You are on page 1of 16

‫‪193‬‬ ‫المعرّ ف الرقمي   ‪DOI‬‬

‫‪https://doi.org/10.31430/DKFO9579‬‬
‫القبول   ‪Accepted‬‬
‫‪2023-6-19‬‬
‫التعديل   ‪Revised‬‬
‫‪2023-5-15‬‬
‫التسلم   ‪Received‬‬
‫‪2023-4-5‬‬

‫محمد األشهب | ‪Mohamed Lachhab‬‬


‫*(‪((2‬‬
‫**(‪((2‬‬
‫ترجمة‪ :‬فتحي المسكيني | ‪Translated by Fethi Meskini‬‬

‫مراجعة كتاب‪:‬‬
‫نظرية الفعل التواصلي (المجلدان ‪)2-1‬‬
‫ليورغن هابرماس‬
‫‪Book Review‬‬
‫‪The Theory of Communicative Action in Two‬‬
‫‪Volumes‬‬
‫‪by Jürgen Habermas‬‬

‫نظرية الفعل التواصلي‪.‬‬ ‫ ‬


‫عنوان الكتاب‪:‬‬
‫يورغن هابرماس‪.‬‬ ‫المؤلف‪:‬‬
‫ ‬
‫فتحي المسكيني‪.‬‬ ‫المترجم‪:‬‬
‫ ‬
‫عقالنية الفعل والعقالنية االجتماعية‪.‬‬ ‫ ‬
‫عنوان المجلد األول‪:‬‬
‫في نقد العقل الوظيفي‪.‬‬ ‫ ‬
‫عنوان المجلد الثاني‪:‬‬
‫الدوحة‪ /‬بيروت‪ :‬المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪.‬‬ ‫ ‬‫الناشر‪:‬‬
‫‪.2020‬‬ ‫سنة النشر‪:‬‬
‫ ‬
‫‪ 624‬صفحة‪.‬‬ ‫عدد صفحات المجلد األول‪:‬‬
‫‪ 663‬صفحة‪.‬‬ ‫عدد صفحات المجلد الثاني‪:‬‬

‫* أستاذ الفلسفة المعاصرة في كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬جامعة ابن زهر‪ ،‬أكادير‪ ،‬المغرب‪.‬‬
‫‪Associate Professor of Contemporary Philosophy at Ibn Zohr University, Agadir, Morocco.‬‬
‫‪chercheurhabermas2001@yahoo.fr‬‬
‫** أستاذ الفلسفة المعاصرة‪ ،‬جامعة تونس‪.‬‬
‫‪Associate Professor of Contemporary Philosophy at the University of Tunis.‬‬
‫‪msknfth@yahoo.fr‬‬
‫العدد ‪ - 45‬المجلد ‪Issue 45 - Volume 12 / 12‬‬
‫صيف   ‪Summer 2023‬‬ ‫‪194‬‬
‫مؤلفاته منذ ما يزيد على عقدين من الزمن‪ .‬ونرى‬ ‫يستلزم تقديم كتاب نظرية الفعل التواصلي‬
‫أن هذه القراءة التركيبية ربما ستنبه القارئ العربي‬
‫ّ‬ ‫‪Theorie‬‬ ‫‪des‬‬ ‫‪kommunikativen‬‬
‫ألهمية الكتاب على نحو أفضل من قراءة أخرى‬ ‫‪ ،)1981( Handelns‬للفيلسوف األلماني يورغن‬
‫تعرض أفكار المؤلف بحسب كل فصل‪ .‬ولتحقيق‬ ‫هابرماس ‪ ،Jürgen Habermas‬الصادر في‬
‫ذلك سنتعرض لموقع نظرية الفعل التواصلي في‬ ‫مجلدين‪ ،‬عن المركز العربي لألبحاث ودراسة‬
‫برنامج هابرماس اإلبستيمولوجي؛ ليتوقف القارئ‬ ‫السياسات(((‪ ،‬وضعه في السياق الفلسفي الذي‬
‫على أهمية الكتاب الذي ارتبط باسم "النظرية‬ ‫مفصليا في مسار هابرماس‬‫ًّ‬ ‫جاء فيه لكونه كتا ًبا‬
‫النقدية" التي طورها هابرماس‪ ،‬في مختلف‬ ‫الفلسفي‪ .‬وقد بذل المترجم فتحي المسكيني‬
‫أيضا على‬ ‫المجاالت العلمية والفلسفية‪ ،‬وليكون ً‬ ‫كبيرا لإلمساك بالقضايا األساسية التي‬ ‫ً‬ ‫جهدا‬
‫ً‬
‫ّبينة من منزلة هذا الكتاب في مشروعه الفلسفي‬ ‫منهجيا‬
‫ًّ‬ ‫تناولها الكتاب الذي اجتهد هابرماس فيه‬
‫العام قبل فترة الثمانينيات وما بعدها‪ .‬وسنقف‪،‬‬ ‫حجاجي للمرافعة‪ ،‬من‬
‫ّ‬ ‫بطريقة أ َبان فيها عن ن َفس‬
‫أو ًاًل‪ ،‬على دواعي ترجمة هذا الكتاب وأهميته في‬ ‫أجل تطوير "نظرية الفعل التواصلي"‪ ،‬في مطلع‬
‫ّ‬
‫ثانيا‪ ،‬تولي ًفا متعل ًقا بأهم‬ ‫ثمانينيات القرن العشرين‪ ،‬وذلك من خالل اعتماد‬
‫ثم نصوغ‪ً ،‬‬
‫السياق العربي‪ّ .‬‬
‫مقاربة متعددة المباحث‪ ،‬تجمع بين تخصصات‬
‫المشكالت الفلسفية التي تناولها‪ ،‬وهي مشكالت‬
‫مختلفة من حقل العلوم اإلنسانية واالجتماعية‪.‬‬
‫تتطلب من القارئ العودة إلى الكتاب لمعرفة‬
‫الخطة المنهجية والحجاجية التي سلكها مؤلِّفه‪،‬‬ ‫ويكفي القول إن الكتاب نشرت حوله‪ ،‬بعد‬
‫إلبراز أهمية البردايم التواصلي الذي ينتصر له‪،‬‬ ‫صدوره‪ ،‬أكثر من ‪ 900‬من الدراسات والمتابعات‬
‫استنا ًدا إلى مكتسبات العلوم االجتماعية مع رواد‬ ‫النقدية‪ ،‬وفي ذلك داللة على مدى النقاش الذي‬
‫ثم‬
‫علم االجتماع الحديث والمنعطف اللغوي‪ّ .‬‬ ‫أثاره بين مناصري النظرية النقدية ونقادها‪ .‬ولهذا‪،‬‬
‫نقدم‪ ،‬ثال ًثا‪ ،‬بعض المالحظات عن الترجمة‪ .‬وفي‬ ‫ّ‬ ‫سنقدم للقارئ فكر ًة عامة‪ ،‬عن هذا الكتاب‪،‬‬
‫إثر ذلك‪ ،‬نختم هذه القراءة ببعض الخالصات‪.‬‬ ‫قدمه هابرماس‪،‬‬‫استنا ًدا إلى المتن الفلسفي الذي ّ‬
‫مستفيدين من التراكم المعرفي الذي اكتسبناه من‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬موقع نظرية الفعل‬ ‫((( صدر عن سلسلة "ترجمان" في المركز العربي لألبحاث‬
‫التواصلي في برنامج‬ ‫ودراسة السياسات كتاب نظرية الفعل التواصلي في مجلدين؛‬
‫األول ذو عنوان فرعي‪ :‬عقالنية الفعل والعقالنية االجتماعية‪،‬‬
‫هابرماسي اإلبستيمولوجي‬ ‫أما الثاني فعنوانه‪ :‬في نقد العقل الوظيفي‪ ،‬وهو ترجمة كاملة عن‬
‫ُيم ِّثل هابرماس‪ ،‬أحد الوجوه الفلسفية البارزة في‬ ‫األلمانية‪ ،‬باالستعانة بالترجمتين الفرنسية واإلنكليزية‪ .‬وقد أنجز‬
‫نظرا‬
‫الترجمة فتحي المسكيني‪ ،‬في مدة تجاوزت أربع سنوات‪ً ،‬‬
‫تاريخ الفلسفة الغربية المعاصرة‪ ،‬وهو فيلسوف‬ ‫إلى صعوبة المهمة‪ ،‬ذلك أنّ نقل كتاب من حجم نظرية الفعل‬
‫تميز مشروعه الفلسفي‪ ،‬بإعادة قراءة تاريخ‬ ‫معرفيا‬
‫ًّ‬ ‫التواصلي إلى اللسان العربي يتطلب جهدً ا ًّ‬
‫لغويا‪ ،‬وإلما ًما‬
‫بالمتن الفلسفي لهابرماس والنظرية النقدية‪ ،‬من جهة‪،‬‬
‫الفلسفة الغربية‪ ،‬انطالقًا من العودة إلى إيمانويل‬ ‫والنظريات الفلسفية والسوسيولوجية واللسانية التي يحيل إليها‬
‫كانط ‪ ،)1804–1724( Immanuel Kant‬لتحيين‬ ‫هابرماس في بنائه الحجاجي من جهة ثانية‪ .‬وأتوجه بالشكر‬
‫الجزيل للزميل رشيد بن بيه‪ ،‬على المالحظات القيمة التي‬
‫هذا التاريخ‪ ،‬وإبراز راهنية الفكر النقدي التنويري‪،‬‬ ‫تفضل بها‪ ،‬وعلى مراجعته لهذه القراءة من حيث الشكل‬
‫أن مشروع الحداثة بالنسبة إليه لم‬ ‫على اعتبار ّ‬ ‫والمضمون‪.‬‬
‫‪195‬‬ ‫بتكلا تاعجارم‬
‫نظرية الفعل التواصلي (المجلدان ‪)2-1‬‬

‫لمنطلقات الفلسفة الماركسية التي تش ّكل الدعامة‬ ‫يكتمل(((‪ .‬يضاف إلى ذلك أنه مشروع يقوم على‬
‫األساس للنظرية النقدية؛ إذ نالحظ اتساع الهوة‬ ‫مقدمات ومصادر معيارية خاصة به(((‪ .‬وفي هذا‬
‫بينه وبين المدرسة النقدية‪ ،‬وهذا ما بلوره في‬ ‫السياق‪ ،‬سيعمل هابرماس على تطوير مشروع‬
‫مقالته "إعادة بناء المادية التاريخية" "‪Towards a‬‬‫"مدرسة فرانكفورت"‪ ،‬على الرغم من االختالفات‬
‫‪"Reconstruction of Historical Materialism‬‬ ‫الجذرية بينه وبين مشروع الجيل األول الذي‬
‫رأسا على عقب‪ ،‬ونادى‬ ‫التي قلب فيها الماركسية ً‬ ‫يمثله ماكس هوركهايمر ‪Max Horkheimer‬‬
‫بضرورة االنتقال‪ ،‬من بردايم الصراع ‪،Conflict‬‬ ‫(‪ ،)1973–1895‬وتيودور أدورنو ‪Theodor‬‬
‫إلى بردايم التواصل ‪ (((Communication‬الذي‬ ‫‪ ،)1969–1903( Adorno‬وهربرت ماركوزه‬
‫يقوم على "أخالقيات المناقشة"((( في ُأفق بنا ِء‬ ‫‪ ،)1979–1898( Herbert Marcuse‬وغيرهم؛‬
‫يعمه الحوار والتواصل‪ .‬وقد‬ ‫مجتم ٍع ديمقراطي‪ّ ،‬‬ ‫فيما يرتبط خاصةً بنقدهم الجذري للعقل‬
‫استفاد هابرماس في هذه الفترة‪ ،‬من التداوليات‬ ‫األنواري‪ ،‬وفيما يرتبط كذلك بتحميله مسؤولية‬
‫الكلية والنظرية الحجاجية(((‪.‬‬
‫الكوارث التي لحقت بالمجتمع األوروبي‪،‬‬
‫بعد عصر التنوير‪ ،‬مثل الحرب العالمية األولى جعلت المقاربة التي اتبعها هابرماس‪ ،‬في نظريته‬
‫(‪ ،)1918–1914‬والحرب العالمية الثانية (‪ –1939‬التواصلية الداعية إلى تأسيس عقل تواصلي‬
‫بديل من "العقل األداتي"‪ ،‬أو ما سماه "العقالنية‬ ‫‪ ،)1945‬و"ظهور األنظمة الشمولية" ‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫لم يتفق هابرماس مع االنتقادات الجذرية للعقل‪ ،‬التواصلية" ‪ ،Communicative Rationality‬منه‬
‫شرعيا لجيل مدرسة فرانكفورت الثاني‪.‬‬ ‫ًّ‬ ‫ممثاًل‬
‫ً‬ ‫رغم اعترافه بوجود جوانب سلبية ناتجة من العقل‬
‫األداتي‪ .‬ولم يمنعه انتقاده ألسالفه‪ ،‬ونخص بالذكر إ ّنه‪ ،‬بالنظر إلى حسه الفلسفي النقدي‪ ،‬يختلف‬
‫منهم هوركهايمر‪ ،‬من تبني أفكار النظرية النقدية‪ ،‬في فلسفته النقدية عن مارتن هايدغر ‪Martin‬‬
‫وال سيما في كتاباته المبكرة‪ ،‬مثل‪ :‬التحول ‪ ،)1976–1889( Heidegger‬وفريدريش نيتشه‬
‫البنيوي للفضاء العمومي (‪ ،)1962‬والعلم والتقنية ‪ ،)1900–1844( Friedrich Nietzsche‬والفالسفة‬
‫كـ "إيديولوجيا" (‪ ،)1968‬والمعرفة والمصلحة الفرنسيين‪ ،‬الذين يمثلون جيل "فلسفة االختالف"‪،‬‬
‫(‪ ،)1968‬وأزمة الشرعية (‪ ،)1973‬وغيرها‪ .‬وفي وهذا ما برز في مراجعته النقدية لهؤالء في كتابه‬
‫مطلع سبعينيات القرن العشرين ووسطها‪ ،‬الخطاب الفلسفي للحداثة (‪ ،)1985‬الذي وجه‬

