Professional Documents
Culture Documents
مقدمــة
الحمــد للــه رب العاملــن ،والصــاة والســام عــى أرشف املرســلني ،ســيدنا
ونبينــا محمــد أفضــل الخلــق أجمعــن ،وعــى آلــه وصحبــه والتابعــن ،ومــن
ســار عــى هديهــم إىل يــوم الديــن.
وبعد:
فــإن اللــه تعــاىل خلــق اإلنســان وكرمــه ،وأرســل منــه وإليــه رسـاً مــن كمــل
البــر ،ورشع لــه مــن األحــكام أعظمهــا ،ليعيــش النــاس يف رحمــة ووئــام،
ويتعاملــوا عــى أســس التســامح والتعايــش ،فيحفظــوا قيــم الفضــل بينهــم،
ـي عليهــا عــى خــر وهــدى وإنســانية وعطــاء. ويحيــى مــن َح ِيـ َ
لقــد رضب اإلســام برحمتــه يف أرجــاء املعمــورة كلِّهــا ،فلــم يكــن بترشيعاتــه
الســمحة -يو ًمــا مــا -تواقًــا إىل التصــادم مــع مخالفيــه البتــة ،أو باغيًــا عليهــم
قصــد اســتئصالهم ،بــل كان رحمــة للعاملــن ،معرتفًــا باملخالفــن ،متعايشً ــا
ـادل يف قضائــه بهــم ،وراف ًقــا يف سياســته لهــم ،ومتســام ًحا
ومتســاك ًنا معهــم ،عـ ً
يف رشيعتــه تجاههــم.
وإنــه مــن فضــل اللــه تعــاىل عــى اإلنســانية واملســلمني ،مــا ســخره تعــاىل لهم
ـال ظاه ـ ًرا وصال ًحــا للتمثــل بهــا يف تعزيــز
مــن منــاذج مرشقــة ،أضحــت مثـ ً
قيــم التســامح والتعايــش بــن النــاس بــرف النظــر عــن اختالفهــم يف الديــن
أو الجنــس أو اللــون أو العــرق ،وإن مــن الــدول املتصــدرة يف تعزيــز التســامح
دولــة اإلمــارات العربيــة املتحــدة ،التــي غــدت تجربتهــا التســامحية فريــدة
وفــذة يف عــامل مــا زال يــرزح تحــت وطــأة الرصاعــات والطائفيــة .وإن قــوام
هــذه التجربــة منظومــة مــن القيــم الدينيــة ،واملرتكـزات الثقافيــة الوطنيــة،
والعــادات واألخــاق والشــيم العربيــة ،املتوجــة بقيــادة عاملــة عادلــة رحيمــة
حكيمــة.
مــن هــذا املنطلــق رغبــت -أدا ًء لواجبــي العلمــي والوظيفــي والوطنــي-
أن أتنــاول موضــوع( :التســامح يف الرشيعــة اإلســامية وتجربــة دولــة
2
اإلمــارات أمنوذ ًجــا) عنوانًــا لبحــث رســالة شــهادة الدكتــوراه ،متعاط ًيــا مــع
هــذا املوضــوع بتأصيلــه مــن كتــاب اللــه عــز وجــل ،وهــدي نبيــه صــى
اللــه عليــه وســلم ،وفهــم فقهــاء اإلســام ،مــع تعزيــزه بالشــواهد التاريخيــة،
حتــى يرتفــع عــن هــذه القضيــة بعــض اللبــس الــذي اعرتاهــا جـراء مواقــف
شــخصية ألنــاس صاغتهــا بعــض الظــروف فضلــت وأضلــت ،إذ مل تســتند إىل
املعرفــة الرشعيــة الســليمة املتأصلــة مبصــادر الترشيــع اإلســامي املجمــع
عليهــا أو املختلــف فيهــا.
أهمية املوضوع والحاجة إليه:
ال غــرو أن موضــوع التســامح مــن املوضوعــات املهمــة ،والحاجــة إليــه رضورة
ملحــة؛ فاملوضــوع ذو قيمــة علميــة متعــددة ،إذ فيــه إب ـراز لجانــب عظيــم
مــن جوانــب الصــورة الحقيقيــة لإلســام؛ ففــي رشيعتنــا الغــراء وديننــا
اإلســامي الحنيــف كنــوز ينبغــي أن تســتثمر وتُــرى ،مــن أســس التعامــل
اإلنســاين ،وقيــم التســامح مــع غــر املســلمني ،وتنظيــم العالقــة معهــم ،ســواء
املؤصلــة ،أو يف التنزيــل الفعــي ،والتطبيــق العمــي، يف النصــوص الرشعيــة ِّ
لتلــك التعاليــم الســمحة خــال العصــور الزاهيــة بالتعايــش عــر تاريخنــا
اإلســامي املنــر.
وفيــه إملــاع إىل أن التســامح يــأيت اســتجابة لفطــرة اإلنســان ،الــذي يحــب
أخــاه اإلنســان ،وأن الكليــات الرشعيــة العامــة -ســواء منهــا االعتقاديــة
واألخالقيــة والترشيعيــة -أو األدلــة الفرعيــة الكثــرة؛ ميــدان خصــب للتدليــل
عــى أن هــذا الديــن ديــن عــدل وإحســان وتســامح؛ قانونــه يف ســنة التدافــع
:دفــع الســيئة بالحســنة ،ويف ســنة االختــاف االتحــاد واالستمســاك بالوطــن
وبقيادتــه الرشــيدة ،ووحــدة الصــف عــى كلمــة ســواء.
إن الحديــث عــن التســامح مطلــب ال بــد منــه؛ فالعــامل مــن حولنــا أصبــح
قريــة واحــدة ،بــل مجموعــا يف شاشــة واحــدة ،تالقت فيــه ثقافات الشــعوب،
وامتزجــت فيــه عوائــد النــاس وخصوصياتهــم املتوارثــة ،ومتكــن كل واحــد أن
يخالــط اآلخــر يف داره وبيئتــه ،فَ َجـ َّر ذلــك إلينــا كثـ ًرا مــن الثقافــات والعادات
والتقاليــد ،تجعــل املتلقــي لهــا بــن خيــارات عديــدة؛ يحتــاج يف اختيــاره لهــا
3
إىل طريــق صائــب ينفعــه يف دينــه ومجتمعــه ،ويقيــه مــن العثــار بعوائــق
التقوقــع عــى الــذات ،أو االنفتــاح دون االكــراث للمســلامت الدينيــة أو
الوطنيــة ،فلــم يعــد أي مجتمــع يســتطيع العيــش منعــزال عــن الواقــع ،وال
متأثـرا مبــا يشــاع مــن الفتــاوى واألحــكام التــي تثــر التحــارب والتدابــر.
أسباب اختيار املوضوع:
تتجىل أسباب اختياري هذا املوضوع يف عدة أمور:
أول :مــا يتســم بــه هــذا املوضــوع مــن أهميــة بالغــة؛ فمــن خــال التأمــل ً
يف العــامل مــن حولنــا وواقعــه املعيــش ،نــرى مــدى الحاجــة إلنجــاز دراســات
عــن قيــم التســامح والتعايــش ،وهــي مطلــب كل املجتمعــات؛ ألن هــذه
القيــم هــي القــادرة عــى انتشــال املجتمعــات مــا تتخبــط فيــه مــن
غ ـران مظلمــة ،وأنفــاق متغــورة ،أدت إىل التعــدي عــى حقــوق اآلخريــن
واحتقارهــم ،وإتــاف كثــر مــن النفــوس الربيئــة ،نتيجــة تعصبــات دينيــة
وثقافيــة وفكريــة وعرقيــة ،ال متــت لديننــا وثقافتنــا بصلــة.
ثان ًيــا :إن دي ًنــا بهــذه املثابــة مــن الرحمــة والهدايــة ،والســاحة والحكمــة؛
لحــري بــه أن يرفــع هــذه القيــم عــى رؤوس األشــهاد ،ويفخــر بهــا ويظهرهــا
لألقربــاء قبــل البعــداء ،وهــذا البحــث يبتغــي إبـراز هــذه القيــم.
ثالثًــا :إن تصحيــح الرؤيــة لــدى املســلمني ،وتقديــم هــذه القيــم للعــامل
اآلخــر باعتبارهــا وج ًهــا مرشقًــا لديننــا الحنيــف؛ لَكَفيــل بتقديــم هــذا الديــن
الحنيــف بصورتــه الســمحة كــا أراد اللــه لــه ،تلتئــم مــع حيــاة النــاس
ومعاشــهم دون حــرج أو قلــق.
راب ًعــا :مــع هــذه األهميــة الكــرى ملوضــوع التســامح؛ مل أقــف عــى دراســة
علميــة جمعــت شــتى جوانبــه وأجــزاءه املتناثــرة ،وأوضحــت مفاهيمــه
وقيمــه الشــاملة ،فــكان واجبــا عــى الباحثــن التوجــه إلنجــاز رؤيــة متكاملــة
حولــه ،تســهم إســهاما فعــاال يف ترشــيد الدراســات الفكريــة واالجتامعيــة
املعــارصة.
خامســا :جـ ّـل دول العــامل اليــوم تحتــاج أمنوذجــا قامئــا ملجتمــع متســامح، ً
4
واإلمــارات العربيــة املتحــدة وشــعبها وحضارتهــا ،خــر ســفري للتســامح
اإلنســاين ،املنبثــق مــن الفطــرة الســليمة ،فتوثيــق هــذه الدراســة لتجربــة
دولتنــا الحبيبــة وتقديــم أمنوذجهــا املتألــق شــامة هــذا البحــث.
وقــد شــجعني عــى املــي قد ًمــا يف هــذا االختيــار ،مــن إشــارته واجبــة
الطاعــة ،ورأيــه يف قمــة األصالــة؛ ســيدي صاحــب الســمو الشــيخ محمــد بــن
زايــد –حفظــه اللــه ورعــاه -إذ أهــدى إ ّيل مــن وقتــه العزيــز مــا هــو أجـ ّـل
ي مــن الذهــب اإلبريــز ،وذلــك يف إحــدى ليــايل شــهر رمضــان املبــارك مــن عـ ّ
عــام 1438ه2016 -م حيــث ســألني بتواضعــه املهيــب ،وأب ّوتــه الحانيــة؛ عــن
دراســتي فأجبتــه أين يف مرحلــة الدكتــوراة ،وأين أفكــر يف التســامح كأطروحــة
يل لنيــل هــذه الدرجــة ،فشــجعني ّأيــا تشــجيع ،وق ـ ّدم يل –يحفظــه اللــه-
ـح كعقــود الجــان صاغهــا بعبقريتــه الفــذة ،وكأنــه ـات جوامــع نصائـ َيف كلـ ٍ
ينظــم فرائدهــا يف ســلك هــذه الدراســة ،ويكســو عرائــس رياضهــا بأنــواع
الحلــل ،وينــر عليهــا آليلء الوبــل و ُمــاءة إتقــان النظــر؛ فقــد كانــت وقفتــه
معــي تلــك ومــا ألهــم بــه هــذه القيمــة مــن تنوير األفــكار ،وســمو املبــادرات؛
قائــدة البحــث إىل رحــاب اكتــال نضجــه ،وتوســيع آفــاق طرحــه ،وح ّفــازة
املواصلــة فيــه ،وبــذل الجهــد يف ســبيله ،فحفظــه اللــه ،وأدامــه ذائ ـ ًدا عــن
حيــاض القيــم.
أهداف البحث :
من أهم األهداف التي يتوخى هذا البحث اإلسهام يف تحقيقها ما يأيت:
.1التأصيــل الرشعــي لقيمــة التســامح داخــل دائــرة اإلســام بــن املســلمني
بعضهــم بعضً ــا ،ألن االلت ـزام بهــذه األخــاق يســاعد عــى انتشــار التســامح
بــن املســلمني وغريهــم.
.2إظهــار ســاحة اإلســام وبعــده الحضــاري يف التعامــل مــع اآلخــر،
ومراعاتــه للحقــوق اإلنســانية ،واإلســهام يف تعزيــز ثقافــة التســامح يف بلداننــا
اإلســامية.
.3رســم منهــج واضــح يف التعامــل مــع املســلمني وغري املســلمني عىل أســاس التســامح،
واســتقراء األصــول والضوابــط التــي أصلتهــا الرشيعة اإلســامية يف هــذا املجال.
5
.4وصــف بعــض الحلــول التــي تعالــج معضلــة التشــدد والعنــف ،وبيــان
كيفيــة اســتخدام منهــج التســامح يف القضــاء عــى هــذه الظواهــر التــي
تــزداد يومــا بعــد يــوم مــع ازديــاد أثــر العوملــة واختــاط املجتمعــات.
.5تقديــم دراســة ميدانيــة تتمثــل يف تجربــة التســامح بدولــة اإلمــارات؛
وهــي مبثابــة تطبيــق عمــي لهــذا التأصيــل ،يــرز مــدى نجاحــه واســتدامته،
واســترشاف مســتقبل التســامح يف دولــة اإلمــارات.
إشكالية البحث:
موضــوع التســامح يعتــر مثــار شــبه ومزالــق كثــرة ،ويف كل فــرة مــن التاريخ
تتولــد إشــكاالت متعــددة تجابهــه وتعكــر صفــوه ،وتنتــر شــبه كثــرة
تحــاول قصــم أصلــه؛ مــن مثــل مفاهيــم :الــردة والــوالء والـراء ودار اإلســام
ودار الكفــر ،وأن الــدول غــر اإلســامية كيــان باطــل ،وال ميكــن االعـراف بهــا
رش ًعــا ،وأن األصــل يف العالقــات بــن الدولــة اإلســامية وغريهــا مــن الــدول؛
الحــرب ،وأن الســام يشء طــارئ؛ واملؤســف أن هــذه الشــبه ناتجــة عــن
بحــوث علميــة محكمــة ،ومقــررات دراســية مســلمة ،فكيــف ميكــن إحيــاء
أصــل التســامح يف مواجهــة هــذا الفكــر؟ ومــا هــي الحلــول الناجعــة التــي
تتوافــق مــع رشيعتنــا للقضــاء عــى التحــارب والتدابــر بــن املجتمعــات التــي
تتكــون مــن أعـراق وأديــان ومذاهــب مختلفــة؟ وهــل ميكــن االســتفادة مــن
التجــارب الناجحــة مثــل تجربــة دولــة اإلمــارات العربيــة املتحــدة يف تعزيــز
التســامح؟
منهج البحث:
طبيعــة هــذا البحــث تقتــي الســر عــى أســاليب متعــددة يف خطــوات
إعــداده ،وقــد اســتخدمت عــدة مناهــج حســب مــا يناســب املــادة املطلوبــة
وهــي:
املنهــج االســتقرايئ :وقــد اتبعــت هــذا املنهــج يف عــدة فصــول مــن البحــث
وذلــك باســتقراء األدلــة املتعلقــة بالتســامح مــن القــرآن ،والســنة ،ومظاهــر
التســامح يف املجتمــع اإلمــارايت.
6
املنهــج التحليــي :مبــا أن التأصيــل العلمــي للتســامح -وخاصــة مبفهومــه
املعــارص -يحتــاج إىل مزيــد مــن البحــث يف النصــوص الرشعيــة ،والقواعــد
التــي تؤســس لــه ،فــإن املنهــج التحليــي الــذي يعتمــد عــى جمــع املعطيــات
الواقعيــة ،املتمثلــة يف صــور مجتمعيــة ،وتحليلهــا والربــط بينهــا وبــن تلــك
األصــول الرشعيــة يف ضــوء النصــوص واســتخالص تلــك النتائــج؛ مــن املناهــج
التــي رست عليهــا يف فصــول عديــدة مــن هــذا البحــث يف التعامــل مــع
املفاهيــم والنصــوص ،وكــذا تحليــل ظواهــر التســامح ونتائجهــا يف مجتمــع
اإلمــارات.
املنهــج الوصفــي :اتبعــت هــذا املنهــج يف عــدة فصــول مــن هــذا البحــث
لدراســة املفاهيــم واملصطلحــات ذات الصلــة بالتســامح ،وتتبــع األدلــة
املتعلقــة بالتســامح ووصفهــا ودراســة خصائصهــا وتصنيفهــا ،حســب كل
قضيــة بعينهــا واملســائل املرتبطــة بهــا.
املنهــج النقــدي :مجــال البحــث يف التســامح مــن املجــاالت التــي تناولتهــا
مختلــف الدراســات واألقــام مــن أصنــاف مختلفــة ،ومســاحة النقــد فيــه
كثــرة ،واملنهــج النقــدي هــو يف حقيقتــه عمليــة تقويــم وتصحيــح وترشــيد؛
والباحــث يف ميــدان التســامح يواجــه كثـرا مــن املغالطــات ،ويحتــاج إىل نقــد
بعــض الشــبه التــي ألصقــت بالتســامح ،وقــد اتبعــت هــذا املنهــج خاصــة يف
التعامــل مــع بعــض األدلــة التــي اســتخدمت لخــدش هــذه القيمــة والطعــن
فيهــا ،وهــذا املنهــج متناثــر يف جميــع تضاعيــف هــذا البحــث.
خطة البحث:
وقــد ضــم هــذا البحــث مــن خــال مقدمــة وثالثــة أبــواب رئيســة ،عــى
النحــو اآليت:
أمــا البــاب األول فقــد عقــد للحديــث حــول مفهــوم التســامح وأهميتــه
وأسســه الرشعيــة؛ وقــد عالــج قضايــا متنوعــة يف ثالثــة فصــول ،تنــاول
الفصــل األول :مفهــوم التســامح ونشــأته؛ يف عــدة مباحــث ،وحــدود التســامح
اللغويــة واالصطالحيــة ،وتعاريفــه املختلفــة يف الثقافــات املتعــددة ،واأللفــاظ
املســتعملة ذات الصلــة بالتســامح ،وقــد تــم تخصيــص مبحــث خــاص يف هــذا
7
الفصــل :للحديــث عــن تاريــخ التســامح قبــل اإلســام وبعــده ،والتحــوالت
املعــارصة التــي تع ـ ّرض لهــا.
أمــا الفصــل الثــاين :فقــد تنــاول أهميــة التســامح ،وأنــه فريضــة رشعيــة،
ورضورة إنســانية ،وأهــم مظاهــر التســامح وتجلياتــه ،وآثــاره عــى املجتمعات
يف مباحــث ثالثــة.
ويف الفصــل الثالــث مــن البــاب األول تــم ذكــر أســس التســامح مــع املخالــف
مخصصــا ملرشوعيــة االختــافً مــن املســلمني؛ الــذي كان املبحــث األول فيــه
وضوابطــه ،واملبحــث الثــاين يف قيــم التســامح بــن املســلمني.
البــاب الثــاين :يعــد صلــب البحــث ومقصــده ،وخصــص للحديــث حــول
أصــول التســامح مــع غــر املســلمني يف الرشيعــة اإلســامية؛ وتــم تقســيمه
إىل ثالثــة فصــول.
كان الفصــل األول :يف أصــول العالقــة مــع غــر املســلمني ووســائل تحقيقهــا،
وأســهبت فيــه يف اســتقراء األصــول الحاكمــة للعالقــة مــع غــر املســلمني،
ووســائل تحقيــق التســامح بــن املســلمني وغريهــم.
وقــدم الفصــل الثــاين :شــواهد تاريخيــة عــى تســامح املســلمني مــع غريهــم،
وأحــكام حاميــة أماكــن عبــادة غــر املســلمني يف الرشيعــة اإلســامية.
وتحــدث الفصــل الثالــث عــى ضوابــط التســامح ووســائل اســتدامته؛ مبــا
تحويــه مــن الضوابــط اإلنســانية والدينيــة والقانونيــة.
وختــم هــذا الفصــل مببحــث اســتدامة التســامح اإلنســاين ،ودور الرتبيــة
األخالقيــة والتواصــل الحضــاري بــن الشــعوب وأثــره يف ذلــك.
أمــا البــاب الثالــث فــكان عنوانــه :التســامح وقيمــه يف املجتمــع اإلمــارايت؛
خصــص لدراســة التســامح يف املجتمــع اإلمــارايت ،يف الفصــول االتيــة:
الفصــل األول :الشــيخ زايــد –طيــب اللــه ثــراه -ودوره يف ترســيخ ثقافــة
التســامح يف املجتمــع اإلمــارايت؛ وقــد حــاول اســتيعاب ِح َكــم الشــيخ زايــد
املؤسســة للتســامح فيــه ،واســتنتج منهــا رؤيــة الشــيخ زايــد التســامحية،
وبــن دورهــا املحــي والعاملــي مــن خــال مبحثــن.
8
الفصــل الثــاين :الثقافــة املحليــة اإلماراتيــة وأثرهــا يف إرســاء قيــم التســامح؛
مقومــات التســامح يف املجتمــع اإلمــارايت؛ وأهميــة منــوذج التديــن يف اإلمارات
وتأسيســه لثقافــة التســامح.
الفصــل الثالــث :الربنامــج الوطنــي اإلمــارايت للتســامح؛ والتعريــف بأهميتــه
وأثــره يف تعزيــز التســامح وطنيا ودوليا؛ ودور املؤسســات الوطنيــة يف الحفاظ
عــى التســامح وتطويــره؛ ومنهــا مبــادرة عــام التســامح وأهــم منجزاتهــا يف
تعزيــز التســامح اإلمــارايت
الخامتــة :أهــم النتائــج واآلفــاق والتوصيــات التــي تســاعد الباحثــن عــى
مواصلــة الســر يف هــذا املجــال.
الدراسات السابقة:
حســب مــا تيــر يل مــن البحــث واالطــاع مل أقــف عــى دراســة شــاملة
تعالــج هــذا املوضــوع عــى الصفــة والكيفيــة التــي أنــوي دراســته بهــا ،ضمــن
الحــدود التــي رســمتها ،والخطــة التــي وضعتهــا.
ومــع أن املــادة العلميــة املعالجــة ملوضــوع التســامح كثــرة ومتناثــرة ،تزخــر
بهــا املصــادر واملراجــع والبحــوث واملجــات -وخاصــة يف العصــور املتأخــرة-
مــا زال املوضــوع يف حاجــة للبحــث ،وال ســيام مــع إضافــة دراســة ميدانيــة
تطبيقيــة.
وميكــن تصنيــف الدراســات التــي تناولــت هــذا املوضــوع وطرقــت بابــه عــى
النحــو اآليت:
أول :الدراســات العامــة التــي تتحــدث عــن ســاحة اإلســام ،والتأصيــل لهــا، ً
وهــذه الدراســات متعــددة ،أدلــل عليهــا بدراســتني:
أولهــا« :التســامح زينــة الدنيــا والديــن» للكاتــب الســعودي تــريك الدخيــل،
ســفري اململكــة العربيــة الســعودية يف دولــة اإلمــارات ،وهــو مــن الدراســات
العلميــة الجامعــة يف مجــال التســامح(.)1
- 1صدرت الدراسة عن دار مدارك للنرش والتوزيع ،ديب ،إبريل عام .2019وتقع الدراسة يف 300صفحة.
9
وتتميــز هــذه الدراســة بكونهــا دراســة شــاملة ومركِّــزة عــى عــدة عنــارص
أساســية يف التســامح؛ واحتــوت عــى ثالثــة فصــول ،كان عنــوان الفصــل األول:
«التســامح؛ يف البــدء كان الســؤال» ،خصصــه لعــدة فق ـرات أهمهــا موجــز
لتاريــخ التســامح عنــد العــرب ،وإثــارة أســئلة مهمــة منهــا مثــا ســؤال :ملــاذا
غــاب التســامح؟
ويف الفصــل الثــاين مــن الكتــاب ،الــذي هــو بعنــوان «التســامح ..لــوك وفولتــر
ونحــن ،مواقــف أمثــرت األفــكار» وقــف املؤلــف عنــد مفهــوم التســامح عنــد
لــوك وفولتــر ،وتحــدث عــن نشــأة هــذا املفهــوم ،واســتعرض عــددا مــن
املواقــف املعــارصة والتحــوالت التــي اعرتضــت هــذا املفهــوم ،وعالقــة األديــان
بهــذه التحــوالت.
وخصــص املؤلــف الفصــل الثالــث مــن الكتــاب لـــ «تاريــخ التســامح يف عــر
اإلصــاح» وأهــم النقــاط التــي احتواهــا هــذا الفصــل أنــه تطــرق للتســامح يف
اإلنجيــل ،والجــدل بــن الكنيســة والدولــة الــذي كان لــه أثــر كبــر يف وجــود
التسامح.
وال شــك أن هــذه الدراســة بهــذا البنــاء الــذي أسســت لــه يف مجــال التســامح،
ســدت فرا ًغــا كب ـ ًرا ،وخاصــة يف تاريــخ التســامح الغــريب والعــريب ،وقدمــت
التســامح باعتبــاره عال ًجــا ألم ـراض الكراهيــة والعنــف يف العــر الحــارض،
وألن دراســتنا رشعيــة ميدانيــة فقــد اســتقرأنا التأصيــل الرشعــي للتســامح
والتطبيــق امليــداين عــى حالــة دولــة اإلمــارات ،وهــذان الجانبــان غــر
موجوديــن يف هــذه الدراســة.
ثانيهــا :دراســة «الطائفيــة والتســامح والعدالــة االنتقاليــة :مــن الفتنــة إىل
دولــة القانــون»( )1أعــده مجموعــة مــن املفكريــن والباحثــن العــرب ،مــن
ر مركــز دراســات الوحــدة العربيــة. تحريــر الدكتــور عبــد اإللــه بلقزيــز ،ونـ ِ
والكتــاب يف األصــل عبــارة عــن نــدوات علميــة حــول هــذه املواضيــع ،وقــد
ركــزت هــذه الدراســة عــى ثــاث مســائل لهــا أهميتهــا يف العــر الحــارض
- 1صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية بريوت ،سنة ،2013مبشاركة مجموعة من الباحثني :أحمد شوقي بنيوي ،سليامن
تقي الدين ،انطوان مرسة ،عبد الحسن شعبان ،رضوان السيد ،عيل أمليل ،فالح عبد الجبار ،يقع الكتاب يف 256صفحة.
10
وهــي :الطائفيــة والتســامح والعدالــة ،وعالجــت هــذه املســائل مــن خــال
مثانيــة فصــول.
والفصــول التــي لهــا عالقــة بدارســتنا مــن الكتــاب هــي الفصــل الرابــع
بعنــوان« :مــن التســامح إىل التعدديــة الثقافيــة» ،والفصــل الخامــس تحــت
عنــوان« :يف الحاجــة إىل التســامح» ،والفصــل الســادس «يف الحاجــة إىل
التســامح :ثقافــة القطيعــة والتواصــل».
وإن كانــت هــذه الدراســة لهــا أبعــاد سياســية ،إال أنهــا قدمــت تصــو ًرا مهــا
عــن التســامح يف الوطــن العــريب ،وأنــه موضــع شــك لــدى الكثرييــن ،نظـرا ملــا
تعلــق بهــذا املفهــوم مــن توظيفــات واســتقطابات داخليــة وخارجيــة ،كــا
ركــزت الدراســة عــى البيئــة القابلــة واملضــادة للتســامح ،وأن األخــرة مــا
زالــت خصبــة يف الوطــن العــريب.
ومــن أهــم مــا توصلــت إليــه الدراســة رضورة النظــر إىل التســامح عــى
أنــه واجــب قانــوين ،وعــدم االكتفــاء باعتبــاره واج ًبــا ســلوك ًيا فقــط ،ولكــون
الدراســة ذات توجــه ســيايس فإنهــا ال تنســجم يف طرحهــا مــع تصــور بحثنــا
هــذا عــن التســامح يف املجتمعــات العربيــة املعــارصة ،وكذلــك يف تراثنــا
اإلســامي مــن تأصيــل التســامح الرشعــي ،وتقديــم منــوذج عــريب قائــم يف
ميــدان التســامح.
ثان ًيــا :الدراســات الفقهيــة التــي تناولــت موضــوع التعامــل مــع غــر
املســلمني ،وهــي كثــرة ،وقــد وقفــت عــى عــدد منهــا ،وســأذكر أمنوذجــن
مــن أقدمهــا:
أولهــا :كتــاب «التعامــل مــع غــر املســلمني أصــول معاملتهــم واســتعاملهم؛
دراســة فقهيــة» .للدكتــور :عبــد اللــه بــن إبراهيــم الطريفــي ،وهــو رســالة
دكتــوراه ت َقـ َّدم بهــا املؤلِّــف إىل املعهــد العــايل للقضــاء التابــع لجامعــة اإلمــام
محمــد بــن ســعود اإلســامية ،يف الريــاض باململكــة العربيــة الســعودية .ســنة:
1406هـ.
وقــد تنــاول فيــه عــدة موضوعــات متشــعبة؛ مــن أهمهــا بالنســبة ملوضــوع
هــذا البحــث :البــاب األول الــذي خصصــه ألصــول العالقــة مــع غري املســلمني،
11
وذكــر فيــه أربعــة فصــول ،خصــص فصــا منهــا ألســس عالقــة املســلمني
بغريهــم ،وكانــت ســاحة اإلســام إحــدى تلــك األســس ،إضافــة ألســس أخــرى
مثــل :العــدل ،والوفــاء بالعهــود واملواثيــق وســواها.
وهــذه األســس واألصــول ســنتناولها يف البحــث عنــد الحديــث عــن مقاصــد
التســامح وأسســه؛ خالفــا للســياق الــذي جــاءت فيــه خــال الدراســة التــي
نصفهــا ،ذلــك أن هــذه الدراســة إمنــا حاولــت توظيــف هــذه األســس يف
التحذيــر مــن مــواالة غــر املســلمني ،وبيــان خطورتهــم ،وعــدم التســاهل يف
التعامــل معهــم ،فالدراســة عبــارة عــن رد فعــل عــى الدعــوة املنتــرة إىل
التســامح والتعايــش ،تتبنــى _أعنــي الدراســة_ أن هنــاك خلطــا علميــا يف
هــذه القضيــة ،وأنهــا جــاءت لتميــز هــذا الخلــط ،وتبطــل دعــوات التقــارب
والتعايــش الســلمي ،وتقــرر أن األصــل يف العالقــة بــن املســلمني وغريهــم هــو
الحــرب وليــس الســلم .واملقصــد الــذي نتوخــاه يف هــذا البحــث يختلــف عـ َّـا
ذهــب إليــه متا ًمــا.
ثانيهــا :كتــاب «أحــكام التعامــل مــع غــر املســلمني واالســتعانة بهــم يف
الفقــه االســامي -دراســة فقهيــة مقارنــة ،»-للدكتــور عبــد الحكيــم أحمــد
محمــد عثــان ،وهــي رســالة دكتــوراه مــن جامعــة األزهــر.
فقــد قــدم الباحــث تعريفــا بغــر املســلمني ،وأقســامهم ،ثــم خصــص بابــا
كامــا ألحــكام التعامــل مــع غــر املســلمني يف التجــارة وغريهــا ،حيــث ركــز
عــى الضوابــط التــي تضبــط العالقــة بــن املســلمني وغريهــم يف املعاوضــات
املاليــة وغريهــا مــن املعامــات ،كــا خصــص البــاب الثــاين يف بحثــه ملســألة
االســتعانة بغــر املســلمني ،ومــا يتعلــق بهــا مــن مســائل يف الفقــه اإلســامي.
وهــذه الدراســة إمنــا اســتقصت الفــروع الفقهيــة ،واألحــكام التجاريــة التــي
تخــص التعامــل مــع غــر املســلمني يف املدونــات الفقهيــة املقارنــة ،ومل يكــن
هدفهــا التأصيــل الفقهــي للتســامح والتعايــش يف هــذه العالقــة ،فهــي دراســة
فقهيــة محضــة ،ليــس لهــا بصمــة تســامحية ،ويف بحثنــا هــذا ســنخصص
مبحثــا خاصــا للتعامــل التجــاري مــع غــر املســلمني ،وبيــان ســاحة اإلســام
يف ذلــك.
12
ثال ًثــا :البحــوث والدراســات التــي ركــزت عــى توجيــه النقــد للتســامح مــع
غــر املســلمني ،وانتقــاد التقــارب مــع األديــان عمومــا ،وقــد اطلعــت عــى
مجموعــة منهــا مــن أجــل معرفــة الشــبهات التــي تــدور حــول التســامح،
ومــن أشــهر هــذه الدراســات مــا يــأيت:
كتــاب« :دعــوة التقريــب بــن األديــان :دراســة نقديــة يف ضــوء العقيــدة
اإلســامية»; للمؤلــف :أحمــد بــن عبــد الرحمــن بــن عثــان القــايض ،وهــو
يف األصــل رســالة دكتــوراه يف قســم العقيــدة بجامعــة اإلمــام .ســنة1421 :هـــ،
واشــتملت هــذه الرســالة عــى مجموعــة مــن األســس الرشعيــة يف التعامــل
بــن األديــان وامللــل ،وركــزت بعــد ذلــك عــى التقريــب وحقيقتــه وأســبابه
وانتشــاره يف العــر الحديــث ،وأهــم املؤسســات واألف ـراد الذيــن يتبنونــه.
ويف هــذه الرســالة مجموعــة مــن الشــبه املوجهــة للتســامح والحــوار القائــم
بــن األديــان ،وقــد اعتمــدت عليهــا يف االطــاع عــى الشــبه التــي تحيــط
بالتســامح ،مــن أجــل تفنيــد بعضهــا يف هــذا البحــث.
ومــن هــذا النــوع مــن الدراســات أيضــا كتــاب« :اإلبطــال لنظريــة الخلــط
بــن ديــن اإلســام وغــره مــن األديــان» للشــيخ بكــر أبــو زيــد ،وهــو رســالة
يف الــرد عــى التقــارب والتعايــش بــن األديــان ،واعتبــار ذلــك مــن الدعــوة
لوحــدة األديــان.
ومــع صغــر حجــم الرســالة وكونهــا يف حــدود مائــة صفحــة تقريبــا ،إال أنهــا
تعــد مــن أهــم الدراســات املرجعيــة يف هــذا العــر ،يف إبطال دعــوات الحوار
بــن األديــان ونظريــة التســامح ،وقــد تتبــع املؤلــف تاريــخ هــذه الدعــوات،
ومراحــل نشــأتها ،ومــن يقــف وراءهــا ،وشــكك يف جميــع الجهــود املبذولــة
يف هــذا املجــال ،كــا خصــص مســاحة مــن بحثــه للشــبه التــي اعتربهــا مــا
يلبــس بهــا أعــداء الديــن عــى املســلمني ،مــن أجــل تشــكيكهم يف عقيدتهــم،
وهــدم دينهــم .وال شــك أن هــذا الكتــاب ومثلــه يؤســس للكراهيــة والعنــف،
وال بــد للعامــل يف ميــدان التســامح مــن االطــاع عليــه؛ ليــدرك الواقــع،
ويوقــن أن مجــال التســامح ليــس خاليــا مــن العوائــق واألشــواك(.)1
- 1وقد أرجأت ذكر اإلضافات العلمية التي يتميز بها هذا البحث عن غريه إىل الخامتة ضمن مثار البحث.
13
صعوبات البحث:
واجهتنا خالل هذا البحث صعوبات جمة وعىل رأسها:
.1أن مــادة التســامح متناثــرة بــن علــوم ومؤلفــات متنوعــة ،وليــس لهــا
ـرض لتنقــات كثــرة بــن مظنــة تقصــد مبــارشة ،فالباحــث يف التســامح ُمعـ ٌ
علــوم وفنــون ،ومعــارف متنوعــة.
.2عــدم االتفــاق عــى مفهــوم دقيــق موحــد للتســامح ،وهــو مــا أثــر عــى
عديــد مــن الدراســات التــي مل تضــع معايــر دقيقــة ملفهــوم التســامح املـراد،
وإذا وقــع الخلــل يف معالجــة املفهــوم تــرب إىل مــا بُنــي عليــه.
.3شــح املصــادر واملراجــع ،وخاصــة فيــا يتعلــق بالدراســات املعــارصة
للتســامح ،وصعوبــة الوصــول إىل بعــض املراجــع املتعلقــة بثقافــة دولــة
اإلمــارات العربيــة املتحــدة ،وتوثيــق نصــوص وحكــم الشــيخ زايــد.
ـى للكثرييــن ،والحديــث عنــه .4أن ميــدان الكتابــة يف التســامح أصبــح مبتغـ ً
وكل يقدمــه حســب مــا يف الصحافــة أضحــى يف متنــاول أقــام جـ ّـل النــاسٌّ ،
يـراه ويعتقــده؛ فأصبــح الراصــد ملادتــه –طل ًبــا للبحــث يف تحليلهــا وقراءتهــا-
يف املنشــورات اليوميــة يصــدق عليــه قــول األول:
ف ََم يَ ْدرِي ِخ َر ُاش َما يَ ِصي ُد» (.)1 «تَكَاث َ َر ِت الظِّ َبا ُء َع َل ِخ َراش
- 1ابن األثري الجزري؛ أبو الفتح ضياء الدين نرص الله بن محمد بن محمد بن عبدالكريم ال 622ه ،املثل السائر يف أدب
الكاتب والشاعر ،تحقيق :محمد محيي الدين عبد الحميد ،املكتبة العرصية( ،بريوت – صيدا ،ط ،)1995 ،1 .ج 1ص .108
14
التمهيد :دواعي التسامح
قــد ال نــدرك أهميــة قيمــة التســامح ورضورتــه يف مثــل هــذه البحــوث ،إذا
مل نقــف عــى منــاذج مــا تتعــرض لــه هــذه القيمــة مــن الهــدم واملحــو
والحمــات الشــنيعة ،فالثقافــة الشــائعة حــول التســامح جــزء كبــر منهــا
مــن إنتــاج الجامعــات املتطرفــة واأليديولوجيــات املختلفــة ،ولهــذا ســأخصص
هــذه التوطئــة للتطــرق إىل تلــك الدواعــي الواقعيــة والحقيقيــة لهــذا البحث،
بعــد اإلشــارة الرسيعــة ألســبابه فيــا مــى؛ ألن هــذه الدواعــي تســاعدنا عىل
اســتيعاب ســياق هــذا البحــث ،فهــو مبثابــة إنجــاد هــذه القيمــة اإلنســانية
العظيمــة ،وكشــف تلــك الســهام املســمومة املوجهــة إليهــا ،وخطــورة الغفلــة
عنهــا.
ومــن هنــا فــا يختلــف اثنــان يف أهميــة التســامح مــن حيــث الحاجــة
إليــه ،والــرورة امللحــة للمجتمعــات املتوقفــة عليــه ،ودوره يف نــر الســلم
والســام وتجنيبهــا العنــف واالقتتــال ،فهــذا الحــد قــد اتفــق عليه العقــاء وال
يختلــف فيــه اثنــان ،إال أن أهميــة التســامح ومكانتــه التــي نريــد اســتهالل
هــذا البحــث بهــا ،هــي تلــك التــي تدفــع الباحــث والقــارئ إلنقــاذ هــذه
القيمــة وإغاثتهــا مــن بــن فــي املتالعبــن والطاعنــن يف خرصهــا.
فالتســامح قــد كــر مدعــوه ،وولــج يف ميدانــه الكثــرون ،وتعلــق بــه مــن ال
يفقهــه ،واسـتُغل يف أيديولوجيــات متعــددة ،إىل حــد تشــويه هــذا املصطلــح
يركــب هــذا املفهــو َم لغايــة أراد تحقيقهــا مــن
ُ وكل
والطعــن يف أصالتــهٌّ ،
ورائــه ،فمنهــم مــن جعلــه ِمعــوال لهــدم األديــان ،ومنهــم مــن يجعلــه مفهو ًما
مســتور ًدا ال أصــل لــه يف الرشيعــة والديــن ،ومــن هــذا البــاب أولئــك الذيــن
فتحــوا أبــواب الرشيعــة مرشعــة بحجــة التســامح ،فصــار هــذا املفهــوم مثــا ًرا
للتجاذبــات ،وأداة للغــط واللبــس ،بينــا هــو قيمــة قامئــة أصيلــة تســتوعب
الجميــع ،لــه ضوابطــه وقواعــده وقيمــه ،قــد شــهدت لهــا الفطــرة الســليمة،
وأَ َّصلَهــا القــرآ ُن الكريــم ،و َر َّســختْها الســنة النبويــة ،و َج َّســدتْها املجتمعــات
املســلمة يف تاريخهــا كقيمــه دينيــه وأخالقيــة واجتامعيــة.
فأهميــة بحــث التســامح يســتمد قوتــه مــن جوانــب متعــددة ،مــن أهمهــا
15
حاجــة البحــث إىل تأصيــل مفاهيمــي ورشعــي ،وتحديــد مســار التســامح
الســليم يف خضــم إيديولوجيــات مختلفــة ،كلهــا تحمــل شــعار التســامح
وتدعــي أنــه ضمــن أولوياتهــا ،فبعــد أن كانــت اإلشــكالية التــي تواجــه
التســامح مقتــرة عــى إشــكال واحــد ،وهــو ذلــك املتعصــب الــذي ال
يعــرف معنــى التســامح والتســاهل والحــوار ،ويــرى أنــه لوحــده عــى الحــق
وباقــي الخلــق عــى الباطــل ،أصبــح اآلن يقــف يف وجــه التســامح إشــكاالت
مســتجدة ومتجــددة ومتعــددة ،ولهــذا يجــدر بنــا الوقــوف يف هــذا التمهيــد
عــى منــاذج مــن تلــك املغالطــات التــي تثــار يف وجــه التســامح مــن فئــات
مختلفــة؛ ليــس رغبــة يف التهويــل والتضخيــم ،ولكــن لتصويــر األمــر عــى
حقيقتــه ،وإلبــراز رضورة إنجــاز مثــل هــذه البحــوث ،ودورهــا الفاعــل يف
حاميــة الســلوك الحضــاري املتمثــل يف الحــوار البنــاء واح ـرام اآلخــر.
ولعــل أي باحــث يف حقــل التســامح ســيقتنع أنــه يجــب توجيــه جهــود كــرى
لهــذا الجانــب؛ ألن مــا تركــه الكتَّــاب واملفكــرون يف العقــود األخــرة ،مــن
محاولــة طمــس أي عالقــة بــن التســامح والتعاليــم الدينيــة ،بــل والثقافــة
العربيــة ليــس بيســر ،ومــا زالــت تلــك الجهــود تــؤيت مثارهــا يف الدراســات
الحديثــة ،وجــزء كبــر مــن الكتابــات الصحفيــة ،فينبغــي تخصيــص دراســات
متعــددة يف هــذا الحقــل ســواء يف التأصيــل الرشعــي أو العمــي ،بدراســة
مناهــج التســامح يف التاريــخ اإلســامي واالجتامعــي.
ونقــف أول مــا نقــف مــع بعــض أولئــك الكتــاب الــذي يقطعــون أوصــال
التســامح بالعــادات العربيــة ،مســتندين يف ذلــك إىل االســتعامالت اللغويــة
للفظــة التســامح يف معــاين الجــود والكــرم( ،)1ونتــج عــن ذلــك الخــروج
بهــذه النتيجــة :أن التســامح مفهــوم دخيــل عــى الثقافــة العربيــة يقــول
أحــد الكتــاب يف تقريــر ذلــك( :فــإن الواقــع املدهــش حقــا هــو أن التســامح
الــذي يعتــر ســمة عامــة يف الفكــر الغــريب منــذ النصــف الثــاين مــن القــرن
الســابع عــر ،وفكــرة معــارصة يف زماننــا هــذا ،هــذا التســامح يبــدو يف
املقــام األول غائبــا عــن اللغــة العربيــة ،وبالتــايل غائبــا غيابــا عــن أمنــاط
- 1سيأيت بيان ذلك يف مفهوم التسامح لغة يف الفصل األول ص.17 :
16
التفكــر كافــة والتــي تعمــل عــر هــذه اللغــة) )1(.فالنتيجــة الطبيعيــة
لغيــاب التســامح عــن اللغــة العربيــة نفيــه عــن اإلنســان العــريب وفكــره
وثقافتــه وعقيدتــه كــا هــو واضــح مــن الــكالم املتقــدم ،وباملقابــل فهــو
ســمة للمجتمــع الغــريب)2(.
ويف وجهــة أخــرى هنــاك مــن املفكريــن مــن يــرى أن التســامح أيضــا ال عالقــة
لــه باإلســام ،ومــا يُق ـ َّدم عــى أنــه تســامح يف الرشيعــة اإلســامية إمنــا هــو
توظيــف وتجيــر للنصــوص الدينيــة ،مــن أجــل االســتتار عــى العنــف املتأصل
يف اإلســام ،أمــا النصــوص العامــة للديــن اإلســامي وتاريخــه ال تســاعد عــى
التســامح؛ يقــول محمــد أركــون( :وإذا مــا نظرنــا إىل الناحيــة اإلســامية فــا
ذا نالحــظ؟ نالحــظ أن املســلمني يختــارون بعنايــة بعــض اآليــات القرآنيــة
املناســبة لــي يربهنــوا عــى تســامح اإلســام ،ولــي يــردوا عــى االتهامــات
الغربيــة املصوغــة انطالقــا مــن عقــل األنــوار ،وهــذه املامرســة ال تقــل
مغالطــة تاريخيــة وتالعبــا بالحقيقــة)3(.)...
فالتســامح اإلســامي بهــذا النظــر ال وجــود لــه ،وإمنــا هــو انتقــاء لبعــض
النصــوص الرشعيــة ،وتحميلهــا تلــك املعــاين املفقــودة يف اإلســام ،مــن أجــل
إيجــاد أجوبــة مناســبة للغــرب ،ولالســتهالك الدينــي ،هــذه أقــى ثقافــة
التســامح لــدى املســلمني حســب مــا تقدمــه بعــض الدراســات الفكريــة
النقديــة يف هــذا املجــال.
إال أن نفــي التســامح عــن اإلســام أو الثقافــة العربيــة ال يتعــدى خطــره
قائلــه ،ومــن يتأثــر بــه غالبــا ،وليــس لذلــك أثــر مبــارش عــى التعاليــم
الدينيــة ،فــكل مــا يرمــي إليــه هــذا االتجــاه إمنــا هــو رمــي اإلســام بالعنــف،
ولكــن األخطــر مــن ذلــك مــا يدعــو إليــه بعــض املتشــددين مــن تكريــس
- 1ألفريد إيري ،وتوماس بالدوين ،وسمري الخليل ،وكارل بوبر – ترجمة :إبراهيم العريس؛ التسامح بني رشق وغرب،
دراسات يف التعايش وقبول اآلخر( ،دار الساقي – لبنان – ط1992 - 2 .م) ،وأورد فيه مقاال لسمري خليل ،ص.5 :
- 2هناك مقاالت متعددة يف مجالت وجرائد ومواقع مختلفة تقرر هذه الشبهة واكتفينا بهذا املثال من أجل الوقوف عىل
خطورة ما يحاك للتسامح ووجوب حراسته.
- 3أركون محمد ،أين هو الفكر اإلسالمي املعارص ،ترجمة وتعليق هاشم صالح( ،بريوت ،دار الساقي ،الطبعة األوىل )1993
ص.112 :
17
العنــف مــع اآلخــر ،وأن التســامح ال يعــدو أن يكــون متيي ًعــا للديــن ،وأن
مجــال التســامح يف اإلســام محــدود ،وأُورد هنــا مــا قــرره أحــد منظريهــم،
ومــن يعتــر مرجعيــة لــدى جامعــات إرهابيــة متطرفــة متعــددة ،كمثــال
عــى خطــورة املوضــوع ،مــن أجــل بيــان شــدة مــا يحــاك للتســامح ورضورة
كشــف هــذه املغالطــات املحيطــة بهــذه الفضيلــة ،يقــول منظــر الجامعــات
اإلرهابيــة ســيد قطــب( :إن الذيــن يحاولــون متييــع هــذه املفاصلــة الحاســمة
باســم التســامح والتقريــب بــن أهــل األديــان الســاوية ،يخطــؤون فهــم
معنــى األديــان كــا يخطئــون فهــم معنــى التســامح ،فالديــن هــو الديــن
األخــر وحــده عنــد اللــه ،والتســامح يكــون يف املعامــات الشــخصية ال يف
التصــور االعتقــادي وال يف النظــام االجتامعــي ،إنهــم يحاولــون متييــع اليقــن
الجــازم يف نفــس املســلم بــأن اللــه ال يقبــل دينــا إال اإلســام) ()1
هــذا النــص ميثــل رك ًنــا شــدي ًدا لــدى كثــر مــن الجامعــات اإلرهابيــة املتطرفــة
واألح ـزاب الدينيــة ،ينطلقــون منــه للمواجهــة التــي يدعــون إليهــا ،وقبــل
ذلــك للطعــن يف قيــم الديــن ،وتشــويه اإلســام وتصويــره لآلخريــن بأنــه
ديــن يلغــي كل األديــان والثقافــات ويكــن لهــا العــداء ،ويبنــي عــى أنقاضهــا
رصحــه ،واإلســام بــريء مــن هــذه التهــم التــي وضعهــا مــن يدعــي االنتــاء
إليــه والدفــاع عنــه ،ولكــن النظــرة الحزبيــة تعمــي العيــون وتصــم اآلذان،
وتجعــل صاحبهــا يُ َنظِّــر لحزبــه وجامعتــه وفــق مــا يريــد صياغــة الواقــع
عليــه ،ال وفــق مــا تقتضيــه قيــم الديــن الحنيــف.
ونجــد ملثــل هــذا الــكالم أثـ ًرا عــى كثــر مــن الدراســات العلميــة ،ففــي أحــد
البحــوث العلميــة املتخصصــة يف املقاصــد الرشعيــة يتهــم صاحبهــا قيمــة
التســامح بــرد النصــوص فيقــول( :وهــذه مقولــة خطــرة تــؤدي إىل رد كثــر
مــن النصــوص ،فرتاهــم يقــررون أن مــن مقاصــد اإلســام التســامح ،ويــردون
كل نــص يخالــف هــذا املقصــد ،فــردون النصــوص الدالــة عــى ال ـراءة مــن
الكافريــن وعــدم محبتهــم ومودتهــم ،ويف هــذا تضييــع لنصــوص كثــرة
وإغفــال ملقاصــد عظيمــة؛ كتميــز املســلم عــن الكافريــن ودفــع مفســدة
- 1سيد قطب ،يف ظالل القرآن -( ،بريوت -القاهرة ،دار الرشوق ،الطبعة ،السابعة عرش 1412هـ) ص .909 /2وهذا النص
يعترب أساسا يف متييع التسامح ،وقد وظفه كثري من الباحثني والدعاة والوعاظ يف منشوراتهم يف الرد عىل دعاة التسامح.
18
الكفــر ،وإلقــاء الشــبه عــى املســلمني إىل غــر ذلــك ..مــا يطــول ذكــره،
ويعظــم خطــره)(.)1
إنــه ال ميكــن إقامــة فضيلــة التســامح كثقافــة مــا مل يقــف الباحثــون يف
وجــه مثــل هــذه املغالطــات التــي هــي أقــرب إىل الشــبه وتحتــاج إىل بيــان
وبرهــان أن التســامح أصيــل يف ديننــا الحنيــف ،والثقافــة العربيــة وعادتنــا
االجتامعيــة ،وليــس متيي ًعــا وال مخالفــة للنصــوص الرشعيــة ومقاصدهــا،
وتلــك النــاذج التــي ذكرناهــا إمنــا اخرتناهــا عــى ســبيل التمثيــل ،وليســت إال
نــزرا يسـرا مــا طفحــت بــه الكتــب والرســائل العلميــة ،وانتــر يف مواقــع
التواصــل االجتامعــي ومختلــف وســائل الســمعي البــري ،مــا يؤكــد أن
قيمــة التســامح محاطــة بكثــر مــن الشــبه والتشــكيك ،مــا يُلــزم الباحثــن
أن يقفــوا درعــا حاميــا يف وجــه كل مــن يريــد النيــل منــه.
ومــا ذكرنــاه يف هــذا املبحــث ليــس إال غيظــا مــن فيــض ،وإال فهنــاك مــن
يــروج أيضــا بــان التســامح إمنــا أخــذه علــاء اإلســام مــن فالســفة اليونــان،
وغــر ذلــك مــا يــزرع مــن األلغــام يف طريــق هــذه الفضيلــة العظيمــة.
فالبحــوث الرصينــة يف التســامح يف الرشيعــة اإلســامية هــي التــي تقــف
كحــارس لهــذه القيمــة ،ت َصــد عنهــا مــا يُرمــى به مــن تهــم واهيــة ،ومغالطات
مشــبوهة ،ومــن هنــا تــرز نظريــة دولــة اإلمــارات العربيــة يف التســامح التــي
تتميــز بالتــوازن ،واالســتجابة الواقعيــة والشــمولية ،وأهميــة تركيــز هــذا
البحــث عــى دراســتها؛ ألن هــذه النظريــة شــاملة متكاملــة انطلقــت مــن
أســس راســخة ،فلــم تهتــم بجانــب دون آخــر ،وإذا كانــت هــذه النظريــة هي
ذلــك الــدرع الواقــي للتســامح ،الــذي طاملــا ارشأبــت إليــه أعنــاق الجميــع،
فإنهــا أيضــا منــوذج حضــاري إنســاين عديــم النظــر للتســامح يف التاريــخ
العــريب القديــم والحديــث ،وبدراســة مثــل هــذه النظريــات والتعمــق فيهــا
نســتطيع الوصــول إىل التســامح املنشــود الــذى دعــت إليــه الفطــر ،وو َّجهــت
إليــه الرشيعــة ،وحافظــت عليــه العــادات والثقافــة ،فهــذا التصــور هــو املثال
األعــى للتســامح الــذي ينــأى عــن كل تلــك االدعــاءات الغــر محايــدة.
- 1اليويب ،محمد سعد ،مقاصد الرشيعة اإلسالمية وعالقتها باألدلة الرشعية ،رسالة علمية (الرياض ،دار الهجرة للنرش
والتوزيع ،الطبعة األوىل ،السنة )1998ص418 :
19
وليســت هــذه العوامــل وحدهــا هــي امللحــة يف دراســة التســامح ،فهنــاك
عوامــل أخــرى ترســخت يف عقليــة األجيــال جـراء ثقافــات وعــادات وعواطف،
وأســباب أخــرى قــد يكــون بعضهــا نفســيا؛ إذ أصبــح التســامح عنــد بعضهــم
تنــازال عــن املبــادئ اإلســامية ،واســرخاصا لهــا وتفريطــا فيهــا ،والتشــدد هــو
األخــذ بعزائــم األمــور ،وأحســن مــن وقــف عنــد هــذه األســباب ووصفهــا
هــو الطاهــر بــن عاشــور ،ولنذكــر ســببني مــا أشــار إليــه مــن تلــك األســباب:
أوال :الغــرة الزائــد لــدى املتديــن ،ودفاعــه عــن دينــه عــن حســن نيــة ،جعلــه
يواجــه اآلخــر بكراهيــة وتعصــب ،ولــو كانــت خارجــة عــن نطــاق الــرع.
ثانيــا :مــا هــو ســائد تاريخيــا بــن مختلــف األديــان اســتعامل الديــن يف
احتــواء املنتمــن لــه ،ومبادلــة قيــم املــودة واملحبــة بينهــم ،ويف نفــس الوقت
يــؤدي هــذا التعصــب الدينــي لبغــض املخالــف والبطــش بــه ،بحجــة أن
الديــن كــا يجمــع أهلــه مينــع غريهــم منــه ،وهنــاك قصــص يف مختلــف
األمــم تؤكــد هــذا املبــدأ(.)1
فالســهام املوجهــة للتســامح كثــرة واألســباب الداعيــة لبحثــه واالهتــام
بــه عديــدة ،فكــا أن الشــبه املاضيــة تحتــاج لدحضهــا فــإن هــذه األســباب
النفســية والداخليــة التــي كشــف عنهــا الشــيخ ابــن عاشــور تدفــع الباحــث
لدراســة مناهــج وبرامــج تجعــل التســامح قيمــة مشــركة يتذوقهــا الجميــع
املســلم وغــر املســلم العــامل والجاهــل والغنــي والفقــر.
- 1ابن عاشور؛ محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونيس (املتوىف 1393 :ه ،أصول النظام االجتامعي
يف اإلسالم( ،الرشكة التونسية للتوزيع – تونس ،املؤسسة الوطنية للكتاب – الجزائر ،ط ،)2 .ص.228 ،227 :
20
البــاب األول :مفهــوم التســامح وأهميتــه وأسســه الرشعية؛
وتحتــه ثالثــة فصول:
الفصل األول :مفهوم التسامح ونشأته.
الفصل الثاين :أهمية التسامح ومظاهره وآثاره.
الفصــل الثالــث :أســس التســامح مــع املخالــف مــن
املســلمني.
الفصل األول :مفهوم التسامح ونشأته وتطوره ،وتحته
ثالثة مباحث:
املبحث األول :مفهوم التسامح.
املبحث الثاين :األلفاظ ذات الصلة بالتسامح.
املبحث الثالث :تاريخ التسامح.
الفصل األول :مفهوم التسامح ونشأته وتطوره
إن تحديــد مفهــوم التســامح بدقــة مــن أولويــات هــذا البحــث ومرتكزاتــه؛ ملا
يالحظــه الباحــث مــن كــرة اســتعامل هــذا املصطلــح وتداولــه يف الخطــاب
الدينــي املعــارص ،ويف الفكــر اإلنســاين عامــة ،بــل وشــيوعه وجريانــه عــى
ألســنة العــوام والخــواص ،فــرواج ســوق هــذا املصطلــح يف هــذا العــر؛
يجعــل منــه مركــز أهميــة يف هــذه األطروحــة ،وبيانــه بدقــة ينهــض بــه
شــاهدا قامئــا نبتغــي بــه الوســيلة يف فهــم امل ـراد منــه.
إن املتنــاول للتســامح مبفهومــه الدينــي املبســوط يف هــذا البحــث؛ ال يجــد
كثــرا مــن املــادة املســاعدة عــى ضبــط مفهومــه وتحديــد ماهيتــه ،وإن
ظفــر مبحــددات رشعيــة ونصــوص دالــة عليــه.
ومــن هنــا فمــن واجــب هــذا البحــث يف بنائــه املفاهيمــي أن يســتطرد قليــا
للخــوض يف بعــض العلــوم األجنبيــة عــن البحــث ،مثــل العلــوم السياســية
وعلــم االجتــاع ..ويُ َنقــب يف الثقافــات األخــرى مــن أجــل توضيــح هــذا
املفهــوم.
وبالنظــر لهــذا املعنــى جعلــت الحديــث عــن تاريــخ التســامح ونشــأته يف
مبحــث املفاهيــم؛ ألنهــا تبحــث يف الجوانــب التاريخيــة للتســامح ،فهــي
أوثــق صلــة بهــذا الفصــل منهــا بغــره.
وعليــه :فــإين قســمت هــذا الفصــل إىل ثالثــة مباحــث :مبحــث يتعلــق
باملفهــوم ،ومبحــث خــاص بتاريــخ التســامح ،ومبحــث آخــر يتحــدث عــن
املصطلحــات القريبــة مــن التســامح ،وتفصيــل ذلــك عــى النحــو اآليت:
املبحث األول :مفهوم التسامح
املطلب األول :التعريف اللغوي للتسامح
ال يوجــد –حســب علمــي -لفــظ التســامح يف املدونــات اللغويــة العربيــة،
ولكــن جــذره موجــود ،وهــو الســاح والســاحة ،ومنــه أُخــذ مصطلــح
التســامح ،وبتتبــع االســتعامل اللغــوي لهــذا الجــذر أن العــرب اســتعملوه يف
املعــاين اآلتيــة:
23
املعنــى األول :الجــود :وهــو مــن أكــر املعــاين التــي تــواردت عليهــا املعاجــم؛
يقــول ابــن منظــور« :الســاح والســاحة الجــود ...يقــال َسـ َم َح وأَ ْسـ َم َح إِذا
جــاد وأَعطــى عــن كَـ َر ٍم َ
وســخا ٍء»(.)1
«وسـ َمحت املعنــى الثــاين :املتابعــة واالنقيــاد يقــول األزهــري يف التهذيــبَ :
ـت»(.)2رس َعـ ْ
ال َّناقــة يف ســرها إذا انْقــادت وأ َ
املعنــى الثالــث :املســاهلة ،وقــد ورد مــا يــدل عــى هــذا املعنــى يف كالم
العــرب ،يقــول الجوهــري يف الصحــاح« :واملســامحة :املســاهلة .وتســامحوا:
تســاهلوا ...والتســميح :الســر الســهل»( .)3ويقــول الزبيــدي يف التــاج:
«واملســاهلة :كاملســامحة فهــا متقاربــان وزنــا ومعنــى»(.)4
املعنــى الرابــع :املوافقــة عــى املطلــوب ،قــال ابــن ســيده يف املحكــم:
«وســا َم َح :وافقنــي عــى املطلــوب .أنشــد ثعلــب:
كل خليلِ »(.)5 النفس وا ْحلَ ْو َ
الك ُّ ُ ُسأل سام َحت لك ُعطي حني ت ُ كنت ت ِ
لو َ
فهــذه االســتعامالت اللغويــة األربعــة التــي أوردتهــا املعاجــم متقاربــة ،دالــة
عــى اللــن ،والعفــو ،والســهولة ،والتوافــق مــع املخالــف ،وهــو املعنــى الــذي
يعــر عنــه لفــظ التســامح الــذي تنتــج عنــه السالســة واملرونــة يف التعامــل
بــن النــاس ،وهــذا مــا اســتنتجه ابــن فــارس اللغــوي بعــد تأملــه يف هــذه
ـدل عــى َسالسـ ٍة املعــاين حيــث قــال«« :ســمح» الســن وامليــم والحــاء أصـ ٌـل يـ ُّ
وســهولة»(.)6
ُ
- 1ابن منظور؛ محمد بن مكرم بن عىل ،أبو الفضل ،جامل الدين ابن منظور األنصاري الرويفعي اإلفريقي 711ه ،لسان
العرب( ،دار صادر – بريوت ،ط1414 ،3 .ه) ،ج 2ص .489
- 2األزهري؛ محمد بن أحمد بن األزهري الهروي ،أبو منصور 370ه ،تهذيب اللغة( ،تحقيق :محمد عوض مرعب ،دار
إحياء الرتاث العريب – بريوت ،ط2001 ،1 .م) ج 2ص .48
- 3الرازي؛ زين الدين أبو عبد الله محمد بن أيب بكر بن عبد القادر الحنفي الرازي 666ه ،مختار الصحاح ،تحقيق :يوسف
الشيخ محمد ،املكتبة العرصية( ،الدار النموذجية ،بريوت – صيدا ،ط1420 ،5 .ه 1999 -م) ،ج 1ص .329
- 4مرتىض الزبيدي؛ مح ّمد بن مح ّمد بن عبد الرزّاق الحسيني ،أبو الفيض ،امللقّب مبرتىض ،ال َّزبيدي 1205ه ،تاج العروس
من جواهر القاموس( ،تحقيق :مجموعة من املحققني ،دار الهداية) ،ج 6ص .486
- 5ابن سيده؛ أبو الحسن عيل بن إسامعيل بن سيده املريس ت 458 :ه ،املحكم واملحيط األعظم( ،تحقيق :عبد الحميد
هنداوي ،دار الكتب العلمية – بريوت ،ط 1421 ،1 .ه 2000 -م) ،ج 1ص .488
- 6ابن فارس؛ أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي ،أبو الحسني 395ه ،معجم مقاييس اللغة( ،تحقيق :عبد السالم
محمد هارون ،دار الفكر1399 ،ه 1979 -م) ،ج 2ص .454
24
وهنــاك معنــى لغــوي دقيــق ،أثــاره الشــيخ الطاهــر ابــن عاشــور يف بحثــه
اللغــوي ملصطلــح التســامح ،محلــا صيغــة التفاعــل يف التســامح حــن قــال:
«التســامح يف اللغــة :مصــدر ســامحه إذا أبــدى لــه الســاحة القويــة ،ألن
صيغــة التفاعــل هنــا ليــس فيهــا جانبــان ،فيتعــن أن يكون املـراد بهــا املبالغة
يف الفعــل ،مثــل :عافــاك اللــه»( ،)1وهــذا ميــول منــه إىل األصــل الرشعــي
واللغــوي ملصطلــح الســاحة كــا تقــدم ،وســيأيت بيانــه ،أمــا إشــارته إىل أن
الســاحة إمنــا تكــون مــن جانــب واحــد؛ فصحيــح يف التســامح الســلويك،
الــذي يكــون مــن جانــب واحــد دامئــا( ،)2أمــا التســامح املســتدام ،وهــو
التســامح االجتامعــي؛ فــا بــد أن يكــون مــن الطرفــن ليتحقــق فيــه تبــادل
املصالــح واملنافــع ،والتعــاون عــى الخ ـرات.
- 1ابن عاشور؛ محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونيس (املتوىف 1393 :ه ،أصول النظام االجتامعي
يف اإلسالم( ،الرشكة التونسية للتوزيع – تونس ،املؤسسة الوطنية للكتاب – الجزائر ،ط ،)2 .ص .226
- 2كام أن التفاعل يأيت للمشاركة فإنه قد يأيت ملعان أخرى؛ يقول صالح الدين الزعبالوي« :قد يأيت التفاعل للمطاوعة مثل
باعدته فتباعد ،وملا ليس بواقع يف واقع األمر مثل تغافل وتعامل ،وقد يفيد التدرج يف وقوع الحدث مثل تنامى وتفاقم إىل
غري ذلك من املعاين التي نبه عليها النحويون» .الزعبالوي؛ صالح الدين الزعبالوي( ،دراسات يف النحو ،موقع اتحاد كتاب
العرب) ،ص 373و.685
- 3وهذا ال يعني أن التسامح غري موجود يف القرآن ،نعم غري موجود بلفظه ،ولكن معانيه وقيمه فيه كثرية جدا ،كام سيأيت
بيانها يف مبحث :األصول الحاكمة للعالقة مع غري املسلمني ضمن الباب الثاين.
- 4يجب التنبيه هنا عىل أنه ميكن التساهل يف التوظيف اإليديولوجي لهذا املفهوم إذا كان خاليًا عن مضامينه وداللته
املنطقية ،وجدير بالتوضيح أن هذا التوظيف غري وار ٍد يف دولة اإلمارات؛ فقد أصبح للتسامح فيها قانون ينظمه ويعترب
مرجعا فيه وهو من مصادر هذا البحث.
25
ومدلــوالت تاريخيــة وعلميــة مختلفــة ،ح َّملــت هــذا املصطلــح معــا َين أخــرى
غــر مقصــودة(.)1
.3أن التســامح مــن املصطلحــات التــي مل يتعــرض لهــا املتقدمــون بتعريـ ٍ
ـف
يحــدد معناهــا ،وكالم يبــن امل ـراد منهــا ،وإن كان واضــح املدلــول عندهــم،
معهــود املرادفــات يف تحريرهــم ،وهــذا مــا دعــا الدكتــور أحمــد مختــار إىل
إدراج مصطلــح «التســامح» ضمــن امل ُعــارص مــن املصطلحــات(.)2
تلــك األســباب وغريهــا كان لهــا األثــر يف اختــاف الباحثــن ،وعــدم قدرتهــم
عــى تحديــد املعنــى املـراد مــن مصطلــح التســامح ،وهــذا مــا يدعــو الباحــث
إىل تتبــع مفرداتــه يف مصــادر تراثنــا ليســتخرج محدداتــه وفــق االعتبــارات
اآلتيــة:
- 1فقد خضع هذا املصطلح لقراءات أخرى كانت منطلقاتها العلمية متغايرة ،وصلت يف بعضها إىل التنافر والتضاد ،وأخص
بالتمثيل هنا ما انترش يف العقدين املاضيني من الدراسات التي تناولت التسامح يف الدرس العقدي من باب الوالء والرباء حتى
انتهت إىل رفضه كل ًّيا بسبب اختالف التأيت الذي أدى إىل تحميله مفهو ًما ضيقًا ال يدل عىل رحابته.
- 2أحمد مختار عمر؛ معجم اللغة العربية املعارصة( ،عامل الكتب ،ط1429 ،1 .ه-2008م) ،ج 2ص .1104
- 3وهذا اللفظ النبوي فَهِم منه أهل اللغة معاين التسامح؛ يقول ابن منظور يف اللسان( :وقولهم :الحنيفية السمحة ليس
فيها ضيق وال شدة) ابن منظور؛ لسان العرب :ج 2ص .489
- 4ابن حنبل ،أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هالل بن أسد الشيباين 241ه ،مسند اإلمام أحمد بن حنبل ،رقم
( ،2108تحقيق :أحمد محمد شاكر ،النارش :دار الحديث – القاهرة ،ط1416 ،1 .ه 1995 -م) ،ج 4ص .17وعلقه البخاري
يف صحيحه كتاب اإلميان ،باب :الدين يرس .ج :1ص .16
- 5املناوي؛ زين الدين محمد املدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفني بن عيل بن زين العابدين الحدادي ثم املناوي القاهري
1031ه ،التيسري برشح الجامع الصغري( ،مكتبة اإلمام الشافعي – الرياض ،ط1408 ،3 .ه 1988 -م) ،ج 1ص .881
26
.2حديــث جابــر بــن عبــد اللــه ريض اللــه عنهــا أن النبــي صــى اللــه عليــه
ـى{()1 وســلم قــالَ } :ر ِحـ َم اللَّـ ُه َر ُجـ ًـا َسـ ْم ًحا إِذَا بَــاعََ ،وإِذَا اشْ ـ َ َ
ـرىَ ،وإِذَا اقْتَـ َ
قــال ابــن بطــال يف رشحــه« :فيــه الحــض عــى الســاحة وحســن املعاملــة،
واســتعامل معــايل األخــاق ومكارمهــا ،وتــرك املشــاحة ،والرقـ ُة يف البيــع»(.)2
.3حديــث ابــن عبــاس ريض اللــه عنهــا أن النبــي صــى اللــه عليــه وســلم
َــك{( )3قــال ابــن األثــر يف النهايــة« :وامل ُســامحة }اســ َم ْح ،يُ ْســ َم ْح ل َ
قــالْ :
«اس ـ َم ْح يُ ْس ـ َم ْح لــك» أي َس ـ ِّهل يُ َســهل عليــك»( ).
4
امل ُســاهلة وفيــه ْ
كإسـ َـاحه إىل}أسـ ِمحوا لِ َعبْـ ِـدي ْ .4وورد هــذا اللفــظ يف الحديــث القــديسْ :
الســاح .يقــال «اإلســاح :لغــة يف َّ عبــادي{( )5قــال ابــن األثــر يف النهايــةْ :
وس ـ َخاء»(.)6 وأس ـ َمح إذا جــا َد وأ ْعطــى عــن كَ ـ َرم َ س ـ َمح ْ
فتلــك ثالثــة مصطلحــات رشعيــة وردت يف الســنة النبويــة ،وفهــم منهــا
العلــاء معــا َين تســامحية:
- 1السامحة.
- 2املسامحة.
- 3اإلسامح.
وميكن أن نستنتج من النقول السالفة األمرين اآلتيني:
.1أن التســامح يُقصــد بــه يف األحاديــث الرشيفــة :املســاهلة مــع عامــة
النــاس ،وحســن معاملتهــم بإعطائهــم أكــر مــن حقهــم جــو ًدا وكر ًمــا دون
مشــاحة ،مــع الحــرص يف التعامــل معهــم عــى معــايل األخــاق.
- 1البخاري ،الجامع الصحيح ،رقم )2076( :كتاب البيوع ،باب السهولة والسامحة يف الرشاء والبيع ،ج/3ص.57
- 2ابن بطال؛ أبو الحسن عيل بن خلف بن عبد امللك 449ه -رشح صحيح البخاري( ،تحقيق :أبو متيم يارس بن إبراهيم -
مكتبة الرشد -السعودية ،الرياض – ط1423 ،2 .ه 2003 -م) ،ج 6ص .210
- 3أحمد ،املسند ،رقم )2233( :ج 4ص .103
- 4ابن األثري؛ املبارك بن محمد الجزري -النهاية يف غريب الحديث واألثر( ،املكتبة العلمية – بريوت – 1399ﻫ 1979م –
تحقيق :طاهر أحمد الزاوي -ومحمود محمد الطناحي) ،ج 2ص .990
- 5أحمد ،املسند ،رقم )15( :ج 1ص .195
- 6ابن األثري؛ النهاية :ج 2ص .990
27
.2أن التســامح بهــذا االعتبــار الجامــع ملــا قيــل يف األحاديــث النبويــة؛ غــر
بعيــد عــن املعــاين اللغويــة التــي فُــر بهــا جــذر لفــظ التســامح كــا مــر يف
مطلــع هــذا املبحــث.
- 1املاوردي ،أبو الحسن عيل بن محمد بن محمد بن حبيب البرصي البغدادي ،الشهري باملاوردي 450ه ،أدب الدنيا
والدين( ،دار مكتبة الحياة1986 ،م) ،ص .437-435
28
.2ونجــد عاملــا آخــر وهــو معــارص للــاوردي وقبلــه بقليــل؛ وهــو
مســكويه(( )1ت 421:ه) يف تعريفــه للســاحة مل يخــرج بهــا عــن الســخاء،
إال أنــه وضــع فرقًــا بــن الســاحة واملســامحة فقــال« :وأمــا الســاحة فهــي
بــذل بعــض مــا ال يجــب ،وأمــا املســامحة فهــي تــرك بعــض مــا يجــب،
والجميــع بــاإلرادة واالختيــار»( .)2وتفريــق مســكويه بــن املصطلحــن ال شــك
أن منطلقــه الحديــث النبــوي وهــو واضــح ،ولكــن أبــان يف تعريفــه عــن
العنــر األســاس املعتــر يف كليهــا وهــو اإلرادة واالختيــار ،يف حــن أن ذكــر
املــاوردي للســاحة ضمــن املــروءات رمبــا يُفهــم منــه نــوع مــن اإللــزام؛
لكنــه إل ـزام مــروءة وخلــق ،وليــس إلزامــا رشعيــا.
- 1جرينا يف هذا البحث عىل أن «مسكويه» لقب له ،مع أنه يوجد خالف يف ذلك ،ومستندنا يف ذلك ترجيح ابن حجر
بقوله( :واشتهر عىل الْ َل ِْس َنة أَبُو َع ّ
يل بن مسكويه َوإِنَّ َا ُه َو لقبه ُه َو .ذكر َذلِك ياقوت ِف األدباء) .ابن حجر ،أبو الفضل أحمد
بن عيل بن محمد بن أحمد بن حجر العسقالين 852ه ،نزهة األلباب يف األلقاب( ،تحقيق :عبد العزيز محمد بن صالح
السدير ،مكتبة الرشد – الرياض ،ط1409 ،1 .ه-1989م) ،ج 2ص .177
- 2مسكويه؛ أبو عيل أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه 421ه ،تهذيب األخالق وتطهري األعراق( ،تحقيق :ابن
الخطيب ،مكتبة الثقافة الدينية ،ط ،)1 .ص .19
- 3الجرجاين؛ عيل بن محمد بن عيل الزين الرشيف الجرجاين 816ه ،معجم التعريفات( ،تحقيق :محمد صديق املنشاوي،
دار الفضيلة ،القاهرة1403 ،ه -1983م) ،ص .105واملناوي ،زين الدين محمد املدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفني بن عيل
بن زين العابدين الحدادي ثم املناوي القاهري 1031ه ،التوقيف عىل مهامت التعريفات( ،عامل الكتب ،القاهرة ،ط،1 .
1410ه-1990م) ،ص .181ومحمد رواس قلعجي -حامد صادق قنيبي ،معجم لغة الفقهاء( ،دار النفائس للطباعة والنرش
والتوزيع ،ط1408 ،2 .ه 1988 -م) ،ص .249
- 4املناوي؛ التوقيف عىل مهامت التعريفات ،294 :وتقدم الكالم عن الفرق بني السامحة واملسامحة عند علامء األخالق،
ومن هناك أخذ املناوي هذا التعريف.
29
.3ويعــود الربكتــي يف قواعــد الفقــه لذكــر العنــر الخلقــي يف التعريــف
فيقــول« :املســامحة :هــي املســاهلة واملوافقــة عــى املطلــوب والصفــح عــن
الذنــب»(.)1
ويجــدر التنبيــه هنــا إىل أن مصطلــح التســامح مصطلــح علمــي شــائع يف
علــوم اآللــة أيضــا ويقصــد بــه عنــد علامئهــا التســاهل ،يقــول الربكتــي:
«التســامح يف عــرف العلــاء :اســتعامل اللفــظ يف غــر الحقيقــة بــا قصــد
عالقــة معنويــة ،وال نصــب قرينــة دالــة عليــه؛ اعتــادا عــى ظهــور املعنــى
يف املقــام»(.)2
فجــل هــذه التعريفــات املتعــددة املصــدر تتفــق عــى أن املســامحة هــي
البــذل واإلحســان والتفضــل مبــا ال يجــب تكرمــا؛ تحقيقــا ملعــايل األخــاق
واطراحــا للمنازعــة واالختــاف ،ودعــو ًة للتآلــف.
وسأرجئ التعريف املختار حتى أورد املفاهيم املعارصة ملصطلح التسامح.
- 1الربكتي؛ محمد عميم اإلحسان املجددي الربكتي ،قواعد الفقه( ،الصدف ببلرشز – كراتيش ،ط1986 – 1407 ،1 .م) ،ج
1ص .482
- 2الربكتي ،قواعد الفقه :ج 1ص .227
30
الســهولة يف املخالطــة واملعــارشة ،وهــي لــن يف الطبــع يف مظــان تكــر يف
أمثالهــا الشــدة .وأنــا أريــد بالتســامح يف هــذا البحــث :إبــداء الســاحة
للمخالفــن للمســلمني مــن جهــة الديــن»(.)1
وقــال يف مقاصــد الرشيعــة يف تعريــف الســاحة« :فالســاحة :الســهولة
املحمــودة فيــا يظـ ّن النــاس التشــديد فيــه .ومعنــى كونهــا محمــودة أنهــا ال
تفــي إىل رض أو فســاد»(.)2
فابــن عاشــور يفــرق بــن الســاحة والتســامح يف االصطــاح؛ فــاألوىل أصــل
للمصطلــح الثــاين بعــد أن اكتــى معنــى جديــدا ،ولهــذا نجــد الفــرق واضحــا
بــن تعريفــه للســاحة بوصفهــا مكونــا أخالقيــا يف أصــول النظــام االجتامعــي،
وبــن تعريفــه لهــا بصفتهــا مقصــدا مــن مقاصــد الرشيعــة ،وهــي يف هــذا
املعنــى أقــرب إىل التيســر ،فابــن عاشــور يف رأيــي هــو أول مــن قــدم لنــا
تعريفــا للتســامح مبفهومــه املتــداول اآلن يف ميــدان الدراســات اإلســامية.
ونجــد مجمــع اللغــة العربيــة يعــرف التســامح بأنــه« :ســعة صــدر تفســح
لآلخريــن أن يعـ ّـروا عــن آرائهــم ولــو مل تكــن موضــوع تســليم أو قبــول .وال
يحــاول صاحبــه فــرض آرائــه الخاصــة عــى اآلخريــن»(.)3
ومــن أجمــع التعريفــات املعــارصة للتســامح :التعريــف الــذي اعتمدتــه
منظمــة الرتبيــة والعلــوم اليونســكو يف قولهــا إن التســامح« :احـرام اآلخريــن
وحرياتهــم ،واالع ـراف باالختالفــات بــن األف ـراد ،والقبــول بهــا ...والتســامح
هــو تقديــر التنــوع الثقــايف ،وهــو االنفتــاح عــى األفــكار والفلســفات األخــرى
بدافــع االطــاع ،وعــدم رفــض مــا هــو غــر معــروف»(.)4
- 1ابن عاشور؛ أصول النظام االجتامعي يف اإلسالم :ص ،226وقد أخذت من كالمه ما يناسب سياق التعريف ،وسأقف مع
بقية كالمه يف موضع آخر من البحث حني الحديث عن نشأة التسامح.
- 2ابن عاشور؛ محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونيس (املتوىف1393 :ه) ،مقاصد الرشيعة اإلسالمية،
(تحقيق :محمد الطاهر امليساوي ،دار النفائس للنرش والتوزيع – األردن ط1421 ،2 .ه 2011 -م) ص.269 :
- 3املعجم الفلسفي( ،مجمع اللغة العربية ،الهيئة العامة لشؤون املطابع األمريية ،مرص ،القاهرة1403 ،ه-1983م) ،ص .44
وهناك تعريفات أخرى لشخصيات معارصة من قبيل بعض املثقفني واملفكرين؛ ولكن ال أراها تناسب هذه الرسالة.
- 4إعالن مبادئ بشأن التسامح أعلنته اليونسكو يف 16ترشين الثاين نوفمرب ،1995واعتمدته الدول األعضاء وكتاب :مفهوم
التعايش يف اإلسالم ص ،52عباس الجراري من إصدارات اليونسكو.
31
ومــن أهــم التعريفــات املعــارصة للتســامح مــا اعتمدتــه دولــة اإلمــارات
العربيــة املتحــدة يف الربنامــج الوطنــي للتســامح ،وذلــك بعــد موافقــة
مجلــس الــوزراء يف يونيــو 2016م عــى إنشــاء وزارة خاصــة للتســامح ،إذ
ورد يف البوابــة الرســمية لحكومــة دولــة اإلمــارات مــا ميكــن اعتبــاره تعري ًفــا
للتســامح بأنــه« :إظهــار الصــورة الحقيقيــة لالعتــدال ،واحـرام اآلخــر ،ونــر
قيــم الســام والتعايــش»(.)1
فهــذه التعريفــات املعــارصة تتفــق كلهــا عــى أن التســامح املـراد منــه قبــول
االختــاف ،ويتمثــل ذلــك يف حريــة الــرأي واملعتقــد ،ومتيــز مفهــوم دولــة
اإلمــارات العربيــة املتحــدة للتســامح برتكيــزه عــى الجانــب العمــي ،وذكــره
أحــد أهــم أهــداف التســامح ،وهــو إظهــار الصــورة الحقيقيــة لالعتــدال
املوجــود يف األديــان وثقافــات الشــعوب.
ومبــا أن الجميــع ســواء مــن املفكريــن أو مــن الباحثــن يف الثقافــة اإلســامية
يــكادون يســلمون بــأن هــذا املفهــوم أنشــأه الغــرب ومنــه ورد إلينــا( ،)2فإننــا
ســنقف مــع التعريفــات الغربيــة لــه ،بعــد أن نؤكــد أن كــون هــذا املفهــوم
نشــأ يف الغــرب ال ينــايف أصالــة هــذا املفهــوم يف التعاليــم اإلســامية ،وال يعنــي
أيضً ــا أن نتجــاوز هــذه املحطــة املهمــة يف رحلــة هــذا املفهــوم ،فالوقــوف
معهــا ميثــل مكونًــا مــن مكونــات التســامح بــن الشــعوب ،واملثاقفــة مــع
الغــرب(.)3
مــن أشــهر التعريفــات عنــد مفكــري الغــرب للتســامح تعريــف «فولتــر»
الــذي أورده «بوبــر» واعتــره أروع تعبــر يف وصــف التســامح؛ حيــث يقــول
يف تعريفــه« :ومــا هــو التســامح ،إنــه نتيجــة مالزمــة لكَينونتنــا البرشيــة،
إننــا جمي ًعــا مــن نتــاج الضعــف ،كلنــا هشُّ ــون وميَّالــون للخطــأ ،لــذا دعونــا
32
نســامح بعضنــا ،ونتســامح مــع جنــون بعضنــا بشــكل متبــادل ،وذلــك هــو
املبــدأ األول لقانــون الطبيعــة ،املبــدأ األول لحقــوق اإلنســان كافــة»(.)1
فقــد انطلــق فولتــر يف وصفــه هــذا –الــذي ال يعــد تعريفــا باملعنــى الدقيــق
للكلمــة -مــن الفطــرة اإلنســانية ،وك ـ َّون -بنــا ًء عليهــا -هــذه القيمــة التــي
تســتجيب للحاجــات اإلنســانية ،وتتجــاوب مــع مــا يعــري اإلنســان مــن
الضعــف والقــوة ،وكان يــرى أن التســامح الحقيقــي هــو الــذي يجمــع أشــتات
البــر برابــط الرحــم اإلنســانية ،فيقــول« :أيكــون الــريك املســلم شــقيقًا يل؟
وكذلــك الصينــي؟ واليهــودي؟ والســيامي؟ أجــل بــا ريــب ،أفلســنا جمي ًعــا
...مخلوقــات إللــه واحــد»(.)2
فهــذا النــص يؤكــد عــى أن التســامح عنــد فولتــر قيمــة إنســانية مطلقــة ال
حــدود لهــا ،وينبغــي أن تعــر القــارات والحــدود(.)3
وقــد عرفــه الكاتــب الفرنــي جــان ليســاي بأنــه« :القبــول بوجــود الــيء
املخالــف»(.)4
ومــن أجمــع التعريفــات التــي أوردتهــا بعــض دوائــر املعــارف العامليــة
تعريــف التســامح بأنــه« :قيمــة رفيعــة ننطلــق منهــا يف التعامــل مــع اآلخرين
لــذا فهــو أمــر صعــب ومبــدأ حقيقــي ،ونحــن نتســامح مــع مــن يشــاركنا يف
اللغــة والثقافــة واملجموعــة العرقيــة ،فهــذه األســس هــي التــي تقــوم عليهــا
العالقــات البرشيــة خــال العصــور ...ولكــن هنــاك حقيقــة مهمــة وهــي ال
بــد مــن التالقــي مــع املخالــف بــأي شــكل ســواء كان االختــاف معــه خلقيــا
أو ثقافيًّــا.)5(»...
- 1ألفريد إيري ،وتوماس بالدوين ،وسمري الخليل ،وكارل بوبر – ترجمة :إبراهيم العريس؛ التسامح بني رشق وغرب ،دراسات
يف التعايش وقبول اآلخر( ،دار الساقي – لبنان – ط1992 - 2 .م) ،ص .76وأورد فيه مقاال للتسامح لكارل بوبر.
- 2جون لوك؛ رسالة يف التسامح( ،ترجمة :منى أبو سنة ،مراجعة :مراد وهبة ،املجلس األعىل للثقافة ،املرشوع القومي
للرتجمة ،دار الكتب املرصية ،ط1997 ،1 .م) ،ص 65؟.
- 3عبد الرحمن بدوي؛ املوسوعة الفلسفية ،ص 165وما بعدها.
- 4عبد اللطيف بن إبراهيم بن عبد اللطيف الحسني؛ تسامح الغرب مع املسلمني يف العرص الحارض ،دراسة نقدية يف ضوء
اإلسالم( ،دار ابن الجوزي ،السعودية ،ط 1491 ،1 .ه1999 ،م) ،ص .28
- 5نفسه ،ص .29،30
33
ويف بعــض القواميــس الغربيــة نجــد أنهــا تعــرف التســامح بأنــه« :ليــس
ﺷـﻴﺌﺎ آخــر ﻏـــر أن يحـــﺎول املــرء اﻟﺘﻌﺎﻣـﻞ ﻣـﻊ اآلخــر بــروح ﺳـﻠﻤﻴﺔ ،وأن ﻻ
مينــع أحــد ﻏـــرﻩ مــن حقوقــه الطبيعيــة ،وأن يتــوىل املــرء بــكل لطــف دحض
اﻵراء الخاطئــة اﻟـــتي ﺗﻘـﺎل ﻋﻠـﻰ منابــر الوعــظ ،والتــي يكتبهــا القامئــون عىل
هــذه املنابــر ،وأن يجتهــد املــرء بــكل تواضــع ويحتمــل لتعليــم غــره مــا هــو
أفضــل»(.)1
وال شــك أن هــذه التعريفــات تعــد وصفــا عمل ًّيــا لثقافــة التســامح وأســاليب
نــره ،وليــس تحديـ ًدا دقيقــا للتســامح كــا ســبق ،واملطلــع عــى تعريفــات
املفكريــن الغربيــن يجدهــم يدخلــون صــو ًرا متعــددة تحــت مفهــوم
التســامح ،وهــذا واضــح يف املوســوعات واملعاجــم التــي تطرقــت لهــذا
املصطلــح(.)2
مــن خــال مــا تقــدم مــن التعريفــات املختلفــة ملفهــوم التســامح ،نخلــص إىل
ـتعمل يف مؤلفــات الفقــه اإلســامي ،والعلــوم أن هــذا املصطلــح مل يكــن مسـ ً
اإلســامية عمو ًمــا؛ ولكــن هنــاك مصطلحــات أخــرى تــؤدي معنــاه ،واملفهــوم
املأخــوذ مــن تلــك املعــاين والقيــم الثابتــة يف الرشيعــة اإلســامية ســواء منهــا
األخالقــي أو الحديثــي أو الفقهــي ميكــن تقريبــه بأنــه :التســاهل مــع اآلخــر
وحــال
ً باختيــار ،وحســن معاملتــه بإعطائــه أكــر مــن حقــه أخــذًا وتــركًا
وحقــا.
وال يبعــد هــذا املدلــول االصطالحــي عــن املعــاين اللغويــة لجــذر هــذه
الكلمــة.
وبعــد أن اســتقر مصطلــح التســامح؛ نجــد تعريفاتــه لــدى املعارصيــن تــدور
حــول قبــول االختــاف بــن املختلفــن دين ًّيــا وعرقيــا ،وهــذا بــا شــك تأثــر
- 1مجلة التسامح ،فصلية – فكرية – إسالمية ،العدد ( ،13مؤسسة عامن للصحافة ،سلطنة عامن1427 ،ه-2006م) ،ص
.290
- 2ينظر :موسوعة الالند الفلسفية ،ص ،1460حيث أوردت للتسامح أربعة معان ،وأيضا :معجم صليبا الفلسفي ص 271
حيث أورد عدة تعريفات لهذا املصطلح .وهذه التعريفات املتعددة واملتباعدة أحيانا يعود سبب هذا التضارب فيها إىل أن
ميادين التسامح يف املجتمعات الغربية متعددة؛ منها الديني واالجتامعي والثقايف والحقوقي والسيايس ،وكل يعطي للتسامح
املعنى القريب من مجاله.
34
منهــم بالتعريفــات الغربيــة ،وإن كانــت هــي نفســها ال تــكاد تتفــق عــى
معنــى واحــد ،غــر أن امليــزة يف تصورهــم لهــذا املفهــوم أنهــم يحيلــون فيــه
عــى الفطــرة اإلنســانية وطبيعتهــا ،واســتحضا ُر هــذا الجانــب واالعـراف بــه
كفيــل بــإدراك معنــى التســامح وإن اختلفــت العبــارات يف تحديــده ،كــا هــو
حــال تعريفــات املفكريــن الغربيــن.
ونتيجــة ملــا تقــدم مــن املحــددات والتعريفــات والتصــورات ،وأخـذًا باالعتبــار
ـص الــوارد يف الربنامــج الوطنــي اإلمــارايت للتســامح؛ ميكــن أن نختــار يف هذا
النـ َّ
البحــث أن التســامح هــو :قيمــة إنســانية اختياريــة تُنتــج الســام والعيــش
املشــرك بــن اإلنســانية باختــاف أعراقهــا وأديانهــا وثقافتهــا وانتامءاتهــا.
فالتعبــر بأنــه «قيمــة» املقصــد منــه أنــه ينتمــي إىل األخــاق التــي تدعــو
إليهــا الرشائــع والعقــول والفطــر الســليمة.
ووصفهــا باإلنســانية قيــد يخــرج بــه غــر اإلنســان ،فــا يعــرف التســامح
صفــة إال لإلنســان؛ أمــا الحيــوان فغريزتــه الفطريــة هــي العنــف (.)1
ووصــف هــذه القيمــة بأنهــا اختياريــة فيــه احـراز مــن الحقــوق والواجبــات،
فــا يعــر عنهــا مبصطلــح التســامح يف الرشيعــة اإلســامية ،بخــاف التســامح
يف الثقافــة الغربيــة ،فقــد يطلقونــه عــى مــا هــو واجــب كــا هــو واضــح
مــن التعريفــات املتقدمــة.
وباقــي التعريــف يُبــن نتائــج التســامح ومثراتــه يف إشــاعته الســلم والســام
والعيــش املشــرك بــن النــاس بــدون تفرقــة بســبب لــون أو عــرق أو ديــن.
فلعــل هــذا التعريــف املختــار الــذي اســتنتجته مــن جميــع التعريفــات
الســابقة شــامل ملــا قيــل يف التســامح ومحدداتــه.
- 1ينظر :حسن عبد الرزاق منصور؛ ثقافة العنف ومصادرها( ،أمواج للنرش والتوزيع ،عامن ،األردن ،ط2013 ،1 .م) ،ص .59
35
املبحث الثاين :األلفاظ ذات الصلة بالتسامح
هنــاك مصطلحــات متقاربــة مــع مفهــوم التســامح ،قــد تــؤدي معنــاه أحيانًــا،
أو تنــوب عنــه يف أحايــن كثــرة ،ولكــن ال بــد مــن تحديــد مفهومهــا ووجــه
اســتعاملها ،حتــى نقــف عــى حقيقتهــا ،خاصــة وأن هــذه املصطلحــات
املتداولــة بــن فئــات مختلفــة ،تحتمــل معــاين شــتى ،حتــى إن بعضهــا
ملتبســا أو ملبســا؛ فينبغــي إجالــة النظــر فيهــا لبيــان مــا بــه ً قــد يكــون
كشــف االلتبــاس واإللبــاس عنهــا ،وربــط وجــوه الصلــة بينهــا .وأبــرز هــذه
املصطلحــات مــا يــأيت:
- 1التعارف
- 2التعايش
- 3التقريب بني األديان
كل هــذه املصطلحــات وغريهــا تلتقــي مــع التســامح يف بعــض معانيهــا،
ويســاق بعضهــا يف هــذا البــاب بنــوع مــن اإليهــام ،ال حقيقــة فيــه ،وهــذا مــا
ســأوضحه يف املطالــب التابعــة لهــذا املبحــث:
املطلب األول :مصطلح التعارف()1
التعــارف لغــة :مــن فعــل عــرف ،قــال الصاغــاين« :وقــد تَ َعــا َر َف القــوم:
أي َع ـ َر َف بعضهــم بعضــا ،ومنــه قولــه تعــاىلَ ﴿ :و َج َعل َٰن ُكــم شُ ـ ُعوبٗا َوقَبَآئِـ َـل
لِتَ َعا َرفُـ ٓوا ْ﴾»( .)2وقــال ابــن منظــور« :وقــد تعــارف القــوم ،أي عــرف بعضهــم
بعضــا»( .)3فالتعــارف يف أصلــه اللغــوي يــدل عــى املعرفــة والعلــم ،فمصطلح
املعرفــة الــذي يحيــل عليــه التعــارف مصطلــح دقيــق؛ إذ يجمــع معــاين
ســامية؛ بهــا نســتطيع إدراك مــا يحملــه مصطلــح التعــارف مــن مفاهيــم
- 1بدأت به ألنه مصطلح قرآين وعتيق ،مع شموله ملضمون التعايش بشكل عميق.
- 2الصاغاين؛ العباب الزاخر واللباب الفاخر ،ص .624
- 3ابن منظور؛ لسان العرب :ج 4ص .2898
36
دقيقــة ،يقــول الراغــب األصفهــاين« :املعرفــة والعرفــان إدراك الــيء بتفكــر
وتدبــر ألثــره ،وهــو أخــص مــن العلــم ويضــاده اإلنــكار»(.)1
فأصــل التعــارف املعرفــة ،التــي مــن خاصيتهــا أنهــا تنشــأ عــن تدبــر ورويــة،
وال يقــع معهــا اإلنــكار ،وهــذه الخــواص هــي املد َركــة يف مصطلــح التعــارف
يف التعبــر القــرآين.
التعــارف يف االصطــاح :يــكاد الباحــث يصــاب بالحــرة واالرتيــاب وهــو
يقلــب صفحــات التفاســر وبحــوث املتأخريــن وكلــات املفكريــن الذيــن
ينــادون بالتســامح ،إذ يجدهــم مل يقفــوا عنــد هــذا املصطلــح القــرآين العظيــم
وقفــة تزيــح عنــه اللثــام ،وتبــن أرساره ،وتعــر عــن خبايــاه ومكنوناتــه ،فلــم
أجــد فيــا وقــع بــن يــدي مــن املصــادر تعري ًفــا مذكــو ًرا لهــذا املصطلــح غــر
تعريفــن ،عليهــا املعــول يف هــذا البــاب ،أولهــا تعريــف لــزيك امليــاد الــذي
أىت مبفهــوم التعــارف ضمــن نظريتــه التــي ينــادي بهــا «تعــارف الحضــارات»
وعرفــه فيهــا بأنــه« :االنفتــاح العاملــي الــذي يرفــع جهــل كل حضــارة عــن
الحضــارات األخــرى لتتعــرف كل أمــة عــى غريهــا مــن األمــم بــا إقصــاء أو
اســتعالء»(.)2
وقريــب مــن هــذا التعريــف؛ تعريــف حســن البــاش للتعــارف بأنــه« :تَ َعـ ُّرف
كل إنســان عــى أخيــه اإلنســان ،ليصــل إىل معرفــة عقليتــه ونفســيته وســلوكه
ومبادئــه والقيــم التــي صنعــت مقاييســه وموازينــه اإلنســانية ،مبــا يضمــن
ترابــط القيــم املشــركة مــع اآلخريــن وتخطــي الفوقيــة واألنــا»(.)3
ففــي كال التعريفــن تركيــز عــى جانــب مــن مكونــات التعــارف؛ فالتعريــف
األول يركــز عــى التعــارف بــن الحضــارات ،وهــذا هــو الهــدف األســمى
- 1الراغب األصفهاين؛ أبو القاسم الحسني بن محمد 502ه ،املفردات يف غريب القرآن( ،تحقيق :تحقيق :محمد سيد
كيالين ،لبنان ،دار املعرفة ،دون سنة للنرش) ،ص .331
- 2زيك امليالد ،صالح الدين الجوهري ،تعارف الحضارات -رؤية جديدة ملستقبل العالقات بني الحضارات( ،دار الكتاب
املرصي – القاهرة ،دار الكتاب اللبناين – بريوت ،ط1435 ،1 .ه-2014م) ،ص .9-8وزيك امليالد ،املسألة الحضارية – كيف
نبتكر مستقبلنا يف عامل متغري( ،املركز الثقايف العريب ،بريوت ،ط1999 ،1 .م) ،ص .101
- 3د .حسن الباش ،منهج التعارف اإلنساين يف اإلسالم ،نحو قواسم مشرتكة بني الشعوب( ،جمعية الدعوة اإلسالمية العاملية،
ط ،1 .الجامهريية العظمى – طرابلس 1373 ،ه2005 ،م) ،ص 41وما بعدها.
37
للتعــارف ،بينــا يوضــح التعريــف الثــاين طريقــة بنــاء التعــارف بــن اإلنســان
وأخيــه اإلنســان ،والجام ـ ُع بينهــا أن كال منهــا يحتــاج إىل املعرفــة باآلخــر،
والقــرب منــه ،وال ميكــن بنــاء حضــارة تعارفيــة دون أن تنطلــق مــن األســاس
وهــو اإلنســان.
وورد يف موســوعة نــرة النعيــم تعريــف التعــارف بأنــه« :أن يعــرف ال ّنــاس
بعضهــم بعضــا بحســب انتســابهم جمي ًعــا إىل أب واحــد وأ ّم واحــدة ،ثــ ّم
بحســب ال ّديــن والشّ ــعوب والقبائــل ،بحيــث يكــون ذلــك مدعــاة للشّ ــفقة
واأللفــة والوئــام ،ال إىل التّنافــر والعصب ّيــة»(.)1
وانطالقــا مــن آيــة ســورة الحجـرات -التــي هــي أصــل أصيــل يف التعــارف،-
ومـ َّـا كُتــب حــول التعــارف عنــد املتأخريــن؛ ميكــن تعريــف التعــارف بأنــه:
ارتبــاط بــن النــاس كاشــف عــن أصــل اإلنســان ووحدتــه ،يحصــل بــه أن
يعــرف بعضهــم بعضــا معرفــة ُخلقيــة ،تحــل محــل االختــاف وتذهــب
التناكــر يف الظاهــر والباطــن.
وعــى هــذا فالتســامح قــد يكــون يف بعــض األحــوال مثــرة للتعــارف؛ إذ إن
العــارف باآلخــر حــق املعرفــة وبواقعــه وبيئتــه ومــا يحيــط بــه؛ يلتمــس لــه
املعاذيــر ويقبلــه عــى كل حاالتــه ،ألن أثــر املعرفــة ينشــأ عــن تفكــر وتدبــر،
فــا يتحقــق التعــارف إال بعــد تجــاوز الخــاف واالختــاف .والقبـ ُ
ـول باآلخــر
ـول
املشــرط يف التعــارف ليــس مجــرد قبــول ،بــل هــو مــروط بــأن يكــون قبـ ً
خلق ًّيــا ،وهــو أدعــى لالح ـرام؛ يقــول ابــن عطيــة يف تفســر آيــة الحج ـرات:
«﴿ َو َج َعل َٰن ُكــم شُ ـ ُعوبٗا َوقَ َبآئِـ َـل لِتَ َعا َرفُـ ٓوا ْ﴾ أي :لئــا تفاخــروا ،ويريــد بعضكــم
أن يكــون أكــرم مــن بعــض»( .)2وقــال ابــن عرفــة يف تفســره« :إشــارة إىل أن
االختــاف بينهــم إمنــا هــو ليعــرف( )3بعضهــم بعضــا َل لكــون بعضهــم أرشف
- 1صالح بن عبد الله بن حميد إمام وخطيب الحرم امليك ،نرضة النعيم يف مكارم أخالق الرسول الكريم صىل الله عليه
وسلم( ،دار الوسيلة للنرش والتوزيع ،جدة ،ط ،)4 .ج 3ص .1004
وأرى أن تلك التعريفات السابقة للتعارف ال تتوفر فيها رشوط التعريف املعروفة عند املناطقة ،بل هي أقرب إىل الوصف
والرشح من التعريف.
- 2ابن عطية ،أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن متام بن عطية األندليس املحاريب 542ه ،املحرر الوجيز يف
تفسري الكتاب العزيز( ،تحقيق :عبد السالم عبد الشايف محمد ،دار الكتب العلمية – بريوت ،ط 1422 1- .ه) ،ج 5ص .152
- 3يف النسخة املطبوعة :إمنا ليعرف هو بعضهم بعضا .ولعل الصواب ما أثبتُّه.
38
وأحســن مــن بعــض»(.)1
فعنــارص التعــارف املســتفادة مــن هــذه اآليــة هــي اإلميــان بالرابطــة
اإلنســانية ،واالع ـراف باالختــاف الواقــع بــن النــاس ،وبنــاء التعــارف عــى
أســس الحــوار واالحــرام كــا ســيأيت.
- 1ابن عرفة؛ محمد بن محمد ابن عرفة الورغمي التونيس املاليك ،أبو عبد الله 803ه ،تفسري ابن عرفة( ،تحقيق :جالل
األسيوطي ،دار الكتب العلمية ،بريوت – لبنان ،ط2008 ،1 .م) ،ج 4ص .45
- 2ابن فارس؛ معجم مقاييس اللغة العربية.402 3 :
- 3الزبيدي؛ تاج العروس .285 17 :ومعنى اإلحن :الحقد ،قال زيد الدين الرازي«( :الْ ِ ْح َنةُ» ال ِْح ْق ُد َو َج ْم ُع َها «إِ َح ٌن») ،و
الرازي؛ زين الدين أبو عبد الله محمد بن أيب بكر بن عبد القادر الحنفي الرازي 666ه ،مختار الصحاح( ،تحقيق :يوسف
الشيخ محمد ،املكتبة العرصية -الدار النموذجية ،بريوت – صيدا ،ط1420 ،5 .ه 1999 -م) ،ص .14
- 4إبراهيم مصطفى ،أحمد الزيات ،حامد عبد القادر ،محمد النجار -املعجم الوسيط( ،دار الدعوة) ،ج 2ص .189
39
.2أمــا التعايــش يف االصطــاح :فلــم يهتــم علــاء الرشيعــة عامــة وال العلــوم
اللغويــة بــه كثـرا ،مــع أنــه موجــود ومســتعمل ومتــداول يف نطــاق محــدود
بينهــم؛ إذ نجــده متــداوال يف كتــب األدب واألخــاق وغريهــا(.)1
وجــل الباحثــن يقــرون بــأن هــذا املصطلــح بحمولتــه املتداولــة اليــوم ،مأخوذ
مــن الثقافــة الغربيــة ،وأنــه يف األصــل يعتــر مصطل ًحــا سياســيا واقتصاديــا
تحـ َّول بعــد ذلــك ليصبــح مصطل ًحــا اجتامعيــا ودينيًّــا(.)2
وقــد ورد يف بعــض املعاجــم املعــارصة تعريــف التعايــش الســلمي بأنــه:
«تعبــر يـراد بــه خلــق جــو مــن التفاهــم بــن الشــعوب بعيــدا عــن الحــرب
والعنــف»( .)3ويظهــر مــن هــذا التعريــف اإلطــاق األصــي لهــذا املصطلــح
أساســا يف العالقــات الدوليــة والتعــاون بــن ونشــأته ،حيــث يســتعمل ً
األط ـراف املختلفــة ،إال أن املصطلــح أخــذ بعــد ذلــك بُعــدا دين ًّيــا وثقاف ًّيــا،
وعــرف يف هــذا اإلطــار بأنــه« :أن تلتقــي إراد ُة أتبــاع األديــان الســاوية
والحضــارات املختلفــة يف العمــل مــن أجــل أن يســود األمـ ُن والســام العــامل،
وحتــى تعيــش اإلنســانية يف ج ـ ّو مــن اإلخــاء والتعــاون عــى مــا فيــه الخ ـ ُر
الــذي يع ـ ّم بنــي البــر جمي ًعــا ،مــن دون اســتثناء»(.)4
فمــن هــذا التعريــف يتضــح أن التعايــش مصطلــح متقــارب مــع أهــداف
مصطلــح التســامح ،إال أن التعايــش أعــم منــه ،وميتــاز التســامح عنــه بأنــه
- 1من هذه الكلامت التي وقفنا عليها وورد فيها لفظ التعايش الحكمة الشهرية القائلة( :جميع التعايش والتناصف
والتعارش يف ملء مكيال ،ثلثاه فطنة) ،املربد؛ محمد بن يزيد املربد ،أبو العباس 285ه ،الكامل يف اللغة واألدب( ،تحقيق:
محمد أبو الفضل إبراهيم ،دار الفكر العريب – القاهرة ،ط1417 ،3 .ه 1997 -م) ،ص .21وقولهم أيضا( :ثلثا التعايش
مداراة الناس) ،الراغب األصفهاين؛ محارضات األدباء :ج 1ص .127
ونجد يف كتب األخالق استعامل هذا املصطلح أيضا ،فقد استعمله الراغب يف موطنني من كالمه حيث قال( :فالناس
مضطرون إىل التعاون وال يتم تعاونهم إال مبراعاة العهد والوفاء ،ولوال ذلك لتنافرت القلوب وارتفع التعايش) .الراغب؛
الذريعة إىل مكارم الرشيعة :ص ،210وقال أيضا( :وقد تقدم أن الناس يحتاج بعضهم إىل بعض ،وال ميكنهم التعايش ما مل
عمل يصري به معي ًنا لآلخر مواس ًيا له) .أبو القاسم الحسني بن محمد الراغب األصفهاين؛
يتظاهروا ويتوىل كل واحد منهم ً
الذريعة إىل مكارم الرشيعة.273 :
- 2التويجري؛ د .عبد العزيز بن عثامن التويجري ،اإلسالم والتعايش بني األديان يف أفق القرن الحادي والعرشين( ،املنظمة
اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة1998 ،م) ،ص .12
- 3عبد الغني أبو العزم ،معجم الغني الزاهر( ،مؤسسة الغني للنرش2013 ،م) ،ص .1801
- 4التويجري؛ اإلسالم والتعايش بني األديان :ص .13
40
مفهــوم رشعــي أصيــل بخــاف التعايــش ،فقــد تحــول تحــوالت متعــددة
مــع أنــه حديــث ،ومــا زال مفهومــه مل يســتقر بعــد ،واملعنــى األســاس يف
مصطلــح التعايــش هــو العالقــات بــن الــدول والطوائــف املختلفــة ،كــا أن
التســامح يف الرتتيــب املنطقــي والواقعــي يــأيت قبــل التعايــش ،فــا بــد إلقامــة
أي تعايــش أن يكــون قبلــه تســامح بــن تلــك األط ـراف املتعايشــة.
41
وينبغــي التنبيــه إىل أن مصطلــح التقريــب بــن األديــان مصطلــح ليــس لــه
مدلــول اصطالحــي خــاص ،ولهــذا ال نجــد لــه تعري ًفــا محــد ًدا رغــم شــهرته
وشــيوعه وتداولــه ،وميكــن تقريبــه بأنــه( :مــا يطلــق عــى مجمــل املحــاوالت
الفكريــة والعمليــة الســاعية إليجــاد لــون مــن ألــوان التالقــي واالتصــال بــن
ديــن اإلســام وغــره مــن األديــان) (.)1
ويف هــذا الســياق يكــر الخلــط بــن نظريتــي التقريــب بــن األديــان ووحــدة
األديــان اللّتــن تأتيــان يف إطــار الحــوار بــن األديــان ،ولكــن لكل مــن التقريب
بــن األديــان ووحدتهــا ،خصائــص ومميــزات بهــا يظهــر الفــرق بينهــا
ويتضــح ،ومــن تلــك الفــروق:
- 1التقريــب بــن األديــان نســبي كــا يفهــم مــن املدلــول اللغــوي ملفردتهــا
«القــرب والبعــد» ،فهــا لفظــان نســبيان ،فلنســبية هــذا املصطلــح كان
التقريــب بــن األديــان شــامال كافــة الصــور ،ابتــداء مــن الحــوار والتعايــش
املشــرك والتســامح ،والبحــث يف القواســم املشــركة بــن األديــان ،واالتفــاق
عــى الخــروج مــن أوهــام التاريــخ ،وتجنــب الطعــن يف األديــان ،والتعــاون
عــى املصالــح التــي تحفــظ للمجتمــع املتعــدد االنتــاءات حقــه يف العيــش)2(.
- 2هــذه الخصائــص واملميــزات تــؤدي يف األخــر إىل عنــر مهــم وأصــل
أصيــل يف مفهــوم التقريــب بــن األديــان ،وهــو مبــدأ «لكــم دينكــم ويل دين»
بــأن يــرك كل طــرف نقــض ديــن الطــرف اآلخــر ،وال يطعــن فيــه وال يزدريــه
ولكــن يحرتمــه وإن مل يكــن مؤم ًنــا بــه.
- 3إضافــة إىل أن فكــرة التقريــب بــن األديــان فكــرة حديثــة ،انتــرت يف
العقــود األخــرة يف أوروبــا وأقيمــت لهــا مؤمتـرات ونــدوات وشــاعت ،وهــي
تســتهدف كافــة الديانــات واملذاهــب.
