Professional Documents
Culture Documents
فإن تأصيل العلوم الرشعية ،وتقديم الدراسات العلمية املركزة من أهم املهامت
منعا للزلل ،وجت ُّن ًبا
وختصص؛ ً
ُّ التي تعني عىل ضبط املنهجية التي حتكم مسار أي علم
للشطط.
ومع توسع مسارات العلوم الرشعية ،وتعدد ختصصاهتا كان ال بد من وجود
دراسات يف كل ختصص لتضبط أصوله ،حُ ْ
وت ِك َم فروعه ،ومن ذلك ما يتصل بعلم
تدبر القرآن الكريم ،والذي يترشف مركز تدبر القرآن بالقيام ببعض الواجب جتاه
هذا العلم العظيم عرب وسائل متنوعة ،من أمهها :طباعة ونرش الدراسات العلمية
املتخصصة التي ختدم هذا اهلدف العلم.
وما هذه الدراسة العلمية املتخصصة( :التدبر :حقيقته ،وعالقته بمصطلحات
التأويل واالستنباط والفهم والتفسري ،دراسة بالغية حتليلية عىل آيات الذكر احلكيم)
لفضيلة األستاذ الدكتور /عبداهلل عبدالغني رسحان ،األستاذ املشارك بكلية اللغة
العربية يف جامعة األزهر (القاهرة) ،وجامعة امللك خالد بأهبا إال لبنة من اللبنات
التي تضاف يف هذا النوع املتخصص من الدراسات.
تـنـــويـــه
مقدمة ..
احلمد هلل الذي َم َّن علينا بنعمة العقل والتدبر ،ووهبنا م َّن َة النظر والتفكر ،وتفضل
علينا بالفهم والتذكر ،وأمرنا بالعظة واالعتبار ،وأكرمنا باالستنباط واالختيار،
والصالة والسالم عىل خري خلق اهلل حممد بن عبد اهلل ،وعىل آله وصحبه ومن وااله.
وبعد...
فلقد تل َّقيت دعو ًة كريمة من القائمني عىل ملتقى التدبر األول الذي عقد بالرياض
يوم اخلميس1429 /6/1هـ ،املوافق2008 /6/5م ،وكان عنوان امللتقى« :التد ُّبر
حقيقته وعالقته بمصطلحات :التأويل ،واالستنباط ،والفهم ،والتفسري» ،وقد طلب
قرر امللتقى احلضور ،واإلدالء بدلوي بمداخلة شفوية أو حتريرية ،وقد دعاين
منِّي ُم ِّ
الستيضاح مفاهيم هذه املصطلحات من خالل النص هذا للعودة إىل كتاب ربنا
كتبت يف هذا الصدد وريقات قليلة كمداخلة ،ثم حرضت
القرآين الكريم ذاته ،وقد ُ
وجل املداخلني تك َّلموا عن هذه
امللتقى ،ووجدت أن أصحاب الكلمة يف هذا امللتقى َّ
وبينوا عالقة كل مصطلح
املصطلحات من النواحي التفسريية واللغوية املحضةَّ ،
قرره بعض علامء التفسري واللغة.
باآلخر ،كام َّ
ريا ،ومن َث َّم فقد ارتأيت بحكم ختصيص يف البالغة َّ
أن وهذه الطريقـة مل َت ُر ْق يل كث ً
أعطي هذا املوضوع ح َّقه من البحث والدرس والتفصيل
َ الطريق األمثل لذلك :أن
من خالل التحليل البالغي لآليات الوارد فيها تلك املصطلحات ،مع الرتكيز عىل
استمداد دالالت هذه املصطلحات من واقع النص القرآين ذاته ،وليس من كالم
بعض املفرسين أو اللغويني الذين أشاروا إىل دالالت هذه األلفاظ بعيدً ا عن السياق
القرآين عامة.
ولن نصل إىل تلك الغاية بحق إال بدراسة اآليات التي وردت فيها تلك
املصطلحات دراس ًة بالغية حتليلية مرتبطة بسياقاهتا املختلفة يف القرآن الكريم.
وأعني هبذه الدراسة البالغية التحليلية أن ُتستقرأ مجيع اآليات التي وردت فيها
هذه املصطلحات ،ودراستها كلها ،ثم استنباط املعنى املراد من هذه املصطلحات كام
قرره الذكر احلكيم يف خمتلف السياقات ،ثم بيان الفروق الداللية بينها بعد ذلك من
واقع هذا التحليل البالغي.
وهذه الدراسة وحدها هي الكفيلة -عىل ما أعتقد -بإبراز الضوء عىل الفروق
الدقيقة ،والعالئق املختلفة بني تلك املصطلحات.
ومن ثم فهذا البحث سيأخذ عىل عاتقه تأصيل هذه املصطلحات من واقع
استعامل القرآن الكريم هلا ،ثم بيان الفروق بينها من واقع هذا االستعامل ،والكشف
عن املعاين املحدثة هلذه املصطلحات ،والتي ال صلة هلا بمدلول هذه املصطلحات يف
الذكر احلكيم ،والتي حياول البعض جعلها األصل اللغوي يف تفسري ما ورد من هذه
األلفاظ يف القرآن الكريم.
من هنا استعنت باهلل رب العاملني ،وأعددت اآليات التي وردت فيها تلك
ومجعت ما قيل حوهلا من كالم املفرسين واللغويني؛ للوقوف عىل
ُ املصطلحات،
املعنى املراد من هذه املصطلحات كام بينه القرآن ،وهي خطوة عىل طريق طويل
نحاول أن نجعل فيه القرآن الكريم منطلقنا وهدفنا الذي جيب أن نتحاكم إليه عند
الفصل بني معاين الكلامت املتقاربة الدالالت يف اللغة.
هذا ،وبعد معاناة طويلة ومشقة مضنية يف مراجعة ما ُكتِب حول تلك املصطلحات
يف كتب التفسري واللغة املختلفة ،تكشف يل للوصول إىل تلك الغاية أن أهنج يف بحثي
النهج اآليت:
-1االكتفاء بدراسة اآليات األربع التي ورد فيها احلديث عن التدبر ،وعدم
دراسة اآليات التي وردت فيـها مادةَ « :د َب َر» باختالف مشتقاهتا؛ حتى ال خيرج
البحث عن نطاقه ،وإن كنت يف حاشية الدراسة مل أغفل إلقاء الضوء عىل ذلك حسبام
يقتضيه املقام.
-2االكتفاء بدراسة اآلية التي ورد فيها مصطلح التأويل يف سورة «آل عمران»
دون غريها من اآليات يف بقية السور؛ ألهنا حمل الشاهد ،مع األخذ يف احلسبان إلقاء
الضوء عىل معاين التأويل يف غري هذه اآلية حسبام يقتضيه املقام.
-3دراسة اآليات الثالث التي ورد فيها االستنباط والفهم والتفسري فحسب؛
ألن هذه األلفاظ الثالث مل تذكر إال يف هذه اآليات الثالث؛ فهي مصطلحات فريدة
مرة واحدة -مادة وصيغة -يف القرآن الكريم.
وحيدة مل ترد إال َّ
بالغيا
ًّ -4حتليل اآليات التي وردت فيها تلك املصطلحات اخلمسة حتليلاً
الداللية املحتملة هلا قدر اإلمكان.
َّ شموليا من كافة الوجوه واملستويات
ًّ
-5عرض خمتلف آراء اللغويني واملفرسين يف دالالت هذه املفاهيم ،واالكتفاء
بنقل رأي واحد منهم ،أو أكثر حسبام يقتضيه املقام ،وإحالة القارئ الكريم عىل بقية
منعا للتطويل.
الكتب الوارد فيها الرأي نفسه يف حاشية الدراسة ً
-6اخللوص عقب حتليل هذه اآليات إىل استخراج العالئق الكامنة بني هذه
املصطلحات ،والكشف كذلك عن الفروق الدقيقة بينها كام أظهره التحليل البالغي.
كل هذا من واقع النص القرآين ذاته ال من كال ٍم خارج عنه ألي عامل من العلامء
َّ
يتوخ هذا األمر عند حديثه ،وهذا هو األساس السليم ،واملرتكز القوي املتني مل
للكشف عن الدالالت ،وبيان الفروق بني تلـك املصطلحات؛ ألن «ألفاظ القرآن
لب كالم العرب وزبد ُته ،وواسطته وكرائمه ،وعليها اعتامد الفقهاء واحلكامء يف
هي ُّ
أحكامهم وحكمهم ،وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء يف نظمهم ونثرهم ،وما
عداها وعدا األلفاظ املتفرعات عنها ،واملشتقات منها هو باإلضافة إليها كالقشور
والنوى باإلضافة إىل أطايب الثمرة.)( »...
-7التأكيد عىل أن هذه املصطلحات القرآنية السالفة بينها حتماً فوارق دقيقة،
وإال فعقلاً ومنط ًقا لو كانت م َّتحدة يف معناها من كافة الوجوه؛ الكتفى املوىل
بأحدها عن األخرى يف الذكر احلكيم ،هذا الكتاب املعجز الذي ُوضعت فيه كل
لفظة بقسطاس مستقيم.
وعىل ذلك فإن املقصود بالتدبر خيتلف عن غريه من بقية املصطلحات ،لكنه
متضادا كاالختالف بني القيام واجللوس ،والنوم واليقظة ،واملرض
ًّ ليس اختال ًفا
بأي وجه من
والصحة ،والضحك والبكاء ،فهذه األلفاظ ال يمكن أن جتتمع معانيها ِّ
الوجوه ،عكس املفاهيم حمل الدراسة ،فهي وإن افرتقت من وجه؛ فإهنا قد تلتقي من
وظ َه َر ،و َن َتقَ َو َر َف َعَ ،و َق َط َع َوا ْن َف َص َل]
ص َ[ح ْص َح َ
وجه آخر مثل التقاء معاين األفعال َ
() مفردات ألفاظ القرآن لألصفهاين ص (ن) ،وانظر املزهر للسيوطي .201/1
10
من وجه ،وافرتاقها من وجه آخر.
-8التأكيد كذلك عىل أن القرآن الكريم جيب أن يكون منطلقنا يف بيان معاين
هذه املصطلحات ،بعيدً ا عن األهواء والتحزبات والتعصبات لدى بعض املفرسين،
واللغويني ،واألصوليني الذين فسرَّ وا هذه املصطلحات وفق مذاهبهم ومناهجهم
بعيدً ا عن داللتها القرآنية منطو ًقا أو مفهو ًما.
وعىل ذلك؛ فقد تكونت خطة الدراسة من مقدمة وستة مباحث.
-1مقدمة :عن باعث البحث ومنهجه وخطته.
-2املبحث األول :األرسار البالغية يف آيات التدبر.
-3املبحث الثاين :األرسار البالغية يف آية التأويل.
-4املبحث الثالث :األرسار البالغية يف آية االستنباط.
-5املبحث الرابع :األرسار البالغية يف آية التفهيم.
-6املبحث اخلامس :األرسار البالغية يف آية التفسري.
-7املبحث السادس :أثر التحليل البالغي يف استكشاف الفروق والعالئق بني
هذه املصطلحات القرآنية.
-8فهرست أهم املصادر واملراجع.
-9فهرست املوضوعات.
11
املبحث أ
الول
املبحث األول:
التدبر
البالغية يف آيات ُّ
َّ األسرار
نستهل حتليل اآليات األربع التي ورد فيها التدبر باآليتني املدنيتني() ،ونبدأ اً
أول
بآية سورة النساء يف قوله تعاىل :ﱫﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ
ﮆ ﮇ ﮈﱪ [النساء.]82:
وهذه اآلية الكريمة وردت يف سورة النساء() املدنية التي ُعنيت -كام عنيت
سائر السور املدنية -باحلديث عن األحكام الترشيعية ،كام عنيت كذلك باحلديث
عن أهل الكتاب واملنافقني ،فمن يتأمل مطلعها جيد أهنا بدأت باحلديث عن حقوق
األيتام ،وبخاصة اليتيامت يف حجور األولياء ،كام كشفت عن حقوق املرأة عند عقد
القران عليها ،ثم ذكرت بالتفصيل أحكام املواريث ،كام حتدثت عن املحرمات من
ورضاعا ومصاهر ًة ،كام تناولت حقَّ الزوج عىل
ً النساء بمختلف أنواع التحريم نس ًبا
زوجته ،وحق الزوجة عىل زوجها ،وغري ذلك من أحكام.
ثم انتقلت للحديث عن أهل الكتاب ،ثم حتدَّ ثت عن املنافقني من قوله تعاىل
ﱫﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ
ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﱪ [النساء ،]65:واستمرت يف احلديث
13
عنهم إىل هناية اآلية ( ،)91ومن ثم؛ فإن هذه اآلية الكريمة التي معنا هنا وردت يف
سياق احلديث عن هؤالء املنافقني كام سيتضح بعدُ بجالء.
لـماَّ ومناسبة هذه اآلية ملا قبلها ذكرها ابن عادل فقال« :ووجه النظم :أنه
صحة َد ْع َوى ال َّنبي × وك ْي ِدهم؛ ألجل َعدَ م اعتِ َق ِ
ادهم َّ أنواع مكر املنافقني َ
َ حكى
للر َسا َلة ،فال َج َرم أمرهم اهلل تعاىل بأن َي ْن ُظروا ويتفكروا يف الدَّ الئِل الدَّ ا َّلة عىل ِص َّحة
ِّ
بوة؛ فقال تعاىل :ﱫﭻ ﭼ ﭽﭾﱪ»()؛ فتدبر القرآن حق التدبر فيه أمارة
ال ُّن َّ
قاطعة ،وحجة ساطعة عىل صحة نبوته ×.
واهلمزة يف قوله :ﱫ ﭻ ﭼ ﱪ اختلف يف معناها :فقيل :هي« :استفهام
بمعنى األمر ،كقوله تعاىل :ﱫﮧ ﮨ ﮩ ﮪﱪ [املائدة .)(»]74 :وقيل:
هي لالستفهام اإلنكاري ،يقول أبو حيان« :وهذا استفهام معناه اإلنكار ،أي :أفال
يتأملون ما نزل عليك من الوحي ،وال يعرضون عنه ،فإن يف تدبره يظهر برهانه،
ويسطع نوره ،وال يظهر ذلك ملن أعرض عنه ،ومل يتأمله»().
وهذا الرأي هو األرجح ،والسياق القرآين يؤيده متا ًما؛ ألن هذه اآلية الكريمة
وردت يف سياق اإلنكار عىل هؤالء املنافقني ،أي :ما كان ينبغي حدوث ذلك منهم.
ومن يتأمل يف داللة هذا االستفهام اإلنكاري يلحظ جميئه مصحو ًبا ً
أيضا
بتوبيخهم عىل عدم التدبر ،والتعجب من حاهلم يف استمرارهم عىل نفاقهم مع
توافر أسباب اهلداية هلم ،وهو القرآن الذي يردده الرسول × عىل مسامعهم ،وبني
14
ظهرانيهم ليل هنار ،وهذا ما ذكره ابن عاشور ،فقال« :االستفهام إنكاري للتوبيخ
والتعجيب منهم يف استمرار جهلهم مع توفر أسباب التدبري لدهيم»().
والفاء يف قوله :ﱫﮧﱪ اختلف يف معناها عىل رأيني:
األول :عاطفة ،عطفت اجلملة التي بعدها عىل مجلة حمذوفة قبلها ،وقد اختلف
يف تقدير هذه اجلملة املحذوفة عىل وجهني حكامها األلويس بقوله« :والفاء للعطف
عىل مقدَّ ر ،أي :أيشكون يف أن ما ذكر شهادة اهلل تعاىل فال يتدبرون القرآن ...وقيل:
املعنى :أيعرضون عن القرآن ،فال يتأملون فيه»().
وبذلك تكون مجلة يتدبرون معطوفة بالفاء عىل مجلة يعرضون أو يشكون املحذوفة.
الثاين :الفاء للتفريع عىل الكالم السابق ،وال حذف ،يقول ابن عاشور« :الفاء
تفريع عىل الكالم السابق املتعلق هبؤالء املنافقني.)(»...
ومعنى التفريع -كام يفهم من كالم ابن عاشورَّ :-
أن الفاء لالستئناف ،استأنفت
تفرع عنه.
منقطعا عام سبق ،بل جديد متصل بهُ ،م ِّ
ً كال ًما جديدً ا ،لكنه ليس جديدً ا
وهذا الرأي الثاين هو ما أميل إليه هنا؛ ألنيِّ َّ
تتبعت هذه الفاء املسبوقة هبمزة
االستفهام ،وبعدها ال النافية يف القرآن ،فوجدهتا وردت ( )45مرة ،ومل يتضح يل أهنا
عطفت الفعل بعدها عىل مقدر قبلها ،وما ال حيتاج لتقدير أوىل مما حيتاج.
وقوله :ﱫﭼﱪ فعل مضارع من املايض اخلاميس «تَدَ َّب َر» ،وهـو «مشتق من
الدُّ بر؛ أي :الظهر ،اشتقوا من الدُّ بر فعلاً ،فقالوا :تَدَ َّب َر :إذا نظر يف ُد ُبر األمر؛ أي :يف
() التحرير والتنوير ،137/5وانظر :تفسري أيب السعود ،207/2والفتوحات اإلهلية .404/1
() روح املعاين ،186/4وانظر :تفسري أيب السعود ،207/2والفتوحات اإلهلية .404/1
() التحرير والتنوير .137/5
15
غائبه ،أو يف عاقبته؛ فهو من األفعال التي اشتقت من األسامء اجلامدة»().
وأصل التد ُّبر :النظر يف أدبار األمور وعاقبتها ،يقول الفيوميَ « :د َّب ْر ُت األ ْم َر َتدْ بِ ً
ريا:
اق َب ُت ُه َو ِ
آخ ُر ُه»(). َفعل ُت ُه َع ْن ِف ْكر َو َر ِو َّي ٍةَ ،وتَدَ َّب ْر ُت ُه تَدَ ُّب ًراَ :ن َظ ْر ُت فيِ ُد ُب ِر ِهَ ،و ُه َو َع ِ
واستَدْ َبرهَ : َ
رأى يف عاقبته ويقول ابن منظورَ « :د َّب َر األ ْم َر وتَدَ َّبره :نظر يف عاقبتِهَ ْ ،
بآخ َر ٍة.)(».. األ ْم َر تَدَ ُّب ًراَ :أي َ وعر َف َ
ما مل َير يف صدرهَ َ ،
هذا هو أصل التد ُّبر كام ذكره اللغويون ،ومل خيرج كثري من املفرسين عن ذلك
التعريفِ ،
وإن اختلفت عباراهتم يف ذلك() ،إال أن بعض املفرسين املتأخرين توسعوا
يف هذا التعريف.
يقول الشهاب اخلفاجي ( ت1069هـ )« :التد ُّبر :التأمل يف أدبار األمور،
نظرا يف حقيقة اليشء وأجزائه ،أو تأمل ،سواء كان ً وعواقبها ،ثم استعمل يف ِّ
كل ُّ
دل االشتقاق عىل أنه النظر يف العواقب سوابقه وأسبابه ،أو لواحقه وأعقابه ،وإن َّ
واألدبار خاصة»().
فالتد ُّبر عنده مل يقترص عىل عواقب األمور فحسب ،بل امتدَّ ليشمل حقائقها
وأسباهبا ولواحقها ،وغري ذلك عىل وجه اإلطالق ،وهذا املعنى هو األليق هنا؛
16
ألن دعوة املنافقني إىل التدبر يف القرآن تقتيض النظر يف ِّ
كل ما ي َّتصل به من حقائقه، َّ
وأجزائه وسوابقه ،وأسبابه ولواحقه؛ لإليامن به ،واالهتداء إىل صحة النبوة.
قد استعمل يف حقيقته اللغويةوعىل هذا التعريف الواسع يكون مصطلح التد ُّبر ِ
كذلك ،ومل ينتقل إىل حقيقة رشعية ،أو جما ٍز.
وبذلك يكون التد ُّبر يف القرآن« :هو النظر والتفكر يف غاياته ومقاصده ،التي
يرمي إليها ،وعاقبة العامل به ،واملخالف له»().
تفعل ،وجميء املضارع هنا من هذه الصيغة دون ِ
صيغة َّ واملايض اخلاميس« :تَدَ َّب َر» عىل
والتتبع؛ كام تفيده تلك الصيغة يف غالب استعامالهتا.
ُّ الرباعي « َد َّبر»؛ للداللة عىل التدرج
ويف هذا دعوة للمنافقني أن يتدبروا القرآن الكريم مرة بعد مرة ،وكرة بعد كرة؛
حتى يصلوا لإليامن به ،وبصحة نبوته ×.
يقول ابن القيم« :تد َّبر الكالم :أن ينظر يف أوله وآخره ،ثم يعيد نظره مرة بعد
والتفهم ،والتبينُّ »().
ُّ كالتجرع،
ُّ التفعل؛
مرة ،وهلذا جاء عىل بناء ُّ
ف وبذل اجلهد ،يقال:أيضا إفادة املعاناة والتك ُّل ِ
كام حيتمل التعبري بتلك الصيغة ً
تد َّبر املسألة ،أيَّ :
تفكر فيها ،وبذل جهدً ا حتى وعاها ،ووقف عىل حقيقتها.
وهذا بال شك يقتيض من املتد ِّبر إنعام النظر ،وإعامل العقل ،وإطالة الفكر
حتى َي ْسبرُ َ أغوار احلقائق القرآنية ،ويقف عىل غايات اآليات الكريمة ،ومقاصدها
الرشيفة ،ومراميها البعيدة؛ َّ
ألن املطلوب قد ال يظهر بالبدهية للوهلة األوىل ،أو بادئ
ذي بدء بل يظهر بآخرة.
17
يتسمع ألصوات حروف الكلمة وتدرجها يف النطق يلحظ كذلك
َّ هذا ،ومن
هذه املعاين املختلفة ،وبذلك تتعاور تلك الصيغة مع أصوات حروفها يف أداء تلك
املعاين الدقيقة ،والتعبري باملضارع() هنا يومئ إىل رضورة جتدد التدبر وحدوثه كلام
() مل يرد التد ُّبر يف القرآن إال عىل صيغة املضارع من املايض اخلاميس «تَدَ َّب َر» باملعنى الذي قررناه ،أما
املضعف العني « َد َّب َر» عىل صيغة « َف َّعل»
َّ تدبري األمر؛ فقد ورد فيه الفعل املضارع « ُيدَ ِّب ُر» من املايض الرباعي
التي تقتيض الكثرة يف قوله تعاىل :ﱫﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄﮅ ﱪ [يونس ،]٣:وقوله تعاىل :ﱫﯭ
ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲﯳ ﱪ [يونس ،]٣١:وقوله تعاىل :ﱫﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﱪ
[الرعد ،]٢:وقوله تعاىل :ﱫﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﱪ [السجدة.]5:
«مدَ ِّبر» من املايض الرباعي « َد َّب َر» يف قوله تعاىل :ﱫﮮ ﮯﱪ [النازعات:
كام ورد اسم الفاعل ُ
باملالئكة التي تدبر األمر ،وهو شئون الكون املختلفة. ،]٥ففي هذه اآلية أقسم املوىل
وبذلك ي َّتضح لنا من التعبري بتلك الصيغة أمور:
اً
أول :جاء التعبري باملضارع « ُيدَ ِّب ُر» ( )4مرات.
ثان ًيا :املد ِّبر يف هذه اآليات األربع (أي الفاعل املحذوف) هو اهلل
.
معر ًفا بـ(أل) التي
ثال ًثا :املد َّبر (أي :املفعول املذكور) يف مجيع اآليات هو األمر ،واألمر هنا ورد َّ
حق ال مرية فيه ،كام قال تعاىل يف آية أخرى :ﱫﮞ ﮟ
تفيد االستغراق الكيل جلميع أنواع األمر ،وهذا ٌّ
كل يشء . ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﱪ [األعراف ،]54 :أي :له أمر ِّ
«مدَ ِّبر» من املايض يف موطن واحد فحسب ،والفاعل املحذوف املالئكة، رابعا :ورد اسم الفاعل ُ
ً
األمر ك َّله.
َ واملفعول املذكور هو لفظة األمر املنكرة ،وهنا مفارقة دقيقة :فاملالئكة تُدَ ِّب ُر ً
أمرا ما ،واهلل ُيد ِّب ُر
أن اهلل وصف نفسه بأنه املد ِّبر ،وأنه ُيد ِّبر أمور اخلالئق ك َّلها دون استثناء،
نستنتج من هذاَّ :
أمرا
-أيضا ،-ولكنهم يدبرون ً ً فاهلل هو املد ِّب ُر ،واألمر هو املد َّبر ،كام وصف املالئكة املقربني بذلك
َ
ما بإذنه ال يتجاوزونه ،والعجيب :أن الذكر احلكيم استخدم الرباعي «أ ْد َب َر» ( )4مرات ،واسم
«مدْ بِر» ( )8مرات ،واملصدر «إدبار» مرة واحدة ،كام استخدم اسم الفاعل من « َد َب َر» ()4 الفاعل منه ُ
«د ُبر» ( )5مرات ،ومجع اجلمع« :أدبار» ( )13مرة ،يف سياقات ال صلة هلا بام نحن فيه، مرات ،واجلمع ُ
أن القرآن الكريم يضع كل صيغة يف مكاهنا األشكل هبا ،وهذا من دالئل إعجازه يف وكل هذا ُينبئ عن َّ
اختيار صيغه بام ال يسمح الوقت باإلفاضة فيه .انظر املعجم املفهرس .253 ،252
18
عن األمر لذلك؛ ألن اإلنسان ال يتد َّبر القرآن يف ِّ
كل وقت وحني ،بل كلام قرأه أو َّ
سمعه ،أو انشغل به يف قضية من قضاياه؛ فهو حيدث وجيدد التدبر يف كل مرة.
والواو يف قولهَ « :ي َتدَ َّب ُر َ
ون» تعود عىل املنافقني الذين يتحدَّ ث السياق القرآين
السابق عنهم بوضوح ،وال يمكن أن حتمل عىل غريهم مطل ًقا ،وإال القتلعنا اآلية
من سياقها.
ولكننا نتساءل :هل يراد هبم املنافقون الذين كانوا يف املدينة النبوية أيام النبي
× ،وبذلك تنحرص داللتها فيهم فحسب؟ أم أن داللتها تتسع لتشمل املنافقني يف
كل زمان ومكان؟
أقول :إين أميل إىل األخري؛ ألن العربة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب،
والقرآن خياطبهم يف كل عرص ومرص ،واحلكمة من ِّ
حث مجيع املنافقني عىل التدبر
«أن التدبر يف القرآن جيعلهم ُي ِّ
فك ُرون يف عاقبة أمرهم ،ويستيقظون من سباهتم فيهَّ :
الذي يملك عليهم نفوسهم ،ويتجسد أمام بصائرهم ما سوف يناهلم من جزاء يوم
القيامة»().
ُ
«الق ْرآنَ » :مفعول به تعدى إليه الفعل «يتدبر» بنفسه« :والقرآن يف األصل مصدر
نحو ُكفران ورجحان ...وقد ُخص بالكتاب املنزل عىل حممد × ،فصار له كالعلم،
أن التوراة لِـماَ ُأنْزل عىل موسى واإلنجيل عىل عيسى»().
كام َّ
ِ
قرأت الناقة سىل قط ،أي :ما ضمت يف رمحها والقرآن مشتق «من قولك :ما
19
ولدً ا» () ،فأصله من الضم واجلمع؛ ولذا «قال بعض العلامء :ليست تسمية هذا
جامعا لثمرة كتبه ،بل جلمعه ثمرة
ً الكتاب قرآ ًنا من بني سائر كتب اهلل املنزلة لكونه
مجيع العلوم ،كام أشار بقوله :ﱫﯼ ﯽ ﯾﱪ [يوسف ]111:ﱫﭲ
ﭳ ﭴﱪ [النحل.)(»]89:
وذكر يف هذه اآلية لفظة القرآن ،وذكر يف غريها لفظة القول ،والكتاب كام سيأيت؛
ألن املخاطبني بالتدبر هنا -كام مر -هم املنافقون ،وهؤالء كانوا يقرؤون القرآن يف
مكرا
حرضة املسلمني ،ويرددون آياته عىل ألسنتهم دون تدبر ،بل كانوا يتمتمون هبا ً
ودهاء ،فجاءت تلك اللفظة تعكس حاهلم ،وحتكي صنيعهم الظاهر.
راجعا ً
أيضا إىل أن هؤالء املنافقني كانوا ال ً وجيوز أن يكون اختيار تلك اللفظة
يكتبونه البتة ،وال حيفظونه يف صدورهم مطل ًقا ،وهذا يؤيده السياق اخلارجي ،فلم
عليم النفاق ك َّلفه رسول اهلل × بكتابة القرآن ،فبان هبذا َّ
أن لفظة أن مناف ًقا َ
ُيعرف َّ
مغايرا للفظة القول والكتاب ،يؤكد ذلكَّ :
أن الكتاب ً القرآن حتمل يف طياهتا معنًى
عطف عليه يف قوله تعاىل :ﱫﭑﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﱪ [النمل،]1:
والعطف يقتيض التغاير يف الذات ،أو يف الصفات كام هو معلوم.
وتعريف القرآن بـ (أل) فيه إشارة إىل فخامته وعظمته ،أي :هذا القرآن العظيم
املنزل عىل خاتم املرسلني حممد ×.
َّ
وجيوز أن تكون (أل) للعهد ،أي :هذا القرآن املعهود الذي تقرؤونه ،كام جيوز أن
() زاد املسري البن اجلوزي ،87/2وجيوز أن يكون القرآن غري مشتق ،يقول الزركيش« :قول
الشافعي هو اسم لكتاب اهلل ،يعني أنه اسم علم غري مشتق ،كام قاله مجاعة من األئمة» انظر الربهان
للزركيش ،349/1والراجح أنه مشتق ثم صار علام بالغلبة.
() عمدة احلفاظ يف تفسري أرشف األلفاظ للسمني احللبي .338/3
20
تكون للعموم ،أي :مجيع القرآن الذي نزل عليهم حتى نزول تلك اآلية ،وهذا يعني:
متدبرا له ،فتدبره كله حيمي من الوقوع يف
ً أن من يتدبر أق َّله -أو أكثره -ال يكون
َّ
أن نفي االختالف توهم االختالف ،وإىل ذلك أشار اإلمام ابن تيمية بقوله« :ومعلوم َّ
عنه ال يكون إال بتد ُّبره ك ِّله ،وإال فتدبر بعضه ال ُيوجب احلكم بنفي خمالفة ما مل َيتدَ َّبر
ملا تَدَ َّب َر»().
تلقائيا،
ًّ هذا ،ومن سامت تلك اللفظةَّ :
أن الذهن -عند ذكرها -يذهب إىل معناها
وال حيتاج ألمارات ،بخالف غريها من األلفاظ التي أطلقت عىل القرآن فتحتاج
لقرائن من السياق ملعرفة املراد هبا؛ ألهنا تطلق عليه وعىل غريه.
ُّ
وحض املنافقني عىل تدبر القرآن حيتمل «معنيني:
أحدمها :أن يتأملوا داللة تفاصيل آياته عىل مقاصده التي أرشد إليها املسلمني،
أي :تدبر تفاصيله.
وثانيهام :أن يتأملوا داللة مجلة القرآن ببالغته عىل أنه من عند اهلل ،وأن الذي جاء
تأملوا
به صادق ،وسياق هذه اآليات يرجح محل التدبر هنا عىل املعنى األول ،أي :لو َّ
وتد َّبروا هدى القرآن؛ حلصل هلم خري عظيم ،وملا بقوا عىل فتنتهم التي هي سبب
إضامرهم الكفر مع إظهارهم اإلسالم ،وكال املعنيني صالح بحاهلم ،إال َّ
أن املعنى
ً
ارتباطا بام حكي عنهم من أحواهلم»()؛ أي :يف اآليات السابقة ،ولكني األول أشدُّ
أقول :كال املعنيني من غايات حث املنافقني عىل التدبر فيه.
وقوله تعاىل :ﱫﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﱪ؛ أي« :لو كان
21
من عند خملوق لكان عىل قياس الكالم املخلوق ،بعضه فصيح بليغ حسن ،وبعضه
مردود ركيك فاسد ،فلام كان القرآن مجيعه عىل منهاج واحد يف الفصاحة والبالغة
ثبت أنه من عند اهلل.
واملعنى :أفال َّ
يتفكرون يف القرآن ،فيعرفوا بعدم التناقض فيه ،وصدق ما خيرب
،وأن ما يكون من عند غري اهلل ال خيلو عن تناقض به عن الغيوب أنه كالم اهلل
واختالف ،فلام كان القرآن ليس فيه تناقض واختالف ُعلم أنه من عند قادر عىل ما ال
يقدرون عليه ،عامل بام ال يعلمه سواه»().
والواو يف قوله :ﱫﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﱪ جيوز أن تكون عاطفة عطفت ما
بعدها عىل ما قبلها ،وجيوز أن تكون حالية ،ويرتتب عىل كل معنى اختالف يف
الداللة املرادة ،وإىل هذين الوجهني أشار ابن عاشور ،فقال« :قوله :ﱫﭿ ﮀ ﮁ ﮂ
ﮃ ﮄ ﱪ إلخ ،جيوز أن يكون عط ًفا عىل اجلملة االستفهامية ،فيكونوا ُأ ِم ُروا بالتد ُّبر
يف تفاصيلهُ ،
وأ ِ
عل ُموا بام يدل عىل أنه من عند اهلل ،وذلك انتفاء االختالف منه ،فيكون
ً
انتهازا؛ لفرصة املناسبة عاما ،وهذا جزئي من جزئيات التدبر ُذكر هنا
األمر بالتدبر ًّ
لغمرهم باالستدالل عىل صدق الرسول × ،فيكون زائدً ا عىل اإلنكار املسوق له
ض له؛ ألنه من املهم بالنسبة إليهم ،إذ كانوا يف ٍّ
شك من أمرهم. الكالمَ ،ت َع َّر َ
وهذا اإلعراب أليق باملعنى األول من معنيي التدبر هنا ،وجيوز أن تكون اجلملة
حالاً من القرآن ،ويكون قيدً ا للتدبر ،أي :أال يتدبرون انتفاء االختالف منه ،فيعلمون
أنه من عند اهلل ،وهذا أليق باملعنى الثاين من معنيي التدبر.
ومما يستأنس به لإلعراب األول :عدم ذكر هذه الزيادة يف اآلية املامثلة هلذه من
22
سورة القتال ،وهي قوله :ﱫﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟﱪ إىل قوله:
ﱫﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﱪ ،وهذه دقائق من تفسري اآلية أمهلها
مجيع املفرسين»().
ولكني أقول :عدم القطع بداللة معينة للواو هو األرجح؛ ألن لكل داللة معنًى
رجحنا ُ
قبل يف أن هذين املعنيني مها من غايات التدبر. مقصو ًدا كام َّ
(لو) حرف امتناع المتناع ،وهي رشطية غري جازمة ،ومجلة :ﱫﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
ﮄ ﱪ ال حمل هلا من اإلعراب ،فعل الرشط ،وﱫﮀﱪ هنا ناقصة ناسخة ،واسمها
حمذوف تقديره :ولو كان القرآن ،وحذف للعلم به ،ولفهمه من السياق السابق
بوضوح ،حيث ُن َّ
ص عليه يف مطلع هذه اآلية الكريمة.
وأصل التعبري هبذا الفعل «الداللة عىل اقرتان مضمون اجلملة بالزمن املايض
نحو :كان زيد عالـماً ،معناه :أنه اتصف بالعلم فيام مىض داللة عىل االنقطاع»().
وهذا هو املعنى املراد هنا ،فاالنقطاع يف معنى الفعل قائم ،ومل يفقد هذا األصل،
أي :لو فرض حصول القرآن سل ًفا من عند غري اهلل؛ لوجدوا فيه اختال ًفا كث ً
ريا.
ﱫﮁ ﱪ عىل أصلها لالبتداء ،أي :لو كان القرآن بداية من عند غري اهلل.
ﱫﮂﱪ جمرورة بـ (من) ،واجلار واملجرور متعلقان بمحذوف ،تقديره« :كائنًا»
يف حمل نصب خرب كان ،وﱫﮂ ﱪ ظرف مكان ال يترصف بأكثر من جره بـ ﱫﮁﱪ،
وقال بعضهم :ﱫﮂ ﱪ لفظ موضوع للقرب ،فتارة يستعمل يف املكان ،وتارة يف
االعتقاد نحو :عندي كذا ،وتارة يف الزلفى واملنزلة ،قال تعاىل :ﱫﭽ ﭾ ﭿ
23
ﮀ ﮁﱪ [ص ،)(»]47:وهي هنا عىل أصلها للظرفية املكانية.
وعرب هنا بـ ﱫﮂ ﱪ ،وكان من املمكن أن يقال :ولو كان من غري اهلل؛ ألن داللة
أن هذا النمط الفريد من ﱫﮂ ﱪ بمفهوم املخالفة تؤكد بام ال يدع جمالاً للشكَّ :
القول ال يقدر عليه غريه؛ ألنه من عند احلرضة العلية الربانية ،فضلاً عن أن العندية
متذوق ألرسار
كل متد ِّبر ِّ أضفت بجرسها ظاللاً قو َّي ًة عىل هذا األسلوب ،كام ُّ
حيسه ُّ
الكتاب الكريم.
قوله :ﱫﮃ ﮄﱪ :غ ِ
ري مضاف لـ ﱫﮂﱪ ،وذكر السمني هلذه اللفظة معاين عديدة
منها أهنا« :صفة بمعنى مغاير»() ،وهذا هو املعنى الذي يشري إليه السياق بوضوح تام،
إنسا كان ،جا ًنا كان؛ حلصل فيه اختالف كثري ملا
أي :لو كان القرآن من عند مغاير هللً ،
ناقصا كأشخاصها. يعتور هذه املخلوقات من ٍ
نقص ،فكالمها يكون ً
يتسمى به ،قال تعاىل:
مل جيرس كائن ما كان أن َّ ولفظ اجلاللة علم عىل املوىل
ﱫﭚ ﭛ ﭜ ﭝﱪ [مريم ،]65 :وعبرَّ به دون لفظ رب؛ ألن املقام هنا مقام
األلوهية والعبودية والوحدانية ،وليس مقام الربوبية التي تستخدم يف سياق اإلنعام
واإلحسان واإلصالح وامللك والرتبية وغري ذلك ،يقول السمني« :كل موضع ذكر
فيه لفظ الرب فلمناسبة ذلك املقام ،أال ترى حسن موقعه يف قوله تعاىل :ﱫ ﭖ ﭗ
ﭘ ﭙﱪ حيث َّنبههم عىل استحقاق احلمد له بكونه ُم ِ
صل َحهم ومالكهم،
ومتوليِّ مصاحلهم»().
24
وقوله :ﱫﮅ ﮆ ﮇ ﮈﱪ؛ أي« :لو ثبت َف َر ًضا أنه من عند غري
اهلل؛ لوجدوا فيه اختال ًفا يف املعنى أو اللفظ»().
والالم يف قوله :ﱫﮅﱪ واقعة يف جواب الرشط ،واجلملة بعدها ال حمل
هلا من اإلعراب جواب رشط لو ،والفعل وجد يستعمل عىل أرضب شتى ،يقول
الراغب« :الوجود أرضب :وجود بإحدى احلواس اخلمس ،نحو :وجدت زيدً ا،
طعمه ،ووجدت صو َته ،ووجدت خشونتَه ،ووجود بقوة الشهوة نحو:
ووجدت َ
وجدت الشبع ،ووجود بقوة الغضب ،كوجود احلزن والسخط ،ووجود بالعقل ،أو
بواسطة العقل ،كمعرفة اهلل تعاىل ،ومعرفة النبوة.)(»...
وهذا املعنى األخري هو املراد ،فعن طريق العقل الراجح السديد يعرف عدم
خفي إىل أن العقل يعدُّ أدا ًة -غري
وجود اختالف يف القرآن ،وهذا يشري من طريق ٍّ
منصوص عليها -من أدوات احلكم عىل القرآن بأنه من عند اهلل.
وآثر التعبري هبذا الفعل دون غريه؛ َّ
ألن يف داللته إشارة إىل أن هذا القرآن لو كان
من عند غري اهلل لعثروا فيه بيرس وسهولة عىل تناقض واختالف؛ ألهنم أهل بصرية
نافذة يف الكشف عن حقائق الكالم ،ومراميه ،وأنواع الرتاكيب املختلفة فيه ،فلو
كان من عند غري اهلل التضح عند املتدبرين ما فيه من اختالف ،فجاء الفعل وجد يف
مكانه متا ًما.
وواو اجلامعة يف ﱫ ﮅ ﱪ تعود عىل املنافقني املذكورين ُ
قبل بال خالف.
ﱫﮆﱪ :جار وجمرور متعلقان باملايض وجد ،و(يف) للظرفية عىل أصل معناها،
25
والتعبري بـ(يف) هنا جاء دقي ًقا جدًّ ا ،أي :لو كان من عند غري اهلل لوجدوا االختالف
أن املتدَ ِّبر إذا أراد أن َ
يقف عىل خفي إىل َّ
ٍّ ٍ
طريق مظرو ًفا يف َّ
طياته ،وهذا يشري من
ُكنه هذا الكالم جيب أن ينغل يف طوايا تراكيبه ،وأن يعمل عقله وقلبه يف مكنونات
أساليبه ،فيسرب أغوارها ،ويتعرف عىل خفاياها ويتأمل حقائقها ،ويتبرص دقائقها،
عندئذ يظهر له إن كان من عند اهلل أم ال ،أما من ينظر فيه من املنافقني نظرة رسيعة،
فس ُي َخ ِّي ُل إليه عقله املريض أن فيه اختال ًفا. ويقرأه بهِ َ ٍّذ وهذرمة ،وبال ُّ
متعنَ ،
«يتمل أن يعو َد عىل القرآن وهو والضمري يف ﱫ ﮆ ﱪ اختلف فيه ،فقيل :حُ
الظاهر»() ،وقيل :يعود عىل ما يخُ رب اهلل به رسو َله مما ُي َب ِّي ُت املنافقون ،كام ورد يف
اآلية السابقة يف قوله :ﱫﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰﱪ [النساء.]81:
ربك به مما
الزجاج إىل أن معنى اآلية :لوجدوا فيام نخ ُ
يقول ابن عطية« :ذهب َّ
يب ِّيتون اختال ًفا»().
والرأي األول هو اجلدير بالنظر؛ ألن الضمري يعود عىل أقرب مذكور وهو
القرآن ،وهذا هو الظاهر الذي ي َّتسق مع السياق.
وتقديم اجلار واملجرور ﱫﮆﱪ عىل مفعول وجد؛ للمسارعة بذكر القرآن
رشئِ َّبة إليه يف املقام األول.
الكريم بعود الضمري عليه؛ ألن النفوس ُم َ
قوله :ﱫﮇ ﮈﱪ ،ﱫﮇﱪ :مفعول به للفعل وجد ،وهو مصدر
من املايض اخلاميس «اختلف» ،و«االختالف واملخالفة :أن يأخذ كل واحد طري ًقا غري
() الدر املصون للسمني احللبي ،51-50/4وانظر :اللباب البن عادل .520 /6
() املحرر الوجيز ،188/4وانظر :البحر املحيط ،305/3واللباب ،520/6حيث ذكر الرأيني.
26
طريق اآلخر يف حاله أو قوله.)(»...
وهذا األخري هو املراد هنا ،ولكن ليس املراد من اختالف األقوال «ما جاء يف
القرآن من اختالف يف تفسري وتأويل وقراءة ،وناسخ ومنسوخ ،وحمكم ومتشابه،
وعام وخاص ،ومطلق ومقيد ،فليس هو املقصود يف اآلية ،بل هذه من علوم القرآن
الدالة عىل ا ِّتساع معانيه ،وإحكام مبانيه»() .وإنام املراد من االختالف هنا :اختالف
التناقض يف املعاين ،والتفاوت يف النظم واملباين ،وهذا ما ذهب إليه الزخمرشي بقوله:
ً
متناقضا قد تفاوت نظمه «ﱫﮅ ﮆ ﮇ ﮈﱪ لكان الكثري منه خمتل ًفا
قارصا عنه يمكن معارضته،
ً وبالغته ومعانيه ،فكان بعضه ً
بالغا حدَّ اإلعجاز ،وبعضه
إخبارا خمال ًفا للمخرب عنه ،وبعضه
ً إخبارا بغيب قد وافق املخرب عنه ،وبعضه
ً وبعضه
دالاًّ عىل معنى صحيح عند علامء املعاين ،وبعضه دالاًّ عىل معنى فاسد غري ملتئم ،فلام
جتاوب كله بالغة معجزة فائتة لقوى البلغاء ،وتنارص صحة معان ،وصدق إخبار
ُعلم أنه ليس إال من عند قادر عىل ما ال يقدر عليه غريه»().
وقيل :حيتمل أن يكون املراد من االختالف «اختالفه مع أحواهلم :أي لوجدوا
فيه اختال ًفا بني ما يذكره من أحواهلم ،وبني الواقع ،فليكتفوا بذلك يف العلم بأنه من
عند اهلل ،إذ كان يصف ما يف قلوهبم وصف َّ
املطلع عىل الغيوب ،وهذا استدالل وجيز
وعجيب قصد منه قطع معذرهتم يف استمرار كفرهم»().
وأيد العالمة أبو السعود هذا الرأي الثاين بقوله بعد إيراده له« :هذا هو الذي
27
يستدعيه جزالة النظم الكريم ،وأما محل االختالف عىل التناقض ،وتفاوت النظم يف
البالغة بأن كان بعضه دالاًّ عىل معنى صحيح عند علامء املعاين ،وبعضه عىل معنى
قارصا عنه يمكن معارضته كام
ً فاسد غري ملتئم ،وبعضه ً
بالغا حدا اإلعجاز ،وبعضه
جنح إليه اجلمهور ،فمام ال يساعده السباق وال السياق»().
وأرى أن تنكري لفظ اختالف هنا ينفي االختالف الفاسد بجميع أنواعه عن
القرآن الكريم ،واملعنى أنه ال يوجد فيه أدنى نوع من أنواع االختالف املذكورة قبل،
بل هو عىل هنج واحد يف البالغة ،ومرتبة واحدة يف الفصاحة ،وهو ً
أيضا يطابق
أحوال من خيرب عنهم بصدق تام ،ومن ثم ال حاجة بنا لتأييد الرأي األول أو الثاين؛
مجيعا؛ وهذا بخالف كالم البرش ففيه التناقض والتفاوت
ألن االختالف يشملهام ً
وعدم املطابقة للواقع «ال سيام إذا طال ،وتعرض قائله لإلخبار بالغيب ،فإنه ال يوجد
صحيحا مطاب ًقا للواقع إال القليل النادر»().
ً منه
ﱫﮈﱪ نعت الختالف ،والكثرة يف األصل ضد القلة ،ومها« :يستعمالن
يف الكمية املنفصلة كاألعداد ،)(»...وال يراد من الكثرة هنا ضدها ،وهي القلة،
بل الكثرة والقلة منتفيتان عن القرآن ،فليس فيه اختالف كثري ،أو قليل بحال من
األحوال« ،فإن قلت :إن قوله :ﱫﮇ ﮈﱪ ُّ
يدل بمفهومه عىل أن يف القرآن
اختال ًفا قليلاً ،وإال ملا كان للتقييد بوصف الكثرة فائدة مع أنه ال اختالف فيه أصلاً .
قلت :التقييد بالكثرة للمبالغة يف إثبات املالزمة ،أي :لو كان من عند غري اهلل
28
ريا فضلاً عن القليل ،لكنه من عند اهلل تعاىل ،فليس فيه
تعاىل لوجدوا فيه اختال ًفا كث ً
اختالف ال كثري وال قليل»().
أقول هذا؛ ألن منطوق هذه اجلملةَّ :
أن القرآن لو كان من عند غري اهلل لوجدوا
أن القرآن لو كان من عند اهلل لوجدوا فيه اختال ًفا فيه اختال ًفا كث ً
ريا؛ ومفهومهاَّ :
خارجيا ،فالكثرة
ًّ داخليا أو
ًّ قليلاً ،وهذا غري مراد البتة ال عقلاً وال مقا ًما وال سيا ًقا
هنا كام يقول األصوليون :وصف ال مفهوم له ،يؤكد هذا :أن القرآن مل يرد فيه املصدر
«اختال ًفا» مصحو ًبا هبذا الوصف إال هنا ،إشار ًة إىل ذلك.
وهذا ما َّأكده ابن عاشور بقوله« :ووصف االختالف بالكثري يف الطرف املمتنع
وقوعه بمدلول (لو)؛ لِ َي ْع َل َم املتدَ ِّبر أن انتفاء االختالف من أصله أكرب دليل عىل أنه
من عند اهلل ،وهذا القيد غري معترب يف الطرف املقابل جلواب (لو) ،فال يقدر ذلك
الطرف مقيدً ا بقوله :ﱫﮈﱪ ،بل يقدر هكذا :لكنه من عند اهلل ،فال اختالف
فيه أصلاً »().
وقيل :جيوز أن يكون ﱫﮈﱪ مفعول به أول ،و ﱫﮇ ﱪ مفعول به
ثان ،بمعنى :خمتل ًفا عىل صيغة اسم الفاعل ،والتقدير :ولو كان القرآن من عند غري
ريا خمتل ًفا.
اهلل لوجدوا فيه كث ً
قال األلويس« :وكون املقصود من اآلية إثبات القرآن كله وبعضه من اهلل تعاىل،
وحينئذ ال يمكن وصف االختالف بالكثرة؛ ألنه ال يكون االختالف حينئذ إال بأن
() تفسري حدائق الروح والرحيان يف روايب علوم القرآن ،235 /6وانظر :الفتوحات اإلهلية
للجمل ،404/1وحاشية الصاوي عىل تفسري اجلاللني .46/2
() التحرير والتنوير .138 /5
29
معجزا ،والبعض غري معجز ،وهو اختالف واحد ،فلذا ُجعل ً يكون البعض منه
(وجدوا) متعد ًيا إىل مفعولنيَ :أوهلام :كث ً
ريا ،وثانيهام :اختال ًفا ،بمعنى خمتل ًفا.)(»...
ولكني أرى َّ
أن اإلعراب األول هو املناسب واألليق ،واالختالف فيه عىل أصله
من املصدرية؛ ألنه ينفي ذات االختالف يف الطرف املقابل ،وهذا أقوي كام قدمنا،
أن االعرتاض سيظل قائماً ً
أيضا عىل الرأي الثاين ،ويكون تقدير الكالم يف وبخاصة َّ
الطرف املقابل :ولو كان القرآن من عند اهلل؛ لوجدوا فيه قليلاً خمتل ًفا ،حاشا وكلاًّ .
ويبقى هنا سؤال مهم :ماذا لو وقع ألحد من املؤمنني امل َّتقني اختالف يف
القرآن؟
أجاب عن هذا أبو حيان ،فقال« :قال ابن عطية :فإن عرضت ألحد شبهة ،وظن
اختال ًفا ،فالواجب أن ي َّتهم نظره ،ويسأل من هو أعلم منه ،وما ذهب إليه بعض
ً
وألفاظا غري مؤتلفة؛ فقد أبطل مقالتهم الزنادقة املعاندين من َّ
أن فيه أحكا ًما خمتلفة،
علامء اإلسالم»() .
30
ثان ًيا :األرسار البالغية يف قوله تعاىل :ﱫ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ
ﮗﱪ [حممد.]24:
وقد وردت هذه اآلية يف سورة «حممد» املدنية ،التي ابتدأت باحلديث عن أحوال
الكفار ،ثم أحوال املؤمنني ،حيث ذكرت ما َأعدَّ ه للمتقني يف جنات النعيم ،ثم
حتدَّ ثت عن املنافقني من قوله :ﱫ ﭑ ﭒﭓﭔ ﭕﭖﭗﭘﭙﭚ
ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ
ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉ
ﮊﮋﮌ ﮍ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮔ ﮕﮖ
ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ
ﮧ ﮨ ﮩﱪ [حممد.]25-20:
طيات احلديث عن املنافقني؛ ألن الضامئر يف
فكام ترى جاءت اآلية التي معنا يف َّ
هذه اآليات تعود عليهم بال شك؛ وألن ما ذكرته اآليات من نعوت وصفات هي
لصيقة الصلة باملنافقني ،وهذا ما أكد عليه جل املفرسين.
