Professional Documents
Culture Documents
2
3
4
مقدمة الناشر
« الس يد محمد ب اقر الص در » التعريف عنه يبقى م وجزا مهما ط ال وتش عب ،وما
قدمه للفكر االنس اني عامة واالس المي بوجه خ اص يغ ني عن أي تعريف فمن كتاباته «
البنك الالرب وي في االس الم » الى كت اب « فلس فتنا » الى كت اب « اقتص ادنا » ثم «
االسس المنطقية لالس تقراء » اض افة الى العديد من كتاباته االخ رى ال تي أص بحت مرجع اً
فلسفياً يعتمد عليه اساتذة الفلسفة الحديثة على اختالف اتجاهاتها ،حتى اعتبر « مجدداً
» بحق ،ولم تكن جه وده ه ذه كل همه فك انت جنبا الى جنب مع مس اعيه من دروس
ومحاض رات يلقيها على طلبة العل وم الدينية في النجف األش رف .فك ان بحد ذاته مدرسة
يعتمد عليها في مختلف العلوم.
وه ذا الكت اب ال ذي بين ي ديك أخي الق ارئ « مق دمات في التفس ير الموض وعي
للقرآن الكريم » يمثل محاضرات ألقاها سماحته متوجا فيها أعماله باتجاه تجديدي يكون
مكمال لجه ود المفسرين باضافته االتجاه الموضوعي في التفسير الى االتج اه التجزيئي ،
وليكون بذلك أثباتا فعليا وعصريا لمقولة « االسالم نظام شامل وكامل للحياة ».
وقد ق ام بعض االفاضل من تالمذته بمراجعة ه ذه ال دروس وتحقيقها لتك ون على
شكل كتاب ،فجزاه اهلل واياهم عن االسالم أفضل الجزاء.
الناشر
5
6
تقديم
بسم اهلل الرمحن الرحيم
وأفضل الص لوات على س يد اخللق حممد وعلى آله الطي بني الط اهرين .ربنا فقهنا يف
كتابك وأكشف عن قلوبنا ظلمات الذنوب لكي نتفهم آياتك وأزح عن بصائرنا غشاوة
ال دنيا وبريقها الك اذب لكي متأل قلوبنا هبداك واجعلنا من محلة قرآنك وس نة نبيك
والسائرين على طريق طاعتك ...
ربنا أمتم لنا نورنا واغفر لنا أنك على كل شيء قدير ،ربنا ال تؤاخذنا ان نسينا أو
اخطأنا ،ربنا وال حتمل علينا اص راً كما محلته على ال ذين من قبلنا ،ربنا وال حتملنا ما ال
طاقة لنا به وأعف عنا وأغفر لنا وانصرنا ،أنت موالنا فانصرنا على القوم الكافرين ،
7
ربنا وأغفر لنا والخواننا الذين سبقونا لالميان ،وال جتعل يف قلوبنا غال للذين آمنوا ،ربنا
انك رؤوف رحيم.
8
الدرس االول :
ال شك يف تن وع التفسري واختالف مذاهبه وتع دد مدارسه والتب اين يف كثري من
االحي ان بني اهتماماته واجتاهاته ،فهن اك التفسري ال ذي يهتم باجلانب اللفظي واالديب
والبالغي من النص الق رآين وهن اك التفسري ال ذي يهتم جبانب احملت وى واملعىن واملض مون
وهن اك التفسري ال ذي يركز على احلديث ويفسر النص الق رآين باملأثور عن الرس ول وأهل
بيته (ع) أو باملأثور عن الص حابة والت ابعني .وهن اك التفسري ال ذي يعتمد العقل أيض اً
كأساس من أسس التفسري وفهم كتاب اهلل سبحانه وتعاىل ،وهناك التفسري املتميز الذي
يتخذ مواقف مذهبية مس بقة وحياول أن يطبق النص الق رآين على أساس ها .وهن اك التفسري
غري املتحيز الذي حياول أن يستنطق النص القرآين ويطبق الرأي على القرآن ال القرآن على
ال رأي واىل غري ذلك من االجتاه ات املختلفة يف التفسري االس المي .اال ان ال ذي يهمنا
وحنن على أبواب هذه الدراسة القرآنية أن نركز على ابراز اجتاهني رئيسيني حلركة التفسري
يف الفكر
9
االس المي ونطلق على أح دمها اسم « االجتاه التجزي ئي يف التفسري » وعلى اآلخر اسم «
االجتاه التوحيدي أو املوضوعي يف التفسري » االجتاه االول :االجتاه التجزيئي املنهج الذي
يتناول املفسر ضمن اطاره القرآن الكرمي آية فآية وفقا لتسلسل تدوين اآليات يف املصحف
الشريف ،واملفسر يف نطاق هذا املنهج يسري مع املصحف ويفسر قطعاته تدرجيياً مبا يؤمن
به من أدوات ووس ائل للتفسري من الظه ور أو املأثور من االح اديث أو العقل أو اآلي ات
االخ رى اليت تش رتك مع تلك اآلية يف مص طلح أو مفه وم بالق در ال ذي يلقي ض وءا على
مدلول القطعة القرآنية اليت يراد تفسريها مع أخذ السياق الذي وضعت تلك القطعة ضمنه
بعني االعتبار يف كل تلك احلاالت .وطبعا حنن حينما نتحدث عن التفسري التجزيئي نقدمه
يف أوسع وأكمل ص وره اليت انتهى اليها ف ان التفسري التجزي ئي ت درج تارخييا اىل أن وصل
اىل مس توى االس تيعاب الش امل للق رآن الك رمي بالطريقة التجزيئية وك ان قد ب دأ يف عصر
الصحابة والذي يعني على مستوى شرح جتزيئي لبعض اآليات القرآنية وتفسري ملفرداهتا ،
وكلما امتد ال زمن ازدادت احلاجة اىل تفسري املزيد من اآلي ات اىل أن انتهى اىل الص ورة
اليت قدم فيها ابن ماجة والطربي وغريمها كتبهما يف
10
التفسري يف أواخر الق رن الث الث وأوائل الق رن الرابع وك انت متثل أوسع ص ورة للمنهج
التجزي ئي يف التفس ري .ف املنهج التجزي ئي يف التفسري حيث أنه ك ان يس تهدف فهم م دلول
اللفظ ،وحيث أن فهم م دلول اللفظ ك ان يف البداية ميس را لع دد كبري من الن اس مث ب دأ
اللفظ يتعقد من حيث املعىن مبرور ال زمن وازدي اد الفاصل وت راكم اخلربات والتج ارب
وتطور االحداث واالوضاع من هنا توسع التفسري التجزيئي تبعا ملا أعترب النص القرآين من
غم وض ومن شك يف حتديد م دلول اللفظ حىت تكامل بالطريقة اليت نراها يف موس وعات
التفسري حيث ان املفسر يب دأ من اآلية االوىل من س ورة الفاحتة اىل س ورة الن اس فيفسر
الق رآن آية آية ،الن كثري من اآلي ات مبرور ال زمن أص بح معناها وم دلوهلا اللفظي حباجة
اىل اب راز أو جتربة أو تأكيد وحنو ذلك ،ه ذا هو التفسري التجزي ئي ،طبعا حنن ال نعين
بالتجزيئية يف هذا املنهج التفسريي ان املفسر يقطع نظره عن سائر اآليات وال يستعني هبا
يف فهم اآلية املطروحة للبحث ،بل انه قد يس تعني بآي ات أخ رى يف ه ذا اجملال كما
يس تعني باالح اديث والرواي ات ،ولكن ه ذه االس تعانة تتم بقصد الكشف عن املدلول
اللفظي الذي حتمله اآلية املطروحة للبحث ،فاهلدف يف كل خطوة من هذا التفسري
11
فهم مدلول اآلية اليت يواجهها املفسر بكل الوسائل املمكنة أي أن اهلدف « هدف جتزيئي
» ،النه يقف دائما عند حدود فهم هذا اجلزء أو ذاك من النص القرآين وال يتجاوز ذلك
غالبا ،وحص يلة تفسري جتزي ئي للق رآن الك رمي كله تس اوي على أفضل تق دير جمموعة
م دلوالت الق رآن الك رمي ملحوظة بنظ رة جتزيئية أيضا ،أي أنه س وف حنصل على اع داد
كب رية من املع ارف واملدلوالت القرآنية ،لكن يف حالة تن اثر وت راكم ع ددي دون أن
نكتشف أوجه االرتب اط ،دون أن نكتشف ال رتكيب العض وي هلذه اجملاميع من االفك ار ،
دون أن حندد يف هناية املط اف نظرية قرآنية لكل جمال من جماالت احلي اة فهن اك ت راكم
ع ددي للمعلوم ات ،اال أن اخلي وط بني ه ذه املعلوم ات ،أي الروابط والعالق ات اليت
حتوهلا اىل مركب ات نظرية وجماميع فكرية باالمك ان ان حنصر على أساس ها نظرية الق رآن
ملختلف اجملاالت واملواض يع ،أما ه ذا فليس مس تهدفا بال ذات يف منهج التفسري التجزي ئي
وان ك ان قد حيصل احيانا ،وقد أدى ه ذا التن اثر ونزعه االجتاه التجزي ئي اىل ظه ور
التناقض ات املذهبية العدي دة يف احلي اة االس المية ،النه ك ان يكفي ان جيد ه ذا املفسر أو
ذاك آية تربر مذهبه لكي يعلن عنه وجيمع حوله
12
االنص ار واالش ياع كما وقع يف كثري من املذاهب الكالمية كمس ألة اجلرب والتف ويض
واالختي ار مثال ،بينما ك ان باالمك ان تف ادي كثري من ه ذه التناقض ات لو أن املفسر
التجزي ئي خطى خط وة أخ رى ومل يقتصر على ه ذا التجميع الع ددي كما ن رى ذلك يف
االجتاه الثاين.
االجتاه الثاين :ونسميه االجتاه التوحيدي أو املوضوعي يف التفسري.
ه ذا االجتاه ال يتن اول تفسري الق رآن آية فآية يف الطريقة اليت ميارس ها التفسري
التجزي ئي ،بل حياول القي ام بالدراسة القرآنية ملوض وع من موض وعات احلي اة العقائدية أو
االجتماعية أو الكونية في بني ويبحث وي درس .مثال عقي دة التوحيد يف الق رآن أو يبحث
عقيدة النبوة يف القرآن او عن املذهب االقتصادي يف القرآن او عن سنن التاريخ يف القرأن
او عن السماوات واالرض يف القرآن الكرمي وهكذا.
ويستهدف التفسري التوحيدي او املوضوعي من القيام هبذه الدراسات حتديد موقف
نظري للقرآن الكرمي وبالتايل للرسالة االسالمية من ذلك املوضوع من موضوعات احلياة
او الكون ،وينبغي ان يكون واضحا أن الفصل بني االجتاهني املذكورين ليس حديا على
13
مس توى الواقع العملي واملمارسة التارخيية لعملية التفسري الن االجتاه املوض وعي حباجة
قطعا اىل حتديد املدلوالت التجزيئية يف اآليات اليت يريد التعامل معها ضمن اطار املوضوع
ال ذي يتبن اه ،كما أن االجتاه التجزي ئي قد يع ثر يف اثن اء الطريق حبقيقة قرآنية من حق ائق
احلي اة االخ رى ،ولكن االجتاهني على أي ح ال يظالن على ال رغم من ذلك خمتلفني يف
مالحمهما واه دافهما وحص يلتهما الفكرية ،ومما س اعد على ش يوع االجتاه التجزي ئي
للتفسري وس يطرته على الس احة قرونا عدي دة ،النزعة الروائية واحلديثية للتفسري حيث أن
التفسري مل يكن يف احلقيقة ويف البداية اال ش عبة من احلديث بص ورة او ب أخرى وك ان
احلديث هو االساس الوحيد تقريب اً ،مضافا اىل بعض املعلومات اللغوية واالدبية والتارخيية
،اليت يعتمد عليها التفسري طيلة ف رتة طويلة من ال زمن ،ومن هنا مل يكن بامك ان تفسري
يقف عند ح دود املأثور من الرواي ات عن الص حابة والت ابعني وعن الرس ول واالئمة أن
يتقدم خطوة اخرى وان حياول تركيب مدلوالت القرآن واملقارنة بينها واستخراج النظرية
من وراء ه ذه املدلوالت اللفظي ة .التفسري ك ان بطبعه تفس ريا لفظيا تفس ريا للمف ردات
وشرح بعض املستجد من املصطلحات
14
وتط بيق بعض املف اهيم على اس باب ال نزول ومثل ه ذه العملية مل يكن بامكاهنا ان تق وم
ب دور اجته ادي مب دع يف التوصل اىل ما وراء املدلول اللغ وي واللفظي يف التوصل اىل
االفكار االساسية اليت حاول القرآن الكرمي ان يعطيها من خالل املتناثر من آياته الشريفة
وميكننا ان نق رب اىل اذه انكم فك رة ه ذين االجتاهني املختلفني يف تفسري الق رآن الك رمي
مبثال من جتربتكم الفقهية ،فالفقه هو مبعىن من املعاين تفسري األحاديث الواردة عن النبيني
واألئمة (ع) وحنن نع رف من البحث الفقهي ان هن اك كتبا فقهية ش رحت االح اديث
ح ديثا ح ديثا ،تن اولت كل ح ديث وش رحته وتكلمت عنه داللة او س ندا أو متنا ،أو
داللة وسندا ومتنا على اختالف اجتاهات الشراح كما جند ذلك يف شراح الكتب االربعة
وش راح الوس ائل غري ان القسم االعظم من الكتب الفقهية والدراس ات العلمية يف ه ذا
اجملال مل تتجه هذا االجتاه بل صنف البحث اىل مسائل وفقا لوقائع احلياة وجعلت يف اطار
كل مس ألة االح اديث اليت تتصل هبا وفس رهتا بالق در ال ذي يلقي ض وءا على تلك املس ألة
ويؤدي اىل حتديد موقف االسالم من تلك الواقعة اليت تفرتضها املسألة املذكورة وهذا هو
االجتاه املوضوعي على الصعيد الفقهي بينما ذاك هو االجتاه التجزيئي يف
15
تفسري االحاديث على هذا الصعيد .كتاب اجلواهر يف احلقيقة شرح كامل شامل لروايات
الكتب االربعة ولكنه ليس ش رحا يب دأ ب الكتب االربعة رواية رواية وامنا يص نف رواي ات
الكتب االربعة وفقا للحياة ،وفقا ملواضيع احلياة ،كتاب البيع ،كتاب اجلعالة ،كتاب
احياء املوات ،كتاب النكاح ،مث جيمع حتت كل عنوان من هذه العناوين الروايات اليت
تتصل ب ذلك املوض وع ويش رحها ويق ارن فيما بينها فيخ رج بنظرية النه ال يكتفي ب أن
يفهم معىن الرواية فقط بصورة مفردة ،ومعىن هذه الرواية بصورة منفردة مع هذه احلالة
من الفردية ال ميكن ان يصل اىل احلكم الش رعي .وامنا يصل اىل احلكم الش رعي عن طريق
دراسة جمموعة من الرواي ات اليت حتمل مس ؤولية توض يح حكم واحد أو ب اب واحد من
اب واب احلي اة مث عن طريق ه ذه الدراسة الش املة خترج نظرية واح دة من قبل جمموعة من
الرواي ات ال من قبل رواية واح دة .ه ذا هو االجتاه املوض وعي يف ش رح االح اديث ومن
خالل املقارنة بني الدراسات القرآنية والدراسات الفقهية نالحظ اختالف مواقع االجتاهني
على الص عيدين فبينما انتشر االجتاه املوض وعي والتوحي دي على الص عيد الفقهي وما خطا
الفقه والفكر الفقهي خطوات يف جمال تطوره حىت ساد هذا
16
االجتاه جل البحوث الفقهية جند ان العكس هو الصحيح على الصعيد القرآين حيث سيطر
االجتاه التجزي ئي للتفسري على الس احة عرب ثالثة عشر قرنا تقريبا اذ ك ان كل مفسر يب دأ
كما بدأ سلفه مفسرا القرآن آية آية .اذن االجتاه املوضوعي هو الذي سيطر على الساحة
الفقهية بينما االجتاه التجزي ئي هو ال ذي س يطر على الس احة القرآنية واما ما ظهر على
الص عيد الق رآين من دراس ات تس مى بالتفسري املوض وعي احيانا من قبيل دراس ات بعض
املفس رين ح ول موض وعات معينة تتعلق ب القرآن الك رمي كاس باب ال نزول يف الق رأن أو
الناسخ واملنس وخ أو جمازات الق رآن فليست من التفسري التوحي دي واملوض وعي ب املعىن
ال ذي نري ده ف ان ه ذه الدراس ات ليس يف احلقيقة اال جتميعا ع دديا لقض ايا من التفسري
التجزيئي لوحظ فيما بينها شيء من التشابه ويف كلمة اخرى ليست كل عملية جتميع أو
عزل دراسة موضوعية .وامنا الدراسة املوضوعية هي اليت تطرح موضوعا من موضوعات
اة العقائدية او االجتماعية او الكونية وتتجه اىل درسه وتقييمه من زاوية قرآنية احلي
للخ روج بنظرية قرآنية بص دده .واك ثر ظين ان االجتاه التوحي دي واملوض وعي يف الفقه
بامتداده وانتشاره ساعد بدرجة كبرية على تطوير الفكر الفقهي واثراء
17
الدراس ات العلمية يف ه ذا اجملال بق در ما س اعد انتش ار االجتاه التجزي ئي يف التفسري على
اعاقة الفكر االسالمي القرآين عن النمو املستمر وساعد على اكسابه حالة تشبه احلاالت
التكرارية حىت تكاد تقول ان قرونا من الزمن مرتاكمة مرت بعد تفاسري الطربي والرازي
والطوسي مل حيقق فيها الفكر االس المي مكاسب حقيقية جدي دة وظل التفسري ثابتا ال
يتغري اال قليال من خالل تلك الق رون على ال رغم من ال وان التغري اليت حفلت هبا احلي اة
مبختلف املي ادين وس وف يتضح انش اء اهلل تع اىل من خالل املقارنة بني االجتاهني الس بب
والسر الذي يكمن وراء هذه الظاهرة .ملاذا كانت الطريقة التجزيئية عامال يف اعاقة النمو
وملاذا تكون الطريقة املوضوعية واالجتاه التوحيدي عامال يف النمو واالبداع وتوسيع نطاق
حركة االجته اد لكي نع رف ملاذا ك ان ه ذا وملاذا ك ان ذاك ،جيب أن نك ون انطباع ات
أوضح وأك ثر حتدي دا عن ه ذين االجتاهني ،وان يتضح ذلك بعد ان نش رح بعض اوجه
االختالف بني هذين االجتاهني التفسرييني فيما يلي :
اوال :ان دور املفسر التجزي ئي س ليب على االغلب فهو يب دأ اوال بتن اول النص
القرآين احملدد آية مثال أو مقطعا قرآنيا من دون أي افرتاضات او طروحات مسبقة
18
وحياول أن حيدد املدلول الق رآين على ض وء ما يس عفه به اللفظ مع ما يت اح له من الق رائن
املتص لة واملنفص لة العملية يف طابعها الع ام ،عملية تفسري نص معني وك ان دور النص فيها
دور املتح دث ودور املفسر هو االص غاء والتفهم وه ذا ما نس ميه بال دور الس ليب ،املفسر
هنا ش غله ان يس تمع لكن ب ذهن مض يء ،بفكر ص اف ،ب روح حميطة ب آداب اللغة
واساليبها ،يف التعبري مبثل هذه الروح ،مبثل هذه الذهنية ومبثل هذا الفكر جيلس بني يدي
القرآن ليستمع وهو ذو دور سليب والقرآن ذو دور اجيايب والقرآن يعطي حينئذ وبقدر ما
يفهم ه ذا املفسر من م دلول اللفظ يس جل يف تفس ريه .وخالفا ل ذلك املفسر التوحي دي
واملوض وعي فانه ال يب دأ يف عمله من النص بل من واقع احلي اة ف ريكز نظ ره على موض وع
من موض وعات احلي اة العقائدية او االجتماعية او الكونية ويس توعب ما اثارته جتارب
الفكر االنساين حول ذلك املوضوع من مشاكل وما قدمه الفكر االنساين من حلول وما
طرحه التط بيق الت ارخيي من اس ئلة ومن نق اط ف راغ مث يأخذ النص الق رآين ،ال ليتخذ من
نفسه بالنس بة اىل النص دور املس تمع واملس جل فحسب ،بل ليط رح بني ي دي النص
موضوعا جاهزا مشرقا بعدد كبري من االفكار واملواقف البشرية ويبدأ
19
مع النص الق رآين ح وارا ،املفسر يس أل والق رأن جييب املفسر على ض وء احلص يلة اليت
اس تطاع ان جيمعها من خالل التج ارب البش رية النافعة وهو يس تهدف من ذلك ان
يكتشف موقف الق رآن الك رمي من املوض وع املط روح والنظرية اليت بامكانه ان يس تلهمها
من النص من خالل مقارنة ه ذا النص مبا اس توعبه الب احث عن املوض وع من افك ار
واجتاه ات ومن هنا ك انت نت ائج التفسري املوض وعي نت ائج مرتبطة دائما بتي ار التجربة
البش رية الهنا متثل املع امل واالجتاه ات القرآنية لتحديد النظرية االس المية بش أن موضع من
مواض يع احلي اة ومن هنا ايضا ك انت عملية التفسري املوض وعي عملية ح وار مع الق رآن
الك رمي واس تنطاق له ،وليست عملية اس تجابة س لبية بل اس تجابة فعالة وتوظيفا هادفا
للنص الق رآين يف س بيل الكشف عن حقيقة من حق ائق احلي اة الك ربى ،ق ال امري املؤم نني
(ع) وهو يتح دث عن الق رآن الك رمي « ذلك الق رآن فاس تنطقوه ولن ينطق لكن أخ ربكم
عنه ،أال ان منه علم ما ي أيت واحلديث عن املاضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم » التعبري
باالستنطاق الذي جاء يف كالم ابن القرآن (ع) اروع تعبري عن عملية التفسري املوضوعي
بوص فها ح وارا مع الق رآن الك رمي وطرحا للمش اكل املوض وعية عليه بقصد احلص ول على
االجابة
20
القرآنية عليها ،اذن ف اول اوجه االختالف الرئيس ية بني االجتاه التجزي ئي يف التفسري
واالجتاه املوضوعي يف التفسري ان االجتاه التجزيئي يكون دور املفسر فيه دورا سلبيا يستمع
ويس جل بينما التفسري املوض وعي ليس ه ذا معن اه وليس ه ذا كنهه وامنا وظيفة التفسري
املوض وعي دائما يف كل مرحلة ويف كل عصر ان حيمل كل ت راث البش رية ال ذي عاشه ،
حيمل افك ار عص ره ،حيمل املق والت اليت تعلمها من جتربته البش رية مث يض عها بني ي دي
القرآن الكتاب الذي ال يأتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه ليحكم على هذه احلصيلة
مبا ميكن هلذا املفسر ان يفهمه من خالل جمموعة آياته الش ريفة ،اذن فهنا يلتحم الق رآن
مع الواقع ،واقع احلي اة ،الن التفسري يب دأ من الواقع وينتهي اىل الق رآن ال انه يب دأ من
القرآن وينتهي يف القرآن فيكون عملية منعزلة عن الواقع ،بل هذه العملية تبدأ من الواقع
وتنتهي بالقرأن بوصفه القيم واملصدر الذي جيدد على ضوئه االجتاهات الربانية بالنسبة اىل
ذلك الواقع ومن هنا تبقى للق رآن حينئذ قدرته على القيمومة والعط اء املس تجد بش كل
دائم فالقرآن الكرمي دلت الروايات على انه ال ينفد وصرح القرآن نفسه بأن كلمات اهلل
ال تنفد ،عطاء القرآن ال ينفد بينما
21
التفسري اللغ وي ينفد الن اللغة هلا طاق ات حمدودة وليس هن اك جتدد يف املل ول اللغ وي ولو
وجد جتدد يف املدلول اللغ وي فال معىن لتحكيمه على الق رآن ،ولو وج دت لغة اخ رى
بعد الق رآن فال معىن الن يفهم الق رآن من خالل لغة جدي دة او ألف اظ حتمل مص طلحات
جدي دة اس تحدثت بعد الق رآن اذن فحالة ع دم النف اد تكمن يف منهج التفسري املوض وعي
الننا نستنطق القرآن وفيه علم ما كان وعلم ما يأيت ودواء دائنا ،ونظم ما بيننا ،ما ميكن
ان نستشف منه مواقف السماء جتاه جتربة االرض .فمن هنا كان التفسري املوضوعي قادرا
على التطور والنمو الن التجربة البش رية تثريه وال درس الق رآين والتأمل الق رآين على ض وء
التجربة البش رية جيعل ه ذا ال ثراء حموال اىل فهم اس المي ق رآين ص حيح واحلمد هلل رب
العاملني.
22
الدرس الثاني :
ان االجتاه ات الفقهية س ارت يف االجتاه املوض وعي بينما االحباث التفس ريية س ارت
يف االجتاه التجزي ئي طبعا مل نكن نعين من ذلك ايضا ان البحث الفقهي اس تنفذ طاقة
االجتاه املوض وعي ف البحث الفقهي الي وم م دعو ايضا اىل ان يس تنفذ طاقة ه ذا االجتاه
املوضوعي افقيا وعموديا باعتبار ان االجتاه املوضوعي كما قلنا عبارة عن ان االنسان يبدأ
من الواقع وينتهي اىل الشريعة.
هكذا كان ديدن العلماء والفقهاء كانوا يبدأون باحلياة ،يبدأون من الواقع ،وقائع
احلي اة ك انت تنعكس عليهم على ش كل جعالة ومض اربة ومزارعة ومس اقات ليس تنبطوا
احلكم من مص ادرها مث يردوهنا اىل الش ريعة ه ذا اجتاه موض وعي النه يب دأ ب الواقع وينتهي
اىل الشريعة يف مقام التعريف على حكم هذا الواقع لكن هنا ال بد ان ميتد الفقه افقيا على
هذه الساحة اكثر الن العلم اء الذين سامهوا يف تكوين هذا االجتاه املوضوعي عرب ق رون
متعددة كانوا حريصني على ان يأخذوا هذه
23
الوق ائع وحييلوها اىل الش ريعة ليس تنبطوا احك ام الش ريعة املرتبطة بتلك الوق ائع لكن وق ائع
احلي اة تتك اثر وتتج دد باس تمرار وتتولد مي ادين جدي دة فالبد هلذه العملية من النمو
باس تمرار فتب دأ من الواقع لكن ال ذاك الواقع الس اكن احملدود وال ذي ك ان يعيشه الش يخ
الطوسي او احملقق احللي ،الن ذاك الواقع ك ان يفي حباج ات عص رمها فاالج ار واملض اربة
واملزارعة واملس اقات ك انت متثل الس وق قبل ألف س نة أو قبل مثامنائة س نة لكن اب واب
السوق قد اتسعت ففيها العالقات االقتصادية اوسع واكثر تشابكا من هذا النطاق ،فال
بد للفقه من ان يك ون كما ك ان على يد ه ؤالء العلم اء ال ذين ك انوا حريصني على ان
يعكسوا كل ما يستجد من وقائع احلياة على الشريعة ليأخذوا حكم الشريعة .ال بد ايضا
من ان هذه العملية تسري افقيا كما سارت افقيا يف البداية .هذا من الناحية االفقية.
من الناحية العمودية ايضا ال بد من ان يتوغل ه ذا االجتاه املوض وعي يف الفقه ،ال
بد وان يتوغل ،ال بد وان ينفذ عموديا ،ال بد وان يصل اىل النظريات االساسية ،ال بد
وان ال يكتفي بالبن اءات العلوية وبالتش ريعات التفص يلية ،ال بد وان ينفذ من خالل ه ذا
التشريعات اليت متثل وجهة نظر االسالم الننا نعلم ان
24
كل جمموعة من التشريعات يف كل باب من ابواب احلياة ترتبط بنظريات اساسية ،ترتبط
بتطورات رئيسية ألحكام االسالم ،تشريعات االسالم ،يف املذهب االقتصادي باالسالم
،احك ام االس الم يف جمال النك اح والطالق وال زواج وعالق ات املرأة مع الرجل ترتبط
بنظرياته االساس ية عن املرأة والرجل ودور املرأة والرجل ه ذه النظري ات االساس ية اليت
تش كل القواعد النظرية هلذه االبنية العلوية ،ال بد ايضا من التوغل اليها ،ال ينبغي ان
ينظر اىل ذلك بوص فه عمال منفصال عن الفقه ،بوص فه ترفا ،أدبا ،بل بوص فه ض رورة
وينبغي اكتشافها بقدر الطاقة البشرية.
االن نعود اىل التفسري مبا ذكرناه من اوجه اخلالف بني التفسري املوضوعي والتفسري
التجزيئي ،تبينت عدة افضليات تدعو اىل تفضيل املنهج املوضوعي يف التفسري على املنهج
التجزي ئي يف التفسري ف ان املنهج املوض وعي يف التفسري على ض وء ما ذكرن اه يك ون اوسع
افقا وأرحب وأكثر عطاء باعتبار ان يتقدم خطوة عن التفسري التجزيئي كما أنه قادر على
التجدد باستمرار ،على التطور واالبداع باستمرار ،باعتبار ان التجربة البشرية تغين هذا
التفسري مبا تقدمه من مواد ،مث هذه
25
املواد تط رح بني ي دي الق رآن الك رمي وه ذا هو الطريق الوحيد للحص ول على النظري ات
االساسية لالسالم وللقرآن ازاء موضوعات احلياة املختلفة وقد يقال بأنه ما الضرورة اىل
حتص يل ه ذه النظري ات االساس ية ،ما الض رورة اىل ان نفهم نظرية االس الم يف النبوة مثال
بشكل عام او نفهم نظرية االسالم يف سنن التاريخ او يف التغري االجتماعي بشكل عام او
ان نفهم س نن االس الم واالرض ،ما الض رورة اىل ان ن درس وحندد ه ذه النظري ات فاننا
جند بان النيب (ص) مل يعط هذه النظريات على شكل نظريات حمدودة وصيغ عامة ،وامنا
اعطى الق رآن هبذا ال رتتيب للمس لمني ،ما الض رورة اىل ان نتعب انفس نا يف س بيل ه ذه
النظري ات وحتدي دها بعد ان ال حظنا ان النيب (ص) اكتفى باعط اء ه ذا اجملم وع ،ه ذا
الش كل املرتاكم هبذا الش كل ما الض رورة ان نستحصل ه ذه النظري ات احلقيقة بأنه هن اك
الي وم ض رورة اساس ية لتحديد ه ذه النظري ات ولتحص يل ه ذه النظري ات وال ميكن ان
يفرتض االستغناء عنها .النيب (ص) كان يعطي هذه النظريات ولكن من خالل التطبيق من
خالل املناخ القرآين العام الذي كان بينه يف احلياة
26
االسالمية ،وكان كل فرد مسلم يف إطار هذا املناخ ،كان حيمل نظرية ولو فهما امجاليا
ارتكازيا الن املن اخ واالط ار ال روحي واالجتم اعي والفك ري وال رتبوي ال ذي وص فه النيب
(ص) ك ان ق ادرا على ان يعطي النظ رة الس ليمة ،والق درة الس ليمة على تق ييم املواقع
واملواقف واالح داث اذا اردنا ان نق رب ه ذه الفك رة نق ول :قايس وا بني ح التني حالة
االنسان الذي يعيش داخل عرف لغة من اللغات وانسان يريد ان يعرف ابناء هذه اللغة ،
ابناء هذا العرف ،كيف تتمثل اذهاهنم هذه املعاين اىل االلفاظ ،كيف حيددون املعاين من
األلف اظ ،هنا توجد ح التني اح دامها :ان ت أيت هبذا االنس ان وجتعله يعيش يف اعم اق ه ذا
الع رف ويف اعماق ه ذه اللغة واذا ص ار ك ذلك واستمرت به احلياة يف اط ار هذا العرف
وه ذه اللغة ف رتة طويلة من ال زمن س وف يتك ون لديه االط ار اللغ وي ،والع ريف ال ذي
يس تطيع من خالله ان يتح رك ذهنه وفقا ملا يري ده الع رف واللغة منه الن م دلوالت تكون
موج ودة وج ودا امجاليا ارتكازيا يف ذهنه ،النظ رة الس ليمة والتفهم الس ليم للكلمة
الص حيحة ،ومتييزها عن الكلمة غري الص حيحة تك ون موج ودة عن ده باعتب ار انه ع اش
عرف اللغة ووجداهنا يف ممارساته بينما اذا كان االنسان خارج جناح تلك اللغة وعرفها
واردت ان تنشئ
27
يف ذهنه الق درة على التمي يز اللغ وي الص حيح فال تس تطيع التمي يز اللغ وي حينئذ اال عن
طريق الرجوع اىل قواعد تلك اللغة ،واىل العرف الذي ترىب فيه االنسان لكي تستنتج منه
القواعد العامة والنظري ات الش املة ومثاله ما وقع بالنس بة اىل عل وم العربية كيف ان ابن
اللغة مل يكن حباجة اىل ان يعلم عل وم العربية يف البداية النه ك ان يعيش يف اعم اق ع رف
اللغة ،لكن بعد ان ابتعد عن تلك االعماق واختلفت االجواء وضعفت اللغة ،وتراكمت
لغ ات اخ رى اندست اىل داخل حي اة ه ؤالء ،ب دأ ه ؤالء حباجة اىل علم لللغة ،اىل
نظري ات لللغة الن الواقع ال يس فعهم بنظ رة س ليمة فال بد حينئذ من علم ال بد من
نظري ات لكي يفك روا ولكي يناقش وا ولكي يتص رفوا لغويا وفقا لتلك القواعد والنظري ات
هذا املثال مثال تقرييب ألجل توضيح الفكرة.
اذا الص حابة ال ذين عاش وا يف كنف الرس ول االعظم (ص) اذا ك انوا مل يتلق وا
النظري ات بص يغ عامة فقد تلقوها تلقيا امجاليا ارتكازيا ،انتقشت يف اذه اهنم وس رت يف
افك ارهم ،ك ان املن اخ الع ام االط ار االجتم اعي وال روحي والفك ري ال ذي يعيش ونه كله
ك ان اط ارا مس اعدا على تفهم ه ذه النظري ات ولو تفهما امجاليا وعلى توليد املقي اس
الصحيح يف مقام التقييم.
28
اما حيث ال يوجد ذلك املناخ ،ذلك االطار اذا تكون احلاجة اىل دراسة لنظريات
القرآن الكرمي يف االسالم ،تكون حاجة حقيقية ملحة خصوصا مع بروز نظريات عديدة
من خالل التفاعل بني انسان العامل االسالمي وانسان العامل الغريب بكل ما ميلك من رصيد
عظيم ومن ثقافة متنوعة يف خمتلف جماالت املعرفة البش رية حينما وقع ه ذا التفاعل بني
انسان العامل االسالمي وانسان العامل الغريب وجد االنسان املسلم نفسه امام نظريات كثرية
يف خمتلف جماالت احلي اة فك ان عليه لكي حيدد موقف االس الم من ه ذه النظري ات ،ك ان
ال بد وان يستنطق نصوص اإلسالم ،ويتوغل يف اعماق هذه النصوص ليصل اىل مواقف
االس الم س لبا واجياب اً لكي يكتشف نظري ات االس الم اليت تع اجل نفس ه ذه املواض يع اليت
عاش حبثها التجارب البشرية الذكية يف خمتلف جماالت احلياة.
اذن فالتفسري املوض وعي يف املق ام هو افضل االجتاهني يف التفسري اال ان ه ذا ال
ينبغي ان يك ون املقص ود منه االس تغناء عن التفسري التجزي ئي ،ه ذه االفض لية ال تعين
اس تبدال اجتاه باجتاه او ط رح التفسري التجزي ئي رأسا واالخذ بالتفسري املوض وعي ،وامنا
اضافة اجتاه اىل اجتاه الن التفسري املوضوعي
29
ليس اال خط وة اىل االم ام بالنس بة اىل التفسري التجزي ئي وال معىن لالس تغناء عن التفسري
التجزي ئي باجتاه املوض وعي .وامنا هي مس ألة ضم االجتاه املوض وعي يف التفسري اىل االجتاه
التجزيئي يف التفسري ،يعين افرتاض خطوتني خطوة هي التفسري التجزيئي وخطوة وأخرى
هي التفسري املوضوعي.
30
الدرس الثالث :
استعرض نا فيما س بق املربرات املوض وعية والفكرية اليث ار التفسري املوض وعي
التوحيدي على التفسري التجزيئي التقليدي باعتبار أن التفسري املوضوعي أغىن عطاءا وأكثر
ق درة على التح رك واألب داع وعلى حتديد املواقف النظرية الش املة للق رآن الك رمي ..اآلن
أود أن أذكر م ربرا عمليا وهو ان ش وط التفسري التقلي دي ش وط طويل ج دا النه يب دأ من
س ورة الفاحتة وينتهي بس ورة الن اس وه ذا الش وط الطويل حباجة من أجل اكماله اىل ف رتة
زمنية طويلة ايضا وهلذا مل حيض من علم اء االس الم االعالم اال ع دد حمدود هبذا الش رف
العظيم ،ش رف مرافقة الكت اب الك رمي من بدايته اىل هنايته وحنن نش عر ب أن ه ذه االي ام
احملدودة املتبقية ال تفي هبذا الش وط الطويل وهلذا ك ان من االفضل اختي ار أش واط أقصر
لكي نس تطيع ان نكمل بض عة أش واط من ه ذا اجلوالن يف رح اب الق رآن الك رمي .من هنا
سوف خنتار موضوعات متعددة من القرآن الكرمي ونستعرض
31
ما يتعلق ب ذلك املوض وع وما ميكن أن يلقي عليه الق رآن من أض واء .وس وف حناول أن
يكون البحث مربوطا بقدر االمكان لكي نستطيع أن نصل اىل عدد من املواضيع املهمة.
فنقتصر على االفكار االساسية واملبادئ الرئيسية بالنسبة اىل كل موضوع وسوف أحرص
على أن ال يس توعب كل موض وع اال ع ددا حمدودوا من احملاض رات .أرجو أن يك ون بني
مخس حماضرات اىل عشر حماضرات لكي نستطيع أن نستوعب مواضيع متنوعة من القرآن
الكرمي ..االن نواجه هذا السؤال :
ما هو املوضوع االول الذي سوف نبدأ به االن انشاء اهلل تعاىل؟
املوضوع االول الذي سوف خنتاره للبحث هو « سنن التاريخ يف القرآن الكرمي »!
هل للتاريخ البشري سنن يف مفهوم القرآن الكرمي ،هل له قوانني تتحكم يف مسريته ويف
حركته وتطوره ،ما هي هذه السنن اليت تتحكم يف التاريخ البشري ،كيف بدأ التاريخ
البش ري ،كيف منا ،كيف تط ور ،ما هي العوامل االساس ية يف نظرية الت اريخ ،ما هو
دور االنس ان يف عملية الت اريخ ،ما هو موقع الس ماء أو النب وة على الس احة االجتماعي ة.
هذا كله ما سوف ندرسه حتت هذا العنوان ،عنوان
32
س نن الت اريخ يف الق رآن الك رمي ،وه ذا اجلانب من الق رآن الك رمي قد حبث اجلزء االعظيم
من م واده ومفرادته القرآنية لكن من زوايا خمتلفة ،فمثال قصص االنبي اء (ع) اليت متثل
اجلزء االعظم من ه ذه املادة القرآني ة .حبثت قصص االنبي اء من زاوية تارخيية تناوهلا
املؤرخون واستعرضوا احلوادث والوقائع اليت تكلم عنها القرآن الكرمي ،وحينما ال حظوا
الفراغ ات اليت تركها ه ذا الكت اب العزيز ،ح اولوا ان ميل ؤا ه ذه الفراغ ات بالرواي ات
واالح اديث ،او مبا هو املأثور عن أدي ان س ابقة ،أو باالس اطري واخلراف ات فتك ونت
س جالت ذات ط ابع ت ارخيي لتنظيم ه ذه املادة القرآنية ،ك ذلك أيض اً حبثت ه ذه املادة
القرآنية من زاوية أخ رى ،من زاوية منهج القصة يف الق رآن ،م دى ما يتمتع به ه ذا
املنهج من أص الة وق وة واب داع ،ما تزخر به القصة القرآنية من حيوية ،من حركة ،من
أحداث ،هذا أيضا زاوية أخرى للبحث يف هذه املادة يضاف اىل زوايا عديدة .حنن اآلن
نريد ان نتن اول ه ذه املادة القرآنية من زاوية أخ رى ،من زاوية مق دار ما تلقي ه ذه املادة
من أض واء على س نن الت اريخ ،على تلك الض وابط والق وانني والن واميس اليت تتحكم يف
عملية الت اريخ اذا ك ان يوجد يف مفه وم الق رآن ش يء من ه ذه الن واميس والض وابط
والقوانني.
