You are on page 1of 221

1

2
3
4
‫مقدمة الناشر‬
‫« الس يد محمد ب اقر الص در » التعريف عنه يبقى م وجزا مهما ط ال وتش عب ‪ ،‬وما‬
‫قدمه للفكر االنس اني عامة واالس المي بوجه خ اص يغ ني عن أي تعريف فمن كتاباته «‬
‫البنك الالرب وي في االس الم » الى كت اب « فلس فتنا » الى كت اب « اقتص ادنا » ثم «‬
‫االسس المنطقية لالس تقراء » اض افة الى العديد من كتاباته االخ رى ال تي أص بحت مرجع اً‬
‫فلسفياً يعتمد عليه اساتذة الفلسفة الحديثة على اختالف اتجاهاتها ‪ ،‬حتى اعتبر « مجدداً‬
‫» بحق ‪ ،‬ولم تكن جه وده ه ذه كل همه فك انت جنبا الى جنب مع مس اعيه من دروس‬
‫ومحاض رات يلقيها على طلبة العل وم الدينية في النجف األش رف‪ .‬فك ان بحد ذاته مدرسة‬
‫يعتمد عليها في مختلف العلوم‪.‬‬
‫وه ذا الكت اب ال ذي بين ي ديك أخي الق ارئ « مق دمات في التفس ير الموض وعي‬
‫للقرآن الكريم » يمثل محاضرات ألقاها سماحته متوجا فيها أعماله باتجاه تجديدي يكون‬
‫مكمال لجه ود المفسرين باضافته االتجاه الموضوعي في التفسير الى االتج اه التجزيئي ‪،‬‬
‫وليكون بذلك أثباتا فعليا وعصريا لمقولة « االسالم نظام شامل وكامل للحياة »‪.‬‬
‫وقد ق ام بعض االفاضل من تالمذته بمراجعة ه ذه ال دروس وتحقيقها لتك ون على‬
‫شكل كتاب ‪ ،‬فجزاه اهلل واياهم عن االسالم أفضل الجزاء‪.‬‬
‫الناشر‬

‫‪5‬‬
6
‫تقديم‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬
‫وأفضل الص لوات على س يد اخللق حممد وعلى آله الطي بني الط اهرين‪ .‬ربنا فقهنا يف‬
‫كتابك وأكشف عن قلوبنا ظلمات الذنوب لكي نتفهم آياتك وأزح عن بصائرنا غشاوة‬
‫ال دنيا وبريقها الك اذب لكي متأل قلوبنا هبداك واجعلنا من محلة قرآنك وس نة نبيك‬
‫والسائرين على طريق طاعتك ‪...‬‬
‫ربنا أمتم لنا نورنا واغفر لنا أنك على كل شيء قدير ‪ ،‬ربنا ال تؤاخذنا ان نسينا أو‬
‫اخطأنا ‪ ،‬ربنا وال حتمل علينا اص راً كما محلته على ال ذين من قبلنا ‪ ،‬ربنا وال حتملنا ما ال‬
‫طاقة لنا به وأعف عنا وأغفر لنا وانصرنا ‪ ،‬أنت موالنا فانصرنا على القوم الكافرين ‪،‬‬

‫‪7‬‬
‫ربنا وأغفر لنا والخواننا الذين سبقونا لالميان ‪ ،‬وال جتعل يف قلوبنا غال للذين آمنوا ‪ ،‬ربنا‬
‫انك رؤوف رحيم‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫الدرس االول ‪:‬‬
‫ال شك يف تن وع التفسري واختالف مذاهبه وتع دد مدارسه والتب اين يف كثري من‬
‫االحي ان بني اهتماماته واجتاهاته ‪ ،‬فهن اك التفسري ال ذي يهتم باجلانب اللفظي واالديب‬
‫والبالغي من النص الق رآين وهن اك التفسري ال ذي يهتم جبانب احملت وى واملعىن واملض مون‬
‫وهن اك التفسري ال ذي يركز على احلديث ويفسر النص الق رآين باملأثور عن الرس ول وأهل‬
‫بيته (ع) أو باملأثور عن الص حابة والت ابعني‪ .‬وهن اك التفسري ال ذي يعتمد العقل أيض اً‬
‫كأساس من أسس التفسري وفهم كتاب اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬وهناك التفسري املتميز الذي‬
‫يتخذ مواقف مذهبية مس بقة وحياول أن يطبق النص الق رآين على أساس ها‪ .‬وهن اك التفسري‬
‫غري املتحيز الذي حياول أن يستنطق النص القرآين ويطبق الرأي على القرآن ال القرآن على‬
‫ال رأي واىل غري ذلك من االجتاه ات املختلفة يف التفسري االس المي‪ .‬اال ان ال ذي يهمنا‬
‫وحنن على أبواب هذه الدراسة القرآنية أن نركز على ابراز اجتاهني رئيسيني حلركة التفسري‬
‫يف الفكر‬

‫‪9‬‬
‫االس المي ونطلق على أح دمها اسم « االجتاه التجزي ئي يف التفسري » وعلى اآلخر اسم «‬
‫االجتاه التوحيدي أو املوضوعي يف التفسري » االجتاه االول ‪ :‬االجتاه التجزيئي املنهج الذي‬
‫يتناول املفسر ضمن اطاره القرآن الكرمي آية فآية وفقا لتسلسل تدوين اآليات يف املصحف‬
‫الشريف ‪ ،‬واملفسر يف نطاق هذا املنهج يسري مع املصحف ويفسر قطعاته تدرجيياً مبا يؤمن‬
‫به من أدوات ووس ائل للتفسري من الظه ور أو املأثور من االح اديث أو العقل أو اآلي ات‬
‫االخ رى اليت تش رتك مع تلك اآلية يف مص طلح أو مفه وم بالق در ال ذي يلقي ض وءا على‬
‫مدلول القطعة القرآنية اليت يراد تفسريها مع أخذ السياق الذي وضعت تلك القطعة ضمنه‬
‫بعني االعتبار يف كل تلك احلاالت‪ .‬وطبعا حنن حينما نتحدث عن التفسري التجزيئي نقدمه‬
‫يف أوسع وأكمل ص وره اليت انتهى اليها ف ان التفسري التجزي ئي ت درج تارخييا اىل أن وصل‬
‫اىل مس توى االس تيعاب الش امل للق رآن الك رمي بالطريقة التجزيئية وك ان قد ب دأ يف عصر‬
‫الصحابة والذي يعني على مستوى شرح جتزيئي لبعض اآليات القرآنية وتفسري ملفرداهتا ‪،‬‬
‫وكلما امتد ال زمن ازدادت احلاجة اىل تفسري املزيد من اآلي ات اىل أن انتهى اىل الص ورة‬
‫اليت قدم فيها ابن ماجة والطربي وغريمها كتبهما يف‬

‫‪10‬‬
‫التفسري يف أواخر الق رن الث الث وأوائل الق رن الرابع وك انت متثل أوسع ص ورة للمنهج‬
‫التجزي ئي يف التفس ري‪ .‬ف املنهج التجزي ئي يف التفسري حيث أنه ك ان يس تهدف فهم م دلول‬
‫اللفظ ‪ ،‬وحيث أن فهم م دلول اللفظ ك ان يف البداية ميس را لع دد كبري من الن اس مث ب دأ‬
‫اللفظ يتعقد من حيث املعىن مبرور ال زمن وازدي اد الفاصل وت راكم اخلربات والتج ارب‬
‫وتطور االحداث واالوضاع من هنا توسع التفسري التجزيئي تبعا ملا أعترب النص القرآين من‬
‫غم وض ومن شك يف حتديد م دلول اللفظ حىت تكامل بالطريقة اليت نراها يف موس وعات‬
‫التفسري حيث ان املفسر يب دأ من اآلية االوىل من س ورة الفاحتة اىل س ورة الن اس فيفسر‬
‫الق رآن آية آية ‪ ،‬الن كثري من اآلي ات مبرور ال زمن أص بح معناها وم دلوهلا اللفظي حباجة‬
‫اىل اب راز أو جتربة أو تأكيد وحنو ذلك ‪ ،‬ه ذا هو التفسري التجزي ئي ‪ ،‬طبعا حنن ال نعين‬
‫بالتجزيئية يف هذا املنهج التفسريي ان املفسر يقطع نظره عن سائر اآليات وال يستعني هبا‬
‫يف فهم اآلية املطروحة للبحث ‪ ،‬بل انه قد يس تعني بآي ات أخ رى يف ه ذا اجملال كما‬
‫يس تعني باالح اديث والرواي ات ‪ ،‬ولكن ه ذه االس تعانة تتم بقصد الكشف عن املدلول‬
‫اللفظي الذي حتمله اآلية املطروحة للبحث ‪ ،‬فاهلدف يف كل خطوة من هذا التفسري‬

‫‪11‬‬
‫فهم مدلول اآلية اليت يواجهها املفسر بكل الوسائل املمكنة أي أن اهلدف « هدف جتزيئي‬
‫» ‪ ،‬النه يقف دائما عند حدود فهم هذا اجلزء أو ذاك من النص القرآين وال يتجاوز ذلك‬
‫غالبا ‪ ،‬وحص يلة تفسري جتزي ئي للق رآن الك رمي كله تس اوي على أفضل تق دير جمموعة‬
‫م دلوالت الق رآن الك رمي ملحوظة بنظ رة جتزيئية أيضا ‪ ،‬أي أنه س وف حنصل على اع داد‬
‫كب رية من املع ارف واملدلوالت القرآنية ‪ ،‬لكن يف حالة تن اثر وت راكم ع ددي دون أن‬
‫نكتشف أوجه االرتب اط ‪ ،‬دون أن نكتشف ال رتكيب العض وي هلذه اجملاميع من االفك ار ‪،‬‬
‫دون أن حندد يف هناية املط اف نظرية قرآنية لكل جمال من جماالت احلي اة فهن اك ت راكم‬
‫ع ددي للمعلوم ات ‪ ،‬اال أن اخلي وط بني ه ذه املعلوم ات ‪ ،‬أي الروابط والعالق ات اليت‬
‫حتوهلا اىل مركب ات نظرية وجماميع فكرية باالمك ان ان حنصر على أساس ها نظرية الق رآن‬
‫ملختلف اجملاالت واملواض يع ‪ ،‬أما ه ذا فليس مس تهدفا بال ذات يف منهج التفسري التجزي ئي‬
‫وان ك ان قد حيصل احيانا ‪ ،‬وقد أدى ه ذا التن اثر ونزعه االجتاه التجزي ئي اىل ظه ور‬
‫التناقض ات املذهبية العدي دة يف احلي اة االس المية ‪ ،‬النه ك ان يكفي ان جيد ه ذا املفسر أو‬
‫ذاك آية تربر مذهبه لكي يعلن عنه وجيمع حوله‬

‫‪12‬‬
‫االنص ار واالش ياع كما وقع يف كثري من املذاهب الكالمية كمس ألة اجلرب والتف ويض‬
‫واالختي ار مثال ‪ ،‬بينما ك ان باالمك ان تف ادي كثري من ه ذه التناقض ات لو أن املفسر‬
‫التجزي ئي خطى خط وة أخ رى ومل يقتصر على ه ذا التجميع الع ددي كما ن رى ذلك يف‬
‫االجتاه الثاين‪.‬‬
‫االجتاه الثاين ‪ :‬ونسميه االجتاه التوحيدي أو املوضوعي يف التفسري‪.‬‬
‫ه ذا االجتاه ال يتن اول تفسري الق رآن آية فآية يف الطريقة اليت ميارس ها التفسري‬
‫التجزي ئي ‪ ،‬بل حياول القي ام بالدراسة القرآنية ملوض وع من موض وعات احلي اة العقائدية أو‬
‫االجتماعية أو الكونية في بني ويبحث وي درس‪ .‬مثال عقي دة التوحيد يف الق رآن أو يبحث‬
‫عقيدة النبوة يف القرآن او عن املذهب االقتصادي يف القرآن او عن سنن التاريخ يف القرأن‬
‫او عن السماوات واالرض يف القرآن الكرمي وهكذا‪.‬‬
‫ويستهدف التفسري التوحيدي او املوضوعي من القيام هبذه الدراسات حتديد موقف‬
‫نظري للقرآن الكرمي وبالتايل للرسالة االسالمية من ذلك املوضوع من موضوعات احلياة‬
‫او الكون ‪ ،‬وينبغي ان يكون واضحا أن الفصل بني االجتاهني املذكورين ليس حديا على‬

‫‪13‬‬
‫مس توى الواقع العملي واملمارسة التارخيية لعملية التفسري الن االجتاه املوض وعي حباجة‬
‫قطعا اىل حتديد املدلوالت التجزيئية يف اآليات اليت يريد التعامل معها ضمن اطار املوضوع‬
‫ال ذي يتبن اه ‪ ،‬كما أن االجتاه التجزي ئي قد يع ثر يف اثن اء الطريق حبقيقة قرآنية من حق ائق‬
‫احلي اة االخ رى ‪ ،‬ولكن االجتاهني على أي ح ال يظالن على ال رغم من ذلك خمتلفني يف‬
‫مالحمهما واه دافهما وحص يلتهما الفكرية ‪ ،‬ومما س اعد على ش يوع االجتاه التجزي ئي‬
‫للتفسري وس يطرته على الس احة قرونا عدي دة ‪ ،‬النزعة الروائية واحلديثية للتفسري حيث أن‬
‫التفسري مل يكن يف احلقيقة ويف البداية اال ش عبة من احلديث بص ورة او ب أخرى وك ان‬
‫احلديث هو االساس الوحيد تقريب اً ‪ ،‬مضافا اىل بعض املعلومات اللغوية واالدبية والتارخيية‬
‫‪ ،‬اليت يعتمد عليها التفسري طيلة ف رتة طويلة من ال زمن ‪ ،‬ومن هنا مل يكن بامك ان تفسري‬
‫يقف عند ح دود املأثور من الرواي ات عن الص حابة والت ابعني وعن الرس ول واالئمة أن‬
‫يتقدم خطوة اخرى وان حياول تركيب مدلوالت القرآن واملقارنة بينها واستخراج النظرية‬
‫من وراء ه ذه املدلوالت اللفظي ة‪ .‬التفسري ك ان بطبعه تفس ريا لفظيا تفس ريا للمف ردات‬
‫وشرح بعض املستجد من املصطلحات‬

‫‪14‬‬
‫وتط بيق بعض املف اهيم على اس باب ال نزول ومثل ه ذه العملية مل يكن بامكاهنا ان تق وم‬
‫ب دور اجته ادي مب دع يف التوصل اىل ما وراء املدلول اللغ وي واللفظي يف التوصل اىل‬
‫االفكار االساسية اليت حاول القرآن الكرمي ان يعطيها من خالل املتناثر من آياته الشريفة‬
‫وميكننا ان نق رب اىل اذه انكم فك رة ه ذين االجتاهني املختلفني يف تفسري الق رآن الك رمي‬
‫مبثال من جتربتكم الفقهية ‪ ،‬فالفقه هو مبعىن من املعاين تفسري األحاديث الواردة عن النبيني‬
‫واألئمة (ع) وحنن نع رف من البحث الفقهي ان هن اك كتبا فقهية ش رحت االح اديث‬
‫ح ديثا ح ديثا ‪ ،‬تن اولت كل ح ديث وش رحته وتكلمت عنه داللة او س ندا أو متنا ‪ ،‬أو‬
‫داللة وسندا ومتنا على اختالف اجتاهات الشراح كما جند ذلك يف شراح الكتب االربعة‬
‫وش راح الوس ائل غري ان القسم االعظم من الكتب الفقهية والدراس ات العلمية يف ه ذا‬
‫اجملال مل تتجه هذا االجتاه بل صنف البحث اىل مسائل وفقا لوقائع احلياة وجعلت يف اطار‬
‫كل مس ألة االح اديث اليت تتصل هبا وفس رهتا بالق در ال ذي يلقي ض وءا على تلك املس ألة‬
‫ويؤدي اىل حتديد موقف االسالم من تلك الواقعة اليت تفرتضها املسألة املذكورة وهذا هو‬
‫االجتاه املوضوعي على الصعيد الفقهي بينما ذاك هو االجتاه التجزيئي يف‬

‫‪15‬‬
‫تفسري االحاديث على هذا الصعيد‪ .‬كتاب اجلواهر يف احلقيقة شرح كامل شامل لروايات‬
‫الكتب االربعة ولكنه ليس ش رحا يب دأ ب الكتب االربعة رواية رواية وامنا يص نف رواي ات‬
‫الكتب االربعة وفقا للحياة ‪ ،‬وفقا ملواضيع احلياة ‪ ،‬كتاب البيع ‪ ،‬كتاب اجلعالة ‪ ،‬كتاب‬
‫احياء املوات ‪ ،‬كتاب النكاح ‪ ،‬مث جيمع حتت كل عنوان من هذه العناوين الروايات اليت‬
‫تتصل ب ذلك املوض وع ويش رحها ويق ارن فيما بينها فيخ رج بنظرية النه ال يكتفي ب أن‬
‫يفهم معىن الرواية فقط بصورة مفردة ‪ ،‬ومعىن هذه الرواية بصورة منفردة مع هذه احلالة‬
‫من الفردية ال ميكن ان يصل اىل احلكم الش رعي‪ .‬وامنا يصل اىل احلكم الش رعي عن طريق‬
‫دراسة جمموعة من الرواي ات اليت حتمل مس ؤولية توض يح حكم واحد أو ب اب واحد من‬
‫اب واب احلي اة مث عن طريق ه ذه الدراسة الش املة خترج نظرية واح دة من قبل جمموعة من‬
‫الرواي ات ال من قبل رواية واح دة‪ .‬ه ذا هو االجتاه املوض وعي يف ش رح االح اديث ومن‬
‫خالل املقارنة بني الدراسات القرآنية والدراسات الفقهية نالحظ اختالف مواقع االجتاهني‬
‫على الص عيدين فبينما انتشر االجتاه املوض وعي والتوحي دي على الص عيد الفقهي وما خطا‬
‫الفقه والفكر الفقهي خطوات يف جمال تطوره حىت ساد هذا‬

‫‪16‬‬
‫االجتاه جل البحوث الفقهية جند ان العكس هو الصحيح على الصعيد القرآين حيث سيطر‬
‫االجتاه التجزي ئي للتفسري على الس احة عرب ثالثة عشر قرنا تقريبا اذ ك ان كل مفسر يب دأ‬
‫كما بدأ سلفه مفسرا القرآن آية آية‪ .‬اذن االجتاه املوضوعي هو الذي سيطر على الساحة‬
‫الفقهية بينما االجتاه التجزي ئي هو ال ذي س يطر على الس احة القرآنية واما ما ظهر على‬
‫الص عيد الق رآين من دراس ات تس مى بالتفسري املوض وعي احيانا من قبيل دراس ات بعض‬
‫املفس رين ح ول موض وعات معينة تتعلق ب القرآن الك رمي كاس باب ال نزول يف الق رأن أو‬
‫الناسخ واملنس وخ أو جمازات الق رآن فليست من التفسري التوحي دي واملوض وعي ب املعىن‬
‫ال ذي نري ده ف ان ه ذه الدراس ات ليس يف احلقيقة اال جتميعا ع دديا لقض ايا من التفسري‬
‫التجزيئي لوحظ فيما بينها شيء من التشابه ويف كلمة اخرى ليست كل عملية جتميع أو‬
‫عزل دراسة موضوعية‪ .‬وامنا الدراسة املوضوعية هي اليت تطرح موضوعا من موضوعات‬
‫اة العقائدية او االجتماعية او الكونية وتتجه اىل درسه وتقييمه من زاوية قرآنية‬ ‫احلي‬
‫للخ روج بنظرية قرآنية بص دده‪ .‬واك ثر ظين ان االجتاه التوحي دي واملوض وعي يف الفقه‬
‫بامتداده وانتشاره ساعد بدرجة كبرية على تطوير الفكر الفقهي واثراء‬

‫‪17‬‬
‫الدراس ات العلمية يف ه ذا اجملال بق در ما س اعد انتش ار االجتاه التجزي ئي يف التفسري على‬
‫اعاقة الفكر االسالمي القرآين عن النمو املستمر وساعد على اكسابه حالة تشبه احلاالت‬
‫التكرارية حىت تكاد تقول ان قرونا من الزمن مرتاكمة مرت بعد تفاسري الطربي والرازي‬
‫والطوسي مل حيقق فيها الفكر االس المي مكاسب حقيقية جدي دة وظل التفسري ثابتا ال‬
‫يتغري اال قليال من خالل تلك الق رون على ال رغم من ال وان التغري اليت حفلت هبا احلي اة‬
‫مبختلف املي ادين وس وف يتضح انش اء اهلل تع اىل من خالل املقارنة بني االجتاهني الس بب‬
‫والسر الذي يكمن وراء هذه الظاهرة‪ .‬ملاذا كانت الطريقة التجزيئية عامال يف اعاقة النمو‬
‫وملاذا تكون الطريقة املوضوعية واالجتاه التوحيدي عامال يف النمو واالبداع وتوسيع نطاق‬
‫حركة االجته اد لكي نع رف ملاذا ك ان ه ذا وملاذا ك ان ذاك ‪ ،‬جيب أن نك ون انطباع ات‬
‫أوضح وأك ثر حتدي دا عن ه ذين االجتاهني ‪ ،‬وان يتضح ذلك بعد ان نش رح بعض اوجه‬
‫االختالف بني هذين االجتاهني التفسرييني فيما يلي ‪:‬‬
‫اوال ‪ :‬ان دور املفسر التجزي ئي س ليب على االغلب فهو يب دأ اوال بتن اول النص‬
‫القرآين احملدد آية مثال أو مقطعا قرآنيا من دون أي افرتاضات او طروحات مسبقة‬

‫‪18‬‬
‫وحياول أن حيدد املدلول الق رآين على ض وء ما يس عفه به اللفظ مع ما يت اح له من الق رائن‬
‫املتص لة واملنفص لة العملية يف طابعها الع ام ‪ ،‬عملية تفسري نص معني وك ان دور النص فيها‬
‫دور املتح دث ودور املفسر هو االص غاء والتفهم وه ذا ما نس ميه بال دور الس ليب ‪ ،‬املفسر‬
‫هنا ش غله ان يس تمع لكن ب ذهن مض يء ‪ ،‬بفكر ص اف ‪ ،‬ب روح حميطة ب آداب اللغة‬
‫واساليبها ‪ ،‬يف التعبري مبثل هذه الروح ‪ ،‬مبثل هذه الذهنية ومبثل هذا الفكر جيلس بني يدي‬
‫القرآن ليستمع وهو ذو دور سليب والقرآن ذو دور اجيايب والقرآن يعطي حينئذ وبقدر ما‬
‫يفهم ه ذا املفسر من م دلول اللفظ يس جل يف تفس ريه‪ .‬وخالفا ل ذلك املفسر التوحي دي‬
‫واملوض وعي فانه ال يب دأ يف عمله من النص بل من واقع احلي اة ف ريكز نظ ره على موض وع‬
‫من موض وعات احلي اة العقائدية او االجتماعية او الكونية ويس توعب ما اثارته جتارب‬
‫الفكر االنساين حول ذلك املوضوع من مشاكل وما قدمه الفكر االنساين من حلول وما‬
‫طرحه التط بيق الت ارخيي من اس ئلة ومن نق اط ف راغ مث يأخذ النص الق رآين ‪ ،‬ال ليتخذ من‬
‫نفسه بالنس بة اىل النص دور املس تمع واملس جل فحسب ‪ ،‬بل ليط رح بني ي دي النص‬
‫موضوعا جاهزا مشرقا بعدد كبري من االفكار واملواقف البشرية ويبدأ‬

‫‪19‬‬
‫مع النص الق رآين ح وارا ‪ ،‬املفسر يس أل والق رأن جييب املفسر على ض وء احلص يلة اليت‬
‫اس تطاع ان جيمعها من خالل التج ارب البش رية النافعة وهو يس تهدف من ذلك ان‬
‫يكتشف موقف الق رآن الك رمي من املوض وع املط روح والنظرية اليت بامكانه ان يس تلهمها‬
‫من النص من خالل مقارنة ه ذا النص مبا اس توعبه الب احث عن املوض وع من افك ار‬
‫واجتاه ات ومن هنا ك انت نت ائج التفسري املوض وعي نت ائج مرتبطة دائما بتي ار التجربة‬
‫البش رية الهنا متثل املع امل واالجتاه ات القرآنية لتحديد النظرية االس المية بش أن موضع من‬
‫مواض يع احلي اة ومن هنا ايضا ك انت عملية التفسري املوض وعي عملية ح وار مع الق رآن‬
‫الك رمي واس تنطاق له ‪ ،‬وليست عملية اس تجابة س لبية بل اس تجابة فعالة وتوظيفا هادفا‬
‫للنص الق رآين يف س بيل الكشف عن حقيقة من حق ائق احلي اة الك ربى ‪ ،‬ق ال امري املؤم نني‬
‫(ع) وهو يتح دث عن الق رآن الك رمي « ذلك الق رآن فاس تنطقوه ولن ينطق لكن أخ ربكم‬
‫عنه ‪ ،‬أال ان منه علم ما ي أيت واحلديث عن املاضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم » التعبري‬
‫باالستنطاق الذي جاء يف كالم ابن القرآن (ع) اروع تعبري عن عملية التفسري املوضوعي‬
‫بوص فها ح وارا مع الق رآن الك رمي وطرحا للمش اكل املوض وعية عليه بقصد احلص ول على‬
‫االجابة‬

‫‪20‬‬
‫القرآنية عليها ‪ ،‬اذن ف اول اوجه االختالف الرئيس ية بني االجتاه التجزي ئي يف التفسري‬
‫واالجتاه املوضوعي يف التفسري ان االجتاه التجزيئي يكون دور املفسر فيه دورا سلبيا يستمع‬
‫ويس جل بينما التفسري املوض وعي ليس ه ذا معن اه وليس ه ذا كنهه وامنا وظيفة التفسري‬
‫املوض وعي دائما يف كل مرحلة ويف كل عصر ان حيمل كل ت راث البش رية ال ذي عاشه ‪،‬‬
‫حيمل افك ار عص ره ‪ ،‬حيمل املق والت اليت تعلمها من جتربته البش رية مث يض عها بني ي دي‬
‫القرآن الكتاب الذي ال يأتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه ليحكم على هذه احلصيلة‬
‫مبا ميكن هلذا املفسر ان يفهمه من خالل جمموعة آياته الش ريفة ‪ ،‬اذن فهنا يلتحم الق رآن‬
‫مع الواقع ‪ ،‬واقع احلي اة ‪ ،‬الن التفسري يب دأ من الواقع وينتهي اىل الق رآن ال انه يب دأ من‬
‫القرآن وينتهي يف القرآن فيكون عملية منعزلة عن الواقع ‪ ،‬بل هذه العملية تبدأ من الواقع‬
‫وتنتهي بالقرأن بوصفه القيم واملصدر الذي جيدد على ضوئه االجتاهات الربانية بالنسبة اىل‬
‫ذلك الواقع ومن هنا تبقى للق رآن حينئذ قدرته على القيمومة والعط اء املس تجد بش كل‬
‫دائم فالقرآن الكرمي دلت الروايات على انه ال ينفد وصرح القرآن نفسه بأن كلمات اهلل‬
‫ال تنفد ‪ ،‬عطاء القرآن ال ينفد بينما‬

‫‪21‬‬
‫التفسري اللغ وي ينفد الن اللغة هلا طاق ات حمدودة وليس هن اك جتدد يف املل ول اللغ وي ولو‬
‫وجد جتدد يف املدلول اللغ وي فال معىن لتحكيمه على الق رآن ‪ ،‬ولو وج دت لغة اخ رى‬
‫بعد الق رآن فال معىن الن يفهم الق رآن من خالل لغة جدي دة او ألف اظ حتمل مص طلحات‬
‫جدي دة اس تحدثت بعد الق رآن اذن فحالة ع دم النف اد تكمن يف منهج التفسري املوض وعي‬
‫الننا نستنطق القرآن وفيه علم ما كان وعلم ما يأيت ودواء دائنا ‪ ،‬ونظم ما بيننا ‪ ،‬ما ميكن‬
‫ان نستشف منه مواقف السماء جتاه جتربة االرض‪ .‬فمن هنا كان التفسري املوضوعي قادرا‬
‫على التطور والنمو الن التجربة البش رية تثريه وال درس الق رآين والتأمل الق رآين على ض وء‬
‫التجربة البش رية جيعل ه ذا ال ثراء حموال اىل فهم اس المي ق رآين ص حيح واحلمد هلل رب‬
‫العاملني‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫الدرس الثاني ‪:‬‬
‫ان االجتاه ات الفقهية س ارت يف االجتاه املوض وعي بينما االحباث التفس ريية س ارت‬
‫يف االجتاه التجزي ئي طبعا مل نكن نعين من ذلك ايضا ان البحث الفقهي اس تنفذ طاقة‬
‫االجتاه املوض وعي ف البحث الفقهي الي وم م دعو ايضا اىل ان يس تنفذ طاقة ه ذا االجتاه‬
‫املوضوعي افقيا وعموديا باعتبار ان االجتاه املوضوعي كما قلنا عبارة عن ان االنسان يبدأ‬
‫من الواقع وينتهي اىل الشريعة‪.‬‬
‫هكذا كان ديدن العلماء والفقهاء كانوا يبدأون باحلياة ‪ ،‬يبدأون من الواقع ‪ ،‬وقائع‬
‫احلي اة ك انت تنعكس عليهم على ش كل جعالة ومض اربة ومزارعة ومس اقات ليس تنبطوا‬
‫احلكم من مص ادرها مث يردوهنا اىل الش ريعة ه ذا اجتاه موض وعي النه يب دأ ب الواقع وينتهي‬
‫اىل الشريعة يف مقام التعريف على حكم هذا الواقع لكن هنا ال بد ان ميتد الفقه افقيا على‬
‫هذه الساحة اكثر الن العلم اء الذين سامهوا يف تكوين هذا االجتاه املوضوعي عرب ق رون‬
‫متعددة كانوا حريصني على ان يأخذوا هذه‬

‫‪23‬‬
‫الوق ائع وحييلوها اىل الش ريعة ليس تنبطوا احك ام الش ريعة املرتبطة بتلك الوق ائع لكن وق ائع‬
‫احلي اة تتك اثر وتتج دد باس تمرار وتتولد مي ادين جدي دة فالبد هلذه العملية من النمو‬
‫باس تمرار فتب دأ من الواقع لكن ال ذاك الواقع الس اكن احملدود وال ذي ك ان يعيشه الش يخ‬
‫الطوسي او احملقق احللي ‪ ،‬الن ذاك الواقع ك ان يفي حباج ات عص رمها فاالج ار واملض اربة‬
‫واملزارعة واملس اقات ك انت متثل الس وق قبل ألف س نة أو قبل مثامنائة س نة لكن اب واب‬
‫السوق قد اتسعت ففيها العالقات االقتصادية اوسع واكثر تشابكا من هذا النطاق ‪ ،‬فال‬
‫بد للفقه من ان يك ون كما ك ان على يد ه ؤالء العلم اء ال ذين ك انوا حريصني على ان‬
‫يعكسوا كل ما يستجد من وقائع احلياة على الشريعة ليأخذوا حكم الشريعة‪ .‬ال بد ايضا‬
‫من ان هذه العملية تسري افقيا كما سارت افقيا يف البداية‪ .‬هذا من الناحية االفقية‪.‬‬
‫من الناحية العمودية ايضا ال بد من ان يتوغل ه ذا االجتاه املوض وعي يف الفقه ‪ ،‬ال‬
‫بد وان يتوغل ‪ ،‬ال بد وان ينفذ عموديا ‪ ،‬ال بد وان يصل اىل النظريات االساسية ‪ ،‬ال بد‬
‫وان ال يكتفي بالبن اءات العلوية وبالتش ريعات التفص يلية ‪ ،‬ال بد وان ينفذ من خالل ه ذا‬
‫التشريعات اليت متثل وجهة نظر االسالم الننا نعلم ان‬

‫‪24‬‬
‫كل جمموعة من التشريعات يف كل باب من ابواب احلياة ترتبط بنظريات اساسية ‪ ،‬ترتبط‬
‫بتطورات رئيسية ألحكام االسالم ‪ ،‬تشريعات االسالم ‪ ،‬يف املذهب االقتصادي باالسالم‬
‫‪ ،‬احك ام االس الم يف جمال النك اح والطالق وال زواج وعالق ات املرأة مع الرجل ترتبط‬
‫بنظرياته االساس ية عن املرأة والرجل ودور املرأة والرجل ه ذه النظري ات االساس ية اليت‬
‫تش كل القواعد النظرية هلذه االبنية العلوية ‪ ،‬ال بد ايضا من التوغل اليها ‪ ،‬ال ينبغي ان‬
‫ينظر اىل ذلك بوص فه عمال منفصال عن الفقه ‪ ،‬بوص فه ترفا ‪ ،‬أدبا ‪ ،‬بل بوص فه ض رورة‬
‫وينبغي اكتشافها بقدر الطاقة البشرية‪.‬‬
‫االن نعود اىل التفسري مبا ذكرناه من اوجه اخلالف بني التفسري املوضوعي والتفسري‬
‫التجزيئي ‪ ،‬تبينت عدة افضليات تدعو اىل تفضيل املنهج املوضوعي يف التفسري على املنهج‬
‫التجزي ئي يف التفسري ف ان املنهج املوض وعي يف التفسري على ض وء ما ذكرن اه يك ون اوسع‬
‫افقا وأرحب وأكثر عطاء باعتبار ان يتقدم خطوة عن التفسري التجزيئي كما أنه قادر على‬
‫التجدد باستمرار ‪ ،‬على التطور واالبداع باستمرار ‪ ،‬باعتبار ان التجربة البشرية تغين هذا‬
‫التفسري مبا تقدمه من مواد ‪ ،‬مث هذه‬

‫‪25‬‬
‫املواد تط رح بني ي دي الق رآن الك رمي وه ذا هو الطريق الوحيد للحص ول على النظري ات‬
‫االساسية لالسالم وللقرآن ازاء موضوعات احلياة املختلفة وقد يقال بأنه ما الضرورة اىل‬
‫حتص يل ه ذه النظري ات االساس ية ‪ ،‬ما الض رورة اىل ان نفهم نظرية االس الم يف النبوة مثال‬
‫بشكل عام او نفهم نظرية االسالم يف سنن التاريخ او يف التغري االجتماعي بشكل عام او‬
‫ان نفهم س نن االس الم واالرض ‪ ،‬ما الض رورة اىل ان ن درس وحندد ه ذه النظري ات فاننا‬
‫جند بان النيب (ص) مل يعط هذه النظريات على شكل نظريات حمدودة وصيغ عامة ‪ ،‬وامنا‬
‫اعطى الق رآن هبذا ال رتتيب للمس لمني ‪ ،‬ما الض رورة اىل ان نتعب انفس نا يف س بيل ه ذه‬
‫النظري ات وحتدي دها بعد ان ال حظنا ان النيب (ص) اكتفى باعط اء ه ذا اجملم وع ‪ ،‬ه ذا‬
‫الش كل املرتاكم هبذا الش كل ما الض رورة ان نستحصل ه ذه النظري ات احلقيقة بأنه هن اك‬
‫الي وم ض رورة اساس ية لتحديد ه ذه النظري ات ولتحص يل ه ذه النظري ات وال ميكن ان‬
‫يفرتض االستغناء عنها‪ .‬النيب (ص) كان يعطي هذه النظريات ولكن من خالل التطبيق من‬
‫خالل املناخ القرآين العام الذي كان بينه يف احلياة‬

‫‪26‬‬
‫االسالمية ‪ ،‬وكان كل فرد مسلم يف إطار هذا املناخ ‪ ،‬كان حيمل نظرية ولو فهما امجاليا‬
‫ارتكازيا الن املن اخ واالط ار ال روحي واالجتم اعي والفك ري وال رتبوي ال ذي وص فه النيب‬
‫(ص) ك ان ق ادرا على ان يعطي النظ رة الس ليمة ‪ ،‬والق درة الس ليمة على تق ييم املواقع‬
‫واملواقف واالح داث اذا اردنا ان نق رب ه ذه الفك رة نق ول ‪ :‬قايس وا بني ح التني حالة‬
‫االنسان الذي يعيش داخل عرف لغة من اللغات وانسان يريد ان يعرف ابناء هذه اللغة ‪،‬‬
‫ابناء هذا العرف ‪ ،‬كيف تتمثل اذهاهنم هذه املعاين اىل االلفاظ ‪ ،‬كيف حيددون املعاين من‬
‫األلف اظ ‪ ،‬هنا توجد ح التني اح دامها ‪ :‬ان ت أيت هبذا االنس ان وجتعله يعيش يف اعم اق ه ذا‬
‫الع رف ويف اعماق ه ذه اللغة واذا ص ار ك ذلك واستمرت به احلياة يف اط ار هذا العرف‬
‫وه ذه اللغة ف رتة طويلة من ال زمن س وف يتك ون لديه االط ار اللغ وي ‪ ،‬والع ريف ال ذي‬
‫يس تطيع من خالله ان يتح رك ذهنه وفقا ملا يري ده الع رف واللغة منه الن م دلوالت تكون‬
‫موج ودة وج ودا امجاليا ارتكازيا يف ذهنه ‪ ،‬النظ رة الس ليمة والتفهم الس ليم للكلمة‬
‫الص حيحة ‪ ،‬ومتييزها عن الكلمة غري الص حيحة تك ون موج ودة عن ده باعتب ار انه ع اش‬
‫عرف اللغة ووجداهنا يف ممارساته بينما اذا كان االنسان خارج جناح تلك اللغة وعرفها‬
‫واردت ان تنشئ‬

‫‪27‬‬
‫يف ذهنه الق درة على التمي يز اللغ وي الص حيح فال تس تطيع التمي يز اللغ وي حينئذ اال عن‬
‫طريق الرجوع اىل قواعد تلك اللغة ‪ ،‬واىل العرف الذي ترىب فيه االنسان لكي تستنتج منه‬
‫القواعد العامة والنظري ات الش املة ومثاله ما وقع بالنس بة اىل عل وم العربية كيف ان ابن‬
‫اللغة مل يكن حباجة اىل ان يعلم عل وم العربية يف البداية النه ك ان يعيش يف اعم اق ع رف‬
‫اللغة ‪ ،‬لكن بعد ان ابتعد عن تلك االعماق واختلفت االجواء وضعفت اللغة ‪ ،‬وتراكمت‬
‫لغ ات اخ رى اندست اىل داخل حي اة ه ؤالء ‪ ،‬ب دأ ه ؤالء حباجة اىل علم لللغة ‪ ،‬اىل‬
‫نظري ات لللغة الن الواقع ال يس فعهم بنظ رة س ليمة فال بد حينئذ من علم ال بد من‬
‫نظري ات لكي يفك روا ولكي يناقش وا ولكي يتص رفوا لغويا وفقا لتلك القواعد والنظري ات‬
‫هذا املثال مثال تقرييب ألجل توضيح الفكرة‪.‬‬
‫اذا الص حابة ال ذين عاش وا يف كنف الرس ول االعظم (ص) اذا ك انوا مل يتلق وا‬
‫النظري ات بص يغ عامة فقد تلقوها تلقيا امجاليا ارتكازيا ‪ ،‬انتقشت يف اذه اهنم وس رت يف‬
‫افك ارهم ‪ ،‬ك ان املن اخ الع ام االط ار االجتم اعي وال روحي والفك ري ال ذي يعيش ونه كله‬
‫ك ان اط ارا مس اعدا على تفهم ه ذه النظري ات ولو تفهما امجاليا وعلى توليد املقي اس‬
‫الصحيح يف مقام التقييم‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫اما حيث ال يوجد ذلك املناخ ‪ ،‬ذلك االطار اذا تكون احلاجة اىل دراسة لنظريات‬
‫القرآن الكرمي يف االسالم ‪ ،‬تكون حاجة حقيقية ملحة خصوصا مع بروز نظريات عديدة‬
‫من خالل التفاعل بني انسان العامل االسالمي وانسان العامل الغريب بكل ما ميلك من رصيد‬
‫عظيم ومن ثقافة متنوعة يف خمتلف جماالت املعرفة البش رية حينما وقع ه ذا التفاعل بني‬
‫انسان العامل االسالمي وانسان العامل الغريب وجد االنسان املسلم نفسه امام نظريات كثرية‬
‫يف خمتلف جماالت احلي اة فك ان عليه لكي حيدد موقف االس الم من ه ذه النظري ات ‪ ،‬ك ان‬
‫ال بد وان يستنطق نصوص اإلسالم ‪ ،‬ويتوغل يف اعماق هذه النصوص ليصل اىل مواقف‬
‫االس الم س لبا واجياب اً لكي يكتشف نظري ات االس الم اليت تع اجل نفس ه ذه املواض يع اليت‬
‫عاش حبثها التجارب البشرية الذكية يف خمتلف جماالت احلياة‪.‬‬
‫اذن فالتفسري املوض وعي يف املق ام هو افضل االجتاهني يف التفسري اال ان ه ذا ال‬
‫ينبغي ان يك ون املقص ود منه االس تغناء عن التفسري التجزي ئي ‪ ،‬ه ذه االفض لية ال تعين‬
‫اس تبدال اجتاه باجتاه او ط رح التفسري التجزي ئي رأسا واالخذ بالتفسري املوض وعي ‪ ،‬وامنا‬
‫اضافة اجتاه اىل اجتاه الن التفسري املوضوعي‬

‫‪29‬‬
‫ليس اال خط وة اىل االم ام بالنس بة اىل التفسري التجزي ئي وال معىن لالس تغناء عن التفسري‬
‫التجزي ئي باجتاه املوض وعي‪ .‬وامنا هي مس ألة ضم االجتاه املوض وعي يف التفسري اىل االجتاه‬
‫التجزيئي يف التفسري ‪ ،‬يعين افرتاض خطوتني خطوة هي التفسري التجزيئي وخطوة وأخرى‬
‫هي التفسري املوضوعي‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫الدرس الثالث ‪:‬‬
‫استعرض نا فيما س بق املربرات املوض وعية والفكرية اليث ار التفسري املوض وعي‬
‫التوحيدي على التفسري التجزيئي التقليدي باعتبار أن التفسري املوضوعي أغىن عطاءا وأكثر‬
‫ق درة على التح رك واألب داع وعلى حتديد املواقف النظرية الش املة للق رآن الك رمي ‪ ..‬اآلن‬
‫أود أن أذكر م ربرا عمليا وهو ان ش وط التفسري التقلي دي ش وط طويل ج دا النه يب دأ من‬
‫س ورة الفاحتة وينتهي بس ورة الن اس وه ذا الش وط الطويل حباجة من أجل اكماله اىل ف رتة‬
‫زمنية طويلة ايضا وهلذا مل حيض من علم اء االس الم االعالم اال ع دد حمدود هبذا الش رف‬
‫العظيم ‪ ،‬ش رف مرافقة الكت اب الك رمي من بدايته اىل هنايته وحنن نش عر ب أن ه ذه االي ام‬
‫احملدودة املتبقية ال تفي هبذا الش وط الطويل وهلذا ك ان من االفضل اختي ار أش واط أقصر‬
‫لكي نس تطيع ان نكمل بض عة أش واط من ه ذا اجلوالن يف رح اب الق رآن الك رمي‪ .‬من هنا‬
‫سوف خنتار موضوعات متعددة من القرآن الكرمي ونستعرض‬

‫‪31‬‬
‫ما يتعلق ب ذلك املوض وع وما ميكن أن يلقي عليه الق رآن من أض واء‪ .‬وس وف حناول أن‬
‫يكون البحث مربوطا بقدر االمكان لكي نستطيع أن نصل اىل عدد من املواضيع املهمة‪.‬‬
‫فنقتصر على االفكار االساسية واملبادئ الرئيسية بالنسبة اىل كل موضوع وسوف أحرص‬
‫على أن ال يس توعب كل موض وع اال ع ددا حمدودوا من احملاض رات‪ .‬أرجو أن يك ون بني‬
‫مخس حماضرات اىل عشر حماضرات لكي نستطيع أن نستوعب مواضيع متنوعة من القرآن‬
‫الكرمي ‪ ..‬االن نواجه هذا السؤال ‪:‬‬
‫ما هو املوضوع االول الذي سوف نبدأ به االن انشاء اهلل تعاىل؟‬
‫املوضوع االول الذي سوف خنتاره للبحث هو « سنن التاريخ يف القرآن الكرمي »!‬
‫هل للتاريخ البشري سنن يف مفهوم القرآن الكرمي ‪ ،‬هل له قوانني تتحكم يف مسريته ويف‬
‫حركته وتطوره ‪ ،‬ما هي هذه السنن اليت تتحكم يف التاريخ البشري ‪ ،‬كيف بدأ التاريخ‬
‫البش ري ‪ ،‬كيف منا ‪ ،‬كيف تط ور ‪ ،‬ما هي العوامل االساس ية يف نظرية الت اريخ ‪ ،‬ما هو‬
‫دور االنس ان يف عملية الت اريخ ‪ ،‬ما هو موقع الس ماء أو النب وة على الس احة االجتماعي ة‪.‬‬
‫هذا كله ما سوف ندرسه حتت هذا العنوان ‪ ،‬عنوان‬

‫‪32‬‬
‫س نن الت اريخ يف الق رآن الك رمي ‪ ،‬وه ذا اجلانب من الق رآن الك رمي قد حبث اجلزء االعظيم‬
‫من م واده ومفرادته القرآنية لكن من زوايا خمتلفة ‪ ،‬فمثال قصص االنبي اء (ع) اليت متثل‬
‫اجلزء االعظم من ه ذه املادة القرآني ة‪ .‬حبثت قصص االنبي اء من زاوية تارخيية تناوهلا‬
‫املؤرخون واستعرضوا احلوادث والوقائع اليت تكلم عنها القرآن الكرمي ‪ ،‬وحينما ال حظوا‬
‫الفراغ ات اليت تركها ه ذا الكت اب العزيز ‪ ،‬ح اولوا ان ميل ؤا ه ذه الفراغ ات بالرواي ات‬
‫واالح اديث ‪ ،‬او مبا هو املأثور عن أدي ان س ابقة ‪ ،‬أو باالس اطري واخلراف ات فتك ونت‬
‫س جالت ذات ط ابع ت ارخيي لتنظيم ه ذه املادة القرآنية ‪ ،‬ك ذلك أيض اً حبثت ه ذه املادة‬
‫القرآنية من زاوية أخ رى ‪ ،‬من زاوية منهج القصة يف الق رآن ‪ ،‬م دى ما يتمتع به ه ذا‬
‫املنهج من أص الة وق وة واب داع ‪ ،‬ما تزخر به القصة القرآنية من حيوية ‪ ،‬من حركة ‪ ،‬من‬
‫أحداث ‪ ،‬هذا أيضا زاوية أخرى للبحث يف هذه املادة يضاف اىل زوايا عديدة‪ .‬حنن اآلن‬
‫نريد ان نتن اول ه ذه املادة القرآنية من زاوية أخ رى ‪ ،‬من زاوية مق دار ما تلقي ه ذه املادة‬
‫من أض واء على س نن الت اريخ ‪ ،‬على تلك الض وابط والق وانني والن واميس اليت تتحكم يف‬
‫عملية الت اريخ اذا ك ان يوجد يف مفه وم الق رآن ش يء من ه ذه الن واميس والض وابط‬
‫والقوانني‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫الساحة التارخيية كأي ساحة أخرى زاخرة مبجموعة من الظواهر كما ان الساحة‬
‫الفلكية ‪ ،‬الس احة الفيزيائية ‪ ،‬الس احة النباتية زاخ رة مبجموعة من الظ واهر ‪ ،‬ك ذلك‬
‫الس احة التارخيية ب املعىن ال ذي س وف نفصل من الت اريخ انش اء اهلل بعد ذلك ‪ ،‬زاخ رة‬
‫مبجموعة من الظواهر ‪ ،‬كما ان الظواهر يف كل ساحة أخرى من الساحات هلا سنن وهلا‬
‫نواميس فمن حقنا أن نتساءل ‪ :‬هل ان هذه الظواهر اليت تزخر هبا الساحة التارخيية ‪ ،‬هل‬
‫ه ذه الظ واهر ايضا ذات س نن وذات ن واميس ‪ ،‬وما هو موقف الق رآن الك رمي من ه ذه‬
‫الس نن والن واميس ‪ ،‬وما هو عط اؤه يف مق ام تأكيد ه ذا املفه وم اجيابا أو س لبا ‪ ،‬امجاال أو‬
‫تفص يال ‪ ،‬وقد خييل اىل بعض االش خاص ‪ ،‬اننا ال ينبغي ان ن رتقب من الق رآن الك رمي أن‬
‫يتح دث عن س نن الت اريخ ‪ ،‬الن البحث يف س نن الت اريخ حبث علمي ك البحث يف س نن‬
‫الطبيعة والفلك والذرة والنبات ‪ ،‬والقرآن الكرمي مل ينزل كتاب اكتشاف بل كتاب هداية‬
‫‪ ،‬الق رآن الك رمي مل يكن كتابا مدرس يا ‪ ،‬مل ي نزل على رس ول اهلل (ص) بوص فه معلما‬
‫ب املعىن التقلي دي من املعلم لكي ي درس جمموعة من املتخصصني واملثقفني ‪ ،‬وامنا ن زل ه ذا‬
‫الكتاب عليه ليخرج الناس من الظلمات اىل النور ‪ ،‬من ظلمات اجلاهلية اىل نور‬

