You are on page 1of 224

‫احلمد هلل‪ ،‬وبعد‪:‬‬

‫فإن تأصيل العلوم الرشعية‪ ،‬وتقديم الدراسات العلمية املركزة من أهم املهامت‬
‫منعا للزلل‪ ،‬وجت ُّن ًبا‬
‫وختصص؛ ً‬
‫ُّ‬ ‫التي تعني عىل ضبط املنهجية التي حتكم مسار أي علم‬
‫للشطط‪.‬‬
‫ومع توسع مسارات العلوم الرشعية‪ ،‬وتعدد ختصصاهتا كان ال بد من وجود‬
‫دراسات يف كل ختصص لتضبط أصوله‪ ،‬حُ ْ‬
‫وت ِك َم فروعه‪ ،‬ومن ذلك ما يتصل بعلم‬
‫تدبر القرآن الكريم‪ ،‬والذي يترشف مركز تدبر القرآن بالقيام ببعض الواجب جتاه‬
‫هذا العلم العظيم عرب وسائل متنوعة‪ ،‬من أمهها‪ :‬طباعة ونرش الدراسات العلمية‬
‫املتخصصة التي ختدم هذا اهلدف العلم‪.‬‬
‫وما هذه الدراسة العلمية املتخصصة‪( :‬التدبر ‪ :‬حقيقته‪ ،‬وعالقته بمصطلحات‬
‫التأويل واالستنباط والفهم والتفسري‪ ،‬دراسة بالغية حتليلية عىل آيات الذكر احلكيم)‬
‫لفضيلة األستاذ الدكتور ‪ /‬عبداهلل عبدالغني رسحان‪ ،‬األستاذ املشارك بكلية اللغة‬
‫العربية يف جامعة األزهر (القاهرة)‪ ،‬وجامعة امللك خالد بأهبا إال لبنة من اللبنات‬
‫التي تضاف يف هذا النوع املتخصص من الدراسات‪.‬‬

‫‬
‫تـنـــويـــه‬

‫‪.‬‬ ‫من مل يشكر الناس مل يشكر اهلل‬


‫فلقد وجه يل األخو ُة القائمون عىل مركز تد ُّبر لالستشارات الرتبوية والتعليمية‬
‫‪-‬مشكورين‪ -‬دعوة للمشاركة يف امللتقى العلمي األول لتدبر القرآن الكريم يف مدينة‬
‫الرياض‪ ،‬فكان هذا الكتاب ثمرة من ثمرات هذا امللتقى‪.‬‬

‫‬
‫مقدمة ‪..‬‬
‫احلمد هلل الذي َم َّن علينا بنعمة العقل والتدبر‪ ،‬ووهبنا م َّن َة النظر والتفكر‪ ،‬وتفضل‬
‫علينا بالفهم والتذكر‪ ،‬وأمرنا بالعظة واالعتبار‪ ،‬وأكرمنا باالستنباط واالختيار‪،‬‬
‫والصالة والسالم عىل خري خلق اهلل حممد بن عبد اهلل‪ ،‬وعىل آله وصحبه ومن وااله‪.‬‬
‫وبعد‪...‬‬
‫فلقد تل َّقيت دعو ًة كريمة من القائمني عىل ملتقى التدبر األول الذي عقد بالرياض‬
‫يوم اخلميس‪1429 /6/1‬هـ‪ ،‬املوافق‪2008 /6/5‬م‪ ،‬وكان عنوان امللتقى‪« :‬التد ُّبر‬
‫حقيقته وعالقته بمصطلحات‪ :‬التأويل‪ ،‬واالستنباط‪ ،‬والفهم‪ ،‬والتفسري»‪ ،‬وقد طلب‬
‫قرر امللتقى احلضور‪ ،‬واإلدالء بدلوي بمداخلة شفوية أو حتريرية‪ ،‬وقد دعاين‬
‫منِّي ُم ِّ‬
‫الستيضاح مفاهيم هذه املصطلحات من خالل النص‬ ‫هذا للعودة إىل كتاب ربنا‬
‫كتبت يف هذا الصدد وريقات قليلة كمداخلة‪ ،‬ثم حرضت‬
‫القرآين الكريم ذاته‪ ،‬وقد ُ‬
‫وجل املداخلني تك َّلموا عن هذه‬
‫امللتقى‪ ،‬ووجدت أن أصحاب الكلمة يف هذا امللتقى َّ‬
‫وبينوا عالقة كل مصطلح‬
‫املصطلحات من النواحي التفسريية واللغوية املحضة‪َّ ،‬‬
‫قرره بعض علامء التفسري واللغة‪.‬‬
‫باآلخر‪ ،‬كام َّ‬
‫ريا‪ ،‬ومن َث َّم فقد ارتأيت بحكم ختصيص يف البالغة َّ‬
‫أن‬ ‫وهذه الطريقـة مل َت ُر ْق يل كث ً‬
‫‬
‫أعطي هذا املوضوع ح َّقه من البحث والدرس والتفصيل‬
‫َ‬ ‫الطريق األمثل لذلك‪ :‬أن‬
‫من خالل التحليل البالغي لآليات الوارد فيها تلك املصطلحات‪ ،‬مع الرتكيز عىل‬
‫استمداد دالالت هذه املصطلحات من واقع النص القرآين ذاته‪ ،‬وليس من كالم‬
‫بعض املفرسين أو اللغويني الذين أشاروا إىل دالالت هذه األلفاظ بعيدً ا عن السياق‬
‫القرآين عامة‪.‬‬
‫ولن نصل إىل تلك الغاية بحق إال بدراسة اآليات التي وردت فيها تلك‬
‫املصطلحات دراس ًة بالغية حتليلية مرتبطة بسياقاهتا املختلفة يف القرآن الكريم‪.‬‬
‫وأعني هبذه الدراسة البالغية التحليلية أن ُتستقرأ مجيع اآليات التي وردت فيها‬
‫هذه املصطلحات‪ ،‬ودراستها كلها‪ ،‬ثم استنباط املعنى املراد من هذه املصطلحات كام‬
‫قرره الذكر احلكيم يف خمتلف السياقات‪ ،‬ثم بيان الفروق الداللية بينها بعد ذلك من‬
‫واقع هذا التحليل البالغي‪.‬‬
‫وهذه الدراسة وحدها هي الكفيلة ‪-‬عىل ما أعتقد‪ -‬بإبراز الضوء عىل الفروق‬
‫الدقيقة‪ ،‬والعالئق املختلفة بني تلك املصطلحات‪.‬‬
‫ومن ثم فهذا البحث سيأخذ عىل عاتقه تأصيل هذه املصطلحات من واقع‬
‫استعامل القرآن الكريم هلا‪ ،‬ثم بيان الفروق بينها من واقع هذا االستعامل‪ ،‬والكشف‬
‫عن املعاين املحدثة هلذه املصطلحات‪ ،‬والتي ال صلة هلا بمدلول هذه املصطلحات يف‬
‫الذكر احلكيم‪ ،‬والتي حياول البعض جعلها األصل اللغوي يف تفسري ما ورد من هذه‬
‫األلفاظ يف القرآن الكريم‪.‬‬
‫من هنا استعنت باهلل رب العاملني‪ ،‬وأعددت اآليات التي وردت فيها تلك‬
‫ومجعت ما قيل حوهلا من كالم املفرسين واللغويني؛ للوقوف عىل‬
‫ُ‬ ‫املصطلحات‪،‬‬

‫‬
‫املعنى املراد من هذه املصطلحات كام بينه القرآن‪ ،‬وهي خطوة عىل طريق طويل‬
‫نحاول أن نجعل فيه القرآن الكريم منطلقنا وهدفنا الذي جيب أن نتحاكم إليه عند‬
‫الفصل بني معاين الكلامت املتقاربة الدالالت يف اللغة‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وبعد معاناة طويلة ومشقة مضنية يف مراجعة ما ُكتِب حول تلك املصطلحات‬
‫يف كتب التفسري واللغة املختلفة‪ ،‬تكشف يل للوصول إىل تلك الغاية أن أهنج يف بحثي‬
‫النهج اآليت‪:‬‬
‫‪ -1‬االكتفاء بدراسة اآليات األربع التي ورد فيها احلديث عن التدبر‪ ،‬وعدم‬
‫دراسة اآليات التي وردت فيـها مادة‪َ « :‬د َب َر» باختالف مشتقاهتا؛ حتى ال خيرج‬
‫البحث عن نطاقه‪ ،‬وإن كنت يف حاشية الدراسة مل أغفل إلقاء الضوء عىل ذلك حسبام‬
‫يقتضيه املقام‪.‬‬
‫‪ -2‬االكتفاء بدراسة اآلية التي ورد فيها مصطلح التأويل يف سورة «آل عمران»‬
‫دون غريها من اآليات يف بقية السور؛ ألهنا حمل الشاهد‪ ،‬مع األخذ يف احلسبان إلقاء‬
‫الضوء عىل معاين التأويل يف غري هذه اآلية حسبام يقتضيه املقام‪.‬‬
‫‪ -3‬دراسة اآليات الثالث التي ورد فيها االستنباط والفهم والتفسري فحسب؛‬
‫ألن هذه األلفاظ الثالث مل تذكر إال يف هذه اآليات الثالث؛ فهي مصطلحات فريدة‬
‫مرة واحدة ‪-‬مادة وصيغة‪ -‬يف القرآن الكريم‪.‬‬
‫وحيدة مل ترد إال َّ‬
‫بالغيا‬
‫ًّ‬ ‫‪ -4‬حتليل اآليات التي وردت فيها تلك املصطلحات اخلمسة حتليلاً‬
‫الداللية املحتملة هلا قدر اإلمكان‪.‬‬
‫َّ‬ ‫شموليا من كافة الوجوه واملستويات‬
‫ًّ‬
‫‪ -5‬عرض خمتلف آراء اللغويني واملفرسين يف دالالت هذه املفاهيم‪ ،‬واالكتفاء‬
‫بنقل رأي واحد منهم‪ ،‬أو أكثر حسبام يقتضيه املقام‪ ،‬وإحالة القارئ الكريم عىل بقية‬

‫‬
‫منعا للتطويل‪.‬‬
‫الكتب الوارد فيها الرأي نفسه يف حاشية الدراسة ً‬
‫‪ -6‬اخللوص عقب حتليل هذه اآليات إىل استخراج العالئق الكامنة بني هذه‬
‫املصطلحات‪ ،‬والكشف كذلك عن الفروق الدقيقة بينها كام أظهره التحليل البالغي‪.‬‬
‫كل هذا من واقع النص القرآين ذاته ال من كال ٍم خارج عنه ألي عامل من العلامء‬
‫َّ‬
‫يتوخ هذا األمر عند حديثه‪ ،‬وهذا هو األساس السليم‪ ،‬واملرتكز القوي املتني‬ ‫مل‬
‫للكشف عن الدالالت‪ ،‬وبيان الفروق بني تلـك املصطلحات؛ ألن «ألفاظ القرآن‬
‫لب كالم العرب وزبد ُته‪ ،‬وواسطته وكرائمه‪ ،‬وعليها اعتامد الفقهاء واحلكامء يف‬
‫هي ُّ‬
‫أحكامهم وحكمهم‪ ،‬وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء يف نظمهم ونثرهم‪ ،‬وما‬
‫عداها وعدا األلفاظ املتفرعات عنها‪ ،‬واملشتقات منها هو باإلضافة إليها كالقشور‬
‫والنوى باإلضافة إىل أطايب الثمرة‪.)( »...‬‬
‫‪ -7‬التأكيد عىل أن هذه املصطلحات القرآنية السالفة بينها حتماً فوارق دقيقة‪،‬‬
‫وإال فعقلاً ومنط ًقا لو كانت م َّتحدة يف معناها من كافة الوجوه؛ الكتفى املوىل‬
‫بأحدها عن األخرى يف الذكر احلكيم‪ ،‬هذا الكتاب املعجز الذي ُوضعت فيه كل‬
‫لفظة بقسطاس مستقيم‪.‬‬
‫وعىل ذلك فإن املقصود بالتدبر خيتلف عن غريه من بقية املصطلحات‪ ،‬لكنه‬
‫متضادا كاالختالف بني القيام واجللوس‪ ،‬والنوم واليقظة‪ ،‬واملرض‬
‫ًّ‬ ‫ليس اختال ًفا‬
‫بأي وجه من‬
‫والصحة‪ ،‬والضحك والبكاء‪ ،‬فهذه األلفاظ ال يمكن أن جتتمع معانيها ِّ‬
‫الوجوه‪ ،‬عكس املفاهيم حمل الدراسة‪ ،‬فهي وإن افرتقت من وجه؛ فإهنا قد تلتقي من‬
‫وظ َه َر‪ ،‬و َن َتقَ َو َر َف َع‪َ ،‬و َق َط َع َوا ْن َف َص َل]‬
‫ص َ‬‫[ح ْص َح َ‬
‫وجه آخر مثل التقاء معاين األفعال َ‬

‫() مفردات ألفاظ القرآن لألصفهاين ص (ن)‪ ،‬وانظر املزهر للسيوطي ‪.201/1‬‬

‫‪10‬‬
‫من وجه‪ ،‬وافرتاقها من وجه آخر‪.‬‬
‫‪ -8‬التأكيد كذلك عىل أن القرآن الكريم جيب أن يكون منطلقنا يف بيان معاين‬
‫هذه املصطلحات‪ ،‬بعيدً ا عن األهواء والتحزبات والتعصبات لدى بعض املفرسين‪،‬‬
‫واللغويني‪ ،‬واألصوليني الذين فسرَّ وا هذه املصطلحات وفق مذاهبهم ومناهجهم‬
‫بعيدً ا عن داللتها القرآنية منطو ًقا أو مفهو ًما‪.‬‬
‫وعىل ذلك؛ فقد تكونت خطة الدراسة من مقدمة وستة مباحث‪.‬‬
‫‪ -1‬مقدمة‪ :‬عن باعث البحث ومنهجه وخطته‪.‬‬
‫‪ -2‬املبحث األول‪ :‬األرسار البالغية يف آيات التدبر‪.‬‬
‫‪ -3‬املبحث الثاين‪ :‬األرسار البالغية يف آية التأويل‪.‬‬
‫‪ -4‬املبحث الثالث‪ :‬األرسار البالغية يف آية االستنباط‪.‬‬
‫‪ -5‬املبحث الرابع‪ :‬األرسار البالغية يف آية التفهيم‪.‬‬
‫‪ -6‬املبحث اخلامس‪ :‬األرسار البالغية يف آية التفسري‪.‬‬
‫‪ -7‬املبحث السادس‪ :‬أثر التحليل البالغي يف استكشاف الفروق والعالئق بني‬
‫هذه املصطلحات القرآنية‪.‬‬
‫‪ -8‬فهرست أهم املصادر واملراجع‪.‬‬
‫‪ -9‬فهرست املوضوعات‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫املبحث أ‬
‫الول‬
‫املبحث األول‪:‬‬
‫التدبر‬
‫البالغية يف آيات ُّ‬
‫َّ‬ ‫األسرار‬
‫نستهل حتليل اآليات األربع التي ورد فيها التدبر باآليتني املدنيتني()‪ ،‬ونبدأ اً‬
‫أول‬
‫بآية سورة النساء يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ‬
‫ﮆ ﮇ ﮈﱪ [النساء‪.]82:‬‬
‫وهذه اآلية الكريمة وردت يف سورة النساء() املدنية التي ُعنيت ‪-‬كام عنيت‬
‫سائر السور املدنية‪ -‬باحلديث عن األحكام الترشيعية‪ ،‬كام عنيت كذلك باحلديث‬
‫عن أهل الكتاب واملنافقني‪ ،‬فمن يتأمل مطلعها جيد أهنا بدأت باحلديث عن حقوق‬
‫األيتام‪ ،‬وبخاصة اليتيامت يف حجور األولياء‪ ،‬كام كشفت عن حقوق املرأة عند عقد‬
‫القران عليها‪ ،‬ثم ذكرت بالتفصيل أحكام املواريث‪ ،‬كام حتدثت عن املحرمات من‬
‫ورضاعا ومصاهر ًة‪ ،‬كام تناولت حقَّ الزوج عىل‬
‫ً‬ ‫النساء بمختلف أنواع التحريم نس ًبا‬
‫زوجته‪ ،‬وحق الزوجة عىل زوجها‪ ،‬وغري ذلك من أحكام‪.‬‬
‫ثم انتقلت للحديث عن أهل الكتاب‪ ،‬ثم حتدَّ ثت عن املنافقني من قوله تعاىل‬
‫ﱫﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ‬
‫ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﱪ [النساء‪ ،]65:‬واستمرت يف احلديث‬

‫() اآليتان املدنيتان مها [النساء ‪ ،82‬وحممد ‪ ،]24‬واملكيتان [املؤمنون ‪ ،68‬وص‪.]29‬‬


‫() سميت بذلك؛ ألن جل األحكام الترشيعية الواردة فيها تتعلق بالنساء بوجه عام‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫عنهم إىل هناية اآلية (‪ ،)91‬ومن ثم؛ فإن هذه اآلية الكريمة التي معنا هنا وردت يف‬
‫سياق احلديث عن هؤالء املنافقني كام سيتضح بعدُ بجالء‪.‬‬
‫لـماَّ‬ ‫ومناسبة هذه اآلية ملا قبلها ذكرها ابن عادل فقال‪« :‬ووجه النظم‪ :‬أنه‬
‫صحة َد ْع َوى ال َّنبي ×‬ ‫وك ْي ِدهم؛ ألجل َعدَ م اعتِ َق ِ‬
‫ادهم َّ‬ ‫أنواع مكر املنافقني َ‬
‫َ‬ ‫حكى‬
‫للر َسا َلة‪ ،‬فال َج َرم أمرهم اهلل تعاىل بأن َي ْن ُظروا ويتفكروا يف الدَّ الئِل الدَّ ا َّلة عىل ِص َّحة‬
‫ِّ‬
‫بوة؛ فقال تعاىل‪ :‬ﱫﭻ ﭼ ﭽﭾﱪ»()؛ فتدبر القرآن حق التدبر فيه أمارة‬
‫ال ُّن َّ‬
‫قاطعة‪ ،‬وحجة ساطعة عىل صحة نبوته ×‪.‬‬
‫واهلمزة يف قوله‪ :‬ﱫ ﭻ ﭼ ﱪ اختلف يف معناها‪ :‬فقيل‪ :‬هي‪« :‬استفهام‬
‫بمعنى األمر‪ ،‬كقوله تعاىل‪ :‬ﱫﮧ ﮨ ﮩ ﮪﱪ [املائدة‪ .)(»]74 :‬وقيل‪:‬‬
‫هي لالستفهام اإلنكاري‪ ،‬يقول أبو حيان‪« :‬وهذا استفهام معناه اإلنكار‪ ،‬أي‪ :‬أفال‬
‫يتأملون ما نزل عليك من الوحي‪ ،‬وال يعرضون عنه‪ ،‬فإن يف تدبره يظهر برهانه‪،‬‬
‫ويسطع نوره‪ ،‬وال يظهر ذلك ملن أعرض عنه‪ ،‬ومل يتأمله»()‪.‬‬
‫وهذا الرأي هو األرجح‪ ،‬والسياق القرآين يؤيده متا ًما؛ ألن هذه اآلية الكريمة‬
‫وردت يف سياق اإلنكار عىل هؤالء املنافقني‪ ،‬أي‪ :‬ما كان ينبغي حدوث ذلك منهم‪.‬‬
‫ومن يتأمل يف داللة هذا االستفهام اإلنكاري يلحظ جميئه مصحو ًبا ً‬
‫أيضا‬
‫بتوبيخهم عىل عدم التدبر‪ ،‬والتعجب من حاهلم يف استمرارهم عىل نفاقهم مع‬
‫توافر أسباب اهلداية هلم‪ ،‬وهو القرآن الذي يردده الرسول × عىل مسامعهم‪ ،‬وبني‬

‫() تفسري اللباب‪ ،519/6‬وانظر مفاتيح الغيب ‪ ،332/9‬وتفسري النيسابوري‪.455/2‬‬


‫() حاشية زادة عىل البيضاوي ‪.370/3‬‬
‫() البحر املحيط ‪ ،305/3‬وفتح القدير للشوكاين ‪ ،491/1‬دار الفكر‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫ظهرانيهم ليل هنار‪ ،‬وهذا ما ذكره ابن عاشور‪ ،‬فقال‪« :‬االستفهام إنكاري للتوبيخ‬
‫والتعجيب منهم يف استمرار جهلهم مع توفر أسباب التدبري لدهيم»()‪.‬‬
‫والفاء يف قوله‪ :‬ﱫﮧﱪ اختلف يف معناها عىل رأيني‪:‬‬
‫األول‪ :‬عاطفة‪ ،‬عطفت اجلملة التي بعدها عىل مجلة حمذوفة قبلها‪ ،‬وقد اختلف‬
‫يف تقدير هذه اجلملة املحذوفة عىل وجهني حكامها األلويس بقوله‪« :‬والفاء للعطف‬
‫عىل مقدَّ ر‪ ،‬أي‪ :‬أيشكون يف أن ما ذكر شهادة اهلل تعاىل فال يتدبرون القرآن‪ ...‬وقيل‪:‬‬
‫املعنى‪ :‬أيعرضون عن القرآن‪ ،‬فال يتأملون فيه»()‪.‬‬
‫وبذلك تكون مجلة يتدبرون معطوفة بالفاء عىل مجلة يعرضون أو يشكون املحذوفة‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬الفاء للتفريع عىل الكالم السابق‪ ،‬وال حذف‪ ،‬يقول ابن عاشور‪« :‬الفاء‬
‫تفريع عىل الكالم السابق املتعلق هبؤالء املنافقني‪.)(»...‬‬
‫ومعنى التفريع ‪-‬كام يفهم من كالم ابن عاشور‪َّ :-‬‬
‫أن الفاء لالستئناف‪ ،‬استأنفت‬
‫تفرع عنه‪.‬‬
‫منقطعا عام سبق‪ ،‬بل جديد متصل به‪ُ ،‬م ِّ‬
‫ً‬ ‫كال ًما جديدً ا‪ ،‬لكنه ليس جديدً ا‬
‫وهذا الرأي الثاين هو ما أميل إليه هنا؛ ألنيِّ َّ‬
‫تتبعت هذه الفاء املسبوقة هبمزة‬
‫االستفهام‪ ،‬وبعدها ال النافية يف القرآن‪ ،‬فوجدهتا وردت (‪ )45‬مرة‪ ،‬ومل يتضح يل أهنا‬
‫عطفت الفعل بعدها عىل مقدر قبلها‪ ،‬وما ال حيتاج لتقدير أوىل مما حيتاج‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬ﱫﭼﱪ فعل مضارع من املايض اخلاميس «تَدَ َّب َر»‪ ،‬وهـو «مشتق من‬
‫الدُّ بر؛ أي‪ :‬الظهر‪ ،‬اشتقوا من الدُّ بر فعلاً ‪ ،‬فقالوا‪ :‬تَدَ َّب َر‪ :‬إذا نظر يف ُد ُبر األمر؛ أي‪ :‬يف‬

‫() التحرير والتنوير‪ ،137/5‬وانظر‪ :‬تفسري أيب السعود ‪ ،207/2‬والفتوحات اإلهلية ‪.404/1‬‬
‫() روح املعاين ‪ ،186/4‬وانظر‪ :‬تفسري أيب السعود ‪ ،207/2‬والفتوحات اإلهلية ‪.404/1‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪.137/5‬‬

‫‪15‬‬
‫غائبه‪ ،‬أو يف عاقبته؛ فهو من األفعال التي اشتقت من األسامء اجلامدة»()‪.‬‬
‫وأصل التد ُّبر‪ :‬النظر يف أدبار األمور وعاقبتها‪ ،‬يقول الفيومي‪َ « :‬د َّب ْر ُت األ ْم َر َتدْ بِ ً‬
‫ريا‪:‬‬
‫اق َب ُت ُه َو ِ‬
‫آخ ُر ُه»()‪.‬‬ ‫َفعل ُت ُه َع ْن ِف ْكر َو َر ِو َّي ٍة‪َ ،‬وتَدَ َّب ْر ُت ُه تَدَ ُّب ًرا‪َ :‬ن َظ ْر ُت فيِ ُد ُب ِر ِه‪َ ،‬و ُه َو َع ِ‬
‫واستَدْ َبره‪َ :‬‬ ‫َ‬
‫رأى يف عاقبته‬ ‫ويقول ابن منظور‪َ « :‬د َّب َر األ ْم َر وتَدَ َّبره‪ :‬نظر يف عاقبتِه‪َ ْ ،‬‬
‫بآخ َر ٍة‪.)(»..‬‬ ‫األ ْم َر تَدَ ُّب ًرا‪َ :‬أي َ‬ ‫وعر َف َ‬
‫ما مل َير يف صدره‪َ َ ،‬‬
‫هذا هو أصل التد ُّبر كام ذكره اللغويون‪ ،‬ومل خيرج كثري من املفرسين عن ذلك‬
‫التعريف‪ِ ،‬‬
‫وإن اختلفت عباراهتم يف ذلك()‪ ،‬إال أن بعض املفرسين املتأخرين توسعوا‬
‫يف هذا التعريف‪.‬‬
‫يقول الشهاب اخلفاجي ( ت‪1069‬هـ )‪« :‬التد ُّبر‪ :‬التأمل يف أدبار األمور‪،‬‬
‫نظرا يف حقيقة اليشء وأجزائه‪ ،‬أو‬ ‫تأمل‪ ،‬سواء كان ً‬ ‫وعواقبها‪ ،‬ثم استعمل يف ِّ‬
‫كل ُّ‬
‫دل االشتقاق عىل أنه النظر يف العواقب‬ ‫سوابقه وأسبابه‪ ،‬أو لواحقه وأعقابه‪ ،‬وإن َّ‬
‫واألدبار خاصة»()‪.‬‬
‫فالتد ُّبر عنده مل يقترص عىل عواقب األمور فحسب‪ ،‬بل امتدَّ ليشمل حقائقها‬
‫وأسباهبا ولواحقها‪ ،‬وغري ذلك عىل وجه اإلطالق‪ ،‬وهذا املعنى هو األليق هنا؛‬

‫() التحرير والتنوير ‪ ،137/5‬وانظر‪ :‬حاشية الشهاب ‪.145/8‬‬


‫() املصباح املنري ‪ ،72‬وانظر‪ :‬معجم املقاييس يف اللغة البن فارس ‪.374‬‬
‫() لسان العرب ‪ ،273/4‬مادة‪( :‬دبر)‪ ،‬وانظر‪ :‬هتذيب اللغة ‪ ،112/12‬وتاج العروس‬
‫‪.266 ،265/11‬‬
‫() انظر‪ :‬الكشاف ‪ ،546/1‬واملحرر الوجيز ‪ ،187/4‬وتفسري الثعالبي ‪ ،366/1‬وزاد املسري‬
‫‪ ،87/2‬ومفاتيح الغيب ‪ ،333/9‬وتفسري النسفي ‪ ،348/1‬وتفسري اخلازن ‪ ،563/1‬وتفسري‬
‫القرطبي ‪ ،290/5‬وتفسري النيسابوري ‪ ،455/2‬وتفسري أيب السعود ‪.207/2‬‬
‫() حاشية الشهاب عىل تفسري البيضاوي ‪ ،315/3‬وانظر‪ :‬روح املعاين ‪.186/4‬‬

‫‪16‬‬
‫ألن دعوة املنافقني إىل التدبر يف القرآن تقتيض النظر يف ِّ‬
‫كل ما ي َّتصل به من حقائقه‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وأجزائه وسوابقه‪ ،‬وأسبابه ولواحقه؛ لإليامن به‪ ،‬واالهتداء إىل صحة النبوة‪.‬‬
‫قد استعمل يف حقيقته اللغوية‬‫وعىل هذا التعريف الواسع يكون مصطلح التد ُّبر ِ‬
‫كذلك‪ ،‬ومل ينتقل إىل حقيقة رشعية‪ ،‬أو جما ٍز‪.‬‬
‫وبذلك يكون التد ُّبر يف القرآن‪« :‬هو النظر والتفكر يف غاياته ومقاصده‪ ،‬التي‬
‫يرمي إليها‪ ،‬وعاقبة العامل به‪ ،‬واملخالف له»()‪.‬‬
‫تفعل‪ ،‬وجميء املضارع هنا من هذه الصيغة دون‬ ‫ِ‬
‫صيغة َّ‬ ‫واملايض اخلاميس‪« :‬تَدَ َّب َر» عىل‬
‫والتتبع؛ كام تفيده تلك الصيغة يف غالب استعامالهتا‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫الرباعي « َد َّبر»؛ للداللة عىل التدرج‬
‫ويف هذا دعوة للمنافقني أن يتدبروا القرآن الكريم مرة بعد مرة‪ ،‬وكرة بعد كرة؛‬
‫حتى يصلوا لإليامن به‪ ،‬وبصحة نبوته ×‪.‬‬
‫يقول ابن القيم‪« :‬تد َّبر الكالم‪ :‬أن ينظر يف أوله وآخره‪ ،‬ثم يعيد نظره مرة بعد‬
‫والتفهم‪ ،‬والتبينُّ »()‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫كالتجرع‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫التفعل؛‬
‫مرة‪ ،‬وهلذا جاء عىل بناء ُّ‬
‫ف وبذل اجلهد‪ ،‬يقال‪:‬‬‫أيضا إفادة املعاناة والتك ُّل ِ‬
‫كام حيتمل التعبري بتلك الصيغة ً‬
‫تد َّبر املسألة‪ ،‬أي‪َّ :‬‬
‫تفكر فيها‪ ،‬وبذل جهدً ا حتى وعاها‪ ،‬ووقف عىل حقيقتها‪.‬‬
‫وهذا بال شك يقتيض من املتد ِّبر إنعام النظر‪ ،‬وإعامل العقل‪ ،‬وإطالة الفكر‬
‫حتى َي ْسبرُ َ أغوار احلقائق القرآنية‪ ،‬ويقف عىل غايات اآليات الكريمة‪ ،‬ومقاصدها‬
‫الرشيفة‪ ،‬ومراميها البعيدة؛ َّ‬
‫ألن املطلوب قد ال يظهر بالبدهية للوهلة األوىل‪ ،‬أو بادئ‬
‫ذي بدء بل يظهر بآخرة‪.‬‬

‫() تفسري املنار ‪.233/5‬‬


‫() مفتاح دار السعادة ومنشور والية العلم واإلرادة البن قيم اجلوزية ‪.183 /1‬‬

‫‪17‬‬
‫يتسمع ألصوات حروف الكلمة وتدرجها يف النطق يلحظ كذلك‬
‫َّ‬ ‫هذا‪ ،‬ومن‬
‫هذه املعاين املختلفة‪ ،‬وبذلك تتعاور تلك الصيغة مع أصوات حروفها يف أداء تلك‬
‫املعاين الدقيقة‪ ،‬والتعبري باملضارع() هنا يومئ إىل رضورة جتدد التدبر وحدوثه كلام‬

‫() مل يرد التد ُّبر يف القرآن إال عىل صيغة املضارع من املايض اخلاميس «تَدَ َّب َر» باملعنى الذي قررناه‪ ،‬أما‬
‫املضعف العني « َد َّب َر» عىل صيغة « َف َّعل»‬
‫َّ‬ ‫تدبري األمر؛ فقد ورد فيه الفعل املضارع « ُيدَ ِّب ُر» من املايض الرباعي‬
‫التي تقتيض الكثرة يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄﮅ ﱪ [يونس‪ ،]٣:‬وقوله تعاىل‪ :‬ﱫﯭ‬
‫ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲﯳ ﱪ [يونس‪ ،]٣١:‬وقوله تعاىل‪ :‬ﱫﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﱪ‬
‫[الرعد‪ ،]٢:‬وقوله تعاىل‪ :‬ﱫﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﱪ [السجدة‪.]5:‬‬
‫«مدَ ِّبر» من املايض الرباعي « َد َّب َر» يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﮮ ﮯﱪ [النازعات‪:‬‬
‫كام ورد اسم الفاعل ُ‬
‫باملالئكة التي تدبر األمر‪ ،‬وهو شئون الكون املختلفة‪.‬‬ ‫‪ ،]٥‬ففي هذه اآلية أقسم املوىل‬
‫وبذلك ي َّتضح لنا من التعبري بتلك الصيغة أمور‪:‬‬
‫اً‬
‫أول‪ :‬جاء التعبري باملضارع « ُيدَ ِّب ُر» (‪ )4‬مرات‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬املد ِّبر يف هذه اآليات األربع (أي الفاعل املحذوف) هو اهلل‬
‫‪.‬‬
‫معر ًفا بـ(أل) التي‬
‫ثال ًثا‪ :‬املد َّبر (أي‪ :‬املفعول املذكور) يف مجيع اآليات هو األمر‪ ،‬واألمر هنا ورد َّ‬
‫حق ال مرية فيه‪ ،‬كام قال تعاىل يف آية أخرى‪ :‬ﱫﮞ ﮟ‬
‫تفيد االستغراق الكيل جلميع أنواع األمر‪ ،‬وهذا ٌّ‬
‫كل يشء ‪.‬‬ ‫ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﱪ [األعراف‪ ،]54 :‬أي‪ :‬له أمر ِّ‬
‫«مدَ ِّبر» من املايض يف موطن واحد فحسب‪ ،‬والفاعل املحذوف املالئكة‪،‬‬ ‫رابعا‪ :‬ورد اسم الفاعل ُ‬
‫ً‬
‫األمر ك َّله‪.‬‬
‫َ‬ ‫واملفعول املذكور هو لفظة األمر املنكرة‪ ،‬وهنا مفارقة دقيقة‪ :‬فاملالئكة تُدَ ِّب ُر ً‬
‫أمرا ما‪ ،‬واهلل ُيد ِّب ُر‬
‫أن اهلل وصف نفسه بأنه املد ِّبر‪ ،‬وأنه ُيد ِّبر أمور اخلالئق ك َّلها دون استثناء‪،‬‬
‫نستنتج من هذا‪َّ :‬‬
‫أمرا‬
‫‪-‬أيضا‪ ،-‬ولكنهم يدبرون ً‬ ‫ً‬ ‫فاهلل هو املد ِّب ُر‪ ،‬واألمر هو املد َّبر‪ ،‬كام وصف املالئكة املقربني بذلك‬
‫َ‬
‫ما بإذنه ال يتجاوزونه‪ ،‬والعجيب‪ :‬أن الذكر احلكيم استخدم الرباعي «أ ْد َب َر» (‪ )4‬مرات‪ ،‬واسم‬
‫«مدْ بِر» (‪ )8‬مرات‪ ،‬واملصدر «إدبار» مرة واحدة‪ ،‬كام استخدم اسم الفاعل من « َد َب َر» (‪)4‬‬ ‫الفاعل منه ُ‬
‫«د ُبر» (‪ )5‬مرات‪ ،‬ومجع اجلمع‪« :‬أدبار» (‪ )13‬مرة‪ ،‬يف سياقات ال صلة هلا بام نحن فيه‪،‬‬ ‫مرات‪ ،‬واجلمع ُ‬
‫أن القرآن الكريم يضع كل صيغة يف مكاهنا األشكل هبا‪ ،‬وهذا من دالئل إعجازه يف‬ ‫وكل هذا ُينبئ عن َّ‬
‫اختيار صيغه بام ال يسمح الوقت باإلفاضة فيه‪ .‬انظر املعجم املفهرس ‪.253 ،252‬‬

‫‪18‬‬
‫عن األمر لذلك؛ ألن اإلنسان ال يتد َّبر القرآن يف ِّ‬
‫كل وقت وحني‪ ،‬بل كلام قرأه أو‬ ‫َّ‬
‫سمعه‪ ،‬أو انشغل به يف قضية من قضاياه؛ فهو حيدث وجيدد التدبر يف كل مرة‪.‬‬
‫والواو يف قوله‪َ « :‬ي َتدَ َّب ُر َ‬
‫ون» تعود عىل املنافقني الذين يتحدَّ ث السياق القرآين‬
‫السابق عنهم بوضوح‪ ،‬وال يمكن أن حتمل عىل غريهم مطل ًقا‪ ،‬وإال القتلعنا اآلية‬
‫من سياقها‪.‬‬
‫ولكننا نتساءل‪ :‬هل يراد هبم املنافقون الذين كانوا يف املدينة النبوية أيام النبي‬
‫×‪ ،‬وبذلك تنحرص داللتها فيهم فحسب؟ أم أن داللتها تتسع لتشمل املنافقني يف‬
‫كل زمان ومكان؟‬
‫أقول‪ :‬إين أميل إىل األخري؛ ألن العربة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب‪،‬‬
‫والقرآن خياطبهم يف كل عرص ومرص‪ ،‬واحلكمة من ِّ‬
‫حث مجيع املنافقني عىل التدبر‬
‫«أن التدبر يف القرآن جيعلهم ُي ِّ‬
‫فك ُرون يف عاقبة أمرهم‪ ،‬ويستيقظون من سباهتم‬ ‫فيه‪َّ :‬‬
‫الذي يملك عليهم نفوسهم‪ ،‬ويتجسد أمام بصائرهم ما سوف يناهلم من جزاء يوم‬
‫القيامة»()‪.‬‬
‫ُ‬
‫«الق ْرآنَ »‪ :‬مفعول به تعدى إليه الفعل «يتدبر» بنفسه‪« :‬والقرآن يف األصل مصدر‬
‫نحو ُكفران ورجحان‪ ...‬وقد ُخص بالكتاب املنزل عىل حممد ×‪ ،‬فصار له كالعلم‪،‬‬
‫أن التوراة لِـماَ ُأنْزل عىل موسى واإلنجيل عىل عيسى»()‪.‬‬
‫كام َّ‬
‫ِ‬
‫قرأت الناقة سىل قط‪ ،‬أي‪ :‬ما ضمت يف رمحها‬ ‫والقرآن مشتق «من قولك‪ :‬ما‬

‫() زهرة التفاسري لإلمام حممد أبو زهرة ‪.1781/4‬‬


‫() مفردات الراغب ‪.414‬‬

‫‪19‬‬
‫ولدً ا» ()‪ ،‬فأصله من الضم واجلمع؛ ولذا «قال بعض العلامء‪ :‬ليست تسمية هذا‬
‫جامعا لثمرة كتبه‪ ،‬بل جلمعه ثمرة‬
‫ً‬ ‫الكتاب قرآ ًنا من بني سائر كتب اهلل املنزلة لكونه‬
‫مجيع العلوم‪ ،‬كام أشار بقوله‪ :‬ﱫﯼ ﯽ ﯾﱪ [يوسف‪ ]111:‬ﱫﭲ‬
‫ﭳ ﭴﱪ [النحل‪.)(»]89:‬‬
‫وذكر يف هذه اآلية لفظة القرآن‪ ،‬وذكر يف غريها لفظة القول‪ ،‬والكتاب كام سيأيت؛‬
‫ألن املخاطبني بالتدبر هنا ‪-‬كام مر‪ -‬هم املنافقون‪ ،‬وهؤالء كانوا يقرؤون القرآن يف‬
‫مكرا‬
‫حرضة املسلمني‪ ،‬ويرددون آياته عىل ألسنتهم دون تدبر‪ ،‬بل كانوا يتمتمون هبا ً‬
‫ودهاء‪ ،‬فجاءت تلك اللفظة تعكس حاهلم‪ ،‬وحتكي صنيعهم الظاهر‪.‬‬
‫راجعا ً‬
‫أيضا إىل أن هؤالء املنافقني كانوا ال‬ ‫ً‬ ‫وجيوز أن يكون اختيار تلك اللفظة‬
‫يكتبونه البتة‪ ،‬وال حيفظونه يف صدورهم مطل ًقا‪ ،‬وهذا يؤيده السياق اخلارجي‪ ،‬فلم‬
‫عليم النفاق ك َّلفه رسول اهلل × بكتابة القرآن‪ ،‬فبان هبذا َّ‬
‫أن لفظة‬ ‫أن مناف ًقا َ‬
‫ُيعرف َّ‬
‫مغايرا للفظة القول والكتاب‪ ،‬يؤكد ذلك‪َّ :‬‬
‫أن الكتاب‬ ‫ً‬ ‫القرآن حتمل يف طياهتا معنًى‬
‫عطف عليه يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﭑﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﱪ [النمل‪،]1:‬‬
‫والعطف يقتيض التغاير يف الذات‪ ،‬أو يف الصفات كام هو معلوم‪.‬‬
‫وتعريف القرآن بـ (أل) فيه إشارة إىل فخامته وعظمته‪ ،‬أي‪ :‬هذا القرآن العظيم‬
‫املنزل عىل خاتم املرسلني حممد ×‪.‬‬
‫َّ‬
‫وجيوز أن تكون (أل) للعهد‪ ،‬أي‪ :‬هذا القرآن املعهود الذي تقرؤونه‪ ،‬كام جيوز أن‬

‫() زاد املسري البن اجلوزي‪ ،87/2‬وجيوز أن يكون القرآن غري مشتق‪ ،‬يقول الزركيش‪« :‬قول‬
‫الشافعي هو اسم لكتاب اهلل‪ ،‬يعني أنه اسم علم غري مشتق‪ ،‬كام قاله مجاعة من األئمة» انظر الربهان‬
‫للزركيش ‪ ،349/1‬والراجح أنه مشتق ثم صار علام بالغلبة‪.‬‬
‫() عمدة احلفاظ يف تفسري أرشف األلفاظ للسمني احللبي ‪.338/3‬‬

‫‪20‬‬
‫تكون للعموم‪ ،‬أي‪ :‬مجيع القرآن الذي نزل عليهم حتى نزول تلك اآلية‪ ،‬وهذا يعني‪:‬‬
‫متدبرا له‪ ،‬فتدبره كله حيمي من الوقوع يف‬
‫ً‬ ‫أن من يتدبر أق َّله ‪-‬أو أكثره‪ -‬ال يكون‬
‫َّ‬
‫أن نفي االختالف‬ ‫توهم االختالف‪ ،‬وإىل ذلك أشار اإلمام ابن تيمية بقوله‪« :‬ومعلوم َّ‬
‫عنه ال يكون إال بتد ُّبره ك ِّله‪ ،‬وإال فتدبر بعضه ال ُيوجب احلكم بنفي خمالفة ما مل َيتدَ َّبر‬
‫ملا تَدَ َّب َر»()‪.‬‬
‫تلقائيا‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫هذا‪ ،‬ومن سامت تلك اللفظة‪َّ :‬‬
‫أن الذهن ‪-‬عند ذكرها‪ -‬يذهب إىل معناها‬
‫وال حيتاج ألمارات‪ ،‬بخالف غريها من األلفاظ التي أطلقت عىل القرآن فتحتاج‬
‫لقرائن من السياق ملعرفة املراد هبا؛ ألهنا تطلق عليه وعىل غريه‪.‬‬
‫ُّ‬
‫وحض املنافقني عىل تدبر القرآن حيتمل «معنيني‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬أن يتأملوا داللة تفاصيل آياته عىل مقاصده التي أرشد إليها املسلمني‪،‬‬
‫أي‪ :‬تدبر تفاصيله‪.‬‬
‫وثانيهام‪ :‬أن يتأملوا داللة مجلة القرآن ببالغته عىل أنه من عند اهلل‪ ،‬وأن الذي جاء‬
‫تأملوا‬
‫به صادق‪ ،‬وسياق هذه اآليات يرجح محل التدبر هنا عىل املعنى األول‪ ،‬أي‪ :‬لو َّ‬
‫وتد َّبروا هدى القرآن؛ حلصل هلم خري عظيم‪ ،‬وملا بقوا عىل فتنتهم التي هي سبب‬
‫إضامرهم الكفر مع إظهارهم اإلسالم‪ ،‬وكال املعنيني صالح بحاهلم‪ ،‬إال َّ‬
‫أن املعنى‬
‫ً‬
‫ارتباطا بام حكي عنهم من أحواهلم»()؛ أي‪ :‬يف اآليات السابقة‪ ،‬ولكني‬ ‫األول أشدُّ‬
‫أقول‪ :‬كال املعنيني من غايات حث املنافقني عىل التدبر فيه‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ :‬ﱫﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﱪ؛ أي‪« :‬لو كان‬

‫() جمموع فتاوى ابن تيمية ‪ ،307/13‬وج‪.70/4‬‬


‫() التحرير والتنوير البن عاشور ‪.137/1‬‬

‫‪21‬‬
‫من عند خملوق لكان عىل قياس الكالم املخلوق‪ ،‬بعضه فصيح بليغ حسن‪ ،‬وبعضه‬
‫مردود ركيك فاسد‪ ،‬فلام كان القرآن مجيعه عىل منهاج واحد يف الفصاحة والبالغة‬
‫ثبت أنه من عند اهلل‪.‬‬
‫واملعنى‪ :‬أفال َّ‬
‫يتفكرون يف القرآن‪ ،‬فيعرفوا بعدم التناقض فيه‪ ،‬وصدق ما خيرب‬
‫‪ ،‬وأن ما يكون من عند غري اهلل ال خيلو عن تناقض‬ ‫به عن الغيوب أنه كالم اهلل‬
‫واختالف‪ ،‬فلام كان القرآن ليس فيه تناقض واختالف ُعلم أنه من عند قادر عىل ما ال‬
‫يقدرون عليه‪ ،‬عامل بام ال يعلمه سواه»()‪.‬‬
‫والواو يف قوله‪ :‬ﱫﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﱪ جيوز أن تكون عاطفة عطفت ما‬
‫بعدها عىل ما قبلها‪ ،‬وجيوز أن تكون حالية‪ ،‬ويرتتب عىل كل معنى اختالف يف‬
‫الداللة املرادة‪ ،‬وإىل هذين الوجهني أشار ابن عاشور‪ ،‬فقال‪« :‬قوله‪ :‬ﱫﭿ ﮀ ﮁ ﮂ‬
‫ﮃ ﮄ ﱪ إلخ‪ ،‬جيوز أن يكون عط ًفا عىل اجلملة االستفهامية‪ ،‬فيكونوا ُأ ِم ُروا بالتد ُّبر‬
‫يف تفاصيله‪ُ ،‬‬
‫وأ ِ‬
‫عل ُموا بام يدل عىل أنه من عند اهلل‪ ،‬وذلك انتفاء االختالف منه‪ ،‬فيكون‬
‫ً‬
‫انتهازا؛ لفرصة املناسبة‬ ‫عاما‪ ،‬وهذا جزئي من جزئيات التدبر ُذكر هنا‬
‫األمر بالتدبر ًّ‬
‫لغمرهم باالستدالل عىل صدق الرسول ×‪ ،‬فيكون زائدً ا عىل اإلنكار املسوق له‬
‫ض له؛ ألنه من املهم بالنسبة إليهم‪ ،‬إذ كانوا يف ٍّ‬
‫شك من أمرهم‪.‬‬ ‫الكالم‪َ ،‬ت َع َّر َ‬
‫وهذا اإلعراب أليق باملعنى األول من معنيي التدبر هنا‪ ،‬وجيوز أن تكون اجلملة‬
‫حالاً من القرآن‪ ،‬ويكون قيدً ا للتدبر‪ ،‬أي‪ :‬أال يتدبرون انتفاء االختالف منه‪ ،‬فيعلمون‬
‫أنه من عند اهلل‪ ،‬وهذا أليق باملعنى الثاين من معنيي التدبر‪.‬‬
‫ومما يستأنس به لإلعراب األول‪ :‬عدم ذكر هذه الزيادة يف اآلية املامثلة هلذه من‬

‫() تفسري اخلازن ‪.564/1‬‬

‫‪22‬‬
‫سورة القتال‪ ،‬وهي قوله‪ :‬ﱫﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟﱪ إىل قوله‪:‬‬
‫ﱫﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﱪ‪ ،‬وهذه دقائق من تفسري اآلية أمهلها‬
‫مجيع املفرسين»()‪.‬‬
‫ولكني أقول‪ :‬عدم القطع بداللة معينة للواو هو األرجح؛ ألن لكل داللة معنًى‬
‫رجحنا ُ‬
‫قبل يف أن هذين املعنيني مها من غايات التدبر‪.‬‬ ‫مقصو ًدا كام َّ‬
‫(لو) حرف امتناع المتناع‪ ،‬وهي رشطية غري جازمة‪ ،‬ومجلة‪ :‬ﱫﮀ ﮁ ﮂ ﮃ‬
‫ﮄ ﱪ ال حمل هلا من اإلعراب‪ ،‬فعل الرشط‪ ،‬وﱫﮀﱪ هنا ناقصة ناسخة‪ ،‬واسمها‬
‫حمذوف تقديره‪ :‬ولو كان القرآن‪ ،‬وحذف للعلم به‪ ،‬ولفهمه من السياق السابق‬
‫بوضوح‪ ،‬حيث ُن َّ‬
‫ص عليه يف مطلع هذه اآلية الكريمة‪.‬‬
‫وأصل التعبري هبذا الفعل «الداللة عىل اقرتان مضمون اجلملة بالزمن املايض‬
‫نحو‪ :‬كان زيد عالـماً ‪ ،‬معناه‪ :‬أنه اتصف بالعلم فيام مىض داللة عىل االنقطاع»()‪.‬‬
‫وهذا هو املعنى املراد هنا‪ ،‬فاالنقطاع يف معنى الفعل قائم‪ ،‬ومل يفقد هذا األصل‪،‬‬
‫أي‪ :‬لو فرض حصول القرآن سل ًفا من عند غري اهلل؛ لوجدوا فيه اختال ًفا كث ً‬
‫ريا‪.‬‬
‫ﱫﮁ ﱪ عىل أصلها لالبتداء‪ ،‬أي‪ :‬لو كان القرآن بداية من عند غري اهلل‪.‬‬
‫ﱫﮂﱪ جمرورة بـ (من)‪ ،‬واجلار واملجرور متعلقان بمحذوف‪ ،‬تقديره‪« :‬كائنًا»‬
‫يف حمل نصب خرب كان‪ ،‬وﱫﮂ ﱪ ظرف مكان ال يترصف بأكثر من جره بـ ﱫﮁﱪ‪،‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬ﱫﮂ ﱪ لفظ موضوع للقرب‪ ،‬فتارة يستعمل يف املكان‪ ،‬وتارة يف‬
‫االعتقاد نحو‪ :‬عندي كذا‪ ،‬وتارة يف الزلفى واملنزلة‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ﱫﭽ ﭾ ﭿ‬

‫() التحرير والتنوير ‪.138/5‬‬


‫() عمدة احلفاظ ‪.509/3‬‬

‫‪23‬‬
‫ﮀ ﮁﱪ [ص‪ ،)(»]47:‬وهي هنا عىل أصلها للظرفية املكانية‪.‬‬
‫وعرب هنا بـ ﱫﮂ ﱪ‪ ،‬وكان من املمكن أن يقال‪ :‬ولو كان من غري اهلل؛ ألن داللة‬
‫أن هذا النمط الفريد من‬ ‫ﱫﮂ ﱪ بمفهوم املخالفة تؤكد بام ال يدع جمالاً للشك‪َّ :‬‬
‫القول ال يقدر عليه غريه؛ ألنه من عند احلرضة العلية الربانية‪ ،‬فضلاً عن أن العندية‬
‫متذوق ألرسار‬
‫كل متد ِّبر ِّ‬ ‫أضفت بجرسها ظاللاً قو َّي ًة عىل هذا األسلوب‪ ،‬كام ُّ‬
‫حيسه ُّ‬
‫الكتاب الكريم‪.‬‬
‫قوله‪ :‬ﱫﮃ ﮄﱪ‪ :‬غ ِ‬
‫ري مضاف لـ ﱫﮂﱪ‪ ،‬وذكر السمني هلذه اللفظة معاين عديدة‬
‫منها أهنا‪« :‬صفة بمعنى مغاير»()‪ ،‬وهذا هو املعنى الذي يشري إليه السياق بوضوح تام‪،‬‬
‫إنسا كان‪ ،‬جا ًنا كان؛ حلصل فيه اختالف كثري ملا‬
‫أي‪ :‬لو كان القرآن من عند مغاير هلل‪ً ،‬‬
‫ناقصا كأشخاصها‪.‬‬ ‫يعتور هذه املخلوقات من ٍ‬
‫نقص‪ ،‬فكالمها يكون ً‬
‫يتسمى به‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬
‫مل جيرس كائن ما كان أن َّ‬ ‫ولفظ اجلاللة علم عىل املوىل‬
‫ﱫﭚ ﭛ ﭜ ﭝﱪ [مريم‪ ،]65 :‬وعبرَّ به دون لفظ رب؛ ألن املقام هنا مقام‬
‫األلوهية والعبودية والوحدانية‪ ،‬وليس مقام الربوبية التي تستخدم يف سياق اإلنعام‬
‫واإلحسان واإلصالح وامللك والرتبية وغري ذلك‪ ،‬يقول السمني‪« :‬كل موضع ذكر‬
‫فيه لفظ الرب فلمناسبة ذلك املقام‪ ،‬أال ترى حسن موقعه يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﭖ ﭗ‬
‫ﭘ ﭙﱪ حيث َّنبههم عىل استحقاق احلمد له بكونه ُم ِ‬
‫صل َحهم ومالكهم‪،‬‬
‫ومتوليِّ مصاحلهم»()‪.‬‬

‫() عمدة احلفاظ ‪ ،156 /3‬وانظر مفردات الراغب ‪.362‬‬


‫() عمدة احلفاظ ‪ ،224 /3‬وانظر مفردات الراغب‪.381‬‬
‫() عمدة احلفاظ ‪.64 /2‬‬

‫‪24‬‬
‫وقوله‪ :‬ﱫﮅ ﮆ ﮇ ﮈﱪ؛ أي‪« :‬لو ثبت َف َر ًضا أنه من عند غري‬
‫اهلل؛ لوجدوا فيه اختال ًفا يف املعنى أو اللفظ»()‪.‬‬
‫والالم يف قوله‪ :‬ﱫﮅﱪ واقعة يف جواب الرشط‪ ،‬واجلملة بعدها ال حمل‬
‫هلا من اإلعراب جواب رشط لو‪ ،‬والفعل وجد يستعمل عىل أرضب شتى‪ ،‬يقول‬
‫الراغب‪« :‬الوجود أرضب‪ :‬وجود بإحدى احلواس اخلمس‪ ،‬نحو‪ :‬وجدت زيدً ا‪،‬‬
‫طعمه‪ ،‬ووجدت صو َته‪ ،‬ووجدت خشونتَه‪ ،‬ووجود بقوة الشهوة نحو‪:‬‬
‫ووجدت َ‬
‫وجدت الشبع‪ ،‬ووجود بقوة الغضب‪ ،‬كوجود احلزن والسخط‪ ،‬ووجود بالعقل‪ ،‬أو‬
‫بواسطة العقل‪ ،‬كمعرفة اهلل تعاىل‪ ،‬ومعرفة النبوة‪.)(»...‬‬
‫وهذا املعنى األخري هو املراد‪ ،‬فعن طريق العقل الراجح السديد يعرف عدم‬
‫خفي إىل أن العقل يعدُّ أدا ًة ‪-‬غري‬
‫وجود اختالف يف القرآن‪ ،‬وهذا يشري من طريق ٍّ‬
‫منصوص عليها‪ -‬من أدوات احلكم عىل القرآن بأنه من عند اهلل‪.‬‬
‫وآثر التعبري هبذا الفعل دون غريه؛ َّ‬
‫ألن يف داللته إشارة إىل أن هذا القرآن لو كان‬
‫من عند غري اهلل لعثروا فيه بيرس وسهولة عىل تناقض واختالف؛ ألهنم أهل بصرية‬
‫نافذة يف الكشف عن حقائق الكالم‪ ،‬ومراميه‪ ،‬وأنواع الرتاكيب املختلفة فيه‪ ،‬فلو‬
‫كان من عند غري اهلل التضح عند املتدبرين ما فيه من اختالف‪ ،‬فجاء الفعل وجد يف‬
‫مكانه متا ًما‪.‬‬
‫وواو اجلامعة يف ﱫ ﮅ ﱪ تعود عىل املنافقني املذكورين ُ‬
‫قبل بال خالف‪.‬‬
‫ﱫﮆﱪ‪ :‬جار وجمرور متعلقان باملايض وجد‪ ،‬و(يف) للظرفية عىل أصل معناها‪،‬‬

‫() حاشية الصاوي عىل اجلاللني ‪.46/2‬‬


‫() مفردات الراغب ‪ ،549‬وانظر عمدة احلفاظ ‪.328/4‬‬

‫‪25‬‬
‫والتعبري بـ(يف) هنا جاء دقي ًقا جدًّ ا‪ ،‬أي‪ :‬لو كان من عند غري اهلل لوجدوا االختالف‬
‫أن املتدَ ِّبر إذا أراد أن َ‬
‫يقف عىل‬ ‫خفي إىل َّ‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫طريق‬ ‫مظرو ًفا يف َّ‬
‫طياته‪ ،‬وهذا يشري من‬
‫ُكنه هذا الكالم جيب أن ينغل يف طوايا تراكيبه‪ ،‬وأن يعمل عقله وقلبه يف مكنونات‬
‫أساليبه‪ ،‬فيسرب أغوارها‪ ،‬ويتعرف عىل خفاياها ويتأمل حقائقها‪ ،‬ويتبرص دقائقها‪،‬‬
‫عندئذ يظهر له إن كان من عند اهلل أم ال‪ ،‬أما من ينظر فيه من املنافقني نظرة رسيعة‪،‬‬
‫فس ُي َخ ِّي ُل إليه عقله املريض أن فيه اختال ًفا‪.‬‬ ‫ويقرأه بهِ َ ٍّذ وهذرمة‪ ،‬وبال ُّ‬
‫متعن‪َ ،‬‬
‫«يتمل أن يعو َد عىل القرآن وهو‬ ‫والضمري يف ﱫ ﮆ ﱪ اختلف فيه‪ ،‬فقيل‪ :‬حُ‬
‫الظاهر»()‪ ،‬وقيل‪ :‬يعود عىل ما يخُ رب اهلل به رسو َله مما ُي َب ِّي ُت املنافقون‪ ،‬كام ورد يف‬
‫اآلية السابقة يف قوله‪ :‬ﱫﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ‬
‫ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰﱪ [النساء‪.]81:‬‬
‫ربك به مما‬
‫الزجاج إىل أن معنى اآلية‪ :‬لوجدوا فيام نخ ُ‬
‫يقول ابن عطية‪« :‬ذهب َّ‬
‫يب ِّيتون اختال ًفا»()‪.‬‬
‫والرأي األول هو اجلدير بالنظر؛ ألن الضمري يعود عىل أقرب مذكور وهو‬
‫القرآن‪ ،‬وهذا هو الظاهر الذي ي َّتسق مع السياق‪.‬‬
‫وتقديم اجلار واملجرور ﱫﮆﱪ عىل مفعول وجد؛ للمسارعة بذكر القرآن‬
‫رشئِ َّبة إليه يف املقام األول‪.‬‬
‫الكريم بعود الضمري عليه؛ ألن النفوس ُم َ‬
‫قوله‪ :‬ﱫﮇ ﮈﱪ‪ ،‬ﱫﮇﱪ‪ :‬مفعول به للفعل وجد‪ ،‬وهو مصدر‬
‫من املايض اخلاميس «اختلف»‪ ،‬و«االختالف واملخالفة‪ :‬أن يأخذ كل واحد طري ًقا غري‬

‫() الدر املصون للسمني احللبي ‪ ،51-50/4‬وانظر‪ :‬اللباب البن عادل ‪.520 /6‬‬
‫() املحرر الوجيز ‪ ،188/4‬وانظر‪ :‬البحر املحيط ‪ ،305/3‬واللباب ‪ ،520/6‬حيث ذكر الرأيني‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫طريق اآلخر يف حاله أو قوله‪.)(»...‬‬
‫وهذا األخري هو املراد هنا‪ ،‬ولكن ليس املراد من اختالف األقوال «ما جاء يف‬
‫القرآن من اختالف يف تفسري وتأويل وقراءة‪ ،‬وناسخ ومنسوخ‪ ،‬وحمكم ومتشابه‪،‬‬
‫وعام وخاص‪ ،‬ومطلق ومقيد‪ ،‬فليس هو املقصود يف اآلية‪ ،‬بل هذه من علوم القرآن‬
‫الدالة عىل ا ِّتساع معانيه‪ ،‬وإحكام مبانيه»()‪ .‬وإنام املراد من االختالف هنا‪ :‬اختالف‬
‫التناقض يف املعاين‪ ،‬والتفاوت يف النظم واملباين‪ ،‬وهذا ما ذهب إليه الزخمرشي بقوله‪:‬‬
‫ً‬
‫متناقضا قد تفاوت نظمه‬ ‫«ﱫﮅ ﮆ ﮇ ﮈﱪ لكان الكثري منه خمتل ًفا‬
‫قارصا عنه يمكن معارضته‪،‬‬
‫ً‬ ‫وبالغته ومعانيه‪ ،‬فكان بعضه ً‬
‫بالغا حدَّ اإلعجاز‪ ،‬وبعضه‬
‫إخبارا خمال ًفا للمخرب عنه‪ ،‬وبعضه‬
‫ً‬ ‫إخبارا بغيب قد وافق املخرب عنه‪ ،‬وبعضه‬
‫ً‬ ‫وبعضه‬
‫دالاًّ عىل معنى صحيح عند علامء املعاين‪ ،‬وبعضه دالاًّ عىل معنى فاسد غري ملتئم‪ ،‬فلام‬
‫جتاوب كله بالغة معجزة فائتة لقوى البلغاء‪ ،‬وتنارص صحة معان‪ ،‬وصدق إخبار‬
‫ُعلم أنه ليس إال من عند قادر عىل ما ال يقدر عليه غريه»()‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬حيتمل أن يكون املراد من االختالف «اختالفه مع أحواهلم‪ :‬أي لوجدوا‬
‫فيه اختال ًفا بني ما يذكره من أحواهلم‪ ،‬وبني الواقع‪ ،‬فليكتفوا بذلك يف العلم بأنه من‬
‫عند اهلل‪ ،‬إذ كان يصف ما يف قلوهبم وصف َّ‬
‫املطلع عىل الغيوب‪ ،‬وهذا استدالل وجيز‬
‫وعجيب قصد منه قطع معذرهتم يف استمرار كفرهم»()‪.‬‬
‫وأيد العالمة أبو السعود هذا الرأي الثاين بقوله بعد إيراده له‪« :‬هذا هو الذي‬

‫() مفردات الراغب ‪ ،157‬وانظر‪ :‬عمدة احلفاظ ‪.605 /1‬‬


‫() البحر املحيط ‪ ،305/3‬وانظر تفسري القرطبي ‪.290 /5‬‬
‫() الكشاف ‪ ،547-546/1‬وانظر‪ :‬حاشية الشهاب ‪ ،316/3‬وتفسري األلويس ‪.187/4‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪ ،138 /5‬وانظر‪ :‬تفسري أيب السعود ‪.208/2‬‬

‫‪27‬‬
‫يستدعيه جزالة النظم الكريم‪ ،‬وأما محل االختالف عىل التناقض‪ ،‬وتفاوت النظم يف‬
‫البالغة بأن كان بعضه دالاًّ عىل معنى صحيح عند علامء املعاين‪ ،‬وبعضه عىل معنى‬
‫قارصا عنه يمكن معارضته كام‬
‫ً‬ ‫فاسد غري ملتئم‪ ،‬وبعضه ً‬
‫بالغا حدا اإلعجاز‪ ،‬وبعضه‬
‫جنح إليه اجلمهور‪ ،‬فمام ال يساعده السباق وال السياق»()‪.‬‬
‫وأرى أن تنكري لفظ اختالف هنا ينفي االختالف الفاسد بجميع أنواعه عن‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬واملعنى أنه ال يوجد فيه أدنى نوع من أنواع االختالف املذكورة قبل‪،‬‬
‫بل هو عىل هنج واحد يف البالغة‪ ،‬ومرتبة واحدة يف الفصاحة‪ ،‬وهو ً‬
‫أيضا يطابق‬
‫أحوال من خيرب عنهم بصدق تام‪ ،‬ومن ثم ال حاجة بنا لتأييد الرأي األول أو الثاين؛‬
‫مجيعا؛ وهذا بخالف كالم البرش ففيه التناقض والتفاوت‬
‫ألن االختالف يشملهام ً‬
‫وعدم املطابقة للواقع «ال سيام إذا طال‪ ،‬وتعرض قائله لإلخبار بالغيب‪ ،‬فإنه ال يوجد‬
‫صحيحا مطاب ًقا للواقع إال القليل النادر»()‪.‬‬
‫ً‬ ‫منه‬
‫ﱫﮈﱪ نعت الختالف‪ ،‬والكثرة يف األصل ضد القلة‪ ،‬ومها‪« :‬يستعمالن‬
‫يف الكمية املنفصلة كاألعداد‪ ،)(»...‬وال يراد من الكثرة هنا ضدها‪ ،‬وهي القلة‪،‬‬
‫بل الكثرة والقلة منتفيتان عن القرآن‪ ،‬فليس فيه اختالف كثري‪ ،‬أو قليل بحال من‬
‫األحوال‪« ،‬فإن قلت‪ :‬إن قوله‪ :‬ﱫﮇ ﮈﱪ ُّ‬
‫يدل بمفهومه عىل أن يف القرآن‬
‫اختال ًفا قليلاً ‪ ،‬وإال ملا كان للتقييد بوصف الكثرة فائدة مع أنه ال اختالف فيه أصلاً ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬التقييد بالكثرة للمبالغة يف إثبات املالزمة‪ ،‬أي‪ :‬لو كان من عند غري اهلل‬

‫() تفسري أيب السعود ‪ ،208/2‬وانظر‪ :‬الفتوحات اإلهلية ‪.404/1‬‬


‫() فتح البيان للشيخ صديق خان ‪ ،328 /2‬وانظر‪ :‬فتح القدير للشوكاين ‪ ،491/1‬دار‬
‫الفكر‪.‬‬
‫() مفردات الراغب ‪.443‬‬

‫‪28‬‬
‫ريا فضلاً عن القليل‪ ،‬لكنه من عند اهلل تعاىل‪ ،‬فليس فيه‬
‫تعاىل لوجدوا فيه اختال ًفا كث ً‬
‫اختالف ال كثري وال قليل»()‪.‬‬
‫أقول هذا؛ ألن منطوق هذه اجلملة‪َّ :‬‬
‫أن القرآن لو كان من عند غري اهلل لوجدوا‬
‫أن القرآن لو كان من عند اهلل لوجدوا فيه اختال ًفا‬ ‫فيه اختال ًفا كث ً‬
‫ريا؛ ومفهومها‪َّ :‬‬
‫خارجيا‪ ،‬فالكثرة‬
‫ًّ‬ ‫داخليا أو‬
‫ًّ‬ ‫قليلاً ‪ ،‬وهذا غري مراد البتة ال عقلاً وال مقا ًما وال سيا ًقا‬
‫هنا كام يقول األصوليون‪ :‬وصف ال مفهوم له‪ ،‬يؤكد هذا‪ :‬أن القرآن مل يرد فيه املصدر‬
‫«اختال ًفا» مصحو ًبا هبذا الوصف إال هنا‪ ،‬إشار ًة إىل ذلك‪.‬‬
‫وهذا ما َّأكده ابن عاشور بقوله‪« :‬ووصف االختالف بالكثري يف الطرف املمتنع‬
‫وقوعه بمدلول (لو)؛ لِ َي ْع َل َم املتدَ ِّبر أن انتفاء االختالف من أصله أكرب دليل عىل أنه‬
‫من عند اهلل‪ ،‬وهذا القيد غري معترب يف الطرف املقابل جلواب (لو)‪ ،‬فال يقدر ذلك‬
‫الطرف مقيدً ا بقوله‪ :‬ﱫﮈﱪ‪ ،‬بل يقدر هكذا‪ :‬لكنه من عند اهلل‪ ،‬فال اختالف‬
‫فيه أصلاً »()‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬جيوز أن يكون ﱫﮈﱪ مفعول به أول‪ ،‬و ﱫﮇ ﱪ مفعول به‬
‫ثان‪ ،‬بمعنى‪ :‬خمتل ًفا عىل صيغة اسم الفاعل‪ ،‬والتقدير‪ :‬ولو كان القرآن من عند غري‬
‫ريا خمتل ًفا‪.‬‬
‫اهلل لوجدوا فيه كث ً‬
‫قال األلويس‪« :‬وكون املقصود من اآلية إثبات القرآن كله وبعضه من اهلل تعاىل‪،‬‬
‫وحينئذ ال يمكن وصف االختالف بالكثرة؛ ألنه ال يكون االختالف حينئذ إال بأن‬

‫() تفسري حدائق الروح والرحيان يف روايب علوم القرآن ‪ ،235 /6‬وانظر‪ :‬الفتوحات اإلهلية‬
‫للجمل ‪ ،404/1‬وحاشية الصاوي عىل تفسري اجلاللني ‪.46/2‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪.138 /5‬‬

‫‪29‬‬
‫معجزا‪ ،‬والبعض غري معجز‪ ،‬وهو اختالف واحد‪ ،‬فلذا ُجعل‬ ‫ً‬ ‫يكون البعض منه‬
‫(وجدوا) متعد ًيا إىل مفعولني‪َ :‬أوهلام‪ :‬كث ً‬
‫ريا‪ ،‬وثانيهام‪ :‬اختال ًفا‪ ،‬بمعنى خمتل ًفا‪.)(»...‬‬
‫ولكني أرى َّ‬
‫أن اإلعراب األول هو املناسب واألليق‪ ،‬واالختالف فيه عىل أصله‬
‫من املصدرية؛ ألنه ينفي ذات االختالف يف الطرف املقابل‪ ،‬وهذا أقوي كام قدمنا‪،‬‬
‫أن االعرتاض سيظل قائماً ً‬
‫أيضا عىل الرأي الثاين‪ ،‬ويكون تقدير الكالم يف‬ ‫وبخاصة َّ‬
‫الطرف املقابل‪ :‬ولو كان القرآن من عند اهلل؛ لوجدوا فيه قليلاً خمتل ًفا‪ ،‬حاشا وكلاًّ ‪.‬‬
‫ويبقى هنا سؤال مهم‪ :‬ماذا لو وقع ألحد من املؤمنني امل َّتقني اختالف يف‬
‫القرآن؟‬
‫أجاب عن هذا أبو حيان‪ ،‬فقال‪« :‬قال ابن عطية‪ :‬فإن عرضت ألحد شبهة‪ ،‬وظن‬
‫اختال ًفا‪ ،‬فالواجب أن ي َّتهم نظره‪ ،‬ويسأل من هو أعلم منه‪ ،‬وما ذهب إليه بعض‬
‫ً‬
‫وألفاظا غري مؤتلفة؛ فقد أبطل مقالتهم‬ ‫الزنادقة املعاندين من َّ‬
‫أن فيه أحكا ًما خمتلفة‪،‬‬
‫علامء اإلسالم»() ‪.‬‬

‫() تفسري األلويس ‪ ،188 ،187/4‬وانظر‪ :‬حاشية الشهاب ‪.316/3‬‬


‫() البحر املحيط ‪ ،305/3‬وانظر‪ :‬املحرر الوجيز ‪ ،188/4‬وتفسري الثعالبي ‪.366/1‬‬

‫‪30‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬األرسار البالغية يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ‬
‫ﮗﱪ [حممد‪.]24:‬‬
‫وقد وردت هذه اآلية يف سورة «حممد» املدنية‪ ،‬التي ابتدأت باحلديث عن أحوال‬
‫الكفار‪ ،‬ثم أحوال املؤمنني‪ ،‬حيث ذكرت ما َأعدَّ ه للمتقني يف جنات النعيم‪ ،‬ثم‬
‫حتدَّ ثت عن املنافقني من قوله‪ :‬ﱫ ﭑ ﭒﭓﭔ ﭕﭖﭗﭘﭙﭚ‬
‫ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ‬
‫ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ‬
‫ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉ‬
‫ﮊﮋﮌ ﮍ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮔ ﮕﮖ‬
‫ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ‬
‫ﮧ ﮨ ﮩﱪ [حممد‪.]25-20:‬‬
‫طيات احلديث عن املنافقني؛ ألن الضامئر يف‬
‫فكام ترى جاءت اآلية التي معنا يف َّ‬
‫هذه اآليات تعود عليهم بال شك؛ وألن ما ذكرته اآليات من نعوت وصفات هي‬
‫لصيقة الصلة باملنافقني‪ ،‬وهذا ما أكد عليه جل املفرسين‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫ومن هنا فإن اإلمام القرطبي جانبه الصواب يف قوله‪« :‬وظاهر اآلية أهنا خطاب‬
‫جلميع الكفار»()؛ ألن املخاطبني بواو اجلامعة يف قوله‪ :‬ﱫﮒﱪ هم املنافقون‬
‫نصا‪ ،‬كام يشري السياق السابق والالحق كام قدمناه‪.‬‬
‫ًّ‬
‫ووجه ارتباط هذه اآلية بام قبلها حكاه اخلازن‪ ،‬فقال‪« :‬هذه اآلية حم ِّققة لآلية‬
‫املتقدِّ مة‪ ،‬وذلك َّ‬
‫أن اهلل تعاىل ملا قال‪ :‬ﱫﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ‬
‫ﮏﱪ‪ ،‬فكان قوله‪ :‬ﱫﮑ ﮒ ﮓ ﱪ كالتهييج هلم عىل ترك ما هم‬
‫استحقوا بسببه ال َّلعنة‪ ،‬أو كالتبكيت هلم عىل إرصارهم عىل‬
‫ُّ‬ ‫فيه من الكفر الذي‬
‫الكفر»()‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ :‬ﱫﮑ ﮒ ﮓﱪ هذا الرتكيب القرآين ورد بعينه يف‬
‫سورة النساء‪ ،‬وسبق احلديث عنه تفصيلاً ‪ ،‬فال حاجة إلعادة القول فيه‪ ،‬لكن ينبغي‬
‫أن ِّ‬
‫نركز هنا عىل أمر دقيق جدًّ ا‪ ،‬وهو أن املخاطب بالتدبر يف السورتني هم املنافقون‪،‬‬
‫واضحا‪ ،‬حيث حتدَّ ث‬
‫ً‬ ‫ولكن من يقارن بني السياقني يف السورتني جيد بينهام اختال ًفا‬
‫هناك عن املنافقني الذين ُي َب ِّي ُتون للرسول × يف صدورهم غري ما ينطقون به أمامه‪،‬‬
‫وهنا حتدث عن كراهيتهم للقتال‪ ،‬وإفسادهم يف األرض‪ ،‬وتقطيعهم األرحام‪ ،‬ومن‬
‫ثم وجدنا تواز ًنا وتالؤ ًما‪ ،‬فاتحَّ د املط َل ُع والصدر من أجل اتحِّ اد املخاطبني‪ ،‬واختلف‬
‫در الذكر احلكيم‪ ،‬فهذا وأمثاله مما ال يعدُّ‬
‫العجز من أجل اختالف السياقني‪ ،‬فلله ُّ‬
‫وحيىص من مناط إعجازه‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬ﱫﮔ ﮕ ﮖ ﮗﱪ اختلف يف داللة ﱫﮔ ﱪ هنا عىل وجهني‪:‬‬