‫((( محمد األشهب‪" ،‬هابرماس وإعادة بناء المادية التاريخية‪:‬‬ ‫وبالنظر إلى انفتاح هابرماس على الدراسات‬
‫من براديغم اإلنتاج إلى براديغم التواصل"‪ ،‬مجلة األزمنة الحديثة‪،‬‬ ‫السياسية‪ ،‬وفلسفة اللغة‪ ،‬وعلم النفس التكويني‬
‫العدد ‪ ،)2020( 18–17‬ص ‪.99–67‬‬
‫‪ ،Psychology Formative‬أجرى مراجعة نقدية‬
‫((( ينظر‪ :‬محمد األشهب‪ ،‬أخالقيات المناقشة في فلسفة‬
‫التواصل لهابرماس ّ‬
‫(عمان‪ :‬دار ورد األردنية للنشر والتوزيع‪،‬‬ ‫((( يورغن هابرماس‪" ،‬الحداثة – مشروع لم يكتمل"‪ ،‬ترجمة‬
‫‪.)2013‬‬ ‫تبين‪ ،‬مج ‪ ،1‬العدد ‪( 1‬صيف ‪،)2012‬‬ ‫فتحي المسكيني‪ُّ ،‬‬
‫((( ينظر مجمل المؤ َّلفات التي نشرت في هذا الكتاب بوصفها‬ ‫ص ‪.196–183‬‬
‫أبحا ًثا مهدت لنظرية الفعل التواصلي‪:‬‬ ‫‪(3) Jürgen Habermas, Auch eine Geschichte der‬‬
‫‪Jürgen Habermas, Vorstudien und Ergänzungen zur‬‬ ‫‪Philosophie: Band 1: Die okzidentale Konstellation von‬‬
‫‪Theorie des kommunikativen Handelns, 3rd ed. (Berlin:‬‬ ‫–‪Glauben und Wissen (Berlin: Suhrkamp, 1985), pp. 390‬‬
‫‪Suhrkamp Verlag, 1995).‬‬ ‫‪425.‬‬
‫العدد ‪ - 45‬المجلد ‪Issue 45 - Volume 12 / 12‬‬
‫صيف   ‪Summer 2023‬‬ ‫‪196‬‬
‫وسياسية؛ هو ُي ِص ُّر على أنها نظرية نقدية للمجتمع‪.‬‬ ‫فيه انتقادات الذعة إلى ميشيل فوكو ‪Michel‬‬
‫وبناء على ذلك‪ ،‬كان يهدف من خالل محاكمته‬ ‫ً‬ ‫‪ ،)1984–1926( Foucault‬وجورج باطاي‬
‫للعقل الغربي‪ ،‬في نظريته للحداثة والعقالنية‬ ‫‪ ،)1962–1879( Georges Bataille‬وجاك دريدا‬
‫األداتية‪ ،‬وإدخاله "نظرية التواصل"‪ ،‬إلى وض ِع‬ ‫‪ ،)2004–1930( Jacques Derrida‬وجان فرانسوا‬
‫تسمح بإمكانية‬
‫ُ‬ ‫قواعد لنظرية فلسفية واجتماعية‬ ‫ليوتار ‪.)1998–1924( Jean–François Lyotard‬‬
‫التفكير في الظواهر المرضية للمجتمع الحديث؛‬ ‫و ُيعد هذا الكتاب‪ ،‬الذي منح هابرماس شهرة‬
‫من أجل تقويم هذا االعوجاج‪ ،‬أو "التواصل‬ ‫منقطعة النظير في األوساط الفلسفية الفرنسية‪،‬‬
‫حول دون بناء مجتمع حداثي‪،‬‬ ‫الم َش َّوه" الذي َي ُ‬
‫(((‬
‫ُ‬ ‫تطويرا ألسس نظرية الفعل التواصلي‪ ،‬انطالقًا من‬
‫ً‬
‫ديمقراطي‪ ،‬يقوم على أساس التفاهم والتواصل‪.‬‬ ‫بد ًءا‬
‫وتحديدا ْ‬
‫ً‬ ‫تاريخ الفلسفة الغربية المعاصرة‪،‬‬
‫لقد تولد لدى هابرماس‪ ،‬هذا الهاجس المتعلق‬ ‫من فريدريش هيغل ‪–1770( Friedrich Hegel‬‬
‫بإشكالية التواصل من تفاعله مع المناقشات‬ ‫وصواًل إلى دريدا‪ .‬وهي األسس التي‬ ‫ً‬ ‫‪،)1831‬‬
‫السياسية والفكرية داخل الفضاء العمومي‬ ‫سبق لهابرماس أن تناولها في كتابه نظرية الفعل‬
‫الحديث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية‪،‬‬ ‫التواصلي‪ .‬وفي هذا الكتاب‪ ،‬ظهر هابرماس‬
‫ومن الدوافع الشخصية لهذا االهتمام‪ ،‬كما فصلها‬ ‫متمرسا بالنظريات السوسيولوجية الكبرى‬ ‫ً‬ ‫قار ًئا‬
‫في المحاضرة التي قدمها في طوكيو(((‪ .‬وكما هو‬ ‫لدى ماكس فيبر ‪،)1920–1864( Max Weber‬‬
‫معروف‪ُ ،‬ي َعد هابرماس من المناهضين للتجربة‬ ‫وتالكوت بارسونز ‪–1902( Talcott Parsons‬‬
‫النازية‪ .‬ففي كتاباته األولى‪ ،‬وجه انتقادات قوية‬ ‫‪ ،)1979‬وجورج هربرت ميد ‪George Herbert‬‬
‫لهايدغر بخصوص ما عرف بـ "حالة هايدغر" في‬ ‫طور المفاهيم‬ ‫‪ ، )1931–1863( Mead‬وقد ّ‬
‫(((‬

‫الفلسفة األلمانية‪ .‬واستمر في مناهضته لفكر‬ ‫األساسية لنظريته‪ ،‬مثل‪" :‬اإلجماع"‪ ،‬و"االتفاق"‪،‬‬
‫المحافظين في أعماله المتأخرة‪.‬‬ ‫و"التفاهم"‪ ،‬و"الفعل التواصلي"‪ ،‬و"النسق"‪،‬‬
‫و"العالم المعيش"‪ ،‬وهي مفاهيم سبق أن أشار‬
‫أن هذا األسلوب‬ ‫متتبع مسيرته الفلسفية ّ‬‫سيجد ِّ‬ ‫َ‬
‫إليها في كتاباته الصادرة قبل فترة ثمانينيات القرن‬
‫خا‪ ،‬في مشروعه الفلسفي وكتاباته‬ ‫ظل راس ً‬‫ّ‬
‫العشرين‪ ،‬مثل‪ :‬العلم والتقنية كـ "إيديولوجيا"‬
‫السياسية إلى يومنا هذا‪ .‬و ُتعد كتاباته في أواسط‬
‫الثمانينيات مرحلة مهمة في هذا السياق؛ وذلك‬ ‫ومنطق العلوم االجتماعية‪.‬‬
‫حين كتب الخطاب الفلسفي للحداثة‪ ،‬والمقاالت‬ ‫وفضاًل عن ذلك‪ ،‬لم يتوقف هابرماس في تصوره‬
‫ً‬
‫التي ساهمت‪ ،‬في ظهور ما ُسمي "سجال‬ ‫النقدي على هذه المفاهيم التي تش ّكل النواة‬
‫المؤرخين" ‪ ،Historikersstreit‬وهو سجال‬ ‫الصلبة لنظريته التواصلية فحسب‪ ،‬ألن نظريته‬
‫دار بينه وبين المؤرخين األلمان المحافظين‬ ‫ليست نظرية لغوية‪ ،‬بل لها امتدادات اجتماعية‬
‫الذين أرادوا التطبيع مع التاريخ األلماني النازي‪.‬‬
‫ُعد الفصول الكبرى التي خصصها هابرماس لرواد‬ ‫((( ت ّ‬
‫‪(8) Distorted Communication.‬‬ ‫معا‪ ،‬والقضايا التي‬
‫ً‬ ‫المجلدين‬ ‫في‬ ‫الحديثة‬ ‫السوسيولوجيا‬
‫‪(9) Jürgen Habermas, Zwischen Naturalismus und‬‬ ‫تناولها‪ ،‬والتي أعاد بناءها‪ ،‬من منظور بردايم الفعل التواصلي‪،‬‬
‫‪Religion (Frankfurt am Main: Suhrkamp Verlag, 2009),‬‬ ‫أبرز تعبي ٍر عن هذا التأسيس لنظريته‪ ،‬انطال ًقا من العلوم‬
‫‪pp. 15–27.‬‬ ‫االجتماعية‪.‬‬
‫‪197‬‬ ‫بتكلا تاعجارم‬
‫نظرية الفعل التواصلي (المجلدان ‪)2-1‬‬

