُُم ا ْلكَذ َب َه َذا َح َال ٌل َو َه َذا َح َر ٌام ل َت ْف َ ُ
أن الترشيع ممنوع حتى عىل ون﴾ ( ،)1بل تشري بعض اآليات القرآنية إىل َّ اهللَِّ ا ْلك َِذ َب َال ُي ْفلِ ُح َ
يل * او ِاألنبياء ،بل حتى عىل أفضل األنبياء ،قال اهلل َ ﴿ :و َل ْو ت ََق َّو َل َع َل ْينَا َب ْع َض ْاألَ َق ِ
ولوال تفويضه هلم صالحية الترشيع والتقنني ملا ثبت ذلك هلم ،وبعد إعطائهم
صالحية الترشيع جاز هلم التحليل والتحريم ً
طبقا ملا أوالهم اهلل تعاىل من العلم ،وأطلعهم
عليه من املصالح واملفاسد الواقعية.
الصنف الثالث :الفقهاء ومراجع الدين ،وهذا هو الصنف الذي ُف ّوض له الترشيع من
قبل املعصومني بأمر منه ،فإن أهل البيت قد جعلوا هلؤالء منصب املرجعية الدينية،
وقد د ّلت عىل ذلك األدلة املذكورة يف حملها ،من قبيل ما ورد عن اإلمام العسكري « :فأما
من كان من الفقهاء صائنًا لنفسه ،حاف ًظا لدينه ،خمال ًفا عىل هواه ،مطي ًعا ألمر مواله ،فللعوام أن
حق ألحدهم أن يق ّلدوه» ( ،)1ولوال َّ
أن اهلل تعاىل قد جعل هذا املنصب للعلامء والفقهاء ملا ّ
يتصدّ ر هذا املنصب.
مهم:
تنبيه ٌّ
وحمصل ما يمكن قوله يف بيان الفرق بني املنصبني اإلهلي والوضعي أنّه ينبثق من جهتني:
ّ
َّ
فإن املناصب الوضعية جمعولة باجلعل البرشي ،وأما املناصب اإلهلية -كالنبوة والرسالة
-فهي مناصب جمعولة باجلعل اإلهلي الترشيعي ،وليست من جعل البرش .وعند الرجوع إىل
آيات القرآن الكريم نجدها تؤكد عىل أن هذه املناصب جمعولة من قبله تعاىل ،وإليك بعضها:
ِ ِِ
وب َو َج َع ْلنَا ِيف ُذ ِّر َّيته ال هن ُب َّو َة َوا ْلكت َ
َاب﴾ ( ،)3ومفاد اآلية الثانيةَ ﴿ :و َو َه ْبنَا َل ُه إِ ْس َح َ
اق َو َي ْع ُق َ
نسب
اآلية أن اهلل هو الذي أعطى وجعل النبوة والكتاب يف ذرية نبي اهلل إبراهيم ،وقد َ
اهلل جعلها إىل نفسه.
( )1وقد تناولنا مسألة (املرجعية الدينية) بالتفصيل يف كتابنا (املرجعية الدينية مرشوع السامء يف زمن الغيبة).
( )2سورة الفرقان.35 :
( )3سورة العنكبوت.27 :
69 البحث الخامس :اإلمامة اإللهية منصب إلهي
إن النكتة يف كون النبوة منص ًبا إهل ًيا هيَّ :
أن اهلل يف كتابه الكريم قد وبعبارة أخرىَّ :
أن نفس النكتة متوفرة نسب جعلها إليه يف غري موضع ،وبام َّ أن النبوة من جعله حني َ نص عىل َّ
َاه ْم َأ ِئ َّم ًة َ ُّْيدُ َ
ون بِ َأ ْم ِرنَا َو َأ ْو َح ْينَا إِ َل ْي ِه ْم أيضا يف مسألة اإلمامة؛ لقول القرآن الكريمَ ﴿ :و َج َع ْلن ُ ً
ين﴾ ،ويف آية أخرىَ ﴿ :و َج َع ْلنَا ِمن ُْه ْم ِ ات وإِ َقام الص َال ِة وإِيتَاء َّ ِ
الزكَاة َوكَانُوا َلنَا َعابِد َ َ َ اخل ْ َري َ َ َّ
ِ
ف ْع َل ْ َ
ِ
ون بِ َأم ِرنَا ملََّا صربوا وكَانُوا بِآياتِنَا ي ِ ِ
أن القرآن الكريم عندما ُون﴾ ( ،)2فهذا يعني َّ وقن َ َ ُ َ َُ َ َأئ َّم ًة َ ُّْيدُ َ ْ
حتدث عن اإلمامة جعلها عىل وزان النبوة يف اجلعل واالصطفاء ،ومن خالل ما تقدم من آيات
ٌ
جمعولة من ٌ
جمعولة من قبل اهلل تعاىل ،كذلك اإلمامة القرآن تبني أنه ال فرق بينهام ،فكام َّ
أن النبوة
قبل اهلل تعاىل.
تغريت
وأما املناصب اإلهلية -من قبيل النبوة والرسالة واإلمامة -فإهنا ال تتغري وإن ّ
ٍ
طويل له عن اإلمامة ،وسوف ٍ
حديث اعتبارات الناس ،وعن ذلك حتدث اإلمام الرضا يف
نبني حمل الشاهد منه ،واحلديث هو ما رواه عنه عبد العزيز بن
ننقله بطوله لرشافته وأمهيته ،ثم ّ
مسلم بقوله:
«كنا مع الرضا بمرو ،فاجتمعنا يف اجلامع يوم اجلمعة يف بدء مقدمنا ،فأداروا أمر
اإلمامة ،وذكروا كثرة اختالف الناس فيها ،فدخلت عىل سيدي فأعلمته خوض الناس
فيه ،فتبسم ثم قال :يا عبد العزيز ،جهل القوم وخدعوا عن آرائهمَّ ،
إن اهلل مل يقبض
ني فيه احلالل واحلرام، نبيه حتى أكمل له الدين ،وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل يشءَ ،ب َّ َ
َاب ِم ْن كمال ،فقال َ ﴿ :ما َف َّر ْطنَا ِيف ا ْلكِت ِ واحلدود واألحكام ،ومجيع ما حيتاج إليه الناس ً
يش ٍء﴾ ،وأنزل يف حجة الوداع وهي آخر عمره ﴿ :ا ْل َي ْو َم َأك َْم ْل ُت َلك ُْم ِدينَك ُْم َو َأ ْمت َ ْم ُت َ ْ
اإل ْس َال َم ِدينًا﴾ ،وأمر اإلمامة من متام الدين ،ومل يمض حتى َع َل ْيك ُْم نِ ْع َمتِي َو َر ِض ُ
يت َلك ُُم ْ ِ
ّبني ألمته معامل دينهم وأوضح هلم سبيلهم وتركهم عىل قصد سبيل احلق ،وأقام هلم عل ًيا
علام وإمام وما ترك [هلم] شي ًئا حيتاج إليه األمة إال ب ّينه ،فمن زعم أن اهلل مل يكمل دينه فقد
ً
ر ّد كتاب اهلل ،ومن ر ّد كتاب اهلل فهو كافر به.
71 البحث الخامس :اإلمامة اإللهية منصب إلهي
قدرا هل يعرفون قدر اإلمامة وحملها من األمة فيجوز فيها اختيارهم؟! َّ
إن اإلمامة أجل ً
غورا من أن يبلغها الناس بعقوهلم ،أو ينالوها
وأعظم شأنًا وأعال مكانًا وأمنع جان ًبا وأبعد ً
بآرائهم ،أو يقيموا إما ًما باختيارهم.
خص اهلل هبا إبراهيم اخلليل بعد النبوة واخللة مرتبة ثالثة ،وفضيلة إن اإلمامة ّ َّ
رسورا هبا:
ً َّاس إِ َما ًما﴾ ،فقال اخلليل اع ُل َك لِلن ِ رشفه هبا وأشاد هبا ذكره ،فقال﴿ :إِ ِّين ج ِ
َ
ني﴾ ،فأبطلت هذه اآلية إمامة ﴿ َو ِم ْن ُذ ِّر َّيتِي﴾ ،قال اهلل تبارك وتعاىلَ ﴿ :ال َين َُال َع ْه ِدي ال َّظامل ِ َ
كل ظامل إىل يوم القيامة وصارت يف الصفوة ،ثم أكرمه اهلل تعاىل بأن جعلها يف ذريته أهل الصفوة
َاه ْم َأئِ َّم ًة
ني * َو َج َع ْلن ُ
اق ويع ُقوب نَافِ َل ًة وك ًُّال جع ْلنَا ص ِ
احل َ َ َ َ َ والطهارة فقالَ ﴿ :و َو َه ْبنَا َل ُه إِ ْس َح َ َ َ ْ َ
ِ ات وإِ َقام الص َال ِة وإِيتَاء َّ ِ ون بِ َأم ِرنَا و َأوحينَا إِ َلي ِهم فِع َل ْ ِ
ين﴾.الزكَاة َوكَانُوا َلنَا َعابِد َ َ َ اخلَ ْ َري َ َ َّ َ ُّْيدُ َ ْ َ ْ َ ْ ْ ْ ْ
فلم تزل يف ذريته يرثها بعض عن بعض قرنًا فقرنًا حتى ورثها اهلل تعاىل النبي ،فقال
ِ ِ ِ
ين آ َمنُوا َواهللَُّ َو ِ هيلين ا َّت َب ُعو ُه َو َه َذا النَّبِ هي َوا َّلذ َ َّاس بِإِ ْب َراه َ
يم َل َّلذ َ جل وتعاىل﴿ :إِ َّن َأ ْو َىل الن ِ
ني﴾ فكانت له خاصة ،فق ّلدها عل ًيا بأمر اهلل تعاىل عىل رسم ما فرض اهلل، املُْ ْؤ ِمن ِ َ
ين ُأوتُوا ِ
فصارت يف ذريته األصفياء الذين آتاهم اهلل العلم واإليامن ،بقوله تعاىلَ ﴿ :ق َال ا َّلذ َ
اإل َيامن َل َقدْ َلبِ ْثت ُْم ِيف كِتَاب اهللَّ إِ َىل َي ْوم ا ْل َب ْعث َف َه َذا َي ْوم ا ْل َب ْعث﴾ فهي يف ولد عَل ا ْل ِع ْلم َو ْ ِ
خاصة إىل يوم القيامة ،إذ ال نبي بعد حممد ،فمن أين خيتار هؤالء اجلهال؟!
متام الصالة والزكاة والصيام واحلج واجلهاد ،وتوفري الفيء والصدقات ،وإمضاء احلدود
واألحكام ،ومنع الثغور واألطراف.
اإلمام حيل حالل اهلل ،وحيرم حرام اهلل ،ويقيم حدود اهلل ،ويذب عن دين اهلل ،ويدعو إىل
سبيل ربه باحلكمة ،واملوعظة احلسنة ،واحلجة البالغة .اإلمام كالشمس الطالعة املجللة بنورها
للعامل وهي يف األفق بحيث ال تناهلا األيدي واألبصار.
اإلمام البدر املنري ،والرساج الزاهر ،والنور الساطع ،والنجم اهلادي يف غياهب الدجى
وأجواز البلدان والقفار ،وجلج البحار ،اإلمام املاء العذب عىل الظامء والدال عىل اهلدى،
واملنجي من الردى ،اإلمام النار عىل اليفاع ،احلار ملن اصطىل به والدليل يف املهالك ،من فارقه
فهالك ،اإلمام السحاب املاطر ،والغيث اهلاطل والشمس املضيئة ،والسامء الظليلة ،واألرض
البسيطة ،والعني الغزيرة ،والغدير والروضة.
اإلمام األنيس الرفيق ،والوالد الشفيق ،واألخ الشقيق ،واألم الربة بالولد الصغري،
ومفزع العباد يف الداهية النآد ،اإلمام أمني اهلل يف خلقه ،وحجته عىل عباده وخليفته يف بالده،
والداعي إىل اهلل ،والذاب عن حرم اهلل.
اإلمام املطهر من الذنوب واملربأ عن العيوب ،املخصوص بالعلم ،املرسوم باحللم ،نظام
الدين ،وعز املسلمني وغيظ املنافقني ،وبوار الكافرين .اإلمام واحد دهره ،ال يدانيه أحد ،وال
يعادله عامل ،وال يوجد منه بدل وال له مثل وال نظري ،خمصوص بالفضل كله من غري طلب منه
له وال اكتساب ،بل اختصاص من املفضل الوهاب.
فمن ذا الذي يبلغ معرفة اإلمام ،أو يمكنه اختياره ،هيهات هيهات ،ضلت العقول،
وتاهت احللوم ،وحارت األلباب ،وخسئت العيون وتصاغرت العظامء ،وحتريت احلكامء،
73 البحث الخامس :اإلمامة اإللهية منصب إلهي
وتقارصت احللامء ،وحْصت اخلطباء ،وجهلت األلباء ،وكلت الشعراء ،وعجزت األدباء،
وعييت البلغاء ،عن وصف شأن من شأنه ،أو فضيلة من فضائله ،وأقرت بالعجز والتقصري،
وكيف يوصف بكله ،أو ينعت بكنهه ،أو يفهم يشء من أمره ،أو يوجد من يقوم مقامه ويغني
غناه ،ال كيف وأنى؟ وهو بحيث النجم من يد املتناولني ،ووصف الواصفني ،فأين االختيار
من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟!
أتظنون أن ذلك يوجد يف غري آل الرسول حممد ،كذبتهم واهلل أنفسهم ،ومنتهم
دحضا ،تزل عنه إىل احلضيض أقدامهم ،راموا إقامة اإلمام
ً األباطيل فارتقوا مرتقى صع ًبا
بعقول حائرة بائرة ناقصة ،وآراء مضلة ،فلم يزدادوا منه إال بعدً اَ ﴿ ،قا َت َل ُه ُم اهللَُّ َأنَّى ُي ْؤ َفكُ َ
ون﴾،
ضالال بعيدً ا ،ووقعوا يف احلرية ،إذ تركوا اإلمام عن ً ولقد راموا صع ًبا ،وقالوا إفكًا ،وضلوا
ين﴾.
ْص َيل َوكَانُوا ُم ْس َت ْب ِ ِ
السبِ ِ
ان َأ ْع َام َهل ُ ْم َف َصدَّ ُه ْم َع ِن َّ
الش ْي َط ُ
بصريةَ ﴿ ،و َز َّي َن َهل ُ ُم َّ
رغبوا عن اختيار اهلل واختيار رسول اهلل وأهل بيته إىل اختيارهم ،والقرآن ينادُّيم:
رشك َ اىل َع َّام ُي ْ ِ َان َهلم ْ ِ
اخل َ َري ُة ُس ْب َح َ
ُون﴾ ،وقال : ان اهللَِّ َو َت َع َ ى خيت َُار َما ك َ ُ ُ
خي ُل ُق َما َي َشا ُء َو َ ْ
﴿ َو َر هب َك َ ْ
اخل َ َري ُة ِم ْن َأ ْم ِر ِه ْم﴾ ،وقال:
ُون َهلم ْ ِ ِ ٍ ﴿وما ك َ ِ ِ
َان ُمل ْؤم ٍن َو َال ُم ْؤمنَة إِ َذا َق َىض اهللَُّ َو َر ُسو ُل ُه َأ ْم ًرا َأن َيك َ ُ ُ َ َ
ون * َأ ْم َلك ُْم َأ ْي َام ٌن ِ ِ َاب فِ ِيه تَدْ ُر ُس َ ِ ِ
َري َ ون * إ َّن َلك ُْم فيه ملَا َخت َّ ُ ون * َأ ْم َلك ُْم كت ٌ ف َ ْحتك ُُم َ ﴿ َما َلك ُْم َك ْي َ
ِ ِ َع َل ْينَا َبالِغ ٌَة إِ َ ىىل َي ْو ِم ا ْل ِق َيا َم ِة إِ َّن َلك ُْم ملَا َ ْحتك ُُم َ
رشكَا ُء َف ْل َي ْأتُوايم * َأ ْم َهل ُ ْم ُ َ ون * َس ْل ُه ْم َأ ه ُُّيم بِ َىذل َك َزع ٌ
ني﴾. اد ِق َ
بِ ُرشكَائِ ِهم إِن كَانُوا ص ِ
َ ْ َ
اهلَا﴾ أم طبع اهلل عىل قلوهبم فهم ال وب َأ ْق َف ُ آن َأ ْم َع َىل ُق ُل ٍ وقال َ ﴿ :أ َفال َيتَدَ َّب ُر َ
ون ا ْل ُق ْر َ
ين َال ِ ِ يفقهون؟ أم ﴿ َقا ُلوا َس ِم ْعنَا َو ُه ْم َال َي ْس َم ُع َ ِ
الص هم ا ْل ُبك ُْم ا َّلذ َ
اب عندَ اهللَِّ ه
رش الدَّ َو ِّ ون * إ َّن َ َّ
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 74
ون * َو َل ْو َعلِ َم اهللَُّ فِ ِيه ْم َخ ْ ًريا َّألَ ْس َم َع ُه ْم َو َل ْو َأ ْس َم َع ُه ْم َلت ََو َّلوا َّو ُهم هم ْع ِر ُض َ
ون﴾ أم ﴿ َقا ُلوا َي ْع ِق ُل َ
َس ِم ْعنَا َو َع َص ْينَا﴾ بل هو ﴿ َف ْض ُل اهللَِّ ُي ْؤتِ ِيه َمن َي َشا ُء َواهللَُّ ُذو ا ْل َف ْض ِل ا ْل َعظِي ِم﴾.
فكيف هلم باختيار اإلمام؟! واإلمام عامل ال جيهل ،وراع ال ينكل ،معدن القدس
والطهارة ،والنسك والزهادة ،والعلم والعبادة ،خمصوص بدعوة الرسول ونسل املطهرة
البتول ،ال مغمز فيه يف نسب ،وال يدانيه ذو حسب ،يف البيت من قريش والذروة من هاشم،
والعرتة من الرسول ،والرضا من اهلل ،رشف األرشاف ،والفرع من عبد مناف ،نامي
العلم ،كامل احللم ،مضطلع باإلمامة ،عامل بالسياسة ،مفروض الطاعة ،قائم بأمر اهلل ،
ناصح لعباد اهلل ،حافظ لدين اهلل.
إن األنبياء واألئمة صلوات اهلل عليهم يوفقهم اهلل ويؤتيهم من خمزون علمه وحكمه ما َّ
ِ
ال يؤتيه غريهم ،فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان ،يف قوله تعاىلَ ﴿ :أ َف َمن َ ُّْيدي إِ َىل ْ َ
احل ِّق
ون﴾ ،وقوله تبارك وتعاىلَ ﴿ :و َم ْن َأ َح هق َأن ُي َّت َب َع َأ َّمن َّال َُّيِدِّ ي إِ َّال َأن ُ ُّْيدَ ىى َف َام َلك ُْم َك ْي َ
ف َ ْحتك ُُم َ
ِ ي ْؤ َت ِْ
ويت َخ ْ ًريا كَث ًريا﴾ ،وقوله يف طالوت﴿ :إِ َّن اهللََّ ْ
اص َط َفا ُه َع َل ْيك ُْم َو َزا َد ُه َب ْس َط ًة احلك َْم َة َف َقدْ ُأ ِ َ ُ
ِ ِ ِيف ا ْل ِع ْل ِم َو ِْ
يم﴾ ،وقال لنبيه َ ﴿ :و َأ َنز َل اهللَُّ اجل ْس ِم َواهللَُّ ُي ْؤ ِيت ُم ْل َك ُه َمن َي َشا ُء َواهللَُّ َواس ٌع َعل ٌ
َان َف ْض ُل اهللَِّ َع َل ْي َك َعظِ ًيام﴾ ،وقال يف األئمة َع َلي َك ا ْلكِتَاب و ِْ
احلك َْم َة َو َع َّل َم َك َما َمل ْ َتكُن َت ْع َل ُم َوك َ َ َ ْ
َاه ُم اهللَُّ ِمنَّاس َع َ ىىل َما آت ُ من أهل بيت نبيه وعرتته وذريته صلوات اهلل عليهمَ ﴿ :أ ْم َ ْ
حي ُسدُ َ
ون الن َ
َاهم هم ْلكًا َعظِ ًيام * َف ِمن ُْهم َّم ْن آ َم َن بِ ِه َو ِمن ُْهم اهيم ا ْلكِتَاب و ِْ
احلك َْم َة َوآ َت ْين ُ َ َ
ِ ِِ
َف ْضله َف َقدْ آ َت ْينَا َآل إِ ْب َر َ
َّمن َصدَّ َعنْ ُه َو َك َف ىى بِ َج َهن ََّم َس ِع ًريا﴾.
َّ
وإن العبد إذا اختاره اهلل ألمور عباده ،رشح صدره لذلك ،وأودع قلبه ينابيع احلكمة،
يعي بعده بجواب ،وال حيري فيه عن الصواب ،فهو معصوم مؤيد،
وأهلمه العلم إهلا ًما ،فلم َ
75 البحث الخامس :اإلمامة اإللهية منصب إلهي
موفق مسدد ،قد أمن من اخلطايا والزلل والعثار ،خيصه اهلل بذلك ليكون حجته عىل عباده،
وشاهده عىل خلقه ،وذلك فضل اهلل يؤتيه من يشاء واهلل ذو الفضل العظيم.
فهل يقدرون عىل مثل هذا فيختارونه؟! أو يكون خمتارهم هبذه الصفة فيقدمونه؟! تعدوا
-وبيت اهلل -احلق ونبذوا كتاب اهلل وراء ظهورهم كأهنم ال يعلمون ،ويف كتاب اهلل اهلدى
والشفاء ،فنبذوه واتبعوا أهواءهم ،فذمهم اهلل ومقتهم وأتعسهم ،فقال جل وتعاىلَ ﴿ :و َم ْن
ني﴾ ،وقالَ ﴿ :ف َت ْع ًسا َهل ُ ْم َري ُهدً ى ِّم َن اهللَِّ إِ َّن اهللََّ َال َ ُّْي ِدي ا ْل َق ْو َم ال َّظامل ِ َ
َأ َض هل ِمم َّ ِن ا َّت َب َع َه َوا ُه بِغ ْ ِ
ب ين آ َمنُوا ك ََذلِ َك َي ْط َب ُع اهللَُّ َع َىل ك ُِّل َق ْل ِ ِ ِ ِ
َرب َم ْقتًا عنْدَ اهللَِّ َوعنْدَ ا َّلذ َ َو َأ َض َّل َأ ْع َام َهل ُ ْم﴾ ،وقال﴿ :ك ُ َ
كثريا» (.)1 َرب َج َّب ٍ
ُم َتك ِّ ٍ
تسليام ً
ً ار﴾ ،وصىل اهلل عىل النبي حممد وآله وسلم
ّ
وحمل الشاهد من احلديث ثالث فقرات:
الفقرة األوىل« :هل يعرفون قدر اإلمامة وحملها من األمة فيجوز فيها اختيارهم؟! َّ
إن
غورا ،من أن يبلغها الناس
قدرا ،وأعظم شأنًا ،وأعال مكانًا ،وأمنع جان ًبا ،وأبعد ً
اإلمامة أجل ً
بعقوهلم ،أو ينالوها بآرائهم ،أو يقيموا إما ًما باختيارهم».
الفقرة الثانية« :فمن ذا الذي يبلغ معرفة اإلمام ،أو يمكنه اختياره ،هيهات هيهات،
ضلت العقول ،وتاهت احللوم ،وحارت األلباب ،وخسئت العيون وتصاغرت العظامء،
وحتريت احلكامء ،وتقارصت احللامء ،وحْصت اخلطباء ،وجهلت األلباء ،وكلت الشعراء،
وعجزت األدباء ،وعييت البلغاء ،عن وصف شأن من شأنه ،أو فضيلة من فضائله ،وأقرت
بالعجز والتقصري ،وكيف يوصف بكله ،أو ينعت بكنهه ،أو يفهم يشء من أمره ،أو يوجد من
يقوم مقامه ويغني غناه ،ال كيف وأنى؟ وهو بحيث النجم من يد املتناولني ،ووصف
الواصفني ،فأين االختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟!».
الفقرة الثالثة« :رغبوا عن اختيار اهلل واختيار رسول اهلل وأهل بيته إىل اختيارهم،
َان َهلم ْ ِ
اخل َ َري ُة ُس ْب َح َ
اىل َع َّام ان اهللَِّ َو َت َع َ ى خيت َُار َما ك َ ُ ُ خي ُل ُق َما َي َشا ُء َو َ ْ
والقرآن ينادُّيمَ ﴿ :و َر هب َك َ ْ
ون َهلم ْ ِ ِ ٍ ُون﴾ ،وقال ﴿ :وما ك َ ِ ِ
اخل َ َري ُة َان ُمل ْؤم ٍن َو َال ُم ْؤمنَة إِ َذا َق َىض اهللَُّ َو َر ُسو ُل ُه َأ ْم ًرا َأن َي ُك َ ُ ُ َ َ رشك َ ُي ْ ِ
ون * إِ َّن َلك ُْم فِ ِيه ملَا َاب فِ ِيه تَدْ ُر ُس َ ِ
ون * َأ ْم َلك ُْم كت ٌ ف َ ْحتك ُُم َ ِم ْن َأ ْم ِر ِه ْم﴾ ،وقالَ ﴿ :ما َلك ُْم َك ْي َ
ِ ِ ون * َأ ْم َلك ُْم َأ ْي َام ٌن َع َل ْينَا َبالِغ ٌَة إِ َ ىىل َي ْو ِم ا ْل ِق َيا َم ِة إِ َّن َلك ُْم ملَا َ ْحتك ُُم َ
ون * َس ْل ُه ْم َأ ه ُُّيم بِ َىذل َك َزع ٌ
يم َخت َّ ُ
َري َ
ني﴾». اد ِق َ* َأم َهلم ُرشكَاء َف ْلي ْأتُوا بِ ُرشكَائِ ِهم إِن كَانُوا ص ِ
َ ْ َ ْ ُْ َ ُ َ
منصب إهلي،
ٌ فاملستفاد من احلديث الرشيف – عرب الفقرات الثالث َّ -
أن منصب اإلمامة
يغريوا منها شي ًئا ،ولذلك ملَّا غُ ِص َبت اخلالفة من
ال يتم إال باختيار اهلل ،والناس ال يمكن أن ّ
وأيضا ملَّا صالح اإلمام
أمري املؤمنني ،وبايع الناس سواه ،مل تسقط إمامة أمري املؤمنني ً ،
احلسن معاوية مل يكن معاوية إما ًما ومل تسلب اإلمامة من اإلمام احلسن ،وهذا هو
بتغري االعتبارات ،بل هي ٌ
ثابتة ما دام جعل اهلل ثابتًا هلا. معنى َّ
أن املناصب اإلهلية ال تتغري ّ
77 البحث الخامس :اإلمامة اإللهية منصب إلهي
اعرتاضا عا ًما للقوم عىل كون اإلمامة منص ًبا إهل ًيا،
ً ويف هذه اجلهة من البحث سنورد
واستدالهلم عىل ذلك بجملة من اآليات الرشيفة ،ثم نورد ما عندنا من مالحظات ،ومن
خالهلا يتبني الدليل عىل كون اإلمامة منص ًبا إهل ًيا ال دخل للبرش يف جعله.
ض إِ ِّين ح ِف ٌ ِ
اج َع ْلنِي َع َىل َخ َزائِ ِن ْاألَ ْر ِ
يم﴾ ( ،)2وتقريب
يظ َعل ٌ َ ب -اآلية الثانيةَ ﴿ :ق َال ْ
مدعاهم :إن نبي اهلل يوسف قد طلب من امللك أن جيعله عىل خزائن األرض وأن يكون
صح له أن يطلبه من امللك ،بل كان عليه أن يطلبه من
وزيرا ،ولو كانت الوزارة منص ًبا إهل ًيا ملا َّ
ً
اهلل ؛ إذ هو اجلاعل ال غري ،وعليه فطلبه من ملك زمانه دليل عىل أهنا ليست منص ًبا إهل ًيا،
وإنام هي منصب وضعي برشي خيتاره امللك أو الناس أو يتم عن طريق عملية االنتخاب
والشورى ،فد ّلت هذه اآلية عىل بطالن معتقد الشيعة ً
أيضا.
وأنت ترى أن الشبهات الثالث تنصب يف جهة واحدة ،وهي النقض عىل ما يذهب إليه
اإلمامية من كون اإلمامة منص ًبا إهل ًيا ،متسكًا منهم بنسبة اهلل جعل اإلمامة إىل نفسه.
وحاصلهَّ :
أن اآليات الثالث بتاممها ال تدل عىل ما يدعيه القوم ،وعقيدة اإلمامة عند
الشيعة حمفوظة غري منقوضة ،وتوضيح ذلك من خالل مطلبني:
أ /املقدمة األوىل :استخدام القرآن ملفردة اجلعل ،حيث يمكن استفادة أمرين من خالل
النظر يف آيات القرآن التي حتدثت عن جعل اإلمامة:
أن القرآن الكريم قد استخدم يف مجيعها مفردة اجلعل، فعندما نأيت إىل آيات اإلمامة نجد َّ
اهيم ربه بِكَلِام ٍ
ِ ِ
ت َف َأ َمت َّ ُه َّن َق َال كاآلية التي حتدثت عن إمامة نبي اهلل إبراهيم َ ﴿ :وإِذ ا ْبت ََىل إِ ْب َر َ َ ه ُ َ
أن من ني﴾ ( ،)1وذلك يعني َّ َّاس إِ َما ًما َق َال َو ِم ْن ُذ ِّر َّيتِي َق َال َال َين َُال َع ْه ِدي ال َّظامل ِ َ
اع ُل َك لِلن ِ
إِ ِّين ج ِ
َ
ينصب اإلمام للناس هو اهلل ال غري؛ إذ املالحظ َّ
أن كل آية تعرضت لإلمامة قد نسبت اجلعل
هلل .
وبيانهَّ :
أن معنى اجلعل يف املعاجم اللغوية املعتربة هو اإلحداث والتصيري ،فقد جاء يف
لسان العرب البن منظور« :ويقال :جعلته أحذق الناس بعمله أي صريته .وقوله تعاىل:
وجعلنا من املاء كل يشء حي ،أي خلقنا .وإذا قال املخلوق جعلت هذا الباب من شجرة كذا
فمعناه صنعته .وقوله :فجعلهم كعصف مأكول؛ أي صريهم» (.)2
وكذلك يف هتذيب اللغة لألزهري« :جعل :أبو العباس عن ابن األعرايب قال :جعل:
صري .وجعل :أقبل .وجعل :خلق .وجعل :قال ،ومنه قوله﴿ :إِنَّا َج َع ْلنَا ُه ُق ْرآنًا َع َربِ ًّيا﴾ أي
قلناه .وقال غريه :صريناه .ويقال جعل فالن يصنع كذا وكذا ،كقولك طفق وعلق يفعل كذا
وكذا .ويقال جعلته أحذق الناس بعمله ،أي صريته .وقول اهلل ِ ﴿ :س ِّج ٍ
يل * َف َج َع َل ُه ْم
وتارة أخرى يكون اإلحداث والتصيري يف عامل الترشيع والقوانني واللوائح الدستورية،
ين ِم ْن َح َر ٍج﴾ ( ،)4بمعنى َّ
أن اهلل ينفي جعل احلرج كام يف قول اهلل َ ﴿:و َما َج َع َل َع َل ْيك ُْم ِيف الدِّ ِ
ضمن قوانينه ولوائحه الترشيعية ،فال يوجد ترشيع من ترشيعاته يوجب احلرج عىل
املكلفني ،وكام ترى فإن هذا اإلحداث والتصيري الذي نفاه اهلل تعاىل يرجع إىل عامل الترشيع،
يعرب عنه باجلعل الترشيعي.
وهو ما ّ
وعىل كال التعريفني اللذين نقلهام اإلجيي – أي :الرئاسة العامة ،وخالفة الرسول -
تكون اإلمامة منص ًبا من املناصب ،فال شك يف كون اخلالفة والرياسة منص ًبا من املناصب املهمة
بعد منصب النبوة والرسالة ،وعليه فاخلالف بني املسلمني إنام هو يف تصنيف املنصب ضمن
املناصب اإلهلية الترشيعية أو املناصب البرشية الوضعية ،وإال َّ
فإن أصل كوهنا منص ًبا مما مل
خيتلف فيه اثنان.
فنجد أن مجيع هذه اآليات الرشيفة تشرتك يف استخدامها لكلمة (اجلعل) يف اإلمامة
مر بنا يف املقدمات الثالث اتفاق املسلمني عىل َّ
أن اإلمامة منصب من املناصب، واخلالفة ،ولقد َّ
أن معنى اجلعل يف اللغة هو اإلحداث والتصيريَّ ،
وأن إسناد الفعل إىل الفاعل يدل مر علينا َّ
كام َّ
نسب عىل صدوره منه ،ومقتىض ذلك أن يلتزمَّ :
بأن القرآن الكريم يف اآليات املذكورة بعد أن َ
جعل اإلمامة إىل اهلل تعاىل يعني كونه هو اجلاعل واملحدث ،بمقتىض ما تقدم من َّ
أن إسناد الفعل
ثبت َّ
أن منصب اإلمامة جمعول باجلعل اإلهلي، إىل الفاعل دليل عىل صدور الفعل منه ،وبذلك َ
وليس للناس اختيار فيه ،وهذا يعني كونه من املناصب اإلهلية ال الوضعية.
ومفادهاَّ :
إن كل آية أو رواية يؤخذ بظهورها إال إذا قامت قرينة رشعية أو عقلية قطعية
متنع من األخذ بالظهور ،فحينئذ تُرفع اليد عن ظهور اآلية ،وتُؤول ً
طبقا ملعنى آخر حيتمله
اللفظ.
مثاال ،وهو قوله تعاىلَ ﴿ :يدُ اهللَِّ َف ْو َق َأ ْي ِدُّيِ ْم﴾ (َّ ،)1
فإن هلذه اآلية ولتقريب املطلب نذكر ً
ظهورا يف َّ
أن هلل تعاىل يدً ا كام أن لإلنسان يدً ا ،غري أنّه ال يمكن األخذ هبذا الظهور ،بل ً الرشيفة
جيب رفع اليد عنه ،وذلك لوجود مانع يمنع من األخذ به ،وهو القرينة القطعية عىل تنزيه اهلل
نظرا لقيام األدلة القطعية الرشعية والعقلية -املذكوره يف حملها -عىل تنزُّيه
عن اجلسمية؛ ً
عن اجلسمية ،إذ ّ
أن جسميته تلزم منها لوازم باطلة تدل عىل بطالن ملزومها.
ومنها :احتياجه إىل ما ُركّب منه من أعضاء؛ إذ وجود كل مركب يتوقف عىل وجود
فقري حيتاج إىل غريه ،واملحتاج إىل غريه ال يمكن أن أجزائه ،ومن الظاهر َّ
أن املحتاج إىل أجزائه ٌ
يكون واجب الوجود بالذات.
وهذه الضابطة تنطبق عىل بعض اآليات التي استدلوا هبا عىل نقض عقيدة الشيعة يف
اإلمامة ،كام سيأيت إيضاحه.
األمر األول :اختالف املقام ،وبيانه :إن اآليات التي استدللنا هبا عىل جعل اإلمامة قد
ٍ
منصب من املناصب باتفاق املسلمني ،بينام عبادة الطاغوت ليست منص ًبا من حتدثت عن
أن اإلمامة من املناصب واهلل قد نسبها إىل نفسه فقد َّ
دل ذلك عىل كوهنا منص ًبا املناصب ،وبام َّ
إهل ًيا.
األمر الثاين :وجود املانع العقَل من األخذ بظاهر هذه اآلية ،وهو َّ
أن اهلل ال خيلق إال
ً
مطلقا ،ولذلك نجد يف كلامت بعض املفرسين اخلري والكامل ،وال يصدر من جهته رش
هلل
–كالزخمرشي– حماولة ملعاجلة هذه اإلشكالية ،حيث يقول« :فإن قلت :كيف جاز أن جيعل ا َّ
منهم عباد الطاغوت؟ قلت :فيه وجهان ،أحدمها :أنه خذهلم حتى عبدوه .والثاين :أنه حكم
الر ْمح ِن إِنا ًثا﴾» (.)1 ِ عليهم بذلك ووصفهم به ،كقوله تعاىل﴿ :وجع ُلوا املَْالئِ َ ِ
كَة ا َّلذ َ
ين ُه ْم عبا ُد َّ َ َ َ
وما هذه املحاولة من الزخمرشي إال ألجل التخلص من املحذور املذكور ،وسيأيت مزيد
توضيح ملعاجلة إشكالية هذه اآلية من خالل معاجلة اإلشكالية الثالثة.
ض إِ ِّين ح ِف ٌ ِ
اج َع ْلنِي َع َىل َخ َزائِ ِن ْاألَ ْر ِ
يم﴾ ( ،)2فإهنا ال ربط
يظ َعل ٌ َ وأما اآلية الثانيةَ ﴿ :ق َال ْ
ً
متعلقا باإلمامة ،وإنام طلب نبي اهلل يوسف هلا بام نحن فيهَّ ،
ألن ما طلبه يوسف مل يكن
من ملك زمانه أن يكون أمينًا عىل مستودعات وخزائن الدولة ،باعتبار أن الدولة
ستتعرض إىل أزمات يف القحط وسنوات من الشدة ،وخزائن الدولة حتتاج إىل من يديرها
ويرعى شؤوهنا ،بحيث تكفي الناس يف سنوات القحط والشدة.
واخلالصةَّ :
فإن نبي اهلل يوسف مل يطلب منص ًبا إهليًا من ملك زمانه ،وإنام طلب
منص ًبا وضع ًيا برش ًيا ،وهو األمانة عىل مستودعات الدولة ،واملنصب الوضعي يطلب من أمثال
ٌ
أجنبية عام نعتقده نحن الشيعة. أيضا
هؤالء ،فهذه اآلية ً
اع ُل َك لِلن ِ
َّاس إِ َما ًما﴾ يعني يف اخلري ،وقد /1قال السمعاين« :وقوله تعاىلَ ﴿ :ق َال إِ ِّين ج ِ
َ
َّار﴾»(.)1 َاه ْم َأئِ َّم ًة َيدْ ُع َ
ون إِ َىل الن ِ يكون اإلمام يف الرش عىل طريق املجاز ،كام قال تعاىلَ ﴿ :و َج َع ْلن ُ
شطرا من كلامهتم:
ب -وأما مفرسو اخلاصة ،فإليك ا
/1قال شيخ الطائفة « :أخرب اهلل تعاىل إنّه جعل فرعون وقومه ﴿ َأئِ َّم ًة َيدْ ُع َ
ون إِ َىل
عرفنا الناس أهنم كانوا كذلك ،كام يقال :جعله رجل َّار﴾ ،وقيل يف معناه قوالن :أحدمها :إنَّا ّ الن ِ
رش بتعريفه حاله .والثاين :إنَّا حكمنا عليهم بذلك ،كام قالَ ﴿ :ما َج َع َل اهللَُّ ِم ْن َب ِح َري ٍة َوال
اجل َّن﴾ ،وإنام قال ذلك ،وأراد أهنم حكموا بذلك، َسائِ َب ٍة﴾ ،وكام قالَ ﴿ :و َج َع ُلوا هللَِّ ُرشكَا َء ِْ
َ
وسموه» (.)1
فاحلاصلَّ :
أن املراد من اآلية الرشيفة ليس هو معناها احلقيقي الظاهرة فيه ،وإنام معناها
املجازي ،وهو تعريفهم عند الناس بالعنوان املذكور ،أو هو جعل التسمية هلم ،فيكون معنى
اسام ،وهو إمامة أهل النار،
َّار﴾ أي أحدثنا هلم ً َاه ْم َأئِ َّم ًة َيدْ ُع َ
ون إِ َىل الن ِ اآلية الكريمةَ ﴿ :و َج َع ْلن ُ
وليس املراد أن اهلل نصبهم إلضالل الناس.
َدخل و َدفع:
إن هذا املعنى -وهو جعل التسمية -ليس ببعيد عن ظاهر اآلية املباركة؛ لوجود قلناَّ :
مح ِن إِنَا ًثا﴾ ( ،)1فإنّه ِ ِ ِ
الر ْ َ نظائر له يف القرآن الكريم ،كقوله َ ﴿ :و َج َع ُلوا املَْ َالئك ََة ا َّلذ َ
ين ُه ْم ع َبا ُد َّ
عمن جعلوا املالئكة إنا ًثا أهنم ّ
صوروا املالئكة وأحدثوهم عىل هيئة اإلناث ال يقصد يف حديثه ّ
أو جعلوهم بجنس اإلناث ،والنكتة يف ذلك واضحة؛ إذ َّ
أن املالئكة موجودات خلقها اهلل
يغري تلك اهليئة التي خلقها اهلل . ٍ
عىل هيئة معينة ،وال يمكن ألحد أن ّ
فليس املراد من اجلعل يف اآلية إال جعل التسمية ،أي أهنم أطلقوا لفظ اإلناث عىل
املالئكة ،واعتربوهم كذلك ،وبام َّ
أن القرآن قد استخدم جعل التسمية يف آياته ،فيكون تطبيقه
َّار﴾ غري ٍ َاه ْم َأئِ َّم ًة َيدْ ُع َ
ون إِ َىل الن ِ
بعيد ،إذ أنه ال يمكن تصور اجلعل احلقيقي يف عىل آية ﴿ َو َج َع ْلن ُ
تؤول عىل ما أشار إليه القرآن يف آية أخرى،
اآلية املباركة للمحذور املتقدم ،وبالتايل فال بدَّ أن ّ
عرب عنهم لشدة ضالهلم وإضالهلم بأهنم أئمة أهل النار،
وهو جعل التسمية ،بمعنى أن اهلل ّ
وعىل ذلك َّ
فإن هذه اآلية املباركة ال تنقض ما يدّ عيه اإلمامية (أنار اهلل برهاهنم).