42
أمــا «وحــدة األديــان» فهــي فكــرة تاريخيــة ،اشــتهرت مــع التصوف الفلســفي
وبــرزت جل ّيــة عنــد ابــن عــريب والحــاج والــذي ميثَّــل لهــا بقــول ابــن عريب:
فـمرعى لغزالن ودير لرهبان «لقد صار قلبي قابالً كل صورة
وألواح توراة ومصحف قرآن»(.)1 وبيت ألوثان وكعبة طـائف
وقــد تبنــت فكــرة «وحــدة األديــان» بعــض الطوائــف واملذاهــب واشــتهرت
بهــا ،مثــل البهائيــة ،والهــدف منهــا هــي االع ـراف بصحــة جميــع األديــان
والوصــول باألديــان لدرجــة االندمــاج الكامــل والوحــدة التامــة ،و»االعتقــاد
بصحــة جميــع املعتقــدات الدين ّيــة ،وصــواب جميــع العبــادات ،وأنهــا طــرق
إىل غايــة واحــدة»)2( .
قلــت :وال عالقــة لفكــرة وحــدة األديــان مبصطلــح آخــر شــائع وهــو «فكــرة
وحــدة الديــن» التــي تعنــي أن األديــان واحــدة يف أصولهــا ومتفقــة ،والرشائــع
التــي جــاء بهــا األنبيــاء مختلفــة ،فهــذه الفكــرة أقرهــا القــرآن الكريــم
وأكدهــا العلــاء ،وال تدخــل يف هــذا الجــدل اآلنــف الذكــر ففكــرة وحــدة
الديــن أساســية يف القــرآن ويف األديــان األخــرى)3( .
أمــا صلــة التقريــب بــن األديــان بالتســامح :فــإن هــذا املصطلــح مــن
املفاهيــم املعــارصة التــي انتــرت واتســع اســتعاملها ،وألفــت فيهــا مؤلفــات
بــن مؤيــد ومنتقــد ،وعقــدت مــن أجلهــا مؤمتـرات عــدة ،حتــى أصبــح يطلــق
- 1ابن عريب ،ترجامن األشواق ،تحقيق :عبد الرحمن املصطاوي( ،دار املعرفة -لبنان ،ط )2005-1425 ،1ص. 62:
- 2انظر :دعوة التقريب بني األديان.360 339- /1 :
- 3انظر :حجة الله البالغة.182 /1 :
43
عــى طائفــة مــن الدارســن والباحثــن دعــاة التقريــب ،ومــع ذلــك ال نجــد
بــن أيدينــا تعريفــا رشعيــا دقيقــا لهــذا املصطلــح وامل ـراد منــه(.)1
ولقــد حاولــت بعــض الدراســات العلميــة أن تحــر املــراد بالدعــوة إىل
التقريــب بــن األديــان يف «مجمــل املحــاوالت الفكريــة والعمليــة الســاعية
إليجــاد لــون مــن ألــوان التالقــي واالتصــال بــن ديــن اإلســام وغــره مــن
األديــان»(.)2
إال أن التقريــب بــن األديــان أعــم مــن هــذا التصــور؛ ألن هذه الدعوة نشــأت
أصــا يف املجتمعــات غــر املســلمة ،فهــي تشــمل كافــة األديــان واملذاهــب
األخــرى ،وليســت متوجهــة لإلســام فقــط ،والهــدف منهــا مجــرد حــوار دينــي
فكــري للتفاهــم عــى املشــرك بــن هــذه األديــان ،وتَ َق ُّبــل صاحــب الديانــة
األخــرى ،واالعـراف بــه مــن أجــل العيــش املشــرك(.)3
فالعالقــة بــن مصطلــح التقريــب بــن األديــان والتســامح عالقــة ســببية؛ فهــو
أحــد أدوات التســامح والتعايــش باســتخدام الحــوار واالتفــاق عــى املشــرك
بــن املختلفــن.
- 1اطلعت عىل عدة رسائل علمية يف موضع دعوة التقريب بني األديان ،إال أن هذه الدراسات مل تدرس هذه القضية
دراسة علمية مجردة بل كان الهدف منها انتقاد فكرة التقريب من البداية ،ومن أشهر الكتب التي تناولت دعوة التقريب
ين األديان التي اطلعت عليها:
.1أحمد القايض؛ أحمد بن عبد الرحمن بن عثامن القايض ،دعوة التقريب بني األديان ،دراسة نقدية يف ضوء العقيدة
اإلسالمية( ،دار ابن الجوزي1421 ،ه-2001م) ،وهذا أوسع الكتب يف املوضوع ويقع يف أربع مجلدات ،وهو رسالة علمية
تقدم بها املؤلف للحصول عىل الدكتوراه يف قسم العقيدة واملذاهب املعارصة بجامعة اإلمام محمد بن سعود اإلسالمية
السعودية.
.2عبد الحليم آيت أمجوض؛ حوار األديان نشأته وأصوله وتطوره( ،دار ابن حزم ،بريوت – لبنان ،ط1433 ،1ه-2012م)
وهي رسالة علمية نال بها صاحبها درجة الدكتوراه من جامعة الحسن الثاين باملغرب.
.3اإلبطال لنظرية الخلط بني اإلسالم وغريه من األديان» بكر بن عبد الله أبو زيد (دار العاصمة الرياض 1417 ،هـ ،الطبعة
األوىل) وهو من أكرث الكتب انتشارا يف هذا املوضوع ،وهو كتاب صغري ولكنه سلك املنهجية العلمية املؤصلة املركزة عىل
الحكم الرشعي.
.4محمد خليفة حسن؛ الحوار بني األديان أهدافه ورشوطه واملوقف اإلسالمي منه( ،مركز زايد ،دولة اإلمارات .)2003
.5محمد السامك ،مقدمة إىل الحوار اإلسالمي املسيحي( ،دار النفائس ،لبنان.)1998 ،
- 2أحمد القايض؛ أحمد بن عبد الرحمن بن عثامن القايض ،دعوة التقريب بني األديان ،دراسة نقدية يف ضوء العقيدة
اإلسالمية( ،دار ابن الجوزي1421 ،ه-2001م) ،ص .333
- 3عبد الحليم آيت أمجوض؛ حوار األديان نشأته وأصوله وتطوره( ،دار ابن حزم ،بريوت – لبنان ،ط1433 ،1 .ه-2012م) ،ص .88
44
املبحث الثالث :تاريخ التسامح:
إن مــن يرجــع البــر كرتــن فيــا تقــدم ذكــره مــن بيــان ملفهــوم التســامح؛
يظهــر لــه أن هــذا املفهــوم قــد مــ َّر مبراحــل كثــرة ،ومداخــل متعــددة،
تنضــوي تحــت مبحــث تاريخــه ،وحكايــة قصــة بداياتــه ،وصــوال إىل الوقــت
املعــارص ،ومــا شــهدته ســاحة هــذا املصطلــح مــن تحــوالت ،فتحريــر القــول
يف تاريــخ التســامح يعــد مــن قبيــل الواجــب املضيــق ،بيــد أن هــذا التنــاول
قــد يســتعظم عــى مــن يريــده ،بالنظــر إىل أن متعلقــه مصطلــح إنســاين قــد
اتســعت دائرتــه ،وتشــعبت أصولــه.
ومــن هنــا فــإين أســوق هــذا املبحــث الكفيــل ببلــورة التســامح يف منظومتــه
الرشعيــة واألخالقيــة والفطريــة والوطنيــة الشــاملة ،التــي تحقــق املــراد
منــه( ،)1وذلــك مــن خــال املطالــب اآلتيــة:
- 1ال ينبغي أن يغيب عنا يف جميع أجزاء هذا البحث أننا نبحث التسامح ضمن إطار أول دولة أنشأت له وزارة خاصة،
فهو بهذا املعنى أصبحت له قوانني تنظمه ،واسرتاتيجيات تهتم به ،ومؤسسات ترعاه وتقوم عىل ترسيخه يف األجيال.
- 2هذا تأريخ للتسامح باعتبار وجوده بالفعل من خالل األحداث التي تواترت بها األخبار يف كتب التاريخ ،وإال فإن
تاريخ التسامح باعتبار وجوده بالقوة يبدأ من أول وجود البرش ،فإن اإلنسان مذ وجد تتنازعه نوازع التسامح والالتسامح.
وللتسامح أيضا تاريخ يف الفكر الغريب مل أشأ أن أطيل بالتفصيل فيه.
45
ثــارت العصبيــة القبليــة مثـ ًـا يف إحــدى القبائــل ،فإنــه ال يوقفهــا عــن التناحــر
والن ـزاع واالح ـراب يشء مــن املبــادئ األخالقيــة ،وال تضــع الحــرب أوزارهــا
بينهــم حتــى تســيل األرض دمــا ًء ،وتســتباح القيــم الفطريــة ،إذ القبيلــة عندما
تكــون ذات شــوكة ورضاوة؛ قــد تفتــك بأمــة كاملــة بســبب قتــل أي رجــلٍ
مــن رجالهــا ،كــا حصــل يف حــرب البســوس بــن بكــر وتغلــب ،فقــد دامــت
أربعــن ســنة بســبب امــرأة كانــت مــرب املثــل يف الشــؤم لــدى العــرب(،)1
وإذا تبــارى النــاس عندهــم فالفخــار لــكل ذي طبقــة عليــة ،والســؤدد ملــن
ـرق مبقامــه كل حـ ٍّر ،ويســتضعف بصولتــه النســاء(.)2 يسـ ُّ
ومــع اســتصحاب ذلكــم الحــال ،واســتحضار مــا أحدثــه اإلســام يف أولئــك
النــاس ببعثــة ســيدنا ونبينــا محمــد صــى اللــه عليــه وســلم ،نــدرك قيمــة
التســامح التــي أعــى اإلســام قدرهــا ،ورســخها حتــى أنقــذ بهــا البرشيــة،
وهــذا ال يعنــي أنــه ليــس هنــاك قبــل اإلســام منــاذج حضاريــة يف التســامح
لــدى األمــم الغابــرة ،واألديــان الســالفة ،فالتســامح قيمــة إنســانية أضفــى
عليهــا اإلســام مســحة مــن الربانيــة ،حتــى جعلهــا يف سـلّم أولوياتــه ،وصريهــا
مــن ركائــز اهتامماتــه ،وال أدل عــى اهتــام اإلســام بهذه القيمــة من حديث
القــرآن الكريــم عــن منــاذج تســامحية رائعــة مــن ســر األمــم الســابقة ،ومــن
أنصــع تلــك النصــوص القرآنيــة مــا ورد يف قصــة ســيدنا يوســف عليــه وعــى
نبينــا محمــد صــى اللــه عليــه وســلم أفضــل الصــاة والســام مــن تســامحه
ـب َعلَي ُك ـ ُم ٱل َيــو َم يَغ ِف ـ ُر ٱللَّ ـ ُه لَ ُكــم َو ُه ـ َو
﴿ل تَرثِيـ َ
مــع إخوتــه إذ قــال لهــمَ :
أَر َح ـ ُم ٱل َّر ِٰح ِم ـ َن﴾(.)3
ولكــون هــذا املوقــف غايــة يف التســامح اســتعاره النبــي صــى اللــه عليــه
وســلم يف أعظــم موقــف للتســامح النبــوي ،يــوم قــال ألهــل مكة حــن فتحها:
- 1أبو الفرج األصفهاين ،عيل بن الحسني األصفهاين ،املتوىف سنة (356ه-976م) كتاب األغاين( ،تحقيق :د .إحسان عباس ،د.
إبراهيم السعافني ،األستاذ بكر عباس ،دار صادر ،بريوت ،ط 1429 ،3 .ه2008 ،م) ،ج 5ص .39
- 2محمد أحمد حسونة بك ومحمد خليفة التونيس ،التسامح يف اإلسالم( ،دار الكتاب العريب – مرص) ،ص 5إىل .14
- 3سورة يوسف؛ اآلية رقم.92 :
46
{ال أقــول لكــم إال كــا قــال يوســف إلخوتــه :ال ترثيــب عليكــم اليــوم}(.)1
ويحــر التســامح يف الثقافــة العربيــة قبــل اإلســام أيضً ــا ،وهنــاك حاجــة
للتدليــل عــى هــذه القضيــة وإثبــات هــذه املرحلــة مــن تاريــخ التســامح،
وعالقــة العــرب بــه ،ملــا قــد يصادفــه القــارئ أحيانــا مــن أن األصــل يف العــرب
وثقافتهــم وقيمهــم هــو االنتقــام والثــأر والعــداوة والبغضــاء والحــروب
والقتــل)2( .
والشــعر العــريب هــو الكفيــل بالفصــل يف هــذه القضيــة؛ ألنــه هــو ديــوان
العــرب وســجل ثقافتهــا وأيامهــا ،ومقاصــد الشــعر العــريب يف األســاس جلهــا
قيميــة ،تهــدف لرتســيخ مــكارم األخــاق وغرســها يف النــشء ،والحفــاظ عليهــا
مــن االندثــار ،فلهــذا كانــت العــرب متــدح عــى حســن األخــاق وصفــات
الكــرم واملــروءة ،والــرف والشــهامة ،والشــجاعة والرحمــة ،وغريهــا مــن
الصفــات مثــل الحكمــة والصــدق والصــر ،وتــذم عكــس ذلــك ،فالشــعر
يدعــو اىل مــكارم األخــاق ويعلــم محاســن األعــال ،ويبعــث عــى جميــل
األفعــال ،ويحــث عــى املناقــب وادخــار املــكارم ،وينهــى عــن األخــاق
الدنيئــة ،ويزجــر عــن مواقعــة الريــب ،ويحــض عــى معــاين الرتــب.
ومــا يُــروى يف ذلــك عــن ســيدنا عمــر ريض اللــه عنــه أنــه كان يقــول:
(تعلمــوا محاســن الشــعر فإنــه يــدل عــى مــكارم األخــاق) )3( .وكتــب عبــد
ُس ْوجِردي الخراساين ،أبو بكر البيهقي 458ه ،السنن الكربى، - 1البيهقي ،أحمد بن الحسني بن عيل بن موىس الخ ْ َ
(تحقيق :الدكتور عبد الله بن عبد املحسن الرتيك ،مركز هجر للبحوث والدراسات العربية واإلسالمية الدكتور /عبد السند
َعال ،رقم ( .)18323ج 18 :ص .384 :وابن باب فت ِح َم َّك َة َح َر َسها اللَّ ُه ت َ حسن ميامة ط1432 ،1 .هـ 2011 -م) ،كِ ِ
تاب القَسمِ ُ
هشام ،عبد امللك بن هشام بن أيوب الحمريي املعافري ،أبو محمد ،جامل الدين 213ه ،السرية النبوية( ،تحقيق :طه عبد
الرؤوف سعد ،رشكة الطباعة الفنية املتحدة) ،ج 9ص .118
- 2قرر الدكتور كامل اليازجي :أن العرب قليلو التسامح يف حقوقهم ،وهذا ما يفرس عدم تداول مصطلح التسامح عند
العرب ،ويستشهد عىل ذلك بالشعر العريب ،وبناء عىل هذا يقرر أن اإلنسان العريب ذوو إحساس مرهف ،ومزاج عصبي حاد
رسيع التأثر .انظر :اليازجي ،كامل ،يف الشعر العريب القديم النوازع الخلقية( ،بريوت ،دار الكتاب اللبناين ،الطبعة األوىل،
)1973ج /1ص .284
- 3الزمخرشي ،أبو القاسم محمود بن عمر 583هـ ،ربيع األبرار ونصوص األخبار( ،بريوت ،مؤسسة األعلمي ،الطبعة :األوىل،
1412هـ) ج /5ص.217
47
امللــك للحجــاج بــن يوســف ملــا منــع الشــعراء مــن الدخــول عليــه( :أجــز
الشــعراء فإنهــم يح ّبــون مــكارم األخــاق ،ويح ّرضــون عــى الـ ّر والســخاء))1( .
ونظم أبو متام هذا املعنى يف قوله:
ولوال خالل س ّنها الشعر ما درت ...بغاة العىل من أين تؤىت املكارم( )2
ويوضــح ابــن رشــيق يف هــذا النــص التاريخــي الشــهري ،الوظيفــة األخالقيــة
والقيمــة للشــعر فيقــول( :كان الــكالم كلــه منثــورا ً فاحتاجــت العــرب إىل
الغنــاء مبــكارم أخالقهــا ،وطيــب أعراقهــا ،وذكــر أيامهــا الصالحــة ،وأوطانهــا
النازحــة ،وفرســانها االنجــاد ،وســمحائها األجــواد ،لتهــز نفوســها إىل الكــرم،
وتــدل أبناءهــا عــى حســن الشــيم ،فتوهمــوا أعاريــض جعلوهــا موازيــن
الــكالم ،فلــا تــم لهــم وزنــه ســموه شــعرا ً؛ ألنهــم قــد شــعروا بــه أي فطنــوا
لــه))3( .
فالشــعر العــريب قبــل اإلســامي مــيء بالقيــم اإلنســانية ،وهــو منبــع
التســامح ،ومصــدر مــن مصــادره ،وهــذا مــا يفــره توجيــه األمئــة والعلــاء
والقــادة بتعليــم الشــعر ،وهنــاك منــاذج كثــرة مــن تلــك الكلــات الجامعــة
واألبيــات املعــرة التــي يحفظهــا العــرب وتغــرس فيهــم التســامح ،ومــن ذلــك
قــول عنــرة العبــي:
الغضب()4
ُ ينال ال ُعال من طَ ْب ُعه
الرتب ...وال ُ
الح ْق َد من تعلو به ُ يحمل ِ
ال ُ
وقــد اســتخدم عنــرة نفســه مصطلــح الســاحة يف شــعره ،وأرجعــه إىل
قيمــة املــروءة الكاملــة التــي هــي يف الحقيقــة منبــع التســامح ،وخاصــة لــدى
العــرب يف هــذه املرحلــة التاريخيــة قبــل اإلســام ،فهــي التــي تدلهــم عــى
الفضائــل وتحــول بينهــم وبــن الرذائــل ،يقــول عنــرة بــن شــداد:
- 1أبو املعايل ،بهاء الدين البغدادي ،محمد بن الحسن بن حمدون 562هـ ،التذكرة الحمدونية( ،بريوت ،دار صادر ،الطبعة
األوىل 1417هـ) ج /2ص.110
- 2نفسه ،ص.110 :
- 3ابن رشيق أبو عيل ،الحسن القريواين 463هـ ،العمدة يف محاسن الشعر وآدابه تحقيق :محمد محيي الدين عبد
الحميد( ،بريوت ،دار الجيل ،الطبعة الخامسة 1401 ،هـ) ج /1ص.20
- 4عنرتة بن شداد ،ديوان عنرتة ،نرش خليل الخوري( ،بريوت ،مطبعة اآلداب ،الطبعة الرابعة ،سنة )،1893 :ص.12:
48
َوأَغ َُّض طَريف ما بَ َدت يل جا َريت َ ...حـتّـى يُــواري جا َرتــي َمأواهـا
َجوج َهواها()1 فس الل َ مح ال َخلي َق ِة ماجِـ ٌد ...ال أُت ِب ُع ال َن َ
إِ ّن اِم ُر ٌؤ َس ُ
ونجــد عنــد شــاعر جاهــي آخــر ،وهــو عــروة بــن الــورد العبــي منوذجــا
آخــر مــن التســامح يتمثــل يف إيثــار غــره عــى نفســه ،وأنــه يقســم طعامــه
بينــه وبــن الفقـراء مــع جوعــه ،مكتف ًيــا بــرب املــاء البــارد ،مــن أجــل دفــع
غوائــل البــؤس والشــقاء عــن البؤســاء والضعفــاء فيقــول:
وم كثري ٍة ...وأَ ْح ُسو قَر َ
اح املاء واملا ُء بار ُد()2 أُق َِّس ُم ج ِْس ِمي يف ُج ُس ٍ
ويقــرر الشــنفرى يف الميتــه معنــى رائقــا للتســامح ،ونظريــة جميلــة ،بحيــث
ال يــرى أن هنــاك دواعــي للعــداوات والبغضــاء واألذيــة ،حــن يقــول:
ويف األرض منأى للكريم عن األذى … وفيها ملن خاف القىل متحـ ّول
لعمرك ما باألرض ضيق عىل امرئ … رسى راغبا أو راهبا وهو يعقل()3
وكيــف ميكــن نفــي هــذه املرحلــة التاريخيــة مــن تاريــخ التســامح ويف
العــرب حكــاء شُ ــبه كالمهــم بــكالم األنبيــاء ،يحتــوي عــى قيــم التســامح
الكثــرة املتناثــرة يف أشــعارهم ،لتعــدد أغراضــه وموضوعاتــه ،فهــي تنبعــث
مــن البيئــة العربيــة التــي ترشبــت النزعــة اإلنســانية ،ومنهــا الدعــوة للتحــي
بالفضائــل واملــكارم والقيــم ،فــكل قيمــة أصيلــة نجــد مــن الشــعر العــريب مــا
يؤيدهــا ويــدل عليهــا ويرثيهــا ،حتــى ألفــت مؤلفــات يف تتبع ذلك واســتقصاء
مواضيعــه يف كتــب اآلداب واألمثــال والدواويــن الشــعرية ورشوحهــا.
ومــن حكامئهــم املشــهورين زهــر بــن أيب ســلمى الــذي كان حكيــم الشــعراء
يف الجاهليــة ،أحــد األربعــة الذيــن وقــع عليهــم االتفــاق عــى أنهــم أشــعر
العــرب ،ولــه يف شــعره مواقــف تســامحية مهمــة ،وعــى رأســها أن زهــر بــن
أيب ســلمى يف معلقتــه الشــهرية كــرم فيهــا صانعــي الســام ،ومــدح الرجلــن
- 1نفسه ،ص.93
- 2عروة بن الورد ،ديوان عروة بن الورد أمري الصعاليك ،تحقيق :أسامء أبوبكر محمد( ،بريوت دار الكتب العلمية ،الطبعة
األوىل ،سنة 1418هـ) ص.61:
- 3ابن حمدون ،التذكرة الحمدونية :ج/2ص.53
49
اللذيــن كانــا الســبب يف إيقــاف حــرب البســوس التــي امتــدت ألربعــن ســنة،
ليــرز هنــا دور الشــعر يف صناعــة التســامح ودعمــه ،فيقــول يف قصيدتــه:
يـش َو ُج ْر ُه ِـم ِجال بَن َـ ْو ُه مـن قُ َر ٍ فَأَق َْس ْم ُت بال َب ْي ِت الذي َ
طاف ح ْولَ ُه ...ر ٌ
كـل حا ٍل ِمـ ْن َسحيلٍ َو ُمبـْ َر ِم السيّـــدانِ ُو ِجدْتُ ــــَا ...عىل ّ َيي ًنـا لَ ِن ْعــ َم ّ
نشـم
ت َ َدا َركتُمـا َع ْب ًســا َوذُبيــان بَ ْع َدمـ َـا ...تَفَانَوا َو َدقّوا بَي َنهـم عطـ َر َم ِ
َسلـم()1
روف مـن القـول ن ِ السل َم َواس ًعـا ...مبا ٍل َو َمع ْـ ٍ وقد قلتام :إ ْن نُ ْدرِك ّ
ومــن قصائــده الشــهري قصيــدة قيــل عنهــا بأنهــا :تشــبه كالم األنبيــاء وهــي
مــن أحكــم حكــم العــرب( ،)2وهــي دعــوة للمــداراة والتصانــع ،والبعــد عــن
الشــتيمة ،وإعطــاء الفضــل ،وتكريــم النفــس ،وإضــار األخــاق الفاضلــة
وهــي قيــم فاعلــة يف التســامح ،يقــول فيهــا:
َو َمــ ْن ال يُصـانـ ْع فـي أمــو ٍر كَ ِثيــ َر ٍة ...يُـضـ َّر ْس ِبأَنيـاب َويُـوطـأ بِ َـ ْن ِ
ـسم
املعروف من دون ِع ْر ِض ِه ...يَف ْر ُه و َمـ ْن ال يَتّقـي الشَ تْ َم يُشتَـم َ َو َم ْن يجعلِ
َو َمـ ْن يَ ُـك ذَا فَضْ ـلٍ ويَ ْب َخ ْـل ِبفَضْ لِــ ِه ...عىل قَ ْو ِمـ ِه يُ ْستَـ ْغ َن َع ْنـ ُه ويُ ْذ َم ِـم
َو َم ْن يَ ْغتَـر ِْب يَ ْح ِس ْب َعـ ُد ّوا ً َصديقَـ ُه َ ...و َمــ ْن ال يُكَــ ِّر ْم نَـف َْسـ ُه ال يُـكَـ َّرم
اس تُ ْعل َِم()3 هم ت ُك ْن عن َد أمـرئ ِمـ ْن َخلِيقــ ٍة ...وإِ ْن خالَها ت َ ْخفَى َعىل ال َن ِ َو َم َ
إن الشــعر العــريب يف الحقيقــة هــو حــارس للقيــم اإلنســانية والفضائــل
النفســية ،وهــو يف ذاتــه حــرب عــى التطــرف والغلــو يف غالــب أحوالــه.
وقــد كان للشــعر يف هــذه املرحلــة دور أســايس يف توثيــق القيــم اإلنســانية
املشــركة بــن جميــع األف ـراد والشــعوب ،والقبائــل عــى اختــاف ثقافاتهــا
وانتامءاتهــا؛ ألن هــدف الشــعر ومقصــده هــو الجــال والــذوق الرفيــع ،وال
- 1األعلم أبو الحجاج ،يوسف بن سليامن476 :هـ ،أشعار الشعراء الستة الجاهليني ،تحقيق :إبراهيم شمس الدين،
(بريوت ،دار الكتب العلمية ،الطبعة األوىل ،سنة 1422هـ) ج /1ص.65
- 2الثعالبي أبو منصور ،عبد امللك بن محمد ،لباب اآلداب ،تحقيق :أحمد حسن لبج (بريوت ،دار الكتب العلمية ،الطبعة
األوىل 1417 ،هـ) ص.108
- 3نفسه ،ص.109 ،108 :
50
نجــد شــيئا يقــف حائــا دون التعبــر عــا يـراه الشــاعر ومــا يحــس بــه تجــاه
اآلخــر ،يدفعــه لذلــك مــا يجــده مــن التــذوق والوحــي الجــايل الروحــي)1( .
ويف ســياق حديثنــا عــن التســامح قبــل اإلســام ال ميكننــا إهــال ذلــك الحلف
التســامحي الخالــد الــذي ســجله التاريــخ لقريــش بحــروف مــن ذهــب؛
إنــه حلــف الفضــول ،الــذي تخلصــت فيــه قريــش مــن عصبيتهــا وقبليتهــا،
ومتســكت مبــا دعتهــا إليــه فطرتهــا ،فاتفقــت بعــض قبائلهــا عــى أن ال يجــدوا
مبكــة مظلومــا مــن أهلهــا ،وال مــن ســائر النــاس ممــن دخلهــا؛ إال قامــوا
معــه ،حتــى تــرد عليــه مظلمتــه( .)2فــكان هــذا الحلــف مــن األحــاف التــي
أســهمت يف إحــال الســام ،ونــر التســامح والوئــام ،قبــل مجــيء اإلســام.
وإن مــن محاســن األقــدار؛ حضــور رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم هــذا
الحلــف وهــو شــاب مل يــوح إليــه بعــد ،قــال عليــه الصــاة والســام{ :لقــد
شــهدت حلفــا مــا أحــب أن يل بــه حمــر النعــم ،ولــو أدعــى بــه يف اإلســام
ألجبــت}()3
- 1من أجل التوسع أكرث يف دور الشعر العريب وأهميته يف التسامح الديني وحضوره يف هذه الوسيلة األدبية ،يراجع :تريك
الدخيل ،التسامح زينة الدنيا والدين( ،ديب ،دار مدارك للنرش والتوزيع ،إبريل عام )2019ص .56
- 2ابن هشام ،السرية النبوية :ج 1ص .134
اب إِ ْعطَا ِء الْف َْي ِء َع َل الدِّي َوانِ َو َم ْن يَ َق ُع ِب ِه الْ ِبدَايَةُ ،رقم: ِ م ي ِ
ن غ
َ ل او ِ
اب ق َْسمِ الْف ْ َ َ َ ُ
ب ، ة ْ ء َي - 3البيهقي ،السنن الكربى ،كِتَ ُ
( )13211ج 13ص .345
51
وأذكــر هنــا ثالثــة نصــوص رئيســة تعتــر مــن أوائــل النصــوص الدســتورية
التــي انتظمــت بهــا قضيــة التســامح:
ـى ـاس إِنَّــا َخلَق َٰن ُكــم ِّمــن َذكَ ـ ٖر َوأُنثَـ ٰ .1آيــة الحج ـرات املدنيــة﴿ :يَٰٓأَيُّ َهــا ٱل َّنـ ُ
ــل لِتَ َعا َرفُــ ٓوا ْ إِ َّن أَك َر َمكُــم ِعنــ َد ٱللَّــ ِه أَت َق ٰىكُــم إِ َّن َو َج َعل َٰنكُــم شُ ــ ُعوبٗا َوقَ َبآئِ َ
ٱللَّـ َه َعلِيـ ٌم َخ ِبــر﴾( ،)1يقــرر هــذا النــص القــرآين أن حكمــة االختــاف هــي
التعــارف ،والتعــاون ،وتبــادل املنافــع ،وحصــول كل شــعب عــى مــا عنــد
اآلخــر ،بغــض النظــر عــن ال ِّديــن واالنتــاءات العرقيــة واملذهبيــة ،وجــاءت
نصــوص أخــرى قرآنيــة ونبويــة تعضــد هــذا النــص وتوضــح صــوره الكثــرة يف
الرشيعــة اإلســامية.
.2وثيقــة املدينــة املنــورة :هــذا نــص آخــر يــدل عــى التســامح والتعدديــة
الدينيــة ،وهــذه املــرة ورد يف أول وثيقــة نبويــة متثــل دســتورا ينظــم عالقــات
ســكان املدينــة مبختلــف طوائفهــم وأجناســهم ،يقــول فيهــا النبــي صــى اللــه
عليــه وســلمَ { :وإِ َّن يَ ُهــو َد بَ ِنــي َع ـ ْو ٍف أُ َّم ـ ٌة َم ـ َع الْ ُم ْؤ ِم ِن ـ َن ،لِلْ َي ُهــو ِد ِدي ُن ُه ـ ْم،
َولِلْ ُم ْسـلِ َم ْ ِي ِدي ُن ُهـ ْمَ ،م َوالِي ِهـ ْم َوأَنْف ُُسـ ُه ْمَّ ،إل َمـ ْن ظَلَـ َم َوأَثِـ َم ،فَ ِإنَّـ ُه َل يُوتِـغُ()2
ـر َعـ َـى َم ـ ْن َحــا َر َب أَ ْهـ َـل َهـ ِـذ ِه َّإل نَف َْس ـ ُهَ ،وأَ ْهـ َـل بَ ْي ِت ـ ِهَ ...،وإِ َّن بَ ْي َن ُه ـ ْم ال َّنـ ْ َ
ْــم}( ) .وســيأيت 3
ْــر ُدو َن الْ ِث ِ ــح َوال َّن ِصي َحــ َةَ ،وال ِ َّ الص ِحيفَــ ِةَ ،وإِ َّن بَيْ َن ُهــ ْم ال ُّن ْص َ َّ
الحديــث مفصــا عــن هــذه الوثيقــة وبنودهــا.
.3خطبــة حجــة الــوداع :التــي ورد فيهــا هــذا القــول النبــوي صــى اللــه
احـ ٌد أَ َل َل فَضْ ـ َـل احـ ٌد َوإِ َّن أَبَاكُـ ْم َو ِ ـاس إِ َّن َربَّ ُكـ ْم َو ِ عليــه وســلم} :يَــا أَيُّ َهــا ال َّنـ ُ
ـي َو َل ِلَ ْس ـ َو َد َعـ َـى أَ ْح َم ـ َر إِ َّل بِالتَّ ْق ـ َوى َخ ْ ُيكُ ـ ْم ِع ْن ـ َد اللَّ ـ ِه لِ َع ـ َر ِ ٍّب َعـ َـى َع َج ِمـ ٍّ
أَتْقَاكُ ـ ْم{(.)4
فهــذه النصــوص الكــرى أدلــة قاطعــة ،وأصــول حاكمــة لقضيــة التســامح،
52
ولــكل منهــا فــروع وأفنــان ،تنــدرج تحتهــا؛ توضحهــا وتبينهــا .وتجــدر اإلشــارة
املؤسســة الثــاث؛ كلّهــا كانــت منتميــة للفــرة هنــا إىل أن هــذه النصــوص ِّ
املدنيــة ،وآخرهــا كان قبــل وفــاة النبــي صــى اللــه عليــه وســلم بشــهور.
فيكفــي الرشيعــة اإلســامية أنهــا أسســت للتســامح نظريــا ،ويكفــي شــاه ًدا
ودليـ ًـا هــدي النبــي صــى اللــه عليــه وســلم الــذي طبــق تلــك النصــوص
عمليًّــا يف مختلــف الوقائــع ،وســائر األحــداث ،وال حجــة ملــن تشــبث ببعــض
الحــوادث التــي أســفر عنهــا تاريــخ املســلمني ملحاجــة هــذا األصــل الثابــت،
فقــد يرينــا تاريــخ املســلمني يف بعــض أزمنتــه ضع ًفــا يف تطبيــق التســامح،
وقــد يكــون مــرد ذلــك الضعــف علــو األهــواء ،وقلــة العلــم عــن اللــه تعــاىل،
وال يضــر ذلــك التأصيــل الرشعــي لهــذه القضيــة ،أو بخــس التســامح حظــه
مــن مكانتــه يف اإلســام ،إذ التســامح مــن خصائصــه ،يقــول الطاهــر بــن
عاشــور« :يحــق لنــا أن نقــول :إن التســامح مــن خصائــص ديــن اإلســام وهــو
أشــهر مميزاتــه ،وأنــه مــن النعــم التــي أنعــم بهــا عــى أضــداده وأعدائــه،
وأدل حجــة عــى رحمــة الرســالة اإلســامية»(.)1
وكيــف تُقـ َّدم الرشيعــة اإلســامية مــن دون تســامح؟ إن هــذا مــا ال ميكــن
تصــوره ،فمــكارم األخــاق التــي جــاءت بهــا الرشيعــة اإلســامية هدفهــا
التســامح؛ وعلــاء اإلســام برتاثهــم العلمــي العريــق قــد رضبــوا بســهم وافــر
يف بنــاء هــذه القيمــة ،وتأســيس تلــك الفضيلــة؛ إذ ال تخلــو كتبهــم مــن
فيوضاتهــا ،وال تتجــرد كلامتهــم مــن نــر حكمهــا ،أو نظــم فرائدهــا.
إن اإلســام منــذ القــدم قــد أجــرى اإلمنــاء عــى هــذه القيمــة ،مــا جعــل
منهــا ثقافــة متجــذرة يف املســلمني ،موصولــة الجــذور بعاداتهــم العربيــة
وفطرتهــم اإلنســانية ،وال أدل عــى ذلــك مــن كــرة اســتعامالت مفــردات
التســامح يف ال ـراث اإلســامي ،فقــد اســتعمل أبــو الطيــب املتنبــي مفــردة
التســامح يف شــعره عندمــا قــال:
حقوقك كلها ومن ذا الذي يُرخي سوى من تسامح»()2 َ «ومن ذا الذي يقيض
- 1ابن عاشور؛ أصول النظام االجتامعي :ص .229
- 2الواحدي ،أبو الحسن عيل بن أحمد بن محمد بن عيل الواحدي ،النيسابوري ،الشافعي 468ه ،رشح ديوان املتنبي ،ج
1ص .262
53
يقــول الواحــدي يف بيــان معنــاه« :حقوقــك عــى النــاس أكــر مــن أن يقــدر
أحــد عــى القيــام بقضائهــا ،ومــن ذا الــذي يرضيــك بقضــاء حقوقــك غــر مــن
تســامحه وتســاهله»( .)1وقــال أبــو ســليامن الخطــايب:
وأبقِ فلم يستقص ق ُّط كريم»(.)2 «تسامح وال تستوف حقّك كلَّه
فالتسامح إذن متجذر يف الثقافة العربية واإلسالمية.
54
التســاهل ،إذ كان يــؤذن بقلــة متســك املســلم بدينــه ،فتعــن لفــظ التســامح
للتعبــر عــن هــذا املعنــى ،وهــو لفــظ رشــيق الداللــة عــى املعنــى املقصــود
ال ينبغــي اســتبداله بغــره»(.)1
.2إدراجــه ضمــن علــم مقاصــد الرشيعــة :فنجدهــم يطلقونــه مبعنــى
التيســر الــذي يعــد الصبغــة العامــة للرشيعــة اإلســامية ،وقــد تقــدم تعريف
ابــن عاشــور للســاحة التــي أوردهــا يف كتابــه مقاصــد الرشيعــة.
ونجــد الحجــوي الثعالبــي الفــايس املغــريب أيضــا يســتعمل هــذا املصطلــح
مبعنــى التيســر والســعة فيقــول« :مذهــب الحنفيــة أوســع املذاهــب وأكرثها
تســام ًحا عــى وجــه اإلجــال ،وأيرسهــا للمجتهــد»(.)2
عــى أن املصطلــح الــذي أكــر منــه علــاء املقاصــد هــو الســاحة ،ومــن
أوائــل مــن اعتنــى بــه وأعــاده وأبــداه :ويل اللــه الدهلــوي يف كتابــه حجــة
اللــه البالغــة ،واقتــدى بــه املقاصديــون بعــد ذلــك(.)3
.3إعــان املؤسســات الدوليــة العامليــة مبــادئ التســامح :ففــي عــام1995 :
مل يعــد التســامح مجــرد خلــق وقيمــة ،بــل أصبحــت لــه مبــادئ وقوانــن
تنظمــه ،تحــت إرشاف املؤسســات الدوليــة العامليــة ،مثــل األمــم املتحــدة،
فبمناســبة العيــد الخمســن لليونســكو يف 16نوفمــر 1995م ،اعتمــدت
الــدول األعضــاء إعــان مبــادئ التســامح ،وقــررت األمــم املتحــدة ،مببــادرة
مــن اليونســكو ،إعــا َن الســنة نفســها ســنة األمــم املتحــدة الدوليــة للتســامح
التــي تحتفــل خاللــه املنظمتــان بعيدهــا الخمســن(.)4
55
كــا أصــدرت املنظمــة اإلســامية للرتبيــة والعلــوم والثقافــة« :إيسســكو» يف
تعزيــز مبــادئ التســامح كتابًــا باســم «مفهــوم التعايــش يف اإلســام» يوضــح
تلــك املبــادئ مــن منظــور إســامي.
.4تبنــي دولــة اإلمــارات العربيــة املتحــدة اسـراتيجية التســامح :فقــد وصــل
التســامح يف دولــة اإلمــارات العربيــة املتحــدة إىل أفضــل حاالتــه ،حيــث أصبح
للتســامح مؤسســات تنظمــه ،وتــرع القوانــن مــن أجــل حراســته وتنميتــه،
وتســعى يف ترســيخه ،وتتبنــى دراســات ومشــاريع مــن أجــل نــره ،ففــي
فربايــر 2016م ،وافــق مجلــس الــوزراء املوقــر عــى إنشــاء وزارة التســامح يف
دولــة اإلمــارات ،وتعيــن وزيــر دولــة للتســامح فيهــا(.)1
وتعمــل هــذه الــوزارة عــى دعــم قيــم التســامح ،واحــرام التعدديــة،
والقبــول باآلخــر ،وتكريــس هــذا النهــج ثقافــة إماراتيــة أصيلــة ،فهــي تقــوم
عــى دعمهــا وتطويرهــا ،وتعزيزهــا عــى املســتويني الوطنــي واإلقليمــي،
ومــن أجــل تحقيــق ذلــك اعتمــد مجلــس الــوزراء يف الســنة نفســها الربنامــج
الوطنــي للتســامح ،وهــو برنامــج اس ـراتيجي يــرف عــى مؤسســات عــدة،
وأنشــطة مختلفــة ،تركــز عــى إعــداد دراســات جــادة ودقيقــة حــول قيــم
التســامح ومجاالتهــا( .)2وســيأيت الحديــث عــن هــذا مفصــا.
- 1وقد التقيت مبعايل الشيخة لبنى القاسمي يف بدايات عملها يف الوزارة واستعرضت لها خطة هذا البحث وتطلعايت يف
هذه األطروحة ،فرحبت بالفكرة ،وأمدتني ببعض األفكار الرائقة ،ودعمتني ببعض الدراسات ،فجزاها الله خري الجزاء.
كام ترشفت بالسفر مع معايل الشيخ نهيان بن مبارك بعد تعيينه وزي ًرا للتسامح وأفدت منه كث ًريا يف هذا البحث.
- 2البوابة الرسمية لحكومة دولة اإلمارات ،موقع إلكرتوين.
https: government.ae ar-AE about-the-uae the-uae-government government-of-future tolerance-in-
the-uae
56
الفصل الثاين :أهمية التسامح ومظاهره وآثاره؛ وتحته ثالثة
مباحث:
املبحث األول :أهمية التسامح.
املبحث الثاين :مظاهر التسامح وتجلياته.
املبحث الثالث :آثار التسامح ومثراته.
الفصل الثاين :أهمية التسامح ومظاهره وآثاره:
إن التســامح والرتكيــز عليــه ال يعــد مــن فضــول القــول وال ترفًــا ثقافيًّــا ،بــل
هــو حاجـ ٌة ملحــة ال ســيام يف هــذا العــر؛ ألن بــاب التالقــي بــن الشــعوب
قــد فُتــح عــى مرصاعيــه ،ومل يعــد بــن اإلنســان واإلنســان حاجــب ،بــل
أصبــح هــذا العــامل الشاســع مــع وجــود أدوات التواصــل قريــة واحــدة ،بــل
هــو مجمــوع بــن يــدي املــرء يف شاشــة هاتفــه ،ويعنــي ذلــك كلــه؛ أنــه ال
مفــر مــن التعايــش الســليم ،وال ميكــن أن يتحقــق ذلــك إال برتســيخ ثقافــة
التســامح.
فالتســامح مــن األخــاق الجوهريــة ،والقيــم املحوريــة ،التــي مــا فتئــت
ـدل عــى ارتبــاط املــرء باملــكارم ،واتصالــه بالشــيم والفضائــل ،فمــن اختــار تـ ّ
التســامح فقــد أقــام حــق مــكارم األخالق .والتســامح هــو القانون الــذي يكبح
كل منــاوأة ومنازعــة؛ فالنــاس مجبولــون عــى جلــب مصالحهــم ودفــع مــا
ـخص ورسوره ،يجــر رض ًرا لغــره ،ولرب ـرب عمــل فيــه مصلحــة شـ ٍ يرضهــم ،ولـ ّ
إحجــام إنســان عــن الــرر ،قــد يحــرم آخــر الظفــر ،وهكــذا هــذه الطبيعــة
التــي تفــي عنــد التعــارض إىل تغالــب النــاس وتنازعهــم ،وال يكبــح تلــك
الطبائــع عــن انتشــاب الخطــر بهــا إال أن تحتكــم إىل خلــق التســامح ،ليمتــد
جــر العالقــات الحســنة بــن النــاس؛ فيتجــى عــى إثــر ذلــك انتشــار قيــم
األلفــة واملســاملة يف املحيــط القريــب بــن األرسة والجــار واملجتمــع ،ويتعــدى
ذلــك إىل املحيــط البعيــد ممــن تجمعنــا بينهــم املشــركات اإلنســانية.
وعليــه ،فالتســامح يف أهميتــه البالغــة هــو الضامنــة األســاس الســتقرار
املجتمعــات وتنميتهــا ،وقــد عقــدت هــذا الفصــل ألكشــف اللثــام عــن معاقد
أهميتــه الرشعيــة واإلنســانية ،وتجليــات تلــك األهميــة ،وأثرهــا عــى األفـراد
واملجتمعــات ،وقــد جعلتــه يف مبحثــن:
58
املبحث األول :أهمية التسامح ويشتمل عىل ثالثة مطالب
املطلب األول :التسامح فريضة رشعية:
إن التســامح أمــر ربــاين ،وواجــب دينــي ،دلــت عليــه آيــات القــرآن الكريــم
املتعــددة ،وهــدي الرســول صــى اللــه عليــه وســلم الجــي ،وإن ســيادة هــذا
الخلــق بــن النــاس ،عــى اختــاف معتقداتهــم وأديانهــم وأجناســهم؛ دعــت
إليــه عموميــات الرشيعــة ونصوصهــا ومقاصدهــا املرعيــة ،وقيمهــا اإلنســانية.
فالتســامح الــذي يدعــو الح ـرام اإلنســان وقبولــه( ،)1والتواصــل الحضــاري
معــه ،وإلغــاء التعصــب والكراهيــة ،وكل مــا يكــرس العنــف يف املجتمعــات؛
هــو لــب تعاليــم الديــن اإلســامي الحنيــف ،فنجدهــا تُركــز عليــه وتراعيــه يف
مختلــف ترشيعاتهــا.
فــكل األوامــر ال ِق َي ِم َّيــة الرشعيــة التــي تحــض عــى األخــاق الفاضلــة؛ -والتــي
منهــا العفــو والصفــح واإلحســان واملحبــة والحلــم والصلــة والرفــق واللــن
ومقابلــة الســيئة بالحســنة -مبجمــوع أجزائهــا ،ومنثــور أوامرهــا ،دالــة عــى
أن التســامح فريضــة رشعيــة ،قــد وضــع لهــا اإلســام أسســا راســخة ...وعقــد
لهــا املســلمون مواثيــق متينــة يف تاريخهــم(.)2
وبالنظــر إىل تلــك األســس الراســخة للتســامح ،والتأمــل يف طبيعــة توجهاتهــا
الرشعيــة ،نجــد أنهــا تتفاعــل يف دوائــر ثالثــة:
الدائــرة األوىل :دائــرة شــخصية؛ وذلــك بتأهيــل النفــس اإلنســانية لقابليــة
التســامح ،ويكــون ذلــك بغــرس األخــاق الحســنة فيهــا ،ويف هــذه املرتبــة
ت ُفهــم األوامــر املوجهــة للنبــي صــى اللــه عليــه وســلم بالعفــو والصفــح،
ـح ٱل َج ِميـ َـل﴾( .)3وقولــه عــز وجــل: ٱلصفـ َ
مثــل قــول اللــه تعــاىل﴿ :فَٱص َف ـ ِح َّ
- 1املقصود بهذا الحكم هو التسامح بهذا املعنى ،أما املسامحة التي تعني إسقاط الحق والعدل فهذه فضل غري واجب،
صو َن َو َج َزا ُء َسيِّئَ ٍة َسيِّئَ ٌة ِمثْلُ َها فَ َم ْن َعفَا َوأَ ْصل ََح
وعليها تدل أدلة عديدة منها قوله تعاىلَ { :وال َِّذي َن إِذَا أَ َصابَ ُه ُم الْبَغ ُْي ُه ْم يَ ْنتَ ِ ُ
فَأَ ْج ُر ُه َع َل اللَّ ِه إِنَّ ُه َل يُ ِح ُّب الظَّالِ ِم َني} [الشورى.]40 :
- 2ابن عاشور؛ محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونيس 1393ه ،أصول النظام االجتامعي يف
اإلسالم( ،الرشكة التونسية للتوزيع – تونس ،املؤسسة الوطنية للكتاب – الجزائر ،ط ،)2 .ص .230
- 3سورة الحجر ،اآلية.85 :
59
ـوف يَعلَ ُمــونَ﴾(.)1 ﴿فَٱص َفــح َعن ُهــم َوقُــل َس ـلَٰ ٞم ف ََسـ َ
الدائــرة الثانيــة :االنتقــال بهــذه األخــاق الشــخصية إىل املرحلــة التطبيقيــة،
فيتحقــق التعامــل بهــا مــع القريــب املحيــط باإلنســان ،ومــن هنــا ُشع يف
كل مــا يحقــق التســامح مــع األرسة؛ مــن صلــة األرحــام والعــرة اإلســام ُّ
الحســنة ..وأوامــر ذلــك يف الرشيعــة كثــرة ،ومنهــا قولــه تعــاىلَ ﴿ :و َل يَأتَــلِ
ـرب َوٱمل ََٰسـ ِك َني َوٱمل ُ َٰه ِجرِيـ َن ِفٱلسـ َع ِة أَن يُؤت ُـ ٓوا ْ أُ ْو ِل ٱل ُقـ َ ٰأُ ْولُــوا ْ ٱلفَضــلِ ِمن ُكــم َو َّ
َسـبِيلِ ٱللَّـ ِه َول َيع ُفــوا ْ َول َيص َف ُحـ ٓوا ْ أَ َل ت ُِح ُّبــو َن أَن يَغ ِفـ َر ٱللَّـ ُه لَ ُكــم َوٱللَّـ ُه َغ ُفــو ٞر
َّر ِحيــم﴾(.)2
الدائــرة الثالثــة :الدائــرة البعيــدة مــع املخالفــن؛ بقبولهــم واحرتامهــم،
والتعــارف معهــم ،وأمثلــة ذلــك أيضــا كثــرة يف القــرآن الكريــم ،منهــا قــول
حس ـ ُن فَ ـ ِإذَا ٱلَّـ ِـذي بَي َنـ َـك َوبَي َن ـ ُه َع ـ َٰد َو ٞةـي أَ َ اللــه تعــاىل﴿ :ٱدفَــع بِٱلَّ ِتــي ِهـ َ
كَأَنَّـ ُه َو ِ ٌّل َح ِميـ ٞم﴾( .)3قــال اإلمــام الطــري يف تفســرهاَ « :م ْع َنــى َذلِـ َـك :ا ْدفَـ ْع
ِالسـ َـا ِم َعـ َـى َم ـ ْن أَ َســا َء إِلَ ْيـ َـك إِ َســا َءت َ ُه»(.)4
ب َّ
وبعــد بيــان طبيعــة تلــك الدوائــر الثالثــة ،نــرع يف ذكــر بعضهــا ،وننبــه إىل
أن األدلــة الدالــة عــى وجــوب التســامح نوعــان:
النــوع األول :األدلــة الرصيحــة اآلمــرة بالتســامح بلفظــه ،وهــي قليلــة ،ومنهــا
الحديــث النبــوي الــذي رواه ابــن عبــاس ريض اللــه عنهــا عــن رســول اللــه
}اس ـ َم ْح ،يُ ْس ـ َم ْح لَـ َـك{( .)5وعــن عطــاء صــى اللــه عليــه وســلم أنــه قــالْ :
}اسـ َم ُحوا يُ ْسـ َم ْح لَ ُكـ ْم{( ).
6
مرسـ ًـا أن النبــي صــى اللــه عليــه وســلم يقــولْ :
60
ففــي هذيــن الحديثــن األمــر بالســاحة والتســامح ،وأن الجـزاء مــن جنــس
العمــل ،وقــد ورد األمــر متنــوع الصيغــة؛ مــرة بصيغــة املفــرد ،ليــدل عــى
تســامح األفـراد ،وأخــرى بصيغــة الجمــع ،ليفيــد أن التســامح قيمــة جامعيــة
مشــركة بــن النــاس جمي ًعــا ،وهــذا مــا فهمــه مــن هــذا الحديــث بعــض
الـراح ،يقــول املنــاوي« :أي :عامــل ال َخلــق الذيــن هــم عيــال اللــه وعبيــده
باملســامحة واملســاهلة؛ يعاملْــك ســيدهم مبثلــه يف الدنيــا واآلخــرة .ويف
اإلنجيــل :إن غفرتــم للنــاس خطاياهــم غفــر لكــم أبوكــم الســاوي خطاياكــم،
وإن مل تغفــروا للنــاس خطاياهــم مل يغفــر لكــم ...وهــذا مــن اإلحســان املأمور
بــه يف القــرآن املتعلــق باملعامــات ،وهــو حــث عــى املســاهلة يف املعاملــة
وحســن االنقيــاد ،وهــو مــن ســخاوة الطبــع ،وحقــارة الدنيــا يف القلــب ،فمــن
مل يجــده مــن طبعــه فليتخلــق بــه ،فعــى أن يســمح لــه الحــق مبــا قــر
فيــه مــن طاعتــه ،وعــر عليــه يف االنقيــاد إليــه يف معاملتــه ،إذا أوقفــه بــن
يديــه ملحاســبته»(.)1
النــوع الثــاين مــن األدلــة :وهــي أدلــة عامــة بعضهــا يــدل عــى التســامح
مع ًنــى ،وبعضهــا يدعــو إىل أخــاق التســامح مع ًنــى ومب ًنــى ،ومعاقــد هــذه
األدلــة ترجــع إىل أربعــة أســس:
األســاس األول :أن التســامح قاعــدة أخالقيــة يف التعامــل مــع جميــع النــاس،
وهــذا راجــع كــا تقــدم إىل الدائــرة األوىل؛ وهــي املعيــار الخلقــي ودوره
األســاس يف التســامح ،وقــد أمــر اللــه تعــاىل نبيــه عليــه الصــاة والســام
بالعفــو عــن املخالفــن والصفــح عنهــم؛ فقــال تعــاىلُ ﴿ :خـ ِـذ ٱل َعف ـ َو َوأ ُمــر
ـرف َوأَع ـرِض َعــنِ ٱل َٰج ِهلِ ـ َن﴾( .)2فاملقصــود بالعفــو يف هــذه اآليــة هــو بِٱل ُعـ ِ
معنــى التســامح املتقــدم بيانــه وهــو املســاهلة ،يقــول الـرازي يف تفســره« :ال
نُســلم أن العفــو هــو إســقاط الحــق ،بــل املـراد مــن قولــه﴿ :فَ َمـ ْن ُع ِفـ َ
ـي لَـ ُه
ش ٌء﴾( .)3أي فمــن ســهل لــه مــن أخيــه يشء ،يقــال :أتــاين هــذا ِم ـ ْن أَ ِخي ـ ِه َ ْ
املــال عفــوا صفــوا ،أي ســهال ،ويقــال :خــذ مــا عفــا ،أي مــا ســهل ،قــال اللــه
61
ــذ الْ َعفْــ َو﴾( .)2(»)1وبــن ذلــك مبعنــى أوضــح يف موطــن آخــر تعــاىلُ ﴿ :خ ِ
فقــال« :إذا عرفــت هــذا فنقــول :الحقــوق التــي تســتوىف مــن النــاس وتؤخــذ
منهــم ،إمــا أن يجــوز إدخــال املســاهلة واملســامحة فيهــا ،وإمــا أن ال يجــوز.
أمــا القســم األول :فهــو املـراد بقولــهُ ﴿ :خـ ِـذ الْ َع ْفـ َو﴾( ،)3ويدخــل فيــه تــرك
التشــدد يف كل مــا يتعلــق بالحقــوق املاليــة ،ويدخــل فيــه أيضــا التخلــق مــع
النــاس بالخلــق الطيــب ،وتــرك الغلظــة والفظاظــة»(.)4
ومــن تلــك اآليــات الداعيــة للتخلــق بأخــاق التســامح أيضــا قولــه تعــاىل:
﴿قُــل �لِّل َِّذي ـ َن َءا َم ُنــوا ْ يَغ ِف ـ ُروا ْ لِل َِّذي ـ َن َل يَر ُجــو َن أَيَّــا َم ٱللَّ ـ ِه﴾( .)5قــال ابــن
عطيــة« :أمــر اللــه املؤمنــن فيهــا أن يتجــاوزوا عــن الكفــار وأن ال يعاقبوهــم
بذنــب ،بــل يأخــذون أنفســهم بالصــر»(.)6
ــى َمــا يَقُولُــو َن َوٱه ُجر ُهــم َهجــ ٗرا َج ِم ٗ
يــا﴾(.)7 وقولــه تعــاىلَ ﴿ :و ِ
ٱصــر َع َ ٰ
ركقــال القشــري« :الهجــر الجميــل :أن تعارشهــم بظاهــرك وتباينهــم ب ـ ّ
وقلبــك»( .)8وتتحقــق هــذه العــرة باألخــاق الحســنة وعــدم مجاراتهــم
بالــرد عليهــم؛ يقــول الزمخــري« :الهجــر الجميــل :أن يجانبهم بقلبــه وهواه،
ويخالفهــم مــع حســن املخالقــة واملــداراة واإلغضــاء وتــرك املكافــأة»(.)9
فهــذه اآليــات وغريهــا تدعــو إىل املبــادئ الدالــة عــى التســامح؛ مــن الصفــح،
والعفــو ،واملغفــرة ،والهجــر الجميــل ،واملعــارشة الحســنة ،وكلهــا مبــادئ
أخالقيــة ســامية ،يتحــى بهــا املؤمــن يف التعامــل مــع املخالــف.
62
ولعــل الناظــر يف تلــك اآليــات القرآنيــة اآلمــرة بالعفــو والصفــح والتســامح
مــع املخالــف؛ يُشـ ِكل عليــه مــا ينقلــه عــدد مــن املفرسيــن عــن املتقدمــن؛
مــن أن تلــك اآليــات منســوخة بآيــة الســيف واألمــر بالقتــل ،وهــذا القــول
مشــهور يف كتــب التفســر ،يقــول الــرازي« :ونظــره﴿ :فَأَعــرِض َعن ُهــم
َو ِعظ ُهــم﴾(َ ﴿ .)1وأَع ـرِض َعــنِ ٱل َٰج ِهلِ ـ َن﴾(﴿ .)2فَأَع ـرِض َعــن َّمــن تَـ َو َّ ٰل َعــن
ِذك ِرنَــا﴾( .)3قــال املفــرون« :هــذه اآليــة إمنــا نزلــت قبــل آيــة القتــال ثــم
نســخت باألمــر بالقتــال»(.)4
ولدفــع هــذا اإلي ـراد نقــول :إن هــذا قــول ِمــن أقــوال املفرسيــن قــد روي
ـوال أخــرى تفيــد اســتمرار العمــل عــن بعــض التابعــن ،بيــد أن هنــاك أقـ ً
بهــذا النــوع مــن اآليــات وحملهــا عــى محامــل أخــرى ،دون تعطيلهــا،
والقاعــدة أن الجمــع بــن األدلــة أوىل مــن إلغــاء أحدهــا ،يقــول صاحــب
ـب متــى مــا أمكنــا»( .)5وقــد ســلك العلــاء يف دفــع املراقــي« :والجمــع واجـ ٌ
هــذا اإلي ـراد ثالثــة مناهــج:
األول :أن هــذه اآليــات وأمثالهــا غــر منســوخة بــل هــي محكمــة ،وقــد
صحــح هــذا القــول اإلمــام الطــري والـرازي وغريهــا؛ يقــول الطــري ...« :فــا
ســبيل إىل العلــم بأنــه ناســخ إال بخــر مــن اللــه جــل وعــز ،أو مــن رســوله
صــى اللــه عليــه وســلم ،وليــس يف قولــه﴿ :قَٰ ِتلُــوا ْ ٱل َِّذي ـ َن َل يُؤ ِم ُنــو َن بِٱللَّ ـ ِه
ـوم ٱألٓ ِخـرِ﴾( ،)6داللــة عــى األمــر بنفــي معــاين الصفــح والعفــو عــن َو َل بِٱل َيـ ِ
اليهــود .وإذ كان ذلــك كذلــك ...مل يكــن واجبــا أن يحكــم لقولــه﴿ :قَٰ ِتلُــوا ْ
ـوم ٱألٓ ِخـرِ﴾( .)7بأنــه ناســخ قولــه﴿ :فَٱعـ ُـف ٱل َِّذيـ َن َل يُؤ ِم ُنــو َن بِٱللَّـ ِه َو َل بِٱليَـ ِ
63
َعن ُهــم َوٱصفَــح إِ َّن ٱللَّــ َه يُ ِح ُّ
ــب ٱمل ِ
ُحســ ِن َني﴾( .)1وقــال الــرازي بعــد كالمــه
املتقــدم« :وقــال آخــرون :بــل ذلــك هــو األخــذ بــإذن اللــه فيــا يكــون أدعــى
إىل القبــول ،فــا يــرِد النســخ يف مثلــه وهــذا أصــح»( .)2وقــال الزركــي:
«وبهــذا التحقيــق تبــن ضعــف مــا لهــج بــه كثــر مــن املفرسيــن يف اآليــات
اآلمــرة بالتخفيــف أنهــا منســوخة بآيــة الســيف ،وليســت كذلــك بــل هــي
ُنســأ؛ مبعنــى أن كل أمــر ورد يجــب امتثالــه يف وقــت مــا ،لعلــة توجــب مــن امل َ
ذلــك الحكــم ،ثــم ينتقــل بانتقــال تلــك العلــة إىل حكــم آخــر ،وليــس بنســخ،
إمنــا النســخ اإلزالــة حتــى ال يجــوز امتثالــه أبــدا»(.)3
الثــاين :أن املنســوخ مــن هــذه اآليــات هــو املتعلــق باألمــور العظــام ،أمــا
األمــور األخــرى املتعلقــة باألخــاق واملعاملــة الحســنة فهــي محكمــة ،وقــد
حــى هــذا القــول ابــن عطيــة حيــث قــال« :قالــت فرقــة :اآليــة محكمــة،
واآليــة تتضمــن الغفــران عمومــا ،فينبغــي أن يقــال :إن األمــور العظــام
كالقتــل والكفــر مجاهــرة ونحــو ذلــك قــد نســخ غفرانــه آيــة الســيف
والجزيــة ،ومــا أحكمــه الــرع ال محالــة ،وإن األمــور املحقــرة كالجفــاء يف
القــول ونحــو ذلــك يحتمــل أن تبقــى محكمــة ،وأن يكــون العفــو عنهــا أقــرب
إىل التقــوى»( .)4فعــى هــذا القــول يبقــى القــدر املتعلــق بالتســامح يف هــذه
اآليــات محكــا غــر منســوخ.
الثالــث :ذهــب ابــن العــريب املالــي إىل أن هــذه منســوخة؛ إال أنــه يعمــل
بهــا مــع املخالــف إذا كانــت لــه الغلبــة ،كــا كان حــال رســول اللــه صــى
اللــه عليــه وســلم مــع املرشكــن ،يقــول ابــن العــريب« :وكل منســوخ ال فائــدة
ملعرفــة معنــاه ،ال ســيام يف هــذا املوضــع إال عــى القــول بــأن املــرء إذا غلــب
بالباطــل كان لــه أن يفعــل مــا فعلــه النبــي صــى اللــه عليــه وســلم مــع
الكفــار حــن غلبــوه»( .)5فنقلــه هــذا القــول دون تعليــق منــه عليــه بنفــي
- 1سورة املائدة ،اآلية.13 :
- 2تفسري الرازي30 :ج ص .689
- 3الزركيش؛ أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركيش 794ه ،الربهان يف علوم القرآن( ،تحقيق:
محمد أبو الفضل إبراهيم ،دار إحياء الكتب العربية عيىس البايب الحلبي ورشكائه ،ط1376 ،1 .ه 1957 -م) ،ج 2ص .42
- 4ابن عطية؛ املحرر الوجيز :ج 5ص .82
- 5القرطبي؛ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أيب بكر بن فرح األنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي 671ه ،الجامع ألحكام
القرآن( ،تحقيق :أحمد الربدوين وإبراهيم أطفيش ،دار الكتب املرصية – القاهرة ،ط1384 ،2 .ه 1964 -م) ،ج 4ص .333
64
أو تضعيــف؛ هــو مبثابــة إق ـراره.
وإمنــا أوردت هــذه املناهــج لألمئــة يف التعامــل مــع هــذه اآليــات لشــيوع
القــول بنســخها ،ومــا دام هنــاك مــن العلــاء مــن يصحــح عــدم نســخها،
فاملناهــج األخــرى التــي أوردتهــا دالــة عــى أن القيــم ال تنســخ ،ألنها مشــركة
ومتعديــة وإنســانية.
األســاس الثــاين :مــن األســس الدالــة عــى وجــوب التســامح؛ النهــي عــن
االزدراء واالســتهزاء وســب املخالــف ولــو مل يكــن لــه ديــن ،يقــول اللــه تعــاىل:
﴿ َو َل ت َُسـبُّوا ْ ٱل َِّذيـ َن يَد ُعــو َن ِمــن ُدونِ ٱللَّـ ِه فَيَ ُسـبُّوا ْ ٱللَّـ َه َعــد َوا ِب َغـرِ ِعلـ ٖـم﴾
( .)1وقــد فهــم املفــرون مــن هــذه اآليــة النهــي عــن املعاملــة باملثــل يف
الســب والشــتم ،يقــول الـرازي« :وبالجملــة فهــو تنبيــه عــى أن خصمــك إذا
شــافهك بجهــل وســفاهة ،مل يجــز لــك أن تقــدم عــى مشــافهته مبــا يجــري
مجــرى كالمــه ،فــإن ذلــك يوجــب فتــح بــاب املشــامتة والســفاهة ،وذلــك ال
يليــق بالعقــاء»(.)2
ويتأكــد هــذا النهــي بأوامــر أخــرى كثــرة يف القــرآن الكريــم؛ منهــا األمــر
بالدعــوة بالحكمــة ،ومجادلــة املخالفــن بالحســنى ،واألمــر بالقــول الحســن،
وقــد أشــار ال ـرازي إىل مجمــوع تلــك األوامــر يف تفســر قــول اللــه تعــاىل:
حس ـ ُن﴾( .)3يقــول ال ـرازي« :وقــل يــا ـي أَ َ﴿ َوقُــل لِّ ِع َبــا ِدي يَقُولُــوا ْ ٱلَّ ِتــي ِهـ َ
محمــد لعبــادي إذا أردتــم إيــراد الحجــة عــى املخالفــن ،فاذكــروا تلــك
الدالئــل بالطريــق األحســن؛ وهــو أن ال يكــون ذكــر الحجــة مخلوطًــا بالشــتم
ِٱلحك َمـ ِة َوٱمل َو ِعظَـ ِةوالســب ،ونظــر هــذه اآليــة قولــه﴿ :ٱد ُع إِ َ ٰل َسـبِيلِ َربِّـ َـك ب ِ
حســ ُن﴾( .)4وقولــه﴿ :وال ت ُ َٰج ِدلُــ ٓوا ْ أَ َ
هــل ــي أَ َ
ٱل َح َســ َن ِة َو َٰج ِدل ُهــم بِٱلَّ ِتــي ِه َ
حسـ ُن إِ َّل ٱل َِّذيـ َن ظَلَ ُمــوا ْ ِمن ُهــم﴾( )؛ وذلــك ألن ذكــر
5
ـي أَ َ ـب إِ َّل بِٱلَّ ِتــي ِهـ َ
ٱل ِكتَٰـ ِ
الحجــة لــو اختلــط بــه يشء مــن الســب والشــتم لقابلوكــم مبثلــه ...ويــزداد
65
الغضــب وتتكامــل النفــرة ،وميتنــع حصــول املقصــود ،أمــا إذا وقــع االقتصــار
عــى ذكــر الحجــة بالطريــق األحســن الخــايل عــن الشــتم واإليــذاء؛ أثــر يف
القلــب تأث ـ ًرا شــدي ًدا فهــذا هــو امل ـراد»(.)1
فهــذا هــو دور التســامح مــع املخالــف ،الــذي يجعــل كل تواصــل معــه إمنــا
أي معاملــة مــن شــأنها يكــون بالطريقــة الحســنة دون احتقــار أو ازدراء أو ٍّ
أن تزيــد التنافــر والبغضــاء.
األســاس الثالــث :مــن األســس الدالــة عــى وجــوب التســامح؛ وجــوب اإلميــان
بجميــع الرســل الســابقني وكتبهــم ،وعــدم التفريــق بينهــم ،وهــذا األســاس
مــن مقتضيــات اإلميــان ،ويقتــي االعـراف بالديانــات الســاوية واحرتامهــا،
يقــول اللــه تعــاىل﴿ :قُولُـ ٓوا ْ َءا َم َّنــا بِٱللَّـ ِه َو َمـآ أُنـز َِل إِلَي َنــا َو َمـآ أُنـز َِل إِ َ ٰلٓ إِب َٰر ِهيـ َم
ـى َو َم ـآ أُ ِ َ
وت ـوس َو ِعيـ َ ٰ وت ُمـ َ ٰ ـوب َوٱألَس ـ َب ِاط َو َم ـآ أُ ِ َ َوإِس ـ َٰم ِع َيل َوإِس ـ َٰح َق َويَع ُقـ َ
ــد ِّمن ُهــم َونَحــ ُن لَــ ُه ُمســلِ ُمونَ﴾( ).
2 ٱل َّن ِبيُّــو َن ِمــن َّربِّهِــم َل نُفَــ ِّر ُق بَــ َن أَ َح ٖ
ص ِب ـ ِه نُو ٗحــا َوٱلَّـ ِـذ ٓي أَو َحي َن ـآ ﴿ش َع لَ ُكــم ِّم ـ َن ٱل ِّديــنِ َمــا َو َّ ٰ ويقــول أيضً ــاَ َ :
ـى أَن أَ ِقي ُمــوا ْ ٱل ِّديـ َن َو َل تَتَ َف َّرقُــوا ْ ـوس َو ِعيـ َ ٰٓإِلَيـ َـك َو َمــا َو َّصي َنــا ِبـ ِٓه إِب َٰر ِهيـ َم َو ُمـ َ ٰ
ـرض عــن»( ) .ذلــك
4
ِفيـ ِه﴾( .)3يقــول أبــو الســعود« :واإلميــا ُن بالــكل جملـ ًة فـ ُ
أن الرســاالت يف لبهــا وأساســها -وإن اختلفــت أزمانهــا -ال تبايــن بينهــا؛ فلهــذا
ســاها اللــه تعــاىل يف كتابــه ملــة إبراهيــم ،يقــول أبــو زهــرة« :وقــد أمــر اللــه
تعــاىل املؤمنــن ،ومل يكــن أمــره إىل النبــي صــى اللــه عليــه وســلم وحــده،
بــل كان أمــره لــه وملــن اتبعــه ،وفيــه بيــان أن إميانهــم هــو إميــان إبراهيــم،
وبنيــه ،ويعقــوب وبنيــه ،والنبيــن أجمعــن ،فهــو إميــان عــام بالرســالة اإللهيــة
َل فــرق بــن رســول ورســول ،ولذلــك قــال بحــق بعــض الذيــن علمــوا اإلســام
ومــا يدعــو إليــه :إن اإلســام ديــن عــام»( .)5ف َف ـ ْر ُض اإلســام عــى املســلمني
اإلميــان باألديــان الســابقة؛ مــن األســس الدالــة عــى وجــوب احـرام املخالفني
والتســامح معهــم.
- 1الرازي؛ مفاتيح الغيب :ج 20ص .355
- 2سورة البقرة ،اآلية.136 :
- 3سورة الشورى ،اآلية.13 :
- 4أبو السعود؛ محمد بن محمد بن مصطفى 982ه ،إرشاد العقل السليم إىل مزايا الكتاب الكريم( ،دار إحياء الرتاث
العريب – بريوت) ،ج 1ص .33
- 5أبو زهرة؛ محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد 1394ه ،زهرة التفاسري( ،دار الفكر العريب) ،ج 1ص .423
66
األســاس الرابــع :مــن األســس الدالــة عــى وجــوب التســامح؛ اإلميــان
بالتعدديــة ،وعــدم حمــل النــاس عــى مــا يكرهــون ،فالتنــوع ســنة اللــه عــز
وجــل يف كونــه الــذي يتســع لجميــع خلقــه ،يتجــاورون فيــه ،وال يكــره فريــق
منهــم غــره عــى مــا يخالــف قناعتــه ،واإلميــان بالتعدديــة دعــا إليــه القــرآن
الكريــم وبنــاه عــى أن اختــاف النــاس يف أديانهــم وعقائدهــم إرادة اللــه
تعــاىل ومشــيئته الكونيــة ،وال راد ملــا أراده وقــ َّد َره يف كونــه ،يقــول اللــه
تعــاىل﴿ :لِـك ّ ُٖل َج َعل َنــا ِمن ُكــم ِش َع ـ ٗة َو ِمن َها ٗجــا َولَــو شَ ـآ َء ٱللَّ ـ ُه لَ َج َعلَ ُكــم أُ َّم ـ ٗة
َٰو ِح ـ َد ٗة َولَٰ ِكــن لِّ َيبلُ َوكُــم ِف َم ـآ َءاتَ ٰى ُكــم فَٱس ـتَ ِبقُوا ْ ٱل َخ ـ َٰر ِت إِ َل ٱللَّـ ِه َمر ِج ُع ُكــم
َج ِمي ٗعــا فَ ُي َن ِّبئُ ُكــم بِ َــا كُنتُــم ِفي ـ ِه تَختَلِ ُفــون﴾(.)1
67
وحالــة الطفــل تلــك هــي مي ـزان اإلنســانية ومقياســها الســليم ،الخــايل مــن
االنحرافــات؛ فالفطــرة التــي تالحــظ يف الطفــل وتبنــى عليهــا تربيتــه هــي
ناشــئته التــي لهــا قابليــة الولــوج بــه إىل مياديــن الخــر ،و ُخلــق اإلنســان
عــى وفقهــا وحالهــا ،ويـراد منــه أن يســر عليهــا يف وجــوده كلــه ،وقــد بُعــث
الرســول صــى اللــه عليــه وســلم مــن أجــل التذكــر بتلــك الفطــرة ،ففــي
الحديــث أن النبــي صــى اللــه عليــه وســلم قــال} :ك ُُّل َم ْولُــو ٍد يُولَ ـ ُد َعـ َـى
الْ ِفطْـ َر ِة{( .)1والفطــرة تعنــي يف أبــرز مدلوالتهــا تلــك املوجهــات التــي تربــو
مــع الطفــل لتنحــو بــه إىل االختيــار الصحيــح الــذي جبــل عليــه؛ ســواء يف
معرفــة خالقــه( ،)2أو ترصفاتــه التــي يعــد التســامح مكونًــا رئيســا فيهــا؛ ولهذا
نجــد اآليــة الــواردة يف الفطــرة قــد وردت يف ســياق القيــم التــي ال تتبــدل ﴿الَ
تَبْ ِديـ َـل لِ َخلْــقِ اللَّـ ِه َذلِـ َـك ال ِّديـ ُن الْ َقيِّـ ُم﴾( .)3فمتــى نشــأ الطفــل عــى فطــرة
ســليمة بعيــدة عــن االنحـراف ،فإنــه ســتتبلور لديــه برمجــة تلقائيــة ترتــي
الكــاالت ،وتنــأى عــن الخــوض يف الســفاالت.
فالقيــم األخالقيــة ،واآلداب الســلوكية؛ تنطلــق مــن الفطــرة الســليمة ،وهــي
معدنهــا الــذي تتكــون منــه ،ألنهــا هــي التــي تفيــد الكــال ،واإلنســان بطبعه
حريــص عــى بلــوغ ذروة الكــال ،والرتقــي يف مدارجــه؛ فالفطــرة بعمومهــا
وشــمولها تحتــوي كل الفضائــل التــي يف صدارتهــا وباكورتهــا فضيلة التســامح؛
وهــي مشــركة بــن جميــع البــر ،وهــم مجبولــون عليهــا ،وقــد بــن القــرآن
هــذا املعنــى وأكــد أن الفطــرة هــي جوهــر القيــم مبــا ال مزيــد عليــه ،فقــال
حســنِ تَقوِيـ ٖـم ،ث ُـ َّم َر َددنَٰـ ُه أَسـف ََل َٰسـ ِفلِ َني﴾
نسـ َن ِ ٓف أَ َ
تعــاىل﴿ :لَ َقــد َخلَق َنــا ٱ ِإل َٰ
( .)4فوضحــت هــذه اآليــة أن اللــه عــز وجــل خلــق هــذا اإلنســان يف فطــرة
ســليمة مدركــة لحقائــق األمــور ،حريصــة عــى معاليهــا ،وكيــف انتكســت
تلــك الفطــرة عــن درج ال َخلــق وال ُخلــق فوقعــت يف مســتنقع الرذائــل بعــد
التفضيــل بشــتى الكــاالت.
- 1الحديث متفق عليه أخرجه البخاري رقم )4775( :يف كتاب التفسري ،باب ﴿الَ ت َ ْب ِد َيل لِ َخلْقِ اللَّ ِه﴾ :ج 6ص .114
ومسلم رقم )2658( :كتاب القدر ،باب معنى كل مولود يولد عىل الفطرة :ج 4ص .2047
- 2ولعل قصة حي بن يقظان البن طفيل شاهد عىل فطرية اإلميان لدى اإلنسان.
- 3سورة الروم ،اآلية.30 :
- 4سورة التني ،اآلية.5 ،4 :
68
ومــن أســطع األمثلــة عــى أصالــة قبــول التســامح يف النفــس اإلنســانية
مــا ذكــره اللــه تعــاىل يف قصــة قابيــل وهابيــل ،التــي روت لنــا أول معركــة
عــى هــذه البســيطة بــن التســامح اإلنســاين والصفــات املختلــة املكتســبة
ج ـراء التيهــان يف أوديــة شاســعة مــن الرذائــل كالحســد والغضــب ،وهــذا
كلــه مطــوي يف بالغــة التعبــر القــرآين الــوارد يف قولــه تعــاىل﴿ :فَطَ َّو َعــت لَـ ُه
َفس ـ ُه قَتـ َـل أَ ِخي ـ ِه فَ َقتَلَ ـ ُه﴾(.)1
ن ُ
فلفــظ التطويــع يشــر يف مدلولــه إىل تلــك الدواعــي الدخيلــة الناهضــة عــى
مغالبــة النــوازع اإلنســانية الباقيــة عــى أصلهــا املتســامح؛ وذلــك مــا نجــد
إشــارة لــه يف التفســر الوســيط عنــد تفســر هــذه اآليــة الكرميــة()2
وألن هــذا التــرف الخاطــئ ليــس صوابًــا فقــد اســتيقظت اإلنســانية يف قلب
ـحالقاتــل بعــد تنفيــذ الجرميــة وعــادت نفســه لطبيعتهــا البرشيــة؛ ﴿فَأَص َبـ َ
دليــا عــى أن التســامح صفــة إنســانية ِمــ َن ٱل َّنٰ ِد ِمــ َن﴾( .)3فــكان ذلــك ً
مغــروزة يف فطــرة اإلنســان عــى حــد ســواء.
ويظهــر مــا تقــدم أن مــن ذهــب إىل أن األصــل يف طبــع اإلنســان الظلــم
وامليــول للعنــف غــر متســق مــع نصــوص القــرآن ،فقــول اإلمــام الغــزايل
مثــا« :ملــا كانــت الطبــاع إىل العنــف والحــدة أميــل كانــت الحاجــة إىل
ترغيبهــم يف جانــب الرفــق أكــر فلذلــك كــر ثنــاء الــرع عــى جانــب الرفــق،
دون العنــف ،وإن كان العنــف يف محلــه حســ ًنا ،كــا أن الرفــق يف محلــه
حســن ،فــإذا كان الواجــب هــو العنــف ،فقــد وافــق الحــق الهــوى ،وهــو ألــذ
مــن الزبــد بالشــهد»( .)4إمنــا يقصــد بــه وبنحــوه مرحلــة انح ـراف الفطــرة
عــن أخــاق التســامح والرحمــة التــي جبلــت عليهــا النفــوس ،بعــد أن نزعــه
الهــوى فاكتســبت الرذائــل مــن األخــاق ،كــا هــو واضــح يف آخــر ســياق
كالمــه.
69
فالتســامح إذن قيمــة إنســانية ،وقانــون القيــم يقتــي مســاواة الجميــع
يف التعامــل اإلنســاين ،ويفــرض عــى املستمســك باألخــاق الفاضلــة حســن
العــرة واأللفــة الحســنة ،واملعاملــة الطيبــة مــع كافــة خلــق اللــه تعــاىل،
وهــذا مــن أهــم الدواعــي اإلنســانية الكتســاب الفضائــل قبــل الدواعــي
التعبديــة .قــال ابــن حــزم« :طبائــع البــر كلهــم واحــدة ،إال أن للعــادة
واالعتقــاد الدينــي تأثــ ًرا ظاهــ ًرا»( ،)1ويقــول أبــو زهــرة« :واألخــاق يف
الرشيعــة اإلســامية عامــة وشــاملة ،ألنهــا تقــوم عــى الفضيلــة ،ومشــتقة مــن
الفطــرة اإلنســانية ،فــا تخــص إقليــا دون إقليــم ،وال شــعبا دون شــعب ،وإ َّن
مــا يكــون رشا بــن اآلحــاد يف شــعب واحــد ،يكــون أيضــا رشا بــن الجامعــات
والــدول ،ومــا يكــون رشا يف وطنــك يكــون رشا أيضــا إن صنعتــه يف غــر وطنك،
ألن الفضيلــة مبقتــى قواعــد الســلوك الفاضــل حــق لــكل إنســان يســتحقها
مبقتــى إنســانيته التــي هــي وصــف مشــرك بــن كل أبنــاء آدم»(.)2
فاإلنســانية الكاملــة التــي يرتقــى بهــا املــرء عــن كثــر مــن السفاســف
والجهــاالت ،إمنــا تحصــل بالفضائــل النفســية واألخالقيــة؛ يقــول الراغــب
األصفهــاين« :وهــذه الفضائــل إذا حصلــت حصــل بهــا اإلنســانية»(.)3
فالتفاضــل يف اإلنســانية إمنــا يــدرك بفضائــل األخــاق ،وبحســب اتصــاف
اإلنســان مبــكارم األخــاق ينبــل ويــرف ،وكلــا اتصــف بالرذائــل انســلخ
مــن إنســانيته وصــار كالبهائــم ،فإنســانية اإلنســان عــى هــذا يف ازديــاد
ونقصــان ،ولهــذا كان مقصــد البعثــة النبويــة إكــال هــذا الجانــب وإمتامــه
ثــت ألُتَ ِّــ َم َمــكا ِر َم األخــاقِ }( .)4ويف بيــان
كــا ورد يف الحديــث{ :إنَّ ــا بُ ِع ُ
هــذا يقــول الراغــب أيضــا« :وذلــك أن اإلنســانية هــي الفضائــل النفســية
املختصــة باإلنســان ،وبقــدر مــا يكتســبه اإلنســان يســتحقها»( .)5وال شــك
ـرا مــع جميــع النــاس ال عني ًفــا أن فضيلــة اإلنســان أن يكــون متســام ًحا خـ ِّ ً
- 1ابن حزم؛ أبو محمد عيل بن أحمد بن سعيد بن حزم األندليس القرطبي الظاهري 456ه ،األخالق والسري يف مداواة
النفوس( ،دار اآلفاق الجديدة – بريوت – ط1399 ،2 .ه 1979 -م) ،ص .53
- 2أبو زهرة؛ محمد ،العالقات الدولية يف اإلسالم( ،دار الفكر العريب1415 ،ه-1995م) ،ص .34
- 3محمد الراغب األصفهاين؛ الذريعة ،ص .122
- 4البيهقي ،السنن ،رقم )21301( :كتاب الشهادات ،باب بيان مكارم األخالق ومعاليها :ج 10ص .322
- 5الراغب األصفهاين؛ الذريعة ،ص .116
70
ذا رضر ،وهــذه الفضائــل اإلنســانية تــدور يف فلــك التســامح؛ محبــة ،ويـرا،
وإنصافــا ،وحلــا ،وعفــوا ،وحســن معاملــة.
ومــا يؤكــد أيضــا أن التســامح أصــل يف اإلنســان ،املبــدأ املشــهور الــذي
قــرره علــاء االجتــاع؛ وهــو أن اإلنســان اجتامعــي بالطبــع( ،)1فهــذا قانــون
يف الحيــاة مطــرد ،ونظــام يف البــر متســق ،تســر عليــه كافــة املجتمعــات
يف تعامالتهــا وتعايشــها مــع بعضهــا؛ ســواء كان ذلــك بتلقائيــة دون شــعور،
أو بإحســاس بذلــك وشــعور .وقــد وجهــت الرشيعــة اإلســامية النظــر إىل
هــذا املبــدإ ألهميتــه ،وجــاءت مبــا يؤيــده وينظمــه ،وأجزلــت عليــه الثــواب
واألجــر ،قــال النبــي صــى اللــه عليــه وســلم{ :الْ ُم ْؤ ِم ـ ُن يَأْلَـ ُـف َويُ ْؤلَـ ٌـف َوالَ
ـر ِفي َم ـ ْن الَ يَأْلَـ ُـف َوالَ يُ ْؤلَـ ُـف}( .)2وبهــذا جعــل صــى اللــه عليــه وســلم َخـ ْ َ
منــاط الخــر يف اإلنســان انعطــاف القلــوب عليــه ،وانجــذاب أرواح النــاس
إليــه ،ولــن تلتــف أفئــدة النــاس إال عــى مــن ســهلت طباعــه ،ووجــدوا فيــه
عاطفــة خاصــة ،تتمخــض عنهــا مجانســة ومشــابهة ومواتــاة ،تشــق طريقهــا
نحــو ربــط النــاس باإلينــاس واملصافــاة ،وغــر هــذا الســبيل يــؤدي باملــرء
إىل املضــار والــردى؛ يقــول املــاوردي« :أمــا القاعــدة الثانيــة وهــي األلفــة
الجامعــة :فــأن اإلنســان مقصــود باألذيــة ،محســود بالنعمــة ،فــإذا مل يكــن
آلفــا مألوفــا تخطفتــه أيــدي حاســديه ،وتحكمــت فيــه أهــواء أعاديــه ،فلــم
تســلم لــه نعمــة ،ومل تصــف لــه مــدة ،فــإذا كان آلفــا مألوفــا انتــر باأللفــة
عــى أعاديــه ،وامتنــع مــن حاســديه ،فســلمت نعمتــه منهــم ،وصفــت مدتــه
را ،وســلمه خط ـ ًرا»(.)3 عنهــم ،وإن كان صفــو الزمــان ع ـ ً
71
ومــن أجــل ترســيخ هــذه القاعــدة جعــل اإلســام الســام والتحيــة حقــا
عامــا للجميــع ،ألنــه يبعــث عــى املحبــة ،ويكســب الــود ،ويدفــع الــر؛
فذلــك ينســجم مــع األخــوة اإلنســانية الداعيــة لأللفــة والتواصــل والتعايــش
والتعــاون.
72
املبحث الثاين :مظاهر التسامح وتجلياته
لقــد التفــت ديننــا اإلســامي الحنيــف إىل قيمــة التســامح ،واعتربهــا قيمــة
وجوديــة ورضوريــة ،يتجــى ذلــك يف عــدة مظاهــر قيميــة ،تعتــر مبثابــة
آيــات دالــة عــى توفــر هــذه القيمــة ترصيحــا أو تلويحــا.
ومــن متعــن يف تلــك التجليــات واملظاهــر؛ يجدهــا مبثابــة القوانــن الرشعيــة،
والكنــوز الدســتورية والتاريخيــة لهــذه الرشيعــة الغــراء ،والتــي ال ميكــن
للمســلم تجاوزهــا .ولعــي آخــذ طرفًــا مــن تلــك املظاهــر يف هــذا املبحــث(،)1
فتتبعهــا جميعــا بــكل صورهــا وجزئياتهــا وأفرادهــا بغيــة اســتقرائها يعــد
مــن الصعــب جــدا ،لــذا فــإين ســأقترص هنــا عــى أصــول تلــك املظاهــر ،التــي
تنبنــي عليهــا فروعهــا ،وذلــك عــى النحــو املبــن يف املطالــب اآلتيــة:
- 1ما سأورده من مظاهر للتسامح قد يصح أن يكون من آثاره والعكس بالعكس ،لكني آثرت أن أذكر يف اآلثار ما متثله
فردي ،أو جامعي محدود ،وأترك الثمرات ملا صبغته أوسع ،ومتثله أشمل.
- 2ابن عاشور؛ مقاصد الرشيعة :ص.269 :
73
كل يشء ،ولــن يراعــي الصلــة الدينيــة واألرسيــة واالجتامعيــة والوطنيــة
للمختلفــن معــه يف الفــروع الفقهيــة ،وبعــدم تلــك املراعــاة ســتنفر منــه
القلــوب ،وتهجــره النفــوس وينــأى عنــه النــاس ،ويســتحيل معــه التســامح
وعــدم تحملــه وإلفــه. ِ لشــدته وغلظتــه،
ولهــذه األهميــة نجــد القــرآن الكريــم والســنة النبويــة خاصــة ،والرشيعــة
اإلســامية عامــة قــد أســندت ملظهــر التيســر مكانــة متميــزة ،نســتجليها مــن
زاويتــن:
األوىل :أن التيســر هــو اختيــار اللــه تعــاىل لعبــاده املســلمني يف إقامــة دينهم،
ـر َك
فرشيعــة املســلمني وصفهــا اللــه تعــاىل باليــرى ،فقــال تعــاىلَ ﴿ :ونُ َيـ ِّ ُ
ر ٰى﴾( ،)1ونــص ســبحانه عــى أنــه يريــد بعبــاده اليــر ال العــر فقــال: لِل ُيـ َ
ر﴾( ) ،وبــن أن الديــن برمتــه ر َو َل يُرِيـ ُد ِب ُكـ ُم ٱل ُعـ َ ﴿يُرِيـ ُد ٱللَّـ ُه ِب ُكـ ُم ٱل ُيـ َ
2
قائ ـ ٌم عــى مبــدأ التيســر والســاحة ،بــدءا مــن العقيــدة وانتهــا ًء بالرتبيــة
األخالقيــة ،فقــال عــز مــن قائــلَ ﴿ :و َمــا َج َعـ َـل َعلَي ُكــم ِف ٱل ِّديــنِ ِمــن َحـ َر ٖج﴾
( .)3يقــول ابــن عاشــور« :واســتقراء الرشيعــة يــدل عــى هــذا األصــل –أي
اليــر– يف ترشيــع اإلســام ،فليــس االســتدالل عليــه مبجــرد آيـ ٍة أو خــر حتــى
يقــول معــرض :إن األصــول القطعيــة ال تثبــت بالظواهــر؛ ألن أدلــة هــذا
األصــل كثــرة منتــرة ،وكــرة الظواهــر تفيــد القطــع .ولهــذا قــال إمــام الفقــه
والحديــث مالــك بــن أنــس يف مواضــع مــن املوطــأ{ :وديــن اللــه يــر} (،)4
وحســبك بهــذه الكلمــة مــن ذلــك اإلمــام ،فإنــه مــا قالهــا حتــى اســتخلصها
مــن اســتقراء الرشيعــة»(.)5
وكــا أن التيســر اختيــار اللــه تعــاىل للمســلمني ،فهــو اختيــار النبــي صــى
اللــه عليــه وســلم لهــم ،فإنــه لَــا كان لــدى بعــض النفــوس ميــول للتشــدد
74
والتميــز عــن الغــر ،والخــروج عــن عوائــد النــاس ومألوفهــم ،والتديــن باملتــن
الــذي فيــه شــدة؛ بــن لهــم النبــي صىل اللــه عليــه وســلم يف نصوص كثــرة أن
الديــن مبنــي عــى الســاحة والتيســر ،يرســم بذلــك ألمتــه منهــج االعتــدال؛
ألن هــذا النهــج هــو الكفيــل بإيجــاد أمــة متســامحة ،قــال عليــه الصــاة
ـروا}( ،)1وقــال صــى اللــه عليــه وســلمَ { :علِّ ُمــوا ـروا َوالَ ت ُ َعـ ِّ ُ والســام{ :يَـ ِّ ُ
ـب أَ َح ُدكُـ ْم فَلْ َي ْسـك ُْت}( ) .ومتثــل صــى اللــه
2
ـرواَ ،وإِذَا غ َِضـ َ ـرواَ ،والَ تُ َعـ ِّ ُ َويَـ ِّ ُ
عليــه وســلم اليــر بهديــه العمــي ،فعــن عائشــة -ريض اللــه عنهــا -قالــت:
ـرـن أَ ْم َريْــنِ ،أَ َح ُد ُهـ َـا أَيْـ َ ُ
ـول الل ـ ِه صــى اللــه عليــه وســلم بَـ ْ َ ـر َر ُسـ ُ { َمــا ُخـ ِّ َ
س ُهـ َـاَ ،مــا لَـ ْم يَ ُكـ ْن إِثْ ًــا ،فَـ ِإ ْن كَا َن إِثْ ًــا ،كَا َن أَبْ َعـ َدِمـ َن ْال َخـرِ ،إِ َّل ا ْختَــا َر أَيْ َ َ
ـاس ِم ْنـ ُه}()3 ال َّنـ ِ
الثانيــة :أن أوىل النــاس بالتيســر والســاحة هــم املســلمون؛ وتقتــي
هــذه الخصوصيــة أن يكونــوا مبادريــن إىل التســامح والتعايــش والتــواد مــع
املخالفــن ،وخاصــة ممــن ليســوا عــى دينهــم؛ وذلــك ألن اللــه تعــاىل قــد بــن
يف القــرآن الكريــم أن ديننــا اإلســامي الحنيــف مرفــوع عنــه اآلصــار واألغــال،
فــا تشــدد يف الديــن وال تطــرف يف الفهــم ،وهــذا مــن الدعائــم الكــرى
لرتســيخ ثقافــة التســامح عنــد املســلمني؛ يقــول اللــه تعــاىلَ ﴿ :ويَضَ ـ ُع َعن ُهــم
رص ُهــم َوٱألَغلَٰـ َـل ٱلَّ ِتــي كَانَــت َعلَي ِهــم﴾( .)4قــال ابــن كثــر« :أي :إنــه جــاء إِ َ
بالتيســر والســاحة ،كــا ورد الحديــث مــن طــرق عــن رســول اللــه صــى
السـ ْم َح ِة}( .)5وقــال ألم َرييــه ـت بِالْ َح ِني ِف َّيـ ِة َّ
اللــه عليــه وســلم أنــه قــال{ :بُ ِعثْـ ُ
معــاذ وأيب مــوىس األشــعري – ريض اللــه عنهــا -ملــا بعثهــا إىل اليمــن:
- 1الحديث متفق عليه؛ البخاري ،الجامع الصحيح ،رقم .)69( :كتاب العلم ،باب ما كان النبي صىل الله عليه وسلم
يتخولهم باملوعظة والعلم يك ال ينفروا ،25 1 :ومسلم ،الصحيح ،رقم )1734( :كتاب الجهاد والسري ،باب يف األمر بالتيسري
وترك التنفري .ج 3ص .1359
- 2البخاري ،محمد بن إسامعيل بن إبراهيم بن املغرية البخاري ،أبو عبد الله 256ه ،األدب املفرد( ،تحقيق :محمد فؤاد
عبد الباقي ،دار البشائر اإلسالمية – بريوت ،ط1989 – 1409 ،3 .م) ،،رقم ،245كتاب املعروف ،باب العفو والصفح عن
الناس.
- 3البخاري ،الجامع الصحيح ،رقم )6786( :كتاب الحدود ،باب إقامة الحدود واالنتقام لحرمات الله ،ومسلم ،الصحيح:
رقم )2327( :كتاب الفضائل ،باب مباعدته صىل الله عليه وسلم لآلثام واختياره من املباح أسهله .واللفظ له.
- 4سورة األعراف ،اآلية.157 :
- 5أحمد ،املسند ،رقم )22291( :ج 36ص .623
75
{ب ـرا وال تنف ـرا ،وي ـرا وال تع ـرا ،وتطاوعــا وال تختلفــا}(.)2(»)1
فهــذه النصــوص القرآنيــة والنبويــة املتضافــرة تحــث كلهــا عــى التـزام نهــج
الســاحة والتيســر؛ ملــا يف االبتعــاد عنهــا مــن مخاطــر.
فهــذا املنهــج كــا أنــه يحبِّــب صاحبــه إىل الخلــق ،ويسـهِم يف املحبــة واملــودة
بــن النــاس ،فهــو مح َّبــب عنــد اللــه تعــاىل ومفضــل عنــده؛ بــن ذلــك النبــي
صــى اللــه عليــه وســلم يف قولــه{ :أَ َحـ ُّ
ـب ال ِّديــنِ إِ َل اللَّـ ِه ال َح ِني ِف َّيـ ُة َّ
السـ ْم َح ُة}
(.)3
فالتكاليــف الرشعيــة يســرة وســهلة التنفيــذ ،ومراعــاة الســاحة يف أدائهــا
دل عــى أن مقصــد رشعــي ،يقــول ابــن عاشــور« :واســتقراء الرشيعــة ّ
الســاحة واليــر مــن مقاصــد الديــن»( .)4لذلــك كان للتيســر أثــر حقيقــي
يف الرشيعــة اإلســامية يف مجــاالت متعــددة؛ وإمنــا يجــب الرتكيــز عــى هــذا
املظهــر؛ ألن التشــدد والغلــو املنافيــن للتيســر ال يصنعــان املتديــن املتســامح،
فمــن أخــذ نفســه يف عباداتــه ومعامالتــه مبنهــج الغلــو والتشــدد ،فســيؤدي
بــه ذلــك -ال محالــة -إىل التعصــب وعــدم قبــول اآلخــر ،أو االعــراف بــه،
وهــذا الجمــود الشــخيص لــه أثــر مبــارش عــى ثقافــة التســامح.
فالتيســر هــو منبــع االعتــدال؛ ومنهجــه هــو املنهــج الــذي يــري يف روح
الرشيعــة اإلســامية؛ ألنــه يراعــي طبيعــة اإلنســان وفطرتــه ،ويحــرص عــى
إســعاده وصــاح حالــه ومآلــه مــع نفســه يف جميــع أمــوره ،ســواء منهــا
الدينيــة والدنيويــة ،ومــع غــره ،بالتـزام املرونــة يف التعامــل معهــم ،والرفــق
بهــم ،والســاحة يف مخالطتهــم ،وإقالــة عرثاتهــم ،والتيســر عليهــم ،وكلــا
كان هــذا املنهــج بتجلياتــه املختلفــة مرتســخا يف املســلم ،كان ذلــك أدعــى ألن
يكــون متســامحا مــع َخلْــق اللــه وعبــاده.
- 1مسلم ،الصحيح ،رقم .)2001( :كتاب األرشبة ،باب :بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام3 :ج ص .1586
- 2ابن كثري؛ التفسري :ج 3ص .488
- 3أحمد ،املسند ،رقم )2107( :ج 4ص ،17وعلقه البخاري يف صحيحه كتاب اإلميان ،باب :الدين يرس .الصحيح ،ج 1ص
.16
- 4ابن عاشور؛ مقاصد الرشيعة :ص.270 :
76
املطلب الثني :التكافل والرتاحم
مــن املظاهــر البــارزة والفاعلــة يف ترســيخ قيمــة التســامح :التكافــل والرتاحــم
بــن البــر ،وهــو تحقيــق لألخــوة اإلنســانية ،وداخــل تحــت مفهــوم صلــة
الرحــم الواســع ،فروابــط الرحــم تبــدأ بــاألرسة ،وتتوســع لتشــمل الجــوار،
والوطــن ،واإلنســانية بأرسهــا ،ولــكل منهــم حــق إنســاين يســتحقه.
إن مفهــوم التكافــل يــأيت ضمــن الرتاحــم والتعاطف اإلنســاين ،بحيــث يتضامن
أبنــاء املجتمــع بينهــم ،بغــض النظــر عــن أعراقهــم وألوانهــم وأديانهــم ،يــؤازر
بعضهــم بعضً ــا عــى إقامــة مجتمــع منســجم متســامح ،وهــذا النــوع مــن
التكافــل أكــدت عليــه الرشيعــة اإلســامية يف تعاليمهــا ،وطبقــه املســلمون يف
مختلــف العصــور.
وأول أصــل رشعــي يدعــو لهــذا التكافــل هــو كرامــة اإلنســان التــي كفلهــا
اللــه لــه ،وهــي حــق مــن حقوقــه ،ويجــب عــى كل شــخص يف هــذا الكــون
أن يعمــل عــى صــون هــذه الكرامــة؛ يقــول اللــه تعــاىلَ ﴿ :ولَقَــد كَ َّرم َنــا
ـى ـر َوٱلبَحـ ِر َو َرزَق َٰن ُهــم ِّمـ َن ٱلطَّيِّبَٰـ ِ
ـت َوفَضَّ ل َٰن ُهــم َعـ َ ٰ بَ ِنـ ٓ
ـي َءا َد َم َو َح َمل َٰن ُهــم ِف ٱلـ َ ِّ
َفضيـ ٗـا﴾( .)1قــال القرطبــي«« :كرمنــا» تضعيــف كــرم، كَ ِث ـرٖ ِّم َّمــن َخلَق َنــا ت ِ
أي :جعلنــا لهــم كرمــا أي رشفــا وفضــا ،وهــذا هــو كــرم نفــي النقصــان ال
كــرم املــال»( .)2فاإلنســانية كلهــا مخاطبــة بتحقيــق هــذا الــرف والفضــل
لإلنســان ،وإمنــا يتحقــق هــذا التكريــم بالتكافــل والرتاحــم بــن النــاس بأنواعه
املختلفــة ،االجتامعــي منهــا واإلنســاين وغريهــا.
وقــد رد بعــض املفرسيــن عــى الشــبهة التــي تقــول بــأن غــر املســلم ال
كرامــة لــه بهــذه اآليــة ،وأنهــا عامــة تشــمل الجميــع والكرامــة متفاوتــة؛ يقول
الخطيــب الرشبينــي( :فــإن قيــل :خطــاب النــاس بقولــه تعــاىل «أكرمكــم»
يقتــي اشـراك الــكل يف اإلكـرام؛ وال كرامــة لكافــر فإنــه أضـ ّـل مــن األنعــام؟
أجيــب بــأ ّن ذلــك غــر الزم مــع أنــه حاصــل لدليــل قولــه تعــاىل« :ولقــد
كرمنــا بنــي آدم»؛ أل ّن كل مــن خلــق فقــد اعــرف بربــه ،ثــم مــن اســتم ّر
77
عليــه وزاد زيــد يف كرامتــه ،ومــن رجــع عنــه أزيــل عنــه أكــر الكرامــة) (.)1
ويوضــح هــذا؛ التوجيـ ُه النبــوي لرحمــة هــذا اإلنســان واإلحســان إليــه ،ففــي
حديــث جريــر بــن عبــد اللــه – ريض اللــه عنــه -قــال :قــال رســول اللــه
ـاس}( .)2يقــول ابــن صــى اللــه عليــه وســلم{ :الَ يَ ْر َحـ ُم اللَّـ ُه َمـ ْن الَ يَ ْر َحـ ُم ال َّنـ َ
بطــال« :يف هــذه األحاديــث الحــض عــى اســتعامل الرحمــة للخلــق كلهــم؛
كافرهــم ومؤمنهــم ،ولجميــع البهائــم والرفــق بهــا ،وأن ذلــك مــا يغفــر اللــه
بــه الذنــوب ويكفــر بــه الخطايــا ،فينبغــي لــكل مؤمــن عاقــل أن يرغــب يف
األخــذ بحظــه مــن الرحمــة ،ويســتعملها يف أبنــاء جنســه»(.)3
فالرتاحــم مــروع للجميــع وحــق لهــم ،وعــى كل مؤمــن أن يــؤدي هــذا
الحــق تجــاه مجتمعــه ،ومــن يعيــش معهــم ،مــن مخالــف وموافــق ،فيزدهــر
بذلــك التســامح.
إن مــن مقاصــد اإلســام التــي جــاء ليحققهــا وينرشهــا بــن أفـراده :الرتاحــم
والتكافــل ،فالنبــي صــى اللــه عليــه وســلم بُعــث رحمــة للعاملــن ،ومــن
حــق كل إنســان أن يصلــه حظــه مــن هــذه الرحمــة ،برتاحــم املســلمني
وتســامحهم مــع بعضهــم ومــع غريهــم ،يقــول اللــه تعــاىلَ ﴿ :و َمــا أَ ْر َس ـلْ َن َاك
إِ َّل َر ْح َم ـ ًة لِلْ َعالَ ِم ـ َن﴾( .)4وهــذه الخاصيــة النبويــة التــي بُعــث بهــا رســول
الرحمــة صــى اللــه عليــه وســلم هــي مصــدر ســعادة البرشيــة ،يقــول أبــو
ـكام وغــر الســعودَ «« :و َمــا أرســلناك» مبــا ذكــر وبأمثالــه مــن الرشائــع واألحـ ِ
ذلـ َـك مــن األمــو ِر التــي هــي منــا ٌط لســعادة الداريــن «إِالَّ َر ْح َمـ ًة للعاملــن»...
أي مــا أرســلناك مبــا ذكــر لعلــة مــن العلــل إال برحمتنــا الواســع ِة للعاملــن ْ
قاطب ـ ًة ،أو مــا أرســلناك يف حــا ٍل مــن األحــوا ِل إال حــال كونِــك رحم ـ ًة لهــم،
ـبب لســعادة الداريــن ،ومنشــأ النتظــام مصالحهــم يف ـت بــه سـ ٌفــإن مــا بُعثـ َ
النشــأتني»(.)5
- 1الرشبيني؛ الرساج املنري ،ج 4ص .74
- 2البخاري ،الجامع الصحيح ،رقم )7376( :كتاب التوحيد ،باب قول الله تبارك وتعاىل« :قل أدعوا الله أو أدعوا الرحمن»:
ج 9ص .115
- 3ابن بطال؛ رشح صحيح البخاري :ج 9ص .219
- 4سورة األنبياء ،اآلية.107 :
- 5أبو السعود؛ أبو السعود العامدي محمد بن محمد بن مصطفى 982ه ،إرشاد العقل السليم إىل مزايا الكتاب الكريم،
(دار إحياء الرتاث العريب – بريوت) ،ج 6ص .89
78
وقــد أقــام النبــي صــى اللــه عليــه وســلم نظــام التكافــل والرتاحــم الــذي
هــو مظهــر مــن مظاهــر التســامح يف مجتمــع املدينــة املنــورة ،وأَ َّســس لــه
صــى اللــه عليــه وســلم دســتو ًرا ينظــم عالقاتــه مــع كافــة األديــان فيــه؛
ليعيشــوا يف أمــن وســام ،ويقيمــوا مجتمعــا متســام ًحا .وكان مــن ركائــز هــذا
النظــام املــدين التكافــل والتــآزر؛ ففــي وثيقــة املدينــة املنــورة نصــوص عــدة
أكــدت هــذه القيمــة الفريــدة ،ونظمــت العالقــات بــن الســكان مــع اختــاف
أديانهــم وأعراقهــم ،ووثقــت التزامــات كل طــرف وواجباتــه وحقوقــه ،فأنتــج
مثــال
ذلــك مجتمعــا مســتقرا آمنــا متســامحا ،وأصبحــت املدينــة املنــورة ً
للمجتمــع املتكافــل املتــآزر الــذي يحقــق جميــع أف ـراده وســكانه التســامح
والتعايــش.
ومــن نصــوص الوثيقــة الدالــة عــى التكافــل بــن ســكان املدينــة وأطرافهــا
املختلفــة مــا ورد مــن إطــاق وصــف األمــة عــى أطـراف التعاقــد فقــد جــاء
ـاس}( .)1فقــد جعلتهــم هــذه الوثيقــة فيهــا{ :إنَّ ُهـ ْم أُ َّمـ ٌة َو ِ
احـ َد ٌة ِمـ ْن ُدونِ ال َّنـ ِ
أمــة واحــدة بغيــة تحقيــق التكافــل والتحالــف بينهــم ،مركــزة بذلــك عــى
التكافــل االجتامعــي ســواء بــن املســلمني ،أو بينهــم وبــن غريهــم ،مــع أن
هنــاك عوامــل داخــل املجتمــع مــن شــأنها عــادة أن تؤثــر عــى وحدتــه؛
كعشــائر األنصــار ،وقبائــل املهاجريــن ،والديانــات التــي كانــت تســكن يف
املدينــة .ويف مقابــل تركيــز وثيقــة املدينــة عــى الوحــدة والتنــارص؛ منعــت
يف كثــر مــن بنودهــا -كــا ســيأيت -الظلــم والعــدوان ،وهــذه التوجيهــات
التكافليــة هــي غايــة يف إيجــاد أرضيــة خصبــة للتســامح؛ إذ التكافــل يســاعد
عــى تطهــر املجتمــع مــن العــداوات ،ويســهم يف نــر االطمئنــان بــن الناس،
ومواســاة بعضهــم بعضــا ،وتلــك إحــدى مصــادر القــوة للمجتمــع والدولــة؛
يقــول وهبــة الزحيــي« :ويف التكافــل والتعــاون قــوة وتــواد وتراحــم وتــآزر،
وتخلــص مــن أمــراض الفقــر والتمــزق والحقــد والحســد»( .)2ورشط هــذا
التكافــل أن يكــون مطلقــا؛ غــر مقيــد بديــن أو مذهــب.
- 1ابن هشام؛ السرية النبوية :ج 1ص .501ومحمد حميد الله؛ مجموعة الوثائق :ص .59
- 2الزحييل؛ د وهبة بن مصطفى ،التفسري املنري يف العقيدة والرشيعة واملنهج( ،دار الفكر املعارص -دمشق ،ط،2 .
1418ه) ،ج 21ص .93
79
املطلب الثالث :الحرية الدينية:
انطالقًــا مــن أن األديــان اإللهيــة كلهــا متفقــة يف أصولهــا وغاياتهــا؛ وأنهــا
كلهــا مــن عنــد اللــه تعــاىل()1؛ فــإن الحريــة الدينيــة ركيــزة أســاس يف اإلســام،
ومظهــر مــن مظاهــر التســامح ،بــل ذهــب بعــض الباحثــن يف مفهــوم
التســامح إىل أن الحريــة الدينيــة هــي العامل األســاس يف التســامح؛ فالتســامح
هــو «االعـراف باآلخــر وحقــه يف التعبــر عــن رأيــه وعقيدتــه ،والتعصــب هــو
رفــض اآلخــر ،وســلبه حــق االعتقــاد ،وحــق التعبــر عــن رأيــه»(.)2
وتعنــي الحريــة الدينيــة حريــة اإلنســان يف اعتقــاده ومامرســة شــعائره
الدينيــة ،وقــد أرىس اإلســام هــذا املبــدأ؛ ألنــه مرتبــط يف األســاس بالقناعــة
واإلدراك ،وليــس قضيــة ُيكــن أن يجــر اإلنســان عليهــا ،أو يضطهــد بســببها،
وهــذه الحريــة الدينيــة هــي التــي تحفــظ لإلنســان إنســانيته ،يقــول أبــو
زهــرة« :وإن الحريــة الدينيــة هــي معنــى اإلنســانية»( .)3ويقــول أيضً ــا يف
بيــان أهميــة الحريــة الدينيــة ومركزيتهــا يف اإلســام« :ولقــد احــرم اإلســام
حريــة االعتقــاد ،وجعــل األســاس يف االعتقــاد هــو أن يختــار اإلنســان الديــن
الــذي يرتضيــه مــن غــر إكــراه وال حمــل ،وأن يجعــل أســاس اختيــاره
التفكــر الســليم ،وأن يحمــي دينــه الــذي ارتضــاه ،فــا يكــره عــى خــاف مــا
يقتضيــه»(.)4
ويتجــى التســامح يف هــذا املظهــر يف أن اللــه تعــاىل أعطــى اإلنســان حــق
االختيــار ،واحــرم إرادتــه ومشــاعره وتــرك لــه القــرار ،فلــم يفــرض عليــه
خاصــا.
