You are on page 1of 32

www.mominoun.

com
‫بحث محكم‬
‫قسم الفلسفة والعلوم اإلنسانية‬
‫‪ 11‬يناير ‪2024‬‬

‫جميع الحقوق محفوظة © ‪2024‬‬


‫مفهوم الباثولوجيا االجتامعية‪:‬‬
‫مدخل إىل الفلسفة االجتامعية‬
‫‪4‬‬

‫ملخص‬

‫يرمي هذا البحث إىل ترشيح مفهوم الباثولوجيا االجتامعية كمفهوم جوهري‪ ،‬حظي بوظيفة نقدية‬
‫وتحليلية يف الفلسفة االجتامعية‪ ،‬كام برزت سامتها وموضوعاتها مع مدرسة فرانكفورت‪ .‬فضال عن إبراز جملة‬
‫من الدالالت التي تضمنها مفهوم الباثولوجيا االجتامعية باختالف النظريات النقدية؛ وذلك وف ًقا ملعايري الحياة‬
‫االجتامعية الجيدة التي يصوغها كل فيلسوف اجتامعي بحسب مفهومه للعقالنية الفعالة اجتامع ًيا‪ ،‬مع‬
‫الرتكيز بصورة أكرب عىل تصور أكسيل هونيث‪.‬‬

‫تحاول هذه الدراسة بداي ًة التعريف بالفلسفة االجتامعية‪ ،‬من خالل مفهوم الباثولوجيا االجتامعية نفسه‪،‬‬
‫بوصفها إيتيقا التطور االجتامعي‪ :‬إيتيقا تنطلق من تصور نقدي تحلييل لألنطولوجيا االجتامعية‪ ،‬يروم النظر يف‬
‫مختلف النظم واملثل املؤثرة يف عملية تشكيل الكينونة وتفاعالتها البيعالئقية يف العامل االجتامعي‪ .‬عىل أن أي‬
‫انحراف عن املثل العقالنية واملعايري اإليتيقية املعنية‪ ،‬يقود املجتمع كله إىل حالة من االضطراب واالختالل‪ ،‬وهذه‬
‫الحالة هي ما يطلق عليها اسم باثولوجية اجتامعية؛ نظ ًرا للتعطيل الذي تحدثه عىل صعيد عمليات االنعتاق‬
‫والتحرر ضد موانع الوعي بالذات الفردية وبرشوط تحقيقها‪ ،‬ومن ثم عىل كل تطور اجتامعي يعيق تحقيق‬
‫االعرتاف البينذايت مبا هو عدل اجتامعي يقاس عن طريقه مستوى العقالنية املمكنة يف املجتمع الواحد‪.‬‬
‫‪5‬‬

‫مقدمة‬

‫لعل ما تتميز به النظرية االجتامعية النقدية ملدرسة فرانكفورت وما عرفت به يف األوساط الفكرية‬
‫أساسا بنقد الحداثة الغربية وتفكيك أسسها الفلسفية والفكرية‪ ،‬كام لو كانت رؤية املدرسة‬
‫والثقافية‪ ،‬يتعلق ً‬
‫وروادها سجينة تصور ُأيديولوجي واحد أو فكرة ثابتة‪ ،‬لكن نطاق موضوعها يف الحقيقة رحب رحابة‬
‫األنطولوجيا االجتامعية؛ يشمل كل ما يشكل موضو ًعا للنقد االجتامعي‪ .‬وعىل الرغم من اعتقاد البعض‪ ،‬من‬
‫أهل االختصاص بالحقل الفلسفي عمو ًما‪ ،‬بأفكار تنطوي عىل اداعاءات من قبيل «مدرسة فرانكفورت قد ولت‬
‫واضمحلت»‪ ،‬فإنه ال ينبغي بحالٍ الحط من قيمة «االجتامعي» ‪ The social‬عىل هذا النحو‪ ،‬كام اعتادت‬
‫الفلسفة السياسية واألخالقية؛ ألن السؤال الفلسفي هو يف نهاية املطاف سؤال اجتامعي‪ .‬وما دامت استمرارية‬
‫النوع البرشي تنتعش يف سياقات اجتامعية مختلة‪ ،‬تظل رضورة النقد االجتامعي بخاصة تستمد فعاليتها‪،‬‬
‫وترتكن دعامئها اإلبستيمولوجية والفلسفية يف هذا املجال إىل النظرية النقدية نفسها ملدرسة فرانكفورت‪ ،‬ال‬
‫سيام عندما يتعلق األمر بسياقات اجتامعية رأساملية؛ فثمة تدهور كسح صحة النسق االجتامعي بالكامل‪،‬‬
‫ما أجج النقد بصورة واضحة يف جل تصورات املدرسة يف شخص روادها‪ ،‬عن طريق تناولهم مهمة تشخيص‬
‫الباثولوجيات االجتامعية ‪ Social Pathologies‬من علة النظام االقتصادي الرأساميل‪ ،‬من مثل‪ :‬إنسان البعد‬
‫الواحد‪ ،‬والتشيؤ‪ ،‬واالستالب‪ ،‬واالغرتاب‪ ،‬والتفكك‪ ...‬ثم العقل األدايت الذي عرف عىل إثره اإلدراك اإلنساين‬
‫تشوها آل إىل فساد العقل البرشي وانحرافه نحو الالعقل‪ ،‬حيث اجتاح التسلط التقنوي املجتمعات الصناعية‬
‫الحديثة برمتها‪.‬‬

‫يكاد مفهوم الباثولوجيا االجتامعية هنا أن يكون عالمة فارقة ومفهو ًما نقد ًّيا وجوهر ًّيا ضمن هذا التقليد‪،‬‬
‫باعتباره أكرث ما مييز الفلسفة االجتامعية النقدية‪ ،‬كام نعرفها عمو ًما مع مدرسة فرانكورت‪ ،‬عن مختلف‬
‫املقاربات السائدة يف الفكر الفلسفي‪ .‬من هذا املنطلق تحديدا‪ ،‬أتت فكرة البحث يف مفهوم الباثولوجيا‬
‫االجتامعية‪ .‬فام مفهوم الباثولوجيا االجتامعية وما وظيفته وفروعه بالنظر إىل سامته ودالالته وكذا عالقته‬
‫بالفلسفة االجتامعية بعامة‪ ،‬وفلسفة أكسيل هونيث ‪ Axel Honneth 1949‬عن االعرتاف بخاصة؟ عىل‬
‫فضل عن رضورتها الراهنية يف السياق العريب‪ ،‬يستقي وظيفته النقدية‬ ‫أن توظيفه يف الفلسفة االجتامعية‪ً ،‬‬
‫ومرشوعيته الفلسفية من املدرسة عينها‪.‬‬

‫وابتغاء تحقيق هذا املسعى‪ ،‬عملت عىل تقسيم هذا البحث إىل ثالث خطوات منهجية؛ أما األوىل‬
‫فأحددها يف عنوان الفلسفة االجتامعية ومفهوم الباثولوجيا االجتامعية‪ ،‬والثانية أقف فيها عند مفهوم‬
‫الباثولوجيا االجتامعية‪ :‬تعريفه وتحديد خصائصه النقدية ودواعي استعامله وتعيني حدوده الوظيفية‪ ،‬ألخلص‬
‫يف العنرص الثالث واألخري ً‬
‫عوضا عن خامتة‪ ،‬إىل بيان وجه العالقة بني مفهوم الباثولوجيا االجتامعية ونظرية‬
‫االعرتاف عند هونيث‪.‬‬
‫‪6‬‬

‫أوال‪ :‬الفلسفة االجتامعية ومفهوم الباثولوجيا االجتامعية‬

‫يستدعينا الحديث عن مفهوم الباثولوجيا االجتامعية‪ ،‬للوقوف عند أبرز محطاته التاريخية التي عكست‬
‫أهم تطوراته كمفهوم مركزي وأسايس يف الفلسفة االجتامعية بشكل مخصوص؛ إذ شهد تطو ًرا ديناميك ًيا ً‬
‫فعال‪.‬‬
‫فثمة خصائص متيز هذه األخرية عن الفلسفة السياسية واألخالقية‪ ،‬بكونها تنتهج معايري للتفكري والتأمل يف‬
‫الحياة االجتامعية سع ًيا لبلورة أهم رشوط الوعي بالذات وبكيفية تحقيقها يف ظل ظروف جيدة ومالمئة‬
‫لذات الغاية؛ ذلك أن الفلسفة االجتامعية ُتعنى بنقد التطورات االجتامعية املضطربة واملعيقة لسريورة‬
‫التطور االجتامعي‪ .‬واملالحظ أن اهتاممها بالنقد االجتامعي يف عالقته بتداعيات سوء األنظمة السياسية مع‬
‫االقتصادية‪ ،‬أدى بها إىل العمل عىل صياغة مبادئ للتقييم األخالقي تخص املؤسسات االجتامعية والسياسية‬
‫‪1‬‬
‫م ًعا لتقييم مدى نجاعة وصالحية كال النظامني‪ :‬االجتامعي والسيايس‪.‬‬

‫منحرصا كام هو شأن الفلسفة السياسية يف رصد معامل الالعدالة‬


‫ً‬ ‫ال يبدو النقد االجتامعي والحالة هذه‪،‬‬
‫االجتامعية وعالقتها بالنظام السيايس القائم‪ ،‬عرب مبادئ نظرية معيارية تختلف اختال ًفا جوهر ًيا عن العلوم‬
‫االجتامعية التجريبية ‪ -‬وإن كان هذا يعكس التزا ًما بـ«النظرية املثالية» التي مبوجبها تكون إحدى ّ‬
‫املهمت‬
‫الرئيسة للفلسفة السياسية هي صياغة مبادئ مجتمع دميقراطي عادل‪ ،‬يف ضوء تقيص مفاهيم السلطة‬
‫السياسية وحدودها‪ ،-‬بل عىل العكس‪ ،‬إن األسس اإلبستيمولوجية والفلسفية للنقد االجتامعي بهذا الشأن‪،‬‬
‫ال تقترص عىل املقاربات النظرية‪ ،‬وإمنا تستند عىل العلوم االجتامعية ونتائجها‪ ،‬خاصة إذا تعلق األمر بتطبيق‬
‫مبادئ العدالة وفهم العمليات والتحوالت املجتمعية التي ينجم عنها‪ ،‬إما تطو ٌر اجتامعي إيجايب أو تشوه عىل‬
‫مستوى «العقل االجتامعي» ‪Social mind2‬؛ ُتجسد حاالت يتوىل النقد املعني تشخيصها كتطورات وهمية‬
‫غري حقيقية‪ ،‬تخل بطبعها وتنتهك سواء بسواء أسس العدالة ومبادئ الحياة االجتامعية السوية‪ ،‬مبا أنه نقد‬
‫معياري يتضمن البحث عن معايري التطور املثايل الذي يكفل تحقيق االحتياجات االجتامعية األساسية‪.‬‬
‫وعىل الرغم من أننا قد نفكر ً‬
‫مثل يف القضايا املتعلقة بالدور املالئم للحكومات عىل أنها مسألة سياسية‪،‬‬
‫وقضايا تربية األطفال يف كونها قضية اجتامعية‪ ،‬فإن نهج سياسة الدولة أو الفشل يف صنع السياسة املالمئة‬

‫‪1 Robert Simon, The blackwell guide to social and political philosophy, first edition (USA: Blackwell publishers,‬‬
‫‪2002), p. 12‬‬
‫‪ 2‬والعقل االجتماعي كما يعرفه «نيقوال حداد» في كتابه‪ :‬فلسفة الوجود هو اشتراك الجمهور في عقيدة دينية أو رأي سياسي أو في زي واحد أو تقليد‬
‫واحد‪ ،‬حيث يسددون جميعًا أفعالهم إليه‪ ،‬وهذا يستلز ُم أنْ تكون عَ قيدتهم الفردية قد صيغت في قالب واحد تقريبًا‪ ،‬كأنَّهم يفتكرون فكرً ا واحدًا‪ ،‬ويشتهون‬
‫غاية واحدة‪ ،‬ويتعاونون في الحصول عليها‪ ،‬لذلك ترى أنه إذا صدرت فكرة من مركز واحد رئيسي كحكومة أو سلطة دينية أو جمعية أو حزب‪ ،‬أو شبه‬
‫رئيس كزعيم أو عالم أو ذي فن أو مُخترع أو نابغة مُبتكر؛ إذا صدرت من أي مركز كهذه المراكز حركة نظام أو رأي أو بدعة أو فن جديد؛ انتشرت‬
‫حركة هذه الموجة على جميع العقول الفردية‪ ،‬وهزَّ تها كلها هزَّ ة واحدة‪ ،‬وطبعت فيها الفكرة نسخً ا مُتعددة كما تطبع عبارتها على الورق‪ ،‬فكأن الفكرة‬
‫فكرة عقل جماعة‪ ،‬يُستفاد مما تقدَّم أن العقل االجتماعي هو مجموعة عقول فردية مصوغة صياغة واحدة في بيئ ٍة واحدة‪ ،‬تتحرك معًا في اتجاه واحد كما‬
‫تتحرَّ ك ماليين ذرَّ ات المادة معًا في جرم واحد حول مركز واحد بسرعة واحدة؛ الرتباط جاذبي فيما بينها وبين المركز؛ فالفكرة أو الرأي االجتماعي هو‬
‫المركز الذي تحوم من حوله عقول الجماعة بقوة جاذبية ذلك الرأي لها‪ ،‬وانتشار الفكرة الصادرة من مركز عبقرية أو زعامة إلى األفراد هو كانتشار‬
‫الموجة في الج ِّو الجاذبي إلى جميع الجهات‪ ،‬بحيث يصدم كل عقل يصيبه فيحرك ُه ليدور حول الفكرة نفسها‪ .‬يُنظر‪:‬‬
‫نقوال حداد‪ ،‬فلسفة الوجود (المملكة المتحدة‪ :‬مؤسسة هنداوي‪ ،)2014 ،‬صص ‪80-79‬‬
‫‪7‬‬

‫للقضية‪ ،‬ميكن أن يكون له آثار وخيمة عىل طبيعة ونوعية الرتبية املنتجة‪ .‬فقد تكاد العالقة تكون مبارشة بني‬
‫هاذين املجالني الفلسفيني‪.‬‬

‫صحيح أن كليهام يسرتشد بـنفس املثل العليا إلرساء دعائم التوافق االجتامعي والتضامن‪ ،‬لكن األوىل‬
‫فضل عن استعامل‬‫تحاول الوصول إىل الهدف املنشود بفضل مجهودات الدولة‪ ،‬وعن طريق االمتثال لقوانينها ً‬
‫سلطتها كآلية للحفاظ عىل النظام االجتامعي؛ وأما الثانية فعملها منوط بنقد البنيات العميقة لهذا النظام‬
‫وبوضع قواعد أخالقية ومثل اجتامعية‪ ،‬مختلفة عن معايري الفلسفة السياسية وفلسفة األخالق‪ ،‬تروم حل مآزم‬
‫النظام االجتامعي نفسه وتحقيق االنعتاق‪ .‬كأنها بالتعريف تعكس إيتيقا التطور االجتامعي؛ لطاملا أي انحراف‬
‫عن هذه املثل واملعايري اإليتيقية تلك‪ ،‬يقود املجتمع كله إىل حالة من االنحطاط واالضطراب‪.‬‬

‫فليست الفلسفة االجتامعية من جهة التقليد الفلسفي الفرنيس واألنكلوساكسوين إال فر ًعا مساعدًا‬
‫للفلسفة السياسية‪ ،‬عىل خالف املنزلة املركزية التي تعرفها يف التقليد األملاين‪3‬؛ يف اعتبار تحليالتها تكتيس‬
‫طاب ًعا معيار ًيا ملوضوعات تهتم بكيفية تنظيم املجتمع‪ ،‬لكن رسعان ما تجنح نقاشاتها إىل مقاربات تحليلية‬
‫ونقدية‪ .‬يعني «النقاش غري املعياري لنوع الكينونة التي تنشأ حني يجري تشكيل املجتمع وكيفية تعلق هذه‬
‫الكينونة مبجموع أفراده أو باملجتمع مبا هو كلية‪ .‬كأن املبحث الفلسفي االجتامعي من ناحية أخرى ميثل‬
‫نو ًعا من األنطولوجيا االجتامعية‪ ،‬باعتباره تصو ًرا فيام يوجد يف العامل االجتامعي»‪ .4‬وإذا ما شئنا وضع تعريف‬
‫للفلسفة االجتامعية بصيغة أخرى أكرث دقة وشمولية‪ ،‬نقول‪ :‬إنها إيتيقا التطور االجتامعي‪ ،‬إيتيقا تنطلق من‬
‫تصور نقدي تحلييل لألنطولوجيا االجتامعية‪ ،‬يهدف إىل النظر يف مختلف النظم واملثل املؤثرة يف عملية تشكيل‬
‫الكينونة وتفاعالتها البيعالئقية ‪ Interrelationship‬يف العامل االجتامعي‪.‬‬