‫وقد استفاد من نظريته في أخالقيات المناقشة‪.‬‬ ‫السجال‪ ،‬نستحضر سجاالت‬ ‫إضافة إلى هذا ِّ‬
‫و ُت ّو َجت أبحاثه في هذا المجال بمؤلَّفات‬ ‫أخرى‪ ،‬خاضها هابرماس مع مدارس ونظريات‬
‫عديدة‪ ،‬مثل‪ :‬الوعي األخالقي والفعل التواصلي‪،‬‬ ‫طابعا حوار ًّيا‬
‫ً‬ ‫فلسفية؛ ما أضفى على كتاباته‬
‫وأخالقيات المناقشة‪ ،‬والحقيقة والتبرير‪ .‬و ُتعد‬ ‫‪ .Dialogique‬وفي هذا السياق‪ ،‬نذكر سجاله مع‬
‫هذه المساهمة من المساهمات النوعية في تطوير‬ ‫الفلسفة الوضعية ‪ ،Positivism‬والنظرية النسقية‬
‫السجال الفلسفي المتعلق بـ "العقل العملي"‬ ‫لنيكالس لوهمان ‪–1927( Niklas Luhmann‬‬
‫‪ Practical Reason‬الكانطي في القرن العشرين؛‬ ‫‪ ،)1998‬والفلسفة التأويلية لهانز جورج غادامير‬
‫إذ نجد عودة قوية لهذه الفلسفة لدى رولز‪ ،‬وآالن‬ ‫‪،((1()2002–1900( Hans–Georg Gadamer‬‬
‫رونو ‪ ،Alain Renault‬ولوك فيري ‪،Luc Ferry‬‬ ‫وسجاله الكبير مع فالسفة ما بعد الحداثة‬
‫وإرنست توغندهات ‪ ،Ernst Tugendhat‬وآبل‪،‬‬ ‫‪ ،Postmodern Philosophers‬والحركة الطالبية‬
‫وهانز يوناس ‪ .)1993–1903( Hans Jonas‬فهذه‬ ‫اليسارية الراديكالية‪ ،‬وكذلك مع ُرواد الفلسفة‬
‫النظرية لدى هابرماس تتأسس على المناقشة‬ ‫التحليلية ‪ ،Analytic Philosophy‬أمثال‪ :‬جون‬
‫ٍ‬
‫أخالقية متفقٍ عليها؛‬ ‫والحوار‪ ،‬في ُأ ُفقِ بنا ِء معايير‬ ‫سورل ‪ ،John Searle‬وجون النجشو أوستن‬
‫من أجل المحافظة على تماسك المجتمع‬ ‫‪،)1960–1911( John Langshaw Austin‬‬
‫واندماجه‪ .‬وهذا االندماج بمنزلة الرهان األساسي‬ ‫وبول غرايس ‪،)1988–1913( Paul Grice‬‬
‫لنظرية الفعل التواصلي كما طورها هابرماس‬ ‫وأخيرا‪ ،‬حواراته مع أبرز منظّري الفلسفة السياسية‬
‫ً‬
‫في كتابه العمدة نظرية الفعل التواصلي (في‬ ‫األمريكية‪ ،‬مثل جون رولز ‪–1921( John Rawls‬‬
‫المجلدين)‪.‬‬ ‫‪ ،)2002‬ورونالد دوركين ‪Ronald Dworkin‬‬
‫(‪.((1()2013–1931‬‬
‫وإذا كان كانط قد انطلق من السؤال‪ :‬كيف‬
‫يمكنني أن أعرف؟ وتساءل عن الشروط الضرورية‬ ‫لم يتوقف هابرماس‪ ،‬في سياق تعميقه نظرية‬
‫فإن السؤال الهابرماسي هو عن الشروط‬ ‫للمعرفة‪ّ ،‬‬ ‫الفعل التواصلي على المدارس اللغوية‬
‫الضرورية لتحقيق اندماج ممكن‪ .‬وبعد هذه‬ ‫أيضا على فلسفة‬ ‫ً‬ ‫والسيكولوجية‪ ،‬بل انفتح‬
‫المساهمة‪ ،‬سيعمل على تطوير منطلقات النظرية‬ ‫األخالق الكانطية ‪ ،Kantian Ethics‬على نحو‬
‫التواصلية في مجال الفلسفة السياسية؛ إذ‬ ‫خاص‪ ،‬إلعادة بنائها في ضوء الفلسفة البينذاتية‬
‫سيستثمر أسس أخالقيات المناقشة في مقاربته‬ ‫بدياًل من الفلسفة‬
‫ً‬ ‫‪ ،Intersubjective‬بوصفها‬
‫مسألةَ الديمقراطية التي صاغها في نظريته‪ ،‬والتي‬ ‫نقاش فلسفي‪ ،‬مع زميله‬‫الذاتية‪ .‬وكان له في ذلك ٌ‬
‫سماها بردايم الديمقراطية التشاورية(‪.((1‬‬
‫ّ‬ ‫كارل آطو آبل ‪،)2017–1922( Karl–Otto Apel‬‬

‫‪(12) Mohamed Lachhab, "Democratie deliberative et‬‬ ‫(‪ ((1‬ينظر‪ :‬محمد األشهب‪ ،‬فلسفة اللغة‪ :‬قضايا التواصل‬
‫‪droits de l’homme chez Habermas," in:‬‬ ‫والتأويل والترجمة (أكادير‪ :‬منشورات كلية اآلداب والعلوم‬
‫محمد األشهب [وآخرون]‪" ،‬مسارات العلم والحياة‪ :‬في‬ ‫اإلنسانية‪.)2021 ،‬‬
‫التأسيس وااللتزام‪ ،‬العلوم االجتماعية والتفكير في قضايا‪:‬‬ ‫(‪ ((1‬محمد األشهب‪" ،‬الحق في العدالة في الخطاب الفلسفي‬
‫السياسة‪ ،‬الدولة‪ ،‬السياسات"‪ ،‬تنسيق حسن طارق وسعيد بنيس‪،‬‬ ‫المعاصر"‪ ،‬في‪ :‬محمد األشهب [وآخرون]‪ ،‬ما العدالة؟‬
‫مجلة السياسات العمومية‪ ،‬ج ‪ ،2‬العدد ‪( 21‬ربيع ‪ ،)2016‬شوهد‬ ‫معالجات في السياق العربي (الدوحة‪ /‬بيروت‪ :‬المركز العربي‬
‫في ‪ ،2023/4/10‬في‪https://bit.ly/3ZNlzWv :‬‬ ‫لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،)2014 ،‬ص ‪.163–107‬‬
‫العدد ‪ - 45‬المجلد ‪Issue 45 - Volume 12 / 12‬‬
‫صيف   ‪Summer 2023‬‬ ‫‪198‬‬
‫حق إبداء الرأي في‬ ‫ٍ‬
‫مستقلة ّ‬ ‫أن لكل ٍ‬
‫ذات‬ ‫سنجد ّ‬ ‫وفي الوقت الذي كان يعتقد فيه متتبعو هابرماس‬
‫القضايا المطروحة للنقاش في الفضاء العمومي‪.‬‬ ‫أن كتاب نظرية الفعل التواصلي سيظل أهم‬
‫المؤسسة على‬
‫َّ‬ ‫وفي ظل هذه العملية التواصلية‬ ‫مؤلَّف لديه في مسيرته الفلسفية‪ ،‬إذا به يفاجئ‬
‫المناقشة العقالنية‪ ،‬سيتكون الرأي العام‪ .‬وإضافة‬ ‫يقل أهميةً‬
‫األوساط األكاديمية الفلسفية بكتاب ال ُّ‬
‫إلى األهمية التي أضحت تحتلها الديمقراطية في‬ ‫عن مؤلَّفاته السابقة‪ ،‬هو‪ :‬العيان َّية والصالحية‬
‫أن هابرماس‬ ‫الفضاء العمومي المعاصر‪ ،‬سنجد ّ‬ ‫(‪ .)1992‬وقد حظي هذا الكتاب باهتمامٍ واس ٍع‬
‫َينظر إلى الديمقراطية باعتبارها السبيل األوحد‬ ‫أهم كتاب ق ُِّد َم في‬
‫الصعيد العالمي‪ ،‬واع ُتبر ّ‬
‫على ّ‬
‫لحل المشكالت المتعلقة بالفرد والمجتمع‪.‬‬ ‫الفلسفة السياسية المعاصرة بعد كتاب نظرية في‬
‫العدالة لرولز‪ .‬وهو في األصل تطوير لمحاضرات‬
‫أن مسيرة هابرماس الفلسفية‬ ‫ظن القارئ ّ‬ ‫كلّما ّ‬
‫قدمها عام ‪ 1986‬عنوانها "الحق واألخالق"‪ .‬وفي‬ ‫ّ‬
‫تقل‬
‫قاربت نهايتها‪ ،‬فوجئ بمؤلفات أخرى له ال ُّ‬
‫هذين الكتابين‪ ،‬كشف هابرماس عن توجه فلسفي‬
‫أهمية عن مؤلّفاته السابقة‪ .‬وهنا تجدر اإلشارة‬
‫آخر‪ ،‬وذلك من خالل االعتماد على مرجعية‬
‫خصصه لتاريخ الفلسفة في‬ ‫إلى الكتاب الذي َّ‬
‫الفلسفة السياسية األميركية بالنسبة إلى رولز‪،‬‬
‫أيضا تاريخ الفلسفة‪ :‬تركيبية‬ ‫ً‬ ‫مجلدين‪ ،‬هذا‬
‫ودوركين‪ ،‬وفرانك مشلمان ‪.Frank Michalman‬‬
‫غربية لإليمان والمعرفة ‪ ،‬الذي لم ُي َق ِّدم فيه‬
‫(‪((1‬‬
‫إن االهتمام بالفلسفة السياسية الذي الزم‬ ‫ّ‬
‫خا للفلسفة بالمعنى الكالسيكي للكلمة‪،‬‬ ‫تاري ً‬
‫هابرماس‪ ،‬بدايةً من كتابه التحول البنيوي للفضاء‬
‫أيضا‪ ،‬كما عودنا‬ ‫ولم يكن فيه مؤر ًخا للفلسفة ً‬
‫وفيا له في منطلقات نظرية الفعل‬ ‫ظل ًّ‬‫العمومي‪َّ ،‬‬
‫إن األمر يتعلق بتفلسف‬ ‫بعض المؤرخين‪ ،‬بل ّ‬
‫التواصلي‪ .‬ويمكن أن يالحظ القارئ تطوير‬
‫ينطلق من تاريخ الفلسفة يهدف إلى قراءة الفكر‬
‫هابرماس لمفاهيم العقالنية التواصلية في ارتباطها‬
‫تطور سيرورة التعلم‬ ‫الفلسفي الغربي‪ ،‬وبيان كيفية ُّ‬ ‫الوثيق بمفاهيم الديمقراطية التشاورية‪ ،‬والسلطة‬
‫من العصر المحوري ‪ Achsenzeit‬إلى النظرية‬
‫أيضا؛ باعتباره‬ ‫التواصلية‪ ،‬والمجتمع المدني ً‬
‫عد هابرماس نفسه أحد ُروادها‪.‬‬ ‫النقدية التي ُي ُّ‬
‫فضاء‬
‫ً‬ ‫فضاء يتوسط الدولة والمجتمع‪ ،‬وليس‬ ‫ً‬
‫قدمه هابرماس‬ ‫فإن تاريخ الفلسفة الذي ّ‬ ‫ولهذا‪ّ ،‬‬
‫نقيضا لها فحسب‪ .‬ولهذا‪،‬‬ ‫تماهيا مع الدولة‪ ،‬أو ً‬
‫ً‬ ‫ُم‬
‫في هذا العمل ال ينفصل عن منظور تطوير نظرية‬
‫نرى في قراءتنا لكتاب نظرية الفعل التواصلي أنه‬
‫الفعل التواصلي التي وضع معالمها األساسية في‬
‫مؤسس للمفاهيم التي ستبنى عليها الفلسفة‬ ‫كتاب ِّ‬
‫المترجم‪.‬‬
‫الكتاب ُ‬ ‫السياسية لهابرماس الح ًقا‪ ،‬بل فلسفته في الدين‬
‫يتبي ُن من خالل هذه النظرة البانورامية ألهم‬ ‫ّ‬ ‫أيضا‪.‬‬
‫التي ستظهر في كتاباته المتأخرة ً‬
‫مفاصل "نظرية الفعل التواصلي" لهابرماس‪ ،‬في‬
‫إن مقاربة هابرماس لسؤال الديمقراطية ُتعد في‬ ‫ّ‬
‫أن فلسفته في التواصل‬ ‫وقتنا الراهن مقاربةً مهمة؛ ألنها ترتبط بأخالقيات مستوياتها المختلفة‪ّ ،‬‬

‫الحوار والمناقشة‪ .‬فهو يريد تأسيس ديمقراطية (‪ُ ((1‬يعتبر كتاب هابرماس األخير المتعلق بتاريخ الفلسفة‬
‫ؤرخ‬
‫تتويجا لهذا المسار الفلسفي الطويل‪ .‬وهو عمل ال ُي ِّ‬ ‫ً‬ ‫على أساس جماعة مثالية للتواصل‪ ،‬خالية من‬
‫للفلسفة‪ ،‬بل يتفلسف فيه بنا ًء على تاريخ الفلسفة‪ ،‬استنا ًدا إلى‬
‫مفهوم منطلقات "نظرية الفعل التواصلي"‪ .‬صدر هذا الكتاب عام ‪2019‬‬ ‫ٌ‬ ‫أيضا‬
‫إن مفهوم التشاور هو ً‬ ‫ثم ّ‬
‫أي هيمنة‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫مركزي؛ ففي هذا البردايم التشاوري أو التداولي‪ ،‬في جزأين؛ ويعد أضخم مؤ َّلف في مؤلفاته ك ّلها‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪199‬‬ ‫بتكلا تاعجارم‬
‫نظرية الفعل التواصلي (المجلدان ‪)2-1‬‬