‫‪34‬‬
‫اهلداية واالس الم‪ .‬اذن فهو كت اب هداية وتغيري وليس كت اب اكتش اف ‪ ،‬ومن هنا ال‬
‫نرتقب من القرآن الكرمي ان يكشف لنا احلقائق واملبادئ العامة للعلوم االخرى وال نرتقب‬
‫من الق رآن الك رمي ان يتح دث لنا عن مب ادئ الفيزي اء أو الكيمي اء أو النب ات أو احلي وان ‪،‬‬
‫ص حيح أن يف الق رآن الك رمي اش ارات اىل كل ذلك ‪ ،‬ولكنها اش ارت باحلدود اليت تؤكد‬
‫على البعد االهلي للقرآن ‪ ،‬وبقدر ما ميكن أن يثبت العمق الرباين هلذا الكتاب الذي أحاط‬
‫باملاضي واحلاضر واملس تقبل وال ذي اس تطاع أن يس بق التجربة البش رية مئ ات الس نني يف‬
‫مقام الكشف عن حقائق متفرقة يف امليادين العلمية املتفرقة ‪ ،‬لكن هذه االشارات القرآنية‬
‫امنا هي الجل غرض عملي من هذا القبيل ال من أجل تعليم الفيزياء والكيمياء‪ .‬القرآن مل‬
‫يط رح نفسه ب ديال عن ق درة االنس ان اخلالقة ‪ ،‬عن مواهبه وقابلياته يف مق ام الك دح ‪،‬‬
‫الك دح يف كل مي ادين احلي اة مبا يف ذلك مي دان املعرفة والتجربة ‪ ،‬الق رآن مل يط رح نفسه‬
‫بديال عن هذه امليادين ‪ ،‬وامنا طرح نفسه طاقة روحية موجهة لالنسان ‪ ،‬مفجرة طاقاته ‪،‬‬
‫حمركة له يف املسار الصحيح‪ .‬فاذا كان القرآن الكرمي كتاب هداية وتوجيه وليس كتاب‬
‫اكتشاف وعلم فليس من الطبيعي أن‬

‫‪35‬‬
‫ن رتقب منه اس تعراض مب ادئ عامة ألي واحد من ه ذه العل وم اليت يق وم الفهم البش ري‬
‫مبهمة التوغل يف اكتشاف نواميسها وقوانينها وضوابطها ‪ ،‬ملاذا ننتظر من القرأن الكرمي أن‬
‫يعطينا عمومي ات ‪ ،‬أن يعطينا مواقف ‪ ،‬أن يبل ور له مفهوما علميا يف س نن الت اريخ على‬
‫ه ذه الس احة من س احات الك ون بينما ليس للق رآن مثل ذلك على الس احات االخ رى ‪،‬‬
‫وال ح رج على الق رآن يف ان ال يك ون له ذلك على الس احات االخ رى‪ .‬الن الق رآن لو‬
‫صار ملقام استعراض هذه القوانني ‪ ،‬وكشف هذه احلقائق لكان بذلك يتحول اىل كتاب‬
‫آخر نوعيا ‪ ،‬يتحول من كتاب للبشرية مجعاء اىل كتاب للمتخصصني يدرس يف احللقات‬
‫اخلاصة ‪ ،‬قد يالحظ هبذا الش كل على اختي ار ه ذا املوض وع اال ان ه ذه املالحظة رغم ان‬
‫الروح العامة فيها صحيحة مبعىن ان القرآن الكرمي ليس كتاب اكتشاف ‪ ،‬ومل يطرح نفسه‬
‫ليجمد يف االنس ان طاق ات النمو واالب داع والبحث ‪ ،‬وامنا هو كت اب هداية ‪ ،‬ولكن مع‬
‫ه ذا يوجد ف رق ج وهري بني الس احة التارخيية وبقية س احات الك ون ‪ ،‬ه ذا الف رق‬
‫اجلوهري جيعل من هذه الساحة ومن سنن هذه الساحة أمرا مرتبطا أشد االرتباط بوظيفة‬
‫القرآن ككتاب هداية ‪ ،‬خالفا لبقية الساحات الكونية وامليادين االخرى‬

‫‪36‬‬
‫للمعرفة البشرية ‪ ،‬وذلك ان القرآن الكرمي كتاب هداية وعملية تغيري هذه العملية اليت عرب‬
‫عنها يف القرآن الكرمي بأهنا اخراج للناس من الظلمات اىل النور ‪ ،‬وعملية التغيري هذه فيها‬
‫جانبان « اجلانب االول » جانب احملتوى املضمون اليه هذه العملية التغيريية من احكام ‪،‬‬
‫من مناهج ‪ ،‬ما تتبناه من تشريعات ‪ ،‬هذا اجلانب من عملية التغيري جانب رباين ‪ ،‬جانب‬
‫اهلي مساوي ‪ ،‬هذا اجلانب ميثل شريعة اهلل سبحانه وتعاىل اليت نزلت على النيب حممد (ص)‬
‫وحتدت بنفس نزوهلا عليه كل س نن الت اريخ املادية الن ه ذه الش ريعة ك انت اكرب من اجلو‬
‫ال ذي ن زلت عليه ‪ ،‬ومن البيئة اليت حلت فيها ‪ ،‬ومن الف رد ال ذي كلف ب أن يق وم بأعب اء‬
‫تبليغه ا‪ .‬ه ذا اجلانب من عملية التغيري ‪ ،‬ج انب احملت وى واملض مون ‪ ،‬ج انب التش ريعات‬
‫واالحك ام واملن اهج اليت ت دعو اليها ه ذه العملية ‪ ،‬ه ذا اجلانب ج انب رب اين اهلي ‪ ،‬لكن‬
‫هن اك ج انب آخر عملية التغيري اليت مارس ها النيب (ص) وأص حابه االطه ار ‪ ،‬ه ذه العملية‬
‫حينما تلحظ بوصفها عملية متجسدة يف مجاعة من الناس وهم النيب والصحابة ‪ ،‬بوصفها‬
‫عملية اجتماعية متجسدة يف هذه الصفوة ‪ ،‬وبوصفها عملية قد واجهت تيارات اجتماعية‬
‫خمتلفة من حوهلا واشتبكت‬

‫‪37‬‬
‫معها يف ألوان من الصراع والنزاع العقائدي واالجتماعي والسياسي والعسكري ‪ ،‬حينما‬
‫تؤخذ ه ذه العملية التغيريية بوص فها جتس يدا بش ريا على الس احة التارخيية مرتابطا مع‬
‫اجلماعات والتيارات االخرى اليت تكتنف هذا التجسيد واليت تؤيد أو تقاوم هذا التجسيد‬
‫‪ ،‬حينما تؤخذ العملية من ه ذه الزاوية تك ون عملية بش رية ‪ ،‬يك ون ه ؤالء اناسا كس ائر‬
‫الن اس تتحكم فيهم اىل درجة كب رية س نن الت اريخ اليت تتحكم يف بقية اجلماع ات ويف بقية‬
‫الفئ ات على مر ال زمن‪ .‬اذن عملية التغيري اليت مارس ها الق رآن ومارس ها النيب (ص) هلا‬
‫جانب ان من حيث ص لتها بالش ريعة وب الوحي ومص ادر ال وحي ‪ ،‬هي ربانية ‪ ،‬هي ف وق‬
‫الت اريخ ولكن من حيث كوهنا هي عمال قائما على الس احة التارخيية ‪ ،‬من حيث كوهنا‬
‫جهدا بشريا يقاوم جهودا بشرية اخرى ‪ ،‬من هذه الناحية يعترب هذا عمال تارخييا حتكمه‬
‫سنن التاريخ وتتحكم فيه الضوابط اليت وضعها اهلل سبحانه وتعاىل لتنظيم ظواهر الكون‬
‫يف هذه الساحة املسماة بالساحة التارخيية وهلذا نرى ان القرآن الكرمي حينما يتحدث عن‬
‫الزاوية الثانية ‪ ،‬عن اجلانب الثاين من عملية التغيري يتحدث عن أناس ‪ ،‬يتحدث عن بشر ‪،‬‬
‫ال يتحدث عن رسالة‬

‫‪38‬‬
‫السماء ‪ ،‬بل يتحدث عنهم بوصفهم بشرا من البشر تتحكم فيهم القوانني اليت تتحكم يف‬
‫االخ رين حينما أراد أن يتح دث عن انتص ار املس لمني يف غزوة أحد بعد ان اح رزوا ذلك‬
‫االنتص ار احلاسم يف غ زوة ب در ‪ ،‬بعد ذلك انكس روا وخس روا املعركة يف غ زوة أحد ‪،‬‬
‫حتدث القرآن الكرمي عن هذه اخلسارة ‪ ،‬ماذا قال ‪ ،‬هل قال بان رسالة السماء خسرت‬
‫املعركة بعد ان ك انت رحبت املعرك ة؟ ال ‪ ..‬الن رس الة الس ماء ف وق مق اييس النصر‬
‫واهلزمية ب املعىن املادي ‪ ،‬رس الة الس ماء ال هتزم ‪ ،‬ولن هتزم اب دا ‪ ،‬ولكن ال ذي يه زم هو‬
‫االنسان ‪ ،‬االنسان حىت ولو كان هذا االنسان جمسدا لرسالة السماء ‪ ،‬الن هذا االنسان‬
‫تتحكم فيه سنن التاريخ ‪ ،‬ماذا قال القرآن؟ قال « وتلك االيام نداولها بين الناس » (‪.)1‬‬
‫هنا اخذ يتكلم عنهم بوص فهم اناسا ق ال ب ان ه ذه القض ية هي يف احلقيقة ترتبط بس نن‬
‫التاريخ ‪ ،‬املسلمون انتصروا يف بدر حينما كانت الشروط املوضوعية للنصر حبسب منطق‬
‫س نن الت اريخ تف رض ان ينتص روا ‪ ،‬وخس روا املعركة يف اُحد حينما ك انت الش روط‬
‫املوضوعية يف معركة اُحد تفرض عليهم ان خيسروا املعركة‪ « .‬ان يمسكم قرح فقد‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة آل عمران ‪ :‬اآلية (‪.)140‬‬

‫‪39‬‬
‫مس القوم قرح مثله » (‪ « ، )1‬وتلك االيم نداولها بين الناس » ال تتخيلوا ان النصرن حق‬
‫اهلي لكم ‪ ،‬وامنا النصر حق طبيعي لكم بقدر ما ميكن ان توفروا الشروط املوضوعية هلذا‬
‫النصر حبسب منطق س نن الت اريخ اليت وض عها اهلل س بحانه وتع اىل كونيا ال تش ريعيا ‪،‬‬
‫وحيث انكم يف غزوة اُحد مل تتوفر لديكم هذه الشروط وهلذا خسرمت املعركة‪ .‬فالكالم‬
‫هنا كالم مع بشر ‪ ،‬مع عملية بشرية ال مع رسالة ربانية ‪ ،‬بل يذهب القرآن اىل اكثر من‬
‫ذلك ‪ ،‬يهدد هذه اجلماعة البشرية اليت كانت انظف واطهر مجاعة على مسرح التاريخ ‪،‬‬
‫يه ددهم ب اهنم اذا مل يقوم وا ب دورهم الت ارخيي ‪ ،‬واذا مل يكون وا على مس توى مس ؤولية‬
‫رس الة الس ماء ف ان ه ذا ال يعين ان تتعطل رس الة الس ماء ‪ ،‬وال يعين ان تس كت س نن‬
‫الت اريخ عنهم بل اهنم س وف يس تبدلون ‪ ،‬س نن الت اريخ س وف تع زهلم وس وف ت أيت ب أمم‬
‫اخ رى قد هتي أت هلا الظ روف املوض وعية االفضل لكي تلعب ه ذا ال دور ‪ ،‬لكي تك ون‬
‫ش هيدة على الن اس اذا مل تتهيأ هلذه االمة الظ روف املوض وعية هلذه الش هادة « اال تنف روا‬
‫يعذبكم عذابا اليما ‪ ،‬ويستبدل قوما غيركم وال تضروه شيئاً واهلل على كل شيء‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬نفس اآلية السابقة‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫‪ « ،‬يا ايها ال ذين آمن وا من يرتد منكم عن دينه فس وف ي أتي اهلل بق وم يحبهم‬ ‫(‪)1‬‬
‫ق دير »‬
‫ويحبونه أذلة على المؤم نين أع زة على الك افرين يجاه دون في س بيل اهلل وال يخ افون لومة‬
‫الئم ذلك فضل اهلل يؤتيه من يش اء واهلل واسع عليم ‪ .)2( » ..‬اذن ف القرآن الك رمي امنا‬
‫يتح دث مع اجلانب الث اين من عملية التغيري ‪ ،‬يتح دث مع البشر يف ض عفه وقوته ‪ ،‬يف‬
‫اس تقامته واحنرافه ‪ ،‬يف ت وفر الش روط املوض وعية له وع دم توفره ا‪ .‬من هنا يظهر ب ان‬
‫البحث يف س نن الت اريخ مرتبط ارتباطا عض ويا ش ديدا بكت اب اهلل بوص فه كت اب ه دى ‪،‬‬
‫بوصفه اخراج للناس من الظلمات اىل النور الن اجلانب العملي من هذه العملية ‪ ،‬اجلانب‬
‫البش ري خيضع لس نن الت اريخ ‪ ،‬فال بد اذن ان نس تلهم ‪ ،‬وال بد اذن ان يك ون للق رآن‬
‫الكرمي تصورات وعطاءات يف هذا اجملال لتكوين اطار عام للنظرة القرآنية واالسالمية عن‬
‫سنن التاريخ‪ .‬اذن هذا ال يشبه سنن الفيزياء والكيمياء والفلك واحليوان والنبات ‪ ،‬تلك‬
‫السنن ليست داخلة يف نطاق التأثري املباشر على عملية التاريخ ولكن هذه السنن داخلة يف‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة التوبة ‪ :‬اآلية ( ‪.) 39‬‬
‫(‪ )2‬سورة املائدة ‪ :‬اآلية ( ‪.) 54‬‬

‫‪41‬‬
‫نط اق الت أثري املباشر على عملية التغي ري‪ .‬باعتب ار اجلانب الث اين ‪ ،‬اذن ال بد من ش رح ذلك‬
‫وال بد ان ن رتقب من الق رآن اعط اء عمومي ات يف ذلك ‪ ،‬نعم ال ينبغي ان ن رتقب من‬
‫القرآن ان يتحول ايضا اىل كتاب مدرسي يف علم التاريخ وسنن التاريخ حبيث يستوعب‬
‫كل التفاصيل وكل اجلزئيات حىت ما ال يكون له دخل يف منطق عملية التغيري اليت مارسها‬
‫النيب (ص) وامنا الق رآن الك رمي حيتفظ دائما بوص فه االساسي والرئيسي ‪ ،‬حيتفظ بوص فه‬
‫كت اب هداية ‪ ،‬كت اب اخ راج للن اس من الظلم ات اىل الن ور ‪ ،‬ويف ح دود ه ذه املهمة‬
‫الكب رية العظيمة اليت مارس ها يعطي مقوالته على الس احة التارخيية ويش رح س نن الت اريخ‬
‫بالقدر الذي يلقي ضوءا على عملية التغيري اليت مارسها النيب (ص) بقدر ما يكون موجها‬
‫وهاديا وخالقا لتبصر موض وعي لالح داث والظ روف والش روط‪ .‬وحنن يف الق رآن الك رمي‬
‫نالحظ ان الس احة التارخيية ع امرة بس نن كما عم رت كل الس احات الكونية االخ رى‬
‫بس نن‪ .‬ه ذه احلقيقة نراها واض حة يف الق رآن الك رمي ‪ ،‬فقد بينت ه ذه احلقيقة باش كال‬
‫خمتلفة وبأس اليب متع ددة يف ع دد كثري من اآلي ات بينت على مس توى اعط اء نفس ه ذه‬
‫املفهوم بالنحو الكلي ‪ ،‬ان للتاريخ سنن وان للتاريخ قوانني ‪ ،‬وبينت هذه احلقيقة يف آيات‬
‫اخرى‬

‫‪42‬‬
‫على مس توى ع رض ه ذه الق وانني وبي ان مص اديق ومناذج وامثلة من ه ذه الق وانني اليت‬
‫تتحكم يف املس رية التارخيية لالنس ان وبينت يف س ياق آخر على حنو متتزج فيه النظرية مع‬
‫التطبيق أي بني املفهوم الكلي وبني يف اطار مصداقه ويف آيات اخرى حصل احلث االكيد‬
‫على االس تفادة من احلوادث املاض ية وش حذ اهلمم الجياد عملية اس تقراء للت اريخ وعملية‬
‫االستقراء للحوادث كما تعلمون هي عملية علمية بطبيعتها ‪ ،‬تريد ان تفتش عن سنة عن‬
‫ق انون واال فال معىن لالس تقراء من دون اف رتاض س نة او ق انون‪ .‬اذن هن اك الس نة متع ددة‬
‫درجت عليها اآليات القرآنية يف مقام توضيح هذه احلقيقة وبلورهتا‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫الدرس الرابع ‪:‬‬
‫قلنا ان ه ذه الفك رة القرآنية عن س نن الت اريخ بل ورت يف ع دد كثري من اآلي ات‬
‫باش كال خمتلفة وألس نة متع ددة يف بعض ه ذه اآلي ات اعطيت الفك رة بص يغتها الكلية ويف‬
‫بعض اآلي ات اعطيت على مس توى التط بيق على مص اديق ومناذج ‪ ،‬يف بعض اآلي ات وقع‬
‫احلث على االس تقراء وعلى الفحص االس تقرائي للش واهد التارخيية من اجل الوص ول اىل‬
‫السنة التارخيية وهناك عدد كثري من اآليات الكرمية استعرضت هذه الفكرة بشكل وآخر‬
‫وس وف نق رأ مجلة من ه ذه اآلي ات الكرمية وبعض ه ذه اآلي ات اليت سنستعرض ها واضح‬
‫الداللة على املقص ود والبعض اآلخر له حنو داللة بش كل وآخر او يك ون مع ززا ومؤي دا‬
‫للروح العامة هلذه الفكرة القرآنية ‪ ...‬فمن اآليات الكرمية اليت اعطيت فيها الفكرة الكلية‬
‫‪ ،‬فك رة ان الت اريخ له س نن وض وابط ما يلي ‪ « :‬لكل امة أجل اذا ج اء أجلهم فال‬
‫يستأخرون ساعة‬

‫‪44‬‬
‫وال يستقدمون » (‪ « .)1‬ولكل امة أجل فإذا جاء أجلهم ال يستأخرون ساعة وال يستقدمون‬
‫» (‪.)2‬‬
‫نالحظ يف ه اتني اآلي تني الكرميتني ان االجل اض يف اىل االمة ‪ ،‬اىل الوج ود‬
‫اجملموعي للناس ‪ ،‬ال اىل هذا الفرد بالذات او هذا الفرد بالذات ‪ ،‬اذن هناك وراء االجل‬
‫احملدود احملت وم لكل انس ان بوص فه الف ردي ‪ ،‬هن اك أجل آخر وميق ات آخر للوج ود‬
‫االجتماعي هلؤالء االفراد ‪ ،‬لالمة بوصفها جمتمعا ينشيء ما بني افراده العالقات والصالت‬
‫القائمة على جمموعة من االفك ار واملب ادىء املس ندة مبجموعة من الق وى والقابلي ات‪ .‬ه ذا‬
‫اجملتمع الذي يعرب عنه القرآن الكرمي باالمة‪ .‬هذا له أجل ‪ ،‬له موت ‪ ،‬له حياة ‪ ،‬له حركة‬
‫‪ ،‬كما ان الفرد يتحرك فيكون حيا مث ميوت كذلك االمة تكون حية مث متوت ‪ ،‬وكما ان‬
‫م وت الف رد خيضع الجل ولق انون ولن اموس ك ذلك االمم هلا آجاهلا املض بوطة وهن اك‬
‫ن واميس حتدد لكل امة ه ذا االجل ‪ ،‬اذن هات ان اآليت ان الكرميت ان فيهما عط اء واضح‬
‫للفكرة الكلية ‪ ،‬فكرة ان التاريخ له سنن تتحكم به وراء السنن الشخصية اليت تتحكم يف‬
‫االفراد ‪ ،‬هبوياهتم الشخصية « وما اهلكنا من قرية اال ولها كتاب معلوم‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة يونس ‪ :‬اآلية (‪.)49‬‬
‫(‪ )2‬سورة االعراف ‪ :‬اآلية (‪.)34‬‬

‫‪45‬‬
‫(‬
‫ما تس بق من امة أجلها وما يس تأخرون » (‪ « .)1‬ما تس بق من أمة أجلها وما يس تأخرون »‬
‫‪ « .)2‬او لم ينظ روا في ملك وت الس موات واالرض وما خلق اهلل من ش يء وان عسى ان‬
‫يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون » (‪.)3‬‬
‫ظاهر اآلية الكرمية ان االجل الذي يرتقب ان يكون قريبا او يهدد هؤالء بأن يكون‬
‫قريبا هو االجل اجلم اعي ال االجل الف ردي الن قوما مبجم وعهم ال ميوت ون ع ادة يف وقت‬
‫واحد وامنا اجلماعة بوجودها املعن وي الكلي هو ال ذي ميكن ان يك ون قد اق رتب أجل ه‪.‬‬
‫فاالجل اجلماعي هنا يعرب عن حالة قائمة باجلماعة ال عن حالة قائمة هبذا الفرد او بذاك ‪،‬‬
‫الن الناس عادة ختتلف آجاهلم حينما ننظر اليها باملنظار الفردي ‪ ،‬لكن حينما ننظر اليهم‬
‫باملنظ ار االجتم اعي بوص فهم جمموعة واح دة متفاعلة يف ظلمها وع دهلا ‪ ،‬يف س رائها‬
‫وضرائها ‪ ،‬حينئذ يكون هلا أجل واحد‪ .‬فهذا االجل اجلماعي املشار اليه امنا هو أجل االمة‬
‫وهبذا تلتقي هذه اآلية الكرمية مع اآليات السابقة ‪ « ...‬وربك الغفور ذو الرحمة لو‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة احلجر ‪ :‬اآلية ‪ 4( :‬ـ ‪.)5‬‬
‫(‪ )2‬سورة املؤمنون ‪ :‬اآلية (‪.)43‬‬
‫(‪ )3‬سورة االعراف ‪ :‬اآلية (‪.)185‬‬

‫‪46‬‬
‫يؤاخ ذهم بما كس بوا لعجل لهم الع ذاب بل لهم موعد لن يج دوا من دونه م وئال وتلك‬
‫القرى اهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكم موعدا » (‪ « .)1‬ولو يؤاخذ اهلل الناس بظلمهم‬
‫ما ترك عليها دابة ولكن يؤخرهم الى أجل مسمى فاذا جاء أجلهم ال يستأخرون ساعة وال‬
‫يس تقدمون » (‪ « .)2‬ولو يؤاخذ اهلل الن اس بما كس بوا ما ت رك على ظهرها من دابة ولكن‬
‫يؤخرهم الى أجل مسمى فاذا جاء أجلهم فان اهلل كان بعباده خبيرا » (‪.)3‬‬
‫يف هاتني اآليتني الكرميتني حتدث القرآن الكرمي عن انه لو كان اهلل يريد ان يؤاخذ‬
‫الناس بظلمهم ومبا كسبوا ملا ترك على ساحة الناس من دابة وال هلك الناس مجيعا‪ .‬وقد‬
‫وقعت مش كلة يف كيفية تص وير ه ذا املفه وم الق رآين حيث ان الن اس ليس وا كلهم ظ املني‬
‫عادة ‪ ،‬فيهم االنبياء ‪ ،‬فيهم االئمة االوصياء هل يشمل اهلالك االنبياء واالئمة العدول من‬
‫املؤمنني ‪ ،‬حىت ان بعض الناس أستغل ه اتني اآليتني النكار عص مة االنبياء (ع) واحلقيقة‬
‫ان هاتني اآليتني تتحدثان عن عقاب دنيوي ال عن عقاب أخروي ‪ ،‬تتحدث عن النتيجة‬
‫الطبيعية ملا‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة الكهف ‪ :‬اآلية (‪ 58‬ـ ‪.)59‬‬
‫(‪ )2‬سورة النحل ‪ :‬اآلية (‪.)61‬‬
‫(‪ )3‬سورة فاطر ‪ :‬اآلية (‪.)45‬‬

‫‪47‬‬
‫تكس به امة عن طريق الظلم والطغي ان ‪ ،‬ه ذه النتيجة الطبيعية ال ختتص حينئذ خبص وص‬
‫الظ املني من ابن اء اجملتمع بل تعم أبن اء اجملتمع على اختالف هوي اهتم وعلى اختالف احناء‬
‫س لوكهم‪ .‬حينما وقع التيه على بين اس رائيل نتيجة ما كسب ه ذا الش عب بظلمه وطغيانه‬
‫ومترده ‪ ،‬ه ذا التيه مل خيتص خبص وص الظ املني من بين اس رائيل وامنا مشل موسى (ع) مشل‬
‫اطهر الن اس واذكى الن اس ‪ ،‬واش جع الن اس يف مواجهة الظلمة والط واغيت ‪ ،‬الن موسى‬
‫(ع) ج زء من تلك االمة وقد حل اهلالك هبا قد ق رر نتيجة ظلمهم ان ي تيهوا أربعني عاما‬
‫وهبذا مشل التيه موسى (ع)‪ .‬حينما حل البالء والع ذاب باملس لمني نتيجة احنرافهم فاص بح‬
‫يزيد بن معاوية خليفة عليهم يتحكم يف دم ائهم وام واهلم واعراض هم وعقائ دهم ‪ ،‬حينما‬
‫حل ه ذا البالء مل خيتص بالظ املني من اجملتمع االس المي ‪ ،‬وقتئذ مشل احلسني (ع) ‪ ،‬أطهر‬
‫الن اس وأزكى الن اس واطيب الن اس وأع دل الن اس‪ .‬مشل االم ام املعص وم (ع) فقتل تلك‬
‫القتلة الفظيعة هو واص حابه وأهل بيته ‪ ،‬ه ذا كله هو منطق س نة الت اريخ والع ذاب حينما‬
‫ي أيت يف ال دنيا على جمتمع وفق س نن الت اريخ ‪ ،‬ال خيتص بالظ املني من ابن اء ذلك اجملتمع‬
‫وهلذا قال القرآن الكرمي يف آية اخرى « واتقوا فتنة ال‬

‫‪48‬‬
‫تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا ان اهلل شديد العقاب » (‪ )1‬بينما يقول يف موضع‬
‫آخر « وال ت زر وازرة وزر اخ رى » (‪ .)2‬فالعق اب االخ روي دائما ينصب على العامل‬
‫مباشرة ‪ ،‬وأما العقاب الدنيوي فيك ون اوسع من ذلك ‪ ،‬اذن هاتان اآليتان تتح دثان عن‬
‫س نن الت اريخ ال عن العق اب ب املعىن االخ روي والع ذاب مبق اييس ي وم القيامة بل عن س نن‬
‫الت اريخ وما ميكن ان حيصل نتيجة كسب االمة ‪ ،‬س عي االمة ‪ ،‬جهد االمة ‪ « ...‬وان‬
‫كادوا ليستفزونك من االرض ليخرجوك منها واذن ال يلبثون خالفك اال قليال سنة من قد‬
‫ارسلنا من قبلك من رسلنا وال تجد لسنتنا تحويال » (‪.)3‬‬
‫ه ذه اآلية الكرمية أيضا تؤكد املفه وم الع ام ‪ ،‬يق ول « وال تجد لس نتنا تح ويال » ‪،‬‬
‫ه ذه س نة س لكناها مع االنبي اء من قبلك وس وف تس تمر ولن تتغري ‪ ،‬أهل مكة حيالون أن‬
‫يس تفزوك لتخ رج من مكة الهنم عج زوا عن امكانية القض اء عليك وعلى كلمتك وعلى‬
‫دعوتك ‪ ،‬وهلذا صار أمامهم طريق واحد وهو اخراجك من مكة‪.‬‬
‫وهناك سنة من سنن التاريخ سوف يأيت شرحها بعد‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة االنفال ‪ :‬اآلية (‪.)25‬‬
‫(‪ )2‬سورة فاطر ‪ :‬اآلية (‪.)18‬‬
‫(‪ )3‬سورة االسراء ‪ :‬اآلية (‪ 76‬ـ ‪.)77‬‬

‫‪49‬‬
‫ذلك يش ار اليها يف ه ذه اآلية الكرمية‪ .‬وهي أنه اذا وص لت عملية املعارضة اىل مس توى‬
‫اخ راج النيب من ه ذا البلد بعد عجز ه ذه املعارضة عن كل الوس ائل واالس اليب االخ رى‬
‫ف اهنم ال يلبث ون بع ده اال قليال‪ .‬ليس املقص ود من اهنم ال يلبث ون اال قليال يعين انه س وف‬
‫ينزل عليهم عذاب اهلل سبحانه وتعاىل من السماء ‪ ،‬الن أهل مكة اخرجوا النيب بعد نزول‬
‫ه ذه الس ورة‪ .‬استفزوه وارعبوه وخ رج النيب (ص) من مكة اذ مل جيد له أمانا وملجأ فيها‬
‫فخرج اىل املدينة ومل ينزل عذاب من السماء على أهل مكة ‪ ،‬وامنا املقصود يف أكرب الظن‬
‫من هذا التعبري أهنم ال ميكثون كجماعة صامدة معارضة يعين كموقع اجتماعي ال ميكثون‬
‫‪ ،‬ال كأن اس ‪ ،‬كبشر ‪ ،‬وامنا ه ذا املوقع س وف ينه ار نتيجة ه ذه العملية ‪ ،‬ال ميكث ون اال‬
‫قليال الن ه ذه النب وة اليت عجز ه ذا اجملتمع عن تطويقها س وف تس تطيع بعد ذلك ان هتز‬
‫ه ذه اجلماعة كموقع للمعارضة ‪ ،‬وه ذا ما وقع فعال‪ .‬ف ان رس ول اهلل (ص) حني أخ رج‬
‫من مكة مل ميكث وا بع ده اال قليال ‪ ،‬اذ فق دت املعارضة يف مكة موقعها ‪ ،‬وحتولت مكة اىل‬
‫جزء من دار االسالم بعد سنني معدودة‪.‬‬
‫اذن اآلية تتح دث عن س نة من س نن الت اريخ ‪ ،‬وتؤكد وتق ول « وال تجد لس نتنا‬
‫تحويال » « قد خلت من‬

‫‪50‬‬
‫قبلكم س نن فس يروا في االرض ف انظروا كيف ك انت عاقبة المك ذبين » (‪ .)1‬تؤكد ه ذه‬
‫اآلية على الس نن وتؤكد على احلق والتتبع الح داث الت اريخ من اجل استكش اف ه ذه‬
‫الس نن واالعتب ار هبا ‪ « ،‬ولقد ك ذبت رسل من قبلك فص بروا على ما ك ذبوا وأوذوا ح تى‬
‫أتاهم نصرنا وال مبدل لكلمات اهلل ولقد جاءك من نبأ المرسلين ‪ .)2( » ...‬هذه اآلية ايضا‬
‫تثبت قلب رس ول اهلل (ص) ‪ ،‬حتدثه عن التج ارب الس ابقة ‪ ،‬تربطه بق انون التج ارب‬
‫السابقة توضح له ان هناك سنة جتري عليه وجتري على االنبياء الذين مارسوا التجربة من‬
‫قبله وان النصر س وف يأتيه ولكن للنصر ش روطه املوض وعية ‪ :‬الصرب والثب ات واس تكمال‬
‫الشروط ‪ ،‬هذا هو طريق احلصول على هذا النصر ‪ ،‬وهلذا يقول « فصبروا على ما كذبوا‬
‫وأوذوا ح تى اتاهم نصرنا ‪ ،‬ال مبدل لكلمات اهلل » اذن هناك كلمة هلل ال تتبدل على مر‬
‫الت اريخ ه ذه الكلمة هي عالقة قائمة بني النصر وبني جمموعة من الش روط والقض ايا‬
‫واملواص فات وض حت يف آي ات متفرقة ومجعت على وجه االمجال هن ا‪ .‬اذن فهن اك س نة‬
‫للتاريخ « ‪ ...‬فلما جاءهم نذير ما زادهم اال نفورا‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة آل عمران ‪ :‬اآلية (‪.)137‬‬
‫(‪ )2‬سورة االنعام ‪ :‬اآلية (‪.)34‬‬

‫‪51‬‬
‫اس تكبارا في االرض ومكر الس يء وال يحيق المكر الس يء اال بأهله فهل ينظ رون اال س نة‬
‫االولين فلن تجد لس نة اهلل تب ديال ولن تجد لس نة اهلل تح ويال » (‪ « .)1‬لو ق اتلكم ال ذين‬
‫كفروا لولوا االدبار ثم ال يجدون وليا وال نصيرا سنة اهلل قد خلت من قبل ولن تجد لسنة‬
‫اهلل تبديال » (‪.)2‬‬
‫هناك آيات استعرضت مناذج من سنن التاريخ « ان اهلل ال يغير ما بقوم حتى يغيروا‬
‫ما بأنفس هم » (‪ )3‬احملت وى ال داخلي النفسي وال روحي لالنس ان هو القاع دة ‪ ،‬الوضع‬
‫االجتم اعي هو البن اء العل وي ‪ ،‬ال يتغري ه ذا البن اء العل وي اال وفقا لتغري القاع دة على ما‬
‫ي أيت انش اء اهلل ش رحه بعد ذل ك‪ .‬ه ذه اآلية اذن تتح دث عن عالقة معينة بني القاع دة‬
‫والبناء العلوي ‪ ،‬بني الوضع النفسي والروحي والفكري لالنسان وبني الوضع االجتماعي‬
‫‪ ،‬بني داخل االنس ان وبني خ ارج األنس ان ‪ ،‬فخ ارج األنس ان يص نعه داخل االنس ان ‪،‬‬
‫مرتبط بداخل االنسان ‪ ،‬فاذا تغري ما بنفس القوم تغري وضعهم ‪ ،‬وعالقاهتم والروابط اليت‬
‫تربط بعضهم ببعض‪ .‬اذن فهذه سنة‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة فاطر ‪ :‬اآلية (‪.)43‬‬
‫(‪ )2‬سورة الفجر ‪ :‬اآلية (‪.)23‬‬
‫(‪ )3‬سورة الرعد ‪ :‬اآلية (‪.)11‬‬

‫‪52‬‬
‫من سنن التاريخ ربطت القاعدة بالبناء العلوي « ذلك ب أن اهلل لم يكن مغ يرا نعمة انعمها‬
‫على ق وم ح تى يغ يروا ما بأنفس هم » (‪ « .)1‬أم حس بتم ان ت دخلوا الجنة ولما ي أتيكم مثل‬
‫الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا‬
‫معه م تى نصر اهلل اال ان نصر اهلل ق ريب » (‪ .)2‬يس تنكر عليهم ان ي أملوا يف ان يك ون هلم‬
‫اس تثناء من س نن الت اريخ ‪ ،‬هل تطمع ون ان يك ون لكم اس تثناء من س نة الت اريخ! وان‬
‫ت دخلوا اجلنة وان حتقق وا النصر وانتم مل تعيش وا ما عاش ته تلك االمم اليت انتص رت‬
‫ودخلت اجلنة من ظ روف البأس اء والض راء اليت تصل اىل حد الزل زال على ما عرب الق رآن‬
‫الكرمي ‪ ،‬ان هذه احلاالت ‪ ،‬حاالت البأساء والضراء اليت تتعملق على مستوى الزلزال هي‬
‫يف احلقيقة مدرسة لالمة ‪ ،‬هي امتح ان الرادة االمة ‪ ،‬لص مودها ‪ ،‬لثباهتا ‪ ،‬لكي تس تطيع‬
‫بالتدريج ان تكتسب القدرة على ان تكون امة وسطا بني الناس‪ .‬اذن نصر اهلل قريب لكن‬
‫النصر له طري ق‪ .‬هك ذا يريد ان يق ول الق رآن‪ .‬نصر اهلل ليس أم را عفويا ‪ ،‬ليس أم را على‬
‫سبيل الصدفة ‪ ،‬ليس امرا عمياويا‪ .‬نصر اهلل قريب‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة االنفال ‪ :‬اآلية (‪.)53‬‬
‫(‪ )2‬سورة البقرة ‪ :‬اآلية (‪.)214‬‬

‫‪53‬‬
‫ولكن اهتدي اىل طريقه ‪ ،‬الطريق ال بد ان تعرف فيه سنن التاريخ ‪ ،‬ال بد وان تعرف فيه‬
‫منطق التاريخ لكي تستطيع ان هتتدي فيه اىل نصر اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬قد يكون الدواء‬
‫قريبا من املريض لكن اذا ك ان ه ذا املريض ال يع رف تلك املعادلة العلمية اليت ت ؤدي اىل‬
‫اثبات ان هذا الدواء يقضي على جرثومة هذا الداء ‪ ،‬ال يستطيع ان يستعمل هذا الدواء‬
‫حىت ولو كان قريبا منه‪.‬‬
‫اذن االطالع على س نن الت اريخ هو ال ذي ميكن االنس ان من التوصل اىل النص ر‪.‬‬
‫فه ذه اآلية تس تنكر على املخ اطبني هلا ان يكون وا ط امعني يف االس تثناء من س نن الت اريخ‬
‫« ‪ ...‬وما ارس لنا في قرية من ن ذير اال ق ال مترفوها انا بما ارس لتم به ك افرن وق الوا نحن‬
‫اك ثر ام واال واوالدا وما نحن بمع ذبين ‪ .)1( » ..‬ه ذه عالقة قائمة بني النب وة على مر‬
‫التاريخ وبني موقع املرتفني واملسرفني يف االمم واجملتمعات‪ .‬هذه العالقة متثل سنة من سنن‬
‫التاريخ ‪ ،‬وليست ظ اهرة وقعت يف التاريخ ص دفة واال ملا تكررت هبذا الش كل املطرد ملا‬
‫ق ال « وما ارس لنا في قرية من ن ذير اال ق ال مترفوها » اذن هن اك عالقة س لبية ‪ ،‬هن اك‬
‫عالقة تطارد وتناقض ‪ ،‬بني‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة سبأ ‪ :‬اآليات (‪ 34‬ـ ‪.)35‬‬

‫‪54‬‬
‫موقع النبوة االجتماعي يف حياة الناس على الساحة التارخيية واملوقع االجتماعي للمرتفني‬
‫واملس رفني ‪ ،‬ه ذه العالقة ترتبط يف احلقيقة ب دور النب وة يف اجملتمع ودور املرتفني واملس رفني‬
‫يف اجملتمع‪ .‬هذه العالقة جزء من رؤية موضوعية عامة للمجتمع ‪ ،‬مبا سوف يتضح انشاء‬
‫اهلل حينما نبحث عن دور النب وة يف اجملتمع واملوقع االجتم اعي للنب وة ‪ ،‬س وف يتضح‬
‫حينئذ ان النقيض الط بيعي للنب وة هي موقع املرتفني واملس رفني‪ .‬اذن ه ذه س نة من س نن‬
‫الت اريخ « ‪ ..‬واذا أردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففس قوا فيها فحق عليها الق ول‬
‫ف دمرناها ت دميرا وكم أهلكنا من الق رون من بعد ن وح وكفى بربك ب ذنوب عب ادة خب يرا‬
‫بصيرا » (‪.)1‬‬
‫هذه اآلية أيضا تتحدث عن عالقة معينة بني ظلم يسود ويسيطر وبني هالك جتر اليه االمة‬
‫جرا‪ .‬وهذه العالقة ايضا اآلية تؤكد اهنا عالقة مطردة على مر التاريخ وهي سنة من سنن‬
‫التاريخ « ولو انهم اقاموا التوراة واالنجيل وما أنزل اليهم من ربهم الكلو من فوقهم ومن‬
‫تحت أرجلهم ‪ « .)2( » ...‬ولو أن أهل الق رى آمن وا واتق وا لفتحنا عليهم برك ات من‬
‫السماء واالرض‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬سورة االسراء ‪ :‬اآلية (‪ 16‬ـ ‪.)17‬‬
‫(‪ )2‬سورة املائدة ‪ :‬اآلية (‪.)66‬‬

‫‪55‬‬
‫ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون » (‪ « .)1‬وألو استقاموا على الطريقة السقيناهم‬
‫ماء غدقا » « بل قالوا انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مهتدون » (‪.)2‬‬
‫ه ذه اآلي ات الثالث تتح دث عن عالقة معينة هي عالقة بني االس تقامة وتط بيق‬
‫احك ام اهلل س بحانه وتع اىل وبني وف رة اخلريات وك ثرة االنت اج ـ وبلغة الي وم بني عدالة‬
‫التوزيع وبني وف رة االنت اج ـ الق رآن يؤكد ان اجملتمع ال ذي تس وده العدالة يف التوزيع ه ذه‬
‫العدالة يف التوزيع اليت عرب عنها القرآن ـ تارة ـ « ألو استقاموا على الطريقة السقيناهم ماء‬
‫غدقا » ـ وأخرى ـ « لو ان اهل القرى آمنوا واتقوا » ـ واخرى ـ بأهنم « لو أنهم اقاموا‬
‫الت وراة واالنجيل » ‪ ،‬الن ش ريعة الس ماء ن زلت من اجل تقرير عدالة التوزيع ‪ ،‬من اجل‬
‫انش اء عالق ات التوزيع على اسس عادلة ‪ ،‬يق ول لو اهنم طبق وا عدالة التوزيع ملا وقع وا يف‬
‫ض يق من ناحية ال ثروة املنتجة ويف فقر بل الزداد ال ثراء واملال وازدادت اخلريات‬
‫والربكات‪ .‬لكنهم ختيلوا ان عدالة التوزيع تقتضي الفقر بينما احلقيقة السنة التارخيية تؤكد‬
‫عكس ذلك ‪ ،‬تؤكد بأن‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة االعراف ‪ :‬اآلية (‪.)96‬‬
‫(‪ )2‬سورة الزخرف ‪ :‬اآلية (‪.)22‬‬

‫‪56‬‬
‫تط بيق ش ريعة الس ماء وجتس يد احكامها يف عالق ات التوزيع ت ؤدي دائما وباس تمرار اىل‬
‫زي ادة االنت اج واىل ك ثرة ال ثروة ‪ ،‬اىل ان يفتح على الن اس برك ات الس ماء واالرض‪ .‬اذن‬
‫هذه ايضا سنة من سنن التاريخ‪ .‬وهناك آيات اخرى اكدت على االستقراء والنظر والتدبر‬
‫يف احلوادث التارخيية من اجل تك وين نظ رة اس تقرائية من اجل اخلروج بن واميس وس نن‬
‫كونية للس احة التارخيية « ‪ ...‬افلم يس يروا في االرض فينظ روا كيف ك ان عاقبة ال ذين‬
‫ك انوا من قبلهم دمر اهلل عليهم وللك افرين امثالها ‪ « .)1( » ..‬افلم يس يروا في االرض‬
‫فينظ روا كيف ك ان عاقبة ال ذين من قبلهم » (‪ « .)2‬وك أي من قرية أهلكناها وهي ظالمة‬
‫وهي خاوية على عروش ها وب ئر معطلة وقصر مش يد ‪ ،‬أفلم يس يروا في االرض فتك ون لهم‬
‫قلوب يعقلون بها او آذان يسمعون بها فانها ال تعمى االبصار ولكن تعمى القلوب التي في‬
‫الصدور ‪ « .)3( » ...‬وكم اهلكنا قبلهم من قرية هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البالد هل‬
‫من محيص ‪ ،‬ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب او ألقى السمع وهو‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة حممد ‪ :‬اآلية (‪.)10‬‬
‫(‪ )2‬سورة يوسف ‪ :‬اآلية (‪.)109‬‬
‫(‪ )3‬سورة احلج ‪ :‬اآلية (‪.)120‬‬

‫‪57‬‬
‫شهيد ‪.)1( » ...‬‬
‫من جمموع هذه اآليات الكرمية يتبلور املفهوم القرآين ‪ ..‬وهو تأكيد القرآن على ان‬
‫الس احة التارخيية هلا س نن وهلا ض وابط كما يك ون هن اك س نن وض وابط لكل الس احات‬
‫الكونية االخ رى ‪ ..‬وه ذا املفه وم الق رآين يعترب فتحا عظيما للق رآن الك رمي ‪ ..‬الننا حبدود‬
‫ما نعلم الق رآن اول كت اب عرفه االنس ان أكد على ه ذا املفه وم وكشف عنه وأصر عليه‬
‫وق اوم بكل ما لديه من وس ائل االقن اع والتفهيم ‪ ،‬ق اوم النظ رة العفوية او النظ رة الغيبية‬
‫االستس المية بتفسري االح داث ‪ ،‬االنس ان االعتي ادي ك ان يفسر اح داث الت اريخ بوص فها‬
‫كومة مرتاكمة من االح داث ‪ ،‬يفس رها على اس اس الص دفة ت ارة وعلى اس اس القض اء‬
‫والقدرة واالستسالم المر اهلل سبحانه وتعاىل‪ .‬القرآن الكرمي قاوم هذه النظرة العفوية وقام‬
‫هذه النظرة االستسالمية ونبه العقل البشري اىل ان هذه الساحة هلا سنن وهلا قوانني وانه‬
‫لكي تستطيع ان تكون انسانا فاعال مؤثرا ال بد لك ان تكتشف هذه السنن ‪ ،‬ال بد وان‬
‫تتع رف على ه ذه الق وانني لكي تس تطيع ان تتحكم فيها واال حتكمت هي فيك وانت‬
‫مغمض العينني ‪ ،‬افتح عينيك على هذه‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة ق ‪ :‬اآلية (‪ 36‬ـ ‪.)37‬‬

‫‪58‬‬
‫الق وانني وعلى ه ذه الس نن لكي تك ون أنت املتحكم ال لكي تك ون ه ذه الس نن هي‬
‫املتحكمة فيك‪.‬‬
‫هذا الفتح القرآين اجلليل هو الذي مهد اىل تنبيه الفكر البشري بعد ذلك بقرون اىل‬
‫ان جترى حماوالت لفهم الت اريخ فهما عمليا بعد ن زول الق رآن بثمانية ق رون ب دأت ه ذه‬
‫احملاوالت على أيدي املسلمني انفسهم فقام ابن خلدون مبحاولة لدراسة التاريخ وكشف‬
‫س ننه وقوانينه مث بعد ذلك بأربعة ق رون ( على اقل تق دير ) اجته الفكر االوريب يف ب دايات‬
‫ما يسمى بعصر النهضة ‪ ،‬بدأ لكي جيسد هذا املفهوم الذي ضيعه املسلمون ‪ ،‬والذي مل‬
‫يستطع املسلمون ان يتوغلوا اىل اعماقه ‪ ،‬هذا املفهوم اخذه الفكر الغريب يف بدايات عصر‬
‫النهضة وب دأت هن اك احباث متنوعة وخمتلفة ح ول فهم الت اريخ وفهم س ننه ونش أت على‬
‫هذا االساس اجتاهات مثالية ومادية ومتوسطة ومدارس متعددة ‪ ،‬كل واحدة منها حتاول‬
‫ان حتدد ن واميس الت اريخ‪ .‬وقد تك ون املادية التارخيية اش هر ه ذه املدارس واوس عها تغلغال‬
‫واكثرها تأثريها يف التارخ نفسه ‪ ،‬اذن كل هذا اجلهد البشري يف احلقيقة هو استمرار هلذا‬
‫التنبيه الق رآين ويبقى للق رآن الك رمي جمده يف انه ط رح ه ذه الفك رة الول م رة على س احة‬
‫املعرفة البشرية‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫الدرس الخامس ‪:‬‬
‫من خالل استعراض نا الس ابق للنص وص القرآنية البينة اليت اوض حت فك رة الس نن‬
‫التارخيية واك دت عليها ‪ ،‬ميكننا ان نس تلخص من خالل املقارنة بني تلك النص وص ثالث‬
‫حقائق اكد عليها القرآن الكرمي بالنسبة اىل سنن التاريخ‪.‬‬
‫الحقيقة االولى ‪:‬‬
‫هي االض طراد مبعىن ان الس نة التارخيية مض طردة ليست عالقة عش وائية ذات ط ابع‬
‫موض وعي ال تتخلف يف احلاالت اإلعيادية اليت جتري فيها الطبيعة والك ون وعلى الس نن‬
‫العامة وك ان التأكيد على ط ابع االض طراد يف الس نة تأكي دا على الط ابع العلمي للق انون‬
‫الت ارخيي ‪ ،‬الن الق انون العلمي أهم مميز مييزه عن بقية املع ادالت والف روض واالض طراد‬
‫والتتابع وعدم التخلف‪.‬‬
‫ومن هنا استهدف القرآن الكرمي من خالل التأكيد على طابع االضطراد يف السنة‬
‫التارخيية ‪ ،‬استهدف ان‬

‫‪60‬‬
‫يؤكد على الط ابع العلمي هلذه الس نة وان خيلق يف االنس ان املس لم ش عورا على جري ان‬
‫احداث التاريخ متصربا ال عشوائيا وال مستسلما وال ساذجا‪.‬‬
‫« ولن تجد لسنة اهلل تبديال ‪ « ، )1( » ..‬وال تجد لسنتنا تحويال ‪ « ، )2( » ..‬وال‬
‫مب دل لكلم ات اهلل ‪ )3( » ...‬ه ذه النص وص القرآنية تق دم استعراضا تؤكد فيه ط ابع‬
‫االس تمرارية واالض طارد أي ط ابع املوض وعية والعلمية للس نة التارخيية ‪ ،‬وتس تنكر ه ذه‬
‫النص وص الش ريفة كما تق دم يف بعض ها ان يك ون هن اك تفكري او طمع ل دى مجاعة من‬
‫اجلماع ات ب أن تك ون مس تثناة من س نة الت اريخ « أم حس بتم ان ت دخلوا الجنة ولما ي أتكم‬
‫مثل الذين من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه‬
‫م تى نصر اهلل أال ان نصر اهلل ق ريب » (‪ )4‬ه ذه اآلية تس تنكر على من يطمع يف أن يك ون‬
‫حالة اس تثنائية من س نة الت اريخ كما ش رحنا يف ما مض ى‪ .‬اذن الروح العامة للق رآن تؤكد‬
‫على هذه احلقيقة االوىل وهي حقيقة‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة االحزاب ‪ :‬اآلية (‪.)62‬‬
‫(‪ )2‬سورة االسراء ‪ :‬اآلية (‪.)77‬‬
‫(‪ )3‬سورة االنعام ‪ :‬اآلية (‪.)34‬‬
‫(‪ )4‬سورة البقرة ‪ :‬اآلية (‪.)214‬‬

