You are on page 1of 45

‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬

‫‪1‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫ة تأهيل املوثقني (‪)1‬‬

‫أبرز الطعون المعاصرة‬

‫في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫إعداد‬
‫د‪ .‬عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل‬
‫الأستاذ المساعد بجامعة القصيم‬

‫‪2‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫‪ ‬المقدمة ‪‬‬

‫الحمـ ُد هلل الــذي جعــل ُســنَّةَ نبيِّـ ِه ق ِرينـةَ كتابِــه المبيــن‪ ،‬وجعلهما‬
‫ـوث رحمـةً‬
‫والســامُ علــى المبعـ ِ‬ ‫والصــاةُ َّ‬ ‫َّ‬ ‫ـع ومَ ِعيــن‪،‬‬ ‫لألمَّـ ِة خيـ َ‬
‫ـر مَنبَـ ٍ‬
‫للعالميــن‪ ،‬نبِيِّنــا محمــ ٍد‪ ،‬وعلــى آلــه وصحبــه أجمعيــن‪ ،‬والتابعيــن‬
‫لهــم بإحســان إلــى يــوم الديــن‪.‬‬
‫أ َّما ب َ ْعدُ‪:‬‬
‫فــإ َّن ُّ‬
‫الس ـنَّةَ النبويَّــة الشــريفة هــي المصــدر الثانــي للتشــريع بعــد‬
‫ـك أحدهمــا عــن اآلخــر‪،‬‬ ‫القــرآن الكريــم‪ ،‬وهمــا متالزمــان‪ ،‬ال ينفـ ُّ‬
‫والمخصصــة‬
‫ِّ‬ ‫المفســرة للقــرآن‪ ،‬والمبيِّنــة لمعنــاه‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫فالســنَّة‪ :‬هــي‬
‫ُّ‬
‫لعامِّــه‪ ،‬والمقيِّــدة لمطلقــه‪ ،‬وهــي ذات مكانــ ٍة عظيمــ ٍة فــي الديــن‪،‬‬
‫قلــوب المســلمين‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ومنزلــ ٍة ســامي ٍة فــي‬
‫الســنَّة بهــذه المكانــة العاليــة والمنزلــة‬
‫ولمــا كانــت ُّ‬
‫الرفيعــة‪ ،‬أراد أعــداء اإلســام والمســلمين إسـ َ‬
‫ـقاط الثقــة بهــا‬
‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬‫أو إضعافَهــا؛ لإبعــاد المســلمين عــن دينهــم‪ ،‬وتشــكيكهم فــي‬
‫ٱللِ بأَ ۡف َوٰهِهمۡ‬
‫ُ ُ َ ُ ۡ ُ ٔ ْ ُ َ َّ‬
‫أهــم مصادر شــريعتهم {ي ِريــدون ِلطفِـــوا نــور‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ََ ۡ َ َ ۡ َٰ ُ َ‬ ‫َ َّ ُ ُ ُّ ُ‬
‫ـرون} [الصــف‪.]8:‬‬ ‫ـره ٱلكفِـ‬
‫وٱلل متِــم نــورِه ِۦ ولــو كـ ِ‬
‫ﮊ‬ ‫الســنَّة النَّبويَّــة لهجمــات وانتقــادات‬
‫ولقــد تعرضــت ُّ‬
‫وطعــون وشــبهات مــن هــؤالء الحاقديــن والمغرضيــن‬
‫ـات‬
‫منــذ العصــور األولــى لإلســام‪ ،‬واتخــذت هــذه الهجمـ ُ‬

‫‪3‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫واالنتقــادات صــو ًرا وأشـ ً‬


‫ـكال متنوعــة؛ تــارة بادعــاء تناقــض‬
‫نصوصهــا وتضادِّهــا‪ ،‬وتــارة بادعــاء مخالفتهــا للقــرآن أو‬
‫العقــل‪ ،‬وتــارة بالطعــن فــي رواتهــا‪ ،‬وتــارة بالطعــن فــي‬
‫حجيتهــا‪ ،‬وتــارة باختــاق بعــض األحاديــث ونســبتها كذبًــا‬
‫وزو ًرا إلــى النبــي ‪ ،‬إلــى غيــر ذلــك مــن االفتــراءات‬

‫والشــبهات‪)1( .‬‬
‫ة تأهيل املوثقني‬
‫الس ـنَّةَ محفوظ ـةٌ بحفـ ِ‬
‫ـظ اهلل لهــا؛ فقــد هيَّــأ لهــا‬ ‫ولكــن ُّ‬
‫رجــال جهابــذة يحمونهــا‪ ،‬فأفنــوا أعمارهــم فــي جمعهــا‪،‬‬ ‫ً‬
‫وتمييــز صحيحهــا مــن ســقيمها‪ ،‬وأصي ِلهــا مــن دخيلهــا‪،‬‬
‫وحف ِظهــا ومدارســتها والعمــل بهــا‪ ،‬وصانوهــا مــن عبــث‬
‫ـس مــن‬‫العابثيــن‪ ،‬ومــن افتــراءات المغرضيــن‪ ،‬وبذلــوا الغالــي والنفيـ َ‬
‫أجــل الــ َّذ ْود عــن ِحيَ ِ‬
‫اضهــا‪ ،‬لتظــ َّل ‪-‬كمــا شــاء اهلل لهــا‪ -‬نقيــ ًة مــن‬
‫َّ‬
‫الشــوائب‪ ،‬رفيعــة الشــأن‪ ،‬عليَّــة المــكان‪.‬‬
‫الســنة مــع كل مــا مــر بهــا راســخةً ثابتــة رَدَ ًحــا مــن‬
‫وبقيــت ُّ‬
‫الزمــن‪ ،‬حتــى جــاء المعاصــرون مــن أعــداء اإلســام‪ ،‬ومَــن تبعهــم‬
‫مــن أبنــاء األمــة اإلســامية‪ ،‬فجعلــوا شــبهات المتقدميــن منطلَ ًقــا‬
‫ِ‬
‫يــأت بهــا األوائــل‪ ،‬وكان هدفهــم األول‬ ‫لهــم‪ ،‬وأتــوا بأشــياءَ لــم‬
‫إســقاط الصحيحيــن؛ ألنهمــا أصــح الكتــب بعــد كتــاب اهلل تعالــى‪،‬‬
‫وكان التركيــز علــى صحيــح البخــاري علــى وجــه الخصــوص؛ ألنــه‬
‫مُ َقــدَّم فــي الصحــة علــى صحيــح مســلم وغيــره‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫ولمــا كانــت هنــاك شــبهات معاصــرة تفـ َّوه بهــا بعــض المتأخريــن‬
‫لــم تكــن فــي الزمــن الســابق‪ ،‬ولــم تأخــذ ح َّقهــا مــن الــرد‪ ،‬وأغلبهــا‬
‫رأيــت؛ بعــد االســتخارة‬
‫ُ‬ ‫مُ َو َّجــه نحــو صحيــح اإلمــام البخــاري‪،‬‬
‫واالستشــارة‪ ،‬أن يكــون موضــوع بحثــي هــذا (أبــرز الطعــون‬
‫المعاصــرة فــي الجامــع الصحيــح للبخــاري)؛ ألذكــر أبــرز الشــبهات‬
‫حــول الجامــع الصحيــح والــرد عليهــا‪ ،‬مــع ذكــر الطوائــف المعاصــرة‬
‫التــي كانــت وراء هــذا الطعــن‪ ،‬وبيـ ِ‬
‫ـان أهدافهــا وأســاليبها‪.‬‬

‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬

‫‪5‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫‪ ‬أهمية الموضوع ‪‬‬

‫تتجلَّى أهمية الموضوع في النقاط التالية‪:‬‬


‫‪ )1‬أ َّن هذا الموضوع يتعلق ُّ‬
‫بالسـنة النَّبوية التي هي األصل‬
‫رب‬
‫الثانـي لهذا الدِّين‪ ،‬والمرجع العام للمسـلمين‪ ،‬بعـد كتاب ِّ‬
‫مرتبط بشرف الــ ُمتَعَلَّق به‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫العالمين‪ ،‬وشـرفُ َّ‬
‫ة تأهيل املوثقني (‪)1‬‬
‫الشيء وأهميته‬
‫‪ )2‬الجامــع الصحيــح للبخــاري مــن أصــح الكتــب بعــد‬
‫كتــاب اهلل تعالــى‪ ،‬وفــي الدفــاع عنــه دفــاع عــن اإلســام‪.‬‬
‫‪ )3‬أ َّن فــي رد ُشــبَه المعاصريــن الطاعنــة فــي الجامــع‬
‫للســنة مــن عبــث العابثيــن‪ ،‬وإغالقًــا للباب‬
‫الصحيــح؛ صيانـةً ُّ‬
‫أمــام المترب ِّ ِصيــن والمغرضيــن‪.‬‬
‫‪ )4‬أ َّن فــي ذكــر الفــرق الطاعنــة فــي الجامــع الصحيــح وبيــان‬
‫ـرا ألبنــاء المســلمين بكيــد أعــداء‬
‫دوافعهــم وكشــف مخططاتهــم‪ ،‬تبصيـ ً‬
‫ـرا للذيــن يجهلــون أمرهــم‪.‬‬
‫الديــن‪ ،‬وتحذيـ ً‬
‫‪ ‬أسباب اختيار الموضوع ‪‬‬

‫دعاني الختيار هذا الموضوع والكتابة فيه‪ ،‬ما يلي‪:‬‬


‫‪ )1‬ما سبق بيانه في أهمية موضوع البحث‪.‬‬
‫‪ )2‬موجـةُ الطعـن المعاصـرة فـي الجامـع الصحيح‪ ،‬وانتشـار ذلك‬
‫في وسـائل اإلعالم بشـتى أنواعـه؛ المرئيـ ِة والمسـموعة والمكتوبة‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫‪ )3‬بــروز بعــض ُّ‬


‫الشــبه المعاصــرة حــول الجامــع الصحيــح التــي لم‬
‫تكــن مــن قبــل‪ ،‬وأهميــة الــردِّ عليها‪.‬‬
‫‪ )4‬عــدم كفايــة المحاولــة التــي قــام بهــا بعــض الباحثيــن فــي الــردِّ‬
‫علــى الشــبه المعاصــرة‪ ،‬وضعــف بعــض هذه الــردود‪.‬‬
‫‪ )5‬محاولــة جمــع أبــرز الشــبهات حــول الجامــع الصحيــح‪،‬‬
‫والــردُّ عليهــا بأســلوب ســهل ومختصــر‪.‬‬
‫‪ ‬خطة البحث ‪‬‬

‫جعلت هذا البحث في مقدمة‪ ،‬ومبحثين‪ ،‬وخاتمة‪ ،‬وفهارس‪.‬‬


‫ُ‬ ‫وقد‬
‫المقدمــة‪ :‬وتشــتمل علــى‪ :‬أهميــة الموضــوع وأســباب اختيــاره‪،‬‬
‫وخطــة البحــث‪.‬‬
‫المبحــث األول‪ :‬الطاعنــون فــي الجامــع الصحيــح‬
‫ودوافعهــم‪ ،‬وفيــه مطلبــان‪:‬‬
‫المطلب األول‪ :‬الطاعنون في الجامع الصحيح‪.‬‬
‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬دوافع الطعن في الجامع الصحيح‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬شبهات حول الجامع الصحيح‪.‬‬
‫الخاتمة‪ :‬وفيها أهم النتائج والتوصيات‪.‬‬
‫الفهــارس‪ :‬وتشــمل‪ :‬فهــرس المراجــع والمصــادر‪،‬‬
‫وفهــرس الموضوعــات‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫المبحث األول‬
‫الطاعنون في الجامع الصحيح وأهدافهم‬