معتق ـ ًدا ًّ
وهــذا املظهــر مــن مظاهــر التســامح خاصــة هــو الــذي يســهم يف البنــاء
األرسي بــن الزوجــن مختلفــي الديانــة مــع بقــاء الزوجــة الكتابيــة عــى دينها
80
ـت ُحص َٰنـ ُـت َوٱمل َ ـت ِم ـ َن ٱمل ُؤ ِم َٰنـ ِ ُحص َٰنـ ُ
تحــت زوج مســلم؛ لقولــه تعــاىلَ ﴿ :وٱمل َ
حص ِن ـ َن ـب ِمــن قَبلِ ُكــم إِ َذا ٓ َءات َيتُ ُمو ُه ـ َّن أُ ُجو َر ُه ـ َّن ُم ِ ِم ـ َن ٱل َِّذي ـ َن أُوتُــوا ْ ٱل ِكتَٰـ َ
َغـ َر ُم َٰسـ ِف ِح َني َو َل ُمتَّ ِخـ ِـذ ٓي أَخـ َدانٖ ﴾( ) .وحريــة االعتقــاد يف اإلســام ناتجــة
1
ـي لِلَّـ ِه َو َمــنِ ٱتَّبَ َعــنِ َمت َوج ِهـ َ ـوك فَ ُقــل أَسـل ُ كــا قــال ســبحانه﴿ :فَـ ِإن َحآ ُّجـ َ
81
ـب َوٱألُ ِّمِّي ـ َن َءأَس ـلَمتُم فَ ـ ِإن أَس ـلَ ُموا ْ فَ َقـ ِـد ٱهتَ ـ َدوا ْ َوقُــل �لِّل َِّذي ـ َن أُوتُــوا ْ ٱل ِكتَٰـ َ
َّوإِن تَ َولَّــوا ْ فَ ِإنَّ َــا َعلَيـ َـك ٱل َبلَٰ ـ ُغ َوٱللَّ ـ ُه بَ ِص ـ ُر بِٱل ِع َبــاد﴾( ) .وقــال عــز وجــل:
ِ 1
القلبــي الحقيقــي الحــر باإلميــان هــو الســبيل الوحيــد إىل اإلميــان ،يقــول
وهبــة الزحيــي« :مــن أجــل حريــة االعتقــاد أو الحريــة الدينيــة منــع القــرآن
اإلكــراه عــى الديــن؛ ...ألن اعتنــاق اإلســام ينبغــي أن يكــون عــن اقتنــاع
قلبــي واختيــار حــر ،ال ســلطان فيــه للســيف ،أو اإلك ـراه مــن أحــد .وذلــك
82
حتــى تظــل العقيــدة قامئــة يف القلــب عــى الــدوام ،فــإن فرضــت باإلرغــام
والســطوة ،ســهل زوالهــا وضاعــت الحكمــة مــن قبولهــا»(.)1
فالديــن ال يكــره النــاس عــى اعتناقــه ،وإمنــا ذلــك مرجعــه الختيار األشــخاص،
لــكل منهــم رشعتــه ومنهجــه ودينــه .وال يصــح القــول بنســخ اآليــة التــي
تنفــي اإلك ـراه يف الديــن يقــول أبــو زهــرة« :والحــق أن حكــم هــذه اآليــة:
﴿لٓ إِكـ َرا َه ِف ٱل ِّديــنِ ﴾()2؛ مــاض إىل يــوم القيامــة؛ ألنهــا تؤيــد حقيقــة ثابتــة،
َ
وتزكيهــا آيــات أخــرى ،وأحاديــث للنبــي صــى اللــه عليــه وســلم»( ).
3
إذن ،فاضطهــاد النــاس عــى الديــن منفــي عــن اإلســام ،فهــو ال يُكرههــم عىل
غــر مــا يقتنعــون بــه مــن األديــان ،ويقتــي ذلــك التســامح مــع املخالــف
مــن أصحــاب األديــان األخــرى.
الركيــزة الثانيــة :مامرســة الشــعائر؛ وهــذا مجــال التســامح الفعــي؛ فقــد
كفــل اإلســام مامرســة الشــعائر الدينيــة لجميــع املخالفــن؛ فالحريــة الدينيــة
ومامرســة الشــعائر متالزمــان ،فــإن هــذه الحريــة املكفولــة تقتــي أداء غــر
املســلمني شــعائر دينهــم ،والســاح لهــم بإقامتهــا ،وقــد طبــق الرســول صــى
اللــه عليــه وســلم هــذا النــوع مــن التســامح عمليــا ،حــن ســمح لوفــد نجران
بــأداء شــعائرهم الدينيــة يف مســجده صــى اللــه عليــه وســلم(.)4
يقــول وهبــة الزحيــي« :وتقريــر حريــة العقيــدة يســتتبع إقــرار حريــة
مامرســة الشــعائر الدينيــة؛ ألننــا أُمرنــا بــرك الذميــن ومــا يدينــون ،وال
يعتــدى عــى كنائســهم ومعابدهــم ،ولهــم مــا للمســلمني وعليهــم مــا عــى
املســلمني ،وال يناقشــون يف عقائدهــم إال باللــن والخطــاب الحســن ،قــال اللــه
اإلسالمي وأدلَّتُه( ،دار الفكر-دمشق ،ط ،)4 .ج 8ص .6209 ُّ - 1الزحييل؛ َو ْهبَة بن مصطفى ،ال ِف ْق ُه
- 2سورة البقرة ،اآلية.256 :
- 3أبو زهرة؛ زهرة التفاسري :ج 9ص .949
ُس ْوجِردي الخراساين ،أبو - 4ابن هشام؛ السرية النبوية1 :ج ص ،574والبيهقي ،أحمد بن الحسني بن عيل بن موىس الخ ْ َ
بكر البيهقي 458ه ،دالئل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الرشيعة( ،تحقيق :عبد املعطي قلعجي ،دار الكتب العلمية دار
اب َوف ِْد نَ ْج َرا َن الريان للرتاث ،ط1408 ،1 .ه 1988 -م)ُ ،ج َّم ُع أَبْ َو ِ
اب ُوفُو ِد الْ َع َر ِب إِ َل َر ُسو ِل الل ِه َص َّل الل ُه َعلَيْ ِه َو َسلَّ َم ،بَ ُ
َوشَ َها َد ِة الْ َ َسا ِق َف ِة لِ َن ِبيِّ َنا َص َّل الل ُه َعلَيْ ِه َو َسلَّ َم ،ج 5ص .382
83
ـي أَ َ
حسـ ُن إِ َّل ٱل َِّذيـ َن ظَلَ ُمــوا ْ تعــاىلَ ﴿ :و َل ت ُ َٰج ِدلُـ ٓوا ْ أَهـ َـل ٱل ِكتَٰـ ِ
ـب إِ َّل بِٱلَّ ِتــي ِهـ َ
ِمن ُهــم﴾(.)2(»)1
وهــذه قاعــدة أســاس يف الحريــة الدينيــة ،وهــي تــرك أهــل األديــان
األخــرى ومــا يدينــون بــه ،وعــدم مضايقتهــم يف إقامــة شــعائرهم ،ومامرســة
معتقداتهــم؛ تحقي ًقــا للتســامح ،وأول مــن أقــر ذلــك هــو النبــي صــى اللــه
عليــه وســلم ،حيــث ضمــن للديانــات املســتقرة يف املدينــة مامرســة ديانتهــم
كــا ســنبني ذلــك عنــد حديثنــا عــن وثيقــة املدينــة.
إن ترســيخ هــذه الركائــز يف املامرســة الدينيــة يســاعد عــى تحقيــق التســامح،
وســتتجاوز آثــاره حينئــذ املجموعــة الواحــدة ،والبلــد الواحــد ،إىل الجــوار
والعالقــات الدوليــة ،وهــذا مــا ســنبحثه يف مطالــب املبحــث القــادم.
84
املبحث الثالث :آثار التسامح ومثراته
إن للتســامح آثــا ًرا جليّ ـ ًة ،ومث ـر ٍ
ات يانع ـ ًة ،وفيــا يــأيت أســتعرض بعضً ــا مــن
تلــك اآلثــار والثم ـرات مــن خــال املطالــب اآلتيــة:
- 1ابن بيّه -منشور الكلمة التأطريية ملنتدى تعزيز السلم 2014م ،ص .35
85
أو الســام العاملــي ،فــإن اإلســام مل يــدع إىل هــذا املبــدأ فقــط ،بــل دعــا إىل
مــا يفــوق ذلــك مــن التســامح والتعايــش الــودي ،الــذي يتجــاوز املســاملة إىل
املــودة واملصاهــرة ،واالشـراك يف القرابــات ،واختــاط الدمــاء ،وإيجــاد زمالــة
﴿ل يَن َه ٰى ُك ـ ُم ٱللَّ ـ ُه َعــنِ ٱل َِّذي ـ َن لَــم يُ َٰق ِتلُوكُــم
عامليــة حقــة ،قــال اللــه تعــاىلَّ :
ِف ٱل ِّديــنِ َولَــم يُخ ِر ُجوكُــم ِّمــن ِديَٰ ِركُــم أَن ت َ َُّبو ُهــم َوت ِ
ُقسـطُ ٓوا ْ إِلَي ِهــم إِ َّن ٱللَّـ َه
ـط َني﴾( ،)1مــن وحــي هــذه النظــرة الوديــة لبقيــة الشــعوب يف ُقسـ ِ
ـب ٱمل ِ يُ ِحـ ُّ
اإلســام؛ نجــد قضيــة الســام العاملــي مدعمــة فيــه تدعيــا إيجابيــا ،بــرط
أن تكــون هنــاك صيانــة حقيقيــة لحريــة األديــان والعقائــد ،كــا تنــص عــى
ذلــك مختلــف الدســاتري واملواثيــق العامليــة .وضامنــات إق ـرار الســام العــام
يف اإلســام كثــرة ،فهــو قــد قــى عــى الفــوارق الجنســية والعصبيــة وتناحــر
الطبقــات ،وأوجــد نوعــا مــن الرابطــة الطيبــة بــن املســلمني وغريهــم؛
أساســها محبــة الشــعوب ومودتهــم ،والعنايــة بجلــب املنافــع لهــم ،ودفــع
املضــار عنهــم ،وأشــادت الرشيعــة بــروح التســامح معهــم»(.)2
وإمنــا أكــد اإلســام عــى تلــك الضامنــات ألجــل تحقيــق اآلثــار العائــدة عــى
املجتمــع واملؤثــرة فيــه ،وقــد ربطهــا بثالثــة مقومــات رئيســة ،تتجــى فيهــا
تلــك اآلثــار ،وهــي:
أول :املبــادرة الذاتيــة الهادفــة لتحقيــق املــودة واأللفــة والســام؛ وذلــك ً
باإلقــدام عــى التســامح مــع املخالفــن واملبــادرة الشــخصية إليــه ،والعفــو
والصفــح عنهــم ولــو كانــوا أعــداء ،وهــذا مــا وجــه إليــه القــرآن الكريــم يف
حس ـ ُن ـي أَ َ آيــات عديــدة ،وأكرثهــا رصاحــة قولــه تعــاىل﴿ :ٱدفَــع بِٱلَّ ِتــي ِهـ َ
فَ ـ ِإذَا ٱلَّـ ِـذي بَي َنـ َـك َوبَي َن ـ ُه َع ـ َٰد َو ٞة كَأَنَّ ـ ُه َو ِ ٌّل َح ِمي ـ ٞم﴾( .)3يقــول ابــن عطيــة
عنهــا :إنهــا «آيــة جمعــت مــكارم األخــاق وأنــواع الحلــم ،واملعنــى :ادفــع
أمــورك ومــا يعرضــك مــع النــاس ومخالطتــك لهــم بالفعلــة أو بالســرة التــي
هــي أحســن الســر والفعــات ،فمــن ذلــك بــذل الســام ،وحســن األدب،
86
وكظــم الغيــظ ،والســاحة يف القضــاء واالقتضــاء وغــر ذلــك .قــال ابــن
عبــاس :إذا فعــل املؤمــن هــذه الفضائــل عصمــه اللــه مــن الشــيطان وخضــع
لــه عــدوه»(.)1
فالتســامح يف هــذا املوطــن يقــود إىل التصــايف والتحــاب والصداقــة الحميميــة؛
كــا عــر عــن ذلــك القــرآن الكريــم ،قــال ابــن كثــر« :وقولــه﴿ :فَـ ِإذَا ٱلَّـ ِـذي
بَي َنـ َـك َوبَي َنـ ُه َعـ َٰد َو ٞة كَأَنَّـ ُه َو ِ ٌّل َح ِميـ ٞم﴾( ،)2وهــو الصديــق ،أي :إذا أحســنت
إىل مــن أســاء إليــك قادتــه تلــك الحســنة إليــه إىل مصافاتــك ومحبتــك ،والحنو
عليــك ،حتــى يصــر كأنــه ويل لــك حميــم أي :قريــب إليــك مــن الشــفقة
عليــك واإلحســان إليــك»( .)3فهــذه اآليــة أصــل يف بيــان آثــار التســامح عــى
املجتمــع.
ثان ًيــا :تحقيــق التعــاون بــن أفـراد املجتمــع؛ فقــد أمــر اللــه تعــاىل بالتعــاون
عــى تحقيــق العفــو ،وتجنــب التشــفي واالنتقــام؛ ألن ذلــك مــا يجعــل
ــى ِ ِّ
ٱلــر ومســتحيل؛ فيقــول اللــه تعــاىلَ ﴿ :وت َ َعا َونُــوا ْ َع َ
ً التســامح مفقــو ًدا
َوٱلتَّق ـ َو ٰى َو َل تَ َعا َونُــوا ْ َعـ َـى ٱ ِإلثـ ِـم َوٱل ُعــد َٰونِ ﴾( ) .يقــول أبــو الســعود« :ملــا
4
كان االعتــدا ُء غالبــا بطريــق التظاهــ ِر والتعــاون أُ ِمــروا إِث ْــ َر مــا نُهــوا عنــه
بــأن يتعاونــوا عــى كل مــا هــو مــن بــاب الــر والتقــوى ...فدخــل فيــه مــا
نحــن بصــدده مــن التعــاون عــى العفــو واإلغضــا ِء عــا وقــع منهــم دخــوال
أ َّول ًّيــا ،ثــم نُ ُهــوا عــن التعــاون يف كل مــا هــو مــن َمقولــة الظلـ ِـم واملعــايص ...
ـي عــن التعــاون عــى االعتــداء واالنتقــام»(.)5 فانــدرج فيــه النهـ ُ
واألصــل أن هــذه اآليــة توجيــه للصحابــة ريض اللــه عنهــم بالتعــاون عــى
تحقيــق التســامح مــع مــن اعتــدى عليهــم مــن املرشكــن ،وإقامــة آثــاره
يف املجتمــع ،والنهــي عــن االنتقــام واالعتــداء الــذي ال ميكــن معــه إقامــة
مجتمــع يســوده التســامح ،وقــد ذكــر املفــرون أن هــذه اآليــة نزلــت بعــد
87
صلــح الحديبيــة حــن نــوى بعــض املســلمني صــد املرشكــن عــن البيــت
الحـرام؛ جــاء يف الجامــع ألحــكام القــرآن للقرطبــي« :ملــا صــد املســلمون عــن
البيــت عــام الحديبيــة ،مــر بهــم نــاس مــن املرشكــن يريــدون العمــرة ،فقــال
املســلمون :نصدهــم كــا صدنــا أصحابهــم ،فنزلــت هــذه اآليــة»(.)1
ثالثًــا :املامرســة التســامحية الضامنــة لقيــم الســلم والنــأي عــن العنــف؛
وهــذه املامرســة تعــم جميــع املجــاالت ،التــي يتحقــق فيهــا االختــاط مــع
اإلنســان اآلخــر ،ســواء املوافــق أو املخالــف ،وهــذا هــو التطبيــق العمــي
للتســامح ،وقــد حــض النبــي صــى اللــه عليــه وســلم عــى املامرســة
التســامحية املطلقــة ،فقــال صــى اللــه عليــه وســلمَ { :ر ِحـ َم اللَّـ ُه َر ُجـ ًـا َسـ ْم ًحا
ــى}(.)2ــرىَ ،وإِذَا اقْتَ َ
إِذَا بَــاعََ ،وإِذَا اشْ َ َ
فالتســامح يــرز أثــره يف املعــارشة واملشــاركة ،والتعامــل مــع املخالــف ،الــذي
تجمــع بينــه وبــن أخيــه األلفــة اإلنســانية الجامعــة؛ فإنســانية اإلنســان ال
تكمــل وال تنبــل إال بفعــل الفضائــل وتعديهــا إىل غــره ،مبعــارشة جميلــة،
ـام ينتقــل بــه املجتمــع مــن ومحبــة صادقــة ،وكل ذلــك لتحقيــق هــدف سـ ٍ
التســامح إىل الســلم ،ثــم إىل قيــم الســعادة واإلســعاد ،وتلــك صبغــة العالقــة
اإلنســانية األصيلــة؛ يقــول مســكويه« :ولهــذا قــال الحكــاء :إن اإلنســان
مــدين بالطبــع أي هــو محتــاج إىل مدينــة فيهــا خلــق كثــر ،لتتــم لــه الســعادة
ـكل بالطبــع وبالــرورة يحتــاج إىل غــره ،فهــو لذلــك مضطــر إىل اإلنســانية ،فـ ٌّ
مصافــاة النــاس ومعارشتهــم العــرة الجميلــة ،ومحبتهــم املحبــة الصادقــة؛
ألنهــم يكملــون ذاتــه ،ويتممــون إنســانيته ،وهــو أيضــا يفعــل بهــم مثــل
ذلــك ...وليســت الفضائــل إعدامــا ،بــل هــي أفعــال وأعــال ،تظهــر عنــد
مشــاركة النــاس ومســاكنتهم ،ويف املعامــات ورضوب االجتامعــات .ونحــن
إمنــا نعلــم ونتعلــم الفضائــل اإلنســانية التــي نســاكن بهــا النــاس ونخالطهــم،
ونصــر عــى أذاهــم لنصــل منهــا وبهــا إىل ســعادات أخــر إذا رصنــا إىل حــال
أخــرى»(.)3
- 1القرطبي ،الجامع ألحكام القرآن؛ ج 6ص .46
- 2البخاري ،الجامع الصحيح ،كتاب البيوع ،باب السهولة والسامحة يف الرشاء والبيع ،ج 3ص 57رقم .2076
- 3مسكويه؛ تهذيب األخالق وتطهري األعراق :ص .10ونص مسكويه هذا يؤصل ملنهج دولة اإلمارات العربية يف املوازاة
بني التسامح والسعادة يف اسرتاتيجيتها الوطنية –كام سيأيت بيانه.-
88
إن الهــدف العمــي مــن ثقافــة التســامح هــو جعلــه مامرســة اجتامعيــة،
تلقــي بظاللهــا عــى ســائر فئــات املجتمــع ،وبهــذه املامرســة املطالَــب بهــا
كل فــرد؛ تنتــر قيمــة الســام يف كل بيئــة ،وال تتحقــق هــذه املامرســة إال
بالتدريــج والرتبيــة ،واملبــادرة الفرديــة الخالقــة ،واالتصــاف بأخــاق التســامح،
وهــي التــي حــث النبــي صــى اللــه عليــه وســلم عــى التخلــق بهــا يف
مختلــف األدوار االجتامعيــة ،فقــد قــال صــى اللــه عليــه وســلمُ { :حــ ِّر َم
ـاس}( .)1والقــرب مــن النــاس ـب ِمـ َن ال َّنـ ِ ـن لَـ ِّ ٍ
ـن َسـ ْهلٍ قَرِيـ ٍ َعـ َـى ال َّنــا ِر ك ُُّل َهـ ِّ ٍ
ومخالطتهــم بالســهولة كــا يف الحديــث؛ فيــه داللــة عــى مامرســة التســامح
مــع الجميــع ،والتســاكن معهــم باللطــف ،ومالزمــة تلــك األخــاق؛ تعنــي ري
النفــس مبــاء القيــم ،حتــى ينشــأ عنهــا نبــات التســامح املثمــر لــكل خــر ،يف
مختلــف الظــروف وأحلــك األوقــات ،وهكــذا هــو هــدي النبــي صــى اللــه
عليــه وســلم ،فقــد ســجل لنــا التاريــخ أعظــم مامرســة عمليــة لخلــق العفــو
والصفــح عندمــا تســامح صــى اللــه عليــه وســلم مــع قريــش ،الذيــن آذوه
ســنني عديــدة ،فقــال لهــم يــوم فتــح مكــة بعــد أن ظنــوا فيــه كل الظنــون:
{ا ْذ َهبُــوا فَأَنْتُ ـ ُم الطُّلَ َقــا ُء}( .)2ومواقفــه صــى اللــه عليــه وســلم يف مامرســة
التســامح كثــرة ،فقــد اتســمت رســالته كلهــا ويف جميــع ظروفهــا بقيــم
الصفــح والعفــو؛ ليغــذي يف أتباعــه معنــى اســتدامة تلــك القيمــة واطرادهــا،
ـف عفـ ٍو لــه عــى الــذي قبلــه ،وهكــذا موق ًفــا فيعطــف كل مســلم آخـ َر موقـ ِ
بعــد موقــف ،لتســتنري سلســلة قيــم املــرء عــى مبــادئ ثابتــة ،ويتضــام أفـراد
املجتمــع عليهــا.
89
إال عــى نهــج التســامح؛ وكــا هــو معلــوم فــإن مجــال التســامح هــو التنــوع
واالختــاف ،فأينــا كان التنــوع والتعدديــة فالتســامح مطلــوب؛ فلهــذا كان
التســامح أُســا مــن أســس العالقــات الدوليــة ،وقــد كان النبــي صــى اللــه عليه
وســلم يــويل اهتام ًمــا كبـ ًرا لتطبيــق منهــج التســامح يف العالقــات بــن البلدان
ـول الل ـ ِه صــى اللــه عليــه وســلم، والقبائــل؛ ففــي الحديــث :أنــه بَ َعــثَ َر ُسـ ُ
ضبُــو ُه ،فَ َجــا َء إِ َل َر ُســو ِل الل ـ ِهـي ِم ـ ْن أَ ْح َيــا ِء الْ َع ـ َر ِب ،ف ََس ـ ُّبو ُه َو َ َ َر ُجـ ًـا إِ َل َحـ ٍّ
ـول اللـ ِه صــى اللــه عليــه وســلم: ـال َر ُسـ ُ صــى اللــه عليــه وســلم ،فَأَ ْخـ َ َ
ـر ُه ،فَ َقـ َ
ـوك}( .)1فمــدح النبــي صــى ضبُـ َ ـتَ ،مــا َسـ ُّب َوك َو َل َ َ {لَـ ْو أَ َّن أَ ْهـ َـل ُعـ َـا َن أَت َ ْيـ َ
اللــه عليــه وســلم هــذا البلــد وأهلــه ألنهــم يتســامحون مــع غريهــم :قــال
بعــض العلــاء« :كان أهــل عــان أرسع النــاس قبــوال للخــر»(.)2
وأصــل هــذا البــاب هــو قولــه تعــاىل﴿ :يَٰٓأَيُّ َهــا ٱل َّنـ ُ
ـاس إِنَّــا َخلَق َٰن ُكــم ِّمــن َذكَـ ٖر
ــل لِتَ َعا َرفُــ ٓوا ْ﴾( .)3فهــذه اآليــة دليــل عــى َــى َو َج َعل َٰنكُــم شُ ــ ُعوبٗا َوقَ َبآئِ َ َوأُنث ٰ
أن اإلســام مل ينظــر إىل الديــن أو املعتقــد يف بنــاء العالقــات بــن الــدول
والشــعوب ،بــل تلــك العالقــات إمنــا تكــون عــى أســاس العيــش املشــرك
والســلم وإعــار األرض.
إن الفهــم الضيــق ملفهــوم العالقــات الدوليــة يســتمد ضيــق أُفُقــه مــن
العدوانيــة واإلقصــاء ،واإلســام يدعــو إىل تقريــر مبــادئ الخــر والتعــاون
وإعــار األرض ،وال يتحقــق ذلــك إال بالعالقــات املبنيــة عــى التســامح،
وقــد راعــى اإلســام يف العالقــات الدوليــة ثالثــة أســس يك تكــون قامئــة عــى
التعــاون والتفاهــم والتســامح ،وهــي:
أول :الســلم :فاألصــل يف العالقــات بــن الــدول يف اإلســام هــو الســلم، ً
والقيــم اإلنســانية املشــركة التــي تتفيــأ البرشيــة كافــة ظاللهــا؛ فيعيشــون
يف تســامح واطمئنــان ،بــدون حــروب وال افتتــان ،ويعــم البســيطة كلهــا
- 1مسلم ،الصحيح ،رقم )2544( :كتاب فضائل الصحابة ،باب فضل أهل عامن .ج 4ص .1971
- 2ابن الجوزي؛ جامل الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن عيل بن محمد الجوزي 597ه ،كشف املشكل من حديث
الصحيحني( ،تحقيق :عيل حسني البواب ،دار الوطن – الرياض) ،ج 2ص .295هكذا يف النسخة املطبوعة «للخرب» ولعله:
«يف الخري».
- 3سورة الحجرات؛ اآلية.13 :
90
االســتقرار واألمــان؛ هــذا هــو منهــج العالقــات الدوليــة يف اإلســام ،قــال اللــه
ـلم فَٱج َنــح لَ َهــا َوتَـ َوكَّل َعـ َـى ٱللَّـ ِه﴾( .)1ويــدل عــى لسـ ِتعــاىلَ ﴿ :وإِن َج َن ُحــوا ْ لِ َّ
هــذا املعنــى آيــات أخــرى يف القــرآن الكريــم ،يقــول أبــو زهــرة« :إن اإلســام
مــا جــاء للحــرب ،بــل جــاء للســام ،وهــو يقــولَ ﴿ :و َل تَقُولُــوا ْ لِ َمــن أَل َقـ ٰٓ
ـى
ـت ُمؤ ِم ٗنــا ت َبتَ ُغــو َن َع ـ َر َض ٱل َح َي ـ ٰو ِة ٱل ُّدن َيــا﴾( .)2فهــو ديــن ٱلس ـلَٰ َم لَسـ َ
إِلَي ُك ـ ُم َّ
الســام ،ومــا كانــت الحــرب إال لتأييــد الســام ،وليكــون عــى العــدل ...،ومــا
حــارب النبــي صــى اللــه عليــه وســلم املرشكــن إال بعــد أن فتنــوا النــاس عــن
دينهــم ،وأخرجوهــم مــن ديارهــم وأموالهــم ،ورشدوا املؤمنــن ،فــكان البــد
مــن القتــال ليدفعوهــم ،ومينعوهــم مــن هــذا الظلــم ،فــإذا جنحــوا للســلم،
وامتنعــوا عــن الفتنــة ،فقــد زال ســبب القتــال ،وعــاد األمــر إىل أصــل الســام
الــذي هــو أســاس العالقــة اإلنســانية بــن املســلمني وغريهــم»(.)3
ويف هــذا البــاب تثــار الشــبه ،ويتهــم اإلســام زورا وبهتانــا مبــا هــو بــريء
منــه ،فمــرة بأنــه ديــن العنــف ،وأخــرى بأنــه ديــن القتــل ،وتــارة أخــرى بأنــه
يدعــو لبنــاء العالقــات مــع اآلخريــن عــى أســاس القتــال ،وقــد تــوىل أبــو
زهــرة -باعتبــاره أبــرز العلــاء املتأخريــن الذيــن اهتمــوا بالعالقــات الدوليــة
يف اإلســام ،وخصــص هــذا الجانــب مبقــاالت ودراســات متعــددة -تــوىل يف
دراســاته تفنيــد مــن يتهــم اإلســام بأنــه ليــس ديــن ســام مســتندا يف ذلــك
إىل مــا يف كتــب الفقهــاء ،يقــول رحمــه اللــه« :أمــا مســاملة املســلمني لغــر
املســلمني ،فقــد أثــار القــول حولهــا مــن فهــم ظواهــر األمــور ،ومل يتغلغــل يف
بواطنهــا ،إذ قــال :إن اإلســام قــد أبــاح القتــال ،والقتــال والســام نقيضــان َل
يجتمعــان ،والكــرة الكــرى مــن فقهــاء املســلمني تقــرر أن األصــل يف العالقــة
الدوليــة بــن املســلمني وغريهــم الحــرب ،حتــى يتقدمــوا بعهــد أو موادعــة،
ـلم فَٱج َنــح لَ َهــا َوت َ ـ َوكَّل َعـ َـى ٱللَّ ـ ِه﴾ كــا قــال ســبحانهَ ﴿ :وإِن َج َن ُحــوا ْ لِ َّ
لسـ ِ
( ،)4ذلــك قــول الذيــن فهمــوا األمــور بظواهرهــا ،والحقيقــة أن اإلســام
91
دعــا إىل الســام وحــث عليــه ،ومبــدؤه العــام التعــارف بــن بنــي اإلنســان،
ـاس إِنَّــا َخلَق َٰن ُكــم ِّمــن َذكَ ـ ٖر َل التنابــذ بينهــم؛ ولــذا قــال تعــاىل﴿ :يَٰٓأَيُّ َهــا ٱل َّنـ ُ
َوأُنثَـ ٰ
ـى َو َج َعل َٰن ُكــم شُ ـ ُعوبٗا َوقَبَآئِـ َـل لِتَ َعا َرفُـ ٓوا ْ إِ َّن أَك َر َم ُكــم ِعنـ َد ٱللَّـ ِه أَت َقىٰ ُكــم إِ َّن
ٱللَّـ َه َعلِيـ ٌم َخ ِبـ ٞر﴾( ،)1فــا جــاء اإلســام للحــرب والخصــام ،بــل جــاء بالهــدى
والســام ،ولكــن ســام اإلســام ســام عزيــز قــوي ،وليــس بســام ذليــل خانــع،
والســام القــوي يــرد االعتــداء مبثلــه»(.)2
ومثــل هــذه اآليــات اآلمــرة بالســلم أيضــا حديــث النبــي صــى اللــه عليــه
ـي صــى اللــه وســلم يف األمــر مبســاملة الــرك وأهــل الحبشــة ،وفيــه أن ال َّن ِبـ َّ
ـر َك َمــا ت َ َركُوكُـ ْم} ـالَ { :د ُعــوا الْ َحبَشَ ـ َة َمــا َو َد ُعوكُـ ْمَ ،واتْ ُركُــوا الـ ُّ ْ عليــه وســلم قَـ َ
( .)3والقصــد يف الحديــث مســاملتهم ،يقــول املنــاوي{« :دعــوا الحبشــة} أي
اتركــوا التعــرض البتدائهــم بالقتــال {مــا ودعوكــم} يعنــي مــا وادعوكــم أي
ســاملوكم{ ...واتركــوا الــرك مــا تركوكــم} أي :مــدة تركهــم لكــم فــا تتعرضــوا
لهــم إال إن تعرضــوا لكــم»( .)4فالتســامح والســام هــا األصــل ،وال يلجــأ إىل
الحــروب والقتــال إال عنــد الــرورة؛ يقــول وهبــة الزحيــي« :أمــا الحــرب
يف اإلســام ،فهــي مرشوعــة كــا عرفنــا لغايــة محــدودة ،ويف نطــاق ضيــق،
وليســت هــي مرشوعــة لذاتهــا ...والســلم الــذي هــو أســاس العالقــات
الدوليــة يف اإلســام ليــس معنــاه إلقــاء الســاح وســبات األمــة»(.)5
ثان ًيــا :حســن الجــوار :إن مفهــوم الجــوار يف العالقــات بــن الشــعوب يتســع
ليشــمل الحضــارات والــدول املختلفــة املتجــاورة ،فيدخــل يف تنظيــم هــذه
العالقــات وصيــة اإلســام بالجــار ،وكفايتــه الحقــوق الواجبــة ،ومواســاته
وعــدم إيذائــه ،وقــد فهــم علــاء اإلســام مــن الوصيــة بالجــار العمــوم،
يقــول القرطبــي« :أمــا الجــار فقــد أمــر اللــه تعــاىل بحفظــه والقيــام بحقــه،
والوصــاة برعــي ذمتــه يف كتابــه ،وعــى لســان نبيــه .أال ت ـراه ســبحانه أكــد
92
ـرب﴾(…)1 ذكــره بعــد الوالديــن واألقربــن فقــال تعــاىلَ ﴿ :وٱل َجــا ِر ِذي ٱل ُقـ َ ٰ
وعــى هــذا فالوصــاة بالجــار مأمــور بهــا ،منــدوب إليهــا مســلام كان أو كافـرا،
وهــو الصحيــح .واإلحســان قــد يكــون مبعنــى املواســاة ،وقــد يكــون مبعنــى
حســن العــرة ،وكــف األذى ،واملحامــاة دونــه .روى البخــاري عــن عائشــة –
ريض اللــه عنهــا -عــن النبــي صــى اللــه عليــه وســلم قــالَ { :مــا ز ََال ج ِْبِيـ ُـل
ـت أَنَّـ ُه َسـ ُي َو ِّرث ُ ُه}( .)2وعــن أيب رشيــح أن النبــي وصي ِنــي بِالْ َجــارَِ ،حتَّــى ظَ َن ْنـ ُ يُ ِ
صــى اللــه عليــه وســلم قــالَ } :واللَّــ ِه الَ يُ ْؤ ِمــ ُنَ ،واللَّــ ِه الَ يُ ْؤ ِمــ ُنَ ،واللَّــ ِه الَ
ـال{ :الَّـ ِـذي الَ يَأْ َم ـ ُن َجــا ُر ُه بَ َوائِ َق ـ ُه}ـول اللَّ ـ ِه؟ قَـ َيُ ْؤ ِم ـ ُن» ِقيـ َـلَ :و َم ـ ْن يَــا َر ُسـ َ
( ،)3وهــذا عــام يف كل جــار»( ) .وحســن الجــوار بــن الــدول يحقــق قيمــة 4
93
اآليــة وغريهــا مــن اآليــات توجــب الوفــاء بالعهــود وت ُحتِّــم عــدم نقضهــا،
وتحــذر مــن الغــدر والخيانــة والغــش.
هــذه األســس آنفــة الذكــر هــي التــي تقيــم القيــم األخالقيــة واألخويــة
املتينــة بــن املجتمعــات املختلفــة ،وهــي كفيلــة بإقامــة ثقافــة التســامح يف
هــذا النــوع مــن العالقــات ،فــإن «أصــول لُحمتهــا وســداها اإلخــاء اإلنســاين،
والســام العاملــي ،والتعــاون الــدويل وهــي وحدهــا التــي تكفــل للبرشيــة
الحيــاة اآلمنــة املطمئنــة ،الحيــاة التــي تجــدر باإلنســان الــذي كرمــه خالقــه،
وجعلــه خليفــة يف األرض ،وأســبغ عليــه نعمــه ظاهــرة وباطنــة»(.)1
وكــا بينــا يف بدايــة هــذا املطلــب أن أصــل هــذه العالقــات هــو الســلم
والتعــارف ،نختــم هــذا املطلــب أيضــا بأنــه حتــى ولــو كانــت العــداوة قامئــة
بــن مجتمعــات معينــة ،فيبقــى التســامح واملــودة مرجــوة يف أي وقــت
ــى ٱللَّــ ُه أَن يَج َع َ
ــل بَي َنكُــم َوبَــ َن وحــن ،مصداقــا لقــول اللــه تعــاىلَ ﴿ :ع َ
ٱل َِّذيــ َن َعا َديتُــم ِّمن ُهــم َّمــ َو َّد ٗة َوٱللَّــ ُه ق َِديــ ٞر َوٱللَّــ ُه َغفُــو ٞر َّر ِحيــ ٞم﴾( ).
2
ومبــا قررنــاه يف هــذا الفصــل تــرز أهميــة التســامح باعتبــار حكمــه الرشعــي،
ودعــوة الفطــرة اإلنســانية إليــه ،وبالنظــر أيضــا إىل تجلياتــه ،فهــو ســبيل
لتحقيــق األخــوة اإلنســانية العامــة والخاصــة كــا تقــدم ،ولــه آثــار عــى
املجتمعــات يف اســتقرارها االجتامعــي ،وأمنها ،وســامها ،وتنميتهــا االقتصادية.
وألن التســامح داخــل دائــرة األخــوة اإلنســانية الخاصــة املنبثقــة مــن روابــط
الديــن ،مــن أهــم أنــواع التســامح فاعليـ ًة وتأثـ ًرا ،وأجدرهــا تطبيقــا وإعــاال،
فــإين ســأخصص لــه الفصــل القــادم.
- 1الدسوقي ،محمد -أصول العالقات الدولية بني اإلسالم والترشيعات الوضعية( ،مجلة مجمع الفقه اإلسالمي ،العدد
السابع) ص .1719
- 2سورة املمتحنة؛ اآلية.7 :
94
الفصــل الثالــث :أســس التســامح مــع املخالــف مــن
املســلمني ،ويحتــوي عــى مبحثــن:
املبحث األول :مرشوعية االختالف وضوابطه.
املبحــث الثــاين :قيــم التســامح بــن املســلمني .الفصــل
الثالــث :أســس التســامح مــع املخالــف مــن املســلمني
إن بنــاء مجتمــع متســامح يتوقــف عــى مــدى تناغمــه الداخــي واســتقرار
الروابــط التواصليــة بــن مكوناتــه ،هــذه الحقيقــة هــي االنطالقــة األســاس
للتســامح ،فالعالقــات الداخليــة كلــا كانــت مبنيــة عــى التواصــل والرتابــط،
واملــودة واالحـرام ،وقبــول اآلخــر ،وبعيــدة عــن الجفــاء والتقاطــع واإلقصــاء؛
كان هــذا املجتمــع قابـ ًـا للتســامح مــع نفســه ومــع اآلخريــن ،وأصبــح هــذا
التســامح صل ًبــا مبنيــا عــى أســس راســخة.
وهــذا يعنــي أن األولويــة يف التســامح مــع البعيــد تنطلــق مــن التســامح مــع
القريــب؛ وهــذا مــا بينــه القــرآن الكريــم ملــا وىص باإلحســان للجــار القريــب
ـب﴾( .)1نقــل قبــل البعيــد؛ يف قولــه تعــاىلَ ﴿ :وٱل َجــا ِر ِذي ٱل ُقـ َ ٰ
ـرب َوٱل َجــا ِر ٱل ُج ُنـ ِ
ابــن عطيــة قــول بعــض املفرسيــن يف تفســر هــذه اآليــة« :الجــار ذو القــرىب هو
ـب هــو الجــار اليهــودي أو الن ـراين ،فهــي عنــده الجــار املســلمَ ،والْجــا ِر الْ ُج ُنـ ِ
قرابــة اإلســام وأجنبيــة الكفــر»( ) .وقــال العــز ابــن عبــد الســام يف تفســره:
2
ُــرب﴾ املناســب( ،)3أو القريــب يف الديــن أراد بــه املســلم. «﴿ َوٱل َجــا ِر ِذي ٱلق َ ٰ
ـب﴾ األجنبــي ال نســب بينــك وبينــه ،أو البعيــد يف دينــه»( ).
4
﴿ َوٱل َجــا ِر ٱل ُج ُنـ ِ
إن تعاليــم الديــن اإلســامي قــررت أن االختــاف بوصفــه حقيقــة طبيعيــة
كونيــة ورشعيــة ،فكــا أن التنــوع واقــع بــن املجتمــع اإلنســاين عامــة ،فهــو
أيضً ــا جــا ٍر داخـ َـل املجموعــة الواحــدة ،ومل يجعــل اإلســام االختــاف بهــذه
الــرورة الكونيــة إال ألنــه عنــر إيجــايب تــدور عليــه قيــم أخــرى راقيــة؛
ترقــى بالعقــول وتنمــي املجتمعــات ،وتحقــق التقــدم والتنافــس ،ولهــذا كان
را
الحــوار والتســامح والتعايــش هــي الضامنــات التــي جعلهــا اإلســام ج ـ ً
للرحمــة واملــودة ،ومــن أجــل تحقيــق ذلــك وبيــان ســبله ،عقــدت هــذا
الفصــل املشــتمل عــى مبحثــن
- 1سورة النساء؛ اآلية.36 :
- 2ابن عطية؛ املحرر الوجيز :ج 2ص .50
- 3يعني الذي بينك وبينه نسب.
- 4العز بن عبد السالم ،أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السالم بن أيب القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي،
امللقب بسلطان العلامء 660ه ،تفسري القرآن ،تحقيق :الدكتور عبد الله بن إبراهيم الوهبي( ،دار ابن حزم – بريوت،
ط1416 ،1 .ه 1996م) ،ج 1ص .322وهذا املعنى أحد مربرايت لتقديم التسامح مع املخالف من املسلمني عىل التسامح
مع املخالف من غريهم ،مع أن قيم التسامح مع كليهام هي هي تقريبا؛ لكني أحببت أن أبدأ مبا بدأ الله تعاىل به ،وهو
التسامح مع القريب ،ليكون أساسا للذي ثنى به سبحانه ،وهو التسامح مع البعيد.
96
املبحث األول :مرشوعية االختالف وضوابطه
إن االختــاف عنــر مهــم يف البنــاء التســامحي الدينــي ،وملكانتــه وخطورتــه،
وإمــكان اســتخدامه يف أدوار ســلبية - ،كــا قــد يــؤدي يف جانبــه اإليجــايب إىل
االئتــاف والحكمــة والتعــاون -؛ كان لزا ًمــا معالجــة هــذا املفهــوم ،وضبطــه
وتحديــده ،وهــو مــا خصــص لــه هــذا املبحــث مــن خــال مطالــب ثالثــة:
97
مقصدهــا واحــد ،وهــو تحقيــق عبــادة اللــه تعــاىل ،ورحمــة خلقــه والتوســعة
عليهــم ،وهــذا كلــه مــا يســاعد عــى تحقيــق التســامح.
إضافــة إىل أن االختــاف -كــا ســبق -أمـ ٌر كــوين بــن النــاس؛ ألنــه يســتحيل
اجتامعهــم واتفاقهــم كلِّهــم؛ الختــاف أذواقهــم وطبائعهــم وأعرافهــم
وعقولهــم ،وهــذا مــا بيّنــه القــرآن الكريــم؛ يقــول اللــه تعــاىلَ ﴿ :ولَــو شَ ـآ َء
ـاس أُ َّم ـ ٗة َٰو ِح ـ َد ٗة َو َل يَ َزالُــو َن ُمختَلِ ِف ـ َن ،إِ َّل َمــن َّر ِح ـ َم َربُّـ َـك
َربُّـ َـك لَ َج َعـ َـل ٱل َّنـ َ
َولِ َٰذلِـ َـك َخلَ َق ُهــم﴾( ) .يقــول ابــن كثــر« :أي :وال ي ـزال الخلــف بــن النــاس 1
ـول اللَّ ـ ِه صــى اللــه عليــه ـاص ،أَنَّـ ُه َس ـ ِم َع َر ُسـ َالحديــث َع ـ ْن َع ْم ـرِو بْــنِ ال َعـ ِ
ـاب فَلَـ ُه أَ ْجـ َرانِ َ ،وإِذَا َح َكـ َمـول{ :إِذَا َح َكـ َم ال َحاكِـ ُم فَا ْجتَ َهـ َد ثُـ َّم أَ َصـ َ وســلم يَ ُقـ ُ
فَا ْجتَ َهـ َد ث ُـ َّم أَ ْخطَـأَ فَلَـ ُه أَ ْجـ ٌر}( ) .وبهــذا الحديــث اســتدل اإلمــام الشــافعي
5
98
وكالم العلــاء يف بيــان الحكمــة مــن رشعيــة الخــاف كثــر جــدا ،وقــد تتبعــت
بعــض مقاصدهــم يف ذلــك ،واألرسار التــي بينوهــا ،وأذكــر منهــا بعــض مــا
يتعلــق بالتســامح وهــي:
أول :أن االختــاف فســحة ورحمــة ورفــق بعبــاد اللــه تعــاىل ،وهــذه الصفــات ً
مــن مقاصــد التســامح يقــول ابــن العــريب« :فإنــه بعــد مــوت النبــي صــى
اللــه عليــه وســلم تختلــف العلــاء فيــه ،فيحــرم عــامل ،ويحــل آخــر ،ويوجــب
مجتهــد ،ويســقط آخــر؛ واختــاف العلــاء رحمــة للخلــق ،وفســحة يف الحــق،
وطريــق مهيــع إىل الرفــق»(.)1
ثان ًيــا :أن االختــاف بــن العلــاء واملــدارس الفقهيــة ،يف املســائل التــي يســوغ
فيهــا الخــاف ،إمنــا هــو تحقيــق ملقصد الســعة عــى الخلــق ،والتيســر عليهم،
ورفــع الضيــق والحــرج عنهــم ،وقــد تقــدم بيــان عالقــة التســامح بالتيســر؛
َاسـ ِـمَ ،ع ـ ْن فقــد روى ابــن عبــد الــر القرطبــيَ :ع ـ ْن َعبْـ ِـد ال َّر ْح َمــنِ بْــنِ الْق ِ
ض اللَّـ ُه َع ْنـ ُهـال« :لَ َقـ ْد أَ ْع َج َب ِنــي قَـ ْو ُل ُع َمـ َر بْــنِ َع ْبـ ِـد الْ َعزِيـ ِز َر ِ َأَبِيـ ِه ،أَنَّـ ُه قَـ َ
ـاب َر ُســو ِل اللَّ ـ ِه صــى اللــه عليــه وســلم لَ ـ ْم يَ ْختَلِ ُفــوا؛ ـب أَ َّن أَ ْص َحـ َ« َمــا أُ ِحـ ُّ
ـاس ِف ِضيــقٍ َ ،وإِنَّ ُهـ ْم أَ ِئَّـ ٌة يُ ْقتَـ َدى ِب ِهـ ْم َولَـ ْواحـ ًدا كَا َن ال َّنـ ُ ِلَنَّـ ُه لَـ ْو كَا َن قَـ ْو ًل َو ِ
أَ َخـ َذ َر ُجـ ٌـل ِب َقـ ْو ِل أَ َح ِد ِهـ ْم كَا َن ِف َسـ َع ٍة»»( ).
2
ثال ًثــا :أن االختــاف نعمــة وفضيلــة ،ولــه أرسار ال يدركهــا إال مــن نــال مرتبــة
مــن العلــم ،وهــي تعــود عــى املجتمعــات باملنفعــة واملصلحــة ،وال شــك أن
مــن هــذه األرسار مــا يــؤدي إليــه االختــاف مــن الحــوار والتآلــف والتعــاون
يف شــتى املجــاالت ،يقــول الســيوطي« :اعلــم أ َّن اختــاف املذاهــب يف امللــة
نعمــة كبــرة ،وفضيلــة عظيمــة ،ولــه رس لطيــف أدركــه العاملــون ،وعمــي
عنــه الجاهلــون»(.)3
99
راب ًعــا :أن هــذا النــوع مــن االختــاف ال رضر فيــه؛ وإمنــا فيــه منافع عــى األمة
يف دينهــا وعبادتهــا وترابطهــا ،يقــول الشــاطبي« :فــإن اللــه تعــاىل حكــم()1
ـال للظنــون ،وقــد بحكمتــه أن تكــون فــروع هــذه امللــة قابلــة لألنظــار ،ومجـ ً
ثبــت عنــد النظــار :أن النظريــات ال ميكــن االتفــاق فيهــا عــادة ،فالظنيــات
عريقــة يف إمــكان االختــاف ،لكــن يف الفــروع دون األصــول ،ويف الجزئيــات
دون الكليــات ،فلذلــك ال يــر هــذا االختــاف»(.)2
يتبــن مــا تقــدم أن االختــاف املــروع رضورة ،وقــد حــرص العلــاء عــى
ذكــر مزايــاه وفضائلــه ،وهــذا النــوع ال عالقــة لــه مبــا حــذر منــه الــرع مــن
االف ـراق والتنــازع ،يف مثــل قولــه تعــاىل﴿ :إِ َّن ٱل َِّذي ـ َن فَ َّرقُــوا ْ ِدي َن ُهــم َوكَانُــوا ْ
ـت ِمن ُهــم ِف َش ٍء﴾( .)3وقولــه تعــاىلَ ﴿ :و َل تَكُونُــوا ْ كَٱل َِّذيـ َن ت َ َف َّرقُــوا ْ ِشـيَ ٗعا لَّسـ َ
ـت﴾(.)4 َوٱختَلَ ُفــوا ْ ِمــن بَعـ ِـد َمــا َجآ َء ُهـ ُم ٱل َب ِّي َٰنـ ُ
فاملنهــي عنــه إمنــا هــو الخــاف أو االختــاف يف غــر محلــه؛ كاالختــاف يف
فاملنهــي عنــه إمنــا هــو ُّ األصــول ،يقــول أبــو الســعود« :وعــى كل تقديــر
ـاف يف األصــول دون الفــروعِ ،إال أن يكــون مخالفــا للنصــوص الب ِّينــة أو االختـ ُ
اإلجــاعِ»( ) .وقــال أبــو البقــاء الكفــوي« :واالختــاف يف األصــول ضــال ،ويف 5
- 1يف النسخة التي حققها سليم الهاليل -وهي التي اعتمدتها :-حكيم بدل حكم .وقد ترجح لدي من السياق أنها حكم
وليس حكيم فوجدت ذلك بفضل الله يف النسخة التي حققها كل من د .محمد بن عبد الرحمن الشقري ،ود .سعد بن عبد
الله آل حميد ،ود .هشام بن إسامعيل الصيني .فقد رجح الدكتور هشام الصيني الذي كان من نصيبه يف التحقيق الجزء
الثالث املشتمل عىل النص املذكور أنها حكم وذكر أنه يف بعض النسخ املخطوطة :حكيم.
- 2الشاطبي ،أبو إسحاق ،إبراهيم بن موىس بن محمد اللخمي الغرناطي 790ه ،االعتصام ،تحقيق :سليم بن عيد الهاليل،
(دار ابن عفان ،السعودية ،ط1412 ،1 .ه 1992 -م) ،ج 2ص .674
- 3سورة األنعام؛ اآلية.159 :
- 4سورة آل عمران؛ اآلية.105 :
- 5أبو السعود ،تفسري ،ج 2ص .68
- 6الكفوي؛ الكليات ،ج 1ص .61
100
وكــا تقــدم فإنــه ال ميكــن رفــع االختــاف ،فهــو واقــع ال محالــة ،مرتكــز
يف الفطــر ،ولكــن الرشيعــة و َّجهتنــا يف مقابــل ذلــك لكيفيــة التعامــل مــع
هــذه االختالفــات ،ل ُنحقــق الحــوار ،والتآلــف ،والتســامح ،واإلنصــاف ،والعــدل
يف األقــوال واألفعــال ،مــع القريــب والبعيــد ،وليــس ذلــك بدعــا يف هــذا
الجيــل فقــط ،بــل االختــاف قائــم منــذ عــر الصحابــة ومــن بعدهــم ،ولكــن
التآلــف يــؤازره ويوازيــه ،يقــول القرطبــي ...« :وليــس فيــه دليــل عــى تحريم
االختــاف يف الفــروع ،فــإن ذلــك ليــس اختالفــا؛ إذ االختــاف مــا يتعــذر معــه
االئتــاف والجمــع ،وأمــا حكــم مســائل االجتهــاد فــإن االختــاف فيهــا بســبب
اســتخراج الفرائــض ودقائــق معــاين الــرع ،ومــا زالــت الصحابــة يختلفــون
يف أحــكام الحــوادث ،وهــم مــع ذلــك متآلفــون»(.)1
فاالختــاف الــذي ميكــن معــه التآلــف والتســامح ث ـراء يف األحــكام ،ونعمــة
وازدهــار ،وقــد حقــق العلــاء الســابقون بقبــول االختــاف والحــوار ورفــض
التعصــب؛ مــا ندعــوه بالتســامح املذهبــي الــذي كان لــه إســهام كبــر يف
إثـراء تراثنــا الفقهــي والعلمــي ،وقدمــوا يف ذلــك منــاذج كثــرة تُبهــر العقــول،
وتدخــل الــرور عــى النفــوس ال ميكــن حرصهــا ،وكان هــذا النــوع مــن
التســامح ينبنــي عــى الحــوار اإليجــايب ،واإلنصــاف املعــريف الهــادف ،ينقــل
ابــن عبــد الــر عـ ْن يَ ْحيَــى بْــنِ َسـ ِع ٍيد قَولــهَ « :مــا بَـر َِح الْ ُم ْسـتَ ْفتُو َن يُ ْسـتَ ْفتَ ْو َن
فَيُ ِحـ ُّـل َهـذَا َويُ َحـ ِّر ُم َهـذَا ،فَـ َـا يَـ َرى الْ ُم َحـ ِّر ُم أَ َّن الْ ُم َحلِّـ َـل َهلَـ َـك لِتَ ْحلِيلِـ ِهَ ،و َل
يَ ـ َرى الْ ُم َحلــل أَ َّن الْ ُم َح ـ ِّر َم َهلَـ َـك لِتَ ْح ِرميِ ـ ِه»(.)2
وقــد كان االختــاف دامئًــا يف العصــور اإلســامية الســابقة ثــروة علميــة،
ووســيلة ناجحــة يســتثمرها العلــاء إلنجــاز املعرفــة ،وتحقيــق املحــاورات
التــي توصــل للحقائــق واإلقنــاع ،وهــذا الجانــب هــو الــذي ســنخصص لــه
املطلــب الثــاين.
101
املطلب الثاين :قبول االختالف والتنوع مظهر حضاري
إذا كان التنــوع بــن اإلنســانية ســنة كونيــة إلهيــة ملقاصــد عظيمــة ،فــإن
االختــاف داخـ َـل الدائــرة الواحــدة قيمــة حضاريــة ،ووســيلة لإلبــداع العلمي،
واكتســاب العلــم وصناعــة املعرفــة ،فلــم يكــن االختــاف غال ًبــا مــن أجــل
مقاصــد لَ ْحظيــة أو فئويــة أو عنرصيــة ،وهــذا مــا يجعــل االختــاف يف تراثنــا
اإلســامي ،وتاريخنــا الحضــاري يتميــز بعمــق ودالالت ،ميكــن أن نســتفيد
عنــد تدبرهــا أبعــا ًدا ِق َيم َيــة ،تتعــدى قضيــة اختــاف اآلراء ووجهــات النظــر،
إىل كونهــا مامرســة علميــة دقيقــة ،لهــا قواعــد وثوابــت وضوابــط ،مــن أجــل
اإلســهام العلمــي واملعــريف والثقــايف والســلويك والحضــاري .فالهــدف مــن
االختــاف -بــادئ األمر-هــو تحقيــق الخــر ،والنفــع ،وليــس تــرذم اآلراء،
وتشــتيت الجهــود ،وتقديــس األســاء ،أو اآلراء واملذاهــب.
إن بيئــة الرشيعــة اإلســامية يف أساســها تتميــز بأنهــا مجــال خصــب وأرضيــة
صالحــة للتعــدد والتنــوع؛ فالق ـراءات القرآنيــة املتعلقــة بــكالم اللــه تعــاىل؛
متنوعــة عــى وفــق القـراءات املعروفــة واملقبولــة برشوطها ،كــا أن اللهجات
العربيــة متعــددة ،ولــكل قبيلــة لغتهــا ،ولــكل بيئــة لهجتهــا ،واملذاهــب
الفقهيــة أيضً ــا؛ مختلفــة نظ ـ ًرا الختــاف األمصــار واألعصــار.
ويــدل عــى هــذا؛ الحديــث الــوارد عــن ابــن مســعود ريض اللــه عنــه ،قــال:
رجــا قــرأ آيــة ،وســمعت النبــي صــى اللــه عليــه وســلم يقــرأ ســمعت ً
خالفهــا ،فجئــت بــه النبــي صــى اللــه عليــه وســلم فأخربتــه ،فعرفــت يف
وجهــه الكراهيــة ،وقــال{ :كِالَكُـ َـا ُم ْح ِسـ ٌنَ ،والَ تَ ْختَلِ ُفــوا ،فَـ ِإ َّن َمـ ْن كَا َن قَ ْبلَ ُكـ ُم
ا ْختَلَ ُفــوا فَ َهلَ ُكــوا}( .)1فحكــم لكليهــا باإلحســان يف الق ـراءة ،ونهاهــم عــا
ميكــن أن يــؤدي إليــه ذلــك التنــوع مــن الشــقاق؛ قــال ابــن بطــال« :فــدل
أنــه مل ينهــه عــا جعلــه فيــه محسـ ًنا ،وإمنــا نهــاه عــن االختــاف املــؤدي إىل
الهــاك بالفرقــة يف الديــن»(.)2
- 1البخاري ،الجامع الصحيح ،رقم ،)3476( :كتاب أحاديث األنبياء ،باب حديث الغار .ج 4ص .175
- 2ابن بطال؛ رشح صحيح البخاري :ج 10ص .285
102
تلــك مــوارد االختــاف البــارزة واملســلمة لــدى الخــاص والعــام ،فــا ينكــر
أحــد عــى أحــد قراءتــه للقــرآن ،أو لهجــة قومــه ،أو مذهبــه الفقهــي ،فــكل
لــه اختيــاره وفــق أع ـراف قومــه ،وهويتــه وتراثــه ،وفــق رشوط وضوابــط
تضبــط كل ذلــك ،يحرســها العلــاء وترعاهــا مؤسســات الــدول.
وهــذا االختــاف والتنــوع هــو الــر األكــر يف عظمــة الحضــارة اإلســامية،
هــت يف رشق األرض وغربهــا ،ميكــن لهــا االنســجام مــع الواقــع فأينــا تو َّج ْ
والوقائــع املختلفــة ،والبيئــات املتعــددة ،فهــي ال تلغــي الخصائــص الذاتيــة،
والهويــة الثقافيــة للمجتمعــات البرشيــة واإلســامية ،ولكــن هــذه الحضــارة
تتفاعــل معهــا ،وتتســامح وتتقبــل الوافــد عليهــا؛ فــكان ذلــك ســببًا يف تنوعهــا
وتعددهــا واختالفهــا ،وســنقف يف هــذا املطلــب عــى بعــض تلــك املعــامل
التــي يــرز فيهــا جوهــر هــذه الحضــارة القامئــة عــى االختــاف:
أول :أن الغايــة العظمــى مــن االختــاف يف الحضــارة اإلســامية هــو االئتــاف ً
واالتفــاق ،فاالختــاف الــذي ليــس مــن الديــن؛ هــو الــذي يــؤدي إىل تكريــس
الفرقــة والشــقاق ،أمــا مــا كان قصــده االتحــاد ،وســلك طريقــه فنهايتــه إىل
االئتــاف؛ إذن فمفهــوم االختــاف الحضــاري هــو البحــث والحــوار بغيــة
الوصــول للحقائــق العلميــة والرشعيــة ،وفــق منظومــة مــن الضوابــط
والقواعــد التــي تحــرس هــذا االختــاف ،حتــى ال يخــرج عــن مســاره فيصــر
ِشــقاقًا ،ومــن أهــم هــذه الضوابــط التــي كانــت معلمــة االختــاف االئتــايف،
هــو التســامح املذهبــي الــذي يتجــى يف اإلنصــاف ،والبحــث عــن الحقيقــة،
واح ـرام اآلخــر.
ثان ًيــا :أن االعـراف باالختــاف هــو العنــر الحضــاري األســاس الــذي يفــي
دامئًــا إىل التامســك والتســامح ،ويف تاريخنــا كثــرة هــي األمثلــة عــى هــذا
العنــر ،ومــن تلــك الصــور املضيئــة يف حضارتنــا اإلســامية التــي دلــت عــى
أن الســبيل لتقليــل الخــاف ومواجهتــه هــو االعـراف باالختــاف ،والتعامــل
معــه ال نَ ْبـذُه؛ قصــة اإلمــام مالــك مــع أيب جعفــر املنصــور يف ســبب وضعــه
املوطــأ :ذلــك أن «أبــا جعفــر قــال لــه –أي :قــال لإلمــام مالــك -إين عزمــت
أن أكتــب كتبــك هــذه نسـ ًخا ثــم أبعــث إىل كل مــر مــن أمصــار املســلمني
بنســخة آمرهــم بــأن يعملــوا مبــا فيهــا وال يتعدوهــا إىل غريهــا مــن هــذا
103
العلــم املح ـ َدث؛ فإننــي رأيــت أصــل العلــم روايــة أهــل املدينــة وعملهــم.
فقلــت -يعنــي قــال اإلمــام مالــك :-يــا أمــر املؤمنــن ال تفعــل؛ فــإن النــاس
قــد ســبقت لهــم أقاويــل ،وســمعوا أحاديــث وروايــات ،وأخــذ كل قــوم مبــا
ســبق إليهــم ،وعملــوا بــه ودانــوا بــه مــن اختــاف أصحــاب رســول اللــه صــى
اللــه عليــه وســلم وغريهــم ،وإن ردهــم عــا اعتقــدوا شــديد ،فــدع النــاس
ومــا هــم عليــه ،ومــا اختــار أهــل كل بلــد ألنفســهم»(.)1
إن هــذا يــدل عــى ســعة األفــق الــذي يتســم بــه هــذا اإلمــام ،وطريــق
الوصــول لهــذه املرتبــة هــو االمتــاء مــن العلــم ،فكلــا كان حــظ اإلنســان
مــن العلــم متي ًنــا كان قابـ ًـا لالختــاف ،مرنًــا متســامحا مــع املخالــف ،وكلــا
كان مبلغــه مــن العلــم متدنِّيًــا كان رافضً ــا لآلخــر.
ثالثًــا :مــن أهــم املعــامل للحضــارة اإلســامية شــيوع الحــوار بأنواعــه ،وال
ميكــن أن يكــون الحــوار إال إذا كان هنــاك اختــاف ،واملنهجيــة الحواريــة
يف التاريــخ اإلســامي أخــذت مســاحة مــن الفكــر اإلســامي ،فكانــت تقــام
مجالــس املناظــرات يف كل مــكان ،وأُلفــت تصانيــف كثــرة يف هــذا الفــن
الــذي كانــت وظيفتــه األســاس تعليــم املتعلمــن كيــف يختلفــون ،وكان
للتوجيهــات الربانيــة دور أســاس يف انتشــار هــذه املناظ ـرات واملحــاورات،
يقــول القســطالين« :إذا كان االختــاف يف الفــروع ومناظـرات العلــاء إلظهــار
الحــق؛ فهــو مأمــور بــه»(.)2
فــا شــك أن الحضــارة اإلســامية تَ يــزت بهــذه الخاصيــة ،وهــذه املناظ ـرات
واملحــاورات تختلــف قوتهــا حســب األزمنــة واألمكنــة ،فتبلــغ ذروتهــا أحيانًــا،
وأحيانًــا أخــرى ترتاجــع وتنكمــش ،ولكــن هنــاك ح ـ ٌّد مــن هــذه املامرســة
الحواريــة اســتمر يف كافــة أطــوار الحضــارة اإلســامية ،يقــول الشــيخ محمــد
الخــري بــك« :كان مــن املنظــور أمــام التســامح الــذي هبــت نســاته،
واســتولت روحــه يف الــدور املــايض؛ أال يكــون الختــاف املذاهــب أثــر يف
- 1القايض عياض؛ أبو الفضل القايض عياض بن موىس اليحصبي 544ه ،ترتيب املدارك وتقريب املسالك( ،مطبعة فضالة -
املحمدية ،املغرب ،ط ،)1 .ج 2ص .72
- 2القسطالين؛ أحمد بن محمد بن أىب بكر بن عبد امللك القسطالين القتيبي املرصي ،أبو العباس ،شهاب الدين 923ه،
إرشاد الساري لرشح صحيح البخاري( ،املطبعة الكربى األمريية ،مرص ،ط1323 ،7 .ه) ،ج 5ص .435
104
كراهــة أصحــاب املذاهــب املختلفــة بعضهــم لبعــض ،فقــد كان يوجــد يف
البلــد الواحــد مجتهــدان فأكــر ،كل يســوغ لصاحبــه االجتهــاد وال يعيبــه
عليــه ،وأكــر مــا عهــد منهــم أن يقــول أحدهــم بخطــأ اآلخــر يف مســألة
مــن املســائل ،وقــد يكاتبــه فيــا ينتقــده عليــه ،أو يشــافهه فيــه مــع احـرام
كل منهــم لآلخــر ،بــل حبــه لــه وثنائــه عليــه ،فقــد كتبنــا لكــم مــن قبــل
رســالة الليــث بــن ســعد إىل مالــك بــن أنــس ،ومــع مــا كان يُ ْب ِديــه الشــافعي
مــن نقــد مســائل أيب حنيفــة كان يقــول :النــاس يف الفقــه عيــال عــى أيب
حنيفــة ،وكثـرا مــا كان يثنــي عــى محمــد بــن الحســن وهــو مناظــره الكبــر،
وكان يقــول ألحمــد بــن حنبــل وهــو تلميــذه يف الفقــه :إذا صــح الحديــث
عنــدك فأعلمنــي بــه ،وكان يقــول :إذا ذكــر الحديــث فاملــك النجــم الثاقــب،
إىل غــر ذلــك مــا يــدل عــى اســتيالء روح التســامح والحــب بــن أولئــك
الفقهــاء ،واألمئــة األطهــار ،وهــم يف ذلــك مقتــدون بأســافهم مــن الصحابــة
والتابعــن…»(.)1
فهــذه القيمــة الحضاريــة التــي تتجــى يف تلــك املعــامل وســواها متــى فُهمــت
عــى أسســها وضوابطهــا ،كانــت ملجــأ للتوســعة عــى الخلــق ،وتحقيــق
التآلــف والتفاهــم بــن املــدارس املختلفــة؛ ألن مقصدهــا وغايتهــا هــو
االئتــاف ،وتحقيــق التالقــي املســتدام ،ولهــذا ســنخصص املطلــب الثالــث
لضوابــط االختــاف املــروع.
- 1محمد الخرضي بك؛ تاريخ الترشيع اإلسالمي( ،دار الكتب العلمية – بريوت – 1439ه-2018م ،ط ،)5 .ص .295
105
فاالختــاف قيمــة كــرى ،وفضيلــة عظمــى ،وثـراء للفقه اإلســامي ،مبــا يحققه
مــن ســعة وفســحة يف تنزيــل األحــكام الرشعيــة ،والتعايــش عنــد االختــاف
ومعــه .وإن العلــاء قدميًــا قــد مارســوا هــذا النــوع مــن االختــاف بضوابطــه،
وآدابــه ،ومراعــاة حــدوده- ،كــا تقــدم -فكانــت املناظــرات واملطارحــات
واملحــاورات مــن األنشــطة العلميــة التــي امتــازت بهــا عصورهــم ،وكان ذلــك
ميدانًــا خص ًبــا لإلنتــاج العلمــي والفقهــي واملعــريف عامــة ،وأدى ذلــك أيضً ــا
لتعزيــز االنفتــاح والتواصــل ،واحــرام األطــراف بعضهــا بعضً ــا ،ومل يكــن
االختــاف يف مامرســتهم لــه مــن أجــل اإلقصــاء.
لهــذا فــإن االختــاف كلَّــا مــورس بضوابطــه وآدابــه ،يُنجــز مكاســب عديــدة
ومنافــع مهمــة ،وقــد ذَكــر الفقهــاء واألصوليــون ضوابــط متعــددة لالختــاف،
وليــس هــذا البحــث محـ ًـا الســتقرائها وتتبعهــا؛ ألن القصــد هنــا إمنــا هــو
توظيــف هــذه القيمــة لتحقيــق التســامح الداخــي بــن الفئــات املســتقبِلة
لقبلــة واحــدة ،فلهــذا ســنقترص عــى الضوابــط املتعلقــة مبحــل االختــاف
وآلتــه( )1ومنهجــه وســلوكه ،فمــن تلــك الضوابــط الضامنــة لتســديد هــذا
االختــاف:
الضابــط األول :يتعلــق مبحــل االختــاف وهــو الفــروع والجزئيــات ،أمــا
الخــروج عــن ثوابــت الديــن أو تهديــد اللحمــة الوطنيــة ،والتســبب يف
مفارقــة الوطــن بحجــة التســامح ،وأن مســاحة االختــاف تُــرر ذلــك؛ فهــذا
هــو التفــرق املذمــوم الــذي ورد النهــي عنــه؛ ألنــه ســبب يف خـراب األديــان
واألوطــان ،فاالختــاف ال يجــوز يف أمريــن؛ ذكرهــا أبــو البقــاء الكفــوي
بقولــه املتقــدم« :واالختــاف يف األصــول ضــال»(.)2
فاألمــر األول :الــذي ال يجــوز االختــاف فيــه هــو أصــول الديــن ومقاصــده
الكــرى؛ ألن ذلــك يــؤدي إىل نقيــض التســامح؛ وهــو العــداوة بــن املنتمــن
لهــذا الديــن؛ يقــول اللــه تعــاىلَ ﴿ :و َل تَكُونُــوا ْ كَٱل َِّذيـ َن تَ َف َّرقُــوا ْ َوٱختَلَ ُفــوا ْ ِمــن
106
ـت﴾( .)1وقــال تعــاىل﴿ :أَن أَ ِقي ُمــوا ْ ٱل ِّديـ َن َو َل تَتَ َف َّرقُــوا ْ
بَعـ ِـد َمــا َجآ َء ُهـ ُم ٱل َب ِّي َٰنـ ُ
ِفيــ ِه﴾( .)2يقــول ابــن عاشــور يف تفســر اآليــة الســابقة« :فــإن االختــاف
يف األصــول يفــي إىل تعطيــل بعضهــا ،فينخــرم بعــض أســاس الديــن… إذا
حصــل التفــرق واالختــاف فذلــك مفــض إىل ضيــاع أمــور الديــن يف خــال
ذلــك االختــاف ،ثــم هــو ال يلبــث أن يلقــي باألمــة إىل العــداوة بينهــا؛ وقــد
يجرهــم إىل أن يرتبــص بعضهــم ببعــض الدوائ ـ َر»(.)3
محــا للخــاف هــي اآلراء التــي تنبنــي ً واألمــر الثــاين :الــذي ليــس هــو
عليهــا مصلحــة الوطــن ومســتقبله؛ يقــول اللــه تعــاىل يف النهــي عــن ذلــك:
﴿ َوأَ ِطي ُعــوا ْ ٱللَّـ َه َو َر ُســولَ ُه َو َل ت َ َٰن َز ُعــوا ْ فَتَفشَ ـلُوا ْ﴾( .)4يقول القشــري« :املوافقة
بــن املســلمني أصــل ال ّديــن ،وأول الفســاد ورأس ال ّزلــل االختــاف؛ وكــا تجب
املوافقــة يف الديــن والعقيــدة تجــب املوافقــة يف الــرأي والعزميــة… وكــا
تجــب يف الديــن طاعــة رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم تجــب طاعــة
أويل األمــر»(.)5
الضابــط الثــاين :ويتعلــق بآلــة االختــاف وأداتــه وهــي العلــم ،فمامرســة
االختــاف ال تكــون بالجهــل ،أو االدعــاء ،أو الكــذب والتخمــن ،أو القــول عــى
اللــه بغــر علــم ،فاألســاس يف االختــاف هــو طلــب الحــق باالســتنارة بالعلــم،
وكلــات العلــاء يف الرتكيــز عــى هــذا الضابــط كثــرة جــدا ،وأهميــة العلــم
وكونــه أداة لالختــاف يتعلــق بجوانــب متعــددة:
منهــا :أن العلــم باالختــاف يســاعد عــى ســعة الصدر ،وقبــول اآلخــر ،واحرتام
رأيــه وإنصافــه؛ يقــول ســعيد بــن أيب عروبــة« :مــن مل يســمع االختــاف فــا
ت ُعـ ُّدوه عاملــا»( .)6بــل إن العلــاء كانــوا يعــدون تعلــم االختــاف مــن الفقــه
107
والعلــم ،يقــول أيــوب الســختياين« :قلــت لعثــان البتــي ،دلنــي عــى بــاب
مــن أبــواب الفقــه قــال :اســمع االختــاف»(.)1
ومــن جانــب آخــر فــإن العلــم باالختــاف يســاعد يف تخفيــف حــدة التعصب
وامل ـراء والجــدال يف الديــن ،ذلــك أنــه يتيــح االطــاع عــى اآلراء املختلفــة
واملذاهــب املتعــددة ،وذلــك يورثــه تقديــر العلــاء جمي ًعــا(.)2
الضابــط الثالــث :وهــو متعلــق باملنهــج املتبــع بــن املختلفــن ،وقــد وضــع
الفقهــاء قاعــدة ذهبيــة يف هــذا البــاب ،وهــي« :ال إنــكار يف مســائل الخالف»،
أو «ال إنــكار يف مســائل االجتهــاد» وبغــض النظــر عــن كونهــا عــى إطالقهــا أو
مقيــدة؛ فإنهــا مــن املعــامل البــارزة يف الفقــه اإلســامي التــي تؤســس للتســامح
بــن املختلفــن ،وهــذه القاعــدة ســابقة وناشــئة منــذ القــرون األوىل لإلســام؛
يقــول ســفيان الثــوري« :مــا اختلــف فيــه الفقهــاء ،فــا أنهــى أحــدا مــن
إخــواين أن يأخــذ بــه»( .)3ويقــول أيضــا« :إذا رأيــت الرجــل يعمــل العمــل
الــذي قــد اختلــف فيــه وأنــت تــرى غــره فــا تنهــه»(.)4
وقــد صــاغ العلــاء هــذه القاعــدة بتعابــر مختلفــة يقــول الق ـرايف :وقــال
الشــيخ محيــي الديــن يف منهاجــه« :أمــا املختلــف فيــه فــا إنــكار فيــه»()5
ـف»()6 ويقــول الزركــيَ « :والْ َم َســائِ ُل ِال ْج ِت َها ِديَّـ ُة َل إنْـكَا َر ِفي َهــا َعـ َـى الْ ُم َخالِـ ِ
ويقــول أيضــا« :الْ ِنْ ـكَا ُر ِم ـ ْن الْ ُم ْن ِك ـ ِر إنَّ َــا يَ ُكــو ُن ِفيـ َـا ا ُ ْجتُ ِم ـ َع َعلَ ْي ـ ِه فَأَ َّمــا
الْ ُم ْختَلَـ ُـف ِفي ـ ِه فَـ َـا إنْـكَا َر ِفي ـ ِه»( )7ويقــول الســيوطي« :القاعــدة الخامســة
108
والثالثــون :ال ينكــر املختلــف فيــه وإمنــا ينكــر املجمــع عليــه»(.)1
فهــذا الضابــط أصلــه يف الرشيعــة اإلســامية وأدلتــه كثــرة منهــا« :اجتهــاد
الصحابيــن الذيــن أدركتهــا الصــاة يف الســفر وال مــاء معهــا فتيمــا وصليــا،
ثــم وجــدا املــاء فأعــاد أحدهــا ،ومل يُعــد اآلخــر فصوبهــا صــى اللــه عليــه
ُــك} ،وقــال الســ َّن َةَ ،وأَ ْج َزأَت َ
ْــك َص َلت َ وســلم ،وقــال للــذي مل يُعــد{ :أَ َصبْ َ
ــت ُّ
لآلخــر{ :لَـ َـك ْالَ ْج ـ ُر َم َّرتَـ ْـنِ}(.)3(»)2
واملقصــود مــن ذكــر هــذا الضابــط بيــان املنهجيــة التــي ينبغــي اتباعهــا يف
االختــاف ،وهــو عــدم اإلنــكار يف األمــور االجتهاديــة التــي يســوغ الخــاف
فيهــا ،فــا دام الخــاف معت ـرا يف املســألة ،فــا يســوغ اإلنــكار.
الضابــط الرابــع :وهــو ضابــط ســلويك؛ ويتحقــق بااللتـزام بــآداب االختــاف،
واآلداب عنــوان التســامح ،وإذا كان االختــاف يف العلــم ال يكــون إال بــن أهلــه
فــإن خصيصتــه حينئــذ هــي االلتـزام بــاآلداب.
ومــن هــذه اآلداب املهمــة ،القــول الحســن الطيــب الــذي أمــر اللــه تعــاىل
حسـ ُن﴾(.)4ـي أَ َ بــه عبــاده يف كتابــه فقــالَ ﴿ :وقُــل لِّ ِع َبــا ِدي يَقُولُــوا ْ ٱلَّ ِتــي ِهـ َ
ومــن تلــك اآلداب أن يكــون مبنــى االختــاف عــى صــدق اإلخــاص ،والبحــث
عــن الحــق والصــواب وإنتــاج املعرفــة ،وليــس الهــدف منــه املغالبــة واإلقصاء،
فذلــك هــو االختــاف الســليم ،يقــول النــووي« :وقــال الشــافعي :مــا ناظــرت
أحـ ًدا قــط عــى الغلبــة .وىف روايــة :مــا ناظــرت أحـ ًدا قــط إال عــى النصيحــة.
وقــال أبــو عثــان محمــد بــن الشــافعي :مــا ســمعت أيب ناظــر أح ـ ًدا قــط
فرفــع صوتــه»(.)5
- 1السيوطي ،عبد الرحمن بن أيب بكر ،جالل الدين السيوطي 911ه ،األشباه والنظائر يف القواعد الفقهية( ،دار الكتب
العلمية ،ط1411 ،1 .ه 1990 -م) ،ج 1ص .158
- 2أبو داود رقم ( )338كتاب الطهارة ،باب املتيمم يجد املاء بعدما يصيل .والحاكم يف املستدرك ،كتاب الطهارة ،رقم
ش ِط الشَّ ْيخ َْيِ) .ووافقه الذهبي .املستدرك :ج 1ص .554 الحديث ،644وقال ( َهذَا َح ِديثٌ َص ِح ٌ
يح َع َل َ ْ
- 3عبد الوهاب بن لطف؛ بحث ضوابط الفتوى يف ضوء الكتاب والسنة ،مجلة مجمع الفقه اإلسالمي ،العدد الحادي عرش:
ج 11ص .458
- 4سورة اإلرساء؛ اآلية.53 :
- 5النووي؛ أبو زكريا محيي الدين يحيى بن رشف النووي 676ه ،تهذيب األسامء واللغات( ،دار الكتب العلمية ،بريوت –
لبنان) ،ج 1ص .66
109
وقــد بــن الغـزايل ســلوك العلــاء واملنهــج الــذي كانــوا يســرون عليــه عنــد
مامرســة االختــاف ،يقــول رحمــه اللــه« :أن يكــون يف طلــب الحــق كناشــد
ضالــة ال يفــرق بــن أن تظهــر الضالــة عــى يــده أو عــى يــد مــن يعاونــه،
ويــرى رفيقــه معينــا ال خصــا ،ويشــكره إذا َع َّرفــه الخطــأ وأظهــر لــه الحــق،
كــا لــو أخــذ طريقــا يف طلــب ضالتــه فنبهــه صاحبــه عــى ضالتــه يف طريــق
آخــر ،فإنــه كان يشــكره وال يذمــه ،ويكرمــه ويفــرح بــه ،فهكــذا كانــت
مشــاورات الصحابــة ريض اللــه عنهــم»(.)1
إن مامرســة االختــاف عنــد كثــر مــن العلــاء املتقدمــن مل يكــن للتشــفي
واإلقصــاء واملغالبــة ،وإمنــا كان للعلــم واإلنصــاف واإلعــذار ،فــكان االختــاف
ميدانــا للتســامح والتفاهــم والتصافــح ،ومامرســة األخــاق ،وأصــدق مثــال
عــى هــذا مــا روي عــن ســيدنا عــي ريض اللــه عنــه ،حــن ســئل عــن أهــل
الجمــل« :أمرشكــون هــم؟ قــال :مــن الــرك فــروا .قيــل :أمنافقــون هــم؟
قــال :إن «املنافقــن ال يذكــرون اللــه إال قليــا .قيــل :فــا هــم؟ قــال :إخواننــا
بغــوا علينــا»»(.)2
فــإذا كان االختــاف وفــق الضوابــط والســلوك األخالقــي الــذي كان عليــه
العلــاء ،أضحــى هــذا االختــاف قيمــة ال خصومــة ،وتعاونــا عــى إنجــاز
علمــي محفــوف بالتســامح والتفاهــم والشــكر والفــرح ،ال مجــال فيــه
للتشــفي والتعيــر واالنتقــام.
وهــذا هــو الــذي يلزمنــا بتنــاول قيــم التســامح بــن املســلمني وبــن مــن
يقــع معهــم االختــاف داخــل الدائــرة اإلســامية ،وهــو الــذي ســنخصص لــه
املبحــث اآليت.
110
املبحث الثاين :قيم التسامح بني املسلمني
إن البحــث يف قيــم التســامح بــن املســلمني داخــل الدائــرة اإلســامية مــن
األهميــة مبــكان؛ ألنــه مــن الســبل املؤديــة ل َخلــق بيئــة التســامح ،وإذا كان
الواقــع املثــايل بــن املســلمني هــو األخــوة واملحبــة واالئتــاف ،ال مجــرد
التســامح؛ فــا أقــل مــن أن تصــل الرابطــة إىل هــذا الحــد ،مــع التّ ـ ْوقِ إىل
الحــد األمثــل ،والعمــل عــى بلوغــه.
وال بــد مــن تأكيــد أمــر يف هــذه التوطئــة ،وهــو أنــه ليســت مثــة فــروق
بــارزة بــن التســامح بــن أبنــاء اإلســام مــع بعضهــم بعضـاً ،وبــن تســامحهم
مــع غريهــم مــن غــر املســلمني؛ ألن اإلنســانية مهــا كان انتامؤهــا أو دينهــا
أو عرقهــا أو ثقافتهــا ،فينبغــي عنــد التحــاور اتبــاع أســلوب الحكمــة ،والقــول
الحســن ،والرفــق واالحـرام ،فأســلوب الحــوار وإدارتــه ســواء داخــل الدائــرة
اإلســامية بــن املســلمني بعضهــم بعض ـاَ أو مــع غريهــم ال يخــرج عــن تلــك
الضوابــط املتقدمــة.
بيــد أن الفــرق يتضــح يف أن الحــوار بــن املســلمني بعضهــم بعضـاَ لــه ثوابــت
ومســلامت ،ومرجعيــة متفــق عليهــا ،فوســائل اإلقنــاع معروفــة محــددة،
وهــي -إضافــة للرباهــن العقليــة املشــركة بــن الجميــع -األدلــة والحجــج
النقليــة ،ولكــن مــن الواجــب التقيــد يف تقدميهــا بقيــم التســامح مــع املســلم
أيضً ــا ،وهــذه هــي القيــم التــي ســنبينها يف هــذا الفصــل بحــول اللــه تعــاىل.
املطلب األول :الحوار والحكمة
إذا كانــت الغايــة مــن الحــوار مــع غــر املســلمني هــو التعــارف للوصــول للتعايش،
فــإن القصــد مــن التحــاور بني املســلمني هــو االئتــاف واالتحــاد ،والتســامح مرحلة
بهــا يتحقــق ذلــك .فالتســامح يف إطــار الحــوار أوســع مــن الصــور النمطية.
وقــد عــرف العلــاء الحــوار واملحــاورة بتعريفــات ،منهــا مــا ذكــره املفــرون
يف تفســر بعــض اآليــات الدالــة عــى الحــوار ،بأنــه مراجعــة الــكالم ،قــال
َــال لِ َٰص ِحبِــ ِه َو ُهــ َو يُ َحــا ِو ُر ُه﴾( .)1واملعنــى أن املســلم كان
الــرازي﴿« :فَق َ
111
يحــاوره بالوعــظ والدعــاء إىل اإلميــان باللــه وبالبعــث ،واملحــاورة مراجعــة
الــكالم مــن قولهــم :حــار إذا رجــع ،قــال تعــاىل﴿ :إِنَّـ ُه ظَـ َّن أَن لَّــن يَ ُحــو َر﴾
(.)2(»)1
فــإذا ُســلم يف املبحــث الســابق أن االختــاف مــروع ،فــإن هــذا االختــاف
تتنــوع مراتبــه ودرجاتــه ،واالختــاف الداخــي ال يعالــج إال بحــوار بينــي،
بغيــة تربيــر وجهــات النظــر ،وإبــداء الحجــج وطلــب اإلقنــاع للوصــول إىل
االئتــاف ،وهــذا منهــج ربــاين قبــل أن يكــون إنســانيا .وقــد تــوىل القــرآن
بيــان أحكامــه وأهميتــه ومنهجــه ،وهــو مــا ســنبينه مــن خــال العنــارص
اآلتيــة:
أول :الحــوار فريضــة رشعيــة ،ومامرســة قرآنيــة ،يقول اللــه تعاىل﴿ :قُــل َهات ُوا ْ ً
بُر َٰه َن ُكــم إِن كُنتُــم َٰص ِد ِق ـ َن﴾( ) .وأمــر ســبحانه بــه فقــال﴿ :ٱد ُع إِ َ ٰل َس ـبِيلِ
3
َربِّـ َـك﴾( .)4يقــول عبــد الهــادي بوطالــب« :لقــد نُظّــم الحــوار بعنايــة فائقــة
عــن طريــق الوحــي يف آيــات قرآنيــة واضحــة الداللــة لضبــط هدفــه وطرائــق
اســتعامله ،وبذلــك أصبــح الحــوار نه ًجــا ربانيــا ،أي جــز ًءا مــن عقيــدة املســلم
ومــن ثوابتهــا التــي ال تقبــل التغيــر… إن الحــوار مبقتــى ذلــك مؤسســة
دينيــة مفروضــة مــن اللــه عــى عبــاده أهــل األرض… مــا يعنــي إلزاميــة
الحــوار وشــموله لــكل تعامــل مــع الغــر»( .)5وأول مــا يدخــل يف هــذا الغــر
هــو املخالــف داخــل الدائــرة الدينيــة ،ومــن تجمعهــم املرجعيــة الواحــدة.
ثان ًيــا :إن القصــد مــن الحــوار الــذي حــض عليــه القــرآن ،وأمــر بــه؛ إمنــا هــو
توســيع دائــرة التفاهــم والتعــاون مــن أجــل تحقيــق التقــارب واالئتــاف ،فهو
تنــازل الطرفــن لاللتقــاء حــول حقائــق ثابتــة ،وهــذا مــا علمــه اللــه تعــاىل
رســولَه صــى اللــه عليــه وســلم حيــث قــال لــه﴿ :قُــل َمــن يَر ُزقُ ُكــم ِّم ـ َن
112
ـى ُه ـ ًدى أَو ِف ضَ لَٰــلٖ ُّم ِب ـنٖ﴾ رض قُــلِ ٱللَّ ـ ُه َوإِنَّـآ أَو إِيَّاكُــم لَ َعـ َ ٰ
ٱلس ـ َٰم َٰو ِت َوٱألَ ِ
َّ
( .)1يقــول ال ـرازي« :هــذا إرشــاد مــن اللــه لرســوله إىل املناظ ـرات الجاريــة
يف العلــوم وغريهــا وذلــك ألن أحــد املتناظريــن إذا قــال لآلخــر هــذا الــذي
تقولــه خطــأ ،وأنــت فيــه مخطــئ يغضبــه ،وعنــد الغضــب ال يبقــى ســداد
الفكــر ،وعنــد اختاللــه ال مطمــع يف الفهــم فيفــوت الغــرض ،وأمــا إذا قــال لــه
بــأن أحدنــا ال يشــك يف أنــه مخطــئ والتــادي يف الباطــل قبيــح ،والرجــوع
إىل الحــق أحســن األخــاق ،فنجتهــد ونبــر أينــا عــى الخطــأ ليحــرز؛ فإنــه
يجتهــد ذلــك الخصــم يف النظــر ويــرك التعصــب ،وذلــك ال يوجــب نقصــا
يف املنزلــة ألنــه أوهــم بأنــه يف قولــه شــاك ويــدل عليــه قــول اللــه تعــاىل
لنبيــهَ ﴿ :وإِنَّــا أَ ْو إيَّاكُ ـ ْم﴾( .)2مــع أنــه ال يشــك يف أنــه هــو الهــادي وهــو
املهتــدي وهــم الضالــون واملضلــون»( .)3فهــذا األســلوب الربــاين يف تعليــم
الحــوار الراقــي البعيــد عــن التعصــب والغضــب ،املتســم باإلنصــاف وحســن
الخلــق ،مــن أجــل إنجــاز الغــرض املـراد مــن الحــوار ،وهــو اإلقنــاع واالتفــاق،
ف ُيضْ حــي الحــوار بهــذا الســلوك القــرآين أداة للتســامح.
ثالثًــا :إن الحــوار هــو املدخــل الرشعــي الســليم للتســامح يف الرشيعــة
اإلســامية ،ويتضــح هــذا مــن ســرة رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم
وســط الصحابــة ريض اللــه عنهــم ،فقــد كان يغــرس فيهــم هــذه الثقافــة،
حتــى مدحــه اللــه تعــاىل بذلــك يف كتابــه ،فقــال تعــاىل﴿ :فَ ِبـ َـا َرح َم ـ ٖة ِّم ـ َن
ـب َلنفَضُّ ــوا ْ ِمــن َحولِـ َـك﴾(.)4 ـت فَظًّــا َغلِي ـ َظ ٱلقَلـ ِ ـت لَ ُهــم َولَــو كُنـ َٱللَّ ـ ِه لِنـ َ
لقــد مــارس النبــي صــى اللــه عليــه وســلم مــع صحابتــه الحــوار التعليمــي،
وكان الحــوار يف مفهومهــم وســيلة إيجابيــة ونصيحــة دينيــة ،يقــول ال ـرازي:
«قــال أهــل التحقيــق :كالم النــاس مــع النــاس إمــا أن يكــون يف األمــور
الدينيــة أو يف األمــور الدنيويــة ،فــإن كان يف األمــور الدينيــة فإمــا أن يكــون
يف الدعــوة إىل اإلميــان وهــو مــع الكفــار ،أو يف الدعــوة إىل الطاعــة وهــو
113
مــع الفاســق ،أمــا الدعــوة إىل اإلميــان فــا بــد وأن تكــون بالقــول الحســن
َــول لَّ ِّي ٗنــا لَّ َعلَّــ ُه يَتَ َذكَّــ ُر أَو كــا قــال تعــاىل ملــوىس وهــارون﴿ :فَق َ
ُــول لَــ ُه ق ٗ
ـى﴾( ) .أمرهــا ـاف أَن يَفـ ُر َط َعلَي َنـآ أَو أَن يَط َغـ ٰ ـال َربَّ َنـآ إِنَّ َنــا نَ َخـ ُ
ـى ٤٤قَـ َ
يَخـ َ ٰ
1
اللــه تعــاىل بالرفــق مــع فرعــون مــع جاللتهــا ونهايــة كفــر فرعــون ومتــرده
ـت وعتــوه عــى اللــه تعــاىل ،وقــال ملحمــد صــى اللــه عليــه وســلمَ ﴿ :ولَــو كُنـ َ
ـب َلنفَضُّ ــوا ْ ِمــن َحولِـ َـك﴾( .)2اآليــة ،وأمــا دعــوة الفســاق فَظًّــا َغلِي ـ َظ ٱلقَلـ ِ
فالقــول الحســن فيــه معتــر ،قــال تعــاىل﴿ :ٱد ُع إِ َ ٰل َس ـبِيلِ َربِّـ َـك ب ِ
ِٱلحك َم ـ ِة
حســ ُن فَــ ِإذَا ٱل ِ
َّــذي ــي أَ َ َوٱمل َو ِعظَــ ِة ٱل َح َســ َن ِة﴾( ) .وقــال﴿ :ٱدفَــع بِٱلَّ ِتــي ِه َ
3
بَي َنـ َـك َوبَي َنـ ُه َعـ َٰد َو ٞة كَأَنَّـ ُه َو ِ ٌّل َح ِميـ ٞم﴾( .)5(»)4فبهــذا األســلوب النبــوي تحــل
ثقافــة الحــوار محــل ثقافــة العنــف.
راب ًعــا :إن الحــوار املنضبــط لــه آداب وقيــود؛ فينبغــي أن يكــون عــى أســاس
الحكمــة ،ويســتند إىل مبادئهــا ،عمــا بقــول اللــه تعــاىل﴿ :ٱد ُع إِ َ ٰل َسـبِيلِ َربِّ َك
ــك ُهــ َو حســ ُن إِ َّن َربَّ َ ــي أَ َ ب ِ
ِٱلحك َمــ ِة َوٱمل َو ِعظَــ ِة ٱل َح َســ َن ِة َو َٰج ِدل ُهــم بِٱلَّ ِتــي ِه َ
أَعلَـ ُم بِ َــن ضَ ـ َّـل َعــن َسـبِيلِ ِه َو ُهـ َو أَعلَـ ُم بِٱمل ُهتَ ِديـ َن﴾( ) .والحكمــة مبفهومهــا
6
114
املوجــودات وفعــل الخـرات ،وهــذا هــو الــذي وصــف بــه لقــان … ،ونبــه
عــى جملتهــا مبــا وصفــه بهــا»(.)1
وقــد ذكــر العلــاء أوصافــا مهمــة يف الحــوار بهــا تتحقــق الحكمــة ،ويتنــزه
عــن األحقــاد والعــداوة ،ويبعــد عــن االنح ـراف عــن املنهــج الســوي ،وعــى
رأســها التــزام القــول الحســن ،واألخــاق الجميلــة ،ويف بيــان أثــر فقــدان
الحكمــة واألخــاق يف الحــوار ،وخطورتــه عــى املجتمــع ،واإلنتــاج العلمــي؛
يقــول الغ ـزايل« :وأكــر الجهــاالت إمنــا رســخت يف قلــوب العــوام بتعصــب
جامعــة مــن جهــال أهــل الحــق ،أظهــروا الحــق يف معــرض التحــدي واإلدالء،
ونظــروا إىل ضعفــاء الخصــوم بعــن التحقــر واالزدراء؛ فثــارت مــن بواطنهــم
دواعــي املعانــدة واملخالفــة ،ورســخت يف قلوبهــم االعتقــادات الباطلــة،
وتعــذر عــى العلــاء املتلطفــن محوهــا مــع ظهــور فســادها ،حتــى انتهــى
التعصــب بطائفــة إىل أن اعتقــدوا أن الحــروف التــي نطقــوا بهــا يف الحــال
بعــد الســكوت عنهــا طــول العمــر قدميــة ،ولــوال اســتيالء الشــيطان بواســطة
العنــاد والتعصــب لألهــواء؛ ملــا وجــد مثــل هــذا االعتقــاد مســتقرا يف قلــب
مجنــون فضــا عــن قلــب عاقــل؛ فاملجادلــة واملعانــدة داء محــض ال دواء لــه،
فليحــرز املتديــن منــه جهــده ،وليــرك الحقــد والضغينــة ،ولينظــر إىل كافــة
خلــق اللــه بعــن الرحمــة ،وليســتعن بالرفــق واللطــف يف إرشــاد مــن ضــل
مــن هــذه األمــة ،وليتحفــظ مــن النكــد الــذي يحــرك مــن الضــال داعيــة
الضــال»(.)2
فهــذا النــص يوضــح أهميــة الحكمــة والرفــق واللطــف يف الحــوار ،وتلــك
الفضائــل غايــة التســامح ،أمــا إذا كان الحــوار يســلك مهيعــا غــر ذلــك فــإن
رضره أكــر مــن نفعــه.
إذن :فالتـزام الحــوار الحكيــم املنضبــط قيمــة مــن قيــم التســامح املهمــة مــع
املخالــف داخــل الدائــرة اإلســامية ،ويف املطلــب الثــاين نتطــرق إىل قيمــة
أخــرى ال تقــل أهميــة عــن الحــوار وهــي قيمــة الحقــوق.
115
املطلب الثاين :الحفاظ عىل الحقوق ومراعاة مراتبها
إن التســامح يف أصلــه يتعلــق مبجموعــة مــن الحقــوق وينبثــق منهــا ،فعالقــة
التســامح بالحقــوق عالقــة ســببية طرديــة ،يؤثــر كل منهــا يف اآلخــر ،وهــو
باعتبــار آخــر تنــازل عــن حقــوق ذاتيــة مــن أجــل رعايــة حقــوق اآلخــر ســواء
كان مســلام أو غــر مســلم.
فالحقــوق يف ظــل التســامح ت ُصــان وت ُرعــى ،ولهــذا َعــرف بعضهــم التســامح
بأنــه« :التســاهل يف كل يشء ســواء يف املعاملــة أو يف الحقــوق»( .)1وقــد قعــد
املــاوردي قاعــدة دالــة عــى أن التســامح يبعــث عــى أداء الحقــوق بقولــه:
«الســاحة تبعــث عــى أداء الحقــوق»(.)2
والحــق يشء يجــب اســتيفاؤه والوفــاء بــه ،وهــو كــا عرفــه العلــاء يف رشح
ــى الْ ُم ْســلِ ِم
ــق الْ ُم ْســلِ ِم َع َ
الحديــث الــذي هــو أصــل يف هــذا البــابَ { :ح ُّ
ـس}( .)3قــال املنــاوي« :والحــق :الــيء املســتحق عــى الغــر مــن غــر َخ ْمـ ٌ
أن يكــون فيــه تــردد ،ويف املفهــم :الحــق :الثابــت ،ويف الــرع :يقــال للواجــب
واملنــدوب املؤكــد؛ ألن كال منهــا ثابــت يف الــرع فإنــه مطلــوب مقصــود
قصــدا مؤكــدا ،لكــن إطالقــه عــى الواجــب أوىل ،وقــد أطلــق هنــا عــى القــدر
املشــرك بــن الواجــب وغــره»(.)4
وهنــاك نصــوص رشعيــة متعــددة تُنظــم مجــال حقــوق املســلم عــى املســلم
بــدءا مــن التحذيــر مــن اســتحالل دمــه إىل الحــث عــى عــدم منعــه أن يغــرز
خشــبه يف جــداره.
116
إن أول مــا ينبغــي يف حفــظ حقــوق املســلم وصونهــا هــو معرفــة مراتبهــا،
والعلــم بتفاوتهــا ،وإعطــاء كل ذي حــق حقــه ،فأعــى مراتــب الحقــوق بعــد
حــق اللــه تعــاىل هــو حقــوق الوالديــن مســلمني كانــا أم كافريــن ،وقــد أمــر
اللــه باإلحســان إليهــا .وهكــذا أيضــا يف مراتــب القرابــة والجــوار والصداقــة،
يجــب مراعــاة تلــك املراتــب فذلــك مــا يســاعد عــى خلــق بيئــة األلفــة.
فســامة العالقــات القريبــة أســاس يف بنــاء التســامح العــام ،يقــول الغـزايل يف
بيــان هــذه املراتــب« :وكل مخالــط ففــي مخالطتــه أدب ،واألدب عــى قــدر
حقــه ،وحقــه عــى قــدر رابطتــه التــي بهــا وقعــت املخالطــة .والرابطــة؛ إمــا
القرابــة وهــي أخصهــا ،أو أخــوة اإلســام وهــي أعمهــا ،وينطــوي يف معنــى
األخــوة الصداقــة والصحبــة ،وإمــا الجــوار وإمــا صحبــة الســفر واملكتــب
والــدرس ،وإمــا الصداقــة أو األخــوة .ولــكل واحــد مــن هــذه الروابــط
درجــات؛ فالقرابــة لهــا حــق ولكــن حــق الرحــم املحــرم آكــد ،وللمحــرم حــق
ولكــن حــق الوالديــن آكــد .وكذلــك حــق الجــار ولكــن يختلــف بحســب
قربــه مــن الــدار وبعــده… وكذلــك حــق املســلم يتأكــد بتأكــد املعرفــة،
وللمعــارف درجــات فليــس حــق الــذي عــرف باملشــاهدة كحــق الــذي عــرف
بالســاع ،واملعرفــة بعــد وقوعهــا تتأكــد باالختــاط ،وكذلــك الصحبــة تتفاوت
درجاتهــا فحــق الصحبــة يف الــدرس واملكتــب آكــد مــن حــق صحبــة الســفر،
وكذلــك الصداقــة تتفــاوت فإنهــا إذا قويــت صــارت أخــوة فــإن ازدادت
صــارت محبــة»( .)1ففــي كل مرتبــة مــن هــذه املراتــب يتأكــد حــق مــن
الحقــوق الواجبــة أو املندوبــة.
ومــع تفــاوت هــذه الحقــوق فإنهــا يف أداءهــا ال ينفــك بعضهــا عن بعــض ،بل
هــي متداخلــة؛ فمنزلــة اإلحســان يدخــل فيهــا باألولويــة اإلحســان للوالديــن،
كــا يدخــل فيهــا أيضــا اإلحســان للجــادات والحيوانــات ،يقــول الــرازي:
«رعايــة جميــع الحقــوق الواجبــة للعبــاد ،فيدخــل فيــه صلــة الرحــم وصلــة
القرابــة الثابتــة بســبب أخــوة اإلميــان… ،ويدخــل يف هــذه الصلــة إمدادهــم
بإيصــال الخـرات ،ودفــع اآلفــات ،بقــدر اإلمــكان ،وعيــادة املريــض ،وشــهود
الجنائــز ،وإفشــاء الســام عــى النــاس ،والتبســم يف وجوههــم ،وكــف األذى
117
عنهــم ،ويدخــل فيــه كل حيــوان حتــى الهــرة والدجاجــة .وعــن الفضيــل بــن
عيــاض رحمــه اللــه :أن جامعــة دخلــوا عليــه مبكــة فقــال :مــن أيــن أنتــم؟
قالــوا :مــن خراســان .فقــال :اتقــوا اللــه وكونــوا مــن حيــث شــئتم ،واعلمــوا
أن العبــد لــو أحســن كل اإلحســان وكان لــه دجاجــة فأســاء إليهــا مل يكــن
مــن املحســنني»(.)1
إن منطلــق الحقــوق بــن املســلمني هــو األخــوة اإلميانيــة املطلــوب تحقيقهــا
مــن كل مســلم تجــاه أخيــه املســلم؛ مصداقــا لقولــه تعــاىل﴿ :إِنَّ َــا ٱمل ُؤ ِم ُنــو َن
إِخــ َوة .)2(﴾ٞوقولــه صــى اللــه عليــه وســلم{ :الْ ُم ْســلِ ُم أَ ُخــو الْ ُم ْســلِ ِم}(.)3
فمبــدأ األخــوة اإلميانيــة مبــدأ أصيــل تُبنــى عليــه الحقــوق ،قــال رســول اللــه
صــى اللــه عليــه وســلم يف الحديــث الــذي رواه ابــن عمــر ريض اللــه عنهــا:
{امل ُْســلِ ُم أَ ُخــو امل ُْســلِ ِم الَ يَظْلِ ُمــ ُه َوالَ يُ ْســلِ ُم ُهَ ،و َمــ ْن كَا َن ِف َحا َجــ ِة أَ ِخيــ ِه
ـال صــى اللــه عليــه وســلمَ { :مثَـ ُـل الْ ُم ْؤ ِم ِن ـ َن ِف كَا َن اللَّـ ُه ِف َحا َج ِت ـ ِه}( .)4وقَـ َ
ت َ َوا ِّد ِهـ ْمَ ،وت َ َرا ُح ِم ِهـ ْمَ ،وت َ َعاطُ ِف ِهـ ْم َمثَـ ُـل الْ َج َسـ ِـد إِذَا اشْ ـتَ َك ِم ْنـ ُه ُعضْ ـ ٌو تَ َدا َعــى
ِالسـ َه ِر َوالْ ُح َّمــى}( .)5يقــول ابــن عاشــور« :بهــذه القاعــدة لَـ ُه َســائِ ُر الْ َج َسـ ِـد ب َّ
تســنى للمســلمني التعــارف والتواصــل واالتحــاد ،عــى اختــاف األمــم الداخلة
يف اإلســام ،فلــم يحفــظ التاريــخ لديــن وال دولــة وال لدعــوة اســتطاع واحــد
منهــا أن يضــم إليــه مختلــف األمــم ويجعلهــم أمــة واحــدة ال يــرى بعضهــم
فارقــا بينهــم مثــل مــا لإلســام مــن ذلــك»(.)6
وأصــول هــذه الحقــوق التــي تعــزز التســامح بــن املســلمني ترجــع إىل مــا
يــي:
118
حــق إفشــاء الســام :فإفشــاء الســام بني املســلمني أمر نبــوي؛ ففــي الحديث:
ـال{ :إِذَا ـول اللـ ِه؟ ،قَـ َ ـت} ِقيـ َـلَ :مــا ُهـ َّن يَا َر ُسـ َ { َحـ ُّـق الْ ُم ْسـلِ ِم َعـ َـى الْ ُم ْسـلِ ِم ِسـ ٌّ
لَ ِقيتَـ ُه ف ََسـلِّ ْم َعلَيْـ ِه…}( .)1ويف حديــث آخــر يُوضــح ارتبــاط املحبــة بالســام
{أول أَ ُدلُّ ُكـ ْم َعـ َـى َ ْ
ش ٍء إِذَا فَ َعلْتُ ُمــو ُه تَ َحابَ ْبتُـ ْم؟ قــال صــى اللــه عليــه وســلمً :
ــا َم بَ ْي َنكُــ ْم}( .)2فإفشــاء الســام بــن املســلمني ســبب لرتســيخ الس َأَفْشُ ــوا َّ
املحبــة واأللفــة ،وتوثيــق عــرى التســامح ،يقــول وهبــة الزحيــي« :والتحيــة
نــوع مــن الشــفاعة الحســنة؛ ألنهــا تقــرب النــاس بعضهــم مــن بعــض ،وتنــر
املحبــة ،وتقــوي أوارص املــودة ،وتقتلــع األحقــاد وســوء التفاهــم ،ومتنــع
التحيـ ُة رشا كبـرا أو تآمـرا عظيــا ،إذا توافــرت النيــات الحســنة»(.)3
حــق الرتاحــم بــن املســلمني :فهنــاك رحمــة عامــة بــن اإلنســانية جمعــاء،
ورحمــة خاصــة يتعامــل بهــا املســلمون بينهــم؛ يرفقــون ببعضهــم ،ويشــفقون
عــى الضعفــاء واملحتاجــن ،ويتعاونــون يف تحقيــق هــذه القيــم ،قــال اللــه
ــآ ُء بَي َن ُهــم﴾( .)4ويف الحديــثَ { :مث ُ
َــل تعــاىل يف وصــف الصحابــةُ ﴿ :ر َح َ
ِ ِ
الْ ُم ْؤ ِم ِنـ َن ِف ت َ َوا ِّد ِهـ ْمَ ،وتَ َرا ُح ِم ِهـ ْمَ ،وت َ َعاطُف ِهـ ْم َمثَـ ُـل الْ َج َســد إِذَا اشْ ـتَ َك م ْنـ ُه
ِ
ِالســ َه ِر َوالْ ُح َّمــى}( .)5وقــد ذكــر بعــض ــد ب َّ ُعضْ ــ ٌو ت َ َدا َعــى لَــ ُه َســائِ ُر الْ َج َس ِ
العلــاء املتقدمــن معنــى راقيــا يف وصــف الرحمــة القامئــة بــن املســلمني
بحيــث« :يدعــو صالحهــم لطالحهــم ،إذا نظــر الطالــح إىل الصالــح مــن أمــة
محمــد صــى اللــه عليــه وســلم قــال :اللهــم بــارك لــه فيــا قســمت لــه مــن
الخــر ،وثبتــه عليــه ،وانفعنــا بــه؛ وإذا نظــر الصالــح إىل الطالــح مــن أمــة
محمــد صــى اللــه عليــه وســلم قــال :اللهــم اهــده ،وتــب عليــه ،واغفــر
لــه»(.)6
119
ـأي مــن أنــواع األذيــة ،أو يقــع حــق حرمــة العــرض :فاملســلم ال يــؤذي أخــاه بـ ٍّ
يف عرضــه أو يرميــه بأحــكام جاهــزة ،كالســب والتبديــع والتفســيق والتكفــر،
وقــد وردت نصــوص عديــدة يف النهــي عــن ترويــع املؤمنــن وأذيتهــم(،)1
وجــاع ذلــك يف قولــه صــى اللــه عليــه وســلم{ :امل ُْسـلِ ُم َمـ ْن َسـلِ َم امل ُْسـلِ ُمو َن
اب امل ُْســلِ ِم
{ســ َب ُــد ِه}( .)2وقولــه صــى اللــه عليــه وســلمِ : ِمــ ْن لِ َســانِ ِه َويَ ِ
ـوقَ ،و ِقتَالُـ ُه كُ ْفـ ٌر}( ) .يقــول الغـزايل يف رسده لحقــوق املســلم« :ومنهــا أن
3
ف ُُسـ ٌ
ال يــؤذي أحــدا مــن املســلمني بفعــل وال قــول ،قــال صــى اللــه عليــه وســلم:
{امل ُْسـلِ ُم َمـ ْن َسـلِ َم امل ُْسـلِ ُمو َن ِمـ ْن لِ َســانِ ِه َويَـ ِـد ِه}(.)5(»)4
حــق محبــة املســلم للمؤمنــن مــا يحــب لنفســه :هــذه قاعــدة فاصلــة يف
الرتبيــة عــى ثقافــة التســامح؛ وقــد اعتربهــا العلــاء معيــا ًرا نبويًّــا ،وأصـ ًـا
إنســان ًّيا يف االعتــدال ،ولــزوم الجــادة يف التعامــل مــع اآلخريــن؛ ومعرفــة
الحســن مــن القبيــح يف الترصفــات؛ يقــول القــايض عيــاض :إن هــذا الحديــث
«مــن جوامــع كلمــه ،واختصــار ِحكَمــه صــى اللــه عليــه وســلم ،وهــذا معيــار
صحيــح فيــا يعتــره اإلنســان مــن أفعالــه ،ومتييــزه قبيحهــا مــن حســنها»(.)6
فمــن مل يُســعفه ضمــره ،وانطمســت فطرتــه ،وضــاع وســط ركام الفضائــل
والرذائــل ،واختلطــت عليــه القيــم ،وتجاذبتــه تلك القــوى بصفاتهــا وخواصها؛
فليلجــأ إىل هــذا املعيــار الــذي يدلــه عــى الطريــق الســوي ،ويهديــه للســبيل
القويــم ،يف التعامــل مــع بنــي اإلنســان عامــة ،واملســلمني خاصــة؛ تعامــا
مبنيــا عــى التســامح ،ال ظلــم فيــه وال تطفيــف.