‫() تفسري القرطبي ‪.247 / 16‬‬


‫() تفسري اخلازن ‪ ،182/6‬وانظر‪ :‬الفتوحات اإلهلية للجمل ‪ ،151/4‬وفتح البيان ‪.23/9‬‬

‫‪32‬‬
‫األول‪ :‬رأي مجهور املفرسين أن ﱫﮔ ﱪ منقطعة بمعنى (بل)‪ ،‬يقول ابن عاشور‪:‬‬
‫«وحرف ﱫﮔ ﱪ لإلرضاب االنتقايل‪ ،‬واملعنى‪ :‬بل عىل قلوهبم أقفال‪ ،‬وهذا الذي‬
‫سلكه مجهور املفرسين هو اجلاري عىل كالم سيبويه يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﮄ ﮅ‬
‫ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﱪ يف سورة الزخرف [‪،]52-51‬‬
‫خال ًفا ملا يومهه‪ ،‬أو توهمَّ ه ابن هشام يف «مغني اللبيب»»()‪.‬‬
‫وعىل هذا الرأي يكون بعد (أم) مهزة استفهام حمذوفة‪ ،‬واملعنى‪ :‬بل أعىل قلوب‬
‫جليا من أقوال بعض املفرسين‪ ،‬يقول الشيخ صديق حسن‬
‫أقفاهلا‪ ،‬وهذا ما يفهم ًّ‬
‫خان‪« :‬بل أعىل قلوب أقفاهلا‪ ،‬فهم ال يفهمون وال يعقلون»()‪.‬‬
‫وهذه اهلمزة املحذوفة عىل هذا الرأي خرجت عن معناها احلقيقي من السؤال‬
‫عن املجهول إىل التقرير‪ ،‬يقول الزخمرشي‪« :‬ﱫﮔ ﮕ ﮖ ﮗﱪ‪( ،‬أم) بمعنى‬
‫(بل)‪ ،‬ومهزة التقرير؛ للتسجيل عليهم بأن قلوهبم مقفلة‪ ،‬ال يتوصل إليها ذكر»()‪.‬‬
‫كام جيوز أن تكون هذه اهلمزة للتوبيخ‪ ،‬يقول الصاوي‪« :‬أم منقطعة بمعنى بل‪،‬‬
‫وهو انتقال من توبيخهم عىل عدم التدبر إىل توبيخهم بكون قلوهبم مقفلة ال تقبل‬
‫التدبر والتفكر»()‪.‬‬
‫الثاين‪( :‬أم) ليست منقطعة بل هي (أم) املتصلة‪ ،‬والتي يسميها البالغيون‬

‫() التحرير والتنوير‪ ،113 /26‬وانظر‪ :‬زاد املسري‪ ،193/7‬وتفسري القرطبي ‪،247/16‬‬
‫وتفسري البغوي ‪ ،287/7‬ومغني اللبيب البن هشام ‪ ،285 ،284/1‬والفتوحات اإلهلية للجمل‬
‫‪.151/4‬‬
‫() فتح البيان ‪ ،23/9‬وانظر‪ :‬املحرر الوجيز ‪ ،71/15‬وفتح القدير ‪ ،38/5‬دار الفكر‪.‬‬
‫() الكشاف‪ ،536/3‬وانظر‪ :‬تفسري النسفي ‪ ،226/4‬وتفسري البيضاوي ‪.218/2‬‬
‫() حاشية الصاوي ‪ ،305/5‬وروح البيان ‪ ،518/8‬وتفسري الصابوين ‪.1375 /3‬‬

‫‪33‬‬
‫أم املعادلة الواقعة بني متساويني‪ ،‬يقول القونوي‪« :‬قوله تعاىل‪ :‬ﱫﮑ ﮒ‬
‫ﮓﱪ يف قوة أوصل هلم القرآن‪ ،‬فلم يتأملوا حقَّ التأمل‪ ،‬أم مل يصل هلم»()‪.‬‬
‫ويقول األلويس‪« :‬أفال يتدبرون القرآن إذ وصل إىل قلوهبم‪ ،‬أم مل يصل إليها‪،‬‬
‫فتكون أم متصلة»()‪.‬‬
‫والراجح‪ :‬أن (أم) منقطعة بمعنى (بل)‪ ،‬كام ذهب ابن عاشور‪ ،‬وثلة كبرية من‬
‫املفرسين؛ ألهنا لو كانت متصلة؛ الحتاجت إىل تقدير كالم بعدها يتالءم مع ما قبلها‬
‫وفق القاعدة املشهورة يف (أم) املعادلة‪ً ،‬‬
‫وأيضا (بل) املنقطعة هنا ال حتتاج لتقدير كالم‬
‫حمذوف بعدها‪ ،‬وما ال حيتاج لتقدير أوىل مما حيتاج‪.‬‬
‫ﱫﮕ ﮖ ﮗﱪ عىل قلوب جار وجمرور خرب مقدم‪ ،‬وأقفاهلا مبتدأ مؤخر‪،‬‬
‫وﱫﮕﱪ هنا ليست عىل حقيقتها‪ ،‬بل هي لالستعالء املجازي؛ ألن جمرورها القلوب‬
‫حسيا يصلح حملاًّ لالستعالء احلقيقي‪.‬‬
‫ليس شيئًا ًّ‬
‫وإنام عبرَّ هبا دون غريها؛ ليبينِّ أن هذه األقفال قد استولت عىل تلك القلوب‪،‬‬
‫وقهرهتا‪ ،‬وسيطرت عليها‪َّ ،‬‬
‫ومتكنت منها‪.‬‬
‫وﱫﮖﱪ مجع قلب‪« :‬واملراد هبذه القلوب‪ :‬قلوب هؤالء املخاطبني»() بتلك‬
‫اآلية ال خيتلف أحد يف ذلك‪.‬‬
‫وآثر التعبري هبا هنا دون لفظة أفئدة؛ ألن أصل املادة حتمل يف طياهتا معنى التقلب‬
‫اليشء عن وجهه»()‪ ،‬ويقول األزهري‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫والتحول‪ ،‬يقول ابن منظور‪« :‬ال َق ْل ُب تحَ ْ ُ‬
‫ويل‬

‫() حاشية القونوي عىل تفسري البيضاوي ‪.35/18‬‬


‫() روح املعاين ‪ ،605/16‬وانظر‪ :‬اللباب ‪.458/17‬‬
‫() فتح القدير للشوكاين‪ ،‬دار الفكر العريب ‪.38 /5‬‬
‫() لسان العرب مادة (ق ل ب) ‪.685 /1‬‬

‫‪34‬‬
‫«سمي القلب قلبا لتقلبه» ()‪ ،‬بخالف لفظة األفئدة التي حتمل معاين الرقة والرهافة‪،‬‬
‫وهذا غري مراد هنا‪ ،‬إذ القلب كام يقول العسكري‪« :‬اجلارحة التي تتق َّلب باألفكار‬
‫والعزوم‪ ،...‬واألفئدة توصف بالرقة»()‪.‬‬
‫فإيثار لفظة القلب عكس غلظة قلوهبم‪ ،‬وكشف عن بشاعة نفوسهم من إبطان‬
‫يتحولوا عام هم فيه‬
‫َّ‬ ‫يضا إشارة إىل أن هؤالء جيب أن‬‫الكفر‪ ،‬وإظهار اإليامن‪ ،‬وفيها َأ ً‬
‫ٍ‬
‫وعندئذ تصل املواعظ سهلة ط ِّيعة إىل قلوهبم‪ ،‬عالوة عىل أن‬ ‫ُّ‬
‫والتفكر‪،‬‬ ‫من عدم التد ُّبر‬
‫هذه املادة تفيد ً‬
‫أيضا النظر يف عواقب األمور‪« ،‬يقال‪ :‬قلب األمور‪ :‬نظر يف عواقبها‪،‬‬
‫ويف التنزيل العزيز‪ :‬ﱫﭖ ﭗ ﭘﱪ»()‪ ،‬وهذا املعنى أشدُّ انسجا ًما مع‬
‫التدبر املنفي عنهم‪ ،‬فالتدبر هو تقليب األمور‪ ،‬والنظر يف عواقبها‪ ،‬وهكذا وضعت‬
‫تلك اللفظة يف مكاهنا األمثل هبا‪.‬‬
‫وتنكري القلوب هنا ذكر فيه املفرسون أكثر من وجه‪ ،‬يقول أبو السعود‪« :‬وتنكري‬
‫القلوب إما لتهويل حاهلا‪ ،‬وتفظيع شأهنا بإهبام أمرها يف القساوة واجلهالة‪ ،‬كأنه قيل‪:‬‬
‫عىل قلوب منكرة ال يعرف حاهلا‪ ،‬وال يقادر قدرها يف القساوة‪ ،‬وإما ألن املراد هبا‬
‫قلوب بعض منهم وهم املنافقون»()‪.‬‬
‫وجها ثال ًثا‪ ،‬وهو التنبيه عىل اإلنكار الكامن يف قلوب املنافقني‬
‫وقد زاد الرازي ً‬
‫فقال‪« :‬ونحن نقول التنكري للقلوب للتنبيه عىل اإلنكار الذي يف القلوب‪ ،‬وذلك ألن‬

‫() هتذيب اللغة ‪ ،173/9‬وانظر‪ :‬مفردات الراغب ‪ ،426‬وعمدة احلفاظ ‪.387/3‬‬


‫() الفرق اللغوية ‪.155‬‬
‫() املعجم الوسيط ‪.422/2‬‬
‫() تفسري أيب السعود ‪ ،99/8‬وانظر‪ :‬الكشاف ‪ ،536/3‬والبيضاوي ‪ ،218/2‬والفتوحات‬
‫اإلهلية ‪ ،151/4‬وفتح البيان ‪ ،23/9‬وتفسري األلويس ‪ ،605/16‬وتفسري القاسمي ‪.259/15‬‬

‫‪35‬‬
‫القلب إذا كان عار ًفا كان معرو ًفا؛ ألن القلب خلق للمعرفة‪ ،‬فإذا مل تكن فيه املعرفة‬
‫فكأنه ال يعرف‪ ،‬وهذا كام يقول القائل يف اإلنسان املؤذي‪« :‬هذا ليس بإنسان هذا‬
‫سبع»‪ ،‬ولذلك يقال‪« :‬هذا ليس بقلب هذا حجر»»()‪.‬‬
‫وكأن التنكري عكس هذا اإلنكار املوجود يف نفوسهم لإلسالم‪ ،‬فتالءم تنكري‬
‫اللفظ مع هذا املعنى‪ ،‬وهو وجه جدير بالنظر واالعتبار‪ ،‬وال يناقض الوجهني اللذين‬
‫ُذكرا من قبل‪.‬‬
‫رابعا‪ ،‬فقال‪« :‬وقال‪ :‬ﱫﮕ ﮖﱪ؛ ألنه لو قال‪ :‬عىل‬
‫رسا ً‬‫وأضاف القرطبي ًّ‬
‫قلوهبم مل يدخل قلب غريهم يف هذه اجلملة‪ ،‬واملراد‪ :‬أم عىل قلوب هؤالء‪ ،‬وقلوب‬
‫من كانوا هبذه الصفة»()‪.‬‬
‫فالتنكري كام يفهم من هذا احلديث للعموم العريف‪ ،‬أي‪ :‬يدخل يف التنكري قلوب‬
‫هؤالء املنافقني املخاطبني باآلية‪ ،‬وما كان عىل شاكلتهم يف ِّ‬
‫كل زمان ومكان‪ ،‬وهذا‬
‫الوجه يتعارض مع الوجه الثاين عند أيب السعود من إرادة البعضية‪ ،‬ولكنه أقوى منه‪،‬‬
‫ومن ثم؛ فالراجح‪ :‬أن التنكري هنا للتفظيع واإلنكار والعموم ُّ‬
‫كل هذا ال ُي ْرفض؛ ألن‬
‫ِ‬
‫النكات البالغية ال تتزاحم ما دامت ال تتعارض‪.‬‬
‫«واألقفال‪ :‬مجع ُقفل ‪-‬بالضم‪ ،-‬وهو احلديد الذي يغلق به الباب»()‪ ،‬وهي هنا‬
‫مر‪ ،‬بل وردت عىل سبيل االستعارة؛ ألن القلوب‬
‫ليست عىل معناها احلقيقي الذي َّ‬
‫البرشية ال توضع عليها أقفال كام توضع عىل اخلزائن والصناديق‪ ،‬واألبواب احلديدية‬

‫() مفاتيح الغيب ‪ ،286/27‬وانظر‪ :‬اللباب ‪.458/17‬‬


‫() تفسري القرطبي ‪ ،247 /16‬وانظر‪ :‬التفسري القيم البن القيم ‪.439‬‬
‫() روح البيان ‪ ،518/8‬وانظر‪ :‬القاموس املحيط ‪.39/4‬‬

‫‪36‬‬
‫سياقية‪ ،‬عىل َّ‬
‫أن هذا املعنى احلقيقي غري مراد‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫حالية‬
‫عقلية َّ‬
‫واخلشبية‪ ،‬فالقرينة هنا َّ‬
‫وقد اختلف املفرسون يف نوع االستعارة يف تلك اآلية‪ ،‬فمنهم من يرى أهنا‬
‫متثيلية‪ ،‬يقول األلويس‪« :‬ﱫﮔ ﮕ ﮖ ﮗﱪ متثيل لعدم وصول الذكر إليها‪،‬‬
‫َّ‬
‫وانكشاف األمر هلا»()‪.‬‬
‫شبه حال املنافقني يف‬
‫متثيلية‪ ،‬حيث َّ‬ ‫يقصد األلويس‪َّ :‬‬
‫أن يف تلك العبارة استعارة َّ‬
‫عدم وصول اهلداية إليهم‪ ،‬وانكشاف األمر هلم باألبواب التي عليها أقفال متنع ولوج‬
‫َمن باخلارج إىل الداخل‪.‬‬
‫وروعة تلك االستعارة‪ :‬أهنا جعلت القلب كام يقول ابن القيم‪« :‬بمنزلة‬
‫املرتج الذي قد رضب عليه قفل؛ فإنه ما مل يفتح القفل ال يمكن فتح الباب‬
‫ِّ‬ ‫الباب‬
‫والوصول إىل ما وراءه‪ ،‬وكذلك ما مل يرفع اخلتم والقفل عن القلب مل يدخل اإليامن‬
‫والقرآن»()‪.‬‬
‫ترصحيية‪ ،‬حيث استعار األقفال َّ‬
‫للرين الذي عىل‬ ‫َّ‬ ‫ومنهم من يرى أهنا استعارة‬
‫القلوب‪ ،‬يقول ابن عطية‪« :‬قوله تعاىل‪ :‬ﱫﮔ ﮕ ﮖ ﮗﱪ استعارة للرين الذي‬
‫منعهم اإليامن» ()‪ ،‬وفائدة تلك االستعارة املبالغة يف عدم وصول اإليامن إىل القلوب؛‬
‫ملا عليها من َرين يمنع وصول احلق إليها‪ ،‬ونفاذ احلكمة واملوعظة فيها‪ ،‬كام يمنع‬
‫القفل الولوج إىل الداخل‪.‬‬

‫() روح املعاين ‪ ،605/16‬وانظر‪ :‬مفردات الراغب ‪ ،424‬وعمدة احلفاظ ‪ ،385/3‬وتفسري‬


‫اخلازن ‪ ،182/6‬وحاشية الشهاب ‪ ،503/8‬وحاشية القونوي عىل البيضاوي ‪.35/18‬‬
‫() التفسري القيم ‪.439‬‬
‫() املحرر الوجيز‪ ،71 /15‬وابن عطية هنا مل يرصح باسم االستعارة؛ ألن هذا املصطلح ظهر‬
‫بعده بزمن يف كتب البالغيني كام هو معلوم‪ ،‬وانظر‪ :‬فتح البيان ‪.23/9‬‬

‫‪37‬‬
‫ومنهم من يرى أهنا استعارة َم ْكنِ َّية‪ ،‬يقول ابن عاشور‪« :‬األقفال‪ :‬مجع قفل‪ ،‬وهو‬
‫استعارة مكنية‪ ،‬إذ شبهت القلوب ‪-‬أي‪ :‬العقول‪ -‬يف عدم إدراكها املعاين باألبواب‪،‬‬
‫أو الصناديق املغلقة‪ ،‬واألقفال ختييل كاألظفار للمنية يف قول أيب ذؤيب اهلذيل‪:‬‬
‫َأ ْل َف ْي َت ُك َّل تمَ ِ َ‬
‫يم ٍة ال َت ْن َف ُع»()‪.‬‬ ‫َوإِ َذا املَنِ َّي ُة َأن َْش َب ْت َأ ْظ َف َ‬
‫ار َها‬
‫وهذا األخري هو الراجح؛ ألن االستعارة هنا جسدت القلوب‪ ،‬وجعلتها‬
‫كاألبواب جيري عليها ما جيري عىل األبواب املغلقة باألقفال‪ ،‬عالو ًة عىل أهنا أكثر‬
‫توضيحا للمعنى‪ ،‬وأكثر تأكيدً ا وقو ًة ومبالغ ًة له‪.‬‬
‫ً‬
‫وعىل ٍّ‬
‫كل؛ فالتعبري هنا جاء يف غاية احليوية والغنى والثراء؛ ألن كل هذه األنواع‬
‫من االستعارات حت َّققت فيه‪ ،‬واحتملها كام ترى‪.‬‬
‫وهنا مالحظة جدير بالنظر‪ ،‬وتزيد تلك االستعارة قو ًة ومبالغة‪ ،‬فإن الذكر‬
‫ٍ‬
‫قلوب أقفال» بتنكري أقفال كام فعل مع قلوب‪ ،‬بل أضاف‬ ‫احلكيم مل يقل‪« :‬أم عىل‬
‫األقفال إىل ضمريها‪ ،‬ويف هذه اإلضافة تأكيد عىل أن هذه األقفال من نوع معني‬
‫تتالءم مع قلوب هؤالء‪ ،‬وهي أقفال الكفر والعناد‪ ،‬فاألقفال املعهودة حمسوسة‪،‬‬
‫ولكن هذه أقفال معنوية معقولة تتناسب مع تلك القلوب‪ ،‬يقول ابن القيم «يف قوله‪:‬‬
‫َّ‬
‫ﱫﮗﱪ بالتعريف نوع تأكيد‪ ،‬فإنه لو قال‪ :‬أقفال لذهب الوهم إىل ما يعرف هبذا‬
‫االسم‪ ،‬فلام أضافها إىل ضمري القلوب علم َّ‬
‫أن املراد هبا ما هو للقلب بمنزلة القفل‬
‫للباب‪ ،‬فكأنه أراد‪ :‬أقفاهلا املختصة هبا التي ال تكون لغريها»()‪.‬‬
‫ويقول ابن عاشور‪« :‬وإضافة «أقفال» إىل ضمري «قلوب» نظم بديع أشار إىل‬

‫بمسمى االستعارة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫() التحرير والتنوير ‪ ،114 /26‬وانظر‪ :‬نظم الدرر ‪ ،170/7‬ومل يرصح‬
‫() التفسري القيم ‪ ،439‬وانظر فتح البيان للشيخ صديق خان ‪.23 /9‬‬

‫‪38‬‬
‫قاسية»()‪.‬‬
‫اختصاص األقفال بتلك القلوب؛ أي‪ :‬مالزمتها هلا‪ ،‬فدل عىل أهنا َّ‬
‫نصت رصاحة عىل أن القلوب املنغلقة الغليظة‬
‫وهكذا فإن هذه اآلية الكريمة قد َّ‬
‫القلوب املنفتح َة‬
‫َ‬ ‫القاسية ال تتد َّبر الذكر احلكيم‪ ،‬وهذا يعني بمفهوم املخالفة‪ :‬أن‬
‫الل ِّين َة السليمة اخلالية من األهواء واألمراض هي التي تتدبر القرآن‪ ،‬وهذا ال يتحقق‬
‫إال يف قلوب ُ‬
‫اخل َّلص من املؤمنني‪ ،‬وبذلك تكون تلك اآلية قد َّ‬
‫نصت عىل أداة التدبر‬
‫احلقيقي‪ ،‬ووسيلته الصحيحة‪ ،‬وهي القلوب املفتوحة ال الغليظة القاسية‪ ،‬ومل يرد هذا‬
‫األمر يف آيات التدبر إال يف هذا املوطن()‪.‬‬

‫() التحرير والتنوير‪.114 /1‬‬


‫() وردت أدوات أخرى للتدبر يف آيات أخرى مثل القشعريرة يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﭨ ﭩ ﭪ‬
‫ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﱪ [الزمر‪ ،]23:‬ومثل انسكاب‬
‫الدمع يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠﱪ‬
‫[املائدة‪ ،]83:‬ومثل اخلرور ُس َّجدً ا و ُب ًّ‬
‫كيا يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﱪ‬
‫[مريم‪ ،]58:‬وغري ذلك‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫ثال ًثا‪ :‬األرسار البالغية يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ‬
‫ﮬﱪ [املؤمنون‪.]68:‬‬
‫وردت هذه اآلية الكريمة يف سورة «املؤمنون» املكية التي ُتعنى ‪-‬كباقي السور‬
‫املكية‪ -‬بتقرير الوحدانية وغريها من األمور التي هتتم هبا السور املكية وهذه اآلية‬
‫التي نحن بصددها وردت يف مقام احلديث الرصيح عن كفار مكة‪ ،‬حيث ورد قبلها‬
‫قوله تعاىل‪ :‬ﱫﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﱪ [املؤمنون‪.]54:‬‬
‫للنبي ×‪ ،‬واملخاطبون هم كفار مكة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫واتَّفق املفرسون عىل َّ‬
‫أن اخلطاب فيها‬
‫ثم حتدثت السورة بعد ذلك عن املؤمنني‪ ،‬ثم عادت وحتدثت عن كفار مكة يف قوله‬
‫‪ :‬ﱫﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ‬
‫ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬
‫ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﱪ‬
‫‪ :‬ﱫﭳ ﭴﱪ‪ ،‬ﱫﭹ‬ ‫[املؤمنون‪ ،]67-63:‬فالضامئر يف هذه اآليات يف قوله‬
‫ﭺﱪ‪ ،‬ﱫﮈ ﮉﱪ‪ ،‬ﱫﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﱪ‪ ،‬ﱫﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ‬

‫‪40‬‬
‫ﮛ ﮜ ﱪ تعود ك ُّلها عىل كفار مكة الذين حتدَّ ثت عنهم السورة قبل ذلك‬
‫كام َّبينا‪.‬‬
‫وكذلك احلال يف اآلية حمل الدراسة وما بعدها يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﮣ ﮤ ﮥ‬
‫ﮦ ﮧﮨﮩ ﮪ ﮫﮬﮭﮮ ﮯﮰﮱﯓﯔ ﯕ ﯖﯗﯘ‬
‫ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﱪ [املؤمنون‪ ،]70-68 :‬فإن الضامئر يف‬
‫قوله‪ :‬ﱫ ﮤ ﱪ‪ ،‬ﱫ ﮧ ﱪ‪ ،‬ﱫﮫﱪ‪ ،‬ﱫ ﮰ ﮱ ﯓ ﱪ ‪ ..‬إلخ‪ ،‬تعود‬
‫عىل كفار مكة دون أدنى شك أو احتامل‪ ،‬كام هو واضح من اآليات السابقة والالحقة‬
‫التي جاءت اآلية الكريمة حمل الدراسة يف سياقاهتا‪.‬‬
‫ومناسبة تلك اآلية ملا قبلها حكاه البقاعي بقوله‪« :‬ﱫ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ‬
‫‪ :‬ﱫﮔ ﮕ ﮖ‬ ‫ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﱪ ملا كانت اآليات (أي‪ :‬املذكورة يف قوله‬
‫ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﱪ [املؤمنون‪ ]66:‬لمِ َا فيها من البالغة املعجزة‪،‬‬
‫تأملها‪ ،‬وكانوا يعرضون عنها‪ ،‬ويفحشون يف‬
‫تقبلها بعد ُّ‬
‫واحلكم املعجبة داعية إىل ُّ‬
‫ومرة بغريها‪ ،‬تسبب عن‬
‫وصفها‪ ،‬تارة بالسحر‪ ،‬وأخرى بالشعر‪ ،‬وكرة بالكهانة‪َّ ،‬‬
‫معرضا عنهم‪ ،‬إيذا ًنا بالغضب‪ ،‬مسندً ا إىل اجلمع الذي‬
‫ً‬ ‫ذلك اإلنكار عليهم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫هو أوىل بإلقاء السمع»()‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬ﱫ ﮣ ﮤ ﮥ ﱪ اهلمزة يف قوله‪ :‬ﱫ ﮣ ﱪ لالستفهام اإلنكاري‬
‫ينكر عىل كفار مكة‬ ‫مر يف آية النساء وحممد‪ ،‬فهو‬
‫التوبيخي التعجبي عىل نحو ما َّ‬
‫عدم تد ُّبرهم للقرآن الكريم الذي ُيلقى عىل مسامعهم ليل هنار‪ ،‬ويو ِّبخهم عىل ذلك‪،‬‬
‫أي‪ :‬ما كان ينبغي وقوع هذا منهم‪ ،‬ويتعجب من حاهلم يف إعراضهم عن اهلداية؛ ألن‬

‫() نظم الدرر للبقاعي ‪ ،211/5‬وانظر‪ :‬حاشية زاده ‪ ،173/6‬والفتوحات اإلهلية ‪.197/3‬‬

‫‪41‬‬
‫ً‬
‫معرضا عنه‪.)(»...‬‬ ‫يظل‬ ‫«مثل ما جاء به حممد رسول اهلل × ال َي ِ‬
‫مل ُك َمن يتد َّبره أن َّ‬
‫والفاء يف قوله‪ :‬ﱫﮣ ﱪ اختلف فيها عىل وجهني‪:‬‬
‫األول‪ :‬عاطفة‪ ،‬عطفت اجلملة التي بعدها عىل مجلة حمذوفة قبلها تتفق مع‬
‫السعود‪« :‬والفاء للعطف عىل مقدر ينسحب‬
‫السياق السابق هلا‪ ،‬ويف هذا يقول أبو ُّ‬
‫عليه الكالم؛ أي‪ :‬أفعلوا ما فعلوا من النكوص واالستكبار واهلجر‪ ،‬فلم يتد َّبروا‬
‫القرآن»()‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أهنا استئنافية ِّ‬
‫متفرعة عام قبلها‪ ،‬يقول ابن عاشور‪« :‬الفاء لتفريع الكالم‬
‫عىل الكالم السابق‪ ،‬وهو قوله‪ :‬ﱫﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﱪ ‪ ..‬إىل قوله‪ :‬ﱫﮠ‬
‫متفرع عام قبلها‪ ،‬ومرتبط‬
‫ﮡﱪ» ‪ ،‬وهذا األخري هو الراجح؛ ألن ما بعد الفاء ِّ‬
‫()‬

‫به أشدَّ ارتباط كام يبدو بوضوح ِمن متاسك تلك السياقات‪ ،‬واتصاهلا بلحمة شديدة‬
‫ال ينفصم ُعراها‪.‬‬
‫و«ل» حرف نفي وجزم وقلب عىل ما هو معلوم‪ ،‬وعبرَّ هبا هنا دون ال النافية؛ َّ‬
‫ألن‬ ‫مَ ْ‬
‫ال النافية لنفي احلال أو االستقبال حسب السياق‪ ،‬واملراد هنا‪ :‬نفي تد ُّبرهم للقرآن‬
‫نف ًيا حاسماً جاز ًما فيام مىض؛ ومن ثم عبرَّ بـ (مل) التي تقلب املضارع إىل امليض‪ ،‬وهذه‬
‫األداة عكس « َلـماَّ » ال تتعرض لتوقع حدوث الفعل بعدها للمستقبل‪ ،‬لكن ورودها‬
‫ُّ‬
‫وحتضهم عليه‬ ‫عقب االستفهام اإلنكاري يرجح أهنا تنفي عنهم التدبر يف املايض‪،‬‬

‫() يف ظالل القرآن ‪.2474/4‬‬


‫() تفسري أيب السعود ‪ ،143/6‬وانظر‪ :‬روح البيان ‪ ،94-93/6‬والفتوحات اإلهلية‬
‫‪.197/3‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪. 87 / 18‬‬

‫‪42‬‬
‫يستشف بوضوح من السياق؛ ألن من ينكر‬ ‫ُّ‬ ‫حالة نزول اآلية ومستقبلاً ‪ ،‬وهذا معنى‬
‫حارضا‪ ،‬وحيثُّه عليه مستقبلاً ‪ ،‬وهلذا‬
‫ً‬ ‫عىل ٍ‬
‫أحد عدم القيام بفعلٍ ما؛ فهو حيضه عىل فعله‬
‫‪ :‬ﱫﮣ ﮤ ﮥ ﱪ يتضمن َّ‬
‫حضهم عىل تد ُّبر هذا‬ ‫أشار الشنقيطي فقال‪« :‬قوله‬
‫القول الذي هو القرآن العظيم» ()‪.‬‬
‫ويف هذا داللة ً‬
‫أيضا ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬إىل أن كفار مكة املخاطبني بتلك اآلية‬
‫سيتد َّبرون القرآن‪ ،‬وسيؤمنون به مستقبلاً ‪ ،‬وقد كان‪ ،‬بخالف النفي بـ (ال) يف‬
‫آيتي النساء وحممد التي تنفي عن املنافقني التدبر يف احلارض فحسب‪ ،‬ومل تتعرض‬
‫للمستقبل‪ ،‬وهذه خصيصة من خصائص التعبري يف كل آية أظهرهتا أداة اجلزم هنا‪،‬‬
‫وأداة النفي هناك‪.‬‬
‫ﱫ ﮤ ﱪ أصله يتدبروا‪« :‬أدغمت التاء يف الدال؛ ألن التاء قريبة املخرج من‬
‫الدال‪ ،‬خمرج الدال بطرف اللسان‪ ،‬وأطراف الثنيتني‪ ،‬وخمرج التاء بطرف اللسان‬
‫وأصول الثنيتني‪ ،‬فكل ما قرب خمرجه فافعل به هذا‪ ،‬وال تقل يف‪َ « :‬ي َتن ََّزلون»‪،‬‬
‫« َي َّن َّزلون»؛ ألن النون ليست من حروف الثنايا كالتاء»()‪ ،‬ورس اإلدغام هنا حكاه‬
‫اإلمام البقاعي فقال‪« :‬ﱫﮣ ﮤ ﮥﱪ أي‪ :‬املتلو عليهم بأن ينظروا يف أدباره‬
‫وعواقبه‪ ،‬ولو مل يبلغوا يف نظرهم الغاية بام أشار إليه اإلدغام‪ ،‬ليعلموا أنه ُموجب‬
‫لإلقبال والوصال‪ ،‬والوصف بأحسن املقال»()‪.‬‬
‫ويف اإلدغام ‪-‬زيادة عىل ذلك‪ -‬إشارة إىل أن كفار قريش كانت تضيق صدورهم‪،‬‬

‫() أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن ‪ ،874/5‬والوسيط للشيخ طنطاوي ‪.50/10‬‬
‫() معاين القرآن لألخفش ‪ ،107-106/1‬وانظر‪ :‬الرساج املنري للرشبيني ‪.585/2‬‬
‫() نظم الدرر للبقاعي ‪.212- 211/5‬‬

‫‪43‬‬
‫وتنغلق قلوهبم عند سامعه؛ ألهنم يعلمون يف قرارة نفوسهم أنه حق‪ ،‬وأن كل ما‬
‫يعيبون به عىل القرآن ال صحة له‪ ،‬فحكى اإلدغام أحواهلم النفسية والشعورية‪ ،‬ومن‬
‫رسيعا ذا نربة شديدة بخالف ﱫﮑ‬
‫ً‬ ‫ثم جاء التعبري بقوله‪ :‬ﱫ ﮣ ﮤ ﱪ خاط ًفا‬
‫ﮒ ﱪ يف احلديث عن املنافقني من انفتاح الفم يف النطق مع ال النافية‪ ،‬وكأنه‬
‫حيثُّهم عىل التأمل فيه بروية‪ ،‬وهدأة مرة بعد مرة‪ ،‬أما كفار قريش فيكفيهم هنا أدنى‬
‫تدبر للوصول للحق؛ ألهنم املوصوفون يف القرآن باللسن واللدد‪ ،‬ورسعة الفهم‬
‫والبدهية‪.‬‬
‫وواو اجلامعة يف قوله‪ :‬ﱫﮤ ﱪ عائدة عىل كفار مكة حسبام هو واضح من اآلية‬
‫السابقة يف قوله‪ :‬ﱫﮞ ﮟ ﮠ ﮡﱪ‪ ،‬حيث كان كفار مكة يسمرون‪،‬‬
‫ويذكرون القرآن باهلجر‪ ،‬فيقولون‪ :‬هو سحر وشعر وكهانة‪.‬‬
‫ﱫﮥﱪ مفعول به‪ ،‬مصدر من الثالثي قال‪ ،‬وهو يطلق عىل أوجه عديدة‪:‬‬
‫«أظهرها‪ :‬أن يكون للمركب من احلروف املُبرْ َ ِز بالنطق مفر ًدا كان أو مجلة‪،‬‬
‫فاملفرد كقولك‪« :‬زيد»‪ ،‬و«خرج»‪ ،‬واملركب‪ :‬زيد منطلق‪ ،‬وهل خرج عمرو‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪..‬‬
‫الثاين‪ :‬يقال للمتصور يف النفس قبل اإلبراز باللفظ قول‪ ،‬فيقال‪ :‬يف نفيس قول‬
‫مل أظهره‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ﱫﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﱪ‪ ،‬فجعل ما يف اعتقادهم‬
‫قولاً ‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬لالعتقاد نحو‪ :‬فالن يقول بقول أيب حنيفة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬يقال للداللة عىل اليشء‪ ،‬نحو قول الشاعر‪:‬‬

‫‪44‬‬
‫ال َق ْطنِي‪.)(»...‬‬ ‫ا ْمت َ‬
‫َأل الحْ َ ْو ُ‬
‫ض َو َق َ‬
‫واملراد هنا األول؛ ألن القرآن قول مركب من حروف‪ »..‬إلخ ما ذكره الراغب‪،‬‬
‫لكنه قول متحدَّ ى به‪« ،‬وسمي القرآن قولاً ؛ ألهنم خوطبوا به»() كام يقول القرطبي‪،‬‬
‫يتقبله ليس بأهل لفهم يشء من‬
‫أو كام يقول البقاعي‪« :‬عرب بالقول إشارة إىل أن من مل َّ‬
‫القول‪ ،‬بل هو يف عداد البهائم»()‪.‬‬
‫والتعبري بالقول هنا دون القرآن أو الكتاب؛ لإلشارة إىل أن كفار قريش كانوا‬
‫يسمعونه مقولاً من النبي ×‪ ،‬والصحابة‪ ،‬ومل يكونوا يقرؤونه قراءة‪ ،‬أو يكتبونه‬
‫كتابة‪ ،‬ويف التعبري به ً‬
‫أيضا إشارة إىل أهنم كانوا جيعلونه يف منزلة بقية األقوال التي‬
‫يستمعون إليها من البرش‪ ،‬فال يلتفتون ملعانيه‪ ،‬وال يدققون ملا فيه‪.‬‬
‫ولعل يف اختيار القول ً‬
‫أيضا إشارة واضحة إىل أهنم أمة القول بمختلف فنونه‬
‫ونثرا‪ ،‬و َم َثلاً ‪ ،‬وحكم ًة‪ ،‬فكيف مل يتد َّبروا هذا القول الذي جاء عىل‬
‫شعرا‪ً ،‬‬
‫وأغراضه‪ً :‬‬
‫وفق طرائقهم اللغوية‪ ،‬وسالئقهم البيانية‪ ،‬وهم َمن هم من أمراء الفصاحة وملوك‬
‫البالغة‪ ،‬وسالطني البيان؟! كل هذا كامن يف اختيار تلك اللفظة‪ ،‬ومن ثم فهي حتكي‬
‫حالتهم‪ ،‬وتكشف عن رسيرهتم‪ ،‬وتعكس ما كانوا عليه بدقة متناهية‪ ،‬ووضوح تام‪،‬‬
‫ولذا فالتعبري بتلك اللفظة أدق وألصق هبذا السياق‪ ،‬وال يمكن أن َّ‬
‫حيل غريها حملها‬
‫من نحو القرآن كام مىض‪ ،‬والكتاب كام سيأيت‪.‬‬
‫و(أل) يف القول تفيد العموم العريف‪ ،‬أي‪ :‬القول الذي استمعوا إليه وليس‬

‫() مفردات ألفاظ القرآن لألصفهاين‪ ،430‬وانظر‪ :‬عمدة احلفاظ ‪.408/3‬‬


‫() تفسري القرطبي ‪.139/12‬‬
‫() نظم الدرر للبقاعي ‪.212-211/5‬‬

‫‪45‬‬
‫مقصو ًدا به القرآن كله؛ ألن القرآن كله مل يكن قد نزل بعد‪ ،‬وهذا القول قل أو كثر لو‬
‫تد َّبروه كان كاف ًيا يف إيامهنم وعودهتم إىل رحاب احلق؛ وقد انطبق هذا عىل عمر بن‬
‫اخلطاب ريض اهلل عنه يف واقعة إيامنه‪ ،‬حني آمن بقراءة بعض آيات تالها‪ ،‬فلو فعل‬
‫لعادوا لرشدهم‪ ،‬وآمنوا برهبم‪.‬‬
‫الكفار مثلام فعل ُ‬
‫وجيوز أن تكون (أل) للعهد‪ ،‬أي‪ :‬هذا القول املعهود الذي يستمعون إليه من‬
‫النبي ×‪ ،‬والصحابة رضوان اهلل عليهم‪.‬‬
‫وبعدَ أن أنكر عليهم عدم تدبرهم للقرآن تاله باإلنكار عىل عدم اإليامن؛ فقال‪:‬‬
‫ﱫ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﱪ؛ أي‪ :‬أجاءهم رسولهُ م حممد × بيشء غريب‬
‫مستبدع مل يأت آبائهم السابقني؟ كلاَّ ‪ ،‬ليس األمر كذلك؛ ألن ما جاءهم به × يتفق‬
‫‪-‬يف أصوله وكلياته‪ -‬مع ما جاء به إبراهيم وإسامعيل وغريمها عليهم السالم‪ ،‬ويف‬
‫هذا تقريع آخر هلم؛ َّ‬
‫ألن الرسول × جاء هلدايتهم كبقية الرسل‪ ،‬ومل يكن بدعا يف‬
‫ذلك‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ﱫﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﱪ [األحقاف‪.]9:‬‬
‫وﱫﮦﱪ يف قوله‪ :‬ﱫﮦ ﮧﱪ منقطعة‪ ،‬بمعنى‪ :‬بل‪ ،‬يقول أبو السعود‪« :‬ﱫﮦﱪ‬
‫يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﱪ منقطعة‪ ،‬وما فيها من معنى (بل)‬
‫لإلرضاب واالنتقال عن التوبيخ بام ُذكر إىل التوبيخ بآخر»()‪ ،‬وأم املنقطعة هذه‪:‬‬
‫«يلزمها تقدير استفهام بعدها ال حمالة‪ ،‬فقوله‪ :‬ﱫ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﱪ‪ ،‬تقديره‪:‬‬
‫بل أجاءهم»()‪.‬‬
‫وحذف أداة االستفهام يف هذا املوضع جائز؛ لداللة (أم) عليه‪ ،‬ولفهمها من‬

‫() تفسري أيب السعود ‪ ،143/6‬وانظر تفسري القرطبي ‪ ،139/12‬وفتح البيان ‪.297/6‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪.88 / 18‬‬

‫‪46‬‬
‫واضحا يف الكالم‪.‬‬
‫ً‬ ‫السياق؛ وألن ذكرها سيسبب ثقلاً‬
‫واالستفهام املقدر هنا خرج عن حقيقته إىل اإلنكار واالستبعاد‪ ،‬يقول أبو‬
‫السعود‪« :‬واهلمزة إلنكار الوقوع ال إلنكار الواقع‪ ،‬أي‪ :‬بل أجاءهم من الكتاب‬
‫ما مل يأت آباءهم األولني‪ ،‬حتى استبدعوه واستبعدوه‪ ،‬فوقعوا فيام وقعوا فيه من‬
‫الكفر والضالل‪ ،‬يعني‪ :‬أن جميء الكتب من جهته تعاىل إىل الرسل عليهم السالم‬
‫سنة قديمة له تعاىل ال يكاد ُيتسنى إنكارها‪ ،‬وأن جميء القرآن عىل طريقته فمن أين‬
‫ينكرونه؟»()‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن االستفهام هنا‪ ،‬وفيام ييل تلك اآلية للتقرير‪ ،‬وهو محل املخاطب عىل‬
‫اإلقرار بام يعلمه‪ ،‬يقول اجلمل‪« :‬قوله‪ :‬ﱫﮦ ﮧﱪ‪ ،‬وقوله‪ :‬ﱫﮮ ﮯ ﮰﱪ‪،‬‬
‫وقوله‪ :‬ﱫﮱ ﯓﱪ‪ ،‬أم يف املواضع الثالثة مقدرة بـ (بل) االنتقالية‪ ،‬ومهزة‬
‫االستفهام التقريري‪ ،‬والتقدير‪ :‬بل أجاءهم‪ ،‬بل أمل يعرفوا‪ ،‬بل أيقولون»()‪.‬‬
‫وعىل ذلك‪ :‬فهذه االستفهامات هنا خرجت عن حقيقتها من طلب معرفة‬
‫املجهول إىل معنى من هذه املعاين املجازية التي أرشت إليها‪ ،‬وهذا عند البالغيني‬
‫املتأخرين يعدُّ من قبيل املجاز املرسل لعالقة اللزوم‪ ،‬وإىل هذا أشار ابن عاشور فقال‪:‬‬
‫«وهذه االستفهامات مستعملة يف التخطئة عىل طريق املجاز املرسل؛ ألن اتضاح‬
‫اخلطأ يستلزم الشك يف صدوره عن العقالء‪ ،‬فيقتيض ذلك الشك السؤال عن وقوعه‬
‫من العقالء‪.)(»...‬‬

‫() تفسري أيب السعود ‪ ،143/6‬وانظر‪ :‬روح البيان ‪ ،94/6‬وتفسري القاسمي ‪.238/12‬‬
‫() الفتوحات اإلهلية ‪ ،197/3‬وانظر‪ :‬حاشية الشهاب ‪ ،592/6‬وحاشية الصاوي ‪.170/4‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪ ،87/18‬وانظر‪ :‬حاشية الدسوقي عىل رشح السعد ‪ 193/1‬ضمن‬
‫رشوح التلخيص‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫لكن املجيء أعم؛ ألن اإلتيان‬
‫وقوله‪ :‬ﱫﮧﱪ املجيء يف اللغة‪« :‬كاإلتيان‪َّ ،‬‬
‫جميء بسهولة‪ ،‬واإلتيان قد يقال باعتبار القصد‪ ،‬وإن مل يكن منه احلصول‪ ،‬واملجيء‬
‫اعتبارا باحلصول‪ ،‬ويقال‪ :‬جاء يف األعيان واملعاين‪ ،‬ولمِ َا يكون جميئه بذاته وبأمره‪،‬‬
‫ً‬ ‫يقال‬
‫وملن قصد مكا ًنا‪ ،‬أو عملاً ‪ ،‬أو زما ًنا‪.)(»...‬‬
‫واملجيء هنا مستعمل يف املجيء يف املعاين‪ ،‬وهو هنا ليس عىل حقيقته‪ ،‬بل‬
‫«املجيء جماز يف اإلخبار والتبليغ‪ ،‬وكذلك اإلتيان»()‪.‬‬
‫تبعية؛ ألهنا جرت يف الفعل كام يرى متأخرو البالغيني‪،‬‬
‫وهذا املجاز استعارة َّ‬
‫والتعبري عن التبليغ واإلخبار ومها من املعنويات باملجيء لتشخيص املعنويات‪،‬‬
‫وإبرازها يف صورة املحسوسات؛ لتثبيتها يف األفئدة والعقول‪.‬‬
‫«ه ْم» يف ﱫﮧﱪ يعود عىل كفار قريش‪ ،‬كام تؤكد السياقات‪.‬‬
‫والضمري ُ‬
‫وﱫﮨﱪ‪ :‬اسم موصول بمعنى الذي‪ ،‬وهي هنا فاعل جاء‪ ،‬وهي صادقة عىل‬
‫دين‪ ،‬يقول ابن عاشور‪« :‬وﱫﮨﱪ املوصولة صادقة عىل دين‪ ،‬واملعنى‪ :‬أجاءهم دين‬
‫مل يأت آباءهم األولني‪ ،‬وهو الدين الداعي إىل توحيد اإلله وإثبات البعث»()‪ ،‬وإسناد‬
‫جمازا؛ َّ‬
‫ألن‬ ‫الفعل جاء للفاعل اسم املوصول ﱫﮨﱪ قرينة واضحة عىل َّ‬
‫أن الفعل جاء ً‬
‫الدين ال يتأتى منه املجيء حقيقة‪.‬‬
‫ومجلة‪ :‬ﱫ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﱪ صلة املوصول‪ ،‬واملراد من هذه الصلة قد‬
‫يكون ظاهر معناها‪ ،‬بمعنى‪َّ :‬‬
‫أن الدين الذي أتى به الرسول الكريم × من توحيد‬

‫() مفردات الراغب ‪ ،102‬وانظر‪ :‬عمدة احلفاظ ‪.416/1‬‬


‫() التحرير والتنوير‪.88 /18‬‬
‫() التحرير والتنوير‪.88/18‬‬

‫‪48‬‬
‫اإلله والبعث مل يكن هلم عهد به من قبل‪ ،‬وعىل هذا املعنى الظاهر «ففي الكالم‬
‫ُّ‬
‫التهكم َّ‬
‫أن شأن‬ ‫تهَ ُّكم هبم‪ ،‬إذ قد أنكروا دينًا جاءهم‪ ،‬ومل يسبق جميئه آلبائهم‪ ،‬ووجه‬
‫كل رسول جاء بدين أن يكون دينُه ُأ ُن ًفا‪ ،‬ولو كان للقوم مثله؛ لكان جميئه حتصيل‬
‫ِّ‬
‫حاصل‪.‬‬
‫وإن كان املراد من الصلة‪ :‬أنه خمالف ملا كان عليه آباؤهم؛ ألن ذلك من معنى‪:‬‬
‫مل يأت آباءهم‪ ،‬كان الكالم جمرد تغليط؛ أي‪ :‬ال اجتاه لكفرهم به؛ ألنه خمالف ملا كان‬
‫عليه آباؤهم‪ ،‬إذ ال يكون الدين إلاَّ خمال ًفا للضاللة»()‪.‬‬
‫ﱫﮪﱪ‪ :‬اإلتيان هنا ً‬
‫أيضا جماز عن اإلبالغ عىل نحو ما سبق‪ ،‬فأصل الكالم‪:‬‬
‫فلم ذكر هنا اإلتيان‪،‬‬
‫«أم بلغهم دين مل يبلغ آباءهم األولني»‪ ،‬وإذا كان األمر كذلك؛ َ‬
‫وذكر قبل املجيء؟‬
‫أقول‪ :‬ألن املجيء األول جميء بالذات؛ أي‪ :‬أجاءهم الرسول بخرب وبالغ ودين‬
‫فأليق به املجيء‪ ،‬والثاين تكرار‪ ،‬فأليق به اإلتيان؛ ألن اإلتيان كام يقول الراغب‪« :‬جميء‬
‫أخص من املجيء‪ ،‬وهكذا ُوضع ُّ‬
‫كل لفظ يف موضع ال يصلح فيه‬ ‫ُّ‬ ‫بسهولة»()‪ ،‬فهو‬
‫غريه‪.‬‬
‫ﱫﮫﱪ‪ :‬آباء‪ :‬مفعول يأت‪ ،‬والفاعل ضمري مسترت يعود عىل ما املوصولة‬
‫التي هي فاعل جاء‪ ،‬واملعنى‪ :‬بل أجاءهم دين أو بالغ مل يأت هذا الدين أو البالغ‬
‫آباءهم األولني‪.‬‬
‫سمى كل من‬
‫وآباء‪ :‬مجع تكسري مفرده أب‪ ،‬واألب يف اللغة‪« :‬الوالد‪ ،‬و ُي َّ‬

‫() التحرير والتنوير‪.88 /18‬‬


‫() مفردات الراغب ‪ ،4‬وانظر‪ :‬عمدة احلفاظ ‪ ،60-57/1‬حيث أورد لإلتيان معاين أخرى‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫كان سب ًبا يف إجياد يشء‪ ،‬أو إصالحه‪ ،‬أو ظهوره‪َ :‬أ ًبا‪ ،‬ولذلك يسمى النبي × أبا‬
‫املؤمنني‪.)(»...‬‬
‫وليس املراد باآلباء هنا آباء كفار قريش املخاطبني باآلية بداهة‪ ،‬بل املراد آباؤهم‬
‫رس استعامل اآلباء هنا بدلاً عن‬ ‫َّ‬ ‫األبعدون الذين ينتسبون إليهم‪ ،‬ولعل هذا ُيفسرِّ‬
‫الوالدين التي ُّ‬
‫تدل عىل األب واألم املبارشين‪.‬‬
‫مرفوعا ومنصو ًبا‬
‫ً‬ ‫والتعبري باآلباء مجع تكسري جاء يف الذكر احلكيم (‪ )64‬مرة‬
‫وجمرورا()‪ ،‬وهو يف هذه املواضع مل يكن املقصود به األب املبارش‪ ،‬بل املقصود به‬
‫ً‬
‫حيدده سياقات الكالم املختلفة‪ ،‬فقد ُقصد به اً‬
‫مثل‪ :‬اآلباء املبارشين يف قوله تعاىل‪:‬‬
‫ﱫﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﱪ [النور‪ ،]31:‬كام أريد به‬
‫األب غري املبارش يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬
‫ﭝ ﭞﭟﱪ [البقرة‪ ،]170:‬فالسياق هو الذي حُيدِّ د املراد به‪ ،‬وهنا السياق يشري‬
‫بوضوح إىل أن اآلباء ليسوا هم اآلباء املبارشين بل أجدادهم‪ ،‬ومن ثم فإن إطالق‬
‫اآلباء عىل األجداد قد يكون مستعملاً يف حقيقته؛ ألنه جيوز إطالق األب عىل الوالد‬
‫املبارش‪ ،‬وعىل اجلد‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ﱫ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ‬
‫مل يكن أبا يعقوب‪ ،‬بل كان جده‪ ،‬وقد يكون‬ ‫ﯭ ﱪ [البقرة‪ ،]133:‬وإبراهيم‬
‫ً‬
‫جمازا؛ ألنه مل يستعمل يف معناه املوضوع له يف اللغة‪ ،‬يقول السمني احللبي‪« :‬ويطلق‬
‫عىل اجلد‪ ،‬فقيل‪ :‬حقيقة‪ ،‬وقيل‪ً :‬‬
‫جمازا‪ ،‬وهو الظاهر»()‪.‬‬

‫() مفردات الراغب ‪.3‬‬


‫() املعجم املفهرس‪.4 -3‬‬
‫() عمدة احلفاظ ‪.55/1‬‬

‫‪50‬‬
‫«ه ْم» يف آبائهم يعود عىل كفار قريش الذين يتحدَّ ث السياق القرآين‬
‫والضمري ُ‬
‫عنهم بوضوح كام َّبينا‪.‬‬
‫ﱫﮬﱪ‪ :‬مجع أول‪ ،‬و«األول هو الذي يرتتَّب عليه غريه‪ ،‬ويستعمل عىل‬
‫أوجه‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬املتقدم بالزمان‪ ،‬كقولك‪ :‬عبد امللك أولاً ‪ ،‬ثم منصور‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬املتقدم بالرياسة يف اليشء‪ ،‬وكون غريه حمتذ ًيا به‪ ،‬نحو‪ :‬األمري أولاً ‪ ،‬ثم‬
‫الوزير‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬املتقدم بالوضع والنسبة‪ ،‬كقولك للخارج من العراق‪ :‬القادسية أولاً ثم‬
‫فيد‪ ،‬وتقول للخارج من مكة‪ :‬فيد أولاً ‪ ،‬ثم القادسية‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬املتقدم بالنظام الصناعي‪ ،‬نحو أن يقال‪ :‬األساس أولاً ‪ ،‬ثم البناء»()‪.‬‬
‫واملراد به هنا هو الوجه األول‪ ،‬وهو التقدم بالزمان‪ ،‬واملعنى‪ :‬أم جاءهم ما مل‬
‫يأت آبائهم األولني يف األزمنة الغابرة‪.‬‬
‫وقد اختلف املفسرِّ ون يف حتديد آبائهم األولني هنا عىل رأيني‪:‬‬
‫وأعقابه من عدنان وقحطان‪،‬‬ ‫األول‪ :‬هم آباء كفار قريش من «إسامعيل‬
‫ومرض وربيعة‪ ،‬وقس واحلرث بن كعب‪ ،‬وأسد بن خزيمة ومتيم بن مرة‪ ،‬وتبع وضبة‬
‫بن أد»()‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬هم سلف األمم السابقة‪ :‬من نوح وإبراهيم وإسامعيل بوجه عام‪ ،‬يقول‬
‫األولني‪ ،‬أي‪ :‬ليس بِبِدْ ٍع‪ ،‬بل قد جاء آبا َءهم‬
‫الثعالبي‪« :‬أم جاءهم ما مل يأت آباءهم َّ‬

‫() مفردات الراغب ‪ ،27‬وانظر عمدة احلفاظ ‪.156/1‬‬


‫() تفسري أيب السعود ‪ ،143/6‬وانظر الكشاف‪ ،36/3‬والبيضاوي ‪.55/2‬‬

‫‪51‬‬
‫َ‬
‫َ‬
‫وإسامعيل‪ ،‬وغريهم»()‪.‬‬ ‫األ َّولِنيَ ‪ ،‬وهم سالف األمم ُّ‬
‫الر ُس ُل؛ كنوح‪ ،‬وإبراهيم‪،‬‬
‫والراجح هنا‪ :‬هم آباؤُ هم الذين كفار قريش من نسلهم وأصالهبم‪ ،‬كام َّ‬
‫مر يف‬
‫أن األولني ‪-‬وص ًفا آلباء‪ -‬ال ينسحب إال عىل أجدادهم‬
‫الوجه األول‪ ،‬يؤكد هذا‪َّ :‬‬
‫الذين ينتسبون إليهم؛ ألهنم هم بالفعل كذلك‪ ،‬أما ما عداهم من األمم األخرى؛‬
‫فإهنم ‪-‬وإن كانوا أولني‪ -‬لكنهم ليسوا آباءهم عىل موجب داللة هذا اللفظ‪.‬‬
‫أن لفظ (األولني) مقرت ًنا بلفظ (آباء) ورد يف الذكر احلكيم‬
‫ومما يستأنس به هلذا‪َّ :‬‬
‫(‪ )5‬مرات‪ ،‬وأطلق يف ِّ‬
‫كل موضع عىل آباء املخاطبني املتحدث عنهم مل يتعداهم‬
‫لغريهم‪ ،‬كام يبدو من سياقات هذه املواضع يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ‬
‫ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﱪ [املؤمنون‪ ،]24:‬وقوله‪ :‬ﱫﮄ ﮅ ﮆ ﮇ‬
‫ﮈﱪ [الشعراء‪ ،]26:‬وقوله‪ :‬ﱫﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ‬
‫ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﱪ [القصص‪ ،]36:‬وقوله‪ :‬ﱫﯰ‬
‫ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﱪ [الصافات‪ ،]126:‬وقوله‪ :‬ﱫ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ‬
‫ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﱪ [الدخان‪.]8:‬‬

‫() تفسري الثعالبي ‪.457/2‬‬

‫‪52‬‬
‫رابعا‪ :‬األرسار البالغية يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ‬
‫ً‬
‫ﭸ ﭹ ﭺﱪ [ص‪.]29 :‬‬
‫املكية يف سياق عجيب‪ ،‬حيث خت َّللت‬
‫وردت هذه اآلية الكريمة يف سورة «ص» َّ‬
‫‪ ،‬فقد بدأ احلديث عنهام بقوله تعاىل‪ :‬ﱫﭑ ﭒ ﭓ‬ ‫احلديث عن داود وسليامن‬
‫ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜﱪ [ص‪.]17:‬‬
‫واستمرت اآليات الكريمة تتحدث عنهام إىل قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﯷ ﯸ ﯹ‬
‫ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ‬
‫ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕﱪ [ص‪.]26:‬‬
‫ثم استطردت فتحدثت عن خلق السامء واألرض يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﭑ ﭒ‬
‫ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﱪ [ص‪.]27:‬‬
‫‪ :‬ﱫﭤ ﭥ ﭦ ﭧ‬ ‫ثم َّبينت عدم استواء جزاء املتقني والفجار يف قوله‬
‫ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﱪ [ص‪.]28:‬‬
‫ثم وردت بعد ذلك ُ‬
‫اآلية التي معنا حمل الدراسة يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﭲ ﭳ‬
‫ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﱪ [ص‪.]29:‬‬
‫‪53‬‬
‫يف قوله‪ :‬ﱫﭼ ﭽ‬ ‫ثم عاد احلديث من جديد عن داود وسليامن‬
‫وحده‬ ‫ﭾﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﱪ [ص‪ ]30:‬حتى انتهى احلديث عن سليامن‬
‫يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﱪ [ص‪ ،]40:‬وهكذا جاء احلديث عن‬
‫تلك اآلية يف سياق عجيب غريب كام ترى بوضوح‪.‬‬
‫وجميء تلكم اآلية يف هذا السياق العجيب أطنب اإلمام الرازي يف ذكر رسه بام‬
‫ال مزيد عليه فليعد إليه القارئ الكريم خشية التطويل()‪.‬‬
‫ً‬
‫معرتضا‪ ،‬ويف هذا‬ ‫وإذا كان األمر كذلك فإن ورود هذه اآلية هنا يعد استئنافا‬
‫نظر إىل قوله يف‬
‫يقول ابن عاشور‪« :‬اجلملة استئناف معرتض‪ ،‬ويف هذا االستئناف ٌ‬
‫أول السورة ﱫ ﭓ ﭔ ﭕ ﱪ إعادة للتنويه بشأن القرآن كام سيعاد ذلك يف قوله‬
‫تعاىل‪ :‬ﱫﮍ ﮎﮏ ﱪ»()‪.‬‬
‫وﱫﭲﱪ يف قوله‪ :‬ﱫﭲ ﭳ ﭴ ﭵﱪ «جيوز أن يكون خرب مبتدأ‬
‫حمذوف‪ ،‬والتقدير‪ :‬هذا كتاب‪ ،‬ومجلة ﱫﭳ ﱪ صفة كتاب‪ ،‬وجيوز أن يكون مبتدأ‪،‬‬
‫ربا عن ﱫﭲﱪ»()‪.‬‬
‫ومجلة ﱫﭳﱪ صفة كتاب‪ ،‬وﱫﭵﱪ خ ً‬
‫والراجح‪ :‬أن لفظة ﱫﭲﱪ مبتدأ‪ ،‬وليس خ ً‬
‫ربا عن مبتدأ حمذوف‪ ،‬وجاز‬
‫االبتداء بالنكرة؛ ألهنا موصوفة بجملة أنزلناه‪ ،‬عالوة عىل أن الكالم هنا سائغ بدون‬
‫تقدير حمذوف‪ ،‬وهذا ما رجحه ابن عاشور بقوله‪« :‬ال جيعـل ﱫﭲﱪ خرب مبتدأ‬

‫() مفاتيح الغيب ‪ ،321-320/25‬وانظر‪ :‬تفسري النيسابوري ‪ ،593-592/5‬وتفسري ابن‬


‫كثري ‪ ،33/4‬والتحرير والتنوير ‪.251/23‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪.251 /23‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪.251 /23‬‬

‫‪54‬‬
‫حمذوف‪ ،‬وتقديره‪ :‬هذا كتاب‪ ،‬إذ ليس هذا بمحز كبري من البالغة»()‪.‬‬
‫والكتاب يف األصل مصدر‪ ،‬ثم سمي املكتوب فيه كتا ًبا مبالغة‪ ،‬وجيوز أن يكون‬
‫الكتاب يف األصل اسماً للصحيفة مع املكتوب فيه‪.)(»...‬‬
‫واملقصود بالكتاب هنا القرآن الكريم‪ ،‬وسمي القرآن كتا ًبا؛ «ملا مجع فيه من‬
‫األخبار والقصص‪ ،‬واألحكام واملواعظ واألمثال‪ ،‬واألوامر والنواهي والزواجر‪،‬‬
‫واإلنذار واإلعذار‪ ،‬والتحذير والبشارة إىل غري ذلك»()‪.‬‬
‫وهذا صحيح؛ ألن املادة تعني الضم واجلمع‪ ،‬يقول الراغب‪َ :‬‬
‫«الك ْت ُب ضم أديم‬
‫إىل أديم باخلياطة‪ ،‬وكتبت البغلة‪ :‬مجعت بني ُشفرهيا بحلقة»()‪.‬‬
‫وأطلق الكتاب يف هذا السياق عىل القرآن؛ لإلشارة إىل أن املؤمنني ‪-‬املوجه هلم‬
‫اخلطاب يف تلك اآلية‪ -‬هم املعنيون وحدهم بكتابته ليظل حمفوظا أبد الدهر فلفظة‬
‫الكتاب تبني عن مجعه يف صدورهم وضمه آلياته يف رقاعهم‪.‬‬
‫وعىل ذلك فإن إطالق الكتاب عىل الذكر احلكيم له داللة تغاير داللة إطالق‬
‫عطف الكتاب عىل القرآن يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﭑﭒ‬ ‫القرآن عليه‪ ،‬بدليل أن املوىل‬
‫ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﱪ [النمل‪ ،]1:‬كام عطف القرآن عىل الكتاب يف قوله‬
‫تعاىل‪ :‬ﱫ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﱪ [احلجر‪ ،]1:‬ومعلوم أن العطف‬
‫يقتيض املغايرة يف الذات أو املغايرة يف الصفات‪ ،‬وهنا مغايرة يف الصفات‪ ،‬فلو كان‬
‫الكتاب بمعنى القرآن دون أدنى فرق ما عطفه عليه‪ ،‬فإذن حقيقة الذكر احلكيم يف‬

‫() التحرير والتنوير ‪.251 /23‬‬


‫() مفردات الراغب ‪.440‬‬
‫() عمدة احلفاظ ‪ ،435 /3‬وانظر‪ :‬الربهان للزركيش ‪.347/1‬‬
‫() مفردات الراغب ‪ 440‬بترصف يسري‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫كونه قرآ ًنا غري حقيقته يف كونه كتا ًبا‪ ،‬فاألول منظور فيه إىل صفة القراءة‪ ،‬والثاين‬
‫منظور فيه إىل كونه مكتو ًبا يستوضح منه كل يشء‪.‬‬
‫وجيوز أن يكون التعبري عن القرآن بالكتاب هنا ً‬
‫أيضا؛ ألن تلك اللفظة تتالءم مع‬
‫لفظة ﱫﭵﱪ بعدها عكس لفظة القرآن التي تصاحبها ألفاظ أخرى مثل اإلبانة‬
‫وغريها كام ورد يف آيات عديدة كقوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﭑﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ‬
‫ﭗﱪ [احلجر‪ ،]1:‬وقوله‪ :‬ﱫﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﱪ [يوسف‪]2:‬‬
‫وقوله‪ :‬ﱫﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﱪ [اجلن‪ ،]1:‬فلم توصف لفظة قرآن إال بنحو ما سبق‪،‬‬
‫وكأن الكتاب يف القرآن خيرب عنه بالربكة‪ ،‬عكس القرآن فهو يوصف بإإلبانة‪ ،‬وبأنه‬
‫عريب‪ ،‬وبأنه عجب‪ ،‬وهذا ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬من أرسار التعبري بتلك اللفظة الرشيفة هنا‪،‬‬
‫والدليل عىل صحة ذلك أن القرآن مل يوصف بلفظة‪ :‬ﱫﭵﱪ مطل ًقا بل هي خمتصة‬
‫بالكتاب حيث جاءت وص ًفا له يف أكثر من آية كريمة كام سيأيت‪.‬‬
‫وتنكري ﱫﭲﱪ كام يقول ابن عاشور‪« :‬للتعظيم؛ ألن الكتاب معلوم فام كان‬
‫تنكريه إال لتعظيم شأنه» ()‪.‬‬
‫وأرى أن التنكري ال يقترص هنا عىل التعظيم بل جيوز أن يكون للنوعية أي‪ :‬كتاب‬
‫من نوع ال نظري وال مثيل له بني الكتب الساموية أو الوضعية من شتى الوجوه‪ ،‬كام‬
‫جيوز أن يكون التنكري لإلفراد والوحدة أي‪ :‬أنه كتاب فريد وحيد يف نظمه وأسلوبه‪،‬‬
‫وما احتواه من ترشيعات ومضامني ال توجد يف غريه وهذه الدالالت كلها جائزة‪،‬‬
‫والتنكـري يوحي هبا‪ ،‬وال تناقض بينها‪ ،‬وهذا من ثراء القرآن‪ ،‬وعطائه يف دالالت‬
‫ألفاظه‪ ،‬والنكات البالغية ال تتزاحم ما دامت ال تتعارض‪.‬‬

‫() التحرير والتنوير ‪.252/23‬‬

‫‪56‬‬
‫ﱫﭳﱪ أنزل‪ :‬ماض مزيد بحرف من الثالثي نزل‪ ،‬والفعل «نزل» الزم‪،‬‬
‫وهو يتعدى لغريه‪« :‬باحلرف واهلمزة والتضعيف فيقال‪َ « :‬نزَ ْل ُت به»‪َ ،‬‬
‫و«أ ْنزَ ْل ُت ُه»‪،‬‬
‫و« َن َّز ْل ُت ُه»()‪.‬‬
‫والنزول كام يقول الراغب‪« :‬انحطاط من علو‪ ،‬يقال‪ :‬نزل عن دابته ونزل يف‬
‫مكان كذا‪ :‬حط رحله فيه‪ ...‬ونزل بكذا‪ ،‬وأنزله بمعنى»()‪ ،‬وليس بمعنى كام يقول‬
‫الراغب؛ ألن مهزة أنزل جعلت الفعل متعديا إىل املفعول به بنفسه‪ ،‬ومن ثم فهنا فرق‬
‫داليل بينهام متثل يف اإلشارة إىل أن الكتاب مل ينزل بنفسه بل أنزله رب العاملني عىل نبينا‬
‫الطالب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫من فوق سبع ساموات‪ ،‬وهذا نظري قولنا‪ :‬خرج‬ ‫× بواسطة جربيل‬
‫الطالب فبينهام فرق ملحوظ‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫األستاذ‬ ‫وأخرج‬
‫وعرب هنا باإلنزال‪ ،‬ويف آيات أخر عرب بالتنزيل؛ ألن اإلنزال يكون للنازل دفعة‬
‫واحدة‪ ،‬والتنزيل يكون للنازل بالتدريج ()؛ وهذا ما أكد عليه العسكري بقوله‪« :‬قال‬
‫بعض املفرسين‪ :‬اإلنزال‪ :‬دفعي‪ ،‬والتنزيل‪ :‬للتدريج‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ويدلك عليه قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ‬
‫ُ‬
‫ﭤ ﭥ ﱪ حيث خص القرآن بالتنزيل‪ ،‬لنزوله منجام‪ ،‬والكتابني باإلنزال‬
‫لنزوهلام دفعة‪.‬‬
‫وأما قوله تعاىل‪ :‬ﱫﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﱪ فاملراد هنا مطل ًقا من غري‬
‫اعتبار التنجيم‪ ،‬وكذا قوله تعاىل‪ :‬ﱫﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﱪ‪ ،‬فإن املراد إنزاله إىل سامء‬

‫() املصباح املنري ‪.229‬‬


‫() مفردات الراغب ‪ ،509‬وانظر‪ :‬معجم املقاييس يف اللغة ‪.1022‬‬
‫() أي‪ :‬أن التنزيل ملا فيه من تضعيف العني يفيد التكثري املتالئم مع التدريج‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫الدنيا‪ ،‬ثم تنزيله منجماً عىل النبي × يف ثالث وعرشين»()‪ ،‬ويؤيد هذا أن لفظة‬
‫تنزيل بام يف نطق حروفها من مط وتطويل حتمل معنى املهلة والتدرج عكس ما يف‬
‫إنزال من رسعة‪.‬‬
‫وهناك فرق آخر بينهام الح يل من استقصاء استعامالت هذين الفعلني يف القرآن‬
‫ومضارعا تعدَّ ى إىل املفعول‬
‫ً‬ ‫الكريم حيث وجدت الفعل املضعف ﱫ ﯖ ﱪ() ماض ًيا‬
‫«الكتاب» رصاحة أكثر من مرة‪ ،‬والكتاب يف هذه املواضع املراد به القرآن الكريم‪،‬‬
‫كام تعدى إىل املفعول «القرآن» رصاحة مرة واحدة يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﰅ ﰆ ﰇ ﰈ‬
‫مرة واحدة‬
‫ﰉ ﰊﱪ [اإلنسان‪ ،]23:‬وتعدى «للذكر»‪ ،‬واملراد به‪ :‬القرآن الكريم َّ‬
‫يف قوله‪ :‬ﱫﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﱪ‪ ،‬وتعدى للفرقان‪ ،‬واملراد به القرآن‬
‫الكريم مرة واحدة يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﱪ‪.‬‬
‫كام وجدت الفعل َ‬
‫«أ ْنزَ َل» تعدى إىل املفعول الكتاب مرات عديدة‪ ،‬والكتاب‬
‫معا يف‬ ‫يف هذه املواضع املراد به القرآن الكريم ً‬
‫أيضا‪ ،‬وتعدى إىل التوراة واإلنجيل ً‬
‫قوله تعاىل‪ :‬ﱫﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﱪ [آل‬
‫عمران‪ ،]3:‬وتعدى للتوراة بمفردها يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ‬
‫ﮆﮇ ﱪ [املائدة‪ ،]44:‬وتعدَّ ى للقرآن يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﱪ‬
‫[طه‪ ،]2:‬وقوله تعاىل‪ :‬ﱫﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﱪ [احلرش‪ ،]21:‬وتعدى‬

‫() الفروق يف اللغة للعسكري ‪ ،293‬وانظر‪ :‬مفردات الراغب ‪ ،51‬والكليات للكفوي ‪،196‬‬
‫وقد عارض احللبي هذا الرأي الذي ذهب إليه العسكري بقوله‪« :‬وقد اعرتضت عليه بقوله تعاىل‪ :‬ﱫ‬
‫ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﱪ فإنه أتى بصيغة ‪ :‬ﱫﯳﱪ مع مجلة دفعة واحدة من‬
‫غري تفريق وال تنجيم»‪ .‬انظر‪ :‬عمدة احلفاظ ‪.189/4‬‬
‫() املعجم املفهرس ‪.695 - 694‬‬

‫‪58‬‬
‫للذكر يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ‬
‫ﭬﱪ [النحل‪ ،]44:‬وتعدى إىل النور يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﯧ ﯨ ﯩ ﯪﱪ‬
‫[النساء‪ ،]174:‬وتعدَّ ى لآليات يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﱪ‬
‫[البقرة‪ ،]99:‬وتعدى للبينات واهلدى يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ‬
‫ﮦ ﮧﱪ [البقرة‪ ،]159:‬وتعدى للنور يف قوله‪ :‬ﱫﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ‬
‫ﯩﯪ ﱪ [التغابن‪.]8:‬‬
‫فمتعلق «أنزل»() متنوع متعدد كام ترى‪ ،‬عىل عكس متعلق َن َّز َل فهو حمصور‬
‫كام مر‪ ،‬وعىل ذلك فإن متعلق اإلنزال أكثر وأشمل يف استخدامات القرآن‪ ،‬وهو‬
‫مصداق لقول الراغب «اإلنزال أعم من التنزيل»()‪ ،‬فبان هبذا أن لكل صيغة يف‬
‫القرآن دالالهتا وسياقاهتا ومتعلقاهتا‪ ،‬وتنوع التعبري هبذه الصيغ يف القرآن إنام هو‬
‫ألرسار بالغية‪ ،‬ونكات تعبريية أدركها من أدركها‪ ،‬وغفل عنها من غفل؛ ولذا ال‬
‫يصح أن يكون َ‬
‫(أ ْنزَ َل)‪ ،‬و ( َن َّز َل) بمعنى واحد‪ ،‬وال يعني عدم إدراك الفروق بني هذه‬
‫الصيغ املختلفة عدم وجودها‪.‬‬
‫‪ ،‬والتعبري بضمري العزة‬ ‫والضمري « َنا» يف أنزلناه فاعل‪ ،‬وهو يعود عىل املوىل‬
‫والعظمة فيه إيامء إىل عظمة هذا الكتاب وتفرده وأنه جنس فريد من الكالم ال يقدر‬
‫‪.‬‬ ‫عليه إال الواحد العالم‬
‫واهلاء يف ﱫﭳ ﱪ يف حمل نصب مفعول به يعود عىل الكتاب بال شك‪ ،‬وهذا‬
‫يؤكد أن اهلمزة للتعدية كام أومأنا‪ ،‬ومن ثم فليس أنزل بمعنى نزل‪.‬‬