‫‪61‬‬
‫االضطراد يف السنة التارخيية الذي يعطيها الطابع العلمي من اجل تربية االنسان على ذهنية‬
‫واعية علمية يتصرف يف اطارها ومن خالهلا مع احداث التاريخ‪.‬‬
‫الحقيقة الثانية ‪:‬‬
‫احلقيقة الثانية اليت اك دت عليها النص وص القرآنية هي ربانية الس نة التارخيية ‪ ،‬ان‬
‫الس نة التارخيية ربانية مرتبطة باهلل س بحانه وتع اىل ‪ ،‬س نة اهلل ‪ ،‬كلم ات اهلل على اختالف‬
‫التعبري ‪ ،‬مبعىن ان كل ق انون من ق وانني الت اريخ ‪ ،‬هو كلمة من اهلل س بحانه وتع اىل ‪ ،‬وهو‬
‫قرار رباين ‪ ،‬هذا التأكيد من القرآن الكرمي على ربانية السنة التارخيية وعلى طابعها الغييب‬
‫يستهدف شد انسان حىت حينما يريد ان يستفيد من القوانني املوضوعية للكون شده باهلل‬
‫سبحانه وتعاىل ‪ ،‬واشعار االنسان بان االستعانة بالنظام الكامل ملختلف الساحات الكونية‬
‫واالستفادة من خمتلف القوانني والسنن اليت تتحكم يف هذه الساحات ‪ ،‬ليس ذلك انعزاال‬
‫عن اهلل س بحانه وتع اىل الن اهلل ميارس قدرته من خالل ه ذه الس نن ‪ ،‬والن ه ذه الس نن‬
‫والقوانني هي ارادة اهلل وهي ممثلة حلكمة اهلل وتدبريه يف الكون وقد يتوهم البعض ان هذا‬
‫الطابع الغييب الذي يلبسه القرآن‬

‫‪62‬‬
‫الكرمي للتارخ وللسنن التارخيية يبعد القرآن عن التفسري العلمي املوضوعي للتاريخ وجيعله‬
‫يتجه اجتاه التفسري االهلي للت اريخ ال ذي مثلته مدرسة من م دارس الفكر الاله ويت على يد‬
‫ع دد كبري من املفك رين املس يحيني والالهوت يني حيث فس روا تفس ريا اهليا قد خيلط ه ذا‬
‫االجتاه القرآين بذلك التفسري االهلي الذي اجته اليه أغسطني وغريه من املفكرين الالهوتيني‬
‫فيق ال ب أن اس باغ ه ذا الط ابع الغييب على الس نة التارخيية حيول املس ألة اىل مس ألة غيبية‬
‫وعقائدية وخيرج التاريخ عن اطاره العلمي املوضوعي ولكن احلقيقة ان هناك خلطا اساسيا‬
‫بني االجتاه الق رآين وطريقة الق رآن يف ربط الت اريخ بع امل الغيب ويف اس باغ الط ابع الغييب‬
‫على الس نة التارخيية وبني ما يس مى بالتفسري االهلي للت اريخ ال ذي تبن اه الاله وت ‪ ،‬هن اك‬
‫فرق كثري بني هذين االجتاهني وهاتني النزعتني وحاصل هذا الفرق هو ان االجتاه الالهويت‬
‫للتفسري االهلي للتاريخ يتناول احلادثة نفسها ويربط هذه احلادثة باهلل سبحانه وتعاىل قاطعا‬
‫صلتها وروابطها مع بقية احلوادث فهو يطرح الصلة مع اهلل بديال عن صلة احلادثة مع بقية‬
‫احلوادث ‪ ،‬بديال عن العالقات واالرتباطات اليت تزخر هبا الساحة‬

‫‪63‬‬
‫التارخيية واليت متثل الس نن والق وانني املوض وعية هلذه الس احة بينما الق رآن الك رمي ال يس بغ‬
‫الط ابع الغييب على احلادثة بال ذات وال ين تزع احلادثة التارخيية من س ياقها لريبطها مباش رة‬
‫بالس ماء ‪ ،‬وال يط رح ص لة احلادثة بالس ماء كب ديل عن أوجه االنطب اق والعالق ات‬
‫واالس باب واملس ببات على ه ذه الس احة التارخيية بل أنه يربط الس نة التارخيية باهلل ‪ ،‬يربط‬
‫أوجه العالق ات واالرتباط ات باهلل ‪ ،‬فهو يق رر اوال وي ؤمن بوج ود روابط وعالق ات بني‬
‫احلوادث التارخيية ‪ ،‬اال ان ه ذه الروابط والعالق ات بني احلوادث التارخيية هي يف احلقيقة‬
‫تعبري عن حكمة اهلل س بحانه وتع اىل وحسن تق ديره وبن اءه التكويين للس احة التارخيية اذا‬
‫أردنا ان نستعني مبثال لتوضيح الفرق بني هذين اإلجتاهني من الظواهر الطبيعية‪ .‬نستطيع‬
‫ان نستخدم هذا املثال ‪ :‬قد يأيت انسان فيفسر ظاهرة املطر اليت هي ظاهرة طبيعية فيقول‬
‫ب ان املطر ن زل ب ارادة من اهلل س بحانه وتع اىل ‪ ،‬وجيعل ه ذه االرادة ب ديال عن االس باب‬
‫الطبيعية اليت جنم عنها ن زول املطر ‪ ،‬وك أن املطر حادثة ال عالقة هلا وال تنسب هلا ‪ ،‬وامنا‬
‫هي مف ردة ترتبط مباش رة باهلل س بحانه وتع اىل مبع زل عن تي ار احلوادث ‪ ،‬ه ذا الن وع من‬
‫الكالم يتعارض مع التفسري العلمي لظاهرة املطر‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫لكن اذا ج اء ش خص وق ال ب ان الظ اهرة ‪ ،‬ظ اهرة املطر هلا اس باهبا وعالقاهتا واهنا‬
‫مرتبطة بال دورة الطبيعية للم اء مثال ‪ ،‬يتبخر فيتح ول اىل غ از والغ از يتص اعد س حابا‬
‫والس حاب يتح ول بالت دريج اىل س ائل نتيجة اخنف اض احلرارة في نزل املطر اال ان ه ذا‬
‫التسلسل الس بيب املتقن ‪ ،‬ه ذه العالق ات املتش ابكة بني الظ واهر الطبيعية هي تعبري عن‬
‫حكمة اهلل وتدبريه وحسن رعايته فمثل هذا الكالم ال يتعارض مع الطابع العلمي للتفسري‬
‫املوض وعي لظ اهرة املطر الننا ربطنا هنا الس نة باهلل س بحانه وتع اىل للحادثة مع عزهلا عن‬
‫بقية احلوادث وقطع ارتباطها مع مؤثراهتا وأسباهبا‪ .‬اذن القرآن الكرمي حينما يسبغ الطابع‬
‫الرب اين على الس نة التارخيية ال يريد ان يتجه اجتاه التفسري االهلي يف الت اريخ ولكنه يريد ان‬
‫يؤكد ان ه ذه الس نن ليست خارجة من وراء ق درة اهلل س بحانه وتع اىل وامنا هي تعبري‬
‫وجتس يد وحتقيق لق درة اهلل ‪ ،‬هي كلماته وس ننه وارادته وحكمته يف الك ون لكي يبقى‬
‫االنس ان دائما مش دودا اىل اهلل لكي تبقى الص لة الوثيقة بني العلم واالميان فهو يف نفس‬
‫ال وقت ال ذي ينظر فيه اىل ه ذه الس نن نظ رة علمية ينظر ايضا اليها نظ رة اميانية ‪ ،‬وقد بلغ‬
‫القرآن الكرمي يف حرصه على تأكيد الطابع املوضوعي للسنن التارخيية‬

‫‪65‬‬
‫وع دم جعلها مرتبطة بالص دف ‪ ،‬ان نفس العملي ات الغيبية أناطها يف كثري من احلاالت‬
‫بالس نة التارخيية نفس ها أيضا ‪ ،‬عملية االم داد االهلي ب النص ‪ ،‬االم داد االهلي الغييب ال ذي‬
‫يس اهم يف كسب النص‪ .‬ه ذا االم داد جعله الق رآن الك رمي مش روطا بالس نة التارخيية ‪،‬‬
‫مرتبطا بظروفها غري منفك عنها وه ذه ال روح ابعد ما تك ون عن ان تك ون روحا تفسر‬
‫الت اريخ على أس اس الغيب وامنا هي روح تفسر الت اريخ على أس اس املنطق والعقل والعلم‬
‫وحىت ذاك االم داد االهلي ال ذي يس اهم ب النص ذاك االم داد أيضا ربط بالنس نة التارخيي ة‪.‬‬
‫قرأنا يف ما س بق ص يغة من ص يغ الس نن التارخيية للنص حينما قرأنا قوله س بحانه وتع اىل‬
‫« ‪ ...‬أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا ‪ » ...‬واالن تعالوا نتحدث‬
‫عن االم داد الغييب لنالحظ كيف ان ه ذه اآلي ات ربطت ه ذا االم داد االهلي الغييب بتلك‬
‫الس نة نفس ها أيضا ‪ « :‬اذ تس تغيثون ربكم فاس تجاب لكم اني مم دكم ب ألف من المالئكة‬
‫م ردفين‪ .‬وما جعله اهلل اال بش رى ولتطمئن به قل وبكم وما النصر اال من عند اهلل ان اهلل‬
‫عزيز حكيم » (‪ .)1‬اذن فمن الواضح ان الط ابع الرب اين ال ذي يس بقه الق رآن الك رمي ليس‬
‫بديال عن التفسري‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة األنفال اآلية (‪ 9‬ـ ‪.)10‬‬

‫‪66‬‬
‫املوض وعي وامنا هو ربط ه ذا التفسري املوض وعي باهلل س بحانه وتع اىل من اجل امتام اجتاه‬
‫االسالم حنو التوحيد بني العلم واالميان يف تربية االنسان املسلم‪.‬‬
‫الحقيقة الثالثة ‪:‬‬
‫احلقيقة الثالثة اليت اكد عليها القرآن الكرمي من خالل النصوص املتقدمة هي حقيقة‬
‫اختيار االنسان وإرادة االنسان والتأكيد على هذه احلقيقة يف جمال استعراض سنن التاريخ‬
‫مهم جدا اذ سوف يأيت انشاء اهلل تعاىل بعد حماضرتني‪.‬‬
‫ان البحث يف سنن التاريخ خلق ومها ‪ ،‬وحاصل هذا الوهم الذي خلقه هذا البحث‬
‫عند كثري من املفك رين أن هن اك تعارضا وتناقضا بني حرية االنس ان واختي اره وبني س نن‬
‫التاريخ ‪ ،‬فاما ان نقول بان للتاريخ سننه وقوانينه وهبذا نتنازل عن ارادة االنسان واختياره‬
‫وحريته ‪ ،‬واما ان نس لم ب ان االنس ان ك ائن حر مريد خمت ار وهبذا جيب ان نلغي س نن‬
‫الت اريخ وقوانينه ونق ول ب ان ه ذه الس احة قد أعفيت من الق وانني اليت مل تعفى منها بقية‬
‫الساحات الكونية‪ .‬هذا الوهم وهم التعارض والتناقض بني فكرة السنة التارخيية أو القانون‬
‫الرتاخيي وبني فكرة اختيار االنسان وحريته‪ .‬هذا‬

‫‪67‬‬
‫الوهم كان من الضروري للقرآن الكرمي ان يزحيه وهو يعاجل هذه النقطة بالذات ومن هنا‬
‫اكد س بحانه وتع اىل على أن احملور يف تسلسل االع داد والقض ايا امنا هو ارادة االنس ان ‪،‬‬
‫وس وف أتن اول انش اء اهلل تع اىل بعد حماض رتني الطريقة الفنية يف كيفية التوجيه بني س نن‬
‫الت اريخ وارادة االنس ان ‪ ،‬وكيف اس تطاع الق رآن الك رمي أن جيمع بني ه ذين االم رين من‬
‫خالل فحص للص يغ اليت ميكن يف اطارها ص ياغة الس نة التارخيية ‪ ،‬س وف اتكلم عن ذلك‬
‫بعد حماض رتني لكن يكفي االن ان نس تمع اىل قوله تع اىل « ان اهلل ال يغ ير ما بق وم ح تى‬
‫يغ يروا ما بأنفس هم » (‪ « )1‬وألو اس تقاموا على الطريقة الس قيناهم م اءا غ دقا » (‪... « )2‬‬
‫وتلك الق رى اهلكناهم لما ظلم وا انفس هم وجعلنا لمهلكهم موع دا » (‪ )3‬انظ روا كيف أن‬
‫الس نن التارخيية ال جتري من ف وق يد االنس ان بل جتري من حتت ي ده ‪ ،‬ف ان اهلل ال يغري ما‬
‫بق وم حىت يغ ريوا ما بأنفس هم « وألو اس تقاموا على الطريقة الس قيناهم م اءا غ دقا » اذن‬
‫هناك مواقف اجيابية لالنسان متثل حريته واختياره وتصميمه وهذه املواقف تستتبع ضمن‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة الرعد ‪ :‬اآلية (‪.)11‬‬
‫(‪ )2‬سورة اجلن ‪ :‬اآلية (‪.)16‬‬
‫(‪ )3‬سورة الكهف ‪ :‬اآلية (‪.)59‬‬

‫‪68‬‬
‫عالق ات الس نن التارخيية ‪ ،‬تس تتبع جزاءاهتا املناس بة ‪ ،‬تس تتبع معلوالهتا املناس بة ‪ ،‬اذن‬
‫فاختي ار االنس ان له موض عه الرئيسي يف التص ور الق رآين لس نن الت اريخ وس وف أع ود اىل‬
‫ه ذه النقطة م رة أخ رى ب إذن اهلل تع اىل اذن نس تخلص مما س بق ان الس نن التارخيية ‪ ،‬ان‬
‫السنن القرآنية يف التاريخ ذات طابع علمي الهنا تتميز باالطراد الذي مييز القانوين العلمي‬
‫‪ ،‬وذات طابع رباين الهنا متثل حكمة اهلل وحسن تدبريه على الساحة التارخيية وذات طابع‬
‫انس اين الهنا ال تفصل االنس ان عن دوره االجيايب وال تعطل فيه ارادته وحريته واختي اره‬
‫وامنا تؤكد اك ثر ف اكثر مس ؤوليته على الس احة التارخيي ة‪ .‬االن بعد استعرض نا اخلص ائص‬
‫الثالث اليت تتم يز هبا الس نن التارخيية يف الق رآن الك رمي نواجه ه ذا الس ؤال ‪ :‬ما هو مي دان‬
‫ه ذه الس نن التارخيي ة؟ كنا حىت االن نعرب ونق ول ب ان ه ذه الس نن جتري على الس احة‬
‫التارخيية ‪ ،‬لكن ‪ ،‬هل أن الساحة التارخيية بامتدادها هي ميدان لسنن التارخيية أو ان ميدان‬
‫السنن التارخيية ميثل جزأ من الساحة التارخيية مبعىن ان امليدان الذي خيضع للسنن التارخيية‬
‫بوصفها قوانني ذات طابع نوعي خمتلف عن القوانني االخرى الفيزيائية‬

‫‪69‬‬
‫والفسلجية والبيولوجية والفلكية‪ .‬هذا امليدان الذي خيضع لقوانني ذات طابع نوعي خمتلف‬
‫‪ ،‬هذا امليدان هل تتسع له الساحة التارخيية ‪ ،‬هل يستوعب كل الساحة التارخيية ‪ ،‬أو يعرب‬
‫عن جزء من الساحة التارخيية؟ لكن قبل هذا جيب أن نعرف ماذا نقصد بالساحة التارخيية‬
‫الس احة التارخيية عب ارة عن الس احة اليت حتوي تلك احلوادث والقض ايا اليت يهتم هبا‬
‫املؤرخ ون ‪ ،‬املؤرخ ون أص حاب الت واريخ مبجموعة من احلوادث والقض ايا يس جلوهنا يف‬
‫كتبهم والس احة اليت تزخر بتلك احلوادث اليت يهتم هبا املؤرخ ون ويس جلوهنا هي الس احة‬
‫التارخيية فالس ؤال هنا اذن هك ذا ‪ ،‬هل ان كل ه ذه احلوادث والقض ايا اليت يربطها‬
‫املؤرخ ون وت دخل يف نط اق مهمتهم التارخيية والتس جيلية هل كلها حمكومة بالس نن‬
‫التارخيية ‪ ،‬بسنن التاريخ ذات الطابع النوعي املتميز عن سنن بقية حدود الكون والطبيعة ‪،‬‬
‫أو أن جزءاً معينا من هذه احلوادث والقضايا هو الذي حتكمه سنن التاريخ؟ الصحيح ان‬
‫جزءاً معينا من هذه احلوادث والقضايا هو الذي حتكمه سنن التاريخ ‪ ،‬هناك حوادث ال‬
‫تنطبق عليها س نن الت اريخ بل تنطبق عليها الق وانني الفيزيائية او الفس لجية أو ق وانني احلي اة‬
‫او أي ق وانني اخ رى ملختلف الس احات الكونية االخ رى مثال ‪ :‬م وت ايب ط الب ‪ ،‬م وت‬
‫خدجية يف سنة معينة حادثة تارخيية مهمة‬

‫‪70‬‬
‫ت دخل يف نط اق ض بط املؤرخني واك ثر من ه ذا هي حادثة ذات بعد يف الت اريخ ت رتبت‬
‫عليها آث ار كث رية ولكنها ال حيكمها س نة تارخيية بل حتكمها ق وانني فس لجية ‪ ،‬حتكمها‬
‫قوانني احلياة اليت فرضت ان ميوت ابو طالب ( صلوات اهلل عليه ) وان متوت خدجية ( ع‬
‫) يف ذلك ال وقت احملدد ‪ ،‬ه ذه احلادثة ت دخل يف نط اق ص الحيات املؤرخني ولكن ال ذي‬
‫يتحكم يف هذه احلادثة هي قوانني فسلجة جسم أيب طالب وجسم خدجية ‪ ،‬قوانني احلياة‬
‫اليت تفرض املرض والشيخوخة ضمن شروط معينة وظروف معينة ‪ ،‬حياة عثمان بن عفان‬
‫اخلليفة الثالث ‪ ،‬طول عمره حادثة تارخيية فقد ناهز الثمانني ‪ ،‬طبعا هذه احلادثة التارخيية‬
‫ك ان هلا أثر عظيم يف ت اريخ االس الم ‪ ،‬لو ق در هلذا اخلليفة أن ميوت موتا طبيعيا وفقا‬
‫لقوانينه الفسلجية قبل يوم الثورة كان من املمكن ان تتغري كثري من معامل التاريخ ‪ ،‬كان‬
‫من احملتمل ان يأيت االمام أمري املؤمنني اىل اخلالفة بدون تناقضات وبدون ضجيج وبدون‬
‫خالف لكن ق وانني فس لجة جسم عثم ان بن عف ان اقتضت ان ميتد به العمر اىل ان يقتل‬
‫من قبل الث ائرين عليه من املس لمني ه ذه حادثة تارخيية تعين اهنا ت دخل يف اهتمام ات‬
‫املؤرخني وهلا بعد تارخيي ايضا ولعبت‬

‫‪71‬‬
‫دورا س لبا أو اجيابا يف تك ييف االح داث التارخيية االخ رى ‪ ،‬ولكنها ال تتحكم فيها س نن‬
‫التاريخ‪ .‬ان الذي يتحكم يف ذلك قوانني بنية جسم عثمان ‪ ،‬قوانني احلياة وقوانني جسم‬
‫االنس ان اليت اعطت لعثم ان بن عف ان عمر ن اهز الثم انني ‪ ،‬مواقف عثم ان بن عف ان‬
‫وتص رفاته االجتماعية ت دخل يف نط اق س نن الت اريخ ‪ ،‬لكن ط ول عمر عثم ان بن عف ان‬
‫ملسألة اخرى ‪ ،‬مسألة حياتية أو مسألة فسلجية أو مسألة فيزيائية وليست مسألة تتحكم‬
‫فيها س نن الت اريخ‪ .‬اذن س نن الت اريخ ال تتحكم على كل الس احة التارخيية ‪ ،‬ال تتحكم‬
‫على كل القض ايا اليت ي درجها الط ربي يف تارخيه بل على مي دان معني من ه ذه الس احات‬
‫يأيت ذكره انشاء اهلل‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫الدرس السادس ‪:‬‬
‫قلنا ان الس احة التارخيية س احة اهتمام ات املؤرخني ال يس توعبها كل الت اريخ الن‬
‫ه ذه الس احة تش تمل على ظ واهر كونية وطبيعية ‪ ،‬فيزيائية وحياتية وفس لجية ايض ا‪ .‬ه ذه‬
‫الظواهر حتكمها قوانينها النوعية على الرغم من ان بعض هذه الظواهر ذات امهية باملنظار‬
‫الت ارخيي‪ .‬من منظ ار املؤرخني تعترب ه ذه ح وادث ذات امهية هلا بعد زمين يف امت داد وتي ار‬
‫احلوادث التارخيية ولكنها مع هذا ال حتكمها سنن التاريخ بل حتكمها سننها اخلاصة‪ .‬سنن‬
‫الت اريخ حتكم مي دانا معينا من الس احة التارخيية ‪ ،‬ه ذا املي دان يش تمل على ظ واهر متم يزة‬
‫متيزا نوعيا عن سائر الظواهر الكونية والطبيعية وباعتبار هذا التميز النوعي استحقت سننا‬
‫متميزة ايضا متيزا نوعيا عن سنن بقية الساحات الكونية‪ .‬املميز العام للظواهر اليت تدخل‬
‫يف نطاق سنن التاريخ هو ان هذه الظواهر حتمل عالمة جديدة مل تكن موجودة يف سائر‬
‫الظواهر االخرى الكونية‬

‫‪73‬‬
‫والطبيعية والبش رية‪ .‬الظ واهر الكونية والطبيعية كلها حتمل عالقة ظ اهرة بس بب مس بب‬
‫بسبب نتيجة مبقدمات ‪ ،‬هذه العالقة موجدوة يف كل الظواهر الكونية والطبيعية ‪ ،‬الغليان‬
‫ظ اهرة طبيعية مرتبطة بظ روف معينة ‪ ،‬بدرجة ح رارة معينة ‪ ،‬بدرجة معينة ممن ق رب ه ذا‬
‫املاء من الن ار‪ .‬ه ذا االرتب اط ارتب اط املس بب بالس بب ‪ ،‬العالقة هنا عالقة الس ببية ‪ ،‬عالقة‬
‫احلاضر باملاضي ‪ ،‬ب الظروف املس بقة املنج زة ‪ ،‬لكن هن اك ظ واهر على الس احة التارخيية‬
‫حتمل عالقة من منط آخر وهي عالقة ظ اهرة هبدف عالقة نش اط بغاية او ما يس ميه‬
‫الفالس فة بالعلة الغائية متيزا عن العلة الفاعلية ‪ ،‬ه ذه العالقة عالقة جدي دة متم يزة ‪ ،‬غلي ان‬
‫املاء ب احلرارة ‪ ،‬حيمل مع س ببه مع ماض يه لكن ال حيمل عالقة مع غاية ومع ه دف م امل‬
‫يتح ول اىل فعل انس اين واىل جهد بش ري بينما العمل االنس اين اهلادف حيت وي على عالقة‬
‫ال فقط مع الس بب ‪ ،‬ال فقط مع املاضي ‪ ،‬بل مع الغاية اليت هي غري موج ودة حني اجناز‬
‫هذا العمل وامنا يرتقب وجوده ا‪ .‬أي العالقة هنا عالقة مع املستقبل ال مع املاضي ‪ ،‬الغاية‬
‫دائما متثل املس تقبل بالنس بة اىل العمل ‪ ،‬بينما الس بب ميثل املاضي بالنس بة اىل ه ذا العم ل‪.‬‬
‫فالعالقة اليت يتميز هبا العمل التارخيي ‪ ،‬العمل الذي‬

‫‪74‬‬
‫حتكمه سنن التاريخ هو انه عمل هادف ‪ ،‬عمل يرتبط بعلة غائية سواءا كانت هذه الغاية‬
‫ص احلة او طاحلة ‪ ،‬نظيفة أو غري نظيفة ‪ ،‬على أي ح ال يعترب ه ذا عمال هادفا ‪ ،‬يعترب‬
‫نشاطا تارخييا يدخل يف نطاق سنن التاريخ على هذا االساس وهذه الغايات اليت يرتبط هبا‬
‫ه ذا العمل اهلادف املس ؤول ‪ ،‬ه ذه الغاي ات حيث اهنا مس تقبلية بالنس بة اىل العمل فهي‬
‫ت ؤثر من خالل وجودها ال ذهين يف العامل ال حمالة ‪ ،‬الهنا بوجودها اخلارجي ‪ ،‬بوجودها‬
‫ال واقعي ‪ ،‬طم وح وتطلع اىل املس تقبل ‪ ،‬ليست موج ودة وج ودا حقيقيا وامنا ت ؤثر من‬
‫خالل وجودها ال ذهين يف الفاع ل‪ .‬اذن املس تقبل أو اهلدف ال ذي يش كل الغاية للنش اط‬
‫الت ارخيي ي ؤثر يف حتريك ه ذا النش اط ويف بلورته من خالل الوج ود ال ذهين أي من خالل‬
‫الفكر الذي ميثل فيه الوجود الذهين للغاية ضمن شروط ومواصفات ‪ ،‬حينئذ يؤثر يف اجياد‬
‫هذا النشاط ‪ ،‬اذ حصلنا االن على مميز نوعي للعمل التارخيي لظاهرة على الساحة التارخيية‬
‫‪ ،‬هذا املميز غري موجود بالنسبة اىل سائر الظواهر االخرى على ساحات الطبيعة املختلفة‬
‫‪ ،‬ه ذا املم يز ظه ور عالقة فعل بغاية نش اط هبدف يف التفسري الفلس في ‪ ،‬ظه ور دور العلة‬
‫الغائية ‪ ،‬كون هذا الفعل متطلعا اىل املستقبل ‪ ،‬كون املستقبل‬

‫‪75‬‬
‫حمركا هلذا الفعل من خالل الوج ود ال ذهين ال ذي يرسم للفاعل غايته أي من خالل الفكر‬
‫اذن هذا هو يف احلقيقة دائرة السنن النوعية للتاريخ‪ .‬السنن النوعية للتاريخ موضوعها ذلك‬
‫اجلزء من الس احة التارخيية ال ذي ميثل عمال له غاية ‪ ،‬عمال حيمل عالقة اض افية اىل‬
‫العالقات املوجودة يف الظاهرة الطبيعية وهي العالقة بالغاية واهلدف ‪ ،‬بالعلة الغائية ‪ ،‬لكن‬
‫ينبغي هنا أيضا انه ليس كل عمل له غاية هو عمل ت ارخيي ‪ ،‬هو عمل جتري عليه س نن‬
‫الت اريخ بل يوجد بعد ث الث ال بد ان يت وفر هلذا العمل لكي يك ون عمال تارخييا أي عمال‬
‫حتكمه س نن الت ايخ‪ .‬البعد االول ك ان هو « الس بب » و البعد الث اين ك ان هو الغاية «‬
‫اهلدف »‪.‬‬
‫ال بد اذن من بعد ثالث لكي يكون هذا العمل داخال يف نطاق سنن التاريخ ‪ ،‬هذا‬
‫البعد الثالث هو ان يكون هلذا العمل أرضية تتجاوز ذات العامل ‪ ،‬ان تكون ارضية العمل‬
‫هي عبارة عن اجملتمع ‪ ،‬العمل الذي خيلق موجا ‪ ،‬هذا املوج يتعدى الفاعل نفسه ويكون‬
‫أرضيته اجلماعة اليت يكون هذا الفرد جزءا منها طبعا االمواج على اختالف درجاهتا هناك‬
‫م وج حمدود ‪ ،‬هن اك م وج كب ري‪ .‬لكن العمل ال يك ون عمال تارخييا اال اذا ك ان له م وج‬
‫يتعدى حدود العامل الفردي ‪ ،‬قد يأكل الفرد اذا جاع ‪،‬‬

‫‪76‬‬
‫ويشرب اذا عطش ‪ ،‬وينام اذا أجس حباجته اىل النوم ‪ ،‬لكن هذه االعمال على الرغم من‬
‫اهنا اعمال هادفة أيضا تريدان حتقق غايات ولكنها اعمال ال ميتد موجها اكثر من العامل‬
‫خالفا لعمل يقوم به االنسان من خالل نشاط اجتماعي وعالقات متبادلة مع افراد مجاعته‬
‫‪ ،‬فمثال الت اجر حينما يعمل عمال جتاريا أو القائد حينما يعمل عمال حربيا أو السياسي‬
‫حينما ميارس عمال سياس يا ‪ ،‬املفكر حينما يتبىن وجهة نظر يف الك ون واحلي اة ‪ ،‬ه ذه‬
‫االعم ال م وج يتع دى ش خص العامل ‪ ،‬يتخذ من اجملتمع ارض ية له ‪ ،‬وميكننا ايضا ان‬
‫نس تعني مبص طلحات الفالس فة فنق ول ‪ :‬اجملتمع يش كل علة مادية هلذا العمل ‪ ،‬يتب دل من‬
‫مص طلحات الفالس فة التمي يز االرس طي بني العلة الفاعلية والعلة الغائية والعلة املادية ‪ ،‬هنا‬
‫نس تعني هبذه املص طلحات لتوض يح الفك رة‪ .‬فنق ول اجملتمع يش كل علة مادية هلذا العمل ‪،‬‬
‫أي ارض ية العمل ‪ ،‬حلالة من ه ذا القبيل يعترب ه ذا العمل عمال تارخييا ويعترب عمال لالمة‬
‫وللمجتمع وان كان الفاعل املباشر يف مجلة من األحيان هو فرد واحد أو عدد من االفراد‬
‫ولكن باعتب ار املوج يعترب اجملتمع ‪ ،‬اذن العمل الت ارخيي ال ذي حتكمه س نن الت اريخ هو‬
‫العمل الذي يكون حامال لعالقة مع هدف وغاية ويكون يف نفس الوقت ذا ارضية اوسع‬

‫‪77‬‬
‫من حدود الفرد ‪ ،‬ذا موج يتخذ من اجملتمع علة مادية له وهبذا يكون عمل اجملتمع‪.‬‬
‫ويف الق رآن الك رمي جند متي يزا بني عمل الف رد وعمل اجملتمع ونالحظ يف الق رآن‬
‫الك رمي انه من خالل استعراضه للكتب الغيبية االحص ائية حتدث الق رآن عن كت اب للف رد‬
‫وحتدث عن كت اب لالمة ‪ ،‬عن كت اب حيصي على الف رد عمله وعن كت اب حيصي على‬
‫االمة عملها وه ذا متي يز دقيق بني العمل الف ردي ال ذي ينسب اىل الف رد وبني عمل االمة ‪،‬‬
‫بني العمل الذي له ثالثة ابعاد والعمل الذي له بعدان ‪ ،‬العمل الذي له بعدان ال يدخل اال‬
‫يف كتاب الفرد واما العمل الذي له ثالثة ابعاد فهو يدخل يف الكتابني‪ .‬يدخل يف كتاب‬
‫االمة ويعرض على االمة وحتاسب االمة على أساسه‪ .‬الحظوا قوله تعاىل « وترى كل أمة‬
‫جاثية كل أمة ت دعى الى كتابها الي وم تج زون ما كنتم تعمل ون‪ .‬ه ذا كتابنا ينطق عليكم‬
‫بالحق انا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون » (‪.)1‬‬
‫هنا الق رآن الك رمي يتح دث عن كت اب لالمة ‪ ،‬أمة جاثية بني ي دي رهبا ويق دم هلا‬
‫كتاهبا ‪ ،‬يقدم هلا سجل نشاطها وحياهتا اليت مارستها كأمة ‪ ،‬هذا العمل اهلادف‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة اجلاثية ‪ :‬اآلية (‪ 28‬ـ ‪.)29‬‬

‫‪78‬‬
‫ذو االبعاد الثالثة حيتوي هذا الكتاب ‪ ،‬وهذا الكتاب ـ انتبهوا اىل العبارة ـ يقول « انا كنا‬
‫نستنسخ ما كنتم تعملون » هذا الكتاب ليس تاريخ الطربي ال يسجل الوقائع الطبيعية ‪،‬‬
‫الفس لجية ‪ ،‬الفيزيائية ‪ ،‬امنا ميدد ويستنسخ ما ك انوا يعمل ون كأم ة‪ .‬ما ك انت االمة تعمله‬
‫كأمة يعين العمل اهلادف ذو املوج حبيث يك ون العمل منس وبا لألمة وتك ون االمة م دعوة‬
‫اىل كتاهبا‪ .‬ه ذا العمل هو ال ذي حيويه ه ذا الكت اب ‪ ،‬بينما يف آية اخ رى نالحظ قوله‬
‫س بحانه وتع اىل « وكل انس ان الزمن اه ط ائره في عنقه ونخ رج له ي وم القيامة كتابا يلق اه‬
‫منش ورا ‪ ،‬اق رأ كتابك كفى بنفسك الي وم عليك حس يبا »(‪ )1‬هنا املوقف خيتلف ‪ ،‬هنا كل‬
‫انس ان مره ون بكتابه ‪ ،‬لكل انس ان كت اب ال يغ ادر ص غرية وال كب رية من اعماله من‬
‫حس ناته وس يئاته وهفواته وس قطاته من ص عوده ونزوله اال وهو حمصي يف ذلك الكت اب‪.‬‬
‫والكت اب ال ذي كتب بعلم من ال يغ رب عن علمه مثق ال ذرة يف االرض‪ .‬كل انس ان قد‬
‫يفكر ان بامكانه ان خيفي نقطة ض عف ‪ ،‬ان خيفي ذنبا ‪ ،‬س يئة عن جريانه وقومه وامته ‪،‬‬
‫واوالده ‪ ،‬وحىت عن نفسه ‪ ،‬خيدع نفسه يرى انه مل يركب سيئة ولكن هذا الكتاب احلق‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة االسراء ‪ :‬اآلية (‪.)13‬‬

‫‪79‬‬
‫ال يغ ادر ص غرية وال كب رية اال أحص اها ‪ ،‬يف ذلك الي وم يق ال انت حاسب نفسك الن‬
‫هذه االعمال اليت مارستها سوف تواجهها يف هذا الكتاب ان حتكم على نفسك مبوازين‬
‫احلق يف يوم القيامة يف ذلك اليوم ال ميكن الي انسان ان خيفي شيئا عن املوقف ‪ ،‬عن اهلل‬
‫سبحانه وتعاىل ‪ ،‬وعن نفسه‪.‬‬
‫ه ذا كت اب الف رد وذاك كت اب االم ة‪ .‬هن اك كت اب المة جاثية بني ي دي رهبا ‪ ،‬وهنا لكل‬
‫فرد كتاب‪ .‬هذا التمييز النوعي القرآين بني كتاب االمة وكتاب الفرد تعبري آخر عما قلناه‬
‫من ان العمل الت ارخيي هو ذاك العمل ال ذي يتمثل يف كت اب االمة ‪ ،‬العمل ال ذي له ابع اد‬
‫ثالثة بل ان ال ذي يس تظهر ويالحظ من ع دد آخر من اآلي ات القرآنية الكرمية انه ليس‬
‫فقط يوجد كت اب للف رد ويوجد كت اب لالمة بل يوجد احض ار للف رد ويوجد احض ار‬
‫لالمة ‪ ،‬هنا احض ارات بني ي دي اهلل س بحانه وتع اىل االحض ار الف ردي ي أيت بكل انس ان‬
‫فردا فردا ‪ ،‬ال ميلك ناصرا وال معينا ‪ ،‬ال ميلك شيئاً يستعني به يف ذلك املوقف اال العمل‬
‫الصاحل والقلب السليم واالميان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله ‪ ،‬هذا هو االحضار الفردي‪.‬‬
‫ق ال اهلل تع اىل « ان كل من في الس موات واالرض اال آت ال رحمن عب دا ‪ ،‬لقد احص اهم‬
‫وعدهم عدا وكلهم آتيه‬

‫‪80‬‬
‫يوم القيامة فردا » (‪ )1‬هذا االحضار هو احضار فردي بني يدي اهلل تعاىل وهناك احضار‬
‫آخر ‪ ،‬احض ار للف رد يف وسط اجلماعة ‪ ،‬احض ار لالمة بني ي دي اهلل س بحانه وتع اىل كما‬
‫يوجد هناك سجالن كذلك يوجد احضاران « كما تقدم » ‪ ،‬ترى كل امة جاثية تدعى‬
‫اىل كتاهبا ‪ ،‬ذاك احض ار للجماعة ‪ ،‬واملس تأنس به من س ياق اآلي ات الكرمية انه ه ذا‬
‫االحضار الثاين يكون من اجل اعادة العالقات اىل نصاهبا احلق ‪ ،‬العالقات داخل االمة قد‬
‫تكون غري قائمة على اساس احلق ‪ ،‬فقد يكون االنسان املستضعف فيها جديرا بأن يكون‬
‫يف اعلى االمة ‪ ،‬هذه االمة تعاد فيها العالقات اىل نصاهبا احلق‪ .‬هذا اليوم هو اليوم الذي‬
‫مساه الق رآن الك رمي بي وم التغ ابن ‪ ،‬كيف حيصل التغ ابن؟ ‪ ..‬حيصل التغ ابن عن طريق‬
‫اجتم اع اجملموعة مث كل انس ان ك ان مغبونا يف موقعه يف االمة ‪ ،‬يف وج وده يف االمة ‪،‬‬
‫بقدر ما كان مغبونا يف موقعه يف االمة يأخذ حقه ‪ ،‬يأخذ حقه يوم ال كلمة اال للحق‪.‬‬
‫الحظوا قوله تعاىل « يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن » (‪ .)1‬اذن فهناك‬
‫س جالن هن اك س جل لعمل الف رد ‪ ،‬وهن اك س جل لعمل االمة وعمل االمة هو عب ارة عما‬
‫قلناه يف العمل الذي يكون له ثالث ابعاد ‪ ،‬بعد من‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة التغابن ‪ :‬اآلية (‪.)9‬‬

‫‪81‬‬
‫ناحية العامل ما يس ميه ارس طو بـ « العلة الفاعلية » ‪ ،‬وبعد من ناحية اهلدف ما يس ميه‬
‫ارسطوا بـ « العلة الغائية » ‪ ،‬وبعد من ناحية االرضية وامتداد املوج ما يسمونه بـ « العلة‬
‫املادية »‪ .‬هذا العمل ذو االبعاد الثالثة هو موضوع سنن التاريخ ‪ ،‬هذا هو عمل اجملتمع ‪،‬‬
‫لكن ال ينبغي ان ي وهم ذلك ما تومهه ع دد من املفك رين والفالس فة االورب يني من ان‬
‫اجملتمع كائن عمالق له وجود وحدوي عضوي متميز عن سائر االفراد وكل فرد ليس اال‬
‫مبثابة اخللية يف ه ذا العمالق الكبري ‪ « ،‬هك ذا تص ور هيجل مثال » ومجلة من الفالس فة‬
‫االوروب يني ‪ ،‬تص ورا عمل اجملتمع هبذا النحو ‪ ،‬أرادوا أن مييزوا بني عمل اجملتمع وعمل‬
‫الف رد فق ال بأنه يوجد عن دنا ك ائن عض وي واحد عمالق ه ذا الك ائن الواحد هو يف‬
‫احلقيقة يلف يف احش اءه وتن دمج يف كيانه كل االف راد‪ .‬لكل ف رد يش كل خلية يف ه ذا‬
‫العمالق الواحد وهو يتخذ من كل ف رد ناف ذة على الواقع على الع امل بق در ما ميكن ان‬
‫جيسد يف ه ذا الف رد من قابلياته هو ومن ابداعه هو ‪ ،‬اذن كل قابلية وكل اب داع ‪ ،‬وكل‬
‫فكر هو تعبري عن ناف ذة من النوافذ اليت يعرب عنها ذلك العمالق اهليجلي ‪ ،‬ه ذا التص ور‬
‫اعتقد به مجلة من الفالسفة االوربيني متييزا لعمل اجملتمع عن عمل الفرد‬

‫‪82‬‬
‫اال ان ه ذا التص ور ليس ص حيحا ‪ ،‬ولس نا حباجة اليه واىل االغ راق يف اخلي ال اىل ه ذه‬
‫الدرجة لكي ننحت ه ذا العمالق االس طوري من ه ؤالء االف راد ‪ ،‬ليس عن دنا اال االف راد‬
‫زيد وبكر وخالد ‪ ،‬ليس عن دنا ذلك العمالق املس ترت من ورائهم ‪ « ،‬طبع اً مناقشة هيجل‬
‫من الزاوية الفلس فية خيرج من ح دود ه ذا البحث وم رتوك اىل حبث آخر » الن ه ذا‬
‫التفسري اهليجلي للمجتمع مرتبط حبسب احلقيقة بكامل اهليكل النظ ري لفلس فته اال ان‬
‫الش يء الذي نريد أن نعرفه موقع اقدامنا من ه ذا التصور ‪ ،‬ه ذا التصور ليس ص حيحا ‪،‬‬
‫حنن لسنا حباجة اىل مثل هذا االفرتاض االسطوري لكي منيز بني عمل الفرد وعمل اجملتمع‬
‫‪ ،‬الن التمي يز بني عمل الف رد وعمل اجملتمع يتم من خالل ما اوض حناه من البعد الث الث‪.‬‬
‫عمل الف رد هو العمل ال ذي يك ون له بع دان ف ان اكتسب بع دا ثالثا ك ان عمل اجملتمع ‪،‬‬
‫باعتبار ان اجملتمع يشكل أرضية له ‪ ،‬يشكل علة مادية له‪ .‬يدخل حينئذ يف سجل كتاب‬
‫االمة اجلاثية بني يدي رهبا هذا هو ميزان الفرق بني العملني‪.‬‬
‫اذن الشيء الذي نستخلصه مما تقدم ان موضوع السنن التارخيية هو العمل اهلادف‬
‫الذي يشكل أرضية ويتخذ من اجملتمع او االمة أرضية له على اختالف سعة املوجة وضيق‬
‫املوجة هذا هو موضع السنن التارخيية‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫الدرس السابع ‪:‬‬
‫آن االوان لكي نتعرف على الصيغ املتنوعة اليت تتخذها السنة التارخيية القرآنية‪.‬‬
‫كيف يتم التعبري موضوعيا عن القانون التارخيي يف القرآن الكرمي؟‬
‫ما هي االشكال اليت تتخذها سنن التاريخ يف مفهوم القرآن الكرمي؟‬
‫هناك ثالثة أشكال تتخذها السنة التارخيية يف القرآن الكرمي ‪ ،‬ال بد من استعراضها‬
‫ومقارنتها والتدقيق يف أوجه الفرق بينها‪.‬‬
‫الش كل االول للس نة التارخيية هو ش كل القض ية الش رطية ‪ ،‬يف ه ذا الش كل تتمثل‬
‫السنة التارخيية يف قضية شرطية تربط بني حادثتني أو جمموعتني من احلوادث على الساحة‬
‫التارخيية وتؤكد العالقة املوضوعية بني الشرط واجلزاء ‪ ،‬وانه مىت ما حتقق‬

‫‪84‬‬
‫الشرط حتقق اجلزاء وهذه صياغة جندها يف كثري من القوانني والسنن الطبيعية والكونية يف‬
‫خمتلف الساحات االخرى‪.‬‬
‫فمثال ‪ :‬حينما نتح دث عن ق انون ط بيعي لغلي ان املاء ‪ ،‬نتح دث بلغة القض ية‬
‫الش رطية ‪ ،‬نق ول ب أن املاء اذا تع رض اىل احلرارة وبلغت احلرارة درجة معينة مائة مثال يف‬
‫مس توى معني من الض غط ‪ ،‬حينئذ س وف حيدث الغلي ان ه ذا ق انون ط بيعي يربط بني‬
‫الش رط واجلزاء ويؤكد ان حالة التع رض اىل احلرارة ‪ ،‬ض من مواص فات معينة ت ذكر يف‬
‫ط رف الش رط تس تتبع حادثة طبيعية معينة ‪ ،‬وهي غلي ان ه ذا املاء « حتول ه ذا املاء من‬
‫س ائل اىل غ از » ه ذا الق انون مص اغ على هنج القض ية الش رطية ومن الواضح ان ه ذا‬
‫القانون الطبيعي ال ينبئنا شيئاً عن حتقق الشرط وعدم حتققه ‪ ،‬ال ينبئنا هذا القانون الطبيعي‬
‫عن ان املاء سوف يتعرض للحرارة او ال يتعرض للحرارة هل ان درجة حرارة املاء ترتفع‬
‫اىل الدرجة املطلوبة ض من ه ذا الق انون او ال ترتف ع؟ ه ذا الق انون ال يتع رض اىل م دى‬
‫وجود الشرط وعدم وجوده ‪ ،‬وال ينبئنا بشيء عن حتقق الشرط اجيابا او سلبا ‪ ،‬وامنا ينبئنا‬
‫عن ان اجلزاء ال ينفك عن الش رط ‪ ،‬فمىت ما وجد الش رط وجد اجلزاء ‪ ،‬فالغلي ان نتيجة‬
‫مرتبطة‬

‫‪85‬‬
‫موض وعيا بالش رط ه ذا هو متام ما ينبئنا عنه ه ذا الق انون املص اغ بلغة القض ية الش رطية ‪،‬‬
‫ومثل هذه القوانني تقدم خدمة كبرية لالنسان يف حياته االعتيادية وتلعب دورا عظيما يف‬
‫توجيه االنسان ‪ ،‬الن االنس ان ضمن تعرفه على هذه الق وانني يصبح بامكانه ان يتصرف‬
‫بالنسبة اىل اجلزاء ففي كل حالة يرى انه حباجة اىل اجلزاء يعمل هذا القانون ليوفر شروط‬
‫ه ذا الق انون ‪ ،‬ففي كل حالة يك ون اجلزاء متعارضا مع مص احله ومش اعره حياول احليلولة‬
‫دون توفر شروط هذا القانون‪ .‬مىت ما كان غليان املاء مقصودا لالنسان يطبق شروط هذا‬
‫الق انون ومىت مل يكن مقص ودا لالنس ان حياول ان ال تتطبق ش روط ه ذا الق انون‪ .‬اذن‬
‫الق انون املوض وعي بنهج القض ية الش رطية موجه عملي لالنس ان يف حياته ومن هنا تتجلى‬
‫حكمة اهلل س بحانه وتع اىل يف ص ياغة نظ ام الك ون على مس توى الق وانني وعلى مس توى‬
‫الروابط املضطردة والسنن الثابتة الن صياغة الكون ضمن روابط مضطردة وعالقات ثابتة‬
‫هو الذي جيعل االنسان يتعرف على موضع قدميه وعلى الوسائل اليت جيب ان يسلكها يف‬
‫س بيل تك ييف بيئته وحياته والوص ول اىل اش باع حاجته لو ان الغلي ان يف املاء ك ان حيدث‬
‫صدفة ومن دون رابطة قانونية مضطردة مع حادثة اخرى‬

‫‪86‬‬
‫ك احلرارة ‪ ،‬اذن ملا اس تطاع االنس ان ان يتحكم يف ه ذه الظ اهرة ‪ ،‬ان خيلق ه ذه الظ اهرة‬
‫مىت ما ك انت حياته حباجة اليها وان يتفاداها مىت ما ك انت حياته حباجة اىل تفاديها ‪ ،‬امنا‬
‫ك ان له ه ذه الق درة باعتب ار ان ه ذه الظ اهرة وض عت يف موضع ث ابت من س نن الك ون‬
‫وط رح على االنس ان الق انون الطبيعي من لغة القض ية الش رطية فأص بح ينظر يف نور ال يف‬
‫ظالم ويستطيع يف ضوء هذا القانون الطبيعي ان يتصرف ‪ ،‬نفس الشيء جنده يف الشكل‬
‫االول من الس نن التارخيية القرآنية ف ان ع ددا كب ريا من الس نن التارخيية يف الق رآن قد منت‬
‫ص ياغته على ش كل القض ية الش رطية اليت تربط ما بني ح ادثتني اجتم اعيتني او ت ارخييتني‬
‫فهي ال تتح دث عن احلادثة االوىل « اهنا مىت توجد ‪ ،‬ومىت ال توجد » لكن تتح دث عن‬
‫احلادثة الثانية بأنه « مىت ما وجدت احلادثة االوىل ‪ ،‬وجدت احلادثة الثانية »‪.‬‬
‫قرأنا يف ما س بق استعراضا لآلي ات الكرمية اليت ت دل على س نن الت اريخ يف الق رآن‬
‫مجلة من تلك اآلي ات الكرمية مفادها هو الس نة التارخيية بلغة القض ية الش رطية ‪ ،‬تت ذكرون‬
‫ما قرأناه سابقا « ان اهلل ال يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » (‪ .)1‬هذه السنة‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة الرعد ‪ :‬اآلية (‪.)11‬‬

‫‪87‬‬
‫التارخيية للقرآن واليت تقدم الكالم عنها ويأيت انشاء اهلل احلديث عن شرح حمتواها ‪ ،‬هذه‬
‫السنة التارخيية للقرآن بينت بلغة القضية الشرطية الن مرجع هذا املفاد القرآين اىل ان هناك‬
‫عالقة بني تغي ريين ‪ ،‬بني تغيري احملت وى ال داخلي لالنس ان وتغيري الوضع الظ اهري للبش رية‬
‫واالنسانية ‪ ،‬مفاد هذه العالقة قضية شرطية ‪ ،‬انه مىت ما وجد ذاك التغيري يف انفس القوم‬
‫وجد هذا التغيري يف بناء القوم وكيان القوم ‪ ،‬هذه القضية قضية شرطية بني القانون فيها‬
‫بلغة القضية الشرطية‪ « .‬والو استقاموا على الطريقة السقيناهم ماءا غدقا » (‪.)1‬‬
‫قلنا يف ما س بق ان ه ذه اآلية الكرمية تتح دث عن س نة من س نن الت اريخ ‪ ،‬عن س نة تربط‬
‫وفرة االنتاج بعدالة التوزيع هذه السنة ايضا هي بلغة القضية الش رطية كما هو الواضح من‬
‫ص ياغتها النحوية ايض ا‪ « .‬واذا أردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففس قوا فيها فحق عليها‬
‫القول فدمرناها تدمير » (‪ )2‬ايضا سنة تارخيية بينت بلغة القضية الشرطية ربطت بني امرين‬
‫‪ ،‬بني ت أمري الفس اق واملرتفني يف اجملتمع وبني دم ار ذلك اجملتمع واحنالله ‪ ،‬ه ذا الق انون‬
‫التارخيي ايضا مبني على هنج القضية‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة اجلن ‪ :‬اآلية (‪.)16‬‬
‫(‪ )2‬سورة االسراء ‪ :‬اآلية (‪.)16‬‬