َاسمِ صىل الله عليه وسلم: ُول :ق ََال أَبُو الْق ِ
- 1من ذلك ما ثبت يف صحيح مسلم عَنِ ابْنِ ِسريِي َن قالَ :س ِم ْع ُت أَبَا ُه َريْ َرةَ ،يَق ُ
{ َم ْن أَشَ ا َر إِ َل أَ ِخي ِه ِب َح ِدي َد ٍة ،فَ ِإ َّن الْ َم َلئِ َك َة تَلْ َع ُنهَُ ،حتَّى يَ َد َع ُه َوإِ ْن كَا َن أَخَا ُه ِلَبِي ِه َوأُ ِّم ِه} مسلم ،الصحيح ،رقم ( )2616كتاب
الرب والصلة واآلداب ،باب النهي عن اإلشارة بالسالح إىل مسلم ،ج 4ص .2020
- 2البخاري ،الجامع الصحيح ،رقم )10( :كتاب اإلميان ،باب :املسلم من سلم املسلمون من لسانه ويده .ج 1ص .11
ومسلم ،الصحيح ،رقم ( )41كتاب اإلميان ،باب بيان تفاضل اإلسالم وأي أموره أفضل ج 1ص .65
- 3البخاري ،الجامع الصحيح ،رقم )48( :كتاب اإلميان ،باب خوف املؤمن من أن يحبط عمله وهو ال يشعر .19 1 .ومسلم
رقم ( )28كتاب اإلميان ،باب بيان قول النبي صىل الله عليه وسلم سباب املسلم ج 1ص .81
- 4البخاري ،الجامع الصحيح ،رقم ( )10كتاب اإلميان ،باب :املسلم من سلم املسلمون من لسانه ويده .ج 1ص .11
ومسلم ،الصحيح ،رقم )41( :كتاب اإلميان ،باب بيان تفاضل اإلسالم وأي أموره أفضل ج 1ص .65
- 5الغزايل؛ إحياء علوم الدين :ج 2ص .194
كم ُل امل ُ ْعلِمِ ب َف َوائِ ِد ُم ْسلِم،
- 6القايض عياض؛ عياض بن موىس بن عياض بن عمرون اليحصبي السبتي ،أبو الفضل 544ه ،إِ َ
تحقيق :الدكتور ي ْحيَى إِ ْس َم ِعيل( ،دار الوفاء للطباعة والنرش والتوزيع ،مرص ،ط1419 ،1 .ه 1998 -م) ،ج 6ص .132
120
هــذا املعيــار املهــم واألصــل املعتمــد هــو مــا حــض عليــه النبــي صــى اللــه
عليــه وســلم مــن أراد النجــاة؛ ففــي الحديــث أن النبــي صــى اللــه عليــه
ـب أَ ْن يُ َز ْحـ َز َح َعــنِ ال َّنــارَِ ،ويُ ْد َخـ َـل الْ َج َّنـ َة ،فَلْتَأْتِـ ِه وســلم قــال …{ :فَ َمـ ْن أَ َحـ َّ
ـب أَ ْن ـاس الَّـ ِـذي يُ ِحـ ُّ َم ِن َّيتُ ـ ُه َو ُه ـ َو يُ ْؤ ِم ـ ُن بِالل ـ ِه َوالْ َي ـ ْو ِم ْال ِخ ـرَِ ،ولْ َي ـأْ ِت إِ َل ال َّنـ ِ
يُــ ْؤ َت إِلَ ْيــ ِه}( .)1وقــال صــى اللــه عليــه وســلم{ :الَ يُ ْؤ ِمــ ُن أَ َح ُدكُــ ْمَ ،حتَّــى
ـب لِ َنف ِْس ـ ِه}( .)2فاملؤمــن يحــب لآلخريــن مــن الخــر ـب ِلَ ِخي ـ ِه َمــا يُ ِحـ ُّ يُ ِحـ َّ
والنفــع مــا يحبــه لنفســه ،ويــرىض لهــم مــا يرضــاه لهــا ،ويكــره لهــم مــا يكــره
كل مــا يرسهــم، لنفســه ،ويُحزنــه مــا يحــزن اآلخريــن ،ويُدخـ ُـل الــرو َر عليــه ُّ
ليقينــه أن إعطــاء اإلنســان غــره مــن خلقــه ،وإيثــاره إيــاه عــى نفســه؛ ال
ينقــص مــن حقــه وقــدره شــيئا ،بــل ذلــك مظنــة الزيــادة .وهــذه املنزلــة ال
تتحقــق إال إذا كان الصــدر ســليام مــن الرذائــل واألوصــاف املضادة للتســامح،
ك ـرا وغــا وحقــدا وحســدا.
ويف ظــل هــذه األخــوة التــي دعــا إليهــا القــرآن الكريــم والســنة النبويــة
الرشيفــة؛ تنمــو ثقافــة التســامح وترســو ،وتصبــح تعبديــة يُنــال بهــا األجــر
واملثوبــة ،وت ُصفَّــى بهــا القلــوب مــن الضغائــن واألحقــاد ،وتــراص بهــا
الصفــوف واملجتمعــات ،وتقــام بهــا الحيــاة الســعيدة الطيبــة.
وكل هــذه القيــم والحقــوق املذكــورة ال ميكــن تحققهــا إال مبنهــج الرفــق ،وال
ســيام مــع املســلمني ،وهــذا مــا ســنخصص لــه املطلــب التــايل:
121
وليســت أهميــة الرفــق فقــط يف هــذه الخاصيــة ،بــل إن مفهومــه يرســخ
معــاين التســامح الكــرى مــن التيســر والســهولة ،وتجنــب العنــف؛ لهــذا
ـر ِف الْ ُ ُمــور والســهول ُة ِف التوصــل إِلَيْ َهــا، عــرف العلــاء الرفــق بأنــه« :الْيُـ ْ
وخالفــه العنــف َو ُهـ َو التَّشْ ـ ِـديد ِف التَّ َو ُّصــل إِ َل الْ َمطْلُــوب ،وأصــل ال ِّرفْــق ِف
اللُّ َغــة ال َّن ْفــع»(.)1
إن اتبــاع منهــج الرفــق مــع الجميــع؛ واجــب رشعــي ،ومطلــب حضــاري ،ألن
فيــه تحقيقــا لرحمــة اإلســام ،والشــفقة عــى عبــاد اللــه ،ووفــاء بحقــوق
املســلم التــي تقدمــت يف املطلــب الســابق ،ويف ذلــك اح ـراز مــن العنــف
والشــدة ،والغضــب والغلظــة الناتجــة كلهــا عــن ســوء الخلــق.
فالرفــق مثــرة حســن األخــاق؛ ولهــذا يعتــر مــن الطاعــة ،ويســوغ أن يشــتغل
بــه املؤمــن عــن بعــض العبــادة.
ويعــد الرفــق ضمــن مكونــات التســامح يف ذروتهــا ،فهــو باعتبــار أثــره مــن
العالجــات املبــارشة للمشــكالت األرسيــة واملجتمعيــة والدينيــة ،ويتميــز
بســات وخصائــص ال توجــد يف غــره مــن القيــم؛ منهــا :الشــمولية ،واإلعانــة
الربانيــة ،والفاعليــة ،والســعادة األرسيــة.
أما الشمولية :فإن مرجعها أمران:
األول :أن الرفــق شــامل يســتعمل يف جميــع األمــور؛ ففــي الحديــث عــن
النبــي صــى اللــه عليــه وســلم أنــه قــالَ { :م ْهـ ًـا يَــا َعائِشَ ـ ُة ،إِ َّن اللَّ ـ َه يُ ِحـ ُّ
ـب
ال ِّرفْـ َـق ِف األَ ْم ـ ِر كُلِّ ـ ِه}(.)2
الثــاين :أن الرفــق خــر كلــه ،فهــو متمحــض للمنفعــة واملصلحــة ،وليــس فيــه
شــائبة املفســدة واملــرة ،وقــد أخــر بذلــك النبــي صــى اللــه عليــه وســلم
- 1أبو هالل العسكري؛ أبو هالل الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري نحو 395ه،
الفروق اللغوية ،تحقيق :محمد إبراهيم سليم( ،دار العلم والثقافة للنرش والتوزيع ،القاهرة – مرص) ،،ص .219
- 2البخاري ،الجامع الصحيح ،رقم )6024( :كتاب األدب ،باب الرفق يف األمر كله .ج 8ص .12ومسلم ،الصحيح ،رقم:
( )2165كتاب السالم ،باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسالم .ج 4ص .1706
122
ـر أَ ْو َمـ ْن يُ ْحـ َر ِم ال ِّرفْـ َـق يُ ْحـ َر ِم الْ َخـ ْ َ
ـر} حــن قــالَ { :مـ ْن ُحـ ِر َم ال ِّرفْـ َـق ُحـ ِر َم الْ َخـ ْ َ
(.)1
وأمــا الربانيــة؛ فاملــراد بهــا أن الرفــق فضيلــة يحبهــا اللــه تعــاىل ،ويُعــن
صاحبــه عليهــا بالتوفيــق والتســديد والتســهيل؛ ورد يف حديــث النبــي صــى
ـب ال ِّرفْـ َـق، ـال َر ِفيـ ٌـق يُ ِحـ ُّ اللــه عليــه وســلم أنَّــه قــال{ :إِ َّن اللَّ ـ َه تَبَــا َر َك َوتَ َعـ َ
َويَ ـ ْر َض ِب ـ ِهَ ،ويُ ِع ـ ُن َعلَيْ ـ ِه َمــا َل يُ ِع ـ ُن َعـ َـى الْ ُع ْنــف}( ).
ِ 2
وأمــا الفاعليــة :فــإن الرفــق يتــأىت معــه مــا ال يتــأىت مــع غــره مــن الصفــات
األخــرى ،فمــن اســتعمل الرفــق يف أمــوره ،وانتهجــه يف طريقــه ،أفلــح يف
ســعيه ومطلبــه ،وقــى حاجتــه ،وفُتحــت لــه األبــواب املغلقــة ،وحصــد
الثــار النافعــة؛ يقــول النبــي صــى اللــه عليــه وســلمَ { :مــا كَا َن ال ِّرفْـ ُـق ِف
ش ٍء إِال شــانه}( .)3قــال املنــاوي« :ألن بــه تســهل ش ٍء إِال زَانَـ ُه َوال نُـ ِز َع ِمـ ْن َ ْ َْ
األمــور ،وبــه يتصــل بعضهــا ببعــض ،وبــه يجتمــع مــا تشــتت ،ويأتلــف مــا
تنافــر وت َ َب ـ َّدد ،ويرجــع إىل املــأوى مــا شــذ ،وهــو مؤلــف للجامعــات جامــع
للطاعــات .ومنــه أخــذ أنــه ينبغــي للعــامل إذا رأى مــن يخــل بواجــب أو
يفعــل محرمــا؛ أن يرتفــق يف إرشــاده ويتلطــف بــه»( .)4فهــو جامــع ملقاصــد
كثــرة ،مــن طاعــة وعبــادة ،وتآلــف ووحــدة ،وتيســر وســعادة.
وأمــا الســعادة األرسيــة :فالرفــق مــن أســباب جلبهــا للبيــوت ،والرفــق يف
طبيعتــه الغالبــة ال يكــون إال مــع القريــب املالصــق ،لهــذا كان لــه دور أســاس
يف بنــاء األرس والعالقــات القريبــة ،يقــول النبــي صــى اللــه عليــه وســلم{ :إِذَا
ـرا ،أَ ْد َخـ َـل َعلَ ْي ِهـ ُم ال ِّرفْـ َـق}(.)5 ـت َخـ ْ ً أَ َرا َد اللـ ُه َعـ َّز َو َجـ َّـل ِبأَ ْهــلِ بَ ْيـ ٍ
- 1مسلم ،الصحيح ،رقم )2592( :كتاب الرب والصلة ،باب فضل الرفق .ج 4ص .2003
- 2مالك ،املوطأ ،رقم )1767( :كتاب االستئذان ،باب ما يؤمر به من العمل يف السفر ج 2ص .979
- 3الضياء ،ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد املقديس 643ه ،األحاديث املختارة أو املستخرج من األحاديث
املختارة مام مل يخرجه البخاري ومسلم يف صحيحيهام ،وحكم إسناده بالصحة ،تحقيق :عبد امللك دهيش( ،دار خرض،
بريوت – لبنان ،ط1420 ،3 .ه 2000 -م) ،ج 5ص 154رقم .1778
- 4املناوي ،فيض القدير ،ج 5ص .461
- 5أحمد ،املسند؛ رقم )24427( :ج 40ص .488
123
فالرفــق عــاج ودواء يف كل املجــاالت؛ يف العالقــات األرسيــة ،ويف الحــوار
والتواصــل مــع املوافقــن واملخالفــن ،ومــن كان الرفــق ســمته تحققــت لــه
محاســن األخــاق ،ومــكارم الشــيم ،ونكــب عــن طريــق العنــف والغلظــة،
ونــال مــن التســامح القــدح املعــى ،يقــول الغـزايل« :اعلــم أن الرفــق محمــود
ويضــاده العنــف ،والحــدة والعنــف نتيجــة الغضــب والفظاظــة .والرفــق
واللــن نتيجــة حســن الخلــق والســامة …،فالرفــق يف األمــور مثــرة ال يثمرهــا
إال حســن الخلــق ،وال يحســن الخلــق إال بضبــط قــوة الغضــب وقــوة الشــهوة
وحفظهــا عــى حــد االعتــدال ،وألجــل هــذا أثنــى رســول اللــه صــى اللــه
عليــه وســلم عــى الرفــق وبالــغ فيــه»(.)1
124
وال تقصــر ،وأصلــه القصــد ،وذلــك ألن مــن عــرف مطلوبــه؛ فإنــه يكــون
قاصــدا لــه عــى الطريــق املســتقيم مــن غــر انح ـراف وال اضط ـراب ،أمــا
مــن مل يعــرف موضــع مقصــوده؛ فإنــه يكــون متح ـرا ،تــارة يذهــب ميينــا،
وأخــرى يســارا ،فلهــذا الســبب جعــل االقتصــاد عبــارة عــن العمــل املــؤدي
إىل الغــرض»( .)1واآليــات القرآنيــة واألحاديــث النبويــة الدالــة عــى األمــر
بانتهــاج هــذا املنهــج كثــرة( ،)2ومنهــا اآليــات اآلمــرة بإقامــة الــوزن وامليـزان؛
ســط﴾( .)3قــال القاســمي: مثــل قــول اللــه تعــاىلَ ﴿ :وأَ ِقي ُمــوا ْ ٱلــ َوز َن بِٱل ِق ِ
«أي :االســتقامة يف الطريقــة ،ومالزمــة حــ ّد الفضيلــة ،ونقطــة االعتــدال يف
ـروا ْ ٱملِي ـ َزانَ﴾( .)4قــال القاشــا ّين :أي جميــع األمــور ،وكل القــوىَ ﴿ .و َل ت ُخـ ِ ُ
بالتفريــط عــن حـ ّد الفضيلــة»( .)5وال يعنــي االعتــدال مجــرد مالزمــة الوســط
بــن الطرفــن باملعنــى النــي للكلمــة؛ بــل املـراد الحــرص عــى قيــم التوســط
النبيلــة التــي تــؤدي للكــال ،فاالعتــدال مــن أوصــاف الكــال ،والزيــادة عــى
الكــال غلــو وتفريــط ،وليــس الــرص إال شــدة البيــاض ،ومــا زاد عــى حــده
خــرج عــن نطاقــه وانقلــب إىل ضــده ،يقــول عبــد اللــه دراز« :فــإن االعتــدال
الــذي ميدحــه اإلســام ،فيــا يتعلــق بدرجــة الجهــد ،ال يتمثــل يف «الوســط
الحســايب» ،وال يف «نقطــة الــذروة» وهــا القــوالن اللــذان يــردد بينهــا
الفكــر األرســطي ،وإمنــا يتمثــل االعتــدال يف نبــل يقــرب بقــدر اإلمــكان مــن
الكــال ،مقرونًــا بالــرور ،وباألمــل ،وهــو مــا يعــر عنــه رســول اللــه صــى
اللــه عليــه وســلم يف توجيهاتــه إىل الرفــق ،ونحــو مــا هــو عــدل يف ذاتــه{ :إِ َّن
ـروا} ـرَ ،ولَـ ْن يُشَ ــا َّد ال ِّديـ َن أَ َحـ ٌد إِ َّل َغلَ َبـ ُه ،ف ََسـ ِّد ُدوا َوقَا ِربُــواَ ،وأَبْـ ِ ُ
ال ِّديـ َن يُـ ْ ٌ
(.)7(»)6
125
ويف ضــوء مــا تقــدم مــن تفســر العلــاء لالعتــدال ،ميكــن القــول إن االعتــدال
منهــج يــؤدي بصاحبــه إىل التوســط واالت ـزان يف جميــع األمــور دي ًنــا ودنيــا
وســلوكًا .ومظاهــر االعتــدال كثــرة ،منهــا االســتقامة والتيســر ،والحكمــة
والرفــق ،إال أن أهمهــا وألصقهــا بقيمــة االعتــدال؛ هــو منابــذة الغلــو
والتطــرف والتشــدد.
وهــذا يحثنــا عــى التطــرق لعالقــة التســامح باالعتــدال ،وأثــر اعتــدال
األخــاق يف انتشــار ثقافــة التســامح وترســيخها يف النفــوس.
وال بــد أن ننطلــق يف بيــان هــذه العالقــة مــن حقيقــة تؤكــد أنــه ال يــكاد
ينفصــل الحديــث عــن الفضائــل األخالقيــة دون اإلشــارة إىل مؤثرهــا الحقيقي،
ومربطهــا األصــي ،وهــو القــوى الثــاث ،مبــا تحملــه مــن أبعــاد نفســية،
وتأثـرات خلقيــة ،وأعــاق إنســانية ،ألنهــا مــن خصائــص هــذا اإلنســان؛ فقــد
ركــب اللــه فيــه بعــض القــوى بهــا تُــد َرك ترصفاتــه ومــا يصــدر عنــه مــن
أخــاق.
وقــد اهتــم بهــذه القــوى فالســفة اليونــان قدميــا؛ وأقرهــا العلــاء املســلمون
واســتدلوا لهــا مــن النصــوص الرشعيــة ،يقــول الراغــب« :إمنــا خــص اإلنســان
بالقــوى الثــاث ليســعى يف فضيلتهــا ،فــإن فضيلــة القــوة الشــهوية تطالبــه
باملكاســب التــي تنميــه ،وفضيلــة القــوة الغضبيــة تطالبــه باملجاهــدات التــي
تحميــه ،وفضيلــة القــوة الفكريــة تطالبــه بالعلــوم التــي تهديــه ،فحقــه
أن يتأمــل قوتــه ،ويســر قــدر مــا يطيقــه ،فيســعى بحســبه ملــا يفيــده
الســعادة»( .)1والقــوة الغضبيــة التــي هــي أهــم هــذه القــوى املرتبطــة
بالتســامح قــد أشــار إليهــا القــرآن الكريــم ،وســاها الحميــة؛ وقابلهــا
بالســكينة التــي هــي مــن خصائــص التســامح؛ قــال تعــاىل﴿ :إِذ َج َعـ َـل ٱل َِّذيـ َن
كَ َفـ ُروا ْ ِف قُلُو ِب ِهـ ُم ٱل َح ِم َّيـ َة َح ِم َّيـ َة ٱل َٰج ِهلِ َّيـ ِة فَأَنـ َز َل ٱللَّـ ُه َسـ ِكي َنتَ ُه َعـ َ ٰ
ـى َر ُســولِ ِه
َو َعـ َـى ٱمل ُؤ ِم ِن ـ َن﴾( .)2ويف املفــردات« :وعــر عــن القــوة الغضبيــة إذا ثــارت
126
وكــرت بالحميــة ،فقيــل حميــت عــى فــان أي غضبــت عليــه ،قــال تعــاىل:
﴿ َح ِميَّــ َة ٱل َٰج ِهلِيَّــ ِة﴾(.)2(»)1
فالقــوة الغضبيــة جاهــزة لالنبعــاث والتوقــد ،وال تكــون خامــدة معتدلــة إال
بالتهذيــب والرتبيــة عــى فضائــل التســامح ،ولهــذا كانــت التعاليــم النبويــة
والتزكيــة املحمديــة تركــز عــى جانــب إخــاد هــذه القــوة الناريــة؛ ففــي
الحديــث عــن أيب هريــرة ريض اللــه عنــه ،أن رجــا قــال للنبــي صــى اللــه
ـب} ـب} فَ ـ َر َّد َد ِم ـ َرا ًرا ،قَـ َ
ـال{ :الَ تَغْضَ ـ ْ عليــه وســلم :أَ ْو ِص ِنــي ،قَـ َ
ـال{ :الَ تَغْضَ ـ ْ
( .)3يقــول ابــن حــزم« :قــول رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم للــذي
ـب} وأمــره عليــه الســام أن يحــب املــرء لغــره مــا يحــب اســتوصاه{ :الَ تَغْضَ ـ ْ
لنفســه ،جامعــان لــكل فضيلــة ،ألن يف نهيــه عــن الغضــب رد َع النفــس ذات
القــوة الغضبيــة عــن هواهــا»(.)4
ولخطــورة هــذه القــوة مبــا تلحــق مــن أرضار باآلخريــن؛ كان النبــي صــى الله
عليــه وســلم يلتجــئ إىل اللــه تعــاىل أن يجنبــه إياهــا ،ويطهــره مــن بذرتهــا،
ـخي َم َة َص ـ ْدرِي}(.)5فــكان مــن دعائــه صــى اللــه عليــه وســلمَ { :و ْاس ـل ُْل َسـ ِ
وقــد ذهــب بعــض رشاح الحديــث إىل أن امل ـراد بالســخيمة الضغينــة التــي
تنشــأ مــن القــوة الغضبيــة ،وأضيفــت إىل الصــدر ألنهــا منــه تبــدأ وتنطلق(.)6
وإذا كانــت القــوة الغضبيــة بهــذه األهميــة حيــث إن ضبطها وتعيريهــا مبعيار
االعتــدال يولــد فضيلــة التســامح واألخــاق الحميــدة؛ فــإن إعــال القــوة
الغضبيــة وإطالقهــا مــن قيودهــا ينشــأ عنــه أيضــا كل األخــاق املذمومــة،
وخاصــة املتعديــة لآلخــر ،والتــي تــيء إليــه وتؤذيــه ،واألخــاق التــي تتولــد
127
مــن القــوة الغضبيــة كلهــا تــدور يف فلــك العنــف ،وعــدم التســامح ،وهــذا مــا
بينــه اإلمــام الغـزايل وهــو يوضــح مــدارج معرفــة النفــس فيقــول« :أمــا القــوة
الغضبيــة فإنهــا شــعلة نــار اقتبســت مــن نــار اللــه املوقــدة التــي تطلــع ،إال
أنهــا ال تطلــع إال عــى األفئــدة ،وأنهــا املســتك َّنة يف ضمــن الفــؤاد اســتكنان
النــار تحــت الرمــاد ،ويســتخرجها الكــر الدفــن مــن قلــب كل جبــار عنيــد،
كــا يســتخرج النــار مــن الحديــد ،وقــد انكشــف ألويل األبصــار بنــور اليقــن،
أن اإلنســان ينــزع منــه عــرق إىل الشــيطان الرجيــم اللعــن ،فمــن اســتفزته
نــار الغضــب فقــد قويــت فيــه قرابــة الشــيطان ،حيــث قــال ﴿ َخلَقتَ ِنــي ِمــن
نَّــا ٖر َو َخلَقتَ ـ ُه ِمــن ِط ـنٖ﴾( ،)1فــإن شــأن الطــن الســكون ،والرقــاد ،وقبــول
اآلثــار ،وشــأن النــار التلظــي واالشــتعال ،والحركــة واالضطــراب ،والصعــود
وعــدم قبــول اآلثــار ،ومــن نتائــج الغضــب الحقــد ،والحســد ،وكثــر مــن
أخــاق الســوء ،ومنشــؤها مضغـ ٌة إذا صلحــت صلــح بهــا ســائر الجســد»(.)2
فالغضــب الــذي أَخــذ مــن صفــات النــار االشــتعال واإليــذاء؛ يتولــد مــن هــذه
القــوة ،وينتــج بعــد ذلــك كل خلــق يسء منــاف للتســامح مــن الكــر ،والحقد،
والحســد ،ويقــر صاحبــه عــن كل فضيلــة حســنة منشــئة للســاحة مــن
الصــر ،والحلــم ،واالعتــدال ،والكــرم ،والنجــدة ،واالحتــال ،وشــهامة النفــس.
مبــا ســبق يف هــذا الفصــل املخصــص للتســامح مــع املخالــف مــن املســلمني؛
نكــون قــد وقفنــا عــى القيــم األســاس والحقــوق الواجبــة ملــن تربــط بينهــم
األخــوة اإلميانيــة إضافــة لألخــوة اإلنســانية ،فصــار يف حقــه ميثــاق التســامح
ميثاقــن ،توثقــه رابطتــن ،وذلــك منــا إعــال لقاعــدة حفــظ املراتــب والبــدء
بــاألوىل فــاألوىل ،فــا ميكــن البحــث عــن التســامح مــع الغربــاء واألبعديــن،
والباحــث عنــه مضيــع الحقــوق التســامحية ألرستــه وجريانــه وأقربائــه،
واملشــركني معــه يف مرجعيــة دينيــة موحــدة ،فهــو كمــن يجــول بنظــره يف
آفــاق شاســعة باحثــا عــن ضالتــه وهــي عنــد رجليــه.
128
إذن؛ فالبنــاء ال يكــون إال عــى أســس صلبــة قويــة ،وذاك حــال التســامح
الداخــي داخــل الدائــرة الدينيــة ،فهــو يعــد أرضيــة لتشــييد التســامح
الخارجــي مــع اآلخــر املخالــف يف الديــن ،وهــذا مــا خصصنــا لــه البــاب الثاين.
129
البــاب الثــاين :أصــول التســامح مــع غــر املســلمني يف
الرشيعــة اإلســامية؛ وفيــه ثالثــة فصــول:
الفصــل األول :أصــول العالقــة مــع غــر املســلمني ووســائل
تحقيقها .
الفصــل الثــاين :شــواهد تاريخيــة عــى تســامح املســلمني
مــع غريهــم.
الفصل الثالث :ضوابط التسامح ووسائل استدامته.
الفصــل األول :أصــول العالقــة مــع غري املســلمني ووســائل
تحقيقهــا ،وفيــه مبحثان:
املبحــث األول :األصــول الحاكمــة للعالقــة مــع غــر
املســلمني.
املبحــث الثــاين :وســائل تحقيــق التســامح بــن املســلمني
وغريهــم.
الفصل األول :أصول العالقة مع غري املسلمني ووسائل تحقيقها
ـت العالقــات مــع حتــى ال يفهــم مــا ســلف أن الرشيعــة اإلســامية حــن أَ ْولَـ ْ
املســلمني أهميــة قصــوى -كــا ب ّينــا-؛ قــد فرطــت يف العالقــات بينهــم وبــن
غــر املســلمني؛ كان حريــا بنــا أن نعقــد بابــا خاصــا يف بيــان كيــف نَظَّــم
اإلســام العالقــات بــن املســلمني وغريهــم.
إن اإلســام يف نظرتــه إىل العالقــات بــن النــاس مــن مختلِــف الثقافــات
والديانــات؛ يذهــب إىل أن هــذه العالقــات عامــة ال غنــى عنهــا بــن األفـراد
واملجتمعــات ،وهــذا ســبب دعوتــه للتعــارف بــن البرشيــة قاطبــة ،وتأكيــده
عــى أن أصــل البرشيــة واحــد؛ ألن العالقــة بــن النــاس كافــة يف اإلســام
وليــدة التعــاون والتناســق والتكامــل ،ال التباغــض وإذكاء العــداوات.
إن اإلخــاء بــن اإلنســانية وتحقيــق املحبــة بينهــا ،يعــد ركيــزة هامــة ،ومظهـ ًرا
أساســا للتســامح يف أي بيئــة برشيــة ،فالتســامح يهــدف إىل القضــاء عــى ً
العــداوة ،وإخــاد جمــرة الكراهيــة ،وقطــع أنفــاس الفتنــة ،ويدعــو إىل
ترســيخ املــودة واملحبــة ،وذلــك ال يتحقــق إال بالنظــر إىل البرشيــة عــى أنهــم
أخــوة مرتابطــة ،وأرسة واحــدة ،ولقــد ســيج اإلســام العالقــة بــن اإلنســانية
وأحاطهــا بأســس وأصــول ثابتــة.
ومــن األســس التــي تنطلــق منهــا هــذه العالقــة ،وتُبنــى عليهــا ،وتقــف
راســخة يف أرجائهــا؛ العالقــة الســلمية اإليجابيــة بــن جميــع األفــراد
واملجتمعــات والــدول ،فقــد ركــز اإلســام عــى مبــدأ الســلم وأقــره ،قــال اللــه
ـلم فَٱج َنــح لَ َهــا﴾( .)1وقــال ســبحانه﴿ :يَٰٓأَيُّ َهــا ٱل َِّذيـ َن تعــاىلَ ﴿ :وإِن َج َن ُحــوا ْ لِ َّ
لسـ ِ
ـلم كَآفَّـ ٗة﴾( ) .وقــال عــز وجــل﴿ :فَـ ِإنِ ٱعتَ َزلُوكُــم فَلَــم
2
َءا َم ُنــوا ْ ٱد ُخلُــوا ْ ِف ِّ
ٱلسـ ِ
يُ َٰق ِتلُوكُــم َوأَل َقــوا ْ إِلَي ُك ـ ُم َّ
ٱلس ـلَ َم فَـ َـا َج َعـ َـل ٱللَّ ـ ُه لَ ُكــم َعلَي ِهــم َس ـب ِٗيل﴾( ).
3
132
فالســلم يؤســس للتنميــة املســتدامة ،واالســتقرار الواعــي ،وليــس فقــط عامـ ًـا
للتعايــش ،يقــول الدكتــور عبــاس الج ـراري« :ملــاذا يدعــو اإلســام للســلم؟
ألســباب كثــرة منهــا :أنــه يقــوم عــى التعــارف والتعــاون ،ســواء بــن األفــراد
أو الجامعــات .وهـــذا ال ميكــن أن يتحقـــق يف جــو التنافــر والحــرب والخـراب
والدمــار ،وإمنــا يتحقــق يف جو الســـلم الذي يتيــح التعايش والـــتفاهم وتبادل
املصالــح واملنافــع …،يدعــو إىل الحــوار الــذي يســعى إىل تبــادل وجهــات
النظـــر وإبـــداء الــرأي واإلقنــاع بــه يف حــل جميــع املشــكالت …،يحــث عــى
تجنــب الخصومــات والنزاعــات ألنهـــا ال تفـــي إال إىل الخـران…»(.)1
إن ســلامً بهــذه األهميــة واملكانــة الحضاريــة والثقافيــة؛ لَحقيــق بــه أن يــؤدي
بالعالقــات بــن البــر متعــددي االنتــاءات إىل مــآالت حميــدة ،وغايــات
حســنة مفيــدة .ويف هــذا الفصــل ســنقف مــع تلــك األصــول املنظمــة للعالقــة
بــن املســلمني وغريهــم ،والكفيلــة بإقامــة عالقــة الســلم والتســامح بينهــم.
وذلــك يف مبحثــن:
- 1الجراري؛ عباس -معادلة السلم والحرب يف اإلسالم( ،مجلة اإلسالم اليوم ،عدد1428 ،24ه-2007م ،اإليسيسكو) ،ص .6
133
املبحث األول :األصول الحاكمة للعالقة مع غري املسلمني
املطلب األول :أصل االعرتاف بغري املسلمني
إن االعــراف بغــر املســلمني نابــع مــن أصــل االعــراف باإلخــاء اإلنســاين
الكفيــل بالنــأي باإلنســانية عــن التعصــب والكراهيــة وإقصــاء اآلخريــن،
والــذي مــن شــأنه أن يوثــق عالقــة البــر عــى عــرى محكمــة مــن االحـرام
واملــودة وأخــاق التســاكن ،فثبــوت اإلخــاء اإلنســاين يف مجتمــع مــا؛ يعنــي
تجــي املحبــة بــن أفــراده ،وانطبــاع املــودة فيهــم ،فالتجانــس اإلنســاين
يقتــي التــواد والتآنــس ،كــا قيــل:
األديب»()1
ِ األديب إىل
ِ ّذات ّإل مجالس ُة بقيت من الل ِ «وما ْ
إن بنــاء الصلــة اآلدميــة واألخــوة اإلنســانية مظهــر أصيــل مــن مظاهــر
التســامح ،وقــد أكــد عليــه القــرآن الكريــم ،وأقرتــه الســنة النبويــة املطهــرة،
وأمــاه العقــل الصحيــح ،فالقــرآن الكريــم يســلك بنــا مســلكًا مبد ًعــا يف تقرير
هاتــه القضيــة ،ويبــن يف أكــر مــن موطــن أن النــاس جمي ًعــا يف غايــة أمرهــم
عــى اختــاف أعراقهــم وأجناســهم وأديانهــم ،خالقهــم وربهــم واحــد ،وأبوهم
ـاس ٱت َّ ُقــوا ْ َربَّ ُك ـ ُم ٱلَّـ ِـذي َخلَ َق ُكــم ِّمــنواحــد؛ يقــول اللــه تعــاىل﴿ :يَٰٓأَيُّ َهــا ٱل َّنـ ُ
ـس َٰو ِحـ َد ٖة َو َخلَـ َـق ِمن َهــا زَو َج َهــا َوبَــثَّ ِمن ُهـ َـا ِر َجـ ٗ
ـال كَ ِث ـ ٗرا َونِ َسـآ ٗء َوٱتَّ ُقــوا ْ نَّفـ ٖ
ٱللَّـ َه ٱلَّـ ِـذي ت ََسـآ َءلُو َن ِبـ ِه َوٱألَر َحــا َم إِ َّن ٱللَّـ َه كَا َن َعلَي ُكــم َر ِقيبٗــا﴾( ) .فاإلشــارة
2
يف اآليــة إىل اعتبــار وحــدة أصــل اإلنســان يلــزم منــه االع ـراف باآلخــر مــا
ينتــج عنــه التســامح والتعايــش ،يقــول الراغــب« :إن قيــل :مــا فائــدة قولــه:
احـ َد ٍة﴾()3؟ ،قيــل :تنبي ًهــا عــى وجوب مواصلــة بعضنا ـس َو ِ﴿ َخلَ َق ُكـ ْم ِمـ ْن نَ ْفـ ٍ
بعضً ــا ،لكوننــا مــن ذات واحــدة ،وأنَّــا كبنيــان يشـ ُّد بعضــه بعضً ــا»( ).
4
- 1الوشاء ،محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى ،أبو الطيب 325 ،ه ،املوىش-الظرف والظرفاء( ،تحقيق :كامل مصطفى،
مكتبة الخانجي ،مرص -مطبعة االعتامد ،ط1371 ،2 .هـ 1953 -م) ،ص .19
- 2سورة النساء ،اآلية.1 :
- 3سورة النساء ،اآلية.1 :
- 4الراغب؛ التفسري :ج 3ص .1078
134
وقد قلت من بحر الكامل:
إن التسامــح زيـنــة وخليـقــ ٌة شامء من شيم النفوس املاجدة
كل م َن آدم و ْهو نفس واحـدة فالله عز وجل قد خلق الــورى ًّ
ليشيع بينهـــــ ُم التآلف والوفـا وتصيــ َر روح ال ِّرب فيهم سائـدة
ـاس] حقيقــة عامــة نفســية ،تجمــع بنــي «إن هــذا النــداء القــرآين [يَٰٓأَيُّ َهــا ٱل َّنـ ُ
اإلنســان مهــا اختلفــت أجناســهم وألوانهــم وألســنتهم ،فهــو يثبــت أن
األصــل هــو «نفــس واحــدة» كلهــم يرجعــون إليهــا ،ويتصلــون بهــا»(.)1
وعليــه :فالقــرآن الكريــم يوضــح أن األخــوة اإلنســانية العامــة تدفــع اإلنســان
إىل عــدم التعــايل عــى أخيــه اإلنســان ،مــا يحقــق التســامح والتعايــش
اإلنســاين القائــم عــى الفضائــل والقيــم؛ يقــول ال ـرازي يف تفســره« :وكــون
الخلــق بأرسهــم مخلوقــن مــن نفــس واحــدة لــه أثــر يف هــذا املعنــى... ،
فالفائــدة يف ذكــر هــذا املعنــى أن يصــر ذلــك ســببا لزيــادة شــفقة الخلــق
بعضهــم عــى بعــض ....إذا عرفــوا كــون الــكل مــن شــخص واحــد تركــوا
املفاخــرة والتكــر ،وأظهــروا التواضــع وحســن الخلــق»(.)2
وهــذه الصلــة اإلنســانية العامــة قــد أكــدت عليهــا أيضــا الســنة النبويــة
وأعلــت شــأنها؛ كــا ســبق يف خطبــة حديــث حجــة الــوداع.
وورد أيضــا يف الدعــاء النبــوي شــهادته صــى اللــه عليــه وســلم بــأن عبــاد
اللــه كلهــم إخــوة؛ فــكان صــى اللــه عليــه وســلم يقــول يف دبــر صالتــه:
شيـ َـك ـت ال ـ َّر ُّب َو ْح ـ َد َك َل َ ِ ش ٍء ،أَنَــا شَ ـهِي ٌد أَنَّـ َـك أَنْـ َ {اللَّ ُه ـ َّم َربَّ َنــا َو َر َّب ك ُِّل َ ْ
ش ٍء أَنَــا شَ ـهِي ٌد أَ َّن ُم َح َّمـ ًدا َعبْـ ُد َك َو َر ُســول َُك ،اللَّ ُهـ َّم لَـ َـك ،اللَّ ُهـ َّم َربَّ َنــا َو َر َّب ك ُِّل َ ْ
ش ٍء ،أَنَــا شَ ـهِي ٌد أ َّن الْ ِع َبــا َد كُلَّ ُهـ ْم إِ ْخـ َوةٌ}( ) .فلفــظ العبــاد يف
3 َ َربَّ َنــا َو َر َّب ك ُِّل َ ْ
135
الحديــث يعــم جميــع النــاس مــن ولــد آدم ،لكنــه صــى اللــه عليــه وســلم
أكــده بكلهــم( )1إمعانــا يف التعميــم.
وإن االعـراف بحمولتــه اللغويــة يقتــي االلتـزام لآلخــر مبــا تعرفــه عنــه مــن
حــق وصــدق ،وهــذا مــا يفــره بــه اللغويــون ،يقــول أبــو هــال العســكري:
«االعــراف مثــل اإلقــرار ،إال أنــه يقتــي تعريــف صاحبــه الغــر أنــه قــد
التزمــت مــا اعــرف بــه ،وأصلــه مــن املعرفــة ...إمنــا االع ـراف هــو اإلق ـرار
الــذي صحبتــه املعرفــة مبــا أقــر بــه مــع االلت ـزام لــه»( .)2فاالع ـراف إذن:
الت ـزام ناشــئ عــن العلــم واملعرفــة.
إن هــذا األصــل الــذي هــو االعـراف ينبثــق ـــــــ فيام يخــص التســامح ـــــــ
مــن وجــوب اإلميــان واإلق ـرار باألديــان الســابقة ،وبجميــع الرســل واألنبيــاء
الذيــن بعثهــم اللــه تعــاىل رســا مبرشيــن ومنذريــن ،وقــد أمــر اللــه تعــاىل
بذلــك فقــال يف كتابــه﴿ :قُولُ ـ ٓوا ْ َءا َم َّنــا بِٱللَّ ـ ِه َو َم ـآ أُن ـز َِل إِلَي َنــا َو َم ـآ أُن ـز َِل إِ َ ٰلٓ
ــوس َو ِع َ ٰ
يــى وت ُم َ ٰ ُــوب َوٱألَســ َب ِاط َو َمــآ أُ ِ َ إِب َٰر ِهــ َم َوإِســ َٰم ِع َيل َوإِســ َٰح َق َويَعق َ
وت ٱل َّن ِب ُّيــو َن ِمــن َّربِّ ِهــم َل نُ َفـ ِّر ُق بَـ َن أَ َحـ ٖـد ِّمن ُهــم َونَحـ ُن لَـ ُه ُمسـلِ ُمونَ﴾ َو َمـآ أُ ِ َ
(.)3
أساســا مــن أســس ـض عليــه القــرآن ،واعتــره ً إن منهــج التعــارف الــذي حـ َّ
التســامح ال يســتقيم وال يقــوم لــه أو ٌد إال بعــد االعـراف ،فالتعــارف يســبقه
االعــراف واملعرفــة ،ويف تقريــر ذلــك يقــول الدكتــور رضــوان الســيد :إن
التعــارف« :صيغــة مفاعلــة أو تفاعــل ،يعنــي التعايــش مــن طريــق االعـراف
املتبــادل بــن األف ـراد والجامعــات ،مــن أجــل إقامــة املجتمعــات الصغــرة
والكبــرة .وال شــك أن االنتســاب إىل األب أو الجــد الواحــد عامــل مهــم يف
إحــداث تضامــن وتــواد»(.)4
- 1الزرقاين ،أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن شهاب الدين بن محمد الزرقاين املاليك 1122ه،
رشح الزرقاين عىل املواهب اللدنية باملنح املحمدية( ،دار الكتب العلمية ،ط1417 ،1 .ه-1996م) ،ج 10ص .468
- 2العسكري؛ الفروق :ص 48
- 3سورة البقرة ،اآلية.136 :
- 4السيد؛ رضوان -مجلة التسامح ،السنة السادسة ،العدد ،22 :ص .34
136
فاعـراف األفـراد بعضهــم ببعــض مــع اختــاف أديانهــم وثقافتهــم ،وتوافقهــم
عــى العيــش املشــرك بينهــم ،تحقيــق للتعــارف املـراد مــن البرشيــة يف آيــة
ــاس إِنَّــا َخلَق َٰنكُــم ِّمــن َذكَــ ٖر َوأُنث ٰ
َــى الحجــرات يف قولــه تعــاىل﴿ :يَٰٓأَيُّ َهــا ٱل َّن ُ
َو َج َعل َٰن ُكــم شُ ـ ُعوبٗا َوقَ َبآئِـ َـل لِتَ َعا َرفُـ ٓوا ْ إِ َّن أَك َر َم ُكــم ِعن ـ َد ٱللَّـ ِه أَت َق ٰى ُكــم إِ َّن ٱللَّـ َه
َعلِي ـ ٌم َخ ِب ـ ٞر﴾(.)1
وبالنظــر ألهميــة هــذا األصــل وهــو االعـراف باآلخــر؛ جعلــه بعــض الباحثــن
محــو ًرا يف مفهــوم التســامح؛ فجعلــوا التســامح مــن «االعـراف باآلخــر ،وحقــه
يف التعبــر عــن رأيــه وعقيدتــه ،والتعصــب هــو رفــض اآلخــر وســلبه حــق
االعتقــاد وحــق التعبــر عــن رأيــه»(.)2
ويف حقيقــة األمــر ،فــإن اإلميــان بالتعدديــة واالع ـراف باملخالــف يف الديــن
خطــوة -يف أهميتهــا -متقدمــة عــى التســامح؛ ألنــه دون تحقيقهــا ال ميكــن
إقامــة التســامح ،فاالع ـراف باآلخــر ،نتــاج اجتامعــي إيجــايب وتفاعــي مــع
قيــا
اآلخــر ،كــا أن االعــراف باآلخــر املبنــي عــى التعدديــة ،يســتدعي ً
رئيســة مثــل :الحــوار والتفاهــم والتواصــل والتعــاون والتالقــي ،يف حــن أن
التســامح قــد يكــون يف الغالــب مــن بــاب الــروك(.)3
ومــن ســات هــذا األصــل الــذي هــو االع ـراف باآلخــر ،أنــه يســتلزم جه ـ ًدا
ـذول مــن أجــل فهــم اآلخــر ،يف حــن أن التســامح أقــل مــن ذلــك، ونشــاطًا مبـ ً
لــذا قلنــا إن االعــراف باآلخريــن أصــل متقــدم عــى التســامح ،بتحقيقــه
يتحقــق التســامح يف املجتمــع تلقائ ًّيــا.
ومــن هنــا كان االعـراف هــو املدخــل األســاس للتســامح مــع غــر املســلمني،
ألن عــدم االعــراف يعنــي اإلنــكار قــال ابــن فــارس« :واإلنــكار :خــاف
االعــراف»( .)4واإلنــكار ينشــأ عنــه عــدم قبــول الحقائــق وجهــل بواقــع
137
األمــور ،ويف ذلــك إلغــاء لآلخــر وحقيقــة واقعــه ،والقــرآن الكريم يرســخ منهج
االع ـراف باآلخــر يف توجيهاتــه للنبــي صــى اللــه عليــه وســلم ،ومــن ذلــك
قولــه تعــاىل﴿ :لَ ُكــم ِدي ُن ُكــم َو ِ َل ِديــنِ ﴾( .)1وقولــه ســبحانه أيضــا﴿ :قُــل ك ُّٞل
ـى شَ ــاكِلَ ِت ِه فَ َربُّ ُكــم أَعلَـ ُم بِ َــن ُهـ َو أَهـ َد ٰى َسـب ِٗيل﴾( .)2ويف االعـراف يَع َمـ ُـل َعـ َ ٰ
باآلخــر وتحمــل كل مســؤوليته يقــول القــرآن الكريــم أيضــا﴿ :قُــل َّل تُسـَٔلُو َن
ـح بَي َن َنــاَعـ َّـآ أَج َرم َنــا َو َل نُسـ َُٔل َعـ َّـا ت َع َملُــو َن قُــل يَج َمـ ُع بَي َن َنــا َربُّ َنــا ث ُـ َّم يَفتَـ ُ
ـاح ٱل َعلِيـ ُم﴾( .)3يقــول القرطبــي يف تفســر هــذه اآلية« :أي بِٱل َحـ ِّـق َو ُهـ َو ٱل َفتَّـ ُ
إمنــا أقصــد مبــا أدعوكــم إليــه الخــر لكــم ،ال أنــه ينالنــي رضر كفركــم ،وهــذا
كــا قــال﴿ :لَ ُكــم ِدي ُن ُكــم َو ِ َل ِديــنِ ﴾ ،واللــه مجــازي الجميــع .فهــذه آيــة
مهادنــة ومتاركــة»( .)4ألنهــا دلــت عــى أن كل واحــد مــن بنــي البــر يعمــل
عــى املذهــب الــذي يعتقــده ،واالختيــار الــذي يرضــاه ،وجـزاء الجميــع عنــد
اللــه تعــاىل.
ويقــول الــرازي يف تفســر ســورة الكافــرون« :أول الســورة اشــتمل عــى
التشــديد ،وهــو النــداء بالكفــر والتكريــر ،وآخرهــا عــى اللطــف والتســاهل،
وهــو قولــه﴿ :لَ ُكــم ِدي ُن ُكــم َو ِ َل ِديــنِ ﴾ فكيــف وجــه الجمــع بــن األمريــن؟
الجــواب :كأنــه يقــول :إين قــد بالغــت يف تحذيركــم عــى هــذا األمــر القبيــح،
ومــا قــرت فيــه ،فــإن مل تقبلــوا قــويل ،فاتركــوين ســواء بســواء»(.)5
ويوضــح أبــو زهــرة هــذا االختيــار املكفــول للجميــع يف تفســر اآليــة املتقدمة
ـى شَ ــاكِلَ ِت ِه﴾ ،قائــا« :أي كل يعمــل عــى ناحيتــه التــي ﴿قُــل ك ُّٞل يَع َمـ ُـل َعـ َ ٰ
اختارهــا ،واملذهــب الــذي اعتنقــه ،وهــذا كقولــه تعــاىل﴿ :قُــل يَٰٓأَيُّ َهــا
ٱل َٰك ِفـ ُرونَ…﴾( .)6لقــد حاولــوا أن يفتنــوا النبــي صــى اللــه عليــه وســلم عــن
138
دينــه ،فــكأن هــذه اآليــة رد عليهــم؛ ومعناهــا :قــد اخرتتــم مــا اخرتمتــوه
فاتركــوا النــاس أح ـرا ًرا يف اختيارهــم ،وال تفتنوهــم عــن دينهــم .والحكــم يف
هــذه الشــواكل عنــد اللَّــه تعــاىل»(.)1
ووجــه الداللــة مــن هــذه النصــوص القرآنيــة أن القــرآن الكريــم مل يلــغ
األديــان األخــرى ،ومل يصــادر حقوقهــا ،بــل اعــرف بهــا ،وتــرك حريــة االختيــار
ألصحابهــا .واالعــراف مــن خصائصــه الصفــاء والوضــوح؛ ولهــذا يقــال يف
األمثــال« :اال ْعـ ِـر ُاف يُزِيـ ُـل االقْـ ِـر َاف»( .)2واالعـراف ال يقتــي اإلقـرار بصحــة
األديــان األخــرى ،أو اإلذن لهــا والحكــم عليهــا ،فهــذا موضــوع آخــر ،وإمنــا
يقتــي اإلقــرا َر بالوجــود ،وهــذه القضيــة مثــار إشــكال بــن املفرسيــن،
تعــددت فيهــا آراؤهــم وتنوعــت؛ يقــول الـرازي يف تفســر «ســورة الكافرون»:
«قــال ابــن عبــاس :لكــم كفركــم باللــه ويل التوحيــد واإلخــاص لــه ،فــإن قيــل:
فهــل يقــال :إنــه أذن لهــم يف الكفــر .قلنــا :كال ،فإنــه عليــه الســام مــا بعــث
إال للمنــع مــن الكفــر ،فكيــف يــأذن فيــه؟ ولكــن املقصــود منــه أحــد أمــور:
أحدها :أن املقصود منه التهديد ،كقوله﴿ :ٱع َملُوا ْ َما ِشئتُم﴾(.)3
وثانيهــا :كأنــه يقــول :إين نبــي مبعــوث إليكــم ألدع َوكــم إىل الحــق والنجــاة،
فــإذا مل تقبلــوا منــي ومل تتبعــوين فاتركــوين وال ت ْدعــوين إىل الــرك.
وثالثهــا :لكــم دينكــم فكونــوا عليــه إن كان الهــاك خـرا لكــم ،ويل ديــن ألين
ال أرفضــه»(.)4
ونظ ـ ًرا ألهميــة هــذا األصــل فقــد ع َّرفــت األمــم املتحــدة يف أحــد قراراتهــا
التســامح باالعــراف باآلخــر ،فــورد يف أحــد قراراتهــا التــي اســتهلت بهــا
التقريــر الصــادر يف الســنة الدوليــة للتســامح أن« :التســامح االعــراف
باآلخريــن وتقديرهــم ،والقــدرة عــى العيــش مــع اآلخريــن واالســتامع إىل
اآلخريــن»(.)5
139
وألن االعـراف باآلخــر ينبنــي عــى أســس راســخة وأصــول ثابتــة ،مــن أ َجلهــا
اإلنصــاف والعــدل بــن الجميــع؛ فقــد خصــص املطلــب اآليت للحديــث عــن
اإلنصــاف والقســط.
140
وأ ّمــا العــدل مــع الخلــق ،فعــى لســان العلــم؛ بــذل اإلنصــاف ،وعــى موجــب
الفتــوة؛ تــرك االنتصــاف»(.)1
﴿ل يَن َه ٰى ُكـ ُم ٱللَّـ ُه
واألصــل يف األمــر بالقســط مــع غــر املســلمني قولــه تعــاىلَّ :
َعــنِ ٱل َِّذيـ َن لَــم يُ َٰق ِتلُوكُــم ِف ٱل ِّديــنِ َولَــم يُخ ِر ُجوكُــم ِّمــن ِديَٰ ِركُــم أَن ت َ َُّبو ُهــم
ـط َني﴾( .)2يقــول الزمخــري يف بيــان ُقسـ ِ
ـب ٱمل ِ ُقس ـطُ ٓوا ْ إِلَي ِهــم إِ َّن ٱللَّـ َه يُ ِحـ ُّ
َوت ِ
داللتهــا« :وتقضــوا إليهــم بالقســط وال تظلموهــم .وناهيــك بتوصيــة اللــه
املؤمنــن أن يســتعملوا القســط مــع املرشكــن بــه ويتحامــوا ظلمهــم ،مرتجمــة
عــن حــال مســلم يجــرئ عــى ظلــم أخيــه املســلم»(.)3
وإذا كان هــذا مفهــوم القســط وأصلــه القــرآين ،فــإن اإلنصــاف يف حقيقتــه؛
وســيلة لتحقيــق القســط والعــدل ،ويكــون ســخا ًء مــن اإلنســان تجــاه غــره،
أمــا يف الوصــول للعــدل واالعتــدال ،وتجنبــا للظلــم والعــدوان ،يقــول الـرازي:
«ذلــك ألن حقيقــة اإلنصــاف ،إعطــاء النصــف ،فــإن الواجــب يف العقــول تــرك
الظلــم عــى النفــس وعــى الغــر ،وذلــك ال يحصــل إال بإعطــاء النصــف ،فــإذا
أنصــف وتــرك ظلمــه أعطــاه النصــف فقــد ســوى بــن نفســه وبــن غــره
وحصــل االعتــدال ،وإذا ظلــم وأخــذ أكــر مــا أعطــى زال االعتــدال ،فلــا
كان مــن لــوازم العــدل واإلنصــاف التســوية جعــل لفــظ التســوية عبــارة عــن
العــدل»(.)4
فمعاملــة جميــع النــاس بالعــدل والقســط كــا أمــر القــرآن الكريــم ،فيــه
صــاح املجتمعــات وإقامــة مصالحهــا ،واعتــدال اإلنســانية واســتقرارها
وســامتها ،قــال قتــادة« :اعــدل يــا ابــن آدم كــا تحــب أن يعــدل عليــك،
أَ ْو ِف كــا تحــب أن يُــ َو ّف لــك ،فــإن بالعــدل صــاح النــاس»(.)5
141
فــا بــد لإلنســان مــن العــدل وإنصــاف اآلخريــن وتغليــب قيــم العيــش
املشــرك ،والتنــازل عــن بعــض الحقــوق التــي قــد تكــون محببــة للنفــوس،
وهــذا يــرز أهميــة اإلنصــاف واالنتصــاف ،ومــدى صعوبتــه وحاجتــه للرتبيــة
الذاتيــة ،والتدريــب النفــي ،والتوعيــة ال ُخلقيــة.
ــار ريض اللــه عنــه أنــه قــال: وقــد ورد يف األثــر عــن الصحــايب الجليــل َع َّ
ــكَ ،وبَــذ ُْل ِ ِ «�ثَــاَثٌ َمــ ْن َج َم َع ُهــ َّن فَقَــ ْد َج َمــ َع ا ِإلميَــانَ :ا ِإلن َْص ُ
ــاف مــ ْن نَفْس َ
َــاق ِمــ َن ا ِإلقْتَــارِ»( .)1يقــول املنــاوي يف رشحــه: َــمَ ،وا ِإلنْف ُ الســا َِم لِلْ َعال ِ
َّ
««واإلنصــاف مــن نفســك» أي معاملــة غــرك بالعــدل والقســط ،بحيــث
تحكــم لــه عــى نفســك مبــا يجــب لــه عليــك»(.)2
وقــال ابــن هبــرة« :وملــا كان اإلميــان يقتــي أن تظهــر مثرتــه عنــد القــدرة
عــى الخصــم ،فيقــن اإلميــان يف إنصــاف الخصــم ،بحيــث يعــود اإلنســان وال
منتصــف منــه غــر نفســه ،فــإذا أنصــف مــن نفســه ،ومل تأخــذه العصبيــة لهــا
عــى أخيــه ،كان ذلــك آيــة مــن آيــات اإلميــان»(.)3
وهــذا يعنــي أن اإلنصــاف مبــادرة ذاتيــة ناشــئة عــن شــيم راســخة ،وأخــاق
متينــة ،ومــروءة ســليمة ،ومــن هنــا عــده بعــض العلــاء ضمــن خصــال
املــروءة؛ ألن اإلنصــاف مــن النفــس إمنــا يكــون تفضـ ًـا وإحســانًا ،ال إيجابًــا
وإلزا ًمــا ،فقــد ســئل ســفيان الثــوري عــن املــروءة فقــال« :اإلنصــاف مــن
نفســك ،والتفضــل للــه تعــاىل﴿ :إِ َّن ٱللَّـ َه يَأ ُمـ ُر بِٱل َعــد ِل﴾( ،)4وهــو اإلنصــاف،
حســنِ ﴾ ،وهــو التفضــل ،وال يتــم األمــر إال بهــا ،أال ت ـراه لــو أعطــى ﴿ َوٱ ِإل َٰ
جميــع مــا ميلــك ،ومل ينصــف مــن نفســه مل تكــن لــه مــروءة؛ ألنــه ال يريــد أن
يعطــي شــيئا إال أن يأخــذ مــن صاحبــه مثلــه ،وليــس مــع هــذا مــروءة»(.)5
142
فهــذا الخلــق يرقــى باإلنســان مــن مســتوى املشــاحنة واملشاكســة واملنازعــة
إىل مســتوى ال ـرايض واملصافــاة والوئــام وتبــادل التطــوع ،وهــذا هــو قمــة
التســامح وبــه يقــوم.
والتـزام اإلنصــاف إمنــا يتحقــق بالقســط والعــدل كــا تقــدم يف األثــر ،ومــن
خصائــص القيــام بالقســط –حســب تعبــر القــرآن الكريــم -أنــه يكــون عــى
الــدوام والثبــوت والتك ـرار ،فــا يتحقــق هــذا القيــام يف مــكان وموقــع دون
آخــر ،وال يُقتــر فيــه عــى أشــخاص وأقــوام دون آخريــن ،بــل هــو حــق
يجــب للجميــع ،فالواجــب أن يُ ْعطَــى لــكل ذي حــق ح ُّقــه ،مســلام كان أو
غــر مســلم ،كــا نبــه القــرآن الكريــم ،ورضب لذلــك مثــا؛ ليرتســخ هــذا
املعنــى ،ويتأكــد اســتواء الفقــر والغنــي ،والقريــب والبعيــد يف هــذا األصــل؛
ـط شُ ـ َه َدا ٓ َء لِلَّـ ِهيقــول اللــه تعــاىل﴿ :يَٰٓأَيُّ َهــا ٱل َِّذيـ َن َءا َم ُنــوا ْ كُونُــوا ْ قَ َّٰو ِمـ َن بِٱل ِقسـ ِ
ـى أَنف ُِسـكُم أَ ِو ٱل َٰولِ َديــنِ َوٱألَق َر ِبـ َن إِن يَ ُكــن َغ ِن ًّيــا أَو فَ ِقـ ٗرا فَٱللَّـ ُه أَ َ ٰ
ول َولَــو َعـ َ ٰٓ
َعدلُــوا ْ َوإِن تَلـ ُ ٓوا ْ أَو تُعرِضُ ــوا ْ فَـ ِإ َّن ٱللَّـ َه كَا َن بِ َــا ِب ِهـ َـا فَـ َـا تَتَّ ِب ُعــوا ْ ٱل َهـ َو ٰٓى أَن ت ِ
ت َع َملُــو َن َخ ِبـ ٗرا﴾( .)1وقــال يف آيــة أخــرى﴿ :يَٰٓأَيُّ َهــا ٱل َِّذي َن َءا َم ُنــوا ْ كُونُــوا ْ قَ َّٰو ِم َني
ٱعدلُــوا ْ ُهـ َو َعدلُــوا ْ ِـى أَ َّل ت ِ
ـوم َعـ َ ٰٓ ـط َو َل يَج ِر َم َّن ُكــم شَ ـ َنَٔا ُن قَـ ٍ لِلَّـ ِه شُ ـ َه َدا ٓ َء بِٱل ِقسـ ِ
أَقـ َر ُب لِلتَّقـ َو ٰى َوٱت َّ ُقــوا ْ ٱللَّـ َه إِ َّن ٱللَّـ َه َخ ِبـ ُر بِ َــا ت َع َملُــونَ﴾( ) .وصيغــة املبالغــة
2
يف اآليتــن تفيــد التكـرار والثبــوت ،يقــول ابــن عطيــة« :وهــذا بنــاء مبالغــة،
أي ليتكــرر منكــم القيــام»(.)3
ومــن الخصائــص التــي تجعــل القســط يكتــي أهميــة قصــوى؛ أنــه يختــص
بكونــه مــن القيــم التــي ال تتجــى إال يف املعامــات ،يقــول القرطبي« :القســط
هــو العــدل يف املعامــات»( ،)4وذلــك أن مــن الصفــات التــي طُبــع عليهــا
اإلنســان؛ صفــة ال ـراع الســاكنة يف النفــوس ،والناتجــة عــن أدواء ُخلُقي ـ ٍة؛
مــن الغــرة ،والحســد ،والخــوف ،والتحــدي ،واألنانيــة؛ حيــث إن ُجــل هــذه
143
الصفــات تغــذي الــراع مــع اآلخــر يف مختلــف مياديــن الحيــاة ،وتــزداد
خطــورة هــذه الصفــة إذا تولــد عنهــا العنــف والكراهيــة.
ولهــذه األهميــة املتقدمــة ،وملــا للعــدل والقســط مــن اآلثــار عــى املجتمــع
يف انتشــار التعايــش والتســامح بــن اإلنســانية ،واســتدامة عالقتهــم الراســخة
املبنيــة عــى املحبــة واأللفــة؛ كان القســط مــن أعظــم املأمــورات الرشعيــة،
يقــول أبــو زهــرة« :ويجــب التنبيــه إىل أن أبلــغ مــا يف املأمــورات العدالــة،
فهــي أقواهــا أث ـرا يف بنــاء املجتمــع ،وأقبــح املنهيــات البغــي ،فكلهــا ميــس
ناحيــة فيــه»(.)1
وهــذا األصــل يــري عــى الجميــع حتــى عــى األعــداء ،فقــد نبــه الفقهــاء
إىل أن القســط والعــدل يجــب مــع العــدو حتــى ولــو كان مقاتــا ،يقــول ابــن
العــريب« :فــإ ّن العــدل واجــب فيمــن قاتــل وفيمــن مل يقاتــل»(.)2
وتحقيــق اإلنصــاف مــن النفــس لآلخريــن ارتقــاء ملنزلــة الــر واإلحســان،
ومدخــل مــن مداخلهــا ،وهــو مــا نخصــص لــه املطلــب اآليت(.)3
144
والـ ُّر يف مفهومــه القــرآين واللغــوي يُقصــد بــه الكرامــة وخصــال الخــر كلهــا،
يقــول ابــن جــزي عنــه« :لــه معنيــان :الكرامــة ،ومنــه ب ـ ّر الوالديــن و﴿أَ ْن
ت َ َُّبو ُهـ ْم﴾ ،والتقــوى ،والجمــع لخصــال الخــر ومنــهَ ﴿ :ولَٰ ِكـ َّن ِ َّ
ٱلب َمــنِ ٱتَّق َٰى﴾
( .)2(»)1وتفســر الــر بالخــر يــدل عــى شــموليته لجميــع األفعــال الحســنة،
واملحاســن النبيلــة ،ففــي لســان العــرب« :قــال بعضهــم :الــر :الخــر .قــال :وال
أعلــم تفسـرا أجمــع منــه؛ ألنــه يحيــط بجميــع مــا قالــوا»(.)3
إن اختيــار القــرآن الكريــم لكلمــة الــر يف ســياق تنظيــم العالقــات بــن
املســلمني وغريهــم ،يــدل داللــة قاطعــة ،عــى أن اإلســام يريــد لهــذه
العالقــات أن تكــون يف أبهــى صورهــا ،وأفضــل أحوالهــا ،وأحســن أشــكالها؛ ألن
ملفهــوم الــر خصوصيــة يف الثقافــة اإلســامية ،فهــو مصطلــح اســتعمل رش ًعــا
ـتعامل يعطيــه مكانــة مرموقــة ،وهــو نطــاق التعامــل مــع يف نطــاق خــاص اسـ ً
الوالديــن؛ يقــول الشــيخ عبــد اللــه بــن بيــه« :والــر هــو اإلحســان وهــو يشء
فــوق العــدل ،وقــد عــر بــه الشــارع عــن أقــدس عالقــة بــن الخلــق ،وهــي
عالقــة األوالد بوالديهــم ،وهــي الــر»(.)4
وهــذا الــر املــأذون بــه فهــم منــه العلــاء أوجــه حســن التعامــل املختلفــة
مــع غــر املســلمني ،واســتدل بــه الفقهــاء عــى كثــر مــن األحــكام الرشعيــة
الخاصــة بهــم ،فهــو دســتور شــامل ينظــم هــذه العالقــات ،وأول مــا يقتضيــه
هــو اإلحســان إليهــم وإكرامهــم وصلتهــم واإلهــداء إليهــم ،يقــول اإلمــام
الق ـرايف« :وأمــا مــا أمــر بــه مــن برهــم ومــن غــر مــودة باطنيــة؛ فالرفــق
بضعيفهــم ،وســد خلــة فقريهــم ،وإطعــام جائعهــم ،وإكســاء عاريهــم ،ولــن
القــول لهــم ،عــى ســبيل اللطــف لهــم والرحمــة ،ال عــى ســبيل الخــوف
والذلــة ،واحتــال إذايتهــم يف الجــوار مــع القــدرة عــى إزالتــه لط ًفــا منــا بهــم
145
ال خوفًــا وتعظيـ ًـا ،والدعــاء لهــم بالهدايــة ،وأن يجعلــوا مــن أهــل الســعادة،
ونصيحتهــم يف جميــع أمورهــم يف دينهــم ودنياهــم ،وحفــظ غيبتهــم
إذا تعــرض أحــد ألذيتهــم ،وصــون أموالهــم وعيالهــم وأعراضهــم ،وجميــع
حقوقهــم ومصالحهــم ،وأن يعانــوا عــى دفــع الظلــم عنهــم ،وإيصالهــم
لجميــع حقوقهــم ،وكل خــر يحســن مــن األعــى مــع األســفل أن يفعلــه،
ومــن العــدو أن يفعلــه مــع عــدوه ،فــإن ذلــك مــن مــكارم األخــاق»(.)1
ويف هــذه العــر الــذي أصبحــت الــدول آمنــة يف حدودهــا ،واألشــخاص
محكومــن بالقوانــن ،وعقــد املواطنــة واملســاواة يف الحقــوق ،ال يبقــى ملفهوم
اإلذالل واإلعــزاز معنــى ،فــكل مــا يصلــح نَظْمــه يف مــكارم األخــاق مــن
املحامــد واملحاســن يَ ْحســن فعلــه معهــم ،ويدخــل يف بــاب الــر ،ويثــاب
املســلم عليــه ،يقــول وهبــة الزحيــي يف تفســر اآليــة الســابقة« :أي :ال
مينعكــم اللــه مــن ال ـ ّر واإلحســان وفعــل الخــر إىل الكفــار الذيــن ســاملوكم
ومل يقاتلوكــم يف الديــن ...كصلــة الرحــم ،ونفــع الجــار ،والضيافــة ...واملقصــود
باآليــة :أن اللــه ســبحانه ال ينهــى عــن ب ـ ّر أهــل العهــد مــن الكفــار الذيــن
عاهــدوا املؤمنــن عــى تــرك القتــال ،وعــى أال يعينــوا عليــه»(.)2
وعمــوم الــر واإلحســان املــأذون بهــا مــع غــر املســلمني تــدل عليهــا أدلــة
أخــرى منهــا قولــه تعــاىلَ ﴿ :وت َ َعا َونُــوا ْ َعـ َـى ٱلـ ِ ِّ
ـر َوٱلتَّقـ َو ٰى﴾( .)3وقولــه تعــاىل:
حســنِ َوإِيتَـا ِٕٓي ِذي ٱل ُقـ َ ٰ
ـرب﴾( ).
4
﴿إِ َّن ٱللَّـ َه يَأ ُمـ ُر بِٱل َعــد ِل َوٱ ِإل َٰ
والــر امل ـراد مــن اآليــة ال يتأثــر بانعــدام املــودة واملــواالة حتــى تجعــل ســبب
قطعــه ،فاآليــة دالــة عــى إباحتــه ولــو مــع انعــدام املــودة ،يقــول الواحــدي« :قال
أهــل التأويــل :وهــذه اآليــة دالــة عــى أن جــواز الــر بــن املســلمني واملرشكــن،
وإن كانــت املــودة منقطعــة ،فــإن اللــه تعــاىل أبــاح ذلــك يف هــذه اآليــة»(.)5
- 1القرايف ،أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن املاليك الشهري بالقرايف 684ه ،أنوار الربوق يف أنواء
الفروق(،عامل الكتب) ،ج 3ص .15
- 2الزحييل؛ التفسري املنري :ج 28ص .135
- 3سورة املائدة ،اآلية.2 :
- 4سورة النحل ،اآلية.90 :
- 5الواحدي؛ أبو الحسن عيل بن أحمد بن محمد بن عيل الواحدي ،النيسابوري ،الشافعي 468ه ،التفسري البسيط،
(عامدة البحث العلمي -جامعة اإلمام محمد بن سعود اإلسالمية ،ط1430 ،1 .ه) ،ج 21ص .415
146
وإمنــا كان أصــل الــر بهــذه املكانــة؛ ألثــره يف القلــوب والنفــوس ،وإشــاعته
التســامح بــن النــاس ،بغــض النظــر عــن ألوانهــم وأديانهــم وأعراقهــم ،فالــر
كفيــل بتطهــر النفــوس مــن األحقــاد ،وتنقيتهــا مــن الضغائــن والكراهيــة
املؤثــرة يف العالقــات اإلنســانية ،وهــذا مــا أبــان عنــه املــاوردي يف قولــه« :وأما
الــر؛ وهــو الخامــس مــن أســباب األلفــة؛ فألنــه يوصــل إىل القلــوب ألطافــا،
ويثنيهــا محبــة وانعطافــا .ولذلــك نــدب اللــه تعــاىل إىل التعــاون بــه ،وقرنــه
بالتقــوى لــه فقــالَ ﴿ :وت َ َعا َونُــوا ْ َعـ َـى ٱلـ ِ ِّ
ـر َوٱلتَّقـ َو ٰى﴾()1؛ ألن يف التقــوى رىض
اللــه تعــاىل ،ويف الــر رىض النــاس؛ ومــن جمــع بــن رىض اللــه تعــاىل ورىض
النــاس فقــد متــت ســعادته ،وعمــت نعمتــه ،وعــن ابــن مســعود ،قــال:
ســمعت رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم يقــول{ :جبلــت القلــوب عــى
حــب مــن أحســن إليهــا ،وبغــض مــن أســاء إليهــا}(.)2
ويقــال يف هــذا األصــل أيضً ــا مــا قيــل يف األصــل الــذي قبلــه ،بأنــه دائــم
ومســتمر؛ ألنــه مــن القيــم التــي ال تقبــل النســخ وال التغيــر ،فهــي تصلــح
لــكل وقــت وزمــان ،ومــع جميــع النــاس ،يقــول شــيخ األزهــر ســيد طنطــاوي:
«والــذي عليــه املحققــون مــن العلــاء ،أن اآليــة محكمــة وليســت منســوخة،
ألنهــا تقــرر حكــا يتفــق مــع رشيعــة اإلســام يف كل زمــان ومــكان ،وهــو أننــا
ال نــؤذي إال مــن آذانــا ،وال نقاتــل إال مــن أظهــر العــداوة لنــا بأيــة صــورة
مــن الصــور»(.)3
فالــر لــه ألطــاف يف قلــوب الخلــق ســواء منهــم املخالــف واملوافــق ،وبــه
وبالقيــم املنضويــة تحتــه يحــاط حمــى التســامح ويشــتد عــوده .وإمنــا تســلم
أصــول التســامح الســابقة بأصــل آخــر الزم متحتــم ،وهــو الوفــاء بالعهــد
الــذي خصــص لــه املطلــب الرابــع مــن هــذا املبحــث.
147
املطلب الرابع :أصل الوفاء بالعهود
إن مــن ضمــن األصــول التــي ننظمهــا يف عقــد هــذا املبحــث ،ونعطفهــا عــى
األصــول الســابقة توثي ًقــا لعراهــا ،أصــل الوفــاء بالعهــود ،فهــو مــن األصــول
املهمــة يف العالقــات بــن املســلمني وغريهــم ،ومــن املبــادئ الرضوريــة
والواجبــة يف جميــع أنــوع العالقــات ،ســواء بــن املســلمني أنفســهم وبــن
املســلمني وغريهــم.
وقــد ركــز القــرآن الكريــم عــى هــذا األصــل ،وعــر عنــه مبصطلحــات
مختلفــة؛ كالعهــد ،والعقــد ،واملعاهــدة ،وامليثــاق .والعهــد يعنــي :مــا عوهــد
عليــه اللــه ،ومــا بــن العبــاد مــن املواثيــق ،فهــو اتفــاق بــن الطرفــن ،يقــول
ابــن منظــور« :العهــد كل مــا عوهــد اللــه عليــه ،وكل مــا بــن العبــاد مــن
املواثيــق ،فهــو عهــد»(.)1
إن اإلســام قــد أرىس قاعــدة صلبــة يف العالقــات بــن املســلمني وغريهــم،
متمثلــة يف الوفــاء بالعهــود واحرتامهــا؛ ملــا ينشــأ عــن ذلــك مــن الثقــة
واالطمئنــان بــن الشــعوب واألمــم ،ويف الحفــاظ عــى العهــود واملواثيــق
تحقيــق للمصالــح ودفــع للمفاســد واالختالفــات التــي ميكــن أن تحــدث،
ويعــود ذلــك بالخــر والتعــاون عــى املجتمعــات ،فيحــل بينهــا التســامح
والصفــاء واملحبــة والســام ،وتنعــم بالراحــة واالطمئنــان ،وينتعــش التواصــل
املفــي الزدهــار التنميــة ،والتبــادل بأنواعــه املختلفــة التجــاري والثقــايف
والعلمــي وغــره.
مــن أجــل هــذه الحكــم الجليلــة جعــل اإلســام للعهــود مكانــة خاصــة
وأوجــب الوفــاء بهــا وتعظيمهــا ،فقــال تعــاىلَ ﴿ :وأَوفُــوا ْ ِب َع ِ
هــد ٱللَّــ ِه إِذَا
َٰع َهدتُّــم﴾( .)2وقــال أيضــا﴿ :ٱل َِّذيـ َن يُوفُــو َن ِب َعهـ ِـد ٱللَّـ ِه َو َل يَنقُضُ ــو َن ٱملِيثَٰـ َـق﴾
( .)3وأمــر بذلــك يف آيــات أخــرى مثــل قولــه﴿ :يَٰٓأَيُّ َهــا ٱل َِّذي ـ َن َءا َم ُن ـ ٓوا ْ أَوفُــوا ْ
148
بِٱل ُعقُــو ِد﴾( .)1وقــد بــن املفــرون أن هــذه اآليــة تشــمل العقــود بــن
املســلمني وغريهــم ،يقــول الطــري« :وأوفــوا بالعقــد الــذي تعاقــدون النــاس
يف الصلــح بــن أهــل الحــرب واإلســام ،وفيــا بينكــم أيضــا»(.)2
فهــذه اآليــات تعطــي الصفــة اإللزاميــة للعقــد؛ حيــث أوجــب اإلســام الوفــاء
بالعهــد ،وملكانتــه ســاه اللــه يف اآليــة «عهــد اللــه» ألنــه موثــق باســم اللــه
كــا ذكــر املفــرون.
كل يشء ،وذلــك بـ«مالزمــة طريــق املواســاة، والوفــاء يعنــي بلــوغ التّــام مــن ّ
ومحافظــة عهــود الخلطــاء»( )3كــا حــدد مفهومــه العلــاء .وألهميــة الوفــاء
بالعهــود ومــا يرتتــب عليــه مــن االســتقرار االجتامعــي والتواصــل الحضــاري؛
أمــر اإلســام بحفــظ املعاهــدات مــن كل مــا يؤثــر فيهــا مــن غــدر أو غــش
أو خــدا ٍع أو قهـرٍ.
والوفــاء باملعاهــدات قبــل أن يكــون واج ًبــا وخل ًقــا رش ًعــا؛ فهــو قيمة إنســان ّية
عظمــى ،ترســخ أوارص األخــوة والتعــاون ،وال تتــم اإلنســانية الحقــة إال برعايــة
هــذا األصــل األصيــل ،وإن فقدانــه يــؤدي النتشــار البــؤس والخــوف والبغــي
يف املجتمــع ،وتتنافــر القلــوب ،ويرتفــع التســامح ،وبانتشــار الخيانــة والخــداع
تنهــار املجتمعات.
والنصــوص الــواردة يف أهميــة العهــد والوفــاء بــه كثــرة جــدا ،والــذي يتعلــق
مبوضوعنــا ويهمنــا هنــا أن نقــرر أن املعيــار الدقيــق واملي ـزان الــذي تــوزن
بــه أيــة عالقــة مــن العالقــات ،ســواء بــن املجتمعــات املوحــدة أو املتعــددة،
هــو الوفــاء بالعهــد؛ فــكان األمــر بــه يف القــرآن مــن جهتــن :جهــة الوفــاء
بــه كــا تقــدم ،وجهــة إمتامــه كقــول اللــه تعــاىل﴿ :فَأَ ِتُّ ـ ٓوا ْ إِلَي ِهــم َعه َد ُهــم
ـب ٱملُتَّ ِقـ َن﴾( .)4فقــد أمــر اللــه تعــاىل يف هــذه اآليــة إِ َ ٰل ُم َّدتِ ِهــم إِ َّن ٱللَّـ َه يُ ِحـ ُّ
بإمتــام مــدة العهــد.
149
ويأخــذ الوفــاء بالعهــد أهميــة خاصــة وأولويــة متميــزة ،إذا كان هــذا العهــد
بــن املســلمني وأعدائهــم؛ فقــد نَظَّــم القــرآن مثــل هــذه العهــود ،وســاها
ميثاقــا ،وشــدد عــى الوفــاء بهــا ،فالبغــض والحــب ال يقفــان يف طريــق تنفيــذ
العهــد ،يقــول الشــيخ أبــو زهــرة« :ومــن العدالــة مــع األعــداء الوفــاء بالعهــد؛
ولــذا قــال تعــاىلَ ﴿ :وأَوفُــوا ْ بِٱل َعهـ ِـد إِ َّن ٱل َعه ـ َد كَا َن َمس ـُٔولٗ ﴾( … )1والحــق
أن األمــر يف اآليــة عــام يف وجــوب الوفــاء بالعهــد ،ســواء أكان عهــدا فرديــا أم
كان جامعيــا أم كان دوليــا.)2(»..
وألجــل هــذا نهــى رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم عــن الغــدر ونقــض
ـن قَـ ْو ٍم َع ْهـ ٌد فَـ َـا
العهــود ،فقــال صــى اللــه عليــه وســلمَ } :مـ ْن كَا َن بَيْ َنـ ُه َوبَـ ْ َ
ـي أَ َم ُد َهــا أَ ْو يَ ْن ِبـ َذ إِلَيْ ِهـ ْم َعـ َـى َسـ َواء{( )،
ٍ 3
يَشُ ـ ُّد ُع ْقـ َد ًة َو َل يَ ُحلُّ َهــا َحتَّــى يَ ْن َقـ ِ َ
وألن الوفــاء بالعهــد مــن العــدل ( )4الــذي ينــايف الظلــم؛ نهــى صــى اللــه
عليــه وســلم عــن ظلــم املعاهــد ،ففــي الحديــث َعـ ْن النبــي صــى اللــه عليــه
ـال{ :أَ َل َمـ ْن ظَلَـ َم ُم َعا َهـ ًدا ،أَ ِو انْتَق ََصـ ُه ،أَ ْو كَلَّ َفـ ُه فَـ ْو َق طَاقَ ِتـ ِه، وســلم أنــه قَـ َ
ـس ،فَأَنَــا َحجِي ُجـ ُه يَـ ْو َم الْ ِقيَا َمـة}( )
ِ 5 ـب نَ ْفـ ٍ ـر ِطيـ ِ أَ ْو أَ َخـ َذ ِم ْنـ ُه شَ ـيْئًا ِب َغـ ْ ِ
وحــذر صــى اللــه عليــه وســلم أشــد التحذيــر مــن عــدم الوفــاء بالعهــود،
فنفــى الديــن عمــن ال عهــد لــه؛ تهديــدا لــه مــن نكــث العهــود ،واختيــار
الغــدر والخيانــة؛ فقــال صــى اللــه عليــه وســلم{َ :ل إِميَــا َن لِ َمـ ْن َل أَ َمانَـ َة لَـ ُه،
َو َل ِدي ـ َن لِ َم ـ ْن َل َع ْه ـ َد لَ ـ ُه}(.)6
وكانــت ســرة رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم شــاهدة عــى وفائــه
بالعهــود مــع الجميــع؛ مســلمني وغــر مســلمني ،أعــداء وأصدقــاء ،ويف قصــة
أيب رافــع رســو ِل قريــش إىل رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم أبلـ ُغ حجــة
ودليــل وبرهــان عــى هــذه الســرة ،يف عــدم خيانــة العهــود بــن املســلمني
150
ـش إِ َل َر ُســو ِل اللَّـ ِه صــى اللــه عليــه وغريهــم؛ يقــول أبــو َرا ِفـعٍ« :بَ َعثَتْ ِنــي قُ َريْـ ٌ
ــي ِف قَلْبِــي ــول اللَّــ ِه صــى اللــه عليــه وســلم أُلْ ِق َ ــت َر ُس َ َــا َرأَيْ ُ
وســلم ،فَل َّ
ـول ـال َر ُسـ ُ ـول اللَّـ ِه إِ ِّن َواللَّـ ِه َل أَ ْر ِجـ ُع إِلَيْ ِهـ ْم أَبَـ ًدا ،فَ َقـ َ الْ ِ ْسـ َـا ُم ،فَ ُقلْـ ُ
ـت :يَــا َر ُسـ َ
ـر َدَ ،ولَ ِكــنِ ـس بِالْ َع ْهـ ِـدَ ،و َل أَ ْح ِبـ ُ
ـس الْـ ُ ُ اللَّـ ِه صــى اللــه عليــه وســلم{ :إِ ِّن َل أَ ِخيـ ُ
ـت ،ثُـ َّم ـال :فَ َذ َه ْبـ ُا ْر ِجـ ْع فَـ ِإ ْن كَا َن ِف نَف ِْسـ َـك الَّـ ِـذي ِف نَف ِْسـ َـك ْال َن فَا ْر ِجـ ْع} .قَـ َ
ـي صــى اللــه عليــه وســلم فَأَ ْس ـلَ ْم ُت»(.)1 أَت َ ْيـ ُ
ـت ال َّن ِبـ َّ
وعــى هــدي النبــي صــى اللــه عليــه وســلم ســار الصحابــة مــن بعــده ،فهــا هــو
ســيدنا عمــر ريض اللــه عنــه كان يــويل الوفــاء بالعهــد مــع غــر املســلمني أهميــة
كبــرة ،فيســأل مــن وفــد عليــه مــن األمصــار عــن أهــل الذمــة ،وكيــف يتعامــل
معهــم املســلمون ،فــإذا أجابــوه بأنهــم يوفــون لهــم بعهودهــم ســكن واطــأن؛ ففي
تاريــخ الطــري« :قــال عمــر للوفــد :لعــل املســلمني يفضــون إىل أهــل الذمــة بــأذى
وبأمــور لهــا مــا ينتقضــون بكــم! فقالــوا :مــا نعلــم إال وفــاء وحســن ملكــة»(.)2
وقــد فهــم العلــاء مــا تقــدم حــرص النبي صــى اللــه عليــه وســلم وأصحابه
عــى الوفــاء بالعهــد مــع غــر املســلمني ،والــذي هــو خلــق إلزامــي ،واجــب
عــى كل مســلم ال خيــار لــه فيــه ،يقــول اإلمــام الخطــايب تعليقــا عــى حديــث
{إين ال أخيــس بالعهــد« :}...وفيــه مــن الفقــه :أن العقــد يرعــى مــع الكافــر
كــا يرعــى مــع املســلم ،وأن الكافــر إذا عقــد لــك عقــد أمــان؛ فقــد وجــب
عليــك أن تؤمنــه وأن ال تغتالــه يف دم وال مــال وال منفعــة»(.)3
وبرعايــة هــذه األصــول األربعــة وإقامتهــا والحفــاظ عليهــا ،تكــون العالقــات
بــن املجتمعــات املختلفــة -ســواء يف التعامــات التجاريــة أو االجتامعيــة
أو الثقافيــة -صلبــة ومصونــة مــن االنهيــار؛ ألن هــذه األصــول تحفــظ لهــا
مكونــات الثبــوت واالســتمرار ،وتكــون ســياجا للتســامح يف املجتمعــات،
وألجــل اســتدامة هــذا االنســجام املجتمعــي؛ يحتــاج وســائل تُنميــه وتصونــه،
وهــو مــا ســنتناوله يف املبحــث املــوايل.
اب ِف الْ ِ َمامِ يُ ْستَ َج ُّن ِب ِه ِف الْ ُع ُهو ِد .ج 3ص .82
- 1أبو داود ،السنن ( )2758كتاب الجهاد ،بَ ٌ
- 2الطربي؛ تاريخ األمم وامللوك4 :ج ص .98
- 3الخطايب؛ أبو سليامن حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي 388ه ،معامل السنن ،وهو رشح سنن أيب داود،
(املطبعة العلمية – حلب ،ط1351 ،1 .ه 1932 -م) ،ج 8ص .37
151
املبحث الثاين :وسائل تحقيق التسامح بني املسلمني وغريهم
يســتدعي الحديــث عــن أصــول التســامح كــا تــم يف املبحــث الســابق؛
الوقـ َ
ـوف أيضً ــا عــى وســائله ،وذلــك ألن التســامح ال يولــد وحــده ،وال ينشــأ
مــن فـراغ ،فكــا أن لــه أصــوال تؤســس لــه وترعــاه ،فلــه أيضا وســائل تُكســبه
وت ُبديــه ،منهــا وســائل مرتبطــة باملجتمــع ،ووســائل مرتبطــة باملؤسســات،
ووســائل ناشــئة عــن التعامــل الطبيعــي بــن البــر ،وإذا كانــت هــذه
الوســائل طبيعيــة يف املجتمــع ،فالتســامح يف عافيــة وخــر ،ومتــى كانــت غــر
طبيعيــة فــإن التســامح يــردى ،ومفعولــه يف ســفول وانخفــاض .وقــد فصلنــا
هــذا املبحــث عــى ثالثــة مطالــب:
- 1هذا هو التعريف املعتمد يف برنامج وطني يف دولة اإلمارات وهو تعريف شامل :وثيقة قيم وسلوكيات املواطن
اإلمارايت( ،مجلس الوزراء2019 ،م).
http: www.ncc.ae datafolder files pdf ethics_behavior_emirati_citizen.pdf
152
واملجتمــع ،وهــذا الشــعور كفيــل بتوليــد الطاقــة اإليجابيــة واملشــاركة
الفعالــة ،واالعتــزاز الوطنــي ،والتعــاون املثمــر يف حضــن الوطــن الــذي
يســتوعب الجميــع ،فيعــم الحــب والرخــاء ،وتســود الســعادة والهنــاء،
ويزدهــر التســامح ،ويعلــو التعايــش فــوق الكراهيــة واألنانيــة.
ويف تأصيلنــا للمواطنــة الجالبــة للتســامح؛ ال ميكــن الحديــث عــن ذلــك األثــر
إال بتدبــر املعاهــدات النبويــة التــي وقعهــا النبــي صــى اللــه عليــه وســلم مــع
معتنقــي مختلِــف األديــان ومــع مختلِــف القبائــل التــي تســكن املدينــة املنــورة،
والتــي كان بينهــا اختــاف دينــي وقبائــي ،وكان جميعهــم يتقاســمون الحقــوق
والواجبــات املتســاوية ذاتهــا ،ويــؤدون التزاماتهــم ويحرتمــون اآلخــر وعقيدتــه
وحريتــه ،ومــن أهــم تلــك املعاهــدات والوثائــق :وثيقــة املدينــة املنــورة.
إن هــذه الوثيقــة التــي ُولــدت يف املدينــة املنــورة العاصمــة األوىل لإلســام،
والتــي كانــت فيهــا ديانــات مختلفــة ،تتجــاور بانســجام كامــل وتعــاون واضح
بــن جميــع الفئــات املكونــة لهــذا املجتمــع تحــت مظلــة املواطنــة ،هدفهــا
إقامــة التســامح والتعايــش والحفــاظ عــى هــذا املجتمــع الــذي جعــل مــن
القيــم اإلنســانية مصــدر قوتــه ووحدتــه ،فــكان أمنوذجــا يحتــذى.
وكان األســاس الــذي يرعــى هــذه التعدديــة هــو تلــك الوثيقــة النبويــة
املؤسســة ملفهــوم املواطنــة بــن ســكان هــذه املدينــة ،تضمــن للجميــع
حقوقهــم ،ويتحملــون الواجبــات ذاتهــا تجــاه بعضهــم بعضً ــا ،ترســيخا ألســس
املواطنــة التــي تضمنــت هــذه الوثيقــة عــد ًدا مــن مبادئهــا مثــل :التكافــل
والتعــاون.
وقــد جعــل عقــد املواطنــة مــن جميــع األط ـراف التــي تشــملها الوثيقــة أمــة
واحــدة ،واعتربهــم كيانــا واحــدا مــن أجــل تحقيــق التكافــل وإقامــة التســامح
ـي صــى ـاب ِمـ ْن ُم َح َّمـ ٍـد ال َّن ِبـ ِّ
بينهــم وصونــه ،جــاء يف نــص الوثيقــةَ { :هـذَا كِتَـ ٌ
ــرِ َبَ ،و َمــ ْن ــش َويَ ْ ــن الْ ُم ْؤ ِم ِنــ َن َوالْ ُم ْســلِ ِم َني ِمــ ْن قُ َريْ ٍ
اللــه عليــه وســلم ،بَ ْ َ
ِ 1 ِ ِ ُ
تَ ِب َع ُهـ ْم ،فَل َِحـ َـق ِب ِهـ ْمَ ،و َجا َهـ َد َم َع ُهـ ْم ،إنَّ ُهـ ْم أ َّمـ ٌة َواحـ َد ٌة مـ ْن ُدونِ ال َّنــاس}( ).
- 1ابن هشام؛ السرية النبوية :ج 1ص .501ومحمد حميد الله الحيدر آبادي الهندي 1424ه ،مجموعة الوثائق
السياسية للعهد النبوي والخالفة الراشدة( ،دار النفائس – بريوت ،ط1407 ،6 .ه) ،ص .59
153
وورد يف هــذه الوثيقــة املؤسســة للمواطنــة مــا يــدل عــى التعدديــة الدينيــة
وحريــة االختيــار ،فــكان مــن بنودهــاَ { :وإِ َّن يَ ُهــو َد بَ ِنــي َعــ ْو ٍف أُ َّمــ ٌة َمــ َع
الْ ُم ْؤ ِم ِن ـ َن ،لِلْيَ ُهــو ِد ِدي ُن ُه ـ ْمَ ،ولِلْ ُم ْس ـلِ َم ْ ِي ِدي ُن ُه ـ ْمَ ،م َوالِي ِه ـ ْم َوأَنْف ُُس ـ ُه ْمَّ ،إل َم ـ ْن
ظَلَـ َم َوأَثِـ َم ،فَ ِإنَّـ ُه َل يُوتِـغُ(َّ )1إل نَف َْسـ ُهَ ،وأَ ْهـ َـل بَ ْي ِتـ ِه}( ،)2فلجميــع األطـراف
الحــق يف املامرســة الدينيــة الحــرة.
ومــن بنــود الوثيقــة الرصيحــة التــي تؤســس لعــدد مــن مكونــات املواطنــة
مــن التنــارص والتناصــح والدفــاع عــن الوطــن مــا جــاء يف هــذا النــصَ { :وأَ َّن
ـح الص ِحي َف ـ ِةَ ،وأَ َّن بَ ْي َن ُك ـ ُم ال ُّن ْصـ َـر َعـ َـى َم ـ ْن َحــا َر َب أَ ْهـ َـل َهـ ِـذ ِه َّ بَ ْي َن ُه ـ ُم ال َّنـ ْ َ
ُــومَ ،وأَ َّن الْ َم ِدي َنــ َة َج ْوفُ َهــا َحــ َر ٌم ِلَ ْهــلِ َه ِ
ــذ ِه ــر لِلْ َمظْل ِ َوال َّن ِصي َحــ َة َوال َّن ْ َ
الص ِحي َف ـ ِة ِم ـ ْن َح ـ َد ٍث أَ ِو اشْ ـ ِت َجا ٍر ـن أَ ْهــلِ َهـ ِـذ ِه َّ الص ِحي َف ـ ِةَ ،وأَنَّ ـ ُه َمــا كَا َن بَـ ْ َ َّ
ـر َ
ـيَ ،وأ َّن بَ ْي َن ُه ـ ُم ال َّنـ ْ َ َ
ـاف ف ََســا ُد ُه ،فَ ـ ِإ َّن أ ْم ـ َر ُه إِ َل اللَّ ـ ِه َوإِ َل ُم َح َّمـ ٍـد ال َّن ِبـ ِّ يُ َخـ ُ
ـر َب}( ).
3
َعـ َـى َم ـ ْن َد َه ـ َم يَـ ْ ِ
إن هــذه املعاهــدة مبــا تحملــه مــن تلــك القيــم اإلنســانية املشــركة؛ تعــد
مظهـ ًرا مــن مظاهــر عالقــات املســلمني بغريهــم مــن أهــل األديــان األخــرى،
وأساســا مــن األســس املرســخة للتســامح ،وتضمــن لجميــع الســكان حريــة ً
املعتقــد واملامرســة الدينيــة ،وهــي اليــوم مرجــع مهــم يف العالقــات التــي
يجمعهــا الدفــاع عــن وطــن واحــد ،واالعــراف باآلخــر ،والتعــاون معــه،
والحفــاظ عــى مصالــح الجميــع ،وحاميــة األنفــس واألمــوال.
وقــد اســتطاعت هــذه الوثيقــة أن متحــو جميــع العــداوات والحــروب التــي
كانــت تقــام يف هــذه املنطقــة وبــن قبائلهــا بــن حــن وآخــر ،مــا يــدل عــى
أن اإلســام هدفــه األســمى هــو نــر الســلم والســكينة يف أي مجتمــع يوجــد
فيــه.
ومنــذ إق ـرار هــذه الوثيقــة التــي تكفــل حريــة االعتقــاد والحريــة الدينيــة
لســكان املدينــة ،كان مــن آثارهــا ســمو قيمــة التســامح وعلــو كعــب التعايش
- 1يوتغ مبعنى يهلك ،قال الزمخرشي( :فَ ِإنَّ ُه َل يوتغ :أَي َل ي ْهلك إِ َّل نَفسه ).الزمخرشي؛ الفائق :ج 2ص .26
- 2ابن هشام؛ السرية النبوية :ج 1ص .503ومحمد حميد الله؛ مجموعة الوثائق ،ص .61
- 3نفسه.
154
يف شــتى املياديــن ،ومــن آثارهــا أيضــا انتشــار دور العبــادات لجميــع الديانات
يف البلــدان التــي تقــع تحــت حكــم املســلمني ،فلــم يهــدم النبــي صــى اللــه
عليــه وســلم كنيســة أو بيعــة ،وكذلــك مــن جــاء بعــده مــن الصحابــة.
إن عقــد املواطنــة الــذي يعــزز االنتــاء ويؤكــد املســاواة بــن جميــع
املواطنــن ،بغــض النظــر عــن لونهــم أو جنســهم أو دينهــم ،إذا كان هشــا؛
ال ميكــن الحفــاظ عــى مجتمــع التســامح ،وبالتــايل تعجــز املواطنــة عــن أداء
دورهــا يف تعزيــز التســامح.
ـف االنتــاءات وتعــززه يف ومــن أهــم مــا تحققــه املواطنــة للمجتمــع املختَلِـ ِ
صفوفــه :أنهــا تطــرد الطائفيــة واألنانيــة ،وتنبــذ الكراهيــة والعنــف ،وتجــي
عــن الوطــن كل مــا ينتمــي للتعصــب ،ويف الوقــت ذاتــه تكــرس روح اإلخــاء
واملحبــة والصفــاء بــن أفــراد املجتمــع ،وتوحــد صفوفهــم وتحميهــم مــن
التشــتت والتفــرق.
ويف ســياق مــا يحققــه هــذا املبدأ مــن الوحــدة واالنتــاء والتفاهــم والتعاون،
نؤكــد أن كل جــدل يصــب يف أن الديــن ال يعــرف باألوطــان ،وال يلقــي لهــا
بــاالً؛ جــدل مبنــي عــى أســس غــر ســليمة ،فاإلســام كــا أكــد عــى األخــوة
الدينيــة ،أكــد أيضــا عــى األخــوة الوطنيــة واإلنســانية ،ولــكل منهــا دوره يف
تــواز وات ـزان ،ال تعــارض بينهــا ،وال تحــل إحداهــا محــل األخــرى ،وعنــد
فقــد إحداهــا أو تعطيلهــا يتــرب الخلــل للمجتمــع.
155
أجــل تأصيــل مبــدأ العالقــة بــن املســلم وغــره التــي نظمهــا اإلســام ،وبناهــا
عــى أســس مــن التواصــل الحضــاري ،والتعامــل اإلنســاين الراقــي ،واملســامحة
الشــائعة ،وقــد ق َّعــد الفقهــاء يف هــذا البــاب قاعــدة تُ ثــل املرجــع األســاس؛
حيــث ذكــروا يف بــاب الغيبــة :أن املســلم وغــره ســوا ٌء يف املنــع مــن كل
أذى ورضر يلحــق بــه؛ يقــول الدمياطــي عنــد ذكــر أحــكام الغيبــة« :وأمــا
الذمــي فكاملســلم فيــا يرجــع إىل املنــع مــن اإليــذاء ،ألن الــرع عصــم دمــه
وعرضــه ومالــه»(.)1
والتواصــل االجتامعــي بــن املســلم وغــر املســلم مل يرتكــه اإلســام آلراء النــاس
واجتهاداتهــم ،بــل بَينــه ونظَّمــه بتنظيــات وأســس واضحــة تحكمــه ،ومــن
هــذه األســس:
الحــوار :فقــد أقــر اإلســام مبــدأ الحــوار مــع غــر املســلمني مــن أجــل ترســيخ
التفاهــم والتعايــش ،وحــث عــى أن يكــون هــذا الحــوار بالتــي هــي أحســن؛
حسـ ُن ـي أَ َـب إِ َّل بِٱلَّ ِتــي ِهـ َ قــال اللــه ســبحانه وتعــاىلَ ﴿ :و َل ت ُ َٰج ِدلُـ ٓوا ْ أَهـ َـل ٱل ِكتَٰـ ِ
إِ َّل ٱل َِّذيـ َن ظَلَ ُمــوا ْ ِمن ُهــم َوقُولُـ ٓوا ْ َءا َم َّنــا بِٱلَّـ ِـذ ٓي أُنـز َِل إِلَي َنــا َوأُنـز َِل إِلَي ُكــم َوإِلَٰ ُه َنا
َوإِلَٰ ُه ُكــم َٰو ِحـ ٞد َونَحـ ُن لَ ُه ُمسـلِ ُمونَ﴾(.)2
والهــدف مــن هــذا الحــوار الــذي دعــا إليــه القــرآن الكريــم بــن املســلمني
وغريهــم؛ هــو الحفــاظ عــى التواصــل ،وإيجــاد مســاحات متفــق عليهــا
للتفاهــم والتعايــش بــن الجميــع.
حقــوق الجــوار :وهــي مــن الحقــوق الثابتــة لغــر املســلمني ،واملحقِّقــة
للتواصــل ،واملســهمة يف التســامح ،فاملســلم بتفقــد جــاره غــر املســلم،
وتواصلــه معــه؛ ميــارس التســامح ،ومــن املعلــوم أن الجــوار مراتــب ،لــكل
مرتبــة حــق مــن الحقــوق؛ يقــول ابــن حجــر« :واســم الجــار يشــمل املســلم
والكافــر ،والعابــد والفاســق ،والصديــق والعــدو ،والغريــب والبلــدي ،والنافــع
- 1الدمياطي؛ أبو بكر ،عثامن بن محمد شطا الدمياطي الشافعي 1310ه ،إعانة الطالبني عىل حل ألفاظ فتح املعني( ،دار
الفكر للطباعة والنرش والتوزيع ،ط1418 ،1 .ه 1997 -م) ،ج 4ص .325
- 2سورة العنكبوت؛ اآلية.46 :
156
والضــار ،والقريــب واألجنبــي ،واألقــرب دارا واألبعــد ،ولــه مراتــب بعضهــا
أعــى مــن بعــض… فيعطــى كل حقــه بحســب حالــه»(.)1
ويــدل عــى هــذا الحــق أحاديــث منهــا :أن عبــد اللــه بــن عمــرو ريض اللــه
ـت لَـ ُه شَ ــا ٌة ِف أَ ْهلِـ ِه ،فَلَـ َّـا َجــا َء قــال :أَ ْه َديْتُـ ْم لِ َجا ِرنَــا ال َي ُهــو ِد ِّي؟ عنــه؛ « ُذ ِب َحـ ْ
ــول اللَّــ ِه صــى اللــه عليــه وســلم أَ ْه َديْتُــ ْم لِ َجا ِرنَــا اليَ ُهــو ِد ِّي؟ َســ ِم ْع ُت َر ُس َ
ـت أَنَّ ـ ُه َس ـيُ َو ِّرث ُ ُه}( ).
2
وصي ِنــي بِال َجــا ِر َحتَّــى ظَ َن ْنـ ُ ـولَ { :مــا ز ََال ج ِْبِيـ ُـل يُ ِ يَ ُقـ ُ
حســن الصلــة :ومــن أســس التواصــل املطلوبــة مــع غــر املســلمني حســن
صلتهــم ،وتتأكــد هــذه الصلــة وتــزداد أهميــة إذا كانــت بــن املســلم وغــر
املســلم قرابــة؛ فاإلســام مل يكــن ســببا يف قطــع األرحــام ،بــل جــاء لتقويــة
ض اللَّـ ُه َع ْن ُهـ َـا، ـت أَ ِب بَ ْكـ ٍر َر ِ َ هــذا التواصــل ،ففــي الحديــثَ :عـ ْن أَ ْسـ َـا َء ِب ْنـ ِ
شكَ ـ ٌة ِف َع ْهـ ِـد َر ُســو ِل اللَّ ـ ِه صــى اللــه ـي ُم ْ ِـي أُ ِّمــي َو ِهـ َ
ـت َعـ َ َّ ـت« :ق َِد َمـ ْ قالـ ْ
ـي ـتَ :و ِهـ َ ـول اللَّـ ِه صــى اللــه عليــه وســلم ،قُلْـ ُ عليــه وســلم ،ف َْاسـتَ ْفتَيْ ُت َر ُسـ َ
َرا ِغ َب ـ ٌة ،أَفَأَ ِصـ ُـل أُ ِّمــي؟ قــال{ :نَ َع ـ ْم ِصـ ِـي أ َّمــك}( ) .قــال الخطــايب« :وفيــه:
ِ 3 ُ
أن الرحــم الكافــرة توصــل بــر املــال ونحــوه كالرحــم املســلمة»( .)4ومــا ال
ريــب فيــه أن الصلــة تحقــق املــودة واملحبــة والتســامح.
الســام عــى غــر املســلم :رشع اإلســام الســام عــى غــر املســلمني ،بــل مــن
أفضــل اإلســام إلقــاء املســلم الســام عــى مــن عــرف ومــن مل يعــرف؛ ففــي
ـيض اللَّـ ُه َع ْن ُهـ َـا ،أَ َّن َر ُجـ ًـا َسـأَ َل ال َّن ِبـ َّ الحديــثَ :عـ ْن َعبْـ ِـد اللَّـ ِه بْــنِ َع ْمـرٍو َر ِ َ
ــر؟ قــال{ :تُطْ ِعــ ُم الطَّ َعــا َمَ ،وتَقْــ َرأُ صــى اللــه عليــه وســلم :أَ ُّي ا ِإل ْســا َِم َخ ْ ٌ
ـت َو َم ـ ْن لَ ـ ْم ت َ ْع ـر ِْف}( .)5يقــول القرطبــي« :ويجــوز الس ـاَ َم َعـ َـى َم ـ ْن َع َرفْـ ََّ
تحيــة الكافــر وأن يبــدأ بهــا .قيــل البــن عيينــة :هــل يجــوز الســام عــى
﴿ل يَن َهىٰكُــ ُم ٱللَّــ ُه َعــنِ ٱل َِّذيــ َن لَــم الكافــر؟ قــال :نعــم؛ قــال اللــه تعــاىلَّ :
157
يُ َٰق ِتلُوكُــم ِف ٱل ِّديــنِ َولَــم يُخ ِر ُجوكُــم ِّمــن ِديَٰ ِركُــم أَن ت َ َُّبو ُهــم َوت ِ
ُقسـطُ ٓوا ْ إِلَي ِهــم
ـط َني﴾( .)2(»)1ونقــل ابــن بطــال عــن ابــن وهــب قولــه: ُقسـ ِـب ٱمل ِ إِ َّن ٱللَّـ َه يُ ِحـ ُّ
ـاس ُحسـ ٗنا﴾ «سـلِّم عــى اليهــودي والنـراين ،وتــا قولــه تعــاىلَ ﴿ :وقُولُــوا ْ لِل َّنـ ِ
()4(»)3
ويُطلــب مــن املســلم أيضــا رد الســام عــى مــن ســلم عليــه؛ قــال ابــن بطــال:
«قــال ابــن عبــاس :ومــن ســلم عليــك مــن خلــق اللــه فــاردد عليــه ،ولــو كان
مجوســيا… وروى ابــن عبــد الحكــم عــن مالــك أنــه يجــوز تكنيــة اليهــودي
والنـراين وعيادتــه ،وهــذا أكــر مــن رد الســام…»(.)5
أمــا مــا ورد يف األحاديــث األخــرى مــن الــرد بـــ :وعليكــم ،واالكتفاء بــه فحمله
بعــض أهــل العلــم عــى االحتيــاط يف التعامــل مــع من قصــد اإلســاءة اللفظية
للمســلمني ،قــال الســندي« :أي ال تقولــوا وعليكــم الســام؛ ألنهــم كث ـرا مــا
يوهمــون الســام ويقولــون الســام باأللــف ،وهــو املــوت فقولــوا وعليكــم مــا
قلتم»( .)6
أحــكام أخــرى لتعميــق التواصــل :ومــا يســاعد عــى تحقيــق التواصــل بــن
املســلمني وغريهــم؛ أمــور اجتامعيــة نبــه عليهــا الفقهــاء ،وبينــوا أنــه ال حــرج
فيهــا؛ فقــد تقــدم يف حديــث أســاء إهداؤهــا ألمهــا املرشكــة ،فــا حــرج يف
الهديــة لغــر املســلمني وقبــول هداياهــم ،فقــد قبــل النبــي صــى اللــه عليــه
وســلم هديــة قيــر ،وهديــة املقوقــس ،ففــي الحديــث عــن أيب حميــد ،قــال:
{وأهــدى ملــك أيلــة للنبــي صــى اللــه عليــه وســلم بغلــة بيضــاء ،وكســاه
بــردا…}(.)7
158
ويجــوز أكل طعامهــم مــا هــو مبــاح للمســلمني ،واألكل مــن ذبائحهــم إذا
كانــوا أهــل كتــاب ،وذبحــوا ذبحــا رشع ًّيــا ،كــا أن طعــام املســلمني حــال
ــت َوطَ َعــا ُم ٱل َِّذيــ َن أُوت ُــوا ْ لهــم ،لقولــه تعــاىل﴿ :ٱليَــو َم أُ ِح َّ
ــل لَكُــ ُم ٱلطَّيِّبَٰ ُ
ـب ِحـ ّٞـل لَّ ُكــم َوطَ َعا ُم ُكــم ِحـ ّٞـل لَّ ُهــم﴾(.)1
ٱل ِكتَٰـ َ
ويجوز تهنئتهم ،ومجاملتهم يف أعيادهم( ،)2وتعزيتهم(.)3
إن التواصــل االجتامعــي بــن املســلمني وغريهــم تــدل عليــه يف الــرع
أحــكام كثــرة ،وفــروع فقهيــة متعــددة ،وقــف الفقهــاء عندهــا ،ورعــوا فيهــا
أصــول التســامح وأسســه ،وســياقاتها السياســية ،مثــل قضيــة املــواالة واملــودة؛
فقــد ذكــر أهــل العلــم أن لهــا حــاالت وأحكامــا ال ينبغــي تعميمهــا عــى
جميــع الصــور؛ فمــن صــور املــواالة الجائــزة مــع غــر املســلمني التــي ذكرهــا
املفــرون« :أن يتّخــذ واحــد مــن املســلمني واحــدا مــن الكافريــن بعينــه َول ّيــا
لــه ،يف حســن املعــارشة أو لقرابــة ،لكــال فيــه أو نحــو ذلــك ،مــن غــر أن
يكــون يف ذلــك إرضار باملســلمني ،وذلــك غــر ممنــوع»(.)4
فالتواصــل االجتامعــي بــن املســلمني وغريهــم يــأيت يف إطــار هــذا الوصــف،
وال ســيام يف ظــل الدولــة الحديثــة التــي تتبنــى املواطنــة ،وتدعــو إىل الــوالء
واالنتــاء ،والتعــاون بــن املواطنــن وكافــة الســكان ،وأن يتوجــه الجميــع ملــا
فيــه مصلحــة الوطــن مــن التنميــة واالســتقرار ،ف َنــر حواجــز دينيــة فئويــة
أحــد أســباب تأخــر املجتمــع يف التقــدم والتطــور ،وهــذا مــا ســنبحثه يف
املطلــب الثالــث بحديثنــا عــن التعامــل التجــاري.
159
والــذي يعــد مــن أهــم مداخــل التســامح بــن املجتمعــات املختلطــة ،ومــن
املرافــق املهمــة يف حيــاة النــاس ،ولــه أهميــة خاصــة؛ ألن األســواق ملتقيــات
ال كتســاب املعرفــة ،والتعــارف والتفاهــم والتقــارب ،وترســيخ التســامح،
وهــذا مــا يشــر إليــه النبــي صــى اللــه عليــه وســلم يف قولــهَ { :ر ِح ـ َم اللَّ ـ ُه
ـى}(.)1 ـرىَ ،وإِذَا اقْتَـ َ َر ُجـ ًـا َس ـ ْم ًحا إِذَا بَــاعََ ،وإِذَا اشْ ـ َ َ
إن إظهــار التســامح يف املجــال االقتصــادي ،وخاصــة يف البيــع واالبتيــاع
والجوانــب التــي تتكــرر كل يــوم ،وبيــان هــدي النبــي صــى اللــه عليه وســلم
يف التعامــل التجــاري مــع غــر املســلمني؛ مــن الوســائل املهمــة لنرش التســامح
يف املجتمــع ،وال ســيّام يف ظــل مــا يــروج لــه بــن األفــراد مــن الدعــوات
للمقاطعــات االقتصاديــة التــي ال تســتند إىل أصــول رشعيــة ،وال نجــد لهــا يف
الواقــع املعيــش مــا يســاندها؛ ألن املجتمعــات اليــوم أصبحــت منفتحــة عــى
بعضهــا بعضً ــا ،واألســواق مفتوحــة ،والســلع تتجــاوز الحــدود ،وهنــاك قوانــن
تنظــم التصديــر واالســترياد.