‫() املعجم املفهرس ‪.697-695‬‬


‫() مفردات الراغب ‪.510‬‬

‫‪59‬‬
‫وعرب عن الكتاب بالضمري؛ ألنه أليق بالسياق إذ مر ذكره رصاحة قبل والكالم‬
‫الكتاب إليك مبارك»‪.‬‬
‫َ‬ ‫«كتاب أنزلنا‬
‫ٌ‬ ‫يكون ركيكا ‪-‬حاشا وكلاَّ ‪ -‬لو قال‪:‬‬
‫ﱫﭴﱪ حرف اجلر «إِلىَ » هنا عىل أصله من إفادة االنتهاء‪ ،‬واملعنى‪ :‬انتهى‬
‫نزول الكتاب إليك‪ ،‬وهذا يعني من طريق آخر أنه النبي اخلاتم‪ ،‬وكتابه خاتم الكتب‬
‫الساموية وهنايتها‪.‬‬
‫تبعا‪ ،‬يقول‬
‫نصا‪ ،‬ويدخل فيه أمته ً‬
‫والضمري يف ﱫﭴﱪ يعود عىل النبي × ًّ‬
‫األلويس‪« :‬واخلطاب للنبي ×‪ ،‬وعلامء أمته عىل التغليب أي‪ :‬لتتدبر أنت وعلامء‬
‫ولكن تقييد األلويس التدبر بعلامء األمة دون سائر أفرادها ال يصح؛ ألن‬
‫َّ‬ ‫أمتك»()‪،‬‬
‫ولكن‬
‫َّ‬ ‫الكتاب أنزل ليتدبره اجلميع‪ ،‬نعم علامء األمة منوط هبم التدبر يف املقام األول‪،‬‬
‫هذا ال ينفي تدبر غريهم‪.‬‬
‫ﱫﭵﱪ عىل الرفع خرب لكتاب كام رجحنا وليس صفة؛ إذ «ال جيوز عىل‬
‫املختار أن يكون نعتا ثانيا؛ ألنه ال جيوز عند اجلمهور أن يتقدم النعت غري الرصيح‬
‫ﱫﭳ ﱪ عىل الرصيح» ()‪.‬‬
‫واإلخبار عن كتاب بـ ﱫﭵﱪ فيه تعظيم وترشيف هلذا الكتاب‪.‬‬
‫وﱫﭵﱪ اسم مفعول من الفعل الرباعي بارك أي‪ :‬أن الربكة اشتملت عليه‪،‬‬
‫واحتوته من مجيع الوجوه واجلوانب‪ ،‬فهو مبارك بركة تامة شاملة يف ألفاظه ومعانيه‬
‫وأحكامه‪ ،‬وكل ما يتضمنه من علوم خمتلفة‪.‬‬

‫() روح املعاين ‪.506 /15‬‬


‫() حاشية الشيخ زاده عىل البيضاوي ‪ ،198/7‬وانظر‪ :‬حاشية الصاوي عىل اجلاللني ‪/5‬‬
‫‪ ،144‬والفتوحات اإلهلية للجمل ‪.572/3‬‬

‫‪60‬‬
‫والربكة هي‪« :‬ثبوت اخلري اإلهلي يف اليشء‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ﱫ ﭗ ﭘ ﭙ‬
‫ﭚ ﭛ ﭜ ﱪ [األعراف‪ ،]96:‬وسمي بذلك لثبوت اخلري فيه ثبوت املاء يف‬
‫البرِ كة‪ ،‬واملبارك ما فيه ذلك اخلري»()‪.‬‬
‫واملقصود بكون الذكر احلكيم مباركا‪ ،‬أي‪ :‬أنه موضع للخريات اإلهلية الدينية‬
‫والدنيوية املستقرة فيه‪ ،‬وهذا املعنى ال ينفك عن هذا اللفظ يف كل سياقاته يف الذكر‬
‫احلكيم‪ ،‬سواء جاء مع القرآن كام هنا‪ ،‬أم مع البيت احلرام كام يف قوله‪ :‬ﱫﮖ ﮗ ﮘ‬
‫‪ ،‬كام‬ ‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﱪ [آل عمران‪ ]96:‬أم مع حييى‬
‫يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﱪ [مريم‪ ،]31:‬أم مع املاء كام يف قوله‪:‬‬
‫ﱫ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﱪ [ق‪.]9:‬‬
‫والتنكري يف هذا اللفظ للتكثري والتعظيم أي‪ :‬بركاته كثرية عميمة جدا‪ ،‬ونفعه‬
‫جليل عظيم جدا‪ ،‬فآياته «إما مرشدة إىل خري‪ ،‬وإما صارفة عن رش وفساد‪ ،‬وذلك‬
‫سبب اخلري يف العاجل واآلجل‪ ،‬وال بركة أعظم من ذلك»()‪ ،‬وجيوز أن يكون‬
‫للنوعية واإلفراد‪ ،‬أي‪ :‬بركاته من نوع خمتلف ال نظري هلا فريدة يف باهبا‪ ،‬كل ذلك‬
‫ال يرفضه السياق العام هلذه اللفظة التي جاءت مقرتنة بالكتاب يف ثالثة مواضع يف‬
‫محا‪ ،‬وألصق به صل ًة من غريه ‪.‬‬
‫القرآن الكريم كله‪ ،‬فهي أمس به ر ً‬
‫وقوله‪ :‬ﱫﭶ ﭷﱪ الالم يف ﱫﭶ ﱪ الم التعليل بمعنى كي‪ ،‬والتعبري‬
‫بالم التعليل فيه نص قاطع عىل أن التدبر هو علة إنزاله‪ ،‬وبدونه سيفوت الغرض‪،‬‬
‫ونتبرص عظاته‪،‬‬
‫َ‬ ‫نتدبر آياته‪،‬‬
‫َ‬ ‫واحلكمة املقصودة من إنزاله‪ ،‬وهذا يعني أنه أنزل لكي‬

‫() مفردات الراغب ‪ ،42-41‬وانظر‪ :‬روح البيان للشيخ حقي ‪.25/8‬‬


‫() التحرير والتنوير ‪.251/23‬‬

‫‪61‬‬
‫وهنتدي هبديه‪ ،‬ونستخرج أحكامه‪ ،‬ونستكنه أرساره‪ ،‬ونتفهم معانيه‪ ،‬ونتمثل َّ‬
‫كل‬
‫ما فيه‪ ،‬ومل ينزل ليقرأ بال تدبر‪ ،‬أو ليتخذ زينة‪ ،‬أو يقرأ عىل األموات‪ ،‬أو يعلق عىل‬
‫صدور احلسناوات‪ ،‬ويف ذلك يقول ابن القيم‪« :‬وأما التأمل يف القرآن‪ :‬فهو حتديق‬
‫ناظر القلب إىل معانيه‪ ،‬ومجع الفكر عىل تدبره وتعقله‪ ،‬وهو املقصود بإنزاله ال جمرد‬
‫تالوته بال فهم وال تدبر‪.)(»...‬‬
‫وقرأ اجلمهور ﱫﭶ ﱪ بالياء‪ ،‬وأصله ليتدبروا قلبت التاء داال‪ ،‬وأدغمت‬
‫الدال يف الدال لقرب خمرجيهام ختفيفا كام مر يف آية «املؤمنون»‪ ،‬ويف قراءة أخرى‬
‫ُقرئ ﱫلِتَدَّ َّب ُرواﱪ بالتاء‪ ،‬وأصلها لتتدبروا بتاءين‪ ،‬حذفت إحدامها اختصارا عىل‬
‫اخلالف الذي فيها‪ ،‬أهي تاء املضارعة أم التاء التي تليها وقد حكى الطربي القراءتني‬
‫القراء يف قراءة ذلك‪ ،‬فقرأته عامة القراء ﱫﭶﱪ بالياء‪ ،‬يعني‪:‬‬ ‫ِ‬
‫«واختلفت َّ‬ ‫بقوله‪:‬‬
‫ليتدبر هذا القرآن من أرسلناك إليه من قومك يا حممد‪ ،‬وقراءة أبو جعفر وعاصم‬
‫ﱫﭶ ﭷﱪ بالتاء‪ ،‬بمعنى‪ :‬لتتدبره أنت يا حممد وأتباعك‪ ،‬وأوىل القراءتني‬
‫عندنا بالصواب يف ذلك أن يقال‪ :‬إهنام قراءتان مشهورتان صحيحتا املعنى‪ ،‬فبأيتهام‬
‫قرأ القارئ فمصيب»()‪.‬‬
‫والفرق بني القراءتني يتمثل يف أن اخلطاب يف القراءة األوىل ﱫﭶ ﱪ‬
‫موجه ملن أرسل إليهم × من قومه مؤمنني وكافرين كام رصح الطربي‪ ،‬ويف الثانية‬
‫ﱫلِتَدَّ َّب ُرواﱪ اخلطاب فيها للنبي واملؤمنني كام هو واضح من كالمه‪.‬‬

‫() مدارج السالكني البن القيم ‪.451 /1‬‬


‫() تفسري الطربي ‪ ،640 ،639/ 29‬وانظر‪ :‬البيضاوي ‪ ،164 /2‬وروح املعاين ‪،256/15‬‬
‫والتحرير والتنوير ‪.252/23‬‬

‫‪62‬‬
‫ولكني أرى أن املخاطب أي الفاعل واو اجلامعة يف قوله‪ :‬ﱫﭶ ﱪ هم‬
‫املؤمنون بدليل كاف اخلطاب يف قوله‪ :‬ﱫﭴ ﱪ أي أنزلناه إليك وألمتك خاصة‬
‫وبذلك يكون اخلطاب للمؤمنني يف القراءتني كام يشري سياق اآلية كام مر‪.‬‬
‫والتعبري باإلدغام ‪-‬عىل أي من القراءتني‪ -‬يعكس دعوة املؤمنني إىل تدبر آيات‬
‫هذا الكتاب بأقىص رسعة ودون متهل؛ الستخراج ثمراته املباركة وآللئه املكنونة فيه‪،‬‬
‫والتي ال تظهر إال للمتدبر‪.‬‬
‫ﱫﭷﱪ آيات مفعول به للفعل يتدبر‪ ،‬والضمري يف آياته يعود عىل الكتاب‬
‫أي‪ :‬ليدبروا آيات الكتاب‪ ،‬فآيات الكتاب هنا هي التي وقع عليها التدبر‪.‬‬
‫واآليات مجع آية «واآلية هي العالمة الظاهرة‪ ...‬وكل مجلة من القرآن دالة عىل‬
‫حكم آية‪ ،‬سورة كانت أو فصوال‪ ،‬أو فصال من سورة‪ ،‬وقد يقال لكل كالم منه‬
‫منفصل بفصل لفظي آية‪ ،‬وعىل هذا اعتبار آيات السور‪.)(»...‬‬
‫واملراد من اآلية هنا‪ :‬اجلملة‪ ،‬أو اجلمل من القرآن املتعارف عليها املسامة آية كام‬
‫ذكره الراغب‪ ،‬والتعبري بآياته هنا يؤكد عىل أن الكتاب مقصود به القرآن الكريم؛ ألن‬
‫اآليات ال تنسحب إال عليه‪ ،‬ومل ترد منسوبة إال إليه‪.‬‬
‫وإذا كان األمر كذلك َف ِل َم مل يقل‪ :‬ليدبروه وقال‪ :‬ليدبروا آياته؟ أقول‪ :‬يف ذلك‬
‫موضوعا‪،‬‬
‫ً‬ ‫وموضوعا‬
‫ً‬ ‫إشارة واضحة إىل أن من شان املؤمنني أن يتدبروه آية آية‪،‬‬
‫وسورة سورة حتى يصلوا ملنتهاه‪ ،‬ثم يعيدون الكرة مرة بعد مرة طيلة حياهتم‪ ،‬فيجب‬
‫أن يكون هذا هجريهم وديدهنم حتى تنكشف هلم أرساره‪.‬‬
‫وليس املقصود من آيات الكتاب هنا آيات بعينها بل جيب تدبر آيات القرآن‬

‫() مفردات القرآن للراغب ‪ ،29-28‬وانظر‪ :‬عمدة احلفاظ ‪.168 /1‬‬

‫‪63‬‬
‫مجيعها من آيات العبادات‪ ،‬واملعامالت‪ ،‬واألخالق‪ ،‬وأرسار الكون‪ ،‬والعقيدة‪،‬‬
‫والترشيع‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬ولعل التعبري باجلمع هنا‪ ،‬وإضافته إىل ضمري الكتاب يؤكد‬
‫عىل أن التدبر يكون يف مجيع اآليات عىل اختالف أنواعها وقد أومأ إىل ذلك األلويس‬
‫حيث يقول‪« :‬أنزلناه ليتفكروا يف آياته التي من مجلتها هذه اآليات املعربة عن أرسار‬
‫التكوين والترشيع»()‪.‬‬
‫وهنا ملحوظة دقيقة‪ :‬فإن لفظة آيات مل تذكر مع التدبر إال هنا‪ ،‬فلم ترد يف آية‬
‫النساء وحممد واملؤمنون‪ ،‬مما يؤكد عىل أن املخاطبني بالتدبر هنا هم املؤمنون كام مر؛‬
‫ألن هذه اللفظة أوثق صلة هبم‪.‬‬
‫ومعنى‪« :‬تدبر اآليات‪ :‬التفكر فيها‪ ،‬والتأمل الذي يؤدي إىل معرفة ما َيدْ ُبر ظاهرها‬
‫من التأويالت الصحيحة‪ ،‬واملعاين احلسنة؛ ألن من اقتنع بظاهر املتلو‪ ،‬مل يحَ ْل منه بكثري‬
‫طائل‪ ،‬وكان مثله كمثل من له لقحة درور ال حيلبها ومهرة نثور ال يستولدها» ()‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬ومن يتدبر يف قوله‪ :‬ﱫﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﱪ ويقارنه بام‬
‫ورد يف سورة النساء وحممد واملؤمنون جيد أن العبارات اختلفت يف هذه اآلية عن‬
‫هذه اآليات الثالث حيث عرب هنا بالتدبر مسبوقا بالم التعليل‪ ،‬وعرب عن القرآن‬
‫نصا للنبي ×‪ ،‬وهذا عكس‬
‫بالكتاب‪ ،‬وأخرب عنه بكونه «مبارك»‪ ،‬ووجه اخلطاب ًّ‬
‫ما يف آية النساء وحممد واملؤمنون متا ًما‪ ،‬فلم يرد فيها يشء مما ذكرت البتة‪ ،‬فتغايرت‬
‫العبارات لتغاير السياقات‪ ،‬وتباين املخاطبني‪ ،‬وهذا كله يؤكد عىل أن املخاطب‬
‫بالتدبر يف تلك اآلية هم املؤمنون‪.‬‬

‫() روح املعاين ‪ ،506/15‬وانظر روح البيان ‪ ،25/8‬وفتح البيان ‪.166/8‬‬


‫() الكشاف ‪ ،373-372/3‬وانظر‪ :‬تفسري القاسمي ‪ ،97/14‬والتحرير والتنوير ‪.252/23‬‬

‫‪64‬‬
‫وملا كان املخاطب بالتدبر يف آيات الكتاب هم املؤمنون رشع يؤكد عىل أن هذا‬
‫األمر اجلليل ال يدركه حق إدراكه‪ ،‬وال يتذكره حق تذكره إال أولو األلباب فقـال‬
‫تعاىل‪ :‬ﱫﭸ ﭹ ﭺﱪ «أي‪ :‬ليتعـظ بآيات الكتاب‪ ،‬ويتدبرها حق التدبر‬
‫أهل العقول اخلالصة من الشوائب‪ ،‬وهم أهل البصرية والبصائر من املؤمنني‪.‬‬
‫وعىل ذلك فالواو عطفت مجلة ﱫﭸ ﱪ عىل مجلة ﱫﭶ ﱪ عطف مجلة‬
‫هلا حمل عىل مجلة هلا حمل من اإلعراب؛ ألن مجلة ليدبروا متعلقة بأنزلناه‪ ،‬والعطف‬
‫آيات الكتاب لغرضني‪:‬‬ ‫بالواو يقتيض الترشيك يف احلكم‪ ،‬وكأن املعنى‪ :‬أنزل اهلل‬
‫ليتدبر املؤمنون آياته‪ ،‬وليتذكر أولو األلباب عظاته فيصلون إىل شاطئ السالمة‪،‬‬
‫وينعمون باجلنة جزاء وفاقا‪.‬‬
‫والالم يف ﱫﭸ ﱪ الم التعليل‪ ،‬ويتذكر مضارع من املايض اخلاميس تذكر‪،‬‬
‫وأصله من الثالثي «ذكر»‪ ،‬و«الذكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس هبا يمكن لإلنسان‬
‫اعتبارا بإحرازه‪ ،‬والذكر‬
‫ً‬ ‫أن حيفظ ما يقتنيه من املعرفة‪ ،‬وهو كاحلفظ إال أن احلفظ يقال‬
‫يقال اعتبارا باستحضاره‪ ،‬وتارة يقال‪ :‬حلضور اليشء القلب أو القول‪ ،‬ولذلك قيل‬
‫الذكر ذكران‪ :‬ذكر بالقلب وذكر باللسان‪ ،‬وكل واحد منهام رضبان‪ :‬ذكر عن نسيان‪،‬‬
‫وذكر ال عن نسيان بل عن إدامة احلفظ‪.)(»...‬‬
‫والتذكر املراد هنا هو التذكر بالقلب واللسان‪ ،‬واستحضار املنيس إىل القلوب‬
‫واألذهان أي‪ :‬ليتذكر أولو األلباب آياته بقلوهبم‪ ،‬ويستحرضوهنا بألسنتهم فهذا ما‬
‫يليق هبم‪.‬‬
‫وهذا الفعل عىل تلك اهليئة اللفظية ورد يف القرآن الكريم ثامين مرات‪ ،‬إحداها‬

‫() مفردات القرآن للراغب ‪ ،181‬وانظر عمدة احلفاظ ‪.42/2‬‬

‫‪65‬‬
‫هنا‪ ،‬وسبع مرات يف سورة [الرعد‪ ]19:‬و[طه‪ ]44:‬و[فاطر‪ ]37:‬و[الزمر‪،]9:‬‬
‫و[غافر‪ ،]13:‬و[النازعات‪ ،]35:‬و[الفجر‪.]23:‬‬
‫ومن دالئل اإلعجاز هنا‪ :‬أن الفعل َّ‬
‫يذكر() وأصله «يتذكر» بقلب التاء ذاال‪،‬‬
‫وإدغامها يف الذال ورد ً‬
‫أيضا ثامين مرات‪.‬‬
‫وفك اإلدغام هنا فيه إشارة إىل أن من شأن أويل األلباب أن يتذكروا آياته بقلوهبم‪،‬‬
‫ويستحرضوها بألسنتهم بتدرج وتؤدة وعىل مهل كام يشري إليه السياق‪ ،‬ويدل عليه‬
‫اخلطاب للمؤمنني هنا‪ ،‬وعليه فالفيصل يف فك اإلدغام واإلبقاء عليه يعـود لسياقات‬
‫كل لفظة كام أرشنا قبل‪ ،‬ومن يتأمل يف تلك املواضع األخرى يتضح له هذا جليا؛ ألن‬
‫املكان ال يسعنا هنا إليضاحه‪.‬‬
‫ﱫﭹ ﱪ فاعل « َيت ََذ َّكر»‪ ،‬وهي كلمة ملحقة بجمع املذكر السامل بمعنى‬
‫أصحاب‪ ،‬وليس لتلك الكلمة مفرد من لفظها‪ ،‬بل مفردها (ذو) بمعنى صاحب‪،‬‬
‫ومن خصائصها أهنا مل ترد يف القرآن الكريم إال مع األلباب وال ُّنهى واألبصار‪.‬‬
‫ﱫﭺﱪ مجع لب‪ ،‬و«اللب العقل اخلالص من الشوائب‪ ،‬وسمي بذلك‬
‫لكونه خالص ما يف اإلنسان من معانيه كاللباب واللب من اليشء‪ ،‬وقيل‪ :‬هو ما زكا‬
‫من العقل‪ ،‬فكل لب عقل وليس كل عقل لبا‪ ،‬وهلذا علق اهلل تعاىل األحكام التي ال‬
‫يدركها إال العقول الزكية بأوىل األلباب نحو قوله‪ :‬ﱫﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ‬
‫ﯮ ﱪ إىل قوله‪ :‬ﱫﭹ ﭺﱪ‪ ،‬ونحو ذلك من اآليات»()‪.‬‬
‫فاأللباب ليست بمعنى العقول فحسب بل هي حتوي معنى العقل وزيادة‪ ،‬ومن‬

‫() ناهيك عن ﱫﭝﱪ‪ ،‬فقد وردت (‪ )7‬مرات‪ ،‬ﱫﮆ ﮇ ﱪ‪ ،‬فقد وردت‬


‫(‪ )6‬مرات‪ ،‬انظر‪ :‬املعجم املفهرس ‪.273-272‬‬
‫() مفردات القرآن للراغب ‪ ،466‬وانظر‪ :‬عمدة احلفاظ ‪ ،7/2‬ولسان العرب‪ ،‬مادة (لبب) ‪.729/1‬‬

‫‪66‬‬
‫ثم ال يصح أن توضع العقول هنا حمل األلباب‪ ،‬وقد أدرك ذلك العسكري فقال‪:‬‬
‫«اللب يفيد أنه من خالص صفات املوصوف به‪ ،‬والعقل يفيد أنه حيرص معلومات‬
‫املوصوف به‪ ،‬فهو مفارق له من هذا الوجه»()‪ ،‬وهذا يؤكد عىل أن اخلطـاب هنا‬
‫ألكابر أهل العلم من املؤمنني‪ ،‬فعقوهلم هي اخلالصة من الشوائب‪ ،‬الزكية املطهرة‬
‫من كل ما يشينها‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬ومن يتأمل استعامالت تلك اللفظة يف الذكر احلكيم جيد أنه اقترص عىل مجع‬
‫التكسري ألباب‪ ،‬أما اللب مفردا فلم يأت مطلقا‪ ،‬وهنا مفارقة عجيبة فإن الذكر احلكيم‬
‫مل يرد فيه البتة لفظ العقول مجعا‪ ،‬ولفظ العقل مفردا بل اقترص عىل املايض واملضارع‪،‬‬
‫وهذا من إعجازه يف استخـدام ألفاظه‪ ،‬ومجوعه ومفرداته‪ ،‬وخمتلف صياغاته‪ ،‬فقد‬
‫يرتك ً‬
‫صيغا شهرية يف استعامالت الناس ويستبدهلا بغريها‪ ،‬وما ذاك إال ألن كل لفظة‬
‫فيه وضعت بقسطاس مستقيم ال يصح وضع غريها موضعها‪.‬‬
‫والتعبري بأويل األلباب هنا فيه «تعريض بأن الذين مل يتذكروا بالقرآن ليسوا من‬
‫أهل العقول‪ ،‬وأن التذكر من شأن املسلمني الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه‪،‬‬
‫فهم ممن تدبروا آياته فاستنبطوا من املعاين ما مل يعلموا»()‪.‬‬
‫ويف التعبري بأويل األلباب ً‬
‫أيضا إشارة إىل أن «التدبر للفهم‪ ،‬والتذكر لوقوع‬
‫اإلجالل واخلشية اخلاص بأكابر أهل العلم‪ ...‬فعلم أن املقصود من كالم احلق‬
‫التفكر والتذكر‪ ،‬واالتعاظ به ال حفظ األلفاظ فقط‪.)(»...‬‬

‫() الفروق يف اللغة ‪.76‬‬


‫() التحرير والتنوير ‪.253/23‬‬
‫() روح البيان للشيخ حقي ‪.25/8‬‬

‫‪67‬‬
‫املبحث الثاين‬
‫املبحث الثاين‪:‬‬
‫البالغية يف آية التأويل‬
‫َّ‬ ‫األسرار‬

‫قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ‬


‫ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ‬
‫ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ‬
‫ﯩﱪ [آل عمران‪.)(]7:‬‬
‫وردت هذه اآلية الكريمة يف سورة آل عمران املدنية‪ ،‬التي تعنى بتقرير الوحدانية‪،‬‬
‫وإثبات دالئل النبوة؛ ألهنا ترد عىل الصنف الثاين من أهل الكتاب وهم النصارى‬
‫مثلام ُعنيت البقرة بالرد عىل الصنف األول من أهل الكتاب‪ ،‬وهم اليهود‪ ،‬كام عنيت‬
‫هذه السورة باحلديث عن بعض األحكام الرشعية كاحلج واجلهاد والربا‪ ،‬وأحكام‬
‫مانع الزكاة‪.‬‬
‫وهذه اآلية الكريمة التي معنا اتَّسع الكالم فيها واستفاض‪ ،‬لدرجة أن أفرد‬
‫بعضهم فيها كتا ًبا كام قال العالمة اجلمل()؛ وذلك ألمهية املوضوعات املذكورة فيها‬

‫() سنكتفي هنا بتحليل هذه اآلية دون غريها من اآليات الوارد فيها مصطلح التأويل؛ ألن التأويل‬
‫هنا واقع عىل ما يف القرآن من متشابه‪ ،‬وهو حمل الدراسة‪ ،‬والتأويل فيام عداها خارج عن ذلك متا ًما‪.‬‬
‫() الفتوحات اإلهلية للجمل ‪.243/1‬‬

‫‪69‬‬
‫من املحكم واملتشابه واملؤول‪ ،‬ومن ثم سنحاول االختصار قدر اإلمكان‪.‬‬
‫ونبدأ باحلديث عن سبب نزول اآلية؛ ألن «لتحديد سبب نزول هذه اآلية مدخلاً‬
‫ريا يف حتديد معنى التأويل فيها‪ ،‬ولتحديد معنى التأويل فيها مدخل كبري يف حتديد‬
‫كب ً‬
‫الوقف فيها؟ وهل هو عىل لفظ اجلاللة؟ أو عىل الراسخني يف العلم»()‪.‬‬
‫وقد اختلف املفسرِّ ون يف سبب نزوهلا عىل رأيني‪:‬‬
‫األول‪ :‬نزلت يف بعض اليهود الذين طمعوا أن ُيدركوا بقاء أمة حممد × من‬
‫اجل ّمل يف حروف اهلجاء التي يف أوائل السور مثل قوله‪ :‬ﱫﭑﱪ‬ ‫خالل حساب ُ‬
‫وغريها‪ ،‬وهذا الذي ارتضاه الطربي()‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أهنا نزلت يف وفد نصارى نجران الذين قدموا املدينة مع الوفود يف السنة‬
‫يرجح الرأي الثاين يف‬
‫التاسعة من اهلجرة‪ ،‬وإىل هذا ذهب معظم املفرسين()‪« ،‬ومما ِّ‬
‫سبب نزول اآلية‪ :‬أن السؤال الذي حكاه الطربي عن اليهود كان يف مقدم النبي ×‬
‫متأخرا َلـماَّ قدم وفد نجران»()‪.‬‬
‫ً‬ ‫إىل املدينة‪ ،‬وصدر سورة آل عمران نزل‬
‫ملا ذكر يف‬ ‫ومناسبة تلك اآلية ملا قبلها‪ ،‬وارتباطها بسياقها يتجلىَّ يف أن اهلل‬
‫اآلية السابقة يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ‬
‫ﮔ ﮕﱪ [آل عمران‪« ]6:‬تعديل البنية وتصويرها عىل ما يشاء من األشكال‬
‫احلسنة‪ ،‬وهذا أمر جسامين‪ ،‬استطرد إىل العلم‪ ،‬وهو أمر روحاين‪ ،‬وكان قد جرى لوفد‬

‫() اإلمام ابن تيمية وقضية التأويل ‪.136‬‬


‫() انظر تفسري الطربي ‪.258 ،257/3‬‬
‫() انظر تفسري البغوي ‪ ،316/1‬ومفاتيح الغيب ‪ ،92/7‬وتفسري اخلازن ‪ ،317/1‬والقرطبي‬
‫‪ ،13/4‬وتفسري أيب السعود ‪ ،7/2‬وتفسري األلويس ‪ ،725/2‬وتفسري املنار ‪.134/3‬‬
‫() اإلمام ابن تيمية وقضية التأويل ‪.141-140‬‬

‫‪70‬‬
‫نجران أن من ُش َب ِه ِه ْم قوله‪ :‬ﱫ ﭩ ﭪﭫ ﱪ [النساء‪ ]171:‬فبينَّ أن القرآن منه حمكم‬
‫وجوها»()‪.‬‬
‫ً‬ ‫العبارة قد صينت من االحتامل‪ ،‬ومنه متشابه‪ ،‬وهو ما احتمل‬
‫وعىل ذلك فجملة ﱫﮗ ﮘ ﮙﮚﮛﱪ تعد استئنا ًفا ثال ًثا بعد االستئناف‬
‫الثاين املذكور يف اآلية السابقة يف قوله‪ :‬ﱫ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ‪...‬ﱪ‪ ،‬وهذا‬
‫االستئناف الثالث «مؤكد ملضمون قوله‪ :‬ﱫﭛ ﭜ ﭝ ﭞﱪ‪ ،‬ومتهيد لقوله‪:‬‬
‫ﱫ ﮜ ﮝ ﮞ ﱪ؛ ألن اآليات نزلت يف جمادلة وفد نجران‪َ ،‬و ُصدِّ رت بإبطال‬
‫عقيدهتم يف إهلية املسيح باإلشارة إىل أوصاف اإلله احلقة توجه الكالم هنا إىل إزالة‬
‫شبهتهم يف شأن زعمهم اعرتاف نصوص القرآن بإهلية املسيح‪ ،‬إذ ُوصف فيها بأنه‬
‫بأن ما تع َّلقوا به‬
‫روح اهلل‪ ،‬وأنه حييي املوتى‪ ،‬وأنه كلمة اهلل‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬فنودي عليهم َّ‬
‫تعلق اشتباه وسوء تأويل»()‪.‬‬
‫وضمري الغائب ﱫ ﮗ ﱪ يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﱪ يف حمل‬
‫رفع مبتدأ يعود عىل لفظ اجلاللة الذي سبق الترصيح به أربع مرات يف مطلع هذه‬
‫السورة‪ ،‬فعاد الضمري ﱫﮗ ﱪ عىل هذا االسم الرصيح بيرس وسهولة‪ ،‬فضلاً عن أن‬
‫التعبري به يف هذا السياق أفخم وأجزل ملن يتد َّبر‪.‬‬
‫ﱫﮘ ﱪ اسم موصول‪ ،‬ومجلة‪ :‬ﱫ ﮙ ﮚ ﮛ ﱪ صلة املوصول‪ ،‬واسم‬
‫املوصول وصلته يف حمل رفع خرب للمبتدأ ﱫﮗ ﱪ‪ ،‬وآثر التعبري باسم املوصول دون‬
‫أن يقول‪« :‬هو اهلل أنزل»؛ ألن التعبري باملوصولية فيه إيذان باستقرار هذا احلكم‪،‬‬

‫() البحر املحيط ‪ ،381/2‬وانظر‪ :‬روح املعاين ‪ ،726/2‬ويف ظالل القرآن ‪ ،369/1‬حيث‬
‫رأى الشيخ سيد قطب أن نص اآلية أعم من تلك املناسبة‪.‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪ ،153/3‬وانظر‪ :‬تفسري أيب السعود ‪ ،7/2‬وروح املعاين ‪.726/2‬‬

‫‪71‬‬
‫قطعيا‪ ،‬ال ينازع يف ذلك أحد من العقالء املفكرين‪ ،‬وذلك كام‬
‫ًّ‬ ‫ثبو ًتا‬ ‫وثبوته له‬
‫تقول عن شخص زارك باألمس ومر عليك اليوم‪« :‬هو الذي زارين باألمس»‪ ،‬فهذا‬
‫قاطع ال شك فيه‪ ،‬وقد أفاض اإلمام عبد القاهر يف كنه التعبري بذلك‪ ،‬وبني أرساره يف‬
‫رس آخر يقول أبو حيان‪« :‬أتى باملوصول إذ يف صلته حوالة‬
‫دالئل اإلعجاز()‪ ،‬وفيه ٌّ‬
‫عىل التنزيل السابق‪ ،‬وعهد فيه»()‪.‬‬
‫ﱫ ﮙ ﮚ ﮛﱪ مىض احلديث عن إنزال الكتاب مفصلاً يف آية (ص)‪.‬‬
‫ﱫﮚﱪ شبه مجلة متعلق بأنزل‪ ،‬وعرب بـ (عىل) ‪-‬يف هذا السياق‪ -‬دون (إىل)‬
‫التي وردت مع (أنزل) يف سياقات أخرى؛ لإلشارة إىل الفوقية والعلية؛ أي‪ :‬إىل‬
‫املكان الذي نزل منه هذا الكتاب املجيد من فوق سبع ساموات‪ ،‬وقد أومأ إىل هذا‬
‫الكفوي فقال‪« :‬والنزول باعتبار أنه من فوق يعدى بـ (عىل)‪ ،‬وباعتبار أنه ينتهي‬
‫إىل املرسل إليه يعدى بـ (إىل)‪ .‬قال اهلل تعاىل يف خطاب املسلمني‪ :‬ﱫﭣ ﭤ ﭥ‬
‫ﭦ ﭧ ﭨ ﱪ‪ ،‬و (إىل) ينتهي هبا من كل جهة يأيت مبلغه إياهم منها‪ ،‬وقال خماط ًبا‬
‫للنبي ×‪ :‬ﱫﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﱪ؛ ألن النبي إنام أيت له من جهة العلو‬
‫خاصة‪.)(»...‬‬
‫ويف هذا إيامء إىل رشف هذا الكتاب ورفعة منزلته‪ ،‬وسمو مكانته‪ ،‬وفيه ً‬
‫أيضا‬
‫إشارة إىل رشف املنزل عليه × الذي أنزل عليه الكتاب من َعلٍ ‪.‬‬
‫كام يالحظ كذلك شدة التوافق واالنسجام بني الفعل َ‬
‫«أ ْنزَ َل» واجلار «عىل» هنا‪،‬‬

‫() دالئل اإلعجاز حتقيق الشيخ شاكر ‪.200‬‬


‫() البحر املحيط ‪.383 / 2‬‬
‫() الكليات ‪.196‬‬

‫‪72‬‬
‫فاإلنزال يكون من أعىل حقيقة‪ ،‬وعىل تقتيض العلو حقيقة‪.‬‬
‫«و َقصرَ اخلطاب يف ﱫ ﮚﱪ‬
‫وكاف اخلطاب يف قوله‪ :‬ﱫ ﮚ ﱪ للنبي ×‪َ ،‬‬
‫عىل النبي ×؛ ألن هذا موضع الراسخني‪ ،‬وهو رأسهم داللة عىل أنه ال يفهم هذا‬
‫حقَّ فهمه من اخللق غريه»()‪.‬‬
‫وقدم اجلار واملجرور ﱫ ﮚ ﱪ عىل املفعول الكتاب «لمِ َا أشري إليه فيام ُ‬
‫قبل من‬
‫بترشيف اإلنزال عليه‪ ،‬ومن التشويق إىل ما أنزل‪ ،‬فإن النفس‬ ‫االعتناء بشأن بشارته‬
‫عند تأخري ما حقه التقديم ال سيام بعد اإلشعار برفعة شأنه‪ ،‬أو بمنفعته تبقى مرتقبة‬
‫له‪ ،‬فيتمكن لدهيا عند وروده عليها فضل متكن‪ ،‬وليتصل به تقسيمه إىل قسميه»‬
‫()‬

‫أي‪ :‬تقسيم الكتاب إىل حمكم ومتشابه كام سيأيت‪.‬‬


‫وجيوز أن يكون التقديم ً‬
‫أيضا لالختصاص‪ ،‬يقول الشوكاين‪« :‬وقدم الظرف‪،‬‬
‫حق؛ ألن القرآن مل ينزل إال عليه‬
‫وهو ﱫ ﮚ ﱪ ملا يفيده من االختصاص»()‪ ،‬وهذا ٌّ‬
‫×‪.‬‬
‫ﱫ ﮛ ﱪ هنا مراد به ال شك القرآن الكريم‪ ،‬و«عرب عن القرآن بالكتاب‬
‫الذي هو اسم جنس إيذا ًنا بكامل تفوقه عىل بقية الكتب الساموية‪ ،‬كأنه هو احلقيق بأن‬
‫يطلق عليه اسم الكتاب»()‪.‬‬
‫واستهالل اآلية بالضمري هو يف قوله‪ :‬ﱫ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﱪ أفاد القرص‬
‫‪ ،‬وللقرص هنا فائدة دقيقة أدركها ابن عاشور‬ ‫حيث قرص إنزال الكتاب عىل املوىل‬

‫() نظم الدرر‪.15 /2‬‬


‫() تفسري أيب السعود ‪.7/2‬‬
‫() فتح القدير للشوكاين دار الفكر‪ ،314/1‬وانظر فتح البيان للشيخ صديق خان ‪.6/2‬‬
‫() تفسري الصابوين ‪.169/1‬‬

‫‪73‬‬
‫‪ ،‬وفائدته‬
‫بقوله‪« :‬ﱫ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﱪ قرص صفة إنزال القرآن عىل اهلل‬
‫أيضا لقول املرشكني‪ :‬ﱫ ﭕ‬‫ً‬ ‫هنا؛ لتكون اجلملة مع كوهنا تأكيدً ا ومتهيدً ا إبطالاً‬
‫ﭖ ﭗﭘ ﱪ‪ ،‬وقوهلم‪ :‬ﱫ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ‬
‫ﮂﱪ‪ ..‬ومن بدائع البالغة أن ذكر يف القرص فعل أنزل الذي هو خمتص باهلل‬
‫‪ ،‬ولو بدون صيغـة القرص إذ اإلنزال يرادف الوحي‪ ،‬وال يكون إال من اهلل بخالف ما‬
‫لو قال‪ :‬هو الذي آتاك الكتاب»()‪.‬‬
‫ومن بدائع البالغة هنا ً‬
‫أيضا‪ :‬أن أسلوب ﱫ ﮗ ﮘ ﱪ ورد يف القرآن الكريم‬
‫ٍ‬
‫باطراد دون استثناء هي للموىل من باب قرص‬ ‫(‪ )28‬مرة‪ ،‬ومجيع هذه املواضع‬
‫حقيقيا‪ ،‬فهذا التوافق العجيب ال يقدر برش عىل اإلتيان‬
‫ًّ‬ ‫قرصا‬
‫الصفة عىل املوصوف ً‬
‫به‪ ،‬وهذا من أرسار الكتاب املجيد‪ ،‬ومن أدلة إعجازه‪.‬‬
‫ﱫ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﱪ قوله‪ :‬ﱫ ﮜﱪ جار وجمرور‬
‫متعلقان بمحذوف خرب مقدم‪ ،‬وآيات مبتدأ مؤخر‪ ،‬وحمكامت صفة آليات‪ ،‬وهذه‬
‫اجلملة حيتمل أن تكون يف حمل نصب حال من الكتاب‪ ،‬واملعنى‪ :‬أنزل عليك الكتاب‬
‫حالة كونه مشتملاً عىل آيات حمكامت‪ ،‬وأخر متشاهبات‪ ،‬وحيتمل أن تكون استئنافية‬
‫ال حمل هلا من اإلعراب()‪.‬‬
‫واألرجح‪ :‬أن تكون حالية من الكتاب‪ ،‬وعىل ذلك فإن تقسيم الكتاب كله إيل‬
‫قسمني‪ :‬حمكم ومتشابه‪ ،‬يعد «من تقسيم الكل إىل أجزاء»()‪.‬‬

‫() التحرير والتنوير ‪.153/3‬‬


‫() انظر‪ :‬روح املعاين ‪ ،727/2‬وتفسري أيب السعود ‪ ،7/2‬واللباب البن عادل ‪.28/5‬‬
‫() انظر روح املعاين ‪.729/2‬‬

‫‪74‬‬
‫و(من) هنا للتبعيض‪ ،‬أي‪ :‬بعض آيات الكتاب حمكامت‪ ،‬وهـذا التبعيض أكثري‬
‫ال أقيل؛ ألن أكثر آيات القرآن حمكامت كام سيأيت‪ ،‬والضمري يف ﱫﮜﱪ عائد عىل‬
‫الكتاب‪ ،‬أي‪ :‬ومن الكتاب آيات حمكامت ومتشاهبات‪.‬‬
‫ﱫ ﮝ ﱪ مجع مؤنث سامل‪ ،‬ومىض احلديث عنها يف آية سورة ص‪.‬‬
‫ﱫ ﮞ ﱪ نعت آليات‪ ،‬وفائدة النعت الكشف واإليضاح؛ ألنه بدون هذا‬
‫«م َْكم»‬
‫بم توصف تلك اآليات‪ ،‬وهذا النعت مجع مؤنث سامل مفرده حُ‬
‫النعت ال يعرف َ‬
‫اسم مفعول من الفعل الرباعي ُأ ْح ِكم‪ ،‬وعرب باسم املفعول؛ لبيان أن اإلحكام واقع‬
‫عىل تلك اآليات‪ ،‬مشتمل عليها ال ينفك عنها‪.‬‬
‫وأصل هذه املادة يدل عىل املنع إلصالح‪ ،‬يقول الراغب‪« :‬حكم أصله منع‬
‫وحكمت الدابة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫منعا إلصالح‪ ،‬ومنه ُس ِّم َي اللجام حكمة الدابة‪ ،‬فقيل‪َ :‬ح َك َم ُته‪،‬‬
‫جعلت هلا حكمة‪ ،)(»...‬وعىل ذلك فاآليات املحكامت‬
‫ُ‬ ‫منعتها باحلكمة‪ ،‬وأحكمتها‬
‫هي التي متنع غريها من الدخول معها يف حكمها؛ لوضوحها وعدم االختالف يف‬
‫مدلوهلا‪ ،‬أو كام يقول البغوي‪« :‬سميت حمكامت من اإلحكام‪ ،‬كأنه أحكمها فمنع‬
‫اخللق من الترصف فيها؛ لظهورها ووضوح معناها»()‪.‬‬
‫وهذا املعنى هو الذي تردد يف معظم التفاسري بعبارات خمتلفة‪ ،‬يقول اجلصاص‪:‬‬
‫َ‬
‫اشرتاك‬ ‫«قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﱪ « َفإِ َّن ا ُمل َرا َد به ال َّل ْف ُظ ا َّلذي ال‬
‫عه إال َمعنًى ِ‬
‫واحدً ا»()‪ ،‬ويقول أبو السعود‪« :‬حمكامت‪ :‬قطعية‬ ‫ام ِ‬
‫فيه‪ ،‬وال حيت َِمل عندَ َس ِ‬

‫() مفردات الراغب ‪ ،126‬والربهان يف علوم القرآن للزركيش ‪.79/ 2‬‬


‫() تفسري البغوي عىل هامش تفسري اخلازن ‪ ،319 / 1‬وتفسري اخلازن ‪.319/1‬‬
‫() أحكام القرآن للجصاص ‪.280 /2‬‬

‫‪75‬‬
‫الداللة عىل املعنى املراد‪ ،‬حمكمة العبارة‪ ،‬حمفوظة من االحتامل واالشتباه» ()‪ ،‬أي قد‬
‫«أبرم حكمها فلم ينبرت كام يربم احلبل الذي يتخذ حكمة‪ ،‬أي‪ :‬زما ًما يزم به اليشء‬
‫الذي خياف خروجه عىل االنضباط‪ ،‬كأن اآلية املحكمة حتكم النفس عن جوالهنا‪،‬‬
‫ومتنعها من مجاحها‪ ،‬وتضبطها إىل حمال مصاحلها»()‪.‬‬
‫وهذا النوع من اآليات عىل تلك الصفات كثري يف القرآن؛ ألن أكثر القرآن واضح‬
‫الداللة ظاهر املعنى حمفوظ من االحتامل‪ ،‬يقول الشيخ صديق خان‪« :‬املحكامت هي‬
‫أكثر القرآن عىل مجيع األقوال»()‪ ،‬ويؤكد ما ذهبنا إليه ً‬
‫أيضا التنكري يف لفظتي (آيات)‪،‬‬
‫و(حمكامت) فهو يفيد الكثرة‪ ،‬كام يفيد النوعية‪ ،‬أي‪ :‬آيات حمكامت كثرية ومتنوعة‪.‬‬
‫وملا كانت هذه اآليات من الكثرة والتنوع بمكان حاول بعض العلامء حرصها‬
‫بقوله‪« :‬مثل قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﱪ‪ ،‬وقيل هو الذي مل ينسخ‬
‫لقـوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﱪ‪ ،‬وقوله‪ :‬ﱫﮗ‬
‫ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﱪ إىل آخر اآليات‪ ،‬وهي سبعة عرش حكماً مذكورة يف سورة‬
‫األنعام‪ ،‬ويف سورة بني إرسائيل‪ ،‬وقيل هو الناسخ‪ ،‬وقيل الفرائض والوعد والوعيد‪،‬‬
‫وقيل الذي وعد عليه ثوا ًبا أو عقا ًبا‪ ،‬وقيل الذي تأويله تنزيله بجعل القلوب تعرفه‬
‫عند سامعه كقوله‪ :‬ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﱪ‪ ،‬ﱫﭡ ﭢ ﭣﭤ ﱪ()‪ ،‬وال أوافق‬
‫عىل هذا احلرص؛ ألن هذا قليل يف القرآن فكل ما يندرج حتت الضابط السابق يعد‬

‫() تفسري أيب السعود ‪ ،7/2‬وانظر عىل سبيل املثال الكشاف ‪ ،412/1‬وتفسري اخلازن‬
‫‪ ،319/1‬وروح البيان ‪ ،129 / 2‬وروح املعاين ‪ ،727 /2‬وفتح البيان ‪.6/2‬‬
‫() نظم الدرر ‪.15/2‬‬
‫() فتح البيان ‪ ،9/2‬وانظر‪ :‬املحرر الوجيز ‪ ،18 /3‬وفتح القدير للشوكاين ‪.314/1‬‬
‫() الربهان ‪.80/2‬‬

‫‪76‬‬
‫حمكام‪ ،‬وهذا يف القرآن كثري يعلمه أهل العلم‪.‬‬
‫ﱫ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﱪ‪ ،‬الضمري ﱫ ﮟ ﱪ يف حمل رفع مبتدأ وهو‬
‫يعود عىل اآليات املحكامت‪ ،‬وﱫ ﮠﱪ خرب‪ ،‬واجلملة من املبتدأ واخلرب ﱫ ﮟ ﮠ‬
‫ِ‬
‫للنكرة (آيات) َق ْبلها‪ ،‬واآليات‬ ‫ﮡ ﱪ «جيوز أن تكون يف حمـل رفع ٌ‬
‫صفة ثانية‬
‫َ‬
‫تكون اجلملة‬ ‫عىل ذلك تكون موصوفة بوصفني‪ :‬حمكامت‪ ،‬أم الكتاب‪ ،‬وجيوز أن‬
‫مستأنف ًة ال حمل هلا من اإلعراب‪.‬‬
‫وأخرب بلفظ الواحد ﱫ ﮠ ﱪ عن اجلمع ﱫ ﮟ ﱪ‪ ،‬ومل يقل‪ :‬هن أمهات؛ إشارة‬
‫إىل أن كل حمكم ليس أما وحده‪ ،‬بل املراد أن مجيع اآليات املحكامت «يف اجتامعها‬
‫وتكاملها كاآلية الواحدة‪ ،‬وكالم اهلل كله يشء واحد كام قال‪ :‬ﱫ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ‬
‫ﮙ ﱪ [املؤمنون‪.)(»]50:‬‬
‫وﱫ ﮠ ﱪ مضاف‪ ،‬وﱫ ﮡ ﱪ مضاف إليه‪ ،‬وإضافة النكرة «أم» إىل املعرفة‬
‫«الكتاب» أكسب النكرة التعريف‪ ،‬وهذا يعني أن اآليات املحكامت معلومة للعلامء‪،‬‬
‫معروفة ألهل النظر والتدبر‪ ،‬وهذه اإلضافة بمعنى يف‪ ،‬يقول أبو السعود‪« :‬واإلضافة‬
‫بمعنى يف كام يف واحد العرشة ال بمعنى الالم؛ فإن ذلك يؤدي إىل كون الكتاب عبارة‬
‫عام عدا املحكامت»()‪.‬‬
‫واألم يف اللغة‪« :‬بإزاء األب‪ ،‬وهى الوالدة القريبة التي ولدته‪ ،‬والبعيدة التي‬

‫() تفسري اخلازن ‪ ،319/1‬بترصف‪ ،‬وانظر‪ :‬تفسري البغوي عىل هامش اخلازن ‪،319/1‬‬
‫وتفسري النيسابوري ‪ ،107/2‬وروح املعاين ‪ ،727/2‬والتحرير والتنوير ‪ ،161-160 /3‬وهناك‬
‫لكن ما ذكرته هنا هو األرجح‪ ،‬انظر‪ :‬تفسري أيب السعود ‪ ،7/2‬والفتوحات اإلهلية‬
‫أرسار أخرى‪َّ ،‬‬
‫للجمل ‪ ،242/1‬وفتح البيان ‪.6/2‬‬
‫() تفسري أيب السعود ‪ ،7/2‬وانظر روح البيان ‪.5/3‬‬

‫‪77‬‬
‫ولدت من ولدته‪ ،‬وهلذا قيل حلواء‪ :‬هي أمنا‪ ،‬وإن كان بيننا وبينها وسائط ويقال لكل‬
‫ما كان أصلاً لوجود يشء أو تربيته أو إصالحه أو مبدئه ُأ ٌّم‪.)(»...‬‬
‫والكتاب يف قوله‪ :‬ﱫﮠ ﮡ ﱪ هو‪« :‬القرآن ال حمالة؛ ألنه املتحدث عنه‬
‫بقوله‪ :‬ﱫﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﱪ‪ ،‬فليس قوله‪ :‬ﱫ ﮠ ﮡ ﱪ هنا بمثل قوله‪:‬‬
‫ﱫ ﯛ ﯜ ﯝ ﱪ()‪.‬‬
‫و«أل» يف لفظ الكتاب هنا عهدية‪ ،‬أي‪ :‬الكتاب املعهود املذكور ُ‬
‫قبل‪ ،‬وكان‬
‫األصل عىل ذلك أن يقال‪ :‬هن أمه‪ ،‬لكنه «وضع املظهر موضع املضمر اعتناء بشأن‬
‫املظهر‪ ،‬وتفخيماً له»()‪.‬‬
‫واملعنى املراد هنا من ﱫ ﮠ ﮡ ﱪ اختلف فيه املفرسون عىل وجوه‪:‬‬
‫األول‪ :‬ﱫ ﮠ ﮡ ﱪ أصل الكتاب‪ ،‬يقـول الفراء‪« :‬قوله‪ :‬ﱫ ﮟ ﮠ ﮡﱪ‬
‫هن األصل»()‪.‬‬
‫يقول‪َّ :‬‬
‫الثاين‪ :‬ﱫ ﮠ ﮡ ﱪ جمِ َ ُ‬
‫اعه‪ ،‬يقول ابن عطية‪« :‬قال ابن زيد‪ :‬ﱫ ﮠ ﮡ ﱪ‬
‫معناه جمِ َ ُ‬
‫اع الكتاب»()‪ ،‬وهو قريب مما سبق؛ ألن مجاع اليشء أصله‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ﱫ ﮠ ﮡ ﱪ معظمه‪ ،‬يقول ابن عطية‪« :‬قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮠ ﮡﱪ‬
‫معناه‪ :‬اإلعالم بأهنا معظم الكتاب‪ ،‬وعمدة ما فيه»()‪.‬‬

‫() مفردات الراغب ‪ ،18‬وانظر عمدة احلفاظ ‪.136-135 /1‬‬


‫() التحرير والتنوير ‪.154 / 3‬‬
‫() روح املعاين لأللويس ‪.729/2‬‬
‫() معاين القرآن للفراء ‪ ،190 /1‬وانظر تفسري أيب السعود‪.7/2‬‬
‫() املحرر الوجيز‪.18 /3‬‬
‫() املحرر الوجيز ‪ ،18 /3‬واجلواهر احلسان للثعالبي ‪ ،230/1‬والبحر املحيط ‪.382/2‬‬

‫‪78‬‬
‫الرابع‪ :‬ﱫ ﮠ ﮡ ﱪ فواتح السور‪ ،‬يقول ابن عطية‪« :‬وحكى الطربي عن أيب‬
‫فاختة أنه قال‪ :‬ﱫ ﮟ ﮠ ﮡ ﱪ يراد به فواتح السور‪ ،)(»...‬وقد رفض ابن عطية‬
‫هذا الرأي فقال‪« :‬وهذا قول متداع للسقوط مضطرب»()‪.‬‬
‫والراجح‪ :‬أن ﱫ ﮠ ﮡ ﱪ بمعنى أصل الكتاب؛ ألن هذا ما يقتضيه لفظ‬
‫األم‪ ،‬فـ «األم يف اللغة األصل الذي يتكون منه اليشء‪ ،‬فلام كانت املحكامت مفهومة‬
‫بذواهتا‪ ،‬واملتشاهبات إنام تصري مفهومة بإعانة املحكامت‪ ،‬فال جرم صارت املحكامت‬
‫ال للمتشاهبات»()‪ ،‬والواجب أن يرد الفرع‪ ،‬وهو املتشابه إىل األصل‪ ،‬وهو‬ ‫أصو ً‬
‫املحكم‪.‬‬
‫وعىل ذلك فقوله‪ :‬ﱫ ﮟ ﮠ ﮡ ﱪ يعدُّ من قبيل التشبيه البليغ املحذوف‬
‫الوجه واألداة‪ ،‬وأصله هن كأم الكتاب‪ ،‬يقول ابن عاشور‪« :‬األم حقيقة يف الوالدة‪،‬‬
‫وهي أصل للمولود‪ ،‬وجامع لألوالد يف احلضانة‪ ،‬فباعتبار هذين املعنيني أطلق‬
‫اسم األم عىل ما ذكرنا عىل وجه التشبيه البليغ ثم شاع ذلك اإلطالق حتى ساوى‬
‫احلقيقة»()‪ ،‬وقال الرشيف الريض‪« :‬واملراد هبا أن هذه اآليات مجاع الكتاب وأصله‬
‫فهي بمنزلة األم‪ ،‬وكأن سائر القرآن يتبعها ويتعلق هبا كام يتعلق الولد بأمه‪ ،‬ويفزع‬
‫إليها يف مهمه»()‪.‬‬
‫ﱫ ﮢ ﮣﮤ ﱪ الواو حرف عطف‪« ،‬وأخر نعت ملحذوف معطوف عىل‬

‫() املحرر الوجيز‪.18 /3‬‬


‫() املحرر الوجيز‪.18 /3‬‬
‫() تفسريالنيسابوري ‪ ،107/2‬وانظر‪ :‬تفسري أيب السعود ‪ ،7/2‬وروح املعاين ‪.727/2‬‬
‫() التحرير والتنوير‪.164 /3‬‬
‫() تلخيص البيان يف جمازات القرآن للرشيف الريض ‪ ،25‬وانظر‪ :‬تفسري الصابوين ‪.169/1‬‬

‫‪79‬‬
‫آيات‪ ،‬أي‪« :‬وآيات أخر»»()‪.‬‬
‫وﱫ ﮢ ﱪ مجع تكسري ممنوع من الرصف؛ «ألنه معدول عن اآلخر مثل‪ :‬عمر‬
‫وزفر»()‪.‬‬
‫ويف التعبري بلفظة ُ(أ َخر) إشارة جلية إىل قلة املتشاهبات يف القرآن كام يفهم من‬
‫مدلول هذه اللفظة‪ ،‬يؤكد ذلك أن سياقاهتا يف الذكر احلكيم تنبئ عن القلة‪ ،‬فقوله‬
‫تعاىل‪ :‬ﱫ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖﱪ [البقرة‪،]185:‬‬
‫وقوله‪ :‬ﱫ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ‬
‫ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﱪ [يوسف‪ ،]43:‬وقوله‪ :‬ﱫ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ‬
‫ﭫﭬﭭ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭵﭶﱪ‬
‫[يوسف‪ ]46:‬كلها هنا حتوي القلة العددية كام هو جيل‪.‬‬
‫شهرا كاملاً أو معظم الشهر أو نصفه أو‬
‫فعىل سبيل املثال يف سورة البقرة من أفطر ً‬
‫بعضه فعليه صيام ما أفطره‪ ،‬وهذا الذي أفطره أ ًّيا كان من املمكن عده بيرس وسهولة‬
‫لقلته‪.‬‬
‫وهذا يؤكد من جانب آخر عىل أن اآليات املتشاهبات يف القرآن قليلة يمكن‬
‫عدها‪ ،‬وهذا ً‬
‫أيضا يفرس رس طي لفظة آيات مع متشاهبات‪ ،‬فلم يقل وآيات أخر‬
‫متشاهبات حسبام كان يتوقع عىل غرار آيات حمكامت‪.‬‬
‫ولفظة‪ :‬ﱫﮣﮤﱪ مجع مؤنث سامل‪ ،‬مفرده للمؤنث‪ :‬متشاهبة‪ ،‬وللمذكر‪:‬‬

‫() تفسري أيب السعود ‪ ،7/2‬وانظر‪ :‬روح املعاين ‪ ،727/2‬وروح البيان للشيخ حقي ‪.5/2‬‬
‫() تفسري البغوي عىل اخلازن ‪ ،319/1‬وانظر‪ :‬تفسري القرطبي ‪ ،13/4‬وتفسري أيب السعود‬
‫‪ ،7/2‬وروح املعاين ‪ ،727/2‬وفتح البيان ‪.6/2‬‬

‫‪80‬‬
‫متشابه‪ ،‬واملتشابه يف اللغة هو‪ :‬األمر امللبس املختلط بغريه‪ ،‬يقال «تشابه الشيئان‪:‬‬
‫أشبه كل منهام اآلخر حتى التبسا»()‪.‬‬
‫ويقول الزركيش‪« :‬املتشابه مثل املشكل؛ ألنه أشكل أي‪ :‬دخل يف شكل غريه‬
‫وشاكله» ()‪ ،‬وسمي املتشابه بذلك؛ ألنه «ملا كان من شأن األمور املتشاهبة أن يعجز‬
‫العقل عن التمييز بينها ُس ِّم َي كل ما ال هيتدي العقل إليه متشاهبا‪ ،‬وإن مل يكن ذلك‬
‫بسبب التشابه كام أن املشكل يف األصل ما دخل يف أشكاله وأمثاله‪ ،‬ومل يعلم بعينه ثم‬
‫أطلق عىل كل غامض وإن مل يكن غموضه من تلك اجلهة» ()‪.‬‬
‫وعىل ذلك ففي هذا اللفظ هنا جماز مرسل من إطالق اسم السبب عىل املسبب‪،‬‬
‫يقول الشيخ رشيد رضا‪« :‬األصل يف ورود التشابه بمعنى املشكل امللتبس أن يكون‬
‫االلتباس فيه بسبب شبهة لغريه‪ ،‬ثم أطلق عىل كل ملتبس ً‬
‫جمازا» ()‪.‬‬
‫واسعا‪ ،‬وأطالوا يف‬
‫ً‬ ‫وقد اختلف املفرسون يف حتديد املتشابه يف القرآن اختال ًفا‬
‫ذلك‪ ،‬وتداخلت أقواهلم حتى بات حتديد املتشابه لدهيم صع ًبا جدً ا‪ ،‬وسأحاول هنا‬
‫‪-‬قدر اإلمكان‪ -‬حرص ما ذكروه باختصار فأقول‪ :‬ينحرص املتشابه يف القرآن يف نوعني‬
‫اثنني‪:‬‬
‫راجعا إىل نفس‬
‫ً‬ ‫ذاتيا‬ ‫األول‪ :‬التشابه الذايت بمعنى‪« :‬أن التشابه قد يكون ً‬
‫أمرا ًّ‬
‫اآلية لدقة معناها‪ ،‬وخلفاء املوضوع الذي تتحدث عنه‪ ،‬وذلك كأوائل السور املفتتحة‬

‫() املعجم الوسيط ‪.490 /1‬‬


‫() الربهان للزركيش ‪.80/2‬‬
‫() تفسري أيب السعود‪ ،8-7/2‬وانظر‪ :‬روح املعاين ‪.729 -728/2‬‬
‫() تفسري املنار ‪ ،135/3‬وانظر‪ :‬مفاتيح الغيب ‪ ،84/7‬وتفسري النيسابوري ‪.105/2‬‬

‫‪81‬‬
‫بحروف املعجم‪ ،‬وما املراد من ذكر هذه احلروف‪ ،‬وكحقيقة أخبار القيامة والبعث()‪،‬‬
‫فإنه جيب االعرتاف والتسليم بأن هذه وأمثاهلا أمور قد استأثر اهلل بعلم كنهها دون‬
‫غريه»()‪.‬‬
‫بعلم تأويله دون غريه‪.‬‬ ‫وهذا النوع من املتشابه اختص املوىل‬
‫الثاين‪ :‬التشابه النسبي «بمعنى‪ :‬أن ما يشتبه عىل هذا قد ال يشتبه عىل غريه‪ ،‬وهذا‬
‫النوع خيتلف باختالف درجات الناس وتقدمهم يف العلم فهناك آيات قد اشتبهت‬

‫() ذهب بعض الناس إىل أن آيات الصفات تعد من هذا النوع من املتشابه الذايت‪ ،‬اعتام ًدا عىل‬
‫دقة املعنى املراد منها‪ ،‬والتباسه عىل بعض الناس‪ ،‬وقد ذكر الشيخ رشيد رضا يف «املنار» أن ابن تيمية‬
‫رصح ابن تيمية‬
‫يقول بذلك‪ ،‬واحلق أن ابن تيمية ال جيعل آيات الصفات من املتشابه الذايت البتة‪ ،‬بل َّ‬
‫عدة مرات يف أكثر من مؤلف بأن آيات الصفات غري متشاهبة‪ ،‬من ذلك عىل سبيل املثال قوله‪« :‬وأما‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫إدخال َأسامء اهلل وصفاته‪ ،‬أو بعض َ‬
‫ُ‬
‫املتشابه الذي ال يع َل ُم َتأوي َل ُه إال اهلل‪ ...‬فإِين ما أ ُ‬
‫علم عن‬ ‫ذلك يف‬
‫ِ‬
‫املتشابه الدَّ اخلِ‬ ‫ريه أنه جعل ذلك ِمن‬
‫بن حن َبلٍ ‪ ،‬وال َغ ِ‬‫سلف األمة‪ ،‬وال ِمن األئمة ال أمحد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫أحد من‬
‫الذي ال‬ ‫مي ِ‬ ‫اآلية‪ ،‬ونفى َأن يعلم أحدٌ معنا ُه‪ ،‬وجعلوا َأسام َء اهلل وصفاته بمنزلة الكال ِم َ‬ ‫هذه ِ‬‫يف ِ‬
‫عج ِّ‬
‫األ َ‬ ‫َ‬
‫يح ٌة‪ .»...‬انظر‬ ‫معان َص ِح َ‬
‫ٍ‬ ‫اهلل ُي ْن ِز ُل كال ًما ال َي ْف َه ُم َأحدٌ معنَا ُه‪ ،‬وإنام قالوا َك ٍ‬
‫لامت َهلا‬ ‫إن َ‬ ‫ُي ْف َه ُم‪ ،‬وال قا ُلوا‪َّ :‬‬
‫جمموع فتاوى ابن تيمية ‪ ،295 ،294/13‬وتفسري القاسمي ‪ 20/4‬حيث نقله عنه بنصه‪ .‬فكالم ابن‬
‫تيمية يؤكد عىل أن آيات الصفات ليست من هذا النوع من املتشابه‪.‬‬
‫() اإلمام ابن تيمية وقضية التأويل ‪ ،58‬وهنا جيب أن نوضح شيئًا مهماًّ جدًّ ا‪ ،‬وهو أن املتشابه‬
‫من هذا النوع معانيه واضحة مفهومة‪ ،‬ولكن يغيب ع َّنا‪ ،‬فحسب كنهه وكيفيته وحقائقه املخفية عنا‪،‬‬
‫فنحن نعلم معاين آيات البعث والنشور‪ ،‬ومعاين آيات اجلنة والنار‪ ،‬لكننا ال نعلم حقائق البعث‬
‫والنشور واجلنة والنار؛ َّ‬
‫ألن هذا مما استأثر اهلل بعلمه وتأويله؛ ألنه من الغيبيات‪ ،‬وكذلك ال نعلم‬
‫ُك ْنه الروح وحقيقتها‪ ،‬وغري ذلك كثري‪ ،‬ولكننا نعلم معناها وفحواها‪ ،‬ففرق واضح بني علم معنى‬
‫اليشء وحقيقة هذا اليشء‪ ،‬و«لقد نشأ الغلط يف ذلك من خلط املتأخرين بني علم معنى اآلية الذي‬
‫خوطبنا به‪ ،‬وتأويلها الذي هو حقيقتها املحجوب عنا‪ ،‬ومل يفرقوا بني معنى اآلية وتأويلها»‪ .‬انظر‬
‫اإلمام ابن تيمية وقضية التأويل ‪.61‬‬

‫‪82‬‬
‫عىل اجلهمية‪ ،‬واحتجوا هبا عىل «أمحد بن حنبل «بأهنن من املتشابه مثل‪ :‬ﱫ ﭲ ﭳ‬
‫ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﱪ‪ ،‬ﱫ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﱪ‪ ،‬ﱫ ﭥ ﭦ ﭧ ﱪ‪،‬‬
‫وقد فرس اإلمام أمحد هذه اآليات بام أزال االشتباه عنها بحيث أصبحت معلومة له‬
‫ولغريه‪ ،‬فلم تكن متشاهبة يف حقه‪ ،‬وال يف حق من وقف عىل معناها‪ ،‬وهي متشاهبة‬
‫عند من حيتج هبا من اجلهمية‪ ،‬وعليه أن يردها هو إىل ما يعرفه من املحكم»()‪.‬‬
‫وهذا النوع بوجه عام هو الذي يدركه الراسخون يف العلم حيث يردون املتشابه‬
‫مثل قوله‪ :‬ﱫ ﭩ ﭪﭫ ﱪ‪ ،‬وقوله‪« :‬إِ َّنا»‪ ،‬و« َن ْح ُن»‪ ،‬وغري ذلك إىل ما يتفق مع‬
‫توجيه وفهم التأويل كام‬ ‫املحكم‪ ،‬وبناء عىل هذا احلرص() الدقيق نستطيع بإذنه‬
‫سيأيت‪.‬‬
‫واملتشابه عىل كال النوعني السابقني يعد قليلاً بالنسبة للمحكم‪ ،‬والتنكري يف‬
‫ﱫﮣﮤ ﱪ يؤكد عىل ذلك‪ ،‬أي‪ :‬آيات قليالت بداللة السياق‪ ،‬وبداللة القرائن‬
‫املقرتنة هبا‪ ،‬وهي لفظة‪ :‬ﱫ ﮢ ﱪ كام مر‪.‬‬

‫() اإلمام ابن تيمية وقضية التأويل ‪ ،58‬يدخل يف هذا النوع آيات الصفات؛ ألهنا إن التبست‬
‫عىل بعض الناس فال تلتبس عىل آخرين‪ ،‬فهل «من الصواب يف يشء أن نجعل آيات مثل قوله تعاىل‪:‬‬
‫ﱫﯼ ﯽ ﯾ ﯿﱪ‪ ،‬وﱫﮮ ﮯ ﮰ ﱪ‪ ،‬وﱫﯗ ﯘ ﯙ ﱪ بمنزلة آيات مثل‪ :‬ﱫﮝﱪ‬
‫وﱫﭤﱪ‪ ،‬ﱫﭓﱪ وﱫﭑﱪ؟ هل هذه بمنزلة تلك يف فهم معناها‪ ،‬وبيان مرادها؟»‪.‬‬
‫انظر‪ :‬ابن تيمية وقضية التأويل ‪ ،62‬ويدخل يف هذا النوع كذلك ما خفي حكمه‪ ،‬واستشكل عىل‬
‫بعض الناس من آيات األحكام‪ ،‬فالفقهاء الراسخون يدركون ذلك‪ ،‬ويقفون عليه‪ ،‬ويدخل فيه كذلك‬
‫معا‪ ،‬كام حكاه الراغب‪ ،‬انظر‪ :‬مفردات الراغب ‪.261‬‬
‫املتشابه من حيث اللفظ‪ ،‬أو املعنى‪ ،‬أومها ً‬
‫() بالرغم من هذا احلرص قدر اإلمكان؛ فإن املتشابه سيظل مستعص ًيا عىل احلرص التام الدقيق‪،‬‬
‫وما ذكرناه كان حماولة لتقريب املراد من هذا املصطلح إىل املفاهيم‪ ،‬وإن كنت أؤكد عىل أن قضية‬
‫املحكم واملتشابه ال يكفي يف عرضها هنا هذه الصفيحات‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫الكتاب عىل نب ِّيه حممد ×؛ إِفضا ً‬
‫ال منه ونعم ًة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وبعد أن «ذكر تعاىل أنه َّنزل‬
‫وأن متشاهبه الذي‬‫وأن حُم َْك َمه و َب ِّين َُه الذي ال اعرتاض فيه هو معظمه‪ ،‬والغالِ ُب فيه؛ َّ‬
‫َّ‬
‫َ‬
‫املحك َم الذي‬ ‫التفهم هو أق ُّله ذكر أن أهل الزيغ ُ‬
‫يرتك َ‬
‫ون‬ ‫وحيتاج إِىل ُّ‬
‫ُ‬ ‫ويل‪،‬‬ ‫حيتمل ْ‬
‫التأ َ‬ ‫ُ‬
‫الف ْتن َِة»() فقال عز من قائل‪ :‬ﱫ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ‬ ‫املتشابِه؛ ابتغاء ِ‬ ‫َ‬
‫ويتبعون َ‬ ‫فيه ُغ ْن َيتهم‪،‬‬
‫ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﱪ‪.‬‬
‫والفاء يف قوله‪ :‬ﱫ ﮥ ﱪ استئنافية‪ ،‬واجلملة بعدها مستأنفة تفصل حال الذين يف‬
‫قلوهبم زيغ مع اآليات املتشاهبات‪ ،‬وكأن سائلاً سأل ما رد فعل املؤمنني وغريهم حيال‬
‫املتشاهبات؟ وملا كان املؤمنون ُيسلمون‪ ،‬وال يعرتضون ترك ذكرهم‪ ،‬ورشع يتحدث‬
‫عن غريهم؛ «ألن بيان هذا هو األهم يف الغرض املسوق له الكالم‪ ،‬وهو كشف شبهة‬
‫الذين غرهتم املتشاهبات ومل هيتدوا إىل حق تأويلها و ُي ْع َر ُف حال قسيمهم‪ ،‬وهم الذين‬
‫ال زيغ يف قلوهبم بطريق املقابلة»()‪.‬‬
‫ِ‬
‫الرشط‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الرشط وفعلِ‬ ‫مقام ِ‬
‫أداة‬ ‫تقوم َ‬ ‫ٍ‬
‫وتوكيد»() ُ‬ ‫رشط وتفصيلٍ‬‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫حرف‬ ‫َ‬
‫و«أ َّما»‬
‫ِ‬
‫بالفاء كام هنا‪.‬‬ ‫والدليل عىل أهنا رشطية لزوم اقرتان جواهبا‬
‫ﱫ ﮦ ﱪ اسم موصول يف حمل رفع مبتدأ‪ ،‬وقد اختلف يف املقصودين به عىل‬
‫أكثر من وجه‪:‬‬
‫‪ ،‬وقالوا‪:‬‬ ‫األول‪« :‬هم وفد نجران الذين خاصموا رسول اهلل × يف عيسى‬
‫ألست تزعم أن عيسى روح اهلل وكلمته؟ قال بىل‪ .‬قالوا‪ :‬حسبنا فأنزل اهلل هذه‬

‫() تفسري الثعالبي ‪ ،231-230/1‬وانظر‪ :‬املحرر الوجيز ‪.19-18 /3‬‬


‫() التحرير والتنوير ‪ ،161 /3‬وانظر‪ :‬التفسري الوسيط ‪.29 /2‬‬
‫() مغني اللبيب البن هشام ‪.353-352/1‬‬

‫‪84‬‬
‫اآلية»()‪.‬‬
‫وعىل ذلك ففي تلك اجلملة «تعريض بنصارى نجران؛ إذ ألزموا املسلمني بأن‬
‫القرآن يشهد لكون اهلل ثالث ثالثة بام يقع يف القرآن من ضمري املتكلم‪ ،‬ومعه غريه من‬
‫نحو‪ :‬خلقنا وأمرنا وقضينا وزعموا أن ذلك الضمري له وعيسى ومريم‪ ،‬وال شك أن‬
‫هذا إن صح عنهم هو متويه؛ إذ من املعروف أن يف ذلك الضمري طريقتني مشهورتني‪،‬‬
‫إما إرادة الترشيك‪ ،‬أو إرادة التعظيم فام أرادوا من استدالهلم هذا إال التمويه عىل‬
‫عامة الناس» ()‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬هم اليهود «الذين جادلوا رسول اهلل × بمتشاهبه يف مدَّ ته ومدة ُأمته» ()‪،‬‬
‫وهذا ما رجحه الطربي بعد أن أورد آراء أخرى‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬هم املنافقون‪ ،‬يقول اخلازن‪« :‬وقيل‪ :‬هم املنافقون» ()‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬هم أهل البدع واألهواء من احلرورية واخلوارج وغريهم من املسلمني‬
‫يقول ابن عطية‪« :‬وقال قتادة يف تفسري قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﱪ إن مل‬
‫يكونوا احلرورية وأنواع اخلوارج‪ ،‬فال أدري من هم؟»()‪.‬‬
‫اخلامس‪ :‬هم منكرو البعث‪ ،‬يقول أبو حيان‪« :‬وقال قتادة‪ :‬هم منكرو البعث‪،‬‬
‫فإنه قال يف آخرها‪ :‬ﱫ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﱪ‪ ،‬وما ذاك إ َّ‬
‫ال يوم القيامة فإنه أخفاه‬

‫() تفسري اخلازن ‪ ،320/1‬وانظر‪ :‬املحرر الوجيز ‪ ،19/3‬والبحر املحيط ‪.383/2‬‬


‫() التحرير والتنوير ‪.163/3‬‬
‫() تفسري الطربي ‪ ،265/3‬وانظر تفسري اخلازن ‪.320/1‬‬
‫() اخلازن ‪ ،321/1‬وانظر‪ :‬اللباب البن عادل ‪ ،37/5‬وروح املعاين ‪.731/2‬‬
‫() تفسري القرطبي ‪ ،13/4‬وانظر‪ :‬الكشاف ‪ ،413/1‬واللباب البن عادل ‪.37/5‬‬