‫‪88‬‬
‫الش رطية ‪ ،‬فهو ال ي بني انه مىت وجد الش رط ‪ ،‬لكن ي بني مىت ما وجد ه ذا الش رط يوجد‬
‫اجلزاء ‪ ،‬هذا هو الشكل االول من اشكال السنة التارخيية يف القرآن‪.‬‬
‫الش كل الثاين الذي تتخ ذه السنن التارخيية ش كل القض ية الفعلية الن اجزة الوجودية‬
‫احملققة وهذا الشكل ايضا جند له امثلة وشواهد يف القوانني الطبيعية والكونية‪ .‬مثالً ‪ :‬العامل‬
‫الفلكي حينما يصدر حكما علميا على ضوء قوانني مسارات الفلك بأن الشمس سوف‬
‫تنكسف يف اليوم الفالين ‪ ،‬أو أن القمر سوف ينخسف يف اليوم الفالين هذا قانون علمي‬
‫وقض ية علمية ‪ ،‬اال أهنا قض ية وجودية ن اجزة ‪ ،‬وليست قض ية ش رطية ‪ ،‬ال ميلك االنس ان‬
‫اجتاه ه ذه القض ية أن يغري من ظروفها وأن يع دل من ش روطها ‪ ،‬الهنا مل ت بني كلغة قض ية‬
‫ش رطية ‪ ،‬وامنا بينت على مس توى القض ية الفعلية الوجودية ‪ ،‬الش مس س وف تنكسف ‪،‬‬
‫القمر س وف ينخسف ‪ ،‬ه ذه قض ية فعلية تنظر اىل الزم ان اآليت وخترب عن وق وع ه ذه‬
‫احلادثة على أي ح ال ‪ ،‬وك ذلك الق رارات العلمية اليت تص در عن االن واء اجلوية ‪ ،‬املطر‬
‫ينهمر على املنطقة الفالنية ‪ ،‬ه ذا أيضا يعرب عن قض ية فعلية وجودية مل تصغ بلغة القض ية‬
‫الشرطية وامنا صيغت بلغة التنجيز والتحقيق بلحاظ زمان معني‬

‫‪89‬‬
‫ومكان معني ‪ ،‬هذا هو الشكل الثاين من السنن التارخيية وسوف اذكر فيما بعد انشاء اهلل‬
‫عند حتليل عناصر اجملتمع اىل أمثلة هذا الشكل من القرآن الكرمي‪.‬‬
‫هذا الشكل من السنن التارخيية هو الذي أوحى يف الفكر االورويب بتوهم التعارض‬
‫بني فك رة س نن الت اريخ وفك رة اختي ار االنس ان وارادته ‪ ،‬نشأ ه ذا الت وهم اخلاطيء ال ذي‬
‫يقول بأن فكرة سنن التاريخ ال ميكن أن جتتمع اىل جانب فكرة اختيار االنسان الن سنن‬
‫التاريخ هي اليت تنظم مسار االنسان وحياة االنسان اذن ماذا يبقى الرادة االنسان؟ هذا‬
‫الت وهم أدى اىل أن بعض املفك رين ي ذهب اىل ان االنس ان له دور س ليب فقط حفاظا على‬
‫سنن التاريخ وعلى موضوعية هذه السنن ‪ ،‬ضحى باختيار االنسان من أجل احلفاظ على‬
‫سنن التاريخ فقال بأن االنسان دوره دور سليب وليس دورا اجيابيا ‪ ،‬يتحرك كما تتحرك‬
‫االلة وفقا لظروفها املوضوعية ‪ ،‬ولعله يأيت بعض التفصيل أيضا عن هذه الفكرة ‪ ،‬وذهب‬
‫بعض آخر يف مقام التوفيق ما بني هاتني الفكرتني ولو ظاهريا اىل أن اختيار االنسان نفسه‬
‫هو ايضا خيضع لسنن التاريخ ولقوانني التاريخ ‪ ،‬ال نضحي باختيار االنسان ‪ ،‬لكن نقول‬
‫بان اختيار االنسان لنفسه حادثة تارخيية ايضا ‪ ،‬اذن هو بدوره‬

‫‪90‬‬
‫خيضع للس نن ه ذه تض حية باختي ار االنس ان لكن بص ورة مبطنة ‪ ،‬بصورة غري مكشوفة ‪،‬‬
‫وذهب بعض آخر اىل التض حية بس نن الت اريخ حلس اب اختي ار االنس ان ف ذهب مجلة من‬
‫املفكرين االوروبيني اىل أنه ما دام االنسان خمتارا فالب ّد من أن تستثىن الساحة التارخيية من‬
‫الس احات الكونية يف مق ام التق نني املوض وعي ‪ ،‬ال بد وان يق ال بأنه ال س نن موض وعية‬
‫للس احة التارخيية حفاظا على ارادة االنس ان وعلى اختي ار االنس ان وه ذه املواقف كلها‬
‫خاطئة الهنا مجيعا تق وم على ذلك ال وهم اخلاطئ ‪ ،‬وهم االعتق اد بوج ود تن اقض أساسي‬
‫بني مقولة السنة التارخيية ومقولة االختيار ‪ ،‬وهذا التوهم نشأ من قصر النظر على الشكل‬
‫الث اين من اش كال الس نة التارخيية أي قصر النظر على الس نة التارخيية املص اغة بلغة القض ية‬
‫الفعلية الوجودية الن اجزة‪ .‬لو كنا نقصر النظر على ه ذا الش كل من س نن الت اريخ ولو كنا‬
‫نقول بأن هذا الشكل هو الذي يستوعب كل الساحة التارخيية ال يبقي فراغا لذي فراغ‬
‫لكان هذا التوهم واردا ‪ ،‬ولكنا ميكننا ابطال هذا التوهم عن طريق االلتفات اىل الشكل‬
‫االول من اشكال السنة التارخيية الذي تصاغ فيه السنة التارخيية بوصفها قضية شرطية ‪،‬‬
‫وكثريا ما تكون هذه القضية الشرطية يف شروطها معربة عن ارادة االنسان واختيار‬

‫‪91‬‬
‫االنسان ‪ ،‬يعين ان اختيار االنسان ميثل حمور القضية الشرطية « شرط القضية الشرطية »‬
‫اذن فالقض ية الش رطية كامثلة اليت ذكرناها من الق رآن الك رمي تتح دث عن عالقة بني‬
‫الشرط واجلزاء ‪ ،‬لكن ما هو الشرط؟‬
‫الشرط ‪ :‬هو فعل االنسان ‪ ،‬هو ارادة االنسان « ان اهلل ال يغير ما بقوم حتى يغ يروا‬
‫ما بأنفس هم » (‪ ، )1‬التغيري هنا أس ند اليهم فهو فعلهم ‪ ،‬اب داعهم وارادهتم‪ .‬اذن الس نة‬
‫التارخيية حينما تصاغ بلغة القضية الشرطية وحينما ميثل ابداع االنسان واختياره موضوع‬
‫الش رط يف ه ذه القض ية الش رطية ‪ ،‬يف مثل ه ذه احلالة تص بح ه ذه الس نة متالئمة متاما مع‬
‫اختي ار االنس ان بل أن الس نة حينئذ تقضي اختي ار االنس ان ‪ ،‬تزي ده اختي ارا وق درة ومتكنا‬
‫من التص رف يف موقفه ‪ ،‬كيف أن ذلك الق انون الط بيعي للغلي ان ك ان يزيد من ق درة‬
‫االنسان النه يستطيع حينئذ ان يتحكم يف الغليان بعد أن عرف شروطه وظروفه ‪ ،‬كذلك‬
‫الس نن التارخيية ذات الص يغ الش رطية ‪ ،‬هي يف احلقيقة ليست على حس اب ارادة االنس ان‬
‫وليست نقيضا الختيار االنسان بل هي مؤكدة الختيار االنسان وتوضح لالنسان نتائج ‪،‬‬
‫لكي يستطيع أن يقتبس ما يريده من هذه النتائج ‪ ،‬لكي‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة الرعد ‪ :‬اآلية (‪.)11‬‬

‫‪92‬‬
‫يستطيع ان يتعرف على الطريق الذي يسلك به اىل هذه النتيجة او اىل تلك النتيجة فيسري‬
‫على ضوء وكتاب منري هذا هو الشكل الثاين للسنة التارخيية‪.‬‬
‫الشكل الثالث للسنة التارخيية وهو شكل اهتم به القرآن الكرمي اهتماما كبريا ‪ ،‬هو‬
‫الس نة التارخيية املص اغة على ص ورة اجتاه ط بيعي يف حركة الت اريخ ال على ص ورة ق انون‬
‫ص ارم ح دي وف رق بني االجتاه والق انون ولكي تتضح الفك رة يف ذلك البد وان نط رح‬
‫الفك رة االعتيادية اليت نعيش ها يف اذهاننا عن الق انون ‪ ،‬الق انون العلمي كما نتصوره ع ادة‬
‫عبارة عن تلك السنة اليت ال تقبل التحدي من قبل االنسان ‪ ،‬الهنا قانون من قوانني الكون‬
‫والطبيعة فال ميكن لالنسان ان يتحداها ‪ ،‬أن ينقضها ‪ ،‬أن خيرج عن طاعتها ‪ ،‬ميكنه ان ال‬
‫يص لي الن وج وب الص الة حكم تش ريعي وليس قانونا تكوينيا ‪ ،‬ميكنه أن يش رب اخلمر‬
‫الن حرمة اخلمر ق انون تش ريعي وليس قانونا تكوينيا ‪ ،‬لكنه ال ميكنه ان يتح دى الق وانني‬
‫الكونية والسنن املوضوعية ‪ ،‬مثال ال ميكنه أن جيعل املاء ال يغلي اذا توفرت شروط الغليان‬
‫‪ ،‬ال ميكنه ان يتح دى الغلي ان وان ي ؤخر الغلي ان حلظة عن موع ده املعني الن ه ذا ق انون‬
‫والقانون صارم والصرامة تأىب التحدي‪ .‬هذه هي الفكرة اليت نتصورها عادة عن‬

‫‪93‬‬
‫الق وانني وهي فك رة ص حيحة اىل حد ما ‪ ،‬لكن ليس من الض روري ان تك ون كل س نة‬
‫طبيعية موض وعية على ه ذا الش كل حبيث ت أىب التح دي وال ميكن حتديها من قبل االنس ان‬
‫هبذه الطريقة بل هناك اجتاهات موضوعية يف حركة التاريخ ويف مسار االنسان اال ان هذه‬
‫االجتاه ات هلا ش يء من املرونة حبيث اهنا تقبل التح دي ولو على ش وط قصري ‪ ،‬وان مل‬
‫تقبل التحدي على شوط طويل ‪ ،‬لكن على الشوط القصري تقبل التحدي أنت ال تستطيع‬
‫أن تؤخر موعد غليان املاء حلظة ‪ ،‬لكن تستطيع أن جتمد هذه االجتاهات حلظات من عمر‬
‫التاريخ لكن هذا ال يعين أهنا ليست اجتاهات متثل واقعا موضوعيا يف حركة التاريخ ‪ ،‬هي‬
‫اجتاه ات ولكنها مرنة تقبل التح دي لكنها حتطم املتح دي حتطمه بس نن الت اريخ نفس ها ‪،‬‬
‫ومن هنا كانت اجتاهات ‪ :‬هناك اشياء ميكن حتديها دون ان يتحطم املتحدي ‪ ،‬لكن هناك‬
‫اشياء ميكن تتحدى على شوط قصري ولكن املتحدي يتحطم على سنن التاريخ نفس ها ‪،‬‬
‫هذه هي طبيعة االجتاهات املوضوعية يف حركة التاريخ‪ .‬لكي أقرب الفكرة اليكم نستطيع‬
‫أن نق ول ب أن هن اك اجتاها يف ت ركيب االنس ان ويف تك وين االنس ان اجتاها موض وعيا ال‬
‫تشريعيا اىل اقامة العالقات املعينة بني‬

‫‪94‬‬
‫الذكر واالنثى يف جمتمع االنسان ضمن اطار من أطر النكاح واالتصال ‪ ،‬هذا االجتاه ليس‬
‫تش ريعيا ليس تقنينا اعتباريا وامنا هو اجتاه موض وعي اعملت العناية يف س بيل تكوينه يف‬
‫مس ار حركة االنس ان ‪ ،‬ال نس تطيع أن نق ول أن ه ذا جمرد ق انون تش ريعي ‪ ،‬جمرد حكم‬
‫ش رعي ‪ ،‬ال وامنا ه ذا اجتاه ركب يف طبيعة االنس ان ويف ت ركيب االنس ان وهو االجتاه اىل‬
‫االتص ال بني ال ذكر واالن ثى وادامة الن وع عن طريق ه ذا االتص ال ض من اط ار من أطر‬
‫النكاح االجتماعي‪ .‬هذه سنة لكنها سنة على مستوى االجتاه ‪ ،‬ال على مستوى القانون‬
‫‪ ..‬ملاذا؟ الن التحدي هلذه السنة حلظة او حلظات ممكن ‪ ،‬أمكن لقوم لوط أن يتحدوا هذه‬
‫السنة فرتة من الزمن بينما مل يكن بامكاهنم ان يتحدوا سنة الغليان بشكل من االشكال ‪،‬‬
‫اال ان حتدي هذه السنة يؤدي اىل أن يتحطم االنسان ‪ ،‬اجملتمع الذي يتحدى هذه السنة‬
‫يكتب بنفسه فن اء نفسه النه يتح دى ذلك عن طريق ال وان اخ رى من الش ذوذ ت ؤدي اىل‬
‫فن اء اجملتمع واىل خ راب اجملتمع ومن هنا ك ان ه ذا اجتاها موض وعيا يقبل التح دي على‬
‫شوط قصري ‪ ،‬لكن ال يقبل التحدي على شوط طويل النه سوف حيطم املتحدي‬

‫‪95‬‬
‫بنفسه‪ .‬االجتاه اىل توزيع امليادين بني املرأة والرجل هذا االجتاه اجتاه موضوعي وليس اجتاها‬
‫ناشئا من قرار تشريعي ‪ ،‬اجتاه ركب يف طبيعة الرجل واملرأة ‪ ،‬ولكن هذا االجتاه ميكن ان‬
‫يتح دى ‪ ،‬ميكن استص دار تش ريع يف رض على الرجل ب أن يبقى يف ال بيت ليت وىل دور‬
‫احلض انة والرتبية وان خترج املرأة اىل اخلارج لكي تت وىل مش اق العمل واجلهد ‪ ،‬ه ذا‬
‫باالمك ان ان يتحقق عن طريق تش ريع معني وهبذا حيصل التح دي هلذا االجتاه لكن ه ذا‬
‫التح دي س وف لن يس تمر الن س نن الت اريخ س وف جتيب على ه ذا التح دي الننا هبذا‬
‫س وف خنسر وجنمد كل تلك القابلي ات اليت زودت هبا املرأة من قبل ه ذا االجتاه ملمارسة‬
‫دور احلض انة واالمومة وس وف خنسر كل تلك القابلي ات اليت زود هبا الرجل من اجل‬
‫ممارسة دور يتوقف على اجللد والصرب والثب ات وط ول النفس كما أن من قبيل ان تس لم‬
‫بناية تس لم جنارياهتا اىل ح داد وح دادياهتا اىل جنار ميكن ان تص نع هك ذا وميكن ان تنشأ‬
‫البناية أيضا لكن ه ذه البناية س وف تنه ار ‪ ،‬س وف لن يس تمر ه ذا التح دي على ش وط‬
‫طويل سوف يتقطع يف شوط قصري كل اجتاه من هذا القبيل هو يف احلقيقة سنة موضوعية‬
‫من س نن الت اريخ ومن س نن حركة االنس ان ولكنها س نة مرنة تقبل التح دي على الش وط‬
‫القصري‬

‫‪96‬‬
‫ولكنها جتيب على ه ذا التح دي واهم مص داق يعرضه الق رآن الك رمي هلذا الش كل من‬
‫الس نن هو ال دين ‪ ،‬الق رآن الك رمي ي رى أن ال دين نفسه س نة من س نن الت اريخ ‪ ،‬س نة‬
‫موض وعية من س نن الت اريخ ليس ال دين فقط تش ريعا وامنا هو س نة من س نن الت اريخ وهلذا‬
‫يعرض الدين على شكلني تارة يعرضه بوصفه تشريعا كما يقول علم االصول ‪ ،‬بوصفه‬
‫ارادة تشريعية مثال يقول « شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما‬
‫وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن اقيموا الدين وال تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما‬
‫تدعوهم اليه » (‪.)1‬‬
‫هنا يبني الدين كتشريع ‪ ،‬كقرار ‪ ،‬كأمر من اهلل سبحانه وتعاىل لكن يف جمال آخر‬
‫يبينه سنة من سنن التاريخ وقانون داخل يف صميم تركيب االنسان وفطرة االنسان قال‬
‫سبحانه وتعاىل « فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة اهلل التي فطر الناس عليها ال تبديل لخلق‬
‫اهلل ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس ال يعلمون » (‪.)2‬‬
‫هنا الدين مل يعد جمرد قرار وتشريع من أعلى وامنا الدين هنا فطرة للناس ‪،‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة الشورى ‪ :‬اآلية (‪.)13‬‬
‫(‪ )2‬سورة النون ‪ :‬اآلية (‪.)30‬‬

‫‪97‬‬
‫فطرة اهلل اليت فطر عليها الناس وال تبديل خللق اهلل‪ .‬هذا الكالم كالم موضوعي خربي ال‬
‫تش ريعي انش ائي ‪ ،‬ال تب ديل خللق اهلل ‪ ،‬وهك ذا انك ال ميكنك ان تن تزع من االنس ان أي‬
‫ج زء من اج زاءه اليت تقومه ‪ ،‬ك ذلك ال ميكنك ان تن تزع من االنس ان دينه ‪ ،‬ال دين ليس‬
‫مقولة حض ارية مكتس بة على مر الت اريخ ميكن اعطاؤها وميكن االس تغناء عنها الهنا يف‬
‫حالة من هذا القبيل ال تكون فطرة اهلل اليت فطر الناس عليها وال تكون خلق اهلل الذي ال‬
‫تب ديل له ‪ ،‬بل تك ون من املكاسب اليت حصل عليها االنس ان من خالل تطوراته املدنية‬
‫واحلضارية على مر التاريخ‪ .‬القرآن يريد ان يقول بأن الدين ليس مقولة من هذه املقوالت‬
‫باالمك ان اخ ذها وباالمك ان عطاؤها ‪ ،‬ال دين خلق اهلل ‪ ،‬فط رة اهلل اليت فطر الن اس عليها‬
‫وال تب ديل خللق اهلل يف ه ذا الكالم « ال » ليست ناهية بل نافية يعين ه ذا ال دين ال ميكن‬
‫أن ينفك عن خلق اهلل ما دام االنس ان انس انا فال دين يعترب س نة هلذا االنس ان‪ .‬ه ذه س نة‬
‫ولكنها ليست سنة صارمة على مستوى الغليان ‪ ،‬سنة تقبل التحدي على الشوط القصري‬
‫كما ك ان بامك ان حتدي س نة النك اح اللق اء الط بيعي وال تزواج الط بيعي ‪ ،‬كما ك ان‬
‫باالمكان حتدي ذلك عن طريق الشذوذ اجلنسي ‪ ،‬لكن على شوط قصري كذلك‬

‫‪98‬‬
‫ميكننا حتدي هذه السنة على شوط قصري عن طريق االحلاد وغمض العني عن هذه احلقيقة‬
‫الك ربى بأمك ان االنس ان ان ال ي رى الش مس ‪ ،‬أن يغمض عينه عن الش مس ويلحد وال‬
‫ي رى ه ذه احلقيقة ولكن ه ذا التح دي ال يك ون اال على ش وط قصري الن العق اب س وف‬
‫ينزل بامللحدين ‪ ،‬العقاب هنا ليس مبعىن العقاب الذي ينزل على من يرتكب خمالفة شرعية‬
‫على يد مالئكة الع ذاب يف الس ماء يف ي وم القيامة ليس هو ذاك العق اب ال ذي ي نزل على‬
‫من خيالف الق انون على يد الش رطي ‪ ،‬يض ربه بالعصا على رأسه ‪ ،‬وامنا العق اب هنا ي نزل‬
‫من س نن الت اريخ نفس ها تف رض العق اب على كل أمة تريد أن تب دل خلق اهلل س بحانه‬
‫وتعاىل ‪ ،‬وال تبديل خللق اهلل « ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف اهلل وعده وان يوما عند‬
‫ربك كألف سنة مما تعدون » (‪.)1‬‬
‫حنن نقول بأن السنن التارخيية من الشكل الثالث اذا حتداها االنسان فسوف يأخذ‬
‫العق اب من الس نن التارخيية ‪ ،‬س رعان ما ي نزل عليه العق اب من الس نن التارخيية نفس ها «‬
‫كلمة س رعان هنا جيب أن تؤخذ مبعىن الس رعة التارخيية ال الس رعة اليت نفهمها يف حياتنا‬
‫االعتيادية » وهذا ما أرادت أن تبينه هذه‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة احلج ‪ :‬اآلية (‪.)47‬‬

‫‪99‬‬
‫اآلية يف املق ام تتح دث عن الع ذاب واقعه يف س ياق الع ذاب اجلم اعي ال ذي ن زل ب القرى‬
‫الس ابقة الظاملة مث بعد ذلك يتح دث عن اس تعجال الن اس يف اي ام رس ول اهلل (ص) الن اس‬
‫يستعجلون الرسول (ص) ويقولون له أين هذا العقاب ‪ ،‬اين هذا العذاب؟ ملاذا ال ينزل بنا‬
‫حنن االن كفرنا حتديناك مل ن ؤمن بك ‪ ،‬ص ممنا آذاننا عن قرآنك ملاذا ال ي نزل بنا ه ذا‬
‫العذاب؟ هنا القرآن يتحدث عن السرعة التارخيية اليت ختتلف عن السرعة االعتيادية يقول‬
‫« ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف اهلل وعده »(‪ ، )1‬الهنا سنة ‪ ،‬والسنة التارخيية ثابتة ‪،‬‬
‫لكن « وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون » (‪ .)2‬اليوم الواحد يف سنن التاريخ عند‬
‫ربك باعتب ار أن س نن الت اريخ هي كلم ات اهلل كما قرأنا يف ما س بق ‪ ،‬كلم ات اهلل س نن‬
‫الت اريخ‪ .‬اذن يف كلم ات اهلل‪ .‬يف س نن اهلل ‪ ،‬الي وم الواحد « املهلة القص رية » هي ألف‬
‫سنة‪ .‬طبعا يف آية أخرى عرب خبمسني ألف سنة ‪ ،‬لكن اريد بذلك أيام القيامة ال يوم الدنيا‬
‫وهذا هو وجه اجلمع بني اآليتني ‪ ،‬الكلمتني‪ .‬يف آية أخرى قيل « تعرج المالئكة والروح‬
‫اليه في يوم كان مقداره‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة احلج ‪ :‬اآلية (‪.)47‬‬
‫(‪ )2‬نفس اآلية السابقة‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫خمس ين ألف س نة فاص بر ص برا جميال انهم يرونه بعي دا ون راه قريبا ي وم تك ون الس ماء‬
‫كالمهل » (‪.)1‬‬
‫هذا ناظر اىل يوم القيامة ‪ ،‬اىل يوم تكون السماء كاملهل فيوم القيامة قدر خبمسني‬
‫ألف سنة أما هنا يتكلم عن يوم توقيت نزول العذاب اجلماعي وفقا لسنن التاريخ يقول‬
‫وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون اذن فهذا شكل ثالث من السنن التارخيية ‪ ،‬هذا‬
‫الش كل هو عب ارة عن اجتاه ات موض وعية من مس ار الت اريخ ويف حركة االنس ان ويف‬
‫ت ركيب االنس ان ‪ ،‬ميكن ان يتح دى على الش وط القصري ولكن س نن الت اريخ ال تقبل‬
‫التح دي على الش وط الطويل اال أن الش وط القصري والطويل هنا ليس حبسب طموحاتنا ‪،‬‬
‫حبسب حياتنا االعتيادية ي وم أو ي ومني الن الي وم الواحد يف كلم ات اهلل ويف س نن اهلل‬
‫كألف سنة مما حنسب ‪ ،‬هذا هو الشكل الثالث ‪ ،‬الدين هو املثال الرئيسي للشكل الثالث‬
‫من أجل ان نع رف ان ال دين ليس س نة من س نن الت اريخ ‪ ..‬ما هو دوره؟ ما هو موقع ه؟‬
‫ملاذا أصبحت سنة من سنن التاريخ ليس جمرد تشريع وامنا هو سنة ‪ ،‬يعين حاجة اساسية‬
‫موضوعية حاله حال قانون الزوجية بني الذكر واالنثى هو سنة‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة املعارج ‪ :‬اآلية (‪ 4‬ـ ‪.)8‬‬

‫‪101‬‬
‫موض وعية ملاذا ص ار هك ذا؟ وكيف ص ار هك ذا؟ وما هو دوره كس نة تارخيية من س نن‬
‫التاريخ؟‬
‫لكي نع رف ذلك جيب أن نأخذ اجملتمع وحنلل عناصر اجملتمع على ض وء الق رآن‬
‫الكرمي لنصل اىل مغزى قولنا ان الدين سنة من سنن التاريخ‪.‬‬
‫كيف حنلل اجملتم ع؟ حنلل عناصر اجملتمع على ض وء ه ذه اآلية الكرمية « واذ ق ال‬
‫ربك للمالئكة اني جاعل في االرض خليفة ‪ ،‬ق الوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويس فك‬
‫الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ‪ ،‬قال اني اعلم ما ال تعلمون » (‪.)1‬‬
‫على ض وء ه ذه اآلية اليت تعطينا أروع وادق وأعمق ص يغة لتحليل عناصر اجملتمع‬
‫س وف ن درس ه ذه العناصر ونق ارن ما بينها لنع رف يف النهاية أن ال دين س نة من س نن‬
‫التاريخ‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة البقرة ‪ :‬اآلية (‪.)30‬‬

‫‪102‬‬
‫الدرس الثامن ‪:‬‬
‫قلنا ب أن توض يح واقع ه ذه الس نة القرآنية يف س نن الت اريخ يتطلب منا ان حنلل‬
‫عناصر اجملتمع ‪ ،‬ما هي عناصر اجملتمع من زاوية نظر الق رآن الك رمي ‪ ،‬ما هي مقوم ات‬
‫املركب االجتماعي ‪ ،‬كيف يتم التنفيذ بني هذه العناصر واملقومات وضمن أي اطار وأي‬
‫س نن؟ ه ذه االس ئلة حنصل على جواهبا يف النص الق رآين الش ريف ال ذي حتدث عن خلق‬
‫االنسان االول « واذ قال ربك للمالئكة اني جاعل في االرض خليفة قالوا اتجعل فيها من‬
‫يفسد فيها ويس فك ال دماء ونحن نس بح بحم دك ونق دس لك » (‪ .)1‬حينما نستعرض ه ذه‬
‫اآلية الكرمية جند ان اهلل سبحانه وتعاىل ينبأ املالئكة بأنه قرر انشاء جمتمع على االرض فما‬
‫هي العناصر اليت تتحدث عن هذه احلقيقة العظيمة؟ هناك ثالثة عناصر ميكن استخالصها‬
‫من العبارة القرآنية ‪:‬‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬سورة البقرة ‪ :‬اآلية (‪.)30‬‬

‫‪103‬‬
‫‪ 1‬ـ االنسان‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ االرض أو الطبيعة على وجه عام « اني جاعل في االرض خليفة » فهناك ارض‬
‫او طبيعة على وجه عام وهناك االنسان الذي جيعله اهلل سبحانه وتعاىل على االرض‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ العالقة املعنوية اليت تربط االنس ان ب ارض وبالطبيعة وتربط من ناحية اخ رى‬
‫االنسان بأخيه االنسان هذه العالقة املعنوية اليت مساها القرآن الكرمي باالستخالف ‪ ،‬هذه‬
‫هي عناصر اجملتمع ‪ ،‬االنس ان والطبيعة والعالقة املعنوية اليت تربط االنس ان بالطبيعة من‬
‫ناحية وتربط االنس ان باخيه االنس ان من ناحية اخ رى وهي العالقة اليت مسيت قرآنيا‬
‫باالستخالف‪ .‬وحنن حينما نالحظ اجملتمعات البشرية جند اهنا مجيعا تشرتك بالعنصر االول‬
‫والعنصر الث اين ‪ ،‬فال يوجد جمتمع ب دون انس ان يعيش مع أخيه االنس ان وال يوجد جمتمع‬
‫ب دون ارض او طبيعة ميارس االنس ان عليها دوره االجتم اعي ويف ه ذين العنص رين تتفق‬
‫اجملتمع ات التارخيية والبش رية‪ .‬واما العنصر الث الث ‪ :‬ففي كل جمتمع عالقة كما ذكرنا‬
‫ولكن اجملتمعات ختتلف طبيعة هذه العالقة ويف كيفية صياغتها‪.‬‬
‫فالعنصر الثالث هو العنصر املرن واملتحرك من‬

‫‪104‬‬
‫عناصر اجملتمع وكل جمتمع يبين ه ذه العالقة بش كل قد يتفق وقد خيتلف مع طريقة بن اء‬
‫اجملتمع االخر هلا‪ .‬وه ذه العالقة هلا ص يغتان اح دمها ص يغة رباعية وقد اطلق عليها اسم «‬
‫الصيغة الرباعية » واالخرى صيغة ثالثية‪.‬‬
‫الص يغة الرباعية ‪ :‬هي الص يغة اليت ترتبط مبوجبها الطبيعة واالنس ان مع االنس ان ‪،‬‬
‫ه ذه اط راف ثالثة فالعالقة اذن اختذت ص يغة تربط مبوجبها بني ه ذه االط راف وهي‬
‫الطبيعة واالنس ان مع اخيه االنس ان ولكن مع اف رتاض ط رف رابع ايضا ‪ ،‬الص يغة الرباعية‬
‫تربط بني ه ذه وه ذا الط رف الرابع ليس داخال يف اط ار اجملتمع وامنا خ ارج عن اط اره‪.‬‬
‫ولكن الص يغة الرباعية للعالقة االجتماعية تعترب ه ذا الط رف الرابع مقوما من املقوم ات‬
‫االساس ية للعالقة االجتماعية على رغم خروجه خ ارج اط ار اجملتمع ‪ ،‬وه ذه الص يغة‬
‫الرباعية للعالقة االجتماعية ذات االبع اد االربعة هي اليت طرحها الق رآن الك رمي حتت اسم‬
‫االستخالف‪.‬‬
‫االس تخالف اذن هو العالقة االجتماعية من زاوية نظر الق رآن الك رمي وعند حتليل‬
‫االس تخالف جند انه ذو اربعة اط راف النه يف رتض مس تخلفا ايض ا‪ .‬ال بد من مس تخلف‬
‫ومستخلف عليه ‪ ،‬ومستخلف‪ .‬فهناك‬

‫‪105‬‬
‫اض افة اىل االنس ان واخيه االنس ان والطبيعة يوجد ط رف رابع يف طبيعة وتك وين عالقة‬
‫االس تخالف وهو املس تخلف اذ ال اس تخالف ب دون مس تخلف ‪ ،‬فاملس تخلف هو اهلل‬
‫س بحانه وتع اىل واملس تخلف هو االنس ان واخ وه االنس ان ‪ ،‬أي االنس انية ككل اجلماعة‬
‫البش رية واملس تخلف عليه هو االرض وما عليها ومن عليها فالعالقة االجتماعية ض من‬
‫ص يغة االس تخالف تك ون ذات اط راف اربعة وه ذه الص يغة تنطبق بوجهة نظر معينة حنو‬
‫احلياة والكون بوجهة نظر قائلة بانه ال سيد وال اله للكون وللحياة اال اهلل سبحانه وتعاىل‬
‫وان دور االنس ان يف ممارسة حياته امنا هو دور االس تخالف واالس تئمام وأي عالقة تنشأ‬
‫بني االنس ان والطبيعة فهي يف جوهرها ليست عالقة مالك مبمل وك وامنا هي عالقة امني‬
‫على امانة اس تؤمن عليها وأي عالقة تنشأ بني االنس ان واخيه االنس ان مهما ك ان املركز‬
‫االمجاعي هلذا او ل ذاك فهي عالقة اس تخالف وتفاعل بق در ما يك ون ه ذا االنس ان مؤديا‬
‫لواجبه هبذه اخلالفة وليس عالقة س يادة أو الوهية او مالكية ‪ ،‬ه ذه الص يغة االجتماعية‬
‫الرباعية االط راف اليت ص اغها الق رآن الك رمي حتت اسم االس تخالف ترتبط بوجهة النظر‬
‫املعينة للحياة والكون‪ .‬يف مقابلها يوجد للعالقة االجتماعية صيغة ثالثية االطراف ‪ ،‬صيغة‬
‫تربط بني‬

‫‪106‬‬
‫االنس ان واالنس ان والطبيعة ولكنها تقطع ص لة ه ذه االط راف مع الط رف الرابع ‪ ،‬جترد‬
‫ت ركيب العالقة االجتماعية عن البعد الرابع ‪ ،‬عن اهلل س بحانه وتع اىل‪ .‬وهبذا تتح ول نظ رة‬
‫كل جزء اىل اجلزء االخر داخل هذا الرتكيب وداخل هذه الصيغة‪.‬‬
‫وج دت االل وان املختلفة للملكية والس يادة ‪ ،‬س يادة االنس ان على أخيه االنس ان‬
‫باش كاهلا املختلفة اليت استعرض ها الت اريخ بعد ان عطل البعد الرابع وبعد ان اف رتض ان‬
‫البداية هي االنس ان ‪ ،‬حينئذ تن وعت على مس رح الص يغة الثالثية اش كال امللكية واش كال‬
‫السيادة ‪ ،‬سيادة االنسان على اخيه االنسان‪.‬‬
‫وبالت دقيق يف املقارنة بني الص يغتني ‪ ،‬الص يغة الرباعية والص يغة الثالثية يتضح ان‬
‫اض افة الط رف الرابع للص يغة الرباعية ليس جمرد اض افة عددية ‪ ،‬ليس جمرد ط رف جديد‬
‫يض اف اىل االط راف االخ رى بل ان ه ذه االض افة حتدث تغي ريا نوعيا يف بنية العالقة‬
‫االجتماعية ويف تركيب االطراف الثالثة االخرى نفسها ‪ ،‬ليس هذا جمرد عملية مجع ثالثة‬
‫زائد واحد ‪ ،‬بل ه ذا الواحد ال ذي يض اف اىل الثالثة س وف يعطي للثالثة روحا أخ رى‬
‫ومفهوما آخر ‪ ،‬س وف حيدث تغي ريا اساس يا يف كنية ه ذه العالقة ذات االط راف االربعة‬
‫كما رأينا ‪،‬‬

‫‪107‬‬
‫اذ يعود االنس ان مع اخيه االنس ان جمرد ش ركاء يف حمل ه ذه االمانة واالس تخالف وتعود‬
‫الطبيعة بكل ما فيها من ث روات وبكل ما عليها ومن عليها جمرد امانة الب ّد من رعاية‬
‫واجبها واداء حقه ا‪ .‬ه ذا الط رف الرابع هو يف احلقيقة مغري ن وعي ل رتكيب العالقة اذن‬
‫امامنا للعالقة االجتماعية صيغتان صيغة رباعية وصيغة ثالثية والقرآن الكرمي آمن بالصيغة‬
‫الرباعية كما رأينا يف اآلية الكرمية ‪ ،‬االس تخالف هو الص يغة الرباعية للعالقة االجتماعية‬
‫لكن الق رآن الك رمي اك ثر من أنه آمن بالص يغة الرباعية يف املق ام أعترب الص يغة الرباعية س نة‬
‫من سنن التاريخ كما رأينا يف اآلية السابقة كيف اعترب الدين سنة من سنن التاريخ كذلك‬
‫اعترب الصيغة الرباعية للعالقة االجتماعية اليت هي صيغة الدين يف احلياة‪ .‬اعترب هذه العالقة‬
‫بصيغتها الرباعية سنة من سنن التاريخ‪ .‬كيف؟‬
‫ه ذه الص يغة الرباعية عرض ها الق رآن الك رمي على حنوين ‪ :‬عرض ها ت ارة بوص فها‬
‫فاعلية ربانية من زاوية دور اهلل سبحانه وتعاىل يف العطاء‪ .‬وهذا هو العرض الذي قرأناه «‬
‫إني جاعل في االرض خليفة » ه ذه العالقة الرباعية معروضة يف ه ذا النص الش ريف‬
‫باعتبارها عطاءا من اهلل ‪ ،‬جعال من اهلل ميثل الدور‬

‫‪108‬‬
‫االجيايب والتك رميي من رب الع املني لالنس ان وع رض الص يغة الرباعية نفس ها من زاوية‬
‫اخ رى‪ .‬عرض ها بوص فها وبنحو ارتباطها مع االنس ان مبا هي أمر يتقبله االنس ان‪ .‬عرض ها‬
‫من زاوية تقبل االنس ان هلذه اخلالفة وذلك يف قوله س بحانه وتع اىل « انا عرض نا االمانة‬
‫على السماوات واالرض والجبال فأبين ان يحملنها واشفقن منها وحملها االنسان انه كان‬
‫ظلوما جه وال » (‪ .)1‬االمانة هي الوجه التقبلي للخالفة ‪ ،‬اخلالفة هي الوجه الف اعلي‬
‫والعط ائي لالمانة ‪ ،‬االمانة واخلالفة عب ارة عن االس تخالف واالس تئمان وحتمل االعب اء‪.‬‬
‫عب ارة عن الص يغة الرباعية وه ذه ت ارة نلحظها من زاوية ربطها بالفاعل وهو اهلل س بحانه‬
‫وتعاىل بقوله « اني جاعل في االرض خليفة » واخرى نلحظها من زاوية القابل كما يقول‬
‫الفالس فة ‪ ،‬من ناحية دور االنس ان يف تقبل ه ذه اخلالفة وحتمل ه ذه االمانة وذلك بقوله‬
‫تع اىل « وعرض نا االمانة على الس ماوات واالرض والجب ال ‪ » ...‬وه ذه االمانة اليت تقبلها‬
‫االنسان وحتملها حينما عرضت عليه بعض هذه اآلية الكرمية ‪ ،‬هذه االمانة او هذه اخلالفة‬
‫او بالتفسري الذي قلناه هذه العالقة االجتماعية بصيغتها الرباعية‪ .‬مل تعرض على االنسان‬
‫بوصفها‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة االحزاب ‪ :‬اآلية (‪.)72‬‬

‫‪109‬‬
‫تكليفا او طلبا ليس املقص ود من عرض ها على االنس ان هو الع رض على مس توى التكليف‬
‫والطلب وليس املقص ود من تقبل ه ذه االمانة هو تقبل ه ذه اخلالفة على مس توى االمتث ال‬
‫والطاعة ‪ ،‬ليس املف روض ان يك ون هك ذا الع رض وان يك ون هك ذا التقبل بقرينة ان ه ذا‬
‫الع رض ك ان معروضا على اجلب ال ايضا ‪ ،‬على الس ماوات واالرض ايضا فمن الواضح انه‬
‫ال معىن لتكليف السماوات واجلبال واالرض‪ .‬نعرف من ذلك ان هذا العرض ليس عرض‬
‫تش ريعي ‪ ،‬ه ذا الع رض معن اه ان ه ذه العطية الربانية ك انت تفتش عن املوضع املنس جم‬
‫معها بطبيعته ‪ ،‬بفطرته ‪ ،‬برتكيبه الت ارخيي والك وين ‪ ،‬اجلب ال ال تنس جم مع ه ذه اخلالفة ‪،‬‬
‫الس ماوات واالرض ال تنس جم مع ه ذه العالقة االجتماعية الرباعي ة‪ .‬االنس ان هو الك ائن‬
‫الوحيد الذي حبكم تركيبه وحبكم بنيته وحبكم فطرة اهلل اليت قرأناها يف اآلية السابقة كان‬
‫منس جما مع ه ذه العالقة االجتماعية ذات االط راف االربعة واليت تص بح أمانة وخالف ة‪.‬‬
‫اذن الع رض هنا ع رض تكويين والقب ول هنا قب ول تكويين وهو معىن س نة الت اريخ يعين ان‬
‫ه ذه العالقة االجتماعية ذات االط راف االربعة داخلة يف تكوينة االنس ان ويف ت ركيب‬
‫مسار االنسان الطبيعي والتارخيي ‪ ،‬ونالحظ انه يف‬

‫‪110‬‬
‫ه ذه اآلية الكرمية ايضا ج اءت االش ارة اىل ه ذه الس نة التارخيية واهنا س نة من الش كل‬
‫الث الث‪ .‬س نة تقبل التح دي وتقبل العص يان‪ .‬ليست من تلك الس نن اليت ال تقبل التح دي‬
‫اب دا ولو للحظة ‪ ،‬ال ‪ ..‬هي س نة فط رة ولكن ه ذه الفط رة تقبل التح دي‪ .‬كيف اش ار‬
‫القرآن الكرمي اىل ذلك بعد ان اوضح اهنا سنة من سنن التاريخ؟ ق ال ‪ « :‬وحملها اإلنسان‬
‫انه كان ظلوما جهوال » هذه العبارة األخرية « انه كان ظلوما جهوال » تأكيد على طابع‬
‫ه ذه الس نة وان ه ذه الس نة على ال رغم من اهنا س نة من س نن الت اريخ ولكنها س نة تقبل‬
‫التحدي ‪ ،‬تقبل ان يقف االنسان منها موقفا سلبيا‪ .‬هذا التعبري يوازي تعبري « ولكن اكثر‬
‫الن اس ال يعلم ون » يف اآلية الس ابقة اذن اآلية الس ابقة استخلص نا منها ان ال دين س نة من‬
‫س نن احلي اة ومن س نن الت اريخ ومن ه ذه اآلية نس تخلص ان ص يغة ال دين للحي اة اليت هي‬
‫عب ارة عن العالقة االجتماعية الرباعية ‪ ،‬العالقة االجتماعية ذات االط راف االربعة اليت‬
‫يسميها القرآن باخلالفة واالمانة واالستخالف ‪ ،‬هذه العالقة االجتماعية هي ايضا بدورها‬
‫س نة من س نن الت اريخ حبسب مفه وم الق رآن الك رمي فاحلقيقة ان اآلية االوىل واآلية الثانية‬
‫متطابقتان متاما يف مفادمها النه يف اآلية االوىل قال « فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة اهلل‬

‫‪111‬‬
‫التي فطر الناس عليها ال تبديل لخلق اهلل ذلك الدين القيم » (‪ )1‬التعبري بالدين القيم تأكيد‬
‫على أن ما هو الفط رة وما هو داخل يف تك وين االنس ان وتركيبه ويف مس ار تارخيه هو‬
‫الدين القيم يعين ان يكون هذا الدين قيما على احلياة ان يكون مهيمنا على احلياة ‪ ،‬هذه‬
‫دين هي التعبري اجململ يف تلك اآلية عن العالقة االجتماعية الرباعية اليت‬ ‫القيمومة يف ال‬
‫ط رحت يف اآلي تني ‪ ،‬يف آية « اني جاعل في االرض خليفة » وآية « انا عرض نا االمانة‬
‫على السماوات واالرض » فالدين سنة احلياة والتاريخ ‪ ،‬الدين يدخل فيها بعداً رابعا لكي‬
‫حيدث تغيريا يف كنية هذه العالقة ال لكي تكون جمرد اضافة عددية‪.‬‬
‫هذه مفاهيم القرآن الكرمي مستخلصة من هذه اآليات عن هذه السنة ‪ ،‬اما كيف‬
‫نريد ان نتعرف بصورة اوضح وأوسع عن هذه السنة ‪ ،‬عن دور التاريخ كسنة ‪ ،‬عن دور‬
‫ال دين القيم ودور اخلالفة واالمانة ‪ ،‬عن دور العالقة االجتماعية ذات االط راف االربعة ‪،‬‬
‫دور الط رف الراب ع‪ .‬ما هو دوره كس نة من س نن الت اريخ ‪ ،‬وكيف ك ان س نة من س نن‬
‫التاريخ؟ ‪ ،‬وكيف كان مقوما اساسيا ملسار االنسان على الساحة التارخيية؟ لكي نتعرف‬
‫على‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة الروم ‪ :‬اآلية (‪.)30‬‬

‫‪112‬‬
‫ذلك ال بد من ان نتعرف على الركنني الثابتني يف العالقة االجتماعية ‪ ،‬هناك ركنان ثابتان‬
‫يف العالقة االجتماعية اح دمها االنس ان واخوه االنس ان واالخر الطبيعة ‪ ،‬الكون واالرض‪.‬‬
‫هذان الركنان داخالن يف الصيغة الثالثية وداخالن يف الصيغة الرباعية ‪ ،‬ومن هنا نسميهما‬
‫ب الركنني الث ابتني يف العالقة االجتماعية لكي نع رف دور ال ركن اجلديد ودور ه ذا ال ركن‬
‫اجلديد ‪ ،‬دور هذا الطرف الرابع ‪ ،‬دور اهلل سبحانه وتعاىل يف تركيب العالقة االجتماعية‬
‫‪ ،‬جيب ان نعرف مقدمة لذلك دور الركنني الثابتني‪.‬‬
‫ما هو دور االنس ان يف عملية الت اريخ من زاوية النظ رة القرآنية ‪ ،‬من زاوية النظ رة‬
‫للق رآن والفهم الرب اين من الق رآن للت اريخ وس نن احلي اة؟ ما هو دور االنس ان يف العالقة‬
‫االجتماعي ة؟ وما هو دور الطبيعة يف العالقة االجتماعية على ض وء تش خيص ه ذين‬
‫ال دورين وحتديد ه ذين املوقفني ‪ ،‬س وف يتضح حينئذ دور ه ذا الط رف اجلديد ‪ ،‬دور‬
‫الطرف الرابع الذي تتميز به الصيغة الرباعية عن الصيغة الثالثية‪ .‬ويتضح ان هذا الطرف‬
‫الرابع عنصر ض روري حبكم س نة الت اريخ وت ركيب خلقة االنس ان والب ّد وان ين دمج مع‬
‫االطراف االخرى لتكوين عالقة‬

‫‪113‬‬
‫اجتماعية رباعية االطراف‪ .‬اذن ففهم هذه السنة التارخيية يتطلب منا ان نتحدث عن دور‬
‫االنسان والطبيعة يف عملية التاريخ من زاوية نظر القرآن الكرمي وهذا ما سيأيت انشاء اهلل‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫الدرس التاسع ‪:‬‬
‫قلنا يف ما سبق ان اكتشاف االبعاد احلقيقية لدور الدين يف حركة التاريخ واملسرية‬
‫االجتماعية لالنس ان تتوقف على حتقيق وتق ييم دور العنص رين او الرك نني الث ابتني يف‬
‫الصيغة ومها االنسان والطبيعة‪.‬‬
‫االن نتح دث عن االنس ان ودور االنس ان يف احلركة التارخيية من زاوية مفه وم‬
‫القرآن الكرمي‪.‬‬
‫من الواضح على ض وء املف امهي اليت قرأناها س ابقا ان االنس ان أو احملت وى ال داخلي‬
‫لالنسان هو االساس حلركة التاريخ واننا ذكرنا ان حركة التاريخ تتميز عن كل احلركات‬
‫االخ رى باهنا حركة غائية ال س ببية فقط ‪ ،‬ليست مش دودة اىل س ببها ‪ ،‬اىل ماض يها‪ .‬بل‬
‫هي مشدودة اىل الغاية الهنا حركة هادفة هلا علة غائية متطلعة اىل املستقبل‪ .‬فاملستقبل هو‬
‫احملرك ألي نشاط من النشاطات التارخيية‪ .‬واملستقبل معدوم فعال وامنا‬

‫‪115‬‬
‫حيرك من خالل الوجود الذهين الذي يتمثل فيه هذا املستقبل‪ .‬اذن ‪ ،‬فالوجود الذهين هو‬
‫احلافز واحملرك واملدار حلركة الت اريخ وه ذا الوج ود ال ذهين جيسد من ناحية جانبا فكريا‬
‫وهو اجلانب ال ذي يضم تص ورات اهلدف ‪ ،‬وايضا ميثل من ج انب آخر الطاقة واالرادة‬
‫اليت حتفز االنس ان حنو ه ذا اهلدف‪ .‬اذن ه ذا الوج ود ال ذهين ال ذي جيسد املس تقبل احملرك‬
‫يعرب جبانب منه عن الفكر ويف ج انب آخر منه عن االرادة وب األمتزاج بني الفكر واالرادة‬
‫تتحقق فاعلية املستقبل وحمركيته للنشاط التارخيي على الساحة االجتماعية‪ .‬وهذان االمران‬
‫الفكر واالرادة مها يف احلقيقة احملت وى ال داخلي الش عوري لالنس ان‪ .‬انه يتمثل يف ه ذين‬
‫الرك نني االساس يني ومها الفكر واالرادة‪ .‬اذن احملت وى ال داخلي لالنس ان هو ال ذي يص نع‬
‫ه ذه الغاي ات وجيسد ه ذه االه داف من خالل مزجه بني فك رة وارادة‪ .‬وهبذا صح الق ول‬
‫بأن احملتوى الداخلي لالنسان هو االساس حلركة التاريخ‪ .‬والبناء االجتماعي العلوي بكل‬
‫ما يضم من عالقات ومن انظمة ومن افكار وتفاصيل هذا البناء العلوي يف احلقيقة مرتبط‬
‫هبذه القاع دة يف احملتوى ال داخلي لالنس ان ويك ون تغ ريه وتطوره تابعا لتغري ه ذه القاع دة‬
‫وتطورها فاذا تغري االساس تغري‬