31
ومن هنا فإن اإلمام القرطبي جانبه الصواب يف قوله« :وظاهر اآلية أهنا خطاب
جلميع الكفار»()؛ ألن املخاطبني بواو اجلامعة يف قوله :ﱫﮒﱪ هم املنافقون
نصا ،كام يشري السياق السابق والالحق كام قدمناه.
ًّ
ووجه ارتباط هذه اآلية بام قبلها حكاه اخلازن ،فقال« :هذه اآلية حم ِّققة لآلية
املتقدِّ مة ،وذلك َّ
أن اهلل تعاىل ملا قال :ﱫﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ
ﮏﱪ ،فكان قوله :ﱫﮑ ﮒ ﮓ ﱪ كالتهييج هلم عىل ترك ما هم
استحقوا بسببه ال َّلعنة ،أو كالتبكيت هلم عىل إرصارهم عىل
ُّ فيه من الكفر الذي
الكفر»().
وقوله تعاىل :ﱫﮑ ﮒ ﮓﱪ هذا الرتكيب القرآين ورد بعينه يف
سورة النساء ،وسبق احلديث عنه تفصيلاً ،فال حاجة إلعادة القول فيه ،لكن ينبغي
أن ِّ
نركز هنا عىل أمر دقيق جدًّ ا ،وهو أن املخاطب بالتدبر يف السورتني هم املنافقون،
واضحا ،حيث حتدَّ ث
ً ولكن من يقارن بني السياقني يف السورتني جيد بينهام اختال ًفا
هناك عن املنافقني الذين ُي َب ِّي ُتون للرسول × يف صدورهم غري ما ينطقون به أمامه،
وهنا حتدث عن كراهيتهم للقتال ،وإفسادهم يف األرض ،وتقطيعهم األرحام ،ومن
ثم وجدنا تواز ًنا وتالؤ ًما ،فاتحَّ د املط َل ُع والصدر من أجل اتحِّ اد املخاطبني ،واختلف
در الذكر احلكيم ،فهذا وأمثاله مما ال يعدُّ
العجز من أجل اختالف السياقني ،فلله ُّ
وحيىص من مناط إعجازه.
وقوله :ﱫﮔ ﮕ ﮖ ﮗﱪ اختلف يف داللة ﱫﮔ ﱪ هنا عىل وجهني:
32
األول :رأي مجهور املفرسين أن ﱫﮔ ﱪ منقطعة بمعنى (بل) ،يقول ابن عاشور:
«وحرف ﱫﮔ ﱪ لإلرضاب االنتقايل ،واملعنى :بل عىل قلوهبم أقفال ،وهذا الذي
سلكه مجهور املفرسين هو اجلاري عىل كالم سيبويه يف قوله تعاىل :ﱫﮄ ﮅ
ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﱪ يف سورة الزخرف [،]52-51
خال ًفا ملا يومهه ،أو توهمَّ ه ابن هشام يف «مغني اللبيب»»().
وعىل هذا الرأي يكون بعد (أم) مهزة استفهام حمذوفة ،واملعنى :بل أعىل قلوب
جليا من أقوال بعض املفرسين ،يقول الشيخ صديق حسن
أقفاهلا ،وهذا ما يفهم ًّ
خان« :بل أعىل قلوب أقفاهلا ،فهم ال يفهمون وال يعقلون»().
وهذه اهلمزة املحذوفة عىل هذا الرأي خرجت عن معناها احلقيقي من السؤال
عن املجهول إىل التقرير ،يقول الزخمرشي« :ﱫﮔ ﮕ ﮖ ﮗﱪ( ،أم) بمعنى
(بل) ،ومهزة التقرير؛ للتسجيل عليهم بأن قلوهبم مقفلة ،ال يتوصل إليها ذكر»().
كام جيوز أن تكون هذه اهلمزة للتوبيخ ،يقول الصاوي« :أم منقطعة بمعنى بل،
وهو انتقال من توبيخهم عىل عدم التدبر إىل توبيخهم بكون قلوهبم مقفلة ال تقبل
التدبر والتفكر»().
الثاين( :أم) ليست منقطعة بل هي (أم) املتصلة ،والتي يسميها البالغيون
() التحرير والتنوير ،113 /26وانظر :زاد املسري ،193/7وتفسري القرطبي ،247/16
وتفسري البغوي ،287/7ومغني اللبيب البن هشام ،285 ،284/1والفتوحات اإلهلية للجمل
.151/4
() فتح البيان ،23/9وانظر :املحرر الوجيز ،71/15وفتح القدير ،38/5دار الفكر.
() الكشاف ،536/3وانظر :تفسري النسفي ،226/4وتفسري البيضاوي .218/2
() حاشية الصاوي ،305/5وروح البيان ،518/8وتفسري الصابوين .1375 /3
33
أم املعادلة الواقعة بني متساويني ،يقول القونوي« :قوله تعاىل :ﱫﮑ ﮒ
ﮓﱪ يف قوة أوصل هلم القرآن ،فلم يتأملوا حقَّ التأمل ،أم مل يصل هلم»().
ويقول األلويس« :أفال يتدبرون القرآن إذ وصل إىل قلوهبم ،أم مل يصل إليها،
فتكون أم متصلة»().
والراجح :أن (أم) منقطعة بمعنى (بل) ،كام ذهب ابن عاشور ،وثلة كبرية من
املفرسين؛ ألهنا لو كانت متصلة؛ الحتاجت إىل تقدير كالم بعدها يتالءم مع ما قبلها
وفق القاعدة املشهورة يف (أم) املعادلةً ،
وأيضا (بل) املنقطعة هنا ال حتتاج لتقدير كالم
حمذوف بعدها ،وما ال حيتاج لتقدير أوىل مما حيتاج.
ﱫﮕ ﮖ ﮗﱪ عىل قلوب جار وجمرور خرب مقدم ،وأقفاهلا مبتدأ مؤخر،
وﱫﮕﱪ هنا ليست عىل حقيقتها ،بل هي لالستعالء املجازي؛ ألن جمرورها القلوب
حسيا يصلح حملاًّ لالستعالء احلقيقي.
ليس شيئًا ًّ
وإنام عبرَّ هبا دون غريها؛ ليبينِّ أن هذه األقفال قد استولت عىل تلك القلوب،
وقهرهتا ،وسيطرت عليهاَّ ،
ومتكنت منها.
وﱫﮖﱪ مجع قلب« :واملراد هبذه القلوب :قلوب هؤالء املخاطبني»() بتلك
اآلية ال خيتلف أحد يف ذلك.
وآثر التعبري هبا هنا دون لفظة أفئدة؛ ألن أصل املادة حتمل يف طياهتا معنى التقلب
اليشء عن وجهه»() ،ويقول األزهري: ِ والتحول ،يقول ابن منظور« :ال َق ْل ُب تحَ ْ ُ
ويل
34
«سمي القلب قلبا لتقلبه» () ،بخالف لفظة األفئدة التي حتمل معاين الرقة والرهافة،
وهذا غري مراد هنا ،إذ القلب كام يقول العسكري« :اجلارحة التي تتق َّلب باألفكار
والعزوم ،...واألفئدة توصف بالرقة»().
فإيثار لفظة القلب عكس غلظة قلوهبم ،وكشف عن بشاعة نفوسهم من إبطان
يتحولوا عام هم فيه
َّ يضا إشارة إىل أن هؤالء جيب أنالكفر ،وإظهار اإليامن ،وفيها َأ ً
ٍ
وعندئذ تصل املواعظ سهلة ط ِّيعة إىل قلوهبم ،عالوة عىل أن ُّ
والتفكر، من عدم التد ُّبر
هذه املادة تفيد ً
أيضا النظر يف عواقب األمور« ،يقال :قلب األمور :نظر يف عواقبها،
ويف التنزيل العزيز :ﱫﭖ ﭗ ﭘﱪ»() ،وهذا املعنى أشدُّ انسجا ًما مع
التدبر املنفي عنهم ،فالتدبر هو تقليب األمور ،والنظر يف عواقبها ،وهكذا وضعت
تلك اللفظة يف مكاهنا األمثل هبا.
وتنكري القلوب هنا ذكر فيه املفرسون أكثر من وجه ،يقول أبو السعود« :وتنكري
القلوب إما لتهويل حاهلا ،وتفظيع شأهنا بإهبام أمرها يف القساوة واجلهالة ،كأنه قيل:
عىل قلوب منكرة ال يعرف حاهلا ،وال يقادر قدرها يف القساوة ،وإما ألن املراد هبا
قلوب بعض منهم وهم املنافقون»().
وجها ثال ًثا ،وهو التنبيه عىل اإلنكار الكامن يف قلوب املنافقني
وقد زاد الرازي ً
فقال« :ونحن نقول التنكري للقلوب للتنبيه عىل اإلنكار الذي يف القلوب ،وذلك ألن
35
القلب إذا كان عار ًفا كان معرو ًفا؛ ألن القلب خلق للمعرفة ،فإذا مل تكن فيه املعرفة
فكأنه ال يعرف ،وهذا كام يقول القائل يف اإلنسان املؤذي« :هذا ليس بإنسان هذا
سبع» ،ولذلك يقال« :هذا ليس بقلب هذا حجر»»().
وكأن التنكري عكس هذا اإلنكار املوجود يف نفوسهم لإلسالم ،فتالءم تنكري
اللفظ مع هذا املعنى ،وهو وجه جدير بالنظر واالعتبار ،وال يناقض الوجهني اللذين
ُذكرا من قبل.
رابعا ،فقال« :وقال :ﱫﮕ ﮖﱪ؛ ألنه لو قال :عىل
رسا ًوأضاف القرطبي ًّ
قلوهبم مل يدخل قلب غريهم يف هذه اجلملة ،واملراد :أم عىل قلوب هؤالء ،وقلوب
من كانوا هبذه الصفة»().
فالتنكري كام يفهم من هذا احلديث للعموم العريف ،أي :يدخل يف التنكري قلوب
هؤالء املنافقني املخاطبني باآلية ،وما كان عىل شاكلتهم يف ِّ
كل زمان ومكان ،وهذا
الوجه يتعارض مع الوجه الثاين عند أيب السعود من إرادة البعضية ،ولكنه أقوى منه،
ومن ثم؛ فالراجح :أن التنكري هنا للتفظيع واإلنكار والعموم ُّ
كل هذا ال ُي ْرفض؛ ألن
ِ
النكات البالغية ال تتزاحم ما دامت ال تتعارض.
«واألقفال :مجع ُقفل -بالضم ،-وهو احلديد الذي يغلق به الباب»() ،وهي هنا
مر ،بل وردت عىل سبيل االستعارة؛ ألن القلوب
ليست عىل معناها احلقيقي الذي َّ
البرشية ال توضع عليها أقفال كام توضع عىل اخلزائن والصناديق ،واألبواب احلديدية
36
سياقية ،عىل َّ
أن هذا املعنى احلقيقي غري مراد. َّ حالية
عقلية َّ
واخلشبية ،فالقرينة هنا َّ
وقد اختلف املفرسون يف نوع االستعارة يف تلك اآلية ،فمنهم من يرى أهنا
متثيلية ،يقول األلويس« :ﱫﮔ ﮕ ﮖ ﮗﱪ متثيل لعدم وصول الذكر إليها،
َّ
وانكشاف األمر هلا»().
شبه حال املنافقني يف
متثيلية ،حيث َّ يقصد األلويسَّ :
أن يف تلك العبارة استعارة َّ
عدم وصول اهلداية إليهم ،وانكشاف األمر هلم باألبواب التي عليها أقفال متنع ولوج
َمن باخلارج إىل الداخل.
وروعة تلك االستعارة :أهنا جعلت القلب كام يقول ابن القيم« :بمنزلة
املرتج الذي قد رضب عليه قفل؛ فإنه ما مل يفتح القفل ال يمكن فتح الباب
ِّ الباب
والوصول إىل ما وراءه ،وكذلك ما مل يرفع اخلتم والقفل عن القلب مل يدخل اإليامن
والقرآن»().
ترصحيية ،حيث استعار األقفال َّ
للرين الذي عىل َّ ومنهم من يرى أهنا استعارة
القلوب ،يقول ابن عطية« :قوله تعاىل :ﱫﮔ ﮕ ﮖ ﮗﱪ استعارة للرين الذي
منعهم اإليامن» () ،وفائدة تلك االستعارة املبالغة يف عدم وصول اإليامن إىل القلوب؛
ملا عليها من َرين يمنع وصول احلق إليها ،ونفاذ احلكمة واملوعظة فيها ،كام يمنع
القفل الولوج إىل الداخل.
37
ومنهم من يرى أهنا استعارة َم ْكنِ َّية ،يقول ابن عاشور« :األقفال :مجع قفل ،وهو
استعارة مكنية ،إذ شبهت القلوب -أي :العقول -يف عدم إدراكها املعاين باألبواب،
أو الصناديق املغلقة ،واألقفال ختييل كاألظفار للمنية يف قول أيب ذؤيب اهلذيل:
َأ ْل َف ْي َت ُك َّل تمَ ِ َ
يم ٍة ال َت ْن َف ُع»(). َوإِ َذا املَنِ َّي ُة َأن َْش َب ْت َأ ْظ َف َ
ار َها
وهذا األخري هو الراجح؛ ألن االستعارة هنا جسدت القلوب ،وجعلتها
كاألبواب جيري عليها ما جيري عىل األبواب املغلقة باألقفال ،عالو ًة عىل أهنا أكثر
توضيحا للمعنى ،وأكثر تأكيدً ا وقو ًة ومبالغ ًة له.
ً
وعىل ٍّ
كل؛ فالتعبري هنا جاء يف غاية احليوية والغنى والثراء؛ ألن كل هذه األنواع
من االستعارات حت َّققت فيه ،واحتملها كام ترى.
وهنا مالحظة جدير بالنظر ،وتزيد تلك االستعارة قو ًة ومبالغة ،فإن الذكر
ٍ
قلوب أقفال» بتنكري أقفال كام فعل مع قلوب ،بل أضاف احلكيم مل يقل« :أم عىل
األقفال إىل ضمريها ،ويف هذه اإلضافة تأكيد عىل أن هذه األقفال من نوع معني
تتالءم مع قلوب هؤالء ،وهي أقفال الكفر والعناد ،فاألقفال املعهودة حمسوسة،
ولكن هذه أقفال معنوية معقولة تتناسب مع تلك القلوب ،يقول ابن القيم «يف قوله:
َّ
ﱫﮗﱪ بالتعريف نوع تأكيد ،فإنه لو قال :أقفال لذهب الوهم إىل ما يعرف هبذا
االسم ،فلام أضافها إىل ضمري القلوب علم َّ
أن املراد هبا ما هو للقلب بمنزلة القفل
للباب ،فكأنه أراد :أقفاهلا املختصة هبا التي ال تكون لغريها»().
ويقول ابن عاشور« :وإضافة «أقفال» إىل ضمري «قلوب» نظم بديع أشار إىل
بمسمى االستعارة.
َّ () التحرير والتنوير ،114 /26وانظر :نظم الدرر ،170/7ومل يرصح
() التفسري القيم ،439وانظر فتح البيان للشيخ صديق خان .23 /9
38
قاسية»().
اختصاص األقفال بتلك القلوب؛ أي :مالزمتها هلا ،فدل عىل أهنا َّ
نصت رصاحة عىل أن القلوب املنغلقة الغليظة
وهكذا فإن هذه اآلية الكريمة قد َّ
القلوب املنفتح َة
َ القاسية ال تتد َّبر الذكر احلكيم ،وهذا يعني بمفهوم املخالفة :أن
الل ِّين َة السليمة اخلالية من األهواء واألمراض هي التي تتدبر القرآن ،وهذا ال يتحقق
إال يف قلوب ُ
اخل َّلص من املؤمنني ،وبذلك تكون تلك اآلية قد َّ
نصت عىل أداة التدبر
احلقيقي ،ووسيلته الصحيحة ،وهي القلوب املفتوحة ال الغليظة القاسية ،ومل يرد هذا
األمر يف آيات التدبر إال يف هذا املوطن().
39
ثال ًثا :األرسار البالغية يف قوله تعاىل :ﱫﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬﱪ [املؤمنون.]68:
وردت هذه اآلية الكريمة يف سورة «املؤمنون» املكية التي ُتعنى -كباقي السور
املكية -بتقرير الوحدانية وغريها من األمور التي هتتم هبا السور املكية وهذه اآلية
التي نحن بصددها وردت يف مقام احلديث الرصيح عن كفار مكة ،حيث ورد قبلها
قوله تعاىل :ﱫﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﱪ [املؤمنون.]54:
للنبي × ،واملخاطبون هم كفار مكة،
ِّ واتَّفق املفرسون عىل َّ
أن اخلطاب فيها
ثم حتدثت السورة بعد ذلك عن املؤمنني ،ثم عادت وحتدثت عن كفار مكة يف قوله
:ﱫﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﱪ
:ﱫﭳ ﭴﱪ ،ﱫﭹ [املؤمنون ،]67-63:فالضامئر يف هذه اآليات يف قوله
ﭺﱪ ،ﱫﮈ ﮉﱪ ،ﱫﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﱪ ،ﱫﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ
40
ﮛ ﮜ ﱪ تعود ك ُّلها عىل كفار مكة الذين حتدَّ ثت عنهم السورة قبل ذلك
كام َّبينا.
وكذلك احلال يف اآلية حمل الدراسة وما بعدها يف قوله تعاىل :ﱫﮣ ﮤ ﮥ
ﮦ ﮧﮨﮩ ﮪ ﮫﮬﮭﮮ ﮯﮰﮱﯓﯔ ﯕ ﯖﯗﯘ
ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﱪ [املؤمنون ،]70-68 :فإن الضامئر يف
قوله :ﱫ ﮤ ﱪ ،ﱫ ﮧ ﱪ ،ﱫﮫﱪ ،ﱫ ﮰ ﮱ ﯓ ﱪ ..إلخ ،تعود
عىل كفار مكة دون أدنى شك أو احتامل ،كام هو واضح من اآليات السابقة والالحقة
التي جاءت اآلية الكريمة حمل الدراسة يف سياقاهتا.
ومناسبة تلك اآلية ملا قبلها حكاه البقاعي بقوله« :ﱫ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ
:ﱫﮔ ﮕ ﮖ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﱪ ملا كانت اآليات (أي :املذكورة يف قوله
ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﱪ [املؤمنون ]66:لمِ َا فيها من البالغة املعجزة،
تأملها ،وكانوا يعرضون عنها ،ويفحشون يف
تقبلها بعد ُّ
واحلكم املعجبة داعية إىل ُّ
ومرة بغريها ،تسبب عن
وصفها ،تارة بالسحر ،وأخرى بالشعر ،وكرة بالكهانةَّ ،
معرضا عنهم ،إيذا ًنا بالغضب ،مسندً ا إىل اجلمع الذي
ً ذلك اإلنكار عليهم ،فقال:
هو أوىل بإلقاء السمع»().
وقوله :ﱫ ﮣ ﮤ ﮥ ﱪ اهلمزة يف قوله :ﱫ ﮣ ﱪ لالستفهام اإلنكاري
ينكر عىل كفار مكة مر يف آية النساء وحممد ،فهو
التوبيخي التعجبي عىل نحو ما َّ
عدم تد ُّبرهم للقرآن الكريم الذي ُيلقى عىل مسامعهم ليل هنار ،ويو ِّبخهم عىل ذلك،
أي :ما كان ينبغي وقوع هذا منهم ،ويتعجب من حاهلم يف إعراضهم عن اهلداية؛ ألن
() نظم الدرر للبقاعي ،211/5وانظر :حاشية زاده ،173/6والفتوحات اإلهلية .197/3
41
ً
معرضا عنه.)(»... يظل «مثل ما جاء به حممد رسول اهلل × ال َي ِ
مل ُك َمن يتد َّبره أن َّ
والفاء يف قوله :ﱫﮣ ﱪ اختلف فيها عىل وجهني:
األول :عاطفة ،عطفت اجلملة التي بعدها عىل مجلة حمذوفة قبلها تتفق مع
السعود« :والفاء للعطف عىل مقدر ينسحب
السياق السابق هلا ،ويف هذا يقول أبو ُّ
عليه الكالم؛ أي :أفعلوا ما فعلوا من النكوص واالستكبار واهلجر ،فلم يتد َّبروا
القرآن»().
الثاين :أهنا استئنافية ِّ
متفرعة عام قبلها ،يقول ابن عاشور« :الفاء لتفريع الكالم
عىل الكالم السابق ،وهو قوله :ﱫﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﱪ ..إىل قوله :ﱫﮠ
متفرع عام قبلها ،ومرتبط
ﮡﱪ» ،وهذا األخري هو الراجح؛ ألن ما بعد الفاء ِّ
()
به أشدَّ ارتباط كام يبدو بوضوح ِمن متاسك تلك السياقات ،واتصاهلا بلحمة شديدة
ال ينفصم ُعراها.
و«ل» حرف نفي وجزم وقلب عىل ما هو معلوم ،وعبرَّ هبا هنا دون ال النافية؛ َّ
ألن مَ ْ
ال النافية لنفي احلال أو االستقبال حسب السياق ،واملراد هنا :نفي تد ُّبرهم للقرآن
نف ًيا حاسماً جاز ًما فيام مىض؛ ومن ثم عبرَّ بـ (مل) التي تقلب املضارع إىل امليض ،وهذه
األداة عكس « َلـماَّ » ال تتعرض لتوقع حدوث الفعل بعدها للمستقبل ،لكن ورودها
ُّ
وحتضهم عليه عقب االستفهام اإلنكاري يرجح أهنا تنفي عنهم التدبر يف املايض،
42
يستشف بوضوح من السياق؛ ألن من ينكر ُّ حالة نزول اآلية ومستقبلاً ،وهذا معنى
حارضا ،وحيثُّه عليه مستقبلاً ،وهلذا
ً عىل ٍ
أحد عدم القيام بفعلٍ ما؛ فهو حيضه عىل فعله
:ﱫﮣ ﮤ ﮥ ﱪ يتضمن َّ
حضهم عىل تد ُّبر هذا أشار الشنقيطي فقال« :قوله
القول الذي هو القرآن العظيم» ().
ويف هذا داللة ً
أيضا -واهلل أعلم -إىل أن كفار مكة املخاطبني بتلك اآلية
سيتد َّبرون القرآن ،وسيؤمنون به مستقبلاً ،وقد كان ،بخالف النفي بـ (ال) يف
آيتي النساء وحممد التي تنفي عن املنافقني التدبر يف احلارض فحسب ،ومل تتعرض
للمستقبل ،وهذه خصيصة من خصائص التعبري يف كل آية أظهرهتا أداة اجلزم هنا،
وأداة النفي هناك.
ﱫ ﮤ ﱪ أصله يتدبروا« :أدغمت التاء يف الدال؛ ألن التاء قريبة املخرج من
الدال ،خمرج الدال بطرف اللسان ،وأطراف الثنيتني ،وخمرج التاء بطرف اللسان
وأصول الثنيتني ،فكل ما قرب خمرجه فافعل به هذا ،وال تقل يفَ « :ي َتن ََّزلون»،
« َي َّن َّزلون»؛ ألن النون ليست من حروف الثنايا كالتاء»() ،ورس اإلدغام هنا حكاه
اإلمام البقاعي فقال« :ﱫﮣ ﮤ ﮥﱪ أي :املتلو عليهم بأن ينظروا يف أدباره
وعواقبه ،ولو مل يبلغوا يف نظرهم الغاية بام أشار إليه اإلدغام ،ليعلموا أنه ُموجب
لإلقبال والوصال ،والوصف بأحسن املقال»().
ويف اإلدغام -زيادة عىل ذلك -إشارة إىل أن كفار قريش كانت تضيق صدورهم،
() أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن ،874/5والوسيط للشيخ طنطاوي .50/10
() معاين القرآن لألخفش ،107-106/1وانظر :الرساج املنري للرشبيني .585/2
() نظم الدرر للبقاعي .212- 211/5
43
وتنغلق قلوهبم عند سامعه؛ ألهنم يعلمون يف قرارة نفوسهم أنه حق ،وأن كل ما
يعيبون به عىل القرآن ال صحة له ،فحكى اإلدغام أحواهلم النفسية والشعورية ،ومن
رسيعا ذا نربة شديدة بخالف ﱫﮑ
ً ثم جاء التعبري بقوله :ﱫ ﮣ ﮤ ﱪ خاط ًفا
ﮒ ﱪ يف احلديث عن املنافقني من انفتاح الفم يف النطق مع ال النافية ،وكأنه
حيثُّهم عىل التأمل فيه بروية ،وهدأة مرة بعد مرة ،أما كفار قريش فيكفيهم هنا أدنى
تدبر للوصول للحق؛ ألهنم املوصوفون يف القرآن باللسن واللدد ،ورسعة الفهم
والبدهية.
وواو اجلامعة يف قوله :ﱫﮤ ﱪ عائدة عىل كفار مكة حسبام هو واضح من اآلية
السابقة يف قوله :ﱫﮞ ﮟ ﮠ ﮡﱪ ،حيث كان كفار مكة يسمرون،
ويذكرون القرآن باهلجر ،فيقولون :هو سحر وشعر وكهانة.
ﱫﮥﱪ مفعول به ،مصدر من الثالثي قال ،وهو يطلق عىل أوجه عديدة:
«أظهرها :أن يكون للمركب من احلروف املُبرْ َ ِز بالنطق مفر ًدا كان أو مجلة،
فاملفرد كقولك« :زيد» ،و«خرج» ،واملركب :زيد منطلق ،وهل خرج عمرو ،ونحو
ذلك..
الثاين :يقال للمتصور يف النفس قبل اإلبراز باللفظ قول ،فيقال :يف نفيس قول
مل أظهره ،قال تعاىل :ﱫﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﱪ ،فجعل ما يف اعتقادهم
قولاً .
الثالث :لالعتقاد نحو :فالن يقول بقول أيب حنيفة.
الرابع :يقال للداللة عىل اليشء ،نحو قول الشاعر:
44
ال َق ْطنِي.)(»... ا ْمت َ
َأل الحْ َ ْو ُ
ض َو َق َ
واملراد هنا األول؛ ألن القرآن قول مركب من حروف »..إلخ ما ذكره الراغب،
لكنه قول متحدَّ ى به« ،وسمي القرآن قولاً ؛ ألهنم خوطبوا به»() كام يقول القرطبي،
يتقبله ليس بأهل لفهم يشء من
أو كام يقول البقاعي« :عرب بالقول إشارة إىل أن من مل َّ
القول ،بل هو يف عداد البهائم»().
والتعبري بالقول هنا دون القرآن أو الكتاب؛ لإلشارة إىل أن كفار قريش كانوا
يسمعونه مقولاً من النبي × ،والصحابة ،ومل يكونوا يقرؤونه قراءة ،أو يكتبونه
كتابة ،ويف التعبري به ً
أيضا إشارة إىل أهنم كانوا جيعلونه يف منزلة بقية األقوال التي
يستمعون إليها من البرش ،فال يلتفتون ملعانيه ،وال يدققون ملا فيه.
ولعل يف اختيار القول ً
أيضا إشارة واضحة إىل أهنم أمة القول بمختلف فنونه
ونثرا ،و َم َثلاً ،وحكم ًة ،فكيف مل يتد َّبروا هذا القول الذي جاء عىل
شعراً ،
وأغراضهً :
وفق طرائقهم اللغوية ،وسالئقهم البيانية ،وهم َمن هم من أمراء الفصاحة وملوك
البالغة ،وسالطني البيان؟! كل هذا كامن يف اختيار تلك اللفظة ،ومن ثم فهي حتكي
حالتهم ،وتكشف عن رسيرهتم ،وتعكس ما كانوا عليه بدقة متناهية ،ووضوح تام،
ولذا فالتعبري بتلك اللفظة أدق وألصق هبذا السياق ،وال يمكن أن َّ
حيل غريها حملها
من نحو القرآن كام مىض ،والكتاب كام سيأيت.
و(أل) يف القول تفيد العموم العريف ،أي :القول الذي استمعوا إليه وليس
45
مقصو ًدا به القرآن كله؛ ألن القرآن كله مل يكن قد نزل بعد ،وهذا القول قل أو كثر لو
تد َّبروه كان كاف ًيا يف إيامهنم وعودهتم إىل رحاب احلق؛ وقد انطبق هذا عىل عمر بن
اخلطاب ريض اهلل عنه يف واقعة إيامنه ،حني آمن بقراءة بعض آيات تالها ،فلو فعل
لعادوا لرشدهم ،وآمنوا برهبم.
الكفار مثلام فعل ُ
وجيوز أن تكون (أل) للعهد ،أي :هذا القول املعهود الذي يستمعون إليه من
النبي × ،والصحابة رضوان اهلل عليهم.
وبعدَ أن أنكر عليهم عدم تدبرهم للقرآن تاله باإلنكار عىل عدم اإليامن؛ فقال:
ﱫ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﱪ؛ أي :أجاءهم رسولهُ م حممد × بيشء غريب
مستبدع مل يأت آبائهم السابقني؟ كلاَّ ،ليس األمر كذلك؛ ألن ما جاءهم به × يتفق
-يف أصوله وكلياته -مع ما جاء به إبراهيم وإسامعيل وغريمها عليهم السالم ،ويف
هذا تقريع آخر هلم؛ َّ
ألن الرسول × جاء هلدايتهم كبقية الرسل ،ومل يكن بدعا يف
ذلك ،قال تعاىل :ﱫﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﱪ [األحقاف.]9:
وﱫﮦﱪ يف قوله :ﱫﮦ ﮧﱪ منقطعة ،بمعنى :بل ،يقول أبو السعود« :ﱫﮦﱪ
يف قوله تعاىل :ﱫ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﱪ منقطعة ،وما فيها من معنى (بل)
لإلرضاب واالنتقال عن التوبيخ بام ُذكر إىل التوبيخ بآخر»() ،وأم املنقطعة هذه:
«يلزمها تقدير استفهام بعدها ال حمالة ،فقوله :ﱫ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﱪ ،تقديره:
بل أجاءهم»().
وحذف أداة االستفهام يف هذا املوضع جائز؛ لداللة (أم) عليه ،ولفهمها من
() تفسري أيب السعود ،143/6وانظر تفسري القرطبي ،139/12وفتح البيان .297/6
() التحرير والتنوير .88 / 18
46
واضحا يف الكالم.
ً السياق؛ وألن ذكرها سيسبب ثقلاً
واالستفهام املقدر هنا خرج عن حقيقته إىل اإلنكار واالستبعاد ،يقول أبو
السعود« :واهلمزة إلنكار الوقوع ال إلنكار الواقع ،أي :بل أجاءهم من الكتاب
ما مل يأت آباءهم األولني ،حتى استبدعوه واستبعدوه ،فوقعوا فيام وقعوا فيه من
الكفر والضالل ،يعني :أن جميء الكتب من جهته تعاىل إىل الرسل عليهم السالم
سنة قديمة له تعاىل ال يكاد ُيتسنى إنكارها ،وأن جميء القرآن عىل طريقته فمن أين
ينكرونه؟»().
وقيل :إن االستفهام هنا ،وفيام ييل تلك اآلية للتقرير ،وهو محل املخاطب عىل
اإلقرار بام يعلمه ،يقول اجلمل« :قوله :ﱫﮦ ﮧﱪ ،وقوله :ﱫﮮ ﮯ ﮰﱪ،
وقوله :ﱫﮱ ﯓﱪ ،أم يف املواضع الثالثة مقدرة بـ (بل) االنتقالية ،ومهزة
االستفهام التقريري ،والتقدير :بل أجاءهم ،بل أمل يعرفوا ،بل أيقولون»().
وعىل ذلك :فهذه االستفهامات هنا خرجت عن حقيقتها من طلب معرفة
املجهول إىل معنى من هذه املعاين املجازية التي أرشت إليها ،وهذا عند البالغيني
املتأخرين يعدُّ من قبيل املجاز املرسل لعالقة اللزوم ،وإىل هذا أشار ابن عاشور فقال:
«وهذه االستفهامات مستعملة يف التخطئة عىل طريق املجاز املرسل؛ ألن اتضاح
اخلطأ يستلزم الشك يف صدوره عن العقالء ،فيقتيض ذلك الشك السؤال عن وقوعه
من العقالء.)(»...
() تفسري أيب السعود ،143/6وانظر :روح البيان ،94/6وتفسري القاسمي .238/12
() الفتوحات اإلهلية ،197/3وانظر :حاشية الشهاب ،592/6وحاشية الصاوي .170/4
() التحرير والتنوير ،87/18وانظر :حاشية الدسوقي عىل رشح السعد 193/1ضمن
رشوح التلخيص.
47
لكن املجيء أعم؛ ألن اإلتيان
وقوله :ﱫﮧﱪ املجيء يف اللغة« :كاإلتيانَّ ،
جميء بسهولة ،واإلتيان قد يقال باعتبار القصد ،وإن مل يكن منه احلصول ،واملجيء
اعتبارا باحلصول ،ويقال :جاء يف األعيان واملعاين ،ولمِ َا يكون جميئه بذاته وبأمره،
ً يقال
وملن قصد مكا ًنا ،أو عملاً ،أو زما ًنا.)(»...
واملجيء هنا مستعمل يف املجيء يف املعاين ،وهو هنا ليس عىل حقيقته ،بل
«املجيء جماز يف اإلخبار والتبليغ ،وكذلك اإلتيان»().
تبعية؛ ألهنا جرت يف الفعل كام يرى متأخرو البالغيني،
وهذا املجاز استعارة َّ
والتعبري عن التبليغ واإلخبار ومها من املعنويات باملجيء لتشخيص املعنويات،
وإبرازها يف صورة املحسوسات؛ لتثبيتها يف األفئدة والعقول.
«ه ْم» يف ﱫﮧﱪ يعود عىل كفار قريش ،كام تؤكد السياقات.
والضمري ُ
وﱫﮨﱪ :اسم موصول بمعنى الذي ،وهي هنا فاعل جاء ،وهي صادقة عىل
دين ،يقول ابن عاشور« :وﱫﮨﱪ املوصولة صادقة عىل دين ،واملعنى :أجاءهم دين
مل يأت آباءهم األولني ،وهو الدين الداعي إىل توحيد اإلله وإثبات البعث»() ،وإسناد
جمازا؛ َّ
ألن الفعل جاء للفاعل اسم املوصول ﱫﮨﱪ قرينة واضحة عىل َّ
أن الفعل جاء ً
الدين ال يتأتى منه املجيء حقيقة.
ومجلة :ﱫ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﱪ صلة املوصول ،واملراد من هذه الصلة قد
يكون ظاهر معناها ،بمعنىَّ :
أن الدين الذي أتى به الرسول الكريم × من توحيد
48
اإلله والبعث مل يكن هلم عهد به من قبل ،وعىل هذا املعنى الظاهر «ففي الكالم
ُّ
التهكم َّ
أن شأن تهَ ُّكم هبم ،إذ قد أنكروا دينًا جاءهم ،ومل يسبق جميئه آلبائهم ،ووجه
كل رسول جاء بدين أن يكون دينُه ُأ ُن ًفا ،ولو كان للقوم مثله؛ لكان جميئه حتصيل
ِّ
حاصل.
وإن كان املراد من الصلة :أنه خمالف ملا كان عليه آباؤهم؛ ألن ذلك من معنى:
مل يأت آباءهم ،كان الكالم جمرد تغليط؛ أي :ال اجتاه لكفرهم به؛ ألنه خمالف ملا كان
عليه آباؤهم ،إذ ال يكون الدين إلاَّ خمال ًفا للضاللة»().
ﱫﮪﱪ :اإلتيان هنا ً
أيضا جماز عن اإلبالغ عىل نحو ما سبق ،فأصل الكالم:
فلم ذكر هنا اإلتيان،
«أم بلغهم دين مل يبلغ آباءهم األولني» ،وإذا كان األمر كذلك؛ َ
وذكر قبل املجيء؟
أقول :ألن املجيء األول جميء بالذات؛ أي :أجاءهم الرسول بخرب وبالغ ودين
فأليق به املجيء ،والثاين تكرار ،فأليق به اإلتيان؛ ألن اإلتيان كام يقول الراغب« :جميء
أخص من املجيء ،وهكذا ُوضع ُّ
كل لفظ يف موضع ال يصلح فيه ُّ بسهولة»() ،فهو
غريه.
ﱫﮫﱪ :آباء :مفعول يأت ،والفاعل ضمري مسترت يعود عىل ما املوصولة
التي هي فاعل جاء ،واملعنى :بل أجاءهم دين أو بالغ مل يأت هذا الدين أو البالغ
آباءهم األولني.
سمى كل من
وآباء :مجع تكسري مفرده أب ،واألب يف اللغة« :الوالد ،و ُي َّ
49
كان سب ًبا يف إجياد يشء ،أو إصالحه ،أو ظهورهَ :أ ًبا ،ولذلك يسمى النبي × أبا
املؤمنني.)(»...
وليس املراد باآلباء هنا آباء كفار قريش املخاطبني باآلية بداهة ،بل املراد آباؤهم
رس استعامل اآلباء هنا بدلاً عن َّ األبعدون الذين ينتسبون إليهم ،ولعل هذا ُيفسرِّ
الوالدين التي ُّ
تدل عىل األب واألم املبارشين.
مرفوعا ومنصو ًبا
ً والتعبري باآلباء مجع تكسري جاء يف الذكر احلكيم ( )64مرة
وجمرورا() ،وهو يف هذه املواضع مل يكن املقصود به األب املبارش ،بل املقصود به
ً
حيدده سياقات الكالم املختلفة ،فقد ُقصد به اً
مثل :اآلباء املبارشين يف قوله تعاىل:
ﱫﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﱪ [النور ،]31:كام أريد به
األب غري املبارش يف قوله تعاىل :ﱫﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ
ﭝ ﭞﭟﱪ [البقرة ،]170:فالسياق هو الذي حُيدِّ د املراد به ،وهنا السياق يشري
بوضوح إىل أن اآلباء ليسوا هم اآلباء املبارشين بل أجدادهم ،ومن ثم فإن إطالق
اآلباء عىل األجداد قد يكون مستعملاً يف حقيقته؛ ألنه جيوز إطالق األب عىل الوالد
املبارش ،وعىل اجلد ،قال تعاىل :ﱫ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ
مل يكن أبا يعقوب ،بل كان جده ،وقد يكون ﯭ ﱪ [البقرة ،]133:وإبراهيم
ً
جمازا؛ ألنه مل يستعمل يف معناه املوضوع له يف اللغة ،يقول السمني احللبي« :ويطلق
عىل اجلد ،فقيل :حقيقة ،وقيلً :
جمازا ،وهو الظاهر»().
50
«ه ْم» يف آبائهم يعود عىل كفار قريش الذين يتحدَّ ث السياق القرآين
والضمري ُ
عنهم بوضوح كام َّبينا.
ﱫﮬﱪ :مجع أول ،و«األول هو الذي يرتتَّب عليه غريه ،ويستعمل عىل
أوجه:
أحدها :املتقدم بالزمان ،كقولك :عبد امللك أولاً ،ثم منصور.
الثاين :املتقدم بالرياسة يف اليشء ،وكون غريه حمتذ ًيا به ،نحو :األمري أولاً ،ثم
الوزير.
الثالث :املتقدم بالوضع والنسبة ،كقولك للخارج من العراق :القادسية أولاً ثم
فيد ،وتقول للخارج من مكة :فيد أولاً ،ثم القادسية.
الرابع :املتقدم بالنظام الصناعي ،نحو أن يقال :األساس أولاً ،ثم البناء»().
واملراد به هنا هو الوجه األول ،وهو التقدم بالزمان ،واملعنى :أم جاءهم ما مل
يأت آبائهم األولني يف األزمنة الغابرة.
وقد اختلف املفسرِّ ون يف حتديد آبائهم األولني هنا عىل رأيني:
وأعقابه من عدنان وقحطان، األول :هم آباء كفار قريش من «إسامعيل
ومرض وربيعة ،وقس واحلرث بن كعب ،وأسد بن خزيمة ومتيم بن مرة ،وتبع وضبة
بن أد»().
الثاين :هم سلف األمم السابقة :من نوح وإبراهيم وإسامعيل بوجه عام ،يقول
األولني ،أي :ليس بِبِدْ ٍع ،بل قد جاء آبا َءهم
الثعالبي« :أم جاءهم ما مل يأت آباءهم َّ
51
َ
َ
وإسامعيل ،وغريهم»(). األ َّولِنيَ ،وهم سالف األمم ُّ
الر ُس ُل؛ كنوح ،وإبراهيم،
والراجح هنا :هم آباؤُ هم الذين كفار قريش من نسلهم وأصالهبم ،كام َّ
مر يف
أن األولني -وص ًفا آلباء -ال ينسحب إال عىل أجدادهم
الوجه األول ،يؤكد هذاَّ :
الذين ينتسبون إليهم؛ ألهنم هم بالفعل كذلك ،أما ما عداهم من األمم األخرى؛
فإهنم -وإن كانوا أولني -لكنهم ليسوا آباءهم عىل موجب داللة هذا اللفظ.
أن لفظ (األولني) مقرت ًنا بلفظ (آباء) ورد يف الذكر احلكيم
ومما يستأنس به هلذاَّ :
( )5مرات ،وأطلق يف ِّ
كل موضع عىل آباء املخاطبني املتحدث عنهم مل يتعداهم
لغريهم ،كام يبدو من سياقات هذه املواضع يف قوله تعاىل :ﱫ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ
ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﱪ [املؤمنون ،]24:وقوله :ﱫﮄ ﮅ ﮆ ﮇ
ﮈﱪ [الشعراء ،]26:وقوله :ﱫﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ
ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﱪ [القصص ،]36:وقوله :ﱫﯰ
ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﱪ [الصافات ،]126:وقوله :ﱫ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ
ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﱪ [الدخان.]8:
52
رابعا :األرسار البالغية يف قوله تعاىل :ﱫﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ
ً
ﭸ ﭹ ﭺﱪ [ص.]29 :
املكية يف سياق عجيب ،حيث خت َّللت
وردت هذه اآلية الكريمة يف سورة «ص» َّ
،فقد بدأ احلديث عنهام بقوله تعاىل :ﱫﭑ ﭒ ﭓ احلديث عن داود وسليامن
ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜﱪ [ص.]17:
واستمرت اآليات الكريمة تتحدث عنهام إىل قوله تعاىل :ﱫ ﯷ ﯸ ﯹ
ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ
ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕﱪ [ص.]26:
ثم استطردت فتحدثت عن خلق السامء واألرض يف قوله تعاىل :ﱫ ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﱪ [ص.]27:
:ﱫﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ثم َّبينت عدم استواء جزاء املتقني والفجار يف قوله
ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﱪ [ص.]28:
ثم وردت بعد ذلك ُ
اآلية التي معنا حمل الدراسة يف قوله تعاىل :ﱫﭲ ﭳ
ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﱪ [ص.]29:
53
يف قوله :ﱫﭼ ﭽ ثم عاد احلديث من جديد عن داود وسليامن
وحده ﭾﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﱪ [ص ]30:حتى انتهى احلديث عن سليامن
يف قوله تعاىل :ﱫﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﱪ [ص ،]40:وهكذا جاء احلديث عن
تلك اآلية يف سياق عجيب غريب كام ترى بوضوح.
وجميء تلكم اآلية يف هذا السياق العجيب أطنب اإلمام الرازي يف ذكر رسه بام
ال مزيد عليه فليعد إليه القارئ الكريم خشية التطويل().
ً
معرتضا ،ويف هذا وإذا كان األمر كذلك فإن ورود هذه اآلية هنا يعد استئنافا
نظر إىل قوله يف
يقول ابن عاشور« :اجلملة استئناف معرتض ،ويف هذا االستئناف ٌ
أول السورة ﱫ ﭓ ﭔ ﭕ ﱪ إعادة للتنويه بشأن القرآن كام سيعاد ذلك يف قوله
تعاىل :ﱫﮍ ﮎﮏ ﱪ»().
وﱫﭲﱪ يف قوله :ﱫﭲ ﭳ ﭴ ﭵﱪ «جيوز أن يكون خرب مبتدأ
حمذوف ،والتقدير :هذا كتاب ،ومجلة ﱫﭳ ﱪ صفة كتاب ،وجيوز أن يكون مبتدأ،
ربا عن ﱫﭲﱪ»().
ومجلة ﱫﭳﱪ صفة كتاب ،وﱫﭵﱪ خ ً
والراجح :أن لفظة ﱫﭲﱪ مبتدأ ،وليس خ ً
ربا عن مبتدأ حمذوف ،وجاز
االبتداء بالنكرة؛ ألهنا موصوفة بجملة أنزلناه ،عالوة عىل أن الكالم هنا سائغ بدون
تقدير حمذوف ،وهذا ما رجحه ابن عاشور بقوله« :ال جيعـل ﱫﭲﱪ خرب مبتدأ
54
حمذوف ،وتقديره :هذا كتاب ،إذ ليس هذا بمحز كبري من البالغة»().
والكتاب يف األصل مصدر ،ثم سمي املكتوب فيه كتا ًبا مبالغة ،وجيوز أن يكون
الكتاب يف األصل اسماً للصحيفة مع املكتوب فيه.)(»...
واملقصود بالكتاب هنا القرآن الكريم ،وسمي القرآن كتا ًبا؛ «ملا مجع فيه من
األخبار والقصص ،واألحكام واملواعظ واألمثال ،واألوامر والنواهي والزواجر،
واإلنذار واإلعذار ،والتحذير والبشارة إىل غري ذلك»().
وهذا صحيح؛ ألن املادة تعني الضم واجلمع ،يقول الراغبَ :
«الك ْت ُب ضم أديم
إىل أديم باخلياطة ،وكتبت البغلة :مجعت بني ُشفرهيا بحلقة»().
وأطلق الكتاب يف هذا السياق عىل القرآن؛ لإلشارة إىل أن املؤمنني -املوجه هلم
اخلطاب يف تلك اآلية -هم املعنيون وحدهم بكتابته ليظل حمفوظا أبد الدهر فلفظة
الكتاب تبني عن مجعه يف صدورهم وضمه آلياته يف رقاعهم.
وعىل ذلك فإن إطالق الكتاب عىل الذكر احلكيم له داللة تغاير داللة إطالق
عطف الكتاب عىل القرآن يف قوله تعاىل :ﱫﭑﭒ القرآن عليه ،بدليل أن املوىل
ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﱪ [النمل ،]1:كام عطف القرآن عىل الكتاب يف قوله
تعاىل :ﱫ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﱪ [احلجر ،]1:ومعلوم أن العطف
يقتيض املغايرة يف الذات أو املغايرة يف الصفات ،وهنا مغايرة يف الصفات ،فلو كان
الكتاب بمعنى القرآن دون أدنى فرق ما عطفه عليه ،فإذن حقيقة الذكر احلكيم يف
55
كونه قرآ ًنا غري حقيقته يف كونه كتا ًبا ،فاألول منظور فيه إىل صفة القراءة ،والثاين
منظور فيه إىل كونه مكتو ًبا يستوضح منه كل يشء.
وجيوز أن يكون التعبري عن القرآن بالكتاب هنا ً
أيضا؛ ألن تلك اللفظة تتالءم مع
لفظة ﱫﭵﱪ بعدها عكس لفظة القرآن التي تصاحبها ألفاظ أخرى مثل اإلبانة
وغريها كام ورد يف آيات عديدة كقوله تعاىل :ﱫ ﭑﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ
ﭗﱪ [احلجر ،]1:وقوله :ﱫﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﱪ [يوسف]2:
وقوله :ﱫﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﱪ [اجلن ،]1:فلم توصف لفظة قرآن إال بنحو ما سبق،
وكأن الكتاب يف القرآن خيرب عنه بالربكة ،عكس القرآن فهو يوصف بإإلبانة ،وبأنه
عريب ،وبأنه عجب ،وهذا -واهلل أعلم -من أرسار التعبري بتلك اللفظة الرشيفة هنا،
والدليل عىل صحة ذلك أن القرآن مل يوصف بلفظة :ﱫﭵﱪ مطل ًقا بل هي خمتصة
بالكتاب حيث جاءت وص ًفا له يف أكثر من آية كريمة كام سيأيت.
وتنكري ﱫﭲﱪ كام يقول ابن عاشور« :للتعظيم؛ ألن الكتاب معلوم فام كان
تنكريه إال لتعظيم شأنه» ().
وأرى أن التنكري ال يقترص هنا عىل التعظيم بل جيوز أن يكون للنوعية أي :كتاب
من نوع ال نظري وال مثيل له بني الكتب الساموية أو الوضعية من شتى الوجوه ،كام
جيوز أن يكون التنكري لإلفراد والوحدة أي :أنه كتاب فريد وحيد يف نظمه وأسلوبه،
وما احتواه من ترشيعات ومضامني ال توجد يف غريه وهذه الدالالت كلها جائزة،
والتنكـري يوحي هبا ،وال تناقض بينها ،وهذا من ثراء القرآن ،وعطائه يف دالالت
ألفاظه ،والنكات البالغية ال تتزاحم ما دامت ال تتعارض.
56
ﱫﭳﱪ أنزل :ماض مزيد بحرف من الثالثي نزل ،والفعل «نزل» الزم،
وهو يتعدى لغريه« :باحلرف واهلمزة والتضعيف فيقالَ « :نزَ ْل ُت به»َ ،
و«أ ْنزَ ْل ُت ُه»،
و« َن َّز ْل ُت ُه»().
والنزول كام يقول الراغب« :انحطاط من علو ،يقال :نزل عن دابته ونزل يف
مكان كذا :حط رحله فيه ...ونزل بكذا ،وأنزله بمعنى»() ،وليس بمعنى كام يقول
الراغب؛ ألن مهزة أنزل جعلت الفعل متعديا إىل املفعول به بنفسه ،ومن ثم فهنا فرق
داليل بينهام متثل يف اإلشارة إىل أن الكتاب مل ينزل بنفسه بل أنزله رب العاملني عىل نبينا
الطالب،
ُ من فوق سبع ساموات ،وهذا نظري قولنا :خرج × بواسطة جربيل
الطالب فبينهام فرق ملحوظ.
َ ُ
األستاذ وأخرج
وعرب هنا باإلنزال ،ويف آيات أخر عرب بالتنزيل؛ ألن اإلنزال يكون للنازل دفعة
واحدة ،والتنزيل يكون للنازل بالتدريج ()؛ وهذا ما أكد عليه العسكري بقوله« :قال
بعض املفرسين :اإلنزال :دفعي ،والتنزيل :للتدريج.
قلت :ويدلك عليه قوله تعاىل :ﱫ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ
ُ
ﭤ ﭥ ﱪ حيث خص القرآن بالتنزيل ،لنزوله منجام ،والكتابني باإلنزال
لنزوهلام دفعة.
وأما قوله تعاىل :ﱫﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﱪ فاملراد هنا مطل ًقا من غري
اعتبار التنجيم ،وكذا قوله تعاىل :ﱫﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﱪ ،فإن املراد إنزاله إىل سامء
57
الدنيا ،ثم تنزيله منجماً عىل النبي × يف ثالث وعرشين»() ،ويؤيد هذا أن لفظة
تنزيل بام يف نطق حروفها من مط وتطويل حتمل معنى املهلة والتدرج عكس ما يف
إنزال من رسعة.
وهناك فرق آخر بينهام الح يل من استقصاء استعامالت هذين الفعلني يف القرآن
ومضارعا تعدَّ ى إىل املفعول
ً الكريم حيث وجدت الفعل املضعف ﱫ ﯖ ﱪ() ماض ًيا
«الكتاب» رصاحة أكثر من مرة ،والكتاب يف هذه املواضع املراد به القرآن الكريم،
كام تعدى إىل املفعول «القرآن» رصاحة مرة واحدة يف قوله تعاىل :ﱫﰅ ﰆ ﰇ ﰈ
مرة واحدة
ﰉ ﰊﱪ [اإلنسان ،]23:وتعدى «للذكر» ،واملراد به :القرآن الكريم َّ
يف قوله :ﱫﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﱪ ،وتعدى للفرقان ،واملراد به القرآن
الكريم مرة واحدة يف قوله تعاىل :ﱫﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﱪ.