‫ومبا أن مفهوم الباثولوجيا االجتامعية يعرف انتشا ًرا يف النظريات االجتامعية النقدية‪ ،‬يف الوقت الذي‬
‫يغيب فيه متا ًما عن نطاق الفلسفة السياسية‪ ،‬فإن ذلك يحيل عىل وجود فاصل عميق يفصل التنظري املعياري‬
‫للفلسفة السياسية عن الدراسات االجتامعية التجريبية‪ ،‬مام يحد من قدرة الفالسفة السياسيني عىل االنخراط‬
‫الواسع يف الخطاب االجتامعي والسيايس الحقيقي‪ .‬وإن دل هذا عىل يشء‪ ،‬فإمنا يدل عىل أن الفلسفة‬
‫االجتامعية النقدية تعتمد عىل إطار معياري أوسع من إطار العدالة يف الفلسفة السياسية الليربالية؛ إذ يجري‬
‫اقتباس املفردات املعيارية اإليتيقية للرصاعات االجتامعية من الخطابات االجتامعية‪ ،‬ليس بشكل غري نقدي‪،‬‬
‫ولكن بطريقة ال تحتاج إىل قطع العبور واالنفصال متا ًما عن املقاربات االجتامعية والسياسية األوسع‪ .‬اليشء‬
‫الذي يجعلنا نخلص إىل فكرة ارتباط الباثولوجيا االجتامعية بالتنظري االجتامعي والبحث التجريبي خاصة علم‬
‫االجتامع وعلم النفس االجتامعي‪ ،‬نظ ًرا لألهمية التي يكتسيها النهج متعدد التخصصات ملدرسة فرانكفورت‪،‬‬
‫مبا أنه ليس عرض ًيا أبدًا للمرشوع النظري كام قد يبدو للبعض‪ ،‬ولكنه جوهري وحاسم‪.‬‬
‫‪ 3‬زواوي بغورة‪« ،‬الفلسفة االجتماعية بحث في مفهومها ونظريتها»‪ ،‬تبين‪ ،‬مج ‪ ،8‬العدد ‪ ،)2019( ،30‬ص ص ‪60 -59‬‬
‫‪ 4‬تد هوندرتش‪ ،‬دليل أكسفورد للفلسفة‪ ،‬نجيب الحصادي (مترجم)‪ ،‬ج ‪( 1‬ليبيا‪ :‬المكتب الوطني للبحث والتطوير‪ ،)2003 ،‬ص ‪240‬‬
‫‪8‬‬

‫قد تربز أهمية الفلسفة االجتامعية يف إعاملها النظر بعناية يف بنية ووظائف النظم االجتامعية املحركة‬
‫لألفراد‪ ،‬وتعيني امتداداتها الفلسفية؛ أي إنها تحاول مبعنى ما‪ ،‬معرفة النظم األساسية التي تعمل يف املجتمع‬
‫وتؤثر يف التفاعالت االجتامعية‪ ،‬مام يجيز اكتشاف معنى الوضع الفعيل للوجود االجتامعي وتفسري املجتمع‬
‫بالرجوع إىل الوحدة االجتامعية األساسية املشرتكة بني البرش‪ ،‬والتي تتوسط التفاعالت والعالقات البينية ضمن‬
‫الجامعات‪ .‬فاالهتامم متمركز «عىل تقييم الظواهر االجتامعية‪ ،‬وما تشمله من عادات وتنظيامت ومؤسسات‬
‫وسياسات‪ ،‬املتعلقة أساسا باالجتامع البرشي أو العيش املشرتك»‪.5‬‬

‫وكان هذا‪ ،‬من ضمن خاصيات أخرى الحقة‪ ،‬ما يقر برضورة التعامل مع الفلسفة االجتامعية كنهج‬
‫فلسفي ونظري اجتامعي قائم بذاته‪ ،‬ال ينبغي اختزاله يف أحد منظوري الفلسفة األخالقية أو السياسية‪.‬‬

‫فمن الواضح أن مبحثنا هذا‪ ،‬وكام سيتضح ثان ًيا أثناء املنت التحلييل املقبل‪ ،‬تروم مهامته ومجمل موضوعاته‬
‫تشخيص التطورات االجتامعية الزائفة ونقدها وف ًقا ملعايري الحياة االجتامعية الجيدة أو الخرية‪ ،‬التي تختلف ً‬
‫حتم‬
‫باختالف النظريات النقدية يف هذا املجال‪ ،‬كام أن نطاقها يتسع ليشمل كل ما له أساس إنساين برشي واجتامعي‪.‬‬

‫وهو ما يجعل الغاية الرئيسة من النقد بهذا الصدد‪ ،‬عىل سبيل ما خلص إليه ماكس هوركهامير ‪Max‬‬
‫أساسا يف الحؤول دون خسارة البرشية ذاتها‪ ،‬يف خضم األفكار والنشاطات‬
‫‪ )1895-1973( Horkheimer‬تتحدد ً‬
‫التي تغرسها املؤسسات االجتامعية القامئة يف أعضائها؛ إذ عىل اإلنسان أن يكون قاد ًرا عىل رؤية العالقة بني‬
‫نشاطاته وما يتم تحقيقه تال ًيا‪ ،‬وبني وجوده الخاص والحياة العامة للمجتمع‪ ،‬وبني مخططاته اليومية واألفكار‬
‫العظيمة التي يعتنقها‪ .‬فثمة فجوة بني األفكار التي يحاكم اإلنسان نفسه عىل أساسها‪ ،‬والعامل من جهة‪،‬‬
‫والواقع االجتامعي الذي يقوم اإلنسان مبعاودة إنتاجه من خالل نشاطاته من جهة أخرى‪ .‬وبهذا‪ ،‬تغدو‬
‫تصوراته وأحكامه كلها متناقضة ومفتعلة‪ .‬فاملراد بالنقد إ ًذا يف هذا البحث‪ ،‬هو ذلك الجهد الفكري والعميل‬
‫الذي ال يرىض‪ ،‬يف نهاية املطاف‪ ،‬بقبول األفكار واملامرسات والرشوط االجتامعية السائدة دومنا تفكري‪ ،‬ومبحض‬
‫العادة‪ ،‬وتلك املامرسات التي تهدف إىل تنسيق الجوانب الفردية للحياة االجتامعية بعضها مع بعض‪ ،‬إضافة‬
‫إىل األهداف واألفكار العامة للعرص الراهن‪ ،‬لالستدالل عليها‪ ،‬بغرض متييز املظهر من الجوهر‪ ،‬يف أفق فحص‬
‫‪6‬‬
‫مبادئ األشياء وأسسها ملعرفتها عىل نحو جيد‪.‬‬

‫تلك إذن‪ ،‬مهمة تتجاوز نطاق حدود الفلسفة السياسية واألخالقية؛ ألن املوضوع يخص بنية املجتمع‬
‫بالتحديد وعمليات تطوره املزعومة‪ .‬يتعلق األمر بالتفكري يف التحوالت واملامرسات االجتامعية التي تنفلت من‬
‫قبضة الفلسفة السياسية املعارصة‪ ،‬والتي ال ترجع بشكل مبارش إىل أنظمة الحكم ومناذج الدميقراطية السائدة‪.‬‬

‫‪5 Roberto Frega, «Jonh Dewey’s Social Philosophy,» European Journal of Pragmatism and American Philos-‬‬
‫‪ophy, vol 7, no 2 (2015). p. 5‬‬
‫‪ 6‬ماكس هوركهايمر‪« ،‬الوظيفة االجتماعية للفلسفة»‪ ،‬ترجمة عمر المغربي‪ ،‬تبين‪ ،‬مج ‪ ،8‬العدد ‪ ،)2020( 31‬ص ‪111-110-107‬‬
‫‪9‬‬

‫وعىل الرغم من أن الفلسفة السياسية تهتم بالنظم السياسية التي تبتغي تحقيق العدالة‪ .‬فإن املوضوع هنا‬
‫أساسا بالتفكري يف «الالنظام» أو «الفوىض» ‪ Disorder‬من قبيل االختالالت‬
‫ال يسري عىل غرارها‪ ،‬وإمنا يرتبط ً‬
‫‪7‬‬
‫واالضطرابات املرضة يف ذات الوقت بإمكانية عيش حياة اجتامعية ناجحة بالنسبة ألفراد املجتمع‪.‬‬

‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬ال ميكن التعامل مع مسائل العدالة بشكل صحيح إال إذا كانت تتجاوز نطاق املقاربات‬
‫املعيارية عن املبادئ األخالقية والقانونية‪ ،‬لألخذ يف الحسبان الظروف االجتامعية التي تجعل عملية تحقيقها‬
‫ممكنًة‪ .‬وهكذا تكون أفضل طريقة للتعامل مع موضوع العدالة‪ ،‬دراسة الظروف االجتامعية التي نتجت عنها‬
‫بالرضورة تلك الظروف االجتامعية الحقيقية التي حالت وتحول عىل نحو ّ‬
‫مطرد دون تحقيقها‪ .‬ولَعل هذا‬
‫التأرجح والتداخل البارزين بني األخالقي والقانوين ثم االجتامعي‪ ،‬هام أهم إلهام استمده أكسيل هونيث من‬
‫‪8‬‬
‫هيغل يف مقارباته الفلسفية االجتامعية‪.‬‬

‫هكذا يرمي بنا املوضوع يف خضم هذا املضامر‪ ،‬إىل الفيلسوف االجتامعي األملاين صاحب نظرية االعرتاف‪:‬‬
‫أكسيل هونيث‪ ،‬الذي أعاد صياغة األطروحات األساسية ملدرسة فرانكفورت النقدية‪ ،‬يف ضوء الباعث األخالقي‬
‫واملعياري وفق تقليد فكري يلزم نفسه مبهمة تشخيص الباثولوجيات االجتامعية‪ ،‬التي من شأنها أن تعبث‬
‫بصحة املجتمع وتسقطه يف مرض عضال تتمخض عنه معاناة وآالم اجتامعية عديدة‪.‬‬

‫ويف هذا السياق يقول هونيث يف حديثه عن املربر التأسييس لتقليد الفلسفة االجتامعية‪« :‬عىل عكس‬
‫الفلسفة السياسية‪ ،‬مل تعد الفلسفة االجتامعية تحاول تحديد رشوط نظام اجتامعي صحيح أو عادل‪ ،‬ولكنها‬
‫تسعى إىل تعيني الرشوط التي يفرضها شكل الحياة الجديد عىل تحقيق اإلنسان لذاته»‪ .9‬يف هذه الحالة تتخذ‬
‫إحدى صور العدالة شكل عامل مساعد يسهم يف تهيئة رشوط وظروف تحقيق الذات‪ ،‬ما دامت الفلسفة‬
‫االجتامعية الحديثة «متيل لرد عمل الدولة إىل مامرسة السلطة األدواتية‪ .‬من ثم‪ ،‬فإن ما حاوله هيغل ويف جزء‬
‫كبري منه‪ ،‬هو إظهار ردة فعله تجاه هذه النزعة الخاصة بالفلسفة السياسية»‪ .10‬ويف نفس منحى ما تقدم به‬
‫هونيث‪ ،‬تذهب صوالنج شافال ‪ solange chayel‬إىل «أن الفلسفة االجتامعية تختلف عن الفلسفة السياسية‬
‫واألخالقية يف طبيعتها الهجينة ‪ hybrid‬فهي ليست تفك ًريا مجردًا يف البنى األنطولوجية للمجتمع ومعايريها‪،‬‬
‫ولكنها تفكري تجريبي (إمربيقي) يف األحوال امللموسة التي يحيا فيها األفراد‪ ،‬وتؤدي بهم إما إىل حياة كرمية‬
‫أو تحرمهم من ذلك‪ .‬وهذا يعني أن الفلسفة السياسية ال تعطي أهمية للموضوعات االجتامعية امللموسة‪،‬‬
‫‪7 Gauthier,Mathieu. La Philosophie Sociale D’Axel Honneth La thérorie de la Reconnaissance et L’analyse des‬‬
‫‪pathologies sociales (Quebec: Faculté de philosophie Université Laval, 2010), p. 2‬‬
‫‪8 Jean-Philippe Deranty, Beyond Communication. A Critical Study of Axel Honneth’s social philosophy, first edi-‬‬
‫‪tion (Boston: BRILL , 2009), pp. 320-321‬‬
‫‪9 Axel Honneth, Pathologies of the Social: The Past and Present of Social Philosophy in disrespect (Cambridge:‬‬
‫‪Cambridge The Normative Foundations of Critical Theory, Polity Press, 2007), p 371‬‬
‫‪ 10‬أكسل هونيث‪ ،‬الصراع من أجل االعتراف القواعد االخالقية للمآزم االجتماعية‪ ،‬جورج كتورة (مترجم)‪ ،‬الطبعة األولى (بيروت‪ :‬المكتبة الشرقية‪،‬‬
‫‪ ،)2015‬ص ‪25‬‬
‫‪10‬‬

‫وكذلك الحال بالنسبة إىل فلسفة األخالق التي تعري اهتام ًما مجردًا بقيمتي الخري والرش‪ ،‬مبفصل عن التجربة‬
‫الفردية واالجتامعية‪ .‬وبهذا ميكن القول‪ ،‬إن ما مييز الفلسفة االجتامعية عن نظريتيها السياسية واألخالقية‪،‬‬
‫هو التحليل النقدي للظواهر السياسية واألخالقية املختلفة‪ ،‬وتساؤلها عن معنى الحياة املنحطة واملرتدية‬
‫‪11‬‬
‫والهامشية واملغرتبة»‪.‬‬

‫فالغرض كام هو ماثل أمام ناظرينا‪ ،‬هو السري نحو إخضاع الواقع االجتامعي ملقاربة تقييمية تنطلق‬
‫من االجتامعي وتنتهي إليه‪ ،‬لرمبا تعلو عليه لدواع موضوعية‪ .‬لكن من دون أن يتطلب منها ذلك االنسالخ‬
‫واالبتعاد عن الواقع املدروس‪ ،‬بوصفها فلسفة محايثة ‪ Immanence‬ال تعزل نفسها عن املجتمع الذي تدرسه‬
‫وال تخضعه تحت منظور تأميل‪ ،‬بل تعترب نفسها جز ًءا من هذا الواقع وتحاول دراسته دراسة نقدية‪ .12‬تكاد‬
‫مقاربة نقدية ال ميكن حرصها أبدًا وال دراستها من زاوية نظر الفلسفة األخالقية والسياسية؛ ألن التفكري يف‬
‫«االجتامعي» ‪The social‬ت‪ lesociqle‬االجتامعي أحيان كثرية فلسفة األخالقية والسياسية‪ ،‬كون ها غري‬
‫مختزلة ها وال اختزالها يف تصور ضمن هذا التقليد بخاصة‪ ،‬يسعى إىل ترشيح ما يراه املجتمع املعني بالدراسة‬
‫أم ًرا طبيع ًيا ال يحتاج إىل كشف أو تشخيص‪ ،‬بات بحكم التكرار عادة متأصلة الجذور بديهية تستغني عن أي‬
‫نقد أو تحليل؛ عليها يذهب الفالسفة االجتامعيون إىل نزع التطبيع عن الظواهر املألوفة واملعتادة‪ ،‬لتشخيص‬
‫رئيسا وراء جعل باثولوجيا االجتامعي تتخذ شكل حادث طبيعي‬ ‫التحوالت ومعرفة العلة التي كانت سب ًبا ً‬
‫يستمد فعل وجوده من املجتمع كأمر واقع وثابت‪.‬‬