‫المطلب األول‪ :‬الطاعنون في الجامع الصحيح‪:‬‬

‫قبــل الحديــث عــن المعاصريــن الذيــن طعنــوا فــي‬

‫املوثقني (‪)1‬‬
‫الصحيــح لإلمــام البخــاري‪ ،‬ال بــد مــن اإلشــارة‬ ‫الجامــع‬ ‫ة تأهيل‬
‫الس ـنَّة مــن المتقدميــن؛ فقــد‬
‫إلــى َمــن ســبقهم بالطعــن فــي ُّ‬
‫كانــوا المرجعيــة األولــى للمتأخريــن والمعاصريــن‪ ،‬وأكثــر‬
‫الفــرق والطوائــف المعاصــرة تلتقــي فــي األصــول والعقائــد‬
‫مــع الفــرق المنحرفــة القديمــة‪.‬‬
‫السنَّة قدي ًما‪ ،‬ما يلي(((‪:‬‬
‫ومن أشهر الفرق الطاعنة في ُّ‬
‫ً‬
‫أول‪ :‬الخــوارج‪ :‬وهــم مــن الفــرق المنتســبة لإلســام‪ ،‬ولهــم‬
‫الســنَّة‬
‫اعتقــادات كثيــرة باطلــة‪ ،‬ويُعَــدُّون مــن أوائــل الطاعنيــن فــي ُّ‬
‫النبويــة‪ ،‬فإما ُمهــم ذلــك الرجــل الــذي اعتــرض علــى النبــي‪ ‬فــي‬
‫الل إِ َّن َه ـ ِذ ِه ال ِق ْس ـ َم َة َمــا ُع ـ ِد َل فِي َهــا‪َ ،‬و َمــا أ ُ ِري ـ َد بِ َهــا‬
‫تقســيمه‪ ،‬فقــال‪َ « :‬و َّ ِ‬
‫َو ْجــ ُه َّ ِ‬
‫الل»(((‪.‬‬
‫((( ينظــر‪ :‬الســنة النبويــة بيــن دعــاة الفتنــة وأدعيــاء العلــم ص (‪ ،)68-69‬والطاعنــون‬
‫فــي الســنة قدي ًمــا وحديثًــا‪ ،‬مقــال للدكتــور‪ :‬عبــد الرحمــن المحمــود علــى موقعــه‬
‫فــي الشــبكة العالميــة (‪.)almahmod.net‬‬
‫((( أخرجــه البخــاري فــي صحيحــه‪ ،‬كتــاب فــرض الخمــس‪ ،‬بــاب مــا كان النبــي‪‬‬
‫يعطــي المؤلفــة قلوبهــم وغيرهــم مــن الخمــس ونحــوه (‪ )95/4‬رقــم (‪،)3150‬‬
‫ومســلم فــي صحيحــه‪ ،‬كتــاب الــزكاة‪ ،‬بــاب إعطــاء المؤلفــة قلوبهــم علــى اإلســام‬

‫‪8‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫علــي ‪ ،‬والذيــن شــاركوا فــي‬


‫ٍّ‬ ‫والخــوارج يســقطون عدالــة‬
‫ً‬
‫وأيضــا الحكميــن‪ ،‬وكل َمــن رضــي‬ ‫وص ِّفيــن‪،‬‬
‫َــي الجمــل ِ‬
‫وقعت ِ‬
‫بتحكيمهمــا‪ ،‬ويصفونهــم بالكفــر والفســق؛ ولهــذا ردوا أحاديــث‬
‫جمهــور الصحابــة بعــد الفتنــة‪.‬‬
‫ثانيًــا‪ :‬المعتزلــة‪ :‬وهــي الفرقــة المشــهورة المعروفــة بآرائها الشــاذة‬
‫المخالفــة لمنهــج أهــل الســنة والجماعــة‪ ،‬وقــد طعــن أصحــاب هــذه‬
‫ـرا مــن األحاديــث‬
‫الفرقــة فــي جملــة مــن الصحابــة‪ ،‬وردوا عــددًا كبيـ ً‬
‫بحجــة مخالفتهــا للعقــل‪ ،‬كمــا ردوا أحاديــث أخــرى كثيــرة تخالــف‬
‫عقائدهــم الباطلــة التــي يعتقدونهــا‪ ،‬ومــن ذلــك‪ :‬أحاديــث الشــفاعة‪،‬‬
‫وأحاديــث الصفــات‪ ،‬وأحاديــث رؤيــة اهلل فــي اآلخــرة‪ ،‬وأحاديــث‬
‫عــذاب القبــر‪ ،‬وغيرهــا‪.‬‬
‫ثالثًـا‪ :‬الرافضـة‪ :‬وهـم الذيـن يتبـرأون مـن أصحـاب‬
‫محمد‪ ،‬ويسـبونهم وينتقصونهم‪ ،‬بل ويكفرونهم‪ ،‬وينكرون‬
‫عدالتهـم‪ ،‬ويرفضـون جميـع األحاديـث التـي يروونهـا‪.‬‬
‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬
‫روى الكلينــي بإســناده إلــى أبــي جعفــر أنــه قــال‪« :‬ارت ـ َّد‬
‫النــاس بعــد النبــي‪ ‬إال ثالثــة‪ :‬المقــداد‪ ،‬وســلمان‪ ،‬وأبــو‬
‫ذر»(((‪.‬‬

‫وتصبــر مــن قــوي إيمانــه (‪ )739/2‬رقــم (‪ )1062‬مــن حديــث عبــد اهلل‬


‫بــن مســعود ‪.‬‬
‫((( روضة الكافي للكليني ص (‪.)202‬‬

‫‪9‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫وقــال شــرف الديــن الموســوي الرافضــي‪« :‬إن أصالــة‬


‫العدالــة فــي الصحابــة ممــا ال دليــل عليه‪ ،‬ولــو تدبــروا القرآن‬
‫الحكيــم لوجــدوه مشــحونًا بذكــر المنافقيــن منهــم»(((‪.‬‬
‫راب ًعــا‪ :‬الزنادقــة‪ :‬وهــم الذيــن أظهــروا اإلســام ومتابعــة‬
‫الرســل‪ ،‬وأبطنــوا الكفــر ومعــاداة اهلل ورســله‪ ،‬وقــد أنكــروا‬
‫املوثقنيَهــا(‪َ )1‬‬
‫ومتواترهــا‪ ،‬ووضعــوا عــددًا مــن األحاديــث‬ ‫الس ـنَّة آحاد‬
‫ُّ‬ ‫ة تأهيل‬
‫الســنَّة‪ ،‬وتشــويه ســمعة اإلســام‬
‫الباطلــة؛ إلســقاط هيبــة ُّ‬
‫والمســلمين(((‪.‬‬
‫وأمــا المعاصــرون الــذي طعنــوا فــي الجامــع الصحيــح‪،‬‬
‫فهــم‪:‬‬
‫أول‪ :‬القرآنيــون‪ :‬وهــؤالء تأثــروا بمنهــج الخــوارج فــي الطعــن‬ ‫ً‬
‫حتــج بهــا مطل ًقــا‪ ،‬وإنمــا‬
‫ُّ‬ ‫الســنَّة النبويــة‪ ،‬فزعمــوا أ َّن ُّ‬
‫الســنة ال يُ‬ ‫فــي ُّ‬
‫ط لدينهــم‪،‬‬ ‫االحتجــاج بالقــرآن الكريــم فقــط‪ ،‬وظنُّــوا أن ذلــك أح ـ َو ُ‬
‫ويحتجــون بحجــج واهيــة‪ ،‬وشــبه متهالكــة‪ ،‬إذ قالــوا‪ :‬إنمــا كتبــت‬
‫الســنة بعــد النبــي‪ ‬بمــدة طويلــة‪ ،‬وإ َّن رواة هــذه األحاديــث قــد‬
‫ُّ‬
‫يطــرأ عليهــم الخطــأ والنســيان‪ ،‬ولهــذا ال يجــزم بمــا يــروون‪ ،‬إلــى‬

‫((( الفصول المهمة في تأليف األمة ص (‪.)203‬‬


‫((( أحــكام أهــل الملــل والــردة مــن الجامــع لمســائل اإلمــام أحمــد بــن حنبــل ص‬
‫(‪ ،)459‬الفــرق بيــن الفــرق ص (‪ ،)133‬الفصــل فــي الملــل واألهــواء والنحــل‬
‫(‪.)76/2‬‬

‫‪10‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫غيــر ذلــك مــن الترهــات والشــبهات الفاســدة الكاســدة(((‪.‬‬


‫ثانيًــا‪ :‬العقالنيــون‪ :‬وهم معتزلــة العصــر؛ ألنهــم يلتقــون مــع‬
‫المعتزلــة فــي األصــول واألفــكار‪ ،‬ومــن ذلــك‪ :‬تقديســهم للعقــل‪،‬‬
‫وتقديمهــم لــه علــى كتــاب اهلل وســنة رســوله‪.‬‬
‫أحاديــث كثيــر ٍة فــي‬
‫َ‬ ‫وقــد طعــن العقالنيــون المعاصــرون فــي‬
‫صحيــح اإلمــام البخــاري؛ بحجــة أنهــا تخالــف العقــل‪ ،‬فأقحمــوا‬
‫عقولهــم فيمــا ال مجــال لها فيــه‪ ،‬وال طاقــة لها بــه‪ ،‬فضلُّوا وأضلُّــوا(((‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬الرافضة المعاصرون‪ :‬وهم امتداد ألسالفهم األوائل‪ ،‬ولكنهم زادوا‬
‫السنة المطهرة‪.‬‬
‫عليهم في طعونهم في ُّ‬
‫وقــد و َّجــه هــؤالء المعاصرون ســهامهم نحــو الصحيحيــن‪ ،‬وكان‬
‫هدفهــم األول الطعــن فــي الجامــع الصحيــح‪ ،‬وفــي مؤلفــه‬
‫اإلمــام البخــاري‪ ،‬وقــد ألَّــف فتــح اهلل النمــازي األصفهانــي‬
‫الرافضــي المتوفــى ســنة (‪1339‬ﻫ)‪ ،‬كتابًــا فــي نقــد الجامــع‬
‫الصحيــح للبخــاري‪ ،‬أســماه‪( :‬القــول الصــراح فــي نقــد‬
‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬
‫ـب اإلمــام البخــاري واتهامــه بعــدد‬
‫الصحــاح)‪ ،‬وحشــاه بسـ ِّ‬
‫مــن التهــم الباطلــة‪ ،‬والطعــن فــي أحاديــث جامعــه(((‪.‬‬
‫((( شــبهات القرآنييــن حــول الســنة النبويــة ص (‪ )27‬ومــا بعدهــا‪ ،‬شــبهات‬
‫القرآنييــن لعثمــان بــن معلــم ص (‪ )22‬ومــا بعدهــا‪.‬‬
‫((( نقض أصول العقالنيين (‪.)38/2‬‬
‫((( ينظــر‪ :‬انتقــادات الشــيعة المعاصريــن للصحيحيــن وقيمتهــا العلميــة‪،‬‬
‫للدكتــور لطفــي بــن محمــد الزغيــر‪ ،‬بحــث مقــدم لمؤتمــر االنتصــار‬
‫للصحيحيــن بالجامعــة األردنيــة‪2010 ،‬م‪ ،‬ص (‪.)16-8‬‬

‫‪11‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫رابعًــا‪ :‬الحداثيــون‪ :‬وهــم بعــض المنتســبين لإلســام‬


‫والعروبــة ممــن أعجبــوا بالثقافــة الغربيــة ونقدهــا لموروثهــا‬
‫الدِّينــي‪ ،‬فــأرادوا أن يطبقــوا ذلــك علــى نصــوص الشــريعة‬
‫اإلســامية؛ لينهضــوا باألمــة اإلســامية نحــو التقــدم‬
‫واالزدهــار فــي زعمهــم؛ ولذلــك تعاملــوا مــع األحاديــث‬

‫املوثقني (‪)1‬‬ ‫ة تأهيل‬


‫ـث الصحيحيــن خاصــة وَف ًقــا للمعايير‬ ‫النبويــة عامــة‪ ،‬وأحاديـ ِ‬
‫الغربيــة‪ ،‬وعدُّوهــا موروثًــا تاريخيًّــا انتهــى وقتــه؛ ولهــذا كانوا‬
‫َ‬
‫أحاديــث الصحيحيــن‪،‬‬ ‫خصوصــا‬
‫ً‬ ‫يســتهزئون باألحاديــث‪،‬‬
‫وصحيــح البخــاري علــى وجــه أخــص(((‪.‬‬
‫خامســا‪ :‬المستشــرقون‪ :‬وهــم المرجعيــة األساســية لــكل‬ ‫ً‬
‫الطاعنيــن المعاصريــن الذيــن ســبق ذكرهــم‪ ،‬وعلــى رأس‬
‫الســنة‪ :‬المستشــرق (جولدتســيهر)‬ ‫هــؤالء المستشــرقين الطاعنيــن فــي ُّ‬
‫وقــد ألَّــف عــددًا مــن الكتــب المشــت ِملة علــى الطعــن فــي الســنة‬
‫عمو ًمــا‪ ،‬والصحيحيــن علــى وجــه الخصــوص‪ ،‬وأورد فيهــا عــددًا‬
‫الكتــب مصــد ًرا‬
‫ُ‬ ‫مــن الشــبهات واالفتــراءات؛ ولهــذا صــارت هــذه‬
‫الســنة مــن المعاصريــن‪ ،‬ومــن افتراءاتــه‪:‬‬
‫ـا لــكل الطاعنيــن فــي ُّ‬ ‫ومنهـ ً‬
‫أ َّن صحيــح البخــاري فيــه كثيــر مــن التحريفــات‪ ،‬وأ َّن البخــاري ألَّــف‬
‫كتابــه تحــت تأثيــر ضغــط العباســيين‪ ،‬وغيرهــا مــن االفتــراءات(((‪.‬‬
‫((( ينظــر‪ :‬المنطلقــات الفكريــة والعقديــة عنــد الحداثييــن للطعــن فــي الصحيحيــن‪،‬‬
‫للدكتــور أنــس ســليمان المصــري النابلســي‪ ،‬بحــث مقــدم لمؤتمــر االنتصــار‬
‫للصحيحيــن بالجامعــة األردنيــة‪2010 ،‬م‪ ،‬ص (‪.)28-4‬‬
‫((( ينظــر‪ :‬المنطلقــات الفكريــة والعقديــة لمــدارس الطعن فــي الصحيحين (المستشــرق‬