نؤول آيات اإلمامة – ونحملها عىل جعل التسمية – كام ّأولنا هذه اآلية؟ ِ
فإن قيل :ومل ال ّ
تم بيانه من إن القاعدة التي طبقت يف هذا املورد ال تنطبق عىل آيات اإلمامةَّ ،
ألن ما َّ قلناَّ :
ضابطة التأويل -وهو محل اآلية عىل غري ظاهرها عند وجود مانع يمنع من األخذ به – ال
ينطبق عىل اآليات التي تتحدث عن اإلمامة؛ إذ ال توجد قرينة متنع من األخذ بظاهرها ،فيجب
ٍ
ألحد أن يشاركه يف محلها عىل ظاهرها ،وهو أن اهلل تعاىل قد جعل اإلمامة بنفسه ،وال حيق
جعلها ،بينام آية جعل اإلمامة للداعني إىل النار ليست كذلك.
91 البحث الخامس :اإلمامة اإللهية منصب إلهي
أيضاَ ﴿ :و َش ِ
او ْر ُه ْم استدل لذلك بقوله تعاىلَ ﴿ :و َأ ْم ُر ُه ْم ُش َ
ورى َب ْين َُه ْم﴾ ( ،)1وقوله ً ّ وقد
فإن هاتني اآليتني دالتان عىل أن النظام اإلسالمي ِيف ْاألَ ْم ِر َفإِ َذا َع َز ْم َت َفت ََوك َّْل َع َىل اهللَِّ﴾ (َّ ،)2
لإلمامة واخلالفة هو نظام الشورى ،وأمرها موكول للناس ،وهذا يعني َّ
أن اإلمامة من املناصب
الوضعية البرشية ال اإلهلية.
َّاس إِ َما ًما َق َال َو ِم ْن ُذ ِّر َّيتِي َق َال َال َين َُال َع ْه ِدي
اع ُل َك لِلن ِ
أ /اآلية األوىلَ ﴿ :ق َال إِ ِّين ج ِ
َ
ال َّظامل ِ َ
ني﴾ ،فإهنا رصحية يف َّ
أن جعل اإلمامة يعود إىل اهلل ،وذلك إلضافة اجلعل إليه تعاىل
ذكره ،فهو الذي جيعل اإلمامة فيمن يريد ،ومن طريق إضافة اجلعل إىل اهلل نعلم َّ
بأن مبدأ
نظام اإلمامة هو النص وليس الشورى.
واحلاصلَّ :
فإن القرآن يف جمموع آياته عندما حتدّ ث عن جعل اإلمامة واخلالفة يف آياته
فإنّه قد أضاف اجلعل إىل اهلل ،وهذا تأكيدٌ عىل َّ
أن مبدأ نظام اإلمامة واحلكومة هو مبدأ النص
من ِق َب ِل اهلل تعاىل ،وليس هو مبدأ الشورى.
فإهنا قد قالت :أمرهم ،أيّ :أهنا أضافت أ /أما اآلية األوىلَ ﴿ :و َأ ْم ُر ُه ْم ُش َ
ورى َب ْين َُه ْم﴾ّ ،
األمر للناس ،فيكون هلا ظهور يف َّ
أن ما كان من أمور الناس فهو شورى بينهم ،وبالتايل فهي
أجنبية عن املدعى؛ إذ غاية ما تدل عليه اآلية هو أن الشورى تكون فيام يعود ألمور الناس،
ً
مشموال لآلية ،ومن الواضح أن اإلمامة – كام هو رصيح وأ َّما ما ليس من أمورهم فليس
اآليات السابقة – ليست من أمورهم ،وإنَّام هي من أمور اهلل تعاىل.
والنتيجةَّ :
إن والية املتصدين لألمر قبل أمري املؤمنني كانت والية رشعية ،وبذلك
نصا من اهلل ملا يبطل ما يقوله الشيعة :من َّ
أن اإلمامة نص إهلي نبوي؛ إذ لو كانت اإلمامة ً
صح لإلمام أن يبايع أحدً ا.
ّ
األول :املبايِع ،وهو الذي يبذل إمكاناته بني يدي من يبايعه ،بحيث يكون رهن إشارته.
خمترصا بأهنا( :املعاهدة عىل الطاعة) ،فحني يقال :فالن بايع فالنًا ،فهذا
ا وتُعرف البيعة
يعني أنه عاهده عىل طاعته وامتثال أوامره ،وعدم خمالفته يف يشء مما يطلب منه.
وهذه هي اجلهة التي أراد املخالف أن يبني عليها االستدالل ،وهيَّ :
أن البيعة طريق
أن كلمة الناس إذا اجتمعت عىل مبايعة شخصَّ ،
فإن ذلك الشخص لثبوت الوالية ،بمعنى َّ
يكون ول ًيا عليهم ،وقد است ُِدل عىل ذلك بثالثة أنواع من األدلة:
ب /النوع الثاين :الروايات الواردة عن أهل البيت ،فإهنا تدل عىل َّ
أن البيعة طريق
رشعي لثبوت الوالية ،من قبيل ما ورد عن أمري املؤمنني « :أُّيا الناس ،إنكم بايعتموين
عىل ما بويع عليه َمن كان قبَل ،وإنام اخليار للناس قبل أن يبايعوا ،فإذا بايعوا فال خيار هلم» (،)1
وذم من ختلف عنها ،وليس ذلك ووجه داللتهاَّ :
أن أمري املؤمنني قد احتج بمسألة البيعة ّ
إال ألنه يراها ً
طريقا لثبوت واليته.
وال بدَّ هاهنا من عرض األخبار الواردة يف بيعة أمري املؤمنني لغريه ،لنرى هل تُثبت
أنه بايع غريه أم ال؟ وهذا يستدعي عقد البحث يف مقامني:
الطائفة األوىل :األخبار التي تنتهي إىل أيب سعيد اخلدري ،ويروُّيا البيهقي يف سننه (،)1
واحلاكم يف مستدركه ( ،)2وهي رصحية يف َّ
أن أمري املؤمنني قد بايع بعد وفاة رسول اهلل
فلام قعد أبو بكر عىل
بشكل مبارش ،فعن أيب سعيد اخلدري –واللفظ لسنن البيهقيَّ « :-
املنرب ،ن َظر يف وجوه القوم ،فلم ير عل ًيا فسأل عنه فقام ناس من األنصار فأتوا به ،فقال أبو
تشق عصا املسلمني؟
أردت أن َّ
َ بكر :ابن عم رسول اهلل صىل اهلل عليه [وآله] وسلم وختنه
فقال :ال تثريب يا خليفة رسول اهلل ،فبايعه» (.)3
الطائفة الثانية :ما ينتهي إىل عائشة بنت أيب بكر ،ويروُّيا الشيخان يف صحيحيهام،
ومؤداها َّ
أن أمري املؤمنني مل يبايع بعد وفاة رسول اهلل مبارشة ،وإنام بايع بعد ستة أشهر حني
توفيت الصديقة الزهراء ،فعن البخاري يف صحيحه قال« :وكان لعَل من الناس وجه حياة
عَل وجوه الناس ،فالتمس مصاحلة أيب بكر ومبايعته ،ومل يكن يبايع
فلام توفيت استنكر ٌ
فاطمةَّ ،
تلك األشهر» (.)1
والتحقيق أن يقال:
إن هاتني الطائفتني متعارضتان إىل حدِّ التكاذب ،كام هو واضح؛ إذ َّ
أن األوىل تنص ا
أوالَّ :
عىل أن أمري املؤمنني قد بايع بعد وفاة رسول اهلل مبارشة ،بينام الثانية تنص عىل َّ
أن أمري
املؤمنني مل يبايع إال بعد وفاة رسول اهلل بستة أشهر ،ومقتىض هذا التعارض تساقط
الروايات الواردة يف هذا الشأن.
وثان ايا :هب أنه يمكن اجلمع بينهام ،وأهنام م ًعا تفضيان للقول َّ
بأن أمري املؤمنني قد
رشعا ،وذلك باعتبار َّ
أن البيعة بايع أبا بكر ،إال أن هذا ال يفيد َّ
أن البيعة طريق لثبوت الوالية ً
التي تفيد الوالية الرشعية -بنا ًء عىل متامية الكربى -إنام هي البيعة االختيارية ،وأما البيعة
اإلكراهية فليست كذلك ،وحاهلا يف هذا حال املعامالتَّ ،
فإن املعامالت إنام تتم برتايض
مكرها أو تزوج
ً مكرها أو طلق
ً مكرها -كام لو باع
ً الطرفني ،وأما لو كان أحد األطراف
مكرهاَّ -
فإن املعاملة تكون حمكومة بالبطالن ،وال أثر هلا ،والبيعة من سنخ املعاملة فال تتم إال ً
بالرضا.
القرينة الثانية :قول املتصدي للخالفة« :أتريد أن تشق عصا املسلمني؟!» ،وهذا التعبري
يدل عىل أن موقف أمري املؤمنني كان موقف املعارض وغري الرايض ،بل َّ
إن هذا النوع من
التعبري -ويف هذا السياق -دال عىل نوع من اإلنكار واحلدّ ة.
فتحصل َّ
أن البيعة قد متّت حتت اإلكراه ،وبالتايل فهي ال تدل عىل ثبوت الوالية ألولئك. ّ
وحمصل ما تقدم :أن الروايات الواردة عند أهل اخلالف روايات دالة عىل أن البيعة إنام
وقعت منه حتت اإلكراه والضغط ،فال تدل عىل رشعية خالفة مناوئيه.
ً
الحقا ،وللعلامء إزاءها رأيان: والروايات يف هذا املقام عديدة ،وسنشري إىل بعضها
99 البحث الخامس :اإلمامة اإللهية منصب إلهي
الرأي األول :ما ذهب إليه الشيخ املفيد يف (الفصول املختارة) ونسبه إىل املحققني من
علامء اإلمامية ،وهو َّ
أن أمري املؤمنني مل يبايع أحدً ا قط ،حيث قال « :واملحققون من أهل
اإلمامة يقولون :مل يبايع ساعة قط» (.)1
الرأي الثاين :ما ذهب إليه الرشيف املرتىض يف كتابه (الشايف يف اإلمامة) وهوَّ :
أن
مكرها بأشد أنواع اإلكراه ،وساق عىل ذلك مجلة من الروايات الواردة يف
ً عل ًّيا قد بايع
كتب الفريقني ،قال « :وكيف يشكل عىل م ِ
نصف َّ
أن بيعة أمري املؤمنني مل تكن عن ُ
رضا ،واألخبار متظاهرة بني كل من روى السري بام يقتيض ذلك ،حتى َّ
أن َمن تأمل ما روي يف
أدلة األصالة:
ويدل عىل أصالة منصب اإلمامة – باملعنى املذكور – عدة أدلة ،نكتفي بعرض دليلني
منها فقط:
َّاس إِ َما ًما َق َال َو ِم ْن ُذ ِّر َّيتِي َق َال َال َين َُال َع ْه ِدي
اع ُل َك لِلن ِ
الدليل األول :قوله تعاىل﴿ :إِ ِّين ج ِ
َ
ال َّظامل ِ َ
ني﴾ ( ،)2وتقريب االستدالل به يتو ّقف عىل ذكر مقدمتني:
إن نبي اهلل إبراهيم كان من أويل العزم من الرسل ،ومن الواضح ّ
أن هؤالء األوىلّ :
ُيناب عنهم وال ينوبون عن أحد ،فإعطاء اإلمامة له يعني كوهنا من املناصب األصل ّية ال النيابية.
( )1مقتبس من كتاب سامحته (روايات لعب اإلمامني احلسنني يف امليزان :ص.)164 - 161
( )2سورة البقرة.124 :
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 102
إن هذا املنصب األصيل الذي أعطي إلبراهيم أعطي نفسه لسادات اخللق الثانيةّ :
أن ذيل اآلية الرشيفةَ ﴿ :ق َال َو ِم ْن ُذ ِّر َّيتِي َق َال َال َين َُال َع ْه ِدي ال َّظامل ِ َ
ني﴾ حممد وآل حممد ؛ إذ ّ
رصيح يف إعطاء منصب اإلمامة نفسه لغري الظاملني من ذرية إبراهيم ،كام َّ
أن قوله :
﴿ َو َج َع َل َها كَلِ َم ًة َب ِاق َي ًة ِيف َع ِقبِ ِه﴾ ( )1بضميمة ما ورد يف تفسريه من النصوص ،هو اآلخر يدل
عىل ذلك.
والنصوص الواردة يف تفسري هذه اآلية الرشيفة كثرية جدً ا ،بعضها وارد عن طريقنا
أحب اال ّطالع عليها فلريجع وبعضها عن طريق غرينا ،مما ال يدع ً
جماال للشك يف صحتها ،ومن ّ
إىل جماميع التفسري الروائية ،كتفسريي الربهان ونور الثقلني (.)2
تيمنًا بنقل أحدها ،وهو ما رود عن أمري املؤمنني ،قال« :فأنا من رسول اهلل
وال بأس ّ
بمنزلة هارون من موسى إال النبوة ،والعلم يف عقبنا إىل أن تقوم الساعة .ثم قرأَ ﴿ :و َج َع َل َها
كَلِ َم ًة َب ِاق َي ًة ِيف َع ِقبِ ِه﴾ ثم قال :كان رسول اهلل عقب إبراهيم ،ونحن أهل البيت عقب إبراهيم،
وعقب حممد .)3( »
الدليل الثاين :ما رواه ثقة اإلسالم الكليني يف كتابه (الكايف) ً
قائال« :عدة من
أصحابنا ،عن أمحد بن حممد بن عيسى ،عن ابن حمبوب ،عن هشام بن سامل ،عن يزيد الكنايس،
قال :سألت أبا جعفر أكان عيسى ابن مريم حني تكلم يف املهد حجة هلل عىل أهل
زمانه؟
فقال :كان يومئذ نب ًيا حجة هلل غري مرسل ،أما تسمع لقوله حني قالَ ﴿ :ق َال إِ ِّين َع ْبدُ اهللَِّ
الزك ِ الص َال ِة َو َّ َاب َو َج َع َلنِي نَبِ ًّيا * َو َج َع َلنِي ُم َب َاركًا َأ ْي َن َما ك ُ آت ِ ِ
َاة َما ُد ْم ُت ُنت َو َأ ْو َص ِاين بِ َّ َاين ا ْلكت َ
َ
َح ًّيا﴾.
قلت :فكان يومئذ حجة هلل عىل زكريا يف تلك احلال وهو يف املهد؟
فقال :كان عيسى يف تلك احلال آية للناس ورمحة من اهلل ملريم حني تكلم ،فعرب عنها،
وكان نب ًيا حجة عىل من سمع كالمه يف تلك احلال ،ثم صمت فلم يتكلم حتى مضت له سنتان،
وكان زكريا احلجة هلل عىل الناس بعد صمت عيسى بسنتني ،ثم مات زكريا فورثه ابنه حييى
َاب بِ ُق َّو ٍة َوآ َت ْينَا ُه ِ ِ
حي َي ىى ُخذ ا ْلكت َ
الكتاب واحلكمة وهو صبي صغري ،أما تسمع لقوله َ ﴿ :يا َ ْ
احلك َْم َصبِ ًّيا﴾.
ُْ
فلام بلغ عيسى سبع سنني تكلم بالنبوة والرسالة حني أوحى اهلل تعاىل إليه ،فكان
َّ
عيسى احلجة عىل حييى وعىل الناس أمجعني ،وليس تبقى األرض يا أبا خالد يو ًما واحدً ا بغري
حجة هلل عىل الناس منذ يوم خلق اهلل آدم وأسكنه األرض.
فقلت :جعلت فداك ،أكان عَل حجة من اهلل ورسوله عىل هذه األمة يف حياة رسول
اهلل ؟
فقال :نعم ولكنه صمت فلم يتكلم مع رسول اهلل ،وكانت الطاعة لرسول اهلل
عىل أمته وعىل عَل يف حياة رسول اهلل ،وكانت الطاعة من اهلل ومن رسوله عىل الناس
حكيام عاملًا» (.)1
ً كلهم لعَل بعد وفاة رسول اهلل ،وكان عَل
وداللة هذه الرواية الرشيفة عىل املدّ عى يف غاية الوضوح ،فال حاجة لتقريب داللتها عىل
املدّ عى بأكثر مما هي ظاهرة فيه.
« وقد ذهب قوم من أصحابنا اإلمامية إىل أن اإلمامة كانت لرسول اهلل ،وأمري املؤمنني
،واحلسن واحلسني يف وقت واحد ،إال َّ
أن النطق واألمر والتدبري كان للنبي مدة
حياته دوهنم ،وكذلك كان األمر والتدبري ألمري املؤمنني دون احلسن واحلسني ،وجعل
اإلمام يف وقت صاحبه صامتًا وجعل األول ً
ناطقا» (.)2
( )1الكايف :كتاب احلجة ،باب حاالت األئمة يف الست ،احلديث رقم ،1والرواية من حيث السند يف غاية االعتبار ،بل هي من
قسم الصحيح األعالئي ،كام يقولون.
( )2تصحيح اعتقادات اإلمامية :ص.130
البحث السابع :اإلمامة اإلهلية أص ٌل من أصول الدين
إن املنظومة العقائدية الشيعية تشتمل عىل عناوين خمتلفة :كاألصل واملس ّلم،
وحاصلهَّ :
ً
مفصال يف بعض كتبنا (،)1 والرضوري وغري الرضوري ،وقد بحثنا الفرق بني هذه العناوين
ولكننا نكتفي هاهنا ببيان ما يرتبط بمحل بحثنا ،وهو الفرق بني األصل والرضوري ،فنقول:
األول :أصول الدين ،وهي :املسائل التي ال يتحقق االنتامء إىل الدين إال باالعتقاد هبا.
الثاين :أصول املذهب ،وهي املسائل التي ال يتحقق االنتامء إىل املذهب إال باالعتقاد هبا.
كل ما له دخل يف حتقق اإلسالم الظاهري فهو من أصول الدين، إن َّ
وبتعبري آخرَّ :
وكل ما له دخل ٍ
خالف يف املعاد اجلسامين َّ ،- وينحْص ذلك يف التوحيد والنبوة واملعاد -عىل
يف حتقق اإلسالم الواقعي –املتّحد مع املذهب احلق -دون الظاهري فهو من أصول املذهب،
ً
مستقال ،وإن اشتهر ذلك يف وهو منحْص يف اإلمامة ،وأما العدل فالصحيح عدم كونه ً
أصال
األلسنة.
( )1املهدوية اخلامتة لسامحة العالمة السيد ضياء اخلباز (حفظه اهلل) :ج ،2ص.104 - 103
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 106
أن إنكار األصل –دين ًيا كان أو مذهب ًيا-ويرتتب عىل هذا الفارق الدقيق أمر مهم ،وهوَّ :
خرج ٍ ولو لشبهة يوجب خروج صاحبه من دائرته ،فإن أنكر ً
أصال من أصول الدين ولو لشبهة َ
خرج من املذهب. ٍ من الدين ،وإن أنكر ً
أصال من أصول املذهب ولو لشبهة َ
أيضا:
وأما الرضوري ،فهو عىل قسمني ً
األول :رضوري الدين ،من قبيل االعتقاد بوجود اجلنة والنار ،والثواب والعقاب،
واحلساب.
واجلامع املشرتك بينهام :بلوغ القضية حدًّ ا من الوضوح يف ذهن مجيع املنتمني إىل الدين أو
املذهب ،صغارهم وكبارهم ،باختالف مراتبهم وأجناسهم ومستوياهتم العلمية أو العمرية،
من غري حاجة إىل إقامة الدليل عىل هذه القضية.
وأما منكر (الرضوري) دين ًيا كان أو مذهب ًيا فال خيرج عنهام إال برشوط ثالثة:
• األول :العلم برضوريته ،فال يشمل احلكم من أسلم أو تشيع حدي ًثا ،أو كان
يعيش يف املناطق النائية ً
مثال.
107 البحث السابع :اإلمامة اإللهية أصل من أصول الدين
شخصا ينتمي إىل مذهب أهل البيت قد أنكر مسألة من املسائل أن ِ
وعليه ،فلو َّ
ً
ٍ
لشبهة ،-مع االلتفات إىل املالزمة بني إنكاره وتكذيب من الرضورية كعدد األئمة - ال
ثبتت عنده عصمتهم والذين يكون تكذيبهم تكذي ًبا للرشيعة املقدّ سة – باألدلة القاطعة َّ ،-
فإن
هذا الشخص ُحيكم عليه باخلروج عن املذهب ،بل عن الدين.
الرأي األول :إن اإلمامة من أصول الدين حدو ًثا –أي :يف عْص الترشيع النبوي -وبقا ًء
– أي :ما بعد هذا العْص ،-وبنا ًء عىل هذا الرأي َّ
فإن املسلمني مطالبون منذ زمن النبوة
ليتم إسالمهم ،وهذا الرأي ظاهر كلامت مجهور املتقدمني من علامئنا كالسيد
باالعتقاد باإلمامة ّ
املرتىض ( )1والشيخ املفيد ( ، )2وأرص عليه املحقق البحراين .)3(
الرأي الثاين :إن اإلمامة من رضوريات الدين حدو ًثا ال بقا ًء ،فمن أنكر اإلمامة يف زمن
خرج منه ،وهو ما خارجا من الدين ،وأما إن أنكرها من غري شبهة ٍ
لشبهة مل يكن النبي
َ ً
ذهب إليه املحقق االسرتآبادي .)1(
منهم :السيد اخلميني يف كتاب الطهارة ،حيث قال« :فاإلمامة من ُأصول املذهب ،ال
الدين» (.)2
ومنهم :السيد األستاذ الروحاين (دام ظله الوارف) يف أجوبة املسائل ،حيث قال« :إذا
كان الدين ُيراد به املذهب احلق فاإلمامة من أصول الدين ،وإن كان املراد منه اإلسالم -الذي
به حتقن الدماء وتُصان األعراض – فهي ليست من أصوله» (.)3
ومنهم :الشيخ التربيزي يف رصاط النجاة ،حيث قال« :وأما بالنسبة لالعتقادات
التي جتب معرفتها عىل كل مكلف عينًا ،واالعتقاد هبا اعتقا ًدا جزم ًيا ،بعضها من أصول الدين،
كالتوحيد والنبوة اخلاصة ،واملعاد اجلسامين ،والقسم اآلخر من االعتقادات من أصول املذهب،
كاالعتقاد باإلمامة لألئمة بعد النبي ،واالعتقاد بالعدل ،فإنه جيب عىل كل مكلف
االعتقاد هبا ،إال أن عدم االعتقاد واملعرفة باألول خيرج الشخص عن اإلسالم ،ويف الثاين ال
خيرجه عن اإلسالم ،وإنام خيرج عن املذهب» (.)4
وغريهم من العلامء.
ونظرا
ً إن الغاية من وراء كل علم ختتلف عن الغاية من وراء العلم اآلخر، األولَّ :
ٍ
مسألة واحدة ،فإ َّن النتيجة التي قد يتوصل فإن ِ
الع ْلمني حتى لو َب َحثا عن الختالف الغايات َّ
تتفق مع نتيجة العلم اآلخر ،بل طبيعة اختالف الغايات إليها أحدُ ِ
الع ْلمني ليس من الالزم أن َ
تقتيض عاد ًة اختالف املنهج والنتائج.
أن األول ما يكون أثره دنيو ًيا ،وهو الذي يتحقق بمجرد التلفظ والفرق بينهامَّ :
بالشهادتني؛ إذ ِبه ُحتقن الدماءُ ،
وحتفظ الفروجُ ،
وحترتم األموال ،بينام الثاين ما يكون أثره
ِّ
وبكل ما جيب أخرو ًيا ،وهو الفوز باجلنة ،وهذا هو الذي يتحقق باإليامن التام باهلل تعاىل
االعتقاد به.
ٍ
شخص واحد ،وقد ينفكان ،فيكون ومن الواضح َّ
أن اإلسالمني قد جيتمعان لدى
مسلام باإلسالم الواقعي ،كام هو احلال عند
ً مسلام باإلسالم الظاهري ،ولكنه ليس
ً الشخص
املنافقني.
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 110
عرفت ما ذكرناه ضمن األمرين املذكورين ،تعرف الوجه يف تعدد اآلراء املتقدمة؛ إذ
َ إذا
عام له ارتباط باجلانب العمَل يف حياة املكلف ،أي :ما يلزم وما َّ
أن الغاية للفقيه إنام هي البحث ّ
ال يلزم؛ ولذا فإنَّه عندما يبحث حول أصول الدين فإنه يبحث عنها ِمن زاوية ما جيب التلفظ
وإظهار االعتقاد به منها وما ال جيب ،فام كان جيب التلفظ به فهو ٌ
أصل من أصول الدين وإال
فال ،وهو هبذه الغاية ال يتجاوز دائرة اإلسالم الظاهري.
فإن الفقيه – ِمن زاويته – إما أن يرى انحصار أصول الدين يف أصلني،
ومن هذا املنطلقَّ :
أصال ثال ًثا وهو املعاد – كام صن َع ذلك
كام هو الرأي الشائع بني الفقهاء ،وإما أن يضم لألصلني ً
املحقق اخلوئي – )1( إذا قام الدليل عنده عىل دخالته يف حتقق اإلسالم الظاهري.
وأما املتكلم فإنه – ِمن زاويته – يرى دائرة األصول أوسع من ذلك؛ إذ هو يبحث عن
ِّ
كل ما تتوقف عىل معرفته النجا ُة يف اآلخرة ،ومتييزه عام ال تتوقف عليه؛ ولذا تراه ال يكتفي
أيضا عىل ٍ
رأي آخر. بذكر التوحيد والنبوة حتى يعطف عليهام املعاد واإلمامة ،و العدل ً
أما الدعوى األوىل :فإن إثباهتا يتوقف عىل إيضاح أمر أساس ،وهو البحث حول العوامل
املوجبة لكون العقيدة الدينية من الرضوريات ،وهي عوامل ثالثة:
العامل الثاين :الكثرة الكمية للدليل الرشعي ،وذلك من خالل تظافر األدلة الرشعية عىل
هذه العقيدة ،بحيث تكون مستفيضة قد تصل إىل حدِّ التواتر ،فتكون هلا قوة إثباتية.
العامل الثالث :ذيوع القضية وانتشارها بني املنتمني للدين أو املنتمني للمذهب ،ولكن
ليس الذيوع السيايس الذي يكون عىل طبق مصالح احلكام ،وإنام الذيوع الطبيعي الذي يكون
بمقتىض وضوح األدلة وتكثرها.
أن اإلمامة قضية أما العامل األول :فقد دلت النصوص الرشيفة كتا ًبا وسنة رصاحة عىل َّ
حمورية ركنية للدين ،ومنها آيات الغدير ،كقوله تعاىل﴿ :ا ْل َي ْو َم َأك َْم ْل ُت َلك ُْم ِدينَك ُْم َو َأ ْمت َ ْم ُت
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 112
اإل ْس َال َم ِدينًا﴾ ( ،)1والتي نزلت عندما نصب النبي عل ًيا َع َل ْيك ُْم نِ ْع َمتِي َو َر ِض ُ
يت َلك ُُم ْ ِ
ول َب ِّل ْغ َما ُأن ِْز َل إِ َل ْي َك ِم ْن َر ِّب َك َوإِ ْن َمل ْ َت ْف َع ْل َف َام َب َّلغ َ
ْت ومنها قوله تعاىلَ ﴿ :يا َأ ه َُّيا َّ
الر ُس ُ
ِ ِ ِر َسا َل َت ُه َواهللَُّ َي ْع ِص ُم َك ِم َن الن ِ
ين﴾ ( ،)2وقد وردت الروايات َّاس إِ َّن اهللََّ َال َ ُّْيدي ا ْل َق ْو َم ا ْلكَاف ِر َ
مستفيضة من طرقنا بأهنا نزلت يف اإلمامة.
أيضا -كان وأما العامل الثالث :وهو الذيوع واالنتشار بني املنتمني للدينَّ ،
فإن هذا – ً
ً
متحققا بالنسبة لإلمامة ،وقد حتقق يف يوم الغدير عندما مجع النبي اآلالف املؤلفة فذاعت قضية
اإلمامة بينهم وانترشت وأصبحت من الواضحات.
قلناَّ :
إن هذا التوجيه ال يقبله عقل وال منطق؛ إذ كيف جيوز يف منطق العقل أن يوقف
حر اهلجري ليقول هلم إين أحب عل ًيا ؟! عىل َّ
أن تقديم النبي النبي آالف املسلمني يف ِّ
لتْصحيه بعبارة «ألست أوىل بكم من أنفسكم» يقطع الطريق عىل كل من يتأول لفظ
(املوىل) بغري األولوية بالنفوس.
أن اإلمامة من رضوريات الدين حدو ًثا ،فمن أنكرها يف عْص الرسالة –ال
ومن هنا ُعلم َّ
ٍ
لشبهة – فهو حمكوم بالكفر.
فإن قيل :إذا كانت القضية رضورية يف عْص الرسالة ،فام هو وجه انقالهبا عن العنوان
املذكور يف العصور املتأخرة؟
قلناَّ :
إن ذلك ممتنع لو ُخ َّل وطبعه ،ولكنه من اإلمكان بمكان فيام لو تبنّت السلطة
اإلعالمية – بمساندة السلطة احلاكمة – حرف مسار األمورَّ ،
فإن ذلك ال يتطلب أكثر من
التعتيم عىل احلقيقة الرضورية ،ومصادرة النصوص الدينية الْصحية الدالة عليها ،وتكميم
األصوات املخالفة للقرار الرسمي ،فليس حيتاج األمر بعد ذلك ألكثر من ٍ
جيل أو جيلني حتى
وتتجرد عام كانت عليه.
ّ تنزع احلقيقة ثوب الرضورة،
أردت تصديق ذلك فهناك أمثلة كثرية يف عامل الرضوريات تؤكد ذلك ،فكم من
َ وإن
الترشيعات التي كانت حليتها من الرضوريات يف العْص النبوي ،قد صارت اآلن عند بعضهم
رضورية احلرمة ،من قبيل زواج املتعة املتفق عىل حليته يف عْص الرسالة ،فإنه ملَّا تبنّت السلطة
احلاكمة بعد ذلك العْص حتريمه ،وجرت بقية املذاهب عىل هذا التحريم حتى يومنا هذا ،مل
تعد حقيقة احللية رضورية لدى سائر املسلمني ،إن مل يكن قد حصل العكس ،كام ال خيفى.
وهذا يف قضية ترشيعية فرعية ،فام بالك بقضية عقدية أصولية هي والسلطة عىل طريف
النقيض؟! ال شك يف أهنا ستكون أدعى للتعتيم واإلقصاء وشتى أساليب املحاربة واإلبادة،
فال عجب يف انسالخها عن عنوان الرضورة.
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 114
بقاء.
الدعوى الثانية :اإلمامة من أصول املذهب ا
وأما الدعوى الثانية :وهي أن اإلمامة من أصول املذهب بقا ًءَّ ،
فإن الدليل عليها يتضح
من خالل الوقوف عىل طائفتني من الروايات:
منها :عن الفضيل بن يسار ،عن أيب جعفر قال« :إن اهلل عز و جل نصب عل ًيا
كافرا ،ومن جهله كان ً
ضاال ،ومن علام بينه وبني خلقه ،فمن عرفه كان مؤمنًا ،ومن أنكره كان ً
ً
نصب معه شي ًئا كان مرشكًا ،ومن جاء بواليته دخل اجلنة» (.)1
ومنها :عن أيب محزة قال :سمعت أبا جعفر يقولَّ « :
إن عل ًيا باب فتحه اهلل ،فمن
كافرا» (.)2
دخله كان مؤمنًا ،ومن خرج منه كان ً
منها :موثقة سامعة ،عن أيب عبد اهلل الصادق أنه قال « :اإلسالم شهادة أن ال إله إال
وعليه جرت املناكح واملواريث ،وعىل ظاهرهِ اهلل ،والتصديق برسوله ِ ،به ُحقنت الدماء،
مجاعة الناس» (.)3
( )1ألجل إيضاح الفكرة املذكورة أعاله ال بدَّ من تسليط الضوء عليها بَشء من التفصيل بمقدار ما يتّسع له املقام ،فنقول :إ َّن الكفر
هو سرت احلق اعتقا ًدا أو لسانًا أو ً
عمال ،وهذا يقتيض بالرضورة أن تكون للكفر مراتب كمراتب اإليامن ،وبالتايل فقد يكون اإلنسان
كافرا بالنسبة إىل مرتبة وهو مؤمن بالنسبة إىل مرتبة أخرى.
ً
ولإلمام الصادق حديث مفصل يكشف القناع عن هذه احلقيقة ،قال فيه« :الكفر يف كتاب اهلل عىل مخسة أوجه:
فمنها كفر اجلحود ،واجلحود عىل وجهني ،والكفر برتك ما أمر اهلل ،وكفر الرباءة ،وكفر النعم .فأما كفر اجلحود فهو اجلحود
﴿و َما
بالربوبية ،وهو قول من يقول :ال رب وال جنة وال نار ،وهو قول صنفني من الزنادقة يقال هلم :الدهرية ،وهم الذين يقولون َ
ُ ُّْيلِ ُكنَا إِال الدَّ ْه ُر﴾ ،وهو دين وضعوه ألنفسهم باالستحسان عىل غري تثبت منهم وال حتقيق لَشء مما يقولون ،قال اهلل ﴿ :إِ ْن ُه ْم
إِال َي ُظنهو َن﴾ أن ذلك كام يقولون ،وقال﴿ :إِ َّن ا َّل ِذي َن َك َف ُروا َس َوا ٌء َع َليْ ِه ْم َأ َأن َْذ ْر َ ُهت ْم َأ ْم َمل ْ تُن ِْذ ْر ُه ْم ال ُيؤْ ِمنُو َن﴾ يعني بتوحيد اهلل تعاىل،
فهذا أحد وجوه الكفر.
﴿و َج َحدُ وا ِ َهبا وأما الوجه اآلخر من اجلحود عىل معرفة ،وهو أن جيحد اجلاحد وهو يعلم أنه حق قد استقر عنده ،وقد قال اهلل َ :
﴿وكَانُوا ِمن َقبْ ُل َي ْستَ ْفتِ ُحو َن َع َىل ا َّل ِذي َن َك َف ُروا فَ َل َّام َجا َء ُهم َّما ع ََر ُفوا َك َف ُروا بِ ِه َف َل ْعنَ ُةَو ْاستَيْ َقنَتْ َها َأن ُف ُس ُه ْم ُظ ْل ًام َو ُع ُل ًّوا﴾ وقال اهلل َ :
اهللَِّ َع َىل ا ْلكَافِ ِري َن﴾ فهذا تفسري وجهي اجلحود.
﴿ه َذا ِمن َف ْض ِل َر ِّيب لِيَبْ ُل َو ِين َأ َأ ْشك ُُر َأ ْم َأ ْك ُف ُر َو َمن والوجه الثالث من الكفر كفر النعم ،وذلك قوله تعاىل حيكي قول سليامن َ :
يم﴾ وقالَ ﴿ :لئِن َشك َْرت ُْم َألَ ِزيدَ َّنك ُْم َو َلئن َك َف ْرت ُْم ِإ َّن ع ََذ ِايب َل َشديدٌ ﴾ وقال:
ِ ِ ِ ِ ِ ِ
َشك ََر َف ِإن ََّام َي ْشك ُُر لنَ ْفسه َو َمن َك َف َر َفإِ َّن َر ِّيب غَني ك َِر ٌ
وين َأ ْذكُركُم و ْاشكُروا ِيل و َال تَ ْك ُفر ِ
ون﴾. ﴿ َفا ْذك ُُر ِ
ُ َ ُ ْ ْ َ
﴿وإِ ْذ َأ َخ ْذنَا ِميثَا َق ُك ْم َال ت َْس ِفكُو َن ِد َما َءك ُْم َو َال ُخت ِْر ُجو َن أَن ُف َسكُم ِّمن
والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر اهلل به وهو قول اهلل َ :
ِ
ِد َي ِارك ُْم ثُ َّم َأ ْق َر ْرت ُْم َو َأنت ُْم ت َْش َهدُ و َن * ثُ َّم َأنت ُْم َىهؤُ َالء َت ْقتُ ُلو َن َأن ُف َسك ُْم َو ُخت ِْر ُجو َن فَ ِري ًقا ِّمنكُم ِّمن د َي ِار ِه ْم َت َظ َ
اه ُرو َن َع َليْ ِهم بِ ْ ِ
اإلثْ ِم ِ
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 116
نعم ،اتفق علامؤنا عىل أن اإلمامة من أصول الدين بمعنى أهنا مدار النجاة واهلالك ،فمن
قال باإلمامة واعتقد هبا فهو ناج يوم القيامة ،وأما من مل يعتقد باإلمامة – ال لشبهة -فليس
كذلك كام سيتضح.
والوجه اخلامس من الكفر :كفر الرباءة ،وذلك قوله حيكي قول إبراهيم َ ﴿ :ك َف ْرنَا بِ ُك ْم َو َبدَا َبيْنَنَا َو َبيْنَك ُُم ا ْل َعدَ َاو ُة َوا ْلبَغ َْضا ُء
َأ َبدً ا َحت ىَّى تُؤْ ِمنُوا بِاهللَِّ َو ْحدَ ُه﴾ يعني تربأنا منكم ،وقال يذكر إبليس وتربئته من أوليائه من اإلنس يوم القيامة﴿ :إِ ِّين َك َف ْر ُت بِ َام
احليَ ِاة الده ْنيَا ُث َّم َي ْو َم ا ْل ِقيَا َم ِة َي ْك ُف ُر َب ْع ُضكُم بِبَ ْع ٍ
ض َو َي ْل َع ُن ِ ِ ون ِمن َقبْ ُل﴾ وقال﴿ :إِن ََّام َّ َ
اخت ْذتُم ِّمن ُدون اهللَِّ أَ ْو َثانًا َّم َو َّد َة َبيْن ُك ْم ِيف ْ َ
َأ ْرش ْكتُم ِ
َ ُ
َب ْع ُضكُم َب ْع ًضا﴾ يعني يتربأ بعضكم من بعض» ،الكايف الرشيف :ج ،2ص.389
وقد علق الفقيه الكبري السيد السبزواري يف تفسريه الرشيف (مواهب الرمحن :ج ،1ص )118 - 117تعلي ًقا ً
مهام ،فقال:
«يمكن جعل مجيع ما يف هذه الرواية من التقسيم العقَل ،بأن ُيقال :الكافر إما ال يعتقد بمبدأ ً
أصال ،وهو الكافر املطلق ،و ُيطلق عليه
أيضا.
اجلاحد باملعنى العام ً
كفر اجلحود باملعنى اخلاص.
أو يعتقد به يف اجلملة ثم جيحده ،وهو ُ
أو يعتقد به وال جيحده ،ولكن يكفر بنعمه ،وهو كفر النعم.
أو يعتقد به لكن يرتك ما أمر اهلل به ،وهو كفر ترك الطاعة ،ويشمل هذا ترك كل واجب رشعي ،أو إتيان كل ما هنى اهلل عنه.
عدوه وال يتواىل ول ّيه ،وهو كفر الرباءة.
أو يعتقد بذلك كله ،ولكن يربأ من ّ
ومن هذا احلديث يعرف بيان ما أطلق فيه الكفر عىل تارك الصالة ،أو عىل إتيان بعض املحرمات ،أو التويل ألعداء اهلل ،أو التربي
من أولياء اهلل .فهذا احلديث هو اجلامع جلميع أنواع الكفر ،ولكن الكفر االصطالحي الذي يبحث عنه يف الفقه ،املوجب ألحكام
خاصة ،خيتص ببعض األقسام دون اجلميع»( .انتهى)
ّ
117 البحث السابع :اإلمامة اإللهية أصل من أصول الدين
أ /الدليل األول :قوله تعاىل﴿ :ا ْل َي ْو َم َأك َْم ْل ُت َلك ُْم ِدينَك ُْم َو َأ ْمت َ ْم ُت َع َل ْيك ُْم نِ ْع َمتِي َو َر ِض ُ
يت
اإل ْس َال َم ِدينًا﴾ ( ، )1ومتامية االستدالل هبا يتوقف عىل مقدمتني: َلك ُُم ْ ِ
وذكر البدخَش يف (مفتاح النجا) عن عبد الرزاق الرسعني عن ابن عباس ما مر ص 220ثم قال :وأخرج ابن مردويه عن أيب سعيد
اخلدري مثله ،ويف آخره فنزلت :اليوم أكملت لكم دينكم ...اآلية .فقال النبي صىل اهلل عليه [وآله] وسلم :اهلل أكرب عىل إكامل
الدين ،وإمتام النعمة ،ورضا الرب برسالتي والوالية لعَل بن أيب طالب.
ونقله هبذا اللفظ عن تفسريه األربَل يف (كشف الغمة :ص.)95
وقال القطيفي يف الفرقة الناجية :روى أبو بكر ابن مردويه احلافظ بإسناده إىل أيب سعيد اخلدري :إن النبي يوم دعا الناس إىل
غدير خم أمر بام كان حتت الشجرة من شوك فقم وذلك يوم اخلميس ،ودعا الناس إىل عَل فأخذ بضبعيه فرفعهام حتى نظر الناس
إىل بياض إبط رسول اهلل ،فلم يفرتقا حتى نزلت هذه اآلية :اليوم أكملت لكم دينكم ...اآلية .فقال .إىل آخر ما يأيت عن أيب نعيم
األصبهاين حرفيًا.