33
الساحة التارخيية كأي ساحة أخرى زاخرة مبجموعة من الظواهر كما ان الساحة
الفلكية ،الس احة الفيزيائية ،الس احة النباتية زاخ رة مبجموعة من الظ واهر ،ك ذلك
الس احة التارخيية ب املعىن ال ذي س وف نفصل من الت اريخ انش اء اهلل بعد ذلك ،زاخ رة
مبجموعة من الظواهر ،كما ان الظواهر يف كل ساحة أخرى من الساحات هلا سنن وهلا
نواميس فمن حقنا أن نتساءل :هل ان هذه الظواهر اليت تزخر هبا الساحة التارخيية ،هل
ه ذه الظ واهر ايضا ذات س نن وذات ن واميس ،وما هو موقف الق رآن الك رمي من ه ذه
الس نن والن واميس ،وما هو عط اؤه يف مق ام تأكيد ه ذا املفه وم اجيابا أو س لبا ،امجاال أو
تفص يال ،وقد خييل اىل بعض االش خاص ،اننا ال ينبغي ان ن رتقب من الق رآن الك رمي أن
يتح دث عن س نن الت اريخ ،الن البحث يف س نن الت اريخ حبث علمي ك البحث يف س نن
الطبيعة والفلك والذرة والنبات ،والقرآن الكرمي مل ينزل كتاب اكتشاف بل كتاب هداية
،الق رآن الك رمي مل يكن كتابا مدرس يا ،مل ي نزل على رس ول اهلل (ص) بوص فه معلما
ب املعىن التقلي دي من املعلم لكي ي درس جمموعة من املتخصصني واملثقفني ،وامنا ن زل ه ذا
الكتاب عليه ليخرج الناس من الظلمات اىل النور ،من ظلمات اجلاهلية اىل نور
34
اهلداية واالس الم .اذن فهو كت اب هداية وتغيري وليس كت اب اكتش اف ،ومن هنا ال
نرتقب من القرآن الكرمي ان يكشف لنا احلقائق واملبادئ العامة للعلوم االخرى وال نرتقب
من الق رآن الك رمي ان يتح دث لنا عن مب ادئ الفيزي اء أو الكيمي اء أو النب ات أو احلي وان ،
ص حيح أن يف الق رآن الك رمي اش ارات اىل كل ذلك ،ولكنها اش ارت باحلدود اليت تؤكد
على البعد االهلي للقرآن ،وبقدر ما ميكن أن يثبت العمق الرباين هلذا الكتاب الذي أحاط
باملاضي واحلاضر واملس تقبل وال ذي اس تطاع أن يس بق التجربة البش رية مئ ات الس نني يف
مقام الكشف عن حقائق متفرقة يف امليادين العلمية املتفرقة ،لكن هذه االشارات القرآنية
امنا هي الجل غرض عملي من هذا القبيل ال من أجل تعليم الفيزياء والكيمياء .القرآن مل
يط رح نفسه ب ديال عن ق درة االنس ان اخلالقة ،عن مواهبه وقابلياته يف مق ام الك دح ،
الك دح يف كل مي ادين احلي اة مبا يف ذلك مي دان املعرفة والتجربة ،الق رآن مل يط رح نفسه
بديال عن هذه امليادين ،وامنا طرح نفسه طاقة روحية موجهة لالنسان ،مفجرة طاقاته ،
حمركة له يف املسار الصحيح .فاذا كان القرآن الكرمي كتاب هداية وتوجيه وليس كتاب
اكتشاف وعلم فليس من الطبيعي أن
35
ن رتقب منه اس تعراض مب ادئ عامة ألي واحد من ه ذه العل وم اليت يق وم الفهم البش ري
مبهمة التوغل يف اكتشاف نواميسها وقوانينها وضوابطها ،ملاذا ننتظر من القرأن الكرمي أن
يعطينا عمومي ات ،أن يعطينا مواقف ،أن يبل ور له مفهوما علميا يف س نن الت اريخ على
ه ذه الس احة من س احات الك ون بينما ليس للق رآن مثل ذلك على الس احات االخ رى ،
وال ح رج على الق رآن يف ان ال يك ون له ذلك على الس احات االخ رى .الن الق رآن لو
صار ملقام استعراض هذه القوانني ،وكشف هذه احلقائق لكان بذلك يتحول اىل كتاب
آخر نوعيا ،يتحول من كتاب للبشرية مجعاء اىل كتاب للمتخصصني يدرس يف احللقات
اخلاصة ،قد يالحظ هبذا الش كل على اختي ار ه ذا املوض وع اال ان ه ذه املالحظة رغم ان
الروح العامة فيها صحيحة مبعىن ان القرآن الكرمي ليس كتاب اكتشاف ،ومل يطرح نفسه
ليجمد يف االنس ان طاق ات النمو واالب داع والبحث ،وامنا هو كت اب هداية ،ولكن مع
ه ذا يوجد ف رق ج وهري بني الس احة التارخيية وبقية س احات الك ون ،ه ذا الف رق
اجلوهري جيعل من هذه الساحة ومن سنن هذه الساحة أمرا مرتبطا أشد االرتباط بوظيفة
القرآن ككتاب هداية ،خالفا لبقية الساحات الكونية وامليادين االخرى
36
للمعرفة البشرية ،وذلك ان القرآن الكرمي كتاب هداية وعملية تغيري هذه العملية اليت عرب
عنها يف القرآن الكرمي بأهنا اخراج للناس من الظلمات اىل النور ،وعملية التغيري هذه فيها
جانبان « اجلانب االول » جانب احملتوى املضمون اليه هذه العملية التغيريية من احكام ،
من مناهج ،ما تتبناه من تشريعات ،هذا اجلانب من عملية التغيري جانب رباين ،جانب
اهلي مساوي ،هذا اجلانب ميثل شريعة اهلل سبحانه وتعاىل اليت نزلت على النيب حممد (ص)
وحتدت بنفس نزوهلا عليه كل س نن الت اريخ املادية الن ه ذه الش ريعة ك انت اكرب من اجلو
ال ذي ن زلت عليه ،ومن البيئة اليت حلت فيها ،ومن الف رد ال ذي كلف ب أن يق وم بأعب اء
تبليغه ا .ه ذا اجلانب من عملية التغيري ،ج انب احملت وى واملض مون ،ج انب التش ريعات
واالحك ام واملن اهج اليت ت دعو اليها ه ذه العملية ،ه ذا اجلانب ج انب رب اين اهلي ،لكن
هن اك ج انب آخر عملية التغيري اليت مارس ها النيب (ص) وأص حابه االطه ار ،ه ذه العملية
حينما تلحظ بوصفها عملية متجسدة يف مجاعة من الناس وهم النيب والصحابة ،بوصفها
عملية اجتماعية متجسدة يف هذه الصفوة ،وبوصفها عملية قد واجهت تيارات اجتماعية
خمتلفة من حوهلا واشتبكت
37
معها يف ألوان من الصراع والنزاع العقائدي واالجتماعي والسياسي والعسكري ،حينما
تؤخذ ه ذه العملية التغيريية بوص فها جتس يدا بش ريا على الس احة التارخيية مرتابطا مع
اجلماعات والتيارات االخرى اليت تكتنف هذا التجسيد واليت تؤيد أو تقاوم هذا التجسيد
،حينما تؤخذ العملية من ه ذه الزاوية تك ون عملية بش رية ،يك ون ه ؤالء اناسا كس ائر
الن اس تتحكم فيهم اىل درجة كب رية س نن الت اريخ اليت تتحكم يف بقية اجلماع ات ويف بقية
الفئ ات على مر ال زمن .اذن عملية التغيري اليت مارس ها الق رآن ومارس ها النيب (ص) هلا
جانب ان من حيث ص لتها بالش ريعة وب الوحي ومص ادر ال وحي ،هي ربانية ،هي ف وق
الت اريخ ولكن من حيث كوهنا هي عمال قائما على الس احة التارخيية ،من حيث كوهنا
جهدا بشريا يقاوم جهودا بشرية اخرى ،من هذه الناحية يعترب هذا عمال تارخييا حتكمه
سنن التاريخ وتتحكم فيه الضوابط اليت وضعها اهلل سبحانه وتعاىل لتنظيم ظواهر الكون
يف هذه الساحة املسماة بالساحة التارخيية وهلذا نرى ان القرآن الكرمي حينما يتحدث عن
الزاوية الثانية ،عن اجلانب الثاين من عملية التغيري يتحدث عن أناس ،يتحدث عن بشر ،
ال يتحدث عن رسالة
38
السماء ،بل يتحدث عنهم بوصفهم بشرا من البشر تتحكم فيهم القوانني اليت تتحكم يف
االخ رين حينما أراد أن يتح دث عن انتص ار املس لمني يف غزوة أحد بعد ان اح رزوا ذلك
االنتص ار احلاسم يف غ زوة ب در ،بعد ذلك انكس روا وخس روا املعركة يف غ زوة أحد ،
حتدث القرآن الكرمي عن هذه اخلسارة ،ماذا قال ،هل قال بان رسالة السماء خسرت
املعركة بعد ان ك انت رحبت املعرك ة؟ ال ..الن رس الة الس ماء ف وق مق اييس النصر
واهلزمية ب املعىن املادي ،رس الة الس ماء ال هتزم ،ولن هتزم اب دا ،ولكن ال ذي يه زم هو
االنسان ،االنسان حىت ولو كان هذا االنسان جمسدا لرسالة السماء ،الن هذا االنسان
تتحكم فيه سنن التاريخ ،ماذا قال القرآن؟ قال « وتلك االيام نداولها بين الناس » (.)1
هنا اخذ يتكلم عنهم بوص فهم اناسا ق ال ب ان ه ذه القض ية هي يف احلقيقة ترتبط بس نن
التاريخ ،املسلمون انتصروا يف بدر حينما كانت الشروط املوضوعية للنصر حبسب منطق
س نن الت اريخ تف رض ان ينتص روا ،وخس روا املعركة يف اُحد حينما ك انت الش روط
املوضوعية يف معركة اُحد تفرض عليهم ان خيسروا املعركة « .ان يمسكم قرح فقد
__________________
( )1سورة آل عمران :اآلية (.)140
39
مس القوم قرح مثله » ( « ، )1وتلك االيم نداولها بين الناس » ال تتخيلوا ان النصرن حق
اهلي لكم ،وامنا النصر حق طبيعي لكم بقدر ما ميكن ان توفروا الشروط املوضوعية هلذا
النصر حبسب منطق س نن الت اريخ اليت وض عها اهلل س بحانه وتع اىل كونيا ال تش ريعيا ،
وحيث انكم يف غزوة اُحد مل تتوفر لديكم هذه الشروط وهلذا خسرمت املعركة .فالكالم
هنا كالم مع بشر ،مع عملية بشرية ال مع رسالة ربانية ،بل يذهب القرآن اىل اكثر من
ذلك ،يهدد هذه اجلماعة البشرية اليت كانت انظف واطهر مجاعة على مسرح التاريخ ،
يه ددهم ب اهنم اذا مل يقوم وا ب دورهم الت ارخيي ،واذا مل يكون وا على مس توى مس ؤولية
رس الة الس ماء ف ان ه ذا ال يعين ان تتعطل رس الة الس ماء ،وال يعين ان تس كت س نن
الت اريخ عنهم بل اهنم س وف يس تبدلون ،س نن الت اريخ س وف تع زهلم وس وف ت أيت ب أمم
اخ رى قد هتي أت هلا الظ روف املوض وعية االفضل لكي تلعب ه ذا ال دور ،لكي تك ون
ش هيدة على الن اس اذا مل تتهيأ هلذه االمة الظ روف املوض وعية هلذه الش هادة « اال تنف روا
يعذبكم عذابا اليما ،ويستبدل قوما غيركم وال تضروه شيئاً واهلل على كل شيء
__________________
( )1نفس اآلية السابقة.
40
« ،يا ايها ال ذين آمن وا من يرتد منكم عن دينه فس وف ي أتي اهلل بق وم يحبهم ()1
ق دير »
ويحبونه أذلة على المؤم نين أع زة على الك افرين يجاه دون في س بيل اهلل وال يخ افون لومة
الئم ذلك فضل اهلل يؤتيه من يش اء واهلل واسع عليم .)2( » ..اذن ف القرآن الك رمي امنا
يتح دث مع اجلانب الث اين من عملية التغيري ،يتح دث مع البشر يف ض عفه وقوته ،يف
اس تقامته واحنرافه ،يف ت وفر الش روط املوض وعية له وع دم توفره ا .من هنا يظهر ب ان
البحث يف س نن الت اريخ مرتبط ارتباطا عض ويا ش ديدا بكت اب اهلل بوص فه كت اب ه دى ،
بوصفه اخراج للناس من الظلمات اىل النور الن اجلانب العملي من هذه العملية ،اجلانب
البش ري خيضع لس نن الت اريخ ،فال بد اذن ان نس تلهم ،وال بد اذن ان يك ون للق رآن
الكرمي تصورات وعطاءات يف هذا اجملال لتكوين اطار عام للنظرة القرآنية واالسالمية عن
سنن التاريخ .اذن هذا ال يشبه سنن الفيزياء والكيمياء والفلك واحليوان والنبات ،تلك
السنن ليست داخلة يف نطاق التأثري املباشر على عملية التاريخ ولكن هذه السنن داخلة يف
__________________
( )1سورة التوبة :اآلية ( .) 39
( )2سورة املائدة :اآلية ( .) 54
41
نط اق الت أثري املباشر على عملية التغي ري .باعتب ار اجلانب الث اين ،اذن ال بد من ش رح ذلك
وال بد ان ن رتقب من الق رآن اعط اء عمومي ات يف ذلك ،نعم ال ينبغي ان ن رتقب من
القرآن ان يتحول ايضا اىل كتاب مدرسي يف علم التاريخ وسنن التاريخ حبيث يستوعب
كل التفاصيل وكل اجلزئيات حىت ما ال يكون له دخل يف منطق عملية التغيري اليت مارسها
النيب (ص) وامنا الق رآن الك رمي حيتفظ دائما بوص فه االساسي والرئيسي ،حيتفظ بوص فه
كت اب هداية ،كت اب اخ راج للن اس من الظلم ات اىل الن ور ،ويف ح دود ه ذه املهمة
الكب رية العظيمة اليت مارس ها يعطي مقوالته على الس احة التارخيية ويش رح س نن الت اريخ
بالقدر الذي يلقي ضوءا على عملية التغيري اليت مارسها النيب (ص) بقدر ما يكون موجها
وهاديا وخالقا لتبصر موض وعي لالح داث والظ روف والش روط .وحنن يف الق رآن الك رمي
نالحظ ان الس احة التارخيية ع امرة بس نن كما عم رت كل الس احات الكونية االخ رى
بس نن .ه ذه احلقيقة نراها واض حة يف الق رآن الك رمي ،فقد بينت ه ذه احلقيقة باش كال
خمتلفة وبأس اليب متع ددة يف ع دد كثري من اآلي ات بينت على مس توى اعط اء نفس ه ذه
املفهوم بالنحو الكلي ،ان للتاريخ سنن وان للتاريخ قوانني ،وبينت هذه احلقيقة يف آيات
اخرى
42
على مس توى ع رض ه ذه الق وانني وبي ان مص اديق ومناذج وامثلة من ه ذه الق وانني اليت
تتحكم يف املس رية التارخيية لالنس ان وبينت يف س ياق آخر على حنو متتزج فيه النظرية مع
التطبيق أي بني املفهوم الكلي وبني يف اطار مصداقه ويف آيات اخرى حصل احلث االكيد
على االس تفادة من احلوادث املاض ية وش حذ اهلمم الجياد عملية اس تقراء للت اريخ وعملية
االستقراء للحوادث كما تعلمون هي عملية علمية بطبيعتها ،تريد ان تفتش عن سنة عن
ق انون واال فال معىن لالس تقراء من دون اف رتاض س نة او ق انون .اذن هن اك الس نة متع ددة
درجت عليها اآليات القرآنية يف مقام توضيح هذه احلقيقة وبلورهتا.
43
الدرس الرابع :
قلنا ان ه ذه الفك رة القرآنية عن س نن الت اريخ بل ورت يف ع دد كثري من اآلي ات
باش كال خمتلفة وألس نة متع ددة يف بعض ه ذه اآلي ات اعطيت الفك رة بص يغتها الكلية ويف
بعض اآلي ات اعطيت على مس توى التط بيق على مص اديق ومناذج ،يف بعض اآلي ات وقع
احلث على االس تقراء وعلى الفحص االس تقرائي للش واهد التارخيية من اجل الوص ول اىل
السنة التارخيية وهناك عدد كثري من اآليات الكرمية استعرضت هذه الفكرة بشكل وآخر
وس وف نق رأ مجلة من ه ذه اآلي ات الكرمية وبعض ه ذه اآلي ات اليت سنستعرض ها واضح
الداللة على املقص ود والبعض اآلخر له حنو داللة بش كل وآخر او يك ون مع ززا ومؤي دا
للروح العامة هلذه الفكرة القرآنية ...فمن اآليات الكرمية اليت اعطيت فيها الفكرة الكلية
،فك رة ان الت اريخ له س نن وض وابط ما يلي « :لكل امة أجل اذا ج اء أجلهم فال
يستأخرون ساعة
44
وال يستقدمون » ( « .)1ولكل امة أجل فإذا جاء أجلهم ال يستأخرون ساعة وال يستقدمون
» (.)2
نالحظ يف ه اتني اآلي تني الكرميتني ان االجل اض يف اىل االمة ،اىل الوج ود
اجملموعي للناس ،ال اىل هذا الفرد بالذات او هذا الفرد بالذات ،اذن هناك وراء االجل
احملدود احملت وم لكل انس ان بوص فه الف ردي ،هن اك أجل آخر وميق ات آخر للوج ود
االجتماعي هلؤالء االفراد ،لالمة بوصفها جمتمعا ينشيء ما بني افراده العالقات والصالت
القائمة على جمموعة من االفك ار واملب ادىء املس ندة مبجموعة من الق وى والقابلي ات .ه ذا
اجملتمع الذي يعرب عنه القرآن الكرمي باالمة .هذا له أجل ،له موت ،له حياة ،له حركة
،كما ان الفرد يتحرك فيكون حيا مث ميوت كذلك االمة تكون حية مث متوت ،وكما ان
م وت الف رد خيضع الجل ولق انون ولن اموس ك ذلك االمم هلا آجاهلا املض بوطة وهن اك
ن واميس حتدد لكل امة ه ذا االجل ،اذن هات ان اآليت ان الكرميت ان فيهما عط اء واضح
للفكرة الكلية ،فكرة ان التاريخ له سنن تتحكم به وراء السنن الشخصية اليت تتحكم يف
االفراد ،هبوياهتم الشخصية « وما اهلكنا من قرية اال ولها كتاب معلوم
__________________
( )1سورة يونس :اآلية (.)49
( )2سورة االعراف :اآلية (.)34
45
(
ما تس بق من امة أجلها وما يس تأخرون » ( « .)1ما تس بق من أمة أجلها وما يس تأخرون »
« .)2او لم ينظ روا في ملك وت الس موات واالرض وما خلق اهلل من ش يء وان عسى ان
يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون » (.)3
ظاهر اآلية الكرمية ان االجل الذي يرتقب ان يكون قريبا او يهدد هؤالء بأن يكون
قريبا هو االجل اجلم اعي ال االجل الف ردي الن قوما مبجم وعهم ال ميوت ون ع ادة يف وقت
واحد وامنا اجلماعة بوجودها املعن وي الكلي هو ال ذي ميكن ان يك ون قد اق رتب أجل ه.
فاالجل اجلماعي هنا يعرب عن حالة قائمة باجلماعة ال عن حالة قائمة هبذا الفرد او بذاك ،
الن الناس عادة ختتلف آجاهلم حينما ننظر اليها باملنظار الفردي ،لكن حينما ننظر اليهم
باملنظ ار االجتم اعي بوص فهم جمموعة واح دة متفاعلة يف ظلمها وع دهلا ،يف س رائها
وضرائها ،حينئذ يكون هلا أجل واحد .فهذا االجل اجلماعي املشار اليه امنا هو أجل االمة
وهبذا تلتقي هذه اآلية الكرمية مع اآليات السابقة « ...وربك الغفور ذو الرحمة لو
__________________
( )1سورة احلجر :اآلية 4( :ـ .)5
( )2سورة املؤمنون :اآلية (.)43
( )3سورة االعراف :اآلية (.)185
46
يؤاخ ذهم بما كس بوا لعجل لهم الع ذاب بل لهم موعد لن يج دوا من دونه م وئال وتلك
القرى اهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكم موعدا » ( « .)1ولو يؤاخذ اهلل الناس بظلمهم
ما ترك عليها دابة ولكن يؤخرهم الى أجل مسمى فاذا جاء أجلهم ال يستأخرون ساعة وال
يس تقدمون » ( « .)2ولو يؤاخذ اهلل الن اس بما كس بوا ما ت رك على ظهرها من دابة ولكن
يؤخرهم الى أجل مسمى فاذا جاء أجلهم فان اهلل كان بعباده خبيرا » (.)3
يف هاتني اآليتني الكرميتني حتدث القرآن الكرمي عن انه لو كان اهلل يريد ان يؤاخذ
الناس بظلمهم ومبا كسبوا ملا ترك على ساحة الناس من دابة وال هلك الناس مجيعا .وقد
وقعت مش كلة يف كيفية تص وير ه ذا املفه وم الق رآين حيث ان الن اس ليس وا كلهم ظ املني
عادة ،فيهم االنبياء ،فيهم االئمة االوصياء هل يشمل اهلالك االنبياء واالئمة العدول من
املؤمنني ،حىت ان بعض الناس أستغل ه اتني اآليتني النكار عص مة االنبياء (ع) واحلقيقة
ان هاتني اآليتني تتحدثان عن عقاب دنيوي ال عن عقاب أخروي ،تتحدث عن النتيجة
الطبيعية ملا
__________________
( )1سورة الكهف :اآلية ( 58ـ .)59
( )2سورة النحل :اآلية (.)61
( )3سورة فاطر :اآلية (.)45
47
تكس به امة عن طريق الظلم والطغي ان ،ه ذه النتيجة الطبيعية ال ختتص حينئذ خبص وص
الظ املني من ابن اء اجملتمع بل تعم أبن اء اجملتمع على اختالف هوي اهتم وعلى اختالف احناء
س لوكهم .حينما وقع التيه على بين اس رائيل نتيجة ما كسب ه ذا الش عب بظلمه وطغيانه
ومترده ،ه ذا التيه مل خيتص خبص وص الظ املني من بين اس رائيل وامنا مشل موسى (ع) مشل
اطهر الن اس واذكى الن اس ،واش جع الن اس يف مواجهة الظلمة والط واغيت ،الن موسى
(ع) ج زء من تلك االمة وقد حل اهلالك هبا قد ق رر نتيجة ظلمهم ان ي تيهوا أربعني عاما
وهبذا مشل التيه موسى (ع) .حينما حل البالء والع ذاب باملس لمني نتيجة احنرافهم فاص بح
يزيد بن معاوية خليفة عليهم يتحكم يف دم ائهم وام واهلم واعراض هم وعقائ دهم ،حينما
حل ه ذا البالء مل خيتص بالظ املني من اجملتمع االس المي ،وقتئذ مشل احلسني (ع) ،أطهر
الن اس وأزكى الن اس واطيب الن اس وأع دل الن اس .مشل االم ام املعص وم (ع) فقتل تلك
القتلة الفظيعة هو واص حابه وأهل بيته ،ه ذا كله هو منطق س نة الت اريخ والع ذاب حينما
ي أيت يف ال دنيا على جمتمع وفق س نن الت اريخ ،ال خيتص بالظ املني من ابن اء ذلك اجملتمع
وهلذا قال القرآن الكرمي يف آية اخرى « واتقوا فتنة ال
48
تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا ان اهلل شديد العقاب » ( )1بينما يقول يف موضع
آخر « وال ت زر وازرة وزر اخ رى » ( .)2فالعق اب االخ روي دائما ينصب على العامل
مباشرة ،وأما العقاب الدنيوي فيك ون اوسع من ذلك ،اذن هاتان اآليتان تتح دثان عن
س نن الت اريخ ال عن العق اب ب املعىن االخ روي والع ذاب مبق اييس ي وم القيامة بل عن س نن
الت اريخ وما ميكن ان حيصل نتيجة كسب االمة ،س عي االمة ،جهد االمة « ...وان
كادوا ليستفزونك من االرض ليخرجوك منها واذن ال يلبثون خالفك اال قليال سنة من قد
ارسلنا من قبلك من رسلنا وال تجد لسنتنا تحويال » (.)3
ه ذه اآلية الكرمية أيضا تؤكد املفه وم الع ام ،يق ول « وال تجد لس نتنا تح ويال » ،
ه ذه س نة س لكناها مع االنبي اء من قبلك وس وف تس تمر ولن تتغري ،أهل مكة حيالون أن
يس تفزوك لتخ رج من مكة الهنم عج زوا عن امكانية القض اء عليك وعلى كلمتك وعلى
دعوتك ،وهلذا صار أمامهم طريق واحد وهو اخراجك من مكة.
وهناك سنة من سنن التاريخ سوف يأيت شرحها بعد
__________________
( )1سورة االنفال :اآلية (.)25
( )2سورة فاطر :اآلية (.)18
( )3سورة االسراء :اآلية ( 76ـ .)77
49
ذلك يش ار اليها يف ه ذه اآلية الكرمية .وهي أنه اذا وص لت عملية املعارضة اىل مس توى
اخ راج النيب من ه ذا البلد بعد عجز ه ذه املعارضة عن كل الوس ائل واالس اليب االخ رى
ف اهنم ال يلبث ون بع ده اال قليال .ليس املقص ود من اهنم ال يلبث ون اال قليال يعين انه س وف
ينزل عليهم عذاب اهلل سبحانه وتعاىل من السماء ،الن أهل مكة اخرجوا النيب بعد نزول
ه ذه الس ورة .استفزوه وارعبوه وخ رج النيب (ص) من مكة اذ مل جيد له أمانا وملجأ فيها
فخرج اىل املدينة ومل ينزل عذاب من السماء على أهل مكة ،وامنا املقصود يف أكرب الظن
من هذا التعبري أهنم ال ميكثون كجماعة صامدة معارضة يعين كموقع اجتماعي ال ميكثون
،ال كأن اس ،كبشر ،وامنا ه ذا املوقع س وف ينه ار نتيجة ه ذه العملية ،ال ميكث ون اال
قليال الن ه ذه النب وة اليت عجز ه ذا اجملتمع عن تطويقها س وف تس تطيع بعد ذلك ان هتز
ه ذه اجلماعة كموقع للمعارضة ،وه ذا ما وقع فعال .ف ان رس ول اهلل (ص) حني أخ رج
من مكة مل ميكث وا بع ده اال قليال ،اذ فق دت املعارضة يف مكة موقعها ،وحتولت مكة اىل
جزء من دار االسالم بعد سنني معدودة.
اذن اآلية تتح دث عن س نة من س نن الت اريخ ،وتؤكد وتق ول « وال تجد لس نتنا
تحويال » « قد خلت من
50
قبلكم س نن فس يروا في االرض ف انظروا كيف ك انت عاقبة المك ذبين » ( .)1تؤكد ه ذه
اآلية على الس نن وتؤكد على احلق والتتبع الح داث الت اريخ من اجل استكش اف ه ذه
الس نن واالعتب ار هبا « ،ولقد ك ذبت رسل من قبلك فص بروا على ما ك ذبوا وأوذوا ح تى
أتاهم نصرنا وال مبدل لكلمات اهلل ولقد جاءك من نبأ المرسلين .)2( » ...هذه اآلية ايضا
تثبت قلب رس ول اهلل (ص) ،حتدثه عن التج ارب الس ابقة ،تربطه بق انون التج ارب
السابقة توضح له ان هناك سنة جتري عليه وجتري على االنبياء الذين مارسوا التجربة من
قبله وان النصر س وف يأتيه ولكن للنصر ش روطه املوض وعية :الصرب والثب ات واس تكمال
الشروط ،هذا هو طريق احلصول على هذا النصر ،وهلذا يقول « فصبروا على ما كذبوا
وأوذوا ح تى اتاهم نصرنا ،ال مبدل لكلمات اهلل » اذن هناك كلمة هلل ال تتبدل على مر
الت اريخ ه ذه الكلمة هي عالقة قائمة بني النصر وبني جمموعة من الش روط والقض ايا
واملواص فات وض حت يف آي ات متفرقة ومجعت على وجه االمجال هن ا .اذن فهن اك س نة
للتاريخ « ...فلما جاءهم نذير ما زادهم اال نفورا
__________________
( )1سورة آل عمران :اآلية (.)137
( )2سورة االنعام :اآلية (.)34
51
اس تكبارا في االرض ومكر الس يء وال يحيق المكر الس يء اال بأهله فهل ينظ رون اال س نة
االولين فلن تجد لس نة اهلل تب ديال ولن تجد لس نة اهلل تح ويال » ( « .)1لو ق اتلكم ال ذين
كفروا لولوا االدبار ثم ال يجدون وليا وال نصيرا سنة اهلل قد خلت من قبل ولن تجد لسنة
اهلل تبديال » (.)2
هناك آيات استعرضت مناذج من سنن التاريخ « ان اهلل ال يغير ما بقوم حتى يغيروا
ما بأنفس هم » ( )3احملت وى ال داخلي النفسي وال روحي لالنس ان هو القاع دة ،الوضع
االجتم اعي هو البن اء العل وي ،ال يتغري ه ذا البن اء العل وي اال وفقا لتغري القاع دة على ما
ي أيت انش اء اهلل ش رحه بعد ذل ك .ه ذه اآلية اذن تتح دث عن عالقة معينة بني القاع دة
والبناء العلوي ،بني الوضع النفسي والروحي والفكري لالنسان وبني الوضع االجتماعي
،بني داخل االنس ان وبني خ ارج األنس ان ،فخ ارج األنس ان يص نعه داخل االنس ان ،
مرتبط بداخل االنسان ،فاذا تغري ما بنفس القوم تغري وضعهم ،وعالقاهتم والروابط اليت
تربط بعضهم ببعض .اذن فهذه سنة
__________________
( )1سورة فاطر :اآلية (.)43
( )2سورة الفجر :اآلية (.)23
( )3سورة الرعد :اآلية (.)11
52
من سنن التاريخ ربطت القاعدة بالبناء العلوي « ذلك ب أن اهلل لم يكن مغ يرا نعمة انعمها
على ق وم ح تى يغ يروا ما بأنفس هم » ( « .)1أم حس بتم ان ت دخلوا الجنة ولما ي أتيكم مثل
الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا
معه م تى نصر اهلل اال ان نصر اهلل ق ريب » ( .)2يس تنكر عليهم ان ي أملوا يف ان يك ون هلم
اس تثناء من س نن الت اريخ ،هل تطمع ون ان يك ون لكم اس تثناء من س نة الت اريخ! وان
ت دخلوا اجلنة وان حتقق وا النصر وانتم مل تعيش وا ما عاش ته تلك االمم اليت انتص رت
ودخلت اجلنة من ظ روف البأس اء والض راء اليت تصل اىل حد الزل زال على ما عرب الق رآن
الكرمي ،ان هذه احلاالت ،حاالت البأساء والضراء اليت تتعملق على مستوى الزلزال هي
يف احلقيقة مدرسة لالمة ،هي امتح ان الرادة االمة ،لص مودها ،لثباهتا ،لكي تس تطيع
بالتدريج ان تكتسب القدرة على ان تكون امة وسطا بني الناس .اذن نصر اهلل قريب لكن
النصر له طري ق .هك ذا يريد ان يق ول الق رآن .نصر اهلل ليس أم را عفويا ،ليس أم را على
سبيل الصدفة ،ليس امرا عمياويا .نصر اهلل قريب
__________________
( )1سورة االنفال :اآلية (.)53
( )2سورة البقرة :اآلية (.)214
53
ولكن اهتدي اىل طريقه ،الطريق ال بد ان تعرف فيه سنن التاريخ ،ال بد وان تعرف فيه
منطق التاريخ لكي تستطيع ان هتتدي فيه اىل نصر اهلل سبحانه وتعاىل ،قد يكون الدواء
قريبا من املريض لكن اذا ك ان ه ذا املريض ال يع رف تلك املعادلة العلمية اليت ت ؤدي اىل
اثبات ان هذا الدواء يقضي على جرثومة هذا الداء ،ال يستطيع ان يستعمل هذا الدواء
حىت ولو كان قريبا منه.
اذن االطالع على س نن الت اريخ هو ال ذي ميكن االنس ان من التوصل اىل النص ر.
فه ذه اآلية تس تنكر على املخ اطبني هلا ان يكون وا ط امعني يف االس تثناء من س نن الت اريخ
« ...وما ارس لنا في قرية من ن ذير اال ق ال مترفوها انا بما ارس لتم به ك افرن وق الوا نحن
اك ثر ام واال واوالدا وما نحن بمع ذبين .)1( » ..ه ذه عالقة قائمة بني النب وة على مر
التاريخ وبني موقع املرتفني واملسرفني يف االمم واجملتمعات .هذه العالقة متثل سنة من سنن
التاريخ ،وليست ظ اهرة وقعت يف التاريخ ص دفة واال ملا تكررت هبذا الش كل املطرد ملا
ق ال « وما ارس لنا في قرية من ن ذير اال ق ال مترفوها » اذن هن اك عالقة س لبية ،هن اك
عالقة تطارد وتناقض ،بني
__________________
( )1سورة سبأ :اآليات ( 34ـ .)35
54
موقع النبوة االجتماعي يف حياة الناس على الساحة التارخيية واملوقع االجتماعي للمرتفني
واملس رفني ،ه ذه العالقة ترتبط يف احلقيقة ب دور النب وة يف اجملتمع ودور املرتفني واملس رفني
يف اجملتمع .هذه العالقة جزء من رؤية موضوعية عامة للمجتمع ،مبا سوف يتضح انشاء
اهلل حينما نبحث عن دور النب وة يف اجملتمع واملوقع االجتم اعي للنب وة ،س وف يتضح
حينئذ ان النقيض الط بيعي للنب وة هي موقع املرتفني واملس رفني .اذن ه ذه س نة من س نن
الت اريخ « ..واذا أردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففس قوا فيها فحق عليها الق ول
ف دمرناها ت دميرا وكم أهلكنا من الق رون من بعد ن وح وكفى بربك ب ذنوب عب ادة خب يرا
بصيرا » (.)1
هذه اآلية أيضا تتحدث عن عالقة معينة بني ظلم يسود ويسيطر وبني هالك جتر اليه االمة
جرا .وهذه العالقة ايضا اآلية تؤكد اهنا عالقة مطردة على مر التاريخ وهي سنة من سنن
التاريخ « ولو انهم اقاموا التوراة واالنجيل وما أنزل اليهم من ربهم الكلو من فوقهم ومن
تحت أرجلهم « .)2( » ...ولو أن أهل الق رى آمن وا واتق وا لفتحنا عليهم برك ات من
السماء واالرض
____________
( )1سورة االسراء :اآلية ( 16ـ .)17
( )2سورة املائدة :اآلية (.)66
55
ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون » ( « .)1وألو استقاموا على الطريقة السقيناهم
ماء غدقا » « بل قالوا انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مهتدون » (.)2
ه ذه اآلي ات الثالث تتح دث عن عالقة معينة هي عالقة بني االس تقامة وتط بيق
احك ام اهلل س بحانه وتع اىل وبني وف رة اخلريات وك ثرة االنت اج ـ وبلغة الي وم بني عدالة
التوزيع وبني وف رة االنت اج ـ الق رآن يؤكد ان اجملتمع ال ذي تس وده العدالة يف التوزيع ه ذه
العدالة يف التوزيع اليت عرب عنها القرآن ـ تارة ـ « ألو استقاموا على الطريقة السقيناهم ماء
غدقا » ـ وأخرى ـ « لو ان اهل القرى آمنوا واتقوا » ـ واخرى ـ بأهنم « لو أنهم اقاموا
الت وراة واالنجيل » ،الن ش ريعة الس ماء ن زلت من اجل تقرير عدالة التوزيع ،من اجل
انش اء عالق ات التوزيع على اسس عادلة ،يق ول لو اهنم طبق وا عدالة التوزيع ملا وقع وا يف
ض يق من ناحية ال ثروة املنتجة ويف فقر بل الزداد ال ثراء واملال وازدادت اخلريات
والربكات .لكنهم ختيلوا ان عدالة التوزيع تقتضي الفقر بينما احلقيقة السنة التارخيية تؤكد
عكس ذلك ،تؤكد بأن
__________________
( )1سورة االعراف :اآلية (.)96
( )2سورة الزخرف :اآلية (.)22
56
تط بيق ش ريعة الس ماء وجتس يد احكامها يف عالق ات التوزيع ت ؤدي دائما وباس تمرار اىل
زي ادة االنت اج واىل ك ثرة ال ثروة ،اىل ان يفتح على الن اس برك ات الس ماء واالرض .اذن
هذه ايضا سنة من سنن التاريخ .وهناك آيات اخرى اكدت على االستقراء والنظر والتدبر
يف احلوادث التارخيية من اجل تك وين نظ رة اس تقرائية من اجل اخلروج بن واميس وس نن
كونية للس احة التارخيية « ...افلم يس يروا في االرض فينظ روا كيف ك ان عاقبة ال ذين
ك انوا من قبلهم دمر اهلل عليهم وللك افرين امثالها « .)1( » ..افلم يس يروا في االرض
فينظ روا كيف ك ان عاقبة ال ذين من قبلهم » ( « .)2وك أي من قرية أهلكناها وهي ظالمة
وهي خاوية على عروش ها وب ئر معطلة وقصر مش يد ،أفلم يس يروا في االرض فتك ون لهم
قلوب يعقلون بها او آذان يسمعون بها فانها ال تعمى االبصار ولكن تعمى القلوب التي في
الصدور « .)3( » ...وكم اهلكنا قبلهم من قرية هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البالد هل
من محيص ،ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب او ألقى السمع وهو
__________________
( )1سورة حممد :اآلية (.)10
( )2سورة يوسف :اآلية (.)109
( )3سورة احلج :اآلية (.)120
57
شهيد .)1( » ...
من جمموع هذه اآليات الكرمية يتبلور املفهوم القرآين ..وهو تأكيد القرآن على ان
الس احة التارخيية هلا س نن وهلا ض وابط كما يك ون هن اك س نن وض وابط لكل الس احات
الكونية االخ رى ..وه ذا املفه وم الق رآين يعترب فتحا عظيما للق رآن الك رمي ..الننا حبدود
ما نعلم الق رآن اول كت اب عرفه االنس ان أكد على ه ذا املفه وم وكشف عنه وأصر عليه
وق اوم بكل ما لديه من وس ائل االقن اع والتفهيم ،ق اوم النظ رة العفوية او النظ رة الغيبية
االستس المية بتفسري االح داث ،االنس ان االعتي ادي ك ان يفسر اح داث الت اريخ بوص فها
كومة مرتاكمة من االح داث ،يفس رها على اس اس الص دفة ت ارة وعلى اس اس القض اء
والقدرة واالستسالم المر اهلل سبحانه وتعاىل .القرآن الكرمي قاوم هذه النظرة العفوية وقام
هذه النظرة االستسالمية ونبه العقل البشري اىل ان هذه الساحة هلا سنن وهلا قوانني وانه
لكي تستطيع ان تكون انسانا فاعال مؤثرا ال بد لك ان تكتشف هذه السنن ،ال بد وان
تتع رف على ه ذه الق وانني لكي تس تطيع ان تتحكم فيها واال حتكمت هي فيك وانت
مغمض العينني ،افتح عينيك على هذه
__________________
( )1سورة ق :اآلية ( 36ـ .)37
58
الق وانني وعلى ه ذه الس نن لكي تك ون أنت املتحكم ال لكي تك ون ه ذه الس نن هي
املتحكمة فيك.
هذا الفتح القرآين اجلليل هو الذي مهد اىل تنبيه الفكر البشري بعد ذلك بقرون اىل
ان جترى حماوالت لفهم الت اريخ فهما عمليا بعد ن زول الق رآن بثمانية ق رون ب دأت ه ذه
احملاوالت على أيدي املسلمني انفسهم فقام ابن خلدون مبحاولة لدراسة التاريخ وكشف
س ننه وقوانينه مث بعد ذلك بأربعة ق رون ( على اقل تق دير ) اجته الفكر االوريب يف ب دايات
ما يسمى بعصر النهضة ،بدأ لكي جيسد هذا املفهوم الذي ضيعه املسلمون ،والذي مل
يستطع املسلمون ان يتوغلوا اىل اعماقه ،هذا املفهوم اخذه الفكر الغريب يف بدايات عصر
النهضة وب دأت هن اك احباث متنوعة وخمتلفة ح ول فهم الت اريخ وفهم س ننه ونش أت على
هذا االساس اجتاهات مثالية ومادية ومتوسطة ومدارس متعددة ،كل واحدة منها حتاول
ان حتدد ن واميس الت اريخ .وقد تك ون املادية التارخيية اش هر ه ذه املدارس واوس عها تغلغال
واكثرها تأثريها يف التارخ نفسه ،اذن كل هذا اجلهد البشري يف احلقيقة هو استمرار هلذا
التنبيه الق رآين ويبقى للق رآن الك رمي جمده يف انه ط رح ه ذه الفك رة الول م رة على س احة
املعرفة البشرية.
59
الدرس الخامس :
من خالل استعراض نا الس ابق للنص وص القرآنية البينة اليت اوض حت فك رة الس نن
التارخيية واك دت عليها ،ميكننا ان نس تلخص من خالل املقارنة بني تلك النص وص ثالث
حقائق اكد عليها القرآن الكرمي بالنسبة اىل سنن التاريخ.
الحقيقة االولى :
هي االض طراد مبعىن ان الس نة التارخيية مض طردة ليست عالقة عش وائية ذات ط ابع
موض وعي ال تتخلف يف احلاالت اإلعيادية اليت جتري فيها الطبيعة والك ون وعلى الس نن
العامة وك ان التأكيد على ط ابع االض طراد يف الس نة تأكي دا على الط ابع العلمي للق انون
الت ارخيي ،الن الق انون العلمي أهم مميز مييزه عن بقية املع ادالت والف روض واالض طراد
والتتابع وعدم التخلف.
ومن هنا استهدف القرآن الكرمي من خالل التأكيد على طابع االضطراد يف السنة
التارخيية ،استهدف ان
60
يؤكد على الط ابع العلمي هلذه الس نة وان خيلق يف االنس ان املس لم ش عورا على جري ان
احداث التاريخ متصربا ال عشوائيا وال مستسلما وال ساذجا.
« ولن تجد لسنة اهلل تبديال « ، )1( » ..وال تجد لسنتنا تحويال « ، )2( » ..وال
مب دل لكلم ات اهلل )3( » ...ه ذه النص وص القرآنية تق دم استعراضا تؤكد فيه ط ابع
االس تمرارية واالض طارد أي ط ابع املوض وعية والعلمية للس نة التارخيية ،وتس تنكر ه ذه
النص وص الش ريفة كما تق دم يف بعض ها ان يك ون هن اك تفكري او طمع ل دى مجاعة من
اجلماع ات ب أن تك ون مس تثناة من س نة الت اريخ « أم حس بتم ان ت دخلوا الجنة ولما ي أتكم
مثل الذين من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه
م تى نصر اهلل أال ان نصر اهلل ق ريب » ( )4ه ذه اآلية تس تنكر على من يطمع يف أن يك ون
حالة اس تثنائية من س نة الت اريخ كما ش رحنا يف ما مض ى .اذن الروح العامة للق رآن تؤكد
على هذه احلقيقة االوىل وهي حقيقة
__________________
( )1سورة االحزاب :اآلية (.)62
( )2سورة االسراء :اآلية (.)77
( )3سورة االنعام :اآلية (.)34
( )4سورة البقرة :اآلية (.)214
61
االضطراد يف السنة التارخيية الذي يعطيها الطابع العلمي من اجل تربية االنسان على ذهنية
واعية علمية يتصرف يف اطارها ومن خالهلا مع احداث التاريخ.