‫ثانيا‪ :‬دواعي ترجمة الكتاب‬


‫ً‬ ‫وأن مذهبه التواصلي‬
‫فلسفيا متمي ًزا‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫بردايما‬
‫ً‬ ‫ُتش ِّك ُل‬
‫يمتد إلى جميع أعماله الفلسفية األكاديمية وأهميته في السياق العربي‬
‫كثيرا ما يطرح المترجمون تساؤالت من قبيل‪:‬‬ ‫وكتاباته السياسية التي ال يمكن فصلها عن‬
‫ً‬
‫أن اإلجابة‬ ‫ماذا ُنترجم؟ ولماذا ُنترجم؟ ونعتقد ّ‬ ‫توجهه الفلسفي العام الذي تؤطره نظرية الفعل‬
‫عن مثل هذين السؤالين‪ ،‬بالنسبة إلى هابرماس‬ ‫التواصلي؛ بدايةً من كتاباته المبكرة إلى وقتنا‬
‫أن‬
‫تكمن ببساطة في ّ‬ ‫جدا التي‬ ‫الراهن‪ ،‬بما في ذلك األبحاث المتأخرة ًّ‬
‫ونظرية الفعل التواصلي‪ُ ،‬‬
‫المسكيني اختار ترجمة هذا الكتاب ألهميته في‬ ‫خصصها لفلسفة الدين‪ ،‬بعد أحداث ‪ 11‬سبتمبر‬ ‫َّ‬
‫تاريخ النظرية النقدية‪ ،‬وألهمية شخصها ُمم ِّثل‬ ‫‪( 2001‬الواليات المتحدة األميركية)‪ ،‬والتي َت ّوجها‬
‫جيلها الثاني هابرماس‪ ،‬وألهمية مسيرة هابرماس‬ ‫متتبعا مسار تطور‬ ‫ً‬ ‫ؤخرا بالكتاب المشار إليه‪،‬‬ ‫ُم ً‬
‫تحو ًاًل في مساره‬
‫ألن هذا الكتاب م َّثل ُّ‬ ‫أيضا؛ ّ‬
‫نفسه ً‬ ‫"العقالنية التواصلية"‪ ،‬و"الحرية التواصلية"‪،‬‬
‫وتحو ًاًل في النظرية النقدية‬ ‫ُّ‬ ‫الفلسفي من جهة‪،‬‬ ‫و"حرية التعبير والتفكير"‪ ،‬في إطار سيرورة َت َعلُّم‬
‫إن األهمية اإلبستيمولوجية‬ ‫الح ًقا من جهة ثانية‪ّ .‬‬ ‫اهز ‪ 3000‬سنة‪ .‬وال ُيفهم هذا العمل‬ ‫تمتد إلى ما ُي َن ِ‬
‫أحد؛ فالكتاب ُيعد واح ًدا من أهم‬ ‫ٌ‬ ‫ال ينكرها‬ ‫إاّل‬
‫الذي سلك فيه هابرماس مقاربةً جينيالوجية ّ‬
‫المؤلفات الفلسفية في القرن العشرين‪ .‬لكن‬ ‫بالعودة إلى منطلقات نظرية الفعل التواصلي التي‬
‫األهم من ذلك بالنسبة إلى المترجم هو أهمية‬ ‫منهجيا في كتابه نظرية الفعل التواصلي‬ ‫ًّ‬ ‫تبلورت‬
‫النقاش الراهن المتعلق بالدين في الفضاء‬ ‫فإن هذا الكتاب‪ ،‬الذي‬ ‫تحديدا‪ .‬ولهذا السبب‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫العمومي(‪ .((1‬وحتى إن كان كتاب نظرية الفعل‬ ‫خص ما قبله‪ ،‬و ُي َؤ ّسس‬ ‫ترجمه المسكيني‪ُ ،‬يل ِّ‬
‫فإن‬
‫مباشرا‪ّ ،‬‬‫ً‬ ‫تناواًل‬
‫ً‬ ‫التواصلي ال يتناول الموضوع‬ ‫إن كتابات هابرماس "الثانوية" عن‬ ‫لما بعده‪ .‬بل ّ‬
‫مؤلَّفاته المتأخرة؛ أي التي كتبها بعد أحداث ‪11‬‬ ‫الفضاء العمومي‪ ،‬وحواراته العديدة التي أجراها‬
‫سبتمبر ‪ ،2001‬مثل‪ :‬مستقبل الطبيعة اإلنسانية‪:‬‬ ‫إاّل في‬ ‫أيضا‪ ،‬ال ُتفهم ّ‬
‫في الصحف والمجالت‪ً ،‬‬
‫نحو نسالة ليبرالية‪ ،‬وبين النزعة الطبيعية والدين‬ ‫ضوء هذه الخلفية الفلسفية التي تبلورت في‬
‫وأخيرا تاريخ الفلسفة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫واإليمان والمعرفة‪،‬‬ ‫نظرية الفعل التواصلي‪ .‬لقد كان المسكيني يولي‬
‫كانت بمنزلة سجال جينيالوجي بين المعرفة‬ ‫مؤلَّفات هابرماس اهتما ًما قبل أن يترجم بعضها‪،‬‬
‫إاّل في ضوء األبحاث‬ ‫واإليمان‪ ،‬ال يمكن فهمها ّ‬ ‫واعيا بأهمية هذا الكتاب وراهنيته‪ ،‬من‬ ‫وقد كان ً‬
‫التي أثارها هابرماس عن "الدين"‪ ،‬من خالل‬
‫دون أن يقتصر ذلك على مستوى المضامين التي‬
‫الرجوع إلى "سوسيولوجيا الدين" لفيبر‪ ،‬وربط‬
‫يقدمها حول "مسألة الحداثة"‪ ،‬بوصفها مفهو ًما‬
‫"الحداثة" بـ "العقالنية االجتماعية"‪ ،‬وبضرورة‬
‫أيضا‬‫محور ًّيا في الكتاب‪ ،‬ومن دون أن يقتصر ً‬
‫نزع "الطابع السحري" في تفسير العالم؛ وهي‬
‫على نظرية الفعل التواصلي‪ ،‬باعتبارها نظرية‬
‫جزءا من‬ ‫ً‬ ‫إاّل بجعل الدين‬ ‫عملية لن تجري ّ‬
‫تحاول إعادة بناء خطاب العقالنية والحداثة‬
‫(‪ ((1‬ينظر‪ :‬محمد األشهب‪" ،‬دور الدين في الفضاء العمومي‪:‬‬ ‫في ضوء منطلقات الفعل التواصلي والعقالنية‬
‫نموذج النظرية النقدية لهابرماس"‪ ،‬في‪ :‬محمد األشهب‬
‫[وآخرون]‪ ،‬المجتمع والدين والسياسة (أكادير‪ :‬منشورات كلية‬
‫عيه بأهمية هذه‬ ‫التواصلية‪ ،‬بل يضاف إلى ذلك َو ُ‬
‫اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،)2021 ،‬ص ‪.275–255‬‬ ‫الترجمة في السياق العربي المعاصر‪.‬‬
‫العدد ‪ - 45‬المجلد ‪Issue 45 - Volume 12 / 12‬‬
‫صيف   ‪Summer 2023‬‬ ‫‪200‬‬
‫المطروحة‪ ،‬بما في ذلك القضايا الدينية‪ ،‬من دون‬ ‫الرهبان‬
‫النقاش العقالني‪ ،‬وإخراجه من َسطوة ُّ‬
‫فوحده اإليمان الحر يمكنه أن ينزع هذه‬‫خوف‪َ .‬‬ ‫ورجال الدين‪.‬‬
‫الهالة عن الدين المحتكر من لدن بعض الفقهاء‪.‬‬
‫أيضا بمنزلة‬
‫إن هذه األهمية الفلسفية للكتاب ُتعد ً‬
‫ّ‬
‫والمترجم‪ ،‬بحكم ُشعوره براهنية هذه المسألة في‬
‫فلسفية" للمسكيني في أبحاثه التي‬‫ٍ‬ ‫"هواجس‬
‫العالم العربي واإلسالمي‪ ،‬انتبه إلى أهمية ربط‬
‫تناول فيها مواضيع متعلقة بفلسفة الدين‪ ،‬وبلورها‬
‫هذا العمل بالنقاش المتعلق بـ "الدين في الفضاء‬
‫في كتابه‪ :‬اإليمان الحر أو ما بعد الملة(‪ ،((1‬وهو‬
‫العمومي" في الغرب الذي يمكن االستفادة منه‬
‫يسميه "اإليمان‬
‫كتاب حاول أن يؤسس فيه لما ّ‬
‫إبستيمولوجيا فحسب‪.‬‬
‫ً‬ ‫منهجيا‪ ،‬وليس‬
‫ًّ‬ ‫على األقل‬
‫الحر" الذي ينفلت من كل سلطة دينية تقليدية‪،‬‬
‫يهمنا‬‫أسسه فالسفة الحداثة بدايةً يقول المسكيني في هذا السياق‪" :‬لن ّ‬ ‫مثل اإليمان الذي َّ‬
‫لسد‬ ‫رورا بباروخ سبينوزا الكتاب إذًا ألسباب إبستيمولوجية بحتة أو ّ‬ ‫من كانط إلى هابرماس‪ُ ،‬م ً‬
‫تخصص بعينه‪ .‬إنه عندنا‬‫ّ‬ ‫مجال‬ ‫في‬ ‫بحثية‬ ‫ثغرة‬ ‫‪ )1677–1632( Baruch Spinoza‬وآخرين ‪.‬‬
‫(‪((1‬‬

‫كتاب يساعدنا على بلورة خطاب جديد حول‬


‫جد خطر من تاريخها‪:‬‬ ‫إن الناظر في مؤلفات المسكيني‪ ،‬في هذه الفترة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أنفسنا العميقة في وقت ّ‬
‫ُيالحظ تزام ًنا بين هذه االنشغاالت وترجمة كتاب وقت النقاش الجذري واألخير حول دور الملة‪.‬‬
‫نظرية الفعل التواصلي لهابرماس‪ .‬وهذا يعني إن أفق الحاجة إلى ترجمة هبرماس هو على وجه‬
‫أعمااًل يجد الدقة أفق النقاش حول دور الدين في مجتمعاتنا‬ ‫ً‬ ‫أ ّنه في بعض األحيان قد يترجم‬
‫فيها إجابات عن بعض األسئلة التي يطرحها‪ ،‬الحديثة" (مج ‪ ،1‬ص ‪ .)49–48‬ويضيف المترجم‬
‫مستعماًل ضمير "نحن" للتأكيد على الدافع‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ولعله وجد ما َيفي بذلك في إجابات هابرماس‬
‫عما يسميه إضفاء "الطابع اللغوي" على والحاجة الوجودية للترجمة ً‬
‫قائاًل‪" :‬نحتاج إليه‬
‫جدا من تاريخ أنفسنا‪ ،‬تاريخ‬‫مفصل خطر ًّ‬‫ٍ‬ ‫المقدس‪ ،‬أو كما يترجمه هو بـ "ألسنة المقدس" في‬
‫وجد‬
‫ُّ‬ ‫‪ ،Versprachlichung des Sakralen‬وهي الخروج من طور أخالقي إلى آخر جديد‬
‫ٍ‬
‫نقاش لتحريره مع ّقد‪ .‬بعبارة حا ّدة‪' :‬نحن' أمام أفق فهم ألنفسنا‬ ‫عملية تجعل "المقدس" موضو َع‬
‫تحديات المجتمعات ما بعد‬ ‫تهدده ليس ّ‬ ‫من طابع "القدسية" الذي أصبح ُمحاطًا بها‪ .‬أو الجديدة ّ‬
‫أيضا عودة الدين في معنى‬‫العقالء‪ ،‬خاصةً الصناعية فحسب‪ ،‬بل ً‬ ‫لكل ُ‬ ‫بعبارة أخرى‪ ،‬أن يكون ِّ‬
‫حق التدخل في القضايا "الملة" الوسيطة‪ .‬إن الدين فرض وضعية تأويلية‬ ‫في الوطن العربي‪ّ ،‬‬
‫وخطابية ال يمكن ألي تفكير معاصر تفاديها" (مج‬
‫(‪ ((1‬تزامنت ترجمة المسكيني لهذا الكتاب مع اهتمامه بمسألة‬
‫‪ ،1‬ص ‪ .)48‬وهذه المسألة التي نتقاطع فيها مع‬ ‫"حضور الدين" في الفضاء العمومي‪ ،‬وهو اهتمام ُيترجم في‬
‫المسكيني‪ ،‬وفلسفته العامة في نقل هذا الكتاب‬ ‫الكتاب الذي نشره في الموضوع عام ‪ 2018‬بعنوان‪ :‬اإليمان‬
‫الحر أو ما بعد الملة‪ :‬مباحث في فلسفة الدين‪ .‬وهذا األمر يدل‬
‫إلى اللسان العربي‪ ،‬تدفعنا إلى أن ُنضيف إلى‬ ‫على أنّ المسكيني طوال مدة ترجمته لكتاب نظرية الفعل‬
‫أن هذا الكتاب على المستوى المنهجي‬ ‫كالمه ّ‬ ‫ً‬
‫منشغاًل بالمسألة نفسها‪ ،‬وهو انشغال ال ينفصل‬ ‫التواصلي كان‬
‫عن االنشغال المركزي لديه‪ ،‬ولدى كثير من الباحثين العرب‪،‬‬
‫هو كتاب يعل ُِّم و ُير ِّبي في المرء "ثقافة اإلنصات‬
‫بقضايا الديمقراطية ودور الدين في الفضاء العمومي‪.‬‬
‫لآلخر" في الفضاء العمومي؛ الذي هو فضاء‬ ‫(‪ ((1‬فتحي المسكيني‪ ،‬اإليمان الحر أو ما بعد الملة‪ :‬مباحث‬
‫فكثيرا ما ترد في‬
‫ً‬ ‫مفتوح للجميع من دون إقصا ٍء‪.‬‬ ‫في فلسفة الدين (الرباط‪ :‬مؤمنون بال‪ ‬حدود‪ ،)2018 ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪201‬‬ ‫بتكلا تاعجارم‬
‫نظرية الفعل التواصلي (المجلدان ‪)2-1‬‬

