You are on page 1of 27

‫‪Journal of Islamic Ethics 5 (2021) 1–27‬‬

‫‪brill.com/jie‬‬

‫في البحث عن مشترك إنساني كوني‪ :‬أسئلة الديني والأخلاقي‬


‫والتواصلي بين يورغين هابرماس وطه عبد الرحمن‬
‫حامد رجب عباس‬
‫كلية الاقتصاد والعلوم السياسية‪ ،‬جامعة القاهرة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‬
‫‪hamed.ragab7@gmail.com‬‬

‫الخلاصة‬

‫تثير هذه الورقة البحثية سؤالات (الدين‪ ،‬والأخلاق‪ ،‬والتواصل)‪ ،‬لدى أنموذجين من نماذج الفكر‪،‬‬
‫أحدهما يمثل السياق الفكري الغربي الحداثي وهو هابرماس‪ ،‬والآخر يمثل السياق الإسلامي وهو المفكر‬
‫لٌ من هابرماس‬
‫المغربي طه عبد الرحمن‪ .‬وتسعى هذه الورقة للإجابة على تساؤل مؤ َدّاه‪ :‬كيف أشكل ك ّ‬
‫وعبد الرحمن سؤالات (الديني والأخلاقي والتواصلي) على محك الحداثة لبلوغ أفق كوني قيمي؟ فالحداثة‬
‫ل منهما في مقاربتها‪،‬‬
‫تظل مشترك ًا بين كلا المفكرين على الرغم من الاختلاف في منطلقات وأدوات ك ّ ٍ‬
‫فإذا كانت الحداثة لدى هابرماس مشروعًا وميراث ًا تنويري ًا لم يكتمل بعد من حيث التجسيد‪ ،‬ومن ثم فإن‬
‫بلوغ المجتمع ما بعد العلماني (الذي يعيد للدين موقعه فى الفضاء العام‪ ،‬ويتجاوز العقل الأداتي وحالة التشيؤ‬
‫لإنسان الحداثة) ربما يعد ضرورة بنظر هابرماس لتجاوز أعطاب الحداثة‪ ،‬وعلى الجانب الآخر‪ ،‬يطرح عبد‬
‫الرحمن نموذجه الإسلامي للحداثة ليتحدث عن روح الحداثة كمشترك إنساني يتجاوز واقع الحداثة الغربي‬
‫الذي أثبت إفلاسه بنظره‪ ،‬ومن ث ََم ّ فالتأسيس لحداثة إسلامية ذات بُعد روحي كبديل للحداثة الغربية‬
‫ذات التوجه المادي يع ُ ّد ضرورة وجودية للذات العربية والإسلامية بنظر طه‪ ،‬لاسيما وأن الحداثة لديه‬
‫إمكانات متعددة وليست إمكان ًا واحدًا‪.‬‬
‫ٌ‬

‫الكلمات المفتاحية‬

‫الحداثة – الدين – التواصل – الأخلاق – طه عبد الرحمن – يورغين هابرماس‬

‫‪© Hamed Ragab Abbas, 2021 | doi:10.1163/24685542-12340070‬‬


‫‪This is an open access article distributed under the terms of the CC BY 4.0Downloaded‬‬
‫‪license. from Brill.com12/26/2021 06:36:14PM‬‬
‫‪via free access‬‬
2 ‫عباس‬

In Search of a Universal Human Common


Denominator: Religion, Ethics, and
Communication in the Thought of Jürgen
Habermas and Ṭāhā ʿAbd al-Raḥmān

Hamed Ragab Abbas


Faculty of Economics and Political Science, Cairo University, Cairo, Egypt
hamed.ragab7@gmail.com

Abstract

This paper deals with the themes of religion, ethics, and communication in two differ-
ent models of thought: one of Jürgen Habermas and the other of Ṭāhā ʿAbd al-Raḥmān.
Habermas’ model stems from the context of modern Western thought, while the
model of the Moroccan thinker ʿAbd al-Raḥmān is rooted in the Islamic context. The
main research question of this article is: How do Habermas and ʿAbd al-Raḥmān give
substance to the issues of religion, ethics and communication in light of modernity
in order to reach universal values? Modernity is a central theme in the work of both
thinkers, even though they depart from different premises and use distinct methodolo-
gies in their approach. For Habermas modernity is an enlightenment legacy and an
incomplete project, and subsequently the realization of the post-secular society (that
gives religion back its position in public sphere, which transcends the instrumental
mind and the state of reification of the modern human). This is, in Habermas’ view,
a necessity to overcome the defects of modernity. ʿAbd al-Raḥmān on the other hand,
presents his Islamic model of modernity by speaking about the spirit of modernity as
a common human denominator that transcends the reality of Western modernity,
which has proven to be bankrupt in ʿAbd al-Raḥmān’s view. Therefore it is, according to
ʿAbd al-Raḥmān, an existential necessity for the Arabic and Islamic self to establish an
Islamic modernity with a spiritual dimension as an alternative to Western modernity
that is materialistically oriented, especially because modernity can take many differ-
ent shapes, and not just one.

Keywords

Modernity – religion – communication – ethics – Ṭāhā ʿAbd al-Raḥmān – Jürgen


Habermas

10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic Ethics


Downloaded 5 (2021) 1–27 06:36:14PM
from Brill.com12/26/2021
via free access
‫في البحث عن مشترك إنساني كوني‬ ‫‪3‬‬

‫تقديم‬

‫لٌ من‪ :‬طه عبد الرحمن و يورغين هابرماس على ضرورة استشكال الحداثة ومحاولة‬ ‫ربما اتفق ك ّ‬
‫تجاوز أعطابها‪ ،‬بحثًا عن أفق حداثي ير ُدّ للذات البشر ية اعتبارها و يحفظ كينونتها و يكفل لها‬
‫التواصل والعيش المشترك مع الذوات الأخرى‪ ،‬فإذا كانت الحداثة لدى هابرماس مشروعًا‬
‫وميراث ًا تنويري ًا لم يكتمل بعد من حيث التجسيد‪ ،‬وإذا كان بلوغ المجتمع ما بعد العلماني (الذي‬
‫يعيد للدين موقعه فى الفضاء العام‪ ،‬ويتجاوز العقل الأداتي وحالة التشيؤ لإنسان الحداثة)‪ ،‬يعد‬
‫ضرورة بنظر هابرماس لتجاوز أعطاب الحداثة‪ ،‬فإن عبد الرحمن في المقابل يطرح أنموذجه‬
‫الإسلامي للحداثة ليستشرف روح الحداثة كمشترك إنساني يتجاوز واقع الحداثة الغربية الذي أثبت‬
‫إفلاسه بنظر طه‪ ،‬و يحاول التأسيس لحداثة إسلامية ذات بُعد روحي كبديل للحداثة الغربية ذات‬
‫إمكانات متعددة وليست إمكان ًا واحدًا‪ ،‬ومن ث َم‬
‫ٌ‬ ‫التوجه المادي‪ ،‬ولاسيما أن الحداثة لدى طه‬
‫فحضور الذات العربية والإسلامية بخصوصيتها ضرورة وجودية في هذا الأفق الحداثي‪.‬‬
‫وقد وقع الاختيار على كل من هابرماس وعبد الرحمن تحديد ًا لاعتبارات عدة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫اشتراكهما في البحث عن المشترك الإنساني والانفتاح على الحوار والاتصال أو المناقشة والمحاججة‬
‫لبلوغ أفق حداثي من جهة‪ ،‬ولكثافة ورصانة إنتاجهما الفكري في مقاربة واستشكال ما هو‬
‫ديني وتواصلي وأخلاقي على محك الحداثة للوصول لمشترك إنساني من جهة ثانية‪ ،‬فضلًا عن‬
‫انتمائهما لنسقين فكر يين متغايرين (أحدهما غربي هابرماس‪ ،‬والآخر إسلامي عبد الرحمن)‪ ،‬وهذا‬
‫الاختلاف القائم بين رؤيتهما هو ما يُضفي التنوع والاختلاف ويتيح لنا الوقوف على جوانب‬
‫مختلفة فى مقاربتهما لتلك التساؤلات‪.‬‬
‫أما المغزى وراء مناقشة ثلاثية “الديني‪ ،‬والأخلاقي‪ ،‬والتواصلي” لدى كل من طه وهابرماس‪،‬‬
‫فتتمثل في صعوبة فصل أسئلة الدين‪ ،‬والأخلاق‪ ،‬والتواصل لدى كلا المفكرين هابرماس وعبد‬
‫الرحمن عن محاولة كل منهما لبلوغ أفق كوني والبحث عن مشترك إنساني قيمي مثالي روحي‬
‫بديل ًا لإنسان الحداثة المادي المتشيئ‪ ،‬على الرغم من الاختلاف في منطلقات وأدوات كل‬
‫منهما‪ .‬كما يصعب فصل هذه التساؤلات عن بعضها‪ ،‬بل إن الإجابات التي قدمها كلا المفكرين‬
‫لهذه التساؤلات تسري في سائر مؤلفاتهما وعطائهما الفكري‪ ،‬ومن ث َم فعملية الفصل في مقاربة‬
‫هذه الأسئلة إنما تأتي لضرورات البحث وتعميق الحفر في الإنتاج الفكري لدى كل واحد منهما‬
‫على حدة‪ ،‬على أن نستجمع شتات تلك التساؤلات بربطها بمآلات ا�لكوني والبحث عن المشترك‬
‫الإنساني كغاية – بنظرنا – راودت كلا المفكرين عند إثارة تلك التساؤلات‪.‬‬
‫وعلى هذا الأساس فإن رهان هذا البحث هو التثبت من فرضية مؤداها أن “هناك علاقة بين‬
‫مقاربة أسئلة الديني والأخلاقي والتواصلي لدى كل من هابرماس وعبد الرحمن ومحاولة بلوغ أفق‬
‫حداثي كوني قيمي‪ ”.‬وربما يفرض التثبت من افتراض كهذا الإجابة على سؤال ا�لكيفية‪ ،‬أي‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic Ethics‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27‬‬