‫‪116‬‬
‫البناء العلوي ‪ ،‬واذا بقي االساس ثابتا ‪ ،‬بقي البناء العلوي ثابتا‪.‬‬
‫فالعالقة بني احملت وى ال داخلي لالنس ان والبن اء الف وقي والت ارخيي للمجتمع ‪ ،‬ه ذه‬
‫العالقة عالقة تبعية أي عالقة س بب بس بب‪ .‬ه ذه العالقة متثل س نة تارخيية تق دم الكالم‬
‫عنها يف قوله سبحانه وتعاىل « ان اهلل ال يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » (‪ .)1‬هذه‬
‫اآلية واضحة جدا يف املفهوم الذي اعطيناه وهو ان احملتوى الداخلي لإلنسان هو القاعدة‬
‫واألس اس لبن اء العل وي ‪ ،‬للحركة التارخيية الن االية الكرمية تتح دث عن تغي ريين اح دمها‬
‫تغيري الق ول « ان اهلل ال يغ ير ما بق وم » يعين تغيري اوض اع الق وم ‪ ،‬ش ؤون الق وم ‪ ،‬االبنية‬
‫العلوية للقوم ‪ ،‬ظواهر القوم ‪ ،‬هذه ال تتغري حىت يتغري ما بأنفس القوم‪ .‬اذن التغيري االساس‬
‫هو تغيري ما بنفس الق وم والتغيري الن ابع املرتتب على ذلك هو تغيري حالة الق وم النوعية‬
‫والتارخيية واالجتماعية ومن الواضح ان املقص ود من تغيري ما ب االنفس‪ .‬تغيري ما ب أنفس‬
‫القوم حبيث يكون احملتوى الداخلي للقوم كقوم وكأمة وكشجرة مباركة تؤيت أكلها كل‬
‫حني متغريا‪ .‬واال تغري الفرد الواحد او الفردين او االفراد الثالثة‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة الرعد ‪ :‬اآلية (‪.)11‬‬

‫‪117‬‬
‫ال يش كل االس اس لتغري ما ب القوم ‪ ،‬وامنا يك ون تغري ما ب القوم تابعا لتغري ما بأنفس هم‬
‫كق وم وكأمة وكش جرة مباركة ت ؤيت اكلها كل حني‪ .‬ف احملتوى النفسي وال داخلي لالمة‬
‫كأمة ال هلذا الفرد او لذلك الفرد هو الذي يعترب أساسا وقاعدة للتغيريات يف البناء العلوي‬
‫للحركة التارخيية كلها‪.‬‬
‫واالس الم والق رآن الك رمي ي ؤمن ب أن العملي تني جيب ان تس ريا جنبا اىل جنب يف‬
‫عملية ص نع االنس ان حملتواه الداخلي وبناء االنسان لنفسه ولفكره والرادته وملطموحاته‪.‬‬
‫هذا البناء الداخلي جيب ان يسري جنبا اىل جنب مع البناء اخلارجي ‪ ،‬مع االبنية العلوية وال‬
‫ميكن ان يفرتض انفكاك البناء الداخلي عن البناء اخلارجي اال اذا بقي البناء اخلارجي بناءا‬
‫مهزوزا متداعيا‪ .‬وهلذا مسى االسالم عملية بناء احملتوى الداخلي اذا اجتهت اجتاها صاحلا بـ‬
‫« الجهاد االكبر »‪ .‬ومسى عملية البناء اخلارجي اذا اجتهت اجتاها صاحلا بعملية « الجهاد‬
‫االص غر » وربط اجله اد االص غر باجله اد االكرب واعترب ان اجله اد االص غر اذا فصل عن‬
‫اجله اد االكرب فقد حمت واه ومض مونه ‪ ،‬بل فقد قدرته على التغيري احلقيقي على الس احة‬
‫التارخيية واالجتماعية‪ .‬اذن هاتان العمليتان جيب ان تسريا جنبا اىل جنب‪ .‬فاذا‬

‫‪118‬‬
‫انفكت احدامها عن االخرى فقدت حقيقتها وحمتواها ومسى االسالم العملية االوىل عملية‬
‫بن اء احملت وى ال داخلي باجله اد االكرب تأكيد على الص فة االساس ية للمحت وى ال داخلي‬
‫وتوض يحا هلذه احلقيقة ‪ ،‬حقيقة ان احملت وى ال داخلي لالنس ان هو االس اس وهلذا مسي‬
‫باجلهاد االكرب‪ .‬فاذا بقي اجلهاد االصغر منفصال عن اجلهاد االكرب ‪ ،‬حينئذ ال حيقق ذلك‬
‫يف احلقيقة أي مض مون تغي ريي ص احل‪ .‬الق رآن الك رمي يع رض حلالة من ح االت انفص ال‬
‫عملية البناء اخلارجي عن عملية البناء الداخلي قال سبحانه وتعاىل « ومن الن اس من يعجبه‬
‫قوله في الحي اة ال دنيا ويش هد اهلل على ما في قلبه وهو ال ّد الخص ام‪ .‬واذا ت ولى س عى في‬
‫االرض ليفسد فيها ويهلك الح رث والنسل واهلل ال يحب الفس اد » (‪ )1‬يريد ان يق ول ب ان‬
‫االنسان اذا مل ينفذ بعملية التغيري اىل قلبه واىل اعماق روحه ‪ ،‬اذا مل ينب نفسه بناءا صاحلا‬
‫ال ميكنه ابدا ان يطرح الكلمات الصاحلة‪ .‬اليت ميكن ان تتحول اىل بناء صاحل يف اجملتمع اذا‬
‫نبعت عن قلب يعمر بالقيم اليت تدل عليها تلك الكلمات واال فتبقى الكلمات جمرد الفاظ‬
‫جوفاء دون ان يكون هلا مضمون وحمتوى‪ .‬فمسألة القلب هي اليت‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة البقرة ‪ :‬اآلية (‪ 204‬ـ ‪.)205‬‬

‫‪119‬‬
‫تعطي للكلمات معناها وللشعارات ابعادها ولعملية البناء اخلارجي اهدافها ومسارها‪ .‬اىل‬
‫هنا عرفنا ان االس اس يف حركة الت اريخ هو احملت وى ال داخلي لالنس ان‪ .‬وه ذا احملت وى‬
‫الداخلي لالنسان يشكل القاعدة‪ .‬االن نتساءل ‪ :‬ما هو االساس يف هذا احملتوى الداخلي‬
‫نفسه ‪ ،‬ما هي نقطة الب دء يف بن اء ه ذا احملت وى ال داخلي لالنس ان ‪ ،‬وما هو احملور ال ذي‬
‫يس تقطب عملية بن اء احملت وى ال داخلي لالنس ان؟ هو املثل االعلى ‪ ،‬عرفنا ان احملت وى‬
‫ال داخلي لالنس ان جيسد الغاي ات اليت حترك الت اريخ ‪ ،‬جيس دها من خالل وج ودات ذهنية‬
‫متتزج فيها االرادة ب التفكري‪ .‬وه ذه الغاي ات اليت حترك الت اريخ حيددها املثل االعلى‪ .‬فاهنا‬
‫مجيعا تنبثق عن وجهة نظر رئيس ية اىل مثل اعلى لالنس ان يف حياته ‪ ،‬للجماعة البش رية يف‬
‫حياهتا‪ .‬وهذا املثل االعلى هو الذي حيدد الغايات التفصيلية وينبثق عنه هذا اهلدف اجلزئي‬
‫وذلك اهلدف اجلزئي فالغاي ات بنفس ها حمركة للت اريخ وهي ب دورها نت اج لقاع دة اعمق‬
‫منها يف احملت وى ال داخلي لالنس ان وهو املثل االعلى ال ذي تتمح ور فيه كل تلك الغاي ات‬
‫وتعود اليه كل تلك االهداف‪ .‬فبقدر ما يكون املثل االعلى للجماعة البشرية صاحلا وعاليا‬
‫وممتدا تكون الغايات صاحلة وممتدة ‪،‬‬

‫‪120‬‬
‫وبق در ما يك ون ه ذا املثل االعلى حمدودا او منخفضا تك ون الغاي ات املنبثقة عنه حمدودة‬
‫ومنخفضة ايض ا‪ .‬اذن املثل االعلى هو نقطة الب دء يف بن اء احملت وى ال داخلي للجماعة‬
‫البشرية‪ .‬وهذا املثل االعلى يرتبط يف احلقيقة بوجهة نظر عامة اىل احلياة والكون ‪ ،‬يتحدد‬
‫من قبل كل مجاعة بشرية على اساس وجهة نظرها العامة حنو احلياة والكون ‪ ،‬على ضوء‬
‫ذلك حتدد مثلها االعلى‪ .‬ومن خالل الطاقة الروحية اليت تتناسب مع ذلك املثل االعلى‬
‫ومع وجهة نظرها اىل احلياة والكون حتقق ارادهتا للسري حنو هذا املثل ويف طريق هذا املثل‪.‬‬
‫اذن ه ذا املثل االعلى هو يف احلقيقة ايضا يتجسد من خالل رؤية فكرية ومن خالل طاقة‬
‫روحية تزحف باالنسان يف طريقة ‪ ،‬وكل مجاعة اختارت مثلها االعلى ‪ ،‬فقد اختارت يف‬
‫احلقيقة س بيلها وطريقها ومنعطف ات ه ذا الس بيل وه ذا الطريق كما رأينا ان احلركة‬
‫التارخيية تتم يز عن أي حركة اخ رى يف الك ون باهنا حركة غائية وهادفة وك ذلك تتم يز‬
‫وتتم ايز احلرك ات التارخيية انفس ها بعض ها عن بعض مبثلها العلي ا‪ .‬فلكل حركة تارخيية‬
‫مثلها االعلى ‪ ،‬وه ذا املثل االعلى هو ال ذي حيدد الغاي ات وااله داف وه ذه االه داف‬
‫والغاي ات هي اليت حتدد النش اطات والتحرك ات ض من مس ار ذلك املثل االعلى‪ .‬والق رآن‬
‫الكرمي والتعبري الديين يطلق على املثل االعلى يف‬

‫‪121‬‬
‫مجلة من احلاالت اسم االله باعتب ار ان املثل االعلى هو القائد اآلمر املط اع املوج ه‪ .‬ه ذه‬
‫صفات يراها القرآن الله وهلذا يعرب عن كل من يكون مثل اعلى ‪ ،‬كل ما ميثل مركز املثل‬
‫االعلى يعرب عنه باالله النه هو ال ذي يص نع مس ار الت اريخ ‪ ،‬حىت ورد يف قوله س بحانه‬
‫وتع اىل ( أرأيت من اتخذ الهه ه واه ) (‪ )1‬عرب حىت عن اهلوى حينما يتص اعد تص اعدا‬
‫مص طنعا فيص بح هو املثل االعلى وهو الغاية القص وى هلذا الف رد او ل ذاك ‪ ،‬عرب عنه بانه‬
‫ال ه‪ .‬فاملثل العليا حبسب التعبري الق رآين وال ديين هي آهلة يف احلقيقة الهنا هي املعب ودة حقا‬
‫وهي اآلم رة والناهية حقا وهي احملركة حقا ‪ ،‬فهي آهلة يف املفه وم ال ديين واالجتم اعي‪.‬‬
‫وهذه املثل العليا اليت تتبناها اجلمعات البشرية على ثالثة اقسام ‪:‬‬
‫القسم االول ‪ :‬املثل االعلى ال ذي يس تمد تص وره من الواقع نفسه ‪ ،‬ويكون منتزعا‬
‫من واقع ما تعيشه اجلماعة البشرية من ظروف ومالبسات ‪ ،‬أي ان الوجود الذهين الذي‬
‫ص اغ املس تقبل هنا مل يس تطع يرتفع على ه ذا الواقع بل ان تزع مثله االعلى من ه ذا الواقع‬
‫حبدوده وبقي وده وبش ؤونه‪ .‬وحينما يك ون املثل االعلى منتزعا عن واقع اجلماعة حبدودها‬
‫وقيودها‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة الفرقان ‪ :‬اآلية (‪.)43‬‬

‫‪122‬‬
‫وش ؤوهنا تص بح حالة تكرارية ‪ ،‬تص بح بتعبري آخر حماولة لتجميد ه ذا الواقع ومحله اىل‬
‫املس تقبل ب دال عن التطلع اليه فقط يك ون يف احلقيقة جتمي دا هلذا الواقع وحتويله من حالة‬
‫نسبية ومن امر حمدود اىل امر مطلق الن االنسان يعرتضه هدفا ومثال اعلى وحينما يتحول‬
‫ه ذا الواقع من امر حمدود اىل ه دف مطلق ‪ ،‬اىل حقيقة مطلقة ال يتص ور االنس ان ش يئا‬
‫وراءها‪ .‬حينما يتحول اىل ذلك‪ .‬سوف تكون حركة التاريخ حركة تكرارية حلالة سابقة‬
‫وهلذا سوف يكون املستقبل تكرارا للواقع وللماضي‪.‬‬
‫ه ذا الن وع من اآلهلة يعتمد على جتميد الواقع وحتويل ظروفه النس بية اىل ظ روف‬
‫مطلقة لكي ال تس تطيع اجلماعة البش رية ان تتج اوز الواقع وان ترتفع بطموحاهتا عن ه ذا‬
‫الواق ع‪ .‬تبين ه ذا الن وع من املثل العليا له احد س ببني ‪ :‬الس بب االول االلفة والع ادة‬
‫واخلمول والضياع ‪ ،‬وهذا سبب نفسي ‪ ،‬واذا انتشرت هذه احلالة يف جمتمع حينئذ يتجمد‬
‫ذلك اجملتمع النه س وف يص نع اهلة من واقعه ‪ ،‬س وف حيول ه ذا الواقع النسيب احملدود‬
‫ال ذي يعيشه اىل حقيقة مطلقة ‪ ،‬اىل مثل اعلى اىل ه دف ال ي رى وراءه ش يئا ‪ ،‬وه ذا يف‬
‫احلقيقة هو ما عرضه القرآن الكرمي‬

‫‪123‬‬
‫يف كثري من اآليات اليت حتدثت عن اجملتمعات اليت واجهت االنبياء حينما جاؤها مبثل عليا‬
‫حقيقية ترتفع عن الواقع وتريد ان حترك ه ذا الواقع وتنتزعه من ح دوده النس بية اىل وضع‬
‫آخر‪ .‬واجه هؤالء االنبياء جمتمعات سادهتا حالة االلفة والعادة والتميع فكان هذا اجملتمع‬
‫يرد على دعوة االنبياء ويقول باننا وجدنا اباءنا على هذه السنة ‪ ،‬وجدنا آباءنا على هذه‬
‫الطريقة وحنن متمس كون مبثلهم االعلى ‪ ،‬س يطرة الواقع على اذه اهنم وتغلغل احلس يف‬
‫طموحاهتم بلغ اىل درجة حتول ه ذا من خالهلا اىل انس ان حسي ال اىل انس ان مفكر ‪ ،‬اىل‬
‫اىل انس ان يك ون ابن يومه دائما ‪ ،‬ابن واقعه دائما ال أبا يومه أبا واقع ه‪ .‬وهلذا ال يس تطيع‬
‫ان يرتفع على هذا الواقع‪.‬‬
‫الحظ وا الق رآن الك رمي وهو يق ول « ق الوا بل نتبع ما الفينا عليه آباءنا أولو ك ان‬
‫آباؤهم ال يعقلون » (‪.)1‬‬
‫» قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ‪ ،‬أولو كان آباؤهم ال يعلمون شيئا وال يهتدون‬
‫» (‪ « .)2‬ق الوا أجئتنا لتلفتنا عما وج دنا عليه آباءنا وتك ون لكما الكبري اء في االرض وما‬
‫نحن لكما بمؤمنين » (‪.)3‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة البقرة ‪ :‬اآلية (‪.)170‬‬
‫(‪ )2‬سورة املائدة ‪ :‬اآلية (‪.)104‬‬
‫(‪ )3‬سورة يونس ‪ :‬اآلية (‪.)78‬‬

‫‪124‬‬
‫‪« ،‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫« أتنهانا ان نعبد ما يعبد آباؤنا واننا لفي شك مما ت دعونا اليه م ريب »‬
‫ق الت رس لهم افي اهلل شك ف اطر الس موات واالرض ي دعوكم ليغفر لكم من ذن وبكم‬
‫ويؤخركم الى اجل مسمى ‪ ،‬قالوا ان انتم اال بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد‬
‫« بل ق الوا إنا وج دنا آباءنا على أمة وإنا على آث ارهم‬ ‫آباؤنا فأتونا بس لطان م بين »‬
‫(‪)2‬‬

‫مهتدون » (‪ )3‬يف كل هذه اآليات يستعرض القرآن الكرمي السبب االول لتبين اجملتمع هذا‬
‫املثل االعلى املنخفض‪ .‬ه ؤالء حبكم االلفة والع ادة وحبكم التميع والف راغ وج دوا س نة‬
‫قائمة‪ .‬وجدوا وضعا قائما فلم يسمحوا النفسهم بأن يتجاوزوه بل جسدوه كمثل اعلى‬
‫وعارض وا به دع وات االنبي اء على مر الت اريخ ‪ ،‬ه ذا هو الس بب االول لتبين ه ذا املثل‬
‫االعلى املنخفض‪.‬‬
‫السبب الثاين لتبين هذا املثل االعلى املنخفض هو التسلط الفرعوين على مر التاريخ‬
‫‪ ،‬الفراعنة حينما حيتل ون مراك زهم جيدون يف أي تطلع اىل املس تقبل ويف أي جتاوز للواقع‬
‫الذي سيطروا‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة نوح ‪ :‬اآلية (‪.)62‬‬
‫(‪ )2‬سورة إبراهيم ‪ :‬اآلية (‪.)10‬‬
‫(‪ )3‬سورة الزخرف ‪ :‬اآلية (‪.)22‬‬

‫‪125‬‬
‫عليه ‪ ،‬جيدون يف ذلك زعزعة لوجودهم وهزا ملراكزهم‪ .‬من هنا كان من مصلحة فرعون‬
‫على مر التاريخ ان يغمض عيون الناس على هذا الواقع ‪ ،‬ان حيول الواقع الذي يعيشه مع‬
‫الن اس اىل مطلق ‪ ،‬اىل اله ‪ ،‬اىل مثل أعلى ال ميكن جتاوزه ‪ ،‬حياول ان حيبس وان يضع كل‬
‫االمة يف اط ار نظرته هو ‪ ،‬يف اط ار وج وده هو لكي ال ميكن هلذه االمة ان تفتش عن مثل‬
‫اعلى ينقلها من احلاضر اىل املستقبل من واقعه اىل طموح آخر أو أكرب من هذا الواقع‪ .‬هنا‬
‫الس بب اجتم اعي ال نفسي ‪ ،‬الس بب خ ارجي ال داخلي‪ .‬وه ذا ايضا ما عرضه الق رآن‬
‫الك رمي « وق ال فرع ون يا أيها المأل ما ع رفت لكم من اله غ يري » (‪ « )1‬ق ال فرع ون ما‬
‫أريكم اال ما أرى وما أه ديكم اال س بيل الرش اد » (‪ )2‬هنا فرع ون يق ول ما أريكم اال ما‬
‫ارى يريد ان يضع الن اس ال ذين يعبدونه كلهم يف اط ار رؤيته يف اط ار نظرته ‪ ،‬حيول ه ذه‬
‫النظ رة وه ذا الواقع ‪ ،‬اىل مطلق ال ميكن جتاوزه هنا ال ذي جيعل اجملتمع يتبىن مثال اعلى‬
‫مستمد من الواقع هو التسلط الفرعوين الذي يرى يف جتاوز هذا املثل االعلى خطرا عليه‬
‫وعلى وجوده‪ .‬قال اهلل سبحانه وتعاىل « ثم ارسلنا موسى‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة القصص ‪ :‬اآلية (‪.)38‬‬
‫(‪ )2‬سورة غافر ‪ :‬اآلية (‪.)29‬‬

‫‪126‬‬
‫واخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين‪ .‬الى فرعون ومأله فاستكبروا وكانوا قوما عالين‪ .‬فق الوا‬
‫أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون » (‪ )1‬حنن غري مستعدين ان نؤمن هبذا املثل االعلى‬
‫الذي جاء به موسى النه سوف يزعزع عبادة قوم موسى وهارون لنا‪ .‬اذن هذا التجميد‬
‫ض من اط ار الواقع ال ذي تعيشه اجلماعة أي مجاعة بش رية ينشأ من ح رص أولئك ال ذين‬
‫تس لطوا على ه ذه اجلماعة على ان يض منوا وج ودهم ويض منوا الواقع ال ذي هم فيه وهم‬
‫بناته‪ .‬هذا هو السبب الثاين الذي عرضه القرآن الكرمي‪ .‬والقرآن الكرمي يسمى هذا النوع‬
‫من الق وى اليت حتاول ان حتول ه ذا الواقع احملدود اىل مطلق وحتصر اجلماعة البش رية يف‬
‫اطار هذا احملدود ‪ ،‬يسمي هذا بالطاغوت‪ .‬قال سبحانه وتعاىل « والذين اجتنبوا الطاغوت‬
‫أن يعبدوها وأنابوا الى اهلل لهم البشرى فبشر عباد‪ .‬الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه‬
‫أولئك هم ال ذين ه داهم اهلل وأولئك هم أولي األلب اب » (‪ .)2‬الحظ وا ذكر ص فة اساس ية‬
‫مميزة ملن اجتنب عبادة الطاغوت ما هي؟‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة املؤمنون ‪ :‬اآلية (‪ 45‬ـ ‪.)47‬‬
‫(‪ )2‬سورة الزمر ‪ :‬اآلية (‪ 17‬ـ ‪.)18‬‬

‫‪127‬‬
‫قال « فبشر عباد‪ .‬الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه » (‪.)1‬‬
‫يعين مل جيعل وا هن اك قي دا على ذهنهم ‪ ،‬مل جيعل وا أط ارا حمدودا ال ميكنهم ان‬
‫يتجاوزوه ‪ ،‬جعلوا احلقيقة مدار مههم هدفهم وهلذا يستمعون القول فيتبعون أحسنه يعين‬
‫هم يف حالة تطلع وموضوعية تسمح هلم بان جيدوا احلقيقة يتبعوها‪ .‬بينما لو كانوا يعبدون‬
‫الط اغوت ‪ ،‬حينئذ يكون ون يف اط ار ه ذا الواقع ال ذي يري ده الط اغوت ‪ ،‬س وف لن‬
‫يستطيعو أن يستمعوا اىل القول فيتبعون احسنه وامنا يتبعون فقط ما يراد هلم ان يتبعوه ‪،‬‬
‫ه ذا هو الس بب الث اين التب اع وتبين ه ذه املثل ‪ ،‬اذن خالصة ما مر بنا حىت االن ‪ :‬أن‬
‫التاريخ يتحرك من خالل البناء الداخلي لالنسان الذي يصنع لالنسان غاياته هذه الغايات‬
‫تبين على اس اس املثل االعلى ال ذي تنبثق عنه تلك الغاي ات لكل جمتمع مثل اعلى ولكن‬
‫مثل اعلى مس ار ومس رية وه ذا املثل االعلى هو ال ذي حيدد يف تلك املس رية مع امل الطريق‬
‫وهو على ثالثة أقس ام حىت االن استعرض نا القسم االول من املثل العليا وهو املثل االعلى‬
‫الذي ينبثق تصوره عن الواقع ويكون منتزعا‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة الزمر ‪ :‬اآلية (‪ 17‬ـ ‪.)18‬‬

‫‪128‬‬
‫عن الواقع الذي تعيشه اجلماعة وهذا مثل أعلى تكراري‪ .‬وتكون احلركة التارخيية يف ظل‬
‫هذا املثل االعلى حركة تكرارية ‪ ،‬أخذ احلاضر لكي يكون هو املستقبل وقلنا بان تبين هذا‬
‫النوع من املثل االعلى يقود اىل احد سببني حبسب تصورات القرآن الكرمي‪.‬‬
‫الس بب االول س بب نفسي وهو االلفة والع ادة والض ياع والس بب االخر س بب‬
‫خارجي وهو تسلط الفراعنة والطواغيت على مر التاريخ‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫الدرس العاشر ‪:‬‬
‫ه ذه املثل العليا املنخفضة املتنوعة عن الواقع واليت حتدثنا عنها يف ال درس الس ابق يف‬
‫كثري من االحي ان تتخذ ط ابع ال دين ويس بغ عليها ه ذا الط ابع من اجل اعطائها قدس ية‬
‫حتافظ على بقائها واستمرارها على الساحة كما رأينا يف االيات الكرمية املتقدمة كيف ان‬
‫اجملتمع ات اليت رفضت دع وة االنبي اء كث ريا ما ك انت تصر على التمسك بعب ادة االب اء‬
‫وب دين االب اء باملثل االعلى املعب ود لالب اء بل ان احلقيقة أن كل مثل اعلى من ه ذه املثل‬
‫العليا املنخفضة ال ينفك عن الث وب ال ديين س واء اب رز بش كل ص ريح او مل ي ربز الن املثل‬
‫االعلى دائما حيتل مركز االله حبسب التعبري الق رآين واالس المي ‪ ،‬ودائما تس تبطن عالقة‬
‫االمة مبثلها االعلى نوعا من العب ادة ‪ ،‬من العب ادة هلذا املثل االعلى وليس ال دين بش كلها‬
‫العام االعالقة عابد مبعبود‪ .‬اذا املثل االعلى ال ينفك عن الثوب الديين سواء كان ثوبا دينيا‬
‫صرحيا او ثوبا‬

‫‪130‬‬
‫دينيا مسترتا مربقعا حتت شعارات اخرى فهو يف جوهره دين ويف جوهره عبادة وانسياق‪.‬‬
‫اال ان هذه االديان اليت تفرزها هذه املثل العليا املنخفضة اديان حمدودة تبعا حملدودية نفس‬
‫ه ذه املثل ملا ك انت ه ذه املثل مثال منخفضة وحمدودة قد ح ولت بص ورة مص طنعة اىل‬
‫مطلق ات واال هي يف احلقيقة ليست اال تص ورات جزئية عرب الطريق الطويل الطويل‬
‫لالنس ان ‪ ،‬اال أهنا ح ولت اىل مطلق ات بص ورة مص طنعة‪ .‬اذن ه ذه احملدودية يف املثل‬
‫تعكس االديان اليت تفرزها فاالديان اليت تفرزها هذه املثل او بالتعبري االخرى االديان اليت‬
‫يفرزها االنس ان من خالل ص نع ه ذه املثل ‪ ،‬ومن خالل عملقة ه ذه املثل وتطويرها من‬
‫تصورات اىل مطلقات هذه االديان تكون اديانا حمدودة وضئيلة ‪ ،‬وجتزئة وهذه التجزئة يف‬
‫مقابل دين التوحيد ال ذي س وف نتكلم عنه حينما نتح دث عن مثله االعلى الق ادر على‬
‫استيعاب البشرية بابعادها واديان التجزئة هذه وهذه االهلة ‪ ،‬اليت فرزها االنسان بني حني‬
‫وحني هي اليت يعرب عنها القرآن الكرمي بقوله « آن هي اال اسماء سميتموها انتم وآباؤكم‬
‫» (‪ )1‬فه ذه اآلهلة اليت يفرزها االنس ان ‪ ،‬ه ذا ال دين ال ذي يص نعه االنس ان ‪ ،‬وه ذا املثل‬
‫االعلى الذي هو نتاج بشري ‪ ،‬هذا‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة النجم ‪ :‬اآلية (‪.)23‬‬

‫‪131‬‬
‫ال ميكن ان يكون هو الدين القيم ‪ ،‬ال ميكن ان يكون هو املصعد احلقيقي للمسرية البشرية‬
‫الن املس رية البش رية ال ميكن ان ختلق اهلها بي دها‪ .‬اجملتمع ات واالمم اليت تعيش ه ذا املثل‬
‫االعلى املنخفض املس تمد من واقع احلي اة ‪ ،‬قلنا بأهنا تعيش حالة تكرارية يعين ان حركة‬
‫الت اريخ تص بح حركة متاثلية وتكرارية وه ذه االمة تأخذ بي دها ماض يها اىل احلاضر‬
‫وحاضرها اىل املستقبل ليس هلا مستقبل يف احلقيقة وامنا مستقبلها هو ماضيها ومن هنا اذا‬
‫تق دمنا خط وة يف حتليل ومراقبة ومش اهدة اوض اع ه ذه االمة اليت تتمسك مبثل من ه ذا‬
‫القبيل اذا تق دمنا خط وة اىل االم ام جند ان ه ذه االمة بالت دريج س وف تفقد والءها هلذا‬
‫املثل ايضا لن تظل متمس كة هبذا املثل الن ه ذا املثل بعد ان يفقد فاعليته وقدرته على‬
‫العط اء بعد ان يص بح نس خة من الواقع ويص بح اج را مفروضا وحمسوسا وملموسا وغري‬
‫قادر على تطوير البشرية وتصعيدها يف مسارها الطويل ‪ ،‬تفقد هذه البشرية وهذه اجلماعة‬
‫بالت دريج والءها هلذا املثل ومعىن اهنا تفقد والءها هلذا املثل يعين ان القاع دة اجلماهريية‬
‫الواسعة يف هذه االمة سوف تتمزق وحدهتا الن وحدة هذه القاعدة امنا هي باملثل الواحد‬
‫فاذا ضاع املثل ضاعت هذه القاعدة‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫ه ذه االمة بعد ان تفقد والءها هلذا املثل تص اب بالتش تت ‪ ،‬ب التمزق ‪ ،‬ب التبعثر ‪،‬‬
‫تكون كما وصف القرآن الكرمي « بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك‬
‫بأنهم قوم ال يعقلون » (‪ .)1‬بأسهم بينهم شديد باعتبار أن هذه االمة اليت ال جيمعها شيء‬
‫اال متاثل الوج وه وتق ارب الوج وه ال جيمعها مثل اعلى ال جتمعها طريقة مثلى ‪ ،‬ال جيمعها‬
‫س بيل واحد ‪ ،‬قل وب متفرقة اه واء متش تتة ارواح مبع ثرة وعق ول جمم دة يف حالة من ه ذا‬
‫القبيل ال تبقى امة وامنا يبقى شبح امة فقط ‪ ،‬ويف ظل هذا الشبح سوف ينصرف كل فرد‬
‫يف ه ذه االمة ينص رف اىل مهومه الص غرية ‪ ،‬اىل قض اياه احملدودة النه ال يوجد هن اك مثل‬
‫اعلى تلتف حوله الطاقات ‪ ،‬تلتف حوله القابليات واالمكانات حتشد من اجله التضحيات‬
‫ال يوجد ه ذا املثل االعلى حينما يس قط ه ذا املثل االعلى تس قط الراية اليت توحد االمة ‪،‬‬
‫يبقى كل انسان مشدود اىل حاجاته احملدودة ‪ ،‬اىل مصاحله الشخصية اىل تفكريه يف اموره‬
‫اخلاصة كيف يص بح وكيف ميسي وكيف ياكل وكيف يش رب وكيف ي وفر الراحة‬
‫واالستقرار له والوالده ولعائلته أي راحة وأي استقرار ‪ ،‬الراحة باملعىن‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة احلشر ‪ :‬اآلية (‪.)14‬‬

‫‪133‬‬
‫الرخيص ‪ ،‬باملعىن القصري من االستقرار يبقى كل انسان سجني حاجاته اخلاصة ‪ ،‬سجني‬
‫رغباته اخلاصة يبقى يدور ويلتف حول هذه الرغبات وحول هذه احلاجات ال يرى غريها‬
‫ان ال يوجد املثل ‪ ،‬اذ ضاع املثل وتفتت وسقط يف حالة من حاالت هذه االمة ‪ ،‬قلنا بأن‬
‫االمة تتحول اىل شبح ال يبقى امة حقيقية ‪ ،‬وامنا هناك شبح امة وقد علمنا التاريخ انه يف‬
‫حالة من ه ذا القبيل توجد ثالث اج راءات ‪ ،‬ثالث ب دائل ميكن ان تنطبق على حالة ه ذه‬
‫االمة الشبح‪.‬‬
‫االج راء الت ارخيي االول هو ان تت داعى ه ذه االمة ام ام غ زو عس كري من اخلارج‬
‫الن ه ذه االمة اليت اف رغت من حمتواها ‪ ،‬اليت ختلت عن وجودها كأمة ‪ ،‬وبقيت ك أفراد‬
‫كل انس ان يفكر يف طعامه ولباسه ودار س كناه وال يفكر يف االمة من يفك ر‪ .‬اذا ففي‬
‫وضع من ه ذا القبيل ميكن ان تت داعى ه ذه االمة ام ام غ زو من اخلارج ‪ ،‬وه ذا ما وقع‬
‫بالفعل بعد ان فقد املسلمون مثلهم االعلى وفقدوا والءهم هلذا املثل االعلى ووقعوا فريسة‬
‫غزو التتار حينما سقطت حضارة املسلمني بايدي التتار هذا هو االجراء التارخيي االول‪.‬‬
‫واالج راء الت ارخيي الث اين ‪ :‬هو ال ذوبان واالنص هار يف مثل اعلى اجنيب يف مثل‬
‫مستورد من اخلارج هذه‬

‫‪134‬‬
‫االمة بعد ان فقدت مثلها العليا النابعة منها فقدت فاعليتها واصالتها حينئذ تفتش عن مثل‬
‫اعلى من اخلارج تعطيه والءها لكي متنحه قيادهتا‪ .‬ه ذا هو االج راء الت ارخيي الث اين‬
‫واالجراء التارخيي الثالث ان ينشأ يف اعماق هذه االمة بذور اعادة املثل االعلى من جديد‬
‫مبستوى العصر الذي تعيشه االمة ‪ ،‬هذان االجراءان ‪ ،‬الثاين والثالث وقفت االمة امامهما‬
‫على مف رتق ط ريقني حينما دخلت عصر االس تعمار ‪ ،‬ك ان هن اك طريق ي دعوها اىل‬
‫االنص هار يف مثل اعلى من اخلارج ه ذا الطريق ال ذي طبقه مجلة من حك ام املس لمني يف‬
‫بالد املسلمني « رضاخان » يف ايران و « اتاتورك » يف تركيا ‪ ،‬حاول هؤالء ان جيسدوا‬
‫املثل االعلى لالنس ان االورويب املنتصر ويطبق وا ه ذا املثل االعلى ويكس بوا والء املس لمني‬
‫انفس هم هلذا املثل االعلى بعد ان ض اع املثل االعلى يف داخل املس لمني ‪ ،‬بينما رواد الفكر‬
‫االس المي يف ب دايات عصر االس تعمار ويف أواخر الف رتة اليت س بقت عصر االس تعمار ‪،‬‬
‫رواد الفكر االسالمي ورواد النهضة االسالمية اطلقوا جهودهم يف سبيل االجراء الثالث‬
‫يف سبيل اعادة احلياة اىل االسالم من جديد يف سبيل انتشار هذا املثل االعلى واعادة احلياة‬
‫اليه وتقدميه بلغة‬

‫‪135‬‬
‫العصر ومبس توى العصر ومبس توى حاج ات املس لمني‪ .‬االمة تتح ول اىل ش بح فتواجه احد‬
‫هذه االجراءات الثالثة‪.‬‬
‫االن تكلمنا عن امة ه ذه االهلة املنخفض ة‪ .‬اذا تق دمنا خط وة جند املثل التك راري‬
‫يتم زق ‪ ،‬ان االمة تفقد والءها ‪ ،‬ان االمة تتح ول اىل ش بح احد ه ذه اج راءات الثالثة ‪،‬‬
‫االن نرجع اىل الوراء خطوة‪ .‬سوف نواجه النوع الثاين من االهلة من املثل العليا اليس قلنا‬
‫يف البداية ان املثل العليا عكس ثالثة انواع‪ .‬تكلمنا االن عن النوع االول‪.‬‬
‫اذا رجعنا خطوة اخرى اىل الوراء وهذا ما سوف اشرح معناه بعد حلظات‪ .‬سوف‬
‫نواجه النوع الثاين من االهلة من املثل العليا‪ .‬هذا النوع الثاين يعرب عن كل مثل أعلى لالمة‬
‫يك ون مش تقا من طم وح االمة ‪ ،‬من تطلعها حنو املس تقبل ‪ ،‬ليس ه ذا املثل تعبري تكراريا‬
‫عن الواقع بل هو تطلع اىل املس تقبل وحتفز حنو اجلديد واالب داع ‪ ،‬والتط وير ولكن ه ذا‬
‫املثل من تزع عن خط وة واح دة من املس تقبل من تزع عن ج زء من ه ذا الطريق الطويل‬
‫املس تقبلي أي ان ه ذا الطم وح ال ذي منه ان تزعت االمة مثلها ك ان طموحا حمدودا ك ان‬
‫طموحا مفيدا مل يستطع ان يتجاوز املسافات الطويلة ‪ ،‬وامنا استطاع ان يكون‬

‫‪136‬‬
‫رؤية مستقبلية حمدودة ‪ ،‬وهذه الرؤية املستقبلية احملدودة انتزع منها مثلها االعلى ويف هذا‬
‫املثل االعلى جانب موضوعي صحيح ولكنه حيتوي على امكانيات خطر كبري اما اجلانب‬
‫املوض وعي الص حيح فهو ان االنس ان عرب مس ريته الطويلة ال ميكنه ان يس توعب برؤيته‬
‫الطريق الطويل الطويل كله ‪ ،‬ال ميكنه ان يس توعب املطلق الن ال ذهن البش ري حمدود‬
‫وال ذهن البش ري احملدود ال ميكن ان يس توعب املطلق وامنا هو دائما يس توعب نفحة من‬
‫املطلق ‪ ،‬ش يئا من املطلق يأخذ بي ده قبضة من املطلق تنري له الطريق ‪ ،‬تنري ال درب‪ .‬فك ون‬
‫دائرة االستيعاب البشري حمدودة هذا أمر طبيعي أمر صحيح وموضوعي‪ .‬ولكن اخلطري يف‬
‫ه ذه املس ألة ان ه ذه القبضة اليت يقبض ها االنس ان من املطلق ه ذه القبضة ه ذه الكومة‬
‫احملدودة ‪ ،‬ه ذه الومضة من الن ور اليت يقبض ها من ه ذا املطلق حيوهلا اىل ن ور الس ماوات‬
‫واالرض ‪ ،‬حيوهلا اىل مثل اعلى ‪ ،‬حيوهلا اىل مطلق‪ .‬هنا يكمن اخلطر النه حينما يصنع مثله‬
‫االعلى وين تزع ه ذا املثل من تص ور ذهين حمدود للمس تقبل ‪ ،‬لكن حيول ه ذا التص ور‬
‫ال ذهين احملدود اىل مطلق حينئذ ه ذا املثل االعلى س وف خيدمه يف املرحلة احلاض رة س وف‬
‫يهيء له امكانية النمو بقدر طاقات هذا املثل ‪ ،‬بقدر ما ميثل‬

‫‪137‬‬
‫للمس تقبل ‪ ،‬بق در امكاناته املس تقبلية س وف حيرك ه ذا االنس ان وينش طه لكن س رعان ما‬
‫يصل اىل ح دوده القص وى‪ .‬وحينئذ س وف يتح ول ه ذا املثل نفسه اىل قيد للمس رية ‪ ،‬اىل‬
‫ع ائق عن التط ور ‪ ،‬اىل جممد حلركة االنس ان النه اص بح مثال اص بح اهلا ‪ ،‬أص بح دينا ‪،‬‬
‫أص بح واقعا قائما ‪ ،‬وحينئذ س وف يك ون بنفسه عقبة أم ام اس تمرار زحف االنس ان حنو‬
‫كماله احلقيقي ‪ ،‬وهذا املثل الذي يعمم خطأ حيول من حمدود اىل مطلق خطأ‪.‬‬
‫التعميم فيه ت ارة يك ون تعميما افقيا خاطئا وأخ رى تعميما زمنيا خاطئ ا‪ .‬هن اك‬
‫تعميمان خاطئان هلذا املثل‪ .‬هناك تعميم افقي خاطئ وهناك تعميم زمين عمودي خاطئ‪.‬‬
‫التعميم األفقي اخلاطئ ‪ :‬ان ينتزع االنسان من تصوره املستقبلي مثال ويعترب ان هذا‬
‫املثل يضم كل قيم االنس ان اليت جياهد من اجلها ويناضل يف س بيلها‪ .‬بينما ه ذا املثل على‬
‫الرغم من صحته اال انه ال ميثل اال ج زءا من ه ذه القيم‪ .‬فهذا التعميم تعميم افقي خاطئ‬
‫ه ذا املثل يك ون مع ربا عن ج زء من افق احلركة بينما ج رد منه ما ميأل كل افق احلرك ة‪.‬‬
‫االنس ان االورويب احلديث يف ب دايات عصر النهضة وضع مثال اعلى وهو احلرية جعل‬
‫احلرية مثال اعلى النه راى ان االنسان الغريب كان‬

‫‪138‬‬
‫حمطما ومقي دا ‪ ،‬ك انت على يديه االغالل يف كل س احات احلي اة ك ان مقي دا يف عقائ ده‬
‫العلمية والدينية حبكم الكنيسة وتعنتها ك ان مقي دا يف قوته ورزقه بأنظمة االقط اع ك ان‬
‫مقي دا اينما يس ري‪ .‬اراد االنس ان االورويب الرائد لعصر النهضة ان حيرر ه ذا االنس ان من‬
‫هذه القيود ‪ ،‬من قيود الكنيسة ‪ ،‬من قيود االقطاع اراد ان جيعل من االنسان كائنا خمتارا‬
‫اذا اراد ان يفعل يفعل ‪ ،‬يفكر بعقله ال بعقل غ ريه ويتص ور ويتأمل بذاته وال يس تمد ه ذا‬
‫التصور كصيغ ناجزة من االخرين ‪ ،‬وهذا شيء صحيح اال ان الشيء اخلاطئ يف ذلك هو‬
‫التعميم االفقي ف ان ه ذه احلرية مبعىن كسر القي ود عن ه ذا االنس ان ‪ ،‬ه ذا قيمة من القيم‬
‫ه ذا اط ار للقيم ولكن ه ذا وح ده ال يصنع االنس ان ‪ ،‬انت ال تس تطيع ان تص نع االنس ان‬
‫ب ان تكسر عنه القي ود وتق ول له افعل ما ش ئت ‪ ،‬ال يوجد انس ان وال ك ائن ‪ ،‬ال يوجد‬
‫اقطاعي وال قسيس وال سلطان وال طاغوت يضطرك اىل موقف او يفرض عليك موقفا‪.‬‬
‫هذا وحده ال يكفي فان كسر القيوم امنا يشكل االطار للتنمية البشرية الصاحلة ‪ ،‬حيتاج‬
‫هذا اىل مضمون اىل حمتوى جمرد انه يستطيع ان يتصرف ‪ ،‬يستطيع ان ميشي يف االسواق‬
‫هذا ال يكفي ‪ ،‬اما كيف وميشي وما هو اهلدف الذي من اجله ميشي يف االسواق‬

‫‪139‬‬
‫احملت وى واملض مون هو ال ذي ف ات االنس ان االوريب ‪ ،‬االنس ان االوريب جعل احلرية ه دفا‬
‫وه ذا ص حيح ولكنه صري من ه ذا اهلدف مثال اعلى بينما ه ذا اهلدف ليس اال اط ار يف‬
‫احلقيقة وه ذا االط ار حباجة اىل حمت وى واىل مض مون واذا ج رد ه ذا االط ار عن حمت واه‬
‫س وف ي ؤدي اىل الويل وال دمار ‪ ،‬اىل الويل ال ذي تواجهه احلض ارة الغربية الي وم اليت‬
‫ص نعت للبش رية كل وس ائل ال دمار الن االط ار بقي بال حمت وى بقي بال مض مون حينئ ذ‪.‬‬
‫هذا هو مثال للتعميم االفقي ‪ ،‬التعميم االفقي للمثل االعلى‪.‬‬
‫واما التعميم الزمين ايضا ك ذلك على مر الت اريخ توجد خط وات ناجحة تارخييا‬
‫ولكنها ال جيوز ان حتول من ح دودها كخط وة اىل مطلق ‪ ،‬اىل مثل اعلى جيب ان تك ون‬
‫ممارسة تلك اخلط وة ض من املثل االعلى ال ان حتول ه ذه اخلط وة اىل مثل اعلى حينما‬
‫اجتمع يف التاريخ جمموعة من االسر فشكلوا القبيلة‪ .‬وجمموعة من القبائل فشكلت عشرية‬
‫‪ ،‬وجمموعة من العش ائر فش كلت أمة ه ذه اخلط وات ص حيحة لتق دم البش رية وتوحيد‬
‫البشرية ولكن كل خطوة من هذه ال جيب ان تتحول اىل مثل اعلى ال جيوز ان تتحول اىل‬
‫مطلق ‪ ،‬ال جيوز ان تكون العشرية هي املطلق الذي حيارب من اجله‬

‫‪140‬‬
‫ه ذا االنس ان وامنا املطلق ال ذي حيارب من اجله االنس ان يبقى هو ذاك املطلق احلقيقي ‪،‬‬
‫يبقى هو اهلل س بحانه وتع اىل ‪ ،‬اخلط وة تبقى كاس لوب ولكن املطلق يبقى هو اهلل س بحانه‬
‫وتعاىل هذا التعميم الزمين ايضا هو شكل من التعميم اخلاطئ حينما حيول هذا املثل املنتزع‬
‫من خط وة حمدودة عرب ال زمن حيول اىل مثل اعلى‪ .‬وح ال ه ذا االنس ان ال ذي حيول ه ذه‬
‫الرؤية احملدودة عرب ال زمن حيوهلا اىل مطلق حاله ح ال االنس ان ال ذي يتطلع اىل االفق فال‬
‫تس اعده عينه اال اىل النظر على مس افة حمدودة فيخيل له ان ال دنيا تنتهي عند االفق ال ذي‬
‫ي راه ‪ ،‬ان الس ماء تنطبق على االرض على مس افة قريبة منه وقد خييل له وج ود املاء ‪،‬‬
‫وج ود الس راب على مقربة من ه‪ .‬اال ان ه ذا يف احلقيقة ناشئ من عجز عينيه عن ان يت ابع‬
‫املسافة االرضية الطويلة االمد‪.‬‬
‫كذلك هنا هذا االنسان الذي يقف على طريق التاريخ الطويل ‪ ،‬على طريق املسرية‬
‫البشرية له افق حيكم قصوره الذهين وحبكم حمدودية الذهن البشري‪ .‬له افق كذلك االفق‬
‫اجلغرايف ولكن هذا االفق جيب ان يتعامل معه كافق ال كمطلق كما اننا حنن على الصعيد‬
‫اجلغ رايف ال نتعامل مع ه ذا االفق ال ذي ن راه على بعد عش رين م رتا او م ائيت مرت انه هناية‬
‫االرض‪ .‬وامنا‬

‫‪141‬‬
‫نتعامل معه بأنه أف ق‪ .‬ك ذلك ايضا هنا جيب ان يتعامل ه ذا االنس ان معه ك افق ال حيول‬
‫ه ذا االفق الت ارخيي اىل مثل اعلى واال ك ان من قبيل من يسري حنو س راب ‪ ،‬انظ روا اىل‬
‫التمثيل الرائع يف قوله س بحانه وتع اىل ‪ « :‬وال ذين كف روا اعم الهم كس راب بقيعة يحس به‬
‫الظم آن م اءا ح تى اذا ج اءه لم يج ده ش يئا ووجد اهلل عن ده فوف اه حس ابه واهلل س ريع‬
‫الحساب » (‪.)1‬‬
‫يعرب الق رآن عن كل ه ذه املثل املص طنعة من دون اهلل س بحانه وتع اىل باهنا ك بيت‬
‫العنكبوت حيث يقول ‪ « :‬مثل الذين اتخذوا من دون اهلل اولياء كمثل العنكبوت اتخذت‬
‫بيتا وان اوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون » (‪.)2‬‬
‫اذا قارنا بني هذين النوعني من املثل العليا املشتقة من الواقع واملثل العليا املشتقة من‬
‫طم وح حمدود لالحظنا ان املثل العليا املش تقة من الواقع كث ريا ما تك ون قد م رت مبرحلة‬
‫ه ذه املثل اليت تعرب عن طم وح حمدود‪ .‬يعين كث ريا ما تك ون تلك املثل من الن وع االول‬
‫امتداداً للمثل من النوع الثاين ‪ ،‬بأن يبدأ هذا املثل االعلى مشتقا من طموح لكن حينما‬
‫يتحقق هذا الطموح‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة النور ‪ :‬اآلية (‪.)39‬‬
‫(‪ )2‬سورة العنكبوت ‪ :‬اآلية (‪.)41‬‬

‫‪142‬‬
‫احملدود ‪ ،‬حينما تصل البشرية اىل النقطة اليت أثارت هذه املثل‪ .‬يتحول هذا املثل اىل واقع‬
‫حمدود حبسب اخلارج ‪ ،‬حينئذ يص بح مثال تكراريا من هنا قلنا يف ما س بق أننا لو رجعنا‬
‫خط وة اىل ال وراء بالنس بة اىل اهلة الن وع االول ‪ ،‬مثل الن وع االول‪ .‬لو رجعنا اىل ال وراء‬
‫لوج دنا آهلة الن وع الث اين فاملس ألة يف كثري من االحي ان تب دأ هك ذا ‪ ،‬تب دأ مبثل اعلى له‬
‫طم وح مش تق من طم وح مس تقبلي مث يتح ول ه ذا املثل االعلى اىل مثل تك راري ‪ ،‬مث‬
‫يتمزق هذا املثل التكراري كما قلنا وتتحول االمة اىل شبح أمة‪ .‬يف هذه الفرتة الزمنية متر‬
‫االمة مبراحل يف احلقيقة ميكننا تلخيصها يف أربعة مراحل‪ .‬املرحلة االوىل هي مرحلة فاعلية‬
‫ه ذا املثل حبكم انه قد ب دأ مش تقا من طم وح مس تقبلي ولكن طبعا ه ذه الفاعلية وه ذا‬
‫العط اء هو عط اء يس ميه الق رآن بالعاجل ‪ ،‬ه ذه املكاسب عاجلة وليست مكاسب على‬
‫اخلط الطوي ل‪ .‬عاجلة الن عمر ه ذا املثل قصري ‪ ،‬وعط اءه حمدود ‪ ،‬الن ه ذا املثل س وف‬
‫يتح ول يف حلظة من اللحظ ات اىل ق وة اب ادة لكل ما أعط اه من مكاسب وهلذا يس مى‬
‫بالعاجل‪ .‬انظروا اىل قوله تعاىل « من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما يشاء لمن نريد ثم‬
‫جعلنا له جهنم يصالها مذموما مدحورا‪ .‬ومن اراد االخرة وسعى لها سعيا وهو‬

