Professional Documents
Culture Documents
يحيى طبازه
25/1/2020
ورد في سورة الفرقان قولُه -تعالىَ" :-و َقاَل الَّرُس وُل َيا َر ِّب ِإَّن َقْو ِم ي اَّتَخ ُذ وا َٰه َذ ا اْلُقْر آَن َم ْهُج وًر ا" ،فهل اختلف الحاُل بعد
أربعة عشر قرّنا من نزول القرآن الكريم؟ ال يختلف اثنان في االنتشار الكبير لإلسالم كدين ،حيث بلغت دعوته أصقاع
األرض وأطراف الّد نيا ،وكُثَر ُم عتنقوه حّتى أصبح ثانًيا بعد المسيحّية؛ لكن إن نظرنا إلى القرآن الكريم ،كتاب هذا الّد ين،
.هل نجُد أّن هذا الكتاب أخذ مكانه فعال؟ حقيقًة ،أرى أّننا أبعد ما نكون عن ذلك
اّتخذ كثير من المسلمين القرآن كتاًبا للبركة في سّياراتهم ومحالتهم ومكاتبهم وبيوتهم وعزاءاتهم ال أكثر ،وكثير منهم ال
يتناولون القرآن إال من رمضاَن إلى رَم ضان -هذا إن تناولوه أصًال ،-وكثير من "أهل القرآن" منهم ُيعامل القرآن معاملة
الّتعاويذ السحرّية والّتمائم ،هّم ه كثرُة القراءة وترديد اآليات لكسِب مزيٍد من "الحسنات"؛ فلبعضهم ِو رٌد ،فيختم كّل شهر أو
أقّل ،وبعضهم انكَّب على القرآن تالوًة وِح فًظا وإتقاًنا لألحكام حّتى لٌيَخَّيَل إليَك أّن قراءة القرآن صنعٌة ال ُيتقنها إال الُح ّذ اُق
.الذين أمضوا الّسنوات الِّطوال في تعّلم التالوة ،وهذا -على الغلّو فيه -ال يخلو من ُحسٍن ؛ إال أّنه ليَس كافًيا
يتناول الكثيرون القرآن حّتى يكون جليس بعضهم ساعاٍت ِط واال ،إال أّن آيات هذا الكتاب لم تزد إال هذا التأويل (التفسير،
االجتهاد) هو ثمرة أن تكوَن كالما يخرج من أفواههم ،أو تتناوله قلوبهم بخشوع لمنزلته العظيمة ،ال أكثر من ذلك.
تفاعلهم مع القرآن في يتناولون القرآن كأحرف وكلمات و"حسنات" ،ال كمعاٍن وِفكٍر وكتاب للتدّبر والّنهضة ووسيلة
ظروفهم هم ،وال ُينكر إلعمال العقل ،فال يستجيبون ألوامر هللا -جّل وعال -في القرآن نفسه ،حيث قالَ" :أَفال َيَتَدَّبُروَن
عاقٌل االختالف الكبير اْلُقْر آَن َأْم َع َلى ُقُلوٍب َأْقَفاُلَها" ،وقالَ" :يا َأُّيَها الَّناُس َقْد َج اَء ْتُك م َّم ْو ِع َظٌة ِّم ن َّرِّبُك ْم "،
بين قرننا والقرون وقالِ" :ك َتاٌب َأنَز ْلَناُه ِإَلْيَك ُم َباَر ٌك ِّلَيَّد َّبُر وا آَياِتِه َو ِلَيَتَذ َّك َر ُأوُلو اَأْلْلَباِب" ،وغير ذلك الكثير من
الّسابقة ،لذلك من !اآليات التي تحُّض على التدّبر والتفّك ر وإعمال العقل في اآليات ،ال مجّرد ترديدها كما المذياع
الُم حال أن يكوَن
كفى بالمسلمين تهاُو ًنا أن تجد معظم "تفاسير القرآن" المنتشرة بينهم اليوم هي نفسها المنتشرة قبل لتفاعل المؤِّو ل
الُم عاصر مع الّنص قرون من الّز مان ،وكأّني بالقرآن كتاٌب من الّطالسم ،قد فّك الُم جتهدون األّولون شيفرتُه ،فتّم
تنصيُب العديد منهم منازل "الكهنة" و"الواسطة" بين هللا والّناس ،فلم يُعد ألحد أن يفَهم مراد هللا إال النتيجة نفسها التي
كانت لتفاعل مؤِّو ل كما فهمه الُم فِّسر األّول .والحُّق أّن هذه طاّم ٌة كبرى ،لسببين؛ أّولهما أّن آيات هللا في القرآن هي