‫‪Downloaded from Brill.com12/26/2021 06:36:14PM‬‬
‫‪via free access‬‬
‫‪4‬‬ ‫عباس‬

‫لٌ من هابرماس وعبد الرحمن أسئلة َ (الديني والأخلاقي والتواصلي) على م ِّ‬
‫حك‬ ‫كيف أشكل ك ّ‬
‫الحداثة لبلوغ أفق كوني قيمي؟ ولعل المنهج الأكثر ملائمة ً من وجهة نظرنا للتثبت من افتراض‬
‫كهذا والإجابة على التساؤل البحثي المثار هو منهج المقارنة‪ ،‬لما يوفره هذا المنهج من إمكان‬
‫الوقوف على آلية استشكال كلا المفكرين لتلك التساؤلات في سياق الحداثة‪ ،‬وأوجه الاتفاق‬
‫والاختلاف بينهما في مقاربة تلك التساؤلات‪.‬‬
‫وبناء ً على ما سبق فإن الورقة تنقسم إلى أربعة محاور وخاتمة بحيث يتناول المحور الأول‪:‬‬
‫السياق الحداثي‪ ،‬ويتناول المحور الثاني‪ :‬سؤال الدين لدى هابرماس وعبد الرحمن‪ ،‬ويتعرض المحور‬
‫الثالث‪ :‬لسؤال الأخلاق لدى هابرماس وعبد الرحمن‪ ،‬ويبحث المحور الرابع‪ :‬سؤال التواصل لدى‬
‫هابرماس وعبد الرحمن‪ ،‬وأخير ًا تأتى الخاتمة للوقوف على خلاصات بحث تلك المحاور‪.‬‬

‫السياق الحداثي‬ ‫‪1‬‬

‫ربما تُع ُ ّد الحداثةكسياق فكري وموقف معرفي واحدة ً من المشتركات والمفترقات في الوقت نفسه‬
‫ل من‪ :‬طه عبد الرحمن وهابرماس‪ ،‬فكلاهما اشترك في مقاربة الحداثة وقضاياها وق َ ّدم رؤىً‬
‫بين ك ّ ٍ‬
‫حك الحداثة سواء ً في دلالتها أو آليات‬
‫نقدية ً لتجاوز أعطابها‪� ،‬لكنهما في الوقت ذاته افترقا على م ِّ‬
‫مقاربتها أو حتى في غاية كل منهما من نقد مآلاتها‪.‬‬
‫والحداثة كمرادف للتحديث بنظر هابرماس تعب ِّر عن “تحديث الموارد وتحو يلها إلى رؤوس‬
‫أموال‪ ،‬ونمو القوى الإنتاجية‪ ،‬وز يادة إنتاجية العمل كما يشير إلى إنشاء سلطات السياسة المركز ية‬
‫وتشكيل هو يات قومية‪ ،‬ويشير أيضًا إلى نشر حقوق المشاركة السياسية‪ ،‬وأشكال العيش المدني‬
‫والتعليم العام‪ ،‬وأخيرا يشير إلى علمنة القيم والمعايير” (هابرماس ‪ ،)9 ،1995‬وهي بهذا المعنى تنهض‬
‫على قدمين‪ :‬أحدهما مادي والآخر معنوي‪ ،‬إلا أنها صارت عرجاء بتضخيم ما هو مادي على‬
‫حساب ما هو روحي ومعنوي وقيمي‪ ،‬وهي – أي الحداثة – كذلك تقتضي بنظر هابرماس فصلًا‬
‫لما هو قيمي ومعياري عما هو ميتافيز يقي‪ ،‬وهي بهذا المعنى مشروعٌ لم يكتمل بعد‪ ،‬وقد مرت‬
‫بأزمات وانتكاسات وانتهت إلى انحرافات‪ .‬وعلى الرغم من هذا النقد الذي وجهه هابرماس‬
‫للحداثة إلا أنه لم يُسَل ِ ّم‪ ،‬بعكس معاصر يه‪ ،‬بانتهاء حقبة الحداثة للانتقال إلى ما بعدها‪ ،‬وهو بذلك‬
‫يخالف عدد ًا من روّاد مدرسة فرانكفورت (رغم كونه أحد أبرز ممثليها المعاصرين) فوجه‬
‫انتقادات لاذعة لكل من‪ :‬دريدا وفوكو وليوتار وجون رولز وغيرهم في شأن تعاملهم مع فلسفة‬
‫الحداثة‪ .‬وتركزت استراتيجية هابرماس في الرد على خصومه المابعد حداثيين على نقد مصادرهم‬
‫أول ًا من ديكارت إلى كانط ومن هيجل إلى نيتشه وهيدغر‪ ،‬وثانيا في نقد تشويههم للمصادر التي‬
‫استندوا إليها في فهمهم للحداثة‪ ،‬وثالثا على النقد الذي يلاحق انتقاداتهم لمفاهيم الحداثة الأساسية‪،‬‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic‬‬ ‫‪Ethics‬‬


‫‪Downloaded‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27 06:36:14PM‬‬
‫‪from Brill.com12/26/2021‬‬
‫‪via free access‬‬
‫في البحث عن مشترك إنساني كوني‬ ‫‪5‬‬

‫والتي تمثلت في نقدهم للعقل ولطبيعة المجتمع والدولة الحديثة وكذا تسامحهم مع الميتافيز يقا‬
‫واللاعقل وهذا ما يتناقض مع مفاهيم الحداثة لدى هابرماس (هابرماس ‪1.)170 ،1995‬‬
‫وسعى هابرماس في مختلف أعماله إلى الدفاع عن الحداثة‪ ،‬من أجل إعادة بنائها وفهمها‪،‬‬
‫وإبراز مكامن قوتها وتجاوز نقاط ضعفها معتبر ًا أن الخلل إنما يكمن في فهمها وفهم ملابساتها‬
‫وإشكالياتها‪ ،‬وتمثلت باكورة الدفاع الهابرماسي عن الحداثة في مقالته التي عنونها بـ“الحداثة مشروع‬
‫غير مكتمل‪ 2”،‬ثم في كتابه “الخطاب الفلسفي للحداثة” (‪ )Habermas 1988b‬كما حاول من‬
‫خلال َ‬
‫مؤل ّفه “نظر ية الفعل التواصلي” (‪ )Habermas 1984‬تقديم وصفة علاجية لتجاوز حالة‬
‫الانسداد في عقل الحداثة الغربية‪ ،‬بقبول التعددية الثقافية والعرقية والدينية‪ ،‬عبر تعزيز الحر يات‬
‫العامة والفردية في إطار احترام الخصوصية الثقافية لسائر الأقليات‪.‬‬
‫وفي مقابل مقاربة هابرماس للحداثة على النحو السابق تأتي مقاربة طه عبد الرحمن‪ ،‬والتي ربما‬
‫يبدو للناظر أنها تغاير ما طرحه هابرماس كليًا (في شأن الحداثة)‪ ،‬فالحداثة بنظر طه إمكانات‬
‫متعددة وليست إمكان ًا واحدًا‪ ،‬والواقع الحداثي الغربي ذاته شاهد على هذا التعدد سواء ً على‬
‫مستوى الأقطار (فثمة‪ :‬حداثة فرنسية‪ ،‬وأخرى أمريكية‪ ،‬وثالثة ألمانية …)‪ ،‬أو على مستوى‬
‫المجالات (حداثة سياسية‪ ،‬وحداثة اقتصادية‪ ،‬وحداثة اجتماعية)‪ ،‬بل قد تتفاوت درجات‬
‫الحداثة داخل القطر الواحد‪ ،‬وعليه يرى طه إمكان بل ضرورة وجود حداثة عربية إسلامية‬
‫متمايزة عما سواها‪ .‬وإذا كان هابرماس قد عمد إلى نقد روّاد ما بعد الحداثة واعتبر الحداثة‬
‫مشروعًا لم يكتمل بعد‪ ،‬فإن عبد الرحمن قد عمد إلى نقد الحداثيين العرب الذين “يؤ ّوِلون إذا‬
‫ككون إذا فككوا … سواء أصاب في ذلك أم أخطأ”‬ ‫أ َ ّول غيرهم و يحفرون إذا حفروا‪ ،‬و يف َ ّ‬
‫(عبد الرحمن ‪ )12 ،1999‬منتقدًا بذلك حالة الخضوع لهيمنة الفكر الواحد والارتهان لسطوة الأمر‬
‫الواقع‪ ،‬وهذا ما أ َدّى بهم إلى تقليد الحداثة الغربية تقليدًا أض َر ّ بإنسانيتهم وهويتهم الحضار ية‪،‬‬
‫وجعلهم يفكرون على مقاسات غيرهم‪ ،‬و يضعون الحواشي على أفكار انتزعت من سياقات لا تمت‬
‫لواقعهم بصلة‪ .‬وقد شرع طه في تقديم البديل الحداثي العربي الإسلامي بولوج التراث للوقوف‬

