Professional Documents
Culture Documents
com
بحث محكم
قسم الفلسفة والعلوم اإلنسانية
11يناير 2024
ملخص
يرمي هذا البحث إىل ترشيح مفهوم الباثولوجيا االجتامعية كمفهوم جوهري ،حظي بوظيفة نقدية
وتحليلية يف الفلسفة االجتامعية ،كام برزت سامتها وموضوعاتها مع مدرسة فرانكفورت .فضال عن إبراز جملة
من الدالالت التي تضمنها مفهوم الباثولوجيا االجتامعية باختالف النظريات النقدية؛ وذلك وف ًقا ملعايري الحياة
االجتامعية الجيدة التي يصوغها كل فيلسوف اجتامعي بحسب مفهومه للعقالنية الفعالة اجتامع ًيا ،مع
الرتكيز بصورة أكرب عىل تصور أكسيل هونيث.
تحاول هذه الدراسة بداي ًة التعريف بالفلسفة االجتامعية ،من خالل مفهوم الباثولوجيا االجتامعية نفسه،
بوصفها إيتيقا التطور االجتامعي :إيتيقا تنطلق من تصور نقدي تحلييل لألنطولوجيا االجتامعية ،يروم النظر يف
مختلف النظم واملثل املؤثرة يف عملية تشكيل الكينونة وتفاعالتها البيعالئقية يف العامل االجتامعي .عىل أن أي
انحراف عن املثل العقالنية واملعايري اإليتيقية املعنية ،يقود املجتمع كله إىل حالة من االضطراب واالختالل ،وهذه
الحالة هي ما يطلق عليها اسم باثولوجية اجتامعية؛ نظ ًرا للتعطيل الذي تحدثه عىل صعيد عمليات االنعتاق
والتحرر ضد موانع الوعي بالذات الفردية وبرشوط تحقيقها ،ومن ثم عىل كل تطور اجتامعي يعيق تحقيق
االعرتاف البينذايت مبا هو عدل اجتامعي يقاس عن طريقه مستوى العقالنية املمكنة يف املجتمع الواحد.
5
مقدمة
لعل ما تتميز به النظرية االجتامعية النقدية ملدرسة فرانكفورت وما عرفت به يف األوساط الفكرية
أساسا بنقد الحداثة الغربية وتفكيك أسسها الفلسفية والفكرية ،كام لو كانت رؤية املدرسة
والثقافية ،يتعلق ً
وروادها سجينة تصور ُأيديولوجي واحد أو فكرة ثابتة ،لكن نطاق موضوعها يف الحقيقة رحب رحابة
األنطولوجيا االجتامعية؛ يشمل كل ما يشكل موضو ًعا للنقد االجتامعي .وعىل الرغم من اعتقاد البعض ،من
أهل االختصاص بالحقل الفلسفي عمو ًما ،بأفكار تنطوي عىل اداعاءات من قبيل «مدرسة فرانكفورت قد ولت
واضمحلت» ،فإنه ال ينبغي بحالٍ الحط من قيمة «االجتامعي» The socialعىل هذا النحو ،كام اعتادت
الفلسفة السياسية واألخالقية؛ ألن السؤال الفلسفي هو يف نهاية املطاف سؤال اجتامعي .وما دامت استمرارية
النوع البرشي تنتعش يف سياقات اجتامعية مختلة ،تظل رضورة النقد االجتامعي بخاصة تستمد فعاليتها،
وترتكن دعامئها اإلبستيمولوجية والفلسفية يف هذا املجال إىل النظرية النقدية نفسها ملدرسة فرانكفورت ،ال
سيام عندما يتعلق األمر بسياقات اجتامعية رأساملية؛ فثمة تدهور كسح صحة النسق االجتامعي بالكامل،
ما أجج النقد بصورة واضحة يف جل تصورات املدرسة يف شخص روادها ،عن طريق تناولهم مهمة تشخيص
الباثولوجيات االجتامعية Social Pathologiesمن علة النظام االقتصادي الرأساميل ،من مثل :إنسان البعد
الواحد ،والتشيؤ ،واالستالب ،واالغرتاب ،والتفكك ...ثم العقل األدايت الذي عرف عىل إثره اإلدراك اإلنساين
تشوها آل إىل فساد العقل البرشي وانحرافه نحو الالعقل ،حيث اجتاح التسلط التقنوي املجتمعات الصناعية
الحديثة برمتها.
يكاد مفهوم الباثولوجيا االجتامعية هنا أن يكون عالمة فارقة ومفهو ًما نقد ًّيا وجوهر ًّيا ضمن هذا التقليد،
باعتباره أكرث ما مييز الفلسفة االجتامعية النقدية ،كام نعرفها عمو ًما مع مدرسة فرانكورت ،عن مختلف
املقاربات السائدة يف الفكر الفلسفي .من هذا املنطلق تحديدا ،أتت فكرة البحث يف مفهوم الباثولوجيا
االجتامعية .فام مفهوم الباثولوجيا االجتامعية وما وظيفته وفروعه بالنظر إىل سامته ودالالته وكذا عالقته
بالفلسفة االجتامعية بعامة ،وفلسفة أكسيل هونيث Axel Honneth 1949عن االعرتاف بخاصة؟ عىل
فضل عن رضورتها الراهنية يف السياق العريب ،يستقي وظيفته النقدية أن توظيفه يف الفلسفة االجتامعيةً ،
ومرشوعيته الفلسفية من املدرسة عينها.
وابتغاء تحقيق هذا املسعى ،عملت عىل تقسيم هذا البحث إىل ثالث خطوات منهجية؛ أما األوىل
فأحددها يف عنوان الفلسفة االجتامعية ومفهوم الباثولوجيا االجتامعية ،والثانية أقف فيها عند مفهوم
الباثولوجيا االجتامعية :تعريفه وتحديد خصائصه النقدية ودواعي استعامله وتعيني حدوده الوظيفية ،ألخلص
يف العنرص الثالث واألخري ً
عوضا عن خامتة ،إىل بيان وجه العالقة بني مفهوم الباثولوجيا االجتامعية ونظرية
االعرتاف عند هونيث.
6
يستدعينا الحديث عن مفهوم الباثولوجيا االجتامعية ،للوقوف عند أبرز محطاته التاريخية التي عكست
أهم تطوراته كمفهوم مركزي وأسايس يف الفلسفة االجتامعية بشكل مخصوص؛ إذ شهد تطو ًرا ديناميك ًيا ً
فعال.
فثمة خصائص متيز هذه األخرية عن الفلسفة السياسية واألخالقية ،بكونها تنتهج معايري للتفكري والتأمل يف
الحياة االجتامعية سع ًيا لبلورة أهم رشوط الوعي بالذات وبكيفية تحقيقها يف ظل ظروف جيدة ومالمئة
لذات الغاية؛ ذلك أن الفلسفة االجتامعية ُتعنى بنقد التطورات االجتامعية املضطربة واملعيقة لسريورة
التطور االجتامعي .واملالحظ أن اهتاممها بالنقد االجتامعي يف عالقته بتداعيات سوء األنظمة السياسية مع
االقتصادية ،أدى بها إىل العمل عىل صياغة مبادئ للتقييم األخالقي تخص املؤسسات االجتامعية والسياسية
1
م ًعا لتقييم مدى نجاعة وصالحية كال النظامني :االجتامعي والسيايس.
1 Robert Simon, The blackwell guide to social and political philosophy, first edition (USA: Blackwell publishers,
2002), p. 12
2والعقل االجتماعي كما يعرفه «نيقوال حداد» في كتابه :فلسفة الوجود هو اشتراك الجمهور في عقيدة دينية أو رأي سياسي أو في زي واحد أو تقليد
واحد ،حيث يسددون جميعًا أفعالهم إليه ،وهذا يستلز ُم أنْ تكون عَ قيدتهم الفردية قد صيغت في قالب واحد تقريبًا ،كأنَّهم يفتكرون فكرً ا واحدًا ،ويشتهون
غاية واحدة ،ويتعاونون في الحصول عليها ،لذلك ترى أنه إذا صدرت فكرة من مركز واحد رئيسي كحكومة أو سلطة دينية أو جمعية أو حزب ،أو شبه
رئيس كزعيم أو عالم أو ذي فن أو مُخترع أو نابغة مُبتكر؛ إذا صدرت من أي مركز كهذه المراكز حركة نظام أو رأي أو بدعة أو فن جديد؛ انتشرت
حركة هذه الموجة على جميع العقول الفردية ،وهزَّ تها كلها هزَّ ة واحدة ،وطبعت فيها الفكرة نسخً ا مُتعددة كما تطبع عبارتها على الورق ،فكأن الفكرة
فكرة عقل جماعة ،يُستفاد مما تقدَّم أن العقل االجتماعي هو مجموعة عقول فردية مصوغة صياغة واحدة في بيئ ٍة واحدة ،تتحرك معًا في اتجاه واحد كما
تتحرَّ ك ماليين ذرَّ ات المادة معًا في جرم واحد حول مركز واحد بسرعة واحدة؛ الرتباط جاذبي فيما بينها وبين المركز؛ فالفكرة أو الرأي االجتماعي هو
المركز الذي تحوم من حوله عقول الجماعة بقوة جاذبية ذلك الرأي لها ،وانتشار الفكرة الصادرة من مركز عبقرية أو زعامة إلى األفراد هو كانتشار
الموجة في الج ِّو الجاذبي إلى جميع الجهات ،بحيث يصدم كل عقل يصيبه فيحرك ُه ليدور حول الفكرة نفسها .يُنظر:
نقوال حداد ،فلسفة الوجود (المملكة المتحدة :مؤسسة هنداوي ،)2014 ،صص 80-79
7
للقضية ،ميكن أن يكون له آثار وخيمة عىل طبيعة ونوعية الرتبية املنتجة .فقد تكاد العالقة تكون مبارشة بني
هاذين املجالني الفلسفيني.
صحيح أن كليهام يسرتشد بـنفس املثل العليا إلرساء دعائم التوافق االجتامعي والتضامن ،لكن األوىل
فضل عن استعاملتحاول الوصول إىل الهدف املنشود بفضل مجهودات الدولة ،وعن طريق االمتثال لقوانينها ً
سلطتها كآلية للحفاظ عىل النظام االجتامعي؛ وأما الثانية فعملها منوط بنقد البنيات العميقة لهذا النظام
وبوضع قواعد أخالقية ومثل اجتامعية ،مختلفة عن معايري الفلسفة السياسية وفلسفة األخالق ،تروم حل مآزم
النظام االجتامعي نفسه وتحقيق االنعتاق .كأنها بالتعريف تعكس إيتيقا التطور االجتامعي؛ لطاملا أي انحراف
عن هذه املثل واملعايري اإليتيقية تلك ،يقود املجتمع كله إىل حالة من االنحطاط واالضطراب.
فليست الفلسفة االجتامعية من جهة التقليد الفلسفي الفرنيس واألنكلوساكسوين إال فر ًعا مساعدًا
للفلسفة السياسية ،عىل خالف املنزلة املركزية التي تعرفها يف التقليد األملاين3؛ يف اعتبار تحليالتها تكتيس
طاب ًعا معيار ًيا ملوضوعات تهتم بكيفية تنظيم املجتمع ،لكن رسعان ما تجنح نقاشاتها إىل مقاربات تحليلية
ونقدية .يعني «النقاش غري املعياري لنوع الكينونة التي تنشأ حني يجري تشكيل املجتمع وكيفية تعلق هذه
الكينونة مبجموع أفراده أو باملجتمع مبا هو كلية .كأن املبحث الفلسفي االجتامعي من ناحية أخرى ميثل
نو ًعا من األنطولوجيا االجتامعية ،باعتباره تصو ًرا فيام يوجد يف العامل االجتامعي» .4وإذا ما شئنا وضع تعريف
للفلسفة االجتامعية بصيغة أخرى أكرث دقة وشمولية ،نقول :إنها إيتيقا التطور االجتامعي ،إيتيقا تنطلق من
تصور نقدي تحلييل لألنطولوجيا االجتامعية ،يهدف إىل النظر يف مختلف النظم واملثل املؤثرة يف عملية تشكيل
الكينونة وتفاعالتها البيعالئقية Interrelationshipيف العامل االجتامعي.
ومبا أن مفهوم الباثولوجيا االجتامعية يعرف انتشا ًرا يف النظريات االجتامعية النقدية ،يف الوقت الذي
يغيب فيه متا ًما عن نطاق الفلسفة السياسية ،فإن ذلك يحيل عىل وجود فاصل عميق يفصل التنظري املعياري
للفلسفة السياسية عن الدراسات االجتامعية التجريبية ،مام يحد من قدرة الفالسفة السياسيني عىل االنخراط
الواسع يف الخطاب االجتامعي والسيايس الحقيقي .وإن دل هذا عىل يشء ،فإمنا يدل عىل أن الفلسفة
االجتامعية النقدية تعتمد عىل إطار معياري أوسع من إطار العدالة يف الفلسفة السياسية الليربالية؛ إذ يجري
اقتباس املفردات املعيارية اإليتيقية للرصاعات االجتامعية من الخطابات االجتامعية ،ليس بشكل غري نقدي،
ولكن بطريقة ال تحتاج إىل قطع العبور واالنفصال متا ًما عن املقاربات االجتامعية والسياسية األوسع .اليشء
الذي يجعلنا نخلص إىل فكرة ارتباط الباثولوجيا االجتامعية بالتنظري االجتامعي والبحث التجريبي خاصة علم
االجتامع وعلم النفس االجتامعي ،نظ ًرا لألهمية التي يكتسيها النهج متعدد التخصصات ملدرسة فرانكفورت،
مبا أنه ليس عرض ًيا أبدًا للمرشوع النظري كام قد يبدو للبعض ،ولكنه جوهري وحاسم.