الحقيقة الثانية :
احلقيقة الثانية اليت اك دت عليها النص وص القرآنية هي ربانية الس نة التارخيية ،ان
الس نة التارخيية ربانية مرتبطة باهلل س بحانه وتع اىل ،س نة اهلل ،كلم ات اهلل على اختالف
التعبري ،مبعىن ان كل ق انون من ق وانني الت اريخ ،هو كلمة من اهلل س بحانه وتع اىل ،وهو
قرار رباين ،هذا التأكيد من القرآن الكرمي على ربانية السنة التارخيية وعلى طابعها الغييب
يستهدف شد انسان حىت حينما يريد ان يستفيد من القوانني املوضوعية للكون شده باهلل
سبحانه وتعاىل ،واشعار االنسان بان االستعانة بالنظام الكامل ملختلف الساحات الكونية
واالستفادة من خمتلف القوانني والسنن اليت تتحكم يف هذه الساحات ،ليس ذلك انعزاال
عن اهلل س بحانه وتع اىل الن اهلل ميارس قدرته من خالل ه ذه الس نن ،والن ه ذه الس نن
والقوانني هي ارادة اهلل وهي ممثلة حلكمة اهلل وتدبريه يف الكون وقد يتوهم البعض ان هذا
الطابع الغييب الذي يلبسه القرآن
62
الكرمي للتارخ وللسنن التارخيية يبعد القرآن عن التفسري العلمي املوضوعي للتاريخ وجيعله
يتجه اجتاه التفسري االهلي للت اريخ ال ذي مثلته مدرسة من م دارس الفكر الاله ويت على يد
ع دد كبري من املفك رين املس يحيني والالهوت يني حيث فس روا تفس ريا اهليا قد خيلط ه ذا
االجتاه القرآين بذلك التفسري االهلي الذي اجته اليه أغسطني وغريه من املفكرين الالهوتيني
فيق ال ب أن اس باغ ه ذا الط ابع الغييب على الس نة التارخيية حيول املس ألة اىل مس ألة غيبية
وعقائدية وخيرج التاريخ عن اطاره العلمي املوضوعي ولكن احلقيقة ان هناك خلطا اساسيا
بني االجتاه الق رآين وطريقة الق رآن يف ربط الت اريخ بع امل الغيب ويف اس باغ الط ابع الغييب
على الس نة التارخيية وبني ما يس مى بالتفسري االهلي للت اريخ ال ذي تبن اه الاله وت ،هن اك
فرق كثري بني هذين االجتاهني وهاتني النزعتني وحاصل هذا الفرق هو ان االجتاه الالهويت
للتفسري االهلي للتاريخ يتناول احلادثة نفسها ويربط هذه احلادثة باهلل سبحانه وتعاىل قاطعا
صلتها وروابطها مع بقية احلوادث فهو يطرح الصلة مع اهلل بديال عن صلة احلادثة مع بقية
احلوادث ،بديال عن العالقات واالرتباطات اليت تزخر هبا الساحة
63
التارخيية واليت متثل الس نن والق وانني املوض وعية هلذه الس احة بينما الق رآن الك رمي ال يس بغ
الط ابع الغييب على احلادثة بال ذات وال ين تزع احلادثة التارخيية من س ياقها لريبطها مباش رة
بالس ماء ،وال يط رح ص لة احلادثة بالس ماء كب ديل عن أوجه االنطب اق والعالق ات
واالس باب واملس ببات على ه ذه الس احة التارخيية بل أنه يربط الس نة التارخيية باهلل ،يربط
أوجه العالق ات واالرتباط ات باهلل ،فهو يق رر اوال وي ؤمن بوج ود روابط وعالق ات بني
احلوادث التارخيية ،اال ان ه ذه الروابط والعالق ات بني احلوادث التارخيية هي يف احلقيقة
تعبري عن حكمة اهلل س بحانه وتع اىل وحسن تق ديره وبن اءه التكويين للس احة التارخيية اذا
أردنا ان نستعني مبثال لتوضيح الفرق بني هذين اإلجتاهني من الظواهر الطبيعية .نستطيع
ان نستخدم هذا املثال :قد يأيت انسان فيفسر ظاهرة املطر اليت هي ظاهرة طبيعية فيقول
ب ان املطر ن زل ب ارادة من اهلل س بحانه وتع اىل ،وجيعل ه ذه االرادة ب ديال عن االس باب
الطبيعية اليت جنم عنها ن زول املطر ،وك أن املطر حادثة ال عالقة هلا وال تنسب هلا ،وامنا
هي مف ردة ترتبط مباش رة باهلل س بحانه وتع اىل مبع زل عن تي ار احلوادث ،ه ذا الن وع من
الكالم يتعارض مع التفسري العلمي لظاهرة املطر.
64
لكن اذا ج اء ش خص وق ال ب ان الظ اهرة ،ظ اهرة املطر هلا اس باهبا وعالقاهتا واهنا
مرتبطة بال دورة الطبيعية للم اء مثال ،يتبخر فيتح ول اىل غ از والغ از يتص اعد س حابا
والس حاب يتح ول بالت دريج اىل س ائل نتيجة اخنف اض احلرارة في نزل املطر اال ان ه ذا
التسلسل الس بيب املتقن ،ه ذه العالق ات املتش ابكة بني الظ واهر الطبيعية هي تعبري عن
حكمة اهلل وتدبريه وحسن رعايته فمثل هذا الكالم ال يتعارض مع الطابع العلمي للتفسري
املوض وعي لظ اهرة املطر الننا ربطنا هنا الس نة باهلل س بحانه وتع اىل للحادثة مع عزهلا عن
بقية احلوادث وقطع ارتباطها مع مؤثراهتا وأسباهبا .اذن القرآن الكرمي حينما يسبغ الطابع
الرب اين على الس نة التارخيية ال يريد ان يتجه اجتاه التفسري االهلي يف الت اريخ ولكنه يريد ان
يؤكد ان ه ذه الس نن ليست خارجة من وراء ق درة اهلل س بحانه وتع اىل وامنا هي تعبري
وجتس يد وحتقيق لق درة اهلل ،هي كلماته وس ننه وارادته وحكمته يف الك ون لكي يبقى
االنس ان دائما مش دودا اىل اهلل لكي تبقى الص لة الوثيقة بني العلم واالميان فهو يف نفس
ال وقت ال ذي ينظر فيه اىل ه ذه الس نن نظ رة علمية ينظر ايضا اليها نظ رة اميانية ،وقد بلغ
القرآن الكرمي يف حرصه على تأكيد الطابع املوضوعي للسنن التارخيية
65
وع دم جعلها مرتبطة بالص دف ،ان نفس العملي ات الغيبية أناطها يف كثري من احلاالت
بالس نة التارخيية نفس ها أيضا ،عملية االم داد االهلي ب النص ،االم داد االهلي الغييب ال ذي
يس اهم يف كسب النص .ه ذا االم داد جعله الق رآن الك رمي مش روطا بالس نة التارخيية ،
مرتبطا بظروفها غري منفك عنها وه ذه ال روح ابعد ما تك ون عن ان تك ون روحا تفسر
الت اريخ على أس اس الغيب وامنا هي روح تفسر الت اريخ على أس اس املنطق والعقل والعلم
وحىت ذاك االم داد االهلي ال ذي يس اهم ب النص ذاك االم داد أيضا ربط بالنس نة التارخيي ة.
قرأنا يف ما س بق ص يغة من ص يغ الس نن التارخيية للنص حينما قرأنا قوله س بحانه وتع اىل
« ...أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا » ...واالن تعالوا نتحدث
عن االم داد الغييب لنالحظ كيف ان ه ذه اآلي ات ربطت ه ذا االم داد االهلي الغييب بتلك
الس نة نفس ها أيضا « :اذ تس تغيثون ربكم فاس تجاب لكم اني مم دكم ب ألف من المالئكة
م ردفين .وما جعله اهلل اال بش رى ولتطمئن به قل وبكم وما النصر اال من عند اهلل ان اهلل
عزيز حكيم » ( .)1اذن فمن الواضح ان الط ابع الرب اين ال ذي يس بقه الق رآن الك رمي ليس
بديال عن التفسري
__________________
( )1سورة األنفال اآلية ( 9ـ .)10
66
املوض وعي وامنا هو ربط ه ذا التفسري املوض وعي باهلل س بحانه وتع اىل من اجل امتام اجتاه
االسالم حنو التوحيد بني العلم واالميان يف تربية االنسان املسلم.
الحقيقة الثالثة :
احلقيقة الثالثة اليت اكد عليها القرآن الكرمي من خالل النصوص املتقدمة هي حقيقة
اختيار االنسان وإرادة االنسان والتأكيد على هذه احلقيقة يف جمال استعراض سنن التاريخ
مهم جدا اذ سوف يأيت انشاء اهلل تعاىل بعد حماضرتني.
ان البحث يف سنن التاريخ خلق ومها ،وحاصل هذا الوهم الذي خلقه هذا البحث
عند كثري من املفك رين أن هن اك تعارضا وتناقضا بني حرية االنس ان واختي اره وبني س نن
التاريخ ،فاما ان نقول بان للتاريخ سننه وقوانينه وهبذا نتنازل عن ارادة االنسان واختياره
وحريته ،واما ان نس لم ب ان االنس ان ك ائن حر مريد خمت ار وهبذا جيب ان نلغي س نن
الت اريخ وقوانينه ونق ول ب ان ه ذه الس احة قد أعفيت من الق وانني اليت مل تعفى منها بقية
الساحات الكونية .هذا الوهم وهم التعارض والتناقض بني فكرة السنة التارخيية أو القانون
الرتاخيي وبني فكرة اختيار االنسان وحريته .هذا
67
الوهم كان من الضروري للقرآن الكرمي ان يزحيه وهو يعاجل هذه النقطة بالذات ومن هنا
اكد س بحانه وتع اىل على أن احملور يف تسلسل االع داد والقض ايا امنا هو ارادة االنس ان ،
وس وف أتن اول انش اء اهلل تع اىل بعد حماض رتني الطريقة الفنية يف كيفية التوجيه بني س نن
الت اريخ وارادة االنس ان ،وكيف اس تطاع الق رآن الك رمي أن جيمع بني ه ذين االم رين من
خالل فحص للص يغ اليت ميكن يف اطارها ص ياغة الس نة التارخيية ،س وف اتكلم عن ذلك
بعد حماض رتني لكن يكفي االن ان نس تمع اىل قوله تع اىل « ان اهلل ال يغ ير ما بق وم ح تى
يغ يروا ما بأنفس هم » ( « )1وألو اس تقاموا على الطريقة الس قيناهم م اءا غ دقا » (... « )2
وتلك الق رى اهلكناهم لما ظلم وا انفس هم وجعلنا لمهلكهم موع دا » ( )3انظ روا كيف أن
الس نن التارخيية ال جتري من ف وق يد االنس ان بل جتري من حتت ي ده ،ف ان اهلل ال يغري ما
بق وم حىت يغ ريوا ما بأنفس هم « وألو اس تقاموا على الطريقة الس قيناهم م اءا غ دقا » اذن
هناك مواقف اجيابية لالنسان متثل حريته واختياره وتصميمه وهذه املواقف تستتبع ضمن
__________________
( )1سورة الرعد :اآلية (.)11
( )2سورة اجلن :اآلية (.)16
( )3سورة الكهف :اآلية (.)59
68
عالق ات الس نن التارخيية ،تس تتبع جزاءاهتا املناس بة ،تس تتبع معلوالهتا املناس بة ،اذن
فاختي ار االنس ان له موض عه الرئيسي يف التص ور الق رآين لس نن الت اريخ وس وف أع ود اىل
ه ذه النقطة م رة أخ رى ب إذن اهلل تع اىل اذن نس تخلص مما س بق ان الس نن التارخيية ،ان
السنن القرآنية يف التاريخ ذات طابع علمي الهنا تتميز باالطراد الذي مييز القانوين العلمي
،وذات طابع رباين الهنا متثل حكمة اهلل وحسن تدبريه على الساحة التارخيية وذات طابع
انس اين الهنا ال تفصل االنس ان عن دوره االجيايب وال تعطل فيه ارادته وحريته واختي اره
وامنا تؤكد اك ثر ف اكثر مس ؤوليته على الس احة التارخيي ة .االن بعد استعرض نا اخلص ائص
الثالث اليت تتم يز هبا الس نن التارخيية يف الق رآن الك رمي نواجه ه ذا الس ؤال :ما هو مي دان
ه ذه الس نن التارخيي ة؟ كنا حىت االن نعرب ونق ول ب ان ه ذه الس نن جتري على الس احة
التارخيية ،لكن ،هل أن الساحة التارخيية بامتدادها هي ميدان لسنن التارخيية أو ان ميدان
السنن التارخيية ميثل جزأ من الساحة التارخيية مبعىن ان امليدان الذي خيضع للسنن التارخيية
بوصفها قوانني ذات طابع نوعي خمتلف عن القوانني االخرى الفيزيائية
69
والفسلجية والبيولوجية والفلكية .هذا امليدان الذي خيضع لقوانني ذات طابع نوعي خمتلف
،هذا امليدان هل تتسع له الساحة التارخيية ،هل يستوعب كل الساحة التارخيية ،أو يعرب
عن جزء من الساحة التارخيية؟ لكن قبل هذا جيب أن نعرف ماذا نقصد بالساحة التارخيية
الس احة التارخيية عب ارة عن الس احة اليت حتوي تلك احلوادث والقض ايا اليت يهتم هبا
املؤرخ ون ،املؤرخ ون أص حاب الت واريخ مبجموعة من احلوادث والقض ايا يس جلوهنا يف
كتبهم والس احة اليت تزخر بتلك احلوادث اليت يهتم هبا املؤرخ ون ويس جلوهنا هي الس احة
التارخيية فالس ؤال هنا اذن هك ذا ،هل ان كل ه ذه احلوادث والقض ايا اليت يربطها
املؤرخ ون وت دخل يف نط اق مهمتهم التارخيية والتس جيلية هل كلها حمكومة بالس نن
التارخيية ،بسنن التاريخ ذات الطابع النوعي املتميز عن سنن بقية حدود الكون والطبيعة ،
أو أن جزءاً معينا من هذه احلوادث والقضايا هو الذي حتكمه سنن التاريخ؟ الصحيح ان
جزءاً معينا من هذه احلوادث والقضايا هو الذي حتكمه سنن التاريخ ،هناك حوادث ال
تنطبق عليها س نن الت اريخ بل تنطبق عليها الق وانني الفيزيائية او الفس لجية أو ق وانني احلي اة
او أي ق وانني اخ رى ملختلف الس احات الكونية االخ رى مثال :م وت ايب ط الب ،م وت
خدجية يف سنة معينة حادثة تارخيية مهمة
70
ت دخل يف نط اق ض بط املؤرخني واك ثر من ه ذا هي حادثة ذات بعد يف الت اريخ ت رتبت
عليها آث ار كث رية ولكنها ال حيكمها س نة تارخيية بل حتكمها ق وانني فس لجية ،حتكمها
قوانني احلياة اليت فرضت ان ميوت ابو طالب ( صلوات اهلل عليه ) وان متوت خدجية ( ع
) يف ذلك ال وقت احملدد ،ه ذه احلادثة ت دخل يف نط اق ص الحيات املؤرخني ولكن ال ذي
يتحكم يف هذه احلادثة هي قوانني فسلجة جسم أيب طالب وجسم خدجية ،قوانني احلياة
اليت تفرض املرض والشيخوخة ضمن شروط معينة وظروف معينة ،حياة عثمان بن عفان
اخلليفة الثالث ،طول عمره حادثة تارخيية فقد ناهز الثمانني ،طبعا هذه احلادثة التارخيية
ك ان هلا أثر عظيم يف ت اريخ االس الم ،لو ق در هلذا اخلليفة أن ميوت موتا طبيعيا وفقا
لقوانينه الفسلجية قبل يوم الثورة كان من املمكن ان تتغري كثري من معامل التاريخ ،كان
من احملتمل ان يأيت االمام أمري املؤمنني اىل اخلالفة بدون تناقضات وبدون ضجيج وبدون
خالف لكن ق وانني فس لجة جسم عثم ان بن عف ان اقتضت ان ميتد به العمر اىل ان يقتل
من قبل الث ائرين عليه من املس لمني ه ذه حادثة تارخيية تعين اهنا ت دخل يف اهتمام ات
املؤرخني وهلا بعد تارخيي ايضا ولعبت
71
دورا س لبا أو اجيابا يف تك ييف االح داث التارخيية االخ رى ،ولكنها ال تتحكم فيها س نن
التاريخ .ان الذي يتحكم يف ذلك قوانني بنية جسم عثمان ،قوانني احلياة وقوانني جسم
االنس ان اليت اعطت لعثم ان بن عف ان عمر ن اهز الثم انني ،مواقف عثم ان بن عف ان
وتص رفاته االجتماعية ت دخل يف نط اق س نن الت اريخ ،لكن ط ول عمر عثم ان بن عف ان
ملسألة اخرى ،مسألة حياتية أو مسألة فسلجية أو مسألة فيزيائية وليست مسألة تتحكم
فيها س نن الت اريخ .اذن س نن الت اريخ ال تتحكم على كل الس احة التارخيية ،ال تتحكم
على كل القض ايا اليت ي درجها الط ربي يف تارخيه بل على مي دان معني من ه ذه الس احات
يأيت ذكره انشاء اهلل.
72
الدرس السادس :
قلنا ان الس احة التارخيية س احة اهتمام ات املؤرخني ال يس توعبها كل الت اريخ الن
ه ذه الس احة تش تمل على ظ واهر كونية وطبيعية ،فيزيائية وحياتية وفس لجية ايض ا .ه ذه
الظواهر حتكمها قوانينها النوعية على الرغم من ان بعض هذه الظواهر ذات امهية باملنظار
الت ارخيي .من منظ ار املؤرخني تعترب ه ذه ح وادث ذات امهية هلا بعد زمين يف امت داد وتي ار
احلوادث التارخيية ولكنها مع هذا ال حتكمها سنن التاريخ بل حتكمها سننها اخلاصة .سنن
الت اريخ حتكم مي دانا معينا من الس احة التارخيية ،ه ذا املي دان يش تمل على ظ واهر متم يزة
متيزا نوعيا عن سائر الظواهر الكونية والطبيعية وباعتبار هذا التميز النوعي استحقت سننا
متميزة ايضا متيزا نوعيا عن سنن بقية الساحات الكونية .املميز العام للظواهر اليت تدخل
يف نطاق سنن التاريخ هو ان هذه الظواهر حتمل عالمة جديدة مل تكن موجودة يف سائر
الظواهر االخرى الكونية
73
والطبيعية والبش رية .الظ واهر الكونية والطبيعية كلها حتمل عالقة ظ اهرة بس بب مس بب
بسبب نتيجة مبقدمات ،هذه العالقة موجدوة يف كل الظواهر الكونية والطبيعية ،الغليان
ظ اهرة طبيعية مرتبطة بظ روف معينة ،بدرجة ح رارة معينة ،بدرجة معينة ممن ق رب ه ذا
املاء من الن ار .ه ذا االرتب اط ارتب اط املس بب بالس بب ،العالقة هنا عالقة الس ببية ،عالقة
احلاضر باملاضي ،ب الظروف املس بقة املنج زة ،لكن هن اك ظ واهر على الس احة التارخيية
حتمل عالقة من منط آخر وهي عالقة ظ اهرة هبدف عالقة نش اط بغاية او ما يس ميه
الفالس فة بالعلة الغائية متيزا عن العلة الفاعلية ،ه ذه العالقة عالقة جدي دة متم يزة ،غلي ان
املاء ب احلرارة ،حيمل مع س ببه مع ماض يه لكن ال حيمل عالقة مع غاية ومع ه دف م امل
يتح ول اىل فعل انس اين واىل جهد بش ري بينما العمل االنس اين اهلادف حيت وي على عالقة
ال فقط مع الس بب ،ال فقط مع املاضي ،بل مع الغاية اليت هي غري موج ودة حني اجناز
هذا العمل وامنا يرتقب وجوده ا .أي العالقة هنا عالقة مع املستقبل ال مع املاضي ،الغاية
دائما متثل املس تقبل بالنس بة اىل العمل ،بينما الس بب ميثل املاضي بالنس بة اىل ه ذا العم ل.
فالعالقة اليت يتميز هبا العمل التارخيي ،العمل الذي
74
حتكمه سنن التاريخ هو انه عمل هادف ،عمل يرتبط بعلة غائية سواءا كانت هذه الغاية
ص احلة او طاحلة ،نظيفة أو غري نظيفة ،على أي ح ال يعترب ه ذا عمال هادفا ،يعترب
نشاطا تارخييا يدخل يف نطاق سنن التاريخ على هذا االساس وهذه الغايات اليت يرتبط هبا
ه ذا العمل اهلادف املس ؤول ،ه ذه الغاي ات حيث اهنا مس تقبلية بالنس بة اىل العمل فهي
ت ؤثر من خالل وجودها ال ذهين يف العامل ال حمالة ،الهنا بوجودها اخلارجي ،بوجودها
ال واقعي ،طم وح وتطلع اىل املس تقبل ،ليست موج ودة وج ودا حقيقيا وامنا ت ؤثر من
خالل وجودها ال ذهين يف الفاع ل .اذن املس تقبل أو اهلدف ال ذي يش كل الغاية للنش اط
الت ارخيي ي ؤثر يف حتريك ه ذا النش اط ويف بلورته من خالل الوج ود ال ذهين أي من خالل
الفكر الذي ميثل فيه الوجود الذهين للغاية ضمن شروط ومواصفات ،حينئذ يؤثر يف اجياد
هذا النشاط ،اذ حصلنا االن على مميز نوعي للعمل التارخيي لظاهرة على الساحة التارخيية
،هذا املميز غري موجود بالنسبة اىل سائر الظواهر االخرى على ساحات الطبيعة املختلفة
،ه ذا املم يز ظه ور عالقة فعل بغاية نش اط هبدف يف التفسري الفلس في ،ظه ور دور العلة
الغائية ،كون هذا الفعل متطلعا اىل املستقبل ،كون املستقبل
75
حمركا هلذا الفعل من خالل الوج ود ال ذهين ال ذي يرسم للفاعل غايته أي من خالل الفكر
اذن هذا هو يف احلقيقة دائرة السنن النوعية للتاريخ .السنن النوعية للتاريخ موضوعها ذلك
اجلزء من الس احة التارخيية ال ذي ميثل عمال له غاية ،عمال حيمل عالقة اض افية اىل
العالقات املوجودة يف الظاهرة الطبيعية وهي العالقة بالغاية واهلدف ،بالعلة الغائية ،لكن
ينبغي هنا أيضا انه ليس كل عمل له غاية هو عمل ت ارخيي ،هو عمل جتري عليه س نن
الت اريخ بل يوجد بعد ث الث ال بد ان يت وفر هلذا العمل لكي يك ون عمال تارخييا أي عمال
حتكمه س نن الت ايخ .البعد االول ك ان هو « الس بب » و البعد الث اين ك ان هو الغاية «
اهلدف ».
ال بد اذن من بعد ثالث لكي يكون هذا العمل داخال يف نطاق سنن التاريخ ،هذا
البعد الثالث هو ان يكون هلذا العمل أرضية تتجاوز ذات العامل ،ان تكون ارضية العمل
هي عبارة عن اجملتمع ،العمل الذي خيلق موجا ،هذا املوج يتعدى الفاعل نفسه ويكون
أرضيته اجلماعة اليت يكون هذا الفرد جزءا منها طبعا االمواج على اختالف درجاهتا هناك
م وج حمدود ،هن اك م وج كب ري .لكن العمل ال يك ون عمال تارخييا اال اذا ك ان له م وج
يتعدى حدود العامل الفردي ،قد يأكل الفرد اذا جاع ،
76
ويشرب اذا عطش ،وينام اذا أجس حباجته اىل النوم ،لكن هذه االعمال على الرغم من
اهنا اعمال هادفة أيضا تريدان حتقق غايات ولكنها اعمال ال ميتد موجها اكثر من العامل
خالفا لعمل يقوم به االنسان من خالل نشاط اجتماعي وعالقات متبادلة مع افراد مجاعته
،فمثال الت اجر حينما يعمل عمال جتاريا أو القائد حينما يعمل عمال حربيا أو السياسي
حينما ميارس عمال سياس يا ،املفكر حينما يتبىن وجهة نظر يف الك ون واحلي اة ،ه ذه
االعم ال م وج يتع دى ش خص العامل ،يتخذ من اجملتمع ارض ية له ،وميكننا ايضا ان
نس تعني مبص طلحات الفالس فة فنق ول :اجملتمع يش كل علة مادية هلذا العمل ،يتب دل من
مص طلحات الفالس فة التمي يز االرس طي بني العلة الفاعلية والعلة الغائية والعلة املادية ،هنا
نس تعني هبذه املص طلحات لتوض يح الفك رة .فنق ول اجملتمع يش كل علة مادية هلذا العمل ،
أي ارض ية العمل ،حلالة من ه ذا القبيل يعترب ه ذا العمل عمال تارخييا ويعترب عمال لالمة
وللمجتمع وان كان الفاعل املباشر يف مجلة من األحيان هو فرد واحد أو عدد من االفراد
ولكن باعتب ار املوج يعترب اجملتمع ،اذن العمل الت ارخيي ال ذي حتكمه س نن الت اريخ هو
العمل الذي يكون حامال لعالقة مع هدف وغاية ويكون يف نفس الوقت ذا ارضية اوسع
77
من حدود الفرد ،ذا موج يتخذ من اجملتمع علة مادية له وهبذا يكون عمل اجملتمع.
ويف الق رآن الك رمي جند متي يزا بني عمل الف رد وعمل اجملتمع ونالحظ يف الق رآن
الك رمي انه من خالل استعراضه للكتب الغيبية االحص ائية حتدث الق رآن عن كت اب للف رد
وحتدث عن كت اب لالمة ،عن كت اب حيصي على الف رد عمله وعن كت اب حيصي على
االمة عملها وه ذا متي يز دقيق بني العمل الف ردي ال ذي ينسب اىل الف رد وبني عمل االمة ،
بني العمل الذي له ثالثة ابعاد والعمل الذي له بعدان ،العمل الذي له بعدان ال يدخل اال
يف كتاب الفرد واما العمل الذي له ثالثة ابعاد فهو يدخل يف الكتابني .يدخل يف كتاب
االمة ويعرض على االمة وحتاسب االمة على أساسه .الحظوا قوله تعاىل « وترى كل أمة
جاثية كل أمة ت دعى الى كتابها الي وم تج زون ما كنتم تعمل ون .ه ذا كتابنا ينطق عليكم
بالحق انا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون » (.)1
هنا الق رآن الك رمي يتح دث عن كت اب لالمة ،أمة جاثية بني ي دي رهبا ويق دم هلا
كتاهبا ،يقدم هلا سجل نشاطها وحياهتا اليت مارستها كأمة ،هذا العمل اهلادف
__________________
( )1سورة اجلاثية :اآلية ( 28ـ .)29
78
ذو االبعاد الثالثة حيتوي هذا الكتاب ،وهذا الكتاب ـ انتبهوا اىل العبارة ـ يقول « انا كنا
نستنسخ ما كنتم تعملون » هذا الكتاب ليس تاريخ الطربي ال يسجل الوقائع الطبيعية ،
الفس لجية ،الفيزيائية ،امنا ميدد ويستنسخ ما ك انوا يعمل ون كأم ة .ما ك انت االمة تعمله
كأمة يعين العمل اهلادف ذو املوج حبيث يك ون العمل منس وبا لألمة وتك ون االمة م دعوة
اىل كتاهبا .ه ذا العمل هو ال ذي حيويه ه ذا الكت اب ،بينما يف آية اخ رى نالحظ قوله
س بحانه وتع اىل « وكل انس ان الزمن اه ط ائره في عنقه ونخ رج له ي وم القيامة كتابا يلق اه
منش ورا ،اق رأ كتابك كفى بنفسك الي وم عليك حس يبا »( )1هنا املوقف خيتلف ،هنا كل
انس ان مره ون بكتابه ،لكل انس ان كت اب ال يغ ادر ص غرية وال كب رية من اعماله من
حس ناته وس يئاته وهفواته وس قطاته من ص عوده ونزوله اال وهو حمصي يف ذلك الكت اب.
والكت اب ال ذي كتب بعلم من ال يغ رب عن علمه مثق ال ذرة يف االرض .كل انس ان قد
يفكر ان بامكانه ان خيفي نقطة ض عف ،ان خيفي ذنبا ،س يئة عن جريانه وقومه وامته ،
واوالده ،وحىت عن نفسه ،خيدع نفسه يرى انه مل يركب سيئة ولكن هذا الكتاب احلق
__________________
( )1سورة االسراء :اآلية (.)13
79
ال يغ ادر ص غرية وال كب رية اال أحص اها ،يف ذلك الي وم يق ال انت حاسب نفسك الن
هذه االعمال اليت مارستها سوف تواجهها يف هذا الكتاب ان حتكم على نفسك مبوازين
احلق يف يوم القيامة يف ذلك اليوم ال ميكن الي انسان ان خيفي شيئا عن املوقف ،عن اهلل
سبحانه وتعاىل ،وعن نفسه.
ه ذا كت اب الف رد وذاك كت اب االم ة .هن اك كت اب المة جاثية بني ي دي رهبا ،وهنا لكل
فرد كتاب .هذا التمييز النوعي القرآين بني كتاب االمة وكتاب الفرد تعبري آخر عما قلناه
من ان العمل الت ارخيي هو ذاك العمل ال ذي يتمثل يف كت اب االمة ،العمل ال ذي له ابع اد
ثالثة بل ان ال ذي يس تظهر ويالحظ من ع دد آخر من اآلي ات القرآنية الكرمية انه ليس
فقط يوجد كت اب للف رد ويوجد كت اب لالمة بل يوجد احض ار للف رد ويوجد احض ار
لالمة ،هنا احض ارات بني ي دي اهلل س بحانه وتع اىل االحض ار الف ردي ي أيت بكل انس ان
فردا فردا ،ال ميلك ناصرا وال معينا ،ال ميلك شيئاً يستعني به يف ذلك املوقف اال العمل
الصاحل والقلب السليم واالميان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله ،هذا هو االحضار الفردي.
ق ال اهلل تع اىل « ان كل من في الس موات واالرض اال آت ال رحمن عب دا ،لقد احص اهم
وعدهم عدا وكلهم آتيه
80
يوم القيامة فردا » ( )1هذا االحضار هو احضار فردي بني يدي اهلل تعاىل وهناك احضار
آخر ،احض ار للف رد يف وسط اجلماعة ،احض ار لالمة بني ي دي اهلل س بحانه وتع اىل كما
يوجد هناك سجالن كذلك يوجد احضاران « كما تقدم » ،ترى كل امة جاثية تدعى
اىل كتاهبا ،ذاك احض ار للجماعة ،واملس تأنس به من س ياق اآلي ات الكرمية انه ه ذا
االحضار الثاين يكون من اجل اعادة العالقات اىل نصاهبا احلق ،العالقات داخل االمة قد
تكون غري قائمة على اساس احلق ،فقد يكون االنسان املستضعف فيها جديرا بأن يكون
يف اعلى االمة ،هذه االمة تعاد فيها العالقات اىل نصاهبا احلق .هذا اليوم هو اليوم الذي
مساه الق رآن الك رمي بي وم التغ ابن ،كيف حيصل التغ ابن؟ ..حيصل التغ ابن عن طريق
اجتم اع اجملموعة مث كل انس ان ك ان مغبونا يف موقعه يف االمة ،يف وج وده يف االمة ،
بقدر ما كان مغبونا يف موقعه يف االمة يأخذ حقه ،يأخذ حقه يوم ال كلمة اال للحق.
الحظوا قوله تعاىل « يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن » ( .)1اذن فهناك
س جالن هن اك س جل لعمل الف رد ،وهن اك س جل لعمل االمة وعمل االمة هو عب ارة عما
قلناه يف العمل الذي يكون له ثالث ابعاد ،بعد من
__________________
( )1سورة التغابن :اآلية (.)9
81
ناحية العامل ما يس ميه ارس طو بـ « العلة الفاعلية » ،وبعد من ناحية اهلدف ما يس ميه
ارسطوا بـ « العلة الغائية » ،وبعد من ناحية االرضية وامتداد املوج ما يسمونه بـ « العلة
املادية » .هذا العمل ذو االبعاد الثالثة هو موضوع سنن التاريخ ،هذا هو عمل اجملتمع ،
لكن ال ينبغي ان ي وهم ذلك ما تومهه ع دد من املفك رين والفالس فة االورب يني من ان
اجملتمع كائن عمالق له وجود وحدوي عضوي متميز عن سائر االفراد وكل فرد ليس اال
مبثابة اخللية يف ه ذا العمالق الكبري « ،هك ذا تص ور هيجل مثال » ومجلة من الفالس فة
االوروب يني ،تص ورا عمل اجملتمع هبذا النحو ،أرادوا أن مييزوا بني عمل اجملتمع وعمل
الف رد فق ال بأنه يوجد عن دنا ك ائن عض وي واحد عمالق ه ذا الك ائن الواحد هو يف
احلقيقة يلف يف احش اءه وتن دمج يف كيانه كل االف راد .لكل ف رد يش كل خلية يف ه ذا
العمالق الواحد وهو يتخذ من كل ف رد ناف ذة على الواقع على الع امل بق در ما ميكن ان
جيسد يف ه ذا الف رد من قابلياته هو ومن ابداعه هو ،اذن كل قابلية وكل اب داع ،وكل
فكر هو تعبري عن ناف ذة من النوافذ اليت يعرب عنها ذلك العمالق اهليجلي ،ه ذا التص ور
اعتقد به مجلة من الفالسفة االوربيني متييزا لعمل اجملتمع عن عمل الفرد
82
اال ان ه ذا التص ور ليس ص حيحا ،ولس نا حباجة اليه واىل االغ راق يف اخلي ال اىل ه ذه
الدرجة لكي ننحت ه ذا العمالق االس طوري من ه ؤالء االف راد ،ليس عن دنا اال االف راد
زيد وبكر وخالد ،ليس عن دنا ذلك العمالق املس ترت من ورائهم « ،طبع اً مناقشة هيجل
من الزاوية الفلس فية خيرج من ح دود ه ذا البحث وم رتوك اىل حبث آخر » الن ه ذا
التفسري اهليجلي للمجتمع مرتبط حبسب احلقيقة بكامل اهليكل النظ ري لفلس فته اال ان
الش يء الذي نريد أن نعرفه موقع اقدامنا من ه ذا التصور ،ه ذا التصور ليس ص حيحا ،
حنن لسنا حباجة اىل مثل هذا االفرتاض االسطوري لكي منيز بني عمل الفرد وعمل اجملتمع
،الن التمي يز بني عمل الف رد وعمل اجملتمع يتم من خالل ما اوض حناه من البعد الث الث.
عمل الف رد هو العمل ال ذي يك ون له بع دان ف ان اكتسب بع دا ثالثا ك ان عمل اجملتمع ،
باعتبار ان اجملتمع يشكل أرضية له ،يشكل علة مادية له .يدخل حينئذ يف سجل كتاب
االمة اجلاثية بني يدي رهبا هذا هو ميزان الفرق بني العملني.
اذن الشيء الذي نستخلصه مما تقدم ان موضوع السنن التارخيية هو العمل اهلادف
الذي يشكل أرضية ويتخذ من اجملتمع او االمة أرضية له على اختالف سعة املوجة وضيق
املوجة هذا هو موضع السنن التارخيية.
83
الدرس السابع :
آن االوان لكي نتعرف على الصيغ املتنوعة اليت تتخذها السنة التارخيية القرآنية.
كيف يتم التعبري موضوعيا عن القانون التارخيي يف القرآن الكرمي؟
ما هي االشكال اليت تتخذها سنن التاريخ يف مفهوم القرآن الكرمي؟
هناك ثالثة أشكال تتخذها السنة التارخيية يف القرآن الكرمي ،ال بد من استعراضها
ومقارنتها والتدقيق يف أوجه الفرق بينها.
الش كل االول للس نة التارخيية هو ش كل القض ية الش رطية ،يف ه ذا الش كل تتمثل
السنة التارخيية يف قضية شرطية تربط بني حادثتني أو جمموعتني من احلوادث على الساحة
التارخيية وتؤكد العالقة املوضوعية بني الشرط واجلزاء ،وانه مىت ما حتقق
84
الشرط حتقق اجلزاء وهذه صياغة جندها يف كثري من القوانني والسنن الطبيعية والكونية يف
خمتلف الساحات االخرى.
فمثال :حينما نتح دث عن ق انون ط بيعي لغلي ان املاء ،نتح دث بلغة القض ية
الش رطية ،نق ول ب أن املاء اذا تع رض اىل احلرارة وبلغت احلرارة درجة معينة مائة مثال يف
مس توى معني من الض غط ،حينئذ س وف حيدث الغلي ان ه ذا ق انون ط بيعي يربط بني
الش رط واجلزاء ويؤكد ان حالة التع رض اىل احلرارة ،ض من مواص فات معينة ت ذكر يف
ط رف الش رط تس تتبع حادثة طبيعية معينة ،وهي غلي ان ه ذا املاء « حتول ه ذا املاء من
س ائل اىل غ از » ه ذا الق انون مص اغ على هنج القض ية الش رطية ومن الواضح ان ه ذا
القانون الطبيعي ال ينبئنا شيئاً عن حتقق الشرط وعدم حتققه ،ال ينبئنا هذا القانون الطبيعي
عن ان املاء سوف يتعرض للحرارة او ال يتعرض للحرارة هل ان درجة حرارة املاء ترتفع
اىل الدرجة املطلوبة ض من ه ذا الق انون او ال ترتف ع؟ ه ذا الق انون ال يتع رض اىل م دى
وجود الشرط وعدم وجوده ،وال ينبئنا بشيء عن حتقق الشرط اجيابا او سلبا ،وامنا ينبئنا
عن ان اجلزاء ال ينفك عن الش رط ،فمىت ما وجد الش رط وجد اجلزاء ،فالغلي ان نتيجة
مرتبطة
85
موض وعيا بالش رط ه ذا هو متام ما ينبئنا عنه ه ذا الق انون املص اغ بلغة القض ية الش رطية ،
ومثل هذه القوانني تقدم خدمة كبرية لالنسان يف حياته االعتيادية وتلعب دورا عظيما يف
توجيه االنسان ،الن االنس ان ضمن تعرفه على هذه الق وانني يصبح بامكانه ان يتصرف
بالنسبة اىل اجلزاء ففي كل حالة يرى انه حباجة اىل اجلزاء يعمل هذا القانون ليوفر شروط
ه ذا الق انون ،ففي كل حالة يك ون اجلزاء متعارضا مع مص احله ومش اعره حياول احليلولة
دون توفر شروط هذا القانون .مىت ما كان غليان املاء مقصودا لالنسان يطبق شروط هذا
الق انون ومىت مل يكن مقص ودا لالنس ان حياول ان ال تتطبق ش روط ه ذا الق انون .اذن
الق انون املوض وعي بنهج القض ية الش رطية موجه عملي لالنس ان يف حياته ومن هنا تتجلى
حكمة اهلل س بحانه وتع اىل يف ص ياغة نظ ام الك ون على مس توى الق وانني وعلى مس توى
الروابط املضطردة والسنن الثابتة الن صياغة الكون ضمن روابط مضطردة وعالقات ثابتة
هو الذي جيعل االنسان يتعرف على موضع قدميه وعلى الوسائل اليت جيب ان يسلكها يف
س بيل تك ييف بيئته وحياته والوص ول اىل اش باع حاجته لو ان الغلي ان يف املاء ك ان حيدث
صدفة ومن دون رابطة قانونية مضطردة مع حادثة اخرى
86
ك احلرارة ،اذن ملا اس تطاع االنس ان ان يتحكم يف ه ذه الظ اهرة ،ان خيلق ه ذه الظ اهرة
مىت ما ك انت حياته حباجة اليها وان يتفاداها مىت ما ك انت حياته حباجة اىل تفاديها ،امنا
ك ان له ه ذه الق درة باعتب ار ان ه ذه الظ اهرة وض عت يف موضع ث ابت من س نن الك ون
وط رح على االنس ان الق انون الطبيعي من لغة القض ية الش رطية فأص بح ينظر يف نور ال يف
ظالم ويستطيع يف ضوء هذا القانون الطبيعي ان يتصرف ،نفس الشيء جنده يف الشكل
االول من الس نن التارخيية القرآنية ف ان ع ددا كب ريا من الس نن التارخيية يف الق رآن قد منت
ص ياغته على ش كل القض ية الش رطية اليت تربط ما بني ح ادثتني اجتم اعيتني او ت ارخييتني
فهي ال تتح دث عن احلادثة االوىل « اهنا مىت توجد ،ومىت ال توجد » لكن تتح دث عن
احلادثة الثانية بأنه « مىت ما وجدت احلادثة االوىل ،وجدت احلادثة الثانية ».