‫‪ 1‬فكرة الحداثة في حقيقتها لدى هابرماس تشير إلى كل لحظة تار يخية تغيير ية عاشتها البشر ية‪ ،‬وربما يتفق‬
‫فهم هابرماس للحداثة على هذا المنوال مع تصور عبد الرحمن بشأن اعتبار الحداثة ليست قاصرة على‬
‫الغرب‪ ،‬ومن ث َم إمكان تعدد الحداثات‪ ،‬يقول هابرماس “إن فكرة (الحديث) ليست بالفكرة حديثة‬
‫العهد‪ ،‬فقد استخدمت في وضعيات تار يخية متعددة لتفصل بين ادعاءات حقبة ما عن نفسها وبين‬
‫ادعاءات الحقبة التي سبقتها” (يُنظر‪ :‬هاو ‪.)226 ،2005‬‬
‫‪ 2‬مقالة لهابرماس في ‪ 1980‬بعنوان “‪ ”،Modernity: An Unfinished Project‬وقد أعيد طبعه في ‪1997‬‬
‫بواسطة ‪ Seyla Benhabib‬و‪.Maurizio Passerin d’Entrèves‬‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic Ethics‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27‬‬


‫‪Downloaded from Brill.com12/26/2021 06:36:14PM‬‬
‫‪via free access‬‬
‫‪6‬‬ ‫عباس‬

‫على ملامح هذا البديل وأسسه‪ ،‬وقد سبق هذا التأسيس عملية ُ هد ٍم للأسس والمبادئ التي انبنت‬
‫عليها الحداثة الغربية في سؤال الأخلاق أعقبه بناء للبديل الإسلامي في عدد من مؤلفاته على‬
‫رأسها روح الحداثة الذي وضع فيه أسس الحداثة الإسلامية المأمولة وفق ثلاثية‪ :‬مبدأ الرشد‪،‬‬
‫ومبدأ النقد‪ ،‬ومبدأ الشمول‪ .‬وهذه الروح الحداثية امتداد لما طرحه طه في عدد من مؤلفاته مثل‪:‬‬
‫تجديد المنهج في تقويم التراث‪ ،‬والمنطق والنحو الصوري‪ ،‬وفي أصول الحوار وتجديد علم الكلام‪،‬‬
‫والفلسفة والترجمة‪ ،‬واللسان والميزان‪ ،‬كما سرت تلك الروح الحداثية كذلك في مؤلفات الحق‬
‫الإسلامي في الاختلاف الفكري‪ ،‬وسؤال العمل وروح الدين‪ ،‬بحيث يمكن اختزال هذا الإنتاج‬

‫س للبديل الحداثي الإسلامي‪ ،‬بناء ً‬


‫النظري لطه في معالجة جدلية الحداثة مع التراث ووضع أس ٍ‬
‫على نظرة إسلامية أخلاقية‪ .‬بحيث جاء اشتغال طه وتفاعله مع الحداثة ليستوعب روحها ويتجاوز‬
‫واقعها الغربي الذي اعتبره طه واقع ًا مأزوم ًا من الناحية الأخلاقية‪ ،‬ومن ث َم عمل على التعاطي‬
‫معها بتحليلها وتتبع مساراتها والوقوف عند آثارها ونتائجها ونقدها وبيان محدوديتها وقصور آلياتها‬
‫ومضاعفاتها اللاأخلاقية �لكن – و بحسب ما سيتضح لاحق ًا في حيثيات هذه الورقة البحثية –‬
‫ل فكر الحداثة أحد َ المحددات التي َأطّ رت المشروع الفكري لطه عبد الرحمن‪.‬‬
‫في كل الأحوال ظ َ ّ‬
‫وعلى خلاف تصور هابرماس لصيرورة الحداثة والتي يجعلها نظري ًا أقرب إلى فكرة النموذج‬
‫المعرفي أو “البارادايم” لدى توماس كون (�لكونها تعبر عن وضعيات تار يخية متعددة وتفصل بين‬
‫ادعاءات حقبة ما عن نفسها وبين ادعاءات الحقبة التي سبقتها)‪ ،‬و يقرنها واقعيًا بعصر التنوير‪،‬‬
‫ويرى أنها انطلقت مع كانط ثم ترسخت مع هيجل ثم ماركس ومن بعده نيتشه (جمال ‪،2017‬‬
‫‪ .)106‬نجد روح الحداثة لدى طه عبد الرحمن مشترك ًا إنسانيًا ساهمت فيها شعوب سبقت أوروبا‬
‫إلى الفعل الحضاري والتمدن الحداثي بما تم�لكه من رصيد من القيم والمبادئ القادرة على النهوض‬
‫بالوجود الحضاري للإنسان في أي زمان ومكان‪ .‬وذلك بخلاف واقع الحداثة الغربية الذي‬
‫يمثل تحقق هذه القيم والمبادئ في مكان مخصوص وزمان مخصوص‪ ،‬وفي هذا يقول‪“ :‬ليست‬
‫روح الحداثة‪ ،‬كما غلب على الأذهان‪ ،‬من صنع المجتمع الغربي الخاص‪ ،‬حتى كأنه أنشأها من‬
‫عدم‪ ،‬وإنما هي من صنع المجتمع الإنساني في مختلف أطواره إذ أ َ ّ‬
‫ن أسبابها تمتد بعيدًا في التاريخ‬
‫الإنساني الطو يل؛ ث َم لا يبعد أن تكون مبادئ هذه الروح أو بعضها قد تحققت في مجتمعات‬
‫ماضية بوجوه تختلف عن وجوه تحققها في المجتمع الغربي الحاضر؛ كما لا يبعد أن يبقى في م ُكنتها‬
‫أن تتحقق بوجوه أخرى في مجتمعات أخرى تلوح في آفاق مستقبل الإنسانية” (عبد الرحمن‬
‫‪.)31–30 ،2006‬‬
‫وإذا كانت مقاربة هابرماس للحداثة تجعل من الحداثة والعقلانية والأنوار متلازمات‪،‬‬
‫فالحداثة هي العقلانية والعقلانية هي الأنوار لدى هابرماس‪ ،‬وإذا كان هابرماس قد تأثر في‬
‫صوغه للعقلانية كأساس للحداثة بكانط‪ ،‬إلا أنه حرص على إحالتها إلى عقلانية تواصلية أو‬
‫عقلانية إجرائية (‪ )rationalité procédurale‬تغرف من الواقع المعاش‪ ،‬وانتقدها في نفس‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic‬‬ ‫‪Ethics‬‬


‫‪Downloaded‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27 06:36:14PM‬‬
‫‪from Brill.com12/26/2021‬‬
‫‪via free access‬‬
‫في البحث عن مشترك إنساني كوني‬ ‫‪7‬‬