‫هنا يتضح جل ًّيا املسعى الفلسفي الذي ينهجه الفيلسوف االجتامعي‪ :‬التشخيص والنقد من جهة أوىل‪.‬‬
‫وفضل عن تعريف الفيلسوف األمرييك جون ديوي ‪ )1952-1859( John Dewey‬يف نصه املوسوم بـ«قراءات‬ ‫ً‬
‫علم ً‬
‫محضا‪ ،‬ونتيجة لذلك‪،‬‬ ‫علم تطبيق ًيا وليس ً‬
‫يف الفلسفة االجتامعية والسياسية»‪ ،‬تعترب الفلسفة االجتامعية ً‬
‫ال يجب عليها االكتفاء بوصف ظواهر التجربة‪ ،‬وإمنا عليها تحقيق األهداف التي يسعى إليها البرش؛ لطاملا‬
‫قبل كنظام معياري يهدف تقييم التطور االجتامعي يف ظروف معينة‪ ،‬وهو ما دفعه إىل خلق مساحة‬ ‫وصفها ً‬
‫خاصة للفلسفة االجتامعية بني ما يعتربه تجريدات غري مجدية للفلسفة الكالسيكية‪ ،‬والالصلة أو ارتباط‬
‫للتوصيفات املعيارية العلمية االجتامعية التجريبية للواقع‪ .‬وهنا يتجىل تصور تيودور أدورنو ‪Theodor‬‬
‫‪ )1969-1903( Adorno‬للفلسفة املاركسية‪ ،‬مثاال عىل ذلك‪« ،‬كفلسفة جديدة؛ إذ أصبح النقد املاركيس‬
‫لأليديولوجيا أداة ينتقد بها رفع التجريدات إىل كينونات مستقلة‪ ،‬ويظهر أن جميع الفلسفات املقيدة؛ أي‬
‫كل فلسفة ليست مفتوحة لتجربة «الواقع»‪ ،‬تتحول إىل مثالية فلسفية؛ أي إىل فلسفة أوىل»‪ ،13‬إىل الفلسفة‬
‫التقليدية‪ .‬هذا‪ ،‬ليك ال نبتعد عن زاويات النظر السابقة املتعلقة بسؤال وظيفة الفلسفة االجتامعية‪ ،‬وهي‬

‫‪ 11‬بغورة‪« ،‬الفلسفة االجتماعية»‪ ،‬ص ‪71‬‬


‫‪ 12‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪65‬‬
‫‪ 13‬رودلف فيغرسهاوس‪ ،‬مدرسة فرانكفورت تاريخها وتطورها النظري وأهميتها السياسية‪ ،‬عصام سليمان‪ ،‬غانم هنا (مترجم)‪ ،‬الطبعة األولى‬
‫(بيروت‪ :‬المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،)2022 ،‬ص ‪743‬‬
‫‪11‬‬

‫صياغة معايري اإلصالح االجتامعي‪ ،‬من خالل نقد وتحليل الظروف االجتامعية القامئة ومن تم اقرتاح حلول‬
‫عملية للمشكالت االجتامعية املشخصة يف سبيل خلق ظروف اجتامعية أفضل للمجتمع‪ .‬يتعلق األمر بتقديم‬
‫‪14‬‬
‫توجيهات إلرساء مبادئ التغيري واالصالح االجتامعي‪.‬‬

‫عىل أن املساحة التي يعنيها ديوي تتعلق بتطوير معايري ملموسة ملواصلة اإلصالح االجتامعي‪ .‬تعد‬
‫مساحة تجتمع فيها املقاربات النظرية املعيارية والوصف التجريبي يف عمليات مثمرة للبحث االجتامعي‬
‫الرباغاميت؛ أي بتداخل العمل بني الفلسفة والعلوم االجتامعية التي وف ًقا ملخرجاتها يجري تحليل الباثولوجيات‬
‫االجتامعية‪ ،‬كام هو الشأن مع هونيث‪ ،‬مبا أن الهدف هو عىل الدوام «أخالقي معياري» يتحدد مبوجبه مفهوم‬
‫«املعياري» نفسه‪ 15.‬يلزم إذن‪ ،‬أن تؤخذ بعني االعتبار نتائج العلوم االجتامعية قبل أي صياغة للمبادئ العامة‬
‫للسلوك اإلنساين‪ .‬وهنا يبدو كأننا نصطدم بسمة أخرى من سامت الفلسفة االجتامعية‪ :‬بينام األوىل نقدية‬
‫تشخيصية‪ ،‬فإن الثانية بنائية‪ ،‬وهي ال تتمثل نفسها منفصلة قطع ًيا عن العلوم االجتامعية‪ ،‬بل متداخلة معها‪،‬‬
‫سواء من خالل االستناد عىل منجزاتها اإلمربيقية أو عن طريق التمحيص النقدي لنتائجها‪.‬‬

‫يهتم ديوي هنا‪ ،‬كام هو الحال يف أي سياق آخر‪« ،‬باملهمة املتمثلة يف اشتقاق قيمة اجتامعية معيارية‬
‫من داخل الوضع االجتامعي نفسه‪ ،‬مع تجنب أخذ تقييامت الجهات الفاعلة يف ظاهرها؛ مبعنى‪ُ ،‬يشتق معيار‬
‫فضل عن وضع تقييم للتقييامت االجتامعية السائدة‪ ،‬ألن يكون أداة حاسمة‬ ‫التقييم من الظواهر اإليجابية ً‬
‫تروم تحسني جودة التقييامت االجتامعية العادية ومن تم التحقق من صحة وسالمة النظم االجتامعية‪ .‬غري‬
‫أنه يظل من ا ُملتوقع أن تقدم الفلسفة االجتامعية تقييامتها االجتامعية الخاصة مع تلك املجاالت الفاعلة‬
‫األخرى (السياسية واألخالقية والقانونية) التي تتشارك معها بشكل حاسم يف عملية التغيري االجتامعي»‪ ،16‬وال‬
‫سيام أنها تخضع الواقع للدراسة‪ ،‬مبختلف مستوياته االقتصادية والسياسية واالجتامعية واألخالقية وتخرج‬
‫فضل عن باثولوجيات االجتامعي‪ .‬لكن هذه املهمة‪ ،‬تقتيض بادئ‬ ‫مبواقف سياسية‪ ،‬ومعايري إيتيقية للتطور ً‬
‫ذي بدء تحديد مفهوم دقيق للباثولوجيا االجتامعية أو تقديم تعريف واضح لها مع إبراز عالقاتها ودالالتها‬
‫النظرية والنقدية‪ ،‬وهو ما سنفصل فيه باسهاب يف العنرص اآليت‪.‬‬

‫‪14 Frega, ppp.3,4,5,6‬‬


‫‪15 Ibid., p. 6‬‬
‫‪16 Ibid., pp. 6,7‬‬
‫‪12‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬مفهوم الباثولوجيا االجتامعية‬

‫تقص هذا املفهوم املركزي من دون أن يكون فهمنا خاض ًعا لتحليل فلسفي‪ ،‬فإن الوعي‬ ‫ال ميكن البتة ّ‬
‫رشطا أساس ًيا ملن يروم تنوير العقل مببادئ النقد االجتامعي وأسسه‪ ،‬وخاصة إذا‬ ‫برضورة تحليل املفهوم‪ُ ،‬يعد ً‬
‫ما أردنا ْأن يكون تفكرينا تفكريا نقد ًيا‪ .‬ومبا أن الكلامت واملفاهيم ال ترتجم إىل الواقع االجتامعي إال إذا ُع ِّب‬
‫أول عند املعنى اللغوي واألصل االيتيمولوجي‬ ‫عنها بطرق مستساغة لدى الجميع‪ ،‬فإنه كان لزا ًما علينا أن نقف ً‬
‫لكلمة «باثولوجيا»‪ ،‬حتى يتسنى لنا اإلحاطة مبجمل جوانب املفهوم ودالالته‪.‬‬

‫تعود كلمة «باثولوجيا» إىل قسم من علم الطب‪ ،‬يعنى بالبحث عن أسباب األمراض وتشخيص أعراضها‪،‬‬
‫وما تستثريه من تغيريات وظيفية وفيزيولوجية‪ .‬تنم عن مرجعية علمية وطبية‪ ،‬عالوة عىل حمولتها الطبيعية‬
‫والبيولوجية ثم خلفيتها اإلحيائية‪ .‬تنتسب باثولوجيا إىل األصل اليوناين للكلمة أال وهو ‪ ،Pathologia‬وهي‬
‫كلمة مركبة من جزأين‪ Patho :‬واملقصود بها املرض‪ ،‬ومنها اشتقت أيضا كلمة ‪Pathogenic Pathogène/‬‬
‫كمرادف ملسببات املرض‪ .‬أما ‪ ،Logia‬فتعني « ِعلم» كام هو الحال يف اللغة الفرنسية ‪ ،Logie‬كأصل اشتقاقي‬
‫لكلمة ‪ 17.Logique/Logic‬لتكون بذلك ‪ /Pathologie Pathology‬باإلنجليزية والفرنسية متطابقة متاما مع‬
‫أصل الكلمة اليوناين حتى عىل املستوى الرتكيبي‪ ،‬بغض النظر عن كيفية نطقها وكتابتها التي تعكس خصوصية‬
‫كل لغة عىل حدة‪ .‬وبهذا نستنتج أن كلمة باثولوجيا ترادف مصطلح علم األمراض‪.‬‬

‫عىل أال نحملها هنا‪ ،‬عىل وجه معناها االشتقاقي الرصف‪ ،‬وإمنا باملعنى الذي يكشف عن وجود حالة‬
‫مرضية ‪ /pathologique pathological‬أو باملعنى الذي تكون فيه الباثولوجيا هي املرض ذاته ‪pathology/‬‬
‫‪ .a une pathologie‬ففي الوقت الذي نقول فيه مثال‪ :‬إن عمر يعاين من باثولوجيا أو باثولوجية ما‪ ،‬كالهام‬
‫يتضمنان بهذا الصدد نفس الداللة‪ ،‬ينبغي أن نفهم منها أن عمر يعاين من مرض معني‪.18‬‬

‫أما إذا اقرتنت بالباثولوجيا صفة «اجتامعية»‪ ،‬فإن داللتها‪ ،‬يف سياق تحليلنا للمفهوم‪ ،‬برصف النظر عن‬
‫معناها االشتقاقي‪ ،‬ستستحيل من جهة‪ ،‬مبدئيا عىل األقل‪ ،‬إىل مرادف «الرشور االجتامعية» أو «اإلخفاقات‬
‫االجتامعية» مثلام سيظهر بإسهاب يف العرض القادم‪ .‬كام ُيس َقط معناها باإلضافة‪ ،‬عىل مجموع التحوالت‬
‫االجتامعية التي تستدعي النقد‪ .‬ليس األنظمة وحدها‪ ،‬وإمنا كل ما ميكن أن يكون محط نقد اجتامعي؛ ذلك‬
‫أن ما يعتقد به الفالسفة االجتامعيون يتعني‪ ،‬أحد جوانبه‪ ،‬يف كون املامرسات االجتامعية وحتى املجتمع نفسه‬

‫‪17 Alain Rey, Le Robert Micro Dictionnaire de la langue française, Deuxième édition (Paris: Le Robert, 2006),‬‬
‫‪pp. 951,776‬‬
‫‪ 18‬وهي ما يعني بالعربية أن مرض السكري مرض مزمن‪le diabète est une pathologie chronique .‬نقول مثال باللغة الفرنسية‬
‫‪13‬‬

‫قد يعاين من الرشور‪ .‬وهذه األخرية‪ ،‬هي التي تتخذ بشكل أو آخر اسم األمراض والعلل‪ ،‬وإن شئنا تخصيصا‬
‫‪19‬‬
‫فلنقل الباثولوجيات االجتامعية‪.‬‬

‫يرمي استخدام كلمة «رشور» يف هذا املقام‪ ،‬للتقريب من الداللة التي يحملها بني طياته مفهومنا املعني‬
‫بالدراسة‪ .‬لكن تبقى الستعارة الباثولوجيا دالالت مفيدة؛ تتيح إمكانية الكشف والتشخيص ثم التحليل‪،‬‬
‫وتسمح بتعيني األسباب واملسببات للمرض يف سبيل تقديم العالج املناسب‪ .‬عىل غرار الحاالت الطبية‪ ،‬التي‬
‫تخضع للكشف والعالج وإىل الشفاء يف حاالتها الناجحة‪ .‬أما يف حال تشخيص أو اختبار ظاهرة ما أو نظام ما‬
‫‪20‬‬
‫بأنهام يخلفان آال ًما ومعاناة اجتامعية‪ ،‬يصبح من املنطقي التعبري عنهام باستخدام كلمة «باثولوجيا‪».‬‬

‫وهنا عىل سبيل املثال‪ ،‬ندرج تشخيص عامل االجتامع األملاين كارل مانهايم ‪-1893( Karl Mannheim‬‬
‫‪ ،)1947‬للعالَم الحديث من خالل تحليله لظاهرة األنوميا ‪ ،Anomie‬التي أرجعها إىل فقدان التجارب‬
‫األمنوذجية ‪ .Paradigmatic experiences‬عىل أن االنسان أصبح يف العرص الحديث مييل إىل مساواة التجارب‬
‫الصغرى بالتجارب الكربى‪ ،‬فلم يعد يفضل هذه عىل تلك وال يعطي قيمة ألي يشء أكرث من أي يشء آخر‪ ،‬حتى‬
‫أضحت جميع األشياء يف حالة مساواة تامة‪ ،‬إىل أن أفرغت حياة اإلنسان من الرموز الكربى‪ ،‬مام دفع األفراد‬
‫‪21‬‬
‫إىل ملء الفراغ بأدوات ميكانيكية‪.‬‬

‫لذلك نجد إمييل دوركايم ‪ )1917 - 1858( Émile Durkheim‬يصنف األنوميا من بني األمراض التي آلت‬
‫إىل تفسخ املجتمع األورويب‪ ،‬بعد الثورة الصناعية وما عقبها من ازدهار الروح الرأساملية‪ ،‬ومن تم إىل ارتفاع‬
‫نسبة االنتحار‪ .‬وتعرب هذه األخرية عىل حالة تدهور املعايري التقليدية التي تحكم العالقات االجتامعية‪ ،‬حيث‬
‫تتعطل املعايري وتتفكك القيم االجتامعية والثقافية التي تضبط السلوك اإلنساين‪ ،‬من دون أن تحل محلها‬
‫منظومة قيم ومعايري جديدة فاعلة‪ ،‬فينشأ عن ذلك أزمات حادة بني عدة فئات متنافسة أو متناحرة‪ ،‬ما يهدد‬
‫اإلحساس بأهمية التضحية يف سبيل املجموع؛ إذ تستعمل الفئات القوية وسائل غري عادلة لفرض إرادتها عىل‬
‫الفئات الضعيفة‪ ،‬مام يهد التامسك االجتامعي بالوصول حتى إىل درجة التفسخ والنزاع‪.22‬‬

‫أيضا‪ ،‬عن تشخيص فريدريك نيتشه ‪)1900 - 1844( Friedrich Nietszche‬‬ ‫ال ينبغي أن يعزب النظر‪ً ،‬‬
‫للمجتمع األملاين ووصفه بـ «املجتمع الذي يعاين من مرض التاريخ»‪ .23‬أما عامل النفس إيريك فروم ‪Erich‬‬
‫‪ ،)1980 - 1900( Fromm‬فيقرر أن «الحديث عن مجتمع مريض أو عن مجتمع يفتقر بكامله إىل الصحة‬

‫‪19 Arto Laitinen, ARVI Sarkela, «Four conception of social pathology», journals.sagepub.com, 17/05/2018, seen‬‬
‫‪on 10/02/2022, in: https://2u.pw/GnS5XXz‬‬
‫‪20 Ibid.‬‬
‫‪ 21‬حليم بركات‪ ،‬االغتراب في الثقافة العربية متاهات بين الحلم والواقع‪ ،‬الطبعة األولى (بيروت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،)2006 ،‬ص ‪45‬‬
‫‪ 22‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪44‬‬
‫‪ 23‬فريدريك نيتشه‪ ،‬محاسن التاريخ ومساوئه‪ ،‬رشيد بوطيب (مترجم)‪ ،‬الطبعة األولى (الدوحة‪ :‬منتدى العالقات العربية والدولية‪ ،)2019 ،‬ص ‪6‬‬
‫‪14‬‬

‫اضا خالف ًيا هو عىل النقيض من موقف النسبوية السوسيولوجية التي يعتقد بها جل‬ ‫الذهنية‪ ،‬يتضمن افرت ً‬
‫علامء االجتامع اليوم‪ .‬فهم يسلمون ً‬
‫جدل بأن كل مجتمع طبيعي بالنظر إىل أنه يؤدي وظيفته‪ ،‬وأن الحالة‬
‫املرضية ال ميكن تحديدها إال عىل أساس عدم توافق الفرد مع أساليب العيش يف محيطه»‪.24‬‬
‫ً‬
‫مستحيل ما مل يتم‬ ‫بهذا‪ ،‬يعدو الحديث عند هونيث عن مصطلح «باثولوجيا» ‪ pathology‬أن يكون‬
‫استدعاء أو استحضار الحالة الطبيعية لليشء‪ ،‬ويعني ذلك أن هذا املصطلح يعرب يف ثناياه عن حالة غري‬
‫طبيعية‪ ،‬يفرتض تحديدها ً‬
‫حتم َت ُّثل حالة اليشء األصلية‪ .25‬وإذا تعلق األمر باملجتمع عىل وجه العموم‪،‬‬
‫فيلزم استحضار الحالة التي ينبغي أن تكون عليها الحياة االجتامعية‪ .‬إذ إن نقد االختالالت املعيقة ألي تطور‬
‫اجتامعي مفرتض‪ ،‬يتطلب مسب ًقا وجود منوذج لحياة اجتامعية سليمة ُيحتكم إليها‪ ،‬أي طبيعية تخلو من‬
‫أي انحرافات عقالنية تعرب عن معاناة املجتمع إثر خطأ أو اختالل أو عجز ما‪ .‬بتعبري آخر‪ ،‬إن معيار القول‬
‫بحالة باثولوجية اجتامعية يرتبط يف جوهره‪ ،‬من جهة أوىل‪ ،‬مبفهوم معني للعقالنية‪ ،26‬ومن جهة ثانية‪ ،‬بفكرة‬
‫«أن املجتمع السليم أو السوي‪ ،‬ليس له معنى إال إذا افرتضنا أنه يوجد مجتمع ليس سو ًيا‪ ،‬حيث يشري هذا‬
‫االفرتاض ضمنًا إىل وجود معايري شاملة للصحة الذهنية تكون صحيحة بالنسبة إىل الجنس البرشي من حيث‬
‫هي‪ ،‬وميكن وف ًقا لها أن يحكم يف الحالة الصحية لكل مجتمع»‪27‬؟‬