3زواوي بغورة« ،الفلسفة االجتماعية بحث في مفهومها ونظريتها» ،تبين ،مج ،8العدد ،)2019( ،30ص ص 60 -59
4تد هوندرتش ،دليل أكسفورد للفلسفة ،نجيب الحصادي (مترجم) ،ج ( 1ليبيا :المكتب الوطني للبحث والتطوير ،)2003 ،ص 240
8
قد تربز أهمية الفلسفة االجتامعية يف إعاملها النظر بعناية يف بنية ووظائف النظم االجتامعية املحركة
لألفراد ،وتعيني امتداداتها الفلسفية؛ أي إنها تحاول مبعنى ما ،معرفة النظم األساسية التي تعمل يف املجتمع
وتؤثر يف التفاعالت االجتامعية ،مام يجيز اكتشاف معنى الوضع الفعيل للوجود االجتامعي وتفسري املجتمع
بالرجوع إىل الوحدة االجتامعية األساسية املشرتكة بني البرش ،والتي تتوسط التفاعالت والعالقات البينية ضمن
الجامعات .فاالهتامم متمركز «عىل تقييم الظواهر االجتامعية ،وما تشمله من عادات وتنظيامت ومؤسسات
وسياسات ،املتعلقة أساسا باالجتامع البرشي أو العيش املشرتك».5
وكان هذا ،من ضمن خاصيات أخرى الحقة ،ما يقر برضورة التعامل مع الفلسفة االجتامعية كنهج
فلسفي ونظري اجتامعي قائم بذاته ،ال ينبغي اختزاله يف أحد منظوري الفلسفة األخالقية أو السياسية.
فمن الواضح أن مبحثنا هذا ،وكام سيتضح ثان ًيا أثناء املنت التحلييل املقبل ،تروم مهامته ومجمل موضوعاته
تشخيص التطورات االجتامعية الزائفة ونقدها وف ًقا ملعايري الحياة االجتامعية الجيدة أو الخرية ،التي تختلف ً
حتم
باختالف النظريات النقدية يف هذا املجال ،كام أن نطاقها يتسع ليشمل كل ما له أساس إنساين برشي واجتامعي.
وهو ما يجعل الغاية الرئيسة من النقد بهذا الصدد ،عىل سبيل ما خلص إليه ماكس هوركهامير Max
أساسا يف الحؤول دون خسارة البرشية ذاتها ،يف خضم األفكار والنشاطات
)1895-1973( Horkheimerتتحدد ً
التي تغرسها املؤسسات االجتامعية القامئة يف أعضائها؛ إذ عىل اإلنسان أن يكون قاد ًرا عىل رؤية العالقة بني
نشاطاته وما يتم تحقيقه تال ًيا ،وبني وجوده الخاص والحياة العامة للمجتمع ،وبني مخططاته اليومية واألفكار
العظيمة التي يعتنقها .فثمة فجوة بني األفكار التي يحاكم اإلنسان نفسه عىل أساسها ،والعامل من جهة،
والواقع االجتامعي الذي يقوم اإلنسان مبعاودة إنتاجه من خالل نشاطاته من جهة أخرى .وبهذا ،تغدو
تصوراته وأحكامه كلها متناقضة ومفتعلة .فاملراد بالنقد إ ًذا يف هذا البحث ،هو ذلك الجهد الفكري والعميل
الذي ال يرىض ،يف نهاية املطاف ،بقبول األفكار واملامرسات والرشوط االجتامعية السائدة دومنا تفكري ،ومبحض
العادة ،وتلك املامرسات التي تهدف إىل تنسيق الجوانب الفردية للحياة االجتامعية بعضها مع بعض ،إضافة
إىل األهداف واألفكار العامة للعرص الراهن ،لالستدالل عليها ،بغرض متييز املظهر من الجوهر ،يف أفق فحص
6
مبادئ األشياء وأسسها ملعرفتها عىل نحو جيد.
تلك إذن ،مهمة تتجاوز نطاق حدود الفلسفة السياسية واألخالقية؛ ألن املوضوع يخص بنية املجتمع
بالتحديد وعمليات تطوره املزعومة .يتعلق األمر بالتفكري يف التحوالت واملامرسات االجتامعية التي تنفلت من
قبضة الفلسفة السياسية املعارصة ،والتي ال ترجع بشكل مبارش إىل أنظمة الحكم ومناذج الدميقراطية السائدة.
5 Roberto Frega, «Jonh Dewey’s Social Philosophy,» European Journal of Pragmatism and American Philos-
ophy, vol 7, no 2 (2015). p. 5
6ماكس هوركهايمر« ،الوظيفة االجتماعية للفلسفة» ،ترجمة عمر المغربي ،تبين ،مج ،8العدد ،)2020( 31ص 111-110-107
9
وعىل الرغم من أن الفلسفة السياسية تهتم بالنظم السياسية التي تبتغي تحقيق العدالة .فإن املوضوع هنا
أساسا بالتفكري يف «الالنظام» أو «الفوىض» Disorderمن قبيل االختالالت
ال يسري عىل غرارها ،وإمنا يرتبط ً
7
واالضطرابات املرضة يف ذات الوقت بإمكانية عيش حياة اجتامعية ناجحة بالنسبة ألفراد املجتمع.
ومن ناحية أخرى ،ال ميكن التعامل مع مسائل العدالة بشكل صحيح إال إذا كانت تتجاوز نطاق املقاربات
املعيارية عن املبادئ األخالقية والقانونية ،لألخذ يف الحسبان الظروف االجتامعية التي تجعل عملية تحقيقها
ممكنًة .وهكذا تكون أفضل طريقة للتعامل مع موضوع العدالة ،دراسة الظروف االجتامعية التي نتجت عنها
بالرضورة تلك الظروف االجتامعية الحقيقية التي حالت وتحول عىل نحو ّ
مطرد دون تحقيقها .ولَعل هذا
التأرجح والتداخل البارزين بني األخالقي والقانوين ثم االجتامعي ،هام أهم إلهام استمده أكسيل هونيث من
8
هيغل يف مقارباته الفلسفية االجتامعية.
هكذا يرمي بنا املوضوع يف خضم هذا املضامر ،إىل الفيلسوف االجتامعي األملاين صاحب نظرية االعرتاف:
أكسيل هونيث ،الذي أعاد صياغة األطروحات األساسية ملدرسة فرانكفورت النقدية ،يف ضوء الباعث األخالقي
واملعياري وفق تقليد فكري يلزم نفسه مبهمة تشخيص الباثولوجيات االجتامعية ،التي من شأنها أن تعبث
بصحة املجتمع وتسقطه يف مرض عضال تتمخض عنه معاناة وآالم اجتامعية عديدة.
ويف هذا السياق يقول هونيث يف حديثه عن املربر التأسييس لتقليد الفلسفة االجتامعية« :عىل عكس
الفلسفة السياسية ،مل تعد الفلسفة االجتامعية تحاول تحديد رشوط نظام اجتامعي صحيح أو عادل ،ولكنها
تسعى إىل تعيني الرشوط التي يفرضها شكل الحياة الجديد عىل تحقيق اإلنسان لذاته» .9يف هذه الحالة تتخذ
إحدى صور العدالة شكل عامل مساعد يسهم يف تهيئة رشوط وظروف تحقيق الذات ،ما دامت الفلسفة
االجتامعية الحديثة «متيل لرد عمل الدولة إىل مامرسة السلطة األدواتية .من ثم ،فإن ما حاوله هيغل ويف جزء
كبري منه ،هو إظهار ردة فعله تجاه هذه النزعة الخاصة بالفلسفة السياسية» .10ويف نفس منحى ما تقدم به
هونيث ،تذهب صوالنج شافال solange chayelإىل «أن الفلسفة االجتامعية تختلف عن الفلسفة السياسية
واألخالقية يف طبيعتها الهجينة hybridفهي ليست تفك ًريا مجردًا يف البنى األنطولوجية للمجتمع ومعايريها،
ولكنها تفكري تجريبي (إمربيقي) يف األحوال امللموسة التي يحيا فيها األفراد ،وتؤدي بهم إما إىل حياة كرمية
أو تحرمهم من ذلك .وهذا يعني أن الفلسفة السياسية ال تعطي أهمية للموضوعات االجتامعية امللموسة،
7 Gauthier,Mathieu. La Philosophie Sociale D’Axel Honneth La thérorie de la Reconnaissance et L’analyse des
pathologies sociales (Quebec: Faculté de philosophie Université Laval, 2010), p. 2
8 Jean-Philippe Deranty, Beyond Communication. A Critical Study of Axel Honneth’s social philosophy, first edi-
tion (Boston: BRILL , 2009), pp. 320-321
9 Axel Honneth, Pathologies of the Social: The Past and Present of Social Philosophy in disrespect (Cambridge:
Cambridge The Normative Foundations of Critical Theory, Polity Press, 2007), p 371
10أكسل هونيث ،الصراع من أجل االعتراف القواعد االخالقية للمآزم االجتماعية ،جورج كتورة (مترجم) ،الطبعة األولى (بيروت :المكتبة الشرقية،
،)2015ص 25
10
وكذلك الحال بالنسبة إىل فلسفة األخالق التي تعري اهتام ًما مجردًا بقيمتي الخري والرش ،مبفصل عن التجربة
الفردية واالجتامعية .وبهذا ميكن القول ،إن ما مييز الفلسفة االجتامعية عن نظريتيها السياسية واألخالقية،
هو التحليل النقدي للظواهر السياسية واألخالقية املختلفة ،وتساؤلها عن معنى الحياة املنحطة واملرتدية
11
والهامشية واملغرتبة».
فالغرض كام هو ماثل أمام ناظرينا ،هو السري نحو إخضاع الواقع االجتامعي ملقاربة تقييمية تنطلق
من االجتامعي وتنتهي إليه ،لرمبا تعلو عليه لدواع موضوعية .لكن من دون أن يتطلب منها ذلك االنسالخ
واالبتعاد عن الواقع املدروس ،بوصفها فلسفة محايثة Immanenceال تعزل نفسها عن املجتمع الذي تدرسه
وال تخضعه تحت منظور تأميل ،بل تعترب نفسها جز ًءا من هذا الواقع وتحاول دراسته دراسة نقدية .12تكاد
مقاربة نقدية ال ميكن حرصها أبدًا وال دراستها من زاوية نظر الفلسفة األخالقية والسياسية؛ ألن التفكري يف
«االجتامعي» The socialت lesociqleاالجتامعي أحيان كثرية فلسفة األخالقية والسياسية ،كون ها غري
مختزلة ها وال اختزالها يف تصور ضمن هذا التقليد بخاصة ،يسعى إىل ترشيح ما يراه املجتمع املعني بالدراسة
أم ًرا طبيع ًيا ال يحتاج إىل كشف أو تشخيص ،بات بحكم التكرار عادة متأصلة الجذور بديهية تستغني عن أي
نقد أو تحليل؛ عليها يذهب الفالسفة االجتامعيون إىل نزع التطبيع عن الظواهر املألوفة واملعتادة ،لتشخيص
رئيسا وراء جعل باثولوجيا االجتامعي تتخذ شكل حادث طبيعي التحوالت ومعرفة العلة التي كانت سب ًبا ً
يستمد فعل وجوده من املجتمع كأمر واقع وثابت.
هنا يتضح جل ًّيا املسعى الفلسفي الذي ينهجه الفيلسوف االجتامعي :التشخيص والنقد من جهة أوىل.
وفضل عن تعريف الفيلسوف األمرييك جون ديوي )1952-1859( John Deweyيف نصه املوسوم بـ«قراءات ً
علم ً
محضا ،ونتيجة لذلك، علم تطبيق ًيا وليس ً
يف الفلسفة االجتامعية والسياسية» ،تعترب الفلسفة االجتامعية ً
ال يجب عليها االكتفاء بوصف ظواهر التجربة ،وإمنا عليها تحقيق األهداف التي يسعى إليها البرش؛ لطاملا
قبل كنظام معياري يهدف تقييم التطور االجتامعي يف ظروف معينة ،وهو ما دفعه إىل خلق مساحة وصفها ً
خاصة للفلسفة االجتامعية بني ما يعتربه تجريدات غري مجدية للفلسفة الكالسيكية ،والالصلة أو ارتباط
للتوصيفات املعيارية العلمية االجتامعية التجريبية للواقع .وهنا يتجىل تصور تيودور أدورنو Theodor
)1969-1903( Adornoللفلسفة املاركسية ،مثاال عىل ذلك« ،كفلسفة جديدة؛ إذ أصبح النقد املاركيس
لأليديولوجيا أداة ينتقد بها رفع التجريدات إىل كينونات مستقلة ،ويظهر أن جميع الفلسفات املقيدة؛ أي
كل فلسفة ليست مفتوحة لتجربة «الواقع» ،تتحول إىل مثالية فلسفية؛ أي إىل فلسفة أوىل» ،13إىل الفلسفة
التقليدية .هذا ،ليك ال نبتعد عن زاويات النظر السابقة املتعلقة بسؤال وظيفة الفلسفة االجتامعية ،وهي
صياغة معايري اإلصالح االجتامعي ،من خالل نقد وتحليل الظروف االجتامعية القامئة ومن تم اقرتاح حلول
عملية للمشكالت االجتامعية املشخصة يف سبيل خلق ظروف اجتامعية أفضل للمجتمع .يتعلق األمر بتقديم
14
توجيهات إلرساء مبادئ التغيري واالصالح االجتامعي.