‫الوقت في شكلها الدوغمائي (حرب ‪ .)26 ،1995‬في مقابل موقف هابرماس على هذا النحو من‬
‫الحداثة والعقلانية‪ ،‬فإنه يمكن اختصار موقف عبد الرحمن من الحداثة بأنه موقف من العقل‬
‫والعقلانية الغربية وكذلك العقلانية العربية المقلِّدة‪ .‬وعلى هذا الأساس وضع طه ثلاثيته التراتبية‬
‫من العقلانية‪ ،‬والتي تحرك بها تفاضليًا أو تراتبيًا بدءًا من العقلانية الم َجر ّدة وبيان قصورها وضيق‬
‫حدودها‪ ،‬إلى العقلانية المس َ ّدد َة وبيان نفع مقاصدها‪ ،‬وصولا إلى العقلانية َ‬
‫المؤي ّدة وبيان نجاعة‬
‫وسائلها‪ ،‬وعلى هذا الأساس التراتبي تقع العقلانية الغربية (الم َجر ّدة) في أدنى سلم العقلانية بنظر‬
‫طه‪ ،‬ومن ث َم ينبغي تجاوزها وتجاوز مزالقها لصالح عقلانية أخرى يقترحها طه تُعر َف بالعقلانية‬
‫المؤي ّدة وهي عقلانية تجمع بين نفع المقاصد ونجاعة الوسائل‪ ،‬ولا يتأتى لصاحب هذه العقلانية‬‫َ‬
‫ذلك إلا بدوام الاشتغال بال� ل�ه والتغلغل فيه‪ ،‬وهي من ث َم تنتهي إلى عقلانية عرفانية صوفية‬
‫تزكو ية تصل النظر بالعمل أو تماهي بينهما‪( .‬عبد الرحمن ‪.)76 ،2000‬‬
‫�لكن هذا الاستنكار من طه لواقع الحداثة الغربية وأساسها المعرفي لا يعنى الانصراف عن‬
‫الاستمداد منها ومن معينها الفكري‪ ،‬سواء ً على المستوى المنهاجي أو الأداتي أو المفاهيمي‪ ،‬فالحضور‬
‫الحداثي في طروحات طه يظل جليًا و يكفي أن ننظر – على سبيل المثال – إلى فهرست كتابه‬
‫ظ ِرين الغربيين‪،‬‬ ‫فقه الفلسفة وإلى متنه لندرك ندرة أسماء المن ّ‬
‫ظ ِرين العرب في مقابل أسماء المن ّ‬
‫وفق تصنيف طه‪ ،‬و بخاصة في الفصل الثاني حيث ناقش نظر يات الترجمة لدى فالتر بنيامين‬
‫ظ ِر عربي‪،‬‬
‫وهيدغر وغادامير ودريدا وأندر يو بنجامين وأنطوان برمان ولا نجد اسمًا واحدًا لمن ّ‬
‫بل إن عبد الرحمن في نقاشه هذا للنظر يات الأجنبية لا يكاد يخرج في تلخيص محتواها عن‬
‫المعتاد في الترجمات التحصيلية والتوصيلية بالمرة؛ فهو في تلخيصه لنظر يات هيدغر وغادامير‬
‫ودريدا يستخدم نفس الألفاظ المعتادة‪ ،‬مثل‪ :‬الترجمة التحر يفية والترجمة التحقيقية‪ ،‬والتأو يل‪،‬‬
‫والتجربة‪ ،‬والحقيقة‪ ،‬والتراث‪ ،‬والجدل‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬واللعب‪ ،‬والاختلاف‪ ،‬والتأجيل‪ ،‬والحضور‪،‬‬
‫والآثار (عبد الرحمن ‪.)136–103 ،1996‬‬
‫وبناء ً على منجزات الثورة اللغو ية والمنطقية في اللسانيات الغربية الحديثة حاول طه عبد‬
‫الرحمن رد الاعتبار لعلوم المنطق في اللسان والميزان أو التكوثر العقلي ففي الباب الثاني منه‬
‫تعرض عبد الرحمن للمبادئ التي تضبط العملية التخاطبية (كمبدأ التعاون الذي صاغه جريس‪،‬‬
‫ومبدأ التأدب الذي صاغه روبين لاكوف‪ ،‬ومبدأ التوجه الذي وضعه بنلوب براون …) تحليلًا‬
‫ونقدًا واستيعاب ًا‪ ،‬ومن ث َم قدم بديل ًا من التراث الإسلامي (والذي تمثل في مبدأ الصدق)‬
‫فاطلاع طه عبد الرحمن على قضايا التراث واطلاعه على البحث اللساني الحداثي الغربي في‬
‫ن م َ ّكناه من طرح بديله في العملية التخاطبية بعد أن كشف عن آلياتها وقواعدها ومقاصدها‬
‫آ ٍ‬
‫مستلهم ًا ذلك كله من نظر يات الغربيين �لكنه استلهام تأصيلي بحيث ينتهي إلى إبراز الخصوصية‬
‫ل من أصول التراث أو يجعل المنقول مأصول ًا (كاده ‪.)190–188 ،2014‬‬
‫و يصل المنقول بأص ٍ‬
‫وعليه‪ ،‬فإن المنطق الذي يكمن خلف الحضور الحداثي في طرح عبد الرحمن هو منطق التجاوز‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic Ethics‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27‬‬


‫‪Downloaded from Brill.com12/26/2021 06:36:14PM‬‬
‫‪via free access‬‬
‫‪8‬‬ ‫عباس‬

‫ومحاولة طرح البديل الذي ينطلق من الخصوصية العربية الإسلامية بعيدًا عن طروحات من‬
‫أسماهم بالمقلِّدة من الحداثيين العرب‪3.‬‬
‫والحاصل أن كلا المقاربتين (مقاربة هابرماس‪ ،‬ومقاربة طه) للحداثة على الرغم من تباينهما‬
‫في كنه الحداثة ودلالتها وصيرورتها ومقاربتها بروح نقدية‪ ،‬إلا أنهما في ذات الوقت اتفقتا على‬
‫كونها – أي الحداثة – لا تزال قائمة ً بروحها المتمردة (كما لدى طه)‪ ،‬أو بمعطياتها الفكر ية‬
‫حيْد َ عنها (كما لدى هابرماس)‪ .‬والحداثة كذلك لديهما سياق معرفي أثار أسئلة الديني‪،‬‬
‫والتي ِ‬
‫والأخلاقي‪ ،‬والتواصلي كما الإنساني‪ .‬وهو ما يمكن الوقوف عليه تباعًا في النقاط التالية‪.‬‬

‫سؤال الديني بين هابرماس وطه عبد الرحمن‬ ‫‪2‬‬

‫تتعدد وتتنوع آليات مقاربة سؤال الدين في مختلف السياقات الفكر ية بحسب زوايا النظر له‪ ،‬فإذا‬
‫كانت مقاربة سؤال الدين في السياق الإسلامي شهدت حالة من التنوع بتنوع وتعدد مذاهبه‬
‫ومشاربه الفكر ية والفلسفية‪ ،‬فإن تلك المقاربات في السياق الإسلامي تغاير مقاربته في السياق‬
‫الحداثي الغربي حيث تتنوع سرديات استشكال الدين والديني في سياق الحداثة ربما لسيولتها‬
‫وتعدديتها والنسبية المطلقة التي لازمت مقارباتها‪ ،‬فما يقدمه السوسيولوجي لمقاربة سؤال الدين‬
‫يغاير ما يقدمه الأنثربولوجي‪ ،‬سواء على مستوى المفاهيم النظر ية أو الطرائق المنهاجية في دراسة‬
‫المعتقدات الدينية والممارسات المرتبطة بها بل إن مقاربة الديني واستشكاله تختلف وتتباين بين‬
‫ل كل من هابرماس وطه عبد‬
‫الأنثربولوجيين أنفسهم وكذا بين السوسيولوجيين‪ .‬فكيف أَ شك َ َ‬
‫ل الدين؟ وما هي أمداء تأثره بسياق الحداثة‪ ،‬وأمداء تأثيره في الأخلاقي والتواصلي‬
‫الرحمن سؤا َ‬
‫وا�لكوني لدى هابرماس وطه؟‬
‫على الرغم من أن هابرماس كانت لديه عقدة مع فلسفة “المابعديات” (ما بعد الحداثة‪،‬‬
‫ما بعد الفلسفة ما بعد الفن) إلا أن هابرماس عاد ليتبنى خطاب “المابعد” في إثارته لسؤال‬
‫الدين‪ ،‬فالمجتمع ما بعد العلماني بنظر هابرماس هو ذلك المجتمع الذي يتصالح مع الدين‪� ،‬لكن‬
‫ذلك التصالح يأتي بعد عقلنة الدين أو بالأحرى استنطاق عقلانيات الدين ومضامينه الإنسانية‬
‫التي يمكن أن تحد من الظواهر العنفي ّة والامتداد الأصولي‪ ،‬بحيث يقبل الدين و يغير بنيوي ًا في‬

‫‪ 3‬قدم طه عبد الرحمن بديله الحداثوي في مؤلفه روح الحداثة‪ ،‬وحاول من خلال هذا َ‬
‫المؤل ّف تجاوز‬
‫واقع الحداثة الغربية أو التطبيق الغربي للحداثة إلى روحها التي تقترن بالإبداع بعيدًا عن التقليد‪ ،‬ومن‬
‫ث َم حاول طه الانطلاق من مسلمات المجال التداولي الإسلامي لتقديم بديل حداثي إسلامي‪ ،‬وقد بنى‬
‫هذا البديل على ثلاثة مبادئ“ ‪:‬مبدأ الرشد ”الذي يتكون من ركنيين هما ‪:‬الاستقلال والإبداع‪ ،‬و“مبدأ‬
‫النقد” والذي يتكون هو أيضًا من ركنين هما ‪:‬التعقيل والتفضيل‪ ،‬وأخيرا ً “مبدأ الشمول” الذي يتكون‬
‫هو الآخر من ركنيين هما ‪:‬التوسع والتعميم (عبد الرحمن ‪.)68–23 ،2006‬‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic‬‬ ‫‪Ethics‬‬


‫‪Downloaded‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27 06:36:14PM‬‬
‫‪from Brill.com12/26/2021‬‬
‫‪via free access‬‬
‫في البحث عن مشترك إنساني كوني‬ ‫‪9‬‬