‫‪12‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫المطلب الثاني‬
‫أهداف الطعن في الجامع الصحيح‪:‬‬

‫قبــل الحديــث عــن هــذه األهــداف‪ ،‬ال بــ َّد مــن بيــان الســبب‬
‫الرئيــس الــذي دعــا هــؤالء الطاعنيــن إلــى التركيز ‪-‬فــي الطعــن‪ -‬على‬
‫الســنة النبويــة‬
‫صحيــح البخــاري‪ ،‬فالناظــر فــي الطعــون المعاصــرة فــي ُّ‬
‫يجــد أ َّن أكثرهــا مُ َو َّجــه نحــو صحيــح البخــاري‪ ،‬والســبب فــي ذلــك‬
‫أ َّن الطاعنيــن عرفــوا مكانــة الجامــع الصحيــح فــي نفــوس المســلمين؛‬
‫فــأرادوا إســقاط هيبتــه؛ ألن فــي ذلــك إســقا ًطا لهيبــة الكتــب األخــرى‬
‫الســنة كلهــا‪.‬‬
‫دون عنــاء‪ ،‬والنتيجــة هــدم ُّ‬
‫ويمكــن إجمــا ُل أبــرز دوافــع الطعــن فــي الجامــع الصحيــح فــي‬
‫النقــاط التاليــة‪:‬‬
‫‪ ‬الهدف األول‪ :‬إسقاط الدين اإلسالمي ‪‬‬

‫إ ِّن الطاعنين في ُّ‬


‫السنة النبوية على وجه العموم‪ ،‬وفي الجامع‬
‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬‫الصحيح للبخاري على وجه الخصوص‪ ،‬مع اختالف طوائفهم‬
‫ِ‬
‫وأمكنَتِهم؛ يتفقون‬ ‫ومشاربهم وثقافاتهم‪ ،‬واختالف أزمنتهم‬
‫جميعًا على هدف واحد؛ وهو الطعن في الدِّين اإلسالمي‪،‬‬
‫السنة‬
‫وذلك عن طريق التشكيك في مصادره األصيلة‪ ،‬ومنها ُّ‬
‫جولدتســيهر والطعــن فــي صحيــح اإلمــام البخــاري )‪ ،‬للدكتــور أميــن‬
‫عمــر محمــد‪ ،‬بحــث مقــدم لمؤتمــر االنتصــار للصحيحيــن بالجامعــة‬
‫األردنيــة‪2010 ،‬م‪ ،‬ص (‪.)25-7‬‬

‫‪13‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫النبوية الشريفة التي هي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم‪.‬‬


‫ومــن أوائــل الذيــن َســعَوا فــي تحقيــق هــذا الهــدف‪:‬‬
‫المستشــرقون‪ ،‬فقصدهــم مــن الطعــن فــي الجامــع الصحيــح‬
‫والســنة النبويــة علــى وجــه‬
‫للبخــاري علــى وجــه خــاص‪ُّ ،‬‬
‫عــام؛ اســتبعادُ اإلســام مــن الســاحة الدينيــة‪ ،‬ونشــر الديانــة‬
‫(‪)1‬ــة بيــن المســلمين‪ ،‬فدبَّــروا المكايــد للنَّيْل‬ ‫املوثقني‬
‫والنصراني‬ ‫اليهوديــة‬ ‫ة تأهيل‬
‫مــن اإلســام بالطعــن فيــه‪ ،‬وتشــويه ســمعته؛ حتــى يصــدوا‬
‫النــاس عنــه وينفروهــم منــه‪ ،‬فبــدأوا بالطعــن في الســنة لتكون‬
‫لهــم بواب ـ ًة للطعــن فــي الديــن‪ ،‬وألبســوا هــذا الطعــن لبـ َ‬
‫ـاس‬
‫ـض‬
‫البحــث العلمــي والموضوعيــة؛ ولهــذا انخــدع بهــم بعـ ُ‬
‫أبنــاء المســلمين‪ ،‬فأصبــح يــر ِّوج لهــذه الشــبهات ويتبناهــا(((‪.‬‬
‫‪ ‬الهدف الثاني‪ :‬نُ صرة المذهب العقدي ‪‬‬

‫فكثيــر مــن الطوائــف والفــرق الضالــة المنحرفــة‪ ،‬طعنــت فــي بعض‬


‫أحاديــث الجامــع الصحيــح‪ ،‬لمخالفتهــا ألصولهــا العقديــة؛ فالمعتزلــة‬
‫ردُّوا أحاديــث الشــفاعة؛ ألنهــا تعــارض أصلهــم فــي الوعيــد؛ وهــو أن‬
‫مرتكــب الكبيــرة مخلــد فــي النــار‪ ،‬وردوا األحاديــث المثبِتــة لصفــات‬
‫اهلل تعالــى؛ لمعارضتهــا أصلَهــم فــي نفــي الصفــات‪ ،‬كمــا ردوا أحاديث‬
‫القــدر؛ ألنهــا تخالــف أصلهــم فــي القدر‪ ،‬وهــو أن أفعــال العباد ليســت‬
‫((( ينظــر‪ :‬المستشــرقون والحديــث النبــوي ص (‪ ،)286 - 128‬ظاهرة انتشــار اإلســام‬
‫وموقــف بعــض المستشــرقين منهــا‪ ،‬ص (‪ ،)77 ،76‬المبشــرون والمستشــرقون فــي‬
‫موقفهــم مــن اإلســام‪ ،‬ص (‪.)11‬‬

‫‪14‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫مخلوقــة هلل‪ ،‬وإنمــا العبــاد هــم الخالقــون لهــا‪ .‬وكذلــك الخــوارج ردوا‬
‫عــددًا مــن األحاديــث المخالفــة ألصولهم العقديــة المنحرفــة‪ ،‬وغيرهم‬
‫مــن الفــرق الضالــة‪.‬‬
‫السنة ‪‬‬
‫‪ ‬الهدف الثالث‪ :‬الكيد ألهل ُّ‬
‫الســنة‬
‫وهــذا هــو الهــدف األكبــر للرافضــة؛ يريــدون الكيــد ألهــل ُّ‬
‫َ‬
‫وإســقاط مذهبهــم؛ ألنهــم العــدو األول فــي نظرهــم‪،‬‬ ‫والنَّيــ َل منهــم‬
‫ولذلــك طعنــوا فــي أوثــق مصادرهــم وشــككوا فيهــا؛ وطفقــوا يبحثون‬
‫عــن الشــبهات التــي بثهــا أعــداء اإلســام بطوائفهــم المختلفــة‪،‬‬
‫فجمعوهــا ووعوهــا وزادوا عليهــا‪ ،‬ونشــروها عبــر وســائل اإلعــام‬
‫المختلفــة‪ ،‬وتبعهــم فــي ذلــك اإلباضيــة المعاصــرون‪ ،‬وغيرهــم مــن‬
‫الســنة‪.‬‬
‫المتربصيــن بأهــل ُّ‬
‫‪ ‬الهدف الرابع‪ :‬االحتياط في الدين ‪‬‬

‫وهــذا الهــدف تبنــاه القرآنيــون‪ ،‬وتبعهم بعــض المخدوعين‬


‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬ ‫الســنة ال يُجــزم بصحتهــا‪،‬‬‫مــن أبنــاء المســلمين‪ ،‬فزعمــوا أ َّن ُّ‬
‫واحتجــوا بحجــج واهيــة‪ ،‬وقــرروا ‪-‬بنــاءً علــى ذلــك‪ -‬االكتفاءَ‬
‫بالقــرآن الكريــم فقــط‪ ،‬واالســتغناء عــن الســنة النبوية الشــريفة‪،‬‬
‫ـر االحتياط‬‫وعــدم االحتجــاج بهــا مطل ًقــا‪ ،‬وأظهــروا ذلــك مظهـ َ‬
‫فــي الديــن‪ ،‬وك ُّل مســلم بصيــر يعلــم كــذب هــذا االدعــاء‪،‬‬
‫وخطــره علــى اإلســام والمســلمين‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫‪ ‬الهدف الخامس‪ :‬التجديد وتنقية التراث ‪‬‬

‫فهنــاك بعــض المنتســبين لإلســام طعنــوا فــي أحاديــث‬


‫الجامــع الصحيــح؛ بحجــة أنهــا غيــر مواكبــة للعصــر والواقــع‬
‫الــذي نعيشــه‪ ،‬وتأثــروا فــي ذلــك بالغربييــن وحضارتهــم‪،‬‬
‫والذيــن ســعوا وراء هــذا الهــدف هــم بعــض المســلمين‬
‫(‪ )1‬البلــدان غيــر اإلســامية‪ ،‬و ُو ِّجهـ ْ‬
‫ـت لهــم‬ ‫املوثقنيــوا فــي‬
‫الذيــن عاش‬ ‫ة تأهيل‬
‫شــبهات عــن اإلســام والمســلمين‪ ،‬فمــا وجــدوا حجــة‬
‫ٌ‬
‫يواجهــون بهــا هــذه الشــبهات ســوى ردِّ النصوص التــي دارت‬
‫حولهــا الشــبهات‪ ،‬ويلحــق بهــؤالء‪ :‬العقالنيــون والحداثيــون‬
‫ونح ُوهــم‪.‬‬
‫‪ ‬الهدف السادس‪ :‬حب الظهور والشهرة ‪‬‬

‫فكثيــر مــن ضعفــاء النفــوس الذيــن يلهثــون وراء الشــهرة‬


‫تجــرؤوا علــى الجامــع الصحيــح للبخــاري مــن أجــل‬
‫َّ‬ ‫واألضــواء‪،‬‬
‫(خالــف‬
‫ْ‬ ‫بــاب‬
‫ِ‬ ‫الوصــول إلــى هــذا الهــدف الدنــيء‪ ،‬فدخلــوا مــن‬
‫خصوصــا‬
‫ً‬ ‫تُ َ‬
‫عــرفْ )‪ ،‬وقــد لـــ َّمعتهم لنــا وســائ ُل اإلعــام الحديثــة؛‬
‫المرئيــة‪ ،‬وســاعدتهم علــى تحقيــق أهدافهــم‪ ،‬وربمــا شــجعهم علــى‬
‫بعــض أعــداء اإلســام؛ مــن اليهــود والنصــارى‪ ،‬والرافضــة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ذلــك‬
‫والعلمانييــن واللِّبْرالييــن وأمثالهــم‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫المبحث الثاني‬
‫شبهات حول الجامع الصحيح‬
‫الشــبهة األولــى‪َّ :‬أن البخــاري بشــر يصيــب ويخطــئ وليــس‬
‫بمعصــوم؛ ولهــذا ال نجــزم بصحــة كتابــه(((‪:‬‬
‫ويُرد على هذه الشبهة بما يلي‪:‬‬
‫ً‬
‫أول‪ :‬أ َّن عــدم العصمــة ال يعنــي أنَّــه ال بــد من وجود الخطــأ في ك ِّل‬
‫عمــل‪ ،‬وإنمــا يعنــي احتمــال وجــود الخطــأ‪ ،‬وهنــاك كثيــر مــن األعمال‬
‫المشــاهدة التــي أتقنهــا أصحابهــا غايــة اإلتقــان‪ ،‬فــا تــكاد تجــد فيهــا‬
‫ً‬
‫عقــا وال شــرعًا وال عــادةً مــن أ ْن يعمــل اإلنســان‬ ‫خطــأً‪ ،‬وال مانــع‬
‫عمــا صوابًــا يســلم فيــه مــن األخطــاء؛ ولهــذا فــإ َّن َمــن يدعــي وجــود‬
‫ـل مــا‪ ،‬عليــه أن يأتــي بحجــة تثبــت وجــود ذلــك‬
‫خطــأ فــي عمـ ٍ‬
‫ـرد احتمــال وقوعــه فهو‬
‫الخطــأ‪ ،‬أمــا زعــم وجــود الخطــأ بمجـ َّ‬
‫حجــة فاســدة؛ وبهــذا نعلــم أ َّن عــدم عصمــة البخــاري ال يعني‬

‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬‫عــدم صحــة جامعــه؛ واألخطــاء المزعومــة التــي يُدَّعــى أنهــا‬
‫تمنــع الوثــوق بــه‪ ،‬متوهَّمــة ال وجــود لهــا‪ ،‬وال دليــل عليهــا‪.‬‬
‫عمــل مــن‬
‫ٍ‬ ‫ثانيًــا‪ :‬أ َّن وجــود الخطــأ اليســير والنــادر فــي‬
‫األعمــال البشــرية التــي عُرفــت بالجــودة واالتقــان‪ ،‬ليــس‬
‫مسـ ِّو ًغا لهــدم ذلــك العمــل أو عــدم الوثــوق بــه‪ ،‬مــا دام صوابه‬
‫غالبًــا وخطــؤه نــاد ًرا‪ ،‬بــل يقتضــي العــد ُل واإلنصــافُ ومنطـ ُق‬
‫((( ينظر‪ :‬أضواء على السنّة المح ّمديّة ‪ -‬محمود أبو رية ص (‪.)274‬‬

‫‪17‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫العقــل أ ْن يُغمــر يســير الخطــأ فــي بحر الصــواب؛ ولهــذا ع َّد‬


‫ـادات اليســيرةَ التــي ُو ِّجهــت للجامــع الصحيح‬
‫العلمــاء االنتقـ ِ‬
‫فــي عــداد العــدم‪ ،‬فهــي غيــر قادحــة فــي صحتــه‪ ،‬وال موجبــة‬
‫لعــدم الوثــوق بــه‪.‬‬
‫خصوصا‬
‫ً‬ ‫ثالثًا‪ :‬أ َّن اإلمام البخاري أتقن كتابه غاية اإلتقان‪،‬‬
‫(‪)1‬من صحة األحاديث‪ ،‬وقد وضع شرو ًطا‬ ‫املوثقنيالتَّثبُّت‬
‫في جانب‬ ‫ة تأهيل‬
‫صارمة جدًّا لصحة الحديث لم يضعها أح ٌد غيره‪ ،‬وبهذا‬
‫خرجت أحاديث كثيرة عن شرطه لعلة يسيرة أو شبهة دقيقة‪،‬‬
‫ومع ذلك كان يتقرب إلى اهلل بالصالة عند وضع ك ِّل حديث‬
‫رجاءَ أن يوفقه اهلل في كتابه‪ ،‬قال الفربري‪ :‬قال لي محمد بن‬
‫وضعت في كتاب الصحيح حديثًا إال اغتسلت‬
‫ُ‬ ‫إسماعيل البخاري‪" :‬ما‬
‫قبل ذلك وصليت ركعتين"(((‪.‬‬
‫وقــد أمضــى اإلمــام البخــاري ســنين ِع ـدَّة فــي تمحيــص كتابــه‬
‫ـت عشــرةَ ســنة‪،‬‬
‫وتدقيقــه‪ ،‬كمــا قــال‪« :‬صنفــت كتابــي الصحيــح لسـ َّ‬
‫خرجتــه مــن سـتِّمائة ألــف حديــث‪ ،‬وجعلتــه حجــة فيمــا بينــي وبيــن‬
‫َّ‬
‫اهلل تعالــى"(((‪.‬‬
‫راب ًعــا‪ :‬أ َّن اإلمــام البخــاري عــرض كتابــه الجامــع الصحيــح علــى‬
‫جهابــذة علمــاء الحديــث فــي زمانــه‪ ،‬كمــا حكــى ذلــك العقيلــي‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫((( أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (‪.)327/2‬‬


‫((( أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (‪.)333/2‬‬

‫‪18‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫«لـــ َّما ألَّــف البخــاري كتابــه الصحيــح‪ ،‬عرضــه علــى بــن المدينــي‪،‬‬
‫ويحيــى بــن معيــن‪ ،‬وأحمــد بــن حنبــل وغيرهــم‪ ،‬فامتحنــوه‪ ،‬وكلهــم‬
‫قــال‪ :‬كتابــك صحيــح إال أربعــة أحاديــث"‪ ،‬قــال العقيلــي‪" :‬والقــول‬
‫فيهــا قــول البخــاري‪ ،‬وهــي صحيحــة"(((‪.‬‬
‫وســمع الجام ـ َع الصحيــح مــن اإلمــام البخــاري خل ـ ٌق كثيــر مــن‬
‫طالبــه النجبــاء‪ ،‬الذيــن يُقــدَّرون بــاآلالف‪ ،‬قــال الفربــري‪« :‬ســمع‬
‫ـح مــن البخــاري تســعون أل ًفــا»(((‪ ،‬ويــرى بعــض المحققيــن‬‫الصحيـ َ‬
‫أ َّن عددهــم أكثــر مــن ذلــك(((‪ ،‬وقــد اهتــم هــؤالء الــرواة بالجامــع‬
‫الصحيــح أشــد االهتمــام؛ فكانــوا يقرؤونــه كلمــة كلمــة‪ ،‬ويفحصونــه‬
‫حرفًــا حرفًــا‪.‬‬
‫فالجامــع الصحيــح لــم يقتصــر العمــل فيــه علــى جهــد اإلمــام‬
‫البخــاري وحــده‪ ،‬بــل فحصــه جهابــذة العلمــاء الذيــن هــم‬
‫اســتمر الفحــص‬
‫َّ‬ ‫شــيوخ البخــاري وأقرانــه وتالمذتــه‪ ،‬بــل‬
‫والتدقيــق لعصــور مديــدة‪ ،‬فأجــاز هــؤالء العلمــاء الجامــع‬
‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬
‫الصحيــح وأيَّــدوا اإلمــام البخــاري فــي األعــم األغلــب مــن‬
‫صحيحــه‪ ،‬ولــم ينتقــدوا فيــه شــيئًا ســوى أحــرف يســيرة ال‬
‫تــكاد تُذكــر‪.‬‬

‫((( ينظر‪ :‬تهذيب التهذيب (‪.)54/9‬‬


‫ـس إليــه حاجــة القــاري لصحيــح اإلمــام البخــاري للنــووي‬
‫((( ينظــر‪ :‬مــا تمـ ُّ‬
‫ص (‪ ،)41‬فتــح البــاري البــن حجــر (‪.)491/1‬‬
‫((( ينظر‪ :‬فتح الباري البن حجر (‪.)491/1‬‬

‫‪19‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫فالكتــاب إذًا بصورتــه الحاليَّــة يُعـ ُّد عمـ ً‬


‫ـا جماعيًّــا؛ وهــذا‬
‫يــ ُد ُّل علــى قلــة نســبة الخطــأ فيــه؛ ألنــه ُروجــع مــن قبــل‬
‫آالف الجهابــذة مــن علمــاء الحديــث‪ ،‬ومــن ذوي المعــارف‬
‫المختلفــة‪.‬‬
‫خامســا‪ :‬أ َّن األمــة تلقــت الجامــع الصحيــح لإلمــام‬
‫ً‬
‫(‪ )1‬قــال ابــن الصــاح‪« :‬ما انفــرد بــه البخاري‬ ‫املوثقني‬
‫بالقبــول‪،‬‬ ‫البخــاري‬ ‫ة تأهيل‬
‫أو مســلم منــدرج فــي قبيــل مــا يُقطــع بصحتــه لتل ِّقــي األم ـ ِة‬
‫ك َّل واحــد مــن كتابيهمــا بالقبــول علــى الوجــه الــذي فصلنــاه‬
‫مــن حالهمــا فيمــا ســبق‪ ،‬ســوى أحــرف يســيرة تكلــم عليهــا‬
‫بعــض أهــل النقــد مــن الحفــاظ‪ ،‬كالدارقطنــي وغيــره‪ ،‬وهــي‬
‫معروفــة عنــد أهــل هــذا الشــأن"(((‪.‬‬
‫وقــال النــووي‪« :‬اتفــق العلمــاء ‪-‬رحمهــم اهلل‪ -‬علــى أن أصــح‬
‫الكتــب بعــد القــرآن العزيــز الصحيحــان البخــاري ومســلم‪ ،‬وتلقتهمــا‬
‫حهمــا وأكثرهما فوائــد ومعارف؛‬
‫األمــة بالقبــول‪ ،‬وكتــاب البخــاري أص ُّ‬
‫ظاهــرة وغامضــة"(((‪.‬‬
‫ـب أخــرى‪ ،‬وقــد جــاءت بعــده‬
‫وقــد ســبق الجام ـ َع الصحيــح كتـ ٌ‬
‫كتــب كثيــرة‪ ،‬وجميعهــا لــم تحــظ باتفــاق األمــة عليهــا‪ ،‬ســوى صحيــح‬
‫مســلم‪ ،‬والجمهــور علــى أن صحيــح البخــاري أفضــل منــه‪ ،‬فكيــف‬

‫((( معرفة أنواع علوم الحديث ص (‪.)29‬‬


‫((( شرح صحيح مسلم (‪.)14/1‬‬

‫‪20‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫ـر موثــوق بــه الحتمــال وجــود أخطــاء فيه‪،‬‬


‫يكــون الجامــع الصحيــح غيـ َ‬
‫واألمــة تتلقــاه بالقبــول وتتفــق علــى صحتــه؟!‬
‫الشــبهة الثانيــة‪َّ :‬أن البخــاري مــات ولــم يكمــل كتابه وتركه‬
‫مسـ َّـودة‪ ،‬وأكملــه َمـ ْـن بعــده‪ ،‬ومــن شــأن المســودات عــدم‬
‫التمحيص(((‪:‬‬
‫اتــكأ أصحــاب هــذه الشــبهة‪ ،‬فــي تأييــد شــبهتم؛ علــى مــا نقلــه‬
‫ـخت كتــاب‬
‫ابــن حجــر فــي فتــح البــاري عــن المســتملي‪ ،‬قــال‪" :‬انتسـ ُ‬
‫البخــاري مــن أصلــه الــذي كان عنــد صاحبــه محمــد بــن يوســف‬
‫الفربــري‪ ،‬فرأيــت فيــه أشــياء لــم تتــم‪ ،‬وأشــياء مبيضــة‪ ،‬منهــا تراجــم‬
‫لــم يثبــت بعدهــا شــيئًا‪ ،‬ومنهــا أحاديــث لــم يترجــم لهــا‪ ،‬فأضفنــا‬
‫بعــض ذلــك إلــى بعــض"(((‪.‬‬
‫ويُجاب عن هذه الشبهة بما يلي‪:‬‬
‫ً‬
‫أول‪ :‬أ َّن كالم المســتملي يــدور حــول تبويــب الجامــع‬
‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬‫الصحيــح وترتيبــه‪ ،‬ويوضــح ذلــك األمثلــة التــي ذكرهــا‪،‬‬
‫فمثَّــل لألشــياء التــي لــم تتــم بأحاديــث لــم يُترجــم لهــا‪،‬‬
‫ولألشــياء المبيضــة باألبــواب التــي لــم يُذكــر تحتهــا حديــث‪،‬‬
‫ومــن المعلــوم أ َّن صنيــع اإلمــام البخــاري‪ ،‬فــي ترجمــة‬
‫((( ينظـر‪ :‬أضـواء علـى السـنّة المح ّمديّـة ‪ -‬محمـود أبـو ريـة ص (‪،)275‬‬
‫وأضـواء علـى الصحيحيـن لمحمد صـادق النجمي الرافضـي ص (‪.)125‬‬
‫((( فتح الباري (‪.)8/1‬‬

‫‪21‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫أبــواب صحيحــه؛ يُ َعـ ُّد مــن األمــور الباهــرة التــي أدهشــت‬