إن الرشيعــة راعــت يف التجــارة بــن املســلمني وغريهــم املنافــع ،التــي تعــود
عــى الجميــع ،وتســهم يف تنميتــه املجتمعــات وازدهارهــا ،ســواء كانــوا
مســلمني أو غــر مســلمني ،مــا يُحقــق مصالــح النــاس جمي ًعــا ،ويعــود عليهم
وعــى أوطانهــم بالخــر والرفــاه ،فأجــازت التعامــل معهــم بالبيــع واالبتيــاع،
هدي
والقــرض ،والرهــن وغريهــا مــن وجــوه املعامالت الرشعيــة ،وهكــذا كان ُ
النبــي صــى اللــه عليــه وســلم .وإن التشــدد يف هــذا البــاب مــا زال منهجــا
يتجــدد وتتبنــاه فئــة يف كل عــر ومــر ،وهــذا مــا أومــأ إليــه القرطبــي فــرد
عــى هــذه الطائفــة بقولــه « :فهــل يجــوز لنــا معاملتهــم والقــوم قــد أفســدوا
أموالهــم يف دينهــم أم ال؟ فظنــت طائفــة أن معاملتهــم ال تجــوز ،وذلــك ملــا
يف أموالهــم مــن هــذا الفســاد .والصحيــح جــواز معاملتهــم مــع رباهــم
واقتحــام مــا حــرم اللــه ســبحانه عليهــم ،فقــد قــام الدليــل القاطــع عــى ذلــك
ـب ِحـ ّٞـل لَّ ُكــم﴾ قرآنــا وســنة ،قــال اللــه تعــاىلَ ﴿ :وطَ َعــا ُم ٱل َِّذي ـ َن أُوتُــوا ْ ٱل ِكتَٰـ َ
( .)2وهــذا نــص ،وقــد عامــل النبــي صــى اللــه عليــه وســلم اليهــود ،ومــات
- 1البخاري ،الجامع الصحيح ،رقم )2076( :كتاب البيوع ،باب السهولة والسامحة يف الرشاء والبيع ،ج 3ص .57
- 2سورة املائدة؛ اآلية.5 :
160
ودرعــه مرهونــة عنــد يهــودي يف شــعري أخــذه لعيالــه( .)1والحاســم لــداء
الشــك والخــاف اتفــاق األمــة عــى جــواز التجــارة مــع أهــل الحــرب ،وقــد
ســافر النبــي صــى اللــه عليــه وســلم إليهــم تاجـ ًرا ،وذلــك أمــر قاطــع عــى
جــواز الســفر إليهــم والتجــارة معهــم .فــإن قيــل :كان ذلــك قبــل النبــوة؟
قلنــا :إنــه مل يتدنــس قبــل النبــوة بحـرام -ثبــت ذلــك تواتـرا -وال اعتــذر عنــه
إذ بعــث ،وال منــع منــه إذ نبــئ ،وال قطعــه أحــد مــن الصحابــة يف حياتــه ،وال
أحــد مــن املســلمني بعــد وفاتــه ،فقــد كانــوا يســافرون يف فــك األرسى ،وذلــك
واجــب ،ويف الصلــح كــا أرســل عثــان وغــره ،وقــد يجــب وقــد يكــون ندبــا،
فأمــا الســفر إليهــم ملجــرد التجــارة فمبــاح»(.)2
وقــد بــوب اإلمــام البخــاري يف صحيحــه بابًــا يذهــب هــذا املذهــب فقــال:
ُشكِـ َن َوأَ ْهــلِ ال َحـ ْر ِب» .أورد فيــه هــذا الحديــث ـرا ِء َوال َب ْيـعِ َمـ َع امل ْ ِ
ـاب الـ ِّ َ«بَـ ُ
ـي صــى اللــه املــروي عــن عبــد الرحمــن بــن أيب بكــر أنــه قــال« :كُ َّنــا َمـ َع ال َّن ِبـ ِّ
ـر ٌك ُمشْ ـ َعا ٌّن طَوِيـ ٌـل ِب َغ َنـ ٍـم يَ ُســوقُ َها ،فَقــال
عليــه وســلم ،ث ُـ َّم َجــا َء َر ُجـ ٌـل ُمـ ْ ِ
ـي صــى اللــه عليــه وســلم{ :بَيْ ًعــا أَ ْم َع ِطيَّـ ًة؟ -أَ ْو قــال - :أَ ْم ِهبَـ ًة} ،قــال: ال َّن ِبـ ُّ
ـرى ِم ْنـ ُه شَ ــاةً»( ) .قــال الخطــايب« :وفيــه مــن ال ِف ْقــه َجــواز
3
الَ ،بَـ ْـل بَ ْيـ ٌع ،فَاشْ ـ َ َ
مبايعــة املُــرك»()4
وهــذا الحديــث أصــل يف هــذا البــاب ،اســتفاد منــه العلــاء املعاملــة التجارية
مــع غــر املســلمني ،وهــو الجــواز بضوابــط ،يقــول ابــن بطــال« :الـراء والبيع
مــن الكفــار كلهــم جائــز ،إال أن أهــل الحــرب ال يبــاع منهــم مــا يســتعينون به
عــى إهــاك املســلمني مــن العــدة والســاح ،وال مــا يقوون بــه عليهــم»(.)5
فدخــل يف التجــارة الجائــزة بيعهــم أمــو ًرا تخــص أعيادهــم ،فــإن الفقهــاء قــد
أجازوهــا ،مــا مل يكــن فيهــا تعظيــم لشــعائرهم ،ومــن ذلــك مــا ذكــره فقهــاء
اب َما ِق َيل ِف ِد ْر ِع ال َّنب ِِّي صىل الله عليه وسلم، - 1البخاري ،الجامع الصحيح ،رقم )2916( :كتاب الجهاد والسري ،بَ ُ
َوال َق ِميص ِف ال َح ْر ِب ،ج 4ص .41
- 2القرطبي؛ الجامع ألحكام القرآن :ج 6ص .13
ُشكِ َني َوأَ ْهلِ ال َح ْر ِب ،ج 3ص .80
الشا ِء َوال َب ْيعِ َم َع امل ْ ِ
اب ِّ َ
- 3البخاري ،الجامع الصحيح ،رقم )2216( :كتاب البيوع ،بَ ُ
- 4الخطايب؛ أعالم الحديث :ج 2ص .1091
- 5ابن بطال؛ رشح صحيح البخاري :ج 6ص .338
161
الحنابلــة مــن أنــه ال مانــع مــن بيــع الكيــك أو الحلــوى لغــر املســلمني يف
الحفــات الدينيــة أو غريهــا ،قــال العالمــة البهــويت يف دقائــق أويل النهــي:
«وال يحــرم بيعنــا لهــم أي ألهــل الذمــة فيهــا أي أعيادهــم ألنــه ليــس فيــه
تعظيــم لهــا»(.)1
إن فقــه التســامح مــع غــر املســلمني يف املجــال التجــاري فقــه واســع مــرن
ومنضبــط ،قــاد دفــة التعايــش قرونــا عديــدة ،وفتــح دروب التواصــل بــن
األطــراف ،وحقــق مصالــح ومنافــع للجميــع ،وأســهم يف التنميــة ،وهــذا
الفقــه قــادر يف هــذا العــر عــى التفاعــل مــع الواقــع مــع االلتـزام بضوابــط
الرشيعــة.
أمــا مــا درج عليــه الفقهــاء مــن التفريــق بــن التجــارة بــن املســلمني وغريهــم
يف دار اإلســام ودار الحــرب؛ ألن هــذا التقســيم لــأرض مرحــي واســتثنايئ
خــاص بذلــك الوقــت الــذي كانــت فيــه الحــروب قامئــة ،أمــا وقــد انتــر
وســلِمتالســلم والســام ،واالســتقرار يف األوطــان ،وصينــت املمتلــكاتَ ،
حــدود البلــدان ،فــا يســتقيم هــذا التقســيم ،ال ســيام يف ظــل وجــود قوانــن
دوليــة خاصــة بالحــروب ،ويلجــأ إليهــا يف أوقــات األزمــات ،ولــكل دولــة
أنظمــة تخصهــا وتحفــظ مصالحهــا ،وهــي املرجــع يف مثــل هــذه األمــور
التجاريــة التــي تتعلــق باإليـراد والتصديــر ،والعالقــات الدوليــة «فــدار الحرب
هــي التــي مل تكــن يف حالــة ســلم مــع الدولــة ،وهــذا أمــر طــارئ عــارض
يبقــى بقيــام حالــة الحــرب وينتهــي بانتهائهــا ،فليــس معنــى دار الحــرب ودار
اإلســام أنهــا يف حالــة عــداء وخصــام مســتمر»(.)2
مــا ســبق يتقــرر لدينــا أن أخــاق املســلم توجــب عليــه يف التعامــل مــع
غــر املســلمني أن يكــون غايــة يف الصــدق واألمانــة والوفــاء والســاحة،
وهــذه القيــم كفيلــة ببنــاء مجتمــع متســامح ،ولهــذا كان النبــي صــى اللــه
عليــه وســلم يــويص برعايــة هــذا الجانــب يف املعاملــة ،ووصيتــه عامــة مــع
- 1البهويت؛ منصور بن يونس بن صالح الدين ابن حسن بن إدريس البهويت الحنبيل 1051ه ،دقائق أويل النهى لرشح
املنتهى املعروف برشح منتهى اإلرادات( ،عامل الكتب ،ط1414 ،1 .ه 1993 -م) ،ج 1ص .664
- 2الزحييل ،آثار الحرب يف الفقه اإلسالمي ،ص .195
162
املســلمني وغريهــم ،ففــي الحديــث عــن النبــي صــى اللــه عليــه وســلم أنــه
قــال{ :أَ ِّد ْالَ َمانَ ـ َة إِ َل َمــنِ ائْتَ َم َنـ َـكَ ،و َل ت َ ُخ ـ ْن َم ـ ْن َخانَـ َـك}(.)1
وهــذا أمــر عــام وتوجيــه نبــوي للعمــل بالعفــو ،والدفــع بالتــي هــي أحســن،
ولهــذا التعامــل املــوىص بــه آثــاره اإليجابيــة يف املجتمــع ،وهــو مــا ســنخصص
لــه الفصــل املــوايل مربهنــن عــى تلــك اآلثــار بشــواهد تاريخيــة تــدل عليهــا.
163
الفصــل الثــاين :شــواهد تاريخيــة عــى تســامح املســلمني
مــع غريهــم؛ وتحتــه مبحثــان:
املبحــث األول :الشــواهد التاريخيــة واالجتامعيــة عــى
تســامح اإلســام مــع غــر املســلمني.
املبحــث الثــاين :أحــكام حاميــة أماكــن عبادة غري املســلمني
يف الرشيعة اإلســامية.
الفصل الثاين :شواهد تاريخية عىل تسامح املسلمني مع غريهم
هــذا الفصــل معقــود لدراســة مجموعــة مــن الشــواهد التاريخيــة عــى
تســامح اإلســام ،وقــد قســمته إىل مبحثــن ،خصصــت األول منهــا لشــواهد
تاريخيــة واجتامعيــة عــى تســامح اإلســام ،والثــاين لحاميــة أماكــن عبــادة
غــر املســلمني يف الرشيعــة اإلســامية.
165
عــن إســناد ،أو يعاملونهــا معاملــة الحديــث النبــوي؛ ألنهــا وثائــق موثقــة
مكتوبــة ،واملوثــق ال يحتــاج توثيقــا ،إضافــة إىل أن معانيهــا ال تخالــف
عموميــات الرشيعــة.
واملنهجيــة التــي ينبغــي اعتامدهــا يف التعامــل مــع هــذه املعاهــدات والوثائق
املنســوبة لعــر النبــوة والصحابــة ،هــي اعتبارها مصــدرا تاريخيــا مهام ،دون
الحاجــة إىل أن نطبــق عليهــا معايــر قبــول الســنة النبويــة ،ومــا كان منهــا
لــه شــاهد مــن األحاديــث النبويــة ،يرتقــي لدرجــة االحتجــاج يف األحــكام.
أمــا القــول بأنهــا غــر صحيحــة وموضوعــة ،فهــذا املنهــج مــن املناهــج التــي
تُفتــك بالتســامح( .)1خاصــة وأن لهــا شــواهد كثــرة مــن فعــل النبــي صــى
اللــه عليــه وســلم وفعــل أصحابــه ريض اللــه عنهــم ،وعمومــات الرشيعــة
اإلســامية.
فليســت الوثيقــة النبويــة هــي الشــاهد الواحــد الداعــم للتســامح يف عــر
النبــوة ،بــل يف الســرة النبويــة أيضً ــا شــواهد أخــرى؛ فعندمــا ظُلــم الصحابــة
يف مكــة وضُ ِّيــق عليهــم ،مل يأمرهــم النبــي صــى اللــه عليــه وســلم باالنتقــام
واملواجهــة ،والــرد عــى الســيئة بالســيئة؛ بــل ســطر صــى اللــه عليــه وســلم
شــاهدا آخــر للتســامح عايشــه الصحابــة طــوال حياتهــم ،يقتبســون منــه
الــدروس ويســتنريون بــه ويســتهدون ،وذلــك حــن وجــه صــى اللــه عليــه
وســلم صحابتــه إىل الذهــاب للحبشــة وقــال لهــم{ :إِ َّن ِبـأَ ْر ِض الْ َح َبشَ ـ ِة َملِـكًا
َل يُظْلَـ ُم أَ َحـ ٌد ِع ْنـ َد ُه ،فَال َح ُقــوا ِب ِبـ َـا ِد ِه َحتَّــى يَ ْج َعـ َـل اللـ ُه لَ ُكـ ْم فَ َر ًجــا َو َم ْخ َر ًجــا
ِمـ َّـا أَنْتُـ ْم ِفيـ ِه}( .)2ففــي توجيههــم إىل الخــروج؛ تــاف للحــرب واملواجهــة،
ويف إرســالهم إىل الحبشــة وملكهــا النــراين آنــذاك؛ تحقيــق للتعايــش
والتعــاون مــع اآلخــر كيفــا كان دينــه ،وفيــه تأســيس للعالقــات بــن الــدول
عــى أســاس الســلم والعــدل واالســتقرار.
ومل يتوقــف هــذا الشــاهد املؤصــل ملبــدأ التســامح عنــد هــذا الحــد ،بــل
كانــت لــه امتــدادات ت ُبــن أن التســامح مــروع الحيــاة املتجــدد ،فلقد أســس
166
النبــي صــى اللــه عليــه وســلم والصحابــة دولتهــم ،واســتعادوا قوتهــم ،وبنــوا
كيانهــم ،فجاءهــم وفــد الحبشــة زائ ـرا وهــم عــى دينهــم ،فأكرمهــم النبــي
صــى اللــه عليــه وســلم وخدمهــم بنفســه ،توثيقــا لعــرى التســامح ،ف َعـ ْن أَ ِب
ـي صــى اللــه عليــه وســلم ،فَ َقــا َم قَتَــا َدةَ ،قــال :قَـ ِـد َم َوفْـ ُد ال َّن َجـ ِ ِّ
ـاش َعـ َـى ال َّن ِبـ ِّ
ـول اللـ ِه ،فقــال عليــه الصــاة يَ ْخ ُد ُم ُهـ ْم ،فَقــال أَ ْص َحابُـ ُه :نَ ْحـ ُن نَ ْك ِفيـ َـك يَــا َر ُسـ َ
ـب أَ ْن أُكَا ِفئَ ُهـ ْم} ( ).
1
ـاب ُم ْك ِر ِمـ َن ،فَـ ِإ ِّن أُ ِحـ ُّ والســام{ :إِنَّ ُهـ ْم كَانُــوا ِلَ ْص َحـ ِ
إن قيــم التســامح إذا تجــذرت يف النفــوس؛ ال متــوت مهــا طــال الزمــن،
والتســامح الــذي ِســمته التبــادل بــن الطرفــن أقــوى أنــواع التســامح؛ ألنــه
ناشــئ عــن التقديــر واالحـرام ،واالعـراف باآلخــر وفضلــه وإحســانه ،فكانــت
املكافــأة جـزاء إلحســانهم ،يف برهــان واضــح ،عــى أن منهــج التســامح يــؤيت
مثــاره ويبنــي مجتمعــات متواصلــة ولــو تباعــدت جغرافيــا ،وينقــي القلــوب
مــا بهــا مــن األحقــاد واألدواء.
ويف الســرة النبويــة نجــد قصــص الوفــود املتعــددة ،الــواردة عــى املدينــة
املنــورة؛ مــن الشــواهد التاريخيــة الثابتــة ،التــي تحمــل لنــا دروســا وأرسارا
يف التســامح ،فــكان النبــي صــى اللــه عليــه وســلم يســتقبلهم ،ويكرمهــم،
ويحاورهــم ،وهــذه الوقائــع مــن أهــم املصــادر الرثيــة إلرســاء التســامح
الدينــي يف اإلســام ،ومــن أكــر وقائعهــا أثـرا؛ قــدوم وفــد نجـران ،والســاح
لهــم مبامرســة صالتهــم وعبادتهــم يف مســجد النبــي صــى اللــه عليــه وســلم؛
فقــد أورد البيهقــي مــن روايتــه عــن ابــن إســحاق يف الســرة النبويــة هــذه
ــد ِّي ،قــال: القصــة املشــهورة يقــولَ :ح َّدث َ ِنــي ُم َح َّمــ ُد بْــ ُن َج ْعفَــ ِر بْــنِ ال َّن ِ
لَـ َّـا قَـ ِـد َم َوفْ ـ ُد نَ ْج ـ َرا َن َعـ َـى َر ُســو ِل الل ـ ِه صــى اللــه عليــه وســلم َد َخلُــوا
ـت َص َلتُ ُهـ ْم ،فَقَا ُمــوا يُ َصلُّــو َن ِف َم ْسـج ِِد ِه، ـر ،فَ َحانَـ ْ َعلَ ْيـ ِه َم ْسـ ِج َد ُه بَ ْعـ َد الْ َعـ ْ ِ
ـول اللـ ِه صــى اللــه عليــه وســلمَ { :د ُعو ُهـ ْم، ـاس َم ْن َع ُهـ ْم ،فَقــال َر ُسـ ُ فَـأَ َرا َد ال َّنـ ُ
ـر َق ف ََصلُّــوا َص َلتَ ُه ـ ْم}( ).
2
ف َْاس ـتَ ْقبَلُوا الْ َمـ ْ ِ
ُس ْوجِردي الخراساين ،أبو بكر البيهقي 458ه ،شعب اإلميان ،تحقيق: - 1البيهقي ،أحمد بن الحسني بن عيل بن موىس الخ ْ َ
الدكتور عبد العيل عبد الحميد حامد( ،مكتبة الرشد للنرش والتوزيع ،الرياض ،ط1423 ،1 .ه 2003 -م) ،باب رد السالم؛
ِالص َنائِعِ ،ج 11ص 381رقم .8704 ف َْص ٌل ِف الْ ُمكَافَأَ ِة ب َّ
باب َوف ِْد نَ ْج َرا َن َوشَ َها َد ِة الْ َ َسا ِق َف ِة لِنبينا محمد صىل الله عليه وسلم
- 2البيهقي ،دالئل النبوة ،كتاب جامع وفود العربُ ،
ِبأَنَّ ُه ال َّنب ُِّي ال َِّذي كَانُوا يَ ْنتَ ِظ ُرونَهُ .ج 5ص .382
167
ويف وقائــع الوفــود أيضً ــا نجــد قصــة وفــد دوس التــي دلــت عــى رفــق النبــي
صــى اللــه عليــه وســلم بالخلــق ،ومــا يحملــه للنــاس كافــة مــن الرحمــة
والخــر والهدايــة ،فعــن أيب هريــرة ريض اللــه عنــه أنــه قــال :قَـ ِـد َم طُ َفيْـ ُـل
ـي صــى اللــه عليــه وســلم ،فَقالــوا: س َوأَ ْص َحابُـ ُهَ ،عـ َـى ال َّن ِبـ ِّبْـ ُن َع ْمـرٍو الـ َّد ْو ِ ُّ
ـتـت ،فَــا ْد ُع اللَّـ َه َعلَ ْي َهــا ،فَ ِقيـ َـلَ :هلَ َكـ ْ ـت َوأَبَـ ْ ـول اللَّـ ِه ،إِ َّن َد ْو ًســا َع َصـ ْ
يَــا َر ُسـ َ
َد ْو ٌس ،قــال{ :اللَّ ُه ـ َّم ا ْهـ ِـد َد ْو ًســا َوأْ ِت ِب ِه ـ ْم}( ) .وقــد بــوب البخــاري لهــذا
1
شكِــ َن بِال ُهــ َدى لِيَتَأَلَّ َف ُهــ ْم»( .)2فــكان ــاب ال ُّد َعــا ِء لِلْ ُم ْ ِ
الحديــث بقولــه« :بَ ُ
التآلــف والتســامح هــو املقصــد الــذي يرجــوه النبــي ألعدائــه ،ال هالكهــم
وإبعادهــم ،يقــول ابــن بطــال« :كان الرســول يحــب دخــول النــاس يف اإلســام،
فــكان ال يعجــل بالدعــاء عليهــم مــا دام يطمــع يف إجابتهــم إىل اإلســام ،بــل
كان يدعــو ملــن كان يرجــو منــه اإلنابــة»(.)3
ويف واقعــة أخــرى مــن وقائــع الوفــود الشــاهدة عــى التســامح الدينــي يف
اإلســام؛ نجــد النبــي صــى اللــه عليــه وســلم يحــاور مــن خالفــه ،ويصــر
عليــه مــع شــدة املحــاور وغلظتــه ،ويجيبــه صــى اللــه عليــه وســلم بحكمــة
ـت بَ ُنــوورفــق ،ففــي حديــث عبــد اللــه بــن عبــاس ريض اللــه عنــه قــال :بَ َعثَـ ْ
َس ـ ْع ِد بْــنِ بَ ْك ـ ٍر ِضـ َـا َم بْ ـ َن ث َ ْعلَ َب ـ َة َوا ِف ـ ًدا إِ َل َر ُســو ِل الل ـ ِه صــى اللــه عليــه
ـاب الْ َم ْسـج ِِد ،ثُـ َّم َع َقلَـ ُه ،ثُـ َّم َد َخـ َـلوســلم ،فَ َقـ ِـد َم َعلَيْـ ِهَ ،وأَنَــا َخ بَ ِعـ َر ُه َعـ َـى بَـ ِ
ـس ِف أَ ْص َحا ِب ـ ِهَ ،وكَا َن ـول الل ـ ِه صــى اللــه عليــه وســلم َجالِـ ٌ الْ َم ْس ـ ِج َدَ ،و َر ُسـ ُ
َ َ
ِضـ َـا ٌم َر ُجـ ًـا َجلْ ـ ًدا أشْ ـ َع َر ذَا غ َِدي َرتَـ ْـنِ( ) ،فَأقْ َبـ َـل َحتَّــى َوقَـ َـف َعـ َـى َر ُســو ِل
4
ـب، اللـ ِه صــى اللــه عليــه وســلمِ ،ف أَ ْص َحا ِبـ ِه فَقــال :أَيُّ ُكـ ُم ابْـ ُن َع ْبـ ِـد الْ ُمطَّلِـ ِ
ـب} ،قــال ـول الل ـ ِه صــى اللــه عليــه وســلم{ :أَنَــا ابْـ ُن َعبْـ ِـد الْ ُمطَّلِـ ِ فَقــال َر ُسـ ُ
ـب ،إِ ِّن َســائِل َُك َو ُمغل ـ ٌظ ِف ُم َح َّم ـ ٌد؟ قــال{ :نَ َع ـ ْم} ،فَقــال :ابْ ـ َن َعبْـ ِـد الْ ُمطَّلِـ ِ
168
ـي ،ف ََسـ ْـل َعـ َّـا بَ ـ َدا الْ َم ْس ـأَلَ ِة ،فَــا ت َ ِج ـ َد َّن ِف نَف ِْسـ َـك ،قــال{َ :ل أَ ِج ـ ُد ِف نَ ْفـ ِ
ـى ِمـ ْن َذلِـ َـك الْ َيـ ْو ِم َو ِف َحـ ِ ِ
ـاض ِه َر ُجـ ٌـل لَـ َـك}… -ويف آخــره – فَـ َو اللـ ِه َمــا أَ ْمـ َ
َــا َســ ِم ْع َنا ِب َوا ِف ِ
ــد قَــ ْو ٍم ــاس« :ف َ ُــول ابْــ ُن َعبَّ ٍَوال ا ْمــ َرأَ ٌة إِال ُم ْســلِ ًم قــال :يَق ُ
كَا َن أَفْضَ ـ َـل ِم ـ ْن ِضـ َـا ِم بْــنِ ث َ ْعلَ َب ـ َة»( .)1لقــد طبــق النبــي التســامح عمليــا،
بواســطة حــوار منطقــي واضــح ،بأســلوب راق وهــادئ ،ســمته اإلنصــات
واالعــراف باآلخــر ،فظهــرت نتيجتــه ،وأينعــت مثرتــه ،ففتــح اللــه تعــاىل
قلــوب هــذا الوفــد بأكملــه.
كل تلــك الشــواهد مــن الســرة النبويــة ال ترتقــي إىل عظمــة مواقــف النبــي
صــى اللــه عليــه وســلم مــع أهــل مكــة الذيــن آذوه أشــد اإليــذاء ،يف
نفســه ،وأهلــه ،وأرستــه ،وعشــرته ،مــدة تزيــد عــن عقــد كامــل مــن الزمــن،
وأخرجــوه مــن أحــب البــاد إليــه ،إال أن مبــادرة التســامح تبقــى هــي األصــل
يف التعامــل النبــوي مــع أعدائــه؛ فعندمــا أصابــت قريشــا ســنة قحطــاء حــن
النبــي صــى اللــه عليــه وســلم إىل وطنــه ،فلــم يــرك قريشــا لنوائــب الزمــن
وحوادثــه ،بــل أغاثهــم وســاعدهم عــى تجــاوز مــا نــزل بهــم مــن القحــط،
ماحيــا بتســامحه مــا يف الذاكــرة مــن املــآيس املغروســة فيهــا ،والتــي قــد ال
تســهم ُمــدد التاريــخ –لــوال التســامح -يف محوهــا؛ يقــول محمــد بــن الحســن
الشــيباين« :وبعــث رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم خمســمئة دينــار إىل
مكــة حــن قحطــوا ،وأمــر بدفــع ذلــك إىل أيب ســفيان بــن حــرب ،وصفــوان
بــن أميــة ،ليفرقــا عــى فقـراء أهــل مكــة»(.)2
وتتكــرر شــواهد التســامح مــع أهــل مكــة مــرة بعــد أخــرى؛ مــا يؤكــد
أن جــال هــذه القيمــة يف تجددهــا ،وكاملهــا يف اســتدامتها ،فــكان شــاهد
التســامح هــذه املــرة يف أعظــم موطــن ،أمــام بيــت اللــه الحـرام ،يقــول النبــي
- 1أحمد ،املسند ،رقم ،)2380( :ج 4ص ،210وصححه الحاكم ،املستدرك ،رقم )4434( :كتاب املغازي والرسايا ،ج 5ص
.213
- 2الرسخيس محمد بن أحمد بن أيب سهل شمس األمئة 483هـ (الرشكة الرشقية لإلعالنات1971 :م) ،رشح السري الكبري،
ص .96
169
صــى اللــه عليــه وســلم لقريــش بعــد أن اســتمكن منهــم يــوم فتــح مكــة:
{ا ْذ َه ُبــوا فَأَنْتُ ـ ُم الطُّلَ َقــا ُء}(.)1
إن الــدرس الــذي ميكــن اســتفادته مــن هــذه الشــواهد املبكــرة للتســامح يف
العــر النبــوي؛ أن التســامح كان لــه الــذروة العليــا يف عــر اإلســام األول،
وهــذا مــا يظهــر يف املطلــب الثــاين املتعلــق بشــواهد التســامح يف عــر
الصحابــة.
- 1البيهقي ،السنن ،كتاب البيوع ،باب فتح مكة حرسها الله تعاىل ،ج 9ص 199رقم .18276وحكم الحافظ ابن حجر
عىل إسناده بأنه حسن ،فتح الباري :ج 8ص .18
170
ألنفســهم وأموالهــم ،ولكنائســهم وصلبانهــم؛ أنــه ال تســكن كنائســهم ،وال
تهــدم ،وال ينتقــص منهــا ،وال مــن حيزهــا ،وال مــن صليبهــم ،وال مــن يشء
مــن أموالهــم ،وال يكرهــون عــى دينهــم ،وال يضــار أحــد منهــم ،وال يســكن
إيليــاء معهــم أحــد مــن اليهــود… عــى مــا يف هــذا الكتــاب عهــد اللَّــه وذمــة
رســوله وذمــة الخلفــاء وذمــة املؤمنــن إذا أعطــوا الــذي عليهــم مــن الجزيــة.
شــهد عــى ذلــك خالــد بْــن الوليــد ،وعمــرو بْــن العــاص ،وعبــد الرحمــن بْــن
عــوف ،ومعاويــة بْــن أيب ســفيان وكتــب وحــر ســنة خمــس عــرة»(.)1
فهــذا مثــال رائــع ،ودليــل واقــع ،عــى أن اإلســام مل يكــن يو ًمــا مــن األيــام
متشــوفًا للقضــاء عــى غــر املســلمني ،بــل كان يحميهــم ،ويوفــر لهــم جميــع
مــا يحقــق لهــم الســلم واألمــان ،وذلــك النهــج وتلــك املبــادئ هــي التســامح
الــرف الــذي نربهــن عــى أصالتــه يف هــذ البحــث.
وكان عــر عمــر بــن الخطــاب ريض اللــه عنــه مــن العصــور التــي نجــد فيهــا
منــاذج متواتــرة يف ترســيخ التســامح ،ســواء مــن خــال تعاملــه مــع أهــل
الكتــاب وحفــظ حقوقهــم ،أو إب ـرام املعاهــدات معهــم واح ـرام معابدهــم،
أو إقامــة العــدل بينهــم وبــن املســلمني.
وهنــا نســتحرض رفــض عمــر ريض اللــه عنــه الصــاة يف كنيســة القيامــة؛
ألجــل أال تؤخــذ مــن أصحابهــا بعـ ُد وتتخــذ مصــى بعلــة أن عمــر قــد صــى
فيهــا؛ فقــد «دخــل عمــر بــن الخطــاب بيــت املقــدس ،وجــاء كنيســة القيامــة
فجلــس يف صحنهــا ،وحــان وقــت الصــاة فقــال للبــرك :أريــد الصــاة ،فقــال
لــه :صـ ّـل موضعــك ،فامتنــع وصـ ّـى عــى الدرجــة التــي عــى بــاب الكنيســة
منفــر ًدا ،فلـ ّـا قــى صالتــه ،قــال للبــرك :لــو صليــت داخــل الكنيســة أخذهــا
املســلمون بعــدي وقالــوا :هنــا صــى عمــر»( .)2وهــذا املوقف االســترشايف من
ســيدنا عمــر ريض اللــه عنــه فيــه عــدة دالالت عــى العمــل مببــدأ التســامح؛
- 1ابن الجوزي؛ جامل الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن عيل بن محمد الجوزي 597ه ،املنتظم يف تاريخ األمم وامللوك،
تحقيق :محمد عبد القادر عطا ،مصطفى عبد القادر عطا – (دار الكتب العلمية – بريوت – ط1412 ،1 .ه 1992 -م) ،ج
3ص .609ومحمد حميد الله؛ مجموعة الوثائق ،ص .488
- 2ابن خلدون؛ عبد الرحمن بن محمد بن خلدون ،مقدمة ابن خلدون ،الجزء األول من كتاب العرب وديوان املبتدأ
والخرب ،تحقيق :املسترشق الفرنيس كاترمري( ،مكتبة لبنان ،بريوت) ،ج 2ص .268
171
لعــل أبرزهــا أن مــروع التســامح ليــس مرشو ًعــا لحظ ًّيــا ،وإمنــا هــو مــروع
مســتدام ،فعمــر ريض اللــه عنــه مل ميتنــع عــن الصــاة يف الكنيســة ألمــر
دينــي- ،وهــذا أيضــا لــه داللتــه -وإمنــا كان منــه ذلــك لــرأي رآه ،ونظــرة
مســتقبلية اســترشفها ،بقصــد حاميــة دار العبــادة املســيحية.
وتجــدر اإلشــارة هنــا إىل أن جمهــور أهــل العلــم عــى جــواز الصــاة يف
الكنيســة ،يقــول ابــن قدامــة« :فصــل :وال بــأس بالصــاة يف الكنيســة النظيفة،
رخــص فيهــا الحســن ،وعمــر بــن عبــد العزيــز ،والشــعبي ،واألوزاعي ،وســعيد
بــن عبــد العزيــز ،وروي أيضــا عــن عمــر ،وأيب مــوىس ،وكــره ابن عبــاس ومالك
الكنائــس؛ مــن أجــل الصــور .ولنــا أن النبــي صــى اللــه عليــه وســلم صــى
يف الكعبــة وفيهــا صــور ،ثــم هــي داخلــة يف قولــه عليــه الســام{ :فأينــا
أدركتــك الصــاة فصــل ،فإنــه مســجد}»(.)1
ويف معاهــدة أخــرى مــن تلــك املعاهــدات الكثــرة التــي ســجلها التاريــخ
اإلســامي نقــف عــى شــاهد آخــر للتســامح ،مــع قائــد من قــادات املســلمني،
إنــه خالــد بــن الوليــد ،وهــذا الشــاهد يحفــظ لغــر املســلمني حقهــم يف أداء
شــعائرهم الدينيــة ،وينظــم ذلــك تنظيـ ًـا دقي ًقــا ،مبــا ال يتنــاىف مــع أوقــات
عبــادات املســلمني ،يقــول أبــو يوســف عــن فتوحــات خالــد بــن الوليــد يف
الشــام« :وقــد كان مــر ببــاد عانــات ،فخــرج إليــه بطريقهــا ،فطلــب الصلــح،
فصالحــه وأعطــاه مــا أراد ،عــى أن ال يهــدم لهــم بِي َعــة وال كنيســة ،وعــى
أن يرضبــوا نواقيســهم يف أي ســاعة شــاءوا مــن ليــل أو نهــار ،إال يف أوقــات
الصلــوات ،وعــى أن يخرجــوا الصلبــان يف أيــام عيدهــم»(.)2
إن ســمة التســامح يف عــر الصحابــة ارتبطــت ارتباطًــا وثيقًا بأســس التســامح
التــي تقدمــت ،فــكان أحــد مظاهــره هــو املعاهــدات واملواثيــق والصلــح بــن
املســلمني وغريهــم؛ ويف اإلقــدام عــى ذلــك ترســيخ للتســامح وال شــك أن
التســامح يف حاجــة ملــا يوثقــه ويحفــظ لــه قداســته.
- 1ابن قدامة؛ أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة املقديس ثم الدمشقي الحنبيل ،الشهري بابن
قدامة املقديس 620ه ،املغني( ،مكتبة القاهرة1388 ،ه 1968 -م) ،ج 2ص .57
- 2أبو يوسف؛ أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حبتة األنصاري 182ه ،الخراج ،تحقيق :طه عبد
الرؤوف سعد ،سعد حسن محمد( ،املكتبة األزهرية للرتاث .ومحمد حميد الله؛ مجموعة الوثائق ،ص ،)387ص .160
172
ويف عــر الصحابــة ازدهــر التســامح ومل يتقهقــر ،بــل نضــج واكتمــل ،مــا
يؤكــد مــا تقدمــت اإلشــارة إليــه ،مــن أن التســامح يف اإلســام ولــد كامـ ًـا ،ثــم
ظــل يتقلــب بــن نقصــان وزيــادة ،وال غــرو أن يكــون مــن عصــوره املزدهــرة
عــر الصحابــة ،فهــو مــن العصــور الفاضلــة والقــرون املفضلــة ،التــي شــهد
لهــا النبــي صــى اللــه عليــه وســلم بالخرييــة.
ويف باقــي العصــور املســلمة األخــرى يف مختلــف مراحــل التاريــخ اإلســامي
وفرتاتــه املتالحقــة ،كانــت وقائــع التســامح موجــودة ،وشــواهده حــارضة،
بــل ميكــن القــول إنــه تحــول إىل مبــدأ حضــاري إســامي ،وبقيــت حضــارة
التســامح مســتمرة مــع األمــة اإلســامية يتوارثهــا األصاغــر عــن األكابــر ،وكلــا
كان إلفــا وعــادة اضمحــل واندثــر ،واحتــاج إىل مــن يبعــث فيــه الحيــاة.
ولقــد كان للعلــاء دور يف رعايــة حقــوق غــر املســلمني ،والســعي عنــد
األمـراء والوجهــاء يف ســبيل صونهــا؛ تعزيـزا لقيــم التســامح ،وممــن شــهد لــه
التاريــخ بذلــك اإلمــام أبــو يوســف ،الــذي مــا زالــت وصيتــه خالــدة ،ومواقفــه
عــى أثــر العلــاء التاريخــي يف ترســيخ التســامح بــن اإلنســانية شــاهدة ،فقد
عقــد رحمــه اللــه بابــا يف الوصيــة للحاكــم يقــول فيــه« :الوصــاة بأهــل الذمــة
وعقــاب مــن أســاء إليهــم :قــال أبــو يوســف :وقــد ينبغــي يــا أمــر املؤمنــن
أيــدك اللــه أن تتقــدم يف الرفــق بأهــل ذمــة نبيــك وابــن عمــك محمــد صــى
اللــه عليــه وســلم ،والتفقــد لهــم حتــى ال يظلمــوا ،وال يــؤذوا ،وال يكلفــوا
فــوق طاقتهــم ،وال يؤخــذ يشء مــن أموالهــم إال بحــق يجــب عليهــم؛ فقــد
روي عــن رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم أنــه قــال{ :مــن ظلــم معاهــدا
أو كلفــه فــوق طاقتــه فأنــا حجيجــه}(.)2(»)1
ومــن الشــواهد التاريخيــة عــى مشــاركة العلــاء يف تعزيــز التســامح؛ مــا
ذكــره املقريــزي وهــو يصــف حــال مــر يف امليــاد ،ومــا أدركــه مــن مشــاركة
النــاس يف االحتفــال بــه فيقــول« :وأدركنــا امليــاد بالقاهــرة ومــر ،وســائر
جليــا ،يبــاع فيــه مــن الشــموع املزهــرة باألصبــاغ ً موســا
ً إقليــم مــر
173
املليحــة ،والتامثيــل البديعــة بأمــوال ال تنحــر ،فــا يبقــى أحــد مــن النــاس
أعالهــم وأدناهــم حتــى يشــري مــن ذلــك ألوالده وأهلــه ،وكانــوا يســمونها:
الفوانيــس ،واحدهــا فانــوس ،ويعلقــون منهــا يف األســواق بالحوانيــت شــيئا
يخــرج عــن الحـ ّد يف الكــرة واملالحــة ،ويتنافــس النــاس يف املغــاالة يف أمثانهــا،
حتــى لقــد أدركــت شــمعة عملــت فبلــغ مرصوفهــا ألــف درهــم وخمســائة
درهــم فضــة ،عنهــا يومئــذ مــا ينيــف عــى ســبعني مثقــاال مــن الذهــب»(.)1
ففــي هــذا النــص وأمثالــه وصــف ملــا كانــت عليــه املجتمعــات املســلمة
يف معظــم ف ـرات التاريــخ بعلامئهــا وســائر أف ـراد مجتمعهــا مــن التعايــش
والتســامح مــع اآلخــر ،واعتبــاره جــز ًءا مــن املجتمــع مبشــاركته يف أفراحــه
وآالمــه ،ومل تكــن آنــذاك تلــك الحواجــز املفتعلــة التــي اســتطاعت أن ترســخ
البغضــاء والكراهيــة تجــاه اآلخــر ،دون ضبــط لتلــك املشــاركة بالتمييــز بــن
مــا هــو مــن بــاب التعظيــم ،أو مــن بــاب العــادات التــي يجــري بهــا العمــل
يف املجتمعــات املســلمة.
إن الشــواهد التاريخيــة عــى التســامح كثــرة جـ ًّدا ،وهــي متناثــرة يف مختلف
األعصــار واألمصــار ،تقــل تــارة وتكــر أخــرى ،ثــم إنهــا تتنــوع بــن مــا هــو
دينــي وثقــايف واجتامعــي ،وقــد امتــدت ظاللهــا لتشــمل جميــع املياديــن
واملجــاالت املختلفــة ،وتتســع لتشــمل حقــوق غــر املســلمني املعنويــة
واملاديــة كافــة ،بــدءا مــن توظيفهــم يف أعــى الوظائــف؛ مــرو ًرا بالســاح
لهــم باملامرســة الدينيــة الكاملــة ،وانتهــاء بحاميــة دينهــم ودور عبادتهــم،
يقــول الســر تومــاس(« :)2ح ًقــا إن الكنيســة املســيحية قويــت وتقدمــت يف
رعايــة املســلمني وحكمهــم ،فلــم يحــل الحكــم اإلســامي بينهــا وبــن اإلنعاش
والرقــي ،بــل إن النصــارى مل تنفجــر فيهــم الحميــة والحامســة الدينيــة ﺇﻻ
- 1املقريزي؛ أحمد بن عيل بن عبد القادر ،أبو العباس الحسيني العبيدي ،تقي الدين املقريزي 845ه ،املواعظ واالعتبار
بذكر الخطط واآلثار( ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،ط1418 ،1 .ه) ،ج 2ص .30
- 2السري توماس أرلوند عامل ومؤرخ عاش يف القاهرة ،قادما من أوربا وتعلم العربية والفارسية ،وألف كتبا كثرية
يف التاريخ والثقافة والفن اإلسالمي ،إىل أن تويف سنة1930 :م .سري توماس أرلوند ،الدعوة إىل اإلسالم (بحث يف تاريخ
نرش العقيدة اإلسالمية ،ترجمة :د .حسن إبراهيم حسن ،د .عبد املجيد عابدين ،إسامعيل النحراوي( ،مكتبة النهضة
املرصية،ط1971 ،2م) ،ص .6
174
ﺒﻌﺩ ﺃﻥ دخلــوا ﻲﻓ ﺤﻜﻡ ﺍﻤﻟﺴﻠﻤﻴﻥ ،مبــا ال عهــد لهــم بــه مــن قبــل ،ﻓﻨﺸﺭﻭﺍ
ﺍﻤﻟﺴﻴﺤﻴﺔ ﺘﺤﺕ رايــة اإلســام ،وبلغــوا بدعوتهــم الصــن والهنــد تحــت حاميــة
الخلفــاء»(.)1
وبقيــم التســامح التــي تعــر عــن نفســها باألفعــال ،ومتتــاز عــن غريهــا
بالتعامــل مــع اآلخــر باحــرام وتضمــن لــه حريــة املعتقــد ،وال تكرهــه يف
الديــن؛ انتــر اإلســام ،وأقبلــت الشــعوب املختلفــة عليــه يف شــتى مناطــق
العــامل منــذ القــدم ،وهــذا مــا أكــده أيضــا املــؤرخ تومــاس يف دراســته للدعــوة
اإلســامية يف قولــه« :ومــن خــال مــا قدمنــاه آنفــا عــن ذلــك التســامح
الــذي بســطه املســلمون الظافــرون إىل العــرب املســيحيني يف القــرن األول
مــن الهجــرة واســتمر يف األجيــال املتعاقبــة ،نســتطيع أن نســتخلص بحــق
أن هــذه القبائــل املســيحية التــي اعتنقــت اإلســام؛ إمنــا فعلــت ذلــك عــن
اختيــار وإرادة حــرة ،وأن العــرب املســيحيني الذيــن يعيشــون يف وقتنــا هــذا
بــن جامعــات مســلمة لشــاهد عــى هــذا التســامح»(.)2
إن قيــم التســامح إمنــا متثلــت يف أعــال وأفعــال وســلوك ومظاهــر كانــت
ت ُ َجــي التســامح بوصفــه حقيقــة ثابتــة ،ومامرســة حيــة ،يف املجتمعــات
املســلمة منــذ عــر النبــوة ،ومــا تــاه مــن العصــور األخــرى؛ مــا جعــل
الجميــع يعيــش يف ظلــه بأمــان.
ويف التاريــخ اإلســامي شــواهد أخــرى عــى نصاعــة تســامحه وعراقتــه،
وســننتقل يف املبحــث اآليت لدراســة شــاهد آخــر عــى التســامح وهــو موقــف
اإلســام مــن معابــد غــر املســلمني.
- 1أ .عبدالرحمن عزام ،الرسالة الخالدة( ،املجلس األعىل للشؤون اإلسالمية ،القاهرية ،ط1384 ،16 .ه-1964م) ،ص .199
- 2توماس؛ الدعوة إىل اإلسالم ،ص .48
175
املبحــث الثــاين :أحــكام حاميــة أماكــن عبــادة غــر املســلمني يف الرشيعــة
اإلســامية
تكملــة ملــا ســبق يف ســياق الشــواهد التاريخيــة عــى تســامح املســلمني مــع
غــر املســلمني ،نــدرس يف هــذا املبحــث املوقــف الرشعــي مــن أماكــن عبــادة
غــر املســلمني.
إن االهتــام بأماكــن عبــادة غــر املســلمني وجعلهــا مــن الشــواهد التاريخيــة
عــى تســامح اإلســام ،مــن األهميــة مبــكان؛ ألن التعصــب والكراهيــة
والتقاتــل وانهيــار التســامح ،إمنــا كان يف الغالــب ناشــئا عــن أســباب دينيــة،
فإبـراز حضــارة اإلســام يف حاميــة معابــد غــر املســلمني وصيانتهــا ،واحرتامهــا
وتوقريهــا؛ يصحــح النظــرة الخاطئــة الســائدة لــدى الطرفــن مــن أن اإلســام
ديــن يرفــض املعتقــدات األخــرى ويعامــل أهلهــا بإقصــاء.
إن اإلســام كفــل الحــق لغــر املســلمني يف امتــاك دور العبــادة ،وأوجــب
عــى املســلمني احرتامهــا ،بــل يعــد القــرآن الكريــم إقامــة أماكــن العبــادة
مقص ـ ًدا مــن املقاصــد الوجوديــة يف الحيــاة؛ انطالقــا مــن قــول اللــه تعــاىل:
ـض لَّ ُه ِّد َمــت َص َٰو ِم ـ ُع َو ِب َي ـ ٞع َو َصلَ ـ َٰوتٞ
ـاس بَعضَ ُهــم ِب َبعـ ٖ ـول َدف ـ ُع ٱللَّ ـ ِه ٱل َّنـ َ
﴿ َولَـ َ
ـر ُه إِ َّن ٱللَّ ـ َه
ـر َّن ٱللَّ ـ ُه َمــن يَنـ ُ َُو َم َٰس ـ ِج ُد يُذكَ ـ ُر ِفي َهــا ٱس ـ ُم ٱللَّ ـ ِه كَ ِث ـ ٗرا َولَ َينـ ُ َ
لَ َق ـو ٌِّي َعزِي ـ ٌز﴾(.)1
ذلــك أن مــن الطبيعــي والفطــرة أن يتشــبث كل إنســان بدينــه ،وميــارس
شــعائره ،ويعمــر بيوتهــا ،وأماكــن إقامتهــا ،ويتحمــس لهــا ،ويدافــع عنهــا،
ويحميهــا ،وهــو يف ذلــك يشــبع رغبــة روحيــة ،ويقيــم ســنة مــن ســنن اللــه
الكونيــة.
176
بيــوت يذكــر فيهــا اســم اللــه تعــاىل وتقــام فيهــا شــعائره ،وقــد شــدد اإلســام
عــى توفــر الحاميــة لهــا يف زمــن الســلم والحــرب ،وعــدم االعتــداء عليهــا
وعــى أصحابهــا ،واألدلــة الرشعيــة عــى ذلــك عديــدة منهــا:
أول :أن الحريــة الدينيــة قــد كفلهــا اإلســام ،ودعــت إليها الرشيعة اإلســامية، ً
وشــددت عليهــا وأقــرت مبادئهــا ،وجعلتهــا مــن مظاهــر التســامح يف اإلســام،
كــا مــر ،فأعطــت للنــاس حق االختيــار ،ونفــت اإلكـراه يف الديــن؛ ألن اإلميان
﴿لٓإمنــا يكــون بالتصديــق واإلق ـرار ،وال يكــون باإلجبــار ،يقــول اللــه تعــاىلَ :
إِكــ َرا َه ِف ٱلدِّينِ ﴾(.)1
ومــن مقتضيــات هــذه الحريــة مامرســة الشــعائر الدينيــة ،وال يتحقــق
ذلــك إال بإقامــة أماكــن العبــادة لكافــة النــاس وحاميتهــا ،بغــض النظــر
عــن انتامءاتهــم؛ ألنــه بحاميتهــا وإقامتهــا يــؤدي كل أهــل ديــن شــعائرهم
ـولوعبادتهــم ،يقــول الشــيخ أبــو زهــرة يف تفســر قــول اللــه تعــاىلَ ﴿ :ولَـ َ
ـض لَّ ُه ِّد َمــت َص َٰو ِمـ ُع َو ِب َيـ ٞع َو َصلَـ َٰوتَ ٞو َم َٰسـ ِج ُد
ـاس بَعضَ ُهــم ِب َبعـ ٖ َدفـ ُع ٱللَّـ ِه ٱل َّنـ َ
نــر ُ ٓه إِ َّن ٱللَّــ َه لَقَــو ٌِّي يُذكَــ ُر ِفي َهــا ٱســ ُم ٱللَّــ ِه كَ ِثــ ٗرا َولَ َي ُ َ
نــر َّن ٱللَّــ ُه َمــن يَ ُ ُ
َعزِي ـ ٌز﴾(« :)2والنــص الكريــم يفيــد أن دفــع الباطــل إذا مل يكــن؛ مل يســتطع
أهــل ديــن أن يقيمــوا عباداتهــم ،فتهــدم صوامــع الرهبــان ،و ِبيَــع النصــارى،
وصلــوات اليهــود ،وكانــت تهــدم هــذه البيــوت ،وال تقــام شــعائر أهــل ديــن
مــن األديــان الســاوية قبــل انتســاخها ،وســاد الــرك وتحكــم ،وهــذا النــص
الســامي يفيــد أمريــن:
األمــر األول :متكــن أهــل كل ديــن مــن عبادتهــم ببقــاء أماكــن العبــادة َل
تهــدم وال متــس.
واألمر الثاين :منع هدم معابد أهل الذمة»(.)3
ثان ًيــا :إن املســاواة املقــررة بــن املســلمني وغريهــم يف حقوقهــم الوطنيــة؛
177
تقتــي أداءهــم شــعائرهم الدينيــة بــكل حريــة ،وقــد أكــد اإلســام عــى
هــذا املبــدأ؛ إذ ال فضــل ألحــد عــى أحــد ،والتســامح إمنــا ينطلــق مــن
الســاح لــكل أهــل ديــن بالحفــاظ عــى خصوصياتهــم ،وبهــذه املســاواة
يتحقــق التعــارف الــذي هــو مقصــد رشعــي.
ثال ًثــاَّ :أســس اإلســام قاعــدة عظيمــة توجــب إبعــاد أماكــن العبــادات ســواء
كانــت للمســلمني أو غــر املســلمني عــن الحــروب والقتــال والتجاذبــات،
ـىواألصــل يف هــذا قولــه تعــاىلَ ﴿ :و َل تُ َٰق ِتلُو ُهــم ِعن ـ َد ٱمل َس ـج ِِد ٱل َح ـ َر ِام َحتَّـ ٰ
يُ َٰق ِتلُوكُــم ِفيــ ِه﴾( .)1فــدور العبــادة لهــا حرمتهــا يقــول البيضــاوي« :أي ال
تفاتحوهــم بالقتــال وهتــك حرمــة املســجد الح ـرام»(.)2
فهــذه القاعــدة التــي لهــا بعدهــا األخالقــي؛ يتفــق عليهــا العقــاء لتجنيــب
هــذه األماكــن الرشيفــة الخصومــات والحــروب .ولتقريــر هــذا املبــدأ نهــى
النبــي صــى اللــه عليــه وســلم عــن قتــل أصحــاب الصوامــع يف الحــروب؛
ـول الل ـ ِه صــى اللــه عليــه ـاس ،قــال :كَا َن َر ُسـ ُ ففــي الحديــثَ :عــنِ ابْــنِ َع َّبـ ٍ
وســلم إِذَا بَ َعــثَ ُج ُيوشَ ـ ُه قــال{ :ا ْخ ُر ُجــوا ب ِْسـ ِـم اللـ ِه تُقَاتِلُــو َن ِف َسـبِيلِ اللـ ِه
َمــ ْن كَفَــ َر بِاللــ ِهَ ،ل تَغ ِ
ْــد ُرواَ ،وال ت َ ُغلُّــواَ ،وال تُ َثِّلُــواَ ،وال تَ ْقتُلُــوا الْ ِولْــ َدانََ ،وال
الص َوا ِمـعِ}( .)3يقــول الشــوكاين« :فيــه دليــل عــى أنــه ال يجــوز قتــل ـاب َّ أَ ْص َحـ َ
مــن كان متخليــا للعبــادة مــن الكفــار كالرهبــان»(.)4
راب ًعــا :تجــاوز اإلســام يف هــذا البــاب حاميــة دور العبــادة إىل تقنــن
هــذا املجــال ،وتوثيقــه مبعاهــدات مــن أجــل حاميــة ِب َيــع غــر املســلمني
ومعابدهــم ،وقــد ُوثــق هــذا يف امليثــاق الــذي عقــده النبــي صــى اللــه عليــه
وســلم مــع نصــارى نجـران ،فقــد ورد يف كتــاب رســول اللــه صــى اللــه عليــه
وســلم ألهــل نج ـران« :لنج ـران وحاشــيتها جــوار اللــه وذمــة محمــد النبــي
178
رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم ،عــى أموالهــم وأنفســهم وأرضهــم
وملتهــم وغائبهــم وشــاهدهم وعشــرتهم وبيعهــم ،وكل مــا تحــت أيديهــم
مــن قليــل أو كثــر ،ال يغــر أســقف مــن أســقفيته وال راهــب مــن رهبانيتــه
وال كاهــن مــن كهنتــه»(.)1
فبهــذه الركائــز والدالئــل يتبــن تأصيــل اإلســام لحاميــة دور العبــادة وأنــه
اعتربهــا معــامل ســلم وســام ،ويف املطلــب القــادم نذكــر بعــض الشــواهد
الدالــة عــى أن أماكــن العبــادة قــاع للتســامح أمــد التاريــخ اإلســامي.
املطلب الثاين :شواهد تاريخية عىل حامية أماكن عبادة غري املسلمني
لــو تتبعنــا كل الشــواهد الصغــرة والكبــرة الدالــة عــى تســامح اإلســام
مــع غــر املســلمني؛ ملَــا اســتطعنا اســتيفاءها ،فتعاليــم اإلســام وتطبيقاتهــا
كلهــا تصــب يف هــذا البــاب ،ولكــن أعظــم شــاهد حــي عــى مــدى خمســة
عــر قرنــا ،وسيســتمر شــاهدا عــى تســامح اإلســام ســواء مــع أعدائــه أو
مــع أصدقائــه ،والــذي يثبــت ثبوتــا قطعيــا اح ـرام اإلســام لحريــة الشــعائر
الدينيــة وحاميــة أماكنهــا؛ هــو مختلــف الكنائــس واملعابــد واألديــرة القامئــة
واملنتــرة عــى امتــداد الــدول اإلســامية ،والتــي تنتــر يف كل البقــاع مــن
هــذه األرايض منــذ دخــول اإلســام لهــذه املناطــق ،فلــم ميســها بســوء ،ومل
يعــث يف أرضهــا فســادا ،وال هــدم منهــا حج ـرا.
لقــد اســتمر توثيــق املعاهــدات بــن املســلمني وغريهــم بعــد النبــي صــى
اللــه عليــه وســلم كــا ســلف ،فنجــد كثــرا مــن املعاهــدات تنــص عــى
احـرام دور العبــادة وحاميتهــا .ومــن منــاذج ذلــك :أمــان عمــرو بــن العــاص
ألقبــاط مــر ،الــذي ضمــن لهــم فيــه أمــان كنائســهم؛ ففــي كتــاب عمــرو
بــن العــاص ألهــل مــر« :هــذا مــا أعطــى عمــرو بْــن العــاص أهــل مــر
مــن األمــان عــى أنفســهم وملتهــم وأموالهــم وكنائســهم وصلبهــم ،وبرهــم
وبحرهــم ،ال يدخــل عليهــم يشء مــن ذلــك وال ينتقــص»(.)2
179
ومبثــل هــذه املعاهــدة عاهــد خالــد بــن الوليــد أهــل دمشــق :فعــن ابــن
رساقــة ،أن خالــد بــن الوليــد ،كتــب ألهــل دمشــق« :هــذا كتــاب مــن
خالــد بــن الوليــد ألهــل دمشــق :إين قــد أمنتهــم عــى دمائهــم وأموالهــم
وكنائســهم»(.)1
ومــن الشــواهد التــي يذكرهــا املؤرخــون يف حاميــة دور العبــادة ،أن الكنائــس
قبــل اإلســام يف مــر مثــا أقــل منهــا بعــد اإلســام؛ فالكثــر مــن الكنائــس
بُنيــت يف عهــد الصحابــة والتابعــن ،وهــذا إن دل عــى يشء فإمنــا يــدل عــى
انفتــاح اإلســام عــى اآلخــر ،وكفالتــه لــه حقوقــه الدينيــة ،والســاح لــه
مبامرســته شــعائره.
وقــد ذكــر املؤرخــون قصــة يف هــذا املجــال تعــد شــاه ًدا تاريخيــا؛ ليــس عــى
حاميــة دور العبــادة فقــط ،بــل عــى َد ْور العلــاء وإرشافهــم عــى توعيــة
املجتمــع مبوقــف اإلســام الســليم مــن هــذه املعــامل الدينيــة ،ونظرتهــم
الدقيقــة والعميقــة يف هــذا األمــر ،وأن بنــاء الكنائــس إمنــا هــو مــن عــارة
األرض؛ يــروي لنــا املقريــزي هــذه القصــة التــي وقعــت يف القــرن الثــاين
ي بــنالهجــري فيقــول« :كنيســة مريــم :بجــوار كنيســة شــنودة ،هدمهــا عـ ّ
ي بــن عبــد اللــه بــن عبــاس أمــر مــر ملــا ويل مــن قبــل أمري
ســليامن بــن عـ ّ
املؤمنــن الهــادي مــوىس ،يف ســنة تســع وســتني ومائــة ،وهــدم كنائــس محرس
قســطنطني ،وبــذل لــه النصــارى يف تركهــا خمســن ألــف دينــار فامتنــع ،فلــا
عــزل مبــوىس بــن عيــى بــن مــوىس بــن محمــد بــن عــي بــن عبــد اللــه بــن
عبــاس يف خالفــة هــارون الرشــيد ،أذن مــوىس بــن عيــى للنصــارى يف بنيــان
ي بــن ســليامن ،فبنيــت كلهــا مبشــورة الليــث بــن الكنائــس التــي هدمهــا عـ ّ
ســعد ،وعبــد اللــه بــن لهيعــة ،وقــاال :هــو مــن عــارة البــاد ،واحتجــا بــأن
الكنائــس التــي مبــر مل تــن َّإل يف اإلســام ،يف زمــن الصحابــة والتابعــن»(.)2
فــإن هــذه القصــة تبــن لنــا أن الليــث بــن ســعد ،وعبــد اللــه بــن لهيعــة،
- 1ابن زنجويه؛ أبو أحمد حميد بن مخلد بن قتيبة بن عبد الله الخرساين 251ه ،األموال البن زنجويه ،تحقيق :شاكر
ذيب فياض( ،مركز امللك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية ،السعودية ،ط 1406 ،1 .ه 1986 -م) ،ج 2ص .473
- 2املقريزي؛ املواعظ واالعتبار ،ج 4ص .439
180
-وهــا مــن هــا -كانــا يدافعــان عــن كنائــس النصــارى ،بــل ويرشفــان عــى
متابعــة قضيتهــا.
إن هذيــن اإلمامــن يجســدان النظــر الفســيح للفقيــه العــامل بدينــه ،واملحيــط
بواقعــه والبصــر بهمــوم وطنــه ،إذ بذلــك النظر يتحقــق اســتقرار املجتمعات،
وبنيــان التســامح ،فعــارة األرض مقصــد رشعــي مطلــوب مــن كافــة األفـراد،
وهــو مرتبــط بكينونــة هــذا اإلنســان ووجــوده عــى األرض؛ يقــول اللــه
رض َوٱسـتَع َم َركُم ِفي َهــا﴾( .)1فــكان هــذا الفهــم تعــاىلُ ﴿ :هـ َو أَنشَ ـأَكُم ِّمـ َن ٱألَ ِ
را أساســا يف مثــل هــذه الفتــاوى واملواقــف. الثاقــب عنـ ً
فالــراءة األصليــة التــي تعلــق بهــا العاملــان :الفقيــه الليــث ابــن ســعد،
واملحــدث عبــد اللــه بــن لهيعــة ،وهــي أن األصــل الــذي اســتمر عليــه
املســلمون منــذ العهــد النبــوي هــو تــرك املعابــد وحاميتهــا؛ كان غــر
املســلمني أنفســهم أيضــا يتشــبثون بــه شــاهدا لهــم يف حــق الــرد عــى كل
مــن يريــد هــدم معابدهــم والعبــث بهــا؛ ففــي ســنة مثــان ومثانــن يف عــر
الدولــة األمويــة؛ اســتدل النصــارى بهــذه الحجــة ،يقــول ابــن الجــوزي« :كان
يف الوليــد نــوع ذكاء وفطنــة ،وســمع صــوت ناقــوس فأمــر بهــدم البيعــة،
فكتــب إليــه ملــك الــروم :إن هــذه البيعــة أقرهــا مــن كان قبلــك ،فــإن كانــوا
أصابــوا فقــد أخطــأت ،وإن تكــن أصبــت فقــد أخطــأوا ،فقــال الوليــد :مــن
يجيبــه؟ فأحجــم النــاس ،فأمــر الوليــد أن يكتــب إليــه﴿ :فَ َف َّهم َٰن َهــا ُس ـلَي َٰم َن
لــا﴾( .)3(»)2ويقــول أبــو يوســف« :وقــد كان نظــر كــا َو ِع ٗ
َوك ًُّل َءات َي َنــا ُح ٗ
يف ذلــك غــر واحــد مــن الخلفــاء املاضــن وهمــوا بهــدم البيــع والكنائــس
التــي يف املــدن واألمصــار؛ فأخــرج أهــل املــدن الكتــب التــي جــرى الصلــح
بهــا بــن املســلمني وبينهــم ،ورد عليهــم الفقهــاء والتابعــون ذلــك وعابــوه
عليهــم؛ فكفــوا عــا أرادوا مــن ذلــك؛ فالصلــح نافــذ عــى مــا أنفــذه عمــر
181
بــن الخطــاب ريض اللــه تعــاىل عنــه إىل يــوم القيامــة ،ورأيــك بعــد يف ذلــك؛
وإمنــا تركــت لهــم البيــع والكنائــس عــى مــا أعلمتــك»(.)1
فإضافــة ملبــدأ الحــوار مــع املخالــف ،الــذي يعتــر مــن أهم وســائل التســامح؛
فاعتــاد الوليــد يف هــذا القـرار عــى مــا رآه وفهمــه؛ دليــل عــى أن هــذا األمر
مل يكــن معروفــا شــائعا؛ وإمنــا هــو اجتهــاد شــخيص.
وبعــد قيمــة الوفــاء بالعهــد التــي كان لهــا دور كبــر يف حاميــة هــذه األماكن،
تــأيت قيمــة العــدل التــي هــي الراعيــة لجميــع مصالــح النــاس ،الحافظــة
ملمتلكاتهــم ومعابدهــم؛ فرجــال الدولــة مل يكونــوا قادريــن عــى انتــزاع
هــذه املعابــد وضمهــا ملســاجد املســلمني ،مــع حاجتهــم لذلــك ،ومل يكــن
غــر املســلمني -مــع كونهــم أقليــة وتحــت حكــم املســلمني -يتنازلــون عــن
مقدســاتهم بســهولة؛ فقــد ذكــر قدامــة بــن جعفــر أنــه« :ملــا ويل معاويــة بْــن
أَ ِب ُس ـ ْفيَان أراد أن يزيــد كنيســة يوحنــا يف املســجد بدمشــق فــأىب النصــارى
ذلــك فأمســك ،ثُـ َّم طلبهــا َع ْبــد امللــك بْن مــروان يف أيامــه للزيادة يف املســجد
وبــذل لهــم مــاال فأبــوا أن يســلموها إليــه ،ث ُ ـ َّم إن الوليــد بْــن َع ْبــد امللــك
جمعهــم يف أيامــه وبــذل لهــم مــاال عظيــا َعـ َـى أن يعطــوه إياهــا فأبــوا،
فقــال :لــن مل تفعلــوا ألهدمنهــا ،فقــال بعضهــم :يــا أمــر الْ ُم ْؤ ِم ِنــن إن مــن
هــدم كنيســة جــن وأصابتــه عاهــة ،فأحفظــه قولــه( )2ودعــا مبعــول وجعــل
يهــدم بعــض حيطانهــا بيــده ،وعليــه قبــاء خــز أصفــر ،ث ُ ـ َّم جمــع الفعلــة
والنقاضــن فهدموهــا وأدخلهــا يف املســجد .فلــا اســتخلف عمــر بــن عبــد
العزيــز شــكا النصــارى إليــه مــا فعــل الوليــد بهــم يف كنيســتهم ،فكتــب إِ َل
عاملــه يأمــره بــرد مــا زاده يف املســجد عليهــم ،فكــره أهــل دمشــق ذلــك
وقالــوا :نهــدم مســجدنا بعــد أن أذنــا فيــه وصلينــا ويــرد بيعــة ،وفيهــم يومئذ
ُس ـلَ ْي َمن بْــن حبيــب املحــاريب وغــره م ـ َن الفقهــاء ،وأقبلــوا َعـ َـى النصــارى
فســألوهم أن يعطــوا جميــع كنائــس الغوطــة الَّ ِتــي أخــذت عنــوة وصــارت
ــى أن يصفحــوا عــن كنيســة يوحنــا وميســكوا َعــنِ يف أيــدي املســلمنيَ ،ع َ
182
املطالبــة بهــا ،فرضــوا بذلــك وأعجبهــم ،فكتــب بــه اىل عمــر فــره وأمــى
األمــر فيــه»( .)1وقــد تكــررت مثــل هــذه القصــة يف عهــد عمــر بــن عبــد
العزيــز وحكــم بــرد الكنيســة إىل أهلهــا(.)2
ويســجل التاريــخ لبعــض فقهــاء فــاس وتلمســان أيضــا دفاعهــم املســتميت
عــن حقــوق أهــل الذمــة يف حاميــة معابدهــم ،ففــي القضيــة املعروفــة
بكنائــس يهــود تــوات يف صح ـراء املغــرب األوســط ،وقــع خــاف كبــر بــن
الفقهــاء حولهــا يف القــرن الثامــن والتاســع الهجريــن( ،)3وشــارك فيهــا كبــار
املفتــن يف ذلــك العــر بفتاويهــم يف الدفــاع عــن حقــوق غــر املســلمني،
ونالحــظ مــن خــال تلــك الفتــاوى تطــو َر كث ـرٍ مــن املفاهيــم التــي كانــت
مسـلَّمة لــدى الفقهــاء قبلهــم ،ومــن تلــك التطــورات الناشــئة عــن االجتهــاد َ
يف هــذه املســألة يف ذلــك العــر.
مس ـلَّام لــدى الفقهــاء مــن عــدم جــواز إحــداث الكنائــس يف ً
أول :مــا كان َ
األرض التــي اختطهــا املســلمون؛ أجــرى فيــه هــؤالء الفقهــاء الخــاف ،بنــاء
عــى القاعــدة األصوليــة الحاكمــة بــأن املنهــي عنــه واملأمــور بــه ال بــد أن
يكــون مجمعــا عليهــا باألمــر بالوجــوب والنهــي بالتحريــم مــن أجــل التغيري،
وهــذه املســألة موقــع خــاف ،فــا ميكــن منعهــم مــن إحــداث كنائســهم.
يقــول أبــو محمــد عبــد اللــه العصنــوين فيــا نقلــه عنــه الونرشيــي« :وقــد
كنــت وفقكــم اللــه ،رأيــت يف الــرزيل مــا نصــه :رشط املأمــور بــه أن يكــون
واجبــا باإلجــاع ،ورشط التغــر أن يكــون املنهــي عنــه محرمــا باإلجــاع.
فقلــت لهــذا أثــر ذكــري األقــوال الثالثــة ،والصــواب عنــدي تقريرهــا اتباعــا
- 1قدامة بن جعفر ،قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي ،أبو الفرج 337ه ،الخراج وصناعة الكتابة( ،دار
الرشيد للنرش ،بغداد ،ط1981 ،1 .م) ،ص .294والبالذري؛ أحمد بن يحيى بن جابر بن داود ال َب َلذُري 279ه ،فتوح
البلدان( ،دار ومكتبة الهالل -بريوت1988 ،م) ،ج 1ص .127
- 2نفسه ،ص .387
- 3أشار أبو العباس أحمد بابا التنبكتي إىل هذه الحادثة يف ترجمة محمد بن عبد الكريم بن محمد املغييل ،حيث قال
أحمد بابا التنبكتي( :وقع له بسبب ذلك أمور مع فقهاء وقته ،حني قام عىل يهود توات وألزمهم الذل ،بل قتلهم وهدم
كنائسهم ،ونازعه يف ذلك الفقيه عبد اللَّه العصنوين قايض تواتن وراسلوا يف ذلك علامء فاس وتونس وتلمسان ،فكتب
يف ذلك الحافظ التنيس كتابة مطولة ،كام تقدم ،بصواب رأي صاحب الرتجمة ووافقه عليها اإلمام السنويس) أحمد بابا
التنبكتي ،نيل االبتهاج بتطريز الديباج :ص .576
183
لقــول الغــر لجــري العمــل بــه يف كثــر مــن مــدن املغــرب ،وهــي مــا اختطــه
املســلمون يف صــدر اإلســام وبعــده ،وفيــا العلــاء متوافــرون يف كل وقــت،
وفيهــم مــن ال يســكت عــى باطــل ،وكذلــك قواعــد هــذه الصحـراء قــد حــل
بهــا علــاء فضــاء ،وقــد شــاهدوا الكنائــس فيهــا وهــم ممــن ميتثــل قولهــم
يف األحيــان ،وقــد أنكــروا أشــياء عــى أهــل الذمــة ،ومل ينكــروا الكنائــس يف
جملــة مــا أنكــروه»(.)1
ثان ًيــا :تطــور مفهــوم العهــد ألهــل الذمــة وإعطــاؤه ح ِّيـ ًزا أشــمل ،فــإذا كان
هنــاك عهــد لهــم يف بلــد مســلم ،وانتقلــوا إىل مــكان آخــر ،واحتاجــوا إىل
معابدهــم ،فيجــوز لهــم إحداثهــا .يقــول ابــن زكــري فيــا نقلــه عنــه صاحــب
املعيــار« :مــا دل منهــا بعمومــه وإطالقــه مخصــوص مقيــد بغــر املعاهديــن،
والذمــن إذا انتقلــوا يف بلــد اإلســام مــن موضــع إىل موضــع ،ومل يخرجــوا عــن
العهــد والذمــة فســكنوا فيهــا ،وأرادوا إحــداث كنيســة إلقامــة دينهــم ،فإنهــم
ُ َيكنــون مــن بنائهــا وال مينعــون منهــا»( .)2ويف نــوازل ابــن الحــاج بعــد ســؤاله
عــن النصــارى الذيــن انتقلــوا مــن األندلــس إىل بــاد اإلســام فأجــاب« :هــؤالء
النصــارى ُوصفــوا باملعاهديــن ،وذلــك يقتــى ثبوتهــم عــى مــا ســلب لهــم
مــن العهــد ،والعقــد مــن الذمــة ،والــوالء لهــم واجــب ،فيبــاح لــكل طائفــة
بنــاء بيعــة واحــدة إلقامــة رشيعتهــم»(.)3
ثالثًــا :ربــط هــذه القضيــة بالنظــر للمصالــح واملفاســد يف تلــك الفتــاوى،
ومــن املقــرر أن درء املفاســد مقــدم عــى جلــب املصالــح يف ديينــا اإلســامي
الحنيــف ،ومل تغــب شــواهد التســامح التاريخيــة عــن هــذا األصــل بــل
اســتقت منــه واســتوحت مــن خاللــه مــا ثبتهــا ورســخها عــر حقب املســلمني
املتالحقــة.
راب ًعــا :مــن الحجــج املتكــررة يف هــذه الفتــاوى أن مســألة إحــداث الكنائــس
يف أرض املســلمني يعــود تقديرهــا للحاكــم؛ فــإذا أذن لهــم فلهــم الحــق يف
184
ذلــك ،ففــي املعيــار« :نقــل الشــيخ أبــو الحســن عــن الشــيوخ جــواز اإلذن
لإلمــام يف اإلحــداث إذا كانــت مصلحتــه أعظــم مــن مفســدته»( .)1كــا
جــرى يف القــرن الثالــث الهجــري حــن أذن الحاكــم املســلم املأمــون يف بنــاء
الكنيســة لعاملــه النصــارى فبنيــت ،يقــول عــاد الديــن األصبهــاين« :وفيهــا
نــزل املقطَّــم وبنــى فيــه ق ّبــة الهــواء ،وكان يف خدمتــه نصــارى ب ُعــدت عنهــم
الكنائــس بقــر الشــمع ،فاســتأذنوه يف بنــاء كنيســة ،فــأ ِذن لهــم ،فبنــوا
كنيســة القنطــرة املعروفــة»()2
خامســا :االســتناد للـراءة األصليــة؛ وأن هــذه املعابــد قــد كانــت منتــرة يفً
أرض اإلســام ،وأقرهــا العلــاء والصالحــون يف ســائر أقطــار أرض اإلســام ،مــا
يــدل عــى أنــه ال نكــر يف هــذه املســألة.
إن جــاع مــا نســتنتجه مــن هــذه الشــواهد املتقدمــة؛ أن تلبيــة الحاجــات
الروحيــة لغــر املســلمني كانــت حــارضة يف جميــع مراحــل الــدول اإلســامية،
فلــم يكونــوا مينعــون غــر املســلمني مــن أداء شــعائرهم الدينيــة ،وال يَ ُحولــون
بينهــم وبــن معابدهــم؛ بــل كل الشــواهد دالــة عــى أنهــم يف أغلــب مراحــل
التاريــخ اإلســامي كانــوا يف أمــن وأمــان ،وصــون ألماكــن عبادتهــم ،بــل وتوفري
لتلــك األماكــن عنــد الحاجــة بإحداثهــا.
وهكــذا أصبحــت املجتمعــات املســلمة يف معظــم ف ـرات التاريــخ بســبب
تلــك األســس؛ تعيــش يف تســامح اجتامعــي فريــد ،حتــى أضحــوا مجتمعــا
موحــدا ،تنعــدم فيــه الفــوارق ،والنظـرات الجزئيــة التــي تتحــرك يف النفــوس
بــن الفينــة واألخــرى لتوقــظ الفرقــة.
وكــا أن علــاء اإلســام يدافعــون عــن حقــوق املســلمني ويحمونهــا الحاميــة
الفكريــة والدينيــة ،فــإن غــر املســلمني يبادلونهــم الشــعور نفســه ،حيــث
يســجل لنــا التاريــخ قصــة شــخص مــن غــر املســلمني ينفــق عــى مســاجد
املســلمني ،فقــد ورد« :يف فتــاوى شــيخ اإلســام أيب الحســن الســغدي رحمــه
اللــه :حــى أن واحــدا مــن املجــوس ،كان كثــر املــال حســن التعهــد لفقـراء
185
املســلمني ،يطعــم جائعهــم ،ويكــي عاريهــم ،وينفــق عــى مســاجدهم،
ويعطــي أدهــان رسجهــا ،ويقــرض محاويــج املســلمني ،فدعــا النــاس مــرة إىل
دعــوة اتخذهــا لجــز ناصيــة ولــده ،فشــهدها كثــر مــن أهــل اإلســام ،وأهدى
إليــه بعضهــم هدايــا ،فاشــتد ذلــك عــى مفتيهــم ،فكتــب إىل أســتاذه شــيخ
اإلســام :أن أدرك أهــل بلــدك فقــد ارتــدوا بأرسهــم ،فذكــر شــيخ اإلســام:
أن إجابــة دعــوة أهــل الذمــة؛ مطلقــة يف الرشيعــة ،ومجــازات املحســن
بإحســانه؛ مــن بــاب الكــرم واملــروءة ،وحلــق الــرأس ليــس مــن شــعائر أهــل
الضــال ،والحكــم بــردة أهــل اإلســام بهــذا القــدر غــر ممكــن»( .)1فهــذه
الواقعــة كــا تــرز التســامح املتبــادل بــن املســلمني وغريهــم فإنهــا تــرز
أيضــا أهــم املزالــق الرشعيــة والفكريــة واالجتامعيــة والتاريخيــة التــي تواجــه
التســامح ،وذلــك أنــه ال يوجــد حــد فاصــل يف التعامــل مــع قضيــة التســامح
بــن مــا هــو رشعــي دينــي وبــن مــا هــو اجتامعــي طبيعــي ،فليــس كل مــا
هــو رشعــي يقــف باملرصــاد ملــا هــو اجتامعــي ،وال ميكــن االنفصــال عــن هــذا
اإلشــكال إال برســم ضوابــط التســامح وهــذا مــا ســنتناوله يف الفصــل القــادم.
- 1أبو العباس الحموي؛ أحمد بن محمد ميك ،شهاب الدين الحسيني الحموي الحنفي 1098ه ،غمز عيون البصائر يف
رشح األشباه والنظائر( ،دار الكتب العلمية ،ط1405 ،1 .ه 1985 -م) ،ج 3ص .402
186
الفصــل الثالــث :ضوابــط التســامح ووســائل اســتدامته؛
وفيــه مبحثــان:
املبحث األول :ضوابط التسامح بني املسلمني وغريهم.
املبحث الثاين :استدامة التسامح اإلنساين.
الفصل الثالث :ضوابط التسامح ووسائل استدامته
تَقَــدم أن هنــاك إشــكاالت تواجــه التســامح ،وال ميكــن االنفصــال عنهــا
إال بوضــع ضوابــط تضبــط هــذه القيمــة املهمــة؛ فالتســامح الــذي يجــري
الحديــث عنــه يف هــذا البحــث هــو تســامح منضبــط مســؤول ،محكــوم
بضوابــط إنســانية ،ودينيــة ،وقانونيــة ،ال ميكــن إرســاؤه إال عليهــا .وحــن ال
تحكــم التســامح ضوابــط أصيلــة ،ومقاصــد نبيلــة ،وأســس متينــة ،وأخــاق
نبيلــة؛ يتحــول إىل فــوىض.
فــكل تســامح ال يحقــق العــدل ،وال يحــاط بالقيــم ب ـ ًرا وإحســانًا ،ورحمــة
واحرتا ًمــا ،فهــو تســامح ال يعــدو أن يكــون شــعا ًرا ال أثــر لــه.
إن معايــر التســامح وقوانينــه دقيقــة ال تحتمــل التالعــب والتحايــل ،فهــو
فضيلــة محضــة تحكمهــا عــادات وأع ـراف ،وثقافــات مجتمعيــة ،وتضبطهــا
الرشيعــة اإلســامية ،وتحركهــا الفطــرة اإلنســانية الســليمة ،وفــق ضوابــط
وقيــود محــددة ،هــي الضامنــة لســامتها واســتدامتها ،والحفــاظ عليهــا.
وقــد كان املفكــر الربيطــاين الشــهري وفيلســوف التســامح« :جــون لــوك»
يف أواخــر القــرن الســادس عــر امليــادي ،مــن أوائــل مــن أســس لنظريــة
نســبية التســامح ،واحتــال تحولــه إىل الالتســامح ،إذا مل تكــن لــه ضوابــط
وقيــود تحميــه(.)1
وليــس اإلشــكال يف ذات التســامح الــذي هــو فضيلــة وقيمــة مــن القيــم
الكــرى ،ولكــن تنزيــل التســامح هــو الــذي يحتــاج قيــودا وضوابــط ليكــون
تنزيــا ســليام ،وهــذا حــال كل القيــم التــي تتعلــق بالتعامــل مــع اآلخــر.
- 1سيأيت إيراد كالمه عند الحديث عن الضوابط ،وجون لوك ولد يف سمرست بإنجلرتا عام ١٦٣٢ومات يف عام .١٧٠٤
درس يف يستمنسرت ومكث بها ست سنوات يتلقى اللغات القدمية .وتخرج من جامعة اكسفورد ،درس فيها تخصص
الدراسات املفضية للكهنوت ،كان مهتام بالشقاق والديانات يف أوربا ،له أعامل كثرية من بينها مؤلفات يف التسامح ،وأشهرها
رسالته يف التسامح ،الذي ترجمت بعد ذلك للعربية ،وسننقل منه يف هذا الفصل .ترجمته يف وِل ديو َرانت ،ويليام جيمس
ديو َرانت 1981م) ،قصة الحضارة ،ترجمة :الدكتور زيك نجيب مح ُمود وآخرين( ،دار الجيل ،بريوت -لبنان ،املنظمة العربية
للرتبية والثقافة والعلوم ،تونس1408 ،ه-1988م) ،ج 34ص .42ومقدمة رسالة التسامح :ص .7
188
ومــن أجــل بيــان ضوابــط التســامح التــي تعتــر أساســا يف اســتدامته ،عقــدت
هــذا الفصــل ،وجعلتــه يف مبحثــن؛ املبحــث األول يف الضوابــط واملبحــث
الثــاين يف االســتدامة.
189
املبحث األول :ضوابط التسامح بني املسلمني وغريهم
إ َّن للتســامح يف اإلســام ضوابــط تصونــه وتحفظــه وتعينــه عــى أداء دوره
االجتامعــي ،وتحقيــق مقاصــده الكــرى ،وهــذه الضوابــط يف جوهرهــا تعــود
إىل ثالثــة أســس؛ اإلنســانية ،والديــن ،والســلطة السياســية ،فــكل تســامح
يضــاد هــذا الثــايث أو يعــود عليــه بالخــرم واإلبطــال فهــو تســامح جانــح
إىل انحــال أو تعصــب أو فــوىض ،واعتبــا ًرا لهــذه األســس أرجعنــا ضوابــط
التســامح إىل ثالثــة ،وخصصنــا لــكل ضابــط مطل ًبــا.
املطلب األول :الضابط اإلنساين
ال شــك أن التســامح «قيمــة إنســانية» ويعنــي ذلــك أنــه مــن القيــم املشــركة
بــن بنــي اإلنســان ،وأول أصــل دعــا إليــه اإلســام يف هــذا البــاب هــو تكريــم
اإلنســان؛ قــال اللــه تعــاىلَ ﴿ :ولَ َقــد كَ َّرم َنــا بَ ِنـ ٓ
ـي َءا َد َم َو َح َمل َٰن ُهــم ِف ٱلـ َ ِّ
ـر َوٱل َبح ِر
َفضيـ ٗـا﴾( ) وهذا
1 ـى كَ ِثـرٖ ِّم َّمــن َخلَق َنــا ت ِ َو َرزَق َٰن ُهــم ِّمـ َن ٱلطَّ ِّي َٰبـ ِ
ـت َوفَضَّ ل َٰن ُهــم َعـ َ ٰ
املبــدأ الــذي هــو تكريــم اإلنســان هــو أحــد منطلقــات التســامح الدينــي.
والضابــط اإلنســاين للتســامح إمنــا هــو تفعيــل ألســاس التكريــم الــذي يقتــي
مســاواة النــاس جمي ًعــا يف حــق التســامح ،وأن ال يــؤدي هــذا التســامح إىل
إلحــاق أي أذى أو رضر باإلنســانية أو أي فــرد مــن أفرادهــا ،فيجــب يف ظــل
هــذا الضابــط :احــرام مبــادئ اإلخــاء اإلنســاين ،والتواصــل مــع املخالــف
باح ـرام ،بغــض النظــر عــن دينــه وعرقــه ولونــه ،وتعزيــز القيــم اإلنســانية
املشــركة.
إن التســامح اإلنســاين يتمثــل يف مقاصــد اإلنســانية األصيلــة ،ولهــذا أحاطتــه
الرشيعــة بقيــم يرعاهــا ويتفاعــل معهــا ،بــدءا مــن حفــظ الحقــوق وعــدم
ضياعهــا ،والوفــاء لآلخريــن ،وتحقيــق مقاصــد االجتــاع اإلنســاين ،مــن
التعــارف والتآلــف وتقليــل االختــاف .ومتــى تجــاوز التســامح هــذه املقاصــد
واملصالــح ،انحــرف عــن أداء الــدور املنــوط بــه ،فــكان ضبطــه بتحقيــق هــذه
املصالــح اإلنســانية رضوريــا.
190
أصلــه اإلســام مــن خــال وقــد بــن جــون لــوك أهميــة هــذا الضابــط الــذي َّ
تنظيمــه اإلخــاء اإلنســاين وترســيخ مبادئــه ،يقــول جــون لــوك« :ولكــن أقــول:
إن الحاكــم ينبغــي عليــه أن ال يتســامح مــع اآلراء املضادة للمجتمع اإلنســاين،
أو مــع القواعــد األخالقيــة الرضوريــة للمحافظــة عــى املجتمــع املــدين»(.)1
إن الــذي يصــادم التســامح يف بعــده اإلنســاين هــو االســتهتار مبصالــح النــاس
أو هويتهــم الثقافيــة واألخالقيــة ،فــا ميكــن أن تنتهــز فضيلــة التســامح مــن
أجــل إيجــاد رشوخ يف املجتمــع ،وال ميكــن للتســامح أن يــؤدي هــذا الــدور
قبــول االختــاف والتنــوع َ إال إذا وظــف يف ذلــك قــرا ،ألن ِمــ ْن أُ ُس ِســه
واحـرام أعـراف النــاس وهويتهــم وتراثهــم ،ولهــذا كان النمــوذج اإلمــارايت( ).
2
آخــذا بعــن االعتبــار هــذا الجانــب ،ف َربَــط التســامح بالهويــة اإلماراتيــة
وأخال ِقهــا ،فقــد جعــل الربنامــج الوطنــي للتســامح يف دولــة اإلمــارات األخـ َ
ـاق
اإلماراتيــة( )3مــن مرتك ـزات التســامح كــا ســيأيت.
وهــذا الضابــط اإلنســاين القــرآين يقتــي أيضــا :أن يكــون التعامــل وفــق
التســامح بإنســانية مــع الجميــع ،ســواء مــع املوافــق يف الديــن أو مــع غــره
مــن أتبــاع األديــان واملذاهــب األخــرى ،وهــو بهــذا يحتضــن الجميــع ،ال فــرق
بــن عــريب وعجمــي ،وأســود وأبيــض؛ ألن األصــل األصيــل والضابــط املثيــل
أنــه ال تفرقــة وال متييــز يف قامــوس التســامح ،وهــذا مغــزى قــول اللــه تعــاىل
يف آيــة التعــارف﴿ :إِ َّن أَك َر َم ُكــم ِعنـ َد ٱللَّـ ِه أَت َق ٰى ُكــم إِ َّن ٱللَّـ َه َعلِيـ ٌم َخ ِبـ ٞر﴾(.)4
ويف هــذا املبــدأ الربــاين قضــاء عــى كل أشــكال التعصــب والكراهيــة وصورها،
وإعــاء للقيــم املشــركة بــن اإلنســانية ،وقانــون القيــم يجــري عــى الجميــع،
ويتســاوى الجميــع أمامــه يف التعامــل اإلنســاين ،ويوجــب التشــبث بتلــك
191
الفضائــل والقيــم واألخــاق واملعاملــة الطيبــة يف التعامــل مــع كافــة خلــق
اللــه تعــاىل ،يقــول الشــيخ أبــو زهــرة« :واألخــاق يف الرشيعــة اإلســامية
عامــة و شــاملة ،ألنهــا تقــوم عــى الفضيلــة ومشــتقة مــن الفطــرة اإلنســانية،
فــا تخــص إقليــا دون إقليــم ،وال شــعبا دون شــعب ،وإن مــا يكــون رشا
بــن اآلحــاد يف شــعب واحــد؛ يكــون أيضــا رشا بــن الجامعــات والــدول،
ومــا يكــون رشا يف وطنــك؛ يكــون رشا أيضــا إن صنعتــه يف غــر وطنــك ،ألن
الفضيلــة مبقتــى قواعــد الســلوك الفاضــل حــق لــكل إنســان ،يســتحقها
مبقتــى إنســانيته التــي هــي وصــف مشــرك بــن كل أبنــاء آدم»(.)1
إن جميــع القــوى اإلنســانية -مــع اختــاف انتامءاتهــا الدينيــة واالجتامعيــة-
تلتقــي حــول م ـراد واحــد ،وهــو الحفــاظ عــى مصالــح كل األف ـراد ،ودفــع
الــرر عــن مجتمعاتهــم ،وإنــه ال يتحقــق هــذا الهــدف الــذي يتشــوف إليــه
الجميــع إال بالتــآزر والتعــاون والتشــبث بالقيــم اإلنســانية الجامعــة.
نَ ْخلُــص مــا ســبق إىل أن التســامح األمثــل املضبــوط بقيــده اإلنســاين؛ ال بد أن
يكــون يف صالــح اإلنســانية جمعــاء ،ويعامــل النــاس وفــق أعرافهــم وثقافاتهم؛
لتحقيــق األفضليــة يف كل زمــان ومــكان ،فالقيــم اإلنســانية ال ترتبــط مبوطــن
دون آخــر ،وإذا كان هــذا الضابــط يســتجيب لحاجــة اإلنســان؛ فــإن هنــاك
ضابطــا آخــر يراعــي األديــان ،وهــو مــا ســنخصص لــه املطلــب التــايل:
192
إن ضبــط التســامح دين ًّيــا مــن األهميــة مبــكان ،فكــا أن اإلســام أقــر
باالختــاف ،وأعطــى الحــق للجميــع يف مامرســته الدينيــة ،وكفــل الحريــة
الدينيــة للمجتمعــات؛ فإنــه يف مقابــل ذلــك ال ميكــن لإلســام أن يتســامح مــع
الرتويــج ملعتقــدات دينيــة تخالــف تديــن املجتمــع ،وتضــاد توجهــه ،وتشــيع
فيــه اإللحــاد أو االنحــال.
إن الضابــط األســاس يف التســامح مــع غــر املســلمني ،ومشــاركتهم يف
مناســباتهم وأعيادهــم وتهنئتهــم ،وإهدائهــم مــا هــو جائــز ويعــد مــن بــاب
الــر واإلحســان املــأذون بــه رشعــا؛ هــو أن شــعائرهم تقــام مبــا ال يخالــف
النظــام العــام للــدول املســلمة ،وقــد فصــل العلــاء قدميــا هــذا الجانــب،
فبينــوا مــا هــو جائــز ،ومــا هــو ممنــوع يف هــذا البــاب ،وإذا مل يحــد ذلــك
بضابــط مييــز أحدهــا مــن اآلخــر يختلــط عــى املســلم أمــره يف التســامح
فيظنهــا ســواء ،ويســتخدم التســامح يف غــر موطنــه (.)1
فبعــض املامرســات الخادشــة للشــعور العــام ال ميكــن قبولهــا تحــت ســتار
التســامح ،ألنهــا تناقــض مقاصــده ،وقــد شــهد بذلــك العقــاء من غري املســلمني
قبــل املســلمني؛ يقــول جــون لــوك يف توضيــح مخاطــر الســاح باســتغالل
التســامح مــع مــن يــزدري األديــان وقيمهــا أصــا ،حيــث إن مــن ليــس لــه
ديــن يردعــه يصعــب عليــه التقيــد بالقيــم األخالقيــة أو اإلنســانية ،فالتســامح
معــه إذا مل يكــن منضبطــا باح ـرام األديــان قــد يــؤدي إىل العكــس متا ًمــا(.)2
إن املقصــد مــن هــذا الضابــط هــو أن تكــون األديــان مقدســة منزهــة،
مرفوعــة عــن سفاســف مــن ال يقدرهــا حــق قدرهــا ،وال يعــرف لهــا منزلتهــا
ومكانتهــا ،وهــذا هــو املغــزى يف نهــي اإلســام املســلمني عــن ســب معبــودات
ـب املخالــف ولــو مل يكــن لــه غــر املســلمني ،واالزدراء واالســتهزاء بهــا ،وسـ ِّ
ديــن ،يقــول اللــه تعــاىلَ ﴿ :و َل ت َُسـ ُّبوا ْ ٱل َِّذيـ َن يَد ُعــو َن ِمــن ُدونِ ٱللَّـ ِه فَ َي ُسـ ُّبوا ْ
ٱللَّـ َه َعــد َوا ِب َغ ـرِ ِعلـ ٖـم﴾(.)3
193
إن التســامح ال ينمــو إال يف جــو خــال مــن الســباب والشــتائم ،واألحقــاد
والطعــن يف أديــان النــاس ومعتقداتهــم ،أو االســتهزاء بهــا واحتقارهــا وتوجيــه
االنتقــادات الناشــئة عــن جهــل وظلــم لهــا ،ولهــذا ركــز القــرآن الكريــم يف
معاملــة غــر املســلم دامئــا عــى القــول الحســن املهــذب ،والتعامــل بالتــي
هــي أحســن؛ مــن أجــل تحقيــق هــذا املقصــد الــذي يوصــل إليــه هــذا
الضابــط.
فالحــوار بــن املتســامحني إمنــا يكــون عــى مســلك األســاليب الحســنة
الراقيــة ،ومتــى خرجــت عــن هــذا النطــاق إىل املشــامتة والســفاهة والتنابــز
باألديــان ،فذلــك ال يليــق بالعقــاء ،فضــا عمــن تجمعهــم القيــم اإلنســانية،
ويف تضاعيــف التشــاتم يضيــع املقصــود واملــراد.
وقــد أكــد النبــي صــى اللــه عليــه وســلم أن املؤمــن الحــق ليــس مــن صفاتــه
ـس امل ُ ْؤ ِمـ ُن بِالطَّ َّعانِ
الشــتم والســب واللعــن؛ قــال عليــه الصــاة والســام{ :لَيْـ َ
ـش َو َل ال َبـ ِـذي ِء}( .)1وإذا كان أمــره كذلــك فإنــه يقلــل َو َل اللَّ َّعــانِ َو َل الف ِ
َاحـ ِ
مــن ردود فعــل غــر املســلمني ،ويكــون ســببا يف تعاملهــم باملثــل ،فيقــل
الخــاف واملشــاحنة والتنابــز ،وينمــو التســامح ويعــم االســتقرار يف املجتمــع،
وذلــك مــن مقاصــد التســامح.
ويجــاور هــذا الضابــط الــذي يُركــز عــى احـرام األديــان ،ضابــط آخــر وهــو
معرفــة قــدر األوطــان ،والدفــاع عنهــا ،وعــدم الســاح بالتالعــب بها بواســطة
التســامح ،وهــذا مــا خصصنــا لــه املطلــب القــادم.
194
إن األشــخاص املتشــبعني بالتســامح يُدركــون أن القوانــن إمنــا ُســنت مــن
أجــل اســتقرار األوطــان ،وتنظيــم أمــور النــاس وحقوقهــم ،والحفــاظ عــى
مصالحهــم ،ألن األســاس الســليم أن التســامح إمنــا ينشــأ عنــد ســيادة األوطــان
وقوتهــا بوحــدة أبنائهــا ،واح ـرام اختالفاتهــم وتقديــم مصالــح الوطــن عــى
املصالــح الفرديــة.
إن الضابــط القانــوين للتســامح يســتدعي أن تكــون جميــع األقــوال واألفعــال
ال تــر باملصالــح الوطنيــة ،وال تخالــف القوانــن واألنظمــة والترشيعــات ،وال
تعتــدي عــى حريــة اآلخريــن الذيــن هــم جــزء ال يتجــزأ مــن الوطــن.
فالديــن والوطــن ال يفرتقــان يف هــذا الحــق ،الــذي ال ميكــن أن يكــون محــا
للتالعــب أو التنــازل أو الجــدل ،فكــا أن الديــن مقــدس؛ فمصلحــة الوطــن
ومســتقبله فــوق كل اعتبــار أيضــا؛ يقــول اللــه تعــاىلَ ﴿ :وأَ ِطي ُعــوا ْ ٱللَّــ َه
َو َر ُســولَ ُه َو َل تَ َٰن َز ُعــوا ْ فَتَفشَ ــلُوا ْ﴾(.)1
فالخــروج عــن الثوابــت وتهديــد اللحمــة الوطنيــة ،والســعي يف التشــويش
عــى الوطــن ،وإلحــاق الــر واألذى بــه بحجــة التســامح؛ ســبب يف خ ـراب
ـروج عــن النظــام العــام للمجتمــع؛ قــد يصــل إىل البغــي الــذي األوطــان ،والخـ ُ
رتبــت عليــه الرشيعــة أشــد العقوبــات ،يقــول اللــه تعــاىل﴿ :فَــ ِإن بَغَــت
ـي َء إِ َ ٰلٓ أَمـ ِر ٱللَّـ ِه فَـ ِإن
ـى تَ ِفـ ٓ إِح َدىٰ ُهـ َـا َعـ َـى ٱألُخـ َر ٰى فَ َٰق ِتلُــوا ْ ٱلَّ ِتــي ت َب ِغــي َحتَّـ ٰ
ـط َني﴾( ).
2 ُقسـ ِ
ـب ٱمل ِ فَ ـآ َءت فَأَصلِ ُحــوا ْ بَي َن ُهـ َـا بِٱل َعــد ِل َوأَ ِ
قس ـطُ ٓوا ْ إِ َّن ٱللَّ ـ َه يُ ِحـ ُّ
يقــول اإلمــام الشــافعي« :والباغيــة التــي تعــدل عــن الحــق ومــا عليــه أمئــة
املس ـلِمني َو َج َم َعتُ ُه ـ ْم»(.)3 ْ
والتســامح يســتوجب هنــا الوقــوف يف وجــه الخارجــن عــن القوانــن ،الباغــن
عــى املجتمــع ،وإرجاعهــم إىل صفــه ،كــا تقتــي اآليــة ،واملجتمــع املتســامح
دأبــه أن يحجــز اآلخريــن عــن الوقــوع يف البغــي والظلــم ،وينرصهــم ويعينهم
عــى اإلنابــة والعــودة إليــه ،يقــول ابــن كثــر« :قولــه﴿ :فَـ ِإن بَ َغــت إِح َدىٰ ُهـ َـا
195
ـي َء إِ َ ٰلٓ أَمـ ِر ٱللَّـ ِه﴾»( .)1أي :حتــى َعـ َـى ٱألُخـ َر ٰى فَ َٰق ِتلُــوا ْ ٱلَّ ِتــي ت َب ِغــي َحتَّـ ٰ
ـى ت َ ِفـ ٓ
ترجــع إىل أمــر اللــه ،وتســمع للحــق وتطيعــه ،كــا ثبــت يف الصحيــح عــن
ـر أَ َخـ َ
ـاك ظَالِـ ًـا أنــس :أن رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم قــال{ :انْـ ُ ْ
َ
ـول اللَّ ـ ِه ،هــذا نرصتــه َمظْلُو ًمــا ،ف َك ْيـ َـف أنْـ ُ ُ
ـر ُه أَ ْو َمظْلُو ًمــا} .قلــت :يَــا َر ُسـ َ
ـرك إيــاه}( .)3(»)2وإمنــا يتحقــق ظَالِـ ًـا؟ قــال{ :تَ ْ َن ُعـ ُهِ ،مـ َن الظُّلْـ ِـم فـذ ََك نَـ ْ ُ
ذلــك بزجــر الخارجــن عــن القانــون ،واملغتصبــن لحقــوق اآلخريــن ظلــا،
وإرجاعهــم بحكمــة ومراعــاة للقوانــن واألع ـراف إىل حضنهــم االجتامعــي،
ليامرســوا حياتهــم تحــت مظلــة القانــون والنظــام.
إن أعظــم مثــال الح ـرام الضابــط الوطنــي للتســامح؛ هــو الوثيقــة النبويــة
العظيمــة التــي ت َقــدم االســتدالل بهــا يف عــدة مواطــن ،فاملعاهــدة التــي
وقعهــا النبــي صــى اللــه عليــه وســلم مــع مختلــف القبائــل املتواجــدة يف
املدينــة املنــورة ،مــن أجــل ســيادة الوطــن وإجاللــه ،ومامرســة جميــع ســكان
املدينــة حقوقهــم وأداء واجباتهــم بانســجام كامــل وتعــاون بــن جميــع
الفئــات املكونــة لهــذا املجتمــع؛ مظهــر مــن مظاهــر ضبــط التســامح مبظلــة
املواطنــة ،مــن أجــل إيجــاد مجتمــع أمنوذجــي تكــون القيــم اإلنســانية مصدر
قوتــه ووحدتــه ،فهــذه الوثيقــة تؤســس لهــذا الضابــط وتُقعــد لــه.
وإذا كان اإلســام قــد بــن هــذا الضابــط مبــا ال مجــال للشــك والريــب معــه،
فــإن غــر املســلمني نجــد عندهــم أيضــا االهتــام بــه والرتكيــز عليــه ،فقــد
وقــف فيلســوف التســامح جــون لــوك مــع هــذا الضابــط أيضــا ،وذكــر صــورا
متعــددة لــه ،ورصح بأنــه ال ميكــن التســامح مــع مــن يخالــف القانــون أو
ســلطة الحاكــم أو املجتمــع املــدين ،ومــن تلــك الصــور التــي ذكرهــا قولــه:
«مثــة نوعــان مــن الخــاف بــن النــاس ،أحدهــا متعلــق بالقانــون ،واآلخــر
بالقــوة ،وهــذا الخــاف يــدور عــى أن نهايــة أحدهــا بدايــة اآلخــر .ولكــن
ليــس مــن اهتاممــي البحــث عــن ســلطة الحاكــم يف دســاتري األمــم ،وأن
196
مــا أعرفــه هــو مــاذا يحــدث عندمــا تنشــأ خالفــات دون أن يحســمها أحــد
القضــاة ،وعندئــذ ميكنــك القــول :بــأن عــى الحاكــم أن يفــرض إرادتــه ألنــه
األقــوى ثــم ينفــذ مــا يريــد ،وهــذا قــول حــق»(.)1
ويذهــب جــون لــوك إىل أبعــد مــن ذلــك؛ حيــث إنــه يــرى أنــه ال ينبغــي
أن يُتســامح حتــى مــع مــن يريــد أن يخــرج عــن القانــون بســبب دعــوات
دينيــة أو التعصــب الدينــي؛ فيقــول« :أولئــك الذيــن يزعمــون باســم الديــن
أنهــم يتحــدون أيــة ســلطة ليــس لهــا عالقــة بتجمعهــم الكنــي ،أقــول :إن
هــؤالء ليــس لهــم الحــق أن يتســامح معهــم الحاكــم ،وكذلــك أولئــك الذيــن
ال يعلمــون لــزوم التســامح مــع كل البــر يف املجــال الدينــي ،فــا هــي داللــة
هــذه النظريــات التــي ال تشــر إال إىل أن أصحابهــا مســتعدون لالنقضــاض
عــى الحكــم يف أيــة مناســبة ،واالســتيالء عــى إقطاعيــات زمالئهــم وثرواتهــم،
ويطلبــون الصفــح مــن الحاكــم حتــى يصبحــوا مــن القــوة بحيــث يؤثــرون
يف الحكــم»(.)2
إن التســامح الــذي يـراد منــه أن يكــون وســيلة للفــوىض والتالعــب بالقوانــن،
واالســتيالء عــى الســلطة ،ال ميكــن التعامــل معــه بأخــاق العفــو والصفــح؛
ألن أرضاره عــى املجتمــع كبــرة ،وهــذا مــا أكــد عليــه اإلســام وأقــره يف
التعامــل مــع البغــاة كــا تقــدم.
ويتأكــد مبــا تقــدم أنــه كلــا اســتطاعت املجتمعــات امتثــال هــذه الضوابــط
يف تســامحها ،فمــن املؤكــد أن هــذه القيمــة ســتدوم بينهــا وتحافــظ عــى
اســتمراريتها ،وهــذا األثــر هــو الــذي اســتدعى عقــد املبحث اآليت يف اســتدامة
التســامح.
197
املبحث الثاين :استدامة التسامح اإلنساين
ملــا كان بنــاء التســامح وصيانتــه وضبطــه أساســا يف هــذه القيمــة األصيلــة؛
فــإن البحــث يف طــرق اســتدامته واســتمراريته ال يقــل أهميــة عــن ذلــك؛ ألن
عوامــل اســتقرار التســامح وازدهــاره مهمــة جــدا ،فهــو معــرض يف أي وقــت
للتقهقــر واالنحــدار واالرتــداد ،خاصــة وأنــه أخيــذ العواطــف واألنانيــات،
ـرس ويراقــب ،وتوضــع لــه معايــر قيــاس ارتفاعــه ونكوصــه؛ فقــد فــإذا مل يُحـ ْ
ينبــض وينحــر يف أي وقــت وزمــان.
إن تفــادي انهيــار التســامح يف املجتمعــات مــرده إىل األخــذ بأســباب تَ َ ـ ُّد ِد
هــذه القيمــة وانبســاطها وشــيوعها يف كل مفصــل مــن مفاصــل املجتمــع
وميادينــه ،وهــذه األســباب كثــرة ومتعــددة ،وســنقترص يف هــذا املبحــث
عــى عاملــن أساســن ذاتيــن يف بنيــة التســامح( ،)1نجعلهــا يف املطلبــن
اآلتيــن:
املطلب األول :الرتبية األخالقية ودورها يف استدامة التسامح
الحديــث عــن أهميــة اســتدامة التســامح يســتمد جســامته مــن التوجيهــات
الرشعيــة التــي تــويل املداومــة عــى األعــال الخــرة والفضائــل والقيــم عنايــة
كبرية.
إن مفهــوم االســتدامة ليــس مصطلحــا مســتعارا أو مســتوردا ،بــل هــو
مصطلــح رشعــي وأســاس يف بنــاء التســامح ،فقــد رغــب فيــه النبــي صــى
اللــه عليــه وســلم يف الحديــث املــروي عــن عائشــة ريض اللــه عنهــا ،قالــت:
ـال قــال رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم{ :أَ َحـ ُّ
ـب الْ َ ْعـ َـا ِل إِ َل الل ـ ِه ت َ َعـ َ
ـت الْ َع َمـ َـل لَ ِز َمتْـ ُه( .)2وروى أَ ْد َو ُم َهــاَ ،وإِ ْن قَـ َّـل} ،قــالَ :وكَانَـ ْ
ـت َعائِشَ ـ ُة إِذَا َع ِملَـ ِ
ــب ال َع َمــلِ إِ َل َر ُســو ِل اللَّــ ِه قالــت{ :كَا َن أَ َح ُّ
ْ البخــاري َعــ ْن َعائِشَ ــ َة ،أَنَّ َهــا
- 1ال شك أن هناك عوامل أخرى الستدامة التسامح؛ منها التعليم والشارع والوسط االجتامعي ،ولكن كل هذه العوامل
وسيلتها يف إشاعة التسامح ال تتجاوز الوسيلة الخلقية ،فالرتكيز يف هذا املبحث عىل الرتبية األخالقية شامل لتلك العوامل؛
ألنها يف الغالب إمنا تعتصم باألخالق من أجل تحقيق استقرار التسامح يف املجتمع.
اب الق َْص ِد َواملُدَا َو َم ِة َع َل ال َع َملِ :ج 8
- 2الحديث متفق عليه؛ البخاري ،الجامع الصحيح ،رقم )6464( :كتاب الرقاق ،بَ ُ
ص .98ومسلم ،الصحيح ،رقم .)783( :كتاب صالة املسافرين وقرصها ،باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغريه :ج
1ص .541
198
اح ُبـ ُه}( .)1فــإذا كانــت وظيفــة صــى اللــه عليــه وســلم الَّـ ِـذي يَـ ُدو ُم َعلَ ْيـ ِه َص ِ
االســتدامة مطلوبــة يف العبــادات؛ فإنهــا يف األخــاق والتعايــش مــع النــاس
أشــد طلبــا؛ ملــا فيهــا مــن التحمــل ،فقــد ذكــروا مــن اآلداب التــي يتــأدب بهــا
مــع اآلخــر :مالزمــة األخــوة ،واملداومــة عليهــا ،وتــرك امللــل ،قــال محمــد بــن
واســع« :وليــس مللــو ٍل صديـ ٌـق وال لحاسـ ٍـد غنــا ٌء»(.)2
ويف الرشيعــة اإلســامية نالحــظ مقارنــة التســامح باالســتدامة واملــوازاة
بينهــا ،مــا يــدل عــى ارتباطهــا وتكاملهــا ،وأن أحدهــا متمــم لآلخــر
وينبنــي عليــه ،فقيمــة التســامح ال تبلــغ الكــال والغايــة إال إذا تحقــق فيهــا
ـول اللَّـ ِه صــى اللــه عليــه وســلم قال: عنــر االســتدامة؛ ف َعـ ْن َعائِشَ ـ َة :أَ َّن َر ُسـ َ
ـب{س ـ ِّد ُدوا َوقَا ِربُــواَ ،وا ْعلَ ُمــوا أَ ْن لَـ ْن يُ ْد ِخـ َـل أَ َح َدكُ ـ ْم َع َملُـ ُه ال َج َّن ـ َةَ ،وأَ َّن أَ َحـ َّ
َ
األَ ْعـ َـا ِل إِ َل اللَّ ـ ِه أ ْد َو ُم َهــا َوإِ ْن قَـ َّـل}( ) .فبهــذا نؤســس لقاعــدة تســامحية؛
3 َ
وهــي أن التســامح ال غنــى لــه عــن االســتدامة ،فالتســامح واالســتدامة يســند
بعضهــا بعضــا ويعتمــد عليــه.
ولقــد تقــدم يف هــذا البحــث أن هــذه القيمــة هــي يف األصــل مــن طبــع
اإلنســان ،فنجــد قابليتهــا لــدى األطفــال الصغــار ،حينــا تبــدو يف أبــرز
صورهــا يف ذلــك الكائــن الصغــر الــريء ،الــذي مل تتلــوث فطرتــه بعــد؛ وتلــك
الحالــة هــي معيــار التســامح ،وقــد ُخلــق كل إنســان يف األصــل عــى وفقهــا
وحالهــا ،ويـراد منــه أن يســر عليهــا يف وجــوده كلــه ،وقــد بُعثــت الرســل مــن
أجــل تذكــره بــه؛ ألنــه قــد ينحــرف عنهــا ألســباب مكتســبة تنتمــي النحـراف
يف الفطــرة.
ويــأيت دور الرتبيــة األخالقيــة يف إكســاب التســامح ملــن ليســت لــه هــذه
القيمــة طبعــا ،فــا شــك أن لألخــاق طريقــن هــا الطبــع والتطبــع؛ والصورة
199
املثــى للتواصــل مــع النــاس تتمثــل يف قيمــة التســامح ،وتحقيق هــذه الصورة
املطلوبــة يكــون بإحيــاء الفطــرة الســليمة ،وتنشــيط دورهــا املعطــل بأســباب
عارضــة ،ويكــون ذلــك التفعيــل بإزالــة تلــك األســباب واملعوقــات.
وعنــد البحــث يف أســباب انح ـراف الفطــرة نلفيهــا متنوعــة؛ بــن األســباب
الواقعيــة وغــر الواقعيــة ،ونقتــر هنــا عــى ســببني؛ ألنهــا أكــر عالقــة
بالرتبيــة األخالقيــة .يقــول ابــن عاشــور يف بيانهــا« :ألن أســباب االنح ـراف
عــن الفطــرة الســليمة ال تعــدو أربعــة أســباب … :الثــاين :اكتســاب َرذائــل
مــن األخــاق مــن مخرتعــات قــواه الشــهوية والغضبيــة ،ومــن تقليــد غــره
بداعيــة استحســان مــا يف غــره مــن مفاســد يخرتعهــا ويدعــو إليهــا .الثالــث:
خواطــر خياليّــة تحــدث يف النفــس مخالفــة ملــا عليــه النــاس كالشــهوات
واإلفــراط يف حــب الــذات أو يف كراهيــة الغــر مــا توســوس بــه النفــس
فيفكــر صاحبهــا يف تحقيقهــا…»(.)1
وطريــق إقامــة هــذا االعوجــاج يف الفطــرة يكــون بالرتبيــة األخالقيــة عــى
التحــي مبحاســن األخــاق مــع اآلخــر محبــة وألفــة وشــفقة وحســن عــرة،
مبــرب؛ أب رحيــم ،أو معلــم
ٍّ والتخــي عــن مســاوئها ،وال يتحقــق ذلــك إال
شــفيق ،أو مذَكــر عليــم ،ليزيلــوا تلــك الحجــب عــن الفطــرة املنحرفــة.