‫آلية تعاملَه ليتقبل الخارج عن نصه (هابرماس ‪ .)127 ،2006‬فما هو موقع الدين في المشروع‬
‫الهابرماسي؟ وهل ظل هذا الموقع ثابتًا أم لحقته تغييرات؟ هل تخلى هابرماس عن الحداثة لصالح‬
‫الدين أم ثمة رؤ ية هابرماسية خاصة تدمج بينهما؟ وما علاقة سؤال الديني بالأخلاقي والتواصلي‬
‫والإنساني في الطرح الهابرماسي؟‬
‫اتسم موقع الدين في المقاربة الهابرماسية بنوع من الديناميكية‪ ،‬وقد عبر عن هذه الديناميكية‬
‫فيليب بورتييه من خلال تمييزه بين ثلاث مراحل للديني في فكر هابرماس‪ :‬بحيث تمتد المرحلة‬
‫الأولى من نتاجات هابرماس المبكرة إلى حدود الثمانينات‪ ،‬والتي تميزت بنقده لعالم الإيمان‪،‬‬
‫حيث ظل ينظر إلى الدين كنوع من الاستلاب‪ ،‬وهو الموقف الذي تأثر فيه بالفلسفة الماركسية‬
‫كما أ َ ّولها وحافظ عليها منظرو مدرسة فرانكفورت النقدي ّة‪ ،‬أي كأداة توظف في المجال السياسي‬
‫لخدمة أهداف أيديولوجية‪ .‬بينما تمتد المرحلة الثانية‪ ،‬من ‪ 1985‬إلى حدود سنة ‪،2000‬‬
‫حين رأى هابرماس أن الدين ضرورة وجودية‪ ،‬كما أقر بذلك في “الفكر الما بعد ميتافيز يقي”‬
‫(‪ ،)1988c‬إذ بات بنظره آنئ ٍذ أنه لا يمكن الاستغناء عن الدين في الحياة العادية‪ .‬ومثلت هذه‬
‫المرحلة بداية َ مراجعة ٍ لموقف هابرماس من الدين بعد انفتاحه على المنعطف اللغوي الجديد‬
‫الذي دشنته الفلسفة اللغو ية‪ ،‬والاعتراف بالوظيفة المحور ية للغة في إنتاج الخطاب وتداوله‪.‬‬
‫أما المرحلة الثالثة‪ ،‬فتبدأ مع الألفية الثالثة‪ ،‬حيث َ‬
‫مؤل ّفه (مستقبل الطبيعة البشر ية‪ :‬نحو نسالة‬
‫ليبرالية)‪ ،‬وفي هذه المرحلة لم يعد الدين في نظر هابرماس شأن ًا خاصًا ينحصر في الفضاء الخاص‬
‫بالفرد‪ ،‬وإنما أصبح شأن ًا عموميًا‪ .‬وخلال هذه المرحلة سعى هابرماس إلى صوغ ومأسسة المجتمع‬
‫ما بعد العلماني‪ ،‬حيث يأخذ الدين مكانته الطبيعية في الفضاء السياسي العمومي‪ .‬وت َو ّج هذه‬
‫المرحلة بكتابه بين النزعة الطبيعية والدين‪ ،‬حيث خصص فصلًا كامل ًا للدين في الفضاء العمومي‬
‫(رشيد ‪.)56–55 ،2014‬‬
‫حك‬ ‫ربما َ‬
‫مث ّلت المرحلة الأخيرة قمة َ النضج الهابرماسي في مقاربة سؤال الدين باستشكاله على م ِّ‬
‫الحداثة بمناوأته للخطاب الحداثي الذي يقولب الدين ضمن البعد الروحي للحياة فحسب‪ ،‬ويبعده‬
‫عن الإدارة السياسية للوسط العمومي‪ ،‬فالتسامح أساس الثقافة الديمقراطية بنظر هابرماس‪ ،‬ومن‬
‫ث َم لا ينبغي فقط أن يتسامح المؤمنون إزاء اعتقادات الآخرين‪ ،‬بل من واجب العلمانيين غير‬
‫المتدينين أن يثمِّنوا قناعات مواطنيهم الذين يحركهم داف ٌع دينيٌ‪ ،‬وهذا التسامح والقبول بالتعددية‬
‫الثقافية داخل مجتمعات ما بعد العلمانية بنظر هابرماس كفيل بكبح جماح العنف المتنامي من‬
‫قبل الأصوليات الدينية في العالم المعاصر‪ ،‬وهو ما يفرض إذابة الفوارق بين الفر يقين أو إلغاء‬
‫الحدود بتعبير هابرماس‪ ،‬يقول‪“ :‬الحدود بين حجج علمانية وحجج دينية هي بكل الأحوال حدود‬
‫غير قابلة للاستمرار‪ ،‬ولذلك فإن إقامة حدود لا يمكن الاعتماد عليها‪ ،‬وهي مهمة يجب فهمها بمثابة‬
‫لٌ منهما منظور َ الفر يق الآخر” (هابرماس‬
‫عمل تعاوني يفرض على الفر يقين القائمين أن يتقبل ك ّ‬
‫‪.)132 ،2006‬‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic Ethics‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27‬‬


‫‪Downloaded from Brill.com12/26/2021 06:36:14PM‬‬
‫‪via free access‬‬
‫‪10‬‬ ‫عباس‬

‫الدين كذلك وفق المقاربة الهابرماسية وطيد الصلة بالأخلاق‪ ،‬فقيم العدالة والمساوة‪ ،‬وغيرها‬
‫من القيم التي مثلت لاحق ًا فلسفة حقوق الإنسان‪ ،‬تجد جذورها بنظر هابرماس في المرجعيات‬
‫الدينية وا�لكتب المقدسة‪ ،‬فهي امتداد واستثمار للإرث الديني ممثل ًا في الأخلاق اليهودية‬
‫الخاصة بالعدل‪ ،‬والأخلاق المسيحية الخاصة بالمحبة‪ .‬وما تتركه الأديان العالمية بنظر هابرماس‬
‫هو نظم أخلاقي ّة شاملة (‪ .)Habermas 1974, 91–94‬الديني كذلك في فلسفة هابرماس‬
‫يرتبط بالتواصلي‪ ،‬ففي ظل العودة القو ية للديني داخل الفضاء العمومي‪ ،‬فإن أية مصالحة مرتقبة‬
‫تظل رهينة ً للاعتراف بالآخر والتواصل معه‪ ،‬ولا يحقّ للعلماني ّين بنظر هابرماس إنكار حقّ‬
‫المتديّنين في الإسهام في المناقشات العامّة بلغتهم الديني ّة وأداء حقوقهم في المواطنة بهذه الطر يقة‬
‫(‪ ،)Habermas 2008, 113‬وربما يمكن تجلية هذه العلائق (أي علاقة الديني بالأخلاقي‬
‫والتواصلي) في نقاط متقدمة في هذه الورقة‪.‬‬
‫�لكن الأهم بنظرنا في هذا المضمار التوكيد على أن الدين في رؤ ية هابرماس مجرد أنموذج‬
‫لفهم الميتافيز يقي‪ ،‬وليس الفهم الأوحد ولا النهائي للميتافيز يقي‪ ،‬فهابرماس لم يتحلل من العلمنة‬
‫ليتبنى الديني‪ ،‬فالتصور الهابرماسي كما يرفض تغييب الديني عن المجال العام يرفض كذلك فكرة‬
‫َ‬
‫الأحقّ والأوحد َ‪ ،‬و يعطى كذلك معنى أوحد للحياة ويمسك‬ ‫الدين الأوحد الذي يجعل شرعته‬
‫بيده زمام المعايير والحساب على ما ينتج عن خرقها‪ .‬فالقبول بالدين في التصور الهابرماسي يظل‬
‫رهينًا بوظائفية الدين (أي بالدور الوظائفي الذي يؤديه الدين في المجال العام)‪ ،‬والذي يختصره‬
‫هابرماس – بحسب كلام الوائلي – في أمرين‪ ،‬أولهما‪ :‬أن الدين يوفر للبشر العزاء والسلوان إزاء‬
‫حط من قيمة‬‫مظالم القدر القاسية‪ ،‬وكثير ًا ما علمهم أن يرضوا بقسمتهم وأن يبقوا سلبيين‪ ،‬إذ ي ُ ّ‬
‫النجاح الدنيوي و يغري المؤمنين بوعد البركة الأبدية في الآخرة‪ ،‬لاسيما مع خيبة الأمل تجاه عدم‬
‫وفاء الحداثة الليبرالية بوعودها‪ .‬أما الأمر الآخر‪ :‬فيتمثل فيما يمكن للدين أن يواجهه من نزعة ٍ‬
‫استهلاكية ٍ وأداتية ٍ تهيمن على سلوك المجتمعات العلمانية من خلال إشاعته قيم ًا بديلة ً مثل (قيم‬
‫المحبة‪ ،‬والتضامن‪ ،‬والتقوى …)‪ ،‬بحيث تقف قبالة قيم التنافس وا�لكسب والتلاعب…‪ ،‬فتشجع‬
‫البشر على التعامل مع بعضهم البعض بوصفهم غايات وليس مجرد وسائل (الوائلي ‪.)18 ،2015‬‬
‫وعليه فنظرة هابرماس إلى الدين في حقيقتها هي نظرة ٌ اختزالي ّة (‪ )reductionist‬لا تختلف‬
‫كثير ًا عن روئ َ غيره من المعاصرين له أو المتقدّمين عليه قليل ًا من أمثال‪ :‬كانط‪ ،‬وفرويد‪،‬‬
‫ودوركهايم‪ ،‬وكارل ماركس‪ ،‬وجيمز جورج فريزر‪ .‬والسمة المشتركة بين هذه النظر ي ّات والآراء‬
‫وتغض الطرف بل تلغي جوهر‬
‫ّ‬ ‫الاختزالية أنّها تأخذ في الاعتبار الأبعاد الاجتماعي ّة من الدين‪،‬‬
‫الدين في ح ّد ذاته وكونه وحيًا منزّل ًا‪ ،‬وربما تقرنه بالأسطورة والخرافة والتوهمات‪ .‬إلا إن الموقف‬
‫الهابرماسي من الدين يظل الأقل راديكالية والأكثر برجماتية في التعامل مع الدين‪ ،‬فالإنسان‬
‫ل مشكلاته الحياتية بعيدًا عن الدين والمفاهيم الميتافيز يقي ّة‪:‬‬
‫المعاصر بنظر هابرماس لا يمكنه ح ّ‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic‬‬ ‫‪Ethics‬‬