‫جــز أكثرهــم عــن حــل رموزهــا ومعرفــة‬
‫العلمــاء‪ ،‬وع َ‬
‫أســرارها‪ ،‬وفــي هــذا يقــول القســطالني‪" :‬تراجمــه َحيَّــرت‬
‫األفــكار‪ ،‬وأدهشــت العقــول واألبصــار‪ ،‬ولقــد أجــاد القائــل‪:‬‬
‫أعيــا فحــو َل العلــم حـ ُّل رمــوز ما‬
‫أبــداه في األبواب من أســرار»(((‪.‬‬ ‫ة تأهيل املوثقني (‪)1‬‬
‫ولمــا كانــت تراجــم اإلمــام البخــاري بهــذه المنزلــة‪،‬‬
‫فقــد يظــن بعــض العلمــاء أ َّن هنــاك أشــياء لــم تتــم‪ ،‬أو أن‬
‫البخــاري لــم يبيــض كتابــه‪ ،‬ويؤكــد ذلــك قــو ُل ابــن حجــر ‪-‬‬
‫وهــو يشــرح منهــج البخــاري فــي تراجمــه ‪« :-‬وربمــا اكتفى‬
‫أحيانًــا بلفــظ الترجمــة التــي هــي لفــظ حديــث لــم يصــح على شــرطه‬
‫ـرا أو آيــة‪ ،‬فكأنــه يقــول‪ :‬لــم يصــح فــي البــاب شــيء‬
‫وأورد معهــا أثـ ً‬
‫علــى شــرطي‪ ،‬وللغفلــة عــن هــذه المقاصــد الدقيقــة اعتقــد َمــن لــم‬
‫ـر أنــه تــرك الكتــاب بــا تبييــض‪ ،‬و َمــن تأمــل ظ ِفــر‪ ،‬و َمــن‬
‫يُمعـ ِن النظـ َ‬
‫ج َّد وجــد»(((‪.‬‬
‫ثانيًــا‪ :‬أ َّن كالم المســتملي ‪ -‬كمــا ســبق بيانــه‪ ،‬إن ثبــت ‪ -‬يتعلــق‬
‫بتراجــم الجامــع الصحيــح فقــط‪ ،‬أمــا األحاديــث ‪ -‬التــي هــي لُـ ُّ‬
‫ـب‬
‫الجامــع الصحيــح وأساســه ‪ -‬فــا تدخــل فــي كالمــه؛ ولــم يُنقــل‬

‫((( إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (‪.)24/1‬‬


‫((( فتح الباري (‪.)14/1‬‬

‫‪22‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫عــن أحــد يُوثــق بكالمــه أ َّن أحاديــث الجامــع الصحيــح فيهــا نقــص‬
‫أو خلــل لــم يكملــه اإلمــام البخــاري‪ ،‬وعليــه‪ :‬فــإ َّن ادعــاء وجــود‬
‫ـدح فــي صحــة الجامــع الصحيــح‪ ،‬وال يمنــع‬
‫تراجــم لــم تتــم‪ ،‬ال يقـ ُ‬
‫الوثــوق بــه؛ ألن الحجــة ليســت فــي تراجمــه وإنمــا فــي أحاديثــه‪،‬‬
‫وقــد ُجمــع القــرآن فــي كتــاب واحــد بعــد أن كان مفرقًــا بعــد وفــاة‬
‫النبــي‪ ،‬ولــم يقــدح أحــد ‪ -‬ممــن يعتــد بقولهــم ‪ -‬فــي االحتجــاج‬
‫بالقــرآن بحجــة أ َّن النبــي‪ ‬مــات ولــم يجمعــه‪.‬‬
‫ثالثًــا‪ :‬أ َّن اإلمــام البخــاري عــرض كتابــه علــى العلمــاء‪ ،‬وأســمعه‬
‫اآلالف مــن تالميــذه كمــا ســبق بيــان ذلــك‪ ،‬فــإذا لــم يكمــل اإلمــام‬
‫البخــاري كتابــه ولــم يهذبــه وينقحــه‪ ،‬فــا يتوقع عرضــه علــى العلماء‪،‬‬
‫وإســماعه للطــاب‪ ،‬وكيــف يقــول‪« :‬صنفــت كتابــي الصحيــح لســت‬
‫عشــرة ســنة»(((‪ ،‬وهــو لــم يكملــه ولــم يبيضــه؟ وال يشــك‬
‫عاقــل أ َّن هــذا القــول كان بعــد إكمــال الكتــاب وتبييضــه‪.‬‬
‫الشــبهة الثالثــة‪ :‬كيــف اســتطاع البخــاري االطــاع‬
‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬‫ـندا ومتنً ــا‬‫علــى ســتمائة ألــف حديــث مــع دراســتها سـ ً‬
‫خــال ســت عشــرة ســنة هــي مــدة تحريــره للكتــاب؟‬
‫وبحســاب ذلــك نجــد أنــه يــدرس أكثــر مــن مائــة حديــث‬
‫فــي اليــوم الواحــد‪ ،‬هــذا إذا جعلنــا أيــام مرضــه ورحالتــه‬
‫الطويلــة ضمــن الحســاب‪ ،‬فكيــف إذا أخرجناهــا(((؟‬
‫((( أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (‪.)333/2‬‬
‫((( هــذه الشــبهة وقفــت عليهــا فــي بعــض المواقــع اإللكترونيــة وتفــوه بهــا‬

‫‪23‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫ويُرد على هذه الشبهة باآلتي‪:‬‬


‫ً‬
‫أول‪ :‬أ َّن المحدثين المتقدمين يقصدون بالحديث اإلسناد‪،‬‬
‫أثر‬
‫وهذا اإلسناد قد يكون مرويًّا به مت ٌن مرفوع إلى النبي‪ ،‬أو ٌ‬
‫موقوف على صحابي‪ ،‬أو على تابعي‪ ،‬أو على مَ ْن دونه(((؛ ولهذا‬
‫لما قال اإلمام أحمد بن حنبل‪« :‬صح من الحديث سبعُمائ ِة‬
‫(‪)1‬‬
‫ر‪ ،‬وهذا الفتى ‪ -‬يعني أبا زرعة ‪ -‬قد حفظ‬ ‫املوثقني‬
‫حديث و َك ْس‬ ‫ألف‬ ‫ة تأهيل‬
‫ستمائة ألف حديث»‪ ،‬قال البيهقي‪« :‬وإنما أراد ‪ -‬واهلل أعلم ‪-‬‬
‫وأقاويل الصحابة‪ ،‬وفتاوى‬
‫ِ‬ ‫صح من أحاديث رسول اهلل‪‬‬ ‫ما َّ‬
‫من أخذ عنهم من التابعين»(((‪ .‬إذا فُهم ذلك فإنه ال يُستغرب‬
‫هذا العدد من األحاديث التي اطلع عليها اإلمام البخاري‪.‬‬
‫ثانيًــا‪ :‬أ َّن العــدد المذكــور مــن األحاديــث ليــس المقصــود بــه‬
‫ســتمائة ألــف حديــث مفــردة‪ ،‬وأ َّن كل حديــث بإســناد ومتــن يختلفــان‬
‫عــن أســانيد ومتــون األحاديــث األخــرى‪ ،‬بــل المقصــود األحاديــث‬
‫بأســانيدها المكــررة‪ ،‬وطرقهــا المتعــددة؛ ألن متــن الحديــث الواحــد‬
‫الــوارد عــن عــدد مــن الصحابــة يَ ُع ـدُّه المحدثــون المتقدمــون بعــدد‬
‫أولئــك الصحابــة‪ ،‬بــل بعضهــم يَ ُعـ ُّد الحديــث الــوراد عــن الصحابــي‬
‫ـرق عــن التابعيــن‪ ،‬فهــو عندهــم بعــدد أولئــك‬‫الواحــد إذا جــاء مــن ُطـ ُ‬
‫بعــض الرافضــة وبعــض المالحــدة‪ :‬ينظــر‪ :‬موقــع شــبكة اإللحــاد العربــي ‪www.‬‬
‫‪ ،il7ad.org‬ومنتديــات يــا حســين ‪.www.yahosein.com‬‬
‫((( ينظر‪ :‬منهاج المحدثين ص (‪.)16‬‬
‫((( تهذيب الكمال (‪ ،)97 ،96/19‬تدريب الراوي (‪.)41/1‬‬

‫‪24‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫التابعيــن‪ ،‬وكذلــك الحــال في َمــن بعــد التابعيــن‪ ،‬ومــن بعدهــم‪،‬‬


‫فالحديــث الواحــد إذًا ربمــا يصــل إلــى عشــرات األحاديــث فــي‬
‫اصطــاح المحدثيــن المتقدميــن‪.‬‬
‫يقــول ابــن الصــاح ‪ -‬شــار ًحا قــول البخــاري‪( :‬أحفــظ مائــة ألف‬
‫حديــث صحيــح‪ ،‬ومائتــي ألــف حديــث غيــر صحيــح) ‪« :-‬هــذه‬
‫العبــارة قــد ينــدرج تحتهــا عندهــم آثــا ُر الصحابــة والتابعيــن‪ ،‬وربمــا‬
‫ُع ـ َّد الحديــث الواحــد المــروي بإســنادين حديثيــن»(((‪.‬‬
‫وقال نجم الدين القمولي‪« :‬مراده بما ذكره تعدد الطرق واألسانيد‬
‫وآثار الصحابة والتابعين وغيرهم‪ ،‬فسمى الجميع حديثًا‪ ،‬وقد كان‬
‫السلف يطلقون الحديث على ذلك»(((‪.‬‬
‫ثالثًــا‪ :‬أ َّن هنــاك جــوابًا مــن ابن حجــر على َمن اســتغرب‬
‫حفــظ اإلمــام البخــاري لمائــة ألــف حديــث صحيــح‪ ،‬ومائتــي‬
‫ألــف حديــث غيــر صحيــح‪ ،‬وهــذا الجــواب مــن ابــن حجــر‬
‫يُ َعـ ُّد ردًّا علــى هــذه الشــبهة التــي نحــن بصــدد دَ ْحضهــا‪.‬‬
‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬
‫قــال ابــن حجــر ‪ -‬بعــد أن ذكــر قــول ابــن الصــاح‬
‫الســابق فــي شــرح كالم البخــاري ‪« :-‬ويزيــد ذلــك وضو ًحــا‬
‫أن الحافــظ أبــا بكــر محمــد بــن عبــد اهلل الشــيباني المعــروف‬
‫بالجوزقــي ذكــر فــي كتابــه المســمى بالمتفــق أنــه اســتخرج‬

‫((( معرفة أنواع علوم الحديث ص (‪.)20‬‬


‫((( النكت على مقدمة ابن الصالح للزركشي (‪.)181/1‬‬

‫‪25‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫علــى جميــع مــا فــي الصحيحيــن حديثًــا حديثًــا‪ ،‬فــكان‬


‫مجمــوع ذلــك خمســة وعشــرين ألــف طريــق وأربعمائــة‬
‫وثمانيــن طري ًقــا‪ ،‬فــإذا كان الشــيخان مــع ضيــق شــرطهما‬
‫بلــغ جملــة مــا فــي كتابيهمــا بالمكــرر هــذا القــدر‪ ،‬فمــا لــم‬
‫يخرجــاه مــن الطــرق للمتــون التــي أخرجاهــا لعلَّــه يبلــغ هذا‬

‫املوثقني (‪)1‬‬ ‫ة تأهيل‬


‫أيضــا أو يزيــد‪ ،‬ومــا لــم يخرجــاه مــن المتــون مــن‬ ‫القــدر ً‬
‫َ‬
‫الصحيــح الــذي لــم يبلــغ شــرطهما لعلــه يبل ـ ُغ هــذا القــدر‬
‫ً‬
‫أيضــا أو يقــرب منــه‪ ،‬فــإذا انضــاف إلــى ذلــك مــا جــاء عــن‬
‫الصحابــة والتابعيــن تمــت العــدة التــي ذكــر البخــاري أنــه‬
‫يحفظهــا»(((‪.‬‬
‫راب ًعــا‪ :‬أ َّن اإلمــام البخــاري كان َجبَـ ً‬
‫ـا فــي الحفــظ‪ ،‬وشـ ِهدت لــه‬
‫األمــة بالعبقريــة والنبــوغ‪ ،‬وأفنــى عمــره فــي حفــظ الســنة ودراســتها‪،‬‬
‫ومعرفــة الرجــال والعلــل‪ ،‬ومــن كان بهــذه المنزلــة ال يحتــاج إلــى‬
‫كثيــر وقــت لدراســة حديــث مــن األحاديــث‪ ،‬هــو ســل ًفا يحفــظ ســنده‬
‫ومتنــه‪ ،‬ويعــرف رجالَــه وعللَــه‪ ،‬هــذا مــع برك ـ ٍة فــي الوقــت يتفضــل‬
‫اهلل بهــا علــى العلمــاء الصادقيــن‪ ،‬ونحســب اإلمــام البخــاري منهــم‪،‬‬
‫والواقــع المشــاهد أثبــت لنــا إنجــازات لعلمــاء ُكثــر‪ ،‬الواحــد منهــم‬
‫يُنجــز عمـ ً‬
‫ـا يعجِ ــز عنــه طائفــة مــن النــاس‪ ،‬ويحتــاج فــي إنجــازه إلــى‬
‫عقــود بــل قــرون‪.‬‬

‫((( النكت على كتاب ابن الصالح البن حجر (‪.)297/1‬‬

‫‪26‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫فاإلمــام النــووي علــى ســبيل المثــال ألَّــف مؤلفـ ٍ‬