قرأنا يف ما س بق استعراضا لآلي ات الكرمية اليت ت دل على س نن الت اريخ يف الق رآن
مجلة من تلك اآلي ات الكرمية مفادها هو الس نة التارخيية بلغة القض ية الش رطية ،تت ذكرون
ما قرأناه سابقا « ان اهلل ال يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » ( .)1هذه السنة
__________________
( )1سورة الرعد :اآلية (.)11
87
التارخيية للقرآن واليت تقدم الكالم عنها ويأيت انشاء اهلل احلديث عن شرح حمتواها ،هذه
السنة التارخيية للقرآن بينت بلغة القضية الشرطية الن مرجع هذا املفاد القرآين اىل ان هناك
عالقة بني تغي ريين ،بني تغيري احملت وى ال داخلي لالنس ان وتغيري الوضع الظ اهري للبش رية
واالنسانية ،مفاد هذه العالقة قضية شرطية ،انه مىت ما وجد ذاك التغيري يف انفس القوم
وجد هذا التغيري يف بناء القوم وكيان القوم ،هذه القضية قضية شرطية بني القانون فيها
بلغة القضية الشرطية « .والو استقاموا على الطريقة السقيناهم ماءا غدقا » (.)1
قلنا يف ما س بق ان ه ذه اآلية الكرمية تتح دث عن س نة من س نن الت اريخ ،عن س نة تربط
وفرة االنتاج بعدالة التوزيع هذه السنة ايضا هي بلغة القضية الش رطية كما هو الواضح من
ص ياغتها النحوية ايض ا « .واذا أردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففس قوا فيها فحق عليها
القول فدمرناها تدمير » ( )2ايضا سنة تارخيية بينت بلغة القضية الشرطية ربطت بني امرين
،بني ت أمري الفس اق واملرتفني يف اجملتمع وبني دم ار ذلك اجملتمع واحنالله ،ه ذا الق انون
التارخيي ايضا مبني على هنج القضية
__________________
( )1سورة اجلن :اآلية (.)16
( )2سورة االسراء :اآلية (.)16
88
الش رطية ،فهو ال ي بني انه مىت وجد الش رط ،لكن ي بني مىت ما وجد ه ذا الش رط يوجد
اجلزاء ،هذا هو الشكل االول من اشكال السنة التارخيية يف القرآن.
الش كل الثاين الذي تتخ ذه السنن التارخيية ش كل القض ية الفعلية الن اجزة الوجودية
احملققة وهذا الشكل ايضا جند له امثلة وشواهد يف القوانني الطبيعية والكونية .مثالً :العامل
الفلكي حينما يصدر حكما علميا على ضوء قوانني مسارات الفلك بأن الشمس سوف
تنكسف يف اليوم الفالين ،أو أن القمر سوف ينخسف يف اليوم الفالين هذا قانون علمي
وقض ية علمية ،اال أهنا قض ية وجودية ن اجزة ،وليست قض ية ش رطية ،ال ميلك االنس ان
اجتاه ه ذه القض ية أن يغري من ظروفها وأن يع دل من ش روطها ،الهنا مل ت بني كلغة قض ية
ش رطية ،وامنا بينت على مس توى القض ية الفعلية الوجودية ،الش مس س وف تنكسف ،
القمر س وف ينخسف ،ه ذه قض ية فعلية تنظر اىل الزم ان اآليت وخترب عن وق وع ه ذه
احلادثة على أي ح ال ،وك ذلك الق رارات العلمية اليت تص در عن االن واء اجلوية ،املطر
ينهمر على املنطقة الفالنية ،ه ذا أيضا يعرب عن قض ية فعلية وجودية مل تصغ بلغة القض ية
الشرطية وامنا صيغت بلغة التنجيز والتحقيق بلحاظ زمان معني
89
ومكان معني ،هذا هو الشكل الثاين من السنن التارخيية وسوف اذكر فيما بعد انشاء اهلل
عند حتليل عناصر اجملتمع اىل أمثلة هذا الشكل من القرآن الكرمي.
هذا الشكل من السنن التارخيية هو الذي أوحى يف الفكر االورويب بتوهم التعارض
بني فك رة س نن الت اريخ وفك رة اختي ار االنس ان وارادته ،نشأ ه ذا الت وهم اخلاطيء ال ذي
يقول بأن فكرة سنن التاريخ ال ميكن أن جتتمع اىل جانب فكرة اختيار االنسان الن سنن
التاريخ هي اليت تنظم مسار االنسان وحياة االنسان اذن ماذا يبقى الرادة االنسان؟ هذا
الت وهم أدى اىل أن بعض املفك رين ي ذهب اىل ان االنس ان له دور س ليب فقط حفاظا على
سنن التاريخ وعلى موضوعية هذه السنن ،ضحى باختيار االنسان من أجل احلفاظ على
سنن التاريخ فقال بأن االنسان دوره دور سليب وليس دورا اجيابيا ،يتحرك كما تتحرك
االلة وفقا لظروفها املوضوعية ،ولعله يأيت بعض التفصيل أيضا عن هذه الفكرة ،وذهب
بعض آخر يف مقام التوفيق ما بني هاتني الفكرتني ولو ظاهريا اىل أن اختيار االنسان نفسه
هو ايضا خيضع لسنن التاريخ ولقوانني التاريخ ،ال نضحي باختيار االنسان ،لكن نقول
بان اختيار االنسان لنفسه حادثة تارخيية ايضا ،اذن هو بدوره
90
خيضع للس نن ه ذه تض حية باختي ار االنس ان لكن بص ورة مبطنة ،بصورة غري مكشوفة ،
وذهب بعض آخر اىل التض حية بس نن الت اريخ حلس اب اختي ار االنس ان ف ذهب مجلة من
املفكرين االوروبيني اىل أنه ما دام االنسان خمتارا فالب ّد من أن تستثىن الساحة التارخيية من
الس احات الكونية يف مق ام التق نني املوض وعي ،ال بد وان يق ال بأنه ال س نن موض وعية
للس احة التارخيية حفاظا على ارادة االنس ان وعلى اختي ار االنس ان وه ذه املواقف كلها
خاطئة الهنا مجيعا تق وم على ذلك ال وهم اخلاطئ ،وهم االعتق اد بوج ود تن اقض أساسي
بني مقولة السنة التارخيية ومقولة االختيار ،وهذا التوهم نشأ من قصر النظر على الشكل
الث اين من اش كال الس نة التارخيية أي قصر النظر على الس نة التارخيية املص اغة بلغة القض ية
الفعلية الوجودية الن اجزة .لو كنا نقصر النظر على ه ذا الش كل من س نن الت اريخ ولو كنا
نقول بأن هذا الشكل هو الذي يستوعب كل الساحة التارخيية ال يبقي فراغا لذي فراغ
لكان هذا التوهم واردا ،ولكنا ميكننا ابطال هذا التوهم عن طريق االلتفات اىل الشكل
االول من اشكال السنة التارخيية الذي تصاغ فيه السنة التارخيية بوصفها قضية شرطية ،
وكثريا ما تكون هذه القضية الشرطية يف شروطها معربة عن ارادة االنسان واختيار
91
االنسان ،يعين ان اختيار االنسان ميثل حمور القضية الشرطية « شرط القضية الشرطية »
اذن فالقض ية الش رطية كامثلة اليت ذكرناها من الق رآن الك رمي تتح دث عن عالقة بني
الشرط واجلزاء ،لكن ما هو الشرط؟
الشرط :هو فعل االنسان ،هو ارادة االنسان « ان اهلل ال يغير ما بقوم حتى يغ يروا
ما بأنفس هم » ( ، )1التغيري هنا أس ند اليهم فهو فعلهم ،اب داعهم وارادهتم .اذن الس نة
التارخيية حينما تصاغ بلغة القضية الشرطية وحينما ميثل ابداع االنسان واختياره موضوع
الش رط يف ه ذه القض ية الش رطية ،يف مثل ه ذه احلالة تص بح ه ذه الس نة متالئمة متاما مع
اختي ار االنس ان بل أن الس نة حينئذ تقضي اختي ار االنس ان ،تزي ده اختي ارا وق درة ومتكنا
من التص رف يف موقفه ،كيف أن ذلك الق انون الط بيعي للغلي ان ك ان يزيد من ق درة
االنسان النه يستطيع حينئذ ان يتحكم يف الغليان بعد أن عرف شروطه وظروفه ،كذلك
الس نن التارخيية ذات الص يغ الش رطية ،هي يف احلقيقة ليست على حس اب ارادة االنس ان
وليست نقيضا الختيار االنسان بل هي مؤكدة الختيار االنسان وتوضح لالنسان نتائج ،
لكي يستطيع أن يقتبس ما يريده من هذه النتائج ،لكي
__________________
( )1سورة الرعد :اآلية (.)11
92
يستطيع ان يتعرف على الطريق الذي يسلك به اىل هذه النتيجة او اىل تلك النتيجة فيسري
على ضوء وكتاب منري هذا هو الشكل الثاين للسنة التارخيية.
الشكل الثالث للسنة التارخيية وهو شكل اهتم به القرآن الكرمي اهتماما كبريا ،هو
الس نة التارخيية املص اغة على ص ورة اجتاه ط بيعي يف حركة الت اريخ ال على ص ورة ق انون
ص ارم ح دي وف رق بني االجتاه والق انون ولكي تتضح الفك رة يف ذلك البد وان نط رح
الفك رة االعتيادية اليت نعيش ها يف اذهاننا عن الق انون ،الق انون العلمي كما نتصوره ع ادة
عبارة عن تلك السنة اليت ال تقبل التحدي من قبل االنسان ،الهنا قانون من قوانني الكون
والطبيعة فال ميكن لالنسان ان يتحداها ،أن ينقضها ،أن خيرج عن طاعتها ،ميكنه ان ال
يص لي الن وج وب الص الة حكم تش ريعي وليس قانونا تكوينيا ،ميكنه أن يش رب اخلمر
الن حرمة اخلمر ق انون تش ريعي وليس قانونا تكوينيا ،لكنه ال ميكنه ان يتح دى الق وانني
الكونية والسنن املوضوعية ،مثال ال ميكنه أن جيعل املاء ال يغلي اذا توفرت شروط الغليان
،ال ميكنه ان يتح دى الغلي ان وان ي ؤخر الغلي ان حلظة عن موع ده املعني الن ه ذا ق انون
والقانون صارم والصرامة تأىب التحدي .هذه هي الفكرة اليت نتصورها عادة عن
93
الق وانني وهي فك رة ص حيحة اىل حد ما ،لكن ليس من الض روري ان تك ون كل س نة
طبيعية موض وعية على ه ذا الش كل حبيث ت أىب التح دي وال ميكن حتديها من قبل االنس ان
هبذه الطريقة بل هناك اجتاهات موضوعية يف حركة التاريخ ويف مسار االنسان اال ان هذه
االجتاه ات هلا ش يء من املرونة حبيث اهنا تقبل التح دي ولو على ش وط قصري ،وان مل
تقبل التحدي على شوط طويل ،لكن على الشوط القصري تقبل التحدي أنت ال تستطيع
أن تؤخر موعد غليان املاء حلظة ،لكن تستطيع أن جتمد هذه االجتاهات حلظات من عمر
التاريخ لكن هذا ال يعين أهنا ليست اجتاهات متثل واقعا موضوعيا يف حركة التاريخ ،هي
اجتاه ات ولكنها مرنة تقبل التح دي لكنها حتطم املتح دي حتطمه بس نن الت اريخ نفس ها ،
ومن هنا كانت اجتاهات :هناك اشياء ميكن حتديها دون ان يتحطم املتحدي ،لكن هناك
اشياء ميكن تتحدى على شوط قصري ولكن املتحدي يتحطم على سنن التاريخ نفس ها ،
هذه هي طبيعة االجتاهات املوضوعية يف حركة التاريخ .لكي أقرب الفكرة اليكم نستطيع
أن نق ول ب أن هن اك اجتاها يف ت ركيب االنس ان ويف تك وين االنس ان اجتاها موض وعيا ال
تشريعيا اىل اقامة العالقات املعينة بني
94
الذكر واالنثى يف جمتمع االنسان ضمن اطار من أطر النكاح واالتصال ،هذا االجتاه ليس
تش ريعيا ليس تقنينا اعتباريا وامنا هو اجتاه موض وعي اعملت العناية يف س بيل تكوينه يف
مس ار حركة االنس ان ،ال نس تطيع أن نق ول أن ه ذا جمرد ق انون تش ريعي ،جمرد حكم
ش رعي ،ال وامنا ه ذا اجتاه ركب يف طبيعة االنس ان ويف ت ركيب االنس ان وهو االجتاه اىل
االتص ال بني ال ذكر واالن ثى وادامة الن وع عن طريق ه ذا االتص ال ض من اط ار من أطر
النكاح االجتماعي .هذه سنة لكنها سنة على مستوى االجتاه ،ال على مستوى القانون
..ملاذا؟ الن التحدي هلذه السنة حلظة او حلظات ممكن ،أمكن لقوم لوط أن يتحدوا هذه
السنة فرتة من الزمن بينما مل يكن بامكاهنم ان يتحدوا سنة الغليان بشكل من االشكال ،
اال ان حتدي هذه السنة يؤدي اىل أن يتحطم االنسان ،اجملتمع الذي يتحدى هذه السنة
يكتب بنفسه فن اء نفسه النه يتح دى ذلك عن طريق ال وان اخ رى من الش ذوذ ت ؤدي اىل
فن اء اجملتمع واىل خ راب اجملتمع ومن هنا ك ان ه ذا اجتاها موض وعيا يقبل التح دي على
شوط قصري ،لكن ال يقبل التحدي على شوط طويل النه سوف حيطم املتحدي
95
بنفسه .االجتاه اىل توزيع امليادين بني املرأة والرجل هذا االجتاه اجتاه موضوعي وليس اجتاها
ناشئا من قرار تشريعي ،اجتاه ركب يف طبيعة الرجل واملرأة ،ولكن هذا االجتاه ميكن ان
يتح دى ،ميكن استص دار تش ريع يف رض على الرجل ب أن يبقى يف ال بيت ليت وىل دور
احلض انة والرتبية وان خترج املرأة اىل اخلارج لكي تت وىل مش اق العمل واجلهد ،ه ذا
باالمك ان ان يتحقق عن طريق تش ريع معني وهبذا حيصل التح دي هلذا االجتاه لكن ه ذا
التح دي س وف لن يس تمر الن س نن الت اريخ س وف جتيب على ه ذا التح دي الننا هبذا
س وف خنسر وجنمد كل تلك القابلي ات اليت زودت هبا املرأة من قبل ه ذا االجتاه ملمارسة
دور احلض انة واالمومة وس وف خنسر كل تلك القابلي ات اليت زود هبا الرجل من اجل
ممارسة دور يتوقف على اجللد والصرب والثب ات وط ول النفس كما أن من قبيل ان تس لم
بناية تس لم جنارياهتا اىل ح داد وح دادياهتا اىل جنار ميكن ان تص نع هك ذا وميكن ان تنشأ
البناية أيضا لكن ه ذه البناية س وف تنه ار ،س وف لن يس تمر ه ذا التح دي على ش وط
طويل سوف يتقطع يف شوط قصري كل اجتاه من هذا القبيل هو يف احلقيقة سنة موضوعية
من س نن الت اريخ ومن س نن حركة االنس ان ولكنها س نة مرنة تقبل التح دي على الش وط
القصري
96
ولكنها جتيب على ه ذا التح دي واهم مص داق يعرضه الق رآن الك رمي هلذا الش كل من
الس نن هو ال دين ،الق رآن الك رمي ي رى أن ال دين نفسه س نة من س نن الت اريخ ،س نة
موض وعية من س نن الت اريخ ليس ال دين فقط تش ريعا وامنا هو س نة من س نن الت اريخ وهلذا
يعرض الدين على شكلني تارة يعرضه بوصفه تشريعا كما يقول علم االصول ،بوصفه
ارادة تشريعية مثال يقول « شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما
وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن اقيموا الدين وال تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما
تدعوهم اليه » (.)1
هنا يبني الدين كتشريع ،كقرار ،كأمر من اهلل سبحانه وتعاىل لكن يف جمال آخر
يبينه سنة من سنن التاريخ وقانون داخل يف صميم تركيب االنسان وفطرة االنسان قال
سبحانه وتعاىل « فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة اهلل التي فطر الناس عليها ال تبديل لخلق
اهلل ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس ال يعلمون » (.)2
هنا الدين مل يعد جمرد قرار وتشريع من أعلى وامنا الدين هنا فطرة للناس ،
__________________
( )1سورة الشورى :اآلية (.)13
( )2سورة النون :اآلية (.)30
97
فطرة اهلل اليت فطر عليها الناس وال تبديل خللق اهلل .هذا الكالم كالم موضوعي خربي ال
تش ريعي انش ائي ،ال تب ديل خللق اهلل ،وهك ذا انك ال ميكنك ان تن تزع من االنس ان أي
ج زء من اج زاءه اليت تقومه ،ك ذلك ال ميكنك ان تن تزع من االنس ان دينه ،ال دين ليس
مقولة حض ارية مكتس بة على مر الت اريخ ميكن اعطاؤها وميكن االس تغناء عنها الهنا يف
حالة من هذا القبيل ال تكون فطرة اهلل اليت فطر الناس عليها وال تكون خلق اهلل الذي ال
تب ديل له ،بل تك ون من املكاسب اليت حصل عليها االنس ان من خالل تطوراته املدنية
واحلضارية على مر التاريخ .القرآن يريد ان يقول بأن الدين ليس مقولة من هذه املقوالت
باالمك ان اخ ذها وباالمك ان عطاؤها ،ال دين خلق اهلل ،فط رة اهلل اليت فطر الن اس عليها
وال تب ديل خللق اهلل يف ه ذا الكالم « ال » ليست ناهية بل نافية يعين ه ذا ال دين ال ميكن
أن ينفك عن خلق اهلل ما دام االنس ان انس انا فال دين يعترب س نة هلذا االنس ان .ه ذه س نة
ولكنها ليست سنة صارمة على مستوى الغليان ،سنة تقبل التحدي على الشوط القصري
كما ك ان بامك ان حتدي س نة النك اح اللق اء الط بيعي وال تزواج الط بيعي ،كما ك ان
باالمكان حتدي ذلك عن طريق الشذوذ اجلنسي ،لكن على شوط قصري كذلك
98
ميكننا حتدي هذه السنة على شوط قصري عن طريق االحلاد وغمض العني عن هذه احلقيقة
الك ربى بأمك ان االنس ان ان ال ي رى الش مس ،أن يغمض عينه عن الش مس ويلحد وال
ي رى ه ذه احلقيقة ولكن ه ذا التح دي ال يك ون اال على ش وط قصري الن العق اب س وف
ينزل بامللحدين ،العقاب هنا ليس مبعىن العقاب الذي ينزل على من يرتكب خمالفة شرعية
على يد مالئكة الع ذاب يف الس ماء يف ي وم القيامة ليس هو ذاك العق اب ال ذي ي نزل على
من خيالف الق انون على يد الش رطي ،يض ربه بالعصا على رأسه ،وامنا العق اب هنا ي نزل
من س نن الت اريخ نفس ها تف رض العق اب على كل أمة تريد أن تب دل خلق اهلل س بحانه
وتعاىل ،وال تبديل خللق اهلل « ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف اهلل وعده وان يوما عند
ربك كألف سنة مما تعدون » (.)1
حنن نقول بأن السنن التارخيية من الشكل الثالث اذا حتداها االنسان فسوف يأخذ
العق اب من الس نن التارخيية ،س رعان ما ي نزل عليه العق اب من الس نن التارخيية نفس ها «
كلمة س رعان هنا جيب أن تؤخذ مبعىن الس رعة التارخيية ال الس رعة اليت نفهمها يف حياتنا
االعتيادية » وهذا ما أرادت أن تبينه هذه
__________________
( )1سورة احلج :اآلية (.)47
99
اآلية يف املق ام تتح دث عن الع ذاب واقعه يف س ياق الع ذاب اجلم اعي ال ذي ن زل ب القرى
الس ابقة الظاملة مث بعد ذلك يتح دث عن اس تعجال الن اس يف اي ام رس ول اهلل (ص) الن اس
يستعجلون الرسول (ص) ويقولون له أين هذا العقاب ،اين هذا العذاب؟ ملاذا ال ينزل بنا
حنن االن كفرنا حتديناك مل ن ؤمن بك ،ص ممنا آذاننا عن قرآنك ملاذا ال ي نزل بنا ه ذا
العذاب؟ هنا القرآن يتحدث عن السرعة التارخيية اليت ختتلف عن السرعة االعتيادية يقول
« ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف اهلل وعده »( ، )1الهنا سنة ،والسنة التارخيية ثابتة ،
لكن « وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون » ( .)2اليوم الواحد يف سنن التاريخ عند
ربك باعتب ار أن س نن الت اريخ هي كلم ات اهلل كما قرأنا يف ما س بق ،كلم ات اهلل س نن
الت اريخ .اذن يف كلم ات اهلل .يف س نن اهلل ،الي وم الواحد « املهلة القص رية » هي ألف
سنة .طبعا يف آية أخرى عرب خبمسني ألف سنة ،لكن اريد بذلك أيام القيامة ال يوم الدنيا
وهذا هو وجه اجلمع بني اآليتني ،الكلمتني .يف آية أخرى قيل « تعرج المالئكة والروح
اليه في يوم كان مقداره
__________________
( )1سورة احلج :اآلية (.)47
( )2نفس اآلية السابقة.
100
خمس ين ألف س نة فاص بر ص برا جميال انهم يرونه بعي دا ون راه قريبا ي وم تك ون الس ماء
كالمهل » (.)1
هذا ناظر اىل يوم القيامة ،اىل يوم تكون السماء كاملهل فيوم القيامة قدر خبمسني
ألف سنة أما هنا يتكلم عن يوم توقيت نزول العذاب اجلماعي وفقا لسنن التاريخ يقول
وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون اذن فهذا شكل ثالث من السنن التارخيية ،هذا
الش كل هو عب ارة عن اجتاه ات موض وعية من مس ار الت اريخ ويف حركة االنس ان ويف
ت ركيب االنس ان ،ميكن ان يتح دى على الش وط القصري ولكن س نن الت اريخ ال تقبل
التح دي على الش وط الطويل اال أن الش وط القصري والطويل هنا ليس حبسب طموحاتنا ،
حبسب حياتنا االعتيادية ي وم أو ي ومني الن الي وم الواحد يف كلم ات اهلل ويف س نن اهلل
كألف سنة مما حنسب ،هذا هو الشكل الثالث ،الدين هو املثال الرئيسي للشكل الثالث
من أجل ان نع رف ان ال دين ليس س نة من س نن الت اريخ ..ما هو دوره؟ ما هو موقع ه؟
ملاذا أصبحت سنة من سنن التاريخ ليس جمرد تشريع وامنا هو سنة ،يعين حاجة اساسية
موضوعية حاله حال قانون الزوجية بني الذكر واالنثى هو سنة
__________________
( )1سورة املعارج :اآلية ( 4ـ .)8
101
موض وعية ملاذا ص ار هك ذا؟ وكيف ص ار هك ذا؟ وما هو دوره كس نة تارخيية من س نن
التاريخ؟
لكي نع رف ذلك جيب أن نأخذ اجملتمع وحنلل عناصر اجملتمع على ض وء الق رآن
الكرمي لنصل اىل مغزى قولنا ان الدين سنة من سنن التاريخ.
كيف حنلل اجملتم ع؟ حنلل عناصر اجملتمع على ض وء ه ذه اآلية الكرمية « واذ ق ال
ربك للمالئكة اني جاعل في االرض خليفة ،ق الوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويس فك
الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ،قال اني اعلم ما ال تعلمون » (.)1
على ض وء ه ذه اآلية اليت تعطينا أروع وادق وأعمق ص يغة لتحليل عناصر اجملتمع
س وف ن درس ه ذه العناصر ونق ارن ما بينها لنع رف يف النهاية أن ال دين س نة من س نن
التاريخ.
__________________
( )1سورة البقرة :اآلية (.)30
102
الدرس الثامن :
قلنا ب أن توض يح واقع ه ذه الس نة القرآنية يف س نن الت اريخ يتطلب منا ان حنلل
عناصر اجملتمع ،ما هي عناصر اجملتمع من زاوية نظر الق رآن الك رمي ،ما هي مقوم ات
املركب االجتماعي ،كيف يتم التنفيذ بني هذه العناصر واملقومات وضمن أي اطار وأي
س نن؟ ه ذه االس ئلة حنصل على جواهبا يف النص الق رآين الش ريف ال ذي حتدث عن خلق
االنسان االول « واذ قال ربك للمالئكة اني جاعل في االرض خليفة قالوا اتجعل فيها من
يفسد فيها ويس فك ال دماء ونحن نس بح بحم دك ونق دس لك » ( .)1حينما نستعرض ه ذه
اآلية الكرمية جند ان اهلل سبحانه وتعاىل ينبأ املالئكة بأنه قرر انشاء جمتمع على االرض فما
هي العناصر اليت تتحدث عن هذه احلقيقة العظيمة؟ هناك ثالثة عناصر ميكن استخالصها
من العبارة القرآنية :
____________
( )1سورة البقرة :اآلية (.)30
103
1ـ االنسان.
2ـ االرض أو الطبيعة على وجه عام « اني جاعل في االرض خليفة » فهناك ارض
او طبيعة على وجه عام وهناك االنسان الذي جيعله اهلل سبحانه وتعاىل على االرض.
3ـ العالقة املعنوية اليت تربط االنس ان ب ارض وبالطبيعة وتربط من ناحية اخ رى
االنسان بأخيه االنسان هذه العالقة املعنوية اليت مساها القرآن الكرمي باالستخالف ،هذه
هي عناصر اجملتمع ،االنس ان والطبيعة والعالقة املعنوية اليت تربط االنس ان بالطبيعة من
ناحية وتربط االنس ان باخيه االنس ان من ناحية اخ رى وهي العالقة اليت مسيت قرآنيا
باالستخالف .وحنن حينما نالحظ اجملتمعات البشرية جند اهنا مجيعا تشرتك بالعنصر االول
والعنصر الث اين ،فال يوجد جمتمع ب دون انس ان يعيش مع أخيه االنس ان وال يوجد جمتمع
ب دون ارض او طبيعة ميارس االنس ان عليها دوره االجتم اعي ويف ه ذين العنص رين تتفق
اجملتمع ات التارخيية والبش رية .واما العنصر الث الث :ففي كل جمتمع عالقة كما ذكرنا
ولكن اجملتمعات ختتلف طبيعة هذه العالقة ويف كيفية صياغتها.
فالعنصر الثالث هو العنصر املرن واملتحرك من
104
عناصر اجملتمع وكل جمتمع يبين ه ذه العالقة بش كل قد يتفق وقد خيتلف مع طريقة بن اء
اجملتمع االخر هلا .وه ذه العالقة هلا ص يغتان اح دمها ص يغة رباعية وقد اطلق عليها اسم «
الصيغة الرباعية » واالخرى صيغة ثالثية.
الص يغة الرباعية :هي الص يغة اليت ترتبط مبوجبها الطبيعة واالنس ان مع االنس ان ،
ه ذه اط راف ثالثة فالعالقة اذن اختذت ص يغة تربط مبوجبها بني ه ذه االط راف وهي
الطبيعة واالنس ان مع اخيه االنس ان ولكن مع اف رتاض ط رف رابع ايضا ،الص يغة الرباعية
تربط بني ه ذه وه ذا الط رف الرابع ليس داخال يف اط ار اجملتمع وامنا خ ارج عن اط اره.
ولكن الص يغة الرباعية للعالقة االجتماعية تعترب ه ذا الط رف الرابع مقوما من املقوم ات
االساس ية للعالقة االجتماعية على رغم خروجه خ ارج اط ار اجملتمع ،وه ذه الص يغة
الرباعية للعالقة االجتماعية ذات االبع اد االربعة هي اليت طرحها الق رآن الك رمي حتت اسم
االستخالف.
االس تخالف اذن هو العالقة االجتماعية من زاوية نظر الق رآن الك رمي وعند حتليل
االس تخالف جند انه ذو اربعة اط راف النه يف رتض مس تخلفا ايض ا .ال بد من مس تخلف
ومستخلف عليه ،ومستخلف .فهناك
105
اض افة اىل االنس ان واخيه االنس ان والطبيعة يوجد ط رف رابع يف طبيعة وتك وين عالقة
االس تخالف وهو املس تخلف اذ ال اس تخالف ب دون مس تخلف ،فاملس تخلف هو اهلل
س بحانه وتع اىل واملس تخلف هو االنس ان واخ وه االنس ان ،أي االنس انية ككل اجلماعة
البش رية واملس تخلف عليه هو االرض وما عليها ومن عليها فالعالقة االجتماعية ض من
ص يغة االس تخالف تك ون ذات اط راف اربعة وه ذه الص يغة تنطبق بوجهة نظر معينة حنو
احلياة والكون بوجهة نظر قائلة بانه ال سيد وال اله للكون وللحياة اال اهلل سبحانه وتعاىل
وان دور االنس ان يف ممارسة حياته امنا هو دور االس تخالف واالس تئمام وأي عالقة تنشأ
بني االنس ان والطبيعة فهي يف جوهرها ليست عالقة مالك مبمل وك وامنا هي عالقة امني
على امانة اس تؤمن عليها وأي عالقة تنشأ بني االنس ان واخيه االنس ان مهما ك ان املركز
االمجاعي هلذا او ل ذاك فهي عالقة اس تخالف وتفاعل بق در ما يك ون ه ذا االنس ان مؤديا
لواجبه هبذه اخلالفة وليس عالقة س يادة أو الوهية او مالكية ،ه ذه الص يغة االجتماعية
الرباعية االط راف اليت ص اغها الق رآن الك رمي حتت اسم االس تخالف ترتبط بوجهة النظر
املعينة للحياة والكون .يف مقابلها يوجد للعالقة االجتماعية صيغة ثالثية االطراف ،صيغة
تربط بني
106
االنس ان واالنس ان والطبيعة ولكنها تقطع ص لة ه ذه االط راف مع الط رف الرابع ،جترد
ت ركيب العالقة االجتماعية عن البعد الرابع ،عن اهلل س بحانه وتع اىل .وهبذا تتح ول نظ رة
كل جزء اىل اجلزء االخر داخل هذا الرتكيب وداخل هذه الصيغة.
وج دت االل وان املختلفة للملكية والس يادة ،س يادة االنس ان على أخيه االنس ان
باش كاهلا املختلفة اليت استعرض ها الت اريخ بعد ان عطل البعد الرابع وبعد ان اف رتض ان
البداية هي االنس ان ،حينئذ تن وعت على مس رح الص يغة الثالثية اش كال امللكية واش كال
السيادة ،سيادة االنسان على اخيه االنسان.
وبالت دقيق يف املقارنة بني الص يغتني ،الص يغة الرباعية والص يغة الثالثية يتضح ان
اض افة الط رف الرابع للص يغة الرباعية ليس جمرد اض افة عددية ،ليس جمرد ط رف جديد
يض اف اىل االط راف االخ رى بل ان ه ذه االض افة حتدث تغي ريا نوعيا يف بنية العالقة
االجتماعية ويف تركيب االطراف الثالثة االخرى نفسها ،ليس هذا جمرد عملية مجع ثالثة
زائد واحد ،بل ه ذا الواحد ال ذي يض اف اىل الثالثة س وف يعطي للثالثة روحا أخ رى
ومفهوما آخر ،س وف حيدث تغي ريا اساس يا يف كنية ه ذه العالقة ذات االط راف االربعة
كما رأينا ،
107
اذ يعود االنس ان مع اخيه االنس ان جمرد ش ركاء يف حمل ه ذه االمانة واالس تخالف وتعود
الطبيعة بكل ما فيها من ث روات وبكل ما عليها ومن عليها جمرد امانة الب ّد من رعاية
واجبها واداء حقه ا .ه ذا الط رف الرابع هو يف احلقيقة مغري ن وعي ل رتكيب العالقة اذن
امامنا للعالقة االجتماعية صيغتان صيغة رباعية وصيغة ثالثية والقرآن الكرمي آمن بالصيغة
الرباعية كما رأينا يف اآلية الكرمية ،االس تخالف هو الص يغة الرباعية للعالقة االجتماعية
لكن الق رآن الك رمي اك ثر من أنه آمن بالص يغة الرباعية يف املق ام أعترب الص يغة الرباعية س نة
من سنن التاريخ كما رأينا يف اآلية السابقة كيف اعترب الدين سنة من سنن التاريخ كذلك
اعترب الصيغة الرباعية للعالقة االجتماعية اليت هي صيغة الدين يف احلياة .اعترب هذه العالقة
بصيغتها الرباعية سنة من سنن التاريخ .كيف؟
ه ذه الص يغة الرباعية عرض ها الق رآن الك رمي على حنوين :عرض ها ت ارة بوص فها
فاعلية ربانية من زاوية دور اهلل سبحانه وتعاىل يف العطاء .وهذا هو العرض الذي قرأناه «
إني جاعل في االرض خليفة » ه ذه العالقة الرباعية معروضة يف ه ذا النص الش ريف
باعتبارها عطاءا من اهلل ،جعال من اهلل ميثل الدور
108
االجيايب والتك رميي من رب الع املني لالنس ان وع رض الص يغة الرباعية نفس ها من زاوية
اخ رى .عرض ها بوص فها وبنحو ارتباطها مع االنس ان مبا هي أمر يتقبله االنس ان .عرض ها
من زاوية تقبل االنس ان هلذه اخلالفة وذلك يف قوله س بحانه وتع اىل « انا عرض نا االمانة
على السماوات واالرض والجبال فأبين ان يحملنها واشفقن منها وحملها االنسان انه كان
ظلوما جه وال » ( .)1االمانة هي الوجه التقبلي للخالفة ،اخلالفة هي الوجه الف اعلي
والعط ائي لالمانة ،االمانة واخلالفة عب ارة عن االس تخالف واالس تئمان وحتمل االعب اء.
عب ارة عن الص يغة الرباعية وه ذه ت ارة نلحظها من زاوية ربطها بالفاعل وهو اهلل س بحانه
وتعاىل بقوله « اني جاعل في االرض خليفة » واخرى نلحظها من زاوية القابل كما يقول
الفالس فة ،من ناحية دور االنس ان يف تقبل ه ذه اخلالفة وحتمل ه ذه االمانة وذلك بقوله
تع اىل « وعرض نا االمانة على الس ماوات واالرض والجب ال » ...وه ذه االمانة اليت تقبلها
االنسان وحتملها حينما عرضت عليه بعض هذه اآلية الكرمية ،هذه االمانة او هذه اخلالفة
او بالتفسري الذي قلناه هذه العالقة االجتماعية بصيغتها الرباعية .مل تعرض على االنسان
بوصفها
__________________
( )1سورة االحزاب :اآلية (.)72
109
تكليفا او طلبا ليس املقص ود من عرض ها على االنس ان هو الع رض على مس توى التكليف
والطلب وليس املقص ود من تقبل ه ذه االمانة هو تقبل ه ذه اخلالفة على مس توى االمتث ال
والطاعة ،ليس املف روض ان يك ون هك ذا الع رض وان يك ون هك ذا التقبل بقرينة ان ه ذا
الع رض ك ان معروضا على اجلب ال ايضا ،على الس ماوات واالرض ايضا فمن الواضح انه
ال معىن لتكليف السماوات واجلبال واالرض .نعرف من ذلك ان هذا العرض ليس عرض
تش ريعي ،ه ذا الع رض معن اه ان ه ذه العطية الربانية ك انت تفتش عن املوضع املنس جم
معها بطبيعته ،بفطرته ،برتكيبه الت ارخيي والك وين ،اجلب ال ال تنس جم مع ه ذه اخلالفة ،
الس ماوات واالرض ال تنس جم مع ه ذه العالقة االجتماعية الرباعي ة .االنس ان هو الك ائن
الوحيد الذي حبكم تركيبه وحبكم بنيته وحبكم فطرة اهلل اليت قرأناها يف اآلية السابقة كان
منس جما مع ه ذه العالقة االجتماعية ذات االط راف االربعة واليت تص بح أمانة وخالف ة.
اذن الع رض هنا ع رض تكويين والقب ول هنا قب ول تكويين وهو معىن س نة الت اريخ يعين ان
ه ذه العالقة االجتماعية ذات االط راف االربعة داخلة يف تكوينة االنس ان ويف ت ركيب
مسار االنسان الطبيعي والتارخيي ،ونالحظ انه يف
110
ه ذه اآلية الكرمية ايضا ج اءت االش ارة اىل ه ذه الس نة التارخيية واهنا س نة من الش كل
الث الث .س نة تقبل التح دي وتقبل العص يان .ليست من تلك الس نن اليت ال تقبل التح دي
اب دا ولو للحظة ،ال ..هي س نة فط رة ولكن ه ذه الفط رة تقبل التح دي .كيف اش ار
القرآن الكرمي اىل ذلك بعد ان اوضح اهنا سنة من سنن التاريخ؟ ق ال « :وحملها اإلنسان
انه كان ظلوما جهوال » هذه العبارة األخرية « انه كان ظلوما جهوال » تأكيد على طابع
ه ذه الس نة وان ه ذه الس نة على ال رغم من اهنا س نة من س نن الت اريخ ولكنها س نة تقبل
التحدي ،تقبل ان يقف االنسان منها موقفا سلبيا .هذا التعبري يوازي تعبري « ولكن اكثر
الن اس ال يعلم ون » يف اآلية الس ابقة اذن اآلية الس ابقة استخلص نا منها ان ال دين س نة من
س نن احلي اة ومن س نن الت اريخ ومن ه ذه اآلية نس تخلص ان ص يغة ال دين للحي اة اليت هي
عب ارة عن العالقة االجتماعية الرباعية ،العالقة االجتماعية ذات االط راف االربعة اليت
يسميها القرآن باخلالفة واالمانة واالستخالف ،هذه العالقة االجتماعية هي ايضا بدورها
س نة من س نن الت اريخ حبسب مفه وم الق رآن الك رمي فاحلقيقة ان اآلية االوىل واآلية الثانية
متطابقتان متاما يف مفادمها النه يف اآلية االوىل قال « فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة اهلل
111
التي فطر الناس عليها ال تبديل لخلق اهلل ذلك الدين القيم » ( )1التعبري بالدين القيم تأكيد
على أن ما هو الفط رة وما هو داخل يف تك وين االنس ان وتركيبه ويف مس ار تارخيه هو
الدين القيم يعين ان يكون هذا الدين قيما على احلياة ان يكون مهيمنا على احلياة ،هذه
دين هي التعبري اجململ يف تلك اآلية عن العالقة االجتماعية الرباعية اليت القيمومة يف ال
ط رحت يف اآلي تني ،يف آية « اني جاعل في االرض خليفة » وآية « انا عرض نا االمانة
على السماوات واالرض » فالدين سنة احلياة والتاريخ ،الدين يدخل فيها بعداً رابعا لكي
حيدث تغيريا يف كنية هذه العالقة ال لكي تكون جمرد اضافة عددية.
هذه مفاهيم القرآن الكرمي مستخلصة من هذه اآليات عن هذه السنة ،اما كيف
نريد ان نتعرف بصورة اوضح وأوسع عن هذه السنة ،عن دور التاريخ كسنة ،عن دور
ال دين القيم ودور اخلالفة واالمانة ،عن دور العالقة االجتماعية ذات االط راف االربعة ،
دور الط رف الراب ع .ما هو دوره كس نة من س نن الت اريخ ،وكيف ك ان س نة من س نن
التاريخ؟ ،وكيف كان مقوما اساسيا ملسار االنسان على الساحة التارخيية؟ لكي نتعرف
على
__________________
( )1سورة الروم :اآلية (.)30
112
ذلك ال بد من ان نتعرف على الركنني الثابتني يف العالقة االجتماعية ،هناك ركنان ثابتان
يف العالقة االجتماعية اح دمها االنس ان واخوه االنس ان واالخر الطبيعة ،الكون واالرض.
هذان الركنان داخالن يف الصيغة الثالثية وداخالن يف الصيغة الرباعية ،ومن هنا نسميهما
ب الركنني الث ابتني يف العالقة االجتماعية لكي نع رف دور ال ركن اجلديد ودور ه ذا ال ركن
اجلديد ،دور هذا الطرف الرابع ،دور اهلل سبحانه وتعاىل يف تركيب العالقة االجتماعية
،جيب ان نعرف مقدمة لذلك دور الركنني الثابتني.
ما هو دور االنس ان يف عملية الت اريخ من زاوية النظ رة القرآنية ،من زاوية النظ رة
للق رآن والفهم الرب اين من الق رآن للت اريخ وس نن احلي اة؟ ما هو دور االنس ان يف العالقة
االجتماعي ة؟ وما هو دور الطبيعة يف العالقة االجتماعية على ض وء تش خيص ه ذين
ال دورين وحتديد ه ذين املوقفني ،س وف يتضح حينئذ دور ه ذا الط رف اجلديد ،دور
الطرف الرابع الذي تتميز به الصيغة الرباعية عن الصيغة الثالثية .ويتضح ان هذا الطرف
الرابع عنصر ض روري حبكم س نة الت اريخ وت ركيب خلقة االنس ان والب ّد وان ين دمج مع
االطراف االخرى لتكوين عالقة
113
اجتماعية رباعية االطراف .اذن ففهم هذه السنة التارخيية يتطلب منا ان نتحدث عن دور
االنسان والطبيعة يف عملية التاريخ من زاوية نظر القرآن الكرمي وهذا ما سيأيت انشاء اهلل.
114
الدرس التاسع :
قلنا يف ما سبق ان اكتشاف االبعاد احلقيقية لدور الدين يف حركة التاريخ واملسرية
االجتماعية لالنس ان تتوقف على حتقيق وتق ييم دور العنص رين او الرك نني الث ابتني يف
الصيغة ومها االنسان والطبيعة.
االن نتح دث عن االنس ان ودور االنس ان يف احلركة التارخيية من زاوية مفه وم
القرآن الكرمي.