‫‪143‬‬
‫مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا‪ .‬كال نمد هؤالء وهؤالء من عطاء ربك وما كان عطاء‬
‫ربك محظ ورا» (‪ )1‬اهلل س بحانه وتع اىل خري حمض ‪ ،‬عط اء حمض ‪ ،‬ج ود كله ‪ ،‬فبق در ما‬
‫تتبىن االمة مثال قابال للتحريك‪ .‬اهلل سبحانه وتعاىل ايضا يعطي لكنه يعطي بقدر قابلية هذا‬
‫املثل يعطي شيئا عاجال ال اكثر‪ .‬يف حالة من هذا القبيل تكون السلطة اليت متثل هذا املثل‬
‫ذات مثل اعلى ‪ ،‬ذات مثل يعطي ويب دع وتك ون قي ادة موجهة لالمة يف ح دود ه ذا املثل‬
‫وتك ون لالمة دور املش اركة يف ص نع ه ذا املثل ويف حتقيق ه ذا املث ل‪ .‬ه ذه املرحلة س وف‬
‫ت ؤدي اىل مكاسب ولكنها يف النظر الق رآين العميق الطويل االمد مكاسب عاجلة تعقبها‬
‫جهنم ‪ ،‬جهنم يف الدنيا وجهنم يف اآلخرة‪ .‬هذه املرحلة االوىل مرحلة االبداع والتجديد‪.‬‬
‫املرحلة الثانية حينما يتجمد ه ذا املثل االعلى حينما يس تنفذ طاقته وقدرته على‬
‫العطاء حينئذ يتحول هذا املثل اىل متثال والقادة الذين كانوا يعطون ويوجهون على أساسه‬
‫يتحولون اىل سادة وكرباء ال اىل قادة‪ .‬ومجهور االمة يتحول اىل مطيعني ومنقادين ال اىل‬
‫مشاركني يف االبداع‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة االسراء ‪ :‬اآلية (‪ 18‬ـ ‪.)20‬‬

‫‪144‬‬
‫والتط وير وه ذه املرحلة هي املرحلة اليت عرب عنها الق رآن الك رمي بقوله « وق الوا ربنا أطعنا‬
‫س ادتنا وكبراءنا فاض لونا الس بيال » (‪ .)1‬مث ت أيت املرحلة الثالث ة‪ .‬مرحلة االمت داد الت ارخيي‬
‫هلؤالء‪ .‬ه ذه الس لطة تتح ول اىل طبقة بعد ذلك تت وارث مقاع دها عائليا أو طبقيا وراثيا‬
‫بشكل من اشكال الوراثة ‪ ،‬وحينئذ تصبح هذه الطبقة هي الطبقة املرتفة املنعمة اخلالية من‬
‫االغ راض الكب رية ‪ ،‬املش غولة هبمومها الص غرية وه ذا ما عرب عنه الق رآن الك رمي بقوله «‬
‫وك ذلك ما ارس لنا من قبلك في قرية من ن ذير اال ق ال مترفوها انا وج دنا آباءنا على أمة‬
‫وانا على آثارهم مقتدون » (‪ )2‬هؤالء امتداد تارخيي آلباء هلم تاريخ وهم امتداد تارخيي ‪،‬‬
‫وهذا االمتداد التارخيي حتول من مستوى مثل وعطاء اىل مستوى طبقة مرتفة تتوارث هذا‬
‫املقعد بش كل من اش كال الت وارث‪ .‬ه ذه هي املرحلة الثالثة مث حينما تتفتت االمة ‪ ،‬حينما‬
‫تتم زق االمة ‪ ،‬حينما تفقد والءها ل ذلك املثل التك راري على ض وء ما قلن اه ت دخل يف‬
‫مرحلة رابعة وهي اخطر املراحل ففي ه ذه املرحلة يس يطر عليها جمرموها ‪ ،‬يس يطر عليها‬
‫اناس ال يرعون اال والذمة وهذا ما عرب‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة االحزاب ‪ :‬اآلية (‪.)67‬‬
‫(‪ )2‬سورة الزخرف ‪ :‬اآلية (‪.)23‬‬

‫‪145‬‬
‫عنه الق رآن الك رمي يف قوله س بحانه وتع اىل « وك ذلك جعلنا في كل قرية اك ابر مجرميها‬
‫ليمك روا فيها وما يمك رون اال بأنفس هم » (‪ .)1‬حينئذ يس يطر جمموعة من ه ؤالء اجملرمني ‪،‬‬
‫يس يطر هتلر والنازية مثال يف ج زء من أوروبا لكي حيطم كل ما يف أوروبا من خري وكل‬
‫ما فيها اوروبا من اب داع ‪ ،‬لكي يقضي على كل تبع ات ذلك املثل االعلى ال ذي رفعه‬
‫االنسان االورويب احلديث والذي حتول بالتدريج اىل مثل تكراري مث تفسخ هذا املثل لكن‬
‫بقيت مكاس به يف اجملتمع االورويب‪ .‬ي أيت ش خص كهتلر لكي ميزق كل تلك املكاسب‬
‫ويقضي عليها‪ .‬االن نصل اىل النوع الثالث من املثل العليا وهو اهلل سبحانه وتعاىل‪ .‬يف هذا‬
‫املثل التن اقض ال ذي واجهن اه س وف حيل ب اروع ص ورة كنا جند تناقضا وحاصل ه ذا‬
‫التن اقض هو ان الوجود ال ذهين لالنس ان حمدود ‪ ،‬واملثل جيب ان يكون غري حمدود فكيف‬
‫ميكن توفري احملدود وغري احملدود وكيف ميكن التنس يق بني احملدود وغري احملدود‪ .‬ه ذا‬
‫التنس يق س وف جنده يف املثل االعلى ال ذي هو اهلل س بحانه وتع اىل ‪ ..‬ملاذا؟ الن ه ذا املثل‬
‫االعلى ليس من نتاج االنسان ‪ ،‬ليس افرازا ذهنيا لالنسان ‪ ،‬بل هو مثل أعلى‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة االنعام ‪ :‬اآلية (‪.)123‬‬

‫‪146‬‬
‫عيين له واقع عي ين‪ .‬هو موج ود مطلق يف اخلارج ‪ ،‬له قدرته املطلقة وله علمه املطلق وله‬
‫عدله املطل ق‪ .‬ه ذا الوج ود العيين بواقعه العيين يك ون مثال اعلى النه مطلق لكن االنس ان‬
‫حينما يريد ان يس تلهم من ه ذا الن ور ‪ ،‬حينما يريد ان ميسك حبزمة من ه ذا الن ور ‪ ،‬طبعا‬
‫هو ال ميسك اال باملقيد ‪ ،‬اال بق در حمدود من ه ذا الن ور اال انه مييز بني ما ميسك به وبني‬
‫مثله االعلى ‪ ،‬املثل االعلى خ ارج ح دود ذهنه ‪ ،‬لكنه ميسك حبزمة من الن ور‪ .‬ه ذه احلزمة‬
‫مقي دة لكن املثل االعلى مطلق ‪ ،‬ومن هنا ح رص االس الم على التمي يز دائما بني الوج ود‬
‫ال ذهين وما بني اهلل س بحانه وتع اىل ال ذي هو املثل االعلى‪ .‬ف رق حىت بني االسم واملس مى‬
‫وأكد على انه ال جيوز عب ادة االس م‪ .‬وامنا تك ون العب ادة للمس مى الن االسم ليس اال‬
‫وجودا ذهنيا ‪ ،‬اال واجهة ذهنية هلل سبحانه وتعاىل‪ .‬بينما الواجهات الذهنية دائما حمدودة‬
‫العب ادة جيب ان تك ون للمس مى ال لالسم الن املس مى هو املطلق اما االسم فهو مقيد‬
‫وحمدود‪ .‬الواجه ات الذهنية تبقى كواجه ات ذهنية حمدودة مرحلية واما ص فة املثل االعلى‬
‫فتبقى قائمة باهلل سبحانه وتعاىل‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫الدرس الحادي عشر ‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫قال اهلل سبحانه وتعاىل « يا أيها االنسان انك كادح الى ربك كدحا فمالقيه »‬
‫ه ذه اآلية الكرمية تضع اهلل س بحانه وتع اىل ه دفا أعلى لالنس ان واالنس ان هنا مبعىن‬
‫االنسانية ككل ‪ ،‬فاالنسانية مبجموعها تكدح حنو اهلل سبحانه وتعاىل والكدح هنا كدح‬
‫االنسانية ككل ‪ ،‬حنو اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬يعين السري املستمر باملعاناة واجلهد واجملاهدة ‪،‬‬
‫الن ه ذا السري ليس س ريا اعتياديا ‪ ،‬بل هو سري ارتق ائي ‪ ،‬هو تص اعد وتكامل ‪ ،‬هو سري‬
‫تس لق ‪ ،‬فه ؤالء ال ذين يتس لقون اجلب ال ليص لوا اىل القمم يك دحون حنو ه ذه القمم ‪،‬‬
‫يس ريون سري معان اة وجه د‪ .‬ك ذلك االنس انية حينما تك دح حنو اهلل فامنا هي تتس لق اىل‬
‫قمم كماهلا وتكاملها وتطورها اىل االفضل‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة االنشقاق ‪ :‬اآلية (‪.)6‬‬

‫‪148‬‬
‫باستمرار‪ .‬وهذا السري الذي حيتوي على املعاناة باستمرار يفرتض طريقا ال حمالة فان السري‬
‫حنو هدف يفرتض حتما طريقا ممتدا بني السائر وبني ذلك اهلدف‪ .‬وهذا الطريق هو الذي‬
‫حتدثت عنه اآلي ات الكرمية يف املواضع املتفرقة حتت اسم س بيل اهلل واسم الص راط واسم‬
‫صراط اهلل هذه الصيغ القرآنية املتعددة كلها تتحدث عن الطريق الذي يفرتضه ذلك السري‬
‫وكما أن السري يفرتض الطريق ‪ ،‬كذلك الطريق يفرتض السري أيضا وهذه اآلية الكرمية «‬
‫يا أيها االنسان انك كادح الى ربك كدحا فمالقيه » تتحدث عن حقيقة قائمة ‪ ،‬عن واقع‬
‫موض وعي ث ابت‪ .‬فهي ليست بص دد دع وة الن اس اىل أن يس ريوا يف طريق اهلل س بحانه‬
‫وتع اىل ‪ ،‬ليست بص دد الطلب والتحريك ‪ ،‬فما هو احلال يف آي ات أخ رى يف مقام ات‬
‫وسياقات قرآنية أخرى‪.‬‬
‫اآلية القرآنية الكرمية ال تقول يا أيها الناس تعالوا اىل سبيل اهلل ‪ ،‬توبوا اىل اهلل ‪ ،‬بل‬
‫تقول « يا أيها االنسان انك كادح الى ربك كدحا فمالقيه » ‪ ،‬لغة اآلية لغة التحدث عن‬
‫واقع ث ابت وحقيقة قائمة وهي أن كل سري وكل تق دم لالنس ان يف مس ريته التارخيية‬
‫الطويلة االمد ‪ ،‬فهو تقدم حنو اهلل سبحانه وتعاىل وسري حنو اهلل‬

‫‪149‬‬
‫س بحانه وتع اىل حىت تلك اجلماع ات اليت متس كت باملثل املنخفضة وباآلهلة املص طنعة‬
‫واستطاعت ان حتقق هلا سريا ضمن خطوة على هذا الطريق الطويل ‪ ،‬حىت هذه اجلماعات‬
‫اليت يسميها القرآن باملشركني هم يسريون هذه اخلطوة حنو اهلل ‪ ،‬هذا التقدم بقدر فاعليته‬
‫وبقدر زمخه هو اقرتاب حنو اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬لكن هناك فرق بني تقدم مسؤول وتقدم‬
‫غري مسؤول ( على ما يأيت شرحه ان شاء اهلل ) ‪ ،‬حينما تتقدم االنسانية يف هذا املفاض‬
‫واعية على املثل االعلى وعيا موضوعيا يكون التقدم تقدما مسؤوال ‪ ،‬يكون عبادة حبسب‬
‫لغة الفقه ‪ ،‬لونا من العبادة يكون له امتداد على اخلط الطويل وانسجام مع الوضع العريض‬
‫للك ون ‪ ،‬وأما حينما يك ون التق دم منفصال عن ال وعي على ذلك املثل فهو تق دم على أي‬
‫حال ‪ ،‬سري حنو اهلل على أي حال ‪ ،‬ولكنه تقدم غري مسؤول على ما يأيت تفصيله‪.‬‬
‫اذن ك ان تق دم هو تق دم حنو اهلل ‪ ،‬حىت اولئك ال ذين ركض وا وراء س راب كما‬
‫حتدثت اآلية الكرمية ف ان ه ؤالء ال ذين يركض ون وراء الس راب االجتم اعي ‪ ،‬وراء املثل‬
‫املنخفضة ‪ ،‬حينما يص لوا اىل ه ذا الس راب ال جيدون ش يئا ‪ ،‬وجيدون اهلل س بحانه وتع اىل‬
‫فيوفيهم حساهبم كما تتحدث اآلية الكرمية اليت قرأناها فيما سبق ‪ ،‬واهلل‬

‫‪150‬‬
‫س بحانه وتع اىل هو هناية ه ذا الطريق ولكنه ليس هناية جغرافية ليس هناية على منط‬
‫النهاي ات اجلغرافية للط رق املمت دة مكاني ا‪ .‬ك ربالء مثال هناية طريق ممتد بني النجف‬
‫وك ربالء ‪ ،‬ك ربالء مبعناها املك اين هناية جغرافية ‪ ،‬ومعىن اهنا هناية جغرافية اهنا موج ودة‬
‫على آخر الطريق ‪ ،‬ليست موج دة على ط ول الطريق ‪ ،‬لو أن انس انا س ار حنو ك ربالء‬
‫ووقف يف نصف الطريق ال حيصل على شيء من كربالء ‪ ،‬ال حيصل على حفنة من تراب‬
‫ك ربالء اطالقا ‪ ،‬الن ك ربالء هناية جغرافية موج ودة يف آخر الطريق ‪ ،‬ولكن اهلل س بحانه‬
‫وتع اىل ليس هناية على منط النهاي ات اجلغرافية ‪ ،‬اهلل س بحانه وتع اىل هو املطلق ‪ ،‬هو املثل‬
‫االعلى ‪ ،‬أي املطلق احلقيقي العيين ‪ ،‬وحبكم كونه هو املطلق ‪ ،‬اذن هو موج ود على ط ول‬
‫الطريق أيضا ‪ ،‬ليس هن اك ف راغ منه ‪ ،‬ليس هن اك احنس ار عنه ‪ ،‬ليس هن اك حد له ‪ ،‬اهلل‬
‫س بحانه وتع اىل هو هناية الطريق ولكنه موج ود أيضا على ط ول الطريق ‪ ،‬من وصل اىل‬
‫نصف الطريق ‪ ،‬من وصل اىل سرابه ‪ ،‬فتوقف واكتشف انه سراب ‪ ،‬ماذا جيد؟ ماذا وجد‬
‫يف اآلية؟ ‪ ..‬وجد اهلل فوفاه اهلل حسابه الن املطلق موجود على طول الطريق وبقدر زخم‬
‫الطريق وبقدر التقدم يف الطريق جيد االنسان مثله االعلى ‪ ،‬يلقى اهلل سبحانه وتعاىل‬

‫‪151‬‬
‫اينما توقف حبجم س ريه ‪ ،‬وحبجم تقدمه على ه ذا الطري ق‪ .‬وحبكم أن اهلل س بحانه وتع اىل‬
‫هو املطلق اذن الطريق ايضا ال ينتهي هذا الطريق طريق االنسان حنو اهلل هو اقرتاب مستمر‬
‫يقدر التقدم احلقيقي حنو اهلل ‪ ،‬ولكن هذا االقرتاب يبقى اقرتابا نسبيا ‪ ،‬يبقى جمرد خطوات‬
‫على الطريق من دون ان جيت از ه ذا الطريق ‪ ،‬الن احملدود ال يصل اىل املطلق ‪ ،‬الك ائن‬
‫املتناهي ال ميكن ان يصل اىل الالمتناهي ‪ ،‬فالفسحة املمتدة بني االنسان وبني املثل االعلى‬
‫هنا فس حة ال متناهية ‪ ،‬أي انه ت رك له جمال االب داع اىل الالهناية ‪ ،‬جمال التط ور التك املي‬
‫اىل الالهناية ‪ ،‬بأعتب ار أن الطريق املمتد طريق ال هنائي‪ .‬وه ذا املثل االعلى احلقيقي حينما‬
‫تتبن اه املس رية االنس انية وتوفق بني وعيها البش ري والواقع الك وين ال ذي يف رتض ه ذا املثل‬
‫االعلى حقيقة قائمة كما افرتض ته اآلية ‪ ،‬املس رية االنس انية حينما توفق بني وعيها على‬
‫املس رية وبني الواقع الك وين هلذه املس رية ‪ ،‬بوص فها س ائرة ومتجهة حنو اهلل س وف حيدث‬
‫تغيري كيفي وكمي على هذه املسرية ‪ ،‬هذه احلركة سوف حيدث فيها تغيري كيفي وكمي‬
‫‪ ،‬أما التغري الكمي على هذه احلركة فهو باعتبار ما أشرنا اليه من أن الطريق حينما يكون‬
‫طريقا اىل املثل االعلى احلق يكون طريقا غري‬

‫‪152‬‬
‫متن اهي ‪ ،‬أي أن جمال التط ور واالب داع ‪ ،‬والنمو ق ائم اب دا ودائما ‪ ،‬مفت وح لالنس ان‬
‫بأس تمرار من دون توقف ه ذا املثل االعلى حينما يتبىن س وف منسح من الطريق كل اآلهلة‬
‫املزورة ‪ ،‬كل االص نام وكل االق زام املتص نمة على طريق االنس ان اليت تقف عقبة بني‬
‫االنسان وبني وصوله اىل اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬ومن هنا كان دين التوحيد صراعا مستمرا‬
‫مع خمتلف اش كال االهلة واملثل املنخفضة والتكرارية اليت ح اولت ان تتحد من كمية‬
‫احلركة اىل نقطة مث تق ول قف أيها االنس ان‪ .‬ه ذه االهلة اليت ارادت أن توقف االنس ان يف‬
‫وسط الطريق ‪ ،‬ويف نقطة معينة ك ان دين التوحيد على مر الت اريخ هو حامل ل واء املعركة‬
‫ض دها ‪ ،‬ه ذا املثل االعلى اذن س وف حيدث تغي ريا كميا على احلركة النه يطلقها من‬
‫عقاهلا ‪ ،‬يطلقها من ه ذه احلدود املص طنعة لكي تسري بأس تمرار وأما التغيري الكيفي ال ذي‬
‫حيدثه املثل االعلى على هذه املسرية فهذا التغيري الكيفي هو اعطاء احلل املوضوعي الوحيد‬
‫للجدل االنساين ‪ ،‬للتناقض االنساين ‪ ،‬اعطاء الشعور باملسؤولية املوضوعية لدى االنسان ‪،‬‬
‫االنس ان من خالل اميانه هبذا املثل االعلى ووعيه على طريق حبدوده الكونية الواقعية من‬
‫خالل هذا الوعي ينشأ بصورة موضوعية ‪ ،‬شعور معمق لديه باملسؤولية جتاه‬

‫‪153‬‬
‫ه ذا املثل االعلى الول م رة يف ت اريخ املثل البش رية اليت ح ركت البشر على مر الت اريخ ‪،‬‬
‫ملاذا؟‬
‫الن ه ذا املثل االعلى حقيقة وواقع عيين منفصل عن االنس ان وهبذا يعطي‬
‫للمس ؤولية ش رطها املنطقي ف ان املس ؤولية احلقيقية ال تق وم اال بني جه تني بني مس ؤول‬
‫ومس ؤول لدي ه‪ .‬اذا مل تكن هن اك جهة أعلى من ه ذا الك ائن املس ؤول واذا مل يكن ه ذا‬
‫الك ائن املس ؤول مؤمنا بأنه بني يديه جهة أعلى ال ميكن ان يك ون ش عوره باملس ؤولية‬
‫ش عورا موض وعيا ‪ ،‬ش عورا حقيقيا ‪ ،‬مثال تلك املثل املنخفضة ‪ ،‬تلك االهلة ‪ ،‬تلك االق زام‬
‫املتعملقة على مر التاريخ ‪ ،‬على مر املسرية البشرية هي يف احلقيقة مل تكن كما رأينا وكما‬
‫حللنا اال اف رازا بش ريا ‪ ،‬اال انتاجا انس انيا ‪ ،‬يعين اهنا ج زء من االنس ان ج زء من كي ان‬
‫االنسان ‪ ،‬واالنسان ميكن ان يستشعر بصورة موضوعية حقيقة املسؤولية جتاه ما يفرزه ‪،‬‬
‫هو اجتاه ما يص نعه هو « ان هي اال أمساء مسيتموها » تلك املثل ال تص نع الش عور‬
‫املوض وعي باملس ؤولية ‪ ،‬نعم قد تص نع ق وانني ‪ ،‬قد تص نع ع ادات ‪ ،‬قد تص نع اخالق ‪،‬‬
‫ولكنها كلها عطاء ظاهري ‪ ،‬وكلما وجد هذا االنسان جماال للتحلل من هذه العادات ‪،‬‬
‫ومن هذه االخالق ‪ ،‬ومن هذه القوانني فسوف يتحلل‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫بينما املثل االعلى ل دين التوحيد ‪ ،‬لالنبي اء على مر الت اريخ باعتب اره واقعا عينيا‬
‫منفصال عن االنسان ‪ ،‬باعتباره جهة اعلى من االنسان ليست افرازا بشريا ‪ ،‬ليست انتاجا‬
‫انسانيا ‪ ،‬اذن سوف يتوصل للشعور باملسؤولية ‪ ،‬شرطه املوضوعي يف املقام ‪ ،‬ملاذا كان‬
‫االنبياء على مر التاريخ أصالب الثوار على الساحة التارخيية ‪ ،‬أنظف الثوار على الساحة‬
‫التارخيية ‪ ،‬ملاذا ك انوا على الس احة التارخيية ف وق كل مس اومة ‪ ،‬ف وق كل مهادنة ‪ ،‬ف وق‬
‫كل متلمل مينة او يسرة ‪ ،‬ملاذا كانوا هكذا ‪ ،‬ملاذا اهنار كثري من الثوار على مر التاريخ ومل‬
‫يس مع أن نبيا من أنبي اء التوحيد اهنار أو متلمل او أحنرف مينة او يس رة عن الرس الة اليت‬
‫بيده وعن الكت اب الذي حيمله من الس ماء ‪ ،‬الن املثل االعلى املنفصل عنه الذي فوقه هو‬
‫الذي اعطاه نفحة موضوعية من الشعور باملسؤولية وهذا الشعور باملسؤولية جتسد يف كل‬
‫كيانه يف كل مشاعره وافكاره وعواطفه ‪ ،‬ومن هنا كان النيب معصوما على مر التاريخ ‪،‬‬
‫اذن ه ذا املثل االعلى حبسب احلقيقة حيدث تغي ريا كيفيا على املس رية النه يعطي الش عور‬
‫باملس ؤولية ‪ ،‬وه ذا الش عور باملس ؤولية ليس أم را عرض يا ‪ ،‬ليس ام را ثانويا يف مس رية‬
‫االنسان ‪ ،‬بل هو شرط أساسي يف امكان اجناح‬

‫‪155‬‬
‫ه ذه املس رية وتق دمي احلل املوض وعي للتن اقض االنس اين للج دل االنس اين ‪ ،‬الن االنس ان‬
‫يعيش تناقضا حبسب تركيبه وخلقته ‪ ،‬النه هو ت ركيب من حفنة من ت راب ونفخة من‬
‫روح اهلل سبحانه وتعاىل كما وصفت ذلك اآليات الكرمية‪.‬‬
‫اآليات الكرمية قالت بان االنسان خلق من تراب ‪ ،‬وقالت بانه نفخ فيه من روحه‬
‫سبحانه وتعاىل ‪ ،‬اذا فهو جمموع نقيضني اجتمعا والتحما يف االنسان ‪ ،‬حفنة الرتاب جتره‬
‫اىل االرض ‪ ،‬جتره اىل الش هوات اىل املي ول ‪ ،‬جتره اىل كل ما ترمز اليه االرض من احندار‬
‫واحنط اط وروح اهلل س بحانه وتع اىل اليت نفخها فيها جتره اىل أعلى تتس امى بانس انيته اىل‬
‫حيث ص فات اهلل ‪ ،‬اىل حيث اخالق اهلل ‪ ،‬تتخلق ب اخالق اهلل ‪ ،‬اىل حيث العلم ال ذي ال‬
‫حد له والق درة اليت ال حد هلا ‪ ،‬اىل حيث الع دل ال ذي ال حد له ‪ ،‬اىل حيث اجلود‬
‫والرمحة واالنتق ام ‪ ،‬اىل حيث ه ذه االخالق االهلية ‪ ،‬ه ذا االنس ان واقع يف تي ار ه ذا‬
‫التناقض ‪ ،‬يف تيار هذا اجلدل حبسب حمتواه النفسي ‪ ،‬حبسب تركيبه الداخلي ‪ ،‬هذا اجلدل‬
‫وهذا التناقض الذي احتوته طبيعة االنسان وشرحته قصة آدم على ما يأيت انشاء اهلل تعاىل‬
‫‪ ،‬هذا اجلدل االنساين له حل واحد فقط ‪ ،‬هذا احلل الواحد‬

‫‪156‬‬
‫الذي ميكن ان يفرض هلذا التناقض هو الشعور باملسؤولية ال الشعور املنبثق عن هذا اجلدل‬
‫ف ان الش عور املنبثق عن نفس ه ذا اجلدل ال حيل ه ذا اجلدل بل هو يس اهم يف اف راز ه ذا‬
‫التن اقض وه ذا الش عور املوض وعي باملس ؤولية ال يكفله اال املثل االعلى ال ذي يك ون جهة‬
‫عليا ‪ ،‬حيس االنس ان من خالهلا بانه بني ي دي رب ق ادر مسيع بصري حماسب جماز على‬
‫الظلم ‪ ،‬جماز على الع دل‪ .‬اذن ه ذا الش عور املوض وعي باملس ؤولية ال ذي هو التغري الكيفي‬
‫على املس رية هو يف احلقيقة احلل الوحيد للتن اقض وللج دل ال ذي تس تبطنه طبيعة االنس ان‬
‫وت ركيب االنس ان‪ .‬دور دين التوحيد اذن هو عب ارة عن تعبيد ه ذا الطريق الطويل الطويل‬
‫‪ ،‬تعبي ده وازالة العوائق من خالل تنمية احلركة كميا وكيفيا وحماربة تلك املثل املص طنعة‬
‫عور‬ ‫واملنخفضة والتكرارية اليت تريد ان جتمد احلركة من ناحية وأن تعريها من الش‬
‫باملسؤولية من ناحية اخرى ‪ ،‬ومن هنا كان حرب االنبياء كما أشرنا كان حرب االنبياء‬
‫مع االهلة املصطنعة على مر التاريخ ‪ ،‬وملا كان كل مثل من هذه املثل العليا اليت تتحول اىل‬
‫متث ال ض من ظ روف تطورها بالش كل ال ذي ش رحناه فيما س بق ‪ ،‬حينما تتح ول اىل متث ال‬
‫جند يف جمموعة من الن اس ‪ ،‬جتد فيهم م دافعني طبيع يني عنها باعتب ار ان جمموعة من الن اس‬
‫ترتبط مصاحلهم وترفهم وكياهنم املادي‬

‫‪157‬‬
‫وال دنيوي ببق اء ه ذا املث ال ال ذي حتول اىل متث ال وهلذا يقف دائما ه ؤالء ال ذين يرتبط ون‬
‫مصلحيا هبذا التمثال ‪ ،‬يقفون دائما يف وجهه االنبياء ليدافعوا عن مصاحلهم ‪ ،‬عن دنياهم‬
‫‪ ،‬عن ت رفهم ‪ ،‬ومن هنا اب رز الق رآن الك رمي س نة من س نن الت اريخ وهي ان االنبي اء دائما‬
‫ك انوا يواجه ون املرتفني من جمتمع اهتم كقطب آخر من املعارضة مع ه ذا النيب الن ه ذا‬
‫املرتف املستفيد من هذا املثال بعد ان حتول اىل ذلك التمثال هذا املثال حتول اىل متثال فمن‬
‫هو املس تفيد من ه؟ املس تفيد منه املرتفون يف ذلك اجملتمع ‪ ،‬املنعم ون على حس اب الن اس‬
‫ال ذين جيعل ون من ه ذا التمث ال م ربرا لوج ودهم ‪ ،‬من هنا يك ون من الط بيعي ان ه ؤالء‬
‫املرتفني وه ؤالء املس تفيدين جتدهم دائما يف اخلط املع ارض لالنبي اء ‪ « ،‬وك ذلك ما ارس لنا‬
‫من قبلك في قرية من ن ذير اال ق ال مترفوها انا وج دنا اباءنا على أمة وانا على آث ارهم‬
‫مقتدون » (‪.)1‬‬
‫« وما ارس لنا في قرية من ن ذير اال ق ال مترفوها انا بما ارس لتم به ك افرون » (‪« )2‬‬
‫سأصرف عن آيايت الذي يستكربون يف االرض بغري احلق وان يروا كل آية ال‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة الزخرف ‪ :‬اآلية (‪.)23‬‬
‫(‪ )2‬سورة سبأ ‪ :‬اآلية (‪.)34‬‬

‫‪158‬‬
‫يؤمنون بها‪ .‬وان يروا سبيل الرشد ال يتخذوه سبيال‪ .‬وان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيال‬
‫ذلك ب انهم ك ذبوا بآياتنا وك انوا عنها غ افلين » (‪ « .)1‬وق ال المأل من قومه ال ذين كف روا‬
‫وك ذبوا بلقاء االخرة واترفناهم في الحي اة ال دنيا ما ه ذا اال بشر مثلكم يأكل مما ت أكلون‬
‫منه ويشرب مما تشربون » (‪ .)2‬اذن دين التوحيد هو الذي يستأصل مصاحل هؤالء املرتفني‬
‫بالقض اء على اهلتهم وعلى مثلهم اليت حتولت اىل متاثيل ‪ ،‬يقطع ص لة البش رية هبذه املثل‬
‫العليا املنخفضة ولكنه ال يقطع ص لتها هبذه املثل العليا املنخفضة لكي يطأ برأس ها يف‬
‫ال رتاب ‪ ،‬لكي حيوهلا اىل كومة مادية ليس هلا اش واق ليس هلا طموح ات ليس هلا تطلع ات‬
‫اىل اعلى كما هو ش أن الث وار املاديني ال ذين يس تلهمون من املادية التأرخيية ومن الفهم‬
‫املادي للتاريخ ‪ ،‬اولئك ايضا حياربون هذه االهلة املصطنعة ويسموهنا أفيون الشعوب وحنن‬
‫ايضا حنارب هذه االهلة املصطنعة ولكننا حنن حنارهبا ال لكي حنول االنسان اىل حيوان ‪ ،‬ال‬
‫لكي نقطع صلة االنسان بأشواقه العليا ‪ ،‬ال لكي حنول مسار‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة االعراف ‪ :‬اآلية (‪.)146‬‬
‫(‪ )2‬سورة املؤمنون ‪ :‬اآلية (‪.)33‬‬

‫‪159‬‬
‫االنس ان من اعلى اىل أس فل وامنا نقطع ص لة االنس ان هبذه املثل املنخفضة لكي نش ده اىل‬
‫املثل االعلى لكي نشده اىل اهلل سبحانه وتعاىل وتبين املسرية البشرية هلذا املثل االعلى احلق‬
‫ال ذي حيدث ه ذه التغ ريات الكيفية والكمية على اجتاه املس رية وحجمها ‪ ،‬تبين املس رية‬
‫البشرية هلذا املثل يتوقف على عدة أمور ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ على رؤية واض حة فكريا واي ديولوجيا هلذا املثل االعلى وه ذه الرؤية الواض حة‬
‫هلذا املثل االعلى هو ال ذي تقدمه عقي دة التوحيد على مر الت اريخ ‪ ،‬عقي دة التوحيد اليت‬
‫تنط وي على االميان باهلل س بحانه وتع اىل ‪ ،‬اليت توحد بني كل املثل ‪ ،‬بني كل الغاي ات‬
‫وكل الطموحات وكل التطلعات البشرية وتوحد بينها يف هذا املثل االعلى الذي هو علم‬
‫كله وق درة كله وع دل كله ورومحة ‪ ،‬كله انتق ام من اجلب ارين‪ .‬ه ذا املثل االعلى ال ذي‬
‫تتوحد فيه كل الطموح ات وكل الغاي ات ‪ ،‬ه ذا املثل االعلى تعطينا عقي دة التوحيد رؤية‬
‫واض حة له ‪ ،‬تعلمنا على ان نتعامل مع ص فات اهلل واخالق اهلل بوص فها حق ائق عينية‬
‫منفصلة عنا كما يتعامل فالسفة االغريق وامنا نتعامل مع هذه الصفات واالخالق بوصفها‬
‫رائ دا عمليا ‪ ،‬بوص فها ه دفا ملس ريتنا العملية ‪ ،‬بوص فها مؤش رات على الطريق الطويل‬
‫لالنسان حنو اهلل‬

‫‪160‬‬
‫س بحانه وتع اىل‪ .‬عقي دة التوحيد هي اليت ت وفر ه ذا الش رط االول وهو الرؤية الواض حة‬
‫فكريا وايديولوجيا للمثل اعلى‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الب ّد من طاقة روحية مس تمدة من ه ذا املثل االعلى لكي تك ون ه ذه الطاقة‬
‫الروحية رص يدا ووق ودا مس تمرا لالرادة البش رية على مر الت اريخ ‪ ،‬ه ذه الطاقة الروحية ‪،‬‬
‫ه ذا الوقود ال ذي يستمد من اهلل س بحانه وتع اىل يتمثل يف عقي دة يوم القيامة ‪ ،‬يف عقي دة‬
‫احلشر واالمت داد ‪ ،‬عقي دة يوم القيامة تعلم االنس ان ان ه ذه الس احة التارخيية الصغرية اليت‬
‫يلعب عليها االنس ان مرتبطة ارتباطا وثيقا بس احات برزخية وبس احات حش رية يف ع امل‬
‫الربزخ واحلشر‪ .‬وان مصري االنسان على تلك الساحات العظيمة اهلائلة مرتبط بدوره على‬
‫هذه الساحة التارخيية‪ .‬هذه العقيدة تعطي تلك الطاقة الروحية وذلك الوقود الرباين الذي‬
‫ينعش ارادة االنسان وحيقق له دائما قدرته على التمديد واالستمرار‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ان ه ذا املثل االعلى ال ذي حتدثنا عنه خيتلف عن املثل العليا االخ رى التكرارية‬
‫واملنخفضة اليت حتدثنا عنها س ابقا على اس اس ان ه ذا املثل منفصل عن االنس ان ‪ ،‬ليس‬
‫ج زءا من االنس ان ‪ ،‬ليس من اف راز االنس ان ‪ ،‬بل هو منفصل عنه ‪ ،‬هو واقع عيين ق ائم‬
‫هناك ‪ ،‬قائم يف كل‬

‫‪161‬‬
‫مكان وليس جزءا من االنسان ‪ ،‬هذا االنفصال يفرض وجود صلة موضوعية بني االنسان‬
‫وه ذا املثل االعلى‪ .‬بينما املثل االخ رى الس ابقة ك انت انس انية ‪ ،‬ك انت اف رازا بش ريا‬
‫الحاجة اىل افرتاض صلة موضوعية ‪ ،‬نعم هناك طواغيت وفراعنة على مر التاريخ نصبوا‬
‫من انفسهم صالت موضوعية بني البشرية وبني آهلة الشمس ‪ ،‬آهلة الكواكب ولكنها صلة‬
‫موضوعية مزيفة الن هذا االله هناك كان ومها ‪ ،‬كان وجودا ذهنيا ‪ ،‬كان افرازا انسانيا ‪،‬‬
‫اما هنا املثل االعلى منفصل عن االنس ان وهلذا ك ان الب ّد من ص لة موض وعية تربط ه ذا‬
‫االنسان بذلك املثل االعلى‪ .‬وهذه الصلة املوضوعية تتجسد يف النيب يف دور النبوة ‪ ،‬فالنيب‬
‫هو ذلك االنسان الذي يركب بني الشرط االول والشرط الثاين بأمر اهلل سبحانه وتعاىل ‪،‬‬
‫بني رؤية ايديولوجية واض حة للمثل االعلى وطاقة روحية مس تمدة من االميان بي وم القيامة‬
‫‪ ،‬يركب بني هذين العنصرين مث جيسد بدور النبوة‪ .‬الصلة بني املثل االعلى والبشرية هذا‬
‫املركب اىل البشرية بشريا ونذيرا‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ البشرية بعد ان تدخل مرحلة يسميها القرآن مرحلة االختالف على ما يأيت ان‬
‫شاء اهلل شرحه يف الدروس القادمة سوف لن يكفي جميء البشري النذير‬

‫‪162‬‬
‫الن مرحلة االختالف تعين مرحلة انتص اب تلك املثل املنخفضة او التكرارية ‪ ،‬تعين وجود‬
‫تلك االهلة املزورة على الطريق ‪ ،‬وجود تلك احلواجب والعوائق عن اهلل س بحانه وتع اىل ‪،‬‬
‫اذن الب ّد للبش رية من ان ختوض معركة ضد اآلهلة املص طنعة ‪ ،‬ضد تلك الط واغيت واملثل‬
‫املنخفضة اليت تنصب من نفسها قيما على البشرية وحاجب وقاطع طريق بالنسبة للمسرية‬
‫التارخيية ‪ ،‬الب ّد من معركة ضد هذه اآلهلة ‪ ،‬الب ّد من قيادة تتبىن هذه املعركة وهذه القيادة‬
‫هي االمامة ‪ ،‬هي دور االم ام ‪ ،‬االم ام هو القائد ال ذي يت وىل ه ذه املعرك ة‪ .‬ودور االمامة‬
‫ين دمج مع دور النب وة يف مرحلة من مراحل النب وة يتح دث عنها الق رآن وس وف نتح دث‬
‫عنها انش اء اهلل تع اىل ونق ول باهنا ب دأت يف أكرب الظن مع ن وح عليه الص الة والس الم‪.‬‬
‫ودور االم ام ين دمج مع دور النب وة ولكنه ميتد حىت بعد النيب اذا ت رك النيب الس احة وبعد‬
‫الت زال املعركة قائمة وال ت زال الرس الة حباجة اىل مواص لة ه ذه املعركة من اجل القض اء‬
‫على تلك اآلهلة حينئذ ميتد دور االمامة بعد انته اء الن يب‪ .‬ه ذا هو الش رط الرابع يف تبين‬
‫املسرية التارخيية هلذا املثل االعلى ‪ ،‬على هذا الضوء سوف نكون رؤية واضحة ملا نسميه‬
‫االصول اخلمسة ‪ ،‬سوف تقع اصول الدين اخلمسة يف موقعها الطبيعي الصحيح‬

‫‪163‬‬
‫الس ليم من مس ار االنس ان ‪ ،‬اص ول ال دين اخلمس ة‪ .‬التوحيد ‪ :‬هو ال ذي يعطي الرؤية‬
‫الواض حة فكريا واي ديولوجيا ‪ ،‬هو ال ذي جيمع ويع بئ كل الطموح ات وكل الغاي ات يف‬
‫مثل اعلى واحد وهو اهلل سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫العدل ‪ :‬هو جانب من التوحيد ولكن امنا فصل العدل صفة من صفات اهلل سبحانه‬
‫وتع اىل ح ال الع دل ‪ ،‬ح ال العليم ‪ ،‬ح ال الق درة ‪ ،‬ال يوجد م يزة عقائدية يف الع دل يف‬
‫مقابل العلم ‪ ،‬يف مقابل الق درة ولكن امليزة هنا م يزة اجتماعية ‪ ،‬م يزة الق دوة‪ .‬ألن الع دل‬
‫هو الص فة اليت تعطي للمس رية االجتماعية وتغنيها واليت تك ون املس رية االجتماعية حباجة‬
‫اليها اك ثر من أي ص فة أخ رى ‪ ،‬اب رز الع دل هنا كأصل ث اين من اص ول ال دين باعتب ار‬
‫املدلول التوجهي ‪ ،‬باعتبار املدلول الرتبوي هلذه الصفة ‪ ،‬قلنا بان صفات اهلل واخالق اهلل‬
‫علمنا االس الم ب ان ال نتعامل معها كحق ائق عينية ميتافيزقية فوقنا ال ص لة لنا هبا وإمنا‬
‫نتعامل معها كمؤشرات وكمنارات على الطريق اذن من هنا كان العدل له مدلوله االكرب‬
‫بالنس بة اىل توجيه املس رية البش رية والجل ذلك أف رز‪ .‬وان الع دل يف احلقيقة هو داخل يف‬
‫اطار التوحيد العام ‪ ،‬يف اطار املثل االعلى‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫االصل الثالث النبوة ‪ :‬النبوة هي اليت توفر الصلة املوضوعية بني االنسان وبني املثل‬
‫االعلى‪ .‬املس رية البش رية كما قلنا حينما تبنت املثل االعلى احلق املنفصل عنها ال ذي ليس‬
‫من افرازها ومن انتاجها املنخفض كانت حباجة اىل صلة موضوعية‪ .‬هذه الصلة املوضوعية‬
‫جيس دها النيب (ص) ‪ ،‬النيب على مر الت اريخ ‪ ،‬االنبي اء عليهم الص الة والس الم هم ال ذين‬
‫جيسدون هذه الصلة املوضوعية‪.‬‬
‫االمامة ‪ :‬االمامة هي يف احلقيقة تلك القي ادة اليت تن دمج مع دور النب وة ‪ ،‬النيب هو‬
‫ام ام ايضا ‪ ،‬النيب نيب والنيب ام ام ولكن االمامة ال تنتهي بانته اء النيب اذا ك انت املعركة‬
‫قائمة واذا ما ك انت الرس الة ال ت زال حباجة اىل قائد يواصل املعرك ة‪ .‬اذن س وف يس تمر‬
‫هذا اجلانب من دور النيب خالل االمامة‪ .‬فاالمامة هو االصل الرابع من اصول الدين‪.‬‬
‫واالصل اخلامس هو اميان بي وم القيامة ‪ :‬هو ال ذي ي وفر الش رط الث اين من الش روط‬
‫االربعة اليت تق دمت ‪ ،‬هو ال ذين يعطي تلك الطاقة الروحية ‪ ،‬ذلك الوق ود الرب اين ال ذي‬
‫جيدد دائما ارادة االنسان وقدرة االنسان ويوفر الشعور باملسؤولية والضمانات املوضوعية‪.‬‬
‫اذن اصول الدين يف احلقيقة‬

‫‪165‬‬
‫وب التعبري التحليلي على ض وء ما ذكرن اه هي كلها عناصر تس اهم يف ت ركيب ه ذا املثل‬
‫االعلى ويف اعطاء تلك العالقة االجتماعية بصفتها التارخيية ‪ ،‬بصفتها القرآنية الرباعية اليت‬
‫حتدثنا عنها يف ال دروس املاض ية ‪ ،‬حتدثنا ب ان الق رآن الك رمي ط رح العالقة االجتماعية ذات‬
‫اربعة ابع اد ال ذات ثالثة ابع اد ‪ ،‬طرحها بص يغة االس تخالف وش رحنا يف ما س بق ص يغة‬
‫االس تخالف وقلنا ب ان االس تخالف يف رتض اربعة ابع اد ‪ ،‬يف رتض انس انا وطبيعة واهلل‬
‫سبحانه وتعاىل وهو املستخلف‪ .‬هذه الصيغة الرباعية للعالقة االجتماعية هي التعبري االخر‬
‫عن صيغة تدمج اصول الدين اخلمسة يف مركب واحد من اجل ان يسري االنسان ويكدح‬
‫حنو اهلل س بحانه وتع اىل يف طريقه الطويل ‪ ،‬مبا ذكرن اه نوضح دور االنس ان يف املس رة‬
‫التارخيية ‪ ،‬نوضح ان االنس ان هو مركز الثقل يف املس رية التارخيي ة‪ .‬هو مركز الثقل ال‬
‫جبس مه الفيزي ائي وامنا مبحت واه ال داخلي وه ذا احملت وى ال داخلي توضح ايضا من خالل ما‬
‫شرحناه‪ .‬ان االساس يف بناء هذا احملتوى الداخلي هو املثل االعلى الذي يتبناه االنسان ‪،‬‬
‫الن املثل االعلى هو الذي تنبثق منه كل الغايات التفصيلية‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫والغاي ات التفص يلية هي احملرك ات التارخيية للنش اطات على الس احة التارخيي ة‪ .‬اذن‬
‫املثل االعلى وتبين املثل االعلى هو يف احلقيقة االس اس يف بن اء احملت وى ال داخلي لالنس ان‬
‫ومن هنا ظهر دور هذا البعد الرابع‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫الدرس الثاني عشر ‪:‬‬
‫مقدمة يف حتليل عناصر اجملتمع ‪ ،‬ان اجملتمع يتكون من ثالثة عناصر وهي ‪ :‬االنسان‬
‫والطبيعة والعالقة يف احللقة التارخيية ‪ ،‬وقد حتدثنا عن االنس ان ودوره االساسي يف احللقة‬
‫التارخيية وحتدثنا عن الطبيعة وش أهنا على الس احة التارخيية وبقي علينا ان نأخذ العنصر‬
‫الث الث وهو ‪ :‬العالقة االجتماعية لنح دد موقفنا من ه ذه العالقة االجتماعية على ض وء ما‬
‫انتهينا اليه من مواقف قرآنية جتاه دور االنس ان والطبيعة على الس احة التارخيية ‪ ،‬العنصر‬
‫الثالث هو العالقة االجتماعية وقد تقدم ان العالقة االجتماعية تتضمن عالقتني مزدوجتني‬
‫اح دامها عالقة االنس ان مع الطبيعة واالخ رى عالقة االنس ان مع اخيه االنس ان ‪ ،‬ه ذان‬
‫خطّ ان من العالقة االجتماعية ‪ ،‬وه ذان اخلط ان ن ؤمن ب ان كل واحد منهما خمتلف عن‬
‫االخر ومستقل استقالال نسبيا عن االخر مع‬

‫‪168‬‬
‫شيء من التفاعل والتأثري املتبادل احملدود الذي سوف نشرحه بعد ذلك ان شاء اهلل تعاىل‬
‫من حيث االساس ‪ ،‬هذان اخلطان احدمها خمتلف عن االخر ومستقل استقالال نسبيا عنه‬
‫تبعا لالختالف النوعي يف طبيعة املشكلة اليت يواجهها كل واحد من هذين اخلطني ونوع‬
‫احلل الذي ينسجم مع طبيعة تلك املش كلة‪ .‬فاخلط االول ال ذي ميثل عالق ات االنس ان مع‬
‫الطبيعة من خالل اس تثمارها وحماولة تطويعها وانت اج حاجاته احلياتية منه ا‪ .‬ه ذا اخلط‬
‫يواجه مش كلة وهي مش كلة التن اقض بني االنس ان والطبيعة ‪ ،‬ويعين مترد الطبيعة وتعص يها‬
‫عن االس تجابة للطلب االنس اين وللحاجة االنس انية من خالل التفاعل ما بينهما ‪ ،‬ه ذا‬
‫التن اقض بني االنس ان والطبيعة هو املش كلة الرئيسية على ه ذا اخلط وه ذا التن اقض له حل‬
‫من ق انون موض وعي ميثل س نة من س نن الت اريخ الثابتة ‪ ،‬وه ذا الق انون هو ق انون الت أثري‬
‫املتب ادل بني اخلربة واملمارسة ‪ ،‬ذلك الن االنس ان كلما تض اءل جهله بالطبيعة وكلما‬
‫ازدادت خربته بلغتها وبقوانينها ازدادت س يطرة عليها ومتكنا من تطويعها وت ذليلها‬
‫حلاجاته وحيث ان كل خ ربة هي تتولد يف ه ذا احلقل ع ادة من املمارسة ‪ ،‬وكل ممارسة‬
‫تولد بدورها خربة وهلذا كان قانون التأثري املتبادل بني اخلربة‬

‫‪169‬‬
‫واملمارسة قانونا موض وعيا يكفل حل ه ذا التن اقض ‪ ،‬يق دم احلل املس تمر واملتن امي هلذا‬
‫التناقض بني االنسان والطبيعة‪ .‬اذ يتضاءل جهل االنسان باستمرار وتنمو معرفته باستمرار‬
‫من خالل ممارسته للطبيعة يكتسب خربة جديدة ‪ ،‬هذه اخلربة اجلديدة تعطيه سيطرة على‬
‫ميدان جديد من ميادين الطبيعة فيمارس على امليدان اجلديد وهذه املمارسة بدورها ايضا‬
‫تتحول اىل خربة وهكذا تنمو اخلربة االنسانية باستمرار ما مل تقع كارثة كربى طبيعية او‬
‫بش رية ‪ ،‬وه ذا الق انون ينم وه وبتطابيقاته التارخيية يعطي احلل ول التدرجيية هلذه املش كلة ‪،‬‬
‫فهي مش كلة حملولة تارخييا وحملولة موض وعيا ولعل يف اآلية الكرمية « وآت اكم من كل ما‬
‫س ألتموه ‪ ،‬ان تع دوا نعمة اهلل ال تحص وها » (‪ )1‬لعل يف اآلية الكرمية اش ارة اىل ه ذا احلل‬
‫املوض وعي املس تمد من ق انون الت أثري املتب ادل بني اخلربة واملمارسة الن الس ؤال يف اآلية‬
‫الكرمية « وآتاكم من كل ما سألتمون » ال يراد منه الدعاء طبعا السؤال اللفظي الذي هو‬
‫ال دعاء ‪ ،‬الن اآلية تتكلم عن االنس انية ككل عمن ي ؤمن باهلل ومن ال ي ؤمن باهلل ‪ ،‬من‬
‫ي دعو اهلل ومن ال ي دعو اهلل ‪ ،‬كما ان ال دعاء ال يتض من حتما حتص يل الش يء املدعو به ‪،‬‬
‫نعم كل دعاء له استجابة ‪،‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة ابراهيم اآلية (‪.)34‬‬