عىل أن املساحة التي يعنيها ديوي تتعلق بتطوير معايري ملموسة ملواصلة اإلصالح االجتامعي .تعد
مساحة تجتمع فيها املقاربات النظرية املعيارية والوصف التجريبي يف عمليات مثمرة للبحث االجتامعي
الرباغاميت؛ أي بتداخل العمل بني الفلسفة والعلوم االجتامعية التي وف ًقا ملخرجاتها يجري تحليل الباثولوجيات
االجتامعية ،كام هو الشأن مع هونيث ،مبا أن الهدف هو عىل الدوام «أخالقي معياري» يتحدد مبوجبه مفهوم
«املعياري» نفسه 15.يلزم إذن ،أن تؤخذ بعني االعتبار نتائج العلوم االجتامعية قبل أي صياغة للمبادئ العامة
للسلوك اإلنساين .وهنا يبدو كأننا نصطدم بسمة أخرى من سامت الفلسفة االجتامعية :بينام األوىل نقدية
تشخيصية ،فإن الثانية بنائية ،وهي ال تتمثل نفسها منفصلة قطع ًيا عن العلوم االجتامعية ،بل متداخلة معها،
سواء من خالل االستناد عىل منجزاتها اإلمربيقية أو عن طريق التمحيص النقدي لنتائجها.
يهتم ديوي هنا ،كام هو الحال يف أي سياق آخر« ،باملهمة املتمثلة يف اشتقاق قيمة اجتامعية معيارية
من داخل الوضع االجتامعي نفسه ،مع تجنب أخذ تقييامت الجهات الفاعلة يف ظاهرها؛ مبعنىُ ،يشتق معيار
فضل عن وضع تقييم للتقييامت االجتامعية السائدة ،ألن يكون أداة حاسمة التقييم من الظواهر اإليجابية ً
تروم تحسني جودة التقييامت االجتامعية العادية ومن تم التحقق من صحة وسالمة النظم االجتامعية .غري
أنه يظل من ا ُملتوقع أن تقدم الفلسفة االجتامعية تقييامتها االجتامعية الخاصة مع تلك املجاالت الفاعلة
األخرى (السياسية واألخالقية والقانونية) التي تتشارك معها بشكل حاسم يف عملية التغيري االجتامعي» ،16وال
سيام أنها تخضع الواقع للدراسة ،مبختلف مستوياته االقتصادية والسياسية واالجتامعية واألخالقية وتخرج
فضل عن باثولوجيات االجتامعي .لكن هذه املهمة ،تقتيض بادئ مبواقف سياسية ،ومعايري إيتيقية للتطور ً
ذي بدء تحديد مفهوم دقيق للباثولوجيا االجتامعية أو تقديم تعريف واضح لها مع إبراز عالقاتها ودالالتها
النظرية والنقدية ،وهو ما سنفصل فيه باسهاب يف العنرص اآليت.
تقص هذا املفهوم املركزي من دون أن يكون فهمنا خاض ًعا لتحليل فلسفي ،فإن الوعي ال ميكن البتة ّ
رشطا أساس ًيا ملن يروم تنوير العقل مببادئ النقد االجتامعي وأسسه ،وخاصة إذا برضورة تحليل املفهومُ ،يعد ً
ما أردنا ْأن يكون تفكرينا تفكريا نقد ًيا .ومبا أن الكلامت واملفاهيم ال ترتجم إىل الواقع االجتامعي إال إذا ُع ِّب
أول عند املعنى اللغوي واألصل االيتيمولوجي عنها بطرق مستساغة لدى الجميع ،فإنه كان لزا ًما علينا أن نقف ً
لكلمة «باثولوجيا» ،حتى يتسنى لنا اإلحاطة مبجمل جوانب املفهوم ودالالته.
تعود كلمة «باثولوجيا» إىل قسم من علم الطب ،يعنى بالبحث عن أسباب األمراض وتشخيص أعراضها،
وما تستثريه من تغيريات وظيفية وفيزيولوجية .تنم عن مرجعية علمية وطبية ،عالوة عىل حمولتها الطبيعية
والبيولوجية ثم خلفيتها اإلحيائية .تنتسب باثولوجيا إىل األصل اليوناين للكلمة أال وهو ،Pathologiaوهي
كلمة مركبة من جزأين Patho :واملقصود بها املرض ،ومنها اشتقت أيضا كلمة Pathogenic Pathogène/
كمرادف ملسببات املرض .أما ،Logiaفتعني « ِعلم» كام هو الحال يف اللغة الفرنسية ،Logieكأصل اشتقاقي
لكلمة 17.Logique/Logicلتكون بذلك /Pathologie Pathologyباإلنجليزية والفرنسية متطابقة متاما مع
أصل الكلمة اليوناين حتى عىل املستوى الرتكيبي ،بغض النظر عن كيفية نطقها وكتابتها التي تعكس خصوصية
كل لغة عىل حدة .وبهذا نستنتج أن كلمة باثولوجيا ترادف مصطلح علم األمراض.
عىل أال نحملها هنا ،عىل وجه معناها االشتقاقي الرصف ،وإمنا باملعنى الذي يكشف عن وجود حالة
مرضية /pathologique pathologicalأو باملعنى الذي تكون فيه الباثولوجيا هي املرض ذاته pathology/
.a une pathologieففي الوقت الذي نقول فيه مثال :إن عمر يعاين من باثولوجيا أو باثولوجية ما ،كالهام
يتضمنان بهذا الصدد نفس الداللة ،ينبغي أن نفهم منها أن عمر يعاين من مرض معني.18
أما إذا اقرتنت بالباثولوجيا صفة «اجتامعية» ،فإن داللتها ،يف سياق تحليلنا للمفهوم ،برصف النظر عن
معناها االشتقاقي ،ستستحيل من جهة ،مبدئيا عىل األقل ،إىل مرادف «الرشور االجتامعية» أو «اإلخفاقات
االجتامعية» مثلام سيظهر بإسهاب يف العرض القادم .كام ُيس َقط معناها باإلضافة ،عىل مجموع التحوالت
االجتامعية التي تستدعي النقد .ليس األنظمة وحدها ،وإمنا كل ما ميكن أن يكون محط نقد اجتامعي؛ ذلك
أن ما يعتقد به الفالسفة االجتامعيون يتعني ،أحد جوانبه ،يف كون املامرسات االجتامعية وحتى املجتمع نفسه
17 Alain Rey, Le Robert Micro Dictionnaire de la langue française, Deuxième édition (Paris: Le Robert, 2006),
pp. 951,776
18وهي ما يعني بالعربية أن مرض السكري مرض مزمنle diabète est une pathologie chronique .نقول مثال باللغة الفرنسية
13
قد يعاين من الرشور .وهذه األخرية ،هي التي تتخذ بشكل أو آخر اسم األمراض والعلل ،وإن شئنا تخصيصا
19
فلنقل الباثولوجيات االجتامعية.
يرمي استخدام كلمة «رشور» يف هذا املقام ،للتقريب من الداللة التي يحملها بني طياته مفهومنا املعني
بالدراسة .لكن تبقى الستعارة الباثولوجيا دالالت مفيدة؛ تتيح إمكانية الكشف والتشخيص ثم التحليل،
وتسمح بتعيني األسباب واملسببات للمرض يف سبيل تقديم العالج املناسب .عىل غرار الحاالت الطبية ،التي
تخضع للكشف والعالج وإىل الشفاء يف حاالتها الناجحة .أما يف حال تشخيص أو اختبار ظاهرة ما أو نظام ما
20
بأنهام يخلفان آال ًما ومعاناة اجتامعية ،يصبح من املنطقي التعبري عنهام باستخدام كلمة «باثولوجيا».
وهنا عىل سبيل املثال ،ندرج تشخيص عامل االجتامع األملاين كارل مانهايم -1893( Karl Mannheim
،)1947للعالَم الحديث من خالل تحليله لظاهرة األنوميا ،Anomieالتي أرجعها إىل فقدان التجارب
األمنوذجية .Paradigmatic experiencesعىل أن االنسان أصبح يف العرص الحديث مييل إىل مساواة التجارب
الصغرى بالتجارب الكربى ،فلم يعد يفضل هذه عىل تلك وال يعطي قيمة ألي يشء أكرث من أي يشء آخر ،حتى
أضحت جميع األشياء يف حالة مساواة تامة ،إىل أن أفرغت حياة اإلنسان من الرموز الكربى ،مام دفع األفراد
21
إىل ملء الفراغ بأدوات ميكانيكية.
لذلك نجد إمييل دوركايم )1917 - 1858( Émile Durkheimيصنف األنوميا من بني األمراض التي آلت
إىل تفسخ املجتمع األورويب ،بعد الثورة الصناعية وما عقبها من ازدهار الروح الرأساملية ،ومن تم إىل ارتفاع
نسبة االنتحار .وتعرب هذه األخرية عىل حالة تدهور املعايري التقليدية التي تحكم العالقات االجتامعية ،حيث
تتعطل املعايري وتتفكك القيم االجتامعية والثقافية التي تضبط السلوك اإلنساين ،من دون أن تحل محلها
منظومة قيم ومعايري جديدة فاعلة ،فينشأ عن ذلك أزمات حادة بني عدة فئات متنافسة أو متناحرة ،ما يهدد
اإلحساس بأهمية التضحية يف سبيل املجموع؛ إذ تستعمل الفئات القوية وسائل غري عادلة لفرض إرادتها عىل
الفئات الضعيفة ،مام يهد التامسك االجتامعي بالوصول حتى إىل درجة التفسخ والنزاع.22
أيضا ،عن تشخيص فريدريك نيتشه )1900 - 1844( Friedrich Nietszche ال ينبغي أن يعزب النظرً ،
للمجتمع األملاين ووصفه بـ «املجتمع الذي يعاين من مرض التاريخ» .23أما عامل النفس إيريك فروم Erich
،)1980 - 1900( Frommفيقرر أن «الحديث عن مجتمع مريض أو عن مجتمع يفتقر بكامله إىل الصحة
19 Arto Laitinen, ARVI Sarkela, «Four conception of social pathology», journals.sagepub.com, 17/05/2018, seen
on 10/02/2022, in: https://2u.pw/GnS5XXz
20 Ibid.
21حليم بركات ،االغتراب في الثقافة العربية متاهات بين الحلم والواقع ،الطبعة األولى (بيروت :مركز دراسات الوحدة العربية ،)2006 ،ص 45
22المرجع نفسه ،ص 44
23فريدريك نيتشه ،محاسن التاريخ ومساوئه ،رشيد بوطيب (مترجم) ،الطبعة األولى (الدوحة :منتدى العالقات العربية والدولية ،)2019 ،ص 6
14
اضا خالف ًيا هو عىل النقيض من موقف النسبوية السوسيولوجية التي يعتقد بها جل الذهنية ،يتضمن افرت ً
علامء االجتامع اليوم .فهم يسلمون ً
جدل بأن كل مجتمع طبيعي بالنظر إىل أنه يؤدي وظيفته ،وأن الحالة
املرضية ال ميكن تحديدها إال عىل أساس عدم توافق الفرد مع أساليب العيش يف محيطه».24
ً
مستحيل ما مل يتم بهذا ،يعدو الحديث عند هونيث عن مصطلح «باثولوجيا» pathologyأن يكون
استدعاء أو استحضار الحالة الطبيعية لليشء ،ويعني ذلك أن هذا املصطلح يعرب يف ثناياه عن حالة غري
طبيعية ،يفرتض تحديدها ً
حتم َت ُّثل حالة اليشء األصلية .25وإذا تعلق األمر باملجتمع عىل وجه العموم،
فيلزم استحضار الحالة التي ينبغي أن تكون عليها الحياة االجتامعية .إذ إن نقد االختالالت املعيقة ألي تطور
اجتامعي مفرتض ،يتطلب مسب ًقا وجود منوذج لحياة اجتامعية سليمة ُيحتكم إليها ،أي طبيعية تخلو من
أي انحرافات عقالنية تعرب عن معاناة املجتمع إثر خطأ أو اختالل أو عجز ما .بتعبري آخر ،إن معيار القول
بحالة باثولوجية اجتامعية يرتبط يف جوهره ،من جهة أوىل ،مبفهوم معني للعقالنية ،26ومن جهة ثانية ،بفكرة
«أن املجتمع السليم أو السوي ،ليس له معنى إال إذا افرتضنا أنه يوجد مجتمع ليس سو ًيا ،حيث يشري هذا
االفرتاض ضمنًا إىل وجود معايري شاملة للصحة الذهنية تكون صحيحة بالنسبة إىل الجنس البرشي من حيث
هي ،وميكن وف ًقا لها أن يحكم يف الحالة الصحية لكل مجتمع»27؟
يحتوي إذن هذا املفهوم عىل مفهوم آخر هو الحالة الصحية أو الوضع الطبيعي ،الذي يؤول إىل استنتاج
مؤداه أن حالة اليشء الطبيعية ليست املرض ولكنها الصحة بالرضورة .علينا يف الوقت ذاته أن نتذكر دامئًا
أنه عندما يتمتع املجتمع بصحة سليمة ،ترشع املؤسسات يف مامرسة وظائفها االجتامعية بأقل درجة ممكنة
من االنحراف عن العقالنية .فال يعدو املجتمع أن يكون بهذا املعنى إال وحدة كلية ذات خصائص مميزة
للرابطة البرشية ،تشكل صورة انعكاسية لعالقة أفراد املجتمع بأعضاء جسمهم الحي وبوظائفه الفيزيولوجية؛
عىل أن أي خلل عىل مستوى هذه الوظائف ،ينتج عنه مرض عضوي يصيب أحد األعضاء فيخل بتوازن
الحالة الطبيعية للعضو املعني والجسم بالكامل ،مام ينعكس سلب ًيا عىل وظيفته من حيث هو كذلك ،وعىل
ميكانيزماته وآلياته الفيزيولوجية الطبيعية.