‫الكتاب فكرة "سيرورة التعلم" ‪ .Lernprozess‬من معرفتهم بعالم الحياة الخاص بهم" (مج ‪،1‬‬
‫ومفهوم "التعلم" هو من المفاهيم المركزية في ص ‪.)60‬‬
‫إن سيرورة التعلم ذات‬‫نظرية الفعل التواصلي؛ إذ ّ‬
‫ثالثا‪ :‬القضايا الكبرى لنظرية‬ ‫ً‬ ‫المنحى األفقي‪ ،‬وليس العمودي‪ ،‬نتعلم فيها من‬
‫بعضنا كيفية عقلنة كالمنا وسلوكنا وأفعالنا وقيمنا‪ ،‬الفعل التواصلي‬
‫أن العقالنية األساسية التي ينظّر لها‬
‫على أساس ّ‬
‫هابرماس في عمله هذا هي "عقالنية تواصلية" ‪ .1‬عالم الحياة باعتباره خلفية لسيرورة‬
‫التعلّ م‬
‫غايتها تحقيق التفاهم بين المعنيين بالقضايا‬
‫يكتسي مفهوم "عالم الحياة"‪ ،‬أو "العالم‬ ‫موضوع النقاش في الفضاء العمومي‪.‬‬
‫المعيش" ‪ ،‬أهمية كبيرة في نظرية الفعل‬ ‫(‪((1‬‬

‫إن نظرية الفعل التواصلي التواصلي؛ باعتبارها نظرية نقدية في المجتمع‪،‬‬ ‫وباختصار‪ ،‬يمكن القول ّ‬
‫هي نظرية في التعلم‪ .‬والمساهمة األساسية هدفها تعزيز لُحمة التواصل والتفاعل واالندماج‬
‫له في الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته‪ ،‬بين األطراف المتفاعلة في المجتمع‪ .‬و ُتعد‬
‫بحسب ما ذهب إلى ذلك أكسل هونيث ‪ Axel‬عملية عقلنة عالم الحياة من المداخل األساسية‬
‫أن‬ ‫‪ ،Honneth‬تكمن في الخطوة األساسية التي قام‬
‫لعقلنة سيرورة التطور االجتماعي‪ .‬ونرى ّ‬
‫بها من أجل تحويل مقدمات نظريته في التواصل‬
‫وأن التطرف‬ ‫تصاعد الخطابات اليمينية الشعبوية‪ّ ،‬‬
‫إلى نظرية في المجتمع عبر إقحامه مفهوم "عالم‬
‫ضروبه الدينية والعرقية واللغوية في‬ ‫بمختلف ُ‬
‫إن‬
‫الحياة" أو "العالم المعيش" (مج ‪ ،1‬ص ‪ّ .)60‬‬
‫العالمين العربي واإلسالمي‪ ،‬وحتى في العالم‬
‫تعرض لعملية التعرية والتآكل‪،‬‬‫هذا العالم الذي ّ‬
‫تعبير عن التشوهات التي‬ ‫ٌ‬ ‫إاّل‬
‫الغربي‪ ،‬ما هما ّ‬
‫بسبب هيمنة األنساق أو المنظومات االقتصادية‬
‫أصابت "العالم المعيش"‪ ،‬باعتباره العالم المشترك‬
‫والسلطات المختلفة التي جعلت العقالنية‬
‫بين المنتمين إلى الجماعة(‪.((1‬‬
‫األداتية تهيمن على حساب العقالنية التواصلية‪،‬‬
‫هو ما يريد تصحيحه هابرماس عن طريق إعادة ومن منطلق أهمية هذا المفهوم في نظرية الفعل‬
‫االعتبار للعالم المعيش؛ بالنظر إلى أنه الخلفية التواصلي‪ُ ،‬يعد البحث في العلوم االجتماعية‬
‫مدخاًل إلى كشف األعطاب التي تعرقل عقلنة‬ ‫ً‬ ‫الثقافية واالجتماعية التي يتحقق التعلم في‬
‫سع أفقه ومساره‪ .‬وهذه هي أهم عملية تواصل صحي داخل المجتمع‪ .‬ومن شأن‬ ‫إطارها‪ ،‬وي َّت ُ‬
‫المكتسبات التي يمكن لعالم االجتماع لدينا البحث الميداني في فرضيات هذه األعطاب أن‬
‫االشتغال بها؛ لمزيد من الفهم لعالمنا المعيش يساعد صاحب القرار على اتخاذ مبادرات قادرة‬
‫من أجل "عقلنته"‪ ،‬والبحث عن مكامن القوة فيه‪.‬‬
‫غالبا ما تُترجم بطريقتين مختلفتين‪ ،‬لكن هذا االختالف‬ ‫ً‬ ‫(‪((1‬‬
‫"إن أعضاء مجتمع ما‪ ،‬كما بين ذلك هبرماس ال يفسد المعنى المقصود‪ .‬فالمترجم المغربي إسماعيل‬
‫المصدق في كل ترجماته ألعمال إدموند هوسرل ‪Edmund‬‬ ‫في الخطوة النسقية الثانية من حجاجه (الباب‬
‫‪ ،)1938–1859( Husserl‬أو هايدغر‪ ،‬يترجمها بـ "العالم‬
‫السادس‪ ،‬الفصل الثاني) ال يكتفون بنقل قناعاتهم‬
‫يفضل المسكيني ترجمتها بـ "عالم الحياة"‪.‬‬
‫المعيش"‪ ،‬بينما ّ‬
‫جيد لثنائية‬ ‫الخلفية فحسب‪ ،‬بل هم في ثنايا مسارات التعلّم‬
‫(‪ ((1‬ينظر‪ :‬المجلد الثاني من الكتاب‪ ،‬ففيه تفصيل ّ‬
‫أيضا في الوقت نفسه النسق (أو المنظومة) والعالم المعيش (أو عالم الحياة)‪.‬‬ ‫يوسعون ً‬ ‫مفر منها إنما ّ‬ ‫التي ّ‬
‫العدد ‪ - 45‬المجلد ‪Issue 45 - Volume 12 / 12‬‬
‫صيف   ‪Summer 2023‬‬ ‫‪202‬‬
‫أمس الحاجة‬ ‫أن واقعها‪ ،‬في ّ‬
‫لسانها‪ ،‬فال‪ ‬ريب في ّ‬ ‫يحد من أمراض‬ ‫على تحقيق "اندماج صحي"‪ّ ،‬‬
‫إلى تأسيس نظري لمقاربة هذا النوع من التفكير‬ ‫المجتمع الحديث‪ .‬فعملية التعلم‪ ،‬التي ُتعد‬
‫الساعي لتمتين ُعرى المجتمع التعددي‪ ،‬استنا ًدا‬ ‫مفهو ًما مركز ًّيا في النظرية النقدية‪ ،‬تجري في إطار‬
‫إلى مفهوم الفعل التواصلي‪.‬‬ ‫التفاعل مع "العالم المعيش"؛ باعتبارها خلفية‬
‫مشتركة بين أعضاء المجتمع‪ ،‬وهي عملية مزدوجة‬
‫بناء‬
‫إن تبني هابرماس لمفهوم العقل‪ ،‬بوصفه ً‬ ‫ّ‬
‫تتعلق المرحلة األولى منها بتعلم الذات في‬
‫أن العقل التواصلي الهابرماسي‬‫اجتماعيا‪ُ ،‬يفهم منه ّ‬
‫ً‬
‫عالقتها بذاتها‪ .‬أما المرحلة الذاتية‪ ،‬فهي تتعلق‬
‫عقل منفتح‬
‫عقاًل متمرك ًزا حول الذات بل هو ٌ‬‫ليس ً‬
‫بتعلم الذات من اآلخر(‪ .((1‬ويستثمر هابرماس‬
‫على عقول وثقافات أخرى‪ .‬وعلى الرغم مما ُكتب‬
‫التعلم في أفكار متعلقة بالديمقراطية والتربية‬
‫فإن‬
‫عن مركزية فلسفة التواصل لدى هابرماس‪ّ ،‬‬
‫والتقدم والمناقشة والتواصل؛ إذ يكاد القارئ‬
‫األمر األساسي بالنسبة إلينا هو التمييز الذي يفتح‬
‫إن نظرية هابرماس هي نظرية في التعلم؛‬ ‫يقول ّ‬
‫ُأف ًقا لآلخر للمساهمة في محتوى القيم الكونية‪،‬‬
‫أي يمكن قراءة متن نظريته النقدية في ضوء هذا‬
‫أن كل‬‫وتوسيع إمكاناتها التأويلية‪ ،‬على أساس ّ‬
‫المفهوم المركزي(‪.((2‬‬
‫حق المشاركة في ذلك من منطلق‬ ‫المعنيين لهم ُّ‬
‫ثقافاتهم؛ لكونها تشتمل على ما يكفي من‬ ‫فإذا كان الحافز من وراء "نظرية العقالنية" التي‬
‫المضامين المعرفية والقيمية التي يمكنها المساهمة‬
‫يطورها هابرماس في نظرية الفعل التواصلي هو‬
‫ٍ‬
‫مكتمل‪.‬‬ ‫غير‬
‫في بناء "الكونية"‪ ،‬باعتبارها مشرو ًعا َ‬
‫المهم في‬
‫الفعل الموجه بالتفاهم‪ ،‬باعتباره الجانب ُ‬
‫وهذا التصور‪ ،‬الذي نجده عند الفيلسوف البنيني‬
‫نظريته االجتماعية‪ ،‬فإن واقع الحال اليوم يؤكد‪،‬‬
‫بولين هونتوندجي ‪ ((2(Pauline Hontondji‬الذي‬‫بعد مرور أربعين عا ًما على نشر الكتاب‪ ،‬أنه ُكتب‬
‫عما يسميه "الكونية النقدية"‪ ،‬يمكن تعزيزه‬ ‫يدافع ّ‬
‫باألمس؛ إذ يكفي أن ينظر المرء في وتيرة تصاعد‬
‫في الفكر العربي المعاصر‪ ،‬من خالل تلقيه على‬‫تيارات اليمين المتطرف في ألمانيا نفسها‪ ،‬ليدرك‬
‫جيد‪ ،‬واستثمار البعد المعياري الكامن في‬ ‫نحو ّ‬
‫التحدي الذي تواجهه المجتمعات األوروبية‪،‬‬
‫كتاب نظرية الفعل التواصلي بجزأيه‪.‬‬
‫والمجتمع األلماني على وجه الخصوص؛ على‬
‫نحو أصبحت فيه الديمقراطية "تأكل أبناءها"‪،‬‬
‫مشروعا غير‬
‫ً‬ ‫‪ .2‬الحداثة بوصفها‬
‫ثم يدرك قيمة نظرية الفعل التواصلي‬ ‫ومن ّ‬
‫مكتمل وأهميتها الثقافية‬
‫الساعية لبناء التفاهم على الفعل التواصلي‪.‬‬
‫ال تنفصل ترجمة هذا المشروع عن الهاجس الذي‬
‫أما واقع حال الدول العربية التي ُنقل الكتاب إلى‬
‫يراود المسكيني وبعض الباحثين العرب بشأن‬
‫(‪ ((1‬ينظر‪ :‬الفصل المخصص لهربرت ميد في المجلد الثاني‬
‫‪(21) Pauline Hontondji, "Construire l’ universel: un défi‬‬ ‫من الكتاب‪.‬‬
‫‪transculturel," Methode (s): Africain Review of Social‬‬
‫‪Sciences Methodology, vol. 2, no. 1–2: Epistemological‬‬
‫(‪ ((2‬ينظر مادة سيرورة (أو عملية التعلم) كما وردت في‬
‫‪Fractures in a Globalized World: Normalizations, Debates‬‬ ‫الكتاب الذي ُخ ّصص ألهم المفاهيم الفلسفية التي طورها‬
‫–‪and Alternatives in the Social Sciences (2017), pp. 160‬‬ ‫هابرماس في نظريته النقدية‪:‬‬
‫‪161; Franziska dubgen & Stefan Skupien, African‬‬ ‫& ‪David S. Owen, "Learning Processes," in: Amy Allen‬‬
‫‪Philosophy as Critical Universalism (Switzerland:‬‬ ‫‪Eduardo Mendieta (eds.), The Cambridge Habermas‬‬
‫‪Palgrave Macmillan, 2019).‬‬ ‫‪Lexicon (Cambridge: Cambridge University Press, 2019).‬‬
‫‪203‬‬ ‫بتكلا تاعجارم‬
‫نظرية الفعل التواصلي (المجلدان ‪)2-1‬‬