‫‪170‬‬
‫لكن ليس لكل دع اء حتقيق ملا تعلق به ال دعاء ‪ ،‬بينما هنا يق ول « وآت اكم من كل ما‬
‫سألتموه » هنا ايتاء ‪ ،‬استجابة فعلية بعطاء ما سؤل عنه ‪ ،‬فأكرب الظن ان هذا السؤال من‬
‫االنسانية ككل وعلى مر التاريخ وعرب املاضي واحلاضر واملستقبل يتمثل يف السؤال الفعلي‬
‫والطلب التكويين الذي حيقق باستمرار التطبيقات التارخيية لقانون التأثري املتبادل بني اخلربة‬
‫واملمارسة ‪ ،‬ه ذه هي املش كلة اليت يواجهها اخلط االول من العالق ات ‪ ،‬وه ذا هو احلل‬
‫ال ذي يوضع هلذه املش كلة‪ .‬واما اخلط الث اين من العالق ات عالق ات االنس ان مع اخيه‬
‫االنس ان يف جمال توزيع الث ورة أو يف س ائر احلق ول االجتماعية أو يف أوجه التفاعل‬
‫احلضاري بني االنسان واخيه االنسان ‪ ،‬فهذا اخلط يواجه مشكلة أخرى ‪ ،‬ليست املشكلة‬
‫هنا هي التن اقض بني االنس ان والطبيعة بل هي التن اقض االجتم اعي بني االنس ان واخيه‬
‫االنس ان‪ .‬وه ذا التن اقض االجتم اعي بني االنس ان واخيه االنس ان يتخذ على الس احة‬
‫االجتماعية ص يغا متع ددة والوانا خمتلفة ولكنه يظل يف حقيقته وج وهره يظل ش يئا ثابتا‬
‫وحقيقة واحدة وروحا عامة وهي التناقض ما بني القوي والضعيف ‪ ،‬بني كائن يف مركز‬
‫القوة وكائن يف مركز الضعف ‪ ،‬هذا الكائن‬

‫‪171‬‬
‫ال ذي هو يف مركز الق وة اذا مل يكن قد حل تناقضه اخلاص ‪ ،‬جدله االنس اين من ال داخل‬
‫فس وف يف رز ال حمالة ص يغة من ص يغ التن اقض االجتم اعي ومهما اختلفت الص يغة يف‬
‫مضموهنا القانوين ويف شكلها التشريعي ويف لوهنا احلضاري فهي بال شك صيغة من صيغ‬
‫التناقض بني القوي والضعيف‪ .‬قد يكون هذا القوي فردا فرعونا ‪ ،‬قد يكون طبقة ‪ ،‬قد‬
‫يكون شعبا ‪ ،‬قد يكون امة ‪ ،‬كل هذه الوان من التناقض كلها حتتوي روحا واحدا وهي‬
‫روح الصراع ‪ ،‬روح االستغالل من القوي الذي مل حيل تناقضه الداخلي وجدله االنساين‬
‫‪ ،‬الص راع بينه وبني الض عيف وحماولة اس تغالل ه ذا الض عيف‪ .‬ه ذه اش كال متع ددة من‬
‫التن اقض االجتم اعي ال ذي يواجهه خط العالق ات بني االنس ان واخيه االنس ان وه ذه‬
‫االش كال املتع ددة ذات ال روح الواح دة كلها تنبع من معني واحد ‪ ،‬من تن اقض رئيسي‬
‫واحد ‪ ،‬وهو ذلك اجلدل االنساين الذي شرحناه القائم بني حفنة الرتاب وبني اشواق اهلل‬
‫س بحانه وتع اىل ‪ ،‬ما مل ينتصر أفضل النقيضني يف ذلك اجلدل االنس اين فس وف يظل ه ذا‬
‫االنس ان يف رز التن اقض تلو التن اقض والص يغة بعد الص يغة حسب الظ روف واملالبس ات ‪،‬‬
‫حسب الشروط املوضوعية ومستوى الفكر والثقافة ‪ ،‬اذن النظرة االسالمية من‬

‫‪172‬‬
‫زاوية املش كلة اليت يواجهها خط العالق ات بني االنس ان واخيه االنس ان‪ .‬نظ رة واس عة ‪،‬‬
‫منفتحة ‪ ،‬معمقة ‪ ،‬ال تقتصر على لون من التناقض ‪ ،‬وال هتمل ألوان أخرى من التناقض ‪،‬‬
‫بل هي تستوعب كل أشكال التناقض على مر التاريخ وتنفذ اىل عمقها وتكشف حقيقتها‬
‫الواح دة ‪ ،‬وروحها املش رتكة مث تربط كل ه ذه التناقض ات تربطها بالتن اقض االعمق ‪،‬‬
‫باجلدل االنس اين ‪ ،‬ومن هنا ي ؤمن االس الم ب أن الرس الة الوحي دة الق ادرة على حل ه ذه‬
‫املش كلة اليت يواجهها خط عالق ات االنس ان مع االنس ان هو تلك الرس الة اليت تعمل على‬
‫مستويني يف وقت واحد ‪ ،‬تعمل من أجل تصفية التناقضات االجتماعية على الساحة لكن‬
‫يف نفس ال وقت وقبل ذلك وبعد ذلك تعمل من أجل تص فية ذلك اجلدل يف احملت وى‬
‫الداخلي لالنسان من أجل جتفيف منبع تلك التناقضات االجتماعية ‪ ،‬ويؤمن االسالم بأن‬
‫ترك ذلك املعني من اجلدل والتناقض على حالة واالشتغال بتصفية التناقضات على الساحة‬
‫االجتماعية بص يغتها التش ريعية فقط ه ذا نصف العملية ‪ ،‬النصف املبت ور من العملية اذ‬
‫سرعان ما يفرز ذلك املعني صيغا أخرى وفق هذه العملية اليت سوف نستأصل هبا الصيغ‬
‫الس ابقة‪ .‬فال بد للرس الة اليت تريد أن تضع احلل املوض وعي للمش كلة ان تعمل على كال‬
‫املستويني ‪،‬‬

‫‪173‬‬
‫أن تؤمن جباهدين ‪ ،‬جهاد اكرب مساه االسالم « بالجهاد االكبر » وهو اجلهاد لتصفية ذلك‬
‫التن اقض الرئيسي ‪ ،‬حلل ذلك اجلدل ال داخلي‪ .‬وجه اد آخر ‪ ،‬جه اد يف وجه كل ص يغ‬
‫التناقض االجتماعي ويف وجه كل الوان استئثار القوي للضعيف من دون ان حنصر أنفسنا‬
‫يف نط اق ص يغة معينة من ص يغ ه ذا االس تئثار الن االس تئثار ج وهره واحد مهما اختلفت‬
‫صيغة‪ .‬هذه هي النظرة املنفتحة الواقعية اليت اثبتت التجربة البشرية باستمرار انطباقها على‬
‫واقع احلي اة خالفا للنظ رة الض يقة اليت فس رت هبا املادية والث وار املاديون اليت فس روا هبا‬
‫التن اقض‪ .‬ف ان م اركس على ال رغم من ذكائه الف ائق اال انه مل يس تطع ان يتج اوز ح دود‬
‫النظ رة التقليدية لالنس ان االورويب ‪ ،‬ك ان حبكم كونه ف ردا أوروبيا ‪ ،‬ك ان رهني ه ذه‬
‫النظرة التقليدية‪ .‬االنسان االورويب دائما يرى العامل ينتهي حيث تنتهي الساحة االوروبية‬
‫أو الساحة الغربية بتعبري أعم كما يعتقد اليهود بأن االنسانية هي كلها يف اطارهم « ليس‬
‫علينا في االم يين من س بيل » أولئك ليسو بش را ‪ ،‬ليسو أناسا ‪ ،‬أولئك أم يني ‪ ،‬مهج ‪،‬‬
‫كذلك االنسان االورويب اعتاد أن يضع الدنيا كلها يف اطار ساحته االوروبية والغربية ‪ ،‬مل‬
‫يتخلص هذا‬

‫‪174‬‬
‫الرجل (‪ )1‬من تقاليد ه ذه النظ رة االوروبية ‪ ،‬كما انه مل يتخلص من هيمنة العامل الطبقي‬
‫الذي لعب دورا يف افكار املادية التارخيية ‪ ،‬ومن هنا جاء لنا بتفسري حمدود ضيق للتناقض‬
‫الذي تواجهه االنسانية على هذا اخلط اعتقد بأن مرد كل التناقضات على الساحة البشرية‬
‫اىل تن اقض واحد هو التن اقض الطبقي ‪ ،‬التن اقض بني طبقة متلك كل وس ائل االنت اج أو‬
‫معظم وسائل االنتاج وطبقة ال متلك شيئا من وسائل االنتاج وامنا تعمل من أجل مصاحل‬
‫الطبقة االوىل تس تثمر يف تش غيل وس ائل االنت اج اليت متلكها الطبقة االوىل مث ه ذه ال ثروة‬
‫املنتجة اليت جس دت ع رق ج بني ه ذا العامل املس تغل ه ذه الث ورة املنتجة يس تويل عليها‬
‫الطبقة االوىل املالكة وال يعطي للطبقة الثانية منها اال احلد االدىن ‪ ،‬حد الكف اف ال ذي‬
‫يضمن استمرار حياة هذه الطبقة لكي تواصل خدمتها وممارستها ضمن اطار الطبقة االوىل‬
‫‪ ،‬هذا هو التناقض الطبقي الذي اختذه قاعدة واساسا لكل ألوان التناقض االخرى ‪ ،‬وهذا‬
‫التن اقض يتخذ مدلوله االجتماعي من خالل صراع مرير بني الطبقة املالكة وما بني الطبقة‬
‫العاملة ‪ ،‬وه ذا الص راع املرير بني ه اتني الطبق تني ينمو ويش تد كلما تط ورت اآللة وكلما‬
‫منت اآللة الصناعية‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬يقصد به كارل ماركس‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫وتعق دت وذلك الن اآللة كلما تط ورت أدت اىل ختفيض يف مس توى املعيشة وه ذا‬
‫توى املعيشة يعطي فرصة للطبقة الرأمسالية املالكة يف ان ختفض أجر‬ ‫التخفيض يف مس‬
‫العامل الهنا ال تريد ان تعطي العامل أك ثر مما ي دمي به حياته ونفس ه‪ .‬اذن باس تمرار تتط ور‬
‫اآللة ‪ ،‬باس تمرار تنخفض كلفة املعيشة وبأس تمرار خيفض الرأمسايل أج رة العامل ه ذا من‬
‫ناحية ‪ ،‬من ناحية ثانية ان تط ور اآللة وتعق دها يقتضي امكانية التع ويض عن الع دد الكبري‬
‫من العم ال بالع دد القليل من العم ال الن دقة اآللة وعملقة اآللة س وف يع وض عن اجلزء‬
‫اآلخر من العمال وهذا جيعل الطبقة الرأمسالية تطرد الفائض من العمال باستمرار وهكذا‬
‫يش تد الص راع بني الطبق تني وحيت دم التن اقض حىت ينفجر يف ث ورة ‪ ،‬ه ذه الث ورة جتس دها‬
‫الطبقة العاملة تقضي هبا على التن اقض الطبقي يف اجملتمع وتوحد اجملتمع يف طبقة واح ده‬
‫وه ذه الطبقة الواح دة متثل حينئذ كل أف راد اجملتمع ويف حالة من ه ذا القبيل س وف‬
‫تستأصل كل ألوان التناقض الن أساس التناقض هو التناقض الطبقي ‪ ،‬فاذا أزيل التناقض‬
‫الطبقي زالت كل التناقض ات االخ رى الفرعية والثانوي ة‪ .‬ه ذا تلخيص س ريع ج دا لوجهة‬
‫نظر هؤالء الثوار جتاه التناقض الذي عاجلناه‪ .‬اال ان هذه النظرة الضيقة ال‬

‫‪176‬‬
‫تنجسم يف احلقيقة مع الواقع وال تنطبق على تي ار االح داث يف الت اريخ ليس التن اقض‬
‫الطبقي وليس تط ور اآللة بل هو وليد االنس ان ‪ ،‬هو من ص نع االنس ان االورويب ‪ ،‬ليست‬
‫اآللة هي اليت ص نعت اس تغالل الرأمسايل للعامل ‪ ،‬ليست اآللة هي اليت خلقت النظ ام‬
‫الرأمسايل ‪ ،‬وامنا االنس ان االورويب ال ذي وقعت ه ذه اآللة بي ده اف رز نظاما رأمساليا جيسد‬
‫قيمه يف احلي اة وتص وراته للحي اة ‪ ،‬وليس التن اقض الطبقي هو الش كل الوحيد من اش كال‬
‫التناقض ‪ ،‬هناك صيغ كثرية للتناقض على الساحة االجتماعية ‪ ،‬وليس التناقض الطبقي هو‬
‫التن اقض الرئيسي بالنس بة اىل تلك االش كال وامنا كل ه ذه االش كال من التن اقض على‬
‫الس احة االجتماعية هي وليد تن اقض رئيس وهو ج دل االنس ان ‪ ،‬هو اجلدل املخب وء يف‬
‫داخل حمتوى االنس ان ذاك هو التن اقض ال رئيس ال ذي يف رز دائما وأب دا ص يغا متع ددة من‬
‫التن اقض‪ .‬تع الوا نالحظ ونق ارن بني ه ذه النظ رة الض يقة وبني واقع التجربة البش رية‬
‫املعاصرة لنرى أي النظريتني أكثر انطباقا على العامل الذي نعيشه ‪ ،‬ونرى ماذا كنا نتوقع ‪،‬‬
‫م اذا كنا ننتظر لو ك انت ه ذه النظ رة وك ان ه ذا التفسري للتن اقض ‪ ،‬لو ك ان ص حيحا‬
‫وواقعيا ‪ ،‬ماذا كنا ننتظر وماذا كنا نتوقع كنا ننتظر ونتوقع أن‬

‫‪177‬‬
‫ي زداد يوما بعد ي وم التن اقض الطبقي والص راع بني الطبقة الرأمسالية والطبقة العاملة يف‬
‫اجملتمع ات االوروبية الص ناعية اليت تط ورت فيها اآللة تط ورا كب ريا‪ .‬ك ان من املف روض أن‬
‫ه ذه اجملتمع ات ك انكلرتا والوالي ات االمريكية املتح دة وفرنسا وأملانيا أن يش تد فيها‬
‫التناقض الطبقي والصراع يوما بعد يوم ويتزلزل النظام الرأمسايل املستغل ويتداعى يوما بعد‬
‫ي وم ‪ ،‬وي زداد ال ثراء على حس اب ه ؤالء الع املني يف طبقة الرأمساليني املس تغلني من‬
‫االمريكان واالجنليز والفرنسيني وغريهم ‪ ،‬كما نرتقب حالة من هذا القبيل ‪ ،‬كنا نرتقب‬
‫أن تتض اعف النقمة ‪ ،‬أن يش تد اميان العامل االورويب والعامل االم ريكي ب الثورة وبض ورة‬
‫الث ورة وبأهنا هي الطريق الوحيد لتص فية ه ذا التن اقض الطبقي ‪ ،‬ه ذا ما كنا ننتظ ره لو‬
‫ص حت ه ذه االفك ار عن تفسري التن اقض ‪ ،‬لكن ما وقع خارجا هو عكس ذلك متام ‪،‬‬
‫ن رى وبكل أسف أن النظ ام الرأمسايل يف ال دول الرأمسالية املس تغلة ي زداد ترس خا يوما بعد‬
‫ي وم ال تب دو عليه ب وادر االهني ار الس ريع ‪ ،‬تلك التمني ات الطيبة اليت متناها ثوارنا املاديون‬
‫النكلرتا وللدول االوروبية املتقدمة صناعيا ‪ ،‬متنوا هلا الثورة يف أقرب وقت حبكم التطور‬
‫اآليل والصناعي فيها ‪ ،‬تلك التمنيات الطيبة‬

‫‪178‬‬
‫حتولت اىل سراب ‪ ،‬بينما حتققت هذه النبوءات بالنسبة اىل بالد مل تعش تطورا آليا بل مل‬
‫تعيش تناقضا طبقيا ب املعىن املاركسي الهنا مل تكن قد دخلت الب اب الع ريض الواسع‬
‫للتط ور الص ناعي من قبيل روس يا القيص رية والص ني‪ .‬من ناحية اخ رى هل ازداد العم ال‬
‫بؤسا وفق را ‪ ،‬هل أزدادوا أس تغالال؟ ال ب العكس العم ال أزدادوا رخ اءا ‪ ،‬ازدادوا س عة ‪،‬‬
‫اصبحوا مدللني من قبل الطبقة الرأمسالية املستغلة‪ .‬العامل االمريكي حيصل على ما ال يطع‬
‫به انسان آخر يعمل بكد بيمينة ويقطف مثار عمله يف اجملتمعات االشرتاكية االخرى ‪ ،‬هل‬
‫ازدادت النقمة ل دى الطبقة العامل ة؟ العكس هو الص حيح ‪ ،‬العم ال واهليئ ات اليت متثل‬
‫العمال يف الدول الرأمسالية املستغلة حتولت بالتدريج أكثر هذه اهليئات حتولت اىل هيئات‬
‫ذات ط ابع ش به دميق راطي ‪ ،‬حتولت اىل اش خاص هلم حالة االس رتخاء السياسي ‪ ،‬ترك وا‬
‫مهوم الثورة ‪ ،‬تركوا منطق الثورة ‪ ،‬أصبحوا يتصافحون يدا بيد مع تلك االيدي املستغلة ‪،‬‬
‫مع أي دي الطبقة الرأمسالية ‪ ،‬اص بحوا يرفع ون ش عار حتقيق حق وق العم ال عن طريق‬
‫النقاب ات وعن طريق الربملان ات وعن طريق االنتخاب ات ‪ ،‬ه ذه احلالة هي حالة االس رتخاء‬
‫السياسي ‪ ،‬كل هذا وقع يف هذه الفرتة القصرية من‬

‫‪179‬‬
‫ال زمن اليت حنس ها ‪ ،‬كيف وقع ه ذا كل ه؟ هل ك ان م اركس س يء الظن اىل ه ذه الدرجة‬
‫هبؤالء الرأمساليني ‪ ،‬هبؤالء اجملرمني ‪ ،‬واملس تغلني حبيث تنبأ هبذه النب وءات مث ض اعت ه ذه‬
‫النب وءات كلها فلم يتحقق ش يء منه ا؟ هل ك ان ه ذا س وء ظن من م اركس هلؤالء‬
‫املستغلني؟ هل ان هؤالء الرأمساليني املستغلني دخل يف نفوسهم الرعب من ماركس ومن‬
‫املاركس ية ومن الث ورات التحررية يف الع امل؟ هل دخل يف أنفس هم ال رعب فح اولوا أن‬
‫يتنازلوا عن جزء من مكاسبهم خوفا من أن يثور العامل عليهم؟ هل هذا صحيح ‪ ،‬هل ان‬
‫املليونري االم ريكي خياجل ذهنه فعال أي ش بح من خ وف من ه ذه الناحية ‪ ،‬اشد الن اس‬
‫تف اؤال مبص ائر الث ورة يف الع امل ال ميكنه ان يفكر يف ان ث ورة حقيقية على الظلم يف امريكا‬
‫ميكن ان حتدث قبل مئة س نة من ه ذا الت اريخ‪ .‬فكيف ميكن ان نف رتض ان املليونري‬
‫االمريكي أصبح أمامه شبح اخلوف والرعب على اساس هذا الشبح تنازل عن جزء من‬
‫مكاسبه‪ .‬هل انه دخلت اىل قلوهبم التقوى فجأة؟ استنارت قلوهبم بنور االسالم الذي أنار‬
‫قل وب املس لمني االوائل ال ذين ك انوا ال يعرف ون ح دا للمش اركة واملواس اة وال ذين ك انوا‬
‫يشاطرون اخواهنم غنائمهم وسرائهم وضرائهم ‪ ،‬هل حتول هؤالء بني عشية وضحاها اىل‬
‫مسلمني ‪ ،‬اىل‬

‫‪180‬‬
‫قلوب مسلمة؟ ال ‪ ..‬مل يتحقق شيء من ذلك ‪ ،‬ال كارل ماركس كان سيء الظن هبؤالء‬
‫‪ ،‬كان ظنه منطبقا على هؤالء انطباقا تاما‪ .‬وال أن هؤالء أرعبهم شبح العامل فتنازلوا من‬
‫أجل اس كاته وال ان قل وهبم خفقت ب التقوى مل تع رف التق وى ولن تع رف التق وى الهنا‬
‫انغمست يف لذات املال ويف الشهوات ‪ ،‬مل يتحقق شيء من ذلك ‪ ،‬اذن ماذا وقع وكيف‬
‫نفسر ه ذا ال ذي وقع ‪ ،‬ه ذا ال ذي وقع يف احلقيقة ك ان نتيجة تن اقض آخر ع اش مع‬
‫التن اقض الطبقي منذ البداية ولكن م اركس والث وار ال ذين س اروا على ه ذا الطريق ‪ ،‬مل‬
‫يستطيعوا أن يكتشفوا ذلك التناقض وهلذا حصروا أنفسهم يف التناقض الطبقي يف التناقض‬
‫بني املليونري االم ريكي والعامل االم ريكي ‪ ،‬بني الغين االجنل يزي ومل ي دخلوا يف احلس اب‬
‫التن اقض االخر االكرب ال ذي أف رزه ج دل االنس ان االورويب ‪ ،‬اف رزه تن اقض االنس ان‬
‫االورويب فغطى على هذا التناقض الطبقي ‪ ،‬بل جنده ‪ ،‬بل أوقفه اىل فرتة طويلة من الزمن‬
‫‪ ،‬ما هو ذلك التن اقض؟ حنن بنظرتنا املنفتحة ميكننا أن نبصر ذلك التن اقض ‪ ،‬أن نضع‬
‫أص بعنا على ذلك التن اقض الننا مل حنصر انفس نا يف اط ار التن اقض الطبقي ‪ ،‬بل قلنا أن‬
‫جدل االنسان دائما يفرز أي شكل من أشكال التناقض االجتماعي ‪،‬‬

‫‪181‬‬
‫ذلك التن اقض اآلخر وجد فيه الرأمسايل املس تغل االورويب واالم ريكي وجد فيه أن من‬
‫طبيعة هذا التناقض ان يتحالف مع العامل ‪ ،‬مع من يستغله لكي يشكل هو والعامل قطبا‬
‫يف هذا التناقض! مل يعد التناقض تناقضا بني الغين االورويب والعامل االورويب بل ان هذين‬
‫الوجودين الطبقيني حتالفا معا وكونا قطبا يف تناقض اكرب بدأ تارخييا منذ بدأ ذلك التناقض‬
‫ال ذي حتدث عنه م اركس ‪ ،‬لكن ما هو القطب االخر يف ه ذا التن اقض‪ .‬القطب االخر يف‬
‫هذا التناقض هو أنا وأنت وأنت هم الشعوب الفقرية يف العامل هو شعوب ما يسمى بـ «‬
‫العامل الثالث » ‪ ،‬هم شعوب آسيا وأفريقيا وامريكا الالتينية ‪ ،‬هذه الشعوب هي اليت متثل‬
‫القطب الث اين يف ه ذا التن اقض ‪ ،‬ان االنس ان االورويب بكال وجوديه الطبق يني حتالف‬
‫ومتح ور من أجل أن ميارس ص راعه واس تغالله هلذه الش عوب الفق رية ‪ ،‬وقد انعكس ه ذا‬
‫التن اقض االكرب ‪ ،‬انعكس أجتماعيا من خالل ص يغ االس تعمار املختلفة اليت زخ رت هبا‬
‫الس احة التارخيية منذ خ رج االنس ان االورويب واالم ريكي من دي اره ليفتش عن كن وز‬
‫االرض يف خمتلف أرج اء الع امل ولينهب االم وال بال حس اب من خمتلف البالد والش عوب‬
‫الفقرية ‪ ،‬هذا التناقض غطى على التناقض الطبقي ‪ ،‬بل جعد‬

‫‪182‬‬
‫التناقض الطبقي الن جدل االنسان من وراء هذا التناقض كان أقوى من جدل االنسان‬
‫من وراء ذلك التن اقض‪ .‬وال ثراء اهلائل ال ذي تك دس يف أي دي الطبقة الرأمسالية يف ال دول‬
‫الرأمسالية مل يكن كله ‪ ،‬بل وال معظمه نت اج ع رق ج بني العامل االورويب واالم ريكي ‪،‬‬
‫وامنا كان نتاج غنائم حرب ‪ ،‬كان نتائج غنائم غارات ‪ ،‬غارات على هذه البالد الفقرية‬
‫على بالد أخرى استطاع االنسان االبيض ان يغزوها وان ينهبها ‪ ،‬هذا النعيم الذي تغرق‬
‫فيه تلك الدول ليس من عرق جبني العامل االورويب ‪ ،‬ليس من نتاج التناقض الطبقي بني‬
‫الرأمسايل والعامل وامنا هذا النعيم هو من نفط آسيا وامريكا الالتينية ‪ ،‬هو من أملاس تنزانيا‬
‫‪ ،‬هو من احلديد والرص اص والنح اس واليوارني وم يف خمتلف بالد أفريقيا ‪ ،‬هو من قطن‬
‫مصر ‪ ،‬هو من تنب اك لبن ان ‪ ،‬هو من مخر اجلزائ ر! من من مخر اجلزائر الن الك افر املس تعمر‬
‫ال ذي اس تعمر اجلزائر ح ول أرض ها كلها اىل بس تان عنب لكي يقطف ه ذا العنب وحيوله‬
‫اىل مخر ليس كر به العم ال ‪ ،‬وليش عر اولئك العم ال بالنش وة واخليالء ‪ ،‬الهنم يش ربون مخر‬
‫اجلزائر ‪ ،‬يقطفون عنب اجلزائر فيحولونه اىل مخر! نعم ذلك النعيم ‪ ،‬لكن من‬

‫‪183‬‬
‫ه ذه املص ادر ‪ ،‬من ه ذه الين ابيع! س كروا على مخر اجلزائر ومل يس كروا على ع رق ج بني‬
‫العامل الفرنسي أو االورويب أو االم ريكي‪ .‬اذن التن اقض ال ذي مجد ذلك التن اقض وال ذي‬
‫وقف ذلك التن اقض هو ه ذا التن اقض االكرب التن اقض بني احملور الرامسايل ككل بكلتا‬
‫طبقتيه وما بني الشعوب الفقرية يف العامل‪ .‬من خالل هذا التناقض وجد الرأمسايل االورويب‬
‫واالم ريكي أن من مص لحته أن يقاسم العامل ش يئا من ه ذه الغن ائم اليت هنبها مين ومنك‬
‫اليت هنبها من فق راء االرض واملستضعفني يف االرض وان من مص لحته أن يعطي نعمة منها‬
‫‪ ،‬ان يسكر هو ويسكر العمال ايضا خبمر اجلزائر ‪ ،‬ان يتزين مباس تنزانيا ويتزين العامل أو‬
‫زوجته مباسة من ماس ات تنزانيا وهلذا ن رى أن العامل ب دأت حياته ختتلف عن نب وءات‬
‫م اركس‪ .‬ليس ذلك الجل ك رم ط بيعي يف الرامسايل االورويب واالم ريكي وليس لتق وى ‪،‬‬
‫وامنا هي غنيمة كب رية ك ان من املف روض أن يعطي ج زءا منها هلذا العامل واجلزء وح ده‬
‫يكفي الجل حتقيق ه ذا الرف اه بالنس بة اىل ه ذا العامل االورويب واالم ريكي‪ .‬اذن احلقيقة‬
‫اليت يثبتها الت اريخ دائما هو ان التن اقض ال ميكن حص ره يف ص يغة واح ده ‪ ،‬التن اقض له‬
‫صيغ متعددة‬

‫‪184‬‬
‫وذلك الن كل ه ذه الص يغ تنبع من منبع واحد وهو التن اقض الرئيسي ‪ ،‬اجلدل االنس اين‬
‫واجلدل االنس اين ال تع وزه ص يغة‪ .‬اذا حلت ص يغة وضع ص يغة أخ رى مكاهنا ليس من‬
‫الصحيح ان نطوق كل التناقضات يف التنااقض الطبقي ‪ ،‬يف التناقض بني من ميلك ومن ال‬
‫ميلك ‪ ،‬ف اذا حللنا ه ذا التن اقض قلنا ب أن التناقض ات كلها قد حلت ‪ ،‬التن اقض ال ميكن‬
‫حصره يف هذه الصيغة‪ .‬التناقض هو استغالل القوي للضعيف‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫الدرس الثالث عشر ‪:‬‬
‫قلنا أن خط عالق ات االنس ان مع الطبيعة خمتلف مش كلة وقانونا عن خط عالق ات‬
‫االنس ان مع أخيه االنس ان ‪ ،‬وذكرنا ان ه ذين اخلطني كل واحد منهما مس تقل اس تقالال‬
‫نسبيا عن اخلط االخر لكن هذا االستقالل النسيب ال ينفي التفاعل والتأثري املتبادل اىل حد‬
‫ما بني ه ذين اخلطني ‪ ،‬فلكل منهما ل ون من الت اثري الط ردي أو العكسي على اخلط االخر‬
‫وه ذا الت أثري املتب ادل بني اخلطني ميكن اب رازه ض من عالق تني قرآني تني بني ه ذين اخلطني ‪،‬‬
‫العالقة االوىل ت ربز م دى ت أثري خط عالق ات االنس ان مع الطبيعة على خط عالق ات‬
‫االنس ان مع أخيه االنس ان والعالقة القرآنية الثانية ت ربز من اجلانب االخر م دى ت أثري‬
‫عالق ات االنس ان مع أخيه االنس ان على عالق ات االنس ان مع الطبيعة ‪ ،‬أما العالقة االوىل‬
‫اليت تربز تأثري عالقات االنسان مع الطبيعة على‬

‫‪186‬‬
‫اخلط االخر فم ؤدى ه ذه العالقة هو أنه كما منت ق درة االنس ان على الطبيعة واتس عت‬
‫سيطرته عليها وازداد اغتناءا بكنوزها ووسائل انتاجها ‪ ،‬حتققت بذلك امكانية اكرب فاكرب‬
‫لالس تغالل على خط عالق ات االنس ان مع أخيه االنس ان « كال ان االنس ان ليطغى ‪ ،‬ان‬
‫رآه استغنى » (‪ )1‬هذه اآلية الكرمية تشري اىل هذه العالقة اىل ان االنسانية بقدر ما تتمكن‬
‫وتستقطب الطبيعة وتتوصل اىل وسائل انتاج أقوى وأدوات توليد أوسع تكون انعكاسات‬
‫ذلك على حقل عالق ات االنس ان مع أخيه االنس ان ‪ ،‬انعكاس اته على ش كل امكاني ات‬
‫واغراءات وفتح الشهية لالقوياء لكي يستثمروا أداة االنتاج يف سبيل استغالل الضعفاء ‪،‬‬
‫تصوروا جمتمعا يعيش على الصيد باليد واحلجارة واهلراوة ‪ ،‬مثل هذا اجملتمع ال يتمكن من‬
‫أن ميارس ب ذور االقوي اء ‪ ،‬ب ذور الوح وش فيه ال يتمكن ون على االغلب من أن ميارس وا‬
‫أدوارا خطرية من االستغالل االجتماعي الن مستوى االنتاج حمدود والقدرة حمدودة وكل‬
‫انس ان ال يكسب ع ادة بع رق جبينه اال ق وت يومه فال توجد امكانية االس تغالل بش كله‬
‫االجتماعي الواسع وان كان توجد ألوان اخرى من االستغالل الفردي ولكن الحظوا من‬
‫اجلانب االخر‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة الفلق ‪ :‬اآلية ( ‪ 6‬ـ ‪.) 7‬‬

‫‪187‬‬
‫جمتمعا متط ورا اس تطاع االنس ان فيه أن يص نع اآللة البخارية واآللة الكهربائية اس تطاع فيه‬
‫أن خيضع الطبيعة الرادته يف مثل ه ذا اجملتمع س وف تك ون االلة البخارية واآللة الكهربائية‬
‫املعقدة املتطورة الصنع تكون أداة ‪ ،‬امكانية على ساحة عالقات االنسان مع اخيه االنسان‬
‫تش كل حبسب مص طلح الفالس فة ما ب القوة لالس تغالل ويبقى ان خيرج ما ب القوة اىل ما‬
‫بالفعل وذلك على عهدة االنسان ودوره التارخيي على الساحة االجتماعية ‪ ،‬فاالنسان هو‬
‫الذي يصنع االستغالل ‪ ،‬هو الذي يفرز النظام الرأمسايل املستغل حينما جيد اآللة البخارية‬
‫والكهربائية ‪ ،‬ولكن اآللة البخارية والكهربائية هي اليت تعطيه امكانية ه ذا االس تغالل ‪،‬‬
‫هي اليت هتىيء له فرصة تفتح ش هيته ‪ ،‬توقظ مش اعره ‪ ،‬حترك جدله ال داخلي وتناقضه‬
‫ال داخلي من اجل أن ي ربز ص يغة تتناسب مع ما يوجد على الس احة من ق وى االنت اج‬
‫ووسائل التوريد ‪ ،‬وهذا هو الفرق بيننا وبني املادية التارخيية ‪ ،‬املادية التارخيية اعتقدت بأن‬
‫اآللة هي اليت تصنع االستغالل ‪ ،‬هي اليت تصنع النظام املتناسب هلا ولكننا حنن ال نرى ان‬
‫انع ‪ ،‬وامنا دور اآللة هو دور االمكانية ‪ ،‬دور توفري الفرصة‬ ‫دور اآللة هو دور الص‬
‫والقابلية وأما الصانع الذي يتصرف اجيابا وسلبا ‪،‬‬

‫‪188‬‬
‫أمانة وخيانة ‪ ،‬ص مودا واهني ارا ‪ ،‬امنا هو االنس ان وفقا حملت واه ال داخلي‪ .‬ملثله االعلى ملدى‬
‫التحامة مع ه ذا املثل االعلى‪ .‬ه ذه هي العالقة االوىل وأما العالقة القرآنية الثانية اليت متثل‬
‫وجتسد ت أثري عالق ات االنس ان مع الطبيعة ‪ ،‬فم ؤدى ه ذه العالقة القرآنية هو أنه كلما‬
‫جس دت عالق ات االنس ان مع اخيه االنس ان العدالة وكلما اس تطاعت ان تس توعب قيم‬
‫هذه العدالة وان تبتعد عن أي لون من ألوان الظلم واالستغالل من االنسان الخيه االنسان‬
‫‪ ،‬كلما وقع ذلك ازده رت عالق ات االنس ان مع الطبيعة وتفتحت الطبيعة عن كنوزها‬
‫وأعطت املخبوء من ثرواهتا ونزلت الربكات من السماء وتفجرت االرض بالنعمة والرخاء‬
‫‪ ،‬ه ذه العالقة القرآنية هي العالقة اليت ش رحها الق رآن الك رمي يف نص وص عدي دة ق ال‬
‫سبحانه وتعاىل « وألوا استقاموا على الطريقة السقيناهم ماءا غدقا » (‪ « )1‬ولو انهم أقاموا‬
‫التوراة واالنجيل وما أنزل اليهم من ربهم ألكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم » (‪« ، )2‬‬
‫ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء واالرض ‪ ،‬ولكن كذبوا‬
‫فأخذناهم بما كانوا‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة اجلن ‪ :‬اآلية (‪.)16‬‬
‫(‪ )2‬سورة املائدة ‪ :‬اآلية (‪.)66‬‬

‫‪189‬‬
‫يكسبون » (‪ ، )1‬هذه العالقة مؤداها ان عالقات االنسان مع الطبيعة تتناسب عكسيا مع‬
‫ازده ار العدالة يف عالق ات االنس ان مع اخيه االنس ان فكلما ازده رت العدالة يف عالق ات‬
‫االنس ان مع اخيه االنس ان اك ثر ف أكثر ازده رت عالق ات االنس ان مع الطبيعة ‪ ،‬وكلما‬
‫أحنسرت العدالة عن اخلط االول احنسر االزدهار عن اخلط الثاين ‪ ،‬أي ان جمتمع العدل هو‬
‫ال ذي يص نع االزده ار يف عالق ات االنس ان مع الطبيعة وجمتمع الظلم هو ال ذي ي ؤدي اىل‬
‫احنس ار تلك العالق ات ‪ ،‬عالق ات االنس ان مع الطبيعة ‪ ،‬وه ذه العالقة ليست ذات حمت وى‬
‫غييب فقط ‪ ،‬نعم حنن نؤمن أيضا مبحتواها الغييب ولكن اضافة اىل حمتواها الغييب الرباين هي‬
‫تشكل سنة من سنن التاريخ حبسب مفهوم القرآن الكرمي وذلك الن جمتمع الظلم ‪ ،‬جمتمع‬
‫الفراعنة على مر الت اريخ جمتمع ممزق ‪ ،‬مش تت ‪ ،‬الفرعونية على مر الت اريخ حينما تتحكم‬
‫يف عالق ات االنس ان مع اخيه االنس ان تس تهدف متزيق طاق ات اجملتمع ‪ ،‬وتش تيت فئاته ‪،‬‬
‫وبعثرة امكانياته ‪ ،‬ومن الواضح أنه تشتيت وبعثرة وتفتيت وجتزئة من هذا القبيل ال ميكن‬
‫الفراد اجملتمع ان حيشدوا قواهم احلقيقية والسيطرة على الطبيعة وهذا هو الفرق بني‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة االعراف ‪ :‬اآلية (‪.)96‬‬

‫‪190‬‬
‫املثل العليا املنخفضة الفرعونية وبني املثل االعلى احلق مثل التوحيد س بحانه وتع اىل ‪ ،‬ف ان‬
‫املثل االعلى يوحد اجلامعة البش رية ويلغي كل الف وارق واحلدود باعتب ار مشولية ه ذا املثل‬
‫االعلى باعتبار مشوليته فهو يستوعب كل احلدود وكل الفوارق ‪ ،‬يهضم كل االختالفات‬
‫‪ ،‬يص هر البش رية كلها يف وح دة متكافئة ‪ ،‬ال يوجد ما مييز بعض ها عن بعض ‪ ،‬ال من دم‬
‫وال من جنس وال من قومية وال من ح دود جغرافية أو طبقي ة‪ .‬املثل االعلى بش موليته‬
‫يوحد البشرية ولكن املثل العليا املنخفضة جتزيء البشرية وتشتت البشرية انظروا اىل املثل‬
‫االعلى كيف يق ول « وان ه ذه امتكم امة واح دة وأنا ربكم فأعب دون » (‪ « ، )1‬ان ه ذه‬
‫امتكم امة واح دة وأنا ربكم ف اتقون » (‪ ، )2‬ه ذا هو منطق مشولية املثل االعلى اليت ال‬
‫تع رتف حبد وحباجز يف داخل ه ذه االس رة البش رية انظ روا ‪ ،‬اس تمعوا اىل املثل املنخفض ‪،‬‬
‫اىل جمتمع الظلم وآهلة جمتمع الظلم كيف يقولون ‪ ،‬أو كيف يتحدث عنهم القرآن الكرمي‬
‫« ان فرعون عال في االرض وجعل أهلها شيعا » (‪ ، )3‬فرعون املثل االعلى املنخفض ‪،‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة االنبياء ‪ :‬اآلية (‪.)92‬‬
‫(‪ )2‬سورة املؤمنون ‪ :‬اآلية (‪.)52‬‬
‫(‪ )3‬سورة القصص ‪ :‬اآلية (‪.)4‬‬

‫‪191‬‬
‫الفرعونية على مر الت اريخ اليت تبين العالق ات بني االنس ان وأخيه االنس ان علىاس اس الظلم‬
‫واالس تغالل ‪ ،‬الفرعونية جتزيء اجملتمع ‪ ،‬تبع ثر امكاني ات اجملتمع ‪ ،‬وطاق ات اجملتمع ومن‬
‫هنا هتدر ما يف االنس ان من ق درة على االب داع والنمو الط بيعي على س احة عالق ات‬
‫االنس ان مع الطبيعة ‪ ،‬وعملية التجزئة الفرعونية للمجتمع تقسم اجملتمع اىل فص ائل‬
‫ومجاع ات اجلماعة االوىل ظ املون مستضعفون ‪ ،‬ه ذه اجلماعة االوىل يف التقس يم الفرع وين‬
‫هم الظ املون املستض عفون يف نفس ال وقت الظ املون الث انويون أو حبسب تعبري أئمتنا عليهم‬
‫الص الة والس الم « اع وان الظلمة » ه ؤالء الظ املون املستضعفون يش كلون محاية لفرعون‬
‫وللفرعونية وسندا يف اجملتمع لبقاء الفرعونية واستمرار وجودها واطارها‪ .‬قال اهلل سبحانه‬
‫وتع اىل « اذ الظ المون موقوف ون عند ربهم يرجع بعض هم الى بعض الق ول ‪ ،‬يق ول ال ذين‬
‫استض عفوا لل ذين اس تكبروا ل وال انتم لكنا مؤم نين » (‪ .)1‬هنا الق رآن يتح دث عن الظ املني‬
‫يق ول « اذ الظ المون موقوف ون » لكن الظ املني ص نفهم اىل قس مني ‪ :‬اىل من استض عفت‬
‫منهم ومن اس تكرب منهم‪ .‬اذن فالظ املون فيهم مس تكربون وهم ال ذين ميثل ون الفرعونية يف‬
‫اجملتمع وفيهم‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة سبأ ‪ :‬اآلية (‪.)31‬‬

‫‪192‬‬
‫مستض عفون ‪ ،‬فالطائفة االوىل اذن يف التجزئة الفرعونية جملتمع الظلم هم الظ املون‬
‫املستضعفون هؤالء الذين حيشرون يوم القيامة يف زمرة الظاملني مث يقولون للمستكربين من‬
‫الظ املني ل وال انتم لكنا مؤم نني ‪ ،‬ه ذه هي الطائفة االوىل اليت تش كل احلماية والس ند‬
‫للفرعوني ة‪ .‬الطائفة الثانية يف عملية التمزقة الفرعونية جملتمع الظلم ظاملون يشكلون حاشية‬
‫ومتملقني ‪ ،‬اولئك ال ذين قد ال ميارس ون ظلما بأي ديهم بالفعل ولكنهم دائما واب دا على‬
‫مس توى ن زوات فرع ون وش هوات فرع ون ورغب ات فرع ون يس بقونه ب القول من أجل ان‬
‫يص ححوا مس لكه ومس ريته‪ .‬ق ال اهلل س بحانه وتع اىل « وق ال المأل من ق وم فرع ون أت ذر‬
‫موسى وقومه ليفسدوا في االرض ويذرك وآلهتك ‪ ،‬قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم‬
‫وانا فوقهم قاهرون » (‪ ، )1‬شكلوا دور االثارة لفرعون ‪ ،‬هؤالء كانوا يعرفون اهنم هبذا‬
‫الكالم يض ربون على ال وتر احلس اس يف قلب فرع ون ‪ ،‬وان فرع ون ك ان حباجة اىل كالم‬
‫من ه ذا القبيل ‪ ،‬فتس ابقوا اىل ه ذا الكالم لكي جيعل وا فرع ون يعرب عما يف نفسه ويتخذ‬
‫املوقف املنسجم مع مشاعره وعواطفه وفرعونيته‪ .‬الطائفة الثالثة يف عملية‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة االعراف ‪ :‬اآلية (‪.)127‬‬

‫‪193‬‬
‫التجزئة الفرعونية جملتمع الظلم أولئك الذين عرب عنهم االمام علي عليه الصالة والسالم «‬
‫ب اهلمج الرع اع » مجاعة هم جمرد آالت مستس لمة للظلم ‪ ،‬ال حتس ب الظلم ال ت درك اهنا‬
‫مظلومة وال ت درك ان يف اجملتمع ظلما ‪ ،‬هي آالت تتح رك حتركا آليا ‪ ،‬حتركا يش به‬
‫التح رك امليك انيكي لآللة ‪ ،‬حترك التبعية والطاعة دون ت دبري ‪ ،‬دون وعي ‪ ،‬س لب فرع ون‬
‫منها ت دبرها ‪ ،‬عقلها ‪ ،‬وعيها ‪ ،‬ربط ي دها به ال عقلها به ‪ ،‬وهلذا فهي حترك ي دها حتريكا‬
‫آليا وتستس لم لالوامر ‪ ،‬لالوامر الفرعونية دون أن تناقش ها حىت دون ان تت دبرها ‪ ،‬حىت‬
‫بينها وبني نفس ها ال بينها وبني اآلخ رين ‪ ،‬ه ذه الفئة طبعا تفقد كل ق درة على االب داع‬
‫البشري يف جمال التعامل مع الطبيعة ‪ ،‬تفقد كل قابليات النمو الهنا حتولت اىل آالت ‪ ،‬اذا‬
‫وجد أن هن اك اب داع يف ه ذه الفئة امنا هو اب داع من حيرك ه ذه اآلالت ‪ ،‬اب داع تلك‬
‫الفرعونية اليت حترك هذه اآلالت ‪ ،‬وأما هذه الفئة فلم تعد أناسا وبشرا يفكرون ويتدبرون‬
‫لكي يس تطيعوا أن حيقق وا لونا من االب داع على ه ذه الس احة‪ .‬ق ال اهلل س بحانه وتع اىل «‬
‫وق الوا ربنا انا أطعنا س ادتنا وكبراءنا فاض لونا الس بيال » (‪ )1‬ال يوجد يف كالم ه ؤالء ما‬
‫يشعر بأهنم‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة االحزاب ‪ :‬اآلية (‪.)67‬‬

‫‪194‬‬
‫كانوا حيسون بالظلم أو كانوا حيسون بأهنم مظلومون ‪ ،‬وامنا هو جمرد طاعة ‪ ،‬جمرد تبعية‬
‫‪ ،‬ه ؤالء هم القسم الث الث يف تقس يم موالنا أمري املؤم نني عليه أفضل الص الة والس الم‬
‫حينما قال « الناس ثالثة ‪ :‬عامل رباين ومتعلم على سبيل جناة ومهج رعاع ينعقون مع كل‬
‫ن اعق » وه ذا القسم الث الث يش كل مش كلة بالنس بة اىل أي جمتمع ص احل وبق در ما ميكن‬
‫للمجتمع الص احل أن يستأصل ه ذا القسم الث الث بتحويله اىل القسم الث اين ‪ ،‬بتحويله اىل‬
‫متعلم على سبيل النجاة على حد تعبري االمام ‪ ،‬اىل تابع باحسان على حد تعبري القرآن ‪،‬‬
‫اىل مقلد ب وعي وتبصر على حد تعبري الفقه ‪ ،‬بق در ما ميكن حتويل ه ذا القسم الث الث اىل‬
‫القسم الث اين ميكن للمجتمع الص احل أن يس تمر وأن ميتد وهلذا ك ان من ض رورات اجملتمع‬
‫الصاحل يف نظر االمام عليه الصالة والسالم هو شجب هذا القسم الثالث ‪ ،‬هؤالء مهج ‪،‬‬
‫رعاع ينعقون مع كل ناعق ليس هلم عقل مستقل ‪ ،‬وارادة مستقلة‪ .‬كان االمام (ع) يرى‬
‫ان ه ذا القسم الث الث جيب تص فيته من اجملتمع الص احل ‪ ،‬ذلك ال بالقض اء عليه فرديا ‪ ،‬بل‬
‫بتحويله اىل القسم الث اين ض من أحد الص يغ الثالثة اليت ذكرناها ‪ ،‬لكي يس تطيع اجملتمع‬
‫الصاحل أن يواصل ابداعه ‪ ،‬ولكي يستطيع كل أفراد‬

‫‪195‬‬
‫اجملتمع الصاحل ‪ ،‬ان يشكلوا مشاركة حقيقية يف مسرية االبداع‪ .‬وخالفا لذلك الفرعونية ‪،‬‬
‫الفرعونية حتاول ان توسع من هذا القسم الثالث ‪ ،‬هؤالء اهلمج الرعاع الذين ينعقون مع‬
‫كل ن اعق حتاول الفرعونية ان توسع منهم وكلما توس عت ه ذه الفئة اك ثر ف أكثر ق دمت‬
‫اجملتمع حنو الدمار خطوة بعد خطوة الن هذه الفئة ال تستطيع بوجه من الوجوه ان تدافع‬
‫عن اجملتمع اذا حلت كارثة يف الداخل أو طرأت كارثة من اخلارج ‪ ،‬فكلما توسعت هذه‬
‫الفئة ‪ ،‬هذا القسم الثالث ‪ ،‬هؤالء الذين ينعقون مع كل ناعق ‪ ،‬كلما توسعوا يف اجملتمع‬
‫ازداد خطر فن اء اجملتمع وهبذا متوت اجملتمع ات موتا طبيعي ا‪ .‬مفه وم املوت ل دى الق رآن‬
‫للمجتمعات ولالقوام ولالمم املوت الطبيعي للمجتمع ال املوت املخروم‪ .‬اجملتمع له موتان‬
‫‪ :‬موت طبيعي وموت خمروم‪ .‬املوت الطبيعي للمجتمع يكون عن طريق توسع هذه الفئة‬
‫الثالثة وازديادها نوعيا وع دديا يف اجملتمع اىل ان حتل الكارثة فينه ار اجملتم ع‪ .‬ه ذه الطائفة‬
‫الثالثة يف عملية التجزئة الفرعونية أما الطائفة الرابعة ‪ :‬هم اولئك ال ذين يس تنكرون الظلم‬
‫يف أنفس هم ‪ ،‬اولئك ال ذين مل يفق دوا لبهم أم ام فرع ون والفرعونية فهم يس تكنرون الظلم‬
‫لكنهم يهادنونه ويسكتون عنه فيعيشون حالة التوتر‬