إن اســتدامة التســامح بحاجــة إىل تفعيــل املنظومــة الخلقيــة كاملــة ،وعــدم
تعطيــل أي جــزء أو طــرف منهــا ،وال ميكــن أن نقتــر عــى خلــق واحــد دون
آخــر ،وانتظــار بنــاء خلــق التســامح عليــه ،ويعــود هــذا إىل دور األخــاق
يف التســامح وترابطهــا ،ورضورة التخلــق مبجمــل قيمهــا ،مــن أجــل تحقيــق
التســامح ،فــا تقـ ُّـل قيمــة عــن األخــرى أهميـ ًة ،فقيمــة الحــوار مــع األطفــال
منــذ الصغــر عــى ســبيل املثــال ،وترســيخ التســامح األرسي الــذي يعيشــه
األطفــال يف البيــت يوميــا ،ووقايــة األطفــال مــن مظاهــر العنــف ووســائله
وأدواتــه ،كلهــا أســاليب ُم ِعينــة عــى الرتبيــة األخالقيــة املعــززة لقيمــة
التســامح التــي ترتبــط عنارصهــا ،وينبغــي مراعاتهــا واألخــذ بهــا كلهــا مــن
أجــل أن تــؤيت مثارهــا.
200
وقــد بــن الراغــب األصبهــاين هــذا الرتابــط يف هــذه املنظومــة حيــث قــال:
«والعفــة إذا تقــوت ولــدت القناعــة ،والقناعــة متنــع عــن الطمــع يف مــال
الغــر فتولــد األمانــة ،والعدالــة إذا تقــوت تولــد الرحمــة ،والرحمــة هــي
اإلشــفاق مــن أن يفــوت ذا حــق حقــه ،فهــي تولــد الحلــم ،والحلــم يقتــي
العفــو ،واإلنســانية والكــرم يجمعــان هــذه الفضائــل»(.)1
وهــذه املنظومــة توصلنــا إىل أن أصــول األخــاق التــي تــؤدي إىل التســامح
وتنتجــه ترجــع إىل ثالثــة أصــول هــي ركائــز الرتبيــة األخالقيــة:
األصــل األول :تطهــر النفــس مــن األنانيــة والكــر والحســد ،وغمــط الحقــوق
واالعـراف لــكل ذي حــق بحقــه.
األصل الثاين :الحد من طمع النفس وجشعها وأداء حقوق الغري.
األصل الثالث :القناعة والرضا التي تولد العفو والحلم.
وتعــدد تلــك الفضائــل ودورانهــا كلهــا يف فلــك التســامح يــدل عــى مركزيــة
قيمــة التســامح يف األخــاق.
وهــذه األصــول األخالقيــة التــي ت ُولــد التســامح وتقويــه جمعهــا ابــن املقفــع
يف قانــون عــام يــرىب بــه املرتبــون ،ويتــأدب بــه املتأدبــون فقــال يف بــاب« :من
ـاس :مــن ذي فضــلٍ عليـ َـك ـت مــن النـ ِتصاحــب مــن النــاس :انظــر مــن صاحبـ َ
بســلطانٍ أو منزلـ ٍة ،أو مــن دو َن ذلــك من األكفــاء والخلطاء واإلخــوانِ ،فوطن
نفسـ َـك يف ُصحبتـ ِه عــى أن تقبــل منـ ُه العفـ َو وتســخو نفسـ َـك عــا اعتــاص
ٍ
مســتزيد؛ فــإن امل ُعاتبــ َة عاتــب وال مســتبطئ وال
ٍ َ
عليــك مــا قبلــ ُه ،غــر ُم
مقطع ـ ٌة للــو ّد ،وإن االســتزادة مــن الجش ـعِ ،وإن الرضــا بالعف ـ ِو وامل ُســامح ِة
ـرض واملــود ِةـوق إليـ ِه نفسـ َـك مــع بقــاء العـ ِ
ـرب لـ َـك كل مــا تشـ ُ
يف الخلــقِ مقـ ٌ
واملــروء ِة»( .)2فالرتبيــة األخالقيــة يف املعالجــة التســامحية مرتبطــة باآلثــار
عــى النفــس ،واآلثــار املتعديــة للغــر ،وهــذه املعالجــة تَخلــق لــدى اإلنســان
- 1ابن حزم؛ أبو محمد عيل بن أحمد بن سعيد بن حزم األندليس القرطبي الظاهري 456ه ،األخالق والسري يف مداواة
النفوس( ،دار اآلفاق الجديدة – بريوت – ط1399 ،2 .ه 1979 -م) ،ص .11
- 2ابن املقفع؛ عبد الله بن املقفع 142ه -األدب الصغري واألدب الكبري( ،دار صادر – بريوت) ،ص .25
201
املراقبــة الذاتيــة التــي ال تســتغني عنهــا ثقافــة التســامح واســتدامتها ،وهــذا
مــا يســمى بالضمــر األخالقــي ،وهــو ضمــر جمعــي ،ووازع قــادر عــى
توجيــه اإلنســان لفضائــل الخــر يف مجتمعــه ومــع النــاس كافــة ،بواســطة
تلــك األصــول األخالقيــة ،يقــول الشــيخ عبــد اللــه دراز« :ثــم هــو يتطلــب منــا
بعــد ذلــك الضمــر األخالقــي ،باملفهــوم األســمى لهــذه الكلمــة :رضــا القلــب،
وتلقائيــة الفعــل ،والــرور ،والهمــة التــي يــؤدى بهــا الواجــب»(.)1
ومثــرة الضمــر األخالقــي هــي الرقابــة الذاتيــة كــا تقــدم ،وهــي أســاس يف
مجــال الرتبيــة األخالقيــة ،وأصــل الضمــر األخالقــي مجمــع عليــه بــن ســائر
الديانــات والثقافــات ففــي الحديــث :أن النبــي صــى اللــه عليــه وســلم قــال:
َاص َن ـ ْع َمــا ِش ـئْ َت} {إِ َّن ِمـ َّـا أَ ْد َر َك ال َّنـ ُ
ـاس ِم ـ ْن كَال َِم ال ُّنبُ ـ َّو ِة ،إِذَا لَ ـ ْم ت َْس ـتَ ْح ف ْ
( .)2فالضمــر األخالقــي إنســاين وقيمــي ،يشــرك فيــه النــاس كلهــم مبختلــف
أديانهــم وثقافاتهــم ،وال يحتــاج لدافــع مــن ديــن أو ســلطة ،ومتــى وصــل
املجتمــع لهــذه املرتبــة باســتيقاظ ضمــره الخلقــي؛ كان يف مأمــن مــن ســفول
التســامح وهبــوط مســتواه ،وكان التســامح صفــة راســخة يف أفـراده ،ومظهـرا
مــن مظاهــر حضارتهــم ،وهــو مــا ســنحرره يف املطلــب القــادم.
202
فمفهوم «التواصل الحضاري
إن التواصــل الحضــاري بهــذا املفهــوم؛ مــن األســس املتينــة التــي تعــزز
القيــم اإلنســانية ،وترســخ التعايــش بــن الشــعوب املختلفــة ،وتــريس مبــادئ
التســامح ،وتعمــل عــى دميومتهــا وصريورتهــا؛ ألن التواصــل الحضــاري بــن
الشــعوب مبنــي عــى اإلميــان باالختــاف ،ويتجــاوز هــذا اإلميــان إىل توظيــف
االختــاف واســتثامره يف نفــع البرشيــة ،واألصــل يف هــذا قولــه تعــاىلَ ﴿ :و ِمــن
ـتلسـ َن ِتكُم َوأَل َٰونِ ُكــم إِ َّن ِف َٰذلِـ َـك لَ ٓيَٰـ ٖ
رض َوٱخ ِتلَٰـ ُـف أَ ِ
ٱلسـ َٰم َٰو ِت َوٱألَ ِ َءايَٰ ِتـ ِه َخلـ ُـق َّ
لِّل َٰعلِ ِمـ َن﴾( .)1فــا ميكــن تحقيــق التعــارف والتواصــل دون وجــود االختــاف،
وقــد جمــع اللــه بــن هاتــن الســنتني الكونيتــن يف آيــة الحج ـرات يف قولــه
َــى َو َج َعل َٰنكُــم شُ ــ ُعوبٗا ــاس إِنَّــا َخلَق َٰنكُــم ِّمــن َذكَــ ٖر َوأُنث ٰ تعــاىل﴿ :يَٰٓأَيُّ َهــا ٱل َّن ُ
َوقَ َبآئِـ َـل لِتَ َعا َرفُ ـ ٓوا ْ إِ َّن أَك َر َم ُكــم ِعن ـ َد ٱللَّ ـ ِه أَت َق ٰى ُكــم إِ َّن ٱللَّ ـ َه َعلِي ـ ٌم َخ ِب ـ ٞر﴾(.)2
فدلــت اآليــة عــى أن مــن مقاصــد كــون النــاس شــعوبًا وقبائــل مختلفــة هــو
التعــارف ،وأ َّن مامرســة التواصــل الحضــاري بــن الشــعوب املعــزز للتســامح
يتحقــق بوســائل متعــددة؛ مــن أهمهــا الحــوار وتبــادل الثقافــات واالنفتــاح
عــى اآلخــر .وقــد عقــد أبــو زهــرة مقارنــة بــن هــذه اآليــة وبــن قولــه تعــاىل:
ـس َٰو ِحـ َد ٖة﴾( .)3ليوضــح ـاس ٱت َّ ُقــوا ْ َربَّ ُكـ ُم ٱلَّـ ِـذي َخلَ َق ُكــم ِّمــن نَّفـ ٖ﴿يَٰٓأَيُّ َهــا ٱل َّنـ ُ
أن الصلــة بــن بنــي اإلنســان رجــوع للطبيعــة ،وتحقيــق لغايــة نبيلــة ،يقــول
أبــو زهــرة« :بيــد أن النــص الــذي نتحــدث عنــه يثبــت أن الذكــر واألنثــى مــن
طبيعــة واحــدة ،ويثبــت يف مضمونــه الصلــة الرحيمــة التــي تربــط النــاس
جمي ًعــا ،ومــا ينبنــي عليهــا مــن تعاطــف وتــواد وتراحــم ،والنــص اآلخــر يبــن
وجــوب التعــارف الــذي هــو الطريــق للرتاحــم والتــواد ،فهنــا بيــان الغايــة،
وهنالــك بيــان طريقهــا»(.)4
إن مــن مظاهــر التكريــم اإللهــي لإلنســان نعمــة التواصــل بينــه وبــن أخيــه
اإلنســان ،ألنــه بهــذا التواصــل يقــام العمــران ،وميتــد االجتــاع البــري،
203
فمقصــد التواصــل اإلنســاين مقصــد مهــم ،وتحقيــق التعايــش بــن النــاس
يرتبــط بحيــاة الجميــع ،ومــن ثــم كان وســيلة لبقــاء نــوع البــر ،فالتقاتــل
والتخاصــم والتقاطــع ناشــئ عــن النظــرة العدوانيــة املوجهــة للغــر ،وقــد
يــؤدي ذلــك إلذكاء الحــروب وفنــاء البــر ،فالتواصــل عــى هــذا فيــه قــوام
عيــش النــاس واســتمرارهم.
وانطالقــا مــن وحــدة أصــل اإلنســانية و َّجــه القــرآن الكريــم املســلمني -مــن
أجــل تحقيــق االنســجام بــن أفــراد هــذا الكــون -إىل النظــر وفــك قيــود
العقــل ،وخاطــب خاصــة أويل األلبــاب والبصــرة والتفكــر بالســر يف األرض؛
ألن ذلــك يحقــق لهــم منافــع كثــرة ،ومــن أهــم هــذه املنافــع هــذا التواصــل
الحضــاري املعــزز للتســامح ،فقــال تعــاىل﴿ :أَفَلَــم يَ ِس ـ ُروا ْ ِف ٱألَ ِ
رض فَتَ ُكــو َن
ـوب يَع ِقلُــو َن ِب َه ـآ أَو َءاذَا ٞن يَس ـ َم ُعو َن ِب َهــا فَ ِإنَّ َهــا َل تَع َمــى ٱألَبـ َٰ ُ
ـر لَ ُهــم قُلُـ ٞ
ٱلص ـ ُدورِ﴾( ) .يقــول ال ـرازي« :وأمــا قولــه: 1
ـوب ٱلَّ ِتــي ِف ُّ َولَٰ ِكــن ت َع َمــى ٱل ُقلُـ ُ
رض ث ُــ َّم ٱنظُــ ُروا ْ﴾( ) ،فمعنــاه إباحــة الســر يف األرض
2 ﴿قُــل ِســ ُروا ْ ِف ٱألَ ِ
للتجــارة وغريهــا مــن املنافــع»( ).
3
وال شــك أن أحــد معــززات هــذا التواصــل الحضــاري هــو الرحلــة يف طلــب
العلــم واملعــارف ،والســفر واالختــاط بالشــعوب األخــرى ،مــن أجــل الحصول
عــى أجــود مــا عندهــا وأفضلــه ،مــا يفيــد املجتمعــات يف املجــاالت املختلفة
مــن الشــؤون العلميــة والصحيــة والصناعــات ،وهــذا فــرض كفــايئ يجــب
عــى كل مجتمــع أن يحقــق كفايتــه منــه.
وأعظــم حكمــة مــن هــذه األســفار أن بهــا تكمــل األنفــس وتتســع املــدارك،
ويعــرف اإلنســان مقــداره ويتواضــع لآلخريــن ،ويتعــاون معهــم بعــد التعــرف
عليهــم ويســهم يف تصحيــح النظــرة الســلبية التــي قــد تكــون مســتقرة لــدى
هــذا اإلنســان ،وحينئــذ نكــون قــد وصلنــا لدرجــة يف التســامح قــد ال تنهــار
بعــد ذلــك؛ ألنهــا مؤسســة عــى أســس متينــة.
204
إن الجهــل باآلخــر وثقافتــه ومعارفــه ومعتقداتــه ال يســاعد عــى التســامح؛
فاملعرفــة لهــا دور أســاس يف انتشــار ثقافــة التســامح واســتدامتها ،وكل مــا
يكســب املعرفــة والوعــي الحضــاري مــا يــؤدي هــذا الــدور فهــو مطلــوب،
وقــد كانــت الحضــارة اإلســامية يف توجههــا مــع بــزوغ التاريــخ اإلســامي
لرتجمــة معــارف اآلخريــن واالطــاع عــى ثقافتهــم ت َ ْب ِنــي بتلــك الخطــوة
مظه ـرا حضاريــا عظيــا مــن مظاهــر التواصــل الحضــاري؛ فحركــة الرتجمــة
الواســعة يف العــر العبــايس ،واالطــاع عــى حضــارة اليونــان واقتبــاس
املعــارف والتجــارب النافعــة ليســتفيد منهــا املجتمــع املســلم ،كانــت قمــة
يف التســامح وقبــول اآلخــر ،والتقــدم الحضــاري لــدى املســلمني يف ذلــك
العــر ،فلــم متنعهــم األنفــة واالعتـزاز بتاريخهــم وثقافتهــم مــن األخــذ مــن
الحضــارات األخــرى مــا ينفعهــم ويســاعدهم عــى تقــدم مجتمعاتهــم علميًّــا
وفكريًّــا وحضاريًّــا وصناع ًّيــا.
يقــول أحمــد أمــن مشــي ًدا بالثقافــة اإلســامية يف هــذا التوجــه ،ومبينــا
مميــزات هــذه التجربــة وآثارهــا؛ أن الثقافــة اإلســامية إمنــا «اتجهــت إىل
االســتعانة بالفلســفة اليونانيــة والثقافــة الفارســية والهنديــة ،فــأن الديــن
حملهــا عــى ذلــك ،وطلــب منهــا أن تتطلــب العلم حيــث كان ،ومــن أي كائن
تأصلــت فيهــم ،فكانــوا إذا كان ،وقــد بــذر اإلســام يف نفــوس أصحابــه بــذورا ّ
اقتبســوا مــن الفلســفة اليونانيــة أو أيــة ثقافــة أخــرى مل يكونــوا مقلديــن
تقليــدا رصفــا ،إمنــا كانــوا دامئــا يعملــون العقــل فيــا نقلــوا ،ويعملــون
العقيــدة الدينيــة فيــا قــرأوا… والحــق أن فضلهــم عــى املدنيــة الحديثــة
كان مــن الناحيتــن جمي ًعــا :مــن ناحيــة حفظهــم لثقافــة غريهــم مــن األمــم،
ولوالهــم لضــاع كثــر منهــا ،ومــن ناحيــة مــا أنشــأوا وابتكــروا وبثــوا مــن روح
يف الثقافــات القدميــة .وقــد بــدأ علــاء أوربــا يبحثــون نواحــي تأثــر الثقافــة
اإلســامية يف الثقافــة األوربيــة»(.)1
إن التواصــل الحضــاري بــن الشــعوب جــر إلقامــة أيــة حضــارة إنســانية
متســامحة تنعــم باالســتقرار ،وتعــود بالنفــع والخــر عــى األطـراف املتواصلة،
- 1أحمد أمني؛ فيض الخاطر(مجموع مقاالت أدبية واجتامعية)( ،مكتبة النهضة املرصية ،القاهرة ،ط،3 .
1373ه-1953م) ،ج 10ص .118
205
وذلــك العتامدهــا الحــوار والتعايــش والتالقــي ،وإن الحضــارات املزدهــرة عــر
التاريــخ مل تكــن لتقــام وتحقــق مــا حققتــه لــوال أن التواصــل الحضــاري مــع
محيطهــا كان دعامــة مــن دعامئهــا ،ولهــذا كان اإلســام مركــزا عــى هــذا
املبــدأ ،فوفــر لــه كل ســبل النجــاح ،والترشيعــات الربانيــة والتوجيهــات
النبويــة كلهــا تحــض عــى تحقيقــه.
وأهــم عائــق يقــف اليــوم أمــام مبــدأِ التواصــل الحضــاري بــن الشــعوب
هــو القصــور املالحــظ يف جانــب تحــول هــذا املبــدأ إىل ســلوك لألفــراد
واملجتمعــات ،مــع صفــاء النوايــا والتخلــص مــن ترســبات املــايض الســلبية،
وإال فإنَّــه ال ميكــن بنــاء تســامح قــوي ممتــد عــر األزمــان والعصــور دون
تواصــل حضــاري نشــط.
«إن التواصــل أيًّــا كان ومــن حيــث املبــدأ هــو ســلوك حضــاري باملفهــوم
العميــق للحضــارة ،والعــامل اليــوم يف أشــد الحاجــة إىل هــذه األمنــاط مــن
الســلوك واملامرســات املتحــرة ،التــي مــن شــأنها أن تخفــف مــن أجــواء
التوتــر التــي تســود املجتمعــات اإلنســانية ،وتفتــح املجــال أمــام تعزيــز
التعــاون الــدويل عــن طريــق حــوار الثقافــات وتحالــف الحضــارات تدعيــا
للســام العاملــي»(.)1
ويف دراســتنا للنــاذج املعــارصة للتواصــل الحضــاري بــن الشــعوب والتســامح
اآلخــذ بكافــة األســباب ،واملحقــق لــروط االســتدامة ،نجــد دولــة اإلمــارات
العربيــة املتحــدة أمنوذ ًجــا حضاريــا محققــا لهــذه القيــم الكونيــة ،فــكان
الواجــب الوقــوف عــى هــذه التجربــة ودراســة أســباب تطورهــا ،وعنــارص
قوتهــا ،وهــو مــا ســيضطلع بــه البــاب الثالــث مــن هــذا البحــث بتوفيــق مــن
اللــه وعونــه.
206
البــاب الثالــث :التســامح وقيمــه يف املجتمــع اإلمــارايت؛
وفيــه ثالثــة فصــول:
الفصــل األول :الشــيخ زايــد رحمــه اللــه ودوره يف ترســيخ
ثقافــة التســامح يف املجتمــع اإلمارايت.
الفصــل الثــاين :الثقافــة املحليــة اإلماراتيــة وأثرهــا يف
إرســاء قيــم التســامح.
الفصل الثالث :الربنامج الوطني اإلمارايت للتسامح.
الفصــل األول :الشــيخ زايــد رحمــه الله ودوره يف ترســيخ
ثقافــة التســامح يف املجتمــع اإلمــارايت؛ وتحتــه مبحثان:
املبحــث األول :رؤيــة الشــيخ زايــد ودورهــا يف تحقيــق
التســامح.
املبحث الثاينِ :حكَم الشيخ زايد املؤسسة للتسامح.
الفصــل األول :الشــيخ زايــد رحمــه اللــه ودوره يف ترســيخ ثقافــة التســامح
يف املجتمــع اإلمــارايت
ـال راق ًيــا ،وأمنوذجــا ناص ًعــا ،وتطبي ًقــا عمل ًّيــا كاف ًيــا ،ملــا درســناه قــد ال نجــد مثـ ً
يف البابــن الســابقني مــن قيــم التســامح وأخالقــه؛ مثــل شــخصية الشــيخ زايــد
–طيــب اللــه ثــراه -الــذي يعــ ُّد يف هــذا العــر أمثولــة التســامح ،فــإرث
الشــيخ زايــد يتوفــر عــى نظريــة متميــزة كاملــة وشــاملة يف مجــال التســامح،
برســالتها وأهدافهــا ،ورؤيتهــا وأسســها ،وأركانهــا وقواعدهــا.
إن اللــه تعــاىل قــد جمــع للشــيخ زايــد أشــتات الفضائــل ،وجميــل الشــيم
والشــائل ،وامــن عليــه ســبحانه بتنشــئة أصيلــة؛ جمعــت لــه مــن قيــم
الديــن الحنيــف ،ومــن عــادات العــرب النبيلــة؛ قيـ ًـا جليلــة وعديــدة ،كانــت
هــي األســاس والجوهــر يف رســالة التســامح التــي كان يحملهــا الشــيخ زايــد
ويدعــو إليهــا ،فشــخصيته تعــد مــن الشــخصيات النــادرة ،التــي هي كالبلســم
لإلنســانية ،ومصــدر الخــر للبرشيــة؛ هيأهــا اللــه تعــاىل رأفــة بعبــاده ،ليســت
هــي مــن األنبيــاء ولكــن يصــدق عليهــا األثــر{ :قــوم حلــاء ُعلَـ َـاء كَا ُدوا أَن
يبل ُغــوا بفقههــم َحتَّــى يَكُونُــوا أَنْب َيــاء}(.)1
لقــد كان الشــيخ زايــد منــة ربانيــة عــى هــذا الوطــن ،إذ ال يرتــاب أحــد
مــن أبنــاء وطنــه أو غريهــم مــن الباحثــن والدارســن لشــخصيته أنــه رجــل
صنــع التاريــخ؛ ويكفــي يف صناعتــه للتاريــخ أنــه كان ســابقا لعــره بكثــر،
ويــرز هــذا الجانــب يف مجــال التســامح الــذي نعكــف اليــوم عــى االســتنارة
بحكمــه فيــه.
ويف هــذا الفصــل نُقــرر كيــف أصبــح الشــيخ زايد «أمثولــة التســامح» يف العرص
الحــارض ،بعــد أن جــاء إىل منطقــة ممزقــة ،قبائلهــا متفرقــة ،بــل متحاربــة فيام
بينهــا أحيانًــا ،ف َح َّولَهــا إىل رصوح حضاريــة ،ووطــن متحــد ،وشــعب متســامح
جــاذب لــكل مــن يريــد التســامح والحب والســام واالســتقرار.
ومن أجل تجلية القول يف هذا الفصل جعلته يف مبحثني ،وهام:
- 1السيوطي ،عبد الرحمن بن أيب بكر ،جالل الدين السيوطي 911ه ،الدر املنثور يف التفسري باملأثور( ،دار الفكر –
بريوت) ،ج 6ص .580
209
املبحث األول :رؤية الشيخ زايد التسامحية ودورها يف تحقيق التسامح
املطلب األول :رؤية الشيخ زايد التسامحية وأثرها يف املجتمع اإلمارايت
رؤيــة الشــيخ زايــد يف التســامح تســتمد أصالتهــا مــن اإلرث العميــق والثقافــة
العربيــة األصيلــة ،لهــذا فقــد حفــل ســجل الشــيخ زايــد مبنج ـزات ِقيَميــة
حضاريــة باهــرة ،دالــة عــى مــا كان يحملــه هــذا الرجــل يف قلبــه لهــذا العــامل
مــن اإلنســانية والرحمــة والرأفــة واملواقــف النبيلــة ،فقــد كانــت رؤية الشــيخ
زايــد نابعــة بالدرجــة األوىل مــن شــخصيته التســامحية امل ُحبــة للوحــدة
واالتحــاد ،والحريصــة عــى مل الشــمل وتوحيــد الصــف وتوفــر العيــش الرغيد
ألبنــاء وطنــه.
وإذا أردنــا اســتيعاب رؤيــة الشــيخ زايــد التســامحية وأصالتهــا وأبعادهــا؛ ال
بــد أن ننطلــق مــن شــخصيته املحبــة للخــر والســام ،النــارشة للرب واإلحســان،
املبــرة بــكل جميــل وحســن ،الجامعــة للشــيم النبيلــة ،هــذه الشــخصية
التــي أســهمت يف غــرس كثــر مــن القيــم والفضائــل يف أبنــاء وطنــه والعــامل
أجمــع ،وقــد شــهد لــه بهــذه الصفــة الحميــدة عارفــوه ومحبــوه ،يقــول عنــه
املقيــم الربيطــاين يف الخليــج لــوس« :رجــل ودود متســامح بطبيعتــه ،شــجاع
رصيــح كريــم ،يشــيد بكرمــه كل مــن عرفــه ،كــا أنــه يحــب شــعبه كث ـرا،
وتــواق ملســاعدته والعمــل عــى رفعتــه وازدهــاره»(.)1
وهــذه هــي املعجــزة يف تســامح الشــيخ زايــد ،فمــع كونــه زعيـ ًـا تاريخيــا
وقائـ ًدا سياســيا؛ كان أيضــا حكيــا ومفكـرا ،وال نجــد هــذه الصفــات تجتمــع
ألحــد تص ـ َّدر للتســامح.
فالشــيخ زايــد شــخصية متســامحة عظيمــة ،فريــدة مــن نوعهــا؛ فعنــارص
القــوة التــي تتميــز بهــا شــخصيته ،ومناصــب القيــادة التــي توالهــا ،وزعامتــه
التاريخيــة والقبليــة لقومــه ،كل ذلــك مل يؤثــر فيــه ،بــل بقــي وفيًّــا للســام
م ْؤثــرا الســاحة ،مقد ًمــا اللــن والرفــق يف كل املجــاالت؛ ســواء منهــا
الداخليــة والخارجيــة ،فخيــار الســام هــو الخيــار األنســب لشــخصيته ،وال
- 1املهريي فاطمة سهيل؛ زايد بن سلطان آل نهيان منظومته الفكرية وتوجهاته السياسية( ،العني ،مركز الخليج لألبحاث،
تاريخ النرش .)2005 :ص .19
210
يلجــأ إىل القــوة والشــدة إال يف املــاذ األخــر( ،)1وإلبــراز هــذه الشــخصية
التســامحية املتســامحة عنــد الشــيخ زايــد نذكــر هــذه الســات التــي تتميــز
بهــا شــخصيته:
شــخصية شــاملة وجامعــة؛ عندمــا يتحــدث علــاء النفــس عــن أنــواع
الشــخصيات ومســتوياتها عنــد الحاجــة لقيــاس التســامح؛ يذكــرون أن
التســامح يتعلــق بثالثــة مســتويات ،يتعلــق املســتوى األول بالســات،
واملســتوى الثــاين باالهتاممــات الشــخصية ،واملســتوى الثالــث بوقائــع الحيــاة،
وغالــب تســامح النــاس يقــع يف أحــد هــذه الدوائــر الثالثــة( ،)2أمــا الشــيخ
زايــد فتســامحه شــامل لهــذه املســتويات الثــاث؛ فالتســامح ســلوك فــردي
لــه ،وتحقيقــه يف الفــرد واملجتمــع مــن أبــرز اهتامماتــه التــي ع ِمــل عليهــا
طليــة حياتــه ،أمــا تطبيــق الشــيخ زايــد للتســامح يف حياتــه فحــدث عنــه وال
حــرج ،وهــا هــي القصــص الواقعيــة املاثلــة أمامنــا والتــي مــا زلنــا نرويهــا إىل
اليــوم أكــر شــاهد عــى ذلــك.
شــخصية منوذجيــة :يُ َعــد الشــيخ زايــد رحمــه اللــه قــدوة ومثَــا أعىل لشــعبه،
واألجيــال الالحقــة مــن بعــده ،فهــو رجــل جمــع بــن التجربــة والحكمــة،
والــرؤى الســديدة وبُعــد النظــر ،فكانــت شــخصيته التســامحية لهــا أثرهــا يف
مجتمعــه اآلين واملســتقبيل.
شــخصية خالــدة مســتدامة :وتســتمد عوامــل االســتدامة مــن رمزيــة الشــيخ
زايــد لهــذا املجتمــع والوطــن؛ فإرثــه يف التســامح ممتــد ،ورؤيتــه التســامحية
مــا هــي إال مثــرة شــخصيته؛ فــإذا كان الشــيخ زايــد يحمــل بــن جنبيــه قل ًبــا
متســام ًحا مح ًبــا للخــر؛ فإنــه رحمــه اللــه تعــاىل عمــل يف حياتــه عــى نــر
رســالة التســامح ،وكانــت اسـراتيجياته ونهجــه ســواء يف التعامــل مــع الداخــل
أو الخــارج ،مــا يربهــن عــى أنــه رحمــه اللــه كان يحمــل هــذه الرســالة
- 1مركز اإلمارات للدراسات والبحوث االسرتاتيجية ،بقوة االتحاد :صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان القائد
والدولة( ،أبوظبي :مركز اإلمارات للدراسات والبحوث االسرتاتيجية ،ط )2017 ،6 .ص .86
- 2ميشيل إماكلو ،كينت آبارجمنت ،كارل إثورسني ،ترجمة عبري أنور ،التسامح النظرية والبحث واملامرسة (القاهرة ،املركز
القومي للرتجمة الطبعة األوىل )2015ص .322
211
ويســعى لنرشهــا فهــي عنــده :إرث وواقــع ومســتقبل ،وتنطلــق هذه الرســالة
مــن أســس عــدة:
أولهــا :التســامح واجــب :وهــذا ركــن أســاس يف رؤيتــه ،انطالقــا مــن األســس
الدينيــة للتســامح؛ فرؤيــة الشــيخ زايــد رحمــه اللــه تنطلــق مــن أن التســامح
واجــب وليــس إحســانًا أو فضيل ـ ًة ،يقــول رحمــه اللــه« :التســامح واجــب،
ألن اإلنســان إنســان خلقــه اللــه ،إن كان مســلام أو غــر مســلم ،إنســان…
بــر»( .)1هنــا االنطالقــة لفهــم رســالة التســامح عنــد الشــيخ زايــد ،أمــا
النظريــات املتقدمــة يف التســامح لــدى الغــرب اليــوم؛ فإنهــا مل تتجــاوز بقيمــة
التســامح كونــه فضيلــة.
ثانيهــا :التســامح أولويــة رضوريــة؛ فــإذا كان واج ًبــا يف الجانــب الدينــي
فإنــه يف الجانــب العمــي أولويــة؛ فالشــيخ زايــد يف رؤيتــه دامئــا مــا يركــز
عــى األولويــات ،فلــم يكــن يف رؤيتــه تــرف أو فضــول؛ بــل إن كل القضايــا
التــي كان يركــز عليهــا لهــا أهميتهــا يف املــايض والحــارض واملســتقبل؛ ومــن
هــذه القضايــا مســألة التســامح .فعندمــا كان الشــيخ زايــد يؤســس لنظريــة
التســامح إمنــا كان يــرى أمــام عينيــه -برؤيتــه الثاقبــة -تلــك الثغ ـرات التــي
ميكــن أن تتــرب منهــا األخطــار ملجتمعــه ،فيحــاول إيجــاد العــاج والــدواء
لهــذه األخطــار ،وكان الــدواء الــذي يصفــه دامئــا ليكــون املجتمــع إيجاب ًّيــا ويف
صحــة وعافيــة ،هــو دواء التســامح فكانــت تلــك الرســالة املتألقــة يف اآلفــاق
إىل يومنــا هــذا.
ثالثهــا :أن التســامح طبيعــة فطريــة؛ كثــر مــن العلــاء والفالســفة يذهبــون
إىل أن التســامح فطــرة إنســانية ،وهــذا مــا بُنيــت عليــه رؤيــة الشــيخ زايــد
التســامحية ،فمــع أن التســامح ميكــن اكتســابه بالتخلــق بالفضائــل وإل ـزام
النفــس بالقيــم اإلنســانية؛ فلــم يكــن الشــيخ زايــد ليتكلــف التســامح بــل
كان لــه طبعــا وفطــرة ،وكان مذهبــه أنــه يفضــل الطبــع عــى التطبــع؛ ومــا
قــال يف ذلــك« :إن تحويــل البــر مــن عــادات إىل أخــرى ليــس بالتصــور
- 1جريدة الخليج ،محمد بن راشد :نحن عيال زايد نحمل قيمه وأخالقه وتسامحه وحبه لكل الناس ،جريدة الخليج
اإلماراتية (الشارقة) تاريخ النرش.2017 11 16 :
212
الســهل»( ،)1ألنــه يــرى أن طبــع اإلنســان يســتمر معــه دامئــا وال يفارقــه؛
أمــا التطبــع والتكلــف فقــد يتغــر بتغــر أســبابه ،وهــذه الرؤيــة تفيــد بــأن
التســامح عنــد الشــيخ زايــد مســتدام يقــول رحمــه اللــه« :اإلنســان يســتطيع
أن يكتســب صفــات ولكنهــا ال تكــون ملتصقــة بــه ألنهــا ال تكــون مــن طباعــه
وقدميــا قالــوا :غلــب الطبــع التطبــع ،فالطبــع هــو الــيء الوحيــد الــذي
يــازم اإلنســان طــوال حياتــه وال يفارقــه أبــدا»( ،)2فالتســامح عنــد الشــيخ
زايــد صفــة فطريــة أصيلــة ،وليســت مكتســبة أو متكلفــة ،وهــذا واضــح مــا
ســبق مــن وصــف شــخصيته.
راب ًعــا :رســالة الشــيخ زايــد التســامحية واقعيــة؛ تتميــز نظريــة التســامح عند
الشــيخ زايــد باملنهــج العلمــي الواقعــي الدقيــق والرؤيــة الواضحــة؛ فهــي
ليســت خياليــة أو ناشــئة عــن صدفــة ،فعندمــا نــدرس التســامح نقــف عنــد
الفالســفة واملفكريــن واملنظريــن يف هــذا املجــال مثــل فولتــر ،وجــون لــوك،
وجــون ســتيوارت ِمــل ،وننطلــق مــن آرائهــم نجدهــم منظريــن ،أمــا الشــيخ
زايــد فهــو ينطلــق مــن الواقــع ،وينــزل رســالته التســامحية عــى أرض الواقــع،
وهــذا ناشــئ مــن كــون الشــيخ زايــد عارفًــا مبجتمعــه ،مســترشفًا ملســتقبله،
قائــدا لــه ،محيطًــا بجميــع تفاصيلــه ،فهــو يف رؤيتــه ينطلــق مــن تصــورات
واقعيــة صحيحــة وســليمة ،بــل تجــاوز ذلــك ليخطــط لتســامح األجيــال
القادمــة ،فوضــع نظريــة كاملــة للتســامح برســالتها وأهدافهــا وأنواعهــا
ومجاالتهــا وأسســها.
خامســا :رؤيــة التســامح عنــد الشــيخ زايــد بوصلــة؛ لتحديــد الوجهــة، ً
ومنصــة لالنطــاق الحضــاري والبنــاء ،وتحقيــق أهــداف كــرى للوطــن
واإلنســان ،فلذلــك كان الشــيخ زايــد يف تأسيســه لنظريــة التســامح يركــز
عــى األجيــال القادمــة؛ ألن ذلــك يشــكل أساســا حضاريــا وتاريخيــا الرتبــاط
هــذه الدولــة بالتســامح واســتدامته ،فليــس التســامح عنــده فكــرة متــر مــرور
الك ـرام ،بــل هــي خارطــة طريــق متهــد درب التســامح لألجيــال ،وهــذا مــا
أثبتتــه األيــام وهــو مــا نعيشــه اليــوم ،فقــد أصبحــت دولــة اإلمــارات بهــذه
213
الرؤيــة التســامحية املبكــرة عــى رأس الــدول يف مقيــاس التســامح ،وخصصــت
مؤسســات رســمية وفكريــة وعلميــة لــإرشاف عــى التســامح ،وبنــت خطابها
الدينــي عــى التســامح ،وربــت أجيالهــا عــى قيــم التســامح ،كل ذلــك نتيجــة
هــذه الرؤيــة الدقيقــة ،والوصايــا الحميــدة امللهمــة.
ومــن خــال مــا تقــدم يف وصــف مميـزات شــخصية الشــيخ زايــد التســامحية
والوقــوف عــى مرتك ـزات رؤيتــه؛ فــإن الجميــع يتفــق أن الشــيخ زايــد هــو
أبــو التســامح يف املجتمــع اإلمــارايت ،وأن هــذا املجتمــع يعيــش اليــوم ذلــك
املســتقبل الــذي كان يخطــط لــه الشــيخ زايــد ،يف ظــل التشــبث بالعــادات
والتقاليــد ،ومعانقــة التقــدم الحضــاري ،والتنــوع الثقــايف ،املتشــبع بشــخصيته
التســامحية رحمــه اللــه تعــاىل.
ويكفيــه أنــه هــو الــذي كان وراء الوحــدة واالتحــاد واملصالحــة التاريخيــة بني
مختلــف القبائــل ،فــكان ميــارس التســامح بأوســع مظاهــره ،وبهــذه الرؤيــة
التــي اســتظلت بهــا هــذه الدولــة؛ غــدت مقصــدا للعــامل أجمــع؛ ملــا تتميــز
بــه مــن االســتقرار والســام ،واســتقر فيهــا ماليــن القاصديــن واملغرتبــن مــن
مختلــف الجنســيات ،وكان الشــيخ زايــد وهــو يســتقبل هــذه الوفــود يف
بلــده فرحــا مــرورا ي ُعــد ذلــك مــن نعــم اللــه عــى هــذه البــاد فيقــول
رحمــه اللــه تعــاىل« :نحــن أبنــاء الخليــج الذيــن فتحــوا قلوبهــم وصدورهــم
وبيوتهــم ملئــات اآلالف مــن إخواننــا يف اإلنســانية بفضــل مــا أنعــم اللــه عــز
وجــل علينــا مــن نعمــه وخرياتــه يف هــذه األرض الطاهــرة»( ،)1وهــذه قــوة
التســامح اإلمــارايت وقدرتــه الفائقــة عــى التعايــش مــع مختلــف الثقافــات،
مــع الحفــاظ عــى األجيــال الصاعــدة املتعلقــة مبجدهــا وتاريخهــا وثقافتهــا.
فــكان لهــذه الرؤيــة الثاقبــة آثــار عــى املجتمــع اإلمــارايت ومــا زال يحصــد
مثارهــا إىل اآلن ،ومــن هــذه اآلثــار التــي حققهــا وكان للتســامح فيهــا دور:
- 1إصالحه بني القبائل املتنافرة يف هذه املناطق العربية.
- 2قيادته اتحاد دولة اإلمارات بالتعاون مع شيوخ اإلمارات اآلخرين.
214
- 3جعلــه التســامح منهجــا وثقافــة وطنيــة رســخها يف أبنــاء هــذا الوطــن يف
التعامــل مــع اآلخريــن.
- 4تأسيســه أمنوذجــا ملهــا يف التســامح قابــا للتطبيــق ،ومــا زال فاعــا إىل
يومنــا هــذا.
- 5إقامتــه أمنوذجــا تنمويــا فريــدا ،مســتوعبا للتنــوع ،قابــا للتعايــش،
منفتحــا عــى جميــع الثقافــات.
- 6وضعــه قوانــن تحمــي التعدديــة الدينيــة والعرقيــة والتعايــش بــن
الجنســيات املختلفــة(.)1
ومل تقتــر هــذه الرؤيــة الفريــدة عــى حــدود دولــة اإلمــارات العربيــة
املتحــدة؛ فقــد تجاوزتهــا إىل فضــاءات أوســع ،ودول مختلفــة ،وصلهــا منهــا
حظهــا ونصيبهــا ،وهــذا مــا سنشــر إليــه يف املطلــب الثــاين مــن هــذا املبحث.
- 1ينظر :مسرية زايد بناء اإلنسان وتأسيس البنيان( ،أبوظبي ،مركز اإلمارات للدراسات والبحوث االسرتاتيجية ،الطبعة
األوىل .)2018ص 90
215
األخويــة؛ يقــول رحمــه اللــه تعــاىل« :الحقيقــة أننــا نســعى دامئــا أن تكــون
عالقاتنــا مــع جرياننــا قامئــة عــى أســاس مــن التفاهــم التــام ،والروابــط
األخويــة القويــة املتينــة ،وال ميكــن أن نســعى يف يــوم مــن األيــام إىل مــا
يــيء إىل أصدقائنــا أو جرياننــا»( ،)1فكانــت لغــة الــود والســام والتفاهــم
والتعــاون يف العالقــات بــن الــدول هــي التــي يتقنهــا الشــيخ زايــد؛ ألن
يف ذلــك تحقي ًقــا للخــر واملصلحــة للجميــع ،والبعــد عــن العنــف والقــوة،
يقــول الشــيخ زايــد يف هــذا النــص الفريــد الــذي ســبق معنــا توظيفــه ســابقا:
«وهنــاك مــن يعتقــد أن حــل أي مشــكلة ال يكــون إال بالقــوة ،وهــذا غــر
صحيــح ولكــن الصحيــح أن تحــل األمــور بالتفاهــم بــن األصدقــاء والتــداول
بــن النــاس يجــب أن يفكــر كل منــا يف مــا يفيــد ويف مــا يوفــر الخــر ألمتــه
ونفســه ســواء للصديــق الجــار أو للبعيــد خصوصــا يف هــذا الوقــت ،لقــد
تطــورت املواصــات ومل يعــد يف العــامل موقــع بعيــد وآخــر قريــب ،بــل أصبــح
البعيــد قري ًبــا ونتــج عــن هــذا مــا ن ـراه اآلن ،فالــرق يتعامــل مــع الغــرب
والغــرب يتعامــل مــع الــرق كالهــا بعيــد عــن اآلخــر ،ويبقــى أقــى الدنيــا
وبينــه وبــن اآلخــر مســاحات ومســافات ،ولكــن الصداقــة تقــود والتعــاون
يــزداد وتنمــو بينهــم املصالــح والعالقــات االقتصاديــة»( .)2هــذا النــص مــن
أبلــغ نصــوص الشــيخ زايــد يف التســامح؛ ألن فيــه اســترشافًا للمســتقبل،
فحــن قــال هــذا الــكالم مل يكــن حينئــذ هــذا التقــدم يف االتصــاالت واالنفتــاح
الرسيــع بــن مختلــف الــدول واملجتمعــات.
ومــن املجــاالت التــي ســعى الشــيخ زايــد رحمــه اللــه لريســخ فيهــا تســامحه
العاملــي؛ مجــال العمــل اإلنســاين ،الــذي كان قائــده الفــذ ،فأعطــى للجميــع
مــن غــر منــة ،وكان مشــغوال بتخفيــف آالم اآلخريــن ومســاعدتهم ،ومــد
يــد العــون لهــم ،مــا جعلــه رجــا مقبــوال ومحبوبــا مــن الجميــع ،وهــو يف
مســاعدته لآلخريــن يــرى أنــه إمنــا يــؤدي واجبــه الدينــي ،ويــريض ضمــره
اإلنســاين ،يقــول رحمــه اللــه« :إننــا يف دولــة اإلمــارات ال ندعــي رشفــا أو
- 1صحيفة الخليج ،زايد رجل سالم نبذ اإلرهاب وأسس مجتمعه عىل املساواة والعدالة .صحيفة الخليج اإلماراتية،
(الشارقة) تاريخ النرش.2018 09 22 :
- 2نبيل راغب ،أصول الريادة ،ص .279
216
ننتظــر مجــدا أو ســمعة عندمــا تحركنــا إىل جانــب عــدد كبــر مــن املنظــات
واملؤسســات الدوليــة والشــعبية العامليــة ،ملــد يــد املســاعدة والعــون لالجئــن
يف مناطــق كثــرة يف أنحــاء املعمــورة»( ،)1وأكــد الشــيخ زايــد للمفــوض
الســامي لشــؤون الالجئــن باألمــم املتحــدة «أن دولــة اإلمــارات ســتظل عونــا
دامئــا لنشــاطات املفوضيــة يف رعايــة الالجئــن؛ ألن ذلــك دور هــام ومســؤولية
إنســانية كــرى»(.)2
ومل تكــن االختالفــات ســواء كانــت دينيــة أو عرقيــة لتؤثــر عــى الشــيخ زايــد،
فــكان التســامح عملتــه للتعامــل مــع جميــع ســكان هــذه األرض؛ يقــرر أن
النــاس سواســية ال فــرق بينهــم ،وأنــه يجــب التعــاون بــن أبنــاء اإلنســانية
مــع أن دولهــا وانتامءاتهــا مختلفــة ،بــل يصحــح بعــض املفاهيــم الخاطئــة
التــي تنســبها بعــض األفهــام القــارصة لإلســام ،فيقــول رحمــه اللــه تعــاىل:
«إننــا جمي ًعــا عــى هــذه األرض قــد خلقنــا اللــه تعــاىل وســاوى بيننــا وكانــت
مشــيئته أن يخلقنــا أجناســا وديانــات مختلفــة .إن تعاليــم ديننــا تنــادي
بالتعــاون مــع كل إنســان مهــا كانــت ديانتــه»( ،)3فبهــذا يقــرر الشــيخ
زايــد أن الديــن ال ميكــن أن يكــون وســيلة لقطــع التواصــل بــن النــاس ،ألن
التعــاون بــن البرشيــة هــو الــذي يحقــق لهــا مصالحهــا ومعايشــها ،ثــم يؤكــد
هــذا املعنــى مبقارنتــه بــن حاجــة اإلنســان ألخيــه اإلنســان وحاجتــه ألقاربــه،
يف تشــبيه بديــع يقــرب درجــة التعايــش التــي ينبغــي أن تكــون بــن العــامل
مبختلــف دولــه؛ يقــول رحمــه اللــه« :ال ميكــن ألي إنســان أن يعيــش منعــزال
عــن اآلخريــن ،فكــا أن اإلنســان يحتــاج إىل عائلتــه وأقاربــه؛ فهــو بالقــدر
ذاتــه يف حاجــة إىل التعــاون والصداقــة مــع مناطــق أخــرى قريبــة أو بعيــدة،
لقــد خلــق اللــه النــاس ليعيشــوا مــع بعضهــم ،بغــض النظــر عــن مركزهــم
يف الحيــاة»(.)4
- 1الظاهري ،نورة جوعان ،السياسة السلمية للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان( ،أبوظبي ،نادي تراث اإلمارات -مركز زايد
للدراسات والبحوث ،الطبعة األوىل )2018ص .288
- 2نفسه ،ص .289
- 3نبيل راغب ،أصول الريادة ،ص .151
- 4نفسه ،ص .42
217
ومــن أهــم املجــاالت التــي أســهم فيهــا الشــيخ زايــد ،والتــي تــدل عــى ســداد
تســامحه وصوابــه مجــال الحــوار الحضــاري؛ فكانــت هــذه اآليــة أمــام عينيــه،
ينطلــق منهــا ،ويتمثلهــا يف حياتــه ،وهــي قولــه تعــاىل﴿ :يَٰٓأَيُّ َهــا ٱل َّنـ ُ
ـاس إِنَّــا
َخلَق َٰن ُكــم ِّمــن َذكَ ـ ٖر َوأُنثَـ ٰ
ـى َو َج َعل َٰن ُكــم شُ ـ ُعوبٗا َوقَ َبآئِـ َـل لِتَ َعا َرفُ ـ ٓوا ْ إِ َّن أَك َر َم ُكــم
ِعنـ َد ٱللَّـ ِه أَت َق ٰى ُكــم إِ َّن ٱللَّـ َه َعلِيـ ٌم َخ ِبـ ٞر﴾(.)1
ومــن هــذا املنطلــق فتــح الشــيخ زايــد –طيــب اللــه ثــراه -املجــال أمــام
مختلــف رجــال الديــن مــن الديانــات الســاوية للقائــه والتشــاور معــه فيــا
يهمهــم ،فــكان يســتقبل رؤســاء الكنائــس يف دولــة اإلمــارات والخليــج العــريب،
وتســلم رســائل مــن البابــا بولــس الســادس ،يؤكــد فيهــا التآخــي بــن األديــان،
واســتقبل رحمــه اللــه ســفري الفاتيــكان ،وهــذه كلهــا مبــادرات مبكــرة
وخطــوات تؤســس للتعايــش والتســامح ،وتــرز دولــة اإلمــارات لــدى الخــارج
رائــدة يف هــذا املجــال(.)2
وكان الشــيخ زايــد رحمــه اللــه ســباقا يف املنطقة لتأســيس عالقات مــع األديان
األخــرى ،وليــس هــذا بغريــب عــى دولــة اإلمــارات حيــث تــدل االكتشــافات
التاريخيــة أن هنــاك أديــرة ومســيحيني كانــوا يجــاورون املســلمني يف هــذه
املنطقــة كــا يــدل عــى ذلــك هــذا النــص الــذي عــر عــن جهــود الشــيخ
زايــد واهتاممــه بشــتى األديــان( :وضمــن صــور التســامح ،التــي أوالهــا
القائــد املؤســس العنايــة منــذ قيــام الدولــة ،توجيهاتــه يف ،1974ببنــاء 3
كنائــس ،لتخــدم الطوائــف املســيحية مبدينــة أبوظبــي ،وهــي كنيســة القديس
جوزيــف الكاثوليكيــة ،وكنيســة القديــس أنــدرو اإلنجليكية ،وكنيســة القديس
جــورج للهنــود الرسيــان .ويف نفــس العــام ،كلــف األنبــا باســيليوس ،القمــص
أثناســيوس املحرقــي راعــي الكنيســة القبطيــة األرثوذكســية بالكويــت ،بإقامــة
صــاة القــداس اإللهــي بأبوظبــي ،وتوجــه األب أثناســيوس بعدهــا إىل اإلمــارة،
لعمــل أول قــداس لألقبــاط مبدينــة أبوظبــي .واســتقبل القائــد املؤســس يف
الـــ 30مــن أكتوبــر عــام ،1995البابــا شــنودة الثالــث يف أول زيــارة يقــوم
218
بهــا لدولــة اإلمــارات ودول الخليــج العــريب ،وذلــك بدعــوة منــه ،حيــث ضــم
الوفــد املرافــق للبابــا وقتهــا األنبــا رسابيــون األســقف العــام ،واألنبــا أبراهــام،
واألب القمــص بطــرس األنبــا بيشــوي ،والقــس تومــاس راعــي كنيســة ديب.
ويف عــام ،1999وافــق القائــد املؤســس عــى طلــب مــن الكنيســة ،بتخصيــص
قطعــة أرض إلقامــة مبنــى الكاتدرائيــة القبطيــة األرثوذكســية املرصيــة ،حيث
قــدم البابــا شــنودة رســالة شــكر ،أكــد خاللهــا تثمينــه البالــغ لــكل عالقــات
الحــب واملــودة التــي توليهــا دولــة اإلمــارات للمقيمــن عــى أرضهــا ،ومنهــم
األقبــاط املرصيــون.
وحــرص املغفــور لــه ،الشــيخ زايــد بــن ســلطان آل نهيــان ،طيــب اللــه ثـراه،
عــى االهتــام باآلثــار املوجــودة للديــر املســيحي يف جزيــرة «صــر بنــي
يــاس» بأبوظبــي ،منــذ اكتشــافه يف عــام ،1992خــال عمل َّيــات التنقيــب
عــن مواقــع أثريــة جديــدة ،ويشــر باحثــون أن الديــر أســس يف نهايــة
القــرن الســادس امليــادي ،وتــم هجــره نحــو عــام 750ميالديــة ،حيــث يقــع
يف الجانــب الرشقــي مــن جزيــرة صــر بنــي يــاس ،وتتجــه بوابتــه الرئيســة
نحــو الــرق بالقــرب مــن خــور صغــر عــى الشــاطئ ،الــذي يبعــد بضــع
مئــات مــن األمتــار ،وكان ســكان هــذه الرهبانيــة ينتمــون إىل كنيســة الــرق،
حيــث كان لهــم دور فاعــل يف حركــة التجــارة البحريــة املمتــدة مــن أقــى
شــال الخليــج إىل الهنــد ،كــا أســهموا يف تجــارة اللؤلــؤ التاريخيــة يف منطقــة
الخليــج العــريب.
ويعــد االهتــام بهــذا املوقــع دليــا عــى التــزام الدولــة بحفــظ آثارهــا
وتاريخهــا ،خاصــة لتلــك املواقــع التــي متثل قيــم التســامح والتعايش والســام،
حيــث يعتــر اكتشــاف الكنيســة والديــر مبثابــة دليــل عــى وجــود مجتمــع
مســيحي يف صــر بنــي يــاس يف ذلــك الوقــت ،جنبــا إىل جنــب مــع الســكان
املســلمني ،وهــو يعكــس روح التســامح الدينــي والتعايــش الســلمي الســائدة
بــن الطوائــف الدينيــة املتنوعــة)(.)1
- 1الجابري نارص ،زايد آمن بالتسامح وجعل من اإلمارات مركزا لإلشعاع الحضاري يف املنطقة والعامل ،صحيفة االتحاد
اإلماراتية( ،أبوظبي) تاريخ النرش 14 :نوفمرب .2018
219
وإن مــن أشــهر مواقــف الشــيخ زايــد رحمــه اللــه يف دعــم الحــوار الحضــاري
العاملــي املتســامح املعــزز للتعايــش؛ مــا أقــدم عليــه مــن التكفــل برتميــم
كنيســة املهــد بعــد االعتــداء عليهــا مــن قبــل الغاصبــن ،وإصابتهــا بــأرضار
جســيمة ،ويف الوقــت نفســه تكفــل برتميــم مســجد عمــر ،الــذي مل يكــن
بعيــدا كث ـرا عنهــا ،يف خطــوة تربهــن عــى هــذا التســامح النموذجــي مــن
القائــد الــذي يحمــل رؤيــة حكيمــة ،تجمــع وال تفــرق ،وتنــر الســعادة يف
كل مــكان(.)1
وذروة هــذه الرؤيــة أن الشــيخ زايــد –طيــب اللــه ثـراه -مــن أوائــل مــن دعــا
العــامل إىل التعــاون يف مكافحــة اإلرهــاب واســتعداد دولــة اإلمــارات لبــذل
الجهــود يف ذلــك وقــال كلمتــه الشــهرية« :إن اإلرهــاب بغيــض مــن وجهــة
نظــر اإلســام والديانــات الســاوية األخــرى ،وهــو عــدو لــدود لإلنســانية
جمعــاء»(.)2
فهــذه معــامل رؤيــة الشــيخ زايــد وجذورهــا الثقافيــة وفروعهــا الدانيــة ،وأثرها
املجتمعــي والتزامهــا العاملــي ،وهــي متناســقة مــع محيطهــا ،مســترشفة
ملســتقبلها ،مســتجيبة لجميــع احتياجاتهــا ،وقــد أمثــرت مثــا ًرا يانعــة ســنقطف
بعضهــا يف الفصلــن القادمــن.
220
املبحث الثاينِ :حكَم الشيخ زايد املؤسسة للتسامح
املطلب األول :حكم الشيخ زايد الواردة يف التسامح
بــن مفهــوم هــذا املصطلــح وحــدد مكوناتــه بدقــة، إن الشــيخ زايــد قــد َّ
يقــول رحمــه اللــه« :أهــم نصيحــة أوجههــا ألبنــايئ هــي البعــد عــن التكــر،
وإميــاين بــأن الكبــر والعظيــم ال يصغــره وال يضعفــه أن يتواضــع ويتســامح
مــع النــاس ،ألن التســامح بــن البــر يــؤدي إىل الرتاحــم ،فاإلنســان يجــب أن
يكــون رحيـ ًـا ومســامل ًا مــع أخيــه اإلنســان»(.)1
وبــن رحمــه اللــه ُحكــم التســامح معلـ ًـا إيــاه بكــون مصــر النــاس واح ـ ًدا،
فقــال« :نحــن مســلمون ،ويجــب أن نتســامح مــع بعضنا البعــض ،وأن يتغاىض
األخ عــن خطــأ أخيــه ،ونعطيــه الفرصــة للتســامح والغف ـران ،إن التســامح
والرتاحــم أمــر واجــب مــن أجــل املوقــف الواحــد؛ ألن املصــر واحــد»(.)2
فهــذا املصطلــح إذن قــد اســتعمله الشــيخ زايــد وتناولــه يف مجموعــة مــن
حكمــه( ،)3قبــل أن يتحــدث النــاس يف هــذه املنطقــة عــن هــذا املصطلــح
أو يوظفــوه.
وكــا هــو معلــوم لــدى الباحثــن؛ هنــاك جدل بــن مختلــف املــدارس الغربية
وحتــى الرشقيــة يف تحديــد مفهــوم التســامح ،وماهيتــه ،والعنــارص األســاس
فيــه ،ويف تحليلنــا لفهــم الشــيخ زايــد ملصطلــح التســامح نجــده ينــص عــى
العنــر املهــم فيــه وهــو االحـرام ،والباحثــون يف التســامح اليــوم يؤكــدون أن
هــذا العنــر هــو أهــم عنــارص التســامح ،كــا تقــدم يف تعريــف هيئــة األمم
املتحــدة لهــذا املصطلــح ،فيقــول الشــيخ زايــد رحمــه اللــه« :إن اإلســام عــى
- 1عبد املجيد املرزوقي؛ ثنائية السعادة والتسامح يف أسس التعايش وصناعة الحياة( ،دار هامليل ،أبو ظبي ،ط،1 .
1437ه-2016م) ،ص .91
- 2الفرائد من أقوال الشيخ زايد( ،مركز الوثائق والبحوث ،اإلمارات2001 ،م) ،ج 4ص .90وكان هذا الكالم مع أعضاء
املجلس الوطني ورئيسه ،كام يف االتحاد اإلماراتية ،بتاريخ1998 /1/5 :م ،وهي جريدة يومية مطبوعة وإلكرتونية( ،رشكة أبو
ظبي لإلعالم ،صدرت 20أكتوبر 1969م).
- 3نجد هذا املصطلح متداوال وشائعا يف أحاديث الشيخ زايد ،ويصعب استقصاؤه وتتبع استعامالته ،إال أنه ال يخرج
عن مفهوم التسامح الذي حددناه يف هذا البحث ،وسيتكرر هذا املصطلح يف هذا املبحث وشيوعه يف حديث الشيخ زايد
مالحظ ،مع أنه مل يكن يف ذلك الوقت مثار دراسة وبحث.
221
ســبيل املثــال هــو الــذي يطلــب مــن كل مســلم أن يحــرم كل شــخص وليــس
بالتأكيــد أشــخاصا معينــن بــل كل شــخص»( .)1فهــذا هــو مفهــوم التســامح
عنــد الشــيخ زايــد.
وألن االختــاف إمنــا يعالــج بالحــوار الــذي يقــود للتســامح والتفاهــم؛ كانــت
نصــوص الشــيخ زايــد يف التوجيــه للحــوار متعــددة مثــل قولــه« :إن الشــباب
يف حاجــة دامئًــا إىل الحــوار البنــاء ،ويف حاجــة إىل قناعــة بالــرأي الصائــب
والتوجــه الســليم ،وليــس باإلرهــاب»( ،)2وقــال« :إن الخــاف يف الــرأي يقودنا
إىل الحــوار والبحــث الــذي يوصلنــا يف النهايــة إىل مــا هــو أفضــل وأفضــل»(.)3
وحــذر رحمــه اللــه مــن خطــورة الخالفــات عــى مســتقبل الشــعوب« :إن
الخالفــات تحــرم شــعوبها مــن الفــرص الطيبــة لكســب العيــش ومــن التقــدم
واالزدهــار»(.)4
ويقــول رحمــه اللــه يف تربئــة الديــن مــن التمييز العنــري« :إن اإلســام يدعو
لجمــع الصفــوف وااللتحــام والوحــدة ،التــي تعــد مــن ركائــز الديــن اإلســامي
الحنيــف ،وهــذا ال يعنــي أن التحــام الــدول اإلســامية يوجــب ابتعادهــا عــن
الــدول والديانــات األخــرى ،العكــس هــو الصحيــح؛ إننــا جمي ًعــا عــى هــذه
األرض قــد خلقنــا اللــه تعــاىل وســاوى بيننــا وكانــت مشــيئته أن يخلقنــا
أجناســا وديانــات مختلفــة .إن تعاليــم ديننــا تنــادي بالتعــاون مــع كل إنســان
مهــا كانــت ديانتــه»( .)5يف إشــارة منــه إىل قــول اللــه تعــاىل﴿ :يَٰٓأَيُّ َهــا ٱل َّنـ ُ
ـاس
إِنَّــا َخلَق َٰن ُكــم ِّمــن َذكَـ ٖر َوأُنثَـ ٰ
ـى َو َج َعل َٰن ُكــم شُ ـ ُعوبٗا َوقَ َبآئِـ َـل لِتَ َعا َرفُـ ٓوا ْ إِ َّن أَك َر َمكُم
ِعنـ َد ٱللَّـ ِه أَت َقىٰ ُكــم إِ َّن ٱللَّـ َه َعلِيـ ٌم َخ ِبـ ٞر﴾( ).
6
نبيل راغب؛ أصول الريادة ،دراسة يف فكر الشيخ زايد( ،املجمع الثقايف ،أبو ظبي ،ط1995 ،1 .م) ،ص .147 -1
نفسه ،ص 358 -2
نبيل راغب؛ أصول الريادة ،دراسة يف فكر الشيخ زايد ،ص 327 -3
نبيل راغب؛ أصول الريادة ،ص .280 -4
نفسه ،ص .151 -5
سورة الحجرات؛ اآلية.13 : -6
222
ومثــرة التســامح عنــد الشــيخ زايــد إمنــا تــرز وتنمــو بإقامــة عالقــات متميــزة
مــع الجميــع ،وهــذا مــا كان الشــيخ زايــد يدعــو إليــه يف حكمــه ،مثــل قولــه:
«فعــى اعتبــار أننــا جــزء مــن هــذا العــامل الكبــر؛ فعلينــا واجــب نحــو
البرشيــة ،نتعــاون معهــا ،ونتعامــل معهــا كبــر ،نحرتمهــم كبــر ،ويحرتموننــا
كبــر ،ونكــن لهــم بقــدر مــا يكنــون لنــا مــن صداقــة وود»(.)1
وقــال أيضً ــا« :وهنــاك مــن يعتقــد أن حــل أي مشــكلة ال يكــون إال بالقــوة؛
وهــذا غــر صحيــح ،ولكــن الصحيــح أن تحــل األمــور بالتفاهــم بــن األصدقــاء
والتــداول بــن النــاس ،يجــب أن يفكــر كل منــا يف مــا يفيــد ويف مــا يوفــر الخري
ألمتــه ونفســه ،ســواء للصديــق الجــار أو للبعيــد ،خصوصــا يف هــذا الوقــت،
لقــد تطــورت املواصــات ومل يعــد يف العــامل موقــع بعيــد وآخــر قريــب ،بــل
أصبــح البعيــد قريبــا ونتــج عــن هــذا مــا ن ـراه اآلن ،فالــرق يتعامــل مــع
الغــرب والغــرب يتعامــل مــع الــرق كالهــا بعيــد عــن اآلخــر ،ويبقــى
أقــى الدنيــا وبينــه وبــن اآلخــر مســاحات ومســافات ،ولكــن الصداقــة تقــود
والتعــاون يــزداد وتنمــو بينهــم املصالــح والعالقــات االقتصاديــة»(.)2
فهــذه بعــض النصــوص املهمــة التــي تؤســس لقيمــة التســامح ،وســنطرق يف
املطلــب القــادم لتحليــل بعضهــا وإلقــاء نظ ـرات تحليليــة عــى مجموعــة
أخــرى مــن كلامتــه الذهبيــة.
223
مــن اآلبــاء واألجــداد مــن العــادات الطيبــة»( )1وال شــك أن التســامح مــن
العــادات الطيبــة واملواقــف الفاضلــة ،وهــو إرث أصيــل يف دولــة اإلمــارات.
إن الناظــر املتأمــل يف حكــم الشــيخ زايــد وأقوالــه يف التســامح يجــد أنــه يبني
فكــره عــى أســس متينــة ،تتطابــق متامــا مــع أســس التســامح التــي قررهــا
العلــاء والباحثــون يف هــذا املجــال ،ومــن هــذه األســس:
أوال :األســاس الدينــي؛ فــأول أُســس التســامح عنــد الشــيخ زايــد أنــه مــن
املبــادئ الدينيــة التــي ال ينبغــي االســتهانة بهــا ،وهــذا مــا يفــر مــا ذهــب
إليــه ويحــض عليــه يف حكمــه مــن كــون التســامح واجبًــا يف قولــه رحمــه اللــه
تعــاىل« :إن التســامح والرتاحــم أمــر واجــب»(.)2
ويف تأصيلــه للتســامح الدينــي نجــد الشــيخ زايــد مــن أوائــل مــن بــرأ اإلســام
واألديــان كلهــا مــن التطــرف واإلرهــاب ،فــكان يدافــع دامئًــا عــن األديــان
مبينــا أنهــا مصــدر الرحمــة والحكمــة والســعادة ،وموضحــا للجميــع مســلمني
وغــر مســلمني أن اإلســام يوجــب احـرام الجميــع ،فيقــول رحمــه اللــه« :إن
اإلســام عــى ســبيل املثــال هــو الــذي يطلــب مــن كل مســلم أن يحــرم كل
شــخص وليــس بالتأكيــد أشــخاصا معينــن بــل كل شــخص»( ،)3ويقــرر رحمــه
اللــه أن اإلســام ال يفــرق يف هــذا البــاب بــن النــاس عــى أســاس املعتقــد؛ بــل
يحــرم اختياراتهــم العقديــة ،وال يكرههــم عــى مــا ال يقتنعــون بــه بعنــف،
يقــول رحمــه اللــه يف ذلــك« :واإلســام ليــس ديــن عنــف وقــر ولكنــه ديــن
العقــل واملنطــق»(.)4
إن هــذه الدعــوة الصادقــة مــن حكيــم العــرب واإلنســانية؛ تؤكــد لنــا أنــه
اســترشف بنظرتــه الصادقــة ورؤيتــه الثاقبــة مــا تــؤول اليــه األمــور ،فطالــب
224
بتصحيــح املفاهيــم وتحريــر الديــن مــن التطــرف واالختطــاف ،ووصــف
األســباب األســاس النتشــار التطــرف وهــو التديــن الفاســد ،وأنــه ال عــاج
لهــذه األدواء املهلكــة إال بالرتكيــز عــى جوهــر ديننــا الحنيــف ومبادئــه ،ومنها
التســامح والســاحة ،قــال رحمــه اللــه« :إن التديّــن الفاســد ســبب خطــر
لــرف الكثرييــن عــن املبــادئ اإلســامية ،وجوهــر كتــاب اللــه عــز وجــل
وســنة رســوله الكريــم صــى اللــه عليــه وســلم ،إن الواجــب يحتــم عــى أهــل
العلــم أن يبينــوا للنــاس جوهــر اإلســام ورســالته العظيمــة بأســلوب يليــق
بســاحة الديــن الحنيــف»( )1وقــد صدقــت تنبؤاتــه رحمــه اللــه تعــاىل،
فكأنــه يصــف مــا ســيجري بعــد انتقالــه إىل رحمــة اللــه تعــاىل -مبشــيئته-
بعــد أكــر مــن عقــد مــن الزمــن ،حــن يقــول مربئــا ديــن اإلســام« :إن الديــن
اإلســامي ال يعــرف العنــف والبطــش الــذي ميارســه اإلرهابيون الذيــن ي َّدعون
اإلســام زورا ،وباســم هــذا االدعــاء يذبحــون إخوانهــم وأهلهــم للوصــول إىل
أهدافهــم املغرضــة ،تحــت شــعار الديــن يف ســلوك مشــن ،واإلســام منهــم
ب ـراء»( )2وهــذا أحــد مظاهــر حكمتــه رحمــه اللــه تعــاىل حيــث كان يــرى
بنــور بصريتــه ،فالشــيخ زايــد يثبــت دور الديــن يف التســامح ويــرئ األديــان
مــن العنــف والتطــرف ،ويف نفــس الوقــت يحــذر مــن التديــن املغشــوش
الــذي يوظــف الديــن ألهدافــه املغرضــة ،والعــاج إمنــا هــو بالعــودة إىل
جوهــر اإلســام الــذي يتجــى يف ســاحة األديــان.
ثانيــا :املبــادئ اإلنســانية؛ كان الشــيخ زايــد رحمــه اللــه تعــاىل يجعــل القيــم
اإلنســانية أساســا يرعــاه يف كل أمــوره ،ويحمــل كثـرا مــن الشــفقة والرحمــة
لإلنســان يف أي مــكان ،وعــى أي مذهــب أو ديــن ،وبذلــك حافــظ يف دولتــه
عــى كرامــة اإلنســان التــي هــي أســاس مــن أســس التســامح ،انطالقــا مــن
تعاليــم الديــن الحنيــف ،والتقاليــد األصيلــة ،ونجــد نصوصــا كثــرة عنــد
الشــيخ زايــد تؤســس لهــذا املعنــى ،يقــول رحمــه اللــه« :نحــن أبنــاء الخليــج
الذيــن فتحــوا قلوبهــم وصدورهــم وبيوتهــم ملئــات اآلالف مــن إخواننــا يف
225
اإلنســانية بفضــل مــا أنعــم اللــه عــز وجــل علينــا مــن نعمــه وخرياتــه يف
هــذه األرض الطاهــرة يجــب أن نوجــه عنايــة فائقــة إىل أطفالنــا»(.)1
ويضيــف يف هــذا املوضــوع مبي ًنــا دور الشــعور اإلنســاين واملحبــة واألخــوة
يف التعامــل مــع البرشيــة جميعهــا فيقــول« :وأن يراعــي اإلنســان اإلنســانية
يف كل مــا يقــوم بــه مــن عمــل كــا عليــه أن ينظــر إىل البــر كافــة بعــن
واحــدة عــن املحبــة واألخــوة»(.)2
فاإلميــان بإنســانية اإلنســان عنــده هــو أهــم مقومــات التســامح يقــول رحمــه
اللــه« :يجــب أن يحظــى كل إنســان فــوق هــذه األرض باالحـرام وبالشــعور
اإلنســاين الــذي يرفــض الظلــم ألننــا نتأثــر بــكل مــا يقــع للبــر يف كل أنحــاء
العــامل مــن ألــوان الظلــم ونتــأمل آلالم الشــعوب املغلوبــة عــى أمرهــا»(.)3
فهــو يعيــش مــع هــذه اإلنســانية آالمهــا ويشــعر بهــا ،وهــذا مــا يفــر مــا
يقدمــه مــن مســاعدات إنســانية هائلــة لكافــة الشــعوب ،وهــو يقــوم بهــذا
العمــل مــن منطلــق املبــادئ اإلنســانية التــي أمــر بهــا اإلســام يقــول رحمــه
اللــه تعــاىل« :فــإن اإلســام يقــي مبعاملــة كل شــخص كنفــس مهــا يكــن
معتقــده .إن هــذه النقطــة بالضبــط تجســدها املبــادئ اإلنســانية يف اإلســام،
… هــذه املبــادئ التــي تقــي بــأن نكــون معــا ،وبــأن نثــق ببعضنــا كبــر،
وأن نتســاوى يف ســلوكنا ،أليــس هــذا كل مــا نبتغيــه؟!»()4
إن الجانــب اإلنســاين عامــل مهــم وأســاس يف مواقــف الشــيخ زايــد عامــة،
ويف مواقفــه التســامحية خاصــة ،وال تــكاد النصــوص الدالــة عــى هــذا املعنــى
تنتهــي مــن كرثتهــا وتواردهــا ،وهــو يف ذلــك يراقــب الشــعور اإلنســاين يف
نظــرة متقدمــة تفــوق تلــك النظريــة التــي تدعــو أن يكــون غايــة التســامح
االكتفــاء باالحـرام فقــط ،وهــو يركــز يف دعوتــه عــى األخــوة اإلنســانية التــي
معيارهــا معاملــة النــاس كمعاملــة النفــس؛ كــا أكــد عليهــا النبــي صــى اللــه
عليــه وســلم يف عــدة أحاديــث نبويــة.
226
ثالثــا :احـرام التنــوع واالختــاف؛ كان الشــيخ زايــد رحمــه اللــه تعــاىل يؤمــن
باالختــاف والتنــوع ،بــل جعلــه مصــدر قــوة للمجتمــع ودليــل ســامته
وعافيتــه ،ولهــذا كان يف تواصلــه مــع اآلخريــن يســتمع إليهــم ،ويطلــب منهــم
إبــداء آرائهــم املختلفــة ،مــع أنــه يتــوىل منصــب القيــادة؛ فقــد كان يؤمــن
بــأن االختــاف الســليم ثـراء وصحــة ،يقــول رحمــه اللــه تعــاىل« :إن الخالفات
يف وجهــة النظــر هــي دليــل صحــة وعافيــة ،فلــوال اختــاف اآلراء ومــن ثــم
املناقشــة املوضوعيــة ،فإنــه ال ميكــن التوصــل إىل الــرأي الســليم ،واالجتهــاد
الصائــب»( .)1وكــا هــو مقــرر فالتســامح إمنــا هــو نتــاج التنــوع واالختالفات،
التــي تــؤدي دو ًرا إيجاب ًّيــا إذا كانــت تحــت مظلــة الحــوار واالحـرام ،وحينئــذ
يتحقــق التســامح األمثــل بتوظيــف هــذا الحــوار توظي ًفــا إيجاب ًّيــا لتحقيــق
األفضــل للوطــن ،وتوصــل إىل حلــول تحقــق للجميــع مصالحهــم ومنافعهــم،
وهــو مــا كان الشــيخ زايــد يعلمــه للمحيطــن بــه يف قولــه« :إن الخــاف
يف الــرأي يقودنــا إىل الحــوار والبحــث الــذي يوصلنــا يف النهايــة إىل مــا هــو
أفضــل وأفضــل»( .)2وذلــك مــا عــر عنه الشــيخ زايــد بالجوهــر يف قولــه« :كل
منــا لــه رأي مختلــف ومغايــر لــرأي اآلخــر ،نتبــادل هــذه اآلراء ونصهرهــا يف
بوتقــة واحــدة ونســتخلص منهــا الجوهــر»( )3كــا كان الشــيخ زايــد يعلمنــا
كيفيــة إدارة االختــاف وجعلــه عامــل خــر وفضيلــة.
رابعــا :القيــم األخالقيــة يف العالقــات مــع اآلخريــن؛ لقــد كان الشــيخ زايــد
طيــب اللــه ثــراه حريصــا عــى أن تكــون العالقــات مــع اآلخريــن مبنيــة
عــى الروابــط األخويــة ،و مبــادئ حســن الجــوار والتفاهــم ،وقــد كان يعتــر
التســامح أساســا يف العالقــات بــن األصدقــاء واألشــقاء؛ يقــول رحمــه اللــه
يف تأســيس نظريــة عميقــة للتســامح« :ولــوال التســامح مــا أصبــح صديــق
مــع صديــق ،وال شــقيق مــع شــقيق ،فالتســامح ميــزة»( ،)4فالتســامح وعــدم
التســامح ال يســتويان؛ ألن التســامح ميــزة ميتــاز بهــا مــن اتصــف بهــا يف بنــاء
227
عالقــات ســليمة مــع أشــقائه وأصدقائــه وجريانــه ،والتســامح هــو الضامنــة
الوحيــدة لســامة هــذه العالقــات اليوميــة مــن خــال الحــوار والنقــاش
والتعامــل اليومــي مــع جميــع األشــخاص ،وهــذا مــا تعكســه هــذه الحكمــة
العميقــة مــن الشــيخ زايــد رحمــه اللــه.
وتــزداد مراعــاة هــذه القيــم األخالقيــة رضورة لــدى املســلم ،الــذي يوجــب
عليــه دينــه هــذه األخــاق ،وإذا كانــت التقاليــد والعــادات تقتــي االلتـزام
بتلــك األخــاق؛ فذلــك يرتفــع إىل منزلــة أكــر أهميــة ،ولهــذا ففــي نظــر
الشــيخ زايــد يجــب عــى املســلم االلتـزام بقيــم التســامح مــع اآلخريــن أكــر
مــن غــره؛ ألنــه يجــب عليــه أن يظهــر أخــاق املســلمني؛ يقــول الشــيخ زايــد:
«مــن واجــب املســلم أن يــرى العبــاد مــا لديــه مــن ديــن وخلــق»( )1وال شــك
أن التســامح مــن الديــن ،وأنــه يتبــوأ منزلــة ســامية بــن األخــاق والقيــم.
ويكتــي هــذا األســاس أهميــة خاصــة ،ال ســيام يف حــق النــشء والشــباب؛
لــذا كان الشــيخ زايــد يركــز عليهــم يف خطابــه ،ويركــز يف نفوســهم هــذه
القيمــة العظيمــة؛ يقــول رحمــه اللــه تعــاىل وهــو يدعــو للرتبيــة األخالقيــة
التــي أصبحــت اليــوم واقعــا يف مدارســنا ومناهجنــا التعليميــة« :أعتقــد أن
أســوأ الصفــات هــي التكــر والتعــايل؛ وهــي صفــات منبــوذة يف القــرآن،
التكــر يعنــي احتقــار اآلخريــن»(.)2
فهــذه األســس التســامحية هــي ُعمــد ِحكــم الشــيخ زايــد ،التــي بنــى عليهــا
مواقفــه ،وانطلــق منهــا يف رؤيتــه الشــاملة واألصيلــة والواقعيــة ،حتــى أصبــح
لــه أثــر ملمــوس عــى مجتمعــه ،ويف العــامل بــأرسه ،كــا مــر.
- 1البيان اإلماراتية ،تاريخ 07 :أغسطس ،1998مقال بعنوان :قراءة يف فكر زايد .مفهوم العمل ودوره يف النهضة ،بقلم:
مبارك الخاطر.
- 2هامميل ،العدد ،52 :ص .40
228
الفصــل الثــاين :الثقافــة املحليــة اإلماراتيــة وأثرهــا يف إرســاء
قيــم التســامح؛ وفيــه مبحثــان:
املبحث األول :مقومات التسامح يف املجتمع اإلمارايت.
املبحــث الثــاين :أمنــوذج التديــن يف اإلمــارات وتأسيســه
لثقافــة التســامح.
الفصل الثاين :الثقافة املحلية اإلماراتية وأثرها يف إرساء قيم التسامح
تبــن لنــا يف الفصــل املــايض بعــد أن اســتعرضنا رؤيــة الشــيخ زايــد؛ التفاتــه –
طيــب اللــه ثراه-الدائــم إىل العــادات والتقاليــد املتجــذرة يف هــذه األرض ويف
تـراث األجــداد ،وكان ال بــد مــن عقــد هــذا الفصــل ألهميــة الثقافــة املحليــة
يف بنــاء قيــم التســامح ودورهــا يف ترســيخ هــذه القيمــة.
إن قبــول التعدديــة الثقافيــة واالنفتــاح عــى اآلخريــن مــن الوافديــن
والقاصديــن لهــذه األرض ،والتعايــش معهــم يف ســلم واســتقرار وتعــاون؛
ســمة بــارزة عرفــت عــن إنســان هــذه األرض الطيبــة ،توارثهــا آخرهــم
عــن أ ّولهــم ،وتلقوهــا كاب ـ ًرا عــن كابــر ،فإك ـرام الضيــف ،ونجــدة امللهــوف،
والتكافــل والتعــاون؛ مــا يدخــل يف بــاب الســنع اإلمــارايت( )1الــذي هــو يف
حكــم الواجــب العينــي يف عــرف أبنــاء هــذا الوطــن ،يلتــزم بــه كل شــخص
ينتمــي لرتابــه ،مــا يــدل ضمنيــاً عــى أن التســامح واالنفتــاح والقبــول
باآلخــر أيًّــا كان عرقــه وجنســيته؛ ليــس بالــيء الحــادث أو املنبــت عــن
هــذه األرض ،أو هــو مــا أ ْملتــه ظــروف زماننــا املعــارص دون وجــود األرضيــة
املمهــدة لقبولــه يف املجتمــع ،بــل إن التســامح مبــدأ أصيــل ينطلــق مــن
هــذه األرض ومــن ت ـراث األجــداد وعاداتهــم الطيبــة ،ومواقفهــم الفاضلــة؛
كــا قــال الشــيخ زايــد« :ونحــن والحمــد للــه لدينــا ال ـراث الطيــب الــذي
ورثنــاه عــن اآلبــاء ،ونســتطيع أن نســر عــى هــداه ،أنتــم أحفــاد األجــداد
الذيــن تركــوا لنــا تراثــا مجيــدا ،ومواقــف فاضلــة»( .)2وعليــه؛ فإننــي ســأعقد
يف هــذا الفصــل مبحثــن ،للحديــث عــن ثقافــة التســامح يف دولــة اإلمــارات،
ومركزيتهــا يف قيــم املواطــن اإلمــارايت عــى النحــو اآليت:
230
املبحث األول :مقومات التسامح يف املجتمع اإلمارايت
املطلب األول :نهج التوسط واالعتدال يف التدين يف املجتمع اإلمارايت
ميتــاز املجتمــع اإلمــارايت بالتديــن املعتــدل ،الــذي يعــود تأسيســه للشــيخ
زايــد –طيــب اللــه ث ـراه ،-ولفطــرة شــعب اإلمــارات التــي متيــل إىل الســام
واالســتقرار والســكينة.
يقــول صاحــب الســمو الشــيخ محمــد بــن راشــد ،حاكــم ديب –رعــاه اللــه:-
«إن دولــة اإلمــارات بقيــادة صاحــب الســمو الشــيخ خليفــة بــن زايــد آل
نهيــان رئيــس الدولــة -حفظــه اللــه -تســر عــى نهــج الوســطية واالعتــدال،
والتســامح يف تطبيــق تعاليــم ورشائــع وأحــكام ديننــا االســامي الحنيــف التــي
جــاءت يف كتــاب اللــه العزيــز وأحاديــث رســوله ســيدنا محمــد عليــه الســام،
وهــذا هــو نهــج زايــد -طيــب اللــه ث ـراه -وإرثــه الخالــد الــذي نعتــز بــه
ونحافــظ عليــه ،وســنظل نحميــه بالقــول والعمــل عــر األزمــان واألجيــال إن
شــاء اللــه تعــاىل»(.)1
إن اختيــار الشــيخ زايــد – طيــب اللــه ث ـراه -لهــذا النهــج ورعايتــه التديــن
الوســطي ج َّنــب دولــة اإلمــارات مزالــق التشــدد والعنــف ،واإلفــراط
والتفريــط ،واســتغالل األهــواء للديــن والتالعــب بــه مــن أجــل أهــداف
خطــرة ،ومصالــح قصــرة؛ فاإلســام الحــق جــاء لرتبيــة املســلمني وتزكيتهــم
عــى التــزام منهــج االعتــدال والســاحة يف العمــل والســلوك والفكــر،
وحــذرت الرشيعــة اإلســامية مــن التطــرف والتفريــط والتشــدد واملبالغــة
والتعصــب املذمــوم ،وحضــت عــى األخــاق الحســنة ومــكارم الشــيم
واالنفتــاح عــى اآلخريــن ،وهــذا املنهــج هــو الــذي اختارتــه دولــة اإلمــارات
لنفســها وملجتمعهــا وألجيالهــا.
ـري الــذي
إن هــذا االختيــار اإلمــارايت الــذي يدخــل يف نطــاق التَّديُّــن الفطـ ِّ
يتَّســم بــه املجتمــع اإلمــارايتُّ؛ يقــدم صــورة حقيقيــة للديــن اإلســامي بوجهــه
- 1االتحاد اإلماراتية ،تاريخ 26 :مايو 2018م ،خرب بعنوان :محمد بن راشد :اإلمارات بقيادة خليفة تسري عىل نهج
الوسطية واالعتدال والتسامح.
https: www.alittihad.ae article
231
الحضــاري ،وكان مــن مثــاره أنــه وقــف حاجـ ًزا أمــام أشــكال التدين املســتوردة
التــي ال توافــق فطــرة املجتمــع وثقافتــه.
وهــذا يدعونــا إىل الحديــث عــن الخصوصيــة اإلماراتيــة يف التديــن ،ومرتكزاتها
التــي تنبثــق مــن ثقافــة املجتمــع وهويتــه ،وتتبنــى قيــم االعتــدال والتوســط
يف فهــم الديــن ومامرســته ،وتعتمــد يف التعامــل مــع اآلخــر التســامح
والتعايــش ،واالنفتــاح عــى العــر والعلــم الحديــث ،وأســاس كل ذلــك هــي
ثقافــة االعتــدال يف هــذا التديــن الــذي ســبق الحديــث عنهــا يف الفصــل
الســابق ،والتــي تعــد مكونــا مــن مكونــات الهويــة اإلماراتيــة.
ومــع مــا يتميــز بــه املجتمــع اإلمارايت مــن االنفتــاح عــى الثقافات والشــعوب
والتطــور والتقــدم؛ إال أن مظاهــر التديــن منتــرة يف كل مــكان عــى أرض
دولــة اإلمــارات ،فاملســاجد تــكاد تكــون مالصقــة لبعضهــا مــن كرثتهــا،
وإقامــة الشــعائر واملناســبات الدينيــة يحــرص عليهــا كل مواطــن إمــارايت،
ولكــن بــروح حضاريــة ،ومنهــج وســطي ،ومتيــز وف ـرادة ،مــن غــر غلــو وال
تطــرف ،وهــذه خصوصيــة أصيلــة مــن خصوصيــات التديــن اإلمــارايت.
ويضــاف إىل تلــك الخصيصــة؛ أن توفــر االســتقرار الروحــي واألمــان الدينــي
لجميــع الســكان الذيــن يعيشــون عــى أرض دولــة اإلمــارات مل يجعــل التديــن
يف مواجهــة الحضــارة املعــارصة والتقــدم العلمــي ،ومل توظــف دولــة اإلمــارات
الديــن ليكــون نــدا للعلــم وضــدا لــه؛ بــل وافقــت بينهــا يف مصالحــة
أمنوذجيــة جعلــت أحدهــا يف خدمــة اآلخــر ،وال بــد مــن التأكيــد عــى
أن هــذه السالســة واملرونــة يف التديــن اإلمــارايت حصيلــة مســايرته للفطــرة
املجتمعيــة ومطاوعــة لروحهــا واســتجابة لحاجاتهــا.
وقــد أُ ْج ِريَــت دراســات عديــدة عــى املجتمــع اإلمارايت ،وأشــكال التديــن التي
يتقبلهــا وعالقتــه بالقيــم الدينيــة ،وتوصلــت هــذه الدراســات التــي تأسســت
عــى قيــاس القيــم الدينيــة والتديــن يف املجتمــع اإلمــارايت :إىل أن القيــم
أساســا مــن مكونــات التديــن يف حيــاة اإلماراتيــن ،وقــد
الدينيــة ت ُعــد مكونًــا ً
أكــدت هــذه الدراســة أمريــن أساســن يف التديــن اإلمــارايت وهــا :االعتــدال،
والتســامح ،فقــررت الدراســة« :أن املجتمــع اإلمــارايت مل يشــهد مثــل هــذا
232
التحــول ،فظـ ّـل «التديــن الجامعــي» هــو الســائد يف اإلمــارات ،وهــو تديــن
يتســم بالوســطية واالعتــدال .وهــذا مــا أكــده االســتطالع الــذي أجـراه مركــز
اإلمــارات للسياســات ،فقــد عـ ّـر ( )% 61.2مــن أف ـراد العينــة التــي أجــري
عليهــا االســتطالع عــن ميــل متوســط إىل التديــن .وكشــف االســتطالع أيضــا
عــن أن االلتــزام الدينــي الفــردي بالعبــادات هــو مــن خصائــص املجتمــع
اإلمــارايت ،إذ بلغــت نســبة امللتزمــن بــأداء الصلــوات الخمــس ( ،)% 87.8أكرث
مــن نصفهــم يؤديهــا جامعــ ًة يف املســجد ( ،)% 46.6وتطرقــت الدراســات
التــي تناولــت التحــوالت يف الوعــي الدينــي إىل مســألة مــدى قبــول اآلخــر
املختلــف دين ًّيــا ،كمــؤرش عــى هــذه التحــوالت ،ووجــدت دراســات عــدة
أن مــؤرش التســامح وقبــول اآلخــر يقــل عنــد «املؤدلجــن» دين ًّيــا مقارنــة
باملتدينــن العاديــن.
وقــد َد َرج سياســيون ومراقبــون وباحثــون عــى اإلشــادة بقيمــة التســامح
وقبــول اآلخــر لــدى الشــعب اإلمــارايت ،مســتدلّني عــى ذلــك بانفتــاح
اإلماراتيــن منــذ مــا قبــل تأســيس دولــة االتحــاد عــى الشــعوب واألديــان
األخــرى ،واحرتامهــم لتجــاور ثقافــات اآلخريــن وعاداتهــم يف الدولــة ،مــا
دامــت ال متــس ثقافــة املجتمــع اإلمــارايت وقيمــه ،فضــا عــن وجــود معابــد
األديــان األخــرى عــى أرض الدولــة منــذ ع ـرات الســنني ،وهــو أمــر تتميــز
بــه الدولــة عــى مســتوى منطقــة الخليــج برمتهــا»(.)1
إن دولــة اإلمــارات باختيارهــا هــذا النهــج ،وتعلقهــا بإرثهــا وهويتهــا الدينيــة
التــي تحميهــا مــن األفــكار الدخيلــة؛ مل تتعــرض يف تاريخهــا ســواء املــايض أو
املعــارص ألي اهت ـزازات ذات أســباب دينيــة ،وال تعــاين مــن ألــوان التطــرف
والتشــدد الدينــي؛ نتيجــة نهــج االعتــدال الــذي تشــبثت بــه ،ومــا زالــت
العنرصيــة والعنــف والكراهيــة منبــوذة بــكل أشــكالها وأنواعهــا ،ويقــف
املجتمــع صفــا واحــدا ضدهــا ،حاميــا ثقافتــه وإرثــه؛ إلدراكــه بفطرتــه
املســتقيمة مخاطــر تلــك القيــم املضــادة للتســامح والتعايــش ومشــاكلها
التــي تؤثــر عــى األوطــان واألديــان عــى حــد ســواء.
- 1االتحاد اإلماراتية ،تاريخ 30 :مايو ،2016مقال بعنوان :القيم الدينية والوعي الديني يف املجتمع اإلمارايت .الدكتورة
ابتسام الكتبي رئيسة مركز اإلمارات للسياسات.
233
فتجربــة دولــة اإلمــارات املتميــزة يف مجــال التســامح تؤكــد أن التديــن
الوســطي املعتــدل هــو أســاس التســامح والتعايــش بــن النــاس ،وأنــه مــا دام
خطــاب التطــرف والتشــدد رائجــا يف أي مجتمــع فيســتحيل الحديــث فيــه
عــن هــذه القيمــة.
- 1نرشة رسالة الجامعة التي تصدرها جامعة اإلمارات ،عدد ،33نوفمرب .2016ص .2
234
مــن الغربيــن الذيــن عاشــوا يف الخليــج العــريب ،يقــول املبعــوث لويــس بيــي:
«لقــد غــادرت هــؤالء العــرب وقــد انطبــع يف ذهنــي أن فضائلهــم ونقائصهــم
وعاداتهــم وأخالقهــم ونظــام حكمهــم قــد تشــكلت جمي ًعــا وإىل حــد بعيــد
نتيجــة للظــروف الطبيعيــة واألحــداث التــي كانــت تطــرأ مــن حــن آلخــر .إن
املــرء الــذي يجــد نفســه مجـ ًرا عــى العيــش يف الصحـراء؛ ال ميكــن أن يشــبه
نفســه بآخــر ينحــدر مــن ســالة بدويــة أصيلــة ،تفتحــت عينــاه عــى الحيــاة
ليجــد نفســه يف أحضــان الباديــة بــكل ســخائها وثرائهــا»(.)1
أساســا يف تشــكيل القيــم يف هــذه املنطقــة ،فقــد أكســبتهم إن للصحـراء دو ًرا ً
حــب الحريــة والتحمــل والصــر واالعتــدال والتعــاون والتكافــل ،مــن أجــل
التغلــب عــى املصاعــب املتعــددة ،وكانــت هــذه التقاليــد املتجــذرة يف هــذه
عظيــا مــن القيــم النبيلــة والعــادات األصيلــة ،وإن الربــط ً املنطقــة إرث ًــا
بــن الصحـراء وقيــم املجتمــع اإلمــارايت مــن األهميــة مبــكان ،ليــس ألن األمــر
طبيعــي أو تؤيــده دراســات اجتامعيــة ،ولكــن ألن الشــيخ زايــد كان يعتــر
أنــه تأثــر يف بعــض أخالقــه بالصح ـراء التــي تعلــم الصــر والســام والحــب،
يقــول رحمــه اللــه تعــاىل« :هــذه طبيعــة رجــل الصح ـراء ،وأنــا رجــل مــن
الصح ـراء ،وأحــب الصح ـراء ،والذيــن صــروا جيـ ًـا عــى هــذه الرمــال حتــى
نبــت فيهــا الخــر والعطــاء؛ هــؤالء يعلموننــا أن نصــر طويـ ًـا ،حتــى تقــوم
عندنــا الدولــة التــي إليهــا نطمــح»(.)2
وإذا كانــت هــذه الصحـراء القاحلــة التــي تعــد رمـزا لطبيعــة هــذا املجتمــع؛
هــي التــي أرضعــت قيمــه ،فهــي التــي علمــت أفـراده أيضــا بفضــل طاقتهــا؛
التعــاون والتالقــي يف بســاطها ،ومنهــا يســتمدون راحتهــم ،وصفــاء نفوســهم،
فيتجــردون مــن األحقــاد والضغائــن ،وتــزداد بينهــم املحبــة واملــودة ،ويتحقق
التســامح ،وينجــح كل عمــلٍ مـرا ٍد.
- 1مركز اإلمارات للدراسات والبحوث االسرتاتيجية ،بقوة االتحاد ،صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان القائد
والدولة( ،أبو ظبي ،ط2004 ،8 .م) ص .24
- 2املهريي ،زايد بن سلطان آل نهيان منظومته الفكرية وتوجهاته السياسية :ص .131
235
والشــيخ زايــد -طيــب اللــه ث ـراه -هــو أحســن مــن عــر عــن هــذا الشــعور
والطاقــة بقولــه« :إننــا نحــرص باســتمرا ٍر عــى االلتقــاء بإخواننــا أبنــاء القبائل،
أول كانــت عــى هــذه ونرغــب بالتحــدث إليهــم ،واالختــاط بهــم ،وحياتنــا ً
الصحــراء ،وهــي حياتنــا الطبيعيــة ،وكلــا زرت الصحــراء ازداد شــعوري
بالراحــة؛ ألننــي أؤدي واجبــي ،وهــذه الزيــارات تغــذي العمــل الــذي نقــوم
بــه ،كــا أنهــا متنحنــا الطاقــة ملواصلــة املســرة»(.)1
فعشــقه للصح ـراء –طيــب اللــه ث ـراه -ومــا يتميــز بــه أهلهــا مــن الصفــاء
والنقــاء ،والعــادات والتقاليــد األصيلــة؛ هــي منبــع تلــك القيــم الصافيــة
العابــرة للتاريــخ ،التــي تجمــع بــن مــا هــو دينــي وعــريب واجتامعــي؛ يقــول
الشــيخ زايــد وهــو يصــف هــذا املنبــع القيمــي« :إننــي أعشــق الصح ـراء،
وكلــا أحسســت ببعــض التعــب ذهبــت إليهــا ألســرد نشــاطي وحيويتــي،
حيــث ألتقــي بإخــواين البــدو ،الذيــن أحبهــم مــن كل قلبــي ،ألن أفكارهــم مــا
زالــت صافيــة ونقيــة ،إنهــم مــا زالــوا يتمســكون بعاداتهــم وتقاليدهــم ،التــي
تنبــع مــن األصالــة العربيــة وتعاليــم ديننــا الحنيــف ،وأنــا أشــجعهم عــى
التمســك بهــذه العــادات ،لتظــل أفكارهــم صافيــة ونقيــة»(.)2
إن هــذه الخصيصــة للصحــراء تنطلــق مــن الســعة ،ولطاملــا افتخــر بهــا
العــرب قدميًــا ،وال أدل عــى ذلــك مــن تحيــة العــرب للــوارد عليهــم بالرحــب
والســعة ،يقــول ابــن منظــور« :وقولهــم يف تحيــة الــوارد «أهـ ًـا ومرح ًبــا» أي:
صادفــت أهـ ًـا ومرح ًبــا ،وقالــوا« :مرحبــك اللــه ومســهلك» وقولهــم :مرح ًبــا
أهــا ،فاســتأنس وال تســتوحش .وقــال وأهــا ،أي :أتيــت ســعة ،وأتيــت ً ً
الليــث :معنــى قــول العــرب :مرح ًبــا ،أي :انــزل يف الرحــب والســعة»( ).
3
236
ثان ًيــا :القبيلــة :إن عمــود القيــم عنــد القبيلــة العربيــة هــو الــرف ،فقــد
كانــوا يأنفــون مــن كل مــا ينــايف الــرف مــن األخــاق الذميمــة ،والعــادات
الســيئة ،ويتجنبــون ذلــك ،فــكان هــذا املبــدأ قيمــة مقدســة يف تواصلهــم
وحفــظ عهودهــم« :إن الصــات التــي جمعتهــم وربطتهــم م ًعــا كامنــة غــر
ملموســة ،وليــس يف وســع البــدوي أن يدعــي أنــه يتحكــم يف بــدوي آخــر،
وتقــوم روابطهــم عــى عهــود ومواثيــق طوعيــة يحافــظ عليهــا أطرافهــا،
أساســا يف كل
ملتزمــن مببــدأ الــرف وصــدق الكلمــة ،الــذي يشــكل مقو ًمــا ً
جانــب مــن جوانــب ثقافتهــم .لقــد تشــكل مجتمعهــم مــن تفاعــل ثالثــة
عنــارص منفصلــة ولكنهــا متشــابكة:
أولها :طبيعة املكان ،وهي البيئة الطبيعية التي حددت أبعاد عاملهم.
وثانيهــا :البنيــة السياســية التــي تنتظــم مــن خاللهــا حياتهــم االجتامعيــة
واملتمثلــة يف القبيلــة والزعامــة القبليــة.
أمــا الثالثــة :فهــي البنيــة األخالقيــة التــي ربطــت بينهــم ،والتــي تتمثــل إىل
حــد بعيــد يف مبــدأ الــرف الــذي يلتــزم بجوهــره كل البــدو»(.)1
وال شــك أن مفهــوم رشف القبيلــة لــه أثـ ٌر كبــر يف املجتمــع اإلمــارايت ،فهــذا
املبــدأ يحكــم العالقــات املتوطــدة بــن القبائــل واملجموعــات املختلفــة،
وقــد نتــج عــن هــذا املبــدأ الرئيــس منظومــة قيــم أخــرى ،جعلــت املجتمــع
اإلمــارايت خاصــة واملجتمعــات العربيــة ذات الخصوصيــة القبليــة والبدويــة
عامــة؛ تتميــز بتلــك القيــم مثــل الشــهامة ،والشــجاعة ،وحرمــة الضيــوف
والوفــود ،والعفــة ،واح ـرام الجــار ،والتكافــل ،وحاميــة املجتمــع وحراســته
مــن كل مــا يلحــق بــه الــرر ،وهــذا مــا جعــل كثـرا مــن الباحثــن يف تـراث
املنطقــة يعتــرون أن كــرم الضيافــة للغربــاء يف املنطقــة مبثابــة ميثــاق حاميــة
ال يوجــد عنــد أمــة مــن األمــم ،إذ أصبحــت هــذه الوفــادة فطــرة قبــل أن
تكــون واجبًــا دينيًّــا(.)2
237
ثال ًثــا :الســنع :وهــو عمــود أخــاق اإلماراتيــن ومنبعــه ،ويُقصــد بــه مختلــف
قواعــد الســنع التــي تنظــم ســلوك األف ـراد إىل أصنــاف متعــددة ،يــأيت عــى
رأســها :قواعــد التعامــل مــع الوالديــن واألقــارب والجـران ،وقواعــد الضيافــة
واملجالــس والزيــارة ،وآداب الــكالم والحديــث والســام والتحيــة ،وقواعــد
التعامــل مــع الصغــار والكبــار واالجتــاع يف املناســبات والرتابــط األرسي،
وهــذه القواعــد واآلداب تعتمــد عــى أســس ســنعية أصيلــة يف هــذا املجتمــع
وهــي الشــجاعة والشــهامة والنخوة والكــرم واإليثــار ومســاعدة املحتاجني(.)1
فالســنع شــامل لــكل أنــواع التعامــل الراقــي مع اآلخــر كيفام كان ،مــا يجعل
العالقــات بــن الجميــع يف مســتوى الرقــي واالح ـرام والتقديــر ،وال يتحقــق
ذلــك إال مبعرفــة القواعــد والقيــم االجتامعيــة واألخــاق العامــة ،مــن أجــل
التــرف مــع اآلخريــن ترصفًــا حسـ ًنا يليــق بهــم ،وهــو مــا يســميه الفقهــاء
وعلــاء األخــاق« :أدب املواضعــة»؛ قــال املــاوردي« :فأمــا أدب املواضعــة
واالصطــاح ،فيؤخــذ تقليـ ًدا عــى مــا اســتقر عليــه اصطــاح العقــاء ،واتفــق
عليــه استحســان األدبــاء… كاصطالحهــم عــى مواضعــات الخطــاب ،واتفاقهم
عــى هيئــات اللبــاس ،حتــى إن اإلنســان اآلن إذا تجــاوز مــا اتفقــوا عليــه منها
صــار مجانبــا لــأدب ،مســتوجبا للــذم؛ ألن فـراق املألــوف يف العــادة ،ومجانبة
مــا صــار متفقــا عليــه باملواضعــة ،مفــض إىل اســتحقاق الــذم بالعقــل ،مــا مل
يكــن ملخالفتــه علــة ظاهــرة ومعنــى حــادث»(.)2
وألهميــة هــذا الســنع يف املجتمــع؛ أصبــح عــادة وتقاليــد يتحــى بهــا اإلمارايت
جيــا بعــد جيــل ،يــرىب عليهــا الصغــر ،ويحــرص عليهــا الكبري.
وتكمــن أهميــة الســنع يف أنــه يحقــق القــدوة واألســوة يف املجتمــع ،فالعمــدة
يف الســنع هــي األرسة وكبــار الســن ،فمنهــم يتعلــم األطفــال والشــباب،
ويُلَقَّنــون هــذه الــدروس االجتامعيــة ،ومــن العيــب والنقــص يف الشــخص أن
وأساســا ورضورة مجتمعية ً يقــال عنــه «قليل الســنع» ،فالســنع أصبــح معيــا ًرا
يف معامــات النــاس اليوميــة ،وهــو شــبيه مبــا يســمى يف مجتمعــات أخــرى
«قواعــد اإلتيكيــت» وينبغــي االلت ـزام بــه يف أماكــن معينــة وأمــام النــاس.
238
كــا أن الســنع اإلمــارايت يعــود إىل العــادات العربيــة ،والتعاليــم الدينيــة،
وأعــراف املجتمــع ،والــرع قــد أقــر عــادات املجتمعــات وأعرافهــا ،مــا
دامــت ال تخالفــه(.)1
ومــن أهــم مــا يحققــه الســنع مــن الفوائــد عــى املجتمــع والنــشء خاصــة:
املواطنــة الصالحــة ،واالرتبــاط بالوطــن ،واالنتــاء والــوالء ،واالقتــداء بالرمــوز
الوطنيــة واملؤسســن األوائــل ،فيُشــعر الشــاب بأنــه عضــو وعنــر فاعــل يف
هــذا الوطــن الــذي تَ ْحكُمــه تقاليــده وأعرافــه وقوانينــه ،التــي يجــب عليــه
أن يلتــزم ويتقيــد بهــا ،وال ينبغــي لهــذا الشــاب أن ينطلــق مــن كل القيــود،
فهنــاك عــادات وأعـراف وتعاليــم دينيــة يجــب احرتامهــا.
وهــذه اآلداب الســنعية ميكــن أن نالحــظ فيهــا أنهــا أحيانًــا تتجــاوز مرتبــة
اآلداب إىل منزلــة أعــى ،وهــي ال ُّرقــي والــذوق العــام ،وهــذا يــدل عــى
املرتبــة الحضاريــة والطبــع الســليم ،واللباقــة التــي وصــل إليهــا املجتمــع
اإلمــارايت ،ويعــر ذلــك أيضً ــا عــن الســمو العقــي والروحــي والســعادة التــي
حققهــا أبنــاؤه.
إن القيــم املجتمعيــة الســنعية األصيلــة؛ كان لها دور بارز يف ترســيخ التســامح
يف املجتمــع اإلمــارايت ،ألنهــا تقــي األنانيــة والطمــوح الشــخيص ،وتنمــي
النظــام الجامعــي املبنــي عــى الصــات املشــركة والواجبــات االجتامعيــة،
فالتســامح ينمــو يف هــذا الجــو.
ـب الخــر :فالتواصــل وقيــم حــب الخــر؛ مــن األمــور راب ًعــا :التواصــل وحـ ُّ
منعــزل
ً التــي ســاعدت كثــ ًرا يف تســامح املجتمــع اإلمــارايت؛ إذ مل يكــن
عــن الشــعوب األخــرى يف املنطقــة ،فقــد كانــت إمــارات الدولــة تتعامــل
منــذ القــدم مــع كافــة الــدول املحيطــة بهــا عــن طريــق التجــارة واملوانــئ،
وخاصــة تجــارة اللؤلــؤ ،نظـرا ملوقعهــا االسـراتيجي املهــم ،الــذي جعــل منهــا
دولــة تجتــذب كبــار التجــار ،مــا أســهم يف االختــاط باملجتمعــات األخــرى،
والتفاعــل مــع ثقافــات متعــددة ،فــكان املجتمــع اإلمــارايت مــن هــذه الناحيــة
- 1ينظر :ماجد عبد الله بوشليبي ،السنع من مكارم األخالق( ،وزارة الثقافة و الشباب و تنمية املجتمع2013 ،م) .ص .15
239
أكــر فاعليــة مــن بقيــة املجتمعــات(.)1
وحــب العطــاء مــن األســباب التــي كان لهــا أثــر كبــر عــى املجتمــع اإلمــارايت
يف حبــه الخــر والتســامح ومســاعدة اآلخريــن ،ولعــل مــن الالفــت جــدا أن
هــذه القيمــة قدميــة وجديــدة يف هــذا املجتمــع ،فالبيئــة املجتمعيــة القدميــة
ـح املــوارد ذلــك داعيًــا إىل اإلمســاك وحبــسذات مــوارد شــحيحة ،ومل يكــن شـ ُّ
الخــرات ،بــل كان ذلــك داف ًعــا للمجتمــع لإلقبــال عــى العطــاء والعمــل
اإلنســاين مــع الجميــع بعــد أن أفــاض اللــه عليهــم مــن خرياتــه وبركاتــه ،وقــد
كان الشــيخ زايــد –طيــب اللــه ثـراه -يشــر لهــذا الجانــب كثـ ًرا؛ يقــول ســامل
عبيــد الظاهــري عــن الشــيخ زايــد« :كان الشــيخ زايــد عــى درجــة مــن الكــرم
ال تصــدق ،وكان عطــاؤه عفويــا ومــدرا ًرا ،لقــد عــاش مــع النــاس أيــام فقرهــم
وحرمانهــم ،وشــاركهم هذيــن الوجعــن ،واألمل الــذي عانــاه وهــو يشــاهد
األطفــال الذيــن ينهشــهم الجــوع والنــاس ميوتــون أمــام عينيــه بســبب أمراض
غــر عصيــة عــى املعالجــة ،كل هــذا مل يغــادر ذاكرتــه أبــدا ،إن مــا عانــاه
ســكان اإلمــارات املتصالحــة بقــي مرافقــا لــه طــول حياتــه»( .)2فاملعانــاة
تولــد النجــاح ومتحــو مــا بالنفــوس مــن حــب للــذات وكراهيــة لآلخــر.
- 1محمد عمران تريم ،الجذور التاريخية لقيام دولة اإلمارات( ،دار الرشوق للنرش والتوزيع ،عامن2018 ،م) ص .77
- 2ويلسون؛ زايد رجل بنى أمة( ،املركز الوطني للوثائق والبحوث ،وزارة شؤون الرئاسة2013 ،م) ص .145
240
لعبــه جيــل اآلبــاء ،وأن يتخــذ منهــم القــدوة واملثــل األعــى يف الصــر وقــوة
التحمــل ،والعمــل الجــاد والتفــاين يف أداء الواجــب ،وأن يبــذل الجيــل الجديــد
كل مــا يف وســعه مــن جهــد وخاصــة بعــد أن توفــرت اإلمكانيــات وتحســنت
ظــروف املعيشــة… إن التاريــخ سلســلة متصلــة مــن األحــداث ،ومــا الحــارض
إال امتــداد للــايض ،ومــن ال يعــرف ماضيــه ال يســتطيع أن يعيــش حــارضه
ومســتقبله ،فمــن املــايض نتعلــم ونكتســب الخــرة ،ونســتفيد مــن الــدروس
والنتائــج ،نأخــذ األفضــل ونتجنــب أخطــاء اآلبــاء واألجــداد»(.)1
إن الفضائــل والشــيم واملعــاين الجميــل مرتكــزة يف تضاعيــف التاريــخ
وأحداثــه ،ويف التزامهــا وجعلهــا قــدوة حســنة للمجتمــع؛ تشــبث بــاألرض
والوطــن ،ألنــه أحــد مكوناتــه األســاس.
ســاب ًعا :االعتــدال :فاالعتــدال يف كافــة األمــور قيمــة ثقاف ّيــة عظمــى ،لطاملــا
تحــدث عنهــا علــاء االجتــاع ،وعــن انتامئهــا لهــذه املناطــق العربيــة ،قــال
عنهــا ابــن خلــدون يف وصــف العــرب وهــو ينســب إليهــم هــذه القيمــة:
املتوســطة أهــل االعتــدال يف خلقهــم وخلقهــم،ّ «وأ ّمــا أهــل األقاليــم الثّالثــة
وســرهم وكافّــة األحــوال الطّبيع ّيــة لالعتــار لديهــم؛ مــن املعــاش واملســاكن
والصنائــع والعلــوم وال ّرئاســات وامللــك فكانــت فيهــم ال ّنبــوءات وامللــك ّ
والصنائــع
والشائــع والعلــوم والبلــدان واألمصــار واملبــاين والفراســة ّ والـ ّدول ّ
الفائقــة وســائر األحــوال املعتدلــة ،وأهــل هــذه األقاليــم الّتــي وقفنــا عــى
أخبارهــم مثــل العــرب»( .)2وهــذه القيمــة املهمــة أســاس يف التديــن املعتــدل
الوســطي الرائــج يف املجتمــع اإلمــارايت ،البعيــد عــن التطــرف والتشــدد،
وســيأيت معالجــة هــذا الجانــب يف املبحــث القــادم.