- 3احلافظ أبو نعيم األصبهاين املتوف ،430روى يف كتابه (ما ن زل من القرآن يف عَل) قال :حدثنا حممد بن أمحد بن عَل بن خملد
(املحتسب املتوف ) 357قال :حدثنا حممد بن عثامن بن أيب شيبة قال :حدثني حييى احلامين قال :حدثني قيس بن الربيع عن أيب هارون
العبدي عن أيب سعيد اخلدري : أن النبي صىل اهلل عليه [وآله] وسلم دعا الناس إىل عَل يف غدير خم أمر بام حتت الشجرة من
الشوك فقم وذلك يوم اخلميس فدعا عليًا فأخذ بضبعيه فرفعهام حتى نظر الناس إىل بياض إبطي رسول اهلل ،ثم مل يتفرقوا حتى نزلت
هذه اآلية :اليوم أكملت لكم دينكم ...اآلية ،فقال رسول اهلل صىل اهلل عليه [وآله] وسلم :اهلل أكرب عىل إكامل الدين ،وإمتام النعمة،
ورضا الرب برسالتي ،وبالوالية لعَل من بعدي .ثم قال :من كنت مواله فعَل مواله ،اللهم وال من وااله ،وعاد من عاداه،
وانْص من نْصه ،واخذل من خذله .فقال حسان :ائذن يل يا رسول اهلل أن أقول يف عَل أبياتًا تسمعهن .فقال :قل عىل بركة اهلل .فقام
حسان فقال :يا معرش مشيخة قريش ،أتبعها قويل بشهادة من رسول اهلل يف الوالية ماضية .ثم قال:
ينادُّيم يوم الغدير نبيهم * بخم فأسمع بالرسول مناديا
يقول :فمن موالكم ووليكم؟ * فقالوا ومل يبدوا هناك التعاميا
إهلك موالنا وأنت ولينا * ومل تر منا يف الوالية عاصيا
فقال له :قم يا عَل فإنني * رضيتك من بعدي إما ًما وهاديا
فمن كنت مواله فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا :اللهم وال وليه * وكن للذي عادى عليًا معاديا
وهبذا اللفظ رواه الشيخ التابعي سليم بن قيس اهلاليل يف كتابه عن أيب سعيد اخلدري قال :إن رسول اهلل دعا الناس بغدير خم فأمر
بام كان حتت الشجر من الشوك فقم ،وكان ذلك يوم اخلميس ،ثم دعا الناس إليه وأخذ بضبع عَل بن أيب طالب فرفعها حتى نظرت
إىل بياض إبط رسول اهلل :احلديث بلفظه.
- 4احلافظ أبو بكر اخلطيب البغدادي املتوف ،463روى يف تارخيه ج 8ص 290عن عبد اهلل بن عَل بن حممد بن برشان عن احلافظ
عَل بن عمر الدارقطني ،عن حبشون اخلالل ،عن عَل بن سعيد الرمَل عن ضمرة عن ابن شوذب عن مطر الوراق عن ابن حوشب
عن أيب هريرة عن النبي صىل اهلل عليه [وآله] وسلم.
119 البحث السابع :اإلمامة اإللهية أصل من أصول الدين
وعن أمحد بن عبد اهلل النريي عن عَل بن سعيد عن ضمرة عن ا بن شوذب عن مطر عن ابن حوشب عن أيب هريرة عن النبي صىل
شهرا .وهو يوم غدير خم ملَّا أخذ النبي
اهلل عليه [وآله] وسلم أنه قال :من صام يوم ثامن عرش من ذي احلجة كتب له صيام ستني ً
صىل اهلل عليه [وآله] وسلم بيد عَل بن أيب طالب فقال :ألست أوىل باملؤمنني؟ قالوا :بىل يا رسول اهلل؟ قال من كنت مواله فعَل
مواله .فقال عمر بن اخلطاب :بخ بخ يا بن أيب طالب أصبحت موالي وموىل كل مسلم .فأنزل اهلل :اليوم أكملت لكم دينكم...
اآلية.
- 5احلافظ أبو سعيد السجستاين املتوف ،477يف كتاب الوالية بإسناده عن حييى بن عبد احلميد احلامين الكويف عن قيس بن الربيع
عن أيب هارون عن أيب سعيد اخلدري :أن رسول اهلل صىل اهلل عليه [وآله] وسلم ملَّا دعا الناس بغدير خم أمر بام كان حتت الشجرة
من الشوك فقم وذلك يوم اخلميس ...إىل آخر اللفظ املذكور بطريق أيب نعيم األصبهاين.
- 6أبو احلسن ابن املغازيل الشافعي املتوف ، 483روى يف مناقبه عن أيب بكر أمحد بن حممد بن طاوان قال :أخربنا أبو احلسني أمحد
بن احلسني بن السامك قال :حدثني أبو حممد جعفر بن حممد بن نصري اخللدي ،حدثني عَل بن سعيد بن قتيبة الرمَل قال :حدثني
ضمرة بن ربيعة القريش عن ابن شوذب عن مطر الوراق عن شهر بن حوشب بن أيب هريرة ...إىل آخر اللفظ املذكور بطريق اخلطيب
البغدادي (العمدة ص )52وذكره مجع آخرون.
- 7احلافظ أبو القاسم احلاكم احلسكاين (املرتجم ص ) 112قال :أخربنا أبو عبد اهلل الشريازي ،قال :أخربنا أبو بكر اجلرجاين .قال:
حدثنا أبو أمحد البْصي ،قال :حدثنا أمحد بن عامر بن خالد ،قال :حدثنا حييى بن عبد احلميد احلامين ،قال :حدثنا قيس بن الربيع عن
أيب هارون العبدي عن أيب سعيد اخلدري :أن رسول اهلل ملَّا نزلت هذه اآلية :اليوم أكملت لكم دينكم .قال :اهلل أكرب عىل إكامل
الدين ،وإمتام النعمة ،ورضا الرب برسالتي ،ووالية عَل بن أيب طالب من بعدي .وقال :من كنت مواله فعَل مواله ،اللهم وال من
وااله ،وعاد من عاداه ،وانْص من نْصه ،واخذل من خذله.
- 8احلافظ أبو القاسم بن عساكر الشافعي الدمشقي املتوف ،571روى احلديث املذكور بطريق ابن مردويه عن أيب سعيد وأيب
هريرة كام يف الدر املنثور ج 2ص.259
- 9أخطب اخلطباء اخلوارزمي املتوف ،568قال يف املناقب ص :80أخربنا سيد احلفاظ أبو منصور شهردار بن شريويه بن شهردار
الديلمي فيام كتب إيل من مهدان :أخربين أبو الفتح عبدوس بن عبد اهلل بن عبدوس اهلمداين كتابة ،حدثني عبد اهلل بن إسحاق
البغوي ،حدثني احلسن بن علي ل الغنوي ،حدثني حممد بن عبد الرمحن الزراع ،حدثني قيس بن حفص ،حدثني عَل بن احلسن
العبدي عن أيب هارون العبدي عن أيب سعيد اخلدري إنه قال :إن النبي يوم دعا الناس إىل غدير خم أمر بام كان حتت الشجرة
من الشوك فقم وذلك يوم اخلميس ،ثم دعا الناس إىل عَل فأخذ بضبعه فرفعها حتى نظر الناس إىل إبطيه حتى نزلت هذه اآلية:
اليوم أكملت لكم دينكم ...اآلية إىل آخر احلديث بلفظ مر بطريق أيب نعيم األصفهاين.
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 120
ِ
رش َع ًة ِ ِ
إن الرشائع متعددة بنص اآلية املباركة﴿ :لك ٍُّل َج َع ْلنَا منْك ُْم ْ
املقدمة الثانيةَّ :
اجا﴾ ( ،)1فلكل ٍ
نبي من األنبياء رشعة ختتلف عن رشعة النبي اآلخر ،وأما الدين فهو ِ
َومن َْه ً
ضم النصوص القرآنية إىل بعضها البعض ،حيث يقول تعاىل﴿ :إِ َّن واحد كام يفهم ذلك من ّ
اإل ْس َال ُم﴾ ( ،)2ويقول عىل لسان يوسف ﴿ :ت ََو َّفنِي ُم ْسلِ ًام﴾ ( ،)3ويقول عىل ين ِعنْدَ اهللَِّ ْ ِ
الدِّ َ
يم َبن ِ ِيه ِ
ني﴾ ،ويقولَ ﴿ :و َو َّّص ِ َهبا إِ ْب َراه ُ
()4
ربا َوت ََو َّفنَا ُم ْسلِ ِم َ
لسان السحرةَ ﴿ :ر َّبنَا َأ ْف ِر ْغ َع َل ْينَا َص ْ ً
ين َف َال َمتُوت َُّن إِ َّال َو َأ ْنت ُْم ُم ْسلِ ُم َ ِ
ون﴾ ( ،)5ومن كل هذا اص َط َفى َلك ُُم الدِّ َ وب َيا َبن َّي إِ َّن اهللََّ ْ َو َي ْع ُق ُ
ُيعلم أن الدين هو تلك األصول واألساسيات التي تتفق فيها مجيع الرشائع املتعددة ،وهو ما
أطلق عليه القرآن الكريم عنوان (اإلسالم).
وروى يف املناقب ص 94باإلسناد عن احلافظ أمحد بن احلسني البيهقي ،عن احلافظ أيب عبد اهلل احلاكم ،عن أيب يعىل الزبري بن عبد
اهلل الثوري ،عن أيب جعفر أمحد بن عبد اهلل البزاز ،عن عَل بن سعيد الرمَل ،عن ضمرة عن ابن شوذب عن مطر الوراق ...إىل آخر
ما مر عن اخلطيب البغدادي سندً ا ومتنًا.
- 10أبو الفتح النطنزي ،روى يف كتابه (اخلصايص العلوية) عن أيب سعيد اخلدري بلفظ مر ص ،43وعن اخلدري وجابر
األنصاري أهنام قاال :ملَّا نزلت :اليوم أكملت لكم دينكم ...اآلية ،قال النبي صىل اهلل عليه [وآله] وسلم :اهلل أكرب عىل إكامل الدين،
وإمتام النعمة ،ورضا الرب برسالتي ،ووالية عَل بن أيب طالب بعدي.
ويف اخلصايص بإسناده عن اإلمامني الباقر والصادق قاال :نزلت هذ ه اآلية (يعني آية التبليغ) يوم الغدير .وفيه نزلت :اليوم
أكملت لكم دينكم .قال :وقال الصادق : أي :اليوم أكملت لكم دينكم بإقامة حافظه ،وأمتمت عليكم نعمتي أي :بواليتنا،
أيضا عن أيب هريرة حديث صوم الغدير بلفظ مر بطريق
ورضيت لكم اإلسالم دينًا أي :تسليم النفس ألمرنا .وبإسناده يف خصايصه ً
اخلطيب البغدادي وفيه نزول اآلية يف عَل يوم الغدير( .انتهى)
( )1سورة املائدة.48 :
( )2سورة آل عمران.19 :
( )3سورة يوسف.101 :
( )4سورة األعراف.126 :
( )5سورة البقرة.132 :
121 البحث السابع :اإلمامة اإللهية أصل من أصول الدين
ب /الدليل الثاين :قول النبي األعظم « :من مات بغري إمام مات ميتة جاهلية» (،)2
وله ألفاظ غري هذا اللفظ كلها تصب يف نفس املعنى:
• اللفظ األول :من مات ومل يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية.
• اللفظ الثاين :ومن مات وليس يف عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.
• اللفظ الثالث :من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية.
• اللفظ الرابع :من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية.
القسم الثاين :اإلمامة اخلاصة ،وهي االعتقاد بإمامة أهل البيت .
اخلاصة ،وبام ّ
أن ّ واإلمامة التي هي من أصول الدّ ين هي اإلمامة العا ّمة ،وليست اإلمامة
بغض النظر َع َّم ْن هم األئمة ( ،)1فإذن مجيع املسلمني حمكومون
مجيع املسلمني يعتقدون باإلمامة ّ
باإلسالم.
( ) 1وإليك تْصيح كوكبة من علامئهم يف أمهية اإلمامة وتنصيب اإلمام ،وكوهنا من واجبات الدين ،بل من أعظمها ،وقوام الدين
هبا:
أيضا أن الصحابة رضوان اهلل تعاىل عليهم أمجعني
أ /األول :ابن حجر اهليتمي يف صواعقه ج 1ص ،26 - 25حيث قال« :اعلم ً
أمجعوا عىل أن نصب اإلمام بعد انقراض زمن النبوة واجب بل جعلوه أهم الواجبات ،حيث اشتغلوا به عن دفن رسول اهلل صىل اهلل
عليه [وآله] وسلم واختالفهم يف التعيني ال يقدح يف اإلمجاع املذكور ...ثم ذلك الوجوب عندنا معرش أهل السنة واجلامعة ،وعند
123 البحث السابع :اإلمامة اإللهية أصل من أصول الدين
أكثر املعتزلة :بالسمع ،أي :من جهة ال تواتر واإلمجاع املذكور ،وقال كثري :بالعقل ،ووجه ذلك الوجوب أنه صىل اهلل عليه [وآله]
وسلم أمر بإقامة احلدود وسد الثغور وجتهيز اجليوش للجهاد وحفظ بيضة اإلسالم ،وما ال يتم الواجب املطلق إال به ،وإن كان
مقدورا فهو واجب ،وألن يف نصبه جلب منافع ال حتىص ،ودفع مضار ال تستقىص ،وكل ما كان كذلك يكون واجبًا .أما الصغرى:
ً
عىل ما يف رشح املقاصد فتكاد تلحق بالرضوريات ،بل باملشاهدات بشهادة ما نراه من الفتن والفساد وانفصام أمور العباد ،بمجرد
موت اإلمام وإن مل يكن عىل ما ينبغي من الصالح والسداد».
ب /الثاين :ابن تيمية يف كتابه (السياسة الرشعية :ص ،)129حيث قال « :فصل جيب أن يعرف أن والية أمر الناس من أعظم
واجبات الدين بل ال قيام للدين وال للدنيا إال هبا .فإن بني آدم ال تتم مصلحتهم إال باالجتامع حلاجة بعضهم إىل بعض ،وال بد هلم
عند االجتامع من رأس حتى قال النبي صىل اهلل عليه [وآله] وسلم« :إذا خرج ثالثة يف سفر فليؤمروا أحدهم» .رواه أبو داود ،من
حديث أيب سعيد ،وأيب هريرة .وروى اإلمام أمحد يف املسند عن عبد اهلل بن عمرو ،أن النبي صىل اهلل عليه [وآله] وسلم قال« :ال حيل
لثالثة يكونون بفالة من األرض إال أمروا عليهم أحدهم» .فأوجب صىل اهلل عليه [وآله] وسلم تأمري الواحد يف االجتامع القليل
العارض يف السفر ،تنبي ًها بذلك عىل سائر أنواع االجتامع .وألن اهلل تعاىل أوجب األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،وال يتم ذلك إال
بقوة وإمارة .وكذلك سائر ما أوجبه من اجلهاد والعدل وإقامة احلج واجلمع واألعياد ونْص املظلوم وإقامة احلدود ،ال تتم إال بالقوة
واإلمارة».
ج /الثالث :القرطبي يف تفسريه (ج ،1ص ،)265 – 264حيث قال« :الرابعة -هذه اآلية أصل يف نصب إمام وخليفة يسمع له
ويطاع ،لتجتمع به الكلمة ،وتنفذ به أحكام اخلليفة .وال خالف يف وجوب ذلك بني األمة وال بني األئمة إال ما روي عن األصم
حيث كان عن الرشيعة أصم ،وكذلك كل من قال بقوله واتبعه عىل رأيه ومذهبه ،قال :إهنا غري واجبة يف الدين بل يسوغ ذلك ،وأن
األمة متى أقاموا حجهم وجهادهم ،وتناصفوا فيام بينهم ،وبذلوا احلق من أنفسهم ،وقسموا الغنائم والفيء والصدقات عىل أهلها،
وأقاموا احلدود عىل من وجبت عليه ،أجزأهم ذلك ،وال جيب عليهم أن ينصبوا إماما يتوىل ذلك .ودليلنا قول اهلل تعاىل﴿ :إِ ِّين ج ِ
اع ٌل َ ً
احلاتِض﴾ ،وقال﴿ :وعَدَ اهللَُّ ا َّل ِذين آمنُوا ِمنْكُم وع َِم ُلوا الص ِ
َاك َخلِي َف ًة ِيف ْاألَ ْر ِ
ض َخلِي َفة﴾ ،وقوله تعاىلَ ﴿ :يا َد ُاوو ُد إِنَّا َج َع ْلن َ
ِيف ْاألَ ْر ِ
َّ َ ْ َ َ َ َ
َليَ ْستَخْ لِ َفنَّ ُه ْم ِيف ْاألَ ْر ِ
ض﴾ أي :جيعل منهم خلفاء ،إىل غري ذلك من اآلي .وأمجعت الصحابة عىل تقديم الصديق بعد اختالف وقع
بني املهاجرين واألنصار يف سقيفة بني ساعدة يف التعيني ،حتى قالت األنصار :منا أمري ومنكم أمري ،فدفعهم أبو بكر وعمر
واملهاجرون عن ذلك ،وقالوا هلم :إن العرب ال تدين إال هلذا احلي من قريش ،ورووا هلم اخلرب يف ذلك ،فرجعوا وأطاعوا لقريش.
فلو كان فرض اإلمامة غري واجب ال يف قريش وال يف غريهم ملا ساغت هذه املناظرة واملحاورة عليها ،ولقال قائل :إهنا ليست بواجبة
ال يف قريش وال يف غريهم ،فام لتنازعكم وجه وال فائدة يف أمر ليس بواجب ،ثم إن الصديق ملَّا حرضته الوفاة عهد إىل عمر يف
اإلمامة ،ومل يقل له أحد هذا أمر غري واجب علينا وال عليك ،فدل عىل وجوهبا وأهنا ركن من أركان الدين الذي به قوام املسلمني،
واحلمد هلل رب العاملني».
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 124
د /الرابع :الغزايل يف كتابه االقتصاد يف االعتقاد ص ،127حيث قال« :وال ينبغي أن تظن أن وجوب ذلك مأخوذ من العقل ،فإنا
ب ّينا أن الوجوب يؤخذ من الرشع إال أن يفرس الواجب بالفعل الذي فيه فائدة ويف تركه أدنى مرضة ،وعند ذلك ال ينكر وجوب
نصب اإلمام ملا ف يه من الفوائد ودفع املضار يف الدنيا ،ولكنا نقيم الربهان القطعي الرشعي عىل وجوبه ولسنا نكتفي بام فيه من إمجاع
األمة ،بل ننبه عىل مستند اإلمجاع ونقول :نظام أمر الدين مقصود لصاحب الرشع قط ًعا ،وهذه مقدمة قطعية ال يتصور النزاع
فيها ،ونضيف إليها مقدمة أخرى وهو أنه ال حيصل نظام الدين إال بإمام مطاع فيحصل من املقدمتني صحة الدعوى وهو وجوب
نصب اإلمام».
وقال يف موضع آخر ص « :128فكان وجوب نصب اإلمام من رضوريات الرشع الذي ال سبيل إىل تركه فاعلم ذلك».
ه /اخلامس :اآلمدي يف غاية املرام يف علم الكالم ص ،366حيث قال« :فإ ًذا نصب اإلمام من أهم مصالح املسلمني وأعظم عمد
الدين فيكون واج ًبا ،حيث عرف بالسمع أن ذلك مقصود للرشع ،وليس ممّا يمكن القول بوجوبه ً
عقال».
الصحابة ثم إ َّن نصب اإلمام واجب قد عرف وجوبه يف ّ
الرشع بإمجاع ّ و /السادس :ابن خلدون يف تارخيه ص ،240حيث قالّ « :
والتّابعني».
ز /السابع :السفاريني احلنبَل يف لوامع األنوار البهية وسواطع األرسار األثرية لرشح الدرة املضية ج 2ص ،419حيث قال( :الباب
السادس يف ذكر اإلمامة ومتعلقاهتا)
(وال غنى ألمة اإلسالم ...يف كل عْص كان عن إمام)
(يذب عنها كل ذي جحود ...ويعتني بالغزو واحلدود)
(وفعل معروف وترك نكر ...ونْص مظلوم وقمع كفر)
(وأخذ مال الفيء واخلراج ...ونحوه والْصف يف منهاج)
قال علامؤنا كغريهم :نصب اإلمام األعظم فرض كفاية ألن الصحابة أمجعوا عىل أن نصبه واجب بعد انقراض زمن النبوة ،بل
جعلوه أهم الواجبات حيث اشتغلوا به عن دفن رسول اهلل -صىل اهلل عليه [وآله] وسلم ، -واختالفهم يف تعيينه ال يقدح يف اإلمجاع
املذكور».
ح /الثامن :ابن األزرق يف بدائع السلك ص ،70 - 69حيث قال« :إ َّن مدرك وجوب نصبه عند أهل احلق رشعي ال عقَل ،وقرره
من وجهني ،أحدمها :اعتباري ،وهو أن حكمة نصبه كام يتقرر منها بعد أن شاء اهلل يقتيض بحسب اعتبارها رشعًا وجوب التكليف
به مطل ًقا.
الثاين :إمجاعي ،قال ابن التلمساين -وهو املعتمد القاطع ألهل السنة -وقرره بام نقل عن السلف واخللف من امتناع خلو األرض
من إمام قائم بأمر اهلل».
ويف موضع آخر ص ،71قال« :إن حقيقة هذا الوجوب الرشعي راجعة إىل النيابة عن الشارع يف حفظ الدين وسياسة الدنيا به
ويسمى باعتبار هذه خالفة وإمامة وذلك ألن الدين هو املقصود يف إجياد اخللق ال الدنيا فقط».
125 البحث السابع :اإلمامة اإللهية أصل من أصول الدين
فاإلمامة أصل من أصول الدين الواقعي ،وهو الذي حتصل به النجاة يف اآلخرة ،وأما
الدين الظاهري فهو الذي به ُحتقن الدماء ُ
وحترتم األعراض واألموال ،فمن قال باإلمامة
حصلت له النجاة يف اآلخرة ،وأما من مل يقل هبا فهو حمكوم باإلسالم ،وهو عىل الدين
الظاهري ،فيحرم دمه وماله وعرضه ،وتنطبق عليه سائر األحكام اخلاصة باملسلمني.
ببيانَّ :
أن احلجة إذا قامت عىل شخص َّما بكون اإلمامة ألهل البيت ،ومع ذلك مل
يعتقد هبا ،فهو منكر جاحد حمكوم بالكفر؛ َّ
ألن إنكاره يؤول إىل تكذيب اهلل عز و جل ورسوله
ٍ
لقصور فيه ،فهو مسلم، ٍ
لتقصري منه ،بل ،وأما إذا مل تقم عنده احلجة عىل إمامتهم ال
عرب عنه يف القرآن الكريم والروايات الرشيفة باملستضعف ،كام يف قوله تعاىلِ ﴿ :إ َّال وهو املُ َّ
ون َسبِ ًيال * َف ُأو َلئِ َك
ون ِحي َل ًة َو َال َ ُّْيتَدُ َ
ان َال َي ْستَطِي ُع َ ِ ني ِم َن الر َج ِ
اء وا ْل ِو ْلدَ ِ
ال َوالن َِّس َ ِّ املُْ ْست َْض َع ِف َ
َع َسى اهللَُّ َأ ْن َي ْع ُف َو َعن ُْه ْم َوك َ
َان اهللَُّ َع ُف ًّوا غَ ُف ً
ورا﴾ (.)1
وعىل ضوء ذلك يتضح :أنه ال مالزمة بني االعتقاد بكون اإلمامة من أصول الدين،
والقول بكفر سائر املسلمني ،فتأ ّمل يف ذلك جيدً ا (.)2
متهيد:
وفيه أمران:
طر َح هذه األطروحة عدد من ال ُكتّاب اإليرانيني ،ومنهم :حيدر عَل قلمداران يف كتابيه (طريق االحتاد) و(دراسة ومتحيص يف
(َ )1
روايات النص عىل األئمة ،) وحسني املدريس الطباطبائي يف كتابه (حتول الفكر الشيعي) ،وحمسن كديور يف كتابه (القراءة املنسية)،
وقد اعتمدنا عىل كتابه هذا يف معرفة أبعاد هذه األطروحة ،والتي تلقفها منهم بعض ال ُكتّاب العرب وقاموا برتوجيها.
ومما جيدر التنبيه عليه يف املقام :أ َّن هناك عدة دعوات إلعادة قراءة التشيع ،وتنتهي مجيع هذه الدعوات إىل وجود نسختني للتشيع،
نسخة أصيلة قد طواها الزمن ،ونسخة بديلة هي النسخة املتداولة اآلن ،ولكن أصحاب هذه الدعوات قد اختلفوا يف حتديد
النسختني ،فطرح د .عَل رشيعتي أطروحة التشيع العلوي والصفوي ،وقد اعترب أ َّن التشيع قبل الدولة الصفوية هو التشيع العلوي،
وهو النسخة األصيلة ،وأ َّن التشيع بعد الدولة الصفوية هو التشيع املزيف ،بينام طرح آخرون أطروحة القراءة املنسية ،وهي
األطروحة الرائجة اآلن ،ومفادها :أ َّن هنالك قراءتني لإلمامة – باعتبارها القضية املحورية للتشيع -ومها :القراءة البرشية والقراءة
فوق البرشية ،واألوىل هي النسخة األصيلة التي كانت رائجة يف القرنني األولني اهلجريني ،والثانية هي النسخة البديلة التي راجت
برشا عاد ًيا ،غاية األمر أنه متقدم عىل غريه يف العلم والعمل،
يف القرون الالحقة حتى زماننا ،وأصحاب القراءة األوىل يقرؤون اإلمام ً
بينام أصحاب القراءة الثانية يقرؤونه ذا جنبة فوق البرشية ،يعلم الغيب وال خيطئ وال يغفل وال يسهو ،وبام أ َّن هذه القراءة هي
القراءة السائدة اليوم فقد اصطلح أصحاب هذه األطروحة عىل القراءة السابقة بـ (القراءة املنسية).
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 130
طور
املرحلة الثانية :مرحلة القرن الثالث والرابع فام بعد ،ويف هذه احلقبة الزمنية قد ّ
أمورا مل تكن ضمنها يف املرحلة السابقة ،من قبيل اعتبار الشي ُ
عة عقيدة اإلمامة فأضافوا إليها ً
اإلمامة من األصول ،وأهنا ال تكون إال بالنص من قبل النبي ،وأن اإلمام ال بد أن يكون
معصو ًما عاملًا بالغيب ،وواسطة يف الفيض وصاحب والية تكوينية وترشيعية ،ونحو ذلك.
واحلاصلَّ :
فإن الصورة املرسومة اآلن يف الذهنية الشيعية لإلمام واإلمامة ليست هي
نفس الصورة الواقعية التي رسمها األئمة ،وإنام هي صورة الرتاكامت الكالمية والفلسفية
والعرفانية التي استحدثت عىل هامش روايات خط الغالة.
ولكي نضع النقاط عىل احلروف فإننا نحتاج لبيان أدلة القوم ً
أوال ،ثم نعطف عليها ببيان
مواطن اخللل واإلشكال فيها ،فالكالم يف جهات ثالث:
احل ِ ِ ِ ِ
ام
ارض وق َي ُ احل َّب َة و َب َر َأ الن ََّس َم َةَ ،ل ْو َال ُح ُض ُ
ور ْ َ • قال أمري املؤمنني َ « :أ َما وا َّلذي َف َل َق ْ َ
َّارص ،وما َأ َخ َذ اهللَّ َع َىل ا ْلع َلام ِءَ ،أ َّال ي َقاروا َع َىل كِ َّظ ِة َظ ِ
ِ ِ ْ ِ
وال َسغ ِ
َب َم ْظ ُلو ٍم، املٍ َ ُ ه ُ َ احل َّجة بِ ُو ُجود الن ِ َ ُ
أن مالك ثبوت اإلمامة هو اجتامع ار ِ َهبا» ( ،)1واملفهوم من هذا النص َّ ألَ ْل َق ْي ُت َح ْب َل َها َع َىل غَ ِ
الكلمة واتفاقها ،وليس هو النص ،خال ًفا ملا تدعيه النسخة البديلة.
تابَ ،واآلْ ِخ ُذ
عام ُل بِا ْلكِ ِ
• وقال سيد الشهداء احلسني َ « :ف َلعمري ما اإلْمام إِالَّ ا ْل ِ
ُ َ َْ
هلل» ( ،)2وهو رصيح يف َّ احلابِس َن ْفسه َعىل ِ طَ ،والدّ ائِ ُن بِ ْ
بِا ْل ِقس ِ
أن اإلمام ال ُيعترب ذات ا ِ َ ُ احلَ ِّقَ ،و ْ ُ ْ
فيه إال االتصاف بصفات أربع ،وهي :العمل بكتاب اهلل تعاىل ،واحلكم بالعدل ،والتدين
باحلق ،وهتذيب النفس ،وبمقتىض هذه الرواية ال ُيعترب يف اإلمام يشء مما اعتربته فيه النسخة
املستحدثة للتشيع ،كالعصمة والنص.
النصان إال جمرد نامذج ملا ُيستدل به ،وإال َّ
فإن هلام نظائر سنأيت عليها يف اجلهة وما هذان ّ
الثانية إن شاء اهلل تعاىل ،فرتقب.
ومنها :ما رواه الشيخ الصدوق بقوله :حدثنا حممد بن عَل ماجيلويه ،قال :حدثنا
عَل بن إبراهيم بن هاشم ،عن أبيه ،عن حممد بن أيب عمري ،قال« :ما سمعت وال استفدت من
هشام بن احلكم يف طول صحبتي إياه شي ًئا أحسن من هذا الكالم يف صفة عصمة اإلمام ،فإين
سألته يو ًما عن اإلمام ،أهو معصوم؟ قال :نعم .فقلت :وما صفة العصمة فيه ،وبأي يشء
تعرف؟ قال :إن مجيع الذنوب هلا أربعة أوجه ال خامس هلا :احلرص واحلسد ،والغضب،
والشهوة ،فهذه منفية عنه.)1( » ...
وهذه احلادثة تؤكد عدم كون عصمة اإلمام من الواضحات لدى الشيعة ،وإال ملا
سأل ابن أيب عمري – وهو الفقيه املشهور – عن أصل ثبوهتا.
واعطف عىل ذلك موقف حجر بن عدي مع اإلمام احلسن ،حيث قال له حني
صالح معاوية بن أيب سفيان« :السالم عليك يا مذل املؤمنني» ( ،)2وهذا مما يؤكد عدم كون
تسليام.
ً عصمة اإلمام احلسن الزكي مرتكزة يف ذهنه ،وإال خلضع وأذعن وسلم
ج – الدليل الثالث :إقرار علامء الشيعة بتحول بعض معارف الشيعة من الغلو إىل
الرضورة.
ومن هؤالء األعالم :الفقيه الكبري العالمة املامقاين ،حيث يقولَّ « :
وإن أكثر ما ُيعده
اليوم من رضوريات املذهب يف أوصاف األئمة كان القول به معدو ًدا يف العهد السابق من
الغلو» (.)1
وشاركه يف هذه الرؤية عدّ ة ممن تقدم عليه من األعالم أو تأخر عنه ،ومنهم :املحقق
الشيخ الوحيد البهباين ،)2( والسيد الربوجردي )3( وغريمها.
وتدل هذه الرؤية عىل وجود نسختني من التشيع ،كانت األصيلة منهام تعترب َّ
أن من الغلو
ما تعتقد النسخة األخرى أنه من الرضوريات.
أ – املناقشة اإلمجالية.
إن املوروث الروائي – املجموع يف الكتب األربعة وغريها من كتب احلديث – يم ّثل
َّ
الفكر الشيعي ،أو فقل :يم ّثل حقيقة التشيع ،والنسخة احلقيقية منه.
ويف قبال هذا الطرح ُيوجد هنالك طرح آخر يطرحه املخالفون – ّ
وتلقفه منهم بعض
أن املوروث املذكور ال يم ّثل الفكر الشيعي األصيل؛ وذلك للفاصلة
التنويريني – وخالصتهَّ :
الزمنية الطويلة بني عْص األئمة وعْص أصحاب املجاميع؛ إذ َّ
أن أقدمهم وهو ثقة اإلسالم
الشيخ الكليني قد تويف سنة 328هـ ،بينام كانت وفاة اإلمام العسكري – والتي
اقرتنت بغيبة ولده اإلمام املهدي آخر األئمة االثني عرش – سنة 260هـ.
أ – املهمة األوىل :مهمة احلفظ والتدوين ،وقد تكفل هبذه املهمة الروا ُة املعارصون لألئمة
،وكانت ثمرهتا – بحسب إحصائية العالمة الطربيس – أربعامئة أصل تضمنت ما ور َد
عن األئمة ،)1( وستة آالف وستامئة كتاب (.)2
( )1قال يف كتابه (إعالم الورى بأعالم اهلدى :ج ،2ص« :)200وروى عن الصادق يف أبوابه من مشهوري أهل العلم أربعة
آالف إنسان ،وصنف من جواباته يف املسائل أربعامئة كتاب هي معروفة بكتب األصول ،رواها أصحابه وأصحاب أبيه من قبله،
وأصحاب ابنه أيب احلسن موسى ،ومل يبق فن من فنون العلم إال روي عنه فيه أبواب».
( )2قال الشيخ احلر العامَل – يف موسوعته وسائل الشيعة :ج ،30ص – 165متحد ًثا عن الكتب التي نقل عنها املتقدمون:
«وأما ما نقلوا منه -ومل يْصحوا باسمه -فكثري جدً ا ،مذكور يف كتب الرجال يزيد عىل ستة آالف وستامئة كتاب عىل ما ضبطناه».
135 البحث الثامن :تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية
وكانت هذه األصول والكتب احلديثية مشهورة جدً ا عند الشيعة اإلمامية يتداولوهنا
ويستنسخوهنا ويتوارثوهنا.
ب – املهمة الثانية :مهمة الرتتيب والتبويب ،وهي التي تكفل هبا أعالم الطائفة يف زمن
تفرق الرواة يف خمتلف مراكز التشيع الغيبةَّ ،
فإن األصول والكتب بعد أن كانت متفرقة بسبب ّ
آنذاك ،وبام أهنا كانت تتكفل بجمع كل ما يسمعه الراوي بشكل مبارش من اإلمام من غري
تبويب وتنسيق ،لذلك جاءت املجاميع احلديثية األربعة لتجمع متفرقاهتا ضمن تبويب
وترتيب مذهلني.
وإىل هذه اجلهة يشري الشيخ الصدوق يف مقدمة كتابه احلديثي الشهري ( َمن ال حيرضه
الفقيه) ،حيث يقول« :ومجيع ما ِ
فيه مستخرج من كتب مشهورة ،عليها املعول وإليها املرجع، ُ
مثل كتاب حريز بن عبد اهلل السجستاين ،وكتاب عبيد اهلل بن عَل احللبي ،وكتب عَل بن مهزيار
األهوازي ،وكتب احلسني بن سعيد ،ونوادر أمحد بن حممد بن عيسى ،وكتاب نوادر احلكمة
تصنيف حممد بن أمحد بن حييى بن عمران األشعري ،وكتاب الرمحة لسعد بن عبد اهلل ،وجامع
شيخنا حممد بن احلسن بن الوليد ،ونوادر حممد بن أيب عمري ،وكتب املحاسن ألمحد بن أيب
عبد اهلل الربقي ،ورسالة أيب إيل ،وغريها من األصول واملصنفات» (.)1
• النحو األول :القراءة التبعيضية ،وهي :قراءة بعض النصوص وإغفال قراءة غريها.
• النحو الثاين :القراءة املقتطعة ،وهي :قراءة النص مع اقتطاعه عن سياقاته التي ورد
فيها.
وعىل ذلكَّ ،
فإن من يريد قراءة التشيع قراءة موضوعية ال يصح منه أن يقْص نظره عىل
بعض األحاديث والروايات ،ويغض عن غريها ،كام ال يصح منه اقتطاع النص املقروء عن
سياقاته التي وقع فيها؛ إذ القراءة املوضوعية تقتيض تسليط الضوء عىل مجيع املوروث الروائي
من غري تبعيض أو تقطيع ،وبذل اجلهد يف اجلمع بني متعارضاته إن كانت ،وهو يف هذه اجلهة
نظري أي موروث آخر حينام يقرؤه املهتمون قراءة موضوعية ،فينبغي التعامل معه كام ينبغي
التعامل مع غريه.
وبااللتفات إىل هذا األمر ،وأخذه بعني االعتبار ،ستسقط ورقة االستدالل باألدلة
املتقدمة – وغريها من األدلة – عىل نظرية القراءة املنسية؛ َّ
ألن قراءة املتبنني هلذه النظرية لألدلة
137 البحث الثامن :تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية
إما هي من قبيل القراءة التبعيضية ،وإما هي من قبيل القراءة التقطيعية – كام سيتضح ذلك
ً
مفصال – وال بأس أن نسوق هاهنا نموذجني ملا ندعيه.
أ – النموذج األول :قول أمري املؤمنني الذي تقدم استدالل أصحاب هذه النظرية
احلج ِة بِوج ِ احل ِ ِ ِ به ،وهوَ « :أ َما وا َّل ِذي َف َل َق ْ
ود ام ْ ُ َّ ُ ُ ارض وق َي ُ احلَ َّب َة و َب َر َأ الن ََّس َم َةَ ،ل ْو َال ُح ُض ُ
ور ْ َ
َّارص ،وما َأ َخ َذ اهللَّ َع َىل ا ْلع َلام ِءَ ،أ َّال ي َقاروا َع َىل كِ َّظ ِة َظ ِ
ِ
َب َم ْظ ُلو ٍم ،ألَ ْل َق ْي ُت َح ْب َل َها
وال َسغ ِ
املٍ َ ُ ه ُ َ الن ِ َ
أن هذه الكلمة ألمري املؤمنني فإن التمسك به مثال للقراءة التبعيضية؛ إذ َّ َع َىل غَ ِ
ار ِ َهبا» (َّ ،)1
والآل ُحم َ َّم ٍد ِم ْن َه ِذه األُ َّم ِة َأ َحدٌ َ ، اس بِ ِ تقابلها كلامت أخرى له ،ومنها :قوله َ « :ال ُي َق ُ
وهبِ ْم ني ،إِ َل ْي ِه ْم َي ِفي ُء ا ْلغ ِ
َايل ِ وع َام ُد ا ْل َي ِق ِ
ين ِاس الدِّ ِ ِ
ُي َس َّوى ِهبِ ْم َم ْن َج َر ْت ن ْع َمت ُُه ْم َع َل ْيه َأ َبدً اُ ،ه ْم َأ َس ُ
ص َح ِّق ا ْل ِو َال َي ِة ،وفِ ِيه ُم ا ْل َو ِص َّي ُة وا ْل ِو َرا َث ُة» ( ،)2وهذه الكلمة العلوية ِ
وهل ُ ْم َخ َصائ ُ ُي ْل َح ُق الت ِ
َّايلَ ،
تدل بالْصاحة عىل َّ
أن الوصية فيهم إىل جانب توفرهم عىل مؤهالت اإلمامة ،فمن يتجاوز
هذا الكلمة وأمثاهلا ويقتْص عىل الكلمة األوىل فقد قرأ التشيع قراءة تبعيضية غري موضوعية.
ب – النموذج الثاين :كلمة سيد الشهداء احلسني – التي تقدم استدالل أصحاب
طَ ،والدّ ائِ ُن
تاب ،واآلْ ِخ ُذ بِا ْل ِقس ِ
ْ
ِ ِ
مام إِالَّ ا ْلعام ُل بِا ْلك ِ َ
هذه النظرية هبا – وهيَ « :ف َل َع ْمري َما اإلْ ُ
ِ
معني ،فال يصح اقتطاعها من احلابِ ُس َن ْف َس ُه َعىل ذات اهللِ» ،فإهنا واردة يف سياق ّ بِ ْ َ
احل ِّقَ ،و ْ
()3
سياقها؛ إذ أهنا واردة يف كتاب اإلمام احلسني ألهل الكوفة بعد موت معاوية ،حيث قال:
أما بعد :فإن هان ًئا وسعيدً ا قدما عَل بكتبكم ،وكانا آخر من قدم عَل من رسلكم ،وقد
فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم ،ومقالة جلكم :أنه ليس علينا إمام فأقبل لعل اهلل أن جيمعنا
بك عىل اهلدى واحلق .وإين باعث إليكم أخي وابن عمي وثقثي من أهل بيتي ،فإن كتب إيل
أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي احلجى والفضل منكم عىل مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت
يف كتبكم ،أقدم عليكم وشيكًا إن شاء اهلل .فلعمري ما اإلمام إال احلكم بالكتاب ،القائم
بالقسط ،الدائن بدين احلق ،احلابس نفسه عىل ذات اهلل ،والسالم» (.)1
وهذا األمر عىل مستوى العلوم األكاديمية يف غاية الوضوح ،فال يمكن قياس علم الطب
الكم ،حيث كانت مسائله حمصورة حمدودة،
يف بداية أمره عىل عىل الطب اآلن ،ال من حيث ّ
ٍ
ختصص منه ختصصات متفرعة عنه ال ُحتىص كثرة ،وال من حيث بينام أصبح اآلن ولكل
الكيف؛ إذ َّ
أن الرتاكم املعريف قد أ ّدى إىل بلورة الكثري من املفاهيم وجتلية الكثري من الغوامض
والدقائق.
ٍ
بمثال يوقفك عىل حقيقتها ،وهو إيامن املوىل أيب وال بأس بإيضاح هذه القضية املهمة
طالب ،فإنه اليوم قد أصبح من رضوريات التش ّيع ،بل هو من الفوارق الواضحة بني
مدرسة التشيع وغريها من املدارس اإلسالمية ،غري أنه مل يكن كذلك يف األزمنة الغابرة.
ويشهد لذلك :ما رواه السيد عبد العظيم احلسني قال :كتبت لإلمام عَل بن موسى
الرضا « :عرفني يا ابن رسول اهلل عن اخلرب املرويَّ :
إن أبا طالب يف ضحضاح من نار يغَل
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 140
فكتب إليه اإلمام الرضا :بسم اهلل الرمحن الرحيم ،أما بعد :فإنك إن شككت
َ منه دماغه؟
يف إيامن أيب طالب كان مصريك إىل النار» (.)1
– 1النص األول :قوله « :ما أمهني ذنب أمهلت بعده حتى أصَل ركعتني» (.)1
ومقتىض القواعد هو تقديم الضبط الثاين عىل الضبط األول؛ وذلك ألننا إذا رجعنا للنهج
الرشيف سوف نلتقي بالعديد من النصوص الدالة عىل العصمة ،وإليك بعضها:
• ما َّ
دل عىل العصمة عن الشبهة والشك يف الدين.
ومن ذلك قوله « :ما شككت يف احلق مذ أريته» (.)1
• ما َّ
دل عىل العصمة القولية والعملية.