‫‪85‬‬
‫عن مجيع اخللق» ()‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وزنديق‪ ،‬وجاهلٍ وصاحب‬ ‫ٍ‬
‫طائفة من كاف ٍر‬ ‫السادس‪ :‬اسم املوصول ُّ‬
‫«يعم كل‬
‫ٍ‬
‫بدعة»()‪ ،‬وهـذا األخيـر هو ما نميل إليه هنا؛ ألن اسم املوصول ﱫﮦﱪ يدل‬
‫عىل العموم‪ ،‬فهو يشمل مجيع املبطلني يف كل زمان ويف كل مكان عىل خمتلف دياناهتم‬
‫وعقائدهم وأفكارهم‪ ،‬وقد أكـد عىل ذلك ثلة من املفرسين‪ ،‬يقول النيسابوري‪:‬‬
‫«والتحقيق أنه عام لكل مبطل متشبث بأهداب املتشاهبات؛ ألن اللفظ عام‪،‬‬
‫وخصوص السبب ال يمنع عن عموم اللفظ» ()‪.‬‬
‫فلم آثر‬
‫وهنا سؤال‪ :‬إذا كان اسم املوصول ينسحب عىل مجيع املبطلني كام بينا َ‬
‫التعبري به دون غريه من ألفاظ العموم؟ أقول‪ :‬ألن يف التعبري عنهم باسم املوصول‬
‫خصوصية أخرى غري ما سبق‪ ،‬وهي اإلشارة إىل شهرهتم بني الناس يف ذلك‪ ،‬فكل‬
‫من يزيغ قلبه‪ ،‬وينحرف فكره يعرفه الناس حتى العوام يعرفوهنم بفطرهتم السليمة‬
‫اخلالية من الغبش‪.‬‬
‫ﱫ ﮧ ﮨ ﱪ‪ :‬جار وجمرور متعلق بكائن أو مستقر‪ ،‬وهو خرب مقدم‪ ،‬وعرب هنا‬
‫بالقلوب دون األفئدة؛ ألهنا تستخدم غال ًبا يف مواطن الزلة والغلظة‪ ،‬كام مر يف قوله‬
‫تعاىل‪ :‬ﱫ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﱪ‪ ،‬ولإلشارة ً‬
‫أيضا إىل تقلبهم‪ ،‬وعدم ثباهتم‪ ،‬وأن الزيغ‬
‫كامن يف قلوهبم فليست سليمة من األهواء واألدواء‪.‬‬
‫«ه ْم» يف ﱫ ﮨ ﱪ يعود عىل ما عاد عليه اسم املوصول الذين ُ‬
‫قبل‪،‬‬ ‫والضمري ُ‬

‫() البحر املحيط ‪ ،383/ 2‬وانظر‪ :‬تفسري النيسابوري ‪.107/2‬‬


‫() تفسري الثعالبي ‪ ،231/1‬وانظر‪ :‬املحرر الوجيز ‪ ،18 /3‬وتفسري القرطبي ‪.13/4‬‬
‫() تفسري النيسابوري ‪ ،107/2‬وانظر‪ :‬اللباب البن عادل ‪ ،37/5‬وروح املعاين ‪.731/2‬‬

‫‪86‬‬
‫وهم مجيع املبطلني يف كل زمان ومكان كام بينا‪.‬‬
‫ﱫ ﮩ ﱪ مبتدأ مؤخر‪ ،‬ومجلة‪ :‬ﱫ ﮧ ﮨ ﮩ ﱪ من املبتدأ واخلرب ال حمل هلا‬
‫وز َيغا ًنا‪ ...‬وقوله تعاىل‪:‬‬ ‫و«الز ْيغُ ‪ :‬املَ ْي ُل‪َ ،‬‬
‫زاغ َي ِزيغُ َز ْي ًغا َ‬ ‫َّ‬ ‫من اإلعراب صلة املوصول‪،‬‬
‫ﱫﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﱪ‪َ ،‬أي‪ :‬ال تمُ ِ ْلنا عن ا ُهلدَ ى وال َق ْص ِد وال ُت ِض َّلنا»()‪ ،‬وقيل‬
‫الزيغ هو‪« :‬امليل عن االستقامة‪ ...‬وقال‪ :‬ﱫﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﱪ [الصف‪]5:‬‬
‫ملا فارقوا االستقامة عاملهم بذلك» ()‪.‬‬
‫واملراد بالزيغ هنا اختلف فيه عىل أقوال‪:‬‬
‫‪ -1‬الزيغ‪ :‬العناد‪ ،‬يقول أبو حيان‪« :‬الزيغ‪ :‬عنادهم» ()‪.‬‬
‫‪ -2‬الزيغ‪ :‬امليل عن اهلدى‪ ،‬يقول ابن عطية‪« :‬وبامليل عن اهلدى َفسرَّ َ الزيغَ حممدٌ‬
‫بن جعفر بن الزبري‪ ،‬وابن مسعود ومجاعة من الصحابة»()‪.‬‬
‫‪ -3‬الزيغ‪ :‬الشك‪ ،‬يقول اخلازن‪« :‬وقيل‪ :‬الزيغ‪ :‬الشك» ()‪.‬‬
‫والراجح‪ :‬أن املراد منه هنا امليل عن اهلدى واحلق حسبام تقتضيه داللة اللفظة‬
‫لغة‪ ،‬وال يرصف اللفظ عن حقيقته إال لدليل‪.‬‬
‫وهنا نتساءل إذا كان الزيغ بمعنى امليل‪ ،‬فلم عرب به وترك امليل؟ أقول ألن الزيغ‬
‫أخص من امليل فامليل عام والزيغ خاص‪ ،‬واملراد هنا ميل من نوع خاص مذموم‪،‬‬
‫وهو امليل عن اهلدى واحلق واالستقامة‪ ،‬وإىل هذا أشار العسكري بقـوله‪« :‬الزيغ‬

‫() لسان العرب (ز‪ .‬ي‪.‬غ) ‪ ،432/8‬وانظر‪ :‬النهاية يف غريب احلديث واألثر ‪.324/2‬‬
‫() مفردات الراغب ‪ ،223-222‬وانظر‪ :‬عمدة احلفاظ ‪ ،178/2‬وتفسري أيب السعود ‪.8/2‬‬
‫() البحر املحيط ‪.383 /2‬‬
‫() املحرر الوجيز‪ ،19 /3‬وانظر البحر املحيط ‪.383/ 3‬‬
‫() تفسري اخلازن ‪.320/1‬‬

‫‪87‬‬
‫اسم مليل مكروه‪ ،‬وهلذا قال أهل اللغة‪ :‬الفدع زيغ يف الرسغ‪ ،‬وامليل عام يف املحبوب‬
‫واملكروه»()‪ ،‬ويقول السمني‪« :‬زاغ وزال ومال تتقارب لكن زاغ ال يقال إال فيام كان‬
‫عن حق إىل باطل»()‪.‬‬
‫وهذا ينطبق عىل مجيع أهل الباطل فهم ال يزيغون عن القرآن إال هلوى يف‬
‫نفوسهم‪ ،‬أو فتنة ملكت عليهم زمام قلوهبم‪ ،‬أو ضالل سيطر عىل أفئدهتم‪ ،‬أو بدعة‬
‫متلكت منهم‪ ،‬وبذلك تكون لفظة الزيغ قد وضعت يف موضعها األليق هبا‪ ،‬والذي ال‬
‫يغني غريها ‪-‬مما قد يقارهبا يف املعنى‪ -‬مكاهنا‪.‬‬
‫والتنكري يف لفظة زيغ‪ :‬للتحقري‪ ،‬أي‪ :‬زيغ حقري أبعدهم عن التدبر يف املتشاهبات‪،‬‬
‫وردها للمحكامت‪ ،‬وجيوز أن يكون التنكري للنوعية أي‪ :‬زيغ من نوع معني ران عىل‬
‫قلوهبم‪ ،‬وسيطر عىل أفئدهتم فأبعدهم عن تفهم تلك اآليات املتشاهبات‪ ،‬وردها‬
‫للمحكامت‪.‬‬
‫مستقرا للزيغ حيث قال‪ :‬ﱫ ﮧ ﱪ‪ ،‬ومل يقل‪ :‬عىل ُق ُلوبهِ ِ ْم؛ «مبالغة‬
‫ًّ‬ ‫َ‬
‫وجعل القلوب‬
‫يف عدوهلم عن سنن الرشاد‪ ،‬وإرصارهم عىل الرش والفساد» ()‪.‬‬
‫مستقرا يف قلوهبم ال ينخلع‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫وأيضا للتأكيد عىل أن الزيغ قد متكن منهم‪ ،‬وصار‬
‫عنها‪ ،‬وال يزول منها‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وعبارة‪ :‬ﱫ ﮧ ﮨ ﮩ ﱪ مل ترد يف القرآن كله إال مرة واحدة يف هذا‬
‫السياق فحسب‪ ،‬مما يدل عىل تفرد هذه الطائفة يف يل أعناق النصوص وامتالء قلوهبم‬

‫() الفروق يف اللغة ‪.208 ،207‬‬


‫() الدر املصون ‪ ،27/3‬وانظر‪ :‬الفتوحات اإلهلية للجمل ‪ ،243/2‬وروح املعاين ‪،731/2‬‬
‫وفتح البيان ‪ ،9/2‬والتحرير والتنوير ‪.161/3‬‬
‫() تفسري أيب السعود ‪ ،8/2‬وانظر‪ :‬الفتوحات اإلهلية ‪ ،242/1‬وروح املعاين ‪.731/2‬‬

‫‪88‬‬
‫بالفتنة والضاللة‪ ،‬والعدول عن احلق واالستقامة بالرغم من أن اجلار واملجرور يف‬
‫قلوهبم أعقبه املرض بدلاً من الزيغ يف اثنتي عرشة آية يف القرآن كقوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮃ‬
‫ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﱪ [البقرة‪.)(]10:‬‬
‫ﱫ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﱪ الفاء واقعة يف جواب أما‪ ،‬وهي رابطة لـ (أما) بام قبلها‬
‫وما بعدها‪ ،‬ومجلة‪ :‬ﱫ ﮪ ﱪ يف حمل رفع خرب املوصول الذين واجلملة من املبتدأ‬
‫الذين‪ ،‬وخربه يتبعون يف حمل جزم جواب الرشط‪.‬‬
‫و« َي َّتبِ ُع َ‬
‫ون» فعل مضارع من املايض اخلاميس «ا َّت َبع» عىل وزن افتعل «واالتباع‪:‬‬
‫اقتفاء األثر‪ ،‬يقال‪ :‬تبعه واتَّبعه‪ ،‬فتارة يكون باجلسم نحو‪ :‬تبعته يف الطريق‪ ،‬واتَّبعته‬
‫فيها‪ ،‬وتارة باالمتثال‪ ،‬وعىل ذلك‪ :‬ﱫ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ‬
‫ﭢﱪ‪.)(»...‬‬
‫ولست أرى أن تبع الثالثي واتبع بمعنى واحد كام يفهم من كالم السمني؛ ألن‬
‫القرآن فرق بينهام فاستعمل اخلاميس يف موضع كام هنا‪ ،‬والثالثي يف موضع آخر كام‬
‫مر‪ ،‬وإال الكتفى بواحد()‪ ،‬ومن ثم فإين أرى أن صيغة افتعل هنا مالئمة للسياق؛‬
‫ألهنا حتمل معنى التكلف والقرس مثل‪ :‬اصطنع واصطرب‪ ،‬فكأهنم يتكلفون اتباع‬
‫املتشابه‪ ،‬ويتطلبونه‪ ،‬ويقرسون نفوسهم عليه يقول ابن منظور‪« :‬ا َّتب َعه َ‬
‫وأ ْت َب َعه وتت ََّبعه‪:‬‬ ‫َ‬
‫َقفاه و َتط َّلبه ُم َّت ًبعا له‪.)( »...‬‬

‫() انظر‪ :‬املعجم املفهرس ‪.664‬‬


‫() عمدة احلفاظ ‪ ،292/1‬وانظر‪ :‬مفردات الراغب ‪.69‬‬
‫() ورد املايض الثالثي تبع (‪ )7‬مرات‪ ،‬واملايض اخلاميس اتبع (‪ )54‬مرة ملح ًقا بالضامئر‬
‫وبدوهنا‪ ،‬انظر‪ :‬املعجم املفهرس ‪.150-149‬‬
‫() لسان العرب (ت ب ع) ‪.27/8‬‬

‫‪89‬‬
‫فضلاً عن أن التعبري باالتباع ً‬
‫أيضا يكشف عن أهنم يتتبعون اآليات كام يتتبع‬
‫التابع متبوعه‪ ،‬ويسري وراءه ويقتفي أثره فهو يالزمه دوما‪« ،‬فاالتباع هنا جمـاز عن‬
‫املالزمة‪ ،‬واملعاودة أي‪ :‬يعكفون عىل اخلوض يف املتشابه حيصونه‪ ،‬شبهت تلك‬
‫املالزمة بمالزمة التابع متبوعه»() عىل سبيل االستعارة التبعية‪ ،‬وفـي التعبري بتلك‬
‫االستعارة مبالغة واضحة‪ ،‬وذم شديد هلم؛ ألهنا تكشف عن سوء طويتهم‪ ،‬وخبث‬
‫معتقدهم‪ ،‬وفساد قلوهبم‪ ،‬وحتكم أهوائهم‪.‬‬
‫وفيها ً‬
‫أيضا توبيخ وتشنيع هلم عىل هذا التكلف والتتبع املريض‪ ،‬فضال عن‬
‫تصوير هذا املعنى املجرد بصورة حسية مما كساه أهبة‪ ،‬وزاده قوة‪.‬‬
‫والتعبري باملضارع « َي َّتبِ ُع َ‬
‫ون» دون املايض اتبعوا فيه استحضار لتلك الصورة‬
‫املزرية‪ ،‬وهذا يؤكد ً‬
‫أيضا عىل أن اسم املوصول عام‪ ،‬ليس مقصودا به طائفة بعينها‬
‫حدث ذلك منها‪ ،‬وإال لقال‪ :‬فاتبعوا‪ ،‬فاملضارع يندرج فيه كل من يتبع املتشابه‪ ،‬ويبني‬
‫أن هذا دأب املبطلني حيدث‪ ،‬ويتجدد منهم حالاً فحالاً ‪.‬‬
‫وواو اجلامعة يف « َي َّتبِ ُع َ‬
‫ون» يعود عىل مجيع املبطلني يف كل زمان ومكان كام قدمنا؛‬
‫ألن القرآن كتاب نزل للبرشية مجعاء‪ ،‬وال يقيم احلجة عىل النصارى واليهود فحسب‪،‬‬
‫بل يقيمها عىل كل من ضل وزاغ دون استثناء‪.‬‬
‫ﱫ ﮫ ﮬ ﱪ‪( :‬ما) اسم موصول بمعنى الذي‪ ،‬ومجلة ﱫﮬ ﱪ صلة املوصول‪،‬‬
‫واملعنى‪ :‬أن هؤالء يتتبعون الذي تشابه من آيات القرآن‪ ،‬ويالزمونه‪ ،‬ويعكفون‬
‫عليه‪.‬‬
‫وﱫ ﮬ ﱪ فعل مايض مخايس عىل وزن تفاعل‪ ،‬وصيغة تفاعل هنا تدل عىل‬

‫() التحرير والتنوير‪.161/3‬‬

‫‪90‬‬
‫املشاركة والتعدد مثل‪ :‬تساهم وتقاسم‪ ،‬وهذا يعني أن اآليات املتشاهبات حتتمل‬
‫داللتها تأويالت عديدة‪ ،‬واحتامالت لوجوه كثرية كام هو مدلول تلك الصيغة‪.‬‬
‫والتشابه املراد هنا هو املقصود بعينه () يف قوله‪ :‬ﱫ ﮢ ﮣﮤ ﱪ يقول ابن‬
‫عطية‪« :‬ﱫ ﮫ ﮬ ﮭ ﱪ هو املوصوف آن ًفا بمتشاهبات»()‪.‬‬
‫وهنا لفتة دقيقة‪ :‬فكلمة ﱫ ﮣﮤ ﱪ فيام مىض مفردها‪ :‬متشابه‪ ،‬وهي اسم‬
‫فاعل من الفعل تشابه فتشاكلت هذه مع تلك‪ ،‬وتواءمت معها‪ ،‬وعىل ذلك فأصل‬
‫الكالم‪« :‬فأما الذين يف قلوهبم زيغ فيتبعونه‪ ،‬ولكنه وضع املظهر ﱫﮫ ﮬ ﱪ موضع‬
‫املضمر تسجيال عليهم‪ ،‬وتأكيدا عىل ما يف نفوسهم وقلوهبم من ضاللة التعلق‬
‫باملتشابه واتباعه‪ ،‬من َث َّم رصح بذكره مرة أخرى ومل يضمره‪.‬‬
‫وهنا يثور سؤال دقيق‪ :‬إذا كان إدراك املتشابه بتلك الدقة فام فائدة ذكره يف‬
‫القرآن؟ أجاب اخلازن عن ذلك مفصال‪ ،‬فعد إليه خشية التطويل()‪.‬‬
‫ﱫ ﮭ ﱪ حال من فاعل تشابه‪ ،‬واهلاء تعود عىل آيات القرآن املتشاهبة‪.‬‬

‫() أما التشابه الوارد يف قوله‪ :‬ﱫﭬ ﭭ ﭮﱪ‪ ،‬فليس مقصو ًدا هنا بطبيعة احلال؛‬
‫ألن هذا النوع يشمل القرآن كله‪ ،‬بمعنى‪َّ :‬‬
‫أن بعضه يشبه ً‬
‫بعضا يف احلسن‪ ،‬وعدم التفاوت‪ ،‬وهذا‬ ‫َّ‬
‫النوع يوافق املحكم يف قوله‪ :‬ﱫﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘﱪ‪ ،‬ومل يقع يف هذا النوع اختالف بني العلامء‬
‫واملفرسين بداهة‪ ،‬وإنام املقصود باملتشابه هنا هو املقابل للمحكم يف قوله‪ :‬ﱫﮜ ﮝ ﮞﱪ‪،‬‬
‫وهذا النوع هو الذي وقع فيه االختالف بني العلامء كام َّبينا‪.‬‬
‫() املحرر الوجيز ‪.20/3‬‬
‫() تفسري اخلازن ‪ ،320-319/1‬وانظر‪ :‬تفسري الرازي ‪ ،90-89/7‬والقرطبي ‪،19/4‬‬
‫وتفسري أيب السعود ‪ ،8/2‬والفتوحات اإلهلية ‪ ،242/1‬وحاشية الصاوي ‪ ،185/1‬وفتح القدير‬
‫‪ ،19/2‬وتفسري املنار ‪ ،142-139/3‬حيث أطال يف ذلك جدًّ ا‪ ،‬فراجعه تفصيلاً ‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫ﱫ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓﱪ‪ :‬ﱫ ﮮ ﱪ مفعول ألجله‪ ،‬وهو مصدر من‬
‫الفعل اخلاميس «ابتغى»‪ ،‬و«ابتغى اليش َء‪ :‬أراده وطلبه»()‪.‬‬
‫وإيثار لفظة ابتغاء هنا؛ ملا فيها من املبالغة واالجتهاد يف طلب الفتنة؛ ألن صيغة‬
‫افتعل تدل عىل التكلف والتعمل واالجتهاد يف الطلب فكأهنم يتعملون ويتكلفون يف‬
‫طلب الفتنة‪ ،‬وهذا لعمري خمالف للفطر السليمة والعقول املستقيمة يقول الراغب‪:‬‬
‫«وأما االبتغاء فقد خص باالجتهاد يف الطلب فمتى كان الطلب ليشء حممود‪،‬‬
‫فاالبتغاء فيه حممود نحو‪ :‬ﱫ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﱪ‪ ،‬ﱫﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﱪ»()‪ ،‬وال‬
‫َّ‬
‫شك َّ‬
‫أن ابتغاء الفتنة هنا أمر مذموم عواقبه وخيمة‪ ،‬كام قال تعاىل‪ :‬ﱫﭑ ﭒ‬
‫ﭓ ﭔ ﭕﱪ‪.‬‬
‫ﱫ ﮯ ﱪ‪ :‬مضاف إليه وهو من إضافة املصدر ﱫ ﮮ ﱪ ملفعوله؛ ألن الفتنة‬
‫هي التي وقع عليه االبتغاء‪ ،‬واملعنى‪ :‬أهنم يتبعون املتشابه طلبا للفتنة‪.‬‬
‫والفتنة «أصلها مأخوذ من قولك‪ :‬ف َت ْن ُت الفضة والذهب إِذا َأذبتهام بالنار لتميز‬
‫الرديء من اجل ِّي ِد»()‪ ،‬وقد ذكرت املعاجم معاين عقلية أخرى للفتنة عالوة عىل هذا‬
‫املعنى احليس السابق()‪.‬‬
‫وقد اختلف املفرسون يف املعنى املراد بالفتنة يف هذا السياق عىل أوجه ذكرها‬
‫اخلازن بقوله‪« :‬قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮮ ﮯ ﱪ أي‪ :‬طلب الرشك والكفر وقيل‪ :‬طلب‬

‫() املعجم الوسيط ‪.67/1‬‬


‫() مفردات الراغب ‪.54‬‬
‫() لسان العرب (ف‪ .‬ت‪ .‬ن ) ‪ ،317/13‬وانظر‪ :‬مفردات الراغب ‪.385‬‬
‫() انظر‪ :‬املعجم الوسيط ‪ ،698/2‬ومفردات الراغب ‪ ،385‬ولسان العرب ‪.317 /13‬‬

‫‪92‬‬
‫الشبهات‪ ،‬واللبس ليضلوا هبا جهاهلم‪ ،‬وقيل‪ :‬طلب إفساد ذات البني»()‪.‬‬
‫وزاد األلويس رأيا رابعا فقال‪« :‬ومن الناس من محل الفتنة عىل املال فإن اهلل‬
‫قد سامه فتنة يف مواضع من كالمه‪ ( ،‬ولكن األلويس رفض هذا الرأي فقال) وال‬
‫مدعى»()‪ ،‬وهو كام قال رأي ضعيف ال يتالءم مع السياق‪.‬‬
‫ً‬ ‫خيفى أنه ليس بيشء‬
‫والراجح‪َّ :‬‬
‫أن الفتنة هنا تشمل املعاين الثالثة األوىل كلها وال تنازع بينها فاللفظة‬
‫حتتمل اجلميع‪ ،‬وكل زائغ عن االستقامة هيدف إليها مجيعها‪ ،‬أو إىل غرض معني منها‬
‫عىل حسب معتقده‪.‬‬
‫وهنا يثور سؤال‪ :‬ما حكم متبعي املتشابه عىل أي قصد من املقاصد؟ أجاب‬
‫القرطبي عن ذلك إجابة مسهبة مفصلة‪ ،‬فراجعه كي ال يطول القول ()‪.‬‬
‫ﱫ ﮰ ﮱﯓﱪ‪ :‬الواو للعطف عطفت املصدر ابتغاء الثاين عىل املصدر ابتغاء‬
‫األول‪ ،‬والعطف هنا يقتيض املشاركة يف االتباع‪ ،‬ويقتيض ً‬
‫أيضا التغاير؛ ألن املضاف‬
‫إليه تأويله يغاير الفتنة‪ ،‬فالذين يف قلوهبم زيغ أ ًّيا كانوا يتبعون املتشابه قاصدين من‬
‫وراء هذا االتباع أمرين‪ :‬طلب الفتنة وطلب التأويل عىل غري املراد‪.‬‬
‫ﱫ ﮱﯓ ﱪ‪ :‬تأويل مفعول به من إضافة املصدر ابتغاء ملفعوله كام مر‪.‬‬
‫والتأويل‪ :‬عىل وزن تفعيل‪ ،‬مصدر من املايض املضعف العني َ‬
‫«أ َّو َل»‪.‬‬
‫والتأويل يف اللغة له معنيان‪:‬‬

‫() تفسري اخلازن ‪ ،321/1‬وانظر‪ :‬تفسري البغوي ‪ ،321/1‬واملحرر الوجيز ‪ ،20/3‬وتفسري‬


‫القرطبي ‪ ،15/4‬وتفسري أيب السعود ‪ ،8/2‬وفتح البيان ‪.9/2‬‬
‫() روح املعاين ‪.732/2‬‬
‫() انظر‪ :‬تفسري القرطبي ‪ ،14-13/4‬والبحر املحيط ‪.383/2‬‬

‫‪93‬‬
‫األول‪« :‬تفسري الكالم الذي ختتلف معانيه وال يصح إال ببيان غري لفظه»()‪.‬‬
‫الثاين‪« :‬الرجوع إىل األصل‪ ،‬ومنه املـوئل للموضع الـذي يرجع إليه»()‪.‬‬
‫وقد اختلف املفرسون يف املعنى املراد من التأويل هنا هل هو األول أو الثاين؟‬
‫ذهب إىل األول بعض املفرسين‪ ،‬يقول البغوي‪« :‬ﱫ ﮰ ﮱﯓﱪ تفسريه وعلمه‪،‬‬
‫دليله قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﱪ [الكهف‪،)( »]78:‬‬
‫ويقول العالمة اجلمل‪« :‬التأويل والتفسري بمعنى واحد‪ ،‬وهذا هو املراد هنا»()‪.‬‬

‫() لسان العرب (أ‪ .‬و‪ .‬ل) ‪ ،33 /11‬وقد أورد صاحب «اللسان» تعريفا آخر للتأويل فقال‪:‬‬
‫«نقل ظاهر اللفظ عن وضعه األصيل إىل ما حيتاج إىل دليل لواله ما ترك ظاهر اللفظ»‪ ،‬وهذا التعريف‬
‫مل يرد يف املعاجم السابقة عىل لسان العرب‪ ،‬بل هو مصطلح حادث ظهر يف بيئة املتكلمني واألصوليني‪،‬‬
‫وال يصح تفسري التأويل الوارد يف آية (آل عمران) عليه بحال من األحوال؛ ألن هناك بعض الطوائف‬
‫ض َّلت الطريق‪ ،‬وظنت أن هذا املعنى احلادث هو املراد هبذا اللفظ‪ ،‬وأولت عليه كثريا من آيات القرآن‪،‬‬
‫فأخرجتها عن مضموهنا‪ ،‬ودالالهتا املرادة هبا بسبب حتريفها ملعنى التأويل كام فعل الباطنية والشيعة‬
‫والقرامطة وغريها من الفرق الضالة‪ ،‬وليس معنى هذا أننا ال جيوز لنا أن نستخدم هذا املصطلح هبذا‬
‫املعنى احلادث يف املوطن الذي يستدعيه‪ ،‬فكثري من آيات القرآن نقل اللفظ فيها عن معناه األصيل إىل‬
‫معنى جمازي بسبب وجود القرينة الدالة عىل ذلك‪ ،‬فإذا استدعى املقام التأويل هبذا املعنى أولنا هبذا‬
‫املفهوم السابق‪ ،‬أما أن يكون التأويل يف سورة (آل عمران) هبذا املفهوم؛ فهذا هو املرفوض‪ ،‬و«ال‬
‫تدعي أن املعنى االصطالحي الذي استعملت فيه هذه الكلمة أو تلك‬
‫َ‬ ‫ينبغي لطائفة أو ألخرى أن‬
‫هو معناها العام‪ ،‬أو هو بالرضورة املعنى الوارد يف القرآن‪ ،‬وال جيوز أن جتعل أقواهلا واصطالحاهتا‬
‫املتأخرة عن عرص النبوة واالحتجاج اللغوي أصلاً وحكماً تفسرِّ به ما ورد يف القرآن»‪ .‬انظر‪ :‬اإلمام‬
‫ابن تيمية وقضية التأويل ص ‪.36‬‬
‫() املفردات ‪ ،27‬وانظر‪ :‬عمدة احلفاظ ‪ ،157/1‬وهتذيب اللغة ‪ ،437/15‬واللسان ‪.32/11‬‬
‫() تفسري البغوي ‪ ،321/1‬وانظر‪ :‬القرطبي ‪ ،15/4‬وروح املعاين ‪.732/2‬‬
‫() الفتوحات اإلهلية للجمل ‪ ،243/1‬وانظر‪ :‬تفسري ابن كثري ‪.347/1‬‬

‫‪94‬‬
‫وذهب إىل الثاين أكثر املفرسين‪ ،‬يقول الثعالبي‪« :‬التأويل‪ :‬هو َم َر ُّد الكال ِم‬
‫ئول‪ ،‬إذا رجع»()‪.‬‬ ‫يقف ع َل ْيه من املعانيِ وهو‪ :‬من َ‬
‫آل َي ُ‬ ‫َو َم ْر ِج ُع ُه‪ ،‬واليشء الذي ُ‬
‫ويقول النيسابوري‪« :‬ﱫ ﮰ ﮱﯓﱪ؛ أي‪ :‬طلب املعنى الذي يرجع إليه‬
‫اللفظ بحسب ما يشتهونه من غري أن يكون قد وجد له يف كتاب اهلل بيان»()‪.‬‬
‫ويقول الشيخ رشيد رضا‪« :‬التأويل‪ :‬هنا بمعنى اإلرجاع أي‪ :‬أهنم يرجعونه إىل‬
‫أهوائهم وتقاليدهم ال إىل األصل املحكم» ()‪.‬‬
‫وهذا هو الراجح؛ ألن التأويل ورد هنا يف مقام ذم الذين يبتغون الفتنة‪ ،‬ويبتغون‬
‫تأويل املتشاهبات‪ ،‬أي‪ :‬طلب املعنى الذي يرجع إليه اللفظ بحسب ما يشتهونه من‬
‫غري أن يكون له يف كتاب اهلل بيان‪ ،‬والتأويل بمعنى التفسري غري مذموم حتى حيمل‬
‫عليه‪ ،‬يقول ابن عاشور‪« :‬وقد فهم أن املراد‪ :‬التأويل بحسب اهلوى أو التأويل امللقي‬
‫يف الفتنة بقرينة قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ‬
‫ﯟﱪ اآلية‪ ،‬كام فهم من قوله‪ :‬ﱫ ﮪﱪ أهنم هيتمون بذلك ويستهرتون به‪ ،‬وهذا‬
‫مالك التفرقة بني حال من يتبع املتشابه لإليقاع يف الشك واإلحلاد‪ ،‬وبني حال من‬
‫يفرس املتشابه‪ ،‬ويؤوله إذا دعاه داع إىل ذلك»()‪.‬‬
‫واهلاء يف ﱫ ﯖﱪ مضاف إليه‪ ،‬و«اإلضافة يف تأويله للعهد‪ ،‬أي‪ :‬بتأويل‬
‫خمصوص‪ ،‬وهو ما مل يوافق املحكم بل ما كان موافقا للتشهي»()‪.‬‬

‫() تفسري الثعالبي ‪ ،231/1‬وانظر‪ :‬املحرر الوجيز ‪ ،20/3‬وتفسري اخلازن ‪.321/1‬‬


‫() تفسري النيسابوري ‪ ،108/2‬وانظر‪ :‬البحر املحيط ‪ ،384/2‬وتفسري أيب السعود ‪.8/2‬‬
‫() تفسري املنار ‪.138/3‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪.163 ،162/3‬‬
‫() روح املعاين ‪ ،732-731/2‬وانظر‪ :‬حاشية الشهاب ‪.10/3‬‬

‫‪95‬‬
‫وهذا يؤكد َّ‬
‫أن التأويل هنا ليس هو التأويل بمعنى التفسري؛ ألن التفسري ممن ملك‬
‫أدواته غري مذموم‪ ،‬بل هو تأويل عىل حسب ما يشتهون‪ ،‬ويوافق أهواءهم‪ ،‬ويف هذا‬
‫ذم واضح لطوائف عديدة اتبعت ما تشابه من القرآن‪ ،‬وتركوا املحكم‪ ،‬فالنصارى‬
‫‪-‬كام يف سبب النزول‪ -‬اتبعوا ما تشابه يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ‬
‫ﭩ ﭪﭫ ﱪ [املائدة‪ ،]171:‬فتشابه هذا عليهم وجعلت طائفة منهم عيسى‬
‫إهلا‪ ،‬وتركوا املحكم يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﯱ‬ ‫ابن اهلل‪ ،‬كام جعلت طائفة منهم عيسى‬
‫ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﱪ [الزخرف‪ ،]59:‬وقوله تعاىل‪:‬‬
‫ﱫﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﱪ [آل عمران‪ ،]59:‬وهكذا احلال يف طوائف‬
‫كثرية ال نذكرها خشية التطويل()‪ ،‬فكل طائفة اتبعت هواها‪ ،‬وضلت عن الرصاط‬
‫واتبعت املتشابه وتأولته عىل هواها‪.‬‬
‫وهنا سؤال‪ :‬هل طلب تأويل املتشاهبات مذموم يف ذاته؟‬
‫ٍ‬
‫بمذمة بدليل قوله‪:‬‬ ‫أجاب ابن عاشور عن ذلك فقال‪« :‬ليس طلب تأويله يف ذاته‬
‫ﱫ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﱪ كام سنب ِّينه‪ ،‬وإنام حمل الذم أهنم يطلبون‬
‫تأويلاً ليسوا أهلاً له‪ ،‬فيؤولونه بام يوافق أهواءهم‪ ،‬وهذا ديدن املالحدة وأهل األهواء‬
‫الذين يتعمدون محل الناس عىل متابعتهم تكثريا لسوادهم» ()‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬ويف التعبري بقوله‪ :‬ﱫ ﮰ ﮱﯓ ﱪ مالحظة دقيقة‪ :‬حيث علل االتباع‬
‫بابتغاء التأويل دون التأويل نفسه‪ ،‬وجتريد التأويل عن الوصف بالصحة واحلقية‪،‬‬
‫ويف هذا إشارة إىل «أهنم ليسوا من التأويل يف عري وال نفري‪ ،‬وال قبيل وال دبري‪ ،‬وأن ما‬

‫() انظر‪ :‬التحرير والتنوير ‪.163-162/3‬‬


‫() التحرير والتنوير ‪.163-162/3‬‬

‫‪96‬‬
‫يتبعونه ليس بتأويل أصال ال أنه تأويل غري صحيح قد يعذر صاحبه»()‪.‬‬
‫وهنا مالحظة أخرى دقيقة‪ :‬هل الذين يف قلوهبم زيغ ابتغوا الفتنة‪ ،‬وابتغوا التأويل‬
‫معا أم كل جمموعة منهم ابتغت واحدة فحسب؟ أجاب العالمة األلويس عن ذلك‬
‫فقال‪« :‬وجوز يف هاتني الطلبتني أن تكونا عىل سبيل التوزيع بأن يكون ابتغاء الفتنة طلبة‬
‫بعض‪ ،‬وابتغاء التأويل حسب التشهي طلبة آخرين وجيوز أن يكون االتباع ملجموع‬
‫الطلبتني‪ ،‬وهو اخلليق باملعاند؛ ألنه لقوة عناده ومزيد فساده يتشبث هبام معا‪ ،‬وأن يكون‬
‫ذلك لكل واحدة منهام عىل التعاقب‪ ،‬وهو مناسب بحال اجلاهل؛ ألنه متحري تارة يتبع‬
‫ظاهره‪ ،‬وتارة يؤوله بام يشتهيه لكونه يف قبضة هواه يتبعه كلام دعاه»()‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬ﱫ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﱪ‪ :‬الواو هنا حالية واجلملة‬
‫بعدها «يف موضع احلال من ضمري يتبعون باعتبار العلة األخرية‪ ،‬أي‪ :‬يتبعون املتشابه‬
‫البتغاء تأويله تأويال فاسدً ا‪ ،‬واحلال أن التأويل املطابق للواقع كام يشعر به التعبري‬
‫من عباده الراسخني‬ ‫‪ ،‬وبمن وفقه‬ ‫بالعلم‪ ،‬وا ِ‬
‫إلضافة إىل اهلل تعاىل خمصوص به‬
‫يف العلم» ()‪.‬‬
‫و« َما» نافيه‪ ،‬وﱫ ﯕ ﱪ فعل مضارع منفي بام‪ ،‬و«العلم إدراك اليشء بحقيقته‪،‬‬
‫وذلك رضبان‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬إدراك ذات اليشء‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬احلكم عىل اليشء بوجود يشء هو موجود له‪ ،‬أو نفي يشء هو منفي‬
‫عنه‪.‬‬
‫() روح املعاين ‪ ،732/2‬وانظر‪ :‬تفسري أيب السعود ‪ ،8/2‬والفتوحات اإلهلية ‪.243/1‬‬
‫() روح املعاين ‪ ،732/2‬وانظر‪ :‬تفسري النيسابوري ‪ ،108/2‬والتفسري الوسيط ‪.30/2‬‬
‫() روح املعاين ‪ ،732/2‬وانظر‪ :‬التفسري الوسيط ‪.32-31/2‬‬

‫‪97‬‬
‫فاألول‪ :‬هو املتعدى إىل مفعول واحد نحو‪ :‬ﱫ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﱪ‬
‫[األنفال‪.]60:‬‬
‫والثاين‪ :‬املتعدى إىل مفعولني نحو قوله‪ :‬ﱫﯕ ﯖ ﯗﱪ [املمتحنة‪.)(»]10:‬‬
‫واملراد هنا هو النوع األول‪ ،‬أي‪ :‬وما يدرك املتشابه حق إدراكه‪ ،‬ويعلمه علام تاما‬
‫هنا علم إحاطي شمويل‪ ،‬بخالف علم‬ ‫‪ ،‬فالعلم املسند إىل املوىل‬ ‫منكشفا إال اهلل‬
‫البرش فهو علم كسبي غري حميط باألشياء‪.‬‬
‫ال يوصف باملعرفة مطل ًقا يظهر‬ ‫وعرب هنا بـ(يعلم) دون يعرف؛ ألن املوىل‬
‫جليا إذا تتبعنا ماديت العلم واملعرفة() لوجدنا أن املعرفة مل تسند البتة للموىل‬
‫ذلك ًّ‬
‫يف القرآن الكريم‪« :‬وخلو القرآن من إسناد املعرفة هلل دليل قاطع عىل أن العلم‬
‫كامل‪ ،‬وأن املعرفة يشوهبا النقص‪ ...‬لذلك ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬مل يأت (عرف) وال يشء من‬
‫مشتقاهتا فعال هلل؛ تنز ًهيا له عن النقائص فال يقال عرف اهلل كذا‪ ،‬وال يقال اهلل عارف‪،‬‬
‫وإنام يقال علم اهلل كذا‪ ،‬واهلل عامل»()‪ ،‬ولذا فمن أسامئه احلسنى (العليم)‪ ،‬وليس من‬
‫أسامئه العارف‪.‬‬
‫ﱫ ﯖﱪ‪ :‬تأويل مفعول مقدم للفعل يعلم الذي يتعدى هنا ملفعول واحد‬
‫«والضمري يف ﱫ ﯖﱪ عائدٌ عىل مجيع متشابه القرآن»()‪ ،‬وكأن أصل الكالم‪،‬‬
‫‪.‬‬ ‫وما يعلم تأويل مجيع متشابه القرآن إال اهلل‬
‫والتأويل هنا بمعنى اإلرجاع والعاقبة‪ ،‬وهو عني املقصود منه فيام سلف إال أن‬

‫() مفردات غريب القرآن ‪.355‬‬


‫() انظر‪ :‬املعجم املفهرس مادة‪ :‬عرف ‪ ،459-458‬ومادة‪ :‬علم ‪.481-469‬‬
‫() دراسات جديدة يف إعجاز القرآن ‪ ،84-83‬وانظر‪ :‬التفسري البياين بنت الشاطئ ‪.203/1‬‬
‫() تفسري الثعالبي ‪.231 /1‬‬

‫‪98‬‬
‫بينهام فرقا دقيقا من جهة ا ُملؤِّ ول ال من جهة التأويل‪ ،‬فهناك الزائغون املبطلون كانوا‬
‫يؤولونه حسبام يشتهون‪ ،‬ويتفق مع أهوائهم كام فعل النصارى واليهود‪ ،‬وكام يفعل‬
‫‪ ،‬وعىل ذلك فاملعنى‪ :‬وما يعلم‬ ‫كل مؤول زائغ عن احلق؛ وهنا التأويل منسوب هلل‬
‫مرجع املتشاهبات‪ ،‬وحقائقها وكيفياهتا عىل سبيل احلقيقة التامة‪ ،‬واإلحاطة الشاملة‬
‫‪.‬‬ ‫إال اهلل‬
‫ﱫ ﯗ ﱪ‪ :‬أداة حرص‪ ،‬ولفظ اجلاللة فاعل مؤخر‪ ،‬وقوله‪ :‬ﱫ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ‬
‫من باب‬ ‫ﯘﯙ ﱪ يفيد القرص رصاحة حيث قرص علم تأويل املتشاهبات عىل اهلل‬
‫قرص املوصوف لفظ اجلاللة عىل الصفة تأويل‪.‬‬
‫ردا عىل زعم النصارى‪ ،‬أو اليهود عىل حسب‬
‫وآثر التعبري هنا بـ (ما)‪ ،‬و (إال) ًّ‬
‫االختالف يف سبب النزول أهنم يعلمون املتشاهبات‪ ،‬و(ما)‪ ،‬و(إال) تأيت يف سياق‬
‫ِ‬
‫واإلثبات نحو‪:‬‬ ‫رب بال َّنفي‬
‫الرد عىل املكذب املنكر‪ ،‬يقول اإلمام عبد القاهر‪« :‬وأما اخل ُ‬
‫َ‬
‫املخاطب‪ ،‬ويشك فيه‪ ،‬فإذا‬ ‫فيكون لألم ِر ُي ْن ِكر ُه‬
‫ُ‬ ‫و«إن هو إ َّ‬
‫ال كذا»‪،‬‬ ‫«ما هذا إ َّ‬
‫ال كذا»‪ْ ،‬‬
‫َ‬
‫يكون األ ْم ُر عىل‬ ‫طىء»‪ ،‬قلتَه‪ :‬ملن يد َف ُع أن‬
‫ٌ‬ ‫مصيب»‪ ،‬أو «ما هو إال مخُ‬
‫ٌ‬ ‫قلت‪« :‬ما هو إال‬
‫َ‬
‫فقلت‪« :‬ما هو إال زيدٌ » مل تقله إال وصاح ُبك‬ ‫َ‬ ‫شخصا ِم ْن بعيد‬
‫ً‬ ‫رأيت‬
‫َ‬ ‫ما قلتَه‪ ،‬وإذا‬
‫َ‬
‫يكون زيدً ا»()‪.‬‬ ‫إلنكا ِر أن‬
‫آخر‪ ،‬وجيدُّ يف ا ِ‬ ‫ٌ‬
‫إنسان ُ‬ ‫يتوهم أنه ليس ٍ‬
‫بزيد‪ ،‬وأنه‬
‫وقدم املفعول تأويله عىل الفاعل لفظ اجلاللة؛ ألن املراد تسليط القرص عىل‬
‫الفاعل‪ ،‬فيكون املقصور عليه هو لفظ اجلاللة‪ ،‬واملقصور هو التأويل‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬ﱫ ﯚ ﯛ ﯜ ﱪ‪ :‬اختلف املفرسون يف داللة هذه الواو عىل وجهني‪:‬‬
‫األول‪ :‬الواو هنا استئنافية‪ ،‬والوقف يكون عىل لفظ اجلاللة‪.‬‬

‫() دالئل اإلعجاز حتقيق الشيخ شاكر ‪.332‬‬

‫‪99‬‬
‫يقول البغوي‪« :‬وذهب األكثرون إىل أن الواو يف قوله‪ :‬ﱫ ﯚ ﱪ واو‬
‫االستئناف‪ ،‬وتم الكالم عند قوله‪ :‬ﱫ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﱪ وهو قول أيب بن‬
‫كعب‪ ،‬وعائشة‪ ،‬وعروة بن الزبري ريض اهلل عنهم‪ ،‬ورواية طاووس عن ابن عباس‬
‫ريض اهلل عنهام‪ ،‬وبه قال احلسن وأكثر التابعني‪ ،‬واختاره الكسائي والفراء واألخفش‪،‬‬
‫وقالوا‪ :‬ال يعلم تأويل املتشابه إال اهلل» ()‪.‬‬
‫وعىل هذا الرأي «يكون قوله‪ :‬ﱫﯚﱪ مبتدأ‪ ،‬و‪ :‬ﱫﯝﱪ خرب عنه»()‪،‬‬
‫وتكون مجلة القرص انتهت عند لفظ اجلاللة‪ ،‬وهو املقصور عليه فحسب‪ ،‬وتقدير‬
‫الكالم‪ :‬ال يعلم تأويل املتشابه إال اهلل‪ ،‬فهو املتفرد بعلمه‪ ،‬ال يعلمه سواه‪ ،‬ال يرشكه‬
‫حتقيقيا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫حقيقيا‬
‫ًّ‬ ‫قرصا‬
‫يف ذلك ملك وال إنس وال جان‪ ،‬والقرص عىل ذلك يعد ً‬
‫الوجه الثاين‪ :‬الواو عاطفة عطفت ﱫﯚ ﱪ بعدها عىل لفظ اجلاللة‬
‫قبلها‪ ،‬يقول البغوي‪« :‬اختلف العلامء يف نظم هذه اآلية فقال قوم‪ :‬الواو يف قوله‪:‬‬
‫ﱫﯚﱪ واو العطف‪ ،‬يعني‪ :‬أن تأويل املتشابه يعلمه اهلل ويعلمه الراسخون‬
‫يف العلم وهم مع علمهم ﱫ ﯝ ﯞ ﯟ ﱪ‪ ،‬وهذا قول جماهد والربيع وعىل هذا‬
‫يكون قوله‪ :‬ﱫ ﯝ ﱪ حالاً معناه‪ :‬والراسخون يف العلم قائلني آمنا به‪ ...‬أي قائلني‬
‫عىل احلال‪ ،‬وروي عن ابن عباس ريض اهلل عنهام أنه كان يقول يف هذه اآلية‪ :‬أنا‬
‫من الراسخني يف العلم‪ ،‬وروي عن جماهد‪ :‬أنا ممن يعلم تأويله»()‪ ،‬وعىل هذا الرأي‬

‫() تفسري البغوي ‪ ،321/1‬وانظر‪ :‬املحرر الوجيز ‪ ،20/3‬وتفسري الرازي ‪،97-95/7‬‬


‫وتفسري القرطبي ‪ ،16 /4‬واخلازن ‪ ،322/1‬وابن كثري ‪ ،346 /1‬وفتح البيان ‪.15/2‬‬
‫() البحر املحيط ‪.384/ 2‬‬
‫() تفسري البغوي ‪ ،321/1‬وانظر‪ :‬الكشاف‪ ،413/1‬واملحرر الوجيز ‪ ،21-20/3‬وتفسري‬
‫الثعالبي ‪ ،231/1‬وتفسري القرطبي ‪ ،16/4‬وتفسري ابن كثري ‪ ،347/1‬والبحر املحيط ‪. 384/2‬‬

‫‪100‬‬
‫يكون الوقف عىل الراسخني‪ ،‬ويكون الراسخون داخلني يف مجلة القرص‪ ،‬والتقدير‪:‬‬
‫ال يعلم تأويل املتشاهبات إال اهلل والراسخون يف العلم‪ ،‬وما عدامها ال يعلمون تأويلها‬
‫البتة‪.‬‬
‫هذان مها الرأيان اللذان عليهام جل املفرسين يف معنى الواو باختصار شديد()‪،‬‬
‫وبذلك يتبينَّ لنا‪ :‬أنه قد انبنى عىل «االختـالف يف حممـل العطف يف قـوله تعاىل‪:‬‬
‫ﱫﯚ ﯛ ﯜ ﱪ اختالف بني علامء األمة يف تأويل ما كان متشاهبا من آيات‬
‫القرآن‪ ،‬ومن صحاح األخبار عن النبي ×‪.)(»...‬‬
‫وإذا كان يل من رأي هنا؛ فإين أميل إىل الرأي األول بأن الواو استئنافية والتأويل‬
‫عىل ذلك هنا يكون بمعنى حقيقة اليشء كام بينا قبل‪ ،‬وليس بمعنى التفسري‪ ،‬يؤيد ذلك‬
‫سبب النزول كام تقدم ذكره‪ ،‬ويؤيده ً‬
‫أيضا أن التأويل يف مجيع مواضعه يف الذكر احلكيم مل‬
‫يستخدم بمعنى التفسري()‪ ،‬وما رجحته هو ما عليه أكثر املفرسين القدماء واملحدثني‪.‬‬

‫عرضت مجيع كتب التفسري هلذه القضية تفصيلاً ‪ ،‬وما عرضته هنا كان باختصار شديد‬
‫ْ‬ ‫()‬
‫مراعاة للمقام‪ ،‬ومن أراد التوسع؛ فالقضية مبسوطة فيها مع ما يشوب بعضها من تضارب األقوال‬
‫وتداخلها‪ ،‬وقد عمدت إىل األيرس األسهل بعيدً ا عن هذا التضارب والتداخل‪.‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪ 176-166/3‬بترصف يسري‪.‬‬
‫() ورد لفظ التأويل يف الذكر احلكيم كله (‪ )17‬مرة عىل النحو اآليت‪ :‬ورد مضا ًفا لضمري‬
‫الغائب «تأويله» (‪ )8‬مرات‪ ،‬اثنتني هنا يف سورة آل عمران‪ ،‬والضمري فيهام عاد عىل اآليات املتشاهبات‬
‫دون شك‪ ،‬ومل يقع التأويل عىل آيات القرآن املتشاهبة إال يف هذه اآلية‪ ،‬وسائر استعامالت اللفظة وقع‬
‫التأويل فيها عىل أشياء أخر كام سيأيت‪ ،‬واثنتني يف سورة األعراف يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ‬
‫ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﱪ [األعراف‪ ،]53:‬والضمري فيها يعود عىل ما ينتظر أهل‬
‫مكة من عاقبة ما وعدوا به يوم القيامة‪ ،‬كام هو بني من السياق السابق‪ ،‬ومرة واحدة يف سورة يونس‬
‫يف قوله‪ :‬ﱫ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭﱪ [يونس‪ ]39:‬أي‪ :‬ملا يأهتم بعد عاقبة ما =‬

‫‪101‬‬
‫النبي × يف ِ‬
‫وفد‬ ‫النصارى الذين َوفدُ وا عىل ِّ‬
‫وي أن من َ‬ ‫«ر َ‬ ‫يقول اإلمام ابن تيمية ُ‬
‫مجع‪ ،‬وهذا ْتأ ٌ‬
‫ويل‬ ‫ري ٍ‬ ‫نجران َم ْن َت َأ َّو َل (إ َّنا)‪ ،‬و ( َن ْح ُن) عىل َأن اآلهل َة ٌ‬
‫ثالثة؛ ألن هذا ضم ُ‬ ‫َ‬
‫فإنه ُي َر ُاد هبا الواحدُ الذي ُ‬
‫معه‬ ‫ابه؛ ُ‬ ‫ومعلوم َأ َّن‪( :‬إ َّنا)‪ ،‬و( َن ْح ُن) ِمن ا ُمل َ‬
‫تش ِ‬ ‫ٌ‬ ‫يف اإليامن باهلل‬
‫راد‬ ‫من ِج ِ‬
‫نسه‪ ،‬و ُي ُ‬ ‫أعوا ُن ُه‪ ،‬وإِن مل يكونوا ْ‬ ‫نسه‪ ،‬و ُي َر ُاد هبا الواحدُ الذي ُ‬
‫معه ْ‬ ‫من ِج ِ‬ ‫ريه ْ‬‫غ ُ‬
‫اسم منها‬
‫كل ٍ‬‫لتنو ِع أسامئه التي ُّ‬
‫ريه ُّ‬
‫معه غ ُ‬
‫من ُ‬‫قام ْ‬
‫نفسه الذي يقوم َم َ‬
‫املعظم َ‬
‫ُ‬ ‫هبا الواحدُ‬

‫=توعدوا به‪ ،‬فالضمري يعود عىل ذلك كام يبدو من السياق‪ ،‬وثالث مرات يف سورة يوسف آيات [‪،36‬‬
‫‪ ،]45 ،37‬وكلها يف تأويل الرؤيا‪.‬‬
‫وجمرورا (‪ )7‬مرات يف قوله‪ :‬ﱫ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ‬
‫ً‬ ‫مرفوعا‬
‫ً‬ ‫وورد لفظ‪« :‬تأويل»‬
‫ﭦ ﭧ ﭨﱪ [يوسف‪ ،]6:‬ويف قوله‪ :‬ﱫﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪﱪ [يوسف‪،]21:‬‬
‫ويف قوله‪ :‬ﱫ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﱪ [يوسف‪ ،]101:‬واألحاديث هنا هي التي وقع عليها‬
‫التأويل‪ ،‬ويف قوله‪ :‬ﱫﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﱪ [يوسف‪ ،]100:‬والروئ هنا هي التي‬
‫وقع عليها التأويل‪ ،‬ويف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﱪ [يوسف‪ ،]44:‬والتأويل هنا‬
‫منفي عن األحالم‪ ،‬ويف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﱪ [الكهف‪ ،]78 :‬ويف‬
‫قوله‪ :‬ﱫﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﱪ [الكهف‪ ،]82:‬والتأويل فيهام وقع عىل‬
‫ما أعلمه اخلرض ملوسى‬ ‫‪.‬‬
‫وورد «تأويلاً » منصو ًبا مرتني يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ‬
‫ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒﱪ [النساء‪ ،]59:‬وال يرتبط التأويل هنا بيشء من آي‬
‫ومرجعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫القرآن كام هو بينِّ ‪ ،‬فمعناه‪ :‬وأحسن ًّ‬
‫مردا‬
‫والثاين‪ :‬يف قوله‪ :‬ﱫﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﱪ [اإلرساء‪ ،]35:‬وهو عىل‬
‫املعنى األول‪ ،‬وال يرتبط كذلك باملتشابه‪ ،‬انظر‪ :‬املعجم املفهرس‪.97‬‬
‫وبذلك يتبينِّ لنا أن الذكر احلكيم مل يستعمل لفظ التأويل يف هذه اآليات إال بمعنى املرجع‬
‫واملصري‪ ،‬أو األثر اخلارجي الذي يقع جزا ًء لقوم وعاقب ًة هلم‪ ،‬أو مآلاً ألحاديث الناس‪ ،‬وتعب ً‬
‫ريا‬
‫لرؤياهم‪ ،‬ومل يرد بمعنى التفسري كام ذهب بعض املفرسين‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫والذين يف‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫اللفظ واحدٌ واملعنى ُمت ٌ‬
‫َنوع‪...‬‬ ‫فصار َهذا ُمتشابهِ ً ا؛ ألن‬
‫َ‬ ‫مسمى‬
‫مقام ًّ‬
‫يقوم َ‬
‫ُ‬
‫املحكم الذي ال اشتبا َه فيه َ‬
‫مثل‪ :‬ﱫﯽﯾ ﯿﰀﱪ‪ ،‬ﱫﭗﭘ‬ ‫َ‬ ‫لوهبم َز ْيغ ُ‬
‫يدعون‬ ‫ْ‬ ‫ُق‬
‫ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﱪ‪ ،‬ﱫﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡﱪ‪ ،‬ﱫﯣ‬
‫ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﱪ‪ ،‬ﱫﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ‬
‫ﭡ ﭢﱪ‪ ،‬ويتبعون املتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه عىل غري‬
‫مواضعه‪ ،‬وابتغاء تأويله‪ ،‬وهو احلقيق ُة التِي أخرب عنها‪.)(»...‬‬
‫ويقول الشيخ رشيد رضا‪« :‬غلط املفرسون يف تفسري التأويل يف اآلية ألهنم‬
‫جعلوه باملعنـى االصطالحي‪ ،‬وإن تفسري كلامت القرآن باملواضعات االصطالحية‬
‫قد كان منشأ غلط يصعب حرصه‪ُ ،‬ذكر التأويل يف سبع سور من القرآن (وبعد أن‬
‫بني معنى التأويل يف هذه السور قال) فتبني من هذه اآليات أن لفظ التأويل مل يرد‬
‫يف القرآن إال بمعنى األمر العميل الذي يقع يف املآل تصديقا خلرب أو رؤيا‪ ،‬أو لعمل‬
‫غامض ُيقصد به يشء يف املستقبل فيجب أن تفرس آية آل عمران بذلك‪ ،‬وال جيوز أن‬
‫حيمل التأويل فيها عىل املعنى الذي اصطلح عليه قدماء املفرسين‪ ،‬وهو جعله بمعنى‬
‫التفسري كام يقول ابن جرير‪ :‬القول يف تأويل هذه اآلية كذا‪ ،‬وال عىل ما اصطلح عليه‬
‫متأخروهم من جعل التأويل عبارة عن نقل الكالم عن وضعه إىل ما حيتاج يف إثباته‬
‫إىل دليل لواله ما ترك ظاهر اللفظ‪.)(»...‬‬

‫() جمموع فتاوى ابن تيمية ‪ ،277-276/13‬وانظر‪ :‬تفسري القاسمي ‪ ،21-11/4‬فقد نقل‬
‫ذلك عنه بحذافريه‪.‬‬
‫() تفسري املنار ‪ ،162-143/3‬وانظر‪ :‬تفسري سورة اإلخالص ‪ ،158-110‬وجمموع فتاوى‬
‫ابن تيمية ‪ ،70-68/4‬واإلكليل يف املتشابه والتأويل البن تيمية ‪.33-13‬‬

‫‪103‬‬
‫والشيخ رشيد ينطلق يف قوله هذا من كالم اإلمام ابن تيميه رمحه اهلل يف حديثه‬
‫عن التأويل يف تفسري سورة اإلخالص كام رصح هو نفسه بذلك حيث استطرد وأورد‬
‫نصوصا كاملة من كالم اإلمام ابن تيمية تؤكد ذلك‪.‬‬
‫ولكن ليس معنى ذلك أن نرفض الثاين متا ًما؛ ألن جميء اآلية عىل تلك الطريقة‬
‫االحتاملية أمر مقصود لذاته حتى يتسنى إدخال هذين الرأيني ويتسع األمر الختالف‬
‫العلامء فـ «نظم اآلية جاء عىل أبلغ ما يعرب به يف مقام يسع طائفتني من علامء اإلسالم‬
‫يف خمتلف العصور»()‪.‬‬
‫ﱫﯚ ﱪ مجع مذكر سامل‪ ،‬مفرده‪ :‬راسخ‪ ،‬وراسخ‪ :‬اسم فاعل من الثالثي‬
‫رسخ‪ ،‬أي‪ :‬ثبت()‪« ،‬والرسوخ‪ :‬الثبوت يف اليشء‪ ،‬وأصله يف األجرام‪ :‬أن يرسخ‬
‫اجلبل والشجر يف األرض»()‪.‬‬
‫فالرسوخ يف األصل للمحسوسات يقال‪ :‬جبال راسخة أي متمكنة ثابتة ضاربة‬
‫بجذورها يف أعامق األرض‪ ،‬لكنه استعمل هنا يف املعاين أي‪ :‬الرسوخ يف العلم‪،‬‬
‫ومن ثم فنسبة الرسوخ إىل طائفة من البرش نسبة غري حقيقية بل الكالم وارد عىل‬
‫سبيل االستعارة الترصحيية التبعية؛ للمبالغة يف شدة متكنهم‪ ،‬وكامل ثباهتم يف العلم‪،‬‬
‫فراسخون أبلغ ال شك من ثابتون‪ ،‬يقول ابن عاشور‪« :‬استعري الرسوخ لكامل العقل‬
‫والعلم بحيث ال ُتضلله الشبه‪ ،‬وال تتطرقه األخطاء غال ًبا‪ ،‬وشاعت هذه االستعارة‬
‫حتى صارت كاحلقيقة‪ ،‬فالراسخون يف العلم‪ :‬الثابتون فيه العارفون بدقائقه»()‪.‬‬

‫() التحرير والتنوير ‪.168 /3‬‬


‫() معجم املقاييس يف اللغة البن فارس ‪ ،404‬وانظر‪ :‬مفردات الراغب ‪.200‬‬
‫() تفسري القرطبي ‪ ،19/4‬وانظر‪ :‬التفسري الوسيط ‪.31/2‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪ ،164 /3‬وانظر‪ :‬روح املعاين ‪.733-732 / 2‬‬

‫‪104‬‬
‫ويقول السمني احللبي‪« :‬استعري الرسوخ ملن حتىل بالعلم‪ ،‬واختلط به حلمه ودمه‬
‫فيتحقق عنده حتققا إذا عرضت له شبهة مل خيتلج هلا قلبه»()‪.‬‬
‫وقد اختلف العلامء يف املراد بالراسخني هنا عىل رأيني‪:‬‬
‫األول‪« :‬مؤمنو أهل الكتاب كعبد اهلل بن سالم وأصحابه‪ ،‬بدليل ﱫﯰ‬
‫ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﱪ يعنى الراسخني يف علم التوراة»()‪ ،‬وعىل هذا الرأي‬
‫تكون أل يف الراسخني للعهد‪ ،‬وقد رفض أبو حيان هذا الرأي بقوله‪« :‬وهذا فيه‬
‫بعد»()‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬هم طائفة من العلامء هلم سامت وصفهم هبا الرسول × حينام سئل « َم ِن‬
‫فقال‪َ « :‬م ْن َب َّر ْت َي ِمين ُُه‪َ ،‬‬
‫وصدَ َق لسا ُنه‪ ،‬واستقام به َق ْل ُب ُه‪َ ،‬‬
‫وع َّف‬ ‫الراس ُخ يف ِ‬
‫الع ْل ِم؟ َ‬ ‫ِ‬
‫‪:‬‬ ‫لصحة هذا قول اهلل‬
‫َّ‬ ‫ابن ُر ْش ٍد‪ :‬ويشهد‬
‫العلم»؛ قال ُ‬
‫ِ‬ ‫الر ِ‬
‫اس ُخ يف‬ ‫َب ْطن ُُه‪ ،‬فذلك َّ‬
‫من مل َ‬
‫خيش‬ ‫ال ٌم ُّ‬
‫يدل َعىل أن ْ‬ ‫ﱫﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﱪ [فاطر‪]28 :‬؛ ألنه َك َ‬
‫فليس بعاملٍ»()‪ ،‬وعىل هذا الرأي تكون أل هنا للجنس‪ ،‬أي‪ :‬جنس من العلامء‬
‫َ‬ ‫اهلل‪،‬‬
‫اتصفوا هبذه الصفات‪ ،‬وهذا هو الراجح؛ ألن األول فيه بعد كام مر‪ ،‬وعىل ذلك‬
‫فالعلامء قسامن عامل فحسب‪ ،‬وعامل راسخ‪.‬‬

‫() عمدة احلفاظ ‪ ،97/2‬وانظر‪ :‬تلخيص البيان للريض ‪ ،25‬وتفسري الصابوين ‪.170/1‬‬
‫() البحر املحيط ‪ ،385/ 2‬واللباب البن عادل ‪.41/5‬‬
‫() البحر املحيط ‪.385/ 2‬‬
‫() تفسري الثعالبي ‪ ،232/1‬وانظر‪ :‬تفسري القرطبي ‪ ،19/4‬والفتوحات اإلهلية ‪،243/1‬‬
‫وروح املعاين ‪ ،733/2‬واحلديث يف كتاب جامع العلوم واحلكم البن رجب احلنبيل ‪.94/1‬‬

‫‪105‬‬
‫ﱫ ﯛ ﯜ ﱪ جار وجمرور متعلق بالراسخني‪« ،‬واملراد بالعلم العلم الرشعي‬
‫املقتبس من مشكاة النبوة فإن أهله هم املمدوحون»()‪.‬‬
‫فالعلم هنا ليس بمعناه الشامل الذي ينطبق عىل مجيع العلوم‪ ،‬ومن ثم فـ (أل) يف‬
‫العلم للعهد أي‪ :‬العلم الرشعي الديني‪ ،‬وهو علم اآليات املتشاهبات‪.‬‬
‫أقول هذا؛ ألن االختالف الواقع يف العلوم األخرى ال يؤدي إىل ما يؤدي إليه‬
‫االختالف يف تأويل املتشاهبات؛ ألنه «إذا تأمل املتأمل فساد العامل وما وقع فيه من‬
‫التفرق واالختالف‪ ،‬وما دفع إليه أهل اإلسالم وجده ناشئًا من جهة التأويالت‬
‫املختلفة املستعملة يف آيات القرآن‪ ،‬وأخبار الرسول × التي تعلق هبا املختلفون‬
‫عىل اختالف أصنافهم يف أصول الدين‪ ،‬وفروعه فإهنا أوجبت ما أوجبت من التباين‬
‫والتحارب‪ ،‬وتفرق الكلمة‪ ،‬وتشتت األهواء‪ ،‬وتصدع الشمل وانقطاع احلبل‪ ،‬وفساد‬
‫ذات البني‪ ،‬حتى صار يكفر‪ ،‬ويلعن بعضهم بعضا‪ ،‬وترى طوائف منهم تسفك دماء‬
‫اآلخرين‪ ،‬وتستحل منهم أنفسهم وحرمهم وأمواهلم‪.)(»...‬‬
‫«فأصل خراب الدين والدنيا إنام هو من التأويل الذي مل ُيرده اهلل ورسوله بكالمه‪،‬‬
‫وال دل عليه أنه مراده‪ ،‬وهل اختلفت األمم عىل أنبيائهم إال بالتأويل‪ ،‬وهل وقعت‬
‫يف األمة فتنة صغرية أو كبرية إال بالتأويل؟‪ ،‬فمن بابه دخل إليها‪ ،‬وهل أريقت دماء‬
‫املسلمني يف الفتن إال بالتأويل؟ وليس هذا خمتصا بدين اإلسالم فقط بل سائر أديان‬
‫الرسل مل تزل عىل االستقامة والسداد حتى دخلها التأويل‪ ...‬ولو ذهبنا نستوعب‬
‫ما جناه التأويل عىل الدنيا والدين‪ ،‬وما نال األمم قديام وحديثا بسببه من الفساد‬

‫() روح املعاين ‪ ،733/ 2‬وانظر‪ :‬التحرير والتنوير ‪.164 / 3‬‬


‫() الصواعق املرسلة عىل اجلهمية واملعطلة البن القيم ‪.348 /1‬‬

‫‪106‬‬
‫الستدعى ذلك عدة أسفار» ()‪.‬‬
‫وعرب بالظرفية «فيِ » إلفادة املبالغة كأهنم غاصوا يف العلم ومتكنوا فيه بسهم وافر‬
‫حتى كأن العلم صار مظروفا قد احتواهم‪ ،‬وبذلك تكون «يف» استعارة تبعية كام يرى‬
‫حقيقيا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫متأخرو البالغيني؛ ألن العلم ليس مظروفا‬
‫ﱫ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﱪ مجلة‪ :‬ﱫ ﯝ ﱪ خرب الراسخني بناء عىل‬
‫أن لفظ الراسخني مبتدأ‪ ،‬والواو لالستئناف‪ ،‬وعىل هذا الرأي يكون القول حقيقة‪،‬‬
‫والتقدير‪ :‬والراسخون يف العلم ال يؤولونه بل يكتفون بالقول آمنا بكونه من عند اهلل‪،‬‬
‫وإن مل نفهم معناه‪.‬‬
‫وجيوز أن تكون هذه اجلملة حاال بناء عىل أن الراسخني معطوفة عىل لفظ‬
‫اجلاللة‪ ،‬وعىل هذا الرأي حيتمل أن يكون القول كناية عن االعتقاد وحيتمل أن يكون‬
‫عىل حقيقته من النطق‪ ،‬ويف ذلك يقول ابن عاشور‪« :‬واملعنى عليه حيتمل أن يكون‬
‫املراد من القول‪ :‬الكناية عن االعتقاد؛ ألن شأن املعتقد أن يقول معتقده أي‪ :‬يعلمون‬
‫تأويله‪ ،‬وال هيجس يف نفوسهم شك من جهة وقوع املتشابه حتى يقولوا‪ :‬ملاذا مل جييء‬
‫واضحا؟ ويتطرقهم من ذلك إىل الريبة يف كونه من عند اهلل‪ ،‬فلذلك‬
‫ً‬ ‫الكالم كله‬
‫يقولون‪ :‬ﱫ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﱪ‪ ،‬وحيتمل أن املراد يقولون لغريهم‪ :‬أي من مل يبلغ مرتبة‬
‫الرسوخ من عامة املسلمني الذين ال قبل هلم بإدراك تأويله ليعلموهم الوقوف عند‬
‫حدود اإليامن‪ ،‬وعدم التطلع إىل ما ليس باإلمكان»()‪.‬‬

‫() فتح البيان للشيخ صديق خان ‪.14 ،13 ،12/2‬‬


‫() التحرير والتنوير ‪.168 /3‬‬

‫‪107‬‬
‫ٍ‬
‫وجه من الوجهني السابقني يف معنى القول عائد‬ ‫والضمري يف يقولون عىل أي‬
‫عىل الراسخني بال خالف‪.‬‬
‫ومجلة‪ :‬ﱫ ﯞ ﯟ ﱪ يف حمل نصب مقول القول‪ ،‬وآمن فعل ماض مزيد بحرف‬
‫من الثالثي َأ ِم َن‪ ،‬و«أصل األمن طمأنينة النفس وزوال اخلوف‪ ...‬واإليامن يستعمل‬
‫تارة اسام للرشيعة التي جاء هبا حممد ×‪ ...‬وتارة يستعمل عىل سبيل املدح‪ ،‬ويراد به‬
‫إذعان النفس للحق عىل سبيل التصديق»()‪.‬‬
‫وهذا األخري هو املراد هنا‪ ،‬فإن الراسخني يعتقدون اعتقادا جازما أن املتشابه من‬
‫عند اهلل‪ ،‬ويصدقون بذلك وتطمئن به قلوهبم‪ ،‬وتسكن إليه نفوسهم‪ ،‬ومن ثم عرب‬
‫هبذا الفعل؛ لإلشارة إىل هذا املعنى‪ ،‬مع مالحظة قوة النطق يف أصوات هذا الفعل‪،‬‬
‫والتي تعكس قوة اليقني وشدة الصدق واإلذعان‪ ،‬وهذا واضح ملن يردد تلك اللفظة‬
‫عىل لسانه‪ ،‬ويتسمع ألصوات حروفها عند نطقها‪.‬‬
‫وعرب باملايض ﱫ ﯞ ﱪ‪ ،‬ومل يقل يقولون نؤمن به داللة عىل صحة يقينهم‬
‫وسالمة معتقدهم‪ ،‬فلم يتوقفوا بل بتوا يف القضية وأبرموا احلكم دون تردد‪.‬‬
‫«والضمري يف‪ :‬به‪ ،‬حيتمل أن يعود عىل املتشابه‪ ،‬وهو الظاهر‪ ،‬وحيتمل أن يعود‬
‫عىل الكتاب»()‪ ،‬أي‪ :‬حمكمه ومتشاهبه‪ ،‬ولكن األول هو األرجح‪ ،‬كام هو بني من‬
‫سياق الكالم‪.‬‬
‫ﱫ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﱪ‪ :‬ﱫ ﯠﱪ مبتدأ‪« ،‬والتنوين يف كل‪ ،‬للعوض عن املحذوف‪،‬‬
‫فيحتمل أن يكون ضمري الكتاب‪ ،‬أي‪ :‬كله من عند ربنا وحيتمل أن يكون التقدير‪:‬‬

‫() مفردات الراغب ‪ ،22-21‬وانظر‪ :‬لسان العرب ( أ‪ .‬م‪ .‬ن ) ‪.21/13‬‬


‫() البحر املحيط ‪ ،385/2‬وانظر‪ :‬تفسري النيسابوري ‪.109 / 2‬‬

‫‪108‬‬
‫كل واحد من املحكم واملتشابه من عند اهلل»‬
‫()‪.‬‬

‫«فإن قيل‪ :‬لمِ َ ُح ِذ َف املضاف إليه من ﱫ ﯠ ﱪ؟‬


‫ِ‬
‫احلذف‬ ‫فاجلواب‪ :‬ألن داللته عىل املضاف قوية‪ ،‬فاأل ْم ُن من ال َّل ْب ِ‬
‫س بعدَ‬ ‫ُ‬
‫ٌ‬
‫حاصل»()‪.‬‬
‫«ك ُّل ا ْم ِر ٍئ بِماَ‬
‫وﱫ ﯠﱪ «تفيد االستغراق ألفراد ما تضاف إليه أو أجزائه نحو‪ُ :‬‬
‫و«ك ُّل ا ُمل ْس ِل ِم َعلىَ المُْ ْس ِل ِم َح َر ٌام َد ُم ُه َو َما ُل ُه َو ِع ْر ُض ُه»»()‪.‬‬
‫َك َس َب َر ِهنيٌ ‪ُ ،‬‬
‫وهي هنا تفيد استغراق أفراد ما أضيفت إليه‪ ،‬ففيها تنبيه عىل الشمولية واإلحاطة‪،‬‬
‫أي‪ :‬كل املتشابه‪ ،‬أو كل املتشابه واملحكم دون استثناء‪.‬‬
‫ﱫ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﱪ شبه مجلة متعلق بكائن‪ ،‬أو مستقر يف حمل رفع خرب لكل‪ ،‬ومجلة‬
‫ﱫ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﱪ‪ :‬جيوز أن تكون مستأنفة‪ ،‬وعىل ذلك تكون مقوال ثانيا من مقول‬
‫الراسخني‪ ،‬واملقول األول ﱫﯞ ﯟﱪ «جعلت كل مجلة كأهنا مستقلة بالقول‪،‬‬
‫ولذلك مل يشرتك بينهام بحرف العطف»()‪.‬‬
‫وجيوز أن تكون توكيدا معنويا للمقول األول‪ ،‬يقول األلويس‪« :‬ﱫ ﯠ ﯡ ﯢ‬
‫ﯣﯤﱪ من متام مقوهلم مؤكد ملا قبله ومقرر له أي كل واحد منه ومن املحكم أو كل‬
‫واحد متشاهبه‪ ،‬وحمكمه منزل من عنده تعاىل ال خمالفة بينهام»()‪.‬‬

‫() البحر املحيط ‪ ،385/2‬وانظر‪ :‬فتح البيان ‪.20/2‬‬


‫() اللباب البن عادل ‪ ،41/5‬وانظر‪ :‬تفسري الرازي ‪ ،98/ 7‬وتفسري القرطبي ‪.19/4‬‬
‫() املعجم الوسيط ‪ ،828/ 2‬وانظر‪ :‬مفردات الراغب ‪.311-310/2‬‬
‫() البحر املحيط ‪.385/2‬‬
‫() روح املعاين ‪ ،733/2‬وانظر‪ :‬تفسري الكشاف ‪ ،413/ 1‬وتفسري أيب السعود ‪.8/2‬‬

‫‪109‬‬
‫أي‪ :‬كأهنام صارا «ممتزجني يف القول امتزاج اجلملة الواحدة‪ ،‬نحو قوله‪:‬‬

‫الو َّد فيِ ُفؤَ ِاد الِ َك ِر ِ‬


‫يم‬ ‫َي ْز َر ُع ُ‬ ‫ف َأ ْم َس ْي َت ممِ َّا‬
‫ ‬ ‫ف َأ ْص َب ْح َت َك َي َ‬
‫َك ْي َ‬