ثام ًنــا :الرتبيــة األخالقيــة :إن الرتبيــة األخالقيــة مــن القيــم املجتمعيــة التــي
ال ميكــن تحقيــق الســام والتســامح والوئــام دون إرســائها وترســيخها يف
املجتمعــات؛ عــى نهــج الثوابــت الراســخة املوروثــة مــن االح ـرام املتبــادل،
وقبــول التعدديــة ،واالنفتــاح والتعــاون مــع اآلخريــن ،فدولــة اإلمــارات
241
الحديثــة وإميانًــا منهــا بعظمــة األخــاق؛ أبــت إال الدفــع يف هــذا االتجــاه،
وتثبيتــه وتقويتــه؛ فتبنــت يف هــذا املجــال مبــادرات عديــدة كان للرتبيــة
األخالقيــة فيهــا الفضــل واألولويــة ،وينبغــي لنــا التنويــه بهــا واعتامدهــا يف
مقامنــا هــذا وثيقـ ًة أساســا ،ترســخ التســامح يف املجتمــع ،وقيمـ ًة جوهريــة يف
القيــم الثقافيــة املنتجــة للتســامح.
لقــد جــاءت مبــادرة ســيدي صاحــب الســمو الشــيخ محمــد بــن زايــد –
حفظــه اللــه ،-باعتــاد «الرتبيــة األخالقيــة» يف املناهــج التعليمــة يف شــهر
يوليــو 2016م ملــا يتوقــع لهــا مــن نجــاح باهــر يف حفــظ قيــم هــذا املجتمــع.
وتــأيت هــذه املبــادرة ضمــن رؤيتــه الثاقبــة ملســتقبل الثقافــة املجتمعيــة؛
إدراكًا منــه للمخاطــر املحيطــة بالشــباب والنــشء ،فقــد ســعت هــذه
املبــادرة للمحافظــة عــى القيــم األصيلــة يف املجتمــع ،كــا أكــد عــى ذلــك
ســموه يف قولــه« :القيــم الفاضلــة أســاس راســخ يف بنــاء األمــم ونهضتهــا،
ورقــي الشــعوب وتطورهــا ،وإنــه مهــا بلغــت الــدول مــن تقــدم علمــي،
فــإن دميومــة بقائهــا مرهونــة مبــدى محافظتهــا عــى قيمهــا النبيلــة ،وإن
العلــم يف جوهــره تجســيد وإعــاء للقيــم الحضاريــة واألخــاق اإلنســانية…
إن دولــة اإلمــارات العربيــة املتحــدة تتميــز بهويتهــا الثقافيــة ،وقيمهــا
األخالقيــة األصيلــة ،املرتكــزة عــى مــوروث القيــم النابــع مــن تعاليــم الديــن
الحنيــف ،وتقاليــد اآلبــاء واألجــداد ،التــي تعــي مــن قيــم التســامح واالحـرام
والتعــاون ،وحــب الخــر ،واالنتــاء والبــذل والتضحيــة والعطــاء الالمحــدود
للوطــن»(.)1
ولقــد أصبــح اليــوم لهــذه املــادة دور أســاس يف العمليــة التعليميــة واملقررات
الدراســية ،بــإرشاف وزارة الرتبيــة والتعليــم ،ومجلــس أبوظبــي للتعليــم،
وديــوان ويل عهــد أبوظبــي ،وتشــمل مــادة الرتبيــة األخالقيــة خمســة عنــارص
رئيســة هــي األخالقيــات ،والتطويــر الــذايت واملجتمعــي ،والثقافــة وال ـراث،
والرتبيــة املدنيــة ،والحقــوق واملســؤوليات(.)2
- 1البيان اإلماراتية ،تاريخ النرش 27 :يوليو ،2016تقرير بعنوان :بتوجيهات محمد بن زايد؛ إطالق مبادرة «الرتبية
األخالقية» لدعم املناهج الدراسية.
- 2نفسه.
242
وكل هــذا يؤكــد أن القيــم هــي أســاس يف املجتمــع اإلمــارايت ،وهــي التــي
تحكــم ســلوك األفـراد واملجتمــع ،انطالقــا مــن الثقافــة األصيلــة ،التــي عملــت
دولــة اإلمــارات منــذ تأسيســها عــى ترجمتهــا إىل برامــج تعليميــة ،ومبــادرات
قويــة فاعلــة ،يف الحفــاظ عــى هــذا الســلوك الجامعــي ،ومــن مظاهــر
هــذا الســلوك املجتمعــي التعايــش مــع شــعوب العــامل املختلفــة وهــو مــا
ســنخصص لــه املطلــب القــادم.
املطلــب الثالــث :التعايــش بــن شــعوب العــامل يف دولــة اإلمــارات ودوره يف
ترســيخ التســامح
إن القيــم املتأصلــة يف اإلنســان واملجتمــع ،والتــي ســبق وصفهــا يف املطلــب
الســابق؛ ال بــد أن يكــون لهــا عالمــات بــارزة ،ودالئــل ملموســة ،ومــن ذلــك
التعايــش بــن مختلــف األجنــاس البرشيــة املختلفــة العقائــد واألعــراق
واالنتــاءات والعــادات عــى أرض دولــة اإلمــارات ،يف انســجام وتعــاون
ووئــام.
إن النمــوذج الــذي تقدمــه دولــة اإلمــارات يف هــذا الصــدد؛ يعــد أكــر دليــل
وبرهــان عــى تقبــل مواطنيهــا لآلخريــن واســتقبالهم ،وانفتــاح الثقافــة
املحليــة عــى هوياتهــم وثقافتهــم ،ومل يكــن ذلــك ليحــدث لــو مل تكــن ثقافــة
التســامح مرتســخة يف هــذه األرض ،ويف أعــاق شــعور املجتمــع اإلمــارايت،
إضافــة إىل مــا توفــره الدولــة مــن الحاميــة القانونيــة للتعايــش والتســامح،
واالح ـرام لجميــع النــاس مبختلــف أديانهــم وجنســياتهم.
فدولــة اإلمــارات بســبب ثقافتهــا املجتمعيــة الســائدة ،املبنيــة عــى قيــم
التــوازن واالعتــدال واالنفتــاح والســلوك املنضبــط؛ قدمــت أمنوذجــا راقيــا يف
وكل مــن يعيــش التعايــش بــن الجنســيات املتعــددة والثقافــات املختلفــةُّ ،
عــى أرضهــا مــن الوافديــن والزائريــن؛ يثمنــون هــذه القيمــة ،ويشــعرون
باالمتنــان ملــا يلمســونه مــن محبــة وســعادة ووئــام.
والنمــوذج اإلمــارايت يف التعايــش بــن أصحــاب جميــع امللــل واملذاهــب
واألديــان؛ يــرز يف عــدة مجــاالت ،منهــا:
243
أول :تعايــش املئــات مــن الجنســيات املختلفــة عــى أرض دولــة اإلمــارات، ً
فانتــاء هــؤالء األفـراد إىل بلــدان عديــدة وديانــات شــتى؛ مــن أوضــح مظاهر
التعايــش يف دولــة اإلمــارات ،ال ســيام وأن الجميــع ميــارس حياتــه ،ويــؤدي
أعاملــه وواجباتــه ،وينــال حقوقــه« ،وينعــم بالحيــاة الكرميــة واالحــرام
واملســاواة ،ويضطلــع بــدوره يف تنميــة هــذه الدولــة التــي تعــد حاضنــة لقيــم
التســامح واالعتــدال وتقبــل اآلخريــن»(.)1
وألن دولــة اإلمــارات تؤســس للتعايــش املتقــدم ،فهــؤالء محــل تقديــر
وترحيــب مــن مواطنــي هــذه الدولــة؛ يعيشــون بينهــم «بســام ووئــام،
وراحــة وســعادة ،مــن ســنني طويلــة وميارســون أعاملهــم وحرياتهــم
ومعتقداتهــم بســام ،عاشــوا طفولتهــم مــع أبنــاء الدولــة إخــوة وأصدقــاء،
حتــى إن بعضهــم يتحدثــون اللهجــة اإلماراتيــة بطالقــة .إن مظاهــر التســامح
يف اإلمــارات منبعهــا النــزوع إىل التديــن الوســطي ،وتقاليــد القبيلــة وقيمهــا،
وإرث القائــد املؤســس لدولــة اإلمــارات ،زايــد الخــر ،طيــب اللــه ثــراه،
وبعــض القوانــن املطبقــة ،ال ســيام التــي تــم اســتحداثها أخـ ًرا مثــل قانــون
مكافحــة الكراهيــة والتمييــز ،إىل جانــب ســات مجتمعــات الوفــرة»(.)2
ثان ًيــا :الحريــة الدينيــة :فمــن مظاهــر التعايــش يف دولــة اإلمــارات؛ أنهــا تعــد
أمنوذ ًجــا ح ًيــا يف إرســاء معــامل الحريــة الدينيــة يف املجتمعــات؛ فمــع أنهــا
دولــة مســلمة يديــن جميــع مواطنيهــا باإلســام ،فإنهــا توفــر لجميــع الســكان
أداء شــعائرهم الدينيــة ،ومامرســة طقوســهم بــكل حريــة؛ فقــد ســمحت
لســائر الطوائــف واملذاهــب ببنــاء دور العبــادة ،ومامرســة الشــعائر الدينيــة،
دون أي مضايقــات أو متييــز ،بــل إن دولــة اإلمــارات تؤســس للنمــوذج األمثــل
يف التســامح والتعايــش ،فنجــد املســجد يجــاور الكنيســة واملعبــد الهنــدويس
يف وئــام وتناغــم.
244
ولقــد نــوه العــامل مبــا تكفلــه دولــة اإلمــارات للمقيمــن عــى أرضهــا مــن
الحريــة الدينيــة ،ومــن ذلــك مــا جــاء يف تقريــر الحريــات الدينيــة الــذي
يصــدر عــن الــوزارة الخارجيــة األمريكيــة لســنة 2017م مــن ثنــاء عــى:
«الرؤيــة اإلنســانية لدولــة اإلمــارات العربيــة املتحــدة عــى مســتوى تعزيــز
الحريــات الدينيــة ورعايــة املعتقــدات والعبــادات ،وحاميــة حقــوق األقليــات
يف مامرســة شــعائرها وبنــاء معابدهــا ،وســن القوانــن الرياديــة يف إطــار
مكافحــة التطــرف والكراهيــة والتمييــز»( .)1وكذلــك مــا جــاء يف تقريــر
الحريــة الدينيــة الصــادر عــن وزارة الخارجيــة األمريكيــة لســنة 2018م
الــذي نــص عــى مــا يــي« :وفقــا للمجتمعــات الدينيــة غــر املســلمة كانــت
هنــاك درجــة عاليــة مــن التســامح داخــل املجتمــع حــول معتقــدات وتقاليــد
األقليــات الدينيــة ،ال ســيام بالنســبة ألولئــك املرتبطــن بــدور العبــادة املعرتف
بهــا رســميا»(.)2
ثالثًــا :املشــاركة الوطنيــة لكافــة األطيــاف :فمــن املجــاالت املهمــة التــي
يالحــظ فيهــا تالقــي الشــعوب يف دولــة اإلمــارات؛ املامرســة الواقعيــة
للتعايــش والتســامح بصيغــه املتطــورة واملتقدمــة ،فهــذه اإلثنيــات املختلفــة
ال نجدهــا تــرب حــدو ًدا دون بعضهــا ،كــا أنهــا ال تجــد حواجــز بينهــا
وبــن مواطنــي دولــة اإلمــارات ،بــل هــي مختلطــة بهــم ،تشــاركهم يف األحيــاء
الســكنية ،واألســواق التجاريــة ،والفصــول الدراســية ،وجميــع أنشــطة الحيــاة،
والجميــع يســهم ويتعــاون يف مــا يحقــق املصلحــة ويقــدم اإلنجــازات ،مــن
أجــل خدمــة دولــة اإلمــارات العربيــة املتحــدة ،فنجــد مواقــف وفــاء وحــب
ال تتكــرر إال نــادرا يف حــب الوطــن مــن جميــع تلــك الجنســيات ،ملــا تــرى يف
دولــة اإلمــارات مــن االســتقبال والتكريــم والحلــم والتســامح.
ومــع كل هــذا التناغــم بــن ســكان دولــة اإلمــارات املتعــددة انتامءاتهــم؛ إال
أن حكومــة دولــة اإلمــارات مل تقــف عنــد هــذا الحــد ،ومل تكتــف مبــا حققتــه
- 1االتحاد اإلماراتية ،تاريخ النرش 1 :يونيو ،2018تقرير بعنوان :واشنطن تنوه برؤية اإلمارات اإلنسانية يف مكافحة
الكراهية والتمييز.
)( - 2ملخص تقرير الخارجية األمريكية السنوي حول الحرية الدينية الدولية ،2018دولة اإلمارات العربية املتحدة :ص
.11
245
يف هــذا امليــدان ،بــل ســارعت إىل حاميــة هــذا اإلرث القيمــي ،فرشعــت
قوانــن تــذود عــن حمــى هــذه املكتســبات الوطنيــة واملجتمعيــة والثقافيــة،
فأضحــى التعايــش والتســامح واالحـرام املتبــادل يف دولــة اإلمــارات يف حصــن
منيــع ،وحــرز أمــن ،ومــن أهــم هــذه القوانــن التــي تعــد األوىل مــن نوعهــا
عــى مســتوى العــامل؛ قانــون مكافحــة التمييــز والكراهيــة الــذي يعمــل عــى
مكافحــة الكراهيــة ،وتجريــم التمييــز العنــري ،ونبــذ ازدراء األديــان ،هــذا
القانــون الــذي أصــدره رئيــس دولــة اإلمــارات العربيــة املتحــدة ،صاحــب
الســمو الشــيخ خليفــة بــن زايــد آل نهيــان بتاريــخ 28رمضــان 1436ه
املوافــق 15يوليــو 2015م؛ يعــد مغنـ ًـا عظيـ ًـا ،ورب ًحــا كبـ ًرا لدولــة اإلمــارات
ومجتمعهــا املتعــدد يف مســرته التســامحية ،ويجــدر بنــا أن نــورد هنــا بعــض
النصــوص واملــواد املهمــة الــواردة يف هــذا القانــون.
فقد ورد يف املادة األوىل من هذا القانون ما نصه:
«ازدراء األديــان :كل فعــل مــن شــأنه اإلســاءة إىل الــذات اإللهيــة أو األديــان
أو األنبيــاء أو الرســل أو الكتــب الســاوية أو دور العبــادة وفقــا ألحــكام هــذا
املرســوم بقانــون.
التمييــز :كل تفرقــة أو تقييــد أو اســتثناء أو تفضيــل بــن األفـراد أو الجامعات
عــى أســاس الديــن أو العقيــدة أو املذهــب أو امللــة أو الطائفــة أو العــرق أو
اللــون أو األصــل اإلثني.
خطــاب الكراهيــة :كل قــول أو عمــل مــن شــأنه إثــارة الفتنــة أو النعـرات أو
التمييــز بــن األفـراد أو الجامعــات»(.)1
وورد يف املــادة الثالثــة مــن هــذا النــص الــذي ســبق يف البــاب الثــاين مــا يؤيده
مــن الدعــوة لضبــط التســامح ،وعــدم االحتجــاج بحريــة التعبــر مــن أجــل
التحريــض« :املــادة :3ال يجــوز االحتجــاج بحريــة الــرأي والتعبــر؛ إلتيــان أي
قــول أو عمــل مــن شــأنه التحريــض عــى ازدراء األديــان أو املســاس بهــا ،مبــا
يخالــف أحــكام هــذا املرســوم بقانــون»(.)2
- 1دائرة القضاء؛ قانون مكافحة التمييز والكراهية( ،سلسلة الترشيعات االتحادية ،ط2016 ،1 .م) ص .13 ،12
- 2نفسه ،ص .15
246
ويف املــادة الرابعــة مــن القانــون؛ رسد األفعــال التــي تدخــل يف إطــار ازدراء
األديــان بوضــوح« :املــادة :4يعـ ُّد مرتك ًبــا لجرميــة ازدراء األديــان كل مــن أىت
أيًّــا مــن األفعــال اآلتيــة:
.1التطاول عىل الذات اإللهية أو الطعن فيها أو املساس بها.
.2اإلســاءة إىل أي مــن األديــان أو إحدى شــعائرها ،أو مقدســاتها ،أو تجريحها،
أو التطــاول عليهــا ،أو الســخرية منهــا ،أو املســاس بهــا ،أو التشــويش عــى
إقامــة الشــعائر أو االحتفــاالت الدينيــة املرخصــة ،أو تعطيلهــا بالعنــف أو
التهديــد.
.3التعــدي عــى أي مــن الكتــب الســاوية بالتحريــف ،أو اإلتــاف ،أو
التدنيــس ،أو اإلســاءة بــأي شــكل مــن األشــكال.
.4التطــاول عــى أحــد األنبيــاء أو الرســل ،أو زوجاتهــم ،أو آلِ ِهـ ْم ،أو صحابتهم،
أو الســخرية منهــم ،أو املســاس بهم.
.5التخريــب أو اإلتــاف أو التدنيــس لــدور العبــادة ،وللمقابــر ،أو ملحقاتهــا
أو أي مــن محتوياتهــا»(.)1
وقــد ورد يف القانــون أيضــا العقوبــات املنصــوص عليهــا بالســجن أو الغرامــة،
أو هــا م ًعــا يف حــق مخالفــي هــذه األنظمــة.
وال شــك أن هــذا القانــون مبــا يؤســس لــه مــن التســامح املســؤول؛ يعتــر
خطــوة حضاريــة كان لهــا األثــر اإليجــايب عــى مســرة التســامح يف دولــة
اإلمــارات ،وهــذا الواقــع التســامحي مبعــث فخــر واعتــزاز لهــذا الشــعب
ووطنــه ،كــا عــر عــن ذلــك صاحــب الســمو الشــيخ محمــد بــن راشــد يف
قولــه« :أكــر مــا نفاخــر بــه النــاس والعــامل عندمــا نســافر؛ ليــس ارتفــاع
مبانينــا ،وال اتســاع شــوارعنا ،وال ضخامــة أســواقنا ،بــل نفاخرهــم بتســامح
دولــة اإلمــارات ،نفاخرهــم بأننــا دولــة يعيــش فيهــا جميــع البــر -عــى
اختالفاتهــم التــي خلقهــم اللــه عليهــا -مبحبــة حقيقيــة وتســامح حقيقــي…
247
يعيشــون ويعملــون معــا لبنــاء مســتقبل أبنائهــم دون خــوف مــن تعصــب
أو كراهيــة أو متييــز عنــري أو تفرقــة بنــاء عــى لــون أو ديــن أو طائفــة أو
عــرق»( .)1ويف هــذا الــكالم تعبــر صــادق عــن كل مــا يشــعر بــه مــن يعيــش
عــى أرض دولــة اإلمــارات.
وحقيقــة األمــر التــي ينبغــي تقريرهــا؛ أنــه ال يكفــي القانــون وال رغبــة
املجتمــع وال الثقافــة ليصبــح التســامح واقعا معاشــا ،مــا دام الخطــاب الديني
حـرا طليقــا ،وإن مــن خصوصيــات دولــة اإلمــارات اعتناؤهــا بهــذا الجانــب،
وضبطهــا الخطــاب الدينــي ،وهــذا يحتــاج ملبحــث آخــر لبيانــه.
- 1البيان اإلماراتية ،تاريخ النرش 20 :نوفمرب ،2016مقال بعنوان :ما هي حصتك من إرث زايد وراشد؟.
248
املبحث الثاين :أمنوذج التدين يف اإلمارات وتأسيسه لثقافة التسامح
املطلب األول :الخطاب الديني اإلمارايت وأثره يف ترسيخ التسامح
ال ميكــن الحديــث عــن التســامح والتديــن الوســطي دون خطــاب دينــي
معتــدل ،يســتجيب لقضايــا الوطــن ويجنبــه الفــن والــرور ،وألهميــة هــذا
الخطــاب نــرز يف هــذا املطلــب عالقــة الخطــاب الدينــي بالتديــن املعتــدل
والتســامح ،فــإن بــن هــذه الدوائــر عالقــة ســببية يرتبــط مــن خاللهــا أحدهــا
باآلخــر.
إن كثــرا مــن املعضــات االجتامعيــة واالســراتيجية القامئــة اليــوم ،قــد
أســهم فيهــا بشــكل واضــح الخطــاب الدينــي املعــارص ،الــذي يعايــش
مــآزق متعــددة ،جعلتــه يــن تحــت وطــأة عــدة علــل؛ مــن قبيــل الضعــف
واالرتجاليــة واالســتغالل ،والفهــم الضيــق املتشــدد ،وعــدم إلقــاء االعتبــار
لألطــراف األخــرى ،وتعشــعش االنتــاءات الفكريــة والحزبيــة واملذهبيــة
وســطه ،وانتشــار األفــكار املتشــددة ،واملناهــج الفكريــة الخطــرة داخلــه ،كل
هــذه العلــل تســكن كبــد الخطــاب الدينــي وروحــه.
ولتفــادي تلــك املخاطــر؛ كانــت دولة اإلمــارات العربيــة املتحدة منذ تأسيســها
تركــز عــى هــذا الجانــب ،فــكان الشــيخ زايــد –طيــب اللــه ث ـراه -يحــدد
للخطــاب الدينــي مســاره ،ويضبطــه حتــى ال يخــرج عــن جادتــه ،ويضــع
لــه معــامل يســتهدي بهــا يف مســرته الطويلــة ،ليحقــق أهدافــه املتوخــاة
منــه ،ومــن هــذه األهــداف :التصــدي للتطــرف والتشــدد ،وتوعيــة املواطنــن
وال ســيام الشــباب بأهميــة التســامح والرتاحــم يف الديــن اإلســامي ،إضافــة
إىل الوقــوف باملرصــاد للتيــارات املتشــددة الدخيلــة عــى دولــة اإلمــارات
املعروفــة باعتدالهــا ،وهــذان نصــان يرســم فيهــا الشــيخ زايــد اس ـراتيجية
الخطــاب الدينــي لدولــة اإلمــارات حيــث يقــول رحمــه اللــه« :إننــا حريصــون
كل الحــرص عــى الحفــاظ عــى العقيــدة اإلســامية ،والوقــوف يف وجــه
كل انح ـراف ،ويف داخــل دولتنــا تقــوم وزارة الشــؤون اإلســامية واألوقــاف
برســالتها يف إرشــاد املســلمني ،وتبصريهــم بأمــور دينهــم ،وتوضيــح الحقائــق
لهــم ،وصــد كل تيــار منحــرف يحــاول التســلل إىل بالدنــا عــن طريــق ترويــج
249
مذهــب أو نــر مبــدأ خاطــئ»(.)1
ويقــول أيضً ــا -وهــو يُ َح ِّمــل العلــاء مســؤولية الخطــاب الدينــي ويحــدد
لهــم أدوارهــم بدقــة « :-أدعــو رجــال الديــن وأهــل العلــم يف العــامل العــريب
واإلســامي إىل التصــدي لظاهــرة التطــرف الدينــي الــذي يرفضــه اإلســام،
وتوعيــة الشــباب مببــادئ الديــن الحــق الــذي يدعــو إىل التســامح والرتاحــم،
ويرفــض قتــل املســلم ألخيــه املســلم .إن التديّــن الفاســد ســبب خطــر
لــرف الكثرييــن عــن املبــادئ اإلســامية ،وجوهــر كتــاب اللــه عــز وجــل
وســنة رســوله الكريــم صــى اللــه عليــه وســلم»(.)2
إن دولــة اإلمــارات بهــذه الرؤيــة الواقعيــة والرصينــة رســمت منهجــا دقيقــا
لخطابهــا الدينــي ،وحفــظ هويتــه اإلماراتيــة ،واســتعادة مــا اندثــر منــه،
والتصــدي الصــارم للمتشــددين ،وهــي يف ذلــك تحــاول حاميــة ديــن اللــه
تعــاىل مــن أباطيــل املرجفــن ،وتحريفــات املتشــددين ،والحفــاظ عــى صــورة
اإلســام الحضاريــة ،وجوهــره األصيــل الداعــي إىل الرحمــة والســاحة ،وكانت
هــذه االسـراتيجية قامئــة ومســتمرة يف جميــع مراحل دولــة اإلمــارات العربية
املتحــدة ،تتلقــى الدعــم مــن قيادتهــا ورجالهــا؛ ملــا يكتســيه الشــأن الدينــي
مــن أهميــة بالغــة ،وكانــت ســمة الخطــاب الدينــي اإلمــارايت وخصيصتــه
التــي ميتــاز بهــا عــن الخطابــات املعــارصة الرائجــة؛ أنــه مل ينحــرف يومــا عــن
قيــم العالقــات اإلنســانية ،والتعايــش والتســامح؛ بــل جعلهــا قيــا يسرتشــد
بهــا ويســر تحــت ظلهــا.
ولهــذا فإننــا نجــد الخطــاب الدينــي مبــا يشــمله مــن مبــادرات وفعاليــات
وأنشــطة؛ ســواء عــن طريــق الوســائل التقليديــة؛ كالخطــب ودروس الوعــظ
والنــدوات واملؤمت ـرات وامللتقيــات ،أو الفتــوى واإلجابــة عــن االستفســارات،
أو مختلــف اإلصــدارات مــن كتــب ومجــات ،أو عــن طريــق وســائل
التواصــل االجتامعــي الحديثــة والوســائل اإلعالميــة العامــة؛ تتجــى فيــه تلــك
االس ـراتيجية التــي ترنــو لحاميــة املجتمــع اإلمــارايت مــن األخطــار ،وترســيخ
القيــم اإلنســانية النبيلــة يف ربوعــه.
250
ومل يكــن هــذا الخطــاب ليحظــى بالنجــاح الباهــر ،ويتســم باالزدهــار والنمــو،
ويحالفــه التوفيــق ،لــو مل يكــن أساســه هــو الضبــط مبختلــف الوســائل
املتقدمــة؛ فكانــت الخطبــة هادفــة محكمــة ،والفتــوى واقعيــة مؤصلــة،
ودروس املســاجد مختــارة بعنايــة ،واملــوارد البرشيــة الدينيــة منتقــاة بدقــة،
فأحــرز الخطــاب الدينــي بســبب تلــك العنايــة التميــز ،وارتقــى ليكــون
خطابــا حضاريــا أمنوذجيــا ،تتطلــع إىل مثلــه كافــة الشــعوب والــدول.
إن هــذا التوجــه للخطــاب الدينــي الــذي تــم وصفــه ســيبقى نظريــة عادية لو
مل يكــن لــه وجــود ومامرســة عــى أرض الواقــع ،ولكــن مامرســات املؤسســات
الدينيــة الرســمية يف اإلمــارات ،وحزمهــا يف ضبــط الخطــاب الدينــي؛ جعــل
ملموســا ،ونه ًجــا بــارزًا .وميكــن حــر مالمــح الخطــاب
ً هــذه النظريــة واق ًعــا
الدينــي يف املجــاالت التاليــة:
- 1مامرسة االعتدال واالتزان والتوسط وجعلها واق ًعا يف الفتوى والوعظ.
- 2الرتكيــز عــى تعزيــز ثقافــة التســامح الدينــي والتعايــش واالحــرام
املتبــادل بــن جميــع أفــراد املجتمــع.
- 3التشــبث مبذهــب التيســر والتســهيل بــدل التشــدد ،مــا جعــل املرجعيــة
الفقهيــة والدينيــة والفكريــة تكــون متنوعــة مرنة.
- 4التفاعــل مــع الهويــة الثقافيــة لدولــة اإلمــارات العربيــة املتحــدة وإرثهــا
الحضــاري والدينــي.
- 5االســتجابة لحاجــات املجتمــع مبراعاتــه للتطــورات املعــارصة واســتخدام
وســائله الحديثــة يف خدمــة الخطــاب الدينــي(.)1
ويبقــى التســامح الصفــة اللصيقــة بالخطــاب الدينــي اإلمــارايت ،وأحــد املعــامل
البــارزة فيــه؛ فــا تشــهده دولــة اإلمــارات مــن تعدديــة ثقافيــة وقبــول لآلخر
وتعايــش املئــات مــن اإلثنيــات عــى أرضهــا؛ مــع اســتيعاب الخطــاب الدينــي
لهــا جميعــا مــا هــو إال دليــل عــى اتســام هــذا الخطــاب بــكل مقومــات
التســامح والتعايــش.
- 1ينظر :د .محمد يونس ،تجديد الخطاب الديني يف دولة اإلمارات العربية املتحدة( ،دار هامليل – أبو ظبي2017 ،م)،
ص ،75وما بعده.
251
وقــد أوضحــت الهيئــة العامــة للشــؤون اإلســامية واألوقــاف املرشفــة عــى
الخطــاب الدينــي« :أنهــا جعلــت يف خطتهــا االسـراتيجية نــر فكــر االعتــدال
والوســطية والتســامح ،وبــث روح األلفــة والتعــارف بــن النــاس؛ مــن
متطلعــات الثوابــت اإلســامية الصافيــة ،وتوجهــات القيــادة الحكيمــة»(.)1
ويف تقريــر أصدرتــه مؤسســة «وطنــي» تحــت عنــوان« :حصــاد اســتزراع
التســامح يف دولــة اإلمــارات» ،أكــد التقريــر ِحــرص «الهيئــة العامــة للشــؤون
اإلســامية واألوقــاف عــى تعزيــز قيمــة التســامح الدينــي والتعايــش الســلمي
فـــي املجتمــع اإلمــارايت ،ونبــذ كافــة أشــكال التمييــز والعنــف والكراهيــة؛
مــن خــال تنفيــذ عــدد مــن املحــارضات الوعظيــة التوعويــة ضمــن خطــة
وعظيــة ســنوية موحــدة ،عــى مســتوى فــروع الهيئــة فـــي الدولــة ،تناولــت
هــذه الخطــط مجموعــة مــن املوضوعــات واملحــاور التــي تــم تفعيلهــا
فـــي أغلــب املســاجد»( ،)2يف عناويــن مختلفــة مختــارة بدقــة تراعــي هــذا
الجانــب املهــم لــدى مختلــف ســكان دولــة اإلمــارات العربيــة ،كــا أن الهيئــة
العامــة للشــؤون اإلســامية واألوقــاف املرشفــة عــى الخطــاب الدينــي يف
دولــة اإلمــارات« :عملــت عــى تفعيــل الكتــاب املوحــد لــدروس املســاجد
فـــي كافــة مســاجد الدولــة ،وتكليــف كافــة األمئــة بق ـراءة الكتــاب املقــرر
ثالثــة أيــام فـــي األســبوع بعــد صــاة العــر مبــارشة ،ملــدة تـراوح مــن ()5
إىل ( )8دقائــق»(.)3
ونــص التقريــر عــى أهميــة خطبــة الجمعــة واملحــارضات الدينيــة ،ودورهــا
املركــزي يف تعزيــز فكــر التســامح يف املجتمــع حيــث قــال« :كــا ســاهمت
الهيئــة العامــة للشــؤون اإلســامية واألوقــاف عــر خطــب الجمعة فـــي تعزيز
قيــم التســامح والتعايــش الســلمي ،ونبــذ كافــة أشــكال التمييــز والعنــف
والكراهيــة عــن طريــق تنفيــذ عــدد مــن الخطــب الدينيــة التوعويــة… وتــم
تنفيــذ محــارضات دينيــة ركــزت عــى محــاور أساســية أبرزهــا :التســامح
- 1البيان اإلماراتية ،تاريخ 22 :مارس ،2010تقرير بعنوان« :الشؤون اإلسالمية واألوقاف» تصدر كتايب التسامح ،واملصارف
الوقفية.
- 2نفسه ،تاريخ 29 :مارس ،2018مقال بعنوان :جهود إماراتية حثيثة لتعزيز التعايش السلمي «استزراع التسامح» حصاد
اعتدال الخطاب الديني ،فادية هاين.
- 3نفسه.
252
وأثــره يف الفــرد واملجتمــع ،واإلمــارات أمنــوذج فـــي التســامح ،وجهــود الدولــة
فـــي تحقيــق العــدل وبــذل الســام ،وتحقيــق الســلم املجتمعــي والتعايــش
اإليجــايب املشــرك ،واملحافظــة عــى وحــدة الصــف يعصــم الفــن ،والوقــف
وتحقيــق التكافــل االجتامعــي ،والتعايش الســلمي ،والتســامح ســمة حضارية،
والتشــدد ومظاهــره ،ومظاهــر اليــر فـــي اإلســام ،والرتابــط والرتاحــم ســمة
حضاريــة»(.)1
وليــس التميــز يف االهتــام بالخطــاب الدينــي فحســب ؛ بــل قــد نــال بنــاء
مضامــن هــذا الخطــاب أهميــة كــرى يف هــذه االســراتيجية ،فاملواضيــع
املطروقــة تتميــز بواقعيتهــا وانطالقهــا مــن حاجــات املجتمــع ،ودعوتهــا
للقيــم اإلنســانية املشــركة ،كــا أنهــا ليــس فيهــا تســييس أو تقويــض ،ألنهــا
ترنــو إىل بنــاء قيــم التســامح عــى املــدى القريــب والبعيــد ،فهــي منظومــة
قيمــة مــن املوضوعــات يتــم تناولهــا يف الــدروس والخطــب ،مثــل قيــم الســلم
والســام ،والتعايــش بــن النــاس ،وأهميــة التعــارف ،وقيمــة الحــوار والحكمة،
وإقامــة العــدل والدعــوة لالعتــدال ،والتذكــر بالتعــاون والتكافــل والتآلــف
املجتمعــي ،والحــض عــى فعــل الخــر وإســدائه للنــاس جمي ًعــا ،والدعــوة
لألخــاق الحســنة والقيــم الفاضلــة ،وإشــاعة املــودة واملحبــة ،وحــب جميــع
النــاس وقضــاء حوائجهــم.
كــا أن الخطــاب الدينــي اإلمــارايت يركــز يف محــاوره املهمــة عــى معالجــة
قيــم املواطنــة وترســيخها ،ومســؤولية األفــراد عــى أوطانهــم ،وأهميــة
الوحــدة واالتحــاد وأثرهــا فـــي اســتقرار األوطــان ،ورعايــة الحقــوق ،ومنهــا
عــى الخصــوص حقــوق اآلخريــن مثــل العــال ،وتعزيــز ثقافــة عــدم إيــذاء
اآلخريــن يف معتقداتهــم وأبدانهــم وممتلكاتهــم.
إن الخطــاب الدينــي يف دولــة اإلمــارات مــروع متكامــل يف متيــزه
واس ـراتيجيته ومضامينــه ووســائله وعالقاتــه باملخاطبــن ،وهــو يف كل ذلــك
يعكــس قيــم دولــة اإلمــارات وتوجههــا العــام يف التطويــر والبنــاء والتجديــد
واالنفتــاح عــى العــامل.
- 1نفسه.
253
وإن تجربــة دولــة اإلمــارات يف مجــال الخطــاب الديني تجربة ملهمــة ملن أراد
القضــاء عــى التطــرف ،واملشــاريع العلميــة والفكريــة الضخمــة التــي دعمتها
الدولــة يف هــذا املجــال ،واســتقطبت ألجلهــا خــرات وكفــاءات معروفــة
ومشــهود لهــا؛ كانــت مثــاال بــارزا لنجاحــات هــذه الدولــة ،حيــث قطعــت
مــع الفــوىض التــي يجــري بهــا العمــل يف هــذا الجانــب ،مــن اســتغالل الديــن
وتوظيفــه يف هــدم العقــول واألوطــان ،فضبطــت املجــال الدينــي ،وأصبــح
يســهم يف الوعــي الدينــي والوطنــي بعيــدا عــن تجييــش النفــوس.
واملؤسســات الدينيــة اليــوم يف دولــة اإلمــارات تعتــر أمنوذجــا حضاريــا يشــار
إليهــا يف كل مــكان؛ مبــا متثلــه مــن منهــج التوســط واالعتــدال والتســامح،
فقــد أصبــح الخطــاب الدينــي اليــوم بفضــل هــذه اليقظــة املبكــرة والرؤيــة
الواضحــة ،عامــل بنــاء وتنميــة وطأمنينــة وحكمــة ،حرســت بــه اإلمــارات
ديــن اللــه تعــاىل مــن الخاطفــن ،فصــارت األديــان فيهــا تــؤ ِّدي دورهــا كــا
أرادهــا اللــه تعــاىل؛ تُشــبع ظــأ النــاس ،وت َخــدم أوطانهــم ،وت ُحافــظ عــى
مصالحهــم ،وســيحفظ التاريــخ لهــذه الدولــة أنهــا وقفــت يف وجــه خاطفــي
الديــن وأقامــت ديــن اللــه تعــاىل حنيفــا ســاملا مــن الشــوائب ،وهــذا مــن
أعظــم النتائــج املحققــة ،كــا قدمــت للعــامل الصــورة الحضاريــة لإلســام؛ بأنه
ديــن رحمــة وتعايــش وســام ،مــن خــال هــذه التجربــة اإلماراتيــة املرشقــة.
ولــي نقــف عــى عينــات واقعيــة مــن إنتــاج الخطــاب الدينــي يف دولــة
اإلمــارات ،واختياراتهــا املــرزة لنضــج هــذا الخطــاب وتطــوره ،وتوظيفــه يف
مصلحــة اإلنســان والوطــن ،نســتعري مــن املركــز الرســمي لإلفتــاء يف دولــة
اإلمــارات منــاذج مــن الفتــاوى التــي أصدرهــا يف العقــد األخــر ،وال شــك
أن الفتــوى عنــر أســاس يف هــذا الخطــاب ،وقــد كان لدولــة اإلمــارات
قصــب الســبق يف ضبطهــا ،وبنــاء أمنــوذج رفيــع مــن الفتــاوى البنــاءة التــي
أمــدت املجتمــع مبــا يحتاجــه مــن ال ُحكــم الرشعــي املوافــق لثقافتــه وهويتــه
واملحافــظ عــى اســتقراره وتنميتــه واســتدامته ،وســأخصص املطلــب الثــاين
لنــاذج مــن فتــاوى املركــز الرســمي لإلفتــاء.
254
املطلــب الثــاين :دراســة منــاذج مــن فتــاوى إدارة املركــز الرســمي لإلفتــاء
بدولــة اإلمــارات العربيــة املتحــدة
يــأيت عــى رأس هــذه النــاذج؛ فتــوى يف التعامــل مــع غــر املســلمني ،فقــد
ورد املركــز ســؤال ينطلــق مــن حاجــة املجتمــع الــذي يعيــش فيــه الفــرد بــن
مختلــف الجـران عــى اختــاف أديانهــم؛ إىل إقامــة مناســبات العـزاء .وهــذا
نــص الفتــوى:
الســؤال« :هــل يجــوز الذهــاب اىل عـزاء مســيحي؟ مــع العلــم أنــه احتــال
أن يقومــوا بتشــغيل ترانيمهــم؟
اإلجابــة :بــارك اللــه فيــك ،يجــوز تعزيــة غــر املســلمني ،دون املشــاركة يف
طقــوس عبادتهــم يف تشــييع جنائزهــم ،فقــد جــاء اإلســام مبحاســن األخــاق
وكــال الصفــات ومعرفــة حقــوق الجــوار للمســلمني وغــر املســلمني يف كل
﴿ل يَن َه ٰى ُك ـ ُم ٱللَّ ـ ُه َعــنِ ٱل َِّذي ـ َن لَــم يُ َٰق ِتلُوكُــم ِف ٱل ِّديــنِ
األمــور ،قــال تعــاىلَّ :
َولَــم يُخ ِر ُجوكُــم ِّمــن ِديَٰ ِركُــم أَن ت َ َُّبو ُهــم َوت ِ
ُقســطُ ٓوا ْ إِلَيهِــم إِ َّن ٱللَّــ َه يُ ِح ُّ
ــب
ـط َني﴾( .)1وتكــون التعزيــة بالقــول بــكل لفــظ يظهــر حســن املواســاة ُقسـ ِ
ٱمل ِ
مــا تعــارف عليــه النــاس ،ومل مينــع منــه الــرع ،فيدعــو لهــم بــأن يخلفهــم
اللــه خـرا يف مصيبتهــم ويجــر مصابهــم ،ويتكلــم معهــم مبــا يناســب املقــام
ويُط ِّيــب الخواطــر ،قــال العالمــة الحطــاب املالــي رحمــه اللــه يف كتابــه
«مواهــب الجليــل»…« :للرجــل أن يعــزي جــاره الكافــر مبــوت أبيــه الكافــر
لذمــام الجــوار ،فيقــول :أخلــف اللــه لــك املصيبــة ،وج ـزاه أفضــل مــا جــزى
بــه أحـ ًدا مــن أهــل دينــه)( .)2بــل إ َّن ذلــك مــن الــر املطلــوب؛ الــذي يطلــب
إظهــاره لتتضــح حقائــق اإلســام يف الــر واإلحســان يف التعامــل مــع غــر
املســلمني ،خاصــة يف أوقــات محاولــة التشــويه لإلســام ،وهــذا كلــه مــن
حســن الجــوار ،واللــه تعــاىل أعلــم»(.)3
255
وهــذا أمنــوذج آخــر مــن فتــاوى املركــز يجيــب فيــه املفتــون عــن إشــكال
مخالطــة غــر املســلمني:
الســؤال« :عندمــا أكــون ذاهبــا إىل املســجد أحــب أن أكــون عــى وضــوء،
ي، ولكــن يف أثنــاء ذهــايب يف الطريــق يقابلنــي أحــد العــال ويســلم عــ َّ
وهــؤالء العــال أكرثهــم غــر مســلمني ،لــذا فإننــي أعيــد وضــويئ مــرة أخــرى،
فهــل هــذا مــا ينبغــي أن أقــوم بــه أم ال؟
اإلجابــة :فبــادئ ذي بــدء البــد أن تعلــم أخــي الســائل ،أن اللــه ســبحانه
ــي َءا َد َم﴾( .)1وهــذا وتعــاىل قــد كــرم اإلنســان فقــالَ ﴿ :ولَقَــد كَ َّرم َنــا بَ ِن ٓ
التكريــم شــامل لجميــع البــر مهــا كانــت أجناســهم وأعراقهــم ودينهــم،
وأن مصافحــة اإلنســان لإلنســان تحقــق معنــى مــن التعــارف والتواصــل
ـاس إِنَّــا َخلَق َٰن ُكــم الــذي طلبــه اللــه ســبحانه وتعــاىل منــا بقولــه﴿ :يَٰٓأَيُّ َهــا ٱل َّنـ ُ
ـى َو َج َعل َٰن ُكــم شُ ـ ُعوبٗا َوقَبَآئِـ َـل لِتَ َعا َرفُـ ٓوا ْ إِ َّن أَك َر َم ُكــم ِعنـ َد ٱللَّـ ِه ِّمــن َذكَـ ٖر َوأُنثَـ ٰ
أَت َق ٰى ُكــم إِ َّن ٱللَّـ َه َعلِيـ ٌم َخ ِبـ ٞر﴾( ،)2وإن ترصفــك هــذا مل يــرد فيــه حكــم رشعي
معتــر .ولعلــه قــد أشــكل عليــك قولــه تعــاىل﴿ :يَٰٓأَيُّ َهــا ٱل َِّذي ـ َن َءا َم ُن ـ ٓوا ْ إِنَّ َــا
ـس﴾( .)3فــإن النجــس املشــار إليــه يف اآليــة الكرميــة نجــس رشكُــو َن نَ َجـ ٞ ٱمل ُ ِ
نجســا حســيا باتفــاق جامهــر أهــل العلــم ،يقــول املرغينــاين: معنــوي ،وليــس ً
ـر ِك ِف ا ْع ِت َقــا ِد ِه َل ِف ظَاه ـ ِره»( ) .هــذا وفــوق كل ذي علــم
ِ ِ 4
« َونَ َج َاس ـ ُة الْ ُمـ ْ ِ
عليــم»(.)5
ويف مجتمــع يتكــون مــن أديــان مختلفــة يواجــه بعــض املســلمني الحــرج يف
تبــادل الزيــارات مــع غــر املســلمني ،فيتدخــل املركــز إليجــاد الحلــول لهــم،
ونقــدم عــى ذلــك املثــال اآليت:
«الســؤال :وعــدت زميــايت يف العمــل أن أدعوهــن يف منــزيل… وأنــا محرجــة
256
مــن هــذا الوعــد… ،فهــل يجــوز يل أن أدخلهــن يف منــزيل ،فهــن ملتزمــات
غــر أنهــن غــر مســلامت؟
اإلجابــة :فنســأل اللــه العــي القديــر أن يجعلــك مــن أهــل الوفــاء واإلحســان،
وال مانــع رش ًعــا مــن دعــوة زميالتــك غــر املســلامت إىل منزلــك ،ويســتحب
أن تفــي مبــا وعــدت بــه .واإلحســان إىل جميــع النــاس هــو خلــق إســامي
أصيــل ،ويتأكــد ذلــك اإلحســان يف حــق الجــار يف العمــل حتــى ولــو كان غــر
مســلم .ومــا يؤكــد هــذا املعنــى مــا يف ســنن الرتمــذي أن عبــد اللــه بــن
عمــرو ريض اللــه عنــه ذُبحــت لــه شــاة يف أهلــه ،فلــا جــاء قــال :أهديتــم
لجارنــا اليهــودي؟ أهديتــم لجارنــا اليهــودي؟ ســمعت رســول اللــه صــى اللــه
ــت أَنَّــ ُه ِيــل يُ ِ
وصي ِنــي بِالْ َجــا ِر َحتَّــى ظَ َن ْن ُ عليــه وســلم يقــولَ { :مــا ز ََال ج ِْب ُ
َس ـ ُي َو ِّرث ُه}( .)1قــال الحافــظ ابــن حجــر رحمــه اللــه يف كتابــه فتــح البــاري:
كل «واســم الجــار يشــمل املســلم والكافــر والعابــد والفاســق… فيعطَــى ٌ
حقــه بحســب حالــه»( .)2واللــه تعــاىل أعلــم»(.)3
واملركــز الرســمي لإلفتــاء مؤســس عــى مراعــاة التعايــش والتســامح بــن
املســلمني وغريهــم؛ ففــي كل فتاويــه يســتحرض هــذا الجانــب املؤصــل يف
هــذا الفتــوى الصــادرة عــن املركــز:
«الســؤال :مــا رأي اإلمــام مالــك رحمــه اللــه وموقفــه مــن غــر املســلمني
ســواء داخــل الدولــة اإلســامية أو خارجهــا ،وســواء كانــوا مســاملني أو
معتديــن ،وهــل هنــاك كتــاب يبــن فيــه اإلمــام مالــك رحمــه اللــه -أو مــن
يَنقــل عنــه -مســائل التعامــل مــع غــر املســلمني؟
اإلجابــة :أســأل اللــه يل ولــك التوفيــق ،ثــم اعلــم رحمنــي اللــه وإيــاك :أ َّن
العالقــة بــن املســلم وغــره يجــب أن تقــوم عــى أســاس املعاملــة اإلنســانية
واملســامحة التــي تعلمناهــا مــن تعاليــم ديننــا وفعــل رســولنا ســيدنا محمــد
257
صــى اللــه عليــه وســلم؛ فقــد أخــرج أبــو داوود يف ســننه عــن صفــوان بــن
ســليم ،عــن ِعـ َّدة مــن أبنــاء أصحــاب رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم عن
آبائهــم عــن رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم قــال{ :أَ َل َمـ ْن ظَلَـ َم ُم َعا ِه ًدا،
ـس، ـب نَ ْفـ ٍ ـر ِطيـ ِ أَ ِو انْتَق ََص ـ ُه ،أَ ْو كَلَّ َف ـ ُه فَ ـ ْو َق طَاقَ ِت ـ ِه ،أَ ْو أَ َخ ـ َذ ِم ْن ـ ُه شَ ـ ْيئًا ِب َغـ ْ ِ
فَأَنَــا َحجِي ُجـ ُه يَـ ْو َم الْ ِق َيا َمـ ِة}(.)1
ومــا يــدل عــى عظيــم تســامحه صــى اللــه عليــه وســلم مــع غــر املســلمني؛
مــا جــاء يف كتــب الســر يف خــر وفــد نجـران يف «نــور اليقــن»« :وفــد نصــارى
ـر ِة وأرديــة نج ـران ،وكانــوا ســتني راك ًبــا ،دخلــوا املســجد وعليهــم ثيــاب ِ
الحـ َ َ
الحريــر ،مختَّمــن بالذهــب ،ومعهــم بســط فيهــا متاثيــل ،ومســوح جــاءوا بهــا
هديــة للنبــي صــى اللــه عليــه وســلم ،فلــم يقبــل البســط وقبــل امل ُُســوح.
وملــا جــاء وقــت صالتهــم صلــوا يف املســجد مســتقبلني بيــت املقــدس ،وملــا
أمتــوا صالتهــم دعاهــم عليــه الصــاة والســام لإلســام…»(.)2
هــذا مــن ســاحة ديننــا الحنيــف ورحمتــه بالعاملــن ،كذلــك البـ َّد أن تكــون
هــذا العالقــة مضبوطــة بالضوابــط التــي حددهــا الــرع ،وخاصــة يف هــذا
ال َّزمــان الــذي التبســت فيــه األمــور ،وقــد وضــع اإلســام أسســا عامــة تحكــم
تعامــل املســلم مــع أصحــاب الديانــات األخــرى ،وغريهــم إذا كانــوا غــر
محاربــن للمســلمني ،وهــذه ال يختلــف فيهــا املذهــب املالــي عــن غــره،
ومــن هــذه األســس:
.1جــواز األكل مــن ذبائحهــم بــرط أن يكونــوا أهــل كتــاب ،وبــرط
أال تكــون ميتــة أو منخنقــة أو موقــوذة ،وإمنــا ذبحــت ذب ًحــا رشع ًّيــا ،كــا
ـتأ َّن طعــام املســلم حــال لهــم ،لقولــه تعــاىل﴿ :ٱل َيــو َم أُ ِحـ َّـل لَ ُك ـ ُم ٱلطَّ ِّي َٰبـ ُ
ـب ِحـ ّٞـل لَّ ُكــم َوطَ َعا ُم ُكــم ِحـ ّٞـل لَّ ُهــم﴾( .)3فللمســلم َوطَ َعــا ُم ٱل َِّذيـ َن أُوتُــوا ْ ٱل ِكتَٰـ َ
أن يــأكل مــن ذبائحهــم ومــن ســائر طعامهــم ،إذا خــا مــن محــرم كالخمــر،
أو الخنزيــر ،أو النجــس ،أو الــيء الضــار.
258
- 2اإلحســان إليهــم ،ومعاملتهــم بالعــدل ،مــا دامــوا مســاملني ،قــال تعــاىل:
﴿ل يَن َه ٰى ُك ـ ُم ٱللَّ ـ ُه َعــنِ ٱل َِّذي ـ َن لَــم يُ َٰق ِتلُوكُــم ِف ٱل ِّديــنِ َولَــم يُخ ِر ُجوكُــم ِّمــن
َّ
ـط َني﴾( ).
1 ُقسـ ِ
ـب ٱمل ِ ِديَٰ ِركُــم أَن ت َ َُّبو ُهــم َوت ِ
ُقس ـطُ ٓوا ْ إِلَي ِهــم إِ َّن ٱللَّ ـ َه يُ ِحـ ُّ
- 3أورد اإلمــام البخــاري يف صحيحــه ،عــن أســاء بنــت أيب بكــر ريض اللــه
ي أمــي وهــي مرشكــة يف عهــد رســول اللــه صــى عنهــا قالــت :قدمــت ع ـ َّ
اللــه عليــه وســلم ،فاســتفتيت رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم ،قلــت:
إن أمــي قدمــت وهــي راغبــة ،أفأصــل أمــي؟ قــال{ :نعــم ،صــي أمــك}(.)2
- 4جــواز التعامــل معهــم بالبيــع وال ـراء ،والقــرض ،والرهــن وغريهــا مــن
هــدي النبــي صــى اللــه عليــه ُ وجــوه املعامــات الرشعيــة ،وهكــذا كان
وســلم ،ففــي الصحيحــن عــن عائشــة ريض اللــه عنهــا قالــت« :تــويف رســول
اللــه صــى اللــه عليــه وســلم ودرعــه مرهونــة عنــد يهــودي يف ثالثــن صاعــا
مــن شــعري»( .)3واللــه تعــاىل أعلــم»(.)4
ومــن املجــاالت التــي يتجــى فيهــا التعايــش بــن املســلمني وغريهــم ،وتتكــرر
كل ســنة ،وللخطــاب الدينــي دور أســاس يف تغذيــة التســامح والحفــاظ عليــه
فيهــا ،واالســتجابة لحاجــة املجتمــع ومصالحــه مــع عــدم إحــداث أي رشخ
بــن أفـراده؛ تلــك القضايــا املتعلقــة بأعيــاد غــر املســلمني ،مــن املشــاركة يف
االحتفــاالت ،وتهنئتهــم ،وقبــول هداياهــم بســبب مناســباتهم ،وكان للمركــز
الرســمي لإلفتــاء عنايــة بدراســة هــذا املوضــوع والنظــر فيــه ،واعتبــار مصلحة
املجتمــع اإلمــارايت والتعايــش القائــم بــن األجنــاس املتواجــدة فيــه ،فأصــدر
املركــز مجموعــة مــن الفتــاوى تنظــم اإلفتــاء يف هــذا املجــال بعــد اســتقراء
األســئلة الــواردة يف هــذه املناســبة ،وألــزم املركــز جميــع املفتــن بالتقيــد بهــا
وعــدم الخــروج عــن مضمــون هــذه الفتــاوى توحيــ ًدا للفتــوى يف املركــز.
ويف كل رأس ســنة ميالديــة تــأيت ســيول مــن األســئلة املتعلقــة مبســائل مــن
- 1سورة املمتحنة ،اآلية.8 :
شكِ َني ،ج 3ص .164 اب ال َه ِديَّ ِة لِلْ ُم ْ ِ
- 2البخاري ،الجامع الصحيح ،رقم )2620( :كتاب الهبة ،بَ ُ
اب َما ِق َيل ِف ِد ْر ِع ال َّنب ِِّي صىل الله عليه وسلم، - 3البخاري ،الجامع الصحيح ،رقم )2916( :كتاب الجهاد والسري ،بَ ُ
َوال َق ِميص ِف ال َح ْر ِب ،ج 4ص .41
- 4أرشيف املركز الرسمي لإلفتاء بدولة اإلمارات العربية املتحدة .عنوان الفتوى( :هد ُْي الرشيعة اإلسالمية يف التعامل مع
غري املسلمني) برقم .3306 :تاريخ صدورها.2009/01/10 :
259
قبيــل حكــم التهنئــة وإقامــة االحتفــاالت وقبــول الهدايــا وغريهــا من املســائل
التــي يكــر اآلن الســؤال حولهــا مــن قبــل املســتفتني ،وهــذه هــي األجوبــة
املعتمــدة يف املركــز:
«الســؤال :مــا حكــم االحتفــال بالكريسمـــس (ميــاد املســيح) ،وإظهــار ذلــك
يف دولـ ٍة شــعبُها األصــي كلــه مســلم؟
الجــواب :وفقنــا اللــه تعــاىل وإياكــم للخــر وأعاننــا عليــه ،واعلــم -أخــي
الكريــم -أ َّن املســيح عليــه الســام مــن أُ ِوىل العــزم مــن الرســل ،وأ َّن اإلميــان
بــه وبرســالته يعتــر أحــد أركان اإلميــان يف ديننــا الحنيــف؛ قــال اللــه تعــاىل:
ـول بِ َـآ أُنـز َِل إِلَيـ ِه ِمــن َّربِّـ ِه َوٱمل ُؤ ِم ُنــو َن ك ٌُّل َءا َمـ َن بِٱللَّـ ِه َو َملَٰٓ ِئ َك ِت ِه
﴿ َءا َمـ َن ٱل َّر ُسـ ُ
َوكُتُ ِبـ ِه َو ُر ُسـلِ ِه َل نُ َفـ ِّر ُق بَـ َن أَ َحـ ٖـد ِّمــن ُّر ُسـلِ ِه َوقَالُــوا ْ َسـ ِمع َنا َوأَطَع َنــا غُف َرانَـ َـك
َربَّ َنــا َوإِلَيـ َـك ٱمل َِص ـ ُر﴾( .)1وكان ميــاده ســاما ،وحياتــه مباركــة؛ قــال اللــه
ــي ٱل ِكتَ َ
ٰــب َــال إِ ِّن َعبــ ُد ٱللَّــ ِه َءاتَىٰ ِن َ
تعــاىل حكايــة عنــه عليــه الســام ﴿ :ق َ
ِٱلصلَ ـ ٰو ِة َوٱل َّز كَ ـ ٰو ِةوص ِنــي ب َّ َ
ـت َوأ َٰ َو َج َعلَ ِنــي نَ ِب ّيٗــا َو َج َعلَ ِنــي ُم َبــا َركًا أَي ـ َن َمــا كُنـ ُ
ـت َح ّيٗــا َوبَـ َّرا ِب َٰولِـ َد ِت َولَــم يَج َعل ِنــي َج َّبــا ٗرا شَ ـ ِق ّيٗا﴾( .)2وانطالقــا مــن َمــا ُدمـ ُ
تكريــم ســيدنا عيــى يف القــرآن ،وذكــر ميــاده فــا مانــع مــن احتفــال
املســيحيني الذيــن يعيشــون بيننــا مبيــاد املســيح عليــه الســام؛ وذلك حســب
ـص دســتور الدولــة عــى مــا تســمح بــه األنظمــة والقوانــن يف الدولــة ،وقــد نـ َّ
احـرام شــعائرهم؛ فقــد جــاء يف املــادة رقــم ( )32مــن قانــون دولــة اإلمــارات
العربيــة املتحــدة« :حريــة القيــام بشــعائر الديــن طبقــا للعــادات املرعيــة
املصونــة ،عــى أال يخـ َّـل ذلــك بالنظــام العــام ،أو ينــايف اآلداب العامــة».
وهــذه االحتفــاالت قــد أُقــروا عليهــا يف بــاد املســلمني التــي يعيشــون فيهــا،
﴿لٓ إِكـ َرا َه ِف ٱل ِّديــنِ ﴾( ،)3كــا كفلــت لهــم الرشيعــة أخــذا مــن قولــه تعــاىلَ :
حقوقهــم؛ ومنهــا مواســمهم وأعيادهــم ،مــع رضورة االلتــزام باألنظمــة
ــى ِدي ِنهِــ ْمَ ،ويَكُونُــو َن والقوانــن ،ففــي املوطــأ لإلمــام مالــكَ « :ويُقَــ ُّرو َن َع َ
260
َعـ َـى َمــا كَانُــوا َعلَ ْيـ ِه»( .)1فلــم يــر اإلمــام مالــك التعــرض لهــم باملنــع مطلقــا
وإنَّ ــا منعهــم يف حالــة اإلرضار ،وهــي التــي يقدرهــا ويقررهــا القانــون ،واللــه
تعــاىل أعلــم»(.)2
ومــن الفتــاوى املعــدة لإلفتــاء يف املركــز الرســمي لإلفتــاء يف حكــم تهنئــة
املســلمني بأعيادهــم هــذه الفتــوى:
«الســؤال :مــا حكــم تهنئــة غــر املســلمني بأعيادهــم كاالحتفــال مبيــاد
املســيح عليــه الســام؟
الجــواب :وفقنــا اللــه تعــاىل وإياكــم ملرضاتــه ،فإنــه ال مانــع مــن تهنئــة غــر
املســلمني بذكــرى ميــاد املســيح عليــه الصــاة والســام بعبــارات حســنة
ـاس ُحس ـ ٗنا﴾( .)3وال ســيام إذا كان بينهــا عمــا بقولــه تعــاىلَ ﴿ :وقُولُــوا ْ لِل َّنـ ِ
صلــة رحــم أو عالقــة صداقــة أو جــوار ،أو رابطــة عمــل أو تجــارة أو معرفــة
أو غــر ذلــك مــن أنــواع الروابــط والصــات ،هــذا مــا تــدل عليــه األدلــة
العامــة للرشيعــة اإلســامية واملصالــح املعتــرة ،وتدعــو إليــه أســس التعايــش
والتســامح التــي أكــد عليهــا ديننــا الحنيــف وأصبحــت جــزءا مــن ثقافتنــا
وأخالقنــا ،ومــا يــدل عــى جــواز ذلــك مــا يــأيت:
حديــث عبــد اللــه بــن الزبــر ريض اللــه عنــه قــال« :ق َِد َمــت قتيلــة عــى ابنتها
أســاء بنــت أيب بكــر بهدايــا… فأبــت أســاء أن تقبــل هديتهــا وتدخلهــا
بيتهــا ،فســألت عائشــة النبــي صــى اللــه عليــه وســلم ،فأنــزل اللــه ،عــز
﴿ل يَن َه ٰى ُكـ ُم ٱللَّـ ُه َعــنِ ٱل َِّذيـ َن لَــم يُ َٰق ِتلُوكُــم ِف ٱل ِّديــنِ َولَــم يُخ ِر ُجوكُــم
وجــلَّ :
ــط َني﴾( ).
4 ُقس ِ
ــب ٱمل ِ ِّمــن ِديَٰ ِركُــم أَن ت َ َُّبو ُهــم َوت ِ
ُقســطُ ٓوا ْ إِلَيهِــم إِ َّن ٱللَّــ َه يُ ِح ُّ
ي أمــي وهــي مرشكــة رواه أحمــد وأصلــه يف الصحيحــن ولفظــه« :قدمــت عـ َّ
يف عهــد رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم ،فاســتفتيت رســول اللــه صــى
اللــه عليــه وســلم ،قلــت :إن أمــي قدمــت وهــي راغبــة ،أفأصــل أمــي؟ قــال:
وس .رقم .)45( :ج 1ص .279 اب ِج ْزيَ ِة أَ ْهلِ الْ ِكتَ ِ
اب َوالْ َم ُج ِ مالك؛ املوطأ :كتاب الزكاة ،بَ ُ -1
أرشيف املركز الرسمي لإلفتاء بدولة اإلمارات العربية املتحدة .من الفتاوى الداخلية التي تعمم عىل املفتني لإلفتاء بها. -2
سورة البقرة ،اآلية.83 : -3
سورة املمتحنة ،اآلية.8 : -4
261
{نعــم ،صــي أمــك}»( .)1وهــذا يــدل عــى حســن التعامــل مــع غــر املســلمني
وحســن صلتهــم ،ومــن ذلــك تهنئتهــم بهــذه املناســبة.
ومــا يــدل عــى جــواز تهنئتهــم؛ أ َّن الرشيعــة اإلســامية أجــازت الــزواج مــن
أهــل الكتــاب؛ فيكــون عــى هــذا :منهــم الزوجــة واألخــوال واألرحــام ،وقــد
ـص ـص القــرآن الكريــم عــى أ َّن الــزواج مبنــي عــى املــودة والســكن ،كــا نـ َّ نـ َّ
عــى وجــوب صلــة األرحــام وكل ذلــك يقتــي حســن املعاملــة ولــن القــول
ومــن ذلــك التهنئــة بأعيادهــم ومناســباتهم.
إ َّن التعايــش مــع غــر املســلمني يف وطــن واحــد واالختــاط معهــم بأنــواع
مــن املخالطــة ،يقتــي التعامــل بالحســنى وحســن التواصــل وتبــادل املنافــع
ملصلحــة الوطــن؛ فقــد يكــون منهــم الطبيــب واملــدرس والتاجــر والجــار
والصديــق ،فلِحفــظ مصلحــة الوطــن ووحدتــه وبنائــه عــى أســس متينــة
يتأكــد تبــادل التهــاين معهــم؛ وهــذا مــا تقتضيــه املصالــح واملنافــع التــي
تــدور معهــا األحــكام .وقــد أمرنــا اللــه تعــاىل بذلــك يف قولــهَ ﴿ :وتَ َعا َونُــوا ْ
ـر َوٱلتَّقـ َو ٰى﴾( .)2وتــزداد أهميــة ذلــك كلــا أضيفــت مصالــح أخــرى. َعـ َـى ٱلـ ِ ِّ
وقــد نُقــل عــن جمــع مــن العلــاء جــواز التهنئــة لغــر املســلمني مــن ذلــك
روايـ ٌة نقلهــا صاحــب اإلنصــاف عــن اإلمــام أحمــد بــن حنبــل بجــواز التهنئــة
مطلقــا ،وبهــا جــزم العالمــة ابــن عبــدوس مــن أصحابــه… ونقــل روايــة
أخــرى بالجــواز عنــد ظهــور املصلحــة اختارهــا كثــر مــن أصحابــه ومنهــم
صاحــب اإلنصــاف نفســه.
فتحصــل مــن ذلــك كلــه :أ َّن تهنئـ َة الشّ ــخص امل ُســلم ملعارِفــه ال ّنصــا َرى بعيـ ِـد
الصــاة والســام -هــي مــن قَبيــل امل ُجاملــة لهــم ميــاد امل َســيح -عليــه ّ
واملحاســنة يف معارشتهــم ،وإن اإلســام ال ينهانــا عــن مثــل هــذه املجاملــة َ
املحاســنة لهــم ،وال س ـ ّيام أ ّن الســيد امل َســيح هــو يف عقيدتنــا اإلســام ّية َ أو
مــن رســل اللــه ال ِعظــام أويل العــزم ،فهــو ُمعظَّــم عندنــا أيضً ــا كــا ذكــر ذلــك
أهــل العلــم .وبنــاء عــى مــا ســبق فإنــه ال يوجــد مانــع رشعــي مــن التهنئــة
262
بذكــرى ميــاد املســيح عليــه الصــاة والســام بعبــارات حســنة ،واللــه تعــاىل
أعلــم»(.)1
ومــن األســئلة الناتجــة عــن التعايــش بــن مختلــف األديــان هــذا الســؤال
وجوابــه املعتمــد يف الفتــوى:
«الســؤال :مــا حكــم تأجــر مــكان إلقامــة االحتفــال بيــوم امليــاد أو تأجــر
موقــع لإلعــان عــن ذلــك؟
الجــواب :ال يحــرم تأجــر مــكان إلقامــة االحتفــال بيــوم ميــاد املســيح ،أو
اإلعــان عــر موقــع يف النــت أو جريــدة ونحــو ذلــك عــن مــكان االحتفــال
ونحــوه ،ألنــه ليــس يف ذلــك إعانــة عــى عــن الحـرام ،وقــد نــص جامعــة مــن
العلــاء عــى أن مــا كان كذلــك ال يحــرم ،كتأجــر بيــت ميكــن أن يقيــم فيــه
مســتأجره احتفــاال مــن االحتفــاالت التــي هــي معتــادة لديهــم؛ وقــد علــل
العالمــة ابــن عابديــن تجويــز ذلــك بقولــه« :ألن اإلجــارة عــى منفعــة البيــت،
ولهــذا يجــب األجــر مبجــرد التســليم ،وال معصيــة فيــه وإمنــا املعصيــة بفعــل
املســتأجر وهــو مختــار فينقطــع نســبيته عنــه… والدليــل عليــه أنــه لــو
آجــره للســكنى جــاز وهــو ال بــد لــه مــن عبادتــه فيــه( .)2واللــه أعلــم»(.)3
ومــن املهــم يف الــدول التــي تراعــي التعايــش بــن املجتمعــات املختلفــة
اعتبــار املقاصــد والنيــات ،وعــدم إطــاق األحــكام الشــاملة لجميــع الصــور.
ويف خامتــة هــذا املطلــب نؤكــد أن الخطــاب الدينــي يعمــل عــى جبهــات
متعــددة ،منهــا جبهــة البنــاء املتقدمــة ،ومنهــا جبهــات أخــرى تقــوم بــدور
تحصــن الداخــل مــن الفكــر املتطــرف ،وتفكيــك الخطــاب الســائد ،وتنقيــة
املفاهيــم وتصحيحهــا ،وذلــك بالرصــد والتحليــل والنقــد والــرد ،وأسســت
الدولــة مؤسســات أخــرى ألداء هــذا الــدور وهــي مؤسســة فاعلــة وطنيــا
- 1أرشيف املركز الرسمي لإلفتاء بدولة اإلمارات العربية املتحدة .عنوان الفتوى( :حكم تهنئة غري املسلمني بأعيادهم)
برقم .97402 :تاريخ صدورها.2018/12/26 :
- 2ابن عابدين؛ محمد أمني بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي الحنفي 1252ه ،رد املحتار عىل الدر املختار( ،دار
الفكر -بريوت ،ط1412 ،2 .ه 1992 -م) ج 6ص .392
- 3أرشيف املركز الرسمي لإلفتاء بدولة اإلمارات العربية املتحدة .من الفتاوى الداخلية التي تعمم عىل املفتني لإلفتاء بها.
263
ودوليــا ،مثــل تأســيس منتدى تعزيــز الســلم يف املجتمعات املســلمة ،ومجلس
حكــاء املســلمني .وإطــاق املركــز الــدويل للتميــز ملكافحــة التطــرف العنيــف
(هدايــة) ومركــز (صــواب) الــذي يبــذل دو ًرا مهـ ًّـا يف التواصــل االجتامعــي،
مــن أجــل تصحيــح املفاهيــم واألفــكار الخاطئــة وتصويبهــا.
264
الفصــل الثالــث :الربنامــج الوطنــي اإلمــارايت للتســامح،
وفيــه مبحثــان:
املبحث األول :التعريف بالربنامج الوطني للتسامح.
املبحــث الثــاين :دور املؤسســات الوطنيــة يف الحفــاظ عــى
التســامح وتطويــره.
الفصل الثالث :الربنامج الوطني اإلمارايت للتسامح
املبحث األول :التعريف بالربنامج الوطني للتسامح
بعــد هــذا الط َوفــان يف أفنــان التســامح يف دولــة اإلمــارات واالطــاع عــى
املســرة التــي قطعهــا يف دولــة اإلمــارات مختلفـ ِة املــوارد واملنابــع ،مــن تـراث
وثقافــة وهويــة لشــعب اإلمــارات ،وإســهامات الرمــوز يف رؤاه ونظرياتــه،
وحاميتــه بوضــع دســاتري وقوانــن تحافــظ عليــه ليكــون قيمــة مجتمعيــة
ومامرســة يوميــة حقيقيــة؛ نقــول :إن كل تلــك العنــارص التــي تقــدم وصفهــا
بدقــة يف الفصــول الســابقة ،هــي مبثابــة غــرس متجــذر ،جنــت بعــده دولــة
اإلمــارات العربيــة املتحــدة مث ـرات عديــدة ،منهــا مثــرة يانعــة متثــل نضــج
ـتقبل مزدهـ ًرا
هــذه التجربــة املتميــزة وتعكــس عمــق رؤيتهــا ،وأن هنــاك مسـ ً
للتســامح عــى أرض دولــة اإلمــارات؛ إنــه الربنامــج الوطنــي للتســامح الفريــد
مــن نوعــه.
وقبــل الحديــث عنــه ال بــد مــن اإلشــارة إىل أهميــة مؤسســة رســمية أخــرى
يف التســامح ودورهــا وهــي «وزارة التســامح» التــي أنشــأتها دولــة اإلمــارات
خاصــا ،يف فربايــر .)1(2016
وعينــت لهــا وزيـ ًرا ً
إن وزارة التســامح التــي تعــد األوىل مــن نوعهــا يف املنطقــة؛ تعمــل عــى
االرتقــاء بثقافــة التســامح وإبـراز أهميتها ،والتعاون والتنســيق مــع القطاعات
الوطنيــة األخــرى لنــر هــذه القيمــة ،وتأكيــد أهميتهــا يف اسـراتيجية دولــة
اإلمــارات ،وتلتــزم بهــا عــى أعــى املســتويات الرســمية« ،وتدعــم موقــف
الدولــة نحــو ترســيخ قيــم التســامح ،والتعدديــة ،والقبــول باآلخــر ،فكريــا
وثقافيًّــا وطائفيــا ودينيًّــا»(.)2
ولقــد كان الربنامــج الوطنــي للتســامح مــن أهــم املشــاريع واآلليــات التــي
تعمــل عــى تحقيــق أهــداف هــذه الــوزارة .ومــن أجــل الوقــوف مــع هــذا
الربنامــج اإلبداعــي املتفــرد ودراســته جعلــت هــذا املبحــث يف مطلبــن:
- 1موقع :البوابة الرسمية لحكومة دولة اإلمارات.
https: www.government.ae ar-AE about-the-uae the-uae-overnment government-of-future tolerance-
in-the-uae
- 2نفسه.
266
املطلب األول :أسس الربنامج الوطني للتسامح
إن رعايــة التســامح مطلــب كبــر ورضورة ملحــة للمتشــبثني بهــذا األســاس
املكــن ،وال ميكــن تحقيــق هــذه الرعايــة وإيفاؤهــا حقهــا إال بتخطيــط
دقيــق ورؤيــة واضحــة ،وإن الربنامــج الوطنــي للتســامح الــذي نحــن بصــدد
تحليلــه هــو الــذي يــؤدي هــذا الغــرض ،فكــا أن الشــجرة ال تثمــر ،بــل قــد
متــوت ،إذا مل يحســن امل ـزارع رعايتهــا ومدهــا بحاجاتهــا البيئيــة املختلفــة؛
كذلــك التســامح إن مل تتــم رعايتــه وصيانتــه ومراقبتــه والتخطيــط المتــداده
ســيتوقف يومــا ال محالــة.
ولهــذا الهــدف تــم إنشــاء الربنامــج الوطنــي للتســامح واعتــاده مــن طــرف
مجلــس الــوزراء ،بتاريــخ 8يونيــو .)1(2016وقــد كان هــذا الربنامــج تجربـ ًة
متميــزةً ،مـ َّـا أدى بكثــر مــن الــدول واملؤسســات املهتمــة بحقــوق اإلنســان
للرتحيــب بــه(.)2
وأول ما يسرتعي االنتباه يف هذا املرشوع الثقايف والقيمي املهم أمران:
األمــر األول :أنــه اختــر لــه بعنايــة اســم «الربنامــج» ،وهــذا يــدل عــى ســداد
الرؤيــة يف تســامح دولــة اإلمــارات ونصوعهــا ووضــوح أهدافهــا املســتقبلية،
ألن الربنامــج يف مفهومــه اللغــوي واالصطالحــي؛ يفيــد أن هنــاك خطــة
مرســومة بعنايــة ،ففــي املعجــم الوســيط ورد أن أحــد معــاين الربنامــج:
«الخطــة املرســومة لعمــل َمــا كربامــج ال ـ َّد ْرس واإلذاعــة»(.)3
فالربنامــج الوطنــي للتســامح؛ يعنــي أن هنــاك مجموعــة مــن األنشــطة
واملبــادرات والخطــط املنظمــة للدفــع بالتســامح إىل تحقيــق أهدافــه
املرســومة لــه ،وهــذه الخطــط املتنوعــة واملتعــددة والتــي تعمــل ضمــن
مؤسســات ومبــادرات؛ كلهــا تتكامــل مــع بعضهــا لتحقيــق هــدف واحــد،
وهــو ترســيخ تحقيــق التســامح يف املجتمــع.
- 1موقع :البوابة الرسمية لحكومة دولة اإلمارات.
http: beta.government.ae ar-AE about-the-uae the-uae-government government-of-future tolerance-
in-the-uae
- 2تقرير فريق العامل املعني باالستعراض الدوري الشامل دولة اإلمارات العربية املتحد املقدم ملجلس حقوق اإلنسان
الدورة .38ص .13 ،6 ،5
- 3الوسيط ،معجم ،ج 1ص .52
267
األمــر الثــاين :نســبة هــذا الربنامــج للوطــن يبــن حــدوده ومصــدر قوتــه
وتفاعلــه ،فهــو يخــدم وطــن دولــة اإلمــارات وشــعبها ،ويحافــظ عــى
ثقافتــه وهويتــه ،وال مانــع مــن تبــادل التجــارب مــع الــدول األخــرى تطويـرا
وتصديـرا ،ولكــن الربنامــج ينبثــق يف األصــل مــن ثقافــة دولــة اإلمــارات كــا
تقــدم وســيأيت بيــان ذلــك يف أسســه.
وال شــك أن أهــم أهــداف هــذا الربنامــج هــو الحفــاظ عــى التســامح بوصفــه
هويــة وطنيــة لدولــة اإلمــارات وشــعبها واســتدامة ثقافتــه ،وترســيخ االحـرام
املتبــادل بــن األف ـراد عــى أرض هــذا الوطــن ،وضــان التعدديــة الدينيــة
والفكريــة والثقافيــة التــي تتميــز بهــا هــذه الدولــة ،مــع الرتكيــز عــى
تنظيــف املجتمــع مــن أســاليب الكراهيــة والعنــف والطائفيــة والتمييــز(.)1
ويف قـراءة تحليليــة لربنامــج الوطنــي للتســامح نجــده يعتمــد ركنــن أساســن
متوازيــن ومتوازنــن ،كل منهــا يغطــي بعــدا مــن أبعــاد التســامح.
فالركــن األول هــو األســس الســبعة ،وتركــز هــذه األســس عــى الجوانــب
الدينيــة واألخالقيــة واالجتامعيــة والرتاثيــة واإلنســانية والقيــم املشــركة ،وقــد
تقــدم ذكرهــا ودراســة أهمهــا يف هــذا البحــث ،وخاصــة الجانــب الدينــي
وال ـرايث والفطــري والقيــم املشــركة(.)2
والركــن الثــاين هــو املحــاور واآلثــار الفاعلــة لهــذا الربنامــج مبجاالتهــا املتنوعــة
مــن األدوار األرسيــة واملجتمعيــة والحكوميــة والعلميــة والوقائيــة والدوليــة،
فهــذا الربنامــج فاعــل وطنيــا ودوليــا.
وبالعــودة إىل الركــن األول فــإن ارتبــاط الربنامــج الوطنــي للتســامح بهــذه
األســس داللــة واضحــة عــى االهتــام بروافــد التســامح يف املجتمــع ،ألن
تفاعــل هــذه الروافــد واســتمرار إمدادهــا للمجتمــع يبقــى معــه التســامح
فاعــا ومؤث ـرا وســمة لهــذا املجتمــع.
- 1االتحاد اإلماراتية ،تاريخ ،16 :نوفمرب ،2018تقرير بعنوان :ممثلو األديان يف «قمة التسامح» :اإلمارات رائدة التسامح
عامليا واألكرث إميانا بالعيش املشرتك.
- 2تقدم يف هذا البحث يف الباب األول التأصيل الديني للتسامح وبيان عالقاته بالفطرة اإلنسانية وأثر األخالق فيه ،ويف
الباب الثاين تتبعنا القيم اإلنسانية املشرتكة ،وأرشنا إىل الجوانب التاريخية ودورها يف التسامح ،واستهللنا الباب الثالث
باالستفاضة يف إرث الشيخ زايد التسامحي والقيم الثقافية واالجتامعية املتسامحة يف دولة اإلمارات ،فهذه األسس التي يقوم
عليها الربنامج الوطني للتسامح متت العناية بها يف هذا البحث.
268
ومــن املالحــظ أن هــذه الروافــد هــي يف طبيعتهــا مســتمرة ودامئــة العطــاء
مثــل الديــن والــراث والتاريــخ واملواثيــق ،وليســت الخطــورة يف توقفهــا
ولكنهــا يف انحرافهــا ،وهــذا دور الربنامــج الوطنــي للتســامح يف رعايتهــا
واســتقامتها عــى الجــادة.
وهــذه األســس التــي اســتند إليهــا الربنامــج الوطنــي للتســامح ســبعة؛ فـــ«يف
،2016اعتمــد مجلــس الــوزراء الربنامــج الوطنــي للتســامح لرتســيخ قيــم
التســامح والتعدديــة الثقافيــة وقبــول اآلخــر ،ونبــذ التمييــز والكراهيــة
والتعصــب فكــرا وتعليــا وســلوكا .ويرتكــز الربنامــج عــى ســبعة أركان
رئيســة وهــي:
- 1اإلسالم
- 2الدستور اإلمارايت
- 3إرث زايد واألخالق اإلماراتية
- 4املواثيق الدولية
- 5اآلثار والتاريخ
- 6الفطرة اإلنسانية
- ٧القيم املشرتكة»(.)1
وقــد كان هــدف هــذه األســس الســبعة «ترســيخ قيــم التســامح والتعدديــة
الثقافيــة وقبــول اآلخــر ،ونبــذ التمييــز والكراهيــة والتعصــب فك ـرا وتعليــا
وســلوكا»(.)2
والناظــر يف هــذا الربنامــج تلــوح لــه عبقريتــه مــن خــال شــموليته إىل حــد
كونــه كون ًّيــا ،فــإذا أمعــن فيــه النظــر ظهــر لــه تطــوره الدقيــق ،فهــو يجمــع
- 1موقع :البوابة الرسمية لحكومة دولة اإلمارات.
http: beta.government.ae ar-AE about-the-uae the-uae-government government-of-future tolerance-
in-the-uae
- 2موقع :البوابة الرسمية لحكومة دولة اإلمارات.
http: beta.government.ae ar-AE about-the-uae the-uae-government government-of-future tolerance-
in-the-uae
269
بــن مــا هــو دينــي وقانــوين ،ويعتمــد أساســا لــه الهوي ـ َة اإلماراتيــة ،وت ـراثَ
الرمــوز الوطنيــة ،وذلــك مل مينعــه مــن اعتبــار اإلنســانية أم ـرا أساســا ،مبــا
يتمثــل فيــه مــن فطــر ســليمة وقيــم مشــركة ،فالربنامــج بهــذا البنــاء اســتطاع
أن يجمــع كل نظريــات التســامح ،ويســتجيب لطبيعــة تكوينــه يف أي مجتمــع
مــن املجتمعــات ،فأثــر دولــة اإلمــارات وانفتاحهــا وفرادتهــا حــارضة يف هــذا
الربنامــج.
وكل أســاس مــن أســس هــذا الربنامــج لــه دور مســتقل يف صناعــة التســامح،
إال أن اجتــاع هــذه األســس يف منظومــة متكاملــة يزيــد التســامح قــوة
وحيويــة ،فاألســاس األول هــو «اإلســام» الــذي «حــث عــى التســامح
واالحـرام والتعايــش والوئــام ،وشــددت تعاليمــه عــى نبــذ العنــف والتطــرف
والكراهيــة والخصــام.
وتضمــن األســاس الثــاين للربنامــج« :دســتور اإلمــارات» ،الــذي ضمــن لجميــع
األفــراد حقوقهــم ،وحــدد مســؤولياتهم وواجباتهــم ،وأكــد حريــة القيــام
بالشــعائر الدينيــة ،فــا متييــز بــن األف ـراد ،وكلهــم سواســية أمــام القانــون.
كــا تضمــن األســاس الثالــث «إرث زايــد واألخــاق اإلماراتيــة» ،واإلرث
اإلمــارايت الخالــد ،وســرة املؤســس زايــد -طيــب اللــه ثـراه -ونهــج صاحــب
الســمو الشــيخ خليفــة بــن زايــد آل نهيــان رئيــس الدولــة -حفظــه اللــه
-يؤكــد حســن التعامــل ودماثــة األخــاق وطيــب العــرة وحــب الخــر
والعطــاء ،دون النظــر إىل اللــون أو الديــن أو الجنــس أو العــرق أو امللــة أو
الطائفــة.
وتض َّمــن« :املواثيــق الدوليــة» ،حيــث إن دولــة اإلمــارات العربيــة املتحــدة
ملتزمــة بالعديــد مــن املواثيــق واالتفاقيــات التــي كرســت قيــم التســامح
وحقــوق اإلنســان ،ونصــت عــى حتميــة التعايــش ومتاســك األوطــان ،ونبــذ
العنــف والكراهيــة والتطــرف والعنرصيــة.
وكذلــك «اآلثــار والتاريــخ» ،حيــث إن التاريــخ اإلمــارايت واآلثــار املوجــودة يف
الدولــة تحــي تاريــخ املــكان ،وذاكــر ُة أبنــاء اإلمــارات زاخــرة بقصــص ُمثْــى
للتعاضــد والتســامح والتعــاون والتصالــح.
270
كــا تضمــن «الفطــرة اإلنســانية» ،حيــث جبــل أبنــاء اإلمــارات بفطــرة
تعصــب وال
ٍ إنســانية تقــوم عــى التعــارف واحــرام النــاس والتآلــف دون
كراهيــ ٍة وال متييــز.
كــا اســتند إىل «القيــم املشــركة» ،حيــث تتشــارك الشــعوب يف الكثــر مــن
املبــادئ ،وتجمعنــا كأرسة دوليــة قيــم مشــركة تكســوها غايــات ومصالــح
تحقــق الخــر والســعادة للجميــع ،وتؤصــل التفاهــم واالنســجام والتناغم»(.)1
هــذه األســس هــي مرتكـزات الركــن األول للربنامــج ،أمــا الركــن الثــاين فيتعلق
بأثــر التســامح ،وســنخصص له املطلــب اآليت.
- 1مخترص دراسة الباحث :يوسف النعيمي العضو املؤسس للربنامج يف صحيفة االتحاد اإلماراتية ،تاريخ ،16 :نوفمرب
،2018تقرير بعنوان :ممثلو األديان يف «قمة التسامح» :اإلمارات رائدة التسامح عامليا واألكرث إميانا بالعيش املشرتك.
271
- 5املســاهمة يف الجهــود الدوليــة لتعزيــز التســامح ،وإب ـراز الــدور الرائــد
للدولــة يف هــذا املجــال»(.)1
وعنــد التأمــل يف بنــاء محــاوره التــي متثــل القســم الثــاين مــن الربنامــج؛
نجــده ينطلــق مــن مســؤولية الحكومــة يف رعايــة التســامح واحتضانــه ،وهــي
مســؤولية مل تتخــل عنهــا دولــة اإلمــارات يومــا مــن األيــام ،منــذ تأسيســها،
ولهــذا فالتســامح اإلمــارايت اليــوم يف أوج عطائــه .ويف جانــب غــرس التســامح
يشــدد الربنامــج عــى أمريــن؛ دور األرسة وتربيتهــا عــى التســامح يف بنــاء
مجتمــع متســامح ،وربــط الشــباب بالتســامح الــذي يقلــل مــن العنرصيــة
والكراهيــة والتطــرف.
ويف املحوريــن اآلخريــن نلفــي الربنامــج يهتــم بالجانــب العلمــي وهــو جانــب
ال يقــل أهميــة عــن الجوانــب األخــرى ،فإنجــاز دراســات وبحــوث علميــة
اجتامعيــة ودينيــة ونفســية؛ مــن أهــم الســبل التــي تــؤدي لتطويــر التســامح
واســتدامته.
وأمــا املحــور الخامــس واألخــر؛ فيضطلــع باإلشــعاع الــدويل العاملــي للربنامــج،
باالســتفادة مــن هــذه التجربــة اإلماراتيــة وإبرازهــا للعــامل ،وبيــان إســهامها
يف بنــاء مجتمــع متســامح منوذجــي يجعــل مــن التســامح أحــد وســائل القــوة
الناعمــة لدولــة اإلمــارات يف عالقاتهــا الخارجيــة؛ وهــذه املعــاين التــي ن َحتْناها
يف قـراءة هــذا الربنامــج« :فالربنامــج الوطنــي للتســامح يعمــل ضمــن محــاور
عــدة ،وهــي :تعزيــز دور الحكومــة كحاضنــة للتســامح ،حيــث تضطلــع
حكومــة دولــة اإلمــارات بنــر قيــم ومبــادئ التســامح والوســطية وقبــول
اآلخــر ونبــذ العنرصيــة والعصبيــة ،وذلــك مــن خــال ســن الترشيعــات
والقوانــن ووضــع املــؤرشات الوطنيــة .وكذلــك ترســيخ دور األرسة املرتابطــة
يف بنــاء املجتمــع املتســامح ،حيــث إن األرسة هــي النــواة الرئيســة لبنــاء
مجتمــع متســامح ومتفهــم ويقبــل اآلخــر ويحــرم التعدديــة الثقافيــة ،إضافــة
إىل تعزيــز التســامح لــدى الشــباب ووقايتهــم مــن التعصــب والتطــرف ،عــى
272
اعتبــار أن الشــباب هــم عــاد املجتمــع ومســتقبله املــرق ،وتــويل قيــادة
وحكومــة دولــة اإلمــارات عنايــة فائقــة بهــذه الفئــة وتفعيــل أدوارهــم
لتعزيــز قيــم التســامح والتعايــش ،وترســيخ القيــم الصحيحــة لســاحة
ووســطية الديــن اإلســامي الحنيــف»(.)1
إن هــذه الركائــز التــي يعتمدهــا الربنامــج لَتُؤســس للتســامح املســتدام،
والتســامح بطبيعتــه الفعليــة ممتــد امتــداد النظــر غــر املحــدود ،ويحتــاج إىل
تطويــر مســتمر حســب املجتمعــات املختلفــة ،والوقائــع النازلــة ،وتعــد هــذه
الحيويــة والتنــوع والشــمول الكائــن يف الربنامــج الوطنــي للتســامح انعكاســا
لحيويــة مجتمــع اإلمــارايت وتطلعاتــه واهتاممــه بهــذا املجــال.
وإذا كان لــكل محــور مــن تلــك املحــاور أهميتــه وآثــاره عــى املجتمــع؛ فــإن
مــن أبــرز املؤسســات التــي تعمــل عــى تحقيــق أهــداف الربنامــج الوطنــي
للتســامح وتشــجيعه وترســخيه مؤسســات أخــرى تنــدرج تحتــه ،وتعمــل
معــه لتحقيــق أهدافــه ،مثــل املعهــد الــدويل للتســامح ،الــذي يعمــل عــى
التأهيــل والتأصيــل والتطويــر يف ميــدان التســامح ،وجائــزة محمــد بــن
راشــد آل مكتــوم للتســامح التــي يــرف عليهــا املعهــد ،والتــي تعمــل عــى
التشــجيع والتكريــم وتقديــر التســامح.
إن أهــداف هاتــن املؤسســتني ذات طبيعــة اجتامعيــة وتعليميــة ،وتنطلــق
مــن واقــع املجتمــع وحاجاتــه ،وتتفاعــل معــه ،فـ«يهــدف املعهــد الــدويل
للتســامح الــذي أطلقتــه دولــة اإلمــارات -حكومــة ديب -مبوجــب القانــون
املحــي رقــم 9لســنة 2017إىل بــث روح التســامح يف املجتمــع ،وتعزيــز
مكانــة دولــة اإلمــارات إقليميــا ودوليــا كنمــوذج يف التســامح ،وترســيخ ثقافــة
االنفتــاح والحــوار الحضــاري ،ونبــذ التعصــب والتطــرف واالنغــاق الفكــري،
وكل مظاهــر التمييــز بــن النــاس بســبب الديــن أو الجنــس أو العــرق أو
اللــون أو اللغــة.
- 1مخترص دراسة الباحث :يوسف النعيمي العضو املؤسس للربنامج يف صحيفة االتحاد اإلماراتية ،تاريخ ،16 :نوفمرب
،2018تقرير بعنوان :ممثلو األديان يف «قمة التسامح» :اإلمارات رائدة التسامح عامليا واألكرث إميانا بالعيش املشرتك.
273
ويتضمــن قانــون إنشــاء املعهــد الــدويل للتســامح إطــاق جائــزة تســمى
«جائــزة محمــد بــن راشــد آل مكتــوم للتســامح» يتــم مــن خاللهــا تكريــم
الفئــات والجهــات التــي لهــا إســهامات متميــزة يف ترســيخ قيــم التســامح عــى
املســتويني الوطنــي والــدويل ،وتشــجيع الحــوار بــن األديــان وإب ـراز الصــورة
الحقيقيــة لإلســام باعتبــاره ديــن تســامح وســام.
ويعمــل املعهــد عــى بنــاء وتأهيــل قيــادات وكــوادر عربيــة شــابة تؤمــن
بقيمــة التســامح واالنفتــاح والحــوار بــن األديــان والثقافــات.
ويتــوىل كذلــك اق ـراح السياســات والترشيعــات ،وعقــد املؤمت ـرات الدوليــة،
وإعــداد البحــوث ،والدخــول يف رشاكات مــع املؤسســات الثقافيــة املعنيــة يف
العــامل لنــر مبــادئ الوئــام وقيــم التســامح بــن األجيــال ،وإطــاق املبــادرات
التــي تهــدف إىل تعزيــز التعايــش املشــرك بــن كافــة أفــراد ومكونــات
املجتمــع ،وتهيئــة بيئــة تحفــز عــى االنســجام الثقــايف والتناغــم املجتمعــي،
وتحــد مــن الســلوكيات اإلقصائيــة(.)1
فآثــار هــذا الربنامــج الوطنــي اإليجابيــة ومثــاره عــى املجتمــع واضحــة
وملموســة عــى كافــة رشائــح املجتمــع ومجاالتــه ،ســواء يف الرتبيــة والتعليــم
أو الجوانــب األرسيــة أو التعايــش املجتمعــي ،يف ضــوء دراســات علميــة
وبحــوث اجتامعيــة تنجــز مــن أجــل تطويــر التســامح والرقــي إىل أعــى
مســتوياته.
ومــن أجــل التأكيــد عــى هــذه اآلثــار الواضحــة والتــي تتضاعــف وتــزداد
يومــا بعــد يــوم بســب هــذا االعتنــاء؛ نجــد مــؤرشات التســامح العامليــة تــزيك
هــذه التجربــة وتشــهد لهــا باالزدهــار واالنتعــاش ،وهــذا مــا تؤكــده التقاريــر
الصــادرة عــن مؤسســات أمميــة متخصصــة يف هــذا املجــال فقــد «حققــت
اإلمــارات املرتبــة األوىل عامليــا يف مــؤرش التســامح تجــاه األجانــب ،بحســب
التقاريــر األمميــة عــام :2017وذلــك يف ثالثــة تقاريــر دوليــة ،وهــي ،الكتــاب
الســنوي للتنافســية العاملــي ،وتقريــر مــؤرش االزدهــار الصــادر عــن ليجاتــم،
274
وتقريــر مــؤرش تنافســية املواهــب العامليــة الصــادر عــن معهــد إنســياد.
كــا أن اإلمــارات احتلــت املرتبــة الثالثــة عامليــا يف مــؤرش الثقافــة الوطنيــة
املرتبــط بدرجــة التســامح ،وصعــدت مــن املرتبــة الثامنــة عــام 2015إىل
املرتبــة الثالثــة عامليــا عــام 2016يف مــؤرش الثقافــة الوطنيــة املرتبــط بدرجــة
التســامح ومــدى انفتــاح الثقافــة املحليــة لتقبــل اآلخــر ،وذلــك بحســب
تقريــر الكتــاب الســنوي للتنافســية العامليــة ،2016الصــادر عــن املعهــد
الــدويل للتنميــة العامليــة يف ســويرسا ،والــذي ق َّيـ َم 61اقتصــادا متقدمــا»(.)1
وألن مثــل هــذه املؤسســات الوطنية تســهم يف صناعــة مجتمع التســامح؛ كان
لهــذه الخطــوات ســمعة دوليــة ،فقــد أثنــت عليهــا كثــر من الــدول ،وأشــادوا
مبــا تحققــه للمجتمــع مــن تفاهــم ،فأكــد تقريــر الحريــات الدينيــة الــذي
يصــدر عــن الــوزارة الخارجيــة األمريكيــة لســنة 2017عــى دور اإلمــارات
يف هــذا الجانــب ونــوه بهــذا الربامــج و«الرؤيــة اإلنســانية لدولــة اإلمــارات
العربيــة املتحــدة عــى مســتوى تعزيــز الحريــات الدينيــة ورعايــة املعتقــدات
والعبــادات ،وحاميــة حقــوق األقليــات يف مامرســة شــعائرها وبنــاء معابدهــا،
وســن القوانــن الرياديــة يف إطــار مكافحــة التطــرف والكراهيــة والتمييــز»(.)2
وكثــر مــن الــدول العربيــة والغربيــة رحبــت بإطــاق الربنامــج الوطنــي
للتســامح يف دولــة اإلمــارات العربيــة املتحــدة ،وقــد ورد يف تقريــر دولــة
اإلمــارات املعــروض عــى مجلــس حقــوق اإلنســان ترحيــب كل مــن االتحــاد
الــرويس واملغــرب باعتــاد الربنامــج الوطنــي للتســامح وتقديــر اليابــان لهــذا
الربنامــج مــا يــدل عــى حاميــة قيــم التســامح والتعدديــة الثقافيــة(.)3
إن فعاليــة الربنامــج الوطنــي للتســامح وإنجــاز أهدافــه يتوقف عــى مبادرات
متعاقبــة التتوقــف ،وهــذا مــا دأبــت عليــه دولــة اإلمــارات ومتيــزت بــه ،وهــو
مــا خصــص لــه املبحــث القــادم.
- 1ينظر :االتحاد اإلماراتية ،تاريخ ،16 :نوفمرب ،2018تقرير بعنوان :ممثلو األديان يف «قمة التسامح» :اإلمارات رائدة
التسامح عامليا واألكرث إميانا بالعيش املشرتك.
- 2نفسه ،تاريخ النرش 1 :يونيو ،2018تقرير بعنوان :واشنطن تنوه برؤية اإلمارات اإلنسانية يف مكافحة الكراهية
والتمييز.
- 3تقرير فريق العامل املعني باالستعراض الدوري الشامل دولة اإلمارات العربية املتحد املقدم ملجلس حقوق اإلنسان
الدورة .38ص .13 ،6 ،5
275
املبحــث الثــاين :دور املؤسســات الوطنيــة يف الحفــاظ عــى التســامح
وتطويــره:
املطلب األول :املبادرات الوطنية وأثرها يف حامية التسامح
إن التســامح -كــا تقــدم يف املطلــب الســابق -ال حــدود لــه ،وكلــا أخــذ
حظــه مــن االهتــام والعنايــة منــا وتطــور ،وهــذه اسـراتيجية دولــة اإلمــارات
تجــاه التســامح ،فــإن جميــع مؤسســاتها الوطنيــة الرســمية والحكوميــة
واملدنيــة واألهليــة تعمــل عــى تحقيــق هــدف التســامح ،وتســعى لرتســيخ
ثقافتــه ،وتوحــد جهودهــا لهــذه املهمــة ،ومــن هنــا يبــدو عنــر التكامــل
رئيســا يف الجهــود املبذولــة يف مجــال التســامح. عامـ ًـا ً
إن املبــادرات واملشــاريع والربامــج التــي تنجزهــا مختلــف املؤسســات؛
ليســت ترفــا أو ترفيهــا ،ولكنهــا رضورة ثقافيــة ،ألن التســامح ليــس ثقافــة
النخبــة أو ِقيــا خاصــة مبجموعــة دون أخــرى ،بــل هــو قيــم كونيــة مشــركة
بــن جميــع األجنــاس ،وينبغــي أن ميــا َرس يف كل مجــال وميــدان ،فاملدرســة
والشــارع والســوق واملســجد واملصنــع وأماكــن الوظائــف؛ كلهــا يف حاجــة إىل
التســامح ،وجعـ ُـل هــذا التســامح مامرســة يوميــة يف حيــاة جميــع األشــخاص؛
يحتــاج إىل مبــادرات فاعلــة.
وال شــك أن «مــن تلــك الــدول التــي أخــذت بالســنن الكونيــة والرشعيــة
يف هــذا البــاب ،فأحيــت فريضــة التســامح ،وأقامــت لهــا املعــامل ،وأرســت
لهــا األركان ،دولــة اإلمــارات التــي أسســت مشــاريع وتبنــت مبــادرات
متنوع ـ ًة ،منهــا مــا هــو فكــري ،ومــا هــو دينــي ،ومــا هــو ثقــايف وعلمــي،
ومــا هــو اجتامعــي وأخالقــي ،كل ذلــك إليجــاد أرضيــة خصبــة تثمــر فيهــا
شــجرة التســامح ،وأوجــدت لهــذا الهــدف منظومــة متكاملــة مــن املكونــات
األســاس إلقامــة هــذه الفريضــة الكونيــة ،ويف حظــرة هــذه املنظومــة تقــع
مبــادرة الســعادة ،والرتبيــة األخالقيــة ،وقانــون التمييــز ،ومكافحــة الكراهيــة،
وضبــط الخطــاب الدينــي ،وتعزيــز الســلم ،وســوى ذلــك مــن املبــادرات ،يف
خريطــة منتظمــة منضبطــة يرتبــط بعضهــا ببعــض ،وال يســتغني أحدهــا
عــن اآلخــر ،فــا يســتقيم التســامح ويقــوم أَ َو ُده مــا مل يكــن هنــاك قانــون
يصونــه ويحميــه .وطاملــا اس ـتُ ْخ ِدم الديــن ل َه ـ ْد ِم ثقافــة التســامح وإبطــال
276
فَ ْر ِض َي ِتــه بــل وتجرميهــا .والســعادة والتســامح صنــوان وهــا جناحا االســتقرار
والرفاهيــة والخرييــة ،وال تحقــق الســعادة الحقيقيــة مــن دون تســامح ،وهــو
ركــن أصيــل يف صنــع الســعادة»(.)1
وهــذه املبــادرات التــي عقدنــا هــذا املبحــث لدراســتها متنوعــة ومتعــددة ال
تتوقــف ويصعــب حرصهــا وتعدادهــا ،وهــي تتنــوع إىل أصنــاف:
الصنــف األول :مبــادرات قياديــة؛ هدفهــا ترســيخ التســامح يف املجتمــع،
وهــذا النــوع مــن املبــادرات أصيلــة ولهــا امتــداد وتأثــر كبــر يف املجتمــع،
ومــن هــذا النــوع مبــادرة ســمو الشــيخ محمــد بــن زايــد يف اعتــاد الرتبيــة
األخالقيــة يف مناهــج التعليــم مــن أجــل غــرس التســامح ،ألن التســامح
ينتمــي إىل القيــم اإلنســانية والحضاريــة املشــركة؛ وهنــا نســتحرض مــا أكــد
عليــه ويل عهــد أبوظبــي نائــب القائــد األعــى للقــوات املســلحة عنــد إطــاق
«الرتبيــة األخالقيــة» لتعزيــز التســامح… حــن أشــار إىل أن الــدول مهــا
بلغــت «مــن تقــدم علمــي ومعــريف وتقنــي ،فــإن دميومــة بقائهــا مرهونــة
مبــدى محافظتهــا عــى قيمهــا النبيلــة ومتســكها مببادئهــا الســامية ،لتواصــل
طريقهــا نحــو بنــاء حارضهــا ومســتقبلها املــرق ،ومــا العلــم يف جوهــره إال
تجســيد وإعــاء للقيــم الحضاريــة واألخــاق اإلنســانية»(.)2
ومــن املبــادرات القياديــة يف هــذا املجــال أيضــا زيــارة صاحــب الســمو
الشــيخ محمــد بــن زايــد آل نهيــان للفاتيــكان؛ ملــا حققتــه هــذه الزيــارة
مــن التعايــش بــن األديــان ،والدعــوة للتســامح والتقــارب والتفاهــم ،والقــت
اهتاممــا واستحســانا كبرييــن مــن قبــل الفاعلــن الدينيــن ،واملفكريــن
واإلعالميــن ،ســواء يف أوربــا أو يف الــدول العربيــة ،وهــذه الزيــارة أيضــا تــرز
الــدور الحضــاري لإلســام وســاحته ،ودعوتــه للحــوار والتعــارف ،وتصحيــح
املفاهيــم واملغالطــات التــي يتهــم بهــا اإلســام(.)3
- 1جريدة الخليج اإلماراتية؛ تاريخ النرش 2017 06 13 :مقال بعنوان :مستقبل التسامح يف دولة اإلمارات ..قراءة يف ضوء
املبادرات الجديدة.
- 2مجلس الوزراء ،اإلمارات العربية املتحدة ،موقع إلكرتوين رسمي،
https: www.uaecabinet.ae ar details news crown-prince-of-abu-dhabi-launches-moral-education-to-
promote-tolerance
- 3محمد أبو طور؛ كتاب دعوة للمحبة تأمالت يف املجتمع املسيحي( ،إصدارات إي -كتب ،لندن ،ط2017 ،1 .م) ص
.120 ،119
277
الصنــف الثــاين :مبــادرات لالحتفــال بالتســامح؛ وهــذا النــوع مــن املبــادرات
يتجــدد كل عــام ،وذلــك يف اليــوم العاملــي للتســامح الــذي يوافــق اليــوم
الســادس عــر مــن شــهر نوفمــر مــن كل ســنة ،وعــى أرض دولــة اإلمــارات
تقــام عــرات املبــادرات والنــدوات واملؤمتــرات واملشــاركات واملســرات،
واالحتفــاالت إلشــاعة روح التســامح واالحتفــاء بــه وتكريســه يف املجتمــع،
وهــذه األنشــطة العديــدة تنظــم تحــت مبادرتــن كبريتــن وهــا :القمــة
العامليــة للتســامح ،واملهرجــان الوطنــي للتســامح.
الصنــف الثالــث :مبــادرات عامــة؛ ويتمثــل هــذا النــوع يف املبــادرة الســنوية
الكــرى التــي تحتفــي بهــا دولــة اإلمــارات كل ســنة مثــل احتفائهــا بعــام
الخــر ســنة ،2017واحتفائهــا بعــام زايــد ســنة ،2018وعــام التســامح ســنة
.2019ويف هــذا املناســبة املســتمرة عــى مــدى عــام بأكملــه نجــد للتســامح
اهتام ًمــا كب ـ ًرا ضمــن تلــك الربامــج.
ومــع تقديــم هــذا الوصــف الحــري ،فمبــادرات التســامح يف دولــة اإلمــارات
متجــددة ،تتجــاوز التقيــد والحــر يف مؤسســة دون أخــرى ،فالــوزارات
املختلفــة لهــا برامجهــا ورشاكاتهــا املحليــة والدوليــة يف تعزيــز التســامح،
ووســائل اإلعــام الوطنيــة تــويل اهتاممــا فائقــا للتوعيــة بالتســامح دينيًّــا
وثقاف ًّيــا وفنيــا ورياضيــا ،ومؤسســات الرتبيــة والتعليــم فاعلــة يف مجــال
التســامح؛ تــريب األجيــال عــى قيمــه ،واملؤسســة الدينيــة يف دولــة اإلمــارات ال
تخلــف عــن املشــاركة يف جميــع املناســبات ودعــم املبــادرات التســامحية كــا
تقــدم بيــان دور الخطــاب الدينــي يف هــذا املجــال.
إضافــة إىل املؤسســات الشــبابية واملجتمعيــة والترشيعيــة ،فكلهــا يف دولــة
اإلمــارات يــد واحــدة تعمــل عــى نجــاح مــروع التســامح وفاعليتــه.
إن دولــة اإلمــارات العربيــة املتحــدة ال تتميــز فقــط باملبــادرات التســامحية؛
بــل نهجــت نهجــا فريــدا مــن أجــل ترســيخ التســامح ،وذلــك باســتثامر كل
مــروع ثقــايف أو دينــي أو اجتامعــي لتعطيــه طاب ًعــا متســام ًحا ،ويجــدر بنــا
الوقــوف عــى املفخــرة الثقافيــة التــي حققتهــا أبوظبــي بإطالقهــا متحــف
اللوفــر يف ســنة ،2017وكيــف تحــول هــذا املــروع الثقــايف إىل أيقونــة
عامليــة للتســامح مــع أنــه يف األصــل متحــف ثقــا ّيف.
278
فهــذا الــرح الفنــي الضخــم أبــت دولــة اإلمــارات إال أن تجعلــه منــار ًة
للتســامح ،وملتقــى الثقافــات املتنوعــة واألديــان واملذاهــب املختلفــة؛
فهــو عبــارة عــن جــر للتعايــش بــن مختلــف الشــعوب ،كــا عــر عــن
ذلــك صاحــب الســمو الشــيخ محمــد بــن زايــد إبــان افتتــاح هــذا املتحــف
حيــث أشــار ســموه إىل أن «املتحــف ال يكتســب أهميتــه يف إطــار العالقــات
اإلماراتيــة -الفرنســية فحســب… وإمنــا متتــد دالالتــه ومعانيــه باعتبــاره
جــرا ثقافيًّــا بــن الحضــارات والشــعوب»( .)1ففــي كلمتــه حفظــه اللــه
تأكيــد عــى دور مثــل هــذه الجهــود الفنيــة العمالقــة يف إرســال رســائل
تســامحية حضاريــة إىل مختلــف ســكان املعمــورة؛ لتشــجيع قيــم الحــوار
والتعايــش ،يقــول حفظــه اللــه يف بيــان هــذا الــدور« :رســالتنا التــي نوجههــا
اليــوم للعــامل كلــه مــن خــال افتتــاح هــذا الــرح الثقــايف والعاملــي يف دولــة
اإلمــارات العربيــة املتحــدة ،هــي أن الثقافــة كانــت والتـزال جـرا للتواصــل
والتعــارف والحــوار بــن الشــعوب والحضــارات ،وليســت مصــدرا للصــدام أو
ال ـراع كــا يتوهــم املتطرفــون واملتشــددون»(.)2
إن البصــات اإلبداعيــة املتميــزة لدولــة اإلمــارات يف مجــال التســامح تنتهــج
توظيــف كل مــا مــن شــأنه أن يحقــق التالقــي الحضــاري الراقــي ،ومــا يســهم
يف اســتقرار البرشيــة وازدهارهــا ،وال شــك أن الفــن عنــر مهــم يف تحقيــق
هــذا الهــدف النبيــل ،وطاملــا تجــاورت القيــم الفنيــة والجامليــة مــع قيــم
التعايــش؛ أســهام معــا يف تشــكيل حضــارات متســامحة ال تعــرف الكراهيــة
والبغــض ،ألن الجــال ينفــي خبثهــا ،وهــذا امللمــح هــو الــذي أشــار إليــه
صاحــب الســمو الشــيخ محمــد بــن راشــد آل مكتــوم ،حــن قــال« :متحــف
اللوفــر أبوظبــي؛ تحفــة معامريــة ،ومفخــرة ثقافيــة ،ومحطــة فنيــة ،ســتجمع
الــرق والغــرب… إنــه ميثــل قدرتنــا عىل بنــاء جســور تواصل بــن الحضارات
يف عــامل يريــدون لــه أن يكــون رصاعــا بــن الحضــارات ،كــا ميثــل قدرتنــا
- 1مجلة درع الوطن ،مجلة عسكرية واسرتاتيجية ،تصدر عن مديرية التوجيه املعنوي يف القيادة العامة للقوات املسلحة،
(اإلمارات العربية املتحدة ،تأسست يف اغسطس 1971م) ،01-01-2018 ،تقرير بعنوان :حصاد عام الخري …2017إنجازات
تنموية شاملة ودبلوماسية فاعلة.
- 2نفسه.