‫‪Downloaded‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27 06:36:14PM‬‬
‫‪from Brill.com12/26/2021‬‬
‫‪via free access‬‬
‫في البحث عن مشترك إنساني كوني‬ ‫‪11‬‬

‫ن هذا العقل الحديث سوف يتعل ّم فقط عندما يستطيع توضيح علاقته بالوعي الدين ّي المعاصر”‬
‫“إ ّ‬
‫(‪.)Habermas 2010, 17‬‬
‫على الجانب الآخر تأتي المقاربة الطاهائية للدين انطلاقًا من رؤيته الائتمانية وفلسفته التكاملية‬
‫التي اشتغلت على رأب كل فصل أقامته الرؤ ية الحداثية ووصل كل قطع أحدثته الرؤ ية العلمانية‪.‬‬
‫فعمدت الرؤ ية الطاهائية إلى الوصل بين الروح والجسد في الكيان الإنساني‪ ،‬والوصل بين الغيب‬
‫والشهادة في الوجود ا�لكوني والإنساني‪ ،‬والوصل كذلك بين الوجود المرئي للإنسان ووجوده غير‬
‫المرئي‪/‬الغيبي‪ ،‬للتحرك في وجود أرحب مما َ‬
‫ضي ّقته الرؤ ية العلمانية المتطرفة بعد أن نست الوجود‬
‫َ‬
‫وضي ّقته‪ .‬فالإنسان بنظر طه يوجد في العالم‬ ‫غير المرئي للإنسان وأطلق أربابها مقولات اختزلته‬
‫غير المرئي (الغيبي) بروحه كما يوجد بجسده في العالم المرئي أو عالم الشهادة ولا يزال يرتحل من‬
‫أحدهما إلى الآخر موسع ًا وجوده ومستدعيًا ذاكرته الأصلية التي فُط ِر َ عليها‪ ،‬والتي تحمل أصل‬
‫الدين ومعاني الألوهية والوحدانية (عبد الرحمن ‪.)26–25 ،2012‬‬
‫وعلى خلاف المقاربة الوظائفية التي قدمها هابرماس للدين تأتي المقاربة العقدية والروحية‬
‫ق في رؤ ية‬
‫ج روحي وأخلاقي أو أف ٌ‬ ‫الأخلاقية في الوقت نفسه لدى طه‪ ،‬فالدين بنظر طه إنما هو نه ٌ‬
‫العالم وتدبيره‪ ،‬يتحقق باشتغال الإنسان بتن ُز ّله من عالم الغيب على عالم الشهادة أو العالم المرئي‪ ،‬وهو‬
‫ما يعني التشهيد أو التديّن‪ ،‬وهو لدى طه حقيقة فطر ية مركوزة في الإنسان‪ .‬إذ إنه كائن حي ذو‬
‫طبيعة مزدوجة ومتعدية لا قاصرة‪ ،‬بحيث يحيا في عالم المرئيات و يوجد فيه ببدنه وروحه‪ ،‬و يحيا‬
‫كذلك في عالم الغيبيات ويتواجد فيه بروحه‪ ،‬ومن ث َم يجد هذا الإنسان نفسه موصول ًا بالغيبي‬
‫ل يأتيه (عبد الرحمن ‪.)41–39 ،2012‬‬
‫ك وفع ٍ‬
‫ل سلو ٍ‬
‫صلت َه بالمرئي في ك ّ ِ‬
‫ومقاربة طه لسؤال الدين والتدين تنهض على ما أسماه بـ“مبدأ الفطرة‪ ”،‬ومقتضى هذا المبدأ‬
‫أن “قدرة الإنسان على التشهيد – تحقيق التدين – تأتى من كونه خ ُلِق‪ ،‬أ َ ّول ما خ ُلِق‪ ،‬على‬
‫هيئة تحفظ سابق صلاته بعالم الغيب‪ ،‬بحيث تَحم ِل روحه قوة خاصة أشبه بذاكرة سابقة على‬
‫ذاكرته التي يم�لكها في العالم المرئي‪ ،‬وهذه القوة الروحية التي تحفظ ذكر يات عالم الغيب – أو‬
‫قل هذه الذاكرة الغيبية أو الأصلية – اختصت في الإسلام بمصطلح الفطرة” (عبد الرحمن‬
‫‪.)52–51 ،2012‬‬
‫فالدين وفق ًا لهذه المقاربة إنما هو استجابة لاشعور ية لذاكرة أصلية تحمل في روح الإنسان‬
‫ذكر يات عن حقائق غيبية يسعي دوم ًا لتبين وجوه حضورها في عالم الشهادة‪ .‬ولهذا لا يمكن‬
‫للدين – وفق ًا لمقاربة طه – أن يكون أمرًا طارئًا يعرض للإنسان متى توافرت الإرادة وتهيأت‬
‫الأسباب شأن العادة المكتسبة‪ ،‬بل لابد أن يكون حقيقة ملازمة له لا يقدر على الانفكاك‬
‫عنها‪ ،‬فكما لا يُتَصَور وجود الإنسان بلا ذاكرة أصلية أو بلا فطرة فكذلك لا يُتَصَور وجوده بلا‬
‫دين أو بلا تشهيد‪ ،‬ومن ث َم يأتي التدين وفق ًا لمقاربة طه كسلوك فطري غير كسبي‪ ،‬فسلوكيات‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic Ethics‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27‬‬


‫‪Downloaded from Brill.com12/26/2021 06:36:14PM‬‬
‫‪via free access‬‬
‫‪12‬‬ ‫عباس‬