‫الود»()‪.‬‬
‫كأنه قال‪ :‬هذا الكالم مما يزرع َّ‬
‫وﱫ ﯡ ﱪ حرف جر يفيد هنا االبتداء‪ ،‬أي‪ :‬من ابتداء ما يسمى حمكام ومتشاهبا‬
‫كله من عند اهلل‪.‬‬
‫وﱫ ﯢ ﱪ ظرف مكان جمرور بمن‪ ،‬وهنا ملحوظة دقيقة‪ :‬إذ كان من املمكن أن‬
‫يقال‪« :‬كل من ربنا» وال تذكر (عند)‪ ،‬فام فائدة التعبري هبا؟ أجاب عن ذلك النيسابوري‬
‫بقوله‪« :‬ويف زيادة ﱫ ﯢﱪ مزيد توضيح وتأكيد‪ ،‬وتفخيم لشأن القرآن»()‪.‬‬
‫ويف التعبري هبا ً‬
‫أيضا رس آخر حكاه ابن عاشور بقوله‪« :‬وزيدت كلمة ﱫﯢﱪ‬
‫للداللة عىل أن (من) هنا لالبتداء احلقيقي دون املجازي أي‪ :‬هو منزل من وحي اهلل‬
‫تعاىل وكالمه‪ ،‬وليس كقوله‪ :‬ﱫ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑﰒ ﱪ‬
‫[النساء‪.)(»]79:‬‬
‫ﱫ ﯣﯤ ﱪ‪ :‬ﱫ ﯢ ﱪ مضاف‪ ،‬ورب مضاف إليه‪« ،‬وأضاف العندية إىل قوله‪:‬‬
‫ربنا‪ ،‬ال إىل غريه من أسامئه تعاىل؛ ملا يف اإلشعار بلفظة الرب من النظر يف مصلحة‬
‫عبيده‪ ،‬فلوال أن يف املتشابه مصلحة ما أنزله تعاىل‪ ،‬وجلعل كتابه كله حمكماً »()‪ً ،‬‬
‫وأيضا‬

‫() البحر املحيط ‪.385/ 2‬‬


‫() تفسري النيسابوري ‪ ،109/2‬وانظر‪ :‬تفسري الرازي ‪ ،98/7‬اللباب البن عادل ‪.41/5‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪.169 /3‬‬
‫() البحر املحيط ‪.386-385/2‬‬

‫‪110‬‬
‫«يف التعبري بالرب إشارة إىل رس إنزال املتشابه‪ ،‬واحلكمة فيه ملا أنه متضمن معنى‬
‫الرتبية والنظر يف املصلحة واإليصال إىل معارج الكامل أوال فأولاً ‪.)(»...‬‬
‫ﱫ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﱪ‪ ،‬هذه اجلملة معطوفة بالواو «عىل مجلة يقولون‬
‫سيق من جهته تعاىل مدحا للراسخني بجودة الذهن وحسن النظر لمِ َا أهنم قد جتردت‬
‫عقوهلم عام يغشاها من الركون إىل األهواء الزائغة املكدرة هلا‪ ،‬واستعدوا إىل االهتداء‬
‫إىل معامل احلق والعروج إىل معارج الصدق»()‪ .‬وهذا ما أكده ابن عاشور قال‪« :‬مجلة‪:‬‬
‫ﱫ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﱪ تذييل ليس من كالم الراسخني مسوق مساق الثناء‬
‫عليهم يف اهتدائهم إىل صحيح الفهم»()‪.‬‬
‫و« َما» نافية‪ ،‬وﱫ ﯦ ﱪ الذكر هنا هو ضد النسيان كام مر احلديث عنه يف آية‬
‫سورة ص‪ ،‬واملعنى‪ :‬وما يتذكر هذه األمور من املحكم واملتشابه‪ ،‬ويستحرضها‬
‫يف قلبه‪ ،‬وجيرهيا عىل لسانه إال أصحاب العقول احلكيمة اخلالصة من الشوائب‬
‫واألدران‪.‬‬
‫وهذا ما فصله النيسابوري بقوله‪« :‬ﱫ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﱪ ما يتعظ إال‬
‫ذوو العقول الكاملة الذين يستعملون أذهاهنم يف فهم القرآن فيعلمون ما الذي‬
‫يطابق ظاهره دالئل العقل فيكون حمكماً ‪ ،‬وما الذي هو بالعكس فيكون متشا ًهبا‪ ،‬ثم‬
‫يعتقدون أن الكل كالم من ال جيوز يف كالمه التناقض‪ ،‬فيحكمون بأن ذلك املتشابه‬

‫() روح املعاين ‪.733/2‬‬


‫() روح املعاين ‪ ،734/ 2‬وانظر‪ :‬تفسري الكشاف ‪ ،413/1‬وتفسري أيب السعود ‪.8/2‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪.169/3‬‬

‫‪111‬‬
‫ال بد أن يكون له معنى صحيح عند اهلل وإن دق عن فهومنا»()‪.‬‬
‫وأصل ﱫ ﯦ ﱪ يتذكر لكنه أدغم التاء يف الذال إشارة إىل أن الراسخني يف‬
‫العلم هم من املسارعني إىل هذا التذكر‪ ،‬وأهنم يطوون احلديث عن التأويل الذي‬
‫ال يعلمونه طيا‪ ،‬فهذا هو األليق هبم‪ ،‬وهكذا كام قررنا يف آية سورة ص فإن اإلدغام‬
‫واإلظهار يكون لسبب يقتضيه وعلة تستوجبه‪ ،‬والسياق هو الفيصل‪.‬‬
‫ﱫ ﯧ ﱪ أداة استثناء وحرص‪ ،‬وآثر هنا النفي بـ (ما) و (إال)؛ ألن األمر فيه‬
‫إنكار كام تقدم يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﱪ‪ ،‬فانظر إىل هذا التالؤم‬
‫والتجانس يف أسلويب القرص هنا بام ال مزيد عليه‪.‬‬
‫أقول هذا؛ ألن ذاك األسلوب ورد بعينه يف الذكر احلكيم بأداة أخرى وهي إنام‬
‫يف موضعني يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ‬
‫ﭡﱪ [الرعد‪ ،]19:‬ويف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ‬
‫ﯽ ﯾ ﯿﱪ [الزمر‪ ،]9:‬والسياق هو الفيصل يف جميء كل أداة يف موضع‬
‫()‬
‫دون آخر‪ ،‬مما ال جمال لتبيينه هنا‪ ،‬وقد أفاض اإلمام عبد القاهر يف دالئل اإلعجاز‬
‫يف بيان أرسار التعبري هبذه اجلملة السابقة مع «إِ َّنماَ »‪.‬‬
‫وخص أويل األلباب هنا بالتذكر؛ ألن أويل األلباب هم الذين يصلون إىل لب‬
‫األشياء‪ ،‬وال يقنعون بظواهرها‪ ،‬وما ذلك إال ألكابر أهل العلم الراسخني فيه «وإنام‬
‫وصف الراسخون بذلك؛ ألهنم مل يكونوا راسخني إال بالتعقل والتدبر جلميع اآليات‬

‫() تفسري النيسابوري ‪ ،110-109/2‬وانظر‪ :‬مفاتيح الغيب ‪ ،98/7‬والبحر املحيط‬


‫‪.386/2‬‬
‫() دالئل اإلعجاز ‪.356 ،354‬‬

‫‪112‬‬
‫املحكمة التي هي األصول والقواعد حتى إذا عرض املتشابه بعد ذلك يتسنى هلم أن‬
‫يتذكروا تلك القواعد املحكمة‪ ،‬وينظروا ما يناسب املتشابه منها فريدونه إليه»()‪.‬‬

‫() تفسري املنار ‪.142/2‬‬

‫‪113‬‬
‫املبحث الثالث‬
‫املبحث الثالث‪:‬‬
‫البالغية يف آية االستنباط‬
‫َّ‬ ‫األسرار‬

‫‪ :‬ﱫ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ‬ ‫قوله‬
‫ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ‬
‫ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﱪ [النساء‪.]83:‬‬
‫وردت هذه اآلية الكريمة يف سورة النساء عقب اآلية األوىل التي ورد فيها‬
‫احلديث عن التدبر‪ ،‬وسياق هذه اآلية ‪-‬كام سبق‪ -‬كان احلديث فيه عن أحوال‬
‫املنافقني‪ ،‬وجاءت هذه اآلية عقب السابقة مبارشة‪ ،‬وهنا توقف املفرسون؛ فمنهم‬
‫خاصا‬
‫من جعل اخلطاب فيها موجها هلم امتدا ًدا للسياق السابق‪ ،‬ومنهم من جعله ًّ‬
‫ِ‬
‫بضعفة املسلمني‪ ،‬ومنهم من جعله شاملاً للطائفتني‪ ،‬وأ ًّيا ما كان فسوف نتبني ذلك‬
‫تفصيلاً من خالل إبراز أرسار الرتاكيب يف هذه اآلية الكريمة املباركة‪ ،‬فنقول وباهلل‬
‫التوفيق‪:‬‬
‫قوله‪ :‬ﱫ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓﱪ الواو للعطف‬
‫عطفت اجلملة التي بعدها «عىل قوله تعاىل‪ :‬ﱫﭟﭠﱪ [النساء‪ ،]81:‬وقوله‬
‫حتذيرا هلم عن اإلضامر ملا خيالف الظاهر‪ ،‬فإن‬
‫ً‬ ‫سبحانه‪ :‬ﱫﮑ ﮒ ﱪ اعرتاض‬

‫‪115‬‬
‫جارا إىل طاعة ا ُملن ََّزل عليه أي ٍّ‬
‫جار»()‪.‬‬ ‫يف تدبر القرآن ًّ‬
‫والعطف يعد هنا من قبيل عطف اجلمل التي ال حمل هلا من اإلعراب‪ ،‬ويشرتط‬
‫يف هذا النوع من العطف احتاد اجلملتني يف اخلربية واإلنشائية‪ ،‬وهذا ما حتقق هنا‪،‬‬
‫فكلتا اجلملتني خربيتان لفظا ومعنى‪.‬‬
‫ﱫﮊﱪ هنا ظرفية متضمنة معنى الرشط‪ ،‬وآثر التعبري هبا دون ْ‬
‫إن؛ للداللة‬
‫عىل حتقق هذا األمر فعال‪ ،‬ووقوعه يقينا من هؤالء املنافقني‪ ،‬أو ضعفة املسلمني‪ ،‬أو‬
‫مها معا كام سيأيت‪ ،‬ومن ثم فهو يزري عليهم هذا الفعل الشنيع وينكر عليهم هذا‬
‫التوجه اخلطري غري املسؤول‪.‬‬
‫ومجلة ﱫ ﮋﱪ فعل الرشط يف حمل جر بإضافة إذا إليها‪ ،‬والفعل جاء‬
‫يء مجَ ِيئًا حرض‪ ،‬ويستعمل متعد ًيا ً‬
‫أيضا بنفسه‪،‬‬ ‫يستعمل الز ًما‪ ،‬يقال‪« :‬جاء زيد يجَ ِ ُ‬
‫و«ج ْئت» زيدً ا إذا أتيت إليه‪ِ ،‬‬
‫و«ج ْئت» به‬ ‫وبالباء فيقال‪ِ :‬ج ْئت شيئًا حسنًا إذا فعلته‪ِ ،‬‬
‫ٍ‬
‫متعد بنفسه؛ ألن الضمري هم يف حمل نصب مفعول‬ ‫إذا أحرضته معك»()‪ ،‬وهو هنا‬
‫به‪.‬‬
‫«ه ْم» اختلف يف عوده‪ ،‬فقيل‪ :‬يعود عىل املنافقني الذين حتدثت عنهم‬
‫والضمري ُ‬
‫اآليات السابقة رصاحة‪ ،‬وقد ذهب هلذا مجهور املفرسين‪ ،‬يقول الثعالبي‪« :‬قوله تعاىل‪:‬‬
‫ﱫﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﱪ‪.‬‬
‫قال مجهور املفرسين إن اآلية يف املنافقني حسبام تقدم‪ ،‬واملعـنى‪ :‬أن املنافقني كانوا‬
‫يتشوفون إىل سامع ما ييسء النبي × فإذا طرأت هلم شبهة أمن للمسلمني‪ ،‬أو فتح‬

‫() روح املعاين ‪ ،190/4‬وانظر‪ :‬التحرير والتنوير ‪.139/5‬‬


‫() املصباح املنري ‪.45‬‬

‫‪116‬‬
‫عليهم حقروها وصغروا شأهنا‪ ،‬وأذاعوا ذلك التحقري والتصغري‪ ،‬وإذا طرأت هلم‬
‫شبهة خوف للمسلمني أو مصيبة عظموها وأذاعوا ذلك»()‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬الضمري يعود عىل ضعفة املسلمني‪ ،‬وهذا مذهب طائفة من املفرسين‪،‬‬
‫يقول الزخمرشي‪« :‬ﱫ ﮊ ﮋﱪ هم ناس من ضعفة املسلمني الذين مل تكن‬
‫فيهم خربة باألحوال وال استبطان لألمور كانوا إذا بلغهم خرب عن رسايا رسول اهلل‬
‫× من أمن وسالمة أو خوف وخلل ﱫ ﮑ ﮒﮓﱪ»()‪ ،‬وعىل هذا الرأي فـ «مساق‬
‫النظم الكريم حينئذ لبيان جناية تلك الطائفة وسوء تدبريهم إثر بيان جناية املنافقني‬
‫ومكرهم»() املذكور يف اآليات السابقة‪.‬‬
‫معا‪ ،‬يقول الثعالبي‪« :‬وقالت فرقة‪ :‬اآلية‬ ‫وقيل‪ :‬الضمري يعود عىل الطائفتني ً‬
‫ف َج َلدُ ُه‪َ ،‬و َق َّل ْت جتربته من املؤمنني»()‪.‬‬
‫نـزلت يف املنافقني‪ ،‬وفيمن َض ُع َ‬
‫«ه ْم» يتناغم مع الضامئر قبله وال يصح‬
‫والرأي األول هو الراجح؛ ألن الضمري ُ‬
‫أن نفرط عقد السياق بدون دليل‪ ،‬يقول ابن عاشور‪« :‬ضمري اجلمع راجع إىل الضامئر‬

‫() تفسري الثعالبي ‪ ،366/1‬وانظر عىل سبيل املثال‪ :‬معاين القرآن للفراء ‪ ،279/1‬وتفسري‬
‫الطربي ‪ ،200/4‬واملحرر الوجيز ‪ ،188/4‬وتفسري اخلازن ‪ ،564/1‬واللباب ‪ ،521/6‬والرساج‬
‫املنري ‪ ،319/1‬وحاشية الصاوي ‪ ،47/2‬والفتوحات اإلهلية ‪.404/1‬‬
‫() الكشاف ‪ ،547/1‬وانظر‪ :‬البحر املحيط ‪ ،305/3‬وتفسري أيب السعود ‪ ،208/2‬وروح‬
‫البيان ‪ ،246/5‬وفتح البيان ‪.330/2‬‬
‫() تفسري أيب السعود ‪ ،209 /2‬وانظر‪ :‬فتح القدير ‪.491/1‬‬
‫() تفسري الثعالبي ‪ ،366/1‬وانظر‪ :‬املحرر الوجيز ‪ ،188/4‬وأورد أبو حيان رأ ًيا آخر فقال‪:‬‬
‫«أو عىل اليهود قاله بعضهم»‪ .‬انظر‪ :‬البحر املحيط ‪ ،305/3‬والسياق ال يؤ ِّيد هذا الرأي مطل ًقا‪،‬‬
‫وذهب الشيح رشيد رضا إىل أن اخلطاب جلمهور املسلمني‪ ،‬وال يؤيده السياق كذلك‪ ،‬انظر‪ :‬تفسري‬
‫املنار ‪.242/5‬‬

‫‪117‬‬
‫قبله العائدة إىل املنافقني‪ ،‬وهو املالئم للسياق»()‪ ،‬ويقول القاسمي‪« :‬والذي يعطيه‬
‫الذوق السليم يف اآلية هو الوجه األول»()‪.‬‬
‫ﱫﮌﱪ فاعل جاء‪ ،‬واألمر هنا بمعنى‪« :‬الشأن ومجعه أمور»()‪ ،‬وهذا بخالف‬
‫َ‬
‫األ ْم ُر بمعنى الطلب فهو جيمع عىل َأ َو ِ‬
‫امر‪ ،‬واملراد من األمر هنا اخلرب‪ ،‬والدليل عىل‬
‫ذلك قوله بعد‪ :‬ﱫ ﮑ ﮒﮓﱪ‪ ،‬وسمي اخلرب أمرا؛ ألن األمر كام يقول الراغب‬
‫()‬

‫لفظ عام يف األقوال واألفعال‪ ،‬فهؤالء املنافقون كانوا إذا سمعوا قولاً ‪ ،‬أو رأوا‬
‫فعلاً من األمن‪ ،‬أو اخلوف أذاعوا به دون تردد حسدً ا وحن ًقا عىل املسلمني‪ ،‬وكيدا‬
‫هلم‪.‬‬
‫«جا َء» عن حقيقته إىل املجاز؛‬ ‫ٌ‬
‫قرينة رصحية عىل خروج الفعل َ‬ ‫ولفظ األمر هنا‬
‫ألن األمر يشء معنوي ال يتأتى منه املجيء كام يتأتى من اإلنسان فهو قرينة عىل أن‬
‫الفعـل استعارة ترصحيية تبعية عن البالغ‪ ،‬واملعنى‪ :‬إذا بلغ املنافقني خرب من األمن أو‬
‫اخلوف أذاعوه وأفشوه‪ ،‬يقول ابن عاشور‪«:‬املجيء جماز عريف يف سامع األخبار مثل‬
‫نظائره وهي‪ :‬بلغ وانتهى إليه‪ ،‬وأتاه‪ ،‬قال النابغة‪:‬‬

‫‪.)(»..................‬‬ ‫لع َن َأ َّن َك لمُ ْتَنِي ‬


‫َأ َتانيِ َأ َب ْي َت ا َّل ْ‬

‫وفائدة االستعارة‪ :‬تصوير اخلرب وهو أمر معنوي بصورة حسية تكشف عن قبح‬

‫() التحرير والتنوير ‪.139 /5‬‬


‫() حماسن التأويل للقاسمي ‪.403/5‬‬
‫() مفردات الراغب‪ ،20‬وانظر‪ :‬عمدة احلفاظ ‪.127 /1‬‬
‫() انظر‪ :‬مفردات الراغب ‪ ،20‬وعمدة احلفاظ ‪.127/1‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪.139/5‬‬

‫‪118‬‬
‫إرجافات املنافقني‪ ،‬وكأن األمر الذي جاؤوا به صار يتحرك بنفسه‪ ،‬ويتجول بينهم‬
‫بذاته‪ ،‬ويف ذلك مبالغة يف التشنيع هبم‪ ،‬وزيادة يف شدة اإلنكار عليهم‪ ،‬والكشف عام‬
‫هم عليه من وهن يف نفوسهم‪ ،‬وهزائم معنوية يف قلوهبم فجاءت االستعارة يف حملها‬
‫كام ترى‪.‬‬
‫وتنكري األمر حيتمل أن يكون للتعظيم؛ أي‪ :‬أمر عظيم من أمور املسلمني وحيتمل‬
‫أي أمر‪ ،‬ولو قليل من أمور املسلمني فهم ال يسرتونه بل يبدونه‬
‫أن يكون للتقليل‪ ،‬أي‪ُّ :‬‬
‫ويظهرونه‪ ،‬وجيوز أن يكونا مرادين معا‪ ،‬والسياق ال يرفضهام كام هو واضح‪ ،‬وهذا‬
‫يكشف عن نفسية شديدة املرض من املنافقني فهم يفشون ما كرب وما صغر‪ ،‬وجيعلون‬
‫الكشف عن ذلك هجريهم وديدهنم‪ ،‬وال خيفى أن هذا حال املرجفني يف هذا العرص‬
‫فهم عىل هنج واحد ال يتغري‪.‬‬
‫ﱫ ﮍ ﮎ ﱪ شبه مجلة نعت لألمر كاشف ملعناه‪ ،‬مبني ملدلوله «ويف املراد‬
‫باألمن أربعة أقوال‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬فوز الرسية بالظفر والغنيمة‪ ،‬وهو قول األكثرين‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬أنه اخلرب يأيت إىل النبي × أنه ظاهر عىل قوم فيأمن منهم قاله الزجاج‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أنه ما يعزم عليه رسول اهلل × من املوادعة واألمان لقوم ذكره‬
‫املاوردي‪.‬‬
‫والرابع‪ :‬أنه األمن يأيت من املأمن وهو املدينة ذكره أبو سليامن الدمشقي خمرجا‬
‫من حديث عمر»()‪.‬‬
‫ولكن أغلب املفرسين اقترصوا عىل ذكر املعنى األول‪ ،‬يقول اخلازن «أمر من‬

‫() زاد املسري ‪ ،88/ 2‬وانظر‪ :‬البحر املحيط ‪.305/ 3‬‬

‫‪119‬‬
‫األمن يعني‪ :‬جاءهم خرب بفتح وغنيمة»()‪.‬‬
‫ولعل التعبري باألمن دون النرص أو الغنيمة يرجح أن األقوال األربعة التي ذكرها‬
‫أمن‪ ،‬وعىل ذلك فـ‬
‫ابن اجلوزي كلها مرادة؛ ألهنا مجيعها مما يصح أن يطلق عليها ٌ‬
‫(أل) يف «األمن» للعموم أي‪ :‬كل ما يطلق عليه أمن دون ختصيص حلالة دون حالة‪،‬‬
‫وهذا هو الذي يتالءم مع نفسية هؤالء املنافقني‪ ،‬وما تنطوي عليه دخائل صدورهم‬
‫من دغل وحسد وكراهية للمسلمني‪ ،‬ويؤيد ما ذكرناه ً‬
‫أيضا لفظة‪ :‬ﱫ ﮍ ﱪ التي هي‬
‫هنا عىل أصلها من االبتداء‪ ،‬أي‪ :‬من بداية ما يقال له أمن‪ ،‬ولو كان املراد املعنى األول‬
‫فحسب فإن هذا اللفظ يكون جمازا مرسال لعالقة املسببية حيث أطلق املسبب وهو‬
‫األمن‪ ،‬وأراد السبب‪ ،‬وهو النرص والظفر والغنيمة؛ ألن هذه األمور كلها يتسبب‬
‫عنها األمن‪.‬‬
‫ﱫ ﮏ ﮐ ﱪ أو هنا عىل أصلها دالة عىل أحد الشيئني املذكورين معها وعرب‬
‫بـ ( أو ) دون الواو؛ لبيان أهنم ال يتوقفون يف إفشائه عند واحد بعينه بل نفوسهم يف‬
‫احلالتني سواء‪ ،‬أو لبيان أهنم كلام بدا هلم واحد منهام يف أي وقت أفشوه وأظهروه‪،‬‬
‫فمعنى اجلمع املفاد من الواو هنا غري مراد‪ ،‬ولذا مل يعرب هبا‪.‬‬
‫ﱫ ﮐﱪ «توقع املكروه ألمارة مظنونة أو معلومة‪ ،‬كام أن الطمع والرجاء‬
‫توقع املحبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة‪ ،‬ويقابله األمن؛ ملا فيه من الطمأنينة‪،‬‬
‫واخلوف فيه قلق واضطراب»()‪.‬‬
‫ويف املراد منه هنا «ثالثة أقوال‪:‬‬

‫() تفسري اخلازن ‪ ،564/1‬وانظر‪ :‬تفسري القرطبي ‪ ،291/5‬والفتوحات اإلهلية ‪.404/1‬‬


‫() عمدة احلفاظ‪ ،622-621/1‬وانظر‪ :‬مفردات الراغب ‪.161‬‬

‫‪120‬‬
‫أحدها‪ :‬أنه النكبة التي تصيب الرسية ذكره مجاعة من املفرسين‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬أنه اخلرب يأيت أن قوما جيمعون للنبي× فيخاف منهم قاله الزجاج‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬ما يعزم عليه النبي من احلرب والقتال ذكره املاوردي»()‪ ،‬وقد‬
‫اقترص غالبية املفرسين ً‬
‫أيضا عىل األول‪ ،‬يقول اخلازن‪« :‬أو اخلوف يعني‪ :‬القتل‬
‫واهلزيمة»()‪.‬‬
‫ولكن ختصيص اخلوف بالقتل أو اهلزيمة كام ذهب جل املفرسين غري دقيق؛‬
‫َّ‬
‫ألن أل يف لفظ اخلوف للعموم كام مر يف األمن‪ ،‬ومن ثم فام ذكره ابن اجلوزي هو‬
‫األوىل؛ ألنه يكشف عن نفسية املنافقني‪ ،‬فأي خوف مظنون أو معلوم عىل أي وجه‬
‫من الوجوه يذيعونه‪ ،‬ولذا عرب هنا بلفظ اخلوف دون اخلشية والفزع والرعب()؛‬
‫فضحا لنفسية هؤالء‪ ،‬فهم يفشون‬
‫ً‬ ‫ألن التعبري بذلك أشد تالؤما مع السياق‪ ،‬وأكثر‬
‫األخبار من اخلوف وإن مل يتيقنوا من حدوثها لتفتيت عضد املسلمني وتثبيط مهمهم‪،‬‬
‫وهذا كله يؤكد أن احلديث عن املنافقني‪.‬‬
‫ولو كان املراد املعنى األول فحسب فإن هذا اللفظ يكون جمازا مرسال لعالقة‬
‫املسببية حيث عرب باملسبب وهو اخلوف‪ ،‬وأراد السبب وهو اهلزيمة؛ ألن اهلزيمة‬
‫يتسبب عنها اخلوف عىل غرار ما مىض يف األمن‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وبني األمن واخلوف طباق تضاد‪ ،‬وهلذا الطباق أثر قوي عىل املعنى وتأكيده‬

‫() زاد املسري ‪ ،89-88 /2‬وانظر‪ :‬البحر املحيط ‪.305 / 3‬‬


‫() تفسري اخلازن ‪ ،564/1‬وانظر‪ :‬تفسري القرطبي ‪ ،291/5‬والفتوحات اإلهلية ‪.404/1‬‬
‫يتأمل يف مدلوالت األلفاظ التي تقارب اخلوف يف معناه‪ ،‬مثل‪ :‬اخلشية والفزع والرعب‬
‫() من َّ‬
‫والوجل‪ ،‬يلحظ د َّقة الذكر احلكيم املتناهية يف اختيار تلك اللفظة هنا‪ ،‬وقد أفاض العسكري يف بيان‬
‫الفروق بني هذه األلفاظ‪ ،‬فراجعه خشية التطويل (انظر‪ :‬الفروق يف اللغة ‪.)238-235‬‬

‫‪121‬‬
‫وتقريره يف النفس‪ ،‬وفيه ً‬
‫أيضا إشارة إىل أن هؤالء املنافقني ال حيبون حياة اجلهاد بل‬
‫هم طالب دنيا وسالم زائف كبعض املعارصين‪ ،‬فهم عند حتقق األمن يفشونه حقدا‬
‫وفرحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫وطمعا‪ ،‬وعند حصول اهلزيمة يذيعوهنا سعادة‬
‫ﱫ ﮑ ﮒﮓﱪ اجلملة من الفعل أذاع‪ ،‬والفاعل واو اجلامعة ال حمل هلا من‬
‫اإلعراب جواب إذا‪ ،‬وواو اجلامعة تعود عىل املنافقني حسبام بينا قبل‪.‬‬
‫وأذاع مايض رباعي مزيد بحرف يف أوله‪ ،‬وماضيه الثالثي ذاع‪ ،‬وقد ذهب بعض‬
‫املفرسين إىل أن ذاع الثالثي‪ ،‬وأذاع الرباعي بمعنى واحد‪ ،‬يقول السمني‪« :‬ذاع اليشء‬
‫ِ‬
‫يذيع‪ ،‬و ُيقال‪ :‬أذاع اليشء ً‬
‫أيضا بمعنى املجرد»()‪.‬‬
‫وليس هذا بسديد؛ ألن اهلمزة إذا دخلت عىل الثالثي فإهنا تفيد عدة معان يتحدد‬
‫املراد منها حسب السياق‪ ،‬وهذا واضح هنا ‪-‬ملن يتأمل‪ -‬بني ذاع اليشء‪ ،‬وأذاع اليشء‪،‬‬
‫فاألول ذاع لشهرته أو لعالمات دلت عليه‪ ،‬أما أذاع فإهنا تدل عىل أن اليشء كان خمفيا‬
‫مسترتا ال ينبغي إفشاؤه أو ظهوره‪ ،‬ثم أتى من أذاعه عامدا متعمدا قاصدا اإلرضار‪،‬‬
‫ففرق واضح بينهام كام ترى‪ ،‬وقد أشار إىل ما ذكرته بعض اللغويني يقول الرازي‪َ « :‬ذ َاع‬
‫وع ًة و َذ َي َعا ًنا بفتح الياء‪ ،‬وأ َذ َاع ُه غريه‪ :‬أفشاه»()‪.‬‬
‫وعا و َذ ْي ُع َ‬
‫اخلرب‪ :‬انترش وبابه باع ُذ ُي ً‬
‫وهذا ما يفهم ً‬
‫أيضا من كالم كثـرة من املفرسين‪ ،‬يقـول القرطبي‪« :‬ﱫ ﮑ‬
‫ﮒﮓﱪ أي‪ :‬أفشوه وأظهروه وحتدثوا به قبل أن يقفوا عىل حقيقته»()‪.‬‬

‫() الدر املصون ‪ ،51/4‬وانظر‪ :‬اللباب ‪ ،521/6‬والفتوحات اإلهلية ‪.405/1‬‬


‫() خمتار الصحاح ‪ ،94‬وانظر‪ :‬املعجم الوسيط ‪.330/1‬‬
‫() تفسري القرطبي ‪ ،291/5‬وانظر‪ :‬تفسري الطربي ‪ ،200/4‬وروح املعاين ‪،189/4‬‬
‫والفتوحات اإلهلية ‪ ،405/1‬والتحرير والتنوير ‪.139/5‬‬

‫‪122‬‬
‫ﱫ ﮒﮓﱪ جار وجمرور متعلق بالفعل أذاع‪ ،‬وهذا الفعل ورد متعديا بنفسه‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫رب»‪ ،‬وورد متعد ًيا بواسطة اجلار كام هنا‪ ،‬وبينهام فرق واضح يف الداللة‬
‫«أذاع حممد اخل َ‬
‫ملن يتأمل‪.‬‬
‫لكن هناك من العلامء من زعم أن أذاع املتعدي بنفسه‪ ،‬واملتعدي بحرف اجلر‬
‫بمعنى واحد ال فرق بينهام يف الداللة‪ ،‬ومن ذهب إىل ذلك رأى أن الباء زائدة‪ ،‬يقول‬
‫الشيخ حقي‪« :‬يقال‪ :‬أذاع الرس‪ ،‬وأذاع به والباء مزيدة»()‪.‬‬
‫ولعل القائلني بأن الباء مزيدة ال يقصدون بذلك أن وجودها يف اآلية كعدمها‬
‫‪-‬حاشا وكلاَّ أن يكون يف كتاب اهلل حرف واحد بال معنى‪ ،-‬ولكنها عبارة جتري عىل‬
‫ألسنتهم ال يقصدون هبا معناها املجرد‪ ،‬وقد أوضح معناها عىل القول بأهنا مزيدة ابن‬
‫عاشور فقال‪« :‬ويتعدى إىل اخلرب بنفسه‪ ،‬وبالباء يقال‪ :‬أذاعه وأذاع به‪ ،‬فالباء لتوكيد‬
‫اللصوق كام يف ﱫﭝ ﭞ ﱪ»()‪ .‬فليست الباء مزيدة هنا باملعنى املجرد‬
‫للفظ‪ ،‬ولكنها لتأكيد اللصوق كام بني ابن عاشور‪ ،‬وهذا من أرسار التعبري هبذا احلرف‬
‫هنا عىل هذا الرأي‪.‬‬
‫وهناك من العلامء من رأي أن املتعدي بنفسه‪ ،‬واملتعدي بحرف اجلر ليسا بمعنى‬
‫واحد بل لكل منهام معنى مغاير‪ ،‬ومن ذهب إىل ذلك رأى أن الباء أصلية‪ ،‬وأن الفعل‬
‫أذاع تضمن معنى حتدث‪ ،‬يقول احللبي‪« :‬وقيل‪َ :‬ض َّمن «أذاع» معنى‪« :‬تحَ َ دَّ َث» َفعدَّ اه‬

‫() روح البيان للشيخ حقي ‪ ،246/2‬وانظر‪ :‬تفسري الكشاف ‪ ،548/1‬وتفسري النسفي‬
‫‪ ،349/1‬وتفسري اخلازن ‪ ،564/1‬وتفسري البيضاوي ‪ ،96/1‬وتفسري أيب السعود ‪،208/2‬‬
‫وحاشية الشهاب ‪ ،317/3‬وروح املعاين ‪.189/4‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪.139/5‬‬

‫‪123‬‬
‫تعديتَه أي‪ :‬حتدَّ ثوا به مذيعني له»()‪ ،‬وهذا رأي ال يؤبه به عند كثري من البالغيني‬
‫املحققني؛ ألن فيه هروبا من البحث عن داللة التعبري هبذا احلرف دون سواه ()‪.‬‬
‫ومنهم من رأى أن الباء أصلية‪ ،‬و«املعنى فعلوا به اإلذاعة وهو أبلغ من أذاعوه؛‬
‫لداللته عىل أنه يفعل نفس احلقيقة كام يف نحو‪ :‬فالن يعطى ويمنع وملا فيه من اإلهبام‬
‫والتفسري»()‪ ،‬ونحن نؤيد هذا األخري؛ ألنه أبلغ وأقوى‪ ،‬وألن فيه دليال عىل أن‬
‫املنافقني كانوا ينقلون هذه األخبار لكل من يقابلهم دون تورع أو حتفظ قاصدين‬
‫رضب البنية األمنية للمسلمني عكس أذاعه‪ ،‬فهي تفيد إذاعة اخلرب ونرشه دون هذا‬
‫املعنى املبالغ فيه؛ يقول الشيخ الشعراوي‪« :‬أذاعه يعني‪ :‬قاله‪ ،‬أما (أذاع به) فهي دليل‬
‫عىل أنه يقول اخلرب لكل من يقابله وكأن اخلرب بذاته هو الذي يذيع نفسه‪ ،‬فهناك‬
‫أمر حتكيه‪ ،‬وتنتهي املسألة‪ ،‬أما (أذاع به) فكأن اإلذاعة مصاحبة للخرب‪ ،‬ومالزمة له‬
‫تنرشه‪ ،‬وخترجه من طي حمدود إىل طي غري حمدود‪ ،‬أو من آذان حترتم خصوصية اخلرب‬
‫إىل آذان تتعقب اخلرب» ()‪ ،‬فضلاً عن أن التعبري هبذا احلرف فيه تقبيح حلاهلم‪ ،‬وكشف‬
‫بوضوح عن مضمرات نفوسهم‪ ،‬ودخائل صدورهم‪ ،‬وهذا يرجح ً‬
‫أيضا أن يكون‬
‫احلديث عن املنافقني؛ ألن ضعفة املسلمني مهام بلغ هبم احلال ال يكونون عىل هذا‬
‫املنوال‪ ،‬وتلك احلالة املزرية‪.‬‬

‫() الدر املصون ‪ ،51/4‬وانظر‪ :‬تفسري البيضاوي ‪ ،96/1‬والفتوحات اإلهلية‪ ،405/1‬وروح‬


‫املعاين ‪.189/4‬‬
‫() انظر‪ :‬من أرسار حروف اجلر يف الذكر احلكيم د‪ /‬حممد األمني اخلرضي ‪.29-27‬‬
‫() روح املعاين ‪ ،189/4‬وانظر‪ :‬الكشاف ‪ ،548/1‬وتفسري النيسابوري ‪ ،455/2‬وتفسري‬
‫أيب السعود ‪ ،208/ 2‬وحاشية الشهاب ‪ ،317/3‬وتفسري املنار ‪.242/5‬‬
‫() تفسري الشعراوي ‪.2489/4‬‬

‫‪124‬‬
‫والضمري يف ﱫ ﮒﮓ ﱪ «يعود إىل األمر‪ ،‬أو إىل األمن أو اخلوف؛ ألن أو تقتىض‬
‫أحدمها»()‪.‬‬
‫ولكن األلويس رفض هذا الزعم بقوله‪:‬‬
‫َّ‬ ‫وهناك من زعم أن الضمري للمجيء‪،‬‬
‫«الضمري للمجيء مما ال ينبغي ختريج كالم اهلل تعاىل اجلليل عليه»()‪ ،‬ونحن معه فهذا‬
‫ال جيوز بحال‪ ،‬ويبقى أن الرأيني األوليني جيوز كل واحد منهام‪ ،‬وال تعارض؛ لوضوح‬
‫مرجع الضمري لو عاد إىل األول أو الثاين‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬ومن يتأمل تلك اجلملة الرشطية كلها يلحظ فيها تعريضا قويا هبؤالء‬
‫وإنكارا شديدً ا عليهم‪ ،‬ونع ًيا عىل كل من كان عىل شاكلتهم يف كل عرص‬
‫ً‬ ‫املنافقني‪،‬‬
‫ومرص‪ ،‬وإىل هذا أومأ ابن كثري فقال‪« :‬قوله‪ :‬ﱫ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ‬
‫ﮑ ﮒﮓ ﱪ إنكار عىل من يبادر إىل األمور قبل حتققها‪ ،‬فيخرب هبا ويفشيها وينرشها‪،‬‬
‫وقد ال يكون هلا صحة‪ ...‬ويف الصحيحني عن املغرية بن شعبة‪ :‬أن رسول اهلل ×‬
‫هنى عن قيل وقال‪ ،‬أي‪ :‬الذي يكثر من احلديث عام يقول الناس من غري َت ُّثبت‪ ،‬وال‬
‫َتد ُّبر‪ ،‬وال ت َبينُّ ‪ ،‬ويف سنن أيب داود أن رسول اهلل × قال‪« :‬بئس َم ِط َّية الرجل َز َع ُموا‬
‫عليه»»()‪.‬‬
‫كام يفهم من تلك اجلملة الرشطية بمفهوم املخالفة النهي عن إفشاء األرسار‬
‫بوجه عام ال سيام األرسار احلربية‪ ،‬أو بلغة العرص األرسار التي متس األمن القومي‬

‫() تفسري النسفي ‪ ،349/1‬وانظر‪ :‬البحر املحيط ‪ ،305/3‬والفتوحات اإلهلية ‪،405/1‬‬


‫والدر املصون ‪.51/4‬‬
‫() روح املعاين ‪.189 /4‬‬
‫() تفسري ابن كثري ‪ ،530-529/1‬وانظر‪ :‬روح املعاين ‪.189/4‬‬

‫‪125‬‬
‫للبالد‪ ،‬يقول الشيخ حقي‪« :‬يف اآلية هنى عن إفشاء الرس‪ ،‬قيل لبعض األدباء‪ :‬كيف‬
‫حفظك للرس؟ قال‪ :‬أنا قربه»()‪ ،‬والنهي عن إفشاء األرسار احلربية عائد ملا فيه من‬
‫مضار حميقة عىل األمة‪ ،‬وقد عدد الرازي املضار التي تعود عىل األمة بسبب إذاعة هذه‬
‫األخبار فراجعه حتى ال يطول القول()‪.‬‬
‫وبعد أن كشف يف اجلملة السابقة عام حيدثه املنافقون من أراجيف بسبب إذاعة‬
‫ما كان جيب عليهم فعله فقال‪ :‬ﱫ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ‬ ‫تلك األخبار رشع يبني‬
‫ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﱪ‪ ،‬والواو يف قوله ﱫﮔﱪ‬
‫للعطف عطفت اجلملة اخلربية التي بعدها عىل نظريهتا اخلربية التي سبقتها؛ وساغ‬
‫هذا العطف الشرتاكهام معا يف اخلربية‪ ،‬ويف هذا العطف داللة عىل التامزج الشديد‪،‬‬
‫وااللتحام القوي بني أوارص النظم يف تلك اآلية‪.‬‬
‫ﱫ ﮔ ﮕ ﱪ (لو) رشطية غري جازمة‪ ،‬تفيد امتناع اجلواب المتناع الرشط‬
‫ٍ‬
‫بحالة من أحواله فمن‬ ‫«ر ُّدو ُه» فعل الرشط‪ ،‬والرد‪« :‬رصف اليشء بذاته أو‬
‫ومجلة َ‬
‫الرد بالذات قوله‪ :‬ﱫ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﱪ‪ ،...‬ومن الرد إىل حالة كان عليها‬
‫قوله‪ :‬ﱫ ﭘ ﭙ ﭚ ﱪ()‪.‬‬
‫وعىل ذلك فاملعنى‪ :‬ولو رصفوا اخلرب من األمن واخلوف إىل الرسول وإىل أويل‬
‫األمر‪ ،‬والرد عىل هذا مل يستعمل يف معناه احلقيقي بل «استعمل هنا ً‬
‫جمازا يف إبالغ‬

‫() روح البيان للشيخ حقي‪.246 /2‬‬


‫() مفاتيح الغيب ‪ ،336-335/9‬وانظر‪ :‬التفسري الوسيط ‪.239-238/3‬‬
‫() مفردات الراغب ‪ ،197‬وعمدة احلفاظ ‪ ،89/2‬وانظر‪ :‬مقاييس اللغة ‪ ،400‬واللسان‬
‫‪.172/3‬‬

‫‪126‬‬
‫اخلرب إىل َأ ْولىَ الناس بعلمه»()‪.‬‬
‫والغرض من هذا املجاز أو تلك االستعارة التبعية‪ :‬التأكيد عىل إرجاع مثل هذه‬
‫األمور إىل مستقرها‪ ،‬ومكاهنا احلقيق هبا لدى الرسول × وأويل األمر وعدم االستنكاف‬
‫من ذلك؛ ألن‪« :‬الرد حقيقته إرجاع يشء إىل ما كان فيه من مكان أو يد»()‪.‬‬
‫وواو اجلامعة يف ﱫ ﮕﱪ فاعل يعود عىل ما رجحناه وهم املنافقون‪ ،‬واهلاء‬
‫ضمري غائب يف حمل نصب مفعول به «عائد عىل األمر» ()‪.‬‬
‫ﱫ ﮖ ﮗ ﱪ‪ ،‬ﱫ ﮖ ﱪ حرف جر‪ ،‬وهو هنا عىل أصله يفيد االنتهاء‪ ،‬ويف‬
‫هذا داللة رصحية عىل أن رد هذه األخبار جيب أن ينتهي للرسول ×‪.‬‬
‫ﱫ ﮗ ﱪ جمرور بـ(إىل) وشبه اجلمـلة متعلق بالفعل رد‪ ،‬واملراد بالرسول‬
‫هنا سيد املرسلني حممد ×‪ ،‬فـ (أل) هنا للعهد الذهني أي‪ :‬رسولكم أهيا املخاطبون‪،‬‬
‫وجيوز أن تكون أل بدال من اإلضافة‪ ،‬أي‪ :‬رسول اهلل‪ ،‬كام جيوز أن تكون أل للكامل‬
‫يف الصفة أي‪ :‬رسولكم الكامل يف صفة الرسالة‪.‬‬
‫وآثر التعبري بالرسول دون النبي؛ ألنه أليق بسياق الكالم‪ ،‬فالـرسول «يف اللغة‬
‫ال؛ َأي‪ :‬متتابعة»()‪،‬‬
‫إلبل َر َس ً‬ ‫الذي ُيتابِع َأخبار الذي بعثه َأ ً‬
‫خذا من قوهلم‪ :‬جاءت ا ِ‬
‫وألن «عنوان الرسالة من موجبات الرد واملراجعة إىل رأيه»() وألن من خصائص‬

‫() التحرير والتنوير ‪.140/5‬‬


‫() التحرير والتنوير ‪.140/5‬‬
‫() املحرر الوجيز ‪ ،190/4‬وانظر‪ :‬تفسري اخلازن ‪ ،564/1‬والبحر املحيط ‪ ،305/3‬وروح‬
‫البيان ‪ ،246/2‬والفتوحات اإلهلية ‪ ،405/1‬وروح املعاين ‪.190/4‬‬
‫() لسان العرب (ر‪ .‬س‪ .‬ل) ‪.284 / 11‬‬
‫() تفسري أيب السعود ‪.208 / 2‬‬

‫‪127‬‬
‫وتبليغها للناس‪ ،‬فلفظ النبي ال يتالءم مع الرد‬ ‫الرسول الكشف عن مرادات اهلل‬
‫محا‪.‬‬
‫كام ترى عكس الرسول فهو أوثق به صلة وأمس ر ً‬
‫ﱫ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﱪ كرر حرف اجلر ليؤكد عىل أن غاية الرد جيب أن‬
‫تكون للرسول أوال وبالذات‪ ،‬وإىل أويل األمر ثانيا وبالذات‪ ،‬فهم ثانيا يف وجود‬
‫الرسول‪ ،‬وهم أوال يف حالة عدم وجوده كسفره يف حياته‪ ،‬أو بعد وفاته ×‪.‬‬
‫وهؤالء هم الذين هلم حق الفصل فيام يمكن أن يقال أو ال يقال يف أمر احلرب‬
‫والسلم والشئون املهمة للدولة اإلسالمية دون العامة من الناس‪.‬‬
‫وبدأ بالرسول × عىل أويل األمر؛ ألنه القائد األعىل هلم وقت احلرب والسلم؛‬
‫وألنه األصل حالة وجوده‪ ،‬فالتقديم والرتتيب هنا طبعي‪.‬‬
‫واملراد من أويل األمر هنا اختلف فيه عىل قولني‪:‬‬
‫األول‪« :‬يعني ذوي العقول والرأي والبصرية باألمور منهم‪ ،‬وهم كبار الصحابة‪،‬‬
‫كأيب بكـر وعمر وعثامن وعيل»()‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬األمراء والعلامء‪ ،‬قال ابن عطية‪« :‬هم األمراء‪ ،‬قاله السدي وابن زيد‪،‬‬
‫معا»()‪ ،‬وقد رجح‬
‫وقيل‪ :‬أهل العلم‪ ،‬قاله احلسن وقتادة وغريمها‪ ،‬واملعنى يقتضيهام ً‬
‫األلويس الرأي األول بقوله‪« :‬وعىل األول املعول»()‪.‬‬
‫ولكني أرى أن أويل األمر هنا يشمل كل ما سبق‪ ،‬فالعربة بعموم اللفظ؛ ألن‬

‫() تفسري اخلازن ‪ ،564/1‬وانظر‪ :‬البيضاوي ‪ ،96/1‬وتفسري النيسابوري ‪ ،455/2‬وتفسري‬


‫أيب السعود ‪ ،208/2‬والفتوحات اإلهلية ‪ ،404/1‬وروح املعاين ‪.190/4‬‬
‫() املحرر الوجيز ‪ ،191/4‬وانظر‪ :‬تفسري الثعالبي ‪ ،366/1‬وتفسري القرطبي ‪.291/5‬‬
‫() روح املعاين ‪.190/4‬‬

‫‪128‬‬
‫«كبار الصحابة أولو أمر عىل معنى أهنم البرصاء باألمور‪ ،‬وإن مل يكن هلم أمر عىل‬
‫والع َلامء ُ‬
‫«جيب‬ ‫الناس‪ ،‬واألمراء أولو األمر عىل الناس مع كوهنم برصاء باألمور»()‪ُ ،‬‬
‫عىل غريهم قبول قوهلم؛ لقوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ‬
‫احل َذر بإن َْذا ِر ِهم‪ ،‬وألزَ م ا ُمل ْنذرين‬
‫ﯻ ﯼ ﯽ ﱪ [التوبة‪ ،]122:‬فأوجب َ‬
‫ُق ُبول قوهلم‪ ،‬فجاز هلذا املَ ْعنَى ْ‬
‫إطالق اسم أويل األ ْم ِر َع َليهم»()‪.‬‬
‫وخص أويل األمـر بالذكر ‪-‬عىل أي معنى من املعاين السابقة‪ -‬لتجارهبم الكثرية‬
‫وبصائرهم الصحيحة الدقيقة يف احلكم عىل األمور‪ ،‬والتعرف عىل بواطنها‪ ،‬والقدرة‬
‫عىل الفصل فيام يذاع أو ال يذاع حفاظا عىل املصلحة العامة للمسلمني‪ ،‬فهم أهل‬
‫احلل والعقد يف الذود عن األمة وحياضها‪ ،‬واألدرى بأمنها وسياستها ال املنافقون‬
‫وال الضعفاء‪.‬‬
‫ﱫ ﮟﮠ ﱪ من هنا حتتمل أن تكون بيانية إذا كان احلديث عن املنافقني‪ ،‬يقول أبو‬
‫السعود‪« :‬كلمة من يف منهم بيانية»()؛ ألهنا بينت املقصود من أويل األمر‪ ،‬وحتتمل‬
‫أن تكون للتبعيض إذا كان املقصود ضعفة املسلمني؛ ألن أويل األمر بعض منهم‪،‬‬
‫والراجح األول بداللة املساق والسياق كام قدمنا‪.‬‬
‫وهنا يظهر لنا إشكال إذا كان الضمري يف ﱫ ﮋ ﱪ يعود عىل املنافقني كام‬
‫رجحناه‪ ،‬فكيف يكون أولو األمر منهم؟ أجاب الرازي عن ذلك فقال‪« :‬جعل أويل‬

‫() حاشية زاده عىل البيضاوي ‪ ،372/3‬وانظر‪ :‬روح البيان للشيخ حقي ‪.246/2‬‬
‫() مفاتيح الغيب ‪ ،336‬وانظر‪ :‬اللباب البن عادل ‪ ،522/6‬وفتح القدير دار الفكر‬
‫‪.491/1‬‬
‫() تفسري أيب السعود ‪.208/2‬‬

‫‪129‬‬
‫األمر منهم عىل حسب الظاهر؛ ألن املنافقني يظهرون من أنفسهم أهنم يؤمنون‪،‬‬
‫ونظريه قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﱪ [النساء‪ ،]72:‬وقوله ﱫ ﭜ ﭝ ﭞ‬
‫ﭟ ﭠﭡ ﱪ [النساء‪.)(»]66:‬‬
‫ويقول ابن عاشور‪« :‬فإن كان املتحدث عنهم املنافقون فوصف أويل األمر بأهنم‬
‫منهم َجا ٍر عىل ظاهر األمر‪ ،‬وإرخاء العنان» ()‪.‬‬
‫«ه ْم» هنا اختلف فيه فقيل‪ :‬يعود عىل أويل األمر فحسب يقول الطربي‪:‬‬
‫والضمري ُ‬
‫«ﱫ ﮛ ﱪ يعني‪ :‬أويل األمر‪ ،‬و» اهلاء»‪ ،‬و«امليم» يف قوله‪ :‬ﱫ ﮛ ﱪ من ذكر أويل‬
‫األمر‪ ،‬يقول‪ :‬لعلم ذلك من أويل األمر من يستنبطه» ()‪ ،‬وقيل عىل اجلميع‪ ،‬يقول ابن‬
‫عطية‪« :‬ﱫ ﮟﮠ ﱪ حيتمل أن يعود عىل ﱫ ﮗ ﱪ‪ ،‬وﱫ ﮙ ﮚ ﱪ‪ ،‬وحيتمل أن‬
‫يعود عىل اجلامعة كلها‪ ،‬أي‪ :‬لعلمه البحثة من الناس»()‪ ،‬والسياق يرجح عوده عىل‬
‫ما تقدم‪ ،‬وهو الرسول × وأولو األمر‪.‬‬
‫ﱫ ﮜﱪ الالم واقعة يف جواب رشط لو‪ ،‬واجلملة بعدها ال حمل هلا من‬
‫اإلعراب جواب رشط لو‪ ،‬واملراد من العلم‪ :‬اإلحاطة باألمر من األمن واخلوف‪،‬‬
‫والوقوف عىل تفاصيله‪.‬‬
‫والضمري يف ﱫ ﮜﱪ يف حمل نصب مفعول به‪ ،‬وهو يعود عىل ما عاد إليه‬
‫الضمري يف ردوه‪ ،‬وهو اخلرب من األمن أو اخلوف‪ ،‬واملعنى ألدرك حقيقة ذلك اخلرب‪،‬‬

‫() مفاتيح الغيب ‪ ،337/9‬وانظر‪ :‬تفسري اخلازن ‪ ،564/1‬و تفسري القاسمي ‪،403/5‬‬
‫والفتوحات اإلهلية ‪.404/1‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪.141/5‬‬
‫() تفسري الطربي ‪.202/4‬‬
‫() املحرر الوجيز ‪.190/4‬‬

‫‪130‬‬
‫ووقف عىل تفاصيله‪ ،‬وهل هو مما يذاع أو ال يذاع‪.‬‬
‫«ع ِل َم»‪ ،‬ومجلة ﱫ ﮞ ﱪ ال‬ ‫ﱫ ﮝ ﱪ اسم موصول يف حمل رفع فاعل َ‬
‫حمل هلا من اإلعراب صلة املوصول‪ ،‬والفعل « َي ْس َت ْنبِ ُط» مضارع من املايض السدايس‬
‫استنبط‪ ،‬وأصله من الثالثي نبط‪ ،‬يقول ابن منظور‪« :‬ال َّن َبط املاء الذي َي ْن ُب ُط من قعر‬
‫املاء ي ْن ُب ُط وي ْنبِط ُنبوطا نبع‪ ،‬وكل ما ُأظهر فقد ُأ ْنبِط» ()‪.‬‬
‫ونبط ُ‬‫البئر إِذا ُحفرت‪َ ...‬‬
‫ويقول ابن اجلوزي‪« :‬االستنباط يف اللغة االستخراج‪ ،‬قال الزجاج‪ :‬أصله من‬
‫النبط‪ ،‬وهو املاء الذي خيرج من البئر أول ما حتفر» ()‪ ،‬ويقول الطربي‪« :‬كل مستخرج‬
‫شيئًا كان مست ً‬
‫رتا عن أبصار العيون‪ ،‬أو عن معارف القلوب فهو له «مستنبط» يقال‪:‬‬
‫استخرجت ماءها»()‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الر ْكية» إذا‬
‫«استنبطت َّ‬
‫ويقول األلويس‪« :‬االستنباط يف األصل‪ :‬استخراج اليشء من مأخذه كاملاء من‬
‫البئر‪ ،‬واجلوهر من املعدن» ()‪.‬‬
‫هذا هو أصل االستنباط كام ذكره اللغويون واملفرسون‪ ،‬ولكن هذا املعنى‬
‫األصيل غري مراد هنا؛ ألن املراد استخراج األخبار من معادهنا ومعرفة احلقائق من‬
‫مصادرها‪ ،‬لكن من يتأمل جيد فرقا بني نبط املاء‪ ،‬واستنبط املاء فالثاين خيرج بعد طلب‬

‫() لسان العرب‪ ،‬مادة (ن‪.‬ب‪.‬ط) ‪ ،410/7‬وانظر‪ :‬عمدة احلفاظ ‪.159/4‬‬


‫() زاد املسري ‪ ،89/2‬وانظر‪ :‬الكشاف ‪ ،548 /1‬ومفاتيح الغيب ‪ ،336/9‬وتفسري القرطبي‬
‫‪ ،292-291/ 5‬وحاشية زاده ‪ ،372/3‬وروح البيان ‪ ،246/2‬وفتح البيان ‪.330/2‬‬
‫() تفسري الطربي ‪ ،202/4‬وانظر‪ :‬أحكام القرآن للجصاص ‪ ،183/3‬وتفسري املنار‬
‫‪.242/5‬‬
‫() روح املعاين ‪ ،192-191/4‬وانظر‪ :‬تفسري ابن كثري ‪ ،530/1‬وحاشية الشهاب‬
‫‪.317/3‬‬

‫‪131‬‬
‫وكد ومشقة كام تدل عليه األلف والسني والتاء وكذلك احلال يف استخراج األخبار‪،‬‬
‫وفهمها عىل وجوهها الصحيحة‪ ،‬فهي حتتاج لتلك املشقة واملعاناة‪.‬‬
‫وإذا كان االستنباط يف اآلية الكريمة هبذا املعنى فهو عندئذ مل يستعمل يف معناه‬
‫احلقيقي الذي مر آنفا‪ ،‬بل انتقلت الكلمة من هذا املعنى احلقيقي احليس ‪-‬وهو‬
‫استخراج املياه من باطن األرض بمشقة‪ -‬إىل األمور املعنوية وهي استخراج األخبار‬
‫من معادهنا‪ ،‬واالجتهاد يف الوقوف عىل صحتها عىل سبيل االستعارة الترصحيية‬
‫التبعية حيث شبه الذي يكد يف استخراج حقائق األمور‪ ،‬وجيتهد يف الوقوف عىل‬
‫كنهها‪ ،‬واستخراجها بعد خفائها باستنباط املاء من البئر املطوية حتى تنبع بجامع‬
‫الكد والتعب يف كل مع شحذ الذهن يف سبيل الوصول للمطلوب‪ ،‬وقد أشار بعض‬
‫املفرسين إىل ما قلناه وإن مل يفصلوا ما فصلناه‪ ،‬يقول اخلازن‪« :‬استنباطه‪ :‬استخراجه‬
‫فاستعري ملا يستخرجه الرجل بفضل ذكائه وصفاء ذهنه وفطنته من املعاين والتدبري‬
‫فيام ُي ْع َضل ويهُ م»()‪.‬‬
‫كام جيوز أن تكون هذه االستعارة مكنية‪ ،‬يقول ابن عاشور‪« :‬وهو هنا جماز يف‬
‫العلم بحقيقة اليشء‪ ،‬ومعرفة عواقبه‪ ،‬وأصله مكنية‪ :‬شبه اخلرب احلادث بحفري يطلب‬
‫منه املاء‪ ،‬وذكر االستنباط ختييل» ()‪.‬‬
‫ومما ينبغي التأمل فيه هنا أن هذا الفعل الذي استعمل عىل سبيل االستعارة التبعية‬
‫أو املكنية جاء يف القرآن فريدً ا وحيدً ا مادة وصيغة‪ ،‬وهلذا رس يتمثل ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬يف‬

‫() تفسري اخلازن ‪ ،564/1‬وانظر‪ :‬الكشاف ‪ ،548 /1‬وتفسري النسفي ‪ ،350/1‬وتفسري‬


‫النيسابوري ‪ ،457/2‬وروح املعاين ‪ ،192/4‬والتحرير والتنوير ‪.141/5‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪.141/5‬‬

‫‪132‬‬
‫أن حال هذه الطائفة املنافقة فيام حكته عنهم تلك اآلية كان فريدا وحيدا‪ ،‬فعرب عن‬
‫ذلك بلفظة فريدة عكست تفرد هذا املوقف يدل عىل ذلك أن القرآن الكريم مل حيك‬
‫عن األمم السابقة أهنم فعلوا هذا مع أنبيائهم‪ ،‬فإما أن يكون منهم كفر رصيح‪ ،‬أو‬
‫إيامن خالص‪َّ ،‬أما أن تكون طائفة من الناس ال إىل هؤالء‪ ،‬وال إىل هؤالء‪ ،‬فهذا مل يك‬
‫إال يف املجتمع اإلسالمي عىل مر التاريخ‪ ،‬ومل يك مع نبي آخر إال مع سيد املرسلني‪،‬‬
‫فهذا إذن يشء فريد وحيد يف تاريخ النبوات‪ ،‬وتاريخ اإلنسانية‪ ،‬متفردا يف هذا املوطن‬
‫يف القرآن‪ ،‬فجاءت اللفظة لتحكي تفرد هذه احلاالت الثالث‪.‬‬
‫وعرب باملضارع لبيان استمرار هؤالء يف اختالقاهتم وتقوالهتم وحتدثهم بغري‬
‫علم‪ ،‬وجتدد هذا منهم الفينة بعد الفينة‪.‬‬
‫والواو يف ﱫ ﮞ ﱪ تعود عىل اسم املوصول ﱫ ﮝ ﱪ الذي هو فاعل‬
‫علم‪ ،‬واهلاء يف حمل نصب مفعول به تعود عىل األمر من األمن أو اخلوف‪.‬‬
‫ٍ‬
‫معان أشار إليها األلويس فقال‪:‬‬ ‫ُ‬
‫حيتمل‬ ‫وحرف اجلر ِ‬
‫«م ْن» يف قوله‪ :‬ﱫ ﮛ ﱪ‬
‫«كلمة من إما ابتدائية‪ ،‬والظرف لغو متعلق بـ ﱫ ﮞ ﱪ‪ ،‬وإما تبعيضية أو‬
‫بيانية جتريدية‪ ،‬والظرف [اجلار واملجرور] حال»() «من الذين أو من َّ‬
‫الضمري يف‬
‫ﱫﮞ ﱪ»()‪.‬‬
‫«ه ْم» اختلف فيه‪ ،‬فقيل‪« :‬يعود عىل الرسول × وأويل‬
‫والضمري املجرور ُ‬
‫األمر»()‪.‬‬

‫() روح املعاين ‪ ،191/4‬وانظر‪ :‬التسهيل لعلوم التنزيل ‪ ،150/1‬وحاشية الشهاب ‪،317/3‬‬
‫وروح البيان ‪.246/2‬‬
‫() الدر املصون ‪ ،52/4‬وانظر‪ :‬اللباب البن عادل ‪.522/6‬‬
‫() التسهيل لعلوم التنزيل البن جزي ‪.150/1‬‬

‫‪133‬‬
‫واملعنى عىل ذلك‪« :‬لو أهنم قالوا‪ :‬نسكت حتى نسمعه من جهة الرسول‪ ،‬ومن‬
‫ذكر معه‪ ،‬ونعرف احلال فيه من جهتهم‪ ،‬لعلموا صحته‪ ،‬وأنه هل هو مما يذاع أو‬
‫ال؟»()‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬يعود عىل أويل األمر من كرباء الصحابة‪ ،‬وعىل ذلك فهم املستنبطون يقول‬
‫ابن جزي‪« :‬وقيل‪ :‬ﱫ ﮝ ﮞ ﱪ هم أولو األمر»()‪.‬‬
‫«والتقدير‪ :‬ولو أن املنافقني ردوه إىل الرسول‪ ،‬وإىل أويل األمر لكان علمه حاصال‬
‫عند من يستنبط هذه الوقائع من أويل األمر‪ ،‬وذلك ألن أويل األمر فريقان‪ :‬بعضهم‬
‫مستنبطا‪ ،‬وبعضهم من ال يكون كذلك‪ ،‬فقوله‪ِ :‬‬
‫«م ْن ُه ْم «يعنى لعلمه الذين‬ ‫ً‬ ‫من يكون‬
‫يستنبطون املخفيات من طوائف أوىل األمر»()‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬الضمري يعود عىل املنافقني‪ ،‬وهـم املذيعون واملستنبطون له ً‬
‫أيضا‪ ،‬يقـول‬
‫الرازي‪« :‬وقيل‪ :‬جيوز أن يكون الضمري للمنافقني‪ ،‬وعىل ذلك فالذين يستنبطونه هم‬
‫املذيعون له»()‪ ،‬وعىل ذلك يكون «التقدير‪ :‬ولو أن هؤالء املنافقني املذيعني لألخبار‬
‫ردوا أمر األمن أو اخلوف إىل الرسول‪ ،‬وإىل أويل األمر‪ ،‬وطلبوا معـرفة احلال فيه من‬
‫جهتهم‪ ،‬لعلمه الذين يستنبطونه‪ ،‬وهم هؤالء املنافقون املذيعون ﱫ ﮛ ﱪ»()‪.‬‬
‫والرأي األول هو األوجه واألوىل «فرصف املستنبطني إىل املذيعني ليس بالقوي؛‬

‫() حماسن التأويل للقاسمي ‪.402/5‬‬


‫() التسهيل لعلوم التنزيل البن جزي ‪.150/1‬‬
‫() مفاتيح الغيب للرازي ‪ ،337-336/9‬وانظر‪ :‬اللباب البن عادل ‪ ،523/6‬وتفسري‬
‫القاسمي ‪ ،403 ،402/5‬وتفسري املنار ‪.243/5‬‬
‫() مفاتيح الغيب ‪ ،337-336/9‬وانظر‪ :‬اللباب ‪ ،523/6‬وتفسري املنار ‪.243/5‬‬
‫() مفاتيح الغيب للرازي ‪ ،337-336/9‬وانظر‪ :‬اللباب ‪.523/6‬‬

‫‪134‬‬
‫إذ لو كان املراد ذلك لكان األليق بنظم الكالم أن يقال‪ :‬ولو ردوه إىل الرسول وإىل‬
‫أويل األمر لعلموه من غري إقامة املظهر مقام املضمر»()‪.‬‬
‫واملعنى عىل ذلك‪ :‬ولو رد املنافقون األمر من األمن أو اخلوف الذي أذاعوه إىل‬
‫الرسول‪ ،‬وإىل أويل األمر‪ ،‬يعني‪ :‬ولو أهنم مل يذيعوه‪ ،‬وحيدثوا به حتى يكون الرسول‬
‫×‪ ،‬وأولو األمر هم الذين حيدثون به‪ ،‬ويظهرونه لعلم هذا األمر الرسول‪ ،‬وأولو‬
‫األمر فهم الذين يستنبطونه ويعلمون ما جيب أن يذاع من ذلك‪ ،‬وما ال يذاع‪« ،‬أي‪:‬‬
‫الستخرجوا رس اخلبرَ ِ وعرفوا ما يرتتب عليه فإن كان ً‬
‫نافعا أذاعوه‪ ،‬وإن كان ضارا‬
‫أخفوه»()‪.‬‬
‫وبعد‪ ،‬فيجب أن نتوقف هنا قليلاً ؛ لنوضح شيئًا مهماًّ جدًّ ا‪ ،‬وهو أن االستنباط يف‬
‫هذه اآلية مل يستخدم يف معناه احلقيقي احليس بل استخدم يف اآلية ‪-‬كام مر‪ -‬عىل سبيل‬
‫االستعارة يف استخراج أخبار األمن أو اخلوف من معادهنا‪ ،‬والوقوف عىل حقائقها‪،‬‬
‫وعىل ذلك فاالستنباط هنا ال يدل من قريب أو بعيد عىل هذا املعنى الرشعي املعروف‬
‫عند األصوليني‪ ،‬ومن قال بذلك فقد خالف منطوق اآلية‪ ،‬كام ال يدل هذا اللفظ ً‬
‫أيضا‬
‫عىل القياس الرشعي‪ ،‬ومن ثم فإن الشيخ صديق خان حني يقول‪« :‬يف اآلية إشارة‬
‫إىل جواز القياس‪ ،‬وأن من العلم ما يدرك بالنص وهو الكتاب والسنة‪ ،‬ومنه ما يدرك‬
‫باالستنباط وهو القياس عليهام»() فقد جانبه الصواب‪ ،‬فليس يف اآلية نص وال إشارة‬
‫إىل ذلك وال يصح أن يستدل عىل جواز القياس واالستنباط بام ال دليل عليه من اآلية‬

‫() تفسري النيسابوري ‪ ،457/2‬وانظر‪ :‬مفاتيح الغيب ‪ ،338/9‬وتفسري املنار ‪.243/5‬‬


‫() أيرس التفاسري للجزائري ‪.515/1‬‬
‫() فتح البيان للشيخ صديق حسن خان ‪.330/2‬‬

‫‪135‬‬
‫نصا أو إشارة‪ ،‬وهذا ً‬
‫أيضا ما وقع فيه اإلمام الرازي‪ ،‬وأطال القول فيه()‪.‬‬
‫وقد عارض الشيخ رشيد رضا ما ذهب إليه الرازي فقال‪« :‬زعم الـرازي‪،‬‬
‫وغريه أن يف هذه اآلية دليال عىل حجية القـياس األصويل‪ ،‬قال األستاذ اإلمام‪ :‬وإنام‬
‫تعلق األصوليون يف هذا بكلمة‪ :‬ﱫ ﮞ ﱪ‪ ،‬وهي من مصطلحاهتم الفنية‪ ،‬ومل‬
‫تستعمل يف القرآن هبذا املعنى‪ ،‬فقوهلم مردود‪ ،‬وقد فرع الرازي عىل هذه املسألة أربعة‬
‫فروع‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يف أحكام احلوادث ما ال يعرف إال بالنص‪.‬‬
‫‪ -2‬أن االستنباط حجة‪.‬‬
‫‪ -3‬أن العامي جيب عليه تقليد العلامء يف أحكام احلوادث‪.‬‬
‫‪ -4‬أن النبي كان مكلفا باستنباط األحكام كأويل األمر‪.‬‬
‫وأورد عىل ما قاله بعض االعرتاضات‪ ،‬وأجاب عنها كعادته‪ ،‬وملا كانت املسألة‬
‫التي أخذ منها هذه الفروع‪ ،‬وبنى عليها هذه املجادلة خارجة عن معنى اآلية ال تدخل‬
‫يف معناها من باب احلقيقة‪ ،‬وال من باب املجاز‪ ،‬وال من باب الكناية‪ ،‬فكان مجيع ما‬
‫لغوا أو عب ًثا‪.‬‬
‫أورده ً‬
‫هذا شاهد من أفصح الشواهد عىل ما بيناه قبل من سبب غلط املفرسين وبعدهم‬
‫عن فهم الكثري من آيات الكتاب املبني بتفسريه باالصطالحات املستحدثة فأهل‬
‫األصول والفقه اصطلحوا عىل معنى خاص لكلمة االستنباط‪ ،‬فلام ورد هذا اللفظ يف‬
‫هذه اآلية محل مثل الرازي عىل فطنته أن خيرج هبا عن طريقها ويسري هبا يف طريق آخر‬
‫ذي شعاب كثرية يضل فيها السائر حتى ال مطمع يف رجوعه إىل الطريق السوي‪.‬‬

‫() انظر‪ :‬مفاتيح الغيب ‪ ،339-338/9‬وتفسري النيسابوري ‪.457/2‬‬

‫‪136‬‬
‫معنى اآلية واضح جيل‪ ،‬وهو أن بعض املسلمني من الضعفاء أو املنافقني أو‬
‫العامة مطلقا خيوضون يف أمر األمن واخلوف‪ ،‬ويذيعون ما يصل إليهم منه عىل ما يف‬
‫اإلذاعة به من الرضر‪ ،‬والواجب تفويض مثل هذه األمور العامة إىل الرسول‪ ،‬وهو‬
‫اإلمام األعظم والقائد العام يف احلرب‪ ،‬وإىل أويل األمر من أهل احلل والعقد‪ ،‬ورجال‬
‫الشورى؛ ألهنـم هم الذين يستخرجون خفايا هذه األمور‪ ،‬ويعرفون مصلحة األمة‬
‫فيها‪ ،‬وما ينبغي إذاعته‪ ،‬وما ال ينبغي‪ ،‬فأين هذا من مسائل النص يف الكتاب عىل‬
‫بعض األحكام‪ ،‬والسكوت عن بعض؟ ووجوب استنباط ما ُسكت عنه ‪-‬مما ال نص‬
‫عليه‪ -‬عىل الرسول وعلـى أويل األمر‪ ،‬ووجوب اتباع العامة للعلامء فيام يستنبطونه‬
‫مطل ًقا؟ ليس هذا من ذاك يف يشء»()‪.‬‬
‫وهذا هو احلق؛ ألنه ال جيوز لنا أن نحمل املعاين االصطالحية احلادثة عند طائفة‬
‫من الناس عىل لفظة مذكورة يف القرآن غري مقصود هبا هذا املعنى‪.‬‬
‫وبناء عىل ذلك فإن االستنباط عند الفقهاء ـ وهذا من مصطلحاهتم الفنية ـ يف‬
‫قوهلم‪« :‬استن َب َط ِ‬
‫الفقي ُه‪ :‬إذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده وفه ِمه‪ )(»...‬ليس عليه‬
‫نص من اآلية‪ ،‬وليس مستعمال يف القرآن هبذا املعنى الوارد عندهم‪ ،‬ونحن هنا ال‬
‫نعرتض بطبيعة احلال عىل جواز القياس واالستنباط فهذان من أصول الرشيعة‬
‫التي ال ينبغي ألحد رفضهام بحال من األحوال إنام اعرتاضنا أن نسقط مصطلحات‬
‫نصا‪.‬‬
‫األصوليني‪ ،‬وغريهم عىل معنى االستنباط يف اآلية‪ ،‬وكأنه هو املعنى املراد منها ًّ‬
‫نعم جيوز أن نقول إن مصطلح االستنباط عند األصوليني متكئ عىل املعنى‬

‫() تفسري املنار ‪.245-244/5‬‬


‫() لسان العرب مادة (ن‪.‬ب‪.‬ط) ‪ ،410/7‬وانظر‪ :‬مفاتيح الغيب للرازي ‪.336/9‬‬

‫‪137‬‬
‫اللغوي‪ ،‬ومبني عليه‪ ،‬وهو يعد من قبيل االستعارة التبعية أو املكنية؛ من هذا املعنى‬
‫اللغوي احلقيقي السابق‪ ،‬ولكنه ليس منصوصا عليه يف اآلية نصا‪ ،‬وغاية ما هنالك‬
‫أننا نقول بجواز االستنباط يف األحكام الرشعية ليس من نص اآلية بل من مفهوم‬
‫املوافقة فيها فقضايا الدين الشائكة واألحكام الرشعية الدقيقة اخلفية حتتاج إىل جهبذ‬
‫خبري‪ ،‬وعامل فذ قدير يستنبط املراد منها ويبينه مثلام يستنبط أولو األمر املخفيات من‬
‫األخبار والدقائق‪.‬‬
‫ورمحته عىل عباده فقال‪:‬‬ ‫هذه اآلية بعد ذلك ببيان فضل اهلل‬ ‫ثم ختم املوىل‬
‫ﱫ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﱪ‪.‬‬
‫والواو يف قوله‪ :‬ﱫ ﮡ ﱪ استئنافية‪ ،‬ﱫ ﮡ ﱪ متضمنة معنى الرشط‪ ،‬وهي‬
‫حرف امتناع لوجود‪ ،‬مثل قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﱪ‪ ،‬حيث امتنع الرجم‬
‫لوجود الرهط‪ ،‬وهنا انتفى اتباعهم الشيطان‪ ،‬وبقاؤهم عىل الكفر لوجود فضل اهلل‪،‬‬
‫ورمحته عليهم‪.‬‬
‫ﱫ ﮢ ﮣ ﱪ فضل مبتدأ‪ ،‬وهو مضاف‪ ،‬ولفظ اجلاللة مضاف إليه‪ ،‬واإلضافة هنا‬
‫«و َل ْو َال َف ْض ٌل ِم َن اهللِ»‪ ،‬واخلرب حمذوف وجوبا تقديره موجود‪.‬‬
‫عىل معنى من‪ ،‬والتقدير‪َ :‬‬
‫والفضل مصدر املايض الثالثي مفتوح العني « َف َضل» من باب قتل يقال « َف َضل‬
‫َي ْف ُضل فضلاً »‪ ،‬ومعناه كام يقول الراغب‪« :‬كل عطية ال تلزم من ُيعطي يقال هلا فضل‬
‫نحو قوله‪ :‬ﱫ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﱪ‪ ،‬ﱫ ﮣ ﮤ ﮥ ﱪ‪ ،‬ﱫ ﯹ ﯺ‬
‫ﯻﱪ‪ ،‬وعىل هذا قوله‪ :‬ﱫ ﮑ ﮒ ﮓ ﱪ‪ ،‬ﱫ ﮡ ﮢ ﮣ ﱪ»()‪.‬‬
‫أعطاهم من فضله وإحسانه ابتداء دون‬ ‫وهذا املعنى هو املراد هنا؛ ألن املوىل‬