تجدر اإلشارة إىل أن توظيف املفردات الطبيعية بهذه الصيغة ونقصد :املرض ،والصحة ،والفيزيولوجي،
والجسمي ،والطبيعي ...إلخ ،هو كام ورد عن أنصار املذهب الطبيعي ،من مثل األرسطيني كالفيلسوفة فيليبا
روث فوث )2010 - 1920( Philippa Ruthأو سابينا لوفيبوند ،Sabina Lovibondيزيد من ثقل املوقف
24إيريك فروم ،المجتمع السوي ،محمود منقد الهاشمي (مترجم) ،الطبعة األولى (الالذقية :دار الحوار ،)2009 ،ص 115
25 Axel Honneth, La société du mépris vers une nouvelle théorie critique, Olivier Voirol, Pierre Rush, Alexandre
Dupeyrix (traduction) (paris: Ladécouverte, 2006), p.25
26 Peter E Gordon and Others, The Routledge Companion to the Frankfurt School, First Edition (New York: Rout-
ledge, 2019), p. 413
27فروم ،ص 115
15
النقدي للفلسفة االجتامعية .ومام ال شك فيهَّ ،أن املناهج غري األرسطية ستجد صعوبة أكرث ،ال محالة ،يف
اشتقاق املبادئ املعيارية من االفرتاضات الطبيعية ،28وهو ما يفرس من جانب ،عدم استيعاب البعض لدواعي
استعامل مفهوم الباثولوجيا االجتامعية يف النقد االجتامعي.
وعىل نفس املنوال ،بات مفهوم الباثولوجيا يف صلب مفهوم التمييز الوظيفي The functional
،differentiation of societyبدءا من يورغن هابرماس Jurgen Habermasمن خالل نظرية الفعل
التواصيل ،بالنظر لهذا املفهوم كعالقة بينية بني النظام والعامل املعيش ،وصوال إىل هونيث الذي تبنى تقسيم
هيجل ،)1831 - 1770( Friedrich Hegelالثاليث للعامل االجتامعي :من أرسة ومجتمع مدين ودولة ،من أجل
صياغة تصور كيل عن املجتمع السليم ،واستعادة ذلك التامسك الذي ُفقد جراء التنافر بني الواقع والفكر
والوعي والوجود ،ومن تم بني األفراد واملؤسسات .باعتبار املجتمع السليم هو املجتمع الذي تؤدي فيه
املؤسسات االجتامعية دورها الوظيفي ،عىل شاكلة أعضاء الجسم ،عن طريق تفاعل وظائفها فيام بينها بشكل
صحيح وسليم ،وبطريقة ال تسمم باقي الجسم املادي أو االجتامعي.29
أما إذا امتنعت عن مامرسة دورها االجتامعي املسمى بالوظيفي ،فهو ما يعني اعتالل املجتمع باملعنى
الحقيقي لالعتالل .والذي نجده بهذه الصيغة يدين ملعناه اللغوي ،رغم أننا بصدد تعريفه وتحليله فلسفيا.
وعىل هذا النحو ،يقال يف لسان العرب :حينام يعتل العليل علة صعبـة ،فإن العلة هي الحدث الذي يشغل
صاحبه عن حاجته ،كأن تلك العلة صارت شغال ثانيا منعه عن شغله األول .ومن معاين العلة ،املرض :من فعل
عل ،يعل واعتل أي م ِرض 30.كذلك هو اعتالل املجتمع ،مقرتن بالعلة التي تشغل مؤسساته ومتنعها عن مامرسة
شغلها األول ،يعني عن وظيفتها االجتامعية.
تحاول هذه األسطر وضع األصبع عىل جرح املؤسسات االجتامعية ،وهي تحت وطأة وضع باثولوجي.
ذات الحالة التي تكشف عن وجود خلل يشوب بنيتها الداخلية؛ مثة فشل يف إدراك املعايري العقالنية التي
يجب أن يحكم لهاـ إذ يظل من املحتمل أن تفشل املامرسة واملؤسسة يف إدراك معايريها الداخلية ،إما إىل
28 Martin Hartman, Arvi Sarkela, «Naturalism and social philosophy: An introduction», academia.edu, 2021, seen
on 01/03/2023, in: https://2u.pw/XuKc7Mw. P.4
29 Gordon and others, p. 415
30جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور ،لسان العرب ،الجزء ،11الطبعة الثالثة (بيروت :دار صادر 1414 ،هـ) ،ص 471
16
حد ما أو رمبا بالكامل ،ومن ثم الحؤول دون تحقيق الغاية التي من أجلها وجدت 31.يبقى من املفيد والحالة
هذه ،األخذ يف الحسبان أن ما تطمح إليه املامرسة واملؤسسات -ونظمها بشكل عام -باستطاعته أن يتغري مع
مرور الوقت أو يختلف من سياق اجتامعي آلخر .األمر الذي يجعل عملية التفريق بني الحاالت التي ال تفي
32
فيها املامرسة مبعايريها والحاالت التي يتغري أو يتحور فيها املعيار األسايس املعمول به صعبة التمييز.
فإذا أمعنا النظر مليا يف الجامعة العربية بشكل مخصوص ،سنخلص إىل أن هذه األخرية مل تعد تؤدي
دورها كمؤسسة إلنتاج العلوم واملعارف وال فضاء للعلم الخالص والنقاش الحر واملنتج ،بقدر ما باتت مؤسسة
متامهية كلية مع إرادة السلطة ومصالحها ،تعمل بشكل مستميث عىل بناء وإنتاج منوذج معني من األفراد
يكون للسلطة مصلحة يف وجودهم؛ أي العمل عىل إنتاج أفراد مغرتبني يعيشون مبفصل عن قضاياهم ومصريهم
املشرتك ،ناهيك عن العجز الذي يستوطن نفوسهم يف عالقتهم بذواتهم ومؤسساتهم وباملجتمع الذي ينتمون
إليه ،حتى استحال وجودهم إىل وجود مزيف يفتقر ملعايري عقالنية؛ وذلك عوضا عن إنتاج جيل يتمتع بيقظة
نقدية ووعي مركب :وعي بأشكال وآليات مامرسة السلطة والمرئياتها السياسية ،ووعي بطبيعة العالقة التي
تجمع الجامعة بالدولة والدولة بباقي األجهزة واملؤسسات االجتامعية األخرى.
لنئ كان الجيل األول ملدرسة فرانكفورت يرد العجز الذي يطال أفراد املجتمع ،إذا ما قلنا عجز معايري
عقالنية املجتمع ،إىل سبب محدد ونهايئ أال وهو النظام االقتصادي الرأساميل ،حيث العالج الوحيد املمكن
للخالص هو التخلص من الرأساملية 33.تعد الرأساملية هي العامل املمرض للمجتمع الحديث واملعارص ،كام
ذهب إىل ذلك كارل ماركس ( )1883 - 1818()Karl Marxوكذلك جورج لوكاتش 1885( György Lukács
)1971 -وآخرين ممن انتقدوا العمل يف ظل هذا النظام؛ إذ يتحول اإلدراك الطبيعي إىل إدراك آخر يظهر فيه
جميع البرش كأنهم كائنات شبيهة بـ«اليشء» املفتقر إىل اإلحساس ،حيث ُيقيص التفاعل االجتامعي الطبيعي،
فتتحول العالقات اإلنسانية إىل عالقات بني أشياء أو سلع .هذا التضييق يف اإلدراك -يعني ضمنًا تضييق
العقالنية إىل عقالنية أداتية ،تتمخض عنها مجموعة متباينة من العلل ،ليس أقلها االغرتاب والتشيؤ .وقد
حدث هذا الخالص املفرتض بالفعل مع يورغن هابرماس يف نظريته عن الفعل التواصيل؛ مبا أن ادعاءاته حول
املفهوم املعني تتلخص يف االدعاءات حول عجز العقالنية ،وميكن تحديدها بشكل أكرب لتشمل أوجه القصور
34
يف العقالنية األخالقية ومن ثم يف العدالة.
لقد بدا الستلهام مدرسة فرانكفورت ملفهوم العقل عن فريدريك هيغل ،إسهام كبري يف نقدها لعيوب
العقالنية يف املجتمع الرأساميل؛ وذلك يحيلنا إىل مقالة هوركهامير األساسية عن «النظرية التقليدية والنظرية
النقدية» 35الصادرة عام ،1937وفيها يتبني استناده عىل مفهوم «العقل الفعال اجتامع ًيا» ،36بالقول« :إن
التعاون بني البرش يف املجتمع هو منط وجود عقلهم ،والطريقة التي ُي َفعلون بها قوتهم ويؤكدون جوهرهم»،37
فعال اجتامع ًيا بشكل كامل وحقيقي ،تظل غري ثم يشري بعد ذلك إىل كون إمكانات العقل ،حتى يكون ً
محققة .فاملجتمع املعارص باعتباره املظهر الحايل للعقل ،هو من حيث نتائج نشاطاته يعمل عىل تنفري
أعضائه؛ كل استنزافه لقوة العاملني يف مختلف مجاالته ،ويف حروبه أيضا ،وكل بؤسه الذي ال معنى له ،يشهد
عىل عجزه العقيل ،بل إن «بؤس الحارض» هذا هو الذي يؤسس ملسعى الفلسفة االجتامعية املتمثل يف إيجاد
ومرضا ومعاناة .وهنا ،يجدر بنا لفت االنتباه لوجه الصلة بني مفهوميمجتمع عقالين حقيقي 38أقل اضطرا ًبا ً
الباثولوجيا االجتامعية و«العقل الفعال اجتامع ًيا» يف تقليد فرانكفورت.
يحيل الفهم هنا من الباثولوجيا االجتامعية بوصفها عجزًا يف العقالنية ،عىل أنها إما خلل يف مجال ما ،أو أن
مجال يسيطر عىل اآلخر .ونرضب ً
مثال بكيفية تأثري الرأساملية سلب ًيا عىل تشكيل وتكوين إرادة دميقراطية مثة ً
شعبية .فرسعان ما تؤدي الرثوة دو ًرا إشكال ًيا يف تكوين اإلرادة الدميقراطية من خالل تربعات الرأسامليني يف
الحمالت االنتخابية لكسب التأييد؛ ما يجعل االنحراف عن العقالنية هنا يغدو اسرتاتيجية محكمة الحتواء
دعائم الدميقراطية؛ تصبح العملية الدميقراطية ذاتها قارصة عن بلوغ العقالنية يف بعض معايري تنزيلها.
أما إذا أردنا ذكر مثال آخر ،فسيكون من املهم أن نبقي احتامل أن تكون مجتمعاتنا الرأساملية مختلة
وظيف ًيا ،ليس من حيث إن املصالح النيوليربالية هي املسيطرة يف صنع القرار السيايس ،فحسب ،ولكن ً
أيضا يف
معنى أن تلك املجتمعاتً ،
فضل عن مشكل التغري املناخي ،تعرض بقاء اإلنسان وباقي األنواع األخرى والنظام
البيئي بالكامل ،للخطر .وهذا يكاد يكون ً
دليل كاف ًيا وشاف ًيا عىل بلوغها أقىص درجات القصور العقيل .ورمبا
أيضا مام قصده ييودور أدورنو عندما قال« :إن الحفاظ عىل اإلنسانية مدرج بال هوادة ضمن يكون ذلك جز ًءا ً
معنى العقالنية :فحفاظها عىل ذاتها يكمن يف تنظيم معقول للمجتمع ،وإال فإنها ستؤدي بحركتها ونشاطاتها
إىل طريق مسدود .يتم تنظيم اإلنسانية بشكل عقالين ،إذا استطاعت املحافظة عىل موضوعاتها املجتمعية
39
وف ًقا ملعايريها غري املقيدة».
هكذا إذن يكون مفهوم الباثولوجيا االجتامعية ،من ناحية ،مجرد تسمية مالمئة ملا هو قابل للنقد
االجتامعي ،ويعرب عن قصور وعجز يف العقالنية .لكن إذا كان املرء يبغي الحديث يف ذات السياق بعبارات
35ماكس هوركايمر ،النظرية التقليدية والنظرية النقدية ،مصطفى الناوي (مترجم) ،مصطفى خياطي ،الطبعة األولى (غ.م ،عيون المقاالت،
.)1990
36الفكرة األساسية التي يأتي بها مفهوم العقل الفعال اجتماعيا وهي أن مجموع الممارسات والمؤسسات االجتماعية ،تستند في جزء كبير منها على
«العقالنية» بطرق مختلفة؛ ذلك أنها تتبع قواعد معينة في عملها .أو بعبارة أخرى ،هي ليست مجرد عالقات ميكانيكية ،ولكنها تعمل تبعا للقواعد والقيم
المصاغة من قبل العقل االجتماعي نفسه.