وهو عبارة عن عدة من الكلامت ،ومنها:
صادعا،
ً * وقوله « :ونشهد أن ال إله غريه وأن حممدً ا عبده ورسوله .أرسله بأمره
وبذكره ً
ناطقا .فأدى أمينًا ومىض رشيدً ا .وخلف فينا راية احلق من تقدمها مرق ،ومن ختلف
عنها زهق ،ومن لزمها حلق» (ُ ،)4
وحمل الشاهد منه قوله « :وخلف فينا راية احلق» فإنه
كناية عن كوهنم امتدا ًدا للرسول األعظم يف متثيل احلق ،وأنه يدور مدارهم ،كام كان
فرع أمري املؤمنني عىل ذلك بقوله« :من تقدمها مرق،
يدور مدار رسول اهلل ؛ ولذا َّ
ُ
وكون احلق يدور مدارهم يدل عىل أهنم ال يفارقون ومن ختلف عنها زهق ،ومن لزمها حلق»،
احلق وال يفارقهم ،وليس معنى العصمة إال ذلك؛ إذ لو صدرت منهم أي خمالفة للحق لفارقهم
وفارقوه ،وهو خالف ما نطق به النص املذكور.
* وقوله « :انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم ،واتبعوا أثرهم ،فلن خيرجوكم
من هدى ،ولن يعيدوكم يف ردى .فإن لبدوا فالبدوا وإن هنضوا فاهنضوا .وال تسبقوهم
فتضلوا ،وال تتأخروا عنهم فتهلكوا» ( ، )1وداللة هذه الكلمة العلوية الرشيفة عىل العصمة يف
غاية الوضوحَّ ،
فإن أمره بلزوم سمت أهل البيت – وهو أحدهم – واتّباع أثرهم،
والدوران مدارهم ،بالنهوض عند هنوضهم واللبد عند لبدهم ،وحتذيره من التقدم عليهم
الستلزامه الضالل ،والتأخر عنهم الستلزامه اهلالك ،مع تنبيهه عىل َّ
أن املتابعة املطلقة هلم
لن خترج اإلنسان من اهلدى عىل نحو النفي املطلق املستفاد من أداة (لن) الدالة عىل التأبيدُ ،
كل
ذلك يدل برضس قاطع عىل عصمتهم؛ إذ لو مل يكونوا معصومني عصمة مطلقة ملا استلزم
خمرجا عن اهلدى. ً
مطلقا ،وملا امتنع أن يكون اتباعهم فيام خيطئون فيه ً التقدم عليهم الضالل
• ما َّ
دل عىل العصمة عن خمالفة الدين واالختالف فيه.
ومنه قوله « :فالتمسوا ذلك من عند أهله فإهنم عيش العلم وموت اجلهل .هم الذين
خيربكم حكمهم عن علمهم ،وصمتهم عن منطقهم ،وظاهرهم عن باطنهم .ال خيالفون الدين
ُ
وداللة هذا النص العلوي وال خيتلفون فيه ،فهو بينهم شاهد صادق ،وصامت ناطق» (،)1
اشتباها – خلالفوا بذلك الدين ،كام أهنم لو
ً أيضا؛ إذ لو كان يصدر منهم اخلطأ – ولو
ظاهرة ً
كانوا يتعاملون مع الدين ً
طبقا لفهمهم اخلاص الختلفوا فيه ،واحلال أهنم بْصيح هذا النص
ال خيالفون الدين وال خيتلفون فيه ،وليس معنى العصمة إال ذلك.
• ما َّ
دل عىل العصمة عن خمالفة القرآن الكريم.
وتقريب االستدالل
ُ ومن ذلك :قوله « :وإن الكتاب ملعي ،ما فارقته مذ صحبته» (،)2
بهَّ :
أن الصحبة املقصودة ليست هي الصحبة املادية؛ إذ ال امتياز هلا ،لكوهنا متاحة لكل
فيتعني أن يكون املقصود هبا الصحبة املعنوية ،وهيَّ :
أن أقواله وأفعاله مطابقة ّ شخص،
ً
وعمال ،وليس معنى العصمة إال هذا ،كام ال خيفى. فكرا
للقرآن الكريم وال تفارقه ً
واحلاصلَّ :
فإن نصوص هنج البالغة طافحة بإثبات العصمة ،مما جيعلها من القضايا التي
ِ
وعليه فحني يأتينا نص بضبطني ،أحدمها يتالءم مع فكرة العصمة ،واآلخر ُيستدل هبا ال عليها،
يصادمها ،تكون تلك النصوص املستفيضة قرينة عىل ترجيح الضبط األول.
- 2النص الثاين :قوله « :فإين لست يف نفيس بفوق أن أخطئ ،وال آمن ذلك من
فعَل ،إال أن يكفي اهلل من نفيس ما هو أملك به مني .فإنام أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب ال رب
غريه» (.)3
إن هذا النص ال ينقض نصوص العصمة املتقدمة؛ ألننا نعتقد َّ
أن عصمتهم واجلواب عنهَّ :
لطف إهلي أفاضه اهلل عليهم ،وبالتايل فهم ليسوا بمعصومني من تلقاء أنفسهم ،وإنام هم
ٍ
بلطف من اهلل ، فال يصلح النص املذكور لنقض فكرة العصمة. معصومون
وما ذكرناه للتوفيق بني النصوص ليس مج ًعا تربع ًيا ،بل له شاهد ،وشاهده هو ذيل النص
املذكور ،والذي جرت عادة املستدلني به عىل برته وعدم ذكرهَّ ،
فإن النص هكذا يقول« :فإين
لست يف نفيس بفوق أن أخطئ ،وال آمن ذلك من فعَل إال أن يكفي اهلل من نفيس ما هو أملك
به مني» ( ،)1ومعناه :أنني يف نفيس وبالذات – وعىل نحو االستقالل – لست فوق اخلطأ ،وال
آمن منه عىل فعَل إال إذا كفاين اهلل ، وهذا هو معنى العصمة يف الفكر الشيعي ،إذ أننا ال
إن املعصوم مستقل عن رمحة اهلل ولطفه الذي يفيضه عىل من يشاء من عباده ،بل إنه ملَّا
نقول َّ
كان حما ًطا برمحة اهلل ولطفه صار معصو ًما ،فقوله هذا شبيه بقول نبي اهلل يوسف َ ﴿ :و َما
ِ ِ ِ ِ
يم﴾ (.)2 السوء إِ َّال َما َرح َم َر ِّيب إِ َّن َر ِّيب غَ ُف ٌ
ور َرح ٌ ُأ َب ِّر ُئ َن ْفيس إِ َّن النَّ ْف َس َألَ َّم َار ٌة بِ ه
بل َّ
إن هذا هو أدب مجيع األنبياء ،فإهنم – فيام يتمتعون به من الكامالت واملقامات -
ينفون االستقالل عن أنفسهم ،ويعرتفون بفضل اهلل عليهم ،وأهنم مل يصلوا إىل تلك
املقامات الرفيعة – والتي منها العصمة – إال بلطف اهلل تعاىل وفضله.
وإليك بعضها:
النص األول :قوله « :واهلل لو شئت أن أخرب كل رجل منكم بمخرجه وموجله ومجيع
شأنه لفعلت ،ولكن أخاف أن تكفروا ِ َّيف برسول اهلل ،أال وإين مفضيه إىل اخلاصة ممن يؤمن
ذلك منه ،والذي بعثه باحلق واصطفاه عىل اخللق ما أنطق إال صاد ًقا ،وقد عهد َّ
إيل بذلك كله،
وبمهلك من ُّيلك ومنجى من ينجو ،ومآل هذا األمر ،وما أبقى شي ًئا يمر عىل رأيس إال أفرغه
يف أذين وأفىض به إيل» (.)1
النص الثاين :قوله « :فاسألوين قبل أن تفقدوين ،فوالذي نفيس بيده ال تسألوين عن
يشء فيام بينكم وبني الساعة ،وال عن فئة هتدي مائة وتضل مائة إال أنبأتكم بناعقها وقائدها
وسائقها ومناخ ركاهبا وحمط رحاهلا ،ومن يقتل من أهلها ً
قتال ،ويموت منهم موتًا» (.)2
ومفاد هذا النص :أنَّه حييط بجميع احلوادث الغيبية – الطولية والعرضية – التي
ِ
وهذه هي املرتبة تتخلل ما بني زمانه وزمان قيام الساعة ،بال استثناء لَشء منها عىل اإلطالق،
األخرى من مراتب علمه الغيبي.
النص الثالث :قوله « :أُّيا الناس سلوين قبل أن تفقدوينَ ،ف َألنا بطرق السامء أعلم
مني بطرق األرض» (.)3
ب – الطائفة الثانية :ما قد ُيستظهر منها عدم علم أمري املؤمنني بالغيب.
وهي تتمثل يف الرواية السابقة التي استند إليها أصحاب نظرية القراءة املنسية ،و َمن حذا
حذوهم وتأثر بفكرهم.
إن النصوص املتقدمة قد د ّلت عىل علمه بالغيب عىل نحو العموم ،بينام هذا
وبتعبري آخرَّ :
النص قد استثنى بعض موارد الغيب ،ومقتىض اجلمع بينها هو القول بتضييق دائرة العلم
بالغيب ،ال نفي العلم بالغيب من رأس.
تأمل يف املعاجلة:
الشاهد الثاين :ما جاء فيه عىل لسان اخلرض َ ﴿ :فا ْن َط َل َقا َحتَّى إِ َذا َل ِق َيا غُ َال ًما َف َق َت َل ُه
يع َم ِع َي ِ
َّك َل ْن ت َْستَط َ س َل َقدْ ِج ْئ َت َش ْي ًئا ُنك ًْرا * َق َال َأ َمل ْ َأ ُق ْل َل َك إِن َ َق َال َأ َق َت ْل َت َن ْف ًسا َزكِ َّي ًة بِغ ْ ِ
َري َن ْف ٍ
ٍ
بمكان من اإلمكان ،ولكن ُ
فحمل ما أتى ذكره بعد (علم الساعة) عىل االستئناف ( )1جدير بالذكر أننا لو كنَّا نحن واآلية الكريمة
يمتنع هذا احلمل بعد مالحظة الروايات التي استشهدت باآلية الرشيفة أو فرسهتا ،فإهنا قد جعلت اخلمسة يف سياق واحد ،ومنها:
ما ورد عن اإلمام الصادق أنه قال :قال يل أيب :أال أخربك بخمسة مل يطلع اهلل عليها أحدً ا من خلقه؟ قلت :بىل ،قال﴿ :إِ َّن اهللََّ
ِ ِ ِ ِ ِ
وت إِ َّن اهللََّ عَل ٌ
يم ض َمت ُ ُ الساعَة َو ُينَزِّ ُل ا ْل َغيْ َث َو َي ْع َل ُم َما ِيف ْاأل َ ْر َحا ِم َو َما تَدْ ِري َن ْف ٌس َما َذا َتكْس ُ
ب غَدً ا َو َما تَدْ ِري َن ْف ٌس بِ َأ ِّي َأ ْر ٍ عنْدَ ُه علْ ُم َّ
َخبِ ٌري﴾ .كتاب اخلصال :ص.290
( )2سورة يوسف.41 :
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 150
الشاهد اخلامس :ما جاء فيه حاك ًيا قصة ناقة نبي اهلل صالح َ ﴿ :و َيا َق ْو ِم َه ِذ ِه نَا َق ُة ا َِّ
هلل
ٍ وها َت ْأك ُْل ِيف َأ ْر ِ
وها َف َق َال يب * َف َع َق ُر َ اب َق ِر ٌ
وها بِ ُسوء َف َي ْأ ُخ َذك ُْم َع َذ ٌ ض اهللَِّ َو َال َمت َ هس َ َلك ُْم َآ َي ًة َف َذ ُر َ
ِ ِ كْذ ٍ َمت َ َّت ُعوا ِيف َد ِارك ُْم َث َال َث َة َأ َّيا ٍم َذل ِ َك َوعْدٌ غَ ْ ُري َم ُ
ين َآ َمنُوا وب * َف َل َّام َجا َء َأ ْم ُرنَا ن ََّج ْينَا َصاحلًا َوا َّلذ َ
ِ ٍِِ ِ ِ معه بِر ْ َ ٍ ِ
الص ْي َح ُة
ين َظ َل ُموا َّ محة منَّا َوم ْن خ ْز ِي َي ْومئذ إِ َّن َر َّب َك ُه َو ا ْل َق ِو هي ا ْل َع ِز ُيز * َو َأ َخ َذ ا َّلذ َ ََُ َ
ار ِه ْم َجاثِ ِم َ
ني﴾ ( ،)1فإنه رصيح يف علمه بآجال قومه بنحو الدقة َف َأ ْص َب ُحوا ِيف ِد َي ِ
والتحديد.
اتالشاهد السادس :ما جاء فيه عن نبي اهلل يوسف ﴿ :و َق َال املَْلِ ُك إِ ِّين َأرى سبع ب َقر ٍ
َ َ َْ َ َ َ
أل َأ ْفت ِ رض و ُأ َخر يابِسا ٍ ٍ ِس َام ٍن َي ْأ ُك ُل ُه َّن َس ْب ٌع ِع َج ٌ
ُوين ِيف ُر ْؤ َي َ
اي إِ ْن ت َيا َأ ه َُّيا املَْ َ ُ اف َو َس ْب َع ُسنْ ُب َالت ُخ ْ ٍ َ َ َ َ
ني * َو َق َال ا َّل ِذي ن ََجا يل ْاألَ ْح َال ِم بِ َعامل ِ َ َاث َأ ْح َال ٍم َو َما ن َْح ُن بِ َت ْأ ِو ِ
ون * َقا ُلوا َأ ْضغ ُ
رب َ ِ
ُكنْت ُْم ل هلر ْؤ َيا َت ْع ُ ُ
ف َأُّيا الصدِّ ُيق َأ ْفتِنَا ِيف سب ِع ب َقر ٍ ِِ ِ ِ ٍ ِ
ات َ ْ َ َ وس ُ ه َ ِّ من ُْه َام َوا َّدك ََر َب ْعدَ ُأ َّمة َأنَا ُأ َن ِّب ُئك ُْم بِ َت ْأ ِويله َف َأ ْرس ُلون * ُي ُ
ات َل َع َِّل َأ ْر ِج ُع إِ َىل الن ِ رض و ُأ َخر يابِس ٍ ٍ ِس َام ٍن َي ْأ ُك ُل ُه َّن َس ْب ٌع ِع َج ٌ
َّاس َل َع َّل ُه ْم اف َو َس ْب ِع ُسنْ ُب َالت ُخ ْ ٍ َ َ َ َ
ون * ُث َّم ني َد َأ ًبا َف َام َح َصدْ ت ُْم َف َذ ُرو ُه ِيف ُسنْ ُبلِ ِه إِ َّال َقلِ ًيال ِممَّا َت ْأ ُك ُل َ ون َس ْب َع ِسن ِ َ ون * َق َال ت َْز َر ُع َ َي ْع َل ُم َ
ُون * ُث َّم َي ْأ ِيت ِم ْن َب ْع ِد َذلِ َك َي ْأ ِيت ِم ْن َب ْع ِد َذلِ َك َس ْب ٌع ِشدَ ا ٌد َي ْأ ُك ْل َن َما َقدَّ ْمت ُْم َهل ُ َّن إِ َّال َقلِ ًيال ِممَّا ُ ْحت ِصن َ
أيضا يف معرفته بام سيكسبه الناس ون﴾ ( ،)2فإنه رصيح ً ْص َ ِ ِ ِ ام فِ ِيه ُيغ ُ
َّاس َوفيه َي ْع ُ َاث الن ُ َع ٌ
ّ
سيحل عليهم يف مستقبل أيامهم. وما
ٍ
بحرف بالنسبة ألصل وعني هذا الكالم الذي ذكرناه بالنسبة لآلية الكريمة جيري حر ًفا
ُ
أيضا ،فإهنا هي األخرى ال بدَّ من رفع اليد عن ظاهرها؛ الستفاضة علم األئمة
الرواية ً
ببعض ما ُذكر من األمور اخلمسة ،وإليك بعض الشواهد الروائية عىل ذلك:
الشاهد األول :ما ورد يف أحوال أمري املؤمنني ليلة التاسع عرش من شهر رمضان:
قائام وقاعدً ا وراك ًعا وساجدً ا ،ثم خيرج ساعة بعد ساعة يقلب طرفه يف أنه ومل يزل تلك الليلة ً
السامء وينظر يف الكواكب وهو يقول :واهلل ما َك َذبت وال ُك ِذ بت ،وإهنا الليلة التي وعدت هبا،
ثم يعود إىل مصاله ويقول :اللهم بارك يل يف املوت ،ويكثر من قول( :إنا هلل وإنا إليه راجعون)
و(ال حول وال قوة إال باهلل العَل العظيم) (.)1
الشاهد الثاين :قول سيد الشهداء يف خطبته بمكة« :خط املوت عىل ولد آدم خمط
القالدة عىل جيد الفتاة ،وما أوهلني إىل أساليف اشتياق يعقوب إىل يوسف ،وخري يل مْصع أنا
ً
أكراشا القيه ،كأين بأوصايل تقطعها عسالن الفلوات ،بني النواويس وكربال ،فيمألن مني
جوف وأجربة سغبى ،ال حميص عن يوم خط بالقلم» (.)2
وهذا الشاهد وسابقه يدالن عىل علم األئمة بمصائرهم وبأي أرض يموتون ،ووقت
شهادهتم وما جيري عليهم ،وهلام يف الروايات عرشات األمثال.
ثم قال :يا إسحاق اصنع ما أنت صانع فإ ّن عمرك قد فنى ،وإنّك متوت إىل سنتني،
ّ
بعضا ،حتّى
تفرق كلمتهم ،وخيون بعضهم ً وإخوتك وأهل بيتك ال يلبثون َّإال ً
يسريا حتّى ت ّ
عدوهم ،فكان هذا يف نفسك ،فقلت :فإ ّين أستغفر اهلل ممّا عرض يف صدري ،فلم
يشمت هبم ّ
يسريا حتى مات ،فام أتى عليهم َّإال قليل حتّى قام بنو ّ
عامر يلبث إسحاق بعد هذا املجلس َّإال ً
بأموال النّاس فأفلسوا» (.)1
السمري رابع
الشاهد اخلامس :التّوقيع الصادر عن اإلمام املهدي إىل أيب احلسن ّ
حممد السمري ،أعظم اهلل أجر إخوانك
عَل بن ّ
الرمحن الرحيم ،يا ّ
الوكالء األربعة« :بسم اهللَّ ّ
ِ
توص إىل أحد يقوم مقامك بعد فيك ،فإنّك م ّيت ما بينك وبني ستّة أيام ،فامجع أمرك وال
وفاتك ،فقد وقعت الغيبة التّامة ،فال ظهور َّإال بعد إذن اهلل تعاىل ذكره ،وذلك بعد طول األمد
جورا ،وسيأيت من شيعتي من يدّ عي املشاهدة ،أال فمن ا ّدعى
وقسوة القلوب وامتالء األرض ً
العَل قوة َّإال باهلل والصيحة فهو كاذب ٍ
مفرت ،وال حول وال ّ ّ السفياين
املشاهدة قبل خروج ّ
ّ
العظيم.
وهذه الشواهد الثالثة األخرية تدل عىل علم األئمة الطاهرين بآجال غريهم
ومصائرهم عىل نحو الدقة والتفصيل.
قال :فو الذي بعث حممدً ا باحلق نب ًيا لقد نسجت الرياح يف اهلواء الغيوم ،وأرعدت
وأبرقت ،وحترك الناس كأهنم يريدون التنحي عن املطر ،فقال الرضا :عىل رسلكم أُّيا
الناس فليس هذا الغيم لكم ،إنام هو ألهل بلد كذا ،فمضت السحابة وعربت ،ثم جاءت
سحابة أخرى تشتمل عىل رعد وبرق فتحركوا ،فقال :عىل رسلكم فام هذه لكم ،إنام هي ألهل
بلد كذا ،فام زالت حتى جاءت عرش سحابات وعربت ،ويقول عَل بن موسى الرضا :يف
كل واحدة :عىل رسلكم ليست هذه لكم ،إنام هي ألهل بلد كذا ،ثم أقبلت سحابة حادية عرش
فقال :أُّيا الناس هذه سحابة بعثها اهلل لكم ،فاشكروا اهلل عىل تفضله عليكم ،وقوموا إىل
مقاركم ومنازلكم ،فإهنا مسامة لكم ولرؤوسكم ،ممسكة عنكم ،إىل أن تدخلوا إىل مقاركم ،ثم
يأتيكم من اخلري ما يليق بكرم اهلل تعاىل وجالله ،ونزل من عىل املنرب وانْصف الناس ،فام زالت
السحابة ممسكة إىل أن قربوا من منازهلم ،ثم جاءت بوابل املطر فمألت األودية واحلياض
والغدران والفلوات ،فجعل الناس يقولون :هنيئا لولد رسول اهلل كرامات اهلل .)1( »
وهذا الشاهد – كام ترى – يدل عىل علم األئمة الطاهرين بوقت نزول الغيث واملطر
ومقداره عىل نحو الدقة والتفصيل ،بل علمهم حتى بخصوصيات كل سحابة وموضع
هطوهلا.
الشاهد السابع :عن اإلمام الصادق قال« :واهلل لقد أعطينا علم األولني واآلخرين،
فقال له رجل من أصحابه :جعلت فداك أعندكم علم الغيب؟ فقال له :إين ألعلم ما يف
أصالب الرجال وأرحام النساء» (.)2
وهذا الشاهد رصيح يف إحاطتهم بام يف األصالب واألرحام ،ومعرفتهم به ،وهو مما
أكّدوه يف العديد من رواياهتم وأحاديثهم وأخبارهم ،نظري قول النبي لسيد الشهداء احلسني
« :يا حسني ،خيرج من صلبك رجل يقال له زيد ،يتخطى وهو وأصحابه يوم القيامة رقاب
حمجلني ،يدخلون اجلنة بال حساب» (.)3
غرا ّ
الناسًّ ،
أ – الوجه األول :أن ُحتمل اآلية والرواية عىل نفي العلم باخلمسة املذكورة من غري تعليم
اهلل ، وأما بعد تعليمه فال مانع من اإلحاطة هبا؛ ولذا علمت مريم بام يف رمحها بعد تعليم
اهلل تعاىل هلا ،وعلم اخلرض بام سيكتسبه الغالم – الذي قام بقتله – يف مستقبل أيامه بعد
تعليم اهلل تعاىل له ،وهكذا ،فتُحمل مجيع الشواهد املتقدمة عىل العلم بأحد اخلمسة بتعليم اهلل
وإفاضته.
ومما يشهد هلذا الوجه :ما ورد عن اإلمام الصادق َّ « :
إن هلل علمني ،علم تعلمه
مالئكته ورسله ،وعلم ال يعلم غريه ،فام كان مما يعلمه مالئكته ورسله فنحن نعلمه ،وما خرج
من العلم الذي ال يعلمه غريه فإلينا خيرج» ( ،)1فإنه رصيح يف َّ
أن ما ال يعلمه إال اهلل تعاىل قد
خيرج ،وإذا خرج فإنه خيرج إليهم ،وال غرو يف ذلك بعد كوهنم واسطة الفيض ،كام ّ
حققناه
يف كتابنا (الوالية التكوينية بني القرآن والربهان).
ومما يقرب ذلك :ما ورد عن أمري املؤمنني أنه قال« :يا سلامن أما قرأت قول اهلل
ب َف َال ُي ْظ ِهر َع َىل غَ ْيبِ ِه َأ َحدً ا * إِ َّال م ِن ارت ََىض ِمن رس ٍ
ول﴾؟ فقلت :بىل ِ
امل ا ْل َغ ْي ِ
َّ ُ َ ْ ى ُ ى حيث يقولَ ﴿ :ع ُ
يا أمري املؤمنني ،فقال :أنا ذلك املرتىض من الرسول الذي أظهره اهلل عىل غيبه ،أنا
عَل الشدائد فطوى له البعيد» (.)1
هون اهلل ّ
العامل الرباين ،أنا الذي ّ
تغيريا وال
ً ب – الوجه الثاين :أن ُحتمل اآلية والرواية عىل العلم احلتمي – الذي ال يقبل
ً
تبديال – وحتمل الشواهد املذكورة عىل العلم باألمور اخلمسة ولكن عىل نحو العلم البدائي
غري احلتمي القابل للتغيري والتبديل.
ويشهد هلذا الوجه :ما ورد عن أمري املؤمنني أنه قال« :لوال آية يف كتاب اهلل
ألخربتكم بام كان وبام يكون وبام هو كائن إىل يوم القيامة ،وهي هذه اآليةَ ﴿ :ي ْم ُحو اهللَُّ َما َي َشا ُء
َو ُي ْثبِ ُت َو ِعندَ ُه ُأ هم ا ْلكِت ِ
َاب﴾» (.)2
أن هذا املعنى قد تكرر بيانه عىل لسان األئمة ،حتى َّ
أن صاحب قرب وجدير بالذكر َّ
ٌ
اإلسناد قد روى املعنى املذكور ً
قائال« :قال أبو عبد اهلل ،وأبو جعفر ،وعَل بن احلسني ،واحلسني
بن عَل ،واحلسن بن عَل ،وعَل بن أيب طالب :واهلل لوال آية يف كتاب اهلل حلدثناكم بام يكون
إىل أن تقوم الساعةَ ﴿ :ي ْم ُحو اهللَُّ َما َي َشا ُء َو ُي ْثبِ ُت َو ِعندَ ُه ُأ هم ا ْلكِت ِ
َاب﴾» (.)3
ج – الوجه الثالث :عكس الوجه السابق ،بأن ُحتمل اآلية والرواية عىل ما يمكن جريان
البداء فيه من األمور اخلمسةُ ،
وحتمل الشواهد املتقدمة عىل ما ُقيض ُ
وحسم أمره منها.
ان:مح َر ُني َي ْس َأ ُل َأ َبا َج ْع َف ٍر َ « ..ف َق َال َله ُ ْ ان ْب َن َأ ْع َ َ الص ْ َري ِ ِّيف َق َالَ :س ِم ْع ُت ُ ْ
مح َر َ ِ
* عن َسد ٍير َّ
ب َفال ُي ْظ ِه ُر َعىل غَ ْيبِه َأ َحدً ا﴾؟ َف َق َال َأ ُبو َج ْع َف ٍر ﴿ :إِ َّال ِ
عامل ا ْل َغ ْي ِ ِ َ
َأرأ ْي َت َق ْو َله َج َّل ذ ْك ُرهُ ﴿ :
ب﴾ َفإِ َّن اهللَّ ِ
عامل ا ْل َغ ْي ِ َ ِ ِ م ِن ارتَىض ِم ْن رس ٍ
َان واهللَّ ُحم َ َّمدٌ ممَّن ْارت ََضاه ،وأ َّما َق ْو ُلهُ ﴿ : ول﴾ وك َ َ ُ َ ْ
يش ٍء و َي ْق ِضيه ِيف ِع ْل ِمه َق ْب َل َأ ْن َ ْ
خي ُل َقه و َق ْب َل َأ ْن ُي ْف ِض َيه إِ َىل ِ ِ ِ ِ
اب َع ْن َخ ْلقه ف َيام َي ْقد ُر م ْن َ ْ
ِ
َعامل ٌ بِ َام غَ َ
وف ِعنْدَ ه ،إِ َل ْيه فِيه املَْ ِشي َئ ُةَ ،ف َي ْق ِضيه إِ َذا َأ َرا َد ،و َي ْبدُ و َله فِيه َف َال
ان ِع ْل ٌم َم ْو ُق ٌ املَْ َالئِك َِةَ ،ف َذلِ َك َيا ُ ْ
مح َر ُ
هلل
ول ا َُّيم ِضيهَ ،ف َأما ا ْل ِع ْلم ا َّل ِذي ُي َقدِّ ره اهللَّ َ ف َي ْق ِضيه و ُيم ِضيه َف ُه َو ا ْل ِع ْلم ا َّل ِذي ا ْنت ََهى إِ َىل رس ِ
َ ُ ُ ْ ُ ُ َّ ْ
ُ ث َّم إِ َل ْينَا» (.)1
* وعن أيب بصري ،عن أيب عبد اهلل قال« :إن هلل علمني :علم مكنون خمزون ،ال يعلمه
إال هو ،من ذلك يكون البداء ،وعلم علمه مالئكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه» (.)2
وباجلملةَّ ،
فإن اآلية الكريمة والرواية العلوية الرشيفة املفرسة هلا ال يمكن محلهام عىل ما
مها ظاهرتان فيه من انحصار العلم باألمور اخلمسة املذكورة باهلل ّ
جل جالله ،بل هو متاح لغريه
بتعلي ٍم منه تعاىل ،سيام ما قضاه وحسم أمره منها ،وبالتايل َّ
فإن الرواية املذكورة – عىل مجيع
التقادير والوجوه – ال تصلح أن تكون ً
دليال ألصحاب نظرية القراءة املنسية عىل عدم علم
األئمة بالغيب ،كام قد اتضح بام ال مزيد عليه.
هو االعتقاد اإلمجايل بأهنم يعلمون بام كان وما يكون وما هو كائن إىل يوم القيامة ،كام هو
مفاد العديد من كلامهتم الرشيفة ،وأما كيفية علمهم بذلك فاألوىل إرجاعها إليهم .
النص األول :قول أمري املؤمنني « :إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثامن
عىل ما بايعوهم عليه ،فلم يكن للشاهد أن خيتار وال للغائب أن يرد ،وإنام الشورى للمهاجرين
واألنصار ،فإن اجتمعوا عىل رجل وسموه إما ًما كان ذلك هلل رضا» (.)1
وحاصل ما يزعمه أصحاب النظرية ّ
أن هذا النص دال عىل أن مالك اإلمامة هو االجتامع
ِ
نسخته املعارصة. والشورى وليس النص ،وهذا مما يكفي إلثبات خطأ االعتقاد الشيعي يف
وعند الرجوع ملناسبة الصدور نجد أنّه قد صدر من أمري املؤمنني عندما رفض
يقرب كونه قد أراد بكالمه املذكور إلزام معاوية بن أيب ُ
معاوية اخلضوع إلمامته ،وهذا مما ّ
سفيان باملباين التي يلتزم هبا يف كيفية انعقاد اإلمامة.
وهذه املناسبة وإن كان الرشيف الريض مل يذكرها يف النهج ،جلريان عادته غال ًبا عىل
املؤرخ نْص بن مزاحم قد سجلها يف كتابه (وقعة صفني)،
أن ّ االكتفاء بنقل النصوص ،غري َّ
جريرا كتابه ملعاوية ،وقال له« :ائت معاوية بكتايب،
ً محل حيث روى َّ
أن أمري املؤمنني قد ّ
أمريا ،وأن العامة ال
فإن دخل فيام دخل فيه املسلمون وإال فانبذ إليه ،وأعلمه أين ال أرىض به ً
ترىض به خليفة» ،فانطلق جرير حتى أتى الشام ونزل بمعاوية ،فدخل عليه فحمد اهلل وأثنى
عليه ،وقال« :أما بعد يا معاوية ،فإنه قد اجتمع البن عمك أهل احلرمني ،وأهل املْصين ،وأهل
احلجاز ،وأهل اليمن ،وأهل مْص ،وأهل العروض وعامن ،وأهل البحرين والياممة ،فلم يبق
إال أهل هذه احلصون التي أنت فيها ،لو سال عليها سيل من أوديته غرقها .وقد أتيتك أدعوك
إىل ما يرشدك وُّيديك إىل مبايعة هذا الرجل» ،ودفع إليه كتاب عَل بن طالب ،وفيه« :بسم اهلل
الرمحن الرحيم ،أما بعد فإن بيعتي باملدينة لزمتك وأنت بالشام ،ألنه بايعني القوم الذين بايعوا
أبا بكر وعمر وعثامن عىل ما بويعوا عليه ،فلم يكن للشاهد أن خيتار ،وال للغائب أن يرد .وإنام
الشورى للمهاجرين واألنصار ،فإذا اجتمعوا عىل رجل فسموه إما ًما كان ذلك هلل رضا» (.)1
ومن الظاهر جدً ا لكل َمن يلحظ سياقات صدور هذا النص أنه نص إلزامي ليس إال،
وكأن أمري املؤمنني يقول ملعاوية :إنك قد قبلت خالفة َمن سبقوين َّ
ألن املهاجرين َّ
واألنصار قد اجتمعت كلمتهم – بحسب زعمكم – عليهم ،وهذا يقتيض أن ختضع خلالفتي
عَل كام قد اجتمعت عليهم. أيضا؛ َّ
ألن الكلمة قد أمجعت َّ ً
ِ
كونه أبيت عن هذا التوجيه ،وزعمت أنه ال يرقى إىل مستوى الظهور ،فال َّ
أقل من وإن َ
احتامال معتدً ا به عر ًفا ،وهو مما يمنع االستدالل بالنص لتصحيح نظرية القراءة املنسية.
ً
النص الثاين :قول أمري املؤمنني « :دعوين والتمسوا غريي ...وإن تركتموين
فأنا كأحدكم ،و لعَل أسمعكم وأطوعكم ملن و ّليتموه أمركم ،وأنا لكم ً
وزيرا خري لكم مني
أمريا» ( ،)1فإنه ظاهر يف َّ
أن اإلمامة لو كانت معينة بالنص ألمري املؤمنني ملا طلب من الناس ً
ناقض آخر لعقيدة اإلمامة عند الشيعة بصيغتها املعارصة.
تركه والتامس غريه ،وهذا ٌ
ويشهد الشتامل األخبار عىل هذا النوع من النصوص قول اإلمام الرضا « :من ر َّد
دي إىل رصاط مستقيم ،ثم قالَّ :
إن يف أخبارنا متشا ًهبا كمتشابه متشابه القرآن إىل حمكمه ُه َ
وحمكام كمحكم القرآن ،فر ّدوا متشاهبها إىل حمكمها ،وال تتبعوا متشاهبها دون حمكمها
ً القرآن،
فتضلوا» (.)2
وعىل ضوء ذلك ال يصح التشبث بالنص املذكور مع عدم رصاحته يف عدم النص،
والنص عليه ،ومنها:
ّ وإمهال النصوص العلوية األخرى الْصحية يف ثبوت احلق له
• قوله « :ال يقاس بآل حممد من هذه األمة أحد ،وال يسوى هبم من جرت
نعمتهم عليه أبدً ا ،هم أساس الدين ،وعامد اليقني ،إليهم يفيء الغايل ،وهبم يلحق التايل،
وهلم خصائص حق الوالية ،وفيهم الوصية والوراثة ،اآلن إذ رجع احلق إىل أهله ونقل إىل
منتقله» (َّ ،)1
فإن قوله« :وفيهم الوصية» بعد قوله« :وهلم خصائص حق الوالية» إن مل يكن
حيا فهو كالْصيح يف إرادة النص من الوصية.
رص ً
عَل منذ قبض اهلل نبيه حتى
مستأثرا ّ
ً مدفوعا عن حقي
ً • وقوله « :فواهلل ما زلت
أيضا يف كون اخلالفة ً
حقا له عىل نحو التعيني ،ولذا يوم الناس هذا» ( ،)2وهذا رصيح ً
تظ ّلم حني استأثر هبا آخرون وزووه عنها (.)3
• قوله يف اخلطبة الشقشقية« :أما واهلل لقد تقمصها فالن ،وإنه ليعلم أن حمَل منها
إيل الطري ،فسدلت دوهنا ثو ًبا وطويت
حمل القطب من الرحى ،ينحدر عني السيل وال يرقى ّ
كشحا ،وطفقت أرتئي بني أن أصول بيد جذاء أو أصرب عىل طخية عمياءُّ ،يرم فيها الكبري
ً عنها
ويشيب فيها الصغري ،ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ،فرأيت أن الصرب عىل هاتا أحجى،
فصربت ويف العني قذى ويف احللق شجا ،أرى تراثي هن ًبا» (.)4
األول :الشيخ املفيد ،قال« :فأما خطبته التي رواها عبد اهلل بن عباس فهي
أشهر من أن ندل عليها لشهرهتا ،وهي التي يقول يف أوهلا :واهلل لقد تقمصها ابن أيب
قحافة ،وإنه ليعلم أن حمَل منها حمل القطب من الرحى ،ينحدر عني السيل ،وال يرقى إيل الطري،
كشحا» (.)1
ً فسدلت دوهنا ثو ًبا ،وطويت عنها
الثاين :العالمة األميني ،قال« :هذه اخلطبة تسمى بالشقشقية ،وقد كثر الكالم
حوهلا ،فأثبتها مهرة الفن من الفريقني ،ورأوها من خطب موالنا أمري املؤمنني الثابتة التي ال
مغمز فيها» (.)2
وأما علامء السنة ،فقد أنكر مجلة منهم نسبتها إىل أمري املؤمنني وقالوا إهنا من وضع
الرشيف الريض ،ولكن بطالن هذا الكالم من الواضحات ،ونحن نذكر قرينتني تدالن عىل
ذلك:
القرينة الثانية :تْصيح كبار علامء العامة بمعرفتهم بذوق الرشيف الريض األديب،
وأنّه ال يستطيع أن يأيت هبكذا خطبة ،وإليك كالم شارح النهج ابن أيب احلديد املعتزيل الذي
يقول فيه « :فحدثني شيخي أبو اخلري مصدق بن شبيب الواسطي يف سنة ثالث وستامئة ،قال:
فلام انتهيت إىل
قرأت عىل الشيخ أيب حممد عبد اهلل بن أمحد املعروف بابن اخلشاب هذه اخلطبةَّ ،
هذا املوضع ،قال يل :لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له :وهل بقي يف نفس ابن عمك
أمر مل يبلغه يف هذه اخلطبة لتتأسف ،أال يكون بلغ من كالمه ما أراد! واهلل ما رجع عن األولني
وال عن اآلخرين ،وال بقي يف نفسه أحد مل يذكره إال رسول اهلل .
قال مصدق :وكان ابن اخلشاب صاحب دعابة وهزل ،قال :فقلت له :أتقول إهنا
كثريا
منحولة! فقال :ال واهلل ،وإين ألعلم أهنا كالمه ،كام أعلم أنك مصدق .قال فقلت له :إن ً
من الناس يقولون إهنا من كالم الريض .فقال :أنّى للريض ولغري الريض هذا النفس وهذا
األسلوب! قد وقفنا عىل رسائل الريض ،وعرفنا طريقته وفنه يف الكالم املنثور ،وما يقع مع هذا
الكالم يف خل وال مخر .ثم قال :واهلل لقد وقفت عىل هذه اخلطبة يف كتب صنفت قبل أن خيلق
الريض بامئتي سنة ،ولقد وجدهتا مسطورة بخطوط أعرفها ،وأعرف خطوط من هو من العلامء
وأهل األدب قبل أن خيلق النقيب أبو أمحد والد الريض.
كثريا منها يف كتاب أيب جعفر بن قبة أحد متكلمي اإلمامية وهو الكتاب
أيضا ً
ووجدت ً
املشهور املعروف بكتاب (اإلنصاف) ،وكان أبو جعفر هذا من تالمذة الشيخ أيب القاسم
البلخي ،ومات يف ذلك العْص قبل أن يكون الريض موجو ًدا» (.)1
واحلاصلَّ :
فإن صدور اخلطبة الشقشقية عن أمري املؤمنني مما ال ريب فيه ،وال شبهة
تعرتيه.
وقد استخدم أمري املؤمنني يف خطبته الرشيفة لبيان ذلك عدة أساليب ،منها:
األسلوب األول :أسلوب التشبيه ،حيث قال« :أما واهلل لقد تقمصها ابن أيب قحافة ،وإنه
ليعلم أن حمَل منها حمل القطب من الرحى ،ينحدر عني السيل وال يرقى إيل الطري ،فسدلت
كشحا» ( ،)2فش ّبه ً
أوال نفسه بالقطب ،واخلالفة بالرحى ،ويريد ً دوهنا ثو ًبا وطويت عنها
بذلك أنَّه كام َّ
أن الرحى من غري قطب ال أثر هلا وال قيمة ،بل هي جمرد صورة ،كذلك اخلالفة
( )1رشح هنج البالغة البن أيب احلديد :ج ،1ص.206 - 205
( )2علل الرشائع :ج ،1ص.150
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 166
من غريه جمرد صورة ال أثر هلا وال قيمة ،وهذا يعني أهنا له دون سواه ،وهو روحها
وبه وجودها.
األسلوب الثاين :أسلوب التظ ّلم ،وال ختفى داللته عىل ثبوت احلق؛ إذ َّ
أن التظلم فرع
واملظلوم هو َمن ُسلب
ُ ثبوت احلق له واختصاصه به ،باعتبار َّ
أن التظلم إنام يصح من املظلوم،
حقه ،فيكون هذا بيانًا آخر الختصاص اخلالفة به وتع ّينها فيه ،وجتاوز غريه عىل هذا احلق.
رصح َّ
بأن اخلالفة ِ
األسلوب الثالث :أسلوب التْصيح ،فإنه مل يكتف بام تقدم حتى ّ
تراثه ،وأهنا قد ُهنبت منه ،ومع ذلك فإنه قد صرب ويف عينه قذى ويف حلقه شجا ،ومل يقاتل ،ولو
قاتل يف سبيلها لكان ً
حمقا ،فقال« :وطفقت أرتئي بني أن أصول بيد جذاء أو أصرب عىل طخية
عمياءُّ ،يرم فيها الكبري ويشيب فيها الصغري ،ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ،فرأيت أن
الصرب عىل هاتا أحجى ،فصربت ويف العني قذى ويف احللق شجا ،أرى تراثي هن ًبا» ،وهبذا يكون
أمام كل َمن يقرأ اخلطبة فيحاول تأويلها أو رصفها عن وجهها واملقصود منها.
قد قطع الطريق َ
اهلدف األول :تقديم العذر بني يدي األمة لعدم قدرته عىل حتقيق ما ينشدونه من أهداف،
حيث كان الناس يتصورون أن أمري املؤمنني قادر عىل تغيري شأن األمة وإصالح ما فسد
وإصالحا جوهر ًيا ،ولكنه كان يرى نفسه مكتوف اليد غري قادر عىل
ً تغيريا جذر ًيا
ً منها
رسخه األوائل يف نفوس الناس.