‫() مفردات الراغب ‪ ،396-395‬وانظر‪ :‬عمدة احلفاظ ‪.282-281‬‬

‫‪138‬‬
‫سبب يستوجبه‪ ،‬ففي املعجم الوسيط‪« :‬الفضل‪ :‬اإلحسان ابتداء بال علة‪ ،‬والزيادة‬
‫عىل االقتصاد»()‪.‬‬
‫وآثر التعبري باملصدر الفضل؛ ألنه يريد التأكيد عىل هذا املعنى فحسب دون‬
‫ارتباط بزمن معني‪ ،‬ولذا فمعناه ال يقترص عىل املخاطبني فحسب‪ ،‬وإن كان احلديث‬
‫وبالعر ِ‬
‫ض‪.‬‬ ‫َ‬ ‫موجها إليهم أوال وبالذات‪ ،‬وإيل غريهم ثانيا‬
‫وإضافة الفضل إىل لفظ اجلاللة أكسب الفضل رفعة ومنزلة‪ ،‬ومقدرة فائقة ال‬
‫تتصور‪ٌ ،‬‬
‫ففرق بني أن تقول هذا من فضل اهلل‪ ،‬وهذا من فضل فالن‪.‬‬
‫ﱫ ﮤ ﱪ شبه مجلة متعلق بكائن أو مستقر‪ ،‬واخلطاب يف ُ‬
‫«ك ْم» «جلميع‬
‫املؤمنني باتفاق من املتأولني»()‪ ،‬والتعبري باجلار عىل يومئ بأن الفضل هبط عليهم‬
‫من علٍ ‪ ،‬فهو فضل ما بعده فضل‪.‬‬
‫ﱫ ﮥ ﱪ الواو للعطف من قبيل عطف املفردات الذي يقتيض املشاركة‬
‫‪ ،‬وتغايرا يف كون كل‬ ‫واملغايرة‪ ،‬فالفضل والرمحة اشرتكا يف كوهنام من عند اهلل‬
‫منهام له معنى يغاير اآلخر‪ ،‬وإال الكتفى بواحد‪.‬‬
‫والرمحة مصدر الفعل املايض الثالثي رحم‪ ،‬يقال‪َ :‬رحمِ َ ُه بالكرس َرحمْ َ ًة و«الرمحة‪:‬‬
‫رقة تقتيض اإلحسان إىل املرحوم‪ ،‬وقد تستعمل تارة يف الرقة املجردة‪ ،‬وتارة يف‬
‫اإلحسان املجرد عن الرقة نحو‪ :‬رحم اهلل فالنا‪ ،‬وهو الذي كثرت رمحته‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬
‫ﱫ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﱪ»()‪ ،‬والرمحة هنا عىل أصلها من التعطف والشفقة‪ ،‬وما‬

‫() املعجم الوسيط ‪.719/2‬‬


‫() املحرر الوجيز ‪ ،190/4‬وانظر‪ :‬تفسري الثعالبي ‪.366 / 1‬‬
‫() مفردات الراغب ‪ ،196‬وانظر‪ :‬معجم املقاييس اللغة ‪ ،446‬ولسان العرب ‪.233/12‬‬

‫‪139‬‬
‫تقتضيه من اإلنعام واإلحسان إىل املرحوم‪.‬‬
‫ومن يقارن بني معنيي الرمحة والفضل هنا جيد بينهام تقاربا واضحا‪ ،‬لكن الرمحة‬
‫أوسع يف معناها وأشمل يف مغزاها‪ ،‬فاهلل يرحم يف الدنيا املؤمن والكافر حتى البهائم‬
‫فرمحته وسعت كل يشء‪ ،‬وخيتص املؤمنني برمحته يف اآلخرة‪ ،‬أما الفضل فهو خاص‬
‫باملؤمنني يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫عىل عباده هنا يتمثل يف أشياء عديدة‪ ،‬حرصها بعض‬ ‫هذا‪ ،‬وفضل اهلل‬
‫املفرسين يف قوله‪« :‬ﱫ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﱪ يف املراد بالفضل أربعة أقوال‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أنه رسول اهلل‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬اإلسالم‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬القرآن‪.‬‬
‫والرابع‪ :‬أولو األمر»()‪.‬‬
‫عىل عباده تتمثل ً‬
‫أيضا يف أشياء عديدة حرصها ابن اجلوزي‬ ‫كام أن رمحة اهلل‬
‫بقوله‪« :‬يف الرمحة أربعة أقوال‪ :‬أحدها‪ :‬أهنا الوحي‪ ،‬والثاين‪ :‬اللطف‪ ،‬والثالث‪:‬‬
‫النعمة‪ ،‬والرابع‪ :‬التوفيق» ()‪.‬‬
‫واألقوال السابقة كلها التي أوردها ابن اجلوزي حتتملها اآلية‪ ،‬وهذا من عظيم‬
‫عىل املؤمنني‪ ،‬فقد عمهم بفضله من إرسال الرسول هلم‪ ،‬وجعلهم مسلمني‪،‬‬ ‫امتنانه‬
‫وإنزال القرآن عليهم‪ ،‬وجعل أويل األمـر فيهم‪ ،‬ووسعهم برمحته بالوحي واللطف‪،‬‬
‫والنعمة والتوفيق‪ ،‬وهذا هو الذي يتفق مع سياق الكالم وال تعارض بني هذه املعاين‬

‫() زاد املسري‪.89/2‬‬


‫() زاد املسري‪ ،89/2‬وانظر‪ :‬البحر املحيط ‪.307 /3‬‬

‫‪140‬‬
‫كلها‪ ،‬والقرآن ثري بالدالالت غني باملعاين‪.‬‬
‫ﱫ ﮦ ﱪ الالم واقعة يف جواب الرشط‪ ،‬ومجلة ﱫ ﮦ ﮧ ﱪ‬
‫ال حمل هلا من اإلعراب جواب رشط لوال غري اجلازم‪ ،‬والضميـر يف ﱫ ﮦﱪ‬
‫«خطاب للمؤمنني باتفاق من املتأولني» ()‪.‬‬
‫وعىل ذلك؛ فاألسلوب وارد عىل سبيل االلتفات؛ ألن اخلطاب السابق كام بينا‬
‫كان للمنافقني‪ ،‬وهنا التفت وخاطب املؤمنني‪ ،‬ويف هذا يقول أبو السعود «اخلطاب‬
‫يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﱪ عىل طريقة االلتفات» ()‪،‬‬
‫ويف هذا االلتفات امتنان عىل املؤمنني‪« :‬بإرشادهم إىل أنواع املصالح‪ ،‬والتحذير من‬
‫املكائد‪ ،‬ومن حبائل الشيطان وأنصاره»()‪.‬‬
‫ﱫ ﮧ ﱪ مفعول به للفعل اتبع‪ ،‬واختلف يف أصله فقيل‪« :‬النون فيه أصلية‪،‬‬
‫وهو من شطن‪ ،‬أي‪ :‬تباعد‪ ،‬ومنه بئر شطون»()‪.‬‬
‫«وقيل‪ :‬بل النون فيه زائدة من شاط يشيط‪ :‬احرتق غضبا فالشيطان خملوق من‬
‫النار كام دل عليه‪ :‬ﱫﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﱪ‪.)(»...‬‬
‫واألول هو األرجح؛ ألن الشيطان قد تباعد عن احلق واهلدى‪ ،‬وعن رمحة ربه‪،‬‬
‫‪.‬‬ ‫فلم ينصع ألمره‪ ،‬ومل خيضع جلربوته‬

‫() املحرر الوجيز ‪ ،190/4‬وانظر‪ :‬البحر املحيط ‪ ،307 /3‬والتسهيل ‪.150/1‬‬


‫() تفسري أيب السعود ‪ - 208/2‬بترصف يسري‪ ،‬وانظر‪ :‬روح املعاين ‪.192/4‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪.142/5‬‬
‫() مفردات الراغب ‪ ،267‬وانظر‪ :‬لسان العرب ‪ ،238/13‬وعمدة احلفاظ ‪.311-310/2‬‬
‫() مفردات الراغب ‪.268-267/1‬‬

‫‪141‬‬
‫ومعنى‪ :‬ﱫ ﮦ ﮧ ﱪ «لبقيتم عىل الكفر والضاللة»()‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫إلشاعات املغرضة وا ِ‬
‫إلذاعات املثبطة»()‪.‬‬ ‫«ﱫﮦ ﮧ ﱪ يف قبول تلك ا ِ‬
‫ﱫ ﮨ ﱪ أداة استثناء‪ ،‬ﱫ ﮩﱪ مستثنى‪ ،‬و«القلة والكثرة يستعمالن يف‬
‫األعداد‪ ،‬كام أن العظم والصغر يستعمالن يف األجسام‪ ،‬ثم يستعار كل واحد من‬
‫الكثرة والعظم‪ ،‬ومن القلة والصغر لآلخر»()‪ ،‬وهي هنا عىل أصلها‪.‬‬
‫أن ذلك القليل َو َقع ال بِ َف ْضل اهلل وال بِ َرحمْ َ تِه‪،‬‬ ‫االستِ ْثنَاء ِ‬
‫يوه ُم َّ‬ ‫«ظ ِ‬
‫اهر هذا ْ‬ ‫و َ‬
‫ومعلوم أن ذلك حمال» ()‪ ،‬ومن هنا اختلف املفرسون يف حتديد املستثنى منه عىل‬
‫وجوه شتى‪ ،‬وترتب عىل هذا االختالف معاين متعددة‪ ،‬وقد ذكر السمني احللبي يف‬
‫مرجع هذا االستثناء عرشة أقوال ()‪ ،‬ولكننا نكتفي بذكر أشهر هذه الوجوه التي‬
‫ترددت لدى املفرسين حتى ال يطول بنا القول‪.‬‬
‫األول‪ :‬املستثنى منه الفاعل يف ﱫ ﮑ ﮒﮓ ﱪ‪ ،‬يقول اخلازن‪« :‬قيل‪ :‬هو راجع‬
‫إىل اإلذاعة‪ ،‬وهو قول ابن عباس‪ ،‬والتقدير‪ :‬وإذا جاءهم أمر من األمن أو اخلوف‬
‫أذاعوا به إال قلي ً‬
‫ال‪ ،‬فأخرج بعض املنافقني واملؤمنني عن هذه اإلذاعة؛ ألهنم مل يذيعوا‬
‫ما علموا من أمر الرسايا‪ ،‬وهذا القول اختيار الفراء والطربي»()‪.‬‬

‫() تفسري اخلازن ‪.565/1‬‬


‫() أيرس التفاسري ‪.515/1‬‬
‫() مفردات الراغب ‪.425‬‬
‫() مفاتيح الغيب ‪ ،339/9‬وانظر‪ :‬تفسري النيسابوري ‪ ،458/2‬واللباب البن عادل ‪.524/6‬‬
‫() الدر املصون للسمني احللبي ‪.54-52 /4‬‬
‫() تفسري اخلازن ‪ ،565/1‬وانظر‪ :‬الطربي ‪ ،205/4‬وتفسري النيسابوري ‪ ،458/2‬واملحرر‬
‫الوجيز ‪ ،190/4‬وتفسري القرطبي ‪ ،292/5‬والبحر املحيط ‪.308/3‬‬

‫‪142‬‬
‫«ع ِلمه»‪ ،‬يقول القرطبي‪« :‬املعنى لعلمه الذين‬
‫الثاين‪ :‬املستثنى منه هو فاعل َ‬
‫يستنبطونه منهم إال قليال منهم‪ ،‬عن احلسن وغريه‪ ،‬واختاره الزجاج» ()‪.‬‬
‫واملستثنى منه عىل هذين الرأيني موجود‪ ،‬ويف الكالم تقديم وتأخري كام ترى‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬املستثنى منه الفاعل يف اتبعتم‪ ،‬وقد ذهب إىل هذا الرأي أكثر املفرسين‪،‬‬
‫وقد وجهه الرازي بام ال مزيد عليه فقال‪« :‬معلوم أن رصف االستثناء إىل ما يليه‪،‬‬
‫ويتصل به أوىل من رصفه إىل اليشء البعيد عنه (يقصد الرأيني السابقني)‪ ،‬واعلم أن‬
‫هذا القول ال يتمشى إال إذا فرسنا الفضل والرمحة بيشء خاص‪ ،‬وفيه وجهان‪:‬‬
‫األول‪ :‬وهو قول مجاعة من املفرسين‪ ،‬أن املراد بفضل اهلل وبرمحته يف هذه اآلية‬
‫إنزال القرآن وبعثة حممد ×‪ ،‬والتقدير ولوال بعثة حممد ×‪ ،‬وإنزال القرآن التبعتم‬
‫الشيطان وكفرتم باهلل إال قليال منكم فإن ذلك القليل بتقدير عدم بعثة حممد ×‪،‬‬
‫وعدم إنزال القرآن ما كان يتبع الشيطان‪ ،‬وما كان يكفر باهلل‪ ،‬وهم مثل قس بن‬
‫ساعدة‪ ،‬وورقة بن نوفل‪ ،‬وزيد بن عمرو بن نفيل‪ ،‬وهم الذين كانوا مؤمنني باهلل قبل‬
‫بعثة حممد ×‪.‬‬
‫الوجه الثاين‪ :‬ما ذكره أبو مسلم‪ ،‬وهو أن املراد بفضل اهلل وبرمحته يف هذه اآلية‬
‫هو نرصته تعاىل ومعونته اللذان عنامها املنافقون بقوهلم‪ :‬ﱫ ﯣ ﯤ ﯥﱪ‬
‫[النساء‪ ،]73:‬فبينَّ تعاىل أنه لوال حصول النرص‪ ،‬والظفر عىل سبيل التتابع التبعتم‬
‫الشيطان‪ ،‬وتركتم الدين إال القليل منكم‪ ،‬وهم أهل البصائر الناقدة والنيات القوية‪،‬‬
‫والعزائم املتمكنة من أفاضل املؤمنني الذين يعلمون أنه ليس من رشط كونه ح ًّقا‬

‫() تفسري القرطبي ‪ ،292/5‬وانظر‪ :‬الثعالبي ‪ ،367/1‬واخلازن ‪.565/1‬‬

‫‪143‬‬
‫حصول الدولة يف الدنيا‪ ،‬فألجل تواتر الفتح والظفر يدل عىل كونه حقا‪ ،‬وألجل‬
‫تواتر االهنزام واالنكسار يدل عىل كونه باطال‪ ،‬بل األمر يف كونه حقا وباطال عىل‬
‫الدليل‪ ،‬وهذا أصح الوجوه وأقرهبا إىل التحقيق»()‪.‬‬
‫فالرازي كام ترى أيد هذا الوجه الثالث بقسميه‪ ،‬وهو وجه جيد جدا رشيطة أن‬
‫يكون الفضل بمعنى إرسال الرسول والرمحة بمعنى إنزال الكتاب أو بمعنى النرصة‬
‫واملعونة كام ذكر الرازي‪ ،‬وهذا هو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ؛ ألن رصف االستثناء‬
‫إىل ما يليه أوىل من رصفه إىل البعيد كام يف الرأيني السابقني كام أنه ال حيتاج لتقديم‬
‫وتأخري كسابقيه‪ ،‬وما ال حيتاج لذلك أوىل مما حيتاج عالوة عىل أن املستثنى منه عىل هذا‬
‫الرأي موجود واخلطاب للكل واالستثناء متصل‪ ،‬فضال عن أن كثريا من املفرسين‬
‫رفضوا الرأيني األولني وساروا عىل هذا الرأي‪ ،‬يقول الشيخ رشيد رضا‪« :‬وكالمها‬
‫بعيد»()‪.‬‬
‫واضحا‬
‫ً‬ ‫وبعد فمن يتأمل يالحظ أن يف هذا األسلوب غزارة يف الدالالت‪ ،‬وثراء‬
‫يف املعاين‪ ،‬ولوال أن داللة اآلية حمتملة لكل هذه الصور التي ذكرناها والتي مل نذكرها‬
‫ملا فرسها املفرسون عىل ذلك‪ ،‬وهذا دليل عىل خصوبة هذا التعبري وثرائه‪ ،‬ولعل هذا‬

‫() مفاتيح الغيب ‪ ،341-340/9‬وانظر‪ :‬التسهيل لعلوم التنزيل ‪ ،150/1‬وتفسري الثعالبي‬


‫‪ ،367/1‬وتفسري القرطبي ‪ ،292/5‬وتفسري النيسابوري ‪ ،458/2‬واللباب ‪،525-524/6‬‬
‫وحاشية زاده عىل البيضاوي ‪ ،373/3‬وحاشية الشهاب ‪.318/3‬‬
‫() تفسري املنار ‪ ،246/5‬وانظر عىل سبيل املثال‪ :‬املحرر الوجيز ‪ ،191-190/4‬ومفاتيح‬
‫الغيب ‪ ،340/9‬والقرطبي ‪ ،292/5‬واخلازن ‪ ،565/1‬والنيسابوري ‪ ،458/2‬وأيب السعود‬
‫‪ ،208/2‬وروح البيان ‪ ،247/2‬وحاشية الصاوي ‪ ،47/2‬وروح املعاين ‪.192/4‬‬

‫‪144‬‬
‫مقصود بذاته حتى تعمل القرائح‪ ،‬وتتوصل إىل املراد وهذا من وجهة نظري من‬
‫دالئل اإلعجاز واإلجياز‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫املبحث الرابع‬
‫املبحث الرابع‪:‬‬
‫البالغية يف آية التفهيم‬
‫َّ‬ ‫األسرار‬

‫‪ :‬ﱫﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮯﮰﮱ‬ ‫قوله‬


‫ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗﱪ [األنبياء‪.]79:‬‬
‫وردت هذه اآلية الكريمة يف سورة األنبياء املكية التي عاجلت بعض موضوعات‬
‫العقيدة اإلسالمية‪ ،‬كام حتدثت عن قصص بعض األنبياء؛ لتسليته ×‪ ،‬وللتأيس هبم‬
‫يف احتامل أذى املرشكني‪ ،‬والصرب عليهم‪.‬‬
‫وقد ابتدأ القصص يف هذه السورة بذكر بعض ما حدث أليب األنبياء إبراهيم‬
‫‪ ،‬ثم أعقب ذلك احلديث‬ ‫‪ ،‬ثم تالمها ذكر بعض ما حدث لنوح‬ ‫ثم لوط‬
‫يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ‬ ‫عن داود وسليامن‬
‫ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ‬
‫ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗﱪ [األنبياء‪:‬‬
‫َّ‬
‫فاستهل الكالم عنهام بحادثة وقعت هلام حكاها بعض املفرسين بقوله‪:‬‬ ‫‪،]79-78‬‬
‫«ختاصم إىل داود رجالن دخلت غنم أحدمها عىل زرع اآلخر بالليل فأفسدته‪ ،‬فلم‬
‫ُتبق منه شيئا‪ ،‬فقىض بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم فخرج الرجالن عىل سليامن‪ ،‬وهو‬
‫بالباب فأخرباه بام حكم به أبوه‪ ،‬فدخل عليه فقال‪ :‬يا نبي اهلل لو حكمت بغري هذا‬

‫‪147‬‬
‫كان أرفق باجلميع ! قال‪ :‬وما هو؟ قال‪ :‬يأخذ صاحب الغنم األرض‪ ،‬فيصلحها‪،‬‬
‫ويبذرها حتى يعود زرعها كام كان‪ ،‬ويأخذ صاحب الزرع الغنم‪ ،‬وينتفع بألباهنا‬
‫وصوفها ونسلها‪ ،‬فإذا خرج الزرع ُر َّد ْت الغنم إىل صاحبها‪ ،‬واألرض إىل رهبا‪ ،‬فقال‬
‫له داود وفقت يا بني‪ ،‬وقىض بينهام بذلك» ()‪.‬‬
‫وعىل ما حكته اآلية السابقة‪ ،‬واآلية التالية هلا حمل الشاهد‪ ،‬تكون الفاء يف قوله‬
‫تعاىل‪ :‬ﱫ ﮦﱪ عطفت اجلملة التي بعدها عىل مجلة ﱫ ﮚ ﮛ ﮜﱪ‬
‫يف اآلية السابقة‪ ،‬وصح عطف اجلملة املاضوية عىل املضارعية ألن قوله ﱫ ﮙ‬
‫ﮚﱪ كام يقول أبو السعود‪« :‬يف حكم املايض»()‪ ،‬وعرب عن املايض باملضارع‬
‫استحضارا هلذه الصورة اجلليلة يف النفوس‪.‬‬
‫يف روعه‬ ‫ألقى املوىل‬ ‫وعرب بالفاء دون غريها؛ لإلشارة إىل أن سليامن‬
‫فهم هذه القضية بأرسع وقت ممكن عند سامعه هلا من اخلصمني‪ ،‬فام أن علم سليامن‬
‫بالقصة‪ ،‬وكان بالباب كام قيل َف َّهمه اهلل هلا يف التو واللحظة ومن ثم فالتعبري بالفاء‬
‫التي هي للرتتيب مع التعقيب كان أوفق لتصوير هذا األمر‪ ،‬والكشف عنه بدقة‪.‬‬
‫ريها فيه‬
‫وألجل أن الفاء وضعت هنا يف املوضع األليق هبا‪ ،‬والذي ال يغني غ ُ‬
‫غناءها استمد الرازي من التعبري هبا حكام رشعيا فقال‪« :‬والفاء للتعقيب فوجب أن‬
‫يكون ذلك احلكم ساب ًقا عىل هذا التفهيم‪ ،‬وذلك احلكم السابق إما أن يقال اتفقا فيه‪،‬‬
‫أو اختلفا فيه‪ ،‬فإن اتفقا فيه مل يبق لقوله‪ :‬ﱫ ﮦ ﮧﮨ ﱪ فائدة‪ ،‬وإن اختلفا فيه‬

‫() تفسري الصابوين ‪ ،855/2‬وانظر‪ :‬القرطبي ‪ ،308-307/11‬وتفسري أيب السعود ‪،79/6‬‬


‫وروح املعاين ‪ ،601/11‬وفتح البيان ‪ ،1751/6‬وتفسري القاسمي ‪.165/11‬‬
‫() تفسري أيب السعود ‪ ،79/6‬وانظر‪ :‬الفتوحات اإلهلية ‪ ،138/3‬وروح املعاين ‪.601/11‬‬

‫‪148‬‬
‫فذلك هو املطلوب» ()‪ ،‬وقد أكد النيسابوري عىل ذلك فقال‪« :‬والفاء للتعقيب فدل‬
‫عىل أنه فهم حكام خالف األول»()‪.‬‬
‫و« َف َّه َم» فعل ٍ‬
‫ماض مضعف العني‪ ،‬والتضعيف أفاد التعدية إىل املفعول الثاين؛‬
‫ألن الثالثي َف ِه َم يتعدى لواحد مثل‪َ « :‬ف ِه َم حممدٌ القضي َة»‪ ،‬و«ال َف ْه ُم معرفتك اليشء‬
‫بالقلب‪َ ،‬ف ِه َمه َف ْهام و َف َهام و َفهامة َع ِل َمه‪ .‬األخرية عن سيبويه‪ ،‬و َف ِه ْم ُت اليشء‪َ :‬ع َقلتُه‬
‫وعر ْفته‪ ،‬و َف َّهمت فالنا َ‬
‫وأ ْف َه ْمته»()‪ ،‬والفهم ً‬
‫أيضا هو «حسن تصور املعنى‪ ،‬وجودة‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫استعداد الذهن لالستنباط»()‪.‬‬
‫علم املسألة‬ ‫وهذا كله داخل يف طيات هذا اللفظ هنا ملن يتأمل‪ ،‬فسليامن‬
‫وأحسن تصور معناها‪ ،‬واستنبط احلكم الصائب فيها‬
‫َ‬ ‫املتنازع فيها‪ ،‬وعقلها بقلبه‪،‬‬
‫بمجرد أن عرضت عليه‪.‬‬
‫ويف هذا دليل ساطع‪ ،‬وبرهان ناصع عىل أن القايض ال جيب أن حيكم يف قضية‬
‫تاما‪ ،‬وفهمها فهام حقيقيا‪ ،‬ثم يأيت احلكم فيها بعد‬
‫تصورا ًّ‬
‫ً‬ ‫ما إال إذا تصورها يف ذهنه‬
‫الفهم العميق‪ ،‬والتصور الدقيق‪ ،‬وقديام قالوا‪« :‬احلكم عىل اليشء فرع عن تصوره»‪،‬‬
‫هذه القضية‪ ،‬وتصورها‬ ‫فالفهم مرحلة أوىل ينبني عليها احلكم‪ ،‬فلام فهم سليامن‬
‫يف ذهنه التصور األمثل جاء حكمه فيها مطابقا للصواب‪ ،‬وهذا يشري إىل أن داود‬
‫‪ ،‬فجاء‬ ‫مل يتصور القضية تصورا كامال بالصورة نفسها التي تصورها سليامن‬

‫() مفاتيح الغيب ‪.165/21‬‬


‫() تفسري النيسابوري ‪.36/5‬‬
‫() لسان العرب (ف‪.‬هـ‪.‬م) ‪.459 /12‬‬
‫() املعجم الوسيط ‪ ،730/ 2‬وانظر‪ :‬مفردات الراغب ‪ ،400‬وعمدة احلفاظ ‪.300/3‬‬

‫‪149‬‬
‫حكمه فيها صائ ًبا‪ ،‬وليس عني الصواب‪.‬‬
‫وأوثر لفظ الفهم هنا عىل لفظ العلم؛ ألن الفهم إدراك كل‪« :‬خفي دقيق فهو‬
‫جليا»()‪.‬‬
‫خفيا أو ًّ‬
‫أخص من العلم؛ ألن العلم نفس اإلدراك‪ ،‬سواء كان ًّ‬
‫ويف إيثار الفهم ً‬
‫أيضا إعالء من شأنه‪ ،‬وتأكيد عىل أنه املوصل احلقيقي للعلم؛‬
‫فالعلم بدون فهم يتخبط حامله يف الضاللة‪ ،‬ويتعثر صاحبه يف املتاهة‪ ،‬ويف ذلك يقول‬
‫الشيخ حقي‪« :‬أصاب سليامن حقيقة املسألة املخصوصة بحسب نور الفهم ال بحسب‬
‫قوة العلم»()‪ ،‬ولذا كان التعبري بالفهم أوفق يف هذا املقام‪.‬‬
‫فعل دون َف ِعل؛ ألنه لو قال َف َف ِه َم لكان سليامن فهمها من نفسه دون‬
‫وعرب بصيغة َّ‬
‫وحي أو تعليم؛ وهذا بخالف املراد؛ ألن السياق سياق امتنان وشكران‪.‬‬
‫كام عرب بصيغة َف َّعل دون أفعل؛ ألن « َف َّعل» أسلس وأعذب عىل اللسان عند‬
‫التلفظ هبا مع الضامئر‪ ،‬بخالف «أفعل» فهي أثقل عند التلفظ هبا مع الضامئر ملن‬
‫فعل فهي تفيد التكثري مثل‬ ‫ً‬
‫وأيضا؛ ألن أفعل ال تفيد الكثرة بخالف َّ‬ ‫يقارن بينهام؛‬
‫َق َّطع َّ‬
‫وسبح إلخ‪ ،‬ويف هذا يقول ابن عاشـور‪« :‬معنى قوله‪ :‬ﱫ ﮦ ﮧﮨ ﱪ أنه‬
‫أهلمه وجها آخر يف القضاء أرجح؛ ملا تقتضيه صيغة التفهيم من شدة حصول الفعل‬
‫أكثر من صيغة اإلفهام‪ ،‬فدل عىل أن فهم سليامن يف القضية كان أعمق‪ ،‬وذلك أنه‬
‫أرفق هبام‪.)(»...‬‬
‫الفهم التام بل االختالف هنا يف النسبة فسليامن‬ ‫ولكن هذا ال ينفي عن داود‬
‫َّ‬

‫() الفروق يف اللغة ‪.79‬‬


‫() تفسري حقي ‪ - 513/9‬بترصف يسري جدًّ ا‪.‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪.118/17‬‬

‫‪150‬‬
‫أصاب الصواب دون‬ ‫كان أكثر فهام هلا‪ ،‬وأصاب شاكلة الصواب وعينه‪ ،‬وداود‬
‫عينه‪ ،‬ومن ثم فهذا الفعل يدل عىل التفاوت والنسبية‪ ،‬وهذا من أرسار التعبري به‬
‫هنا‪.‬‬
‫يف تلك القضية؟ أجاب‬ ‫وإذا كان األمر كذلك فام فضل سليامن عىل داود‬
‫الشيخ طنطاوي عن ذلك فقال‪« :‬وذلك ألن داود ‪-‬كام يقول العلامء‪ -‬قد اجته يف‬
‫حكمه إىل جمرد التعويض لصاحب احلرث‪ ،‬وهذا عدل فحسب‪ ،‬أما حكم سليامن‬
‫فقد تضمن مع العدل البناء والتعمري‪.)(»...‬‬
‫وهذا «يشري إىل رفعة درجة بعض املجتهدين عىل بعض‪ ،‬وأن االعتبار ‪-‬يف الكرب‬
‫والفضيلة‪ -‬بالعلم‪ ،‬وفهم األحكام‪ ،‬واملعاين واألرسار‪ ،‬ال بالسن فإنه فهم باألحق‬
‫واألصوب‪ ،‬وهو ابن صغري‪ ،‬وداود نبي مرسل كبري» ()‪.‬‬
‫عالوة عىل أن هذا اللفظ من األلفاظ الفرائد التي مل ترد إال يف هذا املوطن مادة‬
‫بينت يف بحث سابق()‪ -‬هلا أرسار عامة‬
‫وصيغة فحسب‪ ،‬واأللفاظ الفرائد ‪-‬كام ُ‬
‫تتمثل يف تفرد الواقعة يف حياة النبي‪ ،‬وتفردها يف حياة اإلنسانية‪ ،‬وتفرد موضعها يف‬
‫الذكر احلكيم‪ ،‬فهذه احلادثة مل تتكرر يف تاريخ اإلنسانية هبذه التفاصيل نفسها‪ ،‬ومل ترد‬
‫‪ ،‬وتفرد موضعها يف الذكر احلكيم‪.‬‬ ‫يف قصة نبي آخر غري داود وسليامن‬
‫مل تنص عليه اآلية الكريمة‪ ،‬ولذا فهو حيتمل‬ ‫سليامن‬ ‫وكيفية تفهيم اهلل‬
‫وجوها‪ :‬إما أن يكون «بأن جعل اهلل له من فضل قوة الفهم ما أدرك به ذلك‪ ،‬وإما‬

‫() التفسري الوسيط ‪ ،235/9‬وانظر‪ :‬تفسري القرطبي ‪.307/11‬‬


‫() روح البيان للشيخ حقي ‪.505/5‬‬
‫() انظر‪ :‬من األرسار البالغية يف الفرائد القرآنية ‪.203-200‬‬

‫‪151‬‬
‫بأن ألقى ذلك يف روعه‪ ،‬أو بأن َأ ْو َحى إليه وخصه به»()‪ ،‬وال نجزم بصورة من هذه‬
‫ألقى ذلك‬ ‫الصور؛ ألن السياق ال حيدد واحدة بعينها‪ ،‬وإن كنت أميل إىل أن اهلل‬
‫يف روعه‪ ،‬كام توحي به الفاء التي للتعقيب دون مهلة‪.‬‬
‫و« َنا» يف قوله‪ :‬ﱫﮦ ﱪ فاعل يعود عىل لفظ اجلاللة مما ينبئ عن أن التفهيم‬
‫تناسب معها التعبري بضمري العظمة‪،‬‬ ‫كان منة كربى‪ ،‬ونعمة عظمى عىل سليامن‬
‫يقول القرطبي‪« :‬وكان سليامن الفاهم هلا بتفهيم اهلل تعاىل إياه»()‪.‬‬
‫والضمري «هَ ا «يف قوله‪ :‬ﱫﮦ ﱪ يف حمل نصب مفعول ثان‪ ،‬وأنث الضمري؛‬
‫ألنه «يعود إىل القضية املفهومة من الكالم أو احلكومة املدلول عليها بذكر احلكم»‬
‫()‬

‫كام يف اآلية السابقة يف قوله‪ :‬ﱫ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﱪ‪.‬‬


‫والتعبري بالضمري هنا راجع إىل هذه القضية بذاهتا‪ ،‬وال يشمل غريها بحال من‬
‫األحوال فقد تكون هناك قضايا غريها َف َّهم اهلل فيها داود عني احلق‪ ،‬فالضامئر قطعا ال‬
‫يستفاد منها التعميم يف احلكم كام هو معلوم‪ ،‬يقول السعدي‪« :‬وال يدل ذلك أن داود‬
‫مل يفهمه اهلل يف غريها» ()‪.‬‬
‫َ‬
‫سليامن‬ ‫«فه َم»‪ ،‬وتقدير الكالم‪َ « :‬ف َّهم املوىل‬
‫ﱫ ﮧﱪ مفعول أول للفعل َّ‬
‫هذه القضي َة»‪ ،‬وقدم املفعول األول عىل الثاين وكان من املمكن تأخريه والتعبري عنه‬
‫احلكم»؛ للرتكيز عىل أمهية تلك القضية لغرابتها؛ وألن النظم‬
‫َ‬ ‫بقوله‪« :‬ففهمنا سليامن‬

‫() مفردات الراغب ‪ ،400‬وانظر‪ :‬عمدة احلفاظ ‪.300/3‬‬


‫() تفسري القرطبي ‪.307/11‬‬
‫() فتح البيان ‪ ،174/6‬وانظر‪ :‬تفسري الطربي ‪ ،55/9‬والقرطبي ‪ ،307/11‬وروح املعاين‬
‫‪.601/11‬‬
‫() تفسري السعدي ‪.477‬‬

‫‪152‬‬
‫عىل هذا أسلس‪ ،‬وأشد متكنا‪.‬‬
‫ﱫ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﱪ هذه اجلملة معرتضة بني السابقة والالحقة‪،‬‬
‫جورا‪ ،‬وإنام‬
‫وفائدة االعرتاض «االحرتاس لدفع توهم أن حكم داود كان خطأ‪ ،‬أو ً‬
‫كان حكم سليامن أصوب»()‪.‬‬
‫«ك ًّ‬
‫ال» عىل «آ َت ْينَا‬ ‫ﱫ ﮩ ﱪ مفعول أول مقدم للفعل آتينا‪ ،‬وتقديم املفعول ُ‬
‫«فيه تكريم عظيم هلام إذ تطرق احلديث عنهام أوال إىل الذهن‪ ،‬وفيه ً‬
‫أيضا فخامة وقوة‬
‫ال جتدها إذا تأخر هذا املفعول‪ ،‬وهلذا فقد() أيت متقدما عىل الفعل الذي بعده يف جل‬
‫مواضعه يف الذكر احلكيم لتلك اخلصوصية حسب املقتضىَ ‪.‬‬
‫«والتنوين يف قوله‪ :‬ﱫ ﮩ ﱪ عوض عن كلمة‪ ،‬أي‪ :‬كل واحد منهام»()‪،‬‬
‫‪ ،‬وقيل‪ :‬املعوض عنه عائد عىل مجيع األنبياء املذكورين‬ ‫أي‪ :‬من داود وسليامن‬
‫يف اآليات السابقة‪ ،‬يقول الطربي‪« :‬ﱫ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﱪ وكلهم من داود‬
‫وسليامن والرسل الذين ذكرهم يف َّأول هذه السورة»()‪.‬‬
‫ومنشأ اختالف التقدير راجع إىل أن استعامالت هذه اللفظة املنونة يف القرآن‬
‫الكريم جاء فيها املقدر عائدً ا عىل اثنني كام يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﭮ ﭯ ﭰ‬
‫ﭱﭲ ﭳ ﭴﭵ ﱪ [األنعام‪ ،]84:‬أو عائدً ا عىل أكثر من اثنني كام يف قوله‪:‬‬
‫ﱫ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﱪ [األنعام‪.]86:‬‬

‫() التحرير والتنوير ‪ ،119/17‬وانظر‪ :‬نظم الدرر للبقاعي ‪.100/5‬‬


‫مرة‪( .‬املعجم املفهرس ‪.)619 ،618‬‬
‫() ذكر منصو ًبا (‪ )15‬مرة‪ ،‬تقدم عىل معموله (‪َّ )13‬‬
‫() أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن ‪.839/4‬‬
‫() تفسري الطربي ‪.55/9‬‬

‫‪153‬‬
‫كام‬ ‫ولكن الراجح هنا أن املحذوف عائدٌ عىل اثنني‪ ،‬ومها داود وسليامن‬
‫َّ‬
‫ينبئ السياق؛ ألن مطلع اآلية السابقة كان الكالم فيها عنهام رصاحة يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ‬
‫ﮗ ﮘ ﱪ عالوة عىل أن الكالم قد تم قبل تلك اآلية عن األنبياء املذكورين‬
‫قبلهام إبراهيم ولوط ونوح عليهم السالم كام تقدم‪.‬‬
‫والتنوين ‪-‬عالوة عىل ما يف طياته من حذف كلمة‪ -‬يفيد التفخيم‪ ،‬فلو قال‪:‬‬
‫وكل واحد آتينا لتالشت تلك الفخامة والقوة والروعة‪ ،‬وهذا رس من أرسار التنوين‬
‫يف استعامالت تلك اللفظة‪.‬‬
‫ﱫ ﮪ ﱪ آتى فعل ماض رباعي مزيد بحرف بعد فائه بمعنى‪ :‬أعطينا‪ ،‬وفاعل‬
‫‪ ،‬وإسناد إيتاء احلكمة والعلم إىل اهلل‬ ‫ﱫ ﮪ ﱪ (نا) العظمة العائدة عىل املوىل‬
‫بنون العظمة فيه داللة عىل أن املؤ َتى‪ ،‬وهو احلكم والعلم كان هبة عظيمة من املوىل‬
‫هلام‪ ،‬وفيه ً‬
‫أيضا تأكيد عىل أهنام بلغا يف ذلك الغاية‪ ،‬ووصال النهاية‪.‬‬
‫«ح َك َم‬
‫ﱫ ﮫ ﱪ مفعول به ثان للفعل آتينا‪ ،‬واحلكم مصدر الفعل الثالثي َ‬
‫«ح َك ْم ُت» عليه بكذا إذا منع ُته‬ ‫يحَ ُْك ُم ُح ْكماً »‪ ،‬و ُ‬
‫«احل ْك ُم‪ :‬القضاء‪ ،‬وأصله املنع يقال َ‬
‫«احل ْك َم ِة»؛ ألهنا متنع‬
‫من خالفه‪ ،‬فلم يقدر عىل اخلروج من ذلك‪ ...‬ومنه اشتقاق ِ‬
‫صاحبها من أخالق األرذال»()‪.‬‬
‫وإيثار احلكم عىل احلكمة؛ ألن «احلكم أعم من احلكمة‪ ،‬فكل حكمة حكم‪،‬‬
‫وليس كل حكم حكمة» ()‪.‬‬
‫ويف هذا إشارة إىل أن كال منهام كان حيكم بالعدل‪ ،‬ويمنع من الظلم‪ ،‬وكال منهام‬

‫() املصباح املنري ‪.56‬‬


‫() مفردات الراغب ‪ ،126‬وانظر‪ :‬عمدة احلفاظ ‪.509/1‬‬

‫‪154‬‬
‫ً‬
‫أيضا كان يف قوله حكمة‪ ،‬ولذا عرب باملصدر مبالغة يف ذلك‪.‬‬
‫ﱫ ﮬﮭ ﱪ الواو للعطف‪ ،‬وهو من قبيل عطف املفردات التي تقتيض الترشيك‬
‫يف احلكم‪ ،‬وهو اإليتاء‪ ،‬وتقتيض املغايرة؛ ألن العلم بخالف احلكم‪ ،‬أي «وكال من‬
‫«ح ْكماً «أي‪ :‬نبوة وإصابة يف القول والعمل‬
‫داود وسليامن قد أعطيناه من عندنا ُ‬
‫ﱫﮬﮭ ﱪ أي‪ :‬فقها يف الدين‪ ،‬وفهام سليام لألمور»()‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬آتيناه «حكماً ‪ :‬وهو النبوة‪ ،‬وعلماً ‪ :‬بأحكام اهلل»()‪.‬‬
‫وقيل‪« :‬احلكم‪ :‬القضاء‪ ،‬والعلم‪ :‬الفتيا»()‪.‬‬
‫والعلم‪ :‬أصالة الفهم» ()‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وقيل‪ِ :‬‬
‫«احلكمة‪ :‬وهو النبوءة‪،‬‬
‫واملعني األول هو األرجح‪ ،‬وال يرفضه سياق الكالم ملن يتأمل ويتدبر‪ ،‬يؤيد هذا‬
‫أن هاتني اللفظتني وردتا مقرتنتني معا يف القرآن بتلك اهليئة(‪ )4‬مرات‪:‬‬
‫يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ‬ ‫األوىل‪ :‬يف احلديث عن يوسف‬
‫ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾﱪ [يوسف‪.]22:‬‬
‫يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﭢ ﭣ ﭤ ﭥﱪ‬ ‫والثانية‪ :‬يف احلديث عن لوط‬
‫[األنبياء‪.]74:‬‬
‫والثالثة‪ :‬هنا‪.‬‬
‫يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ‬ ‫والرابعة‪ :‬يف احلديث عن موسى‬

‫() التفسري الوسيط ‪.235/9‬‬


‫() تفسري الطربي ‪.55/9‬‬
‫() النكت والعيون ‪.459 /3‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪.115/17‬‬

‫‪155‬‬
‫ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﱪ [القصص‪ ،]14:‬وهذا املعنى الذي رجحناه ال ينفك عنهام‪.‬‬
‫وتنكري ﱫ ﮫ ﮬﮭ ﱪ؛ للتعظيم‪ ،‬أي‪ :‬كل واحد منهام وهبناه حكماً وعلماً‬
‫عظيمني‪.‬‬
‫وذكر العلم مع احلكمة هنا فيه‪« :‬تنبيه عىل أن العلم أفضل الكامالت وأعظمها‬
‫ُ‬
‫وذلك؛ ألن اهلل تعاىل قدم ذكره ههنا عىل سائر النعم اجلليلة مثل تسخري اجلبال والطري‪،‬‬
‫والـريح واجلن‪ ،‬وإذا كان العلم مقد ًما عىل أمثال هذه األشياء‪ ،‬فام ظنك بغريها»()‪.‬‬
‫معا رشع بعد ذلك يف ذكر ما خص به كل‬ ‫وملا مدح فيام مىض داود وسليامن‬
‫فقال‪ :‬ﱫ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ‬ ‫واحد منهام من معجزات فبدأ بداود‬
‫ﯔﯕﯖﯗﱪ‪ ،‬والواو جيوز أن تكون للعطف‪ ،‬عطفت مجلة ﱫﮮﱪ‬
‫عىل مجلة ففهمناها سليامن‪ ،‬وليست معطوفة عىل مجلة ﱫ ﮩ ﮪﱪ؛ ألهنا‬
‫اعرتاضية كام مر‪ ،‬والعطف هنا للتوسط بني الكاملني عىل حسب قواعد البالغيني‬
‫حيث عطفت مجلة خربية لفظا ومعنى عىل خربية ً‬
‫لفظا ومعنًى‪ ،‬واملسوغ للعطف هنا‬
‫التناسب بني املسند إليه‪ ،‬واملسند فيهام‪ ،‬فالفاعل فيهام ضمري العظمة «نا «يعود عىل‬
‫‪ ،‬والتسخري هنا حاصل لداود‬ ‫‪ ،‬والتفهيم يف األول واقع عىل سليامن‬ ‫املوىل‬
‫‪ ،‬فبينهام ارتباط قوي والتحام شديد سوغ العطف بالـواو كام ترى‪ ،‬وجيوز أن‬
‫تكون الواو استئنافية حيث استهل بعدها خربا جديدا منقطعا عام قبله‪.‬‬
‫َّ‬
‫(سخر)‪ :‬فعل ماض رباعي مضعف العني‪ ،‬وأصل التسخري‬ ‫ﱫ ﮮ ﱪ‪:‬‬
‫«س َخ َره كلفه ما ال يريد وقهره‪ ،‬وكل مقهور ُمدَ َّب ٍر‬
‫القهر والتذليل‪ ،‬يقول ابن منظور‪َ :‬‬
‫ُ‬
‫التذليل‪ ...‬وكل ما‬ ‫ري‬ ‫ال يملك لنفسه ما خيلصه من القهر فذلك َّ‬
‫مسخر‪ ،...‬والتسخ ُ‬

‫() مفاتيح الغيب ‪.163/21‬‬

‫‪156‬‬
‫ذل وانقاد‪َ ،‬أو َ‬
‫هتيأ لك عىل ما تريد فقد ُس ِّخ َر لك» ()‪.‬‬
‫ساق اجلبال إىل الغرض املذكور يف‬ ‫وهذا املعنى األصيل هو املراد هنا فإن اهلل‬
‫اآلية قهرا‪ ،‬وذللها لذلك تذليلاً ‪.‬‬
‫ومن إعجازات الذكر احلكيم يف التعبري هبذا الفعل املضعف العني أنه أتى به يف‬
‫مجيع مواضعه املذكور فيها (‪ )22‬مرة فعلاً ماض ًيا‪ ،‬ومل يأت به مضارعا وال ً‬
‫أمرا البتة؛‬
‫ألن املايض هو األوفق باملقام «ويمتنع فيه بالغة وواقعا املضارع واألمر»() فتسخري‬
‫هذه العوامل‪ ،‬وتلك الكائنات الكربى من اجلبال‪ ،‬والبحار واألهنار‪ ،‬والليل والنهار‪،‬‬
‫والشمس والقمر‪ ،‬والسامء واألرض من كل ما وقع عليه التسخري تم ومىض‪ ،‬وليس‬
‫عىل عباده‪.‬‬ ‫فيه إحداث جديد‪ ،‬وهذا من فضله‬
‫ومن عجائب الذكر احلكيم ً‬
‫أيضا أنه استخدم الفعل املشدد يف مجيع هذه املواضع‬
‫«س َخر» كام مر عند ابن منظور‪ ،‬وهذا الفعل هنا فوق كونه خاصا هبذا‬
‫دون الثالثي َ‬
‫لغة فإنه يوحي بشدة التسخري‪ ،‬ويف التشديد كذلك عالمة واضحة‪،‬‬ ‫املعنى فطر َة ٍ‬
‫وأمارة بينة عىل القوة الربانية التي ال حيدها حد‪ ،‬واجلربوت اإلهلي العظيم يف ملكه‬
‫وسلطانه‪ ،‬يؤكد ما قلناه صوت اخلاء املشدد‪ ،‬فهو يعكس بنطقه الشديد هذا اجلربوت‪،‬‬
‫وتلك القوة الربانية بوضوح‪ ،‬ولذا مل يستعمل القرآن الثالثي مطلقا هبذا املعنى‪ ،‬بل‬
‫«س ِخر» يف الذم وسوء اخللق كام يف قوله‪ :‬ﱫ ﭠ ﭡ ﭢ‬ ‫استعمل الثالثي َ‬
‫ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﱪ‪.‬‬
‫وضمري العظمة « َنا» يف َس َّخ ْر َنا فاعل‪ ،‬وقد اطرد يف هذه اآلية التعبري به دون‬

‫() لسان العرب‪ ،‬مادة (س‪.‬خ‪ .‬ر) ‪ ،354-353/4‬وانظر‪ :‬مفردات الراغب ‪.232‬‬
‫() دراسات جديدة يف إعجاز القرآن‪ .‬د‪ /‬املطعني ‪.210‬‬

‫‪157‬‬
‫غريه؛ تدليال عىل أن هذه اهلبات وتلك املعجزات التي ُوهب إياها داود وسليامن‬
‫هبا‪.‬‬ ‫هي من لدن رب عظيم كريم اختصهام‬
‫هذا‪ ،‬ومن يتأمل يف فاعل َس َّخر يف مجيع مواضعه يف الذكر احلكيم جيد أنه مل يسند‬
‫‪ ،‬وهذا طبعي؛ ألن ذلك ال يكون لسواه البتة‪ ،‬لكن قد تنوع هذا الفاعل ما‬ ‫إال هلل‬
‫بني ظاهر وضمري‪ ،‬وكل سياق يعرب فيه بام يقتضيه‪.‬‬
‫ﱫﮯﮰﱪ‪ ،‬ﱫﮯﱪ كام يقول أبو السعود‪« :‬متعلقة بالتسخري‪ ،‬وقيل بالتسبيح‪،‬‬
‫وهو بعيد»()‪ ،‬وهذا الذي استبعده أبو السعود هو ما وافق عليه ابن عاشور حيث‬
‫يقول‪ :‬و« َم َع» ظرف متعلق بفعل ﱫ ﯓ ﱪ»()‪.‬‬
‫وهذا هو األوىل‪ ،‬وعليه‪ ،‬فأصل العبارة‪« :‬وسخرنا اجلبال يسبحن مع داود»‪،‬‬
‫وقدم الظرف «عىل متعلقه لالهتامم به؛ إلظهار كرامة داود فيكون املعنى‪ :‬أن داود‬
‫َ‬
‫اجلبال تسبح مثل تسبيحه»()‪.‬‬ ‫كان إذا سبح بني اجلبال سمع‬
‫وهنا يثور سؤال لمِ َ قدم الظرف ﱫ ﮯ ﮰ ﱪ عىل اجلبال هنا‪ ،‬ويف سورة «ص» قدم‬
‫اجلبال عىل الظرف يف قوله‪ :‬ﱫ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﱪ [ص‪]18:‬؟‬
‫أجاب األلويس عن ذلك بقوله‪« :‬وأخر الظرف املذكور عن اجلبال (يف ص)‪،‬‬
‫وقدم يف سورة األنبياء فقيل‪ :‬ﱫ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﱪ‪ ،‬قال بعض الفضالء‪:‬‬
‫لذكر داود وسليامن ثمت [أي‪ :‬يف األنبياء] فقدم مسارعة للتعيني‪ ،‬وال كذلك هنا»‬
‫()‬

‫() تفسري أيب السعود ‪ ،80/6‬وانظر‪ :‬تفسري البيضاوي ‪.37/2‬‬


‫() التحرير والتنوير ‪.119/17‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪.119/17‬‬
‫() روح املعاين دار إحياء الرتاث العريب ‪ 174/23‬يف تفسري سورة ص‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫‪.‬‬ ‫أي يف «ص» فلم يسبق إال ذكر داود‬
‫وهنا سؤال آخر ذكره أبو حيان وأجاب عنه فقال‪« :‬جاء الرتكيب هنا حني‬
‫َذكر تسخري الريح لسليامن بالالم‪ ،‬وحني ذكر تسخري اجلبال جاء بلفظ مع فقال‪:‬‬
‫ﱫﮮ ﮯ ﮰ ﮱﱪ‪ ،‬وكذا جاء‪ :‬ﱫ ﮊ ﮋ ﮌ ﱪ [سبأ‪ ،]10:‬وقال‪:‬‬
‫ﱫ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﱪ [ص‪ ،]36:‬وذلك أنه ملا اشرتكا يف التسبيح ناسب ذكر‬
‫مع الدالة عىل االصطحاب‪ ،‬وملا كانت الريح ُمستخد َمة لسليامن أضيفت إليه بالم‬
‫التمليك؛ ألهنا يف طاعته وحتت أمره»()‪.‬‬
‫وهو كالم جيد ودقيق يف التفريق بني داللة (مع)‪ ،‬والالم‪ ،‬وهذا من دقائق‬
‫وخصائص التعبري القرآين احلكيم‪.‬‬
‫تد من َأوتاد َ‬
‫األرض إِذا َع ُظم‬ ‫ﱫ ﮱ ﱪ‪ :‬مجع جبل‪ ،‬واجلبل‪« :‬اسم لكل َو ٍ‬
‫القنان ُ‬
‫والقور‬ ‫صغر وانفرد فهو من ِ‬ ‫ناخيب‪َ ،‬‬
‫وأما ما ُ‬ ‫والش ِ‬ ‫األعالم َ‬
‫واألطواد َّ‬ ‫وطال من َ‬
‫َ‬
‫واأل َكم»()‪ ،‬وهذا اللفظ حيمل يف طياته داللة الثبات والرسوخ‪ ،‬وقد اعترب هذا املعنى‬
‫وج َب َل ُه‬
‫فيه «فاشتق منه بحسبه فقيل‪ :‬فالن جبل ال يتزحزح تصورا ملعنى الثبات فيه‪َ ،‬‬
‫اهلل عىل كذا إشارة إىل ما ركب فيه من الطبع الذي يأبى عىل الناقل نقله‪ ،‬وفالن ذو‬
‫جبلة‪ ،‬أي‪ :‬غليظ اجلسم» ()‪.‬‬
‫وآثر لفظة اجلبال هنا؛ ألهنا عنوان العظم والثقل‪ ،‬والرسوخ والصالبة فأومأ هذا‬
‫‪.‬‬ ‫بعظم النعمة‪ ،‬وجليل املنة عىل داود‬

‫() البحر املحيط ‪.332/6‬‬


‫()لسان العرب‪ ،‬مادة (ج ب ل) ‪.96 /11‬‬
‫() مفردات الراغب ‪.84‬‬

‫‪159‬‬
‫وأل هنا للعموم االستغراقي بداللة لفظة (مع)‪ ،‬أي‪ :‬أن مجيع اجلبال كانت‬
‫مسخرة له‪ ،‬فلو ُفرض وساح يف كل األرض شربا شربا لكانت مجيع جباهلا مسخرة‬
‫له؛ ألن املعجزة كانت معه حسبام حل وسار كام تفيده املعية‪.‬‬
‫وجيوز أن تكون أل للعموم العريف‪ ،‬واملقصود باجلبال اجلبال املحيطة به‪ ،‬واألول‬
‫أوىل‪ ،‬وهو من متام املنة‪ ،‬وعظيم النعمة‪.‬‬
‫ﱫ ﯓ ﱪ‪ :‬مجلة يف حمل نصب حال من اجلبال‪« ،‬بمعنى مسبحات‪ ،‬أو‬
‫استئناف كأن قائال قال‪ :‬كيف سخرهن؟ فقال‪ :‬يسبحن»()‪ ،‬والظاهر كام يتبادر من‬
‫الكالم أن ﱫ ﯓ ﱪ مجلة حالية من ﱫ ﮱ ﱪ‪« ،‬والعدول عن مسبحات مع‬
‫أن األصل يف احلال اإلفراد؛ للداللة عىل جتدد التسبيح حاال بعد حال‪ ،‬نظري ما يف‬
‫قول األعشى‪:‬‬

‫إِلىَ َض ْو ِء َنا ٍر فيِ َي َفا ٍع تحَ َ َّر ُق»()‪.‬‬ ‫ون َكثِ َ‬


‫ري ٌة‬ ‫َل َع ْم ِري َل َقدْ َ‬
‫الح ْت ُع ُي ٌ‬

‫ُ‬
‫«وأصل‬ ‫سخر قبله‬‫«س َّب َح» نظري َّ‬
‫واملضارع ﱫ ﯓ ﱪ ماضيه املضعف العني َ‬
‫رسع إليه ِ‬
‫واخل َّفة‬ ‫نزيه والتقديس‪ ،‬والتربئة من ال َّنق َائِص‪ ...‬وقيل معناه‪ :‬ال َّت ُّ‬
‫ال َّت ْسبِيح‪ :‬ال َّت ُ‬
‫طاعته‪ ،‬وقيل معناه‪ :‬السرُّ ْ عة إىل هذه ال َّل ْفظة»()‪.‬‬
‫يف َ‬
‫وقد اختلف املفرسون يف كيفية تسبيح اجلبال مع داود عىل وجوه شتى‪:‬‬

‫() الكشاف ‪ ،580/2‬وانظر‪ :‬مفاتيح الغيب ‪ ،172/21‬وتفسري النيسابوري ‪،38/5‬‬


‫والفتوحات اإلهلية للجمل ‪ ،138/3‬وروح املعاين ‪.606/11‬‬
‫() روح املعاين ‪ 174/23‬يف تفسري آية سورة ص‪.‬‬
‫() النهاية يف غريب احلديث واألثر ‪ ،331/2‬وانظر‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مادة (س ب ح) ‪.471/2‬‬

‫‪160‬‬
‫األول‪ :‬ﱫ ﯓ ﱪ؛ أي‪« :‬يصلني مع داود إذا صىل»()‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬ﱫ ﯓ ﱪ‪ ،‬أي‪ :‬يرسن معه إذا سار‪ ،‬يقـول الزخمرشي‪« :‬وقيل‪ :‬كانت‬
‫تسري معه حيث سار» ()‪ ،‬والتسبيح عىل هذا الرأي «من السبح الذي هو السباحة‬
‫خرج اللفظ فيه عىل التكثري‪ ،‬ولو مل يقصد التكثري؛ لقيل‪َ :‬ي ْس َب ْح َن فلام َك ُثر قيل‪ :‬يسبحن‬
‫نظرا؛ «ملخالفته للظاهر‪ ،‬واملشدد هبذا املعنى‬
‫معه» ‪ ،‬وقد رفض الشهاب هذا الرأي ً‬
‫()‬

‫مل يذكره أهل اللغة»() وهو عىل حق‪.‬‬


‫الثالث‪ :‬ﱫ ﯓ ﱪ جماز؛ ألن اجلبال ال تنطق كام ينطق البرش‪ ،‬يقول الشوكاين‪:‬‬
‫«وقال باملجاز‪ :‬مجاعة آخرون‪ ،‬ومحلوا التسبيح عىل تسبيح من رآها تعجبا من عظيم‬
‫خلقها‪ ،‬وقدرة خالقها»()‪.‬‬
‫وإىل هذا ً‬
‫أيضا ذهبت املعتزلة‪ ،‬يقول الرازي‪« :‬وأما املعتزلة فقالوا‪ :‬لو حصل‬
‫الكالم من اجلبل حلصل إما بفعله أو بفعل اهلل تعاىل فيه‪ ،‬واألول‪ :‬حمال؛ ألن بنية‬
‫حيا عاملًا ً‬
‫قادرا يستحيل منه‬ ‫اجلبل ال حتتمل احلياة والعلم والقدرة‪ ،‬وما ال يكون ًّ‬
‫ال‬ ‫أيضا حمال؛ ألن املتكلم عندهم من كان فاع ً‬
‫ال للكالم ال من كان حم ًّ‬ ‫الفعل‪ ،‬والثاين‪ً :‬‬
‫للكالم‪ ،‬فلو كان فاعل ذلك الكالم هو اهلل تعاىل لكان املتكلم هو اهلل تعاىل ال اجلبل‪،‬‬

‫() تفسري الطربي ‪ ،58/9‬وانظر‪ :‬تفسري البغوي ‪ ،305/4‬وتفسري القرطبي ‪،320/11‬‬


‫والبحر املحيط ‪ ،331/6‬وتفسري اخلازن ‪.305/4‬‬
‫() تفسري الكشاف ‪ ،580/2‬والبيضاوي ‪ ،37/2‬والقرطبي ‪ ،320/11‬والبحر املحيط‬
‫‪.331/6‬‬
‫() تفسري الرازي ‪ ،172 /21‬وانظر‪ :‬اللباب ‪ ،558/13‬وحاشية الشيخ زاده ‪.55/6‬‬
‫() حاشية الشهاب عىل البيضاوي ‪ ،462/6‬وانظر‪ :‬روح املعاين ‪.606 /11‬‬
‫() فتح القدير‪ ،591 /3‬وانظر‪ :‬تفسري البحر املحيط ‪ ،331/6‬وروح املعاين ‪.606/11‬‬

‫‪161‬‬
‫فثبت أنه ال يمكن إجراؤه عىل ظاهره»()‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬ﱫ ﯓ ﱪ عىل حقيقته من الرتجيع بمعنى أن اجلبال يقدسن اهلل‬
‫كام يفعل البرش من النطق باللسان‪ ،‬وكيفية التسبيح هبذا املعنى حكاه أبو السعود‬
‫معه بصوت يتمثل له‪ ،‬أو خيلق اهلل تعاىل‬ ‫بقوله‪« :‬ﱫ ﯓ ﱪ أي‪ :‬يقدسن اهلل‬
‫فيها الكالم»()‪.‬‬
‫والراجح‪ :‬أن التسبيح هنا عىل حقيقته؛ ألنه من األمور التي اختص املوىل‬
‫بكيفية ال نعلمها‪ ،‬وليس هنا دليل قاطع‪ ،‬أو قرينة مؤكدة ترصف لفظ‬ ‫هبا داود‬
‫التسبيح عن ظاهره‪ ،‬والقاعدة املقررة عند العلامء أن نصوص الكتاب والسنة ال جيوز‬
‫رصفها عن ظاهرها املتبادر منها إال بدليل جيب الرجوع إليه‪ ،‬وهذا هو الالئق بمقام‬
‫النعمة واالمتنان «والتحقيق أن تسبيح اجلبال والطري مع داود تسبيح حقيقي؛ ألن اهلل‬
‫ونحن ال نعلمها‪ ،‬كام قال‪ :‬ﱫ ﮚ ﮛ‬ ‫جيعل هلا إدراكات تسبح هبا يعلمها هو‬
‫ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﱪ [اإلرساء‪ ...]44:‬وقد ثبت يف صحيح‬
‫البخاري‪ :‬أن اجلذع الذي كان خيطب عليه النبي × ملا انتقل عنه باخلطبة إىل املنرب‬
‫حجرا كان‬
‫ً‬ ‫ُسمع له حنني‪ ،‬وقد ثبت يف صحيح مسلم أن النبي × قال‪« :‬إين ألعرف‬
‫يسلم َعليَ َّ يف مكة قبل أن ُأبعث إين ألعرفه اآلن»()‪.‬‬

‫() تفسري الرازي ‪.172-171/21‬‬


‫() تفسري أيب السعود ‪ ،79/6‬وانظر‪ :‬تفسري البيضاوي ‪ ،37/2‬وحاشية الشيخ زاده عىل‬
‫البيضاوي ‪ ،54/6‬وروح املعاين ‪ ،605/11‬وتفسري القاسمي ‪.167/11‬‬
‫() أضواء البيان ‪ ،840/4‬وانظر‪ :‬البحر املحيط ‪ ،331/6‬والفتوحات اإلهلية للجمل‬
‫‪ ،139/3‬وفتح البيان ‪ ،177/6‬والتفسري الوسيط ‪ ،237/9‬ومفردات الراغب ‪ ،227-226‬ولسان‬
‫العرب‪ ،‬مادة (س‪.‬ب‪.‬ح) ‪ ،472/2‬وعمدة احلفاظ ‪.190/2‬‬

‫‪162‬‬
‫والغرض من تسبيح اجلبال مع داود عىل هذا املعنى احلقيقي أمران‪:‬‬
‫كان «إذا فرت ُيسمعه اهلل تسبيح اجلبال والطري لينشط يف‬ ‫األول‪ :‬أن داود‬
‫التسبيح ويشتاق إليه»()‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫الثاين‪ :‬أن هذا كان معجزة لداود‬
‫وهنا ينبغي أن نؤكد عىل يشء دقيق جدًّ ا وهو أن املعجزة‪« :‬واملز َّية التي أعطاها‬
‫ليست يف تسبيح اجلبال؛ ألن اجلبال ُتس ِّبح معه ومع غريه‪،‬‬
‫ْ‬ ‫اهلل تعاىل لنبيه داود‬
‫إنام امليزة يف أهنا ُتر ِّدد معه‪ ،‬وتوافقه التسبيح وجتاوبه‪ ،‬فحني يقول داود‪ :‬سبحان اهلل‬
‫مجيعا (كورس) يردد نشيدً ا واحدً ا‪ ...‬وسبق‬
‫تردد وراءه اجلبال‪ :‬سبحان اهلل‪ ،‬وكأهنم ً‬
‫سبح احلىص يف يده أن هذه‬
‫أن أرشنا إىل أن الذين يقولون يف معجزات النبي × أنه َّ‬
‫املقولة غري دقيقة حتتاج إىل تنقيح عقيل‪ ،‬فاحلجر ُمس ِّبح يف يد رسول اهلل ×‪ ،‬ويف يد‬
‫أيب جهل‪ ،‬إذن‪ :‬قل‪ :‬إن املعجزة هي أن رسول اهلل سمع تسبيح احلىص يف يده»()‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬ويالحظ هنا أن مفعول يسبحن حمذوف‪ ،‬تقديره‪ :‬يسبحن اهلل‪ ،‬وحذف‬
‫املفعول؛ للعلم به وعدم تطرق الذهن لسواه‪ ،‬واحلذف يف القرآن يعتمد عىل لقانة‬
‫السامع‪ ،‬وذكانة املخاطب‪ ،‬ومن ثم ال يذكر األمر البدهي املعلوم بالرضورة‪ ،‬فضال‬
‫عن أن ذكر املفعول جيعل العبارة كزة ثقيلة ملن ينطقها ويرددها ويتدبر فيها‪.‬‬
‫ﱫ ﯔﯕ ﱪ قرأ اجلمهور بنصبها‪ ،‬وعىل هذه القراءة ففي الواو وجهان‬
‫إعرابيان‪:‬‬

‫() تفسري البغوي ‪ ،305 /4‬وانظر‪ :‬تفسري اخلازن ‪ ،305/4‬وتفسري الرازي ‪،171/21‬‬
‫والقرطبي ‪ ،320-319/11‬وحاشية الشيخ زاده ‪ ، 55/6‬واللباب ‪.558/13‬‬
‫() تفسري الشعراوي ‪ ،9607-9606/15‬وكلمة كورس يف كالم الشيخ بمعنى‪ :‬منظومة‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫األول‪ :‬عاطفة عطفت لفظـة الطري عىل اجلبال‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬الواو بمعنى مع‪ ،‬والطري «مفعول معه‪ ،‬أي‪ :‬يسبحن مع الطري»()‪.‬‬
‫«وقرئ بالرفع عىل االبتداء‪ ،‬واخلرب حمذوف أي والطري مسخرات وقيل عىل‬
‫العطف عىل الضمري يف يسبحن‪ ،‬وفيه ضعف؛ لعدم التأكيد والفصل»()‪.‬‬
‫ﱫ ﯔﯕ ﱪ مجع طائر‪ ،‬وهو‪« :‬كل ذي جناح يسبح يف اهلواء»()‪.‬‬
‫وأل يف الطري للعموم االستغراقي كام مر يف اجلبال‪ ،‬وجيوز أن تكون للعموم‬
‫طيورا‬
‫ً‬ ‫العريف أي‪ :‬الطيور املحيطة ببيئته التي يعيش فيها فإن لكل منطقة يف العامل‬
‫تشتهر هبا‪ ،‬تتواءم مع طبيعة تلك البيئة‪ ،‬والراجح أن (أل) للعموم االستغراقي‪،‬‬
‫فلو فرض وانتقل إىل أي بقعة يف العامل لسبحت معه طيورها‪ ،‬وهذا يعنى أن مجيع‬
‫يسمع تسبيحها‪ ،‬ويفهم لغتها؛ ألهنا‬ ‫أصناف الطيور اجلارحة والوادعة كان داود‬
‫ُسخرت له‪ ،‬وهذا من متام املنة وكامل النعمة يف سياق االمتنان واإلنعام‪ ،‬وهبذا تتسق‬
‫داللة (أل) هنا مع داللة (أل) يف اجلبال‪.‬‬
‫كان معجزة له مل يرشكه فيها كائن ما كان‪.‬‬ ‫وتسبيح الطيور مع داود‬
‫وكيفية تسبيح الطري هنا اختلف فيه عىل معنيني‪:‬‬
‫األول‪ :‬تسبيح حقيقي يقول الشيخ سيد طنطاوي‪« :‬وتسبيح اجلبال والطري مع‬

‫() تفسري البحر املحيط ‪ ،331/6‬وانظر‪ :‬الكشاف ‪ ،580/2‬والرازي ‪ ،172/ 21‬وتفسري‬


‫البيضاوي ‪ ،37/2‬وأيب السعود ‪ ،80/6‬والتحرير والتنوير ‪.119/17‬‬
‫() تفسري أيب السعود ‪ ،80/6‬وانظر‪ :‬البيضاوي ‪ ،37/2‬وتفسري البحر املحيط ‪،331/6‬‬
‫وحاشية الشيخ زاده ‪ ،56/6‬وحاشية الشهاب ‪ ،462/6‬روح املعاين ‪.606/11‬‬
‫() املفردات ‪ ،322‬وانظر‪ :‬عمدة احلفاظ ‪ ،498/2‬واملقاييس ‪ ،630‬واللسان ‪.508/4‬‬

‫‪164‬‬
‫هو تسبيح حقيقي»()‪ ،‬ومل يتعرض أحد من املفرسين لكيفية وطريقة هذا‬ ‫داود‬
‫التسبيح احلقيقي إال أنه مفهوم بطبيعة احلال؛ ألن الطيور من الكائنات احلية وهلا‬
‫أصوات تتميز هبا‪ ،‬ولكن هل كان داود يسمع تسبيحها ويفهمه كام كان سليامن يفهم‬
‫لغة الطري والنامل؟ أقول‪ :‬نعم‪ ،‬هذا واضح جدا كام يفهم من سياق االمتنان‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬هو تسبيح جمازي‪ ،‬يقول الرازي‪« :‬أما الطري فال امتناع يف أن يصدر عنها‬
‫الكالم‪ ،‬ولكن أمجعت األمة عىل أن املكلفني إما اجلن أو اإلنس أو املالئكة فيمتنع‬
‫فيها أن تبلغ يف العقل إىل درجة التكليف بل تكون عىل حالة كحال الطفل يف أن‬
‫يؤمر وينهى‪ ،‬وإن مل يكن مكل ًفا فصار ذلك معجزة من حيث جعلها يف الفهم بمنزلة‬
‫املراهق‪ً ،‬‬
‫وأيضا فيه داللة عىل قدرة اهلل تعاىل وعىل تنزهه عام ال جيوز فيكون القول فيه‬
‫كالقول يف اجلبال» ()‪.‬‬
‫والراجح هو األول‪ :‬ملا قدمناه من أدلة يف احلديث عن اجلبال‪ ،‬وليس هذا بغريب؛‬
‫عىل وجه اإلعجاز‪.‬‬ ‫ألن ذلك كان خاصية لداود‬
‫تسبيح اجلبـال مع داود عىل تسبيح الطري‬ ‫وهنا يثور سؤال‪ :‬ملـاذا قدم املوىل‬
‫معه؟ أجاب عن ذلك النيسابوري بقوله‪« :‬إنام قدم تسبيح اجلبال عىل الطري؛ ألن‬
‫ذلك أدل عىل القدرة‪ ،‬وأدخل يف اإلعجاز‪ ،‬فإن الطري أقرب إىل احليوان الناطق من‬
‫اجلامد»()‪.‬‬

‫() التفسري الوسيط ‪.237/9‬‬


‫() تفسري الرازي ‪ ،172 / 21‬وانظر‪ :‬اللباب ‪.558/13‬‬
‫() تفسري النيسابوري ‪ ،38/5‬وانظر‪ :‬الكشاف ‪ ،580/2‬والرازي ‪ ،172/21‬والبحر املحيط‬
‫‪ ،331/6‬وروح البيان ‪ ،506/5‬وفتح البيان ‪ ،177/6‬وتفسري القاسمي ‪.165/11‬‬

‫‪165‬‬
‫هذا‪ ،‬ومجلة ﱫ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﱪ مل ترد عىل تلك البنية‬
‫الرتكيبية يف القرآن كله إال هنا‪ ،‬ولكن ورد يف معناها العام تراكيب أخرى‪ ،‬وذلك يف‬
‫قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﱪ [سـبأ‪ ،]10:‬وقوله‬
‫تعاىل‪ :‬ﱫ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫﱪ [ص‪ ]19:‬وسياق كل آية خيتلف عن غريها‪،‬‬
‫ولذا اختلف الرتكيب يف كل واحدة‪.‬‬
‫ﱫ ﯖ ﯗﱪ «أي‪ :‬من شأننا الفعل ألمثال هذه األفاعيل‪ ،‬ولكل‬
‫أمرا‪ ،‬وإن كان عندكم‬
‫يشء نريده بام لنا من العظمة املحيطة‪ ،‬فال تستكثروا علينا ً‬
‫عج ًبا»()‪.‬‬
‫والواو جيوز أن تكون عاطفة‪ ،‬واجلملة بعدها معطوفة عىل مجلة وسخرنا مع‬
‫داود‪ ،‬وهذا العطف هو الذي سامه البالغيون التوسط بني الكاملني‪ ،‬كام جيوز أن تكون‬
‫الواو للحال‪ ،‬واجلملة بعدها حالية من الضمري يف ﱫ ﮮ ﱪ‪.‬‬
‫كام جيوز أن تكون الواو لالعرتاض كام مر يف قوله‪ :‬ﱫ ﮩ ﮪ ﱪ واجلملة‬
‫بعدها معرتضة بني اخلرب السابق عن داود‪ ،‬واخلرب الالحق عنه يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ‬
‫ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﱪ [األنبياء‪ ،]80:‬ويف ذلك يقول ابن عاشور‪« :‬ومجلة‪:‬‬
‫ﱫ ﯖ ﯗﱪ معرتضة بني اإلخبار عام ُأوتيه داود»()‪ ،‬وهذا األخري هو‬
‫الراجح‪ ،‬واملتبادر من السياق‪.‬‬
‫ﱫ ﯖ ﱪ كان هنا ناقصة ناسخة‪ ،‬وهلذا الفعل يف القرآن دالالت عديدة‬
‫ال يتسع املقام لذكرها‪ ،‬ولكن ينبغي أن نؤكد عىل أن داللة هذا الفعل تستغرق هنا‬