كام وجدت الفعل َ
«أ ْنزَ َل» تعدى إىل املفعول الكتاب مرات عديدة ،والكتاب
معا يف يف هذه املواضع املراد به القرآن الكريم ً
أيضا ،وتعدى إىل التوراة واإلنجيل ً
قوله تعاىل :ﱫﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﱪ [آل
عمران ،]3:وتعدى للتوراة بمفردها يف قوله تعاىل :ﱫﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ
ﮆﮇ ﱪ [املائدة ،]44:وتعدَّ ى للقرآن يف قوله تعاىل :ﱫﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﱪ
[طه ،]2:وقوله تعاىل :ﱫﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﱪ [احلرش ،]21:وتعدى
() الفروق يف اللغة للعسكري ،293وانظر :مفردات الراغب ،51والكليات للكفوي ،196
وقد عارض احللبي هذا الرأي الذي ذهب إليه العسكري بقوله« :وقد اعرتضت عليه بقوله تعاىل :ﱫ
ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﱪ فإنه أتى بصيغة :ﱫﯳﱪ مع مجلة دفعة واحدة من
غري تفريق وال تنجيم» .انظر :عمدة احلفاظ .189/4
() املعجم املفهرس .695 - 694
58
للذكر يف قوله تعاىل :ﱫ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ
ﭬﱪ [النحل ،]44:وتعدى إىل النور يف قوله تعاىل :ﱫﯧ ﯨ ﯩ ﯪﱪ
[النساء ،]174:وتعدَّ ى لآليات يف قوله تعاىل :ﱫﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﱪ
[البقرة ،]99:وتعدى للبينات واهلدى يف قوله تعاىل :ﱫ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ
ﮦ ﮧﱪ [البقرة ،]159:وتعدى للنور يف قوله :ﱫﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ
ﯩﯪ ﱪ [التغابن.]8:
فمتعلق «أنزل»() متنوع متعدد كام ترى ،عىل عكس متعلق َن َّز َل فهو حمصور
كام مر ،وعىل ذلك فإن متعلق اإلنزال أكثر وأشمل يف استخدامات القرآن ،وهو
مصداق لقول الراغب «اإلنزال أعم من التنزيل»() ،فبان هبذا أن لكل صيغة يف
القرآن دالالهتا وسياقاهتا ومتعلقاهتا ،وتنوع التعبري هبذه الصيغ يف القرآن إنام هو
ألرسار بالغية ،ونكات تعبريية أدركها من أدركها ،وغفل عنها من غفل؛ ولذا ال
يصح أن يكون َ
(أ ْنزَ َل) ،و ( َن َّز َل) بمعنى واحد ،وال يعني عدم إدراك الفروق بني هذه
الصيغ املختلفة عدم وجودها.
،والتعبري بضمري العزة والضمري « َنا» يف أنزلناه فاعل ،وهو يعود عىل املوىل
والعظمة فيه إيامء إىل عظمة هذا الكتاب وتفرده وأنه جنس فريد من الكالم ال يقدر
. عليه إال الواحد العالم
واهلاء يف ﱫﭳ ﱪ يف حمل نصب مفعول به يعود عىل الكتاب بال شك ،وهذا
يؤكد أن اهلمزة للتعدية كام أومأنا ،ومن ثم فليس أنزل بمعنى نزل.
59
وعرب عن الكتاب بالضمري؛ ألنه أليق بالسياق إذ مر ذكره رصاحة قبل والكالم
الكتاب إليك مبارك».
َ «كتاب أنزلنا
ٌ يكون ركيكا -حاشا وكلاَّ -لو قال:
ﱫﭴﱪ حرف اجلر «إِلىَ » هنا عىل أصله من إفادة االنتهاء ،واملعنى :انتهى
نزول الكتاب إليك ،وهذا يعني من طريق آخر أنه النبي اخلاتم ،وكتابه خاتم الكتب
الساموية وهنايتها.
تبعا ،يقول
نصا ،ويدخل فيه أمته ً
والضمري يف ﱫﭴﱪ يعود عىل النبي × ًّ
األلويس« :واخلطاب للنبي × ،وعلامء أمته عىل التغليب أي :لتتدبر أنت وعلامء
ولكن تقييد األلويس التدبر بعلامء األمة دون سائر أفرادها ال يصح؛ ألن
َّ أمتك»()،
ولكن
َّ الكتاب أنزل ليتدبره اجلميع ،نعم علامء األمة منوط هبم التدبر يف املقام األول،
هذا ال ينفي تدبر غريهم.
ﱫﭵﱪ عىل الرفع خرب لكتاب كام رجحنا وليس صفة؛ إذ «ال جيوز عىل
املختار أن يكون نعتا ثانيا؛ ألنه ال جيوز عند اجلمهور أن يتقدم النعت غري الرصيح
ﱫﭳ ﱪ عىل الرصيح» ().
واإلخبار عن كتاب بـ ﱫﭵﱪ فيه تعظيم وترشيف هلذا الكتاب.
وﱫﭵﱪ اسم مفعول من الفعل الرباعي بارك أي :أن الربكة اشتملت عليه،
واحتوته من مجيع الوجوه واجلوانب ،فهو مبارك بركة تامة شاملة يف ألفاظه ومعانيه
وأحكامه ،وكل ما يتضمنه من علوم خمتلفة.
60
والربكة هي« :ثبوت اخلري اإلهلي يف اليشء ،قال تعاىل :ﱫ ﭗ ﭘ ﭙ
ﭚ ﭛ ﭜ ﱪ [األعراف ،]96:وسمي بذلك لثبوت اخلري فيه ثبوت املاء يف
البرِ كة ،واملبارك ما فيه ذلك اخلري»().
واملقصود بكون الذكر احلكيم مباركا ،أي :أنه موضع للخريات اإلهلية الدينية
والدنيوية املستقرة فيه ،وهذا املعنى ال ينفك عن هذا اللفظ يف كل سياقاته يف الذكر
احلكيم ،سواء جاء مع القرآن كام هنا ،أم مع البيت احلرام كام يف قوله :ﱫﮖ ﮗ ﮘ
،كام ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﱪ [آل عمران ]96:أم مع حييى
يف قوله تعاىل :ﱫﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﱪ [مريم ،]31:أم مع املاء كام يف قوله:
ﱫ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﱪ [ق.]9:
والتنكري يف هذا اللفظ للتكثري والتعظيم أي :بركاته كثرية عميمة جدا ،ونفعه
جليل عظيم جدا ،فآياته «إما مرشدة إىل خري ،وإما صارفة عن رش وفساد ،وذلك
سبب اخلري يف العاجل واآلجل ،وال بركة أعظم من ذلك»() ،وجيوز أن يكون
للنوعية واإلفراد ،أي :بركاته من نوع خمتلف ال نظري هلا فريدة يف باهبا ،كل ذلك
ال يرفضه السياق العام هلذه اللفظة التي جاءت مقرتنة بالكتاب يف ثالثة مواضع يف
محا ،وألصق به صل ًة من غريه .
القرآن الكريم كله ،فهي أمس به ر ً
وقوله :ﱫﭶ ﭷﱪ الالم يف ﱫﭶ ﱪ الم التعليل بمعنى كي ،والتعبري
بالم التعليل فيه نص قاطع عىل أن التدبر هو علة إنزاله ،وبدونه سيفوت الغرض،
ونتبرص عظاته،
َ نتدبر آياته،
َ واحلكمة املقصودة من إنزاله ،وهذا يعني أنه أنزل لكي
61
وهنتدي هبديه ،ونستخرج أحكامه ،ونستكنه أرساره ،ونتفهم معانيه ،ونتمثل َّ
كل
ما فيه ،ومل ينزل ليقرأ بال تدبر ،أو ليتخذ زينة ،أو يقرأ عىل األموات ،أو يعلق عىل
صدور احلسناوات ،ويف ذلك يقول ابن القيم« :وأما التأمل يف القرآن :فهو حتديق
ناظر القلب إىل معانيه ،ومجع الفكر عىل تدبره وتعقله ،وهو املقصود بإنزاله ال جمرد
تالوته بال فهم وال تدبر.)(»...
وقرأ اجلمهور ﱫﭶ ﱪ بالياء ،وأصله ليتدبروا قلبت التاء داال ،وأدغمت
الدال يف الدال لقرب خمرجيهام ختفيفا كام مر يف آية «املؤمنون» ،ويف قراءة أخرى
ُقرئ ﱫلِتَدَّ َّب ُرواﱪ بالتاء ،وأصلها لتتدبروا بتاءين ،حذفت إحدامها اختصارا عىل
اخلالف الذي فيها ،أهي تاء املضارعة أم التاء التي تليها وقد حكى الطربي القراءتني
القراء يف قراءة ذلك ،فقرأته عامة القراء ﱫﭶﱪ بالياء ،يعني: ِ
«واختلفت َّ بقوله:
ليتدبر هذا القرآن من أرسلناك إليه من قومك يا حممد ،وقراءة أبو جعفر وعاصم
ﱫﭶ ﭷﱪ بالتاء ،بمعنى :لتتدبره أنت يا حممد وأتباعك ،وأوىل القراءتني
عندنا بالصواب يف ذلك أن يقال :إهنام قراءتان مشهورتان صحيحتا املعنى ،فبأيتهام
قرأ القارئ فمصيب»().
والفرق بني القراءتني يتمثل يف أن اخلطاب يف القراءة األوىل ﱫﭶ ﱪ
موجه ملن أرسل إليهم × من قومه مؤمنني وكافرين كام رصح الطربي ،ويف الثانية
ﱫلِتَدَّ َّب ُرواﱪ اخلطاب فيها للنبي واملؤمنني كام هو واضح من كالمه.
62
ولكني أرى أن املخاطب أي الفاعل واو اجلامعة يف قوله :ﱫﭶ ﱪ هم
املؤمنون بدليل كاف اخلطاب يف قوله :ﱫﭴ ﱪ أي أنزلناه إليك وألمتك خاصة
وبذلك يكون اخلطاب للمؤمنني يف القراءتني كام يشري سياق اآلية كام مر.
والتعبري باإلدغام -عىل أي من القراءتني -يعكس دعوة املؤمنني إىل تدبر آيات
هذا الكتاب بأقىص رسعة ودون متهل؛ الستخراج ثمراته املباركة وآللئه املكنونة فيه،
والتي ال تظهر إال للمتدبر.
ﱫﭷﱪ آيات مفعول به للفعل يتدبر ،والضمري يف آياته يعود عىل الكتاب
أي :ليدبروا آيات الكتاب ،فآيات الكتاب هنا هي التي وقع عليها التدبر.
واآليات مجع آية «واآلية هي العالمة الظاهرة ...وكل مجلة من القرآن دالة عىل
حكم آية ،سورة كانت أو فصوال ،أو فصال من سورة ،وقد يقال لكل كالم منه
منفصل بفصل لفظي آية ،وعىل هذا اعتبار آيات السور.)(»...
واملراد من اآلية هنا :اجلملة ،أو اجلمل من القرآن املتعارف عليها املسامة آية كام
ذكره الراغب ،والتعبري بآياته هنا يؤكد عىل أن الكتاب مقصود به القرآن الكريم؛ ألن
اآليات ال تنسحب إال عليه ،ومل ترد منسوبة إال إليه.
وإذا كان األمر كذلك َف ِل َم مل يقل :ليدبروه وقال :ليدبروا آياته؟ أقول :يف ذلك
موضوعا،
ً وموضوعا
ً إشارة واضحة إىل أن من شان املؤمنني أن يتدبروه آية آية،
وسورة سورة حتى يصلوا ملنتهاه ،ثم يعيدون الكرة مرة بعد مرة طيلة حياهتم ،فيجب
أن يكون هذا هجريهم وديدهنم حتى تنكشف هلم أرساره.
وليس املقصود من آيات الكتاب هنا آيات بعينها بل جيب تدبر آيات القرآن
63
مجيعها من آيات العبادات ،واملعامالت ،واألخالق ،وأرسار الكون ،والعقيدة،
والترشيع ،وغري ذلك ،ولعل التعبري باجلمع هنا ،وإضافته إىل ضمري الكتاب يؤكد
عىل أن التدبر يكون يف مجيع اآليات عىل اختالف أنواعها وقد أومأ إىل ذلك األلويس
حيث يقول« :أنزلناه ليتفكروا يف آياته التي من مجلتها هذه اآليات املعربة عن أرسار
التكوين والترشيع»().
وهنا ملحوظة دقيقة :فإن لفظة آيات مل تذكر مع التدبر إال هنا ،فلم ترد يف آية
النساء وحممد واملؤمنون ،مما يؤكد عىل أن املخاطبني بالتدبر هنا هم املؤمنون كام مر؛
ألن هذه اللفظة أوثق صلة هبم.
ومعنى« :تدبر اآليات :التفكر فيها ،والتأمل الذي يؤدي إىل معرفة ما َيدْ ُبر ظاهرها
من التأويالت الصحيحة ،واملعاين احلسنة؛ ألن من اقتنع بظاهر املتلو ،مل يحَ ْل منه بكثري
طائل ،وكان مثله كمثل من له لقحة درور ال حيلبها ومهرة نثور ال يستولدها» ().
هذا ،ومن يتدبر يف قوله :ﱫﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﱪ ويقارنه بام
ورد يف سورة النساء وحممد واملؤمنون جيد أن العبارات اختلفت يف هذه اآلية عن
هذه اآليات الثالث حيث عرب هنا بالتدبر مسبوقا بالم التعليل ،وعرب عن القرآن
نصا للنبي × ،وهذا عكس
بالكتاب ،وأخرب عنه بكونه «مبارك» ،ووجه اخلطاب ًّ
ما يف آية النساء وحممد واملؤمنون متا ًما ،فلم يرد فيها يشء مما ذكرت البتة ،فتغايرت
العبارات لتغاير السياقات ،وتباين املخاطبني ،وهذا كله يؤكد عىل أن املخاطب
بالتدبر يف تلك اآلية هم املؤمنون.
64
وملا كان املخاطب بالتدبر يف آيات الكتاب هم املؤمنون رشع يؤكد عىل أن هذا
األمر اجلليل ال يدركه حق إدراكه ،وال يتذكره حق تذكره إال أولو األلباب فقـال
تعاىل :ﱫﭸ ﭹ ﭺﱪ «أي :ليتعـظ بآيات الكتاب ،ويتدبرها حق التدبر
أهل العقول اخلالصة من الشوائب ،وهم أهل البصرية والبصائر من املؤمنني.
وعىل ذلك فالواو عطفت مجلة ﱫﭸ ﱪ عىل مجلة ﱫﭶ ﱪ عطف مجلة
هلا حمل عىل مجلة هلا حمل من اإلعراب؛ ألن مجلة ليدبروا متعلقة بأنزلناه ،والعطف
آيات الكتاب لغرضني: بالواو يقتيض الترشيك يف احلكم ،وكأن املعنى :أنزل اهلل
ليتدبر املؤمنون آياته ،وليتذكر أولو األلباب عظاته فيصلون إىل شاطئ السالمة،
وينعمون باجلنة جزاء وفاقا.
والالم يف ﱫﭸ ﱪ الم التعليل ،ويتذكر مضارع من املايض اخلاميس تذكر،
وأصله من الثالثي «ذكر» ،و«الذكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس هبا يمكن لإلنسان
اعتبارا بإحرازه ،والذكر
ً أن حيفظ ما يقتنيه من املعرفة ،وهو كاحلفظ إال أن احلفظ يقال
يقال اعتبارا باستحضاره ،وتارة يقال :حلضور اليشء القلب أو القول ،ولذلك قيل
الذكر ذكران :ذكر بالقلب وذكر باللسان ،وكل واحد منهام رضبان :ذكر عن نسيان،
وذكر ال عن نسيان بل عن إدامة احلفظ.)(»...
والتذكر املراد هنا هو التذكر بالقلب واللسان ،واستحضار املنيس إىل القلوب
واألذهان أي :ليتذكر أولو األلباب آياته بقلوهبم ،ويستحرضوهنا بألسنتهم فهذا ما
يليق هبم.
وهذا الفعل عىل تلك اهليئة اللفظية ورد يف القرآن الكريم ثامين مرات ،إحداها
65
هنا ،وسبع مرات يف سورة [الرعد ]19:و[طه ]44:و[فاطر ]37:و[الزمر،]9:
و[غافر ،]13:و[النازعات ،]35:و[الفجر.]23:
ومن دالئل اإلعجاز هنا :أن الفعل َّ
يذكر() وأصله «يتذكر» بقلب التاء ذاال،
وإدغامها يف الذال ورد ً
أيضا ثامين مرات.
وفك اإلدغام هنا فيه إشارة إىل أن من شأن أويل األلباب أن يتذكروا آياته بقلوهبم،
ويستحرضوها بألسنتهم بتدرج وتؤدة وعىل مهل كام يشري إليه السياق ،ويدل عليه
اخلطاب للمؤمنني هنا ،وعليه فالفيصل يف فك اإلدغام واإلبقاء عليه يعـود لسياقات
كل لفظة كام أرشنا قبل ،ومن يتأمل يف تلك املواضع األخرى يتضح له هذا جليا؛ ألن
املكان ال يسعنا هنا إليضاحه.
ﱫﭹ ﱪ فاعل « َيت ََذ َّكر» ،وهي كلمة ملحقة بجمع املذكر السامل بمعنى
أصحاب ،وليس لتلك الكلمة مفرد من لفظها ،بل مفردها (ذو) بمعنى صاحب،
ومن خصائصها أهنا مل ترد يف القرآن الكريم إال مع األلباب وال ُّنهى واألبصار.
ﱫﭺﱪ مجع لب ،و«اللب العقل اخلالص من الشوائب ،وسمي بذلك
لكونه خالص ما يف اإلنسان من معانيه كاللباب واللب من اليشء ،وقيل :هو ما زكا
من العقل ،فكل لب عقل وليس كل عقل لبا ،وهلذا علق اهلل تعاىل األحكام التي ال
يدركها إال العقول الزكية بأوىل األلباب نحو قوله :ﱫﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ
ﯮ ﱪ إىل قوله :ﱫﭹ ﭺﱪ ،ونحو ذلك من اآليات»().
فاأللباب ليست بمعنى العقول فحسب بل هي حتوي معنى العقل وزيادة ،ومن
66
ثم ال يصح أن توضع العقول هنا حمل األلباب ،وقد أدرك ذلك العسكري فقال:
«اللب يفيد أنه من خالص صفات املوصوف به ،والعقل يفيد أنه حيرص معلومات
املوصوف به ،فهو مفارق له من هذا الوجه»() ،وهذا يؤكد عىل أن اخلطـاب هنا
ألكابر أهل العلم من املؤمنني ،فعقوهلم هي اخلالصة من الشوائب ،الزكية املطهرة
من كل ما يشينها.
هذا ،ومن يتأمل استعامالت تلك اللفظة يف الذكر احلكيم جيد أنه اقترص عىل مجع
التكسري ألباب ،أما اللب مفردا فلم يأت مطلقا ،وهنا مفارقة عجيبة فإن الذكر احلكيم
مل يرد فيه البتة لفظ العقول مجعا ،ولفظ العقل مفردا بل اقترص عىل املايض واملضارع،
وهذا من إعجازه يف استخـدام ألفاظه ،ومجوعه ومفرداته ،وخمتلف صياغاته ،فقد
يرتك ً
صيغا شهرية يف استعامالت الناس ويستبدهلا بغريها ،وما ذاك إال ألن كل لفظة
فيه وضعت بقسطاس مستقيم ال يصح وضع غريها موضعها.
والتعبري بأويل األلباب هنا فيه «تعريض بأن الذين مل يتذكروا بالقرآن ليسوا من
أهل العقول ،وأن التذكر من شأن املسلمني الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه،
فهم ممن تدبروا آياته فاستنبطوا من املعاين ما مل يعلموا»().
ويف التعبري بأويل األلباب ً
أيضا إشارة إىل أن «التدبر للفهم ،والتذكر لوقوع
اإلجالل واخلشية اخلاص بأكابر أهل العلم ...فعلم أن املقصود من كالم احلق
التفكر والتذكر ،واالتعاظ به ال حفظ األلفاظ فقط.)(»...
67
املبحث الثاين
املبحث الثاين:
البالغية يف آية التأويل
َّ األسرار
() سنكتفي هنا بتحليل هذه اآلية دون غريها من اآليات الوارد فيها مصطلح التأويل؛ ألن التأويل
هنا واقع عىل ما يف القرآن من متشابه ،وهو حمل الدراسة ،والتأويل فيام عداها خارج عن ذلك متا ًما.
() الفتوحات اإلهلية للجمل .243/1
69
من املحكم واملتشابه واملؤول ،ومن ثم سنحاول االختصار قدر اإلمكان.
ونبدأ باحلديث عن سبب نزول اآلية؛ ألن «لتحديد سبب نزول هذه اآلية مدخلاً
ريا يف حتديد معنى التأويل فيها ،ولتحديد معنى التأويل فيها مدخل كبري يف حتديد
كب ً
الوقف فيها؟ وهل هو عىل لفظ اجلاللة؟ أو عىل الراسخني يف العلم»().
وقد اختلف املفسرِّ ون يف سبب نزوهلا عىل رأيني:
األول :نزلت يف بعض اليهود الذين طمعوا أن ُيدركوا بقاء أمة حممد × من
اجل ّمل يف حروف اهلجاء التي يف أوائل السور مثل قوله :ﱫﭑﱪ خالل حساب ُ
وغريها ،وهذا الذي ارتضاه الطربي().
الثاين :أهنا نزلت يف وفد نصارى نجران الذين قدموا املدينة مع الوفود يف السنة
يرجح الرأي الثاين يف
التاسعة من اهلجرة ،وإىل هذا ذهب معظم املفرسين()« ،ومما ِّ
سبب نزول اآلية :أن السؤال الذي حكاه الطربي عن اليهود كان يف مقدم النبي ×
متأخرا َلـماَّ قدم وفد نجران»().
ً إىل املدينة ،وصدر سورة آل عمران نزل
ملا ذكر يف ومناسبة تلك اآلية ملا قبلها ،وارتباطها بسياقها يتجلىَّ يف أن اهلل
اآلية السابقة يف قوله تعاىل :ﱫ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ
ﮔ ﮕﱪ [آل عمران« ]6:تعديل البنية وتصويرها عىل ما يشاء من األشكال
احلسنة ،وهذا أمر جسامين ،استطرد إىل العلم ،وهو أمر روحاين ،وكان قد جرى لوفد
70
نجران أن من ُش َب ِه ِه ْم قوله :ﱫ ﭩ ﭪﭫ ﱪ [النساء ]171:فبينَّ أن القرآن منه حمكم
وجوها»().
ً العبارة قد صينت من االحتامل ،ومنه متشابه ،وهو ما احتمل
وعىل ذلك فجملة ﱫﮗ ﮘ ﮙﮚﮛﱪ تعد استئنا ًفا ثال ًثا بعد االستئناف
الثاين املذكور يف اآلية السابقة يف قوله :ﱫ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ...ﱪ ،وهذا
االستئناف الثالث «مؤكد ملضمون قوله :ﱫﭛ ﭜ ﭝ ﭞﱪ ،ومتهيد لقوله:
ﱫ ﮜ ﮝ ﮞ ﱪ؛ ألن اآليات نزلت يف جمادلة وفد نجرانَ ،و ُصدِّ رت بإبطال
عقيدهتم يف إهلية املسيح باإلشارة إىل أوصاف اإلله احلقة توجه الكالم هنا إىل إزالة
شبهتهم يف شأن زعمهم اعرتاف نصوص القرآن بإهلية املسيح ،إذ ُوصف فيها بأنه
بأن ما تع َّلقوا به
روح اهلل ،وأنه حييي املوتى ،وأنه كلمة اهلل ،وغري ذلك ،فنودي عليهم َّ
تعلق اشتباه وسوء تأويل»().
وضمري الغائب ﱫ ﮗ ﱪ يف قوله تعاىل :ﱫﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﱪ يف حمل
رفع مبتدأ يعود عىل لفظ اجلاللة الذي سبق الترصيح به أربع مرات يف مطلع هذه
السورة ،فعاد الضمري ﱫﮗ ﱪ عىل هذا االسم الرصيح بيرس وسهولة ،فضلاً عن أن
التعبري به يف هذا السياق أفخم وأجزل ملن يتد َّبر.
ﱫﮘ ﱪ اسم موصول ،ومجلة :ﱫ ﮙ ﮚ ﮛ ﱪ صلة املوصول ،واسم
املوصول وصلته يف حمل رفع خرب للمبتدأ ﱫﮗ ﱪ ،وآثر التعبري باسم املوصول دون
أن يقول« :هو اهلل أنزل»؛ ألن التعبري باملوصولية فيه إيذان باستقرار هذا احلكم،
() البحر املحيط ،381/2وانظر :روح املعاين ،726/2ويف ظالل القرآن ،369/1حيث
رأى الشيخ سيد قطب أن نص اآلية أعم من تلك املناسبة.
() التحرير والتنوير ،153/3وانظر :تفسري أيب السعود ،7/2وروح املعاين .726/2
71
قطعيا ،ال ينازع يف ذلك أحد من العقالء املفكرين ،وذلك كام
ًّ ثبو ًتا وثبوته له
تقول عن شخص زارك باألمس ومر عليك اليوم« :هو الذي زارين باألمس» ،فهذا
قاطع ال شك فيه ،وقد أفاض اإلمام عبد القاهر يف كنه التعبري بذلك ،وبني أرساره يف
رس آخر يقول أبو حيان« :أتى باملوصول إذ يف صلته حوالة
دالئل اإلعجاز() ،وفيه ٌّ
عىل التنزيل السابق ،وعهد فيه»().
ﱫ ﮙ ﮚ ﮛﱪ مىض احلديث عن إنزال الكتاب مفصلاً يف آية (ص).
ﱫﮚﱪ شبه مجلة متعلق بأنزل ،وعرب بـ (عىل) -يف هذا السياق -دون (إىل)
التي وردت مع (أنزل) يف سياقات أخرى؛ لإلشارة إىل الفوقية والعلية؛ أي :إىل
املكان الذي نزل منه هذا الكتاب املجيد من فوق سبع ساموات ،وقد أومأ إىل هذا
الكفوي فقال« :والنزول باعتبار أنه من فوق يعدى بـ (عىل) ،وباعتبار أنه ينتهي
إىل املرسل إليه يعدى بـ (إىل) .قال اهلل تعاىل يف خطاب املسلمني :ﱫﭣ ﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ ﱪ ،و (إىل) ينتهي هبا من كل جهة يأيت مبلغه إياهم منها ،وقال خماط ًبا
للنبي × :ﱫﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﱪ؛ ألن النبي إنام أيت له من جهة العلو
خاصة.)(»...
ويف هذا إيامء إىل رشف هذا الكتاب ورفعة منزلته ،وسمو مكانته ،وفيه ً
أيضا
إشارة إىل رشف املنزل عليه × الذي أنزل عليه الكتاب من َعلٍ .
كام يالحظ كذلك شدة التوافق واالنسجام بني الفعل َ
«أ ْنزَ َل» واجلار «عىل» هنا،
72
فاإلنزال يكون من أعىل حقيقة ،وعىل تقتيض العلو حقيقة.
«و َقصرَ اخلطاب يف ﱫ ﮚﱪ
وكاف اخلطاب يف قوله :ﱫ ﮚ ﱪ للنبي ×َ ،
عىل النبي ×؛ ألن هذا موضع الراسخني ،وهو رأسهم داللة عىل أنه ال يفهم هذا
حقَّ فهمه من اخللق غريه»().
وقدم اجلار واملجرور ﱫ ﮚ ﱪ عىل املفعول الكتاب «لمِ َا أشري إليه فيام ُ
قبل من
بترشيف اإلنزال عليه ،ومن التشويق إىل ما أنزل ،فإن النفس االعتناء بشأن بشارته
عند تأخري ما حقه التقديم ال سيام بعد اإلشعار برفعة شأنه ،أو بمنفعته تبقى مرتقبة
له ،فيتمكن لدهيا عند وروده عليها فضل متكن ،وليتصل به تقسيمه إىل قسميه»
()
73
،وفائدته
بقوله« :ﱫ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﱪ قرص صفة إنزال القرآن عىل اهلل
أيضا لقول املرشكني :ﱫ ﭕً هنا؛ لتكون اجلملة مع كوهنا تأكيدً ا ومتهيدً ا إبطالاً
ﭖ ﭗﭘ ﱪ ،وقوهلم :ﱫ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ
ﮂﱪ ..ومن بدائع البالغة أن ذكر يف القرص فعل أنزل الذي هو خمتص باهلل
،ولو بدون صيغـة القرص إذ اإلنزال يرادف الوحي ،وال يكون إال من اهلل بخالف ما
لو قال :هو الذي آتاك الكتاب»().
ومن بدائع البالغة هنا ً
أيضا :أن أسلوب ﱫ ﮗ ﮘ ﱪ ورد يف القرآن الكريم
ٍ
باطراد دون استثناء هي للموىل من باب قرص ( )28مرة ،ومجيع هذه املواضع
حقيقيا ،فهذا التوافق العجيب ال يقدر برش عىل اإلتيان
ًّ قرصا
الصفة عىل املوصوف ً
به ،وهذا من أرسار الكتاب املجيد ،ومن أدلة إعجازه.
ﱫ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﱪ قوله :ﱫ ﮜﱪ جار وجمرور
متعلقان بمحذوف خرب مقدم ،وآيات مبتدأ مؤخر ،وحمكامت صفة آليات ،وهذه
اجلملة حيتمل أن تكون يف حمل نصب حال من الكتاب ،واملعنى :أنزل عليك الكتاب
حالة كونه مشتملاً عىل آيات حمكامت ،وأخر متشاهبات ،وحيتمل أن تكون استئنافية
ال حمل هلا من اإلعراب().
واألرجح :أن تكون حالية من الكتاب ،وعىل ذلك فإن تقسيم الكتاب كله إيل
قسمني :حمكم ومتشابه ،يعد «من تقسيم الكل إىل أجزاء»().
74
و(من) هنا للتبعيض ،أي :بعض آيات الكتاب حمكامت ،وهـذا التبعيض أكثري
ال أقيل؛ ألن أكثر آيات القرآن حمكامت كام سيأيت ،والضمري يف ﱫﮜﱪ عائد عىل
الكتاب ،أي :ومن الكتاب آيات حمكامت ومتشاهبات.
ﱫ ﮝ ﱪ مجع مؤنث سامل ،ومىض احلديث عنها يف آية سورة ص.
ﱫ ﮞ ﱪ نعت آليات ،وفائدة النعت الكشف واإليضاح؛ ألنه بدون هذا
«م َْكم»
بم توصف تلك اآليات ،وهذا النعت مجع مؤنث سامل مفرده حُ
النعت ال يعرف َ
اسم مفعول من الفعل الرباعي ُأ ْح ِكم ،وعرب باسم املفعول؛ لبيان أن اإلحكام واقع
عىل تلك اآليات ،مشتمل عليها ال ينفك عنها.
وأصل هذه املادة يدل عىل املنع إلصالح ،يقول الراغب« :حكم أصله منع
وحكمت الدابة:
ُ منعا إلصالح ،ومنه ُس ِّم َي اللجام حكمة الدابة ،فقيلَ :ح َك َم ُته،
جعلت هلا حكمة ،)(»...وعىل ذلك فاآليات املحكامت
ُ منعتها باحلكمة ،وأحكمتها
هي التي متنع غريها من الدخول معها يف حكمها؛ لوضوحها وعدم االختالف يف
مدلوهلا ،أو كام يقول البغوي« :سميت حمكامت من اإلحكام ،كأنه أحكمها فمنع
اخللق من الترصف فيها؛ لظهورها ووضوح معناها»().
وهذا املعنى هو الذي تردد يف معظم التفاسري بعبارات خمتلفة ،يقول اجلصاص:
َ
اشرتاك «قوله تعاىل :ﱫ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﱪ « َفإِ َّن ا ُمل َرا َد به ال َّل ْف ُظ ا َّلذي ال
عه إال َمعنًى ِ
واحدً ا»() ،ويقول أبو السعود« :حمكامت :قطعية ام ِ
فيه ،وال حيت َِمل عندَ َس ِ
75
الداللة عىل املعنى املراد ،حمكمة العبارة ،حمفوظة من االحتامل واالشتباه» () ،أي قد
«أبرم حكمها فلم ينبرت كام يربم احلبل الذي يتخذ حكمة ،أي :زما ًما يزم به اليشء
الذي خياف خروجه عىل االنضباط ،كأن اآلية املحكمة حتكم النفس عن جوالهنا،
ومتنعها من مجاحها ،وتضبطها إىل حمال مصاحلها»().
وهذا النوع من اآليات عىل تلك الصفات كثري يف القرآن؛ ألن أكثر القرآن واضح
الداللة ظاهر املعنى حمفوظ من االحتامل ،يقول الشيخ صديق خان« :املحكامت هي
أكثر القرآن عىل مجيع األقوال»() ،ويؤكد ما ذهبنا إليه ً
أيضا التنكري يف لفظتي (آيات)،
و(حمكامت) فهو يفيد الكثرة ،كام يفيد النوعية ،أي :آيات حمكامت كثرية ومتنوعة.
وملا كانت هذه اآليات من الكثرة والتنوع بمكان حاول بعض العلامء حرصها
بقوله« :مثل قوله تعاىل :ﱫ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﱪ ،وقيل هو الذي مل ينسخ
لقـوله تعاىل :ﱫ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﱪ ،وقوله :ﱫﮗ
ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﱪ إىل آخر اآليات ،وهي سبعة عرش حكماً مذكورة يف سورة
األنعام ،ويف سورة بني إرسائيل ،وقيل هو الناسخ ،وقيل الفرائض والوعد والوعيد،
وقيل الذي وعد عليه ثوا ًبا أو عقا ًبا ،وقيل الذي تأويله تنزيله بجعل القلوب تعرفه
عند سامعه كقوله :ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﱪ ،ﱫﭡ ﭢ ﭣﭤ ﱪ() ،وال أوافق
عىل هذا احلرص؛ ألن هذا قليل يف القرآن فكل ما يندرج حتت الضابط السابق يعد
() تفسري أيب السعود ،7/2وانظر عىل سبيل املثال الكشاف ،412/1وتفسري اخلازن
،319/1وروح البيان ،129 / 2وروح املعاين ،727 /2وفتح البيان .6/2
() نظم الدرر .15/2
() فتح البيان ،9/2وانظر :املحرر الوجيز ،18 /3وفتح القدير للشوكاين .314/1
() الربهان .80/2
76
حمكام ،وهذا يف القرآن كثري يعلمه أهل العلم.
ﱫ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﱪ ،الضمري ﱫ ﮟ ﱪ يف حمل رفع مبتدأ وهو
يعود عىل اآليات املحكامت ،وﱫ ﮠﱪ خرب ،واجلملة من املبتدأ واخلرب ﱫ ﮟ ﮠ
ِ
للنكرة (آيات) َق ْبلها ،واآليات ﮡ ﱪ «جيوز أن تكون يف حمـل رفع ٌ
صفة ثانية
َ
تكون اجلملة عىل ذلك تكون موصوفة بوصفني :حمكامت ،أم الكتاب ،وجيوز أن
مستأنف ًة ال حمل هلا من اإلعراب.
وأخرب بلفظ الواحد ﱫ ﮠ ﱪ عن اجلمع ﱫ ﮟ ﱪ ،ومل يقل :هن أمهات؛ إشارة
إىل أن كل حمكم ليس أما وحده ،بل املراد أن مجيع اآليات املحكامت «يف اجتامعها
وتكاملها كاآلية الواحدة ،وكالم اهلل كله يشء واحد كام قال :ﱫ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ
ﮙ ﱪ [املؤمنون.)(»]50:
وﱫ ﮠ ﱪ مضاف ،وﱫ ﮡ ﱪ مضاف إليه ،وإضافة النكرة «أم» إىل املعرفة
«الكتاب» أكسب النكرة التعريف ،وهذا يعني أن اآليات املحكامت معلومة للعلامء،
معروفة ألهل النظر والتدبر ،وهذه اإلضافة بمعنى يف ،يقول أبو السعود« :واإلضافة
بمعنى يف كام يف واحد العرشة ال بمعنى الالم؛ فإن ذلك يؤدي إىل كون الكتاب عبارة
عام عدا املحكامت»().
واألم يف اللغة« :بإزاء األب ،وهى الوالدة القريبة التي ولدته ،والبعيدة التي
() تفسري اخلازن ،319/1بترصف ،وانظر :تفسري البغوي عىل هامش اخلازن ،319/1
وتفسري النيسابوري ،107/2وروح املعاين ،727/2والتحرير والتنوير ،161-160 /3وهناك
لكن ما ذكرته هنا هو األرجح ،انظر :تفسري أيب السعود ،7/2والفتوحات اإلهلية
أرسار أخرىَّ ،
للجمل ،242/1وفتح البيان .6/2
() تفسري أيب السعود ،7/2وانظر روح البيان .5/3
77
ولدت من ولدته ،وهلذا قيل حلواء :هي أمنا ،وإن كان بيننا وبينها وسائط ويقال لكل
ما كان أصلاً لوجود يشء أو تربيته أو إصالحه أو مبدئه ُأ ٌّم.)(»...
والكتاب يف قوله :ﱫﮠ ﮡ ﱪ هو« :القرآن ال حمالة؛ ألنه املتحدث عنه
بقوله :ﱫﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﱪ ،فليس قوله :ﱫ ﮠ ﮡ ﱪ هنا بمثل قوله:
ﱫ ﯛ ﯜ ﯝ ﱪ().
و«أل» يف لفظ الكتاب هنا عهدية ،أي :الكتاب املعهود املذكور ُ
قبل ،وكان
األصل عىل ذلك أن يقال :هن أمه ،لكنه «وضع املظهر موضع املضمر اعتناء بشأن
املظهر ،وتفخيماً له»().
واملعنى املراد هنا من ﱫ ﮠ ﮡ ﱪ اختلف فيه املفرسون عىل وجوه:
األول :ﱫ ﮠ ﮡ ﱪ أصل الكتاب ،يقـول الفراء« :قوله :ﱫ ﮟ ﮠ ﮡﱪ
هن األصل»().
يقولَّ :
الثاين :ﱫ ﮠ ﮡ ﱪ جمِ َ ُ
اعه ،يقول ابن عطية« :قال ابن زيد :ﱫ ﮠ ﮡ ﱪ
معناه جمِ َ ُ
اع الكتاب»() ،وهو قريب مما سبق؛ ألن مجاع اليشء أصله.
الثالث :ﱫ ﮠ ﮡ ﱪ معظمه ،يقول ابن عطية« :قوله تعاىل :ﱫ ﮠ ﮡﱪ
معناه :اإلعالم بأهنا معظم الكتاب ،وعمدة ما فيه»().
78
الرابع :ﱫ ﮠ ﮡ ﱪ فواتح السور ،يقول ابن عطية« :وحكى الطربي عن أيب
فاختة أنه قال :ﱫ ﮟ ﮠ ﮡ ﱪ يراد به فواتح السور ،)(»...وقد رفض ابن عطية
هذا الرأي فقال« :وهذا قول متداع للسقوط مضطرب»().
والراجح :أن ﱫ ﮠ ﮡ ﱪ بمعنى أصل الكتاب؛ ألن هذا ما يقتضيه لفظ
األم ،فـ «األم يف اللغة األصل الذي يتكون منه اليشء ،فلام كانت املحكامت مفهومة
بذواهتا ،واملتشاهبات إنام تصري مفهومة بإعانة املحكامت ،فال جرم صارت املحكامت
ال للمتشاهبات»() ،والواجب أن يرد الفرع ،وهو املتشابه إىل األصل ،وهو أصو ً
املحكم.
وعىل ذلك فقوله :ﱫ ﮟ ﮠ ﮡ ﱪ يعدُّ من قبيل التشبيه البليغ املحذوف
الوجه واألداة ،وأصله هن كأم الكتاب ،يقول ابن عاشور« :األم حقيقة يف الوالدة،
وهي أصل للمولود ،وجامع لألوالد يف احلضانة ،فباعتبار هذين املعنيني أطلق
اسم األم عىل ما ذكرنا عىل وجه التشبيه البليغ ثم شاع ذلك اإلطالق حتى ساوى
احلقيقة»() ،وقال الرشيف الريض« :واملراد هبا أن هذه اآليات مجاع الكتاب وأصله
فهي بمنزلة األم ،وكأن سائر القرآن يتبعها ويتعلق هبا كام يتعلق الولد بأمه ،ويفزع
إليها يف مهمه»().
ﱫ ﮢ ﮣﮤ ﱪ الواو حرف عطف« ،وأخر نعت ملحذوف معطوف عىل
79
آيات ،أي« :وآيات أخر»»().
وﱫ ﮢ ﱪ مجع تكسري ممنوع من الرصف؛ «ألنه معدول عن اآلخر مثل :عمر
وزفر»().
ويف التعبري بلفظة ُ(أ َخر) إشارة جلية إىل قلة املتشاهبات يف القرآن كام يفهم من
مدلول هذه اللفظة ،يؤكد ذلك أن سياقاهتا يف الذكر احلكيم تنبئ عن القلة ،فقوله
تعاىل :ﱫ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖﱪ [البقرة،]185:
وقوله :ﱫ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ
ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﱪ [يوسف ،]43:وقوله :ﱫ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ
ﭫﭬﭭ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭵﭶﱪ
[يوسف ]46:كلها هنا حتوي القلة العددية كام هو جيل.
شهرا كاملاً أو معظم الشهر أو نصفه أو
فعىل سبيل املثال يف سورة البقرة من أفطر ً
بعضه فعليه صيام ما أفطره ،وهذا الذي أفطره أ ًّيا كان من املمكن عده بيرس وسهولة
لقلته.
وهذا يؤكد من جانب آخر عىل أن اآليات املتشاهبات يف القرآن قليلة يمكن
عدها ،وهذا ً
أيضا يفرس رس طي لفظة آيات مع متشاهبات ،فلم يقل وآيات أخر
متشاهبات حسبام كان يتوقع عىل غرار آيات حمكامت.
ولفظة :ﱫﮣﮤﱪ مجع مؤنث سامل ،مفرده للمؤنث :متشاهبة ،وللمذكر:
() تفسري أيب السعود ،7/2وانظر :روح املعاين ،727/2وروح البيان للشيخ حقي .5/2
() تفسري البغوي عىل اخلازن ،319/1وانظر :تفسري القرطبي ،13/4وتفسري أيب السعود
،7/2وروح املعاين ،727/2وفتح البيان .6/2
80
متشابه ،واملتشابه يف اللغة هو :األمر امللبس املختلط بغريه ،يقال «تشابه الشيئان:
أشبه كل منهام اآلخر حتى التبسا»().
ويقول الزركيش« :املتشابه مثل املشكل؛ ألنه أشكل أي :دخل يف شكل غريه
وشاكله» () ،وسمي املتشابه بذلك؛ ألنه «ملا كان من شأن األمور املتشاهبة أن يعجز
العقل عن التمييز بينها ُس ِّم َي كل ما ال هيتدي العقل إليه متشاهبا ،وإن مل يكن ذلك
بسبب التشابه كام أن املشكل يف األصل ما دخل يف أشكاله وأمثاله ،ومل يعلم بعينه ثم
أطلق عىل كل غامض وإن مل يكن غموضه من تلك اجلهة» ().
وعىل ذلك ففي هذا اللفظ هنا جماز مرسل من إطالق اسم السبب عىل املسبب،
يقول الشيخ رشيد رضا« :األصل يف ورود التشابه بمعنى املشكل امللتبس أن يكون
االلتباس فيه بسبب شبهة لغريه ،ثم أطلق عىل كل ملتبس ً
جمازا» ().
واسعا ،وأطالوا يف
ً وقد اختلف املفرسون يف حتديد املتشابه يف القرآن اختال ًفا
ذلك ،وتداخلت أقواهلم حتى بات حتديد املتشابه لدهيم صع ًبا جدً ا ،وسأحاول هنا
-قدر اإلمكان -حرص ما ذكروه باختصار فأقول :ينحرص املتشابه يف القرآن يف نوعني
اثنني:
راجعا إىل نفس
ً ذاتيا األول :التشابه الذايت بمعنى« :أن التشابه قد يكون ً
أمرا ًّ
اآلية لدقة معناها ،وخلفاء املوضوع الذي تتحدث عنه ،وذلك كأوائل السور املفتتحة
81
بحروف املعجم ،وما املراد من ذكر هذه احلروف ،وكحقيقة أخبار القيامة والبعث()،
فإنه جيب االعرتاف والتسليم بأن هذه وأمثاهلا أمور قد استأثر اهلل بعلم كنهها دون
غريه»().
بعلم تأويله دون غريه. وهذا النوع من املتشابه اختص املوىل
الثاين :التشابه النسبي «بمعنى :أن ما يشتبه عىل هذا قد ال يشتبه عىل غريه ،وهذا
النوع خيتلف باختالف درجات الناس وتقدمهم يف العلم فهناك آيات قد اشتبهت
() ذهب بعض الناس إىل أن آيات الصفات تعد من هذا النوع من املتشابه الذايت ،اعتام ًدا عىل
دقة املعنى املراد منها ،والتباسه عىل بعض الناس ،وقد ذكر الشيخ رشيد رضا يف «املنار» أن ابن تيمية
رصح ابن تيمية
يقول بذلك ،واحلق أن ابن تيمية ال جيعل آيات الصفات من املتشابه الذايت البتة ،بل َّ
عدة مرات يف أكثر من مؤلف بأن آيات الصفات غري متشاهبة ،من ذلك عىل سبيل املثال قوله« :وأما
َ ِ إدخال َأسامء اهلل وصفاته ،أو بعض َ
ُ
املتشابه الذي ال يع َل ُم َتأوي َل ُه إال اهلل ...فإِين ما أ ُ
علم عن ذلك يف
ِ
املتشابه الدَّ اخلِ ريه أنه جعل ذلك ِمن
بن حن َبلٍ ،وال َغ ِسلف األمة ،وال ِمن األئمة ال أمحد ِ ِ ٍ
أحد من
الذي ال مي ِ اآلية ،ونفى َأن يعلم أحدٌ معنا ُه ،وجعلوا َأسام َء اهلل وصفاته بمنزلة الكال ِم َ هذه ِيف ِ
عج ِّ
األ َ َ
يح ٌة .»...انظر معان َص ِح َ
ٍ اهلل ُي ْن ِز ُل كال ًما ال َي ْف َه ُم َأحدٌ معنَا ُه ،وإنام قالوا َك ٍ
لامت َهلا إن َ ُي ْف َه ُم ،وال قا ُلواَّ :
جمموع فتاوى ابن تيمية ،295 ،294/13وتفسري القاسمي 20/4حيث نقله عنه بنصه .فكالم ابن
تيمية يؤكد عىل أن آيات الصفات ليست من هذا النوع من املتشابه.
() اإلمام ابن تيمية وقضية التأويل ،58وهنا جيب أن نوضح شيئًا مهماًّ جدًّ ا ،وهو أن املتشابه
من هذا النوع معانيه واضحة مفهومة ،ولكن يغيب ع َّنا ،فحسب كنهه وكيفيته وحقائقه املخفية عنا،
فنحن نعلم معاين آيات البعث والنشور ،ومعاين آيات اجلنة والنار ،لكننا ال نعلم حقائق البعث
والنشور واجلنة والنار؛ َّ
ألن هذا مما استأثر اهلل بعلمه وتأويله؛ ألنه من الغيبيات ،وكذلك ال نعلم
ُك ْنه الروح وحقيقتها ،وغري ذلك كثري ،ولكننا نعلم معناها وفحواها ،ففرق واضح بني علم معنى
اليشء وحقيقة هذا اليشء ،و«لقد نشأ الغلط يف ذلك من خلط املتأخرين بني علم معنى اآلية الذي
خوطبنا به ،وتأويلها الذي هو حقيقتها املحجوب عنا ،ومل يفرقوا بني معنى اآلية وتأويلها» .انظر
اإلمام ابن تيمية وقضية التأويل .61
82
عىل اجلهمية ،واحتجوا هبا عىل «أمحد بن حنبل «بأهنن من املتشابه مثل :ﱫ ﭲ ﭳ
ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﱪ ،ﱫ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﱪ ،ﱫ ﭥ ﭦ ﭧ ﱪ،
وقد فرس اإلمام أمحد هذه اآليات بام أزال االشتباه عنها بحيث أصبحت معلومة له
ولغريه ،فلم تكن متشاهبة يف حقه ،وال يف حق من وقف عىل معناها ،وهي متشاهبة
عند من حيتج هبا من اجلهمية ،وعليه أن يردها هو إىل ما يعرفه من املحكم»().
وهذا النوع بوجه عام هو الذي يدركه الراسخون يف العلم حيث يردون املتشابه
مثل قوله :ﱫ ﭩ ﭪﭫ ﱪ ،وقوله« :إِ َّنا» ،و« َن ْح ُن» ،وغري ذلك إىل ما يتفق مع
توجيه وفهم التأويل كام املحكم ،وبناء عىل هذا احلرص() الدقيق نستطيع بإذنه
سيأيت.
واملتشابه عىل كال النوعني السابقني يعد قليلاً بالنسبة للمحكم ،والتنكري يف
ﱫﮣﮤ ﱪ يؤكد عىل ذلك ،أي :آيات قليالت بداللة السياق ،وبداللة القرائن
املقرتنة هبا ،وهي لفظة :ﱫ ﮢ ﱪ كام مر.
() اإلمام ابن تيمية وقضية التأويل ،58يدخل يف هذا النوع آيات الصفات؛ ألهنا إن التبست
عىل بعض الناس فال تلتبس عىل آخرين ،فهل «من الصواب يف يشء أن نجعل آيات مثل قوله تعاىل:
ﱫﯼ ﯽ ﯾ ﯿﱪ ،وﱫﮮ ﮯ ﮰ ﱪ ،وﱫﯗ ﯘ ﯙ ﱪ بمنزلة آيات مثل :ﱫﮝﱪ
وﱫﭤﱪ ،ﱫﭓﱪ وﱫﭑﱪ؟ هل هذه بمنزلة تلك يف فهم معناها ،وبيان مرادها؟».
انظر :ابن تيمية وقضية التأويل ،62ويدخل يف هذا النوع كذلك ما خفي حكمه ،واستشكل عىل
بعض الناس من آيات األحكام ،فالفقهاء الراسخون يدركون ذلك ،ويقفون عليه ،ويدخل فيه كذلك
معا ،كام حكاه الراغب ،انظر :مفردات الراغب .261
املتشابه من حيث اللفظ ،أو املعنى ،أومها ً
() بالرغم من هذا احلرص قدر اإلمكان؛ فإن املتشابه سيظل مستعص ًيا عىل احلرص التام الدقيق،
وما ذكرناه كان حماولة لتقريب املراد من هذا املصطلح إىل املفاهيم ،وإن كنت أؤكد عىل أن قضية
املحكم واملتشابه ال يكفي يف عرضها هنا هذه الصفيحات.
83
الكتاب عىل نب ِّيه حممد ×؛ إِفضا ً
ال منه ونعم ًة، َ وبعد أن «ذكر تعاىل أنه َّنزل
وأن متشاهبه الذيوأن حُم َْك َمه و َب ِّين َُه الذي ال اعرتاض فيه هو معظمه ،والغالِ ُب فيه؛ َّ
َّ
َ
املحك َم الذي التفهم هو أق ُّله ذكر أن أهل الزيغ ُ
يرتك َ
ون وحيتاج إِىل ُّ
ُ ويل، حيتمل ْ
التأ َ ُ
الف ْتن َِة»() فقال عز من قائل :ﱫ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ املتشابِه؛ ابتغاء ِ َ
ويتبعون َ فيه ُغ ْن َيتهم،
ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﱪ.