‫يحتوي إذن هذا املفهوم عىل مفهوم آخر هو الحالة الصحية أو الوضع الطبيعي‪ ،‬الذي يؤول إىل استنتاج‬
‫مؤداه أن حالة اليشء الطبيعية ليست املرض ولكنها الصحة بالرضورة‪ .‬علينا يف الوقت ذاته أن نتذكر دامئًا‬
‫أنه عندما يتمتع املجتمع بصحة سليمة‪ ،‬ترشع املؤسسات يف مامرسة وظائفها االجتامعية بأقل درجة ممكنة‬
‫من االنحراف عن العقالنية‪ .‬فال يعدو املجتمع أن يكون بهذا املعنى إال وحدة كلية ذات خصائص مميزة‬
‫للرابطة البرشية‪ ،‬تشكل صورة انعكاسية لعالقة أفراد املجتمع بأعضاء جسمهم الحي وبوظائفه الفيزيولوجية؛‬
‫عىل أن أي خلل عىل مستوى هذه الوظائف‪ ،‬ينتج عنه مرض عضوي يصيب أحد األعضاء فيخل بتوازن‬
‫الحالة الطبيعية للعضو املعني والجسم بالكامل‪ ،‬مام ينعكس سلب ًيا عىل وظيفته من حيث هو كذلك‪ ،‬وعىل‬
‫ميكانيزماته وآلياته الفيزيولوجية الطبيعية‪.‬‬

‫تجدر اإلشارة إىل أن توظيف املفردات الطبيعية بهذه الصيغة ونقصد‪ :‬املرض‪ ،‬والصحة‪ ،‬والفيزيولوجي‪،‬‬
‫والجسمي‪ ،‬والطبيعي‪ ...‬إلخ‪ ،‬هو كام ورد عن أنصار املذهب الطبيعي‪ ،‬من مثل األرسطيني كالفيلسوفة فيليبا‬
‫روث فوث ‪ )2010 - 1920( Philippa Ruth‬أو سابينا لوفيبوند ‪ ،Sabina Lovibond‬يزيد من ثقل املوقف‬

‫‪ 24‬إيريك فروم‪ ،‬المجتمع السوي‪ ،‬محمود منقد الهاشمي (مترجم)‪ ،‬الطبعة األولى (الالذقية‪ :‬دار الحوار‪ ،)2009 ،‬ص ‪115‬‬
‫‪25 Axel Honneth, La société du mépris vers une nouvelle théorie critique, Olivier Voirol, Pierre Rush, Alexandre‬‬
‫‪Dupeyrix (traduction) (paris: Ladécouverte, 2006), p.25‬‬
‫‪26 Peter E Gordon and Others, The Routledge Companion to the Frankfurt School, First Edition (New York: Rout-‬‬
‫‪ledge, 2019), p. 413‬‬
‫‪ 27‬فروم‪ ،‬ص ‪115‬‬
‫‪15‬‬

‫النقدي للفلسفة االجتامعية‪ .‬ومام ال شك فيه‪َّ ،‬أن املناهج غري األرسطية ستجد صعوبة أكرث‪ ،‬ال محالة‪ ،‬يف‬
‫اشتقاق املبادئ املعيارية من االفرتاضات الطبيعية‪ ،28‬وهو ما يفرس من جانب‪ ،‬عدم استيعاب البعض لدواعي‬
‫استعامل مفهوم الباثولوجيا االجتامعية يف النقد االجتامعي‪.‬‬

‫انعكاسا ملجموع أفراده‪ ،‬ميكن َتصوره كالجسم الذي يشكل مجموع‬


‫ً‬ ‫وهكذا‪ ،‬إذا نظرنا إىل املجتمع بوصفه‬
‫األعضاء‪ ،‬ككل يشمل كامل األجزاء‪ :‬جسم يضم ألوف األعضاء أو رمبا ماليينها‪ ،‬له أجهزة ومؤسسات تديره‬
‫وتدبر شؤونه التنظيمية‪ .‬مثلام للجسم البرشي أجهزة وفق التصنيف الفيزيولوجي‪ ،‬توزع املهام بني أعضائها‬
‫وتنسق بني الوظائف‪ ،‬من مثل مهمة الجهاز الدموي والجهاز الهضمي‪ ،‬والجهاز املناعي‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫وعىل نفس املنوال‪ ،‬بات مفهوم الباثولوجيا يف صلب مفهوم التمييز الوظيفي ‪The functional‬‬
‫‪ ،differentiation of society‬بدءا من يورغن هابرماس ‪ Jurgen Habermas‬من خالل نظرية الفعل‬
‫التواصيل‪ ،‬بالنظر لهذا املفهوم كعالقة بينية بني النظام والعامل املعيش‪ ،‬وصوال إىل هونيث الذي تبنى تقسيم‬
‫هيجل ‪ ،)1831 - 1770( Friedrich Hegel‬الثاليث للعامل االجتامعي‪ :‬من أرسة ومجتمع مدين ودولة‪ ،‬من أجل‬
‫صياغة تصور كيل عن املجتمع السليم‪ ،‬واستعادة ذلك التامسك الذي ُفقد جراء التنافر بني الواقع والفكر‬
‫والوعي والوجود‪ ،‬ومن تم بني األفراد واملؤسسات‪ .‬باعتبار املجتمع السليم هو املجتمع الذي تؤدي فيه‬
‫املؤسسات االجتامعية دورها الوظيفي‪ ،‬عىل شاكلة أعضاء الجسم‪ ،‬عن طريق تفاعل وظائفها فيام بينها بشكل‬
‫صحيح وسليم‪ ،‬وبطريقة ال تسمم باقي الجسم املادي أو االجتامعي‪.29‬‬

‫أما إذا امتنعت عن مامرسة دورها االجتامعي املسمى بالوظيفي‪ ،‬فهو ما يعني اعتالل املجتمع باملعنى‬
‫الحقيقي لالعتالل‪ .‬والذي نجده بهذه الصيغة يدين ملعناه اللغوي‪ ،‬رغم أننا بصدد تعريفه وتحليله فلسفيا‪.‬‬
‫وعىل هذا النحو‪ ،‬يقال يف لسان العرب‪ :‬حينام يعتل العليل علة صعبـة‪ ،‬فإن العلة هي الحدث الذي يشغل‬
‫صاحبه عن حاجته‪ ،‬كأن تلك العلة صارت شغال ثانيا منعه عن شغله األول‪ .‬ومن معاين العلة‪ ،‬املرض‪ :‬من فعل‬
‫عل‪ ،‬يعل واعتل أي م ِرض‪ 30.‬كذلك هو اعتالل املجتمع‪ ،‬مقرتن بالعلة التي تشغل مؤسساته ومتنعها عن مامرسة‬
‫شغلها األول‪ ،‬يعني عن وظيفتها االجتامعية‪.‬‬

‫تحاول هذه األسطر وضع األصبع عىل جرح املؤسسات االجتامعية‪ ،‬وهي تحت وطأة وضع باثولوجي‪.‬‬
‫ذات الحالة التي تكشف عن وجود خلل يشوب بنيتها الداخلية؛ مثة فشل يف إدراك املعايري العقالنية التي‬
‫يجب أن يحكم لهاـ إذ يظل من املحتمل أن تفشل املامرسة واملؤسسة يف إدراك معايريها الداخلية‪ ،‬إما إىل‬

‫‪28 Martin Hartman, Arvi Sarkela, «Naturalism and social philosophy: An introduction», academia.edu, 2021, seen‬‬
‫‪on 01/03/2023, in: https://2u.pw/XuKc7Mw. P.4‬‬
‫‪29 Gordon and others, p. 415‬‬
‫‪ 30‬جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬الجزء ‪ ،11‬الطبعة الثالثة (بيروت‪ :‬دار صادر‪ 1414 ،‬هـ)‪ ،‬ص ‪471‬‬
‫‪16‬‬

‫حد ما أو رمبا بالكامل‪ ،‬ومن ثم الحؤول دون تحقيق الغاية التي من أجلها وجدت‪ 31.‬يبقى من املفيد والحالة‬
‫هذه‪ ،‬األخذ يف الحسبان أن ما تطمح إليه املامرسة واملؤسسات ‪-‬ونظمها بشكل عام‪ -‬باستطاعته أن يتغري مع‬
‫مرور الوقت أو يختلف من سياق اجتامعي آلخر‪ .‬األمر الذي يجعل عملية التفريق بني الحاالت التي ال تفي‬
‫‪32‬‬
‫فيها املامرسة مبعايريها والحاالت التي يتغري أو يتحور فيها املعيار األسايس املعمول به صعبة التمييز‪.‬‬

‫فإذا أمعنا النظر مليا يف الجامعة العربية بشكل مخصوص‪ ،‬سنخلص إىل أن هذه األخرية مل تعد تؤدي‬
‫دورها كمؤسسة إلنتاج العلوم واملعارف وال فضاء للعلم الخالص والنقاش الحر واملنتج‪ ،‬بقدر ما باتت مؤسسة‬
‫متامهية كلية مع إرادة السلطة ومصالحها‪ ،‬تعمل بشكل مستميث عىل بناء وإنتاج منوذج معني من األفراد‬
‫يكون للسلطة مصلحة يف وجودهم؛ أي العمل عىل إنتاج أفراد مغرتبني يعيشون مبفصل عن قضاياهم ومصريهم‬
‫املشرتك‪ ،‬ناهيك عن العجز الذي يستوطن نفوسهم يف عالقتهم بذواتهم ومؤسساتهم وباملجتمع الذي ينتمون‬
‫إليه‪ ،‬حتى استحال وجودهم إىل وجود مزيف يفتقر ملعايري عقالنية؛ وذلك عوضا عن إنتاج جيل يتمتع بيقظة‬
‫نقدية ووعي مركب‪ :‬وعي بأشكال وآليات مامرسة السلطة والمرئياتها السياسية‪ ،‬ووعي بطبيعة العالقة التي‬
‫تجمع الجامعة بالدولة والدولة بباقي األجهزة واملؤسسات االجتامعية األخرى‪.‬‬

‫لنئ كان الجيل األول ملدرسة فرانكفورت يرد العجز الذي يطال أفراد املجتمع‪ ،‬إذا ما قلنا عجز معايري‬
‫عقالنية املجتمع‪ ،‬إىل سبب محدد ونهايئ أال وهو النظام االقتصادي الرأساميل‪ ،‬حيث العالج الوحيد املمكن‬
‫للخالص هو التخلص من الرأساملية‪ 33.‬تعد الرأساملية هي العامل املمرض للمجتمع الحديث واملعارص‪ ،‬كام‬
‫ذهب إىل ذلك كارل ماركس (‪ )1883 - 1818()Karl Marx‬وكذلك جورج لوكاتش ‪1885( György Lukács‬‬
‫‪ )1971 -‬وآخرين ممن انتقدوا العمل يف ظل هذا النظام؛ إذ يتحول اإلدراك الطبيعي إىل إدراك آخر يظهر فيه‬
‫جميع البرش كأنهم كائنات شبيهة بـ«اليشء» املفتقر إىل اإلحساس‪ ،‬حيث ُيقيص التفاعل االجتامعي الطبيعي‪،‬‬
‫فتتحول العالقات اإلنسانية إىل عالقات بني أشياء أو سلع‪ .‬هذا التضييق يف اإلدراك ‪-‬يعني ضمنًا تضييق‬
‫العقالنية إىل عقالنية أداتية‪ ،‬تتمخض عنها مجموعة متباينة من العلل‪ ،‬ليس أقلها االغرتاب والتشيؤ‪ .‬وقد‬
‫حدث هذا الخالص املفرتض بالفعل مع يورغن هابرماس يف نظريته عن الفعل التواصيل؛ مبا أن ادعاءاته حول‬
‫املفهوم املعني تتلخص يف االدعاءات حول عجز العقالنية‪ ،‬وميكن تحديدها بشكل أكرب لتشمل أوجه القصور‬
‫‪34‬‬
‫يف العقالنية األخالقية ومن ثم يف العدالة‪.‬‬

‫لقد بدا الستلهام مدرسة فرانكفورت ملفهوم العقل عن فريدريك هيغل‪ ،‬إسهام كبري يف نقدها لعيوب‬
‫العقالنية يف املجتمع الرأساميل؛ وذلك يحيلنا إىل مقالة هوركهامير األساسية عن «النظرية التقليدية والنظرية‬

‫‪31 Gordon and others, p.414‬‬


‫‪32 Ibid, p. 414‬‬
‫‪33 Ibid, p. 414‬‬
‫‪34 Ibid, p.414‬‬
‫‪17‬‬

‫النقدية»‪ 35‬الصادرة عام ‪ ،1937‬وفيها يتبني استناده عىل مفهوم «العقل الفعال اجتامع ًيا»‪ ،36‬بالقول‪« :‬إن‬
‫التعاون بني البرش يف املجتمع هو منط وجود عقلهم‪ ،‬والطريقة التي ُي َفعلون بها قوتهم ويؤكدون جوهرهم»‪،37‬‬
‫فعال اجتامع ًيا بشكل كامل وحقيقي‪ ،‬تظل غري‬ ‫ثم يشري بعد ذلك إىل كون إمكانات العقل‪ ،‬حتى يكون ً‬
‫محققة‪ .‬فاملجتمع املعارص باعتباره املظهر الحايل للعقل‪ ،‬هو من حيث نتائج نشاطاته يعمل عىل تنفري‬
‫أعضائه؛ كل استنزافه لقوة العاملني يف مختلف مجاالته‪ ،‬ويف حروبه أيضا‪ ،‬وكل بؤسه الذي ال معنى له‪ ،‬يشهد‬
‫عىل عجزه العقيل‪ ،‬بل إن «بؤس الحارض» هذا هو الذي يؤسس ملسعى الفلسفة االجتامعية املتمثل يف إيجاد‬
‫ومرضا ومعاناة‪ .‬وهنا‪ ،‬يجدر بنا لفت االنتباه لوجه الصلة بني مفهومي‬‫مجتمع عقالين حقيقي‪ 38‬أقل اضطرا ًبا ً‬
‫الباثولوجيا االجتامعية و«العقل الفعال اجتامع ًيا» يف تقليد فرانكفورت‪.‬‬

‫يحيل الفهم هنا من الباثولوجيا االجتامعية بوصفها عجزًا يف العقالنية‪ ،‬عىل أنها إما خلل يف مجال ما‪ ،‬أو أن‬
‫مجال يسيطر عىل اآلخر‪ .‬ونرضب ً‬
‫مثال بكيفية تأثري الرأساملية سلب ًيا عىل تشكيل وتكوين إرادة دميقراطية‬ ‫مثة ً‬
‫شعبية‪ .‬فرسعان ما تؤدي الرثوة دو ًرا إشكال ًيا يف تكوين اإلرادة الدميقراطية من خالل تربعات الرأسامليني يف‬
‫الحمالت االنتخابية لكسب التأييد؛ ما يجعل االنحراف عن العقالنية هنا يغدو اسرتاتيجية محكمة الحتواء‬
‫دعائم الدميقراطية؛ تصبح العملية الدميقراطية ذاتها قارصة عن بلوغ العقالنية يف بعض معايري تنزيلها‪.‬‬