من الواضح على ض وء املف امهي اليت قرأناها س ابقا ان االنس ان أو احملت وى ال داخلي
لالنسان هو االساس حلركة التاريخ واننا ذكرنا ان حركة التاريخ تتميز عن كل احلركات
االخ رى باهنا حركة غائية ال س ببية فقط ،ليست مش دودة اىل س ببها ،اىل ماض يها .بل
هي مشدودة اىل الغاية الهنا حركة هادفة هلا علة غائية متطلعة اىل املستقبل .فاملستقبل هو
احملرك ألي نشاط من النشاطات التارخيية .واملستقبل معدوم فعال وامنا
115
حيرك من خالل الوجود الذهين الذي يتمثل فيه هذا املستقبل .اذن ،فالوجود الذهين هو
احلافز واحملرك واملدار حلركة الت اريخ وه ذا الوج ود ال ذهين جيسد من ناحية جانبا فكريا
وهو اجلانب ال ذي يضم تص ورات اهلدف ،وايضا ميثل من ج انب آخر الطاقة واالرادة
اليت حتفز االنس ان حنو ه ذا اهلدف .اذن ه ذا الوج ود ال ذهين ال ذي جيسد املس تقبل احملرك
يعرب جبانب منه عن الفكر ويف ج انب آخر منه عن االرادة وب األمتزاج بني الفكر واالرادة
تتحقق فاعلية املستقبل وحمركيته للنشاط التارخيي على الساحة االجتماعية .وهذان االمران
الفكر واالرادة مها يف احلقيقة احملت وى ال داخلي الش عوري لالنس ان .انه يتمثل يف ه ذين
الرك نني االساس يني ومها الفكر واالرادة .اذن احملت وى ال داخلي لالنس ان هو ال ذي يص نع
ه ذه الغاي ات وجيسد ه ذه االه داف من خالل مزجه بني فك رة وارادة .وهبذا صح الق ول
بأن احملتوى الداخلي لالنسان هو االساس حلركة التاريخ .والبناء االجتماعي العلوي بكل
ما يضم من عالقات ومن انظمة ومن افكار وتفاصيل هذا البناء العلوي يف احلقيقة مرتبط
هبذه القاع دة يف احملتوى ال داخلي لالنس ان ويك ون تغ ريه وتطوره تابعا لتغري ه ذه القاع دة
وتطورها فاذا تغري االساس تغري
116
البناء العلوي ،واذا بقي االساس ثابتا ،بقي البناء العلوي ثابتا.
فالعالقة بني احملت وى ال داخلي لالنس ان والبن اء الف وقي والت ارخيي للمجتمع ،ه ذه
العالقة عالقة تبعية أي عالقة س بب بس بب .ه ذه العالقة متثل س نة تارخيية تق دم الكالم
عنها يف قوله سبحانه وتعاىل « ان اهلل ال يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » ( .)1هذه
اآلية واضحة جدا يف املفهوم الذي اعطيناه وهو ان احملتوى الداخلي لإلنسان هو القاعدة
واألس اس لبن اء العل وي ،للحركة التارخيية الن االية الكرمية تتح دث عن تغي ريين اح دمها
تغيري الق ول « ان اهلل ال يغ ير ما بق وم » يعين تغيري اوض اع الق وم ،ش ؤون الق وم ،االبنية
العلوية للقوم ،ظواهر القوم ،هذه ال تتغري حىت يتغري ما بأنفس القوم .اذن التغيري االساس
هو تغيري ما بنفس الق وم والتغيري الن ابع املرتتب على ذلك هو تغيري حالة الق وم النوعية
والتارخيية واالجتماعية ومن الواضح ان املقص ود من تغيري ما ب االنفس .تغيري ما ب أنفس
القوم حبيث يكون احملتوى الداخلي للقوم كقوم وكأمة وكشجرة مباركة تؤيت أكلها كل
حني متغريا .واال تغري الفرد الواحد او الفردين او االفراد الثالثة
__________________
( )1سورة الرعد :اآلية (.)11
117
ال يش كل االس اس لتغري ما ب القوم ،وامنا يك ون تغري ما ب القوم تابعا لتغري ما بأنفس هم
كق وم وكأمة وكش جرة مباركة ت ؤيت اكلها كل حني .ف احملتوى النفسي وال داخلي لالمة
كأمة ال هلذا الفرد او لذلك الفرد هو الذي يعترب أساسا وقاعدة للتغيريات يف البناء العلوي
للحركة التارخيية كلها.
واالس الم والق رآن الك رمي ي ؤمن ب أن العملي تني جيب ان تس ريا جنبا اىل جنب يف
عملية ص نع االنس ان حملتواه الداخلي وبناء االنسان لنفسه ولفكره والرادته وملطموحاته.
هذا البناء الداخلي جيب ان يسري جنبا اىل جنب مع البناء اخلارجي ،مع االبنية العلوية وال
ميكن ان يفرتض انفكاك البناء الداخلي عن البناء اخلارجي اال اذا بقي البناء اخلارجي بناءا
مهزوزا متداعيا .وهلذا مسى االسالم عملية بناء احملتوى الداخلي اذا اجتهت اجتاها صاحلا بـ
« الجهاد االكبر » .ومسى عملية البناء اخلارجي اذا اجتهت اجتاها صاحلا بعملية « الجهاد
االص غر » وربط اجله اد االص غر باجله اد االكرب واعترب ان اجله اد االص غر اذا فصل عن
اجله اد االكرب فقد حمت واه ومض مونه ،بل فقد قدرته على التغيري احلقيقي على الس احة
التارخيية واالجتماعية .اذن هاتان العمليتان جيب ان تسريا جنبا اىل جنب .فاذا
118
انفكت احدامها عن االخرى فقدت حقيقتها وحمتواها ومسى االسالم العملية االوىل عملية
بن اء احملت وى ال داخلي باجله اد االكرب تأكيد على الص فة االساس ية للمحت وى ال داخلي
وتوض يحا هلذه احلقيقة ،حقيقة ان احملت وى ال داخلي لالنس ان هو االس اس وهلذا مسي
باجلهاد االكرب .فاذا بقي اجلهاد االصغر منفصال عن اجلهاد االكرب ،حينئذ ال حيقق ذلك
يف احلقيقة أي مض مون تغي ريي ص احل .الق رآن الك رمي يع رض حلالة من ح االت انفص ال
عملية البناء اخلارجي عن عملية البناء الداخلي قال سبحانه وتعاىل « ومن الن اس من يعجبه
قوله في الحي اة ال دنيا ويش هد اهلل على ما في قلبه وهو ال ّد الخص ام .واذا ت ولى س عى في
االرض ليفسد فيها ويهلك الح رث والنسل واهلل ال يحب الفس اد » ( )1يريد ان يق ول ب ان
االنسان اذا مل ينفذ بعملية التغيري اىل قلبه واىل اعماق روحه ،اذا مل ينب نفسه بناءا صاحلا
ال ميكنه ابدا ان يطرح الكلمات الصاحلة .اليت ميكن ان تتحول اىل بناء صاحل يف اجملتمع اذا
نبعت عن قلب يعمر بالقيم اليت تدل عليها تلك الكلمات واال فتبقى الكلمات جمرد الفاظ
جوفاء دون ان يكون هلا مضمون وحمتوى .فمسألة القلب هي اليت
__________________
( )1سورة البقرة :اآلية ( 204ـ .)205
119
تعطي للكلمات معناها وللشعارات ابعادها ولعملية البناء اخلارجي اهدافها ومسارها .اىل
هنا عرفنا ان االس اس يف حركة الت اريخ هو احملت وى ال داخلي لالنس ان .وه ذا احملت وى
الداخلي لالنسان يشكل القاعدة .االن نتساءل :ما هو االساس يف هذا احملتوى الداخلي
نفسه ،ما هي نقطة الب دء يف بن اء ه ذا احملت وى ال داخلي لالنس ان ،وما هو احملور ال ذي
يس تقطب عملية بن اء احملت وى ال داخلي لالنس ان؟ هو املثل االعلى ،عرفنا ان احملت وى
ال داخلي لالنس ان جيسد الغاي ات اليت حترك الت اريخ ،جيس دها من خالل وج ودات ذهنية
متتزج فيها االرادة ب التفكري .وه ذه الغاي ات اليت حترك الت اريخ حيددها املثل االعلى .فاهنا
مجيعا تنبثق عن وجهة نظر رئيس ية اىل مثل اعلى لالنس ان يف حياته ،للجماعة البش رية يف
حياهتا .وهذا املثل االعلى هو الذي حيدد الغايات التفصيلية وينبثق عنه هذا اهلدف اجلزئي
وذلك اهلدف اجلزئي فالغاي ات بنفس ها حمركة للت اريخ وهي ب دورها نت اج لقاع دة اعمق
منها يف احملت وى ال داخلي لالنس ان وهو املثل االعلى ال ذي تتمح ور فيه كل تلك الغاي ات
وتعود اليه كل تلك االهداف .فبقدر ما يكون املثل االعلى للجماعة البشرية صاحلا وعاليا
وممتدا تكون الغايات صاحلة وممتدة ،
120
وبق در ما يك ون ه ذا املثل االعلى حمدودا او منخفضا تك ون الغاي ات املنبثقة عنه حمدودة
ومنخفضة ايض ا .اذن املثل االعلى هو نقطة الب دء يف بن اء احملت وى ال داخلي للجماعة
البشرية .وهذا املثل االعلى يرتبط يف احلقيقة بوجهة نظر عامة اىل احلياة والكون ،يتحدد
من قبل كل مجاعة بشرية على اساس وجهة نظرها العامة حنو احلياة والكون ،على ضوء
ذلك حتدد مثلها االعلى .ومن خالل الطاقة الروحية اليت تتناسب مع ذلك املثل االعلى
ومع وجهة نظرها اىل احلياة والكون حتقق ارادهتا للسري حنو هذا املثل ويف طريق هذا املثل.
اذن ه ذا املثل االعلى هو يف احلقيقة ايضا يتجسد من خالل رؤية فكرية ومن خالل طاقة
روحية تزحف باالنسان يف طريقة ،وكل مجاعة اختارت مثلها االعلى ،فقد اختارت يف
احلقيقة س بيلها وطريقها ومنعطف ات ه ذا الس بيل وه ذا الطريق كما رأينا ان احلركة
التارخيية تتم يز عن أي حركة اخ رى يف الك ون باهنا حركة غائية وهادفة وك ذلك تتم يز
وتتم ايز احلرك ات التارخيية انفس ها بعض ها عن بعض مبثلها العلي ا .فلكل حركة تارخيية
مثلها االعلى ،وه ذا املثل االعلى هو ال ذي حيدد الغاي ات وااله داف وه ذه االه داف
والغاي ات هي اليت حتدد النش اطات والتحرك ات ض من مس ار ذلك املثل االعلى .والق رآن
الكرمي والتعبري الديين يطلق على املثل االعلى يف
121
مجلة من احلاالت اسم االله باعتب ار ان املثل االعلى هو القائد اآلمر املط اع املوج ه .ه ذه
صفات يراها القرآن الله وهلذا يعرب عن كل من يكون مثل اعلى ،كل ما ميثل مركز املثل
االعلى يعرب عنه باالله النه هو ال ذي يص نع مس ار الت اريخ ،حىت ورد يف قوله س بحانه
وتع اىل ( أرأيت من اتخذ الهه ه واه ) ( )1عرب حىت عن اهلوى حينما يتص اعد تص اعدا
مص طنعا فيص بح هو املثل االعلى وهو الغاية القص وى هلذا الف رد او ل ذاك ،عرب عنه بانه
ال ه .فاملثل العليا حبسب التعبري الق رآين وال ديين هي آهلة يف احلقيقة الهنا هي املعب ودة حقا
وهي اآلم رة والناهية حقا وهي احملركة حقا ،فهي آهلة يف املفه وم ال ديين واالجتم اعي.
وهذه املثل العليا اليت تتبناها اجلمعات البشرية على ثالثة اقسام :
القسم االول :املثل االعلى ال ذي يس تمد تص وره من الواقع نفسه ،ويكون منتزعا
من واقع ما تعيشه اجلماعة البشرية من ظروف ومالبسات ،أي ان الوجود الذهين الذي
ص اغ املس تقبل هنا مل يس تطع يرتفع على ه ذا الواقع بل ان تزع مثله االعلى من ه ذا الواقع
حبدوده وبقي وده وبش ؤونه .وحينما يك ون املثل االعلى منتزعا عن واقع اجلماعة حبدودها
وقيودها
__________________
( )1سورة الفرقان :اآلية (.)43
122
وش ؤوهنا تص بح حالة تكرارية ،تص بح بتعبري آخر حماولة لتجميد ه ذا الواقع ومحله اىل
املس تقبل ب دال عن التطلع اليه فقط يك ون يف احلقيقة جتمي دا هلذا الواقع وحتويله من حالة
نسبية ومن امر حمدود اىل امر مطلق الن االنسان يعرتضه هدفا ومثال اعلى وحينما يتحول
ه ذا الواقع من امر حمدود اىل ه دف مطلق ،اىل حقيقة مطلقة ال يتص ور االنس ان ش يئا
وراءها .حينما يتحول اىل ذلك .سوف تكون حركة التاريخ حركة تكرارية حلالة سابقة
وهلذا سوف يكون املستقبل تكرارا للواقع وللماضي.
ه ذا الن وع من اآلهلة يعتمد على جتميد الواقع وحتويل ظروفه النس بية اىل ظ روف
مطلقة لكي ال تس تطيع اجلماعة البش رية ان تتج اوز الواقع وان ترتفع بطموحاهتا عن ه ذا
الواق ع .تبين ه ذا الن وع من املثل العليا له احد س ببني :الس بب االول االلفة والع ادة
واخلمول والضياع ،وهذا سبب نفسي ،واذا انتشرت هذه احلالة يف جمتمع حينئذ يتجمد
ذلك اجملتمع النه س وف يص نع اهلة من واقعه ،س وف حيول ه ذا الواقع النسيب احملدود
ال ذي يعيشه اىل حقيقة مطلقة ،اىل مثل اعلى اىل ه دف ال ي رى وراءه ش يئا ،وه ذا يف
احلقيقة هو ما عرضه القرآن الكرمي
123
يف كثري من اآليات اليت حتدثت عن اجملتمعات اليت واجهت االنبياء حينما جاؤها مبثل عليا
حقيقية ترتفع عن الواقع وتريد ان حترك ه ذا الواقع وتنتزعه من ح دوده النس بية اىل وضع
آخر .واجه هؤالء االنبياء جمتمعات سادهتا حالة االلفة والعادة والتميع فكان هذا اجملتمع
يرد على دعوة االنبياء ويقول باننا وجدنا اباءنا على هذه السنة ،وجدنا آباءنا على هذه
الطريقة وحنن متمس كون مبثلهم االعلى ،س يطرة الواقع على اذه اهنم وتغلغل احلس يف
طموحاهتم بلغ اىل درجة حتول ه ذا من خالهلا اىل انس ان حسي ال اىل انس ان مفكر ،اىل
اىل انس ان يك ون ابن يومه دائما ،ابن واقعه دائما ال أبا يومه أبا واقع ه .وهلذا ال يس تطيع
ان يرتفع على هذا الواقع.
الحظ وا الق رآن الك رمي وهو يق ول « ق الوا بل نتبع ما الفينا عليه آباءنا أولو ك ان
آباؤهم ال يعقلون » (.)1
» قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ،أولو كان آباؤهم ال يعلمون شيئا وال يهتدون
» ( « .)2ق الوا أجئتنا لتلفتنا عما وج دنا عليه آباءنا وتك ون لكما الكبري اء في االرض وما
نحن لكما بمؤمنين » (.)3
__________________
( )1سورة البقرة :اآلية (.)170
( )2سورة املائدة :اآلية (.)104
( )3سورة يونس :اآلية (.)78
124
« ، ()1
« أتنهانا ان نعبد ما يعبد آباؤنا واننا لفي شك مما ت دعونا اليه م ريب »
ق الت رس لهم افي اهلل شك ف اطر الس موات واالرض ي دعوكم ليغفر لكم من ذن وبكم
ويؤخركم الى اجل مسمى ،قالوا ان انتم اال بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد
« بل ق الوا إنا وج دنا آباءنا على أمة وإنا على آث ارهم آباؤنا فأتونا بس لطان م بين »
()2
مهتدون » ( )3يف كل هذه اآليات يستعرض القرآن الكرمي السبب االول لتبين اجملتمع هذا
املثل االعلى املنخفض .ه ؤالء حبكم االلفة والع ادة وحبكم التميع والف راغ وج دوا س نة
قائمة .وجدوا وضعا قائما فلم يسمحوا النفسهم بأن يتجاوزوه بل جسدوه كمثل اعلى
وعارض وا به دع وات االنبي اء على مر الت اريخ ،ه ذا هو الس بب االول لتبين ه ذا املثل
االعلى املنخفض.
السبب الثاين لتبين هذا املثل االعلى املنخفض هو التسلط الفرعوين على مر التاريخ
،الفراعنة حينما حيتل ون مراك زهم جيدون يف أي تطلع اىل املس تقبل ويف أي جتاوز للواقع
الذي سيطروا
__________________
( )1سورة نوح :اآلية (.)62
( )2سورة إبراهيم :اآلية (.)10
( )3سورة الزخرف :اآلية (.)22
125
عليه ،جيدون يف ذلك زعزعة لوجودهم وهزا ملراكزهم .من هنا كان من مصلحة فرعون
على مر التاريخ ان يغمض عيون الناس على هذا الواقع ،ان حيول الواقع الذي يعيشه مع
الن اس اىل مطلق ،اىل اله ،اىل مثل أعلى ال ميكن جتاوزه ،حياول ان حيبس وان يضع كل
االمة يف اط ار نظرته هو ،يف اط ار وج وده هو لكي ال ميكن هلذه االمة ان تفتش عن مثل
اعلى ينقلها من احلاضر اىل املستقبل من واقعه اىل طموح آخر أو أكرب من هذا الواقع .هنا
الس بب اجتم اعي ال نفسي ،الس بب خ ارجي ال داخلي .وه ذا ايضا ما عرضه الق رآن
الك رمي « وق ال فرع ون يا أيها المأل ما ع رفت لكم من اله غ يري » ( « )1ق ال فرع ون ما
أريكم اال ما أرى وما أه ديكم اال س بيل الرش اد » ( )2هنا فرع ون يق ول ما أريكم اال ما
ارى يريد ان يضع الن اس ال ذين يعبدونه كلهم يف اط ار رؤيته يف اط ار نظرته ،حيول ه ذه
النظ رة وه ذا الواقع ،اىل مطلق ال ميكن جتاوزه هنا ال ذي جيعل اجملتمع يتبىن مثال اعلى
مستمد من الواقع هو التسلط الفرعوين الذي يرى يف جتاوز هذا املثل االعلى خطرا عليه
وعلى وجوده .قال اهلل سبحانه وتعاىل « ثم ارسلنا موسى
__________________
( )1سورة القصص :اآلية (.)38
( )2سورة غافر :اآلية (.)29
126
واخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين .الى فرعون ومأله فاستكبروا وكانوا قوما عالين .فق الوا
أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون » ( )1حنن غري مستعدين ان نؤمن هبذا املثل االعلى
الذي جاء به موسى النه سوف يزعزع عبادة قوم موسى وهارون لنا .اذن هذا التجميد
ض من اط ار الواقع ال ذي تعيشه اجلماعة أي مجاعة بش رية ينشأ من ح رص أولئك ال ذين
تس لطوا على ه ذه اجلماعة على ان يض منوا وج ودهم ويض منوا الواقع ال ذي هم فيه وهم
بناته .هذا هو السبب الثاين الذي عرضه القرآن الكرمي .والقرآن الكرمي يسمى هذا النوع
من الق وى اليت حتاول ان حتول ه ذا الواقع احملدود اىل مطلق وحتصر اجلماعة البش رية يف
اطار هذا احملدود ،يسمي هذا بالطاغوت .قال سبحانه وتعاىل « والذين اجتنبوا الطاغوت
أن يعبدوها وأنابوا الى اهلل لهم البشرى فبشر عباد .الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه
أولئك هم ال ذين ه داهم اهلل وأولئك هم أولي األلب اب » ( .)2الحظ وا ذكر ص فة اساس ية
مميزة ملن اجتنب عبادة الطاغوت ما هي؟
__________________
( )1سورة املؤمنون :اآلية ( 45ـ .)47
( )2سورة الزمر :اآلية ( 17ـ .)18
127
قال « فبشر عباد .الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه » (.)1
يعين مل جيعل وا هن اك قي دا على ذهنهم ،مل جيعل وا أط ارا حمدودا ال ميكنهم ان
يتجاوزوه ،جعلوا احلقيقة مدار مههم هدفهم وهلذا يستمعون القول فيتبعون أحسنه يعين
هم يف حالة تطلع وموضوعية تسمح هلم بان جيدوا احلقيقة يتبعوها .بينما لو كانوا يعبدون
الط اغوت ،حينئذ يكون ون يف اط ار ه ذا الواقع ال ذي يري ده الط اغوت ،س وف لن
يستطيعو أن يستمعوا اىل القول فيتبعون احسنه وامنا يتبعون فقط ما يراد هلم ان يتبعوه ،
ه ذا هو الس بب الث اين التب اع وتبين ه ذه املثل ،اذن خالصة ما مر بنا حىت االن :أن
التاريخ يتحرك من خالل البناء الداخلي لالنسان الذي يصنع لالنسان غاياته هذه الغايات
تبين على اس اس املثل االعلى ال ذي تنبثق عنه تلك الغاي ات لكل جمتمع مثل اعلى ولكن
مثل اعلى مس ار ومس رية وه ذا املثل االعلى هو ال ذي حيدد يف تلك املس رية مع امل الطريق
وهو على ثالثة أقس ام حىت االن استعرض نا القسم االول من املثل العليا وهو املثل االعلى
الذي ينبثق تصوره عن الواقع ويكون منتزعا
__________________
( )1سورة الزمر :اآلية ( 17ـ .)18
128
عن الواقع الذي تعيشه اجلماعة وهذا مثل أعلى تكراري .وتكون احلركة التارخيية يف ظل
هذا املثل االعلى حركة تكرارية ،أخذ احلاضر لكي يكون هو املستقبل وقلنا بان تبين هذا
النوع من املثل االعلى يقود اىل احد سببني حبسب تصورات القرآن الكرمي.
الس بب االول س بب نفسي وهو االلفة والع ادة والض ياع والس بب االخر س بب
خارجي وهو تسلط الفراعنة والطواغيت على مر التاريخ.
129
الدرس العاشر :
ه ذه املثل العليا املنخفضة املتنوعة عن الواقع واليت حتدثنا عنها يف ال درس الس ابق يف
كثري من االحي ان تتخذ ط ابع ال دين ويس بغ عليها ه ذا الط ابع من اجل اعطائها قدس ية
حتافظ على بقائها واستمرارها على الساحة كما رأينا يف االيات الكرمية املتقدمة كيف ان
اجملتمع ات اليت رفضت دع وة االنبي اء كث ريا ما ك انت تصر على التمسك بعب ادة االب اء
وب دين االب اء باملثل االعلى املعب ود لالب اء بل ان احلقيقة أن كل مثل اعلى من ه ذه املثل
العليا املنخفضة ال ينفك عن الث وب ال ديين س واء اب رز بش كل ص ريح او مل ي ربز الن املثل
االعلى دائما حيتل مركز االله حبسب التعبري الق رآين واالس المي ،ودائما تس تبطن عالقة
االمة مبثلها االعلى نوعا من العب ادة ،من العب ادة هلذا املثل االعلى وليس ال دين بش كلها
العام االعالقة عابد مبعبود .اذا املثل االعلى ال ينفك عن الثوب الديين سواء كان ثوبا دينيا
صرحيا او ثوبا
130
دينيا مسترتا مربقعا حتت شعارات اخرى فهو يف جوهره دين ويف جوهره عبادة وانسياق.
اال ان هذه االديان اليت تفرزها هذه املثل العليا املنخفضة اديان حمدودة تبعا حملدودية نفس
ه ذه املثل ملا ك انت ه ذه املثل مثال منخفضة وحمدودة قد ح ولت بص ورة مص طنعة اىل
مطلق ات واال هي يف احلقيقة ليست اال تص ورات جزئية عرب الطريق الطويل الطويل
لالنس ان ،اال أهنا ح ولت اىل مطلق ات بص ورة مص طنعة .اذن ه ذه احملدودية يف املثل
تعكس االديان اليت تفرزها فاالديان اليت تفرزها هذه املثل او بالتعبري االخرى االديان اليت
يفرزها االنس ان من خالل ص نع ه ذه املثل ،ومن خالل عملقة ه ذه املثل وتطويرها من
تصورات اىل مطلقات هذه االديان تكون اديانا حمدودة وضئيلة ،وجتزئة وهذه التجزئة يف
مقابل دين التوحيد ال ذي س وف نتكلم عنه حينما نتح دث عن مثله االعلى الق ادر على
استيعاب البشرية بابعادها واديان التجزئة هذه وهذه االهلة ،اليت فرزها االنسان بني حني
وحني هي اليت يعرب عنها القرآن الكرمي بقوله « آن هي اال اسماء سميتموها انتم وآباؤكم
» ( )1فه ذه اآلهلة اليت يفرزها االنس ان ،ه ذا ال دين ال ذي يص نعه االنس ان ،وه ذا املثل
االعلى الذي هو نتاج بشري ،هذا
__________________
( )1سورة النجم :اآلية (.)23
131
ال ميكن ان يكون هو الدين القيم ،ال ميكن ان يكون هو املصعد احلقيقي للمسرية البشرية
الن املس رية البش رية ال ميكن ان ختلق اهلها بي دها .اجملتمع ات واالمم اليت تعيش ه ذا املثل
االعلى املنخفض املس تمد من واقع احلي اة ،قلنا بأهنا تعيش حالة تكرارية يعين ان حركة
الت اريخ تص بح حركة متاثلية وتكرارية وه ذه االمة تأخذ بي دها ماض يها اىل احلاضر
وحاضرها اىل املستقبل ليس هلا مستقبل يف احلقيقة وامنا مستقبلها هو ماضيها ومن هنا اذا
تق دمنا خط وة يف حتليل ومراقبة ومش اهدة اوض اع ه ذه االمة اليت تتمسك مبثل من ه ذا
القبيل اذا تق دمنا خط وة اىل االم ام جند ان ه ذه االمة بالت دريج س وف تفقد والءها هلذا
املثل ايضا لن تظل متمس كة هبذا املثل الن ه ذا املثل بعد ان يفقد فاعليته وقدرته على
العط اء بعد ان يص بح نس خة من الواقع ويص بح اج را مفروضا وحمسوسا وملموسا وغري
قادر على تطوير البشرية وتصعيدها يف مسارها الطويل ،تفقد هذه البشرية وهذه اجلماعة
بالت دريج والءها هلذا املثل ومعىن اهنا تفقد والءها هلذا املثل يعين ان القاع دة اجلماهريية
الواسعة يف هذه االمة سوف تتمزق وحدهتا الن وحدة هذه القاعدة امنا هي باملثل الواحد
فاذا ضاع املثل ضاعت هذه القاعدة.
132
ه ذه االمة بعد ان تفقد والءها هلذا املثل تص اب بالتش تت ،ب التمزق ،ب التبعثر ،
تكون كما وصف القرآن الكرمي « بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك
بأنهم قوم ال يعقلون » ( .)1بأسهم بينهم شديد باعتبار أن هذه االمة اليت ال جيمعها شيء
اال متاثل الوج وه وتق ارب الوج وه ال جيمعها مثل اعلى ال جتمعها طريقة مثلى ،ال جيمعها
س بيل واحد ،قل وب متفرقة اه واء متش تتة ارواح مبع ثرة وعق ول جمم دة يف حالة من ه ذا
القبيل ال تبقى امة وامنا يبقى شبح امة فقط ،ويف ظل هذا الشبح سوف ينصرف كل فرد
يف ه ذه االمة ينص رف اىل مهومه الص غرية ،اىل قض اياه احملدودة النه ال يوجد هن اك مثل
اعلى تلتف حوله الطاقات ،تلتف حوله القابليات واالمكانات حتشد من اجله التضحيات
ال يوجد ه ذا املثل االعلى حينما يس قط ه ذا املثل االعلى تس قط الراية اليت توحد االمة ،
يبقى كل انسان مشدود اىل حاجاته احملدودة ،اىل مصاحله الشخصية اىل تفكريه يف اموره
اخلاصة كيف يص بح وكيف ميسي وكيف ياكل وكيف يش رب وكيف ي وفر الراحة
واالستقرار له والوالده ولعائلته أي راحة وأي استقرار ،الراحة باملعىن
__________________
( )1سورة احلشر :اآلية (.)14
133
الرخيص ،باملعىن القصري من االستقرار يبقى كل انسان سجني حاجاته اخلاصة ،سجني
رغباته اخلاصة يبقى يدور ويلتف حول هذه الرغبات وحول هذه احلاجات ال يرى غريها
ان ال يوجد املثل ،اذ ضاع املثل وتفتت وسقط يف حالة من حاالت هذه االمة ،قلنا بأن
االمة تتحول اىل شبح ال يبقى امة حقيقية ،وامنا هناك شبح امة وقد علمنا التاريخ انه يف
حالة من ه ذا القبيل توجد ثالث اج راءات ،ثالث ب دائل ميكن ان تنطبق على حالة ه ذه
االمة الشبح.
االج راء الت ارخيي االول هو ان تت داعى ه ذه االمة ام ام غ زو عس كري من اخلارج
الن ه ذه االمة اليت اف رغت من حمتواها ،اليت ختلت عن وجودها كأمة ،وبقيت ك أفراد
كل انس ان يفكر يف طعامه ولباسه ودار س كناه وال يفكر يف االمة من يفك ر .اذا ففي
وضع من ه ذا القبيل ميكن ان تت داعى ه ذه االمة ام ام غ زو من اخلارج ،وه ذا ما وقع
بالفعل بعد ان فقد املسلمون مثلهم االعلى وفقدوا والءهم هلذا املثل االعلى ووقعوا فريسة
غزو التتار حينما سقطت حضارة املسلمني بايدي التتار هذا هو االجراء التارخيي االول.
واالج راء الت ارخيي الث اين :هو ال ذوبان واالنص هار يف مثل اعلى اجنيب يف مثل
مستورد من اخلارج هذه
134
االمة بعد ان فقدت مثلها العليا النابعة منها فقدت فاعليتها واصالتها حينئذ تفتش عن مثل
اعلى من اخلارج تعطيه والءها لكي متنحه قيادهتا .ه ذا هو االج راء الت ارخيي الث اين
واالجراء التارخيي الثالث ان ينشأ يف اعماق هذه االمة بذور اعادة املثل االعلى من جديد
مبستوى العصر الذي تعيشه االمة ،هذان االجراءان ،الثاين والثالث وقفت االمة امامهما
على مف رتق ط ريقني حينما دخلت عصر االس تعمار ،ك ان هن اك طريق ي دعوها اىل
االنص هار يف مثل اعلى من اخلارج ه ذا الطريق ال ذي طبقه مجلة من حك ام املس لمني يف
بالد املسلمني « رضاخان » يف ايران و « اتاتورك » يف تركيا ،حاول هؤالء ان جيسدوا
املثل االعلى لالنس ان االورويب املنتصر ويطبق وا ه ذا املثل االعلى ويكس بوا والء املس لمني
انفس هم هلذا املثل االعلى بعد ان ض اع املثل االعلى يف داخل املس لمني ،بينما رواد الفكر
االس المي يف ب دايات عصر االس تعمار ويف أواخر الف رتة اليت س بقت عصر االس تعمار ،
رواد الفكر االسالمي ورواد النهضة االسالمية اطلقوا جهودهم يف سبيل االجراء الثالث
يف سبيل اعادة احلياة اىل االسالم من جديد يف سبيل انتشار هذا املثل االعلى واعادة احلياة
اليه وتقدميه بلغة
135
العصر ومبس توى العصر ومبس توى حاج ات املس لمني .االمة تتح ول اىل ش بح فتواجه احد
هذه االجراءات الثالثة.
االن تكلمنا عن امة ه ذه االهلة املنخفض ة .اذا تق دمنا خط وة جند املثل التك راري
يتم زق ،ان االمة تفقد والءها ،ان االمة تتح ول اىل ش بح احد ه ذه اج راءات الثالثة ،
االن نرجع اىل الوراء خطوة .سوف نواجه النوع الثاين من االهلة من املثل العليا اليس قلنا
يف البداية ان املثل العليا عكس ثالثة انواع .تكلمنا االن عن النوع االول.
اذا رجعنا خطوة اخرى اىل الوراء وهذا ما سوف اشرح معناه بعد حلظات .سوف
نواجه النوع الثاين من االهلة من املثل العليا .هذا النوع الثاين يعرب عن كل مثل أعلى لالمة
يك ون مش تقا من طم وح االمة ،من تطلعها حنو املس تقبل ،ليس ه ذا املثل تعبري تكراريا
عن الواقع بل هو تطلع اىل املس تقبل وحتفز حنو اجلديد واالب داع ،والتط وير ولكن ه ذا
املثل من تزع عن خط وة واح دة من املس تقبل من تزع عن ج زء من ه ذا الطريق الطويل
املس تقبلي أي ان ه ذا الطم وح ال ذي منه ان تزعت االمة مثلها ك ان طموحا حمدودا ك ان
طموحا مفيدا مل يستطع ان يتجاوز املسافات الطويلة ،وامنا استطاع ان يكون
136
رؤية مستقبلية حمدودة ،وهذه الرؤية املستقبلية احملدودة انتزع منها مثلها االعلى ويف هذا
املثل االعلى جانب موضوعي صحيح ولكنه حيتوي على امكانيات خطر كبري اما اجلانب
املوض وعي الص حيح فهو ان االنس ان عرب مس ريته الطويلة ال ميكنه ان يس توعب برؤيته
الطريق الطويل الطويل كله ،ال ميكنه ان يس توعب املطلق الن ال ذهن البش ري حمدود
وال ذهن البش ري احملدود ال ميكن ان يس توعب املطلق وامنا هو دائما يس توعب نفحة من
املطلق ،ش يئا من املطلق يأخذ بي ده قبضة من املطلق تنري له الطريق ،تنري ال درب .فك ون
دائرة االستيعاب البشري حمدودة هذا أمر طبيعي أمر صحيح وموضوعي .ولكن اخلطري يف
ه ذه املس ألة ان ه ذه القبضة اليت يقبض ها االنس ان من املطلق ه ذه القبضة ه ذه الكومة
احملدودة ،ه ذه الومضة من الن ور اليت يقبض ها من ه ذا املطلق حيوهلا اىل ن ور الس ماوات
واالرض ،حيوهلا اىل مثل اعلى ،حيوهلا اىل مطلق .هنا يكمن اخلطر النه حينما يصنع مثله
االعلى وين تزع ه ذا املثل من تص ور ذهين حمدود للمس تقبل ،لكن حيول ه ذا التص ور
ال ذهين احملدود اىل مطلق حينئذ ه ذا املثل االعلى س وف خيدمه يف املرحلة احلاض رة س وف
يهيء له امكانية النمو بقدر طاقات هذا املثل ،بقدر ما ميثل
137
للمس تقبل ،بق در امكاناته املس تقبلية س وف حيرك ه ذا االنس ان وينش طه لكن س رعان ما
يصل اىل ح دوده القص وى .وحينئذ س وف يتح ول ه ذا املثل نفسه اىل قيد للمس رية ،اىل
ع ائق عن التط ور ،اىل جممد حلركة االنس ان النه اص بح مثال اص بح اهلا ،أص بح دينا ،
أص بح واقعا قائما ،وحينئذ س وف يك ون بنفسه عقبة أم ام اس تمرار زحف االنس ان حنو
كماله احلقيقي ،وهذا املثل الذي يعمم خطأ حيول من حمدود اىل مطلق خطأ.
التعميم فيه ت ارة يك ون تعميما افقيا خاطئا وأخ رى تعميما زمنيا خاطئ ا .هن اك
تعميمان خاطئان هلذا املثل .هناك تعميم افقي خاطئ وهناك تعميم زمين عمودي خاطئ.
التعميم األفقي اخلاطئ :ان ينتزع االنسان من تصوره املستقبلي مثال ويعترب ان هذا
املثل يضم كل قيم االنس ان اليت جياهد من اجلها ويناضل يف س بيلها .بينما ه ذا املثل على
الرغم من صحته اال انه ال ميثل اال ج زءا من ه ذه القيم .فهذا التعميم تعميم افقي خاطئ
ه ذا املثل يك ون مع ربا عن ج زء من افق احلركة بينما ج رد منه ما ميأل كل افق احلرك ة.
االنس ان االورويب احلديث يف ب دايات عصر النهضة وضع مثال اعلى وهو احلرية جعل
احلرية مثال اعلى النه راى ان االنسان الغريب كان
138
حمطما ومقي دا ،ك انت على يديه االغالل يف كل س احات احلي اة ك ان مقي دا يف عقائ ده
العلمية والدينية حبكم الكنيسة وتعنتها ك ان مقي دا يف قوته ورزقه بأنظمة االقط اع ك ان
مقي دا اينما يس ري .اراد االنس ان االورويب الرائد لعصر النهضة ان حيرر ه ذا االنس ان من
هذه القيود ،من قيود الكنيسة ،من قيود االقطاع اراد ان جيعل من االنسان كائنا خمتارا
اذا اراد ان يفعل يفعل ،يفكر بعقله ال بعقل غ ريه ويتص ور ويتأمل بذاته وال يس تمد ه ذا
التصور كصيغ ناجزة من االخرين ،وهذا شيء صحيح اال ان الشيء اخلاطئ يف ذلك هو
التعميم االفقي ف ان ه ذه احلرية مبعىن كسر القي ود عن ه ذا االنس ان ،ه ذا قيمة من القيم
ه ذا اط ار للقيم ولكن ه ذا وح ده ال يصنع االنس ان ،انت ال تس تطيع ان تص نع االنس ان
ب ان تكسر عنه القي ود وتق ول له افعل ما ش ئت ،ال يوجد انس ان وال ك ائن ،ال يوجد
اقطاعي وال قسيس وال سلطان وال طاغوت يضطرك اىل موقف او يفرض عليك موقفا.
هذا وحده ال يكفي فان كسر القيوم امنا يشكل االطار للتنمية البشرية الصاحلة ،حيتاج
هذا اىل مضمون اىل حمتوى جمرد انه يستطيع ان يتصرف ،يستطيع ان ميشي يف االسواق
هذا ال يكفي ،اما كيف وميشي وما هو اهلدف الذي من اجله ميشي يف االسواق
139
احملت وى واملض مون هو ال ذي ف ات االنس ان االوريب ،االنس ان االوريب جعل احلرية ه دفا
وه ذا ص حيح ولكنه صري من ه ذا اهلدف مثال اعلى بينما ه ذا اهلدف ليس اال اط ار يف
احلقيقة وه ذا االط ار حباجة اىل حمت وى واىل مض مون واذا ج رد ه ذا االط ار عن حمت واه
س وف ي ؤدي اىل الويل وال دمار ،اىل الويل ال ذي تواجهه احلض ارة الغربية الي وم اليت
ص نعت للبش رية كل وس ائل ال دمار الن االط ار بقي بال حمت وى بقي بال مض مون حينئ ذ.
هذا هو مثال للتعميم االفقي ،التعميم االفقي للمثل االعلى.
واما التعميم الزمين ايضا ك ذلك على مر الت اريخ توجد خط وات ناجحة تارخييا
ولكنها ال جيوز ان حتول من ح دودها كخط وة اىل مطلق ،اىل مثل اعلى جيب ان تك ون
ممارسة تلك اخلط وة ض من املثل االعلى ال ان حتول ه ذه اخلط وة اىل مثل اعلى حينما
اجتمع يف التاريخ جمموعة من االسر فشكلوا القبيلة .وجمموعة من القبائل فشكلت عشرية
،وجمموعة من العش ائر فش كلت أمة ه ذه اخلط وات ص حيحة لتق دم البش رية وتوحيد
البشرية ولكن كل خطوة من هذه ال جيب ان تتحول اىل مثل اعلى ال جيوز ان تتحول اىل
مطلق ،ال جيوز ان تكون العشرية هي املطلق الذي حيارب من اجله
140
ه ذا االنس ان وامنا املطلق ال ذي حيارب من اجله االنس ان يبقى هو ذاك املطلق احلقيقي ،
يبقى هو اهلل س بحانه وتع اىل ،اخلط وة تبقى كاس لوب ولكن املطلق يبقى هو اهلل س بحانه
وتعاىل هذا التعميم الزمين ايضا هو شكل من التعميم اخلاطئ حينما حيول هذا املثل املنتزع
من خط وة حمدودة عرب ال زمن حيول اىل مثل اعلى .وح ال ه ذا االنس ان ال ذي حيول ه ذه
الرؤية احملدودة عرب ال زمن حيوهلا اىل مطلق حاله ح ال االنس ان ال ذي يتطلع اىل االفق فال
تس اعده عينه اال اىل النظر على مس افة حمدودة فيخيل له ان ال دنيا تنتهي عند االفق ال ذي
ي راه ،ان الس ماء تنطبق على االرض على مس افة قريبة منه وقد خييل له وج ود املاء ،
وج ود الس راب على مقربة من ه .اال ان ه ذا يف احلقيقة ناشئ من عجز عينيه عن ان يت ابع
املسافة االرضية الطويلة االمد.