37 Gordon and others, p.414
38 Ibid, p. 414
39 Ibid, p.416
18
عامة ليست لها أي دالالت طبيعية طبية وال مرجعية إحيائية أوخلفية نقدية فلسفية ،فيمكنه استخدام
مرادفاتها :الرشور أو اإلخفاقات االجتامعية ،لكن يلزم معرفة أهمية هذه الدالالت واالستعارات التي ليست
البتة مجرد أدوات فارغة واعتباطية ،أو ذات توظيف مجاين ،مادامت تؤطر تفكرينا واختياراتنا لألمثلة ،وكذا
أولوياتنا املوضوعية .وال ينبغي أن نغفل مسألة أساسية ميكن اعتبارها جوهرية بهذا الخصوص ،هي مبدأ
التمييز بني الفلسفة االجتامعية واألخرى السياسية واألخالقية.
ً
ومنسجم إىل حد بعيد مع مبدأ التمييز هذا؛ أي يعد استخدام لفظ «باثولوجيا اجتامعية» متواف ًقا متا ًما
إنه «املفهوم الذي يبدو مميزا للمرشوع الفلسفي االجتامعي النقدي عن موضوعات الفلسفة السياسية أو
أول ،رشيطة أن يكون يف نفس الوقت األخالقية» .40يتحدد املرمى يف الكشف عام هو قابل للنقد االجتامعي ً
الحد الفاصل بني الظواهر االجتامعية ،ثم األخالقية والسياسية ثان ًيا .استخدامه إ ًذا ،ليس عرض ًيا مادام يقدم
الكثري عن كيفية فهم هذا التقليد الفلسفي ومهمته التي تفصله عام عداه .فال ينبغي أن يختزل الرتكيز عىل
الغرابة األنطولوجية لبعض املفاهيم املستدعاة يف الفلسفة االجتامعية النقدية ،ومنها مفهومنا املعني ،بقدر
ما يجب الرتكيز أكرث عىل نجاحها التفسريي والتحلييل الشامل ،أو عدمه ،مقارنة بالنظريات النقدية األخرى.
حري بنا التذكري أن مفهومنا املحوري ،مل يحظ بتعريف واحد دقيق ومركز .لقد تفرعت تعريفاته
وانقسمت رشوحه إىل فروع .أما األول والثاين ،فينطويان عىل مفهوم معياري للباثولوجيا ،وبحسبهامُ ،يعترب
يشء ما باثولوجية اجتامعية إذا كان له وقع سيئ عىل الصعيد االجتامعي .وإن كان هناك اختالف بني هذين
التصورين ،لكنه ال يخرج عن نطاق املعيارية؛ إذا كان التصور األول يرى أن الباثولوجيات االجتامعية ال تتميز
بخصائص كلية وسامت عامة .فإن التصور الثاين يقر بوجود بنية داخلية مشرتكة بينها .أما الثالث والرابع،
فيندرجان ضمن املفهوم الطبيعي ،وكالهام يعتقدان أن اليشء الباثولوجي أو املريض ينم عن وجود خطأ ما،
41
وعىل أساسه يكون اليشء الخاطئ تعبريا عن حالة مرضية.
وهنا يظهر بجالء ،أن التصورين األخريين منسجمني إىل حد بعيد مع تصور أكسيل هونيث ،الذي يجعل
التفكري يف عني املفهوم مقرتنا بافرتاض الصحة كحالة أصلية وطبيعية لليشء ،بينام الثاين ،وهو املفهوم املعياري،
جعل مصدر املرض يكمن يف االخفاق والفشل االجتامعيني .وإن أردنا استبدال هذه املفردة بأخرى أبلغ منها
داللة وتعبريا ،ستكون كلمة العجز الذي يطال املؤسسات االجتامعية ،ويعود يف األصل حسب االتجاه املعياري
إىل االخفاق االجتامعي؛ بالنظر النحرافات مؤسساته عن العقالنية املوضوعية املمكنة بالفعل.
40 Arto Laitinen, ARVI Sarkela, «Four conception of social pathology», journals.sagepub.com, 17/05/2018, seen
on 10/02/2022, in: https://2u.pw/GnS5XXz
41 Ibid.
19
كان من املهم الوقوف عند هذه التصورات األربعة يف سبيل تعزيز الفهم عن «الباثولوجيات االجتامعية».
وال جرم أن الخطأ سيكون إذا تم االعتقاد أن هذه الباثولوجيات هي بالرضورة ذات طابع كوين ميكن تعميمه
أو إسقاطه عىل مختلف املجتمعات .إمنا الحقيقة الوحيدة التي يسمح بكوننتها ويجوز إسقاطها عىل السياقات
االجتامعية بكامل اختالفها وتنوعها ،هي حقيقة «االجتامعي» الذي ال ميكن محاكاته البتة؛ ما كل مجتمع
يشكل وضعية اجتامعية مستقلة ،مادام كل سياق له منطلقات أساسية وصريورات تاريخية وثقافية خاصة،
تفرض نفسها كوضعيات أنطولوجية يستحيل إسقاطها عىل سياقات أخرى مغايرة .مبا أن مفهوم العقل الفعال
اجتامع ًيا ال يخرج عن مقولة الزمكان ،أي أنه مرتبط بسياق اجتامعي وتاريخي معني .ومع ذلك ،يبقى بعض
املنظرين ضمن هذا التقليد الهيغيل محتكمون لحالة تقدم تاريخية محددة .والحال أن لكل مجتمع مناذج
محلية ُينظر إليها يف ضوء معايريه القامئة؛ وهو ما يجعل من الخطأ إسقاط أمراض مجتمع عىل مجتمع آخر ،إن
كل مجتمع ينتج أمراضه بطريقته الخاصة وفق منظومة قيمه املحلية السائدة ،ولنا يف «املجتمعات العربية»
خري مثال ،بل إن افرتاض وجود شكل واحد مشرتك للباثولوجيات االجتامعية ،ينم عن نزعة جوهرانية كتلك
التي نجدها عند الفيلسوف جادامري ( )Hans-Georg Gadamer( )1900-2002وأرسطوو وولزر (Michael
)1935( )Walzerوال غرو أنه افرتاض يؤدي إىل الرتكيز عىل الحاالت االجتامعية املألوفة واملعتادة ،مثل
السكري الذي يبحث ليال عن مفاتيحه املفقودة تحت عمود االنارة ،ليس ألنه املكان الذي ُفقدت فيه املفاتيح،
وإمنا حيث يسهل العثور عليها هناك .لكن مثلام أرشنا يف السابق ،إن الفيلسوف االجتامعي يعنى بالكشف
عن الالمرئيات االجتامعية Social Invisibilitiesونقدها ومن تم تشخصيها ومتحيصها ،كأحد موضوعات
النقد االجتامعي ،42والتي جعلها أكسيل هونيث يف ارتباط بنظرية االعرتاف :من ناحية أن املعرتف به يغدو
مرئيا اجتامع ًيا يف الوقت الذي يكون غري املعرتف به ال مرئيا يف عني املجتمع ،مقصيا ومغيبا .وبالطبع ،هذا ال
يحيل عىل غيابه املادي ،ولكن عىل غيابه االجتامعي .ذلك باملعنى الحقيقي لالجتامع وما يشرتط من عالقات
43
متكافئة واعرتاف متبادل.
بهذا املعنى ،تكون اإلخفاقات االجتامعية يف الواقع ،معربة عن الحاالت التي ترتتب عىل الظلم والهيمنة،
الالمرئية والقهر ،وعن االحتقار واإلذالل االجتامعيني ،كانعكاس ملستوى قصور العقل االجتامعي .وكلها أمراض
متنع الرفاه والحرية وتعيق االستقاللية وتحد من التضامن الحقيقي ،فتحول دون أن يكتسب الفرد معايري
وعيه الذايت وتحقيق ذاته بشكل فعيل .والنتيجة الناجمة عن ذلك ،تظهر يف مامرسة شتى أشكال القمع
واالستغالل والهيمنة ،إىل جانب اإلكراه .عىل أن لكل هذه االنحرافات ،ومنها ما مل يذكر ،صلة وثيقة باملعاناة
واآلالم االجتامعية التي نشهدها اليوم يف واقعنا العريب بشكل مخصوص.
42Ibid.
43 Honneth, La société, p. 225
20
يظل مفهوم الباثولوجيا االجتامعية بالرغم من االنتقادات التي تطاله ،يستخدم عالوة ،للحديث عن
املعاناة التي ترجع يف األساس إىل أيديولوجيات مضمرة ،تعمل عملها بعناد واستامتة يف خضم املامرسات
املعيشة 44.لكن مادام الفهم يشكل أحد أهداف النقد الفلسفي االجتامعي؛ فهم األسباب التي تجعل ذات
األمراض غري ظاهرة للعيان مهام كانت آثارها بارزة يف املجتمع .فإن متظهراتها لن تنفلت من قبضة اليقظة
التشخيصية ،لطاملا يتسع نطاق وظيفة الفيلسوف االجتامعي إىل إماطة اللثام عن الباثولوجيات التي يراد
لها أن تكون أيديولوجيات مرتسخة ،متخضت عنها تشوهات واضطرابات تضني حياة األفراد وصحة املجتمع.
يتعلق األمر مبامرسات وسلوكيات تقودها قوى ايديولوجية مهيمنة ومتأصلة اجتامع ًيا تبث الوهم ،غري أنها
تنخر وتنهش يوما بعد يوم ويف صمت مريب سالمة ذوات الجسم االجتامعي.
يؤكد أدورنو هنا ،أن ما يعتربه املجتمع طبيع ًيا وصح ًيا يف كثري من األحيان ،يعود بتكلفة عالية عىل نفوس
األفراد؛ إذ هو يف واقع الحال باثولوجيا ممرضة؛ فاملجتمع الذي يطلب من أفراده السعي وراء حالة باثولوجية
عىل أنها منوذج طبيعي ،هو عينه مختل وظيفيا وقارص عقليا .45ويف هذا التصور ضمنا ما من شأنه أن يفرس
حالة املجتمع ككل يف ضوء تجسيده لخصوصية النقد الجذري للجسد االجتامعي عند أدورنو؛ ال ينبغي تصور
«املرض» يف كيان منفصل ومعزول عن األعضاء السليمة األخرى؛ ألن املوضوع يخص الجسم االجتامعي يف
كليته .فعندما يكون مرض الحياة االجتامعية إذن مخفيا نسبيا أو بالكامل ،هذا ال يعني أنه غري موجود ،ولن
يغري أبدا من حقيقة أن املجتمع املترضر هو نفسه العلة ،بل كل ما يعنيه ،أن الكتشافه يحتاج املرء إىل أخذ
46
منظور كيل حول املجتمع بكامله.
ما يقدمه أدورنو هنا ،هو تصور مزدوج عن الكيفية التي يتسبب بها املجتمع يف إصابة األفراد باملرض ،وعن
الحالة التي يكون فيها املجتمع ذاته مريضا .مام يجعلنا نستنتج إن الباثولوجيا االجتامعية ال ميكن تعيينها من
خالل النظر إىل األفراد ككيانات ذرية جزيئ؛ ألن التضحية املقررة اجتامع ًيا هي يف الواقع شاملة لدرجة أنها تظهر
فقط يف املجتمع كوحدة كلية ،وليس يف الفرد بشكل منعزل؛ وذلك افرتاض حول املجتمع كام لو كان مرض جميع
األفراد ،يف حني أن الباثولوجيات االجتامعية تكون مرئية فقط إذا نظرنا إىل املجتمع كوحدة كلية.
لن ينكر أحد أن العوامل االجتامعية تكون يف أحيان كثرية جزء من العالقة السببية لالكتئاب ،عىل سبيل
املثال ال الحرص .فكثريا ما يتحدث األطباء النفسيون عن «مجريات الحياة» كعامل ذي صلة سبب ًيا .لكن،
هذا الربط ال يجعل منهم بطبيعة الحال مشخصني لباثولوجيا االجتامعي ،ليس إال ألن األطباء النفسيني ال
يحتاجون ،وعاد ًة ال يقومون بذلك ،تقديم تشخيص حول األمناط االجتامعية ملثل هذه األمراض النفسية .لكن
44 Arto Laitinen, ARVI Sarkela, «Four conception of social pathology», journals.sagepub.com, 17/05/2018, seen
on 10/02/2022, in: https://2u.pw/GnS5XXz
45 Gordon and others, p. 417
46 Ibid, p, 417
21
ويف هذا املقام ،عطفا عىل ما يراه أدورنو «يعلن املختصون يف البلدان الرأساملية املتقدمة أن هناك
ازديادا مطردا يف االكتئاب وكذلك يف الفصام الذي يوصف يف اليابانً ،
مثل ،بأنه مرآة البيئة االجتامعية املعارصة؛
وأن الفصام يف تلك البلدان ،عىل الرغم من التقدم يف تشخيصه ،ليس هناك تقدم يف عالجه والسبب يف ذلك
انعدام البيئة االجتامعية املساعدة عىل الشفاء .فلو أصيب رئيس رشكة بأزمة قلبية قيل إنها نتيجة االجهاد
يف العمل ،كأن ذلك مبعث عىل الفخر ،وكل الناس يدعمونه ،ولكنه إذا أصيب بأزمة نفسية ،للسبب ذاته،
عليه أن يكابد يف صمت لئال يتعرض للهزء واالحتقار» .47ومع ذلك« ،فإن الكثري من األطباء النفسيني وعلامء
النفس يرفضون أن ينظروا يف فكرة أن املجتمع يف كليته يفتقر إىل السالمة .وهم يعتقدون أن مشكلة الصحة
الذهنية يف املجتمع هي مجرد مشكلة عدد من األفراد (غري متوافقني) وليست مشكلة عدم التوافق املمكن
48
يف الثقافة ذاتها».