والفاء يف قوله :ﱫ ﮥ ﱪ استئنافية ،واجلملة بعدها مستأنفة تفصل حال الذين يف
قلوهبم زيغ مع اآليات املتشاهبات ،وكأن سائلاً سأل ما رد فعل املؤمنني وغريهم حيال
املتشاهبات؟ وملا كان املؤمنون ُيسلمون ،وال يعرتضون ترك ذكرهم ،ورشع يتحدث
عن غريهم؛ «ألن بيان هذا هو األهم يف الغرض املسوق له الكالم ،وهو كشف شبهة
الذين غرهتم املتشاهبات ومل هيتدوا إىل حق تأويلها و ُي ْع َر ُف حال قسيمهم ،وهم الذين
ال زيغ يف قلوهبم بطريق املقابلة»().
ِ
الرشط، ِ
الرشط وفعلِ مقام ِ
أداة تقوم َ ٍ
وتوكيد»() ُ رشط وتفصيلٍٍ ُ
حرف َ
و«أ َّما»
ِ
بالفاء كام هنا. والدليل عىل أهنا رشطية لزوم اقرتان جواهبا
ﱫ ﮦ ﱪ اسم موصول يف حمل رفع مبتدأ ،وقد اختلف يف املقصودين به عىل
أكثر من وجه:
،وقالوا: األول« :هم وفد نجران الذين خاصموا رسول اهلل × يف عيسى
ألست تزعم أن عيسى روح اهلل وكلمته؟ قال بىل .قالوا :حسبنا فأنزل اهلل هذه
84
اآلية»().
وعىل ذلك ففي تلك اجلملة «تعريض بنصارى نجران؛ إذ ألزموا املسلمني بأن
القرآن يشهد لكون اهلل ثالث ثالثة بام يقع يف القرآن من ضمري املتكلم ،ومعه غريه من
نحو :خلقنا وأمرنا وقضينا وزعموا أن ذلك الضمري له وعيسى ومريم ،وال شك أن
هذا إن صح عنهم هو متويه؛ إذ من املعروف أن يف ذلك الضمري طريقتني مشهورتني،
إما إرادة الترشيك ،أو إرادة التعظيم فام أرادوا من استدالهلم هذا إال التمويه عىل
عامة الناس» ().
الثاين :هم اليهود «الذين جادلوا رسول اهلل × بمتشاهبه يف مدَّ ته ومدة ُأمته» ()،
وهذا ما رجحه الطربي بعد أن أورد آراء أخرى.
الثالث :هم املنافقون ،يقول اخلازن« :وقيل :هم املنافقون» ().
الرابع :هم أهل البدع واألهواء من احلرورية واخلوارج وغريهم من املسلمني
يقول ابن عطية« :وقال قتادة يف تفسري قوله تعاىل :ﱫ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﱪ إن مل
يكونوا احلرورية وأنواع اخلوارج ،فال أدري من هم؟»().
اخلامس :هم منكرو البعث ،يقول أبو حيان« :وقال قتادة :هم منكرو البعث،
فإنه قال يف آخرها :ﱫ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﱪ ،وما ذاك إ َّ
ال يوم القيامة فإنه أخفاه
85
عن مجيع اخللق» ().
ٍ
وزنديق ،وجاهلٍ وصاحب ٍ
طائفة من كاف ٍر السادس :اسم املوصول ُّ
«يعم كل
ٍ
بدعة»() ،وهـذا األخيـر هو ما نميل إليه هنا؛ ألن اسم املوصول ﱫﮦﱪ يدل
عىل العموم ،فهو يشمل مجيع املبطلني يف كل زمان ويف كل مكان عىل خمتلف دياناهتم
وعقائدهم وأفكارهم ،وقد أكـد عىل ذلك ثلة من املفرسين ،يقول النيسابوري:
«والتحقيق أنه عام لكل مبطل متشبث بأهداب املتشاهبات؛ ألن اللفظ عام،
وخصوص السبب ال يمنع عن عموم اللفظ» ().
فلم آثر
وهنا سؤال :إذا كان اسم املوصول ينسحب عىل مجيع املبطلني كام بينا َ
التعبري به دون غريه من ألفاظ العموم؟ أقول :ألن يف التعبري عنهم باسم املوصول
خصوصية أخرى غري ما سبق ،وهي اإلشارة إىل شهرهتم بني الناس يف ذلك ،فكل
من يزيغ قلبه ،وينحرف فكره يعرفه الناس حتى العوام يعرفوهنم بفطرهتم السليمة
اخلالية من الغبش.
ﱫ ﮧ ﮨ ﱪ :جار وجمرور متعلق بكائن أو مستقر ،وهو خرب مقدم ،وعرب هنا
بالقلوب دون األفئدة؛ ألهنا تستخدم غال ًبا يف مواطن الزلة والغلظة ،كام مر يف قوله
تعاىل :ﱫ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﱪ ،ولإلشارة ً
أيضا إىل تقلبهم ،وعدم ثباهتم ،وأن الزيغ
كامن يف قلوهبم فليست سليمة من األهواء واألدواء.
«ه ْم» يف ﱫ ﮨ ﱪ يعود عىل ما عاد عليه اسم املوصول الذين ُ
قبل، والضمري ُ
86
وهم مجيع املبطلني يف كل زمان ومكان كام بينا.
ﱫ ﮩ ﱪ مبتدأ مؤخر ،ومجلة :ﱫ ﮧ ﮨ ﮩ ﱪ من املبتدأ واخلرب ال حمل هلا
وز َيغا ًنا ...وقوله تعاىل: و«الز ْيغُ :املَ ْي ُلَ ،
زاغ َي ِزيغُ َز ْي ًغا َ َّ من اإلعراب صلة املوصول،
ﱫﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﱪَ ،أي :ال تمُ ِ ْلنا عن ا ُهلدَ ى وال َق ْص ِد وال ُت ِض َّلنا»() ،وقيل
الزيغ هو« :امليل عن االستقامة ...وقال :ﱫﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﱪ [الصف]5:
ملا فارقوا االستقامة عاملهم بذلك» ().
واملراد بالزيغ هنا اختلف فيه عىل أقوال:
-1الزيغ :العناد ،يقول أبو حيان« :الزيغ :عنادهم» ().
-2الزيغ :امليل عن اهلدى ،يقول ابن عطية« :وبامليل عن اهلدى َفسرَّ َ الزيغَ حممدٌ
بن جعفر بن الزبري ،وابن مسعود ومجاعة من الصحابة»().
-3الزيغ :الشك ،يقول اخلازن« :وقيل :الزيغ :الشك» ().
والراجح :أن املراد منه هنا امليل عن اهلدى واحلق حسبام تقتضيه داللة اللفظة
لغة ،وال يرصف اللفظ عن حقيقته إال لدليل.
وهنا نتساءل إذا كان الزيغ بمعنى امليل ،فلم عرب به وترك امليل؟ أقول ألن الزيغ
أخص من امليل فامليل عام والزيغ خاص ،واملراد هنا ميل من نوع خاص مذموم،
وهو امليل عن اهلدى واحلق واالستقامة ،وإىل هذا أشار العسكري بقـوله« :الزيغ
() لسان العرب (ز .ي.غ) ،432/8وانظر :النهاية يف غريب احلديث واألثر .324/2
() مفردات الراغب ،223-222وانظر :عمدة احلفاظ ،178/2وتفسري أيب السعود .8/2
() البحر املحيط .383 /2
() املحرر الوجيز ،19 /3وانظر البحر املحيط .383/ 3
() تفسري اخلازن .320/1
87
اسم مليل مكروه ،وهلذا قال أهل اللغة :الفدع زيغ يف الرسغ ،وامليل عام يف املحبوب
واملكروه»() ،ويقول السمني« :زاغ وزال ومال تتقارب لكن زاغ ال يقال إال فيام كان
عن حق إىل باطل»().
وهذا ينطبق عىل مجيع أهل الباطل فهم ال يزيغون عن القرآن إال هلوى يف
نفوسهم ،أو فتنة ملكت عليهم زمام قلوهبم ،أو ضالل سيطر عىل أفئدهتم ،أو بدعة
متلكت منهم ،وبذلك تكون لفظة الزيغ قد وضعت يف موضعها األليق هبا ،والذي ال
يغني غريها -مما قد يقارهبا يف املعنى -مكاهنا.
والتنكري يف لفظة زيغ :للتحقري ،أي :زيغ حقري أبعدهم عن التدبر يف املتشاهبات،
وردها للمحكامت ،وجيوز أن يكون التنكري للنوعية أي :زيغ من نوع معني ران عىل
قلوهبم ،وسيطر عىل أفئدهتم فأبعدهم عن تفهم تلك اآليات املتشاهبات ،وردها
للمحكامت.
مستقرا للزيغ حيث قال :ﱫ ﮧ ﱪ ،ومل يقل :عىل ُق ُلوبهِ ِ ْم؛ «مبالغة
ًّ َ
وجعل القلوب
يف عدوهلم عن سنن الرشاد ،وإرصارهم عىل الرش والفساد» ().
مستقرا يف قلوهبم ال ينخلع
ًّ ً
وأيضا للتأكيد عىل أن الزيغ قد متكن منهم ،وصار
عنها ،وال يزول منها.
هذا ،وعبارة :ﱫ ﮧ ﮨ ﮩ ﱪ مل ترد يف القرآن كله إال مرة واحدة يف هذا
السياق فحسب ،مما يدل عىل تفرد هذه الطائفة يف يل أعناق النصوص وامتالء قلوهبم
88
بالفتنة والضاللة ،والعدول عن احلق واالستقامة بالرغم من أن اجلار واملجرور يف
قلوهبم أعقبه املرض بدلاً من الزيغ يف اثنتي عرشة آية يف القرآن كقوله تعاىل :ﱫ ﮃ
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﱪ [البقرة.)(]10:
ﱫ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﱪ الفاء واقعة يف جواب أما ،وهي رابطة لـ (أما) بام قبلها
وما بعدها ،ومجلة :ﱫ ﮪ ﱪ يف حمل رفع خرب املوصول الذين واجلملة من املبتدأ
الذين ،وخربه يتبعون يف حمل جزم جواب الرشط.
و« َي َّتبِ ُع َ
ون» فعل مضارع من املايض اخلاميس «ا َّت َبع» عىل وزن افتعل «واالتباع:
اقتفاء األثر ،يقال :تبعه واتَّبعه ،فتارة يكون باجلسم نحو :تبعته يف الطريق ،واتَّبعته
فيها ،وتارة باالمتثال ،وعىل ذلك :ﱫ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ
ﭢﱪ.)(»...
ولست أرى أن تبع الثالثي واتبع بمعنى واحد كام يفهم من كالم السمني؛ ألن
القرآن فرق بينهام فاستعمل اخلاميس يف موضع كام هنا ،والثالثي يف موضع آخر كام
مر ،وإال الكتفى بواحد() ،ومن ثم فإين أرى أن صيغة افتعل هنا مالئمة للسياق؛
ألهنا حتمل معنى التكلف والقرس مثل :اصطنع واصطرب ،فكأهنم يتكلفون اتباع
املتشابه ،ويتطلبونه ،ويقرسون نفوسهم عليه يقول ابن منظور« :ا َّتب َعه َ
وأ ْت َب َعه وتت ََّبعه: َ
َقفاه و َتط َّلبه ُم َّت ًبعا له.)( »...
89
فضلاً عن أن التعبري باالتباع ً
أيضا يكشف عن أهنم يتتبعون اآليات كام يتتبع
التابع متبوعه ،ويسري وراءه ويقتفي أثره فهو يالزمه دوما« ،فاالتباع هنا جمـاز عن
املالزمة ،واملعاودة أي :يعكفون عىل اخلوض يف املتشابه حيصونه ،شبهت تلك
املالزمة بمالزمة التابع متبوعه»() عىل سبيل االستعارة التبعية ،وفـي التعبري بتلك
االستعارة مبالغة واضحة ،وذم شديد هلم؛ ألهنا تكشف عن سوء طويتهم ،وخبث
معتقدهم ،وفساد قلوهبم ،وحتكم أهوائهم.
وفيها ً
أيضا توبيخ وتشنيع هلم عىل هذا التكلف والتتبع املريض ،فضال عن
تصوير هذا املعنى املجرد بصورة حسية مما كساه أهبة ،وزاده قوة.
والتعبري باملضارع « َي َّتبِ ُع َ
ون» دون املايض اتبعوا فيه استحضار لتلك الصورة
املزرية ،وهذا يؤكد ً
أيضا عىل أن اسم املوصول عام ،ليس مقصودا به طائفة بعينها
حدث ذلك منها ،وإال لقال :فاتبعوا ،فاملضارع يندرج فيه كل من يتبع املتشابه ،ويبني
أن هذا دأب املبطلني حيدث ،ويتجدد منهم حالاً فحالاً .
وواو اجلامعة يف « َي َّتبِ ُع َ
ون» يعود عىل مجيع املبطلني يف كل زمان ومكان كام قدمنا؛
ألن القرآن كتاب نزل للبرشية مجعاء ،وال يقيم احلجة عىل النصارى واليهود فحسب،
بل يقيمها عىل كل من ضل وزاغ دون استثناء.
ﱫ ﮫ ﮬ ﱪ( :ما) اسم موصول بمعنى الذي ،ومجلة ﱫﮬ ﱪ صلة املوصول،
واملعنى :أن هؤالء يتتبعون الذي تشابه من آيات القرآن ،ويالزمونه ،ويعكفون
عليه.
وﱫ ﮬ ﱪ فعل مايض مخايس عىل وزن تفاعل ،وصيغة تفاعل هنا تدل عىل
90
املشاركة والتعدد مثل :تساهم وتقاسم ،وهذا يعني أن اآليات املتشاهبات حتتمل
داللتها تأويالت عديدة ،واحتامالت لوجوه كثرية كام هو مدلول تلك الصيغة.
والتشابه املراد هنا هو املقصود بعينه () يف قوله :ﱫ ﮢ ﮣﮤ ﱪ يقول ابن
عطية« :ﱫ ﮫ ﮬ ﮭ ﱪ هو املوصوف آن ًفا بمتشاهبات»().
وهنا لفتة دقيقة :فكلمة ﱫ ﮣﮤ ﱪ فيام مىض مفردها :متشابه ،وهي اسم
فاعل من الفعل تشابه فتشاكلت هذه مع تلك ،وتواءمت معها ،وعىل ذلك فأصل
الكالم« :فأما الذين يف قلوهبم زيغ فيتبعونه ،ولكنه وضع املظهر ﱫﮫ ﮬ ﱪ موضع
املضمر تسجيال عليهم ،وتأكيدا عىل ما يف نفوسهم وقلوهبم من ضاللة التعلق
باملتشابه واتباعه ،من َث َّم رصح بذكره مرة أخرى ومل يضمره.
وهنا يثور سؤال دقيق :إذا كان إدراك املتشابه بتلك الدقة فام فائدة ذكره يف
القرآن؟ أجاب اخلازن عن ذلك مفصال ،فعد إليه خشية التطويل().
ﱫ ﮭ ﱪ حال من فاعل تشابه ،واهلاء تعود عىل آيات القرآن املتشاهبة.
() أما التشابه الوارد يف قوله :ﱫﭬ ﭭ ﭮﱪ ،فليس مقصو ًدا هنا بطبيعة احلال؛
ألن هذا النوع يشمل القرآن كله ،بمعنىَّ :
أن بعضه يشبه ً
بعضا يف احلسن ،وعدم التفاوت ،وهذا َّ
النوع يوافق املحكم يف قوله :ﱫﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘﱪ ،ومل يقع يف هذا النوع اختالف بني العلامء
واملفرسين بداهة ،وإنام املقصود باملتشابه هنا هو املقابل للمحكم يف قوله :ﱫﮜ ﮝ ﮞﱪ،
وهذا النوع هو الذي وقع فيه االختالف بني العلامء كام َّبينا.
() املحرر الوجيز .20/3
() تفسري اخلازن ،320-319/1وانظر :تفسري الرازي ،90-89/7والقرطبي ،19/4
وتفسري أيب السعود ،8/2والفتوحات اإلهلية ،242/1وحاشية الصاوي ،185/1وفتح القدير
،19/2وتفسري املنار ،142-139/3حيث أطال يف ذلك جدًّ ا ،فراجعه تفصيلاً .
91
ﱫ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓﱪ :ﱫ ﮮ ﱪ مفعول ألجله ،وهو مصدر من
الفعل اخلاميس «ابتغى» ،و«ابتغى اليش َء :أراده وطلبه»().
وإيثار لفظة ابتغاء هنا؛ ملا فيها من املبالغة واالجتهاد يف طلب الفتنة؛ ألن صيغة
افتعل تدل عىل التكلف والتعمل واالجتهاد يف الطلب فكأهنم يتعملون ويتكلفون يف
طلب الفتنة ،وهذا لعمري خمالف للفطر السليمة والعقول املستقيمة يقول الراغب:
«وأما االبتغاء فقد خص باالجتهاد يف الطلب فمتى كان الطلب ليشء حممود،
فاالبتغاء فيه حممود نحو :ﱫ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﱪ ،ﱫﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﱪ»() ،وال
َّ
شك َّ
أن ابتغاء الفتنة هنا أمر مذموم عواقبه وخيمة ،كام قال تعاىل :ﱫﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕﱪ.
ﱫ ﮯ ﱪ :مضاف إليه وهو من إضافة املصدر ﱫ ﮮ ﱪ ملفعوله؛ ألن الفتنة
هي التي وقع عليه االبتغاء ،واملعنى :أهنم يتبعون املتشابه طلبا للفتنة.
والفتنة «أصلها مأخوذ من قولك :ف َت ْن ُت الفضة والذهب إِذا َأذبتهام بالنار لتميز
الرديء من اجل ِّي ِد»() ،وقد ذكرت املعاجم معاين عقلية أخرى للفتنة عالوة عىل هذا
املعنى احليس السابق().
وقد اختلف املفرسون يف املعنى املراد بالفتنة يف هذا السياق عىل أوجه ذكرها
اخلازن بقوله« :قوله تعاىل :ﱫ ﮮ ﮯ ﱪ أي :طلب الرشك والكفر وقيل :طلب
92
الشبهات ،واللبس ليضلوا هبا جهاهلم ،وقيل :طلب إفساد ذات البني»().
وزاد األلويس رأيا رابعا فقال« :ومن الناس من محل الفتنة عىل املال فإن اهلل
قد سامه فتنة يف مواضع من كالمه ( ،ولكن األلويس رفض هذا الرأي فقال) وال
مدعى»() ،وهو كام قال رأي ضعيف ال يتالءم مع السياق.
ً خيفى أنه ليس بيشء
والراجحَّ :
أن الفتنة هنا تشمل املعاين الثالثة األوىل كلها وال تنازع بينها فاللفظة
حتتمل اجلميع ،وكل زائغ عن االستقامة هيدف إليها مجيعها ،أو إىل غرض معني منها
عىل حسب معتقده.
وهنا يثور سؤال :ما حكم متبعي املتشابه عىل أي قصد من املقاصد؟ أجاب
القرطبي عن ذلك إجابة مسهبة مفصلة ،فراجعه كي ال يطول القول ().
ﱫ ﮰ ﮱﯓﱪ :الواو للعطف عطفت املصدر ابتغاء الثاين عىل املصدر ابتغاء
األول ،والعطف هنا يقتيض املشاركة يف االتباع ،ويقتيض ً
أيضا التغاير؛ ألن املضاف
إليه تأويله يغاير الفتنة ،فالذين يف قلوهبم زيغ أ ًّيا كانوا يتبعون املتشابه قاصدين من
وراء هذا االتباع أمرين :طلب الفتنة وطلب التأويل عىل غري املراد.
ﱫ ﮱﯓ ﱪ :تأويل مفعول به من إضافة املصدر ابتغاء ملفعوله كام مر.
والتأويل :عىل وزن تفعيل ،مصدر من املايض املضعف العني َ
«أ َّو َل».
والتأويل يف اللغة له معنيان:
93
األول« :تفسري الكالم الذي ختتلف معانيه وال يصح إال ببيان غري لفظه»().
الثاين« :الرجوع إىل األصل ،ومنه املـوئل للموضع الـذي يرجع إليه»().
وقد اختلف املفرسون يف املعنى املراد من التأويل هنا هل هو األول أو الثاين؟
ذهب إىل األول بعض املفرسين ،يقول البغوي« :ﱫ ﮰ ﮱﯓﱪ تفسريه وعلمه،
دليله قوله تعاىل :ﱫ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﱪ [الكهف،)( »]78:
ويقول العالمة اجلمل« :التأويل والتفسري بمعنى واحد ،وهذا هو املراد هنا»().
() لسان العرب (أ .و .ل) ،33 /11وقد أورد صاحب «اللسان» تعريفا آخر للتأويل فقال:
«نقل ظاهر اللفظ عن وضعه األصيل إىل ما حيتاج إىل دليل لواله ما ترك ظاهر اللفظ» ،وهذا التعريف
مل يرد يف املعاجم السابقة عىل لسان العرب ،بل هو مصطلح حادث ظهر يف بيئة املتكلمني واألصوليني،
وال يصح تفسري التأويل الوارد يف آية (آل عمران) عليه بحال من األحوال؛ ألن هناك بعض الطوائف
ض َّلت الطريق ،وظنت أن هذا املعنى احلادث هو املراد هبذا اللفظ ،وأولت عليه كثريا من آيات القرآن،
فأخرجتها عن مضموهنا ،ودالالهتا املرادة هبا بسبب حتريفها ملعنى التأويل كام فعل الباطنية والشيعة
والقرامطة وغريها من الفرق الضالة ،وليس معنى هذا أننا ال جيوز لنا أن نستخدم هذا املصطلح هبذا
املعنى احلادث يف املوطن الذي يستدعيه ،فكثري من آيات القرآن نقل اللفظ فيها عن معناه األصيل إىل
معنى جمازي بسبب وجود القرينة الدالة عىل ذلك ،فإذا استدعى املقام التأويل هبذا املعنى أولنا هبذا
املفهوم السابق ،أما أن يكون التأويل يف سورة (آل عمران) هبذا املفهوم؛ فهذا هو املرفوض ،و«ال
تدعي أن املعنى االصطالحي الذي استعملت فيه هذه الكلمة أو تلك
َ ينبغي لطائفة أو ألخرى أن
هو معناها العام ،أو هو بالرضورة املعنى الوارد يف القرآن ،وال جيوز أن جتعل أقواهلا واصطالحاهتا
املتأخرة عن عرص النبوة واالحتجاج اللغوي أصلاً وحكماً تفسرِّ به ما ورد يف القرآن» .انظر :اإلمام
ابن تيمية وقضية التأويل ص .36
() املفردات ،27وانظر :عمدة احلفاظ ،157/1وهتذيب اللغة ،437/15واللسان .32/11
() تفسري البغوي ،321/1وانظر :القرطبي ،15/4وروح املعاين .732/2
() الفتوحات اإلهلية للجمل ،243/1وانظر :تفسري ابن كثري .347/1
94
وذهب إىل الثاين أكثر املفرسين ،يقول الثعالبي« :التأويل :هو َم َر ُّد الكال ِم
ئول ،إذا رجع»(). يقف ع َل ْيه من املعانيِ وهو :من َ
آل َي ُ َو َم ْر ِج ُع ُه ،واليشء الذي ُ
ويقول النيسابوري« :ﱫ ﮰ ﮱﯓﱪ؛ أي :طلب املعنى الذي يرجع إليه
اللفظ بحسب ما يشتهونه من غري أن يكون قد وجد له يف كتاب اهلل بيان»().
ويقول الشيخ رشيد رضا« :التأويل :هنا بمعنى اإلرجاع أي :أهنم يرجعونه إىل
أهوائهم وتقاليدهم ال إىل األصل املحكم» ().
وهذا هو الراجح؛ ألن التأويل ورد هنا يف مقام ذم الذين يبتغون الفتنة ،ويبتغون
تأويل املتشاهبات ،أي :طلب املعنى الذي يرجع إليه اللفظ بحسب ما يشتهونه من
غري أن يكون له يف كتاب اهلل بيان ،والتأويل بمعنى التفسري غري مذموم حتى حيمل
عليه ،يقول ابن عاشور« :وقد فهم أن املراد :التأويل بحسب اهلوى أو التأويل امللقي
يف الفتنة بقرينة قوله تعاىل :ﱫ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ
ﯟﱪ اآلية ،كام فهم من قوله :ﱫ ﮪﱪ أهنم هيتمون بذلك ويستهرتون به ،وهذا
مالك التفرقة بني حال من يتبع املتشابه لإليقاع يف الشك واإلحلاد ،وبني حال من
يفرس املتشابه ،ويؤوله إذا دعاه داع إىل ذلك»().
واهلاء يف ﱫ ﯖﱪ مضاف إليه ،و«اإلضافة يف تأويله للعهد ،أي :بتأويل
خمصوص ،وهو ما مل يوافق املحكم بل ما كان موافقا للتشهي»().
95
وهذا يؤكد َّ
أن التأويل هنا ليس هو التأويل بمعنى التفسري؛ ألن التفسري ممن ملك
أدواته غري مذموم ،بل هو تأويل عىل حسب ما يشتهون ،ويوافق أهواءهم ،ويف هذا
ذم واضح لطوائف عديدة اتبعت ما تشابه من القرآن ،وتركوا املحكم ،فالنصارى
-كام يف سبب النزول -اتبعوا ما تشابه يف قوله تعاىل :ﱫ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭪﭫ ﱪ [املائدة ،]171:فتشابه هذا عليهم وجعلت طائفة منهم عيسى
إهلا ،وتركوا املحكم يف قوله تعاىل :ﱫﯱ ابن اهلل ،كام جعلت طائفة منهم عيسى
ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﱪ [الزخرف ،]59:وقوله تعاىل:
ﱫﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﱪ [آل عمران ،]59:وهكذا احلال يف طوائف
كثرية ال نذكرها خشية التطويل() ،فكل طائفة اتبعت هواها ،وضلت عن الرصاط
واتبعت املتشابه وتأولته عىل هواها.
وهنا سؤال :هل طلب تأويل املتشاهبات مذموم يف ذاته؟
ٍ
بمذمة بدليل قوله: أجاب ابن عاشور عن ذلك فقال« :ليس طلب تأويله يف ذاته
ﱫ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﱪ كام سنب ِّينه ،وإنام حمل الذم أهنم يطلبون
تأويلاً ليسوا أهلاً له ،فيؤولونه بام يوافق أهواءهم ،وهذا ديدن املالحدة وأهل األهواء
الذين يتعمدون محل الناس عىل متابعتهم تكثريا لسوادهم» ().
هذا ،ويف التعبري بقوله :ﱫ ﮰ ﮱﯓ ﱪ مالحظة دقيقة :حيث علل االتباع
بابتغاء التأويل دون التأويل نفسه ،وجتريد التأويل عن الوصف بالصحة واحلقية،
ويف هذا إشارة إىل «أهنم ليسوا من التأويل يف عري وال نفري ،وال قبيل وال دبري ،وأن ما
96
يتبعونه ليس بتأويل أصال ال أنه تأويل غري صحيح قد يعذر صاحبه»().
وهنا مالحظة أخرى دقيقة :هل الذين يف قلوهبم زيغ ابتغوا الفتنة ،وابتغوا التأويل
معا أم كل جمموعة منهم ابتغت واحدة فحسب؟ أجاب العالمة األلويس عن ذلك
فقال« :وجوز يف هاتني الطلبتني أن تكونا عىل سبيل التوزيع بأن يكون ابتغاء الفتنة طلبة
بعض ،وابتغاء التأويل حسب التشهي طلبة آخرين وجيوز أن يكون االتباع ملجموع
الطلبتني ،وهو اخلليق باملعاند؛ ألنه لقوة عناده ومزيد فساده يتشبث هبام معا ،وأن يكون
ذلك لكل واحدة منهام عىل التعاقب ،وهو مناسب بحال اجلاهل؛ ألنه متحري تارة يتبع
ظاهره ،وتارة يؤوله بام يشتهيه لكونه يف قبضة هواه يتبعه كلام دعاه»().
وقوله :ﱫ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﱪ :الواو هنا حالية واجلملة
بعدها «يف موضع احلال من ضمري يتبعون باعتبار العلة األخرية ،أي :يتبعون املتشابه
البتغاء تأويله تأويال فاسدً ا ،واحلال أن التأويل املطابق للواقع كام يشعر به التعبري
من عباده الراسخني ،وبمن وفقه بالعلم ،وا ِ
إلضافة إىل اهلل تعاىل خمصوص به
يف العلم» ().
و« َما» نافيه ،وﱫ ﯕ ﱪ فعل مضارع منفي بام ،و«العلم إدراك اليشء بحقيقته،
وذلك رضبان:
أحدمها :إدراك ذات اليشء.
والثاين :احلكم عىل اليشء بوجود يشء هو موجود له ،أو نفي يشء هو منفي
عنه.
() روح املعاين ،732/2وانظر :تفسري أيب السعود ،8/2والفتوحات اإلهلية .243/1
() روح املعاين ،732/2وانظر :تفسري النيسابوري ،108/2والتفسري الوسيط .30/2
() روح املعاين ،732/2وانظر :التفسري الوسيط .32-31/2
97
فاألول :هو املتعدى إىل مفعول واحد نحو :ﱫ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﱪ
[األنفال.]60:
والثاين :املتعدى إىل مفعولني نحو قوله :ﱫﯕ ﯖ ﯗﱪ [املمتحنة.)(»]10:
واملراد هنا هو النوع األول ،أي :وما يدرك املتشابه حق إدراكه ،ويعلمه علام تاما
هنا علم إحاطي شمويل ،بخالف علم ،فالعلم املسند إىل املوىل منكشفا إال اهلل
البرش فهو علم كسبي غري حميط باألشياء.
ال يوصف باملعرفة مطل ًقا يظهر وعرب هنا بـ(يعلم) دون يعرف؛ ألن املوىل
جليا إذا تتبعنا ماديت العلم واملعرفة() لوجدنا أن املعرفة مل تسند البتة للموىل
ذلك ًّ
يف القرآن الكريم« :وخلو القرآن من إسناد املعرفة هلل دليل قاطع عىل أن العلم
كامل ،وأن املعرفة يشوهبا النقص ...لذلك -واهلل أعلم -مل يأت (عرف) وال يشء من
مشتقاهتا فعال هلل؛ تنز ًهيا له عن النقائص فال يقال عرف اهلل كذا ،وال يقال اهلل عارف،
وإنام يقال علم اهلل كذا ،واهلل عامل»() ،ولذا فمن أسامئه احلسنى (العليم) ،وليس من
أسامئه العارف.
ﱫ ﯖﱪ :تأويل مفعول مقدم للفعل يعلم الذي يتعدى هنا ملفعول واحد
«والضمري يف ﱫ ﯖﱪ عائدٌ عىل مجيع متشابه القرآن»() ،وكأن أصل الكالم،
. وما يعلم تأويل مجيع متشابه القرآن إال اهلل
والتأويل هنا بمعنى اإلرجاع والعاقبة ،وهو عني املقصود منه فيام سلف إال أن
98
بينهام فرقا دقيقا من جهة ا ُملؤِّ ول ال من جهة التأويل ،فهناك الزائغون املبطلون كانوا
يؤولونه حسبام يشتهون ،ويتفق مع أهوائهم كام فعل النصارى واليهود ،وكام يفعل
،وعىل ذلك فاملعنى :وما يعلم كل مؤول زائغ عن احلق؛ وهنا التأويل منسوب هلل
مرجع املتشاهبات ،وحقائقها وكيفياهتا عىل سبيل احلقيقة التامة ،واإلحاطة الشاملة
. إال اهلل
ﱫ ﯗ ﱪ :أداة حرص ،ولفظ اجلاللة فاعل مؤخر ،وقوله :ﱫ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ
من باب ﯘﯙ ﱪ يفيد القرص رصاحة حيث قرص علم تأويل املتشاهبات عىل اهلل
قرص املوصوف لفظ اجلاللة عىل الصفة تأويل.
ردا عىل زعم النصارى ،أو اليهود عىل حسب
وآثر التعبري هنا بـ (ما) ،و (إال) ًّ
االختالف يف سبب النزول أهنم يعلمون املتشاهبات ،و(ما) ،و(إال) تأيت يف سياق
ِ
واإلثبات نحو: رب بال َّنفي
الرد عىل املكذب املنكر ،يقول اإلمام عبد القاهر« :وأما اخل ُ
َ
املخاطب ،ويشك فيه ،فإذا فيكون لألم ِر ُي ْن ِكر ُه
ُ و«إن هو إ َّ
ال كذا»، «ما هذا إ َّ
ال كذا»ْ ،
َ
يكون األ ْم ُر عىل طىء» ،قلتَه :ملن يد َف ُع أن
ٌ مصيب» ،أو «ما هو إال مخُ
ٌ قلت« :ما هو إال
َ
فقلت« :ما هو إال زيدٌ » مل تقله إال وصاح ُبك َ شخصا ِم ْن بعيد
ً رأيت
َ ما قلتَه ،وإذا
َ
يكون زيدً ا»(). إلنكا ِر أن
آخر ،وجيدُّ يف ا ِ ٌ
إنسان ُ يتوهم أنه ليس ٍ
بزيد ،وأنه
وقدم املفعول تأويله عىل الفاعل لفظ اجلاللة؛ ألن املراد تسليط القرص عىل
الفاعل ،فيكون املقصور عليه هو لفظ اجلاللة ،واملقصور هو التأويل.
وقوله :ﱫ ﯚ ﯛ ﯜ ﱪ :اختلف املفرسون يف داللة هذه الواو عىل وجهني:
األول :الواو هنا استئنافية ،والوقف يكون عىل لفظ اجلاللة.
99
يقول البغوي« :وذهب األكثرون إىل أن الواو يف قوله :ﱫ ﯚ ﱪ واو
االستئناف ،وتم الكالم عند قوله :ﱫ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﱪ وهو قول أيب بن
كعب ،وعائشة ،وعروة بن الزبري ريض اهلل عنهم ،ورواية طاووس عن ابن عباس
ريض اهلل عنهام ،وبه قال احلسن وأكثر التابعني ،واختاره الكسائي والفراء واألخفش،
وقالوا :ال يعلم تأويل املتشابه إال اهلل» ().
وعىل هذا الرأي «يكون قوله :ﱫﯚﱪ مبتدأ ،و :ﱫﯝﱪ خرب عنه»()،
وتكون مجلة القرص انتهت عند لفظ اجلاللة ،وهو املقصور عليه فحسب ،وتقدير
الكالم :ال يعلم تأويل املتشابه إال اهلل ،فهو املتفرد بعلمه ،ال يعلمه سواه ،ال يرشكه
حتقيقيا.
ًّ حقيقيا
ًّ قرصا
يف ذلك ملك وال إنس وال جان ،والقرص عىل ذلك يعد ً
الوجه الثاين :الواو عاطفة عطفت ﱫﯚ ﱪ بعدها عىل لفظ اجلاللة
قبلها ،يقول البغوي« :اختلف العلامء يف نظم هذه اآلية فقال قوم :الواو يف قوله:
ﱫﯚﱪ واو العطف ،يعني :أن تأويل املتشابه يعلمه اهلل ويعلمه الراسخون
يف العلم وهم مع علمهم ﱫ ﯝ ﯞ ﯟ ﱪ ،وهذا قول جماهد والربيع وعىل هذا
يكون قوله :ﱫ ﯝ ﱪ حالاً معناه :والراسخون يف العلم قائلني آمنا به ...أي قائلني
عىل احلال ،وروي عن ابن عباس ريض اهلل عنهام أنه كان يقول يف هذه اآلية :أنا
من الراسخني يف العلم ،وروي عن جماهد :أنا ممن يعلم تأويله»() ،وعىل هذا الرأي
100
يكون الوقف عىل الراسخني ،ويكون الراسخون داخلني يف مجلة القرص ،والتقدير:
ال يعلم تأويل املتشاهبات إال اهلل والراسخون يف العلم ،وما عدامها ال يعلمون تأويلها
البتة.
هذان مها الرأيان اللذان عليهام جل املفرسين يف معنى الواو باختصار شديد()،
وبذلك يتبينَّ لنا :أنه قد انبنى عىل «االختـالف يف حممـل العطف يف قـوله تعاىل:
ﱫﯚ ﯛ ﯜ ﱪ اختالف بني علامء األمة يف تأويل ما كان متشاهبا من آيات
القرآن ،ومن صحاح األخبار عن النبي ×.)(»...
وإذا كان يل من رأي هنا؛ فإين أميل إىل الرأي األول بأن الواو استئنافية والتأويل
عىل ذلك هنا يكون بمعنى حقيقة اليشء كام بينا قبل ،وليس بمعنى التفسري ،يؤيد ذلك
سبب النزول كام تقدم ذكره ،ويؤيده ً
أيضا أن التأويل يف مجيع مواضعه يف الذكر احلكيم مل
يستخدم بمعنى التفسري() ،وما رجحته هو ما عليه أكثر املفرسين القدماء واملحدثني.
عرضت مجيع كتب التفسري هلذه القضية تفصيلاً ،وما عرضته هنا كان باختصار شديد
ْ ()
مراعاة للمقام ،ومن أراد التوسع؛ فالقضية مبسوطة فيها مع ما يشوب بعضها من تضارب األقوال
وتداخلها ،وقد عمدت إىل األيرس األسهل بعيدً ا عن هذا التضارب والتداخل.
() التحرير والتنوير 176-166/3بترصف يسري.
() ورد لفظ التأويل يف الذكر احلكيم كله ( )17مرة عىل النحو اآليت :ورد مضا ًفا لضمري
الغائب «تأويله» ( )8مرات ،اثنتني هنا يف سورة آل عمران ،والضمري فيهام عاد عىل اآليات املتشاهبات
دون شك ،ومل يقع التأويل عىل آيات القرآن املتشاهبة إال يف هذه اآلية ،وسائر استعامالت اللفظة وقع
التأويل فيها عىل أشياء أخر كام سيأيت ،واثنتني يف سورة األعراف يف قوله تعاىل :ﱫ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ
ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﱪ [األعراف ،]53:والضمري فيها يعود عىل ما ينتظر أهل
مكة من عاقبة ما وعدوا به يوم القيامة ،كام هو بني من السياق السابق ،ومرة واحدة يف سورة يونس
يف قوله :ﱫ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭﱪ [يونس ]39:أي :ملا يأهتم بعد عاقبة ما =
101
النبي × يف ِ
وفد النصارى الذين َوفدُ وا عىل ِّ
وي أن من َ «ر َ يقول اإلمام ابن تيمية ُ
مجع ،وهذا ْتأ ٌ
ويل ري ٍ نجران َم ْن َت َأ َّو َل (إ َّنا) ،و ( َن ْح ُن) عىل َأن اآلهل َة ٌ
ثالثة؛ ألن هذا ضم ُ َ
فإنه ُي َر ُاد هبا الواحدُ الذي ُ
معه ابه؛ ُ ومعلوم َأ َّن( :إ َّنا) ،و( َن ْح ُن) ِمن ا ُمل َ
تش ِ ٌ يف اإليامن باهلل
راد من ِج ِ
نسه ،و ُي ُ أعوا ُن ُه ،وإِن مل يكونوا ْ نسه ،و ُي َر ُاد هبا الواحدُ الذي ُ
معه ْ من ِج ِ ريه ْغ ُ
اسم منها
كل ٍلتنو ِع أسامئه التي ُّ
ريه ُّ
معه غ ُ
من ُقام ْ
نفسه الذي يقوم َم َ
املعظم َ
ُ هبا الواحدُ
=توعدوا به ،فالضمري يعود عىل ذلك كام يبدو من السياق ،وثالث مرات يف سورة يوسف آيات [،36
،]45 ،37وكلها يف تأويل الرؤيا.
وجمرورا ( )7مرات يف قوله :ﱫ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ
ً مرفوعا
ً وورد لفظ« :تأويل»
ﭦ ﭧ ﭨﱪ [يوسف ،]6:ويف قوله :ﱫﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪﱪ [يوسف،]21:
ويف قوله :ﱫ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﱪ [يوسف ،]101:واألحاديث هنا هي التي وقع عليها
التأويل ،ويف قوله :ﱫﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﱪ [يوسف ،]100:والروئ هنا هي التي
وقع عليها التأويل ،ويف قوله تعاىل :ﱫﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﱪ [يوسف ،]44:والتأويل هنا
منفي عن األحالم ،ويف قوله تعاىل :ﱫﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﱪ [الكهف ،]78 :ويف
قوله :ﱫﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﱪ [الكهف ،]82:والتأويل فيهام وقع عىل
ما أعلمه اخلرض ملوسى .
وورد «تأويلاً » منصو ًبا مرتني يف قوله تعاىل :ﱫﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ
ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒﱪ [النساء ،]59:وال يرتبط التأويل هنا بيشء من آي
ومرجعا.
ً القرآن كام هو بينِّ ،فمعناه :وأحسن ًّ
مردا
والثاين :يف قوله :ﱫﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﱪ [اإلرساء ،]35:وهو عىل
املعنى األول ،وال يرتبط كذلك باملتشابه ،انظر :املعجم املفهرس.97
وبذلك يتبينِّ لنا أن الذكر احلكيم مل يستعمل لفظ التأويل يف هذه اآليات إال بمعنى املرجع
واملصري ،أو األثر اخلارجي الذي يقع جزا ًء لقوم وعاقب ًة هلم ،أو مآلاً ألحاديث الناس ،وتعب ً
ريا
لرؤياهم ،ومل يرد بمعنى التفسري كام ذهب بعض املفرسين.
102
والذين يف
َ َ
اللفظ واحدٌ واملعنى ُمت ٌ
َنوع... فصار َهذا ُمتشابهِ ً ا؛ ألن
َ مسمى
مقام ًّ
يقوم َ
ُ
املحكم الذي ال اشتبا َه فيه َ
مثل :ﱫﯽﯾ ﯿﰀﱪ ،ﱫﭗﭘ َ لوهبم َز ْيغ ُ
يدعون ْ ُق
ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﱪ ،ﱫﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡﱪ ،ﱫﯣ
ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﱪ ،ﱫﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ
ﭡ ﭢﱪ ،ويتبعون املتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه عىل غري
مواضعه ،وابتغاء تأويله ،وهو احلقيق ُة التِي أخرب عنها.)(»...
ويقول الشيخ رشيد رضا« :غلط املفرسون يف تفسري التأويل يف اآلية ألهنم
جعلوه باملعنـى االصطالحي ،وإن تفسري كلامت القرآن باملواضعات االصطالحية
قد كان منشأ غلط يصعب حرصهُ ،ذكر التأويل يف سبع سور من القرآن (وبعد أن
بني معنى التأويل يف هذه السور قال) فتبني من هذه اآليات أن لفظ التأويل مل يرد
يف القرآن إال بمعنى األمر العميل الذي يقع يف املآل تصديقا خلرب أو رؤيا ،أو لعمل
غامض ُيقصد به يشء يف املستقبل فيجب أن تفرس آية آل عمران بذلك ،وال جيوز أن
حيمل التأويل فيها عىل املعنى الذي اصطلح عليه قدماء املفرسين ،وهو جعله بمعنى
التفسري كام يقول ابن جرير :القول يف تأويل هذه اآلية كذا ،وال عىل ما اصطلح عليه
متأخروهم من جعل التأويل عبارة عن نقل الكالم عن وضعه إىل ما حيتاج يف إثباته
إىل دليل لواله ما ترك ظاهر اللفظ.)(»...
() جمموع فتاوى ابن تيمية ،277-276/13وانظر :تفسري القاسمي ،21-11/4فقد نقل
ذلك عنه بحذافريه.
() تفسري املنار ،162-143/3وانظر :تفسري سورة اإلخالص ،158-110وجمموع فتاوى
ابن تيمية ،70-68/4واإلكليل يف املتشابه والتأويل البن تيمية .33-13
103
والشيخ رشيد ينطلق يف قوله هذا من كالم اإلمام ابن تيميه رمحه اهلل يف حديثه
عن التأويل يف تفسري سورة اإلخالص كام رصح هو نفسه بذلك حيث استطرد وأورد
نصوصا كاملة من كالم اإلمام ابن تيمية تؤكد ذلك.
ولكن ليس معنى ذلك أن نرفض الثاين متا ًما؛ ألن جميء اآلية عىل تلك الطريقة
االحتاملية أمر مقصود لذاته حتى يتسنى إدخال هذين الرأيني ويتسع األمر الختالف
العلامء فـ «نظم اآلية جاء عىل أبلغ ما يعرب به يف مقام يسع طائفتني من علامء اإلسالم
يف خمتلف العصور»().
ﱫﯚ ﱪ مجع مذكر سامل ،مفرده :راسخ ،وراسخ :اسم فاعل من الثالثي
رسخ ،أي :ثبت()« ،والرسوخ :الثبوت يف اليشء ،وأصله يف األجرام :أن يرسخ
اجلبل والشجر يف األرض»().
فالرسوخ يف األصل للمحسوسات يقال :جبال راسخة أي متمكنة ثابتة ضاربة
بجذورها يف أعامق األرض ،لكنه استعمل هنا يف املعاين أي :الرسوخ يف العلم،
ومن ثم فنسبة الرسوخ إىل طائفة من البرش نسبة غري حقيقية بل الكالم وارد عىل
سبيل االستعارة الترصحيية التبعية؛ للمبالغة يف شدة متكنهم ،وكامل ثباهتم يف العلم،
فراسخون أبلغ ال شك من ثابتون ،يقول ابن عاشور« :استعري الرسوخ لكامل العقل
والعلم بحيث ال ُتضلله الشبه ،وال تتطرقه األخطاء غال ًبا ،وشاعت هذه االستعارة
حتى صارت كاحلقيقة ،فالراسخون يف العلم :الثابتون فيه العارفون بدقائقه»().
104
ويقول السمني احللبي« :استعري الرسوخ ملن حتىل بالعلم ،واختلط به حلمه ودمه
فيتحقق عنده حتققا إذا عرضت له شبهة مل خيتلج هلا قلبه»().
وقد اختلف العلامء يف املراد بالراسخني هنا عىل رأيني:
األول« :مؤمنو أهل الكتاب كعبد اهلل بن سالم وأصحابه ،بدليل ﱫﯰ
ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﱪ يعنى الراسخني يف علم التوراة»() ،وعىل هذا الرأي
تكون أل يف الراسخني للعهد ،وقد رفض أبو حيان هذا الرأي بقوله« :وهذا فيه
بعد»().
الثاين :هم طائفة من العلامء هلم سامت وصفهم هبا الرسول × حينام سئل « َم ِن
فقالَ « :م ْن َب َّر ْت َي ِمين ُُهَ ،
وصدَ َق لسا ُنه ،واستقام به َق ْل ُب ُهَ ،
وع َّف الراس ُخ يف ِ
الع ْل ِم؟ َ ِ
: لصحة هذا قول اهلل
َّ ابن ُر ْش ٍد :ويشهد
العلم»؛ قال ُ
ِ الر ِ
اس ُخ يف َب ْطن ُُه ،فذلك َّ
من مل َ
خيش ال ٌم ُّ
يدل َعىل أن ْ ﱫﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﱪ [فاطر]28 :؛ ألنه َك َ
فليس بعاملٍ»() ،وعىل هذا الرأي تكون أل هنا للجنس ،أي :جنس من العلامء
َ اهلل،
اتصفوا هبذه الصفات ،وهذا هو الراجح؛ ألن األول فيه بعد كام مر ،وعىل ذلك
فالعلامء قسامن عامل فحسب ،وعامل راسخ.
() عمدة احلفاظ ،97/2وانظر :تلخيص البيان للريض ،25وتفسري الصابوين .170/1
() البحر املحيط ،385/ 2واللباب البن عادل .41/5
() البحر املحيط .385/ 2
() تفسري الثعالبي ،232/1وانظر :تفسري القرطبي ،19/4والفتوحات اإلهلية ،243/1
وروح املعاين ،733/2واحلديث يف كتاب جامع العلوم واحلكم البن رجب احلنبيل .94/1
105
ﱫ ﯛ ﯜ ﱪ جار وجمرور متعلق بالراسخني« ،واملراد بالعلم العلم الرشعي
املقتبس من مشكاة النبوة فإن أهله هم املمدوحون»().
فالعلم هنا ليس بمعناه الشامل الذي ينطبق عىل مجيع العلوم ،ومن ثم فـ (أل) يف
العلم للعهد أي :العلم الرشعي الديني ،وهو علم اآليات املتشاهبات.
أقول هذا؛ ألن االختالف الواقع يف العلوم األخرى ال يؤدي إىل ما يؤدي إليه
االختالف يف تأويل املتشاهبات؛ ألنه «إذا تأمل املتأمل فساد العامل وما وقع فيه من
التفرق واالختالف ،وما دفع إليه أهل اإلسالم وجده ناشئًا من جهة التأويالت
املختلفة املستعملة يف آيات القرآن ،وأخبار الرسول × التي تعلق هبا املختلفون
عىل اختالف أصنافهم يف أصول الدين ،وفروعه فإهنا أوجبت ما أوجبت من التباين
والتحارب ،وتفرق الكلمة ،وتشتت األهواء ،وتصدع الشمل وانقطاع احلبل ،وفساد
ذات البني ،حتى صار يكفر ،ويلعن بعضهم بعضا ،وترى طوائف منهم تسفك دماء
اآلخرين ،وتستحل منهم أنفسهم وحرمهم وأمواهلم.)(»...
«فأصل خراب الدين والدنيا إنام هو من التأويل الذي مل ُيرده اهلل ورسوله بكالمه،
وال دل عليه أنه مراده ،وهل اختلفت األمم عىل أنبيائهم إال بالتأويل ،وهل وقعت
يف األمة فتنة صغرية أو كبرية إال بالتأويل؟ ،فمن بابه دخل إليها ،وهل أريقت دماء
املسلمني يف الفتن إال بالتأويل؟ وليس هذا خمتصا بدين اإلسالم فقط بل سائر أديان
الرسل مل تزل عىل االستقامة والسداد حتى دخلها التأويل ...ولو ذهبنا نستوعب
ما جناه التأويل عىل الدنيا والدين ،وما نال األمم قديام وحديثا بسببه من الفساد
106
الستدعى ذلك عدة أسفار» ().
وعرب بالظرفية «فيِ » إلفادة املبالغة كأهنم غاصوا يف العلم ومتكنوا فيه بسهم وافر
حتى كأن العلم صار مظروفا قد احتواهم ،وبذلك تكون «يف» استعارة تبعية كام يرى
حقيقيا.
ًّ متأخرو البالغيني؛ ألن العلم ليس مظروفا
ﱫ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﱪ مجلة :ﱫ ﯝ ﱪ خرب الراسخني بناء عىل
أن لفظ الراسخني مبتدأ ،والواو لالستئناف ،وعىل هذا الرأي يكون القول حقيقة،
والتقدير :والراسخون يف العلم ال يؤولونه بل يكتفون بالقول آمنا بكونه من عند اهلل،
وإن مل نفهم معناه.
وجيوز أن تكون هذه اجلملة حاال بناء عىل أن الراسخني معطوفة عىل لفظ
اجلاللة ،وعىل هذا الرأي حيتمل أن يكون القول كناية عن االعتقاد وحيتمل أن يكون
عىل حقيقته من النطق ،ويف ذلك يقول ابن عاشور« :واملعنى عليه حيتمل أن يكون
املراد من القول :الكناية عن االعتقاد؛ ألن شأن املعتقد أن يقول معتقده أي :يعلمون
تأويله ،وال هيجس يف نفوسهم شك من جهة وقوع املتشابه حتى يقولوا :ملاذا مل جييء
واضحا؟ ويتطرقهم من ذلك إىل الريبة يف كونه من عند اهلل ،فلذلك
ً الكالم كله
يقولون :ﱫ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﱪ ،وحيتمل أن املراد يقولون لغريهم :أي من مل يبلغ مرتبة
الرسوخ من عامة املسلمني الذين ال قبل هلم بإدراك تأويله ليعلموهم الوقوف عند
حدود اإليامن ،وعدم التطلع إىل ما ليس باإلمكان»().
107
ٍ
وجه من الوجهني السابقني يف معنى القول عائد والضمري يف يقولون عىل أي
عىل الراسخني بال خالف.