دعوة مباشرة للّناس ،كّل الّناس ،للتفّك ر في كتاب رّبهم وتدّبره ،كٌّل على قدر استطاعته وإجادتِه ،سابق
ولهذا تتفاوُت أفهامهم للّنص وبالّتالي استجابتهم له ومستواهم من الّتكليف ،وهذا ليس عيًبا فيهم وال
.في القرآن ،فالحساُب ليس مسطرة واِح دة ُيقاُس عليها الّناس جميعهم ،وإّنما ميزاُن العدِل الذي ُيراعي فروقهم الفردّية
أّم ا ثانيهما فهو أّننا نعيش في عصر الّثورة التكنولوجّية الذي تطّورت فيه معارف البشر ،من علوم طبيعّية وفلسفة وعلم
اجتماع وأنثروبولوجيا وتاريخ وجغرافيا واقتصاد وعلم حديث ،لذلك ،من غير المنطِق أن نركن تماًم ا إلى تفاسير متأخّرة
عن عصرنا ومعارفنا بكثير ،بل واجٌب علينا أن يقوَم علماٌء مّنا بالعمل على تفاسير جديدة للقرآن الكريم ،في ظّل كّل التقّد م
.المعرفّي الُم شار إليه آِنًفا
قد يعترُض هنا البعض فيقولون أّن كتاب هللا ثابٌت محفوظ ،فكيف نكون ُم طالبين بتفسيره في أّيامنا هذه مع كثرة الّتفاسير
الموجودة؟ كيف يكون الكتاب محفوًظا إن اختلفت تفاسيره؟ لذا أقول -وباهلل الُم ستعان -أّن نّص القرآن ثابت محفوظ ،أّم ا
تأويله (تفسيره) فيختلف باختالف المؤِّو ل وَفهِمِه؛ فتفسير ابن كثير هو فهم ابن كثير للقرآن ،وكذا تفسير الطبرّي والبغوّي،
هو فهمهم لُه ،وُهم مجتهدون مأجورون -رحمهم هللا جميًعا ،-أّولوا القرآن حسب ما فهموه في سياق الظروف التي أحاطت
.بهم من زمان ومكان ومعاِر ف
لذلك ،فإّن هذا التأويل (التفسير ،االجتهاد) هو ثمرة تفاعلهم مع القرآن في ظروفهم هم ،وال ُينكر عاقٌل االختالف الكبير بين
قرننا والقرون الّسابقة ،لذلك من الُم حال أن يكوَن لتفاعل المؤِّو ل الُم عاصر مع الّنص النتيجة نفسها التي كانت لتفاعل مؤِّو ل
سابق ،إال إن استخدم هذا المعاصر نفس األدوات المعرفّية الّسابقة ونفس العقلّية في الّتفكير -وهذا موجود لألسف ،فبعضهم
وإن كان معنا؛ إال أّن عقلُه مازال يعيش القرن الّثالث أو الّرابع أو الخامس-؛ ولذلك أساًسا يختلف تفسير الكثير من اآليات
باختالف المرجع الذي يعوُد القارئ إليه من المراجع القديمة للتفسير -المنتشرة نفسها بين أيدينا اآلن .-كما أّن هذا ال ينطبق
على القرآن الكريم وحده ،بل على أّي نّص كان ،الّنّص حبيُس أحرفِه ،ثّم يخرج إلى الحياِة عندما يقرؤُه أحدهم فيتفاعل معه
.ويتأّولُه بمقدار فهمه واجتهاده
تدخل أّم تنا في هذا االنحطاط الفكري شيئا فشيئا بتركها االجتهاد ،وركونها إلى ثقافة الّش روح والمختصرات والمنظومات
وتقليد المجتهدين الّسابقين وتوقّفها عند ما وصلوا إليه دون أن تضيف شيئا على ذلك .أما آَن لهذه األّم ة أن تكون شجاعة بما
!يكفي لتنفض الغبار الُم تكّد س على كتابها وُتعطيُه قدرُه ،وتكوَن أهال لما ُقِّد َر لها من تكليف؟
يحيى طبازه
َ.د َر سُت الّصيدلة وأدّر ستهاُ ،مهتّم بالّد راسات اإلسالمّية والّت اريخ والّت عليم والبحث العلمّي