‫ـات كثيــرةً محررة‬
‫ومدققــة‪ ،‬ومنهــا مطــوالت‪ ،‬فــي الحديــث والفقــه واللغــة واألعــام‬
‫ـرا! طلــب العلــم‬
‫ـرا‪ ،‬ومــات مبكـ ً‬
‫وغيرهــا‪ ،‬مــع أنــه طلــب العلــم متأخـ ً‬
‫وعمــره تســع عشــرة ســنة‪ ،‬ومــات وعمــره خمــس وأربعــون ســنة‪.‬‬
‫الشــبهة الرابعــة‪َّ :‬أن الجامــع الصحيــح تأثــر بالضغــوط‬
‫السياســية؛ إذ خضــع مؤلفــه لرغبــات العباســيين(((‪:‬‬
‫ويجاب عن هذه الشبهة باآلتي‪:‬‬
‫ً‬
‫أول‪ :‬أ َّن جميـع كتـب التراجـم والتاريـخ تشـهد لإلمـام البخـاري‬
‫بالصـدق والنزاهـة‪ ،‬والـورع والديانـة‪ ،‬وقـد أجمعت األمة علـى إمامته‬
‫ً‬
‫فضل عـن العلماء‬ ‫وعـرف قـد َره ومكانتَـه عـوا ُّم المسـلمين‬
‫َ‬ ‫وجاللتـه‪،‬‬
‫وطلبـة العلـم‪ ،‬ومـن كان هـذا حالـه فمـن المسـتحيل أ َّن يتأثر‬
‫بضغـوط سياسـية أو غيرهـا‪ ،‬واإلمام البخـاري أرفع وأجل من‬
‫أن يتأثـر بمثـل هذه األشـياء‪ ،‬وهـو الـذي روى األحاديث التي‬
‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬ ‫تحـذر مـن عقوبة الكـذب على رسـول اهلل‪.‬‬
‫ثانيًـا‪ :‬لـو صـح أ َّن اإلمـام البخـاري تأثـر بضغوط سياسـية‬
‫لنقلـت لنـا ذلك كتـب التاريخ‪ ،‬كمـا نقلت مواقـف العلماء في‬
‫فتنـة خلـق القـرآن؛ مَن ثبـت منهـم فـي المحنة ومن لـم يثبت‪.‬‬
‫ً‬
‫نقــا عــن‬ ‫((( دراســات محمديــة للمستشــرق جولدتســيهر ص (‪،)54‬‬
‫المنطلقــات الفكريــة والعقديــة لمــدارس الطعــن فــي الصحيحيــن للدكتور‬
‫أميــن عمــر ص (‪.)19‬‬

‫‪27‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫ثالثًا‪ :‬أ َّن اإلمام البخاري عرض كتابه على عدد من علماء‬
‫الريبة‬
‫الحديث األجالء في عصره‪ ،‬فلو كان هناك شيءٌ يدعو إلى ِّ‬
‫خصوصا أ َّن من بين هؤالء العلماء من أثبت التاريخ‬
‫ً‬ ‫لبيَّنوه لنا‪،‬‬
‫ثباته في الفتن‪ ،‬وقوته في المحن‪ ،‬أمثال اإلمام أحمد وغيره‪.‬‬
‫مواقــف جريئــةً مــع‬
‫َ‬ ‫رابعًــا‪ :‬أ َّن لإلمــام البخــاري‬
‫(‪)1‬ب هــذا االتهــام‪ ،‬ومــن ذلــك مــا رواه‬
‫املوثقني تُكــ ِّذ‬
‫الســاطين‬ ‫ة تأهيل‬
‫الخطيــب البغــدادي بإســناده إلــى أبــي ســعيد بكــر بــن‬
‫منيــر‪ ،‬قــال‪« :‬بعــث األميــر خالــد بــن أحمــد الذهلــي والــي‬
‫أن اح ِم ـ ْل إلـ َّ‬
‫ـي كتــاب‬ ‫بخــارى إلــى محمــد بــن إســماعيل‪ِ :‬‬
‫الجامــع والتاريــخ وغيرهمــا ألســمع منــك‪ .‬فقــال محمــد‬
‫بــن إســماعيل لرســوله‪ :‬أنــا ال أ ُ ِذل العلــم وال أحملــه إلــى أبــواب‬
‫ُ‬
‫فاحض ْرنــي فــي‬ ‫النــاس‪ ،‬فــإن كانــت لــك إلــى شــيء منــه حاجــةٌ‬
‫مســجدي أو فــي داري‪ ،‬وإن لــم يعجبــك هــذا فأنــت ســلطان فامنعنــي‬
‫مــن المجلــس ليكــون لــي عــذ ٌر عنــد اهلل يــوم القيامــة؛ ألنــي ال أكتــم‬
‫العلــم‪ ،‬لقــول النبــي‪َ « :‬مــن ســئل عــن علــم فكتمــه ألجــم بلجــام‬
‫مــن نــار»»(((‪.‬‬
‫فإذا كان هذا موقف اإلمام البخاري في أمر لو فعله لم يَ ِعبه به أحدٌ‪،‬‬
‫فكيف يستجيب ألم ٍر فعلُه خيانة وقلة ديانة‪ ،‬فيستجيب لرغبات العباسيين‪،‬‬
‫وكيف يرفض إذالل العلم وكتمانه‪ ،‬ويقبل فيه الخيانة وعدم األمانة؟!‬

‫((( تاريخ بغداد (‪.)355/2‬‬

‫‪28‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫خامسا‪ :‬أ َّن اإلمام البخاريَّ روى في صحيحه عن عدد من الرواة‬


‫ً‬
‫األمويين؛ منهم‪ :‬أبو سفيان‪ ،‬ومعاوية بن أبي سفيان‪ ،‬وعثمان بن عفان‪،‬‬
‫وعمر بن عبد العزيز‪ ،‬ومروان بن الحكم‪ ،‬وعبد الملك بن مروان‪ ،‬وسعيد‬
‫بن عمرو بن العاص األموي‪ ،‬وإسحاق بن سعيد بن العاص‪ ،‬وعنبسة بن‬
‫سعيد بن العاص‪ ،‬بل ذكر فضائل كثير منهم في صحيحه‪ ،‬فكيف يروي‬
‫لهؤالء الرواة من بني أمية ويذكر األحاديث في فضائل بعضهم‪ ،‬إذا‬
‫كان ألَّف كتابه على ما يهواه العباسيون‪ ،‬ومعروفٌ ال ِعداءُ السياسي بين‬
‫األمويين والعباسيين(((‪.‬‬
‫سادســا‪ :‬أن البخــاري عنــد علمــاء الجــرح والتعديــل إمــا ٌم‬
‫ً‬
‫مجمــع علــى إمامتــه وعدالتــه‪ ،‬فلــو كان مــن المعروفيــن بخضوعهــم‬
‫للســلطان لنالــه تجريحهــم؛ ألنهــم كانــوا يطعنــون فــي كل را ٍو اقتــرب‬
‫مــن الســلطان أو التحــق بعمــل مــن أعمالــه‪.‬‬
‫ســابعًا‪ :‬أ َّن غالــب أحاديــث البخــاري مُودعــة فــي مســند‬
‫اإلمــام أحمــد بــن حنبــل‪ ،‬ومــن المعــروف المشــهور أن‬
‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬
‫الخلفــاء العباســيين ِمــن أش ـ ِّد خصــوم اإلمــام أحمــد‪ ،‬وقــد‬
‫اشــتَهر ذلــك فــي محنــة القــول بخلــق القــرآن‪ ،‬فهــل يُقــال‬
‫أيضــا‪ :‬إ َّن اإلمــام أحمــد اســتجاب لرغبــات العباســيين(((!‬
‫ً‬

‫((( هذا الوجه مقتبس من ردِّ الدكتور أمين عمر محمد في بحثه (المنطلقات‬
‫الفكرية والعقدية لمدارس الطعن في الصحيحين)‪ ،‬بحث مقدم لمؤتمر‬
‫االنتصار للصحيحين بالجامعة األردنية‪ 2010 ،‬ص (‪.)22‬‬
‫((( الوجــه الســادس والســابع مقتبســان مــن ردِّ الدكتــور خالــد أبــا الخيــل فــي‬

‫‪29‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫الشــبهة الخامســة‪َّ :‬أن الجامــع الصحيــح انتقــد‬


‫ـددا مــن‬
‫المحدثــون المتقدمــون والمعاصــرون عـ ً‬
‫ِّ‬ ‫فيــه‬
‫األحاديــث(((‪:‬‬
‫ويمكن أن يرد على هذه الشبهة باآلتي‪:‬‬
‫معتبـرا‪ ،‬فالذيـن انتقدوا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أول‪ :‬ليـس ك ُّل انتقـاد يُعَـ ُّد انتقـادًا‬
‫(‪)1‬مـن المحدثين ‪ -‬قدي ًما وحديثًـا ‪ -‬لم ي َوفَّقوا‬ ‫املوثقني‬
‫الصحيح‬ ‫الجامـع‬ ‫ة تأهيل‬
‫فـي انتقاداتهـم‪ ،‬ولـم يوافَقـوا عليهـا جميعًـا‪ ،‬و ِمن أبـر ِز الذين‬
‫انتقـدوا الجامـع الصحيـح مـن المتقدميـن اإلمـامُ الدا َرقطني‪،‬‬
‫وقـد بنـى انتقاداتـه ‪ -‬في الغالـب األعم ‪ -‬على قواع َد ليسـت‬
‫محـل اتفاق بيـن المحدثين؛ ولهذا قال النووي‪« :‬قد اسـتدرك‬
‫َ‬
‫أحاديث‪ ،‬وطعن فـي بعضها‪ ،‬وذلك‬ ‫الدارقطنـي على البخاري ومسـل ٍم‬
‫الطعـن الـذي ذكره فاسـد مبني علـى قواعـ َد لبعض المحدثيـن ضعيف ٍة‬
‫جـدًّا مخالفـ ٍة لمـا عليـه الجمهـور مـن أهـل الفقـه واألصـول وغيرهم‬
‫ولقواعـد األدلـة‪ ،‬فال تغتـر بذلك»(((‪.‬‬
‫وقــد أجــاب العلمــاء عــن تلــك االنتقــادات‪ ،‬ومــن هــؤالء العلمــاء‬
‫ـا فــي مقدمتــه لشــرح‬‫ـا كامـ ً‬
‫الحافــظ ابــن حجــر‪ ،‬فقــد خصــص فصـ ً‬
‫صحيــح البخــاري‪ ،‬للــردِّ علــى هــذه االنتقــادات‪ ،‬فقــال‪« :‬الفصــل‬
‫بحثــه (مســالك الفكــر العقلــي المعاصــر للطعــن فــي الصحيحيــن)‪ ،‬بحــث مقــدم‬
‫لمؤتمــر االنتصــار للصحيحيــن بالجامعــة األردنيــة‪ 2010 ،‬ص (‪.)13 - 8‬‬
‫((( ينظر‪ :‬أضواء على السنّة المح ّمديّة ‪ -‬محمود أبو رية ص (‪.)275‬‬
‫تمس إليه حاجة القاري لصحيح اإلمام البخاري للنووي ص (‪.)67‬‬ ‫ُّ‬ ‫((( ما‬

‫‪30‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫الثامــن فــي ســياق األحاديــث التــي انتقدهــا عليــه حافـ ُ‬


‫ـظ عصــره أبــو‬
‫الحســن الدارقطنــي وغيــره مــن النقــاد وإيرادهــا حديثًــا حديثًــا»(((‪.‬‬
‫وقــد أجــاب عــن جميــع االنتقــادات‪ ،‬وقــال عنهــا‪« :‬ليســت‬
‫كلهــا قادحــة‪ ،‬بــل أكثرهــا الجــواب عنــه ظاهــر‪ ،‬والقــدح فيــه مندفــع‪،‬‬
‫وبعضهــا الجــواب عنــه محتمــل‪ ،‬واليســير منــه فــي الجــواب عنــه‬
‫تعســف»(((‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ثانيًــا‪ :‬أ َّن األحاديــث المنت َقــدة عمومًــا قليلــة ج ـدًّا بالنســبة لعــدد‬
‫ـث التــي يمكــن أن يكــون النق ُد‬‫أحاديــث الجامــع الصحيــح‪ ،‬واألحاديـ ُ‬
‫فيهــا لــه حــظ مــن النظــر أقـ ُّل مــن القليــل‪ ،‬بــل هــي فــي ِعــداد النــادر‪،‬‬
‫عبَّــر عنهــا ابــن الصــاح‪ ،‬بقولــه‪« :‬أحــرف يســيرة تكلــم عليهــا بعــض‬
‫أهــل النقــد مــن الحفــاظ‪ ،‬كالدارقطنــي وغيــره‪ ،‬وهــي معروفة عنــد أهل‬
‫هــذا الشــأن»(((‪.‬‬
‫وقــال ابــن حجــر قبــل ســرد األحاديــث المنتقــدة‪:‬‬
‫«قبــل الخــوض فيــه ينبغــي لــكل ُم ِ‬
‫نصــف أن يعلــم أن هــذه‬
‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬
‫األحاديــث وإن كان أكثرهــا ال يقــدح فــي أصــل موضــوع‬
‫الكتــاب‪ ،‬فــإن جميعهــا وارد مــن جهــة أخــرى»(((‪.‬‬
‫وقــال بعــد رده التفصيلــي علــى األحاديــث المنتقــدة‪:‬‬
‫فتح الباري البن حجر (‪.)346/1‬‬ ‫(((‬
‫فتح الباري البن حجر (‪.)383/1‬‬ ‫(((‬
‫معرفة أنواع علوم الحديث ص (‪.)29‬‬ ‫(((‬
‫فتح الباري (‪.)346/1‬‬ ‫(((‬