ومجلة :ﱫ ﯞ ﯟ ﱪ يف حمل نصب مقول القول ،وآمن فعل ماض مزيد بحرف
من الثالثي َأ ِم َن ،و«أصل األمن طمأنينة النفس وزوال اخلوف ...واإليامن يستعمل
تارة اسام للرشيعة التي جاء هبا حممد × ...وتارة يستعمل عىل سبيل املدح ،ويراد به
إذعان النفس للحق عىل سبيل التصديق»().
وهذا األخري هو املراد هنا ،فإن الراسخني يعتقدون اعتقادا جازما أن املتشابه من
عند اهلل ،ويصدقون بذلك وتطمئن به قلوهبم ،وتسكن إليه نفوسهم ،ومن ثم عرب
هبذا الفعل؛ لإلشارة إىل هذا املعنى ،مع مالحظة قوة النطق يف أصوات هذا الفعل،
والتي تعكس قوة اليقني وشدة الصدق واإلذعان ،وهذا واضح ملن يردد تلك اللفظة
عىل لسانه ،ويتسمع ألصوات حروفها عند نطقها.
وعرب باملايض ﱫ ﯞ ﱪ ،ومل يقل يقولون نؤمن به داللة عىل صحة يقينهم
وسالمة معتقدهم ،فلم يتوقفوا بل بتوا يف القضية وأبرموا احلكم دون تردد.
«والضمري يف :به ،حيتمل أن يعود عىل املتشابه ،وهو الظاهر ،وحيتمل أن يعود
عىل الكتاب»() ،أي :حمكمه ومتشاهبه ،ولكن األول هو األرجح ،كام هو بني من
سياق الكالم.
ﱫ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﱪ :ﱫ ﯠﱪ مبتدأ« ،والتنوين يف كل ،للعوض عن املحذوف،
فيحتمل أن يكون ضمري الكتاب ،أي :كله من عند ربنا وحيتمل أن يكون التقدير:
108
كل واحد من املحكم واملتشابه من عند اهلل»
().
109
أي :كأهنام صارا «ممتزجني يف القول امتزاج اجلملة الواحدة ،نحو قوله:
الود»().
كأنه قال :هذا الكالم مما يزرع َّ
وﱫ ﯡ ﱪ حرف جر يفيد هنا االبتداء ،أي :من ابتداء ما يسمى حمكام ومتشاهبا
كله من عند اهلل.
وﱫ ﯢ ﱪ ظرف مكان جمرور بمن ،وهنا ملحوظة دقيقة :إذ كان من املمكن أن
يقال« :كل من ربنا» وال تذكر (عند) ،فام فائدة التعبري هبا؟ أجاب عن ذلك النيسابوري
بقوله« :ويف زيادة ﱫ ﯢﱪ مزيد توضيح وتأكيد ،وتفخيم لشأن القرآن»().
ويف التعبري هبا ً
أيضا رس آخر حكاه ابن عاشور بقوله« :وزيدت كلمة ﱫﯢﱪ
للداللة عىل أن (من) هنا لالبتداء احلقيقي دون املجازي أي :هو منزل من وحي اهلل
تعاىل وكالمه ،وليس كقوله :ﱫ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑﰒ ﱪ
[النساء.)(»]79:
ﱫ ﯣﯤ ﱪ :ﱫ ﯢ ﱪ مضاف ،ورب مضاف إليه« ،وأضاف العندية إىل قوله:
ربنا ،ال إىل غريه من أسامئه تعاىل؛ ملا يف اإلشعار بلفظة الرب من النظر يف مصلحة
عبيده ،فلوال أن يف املتشابه مصلحة ما أنزله تعاىل ،وجلعل كتابه كله حمكماً »()ً ،
وأيضا
110
«يف التعبري بالرب إشارة إىل رس إنزال املتشابه ،واحلكمة فيه ملا أنه متضمن معنى
الرتبية والنظر يف املصلحة واإليصال إىل معارج الكامل أوال فأولاً .)(»...
ﱫ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﱪ ،هذه اجلملة معطوفة بالواو «عىل مجلة يقولون
سيق من جهته تعاىل مدحا للراسخني بجودة الذهن وحسن النظر لمِ َا أهنم قد جتردت
عقوهلم عام يغشاها من الركون إىل األهواء الزائغة املكدرة هلا ،واستعدوا إىل االهتداء
إىل معامل احلق والعروج إىل معارج الصدق»() .وهذا ما أكده ابن عاشور قال« :مجلة:
ﱫ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﱪ تذييل ليس من كالم الراسخني مسوق مساق الثناء
عليهم يف اهتدائهم إىل صحيح الفهم»().
و« َما» نافية ،وﱫ ﯦ ﱪ الذكر هنا هو ضد النسيان كام مر احلديث عنه يف آية
سورة ص ،واملعنى :وما يتذكر هذه األمور من املحكم واملتشابه ،ويستحرضها
يف قلبه ،وجيرهيا عىل لسانه إال أصحاب العقول احلكيمة اخلالصة من الشوائب
واألدران.
وهذا ما فصله النيسابوري بقوله« :ﱫ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﱪ ما يتعظ إال
ذوو العقول الكاملة الذين يستعملون أذهاهنم يف فهم القرآن فيعلمون ما الذي
يطابق ظاهره دالئل العقل فيكون حمكماً ،وما الذي هو بالعكس فيكون متشا ًهبا ،ثم
يعتقدون أن الكل كالم من ال جيوز يف كالمه التناقض ،فيحكمون بأن ذلك املتشابه
111
ال بد أن يكون له معنى صحيح عند اهلل وإن دق عن فهومنا»().
وأصل ﱫ ﯦ ﱪ يتذكر لكنه أدغم التاء يف الذال إشارة إىل أن الراسخني يف
العلم هم من املسارعني إىل هذا التذكر ،وأهنم يطوون احلديث عن التأويل الذي
ال يعلمونه طيا ،فهذا هو األليق هبم ،وهكذا كام قررنا يف آية سورة ص فإن اإلدغام
واإلظهار يكون لسبب يقتضيه وعلة تستوجبه ،والسياق هو الفيصل.
ﱫ ﯧ ﱪ أداة استثناء وحرص ،وآثر هنا النفي بـ (ما) و (إال)؛ ألن األمر فيه
إنكار كام تقدم يف قوله تعاىل :ﱫ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﱪ ،فانظر إىل هذا التالؤم
والتجانس يف أسلويب القرص هنا بام ال مزيد عليه.
أقول هذا؛ ألن ذاك األسلوب ورد بعينه يف الذكر احلكيم بأداة أخرى وهي إنام
يف موضعني يف قوله تعاىل :ﱫ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ
ﭡﱪ [الرعد ،]19:ويف قوله تعاىل :ﱫ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ
ﯽ ﯾ ﯿﱪ [الزمر ،]9:والسياق هو الفيصل يف جميء كل أداة يف موضع
()
دون آخر ،مما ال جمال لتبيينه هنا ،وقد أفاض اإلمام عبد القاهر يف دالئل اإلعجاز
يف بيان أرسار التعبري هبذه اجلملة السابقة مع «إِ َّنماَ ».
وخص أويل األلباب هنا بالتذكر؛ ألن أويل األلباب هم الذين يصلون إىل لب
األشياء ،وال يقنعون بظواهرها ،وما ذلك إال ألكابر أهل العلم الراسخني فيه «وإنام
وصف الراسخون بذلك؛ ألهنم مل يكونوا راسخني إال بالتعقل والتدبر جلميع اآليات
112
املحكمة التي هي األصول والقواعد حتى إذا عرض املتشابه بعد ذلك يتسنى هلم أن
يتذكروا تلك القواعد املحكمة ،وينظروا ما يناسب املتشابه منها فريدونه إليه»().
113
املبحث الثالث
املبحث الثالث:
البالغية يف آية االستنباط
َّ األسرار
:ﱫ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ قوله
ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ
ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﱪ [النساء.]83:
وردت هذه اآلية الكريمة يف سورة النساء عقب اآلية األوىل التي ورد فيها
احلديث عن التدبر ،وسياق هذه اآلية -كام سبق -كان احلديث فيه عن أحوال
املنافقني ،وجاءت هذه اآلية عقب السابقة مبارشة ،وهنا توقف املفرسون؛ فمنهم
خاصا
من جعل اخلطاب فيها موجها هلم امتدا ًدا للسياق السابق ،ومنهم من جعله ًّ
ِ
بضعفة املسلمني ،ومنهم من جعله شاملاً للطائفتني ،وأ ًّيا ما كان فسوف نتبني ذلك
تفصيلاً من خالل إبراز أرسار الرتاكيب يف هذه اآلية الكريمة املباركة ،فنقول وباهلل
التوفيق:
قوله :ﱫ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓﱪ الواو للعطف
عطفت اجلملة التي بعدها «عىل قوله تعاىل :ﱫﭟﭠﱪ [النساء ،]81:وقوله
حتذيرا هلم عن اإلضامر ملا خيالف الظاهر ،فإن
ً سبحانه :ﱫﮑ ﮒ ﱪ اعرتاض
115
جارا إىل طاعة ا ُملن ََّزل عليه أي ٍّ
جار»(). يف تدبر القرآن ًّ
والعطف يعد هنا من قبيل عطف اجلمل التي ال حمل هلا من اإلعراب ،ويشرتط
يف هذا النوع من العطف احتاد اجلملتني يف اخلربية واإلنشائية ،وهذا ما حتقق هنا،
فكلتا اجلملتني خربيتان لفظا ومعنى.
ﱫﮊﱪ هنا ظرفية متضمنة معنى الرشط ،وآثر التعبري هبا دون ْ
إن؛ للداللة
عىل حتقق هذا األمر فعال ،ووقوعه يقينا من هؤالء املنافقني ،أو ضعفة املسلمني ،أو
مها معا كام سيأيت ،ومن ثم فهو يزري عليهم هذا الفعل الشنيع وينكر عليهم هذا
التوجه اخلطري غري املسؤول.
ومجلة ﱫ ﮋﱪ فعل الرشط يف حمل جر بإضافة إذا إليها ،والفعل جاء
يء مجَ ِيئًا حرض ،ويستعمل متعد ًيا ً
أيضا بنفسه، يستعمل الز ًما ،يقال« :جاء زيد يجَ ِ ُ
و«ج ْئت» زيدً ا إذا أتيت إليهِ ،
و«ج ْئت» به وبالباء فيقالِ :ج ْئت شيئًا حسنًا إذا فعلتهِ ،
ٍ
متعد بنفسه؛ ألن الضمري هم يف حمل نصب مفعول إذا أحرضته معك»() ،وهو هنا
به.
«ه ْم» اختلف يف عوده ،فقيل :يعود عىل املنافقني الذين حتدثت عنهم
والضمري ُ
اآليات السابقة رصاحة ،وقد ذهب هلذا مجهور املفرسين ،يقول الثعالبي« :قوله تعاىل:
ﱫﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﱪ.
قال مجهور املفرسين إن اآلية يف املنافقني حسبام تقدم ،واملعـنى :أن املنافقني كانوا
يتشوفون إىل سامع ما ييسء النبي × فإذا طرأت هلم شبهة أمن للمسلمني ،أو فتح
116
عليهم حقروها وصغروا شأهنا ،وأذاعوا ذلك التحقري والتصغري ،وإذا طرأت هلم
شبهة خوف للمسلمني أو مصيبة عظموها وأذاعوا ذلك»().
وقيل :الضمري يعود عىل ضعفة املسلمني ،وهذا مذهب طائفة من املفرسين،
يقول الزخمرشي« :ﱫ ﮊ ﮋﱪ هم ناس من ضعفة املسلمني الذين مل تكن
فيهم خربة باألحوال وال استبطان لألمور كانوا إذا بلغهم خرب عن رسايا رسول اهلل
× من أمن وسالمة أو خوف وخلل ﱫ ﮑ ﮒﮓﱪ»() ،وعىل هذا الرأي فـ «مساق
النظم الكريم حينئذ لبيان جناية تلك الطائفة وسوء تدبريهم إثر بيان جناية املنافقني
ومكرهم»() املذكور يف اآليات السابقة.
معا ،يقول الثعالبي« :وقالت فرقة :اآلية وقيل :الضمري يعود عىل الطائفتني ً
ف َج َلدُ ُهَ ،و َق َّل ْت جتربته من املؤمنني»().
نـزلت يف املنافقني ،وفيمن َض ُع َ
«ه ْم» يتناغم مع الضامئر قبله وال يصح
والرأي األول هو الراجح؛ ألن الضمري ُ
أن نفرط عقد السياق بدون دليل ،يقول ابن عاشور« :ضمري اجلمع راجع إىل الضامئر
() تفسري الثعالبي ،366/1وانظر عىل سبيل املثال :معاين القرآن للفراء ،279/1وتفسري
الطربي ،200/4واملحرر الوجيز ،188/4وتفسري اخلازن ،564/1واللباب ،521/6والرساج
املنري ،319/1وحاشية الصاوي ،47/2والفتوحات اإلهلية .404/1
() الكشاف ،547/1وانظر :البحر املحيط ،305/3وتفسري أيب السعود ،208/2وروح
البيان ،246/5وفتح البيان .330/2
() تفسري أيب السعود ،209 /2وانظر :فتح القدير .491/1
() تفسري الثعالبي ،366/1وانظر :املحرر الوجيز ،188/4وأورد أبو حيان رأ ًيا آخر فقال:
«أو عىل اليهود قاله بعضهم» .انظر :البحر املحيط ،305/3والسياق ال يؤ ِّيد هذا الرأي مطل ًقا،
وذهب الشيح رشيد رضا إىل أن اخلطاب جلمهور املسلمني ،وال يؤيده السياق كذلك ،انظر :تفسري
املنار .242/5
117
قبله العائدة إىل املنافقني ،وهو املالئم للسياق»() ،ويقول القاسمي« :والذي يعطيه
الذوق السليم يف اآلية هو الوجه األول»().
ﱫﮌﱪ فاعل جاء ،واألمر هنا بمعنى« :الشأن ومجعه أمور»() ،وهذا بخالف
َ
األ ْم ُر بمعنى الطلب فهو جيمع عىل َأ َو ِ
امر ،واملراد من األمر هنا اخلرب ،والدليل عىل
ذلك قوله بعد :ﱫ ﮑ ﮒﮓﱪ ،وسمي اخلرب أمرا؛ ألن األمر كام يقول الراغب
()
لفظ عام يف األقوال واألفعال ،فهؤالء املنافقون كانوا إذا سمعوا قولاً ،أو رأوا
فعلاً من األمن ،أو اخلوف أذاعوا به دون تردد حسدً ا وحن ًقا عىل املسلمني ،وكيدا
هلم.
«جا َء» عن حقيقته إىل املجاز؛ ٌ
قرينة رصحية عىل خروج الفعل َ ولفظ األمر هنا
ألن األمر يشء معنوي ال يتأتى منه املجيء كام يتأتى من اإلنسان فهو قرينة عىل أن
الفعـل استعارة ترصحيية تبعية عن البالغ ،واملعنى :إذا بلغ املنافقني خرب من األمن أو
اخلوف أذاعوه وأفشوه ،يقول ابن عاشور«:املجيء جماز عريف يف سامع األخبار مثل
نظائره وهي :بلغ وانتهى إليه ،وأتاه ،قال النابغة:
وفائدة االستعارة :تصوير اخلرب وهو أمر معنوي بصورة حسية تكشف عن قبح
118
إرجافات املنافقني ،وكأن األمر الذي جاؤوا به صار يتحرك بنفسه ،ويتجول بينهم
بذاته ،ويف ذلك مبالغة يف التشنيع هبم ،وزيادة يف شدة اإلنكار عليهم ،والكشف عام
هم عليه من وهن يف نفوسهم ،وهزائم معنوية يف قلوهبم فجاءت االستعارة يف حملها
كام ترى.
وتنكري األمر حيتمل أن يكون للتعظيم؛ أي :أمر عظيم من أمور املسلمني وحيتمل
أي أمر ،ولو قليل من أمور املسلمني فهم ال يسرتونه بل يبدونه
أن يكون للتقليل ،أيُّ :
ويظهرونه ،وجيوز أن يكونا مرادين معا ،والسياق ال يرفضهام كام هو واضح ،وهذا
يكشف عن نفسية شديدة املرض من املنافقني فهم يفشون ما كرب وما صغر ،وجيعلون
الكشف عن ذلك هجريهم وديدهنم ،وال خيفى أن هذا حال املرجفني يف هذا العرص
فهم عىل هنج واحد ال يتغري.
ﱫ ﮍ ﮎ ﱪ شبه مجلة نعت لألمر كاشف ملعناه ،مبني ملدلوله «ويف املراد
باألمن أربعة أقوال:
أحدها :فوز الرسية بالظفر والغنيمة ،وهو قول األكثرين.
والثاين :أنه اخلرب يأيت إىل النبي × أنه ظاهر عىل قوم فيأمن منهم قاله الزجاج.
والثالث :أنه ما يعزم عليه رسول اهلل × من املوادعة واألمان لقوم ذكره
املاوردي.
والرابع :أنه األمن يأيت من املأمن وهو املدينة ذكره أبو سليامن الدمشقي خمرجا
من حديث عمر»().
ولكن أغلب املفرسين اقترصوا عىل ذكر املعنى األول ،يقول اخلازن «أمر من
119
األمن يعني :جاءهم خرب بفتح وغنيمة»().
ولعل التعبري باألمن دون النرص أو الغنيمة يرجح أن األقوال األربعة التي ذكرها
أمن ،وعىل ذلك فـ
ابن اجلوزي كلها مرادة؛ ألهنا مجيعها مما يصح أن يطلق عليها ٌ
(أل) يف «األمن» للعموم أي :كل ما يطلق عليه أمن دون ختصيص حلالة دون حالة،
وهذا هو الذي يتالءم مع نفسية هؤالء املنافقني ،وما تنطوي عليه دخائل صدورهم
من دغل وحسد وكراهية للمسلمني ،ويؤيد ما ذكرناه ً
أيضا لفظة :ﱫ ﮍ ﱪ التي هي
هنا عىل أصلها من االبتداء ،أي :من بداية ما يقال له أمن ،ولو كان املراد املعنى األول
فحسب فإن هذا اللفظ يكون جمازا مرسال لعالقة املسببية حيث أطلق املسبب وهو
األمن ،وأراد السبب ،وهو النرص والظفر والغنيمة؛ ألن هذه األمور كلها يتسبب
عنها األمن.
ﱫ ﮏ ﮐ ﱪ أو هنا عىل أصلها دالة عىل أحد الشيئني املذكورين معها وعرب
بـ ( أو ) دون الواو؛ لبيان أهنم ال يتوقفون يف إفشائه عند واحد بعينه بل نفوسهم يف
احلالتني سواء ،أو لبيان أهنم كلام بدا هلم واحد منهام يف أي وقت أفشوه وأظهروه،
فمعنى اجلمع املفاد من الواو هنا غري مراد ،ولذا مل يعرب هبا.
ﱫ ﮐﱪ «توقع املكروه ألمارة مظنونة أو معلومة ،كام أن الطمع والرجاء
توقع املحبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة ،ويقابله األمن؛ ملا فيه من الطمأنينة،
واخلوف فيه قلق واضطراب»().
ويف املراد منه هنا «ثالثة أقوال:
120
أحدها :أنه النكبة التي تصيب الرسية ذكره مجاعة من املفرسين.
والثاين :أنه اخلرب يأيت أن قوما جيمعون للنبي× فيخاف منهم قاله الزجاج.
والثالث :ما يعزم عليه النبي من احلرب والقتال ذكره املاوردي»() ،وقد
اقترص غالبية املفرسين ً
أيضا عىل األول ،يقول اخلازن« :أو اخلوف يعني :القتل
واهلزيمة»().
ولكن ختصيص اخلوف بالقتل أو اهلزيمة كام ذهب جل املفرسين غري دقيق؛
َّ
ألن أل يف لفظ اخلوف للعموم كام مر يف األمن ،ومن ثم فام ذكره ابن اجلوزي هو
األوىل؛ ألنه يكشف عن نفسية املنافقني ،فأي خوف مظنون أو معلوم عىل أي وجه
من الوجوه يذيعونه ،ولذا عرب هنا بلفظ اخلوف دون اخلشية والفزع والرعب()؛
فضحا لنفسية هؤالء ،فهم يفشون
ً ألن التعبري بذلك أشد تالؤما مع السياق ،وأكثر
األخبار من اخلوف وإن مل يتيقنوا من حدوثها لتفتيت عضد املسلمني وتثبيط مهمهم،
وهذا كله يؤكد أن احلديث عن املنافقني.
ولو كان املراد املعنى األول فحسب فإن هذا اللفظ يكون جمازا مرسال لعالقة
املسببية حيث عرب باملسبب وهو اخلوف ،وأراد السبب وهو اهلزيمة؛ ألن اهلزيمة
يتسبب عنها اخلوف عىل غرار ما مىض يف األمن.
هذا ،وبني األمن واخلوف طباق تضاد ،وهلذا الطباق أثر قوي عىل املعنى وتأكيده
121
وتقريره يف النفس ،وفيه ً
أيضا إشارة إىل أن هؤالء املنافقني ال حيبون حياة اجلهاد بل
هم طالب دنيا وسالم زائف كبعض املعارصين ،فهم عند حتقق األمن يفشونه حقدا
وفرحا.
ً وطمعا ،وعند حصول اهلزيمة يذيعوهنا سعادة
ﱫ ﮑ ﮒﮓﱪ اجلملة من الفعل أذاع ،والفاعل واو اجلامعة ال حمل هلا من
اإلعراب جواب إذا ،وواو اجلامعة تعود عىل املنافقني حسبام بينا قبل.
وأذاع مايض رباعي مزيد بحرف يف أوله ،وماضيه الثالثي ذاع ،وقد ذهب بعض
املفرسين إىل أن ذاع الثالثي ،وأذاع الرباعي بمعنى واحد ،يقول السمني« :ذاع اليشء
ِ
يذيع ،و ُيقال :أذاع اليشء ً
أيضا بمعنى املجرد»().
وليس هذا بسديد؛ ألن اهلمزة إذا دخلت عىل الثالثي فإهنا تفيد عدة معان يتحدد
املراد منها حسب السياق ،وهذا واضح هنا -ملن يتأمل -بني ذاع اليشء ،وأذاع اليشء،
فاألول ذاع لشهرته أو لعالمات دلت عليه ،أما أذاع فإهنا تدل عىل أن اليشء كان خمفيا
مسترتا ال ينبغي إفشاؤه أو ظهوره ،ثم أتى من أذاعه عامدا متعمدا قاصدا اإلرضار،
ففرق واضح بينهام كام ترى ،وقد أشار إىل ما ذكرته بعض اللغويني يقول الرازيَ « :ذ َاع
وع ًة و َذ َي َعا ًنا بفتح الياء ،وأ َذ َاع ُه غريه :أفشاه»().
وعا و َذ ْي ُع َ
اخلرب :انترش وبابه باع ُذ ُي ً
وهذا ما يفهم ً
أيضا من كالم كثـرة من املفرسين ،يقـول القرطبي« :ﱫ ﮑ
ﮒﮓﱪ أي :أفشوه وأظهروه وحتدثوا به قبل أن يقفوا عىل حقيقته»().
122
ﱫ ﮒﮓﱪ جار وجمرور متعلق بالفعل أذاع ،وهذا الفعل ورد متعديا بنفسه ،مثل:
رب» ،وورد متعد ًيا بواسطة اجلار كام هنا ،وبينهام فرق واضح يف الداللة
«أذاع حممد اخل َ
ملن يتأمل.
لكن هناك من العلامء من زعم أن أذاع املتعدي بنفسه ،واملتعدي بحرف اجلر
بمعنى واحد ال فرق بينهام يف الداللة ،ومن ذهب إىل ذلك رأى أن الباء زائدة ،يقول
الشيخ حقي« :يقال :أذاع الرس ،وأذاع به والباء مزيدة»().
ولعل القائلني بأن الباء مزيدة ال يقصدون بذلك أن وجودها يف اآلية كعدمها
-حاشا وكلاَّ أن يكون يف كتاب اهلل حرف واحد بال معنى ،-ولكنها عبارة جتري عىل
ألسنتهم ال يقصدون هبا معناها املجرد ،وقد أوضح معناها عىل القول بأهنا مزيدة ابن
عاشور فقال« :ويتعدى إىل اخلرب بنفسه ،وبالباء يقال :أذاعه وأذاع به ،فالباء لتوكيد
اللصوق كام يف ﱫﭝ ﭞ ﱪ»() .فليست الباء مزيدة هنا باملعنى املجرد
للفظ ،ولكنها لتأكيد اللصوق كام بني ابن عاشور ،وهذا من أرسار التعبري هبذا احلرف
هنا عىل هذا الرأي.
وهناك من العلامء من رأي أن املتعدي بنفسه ،واملتعدي بحرف اجلر ليسا بمعنى
واحد بل لكل منهام معنى مغاير ،ومن ذهب إىل ذلك رأى أن الباء أصلية ،وأن الفعل
أذاع تضمن معنى حتدث ،يقول احللبي« :وقيلَ :ض َّمن «أذاع» معنى« :تحَ َ دَّ َث» َفعدَّ اه
() روح البيان للشيخ حقي ،246/2وانظر :تفسري الكشاف ،548/1وتفسري النسفي
،349/1وتفسري اخلازن ،564/1وتفسري البيضاوي ،96/1وتفسري أيب السعود ،208/2
وحاشية الشهاب ،317/3وروح املعاين .189/4
() التحرير والتنوير .139/5
123
تعديتَه أي :حتدَّ ثوا به مذيعني له»() ،وهذا رأي ال يؤبه به عند كثري من البالغيني
املحققني؛ ألن فيه هروبا من البحث عن داللة التعبري هبذا احلرف دون سواه ().
ومنهم من رأى أن الباء أصلية ،و«املعنى فعلوا به اإلذاعة وهو أبلغ من أذاعوه؛
لداللته عىل أنه يفعل نفس احلقيقة كام يف نحو :فالن يعطى ويمنع وملا فيه من اإلهبام
والتفسري»() ،ونحن نؤيد هذا األخري؛ ألنه أبلغ وأقوى ،وألن فيه دليال عىل أن
املنافقني كانوا ينقلون هذه األخبار لكل من يقابلهم دون تورع أو حتفظ قاصدين
رضب البنية األمنية للمسلمني عكس أذاعه ،فهي تفيد إذاعة اخلرب ونرشه دون هذا
املعنى املبالغ فيه؛ يقول الشيخ الشعراوي« :أذاعه يعني :قاله ،أما (أذاع به) فهي دليل
عىل أنه يقول اخلرب لكل من يقابله وكأن اخلرب بذاته هو الذي يذيع نفسه ،فهناك
أمر حتكيه ،وتنتهي املسألة ،أما (أذاع به) فكأن اإلذاعة مصاحبة للخرب ،ومالزمة له
تنرشه ،وخترجه من طي حمدود إىل طي غري حمدود ،أو من آذان حترتم خصوصية اخلرب
إىل آذان تتعقب اخلرب» () ،فضلاً عن أن التعبري هبذا احلرف فيه تقبيح حلاهلم ،وكشف
بوضوح عن مضمرات نفوسهم ،ودخائل صدورهم ،وهذا يرجح ً
أيضا أن يكون
احلديث عن املنافقني؛ ألن ضعفة املسلمني مهام بلغ هبم احلال ال يكونون عىل هذا
املنوال ،وتلك احلالة املزرية.
124
والضمري يف ﱫ ﮒﮓ ﱪ «يعود إىل األمر ،أو إىل األمن أو اخلوف؛ ألن أو تقتىض
أحدمها»().
ولكن األلويس رفض هذا الزعم بقوله:
َّ وهناك من زعم أن الضمري للمجيء،
«الضمري للمجيء مما ال ينبغي ختريج كالم اهلل تعاىل اجلليل عليه»() ،ونحن معه فهذا
ال جيوز بحال ،ويبقى أن الرأيني األوليني جيوز كل واحد منهام ،وال تعارض؛ لوضوح
مرجع الضمري لو عاد إىل األول أو الثاين.
هذا ،ومن يتأمل تلك اجلملة الرشطية كلها يلحظ فيها تعريضا قويا هبؤالء
وإنكارا شديدً ا عليهم ،ونع ًيا عىل كل من كان عىل شاكلتهم يف كل عرص
ً املنافقني،
ومرص ،وإىل هذا أومأ ابن كثري فقال« :قوله :ﱫ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ
ﮑ ﮒﮓ ﱪ إنكار عىل من يبادر إىل األمور قبل حتققها ،فيخرب هبا ويفشيها وينرشها،
وقد ال يكون هلا صحة ...ويف الصحيحني عن املغرية بن شعبة :أن رسول اهلل ×
هنى عن قيل وقال ،أي :الذي يكثر من احلديث عام يقول الناس من غري َت ُّثبت ،وال
َتد ُّبر ،وال ت َبينُّ ،ويف سنن أيب داود أن رسول اهلل × قال« :بئس َم ِط َّية الرجل َز َع ُموا
عليه»»().
كام يفهم من تلك اجلملة الرشطية بمفهوم املخالفة النهي عن إفشاء األرسار
بوجه عام ال سيام األرسار احلربية ،أو بلغة العرص األرسار التي متس األمن القومي
125
للبالد ،يقول الشيخ حقي« :يف اآلية هنى عن إفشاء الرس ،قيل لبعض األدباء :كيف
حفظك للرس؟ قال :أنا قربه»() ،والنهي عن إفشاء األرسار احلربية عائد ملا فيه من
مضار حميقة عىل األمة ،وقد عدد الرازي املضار التي تعود عىل األمة بسبب إذاعة هذه
األخبار فراجعه حتى ال يطول القول().
وبعد أن كشف يف اجلملة السابقة عام حيدثه املنافقون من أراجيف بسبب إذاعة
ما كان جيب عليهم فعله فقال :ﱫ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ تلك األخبار رشع يبني
ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﱪ ،والواو يف قوله ﱫﮔﱪ
للعطف عطفت اجلملة اخلربية التي بعدها عىل نظريهتا اخلربية التي سبقتها؛ وساغ
هذا العطف الشرتاكهام معا يف اخلربية ،ويف هذا العطف داللة عىل التامزج الشديد،
وااللتحام القوي بني أوارص النظم يف تلك اآلية.
ﱫ ﮔ ﮕ ﱪ (لو) رشطية غري جازمة ،تفيد امتناع اجلواب المتناع الرشط
ٍ
بحالة من أحواله فمن «ر ُّدو ُه» فعل الرشط ،والرد« :رصف اليشء بذاته أو
ومجلة َ
الرد بالذات قوله :ﱫ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﱪ ،...ومن الرد إىل حالة كان عليها
قوله :ﱫ ﭘ ﭙ ﭚ ﱪ().
وعىل ذلك فاملعنى :ولو رصفوا اخلرب من األمن واخلوف إىل الرسول وإىل أويل
األمر ،والرد عىل هذا مل يستعمل يف معناه احلقيقي بل «استعمل هنا ً
جمازا يف إبالغ
126
اخلرب إىل َأ ْولىَ الناس بعلمه»().
والغرض من هذا املجاز أو تلك االستعارة التبعية :التأكيد عىل إرجاع مثل هذه
األمور إىل مستقرها ،ومكاهنا احلقيق هبا لدى الرسول × وأويل األمر وعدم االستنكاف
من ذلك؛ ألن« :الرد حقيقته إرجاع يشء إىل ما كان فيه من مكان أو يد»().
وواو اجلامعة يف ﱫ ﮕﱪ فاعل يعود عىل ما رجحناه وهم املنافقون ،واهلاء
ضمري غائب يف حمل نصب مفعول به «عائد عىل األمر» ().
ﱫ ﮖ ﮗ ﱪ ،ﱫ ﮖ ﱪ حرف جر ،وهو هنا عىل أصله يفيد االنتهاء ،ويف
هذا داللة رصحية عىل أن رد هذه األخبار جيب أن ينتهي للرسول ×.
ﱫ ﮗ ﱪ جمرور بـ(إىل) وشبه اجلمـلة متعلق بالفعل رد ،واملراد بالرسول
هنا سيد املرسلني حممد × ،فـ (أل) هنا للعهد الذهني أي :رسولكم أهيا املخاطبون،
وجيوز أن تكون أل بدال من اإلضافة ،أي :رسول اهلل ،كام جيوز أن تكون أل للكامل
يف الصفة أي :رسولكم الكامل يف صفة الرسالة.
وآثر التعبري بالرسول دون النبي؛ ألنه أليق بسياق الكالم ،فالـرسول «يف اللغة
ال؛ َأي :متتابعة»()،
إلبل َر َس ً الذي ُيتابِع َأخبار الذي بعثه َأ ً
خذا من قوهلم :جاءت ا ِ
وألن «عنوان الرسالة من موجبات الرد واملراجعة إىل رأيه»() وألن من خصائص
127
وتبليغها للناس ،فلفظ النبي ال يتالءم مع الرد الرسول الكشف عن مرادات اهلل
محا.
كام ترى عكس الرسول فهو أوثق به صلة وأمس ر ً
ﱫ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﱪ كرر حرف اجلر ليؤكد عىل أن غاية الرد جيب أن
تكون للرسول أوال وبالذات ،وإىل أويل األمر ثانيا وبالذات ،فهم ثانيا يف وجود
الرسول ،وهم أوال يف حالة عدم وجوده كسفره يف حياته ،أو بعد وفاته ×.
وهؤالء هم الذين هلم حق الفصل فيام يمكن أن يقال أو ال يقال يف أمر احلرب
والسلم والشئون املهمة للدولة اإلسالمية دون العامة من الناس.
وبدأ بالرسول × عىل أويل األمر؛ ألنه القائد األعىل هلم وقت احلرب والسلم؛
وألنه األصل حالة وجوده ،فالتقديم والرتتيب هنا طبعي.
واملراد من أويل األمر هنا اختلف فيه عىل قولني:
األول« :يعني ذوي العقول والرأي والبصرية باألمور منهم ،وهم كبار الصحابة،
كأيب بكـر وعمر وعثامن وعيل»().
الثاين :األمراء والعلامء ،قال ابن عطية« :هم األمراء ،قاله السدي وابن زيد،
معا»() ،وقد رجح
وقيل :أهل العلم ،قاله احلسن وقتادة وغريمها ،واملعنى يقتضيهام ً
األلويس الرأي األول بقوله« :وعىل األول املعول»().
ولكني أرى أن أويل األمر هنا يشمل كل ما سبق ،فالعربة بعموم اللفظ؛ ألن
128
«كبار الصحابة أولو أمر عىل معنى أهنم البرصاء باألمور ،وإن مل يكن هلم أمر عىل
والع َلامء ُ
«جيب الناس ،واألمراء أولو األمر عىل الناس مع كوهنم برصاء باألمور»()ُ ،
عىل غريهم قبول قوهلم؛ لقوله تعاىل :ﱫ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ
احل َذر بإن َْذا ِر ِهم ،وألزَ م ا ُمل ْنذرين
ﯻ ﯼ ﯽ ﱪ [التوبة ،]122:فأوجب َ
ُق ُبول قوهلم ،فجاز هلذا املَ ْعنَى ْ
إطالق اسم أويل األ ْم ِر َع َليهم»().
وخص أويل األمـر بالذكر -عىل أي معنى من املعاين السابقة -لتجارهبم الكثرية
وبصائرهم الصحيحة الدقيقة يف احلكم عىل األمور ،والتعرف عىل بواطنها ،والقدرة
عىل الفصل فيام يذاع أو ال يذاع حفاظا عىل املصلحة العامة للمسلمني ،فهم أهل
احلل والعقد يف الذود عن األمة وحياضها ،واألدرى بأمنها وسياستها ال املنافقون
وال الضعفاء.
ﱫ ﮟﮠ ﱪ من هنا حتتمل أن تكون بيانية إذا كان احلديث عن املنافقني ،يقول أبو
السعود« :كلمة من يف منهم بيانية»()؛ ألهنا بينت املقصود من أويل األمر ،وحتتمل
أن تكون للتبعيض إذا كان املقصود ضعفة املسلمني؛ ألن أويل األمر بعض منهم،
والراجح األول بداللة املساق والسياق كام قدمنا.
وهنا يظهر لنا إشكال إذا كان الضمري يف ﱫ ﮋ ﱪ يعود عىل املنافقني كام
رجحناه ،فكيف يكون أولو األمر منهم؟ أجاب الرازي عن ذلك فقال« :جعل أويل
() حاشية زاده عىل البيضاوي ،372/3وانظر :روح البيان للشيخ حقي .246/2
() مفاتيح الغيب ،336وانظر :اللباب البن عادل ،522/6وفتح القدير دار الفكر
.491/1
() تفسري أيب السعود .208/2
129
األمر منهم عىل حسب الظاهر؛ ألن املنافقني يظهرون من أنفسهم أهنم يؤمنون،
ونظريه قوله تعاىل :ﱫ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﱪ [النساء ،]72:وقوله ﱫ ﭜ ﭝ ﭞ
ﭟ ﭠﭡ ﱪ [النساء.)(»]66:
ويقول ابن عاشور« :فإن كان املتحدث عنهم املنافقون فوصف أويل األمر بأهنم
منهم َجا ٍر عىل ظاهر األمر ،وإرخاء العنان» ().
«ه ْم» هنا اختلف فيه فقيل :يعود عىل أويل األمر فحسب يقول الطربي:
والضمري ُ
«ﱫ ﮛ ﱪ يعني :أويل األمر ،و» اهلاء» ،و«امليم» يف قوله :ﱫ ﮛ ﱪ من ذكر أويل
األمر ،يقول :لعلم ذلك من أويل األمر من يستنبطه» () ،وقيل عىل اجلميع ،يقول ابن
عطية« :ﱫ ﮟﮠ ﱪ حيتمل أن يعود عىل ﱫ ﮗ ﱪ ،وﱫ ﮙ ﮚ ﱪ ،وحيتمل أن
يعود عىل اجلامعة كلها ،أي :لعلمه البحثة من الناس»() ،والسياق يرجح عوده عىل
ما تقدم ،وهو الرسول × وأولو األمر.
ﱫ ﮜﱪ الالم واقعة يف جواب رشط لو ،واجلملة بعدها ال حمل هلا من
اإلعراب جواب رشط لو ،واملراد من العلم :اإلحاطة باألمر من األمن واخلوف،
والوقوف عىل تفاصيله.
والضمري يف ﱫ ﮜﱪ يف حمل نصب مفعول به ،وهو يعود عىل ما عاد إليه
الضمري يف ردوه ،وهو اخلرب من األمن أو اخلوف ،واملعنى ألدرك حقيقة ذلك اخلرب،
() مفاتيح الغيب ،337/9وانظر :تفسري اخلازن ،564/1و تفسري القاسمي ،403/5
والفتوحات اإلهلية .404/1
() التحرير والتنوير .141/5
() تفسري الطربي .202/4
() املحرر الوجيز .190/4
130
ووقف عىل تفاصيله ،وهل هو مما يذاع أو ال يذاع.
«ع ِل َم» ،ومجلة ﱫ ﮞ ﱪ ال ﱫ ﮝ ﱪ اسم موصول يف حمل رفع فاعل َ
حمل هلا من اإلعراب صلة املوصول ،والفعل « َي ْس َت ْنبِ ُط» مضارع من املايض السدايس
استنبط ،وأصله من الثالثي نبط ،يقول ابن منظور« :ال َّن َبط املاء الذي َي ْن ُب ُط من قعر
املاء ي ْن ُب ُط وي ْنبِط ُنبوطا نبع ،وكل ما ُأظهر فقد ُأ ْنبِط» ().
ونبط ُالبئر إِذا ُحفرتَ ...
ويقول ابن اجلوزي« :االستنباط يف اللغة االستخراج ،قال الزجاج :أصله من
النبط ،وهو املاء الذي خيرج من البئر أول ما حتفر» () ،ويقول الطربي« :كل مستخرج
شيئًا كان مست ً
رتا عن أبصار العيون ،أو عن معارف القلوب فهو له «مستنبط» يقال:
استخرجت ماءها»().
ُ الر ْكية» إذا
«استنبطت َّ
ويقول األلويس« :االستنباط يف األصل :استخراج اليشء من مأخذه كاملاء من
البئر ،واجلوهر من املعدن» ().
هذا هو أصل االستنباط كام ذكره اللغويون واملفرسون ،ولكن هذا املعنى
األصيل غري مراد هنا؛ ألن املراد استخراج األخبار من معادهنا ومعرفة احلقائق من
مصادرها ،لكن من يتأمل جيد فرقا بني نبط املاء ،واستنبط املاء فالثاين خيرج بعد طلب
131
وكد ومشقة كام تدل عليه األلف والسني والتاء وكذلك احلال يف استخراج األخبار،
وفهمها عىل وجوهها الصحيحة ،فهي حتتاج لتلك املشقة واملعاناة.
وإذا كان االستنباط يف اآلية الكريمة هبذا املعنى فهو عندئذ مل يستعمل يف معناه
احلقيقي الذي مر آنفا ،بل انتقلت الكلمة من هذا املعنى احلقيقي احليس -وهو
استخراج املياه من باطن األرض بمشقة -إىل األمور املعنوية وهي استخراج األخبار
من معادهنا ،واالجتهاد يف الوقوف عىل صحتها عىل سبيل االستعارة الترصحيية
التبعية حيث شبه الذي يكد يف استخراج حقائق األمور ،وجيتهد يف الوقوف عىل
كنهها ،واستخراجها بعد خفائها باستنباط املاء من البئر املطوية حتى تنبع بجامع
الكد والتعب يف كل مع شحذ الذهن يف سبيل الوصول للمطلوب ،وقد أشار بعض
املفرسين إىل ما قلناه وإن مل يفصلوا ما فصلناه ،يقول اخلازن« :استنباطه :استخراجه
فاستعري ملا يستخرجه الرجل بفضل ذكائه وصفاء ذهنه وفطنته من املعاين والتدبري
فيام ُي ْع َضل ويهُ م»().
كام جيوز أن تكون هذه االستعارة مكنية ،يقول ابن عاشور« :وهو هنا جماز يف
العلم بحقيقة اليشء ،ومعرفة عواقبه ،وأصله مكنية :شبه اخلرب احلادث بحفري يطلب
منه املاء ،وذكر االستنباط ختييل» ().
ومما ينبغي التأمل فيه هنا أن هذا الفعل الذي استعمل عىل سبيل االستعارة التبعية
أو املكنية جاء يف القرآن فريدً ا وحيدً ا مادة وصيغة ،وهلذا رس يتمثل -واهلل أعلم -يف
132
أن حال هذه الطائفة املنافقة فيام حكته عنهم تلك اآلية كان فريدا وحيدا ،فعرب عن
ذلك بلفظة فريدة عكست تفرد هذا املوقف يدل عىل ذلك أن القرآن الكريم مل حيك
عن األمم السابقة أهنم فعلوا هذا مع أنبيائهم ،فإما أن يكون منهم كفر رصيح ،أو
إيامن خالصَّ ،أما أن تكون طائفة من الناس ال إىل هؤالء ،وال إىل هؤالء ،فهذا مل يك
إال يف املجتمع اإلسالمي عىل مر التاريخ ،ومل يك مع نبي آخر إال مع سيد املرسلني،
فهذا إذن يشء فريد وحيد يف تاريخ النبوات ،وتاريخ اإلنسانية ،متفردا يف هذا املوطن
يف القرآن ،فجاءت اللفظة لتحكي تفرد هذه احلاالت الثالث.
وعرب باملضارع لبيان استمرار هؤالء يف اختالقاهتم وتقوالهتم وحتدثهم بغري
علم ،وجتدد هذا منهم الفينة بعد الفينة.
والواو يف ﱫ ﮞ ﱪ تعود عىل اسم املوصول ﱫ ﮝ ﱪ الذي هو فاعل
علم ،واهلاء يف حمل نصب مفعول به تعود عىل األمر من األمن أو اخلوف.
ٍ
معان أشار إليها األلويس فقال: ُ
حيتمل وحرف اجلر ِ
«م ْن» يف قوله :ﱫ ﮛ ﱪ
«كلمة من إما ابتدائية ،والظرف لغو متعلق بـ ﱫ ﮞ ﱪ ،وإما تبعيضية أو
بيانية جتريدية ،والظرف [اجلار واملجرور] حال»() «من الذين أو من َّ
الضمري يف
ﱫﮞ ﱪ»().
«ه ْم» اختلف فيه ،فقيل« :يعود عىل الرسول × وأويل
والضمري املجرور ُ
األمر»().
() روح املعاين ،191/4وانظر :التسهيل لعلوم التنزيل ،150/1وحاشية الشهاب ،317/3
وروح البيان .246/2
() الدر املصون ،52/4وانظر :اللباب البن عادل .522/6
() التسهيل لعلوم التنزيل البن جزي .150/1
133
واملعنى عىل ذلك« :لو أهنم قالوا :نسكت حتى نسمعه من جهة الرسول ،ومن
ذكر معه ،ونعرف احلال فيه من جهتهم ،لعلموا صحته ،وأنه هل هو مما يذاع أو
ال؟»().
وقيل :يعود عىل أويل األمر من كرباء الصحابة ،وعىل ذلك فهم املستنبطون يقول
ابن جزي« :وقيل :ﱫ ﮝ ﮞ ﱪ هم أولو األمر»().
«والتقدير :ولو أن املنافقني ردوه إىل الرسول ،وإىل أويل األمر لكان علمه حاصال
عند من يستنبط هذه الوقائع من أويل األمر ،وذلك ألن أويل األمر فريقان :بعضهم
مستنبطا ،وبعضهم من ال يكون كذلك ،فقولهِ :
«م ْن ُه ْم «يعنى لعلمه الذين ً من يكون
يستنبطون املخفيات من طوائف أوىل األمر»().
وقيل :الضمري يعود عىل املنافقني ،وهـم املذيعون واملستنبطون له ً
أيضا ،يقـول
الرازي« :وقيل :جيوز أن يكون الضمري للمنافقني ،وعىل ذلك فالذين يستنبطونه هم
املذيعون له»() ،وعىل ذلك يكون «التقدير :ولو أن هؤالء املنافقني املذيعني لألخبار
ردوا أمر األمن أو اخلوف إىل الرسول ،وإىل أويل األمر ،وطلبوا معـرفة احلال فيه من
جهتهم ،لعلمه الذين يستنبطونه ،وهم هؤالء املنافقون املذيعون ﱫ ﮛ ﱪ»().
والرأي األول هو األوجه واألوىل «فرصف املستنبطني إىل املذيعني ليس بالقوي؛
134
إذ لو كان املراد ذلك لكان األليق بنظم الكالم أن يقال :ولو ردوه إىل الرسول وإىل
أويل األمر لعلموه من غري إقامة املظهر مقام املضمر»().
واملعنى عىل ذلك :ولو رد املنافقون األمر من األمن أو اخلوف الذي أذاعوه إىل
الرسول ،وإىل أويل األمر ،يعني :ولو أهنم مل يذيعوه ،وحيدثوا به حتى يكون الرسول
× ،وأولو األمر هم الذين حيدثون به ،ويظهرونه لعلم هذا األمر الرسول ،وأولو
األمر فهم الذين يستنبطونه ويعلمون ما جيب أن يذاع من ذلك ،وما ال يذاع« ،أي:
الستخرجوا رس اخلبرَ ِ وعرفوا ما يرتتب عليه فإن كان ً
نافعا أذاعوه ،وإن كان ضارا
أخفوه»().
وبعد ،فيجب أن نتوقف هنا قليلاً ؛ لنوضح شيئًا مهماًّ جدًّ ا ،وهو أن االستنباط يف
هذه اآلية مل يستخدم يف معناه احلقيقي احليس بل استخدم يف اآلية -كام مر -عىل سبيل
االستعارة يف استخراج أخبار األمن أو اخلوف من معادهنا ،والوقوف عىل حقائقها،
وعىل ذلك فاالستنباط هنا ال يدل من قريب أو بعيد عىل هذا املعنى الرشعي املعروف
عند األصوليني ،ومن قال بذلك فقد خالف منطوق اآلية ،كام ال يدل هذا اللفظ ً
أيضا
عىل القياس الرشعي ،ومن ثم فإن الشيخ صديق خان حني يقول« :يف اآلية إشارة
إىل جواز القياس ،وأن من العلم ما يدرك بالنص وهو الكتاب والسنة ،ومنه ما يدرك
باالستنباط وهو القياس عليهام»() فقد جانبه الصواب ،فليس يف اآلية نص وال إشارة
إىل ذلك وال يصح أن يستدل عىل جواز القياس واالستنباط بام ال دليل عليه من اآلية
135
نصا أو إشارة ،وهذا ً
أيضا ما وقع فيه اإلمام الرازي ،وأطال القول فيه().
وقد عارض الشيخ رشيد رضا ما ذهب إليه الرازي فقال« :زعم الـرازي،
وغريه أن يف هذه اآلية دليال عىل حجية القـياس األصويل ،قال األستاذ اإلمام :وإنام
تعلق األصوليون يف هذا بكلمة :ﱫ ﮞ ﱪ ،وهي من مصطلحاهتم الفنية ،ومل
تستعمل يف القرآن هبذا املعنى ،فقوهلم مردود ،وقد فرع الرازي عىل هذه املسألة أربعة
فروع:
-1أن يف أحكام احلوادث ما ال يعرف إال بالنص.
-2أن االستنباط حجة.
-3أن العامي جيب عليه تقليد العلامء يف أحكام احلوادث.
-4أن النبي كان مكلفا باستنباط األحكام كأويل األمر.
وأورد عىل ما قاله بعض االعرتاضات ،وأجاب عنها كعادته ،وملا كانت املسألة
التي أخذ منها هذه الفروع ،وبنى عليها هذه املجادلة خارجة عن معنى اآلية ال تدخل
يف معناها من باب احلقيقة ،وال من باب املجاز ،وال من باب الكناية ،فكان مجيع ما
لغوا أو عب ًثا.
أورده ً
هذا شاهد من أفصح الشواهد عىل ما بيناه قبل من سبب غلط املفرسين وبعدهم
عن فهم الكثري من آيات الكتاب املبني بتفسريه باالصطالحات املستحدثة فأهل
األصول والفقه اصطلحوا عىل معنى خاص لكلمة االستنباط ،فلام ورد هذا اللفظ يف
هذه اآلية محل مثل الرازي عىل فطنته أن خيرج هبا عن طريقها ويسري هبا يف طريق آخر
ذي شعاب كثرية يضل فيها السائر حتى ال مطمع يف رجوعه إىل الطريق السوي.
136
معنى اآلية واضح جيل ،وهو أن بعض املسلمني من الضعفاء أو املنافقني أو
العامة مطلقا خيوضون يف أمر األمن واخلوف ،ويذيعون ما يصل إليهم منه عىل ما يف
اإلذاعة به من الرضر ،والواجب تفويض مثل هذه األمور العامة إىل الرسول ،وهو
اإلمام األعظم والقائد العام يف احلرب ،وإىل أويل األمر من أهل احلل والعقد ،ورجال
الشورى؛ ألهنـم هم الذين يستخرجون خفايا هذه األمور ،ويعرفون مصلحة األمة
فيها ،وما ينبغي إذاعته ،وما ال ينبغي ،فأين هذا من مسائل النص يف الكتاب عىل
بعض األحكام ،والسكوت عن بعض؟ ووجوب استنباط ما ُسكت عنه -مما ال نص
عليه -عىل الرسول وعلـى أويل األمر ،ووجوب اتباع العامة للعلامء فيام يستنبطونه
مطل ًقا؟ ليس هذا من ذاك يف يشء»().
وهذا هو احلق؛ ألنه ال جيوز لنا أن نحمل املعاين االصطالحية احلادثة عند طائفة
من الناس عىل لفظة مذكورة يف القرآن غري مقصود هبا هذا املعنى.
وبناء عىل ذلك فإن االستنباط عند الفقهاء ـ وهذا من مصطلحاهتم الفنية ـ يف
قوهلم« :استن َب َط ِ
الفقي ُه :إذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده وفه ِمه )(»...ليس عليه
نص من اآلية ،وليس مستعمال يف القرآن هبذا املعنى الوارد عندهم ،ونحن هنا ال
نعرتض بطبيعة احلال عىل جواز القياس واالستنباط فهذان من أصول الرشيعة
التي ال ينبغي ألحد رفضهام بحال من األحوال إنام اعرتاضنا أن نسقط مصطلحات
نصا.