‫أما إذا أردنا ذكر مثال آخر‪ ،‬فسيكون من املهم أن نبقي احتامل أن تكون مجتمعاتنا الرأساملية مختلة‬
‫وظيف ًيا‪ ،‬ليس من حيث إن املصالح النيوليربالية هي املسيطرة يف صنع القرار السيايس‪ ،‬فحسب‪ ،‬ولكن ً‬
‫أيضا يف‬
‫معنى أن تلك املجتمعات‪ً ،‬‬
‫فضل عن مشكل التغري املناخي‪ ،‬تعرض بقاء اإلنسان وباقي األنواع األخرى والنظام‬
‫البيئي بالكامل‪ ،‬للخطر‪ .‬وهذا يكاد يكون ً‬
‫دليل كاف ًيا وشاف ًيا عىل بلوغها أقىص درجات القصور العقيل‪ .‬ورمبا‬
‫أيضا مام قصده ييودور أدورنو عندما قال‪« :‬إن الحفاظ عىل اإلنسانية مدرج بال هوادة ضمن‬ ‫يكون ذلك جز ًءا ً‬
‫معنى العقالنية‪ :‬فحفاظها عىل ذاتها يكمن يف تنظيم معقول للمجتمع‪ ،‬وإال فإنها ستؤدي بحركتها ونشاطاتها‬
‫إىل طريق مسدود‪ .‬يتم تنظيم اإلنسانية بشكل عقالين‪ ،‬إذا استطاعت املحافظة عىل موضوعاتها املجتمعية‬
‫‪39‬‬
‫وف ًقا ملعايريها غري املقيدة»‪.‬‬

‫هكذا إذن يكون مفهوم الباثولوجيا االجتامعية‪ ،‬من ناحية‪ ،‬مجرد تسمية مالمئة ملا هو قابل للنقد‬
‫االجتامعي‪ ،‬ويعرب عن قصور وعجز يف العقالنية‪ .‬لكن إذا كان املرء يبغي الحديث يف ذات السياق بعبارات‬
‫‪ 35‬ماكس هوركايمر‪ ،‬النظرية التقليدية والنظرية النقدية‪ ،‬مصطفى الناوي (مترجم)‪ ،‬مصطفى خياطي‪ ،‬الطبعة األولى (غ‪.‬م‪ ،‬عيون المقاالت‪،‬‬
‫‪.)1990‬‬
‫‪ 36‬الفكرة األساسية التي يأتي بها مفهوم العقل الفعال اجتماعيا وهي أن مجموع الممارسات والمؤسسات االجتماعية‪ ،‬تستند في جزء كبير منها على‬
‫«العقالنية» بطرق مختلفة؛ ذلك أنها تتبع قواعد معينة في عملها‪ .‬أو بعبارة أخرى‪ ،‬هي ليست مجرد عالقات ميكانيكية‪ ،‬ولكنها تعمل تبعا للقواعد والقيم‬
‫المصاغة من قبل العقل االجتماعي نفسه‪.‬‬
‫‪37 Gordon and others, p.414‬‬
‫‪38 Ibid, p. 414‬‬
‫‪39 Ibid, p.416‬‬
‫‪18‬‬

‫عامة ليست لها أي دالالت طبيعية طبية وال مرجعية إحيائية أوخلفية نقدية فلسفية‪ ،‬فيمكنه استخدام‬
‫مرادفاتها‪ :‬الرشور أو اإلخفاقات االجتامعية‪ ،‬لكن يلزم معرفة أهمية هذه الدالالت واالستعارات التي ليست‬
‫البتة مجرد أدوات فارغة واعتباطية‪ ،‬أو ذات توظيف مجاين‪ ،‬مادامت تؤطر تفكرينا واختياراتنا لألمثلة‪ ،‬وكذا‬
‫أولوياتنا املوضوعية‪ .‬وال ينبغي أن نغفل مسألة أساسية ميكن اعتبارها جوهرية بهذا الخصوص‪ ،‬هي مبدأ‬
‫التمييز بني الفلسفة االجتامعية واألخرى السياسية واألخالقية‪.‬‬
‫ً‬
‫ومنسجم إىل حد بعيد مع مبدأ التمييز هذا؛ أي‬ ‫يعد استخدام لفظ «باثولوجيا اجتامعية» متواف ًقا متا ًما‬
‫إنه «املفهوم الذي يبدو مميزا للمرشوع الفلسفي االجتامعي النقدي عن موضوعات الفلسفة السياسية أو‬
‫أول‪ ،‬رشيطة أن يكون يف نفس الوقت‬ ‫األخالقية»‪ .40‬يتحدد املرمى يف الكشف عام هو قابل للنقد االجتامعي ً‬
‫الحد الفاصل بني الظواهر االجتامعية‪ ،‬ثم األخالقية والسياسية ثان ًيا‪ .‬استخدامه إ ًذا‪ ،‬ليس عرض ًيا مادام يقدم‬
‫الكثري عن كيفية فهم هذا التقليد الفلسفي ومهمته التي تفصله عام عداه‪ .‬فال ينبغي أن يختزل الرتكيز عىل‬
‫الغرابة األنطولوجية لبعض املفاهيم املستدعاة يف الفلسفة االجتامعية النقدية‪ ،‬ومنها مفهومنا املعني‪ ،‬بقدر‬
‫ما يجب الرتكيز أكرث عىل نجاحها التفسريي والتحلييل الشامل‪ ،‬أو عدمه‪ ،‬مقارنة بالنظريات النقدية األخرى‪.‬‬

‫حري بنا التذكري أن مفهومنا املحوري‪ ،‬مل يحظ بتعريف واحد دقيق ومركز‪ .‬لقد تفرعت تعريفاته‬
‫وانقسمت رشوحه إىل فروع‪ .‬أما األول والثاين‪ ،‬فينطويان عىل مفهوم معياري للباثولوجيا‪ ،‬وبحسبهام‪ُ ،‬يعترب‬
‫يشء ما باثولوجية اجتامعية إذا كان له وقع سيئ عىل الصعيد االجتامعي‪ .‬وإن كان هناك اختالف بني هذين‬
‫التصورين‪ ،‬لكنه ال يخرج عن نطاق املعيارية؛ إذا كان التصور األول يرى أن الباثولوجيات االجتامعية ال تتميز‬
‫بخصائص كلية وسامت عامة‪ .‬فإن التصور الثاين يقر بوجود بنية داخلية مشرتكة بينها‪ .‬أما الثالث والرابع‪،‬‬
‫فيندرجان ضمن املفهوم الطبيعي‪ ،‬وكالهام يعتقدان أن اليشء الباثولوجي أو املريض ينم عن وجود خطأ ما‪،‬‬
‫‪41‬‬
‫وعىل أساسه يكون اليشء الخاطئ تعبريا عن حالة مرضية‪.‬‬

‫وهنا يظهر بجالء‪ ،‬أن التصورين األخريين منسجمني إىل حد بعيد مع تصور أكسيل هونيث‪ ،‬الذي يجعل‬
‫التفكري يف عني املفهوم مقرتنا بافرتاض الصحة كحالة أصلية وطبيعية لليشء‪ ،‬بينام الثاين‪ ،‬وهو املفهوم املعياري‪،‬‬
‫جعل مصدر املرض يكمن يف االخفاق والفشل االجتامعيني‪ .‬وإن أردنا استبدال هذه املفردة بأخرى أبلغ منها‬
‫داللة وتعبريا‪ ،‬ستكون كلمة العجز الذي يطال املؤسسات االجتامعية‪ ،‬ويعود يف األصل حسب االتجاه املعياري‬
‫إىل االخفاق االجتامعي؛ بالنظر النحرافات مؤسساته عن العقالنية املوضوعية املمكنة بالفعل‪.‬‬

‫‪40 Arto Laitinen, ARVI Sarkela, «Four conception of social pathology», journals.sagepub.com, 17/05/2018, seen‬‬
‫‪on 10/02/2022, in: https://2u.pw/GnS5XXz‬‬
‫‪41 Ibid.‬‬
‫‪19‬‬

‫كان من املهم الوقوف عند هذه التصورات األربعة يف سبيل تعزيز الفهم عن «الباثولوجيات االجتامعية»‪.‬‬
‫وال جرم أن الخطأ سيكون إذا تم االعتقاد أن هذه الباثولوجيات هي بالرضورة ذات طابع كوين ميكن تعميمه‬
‫أو إسقاطه عىل مختلف املجتمعات‪ .‬إمنا الحقيقة الوحيدة التي يسمح بكوننتها ويجوز إسقاطها عىل السياقات‬
‫االجتامعية بكامل اختالفها وتنوعها‪ ،‬هي حقيقة «االجتامعي» الذي ال ميكن محاكاته البتة؛ ما كل مجتمع‬
‫يشكل وضعية اجتامعية مستقلة‪ ،‬مادام كل سياق له منطلقات أساسية وصريورات تاريخية وثقافية خاصة‪،‬‬
‫تفرض نفسها كوضعيات أنطولوجية يستحيل إسقاطها عىل سياقات أخرى مغايرة‪ .‬مبا أن مفهوم العقل الفعال‬
‫اجتامع ًيا ال يخرج عن مقولة الزمكان‪ ،‬أي أنه مرتبط بسياق اجتامعي وتاريخي معني‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يبقى بعض‬
‫املنظرين ضمن هذا التقليد الهيغيل محتكمون لحالة تقدم تاريخية محددة‪ .‬والحال أن لكل مجتمع مناذج‬
‫محلية ُينظر إليها يف ضوء معايريه القامئة؛ وهو ما يجعل من الخطأ إسقاط أمراض مجتمع عىل مجتمع آخر‪ ،‬إن‬
‫كل مجتمع ينتج أمراضه بطريقته الخاصة وفق منظومة قيمه املحلية السائدة‪ ،‬ولنا يف «املجتمعات العربية»‬
‫خري مثال‪ ،‬بل إن افرتاض وجود شكل واحد مشرتك للباثولوجيات االجتامعية‪ ،‬ينم عن نزعة جوهرانية كتلك‬
‫التي نجدها عند الفيلسوف جادامري (‪ )Hans-Georg Gadamer( )1900-2002‬وأرسطوو وولزر (‪Michael‬‬
‫‪ )1935( )Walzer‬وال غرو أنه افرتاض يؤدي إىل الرتكيز عىل الحاالت االجتامعية املألوفة واملعتادة‪ ،‬مثل‬
‫السكري الذي يبحث ليال عن مفاتيحه املفقودة تحت عمود االنارة‪ ،‬ليس ألنه املكان الذي ُفقدت فيه املفاتيح‪،‬‬
‫وإمنا حيث يسهل العثور عليها هناك‪ .‬لكن مثلام أرشنا يف السابق‪ ،‬إن الفيلسوف االجتامعي يعنى بالكشف‬
‫عن الالمرئيات االجتامعية ‪ Social Invisibilities‬ونقدها ومن تم تشخصيها ومتحيصها‪ ،‬كأحد موضوعات‬
‫النقد االجتامعي‪ ،42‬والتي جعلها أكسيل هونيث يف ارتباط بنظرية االعرتاف‪ :‬من ناحية أن املعرتف به يغدو‬
‫مرئيا اجتامع ًيا يف الوقت الذي يكون غري املعرتف به ال مرئيا يف عني املجتمع‪ ،‬مقصيا ومغيبا‪ .‬وبالطبع‪ ،‬هذا ال‬
‫يحيل عىل غيابه املادي‪ ،‬ولكن عىل غيابه االجتامعي‪ .‬ذلك باملعنى الحقيقي لالجتامع وما يشرتط من عالقات‬
‫‪43‬‬
‫متكافئة واعرتاف متبادل‪.‬‬

‫بهذا املعنى‪ ،‬تكون اإلخفاقات االجتامعية يف الواقع‪ ،‬معربة عن الحاالت التي ترتتب عىل الظلم والهيمنة‪،‬‬
‫الالمرئية والقهر‪ ،‬وعن االحتقار واإلذالل االجتامعيني‪ ،‬كانعكاس ملستوى قصور العقل االجتامعي‪ .‬وكلها أمراض‬
‫متنع الرفاه والحرية وتعيق االستقاللية وتحد من التضامن الحقيقي‪ ،‬فتحول دون أن يكتسب الفرد معايري‬
‫وعيه الذايت وتحقيق ذاته بشكل فعيل‪ .‬والنتيجة الناجمة عن ذلك‪ ،‬تظهر يف مامرسة شتى أشكال القمع‬
‫واالستغالل والهيمنة‪ ،‬إىل جانب اإلكراه‪ .‬عىل أن لكل هذه االنحرافات‪ ،‬ومنها ما مل يذكر‪ ،‬صلة وثيقة باملعاناة‬
‫واآلالم االجتامعية التي نشهدها اليوم يف واقعنا العريب بشكل مخصوص‪.‬‬

‫‪42Ibid.‬‬
‫‪43 Honneth, La société, p. 225‬‬
‫‪20‬‬

‫يظل مفهوم الباثولوجيا االجتامعية بالرغم من االنتقادات التي تطاله‪ ،‬يستخدم عالوة‪ ،‬للحديث عن‬
‫املعاناة التي ترجع يف األساس إىل أيديولوجيات مضمرة‪ ،‬تعمل عملها بعناد واستامتة يف خضم املامرسات‬
‫املعيشة‪ 44.‬لكن مادام الفهم يشكل أحد أهداف النقد الفلسفي االجتامعي؛ فهم األسباب التي تجعل ذات‬
‫األمراض غري ظاهرة للعيان مهام كانت آثارها بارزة يف املجتمع‪ .‬فإن متظهراتها لن تنفلت من قبضة اليقظة‬
‫التشخيصية‪ ،‬لطاملا يتسع نطاق وظيفة الفيلسوف االجتامعي إىل إماطة اللثام عن الباثولوجيات التي يراد‬
‫لها أن تكون أيديولوجيات مرتسخة‪ ،‬متخضت عنها تشوهات واضطرابات تضني حياة األفراد وصحة املجتمع‪.‬‬
‫يتعلق األمر مبامرسات وسلوكيات تقودها قوى ايديولوجية مهيمنة ومتأصلة اجتامع ًيا تبث الوهم‪ ،‬غري أنها‬
‫تنخر وتنهش يوما بعد يوم ويف صمت مريب سالمة ذوات الجسم االجتامعي‪.‬‬

‫يؤكد أدورنو هنا‪ ،‬أن ما يعتربه املجتمع طبيع ًيا وصح ًيا يف كثري من األحيان‪ ،‬يعود بتكلفة عالية عىل نفوس‬
‫األفراد؛ إذ هو يف واقع الحال باثولوجيا ممرضة؛ فاملجتمع الذي يطلب من أفراده السعي وراء حالة باثولوجية‬
‫عىل أنها منوذج طبيعي‪ ،‬هو عينه مختل وظيفيا وقارص عقليا‪ .45‬ويف هذا التصور ضمنا ما من شأنه أن يفرس‬
‫حالة املجتمع ككل يف ضوء تجسيده لخصوصية النقد الجذري للجسد االجتامعي عند أدورنو؛ ال ينبغي تصور‬
‫«املرض» يف كيان منفصل ومعزول عن األعضاء السليمة األخرى؛ ألن املوضوع يخص الجسم االجتامعي يف‬
‫كليته‪ .‬فعندما يكون مرض الحياة االجتامعية إذن مخفيا نسبيا أو بالكامل‪ ،‬هذا ال يعني أنه غري موجود‪ ،‬ولن‬
‫يغري أبدا من حقيقة أن املجتمع املترضر هو نفسه العلة‪ ،‬بل كل ما يعنيه‪ ،‬أن الكتشافه يحتاج املرء إىل أخذ‬
‫‪46‬‬
‫منظور كيل حول املجتمع بكامله‪.‬‬

‫ما يقدمه أدورنو هنا‪ ،‬هو تصور مزدوج عن الكيفية التي يتسبب بها املجتمع يف إصابة األفراد باملرض‪ ،‬وعن‬
‫الحالة التي يكون فيها املجتمع ذاته مريضا‪ .‬مام يجعلنا نستنتج إن الباثولوجيا االجتامعية ال ميكن تعيينها من‬
‫خالل النظر إىل األفراد ككيانات ذرية جزيئ؛ ألن التضحية املقررة اجتامع ًيا هي يف الواقع شاملة لدرجة أنها تظهر‬
‫فقط يف املجتمع كوحدة كلية‪ ،‬وليس يف الفرد بشكل منعزل؛ وذلك افرتاض حول املجتمع كام لو كان مرض جميع‬
‫األفراد‪ ،‬يف حني أن الباثولوجيات االجتامعية تكون مرئية فقط إذا نظرنا إىل املجتمع كوحدة كلية‪.‬‬

‫لن ينكر أحد أن العوامل االجتامعية تكون يف أحيان كثرية جزء من العالقة السببية لالكتئاب‪ ،‬عىل سبيل‬
‫املثال ال الحرص‪ .‬فكثريا ما يتحدث األطباء النفسيون عن «مجريات الحياة» كعامل ذي صلة سبب ًيا‪ .‬لكن‪،‬‬
‫هذا الربط ال يجعل منهم بطبيعة الحال مشخصني لباثولوجيا االجتامعي‪ ،‬ليس إال ألن األطباء النفسيني ال‬
‫يحتاجون‪ ،‬وعاد ًة ال يقومون بذلك‪ ،‬تقديم تشخيص حول األمناط االجتامعية ملثل هذه األمراض النفسية‪ .‬لكن‬