كذلك هنا هذا االنسان الذي يقف على طريق التاريخ الطويل ،على طريق املسرية
البشرية له افق حيكم قصوره الذهين وحبكم حمدودية الذهن البشري .له افق كذلك االفق
اجلغرايف ولكن هذا االفق جيب ان يتعامل معه كافق ال كمطلق كما اننا حنن على الصعيد
اجلغ رايف ال نتعامل مع ه ذا االفق ال ذي ن راه على بعد عش رين م رتا او م ائيت مرت انه هناية
االرض .وامنا
141
نتعامل معه بأنه أف ق .ك ذلك ايضا هنا جيب ان يتعامل ه ذا االنس ان معه ك افق ال حيول
ه ذا االفق الت ارخيي اىل مثل اعلى واال ك ان من قبيل من يسري حنو س راب ،انظ روا اىل
التمثيل الرائع يف قوله س بحانه وتع اىل « :وال ذين كف روا اعم الهم كس راب بقيعة يحس به
الظم آن م اءا ح تى اذا ج اءه لم يج ده ش يئا ووجد اهلل عن ده فوف اه حس ابه واهلل س ريع
الحساب » (.)1
يعرب الق رآن عن كل ه ذه املثل املص طنعة من دون اهلل س بحانه وتع اىل باهنا ك بيت
العنكبوت حيث يقول « :مثل الذين اتخذوا من دون اهلل اولياء كمثل العنكبوت اتخذت
بيتا وان اوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون » (.)2
اذا قارنا بني هذين النوعني من املثل العليا املشتقة من الواقع واملثل العليا املشتقة من
طم وح حمدود لالحظنا ان املثل العليا املش تقة من الواقع كث ريا ما تك ون قد م رت مبرحلة
ه ذه املثل اليت تعرب عن طم وح حمدود .يعين كث ريا ما تك ون تلك املثل من الن وع االول
امتداداً للمثل من النوع الثاين ،بأن يبدأ هذا املثل االعلى مشتقا من طموح لكن حينما
يتحقق هذا الطموح
__________________
( )1سورة النور :اآلية (.)39
( )2سورة العنكبوت :اآلية (.)41
142
احملدود ،حينما تصل البشرية اىل النقطة اليت أثارت هذه املثل .يتحول هذا املثل اىل واقع
حمدود حبسب اخلارج ،حينئذ يص بح مثال تكراريا من هنا قلنا يف ما س بق أننا لو رجعنا
خط وة اىل ال وراء بالنس بة اىل اهلة الن وع االول ،مثل الن وع االول .لو رجعنا اىل ال وراء
لوج دنا آهلة الن وع الث اين فاملس ألة يف كثري من االحي ان تب دأ هك ذا ،تب دأ مبثل اعلى له
طم وح مش تق من طم وح مس تقبلي مث يتح ول ه ذا املثل االعلى اىل مثل تك راري ،مث
يتمزق هذا املثل التكراري كما قلنا وتتحول االمة اىل شبح أمة .يف هذه الفرتة الزمنية متر
االمة مبراحل يف احلقيقة ميكننا تلخيصها يف أربعة مراحل .املرحلة االوىل هي مرحلة فاعلية
ه ذا املثل حبكم انه قد ب دأ مش تقا من طم وح مس تقبلي ولكن طبعا ه ذه الفاعلية وه ذا
العط اء هو عط اء يس ميه الق رآن بالعاجل ،ه ذه املكاسب عاجلة وليست مكاسب على
اخلط الطوي ل .عاجلة الن عمر ه ذا املثل قصري ،وعط اءه حمدود ،الن ه ذا املثل س وف
يتح ول يف حلظة من اللحظ ات اىل ق وة اب ادة لكل ما أعط اه من مكاسب وهلذا يس مى
بالعاجل .انظروا اىل قوله تعاىل « من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما يشاء لمن نريد ثم
جعلنا له جهنم يصالها مذموما مدحورا .ومن اراد االخرة وسعى لها سعيا وهو
143
مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا .كال نمد هؤالء وهؤالء من عطاء ربك وما كان عطاء
ربك محظ ورا» ( )1اهلل س بحانه وتع اىل خري حمض ،عط اء حمض ،ج ود كله ،فبق در ما
تتبىن االمة مثال قابال للتحريك .اهلل سبحانه وتعاىل ايضا يعطي لكنه يعطي بقدر قابلية هذا
املثل يعطي شيئا عاجال ال اكثر .يف حالة من هذا القبيل تكون السلطة اليت متثل هذا املثل
ذات مثل اعلى ،ذات مثل يعطي ويب دع وتك ون قي ادة موجهة لالمة يف ح دود ه ذا املثل
وتك ون لالمة دور املش اركة يف ص نع ه ذا املثل ويف حتقيق ه ذا املث ل .ه ذه املرحلة س وف
ت ؤدي اىل مكاسب ولكنها يف النظر الق رآين العميق الطويل االمد مكاسب عاجلة تعقبها
جهنم ،جهنم يف الدنيا وجهنم يف اآلخرة .هذه املرحلة االوىل مرحلة االبداع والتجديد.
املرحلة الثانية حينما يتجمد ه ذا املثل االعلى حينما يس تنفذ طاقته وقدرته على
العطاء حينئذ يتحول هذا املثل اىل متثال والقادة الذين كانوا يعطون ويوجهون على أساسه
يتحولون اىل سادة وكرباء ال اىل قادة .ومجهور االمة يتحول اىل مطيعني ومنقادين ال اىل
مشاركني يف االبداع
__________________
( )1سورة االسراء :اآلية ( 18ـ .)20
144
والتط وير وه ذه املرحلة هي املرحلة اليت عرب عنها الق رآن الك رمي بقوله « وق الوا ربنا أطعنا
س ادتنا وكبراءنا فاض لونا الس بيال » ( .)1مث ت أيت املرحلة الثالث ة .مرحلة االمت داد الت ارخيي
هلؤالء .ه ذه الس لطة تتح ول اىل طبقة بعد ذلك تت وارث مقاع دها عائليا أو طبقيا وراثيا
بشكل من اشكال الوراثة ،وحينئذ تصبح هذه الطبقة هي الطبقة املرتفة املنعمة اخلالية من
االغ راض الكب رية ،املش غولة هبمومها الص غرية وه ذا ما عرب عنه الق رآن الك رمي بقوله «
وك ذلك ما ارس لنا من قبلك في قرية من ن ذير اال ق ال مترفوها انا وج دنا آباءنا على أمة
وانا على آثارهم مقتدون » ( )2هؤالء امتداد تارخيي آلباء هلم تاريخ وهم امتداد تارخيي ،
وهذا االمتداد التارخيي حتول من مستوى مثل وعطاء اىل مستوى طبقة مرتفة تتوارث هذا
املقعد بش كل من اش كال الت وارث .ه ذه هي املرحلة الثالثة مث حينما تتفتت االمة ،حينما
تتم زق االمة ،حينما تفقد والءها ل ذلك املثل التك راري على ض وء ما قلن اه ت دخل يف
مرحلة رابعة وهي اخطر املراحل ففي ه ذه املرحلة يس يطر عليها جمرموها ،يس يطر عليها
اناس ال يرعون اال والذمة وهذا ما عرب
__________________
( )1سورة االحزاب :اآلية (.)67
( )2سورة الزخرف :اآلية (.)23
145
عنه الق رآن الك رمي يف قوله س بحانه وتع اىل « وك ذلك جعلنا في كل قرية اك ابر مجرميها
ليمك روا فيها وما يمك رون اال بأنفس هم » ( .)1حينئذ يس يطر جمموعة من ه ؤالء اجملرمني ،
يس يطر هتلر والنازية مثال يف ج زء من أوروبا لكي حيطم كل ما يف أوروبا من خري وكل
ما فيها اوروبا من اب داع ،لكي يقضي على كل تبع ات ذلك املثل االعلى ال ذي رفعه
االنسان االورويب احلديث والذي حتول بالتدريج اىل مثل تكراري مث تفسخ هذا املثل لكن
بقيت مكاس به يف اجملتمع االورويب .ي أيت ش خص كهتلر لكي ميزق كل تلك املكاسب
ويقضي عليها .االن نصل اىل النوع الثالث من املثل العليا وهو اهلل سبحانه وتعاىل .يف هذا
املثل التن اقض ال ذي واجهن اه س وف حيل ب اروع ص ورة كنا جند تناقضا وحاصل ه ذا
التن اقض هو ان الوجود ال ذهين لالنس ان حمدود ،واملثل جيب ان يكون غري حمدود فكيف
ميكن توفري احملدود وغري احملدود وكيف ميكن التنس يق بني احملدود وغري احملدود .ه ذا
التنس يق س وف جنده يف املثل االعلى ال ذي هو اهلل س بحانه وتع اىل ..ملاذا؟ الن ه ذا املثل
االعلى ليس من نتاج االنسان ،ليس افرازا ذهنيا لالنسان ،بل هو مثل أعلى
__________________
( )1سورة االنعام :اآلية (.)123
146
عيين له واقع عي ين .هو موج ود مطلق يف اخلارج ،له قدرته املطلقة وله علمه املطلق وله
عدله املطل ق .ه ذا الوج ود العيين بواقعه العيين يك ون مثال اعلى النه مطلق لكن االنس ان
حينما يريد ان يس تلهم من ه ذا الن ور ،حينما يريد ان ميسك حبزمة من ه ذا الن ور ،طبعا
هو ال ميسك اال باملقيد ،اال بق در حمدود من ه ذا الن ور اال انه مييز بني ما ميسك به وبني
مثله االعلى ،املثل االعلى خ ارج ح دود ذهنه ،لكنه ميسك حبزمة من الن ور .ه ذه احلزمة
مقي دة لكن املثل االعلى مطلق ،ومن هنا ح رص االس الم على التمي يز دائما بني الوج ود
ال ذهين وما بني اهلل س بحانه وتع اىل ال ذي هو املثل االعلى .ف رق حىت بني االسم واملس مى
وأكد على انه ال جيوز عب ادة االس م .وامنا تك ون العب ادة للمس مى الن االسم ليس اال
وجودا ذهنيا ،اال واجهة ذهنية هلل سبحانه وتعاىل .بينما الواجهات الذهنية دائما حمدودة
العب ادة جيب ان تك ون للمس مى ال لالسم الن املس مى هو املطلق اما االسم فهو مقيد
وحمدود .الواجه ات الذهنية تبقى كواجه ات ذهنية حمدودة مرحلية واما ص فة املثل االعلى
فتبقى قائمة باهلل سبحانه وتعاىل.
147
الدرس الحادي عشر :
()1
قال اهلل سبحانه وتعاىل « يا أيها االنسان انك كادح الى ربك كدحا فمالقيه »
ه ذه اآلية الكرمية تضع اهلل س بحانه وتع اىل ه دفا أعلى لالنس ان واالنس ان هنا مبعىن
االنسانية ككل ،فاالنسانية مبجموعها تكدح حنو اهلل سبحانه وتعاىل والكدح هنا كدح
االنسانية ككل ،حنو اهلل سبحانه وتعاىل ،يعين السري املستمر باملعاناة واجلهد واجملاهدة ،
الن ه ذا السري ليس س ريا اعتياديا ،بل هو سري ارتق ائي ،هو تص اعد وتكامل ،هو سري
تس لق ،فه ؤالء ال ذين يتس لقون اجلب ال ليص لوا اىل القمم يك دحون حنو ه ذه القمم ،
يس ريون سري معان اة وجه د .ك ذلك االنس انية حينما تك دح حنو اهلل فامنا هي تتس لق اىل
قمم كماهلا وتكاملها وتطورها اىل االفضل
__________________
( )1سورة االنشقاق :اآلية (.)6
148
باستمرار .وهذا السري الذي حيتوي على املعاناة باستمرار يفرتض طريقا ال حمالة فان السري
حنو هدف يفرتض حتما طريقا ممتدا بني السائر وبني ذلك اهلدف .وهذا الطريق هو الذي
حتدثت عنه اآلي ات الكرمية يف املواضع املتفرقة حتت اسم س بيل اهلل واسم الص راط واسم
صراط اهلل هذه الصيغ القرآنية املتعددة كلها تتحدث عن الطريق الذي يفرتضه ذلك السري
وكما أن السري يفرتض الطريق ،كذلك الطريق يفرتض السري أيضا وهذه اآلية الكرمية «
يا أيها االنسان انك كادح الى ربك كدحا فمالقيه » تتحدث عن حقيقة قائمة ،عن واقع
موض وعي ث ابت .فهي ليست بص دد دع وة الن اس اىل أن يس ريوا يف طريق اهلل س بحانه
وتع اىل ،ليست بص دد الطلب والتحريك ،فما هو احلال يف آي ات أخ رى يف مقام ات
وسياقات قرآنية أخرى.
اآلية القرآنية الكرمية ال تقول يا أيها الناس تعالوا اىل سبيل اهلل ،توبوا اىل اهلل ،بل
تقول « يا أيها االنسان انك كادح الى ربك كدحا فمالقيه » ،لغة اآلية لغة التحدث عن
واقع ث ابت وحقيقة قائمة وهي أن كل سري وكل تق دم لالنس ان يف مس ريته التارخيية
الطويلة االمد ،فهو تقدم حنو اهلل سبحانه وتعاىل وسري حنو اهلل
149
س بحانه وتع اىل حىت تلك اجلماع ات اليت متس كت باملثل املنخفضة وباآلهلة املص طنعة
واستطاعت ان حتقق هلا سريا ضمن خطوة على هذا الطريق الطويل ،حىت هذه اجلماعات
اليت يسميها القرآن باملشركني هم يسريون هذه اخلطوة حنو اهلل ،هذا التقدم بقدر فاعليته
وبقدر زمخه هو اقرتاب حنو اهلل سبحانه وتعاىل ،لكن هناك فرق بني تقدم مسؤول وتقدم
غري مسؤول ( على ما يأيت شرحه ان شاء اهلل ) ،حينما تتقدم االنسانية يف هذا املفاض
واعية على املثل االعلى وعيا موضوعيا يكون التقدم تقدما مسؤوال ،يكون عبادة حبسب
لغة الفقه ،لونا من العبادة يكون له امتداد على اخلط الطويل وانسجام مع الوضع العريض
للك ون ،وأما حينما يك ون التق دم منفصال عن ال وعي على ذلك املثل فهو تق دم على أي
حال ،سري حنو اهلل على أي حال ،ولكنه تقدم غري مسؤول على ما يأيت تفصيله.
اذن ك ان تق دم هو تق دم حنو اهلل ،حىت اولئك ال ذين ركض وا وراء س راب كما
حتدثت اآلية الكرمية ف ان ه ؤالء ال ذين يركض ون وراء الس راب االجتم اعي ،وراء املثل
املنخفضة ،حينما يص لوا اىل ه ذا الس راب ال جيدون ش يئا ،وجيدون اهلل س بحانه وتع اىل
فيوفيهم حساهبم كما تتحدث اآلية الكرمية اليت قرأناها فيما سبق ،واهلل
150
س بحانه وتع اىل هو هناية ه ذا الطريق ولكنه ليس هناية جغرافية ليس هناية على منط
النهاي ات اجلغرافية للط رق املمت دة مكاني ا .ك ربالء مثال هناية طريق ممتد بني النجف
وك ربالء ،ك ربالء مبعناها املك اين هناية جغرافية ،ومعىن اهنا هناية جغرافية اهنا موج ودة
على آخر الطريق ،ليست موج دة على ط ول الطريق ،لو أن انس انا س ار حنو ك ربالء
ووقف يف نصف الطريق ال حيصل على شيء من كربالء ،ال حيصل على حفنة من تراب
ك ربالء اطالقا ،الن ك ربالء هناية جغرافية موج ودة يف آخر الطريق ،ولكن اهلل س بحانه
وتع اىل ليس هناية على منط النهاي ات اجلغرافية ،اهلل س بحانه وتع اىل هو املطلق ،هو املثل
االعلى ،أي املطلق احلقيقي العيين ،وحبكم كونه هو املطلق ،اذن هو موج ود على ط ول
الطريق أيضا ،ليس هن اك ف راغ منه ،ليس هن اك احنس ار عنه ،ليس هن اك حد له ،اهلل
س بحانه وتع اىل هو هناية الطريق ولكنه موج ود أيضا على ط ول الطريق ،من وصل اىل
نصف الطريق ،من وصل اىل سرابه ،فتوقف واكتشف انه سراب ،ماذا جيد؟ ماذا وجد
يف اآلية؟ ..وجد اهلل فوفاه اهلل حسابه الن املطلق موجود على طول الطريق وبقدر زخم
الطريق وبقدر التقدم يف الطريق جيد االنسان مثله االعلى ،يلقى اهلل سبحانه وتعاىل
151
اينما توقف حبجم س ريه ،وحبجم تقدمه على ه ذا الطري ق .وحبكم أن اهلل س بحانه وتع اىل
هو املطلق اذن الطريق ايضا ال ينتهي هذا الطريق طريق االنسان حنو اهلل هو اقرتاب مستمر
يقدر التقدم احلقيقي حنو اهلل ،ولكن هذا االقرتاب يبقى اقرتابا نسبيا ،يبقى جمرد خطوات
على الطريق من دون ان جيت از ه ذا الطريق ،الن احملدود ال يصل اىل املطلق ،الك ائن
املتناهي ال ميكن ان يصل اىل الالمتناهي ،فالفسحة املمتدة بني االنسان وبني املثل االعلى
هنا فس حة ال متناهية ،أي انه ت رك له جمال االب داع اىل الالهناية ،جمال التط ور التك املي
اىل الالهناية ،بأعتب ار أن الطريق املمتد طريق ال هنائي .وه ذا املثل االعلى احلقيقي حينما
تتبن اه املس رية االنس انية وتوفق بني وعيها البش ري والواقع الك وين ال ذي يف رتض ه ذا املثل
االعلى حقيقة قائمة كما افرتض ته اآلية ،املس رية االنس انية حينما توفق بني وعيها على
املس رية وبني الواقع الك وين هلذه املس رية ،بوص فها س ائرة ومتجهة حنو اهلل س وف حيدث
تغيري كيفي وكمي على هذه املسرية ،هذه احلركة سوف حيدث فيها تغيري كيفي وكمي
،أما التغري الكمي على هذه احلركة فهو باعتبار ما أشرنا اليه من أن الطريق حينما يكون
طريقا اىل املثل االعلى احلق يكون طريقا غري
152
متن اهي ،أي أن جمال التط ور واالب داع ،والنمو ق ائم اب دا ودائما ،مفت وح لالنس ان
بأس تمرار من دون توقف ه ذا املثل االعلى حينما يتبىن س وف منسح من الطريق كل اآلهلة
املزورة ،كل االص نام وكل االق زام املتص نمة على طريق االنس ان اليت تقف عقبة بني
االنسان وبني وصوله اىل اهلل سبحانه وتعاىل ،ومن هنا كان دين التوحيد صراعا مستمرا
مع خمتلف اش كال االهلة واملثل املنخفضة والتكرارية اليت ح اولت ان تتحد من كمية
احلركة اىل نقطة مث تق ول قف أيها االنس ان .ه ذه االهلة اليت ارادت أن توقف االنس ان يف
وسط الطريق ،ويف نقطة معينة ك ان دين التوحيد على مر الت اريخ هو حامل ل واء املعركة
ض دها ،ه ذا املثل االعلى اذن س وف حيدث تغي ريا كميا على احلركة النه يطلقها من
عقاهلا ،يطلقها من ه ذه احلدود املص طنعة لكي تسري بأس تمرار وأما التغيري الكيفي ال ذي
حيدثه املثل االعلى على هذه املسرية فهذا التغيري الكيفي هو اعطاء احلل املوضوعي الوحيد
للجدل االنساين ،للتناقض االنساين ،اعطاء الشعور باملسؤولية املوضوعية لدى االنسان ،
االنس ان من خالل اميانه هبذا املثل االعلى ووعيه على طريق حبدوده الكونية الواقعية من
خالل هذا الوعي ينشأ بصورة موضوعية ،شعور معمق لديه باملسؤولية جتاه
153
ه ذا املثل االعلى الول م رة يف ت اريخ املثل البش رية اليت ح ركت البشر على مر الت اريخ ،
ملاذا؟
الن ه ذا املثل االعلى حقيقة وواقع عيين منفصل عن االنس ان وهبذا يعطي
للمس ؤولية ش رطها املنطقي ف ان املس ؤولية احلقيقية ال تق وم اال بني جه تني بني مس ؤول
ومس ؤول لدي ه .اذا مل تكن هن اك جهة أعلى من ه ذا الك ائن املس ؤول واذا مل يكن ه ذا
الك ائن املس ؤول مؤمنا بأنه بني يديه جهة أعلى ال ميكن ان يك ون ش عوره باملس ؤولية
ش عورا موض وعيا ،ش عورا حقيقيا ،مثال تلك املثل املنخفضة ،تلك االهلة ،تلك االق زام
املتعملقة على مر التاريخ ،على مر املسرية البشرية هي يف احلقيقة مل تكن كما رأينا وكما
حللنا اال اف رازا بش ريا ،اال انتاجا انس انيا ،يعين اهنا ج زء من االنس ان ج زء من كي ان
االنسان ،واالنسان ميكن ان يستشعر بصورة موضوعية حقيقة املسؤولية جتاه ما يفرزه ،
هو اجتاه ما يص نعه هو « ان هي اال أمساء مسيتموها » تلك املثل ال تص نع الش عور
املوض وعي باملس ؤولية ،نعم قد تص نع ق وانني ،قد تص نع ع ادات ،قد تص نع اخالق ،
ولكنها كلها عطاء ظاهري ،وكلما وجد هذا االنسان جماال للتحلل من هذه العادات ،
ومن هذه االخالق ،ومن هذه القوانني فسوف يتحلل.
154
بينما املثل االعلى ل دين التوحيد ،لالنبي اء على مر الت اريخ باعتب اره واقعا عينيا
منفصال عن االنسان ،باعتباره جهة اعلى من االنسان ليست افرازا بشريا ،ليست انتاجا
انسانيا ،اذن سوف يتوصل للشعور باملسؤولية ،شرطه املوضوعي يف املقام ،ملاذا كان
االنبياء على مر التاريخ أصالب الثوار على الساحة التارخيية ،أنظف الثوار على الساحة
التارخيية ،ملاذا ك انوا على الس احة التارخيية ف وق كل مس اومة ،ف وق كل مهادنة ،ف وق
كل متلمل مينة او يسرة ،ملاذا كانوا هكذا ،ملاذا اهنار كثري من الثوار على مر التاريخ ومل
يس مع أن نبيا من أنبي اء التوحيد اهنار أو متلمل او أحنرف مينة او يس رة عن الرس الة اليت
بيده وعن الكت اب الذي حيمله من الس ماء ،الن املثل االعلى املنفصل عنه الذي فوقه هو
الذي اعطاه نفحة موضوعية من الشعور باملسؤولية وهذا الشعور باملسؤولية جتسد يف كل
كيانه يف كل مشاعره وافكاره وعواطفه ،ومن هنا كان النيب معصوما على مر التاريخ ،
اذن ه ذا املثل االعلى حبسب احلقيقة حيدث تغي ريا كيفيا على املس رية النه يعطي الش عور
باملس ؤولية ،وه ذا الش عور باملس ؤولية ليس أم را عرض يا ،ليس ام را ثانويا يف مس رية
االنسان ،بل هو شرط أساسي يف امكان اجناح
155
ه ذه املس رية وتق دمي احلل املوض وعي للتن اقض االنس اين للج دل االنس اين ،الن االنس ان
يعيش تناقضا حبسب تركيبه وخلقته ،النه هو ت ركيب من حفنة من ت راب ونفخة من
روح اهلل سبحانه وتعاىل كما وصفت ذلك اآليات الكرمية.
اآليات الكرمية قالت بان االنسان خلق من تراب ،وقالت بانه نفخ فيه من روحه
سبحانه وتعاىل ،اذا فهو جمموع نقيضني اجتمعا والتحما يف االنسان ،حفنة الرتاب جتره
اىل االرض ،جتره اىل الش هوات اىل املي ول ،جتره اىل كل ما ترمز اليه االرض من احندار
واحنط اط وروح اهلل س بحانه وتع اىل اليت نفخها فيها جتره اىل أعلى تتس امى بانس انيته اىل
حيث ص فات اهلل ،اىل حيث اخالق اهلل ،تتخلق ب اخالق اهلل ،اىل حيث العلم ال ذي ال
حد له والق درة اليت ال حد هلا ،اىل حيث الع دل ال ذي ال حد له ،اىل حيث اجلود
والرمحة واالنتق ام ،اىل حيث ه ذه االخالق االهلية ،ه ذا االنس ان واقع يف تي ار ه ذا
التناقض ،يف تيار هذا اجلدل حبسب حمتواه النفسي ،حبسب تركيبه الداخلي ،هذا اجلدل
وهذا التناقض الذي احتوته طبيعة االنسان وشرحته قصة آدم على ما يأيت انشاء اهلل تعاىل
،هذا اجلدل االنساين له حل واحد فقط ،هذا احلل الواحد
156
الذي ميكن ان يفرض هلذا التناقض هو الشعور باملسؤولية ال الشعور املنبثق عن هذا اجلدل
ف ان الش عور املنبثق عن نفس ه ذا اجلدل ال حيل ه ذا اجلدل بل هو يس اهم يف اف راز ه ذا
التن اقض وه ذا الش عور املوض وعي باملس ؤولية ال يكفله اال املثل االعلى ال ذي يك ون جهة
عليا ،حيس االنس ان من خالهلا بانه بني ي دي رب ق ادر مسيع بصري حماسب جماز على
الظلم ،جماز على الع دل .اذن ه ذا الش عور املوض وعي باملس ؤولية ال ذي هو التغري الكيفي
على املس رية هو يف احلقيقة احلل الوحيد للتن اقض وللج دل ال ذي تس تبطنه طبيعة االنس ان
وت ركيب االنس ان .دور دين التوحيد اذن هو عب ارة عن تعبيد ه ذا الطريق الطويل الطويل
،تعبي ده وازالة العوائق من خالل تنمية احلركة كميا وكيفيا وحماربة تلك املثل املص طنعة
عور واملنخفضة والتكرارية اليت تريد ان جتمد احلركة من ناحية وأن تعريها من الش
باملسؤولية من ناحية اخرى ،ومن هنا كان حرب االنبياء كما أشرنا كان حرب االنبياء
مع االهلة املصطنعة على مر التاريخ ،وملا كان كل مثل من هذه املثل العليا اليت تتحول اىل
متث ال ض من ظ روف تطورها بالش كل ال ذي ش رحناه فيما س بق ،حينما تتح ول اىل متث ال
جند يف جمموعة من الن اس ،جتد فيهم م دافعني طبيع يني عنها باعتب ار ان جمموعة من الن اس
ترتبط مصاحلهم وترفهم وكياهنم املادي
157
وال دنيوي ببق اء ه ذا املث ال ال ذي حتول اىل متث ال وهلذا يقف دائما ه ؤالء ال ذين يرتبط ون
مصلحيا هبذا التمثال ،يقفون دائما يف وجهه االنبياء ليدافعوا عن مصاحلهم ،عن دنياهم
،عن ت رفهم ،ومن هنا اب رز الق رآن الك رمي س نة من س نن الت اريخ وهي ان االنبي اء دائما
ك انوا يواجه ون املرتفني من جمتمع اهتم كقطب آخر من املعارضة مع ه ذا النيب الن ه ذا
املرتف املستفيد من هذا املثال بعد ان حتول اىل ذلك التمثال هذا املثال حتول اىل متثال فمن
هو املس تفيد من ه؟ املس تفيد منه املرتفون يف ذلك اجملتمع ،املنعم ون على حس اب الن اس
ال ذين جيعل ون من ه ذا التمث ال م ربرا لوج ودهم ،من هنا يك ون من الط بيعي ان ه ؤالء
املرتفني وه ؤالء املس تفيدين جتدهم دائما يف اخلط املع ارض لالنبي اء « ،وك ذلك ما ارس لنا
من قبلك في قرية من ن ذير اال ق ال مترفوها انا وج دنا اباءنا على أمة وانا على آث ارهم
مقتدون » (.)1
« وما ارس لنا في قرية من ن ذير اال ق ال مترفوها انا بما ارس لتم به ك افرون » (« )2
سأصرف عن آيايت الذي يستكربون يف االرض بغري احلق وان يروا كل آية ال
__________________
( )1سورة الزخرف :اآلية (.)23
( )2سورة سبأ :اآلية (.)34
158
يؤمنون بها .وان يروا سبيل الرشد ال يتخذوه سبيال .وان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيال
ذلك ب انهم ك ذبوا بآياتنا وك انوا عنها غ افلين » ( « .)1وق ال المأل من قومه ال ذين كف روا
وك ذبوا بلقاء االخرة واترفناهم في الحي اة ال دنيا ما ه ذا اال بشر مثلكم يأكل مما ت أكلون
منه ويشرب مما تشربون » ( .)2اذن دين التوحيد هو الذي يستأصل مصاحل هؤالء املرتفني
بالقض اء على اهلتهم وعلى مثلهم اليت حتولت اىل متاثيل ،يقطع ص لة البش رية هبذه املثل
العليا املنخفضة ولكنه ال يقطع ص لتها هبذه املثل العليا املنخفضة لكي يطأ برأس ها يف
ال رتاب ،لكي حيوهلا اىل كومة مادية ليس هلا اش واق ليس هلا طموح ات ليس هلا تطلع ات
اىل اعلى كما هو ش أن الث وار املاديني ال ذين يس تلهمون من املادية التأرخيية ومن الفهم
املادي للتاريخ ،اولئك ايضا حياربون هذه االهلة املصطنعة ويسموهنا أفيون الشعوب وحنن
ايضا حنارب هذه االهلة املصطنعة ولكننا حنن حنارهبا ال لكي حنول االنسان اىل حيوان ،ال
لكي نقطع صلة االنسان بأشواقه العليا ،ال لكي حنول مسار
__________________
( )1سورة االعراف :اآلية (.)146
( )2سورة املؤمنون :اآلية (.)33
159
االنس ان من اعلى اىل أس فل وامنا نقطع ص لة االنس ان هبذه املثل املنخفضة لكي نش ده اىل
املثل االعلى لكي نشده اىل اهلل سبحانه وتعاىل وتبين املسرية البشرية هلذا املثل االعلى احلق
ال ذي حيدث ه ذه التغ ريات الكيفية والكمية على اجتاه املس رية وحجمها ،تبين املس رية
البشرية هلذا املثل يتوقف على عدة أمور :
1ـ على رؤية واض حة فكريا واي ديولوجيا هلذا املثل االعلى وه ذه الرؤية الواض حة
هلذا املثل االعلى هو ال ذي تقدمه عقي دة التوحيد على مر الت اريخ ،عقي دة التوحيد اليت
تنط وي على االميان باهلل س بحانه وتع اىل ،اليت توحد بني كل املثل ،بني كل الغاي ات
وكل الطموحات وكل التطلعات البشرية وتوحد بينها يف هذا املثل االعلى الذي هو علم
كله وق درة كله وع دل كله ورومحة ،كله انتق ام من اجلب ارين .ه ذا املثل االعلى ال ذي
تتوحد فيه كل الطموح ات وكل الغاي ات ،ه ذا املثل االعلى تعطينا عقي دة التوحيد رؤية
واض حة له ،تعلمنا على ان نتعامل مع ص فات اهلل واخالق اهلل بوص فها حق ائق عينية
منفصلة عنا كما يتعامل فالسفة االغريق وامنا نتعامل مع هذه الصفات واالخالق بوصفها
رائ دا عمليا ،بوص فها ه دفا ملس ريتنا العملية ،بوص فها مؤش رات على الطريق الطويل
لالنسان حنو اهلل
160
س بحانه وتع اىل .عقي دة التوحيد هي اليت ت وفر ه ذا الش رط االول وهو الرؤية الواض حة
فكريا وايديولوجيا للمثل اعلى.
2ـ الب ّد من طاقة روحية مس تمدة من ه ذا املثل االعلى لكي تك ون ه ذه الطاقة
الروحية رص يدا ووق ودا مس تمرا لالرادة البش رية على مر الت اريخ ،ه ذه الطاقة الروحية ،
ه ذا الوقود ال ذي يستمد من اهلل س بحانه وتع اىل يتمثل يف عقي دة يوم القيامة ،يف عقي دة
احلشر واالمت داد ،عقي دة يوم القيامة تعلم االنس ان ان ه ذه الس احة التارخيية الصغرية اليت
يلعب عليها االنس ان مرتبطة ارتباطا وثيقا بس احات برزخية وبس احات حش رية يف ع امل
الربزخ واحلشر .وان مصري االنسان على تلك الساحات العظيمة اهلائلة مرتبط بدوره على
هذه الساحة التارخيية .هذه العقيدة تعطي تلك الطاقة الروحية وذلك الوقود الرباين الذي
ينعش ارادة االنسان وحيقق له دائما قدرته على التمديد واالستمرار.
3ـ ان ه ذا املثل االعلى ال ذي حتدثنا عنه خيتلف عن املثل العليا االخ رى التكرارية
واملنخفضة اليت حتدثنا عنها س ابقا على اس اس ان ه ذا املثل منفصل عن االنس ان ،ليس
ج زءا من االنس ان ،ليس من اف راز االنس ان ،بل هو منفصل عنه ،هو واقع عيين ق ائم
هناك ،قائم يف كل
161
مكان وليس جزءا من االنسان ،هذا االنفصال يفرض وجود صلة موضوعية بني االنسان
وه ذا املثل االعلى .بينما املثل االخ رى الس ابقة ك انت انس انية ،ك انت اف رازا بش ريا
الحاجة اىل افرتاض صلة موضوعية ،نعم هناك طواغيت وفراعنة على مر التاريخ نصبوا
من انفسهم صالت موضوعية بني البشرية وبني آهلة الشمس ،آهلة الكواكب ولكنها صلة
موضوعية مزيفة الن هذا االله هناك كان ومها ،كان وجودا ذهنيا ،كان افرازا انسانيا ،
اما هنا املثل االعلى منفصل عن االنس ان وهلذا ك ان الب ّد من ص لة موض وعية تربط ه ذا
االنسان بذلك املثل االعلى .وهذه الصلة املوضوعية تتجسد يف النيب يف دور النبوة ،فالنيب
هو ذلك االنسان الذي يركب بني الشرط االول والشرط الثاين بأمر اهلل سبحانه وتعاىل ،
بني رؤية ايديولوجية واض حة للمثل االعلى وطاقة روحية مس تمدة من االميان بي وم القيامة
،يركب بني هذين العنصرين مث جيسد بدور النبوة .الصلة بني املثل االعلى والبشرية هذا
املركب اىل البشرية بشريا ونذيرا.
4ـ البشرية بعد ان تدخل مرحلة يسميها القرآن مرحلة االختالف على ما يأيت ان
شاء اهلل شرحه يف الدروس القادمة سوف لن يكفي جميء البشري النذير
162
الن مرحلة االختالف تعين مرحلة انتص اب تلك املثل املنخفضة او التكرارية ،تعين وجود
تلك االهلة املزورة على الطريق ،وجود تلك احلواجب والعوائق عن اهلل س بحانه وتع اىل ،
اذن الب ّد للبش رية من ان ختوض معركة ضد اآلهلة املص طنعة ،ضد تلك الط واغيت واملثل
املنخفضة اليت تنصب من نفسها قيما على البشرية وحاجب وقاطع طريق بالنسبة للمسرية
التارخيية ،الب ّد من معركة ضد هذه اآلهلة ،الب ّد من قيادة تتبىن هذه املعركة وهذه القيادة
هي االمامة ،هي دور االم ام ،االم ام هو القائد ال ذي يت وىل ه ذه املعرك ة .ودور االمامة
ين دمج مع دور النب وة يف مرحلة من مراحل النب وة يتح دث عنها الق رآن وس وف نتح دث
عنها انش اء اهلل تع اىل ونق ول باهنا ب دأت يف أكرب الظن مع ن وح عليه الص الة والس الم.
ودور االم ام ين دمج مع دور النب وة ولكنه ميتد حىت بعد النيب اذا ت رك النيب الس احة وبعد
الت زال املعركة قائمة وال ت زال الرس الة حباجة اىل مواص لة ه ذه املعركة من اجل القض اء
على تلك اآلهلة حينئذ ميتد دور االمامة بعد انته اء الن يب .ه ذا هو الش رط الرابع يف تبين
املسرية التارخيية هلذا املثل االعلى ،على هذا الضوء سوف نكون رؤية واضحة ملا نسميه
االصول اخلمسة ،سوف تقع اصول الدين اخلمسة يف موقعها الطبيعي الصحيح
163
الس ليم من مس ار االنس ان ،اص ول ال دين اخلمس ة .التوحيد :هو ال ذي يعطي الرؤية
الواض حة فكريا واي ديولوجيا ،هو ال ذي جيمع ويع بئ كل الطموح ات وكل الغاي ات يف
مثل اعلى واحد وهو اهلل سبحانه وتعاىل.
العدل :هو جانب من التوحيد ولكن امنا فصل العدل صفة من صفات اهلل سبحانه
وتع اىل ح ال الع دل ،ح ال العليم ،ح ال الق درة ،ال يوجد م يزة عقائدية يف الع دل يف
مقابل العلم ،يف مقابل الق درة ولكن امليزة هنا م يزة اجتماعية ،م يزة الق دوة .ألن الع دل
هو الص فة اليت تعطي للمس رية االجتماعية وتغنيها واليت تك ون املس رية االجتماعية حباجة
اليها اك ثر من أي ص فة أخ رى ،اب رز الع دل هنا كأصل ث اين من اص ول ال دين باعتب ار
املدلول التوجهي ،باعتبار املدلول الرتبوي هلذه الصفة ،قلنا بان صفات اهلل واخالق اهلل
علمنا االس الم ب ان ال نتعامل معها كحق ائق عينية ميتافيزقية فوقنا ال ص لة لنا هبا وإمنا
نتعامل معها كمؤشرات وكمنارات على الطريق اذن من هنا كان العدل له مدلوله االكرب
بالنس بة اىل توجيه املس رية البش رية والجل ذلك أف رز .وان الع دل يف احلقيقة هو داخل يف
اطار التوحيد العام ،يف اطار املثل االعلى.
164
االصل الثالث النبوة :النبوة هي اليت توفر الصلة املوضوعية بني االنسان وبني املثل
االعلى .املس رية البش رية كما قلنا حينما تبنت املثل االعلى احلق املنفصل عنها ال ذي ليس
من افرازها ومن انتاجها املنخفض كانت حباجة اىل صلة موضوعية .هذه الصلة املوضوعية
جيس دها النيب (ص) ،النيب على مر الت اريخ ،االنبي اء عليهم الص الة والس الم هم ال ذين
جيسدون هذه الصلة املوضوعية.
االمامة :االمامة هي يف احلقيقة تلك القي ادة اليت تن دمج مع دور النب وة ،النيب هو
ام ام ايضا ،النيب نيب والنيب ام ام ولكن االمامة ال تنتهي بانته اء النيب اذا ك انت املعركة
قائمة واذا ما ك انت الرس الة ال ت زال حباجة اىل قائد يواصل املعرك ة .اذن س وف يس تمر
هذا اجلانب من دور النيب خالل االمامة .فاالمامة هو االصل الرابع من اصول الدين.
واالصل اخلامس هو اميان بي وم القيامة :هو ال ذي ي وفر الش رط الث اين من الش روط
االربعة اليت تق دمت ،هو ال ذين يعطي تلك الطاقة الروحية ،ذلك الوق ود الرب اين ال ذي
جيدد دائما ارادة االنسان وقدرة االنسان ويوفر الشعور باملسؤولية والضمانات املوضوعية.
اذن اصول الدين يف احلقيقة
165
وب التعبري التحليلي على ض وء ما ذكرن اه هي كلها عناصر تس اهم يف ت ركيب ه ذا املثل
االعلى ويف اعطاء تلك العالقة االجتماعية بصفتها التارخيية ،بصفتها القرآنية الرباعية اليت
حتدثنا عنها يف ال دروس املاض ية ،حتدثنا ب ان الق رآن الك رمي ط رح العالقة االجتماعية ذات
اربعة ابع اد ال ذات ثالثة ابع اد ،طرحها بص يغة االس تخالف وش رحنا يف ما س بق ص يغة
االس تخالف وقلنا ب ان االس تخالف يف رتض اربعة ابع اد ،يف رتض انس انا وطبيعة واهلل
سبحانه وتعاىل وهو املستخلف .هذه الصيغة الرباعية للعالقة االجتماعية هي التعبري االخر
عن صيغة تدمج اصول الدين اخلمسة يف مركب واحد من اجل ان يسري االنسان ويكدح
حنو اهلل س بحانه وتع اىل يف طريقه الطويل ،مبا ذكرن اه نوضح دور االنس ان يف املس رة
التارخيية ،نوضح ان االنس ان هو مركز الثقل يف املس رية التارخيي ة .هو مركز الثقل ال
جبس مه الفيزي ائي وامنا مبحت واه ال داخلي وه ذا احملت وى ال داخلي توضح ايضا من خالل ما
شرحناه .ان االساس يف بناء هذا احملتوى الداخلي هو املثل االعلى الذي يتبناه االنسان ،
الن املثل االعلى هو الذي تنبثق منه كل الغايات التفصيلية.
166
والغاي ات التفص يلية هي احملرك ات التارخيية للنش اطات على الس احة التارخيي ة .اذن
املثل االعلى وتبين املثل االعلى هو يف احلقيقة االس اس يف بن اء احملت وى ال داخلي لالنس ان
ومن هنا ظهر دور هذا البعد الرابع.