وعليه ،فإن ما يربر استدعاء الكيانات االجتامعية الكلية (املؤسسات االجتامعية واألنظمة ...وغريها)
كعوامل سببية أو علل فاعلة ،رغم أن ذلك ال يكون دامئًا عىل نحو رصيح ،هو أن يف استحضارها يكون
فائض توضيحي ونجاح تفسريي ملعرفة باثولوجيا االجتامعي يف تفاعالتها وتشابكاتها املعقدة ،حيث أبعادها
متداخلة ببعضها بني االجتامعي والسيكولوجي واالقتصادي والسيايس واإليتيقي ،ورمبا باألنرثوبولوجي والديني
والفلسفي يف أحيان ليست بالقليلة .وليس هذا التشابك إال تعبري عن تعقيد الواقع من جهة ،واستحالة الفهم
والتفسري األحادي الذي ال يجرؤ العبور للفروع املعرفية والرفد مبعطياتها املختلفة.
هكذا ،ال بد للفيلسوف االجتامعي والحالة هذه ،أثناء تحليله وتشخيصه للواقع كوحدة كلية ،أن يقدم
فرضية كوضعية انطالق حول الحالة التي ميكن أن يكون عليها املجتمع ،عىل أن تضمن ألفراده الوصول إىل
حياة اجتامعية عقالنية بالكامل ،أكرث صحة وتوازنا .أي أنه ال ينبغي عليه االكتفاء بوصف ظواهر التجربة
ونقدها وتحليلها ،مادامت مهمته تستدعيه لإلسهام يف تحقيق املرامي املرجوة للبرش .مثلام فعل أكسيل
هونيث متا ًما يف نظريته عن االعرتاف .مل يقترص يف الحقيقة عىل وظيفته كناقد ومشخص ،مبعنى عمد إىل
التحليل وفق أطروحته طمعا من جانب ،يف إعادة صياغة ونحت مفهوم جديد لالعرتاف من أجل تقديم
إطار وقالب جديدين ،ومفهوم يؤسس لألخالق ويعمل يف ذات الوقت كأساس معياري للتحرر واالنعتاق
من الهيمنة .وسعيا من جانب آخر ،لتشخيص وتحليل الباثولوجيات التي ينظر لها كمفارقات للرأساملية
و«االعرتاف االيديولوجي» 49يف املجتمع الرأساميل املعارص .لنئ كان يف سياقات كثرية ،يذهب للتأكيد إن
الرأساملية ليست وحدها املفرسة ألسباب ومسببات هاته األمراض ،وإمنا يعود عدد منها إن مل نقل جلها
إىل مفارقات مالزمة لها تؤول يف النهاية إىل ظهور مظاهر االستالب وتفيش شتى أنواع االحتقارً ،
فضل عن
غياب التضامن االجتامعي والتقدير القيمي .وهو األمر الذي ساهم بطريقة مبارشة يف انتشار صور الالمرئية
االجتامعية ،كام أرشنا يف السابق ،كمرض تعرب من خالله الذوات املهيمنة عىل تفوقها ومتيزها االجتامعيني يف
عالقتها بالذوات املهيمن عليها.
وبهذا نستحرض أمثلة سبق وقدمها يف دراسته للموضوع ،وهي تجسيد لنامذج من التاريخ االجتامعي
الثقايف ،تربز كيف «أن النبالء قدميا كانوا يتعروا أمام خدمهم ال ليشء إال ألنهم يعتربونهم ال مرئيني أو غائبني.
ويكمن الفارق بني النظرة العنرصية الحديثة ونظرة النبالء القدمية ،يف أن اإلنسان األبيض بوصفه مهيمنا يعمل
50
قصديا عىل أن يفهم الزنجي الحارض فيزيائيا أمامه بأنه غري مريئ وغري حارض بالنسبة إليه».
وعىل ضوء هذا املثال ،نجد إحدى املفارقات غري تلك الناشئة عن الرأساملية ،تكشف عن الحالة االجتامعية
املرغوبة والحياة الواقعية ،أو بتعبري آخر ،هناك تعارض مريئ بني ما هو كائن وما ينبغي أن يكون ،هي عىل
هاته الشاكلة ،متثل حالة باثولوجية تعوق التغيري االجتامعي املرغوب لدى أفراد املجتمع .لكن من املهم
التذكري بأن توظيف هونيث «ملفهوم املفارقة مل يكن مقابال ملصطلح التناقض ،وإمنا استعامله كان بغرض تفسري
البنيات املتناقضة ،عليها يكون التناقض مفارقا عندما يختزل إمكانية تحقيق مقصد معني 51».ومثة مفارقات
تطال حاجة األفراد إىل تحقيق ذواتهم بكيفية إيجابية وناجحة ،ثم إن هناك مفارقات مختلفة تقرتن بعملية
الوعي بالذات وتحقيقها .وهذا يعني أن الباثولوجيا االجتامعية تنم عن عملية يتم من خاللها إرشاك (تحقيق
الذات) يف إعادة إنتاج املجتمع الرأساميل بطريقة تجعل من املفارقة تحقيقه.
يذهب «هونيث» يف هذه األسطر إىل أن مزيج مختلف من العوامل االجتامعية ،قد أدى منذ السبعينيات
إىل إرشاك عملية تحقيق الذات ضمن عملية اإلنتاج الرأساميل ،حيث يتعني عىل األفراد التظاهر بأنشطة
يبدون من خاللها كأنهم يحققون ذواتهم يف كونهم موظفني أو عاملني ،أو من خالل االستمرار يف وظائف
معينة ،أو عن طريق السعي للحصول عىل ترقيات وامتيازات مادية .بينام تؤول النتيجة السيكولوجية إىل
شعور الذوات بالفراغ الداخيل والال معنى أو الال جدوى إزاء ما يقومون به ،مام يعزز افرتاض ارتفاع مستويات
االكتئاب كاستجابة فعلية مضادة.
49االعتراف في شكله االيديولوجي عبارة عن عملية زائفة تؤدي إلى تثبيت عملية الهيمنة االجتماعية القائمة ،وبذلك يتحول االعتراف إلى مفهوم
إيديولوجي يقوم على الزيف وال يؤدي إلى االستقالل الذاتي ،وإنما يعمل من أجل التماثل مع النظام ،أو باألحرى التماثل مع نظام الهيمنة القائم .ويمكن
العودة إلى الزواوي بغورة ،االعتراف من أجل مفهوم جديد للعدل دراسة في الفلسفة االجتماعية ،الطبعة األولى (بيروت :دار الطليعة.)2012 ،
50المرجع نفسه ،ص 181
51 Honneth, La société, p. 287
23
مل تكن الذوات أبدا من قبل وال تقسيامت «اليوم» الزمنية خاضعة للهيمنة الرأساملية املبارشة ،بينام
ها هي اليوم باسطة هيمنتها بصورة وحشية أكرث من أي وقت مىض .مثلام مل يعد وقت الراحة مجان ًيا أبدا،
عساه عىل الدوام جز ًءا من سياق الهيمنة إىل حد مل تعد الدراسة وحدها تكفي للحصول عىل درجة يؤمن بها
الواحد لقمة عيشه ،يلزمه باإلضافة توجيه أنشطته «الالصفية» يف أفق تقوية وتعزيز فكرة رضورة التوظيف.
وحتى عندما أصبحت أوقات العمل والتسلسالت الهرمية أكرث مرونة من ذي قبل ،فإن ذلك مل يؤد ببساطة
إىل نتيجة تقدمية ،لقد أضحى العاملون واملوظفون تحت الطلب دامئا ،يستجيبون عىل مدار الساعة وطوال
أيام األسبوع لحاجيات ورشوط النظام .والحال نفسه ،مل يعد كافيا القيام باملهام املطلوبة ،بل يجب االشتغال
والعمل بحامس والترصف كام لو أن الوظيفة جزء من تحقيق املرء لذاته ووعيه بها.
لذلك اعتربها هوركهامير نوعا من الرأساملية االحتكارية الشاملة ،حيث «املجتمع ال يتمكن فيه الفرد
الذي ال أهمية له من البقاء يف قيد الحياة إال بوصفه جزءا من منظمة أو رابطة أو فريق؛ يستطيع فيه ،إن
أراد الحفاظ عىل نفسه ،أن يستعد يف كل مكان ،وأن يعمل يف كل فريق ،وأن يكون الئقا لكل شيئ ويجب أن
يكون دائم اليقظة وجاهزا ،وأن يكون باستمرار ويف كل مكان متوجها نحو العميل مبارشة».52
وهنا يرى هونيث ،أن ما عندنا هو مجرد تحريف وتزييف وسخرية بدالً من تحقيق الذات الحقيقي.
مبوجبه بات خطاب تحقيق الذات أداتيا وجز ًءا ال يتجزأ من إعادة اإلنتاج الرأساميل والعامل االجتامعي ،ليس
الخطاب وحده ،حتى فكرة الوعي بالذات نفسها؛ وذلك أن مسألة تحقيق الذات يف الواقع ،قد نجد تعبرياتها
يف املامرسات واألفعال كأداء خارجي وظاهري فقط ،منفصل حقيقة عن ذاتية الفرد لئال نقول إن الفرد مغرتب
عنها متا ًما؛ فمن غري املنطقي الحديث عن تحقيق الذات الحقيقي يف ظل انعدام ظروف ورشوط تحقيقها.
والعجيب أن ما كان نداء للمعركة من أجل التحرر وكذلك معيارا للنقد االجتامعي ،بات أداة للسيطرة وعكس
بالتايل تكافؤه املعياري 53.اليشء الذي دفع هونيث إىل الربط بني فكرة تحقيق الذات التي تحولت إىل قوة
إيديولوجية وإنتاجية يف خضم نظام اقتصادي مختل ،واالرتفاع الرسيع يف نسبة االكتئاب.54
وكلها أسباب آلت إىل بروز اعرتاف ُأدلوجي أو مؤدلج؛ تتحطم بفعله عالقة الذات مع نفسها ،مبا أن
التامثل مع النظام إىل هذا املستوى تغيب فيه مبادرات املقاومة التي تفيض لالنعتاق .ما معناه انقياد يحطم
الذات من الداخل فتحطيم عالقتها العملية تجاه نفسها .أو احتواء لقيمة الذات يحجم من وعيها ووجودها
الخاص فتفقد بالتايل اإلحساس بوجودها الواقعي الخاص؛ وذلك من دون أن يفهم أن هنالك إقرارا من
الرأسامليني الستاملة اإلدراك الذايت بهدف تجديد الرأساملية وتوسيعها الستيعاب مجاالت أخرى من الحياة.
فام يقدمه هونيث ،يظل وصفا لكيفية االستجابة للنظام الرأساميل والتي يراد لها أن تكون معقولة .عىل
52فيغرسهاوس ،ص 440
53 Gordon and others, pp. 419, 420
54 Ibid, p. 421
24
أن قيمة تحقيق الذات بوصفها أحد اإلشكاالت التي تحظى باهتامم النقد االجتامعي ،والتي يتم تناولها
عىل نحو مضطرد يف النظر للمامرسات االجتامعية ،أضحت يف األخري ،ليس عنوة وبدون سيطرة من أحد،
مخ ّر ًبة ومفسدة .فبهذا املفهوم يرتبط تحديد رشوط تحقيق اإلنسان لذاته عند هونيث ،بالتشخيص النقدي
«للباثولوجيات االجتامعية» وللميول املرضية للمجتمع الحديث التي تجعل تحقيق الذات مستحي ًال .ويف ذلك
55
بعد نقدي حاسم يتناقض مع الفلسفة السياسية.
سبقت اإلشارة إىل أن مفهومنا املعني بالبحث قد شهد نقدا ،كمصطلح طبي بيولوجي وإحيايئ .وبالتايل ليس
مثة سبب واف وشاف بالطبع وراء استعامله للداللة عىل املشكالت االجتامعية ورشورها ،لطاملا هناك مرادفات
أخرى قد تفي بالغرض .غري أنه وجب التأكيد عىل كونه أكرث املصطلحات تعبريا عن اآلالم واملعاناة التي تخلفها
بعض املامرسات والتحوالت يف واقعنا االجتامعي وعن التحريف والتخريب والسخرية التي تطال الوعي الذايت.