‫() نظم الدرر للبقاعي ‪.101/5‬‬


‫() التحرير والتنوير ‪.120/17‬‬

‫‪166‬‬
‫وحارضا ومستقبلاً ‪ ،‬وهذا مفهوم‬
‫ً‬ ‫املايض واحلارض واملستقبل‪ ،‬أي‪ :‬كنا فاعلني ماض ًيا‬
‫‪ ،‬وهذا أمر يقيني ثابت يف حقه‬ ‫عقلاً وبداه ًة وعقيد ًة؛ ألن احلديث هنا عن املوىل‬
‫‪ ،‬يقول ابن عاشور‪« :‬ويف اجتالب فعل الكون إشارة إىل أن ذلك شأن ثابت هلل من‬
‫قبل‪ ،‬أي‪ :‬وكنا قادرين عىل ذلك»()‪.‬‬
‫وضمري العظمة « َنا» يف حمل رفع اسم كان‪ ،‬وعرب به؛ ليدل عىل أن العظيم ال‬
‫تعجزه هذه األشياء التي تعد من العجائب والغرائب يف ُعرف البرش‪.‬‬
‫ﱫ ﯗﱪ خرب كان‪ ،‬وهو مجع مذكر سامل مفرده فاعل‪ ،‬واملفرد فاعل جاء‬
‫عىل صيغة اسم الفاعل من الثالثي فعل‪ ،‬والتعبري بصيغة اسم الفاعل هنا يدل عىل‬
‫الدوام والثبوت واالستمرار‪ ،‬أي‪ :‬كنا فاعلني لتلك املعجزات يف كل زمان قادرين‬
‫عليها يف كل وقت وحني‪ ،‬وهذا رس التعبري بتلك الصيغة بدال من الصيغة الفعلية‪ ،‬لو‬
‫قال‪« :‬وكنا فعلنا»‪ ،‬فهي ال تفيد ما تفيده تلك الصيغة بوضوح عالوة عىل ما يف تلك‬
‫‪.‬‬ ‫اللفظة من تفخيم وتعظيم يتالءم مع عظمة املوىل‬
‫وﱫﯗﱪ يعمل عمل الفعل الثالثي « َف َع َل»‪ ،‬فريفع فاعلاً وينصب مفعولاً ‪،‬‬
‫وهنا حـذف املفعول‪ ،‬والتقدير‪ :‬وكنا فاعلني ذلك‪ ،‬وقد اختلف املفرسون يف ماهية‬
‫املحذوف عىل وجهني‪:‬‬
‫األول‪ :‬املحذوف هو تسخري اجلبال والطري‪ ،‬يقول الطربي‪« :‬وكنا قد قضينا أنا‬
‫فاعلو ذلك‪ ،‬ومسخرو اجلبال والطري»()‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬التفهيم وإيتاء احلكم والعلـم‪ ،‬وتسخري اجلبال والطري‪ ،‬يقول اخلازن‪:‬‬

‫() التحرير والتنوير ‪.120/17‬‬


‫() تفسري الطربي ‪ ،58 /9‬وانظر‪ :‬التفسري الوسيط ‪.237/9‬‬

‫‪167‬‬
‫«ﱫﯖ ﯗﱪ يعني‪ :‬ما ذكر من التفهيم وإيتاء احلكم والتسخري»()‪.‬‬
‫وأرى أن احلذف هنا للتعميم‪ ،‬يدل عىل ذلك أن التفهيم وإيتاء احلكم والعلم‪،‬‬
‫وتسخري اجلبال والطري ذكرت قبل ذلك‪ ،‬فاملحذوف يعود عليها مجيعها‪.‬‬
‫والتعبري بلفظة‪ :‬ﱫ ﯗﱪ دون عاملني له أرسار بالغية دقيقة تتمثل يف أن‬
‫«العمل ‪-‬كام قال بعض أهل العلم‪ -‬حيتاج إىل تفكر ومقارنة بني الفعل والرتك‪،‬‬
‫ال خيفى‬ ‫وتقليب وجهات النظر يف صوره‪ ،‬واختيار ما هيدي إليه النظر فيها‪ ،‬واهلل‬
‫عليه يشء‪ ،‬وال تلتبس عليه األمور هذه واحدة‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬أن العامل قد يعمل له غريه‪ ،‬واهلل غني عن العاملني‪.‬‬
‫والثالثة‪ :‬أن العامل يعمل ليحصل عىل ثمرة عمله من خري‪ ،‬فهو فقري إليه‪ ،‬واهلل‬
‫أغنى األغنياء‪ .‬هلذه املحظورات ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬خال القرآن من إسناد عمل‪ ،‬يعمل إىل‬
‫أسامء اهلل احلسنى‪ ،‬تقديسا له وتنزهيا‪ ،‬ورعاية لواجبات عقيدة التوحيد‪ ...‬أما « َف َع َل‬
‫«ع ِم َل»‬ ‫«فقد أسندت إىل اهلل مرات‪ ،‬والسبب فيام نعتقد انتفاء املوانع التي لوحظت يف َ‬
‫ومن أبرزها أن الفعل هو ما صدر عن الفاعل مبارشة دون واسطة‪ ،‬وأن أفعال اهلل‬
‫صادرة عن قوة سلطانه‪ ،‬والفعل كام قال اللغويون‪ :‬ال حيتاج إىل تفكري وطول نظر‪ ،‬بل‬
‫الشأن فيه أن يصدر ابتداء‪ ،‬لذلك وغريه امتنع إسناد عمل إىل اهلل‪ ،‬وجاز إسناد فعل‬
‫إليه؛ ألنه من صفات الكامل واجلالل واجلامل» ()‪.‬‬
‫واملراد من قوله‪ :‬ﱫ ﯖ ﯗﱪ هنا اختلف فيه فقيل‪« :‬ﱫ ﯖ‬

‫() تفسري البغوي عىل هامش اخلازن ‪ ،305/4‬وانظر‪ :‬تفسري اخلازن ‪ ،305/4‬وفتح القدير‬
‫‪ ،591/3‬وفتح البيان ‪.177/6‬‬
‫() دراسات جديدة يف إعجاز القرآن ‪.135 ،131‬‬

‫‪168‬‬
‫ﯗﱪأي‪ :‬قادرين عىل أن نفعل هذا‪ ،‬وإن كان عج ًبا عندكم‪ ،‬وقيل‪ :‬كنا نفعل‬
‫باألنبياء مثل ذلك» ()‪.‬‬
‫وقيل‪« :‬ﱫ ﯖ ﯗﱪ أي‪ :‬فاعلني هذه األعاجيب من تسخري اجلبال‬
‫وتسبيحهن‪ ،‬والطري ملن نخصه بكرامتنا»()‪.‬‬
‫َّ‬
‫الشنقيطي رفض ما ُذكر سابقا عند الزخمرشي وأيب حيان‪ ،‬وأبدى رأيا‬
‫َّ‬ ‫ولكن‬
‫َّ‬
‫آخر فقال‪« :‬والظاهر أن قوله‪ :‬ﱫ ﯖ ﯗﱪ مؤكدً ا لقوله‪ :‬ﱫ ﮮ ﮯ‬
‫ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﱪ‪ ،‬واملوجب هلذا التأكيد‪ :‬أن تسخري اجلبال وتسبيحها‬
‫أمر عجب خارق للعادة‪ ،‬مظنة ألن يكذب به الكفرة اجلهلة‪.)(»...‬‬
‫والراجح‪ :‬ما ذهب إليه الشنقيطي‪ ،‬فاجلملة توكيد معنوي؛ «إلزالة استبعاد‬
‫تسبيح اجلبال والطري معه»()‪ ،‬وهذا ما يتواءم مع كون هذه اجلملة معرتضة كام مر‪.‬‬

‫() الكشاف ‪ ،580/2‬وانظر‪ :‬مفاتيح الغيب ‪ ،173/21‬وروح البيان للشيخ حقي‬


‫‪.506/5‬‬
‫() تفسري البحر املحيط ‪.331 /6‬‬
‫() أضواء البيان للشنقيطي ‪.841/4‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪.120/17‬‬

‫‪169‬‬
‫املبحث اخلام�س‬
‫املبحث اخلامس‪:‬‬
‫البالغية يف آية التفسري‬
‫َّ‬ ‫األسرار‬

‫‪ :‬ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﱪ [الفرقان‪.]33:‬‬ ‫قوله‬


‫وردت هذه اآلية الكريمة يف سورة الفرقان املكية‪ ،‬وسميت هبذا االسم؛ ألن‬
‫ذكر فيها القرآن الكريم هذا الكتاب العظيم الذي َف َّرق به بني احلق والباطل‪،‬‬ ‫اهلل‬
‫والكفر واإليامن‪ ،‬والنور والظالم‪ ،‬واهلدى والضاللة‪.‬‬
‫وقد استهلت السورة مبارشة هبذا االسم يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ‬
‫ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﱪ [الفرقان‪ ]1:‬تأكيدً ا علـى هـذا املغزى السابق‪ .‬ثم‬
‫أساطري‬
‫ٌ‬ ‫تتابعت آيات السورة يف النعي عىل كفار مكة الذين زعموا أن القرآن الكريم‬
‫اكتتبها سيد املرسلني × كام ُح ِكي عنهم يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﭺ ﭻ ﭼ‬
‫ﭽﭾﭿ ﮀﮁﮂﱪ [الفرقان‪ ،]5:‬وظلت اآليات تتحدث‬
‫عن تكذيبهم القرآن‪ ،‬واستهزائهم بسيد األنام‪ ،‬وإنكارهم لرسالته‪ ،‬واستطردت تذكر‬
‫أحوال ِ‬
‫عتاة الكفار مثل عقبة بن أيب معيط‪ ،‬وأيب بن خلف‪ ،‬ثم حتدثت عام جأر به‬
‫الرسول × لربه يف إعراض قومه عن القرآن العظيم يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﯘ ﯙ‬
‫ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ‬
‫ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ‬

‫‪171‬‬
‫ﯾ ﯿ ﰀ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﱪ [الفرقان‪.]33-30:‬‬
‫وهكذا يتضح لكل متدبر أن اآلية حمل الدراسة وردت رصاحة يف سياق احلديث‬
‫عن كفار مكة‪ ،‬وما يزعمونه عن القرآن الكريم‪ ،‬والرسول العظيم ×‪.‬‬
‫ومناسبة تلك اآلية ملا قبلها أبرزها ابن عاشور بقوله‪« :‬ملا استقىص أكثر معاذيرهم‬
‫وتعلالتهِ م‪ ،‬وألقمهم أحجار الر ِّد إىل هلواهتم عطف عىل ذلك فذلكة جامعة تعم ما‬
‫تقدم‪ ،‬وما عسى أن يأتوا به من الشكوك والتمويه بأن كل ذلك مدحوض باحلجة‬
‫الواضحة الكاشفة لرتهاهتم»()‪ ،‬فقال‪ :‬ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ‬
‫ﭘﱪ [الفرقان‪ ،]33:‬فالواو إذن يف قوله‪ :‬ﱫﭑ ﭒﱪ عطفت هذه اجلملة عىل‬
‫ما قبلها‪ ،‬وجيوز أن تكون استئنافية‪ ،‬والراجح األول؛ لشدة اتصال اآلية يف معناها بام‬
‫قبلها كام اتضح من ذكر املناسبة‪.‬‬
‫ﱫ ﭑ ﭒ ﱪ ال نافية‪ ،‬و«اإلتيان» استعمل هنا بمعنى اإلظهار عىل سبيل‬
‫االستعارة التبعية‪ ،‬ويف هذا يقول ابن عاشور‪« :‬واإلتيان مستعمل جمازا يف اإلظهار‪،‬‬
‫بش َبه ُي َش ِّبهون هبا حاال من أحوالك يبتغون إظهار أن حالك ال‬
‫واملعنى‪ :‬ال يأتونك ُ‬
‫ٍ‬
‫رسول من اهلل إال أبطلنا تشبيههم وأريناهم أن حالة الرسالة عن اهلل ال‬ ‫يشبه حال‬
‫تالزم ما زعموه»()‪.‬‬
‫والتعبري باإلتيان عن اإلظهار فيه مبالغة واضحة هلذا املعنى‪ ،‬وكأن تلك الشبه قد‬
‫جتسدت فـي صورة حمسوسة حتى محلوها‪ ،‬وأتوا هبا للرسول × حياجونه‪ ،‬وجيادلونه‬
‫هبا‪ ،‬وهذا من مجال التعبري بتلك اللفظة‪.‬‬

‫() التحرير والتنوير ‪.21/19‬‬


‫() التحرير والتنوير ‪.21/19‬‬

‫‪172‬‬
‫والتعبري باملضارع دون املايض فيه استحضار لتلك الصورة أمام األعني لرتسخ‬
‫أقواهلم الشنيعة يف نفوس املستمعني‪ ،‬وفيه ً‬
‫أيضا إشارة إىل أن هذا األمر كان حيدث‬
‫ويتجدد من املرشكني حاال بعد حال‪ ،‬وزمانا بعد زمان‪ ،‬يقول ابن عاشور‪« :‬وصيغة‬
‫املضارع يف قوله‪ :‬ﱫ ﭑ ﭒ ﱪ تشمل ما عسى أن يأتوا به من هذا النوع كقوهلم‪:‬‬
‫ﱫﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﱪ»()‪.‬‬
‫وواو اجلامعة يف ﱫ ﭒ ﱪ تعود عىل كفار قريش كام يدل السياق بوضوح‪.‬‬
‫وكاف اخلطاب يف حمل نصب مفعول به‪ ،‬وهي تعود عىل النبي × رصاحة‪،‬‬
‫والقصد من «تعدية فعل ﱫ ﭒ ﱪ إىل ضمري النبي ×؛ إلفادة أن إتياهنم األمثال‬
‫يقصدون به أن يفحموه» ()؛ ألنه كان من املمكن أن يقال‪ :‬وال يأتون بمثل‪ ،‬ويجُ َعل‬
‫الفعل املتعدي كالالزم‪ ،‬فذكر املفعول العائد عىل النبي × هنا يؤدي هذا املعنى‪،‬‬
‫وفيه ً‬
‫أيضا إشعار بأن كل ما يفعلونه موجه لشخصه × نكاية فيه‪ ،‬وكراهية يف‬
‫دعوته؛ وألهنم يعتقدون أن تكذيب ما جاء به وتشوهيه فيه القضاء عىل دينه‪ ،‬ﱫ‬
‫ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﱪ‪.‬‬
‫ﱫ ﭓ ﱪ جار وجمرور متعلق بالفعل قبله‪ ،‬واملثل كام يقـول الراغب‪« :‬يقال‬
‫عىل وجهني‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬بمعنى املِثْل نحو ِش ْب ٍه َو َش َب ٍه ونِ ْق ٍ‬
‫ض َو َن َق ٍ‬
‫ض‪ ،‬قال بعضهم‪ :‬وقد يعرب به‬
‫عن وصف اليشء نحـو قوله‪ :‬ﱫ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﱪ‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬عبارة عن املشاهبة لغريه يف معنى من املعاين‪ ،‬أي‪ :‬معنى كان‪ ،‬وهو أعم‬

‫() التحرير والتنوير ‪.22/19‬‬


‫() التحرير والتنوير ‪.21/19‬‬

‫‪173‬‬
‫األلفاظ املوضوعة للمشاهبة‪.)(»...‬‬
‫واملراد باملثل هنا اختلف فيه عىل أكثر من معنى‪:‬‬
‫األول‪ :‬بمثل‪ :‬بسؤال عجيب‪ ،‬يقول الزخمرشي‪« :‬ﱫﭑﭒﱪ بسؤال عجيب‬
‫من سؤاالهتم الباطلة كأنه مثل يف البطالن إال أتيناك نحن باجلواب احلق» ()‪.‬‬
‫وعىل هذا املعنى يكون الغرض من هذا السؤال العجيب الطعن يف نبوته‪،‬‬
‫والقدح يف رسالته‪ ،‬وتعجيزه × ظنا منهم أنه ال يقدر عىل الرد عىل سؤاالهتم الباطلة‪،‬‬
‫وأمثلتهم الفاسدة املتعنتة التي خترج عن دائرة العقل‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬بمثل‪ :‬بحال عجيبة وصفة غريبة‪ ،‬يقول أبو حيان‪« :‬ﱫﭑﭒﱪ بحال‬
‫ال كانت هذه صفتك وحالك نحو أن ُي ْق َر َن بك َم َل ٌك ُينذر‬
‫وصفة عجيبة يقولون‪َ :‬ه َّ‬
‫معك‪ ،‬أو ُيلقى إليك كنز‪ ،‬أو تكون لك جنة‪ ،‬أو ُين ََّزل عليك القرآن مجلة إال أعطيناك‬
‫ما حيق لك يف حكمتنا‪ ،‬ومشيئتنا أن تعطاه‪ ،‬وما هو أحسن تكشيفا ملا بعثت عليه‪،‬‬
‫وداللة عىل صحته»()‪.‬‬
‫وقد رفض العالمة أبو السعود هذا الرأي بقوله‪« :‬ويأباه االستثناء املذكور فإن‬
‫املتبادر منه أن يكون ما أعطاه اهلل تعاىل من احلق مرتتبا عىل ما أتوا به من األباطيل‬
‫دامغا هلا‪ ،‬وال ريب يف أن ما آتاه اهلل تعاىل من امللكات السنية الالئقة بالرسالة قد أتاه‬
‫من أول األمر ال بمقابلة ما حكي عنهم من االقرتاحات ألجل دمغها وإبطاهلا»()‪،‬‬

‫() مفردات الراغب ‪ ،482‬وانظر‪ :‬عمدة احلفاظ ‪.77/4‬‬


‫() الكشاف ‪ ،91/3‬وانظر‪ :‬تفسري النيسابوري ‪ ،237/5‬وتفسري أيب السعود ‪.216/6‬‬
‫() البحر املحيط ‪ ،497/6‬وانظر‪ :‬الكشاف ‪ ،91/3‬وتفسري النيسابوري ‪ ،237/5‬وتفسري‬
‫أيب السعود ‪.217/6‬‬
‫() تفسري أيب السعود ‪ ،217/6‬وانظر‪ :‬حاشية الشهاب ‪ ،130/7‬وروح املعاين ‪.32/13‬‬

‫‪174‬‬
‫وقد أورد األلويس ردا عىل اعرتاض أيب السعود السابق فقال‪« :‬وأجيب بأن معنى‬
‫ﱫﭔ ﭕ ﱪ إلخ «عىل ذلك إال أظهرنا فيك ما يكشف عن بطالن ما أتوا به‪،‬‬
‫وهو كام ترى‪ ،‬فاحلق التعويل عىل األول» ()‪.‬‬
‫فاأللويس نفسه يرفض هذا الرد الذي أورده لضعفه كام يبدو من كالمه؛ وألن‬
‫السياق ال يؤيده كام يفهم من كالمه ً‬
‫أيضا‪ ،‬وهو رد له وجاهته كام ترى‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬بمثل‪ :‬بشبهة‪ ،‬يقول أبو حيان‪« :‬وقيل‪ :‬ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﱪ أي‪ :‬ال‬
‫يأتونك بشبهة من جنس الشبهات املذكورة الواضحة البطالن كأهنا مثل يمثل هبا‬
‫ﱫﭔ ﭕ ﭖ ﱪ الذي يدمغ ما جاؤوا به من املثل ويبطله‪ ،‬كقوله‪ :‬ﱫﮒ‬
‫ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﱪ [األنبياء‪.)(»]18 :‬‬
‫ال‪،‬‬ ‫الش ِ‬
‫به مث ً‬ ‫وعىل هذا الرأي يكون القرآن الكريم قد سمى «ما يوردون من ُّ‬
‫الش ِ‬
‫به ح ًّقا»()‪.‬‬ ‫وسمى ما ُيدْ َفع به ُّ‬
‫والراجح‪ :‬أن املثل هنا ال يقترص عىل واحد مما سبق بل هو عام ‪-‬كام ذكره الراغب‬
‫قبل‪ -‬يندرج حتته مجيع ما رضبوه للنبي × من أمثال فيام سبق قبل نزول اآلية‪ ،‬وما‬
‫سوف يأتون به مستقبال‪ ،‬عالوة عىل أن لفظ ( َم َثل) هنا نكرة‪ ،‬والنكرة يف سياق النفي‬
‫تعم‪ ،‬وهلذا قال ابن عاشور‪« :‬وتنكري «مثل» يف سياق النفي للتعميم‪ ،‬أي‪ :‬بكل مثل‪،‬‬
‫واملقصود‪َ :‬م َثل من نوع ما تقدم من أمثاهلم املتقدمة ابتداء من قوله‪ :‬ﱫﭨﭩ ﭪ‬
‫ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﱪ‪ ،‬ﱫ ﭺ ﭻ ﭼ ﱪ‬

‫() روح املعاين ‪ ،33-32/13‬وانظر‪ :‬حاشية الشهاب ‪.130/7‬‬


‫() حاشية الشيخ زاده ‪ ،289/6‬وانظر‪ :‬البحر املحيط ‪ ،49/6‬وتفسري ابن كثري ‪.317/3‬‬
‫() تفسري البغوي ‪ ،101/5‬وانظر‪ :‬تفسري اخلازن ‪ ،101/5‬وحاشية الشيخ زاده ‪.289/6‬‬

‫‪175‬‬
‫بقرينة سوق هذه اجلملة عقب استقصاء شبهتهم»‪.)(»...‬‬
‫ويف تنكري املَ َثل ً‬
‫أيضا إشارة إىل أن مجيع األمثلة التي يأتون هبا بقصد التشكيك‬
‫واإلضالل هي أمثلة حقرية وضئيلة ال يؤبه هبا‪ ،‬وال يلتفت إليها فهي ال تأثري هلا‪ ،‬وال‬
‫مغزى من ورائها‪ ،‬وال تعدو أن تكون ضالالت وخزعبالت‪.‬‬
‫وإدخال الباء عىل لفظ املَ َثل هنا يفيد اإللصاق‪ ،‬أي‪ :‬بمثل ملتصق بنفوسهم‬
‫املرتدية‪ ،‬وعقوهلم الضالة ظنا منهـم أهنم سيحاجونه‪ ،‬ويغلبـونه‪ ،‬وينترصون عليه‪.‬‬
‫ومل يرد هذا اللفظ عىل تلك اهليئة املنكرة مسبوقا بالباء إال يف هذا املوطن فحسب‬
‫يف القرآن كله‪ ،‬ولعل ذلك لتفردهم يف اقرتاحات األمثال الفاسدة واملتعنتة بام ال‬
‫يضاهيهم أحد من األمم السابقة يف ذلك‪.‬‬
‫ﱫ ﭔ ﭕ ﭖ ﱪ‪ ،‬ﱫ ﭔ ﱪ أداة استثناء واالستثناء هنا مفرغ؛ ألن أداة‬
‫االستثناء مل تسبق بيشء يصح إخراج ما بعد إال منه‪ ،‬وقد قدر بعض املفرسين املستثنى‬
‫منه املحذوف بحال من األحوال فقال‪« :‬ال يأتونك بمثل يف حال من األحوال إال‬
‫حال إتياننا إياك احلق الذي ال حميد عنه»()‪.‬‬
‫ومجلة‪ :‬ﱫﭕﱪ «يف حمل النصب عىل احلالية» () من مفعـول ﱫﭒﱪ‪،‬‬
‫واملعنى عىل ذلك‪ :‬ال يأتونك بمثل يف حال من األحوال إال حال استحضارنا وإتياننا‬
‫إياك احلق الذي ال حميد عنه‪ ،‬وفائدة هذه اجلملة احلالية ذكرها األلويس فقال‪« :‬جعل‬

‫() التحرير والتنوير ‪.21/19‬‬


‫() روح البيان ‪ ،209 /7‬وانظر‪ :‬حاشية زاده عىل البيضاوي ‪ ،289/6‬وتفسري أيب السعود ‪/6‬‬
‫‪ ،216‬وروح املعاين ‪ ،32/13‬والتحرير والتنوير ‪.22/19‬‬
‫() روح املعاين ‪ ،32 /13‬وانظر‪ :‬تفسري أيب السعود ‪.217 /6‬‬

‫‪176‬‬
‫ذلك مقارنا إلتياهنم وإن كان بعده؛ للداللة عىل املسارعة إىل إبطال ما أتوا به تثبي ًتا‬
‫لفؤاده ×» ()‪.‬‬
‫واملجيء‪ :‬هنا ليس عىل حقيقته اللغـوية بل هو جميء جمازي عىل سبيل االستعارة‬
‫التبعية كام تقدم يف نظريه اإلتيان‪ ،‬يقول ابن عاشور‪« :‬قوله‪ :‬ﱫﭕ ﭖ ﱪ‬
‫مقابل قوله‪ :‬ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﱪ وهو جميء جمازي‪ ،‬ومقابلة ﱫ ﭕ ﭖ ﱪ‬
‫لقوله‪ :‬ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﱪ إشارة إىل أن ما يأتون به باطل‪ .‬مثال ذلك أن قوهلم‪ :‬ﱫ‬
‫ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﱪ [الفرقان‪ ]7:‬أبطله قوله‬
‫تعاىل‪ :‬ﱫ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ‬
‫ﯬ ﯭﯮ ﱪ [الفرقان‪.)(»]20:‬‬
‫«والتعبري باملايض يف ﱫ ﭕ ﱪ مع أنه يف معنى املستقبل يفيد حتقق املجيء‪،‬‬
‫وهو املناسب ملقام الوعد والتثبيت» ()‪.‬‬
‫وكاف اخلطاب يف ﱫ ﭕ ﱪ مل خيتلف أحد يف أهنا تعود عىل النبي ×‬
‫كام عادت عليه يف يأتونك‪ ،‬لكن من يتأمل يف ﱫ ﭒ ﱪ‪ ،‬وﱫ ﭕ ﱪ جيد‬
‫أن الفاعل فيهام خمتلف‪ ،‬فهو يف اإلتيان عائد عىل مرشكي قريش؛ ألهنم هم الذين‬
‫؛ ألنه هو الذي جاء باحلق‪ ،‬وكأن‬ ‫أتوا باملثل الباطل‪ ،‬ويف املجيء عائد عىل املوىل‬
‫معنى الكالم عىل هذا التحليل البالغي «وال يأتونك بمثل بالباطل إال جئناك بمثل‬
‫باحلق»‪ ،‬فحذف بالباطل من اجلملة األوىل؛ لداللة احلق عليه يف الثانية‪ ،‬وحذف املثل‬

‫() روح املعاين ‪ ،32/13‬وانظر‪ :‬تفسري أيب السعود ‪ ،217 /6‬وحاشية الشهاب ‪.130/7‬‬
‫() التحرير والتنوير ‪.22 /19‬‬
‫() تفسري ابن باديس ‪.183‬‬

‫‪177‬‬
‫من اجلملة الثانية؛ لداللة لفظ املثل عليه يف اجلملة األوىل هذا ما هيدي إليه السياق‪،‬‬
‫ويقتضيه نسق األسلوب القرآين املعجز‪.‬‬
‫ونسبة املجيء للضمري « َنا» فيه «اعتناء كبري لرشف الرسول× حيث كان يأتيه‬
‫الوحي من اهلل بالقرآن صباحا ومساء‪ ،‬ليال وهنارا‪ ،‬سفرا وحرضا‪ ،‬فكل مرة كان‬
‫ُّ‬
‫وأجل‪،‬‬ ‫يأتيه امللك بالقرآن كإنزال كتاب مما قبله من الكتب املتقدمة‪ ،‬فهذا املقام أعىل‬
‫وأعظم مكانة من سائر إخوانه من األنبياء»()‪.‬‬
‫وفيه ً‬
‫أيضا تفخيم وتعظيم للحق املجيء به‪ ،‬وبيان واضح بأن كل ما يأيت به‬
‫الكفار باطل مردود؛ ألن يف مقابله يأيت الرد من اخلالق‪ ،‬وفرق بني ما يدبره املخلوق‪،‬‬
‫‪.‬‬ ‫وما يرد به اخلالق‬
‫هذا‪ ،‬وقد ذهـب بعض املفرسين إىل أن اإلتيان واملجيء هنا بمعنى واحد‪ ،‬يقول‬
‫بمعنى‪ ،‬لكن عرب أوال باإلتيان وثانيا باملجيء‬
‫ً‬ ‫األلويس‪« :‬املشهور أن اإلتيان واملجيء‬
‫للتفنن‪ ،‬وكراهة أن يتحد ما ينسب إليه ‪ ،‬وما ينسب إليهم ً‬
‫لفظا‪ ،‬مع كون ما أتوا به‬
‫يف غاية احلقية واحلسن» ()‪.‬‬ ‫يف غاية القبح والبطالن‪ ،‬وما جاء به‬
‫وذهب آخرون إىل وجود فرق بينهام‪ ،‬يقول ابن عاشور‪« :‬فعل اإلتيان إذا استعمل‬
‫جمازا َك ُثر فيام يسوء وما ُي ْك َره كالوعيد واهلجاء‪ ،‬قال شقيق بن رشيك األسدي‪:‬‬
‫َف ُس َّل َل َغ ْي َظ ِة َّ‬
‫الض َّح ِ‬
‫اك ِج ْس ِمي‬ ‫َأ َتانيِ ِم ْن َأبيِ َأ َن ٍ‬
‫س َو ِعيـدٌ‬
‫وقول النابغة‪:‬‬
‫‪........................‬‬ ‫لع َن َأ َّن َك لمُ ْتَنِي‬
‫َأ َتانيِ َأ َب ْي َت ا َّل ْ‬

‫() تفسري ابن كثري ‪.318/3‬‬


‫() روح املعاين ‪.33/13‬‬

‫‪178‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫َجي ًشا إِ َلي َك َق َو ِاد ُم َ‬
‫األ ْك َوا ِر‪.‬‬ ‫َف َل َي ْأتِ َي ْن َك َق َصائِدٌ َو َل َيدْ َف َع ْن‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫َاك بِالحْ َ قِّ أي‪ :‬عذاب قومه‪،‬‬ ‫«و َأ َت ْين َ‬
‫يريد قصائد اهلجاء‪ ،‬وقول املالئكة للوط َ‬
‫ولذلك قالوا له يف املجيء احلقيقي‪ :‬ﱫ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﱪ‪ ،‬وتقدم‬
‫يف سورة احلجر‪ ،‬وقال اهلل تعاىل‪ :‬ﱫﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﱪ‪ ،‬ﱫ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ‬
‫ﮌﮍ ﱪ‪ ،‬ﱫ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﱪ بخالف فعل املجيء إذا استعمل‬
‫يف جمازه‪ ،‬فأكثر ما يستعمل يف وصول اخلري والوعد والنرص واليشء العظيم‪ ،‬قال‬
‫تعاىل‪ :‬ﱫ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﱪ‪ ،‬ﱫﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﱪ‪ ،‬ﱫ ﭱ ﭲ‬
‫ﭳ ﭴﱪ‪ ،‬ويف حديث اإلرساء‪« :‬مرح ًبا به‪ ،‬ونعم املجيء جاء»‪ ،‬ﱫﮙ ﮚ‬
‫ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﱪ»()‪.‬‬
‫ولست أؤيد هنا أن التغاير من قبيل التفنن بل لكل لفظة معنى ال تؤدهيا نظريتهُ ا‬
‫علم هذا املعنى من علمه‪ ،‬وجهله من جهله‪ ،‬والرأي الثاين عند ابن عاشور هو األوىل‬
‫باالعتبار‪ ،‬فهام خيتلفان‪ ،‬ولكل سياقاته يف القرآن الكريم كام بان لك مما ذكره ابن‬
‫عاشور‪.‬‬
‫فضلاً عن أن األلويس تراجع عن ذلك يف آخر كالمه السابق حيث قال‪« :‬ولعل‬
‫يف التعبري باإلتيان أوال واملجيء ثان ًيا عىل هذا إشارة إىل أن ما يأتون به من األمثال يف‬
‫نفسه من األمور التي تتخيل بسهولة‪ ،‬وال حتتاج إىل إعامل فكر‪ ،‬بخالف ما يكون يف‬
‫مقابلته‪ ،‬فإنه يف نفسه من األمور العقلية التي صقلها الفكر‪ ،‬فال جيد أحد سبيال إىل‬
‫ردها والطعن فيها‪ ،‬أو إىل أن فعلهم خلروجه عن حيز القبول منزل منزلة العدم حتى‬

‫() التحرير والتنوير ‪.23-22/19‬‬

‫‪179‬‬
‫‪ ،‬فتأمل‪ ،‬واهلل‬ ‫كأهنم مل يتحقق منهم القصد دون احلصول بخالف ما كان من قبله‬
‫تعاىل أعلم بأرسار كتابه» ()‪.‬‬
‫ﱫ ﭖ ﱪ متعلق باملجيء‪« ،‬واحلق يف األصل‪ :‬الثبوت‪ ،‬واليشء الثابت‪ ،‬يقال‬
‫حقَّ األمر يحَُ ُّق ح ًّقا فهو حق‪ ،‬أي‪ :‬ثبت واستقر‪.)( »...‬‬
‫واملراد منه هنا ما جاء يف القرآن من أدلة دامغة وبراهني ساطعة للرد عىل‬
‫ضالالهتم وترهاهتم‪ ،‬يقول ابن كثري‪« :‬ﱫ ﭔ ﭕ ﭖ ﱪ أي‪ :‬إال نزل جربيل‬
‫ِم َن اهلل بجواهبم»()‪.‬‬
‫والتعبري عن هذه الردود الدامغة بتلك اللفظة؛ لإلشارة إىل أن ما أتى يف القرآن‬
‫ليس ردا عليهم عىل سبيل اجلدل واملامراة‪ ،‬ولكنها احلقيقة الثابتة بعينها‪ ،‬فـ «احلق‬
‫هو الغاية التي يريد القرآن تقريرها‪ ،‬وليس جمرد االنتصار يف اجلدل‪ ،‬وال الغلب يف‬
‫املحاجة‪ ،‬إنام هو احلق القوي بنفسه الواضح الذي ال يلتبس به الباطل‪.)(»...‬‬
‫عرف أن املراد به الثابت‬
‫وأدخل عىل ( احلق ) األلف والالم «الدالة عىل الكامل؛ ل ُي َ‬
‫الذي ال يشء أثبت منه‪ ،‬فيزهق ما أتوا به لبطالنه‪ ،‬ويفتضح بعد ذلك السرت فضيحة‬
‫تخُ َ ِّجل القائل‪ ،‬والسامع القابل‪.)( »...‬‬
‫وتأمل دقة التناسق وشدة التناسب بني قوله‪ :‬ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﱪ‪ ،‬وقوله‪:‬‬
‫ﱫﭔ ﭕ ﭖ ﱪ؛ فإنه ملا أدخل الباء عىل املثل أدخلها عىل احلق ليفيد أن احلق‬

‫() روح املعاين ‪.33/13‬‬


‫() عمدة احلفاظ ‪ ،504-503 /1‬وانظر‪ :‬مفردات الراغب ‪.124‬‬
‫() تفسري ابن كثري ‪ ،318/3‬وانظر‪ :‬تفسري الطربي ‪ ،430/13‬واخلازن ‪.101/5‬‬
‫() يف ظالل القرآن ‪.2563/ 5‬‬
‫() نظم الدرر للبقاعي ‪.316/5‬‬

‫‪180‬‬
‫ملتصق باملجيء ال ينفك عنه‪ ،‬ويف هذا تأكيد عىل أن هذا هو‪« :‬اجلواب احلق الثابت‬
‫املبطل ملا جاؤوا به القاطع ملادة القيل والقال» ()‪.‬‬
‫ﱫ ﭗ ﭘﱪ الواو عاطفة‪ ،‬ﱫ ﭗﱪ معطوف عىل املجرور «احلق»‪،‬‬
‫واملعنى‪ :‬إال جئناك باحلق وجئناك بأحسن تفسري‪ ،‬وكام اقتىض العطف هنا املشاركة‬
‫يف احلكم اإلعرايب اقتيض ً‬
‫أيضا التغاير‪ ،‬وهنا تغاير يف الصفات فاملجيء باحلق يغاير‬
‫املجيء بأحسن تفسري‪.‬‬
‫ﱫ ﭗ ﱪ صفة عىل وزن أفعل‪ ،‬واحلسن يف األصل‪« :‬عبارة عن كل مبهج‬
‫مرغوب فيه‪ ،‬وذلك ثالثة أرضب‪ :‬مستحسن من جهة العقل‪ ،‬ومستحسن من جهة‬
‫اهلوى‪ ،‬ومستحسن من جهة احلس‪ ...‬واحلسن أكثر ما يقال يف تعارف العامة يف‬
‫املستحسن بالبرص‪ ،‬يقال‪ :‬رجل حسن وحسان‪ ،‬وامرأة حسناء وحسانة وأكثر ما جاء‬
‫يف القرآن من احلسن فللمستحسن من جهة البصرية‪.)(»...‬‬
‫وقد اختلف املفرسون يف داللة ﱫ ﭗﱪ هنا عىل وجهني‪:‬‬
‫األول‪ :‬هي أفعل تفضيل «واملفضل عليه حمذوف‪ ،‬أي‪ :‬ﱫ ﭗ ﭘﱪ من‬
‫مثلهم‪َ ،‬و َم َث ُلهم قوهلم‪ :‬ﱫ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸﱪ() «ومثل هذا حيذف‬
‫وعمرا‪ ،‬فكان عمرو‬
‫ً‬ ‫ريا»()؛ «ألن يف الكالم دليال عليه‪ ،‬كام لو قلت‪ :‬رأيت زيدً ا‬
‫كث ً‬
‫وجها كان فيه دليل عىل أنك تريد‪ :‬أحسن من زيد»()‪.‬‬
‫أحسن ً‬

‫() روح البيان ‪ ،209 /7‬وانظر‪ :‬فتح القدير‪ ،‬طبعة دار الفكر ‪.73/4‬‬
‫() مفردات الراغب ‪.118-117‬‬
‫() البحر املحيط ‪ ،497/6‬وانظر‪ :‬اللباب ‪ ،529/14‬وفتح البيان ‪.438/6‬‬
‫() معاين القرآن للنحاس ‪.25 /5‬‬
‫() تفسري النسفي ‪ ،244-243/3‬بترصف‪ ،‬وانظر‪ :‬معاين القرآن للزجاج ‪.67/4‬‬

‫‪181‬‬
‫إقرارا بأن ما جاء به الكفار من مقرتحات‬
‫وعىل هذا الوجه ثمة إشكال؛ ألن فيه ً‬
‫فاسدة‪ ،‬وأسئلة باطلة‪ ،‬وضالالت فارغة كان َح َسنًا‪ ،‬وأن ما جاء به القرآن يف الرد‬
‫عليهم كان أحسن فحسب‪.‬‬
‫وقد انربى بعض املفرسين ليزيل هذا اإلشكال‪ ،‬يقول حقي‪« :‬اللهم إال أن‬
‫يكون بزعمهم‪ ،‬يعنى‪ :‬ملا كان السؤال حسنًا بزعمهم قيل‪ :‬اجلواب األحسن من‬
‫السؤال»()‪.‬‬
‫حسن يف زعم كفار قريش‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫يعني بذلك‪ :‬أن ما أتوا به ليس حسنًا يف ذاته‪ ،‬لكنه‬
‫فقابله باألحسن بناء عىل هذا الزعم‪.‬‬
‫كام حاول ابن عاشور إزالة هذا اإلشكال ً‬
‫أيضا فقال‪« :‬أو يراد باحلسن ما يبدو‬
‫من هبرجة سفسطتهم وشبههم‪ ،‬فيجيء الكشف عن احلق أحسن وقعا يف نفوس‬
‫السامعني من مغالطاهتم‪ ،‬فيكون التفضيل هبذا الوجه عىل حقيقته»()‪.‬‬
‫وهذا هو الرد األقوى عىل هذا اإلشكال وإليه نميل؛ ألن احلسن البادي يف‬
‫ضالالت الكفار يف كل زمان ما هو إال زخرف من القول‪ ،‬وسفسطة ضالة وهبرجة‬
‫فارغة يفقهها أهل العلم دوما‪ ،‬ويقفون عليها ألول وهلة‪.‬‬
‫الوجه الثاين‪ :‬اسم التفضيل هنا ليس عىل أصله؛ ومن ذهب إىل هذا الوجه رأى‬
‫أن الذي أتى به كفار قريش ليس حسنًا حتى يكون ما جاء به رب العاملني أحسن‪،‬‬
‫ومعنى أحسن تفسريا عىل ذلك‪« :‬أنه يف غاية ما يكون من احلسن يف حد ذاته ال أن ما‬
‫يأتون به له حسن يف اجلملة‪ ،‬وهذا أحسن منه‪ ،‬وهذا نظري قوهلم‪« :‬اهلل تعاىل أكرب «أي‪:‬‬

‫() روح البيان ‪ ،209 /7‬وانظر‪ :‬روح املعاين ‪.32/13‬‬


‫() التحرير والتنوير ‪.23/19‬‬

‫‪182‬‬
‫له غاية الكربياء يف حد ذاته» ()‪.‬‬
‫وهذا الوجه الثاين هو الراجح؛ ألنه املتبادر؛ وألنه ال حيتاج إىل تقدير حمذوف‪،‬‬
‫وما ال حيتاج لتقدير أوىل مما حيتاج‪ ،‬عالوة عىل أن كل ما ورد عىل وزن أفعل ال يشرتط‬
‫أن يكون أفعل تفضيل مثل قولنا‪ :‬اهلل أكرب واهلل أعظم كام مر‪ ،‬يؤكد هذا من سياقات‬
‫الذكر احلكيم ً‬
‫أيضا أن تلك الصيغة عىل هذا النحو وردت يف القرآن الكريم مخس‬
‫مرات‪ ،‬ومل يذكر بعدها املفضل عليه مطلقا سواء كانت أفعل تفضيل أم ال‪.‬‬
‫وعرب هنا بلفظ احلسن دون الوضوح مثال؛ ألن احلسن أشمل داللة فهو حيمل‬
‫يف طياته معنى الوضوح والبيان زيادة عىل داللته األصلية‪ ،‬وهذا هو املراد‪ ،‬يقول‬
‫ابن كثري‪« :‬ﱫ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﱪ؛ أي‪ :‬وال يقولون قوال يعارضون به‬
‫احلق‪ ،‬إال أجبناهم بام هو احلق يف نفس األمر‪ ،‬وأبني وأوضح وأفصح من مقالتهم»()؛‬
‫ألن ما قالوه كالم برشي‪ ،‬وما جاءهم من احلق كالم رباين‪ ،‬وفرق بني باطل املخلوق‬
‫املبهرج‪ ،‬وحق اخلالق الكاشف‪.‬‬
‫ﱫ ﭘﱪ متييز ألحسن‪ ،‬وهذا التمييز أزال اإلهبام الكامن يف لفظ أحسن؛ ألن‬
‫العبارة قبل ذكر هذا اللفظ حتتمل أن تكون أحسن معنى‪ ،‬وأحسن بيانا‪ ،‬وأحسن مثال‬
‫إلخ فلام جاء هذا التمييز أزال اإلهبام‪ ،‬وحدد املراد‪.‬‬
‫و«تفسري» مصدر الفعل املايض الرباعي املضعف العني « َفسرَّ َ » ثالثيه َفسرَ َ ‪،‬‬
‫بالكرس‪ ،‬و َت ْفسرُُ ه بالضم َفسرْ ً ا‪ ،‬و َفسرَّ َ ُه‪َ :‬أبانه‪،‬‬
‫«وال َفسرُْ ‪ :‬البيان‪َ .‬فسرَ اليش َء يفسرُِ ه َ‬

‫() روح املعاين ‪ ،32/13‬وانظر‪ :‬تفسري أيب السعود ‪ ،216/6‬وروح البيان ‪ ،209/7‬والتحرير‬
‫والتنوير ‪.23/19‬‬
‫() تفسري ابن كثري ‪.72/2‬‬

‫‪183‬‬
‫‪ :‬ﱫ ﭗ ﭘﱪ؛ ال َفسرُْ ‪ :‬كشف ا ُمل َغ َّطى‪ ،‬والتفسري‪:‬‬ ‫وال َّت ْفس ُ‬
‫ري مثله‪ ...‬وقوله‬
‫كشف ا ُملراد عن اللفظ ا ُملشْ كل»()‪.‬‬
‫فالتفسري يف األصل بمعنى البيان‪ ،‬وكشف املغطى‪ ،‬وإبانة املراد من األلفاظ‬
‫املشكلة‪ ،‬وعىل ذلك فهو ليس خمتصا بالقرآن‪ ،‬بل هو إبانة عن األلفاظ املشكلة يف‬
‫ولكن اقرتان هذه اللفظة باحلديث عن القرآن يف هذا السياق جعلها‬
‫َّ‬ ‫اللغة بوجه عام‪،‬‬
‫عند إطالقها تشري إىل الكشف والبيان عن معاين القرآن ‪-‬حقيقة كانت أم ً‬
‫جمازا‪-‬‬
‫تلقائيا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫حتى صارت حقيقة عرفية يذهب الذهن لذلك‬
‫واختلف يف معنى التفسري هنا عىل رأيني‪:‬‬
‫األول‪ :‬البيان والتفصيل‪ ،‬يقول الطبـري‪« :‬وعنى بقوله‪ :‬ﱫ ﭗ ﭘﱪ‬
‫وأحسن مما جاءوا به من املثل بيا ًنا وتفصيلاً »()‪.‬‬
‫وعىل هذا الرأي يكون معنى اآلية الكريمة‪ :‬وال يأتونك بأي مثل من أمثلتهم‬
‫املتهافتة إال جئناك باجلواب احلق الثابت الذي يدمغ باطلهم‪ ،‬وبالكالم الذي هو‬
‫أحسن كشفا وبيانا وتفصيال من أمثلتهم وشبهاهتم‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬املعنى‪ ،‬يقول الشهاب‪« :‬املراد بالتفسري‪ :‬املعنى‪ ،‬واملراد أحسن معنى؛ ألنه‬
‫يقال‪ :‬تفسري هذا كذا وكذا أي‪ :‬معناه‪ ،‬فهو مصدر بمعنى املفعول؛ ألن املعنى مفرس‬
‫كدرهم رضب األمري»()‪.‬‬

‫() لسان العرب‪ ،‬مادة (ف‪ .‬س‪ .‬ر) ‪.55/5‬‬


‫() تفسري الطربي ‪ ،429/9‬وانظر‪ :‬تفسري البغوي ‪ ،101/5‬وتفسري اخلازن ‪ ،101/5‬وتفسري‬
‫البيضاوي ‪ ،72/2‬واللباب ‪ ،529/14‬والتحرير والتنوير ‪.23 /19‬‬
‫() حاشية الشهاب عىل البيضاوي ‪ ،130/7‬وانظر‪ :‬الكشاف ‪ ،91/3‬وتفسري النيسابوري‬
‫‪ ،237/5‬والبحر املحيط ‪ ،497/6‬وحاشية زاده ‪ ،289/6‬وروح املعاين ‪.32/13‬‬

‫‪184‬‬
‫وعىل هذا الرأي يكون معنى اآلية الكريمة‪ :‬وال يأتونك بأي مثل من أمثلتهم‬
‫املتهافتة إال جئناك باجلواب احلق الثابت الذي يدمغ باطلهم‪ ،‬وبام هو أحسن معنى‬
‫من معانيهم‪.‬‬
‫والراجح‪ :‬أن التفسري هنا يشمل املعنيني السابقني؛ ألنه لو كان املراد به واحدا مما‬
‫سبق لعرب به وال مانع‪ ،‬أ َما أنه قد آثر التعبري بالتفسري‪ ،‬واختاره عىل تلك املصطلحات‬
‫فهذا إشارة إىل أن ذاك اللفظ أوسع داللة من تلك املصطلحات فهو يضمها مجيعا يف‬
‫طياته‪ ،‬وهبذا يكون اللفظ قد جاء يف مكانه األليق به‪.‬‬
‫ولعل هذا هو الرس يف التعبري هبذا اللفظ الفريد الوحيد مادة وصيغة يف الذكر‬
‫احلكيم‪ ،‬والتعبري بالفرائد يف القرآن ‪-‬كام أسلفنا يف بحث سابق()‪ -‬ملا فيها من‬
‫دالالت واسعة‪ ،‬ومعان كثرية‪ ،‬وحسن يف اللفظ‪ ،‬ومجال يف الصياغة ال تتأتى يف‬
‫غريها من األلفاظ التي تقارهبا يف معناها‪ ،‬أو ما يسميه بعضهم باملرتادف الذي ال‬
‫ريها‬
‫يوجد ‪-‬من وجهة نظري‪ -‬يف الذكر احلكيم؛ ألن لكل لفظة داللة ال تؤدهيا غ ُ‬
‫بالقدر نفسه‪ ،‬وبالتطابق ذاته‪ ،‬وهذا مكمن من مكامن إعجاز القرآن جيب أن نركز‬
‫عليه بشدة للتعرف عىل أرساره‪ ،‬ونكات التعبري بلفظة دون ما يقارهبا‪.‬‬
‫وأما قولنا‪ :‬إن هذه اللفظة بمعنى تلك‪ ،‬فهذا إطالق عىل سبيل التسامح فحسب‬
‫فليتنبه إليه‪ ،‬ومن ثم فإن للتفسري معنى مستقلاًّ خيالف ما يقاربه من وجه ويتفق معه‬
‫من وجه كام ترى وتبني لك‪ ،‬ولكن ليس إياه‪ ،‬وإال الكتفى رب العاملني بواحد‪ ،‬وهذا‬
‫بدهي ال حيتاج لتطويل‪.‬‬
‫وهذا يدفعنا ً‬
‫أيضا إىل القول بوجود فرق بني التفسري والتأويل‪ ،‬ومن ثم فقد‬

‫() انظر كتابنا‪ :‬من األرسار البالغية يف الفرائد القرآنية‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫ري ْ‬
‫والتأويل‪،‬‬ ‫جانب ابن منظور الصواب حني وافق عىل قول‪« :‬ابن َ‬
‫األعرايب‪ :‬ال َّت ْفس ُ‬
‫واملعنى واحد» ()؛ ألهنام ليسا بمعنى واحد؛ ألن القرآن عرب بالتفسري يف موضع‪،‬‬
‫وبالتأويل يف مواضع كام مر‪.‬‬
‫ولذا فإن من فرق بينهام قد حالفه الصواب‪ ،‬برصف النظر عن صحة ما فرق به‪.‬‬
‫يقول السمني احللبي‪« :‬تفسري القرآن‪ :‬بيان ألفاظه‪ ،‬وبيان معانيه وأحكامه‪،‬‬
‫وتأويله محله عىل املعاين الالئقة ما ظاهره قد يفهمه من مل تثبت قدمه يف العلم‬
‫املتغاير»()‪.‬‬
‫أقول هذا؛ ألن القول يف احلديث عنهام قد تشعب وطال‪ ،‬وكثري من املفرسين‬
‫اجتهد يف بيان الفرق بني هذين املصطلحني حسب هنج كل واحد () غري ناظر إىل‬
‫الداللة القرآنية املحضة لكل منهام‪.‬‬
‫ونحن هنا بطبيعة احلال ال نعيب عىل هؤالء تلك الوجهة؛ ألنه ال مشاحة يف‬
‫االصطالح ما دامت تلك الطائفة قد اتفقت عىل ذلك‪ ،‬أما مصدر اللوم واملؤاخذة‬
‫فأن يذكر أحدٌ من تلك الطوائف معنى هلذه اللفظة يتالءم مع مذهبه ثم يسقطه عىل‬
‫القرآن‪ ،‬ويدعي أن هـذا هو املعنى املقصود من لفظـة «تفسري» يف القرآن‪ ،‬وهكذا‬
‫احلال يف التأويل كام بينا يف موضعه هناك‪.‬‬
‫ومن ثم فإن ما ذهب إليه ابن عاشور يف قوله‪« :‬التفسري يف االصطالح هو اسم‬

‫() لسان العرب‪ ،‬مادة (ف‪ .‬س‪ .‬ر) ‪.55/5‬‬


‫() عمدة احلفاظ ‪ ،273/3‬وانظر‪ :‬مفردات الراغب ‪ ،394‬واللباب البن عادل ‪.36/5‬‬
‫() انظر عىل سبيل املثال‪ :‬الفروق للعسكري ‪ ،49 ،48‬وعمدة احلفاظ للسمني احللبي ‪،273/3‬‬
‫ومفردات الراغب ‪ ،394‬واللباب البن عادل ‪.36/5‬‬

‫‪186‬‬
‫للعلم الباحث عن بيان معاين ألفاظ القرآن‪ ،‬وما يستفاد منها باختصار أو توسع‪،‬‬
‫واملناسبة بني املعنى األصيل‪ ،‬واملعنى املنقول إليه ال حيتاج إىل تطويل»()‪.‬‬
‫فغري مرفوض‪ ،‬وال ضري عليه؛ ألن تعريفه مبني عىل املعنى الذي سقناه لتلك‬
‫الكلمة‪ ،‬منطلق من مفهوم هذا اللفظ يف القرآن الكريم‪.‬‬

‫() مقدمة التحرير والتنوير ‪.12/1‬‬

‫‪187‬‬
‫املبحث ال�ساد�س‬
‫املبحث السادس‪:‬‬
‫أثر التحليل البالغي يف استكشاف الفروق والعالئق بني‬
‫هذه املصطلحات القرآنية‬

‫للتحليل البالغي أثر واضح يف الكشف عن الفروق بني األلفاظ التي عنونا‬
‫هبا بحثنا هذا‪ ،‬وسوف نركز هنا قدر اإلمكان عىل بيان أثر هذا التحليل البالغي يف‬
‫استكشاف الفروق والعالئق الكامنة بني هذه املصطلحات القرآنية من واقع النص‬
‫القرآين ذاته‪ ،‬وليس من كالم خارج عنه‪.‬‬
‫وقبل الولوج إىل هذا الغرض أود أن أؤكد عىل أننا سنذكر هنا ما تفيده هذه‬
‫املصطلحات بمنطوقها‪ ،‬وما تدل عليه بمفهومها سواء كان مفهوم موافقة أو خمالفة‪،‬‬
‫ومها املصطلحان اللذان أخذ هبام األصوليون يف التعامل مع النصوص املختلفة‪،‬‬
‫والكشف عن مكنوناهتا‪ ،‬أو كام يسميه بعض البالغيني املحدثني مستتبعات الرتاكيب‪،‬‬
‫فكل ما يستتبع هذه املصطلحات من دالالت سنحاول إيضاحه‪ ،‬وإجيازه أمام القارئ‬
‫الكريم‪.‬‬
‫ونبدأ باحلديث عن مصطلح التدبر فنقول وباهلل التوفيق‪:‬‬
‫مل يرد املصدر (التدبر) مطلقا يف الذكر احلكيم‪ ،‬وكذلك مل يرد الفعل املايض‬
‫اخلاميس «تَدَ َّبر» بل اقترص الذكر احلكيم يف موضوعنا هنا عىل اإلتيان باملضارع من‬
‫هذا الفعل املايض اخلاميس يف أربع آيات عىل النحو اآليت ‪:‬‬

‫‪189‬‬
‫اً‬
‫أول‪ :‬وردت صيغة ﱫ ﭼ ﱪ يف آيتي سوريت (النساء وحممد) املدنيتني يف‬
‫سياق يتحدث رصاحة عن املنافقني‪ ،‬وقد وردت تلك الصيغة مرفوعة بثبوت النون‪،‬‬
‫وقبلها «ال» النافية مسبوقة هبمزة االستفهام‪ ،‬وهذا الفعل بطبيعته ٍ‬
‫متعد وقد تعدى يف‬
‫هاتني اآليتني إىل املفعول به «القرآن» رصاحة‪ ،‬وذلك يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﭻ ﭼ‬
‫ﭽﭾ ﱪ‪.‬‬
‫وقد كشف لنا التحليل البالغي آليتي سوريت (النساء وحممد) عن حقائق عديدة‬
‫ومتنوعة عىل النحو اآليت‪:‬‬
‫‪ -1‬ظهرت التاء يف هذا الفعل يف هاتني السورتني‪ ،‬ومل تدغم يف الدال كام كان‬
‫احلال يف آيتي سوريت (املؤمنون وص) كام سيأيت‪ ،‬ويف هذا إشارة واضحة ‪-‬واهلل أعلم‪-‬‬
‫إىل التخيل عن هذا النفاق‪ ،‬والكشف عام يضمره‪ ،‬هؤالء من مكر لإلسالم ولرسوله‬
‫يعلم رسائر قلوهبم‪ ،‬فعكس إظهار التاء هنا هذا املعنى()‪.‬‬ ‫×؛ ألن اهلل‬
‫‪ -2‬ورد هذا الفعل بصيغة املضارع؛ إلفادة التجدد‪ ،‬أي‪ :‬جيب عليهم جتديد التدبر‬
‫آنا بعد آن‪ ،‬ووقتا بعد وقت؛ ألهنم ‪-‬بداهة‪ -‬لن يتدبروه فـي كل وقت وحني‪.‬‬
‫‪ -3‬آثر التعبري بصيغة التفعل إيامء إىل مراعاة التدرج والتتبع وبذل اجلهد يف‬
‫التدبر؛ ليصلوا للمطلوب‪.‬‬
‫‪ -4‬ورد املضارع ﱫ ﭼ ﱪ ًّ‬
‫منفيا بال؛ ألنه ينفي عن املنافقني التدبر يف الوقت‬
‫واحلال الذي تتنزل فيه اآليات الكريمة‪ ،‬كام جاء ً‬
‫أيضا مسبوقا هبمزة االستفهام‬

‫رس آخر يف إظهار التاء يف آية حممد‪ ،‬فقال‪« :‬وربام َّ‬


‫دل إظهار التاء عىل أن‬ ‫() أشار البقاعي إىل ٍّ‬
‫ذلك (أي‪ :‬اجلهاد بالسيف وما دونه) من أظهر ما يف القرآن من املعاين‪ ،‬فال حيتاج يف العثور عليه إىل‬
‫كبري تد ُّبر»‪ .‬انظر‪ :‬نظم الدرر للبقاعي ‪.170/7‬‬

‫‪190‬‬
‫اإلنكاري التوبيخي التعجبي؛ ألنه ينكر عليهم عدم التدبر‪ ،‬ويوبخهم عىل تركه‪،‬‬
‫ويتعجب من حالتهم تلك‪.‬‬
‫‪ْ -5‬‬
‫اس ُتعمل التدبر يف هاتني اآليتني عىل معناه اللغوي‪ ،‬ومل يستعمل يف معنى‬
‫جمازي كام بان لنا من خالل التحليل البالغي‪.‬‬
‫‪ -6‬الفاعل واو اجلامعة يف ﱫ ﭼ ﱪ يعود عىل املنافقني فهم املخاطبون‬
‫بالتدبر كام أوضح السياق السابق والالحق يف السورتني‪.‬‬
‫وهذا الفاعل ال خيتص باملنافقني يف عرص النبوة بل يتسع ليشمل املنافقني يف كل‬
‫زمان ومكان؛ ألن العربة بعموم اللفظ‪ ،‬ويف هذا حث هلؤالء مجيعا عىل التدبر؛ ألن‬
‫يف التدبر‪« :‬منتهى اإلكرام لإلنسان‪ ،‬وإدراكه وشخصيته‪ ،‬كام أن فيه منتهى ال َّنصفة يف‬
‫االحتكام إىل هذا اإلدراك يف ظاهرة ال يعييه إدراكها‪ ،‬وهي يف الوقت ذاته ذات داللة‬
‫ال متارى» ()‪.‬‬
‫‪ -7‬املفعول به‪ ،‬أي‪ :‬الواقع عليه التدبر يف السورتني هـو لفظ القرآن رصاحة‪،‬‬
‫واختصاص تلك اللفظة هبؤالء املخاطبني؛ للرتكيز عىل صفة القراءة التي حيملها‬
‫هذا اللفظ‪ ،‬فهؤالء كانوا يقرؤون القرآن بألسنتهم أمام املسلمني ‪-‬نفا ًقا‪ -‬ال يبلغ‬
‫حناجرهم‪ ،‬وال يتجاوز تراقيهم فحكى التعبري بتلك اللفظة حالتهم وركز عىل نظرهتم‬
‫للذكر احلكيم فهم ال حيفظونه وال يكتبونه وال حيبون سامعه بل كانوا يقرؤونه خداعا‬
‫ونفاقا فحسب إن كانوا يف حمفل مع املسلمني‪.‬‬
‫‪ -8‬اختصت آية سورة (النساء) بذكر الغاية من التدبر‪ ،‬وهي‪ :‬التوصل إىل أن‬
‫الذكر احلكيم من قيل رب العاملني؛ ألنه حيمل بني طياته دليال عىل صدقه يف مبانيه‬

‫() يف ظالل القرآن ‪.721/2‬‬

‫‪191‬‬
‫ومعانيه‪ ،‬ويف كل ما خيرب به عن أحوال املنافقني‪ ،‬وهبذا جاء الترصيح يف عجز اآلية‬
‫يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﱪ‪ ،‬فالتدبر هيدهيم‬
‫للوقوف عىل صدق القرآن‪ ،‬وصحة نبوته × وهذا من ثامر التدبر الواضحة؛ ألهنم‬
‫مل ينافقوا إال لشكهم‪ ،‬وعدم تصديقهم هبذين األمرين‪.‬‬
‫‪ -9‬اختصت آية سورة (حممد) ببيان السبب يف عدم تدبرهم‪ ،‬وهو أن هلم قلوبا‬
‫غليظة منغلقة منعتهم من التدبر‪ ،‬ومن نفاذ نور القرآن إليها‪ ،‬وهذا بمفهوم املخالفة‬
‫يشري إىل أن القلوب املتدبرة يف القرآن هي القلوب احلية اللينة املتفتحة التي مل يغطها‬
‫الران‪ ،‬وهي قلوب املؤمنني املوحدين‪ ،‬وهكذا فقد اختصت تلك اآلية بالترصيح‬
‫بوسيلة التدبر‪ ،‬واختصت آية النساء بالترصيح بذكر الغاية من التدبر‪ ،‬فكلتا اآليتني‬
‫املدنيتني تكاملتا يف ذكر الوسيلة والغاية من التدبر‪.‬‬
‫‪ -10‬وأخريا من يتأمل يف هاتني اآليتني يلحظ مالحظة دقيقة‪ :‬فقد احتدت اآليتان‬
‫يف مطلعهام‪ ،‬واختلفتا يف عجزمها‪ ،‬واحتادمها يف مطلعهام عائد ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬الحتاد‬
‫املخاطبِني فيهام‪ ،‬وهم املنافقون‪ ،‬واختالفهام يف عجزمها عائد الختالف السياقني‬
‫املكتنف باحلديث عن املنافقني يف كل آية كام تقدم‪ ،‬وهذا رس دقيق وراء ابتدائهام‬
‫برتكيب متطابق لفظا ونظام‪ ،‬واختتامهام برتكيب خمتلف ً‬
‫لفظا ونظماً ‪.‬‬
‫***‬
‫ثان ًيا‪ُ :‬ذكر التدبر ً‬
‫أيضا يف سورة (املؤمنون) املكية يف سياق رصيح عن كفار مكة‪،‬‬
‫ومن خالل التحليل البالغي هلذه اآلية تبدت لنا عدة حقائق عىل الوجه اآليت‪:‬‬
‫‪ -1‬ورد املضارع ﱫ ﭼ ﱪ جمزو ًما بحذف النون؛ حيث ُسبق بأداة اجلزم‬
‫«لمَ ْ»‪ ،‬واجلزم بلم هنا ينفي نفيا قاطعا عدم تدبرهم للقرآن فيام مىض‪ ،‬ويفهم من سياق‬

‫‪192‬‬
‫الكالم دعوهتم لذلك يف حارضهم ومستقبلهم‪.‬‬
‫‪ -2‬جاء هذا الفعل مسبوقا هبمزة االستفهام اإلنكاري التعجبي التوبيخي حيث‬
‫أنكر عليهم عدم التدبر‪ ،‬ووبخهم عىل تركه‪ ،‬وتعجب من حالتهم تلك كام فعل مع‬
‫املنافقني متاما‪.‬‬
‫‪ -3‬من يتأمل تلك الصيغة يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﮣ ﮤ ﱪ جيد أن التاء قلبت‬
‫داال‪ ،‬وأدغمت الـدال يف الدال؛ ألن األصل «أفلم يتدبروا»‪ ،‬ويف هذا اإلدغام إشارة‬
‫إىل أن الكافرين لو تدبروه وتأملوه برسعة لوقفوا عىل حقيقة كونه من عند اهلل؛ ألهنم‬
‫أمراء الفصاحة‪ ،‬وأساطني البيان ال يعجزهم الكشف عن معادن الكالم‪ ،‬واحلكم‬
‫عىل مصدريته‪.‬‬
‫‪ -4‬التدبر يف هذه اآلية استعمل يف حقيقته اللغوية كام سبق متاما‪.‬‬
‫‪ -5‬الفاعل واو اجلامعة يف قوله‪ :‬ﱫﮣﮤﱪ يعود عىل كفار قريش الذين حتدث‬
‫السياق السابق عنهم رصاحة‪ ،‬فهؤالء وحدهم هم املخاطبون بالتدبر يف تلك اآلية‪.‬‬
‫‪ -6‬املفعول به‪ ،‬أي‪ :‬الواقع عليه التدبر هنا هو لفظ ﱫ ﮥ ﱪ‪ ،‬واملراد به القرآن‬
‫إملاعا‬
‫الكريم‪ ،‬وجاء هبذه اللفظة يف سياق احلديث عن كفار قريش دون القرآن كام مر؛ ً‬
‫إىل تلك الصفة‪ ،‬وهذا املعنى املستمد من تلك اللفظة‪ ،‬فكفار قريش كانوا يسمعون‬
‫القرآن مقوال متلوا من الرسول × واملؤمنني‪ ،‬ومل يكونوا يقرؤونه نفاقا كام كان حال‬
‫املنافقني‪ ،‬فجاءت تلك اللفظة حاكية بدقة متناهية حالتهم‪ ،‬وكاشفة عن أن القـرآن‬
‫متحدى‬
‫ً‬ ‫الكريم ما هـو إال جنس من أجناس األقوال املعروفة هلم‪ ،‬لكنه قول معجز‬
‫به‪.‬‬
‫وبذلك تكون تلك اآلية قد أبانت رصاحة عن أن املخاطبني بالتدبر هنا هم كفار‬

‫‪193‬‬
‫مكة‪ ،‬وأن الواقع عليه التدبر هو القول‪.‬‬
‫‪ -7‬مل تنص تلك اآلية عىل الغاية من حث الكافرين عىل التدبر؛ ألن ذلك مفهوم‬
‫بطبيعة احلال ال حيتاج لنص‪ ،‬فالغاية من حث الكافرين عىل التدبر هي انخالعهم عن‬
‫الكفر‪ ،‬واهتداؤهم لإليامن‪ ،‬والوقوف عىل صدق القرآن‪ ،‬وصحة نبوة الرسول ×‪.‬‬
‫***‬
‫ثال ًثا‪ُ :‬ذكر التدبر ً‬
‫أيضا يف آية سورة (ص) املكية‪ ،‬والسياق قبلها مل حيدد رصاحة‬
‫ولكن التحليل البالغي كشف عن أن املخاطب‬
‫َّ‬ ‫من هم املخاطبون بالتدبر فيها‪،‬‬
‫بالتدبر هم املؤمنون‪ ،‬وقد برزت لنا عدة حقائق من خالل هذا التحليل البالغي عىل‬
‫النحو اآليت‪:‬‬
‫‪ -1‬ورد الفعل املضارع ﱫ ﭼ ﱪ يف هذه السورة منصوبا مسبوقا بالم‬
‫التعليل يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﱪ‪ ،‬ويف هذا إشارة‬
‫رصحية وقاطعة إىل أن العلة يف إنزاله هي تدبره‪.‬‬
‫‪ -2‬مل تذكر مع هذا الفعل أداة استفهام‪ ،‬ومل ُي ْس َبق كذلك بأداة نفي أو جزم‬
‫ري منفي عنهم التدبر بل هو فقط حيكي العلة من‬
‫كام سبق؛ ألن املخاطبني هنا غ ُ‬
‫نزول القرآن‪ ،‬وهو تدبر آياته‪ ،‬ومن ثم جاء اخلطاب للرسول × مبارشة يف قوله‪:‬‬
‫ﱫﭴﱪ‪ ،‬ومل يرد ذلك يف اآليات السابقة مما يؤكد عىل أنه × هو املقصود بذلك‪،‬‬
‫ومعه أمته‪.‬‬
‫‪ -3‬من يتأمل جيد أن هذه الصيغة أدغمت فيها كذلك التاء مع الدال كام مر‬
‫وهذا اإلدغام يكشف عن حال املؤمنني املخاطبني بتلك اآلية يف أهنم يسارعون إىل‬
‫تدبر آيات الكتاب احلكيم بمجرد نزوهلا؛ ألنه لب حياهتم‪ ،‬ومصدر اخلري والسعادة‬

‫‪194‬‬
‫واهلداية هلم‪ ،‬ويف هذا مدح واضح هلؤالء املؤمنني املتدبرين‪.‬‬
‫‪ -4‬التدبر يف هذه اآلية جاء ً‬
‫أيضا عىل حقيقته اللغوية كام سبق‪.‬‬
‫‪ -5‬الفاعل واو اجلامعة يف قوله‪ :‬ﱫﭶ ﱪ يعود عىل املؤمنني بعامة دون ختصيص‬
‫لطائفة منهم‪ ،‬وهم العلامء‪ ،‬فتدبر كتاب اهلل ال يقترص عىل طائفة كالعلامء والفقهاء‬
‫وأرضاهبم بل هو واجب عىل مجيع املؤمنني‪ ،‬ويف ذلك يقول الشنقيطي‪« :‬اعلم أن قول‬
‫بعض متأخري األصوليني‪ :‬إن تدبر هذا القرآن العظيم‪ ،‬وتفهمه والعمل به‪ ،‬ال جيوز‬
‫إال للمجتهدين خاصة‪ ...‬قول ال مستند له من دليل رشعي أص ً‬
‫ال» ()‪.‬‬
‫لكن ٌ‬
‫كل يتدبر عىل قدر‬ ‫وعىل ذلك فجميع املؤمنني بال استثناء مدعوون للتدبر فيه ْ‬
‫حظه ومداركه‪ ،‬ويستخرج منه عىل قدر علمه وفهمه باألدوات املتاحة له‪ ،‬ومل تنص‬
‫هذه اآلية الكريمة عىل أدوات التدبر؛ ألن هذا مفهوم للمخاطبني بطبيعة احلال‪.‬‬
‫‪ -6‬املفعول به‪ ،‬أي‪ :‬الواقع عليه التدبر هنا هـو «آيات الكتاب» فالضميـر يف‬
‫آياته يعود عىل الكتاب رصاحة‪ ،‬واملراد بالكتاب ‪-‬ال شك‪ -‬القرآن الكريم‪ ،‬وهـذا‬
‫دليل آخر يؤكد علـى أن املخاطبني بالتدبر هنا هم املؤمنون كافة بمختلف طوائفهم‪،‬‬
‫وعىل قدر مداركهم‪ ،‬وخص املؤمنني هبذا؛ ومل يذكر القرآن أو القول كام مىض؛‬
‫إشارة إىل اخلصيصة املستمدة من تلك اللفظة وهي الكتابة‪ ،‬فاملـؤمنون هم املعنيون‬
‫بكتابته دون غريهم‪ ،‬فعرب بلفظة تنبئ عن تلك احلالة‪ ،‬عالوة عىل أهنا لفظة أشمل من‬
‫سابقتيها‪ ،‬وتتناسب يف احلديث عن املؤمنني هنا أتم التناسب؛ ألن املكتوب مقروء‪،‬‬
‫واملقروء مسموع ومن ثم فذكر هذا اللفظ أغنى عن ذكر هذين هنا‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫‪ -7‬مل تنص تلك اآلية عىل الغاية من التدبر؛ ألهنا مفهومة ال حتتاج لنص فالغاية‬

‫() أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن ‪.459/7‬‬

‫‪195‬‬
‫من تدبر املؤمنني هي زيادة اإليامن‪ ،‬وفهم منهج القرآن‪ ،‬وتطبيق هذا املنهج سلوكا‪،‬‬
‫وعملاً يف حياة املسلمني‪.‬‬
‫والغاية من تدبر املؤمنني كذلك الوقوف عىل حقائق الرشيعة‪ ،‬وأحكامها‪،‬‬
‫والكشف عن أرسار إعجاز الذكر احلكيم‪ ،‬واستخراج كنوزه‪ ،‬ودرره‪ ،‬والوقوف عىل‬
‫ٍ‬
‫معان رشيدة‪ ،‬وأساليب إعجازية هي غاية يف النهاية‪ ،‬وغري‬ ‫مكنوناته‪ ،‬وما حواه من‬
‫ذلك من الغايات حسب طبيعة كل متدبر‪ ،‬وما عساه أن يتدبر فيه‪.‬‬
‫وهنا نقول‪ :‬إن التدبر ‪-‬وهو النظر يف أدبار اآليات والتأمل يف أعقاهبا‪ ،‬والوقوف‬
‫عىل أرسارها‪ ،‬وتفهم معانيها‪ -‬ال بد أن يسبقه إملام بعلوم اللغة العربية املختلفة‪،‬‬
‫ومعرفة أساليب العرب‪ ،‬وطرائق تراكيبهم التي نزل هبا القرآن‪ ،‬وغري ذلك من‬
‫أدوات بمعنى أن تكون هناك ضوابط عقلية ورشعية ينطلق منها املتدبر يف كتاب‬
‫اهلل‪ ،‬وليس هذا فحسب بل جيب أن تكون هناك أسس يسري عليها كل متدبر يف أي‬
‫علم من العلوم‪ ،‬وقد تنبه علامؤنا‪ ،‬وأسالفنا القدماء رمحهم اهلل إىل ذلك فوضعوا‬
‫رشوطا للمفرس‪ ،‬ورشوطا للمفتي الذي جيتهد يف مسائل الدين فال بد كذلك من‬
‫وجود األدوات التي يدخل هبا املتدبر إىل رحاب القرآن الكريم‪.‬‬
‫وهكذا فإن الغاية من تدبر املؤمنني ختتلف عن الغاية من تدبر املنافقني والكفار‬
‫كام مر‪ ،‬وقد نص الذكر احلكيم عىل الغاية من تدبر املنافقني‪ ،‬وترك للعقول أمر‬
‫استنباط غاية التدبر لغريهم من املؤمنني والكافرين كام أسلفنا‪.‬‬
‫‪ -8‬مل يرد التذكر مع التدبر إال يف آية سورة (ص) وبني التذكر والتدبر عالقة‬
‫به أصحاب العقول الزكية‪ ،‬فهو للخواص من‬ ‫تتمثل يف أن التذكر خص اهلل‬
‫أكابر العلامء من املؤمنني‪ ،‬والتدبر غري خمتص بأحد‪ ،‬بل هو لكافة البرش من املؤمنني‪،‬‬