التغيري بسبب ما ّ
والشاهد عىل ذلك :ما رواه الشيخ الطربيس يف االحتجاج عنه أنه قال« :لقد عمل
الوالة قبَل بأمور عظيمة خالفوا فيها رسول اهلل متعمدين لذلك ،ولو محلت الناس عىل تركها
وحولتها إىل مواضعها التي كانت عليها عىل عهد رسول اهلل لتفرق عني جندي ،حتى أبقى
وحدي إال ً
قليال من شيعتي ،الذين عرفوا فضَل وإمامتي من كتاب اهلل وسنة نبيه .
أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إىل املكان الذي وضعه فيه رسول اهلل،
ورددت فدك إىل ورثة فاطمة سالم اهلل عليها ،ورددت صاع رسول اهلل ومده إىل ما كان،
وأمضيت إىل قطايع كان رسول اهلل أقطعها للناس سنني ،ورددت دار جعفر بن أيب طالب
إىل ورثته ،وهدمتها وأخرجتها من املسجد ،ورددت اخلمس إىل أهله ،ورددت قضاء كل من
قىض بجور ،ورددت سبي ذراري بني تغلب ،ورددت ما قسم من أرض خيرب ،وحموت ديوان
العطاء ،وأعطيت كام كان يعطي رسول اهلل ،ومل أجعلها دولة بني األغنياء.
واهلل لقد أمرت الناس :أن ال جيمعوا يف شهر رمضان إال يف فريضة ،فنادى بعض أهل
عسكري ممن يقاتل وسيفه معي :أنعى اإلسالم وأهله.)1( » ...
من حرض هناك ،بينام الثاين قد متت خالفته باختيار األول له ،من غري أن يكون ألهل احلل
والعقد رأي يف ذلك ،وأما الثالث فقد متت بيعته عن طريق الشورى ،فأراد أمري املؤمنني
احتجاجا،
ً – وهو يرى املستقبل املضني أمامه – أن يعتمد خطة أخرى تكون أقوى إثباتًا وألزم
فرفض أن يبا َيع إال يف املسجد بحضور مجيع الناس لتتم بذلك احلجة عىل اجلميع.
اهلدف الثالث :هتيئة األمة لقبول رشوطه ،ويشهد لذلك قوله « :دعوين والتمسوا
أمرا له وجوه وألوان ،ال تقوم له القلوب وال تثبت عليه العقولَّ ،
وإن غريي ،فإنا مستقبلون ً
اآلفاق قد أغامت واملحجة قد تنكرت ،واعلموا أين إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ،ومل أصغ
أخريكم بني
إىل قول القائل وعتب العاتب ،وإن تركتموين فأنا كأحدكم» ،وكأنه يقول :إنني ّ
()1
خيارين :إما أن ترتكوين فأكون كأحدكم ،وإما أن تبايعوين فأقوم بتطبيق الرشيعة الواضحة،
فال حيق لكم حينئذ أن تعاتبوين ،وإن فعلتم فلن أصغي لقولكم ولن أعبأ بعتبكم.
ومن تلك الرشوط التي اشرتطها أمري املؤمنني عليهم :أن يكون بيت املال بيده،
يتْصف فيه ً
طبقا للمصلحة التي تعود عىل املجتمع اإلسالمي ،ويشهد عىل هذا الرشط قوله
إيل وأتيتم ،وإين قائل لكم ً
قوال إن قبلتموه قبلت أمركم ،وإال فال « :إنكم قد اختلفتم ّ
حاجة يل فيه ،قالوا :ما قلت من يشء قبلناه إن شاء اهلل ،فجاء فصعد املنرب ،فاجتمع الناس إليه،
كارها ألمركم ،فأبيتم إال أن أكون عليكم ،أال وإنه ليس يل أمر دونكم إال
فقال :إين قد كنت ً
مها دونكم ،رضيتم؟ قالوا :نعم ،قال:
أن مفاتيح مالكم معي ،أال وإنه ليس يل أن آخذ منه در ً
اللهم اشهد عليهم ،ثم بايعهم عىل ذلك» (.)2
املحصلة األخرية:
ٍ
شخص كانت له سيطرة واملقصود من فالن أحد األولني؛ إذ النص ظاهر يف مدح
وقوم األود ،ومل يكن أحد هبذه الصفات إال أحدمها،
وهيمنة ،وقد استفاد منها فأقام السنة ّ
فيدل هذا عىل احرتام أمري املؤمنني هلام ،وهو خيدش فيام عليه الشيعة من اعتقاد أنه صاحب
صح صدور هذا املدح والثناء عنه.
احلق املنصوص عليه دون سواه ،إذ لو كان األمر كذلك ملا َّ
املعاجلة األوىل :ما أفادها املريزا اخلوئي يف منهاج الرباعة ،وحاصلهاّ :
إن القول بأن
املقصود من (فالن) هو أحد األولني قول ال دليل عليه ،بل الدليل عىل خالفه؛ ألن الصفات
املذكورة يف اخلرب تنطبق عىل غريمها.
قلنا :من املحتمل جدً ا أن يكون هو مالك األشرت ،فإنه كان وال ًيا عىل مْص ،وكان له
دور كبري يف تقريب املْصيني نحو أمري املؤمنني ،وقد مدحه أمري املؤمنني يف موارد
متفرقة من النهج الرشيف ،وليكن هذا بعض مدحه.
وأما غريه فتكفيك اخلطبة الشقشقية املتقدّ مة لنفي أن يكون هو املقصود من النص يقينًا
وجز ًما (.)1
ذهب بالسنة وأبقى الفتنة» ( ، )1وبعد أن حكى هذا القول عن اجلارية قال« :واهلل ما قالت
ولكنها ُق ِّو َلت» ( ، )2وال خيلو هذا التعليق عن غمز ومهز ،كام ال خيفى عىل املتأمل.
وعىل ضوء هذه املعاجلة تكون نسبة الرشيف الريض هذا النص ألمري املؤمنني
اشتباها ،فإنه مت ّثل به وحكاه ،فاشتبه األمر عليه (.)3
ً
ُ
تأصيل عقيدة اإلمامة يف هنج البالغة. – 3اجلهة الثالثة:
توطئة:
( )1قال العالمة عبد اهلل بن اإلمام اهلادي احلسن بن حييى القاسمي – أحد علامء الزيدية – يف كتابه (اجلداول الصغرى املختْصة
من الطبقات الكربى) « :238 / 2قال السيد الوزيري :ما كان يف هنج البالغة فهو صحيح .وقال السيد العالمة داود بن حييى:
انعقد إمجاع العرتة عىل أن هنج البالغة كالم عَل .»
173 البحث الثامن :تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية
ّإال َّ
أن بعض علامئنا قد قاموا بجهود مباركة يف خدمة هنج البالغة ودفع شبهة الوضع عن
الرشيف الريض ، وممن قام بذلك :العالمة السيد عبد الزهراء اخلطيب ،فقد أ ّلف
كتا ًبا من أربعة جملدات أسامه (مصادر هنج البالغة وأسانيده) ،وقد تتبع فيه املصادر التي سبقت
والدة الرشيف الريض ،واستخرج خطب هنج البالغة من تلك املصادر ووثقها ،وكانت أكثر
من مائة مصدر ،و الكثري منها ليس من مصادر الشيعة ،بل هو من مصادر غريهم ،كتاريخ
الطربي ،والبيان والتبيان للجاحظ ،واملقتىض للمربد ،واملعارف البن قتيبة ،وغريب احلديث
البن سالم.
وهذا مما يكفي لتعرية شبهة وضع الرشيف الريض خلطب النهج وكلامته ،عىل َّ
أن
خاصا ليس لغريه،
نفسا ً العارف بأساليب أمري املؤمنني اإلنشائية والبالغية يدرك َّ
أن له ً
أنفاسا خاصة مت ّيز كل واحد منهم عن غريه من الشعراء،
ً كام َّ
أن للمتنبي وأيب متام والبحرتي
طافحا يف كلامت هنج البالغة
ً والنَ َف ُس العلوي املذكور يلمسه العارفون بأساليب الكالم
وخطبه ورسائله.
ومما يشهد لذلك :ما تقدّ م نقله عن ابن أيب احلديد املعتزيل يف رشح هنج البالغة – عند
وصوله إىل رشح اخلطبة الشقشقية – حيث قال« :وأما قول ابن عباس" :ما أسفت عىل
كالم "...إىل آخره ،فحدثني شيخي أبو اخلري مصدق بن شبيب الواسطي يف سنة ثالث
وستامئة ،قال :قرأت عىل الشيخ أيب حممد عبد اهلل بن أمحد املعروف بابن اخلشاب هذه اخلطبة،
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 174
فلام انتهيت إىل هذا املوضع ،قال يل :لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له :وهل بقي يف
َّ
نفس ابن عمك أمر مل يبلغه يف هذه اخلطبة لتتأسف ،أال يكون بلغ من كالمه ما أراد! واهلل ما
رجع عن األولني وال عن اآلخرين ،وال بقي يف نفسه أحد مل يذكره إال رسول اهلل .
قال مصدق :وكان ابن اخلشاب صاحب دعابة وهزل ،قال :فقلت له :أتقول أهنا
كثريا
منحولة! فقال :ال واهلل ،وإين ألعلم أهنا كالمه ،كام أعلم أنك مصدق .قال فقلت له :إن ً
من الناس يقولون إهنا من كالم الريض .فقال :أنّى للريض ولغري الريض هذا النفس وهذا
األسلوب! قد وقفنا عىل رسائل الريض ،وعرفنا طريقته وفنه يف الكالم املنثور ،وما يقع مع هذا
الكالم يف خل وال مخر ،ثم قال :واهلل لقد وقفت عىل هذه اخلطبة يف كتب صنفت قبل أن خيلق
الريض بامئتي سنة ،ولقد وجدهتا مسطورة بخطوط أعرفها ،وأعرف خطوط من هو من العلامء
وأهل األدب قبل أن خيلق النقيب أبو أمحد والد الريض.
وبعد هذه التوطئة نعود للكالم حول موضوع (تأصيل عقيدة اإلمامة يف هنج البالغة)،
ولدينا فيه حموران سنكتشف من خالل ما نعرضه فيهام َّ
أن عقيدة اإلمامة بنسختها احلالية
ضاربة اجلذور يف الفكر الشيعي ،وليست نسخة مستحدثة أو مصحفة ،وإليك التفصيل:
َّ
ولعل أهم املالمح – التي نقرأها يف هنج البالغة – أربعة:
ومن تتبع كلامت أمري املؤمنني يف النهج يقف بوضوح عىل ورود هذا االصطالح
فيه ،ونكتفي يف املقام بعرض كلمتني من كلامته الرشيفة:
الكلمة األوىل :قوله « :أال وإن لكل مأموم إما ًما يقتدي به ويستيضء بنور علمه ،أال
وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ،ومن طعمه بقرصيه» (.)1
الكلمة الثانية :قوله « :أُّيا الناس ،إين قد بثثت لكم املواعظ التي وعظ األنبياء هبا
أممهم ،وأديت إليكم ما أدت األوصياء إىل َمن بعدهم ،وأدبتكم بسوطي فلم تستقيموا،
وحدوتكم بالزواجر فلم تستوثقوا ،هلل أنتم! أتتوقعون إما ًما غريي يطأ بكم الطريق ويرشدكم
السبيل؟!» (.)2
نصان:
ويشهد لذلك ّ
مشهورا أو
ً ظاهرا
ً ويشهد لذلك قوله « :ال ختلو األرض من قائم هلل بحجة ،إما
مغمورا ،لئال تبطل حجج اهلل وب ّيناته» (.)3
ً خائ ًفا
ويشهد لذلك قوله « :وإنام األئمة قوام اهلل عىل خلقه ،وعرفاؤه عىل عباده ،ال يدخل
اجلنة إال من عرفهم وعرفوه ،وال يدخل النار إال من أنكرهم وأنكروه» ( ،)4فإنه يدل عىل َّ
أن
اإلمامة من أصول الدين وليست من فروعه؛ إذ كام َّ
أن النجاة ودخول اجلنة تدور مدار التوحيد
والنبوة؛ ألهنام أصالن ،كذلك فإهنا – بمقتىض هذا النص – تدور مدار والية أهل البيت ،
أيضا ،عىل غرار التوحيد والنبوة.
وهذا يعني كوهنا من األصول ً
آل ُحم َ َّم ٍد ِ م ْن َه ِذه اس بِ ِ مر عليك قري ًبا – عنه َ « :ال ُي َق ُ فقد جاء يف النهج – كام ّ
وع َام ُد ا ْل َي ِق ِ
ني ،إِ َل ْي ِه ْم ين ِ اس الدِّ ِ ِ
وال ُي َس َّوى ِهبِ ْم َم ْن َج َر ْت ن ْع َمت ُُه ْم َع َل ْيه َأ َبدً اُ ،ه ْم َأ َس ُ األُ َّم ِة َأ َحدٌ َ ،
ص َح ِّق ا ْل ِو َال َي ِة ،وفِ ِيه ُم ا ْل َو ِص َّي ُة وا ْل ِو َرا َث ُة» (.)1 ِ
وهل ُ ْم َخ َصائ ُ َّايلَ ، َي ِفي ُء ا ْلغ ِ
َايل ِ ِ
وهب ْم ُي ْل َح ُق الت ِ
فقد جاء يف النهج عنه « :أين الذين زعموا أهنم الراسخون يف العلم دوننا كذ ًبا وبغ ًيا
علينا ،أن رفعنا اهلل ووضعهم ،وأعطانا وحرمهم ،وأدخلنا وأخرجهم ،بنا يستعطى اهلدى
ويستجىل العمى» (.)2
الكلمة األوىل :قوله « :ومل جيمع بيت واحد يومئذ يف اإلسالم غري رسول اهلل
وخدجية وأنا ثالثهام .أرى نور الوحي والرسالة ،وأشم ريح النبوة ،ولقد سمعت رنة الشيطان
حني نزل الوحي عليه ،فقلت :يا رسول اهلل ،ما هذه الرنة؟ فقال :هذا الشيطان أيس من
عبادته .إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إال أنك لست بنبي ،ولكنك وزير ،وإنك لعىل
خري»(.)1
الكلمة الثانية :قوله « :نحن شجرة النبوة ،وحمط الرسالة ،وخمتلف املالئكة ،ومعادن
العلم ،وينابيع احلكم ،نارصنا وحمبنا ينتظر الرمحة» (.)2
سابقاَّ :
أن كلامت أمري املؤمنني - يف النهج -تثبت العصمة ألئمة أهل وقد ذكرنا ً
البيت من زوايا متعددة ،وهي:
الكلمة األوىل :قوله « :وإين لعىل يقني من ريب ،وغري شبهة من ديني» (.)3
الكلمة األوىل :قوله « :وقد علمتم موضعي من رسول اهلل بالقرابة القريبة،
واملنزلة اخلصيصة .وضعني يف حجره وأنا ولد يضمني إىل صدره ،ويكنفني إىل فراشه،
ويمسني جسده ،ويشمني عرفه ،وكان يمضغ الَشء ثم يلقمنيه ،وما وجد يل كذبة يف قول،
وال خطلة يف فعل» (.)1
الكلمة الثانية :عنه « :ونشهد أن ال إله غريه وأن حممدً ا عبده ورسوله ،أرسله بأمره
ناطقا ،فأ ّدى أمينًا ،ومىض رشيدً ا ،وخ ّلف فينا راية احلق ،من تقدّ مها مرق،
صادعا ،وبذكره ً
ً
ومن خت ّلف عنها زهق ،ومن لزمها حلق ،دليلها مكيث الكالم» (.)2
الكلمة الثالثة :عنه « :انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم ،واتبعوا أثرهم ،فلن
خيرجوكم من هدى ،ولن يعيدوكم يف ردى ،فإن لبدوا فالبدوا ،وإن هنضوا فاهنضوا ،وال
تسبقوهم فتضلوا ،وال تتأخروا عنهم فتهلكوا» (.)3
ويشهد لذلك قوله « :فالتمسوا ذلك من عند أهله فإهنم عيش العلم وموت اجلهل.
هم الذين خيربكم حكمهم عن علمهم ،وصمتهم عن منطقهم ،وظاهرهم عن باطنهم .ال
خيال فون الدين وال خيتلفون فيه ،فهو بينهم شاهد صادق ،وصامت ناطق» (.)4
ويشهد لذلك :قوله « :وإن الكتاب ملعي ،ما فارقته مذ صحبته» (.)1
وقد قربنا – فيام سبق – داللة هذه الكلمة وما سبقها من الكلامت عىل العصمة ،فراجع.
الكلمة األوىل :قوله « :أُّيا الناس ،سلوين قبل أن تفقدوين ،فألنا بطرق السامء أعلم
مني بطرق األرض» (.)2
الكلمة الثانية :قوله « :فاسألوين قبل أن تفقدوين ،فوالذي نفيس بيده ال تسألوين عن
يشء فيام بينكم وبني الساعة ،وال عن فئة هتدي مائة وتضل مائة إال أنبأتكم بناعقها وقائدها
وسائقها ،ومناخ ركاهبا وحمط رحاهلا ،ومن يقتل من أهلها ً
قتال ،ويموت منهم مو ًتا .ولو قد
فقدمتوين ونزلت بكم كرائه األمور وحوازب اخلطوب ألطرق كثري من السائلني وفشل كثري
من املسؤولني» (.)3
الكلمة الثالثة :قوله « :واهلل لو شئت أن أخرب كل رجل منكم بمخرجه وموجله ومجيع
شأنه لفعلت ،ولكن أخاف أن تكفروا ّيف برسول اهلل ،أال وإين مفضيه إىل اخلاصة ممن يؤمن
ذلك منه .والذي بعثه باحلق واصطفاه عىل اخللق ما أنطق إال صاد ًقا .وقد عهد إيل بذلك كله،
وبمهلك من ُّيلك ومنجى من ينجو ،ومآل هذا األمر ،وما أبقى شي ًئا يمر عىل رأيس إال أفرغه
يف أذين وأفىض به إيل» (.)1
املحصلة األخرية:
سابقاَّ :
أن لنظرية القراءة املنسية بعدين: ذكرنا ً
وقد تقدمت مناقشة النظرية يف بعدها األول ،وأوضحنا زيفها ووهنها بام ال مزيد عليه،
وقد حان الوقت ملناقشتها يف بعدها الثاين ،وهو ما نحن بصدده يف هذا املقام.
ودليلهم عىل ذلك هي النصوص البالغة – لكثرهتا وتعدد طرقها – حد التواتر ،بل فوق
التواتر ،ويمكن تصنيفها إىل سبع طوائف:
أمريا،
الطائفة األوىل :األخبار املتواترة الدالة عىل َّأهنم اثنا عرش إما ًما أو ول ًّيا أو خليفة أو ً
ً
مفصال إن شاء اهلل نظري قول النبي « :بعدي اثنا عرش خليفة» ( ،)1وسيأيت احلديث عنها
تعاىل عند حديثنا حول أدلة اإلمامة ،فالحظ.
ومتتاز هذه الطائفة بأهنا مروية من طريق الفريقني ،وهي متواترة ،بل َّ
إن طرقها عند كل
واحد من الفريقني تفوق حد التواتر؛ إذ يروُّيا من طريق العامة فقط مخسة عرش صحاب ًيا،
وبعرشات الطرق ،وقد أوردها أصحاب الصحاح ،كالبخاري ومسلم ،مما جيعل عقيدة (االثني
عرشية) عقيدة إسالمية ال ختتص بالشيعة اإلمامية فقط.
أضيق
ُ الطائفة الثانية :األخبار الدالة عىل َّأهنم اثنا عرش إما ًما من قريش ،وهذه الطائفة
دائرة –مفهو ًما– من سابقتها ،وقد استفاض نقلها يف صحاح القوم ،ومنها :ما رواه البخاري
يف صحيحه بسنده عن جابر بن سمرة ،قال« :سمعت النبي صىل اهلل عليه [وآله] وسلم يقول:
أمريا ،فقال كلمة مل أسمعها ،فقال أيب :أنه قال :كلهم من قريش» (.)2
يكون اثنا عرش ً
الطائفة الثالثة :األخبار الدالة عىل َّأهنم اثنا عرش إما ًما ،وكلهم من بني هاشم ،وهذه
أضيق مفهو ًما من سابقتها،
ُ الطائفة واردة يف بعض كتب القوم ،وهلا مقارب يف كتبنا ( ،)3وهي
إال أهنا قليلة جدً ا ،ومن مجلة روايات هذه الطائفة :ما رواه القندوزي يف (الينابيع) ً
قائال :عن
عبد امللك بن عمري ،عن جابر بن سمرة قال« :كنت مع أيب عند رسول اهلل (صىل اهلل عليه
[وآله] وسلم) فسمعته يقول :بعدي اثنا عرش خليفة ،ثم أخفى صوته ،فقلت أليب :ما الذي
أخفى صوته؟ قال :قال :كلهم من بني هاشم» (.)1
الطائفة الرابعة :األخبار الدالة عىل َّأهنم من أهل بيته ،وقد ض ّيقت هذه الطائفة دائرة
املفهوم من (بني هاشم) إىل خصوص (أهل البيت ،)وهذه الطائفة تصل إىل قرابة اخلمسني
حدي ًثا ،وأكثرها من طرقنا ،وهذا ما جيعلها يف حد التواتر ،ومنها :قول النبي « :األئمة اثنا
عرش من أهل بيتي» (.)2
الطائفة اخلامسة :األخبار الدالة عىل َّأهنم عَل واحلسن واحلسني وتسعة من صلب احلسني
،وهي أضيق من سابقاهتا ،وتصل إىل قرابة املائة حدي ًثا ،وبذلك تكون متواترة ،وأكثرها
من طرقنا ،وقليل منها من طرقهم.
ومن هذه الطائفة :ما رواه يف (كفاية األثر) بسنده عن زيد بن أرقم قال :سمعت رسول
اهلل صىل اهلل عليه [وآله] وسلم يقول لعَل « :أنت اإلمام واخلليفة بعدي ،وابناك سبطاي،
ومها سيدا شباب أهل اجلنة ،وتسعة من صلب احلسني أئمة معصومون ،ومنهم قائمنا أهل
البيت» (.)3
• األول :خروج أوالد أمري املؤمنني من غري السيدة فاطمة الزهراء ،وكذا
خروج أوالد اإلمام احلسن .
• الثاين :إثبات إمامة اإلمام زين العابدين ؛ ألنه مل يكن لإلمام احلسني بعد
مقتله ولدٌ سواه ،وبام َّ
أن اإلمامة يف صلبه فتع ّينت فيه.
• الثالث :ثبوت اإلمامة يف صلب اإلمام زين العابدين ،وامتدادها يف ذريته
املباركة ونسله الطاهر.
الطائفة السادسة :األخبار الدالة عىل أسامئهم ،وهذه الطائفة تتجاوز اخلمسني حدي ًثا،
وفيها الصحاح واحلسان واملعتربات ،ومن أشهرها احلديث املعروف بـ (حديث اللوح) ،وقد
نُقل القليل منها يف كتب العامة.
يف كتابه فرائد السبطني ،والذي ألجل روايته ملثل هذه احلموي()1
ومنها :ما أورده
األحاديث ُرمي بالتش ّيع ،مع أنه شيخ الذهبي (.)2
( )1قال عنه الذهبي يف (تذكرة احلفاظ :ج ،4ص « :)199وسمعت من اإلمام املحدث األوحد األكمل فخر اإلسالم صدر الدين
إبراهيم بن حممد ابن املؤيد بن محويه اخلراساين اجلويني شيخ الصوفية ،قدم علينا طالب حديث [و]روى لنا عن رجلني من أصحاب
حلا ،وعىل يده أسلم غازان
املؤيد الطويس ،وكان شديد االعتناء بالرواية وحتصيل األجزاء حسن القراءة مليح الشكل مهي ًبا دينًا صا ً
امللك ،مات سنة اثنتني وعرشين وسبعامئة وله ثامن وسبعون سنة ،رمحه اهلل تعاىل».
( )2ويمكن استفادة تلمذ الذهبي عليه من خالل شواهد كثرية ،منها :تْصيح الذهبي بذلك يف موضعني:
املوضع األول :يف معجم الشيوخ الكبري (ج ،1ص« :)158 – 157إبراهيم بن حممد بن املؤيد بن عبد اهلل بن عَل بن حممد بن محويه
الشيخ القدوة صدر الدين أبو املجامع اجلويني اخلراساين الصويف املحدث ،مولده سنة أربع وأربعني وست مائة.
وسمع يف سنة أربع وستني من عثامن بن موفق وغريه ،وكان صاحب حديث واعتنى بالرواية.
قدم علينا بعدما أسلم عىل يد غازان ملك التتار بواسطة نائبه نورور ،فسمع معنا من أيب حفص بن القواس وطائفة ،ثم حج بآخره
يف سنة عرشين وسبع مائة ،وحدث فذكر يل احلافظ صالح الدين أنه سمع منه ،فذكر له أنه قد يصل له إىل اآلن رواية مائتي جزء
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 186
وقد نقل عنه القندوزي ،حيث قال « :ويف فرائد السمطني :بسنده عن جماهد ،عن ابن
عباس قال :قدم ُّيودي يقال له نعثل ،فقال :يا حممد أسألك عن أشياء تلجلج يف صدري
منذ حني فإن أجبتني عنها أسلمت عىل يديك.
فقال : ال يوصف إال بام وصف به نفسه ،وكيف يوصف اخلالق الذي تعجز العقول
أن تدركه واألوهام أن تناله ،واخلطرات أن حتده ،واألبصار أن حتيط به ،جل وعال عام يصفه
الواصفون ،نا ٍء يف قربه ،وقريب يف نأيه ،هو ك ّيف الكيف ،وأ ّين األين ،فال يقال له أين هو؟
وهو منقع الكيفية ،واألينونية ،فهو األحد الصمد كام وصف نفسه ،والواصفون ال يبلغون
كفوا أحد.
نعته ،مل يلد ومل يولد ،ومل يكن له ً
قال :صدقت يا حممد ،فأخربين عن قولك إنه واحد ال شبيه له ،أليس اهلل واحدً ا واإلنسان
واحدً ا؟ فقال : اهلل (عز وعال) واحد حقيقي ،أحدي املعنى ،أي ال جزء وال تركب له،
واإلنسان واحد ثنائي املعنى ،مركب من روح وبدن.
قال :صدقت ،فأخربين عن وصيك من هو؟ فام من نبي إال وله ويص ،وإن نبينا موسى
بن عمران أوّص يوشع بن نون .فقال :إن وصيي عَل بن أيب طالب ،وبعده سبطاي احلسن
واحلسني ،تتلوه تسعة أئمة من صلب احلسني.
قال :يا حممد فسمهم يل؟ قال :إذا مىض احلسني فابنه عَل ،فإذا مىض عَل فابنه حممد ،فإذا
مىض حممد فابنه جع فر ،فإذا مىض جعفر فابنه موسى ،فإذا مىض موسى فابنه عَل ،فإذا مىض
عَل فابنه حممد ،فإذا مىض حممد فابنه عَل ،فإذا مىض عَل فابنه احلسن ،فإذا مىض احلسن فابنه
احلجة حممد املهدي ،فهؤالء اثنا عرش» (.)1
الطائفة السابعة :األخبار الدالة عىل إمامة كل إمام بشكل مستقل ،وهي ال حتىص لكثرهتا.
املحصلة األخرية:
عودة إىل إشكالية نظرية القراءة املنسية حول البعد العددي لإلمامة:
وبعد أن أوضحنا أن عقيدة الشيعة اإلمامية االثني عرشية يف اإلمامة – من زاوية بعدها
عام يواجه
رسختها السنة املطهرة ،تصل النوبة إىل البحث ّ
العددي – عقيدة إسالمية أصيلة ،قد ّ
هذه النظرية من اإلثارة واإلشكال ،وهي عبارة عن ثالث إشكاليات:
املحور األول :عدم التامنع بني وجود النص ونشوء املذاهب والفرق.
الشاهد األول :استخالف نبي اهلل موسى ألخيه هارون ،فإنه رغم استخالفه له
وتنصيصه عليه ،إال أن ذلك مل يمنع قومه من االختالف والتفرق ،وقد حتدث القرآن الكريم
اخ ُل ْفنِي ِيف ون ْوسى ِألَ ِخ ِيه َه ُار َ عن تنصيص النبي موسى عىل أخيه هارون فقالَ ﴿ :و َق َال ُم َ
ِ ِ ِ ِ
ين﴾ ( ، )2ثم حتدث عن متردهم عىل هذا النص فقال: َق ْومي َو َأ ْصل ْح َو َال َتتَّبِ ْع َسبِ َيل املُْ ْفسد َ
وسى ِم ْن َب ْع ِد ِه ِم ْن ُحلِ ِّي ِه ْم ِع ْج ًال َج َسدً ا َل ُه ُخ َو ٌار َأ َمل ْ َي َر ْوا َأ َّن ُه َال ُي َك ِّل ُم ُه ْم َو َال َ ُّْي ِدُّيِ ْم
﴿ َو َّاخت ََذ َق ْو ُم ُم َ
يكتف بذلك بل أوضح موقف النبي موسى من ِ ني﴾ ( ،)3ومل َسبِ ًيال َّاخت َُذو ُه َوكَانُوا َظامل ِ َ
وين ِم ْن َب ْع ِدي﴾ (.)4
ان َأ ِس ًفا َق َال بِ ْئ َس َام َخ َل ْفت ُُم ِ
وسى إِ َىل َق ْو ِم ِه غَ ْض َب َ
متردهم ،فقالَ ﴿ :وملََّا َر َج َع ُم َ
الشاهد الثاين :حكاية القرآن الكريم لتبشري النبي عيسى بنبوة رسول اهلل ،ولكن
النصارى مل يؤمنوا بنبوته رغم وضوحها يف التوراة واإلنجيل وتبشري النبي عيسى هبا،
رسائِ َيل إِ ِّين َر ُس ُ
ول اهللَِّ إِ َل ْيك ُْم ُم َصدِّ ًقا ِ ِ ِ
ويدل عىل ذلك قوله َ ﴿ :وإِ ْذ َق َال ع َ
يسى ا ْب ُن َم ْر َي َم َيا َبني إ ْ َ
ول ي ْأ ِيت ِمن بع ِدي اسمه َأ ْمحَدُ َف َلام جاءهم بِا ْلبين ِ ِ ِ َمل ِا َب ْ َ
َات َقا ُلوا َه َذا َّ َ َ ُ ْ َ ِّ ْ ُُ ْ َْ رشا بِ َر ُس ٍ َني َيدَ َّي م َن الت َّْو َراة َو ُم َب ِّ ً
ني﴾ ( ،)1وقوله حاك ًيا عن موقفهم إزاء هذا النصَ ﴿ :يا َأ ْه َل ا ْلكِت ِ
َاب ِمل َ َت ْلبِ ُس َ
ون ِس ْح ٌر ُمبِ ٌ
احل َّق َو َأ ْنت ُْم َت ْع َل ُم َ
ون﴾ (.)2 احل َّق بِا ْل َباطِ ِل َو َت ْكت ُُم َ
ون ْ َ َْ
أيضا يف تنصيص النبي عيسى عىل نبوة خاتم وكام ترىَّ ،
فإن هذه اآليات رصحية ً
األنبياء حممد ،ووجود هذا النص يف التوراة واإلنجيل ،غري َّ
أن ذلك مل يمنع من عدم إيامن
النصارى واملسيح بنبوته .
واحلاصل :فإن القرآن قد طرح شواهد واضحة الختالف األمم وترشذمها وتفرقها مع
وجود النص العاصم هلا من الفرقة والترشذم ،مما جيعل الشبهة املتقدمة -التي يتبجح هبا
أصحاب نظرية القراءة املنسية -واهية باطلة بنص القرآن الكريم الذي يتفق عليه اجلميع.
حني نرجع إىل الكتب املختصة التي تناولت الفرق واملذاهب وسلطت النظر عىل الفرق
الشيعية ،نالحظ أن الفرق التي ذكرت يف هذه الكتب قد اضمحلت ومل تبق منها إال فرقتان
فقط ،ومها :الزيدية واإلسامعيلية ،ولكن بعد مالحظة هذه الفرق -حتى املندرس منها-
ودراسة أسباب نشوئها ،فإنن ا نقف عىل ثالثة عوامل رئيسية قد أدت إىل نشوئها:
العامل األول :الطمع واهلوى ،وهذا ما غلب عىل أصحاب تلك الفرق ،كالواقفية ،وهي
الفرقة التي وقفت عىل إمامة اإلمام الكاظم ومل تقل بإمامة اإلمام الرضا َّ ،
فإن الذي
محل رؤساءهم عىل ذلك هو طمعهم يف األموال التي كانت بحوزهتم.
ويشهد لذلك :ما رواه الشيخ الكَش عن أمحد بن حممد ،قال« :أحد القوم عثامن بن
عيسى ،وكان يكون بمْص ،وكان عنده مال كثري وست جوار ،فبعث إليه أبو احلسن فيهن
واحتج
ّ صحت األخبار بموته، ويف املال ،وكتب إليهّ :
إن أيب قد مات وقد اقتسمنا مرياثه ،وقد ّ
عليه .قال :فكتب إليه :إن مل يكن أبوك مات فليس من ذلك يشء ،وإن كان قد مات عىل ما
حتكي فلم يأمرين بدفع يشء إليك ،وقد أعتقت اجلواري» (.)1
العامل الثاين :العاطفة املفرطة ،فقد روى الشيخ الكَش عن ابن أيب يعفور أن اإلمام
جزعا عليه،
ً الصادق قال يف حق اإلمام الكاظم « :يضل به قوم من شيعتنا بعد موته
فيقولون :مل يمت ،وينكرون األئمة من بعده ،ويدعون الشيعة إىل ضالهلم ،ويف ذلك إبطال
حقوقنا وهدم دين اهلل ،يا ابن أيب يعفور فاهلل ورسوله منهم بريء ،ونحن منهم براء» ( ،)2ومن
العامل الثالث :القصور املعريف ،فإن الشيعة آنذاك -كام هم اليوم -فيهم العامل واجلاهل،
وفيهم الفطن وغريه ،وفيهم احلريص عىل املعرفة وغري اآلبه هبا ،وهكذا.
وهذا القصور املعريف املوجود لدى بعضهم قد قاده إىل القول بإمامة من مل يكن ً
أهال
لإلمامة ،ويظهر ذلك من ذهاب بعض الشيعة آنذاك إىل القول بإمامة عبد اهلل األفطح ابن اإلمام
الصادق ،مستدلني بحديث رووه عن اإلمام الصادق « :اإلمامة يف األكرب من ولد
اإلمام إذا مىض» ( ،)1واحلال َّ
أن النص قد كان له قيد مهم ،ولعله مل يصل إىل بعض الشيعة
تقصريا ،وهو« :أن األمر يف الكبري ما مل يكن به عاهة» ( ،)2ومن الواضح أن عبد اهلل
ً قصورا أو
ً
كان أفطح الرجل وهي عاهة معروفة ،فالقول بإمامته – واحلال هذه – ال يكون إال لقصور
معريف واضح.
ونظري هؤالء من وقفوا عىل إمامة اإلمام الرضا وأنكروا إمامة اإلمام اجلواد ،
زعام منهم أن اجلواد ليس بعامل؛ ألنه ابن سبع سنوات ،بينام اإلمام جيب أن يكون عاملًا ،وهذا
ً
أيضا قصور معريف واضح كام ال خيفى ،وهو ما استدعى من اإلمام الرضا أن ينبه عىل هذا
ً
األمر ويزيح هذه الشبهة ،ولذا أكّد عىل استحقاق اإلمام اجلواد لإلمامة عىل صغر سنه،
وقام بتأصيل القضية ،ويشهد لذلك ما رواه الشيخ الكليني عن احلسني بن حممد ،عن
اخلرياين ،عن أبيه قال« :كنت واق ًفا بني يدي أيب احلسن بخراسان ،فقال له قائل :يا سيدي
إن كان كون فإىل من؟ قال :إىل أيب جعفر ابني ،فكأن القائل استصغر سن أيب جعفر ،فقال
ً
رسوال نب ًيا ،صاحب رشيعة مبتدأة، أبو احلسن :إن اهلل تبارك وتعاىل بعث عيسى ابن مريم
يف أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر .)1( »
وبااللتفات هلذه العوامل – وما شاكلها – يتّضح الوجه يف وقوع االختالف والترشذم
بني الشيعة آنذاك رغم وجود النصوص اجلل ّية الْصحية.
أما يف بعدها النظري -أي :أن األئمة بعد النبي اثنا عرش -فال شك يف أصالتها ،وقد نقل
ذلك املسلمون كافة عن رسول اهلل بام هو فوق حد التواتر ،حتى َّ
أن البغوي يف كتابه (رشح
السنة) قد قال ً
معلقا عىل حديث االثني عرش« :هذا حديث متفق عىل صحته» (.)2
النص األول :للشيخ عَل بن بابويه القمي - املتوف سنة 329هـ -والد الشيخ
معارصا لزمن الغيبة الصغرى ،فإنه قال يف
ً الصدوق ،وهو من علامء القرن الثالث ،وكان
ً
وغفال ،ملا وردت األخبار ً
مهمال عن العدد كتابه الشهري (اإلمامة والتبْصة)« :ولو كان أمرهم
الوافرة بأخذ اهلل ميثاقهم عىل األنبياء وسالف الصاحلني من األمة.
ويدلك عىل ذلك :قول أيب عبد اهلل حني سئل عن نوح ملا ذكر (استوت سفينته
عىل اجلودي هبم) :هل عرف نوح عددهم؟
وكيف خيتلف عدد يعرفه أبو البرش ،ومن درج من عرتته ،واألنبياء من عقبه ،عىل رشذمة
من ذريته وبقية يسرية من ولده؟!
وأي تأويل يدخل عىل حديث اللوح ،وحديث الصحيفة املختومة ،واخلرب الوارد عن
جابر يف صحيفة فاطمة ؟» (.)1
فإن هذا النص بعد تْصحيه بوجود عدد حمدد حلجج اهلل تعاىل ،وتْصحيه َّ
بأن العدد مذكور َّ
يف حديث اللوح والصحيفة املختومة وخرب جابر ٍ
بنحو ال يقبل التأويل ،يدل عىل أصالة عقيدة
االثني عرشية آنذاك؛ إذ َّ
أن العدد املذكور يف األحاديث املذكورة هو االثنا عرش.
النص الثاين :للشيخ سعد بن عبد اهلل األشعري ،وهو من وجهاء الشيعة وأجالء
علامئهم يف القرن الثالث – تويف قري ًبا من سنة 300هـ -كام أنه كان من أصحاب اإلمام احلسن
العسكري ،قال يف كتاب (املقاالت والفرق)« :ففرقة منها -وهي املعروفة باإلمامية -
قالت :هلل يف أرضه بعد ميض احلسن بن عَل حجة عىل عباده وخليفة يف بالده ،قائم بأمره من
ولد احلسن بن عَل بن حممد بن عَل الرضا ،آمر ٍ
ناه مبلغ عن آبائه مو ّدع عن أسالفه ما استودعوه
من علوم اهلل وكتبه وأحكامه وفرائضه وسننه ،عامل بام حيتاج إليه اخللق من أمر دينهم ومصالح
دنياهم ،خلف ألبيه ،وويص له ،قائم باألمر بعده ،هاد لألمة ،مهدي عىل املنهاج األول،
والسنن املاضية من األئمة اجلارية» (.)1
النص الثالث :للشيخ إبراهيم بن نوبخت املعارص للشيخ ابن بابويه -املتقدم،-
حيث نقل يف كتابه (الياقوت) – وهو تقري ًبا أول مؤ َّلف عقائدي قد وصلنا من أصحاب األئمة
، وقد تواله األعالم بالرشح ،ومن أهم رشوحه رشح العالمة احلَل - قال« :القول يف
متواترا النص عليهم بأسامئهم من
ً إمامة األحد عرش بعده (أي بعد عَل )ن َْق ُل أصحابنا
الرسول يدل عىل إمامتهم ،وكذلك نقل النص من إمام عىل إمام وكتب األنبياء سال ًفا يدل
وخصوصا خرب مرسوق يعرتفون به» (.)3
ً عليهم،
واحلاصلَّ :
فإن هذه ثالثة نصوص مهمة ملربزي علامء الشيعة يف القرن الثالث اهلجري،
وهي تكشف عن أن العقيدة الشيعية املتعارفة اليوم هي نفسها التي كان عليها سلفنا الصالح،
ً
وتطبيقا عىل أئمتنا الطاهرين ،وهذا كاشف تنظريا
ً وقد وصلتهم -كام وصلتنا -بالتواتر
متأصلة ،وليست مستحدثة يف القرن الرابع كام قال بعض
ّ ّ
متجذرة قطعي عن كوهنا عقيدة
الوامهني.
أردت زيادة عىل ذلك ،لترتقى يف مراتب اليقني ،فدونك بعض النصوص من مصادر
َ وإن
غري اإلمامية – عىل اختالفهم – وستنتهي منها إىل نفس النتيجة املتقدمة:
النص األول :قال القايض نشوان احلمريي –أحد كبار علامء الزيدية املتوف عام 573هـ-
يف كتابه (احلور العني) متحد ًثا عن الشيعة« :وقالوا بعد ذلك :إن اإلمام بعد حممد بن علي ابنه
علي بن حممد ،وإن اإلمام بعد علي ابنه احلسن بن علي ،وهو املعروف بالعسكري ،ومات
العسكري -وهو احلسن بن علي بن حممد بن علي بن موسى بن جعفر بن حممد -يف شهر
ربيع األول لثمان خلون منه ،سنة ستني ومائتني ،وال ولد للعسكري ،فاختلط عليهم أمره،
فقالوا :إن له ولدًا مكتو ًما يظهره اهلل عز وجل إذا شاء ،وإنه القائم املهدي املنتظر عندهم ،وإن
خواص شيعته تعرفه وتلقاه ،وإنه يظهر إذا شاء اهلل.
ورووا أخبا ًرا عن أسالفهم :أن األئمة من آل حممد اثنا عشر إمامًا ،ال يزيدون وال
ينقصون ،أوهلم عَل ثم احلسن ثم احلسني ،ثم علي بن احلسني ،ثم حممد بن علي ،ثم جعفر بن
حممد ،ثم موسى بن جعفر ،ثم علي بن موسى ،ثم حممد بن علي ،ثم علي بن حممد ،ثم احلسن
بن علي العسكري .قالوا :فهؤالء أحد عشر إمامًا ،والثاين عشر هو ولد العسكري هذا املستور
الذي ادعوه ،وهو املهدي املنتظر عندهم.