279
عــى محاربــة الظــام بالنــور ومحاربــة الجهــل بالفنــون ،ومحاربــة االنغــاق
باإلبــداع ،ومحاربــة التطــرف الفكــري بالجــال الفنــي ،الــذي أبدعتــه العقــول
البرشيــة منــذ آالف الســنني»(.)1
وتفعيـ ًـا لهــذا الــدور الريــادي املرمــوق ملتحــف اللوفــر« ،خصــص املتحــف
قاعــه لألديــان العامليــة ،ليؤســس وينــر ثقافــه التَّســامح والتَّعايــش الســلمي
بــن الشــعوب»(.)2
إن تاريــخ البرشيــة عــى هــذا الكوكــب الــذي نعيــش عليــه؛ يؤكــد أن الفنــون
طريــق الســام واالســتقرار ،وإحــدى الوســائل الفاعلــة للتقارب بني الشــعوب،
وقــد عقــد هوفــان يف كتابــه «قانــون التســامح» فصـ ًـا كامـ ًـا ليؤكــد هــذا
املبــدأ ،ويرثيــه بكثــر مــن األمثلــة والوقائــع التاريخيــة ،فيقــول« :الفصــل
الثامــن :رشائــع الســاحة يف الثقافــة؛ الفــن واملوســيقى واملــرح والقيــم
الثقافيــة يف ثقافــات وبلــدان مختلفــة ،تقــدم منــذ زمــان بعيــد مســاهم ًة
مه َّمـ ًة ملزيــد مــن الســاحة واالحـرام تجــاه أديــان وأعـراق وأقليــات أخــرى،
هــي تســتخدم مجــال حريتهــا وهــي منــذ قــرون عديــدة الســباقة يف ســبيل
التعايــش»(.)3
وهكــذا فــإن الــذي يحمــل عــى عاتقــه مــروع التســامح يســلك كل الســبل
التــي تــؤدي إليــه ،وال يكتفــي مببــادرة أو مبــادرات معــدودة ،ومــن هنــا تــأيت
املبــادرة اإلماراتيــة الكــرى التــي عقــد حولهــا املطلــب القــادم.
- 1نفسه.
- 2متحف اللوفر ،موقع إلكرتوين،
81%D8%B1-%D8%A7%D8%%88%D9%84%D9%84%D9%https: tazkira.net 2018 05 07 %D8%A7%D9
8A-louvre-abu-dhabi%88%D8%B8%D8%A8%D9%A8%D9
- 3هوفامن هوبرتس؛ قانون التسامح ،دليل للساعني إىل تحسني أوضاع العلم ،وللمتشامئني واملؤمنني الثابتني واملفكرين
األحرار ،ترجمة :د .عادل خوري( ،العريب للنرش والتوزيع ،برلني ،ط2015 ،1 .م) ص .327
280
املطلــب الثــاين :مبــادرة عــام التســامح وأهــم منجزاتــه يف تعزيــز التســامح
اإلمــارايت()1
مــن الســنن الكونيــة التــي تجــري عــى كافــة البرشيــة؛ أنــه كلــا امتــأ
يشء واكتمــل إال فــاض وأعطــى وســالت منــه أوديــة بقدرهــا ،وقــد تقــدم
يف األبــواب الســابقة أن مــكارم األخــاق ميــدان للســباق وتحقيــق التــام
والكــال فيــه ،وبذلــك بُعــث ســيد الخلــق صــى اللــه عليــه وســلم .ولقــد
بلغــت دولــة اإلمــارات بقيمهــا وأخالقهــا وهويتهــا وإنســانيتها ورجالهــا
عظيــا.
ً املؤسســن يف مرتبــة التســامح مبلغًــا
فكانــت النتيجــة الحتميــة والثمــرة الناضجــة ملشــاريعها املتســامحة التــي مل
تتوقــف يف أرضهــا يومــا مــن األيــام ،أن تــأيت مبــادرة تســامحية تفيــض عــى
العــامل ،وترفــع هــذه القيمــة لــرى العــامل هــذا النمــوذج القيمــي املتميــز ،يف
أرض تفخــر بأصالتهــا وتنوعهــا ،فــكان عــام التســامح مــن أعظــم مبــادرات
التســامح الوطنيــة يف دولــة اإلمــارات التــي جــاءت يف وقتهــا ،تتويجا للتســامح
ولــدور دولــة اإلمــارات العربيــة الوطنــي والعاملــي يف تعزيــزه ودعــم مســرته.
إن هــذه املبــادرة التــي هــي حفــاوة واحتفــاء ،وتكريــم وإجــال لقيمــة
التســامح ملــدة عــام؛ مبــا تشــمله مــن مشــاريع وأنشــطة ومبــادرات بعــدد
أيــام الســنة وســاعاتها ،لتعــد عــى مســتوى العــامل مبــادرة تســامحية تاريخيــة
فريــدة ،يســجل إبداعهــا وابتكارهــا يف ســجل دولــة اإلمــارات العربيــة
املتحــدة.
وال غــرو يف تخصيــص دولــة اإلمــارات عا ًمــا للتَّســامح ،فثقافتهــا وتاريخهــا
وشــعبها ومؤسســها واتحادهــا وثورتهــا الناعمــة؛ كلهــا تتخــذ مــن التســامح
والتعايــش مــع اآلخريــن مبــدأ وشــعا ًرا ومصــدر قــوة وحيويــة وإقــدام،
فمنظومــة القيــم ايل تأسســت عليهــا الهويــة اإلماراتيــة تحمــل يف خالياهــا
جينــات التســامح ،ويف قلــب مؤسســها الشــيخ زايــد رؤيــة ثاقبــة للتســامح؛
- 1عند إعداد هذا املبحث والوقوف عند هذه النقطة بالتحديد والبحث يف الرمق األخري منه يتم إعالن 2019عاما
كامل ألقطف مثرته
للتسامح؛ هذا غاية يف التوفيق واملوافقة لهذا البحث الذي اخرتته يف عام الخري وقضيت معه عام زايد ً
يف عام التسامح ،وأرجو أن يكون فيه إسهام يف ترشيد التسامح وتقوميه وتنميته.
281
ويكفــي عــام التســامح فخ ـ ًرا وزه ـ ًّوا واعت ـزازًا أنَّــه يجــاور عــام زايــد ،ومنــه
نســل وولــد ،فخالصــة عــام زايــد تنطــق بــأن قيمــة التســامح هــي نهجــه
ورؤيتــه ،وهــو الــدواء للبرشيــة مــا حــل بهــا مــن الكراهيــة والعنــف
والتــرذم.
إن إعــان عــام التســامح قـرار صائــب مــدروس بعنايــة ،تتوفــر لــه كل وســائل
النجــاح ،ومــن أجــل فهــم هــذه املبــادرة وأبعادهــا وأهميتهــا ورضورتهــا
وســياقها ،فإننــا نقــف يف هــذا املبحــث مــع الكلــات األســاس التــي تعتــر
أهــم املحــددات لعــام التســامح ،ومــن هــذه الكلــات:
كلمــة صاحــب الســمو الشــيخ خليفــة بــن زايــد رئيــس الدولــة ،حفظــه اللــه،
حيــث قــال يف عــام التســامح« :ترســيخ التســامح هــو امتــداد لنهــج زايــد…
وهــو قيمــة أســاس يف بنــاء املجتمعات واســتقرار الدول وســعادة الشــعوب…
مضي ًفــا ســموه أن أهــم مــا ميكــن أن نغرســه يف شــعبنا هــو قيــم وإرث زايــد
اإلنســاين… وتعميــق مبــدأ التســامح لــدى أبنائنــا… إن إعــان عــام 2019
عامــا للتســامح يعكــس النهــج الــذي تبنتــه دولــة اإلمــارات منــذ تأسيســها يف
أن تكــون جــر تواصــل وتالقــي بني شــعوب العــامل وثقافاتــه يف بيئــة منفتحة
وقامئــة عــى االح ـرام ونبــذ التطــرف وتقبــل اآلخــر .دولــة اإلمــارات تحمــل
رســال ًة عامل َّي ـ ًة ومهم ـ ًة حضاريَّ ـ ًة يف ترســيخ هــذه القيمــة إقليم ًّيــا ودول ًّيــا،
نتطلــع للمســاهمة يف بنــاء مجتمعــات تؤمــن بقيمــة التســامح واالنفتــاح
والحــوار بــن الثقافــات… وتؤســس منــاذج حقيقيــة تعمــل عــى تحســن
واقــع التســامح عربيًّــا وعامليًّــا ،دولــة اإلمــارات والتســامح… هــا وجهــان
ملعنــى واحــد… وتجســيد لغايــة يســعى لهــا البــر عــر تاريخهــم»(.)1
وقــال صاحــب الســمو الشــيخ محمــد بــن راشــد آل مكتــوم نائــب رئيــس
الدولــة رئيــس مجلــس الــوزراء حاكــم ديب -رعــاه اللــه -بهــذه املناســبة:
«نســعى لتحويــل قيمــة التســامح إىل عمــل مؤســي مســتدام يعــود بالخــر
عــى شــعوبنا ،نريــد سياســات حكومية ترســخ التســامح ،ودراســات مجتمعية
- 1االتحاد اإلماراتية ،صحيفة ،تاريخ النرش 16 :ديسمرب ،2018تقرير بعنوان :خليفة :اإلمارات والتسامح وجهان ملعنى واحد.
0https: www.alittihad.ae article 80384 2018
282
معمقــة لنــر مبــادئ التســامح لــدى األجيــال الجديــدة ،ال بــد أن تقــود دولة
اإلمــارات حركــة اإلنتاجــات الفكريــة والثقافيــة واإلعالميــة التــي ترســخ قيــم
التســامح واالنفتــاح عــى اآلخــر يف العــامل العــريب ويف املنطقــة .إن أكــر مــا
نفاخــر بــه أمــام العــامل ليــس ارتفــاع مبانينــا وال اتســاع شــوارعنا وال ضخامــة
أســواقنا؛ بــل نفاخرهــم بتســامح دولــة اإلمــارات»(.)1
وقــال صاحــب الســمو الشــيخ محمــد بــن زايــد آل نهيــان ويل عهــد أبوظبــي
نائــب القائــد األعــى للقــوات املســلحة مبناســبة إعــان 2019عامــا للتســامح:
«إن دولــة اإلمــارات هــي عنــوان التســامح والتعايــش واالنفتــاح عــى اآلخــر،
وأهميــة الــدور الــذي تؤديــه دولــة اإلمــارات يف ترســيخ ونــر مفاهيــم وقيــم
التســامح والتعايــش والســام لــدى مختلــف شــعوب العــامل ،وإن النمــوذج
اإلمــارايت يف التســامح يرتكــز عــى قيــم حــب الخــر للجميــع والتآلــف
والتعــاون والعطــاء واملســاواة بــن البــر جمي ًعــا»(.)2
ويف هــذه الكلــات املؤطــرة لعــام التســامح مــن القيــادة الرشــيدة الشــعور
بالــدور الريــادي واملســؤولية الكــرى التــي تضطلــع بهــا دولــة اإلمــارات،
وتريــد أن تقــود املنطقــة إىل رحمــة التســامح وســعته ،وإســداء تجربتهــا
التســامحية للــدول الشــقيقة والصديقــة ،وبذلــك تصلــح أن توصــف بأنهــا
عاصمــة عامليــة للتســامح.
وليســت هــذه القيمــة إال امتــدادا لتاريــخ دولــة اإلمــارات وثقافتهــا ونهــج
مؤسســها الشــيخ زايــد الــذي جعــل التســامح منهجــه الــذي ال يحيــد عنــه يف
كل أمــوره السياســية واالقتصاديــة واالجتامعيــة واألرسيــة.
كــا تعتــر هــذه املبــادرة رافعــة قويــة الســتدامة التســامح يف املجتمــع
اإلمــارايت ،بتعميــق قيمــه يف األجيــال وربــط املجتمــع بثقافتــه املتمثلــة يف
الحــوار واالنفتــاح عــى الثقافــات وتقبــل اآلخريــن.
ومــن أجــل تحقيــق هــذه األهــداف اعتمــدت هــذه املبــادرة املحاور الرئيســة
ملبــادرات عــام التســامح ،وهي:
- 1نفسه.
- 2نفسه.
283
- 1تعميــق قيــم التســامح واالنفتــاح عــى الثقافــات والشــعوب يف املجتمــع
مــن خــال الرتكيــز عــى هــذه القيــم لــدى األجيــال الجديــدة.
- 2ترســيخ مكانــة دولــة اإلمــارات بصفتهــا عاصمــة عامليــة للتســامح مــن
خــال مجموعــة مــن املبــادرات واملشــاريع الكــرى منهــا املســاهامت
البحثيــة ،والدراســات االجتامعيــة املتخصصــة يف حــوار الحضــارات.
- 3التســامح الثقــايف مــن خــال مجموعــة مــن املبــادرات املجتمعيــة
والثقافيــة املختلفــة.
- 4طــرح ترشيعــات وسياســات تهــدف إىل تعزيــز قيــم التســامح الثقــايف،
والدينــي ،واالجتامعــي.
- 5تعزيــز خطــاب التســامح ،وتقبــل اآلخــر مــن خــال مبــادرات إعالميــة
هادفــة»(.)1
فعــام التســامح مبــادرة توفــر الفرصــة للجميــع للتعزيــز مــن قيمــة
التســامح ،وتحويلــه إىل منهــج وســلوك ،وهــو أيضــا عــام حافــل بأنشــط ٍة
وفعاليــات ضخمــ ٍة تاريخ َّيــ ٍة نــادر ِة الوقــوع يف املنطقــة ،توثــق
ٍ عامل َّيــ ٍة
لثقافــة التســامح التــي حطــت رحالهــا يف دولــة اإلمــارات ،ومــن أهــم تلــك
الفعاليــات :زيــارة بابــا الكنيســة الكاثوليكيــة البابــا فرانســيس إىل اإلمــارات
التــي شــهدها العــامل ،وكانــت يف الثالــث مــن شــهر فربايــر يف عــام التســامح
،2019حيــث شــارك البابــا فرنســيس يف «ملتقــى الحــوار العاملــي بــن األديــان
حــول األخــوة اإلنســانية» ،وذلــك تثمي ًنــا ملــا يســود دولــة اإلمــارات مــن قيــم
التســامح والتعايــش بــن مختلــف الشــعوب والديانــات.
ومــن أعظــم مخرجــات عــام التســامح ومثــاره الذهبيــة التــي نزلــت بــر ًدا
وســا ًما عــى العــامل كلــه «وثيقـــة األخــــوة اإلنســــانية مــن أجــل الســام
العاملــي والعيــش املشــرك» التــي تعتــر حدثًــا تاريخ ًّيــا متمي ـ ًزا يف املنطقــة،
فقــد ُوقِّعــت هــذه الوثيقــة يف رصح الشــيخ زايــد يف العاصمــة اإلماراتيــة
- 1ينظر :البوابة الرسمية لحكومة اإلمارات العربية املتحدة:
https: www.government.ae ar-ae about-the-uae the-uae-government government-of-future tolerance-in-
the-uae
284
أبوظبــي مبــا يحملــه املؤســس مــن رمزيــة للتســامح ،ومــا يحيــل عليــه وطــن
اإلمــارات مــن اســتقرار وتعايــش املئــات مــن ســكان العــامل ،ووقَّــع هــذه
الوثيقــة رم ـزان دينيًّــان كب ـران؛ بابــا الكنيســة الكاثوليكيــة البابــا فرنســيس،
وشــيخ األزهــر اإلمــام األكــر أحمــد الطيــب ،برعايــة ويل عهــد أبوظبــي نائــب
القائــد األعــى للقــوات املســلحة الشــيخ محمــد بــن زايــد.
وتســتمد هــذه الوثيقــة مرشوعيتهــا وقوتهــا مــن أنهــا نتيجــة جهــود
مؤسســتني دينيتــن رئيســتني يف العــامل ،لهــا أتباعهــا ،وميثــان رشائــح كبــرة
مــن املجتمعــات اإلنســانية ،وهــا مؤسســة األزهــر والكنيســة الكاثوليكيــة،
كــا أن هــذه الوثيقــة متثــل دســتورا ومرجعــا للعــامل يف الحفــاظ عــى األخالق
وإقامــة العــدل واح ـرام الكرامــة اإلنســانية(.)1
وحــن نتفحــص هــذه الوثيقــة التاريخيــة وعالقتهــا بالتَّســامح ومفهــوم
األخــوة اإلنســانية ،نجــد قطــب رحاهــا هــو دور األديــان يف انتشــار الســلم
والســام ،ولهــذا كانــت أكــر الكلــات املــرددة يف الوثيقــة هــي الثــايث:
«الديــن ،واإلنســان ،واألخــوة».
وتكمــن أهميــة هــذه الوثيقــة يف أنهــا وضعــت قضيــة التســامح والتعايــش
يف ســياق دينــي فلســفي عاملــي واقعــي ،فهــي تــروم يف بنودهــا عــاج أزمــات
العــامل املتشــابكة ،وتوســيع رقعــة التســامح والتعايــش بــن أبنائــه ،وتجديــد
موضوعاتــه التــي ميكــن التعــاون حولهــا ،وقــد أقــرت هــذه الوثيقــة بنــودا
ذهبيــة ناصعــة ،تعــد قانــون التســامح الدينــي واإلنســاين ،وســتؤيت هــذه
البنــود مثارهــا عاجـ ًـا أو آجـ ًـا؛ لكونهــا بلغــت مــن الدقــة واإلجــادة واإلتقــان،
واألصالــة والشــمولية واالحرتافيــة مبل ًغــا فائ ًقــا ،يُبهــر الباحــث ويثلــج صــدر
املتعلــق بأذيــال التســامح ،ومــن هــذه البنــود التــي تجمــع شــتات التســامح
ومتعلقاتــه ،مــا ورد يف صلــب الوثيقــة« :إ َّن هــذه الوثيقـ َة ،إذ تَعتَ ِمـ ُد ك َُّل مــا
ـام ـت إىل أهم َّي ـ ِة َد ْو ِر األديــانِ يف بِنــا ِء َّ
السـ ِ س ـ َبقَها مــن َوثائِـ َـق عالَ ِم َّي ـ ٍة نَ َّب َهـ ْ
ـي ،فإنَّهــا ت ُؤكِّ ـ ُد اآليت:
العاملـ ِّ
285
التمســك -القناعــة الراســخة بــأ َّن التعاليــ َم الصحيحــ َة لألديــانِ ت َد ُعــو إىل ُّ
ـش ب ِق َيـ ِـم الســام وإعــا ِء ِق َيـ ِـم التعــا ُّر ِف امل ُتبــا َد ِل واألُ ُخ ـ َّو ِة اإلنســان َّي ِة وال َع ْيـ ِ
ـاظ نَ ْز َعـ ِة التديُّــن لدى الح ْك َمـ ِة وال َعـ ْد ِل واإلحســانِ ،وإيقـ ِ املشـ َر ِك ،وتكريــس ِ
ـباب؛ لحامي ـ ِة األجيــا ِل الجديــد ِة مــن َس ـ ْيطَ َر ِة الفك ـ ِر املــا ِّد ِّي، ـش ِء والشـ ِ ال َّنـ ْ
ـات الرتبُّــح األعمــى والال ُمبــاال ِة القامئـ ِة عــى قانــونِ ال ُقـ َّو ِة ومــن َخطَـ ِر ِسياسـ ِ
ال عــى قُ ـ َّو ِة القانــونِ .
ــق لــك ُِّل إنســانٍ :اعتقــا ًدا وفكــ ًرا وتعبــ ًرا و ُمام َرســ ًة ،وأ َّن -أ َّن الحريَّــ َة َح ٌّ
ِنــس وال ِعــ ْرقِ واللُّغــ ِة ِحكمــ ٌة واالختــاف يف الدِّيــنِ واللَّــ ْونِ والج ِ َ التَّع ُّد ِديَّــ َة
ـر عليهــا ،وج َعلَهــا أصـ ًـا ثابتًــا تَتَفـ َّر ُع عنــه مل َِشــيئ ٍة إله َّيـ ٍة ،قــد َخلَـ َـق اللـ ُه البـ َ َ
ـاس عــى ِديــنٍ ـاف ،وتجريـ ِـم إكـرا ِه النـ ِ ـوق ُحريَّـ ِة االعتقــا ِد ،وحريَّـ ِة االختـ ِ ُح ُقـ ُ
ـاري ال يَق َبلُــه اآل َخــر. ـلوب حضـ ٍّ ب َع ْي ِنــه أو ثقاف ـ ٍة ُمح ـ َّدد ٍة ،أو فَ ـ ْر ِض أسـ ٍ
ـب اتِّبا ُعــه لل ُوصــو ِل إىل ـبيل الواجـ ُ ـدل القائـ َم عــى الرحمـ ِة هــو السـ ُ -أ َّن العـ َ
حيــا ٍة كرميـ ٍة ،يحـ ُّـق لـك ُِّل إنســانٍ أن يَ ْح َيــا يف كَ َن ِفهــا.
ـش بــن ر ثقافـ ِة التســا ُم ِح وقَ ُبــو ِل اآل َخـ ِر والتعايُـ ِ -أ َّن الحــوا َر والتفا ُهـ َم ونـ َ
املشــكالت االجتامع َّيــة ِ النــاس؛ مــن شــأنِه أن يُســ ِه َم يف احتــوا ِء كثــرٍ مــن ِ
ـر.
ـاص ُجــز ًءا كب ـ ًرا مــن البَـ َ ِ والسياس ـيَّة واالقتصاديَّــة والبيئيَّــة التــي ت ُحـ ِ ُ
ـي يف املســاح ِة الهائلـ ِة لل ِق َيـ ِـم ال ُّروح َّيـ ِة -أ َّن الحــوا َر بــن امل ُؤ ِمنــن يَع ِنــي التالقـ َ
َــر األخــاقِ واإلنســان َّي ِة واالجتامع َّيــ ِة امل ُشــ َرك ِة ،واســتثام َر ذلــك يف ن ْ ِ
ــب ال َجــ َد ِل ال َع ِق ِ
يــم. والفَضائــلِ ال ُعلْيَــا التــي تدعــو إليهــا األديــانُ ،وت َج ُّن َ
ـب تَك ُفلُــه ـس و َمســا ِج َد ،واجـ ٌ -أ َّن حامي ـ َة ُدو ِر العبــاد ِة ،مــن َمعا ِب ـ َد وكَنائِـ َ
وكل محاولــ ٍة اف الدوليَّــ ِةُّ ، ــم اإلنســانيَّ ِة وامل َ َواثيــقِ واألعــر ِ ك ُُّل األديــانِ وال ِقيَ ِ
للتعـ ُّر ِض لِـ ُدو ِر العبــاد ِة ،واســتهدا ِفها باالعتــدا ِء أو التفجـرِ أو التهديـ ِـم ،هــي
ـح للقوان ـ ِن الدول َّي ـ ِة. ـاك واضـ ٌ ـح عــن تعاليـ ِـم األديــانِ ،وانتهـ ٌ صيـ ٌـروج َ ِ ُخـ ٌ
ـرقِ أو ال َغـ ْر ِب، ـاسَ ،ســوا ٌء يف الـ َّ ْ ـض الــذي يُهـ ِّد ُد أمـ َن النـ ِ ـاب ال َب ِغيـ َ
-أ َّن اإلرهـ َ
ـب األَ ْس ـ َوأِ ،ليــس ـب وتَ َرقُّـ ِ الحقُهــم بال َف ـ َز ِع وال ُّر ْعـ ِ ـوب ،ويُ ِ ويف الشَّ ــا ِل وال َجنـ ِ
نِتا ًجــا لل ِّديــن -حتــى وإ ْن َرفَــ َع اإلرهاب ُّيــون الفتاتِــه ولَب ُِســوا شــاراتِه -بــل
ـات ال ُجــو ِع وسياسـ ِ ـوص األديــانِ ِ ـوم الخاطئـ ِة ل ُن ُصـ ِ هــو نتيجـ ٌة َلتاكُــات ال ُف ُهـ ِ
286
كاتــم ال َحــ َر ِ
ْــف َد ْع ِ يجــب َوق ُ
ُ عــال؛ لــذا
ْــش والتَّ ِْــم وال َبط ِوال َفقْــ ِر والظُّل ِ
التخطيــط أو التربيــرِ ،أو بتوفــرِ ال ِغطــا ِءِ اإلرهاب َّيــ ِة باملــا ِل أو بالســا ِح أو
ـي لهــا ،واعتبــا ُر ذلــك مــن ال َجرائِـ ِـم الدوليَّـ ِة التــي تُهـ ِّد ُد األَ ْم َن ِّ
والسـلْ َم اإلعالمـ ِّ
وص ـ َورِه»( ).
1
العامل َّيــن ،ويجــب إدان ـ ُة ذلــك التَّط ـ ُّر ِف ب ـك ُِّل أشــكالِه ُ
إن مركزيــة التســامح يف هــذه الوثيقــة أنــه ينظــر إليــه بأنــه الحــل لجميــع
املشــاكل االجتامعيــة والسياســية وغريهــا ،وأن نــر القيم اإلنســانية واألخالق
الفاضلــة التــي تؤكــد عليهــا األديــان ميكــن معــه إيجــاد مجتمعــات متناغمــة
مســتقرة ومزدهــرة.
ويف دراســة مفاهميــة لهــذه الوثيقــة نجدهــا مــع صغرهــا تســتوعب خريطــة
مفاهيميــة واســعة تقــرب مــن مائــة مفهــوم ،مــا يــدل عــى أن هــذه
الوثيقــة تتميــز بالشــمولية ملــا هــو دينــي وثقــايف واجتامعــي وأخالقــي
وســيايس واقتصــادي وبيئــي ،وهــي تعتمــد أربعــة أضــاع:
- 1دور األديــان األســاس يف الســام والتعايــش وتربئتهــا مــن كل مــا ألحــق
بهــا.
- 2الدعــوة لقيــم األخــوة اإلنســانية واحــرام كرامــة اإلنســان ،وأهميــة
األخــاق وأن أســباب أزمــة العــامل اليــوم تعــود إىل تغييــب الضمــر اإلنســاين
وإقصــاء األخــاق الدينيــة.
- 3ويف الوثيقــة توصيــف شــامل ألزمــات العــامل ،األرسيــة واألخالقيــة
واالقتصاديــة والبيئيــة.
- 4الدفــاع عــن املســتضعفني وتبنــي الوثيقــة قضاياهــم مثــل الفقــراء
واألطفــال واملهاجريــن والالجئــن.
ولهــذا كانــت ميــزة هــذه الوثيقــة عــن كثــر مــن الوثائــق الصــادرة قبلهــا،
أنهــا ركــزت عــى الواقــع وأشــارت إىل أزماتــه املختلفــة ،وربطــت الحلــول
- 1لقاء األخوة اإلنسانية ،موقع إلكرتوين( ،أبو ظبي2019 ،م) وثيقـة األخــوة اإلنســانية من أجل السالم العاملي والعيش
املشرتكhttp: humanfraternitymeeting.com ar declaration :
287
باألســباب ،وســمت األشــياء مبســمياتها ،ففــي هــذه الوثيقــة كثري مــن الوضوح
والتفصيــل ،ومل تكــن خطابهــا موج ًهــا للقــادة الدينيــن فقــط ،بــل دعــت يف
ديباجتهــا كل الفاعلــن مــن القــادة وصنــاع السياســات الدوليــة واالقتصاديــة
َالســف ِة ورِجــا ِل ال ِّديــنِ والفنانــن واإلعالم ِّيــن وامل ُِبد ِعـ َن يف ك ُِّل واملفكريــن والف ِ
ـر وال َجــا ِل واألُ ُخ ـ َّو ِة
ـام وال َع ـ ْد ِل وال َخـ ْ ِ
السـ ِـاف ِق َيـ ِـم َّ
مــكانٍ «ل ُي ِعي ـ ُدوا اكتشـ َ
ُشــر ِك ،ول ُيؤكِّــدوا أهم َّيتَهــا كطَــ ْوقِ نَجــا ٍة لل َج ِميــعِ، اإلنســان َّي ِة وال َع ْي ِ
ــش امل َ َ
كل مــكان»( ).
1
ـاس يف ِّ ـر هــذه ال ِقيَـ ِـم ب ـ َن النـ ِ
وليَس ـ َع ْوا يف نَـ ْ ِ
وإذا كنــا اليــوم نعالــج يف كثــر مــن دراســاتنا وأبحاثنــا التســامح معالجــ ًة
انتقائيَّـ ًة؛ فــإن هــذه الوثيقــة قدمــت صــور ًة كاملـ ًة ،ورســمت نه ًجــا واض ًحــا،
واســتقصت تلــك القضايــا التــي لهــا عالقــة بالتســامح مــن قريــب أو بعيــد،
ولهــا أثــر عــى املجتمعــات ،وتحــول بينهــا وبــن العيــش بســام واســتقرار،
ومــن تلــك القضايــا املتطــورة يف الوثيقــة والتــي ميكــن اســتثامرها يف تطويــر
التســامح وترشــيده والتــي ركــزت عليهــا الوثيقــة:
• مســألة تراكــات الفهــوم الخاطئــة لنصــوص األديــان وأهميتهــا يف القضــاء
عــى التطــرف واإلرهــاب.
• ومن تلك القضايا التي اهتمت بها الوثيقة أيضا التطرف اإللحادي.
• ومنها ما حذرت منه من االنحدار الثقايف واألخالقي.
• بعــث قيــم الســام مســؤولية مشــركة بــن الجميــع مــن رجــال الديــن إىل
الفنانــن.
• أهميــة األخــاق وأن أســباب أزمــة العــامل اليــوم تعــود إىل تغييــب الضمــر
اإلنســاين وإقصــاء األخــاق الدينية.
• أثر النزعة الفردية والفلسفات املادية عىل فقدان السالم.
• وضع القيم املادية الدنيوية موضع املبادئ العليا واملتسامية.
- 1لقاء األخوة اإلنسانية ،موقع إلكرتوين( ،أبو ظبي2019 ،م) وثيقـة األخــوة اإلنســانية من أجل السالم العاملي والعيش
املشرتكhttp: humanfraternitymeeting.com ar declaration :
288
• التأكيــد عــى الهويــة ورضورة االنتبــاه للفــوارق الدينيــة والثقافيــة
والتاريخيــة التــي تدخــل عنـرا أساســا يف تكويــن شــخصية اإلنســان الرشقي،
وثقافتــه وحضارتــه.
• خطورة اإلدمان ،وتبنى أشكال من اإلدمان والتدمري الذايت والجامعي.
• إيقاظ الحس الديني لدى الجميع يؤدي إىل السالم.
• املامرســات املعــارصة التــي تهــدد الحيــاة ،كاإلبــادة الجامعيــة ،والعمليًّــات
اإلرهابيــة ،والتهجــر القــري ،واملتاجــرة باألعضــاء البرشيــة ،واإلجهــاض ،ومــا
يطلــق عليــه املــوت «الالرحيــم» ،والسياســات التــي تشــجعها.
• األديان مل تكن أبدا بريدا للحروب.
• التخــي عــن االســتخدام اإلقصــايئ ملصطلــح «األقليــات» الــذي يحمــل يف
طياتــه اإلحســاس بالعزلــة والدونيــة.
• العالقة بني الرشق والغرب هي رضورة قصوى لكليهام(.)1
• إن كل قضيــة مــن هــذه القضايــا الســابقة لهــا دور أســاس ومهــم يف
تحســن التســامح ،وال شــك أنهــا مشــاريع مســتقبلية مهمــة ميكــن عــى إثرها
أن نُقنــن التســامح ونرثيــه ،وباعتبارهــا والنظــر إليهــا نطــوره ونحميــه ،ولهــذه
االعتبــارات املهمــة ولكــون هــذه الوثيقــة مرجعيــة دســتورية يف األخــاق
والقيــم واإلنســانية؛ فقــد أقَـ َّرت دولــة اإلمــارات هــذه الوثيقــة يف مناهجهــا
الدراســية حيــث «كشــف ســمو الشــيخ عبــد اللــه بــن زايــد آل نهيــان ،وزيــر
الخارجيــة والتعــاون الــدويل ،عــن إدخــال «وثيقــة األخــوة اإلنســانية» يف
املناهــج الدراســية يف مــدارس وجامعــات الدولــة بــدءا مــن العــام املقبــل؛
مــا يشــر إىل أن مبــادرات اإلمــارات لتعزيــز قيــم التعايــش ليســت مجــرد
شــعارات ،وإمنــا تتحــول إىل واقــع يعــي مــن قيــم الســام واملحبــة التــي
تنــادي بهــا الدولــة ،كراعيــة بــارزة للحــوار اإلنســاين والدينــي والحضــاري ،عىل
املســتويني اإلقليمــي والــدويل ،تحــت قيــادة صاحــب الســمو الشــيخ خليفــة
() لقاء األخوة اإلنسانية ،موقع إلكرتوين( ،أبو ظبي2019 ،م) وثيقـة األخــوة اإلنســانية من أجل السالم العاملي والعيش
املشرتكhttp: humanfraternitymeeting.com ar declaration ،
289
بــن زايــد آل نهيــان ،رئيــس الدولــة ،حفظــه اللــه»(.)1
وكــا تقــدم فــإن التســامح عمــل مســتدام ال يتوقــف وال يُ َحــد ،ومــن هنــا
فمبادراتــه تكتــي طبيعتــه ،وينبغــي أن تكــون مســتمرة تســتجيب للتغـرات
وتتــواءم مــع التطــورات والطموحــات ،وهــذا مــا تخطــط لــه دولــة اإلمــارات
يف ســعيها الــدؤوب لتثبيــت نهــج التســامح؛ ففــي كل ســنة تــأيت مبــادرة
تفــوق أخواتهــا الســابقة يف املشــاريع واألنشــطة ،مــا يــدل حيويــة شــعب
دولــة اإلمــارات وتفاعلــه مــع ثقافــة التســامح وتقبلــه مبادراتــه.
- 1جريدة االتحاد اإلماراتية ،تقرير« :األخوة اإلنسانية» يف املناهج… خطوة عىل درب السالم العاملي( ،بتاريخ 11 :فرباير
- https: www.alittihad.ae wejhatarticle 101347 ،)2019
290
الخامتة
الحمــد اللــه عــى التــام والكــال ،فبعــد هــذه املســرة العلميــة والفكريــة
ـت فيــه أنفــاس الشــيخ مــع هــذا البحــث الــذي جــاد بهــا عــام الخــر ،وصاحبـ ُ
زايــد يف عــام زايــد ،ليوافــق إنجــازه واالنتهــاء منــه «عــام التســامح» ،وهــذه
موافقــة بحمــد اللــه دالــة عــى التوفيــق ،وقــد وصلنــا إىل نهايــة مــا رســمناه
مــن املســار يف خطــة البحــث ،وتقتــي منهجيــة البحــث تســجيل أهــم
النتائــج والتوصيــات.
ً
أول :أهم النتائج:
.1إن ســاحة اإلســام ال اختــاف حولهــا ،وأن التشــكيك يف هــذه القيمــة
اإلســامية يســتعيص عــى منكريــه ،وإمنــا يــأيت اســتجالء هــذه القيمــة يف
ســياق تنميتهــا واســتدامتها ،والتفاعــل مــع اإلشــكاالت املعــارصة الناشــئة
عــن التعدديــة والطائفيــة ،والكراهيــة والعوملــة ،التــي تســتدعي االســتنفار
واالســتنجاد ،وتوجيــه البوصلــة الســتدرار العــاج مــن قيمــة التســامح.
.2إن مصطلــح التســامح بهــذا اللفــظ مل يُســتعمل يف علــوم الرشيعــة ،كــا
ال يوجــد جــذر يف القــرآن لهــذه الكلمــة ،ولكنــه قــد ورد يف الســنة النبويــة
يف عــدة أحاديــث بصيــغ مختلفــة ،وعولــج يف علــوم مختلفــة كالتفســر،
والحديــث ،وأصــول الفقــه ،واألخــاق ،وفــن التعريفــات ،ويف تراثنــا اإلســامي
مصطلحــات كثــرة تــؤدي معنــى التســامح ،فهــو مفهــوم قيمــي تتدفــق فيــه
مــوارد أخالقيــة ورشعيــة عديــدة ،واخــرتُ تعريــف التســامح بأنــه :قيمــة
إنســانية اختياريــة ،ت ُنتــج االحـرام والســام والعيــش املشــرك بــن اإلنســانية،
باختــاف أعراقهــا وأديانهــا وثقافتهــا وانتامءاتهــا.
.3إن تبنــي النظريــة بــأن فكــرة التســامح إمنــا نشــأت يف القــرن الســابع
حافــا مــن
ً كامــا
ً عــر امليــادي يف أوربــا ومــا بعــده ،ســيطمس تاري ًخــا
تقنــن التســامح ،وتطبيقــه العمــي بــن مختلــف الشــعوب واألديــان
291
والقبائــل ،وخاصــة منهــا يف املجتمعــات املســلمة .وباســتحضار مــا أحدثــه
اإلســام ببعثــة نبينــا محمــد صــى اللــه عليــه وســلم نــدرك قيمــة التســامح
يف اإلســام ،حيــث جــاء لصيانــة كرامــة اإلنســان ،وحفــظ حقوقــه ،وعــارة
الكــون ،وبدراســة تاريــخ التســامح تأكــد أنــه قيمــة إنســانية مشــركة جــاء
بهــا كل األنبيــاء ،وكفلتهــا كافــة الديانــات
.4إن القــول بــأن التســامح مــن خصائــص اإلســام ،ومعجزاتــه العظــام ،ينتــج
عنــه أنــه ال ميكــن تصــور هــذه الرشيعــة اإلســامية الغـراء مــن دون تســامح،
ولهــذا كان التســامح صفــة الزمــة لإلســام «الحنيفيــة الســمحة» ،وقــد قننــت
هــذه الرشيعــة التســامح بنصــوص دســتورية قاطعــة ،وأصــول حاكمــة ،ال
تقبــل التغــر ،مثــل آيــة الحجـرات ،ووثيقــة املدينــة النبويــة ،وخطبــة حجــة
الــوداع؛ وس ـ َّيجته مبــكارم األخــاق والفضائــل ،والكرامــة اإلنســانية ،ويف كل
نــص رشعــي أو قيمــة أخالقيــة أو توجيــه دينــي نقــرأ فيــه أبعــاد التســامح
وميكــن حملــه عــى محاملــه.
.5خلــص البحــث إىل أن معاقــد التســامح رشعيــة وإنســانية؛ فالشــك أن
التســامح فريضــة رشعيــة ،فــكل األوامــر ال ِق َي ِم َّيــة الرشعيــة التــي تحــض عــى
األخــاق الفاضلــة دالــة عــى هــذا الحكــم ،وهــو أيضــا رضورة إنســانية ،قبــل
أن يكــون قيمــة إســامية ،ألنــه فطــري يف طبيعــة ســائر البــر؛ ملــا فُطــرت
عليــه قلــوب النــاس مــن القيــم األخالقيــة ،والفطــرة الســليمة تســتدعيه ،وبــه
يتحقــق الكــال اإلنســاين ،وترتقــي بــه اإلنســانية عــن السفاســف والجهــاالت،
وتقــام أوارص اإلخــاء اإلنســاين واملحبــة.
.6إن للتســامح داخــل الدائــرة الدينيــة الواحــدة أهميــة كــرى ،فالعالقــات
الداخليــة كلــا كانــت متناغمــة مســتقرة كان أثرهــا عــى املجتمــع جليــا يف
قبولــه لآلخــر املخالــف ،ومــن هنــا بينــت يف البحــث أهميــة قيمــة االختــاف
يف ال ـراث اإلســامي وأنــه ث ـراء يف األحــكام ونعمــة وازدهــار ،ومظهــر مــن
مظاهــر التســامح املذهبــي يف أجــى صــوره ،فالحــوار داخــل الدائــرة الواحدة
هــو املدخــل الرشعــي الســليم للتســامح يف الرشيعــة اإلســامية؛ ألن التســامح
يف مقاصــده إمنــا هــو رعايــة حقــوق اآلخــر ســواء كان مســلام أو غــر مســلم.
292
.7إن املقاصــد الكــرى للرشيعــة اإلســامية ،ومــا جــاءت بــه مــن القيــم
اإلنســانية ،ومــا حضــت عليــه مــن كرامــة اإلنســان ،ومــا تتــوق إليــه مــن
الســام والســكينة ،كل ذلــك يــدل عــى أن األصــل يف العالقــات اإلنســانية بــن
املســلمني وغريهــم هــو الســلم والســام ،وأنــه ال يلجــأ إىل الحــروب والقتــال
إال عنــد الــرورة ،ولغايــات محــدودة ،ويف نطــاق ضيــق ،بــروط وضوابــط
دقيقــة ،ويف هــذا العــر ينبغــي تبنــي هــذا األصــل واعتــاده ،والتخــي عــن
األقــوال األخــرى مــن أن األصــل يف العالقــة الدوليــة بــن املســلمني وغريهــم
الحــرب ،لضعــف مدركهــا ،وألنهــا ال تصلــح لهــذا العــر وتنســف قيمــة
التســامح.
.8التســامح إمنــا يقــام أوده برتســيخ أصولــه ،وتعزيــز أسســه ،فهــي القيمــة
الضامنــة والكفيلــة بتنظيــم العالقــات بــن املســلمني وغريهــم ،ومــن هــذه
األســس التــي ركــز عليهــا البحــث اإلميــان بالتعدديــة ،واالعـراف باملخالــف يف
الديــن الــذي يــأيت يف أهميتــه متقدمــا عــى التســامح؛ ألنــه ال ميكــن إقامــة
التســامح دون االع ـراف باآلخــر ،وهــو بــدوره ينبنــي عــى أســس راســخة
منهــا القســط واإلنصــاف والعــدل ،والــر ،ويحــوط تلــك األســس الوفــاء
بالعهــود واحرتامهــا.
.9إن مــن خصائــص القيــم اإلنســانية املشــركة التــي وقــف عندهــا البحــث
مليــا ،أنهــا قيــم ال تتغــر وال تتبــدل ،وهــي إنســانية تصلــح أن يتعامــل بهــا
مــع جميــع النــاس ،ال تتخلــف مــع إنســان دون آخــر ،والقاعــدة أن القيــم ال
تنســخ ،وعــى ضــوء هــذه القاعــدة وقــف البحــث عنــد مــا ذكــره كثــر مــن
املفرسيــن مــن القــول بنســخ آيــة الســيف آليــات العفــو والصفــح والغفـران،
والقــول الحســن ،وبينــت أن هــذا املنهــج ال يعــزز التســامح ،ويخالــف مــا
تدعــو إليــه النصــوص العامــة للرشيعــة اإلســامية ومقاصدهــا.
.10فيــا يخــص وســائل تحقيــق التســامح بــن املجتمعــات املختلفــة
أكــد البحــث عــى أهميتهــا ،ويــأيت يف ذروتهــا املواطنــة الضامنــة للحقــوق
والواجبــات لــكل مــن ينتمــي للوطــن ،بغــض النظــر عــن دينــه ومذهبــه
ولغتــه ،كــا يعــد التواصــل االجتامعــي ،والتعامــل التجــاري ،مــن الوســائل
املهمــة لنــر التســامح يف املجتمــع ،وال ســ ّيام يف ظــل مــا يــروج لــه بــن
293
األف ـراد مــن الدعــوات للمقاطعــات االقتصاديــة التــي ال تســتند إىل أصــول
رشعيــة ،وقــد كان مــن هــدي النبــي صــى اللــه عليــه وســلم التعامــل التجاري
مــع غــر املســلمني ،لتحقيــق املنافــع واملصالــح ،والتنميــة التــي تعــود عــى
الجميــع وعــى أوطانهــم بالخــر والرفــاه.
.11إن مزالــق التســامح وعراقيلــه متنوعــة وعديــدة ،وعــى رأســها املفاهيــم
املغلوطــة ،فــا درج عليــه الفقهــاء مــن ربــط بعــض األحــكام الفقهيــة بــدار
اإلســام ودار الكفــر ،واعتبــار مفهــوم اإلذالل واإلعـزاز ،وإلـزام غــر املســلمني
بــزي مييزهــم عــن غريهــم ،منــاذج مــن الفقــه العتيــق الــذي ال حاجــة إليــه يف
هــذا العــر؛ ألن هــذه املفاهيــم مرحليــة وظرفيــة ،ميكــن تجاوزهــا يف ظــل
أمــان الــدول يف حدودهــا ،وعقــد املواطنــة بــن أبنائهــا ،واملرجعيــة القانونيــة
الضامنــة لحقــوق الجميــع ،فــكل مــا يصلــح نَظْمــه يف مــكارم األخــاق مــن
الفضائــل واملحاســن يَ ْحســن فعلــه مــع غــر املســلم ،ويدخــل يف بــاب الــر
املأمــور بــه وفــق الضوابــط الرشعيــة.
.12توصــل البحــث إىل أن التســامح يف اإلســام مل يكــن مجرد شــعار ،واســتدل
عــى ذلــك بالشــواهد التاريخيــة واالجتامعيــة ،ومــا كان لهــا مــن األثــر البالــغ
يف التعامــل االجتامعــي بــن املســلمني ومختلــف الديانــات .وهــذه الشــواهد
حــارضة يف مختلــف األعصــار منــذ عــر النبــوة ،مثــل الوثائــق واملعاهــدات،
ووقائــع الوفــود ،واملحــاورات ،واملصالحــات ،وقــد ت َ َح ـ َّول التســامح إىل مبــدأ
حضــاري إســامي تاريخــي ،حيــث أقيمــت يف كثــر مــن بلــدان املســلمني
أماكــن مامرســة الشــعائر الدينيــة لغــر املســلمني مــن كنائــس وبيــع وتــم
حاميتهــا ،وكان هنــاك وعــي بالتفريــق بــن التســامح والفــوىض؛ فالتســامح
محكــوم بضوابــط ومقاصــد وأســس رصينــة وإال تحــول إىل فــوىض.
.13ومــن أجــل اســتدامة التســامح كان للبحــث وقفــة مــع عوامــل اســتقرار
التســامح وازدهــاره ،وقــررتُ أنــه ال بــد مــن األخــذ بأســباب متــدد هــذه
القيمــة ،وشــيوعها يف كل مفصــل مــن مفاصــل املجتمــع وميادينــه ،ومنهــا
العوامــل األساســية الفاعلــة يف بنيــة التســامح وخاصــة :الرتبيــة األخالقيــة،
وتفعيــل الضمــر األخالقــي اإلنســاين الــذي هــو أســاس يف مجــال الرتبيــة عــى
التســامح .وأحــد أهــم معــززات هــذه االســتدامة هــو التواصــل الحضــاري
294
بشــتى تجلياتــه ،ومنهــا عــى الخصــوص االختــاط مــع اآلخــر ،والرحــات
يف طلــب املعــارف ،وترجمــة تلــك املعــارف التــي تســاعد عــى التثاقــف
والتعــارف عــى اآلخــر.
.14وقــد أفــاض البحــث يف جانبــه التطبيقــي املرتبــط باإلمــارات يف نظريــة
التســامح عنــد الشــيخ زايــد ،فوقــف عنــد معــامل رؤيــة الشــيخ زايــد،
وجذورهــا الثقافيــة ،وفروعهــا الدانيــة ،وأثرهــا املجتمعــي ،والتزامهــا العاملــي،
والبنــاء التســامحي عنــد الشــيخ زايــد يســتوعب املفاهيــم واألســس واألركان
والضوابــط ،واملامرســة التطبيقيــة ،والرؤيــة املســتقبلية ،وبهــذا يســتحق
عملــه التســامحي أن يكــون نظريــة فريــدة ومتميــزة.
.15إن أســس التســامح عنــد الشــيخ زايــد تُظهــر أنــه ينطلــق مــن أهميــة
الــدور الدينــي ،وكان يركــز يف ذلــك عــى تربئــة اإلســام واألديــان كلهــا مــن
التطــرف واإلرهــاب ،ويؤكــد عــى أنهــا مصــدر الرحمــة والحكمــة والســعادة،
وال يغيــب يف رؤيــة الشــيخ زايــد البعــد اإلنســاين واألخالقــي ومركزيتهــا.
وكانــت رؤيتــه نابعــة بالدرجــة األوىل مــن شــخصيته التســامحية امل ُحبــة
للخــر واالتحــاد ،وقــد عمــل يف حياتــه عــى نــر رســالة التســامح ســواء يف
وطنــه أو خارجــه ،فامتــدت هــذه الرؤيــة إىل ربــوع العــامل ومــن آثــار هــذه
الرؤيــة تســاكن مئــات األجنــاس والشــعوب عــى أرض دولــة اإلمــارات.
.16ويف فحــص العالقــة بــن التســامح وثقافــة شــعب دولــة اإلمــارات العربية
املتحــدة يف هــذا البحــث ،توصــل البحــث إىل أن التســامح إرث أصيــل يف دولة
اإلمــارات العربيــة املتحــدة ،ينبــع مــن ت ـراث األجــداد وعاداتهــم الطيبــة،
ومــن النتائــج التــي أكــد عليهــا البحــث :أن التديــن الوســطي املعتــدل هــو
أســاس التســامح ،ولهــذا كان الخطــاب الدينــي يف دولــة اإلمــارات يتميــز
باس ـراتيجيته الدقيقــة ،ومضامينــه الســليمة ،ووســائله املتطــورة ،وانفتاحــه
عــى اآلخــر ،ومل يوظــف الديــن يف مواجهــة التقــدم العلمــي ،بــل وافقــت
بينهــا يف مصالحــة منوذجيــة أمثــرت هــذه الدولــة املتســامحة املســتقرة
واملتطــورة.
.17مــن خــال التتبــع يف هــذا البحــث ملســرة التســامح يف دولــة اإلمــارات
اتضــح أن التســامح قــد وصــل إىل مرحلــة مهمــة ،وصــار لــه كيــان واضــح،
295
ولهــذا وجبــت حاميتــه وحراســته؛ ألجــل هــذا أنشــئت مبــادرات ،ووضعــت
دســاتري وقوانــن ووثائــق ،ومــن أهــم هــذه املبــادرات مبــادرة صاحب الســمو
الشــيخ محمــد بــن زايــد ويل عهــد أبوظبــي نائــب القائــد األعــى للقــوات
املســلحة ،يف اعتــاد «الرتبيــة األخالقيــة» يف املناهــج التعليمــة ،ويــأيت ضمــن
املبــادرات األخــرى املهمــة الربنامــج الوطنــي للتســامح الفريــد مــن نوعــه،
و»وزارة التســامح» التــي أنشــأتها دولــة اإلمــارات ،وعــى مســتوى الحاميــة
القانونيــة للتســامح أصــدرت دولــة اإلمــارات قانــون مكافحــة الكراهيــة
وتجريــم التمييــز العنــري ،وهــو خطــوة دســتورية حضاريــة عامليــة.
.18مل يكــن عــام التســامح الــذي مــا زلنــا نســتظل بــه إال مثــرة مــن مثــار
التســامح ،وهــو مبثابــة إعــان دولــة اإلمــارات عاصــة عامليــة للتســامح،
واالعـراف بريادتهــا يف هــذا املجــال ،وأنهــا تقــود املنطقــة إىل رحمة التســامح
وســعته ،ومــن أعظــم مبــادرات عــام التســامح ومخرجاتــه «وثيقـــة األخــــوة
اإلنســــانية مــن أجــل الســام العاملــي والعيــش املشــرك» التــي تعتــر حدثــا
تاريخيــا متمي ـزا يف املنطقــة ،فقــد ُوقعــت هــذه الوثيقــة يف رصح الشــيخ
زايــد يف العاصمــة اإلماراتيــة أبوظبــي ،وحــر توقيعهــا رمــوز دينيــة مرجعيــة
يف العــامل لــدى املســلمني وغريهــم ،فأضحــى التســامح يف عامــه مكرمــا بهــذه
الوثيقــة التــي متثــل دســتورا ومرجعــا للعــامل ،يف الحفــاظ عــى األخــاق،
وإقامــة العــدل ،واح ـرام الكرامــة اإلنســانية.
.19ويف ختــام النتائــج أقــول :إن الناظــر يف الدراســات الســابقة حــول هــذا
املوضــوع يجــد أ ّن لــكل منهــا وجهتــه ومنهجــه يف دراســة التســامح ،ولئــا
يظــن املطالــع لهــذه الرســالة أن مــا فيهــا إمنــا هــو تســويد ورق ،واجـرار ملــا
ســبق ،فــإين أذكــر بعــض مــا متيــزت بــه عــن غريهــا يف النقــاط اآلتيــة:
-النظــرة الشــمولية للتســامح اآلخــذة يف االعتبــار الفطــرة والقيــم اإلنســانية
املشــركة والخصوصيــات الثقافيــة والعــادات والتقاليــد االجتامعيــة ،ومباركــة
األديــان لهــذه العوامــل الرئيســة الفاعلــة يف التســامح.
-تحريــر مفهــوم للتســامح ،واعتبــار أمناطــه وســياقاته املختلفــة ،السياســية
والثقافيــة والدينيــة واالجتامعيــة ،واالعتــداد باملرجعيــة الدوليــة يف تحريــر
املفهــوم وفــق مــا اســتقرت عليــه األمــم املتحــدة ،واملؤسســات الرســمية
296
الوطنيــة يف الدولــة.
-التأصيــل الرشعــي للتســامح مــن منظوريــن مختلفــن داخــل دائــرة اإلســام
وخارجــه ،واالعتبــار بنظريــة التســامح العامــة وروح الترشيــع اإلســامي يف
توجيــه بعــض األدلــة واالختيــارات الفقهيــة.
-دراســة تجربــة دولــة اإلمــارات العربيــة املتحــدة يف التســامح ،ومنابعهــا
ومقوماتهــا ،ورموزهــا ،والثقافــة املؤصلــة لهــا ،وماضيهــا التليــد ،وحارضهــا
املزدهــر ،واســترشاف مســتقبلها املــرق.
297
ثان ًيا :أهم التوصيات:
أســجل يف ختــام هــذا البحــث بعــض التوصيــات لعلهــا تفتــح املجــال أمــام
الباحثــن الســتكامل مــا أنجــز يف هــذا البحــث والبنــاء عليــه:
.1اســتخالص منهجيــة عــاج قضايــا التســامح والتعايــش مــن مناهــج بعــض
ـول فكريــة عامــة تحكــم العلــاء ،وإرســائها منهجيــة مســتقلة ،واعتامدهــا أصـ ً
مثــل هــذه القضايــا.
.2االلتفــات إىل كنــوز تراثيــة ،مل تســتثمر إىل حــد االن ،ككتــب الســر،
والخــراج ،واألمــوال ،ودراســتها دراســة منهجيــة.
.3دراســة كتــب الســنن يف معــرض التأصيــل ملوضــوع التســامح ،الشــتاملها
عــى مــادة خصبــة يف أحــكام التعامــل مــع غــر املســلمني.
.4إجـراء دراســات يف مجــال التســامح مســتندة إىل بعــض املذاهــب الفقهيــة
التــي تنــص قواعدهــا وأصولهــا وفروعهــا عــى قبــول اآلخــر ،مثــل مذهــب
الحنفيــة واألوزاعــي ،واســتثامرها فقه ًّيــا وفكريًّــا.
.5اســتبدال بعــض املصلطلحــات الفقهيــة مثــل «دار الكفــر» و «دار
الحــرب» و «الجزيــة» و«عقــد الذمــة» و«الــزي» و«املرتديــن» و«املحاربــن»،
مبصطلحــات قانونيــة تزيــل اإلشــكال وتــؤدي دور َهــا رشع ًّيــا وواقع ًّيــا.
.6دعــوة مؤسســات األرشــيف والدراســات والبحــوث الســتثامر الوثائــق
التســامحية املعــارصة التــي تشــتمل عليهــا املجــات والجرائــد اإلماراتيــة
والعربيــة.
.7الدعــوة إىل جمــع وأرشــفة وحفــظ «حكــم الشــيخ زايــد» ،وتســهيل
الرجــوع إليهــا ،فهــي رصيــد حضــاري وإرث مجيــد.
.8أدعو الباحثني إىل االنكباب عىل دراسة تجربة دولة اإلمارات الرثية.
.9إكــال مســرة الــراث اإلســامي واالنفتــاح عــى ثقافــة اآلخريــن مــن
خــال الرتجمــة وإقامــة رصوح فنيــة تســامحية.
.10إن الـراث اإلســامي ســاهم يف التســامح بوســائل مختلفــة مثــل الرتجمــة
298
والفــن ،ومــن هنــا ندعــو إىل إكــال هــذه املســرة ،واالنفتــاح عــى ثقافــة
اآلخريــن ،عــن طريــق الرتجمــة ،وإقامــة رصوح فنيــة ،تســامحية متنوعــة،
فهــذه األنشــطة مــا يرســخ التســامح.
299
فهرس اآليات القرآنية
الصفحة السورة رقمها اآلية م
106 6 الفاتحة ا ْه ِدنَا ِّ َ
الصا َط الْ ُم ْستَ ِقي َم
242 ،140 83 البقرة َوقُولُوا لِل َّن ِ
اس ُح ْس ًنا
300
الصفحة السورة رقمها اآلية م
241 285 البقرة ـول بِ َــا أُنْـز َِل إِلَيْـ ِه ِمـ ْن َربِّـ ِهآ َمـ َن ال َّر ُسـ ُ
َوالْ ُم ْؤ ِم ُنــو َن ك ٌُّل آ َمـ َن بِاللَّـ ِه َو َم َلئِ ِك ِتـ ِه
ــن أَ َح ٍ
ــد َوكُتُبِــ ِه َو ُر ُســلِ ِه َل نُفَــ ِّر ُق بَ ْ َ
ِّمــن ُّر ُســلِ ِه َوقَالُــوا َســ ِم ْع َنا َوأَطَ ْع َنــا
ُغ ْف َرانَـ َـك َربَّ َنــا َوإِلَيْـ َـك الْ َم ِص ـ ُر
62 20 آل عمران ـي ـوك فَ ُقـ ْـل أَ ْس ـلَ ْم ُت َو ْج ِهـ َ فَ ـ ِإ ْن َحا ُّجـ َ
لِلَّ ـ ِه َو َمــنِ اتَّبَ َعــنِ َوقُـ ْـل لِل َِّذي ـ َن أُوتُــوا
ــن أَأَ ْســلَ ْمتُ ْم فَــ ِإ ْن ــاب َوالْ ُ ِّم ِّ َالْ ِكتَ َ
أَ ْسـلَ ُموا فَ َقـ ِـد ا ْهتَـ َد ْوا َوإِ ْن تَ َولَّـ ْوا فَ ِإنَّ َــا
ــا ُغ َواللَّــ ُه بَ ِصــ ٌر بِالْ ِعبَــا ِد ــك الْبَ َ
َعلَيْ َ
96 ،95 159 آل عمران فَ ِبـ َـا َر ْح َمـ ٍة ِمـ َن اللَّـ ِه لِ ْنـ َ
ـت لَ ُهـ ْم َولَـ ْو
ْــب َلنْفَضُّ ــواــت فَظًّــا َغلِيــ َظ الْ َقل ِ كُ ْن َ
ِم ـ ْن َح ْولِـ َـك
185 ،116 1 النساء َّــذيــاس اتَّقُــوا َربَّكُــ ُم ال ِ يَــا أَيُّ َهــا ال َّن ُ
ْــس َوا ِحــ َد ٍة َو َخل َ
َــق َخلَ َقكُــ ْم ِمــ ْن نَف ٍ
ِم ْن َهــا َز ْو َج َهــا َوبَــثَّ ِم ْن ُهـ َـا ِر َجــالً كَ ِثـ ًرا
َونِ َســا ًء َواتَّ ُقــوا اللَّـ َه الَّـ ِـذي ت ََســا َءلُو َن ِبـ ِه
َوالْ َ ْر َحــا َم إِ َّن اللَّــ َه كَا َن َعلَيْكُــ ْم َر ِقيبًــا
77 ،73 36 النساء َوالْ َجا ِر ِذي الْ ُق ْر َب َوالْ َجا ِر الْ ُج ُن ِب
44 63 النساء فَأَ ْعر ِْض َع ْن ُه ْم َو ِعظْ ُه ْم
114 90 النساء فَـ ِإنِ ا ْعتَ َزلُوكُـ ْم فَلَـ ْم يُقَاتِلُوكُـ ْم َوأَلْ َقـ ْوا
إِلَ ْي ُك ـ ُم َّ
الس ـلَ َم فَـ َـا َج َعـ َـل اللَّ ـ ُه لَ ُك ـ ْم
َعلَ ْي ِه ـ ْم َس ـب ًِيل
301
الصفحة السورة رقمها اآلية م
71 94 النساء الســاَ َم وَلَ تَقُولُــوا لِ َمــ ْن أَلْقَــى إِلَ ْيكُــ ُم َّ
ـت ُم ْؤ ِم ًنــا تَ ْبتَ ُغــو َن َعـ َر َض الْ َح َيــا ِة ال ُّدنْ َيا
ل َْسـ َ
،124 135 النساء يَــا أَيُّ َهــا ال َِّذيــ َن آ َم ُنــوا كُونُــوا قَ َّوا ِمــ َن
بِالْ ِق ْسـ ِـط شُ ـ َه َدا َء لِلَّـ ِه َولَـ ْو َع َل أَنْف ُِسـ ُك ْم
أَ ِو الْ َوالِ َديْــنِ َوالْ َقْ َربِــ َن إِ ْن يَكُــ ْن َغ ِن ًّيــا
ِــا فَــاَ تَتَّ ِب ُعــوا أَ ْو فَ ِقــ ًرا قاللَّــ ُه أَ ْو َل ِبه َ
الْ َهـ َوى أَ ْن تَ ْع ِدلُــوا َوإِ ْن تَلْـ ُووا أَ ْو تُ ْعرِضُ ــوا
فَ ـ ِإ َّن اللَّ ـ َه كَا َن بِ َــا تَ ْع َملُــو َن َخ ِب ـ ًرا
130 1 املائدة يَاأَيُّ َها ال َِّذي َن آ َم ُنوا ْ أَ ْوفُوا ْ بِالْ ُعقُو ِد
،128 ،68 2 املائدة ْــر َوالتَّقْــ َوى َو َلــى ال ِ ِّ
َوتَ َعا َونُــوا َع َ
243 ــى الْ ِث ِ
ْــم َوالْ ُعــ ْد َوانِ تَ َعا َونُــوا َع َ
61 5 املائدة َوالْ ُم ْح َص َنــاتُ ِمـ َن الْ ُم ْؤ ِم َنـ ِ
ـات َوالْ ُم ْح َص َناتُ
ِمــ َن الَّ ِذيــ َن أُوتُــوا الْ ِكتَ َ
ــاب ِمــ ْن قَ ْبلِكُــ ْم
إِذَا آتَ ْيتُ ُمو ُهــ َّن أُ ُجو َر ُهــ َّن ُم ْح ِص ِنــ َن غ ْ َ
َــر
ُم َســا ِف ِح َني َولَ ُمتَّ ِخــ ِذي أَ ْخــ َدا َن
،141 5 املائدة الْ َيــ ْو َم أُ ِح َّ
ــل لَكُــ ُم الطَّ ِّي َبــاتُ َوطَ َعــا ُم
239 ،143 ــل لَكُــ ْم ال َِّذيــ َن أُوتُــوا الْ ِكتَ َ
ــاب ِح ٌّ
َوطَ َعا ُمكُــ ْم ِح ٌّ
ــل لَ ُهــ ْم
124 8 املائدة يَــا أَيُّ َهــا ال َِّذي ـ َن آ َم ُنــوا كُونُــوا قَ َّوا ِم ـ َن
لِلَّــ ِه شُ ــ َه َدا َء بِالْ ِق ْس ِ
ــط َو َل يَ ْج ِر َم َّنكُــ ْم
شَ ـ َنآ ُن قَ ـ ْو ٍم َعـ َـى أَ َّل ت َ ْع ِدلُــوا ا ْع ِدلُــوا
ُهــ َو أَقْــ َر ُب لِلتَّقْــ َوى َواتَّقُــوا اللَّــ َه إِ َّن
اللَّ ـ َه َخ ِب ـ ٌر بِ َــا تَ ْع َملُــو َن
302
الصفحة السورة رقمها اآلية م
45 13 املائدة ـح إِ َّن اللَّـ َه يُ ِحـ ُّ
ـب اص َفـ ْ فَا ْعـ ُـف َع ْن ُهـ ْم َو ْ
ا لْ ُم ْح ِس ِن َني
50 30 املائدة فَطَ َّو َع ْت لَ ُه نَف ُْس ُه قَتْ َل أَ ِخي ِه فَ َقتَلَ ُه
50 31 املائدة فَأَ ْصبَ َح ِم َن النادمني
48 48 املائدة ش َع ـ ًة َو ِم ْن َها ًجــا
لِ ـك ٍُّل َج َعلْ َنــا ِم ْن ُك ـ ْم ِ ْ
َولَـ ْو شَ ــا َء اللَّـ ُه لَ َج َعلَ ُكـ ْم أُ َّمـ ًة َو ِ
احـ َد ًة
َولَ ِكـ ْن لِ َي ْبلُ َوكُـ ْم ِف َمــا آتَاكُ ْم ف َْاسـتَ َبقُوا
ات إِ َل اللَّــ ِه َم ْر ِج ُعكُــ ْم َج ِمي ًعــا ــر ِ
الْ َخ ْ َ
فَ ُي َن ِّبئُ ُك ـ ْم بِ َــا كُ ْنتُـ ْم ِفي ـ ِه تَ ْختَلِ ُفــو َن
186 11 األنعام ق ُْل ِس ُريوا ِف الْ َ ْر ِض ث ُ َّم انْظُ ُروا
175 ،46 108 األنعام َو َل ت َُس ُّبوا ال َِّذي َن يَ ْد ُعو َن ِم ْن ُدونِ اللَّ ِه
َي ِعل ٍْم
فَ َي ُس ُّبوا اللَّ َه َع ْد ًوا ِبغ ْ ِ
79 141 األنعام َوال َّن ْخ َل َوال َّز ْر َع ُم ْختَلِفًا أُكُلُه
82 159 األنعام إِ َّن ال َِّذيـ َن فَ َّرقُــوا ِدي َن ُهـ ْم َوكَانُــوا ِشـ َيعاً
ش ٍء
ـت ِم ْن ُهـ ْم ِف َ ْ ل َْسـ َ
12 األعراف َخلَ ْقتَ ِني ِم ْن نَا ٍر َو َخلَ ْقتَ ُه ِم ْن ِط ٍني
122 29 األعراف ق ُْل أَ َم َر َر ِّب بِالْ ِق ْس ِط
56 157 األعراف ص ُه ْم َوالْ َغ َْل َل الَّ ِتي َويَضَ ُع َع ْن ُه ْم إِ ْ َ
كَان َْت َعلَ ْي ِه ْم
303
الصفحة السورة رقمها اآلية م
44 ،42 ،3 199 األعراف ــذ الْ َعفْــ َو َوأْ ُمــ ْر بِالْ ُعــ ْر ِف َوأَ ْعــر ِْض
ُخ ِ
َعــنِ الْ َجا ِهلِــن
177 ،88 46 األنفال َوأَ ِطي ُعــوا اللَّــ َه َو َر ُســولَ ُه َوال ت َنا َز ُعــوا
فَتَفْشَ ــلُوا
،72 ،71 61 األنفال ــح لَ َهــا َوإِ ْن َج َن ُحــوا لِ َّ
لســل ِْم فَا ْج َن ْ
114 ــى اللَّــ ِه
َوتَــ َوك َّْل َع َ
131 4 التوبة فَأَ ِتُّوا إِلَ ْي ِه ْم َع ْه َد ُه ْم إِ َل ُم َّدتِ ِه ْم
237 28 التوبة يَا أَيُّ َها ال َِّذي َن آ َم ُنوا إِنَّ َا الْ ُم ْ ِ
شكُو َن
نَ َج ٌس
63 29 التوبة قَاتِلُوا ال َِّذي َن َل يُ ْؤ ِم ُنو َن بِاللَّ ِه َو َل
بِالْ َي ْو ِم ْال ِخ ِر
79 99 يونس َولَ ْو شَ ا َء َربُّ َك َل َم َن َم ْن ِف الْ َ ْر ِض
اس َحتَّى كُلُّ ُه ْم َج ِمي ًعا أَفَأَن َْت ت ُ ْك ِر ُه ال َّن َ
يَكُونُوا ُم ْؤ ِم ِن َني
162 61 هود ُه َو أَنشَ أَكُ ْم ِم َن الْ َ ْر ِض َو ْاستَ ْع َم َركُ ْم
ِفي َها
80 ،1 ,118 هود اح َد ًةاس أُ َّم ًة َو َِولَ ْو شَ ا َء َربُّ َك لَ َج َع َل ال َّن َ
.119 َو َل يَ َزالُو َن ُم ْختَلِ ِف َني إِ َّل َم ْن َر ِح َم َربُّ َك
َولِ َذلِ َك َخلَ َق ُه ْم
304
الصفحة السورة رقمها اآلية م
130 20 الرعد ال َِّذيــ َن يُوفُــو َن ِب َع ْه ِ
ــد اللَّــ ِه َوالَ
يِنقُضُ ــو َن الْ ِميث َ
َــاق
41 85 الحجر الصف َْح الْ َج ِم َيل
َاص َف ِح َّ
ف ْ
128 ،124 90 النحل إِ َّن اللَّ َه يَأْ ُم ُر بِالْ َع ْد ِل
74 91 النحل َوأَ ْوفُوا ْ ِب َع ْه ِد اللَّ ِه إِذَا َعا َهدت ُّ ْم
،62 ،47 125 النحل ــك بِال ِْح ْك َمــ ِة ا ْد ُع إِ َل َســبِيلِ َربِّ َ
96 ،94 َوالْ َم ْو ِعظَـ ِة الْ َح َسـ َن ِةَ ،و َجا ِدلْ ُهـ ْم بِالَّ ِتــي
ــي أَ ْح َســ ُنِه َ
،130 ،74 ،91 النحل ــد اللــ ِه إذا َعا َهدتُّــ ْم َو َال َوأَ ْوفُــوا ْ ِب َع ْه ِ
.92 تَنقُضُ ــوا ْ األَ ْ َيــا َن بَ ْع ـ َد تَ ْوكِ ِيد َهــا َوقَ ـ ْد
َج َعلْتُ ـ ُم الل ـ َه َعلَ ْي ُك ـ ْم كَ ِفيـ ًـا إِ َّن الل ـ َه
يَ ْعلَـ ُم َمــا تَ ْف َعلُــو َن َوالَ تَكُونُــوا ْ كَالَّ ِتــي
ـت َغ ْزلَ َهــا ِمــن بَ ْعـ ِـد قُـ َّو ٍة أَنكَاثًــا نَقَضَ ـ ْ
ــا بَيْ َنكُــ ْم أَن تَتَّ ِخــذُو َن أَ ْ َيانَكُــ ْم َد َخ ً
ـي أَ ْر َب ِم ـ ْن أُ َّم ـ ٍة إِنَّ َــا ت َ ُكــو َن أُ َّم ـ ٌة ِهـ َ
يَ ْبلُوكُ ـ ُم الل ـ ُه ِب ـ ِه َولَ ُي َب ِّي َن ـ َّن لَ ُك ـ ْم يَ ـ ْو َم
الْ ِق َيا َم ـ ِة َمــا كُنتُ ـ ْم ِفي ـ ِه تَ ْختَلِ ُفــو َن
131 34 اإلرساء َوأَ ْوفُوا ْ بِالْ َع ْه ِد إِ َّن الْ َع ْه َد كَا َن َم ْس ُؤوالً
91 ،47 53 اإلرساء َوق ُْل لِ ِع َبا ِدي يَقُولُوا الَّ ِتي ِه َي أَ ْح َس ُن
،58 ،5 70 اإلرساء َولَقَــ ْد كَ َّر ْم َنــا بَ ِنــي آ َد َم َو َح َملْ َنا ُهــ ْم ِف
236 ،171 ْــر َوالْ َب ْحــ ِر َو َر َزقْ َنا ُهــم ِّمــ َن الطَّ ِّي َب ِ
ــات ال َ ِّ
َوفَضَّ لْ َنا ُهـ ْم َعـ َـى كَ ِثـرٍ ِّم َّمـ ْن َخلَ ْق َنــا تَف ِْضيال
305
الصفحة السورة رقمها اآلية م
119 84 اإلرساء قُـ ْـل ك ٌُّل يَ ْع َمـ ُـل َعـ َـى شَ ــاكِلَ ِت ِه فَ َربُّ ُك ـ ْم
أَ ْعلَـ ُم بِ َ ـ ْن ُه ـ َو أَ ْه ـ َدى َس ـب ًِيل
62 29 الكهف ــق ِمــ ْن َربِّكُــ ْم فَ َمــ ْن شَ ــا َء َوقُــلِ الْ َح ُّ
فَلْ ُي ْؤ ِمــ ْن َو َمــ ْن شَ ــا َء فَلْ َي ْكفُــ ْر
93 34 الكهف فَق ََال لِ َص ِ
اح ِب ِه َو ُه َو يُ َحا ِو ُر ُه
241 - 31 مريم ــاب َــال إِ ِّن َعبْــ ُد اللَّــ ِه آت ِ َ
َــان الْ ِكتَ َ ق َ
33 َ
َو َج َعلَ ِنــي نَ ِب ًّيــا َو َج َعلَ ِنــي ُم َبــا َركًا أيْ ـ َن
ِالصـ َـا ِة َوال ـ َّزكَا ِة
ـان ب َّ ـت َوأَ ْو َصـ َِمــا كُ ْنـ ُ
ــت َح ًّيــا َوبَــ ًّرا ِب َوالِــ َد ِت َولَــ ْم َمــا ُد ْم ُ
ـي يَ ْج َعلْ ِنــي َجبَّــا ًرا شَ ـ ِقيًّا َو َّ
السـ َـا ُم َعـ َ َّ
يَــ ْو َم ُولِــدْتُ َويَــ ْو َم أَ ُمــوتُ َويَــ ْو َم
أُبْ َعــثُ َح ًّيــا
95 45 طه ُــول لَــ ُه قَــ ْو ًل لَ ِّي ًنــا لَ َعلَّــ ُه يَتَ َذكَّــ ُر
فَق َ
ــاف أَ ْنَــال َربَّ َنــا إِنَّ َنــا نَ َخ ُ ــى ق َ أَ ْو يَ ْخ َ
يَفْــ ُر َط َعلَ ْي َنــا أَ ْو أَ ْن يَطْغَــى
163 79 األنبياء فَ َف َّه ْمناها ُسلَ ْيام َن َوكُلًّ آتَ ْينا ُح ْكامً َو ِعلْامً
59 107 األنبياء َو َما أَ ْر َسلْ َن َاك إِ َّل َر ْح َم ًة لِلْ َعالَ ِم َني
159 ،158 40 الحج ــاس بَ ْعضَ ُهــ ْم َولَــ ْو َل َدفْــ ُع اللَّــ ِه ال َّن َ
ــت َص َوا ِمــ ُع َو ِب َيــ ٌع ــض لَّ ُه ِّد َم ْ ِب َب ْع ٍ
َو َصلَـ َواتٌ َو َم َســا ِج ُد يُ ْذكَـ ُر ِفي َهــا ْاسـ ُم
اللَّـ ِه كَ ِثـ ًرا َولَ َينـ ُ َ
ـر َّن اللَّـ ُه َمـ ْن يَنـ ُ ُ
ـر ُه
إِ َّن اللَّــ َه لَقَــو ٌِّي َعزِيــ ٌز
306
الصفحة السورة رقمها اآلية م
186 46 الحج أَفَلَ ـ ْم يَ ِس ـ ُروا ِف الْ َ ْر ِض فَتَ ُكــو َن لَ ُه ـ ْم
ـوب يَ ْع ِقلُــو َن ِب َها أَ ْو آذَا ٌن يَ ْسـ َم ُعو َنقُلُـ ٌ
ِب َهــا فَ ِإنَّ َهــا َل تَ ْع َمــى الْ َبْ َصــا ُر َولَ ِكــ ْن
ـوب الَّ ِتــي ِف ُّ
الص ـ ُدو ِر تَ ْع َمــى الْ ُقلُـ ُ
55 78 الحج َو َما َج َع َل َعلَ ْي ُك ْم ِف الدِّينِ ِم ْن َح َر ٍج
41 22 النور َو َل يَأْتَــلِ أُولُــو الْفَضْ ــلِ ِم ْن ُك ْم َو َّ
السـ َع ِة
ول الْقُــ ْر َب َوالْ َم َســاكِ َني أَ ْن يُ ْؤتُــوا أُ ِ
َوالْ ُم َها ِجرِي ـ َن ِف َس ـبِيلِ اللَّ ـ ِه َولْيَ ْع ُفــوا
َولْيَ ْص َف ُحــوا أَ َل ت ُِحبُّــو َن أَ ْن يَ ْغ ِف ـ َر اللَّ ـ ُه
لَ ُك ـ ْم َواللَّ ـ ُه َغ ُفــو ٌر َر ِحي ـ ٌم
،64 ،47 46 العنكبوت ـاب إِ َّل بِالَّ ِتــي َو َل تُ َجا ِدلُــوا أَ ْهـ َـل الْ ِكتَـ ِ
138 ـي أَ ْح َسـ ُن إِ َّل ال َِّذيـ َن ظَلَ ُمــوا ِم ْن ُهـ ْم ِهـ َ
َوقُولُــوا آ َم َّنــا بِالَّـ ِـذي أُنـز َِل إِلَ ْي َنــا َوأُنـز َِل
اح ـ ٌد َونَ ْح ـ ُن إِلَيْ ُك ـ ْم َوإِلَ ُه َنــا َوإِلَ ُه ُك ـ ْم َو ِ
لَـ ُه ُم ْسـلِ ُمو َن
185 22 الروم ات َوالْ َ ْر ِض َو ِم ـ ْن آيَاتِ ـ ِه َخلْـ ُـق َّ
الس ـ َم َو ِ
ــا ُف أَل ِْســ َن ِت ُك ْم َوأَلْ َوانِكُــ ْم إِ َّن ِف
َوا ْخ ِت َ
ـات لِلْ َعالِ ِم ـ َن
َذلِـ َـك َليَـ ٍ
49 ،2 30 الروم ــك لِلدِّيــنِ َح ِنيفًــا ِفطْــ َر َة فَأَ ِقــ ْم َو ْج َه َ
اللَّــ ِه الَّ ِتــي فَطَــ َر ال َّن َ
ــاس َعلَ ْي َهــا الَ
ــك ال ِّديــ ُن يــل لِ َخلْــقِ اللَّــ ِه َذلِ َ ت َ ْب ِد َ
ـاس الَ يَ ْعلَ ُمــون الْ َقيِّـ ُم َولَ ِكـ َّن أَكْـ َ َ
ـر ال َّنـ ِ
30 الروم الَ تَ ْب ِد َيل لِ َخلْقِ اللَّ ِه َذلِ َك ال ِّدي ُن الْ َق ِّي ُم
307
الصفحة السورة رقمها اآلية م
80 25 السجدة ــك ُهــ َو يَف ِْص ُ
ــل بَيْ َن ُهــ ْم يَــ ْو َم إِ َّن َربَّ َ
يــا كَانُــوا ِفيــ ِه يَ ْختَلِفُــو َنالْ ِق َيا َمــ ِة ِف َ
94 24 سبأ الســ َم َو ِ
ات ُــل َمــ ْن يَ ْر ُزقُكُــ ْم ِمــ َن َّ ق ْ
َوالْ َ ْر ِض قُــلِ اللَّـ ُه َوإِنَّــا أَ ْو إيَّاكُـ ْم لَ َعـ َـى
ــا ٍل ُمبِــ ٍن ُهــ ًدى أَ ْو ِف ضَ َ
119 26 سبأ قُـ ْـل لَ ت ُْس ـأَلُو َن َعـ َّـا أَ ْج َر ْم َنــا َولَ ن ُْس ـأَلُ
َعـ َّـا تَ ْع َملُــو َن قُـ ْـل يَ ْج َمـ ُع بَ ْي َن َنــا َربُّ َنــا ث ُـ َّم
ـاح الْ َعلِيـ ُم ـح بَيْ َن َنــا بِالْ َحـ ِّـق َو ُهـ َو الْ َفتَّـ ُ
يَ ْفتَـ ُ
63 41 الزمر ــاب لِل َّن ِ
ــاس ــك الْ ِكتَ َ إِنَّــا أَنْ َزلْ َنــا َعلَ ْي َ
بِالْ َحـ ِّـق فَ َمــنِ ا ْهتَ ـ َدى فَلِ َنف ِْس ـ ِه َو َم ـ ْن
ــل َعلَ ْي َهــا َو َمــا أَن َ
ْــت ــل فَ ِإنَّ َــا يَ ِض ُّ
ضَ َّ
َعلَ ْيهِــ ْم ِب َوكِيــلٍ
،67 ،41 34 فصلت ـي أَ ْح َسـ ُن فَـ ِإذَا الَّـ ِـذي ا ْدفَـ ْع بِالَّ ِتــي ِهـ َ
96 بَ ْي َنـ َـك َوبَ ْي َنـ ُه َعـ َدا َو ٌة كَأَنَّـ ُه َو ِ ٌّل َح ِميـ ٌم
67 34 فصلت فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ويل
حميم
121 40 فصلت ا ْع َملُوا َما ِشئْتُ ْم
83 ،82 13 الشورى ش َع لَكُــ ْم ِمــ َن الدِّيــنِ َمــا َو َّص بِــ ِه ََ
ــك َو َمــا َّــذي أَ ْو َح ْي َنــا إِلَ ْي َ
نُو ًحــا َوال ِ
ـى ـوس َو ِعيـ َ َو َّص ْي َنــا ِب ـ ِه إِبْ َرا ِهي ـ َم َو ُمـ َ
أَ ْن أَ ِقي ُمــوا ال ِّديــ َن َو َل تَتَ َف َّرقُــوا ِفيــ ِه
308
الصفحة السورة رقمها اآلية م
83 ،82 13 الشورى أَ ْن أَ ِقي ُموا ال ِّدي َن َو َل تَتَ َف َّرقُوا ِفي ِه
41 89 الزخرف َاصف َْح َع ْن ُه ْم َوق ُْل َسلَ ٌم ف ََس ْو َف يَ ْعلَ ُمو َن
ف ْ
43 14 الجاثية قُـ ْـل لِل َِّذي ـ َن آ َم ُنــوا يَ ْغ ِف ـ ُروا لِل َِّذي ـ َن َل
يَ ْر ُجــو َن أَيَّــا َم اللَّ ـ ِه
109 26 الفتح ــل ال َِّذيــ َن كَفَــ ُروا ِف قُلُو ِبهِــ ُم إِ ْذ َج َع َ
الْ َح ِم َّيـ َة َح ِم َّيـ َة الْ َجا ِهلِ َّيـ ِة فَأَنـ َز َل اللَّـ ُه
َسـ ِكي َنتَ ُه َعـ َـى َر ُســولِ ِه َو َعـ َـى الْ ُم ْؤ ِم ِن َني
101 29 الفتح ُر َح َم ُء بَ ْي َن ُه ْم
177 9 الحجرات ــى الْ ُ ْخــ َرى َــت إِ ْح َدا ُه َ
ــا َع َ فَــ ِإ ْن بَغ ْ
فَقَاتِلُــوا الَّ ِتــي تَ ْب ِغــي َحتَّــى ت َ ِفــي َء
إِ َل أَ ْمــ ِر اللَّــ ِه فَــ ِإ ْن فَــا َءتْ فَأَ ْصلِ ُحــوا
ــا بِالْ َعــ ْد ِل َوأَق ِْســطُوا إِ َّن اللَّــ َه
بَ ْي َن ُه َ
يُ ِح ُّ
ــب الْ ُمق ِْس ِ
ــط َني
100 10 الحجرات إِنَّ َــا الْ ُم ْؤ ِم ُنــو َن إِ ْخــ َو ٌة فَأَ ْصلِ ُحــوا بَ ْ َ
ــن
أَ َخ َويْ ُكـ ْم َواتَّ ُقــوا اللَّـ َه لَ َعلَّ ُكـ ْم تُ ْر َح ُمو َن
،27 ،25 ،1 13 الحجرات ـاس إِنَّــا َخلَ ْق َناكُــم ِّمــن َذكَـ ٍر يَــا أَيّ َهــا ال َّنـ ُ
،71 ،32 ــلَوأُنثَــى َو َج َعلْ َناكــ ْم شُ ــ ُعوبًا َوقَبَائِ َ
،118 ،72 لِتَ َعا َرفُــوا إِ َّن أَكْ َر َم ُكـ ْم ِعنـ َد اللَّـ ِه أَتْقَاكُ ْم
،185 ،172
،207 ،193
237
309
الصفحة السورة رقمها اآلية م
44 28 النجم فَأَ ْعر ِْض َع ْن َم ْن تَ َو َّل َع ْن ِذكْ ِرنَا
106 9 الرحمن َوأَ ِقي ُموا الْ َو ْز َن بِالْ ِق ْس ِط
106 9 الرحمن سوا الْ ِمي َزا َن
َو َل تُ ْخ ِ ُ
74 7 املمتحنة ــن
ــل بَ ْي َنكُــ ْم َوبَ ْ َ ــى اللَّــ ُه أَ ْن يَ ْج َع َ َع َ
ال َِّذيــ َن َعا َديْتُــ ْم ِم ْن ُهــ ْم َمــ َو َّد ًة َواللَّــ ُه
ق َِديــ ٌر َواللَّــ ُه َغفُــو ٌر َر ِحيــ ٌم
،122 ،67 8 املمتحنة َل يَ ْن َهاكُــ ُم اللَّــ ُه َعــنِ ال َِّذيــ َن لَــ ْم
،139 ،126 يُقَاتِلُوكُــ ْم ِف الدِّيــنِ َولَــ ْم يُ ْخ ِر ُجوكُــ ْم
،239 ،236 ِمــ ْن ِديَا ِركُــ ْم أَ ْن ت َ َُّبو ُهــ ْم َوتُق ِْســطُوا
242 ــب الْ ُمق ِْس ِ
ــط َني إِلَ ْيهِــ ْم إِ َّن اللَّــ َه يُ ِح ُّ
43 10 املزمل ـر َعـ َـى َمــا يَقُولُــو َن َوا ْه ُج ْر ُه ـ ْم
اصـ ِ ْ
َو ْ
َه ْج ـ ًرا َج ِميـ ًـا
62 4 اإلنسان السب َِيل إِ َّما شَ اكِ ًرا َوإِ َّما كَفُو ًرا
إِنَّا َه َديْ َنا ُه َّ
93 14 االنشقاق إِنَّ ُه ظَ َّن أَ ْن لَ ْن يَ ُحو َر
62 ،21 الغاشية فَ َذكِّ ْر إِنَّ َا أَن َْت ُم َذكِّ ٌر ل َْس َت َعلَيْ ِه ْم بِ ُ َسيْ ِط ٍر
.22
50 5 ،4 التني لَ َق ْد َخلَ ْق َنا الْ ِن َْسا َن ِف أَ ْح َسنِ ت َ ْقو ٍ
ِيم
ث ُ َّم َر َد ْدنَا ُه أَ ْسف ََل َسا ِفلِ َني
120 1 الكافرون ق ُْل يَا أَيُّ َها الْكَا ِف ُرو َن
120 ،119 6 الكافرون لَ ُك ْم ِدي ُن ُك ْم َو ِ َل ِدينِ
310
فهرس األحاديث النبوية
الصفحة رقمه الراوي طرف الحديث م
181 ،180 6464 البخاري أَ َح ُّب الْ َ ْع َم ِل إِ َل الل ِه تَ َع َال أَ ْد َو ُم َها،
َوإِ ْن ق ََّل
57 ،13 2107 أحمد أَ َح ُّب الدِّينِ إِ َل اللَّ ِه ال َح ِني ِف َّي ُة َّ
الس ْم َح ُة
160 2728 أحمد ا ْخ ُر ُجــوا ب ِْسـ ِـم اللـ ِه تُقَاتِلُو َن ِف َسـبِيلِ
اللـ ِه َمـ ْن كَ َفـ َر بِاللـ ِه ،لَ تَ ْغـ ِـد ُرواَ ،وال
تَ ُغلُّــواَ ،وال تُ َثِّلُــواَ ،وال تَ ْقتُلُــوا الْ ِولْ َدانَ،
الص َوا ِمعِ
ـاب َّ َوال أَ ْص َحـ َ
145 3534 أبو داود أَ ِّد الْ َ َمانَ َة إِ َل َمنِ ائْتَ َم َن َكَ ،و َل ت َ ُخ ْن
َم ْن َخان ََك
106 24427 أحمد إِذَا أَ َرا َد الل ُه َع َّز َو َج َّل ِبأَ ْهلِ بَيْ ٍت
َخ ْ ًيا ،أَ ْد َخ َل َعلَ ْي ِه ُم ال ِّرف َْق
80 7352 البخاري إِذَا َحكَــ َم ال َحاكِــ ُم فَا ْجتَ َهــ َد ث ُــ َّم
ــاب فَلَــ ُه أَ ْجــ َرانِ َ ،وإِذَا َحكَــ َم أَ َص َ
فَا ْجتَ َهــ َد ث ُــ َّم أَ ْخطَــأَ فَلَــ ُه أَ ْجــ ٌر
151 ،70 18276 البيهقي ا ْذ َه ُبوا فَأَنْتُ ُم الطُّلَقَا ُء
42 ،13 2233 أحمد ْاس َم ْح ،يُ ْس َم ْح ل ََك
14 15 أحمد ْأس ِمحوا لِ َع ْب ِدي ْ
كإس َمحه إىل عبادي
42 237 عبد الرزاق ْاس َم ُحوا يُ ْس َم ْح لَ ُك ْم
311
الصفحة رقمه الراوي طرف الحديث م
90 338 أبو داود الس َّنةََ ،وأَ ْج َزأَت َْك َص َلت َُك
أَ َصبْ َت ُّ
238 ،132 3052 أبو داود أَ َل َم ْن ظَلَ َم ُم َعا ِه ًدا ،أَ ِو انْتَق ََص ُه ،أَ ْو
كَلَّ َف ُه فَ ْو َق طَاقَ ِت ِه
108 39 البخاري ـرَ ،ولَـ ْن يُشَ ــا َّد ال ِّديـ َن أَ َح ٌد
إِ َّن ال ِّديـ َن يُـ ْ ٌ
شواإِلَّ َغلَ َبـ ُه ،ف ََسـ ِّد ُدوا َوقَا ِربُــواَ ،وأَبْ ِ ُ
105 1767 مالك إِ َّن اللَّ َه تَ َبا َر َك َوتَ َع َال َر ِف ٌيق يُ ِح ُّب ال ِّرف َْق
148 17734 البيهقي إِ َّن ِبأَ ْر ِض الْ َحبَشَ ِة َملِكًا لَ يُظْلَ ُم أَ َح ٌد ِع ْن َد ُه
184 6120 البخاري اس ِم ْن كَال َِم ال ُّن ُب َّو ِة،إِ َّن ِم َّم أَ ْد َر َك ال َّن ُ
َاص َن ْع َما ِشئْ َت إِذَا لَ ْم ت َْستَ ْح ِي ف ْ
150 2380 أحمد أَنَا ابْ ُن َع ْب ِد الْ ُمطَّلِ ِب
178 6952 البخاري ْص أَ َخ َاك ظَالِ ًم أَ ْو َمظْلُو ًما
ان ُ ْ
53 21301 البيهقي ثت ألُتَ ِّ َم َمكا ِر َم األخالقِ
إنَّ ا بُ ِع ُ
149 8704 البيهقي إِنَّ ُه ْم كَانُوا ِلَ ْص َح ِاب ُم ْك ِر ِم َني ،فَ ِإ ِّن
أُ ِح ُّب أَ ْن أُكَا ِفئَ ُه ْم
132 2758 أبو داود يس بِالْ َع ْه ِدَ ،و َل أَ ْحب ُِس ال ُ ُْب َد،
إِ ِّن َل أَ ِخ ُ
101 54 مسلم أول أَ ُدلُّ ُك ْم َع َل َ ْ
ش ٍء إِذَا فَ َعلْتُ ُمو ُه ً
تَ َحابَبْتُ ْم؟
57 2001 مسلم برشا وال تنفرا ،ويرسا وال تعرسا،
وتطاوعا وال تختلفا
312
الصفحة رقمه الراوي طرف الحديث م
56 ،35 22291 أحمد الس ْم َح ِة
بُ ِعث ُْت بِالْ َح ِني ِفيَّ ِة َّ
51 21301 البيهقي ثت ألُتَ ِّ َم َمكا ِر َم األخالقِ
بُ ِع ُ
144 2216 البخاري بَيْ ًعا أَ ْم َع ِطيَّةً؟ -أَ ْو قال - :أَ ْم ِهبَ ًة
139 12 البخاري السالَ َم َع َل َم ْن تُطْ ِع ُم الطَّ َعا َمَ ،وتَ ْق َرأُ َّ
َع َرف َْت َو َم ْن لَ ْم ت َ ْعر ِْف
128 182 املاوردي جبلت القلوب عىل حب من أحسن
إليها ،وبغض من أساء إليها
69 3938 أحمد ُح ِّر َم َع َل ال َّنا ِر ك ُُّل َه ِّ ٍي ل ِّ ٍَي َس ْهلٍ
اسِيب ِم َن ال َّن ِ قَر ٍ
98 1240 البخاري َح ُّق الْ ُم ْسلِ ِم َع َل الْ ُم ْسلِ ِم َخ ْم ٌس
101 2162 مسلم َح ُّق الْ ُم ْسلِ ِم َع َل الْ ُم ْسلِ ِم ِس ٌّت
72 6015 أبو داود َد ُعوا الْ َح َبشَ َة َما َو َد ُعوكُ ْمَ ،وات ْ ُركُوا
الت َك َما ت َ َركُوكُ ْم
ُّ ْ
149 382/5 البيهقي َد ُعو ُه ْم ،ف َْاستَ ْق َبلُوا الْ َم ْ ِ
شقَ ف ََصلُّوا َصلَ تَ ُه ْم
،4،13،69 2076 البخاري َر ِح َم اللَّ ُه َر ُج ًل َس ْم ًحا إِذَا بَاعََ ،وإِذَا
142 اشْ َ َتىَ ،وإِذَا اقْتَ َض
102 48 البخاري وقَ ،و ِقتَالُ ُه كُ ْف ٌر ِس َب ُ
اب امل ُْسلِ ِم ف ُُس ٌ
181 َسـ ِّد ُدوا َوقَا ِربُــواَ ،وا ْعلَ ُمــوا أَ ْن لَـ ْن يُ ْد ِخ َل
أَ َح َدكُــ ْم َع َملُــ ُه ال َج َّنــةََ ،وأَ َّن أَ َح َّ
ــب
ــا ِل إِ َل اللَّــ ِه أَ ْد َو ُم َهــا َوإِ ْن ق َّ
َــل األَ ْع َ
313
الصفحة رقمه الراوي طرف الحديث م
56 245 األدب سواَ ،وإِذَا سواَ ،والَ تُ َع ِّ ُ َعلِّ ُموا َويَ ِّ ُ
املفرد َ
غ َِض َب أ َح ُدكُ ْم فَلْ َي ْسك ُْت
103 1843 مسلم فَ َم ْن أَ َح َّب أَ ْن يُ َز ْح َز َح َعنِ ال َّنارِ،
َويُ ْد َخ َل الْ َج َّنةَ ،فَلْتَأْتِ ِه َم ِن َّيتُ ُه َو ُه َو
191 580/6 الدر قوم حلامء ُعل ََمء كَا ُدوا أَن يبلغُوا
املنثور بفقههم َحتَّى يَكُونُوا أَنْب َياء
180 6462 البخاري كَا َن أَ َح ُّب ال َع َم ِل إِ َل َر ُسو ِل اللَّ ِه صىل
الله عليه وسلم الَّ ِذي يَ ُدو ُم َعلَ ْي ِه َصا ِح ُب ُه
49 4775 البخاري ك ُُّل َم ْولُو ٍد يُولَ ُد َع َل الْ ِفطْ َر ِة
84 3476 البخاري كِالَك َُم ُم ْح ِس ٌنَ ،والَ تَ ْختَلِفُوا ،فَ ِإ َّن َم ْن
كَا َن قَبْلَ ُك ُم ا ْختَلَفُوا فَ َهلَكُوا
31 18739 البيهقي ال أقول لكم إال كام قال يوسف
إلخوته :ال ترثيب عليكم اليوم
132 12383 أحمد َل إِ َميا َن لِ َم ْن َل أَ َمانَ َة لَ ُهَ ،و َل ِدي َن
لِ َم ْن َل َع ْه َد لَ ُه
109 6116 البخاري الَ تَغْضَ ْب
59 7376 البخاري َل يَ ْر َح ُم اللَّ ُه َم ْن الَ يَ ْر َح ُم ال َّن َ
اس
103 13 البخاري الَ يُ ْؤ ِم ُن أَ َح ُدكُ ْمَ ،حتَّى يُ ِح َّب ِلَ ِخي ِه
َما يُ ِح ُّب لِ َنف ِْس ِه
90 338 أبو داود ل ََك الْ َ ْج ُر َم َّرت ْ َِي
314
الصفحة رقمه الراوي طرف الحديث م
4 3477 البخاري اللهم اغفر لقومي فإنهم ال يعلمون
150 2937 البخاري اللَّ ُه َّم ا ْه ِد َد ْو ًسا َوأْ ِت ِب ِه ْم
117 19293 أحمد ش ٍء ،أَنَا شَ هِي ٌد
اللَّ ُه َّم َربَّ َنا َو َر َّب ك ُِّل َ ْ
ش َيك ل ََكأَن ََّك أَن َْت ال َّر ُّب َو ْح َد َك َل َ ِ
70 2544 مسلم لَ ْو أَ َّن أَ ْه َل ُع َم َن أَتَيْ َتَ ،ما َسبُّ َوك َو َل
ضبُ َوك ََ
176 1977 الرتمذي لَيْ َس امل ُ ْؤ ِم ُن بِالطَّ َّعانِ َو َل اللَّ َّعانِ َو َل
َاح ِش َو َل ال َب ِذي ِء
الف ِ
56 6786 البخاري ـول اللـ ِه صــى اللــه عليه ـر َر ُسـ ُ َمــا ُخـ ِّ َ
َ َ
ـن أ ْم َريْــنِ ،أ َح ُد ُهـ َـا أيْـ َ ُ
ـر َ وســلم بَـ ْ َ
س ُهـ َـاَ ،مــا ِم ـ َن ْال َخ ـرِ ،إِ َّل ا ْختَــا َر أَيْ َ َ
لَــ ْم يَكُــ ْن إِثْ ًــا ،فَــ ِإ ْن كَا َن إِثْ ًــا ،كَا َن
ـاس ِم ْن ـ ُهأَبْ َع ـ َد ال َّنـ ِ
238 1943 الرتمذي وصي ِني بِالْ َجا ِر َحتَّى َما ز ََال ج ِْب ُِيل يُ ِ
ظَ َن ْن ُت أَنَّ ُه َسيُ َو ِّرث ُه
105 1778 األحاديث ش ٍء إِال زَانَ ُه َوال
َما كَا َن ال ِّرف ُْق ِف َ ْ
املختارة ش ٍء إِال شانه نُ ِز َع ِم ْن َ ْ
101 ،100 2586 مسلم َــل الْ ُم ْؤ ِم ِنــ َن ِف تَ َوا ِّد ِهــ ْم، َمث ُ
َوتَ َرا ُح ِم ِهـ ْمَ ،وتَ َعاطُ ِف ِهـ ْم َمث َُل الْ َج َسـ ِـد
إِذَا اشْ ــتَ َك ِم ْنــ ُه ُعضْ ــ ٌو ت َ َدا َعــى لَــ ُه
ِالســ َه ِر َوالْ ُح َّمــى
ــد ب َّ َســائِ ُر الْ َج َس ِ
315
الصفحة رقمه الراوي طرف الحديث م
100 2442 البخاري امل ُْســلِ ُم أَ ُخــو امل ُْســلِ ِم الَ يَظْلِ ُمــ ُه َوالَ
يُ ْس ـلِ ُم ُهَ ،و َم ـ ْن كَا َن ِف َحا َج ـ ِة أَ ِخي ـ ِه
كَا َن اللَّــ ُه ِف َحا َج ِتــ ِه
102 10 البخاري امل ُْســلِ ُم َمــ ْن َســلِ َم امل ُْســلِ ُمو َن ِمــ ْن
لِ َســانِ ِه َويَ ِ
ــد ِه
105 2592 مسلم َم ْن ُح ِر َم ال ِّرف َْق ُح ِر َم الْ َخ ْ َي أَ ْو َم ْن
يُ ْح َر ِم ال ِّرف َْق يُ ْح َر ِم الْ َخ ْ َي
155 3052 أبو داود من ظلم معاهدا أو كلفه فوق
طاقته فأنا حجيجه
131 2759 أبو داود َم ْن كَا َن بَ ْي َن ُه َوبَ ْ َي قَ ْو ٍم َع ْه ٌد ف ََل يَشُ ُّد
َض أَ َم ُد َها
ُع ْق َد ًة َو َل يَ ُحلُّ َها َحتَّى يَ ْنق ِ َ
105 6024 البخاري َم ْه ًل يَا َعائِشَ ةُ ،إِ َّن اللَّ َه يُ ِح ُّب ال ِّرف َْق
ِف األَ ْم ِر كُلِّ ِه
52 22840 أحمد الْ ُم ْؤ ِم ُن يَأْل َُف َويُ ْؤل ٌَف َوالَ َخ ْ َي ِفي َم ْن
الَ يَأْل َُف َوالَ يُ ْؤل َُف
139 2620 البخاري نَ َع ْم ِص ِل أُ َّمك
136 ،135 501/1 السرية ـي صــى ـاب ِمـ ْن ُم َح َّمـ ٍـد ال َّن ِبـ ِّ
َهـذَا كِتَـ ٌ
النبوية ــن الْ ُم ْؤ ِم ِنــ َن اللــه عليــه وســلم ،بَ ْ َ
ـش َويَـ ْ ِ
ـر َب َوالْ ُم ْس ـلِ ِم َني ِم ـ ْن قُ َريْـ ٍ
109 3551 الرتمذي َو ْاسل ُْل َس ِخي َم َة َص ْدرِي
73 6016 البخاري َواللَّ ِه الَ يُ ْؤ ِم ُنَ ،واللَّ ِه الَ يُ ْؤ ِم ُنَ ،واللَّ ِه الَ يُ ْؤ ِم ُن...
316
الصفحة رقمه الراوي طرف الحديث م
136 501/1 السرية ـر َعـ َـى َم ـ ْن َحــا َر َبَوأَ َّن بَيْ َن ُه ـ ُم ال َّنـ ْ َ
النبوية أَ ْهـ َـل َهـ ِـذ ِه َّ
الص ِحي َف ـ ِة
136 501/1 السرية َوإِ َّن يَ ُهــو َد بَ ِنــي َعــ ْو ٍف أُ َّمــ ٌة َمــ َع
النبوية ا لْ ُم ْؤ ِم ِنــ َن
140 3477 البخاري وأهــدى ملــك أيلــة للنبــي صــى اللــه
عليــه وســلم بغلــة بيضــاء ،وكســاه بــردا ً
33 23489 أحمد يَــا أَيُّ َهــا ال َّنـ ُ
ـاس إِ َّن َربَّ ُكـ ْم َو ِ
احـ ٌد َو ِإ َّن
أَبَاكُـ ْم َو ِ
احـ ٌد
56 69 البخاري سوا
سوا َوالَ تُ َع ِّ ُ
يَ ِّ ُ
317
فهرس املوضوعات
مقدمة .............................................................................................................أ
أهمية املوضوع والحاجة إليه ...........................................................................ب
أسباب اختيار املوضوع .....................................................................................ت
الدراسات السابقة ............................................................................................ث
اإلضافة العلمية للرسالة ....................................................................................ر
إشكالية البحث ................................................................................................ر
أهداف البحث .................................................................................................ز
صعوبات البحث ..............................................................................................ز
منهج البحث ...................................................................................................س
خطة البحث ...................................................................................................ش
متهيد :يف موارد سامحة اإلسالم 1 .........................................................................
الباب األول :مفهوم التسامح وأهميته وأسسه الرشعية 7 ......................................
الفصل األول :مفهوم التسامح ونشأته وتطوره9 ...................................................
املبحث األول :مفهوم التسامح 10 .......................................................................
املطلب األول :التعريف اللغوي للتسامح 10 ........................................................
املطلب الثاين :التعريف االصطالحي للتسامح 12 ...............................................
أول :مفهوم التسامح يف كتب السنة النبوية 13 ................................................. ً
ثانيًا :مفهوم التسامح عند علامء األخالق 14 .....................................................
ثالثًا :مفهوم التسامح عند علامء علم املصطلحات 16 ........................................
املطلب الثالث :املفهوم الحديث للتسامح 17 ...................................................
مفهوم التسامح يف الثقافة الغربية 19 ..............................................................
املبحث الثاين :األلفاظ ذات الصلة بالتسامح 23 ................................................
املطلب األول :مصطلح التعايش23 ...................................................................
املطلب الثاين :مصطلح التعارف 25 ..................................................................
املطلب الثالث :مصطلح التقريب بني األديان 28 ...............................................
املبحث الثالث :تاريخ التسامح 30 ...................................................................
املطلب األول :التسامح قبل اإلسالم 30 .............................................................
املطلب الثاين :التسامح ثقافة إسالمية وعربية 32 ..............................................
املطلب الثالث :التحوالت املعارصة يف مجال التسامح 35 ...................................
الفصل الثاين :أهمية التسامح ومظاهره وآثاره 39 ..............................................
املبحث األول :أهمية التسامح ويشتمل عىل ثالثة مطالب 40 ............................
املطلب األول :التسامح فريضة رشعية 40 .........................................................
املطلب الثاين :التسامح رضورة إنسانية 48 ........................................................
املبحث الثاين :مظاهر التسامح وتجلياته 54 ......................................................
املطلب األول :التيسري54 ..................................................................................
املطلب الثاين :التكافل والرتاحم58 ....................................................................
املطلب الثالث :الحرية الدينية61 .....................................................................
املبحث الثالث :آثار التسامح ومثراته 66 ...........................................................
املطلب األول :تعزيز السلم يف املجتمعات 66 ...................................................
املطلب الثاين :استقرار العالقات الدولية 70 ......................................................
الفصل الثالث :أسس التسامح مع املخالف من املسلمني 77 ..............................
املبحث األول :مرشوعية االختالف وضوابطه 79 ................................................
املطلب األول :االختالف املرشوع 79 ................................................................
املطلب الثاين :قبول االختالف والتنوع مظهر حضاري 83 ...................................
املطلب الثالث :ضوابط االختالف املرشوع 87 ...................................................
املبحث الثاين :قيم التسامح بني املسلمني 93 ....................................................
املطلب األول :الحوار والحكمة 93 ...................................................................
املطلب الثاين :الحفاظ عىل الحقوق ومراعاة مراتبها 98 ....................................
املطلب الثالث :الرفق باملسلمني 104 .................................................................
املطلب الرابع :منهج االعتدال 106 .....................................................................
الباب الثاين :أصول التسامح مع غري املسلمني يف الرشيعة اإلسالمية 112 ...............
الفصل األول :أصول العالقة مع غري املسلمني ووسائل تحقيقها 114 .....................
املبحث األول :األصول الحاكمة للعالقة مع غري املسلمني 116 ..............................
املطلب األول :أصل االعرتاف بغري املسلمني 116 .................................................
املطلب الثاين :أصل اإلنصاف والقسط 121 .........................................................
املطلب الثالث :أصل الرب واإلحسان 126 .............................................................
املطلب الرابع :أصل الوفاء بالعهود 129 .............................................................
املبحث الثاين :وسائل تحقيق التسامح بني املسلمني وغريهم 134 .........................
املطلب األول :حقوق املواطنة الثابتة لغري املسلمني 134 .....................................
املطلب الثاين :التواصل االجتامعي واألرسي 137 ..................................................
املطلب الثالث :التعامل التجاري 142 ................................................................
الفصل الثاين :شواهد تاريخية عىل تسامح املسلمني مع غريهم 147.....................
املبحث األول :الشواهد التاريخية واالجتامعية عىل تسامح
اإلسالم مع غري املسلمني 147 .............................................................................
املطلب األول :شواهد تاريخية واجتامعية عىل تسامح
اإلسالم يف عرص النبوة 147 ................................................................................
املطلب الثاين :شواهد تاريخية واجتامعية عىل تسامح اإلسالم
يف عهد الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم 152 .........................................
املبحث الثاين :أحكام حامية أماكن عبادة غري
املسلمني يف الرشيعة اإلسالمية 158 ....................................................................
املطلب األول :النصوص الواردة يف حامية أماكن
عبادة غري املسلمني 158 ....................................................................................
املطلب الثاين :شواهد تاريخية عىل حامية أماكن
عبادة غري املسلمني 161 ....................................................................................
الفصل الثالث :ضوابط التسامح ووسائل استدامته 169 .......................................
املبحث األول :ضوابط التسامح بني املسلمني وغريهم 171 ...................................
املطلب األول :الضابط اإلنساين 171 ...................................................................
املطلب الثاين :الضابط الديني 173 .....................................................................
املطلب الثالث :الضابط القانوين 176 .................................................................
املبحث الثاين :استدامة التسامح اإلنساين 180 .....................................................
املطلب األول :الرتبية األخالقية ودورها يف استدامة التسامح 180 .........................
املطلب الثاين :التواصل الحضاري بني الشعوب
وأثره يف استدامة التسامح 184 ..........................................................................
الباب الثالث :التسامح وقيمه يف املجتمع اإلمارايت 189 ........................................
الفصل األول :الشيخ زايد رحمه الله ودوره يف ترسيخ
ثقافة التسامح يف املجتمع اإلمارايت 191 ..............................................................
املبحث األول :رؤية الشيخ زايد التسامحية
ودورها يف تحقيق التسامح 200 .........................................................................
املطلب األول :رؤية الشيخ زايد التسامحية وأثرها يف املجتمع اإلمارايت 200 ..........
املطلب الثاين :دور الشيخ زايد يف نرش التسامح اإلنساين يف العامل 205 ..................
املبحث الثاينِ :حكَم الشيخ زايد املؤسسة للتسامح 192 .......................................
املطلب األول :حكم الشيخ زايد الواردة يف التسامح 192 .....................................
املطلب الثاين :نظرات تحليلية يف حكم الشيخ زايد
التسامحية التأسيسية 194 .................................................................................
املطلب الثاين :القيم الثقافية للشعب اإلمارايت وأثرها يف التسامح 216 .................
املطلب الثالث :التعايش بني شعوب العامل يف
دولة اإلمارات ودوره يف ترسيخ التسامح 224 ......................................................
املبحث الثاين :أمنوذج التدين يف اإلمارات وتأسيسه لثقافة التسامح 230 ...............
املطلب األول :الخطاب الديني اإلمارايت وأثره يف ترسيخ التسامح 230 ...................
املطلب الثاين :دراسة مناذج من فتاوى إدارة املركز الرسمي
لإلفتاء بدولة اإلمارات العربية املتحدة 235 ........................................................
الفصل الثالث :الربنامج الوطني اإلمارايت للتسامح 246 ........................................
املبحث األول :التعريف بالربنامج الوطني للتسامح 247 ......................................
املطلب األول :أسس الربنامج الوطني للتسامح 248 .............................................
املطلب الثاين :أثر الربنامج الوطني يف تعزيز التسامح وطنيا ودوليا 252 ...............
املبحث الثاين :دور املؤسسات الوطنية يف الحفاظ عىل
التسامح وتطويره 258 ......................................................................................
املطلب األول :املبادرات الوطنية وأثرها يف حامية التسامح 258 ...........................
املطلب الثاين :مبادرة عام التسامح وأهم منجزاته يف
تعزيز التسامح اإلمارايت 263 ..............................................................................
الخامتة 273 ......................................................................................................
أول :أهم النتائج 273 ........................................................................................ ً
ثانيًا :أهم التوصيات 278 ...................................................................................
فهرس اآليات القرآنية 280 .................................................................................
فهرس األحاديث النبوية 291 .............................................................................
فهرس املوضوعات 297 ......................................................................................
فهرس املصادر واملراجع 304 ..............................................................................
فهرس املصادر واملراجع