‫‪31‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫ـام مــا انتقــده األئمــة علــى الصحيــح‪ ،‬وقد‬


‫«فهــذه جملــة أقسـ ِ‬
‫حررتهــا وحققتهــا وقســمتها وفصلتهــا‪ ،‬ال يظهــر منهــا مــا‬
‫يؤثــر فــي أصــل موضــوع الكتــاب بحمــد اهلل إال النــادر»(((‪.‬‬
‫وهــذا القليــل النــادر كمــا ذكــر ابــن حجــر ال تأثيــر لــه‬
‫فــي أصــل موضــوع الكتــاب‪ ،‬ووارد مــن جهــة أخــرى‪،‬‬
‫فاالنتقــادات (‪)1‬‬
‫كانــت فــي الصناعــة الحديثيــة‪ ،‬وليســت فــي‬ ‫املوثقني‬ ‫ة تأهيل‬
‫أكثــر قــو ُل أبــي إســحاق‬
‫َ‬ ‫أصــل المتــن‪ ،‬ويوضــح ذلــك‬
‫اإلســفرائيني‪« :‬أهــل الصنعــة مجمعــون علــى أن األخبــار‬
‫التــي اشــتمل عليهــا الصحيحــان مقطــو ٌع بصحــة أصولهــا‬
‫ومتونهــا‪ ،‬وال يحصــل الخــاف فيهــا بحــال‪ ،‬وإن حصــل‬
‫فــذاك اختــاف فــي طرقهــا ورواتهــا»(((‪.‬‬
‫وقــال أحمــد شــاكر‪« :‬الحــق الــذي ال مريــة فيــه عنــد أهــل العلــم‬
‫بالحديــث مــن المحققيــن‪ ،‬وممــن اهتــدى بهديهــم‪ ،‬وتبعهــم علــى‬
‫بصيــرة مــن األمــر‪ :‬أن أحاديــث الصحيحيــن صحيحــة كلهــا‪ ،‬ليــس‬
‫فــي واحــد منهــا مطعــن أو ضعــف‪ ،‬وإنمــا انتقــد الدارقطنــي وغيــره‬
‫مــن الحفــاظ بعــض األحاديــث‪ ،‬علــى معنــى أن مــا انتقــدوه لــم يبلــغ‬
‫فــي الصحــة الدرجــة العليــا التــي التزمهــا كل واحــد منهمــا فــي‬
‫كتابــه‪ ،‬وأمــا صحــة الحديــث فــي نفســه فلــم يخالــف أحـ ٌد فيهــا‪ ،‬فــا‬
‫((( فتح الباري (‪.)348/1‬‬
‫((( نقله عنه السخاوي في فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (‪.)72/1‬‬

‫‪32‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫يَ ُهولنــك إرجــافُ المرجفيــن‪ ،‬وزع ـ ُم الزاعميــن أن فــي الصحيحيــن‬


‫أحاديــث غيــر صحيحــة»(((‪.‬‬
‫ثالثًــا‪ :‬أ َّن انتقــاد اإلمــام الدارقطنــي وغيــره مــن المحدثيــن لبعــض‬
‫ودب أن‬
‫ـب َّ‬ ‫األحاديــث فــي الجامــع الصحيــح‪ ،‬ال يس ـ ِّوغ لــكل َم ـ ْن هـ َّ‬
‫يطعــن فــي جامــع البخــاري؛ أل َّن أولئــك أئمــة توفــرت فيهــم أهلي ـةُ‬
‫النقــد‪ ،‬ولهــم إحاطــة بعلــوم الحديــث روايــة ودرايــة‪ ،‬وســلكوا فــي‬
‫نقدهــم القواعــد والقوانيــن التــي وضعهــا علمــاء الحديــث لدراســة‬
‫المرويــات‪.‬‬
‫وأمــا انتقــادات غيــر المتخصصيــن فــي علــم الحديــث فغيــر‬
‫مقبولــة‪ ،‬وهــذا ليــس فــي علــم الحديــث وحــده‪ ،‬بــل كل العلــوم‬
‫النظريــة والتجريبيــة ال يقبــل فيهــا انتقــاد غيــر المتخصصين‪ ،‬فــا يمكن‬
‫ـب البشــري فــي تخصصه‬
‫ـدس المعمــاري الطبيـ َ‬
‫أن ينتقــد المهنـ ُ‬
‫الدقيــق‪ ،‬وال العكــس‪ ،‬ولذلــك ال تُقبــل طعــون المعاصريــن‬
‫الذيــن ال يم ِلكــون أدوات علــم الحديــث ويجهلــون قواعــده‬
‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬
‫خصوصــا إذا كان طعنهــم فيمــا أجمــع علمــاء األمــة‬
‫ً‬ ‫وقوانينــه‪،‬‬
‫علــى تل ِّقيــه بالقبــول‪ ،‬فكيــف بطعـ ٍ‬
‫ـون مــن ال عالقــة لــه بالعلــم‬
‫البتــة!‬
‫قــال ابــن حجــر بعــد إجابتــه عــن االنتقــادات‪« :‬فــإذا تأمــل‬
‫المنصــف مــا حررتُــه مــن ذلــك‪ ،‬ع ُظــم مقــدار هــذا المصنــف‬
‫((( في تعليقه على الباعث الحثيث ص (‪.)35‬‬

‫‪33‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫فــي نفســه‪ ،‬وجــ َّل تصنيفــه فــي عينــه‪ ،‬وعــذر األئمــة مــن‬
‫أهــل العلــم فــي تلقيــه بالقبــول والتســليم‪ ،‬وتقديمهــم لــه‬
‫علــى كل مصنــف فــي الحديــث والقديــم‪ ،‬وليســا ســواءً مَن‬
‫يدفــع بالصــدر فــا يأمــن دعــوى العصبيــة‪ ،‬ومــن يدفــع بيــد‬
‫اإلنصــاف علــى القواعــد المرضيــة والضوابــط المرعيــة»(((‪.‬‬
‫(‪)1‬انتقدوا بعض األحاديث في الجامع الصحيح‬
‫املوثقنيَّن الذين‬
‫رابعًا‪ :‬أ‬ ‫ة تأهيل‬
‫من المعاصرين؛ كالشيخ األلباني ً‬
‫مثل‪ ،‬انحصرت انتقاداته‬
‫في أحاديث قليلة جدًّا‪ ،‬بعضها وافق فيه بعض المجتهدين‬
‫المتقدمين الذين انتقدوا هذه األحاديث‪ ،‬وبعضها لم يوفَّق‬
‫في نقدها؛ ألنها من األحاديث التي تلقتها األمة بالقبول‪ ،‬ومع‬
‫ذلك لم يقلِّل الشيخ األلباني من شأن الجامع الصحيح‪ ،‬بل قال بعد‬
‫أطلت الكالم على‬ ‫ُ‬ ‫حديثه عن را ٍو في أحد أحاديث الصحيح‪« :‬فقط‬
‫هذا الحديث وراويه دفاعًا عن السنة‪ ،‬ولكي ال يتق َّول متق ِّو ٌل‪ ،‬أو يقول‬
‫قائل من جاهل أو حاسد أو مغرض‪ :‬إن األلباني قد طعن في (صحيح‬
‫البخاري) وضعف حديثه‪ ،‬فقد تبين لكل ذي بصيرة أنني لم أحكم‬
‫عقلي أو رأيي كما يفعل أهل األهواء قدي ًما وحديثًا‪ ،‬وإنما تمسكت بما‬
‫قاله العلماء في هذا الراوي وما تقتضيه قواعدهم في هذا العلم الشريف‬
‫ومصطلحه من رد حديث الضعيف‪ ،‬وبخاصة إذا خالف الثقة‪ .‬واهلل‬
‫ولي التوفيق»(((‪.‬‬
‫((( فتح الباري البن حجر (‪.)383/1‬‬
‫((( سلسلة األحاديث الضعيفة (‪.)465/3‬‬

‫‪34‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫أصــح الكتــب بعــد كتــاب اهلل‬


‫ُّ‬ ‫وقــال ً‬
‫أيضــا‪« :‬الصحيحــان همــا‬
‫تعالــى باتفــاق علمــاء المســلمين مــن المحدِّثيــن وغيرهــم‪ ،‬فقــد امتازا‬
‫بتفردهمــا بجمــع أصــح األحاديــث‬
‫علــى غيرهمــا مــن كتــب الســنة ُّ‬
‫الصحيحــة‪ ،‬وطــرح األحاديــث الضعيفــة والمتــون المنكــرة‪ ،‬علــى‬
‫قواعـ َد متينـ ٍة‪ ،‬وشــروط دقيقــة‪ ،‬وقــد ُوفقــوا فــي ذلــك توفي ًقــا بال ًغــا لــم‬
‫يُوفَّــق إليــه َمــن بعدهــم م َّمــن نحــا نحوهــم فــي جمــع الصحيــح؛ كابن‬
‫خزيمــة‪ ،‬وابــن حبــان‪ ،‬والحاكــم‪ ،‬وغيرهــم‪ ،‬حتــى صــار عرفًــا عا ًّمــا‬
‫أن الحديــث إذا أخرجــه الشــيخان أو أحدهمــا‪ ،‬فقــد جــاوز القنطــرة‪،‬‬
‫ودخــل فــي طريــق الصحــة والســامة‪ ،‬وال ريــب فــي ذلــك»(((‪.‬‬
‫الشبهة السادسة‪َّ :‬أن الجامع الصحيح فيه عدد من‬
‫والمعلق من قسم األحاديث‬
‫ُ‬ ‫األحاديث المعلَّ قة‪،‬‬
‫المردودة(((‪:‬‬
‫الجواب عن هذا بما يلي‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ويمكن‬
‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬ ‫ً‬
‫أول‪ :‬أ َّن األحاديــث المعلقة ليســت مــردودة على اإلطالق‪،‬‬
‫فمنهــا المقبــول‪ ،‬ومنهــا المــردود‪ ،‬والحكــم فــي ذلــك راجــع‬
‫إلــى اإلســناد هــل هــو متصــل أم ال‪ ،‬فــإذا كان إســناد الحديــث‬
‫ـا فهــو مقبــول صحيــح‪ ،‬وإذا كان منقط ًعــا فهــو‬‫المعلــق متصـ ً‬
‫مــردود ضعيــف‪ ،‬وســيأتي توضيــح ذلــك‪ ،‬والتفصيــل فيــه‪.‬‬
‫((( قال ذلك في مقدمة تحقيقه لشرح الطحاوية ص (‪.)22‬‬
‫((( هذه الشبهة وقفت عليها في موقع بيان اإلسالم ‪.bayanelislam.net‬‬

‫‪35‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫ثانيًــا‪ :‬أ َّن األحاديــث المعلقــة فــي الجامــع الصحيــح‬


‫ليســت كلُّهــا مرفوعــةً إلــى النبــي‪ ،‬فهنــاك نســبة كبيــرة‬
‫منهــا هــي آثــار موقوفــة علــى الصحابــة والتابعيــن‪ ،‬أدخلهــا‬
‫البخــاري فــي الجامــع فق ًهــا منــه؛ لالســتفادة مــن أقوالهــم‬
‫واالســتئناس بهــا‪ ،‬ومــن المعلــوم أ َّن شــرط اإلمــام البخــاري‬