فليس هناك ما يخلف آالما ومعاناة أكرث من املرض ذاته الذي ليس مجرد حالة صحية مهرتئة فقط ،بل تجسيد
لوضعية أنطولوجية مخربة ومفسدة للعقل والجسم ،ترى الحياة خاللها مبنظور مغاير ومختلف كلية عىل النحو
الذي كنت تراه عليه من ذي قبل ،وعىل ما سرتاه عليه يف الالحق .هكذا لن تستطيع تذوق طعم الصحة إال إذا
امتثلت للشفاء ،ولن تعرف قيمتها الحقيقية إال وأنت يف خضم املعاناة ورحم اآلالم ُتقاوم من أجل استعادة
العافية .هو بالذات حال الذين أمل بهم املرض االجتامعي ،رغم أن االختالف بني الحالتني واضح متا ًما :من جهة أن
املعاناة يف املثال األول يوجد وعي بها ،أما الثاين فال يوجد هناك أي وعي فعيل؛ مام يزيد من حدة اآلالم وتفيش
املرض نظرا لغياب هذا األخري الذي يعترب عنرصا رئيسا للرغبة يف العالج .بغض النظر عن نوع املرض عام إذا كان
عضويا أم نفسيا أو لنقل اجتامعيا .عادة ما ال يجيد املريض وصف آالمه وتفسري أحاسيسه ،لقد جرت العادة أن
يعزوها دامئا إىل العلة غري الحقيقية؛ أي إىل األسباب غري الصحيحة .وتلك يف الواقع ليست أكرث من آلية دفاعية
سيكولوجية لدرء املشخص عن كشف العلة الحقيقية للمرض.
بهذا إذن تكون الباثولوجية االجتامعية مفهوما يتم توظيفه للداللة عىل الرشور واإلخفاقات االجتامعية،
كام يتم اسخدامه كآلية بغرض نقد الظواهر التي تشكل موضوعا للنقد االجتامعي ،أو للحديث عن الظواهر
التي ميكن نقدها اجتامع ًيا يف ضوء قصورها عن العقالنية الفعالة اجتامعيا .يصلح للداللة عىل ما يستهدف
احتواء الوعي بالذات ،والحالة كذلك عىل األيديولوجيات التي تدعو وتكرس يف آن التامثل مع األنظمة وكذلك
النظم االجتامعية املختلة .ولوصف ما يخلف تقهقر ،انحطاط أو تعطيل يف عملية التطور ويف سريورة الحياة
االجتامعية بالكامل .إنه يشري إىل جملة االختالالت واالضطرابات التي تعيق أي تقدم بيعالئقي ،وتحول دون
بلوغ الرفاه أو الكامل االجتامعي يف مستواه اإليتيقي ،أو عىل األقل دون تحقيق حياة اجتامعية ناجحة وخرية.
وعليه ،وجب التعامل مع الباثولوجيات االجتامعية كفريوس متطور يصيب املجتمع ككائن حيوي اجتامعي
يستحق أن يعيش حياة جيدة.
ويف ضوء هذا كله ،يجب أن يكون املرض واقعا وحادثا فعال يف حياة األفراد وليس من نسيج الخيال
أو التصور ،يجسد حالة متأصلة يف السلوك االجتامعي برهنت أن نتائجها ضارة ومؤذية لألفراد .ولوقعها
أيضا رضرا عىل حياتهم االجتامعية؛ إذ الحالة تنتهك القيمة املعيارية للحياة الجيدة .ويجدر اإلقرار بأن
تشكل املجتمع يف الحقيقة من رشائح متباينة وفئات مختلفة ،قد ينجم عنه تباين يف كيفية العيش مع ذات
الباثولوجية االجتامعية.
من املحتمل جدا أن يتم فهمها والنظر إليها عىل نحو مختلف متا ًما ،لكن ال ينبغي أن يجعلنا هذا التباين
يف الفهم والتحليل ننظر لجملة الباثولوجيات عىل أنها رضورة اجتامعية ،وننحرف عن مبادئ العقل املوضوعي
بالقول إن لها مصالح وغايات تخدم املصلحة العامة املشرتكة بني األفراد ،علنا بهذا املوقف نساهم يف معاودة
إنتاج السلطة القامئة وتعزيز القوى املهيمنة.
لهذه األسباب وسواها ،مثة باثولوجيات تندرج تحت الصنف غري املريئ لدى أفراد املجتمع؛ ألنها والحال
تتعارض مع القيم واملصالح السائدة ،تنظر إليها القوى املهيمنة كرضورة اجتامعية لغاية تكريس نظام اجتامعي
مختل ،يحقق يف الوقت نفسه ،التوازن السيكولوجي واالجتامعي الذي يجعل العالقات االجتامعية تنتعش من
عالقات معيشة قامئة عىل أساس الهوة الفاصلة بني واحدة قوية مهيمنة وأخرى ضعيفة مهيمن عليها.
كام ينبغي التأكيد أن وجود باثولوجيات اجتامعية يف الواقع ال ينم عن وجود ظاهرة غري طبيعية البتة.
إن املرض ال يعدو أن يكون سوى جزء من الطبيعة البيولوجية ،يشكل ميكانيزما رضوريا ينبه عن أي خلل
أو مشكلة صحية أو عن أي عنرص دخيل عىل الجسم االجتامعي ،وهو ما يسمى باملقاومة املناعية .فصحة
املجتمع وسالمته ال تكمن يف خلوه كلية من شتى أعراض املرض؛ ألن ذلك يستحيل مبكان ،وإمنا تتجىل يف بلورة
وتطوير جهاز مناعي قوي جاهز للتصدي ألي جرثوم خبيث ينخر وينهش ،بل واألكرث ،يضعف الدرع الحامي
لصحة املجتمع .باإلضافة إىل أن سالمة هذا األخري تشرتط الوعي بالعلة وبرسعة تشخيصها ،ليسهل التغلب
عليها قبل االنتشار.
فغري الطبيعي هو عدم ظهور أمراض يف واقع اجتامعي تتغري قيمه ومعايري مناذجه برسعة مذهلة ،إما
أن تدفع املجتمع إىل االتساق ،وإما إىل االختالل واالضطراب ،ويف أحيان كثرية ،إىل االنحراف عن العقالنية
املوضوعية والغايات املنشودة ألفراد املجتمع كغاية تحقيق الذات؛ ذلك أن العامل الرئيس وراء جملة االنحرافات
واالختالالت ،التي تعترب باثولوجيات اجتامعية ،هي غياب االعرتاف وفق ما خلص إليه هونيث .نظرا لكون نظرية
االعرتاف تقوم عىل فكرة أن املطالب العديدة لألفراد وتطلعاتهم املختلفة ،كلها ترمي إىل نفس الغاية ،وهي
تحقيق االعرتاف االجتامعي املتبادل ،الذي ميكن من بلوغ أهداف وغايات شخصية وجامعية بشكل مستقل؛ من
56
أساسا يف مواقف الحب ،واالحرتام ،ثم التضامن االجتامعي.
خالل مناذجه التذاوتية الثالثة املتمثلة ً
56هونيث ،الصراع من أجل االعتراف ،ص 169
26
يظل الوعي بالذات ورشوط تحقيقها أمرا صعب املنال يف ظل مجتمعات تسودها شتى أشكال اإلخفاقات
واملوانع االجتامعية ،التي ال تخلو عىل كل من مختلف مظاهر املهانة ،كمؤرش قوي وانعكاس تام لغياب
مختلف أمناط التقدير االجتامعي ،مام يهدد بهدم الهوية الشخصية للفرد 57والجامعية سواء بسواء .مبا أنها
متثل باثولوجيات اجتامعية تحول بني الفرد ووعيه بذاته ،فتحتوي قيمته االجتامعية واحرتامه الذي ال ينتزع
إال من خالل تفاعل بيذايت يحقق للذات معرفة أفضل بوجودها واملعايري التي تحكمها .ما يعني ،إن تحقيق
ذواتنا بصورة إيجابية ال يتم إال عن طريق االعرتاف ،وعرب عالقتنا بغرينا من الناس الذين نتفاعل معهم يف
حياتنا االجتامعية .عىل سبيل ما ذهب إليه هونيث ،يف إعادة صياغته النظرية النقدية ،منطلقا من فكرة تعترب
أن غياب االعرتاف االجتامعي هو باثولوجية وجب لزاما التغلب عليها أو تخطيها .إىل أن مؤلفه املذكور آنفا
(الرصاع من أجل االعرتاف) ،يحمل تصورا سعى من ورائه إىل تأسيس قواعد أخالقية للنزاعات والرصاعات
االجتامعية ،من خالل إعادة بناء التجربة االجتامعية استنادا إىل مناذج االعرتاف االجتامعي .ذلك أنها تشكل
مستويات مؤسسة لهوية الفرد كعنرص يسلك التطور يف الحوار والعالقات البينذاتية مع بقية البرش ،بها يتأىت
للذات تحقيق وجودها ونيل االعرتاف من اآلخر .فالنزاع االجتامعي يف نهاية املطاف يحمل تعبريا حاميا
عن حركات تحررية ومقاومة مضادة للتشوهات التي تلحق بالهوية .فال يعدو الرصاع أن يكون يف جوهره
سوى مامرسة اجتامعية نشيطة ،تحركها نوازع داخلية تلوح يف األفق بحدوث تغيري اجتامعي تعززه رصاعات
فضل عن كونه يكفل نسج شبكة ال نهائية من التفاعالت نفسية ضد الهيمنة واالستبداد واالحتقار االجتامعيً .
االسرتاتيجة من أجل الرفع من قيمة الذات.
إن الرصاع هنا بهذا املعنى ،لَتجسيد ألزمة أخالقية يف املجتمعات الحديثة بعامة ،تدفعها حوافز التميز
والسعي نحو التفوق االجتامعي .أما عن التشوهات يف الهوية ،فام هي إال الدافع إىل النزاع والرصاع االجتامعيني،
والسبب غري املبارش وراء نقل النقاش عن التحرر من دائرة االهتامم املعريف والعقالين نحو نظرية بديلة حول
البينذاتية (االعرتاف) .فثمة أرضار وتشوهات أملت بالعملية التواصلية بني أفراد املجتمع قبل أطروحة هونيث
مع أستاذه يورغن هابرماس يف نظرية العقل التواصيل ،لكن االختالف بني األستاذ وتلميذه ،يتجىل يف النظر إىل
االنحراف عند األول (هابرماس) كوجه من أوجه غياب االحرتام ،غري أن الحاجة إىل االحرتام مع هونيث تسبق
حسب الرضورة األنطولوجية امللحة أي فعل تواصيل؛ يف كون الحاجة إىل االعرتاف تسبق الحاجة إىل التواصل.
هذا إذا ما قلنا من جهة إن التواصل الهابرمايس ذاته يصور تفاعال بينذاتيا وآلية يتحقق مبوجبها االعرتاف
الهونيثي .مع ذلك ال يسعنا إال أن نقول إن عقالنية االعرتاف هي عقالنية بينذاتية تجلب االحرتام ،فتسبق من
حيث الحاجة النفسية االجتامعية والرضورة األنطولوجية للذات الفردية ،عقالنية هابرماس التواصلية رغام عن
كونها بينذاتية يف الجوهر وتفاعلية يف العرض.
هنا تتجىل بوضوح مسألة ارتباط االجتامعي بالذايت والنفيس ضمن الفلسفة االجتامعية .ويظل إذن ما
يطبع مظاهر الظلم واإلذالل االجتامعي يف صفوف املحتَقرين ،هو املقاومة ،والرصاع الذي ينشد االعرتاف
يف األخري .فالجامعات البرشية يف نزعاتها األصلية تلتقي جميعها عند ذات الحاجة بحثا عن التقدير واملكانة
أساسا عن مبدأ الحرية والعدل ،الكرامة واالحرتام
االجتامعية كمطلب هويايت ،كام أن حوافزه ال تخرج ً
القانوين .ومن متة ال يبدو االعرتاف معطى جاهزا ،ولكن مثرة رصاع وحركة قامئة تتجاذب بني مد وجزر .فلم
يكن يرمي استخدام كلمة رصاع إال للحديث عن عملية متواصلة تتوق إىل انتزاع االعرتاف الذي يتعذر تحقيقه
يف كثري من األحيان ،لئال نقول أنها سريورة يتعذر معها الحصول عىل اعرتاف كامل 58يحفظ الهوية ويضمن
معها األمان لألفراد.
هكذا ،فال شك أن الحاجة إىل التحرر واالنعتاق «مبا هو ارتقاء ملستوى االعرتاف يف مجمل الفضاءات
االجتامعية» ،59تظهر دامئا يف صيغة مطلب إنساين أسايس يفرتض االستجابة؛ يشخص الحاجة إىل االستقالل
الذايت كآلية تسهم يف بناء هوية ناجحة لألفراد .مام يحمل الذوات عىل تكوين صورة عن نفسها تبعث عىل
الشعور بالتميز واالحرتام والفخر ،وبالقيمة والتقدير حيال نفسها .مع ذلك ،ليس بناء الهوية وحده يستند عىل
الحاجة إىل االعرتاف ،إن تشكل الفردية وتكوينها يتم هو اآلخر بناء عىل التداخل الذي يجمع بني االعرتاف
60
باآلخر والرضا عن الذات أو التقدير الذايت بلفظ آخر.