‫‪44 Arto Laitinen, ARVI Sarkela, «Four conception of social pathology», journals.sagepub.com, 17/05/2018, seen‬‬
‫‪on 10/02/2022, in: https://2u.pw/GnS5XXz‬‬
‫‪45 Gordon and others, p. 417‬‬
‫‪46 Ibid, p, 417‬‬
‫‪21‬‬

‫عندما يرى الفيلسوف االجتامعي‪ً ،‬‬


‫مثل‪ ،‬أن التنظيم الرأساميل للمجتمع أو أي نظام آخر كان هو الذي ينتج‬
‫ً‬
‫أمناطا تتيح التعرف عليها من ظروف الحياة االجتامعية املجهدة التي تؤدي إىل االكتئاب‪ ،‬فإنه بذلك يكون‬
‫بصدد تشخيص مزدوج لباثولوجيا االجتامعي‪.‬‬

‫ويف هذا املقام‪ ،‬عطفا عىل ما يراه أدورنو «يعلن املختصون يف البلدان الرأساملية املتقدمة أن هناك‬
‫ازديادا مطردا يف االكتئاب وكذلك يف الفصام الذي يوصف يف اليابان‪ً ،‬‬
‫مثل‪ ،‬بأنه مرآة البيئة االجتامعية املعارصة؛‬
‫وأن الفصام يف تلك البلدان‪ ،‬عىل الرغم من التقدم يف تشخيصه‪ ،‬ليس هناك تقدم يف عالجه والسبب يف ذلك‬
‫انعدام البيئة االجتامعية املساعدة عىل الشفاء‪ .‬فلو أصيب رئيس رشكة بأزمة قلبية قيل إنها نتيجة االجهاد‬
‫يف العمل‪ ،‬كأن ذلك مبعث عىل الفخر‪ ،‬وكل الناس يدعمونه‪ ،‬ولكنه إذا أصيب بأزمة نفسية‪ ،‬للسبب ذاته‪،‬‬
‫عليه أن يكابد يف صمت لئال يتعرض للهزء واالحتقار»‪ .47‬ومع ذلك‪« ،‬فإن الكثري من األطباء النفسيني وعلامء‬
‫النفس يرفضون أن ينظروا يف فكرة أن املجتمع يف كليته يفتقر إىل السالمة‪ .‬وهم يعتقدون أن مشكلة الصحة‬
‫الذهنية يف املجتمع هي مجرد مشكلة عدد من األفراد (غري متوافقني) وليست مشكلة عدم التوافق املمكن‬
‫‪48‬‬
‫يف الثقافة ذاتها»‪.‬‬

‫وعليه‪ ،‬فإن ما يربر استدعاء الكيانات االجتامعية الكلية (املؤسسات االجتامعية واألنظمة‪ ...‬وغريها)‬
‫كعوامل سببية أو علل فاعلة‪ ،‬رغم أن ذلك ال يكون دامئًا عىل نحو رصيح‪ ،‬هو أن يف استحضارها يكون‬
‫فائض توضيحي ونجاح تفسريي ملعرفة باثولوجيا االجتامعي يف تفاعالتها وتشابكاتها املعقدة‪ ،‬حيث أبعادها‬
‫متداخلة ببعضها بني االجتامعي والسيكولوجي واالقتصادي والسيايس واإليتيقي‪ ،‬ورمبا باألنرثوبولوجي والديني‬
‫والفلسفي يف أحيان ليست بالقليلة‪ .‬وليس هذا التشابك إال تعبري عن تعقيد الواقع من جهة‪ ،‬واستحالة الفهم‬
‫والتفسري األحادي الذي ال يجرؤ العبور للفروع املعرفية والرفد مبعطياتها املختلفة‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬ال بد للفيلسوف االجتامعي والحالة هذه‪ ،‬أثناء تحليله وتشخيصه للواقع كوحدة كلية‪ ،‬أن يقدم‬
‫فرضية كوضعية انطالق حول الحالة التي ميكن أن يكون عليها املجتمع‪ ،‬عىل أن تضمن ألفراده الوصول إىل‬
‫حياة اجتامعية عقالنية بالكامل‪ ،‬أكرث صحة وتوازنا‪ .‬أي أنه ال ينبغي عليه االكتفاء بوصف ظواهر التجربة‬
‫ونقدها وتحليلها‪ ،‬مادامت مهمته تستدعيه لإلسهام يف تحقيق املرامي املرجوة للبرش‪ .‬مثلام فعل أكسيل‬
‫هونيث متا ًما يف نظريته عن االعرتاف‪ .‬مل يقترص يف الحقيقة عىل وظيفته كناقد ومشخص‪ ،‬مبعنى عمد إىل‬
‫التحليل وفق أطروحته طمعا من جانب‪ ،‬يف إعادة صياغة ونحت مفهوم جديد لالعرتاف من أجل تقديم‬
‫إطار وقالب جديدين‪ ،‬ومفهوم يؤسس لألخالق ويعمل يف ذات الوقت كأساس معياري للتحرر واالنعتاق‬
‫من الهيمنة‪ .‬وسعيا من جانب آخر‪ ،‬لتشخيص وتحليل الباثولوجيات التي ينظر لها كمفارقات للرأساملية‬

‫‪ 47‬فروم‪ ،‬ص ‪8‬‬


‫‪ 48‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪106‬‬
‫‪22‬‬

‫و«االعرتاف االيديولوجي»‪ 49‬يف املجتمع الرأساميل املعارص‪ .‬لنئ كان يف سياقات كثرية‪ ،‬يذهب للتأكيد إن‬
‫الرأساملية ليست وحدها املفرسة ألسباب ومسببات هاته األمراض‪ ،‬وإمنا يعود عدد منها إن مل نقل جلها‬
‫إىل مفارقات مالزمة لها تؤول يف النهاية إىل ظهور مظاهر االستالب وتفيش شتى أنواع االحتقار‪ً ،‬‬
‫فضل عن‬
‫غياب التضامن االجتامعي والتقدير القيمي‪ .‬وهو األمر الذي ساهم بطريقة مبارشة يف انتشار صور الالمرئية‬
‫االجتامعية‪ ،‬كام أرشنا يف السابق‪ ،‬كمرض تعرب من خالله الذوات املهيمنة عىل تفوقها ومتيزها االجتامعيني يف‬
‫عالقتها بالذوات املهيمن عليها‪.‬‬

‫وبهذا نستحرض أمثلة سبق وقدمها يف دراسته للموضوع‪ ،‬وهي تجسيد لنامذج من التاريخ االجتامعي‬
‫الثقايف‪ ،‬تربز كيف «أن النبالء قدميا كانوا يتعروا أمام خدمهم ال ليشء إال ألنهم يعتربونهم ال مرئيني أو غائبني‪.‬‬
‫ويكمن الفارق بني النظرة العنرصية الحديثة ونظرة النبالء القدمية‪ ،‬يف أن اإلنسان األبيض بوصفه مهيمنا يعمل‬
‫‪50‬‬
‫قصديا عىل أن يفهم الزنجي الحارض فيزيائيا أمامه بأنه غري مريئ وغري حارض بالنسبة إليه‪».‬‬

‫وعىل ضوء هذا املثال‪ ،‬نجد إحدى املفارقات غري تلك الناشئة عن الرأساملية‪ ،‬تكشف عن الحالة االجتامعية‬
‫املرغوبة والحياة الواقعية‪ ،‬أو بتعبري آخر‪ ،‬هناك تعارض مريئ بني ما هو كائن وما ينبغي أن يكون‪ ،‬هي عىل‬
‫هاته الشاكلة‪ ،‬متثل حالة باثولوجية تعوق التغيري االجتامعي املرغوب لدى أفراد املجتمع‪ .‬لكن من املهم‬
‫التذكري بأن توظيف هونيث «ملفهوم املفارقة مل يكن مقابال ملصطلح التناقض‪ ،‬وإمنا استعامله كان بغرض تفسري‬
‫البنيات املتناقضة‪ ،‬عليها يكون التناقض مفارقا عندما يختزل إمكانية تحقيق مقصد معني‪ 51».‬ومثة مفارقات‬
‫تطال حاجة األفراد إىل تحقيق ذواتهم بكيفية إيجابية وناجحة‪ ،‬ثم إن هناك مفارقات مختلفة تقرتن بعملية‬
‫الوعي بالذات وتحقيقها‪ .‬وهذا يعني أن الباثولوجيا االجتامعية تنم عن عملية يتم من خاللها إرشاك (تحقيق‬
‫الذات) يف إعادة إنتاج املجتمع الرأساميل بطريقة تجعل من املفارقة تحقيقه‪.‬‬

‫يذهب «هونيث» يف هذه األسطر إىل أن مزيج مختلف من العوامل االجتامعية‪ ،‬قد أدى منذ السبعينيات‬
‫إىل إرشاك عملية تحقيق الذات ضمن عملية اإلنتاج الرأساميل‪ ،‬حيث يتعني عىل األفراد التظاهر بأنشطة‬
‫يبدون من خاللها كأنهم يحققون ذواتهم يف كونهم موظفني أو عاملني‪ ،‬أو من خالل االستمرار يف وظائف‬
‫معينة‪ ،‬أو عن طريق السعي للحصول عىل ترقيات وامتيازات مادية‪ .‬بينام تؤول النتيجة السيكولوجية إىل‬
‫شعور الذوات بالفراغ الداخيل والال معنى أو الال جدوى إزاء ما يقومون به‪ ،‬مام يعزز افرتاض ارتفاع مستويات‬
‫االكتئاب كاستجابة فعلية مضادة‪.‬‬

‫‪ 49‬االعتراف في شكله االيديولوجي عبارة عن عملية زائفة تؤدي إلى تثبيت عملية الهيمنة االجتماعية القائمة‪ ،‬وبذلك يتحول االعتراف إلى مفهوم‬
‫إيديولوجي يقوم على الزيف وال يؤدي إلى االستقالل الذاتي‪ ،‬وإنما يعمل من أجل التماثل مع النظام‪ ،‬أو باألحرى التماثل مع نظام الهيمنة القائم‪ .‬ويمكن‬
‫العودة إلى الزواوي بغورة‪ ،‬االعتراف من أجل مفهوم جديد للعدل دراسة في الفلسفة االجتماعية‪ ،‬الطبعة األولى (بيروت‪ :‬دار الطليعة‪.)2012 ،‬‬
‫‪ 50‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪181‬‬
‫‪51 Honneth, La société, p. 287‬‬
‫‪23‬‬

‫مل تكن الذوات أبدا من قبل وال تقسيامت «اليوم» الزمنية خاضعة للهيمنة الرأساملية املبارشة‪ ،‬بينام‬
‫ها هي اليوم باسطة هيمنتها بصورة وحشية أكرث من أي وقت مىض‪ .‬مثلام مل يعد وقت الراحة مجان ًيا أبدا‪،‬‬
‫عساه عىل الدوام جز ًءا من سياق الهيمنة إىل حد مل تعد الدراسة وحدها تكفي للحصول عىل درجة يؤمن بها‬
‫الواحد لقمة عيشه‪ ،‬يلزمه باإلضافة توجيه أنشطته «الالصفية» يف أفق تقوية وتعزيز فكرة رضورة التوظيف‪.‬‬
‫وحتى عندما أصبحت أوقات العمل والتسلسالت الهرمية أكرث مرونة من ذي قبل‪ ،‬فإن ذلك مل يؤد ببساطة‬
‫إىل نتيجة تقدمية‪ ،‬لقد أضحى العاملون واملوظفون تحت الطلب دامئا‪ ،‬يستجيبون عىل مدار الساعة وطوال‬
‫أيام األسبوع لحاجيات ورشوط النظام‪ .‬والحال نفسه‪ ،‬مل يعد كافيا القيام باملهام املطلوبة‪ ،‬بل يجب االشتغال‬
‫والعمل بحامس والترصف كام لو أن الوظيفة جزء من تحقيق املرء لذاته ووعيه بها‪.‬‬

‫لذلك اعتربها هوركهامير نوعا من الرأساملية االحتكارية الشاملة‪ ،‬حيث «املجتمع ال يتمكن فيه الفرد‬
‫الذي ال أهمية له من البقاء يف قيد الحياة إال بوصفه جزءا من منظمة أو رابطة أو فريق؛ يستطيع فيه‪ ،‬إن‬
‫أراد الحفاظ عىل نفسه‪ ،‬أن يستعد يف كل مكان‪ ،‬وأن يعمل يف كل فريق‪ ،‬وأن يكون الئقا لكل شيئ ويجب أن‬
‫يكون دائم اليقظة وجاهزا‪ ،‬وأن يكون باستمرار ويف كل مكان متوجها نحو العميل مبارشة»‪.52‬‬

‫وهنا يرى هونيث‪ ،‬أن ما عندنا هو مجرد تحريف وتزييف وسخرية بدالً من تحقيق الذات الحقيقي‪.‬‬
‫مبوجبه بات خطاب تحقيق الذات أداتيا وجز ًءا ال يتجزأ من إعادة اإلنتاج الرأساميل والعامل االجتامعي‪ ،‬ليس‬
‫الخطاب وحده‪ ،‬حتى فكرة الوعي بالذات نفسها؛ وذلك أن مسألة تحقيق الذات يف الواقع‪ ،‬قد نجد تعبرياتها‬
‫يف املامرسات واألفعال كأداء خارجي وظاهري فقط‪ ،‬منفصل حقيقة عن ذاتية الفرد لئال نقول إن الفرد مغرتب‬
‫عنها متا ًما؛ فمن غري املنطقي الحديث عن تحقيق الذات الحقيقي يف ظل انعدام ظروف ورشوط تحقيقها‪.‬‬
‫والعجيب أن ما كان نداء للمعركة من أجل التحرر وكذلك معيارا للنقد االجتامعي‪ ،‬بات أداة للسيطرة وعكس‬
‫بالتايل تكافؤه املعياري‪ 53.‬اليشء الذي دفع هونيث إىل الربط بني فكرة تحقيق الذات التي تحولت إىل قوة‬
‫إيديولوجية وإنتاجية يف خضم نظام اقتصادي مختل‪ ،‬واالرتفاع الرسيع يف نسبة االكتئاب‪.54‬‬

‫وكلها أسباب آلت إىل بروز اعرتاف ُأدلوجي أو مؤدلج؛ تتحطم بفعله عالقة الذات مع نفسها‪ ،‬مبا أن‬
‫التامثل مع النظام إىل هذا املستوى تغيب فيه مبادرات املقاومة التي تفيض لالنعتاق‪ .‬ما معناه انقياد يحطم‬
‫الذات من الداخل فتحطيم عالقتها العملية تجاه نفسها‪ .‬أو احتواء لقيمة الذات يحجم من وعيها ووجودها‬
‫الخاص فتفقد بالتايل اإلحساس بوجودها الواقعي الخاص؛ وذلك من دون أن يفهم أن هنالك إقرارا من‬
‫الرأسامليني الستاملة اإلدراك الذايت بهدف تجديد الرأساملية وتوسيعها الستيعاب مجاالت أخرى من الحياة‪.‬‬
‫فام يقدمه هونيث‪ ،‬يظل وصفا لكيفية االستجابة للنظام الرأساميل والتي يراد لها أن تكون معقولة‪ .‬عىل‬
‫‪ 52‬فيغرسهاوس‪ ،‬ص ‪440‬‬
‫‪53 Gordon and others, pp. 419, 420‬‬
‫‪54 Ibid, p. 421‬‬
‫‪24‬‬

‫أن قيمة تحقيق الذات بوصفها أحد اإلشكاالت التي تحظى باهتامم النقد االجتامعي‪ ،‬والتي يتم تناولها‬
‫عىل نحو مضطرد يف النظر للمامرسات االجتامعية‪ ،‬أضحت يف األخري‪ ،‬ليس عنوة وبدون سيطرة من أحد‪،‬‬
‫مخ ّر ًبة ومفسدة‪ .‬فبهذا املفهوم يرتبط تحديد رشوط تحقيق اإلنسان لذاته عند هونيث‪ ،‬بالتشخيص النقدي‬
‫«للباثولوجيات االجتامعية» وللميول املرضية للمجتمع الحديث التي تجعل تحقيق الذات مستحي ًال‪ .‬ويف ذلك‬
‫‪55‬‬
‫بعد نقدي حاسم يتناقض مع الفلسفة السياسية‪.‬‬