‫األقل يخوضون في نقاشات عقيمة حولها‪ ،‬إلى أن‬ ‫مشروع الحداثة غير المنجز؛ إذ سبق للمسكيني‬
‫المخرجات نفسها‬ ‫يتجاوزهم الزمن‪ ،‬وتفرض هذه ُ‬ ‫أن ترجم مقالة هابرماس "الحداثة – مشروع لم‬
‫فإن الحداثة المتعلقة بدمقرطة الحياة‬
‫بقوة الواقع‪ّ ،‬‬ ‫يكتمل"(‪ ((2‬التي تندرج في السياق نفسه‪ ،‬والتي‬
‫السياسية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬وعقلنة السلوك الثقافي‪،‬‬ ‫تعكس كذلك الهاجس نفسه الذي يحرك هذا‬
‫فإن أهمية الكتاب‬ ‫تزال تراوح مكانها‪ .‬ولهذا ّ‬
‫ال ُ‬ ‫الباحث تألي ًفا وترجمة‪ .‬فتعريبه للكتاب قد كان‬
‫تتم ّثل في تصور جيد متعلق بأهمية عقلنة الثقافة‬ ‫عن وعي بأهمية "سؤال الحداثة"‪ ،‬و"العقلنة"‬
‫في تطور المجتمع‪ ،‬وقد تمكن هابرماس في كتابه‬ ‫ورهاناتها‪ ،‬في سبيل إيجاد طرائق للنهوض‬
‫هذا من بسط تصور ماكس فيبر بخصوص هذه‬ ‫بالمجتمعات العربية‪ ،‬التي ال تزال تعيش‬
‫المسألة؛ وال سيما في الفصل "نظرية ماكس فيبر‬ ‫التخلف‪ ،‬واالستبداد‪ ،‬وموق ًفا مترد ًدا من الحداثة‪،‬‬
‫في العقلنة" (مج ‪ ،1‬ص ‪.)374–279‬‬ ‫بوصف ذلك مشرو ًعا ال ينفصل فيه الثقافي‬
‫والسياسي عن االقتصادي‪ ،‬والتقني‪ ،‬والعلمي‪.‬‬
‫‪ .3‬العقالنية الغربية وسؤال الحداثة‬ ‫دائما رهان المثقف العربي‬ ‫فالحداثة ُبرمتها ظلَّت ً‬
‫المقصود بالعقالنية في هذا السياق هو "العقالنية‬ ‫إن‬‫ترجمةً وتألي ًفا‪ .‬ومن هذا المنطلق ُيمكن القول ّ‬
‫الغربية"‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬وكيفية تطور العقل‬ ‫رهان المسكيني في ترجمته ال يخرج عن رهاناته‬
‫جيدا‬
‫ً‬ ‫الغربي‪ ،‬ولهذا نجد هابرماس قد حرص‬ ‫األخرى وهو يكتب عن "سؤال الحداثة وأخواتها"‪.‬‬
‫مستعماًل في ذلك أدوات‬
‫ً‬ ‫على تتبع مسار تطورها‬ ‫تهم‬
‫فالكتاب الذي ترجمه يطرح قضايا راهنة ّ‬
‫منهجية‪ ،‬ورؤية نقدية‪ ،‬إلعادة بناء مفهومها‪،‬‬ ‫القارئ العربي الساعي لبناء "مجتمع حداثي"‬
‫وخاصة التلقي الذي حظي به فيبر في هذه‬ ‫معقلن يقطع مع كثير من المظاهر التقليدانية التي‬
‫العقالنية‪ ،‬منذ كارل ماركس ‪–1818( Karl Marx‬‬ ‫تعرقل مسيرة التحديث والحداثة(‪.((2‬‬
‫وصواًل إلى جورج لوكاتش ‪György‬‬ ‫ً‬ ‫‪،)1883‬‬ ‫فإذا كان مسار التحديث‪ ،‬بالمعنى التقني‪ ،‬هو‬
‫‪ ،)1971–1885( Lukács‬وأدورنو وهوركهايمر‪،‬‬ ‫تجهيز البنى التحتية واالنفتاح على مكتسبات‬
‫تلق طغى عليه طابع "التشيؤ" و"فلسفة‬ ‫وهو ٍّ‬ ‫أي مقاومة تذكر –‬‫"الحداثة التقنية" من دون ّ‬
‫الوعي"‪ .‬تلك هي الخالصة األساسية التي توصل‬ ‫على عكس ما كنا نعيه ساب ًقا – بحيث كان بعض‬
‫إليها هابرماس بعد قراءته النقدية لعقالنية فيبر‬ ‫يحرمون كل مستجدات الحداثة‪ ،‬أو على‬ ‫الفقهاء ّ‬
‫في المجلد األول‪ .‬ولتجاوز هذا المأزق الذي‬
‫عرفته العقالنية الغربية‪ ،‬سيوظّف هابرماس ُع َّدته‬ ‫(‪ ((2‬هابرماس‪" ،‬الحداثة مشروع – لم يكتمل"‪ ،‬ص ‪.196–183‬‬
‫ينظر ً‬
‫أيضا‪ ،‬ترجمة أخرى للمقالة نفسها‪ ،‬في‪ :‬يورغن هابرماس‪،‬‬
‫المنهجية‪ُ ،‬مستعي ًنا بالبردايمات الكالسيكية لعلم‬ ‫"الحداثة مشروع غير منجز"‪ ،‬ترجمة جورج تامر‪ ،‬مراجعة جورج‬
‫االجتماع‪ ،‬كما جرى تطويرها مع ميد وإميل‬ ‫كتورة‪ ،‬في‪ :‬يورغن هابرماس‪ ،‬الحداثة وخطابها السياسي‬
‫(بيروت‪ :‬دار النهار للنشر‪ ،)2002 ،‬ص ‪.35–15‬‬
‫دوركهايم ‪–1858( David Émile Durkheim‬‬
‫(‪ ((2‬ينظر‪ :‬الفصل الثامن المتعلق بالحداثة لدى فيبر‪،‬‬
‫مؤس َسي بردايم جديد م َّهد‬
‫‪ ،)1917‬باعتبارهما ِّ‬ ‫والفصول األخرى المتعلقة بالعقالنية‪ ،‬والعقلنة االجتماعية‪،‬‬
‫لهابرماس إعادة صياغة مفارقات العقالنية الغربية‪،‬‬ ‫والتشيؤ‪ ،‬وهي قضايا متشابكة‪ُ ،‬يراهن هابرماس فيها على إعادة‬
‫بناء خطاب "العقالنية الغربية"‪ ،‬وكيفية تلقي الغرب‪ ،‬خاصة‬
‫في إطار مفاهيم تنطلق من الفعل التواصلي‬ ‫األلمان‪ ،‬لنظرية فيبر‪ ،‬فالعقالنية التواصلية هي في صلب فكرة‬
‫والفلسفة البينذاتية ‪ ،Intersubjectivity‬وليس من‬ ‫إعادة بناء مشرع الحداثة الغربية‪.‬‬
‫العدد ‪ - 45‬المجلد ‪Issue 45 - Volume 12 / 12‬‬
‫صيف   ‪Summer 2023‬‬ ‫‪204‬‬
‫ند ًيا مشار ًكا في‬
‫فلسفة الوعي أو الفلسفة الذاتية‪ ،‬عالو ًة على قلب تواصلية" تجعل من اآلخر طرفًا ِّ‬
‫العالقة التي هيمنت على الفلسفة الذاتية التي عملية بناء الحقيقة؛ من خالل االعتراف بحقه في‬
‫كانت قائمة على نموذج "ذات – موضوع" إلى رفع ادعاءات صالحيته‪ ،‬والمنافحة عنها من دون‬
‫تعصب للرأي الذاتي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫نموذج آخر قائم على ثنائية "ذات – ذات"‪.‬‬

‫عبر فيه هابرماس‪ ،‬في‬‫إن هذا المشروع هو الذي َّ‬ ‫ّ‬ ‫هذه العالقة الجديدة من شأنها أن توسع فهمنا‬
‫الطبعة الثالثة من كتاب نظرية الفعل التواصلي‪،‬‬ ‫للعقالنية التواصلية التي تختلف عن "العقالنية‬
‫عن المقاومة التي تعرض لها من لدن أنصار‬ ‫األداتية" المستندة إلى النموذج األول‪ .‬وقد وجد‬
‫فلسفة الوعي بقوله‪" :‬لقد تم الدفاع عن فلسفة‬ ‫سندا في‬
‫هابرماس في ميد ونظريته االجتماعية ً‬
‫شرع فيه‪ ،‬وعلى‬ ‫الوعي ضد تغيير البراديغم الذي ّ‬ ‫جه‬‫تعميق تصوره التواصلي للعقالنية والفعل المو ّ‬
‫وجه الخصوص تمت المنافحة عن التصور‬ ‫معينة؛ من أجل تحقيق االندماج‬ ‫وف ًقا لمعايير ّ‬
‫الفينومينولوجي لعالم الحياة )‪،(Lebenswelt‬‬ ‫االجتماعي‪" :‬إن تغيير البراديغم الذي بدأ يتبلور‬
‫وذلك ضد المحاولة الرامية إلى إعادة صياغته‬ ‫مع علم النفس االجتماعي لدى ميد هو – في‬
‫باالستناد إلى نظرية في التواصل" (مج ‪،1‬‬ ‫أهمية‪ ،‬ألنه يفسح النظر أمام مفهوم‬‫سياقنا – ذو ّ‬
‫ظل هابرماس مدي ًنا لآلباء‬ ‫َّ‬ ‫ص ‪ .)67‬وقد‬ ‫تواصلي عن العقالنية" (مج ‪ ،2‬ص ‪ .)29‬وحتى‬
‫المؤسسين للسوسيولوجيا في هذا المشروع‬ ‫ّ‬ ‫أثناء انتقاد "المنظومة" أو "النسق" في المجلد‬
‫بالنظر إلى التحول الذي أحدثوه في البردايم الذي‬ ‫فإن الهاجس الذي الزمه في الكتاب كلّه‬ ‫الثاني‪ّ ،‬‬
‫تصورا آخر عن "العقالنية‬
‫ً‬ ‫قدم‬ ‫تحو ٌل ّ‬
‫يهمه‪ ،‬وهو ّ‬ ‫يوحي بإعادة بناء خطاب العقالنية الغربية‪ ،‬في‬
‫الفيبرية" التي تعتبر نظرية الفعل التواصلي بمنزلة‬ ‫أفق إتمام "مشروع الحداثة" باعتباره مشرو ًعا غير‬
‫توسي ٍع لها‪ ،‬من خالل تجاوز "العقل األداتي‬ ‫مكتمل‪ .‬وهي المهمة التي استمر فيها في كتاباته‬
‫إلى مجال تواصلي أرحب يستوعب أعطاب‬ ‫أيضا؛ مثل الخطاب الفلسفي للحداثة‬ ‫الالحقة ً‬
‫قوم اعوجاجات التواصل‬ ‫العقالنية األداتية‪ ،‬و ُي ِّ‬ ‫الذي يعتبر دفا ًعا عن "الحداثة الغربية" ضد‬
‫شوه‪ .‬فكل هؤالء ساهموا‪ ،‬على نحو أو آخر‪،‬‬ ‫الم َّ‬
‫ُ‬ ‫أصوات "ما بعد الحداثة"‪.‬‬
‫في التحرر من معضالت فلسفة الوعي‪ .‬ومن‬
‫كأن هابرماس يكمل ما بدأه في "نظرية الفعل‬ ‫ّ‬
‫خالل تأسيس ميد علم االجتماع على نظرية في‬
‫التواصلي"؛ لكن ذلك انطالقًا من تاريخ الفلسفة‪،‬‬
‫التواصل‪ ،‬وتأسيس دوركهايم نظرية في التضامن‬
‫إن‬
‫وليس من كالسيكيات علم االجتماع‪ .‬ولهذا؛ ْ‬
‫المجتمعي‪ ،‬فإنهما ساهما في تنزيل نظرية فيبر‬
‫حضر في نظرية الفعل التواصلي فالسفة وعلماء‬
‫في العقالنية من خالل إحداث دمج بين اإلدماج‬
‫اجتماع من أمثال دوركهايم وفيبر وبارسونز‬
‫االجتماعي والمنظومات القائمة في المجتمع‪،‬‬
‫فإن هيغل وهايدغر ونيتشه ودريدا‬
‫وماركس وميد‪ّ ،‬‬
‫ُتقيم الصلة بين اإلدماج االجتماعي واإلدماج في‬
‫وباطاي وفوكو‪ ،‬سيحضرون بقوة في كتاب‬
‫المنظومة" (مج ‪ ،2‬ص ‪.)23‬‬
‫الخطاب الفلسفي للحداثة‪ .‬هذه النظرية التي‬
‫دافع عنها ضد "فلسفة الوعي"‪ ،‬في كل برنامجه وقد انطلق هابرماس‪ ،‬إلنجاز ما خطط له في هذا‬
‫جينيالوجيا في مسألة‬
‫ً‬ ‫اإلبستيمولوجي الهادف إلى تأسيس "فلسفة الكتاب‪ ،‬الذي ُيعتبر كتا ًبا‬
‫‪205‬‬ ‫بتكلا تاعجارم‬
‫نظرية الفعل التواصلي (المجلدان ‪)2-1‬‬