عالوة ،إذا كانت هناك من دعامة لالعرتاف فلن تكون غري الخلفية أو املرجعية الثقافية املشرتكة بني أفراد
املجتمع الواحد كركيزة رئيسة ،التي لفرط تأطريها للسلوك قد تحولت إىل عنرص توجيهي منظم بشكل رمزي،
يصوغ القيم والغايات األخالقية للجامعة الواحدة أو ملجتمع بعينه .فتعترب مرجعا تقييميا ونظاما معياريا،
يهدف إخضاع الطبائع الفردية للتقييم والتحقق املحتمل من الصفات األخالقية ألفراد الجامعة .حيث إن
التكامل املعياري األخالقي للمجتمعات ،يتحقق إذا وفقط إذا كان يف إطار مأسسة املبادئ التي تنظم عىل نحو
مفهوم ومستساغ أشكال االعرتاف املتبادل بني الفاعلني أنفسهم .تلك التي تسمح للذوات باالندماج الفعيل
الحق يف املجتمع ،وتسمح لهم الدخول واالنخراط يف تجربة اآلخرين؛ ذلك أن إعادة إنتاج الحياة االجتامعية
محكوم بحتمية االعرتاف املتبادل .فلم يكن للمرء أن يطور عالقة عملية مع الذوات إال إذا تعلم الكيفية التي
61
تخول له رؤية نفسه باملنظور املعياري للرشكاء يف التفاعل.
58 Guillaume Soubeyrand-Faghel, «Lutte pour la reconnaissance», Revue Sessions sociologiques de l’Université
du Québec, vol 10 (2020), p. 84
59 Axel Honneth, «Le motif de tout conflit est une attente de reconnaissance,» in: Pensées critiques (Paris: La
Découverte, 2009), p. 181
60 Faghel, Lutte pour la reconnaissance, p. 84
61 Ted Fleming, “Axel Honneth and the Struggle for Recognition: Implications for Transformative Learning”,
Spaces of Transformation and Transformation of space, Proceedings of the XI international Transformative Learn-
ing Conference, (New York: Columbia University), p.4
https://2u.pw/yOGJA3Q
28
بناء عىل ما جاء نستطيع الق ْو ُل ،إن نجاح الحياة االجتامعية ال يستقيم يف غياب عالقات اعرتاف متبادلة
تجعل الفرد عضوا فاعال ونشيطا يف الحياة ويف عالقة جيدة وناجحة مع ذاته ،متتد تاليا إىل عالقاته مع مجموع
ففضل عن هذه األسباب ،تم النظر للباثولوجيات االجتامعية أنها سد منيع بني الفرد ً األفراد املحيطني به.
ونجاعة حياته االجتامعية .إذ إن الرشوط املعيارية لبلوغها تتم بلورتها وفق مبدأ العدل االجتامعي وحده،
كمؤرش قوي عىل التقدم األخالقي 62.وعىل غرار ذلك ،فإن كل ظاهرة اجتامعية تعرقل سريورة تطور الهوية
الفردية ،وتقف حجرة عرتة أمام كل تطور اجتامعي وأخالقي يضمن العدل للجميع ،ال تربح أن تكون يف واقع
الحال سوى باثولوجيات اجتامعية تحول ملنع الذات من بعض متطلبات تحقيق الهوية.
يجدر إذن أن تكون عالقات االعرتاف املتبادل مبا فيها الحب ،القانون ،والتضامن ،األساس الذي ينبني عليه
كل عدل اجتامعي يف املجتمع املعارص .فإذا كان الحب ال يستوي إال باستجابته ملعيار الحاجة العاطفية ،فال
بد لالعرتاف يف صيغته القانونية أن يكون محتكام ملبدأ املساواة يف الحقوق بالقدر الذي ينبغي للتضامن أن
يشمل عنرص التقدير املنصف يف العالقات اإلنسانية .ولن يتحقق العدل بهذا املفهوم ،إال إذا كان يستجيب
بدوره للمبادئ الثالثة املذكورة املالزمة ألمناط االعرتاف.63
حري بنا أثناء هذا الحديث ،االشارة إىل فكرة مركزية تجعل املساواة ال تتأىت إال إذا تحقق االعرتاف كقيمة
أخالقية اجتامعية من خالل مناذجه التذاوتية ،فهي العمود األساس لكل عدل اجتامعي مرغوب .وسيظهر
للقارئ يف هذه األسطر ،ال محال ،إذا تحرى الدقة يف املالحظة ،مثة إقرار ضمني باالعرتاف كمؤرش قوي عىل
تفوق أخالق الحداثة؛ وذلك يكاد يعكس يف صلبه تقدما تاريخيا يشرتط دراسة العدل يف إطار التقدم الذي
تشهده املجتمعات الحديثة 64 ،فيام يدل عىل حداثة منظومة األخالق االجتامعية ،التي ً
فضل عنها ميثل
65
االعرتاف مبا هو عدل اجتامعي سمة جوهرية وقيمة أخالقية من قيم الحداثة يف شقها اإليتيقي.
نخلص إ ًذن إىل القول ،إن الحياة االجتامعية يف املجتمعات املعارصة تكون ناجحة ،صحية ،سليمة ،إذا
سادها االعرتاف؛ فالعدل االجتامعي عىل ضوء ذات املنوال ،ال ميكن اعتباره إال الوحدة التي يقاس عن طريقها
مستوى العقالنية املمكنة يف املجتمع الواحد.
وعليه ،فإن الظواهر التي متنع عملية االعرتاف هاته ال تلبث أن تحيل عىل كل سلوك اجتامعي يأىب إرساء
العدل ،فيكرس الذل والظلم واالذالل ويؤسس للباثولوجيا اجتامع ًيا ومؤسساتيا ،إىل حد يدفع الذوات للمقاومة
واملواجهة االجتامعية .أو بتعبري آخر يؤول بها إىل درء «املوت االجتامعي» عن أنفاسها ً
فضل عن تجربة الذل
االجتامعي .فأشكاله عىل أنواعها كام يقول هونيث« :تلعب فيام يخص سالمة الفرد النفسية الدور السلبي
نفسه الذي تلعبه األمراض العضوية يف إعادة تكوين جسده؛ إذ تتهدد تجربة املهانة واالذالل االجتامعي
الكائنات اإلنسانية يف هويتها كام تهددها األمراض يف وجودها الطبيعي .وهذا التشبيه مع املرض الطبيعي
66
يتيح لنا باملقابل الفرصة لنستخلص نتائج يجب أن تعزى إىل الصحة النفسية وإىل سالمة الكائن اإلنساين».
أما بالنظر إىل املشاعر السلبية التي تنتج عن تجربة الذل واالحتقار ،فيظهر أن الباثولوجيا االجتامعية هي
ما يردع سريورات تحقيق الضامن االجتامعي لعالقات تعارف تكون كفيلة بتأمني أفضل حامية للذوات تجاه
«الذل» أو الحط من قيمة الكائن اإلنساين كام يحب أن يعرفه كل من هيغل وعامل النفس االجتامعي جورج
هربرت ميد (.)1931 - 1863( )George Herbert Meadh
قد تعترب ظواهر تصيب السلوك االجتامعي ،فتحدث تأزميا عىل صعيد عمليات التطور املرغوب ،باعتباره
الباعث عىل االنعتاق والتحرر ضد موانع الوعي بالذات الفردية يف ظل ظروف مناسبة وجيدة .يبدو أن
مجمل القول سينهي إىل إماطة اللثام عن كل خوف من الفتوحات األخالقية الحداثية ،التي قد تكاد أن
تكون يف الواقع االجتامعي املعيش إهابة من َمالزم االعرتاف التذاويت املتبادل .وبالتايل يجوز اعتبار أي تشبت
بقيم التقليد أو عىل األقل رفض للحداثة من جهة نظمها االجتامعية واإليتيقية ،هو درء مبارش وغري مبارش
يف اآلن ذاته للتقدم االجتامعي واألخالقي املطلوب .رشيطة أن ال يفهم من قولنا إننا أمام دعوة للتبني
املطلق ــــ وغري النقدي ـــــ لقيم الحداثة يف مجتمعاتنا العربية ،وإمنا للكشف أننا أمام سياق يزخر بنامذج
ثقافية متجذرة تحركها قيم التقليد ،وتؤسس لها نزعة تقليدية متأصلة يف السلوك االجتامعي ،وهو ما يجعل
غياب التقدم عىل الصعيد األخالقي محتوما بغياب مفهومي العدل واملساواة .مع ذلك ،فإن عمليات التحول
االجتامعي تبقى رغم ذلك غري معطاة بشكل مبارش يف العلوم االجتامعية خاصة السوسيولوجيا .فتظل غري
ظاهرة للعيان مختفية متا ًما قبل أن تظهر عىل السطح ،وتساهم يف إحداث التغريات داخل املجتمع؛ ذلك أن
الرغبة يف إبقاء األوضاع عىل حالها ومقاومة التحديث ،ال ميكنها أن تقيص كلية الرغبة يف تغيري بنيات النسق
االجتامعي وتحويل القيم العتيقة .فهناك دامئا كام يقول توماس بوتومور (- 1920( )Thomas Bottomore
« )1992نقد للاميض ورفض لبعض مظاهر التقليد والتحديث معا 67».فالواقع يفرتض منذ ماركس وما قبله،
وضعية جدلية ورصاعية فعالة بني املحافظة أو االستمرارية من جانب والتحول والتغيري من جانب آخر.
املراجع املعتمدة
* -العربية
حداد ،نقوال .فلسفة الوجود ،ط ،1اململكة املتحدة :مؤسسة هنداوي2014 ،
بغورة ،زواوي« .الفلسفة االجتامعية بحث يف مفهومها ونظريتها» ،تبني ،مج ،8العدد ،)2019( 30ص 78-55
هوندرتش ،تد .دليل أكسفورد للفلسفة ،نجيب الحصادي (مرتجم) ،ج ،1ليبيا :املكتب الوطني للبحث والتطوير2003 ،
هوركهامير ،ماكس« .الوظيفة االجتامعية للفلسفة» ،عمر املغريب (مرتجم) ،تبني ،مج ،8العدد ،)2020( 31ص 113-99
هونيث ،أكسل .الرصاع من أجل االعرتاف القواعد االخالقية للآمزم االجتامعية ،جورج كتورة (مرتجم) ،ط ،1بريوت :املكتبة
الرشقية2015 ،
فيغرسهاوس ،رودلف .مدرسة فرانكفورت تاريخها وتطورها النظري وأهميتها السياسية ،ط ،1عصام سليامن وغانم هنا
(مرتجم) ،بريوت :املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسات2022 ،
بركات ،حليم .االغرتاب يف الثقافة العربية متاهات بني الحلم والواقع ،ط ،1بريوت :مركز دراسات الوحدة العربية2006 ،
نيتشه ،فريدريك .محاسن التاريخ ومساوئه ،رشيد بوطيب (مرتجم) ،ط ،1الدوحة :منتدى العالقات العربية والدولية،
2019
فروم ،إيريك .املجتمع السوي ،محمود منقد الهاشمي (مرتجم) ،ط ،1الالذقية :دار الحوار2009 ،
ابن منظور ،محمد .لسان العرب الجزء ،11ط ،3بريوت :دار صادر2010 ،
رشايب ،هشام .النظام األبوي وإشكالية تخلف املجتمع العريب ،محمود رشيح (مرتجم) ،ط ،2بريوت :مركز دراسات الوحدة
العربية1992 ،
بغورة ،الزواوي .االعرتاف من أجل مفهوم جديد للعدل دراسة يف الفلسفة االجتامعية ،ط ،1بريوت :دار الطليعة2012 ،
* -األجنبية
Simon, Robert. The blackwell guide to social and political philosophy, first edition, USA: Blackwell
publishers, 2002
Frega, Roberto. “Jonh Dewey’s Social Philosophy,” European Journal of Pragmatism and American
Philosophy, vol 7, no 2 (2015).
Gauthier, Mathieu. La Philosophie Sociale D’Axel Honneth La thérorie de la Reconnaissance et
L’analyse des pathologies sociales, Quebec: Faculté de philosophie Université Laval, 2010
Deranty, Jean-Philippe. Beyond Communication A Critical Study of Axel Honneth’s social philosophy,
first edition, Boston: BRILL, 2009
Honneth, Axel. Pathologies of the Social: The Past and Present of Social Philosophy in disrespect,
Cambridge: Cambridge the Normative Foundations of Critical Theory, Polity Press, 2007
31
Rey, Alain. Le Robert Micro Dictionnaire de la langue française, Deuxième édition, Paris: Le Robert,
2006
Honneth, Axel. La société du mépris vers une nouvelle théorie critique, Olivier Voirol et Pierre Rush
et Alexandre Dupeyrix (traduction), paris: La découverte, 2006
Gordon, Peter and Others. The Routledge Companion to the Frankfurt School, First Edition, New
York: Routledge, 2019
Freyenhagen, Fabian. “Honneth on social pathologies: A Critique”, Critical Horizons, vol 16, no 2
(2015).
Soubeyrand-Faghel, Guillaume. «Lutte pour la reconnaissance,» Revue Sessions sociologiques de
l’Université du Québec, vol 10 (2020).
Honneth, Axel. «Le motif de tout conflit est une attente de reconnaissance,» in: Pensées critiques,
Paris: La Découverte, 2009
Fleming, Ted. “Axel Honneth and the Struggle for Recognition: Implications for Transformative
Learnin”, Spaces of Transformation and Transformation of space, Proceedings of the XI international
Transformative Learning Conference, New York: Columbia University. https://2u.pw/yOGJA3Q
Bottomore, Thomas. Introduction à la sociologie, première édition, paris: collection payot, 1947
info@mominoun.com