‫الإنسان وتصرفاته إنما تصدر عن ذاكرته الأصلية أو الغيبية وإن تباينت في تحقيق التشهيد تبع ًا‬
‫لتباين أنماط التدين (عبد الرحمن ‪.)53–51 ،2012‬‬
‫ولما كان الإنسان المعاصر – بنظر طه – قد ابتعد عن ذلك الميثاق الذى شهده قبل الخلق‬
‫وعن الفطرة “فطرة الدين‪ ”،‬فإنه أصبح بلا قلب حي ومن كان بلا قلب حي كان معدود ًا من‬
‫الأموات‪ ،‬فالإنسان المعاصر الذى ليس له نور ٌ من الدين عبارة ٌ عن إنسان ميت (عبد الرحمن‬
‫‪ ،)14 ،2017‬وحياة هذا الإنسان بنظر طه تكون باستبدال الحالة العقدية التي بنيت على التعاقد‬
‫الاجتماعي في الرؤ ية الغربية لإخراج الإنسان من “حالة الطبيعة” إلى الحالة المدنية‪ ،‬بصرف‬
‫ظ ِري العقد الاجتماعي لـ“حالة الطبيعة‪ ”،‬فبعضهم رأى أنها حالة صراع‬
‫النظر عن تباين تحديد من ّ‬
‫الجميع ضد الجميع ومن ث َم جاء التعاقد لنقل الإنسان من تلك الحالة إلى حالة الأمن والسلام‪،‬‬
‫ق طبيعية ٍ َ‬
‫معر ّضة‬ ‫والبعض الآخر رأى أن تلك الحالة – أي حالة الطبيعة – كانت حالة حقو ٍ‬
‫للهضم والانتهاك‪ ،‬ومن ث َم يكون التعاقد قد أخرج الإنسان إلى الحالة التي يظفر فيها بضمانات‬
‫لتلك الحقوق‪ ،‬فيما رأى آخرون أن التعاقد جاء لتوكيد حالة الحياد القيمي للإنسان فلا هو‬
‫ب�خي ِّر ولا بشرير‪ ،‬فيكون هذا التعاقد قد نقله إلى الحالة التي يكتسب فيها القيم المدنية‪ .‬كل هذه‬
‫النظر يات والتفسيرات التي قررها منظرو العقد الاجتماعي‪ ،‬والتي خرجت من أفق يقصر‬
‫الوجود الإنساني على العالم المادي لا يمكن قبولها في نظر عبد الرحمن الائتماني الذى ينبني على‬
‫ازدواجية الوجود الإنساني‪ ،‬بمعنى أن الإنسان يوجد في “عالم الملك” بجسده‪ ،‬وكذا يوجد في‬
‫“عالم الم�لكوت” بروحه‪ ،‬ومن ث َم فإن حياة الإنسان أو إحياءه من وجهة نظر طه مرهون بتجاوز‬
‫“النظر ية الع َقدية” إلى ما يسميه طه بـ“النظر ية الميثاقية” والتي ترى بأن ثم َة مواثقة حصلت في عالم‬
‫الم�لكوت بين الإنسان وخالقه وليس بين الإنسان والإنسان كما هو في “النظر ية العقدية” ومن ث َم‬
‫فهي مواثقة روحيةكانت على هيئة ميثاقين أولهما‪“ :‬ميثاق الإشهاد” الذى أقر فيه الإنسان بربوبية‬
‫خالقه لما تجلى له بأسمائه الحسنى والآخر‪“ :‬ميثاق الائتمان” الذي حمل بموجبه أمانة القيم التي تجلت‬
‫بها هذه الأسماء‪ .‬ومن ث َم فالحياة التي تقترحها النظر ية الميثاقية الطاهائية إنما هي في حقيقتها عودة‬
‫للحالة الأصلية حالة الفطرة “فطرة الدين” بعد أن نكث الإنسان المعاصر “إنسان الحداثة” في ميثاقه‬
‫وقصر وجوده على “عالم الملك” (عبد الرحمن ‪.)19–14 ،2017‬‬
‫وعليه فالدين وفق ًا لتلك المقاربة يغاير ربما كليًا ما طرحه هابرماس‪ ،‬فالدين لدى طه يتجاوز‬
‫حد الوظيفية التي قرنها هابرماس بالديني إلى الحاجيات الضرور ية التي لا غنى للإنسان عنها‪،‬‬
‫والتي يستجيب لها بصورة لاشعور ية‪ ،‬وهذه الاستجابة اللاشعور ية إنما تأتي بدورها استجابة‬
‫لنزوع إنساني صوب الميثاق الذي أخذه ال� ل�ه على بني آدم في عالم الذرة‪ .‬والدين كذلك وفق ًا‬
‫لمقاربة طه إنما ي ُراد به الدين الإسلامي “دين التوحيد‪ ”،‬بخلاف رؤ ية هابرماس التي جعلت مركز‬
‫اشتغالها الرؤ ية الإنجيلية والتوراتية‪ ،‬وانتهت إلى اعتبارهما مجرد رؤى وتصورات للميتافيز يقي لا‬
‫تعبر بالضرورة عن الحقيقة‪ .‬على الرغم من هذه الفوارق بين مقاربة طه وهابرماس للدين إلا‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic‬‬ ‫‪Ethics‬‬


‫‪Downloaded‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27 06:36:14PM‬‬
‫‪from Brill.com12/26/2021‬‬
‫‪via free access‬‬
‫في البحث عن مشترك إنساني كوني‬ ‫‪13‬‬

‫أنهما عادا ليتفقا على صلة الديني بالأخلاقي والتواصلي كما ا�لكوني‪ ،‬وهو ما يمكن الوقوف عليه‬
‫من خلال السطور الباقية في هذا البحث‪.‬‬

‫سؤال الأخلاقي لدى هابرماس وطه عبد الرحمن‬ ‫‪3‬‬

‫سؤال الأخلاق واحد من أكثر الأسئلة التي أ َرّقت الفكر الغربي (الديني واللاديني) كما العربي‪/‬‬
‫الإسلامي سواء ً في تحديد مرجعية الأخلاق أو كنهها أو مجال اشتغالها أو في استتباع علائقها بما‬
‫هو سياسي وما هو اقتصادي أو اجتماعي‪ ،‬ومن ث َم يتسع سؤال الأخلاق ويتشعب بقدر اتساع‬
‫بأي من قطاعاته (أي قطاعات‬
‫ساحة الفكر نفسها‪ ،‬وزاو ية مقاربة الباحث لعلاقة الأخلاقي ٍ‬
‫ل من‪ :‬طه وهابرماس سؤال الأخلاق؟ وكيف جرى مقاربته على‬ ‫ل كُ ٌ‬
‫الفكر)‪ .‬فكيف أَ شّ ك َ َ‬
‫الأخص في علاقته بما هو ديني وتواصلي وإنساني‪/‬كوني؟‬
‫تُعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر لحظة فارقة في مشروع هابرماس‪ ،‬حيث إنها شكلت‬
‫تحول ًا وانعطافًا في تصوره عامة وفي تصوره الأخلاقي خاصة‪ ،‬وقد عبر عن هذا التحول في مناسبة‬
‫تلقيه جائزة السلام الألمانية التي أقيمت في كنيسة باول في فرانكفورت حيث تحدث هابرماس‬
‫عن الذعر الذي خلفته عمليات الحادي عشر من أيلول وانزعاجه من التسطيح الثقافي الذي‬
‫سببه انتشار وسائل الاعلام وانحطاط الثقافة النقدية التي تحولت الى ثرثرة عاطفية منفلتة‪ ،‬ودعا‬
‫إلى ضرورة طرح قضايا ذات أهمية كبيرة ترتبط “بالشعور الأخلاقي” الذي يمكن التعبير عنه في‬
‫لغة دينية (بورادوري ‪.)127 ،2013‬‬
‫ففلسفة الأخلاق عند هابرماس تطرح أسئلة على مستو يين أولهما‪ :‬جمعي والآخر‪ :‬فردي‪ ،‬فعلى‬
‫المستوى الجمعي تطرح تساؤلات حول‪ :‬كيف نتعارف ونعرف أنفسنا كأفراد ينتمون إلى جماعة‬
‫أخلاقية وعلى أي مبادئ تقوم حياتنا؟ وعلى المستوى الفردي تطرح أسئلة من قبيل‪ :‬من أنا؟‬
‫وما المبادئ التي أخضع لها؟ ومن يمتلك المشروعية لوضع المعايير الأخلاقية؟‬
‫َ‬
‫الكلي ّة‪ ”،‬وهي تلك التي تنهض على مبدئي‪ :‬المناقشة‬ ‫وقد راهن هابرماس على “الأخلاق‬
‫وا�لكونية‪ ،‬وكلاهما يتكامل مع الآخر‪ ،‬إذ المناقشة والتواصل المبني على أساس من المساواة بين‬
‫كافة أطراف الحوار‪ ،‬يؤول بنظر هابرماس إلى الوصول لاتفاق وإجماع عقلاني ومن ث َم صوغ‬
‫معايير لأخلاق كونية يتفق عليها الكافة (الأشهب ‪.)136 ،2014‬‬
‫َ‬
‫الكلي ّة للأخلاق دافع ًا للتعو يل على الأخلاق الكانطية إذ اعتبرها‬ ‫وقد مثلت مقاربة هابرماس‬
‫هابرماس إرثا لا يمكن التفر يط فيه ومن ث َم ظلت بمثابة الخيط الناظم لنظريته الأخلاقية ككل‬
‫حيث عكف بعد تحيينها وتجديدها على تكييفها مع متطلبات العصر‪ ،‬لذا نجد هابرماس يلزم‬
‫الذوات المتحاورة بالقواعد الصور ية من أجل الوصول إلى إجماع عقلاني‪ ،‬وهذا ما استمده‬
‫هابرماس من النظر يات الحجاجية لأندل تولفينغ حيث قارن بين هذه النظر ية في المحاججة وبين‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic Ethics‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27‬‬


‫‪Downloaded from Brill.com12/26/2021 06:36:14PM‬‬
‫‪via free access‬‬
‫‪14‬‬ ‫عباس‬