197 البحث الثامن :تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية
وهؤالء يسمون :القطعية واالثني عشرية ،وهم أكثر الشيعة عد ًدا على وجه األرض»(.)1
إن هذا النص يعود للقرن السادس ،فال يفيدنا شي ًئا؛ َّ
ألن مدعى أصحاب نظرية وال ُيقالَّ :
تم تأسيسها يف القرن الرابع. القراءة املنسية َّ
أن عقيدة االثني عرشية قد َّ
إن النص املذكور وإن كان يعود للقرن السادس ،غري َّ
أن املصادر التي ينقل ألنه ُيقالَّ :
عنها تعود للقرن الثالث ،فإنه بعد أن كتب ما كتبه حول الشيعة قال« :فهذه الشيعة يف اإلمامة
على ما حكاه عنهم أبو عيسى الوراق ،وزرقان بن موسى ،وأبو القاسم البلخي يف كتبهم» (.)2
أ /األول :حممد بن هارون (أبو عيسى الوراق) ،صاحب كتاب (اختالف الشيعة
معارصا لإلمامني العسكريني ،وقد ّأرخ
ً واملقاالت) ،ويظهر أنه من املعتزلة ( ،)3وكان
الزركَل عام وفاته بسنة 247هـ (.)4
ج /والثالث :أبو القاسم البلخي ،وهو شيخ املعتزلة يف زمانه ،ومن كبار املتكلمني ،وله
معرفة واسعة بمذاهب الناس ،وقد صنّف يف ذلك كتابه (املقاالت) ،وتويف سنة 327هـ.
النص الثاين :قال أبو احلسن األشعري مؤسس مذهب األشاعرة – املتوف سنة 324هـ:
سموا (قطعية) ألهنم قطعوا عىل موت (موسى بن
«فالفرقة األوىل منهم وهم (القطعية) ،وإنام ّ
النبي صىل اهللّ عليه [وآله] وسلم
أن ّ جعفر بن حممد بن عَل) ،وهم مجهور الشيعة ،يزعمون َّ
نص عىل إمامة ابنه نص عىل إمامة (عَل بن أيب طالب) واستخلفه بعده بعينه واسمهَّ ،
وأن عل ًّيا ّ ّ
نص عىل إمامة أخيه (احلسني بن عَل) ،وأن احلسني بن (احلسن بن عَل)َّ ،
وأن احلسن بن عَل ّ
نص عىل إمامة ابنه (حممد بن
نص عىل إمامة ابنه (عَل بن احلسني) ،وأن عَل بن احلسني ّ
عَل ّ
نص عىل نص عىل إمامة ابنه (جعفر بن حممد)َّ ،
وأن جعفر بن حممد ّ عَل) ،وأن حممد بن عَل ّ
نص عىل إمامة ابنه (عَل بن موسى) ،وأن إمامة ابنه (موسى بن جعفر)َّ ،
وأن موسى بن جعفر ّ
نص عىل إمامة نص عىل إمامة ابنه (حممد بن عَل بن موسى)َّ ،
وأن حممد بن عَل َّ عَل بن موسى ّ
نص عىل إمامة ابنه ابنه (عَل بن حممد بن عَل بن موسى)َّ ،
وأن عَل بن حممد بن عَل بن موسى ّ
نص
بسامرا ،وأن احلسن بن عَل ّ
ّ (احلسن بن عَل بن حممد بن عَل بن موسى) ،وهو ا ّلذي كان
عىل إمامة ابنه (حممد بن احلسن بن عَل) ،وهو الغائب املنتظر عندهم الذي يدّ عون أنه يظهر
جورا» (.)1
ظلام و ً فيمأل األرض ً
عدال بعد أن ملئت ً
النص الثالث :قال املؤرخ املسعودي -املتوف سنة 346هـ -يف (مروج الذهب)« :ويف
سنة ستني ومائتني قبض أبو حممد احلسن بن عَل بن حممد بن عَل بن موسى بن جعفر بن حممد
بن عَل بن احلسني بن عَل بن أيب طالب يف خالفة املعتمد ،وهو ابن تسع وعرشين سنة ،وهو
أبو املهدي املنتظر ،واإلمام الثاين عرش عند القطعية من اإلمامية ،وهم مجهور الشيعة» (.)1
النص الرابع :قال القايض أبو حنيفة النعامن بن حممد التميمي املغريب – املتوف سنة
363هـ وهو من أبرز علامء اإلسامعيلية -يف كتابه (افتتاح الدعوة) ،متحد ًثا عن (منصور
اليمن) وهو (أبو القاسم احلسن بن فرج بن حوشب بن زادان الكويف ،املتوف سنة 268هـ):
« وكان ابتداء أمر أيب القاسم صاحب دعوة اليمن –فيام أخربنا به أهل العلم والثقة من
وقومه
أصحابه– أنه كان من أهل الكوفة ،من أهل بيت علم وتشيع ،وكان قد قرأ القرآن ّ
وطلب احلديث والفقه ،وكان ممن يذهب إىل مذهب اإلمامية االثني عرشية ،أصحاب حممد
بن احلسن بن عَل بن حممد بن عَل بن موسى بن جعفر بن حممد ،الذين كانوا يرون أنه املهدي،
وأنه يظهر ويكون من أمره ما يكون عىل ما جاءت به األخبار عن رسول اهلل .)2( »
وهبذا يتضح اجلواب عن اإلشكالية األوىل ،وفيام يَل نستعرض اجلواب عن اإلشكالية
الثانية.
النقطة األوىل :عدم التالزم بني تواتر القضية ووضوحها لدى اجلميع.
وأحد الشواهد عىل ذلك هو :تعامل الناس مع األخبار التي يسمعوهنا من نرشات
ً
تعامال يقين ًيا قطع ًيا ال تشوبه شائبة األخبار – فيام لو تعددت جهات النقل وكثر الناقلون –
الشك ،وما ذلك إال ملا تنتجه تلك املقدمات من تراكم االحتامالت املو ّلد للجزم واليقني.
أن النقطة اجلديرة باالهتامم هي :أنه رب قضية متواترة ولكنها ال تكون واضحة لدى
إال َّ
اجلميع؛ إذ بعد وضوح َّ
أن التواتر يتقوم بكثرة النقل والناقلني ،فمن اطلع عىل تلك الكثرة
201 البحث الثامن :تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية
ارتفعت عنده القيمة االحتاملية لصدق اخلرب حتى تصل إىل القطع واليقني ،ولكن من مل يطلع
عليها َّ
فإن القضية ال تكون متواترة عنده بطبيعة احلال ،وإن كانت متواترة يف نفسها.
النقطة الثانية :بيان أسباب عدم وضوح قضية التنصيص عىل أسامء األئمة لدى مجيع
الشيعة.
أ /العامل األول :اعتامد األئمة سياسة التعتيم عىل أسامء السلسلة االثني عرشية ،من أجل
احلفاظ عليهم ،والشاهدُ عىل ذلك ما رواه الكليني عن هشام بن سامل أنه بعد أن علم
بإمامة اإلمام الكاظم سأله ً
قائالُ « :جعلت فداك ،أسألك عام كنت أسأل أباك؟ فقال :سل
ُخت َْرب وال ت ُِذع ،فإن أذعت فهو الذبح .فسألته فإذا هو بحر ال ينزف ،قلت :جعلت فداك،
أخذت َ ّ
عَل الكتامن؟ قال :من َ شيعتك وشيعة أبيك ُض ّالل فألقي إليهم وأدعوهم إليك ،وقد
آنست منه رشدً ا ِ
فألق إليه ،وخذ عليه الكتامن ،فإن أذاعوا فهو الذبح ،وأشار بيده إىل حلقه»(.)1
الشاهد الثاين :اعتامد األئمة عىل أسلوب العالمات ملعرفة املعصوم وتشخيصه ،فإهنم
قد ذكروا لتشخيص اإلمام مجلة من العالمات ،كحيازته لسالح رسول ودرعه ،وأنه
ِ
وعليه فمتى ما توفرت صاحب العلم والعامل بام كان وما يكون ،وما إىل ذلك من عالمات،
ٍ
شخص َما من أهل البيت ُعرف أنه هو صاحب األمر ،وأنه هو اإلمام احلق. هذه العالمات يف
ب /العامل الثاين :تفاوت الشيعة أنفسهم – آنذاك – يف االهتامم املعريف ،فبعضهم كان
مهتام مهتام بمعرفة معامل دينه من عقائد وأحكام ،وبعضهم مل يكن كذلك ،كام َّ
أن بعضهم كان ً ً
مهتام بذلك ،بل كان يكفيه انتامؤه لألئمة
بمعرفة أسامء األئمة ،بينام بعضهم اآلخر مل يكن ً
األطهار ،والبناء عىل االئتامم بإمام احلق أ ًيا كان ،فكان يعتمد عىل عامل الوقت ملعرفة
اإلمام ،أو ال يسأل عن ذلك إال عند احلاجة ...وهكذا ،ومن الطبيعي أن ينعكس هذا التفاوت
يف االهتامم املعريف عىل معرفة عموم الشيعة بأسامء األئمة ،فيعلمها قوم وجيهلها آخرون.
203 البحث الثامن :تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية
ونظرا لتفرق الرواة يف البلدان ،ووجود روايات األسامء عند بعضهم ،وضعف التواصل
ً
أوجب أن تكون معرفة
َ بينهم ،بسبب ظروف ذلك الزمان وحمدودية إمكانياتهّ ،
فإن ذلك
األسامء املنصوصة مقصورة عىل َمن وصلهم النص من الرواة والشيعة دون غريهم.
واحلاصل :فمع االلتفات هلذه العوامل واألسباب يزول التعجب عن ظاهرة عدم معرفة
بعض الشيعة بأسامء أئمة أهل البيت .
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 204
وحمصل اإلشكالية – كام تقدم – هو عدم االنسجام بني دعوى تواتر نصوص االثني
ّ
مر هبا بعض أجالء
عرشية ،والتنصيص عىل األئمة بأسامئهم وأعياهنم ،وبني احلرية التي َّ
أصحاب األئمة الطاهرين يف معرفة اإلمام الالحق عند رحيل اإلمام السابق ،نظري حرية
زرارة بن أعني عند موت اإلمام الصادق ؛ إذ َّ
أن هذا من املؤرشات الواضحة عىل
كون العقيدة املذكورة من األوهام التي ال واقع هلا.
وقد جرى ديدن أصحاب هذه الشبهة عىل التمسك بعدة نامذج – من كبار األجالء –
لتثبيت القول بأن تواتر النص عىل أسامئهم باطل ،ومنهم:
فقد روى الشيخ الصدوق يف (كامل الدين) قال« :حدثنا أيب قال :حدثنا حممد بن
حييى العطار ،عن حممد بن أمحد بن حييى بن عمران األشعري ،عن أمحد بن هالل ،عن حممد
بن عبد اهلل بن زرارة ،عن أبيه قال :ملَّا بعث زرارة عبيدً ا ابنه إىل املدينة ليسأل عن اخلرب بعد ميض
فلام اشتد به األمر أخذ املصحف وقال :من أثبت إمامته هذا املصحف فهو
أيب عبد اهلل َّ ،
رب من إرسال زرارة ابنه إىل املدينة ،وقوله« :من أثبت هذا
إمامي» ،وما اشتمل عليه هذا اخل ُ
()1
املصحف إمامته فهو إمامي» دليل عىل عدم معرفته باإلمام بعد الصادق .
فقد روى الكليني يف الكايف« :عن هشام بن سامل قال :كنّا باملدينة بعد وفاة أيب عبد
اهلل أنا وصاحب الطاق ،والناس جمتمعون عىل عبد اهلل بن جعفر أنه صاحب األمر بعد
أبيه ،فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق والناس عنده ،وذلك أهنم رووا عن أيب عبد اهلل أنه
قال" :إن األمر يف الكبري ما مل تكن به عاهة" ،فدخلنا عليه نسأله عام كنا نسأل عنه أباه ،فسألناه
عن الزكاة يف كم جتب؟ فقال :يف مائتني مخسة ،فقلنا :ففي مائة؟ فقال :درمهان ونصف ،فقلنا:
واهلل ما تقول املرجئة هذا ،قال :فرفع يده إىل السامء فقال :واهلل ما أدري ما تقول املرجئة.
ضال ًال ال ندري إىل أين نتوجه أنا وأبو جعفر األحول ،فقعدنا يف
قال :فخرجنا من عنده ّ
بعض أزقة املدينة باكني حيارى ال ندري إىل أين نتوجه؟ وال من نقصد؟ ونقول :إىل املرجئة؟
ً
شيخا ال إىل القدرية؟ إىل الزيدية؟ إىل املعتزلة؟ إىل اخلوارج؟ فنحن كذلك إذ رأيت ً
رجال
إيل بيده ،فخفت أن يكون عينًا من عيون أيب جعفر املنصور ،وذلك أنه كان له
أعرفه ،يومي ّ
باملدينة جواسيس ينظرون إىل من اتفقت شيعة جعفر عليه ،فيرضبون عنقه ،فخفت أن
يكون منهم ،فقلت لألحول :تنح فإين خائف عىل نفيس وعليك ،وإنام يريدين ال يريدك ،فتنح
عني ال هتلك وتعني عىل نفسك ،فتنحى غري بعيد ،وتبعت الشيخ ،وذلك أين ظننت أين ال أقدر
عىل التخلص منه ،فام زلت أتبعه وقد عزمت عىل املوت حتى ورد يب عىل باب أيب احلسن ،
ثم خالين ومىض.
فإذا خادم بالباب فقال يل :ادخل رمحك اهلل ،فدخلت فإذا أبو احلسن موسى ،فقال
إيل
يل ابتداء منه :ال إىل املرجئة وال إىل القدرية وال إىل الزيدية وال إىل املعتزلة وال إىل اخلوارجّ ،
إيل ،فقلت :جعلت فداك مىض أبوك؟ قال :نعم ،قلت :مىض موتًا؟ قال :نعم ،قلت :فمن لنا
ّ
من بعده؟ فقال :إن شاء اهلل أن ُّيديك هداك ،قلت :جعلت فداك َّ
إن عبد اهلل يزعم أنه من بعد
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 206
أبيه ،قال :يريد عبد اهلل أن ال يعبد اهلل ،قال :قلت :جعلت فداك فمن لنا من بعده؟ قال :إن
شاء اهلل أن ُّيديك هداك ،قال :قلت :جعلت فداك فأنت هو؟ قال ال ،ما أقول ذلك ،قال:
فقلت يف نفيس :مل أصب طريق املسألة ،ثم قلت له :جعلت فداك عليك إمام؟ قال :ال،
فداخلني يشء ال يعلمه إال اهلل إعظا ًما له وهيبة أكثر مما كان حيل يب من أبيه إذا دخلت عليه.
ثم قلت له :جعلت فداك أسألك عام كنت أسأل أباك؟ فقال :سل خترب وال تذع ،فإن
أذعت فهو الذبح .فسألته فإذا هو بحر ال ينزف ،قلت :جعلت فداك شيعتك وشيعة أبيك
ُض ّالل فألقي إليهم وأدعوهم إليك ،وقد أخذت عَل الكتامن؟ قال :من آنست منه رشدً ا ِ
فألق ّ
إليه ،وخذ عليه الكتامن ،فإن أذاعوا فهو الذبح ،وأشار بيده إىل حلقه.
قال :فخرجت من عنده ،فلقيت أبا جعفر األحول فقال يل :ما وراءك؟ قلت :اهلدى،
فحدّ ثته بالقصة ،قال :ثم لقينا الفضيل وأبا بصري فدخال عليه وسمعا كالمه وساءاله وقطعا
أفواجا ،فكل من دخل عليه قطع ،إال طائفة عامر وأصحابه،
ً عليه باإلمامة ،ثم لقينا الناس
فلام رأى ذلك قال :ما حال الناس؟ فأخرب َّ
أن وبقي عبد اهلل ال يدخل إليه إال قليل من الناسَّ ،
هشا ًما صد عنك الناس ،قال هشام :فأقعد يل باملدينة غري واحد ليرضبوين» (.)1
صحيحا ملا
ً قال الشيخ الصدوق « :قالت الزيدية :لو كان خرب األئمة االثني عرش
كان الناس يشكّون بعد الصادق جعفر بن حممد يف اإلمامة ،حتى تقول طائفة من الشيعة
بعبد اهلل ،وطائفة بإسامعيل ،وطائفة تتحري ،حتى أن الشيعة منهم من امتحن عبد اهلل بن
فلام مل جيد عنده ما أراد خرج وهو يقول :إىل أين؟ إىل املرجئة أم إىل القدرية؟ أم
الصادق َّ
إىل احلرورية؟ َّ
وإن موسى بن جعفر سمعه يقول هذا فقال له" :ال إىل املرجئة ،وال إىل القدرية،
إيل".
وال إىل احلرورية ،ولكن ّ
فأما زرارة بن أعني :فإنه مات قبل انْصاف من كان وفده ليعرف اخلرب ،ومل يكن سمع
بالنص عىل موسى بن جعفر من حيث قطع اخلرب عذره ،فوضع املصحف الذي هو القرآن
عىل صدره ،وقال :اللهم إين أئتم بمن يثبت هذا املصحف إمامته ،وهل يفعل الفقيه املتد ّين
عند اختالف األمر عليه إال ما فعله زرارة؟!
عىل أنه قد قيل :إن زرارة قد كان علم بأمر موسى بن جعفر وبإمامته ،وإنام بعث ابنه
عبيدا ليتعرف من موسى بن جعفر :هل جيوز له إظهار ما يعلم من إمامته؟ أو يستعمل
التقية يف كتامنه؟ وهذا أشبه بفضل زرارة بن أعني وأليق بمعرفته.
حدثنا أمحد بن زياد بن جعفر اهلمداين ،قال :حدثنا عَل بن إبراهيم بن هاشم ،قال:
حدثني حممد بن عيسى بن عبيد ،عن إبراهيم بن حممد اهلمداين ،قال :قلت للرضا :يا
ابن رسول اهلل أخربين عن زرارة ،هل كان يعرف حق أبيك ؟ فقال :نعم ،فقلت له :فلم
بعث ابنه عبيدً ا ليتعرف اخلرب إىل من أوّص الصادق جعفر بن حممد ؟ فقالَّ :
إن زرارة كان
ونص أبيه عليه ،وإنام بعث ابنه ليتعرف من أيب هل جيوز له أن يرفع
يعرف أمر أيب ّ
ونص أبيه عليه؟ وأنه ملَّا أبطأ عنه ابنه طولب بإظهار قوله يف أيب فلم
التقية يف إظهار أمره ّ
حيب أن يقدم عىل ذلك دون أمره ،فرفع املصحف وقال :اللهم َّ
إن إمامي من أثبت هذا
املصحف إمامته من ولد جعفر بن حممد .
209 البحث الثامن :تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية
حدثنا أيب قال :حدثنا حممد بن حييى العطار ،عن حممد بن أمحد بن حييى بن عمران
األشعري ،عن أمحد بن هالل ،عن حممد بن عبد اهلل بن زرارة ،عن أبيه قال :ملَّا بعث زرارة
فلام اشتد به األمر أخذ
عبيدً ا ابنه إىل املدينة ليسأل عن اخلرب بعد ميض أيب عبد اهلل َّ ،
املصحف وقال :من أثبت إمامته هذا املصحف فهو إمامي.
وبعد أن أحطنا بام أفاده الشيخ الصدوق - وهو مهم جدً ا ،كام ظهر – نرشع يف بيان
جوابنا عن اإلشكالية.
والشاهد عىل ذلك :ما ذكره سعد بن عبد اهلل األشعري - وهو من أصحاب اإلمام
العسكري - يف كتابه (الفرق واملقاالت) ،حيث قال:
«وقالت الفرقة السادسة :إن اإلمام موسى بن جعفر بعد أبيه ،وأنكروا إمامة عبد اهلل،
وخ ّطؤوه يف جلوسه جملس أبيه وا ّدعائه اإلمامة ،وكان فيهم من وجوه أصحاب جعفر بن حممد
مثل :هشام بن سامل اجلواليقي ،وعبد اهلل بن أيب يعفور ،وعمر بن يزيد بياع السابري ،وحممد
بن نعامن أيب جعفر األحول مؤمن الطاق ،وعبيد بن زرارة بن أعني ،ومجيل بن دراج ،وأبان بن
تغلب ،وهشام بن احلكم ،وغريهم من وجوه شيعته وأهل العلم منهم والفقه والنظر ،وهم
الذين قالوا بإمامة موسى بن جعفر عند وفاة أبيه ،إىل أن رجع إليهم عامة أصحاب جعفر عند
وفاة عبد اهلل ،فاجتمعوا مجي ًعا عىل إمامة موسى» (.)1
مر هبا اإلمام الكاظم وشيعة أهل البيت آنذاك ب /املقدمة الثانيةَّ :
إن املحنة التي َّ
كانت أشد حمنة وأقسى مرحلة وأصعب فرتة عاشها أحد املعصومنيَّ ،
فإن السجن والتضييق
والتنكيل باإلمام وشيعته قد بلغ الذروة يف عهد اإلمام الكاظم ،ولنا عىل ذلك ستة
شواهد:
الشاهد األول :تأكيد اإلمام الصادق عىل تداول النص عىل اإلمام الكاظم يف
خاصة أصحابه وخ ّلصهم؛ حفا ًظا عىل حياة اإلمام الكاظم .
نطاق ّ
ومن ذلك :ما رواه الكليني عن املفضل بن عمر قال« :كنت عند أيب عبد اهلل
ِ
استوص به ،وضع أمره عند من تثق به من فدخل أبو إبراهيم وهو غالم ،فقال:
أصحابك» (.)1
ومن ذلك :ما رواه الكليني بسند معترب عن فيض بن املختار ،يف حديث طويل يف
أمر أيب احلسن ،جاء فيه َّ
أن اإلمام الصادق قال له« :هو صاحبك الذي سألت عنه،
فأقر له بحقه ،فقمت حتى ق ّبلت رأسه ويده ودعوت اهلل له ،فقال أبو عبد اهلل :
فقم إليه ّ
أما إنه مل يؤذن لنا يف أول منك ،قال :قلت :جعلت فداك فأخرب به أحدً ا؟ فقال :نعم أهلك
فلام أخربهتم
وولدك ،وكان معي أهَل وولدي ورفقائي ،وكان يونس بن ظبيان من رفقائيَّ ،
محدوا اهلل ،وقال يونس :ال واهلل حتى أسمع ذلك منه ،وكانت به عجلة ،فخرج فأتبعته،
فلام انتهيت إىل الباب سمعت أبا عبد اهلل يقول له - :وقد سبقني إليه -يا يونس األمر كام
َّ
قال لك فيض ،قال :فقال :سمعت وأطعت ،فقال يل أبو عبد اهلل :خذه إليك يا فيض»(.)2
الشاهد الثاين :متويه اإلمام الصادق عىل الويص بعده ،وهو ما رواه الكليني :
إيل أبو جعفر املنصور يف جوف الليل ،فأتيته فدخلت عليه
«عن أيب أيوب النحوي قال :بعث ّ
فلام سلمت عليه رمى بالكتاب
وهو جالس عىل كريس وبني يديه شمعة ويف يده كتاب ،قالَّ :
إيل وهو يبكي ،فقال يل :هذا كتاب حممد بن سليامن خيربنا َّ
أن جعفر بن حممد قد مات ،فإنا هلل ّ
وإنا إليه راجعون -ثال ًثا -وأين مثل جعفر؟! ثم قال يل :اكتب ،قال :فكتبت صدر الكتاب،
ثم قال :اكتب "إن كان أوّص إىل رجل واحد بعينه فقدّ مه وارضب عنقه" ،قال :فرجع إليه
اجلواب أنه قد أوّص إىل مخسة ،وأحدهم أبو جعفر املنصور ،وحممد بن سليامن وعبد اهلل
وموسى ومحيدة» (.)1
الشاهد الثالث :االستنفار األمني بح ًثا عن اإلمام الذي جتتمع عليه كلمة الشيعة بعد
شهادة اإلمام الصادق ، ويدل عليه ما تقدم عند ذكر ما جرى هلشام بن سامل ،حيث قال:
إيل بيده ،فخفت أن يكون عينًا من عيون
شيخا ال أعرفه ،يومي ّ «فنحن كذلك إذ رأيت ً
رجال ً
أيب جعفر املنصور ،وذلك أنه كان له باملدينة جواسيس ينظرون إىل من اتّفقت شيعة جعفر
عليه ،فيرضبون عنقه».
الشاهد الرابع :حتذير اإلمام الكاظم من املجاهرة بإمامته وإعالهنا إال خلواص
املؤمنني املوثوقني ،ويشهد لذلك قوله املتقدم هلشام« :قال :من آنست منه رشدً ا ِ
فألق إليه ،وخذ
عليه الكتامن ،فإن أذاعوا فهو الذبح -وأشار بيده إىل حلقه .)2( »-
الشاهد اخلامس :التكنية عن اسم اإلمام الكاظم من قبل الرواة حني حيدّ ثون عنه،
كتكنيته بالعبد الصالح ،والعامل ،والفقيه ،والشيخ ،والرجل ،وأيب احلسن ،وأيب احلسن
نص علامء
األول ،وأيب احلسن املايض ،واملايض ،وأيب إبراهيم ،وهكذا ،وهذه الظاهرة -كام ّ
احلديث -مل تكن موجودة إال يف التحديث عن اإلمام الكاظم .
فقد ورد عن اإلمام الصادق « :ما بدا هلل يف يشء كام بدا له يف إسامعيل ابني» (،)2
ً
تعويال عىل وتوضيح ذلكَّ :
أن بعض الشيعة وأصحاب اإلمام الصادق كانوا يعتقدون –
أن اإلمامة يف ولده (إسامعيل)؛ إذ َّ
أن واحدة من تلكم العالمات أن يكون نصوص العالمات – َّ
وعن ذلك يتحدث زرارة فيقول« :دخلت عىل أيب عبد اهلل وعن يمينه سيد ولده
موسى وقدامه مرقد مغطى ،فقال يل :يا زرارة ،جئني بداود بن كثري الرقي ومحران وأيب
بصري ،ودخل عليه املفضل بن عمر ،فخرجت فأحرضته من أمرين بإحضاره ،ومل يزل الناس
فلام حشد املجلس قال :يا داود، يدخلون واحدً ا إثر واحد حتى رصنا يف البيت ثالثني ً
رجالَّ ،
اكشف يل عن وجه إسامعيل ،فكشفت عن وجهه ،فقال أبو عبد اهلل :يا داود ،أحي هو أم
ميت؟ قال داود :يا موالي ،هو ميت ،فجعل يعرض ذلك عىل رجل رجل حتى أتى عىل آخر
من يف املجلس وانتهى عليهم بأرسهم ،كل يقول :هو ميت يا موالي .فقال :اللهم اشهد ،ثم
فلام فرغ منه قال للمفضل :يا مفضل ،احرس عن وجهه، أمر بغسله وحنوطه وإدراجه يف أثوابهَّ ،
فحرس عن وجهه ،فقال :أحي هو أم ميت؟ فقال :ميت .قال :اللهم اشهد عليهم ،ثم ُمحِل إىل
فلام ُو ِضع يف حلده ،قال :يا مفضل ،اكشف عن وجهه ،وقال للجامعة :أحي هو أم ميت؟
قربهَّ ،
قلنا له :ميت .فقال :اللهم اشهد واشهدوا ،فإنه سريتاب املبطلون» (.)1
بل ُيستفاد من بعض األخبار :أنه كان يأمر بإنزال جنازته عن الرقاب مرات عديدة،
ويف كل مرة كان يأمر بكشف وجهه ويقبله ،ثم يأمر بحمله.
وهذا هو معنى (ما بدا هلل) يف الرواية املتقدمة ،وبتعبري الشيخ الصدوق « :ما ظهر هلل
أمر كام ظهر له يف إسامعيل ابني؛ إذ اخرتمه قبَل؛ ليعلم بذلك أنه ليس بإمام بعدي» (.)2
الشاهد األول :قول اإلمام الصادق إلسحاق بن عامر – بعد أن أطلعه عىل مضمون
الصحيفة التي بإمالء رسول اهلل وخط أمري املؤمنني ،وفيها أسامء األئمة « :– يا
إسحاق ،أال أبرشك؟ قلت :بىل جعلت فداك يا ابن رسول اهلل ،فقال :وجدنا صحيفة بإمالء
رسول اهلل وخط أمري املؤمنني فيها :بسم اهلل الرمحن الرحيم ،هذا كتاب من اهلل العزيز
احلكيم – وذكر حديث اللوح – ثم قال :يا إسحاق هذا دين املالئكة والرسل ،فصنه عن
غري أهله يصنك اهلل ،ويصلح بالك ،ثم قال :من دان هبذا أمن عقاب اهلل .)1( »
الشاهد الثاين :قول أيب بصري لعبد الرمحن بن سامل بعد أن حدّ ثه بحديث اللوح« :لو مل
تسمع يف دهرك إال هذا احلديث لكفاك ،فصنه إال عن أهله» ( ،)2وفيه داللة عىل َّ
أن أصحاب
األئمة كانوا يتناقلون تلك التوصيات بينهم ،وال يذيعون نصوص األسامء ألي أحد.
عبد اهلل األنصاري :إن يل إليك حاجة ،فمتى خيف عليك أن أخلو بك فأسألك عنها؟ فقال له جابر :أي األوقات أحببته ،فخال به
يف بعض األيام فقال له :ي ا جابر أخربين عن اللوح الذي رأيته يف يد أمي فاطمة بنت رسول اهلل ،وما أخربتك به أمي أنه يف
ذلك اللوح مكتوب ،فقال جابر :أشهد باهلل أين دخلت عىل أمك فاطمة يف حياة رسول اهلل ،فهنيتها بوالدة احلسني ،ورأيت
لوحا أخرض ،ظننت أنه من زمرد ،ورأيت فيه كتا ًبا أبيض شبه لون الشمس ،فقلت هلا :بأيب وأمي يا بنت رسول اهلل ،ما
يف يدُّيا ً
هذا اللوح؟ فقالت :هذا لوح أهداه اهلل إىل رسول اهلل ،فيه اسم أيب واسم بعَل واسم ابني واسم األوصياء من ولدي ،وأعطانيه
أيب ليبرشين بذلك ،قال جابر :فأعطتنيه أمك فاطمة فقرأته واستنسخته ،فقال له أيب :فهل لك يا جابر :أن تعرضه عَل؟ قال :نعم،
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 216
فمشى معه أيب إىل منزل جابر فأخرج صحيفة من رق ،فقال :يا جابر انظر يف كتابك ألقرأ [أنا] عليك ،فنظر جابر يف نسخته فقرأه
أيب فام خالف حرف حر ًفا ،فقال جابر :فأشهد باهلل أين هكذا رأيته يف اللوح مكتو ًبا.
بسم ا هلل الرمحن الرحيم ،هذا كتاب من اهلل العزيز احلكيم ملحمد نبيه ونوره وسفريه وحجابه ودليله ،نزل به الروح األمني من عند
رب العاملني ،ع ّظم يا حممد أسامئي واشكر نعامئي وال جتحد آالئي ،إين أنا اهلل ال إله إال أنا قاصم اجلبارين ومديل املظلومني ود ّيان
وعَل
ّ الدين ،إين أنا اهلل ال إله إال أنا ،فمن رجا غري فضَل أو خاف غري عديل ،عذبته عذا ًبا ال أعذبه أحدً ا من العاملني ،فإياي فاعبد
فتوكل ،إين مل أبعث نب ًيا فأكملت أيامه وانقضت مدته إال جعلت له وص ًيا ،وإين فضلتك عىل األنبياء وفضلت وصيك عىل األوصياء،
وأكرمتك بشبليك وسبطيك حسن وحسني ،فجعلت حسنًا معدن علمي ،بعد انقضاء مدة أبيه ،وجعلت حسينًا خازن وحيي،
وأكرمته بالشهادة وختمت له بالسعادة ،فهو أفضل من استشهد وأرفع الشهداء درجة ،جعلت كلمتي التامة معه وحجتي البالغة
عنده ،بعرتته أثيب وأعاقب ،أوهلم عَل سيد العابدين وزين أوليائي املاضني ،وابنه شبه جده املحمود حممد الباقر علمي واملعدن
حلكمتي ،سيهلك املرتابون يف جعفر ،الراد عليه كالراد عَل ،حق القول مني ألكرمن مثوى جعفر وألرسنه يف أشياعه وأنصاره
وأوليائه ،أتيحت بعده موسى فتنة عمياء حندس ،ألن خيط فريض ال ينقطع وحجتي ال ختفى ،وأن أوليائي يسقون بالكأس األوف،
يف املد ينة التي بناها العبد الصالح إىل جنب رش خلقي ،حق القول مني ألرسنه بمحمد ابنه وخليفته من بعده ووارث علمه ،فهو
معدن علمي وموضع رسي وحجتي عىل خلقي ،ال يؤمن عبد به إال جعلت اجلنة مثواه ،وشفعته يف سبعني من أهل بيته كلهم قد
استوجبوا النار ،وأختم بالسعادة البنه عَل وليي ونارصي والشاهد يف خلقي وأميني عىل وحيي ،أخرج منه الداعي إىل سبيَل
واخلازن لعلمي احلسن ،وأكمل ذلك بابنه (م ح م د) رمحة للعاملني ،عليه كامل موسى وهباء عيسى وصرب أيوب ،فيذل أوليائي يف
زمانه ،وتتهادى رؤوسهم كام تتهادى رؤوس الرتك والديلم ،فيقتلون وحيرقون و يكونون خائفني مرعوبني وجلني ،تصبغ األرض
بدمائهم ،ويفشو الويل والرنا يف نسائهم ،أولئك أوليائي ح ًقا ،هبم أدفع كل فتنة عمياء حندس ،وهبم أكشف الزالزل وأدفع اآلصار
قال عبد الرمحن بن سامل :قال أبو بصري :لو مل تسمع يف دهرك إال هذا احلديث لكفاك ،فصنه إال عن أهله».
217 البحث الثامن :تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية
ُ
نتيجة املقدمات األربع:
َّ
إن أجالء األصحاب الذين حصلت هلم حرية بعد وفاة اإلمام الصادق ،وهم قلة
جدً ا – بمقتىض املقدمة األوىل املتقدمة – ُحيتمل يف ّ
حقهم أحد احتامالت ثالثة ،وكلها ال تتناف
مع استفاضة نصوص األسامء وتواترها ،وإليك هذه االحتامالت:
االحتامل األول :أن تكون حريهتم – بمقتىض املقدمة الثانية – حرية صورية ،ال واقعية،
كام حصل ذلك لزرارة بن أعني ،ويمكن أن ُيستدل لذلك بمعتربة إبراهيم بن حممد اهلمداين:
«قال :قلت للرضا :يا ابن رسول اهلل أخربين عن زرارة هل كان يعرف حق أبيك ؟
فقال :نعم ،فقلت له :فلم بعث ابنه عبيدً ا ليتعرف اخلرب إىل من أوّص الصادق جعفر بن حممد
؟ فقال :إن زرارة كان يعرف أمر أيب ونص أبيه عليه ،وإنام بعث ابنه ليتعرف من أيب
هل جيوز له أن يرفع التقية يف إظهار أمره ونص أبيه عليه ،وأنه ملَّا أبطأ عنه ابنه طولب
بإظهار قوله يف أيب فلم حيب أن يقدم عىل ذلك دون أمره ،فرفع املصحف وقال :اللهم إن
إمامي من أثبت هذا املصحف إمامته من ولد جعفر بن حممد .)1( »
أن يكون زرارة بن أعني – وهو املحيط بأرسار أهل البيت – قد ُأ َ
ويص من قبلهم بعدم
التْصيح بإمامة اإلمام الكاظم حفا ًظا عىل حياته املقدّ سة.
حق زرارة –بمقتىض هذه الرواية– صح ثبوته يف ّ وإذا عرفت ذلكَّ ،
فإن هذا االحتامل كام َّ
حق غريه من األجالء الذين ن ُِس َبت احلرية هلم؛ َّ
فإن حكم األمثال فيام كذلك هو حمتمل جدً ا يف ّ
جيوز وما ال جيوز واحد.
«وأما الروايات الذا ّمة فهي عىل ثالث طوائف ،األوىل :ما د ّلت عىل َّ
أن زرارة كان شا ًّكا
يف إمامة الكاظم ،فإنه ملَّا تويف الصادق بعث ابنه عبيدً ا إىل املدينة ليخترب أمر اإلمامة،
وأنه لعبد اهلل أو للكاظم ،وأنه مات قبل أن يرجع إليه عبيد ،وهذه الروايات كام يَل:
- 1حدثني حممد بن قولويه ،قال :حدثني سعد بن عبد اهلل بن أيب خلف ،قال :حدثني
حممد بن عثامن بن رشيد ،قال :حدثني احلسن بن عَل بن يقطني ،عن أخيه أمحد بن عَل ،عن
أبيه عَل بن يقطني ،قال :ملَّا كانت وفاة أيب عبد اهلل قال الناس بعبد اهلل بن جعفر واختلفوا،
فقائل قال به وقائل قال بأيب احلسن ،فدعا زرارة ابنه عبيدً ا فقال :يا بني ،الناس خمتلفون
يف هذا األمر ،فمن قال بعبد اهلل فإنام ذهب إىل اخلرب الذي جاء َّ
أن اإلمامة يف الكبري من ولد
اإلمام ،فشدّ راحلتك وامض إىل املدينة حتى تأتيني بصحة األمر ،فشدّ راحلته ومىض إىل
فلام حرضته الوفاة سأل عن عبيد فقيل له :مل يقدم ،فدعا باملصحف فقال: ّ
واعتل زرارةَّ ، املدينة،
اللهم إين مصدق بام جاء به نبيك حممد فيام أنزلته عليه وب ّينته لنا عىل لسانه ،وإين مصدق
بام أنزلته عليه يف هذا اجلامع ،وأن عقيديت وديني الذي يأتيني به عبيد ابني وما بينته يف كتابك،
عَل
فإن أمتني قبل هذا فهذه شهاديت عىل نفيس وإقراري بام يأيت به عبيد ابني ،وأنت الشهيد ّ
بذلك ،فامت زرارة وقدم عبيد وقصدناه لنس ّلم عليه ،فسألوه عن األمر الذي قصده فأخربهم
أن أبا احلسن صاحبهم.
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 220
أقول :هذه الرواية ضعيفة بجهالة حممد بن عثامن بن رشيد وأمحد بن عَل بن يقطني.
-2حدثني محدويه ،قال :حدثني يعقوب بن يزيد ،قال :حدثني عَل بن حديد عن مجيل
بن دراج ،قال :ما رأيت ً
رجال مثل زرارة بن أعني ،إنّا كنّا نختلف إليه فام كنا حوله إال بمنزلة
فلام مىض أبو عبد اهلل وجلس عبد اهلل جملسه بعث زرارة
الصبيان يف الكتاب حول املعلمَّ ،
مرضا شديدً ا قبل أن يوافيه ابنه
زائرا عنه ليتعرف اخلرب ويأتيه بصحته ،ومرض زرارة ً
عبيدً ا ابنه ً
فلام حرضته الوفاة دعا باملصحف فوضعه عىل صدره ثم ق ّبله .قال مجيل :حكى مجاعة
عبيدَّ ،
ممن حرضه أنه قال :اللهم إين ألقاك يوم القيامة وإمامي من بينت يف هذا املصحف إمامته ،اللهم
وأحرم حرامه وأؤمن بمحكمه ومتشاهبه وناسخه ومنسوخه وخاصه وعامه،
ّ إين أحل حالله
عىل ذلك أحيا وعليه أموت إن شاء اهلل.
-3حممد بن قولويه ،قال :حدثني سعد بن عبد اهلل ،عن احلسن بن عَل بن موسى بن
جعفر .عن أمحد بن هالل ،عن أيب حييى الرضير ،عن درست بن أيب منصور الواسطي ،قال:
ريب تعاىل.
شك يف إمامتي فاستوهبته من ّ سمعت أبا احلسن يقولَّ :
إن زرارة ّ
-4حدثني حممد بن مسعود ،قال :أخربنا جربئيل بن أمحد ،قال :حدثني حممد بن عيسى،
عن يونس ،عن إبراهيم املؤمن ،عن نرض بن شعيب ،عن عمة زرارة ،قالت :ملَّا وقع زرارة
واشتد به ،قال :ناوليني املصحف ،فناولته وفتحته فوضعته عىل صدره وأخذه مني ،ثم قال :يا
عمة اشهدي أن ليس يل إمام غري هذا الكتاب.
221 البحث الثامن :تاريخ عقيدة اإلمامة اإللهية
أيضا ضعيفة ،وال أقل من جهة جهالة إبراهيم املؤمن وعمة زرارة» (.)1
وهذه الرواية ً
واحلاصلَّ :
فإن مجيع الروايات التي تنسب احلرية لزرارة بن أعني يف أمر اإلمامة ضعيفة
ُوجه بام ذكرناه.
األسناد ،وعىل فرض صحتها ،فإهنا ت َّ
ويقرب هذا االحتامل ما ورد عن حممد بن مسلم ،قال« :قلت أليب عبد اهلل :
ّ
إن عل ًيا كان عاملًا
أصلحك اهلل بلغنا شكواك وأشفقنا ،فلو أعلمتنا أو علمتنا من؟ قالَّ :
والعلم يتوارث ،فال ُّيلك عامل إال بقي من بعده من يعلم مثل علمه أو ما شاء اهلل ،قلت :أفيسع
الناس إذا مات العامل أال يعرفوا الذي بعده؟ فقال :أما أهل هذه البلدة -يعني املدينة -فال،
ُون ل ِ َين ِْف ُروا كَا َّف ًة َف َل ْوال
َان املُْ ْؤ ِمن َ
وأما غريها من البلدان فبقدر مسريهم ،إن اهلل يقولَ ﴿ :و َما ك َ
ين َول ِ ُين ِْذ ُروا َق ْو َم ُه ْم إِ َذا َر َج ُعوا إِ َل ْي ِه ْم َل َع َّل ُه ْم
َن َف َر ِم ْن ك ُِّل فِ ْر َق ٍة ِمن ُْه ْم َط ِائ َف ٌة ل ِ َي َت َف َّق ُهوا ِيف الدِّ ِ
حي َذ ُر َ
ون﴾ قال :قلت :أرأيت من مات يف ذلك؟ فقال :هو بمنزلة من خرج من بيته مهاج ًرا إىل َْ
اهلل ورسوله ثم يدركه املوت فقد وقع أجره عىل اهلل ،قال :قلت :فإذا قدموا بأي يشء يعرفون
صاحبهم؟ قال :يعطى السكينة والوقار واهليبة» (.)2
للتحري وعدم اجلزم بإمامة اإلمام الالحق نتيجة ضبابية مسألة البداء.