‫سبقت اإلشارة إىل أن مفهومنا املعني بالبحث قد شهد نقدا‪ ،‬كمصطلح طبي بيولوجي وإحيايئ‪ .‬وبالتايل ليس‬
‫مثة سبب واف وشاف بالطبع وراء استعامله للداللة عىل املشكالت االجتامعية ورشورها‪ ،‬لطاملا هناك مرادفات‬
‫أخرى قد تفي بالغرض‪ .‬غري أنه وجب التأكيد عىل كونه أكرث املصطلحات تعبريا عن اآلالم واملعاناة التي تخلفها‬
‫بعض املامرسات والتحوالت يف واقعنا االجتامعي وعن التحريف والتخريب والسخرية التي تطال الوعي الذايت‪.‬‬
‫فليس هناك ما يخلف آالما ومعاناة أكرث من املرض ذاته الذي ليس مجرد حالة صحية مهرتئة فقط‪ ،‬بل تجسيد‬
‫لوضعية أنطولوجية مخربة ومفسدة للعقل والجسم‪ ،‬ترى الحياة خاللها مبنظور مغاير ومختلف كلية عىل النحو‬
‫الذي كنت تراه عليه من ذي قبل‪ ،‬وعىل ما سرتاه عليه يف الالحق‪ .‬هكذا لن تستطيع تذوق طعم الصحة إال إذا‬
‫امتثلت للشفاء‪ ،‬ولن تعرف قيمتها الحقيقية إال وأنت يف خضم املعاناة ورحم اآلالم ُتقاوم من أجل استعادة‬
‫العافية‪ .‬هو بالذات حال الذين أمل بهم املرض االجتامعي‪ ،‬رغم أن االختالف بني الحالتني واضح متا ًما‪ :‬من جهة أن‬
‫املعاناة يف املثال األول يوجد وعي بها‪ ،‬أما الثاين فال يوجد هناك أي وعي فعيل؛ مام يزيد من حدة اآلالم وتفيش‬
‫املرض نظرا لغياب هذا األخري الذي يعترب عنرصا رئيسا للرغبة يف العالج‪ .‬بغض النظر عن نوع املرض عام إذا كان‬
‫عضويا أم نفسيا أو لنقل اجتامعيا‪ .‬عادة ما ال يجيد املريض وصف آالمه وتفسري أحاسيسه‪ ،‬لقد جرت العادة أن‬
‫يعزوها دامئا إىل العلة غري الحقيقية؛ أي إىل األسباب غري الصحيحة‪ .‬وتلك يف الواقع ليست أكرث من آلية دفاعية‬
‫سيكولوجية لدرء املشخص عن كشف العلة الحقيقية للمرض‪.‬‬

‫بهذا إذن تكون الباثولوجية االجتامعية مفهوما يتم توظيفه للداللة عىل الرشور واإلخفاقات االجتامعية‪،‬‬
‫كام يتم اسخدامه كآلية بغرض نقد الظواهر التي تشكل موضوعا للنقد االجتامعي‪ ،‬أو للحديث عن الظواهر‬
‫التي ميكن نقدها اجتامع ًيا يف ضوء قصورها عن العقالنية الفعالة اجتامعيا‪ .‬يصلح للداللة عىل ما يستهدف‬
‫احتواء الوعي بالذات‪ ،‬والحالة كذلك عىل األيديولوجيات التي تدعو وتكرس يف آن التامثل مع األنظمة وكذلك‬
‫النظم االجتامعية املختلة‪ .‬ولوصف ما يخلف تقهقر‪ ،‬انحطاط أو تعطيل يف عملية التطور ويف سريورة الحياة‬
‫االجتامعية بالكامل‪ .‬إنه يشري إىل جملة االختالالت واالضطرابات التي تعيق أي تقدم بيعالئقي‪ ،‬وتحول دون‬
‫بلوغ الرفاه أو الكامل االجتامعي يف مستواه اإليتيقي‪ ،‬أو عىل األقل دون تحقيق حياة اجتامعية ناجحة وخرية‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬وجب التعامل مع الباثولوجيات االجتامعية كفريوس متطور يصيب املجتمع ككائن حيوي اجتامعي‬
‫يستحق أن يعيش حياة جيدة‪.‬‬

‫‪55 Deranty, Beyond Communication, p. 321‬‬


‫‪25‬‬

‫ويف ضوء هذا كله‪ ،‬يجب أن يكون املرض واقعا وحادثا فعال يف حياة األفراد وليس من نسيج الخيال‬
‫أو التصور‪ ،‬يجسد حالة متأصلة يف السلوك االجتامعي برهنت أن نتائجها ضارة ومؤذية لألفراد‪ .‬ولوقعها‬
‫أيضا رضرا عىل حياتهم االجتامعية؛ إذ الحالة تنتهك القيمة املعيارية للحياة الجيدة‪ .‬ويجدر اإلقرار بأن‬
‫تشكل املجتمع يف الحقيقة من رشائح متباينة وفئات مختلفة‪ ،‬قد ينجم عنه تباين يف كيفية العيش مع ذات‬
‫الباثولوجية االجتامعية‪.‬‬

‫من املحتمل جدا أن يتم فهمها والنظر إليها عىل نحو مختلف متا ًما‪ ،‬لكن ال ينبغي أن يجعلنا هذا التباين‬
‫يف الفهم والتحليل ننظر لجملة الباثولوجيات عىل أنها رضورة اجتامعية‪ ،‬وننحرف عن مبادئ العقل املوضوعي‬
‫بالقول إن لها مصالح وغايات تخدم املصلحة العامة املشرتكة بني األفراد‪ ،‬علنا بهذا املوقف نساهم يف معاودة‬
‫إنتاج السلطة القامئة وتعزيز القوى املهيمنة‪.‬‬

‫لهذه األسباب وسواها‪ ،‬مثة باثولوجيات تندرج تحت الصنف غري املريئ لدى أفراد املجتمع؛ ألنها والحال‬
‫تتعارض مع القيم واملصالح السائدة‪ ،‬تنظر إليها القوى املهيمنة كرضورة اجتامعية لغاية تكريس نظام اجتامعي‬
‫مختل‪ ،‬يحقق يف الوقت نفسه‪ ،‬التوازن السيكولوجي واالجتامعي الذي يجعل العالقات االجتامعية تنتعش من‬
‫عالقات معيشة قامئة عىل أساس الهوة الفاصلة بني واحدة قوية مهيمنة وأخرى ضعيفة مهيمن عليها‪.‬‬

‫كام ينبغي التأكيد أن وجود باثولوجيات اجتامعية يف الواقع ال ينم عن وجود ظاهرة غري طبيعية البتة‪.‬‬
‫إن املرض ال يعدو أن يكون سوى جزء من الطبيعة البيولوجية‪ ،‬يشكل ميكانيزما رضوريا ينبه عن أي خلل‬
‫أو مشكلة صحية أو عن أي عنرص دخيل عىل الجسم االجتامعي‪ ،‬وهو ما يسمى باملقاومة املناعية‪ .‬فصحة‬
‫املجتمع وسالمته ال تكمن يف خلوه كلية من شتى أعراض املرض؛ ألن ذلك يستحيل مبكان‪ ،‬وإمنا تتجىل يف بلورة‬
‫وتطوير جهاز مناعي قوي جاهز للتصدي ألي جرثوم خبيث ينخر وينهش‪ ،‬بل واألكرث‪ ،‬يضعف الدرع الحامي‬
‫لصحة املجتمع‪ .‬باإلضافة إىل أن سالمة هذا األخري تشرتط الوعي بالعلة وبرسعة تشخيصها‪ ،‬ليسهل التغلب‬
‫عليها قبل االنتشار‪.‬‬

‫فغري الطبيعي هو عدم ظهور أمراض يف واقع اجتامعي تتغري قيمه ومعايري مناذجه برسعة مذهلة‪ ،‬إما‬
‫أن تدفع املجتمع إىل االتساق‪ ،‬وإما إىل االختالل واالضطراب‪ ،‬ويف أحيان كثرية‪ ،‬إىل االنحراف عن العقالنية‬
‫املوضوعية والغايات املنشودة ألفراد املجتمع كغاية تحقيق الذات؛ ذلك أن العامل الرئيس وراء جملة االنحرافات‬
‫واالختالالت‪ ،‬التي تعترب باثولوجيات اجتامعية‪ ،‬هي غياب االعرتاف وفق ما خلص إليه هونيث‪ .‬نظرا لكون نظرية‬
‫االعرتاف تقوم عىل فكرة أن املطالب العديدة لألفراد وتطلعاتهم املختلفة‪ ،‬كلها ترمي إىل نفس الغاية‪ ،‬وهي‬
‫تحقيق االعرتاف االجتامعي املتبادل‪ ،‬الذي ميكن من بلوغ أهداف وغايات شخصية وجامعية بشكل مستقل؛ من‬
‫‪56‬‬
‫أساسا يف مواقف الحب‪ ،‬واالحرتام‪ ،‬ثم التضامن االجتامعي‪.‬‬
‫خالل مناذجه التذاوتية الثالثة املتمثلة ً‬
‫‪ 56‬هونيث‪ ،‬الصراع من أجل االعتراف‪ ،‬ص ‪169‬‬
‫‪26‬‬

‫ثالثا‪ :‬الباثولوجيا االجتامعية واالعرتاف‪ :‬عوضا عن خامتة‬

‫يظل الوعي بالذات ورشوط تحقيقها أمرا صعب املنال يف ظل مجتمعات تسودها شتى أشكال اإلخفاقات‬
‫واملوانع االجتامعية‪ ،‬التي ال تخلو عىل كل من مختلف مظاهر املهانة‪ ،‬كمؤرش قوي وانعكاس تام لغياب‬
‫مختلف أمناط التقدير االجتامعي‪ ،‬مام يهدد بهدم الهوية الشخصية للفرد‪ 57‬والجامعية سواء بسواء‪ .‬مبا أنها‬
‫متثل باثولوجيات اجتامعية تحول بني الفرد ووعيه بذاته‪ ،‬فتحتوي قيمته االجتامعية واحرتامه الذي ال ينتزع‬
‫إال من خالل تفاعل بيذايت يحقق للذات معرفة أفضل بوجودها واملعايري التي تحكمها‪ .‬ما يعني‪ ،‬إن تحقيق‬
‫ذواتنا بصورة إيجابية ال يتم إال عن طريق االعرتاف‪ ،‬وعرب عالقتنا بغرينا من الناس الذين نتفاعل معهم يف‬
‫حياتنا االجتامعية‪ .‬عىل سبيل ما ذهب إليه هونيث‪ ،‬يف إعادة صياغته النظرية النقدية‪ ،‬منطلقا من فكرة تعترب‬
‫أن غياب االعرتاف االجتامعي هو باثولوجية وجب لزاما التغلب عليها أو تخطيها‪ .‬إىل أن مؤلفه املذكور آنفا‬
‫(الرصاع من أجل االعرتاف)‪ ،‬يحمل تصورا سعى من ورائه إىل تأسيس قواعد أخالقية للنزاعات والرصاعات‬
‫االجتامعية‪ ،‬من خالل إعادة بناء التجربة االجتامعية استنادا إىل مناذج االعرتاف االجتامعي‪ .‬ذلك أنها تشكل‬
‫مستويات مؤسسة لهوية الفرد كعنرص يسلك التطور يف الحوار والعالقات البينذاتية مع بقية البرش‪ ،‬بها يتأىت‬
‫للذات تحقيق وجودها ونيل االعرتاف من اآلخر‪ .‬فالنزاع االجتامعي يف نهاية املطاف يحمل تعبريا حاميا‬
‫عن حركات تحررية ومقاومة مضادة للتشوهات التي تلحق بالهوية‪ .‬فال يعدو الرصاع أن يكون يف جوهره‬
‫سوى مامرسة اجتامعية نشيطة‪ ،‬تحركها نوازع داخلية تلوح يف األفق بحدوث تغيري اجتامعي تعززه رصاعات‬
‫فضل عن كونه يكفل نسج شبكة ال نهائية من التفاعالت‬ ‫نفسية ضد الهيمنة واالستبداد واالحتقار االجتامعي‪ً .‬‬
‫االسرتاتيجة من أجل الرفع من قيمة الذات‪.‬‬

‫إن الرصاع هنا بهذا املعنى‪ ،‬لَتجسيد ألزمة أخالقية يف املجتمعات الحديثة بعامة‪ ،‬تدفعها حوافز التميز‬
‫والسعي نحو التفوق االجتامعي‪ .‬أما عن التشوهات يف الهوية‪ ،‬فام هي إال الدافع إىل النزاع والرصاع االجتامعيني‪،‬‬
‫والسبب غري املبارش وراء نقل النقاش عن التحرر من دائرة االهتامم املعريف والعقالين نحو نظرية بديلة حول‬
‫البينذاتية (االعرتاف)‪ .‬فثمة أرضار وتشوهات أملت بالعملية التواصلية بني أفراد املجتمع قبل أطروحة هونيث‬
‫مع أستاذه يورغن هابرماس يف نظرية العقل التواصيل‪ ،‬لكن االختالف بني األستاذ وتلميذه‪ ،‬يتجىل يف النظر إىل‬
‫االنحراف عند األول (هابرماس) كوجه من أوجه غياب االحرتام‪ ،‬غري أن الحاجة إىل االحرتام مع هونيث تسبق‬
‫حسب الرضورة األنطولوجية امللحة أي فعل تواصيل؛ يف كون الحاجة إىل االعرتاف تسبق الحاجة إىل التواصل‪.‬‬
‫هذا إذا ما قلنا من جهة إن التواصل الهابرمايس ذاته يصور تفاعال بينذاتيا وآلية يتحقق مبوجبها االعرتاف‬
‫الهونيثي‪ .‬مع ذلك ال يسعنا إال أن نقول إن عقالنية االعرتاف هي عقالنية بينذاتية تجلب االحرتام‪ ،‬فتسبق من‬
‫حيث الحاجة النفسية االجتامعية والرضورة األنطولوجية للذات الفردية‪ ،‬عقالنية هابرماس التواصلية رغام عن‬
‫كونها بينذاتية يف الجوهر وتفاعلية يف العرض‪.‬‬

‫‪ 57‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪161‬‬


‫‪27‬‬

‫هنا تتجىل بوضوح مسألة ارتباط االجتامعي بالذايت والنفيس ضمن الفلسفة االجتامعية‪ .‬ويظل إذن ما‬
‫يطبع مظاهر الظلم واإلذالل االجتامعي يف صفوف املحتَقرين‪ ،‬هو املقاومة‪ ،‬والرصاع الذي ينشد االعرتاف‬
‫يف األخري‪ .‬فالجامعات البرشية يف نزعاتها األصلية تلتقي جميعها عند ذات الحاجة بحثا عن التقدير واملكانة‬
‫أساسا عن مبدأ الحرية والعدل‪ ،‬الكرامة واالحرتام‬
‫االجتامعية كمطلب هويايت‪ ،‬كام أن حوافزه ال تخرج ً‬
‫القانوين‪ .‬ومن متة ال يبدو االعرتاف معطى جاهزا‪ ،‬ولكن مثرة رصاع وحركة قامئة تتجاذب بني مد وجزر‪ .‬فلم‬
‫يكن يرمي استخدام كلمة رصاع إال للحديث عن عملية متواصلة تتوق إىل انتزاع االعرتاف الذي يتعذر تحقيقه‬
‫يف كثري من األحيان‪ ،‬لئال نقول أنها سريورة يتعذر معها الحصول عىل اعرتاف كامل‪ 58‬يحفظ الهوية ويضمن‬
‫معها األمان لألفراد‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬فال شك أن الحاجة إىل التحرر واالنعتاق «مبا هو ارتقاء ملستوى االعرتاف يف مجمل الفضاءات‬
‫االجتامعية»‪ ،59‬تظهر دامئا يف صيغة مطلب إنساين أسايس يفرتض االستجابة؛ يشخص الحاجة إىل االستقالل‬
‫الذايت كآلية تسهم يف بناء هوية ناجحة لألفراد‪ .‬مام يحمل الذوات عىل تكوين صورة عن نفسها تبعث عىل‬
‫الشعور بالتميز واالحرتام والفخر‪ ،‬وبالقيمة والتقدير حيال نفسها‪ .‬مع ذلك‪ ،‬ليس بناء الهوية وحده يستند عىل‬
‫الحاجة إىل االعرتاف‪ ،‬إن تشكل الفردية وتكوينها يتم هو اآلخر بناء عىل التداخل الذي يجمع بني االعرتاف‬
‫‪60‬‬
‫باآلخر والرضا عن الذات أو التقدير الذايت بلفظ آخر‪.‬‬