األصوليني ،وغريهم عىل معنى االستنباط يف اآلية ،وكأنه هو املعنى املراد منها ًّ
نعم جيوز أن نقول إن مصطلح االستنباط عند األصوليني متكئ عىل املعنى
137
اللغوي ،ومبني عليه ،وهو يعد من قبيل االستعارة التبعية أو املكنية؛ من هذا املعنى
اللغوي احلقيقي السابق ،ولكنه ليس منصوصا عليه يف اآلية نصا ،وغاية ما هنالك
أننا نقول بجواز االستنباط يف األحكام الرشعية ليس من نص اآلية بل من مفهوم
املوافقة فيها فقضايا الدين الشائكة واألحكام الرشعية الدقيقة اخلفية حتتاج إىل جهبذ
خبري ،وعامل فذ قدير يستنبط املراد منها ويبينه مثلام يستنبط أولو األمر املخفيات من
األخبار والدقائق.
ورمحته عىل عباده فقال: هذه اآلية بعد ذلك ببيان فضل اهلل ثم ختم املوىل
ﱫ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﱪ.
والواو يف قوله :ﱫ ﮡ ﱪ استئنافية ،ﱫ ﮡ ﱪ متضمنة معنى الرشط ،وهي
حرف امتناع لوجود ،مثل قوله تعاىل :ﱫ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﱪ ،حيث امتنع الرجم
لوجود الرهط ،وهنا انتفى اتباعهم الشيطان ،وبقاؤهم عىل الكفر لوجود فضل اهلل،
ورمحته عليهم.
ﱫ ﮢ ﮣ ﱪ فضل مبتدأ ،وهو مضاف ،ولفظ اجلاللة مضاف إليه ،واإلضافة هنا
«و َل ْو َال َف ْض ٌل ِم َن اهللِ» ،واخلرب حمذوف وجوبا تقديره موجود.
عىل معنى من ،والتقديرَ :
والفضل مصدر املايض الثالثي مفتوح العني « َف َضل» من باب قتل يقال « َف َضل
َي ْف ُضل فضلاً » ،ومعناه كام يقول الراغب« :كل عطية ال تلزم من ُيعطي يقال هلا فضل
نحو قوله :ﱫ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﱪ ،ﱫ ﮣ ﮤ ﮥ ﱪ ،ﱫ ﯹ ﯺ
ﯻﱪ ،وعىل هذا قوله :ﱫ ﮑ ﮒ ﮓ ﱪ ،ﱫ ﮡ ﮢ ﮣ ﱪ»().
أعطاهم من فضله وإحسانه ابتداء دون وهذا املعنى هو املراد هنا؛ ألن املوىل
138
سبب يستوجبه ،ففي املعجم الوسيط« :الفضل :اإلحسان ابتداء بال علة ،والزيادة
عىل االقتصاد»().
وآثر التعبري باملصدر الفضل؛ ألنه يريد التأكيد عىل هذا املعنى فحسب دون
ارتباط بزمن معني ،ولذا فمعناه ال يقترص عىل املخاطبني فحسب ،وإن كان احلديث
وبالعر ِ
ض. َ موجها إليهم أوال وبالذات ،وإيل غريهم ثانيا
وإضافة الفضل إىل لفظ اجلاللة أكسب الفضل رفعة ومنزلة ،ومقدرة فائقة ال
تتصورٌ ،
ففرق بني أن تقول هذا من فضل اهلل ،وهذا من فضل فالن.
ﱫ ﮤ ﱪ شبه مجلة متعلق بكائن أو مستقر ،واخلطاب يف ُ
«ك ْم» «جلميع
املؤمنني باتفاق من املتأولني»() ،والتعبري باجلار عىل يومئ بأن الفضل هبط عليهم
من علٍ ،فهو فضل ما بعده فضل.
ﱫ ﮥ ﱪ الواو للعطف من قبيل عطف املفردات الذي يقتيض املشاركة
،وتغايرا يف كون كل واملغايرة ،فالفضل والرمحة اشرتكا يف كوهنام من عند اهلل
منهام له معنى يغاير اآلخر ،وإال الكتفى بواحد.
والرمحة مصدر الفعل املايض الثالثي رحم ،يقالَ :رحمِ َ ُه بالكرس َرحمْ َ ًة و«الرمحة:
رقة تقتيض اإلحسان إىل املرحوم ،وقد تستعمل تارة يف الرقة املجردة ،وتارة يف
اإلحسان املجرد عن الرقة نحو :رحم اهلل فالنا ،وهو الذي كثرت رمحته ،قال تعاىل:
ﱫ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﱪ»() ،والرمحة هنا عىل أصلها من التعطف والشفقة ،وما
139
تقتضيه من اإلنعام واإلحسان إىل املرحوم.
ومن يقارن بني معنيي الرمحة والفضل هنا جيد بينهام تقاربا واضحا ،لكن الرمحة
أوسع يف معناها وأشمل يف مغزاها ،فاهلل يرحم يف الدنيا املؤمن والكافر حتى البهائم
فرمحته وسعت كل يشء ،وخيتص املؤمنني برمحته يف اآلخرة ،أما الفضل فهو خاص
باملؤمنني يف الدنيا واآلخرة.
عىل عباده هنا يتمثل يف أشياء عديدة ،حرصها بعض هذا ،وفضل اهلل
املفرسين يف قوله« :ﱫ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﱪ يف املراد بالفضل أربعة أقوال:
أحدها :أنه رسول اهلل.
والثاين :اإلسالم.
والثالث :القرآن.
والرابع :أولو األمر»().
عىل عباده تتمثل ً
أيضا يف أشياء عديدة حرصها ابن اجلوزي كام أن رمحة اهلل
بقوله« :يف الرمحة أربعة أقوال :أحدها :أهنا الوحي ،والثاين :اللطف ،والثالث:
النعمة ،والرابع :التوفيق» ().
واألقوال السابقة كلها التي أوردها ابن اجلوزي حتتملها اآلية ،وهذا من عظيم
عىل املؤمنني ،فقد عمهم بفضله من إرسال الرسول هلم ،وجعلهم مسلمني، امتنانه
وإنزال القرآن عليهم ،وجعل أويل األمـر فيهم ،ووسعهم برمحته بالوحي واللطف،
والنعمة والتوفيق ،وهذا هو الذي يتفق مع سياق الكالم وال تعارض بني هذه املعاين
140
كلها ،والقرآن ثري بالدالالت غني باملعاين.
ﱫ ﮦ ﱪ الالم واقعة يف جواب الرشط ،ومجلة ﱫ ﮦ ﮧ ﱪ
ال حمل هلا من اإلعراب جواب رشط لوال غري اجلازم ،والضميـر يف ﱫ ﮦﱪ
«خطاب للمؤمنني باتفاق من املتأولني» ().
وعىل ذلك؛ فاألسلوب وارد عىل سبيل االلتفات؛ ألن اخلطاب السابق كام بينا
كان للمنافقني ،وهنا التفت وخاطب املؤمنني ،ويف هذا يقول أبو السعود «اخلطاب
يف قوله تعاىل :ﱫ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﱪ عىل طريقة االلتفات» ()،
ويف هذا االلتفات امتنان عىل املؤمنني« :بإرشادهم إىل أنواع املصالح ،والتحذير من
املكائد ،ومن حبائل الشيطان وأنصاره»().
ﱫ ﮧ ﱪ مفعول به للفعل اتبع ،واختلف يف أصله فقيل« :النون فيه أصلية،
وهو من شطن ،أي :تباعد ،ومنه بئر شطون»().
«وقيل :بل النون فيه زائدة من شاط يشيط :احرتق غضبا فالشيطان خملوق من
النار كام دل عليه :ﱫﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﱪ.)(»...
واألول هو األرجح؛ ألن الشيطان قد تباعد عن احلق واهلدى ،وعن رمحة ربه،
. فلم ينصع ألمره ،ومل خيضع جلربوته
141
ومعنى :ﱫ ﮦ ﮧ ﱪ «لبقيتم عىل الكفر والضاللة»() ،وقيل:
إلشاعات املغرضة وا ِ
إلذاعات املثبطة»(). «ﱫﮦ ﮧ ﱪ يف قبول تلك ا ِ
ﱫ ﮨ ﱪ أداة استثناء ،ﱫ ﮩﱪ مستثنى ،و«القلة والكثرة يستعمالن يف
األعداد ،كام أن العظم والصغر يستعمالن يف األجسام ،ثم يستعار كل واحد من
الكثرة والعظم ،ومن القلة والصغر لآلخر»() ،وهي هنا عىل أصلها.
أن ذلك القليل َو َقع ال بِ َف ْضل اهلل وال بِ َرحمْ َ تِه، االستِ ْثنَاء ِ
يوه ُم َّ «ظ ِ
اهر هذا ْ و َ
ومعلوم أن ذلك حمال» () ،ومن هنا اختلف املفرسون يف حتديد املستثنى منه عىل
وجوه شتى ،وترتب عىل هذا االختالف معاين متعددة ،وقد ذكر السمني احللبي يف
مرجع هذا االستثناء عرشة أقوال () ،ولكننا نكتفي بذكر أشهر هذه الوجوه التي
ترددت لدى املفرسين حتى ال يطول بنا القول.
األول :املستثنى منه الفاعل يف ﱫ ﮑ ﮒﮓ ﱪ ،يقول اخلازن« :قيل :هو راجع
إىل اإلذاعة ،وهو قول ابن عباس ،والتقدير :وإذا جاءهم أمر من األمن أو اخلوف
أذاعوا به إال قلي ً
ال ،فأخرج بعض املنافقني واملؤمنني عن هذه اإلذاعة؛ ألهنم مل يذيعوا
ما علموا من أمر الرسايا ،وهذا القول اختيار الفراء والطربي»().
142
«ع ِلمه» ،يقول القرطبي« :املعنى لعلمه الذين
الثاين :املستثنى منه هو فاعل َ
يستنبطونه منهم إال قليال منهم ،عن احلسن وغريه ،واختاره الزجاج» ().
واملستثنى منه عىل هذين الرأيني موجود ،ويف الكالم تقديم وتأخري كام ترى.
الثالث :املستثنى منه الفاعل يف اتبعتم ،وقد ذهب إىل هذا الرأي أكثر املفرسين،
وقد وجهه الرازي بام ال مزيد عليه فقال« :معلوم أن رصف االستثناء إىل ما يليه،
ويتصل به أوىل من رصفه إىل اليشء البعيد عنه (يقصد الرأيني السابقني) ،واعلم أن
هذا القول ال يتمشى إال إذا فرسنا الفضل والرمحة بيشء خاص ،وفيه وجهان:
األول :وهو قول مجاعة من املفرسين ،أن املراد بفضل اهلل وبرمحته يف هذه اآلية
إنزال القرآن وبعثة حممد × ،والتقدير ولوال بعثة حممد × ،وإنزال القرآن التبعتم
الشيطان وكفرتم باهلل إال قليال منكم فإن ذلك القليل بتقدير عدم بعثة حممد ×،
وعدم إنزال القرآن ما كان يتبع الشيطان ،وما كان يكفر باهلل ،وهم مثل قس بن
ساعدة ،وورقة بن نوفل ،وزيد بن عمرو بن نفيل ،وهم الذين كانوا مؤمنني باهلل قبل
بعثة حممد ×.
الوجه الثاين :ما ذكره أبو مسلم ،وهو أن املراد بفضل اهلل وبرمحته يف هذه اآلية
هو نرصته تعاىل ومعونته اللذان عنامها املنافقون بقوهلم :ﱫ ﯣ ﯤ ﯥﱪ
[النساء ،]73:فبينَّ تعاىل أنه لوال حصول النرص ،والظفر عىل سبيل التتابع التبعتم
الشيطان ،وتركتم الدين إال القليل منكم ،وهم أهل البصائر الناقدة والنيات القوية،
والعزائم املتمكنة من أفاضل املؤمنني الذين يعلمون أنه ليس من رشط كونه ح ًّقا
143
حصول الدولة يف الدنيا ،فألجل تواتر الفتح والظفر يدل عىل كونه حقا ،وألجل
تواتر االهنزام واالنكسار يدل عىل كونه باطال ،بل األمر يف كونه حقا وباطال عىل
الدليل ،وهذا أصح الوجوه وأقرهبا إىل التحقيق»().
فالرازي كام ترى أيد هذا الوجه الثالث بقسميه ،وهو وجه جيد جدا رشيطة أن
يكون الفضل بمعنى إرسال الرسول والرمحة بمعنى إنزال الكتاب أو بمعنى النرصة
واملعونة كام ذكر الرازي ،وهذا هو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ؛ ألن رصف االستثناء
إىل ما يليه أوىل من رصفه إىل البعيد كام يف الرأيني السابقني كام أنه ال حيتاج لتقديم
وتأخري كسابقيه ،وما ال حيتاج لذلك أوىل مما حيتاج عالوة عىل أن املستثنى منه عىل هذا
الرأي موجود واخلطاب للكل واالستثناء متصل ،فضال عن أن كثريا من املفرسين
رفضوا الرأيني األولني وساروا عىل هذا الرأي ،يقول الشيخ رشيد رضا« :وكالمها
بعيد»().
واضحا
ً وبعد فمن يتأمل يالحظ أن يف هذا األسلوب غزارة يف الدالالت ،وثراء
يف املعاين ،ولوال أن داللة اآلية حمتملة لكل هذه الصور التي ذكرناها والتي مل نذكرها
ملا فرسها املفرسون عىل ذلك ،وهذا دليل عىل خصوبة هذا التعبري وثرائه ،ولعل هذا
144
مقصود بذاته حتى تعمل القرائح ،وتتوصل إىل املراد وهذا من وجهة نظري من
دالئل اإلعجاز واإلجياز.
145
املبحث الرابع
املبحث الرابع:
البالغية يف آية التفهيم
َّ األسرار
147
كان أرفق باجلميع ! قال :وما هو؟ قال :يأخذ صاحب الغنم األرض ،فيصلحها،
ويبذرها حتى يعود زرعها كام كان ،ويأخذ صاحب الزرع الغنم ،وينتفع بألباهنا
وصوفها ونسلها ،فإذا خرج الزرع ُر َّد ْت الغنم إىل صاحبها ،واألرض إىل رهبا ،فقال
له داود وفقت يا بني ،وقىض بينهام بذلك» ().
وعىل ما حكته اآلية السابقة ،واآلية التالية هلا حمل الشاهد ،تكون الفاء يف قوله
تعاىل :ﱫ ﮦﱪ عطفت اجلملة التي بعدها عىل مجلة ﱫ ﮚ ﮛ ﮜﱪ
يف اآلية السابقة ،وصح عطف اجلملة املاضوية عىل املضارعية ألن قوله ﱫ ﮙ
ﮚﱪ كام يقول أبو السعود« :يف حكم املايض»() ،وعرب عن املايض باملضارع
استحضارا هلذه الصورة اجلليلة يف النفوس.
يف روعه ألقى املوىل وعرب بالفاء دون غريها؛ لإلشارة إىل أن سليامن
فهم هذه القضية بأرسع وقت ممكن عند سامعه هلا من اخلصمني ،فام أن علم سليامن
بالقصة ،وكان بالباب كام قيل َف َّهمه اهلل هلا يف التو واللحظة ومن ثم فالتعبري بالفاء
التي هي للرتتيب مع التعقيب كان أوفق لتصوير هذا األمر ،والكشف عنه بدقة.
ريها فيه
وألجل أن الفاء وضعت هنا يف املوضع األليق هبا ،والذي ال يغني غ ُ
غناءها استمد الرازي من التعبري هبا حكام رشعيا فقال« :والفاء للتعقيب فوجب أن
يكون ذلك احلكم ساب ًقا عىل هذا التفهيم ،وذلك احلكم السابق إما أن يقال اتفقا فيه،
أو اختلفا فيه ،فإن اتفقا فيه مل يبق لقوله :ﱫ ﮦ ﮧﮨ ﱪ فائدة ،وإن اختلفا فيه
148
فذلك هو املطلوب» () ،وقد أكد النيسابوري عىل ذلك فقال« :والفاء للتعقيب فدل
عىل أنه فهم حكام خالف األول»().
و« َف َّه َم» فعل ٍ
ماض مضعف العني ،والتضعيف أفاد التعدية إىل املفعول الثاين؛
ألن الثالثي َف ِه َم يتعدى لواحد مثلَ « :ف ِه َم حممدٌ القضي َة» ،و«ال َف ْه ُم معرفتك اليشء
بالقلبَ ،ف ِه َمه َف ْهام و َف َهام و َفهامة َع ِل َمه .األخرية عن سيبويه ،و َف ِه ْم ُت اليشءَ :ع َقلتُه
وعر ْفته ،و َف َّهمت فالنا َ
وأ ْف َه ْمته»() ،والفهم ً
أيضا هو «حسن تصور املعنى ،وجودة ْ َ
استعداد الذهن لالستنباط»().
علم املسألة وهذا كله داخل يف طيات هذا اللفظ هنا ملن يتأمل ،فسليامن
وأحسن تصور معناها ،واستنبط احلكم الصائب فيها
َ املتنازع فيها ،وعقلها بقلبه،
بمجرد أن عرضت عليه.
ويف هذا دليل ساطع ،وبرهان ناصع عىل أن القايض ال جيب أن حيكم يف قضية
تاما ،وفهمها فهام حقيقيا ،ثم يأيت احلكم فيها بعد
تصورا ًّ
ً ما إال إذا تصورها يف ذهنه
الفهم العميق ،والتصور الدقيق ،وقديام قالوا« :احلكم عىل اليشء فرع عن تصوره»،
هذه القضية ،وتصورها فالفهم مرحلة أوىل ينبني عليها احلكم ،فلام فهم سليامن
يف ذهنه التصور األمثل جاء حكمه فيها مطابقا للصواب ،وهذا يشري إىل أن داود
،فجاء مل يتصور القضية تصورا كامال بالصورة نفسها التي تصورها سليامن
149
حكمه فيها صائ ًبا ،وليس عني الصواب.
وأوثر لفظ الفهم هنا عىل لفظ العلم؛ ألن الفهم إدراك كل« :خفي دقيق فهو
جليا»().
خفيا أو ًّ
أخص من العلم؛ ألن العلم نفس اإلدراك ،سواء كان ًّ
ويف إيثار الفهم ً
أيضا إعالء من شأنه ،وتأكيد عىل أنه املوصل احلقيقي للعلم؛
فالعلم بدون فهم يتخبط حامله يف الضاللة ،ويتعثر صاحبه يف املتاهة ،ويف ذلك يقول
الشيخ حقي« :أصاب سليامن حقيقة املسألة املخصوصة بحسب نور الفهم ال بحسب
قوة العلم»() ،ولذا كان التعبري بالفهم أوفق يف هذا املقام.
فعل دون َف ِعل؛ ألنه لو قال َف َف ِه َم لكان سليامن فهمها من نفسه دون
وعرب بصيغة َّ
وحي أو تعليم؛ وهذا بخالف املراد؛ ألن السياق سياق امتنان وشكران.
كام عرب بصيغة َف َّعل دون أفعل؛ ألن « َف َّعل» أسلس وأعذب عىل اللسان عند
التلفظ هبا مع الضامئر ،بخالف «أفعل» فهي أثقل عند التلفظ هبا مع الضامئر ملن
فعل فهي تفيد التكثري مثل ً
وأيضا؛ ألن أفعل ال تفيد الكثرة بخالف َّ يقارن بينهام؛
َق َّطع َّ
وسبح إلخ ،ويف هذا يقول ابن عاشـور« :معنى قوله :ﱫ ﮦ ﮧﮨ ﱪ أنه
أهلمه وجها آخر يف القضاء أرجح؛ ملا تقتضيه صيغة التفهيم من شدة حصول الفعل
أكثر من صيغة اإلفهام ،فدل عىل أن فهم سليامن يف القضية كان أعمق ،وذلك أنه
أرفق هبام.)(»...
الفهم التام بل االختالف هنا يف النسبة فسليامن ولكن هذا ال ينفي عن داود
َّ
150
أصاب الصواب دون كان أكثر فهام هلا ،وأصاب شاكلة الصواب وعينه ،وداود
عينه ،ومن ثم فهذا الفعل يدل عىل التفاوت والنسبية ،وهذا من أرسار التعبري به
هنا.
يف تلك القضية؟ أجاب وإذا كان األمر كذلك فام فضل سليامن عىل داود
الشيخ طنطاوي عن ذلك فقال« :وذلك ألن داود -كام يقول العلامء -قد اجته يف
حكمه إىل جمرد التعويض لصاحب احلرث ،وهذا عدل فحسب ،أما حكم سليامن
فقد تضمن مع العدل البناء والتعمري.)(»...
وهذا «يشري إىل رفعة درجة بعض املجتهدين عىل بعض ،وأن االعتبار -يف الكرب
والفضيلة -بالعلم ،وفهم األحكام ،واملعاين واألرسار ،ال بالسن فإنه فهم باألحق
واألصوب ،وهو ابن صغري ،وداود نبي مرسل كبري» ().
عالوة عىل أن هذا اللفظ من األلفاظ الفرائد التي مل ترد إال يف هذا املوطن مادة
بينت يف بحث سابق() -هلا أرسار عامة
وصيغة فحسب ،واأللفاظ الفرائد -كام ُ
تتمثل يف تفرد الواقعة يف حياة النبي ،وتفردها يف حياة اإلنسانية ،وتفرد موضعها يف
الذكر احلكيم ،فهذه احلادثة مل تتكرر يف تاريخ اإلنسانية هبذه التفاصيل نفسها ،ومل ترد
،وتفرد موضعها يف الذكر احلكيم. يف قصة نبي آخر غري داود وسليامن
مل تنص عليه اآلية الكريمة ،ولذا فهو حيتمل سليامن وكيفية تفهيم اهلل
وجوها :إما أن يكون «بأن جعل اهلل له من فضل قوة الفهم ما أدرك به ذلك ،وإما
151
بأن ألقى ذلك يف روعه ،أو بأن َأ ْو َحى إليه وخصه به»() ،وال نجزم بصورة من هذه
ألقى ذلك الصور؛ ألن السياق ال حيدد واحدة بعينها ،وإن كنت أميل إىل أن اهلل
يف روعه ،كام توحي به الفاء التي للتعقيب دون مهلة.
و« َنا» يف قوله :ﱫﮦ ﱪ فاعل يعود عىل لفظ اجلاللة مما ينبئ عن أن التفهيم
تناسب معها التعبري بضمري العظمة، كان منة كربى ،ونعمة عظمى عىل سليامن
يقول القرطبي« :وكان سليامن الفاهم هلا بتفهيم اهلل تعاىل إياه»().
والضمري «هَ ا «يف قوله :ﱫﮦ ﱪ يف حمل نصب مفعول ثان ،وأنث الضمري؛
ألنه «يعود إىل القضية املفهومة من الكالم أو احلكومة املدلول عليها بذكر احلكم»
()
152
عىل هذا أسلس ،وأشد متكنا.
ﱫ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﱪ هذه اجلملة معرتضة بني السابقة والالحقة،
جورا ،وإنام
وفائدة االعرتاض «االحرتاس لدفع توهم أن حكم داود كان خطأ ،أو ً
كان حكم سليامن أصوب»().
«ك ًّ
ال» عىل «آ َت ْينَا ﱫ ﮩ ﱪ مفعول أول مقدم للفعل آتينا ،وتقديم املفعول ُ
«فيه تكريم عظيم هلام إذ تطرق احلديث عنهام أوال إىل الذهن ،وفيه ً
أيضا فخامة وقوة
ال جتدها إذا تأخر هذا املفعول ،وهلذا فقد() أيت متقدما عىل الفعل الذي بعده يف جل
مواضعه يف الذكر احلكيم لتلك اخلصوصية حسب املقتضىَ .
«والتنوين يف قوله :ﱫ ﮩ ﱪ عوض عن كلمة ،أي :كل واحد منهام»()،
،وقيل :املعوض عنه عائد عىل مجيع األنبياء املذكورين أي :من داود وسليامن
يف اآليات السابقة ،يقول الطربي« :ﱫ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﱪ وكلهم من داود
وسليامن والرسل الذين ذكرهم يف َّأول هذه السورة»().
ومنشأ اختالف التقدير راجع إىل أن استعامالت هذه اللفظة املنونة يف القرآن
الكريم جاء فيها املقدر عائدً ا عىل اثنني كام يف قوله تعاىل :ﱫ ﭮ ﭯ ﭰ
ﭱﭲ ﭳ ﭴﭵ ﱪ [األنعام ،]84:أو عائدً ا عىل أكثر من اثنني كام يف قوله:
ﱫ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﱪ [األنعام.]86:
153
كام ولكن الراجح هنا أن املحذوف عائدٌ عىل اثنني ،ومها داود وسليامن
َّ
ينبئ السياق؛ ألن مطلع اآلية السابقة كان الكالم فيها عنهام رصاحة يف قوله تعاىل :ﱫ
ﮗ ﮘ ﱪ عالوة عىل أن الكالم قد تم قبل تلك اآلية عن األنبياء املذكورين
قبلهام إبراهيم ولوط ونوح عليهم السالم كام تقدم.
والتنوين -عالوة عىل ما يف طياته من حذف كلمة -يفيد التفخيم ،فلو قال:
وكل واحد آتينا لتالشت تلك الفخامة والقوة والروعة ،وهذا رس من أرسار التنوين
يف استعامالت تلك اللفظة.
ﱫ ﮪ ﱪ آتى فعل ماض رباعي مزيد بحرف بعد فائه بمعنى :أعطينا ،وفاعل
،وإسناد إيتاء احلكمة والعلم إىل اهلل ﱫ ﮪ ﱪ (نا) العظمة العائدة عىل املوىل
بنون العظمة فيه داللة عىل أن املؤ َتى ،وهو احلكم والعلم كان هبة عظيمة من املوىل
هلام ،وفيه ً
أيضا تأكيد عىل أهنام بلغا يف ذلك الغاية ،ووصال النهاية.
«ح َك َم
ﱫ ﮫ ﱪ مفعول به ثان للفعل آتينا ،واحلكم مصدر الفعل الثالثي َ
«ح َك ْم ُت» عليه بكذا إذا منع ُته يحَ ُْك ُم ُح ْكماً » ،و ُ
«احل ْك ُم :القضاء ،وأصله املنع يقال َ
«احل ْك َم ِة»؛ ألهنا متنع
من خالفه ،فلم يقدر عىل اخلروج من ذلك ...ومنه اشتقاق ِ
صاحبها من أخالق األرذال»().
وإيثار احلكم عىل احلكمة؛ ألن «احلكم أعم من احلكمة ،فكل حكمة حكم،
وليس كل حكم حكمة» ().
ويف هذا إشارة إىل أن كال منهام كان حيكم بالعدل ،ويمنع من الظلم ،وكال منهام
154
ً
أيضا كان يف قوله حكمة ،ولذا عرب باملصدر مبالغة يف ذلك.
ﱫ ﮬﮭ ﱪ الواو للعطف ،وهو من قبيل عطف املفردات التي تقتيض الترشيك
يف احلكم ،وهو اإليتاء ،وتقتيض املغايرة؛ ألن العلم بخالف احلكم ،أي «وكال من
«ح ْكماً «أي :نبوة وإصابة يف القول والعمل
داود وسليامن قد أعطيناه من عندنا ُ
ﱫﮬﮭ ﱪ أي :فقها يف الدين ،وفهام سليام لألمور»().
وقيل :آتيناه «حكماً :وهو النبوة ،وعلماً :بأحكام اهلل»().
وقيل« :احلكم :القضاء ،والعلم :الفتيا»().
والعلم :أصالة الفهم» ().
ُ وقيلِ :
«احلكمة :وهو النبوءة،
واملعني األول هو األرجح ،وال يرفضه سياق الكالم ملن يتأمل ويتدبر ،يؤيد هذا
أن هاتني اللفظتني وردتا مقرتنتني معا يف القرآن بتلك اهليئة( )4مرات:
يف قوله تعاىل :ﱫ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ األوىل :يف احلديث عن يوسف
ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾﱪ [يوسف.]22:
يف قوله تعاىل :ﱫﭢ ﭣ ﭤ ﭥﱪ والثانية :يف احلديث عن لوط
[األنبياء.]74:
والثالثة :هنا.
يف قوله تعاىل :ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ والرابعة :يف احلديث عن موسى
155
ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﱪ [القصص ،]14:وهذا املعنى الذي رجحناه ال ينفك عنهام.
وتنكري ﱫ ﮫ ﮬﮭ ﱪ؛ للتعظيم ،أي :كل واحد منهام وهبناه حكماً وعلماً
عظيمني.
وذكر العلم مع احلكمة هنا فيه« :تنبيه عىل أن العلم أفضل الكامالت وأعظمها
ُ
وذلك؛ ألن اهلل تعاىل قدم ذكره ههنا عىل سائر النعم اجلليلة مثل تسخري اجلبال والطري،
والـريح واجلن ،وإذا كان العلم مقد ًما عىل أمثال هذه األشياء ،فام ظنك بغريها»().
معا رشع بعد ذلك يف ذكر ما خص به كل وملا مدح فيام مىض داود وسليامن
فقال :ﱫ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ واحد منهام من معجزات فبدأ بداود
ﯔﯕﯖﯗﱪ ،والواو جيوز أن تكون للعطف ،عطفت مجلة ﱫﮮﱪ
عىل مجلة ففهمناها سليامن ،وليست معطوفة عىل مجلة ﱫ ﮩ ﮪﱪ؛ ألهنا
اعرتاضية كام مر ،والعطف هنا للتوسط بني الكاملني عىل حسب قواعد البالغيني
حيث عطفت مجلة خربية لفظا ومعنى عىل خربية ً
لفظا ومعنًى ،واملسوغ للعطف هنا
التناسب بني املسند إليه ،واملسند فيهام ،فالفاعل فيهام ضمري العظمة «نا «يعود عىل
،والتسخري هنا حاصل لداود ،والتفهيم يف األول واقع عىل سليامن املوىل
،فبينهام ارتباط قوي والتحام شديد سوغ العطف بالـواو كام ترى ،وجيوز أن
تكون الواو استئنافية حيث استهل بعدها خربا جديدا منقطعا عام قبله.
َّ
(سخر) :فعل ماض رباعي مضعف العني ،وأصل التسخري ﱫ ﮮ ﱪ:
«س َخ َره كلفه ما ال يريد وقهره ،وكل مقهور ُمدَ َّب ٍر
القهر والتذليل ،يقول ابن منظورَ :
ُ
التذليل ...وكل ما ري ال يملك لنفسه ما خيلصه من القهر فذلك َّ
مسخر ،...والتسخ ُ
156
ذل وانقادَ ،أو َ
هتيأ لك عىل ما تريد فقد ُس ِّخ َر لك» ().
ساق اجلبال إىل الغرض املذكور يف وهذا املعنى األصيل هو املراد هنا فإن اهلل
اآلية قهرا ،وذللها لذلك تذليلاً .
ومن إعجازات الذكر احلكيم يف التعبري هبذا الفعل املضعف العني أنه أتى به يف
مجيع مواضعه املذكور فيها ( )22مرة فعلاً ماض ًيا ،ومل يأت به مضارعا وال ً
أمرا البتة؛
ألن املايض هو األوفق باملقام «ويمتنع فيه بالغة وواقعا املضارع واألمر»() فتسخري
هذه العوامل ،وتلك الكائنات الكربى من اجلبال ،والبحار واألهنار ،والليل والنهار،
والشمس والقمر ،والسامء واألرض من كل ما وقع عليه التسخري تم ومىض ،وليس
عىل عباده. فيه إحداث جديد ،وهذا من فضله
ومن عجائب الذكر احلكيم ً
أيضا أنه استخدم الفعل املشدد يف مجيع هذه املواضع
«س َخر» كام مر عند ابن منظور ،وهذا الفعل هنا فوق كونه خاصا هبذا
دون الثالثي َ
لغة فإنه يوحي بشدة التسخري ،ويف التشديد كذلك عالمة واضحة، املعنى فطر َة ٍ
وأمارة بينة عىل القوة الربانية التي ال حيدها حد ،واجلربوت اإلهلي العظيم يف ملكه
وسلطانه ،يؤكد ما قلناه صوت اخلاء املشدد ،فهو يعكس بنطقه الشديد هذا اجلربوت،
وتلك القوة الربانية بوضوح ،ولذا مل يستعمل القرآن الثالثي مطلقا هبذا املعنى ،بل
«س ِخر» يف الذم وسوء اخللق كام يف قوله :ﱫ ﭠ ﭡ ﭢ استعمل الثالثي َ
ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﱪ.
وضمري العظمة « َنا» يف َس َّخ ْر َنا فاعل ،وقد اطرد يف هذه اآلية التعبري به دون
() لسان العرب ،مادة (س.خ .ر) ،354-353/4وانظر :مفردات الراغب .232
() دراسات جديدة يف إعجاز القرآن .د /املطعني .210
157
غريه؛ تدليال عىل أن هذه اهلبات وتلك املعجزات التي ُوهب إياها داود وسليامن
هبا. هي من لدن رب عظيم كريم اختصهام
هذا ،ومن يتأمل يف فاعل َس َّخر يف مجيع مواضعه يف الذكر احلكيم جيد أنه مل يسند
،وهذا طبعي؛ ألن ذلك ال يكون لسواه البتة ،لكن قد تنوع هذا الفاعل ما إال هلل
بني ظاهر وضمري ،وكل سياق يعرب فيه بام يقتضيه.
ﱫﮯﮰﱪ ،ﱫﮯﱪ كام يقول أبو السعود« :متعلقة بالتسخري ،وقيل بالتسبيح،
وهو بعيد»() ،وهذا الذي استبعده أبو السعود هو ما وافق عليه ابن عاشور حيث
يقول :و« َم َع» ظرف متعلق بفعل ﱫ ﯓ ﱪ»().
وهذا هو األوىل ،وعليه ،فأصل العبارة« :وسخرنا اجلبال يسبحن مع داود»،
وقدم الظرف «عىل متعلقه لالهتامم به؛ إلظهار كرامة داود فيكون املعنى :أن داود
َ
اجلبال تسبح مثل تسبيحه»(). كان إذا سبح بني اجلبال سمع
وهنا يثور سؤال لمِ َ قدم الظرف ﱫ ﮯ ﮰ ﱪ عىل اجلبال هنا ،ويف سورة «ص» قدم
اجلبال عىل الظرف يف قوله :ﱫ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﱪ [ص]18:؟
أجاب األلويس عن ذلك بقوله« :وأخر الظرف املذكور عن اجلبال (يف ص)،
وقدم يف سورة األنبياء فقيل :ﱫ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﱪ ،قال بعض الفضالء:
لذكر داود وسليامن ثمت [أي :يف األنبياء] فقدم مسارعة للتعيني ،وال كذلك هنا»
()
158
. أي يف «ص» فلم يسبق إال ذكر داود
وهنا سؤال آخر ذكره أبو حيان وأجاب عنه فقال« :جاء الرتكيب هنا حني
َذكر تسخري الريح لسليامن بالالم ،وحني ذكر تسخري اجلبال جاء بلفظ مع فقال:
ﱫﮮ ﮯ ﮰ ﮱﱪ ،وكذا جاء :ﱫ ﮊ ﮋ ﮌ ﱪ [سبأ ،]10:وقال:
ﱫ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﱪ [ص ،]36:وذلك أنه ملا اشرتكا يف التسبيح ناسب ذكر
مع الدالة عىل االصطحاب ،وملا كانت الريح ُمستخد َمة لسليامن أضيفت إليه بالم
التمليك؛ ألهنا يف طاعته وحتت أمره»().
وهو كالم جيد ودقيق يف التفريق بني داللة (مع) ،والالم ،وهذا من دقائق
وخصائص التعبري القرآين احلكيم.
تد من َأوتاد َ
األرض إِذا َع ُظم ﱫ ﮱ ﱪ :مجع جبل ،واجلبل« :اسم لكل َو ٍ
القنان ُ
والقور صغر وانفرد فهو من ِ ناخيبَ ،
وأما ما ُ والش ِ األعالم َ
واألطواد َّ وطال من َ
َ
واأل َكم»() ،وهذا اللفظ حيمل يف طياته داللة الثبات والرسوخ ،وقد اعترب هذا املعنى
وج َب َل ُه
فيه «فاشتق منه بحسبه فقيل :فالن جبل ال يتزحزح تصورا ملعنى الثبات فيهَ ،
اهلل عىل كذا إشارة إىل ما ركب فيه من الطبع الذي يأبى عىل الناقل نقله ،وفالن ذو
جبلة ،أي :غليظ اجلسم» ().
وآثر لفظة اجلبال هنا؛ ألهنا عنوان العظم والثقل ،والرسوخ والصالبة فأومأ هذا
. بعظم النعمة ،وجليل املنة عىل داود
159
وأل هنا للعموم االستغراقي بداللة لفظة (مع) ،أي :أن مجيع اجلبال كانت
مسخرة له ،فلو ُفرض وساح يف كل األرض شربا شربا لكانت مجيع جباهلا مسخرة
له؛ ألن املعجزة كانت معه حسبام حل وسار كام تفيده املعية.
وجيوز أن تكون أل للعموم العريف ،واملقصود باجلبال اجلبال املحيطة به ،واألول
أوىل ،وهو من متام املنة ،وعظيم النعمة.
ﱫ ﯓ ﱪ :مجلة يف حمل نصب حال من اجلبال« ،بمعنى مسبحات ،أو
استئناف كأن قائال قال :كيف سخرهن؟ فقال :يسبحن»() ،والظاهر كام يتبادر من
الكالم أن ﱫ ﯓ ﱪ مجلة حالية من ﱫ ﮱ ﱪ« ،والعدول عن مسبحات مع
أن األصل يف احلال اإلفراد؛ للداللة عىل جتدد التسبيح حاال بعد حال ،نظري ما يف
قول األعشى:
ُ
«وأصل سخر قبله«س َّب َح» نظري َّ
واملضارع ﱫ ﯓ ﱪ ماضيه املضعف العني َ
رسع إليه ِ
واخل َّفة نزيه والتقديس ،والتربئة من ال َّنق َائِص ...وقيل معناه :ال َّت ُّ
ال َّت ْسبِيح :ال َّت ُ
طاعته ،وقيل معناه :السرُّ ْ عة إىل هذه ال َّل ْفظة»().
يف َ
وقد اختلف املفرسون يف كيفية تسبيح اجلبال مع داود عىل وجوه شتى:
160
األول :ﱫ ﯓ ﱪ؛ أي« :يصلني مع داود إذا صىل»().
الثاين :ﱫ ﯓ ﱪ ،أي :يرسن معه إذا سار ،يقـول الزخمرشي« :وقيل :كانت
تسري معه حيث سار» () ،والتسبيح عىل هذا الرأي «من السبح الذي هو السباحة
خرج اللفظ فيه عىل التكثري ،ولو مل يقصد التكثري؛ لقيلَ :ي ْس َب ْح َن فلام َك ُثر قيل :يسبحن
نظرا؛ «ملخالفته للظاهر ،واملشدد هبذا املعنى
معه» ،وقد رفض الشهاب هذا الرأي ً
()
161
فثبت أنه ال يمكن إجراؤه عىل ظاهره»().
الرابع :ﱫ ﯓ ﱪ عىل حقيقته من الرتجيع بمعنى أن اجلبال يقدسن اهلل
كام يفعل البرش من النطق باللسان ،وكيفية التسبيح هبذا املعنى حكاه أبو السعود
معه بصوت يتمثل له ،أو خيلق اهلل تعاىل بقوله« :ﱫ ﯓ ﱪ أي :يقدسن اهلل
فيها الكالم»().
والراجح :أن التسبيح هنا عىل حقيقته؛ ألنه من األمور التي اختص املوىل
بكيفية ال نعلمها ،وليس هنا دليل قاطع ،أو قرينة مؤكدة ترصف لفظ هبا داود
التسبيح عن ظاهره ،والقاعدة املقررة عند العلامء أن نصوص الكتاب والسنة ال جيوز
رصفها عن ظاهرها املتبادر منها إال بدليل جيب الرجوع إليه ،وهذا هو الالئق بمقام
النعمة واالمتنان «والتحقيق أن تسبيح اجلبال والطري مع داود تسبيح حقيقي؛ ألن اهلل
ونحن ال نعلمها ،كام قال :ﱫ ﮚ ﮛ جيعل هلا إدراكات تسبح هبا يعلمها هو
ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﱪ [اإلرساء ...]44:وقد ثبت يف صحيح
البخاري :أن اجلذع الذي كان خيطب عليه النبي × ملا انتقل عنه باخلطبة إىل املنرب
حجرا كان
ً ُسمع له حنني ،وقد ثبت يف صحيح مسلم أن النبي × قال« :إين ألعرف
يسلم َعليَ َّ يف مكة قبل أن ُأبعث إين ألعرفه اآلن»().
162
والغرض من تسبيح اجلبال مع داود عىل هذا املعنى احلقيقي أمران:
كان «إذا فرت ُيسمعه اهلل تسبيح اجلبال والطري لينشط يف األول :أن داود
التسبيح ويشتاق إليه»().
. الثاين :أن هذا كان معجزة لداود
وهنا ينبغي أن نؤكد عىل يشء دقيق جدًّ ا وهو أن املعجزة« :واملز َّية التي أعطاها
ليست يف تسبيح اجلبال؛ ألن اجلبال ُتس ِّبح معه ومع غريه،
ْ اهلل تعاىل لنبيه داود
إنام امليزة يف أهنا ُتر ِّدد معه ،وتوافقه التسبيح وجتاوبه ،فحني يقول داود :سبحان اهلل
مجيعا (كورس) يردد نشيدً ا واحدً ا ...وسبق
تردد وراءه اجلبال :سبحان اهلل ،وكأهنم ً
سبح احلىص يف يده أن هذه
أن أرشنا إىل أن الذين يقولون يف معجزات النبي × أنه َّ
املقولة غري دقيقة حتتاج إىل تنقيح عقيل ،فاحلجر ُمس ِّبح يف يد رسول اهلل × ،ويف يد
أيب جهل ،إذن :قل :إن املعجزة هي أن رسول اهلل سمع تسبيح احلىص يف يده»().
هذا ،ويالحظ هنا أن مفعول يسبحن حمذوف ،تقديره :يسبحن اهلل ،وحذف
املفعول؛ للعلم به وعدم تطرق الذهن لسواه ،واحلذف يف القرآن يعتمد عىل لقانة
السامع ،وذكانة املخاطب ،ومن ثم ال يذكر األمر البدهي املعلوم بالرضورة ،فضال
عن أن ذكر املفعول جيعل العبارة كزة ثقيلة ملن ينطقها ويرددها ويتدبر فيها.
ﱫ ﯔﯕ ﱪ قرأ اجلمهور بنصبها ،وعىل هذه القراءة ففي الواو وجهان
إعرابيان:
() تفسري البغوي ،305 /4وانظر :تفسري اخلازن ،305/4وتفسري الرازي ،171/21
والقرطبي ،320-319/11وحاشية الشيخ زاده ، 55/6واللباب .558/13
() تفسري الشعراوي ،9607-9606/15وكلمة كورس يف كالم الشيخ بمعنى :منظومة.
163
األول :عاطفة عطفت لفظـة الطري عىل اجلبال.
الثاين :الواو بمعنى مع ،والطري «مفعول معه ،أي :يسبحن مع الطري»().
«وقرئ بالرفع عىل االبتداء ،واخلرب حمذوف أي والطري مسخرات وقيل عىل
العطف عىل الضمري يف يسبحن ،وفيه ضعف؛ لعدم التأكيد والفصل»().
ﱫ ﯔﯕ ﱪ مجع طائر ،وهو« :كل ذي جناح يسبح يف اهلواء»().
وأل يف الطري للعموم االستغراقي كام مر يف اجلبال ،وجيوز أن تكون للعموم
طيورا
ً العريف أي :الطيور املحيطة ببيئته التي يعيش فيها فإن لكل منطقة يف العامل
تشتهر هبا ،تتواءم مع طبيعة تلك البيئة ،والراجح أن (أل) للعموم االستغراقي،
فلو فرض وانتقل إىل أي بقعة يف العامل لسبحت معه طيورها ،وهذا يعنى أن مجيع
يسمع تسبيحها ،ويفهم لغتها؛ ألهنا أصناف الطيور اجلارحة والوادعة كان داود
ُسخرت له ،وهذا من متام املنة وكامل النعمة يف سياق االمتنان واإلنعام ،وهبذا تتسق
داللة (أل) هنا مع داللة (أل) يف اجلبال.
كان معجزة له مل يرشكه فيها كائن ما كان. وتسبيح الطيور مع داود
وكيفية تسبيح الطري هنا اختلف فيه عىل معنيني:
األول :تسبيح حقيقي يقول الشيخ سيد طنطاوي« :وتسبيح اجلبال والطري مع
164
هو تسبيح حقيقي»() ،ومل يتعرض أحد من املفرسين لكيفية وطريقة هذا داود
التسبيح احلقيقي إال أنه مفهوم بطبيعة احلال؛ ألن الطيور من الكائنات احلية وهلا
أصوات تتميز هبا ،ولكن هل كان داود يسمع تسبيحها ويفهمه كام كان سليامن يفهم
لغة الطري والنامل؟ أقول :نعم ،هذا واضح جدا كام يفهم من سياق االمتنان.
الثاين :هو تسبيح جمازي ،يقول الرازي« :أما الطري فال امتناع يف أن يصدر عنها
الكالم ،ولكن أمجعت األمة عىل أن املكلفني إما اجلن أو اإلنس أو املالئكة فيمتنع
فيها أن تبلغ يف العقل إىل درجة التكليف بل تكون عىل حالة كحال الطفل يف أن
يؤمر وينهى ،وإن مل يكن مكل ًفا فصار ذلك معجزة من حيث جعلها يف الفهم بمنزلة
املراهقً ،
وأيضا فيه داللة عىل قدرة اهلل تعاىل وعىل تنزهه عام ال جيوز فيكون القول فيه
كالقول يف اجلبال» ().
والراجح هو األول :ملا قدمناه من أدلة يف احلديث عن اجلبال ،وليس هذا بغريب؛
عىل وجه اإلعجاز. ألن ذلك كان خاصية لداود
تسبيح اجلبـال مع داود عىل تسبيح الطري وهنا يثور سؤال :ملـاذا قدم املوىل
معه؟ أجاب عن ذلك النيسابوري بقوله« :إنام قدم تسبيح اجلبال عىل الطري؛ ألن
ذلك أدل عىل القدرة ،وأدخل يف اإلعجاز ،فإن الطري أقرب إىل احليوان الناطق من
اجلامد»().
165
هذا ،ومجلة ﱫ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﱪ مل ترد عىل تلك البنية
الرتكيبية يف القرآن كله إال هنا ،ولكن ورد يف معناها العام تراكيب أخرى ،وذلك يف
قوله تعاىل :ﱫ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﱪ [سـبأ ،]10:وقوله
تعاىل :ﱫ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫﱪ [ص ]19:وسياق كل آية خيتلف عن غريها،
ولذا اختلف الرتكيب يف كل واحدة.
ﱫ ﯖ ﯗﱪ «أي :من شأننا الفعل ألمثال هذه األفاعيل ،ولكل
أمرا ،وإن كان عندكم
يشء نريده بام لنا من العظمة املحيطة ،فال تستكثروا علينا ً
عج ًبا»().
والواو جيوز أن تكون عاطفة ،واجلملة بعدها معطوفة عىل مجلة وسخرنا مع
داود ،وهذا العطف هو الذي سامه البالغيون التوسط بني الكاملني ،كام جيوز أن تكون
الواو للحال ،واجلملة بعدها حالية من الضمري يف ﱫ ﮮ ﱪ.
كام جيوز أن تكون الواو لالعرتاض كام مر يف قوله :ﱫ ﮩ ﮪ ﱪ واجلملة
بعدها معرتضة بني اخلرب السابق عن داود ،واخلرب الالحق عنه يف قوله تعاىل :ﱫ
ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﱪ [األنبياء ،]80:ويف ذلك يقول ابن عاشور« :ومجلة:
ﱫ ﯖ ﯗﱪ معرتضة بني اإلخبار عام ُأوتيه داود»() ،وهذا األخري هو
الراجح ،واملتبادر من السياق.
ﱫ ﯖ ﱪ كان هنا ناقصة ناسخة ،وهلذا الفعل يف القرآن دالالت عديدة
ال يتسع املقام لذكرها ،ولكن ينبغي أن نؤكد عىل أن داللة هذا الفعل تستغرق هنا
166
وحارضا ومستقبلاً ،وهذا مفهوم
ً املايض واحلارض واملستقبل ،أي :كنا فاعلني ماض ًيا
،وهذا أمر يقيني ثابت يف حقه عقلاً وبداه ًة وعقيد ًة؛ ألن احلديث هنا عن املوىل
،يقول ابن عاشور« :ويف اجتالب فعل الكون إشارة إىل أن ذلك شأن ثابت هلل من
قبل ،أي :وكنا قادرين عىل ذلك»().
وضمري العظمة « َنا» يف حمل رفع اسم كان ،وعرب به؛ ليدل عىل أن العظيم ال
تعجزه هذه األشياء التي تعد من العجائب والغرائب يف ُعرف البرش.
ﱫ ﯗﱪ خرب كان ،وهو مجع مذكر سامل مفرده فاعل ،واملفرد فاعل جاء
عىل صيغة اسم الفاعل من الثالثي فعل ،والتعبري بصيغة اسم الفاعل هنا يدل عىل
الدوام والثبوت واالستمرار ،أي :كنا فاعلني لتلك املعجزات يف كل زمان قادرين
عليها يف كل وقت وحني ،وهذا رس التعبري بتلك الصيغة بدال من الصيغة الفعلية ،لو
قال« :وكنا فعلنا» ،فهي ال تفيد ما تفيده تلك الصيغة بوضوح عالوة عىل ما يف تلك
. اللفظة من تفخيم وتعظيم يتالءم مع عظمة املوىل
وﱫﯗﱪ يعمل عمل الفعل الثالثي « َف َع َل» ،فريفع فاعلاً وينصب مفعولاً ،
وهنا حـذف املفعول ،والتقدير :وكنا فاعلني ذلك ،وقد اختلف املفرسون يف ماهية
املحذوف عىل وجهني:
األول :املحذوف هو تسخري اجلبال والطري ،يقول الطربي« :وكنا قد قضينا أنا
فاعلو ذلك ،ومسخرو اجلبال والطري»().
الثاين :التفهيم وإيتاء احلكم والعلـم ،وتسخري اجلبال والطري ،يقول اخلازن:
167
«ﱫﯖ ﯗﱪ يعني :ما ذكر من التفهيم وإيتاء احلكم والتسخري»().
وأرى أن احلذف هنا للتعميم ،يدل عىل ذلك أن التفهيم وإيتاء احلكم والعلم،
وتسخري اجلبال والطري ذكرت قبل ذلك ،فاملحذوف يعود عليها مجيعها.
والتعبري بلفظة :ﱫ ﯗﱪ دون عاملني له أرسار بالغية دقيقة تتمثل يف أن
«العمل -كام قال بعض أهل العلم -حيتاج إىل تفكر ومقارنة بني الفعل والرتك،
ال خيفى وتقليب وجهات النظر يف صوره ،واختيار ما هيدي إليه النظر فيها ،واهلل
عليه يشء ،وال تلتبس عليه األمور هذه واحدة.
والثانية :أن العامل قد يعمل له غريه ،واهلل غني عن العاملني.
والثالثة :أن العامل يعمل ليحصل عىل ثمرة عمله من خري ،فهو فقري إليه ،واهلل
أغنى األغنياء .هلذه املحظورات -واهلل أعلم -خال القرآن من إسناد عمل ،يعمل إىل
أسامء اهلل احلسنى ،تقديسا له وتنزهيا ،ورعاية لواجبات عقيدة التوحيد ...أما « َف َع َل
«ع ِم َل» «فقد أسندت إىل اهلل مرات ،والسبب فيام نعتقد انتفاء املوانع التي لوحظت يف َ
ومن أبرزها أن الفعل هو ما صدر عن الفاعل مبارشة دون واسطة ،وأن أفعال اهلل
صادرة عن قوة سلطانه ،والفعل كام قال اللغويون :ال حيتاج إىل تفكري وطول نظر ،بل
الشأن فيه أن يصدر ابتداء ،لذلك وغريه امتنع إسناد عمل إىل اهلل ،وجاز إسناد فعل
إليه؛ ألنه من صفات الكامل واجلالل واجلامل» ().