ّ دام وار ًداَّ ،
فإن هذا يكفي
السبب الثاين :عالمة األكربية ،فإهنا ألول وهلة جتعل نص االسم ونص العالمة
متعارضني؛ إذ ّ
أن نص االسم يرشد إلمامة موسى بن جعفر ،بينام نص العالمة يرشد
إلمامة إسامعيل – ً
أوال – وعبد اهلل األفطح ثان ًيا.
وباجلملةَّ ،
فإن النتيجة التي نننتهي إليها هي عدم التنايف بني معرفة الراوي اجلليل
بنصوص األسامء وحصول احلرية له ،وبذلك تندفع اإلشكالية الثالثة.
( )1التزم بعض األعالم – كالعالمة املجليس يف (مرآة العقول) – 94 / 4بضعفها ،لوقوع أيب حييى الواسطي يف سندها ،ويف
ذلك كالم.
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 224
وبام أننا يف املقام بصدد تأصيل عقيدة االثني عرشية ،ودفع شبهة استحداثها يف القرن
الرابع ،وقد أثبتنا ذلك بام ال مزيد عليه ،فإنه ال يفوتنا – هبذه املناسبة – أن نقف عند الروايات
الدالة عىل َّ
أن األئمة من ذرية أمري املؤمنني والصديقة الزهراء اثنا عرش إما ًما ،وبضميمة
والدهم أمري املؤمنني يكون عددهم ثالثة عرش إما ًماَّ ،
فإن هذه الروايات ختدش العقيدة
املذكورة وتناقضها ،ولذا ال بدَّ من متحيصها وبيان اإلشكاالت الواردة عليها متنًا وسندً ا ،حتى
تكتمل الصورة حول العقيدة املذكورة ،وال يبقى ما يعارضها.
والتحقيقَّ :
أن مجيع الروايات التي تشري إىل كون األئمة ثالثة عرش إما ًما ،ال ختلو عن
إشكال ،ولنا أن نجيب عنها بجوابني:
أ – اجلواب األول :اجلواب اإلمجايل ،وهو خمالفتها للروايات القطعية املتواترة الدالة عىل
انقطاع خالفة اهلل تعاىل يف األرض باإلمام املهدي صاحب العْص والزمان .
وإليك بعضها:
• ما رواه سليم بن قيس اهلاليل ،عن أمري املؤمنني ،عن رسول اهلل أنه قال« :أنت
يا عَل أوهلم ،ثم ابني هذا -ووضع يده عىل رأس احلسن – ثم ابني هذا – ووضع يده عىل
رأس احلسني -ثم سميك ابنه عَل زين العابدين ،وسيولد يف زمانك يا أخي فأقرئه مني
السالم ،ثم ابنه حممد الباقر ،باقر علمي وخازن وحي اهلل تعاىل ،ثم ابنه جعفر الصادق ،ثم ابنه
موسى الكاظم ،ثم ابنه عَل الرضا ،ثم ابنه حممد التقي ،ثم ابنه عَل النقي ،ثم ابنه احلسن الزكي،
ثم ابنه احلجة القائم ،خاتم أوصيائي وخلفائي ،واملنتقم من أعدائي ،الذي يمأل األرض قس ًطا
وجورا» (.)1
ً ظلام ً
وعدال كام ملئت ً
• معتربة حممد بن مسلم ،قال« :قال أبو جعفر :قال رسول اهلل لعَل بن أيب طالب
« :أنا أوىل باملؤمنني من أنفسهم ،ثم أنت يا عَل أوىل باملؤمنني من أنفسهم ،ثم احلسن أوىل
باملؤمنني من أنفسهم ،ثم احلسني أوىل باملؤمنني من أنفسهم ،ثم عَل بن احلسني أوىل باملؤمنني
من أنفسهم ،ثم حممد بن عَل أوىل باملؤمنني من أنفسهم ،ثم جعفر بن حممد أوىل باملؤمنني من
أنفسهم ،ثم موسى بن جعفر أوىل باملؤمنني من أنفسهم ،ثم عَل بن موسى أوىل باملؤمنني من
أنفسهم ،ثم حممد بن عَل أوىل باملؤمنني من أنفسهم ،ثم عَل بن حممد أوىل باملؤمنني من أنفسهم،
ثم احلسن بن عَل أوىل باملؤمنني من أنفسهم ،ثم احلجة بن احلسن الذي تنتهي إليه اخلالفة
وظلام» (.)2
ً عدال وقس ًطا كام ملئت ً
جورا والوصاية ويغيب مدة طويلة ثم يظهر ويمأل األرض ً
• صحيحة حممد بن عبد اجلبار ،قال« :قلت لسيدي احلسن بن عَل :يا ابن رسول
اهلل -جعلني اهلل فداك -أحب أن أعلم َمن اإلمام وحجة اهلل عىل عباده من بعدك؟ قال :
إن اإلمام وحجة اهلل من بعدي ابني ،سمي رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم وكنيه ،الذي
هو خاتم حجج اهلل وآخر خلفائه» (.)3
• ويف رواية مطولة عن اإلمام الصادق قال فيها« :فكانت حجج اهلل تعاىل كذلك
من وقت وفاة آدم إىل وقت ظهور إبراهيم أوصياء مستعلنني ومستخفني ...فظهر
عيسى يف والدته ،معلنًا لدالئله ،مظهرا لشخصه ،شاهرا لرباهينه ،غري ٍ
خمف لنفسه؛ ألن ً ً
زمانه كان زمان إمكان ظهور احلجة كذلك.
حججا هلل كذلك مستعلنني ومستخفني إىل وقت ظهور ً ثم كان له من بعده أوصياء
نبينا ،فقال اهلل له يف الكتابَّ ﴿ :ما ُي َق ُال َل َك إِ َّال َما َقدْ ِق َيل ل ِ هلر ُس ِل ِمن َق ْبلِ َك﴾ ،ثم قال
ُ ﴿ :سن ََّة َمن َقدْ َأ ْر َس ْلنَا َق ْب َل َك ِمن هر ُسلِنَا﴾ ،فكان مما قيل له ولزم من سنته عىل إجياب سنن
من تقدمه من الرسل إقامة األوصياء له كإقامة من تقدمه ألوصيائهم ،فأقام رسول اهلل
ً
وعدال كام ملئت أوصياء كذلك وأخرب بكون املهدي خاتم األئمة ،وأنه يمأل األرض قس ًطا
وظلام» (.)1
ً جورا
ً
عَل
• وحدث ظريف أبو نْص اخلادم ،قال« :دخلت عىل صاحب الزمان فقالّ :
بالصندل األمحر ،فأتيته به ،ثم قال :أتعرفني؟ قلت :نعم ،فقال :من أنا؟ فقلت :أنت سيدي
فبني يل ،قال:
وابن سيدي ،فقال :ليس عن هذا سألتك ،قال طريف :فقلت :جعلني اهلل فداك ّ
أنا خاتم األوصياء ،ويب يدفع اهلل البالء عن أهَل وشيعتي» (.)2
• وعن إسامعيل بن عَل النوبختي ،قال« :فقال له أبو حممد :أبرش يا بني فأنت
صاحب الزمان ،وأنت املهدي ،وأنت حجة اهلل عىل أرضه ،وأنت ولدي ووصيي وأنا ولدتك،
وأنت حممد بن احلسن بن عَل بن حممد بن عَل بن موسى بن جعفر بن حممد بن عَل بن احلسني
بن عَل بن أيب طالب .
َو َلدَ ك رسول اهلل ،وأنت خاتم [األوصياء] األئمة الطاهرينّ ،
وبرش بك رسول اهلل
إيل أيب عن آبائك الطاهرين» (.)1
وسامك وكنّاك ،بذلك عهد ّ
ّ
• ويف خطبة الغدير – بحسب رواية الشيخ الطربيس يف االحتجاج – عن النبي :
«[معارش الناس] إين نبي وعَل ويص ،أال ّ
إن خاتم األئمة منا القائم املهدي ،أال إنه الظاهر عىل
الدين ،أال إنه املنتقم من الظاملني ،أال إنه فاتح احلصون وهادمها ،أال إنه قاتل كل قبيلة من أهل
الرشك ،أال إنه مدرك بكل ثأر ألولياء اهلل ،أال إنه النارص لدين اهلل ...أال إنه الباقي حجة وال
حجة بعده ،والحق إال معه ،وال نور إال عنده ،أال إنه ال غالب له وال منصور عليه ،أال وإنه
رسه وعالنيته» (.)2
ويل اهلل يف أرضه وحكمه يف خلقه وأمينه يف ّ
الرواية األوىل :رواها الشيخ الكليني بسنده عن أيب سعيد العصفوري ،عن عمرو
بن ثابت ،عن أيب اجلاورد ،عن أيب جعفر قال« :قال رسول اهلل :إين واثني عرش من
ولدي وأنت يا عَل زر األرض – يعني أوتادها وجباهلا – بنا أوتد اهلل األرض أن تسيخ بأهلها،
فإذا ذهب االثنا عرش من ولدي ساخت األرض بأهلها ومل ينظروا» (.)1
وبعد الرجوع إىل أصل أيب سعيد عباد العصفري ،نجد الرواية هكذا :عن عمرو ،عن أيب
اجلارود ،عن أيب جعفر ع قال :قال رسول اهلل « :إين وأحد عرش من ولدي وأنت يا عَل زر
األرض – أعني أوتادها وجباهلا – وقد وتّد اهلل األرض أن تسيخ بأهلها ،فإذا ذهب األحد
عرش من ولدي ساخت األرض بأهلها ومل ينظروا» (.)2
أيضا بسنده َع ِن ا ْب ِن ُأ َذ ْين ََةَ ،ع ْن ُز َر َار َةَ ،ق َال: الرواية الثانية :رواها الشيخ الكليني ً
ث ِم ْن ُو ْل ِد رس ِ آل ُحم َ َّم ٍد ُ ك هل ُه ْم ُحم َدَّ ٌ
اإلمام ِم ْن ِ «س ِمع ُت َأبا جع َف ٍر ي ُق ُ ِ
ول َ ُ رش ِ َ َ ول :اال ْثنَا َع َ َ َ َ ْ َ َ ْ
ول اهللَّ و َع َِل ُمها ا ْلوالِدَ ِور ُس ُ ِ ِ ِ
ان» (.)3 َ َ اهللَّ وم ْن ُو ْلد َع ٍَّلَ ،
عن عمر بن أذينة ،عن زرارة ،قال :سمعت أبا جعفر يقول :االثنا عرش األئمة من آل حممد
كلهم حمدث ،عَل بن أيب طالب وأحد عرش من ولده ،ورسول اهلل وعَل مها الوالدان ،صىل اهلل
عليهام» (.)1
اجلار ِ
ود، أيضا بسنده عن ابن حمبوبَ ،ع ْن َأ ِيب ْ َ ُ الرواية الثالثة :رواها الشيخ الكليني ً
ني َيدَ ْ َُّياار ِّيَ ،ق َالَ « :د َخ ْل ُت َع َىل َفاطِ َم َة و َب ْ َ
َع ْن َأ ِيب َج ْع َف ٍر َ ،ع ْن َجابِ ِر ْب ِن َع ْب ِد اهللَّ األَن َْص ِ
َلوح فِيه َأسامء األَو ِصي ِ
آخ ُر ُه ُم ا ْل َقائِ ُم َ ،ث َال َث ٌة ِمن ُْه ْم ُحم َ َّمدٌ
اء ِمن و ْل ِدهاَ ،فعدَ د ُت ا ْثنَي َع َرش ِ
َ ْ ْ ُ َ َ ْ َْ ُ ْ َ ْ ٌ
و َث َال َث ٌة ِمن ُْه ْم َع َِل» (.)2
واملن ّبه عىل وقوع التصحيف يف هذه الرواية :أننا حني نرجع إىل كتب الشيخ الصدوق
نجد الرواية منقولة بنحو خمتلف ،وإليك نصه« :وحدثنا أمحد بن حممد بن حييى العطار
،قال :حدثني أيب ،عن حممد بن احلسني ابن أيب اخلطاب ،عن احلسن بن حمبوب ،عن أيب
اجلارود ،عن أيب جعفر ،عن جابر بن عبد اهلل األنصاري قال :دخلت عىل فاطمة وبني
يدُّيا لوح [مكتوب] فيه أسامء األوصياء ،فعددت اثني عرش آخرهم القائم ،ثالثة منهم حممد،
وأربعة منهم عَل .)3( »
أيضا بسنده عن أيب سعيد اخلدري ،عن أمري الرواية الرابعة :رواها الشيخ الكليني ً
رب ِين َع ْن ِ ِ ِ ود هيَ :أ ْخ ِ ِ املؤمنني « :ثم َق َال َله ا ْليه ِ
ربين َع ْن َهذه األُ َّمة،ك َْم َهلَا م ْن إِ َما ٍم ُهدً ى؟ و َأ ْخ ِ ْ ْ َُ ّ
ني :إِ َّن ِهلَ ِذه اجلن َِّة؟ َف َق َال َله َأ ِم ُري املُْ ْؤ ِمن ِ َ اجلن َِّة؟ و َأ ْخ ِ ِ
ربين َم ْن َم َعه ِيف ْ َ ْ
ٍ
نَبِ ِّيك ُْم ُحم َ َّمد َأ ْي َن َمن ِْز ُله ِيف ْ َ
اجلن َِّة َف ِفي َأ ْف َض ِل َها ِ
وه ْم منِّي ،و َأ َّما َمن ِْز ُل نَبِ ِّينَا ِيف ْ َ
ِ ِ
رش إِ َما ًما ُهدً ى م ْن ُذ ِّر َّية نَبِ ِّي َهاُ ،
ِ
األُ َّمة ا ْثن َْي َع َ َ
رش ِم ْن ُذ ِّر َّيتِه» (.)1 ِ ِ ِ ِ ِ ٍ ِ و َأ ْ ِ
رشف َها َجنَّة َعدْ ن ،و َأ َّما َم ْن َم َعه يف َمن ِْزله ف َيها َف َه ُؤ َالء اال ْثنَا َع َ َ
َ
وبالرجوع إىل املصادر األخرى التي نقلت الواقعة التي تك ّلم فيها أمري املؤمنني
هبذا الكالم – وهي اإلجابة عن أسئلة اليهودي يف عهد عمر بن اخلطاب – ُيعلم َّ
أن هذه الرواية
–مضا ًفا إىل ضعف أحد سندُّيا ،واستحكام شبهة اإلرسال يف سندها اآلخر– قد طال متنها
يشء من التصحيف ،وإليك بعض الشواهد عىل ذلك:
• الشاهد األول :ما رواه الشيخ الصدوق « :قال :فأخربين كم هلذه األمة من إمام
هدى هادين مهديني ،ال يرضهم خذالن من خذهلم؟ وأخربين أين منزل حممد من اجلنة؟
ومن معه من أمته يف اجلنة؟ قال :أما قولك :كم هلذه األمة من إمام هدى ،هادين مهديني ،ال
يرضهم خذالن من خذهلمَّ ،
فإن هلذه األمة اثني عرش إما ًما هادين مهديني ،ال يرضهم خذالن
من خذهلم» (.)2
• الشاهد الثاين :ما رواه الشيخ الصدوق « :قال :أخربين عن هذه األمة كم هلا بعد
نبيها من إمام عدل؟ وأخربين عن منزل حممد أين هو من اجلنة؟ ومن يسكن معه يف منزله؟ قال
له عَل :يا ُّيودي يكون هلذه األمة بعد نبيها اثنا عرش إما ًما ً
عدال ،ال يرضهم خالف من
خالف عليهم .قال له اليهودي :أشهد باهلل لقد صدقت ،قال له عَل :وأما منزل حممد
من اجلنة يف جنة عدن ،وهي وسط اجلنان وأقرهبا من عرش الرمحن ّ
جل جالله ،قال له
اليهودي :أشهد باهلل لقد صدقت ،قال له عَل :والذين يسكنون معه يف اجلنة هؤالء األئمة
االثنا عرش .قال له اليهودي :أشهد باهلل لقد صدقت» (.)1
• الشاهد الثالث :ما رواه الشيخ الصدوق « :فقال :أخربين عن الثالث األخرى،
أخربين عن ٍ
حممد كم بعده من إمام عدل؟ ويف أي جنة يكون؟ ومن الساكن معه يف جنته؟ فقال:
إن ملحمد من اخللفاء اثنا [اثني] عرش إما ًما ً
عدال ،ال يرضهم خذالن من خذهلم يا هاروين ّ
وال يستوحشون بخالف من خالفهم ،وإهنم أرسب يف الدين من اجلبال الروايس يف األرض،
ومسكن حممد يف جنة عدن ،معه أولئك االثنا عرش األئمة العدل ،فقال :صدقت واهلل الذي
ال إله إال هو إين ألجدها يف كتاب أيب هارون كتبه بيده وأماله عمي موسى .)2( »
الرواية اخلامسة :رواها اخلزاز القمي ،بسنده عن جنادة بن أيب أمية ،عن اإلمام احلسن بن
عَل َّ « :
إن هذا األمر يملكه اثنا عرش إما ًما من ولد عَل وفاطمة ،ما منّا إال مسموم
أو مقتول» (.)3
ٍ
بنحو آخر سامل والتعليقَّ :
أن اخلزاز نفسه قد روى عن اإلمام احلسن هذه الرواية
إن األمر يملكه اثنا عرش إما ًما من أهل بيته وصفوته ،ما منّا ّإال مقتول
عن اإلشكال ،وهوّ « :
الرواية السادسة :عن أنس بن مالك ،عن رسول اهلل األعظم « :األئمة بعدي اثنا عرش
من صلب عَل وفاطمة ،هم حواريي وأنصار ديني ،عليهم من اهلل التحية والسالم» (.)2
والتعليقَّ :
أن عنوان (األئمة بعدي) إما هو متضمن لإلمام أمري املؤمنني أو ال ،وبام
تعني األول ثبت َّ
أن عدد األئمة – بام فيهم أمري فيتعني األول ،وإذا ّ
ّ َّ
أن الثاين مقطوع العدم
املؤمنني – ال يزيد عن االثني عرش ،وهو املطلوب.
ٍ
بحاجة إلبراز الوجه يف التعبري عنهم مجي ًعا بأهنم (من صلب عَل وفاطمة)، ونبقى فقط
رغم عدم انطباق هذا العنوان عىل أمري املؤمنني ،وهو من السهولة بمكان؛ الشتهار
فيعرب عن الوالدين بـ(األبوين) رغم َّ
أن األم أسلوب التغليب بني أساليب املحاورات العرفيةّ ،
أن املغرب ليس مرش ًقا ،وهكذا،
ويعرب عن املغرب واملرشق بـ(املرشقني) رغم َّ
ّ ليست أ ًبا،
وللتغليب نكات كثرية مذكورة يف حملها ،ومنها :كثرة أفراد العنوان؛ فإهنا موجبة لتغليب
عنواهنم عىل أفراد آخرين ال يشرتكون معهم فيه ،وإن كانوا مرتبطني هبم بأحد أنحاء االرتباط،
ومن هذا ال قبيل :تغليب عنوان (ذرية رسول اهلل) أو (ذرية عَل وفاطمة) عىل مجيع األئمة
الطاهرين رغم عدم اشرتاك أمري املؤمنني معهم يف هذا العنوان ،وإن كان يرتبط معهم
من خالل عنوان (األئمة).
وتشهد ملا ذكرناه بعض الروايات واألخبار ،نظري ما رواه اخلزاز القمي بسنده عن سيد
الشهداء احلسني ،أنه قال خماط ًبا جده املصطفى « :يا رسول اهلل هل يكون بعدك نبي؟
قوامون بالقسط ،كعدد نقباء
قال :ال ،أنا خاتم النبيني ،ولكن يكون بعدي أئمة من ذريتيّ ،
بني إرسائيل ،أوهلم عَل بن أيب طالب ،فهو اإلمام واخلليفة بعدي ،وتسعة من األئمة من صلب
هذا -ووضع يده عىل صدري – والقائم تاسعهم يقوم بالدين يف آخر الزمان كام قمت يف
أوله» (.)1
تصحح
ّ أيضا ،فهي والتعليقَّ :
أن نكتة التغليب اجلارية يف الرواية السالفة جارية هنا ً
إطالق عنوان (االثني عرش) عىل األئمة من ولد أمري املؤمنني ،وإن كانوا يف الواقع
علام َّ
أن روايات اخلصيبي ميدان لألخذ والر ّد الكبريين. عرش إما ًماً ،
أحد َ
الرواية الثامنة :ويروُّيا شيخ الطائفة الطويس بسنده عن األصبغ بن نباتة ،قال:
مفكرا
ً «أتيت أمري املؤمنني فوجدته ينكت يف األرض ،فقلت له :يا أمري املؤمنني ،ما يل أراك
تنكت يف األرض؟ أرغبة منك فيها؟ قال :ال واهلل ما رغبت فيها وال يف الدنيا قط ،ولكني
عدال وقس ًطا
تفكّرت يف مولود يكون من ظهر احلادي عرش من ولدي ،هو املهدي الذي يمألها ً
وجورا» (.)1
ً ظلام
كام ملئت ً
والتعليقَّ :
أن هذه الرواية ال ختلو عن تصحيف؛ إذ أهنا قد وردت يف بعض النسخ
(من ظهري) – كام يف الكايف وكامل الدين ( – )2ويف بعضها قد جاءت من غري عبارة (من
ولدي) – كام يف دالئل اإلمامة ( – )3مع أنه باإلمكان أن تكون عبارة (من ولدي) وص ًفا
للمولود ،وليست وص ًفا للحادي عرش ،وعىل ّ
كل التقادير فاالستدالل بالرواية ممنوع.
نبي اهلل
الرواية التاسعة :ويروُّيا سليم بن قيس يف كتابه ،عن سلامن املحمدي ،عن ّ
األعظم خماط ًبا أمري املؤمنني « :أال َّ
وإن اهلل نظر نظرة ثانية فاختار بعدنا اثني عرش وص ًيا
من أهل بيتي» (.)4
حمقق الكتاب يف مقدمته (–)5 أن هنالك بعض نسخ الكتاب– كام أشار لذلك ّ والتعليقّ :
قد جاءت فيها العبارة( :فاختار بعدي) ،وهذا ٍ
كاف ملنع االستدالل بالرواية ،ويؤ ّيده ما ورد
الرواية العارشة :ما رواها املؤرخ املسعودي عن كتاب سليم بن قيس اهلاليلَّ :
أن النبي
قال ألمري املؤمنني عَل بن أيب طالب « :أنت واثنا عرش من ولدك أئمة احلق» (.)2
أن الرواية ال وجود هلا يف كتاب (سليم بن قيس) املوجود بني أيدينا ،فلع ّلها
والتعليقَّ :
من مجلة ما ُد َّس عليه ،وعليه فهي مما ال يصح االحتجاج به.
يدَ ،ر َف َعه َع ْنالرواية احلادية عرشة :ويروُّيا ثقة اإلسالم الكليني بسنده َعن َأ ِيب س ِع ٍ
َ ْ
ون، رش ن َِقي ًبا ،ن َُج َبا ُء ُحم َدَّ ُث َ
ون ُم َف َّه ُم َ ِ ِ
ول اهللَّ :م ْن ُو ْلد َي ا ْثنَا َع َ َ َأ ِيب َج ْع َف ٍر َ ق َالَ « :ق َال َر ُس ُ
أل َها عَدْ ًال كَ َام ُملِ َئ ْت َج ْو ًرا» (.)3 ِ ِ
آخ ُر ُه ُم ا ْل َقائ ُم بِ ْ َ
احل ِّقَ ،ي ْم ُ
الرواية الثانية عرشة :عن النبي األعظم « :يا عَل أنت مني وأنا منك ،وأنت أخي
ووزيري ،فإذا مت ظهرت لك ضغائن يف صدور قوم ،وسيكون بعدي فتنة صامء صيلم يسقط
فيها كل وليجة وبطانة ،وذلك عند فقدان شيعتك اخلامس من السابع من ولدك ،حيزن لفقده
متلهف حريان عند فقده» (.)1
متأسف ّ
أهل األرض والسامء ،فكم مؤمن ومؤمنة ّ
وحينئذ فمن املحتمل أن يكون قوله( :من ولدك) بيانًا للخامس ،وليس بيانًا للسابع،
ّ
وكأن الرواية تقول« :عند فقدان شيعتك اخلامس من ولدك من ولد السابع من األئمة» ،كام
وحيتمل أن تكون كلمة (ولدك) زائدة الكاف ومتأخرة املوقع ،وكأهنا قالت« :عند فقدان
ُ
شيعتك اخلامس من ولد السابع» ،ويؤ ّيد هذا االحتامل وقوع مثله يف الروايات ،كقول اإلمام
الكاظم « :إذا فقد اخلامس من ولد السابع فاهلل اهلل يف أديانكم ال يزيلكم عنها أحد» (.)3
التمسك بمتشاهبها.
ّ وباجلملةَّ ،
فإن حمكم ذيل الرواية يمنع من
وعىل ضوء ما ذكرناه قد تُثار بعض عالمات االستفهام حول د ّقة الضبط يف كتب وجماميع
ولكن الذي ينبغي االلتفات إليه هو َّ
أن نفوذ التصحيف َّ احلديث عندنا – ككتاب الكايف ً
مثال –
إىل الرواية وإن كان بسبب تسامح بعض الرواة أحيانًا ،أو عدم د ّقة بعض أصحاب املجاميع
النساخ ،وهذا ما يقتيض رضورة االهتامم أحيانًا أخرى ،إال أنه يف ٍ
كثري من األحيان يكون بسبب ّ
بمقابلة النسخ ،وضبط متون األخبار والروايات ،من أجل الوصول إىل ٍ
نص دقيق ونقي.
• االصطالح األول :اإلمامة السياسية ،و ُيراد هبا :قيادة األمة وتنظيم أمرها.
• االصطالح الثاين :اإلمامة الدينية ،و ُيراد هبا :املرجعية يف األمور الدينية.
وقد عمد البعض إىل إحداث هذين املصطلحني ألجل إُّيام الناس َّ
أن النبي إنام
أوّص ألهل البيت باإلمامة الدينية ،وأما اخلالفة الظاهرية واحلكومة السياسية فهي
لغريهم ،وهبذا تندفع إشكاالت الشيعة عىل خالفة من َس َب َق أمري املؤمنني .
وال شك يف َّ
أن التفكيك بني اإلمامة الدينية واإلمامة السياسية إنام يتّجه عىل ضوء مباين
مدرسة اجلمهور ،لتفكيكهم بني العصمة واإلمامة ،ولكنه ممتنع جدً ا ً
وفقا ملباين مدرسة
اإلمامية؛ ألهنم يؤمنون باإلمامة املعصومة ،ومتى كان اإلمام معصو ًما لزم أن تكون مقاليد
األم ور بيده ،ألنه املصون عن اخلطأ دون سواه ،فالعجب من بعض الشيعة الذين تناغموا مع
وروجوا هلا ،ومل يلتفتوا إىل خطأ مبانيها.
الفكرة ّ
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 238
ولكن مع التنزل ،والبناء عىل إمكان التفكيك بني اإلمامتني ،فإنه يمكن االستدالل عىل
ثبوت اإلمامة السياسية ألهل البيت بنوعني من األدلة:
النوع األول :األدلة العامة ،وهي األدلة التي تثبت اإلمامة اإلهلية بعرضها العريض ألئمة
أهل البيت ،فإنه يمكن إثبات اإلمامة السياسية هلم بكل ما يدل عىل إمامتهم اإلهلية؛ َّ
ألن
اإلمامة السياسية منطوية ضمنها ،كام أوضحناه يف غري موضع من هذا الكتاب ،فلرياجع.
النوع الثاين :األدلة اخلاصة ،وهي الناظرة بشكل أويل لإلمامة السياسية -سواء كانت
أيضا ،أم ال – وهذه األدلة كثرية ،ولكننا نكتفي منها يف املقام بدليلني:
ناظرة لغريها ً
وقد ُأ ْر ِسل هذا احلديث إرسال املسلامت يف كتب القوم لكثرة رواته ،فقد رواه الطربي يف
تارخيه( )1وتفسريه( ،)2وأمحد بن حنبل يف مسنده( ،)3والنسائي يف اخلصائص( ،)4وإليك احلديث
–واللفظ للطربي« :-عن عبد اهلل بن عباس ،عن عَل بن أيب طالب ،قال :ملَّا نزلت هذه اآلية
ني﴾ ،دعاين رسول اهلل فقال يل :يا عَلَّ ،
إن عىل رسول اهلل َ ﴿ :و َأن ِْذ ْر َع ِش َريت َ
َك األَ ْق َربِ َ
اهلل أمرين أن أنذر عشرييت األقربني ....ثم تكلم رسول اهلل ، فقال :يا بني عبد املطلب ،إين
واهلل ما أعلم شا ًبا يف العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به ،إين قد جئتكم بخري الدنيا
واآلخرة ،وقد أمرين اهلل تعاىل أن أدعوكم إليه ،فأيكم يؤازرين عىل هذا األمر عىل أن يكون أخي
ووصيي وخليفتي فيكم؟ قال :فأحجم القوم عنها مجي ًعا ،وقلت :وإين ألحدثهم سنًا،
وأرمصهم عينًا ،وأعظمهم بطنًا ،وأمحشهم سا ًقا ،أنا يا نبي اهلل أكون وزيرك عليه ،فأخذ
برقبتي ،ثم قالَّ :
إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ،فاسمعوا له وأطيعوا .قال :فقام القوم
يضحكون ،ويقولون أليب طالب :قد أمرك أن تسمع البنك وتطيع» (.)1
الفقرة األوىل :قوله « :فأيكم يؤازرين عىل هذا األمر عىل أن يكون أخي ووصيي
وخليفتي» ،فإنه دال عىل احلاكمية بوضوح.
وهو قول النبي « :من كنت مواله فهذا عَل مواله» ( ،)2وهو مقرتن بقرائن تدل عىل
َّ
أن اإلمامة السياسية مقصودة منه ،ونحن نكتفي بقرينتني يف املقام:
القرينة األوىل :التمهيد الذي َم َّهدَ به النبي حيث سأل الناس« :ألست أوىل بكم من
أنفسكم ،قالوا :بىل» ،ويف رواية أخرى« :من أوىل باملؤمنني من أنفسهم؟ قالوا :أنت يا رسول
اهلل» ( ،)1فإن األولوية بالنفس تعني أحقية التْصف هبا ،وهذا يقتيض أنه إذا أمرهم بأمر وجب
عليهم االمتثال ،وإذا هناهم عن يشء وجب عليهم االنتهاء عنه ،وهذا هو معنى احلاكمية
فرع عىل ذلك قوله« :من كنت مواله فهذا عَل مواله» ،وهبذا يثبت َّ
أن عل ًيا والقيادة ،ثم ّ
له نفس مقام الوالية عىل النفس.
القرينة الثانية :احتجاج أمري املؤمنني والصديقة الزهراء هبذا احلديث يف مقام
املحاججة عىل أهنم األحق باإلمامة السياسية ،ومل ينكر عليهم أحد من الصحابة ذلك ،وال قال
هلم قائل :إننا مل نفهم من قول رسول اهلل أنك حاكم علينا ،وقائد لنا ،وأوىل منَّا بأنفسنا.
أما احتجاج أمري املؤمنني : فقد رواه اخلوارزمي يف (املناقب) بسنده عن عامر بن
واثلة ،قال« :كنت عىل الباب يوم الشورى مع عَل يف البيت ،وسمعته يقول هلم :ألحتجن
عليكم بام ال يستطيع عربيكم وال عجميكم تغيري ذلك ،فأنشدكم باهلل :هل فيكم أحد قال له
رسول اهلل :من كنت مواله فعَل مواله ،اللهم وال من وااله ،وعاد من عاداه ،وانْص من
نْصه ،ليبلغ الشاهد الغائب ،غريي؟ قالوا :اللهم ال» (.)2
وأما احتجاج الصديقة الزهراء :فقد رواه الشيخ الطربيس يف االحتجاج:
«وخرجت فاطمة بنت رسول اهلل إليهم فوقفت خلف الباب ثم قالت :ال عهد يل بقوم
حمرضا منكم ،تركتم رسول اهلل جنازة بني أيدينا ،وقطعتم أمركم فيام بينكم ،ومل
ً أسوأ
تؤمرونا ومل تروا لنا ًّ
حقا ،كأنكم مل تعلموا ما قال يوم غدير خم ،واهلل لقد عقد له يومئذ الوالء
( )1مناقب عَل البن املغازيل ص ،46فضائل الصحابة ج 2ص ،596وتفسري الثعلبي ج 4ص ،92مصنف ابن أيب شيبة ج6
ص.372
( )2املناشدة واالحتجاج بحديث الغدير للعالمة األميني :ص.4
241 البحث التاسع :شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية
ليقطع منكم بذلك منها الرجاء ،ولك نكم قطعتم األسباب بينكم وبني نبيكم ،واهلل حسيب بيننا
وبينكم يف الدنيا واآلخرة» (.)1
املحور الثالث :معاجلة شبهة عدم ثبوت اإلمامة السياسية ألهل البيت .
قد يقال :إنَّنا نس ّلم بصدور النصوص املذكورة – وغريها – عن اهلل ورسوله ،بل َّ
إن
كثريا منها متواتر عنه ،ولكننا ال نس ّلم بداللتها عىل ثبوت اإلمامة السياسية ألمري املؤمنني
ً
،بل غايتها احلديث عن فضائل ومناقب له ،وذلك ألربعة من ّبهات:
• األوىلَّ :
إن أمري املؤمنني أشجع الناس.
• واألخرى :سكوته وسلميته وعدم مطالبته بحقه ،من بعد وفاة النبي األعظم
أن تس ّلم مقاليد احلكم.
إىل َّ
املنبه الرابع :عدم تصدي أهل البيت قاطبة لإلمامة السياسية ،سوى أمري املؤمنني
وسيد الشهداء ،بل َّ
إن بعض األئمة -كاإلمام الرضا - قد وصلت إليه اإلمامة
السياسية ،ومع ذلك أعرض عنها ومل يتصدَّ هلا.
وامللفت يف تاريخ أمري املؤمنني أنه ما كانت متر عليه فرصة – يستطيع من خالهلا أن
يصدح بقضية خالفته – إال وكان يستغلها ألجل إقامة احلجة عىل أنَّه األوىل باألمر بعد رسول
اهلل ،وكان يستند إىل النصوص الدالة عىل إمامته يف مقام إثبات ذلك ،ويف هذا كفاية
عىل داللة تلك النصوص عىل التنصيص.
وكان (حديث الغدير) من أهم النصوص التي استند إليها أمري املؤمنني ألجل إقامة
احلجة عىل الناس وخماصمتهم ،وقد رصدت كتب السري واحلديث العديد من املواقف التي
استثمرها أمري املؤمنني يف سبيل إثبات ذلك ،وإليك بعضها:
243 البحث التاسع :شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية
املوقف األول :احتجاجه يف يوم السقيفة حني جاؤوا به مقيدً ا وطلبوا منه البيعة،
حيث قال يومها« :يا معارش املهاجرين واألنصار ،اهلل اهلل ال تنسوا عهد نبيكم إليكم يف
أمري ،وال خترجوا سلطان حممد من داره وقعر بيته إىل دوركم وقعر بيوتكم ،وال تدفعوا أهله
عن حقه ومقامه يف الناس.
فواهلل معارش اجلمع َّ
إن اهلل قىض وحكم ونبيه أعلم ،وأنتم تعلمون بأنا أهل البيت أحق
هبذا األمر منكم ،أما كان القارئ منكم لكتاب اهلل الفقيه يف دين اهلل املضطلع بأمر الرعية ،واهلل
إنه لفينا ال فيكم ،فال تتبعوا اهلوى فتزدادوا من احلق بعدً ا ،وتفسدوا قديمكم برش من حديثكم.
فقال بشري بن سعد األنصاري الذي و ّطأ األرض أليب بكر ،وقالت مجاعة من األنصار:
يا أبا احلسن لو كان هذا األمر سمعته منك األنصار قبل بيعتها أليب بكر ما اختلف فيك اثنان.
أدع رسول اهلل مسجى ال أواريه ،وأخرج أنازع يف سلطانه ،واهلل
فقال عَل :يا هؤالء كنت ُ
ما خفت أحدً ا يسمو له وينازعنا أهل البيت فيه ،ويستحل ما استحللتموه ،وال علمت َّ
أن
مقاال ،فأنشد اهلل ً
رجال سمع النبي يوم رسول اهلل ترك يوم غدير خم ألحد حجة وال لقائل ً
غدير خم يقول" :من كنت مواله فهذا عَل مواله ،اللهم وال من وااله ،وعاد من عاداه ،وانْص
من نْصه ،واخذل من خذله" أن يشهد اآلن بام سمع» (.)1
عَل
املوقف الثاين :احتجاجه يوم الشورى ،فعن عن عامر بن واثلة قال :كنت مع ّ
ألحتج ّن عليكم بام ال يستطيع عرب هيكم وال
ّ فسمعت عل ًيا يقول هلم« :
ُ يف البيت يوم الشورى
فأنشدكم باهلل هل فيكم أحد قال له غري ذلك» ،ثم أنه قال هلم يف مجلة ما قالُ « : عجم هيكم ُي ّ
ِ
وعاد من عاداه ،ليب ّلغ الشاهد نت مواله َفعَل مواله ،اللهم ِ
وال من وااله رسول اهلل َ " :م ْن ُك ُ
ّ َ
تنصيصا عىل
ً اللهم ال» ( .)1وبه يعلم أنه كان يرى حديث الغدير
ّ منكم الغائب" غريي؟ قالوا:
إمامته ،ولذا كان يتحداهم أن يأتوا بمثله (.)2
وروى الشيخ الطربيس عن اإلمام الباقر « :إن عمر بن اخلطاب ملَّا حرضته الوفاة
وأمجع عىل الشورى ،بعث إىل ستة نفر من قريش :إىل عَل بن أيب طالب ،وإىل عثامن بن عفان،
وإىل زبري بن العوام ،وإىل طلحة بن عبيد اهلل ،وعبد الرمحن بن عوف ،وسعد بن أيب وقاص،
وأمرهم أن يدخلوا إىل ٍ
بيت وال خيرجوا منه حتى يبايعوا ألحدهم ،فإن اجتمع أربعة عىل واحد
وأبى واحد أن يبايعهم قتل ،وإن امتنع اثنان وبايع ثالثة ُقتِال ،فأمجع رأُّيم عىل عثامن.
املوقف الثالث :احتجاجه بحديث الغدير يف املسجد أيام خالفة عثامن بن عفان،
وقد نقله احلمويني يف (فرائد السمطني) وعنه نقله القندوزي يف (ينابيع املودة) ،قال :ومنه:
فقام سلامن فقال :يا رسول اهلل والء كامذا؟ فقال :والء كواليتي ،من كنت أوىل به من
نفسه ،فعَل أوىل به من نفسه ،فأنزل اهلل تعاىل ذكره﴿ :ا ْل َي ْو َم َأ ْك َم ْل ُت َلك ُْم ِدينَك ُْم َو َأ ْمت َ ْم ُ
ت َع َل ْيك ُْم
نبويت ومتام دين اهلل ِ نِ ْع َمتِي َو َر ِض ُ
يت َلك ُُم ِ
متام ّ فكرب النبي وقال :اهلل أكربُ ، اإل ْسال ََم دينًا﴾ّ ،
خاصة يف عَل؟ قال:
والية عَل بعدي ،فقام أبو بكر وعمر فقاال :يا رسول اهلل ،هؤالء اآليات ّ
عَل أخي ووزيري
بىل ،فيه ويف أوصيائي إىل يوم القيامة .قاال :يا رسول اهلل ب ّينهم لنا .قالّ :
ثم
ثم احلسنيّ ،
ثم ابني احلسنّ ، وويل ّ
كل مؤمن بعديّ ، ّ ووارثي ووص ّيي وخليفتي يف أ ّمتي
تسعة من ولد ابني احلسني واحد بعد واحد ،القرآن معهم وهم مع القرآن ،ال يفارقونه وال
عَل احلوض.
يفارقهم حتى يردوا ّ
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 246
فقالوا ك ّلهم :ال ّلهم نعم قد سمعنا ذلك وشهدنا كام قلت سواء ،وقال بعضهم :قد حفظنا
جل ما قلت ،ومل نحفظه ك ّله ،وهؤالء ا ّلذين حفظوا أخيارنا وأفاضلنا ،فقال عَل :صدقتم
ّ
ليس ّ
كل النّاس يستوون يف احلفظ ،أنشد اهلل من حفظ ذلك من رسول ملا قام فأخرب به.
والصوم واحلج
ّ بالصالة فقد ب ّينتها لكم ،وبالزكاة يا ّأُّيا النّاسّ ،
إن اهلل أمركم يف كتابه ّ
عَل بن
خاصة -ووضع يده عىل ّ
وإين أشهدكم ّإهنا هلذا ّ
وفرسهتا ،وأمركم بالوالية ّ
فب ّينتها لكم ّ
ثم لألوصياء من بعدهم من ولدهم ،ال يفارقون القرآن وال
ثم البنيه بعدهّ ،
أيب طالب ّ -
يفارقهم القرآن حتى يردوا عىل احلوض.