‫‪196‬‬
‫واملنافقني‪ ،‬والكافرين‪.‬‬
‫‪ -9‬من يتدبر يف هاتني اآليتني املكيتني يف سوريت (املؤمنون)‪ ،‬و(ص) يالحظ‬
‫َ‬
‫املخاطب بالتدبر فيهام خمتلف‪،‬‬ ‫التغاير التام يف مطلعهام وخامتتهام؛ وذلك عائد ألن‬
‫فآية سورة (املؤمنون) اخلطاب فيها للكفار‪ ،‬وآية سورة (ص) اخلطاب فيها للمؤمنني‬
‫وعجزا كام‬
‫ً‬ ‫صدرا‬
‫ً‬ ‫كام أكدنا‪ ،‬والسياق فيهام خمتلف كذلك‪ ،‬ومن ثم اختلفت اآليتان‬
‫ترى‪ ،‬حيث ورد يف مفتتح آية (املؤمنون) ﱫﮣﮤﮥﱪ‪ ،‬ويف مستهـل آية (ص)‬
‫ﱫ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﱪ فبدأ يف سورة (املؤمنون) باالستفهام اإلنكاري‬
‫التوبيخي التعجبي‪ ،‬وافتتح يف (ص) بكالم خربي تقريري؛ ليكشف عن العلة من‬
‫التدبر‪ ،‬وأن تدبر القرآن الكريم أمر ثابت مقرر عند املؤمنني‪ ،‬فهو خيرب عنه فحسب‪.‬‬
‫خاطب بالتدبر يف القرآن ثالث طوائف طائفة‬
‫َ‬ ‫وبعد‪ ،‬فنستنتج من هذا كله أن ا ُمل‬
‫املنافقني‪ ،‬وطائفة الكافرين‪ ،‬وطائفة املؤمنني‪ ،‬وأن الواقع عليه التدبر ً‬
‫أيضا ثالثة‬
‫ألفاظ‪ :‬لفظ القرآن‪ ،‬ولفظ القول‪ ،‬ولفظ آيات الكتاب‪.‬‬
‫وبني هذه األلفاظ الثالثة عالقة قـوية‪ ،‬وصلة شديدة ملتحمة كام ترى‪ ،‬وهبذا‬
‫صار معنا ثالثة مصطلحات مستنبطات من هذه اآليات األربع‪:‬‬
‫األول‪ :‬ا ُملت ََد ِّبرون بصيغة اسم الفاعل‪ ،‬أو املخاطبون بالتدبر هم املنافقون‬
‫والكافرون واملؤمنون‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬املتد َّبر‪ :‬بصيغة اسم املفعول هو الذكر احلكيم مقروءا ومسموعا ومكتوبا‪،‬‬
‫أي‪ :‬بمختلف مسمياته‪ ،‬وعىل شتى صفاته‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬التدبر بصيغة املصدر‪ ،‬وهو عملية التدبر ذاهتا‪.‬‬
‫مقصورا عىل القرآن الكريم مقروءا ومسموعا ومكتوبا فمتابعـة‬
‫ً‬ ‫وما دام التدبر‬

‫‪197‬‬
‫للـذكر احلكيـم ‪-‬ما دام القـرآن هـو منطلقنا يف حترير وتأصيل املصطلحات‪ -‬ال جيـوز‬
‫أن ُيط َلق مصطلح التدبر علـى التفكـر يف الكون‪ ،‬والنفس اإلنسانية؛ ألن القرآن مل‬
‫ُي ِ‬
‫طلقْ التدبر عىل ذلك‪ ،‬بل أطلق عليه عبارات أخرى مثل‪ :‬التفكر والنظر()‪ ،‬وما‬
‫جاء عىل ألسنة علامئنا يف كتب الرتاث إنام هـو من قبيل التسامح يف العبـارة فحسب‪،‬‬

‫() كام جاء يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ‬


‫ﰔﱪ [اجلاثية‪ ،]13:‬وقوله تعاىل‪ :‬ﱫﭩﭪﭫﭬﭭﱪ [الروم‪ ،]8:‬وقوله تعاىل‪ :‬ﱫﭥ‬
‫ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﱪ [النحل‪ ،]44:‬وغري ذلك من اآليات كثري‪،‬‬
‫ُّ‬
‫فالتفكر وقع‬ ‫متنوعا ومتعد ًدا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُّ‬
‫التفكر يف القرآن جاء‬ ‫الواقع عليه‬
‫َ‬ ‫فمن يتأ َّمل يف هذه اآليات جيد َّ‬
‫أن‬
‫عىل الدالئل املنظورة من الكون‪ ،‬والنفس اإلنسانية‪ ،‬واآليات املسطورة‪ ،‬وعىل ذلك؛ فمتعلق التفكر يف‬
‫أعم من متعلق التد ُّبر؛ َّ‬
‫ألن التد ُّبر ال يكون إال يف اآليات املسطورة فحسب‪ ،‬ومن ثم جيوز لنا أن‬ ‫القرآن ُّ‬
‫نقول‪ :‬تفكر يف القرآن‪ ،‬وتدبر يف القرآن؛ كام رصح بذلك القرآن‪ ،‬لكن ال جيوز أن نقول‪ :‬تد َّبر يف ملكوت‬
‫السموات واألرض‪ ،‬والنفس اإلنسانية؛ ألن التد ُّبر مل يقع عىل يشء من ذلك البتة‪.‬‬
‫ومن هنا تبدو العالقة بني التدبر والتفكر‪ ،‬ومن يتأمل كذلك يف اآليات التي وقع عليها النظر جيد‬
‫متنوعا ومتعد ًدا‪ ،‬ما بني النظر يف ملكوت السموات واألرض؛ كام يف‬
‫ً‬ ‫أن الواقع عليه النظر ً‬
‫أيضا جاء‬
‫قوله تعاىل‪ :‬ﱫﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﱪ [األعراف‪ ،]185:‬وما بني النظر يف عاقبة‬
‫الذين سبقوا كفار قريش؛ كام يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬
‫ﮖ ﮗﮘ ﱪ [غافر‪ ،]21:‬وما بني النظر إىل السامء كيف ُبنيت ُ‬
‫وزينت؛ كام يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﮀ‬
‫ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﱪ [ ق‪ ،]6:‬وغري ذلك‪ ،‬لكن مل يقع النظر‬
‫عىل القرآن مطل ًقا‪.‬‬
‫وانطال ًقا من كون القرآن الكريم هو منطلقنا يف إطالق املصطلحات املختلفة ال جيوز أن نقول‪:‬‬
‫يرصح بذلك‪ ،‬وهكذا احلال يف نظائر هذين اللفظني‪ ،‬نحو‪ :‬التعقل‬
‫نظر يف القرآن؛ ألن القرآن مل ِّ‬
‫واالستبصار واالعتبار‪ ،‬مما ال يسعنا الوقت لإلطالة فيه‪.‬‬
‫للم َتدَ َّب ِر بأناة وتأمل ح َّتى يصل إىل‬ ‫هذا‪ ،‬وعالقة النظر بالتدبر عالقة وثيقة؛ َّ‬
‫ألن املتد ِّبر ينظر ُ‬
‫مراده من التدبر‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫وليس هـذا من مصطلحات القرآن الكريم‪ ،‬وإطالقاته‪.‬‬
‫ولكن مما ينبغي التأكيد عليه هنا أننا جيوز لنا بالقياس العقيل أن نطلق التدبر عىل‬
‫وسامعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫احلديث الرشيف كتابة وقراءة‬
‫كام جيوز لنا أن نطلق التدبر عىل كالم العرب كله شعره ونثره‪ ،‬فمن أراد أن‬
‫يفهم حقائق هذه األقوال‪ ،‬ويقف عىل كنهها‪ ،‬ودرجات بالغتها فعليه بالتدبر فيها‬
‫عىل وفق أسس وقـواعد التـدبر الصحيحة‪ ،‬وهكذا نتوسع بالتدبر إىل مجيع آفاقه‪،‬‬
‫وجماالته الرحبة‪.‬‬
‫كام جيوز لنا أن نطلق التدبر كذلك عىل سائر علوم املسلمني املستمدة من القرآن‬
‫الكريم والسنة النبوية املرشفة‪ ،‬وليس هذا منا ابتعادا عام َأ َّص ْلنَاه من قبل‪ ،‬ولكنه قياس‬
‫عليه‪ ،‬وهو قياس صحيح جدًّ ا إن شاء اهلل تعاىل‪ ،‬فسائر علوم املسلمني املستمدة من‬
‫القرآن الكريم والسنة النبوية املرشفة‪ ،‬جيب أن ُت ْق َر َأ وتدرس بكيفية التدبر ذاته يف‬
‫القرآن الكريم والسنة النبوية وكالم العرب‪.‬‬
‫ولقد قام أسالفنا بالوفاء بحق التدبر يف هذه اجلوانب كلها فرتكوا لنا تراثا تليدً ا‬
‫خالدً ا يف شتى العلوم واملعارف‪.‬‬
‫تستطيع أمة اإلسالم أن تنهض من كبوهتا العابرة إال بالعودة من جديد‬
‫َ‬ ‫ولن‬
‫للتدبر‪ ،‬والتأمل يف القرآن الكريم‪ ،‬واحلديث الرشيف‪ ،‬وكالم العرب‪ ،‬وسائر العلوم‬
‫املختلفة حتى تستعيدَ سالف املجد واحلضارة‪ ،‬والفكر‪ ،‬والثقافة التي أنتجها أسالفنا‬
‫القدماء حينام أعملوا عقوهلم‪ ،‬وشحذوا أفكارهم‪ ،‬وانكبوا عىل كتاب اهلل وسنة نبيه‪،‬‬
‫واستنبطوا هذا الرتاث العظيم املتنوع يف شتى العلوم واملعارف اإلنسانية‪ ،‬وكل هذا‬
‫واضحا ملا أمرهم به رب‬
‫ً‬ ‫وانصياعا‬
‫ً‬ ‫كان تلبية من علامء املسلمني‪ ،‬واستجابة واعية‬

‫‪199‬‬
‫العاملني من التدبر فتدبروا‪ ،‬ومن التفكر فتفكروا‪ ،‬ومن النظر فنظروا واستبرصوا‪.‬‬
‫وبعد‪ ،‬فلقد اتضح لكل ذي لب أن القرآن يسمي األشياء بأسامء دقيقة عكس‬
‫البرش فقد يتساحمون ويطلقون هذا عىل ذاك‪ ،‬وهذا ما جيب التنبه له مما يدل عىل أننا ال‬
‫بد أن نسمي األشياء بأسامئها القرآنية‪ ،‬وهو االجتاه األعز‪.‬‬
‫كام بان لنا ً‬
‫أيضا الفرق الواضح بني كالم الرمحن وكالم اإلنسان ففضل كالم‬
‫الرمحن عىل كالم اإلنسان كفضل اهلل عىل سائر خلقه‪ ،‬وكل ذلك ظواهر قرآنية تستحق‬
‫البحث والدرس بأناة أكثر‪ ،‬وتدبر أعمق؛ الستخراج الفروق الدقيقة‪ ،‬وإدراك‬
‫العالقات القائمة بينها؛ ألن ما ذكرناه كان بنظرة عجىل يف هذا اجلانب الغزير‪.‬‬

‫هذا ما هدى إليه التدبر البالغي يف هذه اآليات األربع التي ورد فيها هذا املصطلح‬
‫منطو ًقا ومفهو ًما‪.‬‬
‫وهنا جيدر بنا الكشف عن الفروق‪ ،‬والعالئق بني التدبر‪ ،‬وغريه من املصطلحات‬
‫املعنون هبا هذا البحث‪.‬‬
‫ونبدأ اً‬
‫أول‪ :‬بذكر العالقة بني التأويل والتدبر‪.‬‬
‫وهنا نقول‪ :‬دلنا التحليل البالغي آلية التأويل عىل اآليت‪:‬‬
‫‪ -1‬التأويل يف القرآن الكريم جاء مصدرا عىل تلك اهليئة اللفظية يف مجيع‬
‫مضارعا عىل نحو ما‬
‫ً‬ ‫مصدرا مطلقا بل ورد فعال‬
‫ً‬ ‫مواضعه‪ ،‬عكس التدبر فلم يرد‬
‫سبق‪.‬‬
‫‪ -2‬التأويل يف اللغة ورد بمعنيني‪:‬‬
‫األول‪ :‬بمعنى التفسري‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫الثاين‪ :‬بمعنى املرجع والعاقبة واملصري‪ ،‬وأمجع جل املفرسين عىل أن التأويل‬
‫يف مجيع املواضع املذكورة يف القرآن كان باملعنى الثاين‪ ،‬والتدبر ورد يف اللغة بمعنى‬
‫واحد‪ ،‬وهو النظر يف أدبار األمور وعواقبها‪ ،‬وعىل ذلك فلفظتا التأويل والتدبر يف‬
‫القرآن قريبتان؛ ألهنام جيتمعان يف داللة املآل والعاقبة كام هو بني من هذين التعريفني‪،‬‬
‫ولكن التأويل مرتبط باآليات املتشاهبات اخلفية الداللة‪ ،‬والتدبر مرتبط باملحكم‬
‫واملتشابه كام يستبان لنا بعدُ ‪ ،‬فمناطه أوسع من مناط التأويل‪.‬‬
‫أما التأويل باملصطلح احلادث عند املتأخرين ـ كام تقدم ـ فلم يرد بمعناه هذا يف‬
‫القرآن البتة‪ ،‬وال تدل عليه آيات التأويل بمنطوقها أو بمفهومها‪ ،‬وهذا التعريف ال‬
‫نعرتض عليه يف حد ذاته‪ ،‬بل اعرتاضنا أن يكون هو الذي قصده القرآن كام يزعم‬
‫بعض املؤولني‪ ،‬ومعلوم أن محل التأويل يف القرآن عىل هذا املعنى كام محله البعض‬
‫من الباطنية واملتزندقة والشيعة سوغ هلم أن خيرجوا كثريا من آيات القرآن عن معناها‬
‫املراد منها كام هو معلوم لدهيم‪.‬‬
‫‪ -3‬استعمل التأويل يف القرآن (‪ )17‬مرة‪ ،‬وقع التأويل عىل متشابه القرآن‬
‫الكريم مرة واحدة يف سورة (آل عمران)()‪ ،‬واملوؤَّ ل يف هذه السورة‪ ،‬أي‪ :‬الواقـع‬
‫عليه التأويل قسامن‪:‬‬
‫مثل‪ :‬الغيبيات‪ ،‬وحقيقة البعث‬ ‫األول‪ :‬املتشاهبات‪ :‬التي ال يعلمها إال اهلل‬

‫() أما يف بقية سور القرآن الكريم‪ ،‬فيالحظ أن املؤَّ َول (أي‪ :‬الواقع عليه التأويل) يف هذه اآليات‬
‫متنوعا‪ ،‬فهو يعود عىل ما ينتظر أهل مكة من عاقبة ما وعدوا به يوم القيامة‪ ،‬كام هو بني من سياقه‬
‫ً‬ ‫جاء‬
‫يف سوريت النساء ويونس‪ ،‬أو يكون بيا ًنا لعاقبة ما ُو ِعدوا به من العذاب‪ ،‬كام يف سورة األعراف‪ ،‬أو‬
‫ريا ألحالم وأحاديث ورؤى‪ ،‬كام يف آيات سورة يوسف‪ ،‬أو كش ًفا ألمر السفينة والغالم واجلدار‪،‬‬
‫تفس ً‬
‫كام يف سورة الكهف‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫والنشور‪ ،‬واجلنة والنار وغريها‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬املتشاهبات التي حتتمل أكثر من داللة‪ ،‬خلفاء يف اللفظ أو املعنى أو مها‬
‫معا‪.‬‬
‫أما التدبر فقد استعمل يف القرآن أربع مرات وقع عىل القرآن مرتني‪ ،‬وعىل القول‬
‫مرة‪ ،‬وعىل آيات الكتاب مرة‪ ،‬فاملتدَ َّبر‪ ،‬أي‪ :‬الواقع عليه التدبر هو القرآن مقروءا‬
‫ومسموعا ومكتوبا‪ ،‬ومن ثم فالواقع عليه التأويل يف القرآن أخص من الواقع عليه‬
‫التدبر؛ ألن التأويل واقـع عىل املتشاهبات بشقيها فحسب‪ ،‬وهي قليلة كام بينا‪،‬‬
‫والتدبر واقع عىل الذكر احلكيم كله حمكام ومتشاهبا‪ ،‬فالتدبر أعم؛ ألنه يشمل مجيع‬
‫آيات القرآن‪ ،‬والتأويل حمصور يف اآليات املتشاهبات خفية الداللة‪.‬‬
‫‪ -4‬املؤِّ ول يف القرآن كام يبدو من آية التأويل يف سورة (آل عمران) إما أن‬
‫ال يرشكه غريه‪ ،‬وهذا خيتص بتأويل املتشاهبات من األمور الغيبية‪،‬‬ ‫يكون هو اهلل‬
‫كأمر الروح‪ ،‬وحقيقة القيامة‪ ،‬واجلنة والنار‪ ،‬ونحو ذلك من األمور التي استأثر اهلل‬
‫بعلمها‪.‬‬
‫وإما ‪-‬عىل رأي آخر‪ -‬أن يكون معه الراسخون يف العلم ()‪ ،‬وهؤالء يعلمون‬
‫تأويل املتشاهبات املحتملة ألكثر من داللة‪ ،‬ويسلمون باألول تسليماً ‪.‬‬
‫وا ُمل َتدَ ِّبرون‪ ،‬أي‪ :‬املخاطبون بالتدبر ثالثة‪ :‬املنافقون‪ ،‬والكافرون‪ ،‬ومجيع املؤمنني‪،‬‬
‫وعىل ذلك فاملخاطبون بالتدبر أكثر من املتأولني‪ ،‬فالتدبر يف القرآن متاح للجميع ممن‬

‫‪ ،‬كام ُح ِك َي عنه يف قوله‬ ‫نبيا من أنبياء اهلل‪ ،‬وهو يوسف‬


‫() أما املؤِّ ول يف بقية السور؛ فهو َّإما ًّ‬
‫تعاىل‪ :‬ﱫﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﱪ [يوسف‪ ،] 36:‬وإما عبدً ا من عباده الصاحلني عىل‬
‫أرجح األقوال‪ ،‬وهو اخلرض‪ ،‬كام يف قوله تعاىل‪ :‬ﱫﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﱪ [الكهف‪:‬‬
‫‪.]78‬‬

‫‪202‬‬
‫يملكون أدوات التدبر ورشوطه‪ ،‬والتأويل ملتشابه القرآن حمصور يف الراسخني يف‬
‫العلم مثل‪ :‬عبد اهلل ابن عباس الذي دعا له املصطفى × بذلك يف قوله‪« :‬اللهم فقهه‬
‫يف الدين وعلمه التأويل «()‪ ،‬وغريه من الراسخني يف العلم‪.‬‬
‫‪ -5‬التأويل قسامن‪:‬‬
‫األول‪ :‬تأويل مذموم‪ ،‬وهو الذي يتتبع اآليات املتشاهبة‪ ،‬ويفرسها عىل هواه‪ ،‬وما‬
‫يشتهيه‪ ،‬وهذا ال يقع إال من الذين يف قلوهبم زيغ فهم الذين يتتبعون املتشابه قصدا‬
‫للفتنة والتشكيك واإلضالل‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬تأويل حممود‪ ،‬وهو الشق الثاين من املتشاهبات الذي يدركه الراسخون يف‬
‫العلم‪ ،‬وهؤالء ال يتتبعون املتشابه طلبا للفتنة‪ ،‬والتلبيس والضاللة‪ ،‬أو طلبا للتأويل‬
‫حسب اهلوى كام يفعل الزائغون بل يتتبعونه بغرض فهمه وتفسريه‪ ،‬وبيان احلكمة‬
‫للناس يف وروده‪.‬‬
‫وهذا التأويل املحمود يرتبط ارتباطا وثيقا بالتدبر‪ ،‬فمن ال يتدبر اآلية بقلبه فلن‬
‫يفهم املقصود منها‪ ،‬ولن يستطيع رد املتشابه إىل املحكم‪.‬‬
‫نستنتج مما سبق أن الصلة بني التدبر‪ ،‬والتأويل صلة وثيقة جدا‪ ،‬فالذي يعلم‬
‫‪ ،‬وبعض األنبياء‪ ،‬وبعض عباده الصاحلني‪ ،‬والراسخون‬ ‫التأويل بوجه عام هو اهلل‬
‫كام يف‬ ‫عىل حسب االختالف يف معنى التأويل‪ ،‬والذي ُيد ِّب ُر األمر كله هو اهلل‬
‫قوله تعاىل‪ :‬ﱫ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﱪ [السجدة‪ ،]5:‬واملالئكة كام يف قوله‬
‫مر تفصيلاً ‪.‬‬
‫تعاىل‪ :‬ﱫ ﮮ ﮯﱪ [النازعات‪ ،]٥:‬كام َّ‬
‫والذي يتدبر القرآن حق التدبر هو الرسول ×‪ ،‬واملؤمنون (العباد الصاحلون)‪،‬‬

‫() فتح الباري رشح صحيح البخاري للعسقالين ‪ ،170/1‬دار املعرفة‪ ،‬بريوت ‪1379‬هـ‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫فهذا مناط االلتقاء بني التأويل‪ ،‬والتدبر من جهة الفاعل‪.‬‬
‫كام يتفقان من جهة املفعول يف أن املؤَّ ول واملتد َّبر هو القرآن الكريم‪ ،‬ولكنهام‬
‫املؤ َول يف القرآن هو املتشابه‪ ،‬واملتد َّبر يشمل مجيع القرآن املحكم‬
‫خيتلفان من جهة أن َّ‬
‫واملتشابه‪.‬‬
‫ولكنهام خيتلفان من جهة أن التدبر يف القرآن مطلوب من اجلميع كافرين‬
‫ومنافقني ومؤمنني‪ ،‬أي‪ :‬جلميع اخلالئق أمجعني‪ ،‬بينام التأول يف أحد معنييه ٌ‬
‫وقف عىل‬
‫الراسخني يف العلم مثل حرب األمة ابن عباس الذي دعا له املصطفى × بذلك كام‬
‫مر‪ ،‬فالتدبر عىل ذلك أعم من التأويل كام ترى‪ ،‬وبذلك يلتقي التأويل بالتدبر من‬
‫جهات‪ ،‬وخيتلف معه من جهات ُأ َخر‪.‬‬
‫وبذلك نصل إىل أن القرآن الكريم مادام يستخدم لفظة دون غريها فهذا دليل‬
‫عىل أن هلا معنى خيالف غريها‪ ،‬وال يمكن أن تكون داللتها مطابقة لداللة غريها‪،‬‬
‫قد تتقارب معها يف بعض األحوال‪ ،‬ولكنها ال تتطابق البتة‪ ،‬وهذا ما يؤكد عليه‬
‫هذا البحث‪ ،‬ويدعو ألن يكون القرآن قدوتنا يف اختيار التعبريات واألساليب التي‬
‫نستخدمها؛ ألن مناط االختالف بني األمم واألفراد هو عدم حتديد املصطلح‪ ،‬وعدم‬
‫فهم اآلخر فهام جيدا‪ ،‬فإذا أرسيت تلك القاعدة أوال‪ ،‬وفهمنا املصطلح الذي يدور‬
‫حوله احلديث اقرتبت األفهام‪ ،‬وتواصل الناس بوضوح‪ ،‬وابتعدوا أو اقرتبوا عىل‬
‫هذا األساس‪.‬‬
‫***‬
‫ثان ًيا‪ :‬العالقة بني االستنباط والتدبر‪:‬‬
‫تكشف لنا من خالل التحليل البالغي لتلك اآلية اآليت‪:‬‬

‫‪204‬‬
‫‪ -1‬ورد االستنباط يف الذكر احلكيم بصيغة الفعل املضارع املتصل به واو اجلامعة‬
‫املرفوع بثبوت النون من األفعال اخلمسة‪ ،‬وهو يف تلك اجلهة يتفق مع التدبر متاما‪،‬‬
‫فكالمها وردا عىل هذا املنوال (يستنبطون)‪ ( ،‬يتدبرون) ولكن االستنباط من حيث‬
‫االشتقاق خيتلف عنه يف أمرين‪:‬‬
‫(اس َت ْن َب َط)‪ ،‬واأللـف والسني والتاء فيه‬
‫األول‪ :‬أنه مأخـوذ من املايض السدايس ْ‬
‫ُّ‬
‫تدل عىل الطلب واملشقة واملعاناة الفكرية‪ ،‬أي‪ :‬أن املستنبط يبذل جهده‪ ،‬ويعمل عقله‬
‫ليصل ملراده كام حيصل املستنبط عىل املاء من قعر البئر بالصرب والتكلف‪ ،‬واملعاناة‬
‫وبذل اجلهد‪ ،‬أما التدبر فقد صيغ من املايض اخلاميس (تَدَ َّبر) الذي يدل عىل التدرج‬
‫والتتبع‪ ،‬وبني الداللتني فرق واضح‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬لفظة االستنباط فريدة وحيدة يف القرآن مادة وصيغة بخالف التدبر فقد‬
‫تكرر أربع مرات عىل نحو ما بينا‪.‬‬
‫‪ -2‬االستنباط يف هذه اآلية استعمل جمازا حيث انتقل من املعنى احليس‪ ،‬وهو‬
‫استنباط املاء من البئر إىل داللة معنوية‪ ،‬وهو استخراج األخبار اخلفية من معادهنا‪،‬‬
‫والوقوف عىل حقائقها عىل سبيل االستعارة الترصحيية التبعية أو املكنية كام بينا‪،‬‬
‫عكس التدبر فقد استخدم يف معناه احلقيقي األصيل‪.‬‬
‫‪ -3‬واو اجلامعة يف الفعل (يستنبطون) خمتلف فيها عىل رأيني‪:‬‬
‫األول‪ :‬تعود عىل الرسول ×‪ ،‬وأويل األمر (من األمراء والعلامء وكبار‬
‫الصحابة)‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬تعود عىل املنافقني فهم املذيعون لألراجيف وهم املستنبطون كذلك‪،‬‬
‫والراجح األول كام بينا‪ ،‬وعىل ذلك فهم املستنبطون لألخبار اخلفية والدقيقة يف أمر‬

‫‪205‬‬
‫احلرب والسلم‪ ،‬وهم املنوط هبم إذاعتها من عدمها حسبام يرتاءى هلم‪.‬‬
‫واو اجلامعة يف الفعل (يتدبرون) تعود يف آيتي (النساء) و(حممد) عىل املنافقني‪،‬‬
‫ويف آية (املؤمنون) عىل الكافرين‪ ،‬ويف آية (ص) عىل املؤمنني فاملدعوون للتدبر ثالث‬
‫طوائف‪ :‬املنافقون‪ ،‬والكافرون‪ ،‬ومجيع املؤمنني‪ ،‬وعىل ذلك فاملخاطبون بالتدبر أكثر‬
‫من املستنبطني؛ ألن التدبر مطلوب من كافـة الناس باختالف مشارهبـم‪ ،‬بخالف‬
‫االستنباط؛ فإنه ال يكـون للكافة بل خيتص كام حكى القرآن بالرسول × ()‪،‬‬
‫وأويل األمر ( العلامء والوالة وأهل البصائر) فهـؤالء طوائف خاصة‪ ،‬وليسوا عامـة‬
‫املؤمنني‪ ،‬وهذا هو وجـه املفارقة بينهام من تلك اجلهة‪.‬‬
‫‪ -4‬ا ُمل ْس َت ْن َب ُط‪ ،‬أي‪ :‬الواقع عليه االستنباط يف اآلية هو األخبار اخلفية الدقيقة من‬
‫األمن واخلوف‪ ،‬أو من أمر ( احلرب والسلم ) فاالستنباط هنا ‪-‬كام هو جيل‪ -‬مل يتعلق‬
‫بآية من آيات القرآن مل يفهمها املنافقون فهام صحيحا بل هو متعلق بعدم الوقوف‬
‫عىل حقيقة األخبار التي يتناقلها بعض الناس بدون فهم أو روية‪ ،‬ويفشوهنا‪ ،‬وال‬
‫يعرفون حقائقها‪ ،‬ولو ترك املنافقون هذا األمر ألهله الستنبطوه‪ ،‬ووضعـوا األمور‬
‫يف نصاهبا‪ ،‬وأدركوا حقائق األخبار املتناقلة‪ ،‬وهل هي مما تذاع وتنرش أم ال؟‬
‫وا ُملت ََد َّبر‪ ،‬أي‪ :‬الواقع عليه التدبر هو القرآن بوجه عام السيام املقاصد األصلية‬
‫من آيات العقائد والرشائع التي ترشد الكافـرين إىل اإليامن باهلل ‪ ،‬وختلع املنافقني‬
‫عن النفاق‪ ،‬وجتعلهم يقرون بصحة النبوة‪ ،‬وأن القرآن من عند اهلل‪ ،‬ومن ثم فاملس َت ْن َب ُط‬

‫() االستنباط حمصور يف الرسول × يف حال حياته ومعه أولو األمر‪ ،‬وهو ممتدٌّ بعد وفاته ×‬
‫يف أويل األمر يف ِّ‬
‫كل املجتمعات اإلسالمية؛ ألهنم الذين يقفون عىل حقائق األمور‪ ،‬ويعرفون ُكنه‬
‫األخبار التي قد تكون سب ًبا يف املفسدة‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫أخص من ا ُمل َتدَ َّبر؛ ألنه واقع عىل األخبار اخلفية التي جيب أن يستخرجها أعلم الناس‬
‫َ‬
‫واملتد َّبر هو الذكر احلكيم بوجه عام‪.‬‬ ‫بحقائقها‪،‬‬
‫وهنا يلوح لنا أمران مهامن جدًّ ا‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن هناك عالقة وثيقة جدًّ ا بني املتدبرين واملستنبطني‪ ،‬فاملستنبطون‬
‫يستخرجون ما خفي ودق من األخبار ويقفون عىل صحتها‪ ،‬ويقررون هل هي‬
‫حرصا عىل األمن القومي للبالد باللغة‬
‫ً‬ ‫رسا؛‬
‫مما تنرش وتذاع عىل العامة أم تظل ًّ‬
‫املعارصة؟‬
‫واملتدبرون ال يتدبرون إال ما حيتاج يف إدراكه إىل تأمل وتفكر وإنعام نظر؛‬
‫ليستخرج خفيه‪ ،‬ويوقف عىل حقيقته‪ ،‬فالتدبر عىل ذلك ُيعدُّ أص ً‬
‫ال أصيال لالستنباط؛‬
‫ألن الذي يستنبط األمور اخلفية‪ ،‬واملسائل الدقيقة ال بد أن يتدبر ويتأمل فيها أوال‪،‬‬
‫وعىل ذلك فالتدبر أعم‪ ،‬واالستنباط أخص ألنه نتيجة من نتائج التدبر‪ ،‬فالتدبر يؤدي‬
‫حتماً إىل االستنباط‪ ،‬واالستنباط حيتاج إىل التفكر والتدبر‪ ،‬وقديام قال اإلمام الشافعي‬
‫رمحه اهلل‪«« :‬استعينوا عىل الكالم بالصمت وعىل االستنباط بالفكرة»»()‪.‬‬
‫ويزخر تراثنا العظيم بكثري من العلامء‪ ،‬والفقهاء‪ ،‬والقضاة‪ ،‬وأصحاب البصائر‬
‫الستنباط كثري من املسائل اخلفية‪ ،‬وإزاحة الركام عن القضايا‬ ‫الذين و َّف َق ُهم املوىل‬
‫الشائكة التي خفيت عىل غريهم‪ ،‬وكانت سبب فتنة وبلبلة يف شتى صنوف العلوم‬
‫ونحوا‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬وما ذلك إال‬
‫ً‬ ‫وفقها وبالغ ًة‬
‫ً‬ ‫ريا وحدي ًثا‬
‫واملعارف عقيدة وتفس ً‬
‫بفضل ونتيجة التدبر والتفكر‪.‬‬
‫األمر الثاين‪ :‬املس َت ْن َب ُط يف اآلية‪ ،‬أي‪ :‬الواقع عليه االستنباط هو ما خفي ودق من‬

‫() مفتاح دار السعادة ‪.180/1‬‬

‫‪207‬‬
‫أمر احلرب والسلم‪ ،‬أو اخلوف واألمن كام دل السياق بوضوح‪ ،‬ومن ثم فإن معنى‬
‫االستنباط الوارد يف تلك اآلية ال ينطبق بحال من األحوال عىل معنى االستنباط عند‬
‫األصوليني‪.‬‬
‫فاالستنباط يف قوهلـم‪« :‬استن َب َط ال َف ِقي ُه‪ :‬إِذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده‬
‫وفه ِمه‪ )(»...‬ليس عليه نص من اآلية‪ ،‬وليس مستعمال يف القرآن هبذا املعنى الوارد‬
‫عندهم‪ ،‬ونحن هنا ال نعرتض بطبيعة احلال عىل جواز القياس واالستنباط‪ ،‬فهذا‬
‫من أصول الرشيعة التي ال ينبغي ألحد رفضها بحال من األحوال‪ ،‬إنام اعرتاضنا‬
‫أن نسقط مصطلحات األصوليني‪ ،‬وغريهم عىل معنى االستنباط يف اآلية‪ ،‬وكأنه هو‬
‫نصا‪.‬‬
‫املعنى املراد منها ًّ‬
‫نعم جيوز أن نقول‪ :‬إن مصطلح االستنباط عند األصوليني متكئ عىل املعنى‬
‫اللغوي‪ ،‬ومبني عليه‪ ،‬وهو يعد من قبيل االستعارة التبعية أو املكنية؛ من هذا املعنى‬
‫نصا‪ ،‬وغاية ما هنالـك‬
‫اللغوي احلقيقـي السابق‪ ،‬ولكنه ليس منصوصا عليه يف اآلية ًّ‬
‫أن هذا من مصطلحات األصوليني الفنية التي وضعوها داللة عىل املعنى املراد به‬
‫عندهم‪.‬‬
‫وعىل ذلك فإن ما استدل به اجلصاص يف قوله‪« :‬يف هذه اآلية داللة عىل وجوب‬
‫القول بالقياس‪ ،‬واجتهاد الرأي يف أحكام احلوادث؛ وذلك ألنه أمر بر ِّد احلوادث‬
‫إىل الرسول يف حياته إذا كانوا بحرضته‪ ،‬وإىل العلامء بعد وفاته والغيبة عن حرضته‪،‬‬
‫وهذا ال حمالة فيام ال نص فيه؛ ألن املنصوص عليه ال حيتاج إىل استنباطه‪ ،‬فثبت بذلك‬
‫َّ‬
‫أن من أحكام اهلل ما هو منصوص عليه‪ ،‬ومنها هو مودع يف النص قد كلفنا الوصول‬

‫() لسان العرب ‪ ،410/ 7‬وانظر‪ :‬مفاتيح الغيب للرازي ‪.336/9‬‬

‫‪208‬‬
‫إىل االستدالل عليه واستنباطه»() ال يصح؛ ألن اآلية ال تدل كام رأينا عىل االستنباط‬
‫هبذا املعنى احلـادث عند األصوليني‪ ،‬لكنه مفهوم من فحوى الكالم‪ ،‬ومستتبعات‬
‫الرتاكيب عىل أقىص تقدير‪ ،‬ومن ثم فنحن نؤيد ما ذهب إليه الشيخ رشيد رضا حني‬
‫رفض هذا بشدة كام مر يف موضعه‪.‬‬
‫***‬
‫ثال ًثا‪ :‬العالقة بني الفهم والتدبر‪:‬‬
‫تكشف لنا من خالل التحليل البالغي لآلية التي ورد فيها مصطلح التفهيم‬
‫اآليت‪:‬‬
‫‪ -1‬ورد الفهم يف الذكر احلكيم بصيغة املايض املضعف العني « َف َّه َم» وآثرت‬
‫اآلية الكريمة هذا املايض الرباعي عىل املايض الثالثي ( َف ِه َم)؛ ألن الثالثي سيعكس‬
‫املطلوب حيث يوحي بأن القضية قد فهمها سليامن من تلقاء نفسه‪ ،‬وهذا غري مراد؛‬
‫هو الذي َف َّه َم َها له بأي طريقة من طرق التفهيم التي بيناها هناك‪.‬‬ ‫ألن املوىل‬
‫عالوة عىل أن الفهم مصدر الثالثي ( َف ِه َم) إنام يكون بالفطرة‪ ،‬فكل من كان‬
‫عاقال فهو يفهم ما حوله ويدركه عىل قدر علمه وعقله وسعة مداركه‪ ،‬وهذه قضية‬
‫بدهية ال تعرض هلا تلك اآلية هنا‪.‬‬
‫كام آثرت اآلية الكريمة « َف َّه َم» عىل أفهم؛ للداللة عىل التكثري‪ ،‬أي‪ :‬أن سليامن‬
‫‪.‬‬ ‫كان أكثر‪ ،‬وأعمق فهام لتلك القضية من أبيه داود‬
‫فضلاً عن سالسة وعذوبة وقوة هذه اللفظة عند النطق هبا مع الضامئر الواردة‬

‫() أحكام القرآن للجصاص ‪ ،183/3‬وانظر‪ :‬البحر املحيط ‪ ،306/3‬ومفاتيح الغيب ‪/9‬‬
‫‪ ،339-337‬وتفسريالقرطبي ‪ ،292/5‬وفتح البيان ‪.330/2‬‬

‫‪209‬‬
‫معها بخالف أفهم كام أوضحنا هناك‪.‬‬
‫أما التدبر فقد ورد بصيغة املضارع من املايض اخلاميس «تَدَ َّب َر»‪ ،‬وهبذا يتفقان يف‬
‫كون ٍّ‬
‫كل منهام وردا من املايض غري الثالثي‪ ،‬ولكنهام خيتلفان يف ثالثة أمور‪:‬‬
‫األول‪ :‬الفعل الرباعي « َف َّه َم» تعدي ملفعولني‪ ،‬املفعول األول سليامن والثاين‬
‫سليامن القضي َة»‪ ،‬و«تَدَ َّب َر» تعدى ملفعول واحد‬
‫َ‬ ‫القضية‪ ،‬وتقدير الكالم‪َ « :‬ف َّه َم اهلل‬
‫هو‪ :‬القرآن‪ ،‬والقول‪ ،‬وآيات الكتاب عىل اختالف املواضع‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬الفعل املايض الرباعي أفاد التكثري كام مىض‪ ،‬بخالف «تَدَ َّب َر» الذي يدل‬
‫عىل التتبع والتدرج‪ ،‬وليس عىل الكثرة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الفعل املايض الرباعي َّ‬
‫«فهم» فعل فريد وحيد يف القرآن الكريم مادة‬
‫وصيغة عكس التدبر فقد ورد يف مواطن عديدة كام ذكرنا‪.‬‬
‫‪ -2‬ا ُمل َف ِّهم يف اآلية‪ ،‬أي‪ :‬الفاعل هو اهلل ‪ ،‬وقد ورد احلديث عنه بضمري‬
‫كان منة عظيمة من رب جليل‬ ‫العظمة «نا «داللة عىل أن هذا التفهيم لسليامن‬
‫عظيم‪ ،‬والفاعل يف التدبر هم الطوائف الثالثة‪ ،‬واحلديث عنهم ورد بواو اجلامعة‬
‫لكل طائفة‪ ،‬وفـرق بني ا ُمل َف ِّه ُم وهو اهلل ‪ ،‬وا ُمل َتدَ ِّبرون وهم هذه الطوائف الثالثة‬
‫عىل اختالف مشارهبا ‪.‬‬
‫‪ -3‬ا ُمل َف َّه ُم‪ ،‬أي‪ :‬الواقع عليه التفهيم يف هذه اآلية متثل يف شيئني‪:‬‬
‫فهو الذي وقع عليه التفهيم؛ ألنه مفعول أول للفعل « َف َّهم»‪،‬‬ ‫األول‪ :‬سليامن‬
‫والتفهيم بذلك وقع عىل االبن دون األب‪ ،‬ويف هذا إشارة إىل أن هـذا التفهيم كان‬
‫‪ ،‬وأنه ال يرتبط بصغر‪ ،‬أو كرب‪،‬‬ ‫عىل عبده سليامن‬ ‫منحة وهبة وامتنانا من املوىل‬
‫أو أفضلية‪ ،‬وبالقياس فإن التفهيم من رب العاملني للقضايا الشائكة يقع كذلك عىل‬

‫‪210‬‬
‫عليهم بذلك‪.‬‬ ‫املؤمنني من عباده الصاحلني الذين يمتن املوىل‬
‫الثاين‪ :‬القضية املتنازع عليها هي التي وقع عليها التفهيم؛ ألهنا مفعول ثان للفعل‬
‫« َف َّهم»‪ ،‬فالتفهيم وقع عىل أمر دنيوي مما يتصل بالزرع واحلرث‪ ،‬وهي قضية حياتية‬
‫متس حياة الناس‪ ،‬ويالحظ أهنا كانت من األمور العويصة‪ ،‬والقضايا الشائكة‪،‬‬
‫بحكم خالف احلكم الذي حكم‬ ‫واملسائل اخلفية الدقيقة حيث حكـم فيها داود‬
‫؛ ألن رب العاملني نسبه‬ ‫‪ ،‬ولذا كان التفهيم هنا بإهلا ٍم لسليامن‬ ‫به سليامن‬
‫لنفسه بنون العظمة يف قوله‪َ « :‬ف َف َّه ْمن َ‬
‫َاها»‪ ،‬وهبذا يعلم الفرق بني من فهمه اهلل يف تلك‬
‫صار أقدر عىل‬ ‫هلا‪ ،‬فمن فهمه اهلل‬ ‫القضية بعينها‪ ،‬ومن مل يقع عليه تفهيم اهلل‬
‫اإلتيان باحلكم الصائب بعينه كام مر‪.‬‬
‫أما التدبر فقد وقع عىل القرآن الكريم بام فيه من أمور دنيوية وأخروية وعىل ذلك‬
‫فالواقع عليه التدبر أشمل وأعم‪ ،‬والواقع عليه الفهم أخص؛ ألن التدبر يقع عىل كل‬
‫املعاين املستكنة يف القرآن الكريم دنيوية وأخروية‪ ،‬والتفهيم اختص بالقضايا الشائكة‬
‫واملسائل العويصة التي هي غاية يف اللطف واخلفاء‪.‬‬
‫وبينهام ً‬
‫أيضا مغايرة من جهة أخرى‪ ،‬فالتدبر يف القرآن واقع عىل العبارات‬
‫واألساليب مقروءة ومسموعة ومكتوبة‪ ،‬والتفهيم واقع عىل قضية دنيوية‬
‫حياتية‪.‬‬
‫وتبدو العالقة يف هذا القسم واضحة جدا بني التدبر والفهم؛ ألن مناط الفهم‬
‫العقل والعلم واملعرفة‪ ،‬وهذه األمور من األساسيات التي جيب أن تتوافر يف املتدبر؛‬
‫فالفهم يكون نتيجة للتدبر‪ ،‬وهل نتدبر شيئًا إال بعد فهمه ومعرفته‪ ،‬والوقوف عىل‬
‫حقيقته اللغوية واملراد منه؟ فاملتدبر يف األمور جيب أن يتوافر فيه الفهم واملعرفة حتى‬

‫‪211‬‬
‫يصل ملا يريد من احلقائق‪.‬‬
‫وهكذا فقد استبان لنا من خالل الذكر احلكيم ذاته ال من كالم خارج عنه ما‬
‫بني هذين املصطلحني من فروق وصالت‪ ،‬وهذا ما نؤكد عليه مرارا يف أن الذكر‬
‫احلكيم جيب أن يكون غايتنا‪ ،‬ومنطلقنا يف الكشف عن الفروق والصالت الكائنة‬
‫يراع إبراز هذه‬
‫بني املصطلحات التي استعملها ال من كالم خارج عنه من أي عامل مل ِ‬
‫الفروق من واقع النظم والرتكيب والسياقات‪.‬‬
‫***‬
‫رابعا‪ :‬العالقة بني التفسري والتدبر‪:‬‬
‫ً‬
‫من خالل التحليل البالغي آلية سورة (الفرقان) التي ورد فيها هذا املصطلح‬
‫بدت لنا فروق وعالئق بني هذين املصطلحني عىل النحو اآليت‪:‬‬
‫‪ -1‬ورد (التفسري) يف الذكر احلكيم مصدرا من الفعل املايض الرباعي املضعف‬
‫العني «فسرَّ »()‪.‬‬
‫بخالف التدبر‪ ،‬فقـد ورد فعال مضارعا من الفعل املـايض اخلاميس «تد َّبر» فهو‬
‫خيتلف عنه من تلك اجلهة‪.‬‬
‫‪ -2‬التفسري() لفظة فريدة وحيدة يف القرآن الكريم مادة وصيغة كاالستنباط‬
‫والتفهيم‪ ،‬عكس التدبر فقد ورد يف مواطن عديدة كام ذكرنا‪.‬‬

‫() يتفق التأويل يف صياغته مع التفسري متا ًما‪ ،‬فكل منهام ورد من املايض الرباعي املضعف العني‬
‫(التفسري) من «ف »‪ ،‬و(التأويل) من َ‬
‫«أ َّول»‪.‬‬ ‫سرَّ‬
‫مرة‪ ،‬وهذا يؤكد عىل أن بينهام فرو ًقا‬
‫() التأويل عكس التفسري‪ ،‬فقد ورد يف القرآن سبع عرشة َّ‬
‫فرقوا به‪ ،‬مما ال جمال‬
‫مر بيانه‪ ،-‬برصف النظر عن صحة ما َّ‬
‫يف املعنى‪ ،‬أطال املفرسون بذكرها ‪-‬كام َّ‬
‫لذكره هنا‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫‪ -3‬التفسري يف القرآن وقع متييزا ألحسن ()‪ ،‬وفائدة التمييز إزالة اإلهبام الكامن‬
‫يف اللفظ املميز‪ ،‬والنص عىل املراد منه‪ ،‬ومل يرد التدبر مطل ًقا عىل هذا الوضع اإلعرايب‬
‫مضارعا مسبو ًقا باالستفهام اإلنكاري ثالث مرات‪ ،‬مرتني يف خطاب‬
‫ً‬ ‫بل جاء فعلاً‬
‫املنافقني‪ ،‬ومرة يف خطاب الكافرين‪ ،‬وهو يف هذه املواضع الثالثة جاء منف ًيا بأداة النفي‬
‫(ال) مع املنافقني مرتني‪ ،‬وبأداة النفي واجلزم والقلب (مل) مع الكافرين مرة واحدة‪،‬‬
‫وجاء مسبو ًقا بالم التعليل مع املؤمنني مرة واحدة‪ ،‬وبذلك خيتلف املوقع اإلعرايب‬
‫لكل منهام‪ ،‬ومن ثم اختلف الغرض من التعبري هبام؛ ألن اإلعراب فرع املعنى‪ ،‬ولذا‬
‫فقد أنكر عىل املنافقني والكافرين عدم التدبر‪ ،‬وحثهم عليه‪ ،‬وجعل العلة من نزوله‬
‫تدبر املؤمنني فيه‪ .‬فالتدبر صار كأنه فرض الزب عىل هؤالء‪ ،‬بخالف التفسري فليس‬
‫كذلك كام يشري إليه املوقع اإلعرايب‪.‬‬
‫‪ -4‬التفسري استعمل يف تلك اآلية عىل حقيقته اللغوية () من الكشف والبيان‬

‫() يتفق التأويل مع التفسري يف جميئه عىل هذه احلالة اإلعرابية متييزً ا ألحسن يف موضعني يف‬
‫قوله تعاىل‪ :‬ﱫﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ‬
‫ﰒﱪ [النساء‪.]59:‬‬
‫وقوله‪ :‬ﱫﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﱪ [اإلرساء‪،]35:‬‬
‫وهذا من التقاء التأويل مع التفسري من تلك اجلهة‪.‬‬
‫() ي َّتفق التأويل يف آية آل عمران يف معناه اللغوي ‪-‬وهو اإلرجاع وبيان العاقبة واملصري‪ -‬مع‬
‫التفسري الذي استعمل ً‬
‫أيضا يف معناه احلقيقي‪ ،‬ولكن من خالل التحليل البالغي اتَّضح لنا أن التأويل‬
‫خيتلف عن التفسري من جهة َّ‬
‫أن التأويل هو الكشف عن املتشاهبات التي حتتمل دالالت كثرية‪ ،‬والتفسري‬
‫هو الكشف عن معنى اللفظ حقيقة أو ً‬
‫جمازا‪ ،‬أو هو الكشف عن معنى اللفظ املحتمل معنًى واحدً ا‪.‬‬
‫والتأويل هو الوقوف عىل حقائق األمور وكيفياهتا‪ ،‬وهذا ال يعلمه إال املوىل ‪ ،‬بخالف التفسري؛ فهو‬
‫الكشف عن يشء ًّ‬
‫مغطى يمكن اإلحاطة به‪ ،‬وعلمه من خالل مقارنته بغريه‪ ،‬كتفسري القرآن بالقرآن‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫واإليضاح‪ ،‬والتدبر استعمل كذلك يف حقيقته اللغوية‪ ،‬فهام يتفقان من تلك اجلهة‪.‬‬
‫ومن يتأمل يف هذين التعريفني جيد بينهام تالزما واضحا؛ ألن التفسري هو البيان‬
‫والكشف عن املعنى‪ ،‬والتدبر هو النظر يف أدبار اآليات القرآنية وعواقبها للوقوف عىل‬
‫معانيها املكنونة فيها‪ ،‬فالتفسري عىل ذلك وسيلة‪ ،‬والتدبر غاية كام أبانت عنه آية سورة‬
‫(ص)‪ :‬ﱫ ﭲ ﭳ ﭴﭵﭶ ﭷ ﱪ فتدبره هو الغاية من نزوله كي يتمثل به‬
‫قوال‪ ،‬وينتفع به سلوكا وعمال‪ ،‬ولن يتأتى االنتفاع واالمتثال‪ ،‬واالتعاظ واالعتبار‪ ،‬وهي‬
‫من مقاصد التدبر إال بعد فهم معانيه‪ ،‬فاملتدبر ال بد أن يفهم معاين األلفاظ‪ ،‬وتتضح لديه‬
‫دالالهتا حتى يتدبر يف مكنوناهتا وما يعقبها‪ ،‬وعىل ذلك فالتدبر يعد أصلاً للتفسري‪.‬‬
‫‪ -5‬الذي جاء بأحسن التفسيـر ‪-‬مقابل ما يأيت به الكفرة من زخرف القول وهبرجه‪-‬‬
‫‪ :‬ﱫ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﱪ‪ ،‬فضمري العظمة‬ ‫مصدا ًقا لقوله‬ ‫هو املوىل‬
‫() يف جئناك يدل عىل ذلك بوضوح‪ ،‬فالذي يكشف أحسن الكشف‪ ،‬ويبني عن الغرض‬
‫فأسنده إليه وحده‪ ،‬ومل يسند لسواه‪ ،‬ولذا كان القرآن معجزا؛‬ ‫أعظم البيان هو اهلل‬
‫وإيضاحا ومعنى مما يأتون به‪ ،‬أما الذي يأيت بالتدبر أو‬
‫ً‬ ‫ألنه أحسن نظام وبيا ًنا وتفصيلاً‬
‫الذي يتدبر فهم هؤالء الطوائف الثالثة كام بينا‪ ،‬فبينهام اختالف من تلك اجلهة‪.‬‬
‫وهنا نتساءل‪ :‬هل جيوز أن ُن َس ِّم َي آخرين هبذه التسمية؟ أو بمعنى آخر هل جيوز‬
‫أن نطلق عىل الذين يكشفون عن معاين القرآن مفسرِّ ين؟ نعم بالقياس عىل ذلك‬

‫() يتفق التأويل مع التفسري هنا يف َّ‬


‫أن الذي يعلم تأويل املتشاهبات عىل حقائقها وكنهها هو‬
‫يف مقابل ما‬ ‫يف مقابل ما يدعيه الزائغون بأهنم يعلموهنا‪ ،‬والذي جاء بأحسن التفسري هو اهلل‬ ‫اهلل‬
‫يأيت به كفار قريش من أمثلة وأباطيل فاسدة لتعجيزه ×‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫موضحا له‪ُ ،‬مبينًا عنه ً‬
‫دامغا به الباطل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫جيوز‪ .‬رشيطة أن يكون املفرس كاش ًفا احلقَ ‪،‬‬
‫وما عدا ذلك ال ُي َس َّمى مفسرِّ ً ا‪ ،‬وهذا األمر هو ما جرى عليه معظم املفرسين‪ ،‬فام كان‬
‫تفسريهم للذكر احلكيم إال هلذا الغرض النبيل‪ ،‬ومن هنا يفرتق التفسري عن التدبر‬
‫فالتدبر لعامة الناس‪ ،‬والتفسري قارص عىل بعض الناس‪.‬‬
‫‪ -6‬الواقع عليه التفسري يف اآلية هو القرآن الكريم؛ ألن املعنى إال جئناك يا حممد‬
‫باحلق‪ ،‬وجئناك باألمثلة املفرسة أحسن تفسري وإيضاح وبيان‪ ،‬وما ذاك إال القرآن‪،‬‬
‫والواقع عليه التدبر هو‪ :‬القرآن مقرؤءا ومسموعا ومكتوبا كام مر فهام يلتقيان من‬
‫تلك اجلهة‪.‬‬
‫‪ -7‬وبناء عىل ما سبق ذكره يكون لدينا مصطلحان ُم ْس َت ْن َب َط ِ‬
‫ان من التفسري‪:‬‬
‫‪.‬‬ ‫األول‪ :‬ا ُمل َفسرِّ أي‪ :‬الذي يأيت بأحسن التفسري هـو اهلل‬
‫الثاين‪ :‬املفسرَّ أي‪ :‬الواقع عليه التفسري هـو القرآن الكريم‪ ،‬ويكـون لدينا كذلك‬
‫مصطلحان مستنبطان من التدبر‪:‬‬
‫األول‪ :‬املتد ِّبرون هم الطوائف الثالثة‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬املتد َّبر هو القرآن الكريم مقرؤءا ومسموعا ومكتوبا‪.‬‬
‫وبعد؛ فقد تبني لنا من عرضنا للفروق‪ ،‬والعالئق الكامنة بني هذه املصطلحات‬
‫التي عنونا هبا بحثنا هذا أن القرآن الكريم يعرب هبذه املصطلحات تعبريا غاية يف الدقة‬
‫واإلتقان‪ ،‬وال يمكن أن حيل غريها حملها البتة‪ ،‬وإن تقاربت معها من وجه أو وجوه؛‬
‫ألن كل لفظة يف القرآن الكريم بمنزلة شخص ذي صفات وسامت‪ ،‬وطبائع متيزه عن‬
‫غريه‪ ،‬وال يمكن لشخص آخر مهام تقارب مع األول يف سامته اجلسدية والعقلية أن‬

‫‪215‬‬
‫حيل حمله‪ ،‬ويكون نفسه‪ ،‬وهكذا ألفاظ الذكر احلكيم التي أنزهلا رب العاملني بميزان‬
‫دقيق‪ ،‬وقسطاس مستقيم‪.‬‬
‫ولذا يسمي القرآن من يتأمل فيه سامعا وقراءة وكتابة متدبرا‪ ،‬ومن يقف عىل‬
‫اً‬
‫متأول‪ ،‬ومن يتعرف عىل حقائق األخبار‪ ،‬ويميز بينها يكون‬ ‫متشابه القرآن يكون‬
‫ً‬
‫مستنبطا‪ ،‬ومن ُع ِّل َم الصواب يف القضايا الشائكة يكون ُم َف َّه اًم‪ ،‬ومن يكشف عن‬
‫املعاين أحسن كشف وبيان وتفصيل يكون ُم َفسرًِّ ا‪ ،‬فكل معنى اقتىض لفظة ال يمكن‬
‫لغريها أن تسد مسدها‪ ،‬وتؤدي مؤداها‪ ،‬ولو غربلنا اللغة كلها لن نجد لفظة أخرى‬
‫تصلح أن توضع موضعها‪ ،‬وحتل حملها‪.‬‬
‫وغني عن البيان ‪-‬كام تبني لنا‪ -‬أن التدبر أعم من هذه املصطلحات وأهنا كلها‬
‫داخلة حتت عباءته‪ ،‬فيا لروعة هذا الذكر احلكيم الذي يعرب بألفاظ هي مناط إعجازه‪ ،‬بام‬
‫ال يقدر اإلنس واجلن عىل أن يأتوا هبا‪ ،‬وهذا يدعونا إىل وجوب أن يكون القرآن الكريم‬
‫هو منطلقنا وغايتنا يف الكشف عن الفروق والصالت الكامنة بني ألفاظه املختلفة‪.‬‬
‫كام يدعونا إىل عدم التسليم بالتعاريف التي وضعها بعض املفرسين‪ ،‬وهي بعيدة‬
‫عن الداللة القرآنية املرادة منها‪.‬‬
‫وقد كشف لنا التحليل البالغي هنا عن املراد من تلك املصطلحات وعن الفروق‬
‫والعالئق الكامنة بينها بناء عىل ما قررناه وهو األوىل واألجدر باالتباع والقبول‪ ،‬وهلل‬
‫احلمد واملنة‪.‬‬
‫‪ ،‬وإن تكن األخرى‪ ،‬فحسبي أين‬ ‫فإن أكن قد وفقت فبفضل من املوىل‬
‫اجتهدت‪ ،‬واهلل ال يضيع أجر من أحسن عملاً ‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫فهرست أهم املصادر واملراجع‬

‫‪ -‬أحكام القرآن للجصاص‪ ،‬حتقيق حممد الصادق قمحاوي‪1412 ،‬هـ ـ‬


‫‪1992‬م‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪.‬‬
‫‪ -‬أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي ( ‪1393‬هـ )‪ ،‬إرشاف بكر‬
‫بن عبد اهلل بو زيد‪ ،‬وقف مؤسسة سليامن الراجحي‪ ،‬دار عامل الفوائد‪.‬‬
‫‪ -‬اإلكليل يف املتشابه والتأويل البن تيمية‪ ،‬خرج أحاديثه‪ ،‬وعلق عليه ‪/‬حممد‬
‫الشيمي شحاتة‪ ،‬دار اإليامن للطبع والنرش‪ ،‬اإلسكندرية‪.‬‬
‫‪ -‬اإلمام ابن تيمية وقضية التأويل د‪ /‬حممد السيد اجلليند‪ ،‬الطبعة الثالثة‪،‬‬
‫‪1403‬هـ ـ ‪1983‬م‪ ،‬رشكة مكتبات عكاظ للنرش والتوزيع‪ ،‬السعودية‪.‬‬
‫‪ -‬أيرس التفاسري أليب بكر جابر اجلزائري‪ ،‬مكتبة العلوم واحلكم‪ ،‬املدينة املنورة‪،‬‬
‫‪1419‬هـ ـ ‪1998‬م‪ ،‬توزيع دار الفكر‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫‪ -‬الربهان يف علوم القرآن لإلمام بدر الدين حممد بن عبد اهلل الزركيش‪ ،‬تعليق‬
‫‪/‬مصطفى عبد القادر عطا ‪ ،‬الطبعة األوىل‪1408 ،‬هـ ـ ‪1988‬م‪ ،‬دار الفكر للطباعة‬
‫والنرش‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬تفسري ابن باديس يف جمالس التذكري لإلمام عبد احلميد بن حممد بن باديس‬

‫‪217‬‬
‫الصنهاجي‪ ،‬مجع وترتيب د‪ /‬توفيق حممد شاهني وحممد الصالح رمضان‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1416‬هـ ـ ‪1995‬م‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬تفسري أيب السعود املسمى «إرشاد العقل السليم إىل مزايا القرآن الكريم‪،‬‬
‫الطبعة الرابعة ‪1414‬هـ ـ ‪1994‬م‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب ـ بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬تفسري البحر املحيط أليب حيان األندليس ـ الطبعة الثانية ‪1413‬هـ ـ ‪1992‬م‬
‫ـ دار الكتاب اإلسالمي‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -‬التفسري البياين للقرآن د‪ /‬عائشة عبد الرمحن‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط السابعة‪.‬‬
‫‪ -‬تفسري التحرير والتنوير‪ ،‬لإلمام الشيخ حممد الطاهر ابن عاشور ـ دار سحنون‬
‫للنرش والتوزيع ـ تونس‪.‬‬
‫‪ -‬تفسري اخلازن املسمى لباب التأويل يف معاين التنزيل‪ ،‬وهبامشه تفسري البغوي‬
‫املعروف بمعامل التنزيل‪1399 ،‬هـ ـ ‪1979‬م‪ ،‬دار الفكر‪.‬‬
‫‪ -‬تفسري روح البيان للشيخ إسامعيل حقي الربوسوي‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪،‬‬
‫ط ‪1405 ،7‬هـ ـ ‪1985‬م‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬تفسري سورة اإلخالص البن تيمية‪ ،‬تقديم زهري شفيق‪ ،‬الطبعة األوىل‬
‫‪1413‬هـ ـ ‪1993‬م‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬تفسري الشيخ الشعراوي‪ ،‬مطابع دار أخبار اليوم‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -‬تفسري الطربي املسمى «جامع البيان يف تأويل آي القرآن «أليب جعفر حممد بن‬
‫جرير الطربي ـ دار الغد العريب‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -‬تفسري غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري ـ ضبطه وخرج أحاديثه الشيخ‬
‫زكريا عمريات ـ الطبعة األوىل ‪1416‬هـ‪1996-‬م‪ ،‬دار الكتب العلمية ـ بريوت‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫‪ -‬تفسري القاسمي املسمى حماسن التأويل تأليف عالمة الشام حممد مجال الدين‬
‫القاسمي‪ ،‬حتقيق ‪ /‬حممد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬الطبعة األوىل ‪1415‬هـ ـ ‪1994‬م ‪ ،‬دار‬
‫إحياء الرتاث العريب‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬تفسري القرآن العظيم لإلمام ابن كثري‪ ،‬مكتبة الدعوة اإلسالمية‪1980 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬تفسري القرآن الكريم املسمى بالرساج املنري للخطيب الرشبيني‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫دار املعرفة للطباعة والنرش‪ ،‬بريوت ‪.‬‬
‫‪ -‬التفسري القيم البن القيم مجعه ‪ /‬حممد أويس الندوي‪ ،‬حققه ‪ /‬حممد حامد‬
‫الفقي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬تفسري املنار للشيخ رشيد رضا‪ ،‬اهليئة املرصية العامة للكتاب‪1973 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬التفسري الوسيط للقرآن الكريم‪ ،‬اإلمام األكرب د‪ /‬حممد سيد طنطاوي‪ ،‬شيخ‬
‫األزهر‪ ،‬هنضة مرص للطباعة والنرش‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬يناير ‪.1997‬‬
‫‪ -‬تلخيص البيان يف جمازات القرآن للرشيف الريض‪ ،‬الطبعة األوىل ‪1406‬هـ ـ‬
‫‪1986‬م‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬هتذيب اللغة لألزهري‪ ،‬حتقيق نخبة من العلامء‪ ،‬دار الكاتب العريب ‪1967‬م‪.‬‬
‫‪ -‬تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان للشيخ عبد الرمحن بن نارص‬
‫السعدي ( ت‪1376‬هـ ) ـ تقديم ‪ /‬الشيخ عبد اهلل بن عبد العزيز‪ ،‬والشيخ حممد‬
‫الصالح العثيمني ـ مؤسسة الرسالة‪ ،‬ط‪1420 1‬هـ ـ ‪1999‬م‪.‬‬
‫‪ -‬اجلامع ألحكام القرآن للقرطبي‪ ،‬مطبعة دار الكتب املرصية‪1940 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬اجلواهر احلسان يف تفسري القرآن للثعالبي‪ ،‬حتقيق ‪ /‬حممد الفاضيل‪ ،‬الطبعة‬
‫األوىل‪1417 ،‬هـ ـ ‪1997‬م‪ ،‬املكتبة العرصية‪ ،‬بريوت‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫‪ -‬حاشية الشهاب عىل تفسري البيضاوي‪ ،‬ضبطه الشيخ عبد الرازق املهدي‪،‬‬
‫الطبعة األوىل‪1417 ،‬هـ ـ ‪1997‬م‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬حاشية الصاوي عىل تفسري اجلاللني‪ ،‬ضبطه ‪ /‬حممد عبد السالم شاهني‪،‬‬
‫الطبعة األوىل‪1415 ،‬هـ ـ ‪1995‬م‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬حاشية حميي الدين شيخ زاده عىل تفسري البيضاوي ـ ضبطه حممد عبد القادر‬
‫شاهني‪ ،‬ط‪1419 ،1‬هـ ـ ‪1999‬م دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬دراسات جديدة يف إعجاز القرآن د‪ /‬عبد العظيم املطعني‪ ،‬الطبعة األوىل‬
‫‪1417‬هـ ـ ‪1996‬م‪ ،‬مكتبة وهبة‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -‬الدر املصون يف علوم الكتاب املكنون للسمني احللبي حتقيق د‪ /‬أمحد حممد‬
‫اخلراط ـ دار القلم ـ دمشق‪ ،‬ط األوىل ‪1414‬هـ ـ ‪ 1993‬م‪.‬‬
‫‪ -‬دالئل اإلعجاز يف علم املعاين لإلمام عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬قرأه وعلق عليه ‪/‬‬
‫الشيخ حممود حممد شاكر‪1984 ،‬م‪ ،‬مكتبة اخلانجي‪ ،‬القاهرة ‪.‬‬
‫‪ -‬روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين لأللويس ـ حتقيق ‪ /‬طه عبد‬
‫الرؤوف سعد‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬دار الغد العريب‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -‬زاد املسري يف علم التفسري البن اجلوزي (ت‪597‬هـ)‪ ،‬خرج آياته أمحد شمس‬
‫الدين‪ ،‬ط‪1414 ،1‬هـ ـ ‪1994‬م‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬صفوة التفاسري‪/‬حممد عيل الصابوين‪ ،‬طبع عىل نفقة‪ /‬السيد حسن عباس الرشبتيل‪.‬‬
‫‪ -‬الصواعق املرسلة عىل اجلهمية واملعطلة البن قيم اجلوزية‪ ،‬حتقيق د‪ /‬عيل بن حممد‬
‫الدخيل اهلل‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪1418‬هـ ـ ‪1998‬م‪ ،‬دار العاصمة للنرش والتوزيع‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫‪ -‬عمدة احلفاظ يف تفسري أرشف األلفاظ‪ ،‬للسمني احللبي ـ حققه د‪ /‬حممد‬

‫‪220‬‬
‫التونجي ـ الطبعة األوىل ‪1414‬هـ ـ ‪1993‬م ـ عامل الكتب ـ بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬فتح البيان يف مقاصد القرآن‪ ،‬للعالمة املحقق صديق حسن خان ـ دار الفكـر‬
‫العريب‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -‬فتح القدير اجلامع بني فني الرواية والدراية من علم التفسري للشوكاين ـ‬
‫حققه وخرج أحاديثه سيد إبراهيم‪ ،‬الطبعة األوىل‪1413‬هـ ـ ‪1993‬م ـ دار احلديث‪،‬‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫‪ -‬فتح القدير اجلامع بني فني الرواية والدراية من علم التفسري للشوكاين ـ دار‬
‫الفكر‪ ،‬بريوت ‪1403 ،‬هـ ـ ‪1983‬م‪.‬‬
‫‪ -‬الفتوحات اإلهلية بتوضيح تفسري اجلاللني للدقائق اخلفية‪ ،‬للعالمة اجلمـل ـ‬
‫طبع بمطبعة عيسى البايب احللبي ورشكاه‪.‬‬
‫‪ -‬الفروق يف اللغة للعسكري‪ ،‬دار اآلفاق اجلديدة‪ ،‬الطبعة اخلامسة ‪1983‬م‪.‬‬
‫‪ -‬يف ظالل القرآن للشيخ سيد قطب الطبعة السادسة ‪1398‬هـ ـ ‪1978‬م‪ ،‬دار‬
‫الرشوق‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -‬الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون األقاويل يف وجوه التأويل للزخمرشي‪،‬‬
‫رشكة مكتبة ومطبعة مصطفى البايب احللبي‪.‬‬
‫‪ -‬الكليات‪ ،‬معجم يف املصطلحات والفروق اللغوية‪ ،‬أليب البقاء الكفوي‬
‫(‪1094‬هـ) حتقيق د‪ /‬عدنان درويش ـ حممد املرصي‪ ،‬الطبعة الثانية‪1413‬هـ ـ‬
‫‪1993‬م ـ مؤسسة الرسالة‪ ،‬بريوت‬
‫‪ -‬اللباب يف علوم الكتاب البن عادل الدمشقي احلنبيل (ت بعد‪ 880‬هـ)‪ ،‬حتقيق‬
‫وتعليق الشيخ ‪/‬عادل أمحد عبد املقصود‪ ،‬الشيخ عيل حممد معوض‪ ،‬دار الكتب‬

‫‪221‬‬
‫العلمية‪ ،‬بريوت ط‪1،1419‬هـ ـ ‪1998‬م‪.‬‬
‫‪ -‬لسان العرب البن منظور‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬جمموع فتاوى اإلمام ابن تيمية‪ ،‬مجع وترتيب ‪ /‬عبد الرمحن بن حممد بن قاسم‪،‬‬
‫مكتبة املعارف‪ ،‬الرباط‪ ،‬املغرب‪.‬‬
‫‪ -‬املحرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز البن عطية األندليس‪ ،‬حتقيق املجلس‬
‫العلمي بتارودانت ـ ‪1397‬هـ ـ ‪1977‬م‪.‬‬
‫‪ -‬املحرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز البن عطية األندليس‪ ،‬حتقيق املجلس‬
‫العلمي بفاس ـ ‪1411‬هـ ـ ‪1991‬م‪.‬‬
‫‪ -‬مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي‪ ،‬حتقيق الشيخ مروان حممد الشعار‪،‬‬
‫الطبعة األوىل ‪1416‬هـ ـ ‪1996‬م‪ ،‬دار النفائس‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬املصباح املنري للفيومي‪1990 ،‬م‪ ،‬مكتبة لبنان‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬معجم مفردات ألفاظ القرآن للعالمة الراغب األصفهاين حتقيق ‪ /‬نديم‬
‫مرعشيل‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬املعجم املفهرس أللفاظ القرآن الكريم ـ وضعه حممد فؤاد عبد الباقي‪،‬‬
‫‪1407‬هـ ـ ‪1987‬م‪ ،‬دار الفكر ـ بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬معجم املقاييس يف اللغة البن فارس‪ ،‬حققه ‪ /‬شهاب الدين أبو عمرو‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1415‬هـ ـ ‪1994‬م‪ ،‬دار الفكر للطباعة والنرش‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬املعجم الوسيط ـ جممع اللغة العربية بالقاهرة ـ الطبعة الثالثة‪.‬‬
‫‪ -‬معاين القرآن لألخفش األوسط ( ت‪215‬هـ)‪ ،‬حققه‪ /‬د فائز فارس‪ ،‬الطبعة‬
‫األوىل ‪1400‬هـ ـ ‪1979‬م‪ ،‬املطبعة العرصية الكويتية‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫‪ -‬معاين القرآن وإعرابه للزجاج‪ ،‬حتقيق د‪ /‬عبد اجلليل شلبي‪ ،‬عامل الكتب‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل ‪1408‬هـ ـ ‪1988‬م‪.‬‬
‫‪ -‬معاين القرآن للفراء‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1980‬م‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬معاين القرآن للنحاس‪ ،‬حتقيق الشيخ‪ /‬حممد عيل الصابوين ‪ ،‬مركز إحياء‬
‫الرتاث‪ ،‬مكة املكرمة‪.‬‬
‫‪ -‬مغني اللبيب البن هشام حتقيق د‪ /‬عبد اللطيف حممد اخلطيب‪ ،‬ط‪2000 1‬م‬
‫املجلس الوطني للفنون وللثقافة واألدب‪ ،‬الكويت‪.‬‬
‫‪ -‬مفاتيح الغيب أو التفسري الكبري لإلمام فخر الدين الرازي‪ ،‬النارش دار الغد‬
‫العريب‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -‬مفتاح دار السعادة ومنشور والية العلم واإلرادة البن قيم اجلوزية‪ ،‬النارش‬
‫مكتبة الرياض احلديثة‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫‪ -‬من األرسار البالغية يف الفرائد القرآنية للمؤلف ط‪1424 1‬هـ ـ ‪2003‬م‪.‬‬
‫‪ -‬نظم الدرر يف تناسب اآليات والسور للبقاعي ـ خرج آياته وأحاديثه‪ ،‬ووضع حواشيه‬
‫‪ /‬عبد الرازق غالب املهدي ط‪1415 1‬هـ ـ ‪1995‬م ـ دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬النكت والعيون «تفسري املاوردي «راجعه وعلق عليه ‪ /‬السيد بن عبد املقصود‬
‫بن عبد الرحيم‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت لبنان‪.‬‬
‫‪ -‬النهاية يف غريب احلديث واألثر البن األثري حتقيق د‪ /‬حممود حممد الطناحي ـ‬
‫طاهر أمحد الزاوي‪ ،‬الطبعة األوىل ‪1383‬هـ ـ ‪1963‬م‪ ،‬املكتبة اإلسالمية لصاحبها‬
‫احلاج رياض الشيخ‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫فهرست املوضوعات‬

‫‪5‬‬ ‫املقدمة‬
‫‪13‬‬ ‫املبحث األول‪ :‬األرسار البالغية يف آيات التدبر‪.‬‬
‫‪13‬‬ ‫اً‬
‫أول‪ :‬األرسار البالغية يف آية سورة النساء‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫ثان ًيا‪ :‬األرسار البالغية يف آية سورة حممد‪.‬‬
‫‪40‬‬ ‫ثال ًثا‪ :‬األرسار البالغية يف آية سورة املؤمنون‪.‬‬
‫‪52‬‬ ‫رابعا‪ :‬األرسار البالغية يف آية سورة ( ص )‬
‫ً‬
‫‪69‬‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬األرسار البالغية يف آية التأويل يف سورة آل عمران‬
‫‪115‬‬ ‫املبحث الثالث‪ :‬األرسار البالغية يف آية االستنباط يف سورة النساء‬
‫‪147‬‬ ‫املبحث الرابع‪ :‬األرسار البالغية يف آية الفهم يف سورة األنبياء‪.‬‬
‫‪171‬‬ ‫املبحث اخلامس‪ :‬األرسار البالغية يف آية التفسري يف سورة الفرقان‬
‫املبحث السادس‪ :‬أثر التحليل البالغي يف استكشاف الفروق والعالئق‬
‫‪189‬‬ ‫بني تلك املصطلحات‬
‫‪217‬‬ ‫فهرست أهم املصادر واملراجع‬
‫‪224‬‬ ‫فهرست املوضوعات‬

‫‪224‬‬

You might also like