‫‪196‬‬
‫والقلق يف أنفس هم وه ذه احلالة ‪ ،‬حالة الت وتر والقلق أبعد ما تك ون عن حالة تس مح‬
‫لالنس ان باالب داع والتجديد والنمو على س احة عالق ات االنس ان مع الطبيع ة‪ .‬ه ؤالء‬
‫يس ميهم الق رآن الك رمي « ظ المي انفس هم » ‪ ،‬ق ال اهلل س بحانه وتع اىل « ال ذين تتوف اهم‬
‫المالئكة ظالمي أنفسهم ‪ ،‬قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في االرض ‪ ،‬قالوا ألم تكن‬
‫أرض اهلل واس عة فته اجروا فيها » (‪ )1‬ه ؤالء مل يظلم وا االخ رين ‪ ،‬ليس وا من الظ املني‬
‫املستض عفني كالطائفة االوىل ‪ ،‬وليس وا من احلاش ية املتملقني ‪ ،‬وليس وا أيضا من اهلمج‬
‫الرع اع ال ذين فق دوا لبهم بل ب العكس هم يش عرون ب أهنم مستض عفون‪ « .‬ق الوا كنا‬
‫مستض عفين في االرض » ه ؤالء مل يفق دوا لبهم ‪ ،‬ي دركون واقعهم ولكنهم ك انوا عمليا‬
‫مه ادنني وهلذا عرب عنهم الق رآن ب أهنم ظلم وا أنفس هم ه ذه الطائفة هل ي رتقب منها أن‬
‫تساعد بابداع حقيقي يف جمال عالقات االنسان مع الطبيعة؟ طبعا كال الطائفة اخلامسة يف‬
‫عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هي ‪ :‬الطائفة اليت تته رب من مس رح احلي اة ‪ ،‬تبتعد عن‬
‫املس رح وتته رب منه وت رتهب‪ .‬وه ذه الرهبانية موج ودة يف كل جمتمع ات الظلم على مر‬
‫التاريخ وهي تتخذ‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة النساء ‪ :‬اآلية (‪.)97‬‬

‫‪197‬‬
‫ص يغتني االوىل ص يغة ج ادة ‪ ،‬رهبانية ج ادة تريد ان تفر بنفس ها لكي ال تتل وث بأوح ال‬
‫(‪)1‬‬
‫اجملتمع ‪ ،‬هذه الرهبانية اجلادة اليت عرب عنها القرآن الكرمي بقوله « ورهبانية ابتدعوها »‬
‫ه ذه الرهبانية يش جبها االس الم الهنا موقف س ليب جتاه مس ؤولية خالفة االنس ان على‬
‫االرض‪ .‬وهناك ص يغة مفتعلة للرهبانية ‪ ،‬يرتهب ويلبس مسوح الرهبان ولكنه ليس راهبا‬
‫يف اعم اق نفسه ‪ ،‬وامنا يريد ب ذلك ان خيدر الن اس ويش غلهم عن فرع ون وظلم فرع ون‬
‫ويسطو عليهم نفسيا وروحيا‪ .‬وهذا هو الذي عرب عنه القرآن الكرمي بقوله « ان كثيرا من‬
‫االحب ار والرهب ان لي أكلون ام وال الن اس بالباطل ويص دون عن س بيل اهلل » (‪ )2‬اجلماعة‬
‫السادسة واالخ رية يف عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هم ‪ :‬املستض عفون‪ .‬الفرعونية‬
‫حينما ج زأت اجملتمع اىل طوائف ‪ ،‬فرع ون حينما اختذ من قومه ش يعا استض عف طائفة‬
‫معينة منهم خص ها باالستض عاف واالذالل وه در الكرامة الهنا ك انت هي الطائفة اليت‬
‫يتوسم ان تش كل اط ارا للتح رك ض ده وهلذا استض عفها بال ذات‪ « .‬واذ نجين اكم من آل‬
‫فرعون يسومونكم سوء العذاب ‪ ،‬يذبحون ابناءكم ويستحييون‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة احلديد ‪ :‬اآلية (‪.)27‬‬
‫(‪ )2‬سورة التوبة ‪ :‬اآلية (‪.)34‬‬

‫‪198‬‬
‫نساءكم وفي ذلكم بالء من ربكم عظيم » (‪ )1‬هذه هي الطائفة السادسة وقد علمنا القرآن‬
‫الك رمي ض من س نة من س نن الت اريخ ايضا ان موقع اي طائفة يف ال رتكيب الفرع وين جملتمع‬
‫الظلم يتناسب عكسا مع موقعه بعد احنس ار الظلم ‪ ،‬وه ذا معىن قوله س بحانه وتع اىل «‬
‫ونريد ان نمن على ال ذين استض عفوا في االرض فنجعلهم ائمة ونجعلهم ال وارثين » (‪.)2‬‬
‫تلك الطائفة السادسة اليت كانت هي منحدر الرتكيب يريد اهلل سبحانه وتعاىل ان جيعلهم‬
‫ائمة وجيعلنم الوارثني وهذه عالقة اخرى وسنة تارخيية اخرى يأيت احلديث عنها انشاء اهلل‬
‫تع اىل ‪ ،‬اذن ف اىل هنا استخلص نا ه ذه احلقيقة وهي ‪ :‬ان اجملتمع يتناسب م دى الظلم فيه‬
‫تناسبا عكسيا مع ازدهار عالقات االنسان مع الطبيعة ‪ ،‬ويتناسب مدى العدل فيه تناسبا‬
‫طرديا مع ازده ار عالق ات االنس ان مع الطبيع ة‪ .‬جمتمع الفرعونية اجملزأ املش تت مه دور‬
‫القابلي ات والطاق ات واالمكاني ات ومن هنا حتبس الس ماء قطرها ‪ ،‬ومتنع االرض بركاهتا‪.‬‬
‫واما جمتمع العدل فهو على العكس متاما هو جمتمع تتوحد فيه كل القابليات وتتساوى فيه‬
‫كل الفرص واالمكانيات هذا اجملتمع الذي حتدثنا الروايات عنه ‪،‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سورة البقرة ‪ :‬اآلية (‪.)49‬‬
‫(‪ )2‬سورة القصص ‪ :‬اآلية (‪.)5‬‬

‫‪199‬‬
‫حتدثنا عنه من خالل ظه ور االم ام امله دي عليه الص الة والس الم ‪ ،‬حتدثنا عما حتتفل به‬
‫االرض والس ماء يف ظل االم ام امله دي (ع) من برك ات وخ ريات وليس ذلك اال الن‬
‫العدالة دائما وأب دا تتناسب ط ردا مع ازده ار عالق ات االنس ان مع الطبيعة ‪ ،‬ه ذه العالقة‬
‫الثانية بني اخلطني‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫الدرس الرابع عشر ‪:‬‬
‫خرجنا مما س بق بنظرية حتليلية قرآنية كاملة لعناصر اجملتمع والدوار ه ذه العناصر‬
‫وللعالقة القائمة بني اخلطني املزدوجني يف العالقة االجتماعية ‪ ،‬خط عالق ات االنس ان مع‬
‫اخيه االنس ان ‪ ،‬وخط عالق ات االنس ان مع الطبيعة ‪ ،‬وانتهينا على ض وء ه ذه النظرية‬
‫القرآنية الشاملة اىل ان هذين اخلطني احدمها مستقل عن اآلخر استقالال نسبينا ولكن كل‬
‫واحد منهما له حنو ت أثري يف اآلخر على ال رغم من ذلك االس تقالل النسيب وه ذه النظرية‬
‫القرآنية يف حتليل عناصر اجملتمع وفهم اجملتمع فهما موضوعيا تشكل اساسا لالجتاه العام يف‬
‫التشريع االسالمي فان التشريع االسالمي يف اجتاهاته العامة وخطوطه يتأثر وينبثق ويتفاعل‬
‫مع وجهة النظر القرآنية واالس المية اىل اجملتمع وعناص ره وادوار ه ذه العناصر والعالق ات‬
‫املتبادلة بني اخلطني ‪ ،‬هذه النظريات اليت قرأناها واليت‬

‫‪201‬‬
‫انتهينا اليها على ض وء اجملموعة املذكورة س ابقا من أن النص وص القرآنية ه ذه النظري ات‬
‫هي يف احلقيقة االساس النظري لالجتاه العام للتشريع االسالمي فان االستقالل النسيب بني‬
‫اخلطني ‪ ،‬خط عالقات االنسان مع اخيه االنسان وخط عالقات النسان مع الطبيعة ‪ ،‬هذا‬
‫االس تقالل النسيب يش كل القاع دة لعنصر الثب ات يف الش ريعة االس المية واالس اس لتلك‬
‫املنطقة الثابتة من التش ريع اليت حتت وي على االحك ام العامة املنصوصة ذات الط ابع ال دائم‬
‫املستمر يف التشريع االسالمي بينما منطقة التفاعل بني اخلطني ‪ ،‬بني خط عالقات االنسان‬
‫مع الطبيعة وخط عالق ات االنس ان مع اخيه االنس ان ‪ ،‬منطقة التفاعل واملرونة تش كل يف‬
‫احلقيقة االس اس ملا أمسيناه يف كت اب « اقتص ادنا » مبنطقة الف راغ تشكل االس اس للعناصر‬
‫املرنة واملتحركة يف التش ريع االس المي ‪ ،‬ه ذه العناصر املرنة واملتحركة يف التش ريع‬
‫االس المي هي انعك اس تش ريعي لواقع تلك املرونة وذلك التفاعل بني اخلطني ‪ ،‬والعناصر‬
‫االوىل الثابتة والص امدة يف التش ريع االس المي هي انعك اس تش ريعي ل ذلك االس تقالل‬
‫النسيب املوج ود بني اخلطني ‪ ،‬بني خط عالق ات االنس ان مع اخيه االنس ان وخط عالق ات‬
‫االنسان مع الطبيعة ‪ ،‬ومن هنا نؤمن بان الصورة التشريعية االسالمية الكاملة جملتمع‬

‫‪202‬‬
‫هي يف احلقيقة حتت وي على ج انبني ‪ ،‬حتت وي على عناصر ثابتة ‪ ،‬وحتت وي على عناصر‬
‫متحركة ومرنة وه ذه العناصر املتحركة واملرنة اليت ت رك للح اكم الش رعي ان ميألها‬
‫فرضت امامه مؤش رات اس المية عامة ايضا لكي ميأل ه ذه العناصر املتحركة وفقا لتلك‬
‫املؤشرات االسالمية العامة ‪ ،‬وهذا حبث حيتاج اىل كالم اكثر من هذا ‪ ،‬تفصيال واطنابا ‪،‬‬
‫من املف روض ان نس توعب ه ذا البحث انش اء اهلل تع اىل لكي نربط اجلانب التش ريعي من‬
‫االسالم باجلانب النظري التحليلي من القرآن الكرمي لعناصر اجملتمع وبعد ذلك يبقى علينا‬
‫حبث آخر يف نظرية االس الم عن ادوار الت اريخ ‪ ،‬عن ادوار االنس ان على االرض ف ان‬
‫الق رآن الك رمي يقسم حي اة االنس ان على االرض اىل ثالثة ادوار ‪ ،‬دور احلض انة ‪ ،‬ودور‬
‫الوح دة ‪ ،‬ودور التش تت واالختالف‪ .‬وه ذه ادوار ثالثة حتدث عنها الق رآن الك رمي ‪ ،‬بني‬
‫لكل دور احلاالت واخلص ائص واملم يزات اليت يتم يز هبا ذلك ال دور ‪ ،‬ه ذا أيضا حبث‬
‫سوف خنرج منه بنظرية شاملة كاملة هلذا اجلانب من تاريخ االنس ان ‪ ،‬كل ذلك ال ميكن‬
‫ان يس عه ي وم واحد وحبث واحد اذن فمن االفضل ان نؤجل ذلك ‪ ،‬وننص رف االن من‬
‫منطقة الفكر اىل منطقة القلب ‪ ،‬من منطقة العقل اىل منطقة الوجدان ‪،‬‬

‫‪203‬‬
‫أريد ان نعيش معا حلظ ات بقلوبنا ال بعقولنا فقط ‪ ،‬بوج داننا ‪ ،‬بقلوبنا ‪ ،‬نريد ان نع رض‬
‫هذه القلوب على القرآن الكرمي بدال عن ان نعرض افكارنا وعقولنا ‪ ،‬نعرض صدورنا ‪،‬‬
‫ملن والؤها؟ ما هو ذاك احلب الذي يسودها وميحورها ويستقطبها؟ ان اهلل سبحانه وتعاىل‬
‫ال جيمع يف قلب واحد والءين ‪ ،‬ال جيمع ح بني مس تقطبني‪ .‬اما حب اهلل واما حب ال دنيا‬
‫‪ ،‬اما حب اهلل وحب الدنيا معا فال جيتمعان يف قلب واحد ‪ ،‬فلنمتحن قلوبنا ‪ ،‬فلنرجع اىل‬
‫قلوبنا لنمتحنها ‪ ،‬هل تعيش حب اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬او تعيش حب الدنيا ‪ ،‬فان كانت‬
‫تعيش حب اهلل زدنا ذلك تعميقا وترسيخا ‪ ،‬وان كانت « نعوذ باهلل » تعيش حب الدنيا‬
‫‪ ،‬حاولنا ان نتخلص من هذا الداء الوبيل ‪ ،‬من هذا املرض املهلك‪ .‬ان كل حب يسقطب‬
‫قلب االنسان يتخذ احدى صيغتني واحدى درجتني‪ .‬الدرجة االوىل ان يشكل هذا احلي‬
‫حمورا وقاعدة ملشاعر وعوطف وآمال وطموحات هذا االنسان قد ينصرف عنه يف قضاء‬
‫حاجة يف حدود خاصة ولكن يعود ‪ ،‬سرعان ما يعود اىل القاعدة الهنا هي املركز ‪ ،‬وهي‬
‫احملور ‪ ،‬قد ينش غل حبديث ‪ ،‬قد ينش غل بكالم ‪ ،‬قد ينش غل بعمل ‪ ،‬بطع ام ‪ ،‬بش راب ‪،‬‬
‫مبواجهة ‪ ،‬بعالق ات ثانوية ‪ ،‬بص داقات ‪ ،‬لكن يبقى ذاك احلب هو احملور ‪ ،‬ه ذه هي‬
‫الدرجة االوىل ‪،‬‬

‫‪204‬‬
‫والدرجة الثانية من احلب احملور ان يس تقطب ه ذا احلب كل وج دان االنس ان ‪ ،‬حبيث ال‬
‫يشغله شيء عنه على االطالق ومعىن انه ال يشغله شيء عنه انه سوف يرى حمبوبه وقبلته‬
‫وكعبته اينما توجه ‪ ،‬اينما توجه س وف ي رى ذلك احملب وب ‪ ،‬ه ذه هي الدرجة الثانية من‬
‫احلب احملور ‪ ،‬ه ذا التقس يم الثن ائي ينطبق على حب اهلل وينطبق على حب ال دنيا ‪ ،‬حب‬
‫اهلل س بحانه وتع اىل ‪ ،‬احلب الش ريف هلل احملور يتخذ ه اتني ال درجتني ‪ ،‬الدرجة االوىل‬
‫يتخذها يف نفوس املؤمنني الصاحلني الطاهرين الذين نظفوا نفوسهم من اوساخ هذه الدنيا‬
‫الدنية هؤالء جيعلون من حب اهلل حمورا لكل عواطفهم ومشاعرهم وطموحاهتم وآماهلم ‪،‬‬
‫قد ينش غلون بوجبة طع ام ‪ ،‬مبتعة من املتع املباحة ‪ ،‬بلق اء مع ص ديق ‪ ،‬بت نزه يف ش ارع ‪،‬‬
‫ولكن يبقى ه ذا هو احملور ال ذي يرجع ون اليه مبج رد ان ينتهي ه ذا االنش غال الط ارىء ‪،‬‬
‫واما بالدرجة الثانية فهي الدرجة اليت يصل اليها اولي اء اهلل من االنبي اء واالئمة عليهم‬
‫أفضل الص الة والس الم ‪ « ،‬علي بن أيب ط الب » ال ذي حنظى بش رف جماورة ق ربه ‪ ،‬ه ذا‬
‫الرجل العظيم كلكم تعرف ون م اذا ق ال ‪ ،‬هو ال ذي ق ال « ب أين ما رأيت ش يئا اال ورأيت‬
‫اهلل معه وقبله وبع ده وفيه » الن حب اهلل يف ه ذا القلب العظيم اس تقطب وجدانه اىل‬
‫الدرجة اليت منعه‬

‫‪205‬‬
‫من ان ي رى ش يئا آخر غري اهلل حىت حينما ك ان ي رى الن اس ‪ ،‬ك ان ي رى فيهم عبيد اهلل ‪،‬‬
‫حىت حينما ك ان ي رى النعمة املوف ورة ك ان ي رى فيها نعمة اهلل س بحانه وتع اىل دائما ه ذا‬
‫املعىن احلريف ‪ ،‬هذا الربط باهلل دائما وابدا يتجسد امام عينه الن حمبوبه االوحد ‪ ،‬ومعشوقه‬
‫االكمل ‪ ،‬قبلة آماله وطموحاته ‪ ،‬مل يس مح له بش ريك يف النظر ‪ ،‬فلم يكن ي رى اال اهلل‬
‫سبحانه وتعاىل‪ .‬هذه هي الدرجة الثانية نفس التقسيم الثنائي يأيت يف حب الدنيا ‪ ،‬الذي‬
‫هو رأس كل خطيئة على حد تعبري رس ول اهلل (ص) ‪ ،‬حب ال دنيا يتخذ درج تني ‪:‬‬
‫الدرجة االوىل أن يكون حب الدنيا حمورا لالنسان ‪ ،‬قاعدة لالنسان يف تصرفاته وسلوكه‬
‫يتح رك حينما تك ون املص لحة الشخص ية يف أن يتح رك ويس كن حينما تك ون املص لحة‬
‫الشخص ية يف أن يس كن ‪ ،‬يتعبد حينما تك ون املص لحة الشخص ية يف أن يتعبد وهك ذا ‪،‬‬
‫ال دنيا تك ون هي القاع دة ‪ ،‬لكن أحيانا أيضا ميكن ان يفلت من ال دنيا ‪ ،‬يش تغل اش غال‬
‫أخ رى نظيفة ‪ ،‬ط اهرة ‪ ،‬قد يص لي هلل س بحانه وتع اىل ‪ ،‬قد يص وم هلل س بحانه وتع اىل ‪،‬‬
‫لكن س رعان ما يرجع م رة أخ رى اىل ذلك احملور وينشد اليه ‪ ،‬فلت ات خيرج هبا من اط ار‬
‫ذلك الشيطان مث يرجع اىل الشيطان مرة أخرى ‪ ،‬هذه درجة أوىل من هذا املرض‬

‫‪206‬‬
‫الوبيل ‪ ،‬م رض حب ال دنيا ‪ ،‬واما الدرجة الثانية من ه ذا املرض الوبيل فهي الدرجة‬
‫املهلكة ‪ ،‬حينما يعمي حب ال دنيا ه ذا االنس ان ‪ ،‬يسد عليه كل منافذ الرؤية ‪ ،‬يك ون‬
‫بالنسة اىل الدنيا كما كان سيد املوحدين وأمري املؤمنني النسبة اىل اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬انه‬
‫مل يكن يرى شيئا اال وكان يرى اهلل معه وقبله وبعده حب الدنيا يف الدرجة الثانية يصل‬
‫اىل مس توى حبيث ان االنس ان ال ي رى ش يئا اال وي رى ال دنيا فيها وقبلها وبع دها ومعها ‪،‬‬
‫حىت االعمال الصاحلة تتحول عنده ومبنظاره اىل دنيا ‪ ،‬تتحول عنده اىل متعة ‪ ،‬اىل مصلحة‬
‫شخص ية حىت الص الة ‪ ،‬حىت الص يام ‪ ،‬حىت البحث ‪ ،‬حىت ال درس ‪ ،‬ه ذه االل وان كلها‬
‫تتحول اىل دنيا ال ميكنه ان يرى شيئا اال من خالل الدنيا ‪ ،‬اال من خالل مقدار ما ميكن‬
‫هلذا العمل ان يعطيه ‪ ،‬يعطيه من حفنة م ال أو من كومة ج اه ال ميكن ان يس تمر معه اال‬
‫بض عة أي ام مع دودة ‪ ،‬ه ذه هي الدرجة الثانية وكل من ال درجتني مهلكة والدرجة الثانية‬
‫أشد هلكة من الدرجة االوىل وهلذا قال رسول اهلل (ص) ‪ « :‬حب الدنيا رأس كل خطيئة‬
‫» ‪ ،‬قال االمام الصادق (ع) ‪ « :‬الدنيا كماء البحر من ازداد شربا منه ازداد عطشا »‪ .‬ال‬
‫تقل فألأخذ هذه احلنفة من الدنيا مث أنصرف عنها‬

‫‪207‬‬
‫فألحصل على ه ذه املرتبة من ج اه ال دنيا مث انص رف اىل اهلل ليس االمر ك ذلك ف ان أي‬
‫مق دار حتصل عليه من م ال ال دنيا ‪ ،‬من مقام ات ه ذه ال دنيا الزائلة ‪ ،‬س وف ي زداد بك‬
‫العطش والنهم اىل املرتبة االخرى ‪ « ،‬الدنيا كماء البحر » ‪ « ،‬الدنيا رأس كل خطيئة »‪.‬‬
‫الرسول (ص) يقول ‪ « :‬من أصبح واكرب مهه الدنيا فليس له من اهلل شيء »‪ .‬هذا الكالم‬
‫يعين قطع الص لة مع اهلل ‪ ،‬يعين ان والئني ال جيتمع ان يف قلب واحد ‪ ،‬من ك ان والءه‬
‫لل دنيا ‪ ،‬فليس له من اهلل ش يء » ‪ ،‬ليس له ص لة مع اهلل س بحانه وتع اىل الن والئني ال‬
‫جيتمع ان يف قلب واحد ‪ « ،‬حب ال دنيا رأس كل خطيئة » الن حب ال دنيا هو ال ذي‬
‫يفرغ الصالة من معناها ويفرغ الصيام من معناه ويفرغ كل عبادة من معناها ‪ ،‬ماذا يبقى‬
‫من معىن هلذه العب ادات ‪ ،‬اذا اس توىل حب ال دنيا على قلب االنس ان ‪ ،‬أنا وأنتم نع رف أن‬
‫أولئك ال ذين نآخ ذهم على ما عمل وا مع امري املؤم نني ‪ ،‬اولئك مل ي رتكوا ص الة ‪ ،‬ومل‬
‫ي رتكوا ص ياما ‪ ،‬ومل يش ربوا مخرا ‪ ،‬على االقل ع دد كبري منهم مل يقوم وا بش يء من ه ذا‬
‫القبيل ‪ ،‬لكنهم مع ه ذا ما هي قيمة ه ذه الص الة ‪ ،‬وما هي قيمة ه ذا الص يام ‪ ،‬وما هي‬
‫قيمة العفة عن شرب اخلمر اذا كان حب الدنيا هو الذي ميأل‬

‫‪208‬‬
‫القلب‪ .‬ما قيمة صالة عبد الرمحن بن عوف ‪ ،‬عبد الرمحن بن عوف كان صحابيا جليل‬
‫الق در ‪ ،‬ك ان من الس ابقني اىل االس الم ‪ ،‬ك ان ممن أس لم والن اس كف ار ومش ركون ت رىب‬
‫على يد رسول اهلل (ص) ‪ ،‬عاش مع الوحي ‪ ،‬مع القرآن ‪ ،‬مع آيات اهلل ترتى ‪ ،‬لكن ماذا‬
‫ده اه؟ م اذا ده اه حينما فتح اهلل على املس لمني بالد كس رى وقيصر ‪ ،‬وكن وز كس رى‬
‫وقيصر ‪ ،‬ماذا دهى هذا الرجل املسكني؟ هذا الرجل املسكني مأل قلبه حب الدنيا ‪ ،‬كان‬
‫يص لي وك ان يص وم ‪ ،‬ولكن مأل قلبه حب ال دنيا حينما وقف يف خي ار واحد بني عثم ان‬
‫وعلي ( ع ) ‪ ،‬إما ان يك ون عثم ان خليفة املس لمني وإما ان يك ون علي خليفة املس لمني‬
‫وهو يعلم أنه لو أعطى ه ذه اخلالفة لعلي الس عد املس لمني اىل أبد ال دهر ولكنه يعلم أيضا‬
‫انه حينما يعطيها اىل عثمان فقد فتح بذلك باب الفنت اىل آخر الدهر يعلم بذلك وقد مسع‬
‫ذلك من عمر نفسه أيضا ‪ ،‬ولكنه يف هذا اخليار غلب حب الدنيا على قلبه ‪ ،‬ضرب على‬
‫يد عثم ان وت رك يد علي مبس وطة تنتظر من يب ايع ‪ ،‬جعل عثم ان خليفة ‪ ،‬وأقصى علي‬
‫(ع) عن اخلالفة ‪ ،‬قد تقول ون أن ه ذه معص ية ه ذا ك رتك الص الة ‪ ،‬الن رس ول اهلل (ص)‬
‫جعل عليا خليفة بعده بال فصل هذا صحيح ‪ ،‬تويل علي بن أيب طالب أهم‬

‫‪209‬‬
‫الواجبات ‪ ،‬ولكن افرضوا وفرض احملال ليس مبحال ‪ ،‬لو أن رسول اهلل مل ينص على علي‬
‫بن ايب طالب‪ .‬أكان هذا املوقف من عبد الرمحن بن عوف مهضوما ‪ ،‬أكان هذا املوقف‬
‫من عبد ال رمحن بن ع وف ص حيحا؟ ‪ ،‬لو تركنا كل نص وص الرس ول! وتركنا ح ديث‬
‫الغ دير وح ديث الثقلني! لو تركنا كل ذلك ‪ ،‬لكن مبنطق حب اهلل وحب ال دنيا ‪ ،‬مبنطق‬
‫احلرص على االس الم مبنطق الغ رية على ال دين واملس لمني ‪ ،‬أك ان ه ذا املوقف من عبد‬
‫ال رمحن بن ع وف س ليما ‪ ،‬ان يط رح يد علي (ع) مبس وطة دون أن يبايعها ويب ايع انس انا‬
‫غري ج دير ب أن يتحمل االمانة ‪ ،‬ان يب ايع عثم ان بن عف ان‪ .‬اذن املس ألة هنا ليست فقط‬
‫مسألة نص وامنا املسألة هنا مسألة حب الدنيا ‪ ،‬مسألة خيانة االمانة الن حب الدنيا يعمي‬
‫ويصم ‪ ،‬حب عبد الرمحن بن عوف للدنيا أفقد الصالة معناها ‪ ،‬أفقد الصيام معناه ‪ ،‬أفقد‬
‫شهر رمضان معناه ‪ ،‬أفقد كل شيء مغزاه احلقيقي وحمتواه النبيل الشريف « حب الدنيا‬
‫رأس كل خطيئة » وحب اهلل س بحانه وتع اىل اس اس كل كم ال ‪ ،‬حب اهلل هو ال ذي‬
‫يعطي لالنس ان الكم ال ‪ ،‬الع زة ‪ ،‬الش رف ‪ ،‬االس تقامة ‪ ،‬النظافة ‪ ،‬الق درة على مغالبة‬
‫الضعف يف كل احلاالت ‪ ،‬حب اهلل سبحانه وتعاىل هو الذي جعل اولئك السحرة ‪،‬‬

‫‪210‬‬
‫يتحولون اىل رواد على الطريق ‪ ،‬فقالوا لفرعون « فاقض ما انت قاض ‪ ،‬امنا تقضي هذه‬
‫احلي اة ال دنيا » كيف ق الوا هك ذا؟ الن حب اهلل اش تعل يف قل وهبم فق الوا لفرع ون بكل‬
‫شجاعة وبطولة « فاقض ما انت قاض ‪ ،‬امنا تقضي هذه احلياة الدنيا » حب اهلل هو الذي‬
‫جعل علي اً عليه الص الة والس الم دائما يقف مواقف الش جاعة ‪ ،‬مواقف البطولة ‪ ،‬ه ذه‬
‫الشجاعة ‪ ،‬شجاعة علي (ع) ليست شجاعة السباع ‪ ،‬ليست شجاعة األسود ‪ ،‬وامنا هي‬
‫شجاعة االميان وحب اهلل ‪ ،‬ملاذا؟ الن هذه الشجاعة مل تكن فقط شجاعة الرباز يف ميدان‬
‫احلرب ‪ ،‬بل ك انت احيانا ش جاعة ال رفض ‪ ،‬احيانا ش جاعة الصرب ‪ ،‬علي بن ايب ط الب‬
‫ضرب املثل االعلى يف ش جاعة املب ارزة يف مي دان احلرب شد حزامه وهو ن اهز الس تني من‬
‫عمره الشريف وهجم على اخلوارج وحده فقاتل أربعة آالف انسان ‪ ،‬هذه قمة الشجاعة‬
‫يف مي دان املب ارزة ‪ ،‬الن حب اهلل اس كره! فلم جيعله يلتفت أن ه ؤالء أربعة آالف وهو‬
‫واح د! وض رب قمة الش جاعة يف الصرب ‪ ،‬يف الس كوت عن احلق ‪ ،‬حينما ف رض عليه‬
‫االسالم أن يصرب عن حقه وهو يف قمة شبابه ‪ ،‬مل يكن يف شيخوخته ‪ ،‬كان يف قمة شبابه‬
‫‪ ،‬ك انت حرارة الشباب ملء وجدانه ‪ ،‬ولكن االس الم ق ال له اس كت ‪ ،‬اصرب عن حقك‬
‫حفاظا على‬

‫‪211‬‬
‫بيضة الدين ‪ ،‬ما دام هؤالء يتحملون حفظ الشعائر الظاهرية لالسالم وللدين ‪ ،‬سكت ما‬
‫دام هؤالء كانوا يتحفظون على الظواهر والشعائر الظاهرية لالسالم والدين ‪ ،‬وكان هذا‬
‫قمة الش جاعة يف الصرب ايض ا! ه ذه ليست ش جاعة االس ود ‪ ،‬ه ذه ش جاعة املؤمن ال ذي‬
‫اس كره حب اهلل! وك ان قمة الش جاعة يف ال رفض ‪ ،‬ويف األب اء حينما ط رح عليه ذلك‬
‫الرجل ان يبايعه على شروط ختالف كتاب اهلل وسنة رسوله بعد مقتل اخلليفة الثاين ‪ ،‬ماذا‬
‫صنع هذا الرجل العظيم؟ هذا الرجل العظيم الذي كان حيرتق الن اخلالفة ذهبت من يده‬
‫‪ ،‬حيرتق من أجل اهلل!! ال من أجل نفسه ‪ ،‬يق ول « ولقد تقمص ها ابن ايب قحافة وهو‬
‫يعلم ان حملي منها حمل القطب من ال رحى » ‪ ،‬ه ذا الرجل ال ذي ك ان حيرتق الن اخلالفة‬
‫خرجت من يده ‪ ،‬لو ان انسانا يقرأ هذه العبارة وحدها لقال ما أكثر شهوة هذا الرجل‬
‫اىل السلطان واىل اخلالفة! لكن هذا الرجل نفسه ‪ ،‬هذا الرجل بذاته عرضت عليه اخلالفة‬
‫‪ ،‬عرضت عليه رئاسة الدنيا فرفضها! ال لشيء اال الهنا شرطت بشرط خيالف كتاب اهلل‬
‫وس نة رس وله ‪ ،‬من هنا نع رف ان ذلك االح رتاق مل يكن من أجل ذاته ‪ ،‬وامنا ك ان من‬
‫اجل اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬اذن هذه الشجاعة شجاعة الرباز يف يوم الرباز ‪ ،‬وشجاعة الصرب‬
‫يف يوم‬

‫‪212‬‬
‫الصرب ‪ ،‬وشجاعة الرفض يف يوم الرفض ‪ ،‬هذه الشجاعة خلقها يف قلب علي حبه هلل ‪ ،‬ال‬
‫اعتقاده بوجود اهلل ‪ ،‬هذا االعتقاد الذي يشاركه يف فالسفة االغريق ايضا ‪ ،‬أرسطو أيضا‬
‫يعتقد بوج ود اهلل ‪ ،‬افالط ون أيضا يعتقد بوج ود اهلل ‪ ،‬الف ارايب أيضا يعتقد بوج ود اهلل ‪،‬‬
‫م اذا ص نع ه ؤالء للبش رية ‪ ،‬وم اذا ص نعوا لل دين أو لل دنيا ‪ ،‬ليس االعتق اد وامنا حب اهلل‬
‫اضافة اىل االعتقاد ‪ ،‬هذا هو الذي صنع هذه املواقف وحنن أوىل الناس بأن نطلق الدنيا ‪،‬‬
‫اذا ك ان حب ال دنيا خطيئة ‪ ،‬فهو منا حنن الطلبة (‪ )1‬من اشد اخلطايا ‪ ،‬ه ذا الش يء ال ذي‬
‫هو خطيئة من غرينا هو اك ثر خطيئة منا ‪ ،‬حنن أوىل من غرينا ب أن نك ون على ح ذر من‬
‫هذه الناحية ‪ ،‬أوال الننا نصبنا أنفسنا أدالء على طريق االخرة ‪ ،‬ما هي مهمتنا يف الدنيا ‪،‬‬
‫ما هي وظيفتنا يف ال دنيا؟ اذا س ألك انس ان ‪ ،‬م اذا تعمل ‪ ،‬ما هو م ربر وج ودك ‪ ،‬م اذا‬
‫تقول؟ تقول بأين أريد أن اشد الناس اىل االخرة ‪ ،‬اشد دنيا الناس اىل االخرة ‪ ،‬اىل عامل‬
‫الغيب ‪ ،‬اىل اهلل س بحانه وتع اىل‪ .‬اذن كيف تقطع دني اك عن االخ رة؟ اذا ك انت دني اك‬
‫مقطوعة عن االخرة فسوف تشد دنيا الناس اىل دنياك ال اىل آخرة ربك ‪ ،‬سوف نتحول‬
‫اىل قطاع طريق ‪،‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬يقصد طلبة العلوم الدينية االسالمية يف النجف‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫ولكن أي طريق ‪ ،‬الطريق اىل اهلل ‪ ،‬ال طريق ما بني بلد وبلد ‪ ،‬ه ذا الطريق اىل اهلل حنن‬
‫رواده ‪ ،‬حنن الق ائمون على الداللة اليه ‪ ،‬على االخذ بيد الن اس فيه ‪ ،‬فلو اننا أغلقنا ب اب‬
‫ه ذا الطريق ‪ ،‬لو اننا حتولنا عن ه ذا الطريق اىل طريق آخر اذن س وف نك ون حاجبا عن‬
‫اهلل ‪ ،‬حاجبا عن الي وم االخر كل انس ان يس تويل حب ال دنيا على قلبه يهلك هو ‪ ،‬أما‬
‫الطلبة ‪ ،‬أما حنن اذا اس توىل حب ال دنيا على قلوبنا س وف هنلك وهنلك اآلخ رين ‪ ،‬الننا‬
‫وض عنا أنفس نا يف موضع املس ؤولية ‪ ،‬يف موضع ربط الن اس باهلل س بحانه وتع اىل واهلل ال‬
‫يعيش يف قلوبنا ‪ ،‬اذن س وف لن نتمكن من أن نربط الن اس باهلل ‪ ،‬حنن أوىل الن اس واحق‬
‫الن اس باجتن اب ه ذه املهلكة الننا ن دعي أننا ورثة االنبي اء وورثة االئمة واالولي اء ‪ ،‬اننا‬
‫الس ائرون على طريق حممد (ص) وعلي واحلسن واحلسني عليهم الص الة والس الم ‪ ،‬ألس نا‬
‫حناول أن نعيش ش رف ه ذه النس بة ه ذه النس بة جتعل موقفنا أدق من مواقف االخ رين ‪،‬‬
‫الننا حنن محلة أقوال هؤالء وافعال هؤالء ‪ ،‬أعرف الناس بأقواهلم ‪ ،‬واعرف الناس بأفعاهلم‬
‫‪ ،‬أمل يقل رسول اهلل (ص) ‪ « :‬انا معاشر االنبي اء ال نورث ذهبا وال فضة وال عق ار ‪ ،‬امنا‬
‫نورث العلم واحلكمة » أمل يقل علي بن أيب طالب عليه الصالة والسالم ‪ « :‬ان‬

‫‪214‬‬
‫امارتكم ه ذه أو خالفتكم ه ذه ال تساوي عن دي ش يئا اال أن أقيم حقا أو أدحض باطال‬
‫»‪ .‬أمل يقل علي بن ايب ط الب ذلك ‪ ،‬أمل جيسد ه ذا يف حياته ‪ ،‬يف كل حياته ‪ ،‬علي بن‬
‫أيب طالب كان يعمل هلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬مل يكن يعمل لدنياه ‪ ،‬لو كان علي يعمل لدنياه‬
‫لكان اشقى الناس واتعس الناس ‪ ،‬الن عليا محل دمه على يده منذ طفولته ‪ ،‬منذ صباه ‪،‬‬
‫يذب عن وجه رسول اهلل (ص) وعن دين اهلل وعن رسالة اهلل ‪ ،‬مل يرتدد حلظة يف أن يقدم‬
‫‪ ،‬مل يكن حيسب للم وت حس ابا ‪ ،‬مل يكن حيسب للحي اة حس ابا ‪ ،‬ك ان دمه دائما على‬
‫ي ده ‪ ،‬ك ان أط وع الن اس لرس ول اهلل يف حي اة رس ول اهلل (ص) ‪ ،‬وك ان أط وع الن اس‬
‫لرس ول اهلل بعد رس ول اهلل (ص) ‪ ،‬ك ان أك ثر الن اس عمال يف س بيل ال دين ‪ ،‬ومعان اة من‬
‫أجل االس الم‪ .‬م اذا حصل ‪ ،‬م اذا حصل عليه علي بن أيب ط الب (ع)؟ لو جئنا اىل‬
‫مق اييس ال دنيا ‪ ،‬م اذا حصل عليه ه ذا الرجل العظيم؟ أمل يقصى ه ذا الرجل العظيم ‪ ،‬أمل‬
‫يكن جليس بيته ف رتة من ال زمن ‪ ،‬أمل يسب ه ذا الرجل العظيم ألف ش هر على من ابر‬
‫املسلمني! اليت اقيمت اعوادها جبهاده ‪ ،‬بدمه ‪ ،‬بتضحياته ‪ ،‬سب على منابر املسلمني! اذن‬
‫مل حيصل على شيء من الدنيا ال على حطام وال على مال وال على منصب وال على‬

‫‪215‬‬
‫كن اء (‪ )1‬وال على تق دير ‪ ،‬ولكنه على ال رغم من ذلك حينما ض ربه عبد ال رمحن بن ملجم‬
‫بالس يف على رأسه (‪ )2‬م اذا ق ال ه ذا االم ام العظيم؟ ق ال « لقد ف زت ورب الكعبة » لو‬
‫كان علي يعمل لدنياه لقال واهلل اين أتعس انسان الين مل أحصل على شيء يف مقابل عمر‬
‫كله جه اد ‪ ،‬كله تض حية ‪ ،‬كله حب هلل ‪ ،‬مل أحصل على ش يء ‪ ،‬لكنه مل يقل ذلك ‪،‬‬
‫ق ال « لقد ف زت ورب الكعبة » اهنا واهلل الش هادة ‪ ،‬النه مل يكن يعمل ل دنياه ‪ ،‬ك ان‬
‫يعمل لربه ‪ ،‬واالن حلظة اللق اء مع اهلل ‪ ،‬ه ذه اللحظة هي اللحظة اليت س وف يلتقي هبا‬
‫علي مع اهلل س بحانه وتع اىل فيوفيه حس ابه ويعطيه أجره ‪ ،‬يعوضه عما حتمل من شدائد ‪،‬‬
‫عما قاسى من مصائب ‪ ،‬أليس هذا االمام هو مثلنا االعلى ‪ ،‬أليست حياة هذا االمام هي‬
‫السنة ‪ ،‬أليست مصادر التشريع عندنا الكتاب والسنة ‪ ،‬أليست السنة هي قول املعصوم‬
‫وفعله و تقريره‪ .‬علينا أن حنذر من حب الدنيا ‪ ،‬النه ال دنيا عندنا لكي حنبها! ماذا حنب؟‬
‫حنب الدنيا؟! حنن الطلبة! ما هي ه ذه الدنيا اليت حنبها ونريد ان نغ رق انفسنا فيها ونرتك‬
‫رضوانا من اهلل أكرب ‪ ،‬نرتك ماال عني رأت وال‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كناء ‪ :‬مجع كنية‪.‬‬
‫(‪ )2‬ضربه يف مسجد الكوفة وهو ساجد يف صالة الفجر‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫أذن مسعت وال اعرتض على خيال بشر ‪ ،‬ما هي هذه الدنيا؟ هذه الدنيا دنيانا هي جمموعة‬
‫من االوه ام ‪ ،‬كل دنيا وهم ‪ ،‬لكن دنيانا اك ثر ومها من دنيا االخ رين ‪ ،‬جمموعة من‬
‫االوه ام ‪ ،‬م اذا حنصل من ال دنيا اال على ق در حمدود ج دا ‪ ،‬لس نا حنن أولئك ال ذين هنب وا‬
‫أموال الدنيا وحتدثنا عنهم سابقا ‪ ،‬لسنا حنن أولئك الذين تركع الدنيا بني أيدينا لكي نؤثر‬
‫ال دنيا على االخ رة ‪ ،‬دنيا ه ارون الرش يد ك انت عظيمة ‪ ،‬نقيس انفس نا هبارون الرش يد ‪،‬‬
‫هارون الرشيد نسبه ليال هنارا النه غرق يف حب الدنيا ‪ ،‬لكن تعلمون أي دنيا غرق فيها‬
‫ه ارون الرش يد ‪ ،‬أي قص ور مرتفعة ع اش فيها ه ارون الرش يد ‪ ،‬أي ب ذخ وت رف ك ان‬
‫حيصل عليه هارون الرشيد ‪ ،‬أي زعامة وخالفة وسلطان امتد مع أرجاء الدنيا حصل عليه‬
‫ه ارون الرش يد ‪ ،‬ه ذه دنيا ه ارون الرش يد ‪ ،‬حنن نق ول بأننا أفضل من ه ارون الرش يد ‪،‬‬
‫أورع من ه ارون الرش يد ‪ ،‬أتقى من ه ارون الرش يد ‪ ،‬عجب اه حنن عرضت علينا دنيا‬
‫هارون الرشيد فرفضناها حىت نكون أورع من هارون الرشيد‪ .‬يا أوالدي ‪ ،‬يا أخواين ‪ ،‬يا‬
‫أعزائي ‪ ،‬يا أبناء علي ‪ ..‬هل عرضت علينا دنيا هارون الرشيد ‪ ،‬ال ‪ ..‬عرضت علينا دنيا‬
‫هزيلة ‪ ،‬حمدودة ‪ ،‬ضئيلة ‪ ،‬دنيا ما أسرع ما تتفتت ‪ ،‬ما اسرع ما تزول ‪ ،‬دنيا ال يستطيع‬

‫‪217‬‬
‫االنس ان أن يتم دد فيها كما ك ان يتم دد ه ارون الرش يد ‪ ،‬ه ارون الرش يد يلتفت اىل‬
‫الس حابة يق ول هلا أينما متط رين ي أتيين خراجك ‪ ،‬يف س بيل ه ذه ال دنيا س جن موسى بن‬
‫جعفر (ع) ‪ ،‬هل جربنا أن ه ذه ال دنيا ت أيت بي دنا مث ال نس جن موسى بن جعف ر؟ جربنا‬
‫أنفس نا ‪ ،‬س ألنا أنفس نا ‪ ،‬طرحنا ه ذا الس ؤال على انفس نا ‪ ،‬كل واحد منا يط رح ه ذا‬
‫الس ؤال على نفسه ‪ ،‬بينه وبني اهلل‪ .‬ان ه ذه ال دنيا ‪ ،‬دنيا ه ارون الرش يد كلفته أن يس جن‬
‫موسى بن جعفر ‪ ،‬هل وضعت هذه الدنيا أمامنا لكي نفكر بأننا أتقى من هارون الرشيد‬
‫‪ ،‬ما هي دنيان ا؟ هي مسخ من ال دنيا ‪ ،‬هي أوه ام من ال دنيا ‪ ،‬ليس فيها حقيقة اال حقيقة‬
‫رضى اهلل س بحانه وتع اىل ‪ ،‬اال حقيقة رض وان اهلل ‪ ،‬كل ط الب علم حاله ح ال علي ابن‬
‫أيب ط الب ‪ ،‬اذا ك ان يعمل لل دنيا فهو أتعس انس ان ‪ ،‬الن أب واب ال دنيا مفتوحة ‪ ،‬خاصة‬
‫اذا كان طالب له قابلية ‪ ،‬له امكانية ‪ ،‬له ذكاء ‪ ،‬له قابليات ‪ ،‬هذا أبواب الدنيا مفتوحة‬
‫له ‪ ،‬فاذا كان يعمل للدنيا فهو أتعس انسان ‪ ،‬النه سوف خيسر الدنيا واالخرة ‪ ،‬ال دنيا‬
‫الطلبة دنيا وال االخ رة حيصل عليها ‪ ،‬فليكن مهنا ان نعمل لالخ رة ‪ ،‬أن نعيش يف قلوبنا‬
‫حب اهلل سبحانه وتعاىل بدال عن حب الدنيا النه ال دنيا معتد هبا عندنا ‪،‬‬

‫‪218‬‬
‫األئمة ‪ :‬علمونا ب أن ت ذكر املوت دائما يك ون من العالج ات املفي دة حلب ال دنيا ‪ ،‬أن‬
‫يت ذكر االنس ان املوت ‪ ،‬كل واحد منا يعتقد ب أن كل من عليها ف ان ‪ ،‬لكن القض ية دائما‬
‫وابداً ال جيسدها بالنسبة اىل نفسه ‪ ،‬من العالجات املفيدة ان جيسدها بالنسبة اىل نفسه ‪،‬‬
‫دائما يتص ور بأنه ميكن ان ميوت بني حلظة واخ رى ‪ ،‬كل واحد منا يوجد لديه اص دقاء‬
‫م اتوا ‪ ،‬اخ وان انتقل وا من ه ذه ال دار اىل ال دار االخ رى ‪ ،‬أيب مل يعش يف احلي اة اك ثر مما‬
‫عشت حىت االن ‪ ،‬أخي مل يعش يف احلي اة اك ثر مما عشت حىت االن ‪ ،‬أنا االن اس توفيت‬
‫هذا العمر ‪ ،‬من املعقول جدا أن أموت يف السن الذي مات فيه أيب ‪ ،‬من املعقول جدا أن‬
‫أم وت يف السن اليت م ات فيها أخي ‪ ،‬كل واحد منا ال بد وأن يك ون له ق دوة من ه ذا‬
‫القبيل ‪ ،‬ال بد وان احباب له قد رحلوا ‪ ،‬أعزة له قد انتقلوا مل يبق من طموحاهتم شيء ‪،‬‬
‫مل يبق من آماهلم شيء ان كانوا قد عملوا لالخرة فقد رحلوا اىل مليك مقتدر ‪ ،‬اىل مقعد‬
‫صدق عند مليك مقتدر ‪ ،‬واذا كانوا قد عملوا للدنيا فقد انتهى كل شيء بالنسبة اليهم ‪،‬‬
‫ه ذه عرب ‪ ،‬ه ذه العرب اليت علمنا االئمة ‪ :‬ان نستحض رها دائما ‪ ،‬تكسر فينا ش ره احلي اة ‪،‬‬
‫ما هي هذه احلياة ‪ ،‬لعلها أيام فقط ‪ ،‬لعلها أشهر فقط ‪ ،‬لعلها‬

‫‪219‬‬
‫س نوات ‪ ،‬ملاذا نعمل دائما وحنرص دائما على اس اس أهنا حي اة طويلة ‪ ،‬لعلنا ال ن دافع اال‬
‫عن عش رة اي ام ‪ ،‬اال عن ش هر ‪ ،‬اال عن ش هرين ال ن دري عن م اذ ن دافع ‪ ،‬ال ن دري اننا‬
‫س نحتمل ه ذا الق در من اخلطايا ‪ ،‬ه ذا الق در من اآلث ام ‪ ،‬ه ذا الق در من التقصري ام ام اهلل‬
‫سبحانه وتعاىل وأمام ديننا ‪ ،‬نتحمله يف سبيل الدفاع عن ماذا ‪ ،‬عن عشرة أيام ‪ ،‬عن شهر‬
‫‪ ،‬عن اش هر ‪ ...‬ه ذه بض اعة رخيصة ‪ ،‬نس أل اهلل س بحانه وتع اىل ان يطهر قلوبنا وينقي‬
‫أرواحنا ‪ ،‬وجيعل اهلل أك ثر مهنا ‪ ،‬وميأل حبا له ‪ ،‬وخش ية منه ‪ ،‬وتص ديقا به ‪ ،‬وعمال‬
‫بكتابه‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫الفهرس‬
‫الصفحة‬ ‫املوضوع‬
‫مقدمة الناشر ‪5.....................................................................‬‬
‫تقدمي‪7.............................................................................‬‬
‫الدرس االول ‪9.....................................................................‬‬
‫الدرس الثاين‪23....................................................................‬‬
‫الدرس الثالث‪31...................................................................‬‬
‫الدرس الرابع‪44....................................................................‬‬
‫الدرس اخلامس‪60..................................................................‬‬
‫الدرس السادس ‪73.................................................................‬‬
‫الدرس السابع‪84...................................................................‬‬
‫الدرس الثامن‪103..................................................................‬‬
‫الدرس التاسع ‪115.................................................................‬‬
‫الدرس العاشر‪130.................................................................‬‬
‫الدرس احلادي عشر ‪148...........................................................‬‬
‫الدرس الثاين عشر ‪168.............................................................‬‬
‫الدرس الثالث عشر‪186............................................................‬‬
‫الدرس الرابع عشر‪201.............................................................‬‬

‫‪221‬‬

You might also like