‫ة تأهيل املوثقني (‪)1‬‬


‫فــي جامعــه يتعلــق باألحاديــث المرفوعــة المســندة ال باآلثــار‬
‫الموقوفــة‪ ،‬ويؤيــد ذلــك اســ ُم كتابــه (الجامــع الصحيــح‬
‫وســنَنِه وأيامــه)‪،‬‬
‫المســند المختصــر ِمــن أمــور رســول اهلل ُ‬
‫وأ َّكــد ذلــك ابــن حجــر بقولــه‪« :‬المقصــود مــن هــذا التصنيف‬
‫بالــذات هــو األحاديــث الصحيحــة المســندة‪ ،‬وهــي التــي‬
‫ترجــم لهــا‪ ،‬والمذكــور بالعــرض والتبــع‪ :‬اآلثــار الموقوفــة‪ ،‬واألحاديث‬
‫المعلقــة‪ ،‬نعــم واآليــات المكرمــة؛ فجميــع ذلــك مترجــم بــه‪ ،‬إال أنهــا‬
‫بعضهــا مــع بعــض‪ ،‬واعتُبــرت ً‬
‫أيضا بالنســبة إلــى الحديث؛‬ ‫إذا اعتُبــرت ُ‬
‫مفســر‪ ،‬فيكــون بعضهــا‬
‫مفســر‪ ،‬ومنهــا َّ‬
‫يكــون بعضهــا مــع بعــض‪ ،‬منهــا ِّ‬
‫كالمترجــم لــه باعتبــار‪ ،‬ولكــن المقصــود بالــذات هــو األصــل»(((‪،‬‬
‫ولــو أســند اإلمــام البخــاري هــذه اآلثــار المعلقــة فــي جامعــه لخــرج‬
‫بذلــك عــن شــرطه؛ ولهــذا علقهــا مــع كونهــا صحيحــة حتــى ال يخــل‬
‫بشــرطه‪.‬‬
‫ثالثًــا‪ :‬أ َّن عــددًا مــن األحاديــث المعلقــة فــي الجامــع الصحيــح‬
‫((( فتح الباري (‪.)19/1‬‬

‫‪36‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫جــاءت موصولــة فــي الكتــاب نفســه‪ ،‬فمــن عــادة اإلمــام البخــاري أنــه‬
‫يعلــق الحديــث فــي موضع ويصلــه في موضــع آخــر؛ طلبًــا لالختصار‪،‬‬
‫وعــدم التَّكــرار‪ ،‬وفــي هــذا يذكــر ابــن حجــر‪« :‬أنــه يُــورده معل ًقــا حيــث‬
‫يضيــق مخــرج الحديــث‪ ،‬إذ مــن قاعدتــه أنــه ال يكــرر إال لفائــدة‪ ،‬فمتــى‬
‫ضــاق المخــرج واشــتمل المتــن علــى أحــكام‪ ،‬فاحتــاج إلــى تكريــره؛‬
‫فإنــه يتصــرف فــي اإلســناد باالختصــار خشــية التطويــل»(((‪.‬‬
‫وقــال ً‬
‫أيضــا‪« :‬وربمــا ضــاق عليــه مخــرج الحديــث حيــث ال‬
‫يكــون لــه إال طريــق واحــدة‪ ،‬فيتصــرف حينئــذ فيــه؛ فيــورده فــي موضع‬
‫موصـ ً‬
‫ـول وفــي موضــع معل ًقــا»(((‪.‬‬
‫راب ًعــا‪ :‬أ َّن األحاديــث المعلقــة التــي لــم توصــل داخــل الصحيــح‪،‬‬
‫علــى نوعيــن‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬ما أورده البخاري بصيغة الجزم‪،‬‬
‫وهذا‪ :‬الغالب األعم فيه أحاديثُه صحيحة‪ ،‬وسبب‬
‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬‫تعليق هذا النوع من األحاديث يبيِّنه لنا ابن حجر بقوله‪:‬‬
‫«السبب في كونه لم يوصل إسناده‪ ،‬إما لكونه أخرج ما‬
‫يقوم مقامه فاستغنى عن إيراد هذا مستوفى السياق‪ ،‬ولم‬
‫يهمله‪ ،‬بل أورده بصيغة التعليق طلبًا لالختصار‪ ،‬وإما‬
‫َّ‬
‫وشك في‬ ‫لكونه لم يحصل عنده مسموعًا‪ ،‬أو سمعه‬
‫((( فتح الباري (‪.)17/1‬‬
‫((( فتح الباري (‪.)15/1‬‬

‫‪37‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫سماعه له من شيخه‪ ،‬أو سمعه من شيخه مذاكرة فما رأى أنه‬


‫يسوقه مساق األصل‪ ،‬وغالب هذا فيما أورده عن مشايخه»(((‪.‬‬
‫النــوع الثانــي‪ :‬مــا أورده البخــاري بصيغــة التمريــض‪ ،‬وفيه‬
‫الصحيــح علــى شــرط غيــره‪ ،‬وفيــه الحســن‪ ،‬وفيــه الضعيــف‬
‫المنجبِــر‪ ،‬وفيــه الضعيــف الــذي ال ينجبــر‪ ،‬وهــو قليـ ٌل جـدًّا‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫األخيــر يبيــن ضع َفــه اإلمــام البخاري نفســه‪.‬‬ ‫املوثقني‬
‫وهــذا‬ ‫بــل نــاد ٌر‪،‬‬ ‫ة تأهيل‬
‫خامســا‪ :‬أ َّن المعلقــات فــي الجامــع الصحيــح للبخــاري‬
‫ً‬
‫قــد وصلهــا الحافــظ ابــن حجــر فــي كتــاب أســماه (تغليــق‬
‫التعليــق)‪ ،‬وبيــن أن هــذه المعلقــات موصولــة فــي كتــب‬
‫الســنة األخــرى ســوى الجامــع الصحيــح‪.‬‬
‫ً‬
‫جــدل أ َّن األحاديــث المعلقــة فــي الجامــع‬ ‫سادســا‪ :‬لــو ســلَّمنا‬
‫ً‬
‫الصحيــح كلهــا ضعيفــة؛ فــإن ذلــك ال يمنــع الوثــوق بالجامــع‬
‫الصحيــح‪ ،‬وال يقلــل مــن شــأنه‪ ،‬وذلــك ألمــور منهــا‪:‬‬
‫أولهــا‪ :‬أ َّن أغلــب هــذه المعلقــات فــي تراجــم األبــواب‪ ،‬ال‬
‫فــي أصــل الكتــاب ومتنــه‪.‬‬
‫ثانيهــا‪ :‬أ َّن نســبة األحاديــث المعلقــة إلــى األحاديــث‬
‫الموصولــة ال تــكاد تذكــر‪.‬‬
‫ثالثهــا‪ :‬أ َّن أكثــر هــذه المعلقــات خــارج شــرط البخــاري‬

‫((( فتح الباري البن حجر (‪.)17/1‬‬

‫‪38‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫فــي صحيحــه‪ ،‬فــا تحســب عليــه؛ ألنــه كمــا ســبق‪ :‬غالبهــا‬


‫آثــار موقوفــة علــى صحابــة وتابعيــن‪ ،‬وليســت مســندة كمــا‬
‫ط البخــاري‪.‬‬‫ـر َ‬
‫شـ َ‬

‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬

‫‪39‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫الخاتمة‬

‫الحمــد هلل الــذي بنعمتــه تتــم الصالحــات‪ ،‬والصــاة‬


‫والســام علــى نبيِّنــا محمــد وعلــى آلــه وصحبــه‪ ،‬ومــن اتبــع‬
‫ســنته واقتفــى أثــره إلــى يــوم الديــن‪.‬‬

‫ة تأهيل املوثقني (‪)1‬‬


‫أما بعد‪:‬‬
‫فيجــدُر بــي فــي نهايــة هــذا البحــث أ ْن أبيِّــن أهــ َّم مــا‬
‫نتائــج وأهــم التوصيــات التــي أراهــا‬
‫َ‬ ‫توصلــت إليــه مــن‬
‫ُ‬
‫تســتحق الذكــر‪.‬‬
‫أول‪ :‬النتائج ‪‬‬
‫‪ً ‬‬
‫من أبرز النتائج التي توصلت إليها ما يلي‪:‬‬
‫‪ )1‬أ َّن أشــهر الطاعنيــن فــي صحيــح البخــاري‪ ،‬هــم‪ :‬الرافضــة‪،‬‬
‫والمستشــرقون‪ ،‬والعقالنيــون‪ ،‬والقرآنيــون‪ ،‬والحداثيــون‪ ،‬وغيرهــم مــن‬
‫أعــداء الدِّيــن‪.‬‬
‫‪ )2‬أ َّن مــن أبــرز أهــداف طعنهــم فــي صحيــح البخــاري‪ :‬إســقاط‬
‫الســنة‬
‫الديــن اإلســامي ‪ -‬نصــرة المذهــب العقــدي ‪ -‬الكيــد ألهــل ُّ‬
‫‪ -‬زعــم االحتيــاط فــي الديــن ‪ -‬زعــم التجديــد وتنقيــة التــراث ‪ -‬حــب‬
‫الظهــور والشــهرة‪.‬‬
‫‪ )3‬أ َّن مــن أبــرز الشــبهات حــول الجامــع الصحيــح‪ :‬عــدم عصمــة‬

‫‪40‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫مؤلفــه البخــاري ‪ -‬تأثــره بالضغــوط السياســية فــي كتابــه ‪ -‬انتقــاد بعض‬


‫المحدثيــن لكتابــه ‪ -‬وجــود األحاديــث المعلقــة بالكتــاب ‪ -‬أنــه مــات‬
‫قبــل تبييــض كتابــه‪ ،‬وســبق الجــواب عــن ذلــك‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬التوصيات ‪‬‬
‫‪ً ‬‬
‫أهم التوصيات التي يمكن أن أوصي بها‪ ،‬هي ما يلي‪:‬‬
‫بالســنة واالهتمــام بهــا‪ ،‬والدعــوة إلــى تطبيقهــا في‬
‫‪ )1‬زيــادة العنايــة ُّ‬
‫ٍ‬
‫ومجتمعات‪.‬‬ ‫حيــاة األمــة أفــرادًا‬
‫ـب النبــي‪ ‬وتوقيــره‪ ،‬واحتــرام ُســنته‬
‫‪ )2‬تربيــة النــشء علــى حـ ِّ‬
‫واتباعهــا‪.‬‬
‫‪ )3‬ترســيخ تعظيــم كتــب الســنة عمومًــا‪ ،‬وصحيــح البخــاري‬
‫خصوصــا؛ لــدى أفــراد األمــة وأجيالهــا‪.‬‬
‫ً‬
‫الســنة وفضحهــم؛ حتــى يحذرهــم‬
‫‪ )4‬كشــف أعــداء ُّ‬
‫الشــباب المســلم‪ ،‬وال يقعــوا فــي شــباكهم‪.‬‬
‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬
‫‪ )5‬االحتسـاب علـى ك ِّل طاعـ ٍن فـي ُّ‬
‫السـنة النبويـة وردعـه‬
‫ف شـره‪.‬‬ ‫بالعقوبـة التـي تؤدبـه وت ُك ُّ‬
‫‪ )6‬علــى علمــاء الحديــث التصــدي للشــبهات التــي يثيرها‬
‫األعــداء حــول صحيــح البخــاري؛ ألن فــي حمايتــه حمايــةً‬
‫للســنة كلهــا‪.‬‬
‫ُّ‬

‫‪41‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫‪ )7‬علــى الجامعــات والمعاهــد والمراكــز واألقســام‬


‫العلميــة إقام ـةُ النــدوات والمؤتمــرات للدفــاع عــن صحيــح‬
‫البخــاري‪ ،‬وتســجيل رســائل جامعيــة خاصــة بجمــع ك ِّل‬
‫الشــبهات حــول صحيــح البخــاري والــرد عليهــا بتوســع‪.‬‬
‫هــذا‪ ،‬وصلــى اهلل وســلم علــى نبينــا محمــد‪ ،‬وعلــى آلــه‬
‫(‪)1‬‬
‫ـن‪.‬‬ ‫املوثقني‬
‫أجمعيـ‬ ‫وصحبــه‬ ‫ة تأهيل‬

‫‪42‬‬
‫أبرز الطعون المعاصرة في الجامع الصحيح للبخاري‬

‫‪ ‬فهرس الموضوعات ‪‬‬


‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬
‫‪3‬‬ ‫المقدمة‪...................................................................‬‬
‫‪6‬‬ ‫أهمية الموضوع ‪..........................................................‬‬
‫‪6‬‬ ‫أسباب اختيار الموضوع ‪.................................................‬‬
‫‪7‬‬ ‫خطة البحث‪..............................................................‬‬
‫‪8‬‬ ‫المبحث األول‪ :‬الطاعنون في الجامع الصحيح وأهدافهم ‪..............‬‬
‫‪8‬‬ ‫المطلب األول‪ :‬الطاعنون في الجامع الصحيح‪..........................‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬أهداف الطعن في الجامع الصحيح‪13 .....................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬شبهات حول الجامع الصحيح ‪17 .........................‬‬
‫الخاتمة‪40 ...................................................................‬‬
‫فهرس الموضوعات ‪43 ..................................................‬‬

‫~‬
‫تأهيل املوثقني (‪)1‬‬

‫تم الصف واإلخراج بإشراف‬


‫دار ابن سالم للبحث العلمي‬
‫‪00201098546682‬‬
‫جمهورية مصر العربية‬

‫‪43‬‬

You might also like