‫عالوة‪ ،‬إذا كانت هناك من دعامة لالعرتاف فلن تكون غري الخلفية أو املرجعية الثقافية املشرتكة بني أفراد‬
‫املجتمع الواحد كركيزة رئيسة‪ ،‬التي لفرط تأطريها للسلوك قد تحولت إىل عنرص توجيهي منظم بشكل رمزي‪،‬‬
‫يصوغ القيم والغايات األخالقية للجامعة الواحدة أو ملجتمع بعينه‪ .‬فتعترب مرجعا تقييميا ونظاما معياريا‪،‬‬
‫يهدف إخضاع الطبائع الفردية للتقييم والتحقق املحتمل من الصفات األخالقية ألفراد الجامعة‪ .‬حيث إن‬
‫التكامل املعياري األخالقي للمجتمعات‪ ،‬يتحقق إذا وفقط إذا كان يف إطار مأسسة املبادئ التي تنظم عىل نحو‬
‫مفهوم ومستساغ أشكال االعرتاف املتبادل بني الفاعلني أنفسهم‪ .‬تلك التي تسمح للذوات باالندماج الفعيل‬
‫الحق يف املجتمع‪ ،‬وتسمح لهم الدخول واالنخراط يف تجربة اآلخرين؛ ذلك أن إعادة إنتاج الحياة االجتامعية‬
‫محكوم بحتمية االعرتاف املتبادل‪ .‬فلم يكن للمرء أن يطور عالقة عملية مع الذوات إال إذا تعلم الكيفية التي‬
‫‪61‬‬
‫تخول له رؤية نفسه باملنظور املعياري للرشكاء يف التفاعل‪.‬‬
‫‪58 Guillaume Soubeyrand-Faghel, «Lutte pour la reconnaissance», Revue Sessions sociologiques de l’Université‬‬
‫‪du Québec, vol 10 (2020), p. 84‬‬
‫‪59 Axel Honneth, «Le motif de tout conflit est une attente de reconnaissance,» in: Pensées critiques (Paris: La‬‬
‫‪Découverte, 2009), p. 181‬‬
‫‪60 Faghel, Lutte pour la reconnaissance, p. 84‬‬
‫‪61 Ted Fleming, “Axel Honneth and the Struggle for Recognition: Implications for Transformative Learning”,‬‬
‫‪Spaces of Transformation and Transformation of space, Proceedings of the XI international Transformative Learn-‬‬
‫‪ing Conference, (New York: Columbia University), p.4‬‬
‫‪https://2u.pw/yOGJA3Q‬‬
‫‪28‬‬

‫بناء عىل ما جاء نستطيع الق ْو ُل‪ ،‬إن نجاح الحياة االجتامعية ال يستقيم يف غياب عالقات اعرتاف متبادلة‬
‫تجعل الفرد عضوا فاعال ونشيطا يف الحياة ويف عالقة جيدة وناجحة مع ذاته‪ ،‬متتد تاليا إىل عالقاته مع مجموع‬
‫ففضل عن هذه األسباب‪ ،‬تم النظر للباثولوجيات االجتامعية أنها سد منيع بني الفرد‬ ‫ً‬ ‫األفراد املحيطني به‪.‬‬
‫ونجاعة حياته االجتامعية‪ .‬إذ إن الرشوط املعيارية لبلوغها تتم بلورتها وفق مبدأ العدل االجتامعي وحده‪،‬‬
‫كمؤرش قوي عىل التقدم األخالقي‪ 62.‬وعىل غرار ذلك‪ ،‬فإن كل ظاهرة اجتامعية تعرقل سريورة تطور الهوية‬
‫الفردية‪ ،‬وتقف حجرة عرتة أمام كل تطور اجتامعي وأخالقي يضمن العدل للجميع‪ ،‬ال تربح أن تكون يف واقع‬
‫الحال سوى باثولوجيات اجتامعية تحول ملنع الذات من بعض متطلبات تحقيق الهوية‪.‬‬

‫يجدر إذن أن تكون عالقات االعرتاف املتبادل مبا فيها الحب‪ ،‬القانون‪ ،‬والتضامن‪ ،‬األساس الذي ينبني عليه‬
‫كل عدل اجتامعي يف املجتمع املعارص‪ .‬فإذا كان الحب ال يستوي إال باستجابته ملعيار الحاجة العاطفية‪ ،‬فال‬
‫بد لالعرتاف يف صيغته القانونية أن يكون محتكام ملبدأ املساواة يف الحقوق بالقدر الذي ينبغي للتضامن أن‬
‫يشمل عنرص التقدير املنصف يف العالقات اإلنسانية‪ .‬ولن يتحقق العدل بهذا املفهوم‪ ،‬إال إذا كان يستجيب‬
‫بدوره للمبادئ الثالثة املذكورة املالزمة ألمناط االعرتاف‪.63‬‬

‫حري بنا أثناء هذا الحديث‪ ،‬االشارة إىل فكرة مركزية تجعل املساواة ال تتأىت إال إذا تحقق االعرتاف كقيمة‬
‫أخالقية اجتامعية من خالل مناذجه التذاوتية‪ ،‬فهي العمود األساس لكل عدل اجتامعي مرغوب‪ .‬وسيظهر‬
‫للقارئ يف هذه األسطر‪ ،‬ال محال‪ ،‬إذا تحرى الدقة يف املالحظة‪ ،‬مثة إقرار ضمني باالعرتاف كمؤرش قوي عىل‬
‫تفوق أخالق الحداثة؛ وذلك يكاد يعكس يف صلبه تقدما تاريخيا يشرتط دراسة العدل يف إطار التقدم الذي‬
‫تشهده املجتمعات الحديثة‪ 64 ،‬فيام يدل عىل حداثة منظومة األخالق االجتامعية‪ ،‬التي ً‬
‫فضل عنها ميثل‬
‫‪65‬‬
‫االعرتاف مبا هو عدل اجتامعي سمة جوهرية وقيمة أخالقية من قيم الحداثة يف شقها اإليتيقي‪.‬‬

‫نخلص إ ًذن إىل القول‪ ،‬إن الحياة االجتامعية يف املجتمعات املعارصة تكون ناجحة‪ ،‬صحية‪ ،‬سليمة‪ ،‬إذا‬
‫سادها االعرتاف؛ فالعدل االجتامعي عىل ضوء ذات املنوال‪ ،‬ال ميكن اعتباره إال الوحدة التي يقاس عن طريقها‬
‫مستوى العقالنية املمكنة يف املجتمع الواحد‪.‬‬

‫وعليه‪ ،‬فإن الظواهر التي متنع عملية االعرتاف هاته ال تلبث أن تحيل عىل كل سلوك اجتامعي يأىب إرساء‬
‫العدل‪ ،‬فيكرس الذل والظلم واالذالل ويؤسس للباثولوجيا اجتامع ًيا ومؤسساتيا‪ ،‬إىل حد يدفع الذوات للمقاومة‬
‫واملواجهة االجتامعية‪ .‬أو بتعبري آخر يؤول بها إىل درء «املوت االجتامعي» عن أنفاسها ً‬
‫فضل عن تجربة الذل‬

‫‪62 Honneth, La société, p. 24‬‬


‫‪ 63‬بغورة‪ ،‬االعتراف من أجل مفهوم جديد للعدل‪ ،‬ص‪191‬‬
‫‪ 64‬المرجع نفسه‪.‬‬
‫‪ 65‬نفسه‪ ،‬ص‪191‬‬
‫‪29‬‬

‫االجتامعي‪ .‬فأشكاله عىل أنواعها كام يقول هونيث‪« :‬تلعب فيام يخص سالمة الفرد النفسية الدور السلبي‬
‫نفسه الذي تلعبه األمراض العضوية يف إعادة تكوين جسده؛ إذ تتهدد تجربة املهانة واالذالل االجتامعي‬
‫الكائنات اإلنسانية يف هويتها كام تهددها األمراض يف وجودها الطبيعي‪ .‬وهذا التشبيه مع املرض الطبيعي‬
‫‪66‬‬
‫يتيح لنا باملقابل الفرصة لنستخلص نتائج يجب أن تعزى إىل الصحة النفسية وإىل سالمة الكائن اإلنساين‪».‬‬
‫أما بالنظر إىل املشاعر السلبية التي تنتج عن تجربة الذل واالحتقار‪ ،‬فيظهر أن الباثولوجيا االجتامعية هي‬
‫ما يردع سريورات تحقيق الضامن االجتامعي لعالقات تعارف تكون كفيلة بتأمني أفضل حامية للذوات تجاه‬
‫«الذل» أو الحط من قيمة الكائن اإلنساين كام يحب أن يعرفه كل من هيغل وعامل النفس االجتامعي جورج‬
‫هربرت ميد (‪.)1931 - 1863( )George Herbert Meadh‬‬

‫قد تعترب ظواهر تصيب السلوك االجتامعي‪ ،‬فتحدث تأزميا عىل صعيد عمليات التطور املرغوب‪ ،‬باعتباره‬
‫الباعث عىل االنعتاق والتحرر ضد موانع الوعي بالذات الفردية يف ظل ظروف مناسبة وجيدة‪ .‬يبدو أن‬
‫مجمل القول سينهي إىل إماطة اللثام عن كل خوف من الفتوحات األخالقية الحداثية‪ ،‬التي قد تكاد أن‬
‫تكون يف الواقع االجتامعي املعيش إهابة من َمالزم االعرتاف التذاويت املتبادل‪ .‬وبالتايل يجوز اعتبار أي تشبت‬
‫بقيم التقليد أو عىل األقل رفض للحداثة من جهة نظمها االجتامعية واإليتيقية‪ ،‬هو درء مبارش وغري مبارش‬
‫يف اآلن ذاته للتقدم االجتامعي واألخالقي املطلوب‪ .‬رشيطة أن ال يفهم من قولنا إننا أمام دعوة للتبني‬
‫املطلق ــــ وغري النقدي ـــــ لقيم الحداثة يف مجتمعاتنا العربية‪ ،‬وإمنا للكشف أننا أمام سياق يزخر بنامذج‬
‫ثقافية متجذرة تحركها قيم التقليد‪ ،‬وتؤسس لها نزعة تقليدية متأصلة يف السلوك االجتامعي‪ ،‬وهو ما يجعل‬
‫غياب التقدم عىل الصعيد األخالقي محتوما بغياب مفهومي العدل واملساواة‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فإن عمليات التحول‬
‫االجتامعي تبقى رغم ذلك غري معطاة بشكل مبارش يف العلوم االجتامعية خاصة السوسيولوجيا‪ .‬فتظل غري‬
‫ظاهرة للعيان مختفية متا ًما قبل أن تظهر عىل السطح‪ ،‬وتساهم يف إحداث التغريات داخل املجتمع؛ ذلك أن‬
‫الرغبة يف إبقاء األوضاع عىل حالها ومقاومة التحديث‪ ،‬ال ميكنها أن تقيص كلية الرغبة يف تغيري بنيات النسق‬
‫االجتامعي وتحويل القيم العتيقة‪ .‬فهناك دامئا كام يقول توماس بوتومور (‪- 1920( )Thomas Bottomore‬‬
‫‪« )1992‬نقد للاميض ورفض لبعض مظاهر التقليد والتحديث معا‪ 67».‬فالواقع يفرتض منذ ماركس وما قبله‪،‬‬
‫وضعية جدلية ورصاعية فعالة بني املحافظة أو االستمرارية من جانب والتحول والتغيري من جانب آخر‪.‬‬

‫‪ 66‬هونيث‪ ،‬الصراع من أجل االعتراف‪ ،‬ص ‪246‬‬


‫‪67 Thomas Bottomore, Introduction à la sociologie, première édition (paris: collection payot, 1947), P. 306.‬‬
‫‪30‬‬

‫املراجع املعتمدة‬

‫*‪ -‬العربية‬
‫حداد‪ ،‬نقوال‪ .‬فلسفة الوجود‪ ،‬ط‪ ،1‬اململكة املتحدة‪ :‬مؤسسة هنداوي‪2014 ،‬‬
‫بغورة‪ ،‬زواوي‪« .‬الفلسفة االجتامعية بحث يف مفهومها ونظريتها»‪ ،‬تبني‪ ،‬مج ‪ ،8‬العدد ‪ ،)2019( 30‬ص ‪78-55‬‬
‫هوندرتش‪ ،‬تد‪ .‬دليل أكسفورد للفلسفة‪ ،‬نجيب الحصادي (مرتجم)‪ ،‬ج ‪ ،1‬ليبيا‪ :‬املكتب الوطني للبحث والتطوير‪2003 ،‬‬
‫هوركهامير‪ ،‬ماكس‪« .‬الوظيفة االجتامعية للفلسفة»‪ ،‬عمر املغريب (مرتجم)‪ ،‬تبني‪ ،‬مج ‪ ،8‬العدد ‪ ،)2020( 31‬ص ‪113-99‬‬
‫هونيث‪ ،‬أكسل‪ .‬الرصاع من أجل االعرتاف القواعد االخالقية للآمزم االجتامعية‪ ،‬جورج كتورة (مرتجم)‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪ :‬املكتبة‬
‫الرشقية‪2015 ،‬‬
‫فيغرسهاوس‪ ،‬رودلف‪ .‬مدرسة فرانكفورت تاريخها وتطورها النظري وأهميتها السياسية‪ ،‬ط‪ ،1‬عصام سليامن وغانم هنا‬
‫(مرتجم)‪ ،‬بريوت‪ :‬املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسات‪2022 ،‬‬
‫بركات‪ ،‬حليم‪ .‬االغرتاب يف الثقافة العربية متاهات بني الحلم والواقع‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‪2006 ،‬‬
‫نيتشه‪ ،‬فريدريك‪ .‬محاسن التاريخ ومساوئه‪ ،‬رشيد بوطيب (مرتجم)‪ ،‬ط‪ ،1‬الدوحة‪ :‬منتدى العالقات العربية والدولية‪،‬‬
‫‪2019‬‬
‫فروم‪ ،‬إيريك‪ .‬املجتمع السوي‪ ،‬محمود منقد الهاشمي (مرتجم)‪ ،‬ط‪ ،1‬الالذقية‪ :‬دار الحوار‪2009 ،‬‬
‫ابن منظور‪ ،‬محمد‪ .‬لسان العرب الجزء ‪ ،11‬ط ‪ ،3‬بريوت‪ :‬دار صادر‪2010 ،‬‬
‫رشايب‪ ،‬هشام‪ .‬النظام األبوي وإشكالية تخلف املجتمع العريب‪ ،‬محمود رشيح (مرتجم)‪ ،‬ط‪ ،2‬بريوت‪ :‬مركز دراسات الوحدة‬
‫العربية‪1992 ،‬‬
‫بغورة‪ ،‬الزواوي‪ .‬االعرتاف من أجل مفهوم جديد للعدل دراسة يف الفلسفة االجتامعية‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪ :‬دار الطليعة‪2012 ،‬‬

‫*‪ -‬األجنبية‬
‫‪Simon, Robert. The blackwell guide to social and political philosophy, first edition, USA: Blackwell‬‬
‫‪publishers, 2002‬‬
‫‪Frega, Roberto. “Jonh Dewey’s Social Philosophy,” European Journal of Pragmatism and American‬‬
‫‪Philosophy, vol 7, no 2 (2015).‬‬
‫‪Gauthier, Mathieu. La Philosophie Sociale D’Axel Honneth La thérorie de la Reconnaissance et‬‬
‫‪L’analyse des pathologies sociales, Quebec: Faculté de philosophie Université Laval, 2010‬‬
‫‪Deranty, Jean-Philippe. Beyond Communication A Critical Study of Axel Honneth’s social philosophy,‬‬
‫‪first edition, Boston: BRILL, 2009‬‬
‫‪Honneth, Axel. Pathologies of the Social: The Past and Present of Social Philosophy in disrespect,‬‬
‫‪Cambridge: Cambridge the Normative Foundations of Critical Theory, Polity Press, 2007‬‬
31

Rey, Alain. Le Robert Micro Dictionnaire de la langue française, Deuxième édition, Paris: Le Robert,
2006
Honneth, Axel. La société du mépris vers une nouvelle théorie critique, Olivier Voirol et Pierre Rush
et Alexandre Dupeyrix (traduction), paris: La découverte, 2006
Gordon, Peter and Others. The Routledge Companion to the Frankfurt School, First Edition, New
York: Routledge, 2019
Freyenhagen, Fabian. “Honneth on social pathologies: A Critique”, Critical Horizons, vol 16, no 2
(2015).
Soubeyrand-Faghel, Guillaume. «Lutte pour la reconnaissance,» Revue Sessions sociologiques de
l’Université du Québec, vol 10 (2020).
Honneth, Axel. «Le motif de tout conflit est une attente de reconnaissance,» in: Pensées critiques,
Paris: La Découverte, 2009
Fleming, Ted. “Axel Honneth and the Struggle for Recognition: Implications for Transformative
Learnin”, Spaces of Transformation and Transformation of space, Proceedings of the XI international
Transformative Learning Conference, New York: Columbia University. https://2u.pw/yOGJA3Q
Bottomore, Thomas. Introduction à la sociologie, première édition, paris: collection payot, 1947
info@mominoun.com

You might also like