واملراد من قوله :ﱫ ﯖ ﯗﱪ هنا اختلف فيه فقيل« :ﱫ ﯖ
() تفسري البغوي عىل هامش اخلازن ،305/4وانظر :تفسري اخلازن ،305/4وفتح القدير
،591/3وفتح البيان .177/6
() دراسات جديدة يف إعجاز القرآن .135 ،131
168
ﯗﱪأي :قادرين عىل أن نفعل هذا ،وإن كان عج ًبا عندكم ،وقيل :كنا نفعل
باألنبياء مثل ذلك» ().
وقيل« :ﱫ ﯖ ﯗﱪ أي :فاعلني هذه األعاجيب من تسخري اجلبال
وتسبيحهن ،والطري ملن نخصه بكرامتنا»().
َّ
الشنقيطي رفض ما ُذكر سابقا عند الزخمرشي وأيب حيان ،وأبدى رأيا
َّ ولكن
َّ
آخر فقال« :والظاهر أن قوله :ﱫ ﯖ ﯗﱪ مؤكدً ا لقوله :ﱫ ﮮ ﮯ
ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﱪ ،واملوجب هلذا التأكيد :أن تسخري اجلبال وتسبيحها
أمر عجب خارق للعادة ،مظنة ألن يكذب به الكفرة اجلهلة.)(»...
والراجح :ما ذهب إليه الشنقيطي ،فاجلملة توكيد معنوي؛ «إلزالة استبعاد
تسبيح اجلبال والطري معه»() ،وهذا ما يتواءم مع كون هذه اجلملة معرتضة كام مر.
169
املبحث اخلام�س
املبحث اخلامس:
البالغية يف آية التفسري
َّ األسرار
171
ﯾ ﯿ ﰀ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﱪ [الفرقان.]33-30:
وهكذا يتضح لكل متدبر أن اآلية حمل الدراسة وردت رصاحة يف سياق احلديث
عن كفار مكة ،وما يزعمونه عن القرآن الكريم ،والرسول العظيم ×.
ومناسبة تلك اآلية ملا قبلها أبرزها ابن عاشور بقوله« :ملا استقىص أكثر معاذيرهم
وتعلالتهِ م ،وألقمهم أحجار الر ِّد إىل هلواهتم عطف عىل ذلك فذلكة جامعة تعم ما
تقدم ،وما عسى أن يأتوا به من الشكوك والتمويه بأن كل ذلك مدحوض باحلجة
الواضحة الكاشفة لرتهاهتم»() ،فقال :ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ
ﭘﱪ [الفرقان ،]33:فالواو إذن يف قوله :ﱫﭑ ﭒﱪ عطفت هذه اجلملة عىل
ما قبلها ،وجيوز أن تكون استئنافية ،والراجح األول؛ لشدة اتصال اآلية يف معناها بام
قبلها كام اتضح من ذكر املناسبة.
ﱫ ﭑ ﭒ ﱪ ال نافية ،و«اإلتيان» استعمل هنا بمعنى اإلظهار عىل سبيل
االستعارة التبعية ،ويف هذا يقول ابن عاشور« :واإلتيان مستعمل جمازا يف اإلظهار،
بش َبه ُي َش ِّبهون هبا حاال من أحوالك يبتغون إظهار أن حالك ال
واملعنى :ال يأتونك ُ
ٍ
رسول من اهلل إال أبطلنا تشبيههم وأريناهم أن حالة الرسالة عن اهلل ال يشبه حال
تالزم ما زعموه»().
والتعبري باإلتيان عن اإلظهار فيه مبالغة واضحة هلذا املعنى ،وكأن تلك الشبه قد
جتسدت فـي صورة حمسوسة حتى محلوها ،وأتوا هبا للرسول × حياجونه ،وجيادلونه
هبا ،وهذا من مجال التعبري بتلك اللفظة.
172
والتعبري باملضارع دون املايض فيه استحضار لتلك الصورة أمام األعني لرتسخ
أقواهلم الشنيعة يف نفوس املستمعني ،وفيه ً
أيضا إشارة إىل أن هذا األمر كان حيدث
ويتجدد من املرشكني حاال بعد حال ،وزمانا بعد زمان ،يقول ابن عاشور« :وصيغة
املضارع يف قوله :ﱫ ﭑ ﭒ ﱪ تشمل ما عسى أن يأتوا به من هذا النوع كقوهلم:
ﱫﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﱪ»().
وواو اجلامعة يف ﱫ ﭒ ﱪ تعود عىل كفار قريش كام يدل السياق بوضوح.
وكاف اخلطاب يف حمل نصب مفعول به ،وهي تعود عىل النبي × رصاحة،
والقصد من «تعدية فعل ﱫ ﭒ ﱪ إىل ضمري النبي ×؛ إلفادة أن إتياهنم األمثال
يقصدون به أن يفحموه» ()؛ ألنه كان من املمكن أن يقال :وال يأتون بمثل ،ويجُ َعل
الفعل املتعدي كالالزم ،فذكر املفعول العائد عىل النبي × هنا يؤدي هذا املعنى،
وفيه ً
أيضا إشعار بأن كل ما يفعلونه موجه لشخصه × نكاية فيه ،وكراهية يف
دعوته؛ وألهنم يعتقدون أن تكذيب ما جاء به وتشوهيه فيه القضاء عىل دينه ،ﱫ
ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﱪ.
ﱫ ﭓ ﱪ جار وجمرور متعلق بالفعل قبله ،واملثل كام يقـول الراغب« :يقال
عىل وجهني:
أحدمها :بمعنى املِثْل نحو ِش ْب ٍه َو َش َب ٍه ونِ ْق ٍ
ض َو َن َق ٍ
ض ،قال بعضهم :وقد يعرب به
عن وصف اليشء نحـو قوله :ﱫ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﱪ.
والثاين :عبارة عن املشاهبة لغريه يف معنى من املعاين ،أي :معنى كان ،وهو أعم
173
األلفاظ املوضوعة للمشاهبة.)(»...
واملراد باملثل هنا اختلف فيه عىل أكثر من معنى:
األول :بمثل :بسؤال عجيب ،يقول الزخمرشي« :ﱫﭑﭒﱪ بسؤال عجيب
من سؤاالهتم الباطلة كأنه مثل يف البطالن إال أتيناك نحن باجلواب احلق» ().
وعىل هذا املعنى يكون الغرض من هذا السؤال العجيب الطعن يف نبوته،
والقدح يف رسالته ،وتعجيزه × ظنا منهم أنه ال يقدر عىل الرد عىل سؤاالهتم الباطلة،
وأمثلتهم الفاسدة املتعنتة التي خترج عن دائرة العقل.
الثاين :بمثل :بحال عجيبة وصفة غريبة ،يقول أبو حيان« :ﱫﭑﭒﱪ بحال
ال كانت هذه صفتك وحالك نحو أن ُي ْق َر َن بك َم َل ٌك ُينذر
وصفة عجيبة يقولونَ :ه َّ
معك ،أو ُيلقى إليك كنز ،أو تكون لك جنة ،أو ُين ََّزل عليك القرآن مجلة إال أعطيناك
ما حيق لك يف حكمتنا ،ومشيئتنا أن تعطاه ،وما هو أحسن تكشيفا ملا بعثت عليه،
وداللة عىل صحته»().
وقد رفض العالمة أبو السعود هذا الرأي بقوله« :ويأباه االستثناء املذكور فإن
املتبادر منه أن يكون ما أعطاه اهلل تعاىل من احلق مرتتبا عىل ما أتوا به من األباطيل
دامغا هلا ،وال ريب يف أن ما آتاه اهلل تعاىل من امللكات السنية الالئقة بالرسالة قد أتاه
من أول األمر ال بمقابلة ما حكي عنهم من االقرتاحات ألجل دمغها وإبطاهلا»()،
174
وقد أورد األلويس ردا عىل اعرتاض أيب السعود السابق فقال« :وأجيب بأن معنى
ﱫﭔ ﭕ ﱪ إلخ «عىل ذلك إال أظهرنا فيك ما يكشف عن بطالن ما أتوا به،
وهو كام ترى ،فاحلق التعويل عىل األول» ().
فاأللويس نفسه يرفض هذا الرد الذي أورده لضعفه كام يبدو من كالمه؛ وألن
السياق ال يؤيده كام يفهم من كالمه ً
أيضا ،وهو رد له وجاهته كام ترى.
الثالث :بمثل :بشبهة ،يقول أبو حيان« :وقيل :ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﱪ أي :ال
يأتونك بشبهة من جنس الشبهات املذكورة الواضحة البطالن كأهنا مثل يمثل هبا
ﱫﭔ ﭕ ﭖ ﱪ الذي يدمغ ما جاؤوا به من املثل ويبطله ،كقوله :ﱫﮒ
ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﱪ [األنبياء.)(»]18 :
ال، الش ِ
به مث ً وعىل هذا الرأي يكون القرآن الكريم قد سمى «ما يوردون من ُّ
الش ِ
به ح ًّقا»(). وسمى ما ُيدْ َفع به ُّ
والراجح :أن املثل هنا ال يقترص عىل واحد مما سبق بل هو عام -كام ذكره الراغب
قبل -يندرج حتته مجيع ما رضبوه للنبي × من أمثال فيام سبق قبل نزول اآلية ،وما
سوف يأتون به مستقبال ،عالوة عىل أن لفظ ( َم َثل) هنا نكرة ،والنكرة يف سياق النفي
تعم ،وهلذا قال ابن عاشور« :وتنكري «مثل» يف سياق النفي للتعميم ،أي :بكل مثل،
واملقصودَ :م َثل من نوع ما تقدم من أمثاهلم املتقدمة ابتداء من قوله :ﱫﭨﭩ ﭪ
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﱪ ،ﱫ ﭺ ﭻ ﭼ ﱪ
175
بقرينة سوق هذه اجلملة عقب استقصاء شبهتهم».)(»...
ويف تنكري املَ َثل ً
أيضا إشارة إىل أن مجيع األمثلة التي يأتون هبا بقصد التشكيك
واإلضالل هي أمثلة حقرية وضئيلة ال يؤبه هبا ،وال يلتفت إليها فهي ال تأثري هلا ،وال
مغزى من ورائها ،وال تعدو أن تكون ضالالت وخزعبالت.
وإدخال الباء عىل لفظ املَ َثل هنا يفيد اإللصاق ،أي :بمثل ملتصق بنفوسهم
املرتدية ،وعقوهلم الضالة ظنا منهـم أهنم سيحاجونه ،ويغلبـونه ،وينترصون عليه.
ومل يرد هذا اللفظ عىل تلك اهليئة املنكرة مسبوقا بالباء إال يف هذا املوطن فحسب
يف القرآن كله ،ولعل ذلك لتفردهم يف اقرتاحات األمثال الفاسدة واملتعنتة بام ال
يضاهيهم أحد من األمم السابقة يف ذلك.
ﱫ ﭔ ﭕ ﭖ ﱪ ،ﱫ ﭔ ﱪ أداة استثناء واالستثناء هنا مفرغ؛ ألن أداة
االستثناء مل تسبق بيشء يصح إخراج ما بعد إال منه ،وقد قدر بعض املفرسين املستثنى
منه املحذوف بحال من األحوال فقال« :ال يأتونك بمثل يف حال من األحوال إال
حال إتياننا إياك احلق الذي ال حميد عنه»().
ومجلة :ﱫﭕﱪ «يف حمل النصب عىل احلالية» () من مفعـول ﱫﭒﱪ،
واملعنى عىل ذلك :ال يأتونك بمثل يف حال من األحوال إال حال استحضارنا وإتياننا
إياك احلق الذي ال حميد عنه ،وفائدة هذه اجلملة احلالية ذكرها األلويس فقال« :جعل
176
ذلك مقارنا إلتياهنم وإن كان بعده؛ للداللة عىل املسارعة إىل إبطال ما أتوا به تثبي ًتا
لفؤاده ×» ().
واملجيء :هنا ليس عىل حقيقته اللغـوية بل هو جميء جمازي عىل سبيل االستعارة
التبعية كام تقدم يف نظريه اإلتيان ،يقول ابن عاشور« :قوله :ﱫﭕ ﭖ ﱪ
مقابل قوله :ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﱪ وهو جميء جمازي ،ومقابلة ﱫ ﭕ ﭖ ﱪ
لقوله :ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﱪ إشارة إىل أن ما يأتون به باطل .مثال ذلك أن قوهلم :ﱫ
ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﱪ [الفرقان ]7:أبطله قوله
تعاىل :ﱫ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ
ﯬ ﯭﯮ ﱪ [الفرقان.)(»]20:
«والتعبري باملايض يف ﱫ ﭕ ﱪ مع أنه يف معنى املستقبل يفيد حتقق املجيء،
وهو املناسب ملقام الوعد والتثبيت» ().
وكاف اخلطاب يف ﱫ ﭕ ﱪ مل خيتلف أحد يف أهنا تعود عىل النبي ×
كام عادت عليه يف يأتونك ،لكن من يتأمل يف ﱫ ﭒ ﱪ ،وﱫ ﭕ ﱪ جيد
أن الفاعل فيهام خمتلف ،فهو يف اإلتيان عائد عىل مرشكي قريش؛ ألهنم هم الذين
؛ ألنه هو الذي جاء باحلق ،وكأن أتوا باملثل الباطل ،ويف املجيء عائد عىل املوىل
معنى الكالم عىل هذا التحليل البالغي «وال يأتونك بمثل بالباطل إال جئناك بمثل
باحلق» ،فحذف بالباطل من اجلملة األوىل؛ لداللة احلق عليه يف الثانية ،وحذف املثل
() روح املعاين ،32/13وانظر :تفسري أيب السعود ،217 /6وحاشية الشهاب .130/7
() التحرير والتنوير .22 /19
() تفسري ابن باديس .183
177
من اجلملة الثانية؛ لداللة لفظ املثل عليه يف اجلملة األوىل هذا ما هيدي إليه السياق،
ويقتضيه نسق األسلوب القرآين املعجز.
ونسبة املجيء للضمري « َنا» فيه «اعتناء كبري لرشف الرسول× حيث كان يأتيه
الوحي من اهلل بالقرآن صباحا ومساء ،ليال وهنارا ،سفرا وحرضا ،فكل مرة كان
ُّ
وأجل، يأتيه امللك بالقرآن كإنزال كتاب مما قبله من الكتب املتقدمة ،فهذا املقام أعىل
وأعظم مكانة من سائر إخوانه من األنبياء»().
وفيه ً
أيضا تفخيم وتعظيم للحق املجيء به ،وبيان واضح بأن كل ما يأيت به
الكفار باطل مردود؛ ألن يف مقابله يأيت الرد من اخلالق ،وفرق بني ما يدبره املخلوق،
. وما يرد به اخلالق
هذا ،وقد ذهـب بعض املفرسين إىل أن اإلتيان واملجيء هنا بمعنى واحد ،يقول
بمعنى ،لكن عرب أوال باإلتيان وثانيا باملجيء
ً األلويس« :املشهور أن اإلتيان واملجيء
للتفنن ،وكراهة أن يتحد ما ينسب إليه ،وما ينسب إليهم ً
لفظا ،مع كون ما أتوا به
يف غاية احلقية واحلسن» (). يف غاية القبح والبطالن ،وما جاء به
وذهب آخرون إىل وجود فرق بينهام ،يقول ابن عاشور« :فعل اإلتيان إذا استعمل
جمازا َك ُثر فيام يسوء وما ُي ْك َره كالوعيد واهلجاء ،قال شقيق بن رشيك األسدي:
َف ُس َّل َل َغ ْي َظ ِة َّ
الض َّح ِ
اك ِج ْس ِمي َأ َتانيِ ِم ْن َأبيِ َأ َن ٍ
س َو ِعيـدٌ
وقول النابغة:
........................ لع َن َأ َّن َك لمُ ْتَنِي
َأ َتانيِ َأ َب ْي َت ا َّل ْ
178
وقوله:
َجي ًشا إِ َلي َك َق َو ِاد ُم َ
األ ْك َوا ِر. َف َل َي ْأتِ َي ْن َك َق َصائِدٌ َو َل َيدْ َف َع ْن
ْ ْ
َاك بِالحْ َ قِّ أي :عذاب قومه، «و َأ َت ْين َ
يريد قصائد اهلجاء ،وقول املالئكة للوط َ
ولذلك قالوا له يف املجيء احلقيقي :ﱫ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﱪ ،وتقدم
يف سورة احلجر ،وقال اهلل تعاىل :ﱫﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﱪ ،ﱫ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ
ﮌﮍ ﱪ ،ﱫ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﱪ بخالف فعل املجيء إذا استعمل
يف جمازه ،فأكثر ما يستعمل يف وصول اخلري والوعد والنرص واليشء العظيم ،قال
تعاىل :ﱫ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﱪ ،ﱫﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﱪ ،ﱫ ﭱ ﭲ
ﭳ ﭴﱪ ،ويف حديث اإلرساء« :مرح ًبا به ،ونعم املجيء جاء» ،ﱫﮙ ﮚ
ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﱪ»().
ولست أؤيد هنا أن التغاير من قبيل التفنن بل لكل لفظة معنى ال تؤدهيا نظريتهُ ا
علم هذا املعنى من علمه ،وجهله من جهله ،والرأي الثاين عند ابن عاشور هو األوىل
باالعتبار ،فهام خيتلفان ،ولكل سياقاته يف القرآن الكريم كام بان لك مما ذكره ابن
عاشور.
فضلاً عن أن األلويس تراجع عن ذلك يف آخر كالمه السابق حيث قال« :ولعل
يف التعبري باإلتيان أوال واملجيء ثان ًيا عىل هذا إشارة إىل أن ما يأتون به من األمثال يف
نفسه من األمور التي تتخيل بسهولة ،وال حتتاج إىل إعامل فكر ،بخالف ما يكون يف
مقابلته ،فإنه يف نفسه من األمور العقلية التي صقلها الفكر ،فال جيد أحد سبيال إىل
ردها والطعن فيها ،أو إىل أن فعلهم خلروجه عن حيز القبول منزل منزلة العدم حتى
179
،فتأمل ،واهلل كأهنم مل يتحقق منهم القصد دون احلصول بخالف ما كان من قبله
تعاىل أعلم بأرسار كتابه» ().
ﱫ ﭖ ﱪ متعلق باملجيء« ،واحلق يف األصل :الثبوت ،واليشء الثابت ،يقال
حقَّ األمر يحَُ ُّق ح ًّقا فهو حق ،أي :ثبت واستقر.)( »...
واملراد منه هنا ما جاء يف القرآن من أدلة دامغة وبراهني ساطعة للرد عىل
ضالالهتم وترهاهتم ،يقول ابن كثري« :ﱫ ﭔ ﭕ ﭖ ﱪ أي :إال نزل جربيل
ِم َن اهلل بجواهبم»().
والتعبري عن هذه الردود الدامغة بتلك اللفظة؛ لإلشارة إىل أن ما أتى يف القرآن
ليس ردا عليهم عىل سبيل اجلدل واملامراة ،ولكنها احلقيقة الثابتة بعينها ،فـ «احلق
هو الغاية التي يريد القرآن تقريرها ،وليس جمرد االنتصار يف اجلدل ،وال الغلب يف
املحاجة ،إنام هو احلق القوي بنفسه الواضح الذي ال يلتبس به الباطل.)(»...
عرف أن املراد به الثابت
وأدخل عىل ( احلق ) األلف والالم «الدالة عىل الكامل؛ ل ُي َ
الذي ال يشء أثبت منه ،فيزهق ما أتوا به لبطالنه ،ويفتضح بعد ذلك السرت فضيحة
تخُ َ ِّجل القائل ،والسامع القابل.)( »...
وتأمل دقة التناسق وشدة التناسب بني قوله :ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﱪ ،وقوله:
ﱫﭔ ﭕ ﭖ ﱪ؛ فإنه ملا أدخل الباء عىل املثل أدخلها عىل احلق ليفيد أن احلق
180
ملتصق باملجيء ال ينفك عنه ،ويف هذا تأكيد عىل أن هذا هو« :اجلواب احلق الثابت
املبطل ملا جاؤوا به القاطع ملادة القيل والقال» ().
ﱫ ﭗ ﭘﱪ الواو عاطفة ،ﱫ ﭗﱪ معطوف عىل املجرور «احلق»،
واملعنى :إال جئناك باحلق وجئناك بأحسن تفسري ،وكام اقتىض العطف هنا املشاركة
يف احلكم اإلعرايب اقتيض ً
أيضا التغاير ،وهنا تغاير يف الصفات فاملجيء باحلق يغاير
املجيء بأحسن تفسري.
ﱫ ﭗ ﱪ صفة عىل وزن أفعل ،واحلسن يف األصل« :عبارة عن كل مبهج
مرغوب فيه ،وذلك ثالثة أرضب :مستحسن من جهة العقل ،ومستحسن من جهة
اهلوى ،ومستحسن من جهة احلس ...واحلسن أكثر ما يقال يف تعارف العامة يف
املستحسن بالبرص ،يقال :رجل حسن وحسان ،وامرأة حسناء وحسانة وأكثر ما جاء
يف القرآن من احلسن فللمستحسن من جهة البصرية.)(»...
وقد اختلف املفرسون يف داللة ﱫ ﭗﱪ هنا عىل وجهني:
األول :هي أفعل تفضيل «واملفضل عليه حمذوف ،أي :ﱫ ﭗ ﭘﱪ من
مثلهمَ ،و َم َث ُلهم قوهلم :ﱫ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸﱪ() «ومثل هذا حيذف
وعمرا ،فكان عمرو
ً ريا»()؛ «ألن يف الكالم دليال عليه ،كام لو قلت :رأيت زيدً ا
كث ً
وجها كان فيه دليل عىل أنك تريد :أحسن من زيد»().
أحسن ً
() روح البيان ،209 /7وانظر :فتح القدير ،طبعة دار الفكر .73/4
() مفردات الراغب .118-117
() البحر املحيط ،497/6وانظر :اللباب ،529/14وفتح البيان .438/6
() معاين القرآن للنحاس .25 /5
() تفسري النسفي ،244-243/3بترصف ،وانظر :معاين القرآن للزجاج .67/4
181
إقرارا بأن ما جاء به الكفار من مقرتحات
وعىل هذا الوجه ثمة إشكال؛ ألن فيه ً
فاسدة ،وأسئلة باطلة ،وضالالت فارغة كان َح َسنًا ،وأن ما جاء به القرآن يف الرد
عليهم كان أحسن فحسب.
وقد انربى بعض املفرسين ليزيل هذا اإلشكال ،يقول حقي« :اللهم إال أن
يكون بزعمهم ،يعنى :ملا كان السؤال حسنًا بزعمهم قيل :اجلواب األحسن من
السؤال»().
حسن يف زعم كفار قريش،
ٌ يعني بذلك :أن ما أتوا به ليس حسنًا يف ذاته ،لكنه
فقابله باألحسن بناء عىل هذا الزعم.
كام حاول ابن عاشور إزالة هذا اإلشكال ً
أيضا فقال« :أو يراد باحلسن ما يبدو
من هبرجة سفسطتهم وشبههم ،فيجيء الكشف عن احلق أحسن وقعا يف نفوس
السامعني من مغالطاهتم ،فيكون التفضيل هبذا الوجه عىل حقيقته»().
وهذا هو الرد األقوى عىل هذا اإلشكال وإليه نميل؛ ألن احلسن البادي يف
ضالالت الكفار يف كل زمان ما هو إال زخرف من القول ،وسفسطة ضالة وهبرجة
فارغة يفقهها أهل العلم دوما ،ويقفون عليها ألول وهلة.
الوجه الثاين :اسم التفضيل هنا ليس عىل أصله؛ ومن ذهب إىل هذا الوجه رأى
أن الذي أتى به كفار قريش ليس حسنًا حتى يكون ما جاء به رب العاملني أحسن،
ومعنى أحسن تفسريا عىل ذلك« :أنه يف غاية ما يكون من احلسن يف حد ذاته ال أن ما
يأتون به له حسن يف اجلملة ،وهذا أحسن منه ،وهذا نظري قوهلم« :اهلل تعاىل أكرب «أي:
182
له غاية الكربياء يف حد ذاته» ().
وهذا الوجه الثاين هو الراجح؛ ألنه املتبادر؛ وألنه ال حيتاج إىل تقدير حمذوف،
وما ال حيتاج لتقدير أوىل مما حيتاج ،عالوة عىل أن كل ما ورد عىل وزن أفعل ال يشرتط
أن يكون أفعل تفضيل مثل قولنا :اهلل أكرب واهلل أعظم كام مر ،يؤكد هذا من سياقات
الذكر احلكيم ً
أيضا أن تلك الصيغة عىل هذا النحو وردت يف القرآن الكريم مخس
مرات ،ومل يذكر بعدها املفضل عليه مطلقا سواء كانت أفعل تفضيل أم ال.
وعرب هنا بلفظ احلسن دون الوضوح مثال؛ ألن احلسن أشمل داللة فهو حيمل
يف طياته معنى الوضوح والبيان زيادة عىل داللته األصلية ،وهذا هو املراد ،يقول
ابن كثري« :ﱫ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﱪ؛ أي :وال يقولون قوال يعارضون به
احلق ،إال أجبناهم بام هو احلق يف نفس األمر ،وأبني وأوضح وأفصح من مقالتهم»()؛
ألن ما قالوه كالم برشي ،وما جاءهم من احلق كالم رباين ،وفرق بني باطل املخلوق
املبهرج ،وحق اخلالق الكاشف.
ﱫ ﭘﱪ متييز ألحسن ،وهذا التمييز أزال اإلهبام الكامن يف لفظ أحسن؛ ألن
العبارة قبل ذكر هذا اللفظ حتتمل أن تكون أحسن معنى ،وأحسن بيانا ،وأحسن مثال
إلخ فلام جاء هذا التمييز أزال اإلهبام ،وحدد املراد.
و«تفسري» مصدر الفعل املايض الرباعي املضعف العني « َفسرَّ َ » ثالثيه َفسرَ َ ،
بالكرس ،و َت ْفسرُُ ه بالضم َفسرْ ً ا ،و َفسرَّ َ ُهَ :أبانه،
«وال َفسرُْ :البيانَ .فسرَ اليش َء يفسرُِ ه َ
() روح املعاين ،32/13وانظر :تفسري أيب السعود ،216/6وروح البيان ،209/7والتحرير
والتنوير .23/19
() تفسري ابن كثري .72/2
183
:ﱫ ﭗ ﭘﱪ؛ ال َفسرُْ :كشف ا ُمل َغ َّطى ،والتفسري: وال َّت ْفس ُ
ري مثله ...وقوله
كشف ا ُملراد عن اللفظ ا ُملشْ كل»().
فالتفسري يف األصل بمعنى البيان ،وكشف املغطى ،وإبانة املراد من األلفاظ
املشكلة ،وعىل ذلك فهو ليس خمتصا بالقرآن ،بل هو إبانة عن األلفاظ املشكلة يف
ولكن اقرتان هذه اللفظة باحلديث عن القرآن يف هذا السياق جعلها
َّ اللغة بوجه عام،
عند إطالقها تشري إىل الكشف والبيان عن معاين القرآن -حقيقة كانت أم ً
جمازا-
تلقائيا.
ًّ حتى صارت حقيقة عرفية يذهب الذهن لذلك
واختلف يف معنى التفسري هنا عىل رأيني:
األول :البيان والتفصيل ،يقول الطبـري« :وعنى بقوله :ﱫ ﭗ ﭘﱪ
وأحسن مما جاءوا به من املثل بيا ًنا وتفصيلاً »().
وعىل هذا الرأي يكون معنى اآلية الكريمة :وال يأتونك بأي مثل من أمثلتهم
املتهافتة إال جئناك باجلواب احلق الثابت الذي يدمغ باطلهم ،وبالكالم الذي هو
أحسن كشفا وبيانا وتفصيال من أمثلتهم وشبهاهتم.
الثاين :املعنى ،يقول الشهاب« :املراد بالتفسري :املعنى ،واملراد أحسن معنى؛ ألنه
يقال :تفسري هذا كذا وكذا أي :معناه ،فهو مصدر بمعنى املفعول؛ ألن املعنى مفرس
كدرهم رضب األمري»().
184
وعىل هذا الرأي يكون معنى اآلية الكريمة :وال يأتونك بأي مثل من أمثلتهم
املتهافتة إال جئناك باجلواب احلق الثابت الذي يدمغ باطلهم ،وبام هو أحسن معنى
من معانيهم.
والراجح :أن التفسري هنا يشمل املعنيني السابقني؛ ألنه لو كان املراد به واحدا مما
سبق لعرب به وال مانع ،أ َما أنه قد آثر التعبري بالتفسري ،واختاره عىل تلك املصطلحات
فهذا إشارة إىل أن ذاك اللفظ أوسع داللة من تلك املصطلحات فهو يضمها مجيعا يف
طياته ،وهبذا يكون اللفظ قد جاء يف مكانه األليق به.
ولعل هذا هو الرس يف التعبري هبذا اللفظ الفريد الوحيد مادة وصيغة يف الذكر
احلكيم ،والتعبري بالفرائد يف القرآن -كام أسلفنا يف بحث سابق() -ملا فيها من
دالالت واسعة ،ومعان كثرية ،وحسن يف اللفظ ،ومجال يف الصياغة ال تتأتى يف
غريها من األلفاظ التي تقارهبا يف معناها ،أو ما يسميه بعضهم باملرتادف الذي ال
ريها
يوجد -من وجهة نظري -يف الذكر احلكيم؛ ألن لكل لفظة داللة ال تؤدهيا غ ُ
بالقدر نفسه ،وبالتطابق ذاته ،وهذا مكمن من مكامن إعجاز القرآن جيب أن نركز
عليه بشدة للتعرف عىل أرساره ،ونكات التعبري بلفظة دون ما يقارهبا.
وأما قولنا :إن هذه اللفظة بمعنى تلك ،فهذا إطالق عىل سبيل التسامح فحسب
فليتنبه إليه ،ومن ثم فإن للتفسري معنى مستقلاًّ خيالف ما يقاربه من وجه ويتفق معه
من وجه كام ترى وتبني لك ،ولكن ليس إياه ،وإال الكتفى رب العاملني بواحد ،وهذا
بدهي ال حيتاج لتطويل.
وهذا يدفعنا ً
أيضا إىل القول بوجود فرق بني التفسري والتأويل ،ومن ثم فقد
185
ري ْ
والتأويل، جانب ابن منظور الصواب حني وافق عىل قول« :ابن َ
األعرايب :ال َّت ْفس ُ
واملعنى واحد» ()؛ ألهنام ليسا بمعنى واحد؛ ألن القرآن عرب بالتفسري يف موضع،
وبالتأويل يف مواضع كام مر.
ولذا فإن من فرق بينهام قد حالفه الصواب ،برصف النظر عن صحة ما فرق به.
يقول السمني احللبي« :تفسري القرآن :بيان ألفاظه ،وبيان معانيه وأحكامه،
وتأويله محله عىل املعاين الالئقة ما ظاهره قد يفهمه من مل تثبت قدمه يف العلم
املتغاير»().
أقول هذا؛ ألن القول يف احلديث عنهام قد تشعب وطال ،وكثري من املفرسين
اجتهد يف بيان الفرق بني هذين املصطلحني حسب هنج كل واحد () غري ناظر إىل
الداللة القرآنية املحضة لكل منهام.
ونحن هنا بطبيعة احلال ال نعيب عىل هؤالء تلك الوجهة؛ ألنه ال مشاحة يف
االصطالح ما دامت تلك الطائفة قد اتفقت عىل ذلك ،أما مصدر اللوم واملؤاخذة
فأن يذكر أحدٌ من تلك الطوائف معنى هلذه اللفظة يتالءم مع مذهبه ثم يسقطه عىل
القرآن ،ويدعي أن هـذا هو املعنى املقصود من لفظـة «تفسري» يف القرآن ،وهكذا
احلال يف التأويل كام بينا يف موضعه هناك.
ومن ثم فإن ما ذهب إليه ابن عاشور يف قوله« :التفسري يف االصطالح هو اسم
186
للعلم الباحث عن بيان معاين ألفاظ القرآن ،وما يستفاد منها باختصار أو توسع،
واملناسبة بني املعنى األصيل ،واملعنى املنقول إليه ال حيتاج إىل تطويل»().
فغري مرفوض ،وال ضري عليه؛ ألن تعريفه مبني عىل املعنى الذي سقناه لتلك
الكلمة ،منطلق من مفهوم هذا اللفظ يف القرآن الكريم.
187
املبحث ال�ساد�س
املبحث السادس:
أثر التحليل البالغي يف استكشاف الفروق والعالئق بني
هذه املصطلحات القرآنية
للتحليل البالغي أثر واضح يف الكشف عن الفروق بني األلفاظ التي عنونا
هبا بحثنا هذا ،وسوف نركز هنا قدر اإلمكان عىل بيان أثر هذا التحليل البالغي يف
استكشاف الفروق والعالئق الكامنة بني هذه املصطلحات القرآنية من واقع النص
القرآين ذاته ،وليس من كالم خارج عنه.
وقبل الولوج إىل هذا الغرض أود أن أؤكد عىل أننا سنذكر هنا ما تفيده هذه
املصطلحات بمنطوقها ،وما تدل عليه بمفهومها سواء كان مفهوم موافقة أو خمالفة،
ومها املصطلحان اللذان أخذ هبام األصوليون يف التعامل مع النصوص املختلفة،
والكشف عن مكنوناهتا ،أو كام يسميه بعض البالغيني املحدثني مستتبعات الرتاكيب،
فكل ما يستتبع هذه املصطلحات من دالالت سنحاول إيضاحه ،وإجيازه أمام القارئ
الكريم.
ونبدأ باحلديث عن مصطلح التدبر فنقول وباهلل التوفيق:
مل يرد املصدر (التدبر) مطلقا يف الذكر احلكيم ،وكذلك مل يرد الفعل املايض
اخلاميس «تَدَ َّبر» بل اقترص الذكر احلكيم يف موضوعنا هنا عىل اإلتيان باملضارع من
هذا الفعل املايض اخلاميس يف أربع آيات عىل النحو اآليت :
189
اً
أول :وردت صيغة ﱫ ﭼ ﱪ يف آيتي سوريت (النساء وحممد) املدنيتني يف
سياق يتحدث رصاحة عن املنافقني ،وقد وردت تلك الصيغة مرفوعة بثبوت النون،
وقبلها «ال» النافية مسبوقة هبمزة االستفهام ،وهذا الفعل بطبيعته ٍ
متعد وقد تعدى يف
هاتني اآليتني إىل املفعول به «القرآن» رصاحة ،وذلك يف قوله تعاىل :ﱫ ﭻ ﭼ
ﭽﭾ ﱪ.
وقد كشف لنا التحليل البالغي آليتي سوريت (النساء وحممد) عن حقائق عديدة
ومتنوعة عىل النحو اآليت:
-1ظهرت التاء يف هذا الفعل يف هاتني السورتني ،ومل تدغم يف الدال كام كان
احلال يف آيتي سوريت (املؤمنون وص) كام سيأيت ،ويف هذا إشارة واضحة -واهلل أعلم-
إىل التخيل عن هذا النفاق ،والكشف عام يضمره ،هؤالء من مكر لإلسالم ولرسوله
يعلم رسائر قلوهبم ،فعكس إظهار التاء هنا هذا املعنى(). ×؛ ألن اهلل
-2ورد هذا الفعل بصيغة املضارع؛ إلفادة التجدد ،أي :جيب عليهم جتديد التدبر
آنا بعد آن ،ووقتا بعد وقت؛ ألهنم -بداهة -لن يتدبروه فـي كل وقت وحني.
-3آثر التعبري بصيغة التفعل إيامء إىل مراعاة التدرج والتتبع وبذل اجلهد يف
التدبر؛ ليصلوا للمطلوب.
-4ورد املضارع ﱫ ﭼ ﱪ ًّ
منفيا بال؛ ألنه ينفي عن املنافقني التدبر يف الوقت
واحلال الذي تتنزل فيه اآليات الكريمة ،كام جاء ً
أيضا مسبوقا هبمزة االستفهام
190
اإلنكاري التوبيخي التعجبي؛ ألنه ينكر عليهم عدم التدبر ،ويوبخهم عىل تركه،
ويتعجب من حالتهم تلك.
ْ -5
اس ُتعمل التدبر يف هاتني اآليتني عىل معناه اللغوي ،ومل يستعمل يف معنى
جمازي كام بان لنا من خالل التحليل البالغي.
-6الفاعل واو اجلامعة يف ﱫ ﭼ ﱪ يعود عىل املنافقني فهم املخاطبون
بالتدبر كام أوضح السياق السابق والالحق يف السورتني.
وهذا الفاعل ال خيتص باملنافقني يف عرص النبوة بل يتسع ليشمل املنافقني يف كل
زمان ومكان؛ ألن العربة بعموم اللفظ ،ويف هذا حث هلؤالء مجيعا عىل التدبر؛ ألن
يف التدبر« :منتهى اإلكرام لإلنسان ،وإدراكه وشخصيته ،كام أن فيه منتهى ال َّنصفة يف
االحتكام إىل هذا اإلدراك يف ظاهرة ال يعييه إدراكها ،وهي يف الوقت ذاته ذات داللة
ال متارى» ().
-7املفعول به ،أي :الواقع عليه التدبر يف السورتني هـو لفظ القرآن رصاحة،
واختصاص تلك اللفظة هبؤالء املخاطبني؛ للرتكيز عىل صفة القراءة التي حيملها
هذا اللفظ ،فهؤالء كانوا يقرؤون القرآن بألسنتهم أمام املسلمني -نفا ًقا -ال يبلغ
حناجرهم ،وال يتجاوز تراقيهم فحكى التعبري بتلك اللفظة حالتهم وركز عىل نظرهتم
للذكر احلكيم فهم ال حيفظونه وال يكتبونه وال حيبون سامعه بل كانوا يقرؤونه خداعا
ونفاقا فحسب إن كانوا يف حمفل مع املسلمني.
-8اختصت آية سورة (النساء) بذكر الغاية من التدبر ،وهي :التوصل إىل أن
الذكر احلكيم من قيل رب العاملني؛ ألنه حيمل بني طياته دليال عىل صدقه يف مبانيه
191
ومعانيه ،ويف كل ما خيرب به عن أحوال املنافقني ،وهبذا جاء الترصيح يف عجز اآلية
يف قوله تعاىل :ﱫ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﱪ ،فالتدبر هيدهيم
للوقوف عىل صدق القرآن ،وصحة نبوته × وهذا من ثامر التدبر الواضحة؛ ألهنم
مل ينافقوا إال لشكهم ،وعدم تصديقهم هبذين األمرين.
-9اختصت آية سورة (حممد) ببيان السبب يف عدم تدبرهم ،وهو أن هلم قلوبا
غليظة منغلقة منعتهم من التدبر ،ومن نفاذ نور القرآن إليها ،وهذا بمفهوم املخالفة
يشري إىل أن القلوب املتدبرة يف القرآن هي القلوب احلية اللينة املتفتحة التي مل يغطها
الران ،وهي قلوب املؤمنني املوحدين ،وهكذا فقد اختصت تلك اآلية بالترصيح
بوسيلة التدبر ،واختصت آية النساء بالترصيح بذكر الغاية من التدبر ،فكلتا اآليتني
املدنيتني تكاملتا يف ذكر الوسيلة والغاية من التدبر.
-10وأخريا من يتأمل يف هاتني اآليتني يلحظ مالحظة دقيقة :فقد احتدت اآليتان
يف مطلعهام ،واختلفتا يف عجزمها ،واحتادمها يف مطلعهام عائد -واهلل أعلم -الحتاد
املخاطبِني فيهام ،وهم املنافقون ،واختالفهام يف عجزمها عائد الختالف السياقني
املكتنف باحلديث عن املنافقني يف كل آية كام تقدم ،وهذا رس دقيق وراء ابتدائهام
برتكيب متطابق لفظا ونظام ،واختتامهام برتكيب خمتلف ً
لفظا ونظماً .
***
ثان ًياُ :ذكر التدبر ً
أيضا يف سورة (املؤمنون) املكية يف سياق رصيح عن كفار مكة،
ومن خالل التحليل البالغي هلذه اآلية تبدت لنا عدة حقائق عىل الوجه اآليت:
-1ورد املضارع ﱫ ﭼ ﱪ جمزو ًما بحذف النون؛ حيث ُسبق بأداة اجلزم
«لمَ ْ» ،واجلزم بلم هنا ينفي نفيا قاطعا عدم تدبرهم للقرآن فيام مىض ،ويفهم من سياق
192
الكالم دعوهتم لذلك يف حارضهم ومستقبلهم.
-2جاء هذا الفعل مسبوقا هبمزة االستفهام اإلنكاري التعجبي التوبيخي حيث
أنكر عليهم عدم التدبر ،ووبخهم عىل تركه ،وتعجب من حالتهم تلك كام فعل مع
املنافقني متاما.
-3من يتأمل تلك الصيغة يف قوله تعاىل :ﱫﮣ ﮤ ﱪ جيد أن التاء قلبت
داال ،وأدغمت الـدال يف الدال؛ ألن األصل «أفلم يتدبروا» ،ويف هذا اإلدغام إشارة
إىل أن الكافرين لو تدبروه وتأملوه برسعة لوقفوا عىل حقيقة كونه من عند اهلل؛ ألهنم
أمراء الفصاحة ،وأساطني البيان ال يعجزهم الكشف عن معادن الكالم ،واحلكم
عىل مصدريته.
-4التدبر يف هذه اآلية استعمل يف حقيقته اللغوية كام سبق متاما.
-5الفاعل واو اجلامعة يف قوله :ﱫﮣﮤﱪ يعود عىل كفار قريش الذين حتدث
السياق السابق عنهم رصاحة ،فهؤالء وحدهم هم املخاطبون بالتدبر يف تلك اآلية.
-6املفعول به ،أي :الواقع عليه التدبر هنا هو لفظ ﱫ ﮥ ﱪ ،واملراد به القرآن
إملاعا
الكريم ،وجاء هبذه اللفظة يف سياق احلديث عن كفار قريش دون القرآن كام مر؛ ً
إىل تلك الصفة ،وهذا املعنى املستمد من تلك اللفظة ،فكفار قريش كانوا يسمعون
القرآن مقوال متلوا من الرسول × واملؤمنني ،ومل يكونوا يقرؤونه نفاقا كام كان حال
املنافقني ،فجاءت تلك اللفظة حاكية بدقة متناهية حالتهم ،وكاشفة عن أن القـرآن
متحدى
ً الكريم ما هـو إال جنس من أجناس األقوال املعروفة هلم ،لكنه قول معجز
به.
وبذلك تكون تلك اآلية قد أبانت رصاحة عن أن املخاطبني بالتدبر هنا هم كفار
193
مكة ،وأن الواقع عليه التدبر هو القول.
-7مل تنص تلك اآلية عىل الغاية من حث الكافرين عىل التدبر؛ ألن ذلك مفهوم
بطبيعة احلال ال حيتاج لنص ،فالغاية من حث الكافرين عىل التدبر هي انخالعهم عن
الكفر ،واهتداؤهم لإليامن ،والوقوف عىل صدق القرآن ،وصحة نبوة الرسول ×.
***
ثال ًثاُ :ذكر التدبر ً
أيضا يف آية سورة (ص) املكية ،والسياق قبلها مل حيدد رصاحة
ولكن التحليل البالغي كشف عن أن املخاطب
َّ من هم املخاطبون بالتدبر فيها،
بالتدبر هم املؤمنون ،وقد برزت لنا عدة حقائق من خالل هذا التحليل البالغي عىل
النحو اآليت:
-1ورد الفعل املضارع ﱫ ﭼ ﱪ يف هذه السورة منصوبا مسبوقا بالم
التعليل يف قوله تعاىل :ﱫ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﱪ ،ويف هذا إشارة
رصحية وقاطعة إىل أن العلة يف إنزاله هي تدبره.
-2مل تذكر مع هذا الفعل أداة استفهام ،ومل ُي ْس َبق كذلك بأداة نفي أو جزم
ري منفي عنهم التدبر بل هو فقط حيكي العلة من
كام سبق؛ ألن املخاطبني هنا غ ُ
نزول القرآن ،وهو تدبر آياته ،ومن ثم جاء اخلطاب للرسول × مبارشة يف قوله:
ﱫﭴﱪ ،ومل يرد ذلك يف اآليات السابقة مما يؤكد عىل أنه × هو املقصود بذلك،
ومعه أمته.
-3من يتأمل جيد أن هذه الصيغة أدغمت فيها كذلك التاء مع الدال كام مر
وهذا اإلدغام يكشف عن حال املؤمنني املخاطبني بتلك اآلية يف أهنم يسارعون إىل
تدبر آيات الكتاب احلكيم بمجرد نزوهلا؛ ألنه لب حياهتم ،ومصدر اخلري والسعادة
194
واهلداية هلم ،ويف هذا مدح واضح هلؤالء املؤمنني املتدبرين.
-4التدبر يف هذه اآلية جاء ً
أيضا عىل حقيقته اللغوية كام سبق.
-5الفاعل واو اجلامعة يف قوله :ﱫﭶ ﱪ يعود عىل املؤمنني بعامة دون ختصيص
لطائفة منهم ،وهم العلامء ،فتدبر كتاب اهلل ال يقترص عىل طائفة كالعلامء والفقهاء
وأرضاهبم بل هو واجب عىل مجيع املؤمنني ،ويف ذلك يقول الشنقيطي« :اعلم أن قول
بعض متأخري األصوليني :إن تدبر هذا القرآن العظيم ،وتفهمه والعمل به ،ال جيوز
إال للمجتهدين خاصة ...قول ال مستند له من دليل رشعي أص ً
ال» ().
لكن ٌ
كل يتدبر عىل قدر وعىل ذلك فجميع املؤمنني بال استثناء مدعوون للتدبر فيه ْ
حظه ومداركه ،ويستخرج منه عىل قدر علمه وفهمه باألدوات املتاحة له ،ومل تنص
هذه اآلية الكريمة عىل أدوات التدبر؛ ألن هذا مفهوم للمخاطبني بطبيعة احلال.
-6املفعول به ،أي :الواقع عليه التدبر هنا هـو «آيات الكتاب» فالضميـر يف
آياته يعود عىل الكتاب رصاحة ،واملراد بالكتاب -ال شك -القرآن الكريم ،وهـذا
دليل آخر يؤكد علـى أن املخاطبني بالتدبر هنا هم املؤمنون كافة بمختلف طوائفهم،
وعىل قدر مداركهم ،وخص املؤمنني هبذا؛ ومل يذكر القرآن أو القول كام مىض؛
إشارة إىل اخلصيصة املستمدة من تلك اللفظة وهي الكتابة ،فاملـؤمنون هم املعنيون
بكتابته دون غريهم ،فعرب بلفظة تنبئ عن تلك احلالة ،عالوة عىل أهنا لفظة أشمل من
سابقتيها ،وتتناسب يف احلديث عن املؤمنني هنا أتم التناسب؛ ألن املكتوب مقروء،
واملقروء مسموع ومن ثم فذكر هذا اللفظ أغنى عن ذكر هذين هنا ،واهلل أعلم.
-7مل تنص تلك اآلية عىل الغاية من التدبر؛ ألهنا مفهومة ال حتتاج لنص فالغاية
195
من تدبر املؤمنني هي زيادة اإليامن ،وفهم منهج القرآن ،وتطبيق هذا املنهج سلوكا،
وعملاً يف حياة املسلمني.
والغاية من تدبر املؤمنني كذلك الوقوف عىل حقائق الرشيعة ،وأحكامها،
والكشف عن أرسار إعجاز الذكر احلكيم ،واستخراج كنوزه ،ودرره ،والوقوف عىل
ٍ
معان رشيدة ،وأساليب إعجازية هي غاية يف النهاية ،وغري مكنوناته ،وما حواه من
ذلك من الغايات حسب طبيعة كل متدبر ،وما عساه أن يتدبر فيه.
وهنا نقول :إن التدبر -وهو النظر يف أدبار اآليات والتأمل يف أعقاهبا ،والوقوف
عىل أرسارها ،وتفهم معانيها -ال بد أن يسبقه إملام بعلوم اللغة العربية املختلفة،
ومعرفة أساليب العرب ،وطرائق تراكيبهم التي نزل هبا القرآن ،وغري ذلك من
أدوات بمعنى أن تكون هناك ضوابط عقلية ورشعية ينطلق منها املتدبر يف كتاب
اهلل ،وليس هذا فحسب بل جيب أن تكون هناك أسس يسري عليها كل متدبر يف أي
علم من العلوم ،وقد تنبه علامؤنا ،وأسالفنا القدماء رمحهم اهلل إىل ذلك فوضعوا
رشوطا للمفرس ،ورشوطا للمفتي الذي جيتهد يف مسائل الدين فال بد كذلك من
وجود األدوات التي يدخل هبا املتدبر إىل رحاب القرآن الكريم.
وهكذا فإن الغاية من تدبر املؤمنني ختتلف عن الغاية من تدبر املنافقني والكفار
كام مر ،وقد نص الذكر احلكيم عىل الغاية من تدبر املنافقني ،وترك للعقول أمر
استنباط غاية التدبر لغريهم من املؤمنني والكافرين كام أسلفنا.
-8مل يرد التذكر مع التدبر إال يف آية سورة (ص) وبني التذكر والتدبر عالقة
به أصحاب العقول الزكية ،فهو للخواص من تتمثل يف أن التذكر خص اهلل
أكابر العلامء من املؤمنني ،والتدبر غري خمتص بأحد ،بل هو لكافة البرش من املؤمنني،
196
واملنافقني ،والكافرين.
-9من يتدبر يف هاتني اآليتني املكيتني يف سوريت (املؤمنون) ،و(ص) يالحظ
َ
املخاطب بالتدبر فيهام خمتلف، التغاير التام يف مطلعهام وخامتتهام؛ وذلك عائد ألن
فآية سورة (املؤمنون) اخلطاب فيها للكفار ،وآية سورة (ص) اخلطاب فيها للمؤمنني
وعجزا كام
ً صدرا
ً كام أكدنا ،والسياق فيهام خمتلف كذلك ،ومن ثم اختلفت اآليتان
ترى ،حيث ورد يف مفتتح آية (املؤمنون) ﱫﮣﮤﮥﱪ ،ويف مستهـل آية (ص)
ﱫ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﱪ فبدأ يف سورة (املؤمنون) باالستفهام اإلنكاري
التوبيخي التعجبي ،وافتتح يف (ص) بكالم خربي تقريري؛ ليكشف عن العلة من
التدبر ،وأن تدبر القرآن الكريم أمر ثابت مقرر عند املؤمنني ،فهو خيرب عنه فحسب.
خاطب بالتدبر يف القرآن ثالث طوائف طائفة
َ وبعد ،فنستنتج من هذا كله أن ا ُمل
املنافقني ،وطائفة الكافرين ،وطائفة املؤمنني ،وأن الواقع عليه التدبر ً
أيضا ثالثة
ألفاظ :لفظ القرآن ،ولفظ القول ،ولفظ آيات الكتاب.
وبني هذه األلفاظ الثالثة عالقة قـوية ،وصلة شديدة ملتحمة كام ترى ،وهبذا
صار معنا ثالثة مصطلحات مستنبطات من هذه اآليات األربع:
األول :ا ُملت ََد ِّبرون بصيغة اسم الفاعل ،أو املخاطبون بالتدبر هم املنافقون
والكافرون واملؤمنون.
الثاين :املتد َّبر :بصيغة اسم املفعول هو الذكر احلكيم مقروءا ومسموعا ومكتوبا،
أي :بمختلف مسمياته ،وعىل شتى صفاته.
الثالث :التدبر بصيغة املصدر ،وهو عملية التدبر ذاهتا.