‫في المجتمع‪ ،‬والوصول إلى السلطة ‪ ...‬إلخ‪،‬‬ ‫العقل والعقالنية والعقلنة في الفكر الغربي‬
‫إن هدفها هو تحقيق التفاهم واإلجماع بين‬ ‫بل ّ‬ ‫خص به‬‫َّ‬ ‫الحديث والمعاصر‪ ،‬من تأ ّمل تمهيدي‬
‫المعنيين به في الفضاء العمومي؛ لتخفيف حدة‬ ‫العقالنية في علم االجتماع من الناحية النظرية؛‬
‫التوتر بين الفاعلين‪ ،‬وبناء مجتمع يتسع للجميع‪.‬‬ ‫وذلك ألهمية هذا المبحث في تناول مسألة‬
‫ولهذا‪ُ ،‬يمكن أن نفهم هذا الميل إلى مبحث علم‬ ‫العقالنية‪ ،‬مقارنةً بمباحث علمية أخرى مثل‬
‫ثم‪،‬‬ ‫إن خصوصية علم‬ ‫ثم ّ‬ ‫علوم السياسة واالقتصاد‪ّ .‬‬
‫االجتماع الذي يوفر هذه اإلمكانية‪ .‬ومن ّ‬
‫االجتماع بالنسبة إليه تكمن في تناوله الشمولي‬
‫سينتقل هابرماس‪ ،‬بعد تخصيص الفصل األول‬
‫بداًل من التركيز على ما هو فرعي فيه‪.‬‬ ‫للمجتمع ً‬
‫لتحديد مفهوم العقالنية وتطورها ومساهمتها في‬
‫عبر عنه في قوله‪" :‬إن السوسيولوجيا‬ ‫وهذا ما ّ‬
‫نشأة العلم الحديث‪ ،‬إلى شرح االقتران الداخلي‬
‫هي الوحيدة من فروع العلوم االجتماعية‬
‫بينها وبين نظرية المجتمع‪ .‬ولن يتحقق هذا‬
‫التي حافظت على صلة بمشاكل المجتمع‬
‫إاّل باستحضار األهمية‬
‫االقتران‪ ،‬بطبيعة الحال‪ّ ،‬‬ ‫أيضا على الدوام نظريةً‬ ‫بكامله‪ ،‬فقد ظلت ً‬
‫التي يمكن أن تؤديها النظرية الحجاجية في صقل‬ ‫ص مسائل العقلنة‬ ‫في المجتمع‪ ،‬وبذلك لم ُت ْق ِ‬
‫قدرات الذوات القادرة على الكالم والفعل‪،‬‬ ‫)‪ ،(Rationalisierung‬وال أعادت تعريفها‪،‬‬
‫وممارسة الفعل التواصلي في الفضاء العمومي‬ ‫وال قطعتها إلى أحجام صغيرة كما فعلت‬
‫المشترك بينها‪.‬‬ ‫تخصصات أخرى [‪ ]...‬إن السوسيولوجيا‬
‫خصصان‬ ‫كما األنثروبولوجيا الثقافية هما َت ُّ‬
‫والمطّلع على نظرية الفعل التواصلي لهابرماس‬
‫في مواجهة مع الطيف الكامل ‪(ganzen‬‬
‫الاّلحقة المتعلقة‬
‫في هذا الكتاب‪ ،‬وفي الكتابات ّ‬
‫)‪ Spektrum‬لتجليات الفعل االجتماعي‪ ،‬وليس‬
‫بالوعي األخالقي والفعل التواصلي‪ ،‬وبتوضيحاته‬
‫نسبيا التي‬‫ًّ‬ ‫مع أنماط الفعل الواضحة المعالم‬
‫المرتبطة بأخالقيات المناقشة‪ ،‬يدرك األهمية‬ ‫يمكن ارتسامها بوصفها تلوينات من الفعل‬
‫الكبرى لنظرية الحجاج في نظرية الفعل التواصلي‬ ‫العقالني بمقتضى غاية ما )‪"(zweckrational‬‬
‫فضاًل‬
‫ً‬ ‫التي يشغلها االهتمام بالمنطق الصوري‪،‬‬ ‫(مج ‪ ،1‬ص ‪.)85‬‬
‫عن المنطق الحجاجي الذي يرتكز على دراسة‬
‫استنا ًدا إلى هذا التناول الشمولي لعلم االجتماع‬
‫األفعال الكالمية وكيفية اشتغالها في الحقل‬
‫المتعلق بالفعل االجتماعي‪ُ ،‬يفهم السبب الذي‬
‫المطّلع على خبايا هذه النظرية‪،‬‬
‫إن ُ‬‫ثم ّ‬
‫التداولي‪ّ .‬‬
‫جعل هابرماس يعيد بناء نظرية العقالنية من منطلق‬
‫والكتب السابقة له‪ ،‬يدرك بسهولة العالقة الوطيدة‬
‫إن رهانه‬
‫الدرس السوسيولوجي الحديث؛ إذ ّ‬
‫بين هذا الكتاب واألبحاث التي قدمها هابرماس‬ ‫اإلبستيمولوجي هو تأسيس نظرية في التواصل‪،‬‬
‫عن التداوليات الكلية‪ ،‬ونظرية األفعال اللغوية في‬ ‫باعتبارها نظرية في المجتمع؛ تسعى للكشف‬
‫ارتباطها بنظرية الحجاج‪ .‬وفي سياق اإلشكالية‬ ‫عن الطاقات الكامنة في العالقات التواصلية‬
‫نفسها المتعلقة بالعقالنية‪ ،‬تناول هابرماس‬ ‫انطالقًا من خلفية عالم الحياة‪ .‬فالعقالنية التي‬
‫السمات التي تميز الفهم األسطوري والفهم‬ ‫ينشدها هابرماس ال تنحصر في "العقالنية‬
‫الحديث للعالم‪.‬‬ ‫الغائية" الساعية للزيادة في اإلنتاج‪ ،‬أو التحكم‬
‫العدد ‪ - 45‬المجلد ‪Issue 45 - Volume 12 / 12‬‬
‫صيف   ‪Summer 2023‬‬ ‫‪206‬‬
‫بداًل من "المعرفي"‪ ،‬ونجد "العلوم العرفانية"‬ ‫ً‬ ‫رابعا‪ :‬مالحظات بخصوص‬
‫ً‬
‫بداًل من "العلوم المعرفية"؛ إذ على الرغم من‬ ‫ً‬ ‫ترجمة بعض المفاهيم‬
‫جدا‪ ،‬فإنها على‬ ‫أن كلمة "المعرفية" ليست دقيقة ًّ‬ ‫ّ‬
‫ال يمكن الدخول في نقاش‪ ،‬في هذا الحيز‪ ،‬مع‬
‫األقل ربما كانت أقرب إلى ذهن القارئ العربي‬
‫المترجم حول ترجمة بعض المفاهيم التي ال شك‬
‫معينة في‬ ‫من كلمة "العرفانية" التي لها حمولة ّ‬ ‫أنها تطرح صعوبة حقيقية في نقلها إلى اللسان‬
‫أيضا "النزعة الريفية"‪،‬‬
‫التصوف اإلسالمي‪ .‬ونجد ً‬
‫العربي؛ وذلك بالنظر إلى التباعد الموجود بين‬
‫مقاباًل لـ ‪ً ،Provinzialismus‬‬
‫بداًل من‬ ‫ً‬ ‫بوصفها‬
‫اللغتين األلمانية والعربية من جهة‪ ،‬وبالنظر إلى‬
‫"النزعة اإلقليمية"‪ .‬فمصطلح "اإلقليمي" أكثر‬
‫طبيعة اإلشكاليات التي خاض فيها هابرماس‪،‬‬
‫داللة على النزعة المحلية واالنغالق والتمركز‬
‫والتي يصعب إيجاد مقابل لها في السياق العربي‬
‫من مصطلح "الريفي" الذي له ملمح "جغرافي"‬
‫إن ُندرة الترجمات ألعمال‬‫ثم ّ‬
‫من جهة أخرى‪ّ .‬‬
‫مرتبط بمجال الطبيعة والفالحة أكثر من ارتباطه‬
‫هابرماس من لدن أهل االختصاص في الفلسفة‬
‫بمجال الفكر واالنتماء‪ .‬أ ّما "أخالقيات الدعوة"‪،‬‬
‫تراكما في مجال ترجمة أعماله‪،‬‬
‫ً‬ ‫األلمانية لم تُحقق‬
‫فهو مفهوم ذو ُحمولة دينية دعوية كما هو معروف‬
‫على عكس ما نجده في الترجمات اإلنكليزية‬
‫أن "الدعوة" لدى‬ ‫في العالم اإلسالمي‪ ،‬في حين ّ‬
‫والفرنسية واإلسبانية‪ .‬ولهذا‪ ،‬يمكن أن نتصور‬
‫فيبر ال تتعلق بهذا المعنى‪ ،‬بل بالعمل الذي رفعته‬
‫الصعوبات الكبيرة التي واجهت المسكيني في‬
‫الكنيسة البروتستانتية إلى درجة العبادة؛ وهذا‬
‫المهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تعريب هذا الكتاب‬
‫موجود في اإلسالم نظر ًّيا‪ ،‬وقد أشار المترجم إلى‬
‫فإن‬
‫ذلك‪ .‬لكن حينما نقول "أخالقيات الدعوة"‪ّ ،‬‬ ‫واستنا ًدا إلى تجربة المسكيني في ترجمة بعض‬
‫أن فيبر يضع سلسلة من‬ ‫يظن ّ‬
‫القارئ العربي ر ّبما ّ‬ ‫نصوص هايدغر‪ ،‬ونيتشه وكانط‪ ،‬نجد أن خوضه‬
‫األخالقيات التي ينبغي أن ي ّتصف بها ممارس‬ ‫استمرار‬
‫ٌ‬ ‫في ترجمة كتاب ما لهابرماس هو‬
‫الدعوة إلنجاح مهمته الدعوية‪ .‬ومثل هذا اللبس‬ ‫للترجمات السابقة التي را َكم فيها تجربة ذات‬
‫حري بالمترجم أن يزيله؛ ألن القارئ قد ال تكون‬‫ّ‬ ‫بعد ألي‬ ‫أهمية كبيرة‪ .‬وهي تجربة لم تخضع ُ‬
‫فضل‬‫له مرجعية فيبرية حتى يعرف القصد‪ .‬ولهذا ُي َّ‬ ‫دراسة نقدية للحكم عليها على نحو أو آخر‪.‬‬
‫أن نختار العبارات المتداولة اليوم في الثقافة‬ ‫ومن هذا المنطلق‪ ،‬فإننا لن نخوض في الترجمة‬
‫العربية اإلسالمية؛ حتى ال تلتبس على القارئ‪.‬‬ ‫النقدية؛ ألن مثل هذا األمر يحتاج إلى بحث‬
‫يصح في كلمة "فداء" مقابل كلمة‬ ‫ّ‬ ‫واألمر نفسه‬ ‫أن القارئ الذي ُيقبل‬‫مستقل‪ ،‬لكننا نشير إلى ّ‬
‫أن أقرب كلمة متداولة في هذا‬ ‫‪ ،Erlösung‬غير ّ‬ ‫على قراءة هذا الكتاب يجد مفاهيم جديدة فيها‬
‫طبعا عقيدة‬ ‫السياق هي كلمة "الخالص"‪ ،‬ومنها ً‬ ‫اجتها ٌد‪ ،‬لكن عدم ُألفته إ ّياها تجعله إزاء بعض‬
‫أن الفداء‬ ‫الخالص ‪ .Erlösungslehre‬ال ريب ّ‬ ‫يتعود حمولتها الداللية‪ .‬ومن‬
‫الصعوبات إلى أن ّ‬
‫يقدم‬
‫أن الذي ّ‬ ‫هو خالص‪ ،‬ولكن المتداول ّ‬ ‫"الس ّنة‬
‫بين المفاهيم التي نجدها في الترجمة عبارة ُ‬
‫كبشا للفداء يكون ذلك منه بهدف الخالص‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مقاباًل لكلمة ‪،Sittlichkeit‬‬
‫ً‬ ‫األخالقية"‪ ،‬بوصفها‬
‫أن المسيح فدى اآلخرين‬ ‫وفي هذا السياق ُيذكر ّ‬ ‫بداًل من "الحياة األخالقية"‪ ،‬أو "األخالق‬ ‫ً‬
‫بنفسه ليحقق لهم الخالص‪ .‬ولهذا كان األحرى‬ ‫االجتماعية"‪ .‬ونجد كذلك "العرفاني" ‪Kognitiv‬‬
‫‪207‬‬ ‫بتكلا تاعجارم‬
‫نظرية الفعل التواصلي (المجلدان ‪)2-1‬‬