167
الدرس الثاني عشر :
مقدمة يف حتليل عناصر اجملتمع ،ان اجملتمع يتكون من ثالثة عناصر وهي :االنسان
والطبيعة والعالقة يف احللقة التارخيية ،وقد حتدثنا عن االنس ان ودوره االساسي يف احللقة
التارخيية وحتدثنا عن الطبيعة وش أهنا على الس احة التارخيية وبقي علينا ان نأخذ العنصر
الث الث وهو :العالقة االجتماعية لنح دد موقفنا من ه ذه العالقة االجتماعية على ض وء ما
انتهينا اليه من مواقف قرآنية جتاه دور االنس ان والطبيعة على الس احة التارخيية ،العنصر
الثالث هو العالقة االجتماعية وقد تقدم ان العالقة االجتماعية تتضمن عالقتني مزدوجتني
اح دامها عالقة االنس ان مع الطبيعة واالخ رى عالقة االنس ان مع اخيه االنس ان ،ه ذان
خطّ ان من العالقة االجتماعية ،وه ذان اخلط ان ن ؤمن ب ان كل واحد منهما خمتلف عن
االخر ومستقل استقالال نسبيا عن االخر مع
168
شيء من التفاعل والتأثري املتبادل احملدود الذي سوف نشرحه بعد ذلك ان شاء اهلل تعاىل
من حيث االساس ،هذان اخلطان احدمها خمتلف عن االخر ومستقل استقالال نسبيا عنه
تبعا لالختالف النوعي يف طبيعة املشكلة اليت يواجهها كل واحد من هذين اخلطني ونوع
احلل الذي ينسجم مع طبيعة تلك املش كلة .فاخلط االول ال ذي ميثل عالق ات االنس ان مع
الطبيعة من خالل اس تثمارها وحماولة تطويعها وانت اج حاجاته احلياتية منه ا .ه ذا اخلط
يواجه مش كلة وهي مش كلة التن اقض بني االنس ان والطبيعة ،ويعين مترد الطبيعة وتعص يها
عن االس تجابة للطلب االنس اين وللحاجة االنس انية من خالل التفاعل ما بينهما ،ه ذا
التن اقض بني االنس ان والطبيعة هو املش كلة الرئيسية على ه ذا اخلط وه ذا التن اقض له حل
من ق انون موض وعي ميثل س نة من س نن الت اريخ الثابتة ،وه ذا الق انون هو ق انون الت أثري
املتب ادل بني اخلربة واملمارسة ،ذلك الن االنس ان كلما تض اءل جهله بالطبيعة وكلما
ازدادت خربته بلغتها وبقوانينها ازدادت س يطرة عليها ومتكنا من تطويعها وت ذليلها
حلاجاته وحيث ان كل خ ربة هي تتولد يف ه ذا احلقل ع ادة من املمارسة ،وكل ممارسة
تولد بدورها خربة وهلذا كان قانون التأثري املتبادل بني اخلربة
169
واملمارسة قانونا موض وعيا يكفل حل ه ذا التن اقض ،يق دم احلل املس تمر واملتن امي هلذا
التناقض بني االنسان والطبيعة .اذ يتضاءل جهل االنسان باستمرار وتنمو معرفته باستمرار
من خالل ممارسته للطبيعة يكتسب خربة جديدة ،هذه اخلربة اجلديدة تعطيه سيطرة على
ميدان جديد من ميادين الطبيعة فيمارس على امليدان اجلديد وهذه املمارسة بدورها ايضا
تتحول اىل خربة وهكذا تنمو اخلربة االنسانية باستمرار ما مل تقع كارثة كربى طبيعية او
بش رية ،وه ذا الق انون ينم وه وبتطابيقاته التارخيية يعطي احلل ول التدرجيية هلذه املش كلة ،
فهي مش كلة حملولة تارخييا وحملولة موض وعيا ولعل يف اآلية الكرمية « وآت اكم من كل ما
س ألتموه ،ان تع دوا نعمة اهلل ال تحص وها » ( )1لعل يف اآلية الكرمية اش ارة اىل ه ذا احلل
املوض وعي املس تمد من ق انون الت أثري املتب ادل بني اخلربة واملمارسة الن الس ؤال يف اآلية
الكرمية « وآتاكم من كل ما سألتمون » ال يراد منه الدعاء طبعا السؤال اللفظي الذي هو
ال دعاء ،الن اآلية تتكلم عن االنس انية ككل عمن ي ؤمن باهلل ومن ال ي ؤمن باهلل ،من
ي دعو اهلل ومن ال ي دعو اهلل ،كما ان ال دعاء ال يتض من حتما حتص يل الش يء املدعو به ،
نعم كل دعاء له استجابة ،
__________________
( )1سورة ابراهيم اآلية (.)34
170
لكن ليس لكل دع اء حتقيق ملا تعلق به ال دعاء ،بينما هنا يق ول « وآت اكم من كل ما
سألتموه » هنا ايتاء ،استجابة فعلية بعطاء ما سؤل عنه ،فأكرب الظن ان هذا السؤال من
االنسانية ككل وعلى مر التاريخ وعرب املاضي واحلاضر واملستقبل يتمثل يف السؤال الفعلي
والطلب التكويين الذي حيقق باستمرار التطبيقات التارخيية لقانون التأثري املتبادل بني اخلربة
واملمارسة ،ه ذه هي املش كلة اليت يواجهها اخلط االول من العالق ات ،وه ذا هو احلل
ال ذي يوضع هلذه املش كلة .واما اخلط الث اين من العالق ات عالق ات االنس ان مع اخيه
االنس ان يف جمال توزيع الث ورة أو يف س ائر احلق ول االجتماعية أو يف أوجه التفاعل
احلضاري بني االنسان واخيه االنسان ،فهذا اخلط يواجه مشكلة أخرى ،ليست املشكلة
هنا هي التن اقض بني االنس ان والطبيعة بل هي التن اقض االجتم اعي بني االنس ان واخيه
االنس ان .وه ذا التن اقض االجتم اعي بني االنس ان واخيه االنس ان يتخذ على الس احة
االجتماعية ص يغا متع ددة والوانا خمتلفة ولكنه يظل يف حقيقته وج وهره يظل ش يئا ثابتا
وحقيقة واحدة وروحا عامة وهي التناقض ما بني القوي والضعيف ،بني كائن يف مركز
القوة وكائن يف مركز الضعف ،هذا الكائن
171
ال ذي هو يف مركز الق وة اذا مل يكن قد حل تناقضه اخلاص ،جدله االنس اين من ال داخل
فس وف يف رز ال حمالة ص يغة من ص يغ التن اقض االجتم اعي ومهما اختلفت الص يغة يف
مضموهنا القانوين ويف شكلها التشريعي ويف لوهنا احلضاري فهي بال شك صيغة من صيغ
التناقض بني القوي والضعيف .قد يكون هذا القوي فردا فرعونا ،قد يكون طبقة ،قد
يكون شعبا ،قد يكون امة ،كل هذه الوان من التناقض كلها حتتوي روحا واحدا وهي
روح الصراع ،روح االستغالل من القوي الذي مل حيل تناقضه الداخلي وجدله االنساين
،الص راع بينه وبني الض عيف وحماولة اس تغالل ه ذا الض عيف .ه ذه اش كال متع ددة من
التن اقض االجتم اعي ال ذي يواجهه خط العالق ات بني االنس ان واخيه االنس ان وه ذه
االش كال املتع ددة ذات ال روح الواح دة كلها تنبع من معني واحد ،من تن اقض رئيسي
واحد ،وهو ذلك اجلدل االنساين الذي شرحناه القائم بني حفنة الرتاب وبني اشواق اهلل
س بحانه وتع اىل ،ما مل ينتصر أفضل النقيضني يف ذلك اجلدل االنس اين فس وف يظل ه ذا
االنس ان يف رز التن اقض تلو التن اقض والص يغة بعد الص يغة حسب الظ روف واملالبس ات ،
حسب الشروط املوضوعية ومستوى الفكر والثقافة ،اذن النظرة االسالمية من
172
زاوية املش كلة اليت يواجهها خط العالق ات بني االنس ان واخيه االنس ان .نظ رة واس عة ،
منفتحة ،معمقة ،ال تقتصر على لون من التناقض ،وال هتمل ألوان أخرى من التناقض ،
بل هي تستوعب كل أشكال التناقض على مر التاريخ وتنفذ اىل عمقها وتكشف حقيقتها
الواح دة ،وروحها املش رتكة مث تربط كل ه ذه التناقض ات تربطها بالتن اقض االعمق ،
باجلدل االنس اين ،ومن هنا ي ؤمن االس الم ب أن الرس الة الوحي دة الق ادرة على حل ه ذه
املش كلة اليت يواجهها خط عالق ات االنس ان مع االنس ان هو تلك الرس الة اليت تعمل على
مستويني يف وقت واحد ،تعمل من أجل تصفية التناقضات االجتماعية على الساحة لكن
يف نفس ال وقت وقبل ذلك وبعد ذلك تعمل من أجل تص فية ذلك اجلدل يف احملت وى
الداخلي لالنسان من أجل جتفيف منبع تلك التناقضات االجتماعية ،ويؤمن االسالم بأن
ترك ذلك املعني من اجلدل والتناقض على حالة واالشتغال بتصفية التناقضات على الساحة
االجتماعية بص يغتها التش ريعية فقط ه ذا نصف العملية ،النصف املبت ور من العملية اذ
سرعان ما يفرز ذلك املعني صيغا أخرى وفق هذه العملية اليت سوف نستأصل هبا الصيغ
الس ابقة .فال بد للرس الة اليت تريد أن تضع احلل املوض وعي للمش كلة ان تعمل على كال
املستويني ،
173
أن تؤمن جباهدين ،جهاد اكرب مساه االسالم « بالجهاد االكبر » وهو اجلهاد لتصفية ذلك
التن اقض الرئيسي ،حلل ذلك اجلدل ال داخلي .وجه اد آخر ،جه اد يف وجه كل ص يغ
التناقض االجتماعي ويف وجه كل الوان استئثار القوي للضعيف من دون ان حنصر أنفسنا
يف نط اق ص يغة معينة من ص يغ ه ذا االس تئثار الن االس تئثار ج وهره واحد مهما اختلفت
صيغة .هذه هي النظرة املنفتحة الواقعية اليت اثبتت التجربة البشرية باستمرار انطباقها على
واقع احلي اة خالفا للنظ رة الض يقة اليت فس رت هبا املادية والث وار املاديون اليت فس روا هبا
التن اقض .ف ان م اركس على ال رغم من ذكائه الف ائق اال انه مل يس تطع ان يتج اوز ح دود
النظ رة التقليدية لالنس ان االورويب ،ك ان حبكم كونه ف ردا أوروبيا ،ك ان رهني ه ذه
النظرة التقليدية .االنسان االورويب دائما يرى العامل ينتهي حيث تنتهي الساحة االوروبية
أو الساحة الغربية بتعبري أعم كما يعتقد اليهود بأن االنسانية هي كلها يف اطارهم « ليس
علينا في االم يين من س بيل » أولئك ليسو بش را ،ليسو أناسا ،أولئك أم يني ،مهج ،
كذلك االنسان االورويب اعتاد أن يضع الدنيا كلها يف اطار ساحته االوروبية والغربية ،مل
يتخلص هذا
174
الرجل ( )1من تقاليد ه ذه النظ رة االوروبية ،كما انه مل يتخلص من هيمنة العامل الطبقي
الذي لعب دورا يف افكار املادية التارخيية ،ومن هنا جاء لنا بتفسري حمدود ضيق للتناقض
الذي تواجهه االنسانية على هذا اخلط اعتقد بأن مرد كل التناقضات على الساحة البشرية
اىل تن اقض واحد هو التن اقض الطبقي ،التن اقض بني طبقة متلك كل وس ائل االنت اج أو
معظم وسائل االنتاج وطبقة ال متلك شيئا من وسائل االنتاج وامنا تعمل من أجل مصاحل
الطبقة االوىل تس تثمر يف تش غيل وس ائل االنت اج اليت متلكها الطبقة االوىل مث ه ذه ال ثروة
املنتجة اليت جس دت ع رق ج بني ه ذا العامل املس تغل ه ذه الث ورة املنتجة يس تويل عليها
الطبقة االوىل املالكة وال يعطي للطبقة الثانية منها اال احلد االدىن ،حد الكف اف ال ذي
يضمن استمرار حياة هذه الطبقة لكي تواصل خدمتها وممارستها ضمن اطار الطبقة االوىل
،هذا هو التناقض الطبقي الذي اختذه قاعدة واساسا لكل ألوان التناقض االخرى ،وهذا
التن اقض يتخذ مدلوله االجتماعي من خالل صراع مرير بني الطبقة املالكة وما بني الطبقة
العاملة ،وه ذا الص راع املرير بني ه اتني الطبق تني ينمو ويش تد كلما تط ورت اآللة وكلما
منت اآللة الصناعية
__________________
( )1يقصد به كارل ماركس.
175
وتعق دت وذلك الن اآللة كلما تط ورت أدت اىل ختفيض يف مس توى املعيشة وه ذا
توى املعيشة يعطي فرصة للطبقة الرأمسالية املالكة يف ان ختفض أجر التخفيض يف مس
العامل الهنا ال تريد ان تعطي العامل أك ثر مما ي دمي به حياته ونفس ه .اذن باس تمرار تتط ور
اآللة ،باس تمرار تنخفض كلفة املعيشة وبأس تمرار خيفض الرأمسايل أج رة العامل ه ذا من
ناحية ،من ناحية ثانية ان تط ور اآللة وتعق دها يقتضي امكانية التع ويض عن الع دد الكبري
من العم ال بالع دد القليل من العم ال الن دقة اآللة وعملقة اآللة س وف يع وض عن اجلزء
اآلخر من العمال وهذا جيعل الطبقة الرأمسالية تطرد الفائض من العمال باستمرار وهكذا
يش تد الص راع بني الطبق تني وحيت دم التن اقض حىت ينفجر يف ث ورة ،ه ذه الث ورة جتس دها
الطبقة العاملة تقضي هبا على التن اقض الطبقي يف اجملتمع وتوحد اجملتمع يف طبقة واح ده
وه ذه الطبقة الواح دة متثل حينئذ كل أف راد اجملتمع ويف حالة من ه ذا القبيل س وف
تستأصل كل ألوان التناقض الن أساس التناقض هو التناقض الطبقي ،فاذا أزيل التناقض
الطبقي زالت كل التناقض ات االخ رى الفرعية والثانوي ة .ه ذا تلخيص س ريع ج دا لوجهة
نظر هؤالء الثوار جتاه التناقض الذي عاجلناه .اال ان هذه النظرة الضيقة ال
176
تنجسم يف احلقيقة مع الواقع وال تنطبق على تي ار االح داث يف الت اريخ ليس التن اقض
الطبقي وليس تط ور اآللة بل هو وليد االنس ان ،هو من ص نع االنس ان االورويب ،ليست
اآللة هي اليت ص نعت اس تغالل الرأمسايل للعامل ،ليست اآللة هي اليت خلقت النظ ام
الرأمسايل ،وامنا االنس ان االورويب ال ذي وقعت ه ذه اآللة بي ده اف رز نظاما رأمساليا جيسد
قيمه يف احلي اة وتص وراته للحي اة ،وليس التن اقض الطبقي هو الش كل الوحيد من اش كال
التناقض ،هناك صيغ كثرية للتناقض على الساحة االجتماعية ،وليس التناقض الطبقي هو
التن اقض الرئيسي بالنس بة اىل تلك االش كال وامنا كل ه ذه االش كال من التن اقض على
الس احة االجتماعية هي وليد تن اقض رئيس وهو ج دل االنس ان ،هو اجلدل املخب وء يف
داخل حمتوى االنس ان ذاك هو التن اقض ال رئيس ال ذي يف رز دائما وأب دا ص يغا متع ددة من
التن اقض .تع الوا نالحظ ونق ارن بني ه ذه النظ رة الض يقة وبني واقع التجربة البش رية
املعاصرة لنرى أي النظريتني أكثر انطباقا على العامل الذي نعيشه ،ونرى ماذا كنا نتوقع ،
م اذا كنا ننتظر لو ك انت ه ذه النظ رة وك ان ه ذا التفسري للتن اقض ،لو ك ان ص حيحا
وواقعيا ،ماذا كنا ننتظر وماذا كنا نتوقع كنا ننتظر ونتوقع أن
177
ي زداد يوما بعد ي وم التن اقض الطبقي والص راع بني الطبقة الرأمسالية والطبقة العاملة يف
اجملتمع ات االوروبية الص ناعية اليت تط ورت فيها اآللة تط ورا كب ريا .ك ان من املف روض أن
ه ذه اجملتمع ات ك انكلرتا والوالي ات االمريكية املتح دة وفرنسا وأملانيا أن يش تد فيها
التناقض الطبقي والصراع يوما بعد يوم ويتزلزل النظام الرأمسايل املستغل ويتداعى يوما بعد
ي وم ،وي زداد ال ثراء على حس اب ه ؤالء الع املني يف طبقة الرأمساليني املس تغلني من
االمريكان واالجنليز والفرنسيني وغريهم ،كما نرتقب حالة من هذا القبيل ،كنا نرتقب
أن تتض اعف النقمة ،أن يش تد اميان العامل االورويب والعامل االم ريكي ب الثورة وبض ورة
الث ورة وبأهنا هي الطريق الوحيد لتص فية ه ذا التن اقض الطبقي ،ه ذا ما كنا ننتظ ره لو
ص حت ه ذه االفك ار عن تفسري التن اقض ،لكن ما وقع خارجا هو عكس ذلك متام ،
ن رى وبكل أسف أن النظ ام الرأمسايل يف ال دول الرأمسالية املس تغلة ي زداد ترس خا يوما بعد
ي وم ال تب دو عليه ب وادر االهني ار الس ريع ،تلك التمني ات الطيبة اليت متناها ثوارنا املاديون
النكلرتا وللدول االوروبية املتقدمة صناعيا ،متنوا هلا الثورة يف أقرب وقت حبكم التطور
اآليل والصناعي فيها ،تلك التمنيات الطيبة
178
حتولت اىل سراب ،بينما حتققت هذه النبوءات بالنسبة اىل بالد مل تعش تطورا آليا بل مل
تعيش تناقضا طبقيا ب املعىن املاركسي الهنا مل تكن قد دخلت الب اب الع ريض الواسع
للتط ور الص ناعي من قبيل روس يا القيص رية والص ني .من ناحية اخ رى هل ازداد العم ال
بؤسا وفق را ،هل أزدادوا أس تغالال؟ ال ب العكس العم ال أزدادوا رخ اءا ،ازدادوا س عة ،
اصبحوا مدللني من قبل الطبقة الرأمسالية املستغلة .العامل االمريكي حيصل على ما ال يطع
به انسان آخر يعمل بكد بيمينة ويقطف مثار عمله يف اجملتمعات االشرتاكية االخرى ،هل
ازدادت النقمة ل دى الطبقة العامل ة؟ العكس هو الص حيح ،العم ال واهليئ ات اليت متثل
العمال يف الدول الرأمسالية املستغلة حتولت بالتدريج أكثر هذه اهليئات حتولت اىل هيئات
ذات ط ابع ش به دميق راطي ،حتولت اىل اش خاص هلم حالة االس رتخاء السياسي ،ترك وا
مهوم الثورة ،تركوا منطق الثورة ،أصبحوا يتصافحون يدا بيد مع تلك االيدي املستغلة ،
مع أي دي الطبقة الرأمسالية ،اص بحوا يرفع ون ش عار حتقيق حق وق العم ال عن طريق
النقاب ات وعن طريق الربملان ات وعن طريق االنتخاب ات ،ه ذه احلالة هي حالة االس رتخاء
السياسي ،كل هذا وقع يف هذه الفرتة القصرية من
179
ال زمن اليت حنس ها ،كيف وقع ه ذا كل ه؟ هل ك ان م اركس س يء الظن اىل ه ذه الدرجة
هبؤالء الرأمساليني ،هبؤالء اجملرمني ،واملس تغلني حبيث تنبأ هبذه النب وءات مث ض اعت ه ذه
النب وءات كلها فلم يتحقق ش يء منه ا؟ هل ك ان ه ذا س وء ظن من م اركس هلؤالء
املستغلني؟ هل ان هؤالء الرأمساليني املستغلني دخل يف نفوسهم الرعب من ماركس ومن
املاركس ية ومن الث ورات التحررية يف الع امل؟ هل دخل يف أنفس هم ال رعب فح اولوا أن
يتنازلوا عن جزء من مكاسبهم خوفا من أن يثور العامل عليهم؟ هل هذا صحيح ،هل ان
املليونري االم ريكي خياجل ذهنه فعال أي ش بح من خ وف من ه ذه الناحية ،اشد الن اس
تف اؤال مبص ائر الث ورة يف الع امل ال ميكنه ان يفكر يف ان ث ورة حقيقية على الظلم يف امريكا
ميكن ان حتدث قبل مئة س نة من ه ذا الت اريخ .فكيف ميكن ان نف رتض ان املليونري
االمريكي أصبح أمامه شبح اخلوف والرعب على اساس هذا الشبح تنازل عن جزء من
مكاسبه .هل انه دخلت اىل قلوهبم التقوى فجأة؟ استنارت قلوهبم بنور االسالم الذي أنار
قل وب املس لمني االوائل ال ذين ك انوا ال يعرف ون ح دا للمش اركة واملواس اة وال ذين ك انوا
يشاطرون اخواهنم غنائمهم وسرائهم وضرائهم ،هل حتول هؤالء بني عشية وضحاها اىل
مسلمني ،اىل
180
قلوب مسلمة؟ ال ..مل يتحقق شيء من ذلك ،ال كارل ماركس كان سيء الظن هبؤالء
،كان ظنه منطبقا على هؤالء انطباقا تاما .وال أن هؤالء أرعبهم شبح العامل فتنازلوا من
أجل اس كاته وال ان قل وهبم خفقت ب التقوى مل تع رف التق وى ولن تع رف التق وى الهنا
انغمست يف لذات املال ويف الشهوات ،مل يتحقق شيء من ذلك ،اذن ماذا وقع وكيف
نفسر ه ذا ال ذي وقع ،ه ذا ال ذي وقع يف احلقيقة ك ان نتيجة تن اقض آخر ع اش مع
التن اقض الطبقي منذ البداية ولكن م اركس والث وار ال ذين س اروا على ه ذا الطريق ،مل
يستطيعوا أن يكتشفوا ذلك التناقض وهلذا حصروا أنفسهم يف التناقض الطبقي يف التناقض
بني املليونري االم ريكي والعامل االم ريكي ،بني الغين االجنل يزي ومل ي دخلوا يف احلس اب
التن اقض االخر االكرب ال ذي أف رزه ج دل االنس ان االورويب ،اف رزه تن اقض االنس ان
االورويب فغطى على هذا التناقض الطبقي ،بل جنده ،بل أوقفه اىل فرتة طويلة من الزمن
،ما هو ذلك التن اقض؟ حنن بنظرتنا املنفتحة ميكننا أن نبصر ذلك التن اقض ،أن نضع
أص بعنا على ذلك التن اقض الننا مل حنصر انفس نا يف اط ار التن اقض الطبقي ،بل قلنا أن
جدل االنسان دائما يفرز أي شكل من أشكال التناقض االجتماعي ،
181
ذلك التن اقض اآلخر وجد فيه الرأمسايل املس تغل االورويب واالم ريكي وجد فيه أن من
طبيعة هذا التناقض ان يتحالف مع العامل ،مع من يستغله لكي يشكل هو والعامل قطبا
يف هذا التناقض! مل يعد التناقض تناقضا بني الغين االورويب والعامل االورويب بل ان هذين
الوجودين الطبقيني حتالفا معا وكونا قطبا يف تناقض اكرب بدأ تارخييا منذ بدأ ذلك التناقض
ال ذي حتدث عنه م اركس ،لكن ما هو القطب االخر يف ه ذا التن اقض .القطب االخر يف
هذا التناقض هو أنا وأنت وأنت هم الشعوب الفقرية يف العامل هو شعوب ما يسمى بـ «
العامل الثالث » ،هم شعوب آسيا وأفريقيا وامريكا الالتينية ،هذه الشعوب هي اليت متثل
القطب الث اين يف ه ذا التن اقض ،ان االنس ان االورويب بكال وجوديه الطبق يني حتالف
ومتح ور من أجل أن ميارس ص راعه واس تغالله هلذه الش عوب الفق رية ،وقد انعكس ه ذا
التن اقض االكرب ،انعكس أجتماعيا من خالل ص يغ االس تعمار املختلفة اليت زخ رت هبا
الس احة التارخيية منذ خ رج االنس ان االورويب واالم ريكي من دي اره ليفتش عن كن وز
االرض يف خمتلف أرج اء الع امل ولينهب االم وال بال حس اب من خمتلف البالد والش عوب
الفقرية ،هذا التناقض غطى على التناقض الطبقي ،بل جعد
182
التناقض الطبقي الن جدل االنسان من وراء هذا التناقض كان أقوى من جدل االنسان
من وراء ذلك التن اقض .وال ثراء اهلائل ال ذي تك دس يف أي دي الطبقة الرأمسالية يف ال دول
الرأمسالية مل يكن كله ،بل وال معظمه نت اج ع رق ج بني العامل االورويب واالم ريكي ،
وامنا كان نتاج غنائم حرب ،كان نتائج غنائم غارات ،غارات على هذه البالد الفقرية
على بالد أخرى استطاع االنسان االبيض ان يغزوها وان ينهبها ،هذا النعيم الذي تغرق
فيه تلك الدول ليس من عرق جبني العامل االورويب ،ليس من نتاج التناقض الطبقي بني
الرأمسايل والعامل وامنا هذا النعيم هو من نفط آسيا وامريكا الالتينية ،هو من أملاس تنزانيا
،هو من احلديد والرص اص والنح اس واليوارني وم يف خمتلف بالد أفريقيا ،هو من قطن
مصر ،هو من تنب اك لبن ان ،هو من مخر اجلزائ ر! من من مخر اجلزائر الن الك افر املس تعمر
ال ذي اس تعمر اجلزائر ح ول أرض ها كلها اىل بس تان عنب لكي يقطف ه ذا العنب وحيوله
اىل مخر ليس كر به العم ال ،وليش عر اولئك العم ال بالنش وة واخليالء ،الهنم يش ربون مخر
اجلزائر ،يقطفون عنب اجلزائر فيحولونه اىل مخر! نعم ذلك النعيم ،لكن من
183
ه ذه املص ادر ،من ه ذه الين ابيع! س كروا على مخر اجلزائر ومل يس كروا على ع رق ج بني
العامل الفرنسي أو االورويب أو االم ريكي .اذن التن اقض ال ذي مجد ذلك التن اقض وال ذي
وقف ذلك التن اقض هو ه ذا التن اقض االكرب التن اقض بني احملور الرامسايل ككل بكلتا
طبقتيه وما بني الشعوب الفقرية يف العامل .من خالل هذا التناقض وجد الرأمسايل االورويب
واالم ريكي أن من مص لحته أن يقاسم العامل ش يئا من ه ذه الغن ائم اليت هنبها مين ومنك
اليت هنبها من فق راء االرض واملستضعفني يف االرض وان من مص لحته أن يعطي نعمة منها
،ان يسكر هو ويسكر العمال ايضا خبمر اجلزائر ،ان يتزين مباس تنزانيا ويتزين العامل أو
زوجته مباسة من ماس ات تنزانيا وهلذا ن رى أن العامل ب دأت حياته ختتلف عن نب وءات
م اركس .ليس ذلك الجل ك رم ط بيعي يف الرامسايل االورويب واالم ريكي وليس لتق وى ،
وامنا هي غنيمة كب رية ك ان من املف روض أن يعطي ج زءا منها هلذا العامل واجلزء وح ده
يكفي الجل حتقيق ه ذا الرف اه بالنس بة اىل ه ذا العامل االورويب واالم ريكي .اذن احلقيقة
اليت يثبتها الت اريخ دائما هو ان التن اقض ال ميكن حص ره يف ص يغة واح ده ،التن اقض له
صيغ متعددة
184
وذلك الن كل ه ذه الص يغ تنبع من منبع واحد وهو التن اقض الرئيسي ،اجلدل االنس اين
واجلدل االنس اين ال تع وزه ص يغة .اذا حلت ص يغة وضع ص يغة أخ رى مكاهنا ليس من
الصحيح ان نطوق كل التناقضات يف التنااقض الطبقي ،يف التناقض بني من ميلك ومن ال
ميلك ،ف اذا حللنا ه ذا التن اقض قلنا ب أن التناقض ات كلها قد حلت ،التن اقض ال ميكن
حصره يف هذه الصيغة .التناقض هو استغالل القوي للضعيف.
185
الدرس الثالث عشر :
قلنا أن خط عالق ات االنس ان مع الطبيعة خمتلف مش كلة وقانونا عن خط عالق ات
االنس ان مع أخيه االنس ان ،وذكرنا ان ه ذين اخلطني كل واحد منهما مس تقل اس تقالال
نسبيا عن اخلط االخر لكن هذا االستقالل النسيب ال ينفي التفاعل والتأثري املتبادل اىل حد
ما بني ه ذين اخلطني ،فلكل منهما ل ون من الت اثري الط ردي أو العكسي على اخلط االخر
وه ذا الت أثري املتب ادل بني اخلطني ميكن اب رازه ض من عالق تني قرآني تني بني ه ذين اخلطني ،
العالقة االوىل ت ربز م دى ت أثري خط عالق ات االنس ان مع الطبيعة على خط عالق ات
االنس ان مع أخيه االنس ان والعالقة القرآنية الثانية ت ربز من اجلانب االخر م دى ت أثري
عالق ات االنس ان مع أخيه االنس ان على عالق ات االنس ان مع الطبيعة ،أما العالقة االوىل
اليت تربز تأثري عالقات االنسان مع الطبيعة على
186
اخلط االخر فم ؤدى ه ذه العالقة هو أنه كما منت ق درة االنس ان على الطبيعة واتس عت
سيطرته عليها وازداد اغتناءا بكنوزها ووسائل انتاجها ،حتققت بذلك امكانية اكرب فاكرب
لالس تغالل على خط عالق ات االنس ان مع أخيه االنس ان « كال ان االنس ان ليطغى ،ان
رآه استغنى » ( )1هذه اآلية الكرمية تشري اىل هذه العالقة اىل ان االنسانية بقدر ما تتمكن
وتستقطب الطبيعة وتتوصل اىل وسائل انتاج أقوى وأدوات توليد أوسع تكون انعكاسات
ذلك على حقل عالق ات االنس ان مع أخيه االنس ان ،انعكاس اته على ش كل امكاني ات
واغراءات وفتح الشهية لالقوياء لكي يستثمروا أداة االنتاج يف سبيل استغالل الضعفاء ،
تصوروا جمتمعا يعيش على الصيد باليد واحلجارة واهلراوة ،مثل هذا اجملتمع ال يتمكن من
أن ميارس ب ذور االقوي اء ،ب ذور الوح وش فيه ال يتمكن ون على االغلب من أن ميارس وا
أدوارا خطرية من االستغالل االجتماعي الن مستوى االنتاج حمدود والقدرة حمدودة وكل
انس ان ال يكسب ع ادة بع رق جبينه اال ق وت يومه فال توجد امكانية االس تغالل بش كله
االجتماعي الواسع وان كان توجد ألوان اخرى من االستغالل الفردي ولكن الحظوا من
اجلانب االخر
__________________
( )1سورة الفلق :اآلية ( 6ـ .) 7
187
جمتمعا متط ورا اس تطاع االنس ان فيه أن يص نع اآللة البخارية واآللة الكهربائية اس تطاع فيه
أن خيضع الطبيعة الرادته يف مثل ه ذا اجملتمع س وف تك ون االلة البخارية واآللة الكهربائية
املعقدة املتطورة الصنع تكون أداة ،امكانية على ساحة عالقات االنسان مع اخيه االنسان
تش كل حبسب مص طلح الفالس فة ما ب القوة لالس تغالل ويبقى ان خيرج ما ب القوة اىل ما
بالفعل وذلك على عهدة االنسان ودوره التارخيي على الساحة االجتماعية ،فاالنسان هو
الذي يصنع االستغالل ،هو الذي يفرز النظام الرأمسايل املستغل حينما جيد اآللة البخارية
والكهربائية ،ولكن اآللة البخارية والكهربائية هي اليت تعطيه امكانية ه ذا االس تغالل ،
هي اليت هتىيء له فرصة تفتح ش هيته ،توقظ مش اعره ،حترك جدله ال داخلي وتناقضه
ال داخلي من اجل أن ي ربز ص يغة تتناسب مع ما يوجد على الس احة من ق وى االنت اج
ووسائل التوريد ،وهذا هو الفرق بيننا وبني املادية التارخيية ،املادية التارخيية اعتقدت بأن
اآللة هي اليت تصنع االستغالل ،هي اليت تصنع النظام املتناسب هلا ولكننا حنن ال نرى ان
انع ،وامنا دور اآللة هو دور االمكانية ،دور توفري الفرصة دور اآللة هو دور الص
والقابلية وأما الصانع الذي يتصرف اجيابا وسلبا ،
188
أمانة وخيانة ،ص مودا واهني ارا ،امنا هو االنس ان وفقا حملت واه ال داخلي .ملثله االعلى ملدى
التحامة مع ه ذا املثل االعلى .ه ذه هي العالقة االوىل وأما العالقة القرآنية الثانية اليت متثل
وجتسد ت أثري عالق ات االنس ان مع الطبيعة ،فم ؤدى ه ذه العالقة القرآنية هو أنه كلما
جس دت عالق ات االنس ان مع اخيه االنس ان العدالة وكلما اس تطاعت ان تس توعب قيم
هذه العدالة وان تبتعد عن أي لون من ألوان الظلم واالستغالل من االنسان الخيه االنسان
،كلما وقع ذلك ازده رت عالق ات االنس ان مع الطبيعة وتفتحت الطبيعة عن كنوزها
وأعطت املخبوء من ثرواهتا ونزلت الربكات من السماء وتفجرت االرض بالنعمة والرخاء
،ه ذه العالقة القرآنية هي العالقة اليت ش رحها الق رآن الك رمي يف نص وص عدي دة ق ال
سبحانه وتعاىل « وألوا استقاموا على الطريقة السقيناهم ماءا غدقا » ( « )1ولو انهم أقاموا
التوراة واالنجيل وما أنزل اليهم من ربهم ألكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم » (« ، )2
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء واالرض ،ولكن كذبوا
فأخذناهم بما كانوا
__________________
( )1سورة اجلن :اآلية (.)16
( )2سورة املائدة :اآلية (.)66
189
يكسبون » ( ، )1هذه العالقة مؤداها ان عالقات االنسان مع الطبيعة تتناسب عكسيا مع
ازده ار العدالة يف عالق ات االنس ان مع اخيه االنس ان فكلما ازده رت العدالة يف عالق ات
االنس ان مع اخيه االنس ان اك ثر ف أكثر ازده رت عالق ات االنس ان مع الطبيعة ،وكلما
أحنسرت العدالة عن اخلط االول احنسر االزدهار عن اخلط الثاين ،أي ان جمتمع العدل هو
ال ذي يص نع االزده ار يف عالق ات االنس ان مع الطبيعة وجمتمع الظلم هو ال ذي ي ؤدي اىل
احنس ار تلك العالق ات ،عالق ات االنس ان مع الطبيعة ،وه ذه العالقة ليست ذات حمت وى
غييب فقط ،نعم حنن نؤمن أيضا مبحتواها الغييب ولكن اضافة اىل حمتواها الغييب الرباين هي
تشكل سنة من سنن التاريخ حبسب مفهوم القرآن الكرمي وذلك الن جمتمع الظلم ،جمتمع
الفراعنة على مر الت اريخ جمتمع ممزق ،مش تت ،الفرعونية على مر الت اريخ حينما تتحكم
يف عالق ات االنس ان مع اخيه االنس ان تس تهدف متزيق طاق ات اجملتمع ،وتش تيت فئاته ،
وبعثرة امكانياته ،ومن الواضح أنه تشتيت وبعثرة وتفتيت وجتزئة من هذا القبيل ال ميكن
الفراد اجملتمع ان حيشدوا قواهم احلقيقية والسيطرة على الطبيعة وهذا هو الفرق بني
__________________
( )1سورة االعراف :اآلية (.)96
190
املثل العليا املنخفضة الفرعونية وبني املثل االعلى احلق مثل التوحيد س بحانه وتع اىل ،ف ان
املثل االعلى يوحد اجلامعة البش رية ويلغي كل الف وارق واحلدود باعتب ار مشولية ه ذا املثل
االعلى باعتبار مشوليته فهو يستوعب كل احلدود وكل الفوارق ،يهضم كل االختالفات
،يص هر البش رية كلها يف وح دة متكافئة ،ال يوجد ما مييز بعض ها عن بعض ،ال من دم
وال من جنس وال من قومية وال من ح دود جغرافية أو طبقي ة .املثل االعلى بش موليته
يوحد البشرية ولكن املثل العليا املنخفضة جتزيء البشرية وتشتت البشرية انظروا اىل املثل
االعلى كيف يق ول « وان ه ذه امتكم امة واح دة وأنا ربكم فأعب دون » ( « ، )1ان ه ذه
امتكم امة واح دة وأنا ربكم ف اتقون » ( ، )2ه ذا هو منطق مشولية املثل االعلى اليت ال
تع رتف حبد وحباجز يف داخل ه ذه االس رة البش رية انظ روا ،اس تمعوا اىل املثل املنخفض ،
اىل جمتمع الظلم وآهلة جمتمع الظلم كيف يقولون ،أو كيف يتحدث عنهم القرآن الكرمي
« ان فرعون عال في االرض وجعل أهلها شيعا » ( ، )3فرعون املثل االعلى املنخفض ،
__________________
( )1سورة االنبياء :اآلية (.)92
( )2سورة املؤمنون :اآلية (.)52
( )3سورة القصص :اآلية (.)4
191
الفرعونية على مر الت اريخ اليت تبين العالق ات بني االنس ان وأخيه االنس ان علىاس اس الظلم
واالس تغالل ،الفرعونية جتزيء اجملتمع ،تبع ثر امكاني ات اجملتمع ،وطاق ات اجملتمع ومن
هنا هتدر ما يف االنس ان من ق درة على االب داع والنمو الط بيعي على س احة عالق ات
االنس ان مع الطبيعة ،وعملية التجزئة الفرعونية للمجتمع تقسم اجملتمع اىل فص ائل
ومجاع ات اجلماعة االوىل ظ املون مستضعفون ،ه ذه اجلماعة االوىل يف التقس يم الفرع وين
هم الظ املون املستض عفون يف نفس ال وقت الظ املون الث انويون أو حبسب تعبري أئمتنا عليهم
الص الة والس الم « اع وان الظلمة » ه ؤالء الظ املون املستضعفون يش كلون محاية لفرعون
وللفرعونية وسندا يف اجملتمع لبقاء الفرعونية واستمرار وجودها واطارها .قال اهلل سبحانه
وتع اىل « اذ الظ المون موقوف ون عند ربهم يرجع بعض هم الى بعض الق ول ،يق ول ال ذين
استض عفوا لل ذين اس تكبروا ل وال انتم لكنا مؤم نين » ( .)1هنا الق رآن يتح دث عن الظ املني
يق ول « اذ الظ المون موقوف ون » لكن الظ املني ص نفهم اىل قس مني :اىل من استض عفت
منهم ومن اس تكرب منهم .اذن فالظ املون فيهم مس تكربون وهم ال ذين ميثل ون الفرعونية يف
اجملتمع وفيهم
__________________
( )1سورة سبأ :اآلية (.)31
192
مستض عفون ،فالطائفة االوىل اذن يف التجزئة الفرعونية جملتمع الظلم هم الظ املون
املستضعفون هؤالء الذين حيشرون يوم القيامة يف زمرة الظاملني مث يقولون للمستكربين من
الظ املني ل وال انتم لكنا مؤم نني ،ه ذه هي الطائفة االوىل اليت تش كل احلماية والس ند
للفرعوني ة .الطائفة الثانية يف عملية التمزقة الفرعونية جملتمع الظلم ظاملون يشكلون حاشية
ومتملقني ،اولئك ال ذين قد ال ميارس ون ظلما بأي ديهم بالفعل ولكنهم دائما واب دا على
مس توى ن زوات فرع ون وش هوات فرع ون ورغب ات فرع ون يس بقونه ب القول من أجل ان
يص ححوا مس لكه ومس ريته .ق ال اهلل س بحانه وتع اىل « وق ال المأل من ق وم فرع ون أت ذر
موسى وقومه ليفسدوا في االرض ويذرك وآلهتك ،قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم
وانا فوقهم قاهرون » ( ، )1شكلوا دور االثارة لفرعون ،هؤالء كانوا يعرفون اهنم هبذا
الكالم يض ربون على ال وتر احلس اس يف قلب فرع ون ،وان فرع ون ك ان حباجة اىل كالم
من ه ذا القبيل ،فتس ابقوا اىل ه ذا الكالم لكي جيعل وا فرع ون يعرب عما يف نفسه ويتخذ
املوقف املنسجم مع مشاعره وعواطفه وفرعونيته .الطائفة الثالثة يف عملية
__________________
( )1سورة االعراف :اآلية (.)127
193
التجزئة الفرعونية جملتمع الظلم أولئك الذين عرب عنهم االمام علي عليه الصالة والسالم «
ب اهلمج الرع اع » مجاعة هم جمرد آالت مستس لمة للظلم ،ال حتس ب الظلم ال ت درك اهنا
مظلومة وال ت درك ان يف اجملتمع ظلما ،هي آالت تتح رك حتركا آليا ،حتركا يش به
التح رك امليك انيكي لآللة ،حترك التبعية والطاعة دون ت دبري ،دون وعي ،س لب فرع ون
منها ت دبرها ،عقلها ،وعيها ،ربط ي دها به ال عقلها به ،وهلذا فهي حترك ي دها حتريكا
آليا وتستس لم لالوامر ،لالوامر الفرعونية دون أن تناقش ها حىت دون ان تت دبرها ،حىت
بينها وبني نفس ها ال بينها وبني اآلخ رين ،ه ذه الفئة طبعا تفقد كل ق درة على االب داع
البشري يف جمال التعامل مع الطبيعة ،تفقد كل قابليات النمو الهنا حتولت اىل آالت ،اذا
وجد أن هن اك اب داع يف ه ذه الفئة امنا هو اب داع من حيرك ه ذه اآلالت ،اب داع تلك
الفرعونية اليت حترك هذه اآلالت ،وأما هذه الفئة فلم تعد أناسا وبشرا يفكرون ويتدبرون
لكي يس تطيعوا أن حيقق وا لونا من االب داع على ه ذه الس احة .ق ال اهلل س بحانه وتع اىل «
وق الوا ربنا انا أطعنا س ادتنا وكبراءنا فاض لونا الس بيال » ( )1ال يوجد يف كالم ه ؤالء ما
يشعر بأهنم
__________________
( )1سورة االحزاب :اآلية (.)67
194
كانوا حيسون بالظلم أو كانوا حيسون بأهنم مظلومون ،وامنا هو جمرد طاعة ،جمرد تبعية
،ه ؤالء هم القسم الث الث يف تقس يم موالنا أمري املؤم نني عليه أفضل الص الة والس الم
حينما قال « الناس ثالثة :عامل رباين ومتعلم على سبيل جناة ومهج رعاع ينعقون مع كل
ن اعق » وه ذا القسم الث الث يش كل مش كلة بالنس بة اىل أي جمتمع ص احل وبق در ما ميكن
للمجتمع الص احل أن يستأصل ه ذا القسم الث الث بتحويله اىل القسم الث اين ،بتحويله اىل
متعلم على سبيل النجاة على حد تعبري االمام ،اىل تابع باحسان على حد تعبري القرآن ،
اىل مقلد ب وعي وتبصر على حد تعبري الفقه ،بق در ما ميكن حتويل ه ذا القسم الث الث اىل
القسم الث اين ميكن للمجتمع الص احل أن يس تمر وأن ميتد وهلذا ك ان من ض رورات اجملتمع
الصاحل يف نظر االمام عليه الصالة والسالم هو شجب هذا القسم الثالث ،هؤالء مهج ،
رعاع ينعقون مع كل ناعق ليس هلم عقل مستقل ،وارادة مستقلة .كان االمام (ع) يرى
ان ه ذا القسم الث الث جيب تص فيته من اجملتمع الص احل ،ذلك ال بالقض اء عليه فرديا ،بل
بتحويله اىل القسم الث اين ض من أحد الص يغ الثالثة اليت ذكرناها ،لكي يس تطيع اجملتمع
الصاحل أن يواصل ابداعه ،ولكي يستطيع كل أفراد
195
اجملتمع الصاحل ،ان يشكلوا مشاركة حقيقية يف مسرية االبداع .وخالفا لذلك الفرعونية ،
الفرعونية حتاول ان توسع من هذا القسم الثالث ،هؤالء اهلمج الرعاع الذين ينعقون مع
كل ن اعق حتاول الفرعونية ان توسع منهم وكلما توس عت ه ذه الفئة اك ثر ف أكثر ق دمت
اجملتمع حنو الدمار خطوة بعد خطوة الن هذه الفئة ال تستطيع بوجه من الوجوه ان تدافع
عن اجملتمع اذا حلت كارثة يف الداخل أو طرأت كارثة من اخلارج ،فكلما توسعت هذه
الفئة ،هذا القسم الثالث ،هؤالء الذين ينعقون مع كل ناعق ،كلما توسعوا يف اجملتمع
ازداد خطر فن اء اجملتمع وهبذا متوت اجملتمع ات موتا طبيعي ا .مفه وم املوت ل دى الق رآن
للمجتمعات ولالقوام ولالمم املوت الطبيعي للمجتمع ال املوت املخروم .اجملتمع له موتان
:موت طبيعي وموت خمروم .املوت الطبيعي للمجتمع يكون عن طريق توسع هذه الفئة
الثالثة وازديادها نوعيا وع دديا يف اجملتمع اىل ان حتل الكارثة فينه ار اجملتم ع .ه ذه الطائفة
الثالثة يف عملية التجزئة الفرعونية أما الطائفة الرابعة :هم اولئك ال ذين يس تنكرون الظلم
يف أنفس هم ،اولئك ال ذين مل يفق دوا لبهم أم ام فرع ون والفرعونية فهم يس تكنرون الظلم
لكنهم يهادنونه ويسكتون عنه فيعيشون حالة التوتر
196
والقلق يف أنفس هم وه ذه احلالة ،حالة الت وتر والقلق أبعد ما تك ون عن حالة تس مح
لالنس ان باالب داع والتجديد والنمو على س احة عالق ات االنس ان مع الطبيع ة .ه ؤالء
يس ميهم الق رآن الك رمي « ظ المي انفس هم » ،ق ال اهلل س بحانه وتع اىل « ال ذين تتوف اهم
المالئكة ظالمي أنفسهم ،قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في االرض ،قالوا ألم تكن
أرض اهلل واس عة فته اجروا فيها » ( )1ه ؤالء مل يظلم وا االخ رين ،ليس وا من الظ املني
املستض عفني كالطائفة االوىل ،وليس وا من احلاش ية املتملقني ،وليس وا أيضا من اهلمج
الرع اع ال ذين فق دوا لبهم بل ب العكس هم يش عرون ب أهنم مستض عفون « .ق الوا كنا
مستض عفين في االرض » ه ؤالء مل يفق دوا لبهم ،ي دركون واقعهم ولكنهم ك انوا عمليا
مه ادنني وهلذا عرب عنهم الق رآن ب أهنم ظلم وا أنفس هم ه ذه الطائفة هل ي رتقب منها أن
تساعد بابداع حقيقي يف جمال عالقات االنسان مع الطبيعة؟ طبعا كال الطائفة اخلامسة يف
عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هي :الطائفة اليت تته رب من مس رح احلي اة ،تبتعد عن
املس رح وتته رب منه وت رتهب .وه ذه الرهبانية موج ودة يف كل جمتمع ات الظلم على مر
التاريخ وهي تتخذ
__________________
( )1سورة النساء :اآلية (.)97
197
ص يغتني االوىل ص يغة ج ادة ،رهبانية ج ادة تريد ان تفر بنفس ها لكي ال تتل وث بأوح ال
()1
اجملتمع ،هذه الرهبانية اجلادة اليت عرب عنها القرآن الكرمي بقوله « ورهبانية ابتدعوها »
ه ذه الرهبانية يش جبها االس الم الهنا موقف س ليب جتاه مس ؤولية خالفة االنس ان على
االرض .وهناك ص يغة مفتعلة للرهبانية ،يرتهب ويلبس مسوح الرهبان ولكنه ليس راهبا
يف اعم اق نفسه ،وامنا يريد ب ذلك ان خيدر الن اس ويش غلهم عن فرع ون وظلم فرع ون
ويسطو عليهم نفسيا وروحيا .وهذا هو الذي عرب عنه القرآن الكرمي بقوله « ان كثيرا من
االحب ار والرهب ان لي أكلون ام وال الن اس بالباطل ويص دون عن س بيل اهلل » ( )2اجلماعة
السادسة واالخ رية يف عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هم :املستض عفون .الفرعونية
حينما ج زأت اجملتمع اىل طوائف ،فرع ون حينما اختذ من قومه ش يعا استض عف طائفة
معينة منهم خص ها باالستض عاف واالذالل وه در الكرامة الهنا ك انت هي الطائفة اليت
يتوسم ان تش كل اط ارا للتح رك ض ده وهلذا استض عفها بال ذات « .واذ نجين اكم من آل
فرعون يسومونكم سوء العذاب ،يذبحون ابناءكم ويستحييون
__________________
( )1سورة احلديد :اآلية (.)27
( )2سورة التوبة :اآلية (.)34
198
نساءكم وفي ذلكم بالء من ربكم عظيم » ( )1هذه هي الطائفة السادسة وقد علمنا القرآن
الك رمي ض من س نة من س نن الت اريخ ايضا ان موقع اي طائفة يف ال رتكيب الفرع وين جملتمع
الظلم يتناسب عكسا مع موقعه بعد احنس ار الظلم ،وه ذا معىن قوله س بحانه وتع اىل «
ونريد ان نمن على ال ذين استض عفوا في االرض فنجعلهم ائمة ونجعلهم ال وارثين » (.)2
تلك الطائفة السادسة اليت كانت هي منحدر الرتكيب يريد اهلل سبحانه وتعاىل ان جيعلهم
ائمة وجيعلنم الوارثني وهذه عالقة اخرى وسنة تارخيية اخرى يأيت احلديث عنها انشاء اهلل
تع اىل ،اذن ف اىل هنا استخلص نا ه ذه احلقيقة وهي :ان اجملتمع يتناسب م دى الظلم فيه
تناسبا عكسيا مع ازدهار عالقات االنسان مع الطبيعة ،ويتناسب مدى العدل فيه تناسبا
طرديا مع ازده ار عالق ات االنس ان مع الطبيع ة .جمتمع الفرعونية اجملزأ املش تت مه دور
القابلي ات والطاق ات واالمكاني ات ومن هنا حتبس الس ماء قطرها ،ومتنع االرض بركاهتا.