عَل بن
ّأُّيا النّاس قد ب ّينت لكم مفزعكم بعدي ،إمامكم ودليلكم وهاديكم وهو أخي ّ
أيب طالب ،وهو فيكم بمنزلتي فيكم ،فق ّلدوه دينكم ،وأطيعوه يف مجيع أموركمّ ،
فإن عنده مجيع
ما ع ّلمني اهلل من علمه وحكمته ،فسلوه وتع ّلموا منه ومن أوصيائه بعده ،وال تع ّلموهم وال
واحلق معهم ال يزايلوه وال يزايلهم» (.)1
ّ احلق تتقدّ موهم وال خت ّلفوا عنهمّ ،
فإهنم مع ّ
وقد استفاضت املصادر بنقله ،وممن نقله ابن األثري يف (أسد الغابة) حيث قال :عَل بن
الناس يف الرحبة َمن سمع النبي صىل اهلل
َ عَل
احلسن العبدي ،عن األصبغ بن نباتة قال« :نشد ٌ
عليه [وآله] يوم غدير خم َما قال إال قام ،وال يقوم إال من سمع رسول اهلل صىل اهلل عليه
[وآله] ،يقول :فقام بضعة عرش ً
رجال ،فيهم أبو أيوب األنصاري ،وأبو عمرة بن عمرو بن
حمصن ،وأبو زينب ،وسهل بن حنيف ،وخزيمة بن ثابت ،وعبد اهلل بن ثابت األنصاري،
وحبَش بن جنادة السلويل ،وعبيد بن عازب األنصاري ،والنعامن بن عجالن األنصاري،
وثابت بن وديعة األنصاري ،وأبو فضالة األنصاري ،وعبد الرمحن بن عبد رب األنصاري،
فقالوا :نشهد أنا سمعنا رسول اهلل صىل اهلل عليه [وآله] يقول :أال ّ
إن اهلل وليي وأنا ويل
املؤمنني ،أال فمن كنت مواله فعَل مواله ،اللهم وال من وااله ،وعاد من عاداه ،وأحب من
أحبه ،وأبغض من أبغضه ،وأعن من أعانه» (.)2
الترصيح األول :حني أشري عليه بأن ال يتبع طلحة والزبري ،وال يرصد هلام القتال ،فقال
« :واهلل ال أكون كالضبع تنام عىل طول اللدم ،حتى يصل إليها طالبها وخيتلها راصدها،
عَل
ولكني أرضب باملقبل إىل احلق املدبر عنه ،وبالسامع املطيع العايص املريب أبدً ا حتى يأيت ّ
عَل ،منذ قبض اهلل نبيه صىل اهلل عليه حتى يوم
مستأثرا ّ
ً مدفوعا عن حقي
ً يومي ،فواهلل ما زلت
الناس هذا» (.)1
الترصيح الثاين :خطبته الشقشقية ،وهي طافحة بأفصح عبارات الظالمة ،وقد تقدم
ً
مفصال ،فراجع. احلديث عنها
الترصيح الثالث :جوابه حني قال له األشعث بن قيس –وهو أعدى أعدائه–« :فام منعك
يا بن أيب طالب حني بويع أبو بكر أخو بني تيم ،وأخو بني عدي بن كعب ،وأخو بني أمية
بعدهم ،أن تقاتل وترضب بسيفك؟! وأنت مل ختطبنا خطبة مذ كنت قدمت العراق إال قلت
فيها قبل أن تنزل عن املنرب :واهلل إين ألوىل الناس بالناس ،وما زلت مظلو ًما مذ قبض رسول
اهلل !فام يمنعك أن ترضب بسيفك دون مظلمتك؟!».
فإنه أجابه بقوله « :يا بن قيس اسمع اجلواب ،مل يمنعني من ذلك اجلبن وال كراهة
للقاء ريب ،وأن ال أكون أعلم أن ما عند اهلل خري يل من الدنيا والبقاء فيها ،ولكن منعني من
إيل ،أخربين رسول اهلل بام األمة صانعة بعده ،فلم أك بام
ذلك أمر رسول اهلل وعهده ّ
صنعوا حني عاينته بأعلم به وال أشدّ استيقانًا مني به قبل ذلك ،بل أنا بقول رسول اهلل أشد
إيل إذا كان ذلك؟ قال :إن وجدت
يقينًا مني بام عاينت وشهدت ،فقلت :يا رسول اهلل فام تعهد ّ
أعوانًا فانبذ إليهم وجاهدهم ،وإن مل جتد أعوانًا فكف يدك واحقن دمك حتى جتد عىل إقامة
الدين وكتاب اهلل وسنتي أعوانًا ،وأخربين أن األمة ستخذلني وتبايع غريي» (.)2
وهذا األسلوب القرآين هو ما اعتمده أئمة أهل البيت ،فإهنم قد خ ّلدوا ظالمتهم يف
نفوس املؤمنني وأحيوها يف هذه األمة ،من خالل تركيزهم وإرصارهم عىل مداولة فكرة
ٍ
بشكل خاص ،فخلدت مظلوميتهم مظلوميتهم بشكل عام ،ومظلومية اإلمام احلسني
برتسيخهم وجهود شيعتهم.
وع ْث َام َن َع َىل َما ين َبا َي ُعوا َأ َبا َبك ٍْر ُ ِ ِ
وع َم َر ُ اإللزام األول :قوله ملعاوية« :إنَّه َبا َي َعني ا ْل َق ْو ُم ا َّلذ َ
الشورى ل ِ ْلم َه ِ وال ل ِ ْلغَائِ ِ اه ِد َأ ْن َ ْ ُن ل ِ َّ
لش ِ
اج ِر َ
ين ُ ب َأ ْن َي ُر َّد ،وإِن ََّام ه َ خيت ََارَ ، وه ْم َع َل ْيهَ ،ف َل ْم َيك َْبا َي ُع ُ
َان َذلِ َك هللَِّ ِر ًضا» (.)1 وس َّم ْوه إِ َما ًما ك َ اجت ََم ُعوا َع َىل َر ُج ٍل َ
واألَنْص ِ ِ
ارَ ،فإِن ْ َ
ٍ
لقناعة منه بمعيارية الشورى أو اجتامع أهل احلل وال خيفى َّ
أن هذا اخلطاب مل يكن
والعقد ،وإنام ألجل إلزام الطرف اآلخر بام ألزم به نفسه؛ إذ َّ
أن معاوية قد بايع األول والثاين
طبقا هلذا املعيار ،فال مناص له من التسليم بخالفة أمري املؤمنني ؛ لتو ّفر نفس املعيار فيها.
ً
اإللزام الثاين :قوله حني قيل له :بايع أبا بكر« :أنا أحق هبذا األمر منكم ،ال أبايعكم
وأنتم أوىل بالبيعة يل ،أخذتم هذا األمر من األنصار ،واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي ،
وتأخذونه منا أهل البيت غص ًبا؟! ألستم زعمتم لألنصار أنكم أوىل هبذا األمر منهم ملا كان
حممد منكم ،فأعطوكم املقادة ،وس ّلموا إليكم اإلمارة ،وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به
عىل األنصار ،نحن أوىل برسول اهلل ح ًيا وميتًا ،فأنصفونا إن كنتم تؤمنون ،وإال فبؤوا بالظلم
وأنتم تعلمون» (.)2
فإن القوم ملَّا استندوا – يف مجلة ما استندوا إليه – للقرابة ،خصمهم
وكام ترىَّ ،
بأقربيته للنبي األعظم منهم ،مع َّ
أن القرابة يف واقع األمر ليست من وسائل اإلثبات ،ولكنه
أراد إلزامهم من حيث يلتزمون.
غُ ّي ُ
ب واملشريون هبذا فكيف ملكت أمورهم
َ كنت بالشورى
َ ْ
فإن
واخلالصةَّ :
فإن اعتامد أمري املؤمنني حتى عىل معايري خصومه يف خماصمتهم دليل
عىل متسكه البالغ بحقه ،وأنه يرى نفسه اخلليفة الرشعي الذي تنحْص به اخلالفة والوالية
واحلاكمية ،وال يرى ألحد سواه حق يف السلطة.
اجلواب عن املنبه الثاين :عدم االنسجام بني الشجاعة العلوية والسكوت عن احلق.
ُ
َّ
إن املن ّبه املذكور خاطئ من أساسه ،فهو أشبه باملغالطة؛ ألنه مبني عىل مقدمتني خاطئتني:
أيضا غري مس ّلمة؛ ألن أمري املؤمنني مل يسكت عن حقه ،إذ أنه قد رفض
وهذه املقدمة ً
مبايعة أيب بكر ،وهذا الرفض نحو من أنحاء االحتجاج وعدم الرضا ،كام أنه مل يكف عن
بحقه ك َّلام سنحت له الفرصة ،وقد ب ّينا ذلك فيام تقدم عند ذكر مناشداته ،فالحظ.
املطالبة ّ
اجلهة الثانية :مشاهبة ما جرى عىل أمري املؤمنني ملا جرى عىل بعض األنبياء .
َّ
إن ما جرى ألمري املؤمنني يشكّل امتدا ًدا ملا جرى عىل األنبياء قبله ،فقد ذكر
القرآن الكريم ّ
أن عدة من األنبياء مل ُتتَح هلم الظروف أن يتصدّ وا للحاكمية والسلطة،
ظل تلك الظروف ،ومع ذلك َّ
فإن أحدً ا ال يستطيع أن يسلب عنهم حق فرفعوا أيدُّيم عنها يف ّ
السلطة والوالية.
ون ِمن د ِ
هلل
ون ا َِّ النموذج األول :نبي اهلل إبراهيم ،قال تعاىلَ ﴿ :و َأ ْعت َِز ُلكُ ْم َو َما تَدْ ُع َ ْ ُ
ون ِمن د ِ ِ
ون اهللَِّ َو َه ْبنَا َل ُه ون بِدُ َعاء َر ِّيب َش ِق ًّيا * َف َل َّام ْ
اعت ََز َهل ُ ْم َو َما َي ْع ُبدُ َ ْ ُ َو َأ ْد ُعو َر ِّيب َع َسى َأ َّال َأ ُك َ
وب َوك ًُّال َج َع ْلنَا نَبِ ًّيا﴾ (.)1 إِ ْس َح َ
اق َو َي ْع ُق َ
فالنبي إبراهيم قد دعته ظروفه العتزال القوم وما يدعون من دون اهلل ،واحلال
أنه ملَّا اعتزهلم ورفع يده عنهم كانت له سلطة من اهلل عليهم ،ومل يؤ ّثر ذلك عىل ثبوت احلق له
ٍ
ملصلحة واقتضاء – مل يستلزم رفع السلطة عنه ،فكذلك فيها ،وبالتايل فكام َّ
أن رفعه ليده عنهم –
ِ
يقتض ذلك نفي سلطته وأحقيته. ٍ
ملصلحة اقتضته – مل أمري املؤمنني حني اعتزل األمر –
انوسى إِ َىل َق ْو ِم ِه غَ ْض َب َ النموذج الثاين :نبي اهلل هارون ،قال اهلل تعاىلَ ﴿ :وملََّا َر َج َع ُم َ
وين ِمن بع ِدي َأ َع ِج ْلتُم َأمر ربكُم و َأ ْل َقى ْاألَ ْلواح و َأ َخ َذ بِر ْأ ِ ِ ِ ِ
س َأخيه َ ُ
جي هر ُه َ َ َ َ ْ ْ َ َ ِّ ْ َ َأس ًفا َق َال بِ ْئ َس َام َخ َل ْفت ُُم ِ ْ َ ْ
يب ْاألَعْدَ ا َء َو َال َ ْجت َع ْلنِي َم َع ِ ِ إِ َل ْي ِه َق َال ا ْب َن ُأم إِ َّن ا ْل َق ْوم است َْض َع ُف ِ
وين َوكَا ُدوا َي ْق ُت ُلونَني َف َال ت ُْشم ْت ِ َ َ ْ َّ
ا ْل َق ْو ِم ال َّظامل ِ َ
ني﴾ (.)1
فنبي اهلل هارون كانت له والية وسلطة وحاكمية عىل قومه ،إال أنه رفع اليد عنهم،
واعتذر َّ
بأن القوم قد استضعفوه وكادوا أن يقتلوه ،ومع ذلك مل ُيعزل عن واليته وحاكميته
وسلطته ،وكذلك هو احلال بالنسبة ألمري املؤمنني حذو القذة بالقذة.
ب إِ َ َّيل ِممَّا
الس ْج ُن َأ َح ه
النموذج الثالث :نبي اهلل يوسف ،قال اهلل َ ﴿ :ق َال َر ِّب ِّ
َيدْ ُعونَنِي إِ َل ْي ِه﴾ (.)2
ِ
أضف إىل هذه النامذج نبينا األعظم ،فإنه قد تصدّ ى للحكم يف املدينة املنورة ،بينام مل
حمارصا يف شعب أيب طالب ،فهل ّ
أخل ذلك بنبوته ً يتمكن من التصدّ ي له حينام كان
ّ
وحقه يف السلطة واحلاكمية؟!
وإىل ذلك أشار أمري املؤمنني فيام نقله عنه الشيخ الطربيس حيث قال« :فقال عَل
عَل ّ
حقي ،فقام إليه األشعث بن قيس فقال :يا أمري مستأثرا َ َّ
ً :إين كنت مل أزل مظلو ًما
املؤمنني ِمل َمل ترضب بسيفك ،ومل تطلب بحقك؟ فقال :يا أشعث قد َ
قلت ً
قوال فاسمع اجلواب
وعه ،واستشعر احلجةَّ ،
إن يل أسوة بس تة من األنبياء صلوات اهلل عليهم أمجعني.
ِ
َْص﴾ فإن قال قائل :إنه قال هذا لغري رب ﴿ َأ ِّين َم ْغ ُل ٌ
وب َفانت ْ أوهلم :نوح ،حيث قالِّ :
خوف فقد كفر ،وإال فالويص أعذر.
آوي إِ َىل ركْ ٍن َش ِد ٍ
يد﴾ ،فإن قال قائل: وثانيهم :لوط ،حيث قالَ ﴿ :ل ْو َأ َّن ِيل بِك ُْم ُق َّو ًة َأ ْو ِ
ُ
إنه قال هذا لغري خوف فقد كفر ،وإال فالويص أعذر.
ون ِمن د ِ
ون اهللَِّ﴾ ،فإن قال وثالثهم :إبراهيم خليل اهلل ،حيث قالَ ﴿ :و َأ ْعت َِز ُلك ُْم َو َما تَدْ ُع َ
ُ
قائل :إنه قال هذا لغري خوف فقد كفر ،وإال فالويص أعذر.
ورابعهم :موسى ،حيث قالَ ﴿ :ف َف َر ْر ُت ِمنك ُْم ملََّا ِخ ْف ُتك ُْم﴾ ،فإن قال قائل :إنه قال
هذا لغري خوف فقد كفر ،وإال فالويص أعذر.
فإن قال قائل :إنه قال هذا لغري خوف فقد كفر ،وإال فالويص أعذر.
وسادسهم :أخي حممد خري البرش ،حيث ذهب إىل الغار ونومني عىل فراشه ،فإن قال
قائل :إنه ذهب إىل الغار لغري خوف فقد كفر ،وإال فالويص أعذر.
فقام إليه الناس بأمجعهم فقالوا :يا أمري املؤمنني قد علمنا أن القول قولك ،ونحن املذنبون
التائبون ،وقد عذرك اهلل» (.)1
واحلاصل :فإنه بعد وضوح الفرق بني احلاكمية واإلمامة بالنحو الذي أوضحناه ً
سابقا،
َّ
وأن األوىل جزء من الثانية ،وليست السلطة هي عني اإلمامة ،يتّضح جل ًيا عدم التالزم بني عدم
التصدّ ي ملبارشة السلطة بحكم الظروف املحيطة ،وبني عدم ثبوهتا.
مما يثريه البعض :إشكالية التناقض يف مواقفه ،فإنه عىل مدى مخس وعرشين سنة مل
مسلام للواقع ،ولكنه ملَّا تسلم مقاليد احلكم ونازعه معاوية
ً يطالب باإلمارة والسلطة ،بل كان
وطلحة والزبري وغريمها حارهبم حماربة القاسطني واملارقني والناكثني.
فإنه عند الرجوع للتاريخ نجد حقيقتني ال يمكن أن يشكّك هبام أحد:
اخلطر األول :خطر اإلمرباطورية الرومانية التي كانت تشكّل الثقل املسيحي ،وكانت
آنذاك تتواجد يف شامل اجلزيرة العربية ،وقد برز هلا موقف عدائي من النبي واإلسالم،
وكان النبي يته ّيأ لقطع دابرها ،ولذلك أعدّ جيش أسامة ولعن من خت ّلف عنه.
اخلطر الثاين :خطر اإلمرباطورية الفارسية التي كانت تشكّل الثقل املجويس ،وهي كانت
مزق احلاكم الكتاب ،وطردأن النبي ملَّا بعث برسوله إليهم ّ موتورة من اإلسالم ،حتى َّ
ِ
يكتف أن ذلك كان – وال يزال – خمال ًفا لألعراف الدولية ،ومل
رسول النبي من البالد ،مع َّ
بذلك حتى أمر واليه عىل اليمن أن يبعث ً
رجال لقتل رسول اهلل يف املدينة.
اخلطر الثالث :خطر اليهود املوتورين من النبي وأمري املؤمنني ،وكانوا يشكّلون
تكت ًّال ً
كبريا يف املدينة ومكّة وما حييط هبام.
قائالَ ﴿ :و َما اخلطر الرابع :اخلطر الداخَل ،وهو أشدّ األخطار ،والذي حتدث عنه القرآن ً
ِ ِ الر ُس ُل َأ َفإِ ْن َم َ ِِ ِ ُحم َ َّمدٌ إِ َّال َر ُس ٌ
ب ات َأ ْو ُقت َل ان َْق َل ْبت ُْم َع َىل َأ ْع َقابِك ُْم َو َم ْن َين َْقل ْ ول َقدْ َخ َل ْت م ْن َق ْبله ه
َع َىل َع ِقبي ِه َف َلن ي ُرض اهللََّ َشي ًئا وسيج ِزي اهللَُّ َّ ِ
ين﴾ ( ،)1حيث كان املنافقون يسعون الغتيال الشاك ِر َ ْ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ َّ
النبي والقضاء عىل اإلسالم يف بدايات عهده ،وقد كانت هلم عدّ ة حماوالت يف هذا السبيل.
ومنها :حماولتهم عند رجوع النبي من تبوك إىل املدينة املنورة ،وقد رواها أمحد بن
حنبل يف مسنده ً
قائال « :حدثنا يزيد ،أخربنا الوليد يعني ابن عبد اهلل بن مجيع ،عن أيب الطفيل،
قال :ملَّا أقبل رسول اهلل من غزوة تبوك أمر مناد ًيا فنادىَّ :
إن رسول اهلل أخذ العقبة ،فال
يأخذها أحد ،فبينام رسول اهلل يقوده حذيفة ويسوق به عامر إذ أقبل رهط متلثمون عىل
عامرا وهو يسوق برسول اهلل ،وأقبل عامر يرضب وجوه الرواحل ،فقال
الرواحل ،غشوا ً
فلام هبط رسول اهلل نزل ورجع
رسول اهلل حلذيفة" :قد ،قد" حتى هبط رسول اهلل َّ ،
عامر ،فقال :يا عامر ،هل عرفت القوم؟ فقال :قد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون ،قال:
هل تدري ما أرادوا؟ قال :اهلل ورسوله أعلم ،قال :أرادوا أن ينفروا برسول اهلل فيطرحوه.
قال الوليد :وذكر أبو الطفيل يف تلك الغزوة أن رسول اهلل قال للناس ،و ُذكِر له ّ
أن
يف املاء قلة ،فأمر رسول اهلل مناد ًيا فنادى" :أن ال يرد املاء أحد قبل رسول اهلل" ،فورده
رسول اهلل فوجد ره ًطا قد وردوه قبله ،فلعنهم رسول اهلل يومئذ» (.)1
( )1مسند أمحد :ج 39ص ،211وعلق عليه األرنؤوط« :إسناده قوي عىل رشط مسلم .يزيد :هو ابن هارون».
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 258
منها :قوله يف خطبته عند مسريه للبْصة بعد أن محد اهلل وصىل عىل رسوله َّ « :
إن اهلل
ملَّا قبض نبيه استأثرت علينا قريش باألمر ،ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة،
فرأيت َّ
أن الصرب عىل ذلك أفضل من تفريق كلمة املسلمني ،وسفك دمائهم ،والناس حديثو
عهد باإلسالم ،والدين يمخض خمض الوطب ،يفسده أدنى وهن ،ويعكسه أقل خلف» (.)1
ومنها :قوله ملَّا عزموا عىل بيعة عثامن« :لقد علمتم أين أحق الناس هبا من غريي،
التامسا ألجر ذلك
ً عَل خاصة،
وواهلل ألسلمن ما سلمت أمور املسلمني ،ومل يكن فيها جور إال ّ
وفضله ،وزهدً ا فيام تنافستموه من زخرفه وزبرجه» (.)2
ومنها :ملَّا اجتمع الناس عىل بيعة أيب بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول :إين ألرى عجاجة
ال يطفئها إال دم ،يا آل عبد مناف :فيم أبو بكر من أموركم؟ أين املستضعفان؟ أين األذالن
لعَل :ابسط يدك أبايعك ،فواهلل
حي من قريش؟ ثم قال ّ عَل والعباس؟ ما بال هذا األمر يف ِ
أقل ّ
ورجال ،فأبى عَل عليه ،فتم ّثل بشعر ّ
املتلمس: ً لئن شئت ألمألهنا عليه ً
خيال
( )1رشح هنج البالغة البن أيب احلديد ج 1ص ،308لكن تكملة اخلطبة« :فويل األمر قوم مل يألوا يف أمرهم اجتها ًدا ،ثم انتقلوا إىل
دار اجلزاء ،واهلل ويل متحيص سيئاهتم ،والعفو عن هفواهتم .فام بال طلحة والزبري ،وليسا من هذا األمر بسبيل!» .
( )2هنج البالغة :ج ،1ص.168
( )3الكامل يف التاريخ :ج ،2ص.325
259 البحث التاسع :شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية
ومنها :قوله يف رسالته إىل مالك األشرت« :فأمسكت يدي – أي :عن البيعة – حتى
رأيت راجعة الناس قد رجعت عن اإلسالم ،يدعون إىل حمق دين حممد ،فخشيت إن مل
عَل أعظم من فوت واليتكم،
ثلام أو هد ًما تكون املصيبة به ّ
أنْص اإلسالم وأهله أن أرى فيه ً
التي إنام هي متاع أيام قالئل ،يزول منها ما كان كام يزول الرساب ،أو كام ّ
يتقشع السحاب،
فنهضت يف تلك األحداث حتى زاح الباطل وزهق ،واطمأن الدين وتنهنه» (.)1
منها :قوله يف اخلطبة الشقشقية الشهرية« :وطفقت أرتئي بني أن أصول بيد جذاء أو أصرب
عىل طخية عمياءُّ ،يرم فيها الكبري ،ويشيب فيها الصغري ،ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه،
فرأيت أن الصرب عىل هاتا أحجى ،فصربت ويف العني قذى ،ويف احللق شجا ،أرى تراثي هن ًبا،
حتى مىض األول لسبيله» (.)2
أن اخليار األول هو القتال الذي أن مقصوده بقوله" :أن أصول ٍ
بيد جذاء" َّ وال خيفى َّ
ِ
لكونه بيد جذاء ،واملراد هبا اليد تعرب عنه كلمة (أصول) ،غري َّ
أن هذا اخليار ليس براجح، ّ
املقطوعة ،وهو كناية عن عدم النارص ،ولذلك فالصرب – وهو اخليار الثاين – أوىل.
ومنها :ما جاء يف رسالة معاوية ألمري املؤمنني « :وأعهدك أمس حتمل قعيدة بيتك
ً
ليال عىل محار ،ويداك يف يدي ابنيك احلسن واحلسني يوم بويع أبو بكر الصديق ،فلم تدع أحدً ا
من أهل بدر والسوابق إال دعوهتم إىل نفسك ،ومشيت إليهم بامرأتك ،وأدليت إليهم بابنيك،
وا ستنْصهتم عىل صاحب رسول اهلل ،فلم جيبك منهم إال أربعة أو مخسة ،ولعمري لو كنت
حمقا ألجابوك ،ولكنك ادعيت ً
باطال ،وقلت ما ال يعرف ،ورمت ما ال يدرك ،ومهام نسيت ً
ومنها :ما ذكره ابن قتبية يف اإلمامة والسياسة بقوله« :وخرج عَل كرم اهلل وجهه حيمل
فاطمة بنت رسول اهلل عىل دابة ً
ليال يف جمالس األنصار تسأهلم النْصة ،فكانوا يقولون :يا
بنت رسول اهلل ،قد مضت بيعتنا هلذا الرجل ،ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أيب بكر
ما عدلنا به ،فيقول عَل كرم اهلل وجهه :أفكنت أدع رسول اهلل يف بيته مل أدفنه ،وأخرج أنازع
الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة :ما صنع أبو احلسن إال ما كان ينبغي له ،ولقد صنعوا ما اهلل
حسيبهم وطالبهم» (.)2
املحصلة:
وقد حتدث عن هذه املرحلة يف خطبته الشقشقية فقال« :أما والذي فلق احلبة وبرأ
النسمة ،لوال حضور احلارض ،وقيام احلجة بوجود النارص ،وما أخذ اهلل عىل العلامء أن ال يقاروا
عىل كظة ظامل وال سغب مظلوم ،أللقيت حبلها عىل غارهبا ،ولسقيت آخرها بكأس أوهلا،
وأللفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» (.)1
واجلواب عن ذلك:
إن األهداف تارة تكون أهدا ًفا غيبية ،وأخرى تكون أهدا ًفا حسية ،أما
وثان اياَّ :
النحو األول من األهداف فإننا نعتقد جازمني موقنني َّ
بأن أمري املؤمنني - بمقتىض خالفته
اإلهلية – قد حققها وأصاهبا ،وأما النحو اآلخر من األهداف َّ
فإن أمري املؤمنني قد أعلن
عنه حني تصدّ يه للحكومة ،وقد حْصه يف إحياء معامل الدين ،وال شك وال ريب يف َّ
أن أمري
املؤمنني قد ّ
حقق هذا اهلدف عىل أحسن وجه ،وربح مكاسب ال يمكن جتاوزها وإغفاهلا،
وسنشري هاهنا إىل بعض معامل الدين التي أقامها أمري املؤمنني وش ّيد أركاهنا.
تعرضت للطمس عىل مدى مخس وعرشين سنة ،وهي املدة التي َّ
فإن هذه املكانة قد ّ
سبقت حكومة أمري املؤمنني ،وقد حتدّ ث عن ذلك يف خطبة له حول الفتوحات قال
فيها« :ثم نسبت تلك الفتوح إىل آراء والهتا ،وحسن تدبري األمراء القائمني هبا ،فتأكّد عند
ال ناس نباهة قوم ومخول آخرين ،فكنا نحن ممن مخل ذكره ،وخبت ناره ،وانقطع صوته وصيته،
حتى أكل الدهر علينا ورشب ،ومضت السنون واألحقاب بام فيها ،ومات كثري ممن يعرف،
ونشأ كثري ممن ال يعرف» (.)1
وهذه النتيجة طبيعية جدً ا؛ إذ املجتمعات التي طالتها ما تسمى بـ (الفتوحات اإلسالمية)
مل تُفتح عىل اسم عَل أو فاطمة أو احلسن واحلسني ،وإنام ُفتحت عىل أسامء أخرى ،فلم تكن
شخصا حتدث بفضيلة من فضائلهم أو منقبة
ً تعرف شي ًئا عن تلك األسامء املباركة ،بل لو َّ
أن
وحياسب ،فلم تسنح الفرصة للحديث عن فضائل أمري
َ حيارب ويعا َقب
من مناقبهم كان َ
املؤمنني وأهل البيت إال بعد أن تصدى أمري املؤمنني للحكم ،حينها بدأ الصحابة
حيدثون الناس بام سمعوه من رسول اهلل من فضائل أمري املؤمنني وبرزت مكانة أهل
أهم املعامل التي ّ
حققها أمري املؤمنني خالل حكومته املقدسة. البيت ،وهذا املعلم من ّ
فإن أذهان املسلمني عىل مدى مخس وعرشين سنة قد أرشبت َّ
بأن اإلمامة إنام هي َّ
بالشورى والبيعة واجتامع أهل احلل والعقد ،إىل أن تسنت الفرصة ألمري املؤمنني يف
حكومته ،فبدأ حيدّ ث الناس عن أنه كان مسلوب احلق واملقام ،وأنه هو األجدر واألحق؛ ألنه
هو املنصوص عليه من قبل اهلل ، وأن اإلمامة ال تتم بشورى وال باجتامع أهل حل وعقد،
ورسخه بعد أن كان ذلك مغ َّي ًبا عن األذهان.
فش ّيد مفهوم اإلمامة اإلهلية ّ
واحلاصلّ :
فإن أمري املؤمنني لو مل حيقق من حكومته املباركة إال هذين املكسبني
لكفى ،إذ لواله ملا عرف املسلمون مكانة آل حممد ،وملا ظهر مذهب احلق وبقي راسخ
اجلذور إىل يوم الناس هذا ،لوضوح َّ
أن جوهر التشيع هو مسألة اإلمامة اإلهلية ،وهذه املسألة
قد ضاعت وانطمست لوال جهود أمري املؤمنني وتصديه للحكومة.
فإن التالعب والتحريف قد وقع عند انتقال خاتم األنبياء واملرسلني إىل العامل األعىل،
تعمد وسبق إرصار ،ويشهد لذلك :ما رواه البخاري يف ٍ غري البعض حقائق الدين عنوقد ّ
صحيحه عن الزهري أنه يقول « :دخلت عىل أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي ،فقلت :ما
يبكيك؟ فقال :ال أعرف شي ًئا مما أدركت إال هذه الصالة ،وهذه الصالة قد ض ّيعت» (.)1
ومن هنا وجد أمري املؤمنني رضورة تصديه للخالفة ،ألجل صيانة الدين من
التحريف ،وتدارك ما يمكن تداركه مما طاله التالعب ،وتشهد لذلك نصوص عديدة:
منها :ما رواه الطربي يف تأرخيه عنه أنه قال« :عدا الناس عىل هذا الرجل – وأنا
معتزل – فقتلوه ،ثم و ّلوين وأنا كاره ،ولوال خشية عىل الدين مل أجبهم» (.)2
ومنها :ما رواه البالذري مسندً ا عن حبيب بن أيب ثابت أنه قال« :قال عَل :واهلل ما
تقدّ مت عليها إال خو ًفا من أن ينزو عىل األمر تيس من بني أمية فيلعب بكتاب اهلل .)1( »
ومن تلك النصوص :الوثيقة اخلطرية التي ينقلها الشيخ الكليني يف الكايف عنه،
وهي طويلة جدً ا ،ولكننا نقتبس منها قوله« :قد عملت الوالة قبَل ً
أعامال خالفوا فيها رسول
وحولتها
مغريين لسنته ،ولو محلت الناس عىل تركهاّ ،
اهلل متعمدين خلالفه ،ناقضني لعهدهّ ،
لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي ،أو
إىل مواضعها ،وإىل ما كانت يف عهد رسول اهلل ّ ،
قليل من شيعتي الذين عرفوا فضَل وفرض إمامتي من كتاب اهلل وسنة رسول اهلل .
• أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إىل املوضع الذي وضعه فيه رسول
اهلل ؟
• ورددت فدك إىل ورثة فاطمة ؟
• ورددت صاع رسول كام كان؟
• وأمضيت قطائع أقطعها رسول اهلل ألقوام مل متض هلم ومل تنفذ؟
• ورددت دار جعفر إىل ورثته وهدمتها من املسجد؟
• ورددت قضايا من اجلور قيض هبا؟
• ونزعت نسا ًء حتت رجال بغري حق ،فرددهتن إىل أزواجهن ،واستقبلت هبن
احلكم يف الفروج واألرحام؟
• وسبيت ذراري بني تغلب؟
• ورددت ما قسم من أرض خيرب؟
• وحموت دواوين العطايا؟
• وأعطيت كام كان رسول اهلل يعطي بالسوية ،ومل أجعلها دولة بني األغنياء؟
• وألقيت املساحة؟
• وسويت بني املناكح؟
• وأنفذت مخس الرسول كام أنزل اهلل وفرضه؟
• ورددت مسجد رسول اهلل إىل ما كان عليه ،وسددت ما فتح فيه من
األبواب ،وفتحت ما سدّ منه؟
وحرمت املسح عىل اخلفني؟
ّ •
• وحددت عىل النبيذ؟
• وأمرت بإحالل املتعتني؟
• وأمرت بالتكبري عىل اجلنائز مخس تكبريات؟
• وألزمت الناس اجلهر ببسم اهلل الرمحن الرحيم؟
• وأخرجت من أدخل مع رسول اهلل يف مسجده ممن كان رسول اهلل
أخرجه؟ وأدخلت من أخرج بعد رسول اهلل ممن كان رسول اهلل أدخله؟
• ومحلت الناس عىل حكم القرآن وعىل الطالق عىل السنة؟
• وأخذت الصدقات عىل أصنافها وحدودها؟
• ورددت الوضوء والغسل والصالة إىل مواقيتها ورشائعها ومواضعها؟
الفصل األول :اإلمامة اإللهية في الفكر الشيعي 266
إ ًذا ّ
لتفرقوا عني واهلل» (.)1
فغري
وقد كان ألمري املؤمنني دور كبري يف تقويم هذا العوج ،وإبطال هذا التحريفّ ،
ما غُ ّري من هذه السنن التي سنّها اآلخرون ،إىل احلد الذي اقرتن فيه اسمه ببعضها ،وقد
اعرتف بذلك الفخر الرازي – وهو من كبار علامء القوم -حيث قال« :وأما َّ
أن عَل بن أيب
طالب كا ن جيهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر ،ومن اقتدى يف دينه بعَل بن أيب طالب فقد
اهتدى ،والدليل عليه قوله :اللهم أدر احلق مع عَل حيث دار» ( ،)2والشواهد عىل ذلك
كثرية جدً ا.
ملَّا تصدى أمري املؤمنني للحكم وجد الطبقية منترشة يف املجتمع ،فقد كان البعض
ّ
ويؤخر آخرين ،ال لَشء سوى املحسوبيات والقومية الزائفة ،كام يم ّيز بني األفراد ،فيقدّ م قو ًما
أوجها آنذاك ،حيث كان مبدأ التفاضل يف العطاء هو املبدأ احلاكم
كانت الطبقية املالية عىل ّ
واملهيمن حينها ،ولكن أمري املؤمنني منذ أول حلظة تس ّلم فيها احلكم أعلن بوضوح رفضه
هلذا املبدأ ،فقال يف أول خطبة له بعد تسلمه احلكم – كام روى الشيخ الطويس بسنده عن
مالك بن أوس – « :فأنتم أُّيا الناس عباد اهلل املسلمون ،واملال مال اهلل يقسم بينكم بالسوية،
وليس ألحد عىل أحد فضل إال بالتقوى ،وللمتقني عند اهلل خري اجلزاء وأفضل الثواب ،مل جيعل
فإن عندنا ً
ماال اجتمع، اهلل الدنيا للمتقني جزاء ،وما عند اهلل خري لألبرار .إذا كان غدً ا فاغدوا َّ
رصح ً
قائال« :ولكنني آسى أن وقد ظهر ذلك جل ًيا بعزله للوالة الفاسدين ،حيث ّ
دوال ،وعباده ً
خوال ،والصاحلني حر ًبا، وفجارها ،فيتّخذوا مال اهلل ً
يَل أمر هذه األمة سفهاؤها ّ
والفاسقني حز ًباَّ ،
فإن منهم الذي قد رشب فيكم احلرام ،وجلد حدً ا يف اإلسالم ،وإن منهم من
مل يسلم حتى رضخت له عىل اإلسالم الرضائخ» (.)2
ومن أولئك الوالة الذين عزهلم أمري املؤمنني :معاوية بن أيب سفيان ،فقد روى
الشيخ الطويس عن جبلة بن سحيم عن أبيه ،قال« :ملَّا بويع أمري املؤمنني عَل بن أيب طالب
فقال أمري املؤمنني : أتضمن يل عمري يا مغرية فيام بني توليته إىل خلعه؟ قال :ال،
ُنت مت ِ
َّخ َذ قال :ال يسألني اهلل عن توليته عىل رجلني من املسلمني ليلة سوداء أبدً اَ ﴿ ،و َما ك ُ ُ
املُْ ِض ِّل َ
ني َع ُضدً ا﴾ ،لكن أبعث إليه وأدعوه إىل ما يف يدي من احلق ،فإن أجاب فرجل من
املسلمني له ما هل م وعليه ما عليهم ،وإن أبى حاكمته إىل اهلل» (.)1
يتقربون إىل اهلل تعاىل بلعن أمري املؤمنني ،بل كانوا يك ّفرونه
وإال فإهنم كانوا ّ
ويك ّفرون كل من وااله ،ومل يتورعوا عن ذبح من كان ه
يمت ألمري املؤمنني بصلة ،ومن
ذلك ذبحهم للصحايب اجلليل خباب بن األرت ال لَشء إال ألنه ريض عن موقف أمري
املؤمنني ،بل قد عمدوا إىل زوجته وهي حامل وبقروا بطنها قربة هلل تعاىل.
الزهاد ٍ
ولذلك وقعت الفتنة واحلرية يف صفوف املسلمني ،فمن جهة كان هؤالء من الع ّباد ّ
أصحاب الطاعات ،ومن جهة أخرى كانوا يك ّفرون عل ًيا ويلعنونه ،وقد خرجوا عليه
وأعلنوا احلرب ضده ،فوقع الناس يف الفتنة واحلرية ،وما استطاع أحد أن خي ّلصهم منها إال أمري
املؤمنني ،ولذا قال « :أما بعد أُّيا الناس ،فأنا فقأت عني الفتنة ،ومل تكن ليجرؤ عليها
أحد غريي ،بعد أن ماج غيهبها واشتدّ كلبها» ( ،)2فط ّبق عليهم حكم البغاة وقطع دابر الفتنة.
املحصلة األخرية:
ومما عرضناه يتّضحَّ :
أن أمري املؤمنني مل يفشل – والعياذ باهلل -يف حكومته ،بل نجح
رصح أمري املؤمنني فيها؛ ألنه ّ
حقق هدفه الذي رسمه ملرشوعه ،وهو إحياء معامل الدين ،وقد ّ
ونسب الفشل إىل غريه ،حني قال« :فقمت باألمر حني فشلوا ،وتطلعت حني
َ بنجاحه،
تقبعوا ،ونطقت حني تعتعوا ،ومضيت بنور اهلل حني وقفوا» (.)1
اجلواب عن املنبه الرابع :عدم تصدي أهل البيت قاطبة لإلمامة السياسية.
ُ
وأما عدم تصدي أهل البيت قاطبة لإلمامة السياسية ،فتوجد يف مقام اجلواب عنه
نظريتان:
• الشاهد الثاين :منع اإلمام الصادق صفوان اجلامل من عمله يف كراء اجلامل؛ َّ
ألن
حكومة املنصور كانت تستفيد منه يف جورها وظلمها.
• الشاهد الثالث :نصب أهل البيت للقضاة يف كل بلدة ألجل إقامة احلدود.
• الشاهد الرابع :مباركتهم لبعض الثورات ،وعدم معارضتها ،كثورة الشهيد
العظيم زيد بن عَل .
وليس خيفى َّ
أن كل هذه التْصفات من شأن احلكومة واحلاكم ،وصدورها منهم دليل
عىل ممارستهم إلمامتهم السياسية مع وجود تلك احلكومات الفعلية.
وحاصلهاَّ :
إن اإلمامة السياسية هلا جانبان:
هبا ومل يتنازلوا عنها ،وأما إذا كانوا مكتويف األيدي ،ومل يكن بمقدورهم أن يفعلوا شي ًئاَّ ،
فإن
اإلمامة السياسية ال تكون هلا حينئذ قيمة عندهم.
وتشهد لذلك نصوص كثرية ،ومنها :قول أمري املؤمنني « :اللهم إنك تعلم أنه مل يكن
الذي كان منّا منافسة يف سلطان ،وال التامس يشء من فضول احلطام ،ولكن لنرد املعامل من
دينك ،ونظهر اإلصالح يف بالدك ،فيأمن املظلومون من عبادك ،وتقام املعطلة من حدودك»(.)1
وهبذا ينتهي الكالم حول معاجلة شبهة عدم ثبوت اإلمامة السياسية أئمة ألهل البيت ،
يتم الكالم حول اإلمامة السياسية،
وهو املحور الثالث واألخري من حماور هذا البحث ،وبه ّ
واحلمدُ هلل رب العاملني.
ّ ُ
نتيجة المقدمات األرب ع 217 ..........................................................
حية زرارة يف اإلمامة تحت األضواء 219 ..................................
روايات ر
َّ
تحقيق حول الروايات الدالة عىل أن األئمة ثالثة ر
عش 224 ........................
البحث التاسع :شمول اإلمامة اإللهية لإلمامة السياسية237 .........................
المحور األول :وقفة مع المصطلح 237 ...................................................
الثان :أدلة ثبوت اإلمامة السياسية لألئمة 238 ............................
المحور ي
الدليل األول :حديث الدار 238 ......................................................
الثان :حديث الغدير 239 ....................................................
الدليل ي
المحور الثالث :معالجة شبهة عدم ثبوت اإلمامة السياسية ألهل البيت 241 ........
المؤمني بنصوص اإلمامة 242 .... ّ ُ
ر المنبه األول :عدم احتجاج ر
أمي الجواب عن
األسلوب األول :إقامة الحجة 242 ...................................................
الثان :اإلضار عىل ترسيخ فكرة المظلومية ومصادرة الحق 247 ....
األسلوب ي
األسلوب الثالث :إلزام القوم بمبانيهم 249 .........................................
الثان :عدم االنسجام ربي الشجاعة العلوية والسكوت عن الحق 251 ... ّ ُ
الجواب عن المنبه ي
الجهة األوىل :بيان وجه المغالطة يف هذا االستدالل 251 ........................
المؤمني لما جرى عىل بعض األنبياء 252 .....
ر الجهة الثانية :مشابهة ما جرى عىل ر
أمي