‫االكتفاء بالدالالت البسيطة والمتداولة التي تفي لألبحاث" التي ستأتي الح ًقا في كل من الفلسفة‬
‫بداًل من اقتراح مقابالت جديدة ال تكون األخالقية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬وفلسفة الدين‪.‬‬
‫بالغرض ً‬
‫داللتها واضحة‪ .‬وهذا األمر يحضر في كثير‬
‫ُيعد كتاب نظرية الفعل التواصلي بمنزلة "تدريب‬
‫من االقتراحات؛ إذ تكون أمام المترجم إمكانية‬
‫حواري" بين هابرماس ومختلف المدراس‬
‫ميسورة لترجمة مصطلح بمصطلح آخر متداول‪،‬‬
‫السوسيولوجية الحديثة والمعاصرة‪ ،‬مثل مدرسة‬
‫لكنه قد يختار االجتهاد في مفاهيم ربما تطرح‬
‫دوركهايم‪ ،‬وفيبر‪ ،‬وميد‪ ،‬وبارسونز‪ ،‬وماركس‪،‬‬
‫لبسا لدى القارئ العربي خاصة‪.‬‬ ‫ً‬
‫ولوهمان‪ ،‬إلى جانب نظريات فلسفة اللغة‪،‬‬
‫والتداوليات‪ ،‬والنظريات الحجاجية‪ .‬وهو حوار‬
‫م َّكن هابرماس‪ ،‬من إعادة بناء خطاب العقالنية‬ ‫خاتمة‬
‫يم ّثل كتاب نظرية الفعل التواصلي مرافعة الغربية في أفق التصدي لما يسميه "أمراض‬
‫فلسفية عن الحداثة الغربية من أجل بعث الروح الحداثة الغربية"‪ .‬وعلى مستوى فلسفة الدين‬
‫فإن الكتاب‬‫فيها من جديد‪ ،‬بعد تعرض خطابها النتقادات التي تحظى براهنية كبرى اليوم‪ّ ،‬‬
‫أيضا مساهمة نوعية في مسار هابرماس‬ ‫إن هذا الكتاب‪ُ ،‬يعد ً‬ ‫رواد ما بعد الحداثة‪ّ .‬‬
‫قوية من ّ‬
‫أيضا‪ .‬فالمتتبع لمساره الفلسفي‪ ،‬يجد أ ّنه سبق‬ ‫ً‬ ‫وإن كان ال يحمل أي كلمة تحيل مباشرة إلى‬
‫فكرة "الحداثة"‪ ،‬فإنه في األصل دفا ٌع عن العقل له أن ناقش "سؤال الدين" في كتابات سابقة عن‬
‫تصور نظرية الفعل التواصلي‪ ،‬لكن النقاش تعمق أكثر‬ ‫باعتباره أهم مقومات الحداثة الغربية‪ .‬لكن ّ‬
‫هابرماس للعقل والعقالنية اختلف عن سابقيه فأكثر في الفصول التي خصصها للمسألة الدينية‬
‫بإعادة صياغة مشروع العقالنية الغربية في ضوء من خالل استحضاره دوركهايم وميد‪ ،‬وخاصة‬
‫مفاهيم الفعل التواصلي والعقالنية التواصلية‪ ،‬في مسألة إضفاء الطابع اللغوي على المقدس‪.‬‬
‫بداًل من االرتباط بمفهوم العقالنية الغائية األداتية ولهذا‪ ،‬نرى أن عودة هابرماس إلى فلسفة الدين‪،‬‬
‫ً‬
‫بعدا من أبعاد في أبحاثه المتأخرة بعد أحداث ‪ 11‬سبتمبر ‪،2001‬‬ ‫التي ال ينكر أهميتها‪ ،‬باعتبارها ً‬
‫العقالنية الغربية‪ .‬ويعكس كتاب نظرية الفعل ومناقشته "عودة الدين" في الفضاء العمومي‪،‬‬
‫التواصلي الجهد الفلسفي المكثف لهابرماس‪ ،‬وتناوله كيفية تدبير المقدس بين المتدينين‬
‫طوال أكثر من ثالثة عقود من االشتغال بأهم والعلمانيين‪ ،‬يش ّكل كلّه امتدا ًدا لخريطة الطريق‬
‫البردايمات الفلسفية واإلنسانية واالجتماعية التي التي أعلن عنها في كتاب نظرية الفعل التواصلي‪،‬‬
‫حاول‪ ،‬استنا ًدا إلى مقاربات متعددة المباحث‪ ،‬وخاصة تصور طبيعة العالقة بين "العالم المعيش"‬
‫عما ورد في نظرية‬‫تصورا نقد ًّيا للمجتمع‪ ،‬وهو و"النسق"‪ ،‬وهي عالقة مختلفة ّ‬
‫ً‬ ‫أن يستخرج منها‬
‫أاّل تكون قائمة على‬‫تصور حقق به منزلةً له في الفضاء الثقافي لوهمان النسقية؛ إذ ينبغي ّ‬
‫األلماني‪ ،‬وفي نظرية مدرسة فرانكفورت النقدية‪ ،‬االنفصال‪ ،‬بل على التفاعل‪ .‬وتكمن أهمية مقاربة‬
‫تصور جعل منه فيلسوف الفضاء العمومي هابرماس كذلك في َ‬
‫ج ْمعه بين مقاربة ميد ومقاربة‬ ‫ثم إنه ّ‬ ‫ّ‬
‫أن كتابه م ّثل دوركهايم‪ ،‬بحكم تركيزهما على العالم المعيش‬ ‫والعقل التواصل‪ .‬وإضافةً إلى ّ‬
‫جا لألبحاث السابقة في سنوات الستينيات والعمليات التفاعلية القائمة على اللغة والمعايير‬ ‫تتوي ً‬
‫أيضا بمنزلة "خريطة طريق والرموز‪ ،‬ومقاربة لوهمان ً‬
‫أيضا القائمة على النظر‬ ‫والسبعينيات‪ ،‬فهو ً‬
‫العدد ‪ - 45‬المجلد ‪Issue 45 - Volume 12 / 12‬‬
‫صيف   ‪Summer 2023‬‬ ‫‪208‬‬
‫إلى المجتمع بوصفه نس ًقا يتألف من عدة أنساق مؤسس على مستويين متكاملين‪ :‬العالم المعيش‬
‫وتركيبا بين المقاربتين‪ ،‬خلص في نظريته والنسق‪.‬‬
‫ً‬ ‫فرعية‪.‬‬
‫تصور للمجتمع‬
‫ّ‬ ‫المتعلقة بالفعل التواصلي إلى‬

‫‪References‬‬ ‫المراجع‬
‫العربية‬
‫األشهب‪ ،‬محمد [وآخرون]‪ .‬ما العدالة؟ معالجات في السياق العربي‪ .‬الدوحة‪ /‬بيروت‪ :‬المركز العربي‬
‫لألبحاث ودراسة السياسات‪.2014 ،‬‬

‫________‪" .‬مسارات العلم والحياة‪ :‬في التأسيس وااللتزام‪ ،‬العلوم االجتماعية والتفكير في قضايا‪:‬‬
‫السياسة‪ ،‬الدولة‪ ،‬السياسات"‪ .‬تنسيق حسن طارق وسعيد بنيس‪ .‬مجلة السياسات العمومية‪ .‬ج ‪،2‬‬
‫العدد ‪( 21‬ربيع ‪ .)2016‬في‪https://bit.ly/3ZNlzWv :‬‬

‫________‪ .‬المجتمع والدين والسياسة‪ .‬أكادير‪ :‬منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪.2021 ،‬‬

‫األشهب‪ ،‬محمد‪" .‬هابرماس وإعادة بناء المادية التاريخية‪ :‬من براديغم اإلنتاج إلى براديغم التواصل"‪.‬‬
‫مجلة األزمنة الحديثة‪ .‬العدد ‪.)2020( 18–17‬‬

‫المسكيني‪ ،‬فتحي‪ .‬اإليمان الحر أو ما بعد الملة‪ :‬مباحث في فلسفة الدين‪ .‬الرباط‪ :‬مؤمنون بال‪ ‬حدود‪،‬‬
‫‪.2018‬‬

‫هابرماس‪ ،‬يورغن‪ .‬الحداثة وخطابها السياسي‪ .‬بيروت‪ :‬دار النهار للنشر‪.2002 ،‬‬

‫________‪" .‬الحداثة – مشروع لم يكتمل"‪ .‬ترجمة فتحي المسكيني‪ .‬تب ّين‪ .‬مج ‪ ،1‬العدد ‪( 1‬صيف‬
‫‪.)2012‬‬

‫األجنبية‬
‫‪Dubgen, Franziska & Stefan Skupien. African Philosophy as Critical Universalism.‬‬
‫‪Switzerland: Palgrave Macmillan, 2019.‬‬
‫‪Habermas, Jürgen. Auch eine Geschichte der Philosophie: Band 1: Die okzidentale‬‬
‫‪Konstellation von Glauben und Wissen. Berlin: Suhrkamp, 1985.‬‬
‫‪______. Zwischen Naturalismus und Religion. Frankfurt am Main: Suhrkamp Verlag,‬‬
‫‪2009.‬‬
‫‪Hontondji, Pauline. "Construire l’ universel: un défi transculturel." Methode (s): Africain‬‬
‫‪Review of Social Sciences Methodology. vol. 2, no. 1–2: Epistemological Fractures in‬‬
‫‪a Globalized World: Normalizations, Debates and Alternatives in the Social Sciences‬‬
‫‪(2017).‬‬

You might also like