واما جمتمع العدل فهو على العكس متاما هو جمتمع تتوحد فيه كل القابليات وتتساوى فيه
كل الفرص واالمكانيات هذا اجملتمع الذي حتدثنا الروايات عنه ،
__________________
( )1سورة البقرة :اآلية (.)49
( )2سورة القصص :اآلية (.)5
199
حتدثنا عنه من خالل ظه ور االم ام امله دي عليه الص الة والس الم ،حتدثنا عما حتتفل به
االرض والس ماء يف ظل االم ام امله دي (ع) من برك ات وخ ريات وليس ذلك اال الن
العدالة دائما وأب دا تتناسب ط ردا مع ازده ار عالق ات االنس ان مع الطبيعة ،ه ذه العالقة
الثانية بني اخلطني.
200
الدرس الرابع عشر :
خرجنا مما س بق بنظرية حتليلية قرآنية كاملة لعناصر اجملتمع والدوار ه ذه العناصر
وللعالقة القائمة بني اخلطني املزدوجني يف العالقة االجتماعية ،خط عالق ات االنس ان مع
اخيه االنس ان ،وخط عالق ات االنس ان مع الطبيعة ،وانتهينا على ض وء ه ذه النظرية
القرآنية الشاملة اىل ان هذين اخلطني احدمها مستقل عن اآلخر استقالال نسبينا ولكن كل
واحد منهما له حنو ت أثري يف اآلخر على ال رغم من ذلك االس تقالل النسيب وه ذه النظرية
القرآنية يف حتليل عناصر اجملتمع وفهم اجملتمع فهما موضوعيا تشكل اساسا لالجتاه العام يف
التشريع االسالمي فان التشريع االسالمي يف اجتاهاته العامة وخطوطه يتأثر وينبثق ويتفاعل
مع وجهة النظر القرآنية واالس المية اىل اجملتمع وعناص ره وادوار ه ذه العناصر والعالق ات
املتبادلة بني اخلطني ،هذه النظريات اليت قرأناها واليت
201
انتهينا اليها على ض وء اجملموعة املذكورة س ابقا من أن النص وص القرآنية ه ذه النظري ات
هي يف احلقيقة االساس النظري لالجتاه العام للتشريع االسالمي فان االستقالل النسيب بني
اخلطني ،خط عالقات االنسان مع اخيه االنسان وخط عالقات النسان مع الطبيعة ،هذا
االس تقالل النسيب يش كل القاع دة لعنصر الثب ات يف الش ريعة االس المية واالس اس لتلك
املنطقة الثابتة من التش ريع اليت حتت وي على االحك ام العامة املنصوصة ذات الط ابع ال دائم
املستمر يف التشريع االسالمي بينما منطقة التفاعل بني اخلطني ،بني خط عالقات االنسان
مع الطبيعة وخط عالق ات االنس ان مع اخيه االنس ان ،منطقة التفاعل واملرونة تش كل يف
احلقيقة االس اس ملا أمسيناه يف كت اب « اقتص ادنا » مبنطقة الف راغ تشكل االس اس للعناصر
املرنة واملتحركة يف التش ريع االس المي ،ه ذه العناصر املرنة واملتحركة يف التش ريع
االس المي هي انعك اس تش ريعي لواقع تلك املرونة وذلك التفاعل بني اخلطني ،والعناصر
االوىل الثابتة والص امدة يف التش ريع االس المي هي انعك اس تش ريعي ل ذلك االس تقالل
النسيب املوج ود بني اخلطني ،بني خط عالق ات االنس ان مع اخيه االنس ان وخط عالق ات
االنسان مع الطبيعة ،ومن هنا نؤمن بان الصورة التشريعية االسالمية الكاملة جملتمع
202
هي يف احلقيقة حتت وي على ج انبني ،حتت وي على عناصر ثابتة ،وحتت وي على عناصر
متحركة ومرنة وه ذه العناصر املتحركة واملرنة اليت ت رك للح اكم الش رعي ان ميألها
فرضت امامه مؤش رات اس المية عامة ايضا لكي ميأل ه ذه العناصر املتحركة وفقا لتلك
املؤشرات االسالمية العامة ،وهذا حبث حيتاج اىل كالم اكثر من هذا ،تفصيال واطنابا ،
من املف روض ان نس توعب ه ذا البحث انش اء اهلل تع اىل لكي نربط اجلانب التش ريعي من
االسالم باجلانب النظري التحليلي من القرآن الكرمي لعناصر اجملتمع وبعد ذلك يبقى علينا
حبث آخر يف نظرية االس الم عن ادوار الت اريخ ،عن ادوار االنس ان على االرض ف ان
الق رآن الك رمي يقسم حي اة االنس ان على االرض اىل ثالثة ادوار ،دور احلض انة ،ودور
الوح دة ،ودور التش تت واالختالف .وه ذه ادوار ثالثة حتدث عنها الق رآن الك رمي ،بني
لكل دور احلاالت واخلص ائص واملم يزات اليت يتم يز هبا ذلك ال دور ،ه ذا أيضا حبث
سوف خنرج منه بنظرية شاملة كاملة هلذا اجلانب من تاريخ االنس ان ،كل ذلك ال ميكن
ان يس عه ي وم واحد وحبث واحد اذن فمن االفضل ان نؤجل ذلك ،وننص رف االن من
منطقة الفكر اىل منطقة القلب ،من منطقة العقل اىل منطقة الوجدان ،
203
أريد ان نعيش معا حلظ ات بقلوبنا ال بعقولنا فقط ،بوج داننا ،بقلوبنا ،نريد ان نع رض
هذه القلوب على القرآن الكرمي بدال عن ان نعرض افكارنا وعقولنا ،نعرض صدورنا ،
ملن والؤها؟ ما هو ذاك احلب الذي يسودها وميحورها ويستقطبها؟ ان اهلل سبحانه وتعاىل
ال جيمع يف قلب واحد والءين ،ال جيمع ح بني مس تقطبني .اما حب اهلل واما حب ال دنيا
،اما حب اهلل وحب الدنيا معا فال جيتمعان يف قلب واحد ،فلنمتحن قلوبنا ،فلنرجع اىل
قلوبنا لنمتحنها ،هل تعيش حب اهلل سبحانه وتعاىل ،او تعيش حب الدنيا ،فان كانت
تعيش حب اهلل زدنا ذلك تعميقا وترسيخا ،وان كانت « نعوذ باهلل » تعيش حب الدنيا
،حاولنا ان نتخلص من هذا الداء الوبيل ،من هذا املرض املهلك .ان كل حب يسقطب
قلب االنسان يتخذ احدى صيغتني واحدى درجتني .الدرجة االوىل ان يشكل هذا احلي
حمورا وقاعدة ملشاعر وعوطف وآمال وطموحات هذا االنسان قد ينصرف عنه يف قضاء
حاجة يف حدود خاصة ولكن يعود ،سرعان ما يعود اىل القاعدة الهنا هي املركز ،وهي
احملور ،قد ينش غل حبديث ،قد ينش غل بكالم ،قد ينش غل بعمل ،بطع ام ،بش راب ،
مبواجهة ،بعالق ات ثانوية ،بص داقات ،لكن يبقى ذاك احلب هو احملور ،ه ذه هي
الدرجة االوىل ،
204
والدرجة الثانية من احلب احملور ان يس تقطب ه ذا احلب كل وج دان االنس ان ،حبيث ال
يشغله شيء عنه على االطالق ومعىن انه ال يشغله شيء عنه انه سوف يرى حمبوبه وقبلته
وكعبته اينما توجه ،اينما توجه س وف ي رى ذلك احملب وب ،ه ذه هي الدرجة الثانية من
احلب احملور ،ه ذا التقس يم الثن ائي ينطبق على حب اهلل وينطبق على حب ال دنيا ،حب
اهلل س بحانه وتع اىل ،احلب الش ريف هلل احملور يتخذ ه اتني ال درجتني ،الدرجة االوىل
يتخذها يف نفوس املؤمنني الصاحلني الطاهرين الذين نظفوا نفوسهم من اوساخ هذه الدنيا
الدنية هؤالء جيعلون من حب اهلل حمورا لكل عواطفهم ومشاعرهم وطموحاهتم وآماهلم ،
قد ينش غلون بوجبة طع ام ،مبتعة من املتع املباحة ،بلق اء مع ص ديق ،بت نزه يف ش ارع ،
ولكن يبقى ه ذا هو احملور ال ذي يرجع ون اليه مبج رد ان ينتهي ه ذا االنش غال الط ارىء ،
واما بالدرجة الثانية فهي الدرجة اليت يصل اليها اولي اء اهلل من االنبي اء واالئمة عليهم
أفضل الص الة والس الم « ،علي بن أيب ط الب » ال ذي حنظى بش رف جماورة ق ربه ،ه ذا
الرجل العظيم كلكم تعرف ون م اذا ق ال ،هو ال ذي ق ال « ب أين ما رأيت ش يئا اال ورأيت
اهلل معه وقبله وبع ده وفيه » الن حب اهلل يف ه ذا القلب العظيم اس تقطب وجدانه اىل
الدرجة اليت منعه
205
من ان ي رى ش يئا آخر غري اهلل حىت حينما ك ان ي رى الن اس ،ك ان ي رى فيهم عبيد اهلل ،
حىت حينما ك ان ي رى النعمة املوف ورة ك ان ي رى فيها نعمة اهلل س بحانه وتع اىل دائما ه ذا
املعىن احلريف ،هذا الربط باهلل دائما وابدا يتجسد امام عينه الن حمبوبه االوحد ،ومعشوقه
االكمل ،قبلة آماله وطموحاته ،مل يس مح له بش ريك يف النظر ،فلم يكن ي رى اال اهلل
سبحانه وتعاىل .هذه هي الدرجة الثانية نفس التقسيم الثنائي يأيت يف حب الدنيا ،الذي
هو رأس كل خطيئة على حد تعبري رس ول اهلل (ص) ،حب ال دنيا يتخذ درج تني :
الدرجة االوىل أن يكون حب الدنيا حمورا لالنسان ،قاعدة لالنسان يف تصرفاته وسلوكه
يتح رك حينما تك ون املص لحة الشخص ية يف أن يتح رك ويس كن حينما تك ون املص لحة
الشخص ية يف أن يس كن ،يتعبد حينما تك ون املص لحة الشخص ية يف أن يتعبد وهك ذا ،
ال دنيا تك ون هي القاع دة ،لكن أحيانا أيضا ميكن ان يفلت من ال دنيا ،يش تغل اش غال
أخ رى نظيفة ،ط اهرة ،قد يص لي هلل س بحانه وتع اىل ،قد يص وم هلل س بحانه وتع اىل ،
لكن س رعان ما يرجع م رة أخ رى اىل ذلك احملور وينشد اليه ،فلت ات خيرج هبا من اط ار
ذلك الشيطان مث يرجع اىل الشيطان مرة أخرى ،هذه درجة أوىل من هذا املرض
206
الوبيل ،م رض حب ال دنيا ،واما الدرجة الثانية من ه ذا املرض الوبيل فهي الدرجة
املهلكة ،حينما يعمي حب ال دنيا ه ذا االنس ان ،يسد عليه كل منافذ الرؤية ،يك ون
بالنسة اىل الدنيا كما كان سيد املوحدين وأمري املؤمنني النسبة اىل اهلل سبحانه وتعاىل ،انه
مل يكن يرى شيئا اال وكان يرى اهلل معه وقبله وبعده حب الدنيا يف الدرجة الثانية يصل
اىل مس توى حبيث ان االنس ان ال ي رى ش يئا اال وي رى ال دنيا فيها وقبلها وبع دها ومعها ،
حىت االعمال الصاحلة تتحول عنده ومبنظاره اىل دنيا ،تتحول عنده اىل متعة ،اىل مصلحة
شخص ية حىت الص الة ،حىت الص يام ،حىت البحث ،حىت ال درس ،ه ذه االل وان كلها
تتحول اىل دنيا ال ميكنه ان يرى شيئا اال من خالل الدنيا ،اال من خالل مقدار ما ميكن
هلذا العمل ان يعطيه ،يعطيه من حفنة م ال أو من كومة ج اه ال ميكن ان يس تمر معه اال
بض عة أي ام مع دودة ،ه ذه هي الدرجة الثانية وكل من ال درجتني مهلكة والدرجة الثانية
أشد هلكة من الدرجة االوىل وهلذا قال رسول اهلل (ص) « :حب الدنيا رأس كل خطيئة
» ،قال االمام الصادق (ع) « :الدنيا كماء البحر من ازداد شربا منه ازداد عطشا » .ال
تقل فألأخذ هذه احلنفة من الدنيا مث أنصرف عنها
207
فألحصل على ه ذه املرتبة من ج اه ال دنيا مث انص رف اىل اهلل ليس االمر ك ذلك ف ان أي
مق دار حتصل عليه من م ال ال دنيا ،من مقام ات ه ذه ال دنيا الزائلة ،س وف ي زداد بك
العطش والنهم اىل املرتبة االخرى « ،الدنيا كماء البحر » « ،الدنيا رأس كل خطيئة ».
الرسول (ص) يقول « :من أصبح واكرب مهه الدنيا فليس له من اهلل شيء » .هذا الكالم
يعين قطع الص لة مع اهلل ،يعين ان والئني ال جيتمع ان يف قلب واحد ،من ك ان والءه
لل دنيا ،فليس له من اهلل ش يء » ،ليس له ص لة مع اهلل س بحانه وتع اىل الن والئني ال
جيتمع ان يف قلب واحد « ،حب ال دنيا رأس كل خطيئة » الن حب ال دنيا هو ال ذي
يفرغ الصالة من معناها ويفرغ الصيام من معناه ويفرغ كل عبادة من معناها ،ماذا يبقى
من معىن هلذه العب ادات ،اذا اس توىل حب ال دنيا على قلب االنس ان ،أنا وأنتم نع رف أن
أولئك ال ذين نآخ ذهم على ما عمل وا مع امري املؤم نني ،اولئك مل ي رتكوا ص الة ،ومل
ي رتكوا ص ياما ،ومل يش ربوا مخرا ،على االقل ع دد كبري منهم مل يقوم وا بش يء من ه ذا
القبيل ،لكنهم مع ه ذا ما هي قيمة ه ذه الص الة ،وما هي قيمة ه ذا الص يام ،وما هي
قيمة العفة عن شرب اخلمر اذا كان حب الدنيا هو الذي ميأل
208
القلب .ما قيمة صالة عبد الرمحن بن عوف ،عبد الرمحن بن عوف كان صحابيا جليل
الق در ،ك ان من الس ابقني اىل االس الم ،ك ان ممن أس لم والن اس كف ار ومش ركون ت رىب
على يد رسول اهلل (ص) ،عاش مع الوحي ،مع القرآن ،مع آيات اهلل ترتى ،لكن ماذا
ده اه؟ م اذا ده اه حينما فتح اهلل على املس لمني بالد كس رى وقيصر ،وكن وز كس رى
وقيصر ،ماذا دهى هذا الرجل املسكني؟ هذا الرجل املسكني مأل قلبه حب الدنيا ،كان
يص لي وك ان يص وم ،ولكن مأل قلبه حب ال دنيا حينما وقف يف خي ار واحد بني عثم ان
وعلي ( ع ) ،إما ان يك ون عثم ان خليفة املس لمني وإما ان يك ون علي خليفة املس لمني
وهو يعلم أنه لو أعطى ه ذه اخلالفة لعلي الس عد املس لمني اىل أبد ال دهر ولكنه يعلم أيضا
انه حينما يعطيها اىل عثمان فقد فتح بذلك باب الفنت اىل آخر الدهر يعلم بذلك وقد مسع
ذلك من عمر نفسه أيضا ،ولكنه يف هذا اخليار غلب حب الدنيا على قلبه ،ضرب على
يد عثم ان وت رك يد علي مبس وطة تنتظر من يب ايع ،جعل عثم ان خليفة ،وأقصى علي
(ع) عن اخلالفة ،قد تقول ون أن ه ذه معص ية ه ذا ك رتك الص الة ،الن رس ول اهلل (ص)
جعل عليا خليفة بعده بال فصل هذا صحيح ،تويل علي بن أيب طالب أهم
209
الواجبات ،ولكن افرضوا وفرض احملال ليس مبحال ،لو أن رسول اهلل مل ينص على علي
بن ايب طالب .أكان هذا املوقف من عبد الرمحن بن عوف مهضوما ،أكان هذا املوقف
من عبد ال رمحن بن ع وف ص حيحا؟ ،لو تركنا كل نص وص الرس ول! وتركنا ح ديث
الغ دير وح ديث الثقلني! لو تركنا كل ذلك ،لكن مبنطق حب اهلل وحب ال دنيا ،مبنطق
احلرص على االس الم مبنطق الغ رية على ال دين واملس لمني ،أك ان ه ذا املوقف من عبد
ال رمحن بن ع وف س ليما ،ان يط رح يد علي (ع) مبس وطة دون أن يبايعها ويب ايع انس انا
غري ج دير ب أن يتحمل االمانة ،ان يب ايع عثم ان بن عف ان .اذن املس ألة هنا ليست فقط
مسألة نص وامنا املسألة هنا مسألة حب الدنيا ،مسألة خيانة االمانة الن حب الدنيا يعمي
ويصم ،حب عبد الرمحن بن عوف للدنيا أفقد الصالة معناها ،أفقد الصيام معناه ،أفقد
شهر رمضان معناه ،أفقد كل شيء مغزاه احلقيقي وحمتواه النبيل الشريف « حب الدنيا
رأس كل خطيئة » وحب اهلل س بحانه وتع اىل اس اس كل كم ال ،حب اهلل هو ال ذي
يعطي لالنس ان الكم ال ،الع زة ،الش رف ،االس تقامة ،النظافة ،الق درة على مغالبة
الضعف يف كل احلاالت ،حب اهلل سبحانه وتعاىل هو الذي جعل اولئك السحرة ،
210
يتحولون اىل رواد على الطريق ،فقالوا لفرعون « فاقض ما انت قاض ،امنا تقضي هذه
احلي اة ال دنيا » كيف ق الوا هك ذا؟ الن حب اهلل اش تعل يف قل وهبم فق الوا لفرع ون بكل
شجاعة وبطولة « فاقض ما انت قاض ،امنا تقضي هذه احلياة الدنيا » حب اهلل هو الذي
جعل علي اً عليه الص الة والس الم دائما يقف مواقف الش جاعة ،مواقف البطولة ،ه ذه
الشجاعة ،شجاعة علي (ع) ليست شجاعة السباع ،ليست شجاعة األسود ،وامنا هي
شجاعة االميان وحب اهلل ،ملاذا؟ الن هذه الشجاعة مل تكن فقط شجاعة الرباز يف ميدان
احلرب ،بل ك انت احيانا ش جاعة ال رفض ،احيانا ش جاعة الصرب ،علي بن ايب ط الب
ضرب املثل االعلى يف ش جاعة املب ارزة يف مي دان احلرب شد حزامه وهو ن اهز الس تني من
عمره الشريف وهجم على اخلوارج وحده فقاتل أربعة آالف انسان ،هذه قمة الشجاعة
يف مي دان املب ارزة ،الن حب اهلل اس كره! فلم جيعله يلتفت أن ه ؤالء أربعة آالف وهو
واح د! وض رب قمة الش جاعة يف الصرب ،يف الس كوت عن احلق ،حينما ف رض عليه
االسالم أن يصرب عن حقه وهو يف قمة شبابه ،مل يكن يف شيخوخته ،كان يف قمة شبابه
،ك انت حرارة الشباب ملء وجدانه ،ولكن االس الم ق ال له اس كت ،اصرب عن حقك
حفاظا على
211
بيضة الدين ،ما دام هؤالء يتحملون حفظ الشعائر الظاهرية لالسالم وللدين ،سكت ما
دام هؤالء كانوا يتحفظون على الظواهر والشعائر الظاهرية لالسالم والدين ،وكان هذا
قمة الش جاعة يف الصرب ايض ا! ه ذه ليست ش جاعة االس ود ،ه ذه ش جاعة املؤمن ال ذي
اس كره حب اهلل! وك ان قمة الش جاعة يف ال رفض ،ويف األب اء حينما ط رح عليه ذلك
الرجل ان يبايعه على شروط ختالف كتاب اهلل وسنة رسوله بعد مقتل اخلليفة الثاين ،ماذا
صنع هذا الرجل العظيم؟ هذا الرجل العظيم الذي كان حيرتق الن اخلالفة ذهبت من يده
،حيرتق من أجل اهلل!! ال من أجل نفسه ،يق ول « ولقد تقمص ها ابن ايب قحافة وهو
يعلم ان حملي منها حمل القطب من ال رحى » ،ه ذا الرجل ال ذي ك ان حيرتق الن اخلالفة
خرجت من يده ،لو ان انسانا يقرأ هذه العبارة وحدها لقال ما أكثر شهوة هذا الرجل
اىل السلطان واىل اخلالفة! لكن هذا الرجل نفسه ،هذا الرجل بذاته عرضت عليه اخلالفة
،عرضت عليه رئاسة الدنيا فرفضها! ال لشيء اال الهنا شرطت بشرط خيالف كتاب اهلل
وس نة رس وله ،من هنا نع رف ان ذلك االح رتاق مل يكن من أجل ذاته ،وامنا ك ان من
اجل اهلل سبحانه وتعاىل ،اذن هذه الشجاعة شجاعة الرباز يف يوم الرباز ،وشجاعة الصرب
يف يوم
212
الصرب ،وشجاعة الرفض يف يوم الرفض ،هذه الشجاعة خلقها يف قلب علي حبه هلل ،ال
اعتقاده بوجود اهلل ،هذا االعتقاد الذي يشاركه يف فالسفة االغريق ايضا ،أرسطو أيضا
يعتقد بوج ود اهلل ،افالط ون أيضا يعتقد بوج ود اهلل ،الف ارايب أيضا يعتقد بوج ود اهلل ،
م اذا ص نع ه ؤالء للبش رية ،وم اذا ص نعوا لل دين أو لل دنيا ،ليس االعتق اد وامنا حب اهلل
اضافة اىل االعتقاد ،هذا هو الذي صنع هذه املواقف وحنن أوىل الناس بأن نطلق الدنيا ،
اذا ك ان حب ال دنيا خطيئة ،فهو منا حنن الطلبة ( )1من اشد اخلطايا ،ه ذا الش يء ال ذي
هو خطيئة من غرينا هو اك ثر خطيئة منا ،حنن أوىل من غرينا ب أن نك ون على ح ذر من
هذه الناحية ،أوال الننا نصبنا أنفسنا أدالء على طريق االخرة ،ما هي مهمتنا يف الدنيا ،
ما هي وظيفتنا يف ال دنيا؟ اذا س ألك انس ان ،م اذا تعمل ،ما هو م ربر وج ودك ،م اذا
تقول؟ تقول بأين أريد أن اشد الناس اىل االخرة ،اشد دنيا الناس اىل االخرة ،اىل عامل
الغيب ،اىل اهلل س بحانه وتع اىل .اذن كيف تقطع دني اك عن االخ رة؟ اذا ك انت دني اك
مقطوعة عن االخرة فسوف تشد دنيا الناس اىل دنياك ال اىل آخرة ربك ،سوف نتحول
اىل قطاع طريق ،
__________________
( )1يقصد طلبة العلوم الدينية االسالمية يف النجف.
213
ولكن أي طريق ،الطريق اىل اهلل ،ال طريق ما بني بلد وبلد ،ه ذا الطريق اىل اهلل حنن
رواده ،حنن الق ائمون على الداللة اليه ،على االخذ بيد الن اس فيه ،فلو اننا أغلقنا ب اب
ه ذا الطريق ،لو اننا حتولنا عن ه ذا الطريق اىل طريق آخر اذن س وف نك ون حاجبا عن
اهلل ،حاجبا عن الي وم االخر كل انس ان يس تويل حب ال دنيا على قلبه يهلك هو ،أما
الطلبة ،أما حنن اذا اس توىل حب ال دنيا على قلوبنا س وف هنلك وهنلك اآلخ رين ،الننا
وض عنا أنفس نا يف موضع املس ؤولية ،يف موضع ربط الن اس باهلل س بحانه وتع اىل واهلل ال
يعيش يف قلوبنا ،اذن س وف لن نتمكن من أن نربط الن اس باهلل ،حنن أوىل الن اس واحق
الن اس باجتن اب ه ذه املهلكة الننا ن دعي أننا ورثة االنبي اء وورثة االئمة واالولي اء ،اننا
الس ائرون على طريق حممد (ص) وعلي واحلسن واحلسني عليهم الص الة والس الم ،ألس نا
حناول أن نعيش ش رف ه ذه النس بة ه ذه النس بة جتعل موقفنا أدق من مواقف االخ رين ،
الننا حنن محلة أقوال هؤالء وافعال هؤالء ،أعرف الناس بأقواهلم ،واعرف الناس بأفعاهلم
،أمل يقل رسول اهلل (ص) « :انا معاشر االنبي اء ال نورث ذهبا وال فضة وال عق ار ،امنا
نورث العلم واحلكمة » أمل يقل علي بن أيب طالب عليه الصالة والسالم « :ان
214
امارتكم ه ذه أو خالفتكم ه ذه ال تساوي عن دي ش يئا اال أن أقيم حقا أو أدحض باطال
» .أمل يقل علي بن ايب ط الب ذلك ،أمل جيسد ه ذا يف حياته ،يف كل حياته ،علي بن
أيب طالب كان يعمل هلل سبحانه وتعاىل ،مل يكن يعمل لدنياه ،لو كان علي يعمل لدنياه
لكان اشقى الناس واتعس الناس ،الن عليا محل دمه على يده منذ طفولته ،منذ صباه ،
يذب عن وجه رسول اهلل (ص) وعن دين اهلل وعن رسالة اهلل ،مل يرتدد حلظة يف أن يقدم
،مل يكن حيسب للم وت حس ابا ،مل يكن حيسب للحي اة حس ابا ،ك ان دمه دائما على
ي ده ،ك ان أط وع الن اس لرس ول اهلل يف حي اة رس ول اهلل (ص) ،وك ان أط وع الن اس
لرس ول اهلل بعد رس ول اهلل (ص) ،ك ان أك ثر الن اس عمال يف س بيل ال دين ،ومعان اة من
أجل االس الم .م اذا حصل ،م اذا حصل عليه علي بن أيب ط الب (ع)؟ لو جئنا اىل
مق اييس ال دنيا ،م اذا حصل عليه ه ذا الرجل العظيم؟ أمل يقصى ه ذا الرجل العظيم ،أمل
يكن جليس بيته ف رتة من ال زمن ،أمل يسب ه ذا الرجل العظيم ألف ش هر على من ابر
املسلمني! اليت اقيمت اعوادها جبهاده ،بدمه ،بتضحياته ،سب على منابر املسلمني! اذن
مل حيصل على شيء من الدنيا ال على حطام وال على مال وال على منصب وال على
215
كن اء ( )1وال على تق دير ،ولكنه على ال رغم من ذلك حينما ض ربه عبد ال رمحن بن ملجم
بالس يف على رأسه ( )2م اذا ق ال ه ذا االم ام العظيم؟ ق ال « لقد ف زت ورب الكعبة » لو
كان علي يعمل لدنياه لقال واهلل اين أتعس انسان الين مل أحصل على شيء يف مقابل عمر
كله جه اد ،كله تض حية ،كله حب هلل ،مل أحصل على ش يء ،لكنه مل يقل ذلك ،
ق ال « لقد ف زت ورب الكعبة » اهنا واهلل الش هادة ،النه مل يكن يعمل ل دنياه ،ك ان
يعمل لربه ،واالن حلظة اللق اء مع اهلل ،ه ذه اللحظة هي اللحظة اليت س وف يلتقي هبا
علي مع اهلل س بحانه وتع اىل فيوفيه حس ابه ويعطيه أجره ،يعوضه عما حتمل من شدائد ،
عما قاسى من مصائب ،أليس هذا االمام هو مثلنا االعلى ،أليست حياة هذا االمام هي
السنة ،أليست مصادر التشريع عندنا الكتاب والسنة ،أليست السنة هي قول املعصوم
وفعله و تقريره .علينا أن حنذر من حب الدنيا ،النه ال دنيا عندنا لكي حنبها! ماذا حنب؟
حنب الدنيا؟! حنن الطلبة! ما هي ه ذه الدنيا اليت حنبها ونريد ان نغ رق انفسنا فيها ونرتك
رضوانا من اهلل أكرب ،نرتك ماال عني رأت وال
__________________
( )1كناء :مجع كنية.
( )2ضربه يف مسجد الكوفة وهو ساجد يف صالة الفجر.
216
أذن مسعت وال اعرتض على خيال بشر ،ما هي هذه الدنيا؟ هذه الدنيا دنيانا هي جمموعة
من االوه ام ،كل دنيا وهم ،لكن دنيانا اك ثر ومها من دنيا االخ رين ،جمموعة من
االوه ام ،م اذا حنصل من ال دنيا اال على ق در حمدود ج دا ،لس نا حنن أولئك ال ذين هنب وا
أموال الدنيا وحتدثنا عنهم سابقا ،لسنا حنن أولئك الذين تركع الدنيا بني أيدينا لكي نؤثر
ال دنيا على االخ رة ،دنيا ه ارون الرش يد ك انت عظيمة ،نقيس انفس نا هبارون الرش يد ،
هارون الرشيد نسبه ليال هنارا النه غرق يف حب الدنيا ،لكن تعلمون أي دنيا غرق فيها
ه ارون الرش يد ،أي قص ور مرتفعة ع اش فيها ه ارون الرش يد ،أي ب ذخ وت رف ك ان
حيصل عليه هارون الرشيد ،أي زعامة وخالفة وسلطان امتد مع أرجاء الدنيا حصل عليه
ه ارون الرش يد ،ه ذه دنيا ه ارون الرش يد ،حنن نق ول بأننا أفضل من ه ارون الرش يد ،
أورع من ه ارون الرش يد ،أتقى من ه ارون الرش يد ،عجب اه حنن عرضت علينا دنيا
هارون الرشيد فرفضناها حىت نكون أورع من هارون الرشيد .يا أوالدي ،يا أخواين ،يا
أعزائي ،يا أبناء علي ..هل عرضت علينا دنيا هارون الرشيد ،ال ..عرضت علينا دنيا
هزيلة ،حمدودة ،ضئيلة ،دنيا ما أسرع ما تتفتت ،ما اسرع ما تزول ،دنيا ال يستطيع
217
االنس ان أن يتم دد فيها كما ك ان يتم دد ه ارون الرش يد ،ه ارون الرش يد يلتفت اىل
الس حابة يق ول هلا أينما متط رين ي أتيين خراجك ،يف س بيل ه ذه ال دنيا س جن موسى بن
جعفر (ع) ،هل جربنا أن ه ذه ال دنيا ت أيت بي دنا مث ال نس جن موسى بن جعف ر؟ جربنا
أنفس نا ،س ألنا أنفس نا ،طرحنا ه ذا الس ؤال على انفس نا ،كل واحد منا يط رح ه ذا
الس ؤال على نفسه ،بينه وبني اهلل .ان ه ذه ال دنيا ،دنيا ه ارون الرش يد كلفته أن يس جن
موسى بن جعفر ،هل وضعت هذه الدنيا أمامنا لكي نفكر بأننا أتقى من هارون الرشيد
،ما هي دنيان ا؟ هي مسخ من ال دنيا ،هي أوه ام من ال دنيا ،ليس فيها حقيقة اال حقيقة
رضى اهلل س بحانه وتع اىل ،اال حقيقة رض وان اهلل ،كل ط الب علم حاله ح ال علي ابن
أيب ط الب ،اذا ك ان يعمل لل دنيا فهو أتعس انس ان ،الن أب واب ال دنيا مفتوحة ،خاصة
اذا كان طالب له قابلية ،له امكانية ،له ذكاء ،له قابليات ،هذا أبواب الدنيا مفتوحة
له ،فاذا كان يعمل للدنيا فهو أتعس انسان ،النه سوف خيسر الدنيا واالخرة ،ال دنيا
الطلبة دنيا وال االخ رة حيصل عليها ،فليكن مهنا ان نعمل لالخ رة ،أن نعيش يف قلوبنا
حب اهلل سبحانه وتعاىل بدال عن حب الدنيا النه ال دنيا معتد هبا عندنا ،
218
األئمة :علمونا ب أن ت ذكر املوت دائما يك ون من العالج ات املفي دة حلب ال دنيا ،أن
يت ذكر االنس ان املوت ،كل واحد منا يعتقد ب أن كل من عليها ف ان ،لكن القض ية دائما
وابداً ال جيسدها بالنسبة اىل نفسه ،من العالجات املفيدة ان جيسدها بالنسبة اىل نفسه ،
دائما يتص ور بأنه ميكن ان ميوت بني حلظة واخ رى ،كل واحد منا يوجد لديه اص دقاء
م اتوا ،اخ وان انتقل وا من ه ذه ال دار اىل ال دار االخ رى ،أيب مل يعش يف احلي اة اك ثر مما
عشت حىت االن ،أخي مل يعش يف احلي اة اك ثر مما عشت حىت االن ،أنا االن اس توفيت
هذا العمر ،من املعقول جدا أن أموت يف السن الذي مات فيه أيب ،من املعقول جدا أن
أم وت يف السن اليت م ات فيها أخي ،كل واحد منا ال بد وأن يك ون له ق دوة من ه ذا
القبيل ،ال بد وان احباب له قد رحلوا ،أعزة له قد انتقلوا مل يبق من طموحاهتم شيء ،
مل يبق من آماهلم شيء ان كانوا قد عملوا لالخرة فقد رحلوا اىل مليك مقتدر ،اىل مقعد
صدق عند مليك مقتدر ،واذا كانوا قد عملوا للدنيا فقد انتهى كل شيء بالنسبة اليهم ،
ه ذه عرب ،ه ذه العرب اليت علمنا االئمة :ان نستحض رها دائما ،تكسر فينا ش ره احلي اة ،
ما هي هذه احلياة ،لعلها أيام فقط ،لعلها أشهر فقط ،لعلها
219
س نوات ،ملاذا نعمل دائما وحنرص دائما على اس اس أهنا حي اة طويلة ،لعلنا ال ن دافع اال
عن عش رة اي ام ،اال عن ش هر ،اال عن ش هرين ال ن دري عن م اذ ن دافع ،ال ن دري اننا
س نحتمل ه ذا الق در من اخلطايا ،ه ذا الق در من اآلث ام ،ه ذا الق در من التقصري ام ام اهلل
سبحانه وتعاىل وأمام ديننا ،نتحمله يف سبيل الدفاع عن ماذا ،عن عشرة أيام ،عن شهر
،عن اش هر ...ه ذه بض اعة رخيصة ،نس أل اهلل س بحانه وتع اىل ان يطهر قلوبنا وينقي
أرواحنا ،وجيعل اهلل أك ثر مهنا ،وميأل حبا له ،وخش ية منه ،وتص ديقا به ،وعمال
بكتابه.
220
الفهرس
الصفحة املوضوع
مقدمة الناشر 5.....................................................................
تقدمي7.............................................................................
الدرس االول 9.....................................................................
الدرس الثاين23....................................................................
الدرس الثالث31...................................................................
الدرس الرابع44....................................................................
الدرس اخلامس60..................................................................
الدرس السادس 73.................................................................
الدرس السابع84...................................................................
الدرس الثامن103..................................................................
الدرس التاسع 115.................................................................
الدرس العاشر130.................................................................
الدرس احلادي عشر 148...........................................................
الدرس الثاين عشر 168.............................................................
الدرس الثالث عشر186............................................................
الدرس الرابع عشر201.............................................................
221