مقصورا عىل القرآن الكريم مقروءا ومسموعا ومكتوبا فمتابعـة
ً وما دام التدبر
197
للـذكر احلكيـم -ما دام القـرآن هـو منطلقنا يف حترير وتأصيل املصطلحات -ال جيـوز
أن ُيط َلق مصطلح التدبر علـى التفكـر يف الكون ،والنفس اإلنسانية؛ ألن القرآن مل
ُي ِ
طلقْ التدبر عىل ذلك ،بل أطلق عليه عبارات أخرى مثل :التفكر والنظر() ،وما
جاء عىل ألسنة علامئنا يف كتب الرتاث إنام هـو من قبيل التسامح يف العبـارة فحسب،
198
وليس هـذا من مصطلحات القرآن الكريم ،وإطالقاته.
ولكن مما ينبغي التأكيد عليه هنا أننا جيوز لنا بالقياس العقيل أن نطلق التدبر عىل
وسامعا.
ً احلديث الرشيف كتابة وقراءة
كام جيوز لنا أن نطلق التدبر عىل كالم العرب كله شعره ونثره ،فمن أراد أن
يفهم حقائق هذه األقوال ،ويقف عىل كنهها ،ودرجات بالغتها فعليه بالتدبر فيها
عىل وفق أسس وقـواعد التـدبر الصحيحة ،وهكذا نتوسع بالتدبر إىل مجيع آفاقه،
وجماالته الرحبة.
كام جيوز لنا أن نطلق التدبر كذلك عىل سائر علوم املسلمني املستمدة من القرآن
الكريم والسنة النبوية املرشفة ،وليس هذا منا ابتعادا عام َأ َّص ْلنَاه من قبل ،ولكنه قياس
عليه ،وهو قياس صحيح جدًّ ا إن شاء اهلل تعاىل ،فسائر علوم املسلمني املستمدة من
القرآن الكريم والسنة النبوية املرشفة ،جيب أن ُت ْق َر َأ وتدرس بكيفية التدبر ذاته يف
القرآن الكريم والسنة النبوية وكالم العرب.
ولقد قام أسالفنا بالوفاء بحق التدبر يف هذه اجلوانب كلها فرتكوا لنا تراثا تليدً ا
خالدً ا يف شتى العلوم واملعارف.
تستطيع أمة اإلسالم أن تنهض من كبوهتا العابرة إال بالعودة من جديد
َ ولن
للتدبر ،والتأمل يف القرآن الكريم ،واحلديث الرشيف ،وكالم العرب ،وسائر العلوم
املختلفة حتى تستعيدَ سالف املجد واحلضارة ،والفكر ،والثقافة التي أنتجها أسالفنا
القدماء حينام أعملوا عقوهلم ،وشحذوا أفكارهم ،وانكبوا عىل كتاب اهلل وسنة نبيه،
واستنبطوا هذا الرتاث العظيم املتنوع يف شتى العلوم واملعارف اإلنسانية ،وكل هذا
واضحا ملا أمرهم به رب
ً وانصياعا
ً كان تلبية من علامء املسلمني ،واستجابة واعية
199
العاملني من التدبر فتدبروا ،ومن التفكر فتفكروا ،ومن النظر فنظروا واستبرصوا.
وبعد ،فلقد اتضح لكل ذي لب أن القرآن يسمي األشياء بأسامء دقيقة عكس
البرش فقد يتساحمون ويطلقون هذا عىل ذاك ،وهذا ما جيب التنبه له مما يدل عىل أننا ال
بد أن نسمي األشياء بأسامئها القرآنية ،وهو االجتاه األعز.
كام بان لنا ً
أيضا الفرق الواضح بني كالم الرمحن وكالم اإلنسان ففضل كالم
الرمحن عىل كالم اإلنسان كفضل اهلل عىل سائر خلقه ،وكل ذلك ظواهر قرآنية تستحق
البحث والدرس بأناة أكثر ،وتدبر أعمق؛ الستخراج الفروق الدقيقة ،وإدراك
العالقات القائمة بينها؛ ألن ما ذكرناه كان بنظرة عجىل يف هذا اجلانب الغزير.
هذا ما هدى إليه التدبر البالغي يف هذه اآليات األربع التي ورد فيها هذا املصطلح
منطو ًقا ومفهو ًما.
وهنا جيدر بنا الكشف عن الفروق ،والعالئق بني التدبر ،وغريه من املصطلحات
املعنون هبا هذا البحث.
ونبدأ اً
أول :بذكر العالقة بني التأويل والتدبر.
وهنا نقول :دلنا التحليل البالغي آلية التأويل عىل اآليت:
-1التأويل يف القرآن الكريم جاء مصدرا عىل تلك اهليئة اللفظية يف مجيع
مضارعا عىل نحو ما
ً مصدرا مطلقا بل ورد فعال
ً مواضعه ،عكس التدبر فلم يرد
سبق.
-2التأويل يف اللغة ورد بمعنيني:
األول :بمعنى التفسري.
200
الثاين :بمعنى املرجع والعاقبة واملصري ،وأمجع جل املفرسين عىل أن التأويل
يف مجيع املواضع املذكورة يف القرآن كان باملعنى الثاين ،والتدبر ورد يف اللغة بمعنى
واحد ،وهو النظر يف أدبار األمور وعواقبها ،وعىل ذلك فلفظتا التأويل والتدبر يف
القرآن قريبتان؛ ألهنام جيتمعان يف داللة املآل والعاقبة كام هو بني من هذين التعريفني،
ولكن التأويل مرتبط باآليات املتشاهبات اخلفية الداللة ،والتدبر مرتبط باملحكم
واملتشابه كام يستبان لنا بعدُ ،فمناطه أوسع من مناط التأويل.
أما التأويل باملصطلح احلادث عند املتأخرين ـ كام تقدم ـ فلم يرد بمعناه هذا يف
القرآن البتة ،وال تدل عليه آيات التأويل بمنطوقها أو بمفهومها ،وهذا التعريف ال
نعرتض عليه يف حد ذاته ،بل اعرتاضنا أن يكون هو الذي قصده القرآن كام يزعم
بعض املؤولني ،ومعلوم أن محل التأويل يف القرآن عىل هذا املعنى كام محله البعض
من الباطنية واملتزندقة والشيعة سوغ هلم أن خيرجوا كثريا من آيات القرآن عن معناها
املراد منها كام هو معلوم لدهيم.
-3استعمل التأويل يف القرآن ( )17مرة ،وقع التأويل عىل متشابه القرآن
الكريم مرة واحدة يف سورة (آل عمران)() ،واملوؤَّ ل يف هذه السورة ،أي :الواقـع
عليه التأويل قسامن:
مثل :الغيبيات ،وحقيقة البعث األول :املتشاهبات :التي ال يعلمها إال اهلل
() أما يف بقية سور القرآن الكريم ،فيالحظ أن املؤَّ َول (أي :الواقع عليه التأويل) يف هذه اآليات
متنوعا ،فهو يعود عىل ما ينتظر أهل مكة من عاقبة ما وعدوا به يوم القيامة ،كام هو بني من سياقه
ً جاء
يف سوريت النساء ويونس ،أو يكون بيا ًنا لعاقبة ما ُو ِعدوا به من العذاب ،كام يف سورة األعراف ،أو
ريا ألحالم وأحاديث ورؤى ،كام يف آيات سورة يوسف ،أو كش ًفا ألمر السفينة والغالم واجلدار،
تفس ً
كام يف سورة الكهف.
201
والنشور ،واجلنة والنار وغريها.
الثاين :املتشاهبات التي حتتمل أكثر من داللة ،خلفاء يف اللفظ أو املعنى أو مها
معا.
أما التدبر فقد استعمل يف القرآن أربع مرات وقع عىل القرآن مرتني ،وعىل القول
مرة ،وعىل آيات الكتاب مرة ،فاملتدَ َّبر ،أي :الواقع عليه التدبر هو القرآن مقروءا
ومسموعا ومكتوبا ،ومن ثم فالواقع عليه التأويل يف القرآن أخص من الواقع عليه
التدبر؛ ألن التأويل واقـع عىل املتشاهبات بشقيها فحسب ،وهي قليلة كام بينا،
والتدبر واقع عىل الذكر احلكيم كله حمكام ومتشاهبا ،فالتدبر أعم؛ ألنه يشمل مجيع
آيات القرآن ،والتأويل حمصور يف اآليات املتشاهبات خفية الداللة.
-4املؤِّ ول يف القرآن كام يبدو من آية التأويل يف سورة (آل عمران) إما أن
ال يرشكه غريه ،وهذا خيتص بتأويل املتشاهبات من األمور الغيبية، يكون هو اهلل
كأمر الروح ،وحقيقة القيامة ،واجلنة والنار ،ونحو ذلك من األمور التي استأثر اهلل
بعلمها.
وإما -عىل رأي آخر -أن يكون معه الراسخون يف العلم () ،وهؤالء يعلمون
تأويل املتشاهبات املحتملة ألكثر من داللة ،ويسلمون باألول تسليماً .
وا ُمل َتدَ ِّبرون ،أي :املخاطبون بالتدبر ثالثة :املنافقون ،والكافرون ،ومجيع املؤمنني،
وعىل ذلك فاملخاطبون بالتدبر أكثر من املتأولني ،فالتدبر يف القرآن متاح للجميع ممن
202
يملكون أدوات التدبر ورشوطه ،والتأويل ملتشابه القرآن حمصور يف الراسخني يف
العلم مثل :عبد اهلل ابن عباس الذي دعا له املصطفى × بذلك يف قوله« :اللهم فقهه
يف الدين وعلمه التأويل «() ،وغريه من الراسخني يف العلم.
-5التأويل قسامن:
األول :تأويل مذموم ،وهو الذي يتتبع اآليات املتشاهبة ،ويفرسها عىل هواه ،وما
يشتهيه ،وهذا ال يقع إال من الذين يف قلوهبم زيغ فهم الذين يتتبعون املتشابه قصدا
للفتنة والتشكيك واإلضالل.
الثاين :تأويل حممود ،وهو الشق الثاين من املتشاهبات الذي يدركه الراسخون يف
العلم ،وهؤالء ال يتتبعون املتشابه طلبا للفتنة ،والتلبيس والضاللة ،أو طلبا للتأويل
حسب اهلوى كام يفعل الزائغون بل يتتبعونه بغرض فهمه وتفسريه ،وبيان احلكمة
للناس يف وروده.
وهذا التأويل املحمود يرتبط ارتباطا وثيقا بالتدبر ،فمن ال يتدبر اآلية بقلبه فلن
يفهم املقصود منها ،ولن يستطيع رد املتشابه إىل املحكم.
نستنتج مما سبق أن الصلة بني التدبر ،والتأويل صلة وثيقة جدا ،فالذي يعلم
،وبعض األنبياء ،وبعض عباده الصاحلني ،والراسخون التأويل بوجه عام هو اهلل
كام يف عىل حسب االختالف يف معنى التأويل ،والذي ُيد ِّب ُر األمر كله هو اهلل
قوله تعاىل :ﱫ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﱪ [السجدة ،]5:واملالئكة كام يف قوله
مر تفصيلاً .
تعاىل :ﱫ ﮮ ﮯﱪ [النازعات ،]٥:كام َّ
والذي يتدبر القرآن حق التدبر هو الرسول × ،واملؤمنون (العباد الصاحلون)،
() فتح الباري رشح صحيح البخاري للعسقالين ،170/1دار املعرفة ،بريوت 1379هـ.
203
فهذا مناط االلتقاء بني التأويل ،والتدبر من جهة الفاعل.
كام يتفقان من جهة املفعول يف أن املؤَّ ول واملتد َّبر هو القرآن الكريم ،ولكنهام
املؤ َول يف القرآن هو املتشابه ،واملتد َّبر يشمل مجيع القرآن املحكم
خيتلفان من جهة أن َّ
واملتشابه.
ولكنهام خيتلفان من جهة أن التدبر يف القرآن مطلوب من اجلميع كافرين
ومنافقني ومؤمنني ،أي :جلميع اخلالئق أمجعني ،بينام التأول يف أحد معنييه ٌ
وقف عىل
الراسخني يف العلم مثل حرب األمة ابن عباس الذي دعا له املصطفى × بذلك كام
مر ،فالتدبر عىل ذلك أعم من التأويل كام ترى ،وبذلك يلتقي التأويل بالتدبر من
جهات ،وخيتلف معه من جهات ُأ َخر.
وبذلك نصل إىل أن القرآن الكريم مادام يستخدم لفظة دون غريها فهذا دليل
عىل أن هلا معنى خيالف غريها ،وال يمكن أن تكون داللتها مطابقة لداللة غريها،
قد تتقارب معها يف بعض األحوال ،ولكنها ال تتطابق البتة ،وهذا ما يؤكد عليه
هذا البحث ،ويدعو ألن يكون القرآن قدوتنا يف اختيار التعبريات واألساليب التي
نستخدمها؛ ألن مناط االختالف بني األمم واألفراد هو عدم حتديد املصطلح ،وعدم
فهم اآلخر فهام جيدا ،فإذا أرسيت تلك القاعدة أوال ،وفهمنا املصطلح الذي يدور
حوله احلديث اقرتبت األفهام ،وتواصل الناس بوضوح ،وابتعدوا أو اقرتبوا عىل
هذا األساس.
***
ثان ًيا :العالقة بني االستنباط والتدبر:
تكشف لنا من خالل التحليل البالغي لتلك اآلية اآليت:
204
-1ورد االستنباط يف الذكر احلكيم بصيغة الفعل املضارع املتصل به واو اجلامعة
املرفوع بثبوت النون من األفعال اخلمسة ،وهو يف تلك اجلهة يتفق مع التدبر متاما،
فكالمها وردا عىل هذا املنوال (يستنبطون) ( ،يتدبرون) ولكن االستنباط من حيث
االشتقاق خيتلف عنه يف أمرين:
(اس َت ْن َب َط) ،واأللـف والسني والتاء فيه
األول :أنه مأخـوذ من املايض السدايس ْ
ُّ
تدل عىل الطلب واملشقة واملعاناة الفكرية ،أي :أن املستنبط يبذل جهده ،ويعمل عقله
ليصل ملراده كام حيصل املستنبط عىل املاء من قعر البئر بالصرب والتكلف ،واملعاناة
وبذل اجلهد ،أما التدبر فقد صيغ من املايض اخلاميس (تَدَ َّبر) الذي يدل عىل التدرج
والتتبع ،وبني الداللتني فرق واضح.
الثاين :لفظة االستنباط فريدة وحيدة يف القرآن مادة وصيغة بخالف التدبر فقد
تكرر أربع مرات عىل نحو ما بينا.
-2االستنباط يف هذه اآلية استعمل جمازا حيث انتقل من املعنى احليس ،وهو
استنباط املاء من البئر إىل داللة معنوية ،وهو استخراج األخبار اخلفية من معادهنا،
والوقوف عىل حقائقها عىل سبيل االستعارة الترصحيية التبعية أو املكنية كام بينا،
عكس التدبر فقد استخدم يف معناه احلقيقي األصيل.
-3واو اجلامعة يف الفعل (يستنبطون) خمتلف فيها عىل رأيني:
األول :تعود عىل الرسول × ،وأويل األمر (من األمراء والعلامء وكبار
الصحابة).
الثاين :تعود عىل املنافقني فهم املذيعون لألراجيف وهم املستنبطون كذلك،
والراجح األول كام بينا ،وعىل ذلك فهم املستنبطون لألخبار اخلفية والدقيقة يف أمر
205
احلرب والسلم ،وهم املنوط هبم إذاعتها من عدمها حسبام يرتاءى هلم.
واو اجلامعة يف الفعل (يتدبرون) تعود يف آيتي (النساء) و(حممد) عىل املنافقني،
ويف آية (املؤمنون) عىل الكافرين ،ويف آية (ص) عىل املؤمنني فاملدعوون للتدبر ثالث
طوائف :املنافقون ،والكافرون ،ومجيع املؤمنني ،وعىل ذلك فاملخاطبون بالتدبر أكثر
من املستنبطني؛ ألن التدبر مطلوب من كافـة الناس باختالف مشارهبـم ،بخالف
االستنباط؛ فإنه ال يكـون للكافة بل خيتص كام حكى القرآن بالرسول × ()،
وأويل األمر ( العلامء والوالة وأهل البصائر) فهـؤالء طوائف خاصة ،وليسوا عامـة
املؤمنني ،وهذا هو وجـه املفارقة بينهام من تلك اجلهة.
-4ا ُمل ْس َت ْن َب ُط ،أي :الواقع عليه االستنباط يف اآلية هو األخبار اخلفية الدقيقة من
األمن واخلوف ،أو من أمر ( احلرب والسلم ) فاالستنباط هنا -كام هو جيل -مل يتعلق
بآية من آيات القرآن مل يفهمها املنافقون فهام صحيحا بل هو متعلق بعدم الوقوف
عىل حقيقة األخبار التي يتناقلها بعض الناس بدون فهم أو روية ،ويفشوهنا ،وال
يعرفون حقائقها ،ولو ترك املنافقون هذا األمر ألهله الستنبطوه ،ووضعـوا األمور
يف نصاهبا ،وأدركوا حقائق األخبار املتناقلة ،وهل هي مما تذاع وتنرش أم ال؟
وا ُملت ََد َّبر ،أي :الواقع عليه التدبر هو القرآن بوجه عام السيام املقاصد األصلية
من آيات العقائد والرشائع التي ترشد الكافـرين إىل اإليامن باهلل ،وختلع املنافقني
عن النفاق ،وجتعلهم يقرون بصحة النبوة ،وأن القرآن من عند اهلل ،ومن ثم فاملس َت ْن َب ُط
() االستنباط حمصور يف الرسول × يف حال حياته ومعه أولو األمر ،وهو ممتدٌّ بعد وفاته ×
يف أويل األمر يف ِّ
كل املجتمعات اإلسالمية؛ ألهنم الذين يقفون عىل حقائق األمور ،ويعرفون ُكنه
األخبار التي قد تكون سب ًبا يف املفسدة.
206
أخص من ا ُمل َتدَ َّبر؛ ألنه واقع عىل األخبار اخلفية التي جيب أن يستخرجها أعلم الناس
َ
واملتد َّبر هو الذكر احلكيم بوجه عام. بحقائقها،
وهنا يلوح لنا أمران مهامن جدًّ ا:
األول :أن هناك عالقة وثيقة جدًّ ا بني املتدبرين واملستنبطني ،فاملستنبطون
يستخرجون ما خفي ودق من األخبار ويقفون عىل صحتها ،ويقررون هل هي
حرصا عىل األمن القومي للبالد باللغة
ً رسا؛
مما تنرش وتذاع عىل العامة أم تظل ًّ
املعارصة؟
واملتدبرون ال يتدبرون إال ما حيتاج يف إدراكه إىل تأمل وتفكر وإنعام نظر؛
ليستخرج خفيه ،ويوقف عىل حقيقته ،فالتدبر عىل ذلك ُيعدُّ أص ً
ال أصيال لالستنباط؛
ألن الذي يستنبط األمور اخلفية ،واملسائل الدقيقة ال بد أن يتدبر ويتأمل فيها أوال،
وعىل ذلك فالتدبر أعم ،واالستنباط أخص ألنه نتيجة من نتائج التدبر ،فالتدبر يؤدي
حتماً إىل االستنباط ،واالستنباط حيتاج إىل التفكر والتدبر ،وقديام قال اإلمام الشافعي
رمحه اهلل«« :استعينوا عىل الكالم بالصمت وعىل االستنباط بالفكرة»»().
ويزخر تراثنا العظيم بكثري من العلامء ،والفقهاء ،والقضاة ،وأصحاب البصائر
الستنباط كثري من املسائل اخلفية ،وإزاحة الركام عن القضايا الذين و َّف َق ُهم املوىل
الشائكة التي خفيت عىل غريهم ،وكانت سبب فتنة وبلبلة يف شتى صنوف العلوم
ونحوا ،وغري ذلك ،وما ذلك إال
ً وفقها وبالغ ًة
ً ريا وحدي ًثا
واملعارف عقيدة وتفس ً
بفضل ونتيجة التدبر والتفكر.
األمر الثاين :املس َت ْن َب ُط يف اآلية ،أي :الواقع عليه االستنباط هو ما خفي ودق من
207
أمر احلرب والسلم ،أو اخلوف واألمن كام دل السياق بوضوح ،ومن ثم فإن معنى
االستنباط الوارد يف تلك اآلية ال ينطبق بحال من األحوال عىل معنى االستنباط عند
األصوليني.
فاالستنباط يف قوهلـم« :استن َب َط ال َف ِقي ُه :إِذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده
وفه ِمه )(»...ليس عليه نص من اآلية ،وليس مستعمال يف القرآن هبذا املعنى الوارد
عندهم ،ونحن هنا ال نعرتض بطبيعة احلال عىل جواز القياس واالستنباط ،فهذا
من أصول الرشيعة التي ال ينبغي ألحد رفضها بحال من األحوال ،إنام اعرتاضنا
أن نسقط مصطلحات األصوليني ،وغريهم عىل معنى االستنباط يف اآلية ،وكأنه هو
نصا.
املعنى املراد منها ًّ
نعم جيوز أن نقول :إن مصطلح االستنباط عند األصوليني متكئ عىل املعنى
اللغوي ،ومبني عليه ،وهو يعد من قبيل االستعارة التبعية أو املكنية؛ من هذا املعنى
نصا ،وغاية ما هنالـك
اللغوي احلقيقـي السابق ،ولكنه ليس منصوصا عليه يف اآلية ًّ
أن هذا من مصطلحات األصوليني الفنية التي وضعوها داللة عىل املعنى املراد به
عندهم.
وعىل ذلك فإن ما استدل به اجلصاص يف قوله« :يف هذه اآلية داللة عىل وجوب
القول بالقياس ،واجتهاد الرأي يف أحكام احلوادث؛ وذلك ألنه أمر بر ِّد احلوادث
إىل الرسول يف حياته إذا كانوا بحرضته ،وإىل العلامء بعد وفاته والغيبة عن حرضته،
وهذا ال حمالة فيام ال نص فيه؛ ألن املنصوص عليه ال حيتاج إىل استنباطه ،فثبت بذلك
َّ
أن من أحكام اهلل ما هو منصوص عليه ،ومنها هو مودع يف النص قد كلفنا الوصول
208
إىل االستدالل عليه واستنباطه»() ال يصح؛ ألن اآلية ال تدل كام رأينا عىل االستنباط
هبذا املعنى احلـادث عند األصوليني ،لكنه مفهوم من فحوى الكالم ،ومستتبعات
الرتاكيب عىل أقىص تقدير ،ومن ثم فنحن نؤيد ما ذهب إليه الشيخ رشيد رضا حني
رفض هذا بشدة كام مر يف موضعه.
***
ثال ًثا :العالقة بني الفهم والتدبر:
تكشف لنا من خالل التحليل البالغي لآلية التي ورد فيها مصطلح التفهيم
اآليت:
-1ورد الفهم يف الذكر احلكيم بصيغة املايض املضعف العني « َف َّه َم» وآثرت
اآلية الكريمة هذا املايض الرباعي عىل املايض الثالثي ( َف ِه َم)؛ ألن الثالثي سيعكس
املطلوب حيث يوحي بأن القضية قد فهمها سليامن من تلقاء نفسه ،وهذا غري مراد؛
هو الذي َف َّه َم َها له بأي طريقة من طرق التفهيم التي بيناها هناك. ألن املوىل
عالوة عىل أن الفهم مصدر الثالثي ( َف ِه َم) إنام يكون بالفطرة ،فكل من كان
عاقال فهو يفهم ما حوله ويدركه عىل قدر علمه وعقله وسعة مداركه ،وهذه قضية
بدهية ال تعرض هلا تلك اآلية هنا.
كام آثرت اآلية الكريمة « َف َّه َم» عىل أفهم؛ للداللة عىل التكثري ،أي :أن سليامن
. كان أكثر ،وأعمق فهام لتلك القضية من أبيه داود
فضلاً عن سالسة وعذوبة وقوة هذه اللفظة عند النطق هبا مع الضامئر الواردة
() أحكام القرآن للجصاص ،183/3وانظر :البحر املحيط ،306/3ومفاتيح الغيب /9
،339-337وتفسريالقرطبي ،292/5وفتح البيان .330/2
209
معها بخالف أفهم كام أوضحنا هناك.
أما التدبر فقد ورد بصيغة املضارع من املايض اخلاميس «تَدَ َّب َر» ،وهبذا يتفقان يف
كون ٍّ
كل منهام وردا من املايض غري الثالثي ،ولكنهام خيتلفان يف ثالثة أمور:
األول :الفعل الرباعي « َف َّه َم» تعدي ملفعولني ،املفعول األول سليامن والثاين
سليامن القضي َة» ،و«تَدَ َّب َر» تعدى ملفعول واحد
َ القضية ،وتقدير الكالمَ « :ف َّه َم اهلل
هو :القرآن ،والقول ،وآيات الكتاب عىل اختالف املواضع.
الثاين :الفعل املايض الرباعي أفاد التكثري كام مىض ،بخالف «تَدَ َّب َر» الذي يدل
عىل التتبع والتدرج ،وليس عىل الكثرة.
الثالث :الفعل املايض الرباعي َّ
«فهم» فعل فريد وحيد يف القرآن الكريم مادة
وصيغة عكس التدبر فقد ورد يف مواطن عديدة كام ذكرنا.
-2ا ُمل َف ِّهم يف اآلية ،أي :الفاعل هو اهلل ،وقد ورد احلديث عنه بضمري
كان منة عظيمة من رب جليل العظمة «نا «داللة عىل أن هذا التفهيم لسليامن
عظيم ،والفاعل يف التدبر هم الطوائف الثالثة ،واحلديث عنهم ورد بواو اجلامعة
لكل طائفة ،وفـرق بني ا ُمل َف ِّه ُم وهو اهلل ،وا ُمل َتدَ ِّبرون وهم هذه الطوائف الثالثة
عىل اختالف مشارهبا .
-3ا ُمل َف َّه ُم ،أي :الواقع عليه التفهيم يف هذه اآلية متثل يف شيئني:
فهو الذي وقع عليه التفهيم؛ ألنه مفعول أول للفعل « َف َّهم»، األول :سليامن
والتفهيم بذلك وقع عىل االبن دون األب ،ويف هذا إشارة إىل أن هـذا التفهيم كان
،وأنه ال يرتبط بصغر ،أو كرب، عىل عبده سليامن منحة وهبة وامتنانا من املوىل
أو أفضلية ،وبالقياس فإن التفهيم من رب العاملني للقضايا الشائكة يقع كذلك عىل
210
عليهم بذلك. املؤمنني من عباده الصاحلني الذين يمتن املوىل
الثاين :القضية املتنازع عليها هي التي وقع عليها التفهيم؛ ألهنا مفعول ثان للفعل
« َف َّهم» ،فالتفهيم وقع عىل أمر دنيوي مما يتصل بالزرع واحلرث ،وهي قضية حياتية
متس حياة الناس ،ويالحظ أهنا كانت من األمور العويصة ،والقضايا الشائكة،
بحكم خالف احلكم الذي حكم واملسائل اخلفية الدقيقة حيث حكـم فيها داود
؛ ألن رب العاملني نسبه ،ولذا كان التفهيم هنا بإهلا ٍم لسليامن به سليامن
لنفسه بنون العظمة يف قولهَ « :ف َف َّه ْمن َ
َاها» ،وهبذا يعلم الفرق بني من فهمه اهلل يف تلك
صار أقدر عىل هلا ،فمن فهمه اهلل القضية بعينها ،ومن مل يقع عليه تفهيم اهلل
اإلتيان باحلكم الصائب بعينه كام مر.
أما التدبر فقد وقع عىل القرآن الكريم بام فيه من أمور دنيوية وأخروية وعىل ذلك
فالواقع عليه التدبر أشمل وأعم ،والواقع عليه الفهم أخص؛ ألن التدبر يقع عىل كل
املعاين املستكنة يف القرآن الكريم دنيوية وأخروية ،والتفهيم اختص بالقضايا الشائكة
واملسائل العويصة التي هي غاية يف اللطف واخلفاء.
وبينهام ً
أيضا مغايرة من جهة أخرى ،فالتدبر يف القرآن واقع عىل العبارات
واألساليب مقروءة ومسموعة ومكتوبة ،والتفهيم واقع عىل قضية دنيوية
حياتية.
وتبدو العالقة يف هذا القسم واضحة جدا بني التدبر والفهم؛ ألن مناط الفهم
العقل والعلم واملعرفة ،وهذه األمور من األساسيات التي جيب أن تتوافر يف املتدبر؛
فالفهم يكون نتيجة للتدبر ،وهل نتدبر شيئًا إال بعد فهمه ومعرفته ،والوقوف عىل
حقيقته اللغوية واملراد منه؟ فاملتدبر يف األمور جيب أن يتوافر فيه الفهم واملعرفة حتى
211
يصل ملا يريد من احلقائق.
وهكذا فقد استبان لنا من خالل الذكر احلكيم ذاته ال من كالم خارج عنه ما
بني هذين املصطلحني من فروق وصالت ،وهذا ما نؤكد عليه مرارا يف أن الذكر
احلكيم جيب أن يكون غايتنا ،ومنطلقنا يف الكشف عن الفروق والصالت الكائنة
يراع إبراز هذه
بني املصطلحات التي استعملها ال من كالم خارج عنه من أي عامل مل ِ
الفروق من واقع النظم والرتكيب والسياقات.
***
رابعا :العالقة بني التفسري والتدبر:
ً
من خالل التحليل البالغي آلية سورة (الفرقان) التي ورد فيها هذا املصطلح
بدت لنا فروق وعالئق بني هذين املصطلحني عىل النحو اآليت:
-1ورد (التفسري) يف الذكر احلكيم مصدرا من الفعل املايض الرباعي املضعف
العني «فسرَّ »().
بخالف التدبر ،فقـد ورد فعال مضارعا من الفعل املـايض اخلاميس «تد َّبر» فهو
خيتلف عنه من تلك اجلهة.
-2التفسري() لفظة فريدة وحيدة يف القرآن الكريم مادة وصيغة كاالستنباط
والتفهيم ،عكس التدبر فقد ورد يف مواطن عديدة كام ذكرنا.
() يتفق التأويل يف صياغته مع التفسري متا ًما ،فكل منهام ورد من املايض الرباعي املضعف العني
(التفسري) من «ف » ،و(التأويل) من َ
«أ َّول». سرَّ
مرة ،وهذا يؤكد عىل أن بينهام فرو ًقا
() التأويل عكس التفسري ،فقد ورد يف القرآن سبع عرشة َّ
فرقوا به ،مما ال جمال
مر بيانه ،-برصف النظر عن صحة ما َّ
يف املعنى ،أطال املفرسون بذكرها -كام َّ
لذكره هنا.
212
-3التفسري يف القرآن وقع متييزا ألحسن () ،وفائدة التمييز إزالة اإلهبام الكامن
يف اللفظ املميز ،والنص عىل املراد منه ،ومل يرد التدبر مطل ًقا عىل هذا الوضع اإلعرايب
مضارعا مسبو ًقا باالستفهام اإلنكاري ثالث مرات ،مرتني يف خطاب
ً بل جاء فعلاً
املنافقني ،ومرة يف خطاب الكافرين ،وهو يف هذه املواضع الثالثة جاء منف ًيا بأداة النفي
(ال) مع املنافقني مرتني ،وبأداة النفي واجلزم والقلب (مل) مع الكافرين مرة واحدة،
وجاء مسبو ًقا بالم التعليل مع املؤمنني مرة واحدة ،وبذلك خيتلف املوقع اإلعرايب
لكل منهام ،ومن ثم اختلف الغرض من التعبري هبام؛ ألن اإلعراب فرع املعنى ،ولذا
فقد أنكر عىل املنافقني والكافرين عدم التدبر ،وحثهم عليه ،وجعل العلة من نزوله
تدبر املؤمنني فيه .فالتدبر صار كأنه فرض الزب عىل هؤالء ،بخالف التفسري فليس
كذلك كام يشري إليه املوقع اإلعرايب.
-4التفسري استعمل يف تلك اآلية عىل حقيقته اللغوية () من الكشف والبيان
() يتفق التأويل مع التفسري يف جميئه عىل هذه احلالة اإلعرابية متييزً ا ألحسن يف موضعني يف
قوله تعاىل :ﱫﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ
ﰒﱪ [النساء.]59:
وقوله :ﱫﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﱪ [اإلرساء،]35:
وهذا من التقاء التأويل مع التفسري من تلك اجلهة.
() ي َّتفق التأويل يف آية آل عمران يف معناه اللغوي -وهو اإلرجاع وبيان العاقبة واملصري -مع
التفسري الذي استعمل ً
أيضا يف معناه احلقيقي ،ولكن من خالل التحليل البالغي اتَّضح لنا أن التأويل
خيتلف عن التفسري من جهة َّ
أن التأويل هو الكشف عن املتشاهبات التي حتتمل دالالت كثرية ،والتفسري
هو الكشف عن معنى اللفظ حقيقة أو ً
جمازا ،أو هو الكشف عن معنى اللفظ املحتمل معنًى واحدً ا.
والتأويل هو الوقوف عىل حقائق األمور وكيفياهتا ،وهذا ال يعلمه إال املوىل ،بخالف التفسري؛ فهو
الكشف عن يشء ًّ
مغطى يمكن اإلحاطة به ،وعلمه من خالل مقارنته بغريه ،كتفسري القرآن بالقرآن.
213
واإليضاح ،والتدبر استعمل كذلك يف حقيقته اللغوية ،فهام يتفقان من تلك اجلهة.
ومن يتأمل يف هذين التعريفني جيد بينهام تالزما واضحا؛ ألن التفسري هو البيان
والكشف عن املعنى ،والتدبر هو النظر يف أدبار اآليات القرآنية وعواقبها للوقوف عىل
معانيها املكنونة فيها ،فالتفسري عىل ذلك وسيلة ،والتدبر غاية كام أبانت عنه آية سورة
(ص) :ﱫ ﭲ ﭳ ﭴﭵﭶ ﭷ ﱪ فتدبره هو الغاية من نزوله كي يتمثل به
قوال ،وينتفع به سلوكا وعمال ،ولن يتأتى االنتفاع واالمتثال ،واالتعاظ واالعتبار ،وهي
من مقاصد التدبر إال بعد فهم معانيه ،فاملتدبر ال بد أن يفهم معاين األلفاظ ،وتتضح لديه
دالالهتا حتى يتدبر يف مكنوناهتا وما يعقبها ،وعىل ذلك فالتدبر يعد أصلاً للتفسري.
-5الذي جاء بأحسن التفسيـر -مقابل ما يأيت به الكفرة من زخرف القول وهبرجه-
:ﱫ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﱪ ،فضمري العظمة مصدا ًقا لقوله هو املوىل
() يف جئناك يدل عىل ذلك بوضوح ،فالذي يكشف أحسن الكشف ،ويبني عن الغرض
فأسنده إليه وحده ،ومل يسند لسواه ،ولذا كان القرآن معجزا؛ أعظم البيان هو اهلل
وإيضاحا ومعنى مما يأتون به ،أما الذي يأيت بالتدبر أو
ً ألنه أحسن نظام وبيا ًنا وتفصيلاً
الذي يتدبر فهم هؤالء الطوائف الثالثة كام بينا ،فبينهام اختالف من تلك اجلهة.
وهنا نتساءل :هل جيوز أن ُن َس ِّم َي آخرين هبذه التسمية؟ أو بمعنى آخر هل جيوز
أن نطلق عىل الذين يكشفون عن معاين القرآن مفسرِّ ين؟ نعم بالقياس عىل ذلك
214
موضحا لهُ ،مبينًا عنه ً
دامغا به الباطل، ً جيوز .رشيطة أن يكون املفرس كاش ًفا احلقَ ،
وما عدا ذلك ال ُي َس َّمى مفسرِّ ً ا ،وهذا األمر هو ما جرى عليه معظم املفرسين ،فام كان
تفسريهم للذكر احلكيم إال هلذا الغرض النبيل ،ومن هنا يفرتق التفسري عن التدبر
فالتدبر لعامة الناس ،والتفسري قارص عىل بعض الناس.
-6الواقع عليه التفسري يف اآلية هو القرآن الكريم؛ ألن املعنى إال جئناك يا حممد
باحلق ،وجئناك باألمثلة املفرسة أحسن تفسري وإيضاح وبيان ،وما ذاك إال القرآن،
والواقع عليه التدبر هو :القرآن مقرؤءا ومسموعا ومكتوبا كام مر فهام يلتقيان من
تلك اجلهة.
-7وبناء عىل ما سبق ذكره يكون لدينا مصطلحان ُم ْس َت ْن َب َط ِ
ان من التفسري:
. األول :ا ُمل َفسرِّ أي :الذي يأيت بأحسن التفسري هـو اهلل
الثاين :املفسرَّ أي :الواقع عليه التفسري هـو القرآن الكريم ،ويكـون لدينا كذلك
مصطلحان مستنبطان من التدبر:
األول :املتد ِّبرون هم الطوائف الثالثة.
الثاين :املتد َّبر هو القرآن الكريم مقرؤءا ومسموعا ومكتوبا.
وبعد؛ فقد تبني لنا من عرضنا للفروق ،والعالئق الكامنة بني هذه املصطلحات
التي عنونا هبا بحثنا هذا أن القرآن الكريم يعرب هبذه املصطلحات تعبريا غاية يف الدقة
واإلتقان ،وال يمكن أن حيل غريها حملها البتة ،وإن تقاربت معها من وجه أو وجوه؛
ألن كل لفظة يف القرآن الكريم بمنزلة شخص ذي صفات وسامت ،وطبائع متيزه عن
غريه ،وال يمكن لشخص آخر مهام تقارب مع األول يف سامته اجلسدية والعقلية أن
215
حيل حمله ،ويكون نفسه ،وهكذا ألفاظ الذكر احلكيم التي أنزهلا رب العاملني بميزان
دقيق ،وقسطاس مستقيم.
ولذا يسمي القرآن من يتأمل فيه سامعا وقراءة وكتابة متدبرا ،ومن يقف عىل
اً
متأول ،ومن يتعرف عىل حقائق األخبار ،ويميز بينها يكون متشابه القرآن يكون
ً
مستنبطا ،ومن ُع ِّل َم الصواب يف القضايا الشائكة يكون ُم َف َّه اًم ،ومن يكشف عن
املعاين أحسن كشف وبيان وتفصيل يكون ُم َفسرًِّ ا ،فكل معنى اقتىض لفظة ال يمكن
لغريها أن تسد مسدها ،وتؤدي مؤداها ،ولو غربلنا اللغة كلها لن نجد لفظة أخرى
تصلح أن توضع موضعها ،وحتل حملها.
وغني عن البيان -كام تبني لنا -أن التدبر أعم من هذه املصطلحات وأهنا كلها
داخلة حتت عباءته ،فيا لروعة هذا الذكر احلكيم الذي يعرب بألفاظ هي مناط إعجازه ،بام
ال يقدر اإلنس واجلن عىل أن يأتوا هبا ،وهذا يدعونا إىل وجوب أن يكون القرآن الكريم
هو منطلقنا وغايتنا يف الكشف عن الفروق والصالت الكامنة بني ألفاظه املختلفة.
كام يدعونا إىل عدم التسليم بالتعاريف التي وضعها بعض املفرسين ،وهي بعيدة
عن الداللة القرآنية املرادة منها.
وقد كشف لنا التحليل البالغي هنا عن املراد من تلك املصطلحات وعن الفروق
والعالئق الكامنة بينها بناء عىل ما قررناه وهو األوىل واألجدر باالتباع والقبول ،وهلل
احلمد واملنة.
،وإن تكن األخرى ،فحسبي أين فإن أكن قد وفقت فبفضل من املوىل
اجتهدت ،واهلل ال يضيع أجر من أحسن عملاً .
216
فهرست أهم املصادر واملراجع
217
الصنهاجي ،مجع وترتيب د /توفيق حممد شاهني وحممد الصالح رمضان ،ط،1
1416هـ ـ 1995م ،دار الكتب العلمية ،بريوت.
-تفسري أيب السعود املسمى «إرشاد العقل السليم إىل مزايا القرآن الكريم،
الطبعة الرابعة 1414هـ ـ 1994م ،دار إحياء الرتاث العريب ـ بريوت.
-تفسري البحر املحيط أليب حيان األندليس ـ الطبعة الثانية 1413هـ ـ 1992م
ـ دار الكتاب اإلسالمي ،القاهرة.
-التفسري البياين للقرآن د /عائشة عبد الرمحن ،دار املعارف ،ط السابعة.
-تفسري التحرير والتنوير ،لإلمام الشيخ حممد الطاهر ابن عاشور ـ دار سحنون
للنرش والتوزيع ـ تونس.
-تفسري اخلازن املسمى لباب التأويل يف معاين التنزيل ،وهبامشه تفسري البغوي
املعروف بمعامل التنزيل1399 ،هـ ـ 1979م ،دار الفكر.
-تفسري روح البيان للشيخ إسامعيل حقي الربوسوي ،دار إحياء الرتاث العريب،
ط 1405 ،7هـ ـ 1985م ،دار إحياء الرتاث العريب ،بريوت.
-تفسري سورة اإلخالص البن تيمية ،تقديم زهري شفيق ،الطبعة األوىل
1413هـ ـ 1993م ،دار الكتاب العريب ،بريوت.
-تفسري الشيخ الشعراوي ،مطابع دار أخبار اليوم ،القاهرة.
-تفسري الطربي املسمى «جامع البيان يف تأويل آي القرآن «أليب جعفر حممد بن
جرير الطربي ـ دار الغد العريب ،القاهرة.
-تفسري غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري ـ ضبطه وخرج أحاديثه الشيخ
زكريا عمريات ـ الطبعة األوىل 1416هـ1996-م ،دار الكتب العلمية ـ بريوت.
218
-تفسري القاسمي املسمى حماسن التأويل تأليف عالمة الشام حممد مجال الدين
القاسمي ،حتقيق /حممد فؤاد عبد الباقي ،الطبعة األوىل 1415هـ ـ 1994م ،دار
إحياء الرتاث العريب ،بريوت.
-تفسري القرآن العظيم لإلمام ابن كثري ،مكتبة الدعوة اإلسالمية1980 ،م.
-تفسري القرآن الكريم املسمى بالرساج املنري للخطيب الرشبيني ،الطبعة الثانية،
دار املعرفة للطباعة والنرش ،بريوت .
-التفسري القيم البن القيم مجعه /حممد أويس الندوي ،حققه /حممد حامد
الفقي ،دار الكتب العلمية ،بريوت.
-تفسري املنار للشيخ رشيد رضا ،اهليئة املرصية العامة للكتاب1973 ،م.
-التفسري الوسيط للقرآن الكريم ،اإلمام األكرب د /حممد سيد طنطاوي ،شيخ
األزهر ،هنضة مرص للطباعة والنرش ،الطبعة األوىل ،يناير .1997
-تلخيص البيان يف جمازات القرآن للرشيف الريض ،الطبعة األوىل 1406هـ ـ
1986م ،عامل الكتب ،بريوت.
-هتذيب اللغة لألزهري ،حتقيق نخبة من العلامء ،دار الكاتب العريب 1967م.
-تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان للشيخ عبد الرمحن بن نارص
السعدي ( ت1376هـ ) ـ تقديم /الشيخ عبد اهلل بن عبد العزيز ،والشيخ حممد
الصالح العثيمني ـ مؤسسة الرسالة ،ط1420 1هـ ـ 1999م.
-اجلامع ألحكام القرآن للقرطبي ،مطبعة دار الكتب املرصية1940 ،م.
-اجلواهر احلسان يف تفسري القرآن للثعالبي ،حتقيق /حممد الفاضيل ،الطبعة
األوىل1417 ،هـ ـ 1997م ،املكتبة العرصية ،بريوت.
219
-حاشية الشهاب عىل تفسري البيضاوي ،ضبطه الشيخ عبد الرازق املهدي،
الطبعة األوىل1417 ،هـ ـ 1997م ،دار الكتب العلمية ،بريوت.
-حاشية الصاوي عىل تفسري اجلاللني ،ضبطه /حممد عبد السالم شاهني،
الطبعة األوىل1415 ،هـ ـ 1995م ،دار الكتب العلمية ،بريوت.
-حاشية حميي الدين شيخ زاده عىل تفسري البيضاوي ـ ضبطه حممد عبد القادر
شاهني ،ط1419 ،1هـ ـ 1999م دار الكتب العلمية ،بريوت.
-دراسات جديدة يف إعجاز القرآن د /عبد العظيم املطعني ،الطبعة األوىل
1417هـ ـ 1996م ،مكتبة وهبة ،القاهرة.
-الدر املصون يف علوم الكتاب املكنون للسمني احللبي حتقيق د /أمحد حممد
اخلراط ـ دار القلم ـ دمشق ،ط األوىل 1414هـ ـ 1993م.
-دالئل اإلعجاز يف علم املعاين لإلمام عبد القاهر اجلرجاين ،قرأه وعلق عليه /
الشيخ حممود حممد شاكر1984 ،م ،مكتبة اخلانجي ،القاهرة .
-روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين لأللويس ـ حتقيق /طه عبد
الرؤوف سعد ،الطبعة األوىل ،دار الغد العريب ،القاهرة.
-زاد املسري يف علم التفسري البن اجلوزي (ت597هـ) ،خرج آياته أمحد شمس
الدين ،ط1414 ،1هـ ـ 1994م ،دار الكتب العلمية ،بريوت.
-صفوة التفاسري/حممد عيل الصابوين ،طبع عىل نفقة /السيد حسن عباس الرشبتيل.
-الصواعق املرسلة عىل اجلهمية واملعطلة البن قيم اجلوزية ،حتقيق د /عيل بن حممد
الدخيل اهلل ،الطبعة الثالثة 1418هـ ـ 1998م ،دار العاصمة للنرش والتوزيع ،الرياض.
-عمدة احلفاظ يف تفسري أرشف األلفاظ ،للسمني احللبي ـ حققه د /حممد
220
التونجي ـ الطبعة األوىل 1414هـ ـ 1993م ـ عامل الكتب ـ بريوت.
-فتح البيان يف مقاصد القرآن ،للعالمة املحقق صديق حسن خان ـ دار الفكـر
العريب ،القاهرة.
-فتح القدير اجلامع بني فني الرواية والدراية من علم التفسري للشوكاين ـ
حققه وخرج أحاديثه سيد إبراهيم ،الطبعة األوىل1413هـ ـ 1993م ـ دار احلديث،
القاهرة.
-فتح القدير اجلامع بني فني الرواية والدراية من علم التفسري للشوكاين ـ دار
الفكر ،بريوت 1403 ،هـ ـ 1983م.
-الفتوحات اإلهلية بتوضيح تفسري اجلاللني للدقائق اخلفية ،للعالمة اجلمـل ـ
طبع بمطبعة عيسى البايب احللبي ورشكاه.
-الفروق يف اللغة للعسكري ،دار اآلفاق اجلديدة ،الطبعة اخلامسة 1983م.
-يف ظالل القرآن للشيخ سيد قطب الطبعة السادسة 1398هـ ـ 1978م ،دار
الرشوق ،القاهرة.
-الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون األقاويل يف وجوه التأويل للزخمرشي،
رشكة مكتبة ومطبعة مصطفى البايب احللبي.
-الكليات ،معجم يف املصطلحات والفروق اللغوية ،أليب البقاء الكفوي
(1094هـ) حتقيق د /عدنان درويش ـ حممد املرصي ،الطبعة الثانية1413هـ ـ
1993م ـ مؤسسة الرسالة ،بريوت
-اللباب يف علوم الكتاب البن عادل الدمشقي احلنبيل (ت بعد 880هـ) ،حتقيق
وتعليق الشيخ /عادل أمحد عبد املقصود ،الشيخ عيل حممد معوض ،دار الكتب
221
العلمية ،بريوت ط1،1419هـ ـ 1998م.
-لسان العرب البن منظور ،دار صادر ،بريوت.
-جمموع فتاوى اإلمام ابن تيمية ،مجع وترتيب /عبد الرمحن بن حممد بن قاسم،
مكتبة املعارف ،الرباط ،املغرب.
-املحرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز البن عطية األندليس ،حتقيق املجلس
العلمي بتارودانت ـ 1397هـ ـ 1977م.
-املحرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز البن عطية األندليس ،حتقيق املجلس
العلمي بفاس ـ 1411هـ ـ 1991م.
-مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي ،حتقيق الشيخ مروان حممد الشعار،
الطبعة األوىل 1416هـ ـ 1996م ،دار النفائس ،بريوت.
-املصباح املنري للفيومي1990 ،م ،مكتبة لبنان ،بريوت.
-معجم مفردات ألفاظ القرآن للعالمة الراغب األصفهاين حتقيق /نديم
مرعشيل ،دار الفكر ،بريوت.
-املعجم املفهرس أللفاظ القرآن الكريم ـ وضعه حممد فؤاد عبد الباقي،
1407هـ ـ 1987م ،دار الفكر ـ بريوت.
-معجم املقاييس يف اللغة البن فارس ،حققه /شهاب الدين أبو عمرو ،ط،1
1415هـ ـ 1994م ،دار الفكر للطباعة والنرش ،بريوت.
-املعجم الوسيط ـ جممع اللغة العربية بالقاهرة ـ الطبعة الثالثة.
-معاين القرآن لألخفش األوسط ( ت215هـ) ،حققه /د فائز فارس ،الطبعة
األوىل 1400هـ ـ 1979م ،املطبعة العرصية الكويتية.
222
-معاين القرآن وإعرابه للزجاج ،حتقيق د /عبد اجلليل شلبي ،عامل الكتب،
بريوت ،الطبعة األوىل 1408هـ ـ 1988م.
-معاين القرآن للفراء ،الطبعة الثانية 1980م ،عامل الكتب ،بريوت.
-معاين القرآن للنحاس ،حتقيق الشيخ /حممد عيل الصابوين ،مركز إحياء
الرتاث ،مكة املكرمة.
-مغني اللبيب البن هشام حتقيق د /عبد اللطيف حممد اخلطيب ،ط2000 1م
املجلس الوطني للفنون وللثقافة واألدب ،الكويت.
-مفاتيح الغيب أو التفسري الكبري لإلمام فخر الدين الرازي ،النارش دار الغد
العريب ،القاهرة.
-مفتاح دار السعادة ومنشور والية العلم واإلرادة البن قيم اجلوزية ،النارش
مكتبة الرياض احلديثة ،الرياض.
-من األرسار البالغية يف الفرائد القرآنية للمؤلف ط1424 1هـ ـ 2003م.
-نظم الدرر يف تناسب اآليات والسور للبقاعي ـ خرج آياته وأحاديثه ،ووضع حواشيه
/عبد الرازق غالب املهدي ط1415 1هـ ـ 1995م ـ دار الكتب العلمية ،بريوت.
-النكت والعيون «تفسري املاوردي «راجعه وعلق عليه /السيد بن عبد املقصود
بن عبد الرحيم ،دار الكتب العلمية ،بريوت لبنان.
-النهاية يف غريب احلديث واألثر البن األثري حتقيق د /حممود حممد الطناحي ـ
طاهر أمحد الزاوي ،الطبعة األوىل 1383هـ ـ 1963م ،املكتبة اإلسالمية لصاحبها
احلاج رياض الشيخ.
223
فهرست املوضوعات
5 املقدمة
13 املبحث األول :األرسار البالغية يف آيات التدبر.
13 اً
أول :األرسار البالغية يف آية سورة النساء.
31 ثان ًيا :األرسار البالغية يف آية سورة حممد.
40 ثال ًثا :األرسار البالغية يف آية سورة املؤمنون.
52 رابعا :األرسار البالغية يف آية سورة ( ص )
ً
69 املبحث الثاين :األرسار البالغية يف آية التأويل يف سورة آل عمران
115 املبحث الثالث :األرسار البالغية يف آية االستنباط يف سورة النساء
147 املبحث الرابع :األرسار البالغية يف آية الفهم يف سورة األنبياء.
171 املبحث اخلامس :األرسار البالغية يف آية التفسري يف سورة الفرقان
املبحث السادس :أثر التحليل البالغي يف استكشاف الفروق والعالئق
189 بني تلك املصطلحات
217 فهرست أهم املصادر واملراجع
224 فهرست املوضوعات
224