‫الأمر المطلق لكانط وتوصل إلى هذه العلاقة حيث “يأخذ إجراء المحاججة الأخلاقية في أخلاقيات‬
‫المناقشة المكان الذي تحتله مقولة الأمر المطلق في الأخلاق الكانطية” (جمال ‪،)221 ،2017‬‬
‫وعلى غرار تأكيد كانط على الكلية الأخلاقية في “ميتافيز يقيا الأخلاق” معتبر ًا أن الكائنات‬
‫العاقلة تسمى أشخاصًا لأن طبيعتها تقودها وتوجهها بصفتها غايات في ذاتها “أي باعتبارها شيئا‬
‫لا يمكن استخدامه كمجرد وسيلة فحسب‪ ،‬وإنما هي شيء يمثل حدًا في مواجهة كل ما يحلو لي‬
‫من تصرفات و يكون موضع احترامي” (الجمال ‪ ،)46 ،2004‬على نفس هذه الوتيرة الكانطية‬
‫صار هابرماس للتوكيد على الكلية الأخلاقية معتبر ًا إمكان التوصل إلي معايير أخلاقية كلية‬
‫تتسم بالقبول والرضا العام عبر نقاش عقلاني‪ .‬كما تأثر هابرماس في مقاربته للأخلاق بهيجل‪،‬‬
‫َ‬
‫الكلي ّة الأخلاقية‪ ،‬في مؤلفه دين الشعب حيث “اتخذ‬ ‫فهيجل – بنظر هابرماس – هو من َ‬
‫وسّ ع‬
‫العقل التواصلي شكلًا مثاليًا لجماعتين تار يخيتين هما‪ :‬المدينة الإغريقية والجماعات المسيحية الأولى”‬
‫(الجيوشي ‪ ،)30–29 ،1995‬أي أن هيجل بنظر هابرماس كشف في مؤلفه هذا عن دخول‬
‫التعارض بين‪ :‬العلم والإيمان لحقل الفلسفة‪ .‬وإذا كان هابرماس قد تأثر بكل من كانط وهيجل‬
‫في مقاربته للأخلاق على النحو السابق فإنه قد سعى لتطوير الكلية الأخلاقية من خلال صياغته‬
‫لنظر ية الفعل التواصلي وأخلاقيات المناقشة‪ ،‬وهو ما يمكن الوقوف عليه في ثنايا تناولنا للفعل‬
‫التواصلي لدى هابرماس في نقطة لاحقة‪.‬‬
‫في مقابل تلك الرؤ ية الهابرماسية تنبني مقاربة طه لسؤال الأخلاق‪ 4‬على محورين أولهما‪ :‬النقد‬
‫المزدوج للتصورين الغربي والإسلامي لفلسفة الأخلاق وثانيهما‪ :‬محاولة تقديم البديل الأخلاقي أو‬
‫الائتماني كما يحلو لطه تسميته‪ .‬فالتصور الأخلاقي الذي يتبناه طه تصور تكاملي يقوم على منطق‬
‫الوصل فلا انفصال بين الدين والأخلاق لديه‪ ،‬كما ليس ثمة انفصال بين العمل والنظر‪ ،‬أو بين‬
‫القول والفعل‪ ،‬أو بين الدين والسياسة‪ .‬وعلى هذا الأساس جاء نقد طه لتصور فلاسفة الغرب‬
‫للأخلاق فبينما تباينت مواقفهم على ثلاثة مناحي أولها‪ :‬ذلك المنحى الذي جعل من الأخلاق‬
‫تابعة للدين استناد ًا إلى مبدأ “الإيمان بالإله” ومبدأ “إرادة الإله‪ ”،‬والثاني‪ :‬جعل من الدين تابع ًا‬
‫للأخلاق استناد ًا إلى مبدأ كانط فى “الإرادة ال�خ َي ّرة‪ ”،‬والثالث‪ :‬رأى أنه ليس أي ًا من الطرفين‬
‫تابع ًا للآخر استناد ًا إلى مبدأ هيوم في أنه “لا وجوب من الوجود” (عبد الرحمن ‪،)56 ،2000‬‬

‫‪ 4‬يشكل سؤال الأخلاق هاجسًا يؤرق طه عبد الرحمن إلى درجة أن المقولات الأخلاقية‪ ،‬إبداعا ونقدا‬
‫وتجديدا‪ ،‬تكاد ت�خترق مشروعه كله‪ .‬و يعسر أن تجد كتابا لطه أو دراسة ليس فيها إشارة إلى الارتباط‬
‫الوثيق بين الأخلاق وبقية القطاعات العلمية المتعددة التي يشتغل عليها طه ‪.‬ويمكن ملاحقة المقاربة‬
‫الأخلاقية في الإنتاج الفكري لـطه عبد الرحمن في عدد من مؤلفاته مثل‪ :‬سؤال الأخلاق ‪:‬مساهمة في‬
‫النقد الأخلاقي للحداثة الغربية‪ ،‬بؤس الدهرانية‪ :‬النقد الأخلاقي لفصل الأخلاق عن الدين‪ ،‬وشرود ما‬
‫بعد الدهرانية‪ ،‬وسؤال العنف‪ ،‬ومن الإنسان الأبتر إلى الإنسان ا�لكوثر‪ ،‬ودين الحياء بأجزائه الثلاثة‪.‬‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic‬‬ ‫‪Ethics‬‬


‫‪Downloaded‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27 06:36:14PM‬‬
‫‪from Brill.com12/26/2021‬‬
‫‪via free access‬‬
‫في البحث عن مشترك إنساني كوني‬ ‫‪15‬‬

‫َ‬
‫والشاهدي ّة الإلهية‬ ‫َ‬
‫للآمري ّة الإلهية‬ ‫قام طه بنقد هذه التصورات الثلاثة‪ ،‬والتي رأى فيها إنكار ًا‬
‫في آنٍ‪.‬‬
‫فالتصور الأول القائل بتبعية الأخلاق للدين والقائم على مبدأ “الإيمان بالإله” ومبدأ “إرادة‬
‫الإله‪ ”،‬وهو تصور تبناه عدد من مفكري الغرب الأخلاقيين‪ ،‬كما هو شأن القديس أوغسطين‪،‬‬
‫والقديس توماس الأكويني وغيرهما‪ ،‬وقد ورثوا هذا التصور عن فلاسفة اليونان‪ .‬اعتبر طه هذا‬
‫التصور مقدوح ًا فيه لأنه مبني على تعدد الآلهة ومن ث َم تعدد الإرادات الإلهية والآمرية الإلهية‬
‫مما ينتهي بالأخلاق إلى نسبيتها لا إطلاقياتها كما ينبغي أن تكون (عبد الرحمن ‪.)35–31 ،2000‬‬
‫أما التصور الكانطي والذي انبنى على استتباع معكوس للاستتباع السابق للأخلاق‪ ،‬حيث جاء‬
‫الدين وفق هذا التصور تابع ًا للأخلاق‪ ،‬كما صرح بذلك كانط في مؤلفه (الدين في حدود مجرد‬
‫حتاج إلى كائ ٍن أسمى وأعلى منه �لكي يعرف هذا الإنسان واجب َه‪،‬‬
‫العقل) واعتبر الإنسان غير َ م ٍ‬
‫ومن ث َم فالأخلاق وفق هذا التصور الكانطي لا تحتاج مطلق ًا إلى الدين‪ ،‬بل تكتفي بذاتها بفضل‬
‫العقل الخالص‪ .‬وهو تصور اعتبره طه كذلك مقدوح ًا فيه‪ ،‬ورأى أن كانط لم يضع مقولاته‬
‫وتصوراته الأخلاقية إلا عن طر يق المقايسة والمبادلة بعد أن جعل العقل جوهرًا وأح َ ّ‬
‫ل الإنسان‬
‫موض َع الإله‪ ،‬يقول طه‪“ :‬فقد أخذ كانط مفهوم العقل بدل مفهوم الإيمان‪ ،‬ومفهوم الإرادة‬
‫الإنسانية بدل مفهوم الإرادة الإلهية‪ ،‬ومفهوم الحسن المطلق للإرادة بدل مفهوم الإحسان‬
‫المطلق للإله‪ ،‬ومفهوم الأمر القطعي بدل مفهوم الأمر الإلهي‪ ،‬ومفهوم التجريد بدل مفهوم‬
‫التنز يه‪ ،‬ومفهوم احترام القانون بدل مفهوم محبة الإله‪ ،‬ومفهوم التشر يع الإنساني للذات بدل‬
‫مفهوم التشر يع الإلهي للغير‪ ،‬ومفهوم ال�خير الأسمى بدل مفهوم النعيم‪ ،‬ومفهوم مم�لكة الغايات‬
‫بدل مفهوم الجنة” (عبد الرحمن ‪ .)104 ،2000‬أما نقد طه عبد الرحمن للتصور الهيومي‪ 5‬القائل‬
‫باستقلالية الأخلاق عن الدين‪ ،‬والمبني على مبدأ “لا وجوب من الوجود‪ ”،‬فقد جاء هذا النقد‬
‫– أي نقد طه – لتمييز هيوم بين القضايا ال�خبر ية الوجودية والقضايا الوجوبية باعتباره يروم إلى‬
‫الفصل بين ال�خبر في الدين والقيمة الأخلاقية‪ .‬في حين أن كل ممارسة علمية وعقلانية بنظر طه‬
‫محكومة بقيم ومقاصد يحملها الإنسان من حيث هي تعبير عن رؤ ية للعالم (‪6)Weltanschauung‬‬
‫ومن ث َم فلا داعي للادعاء بأن القيم مفصولة عن الأنشطة الإنسانية الحسية أو العقلية‪ .‬و يترتب‬
‫على هذا أن هيوم شأنه شأن كانط لم يقم بإنشاء مفهومه للأخلاق أو بالأحرى الدين الطبيعي‬

‫‪ 5‬نسبة إلى دفيد هيوم‪.‬‬


‫‪ 6‬رؤ ية العالم أو الرؤ ية ا�لكونية هو الترجمة العربي ّة للمصطلح الألماني )‪ ،(Weltanschauung‬ومعناه في لغته‬
‫الأصلية هو المنظور أو النظر إلى العالم‪ .‬وقد استخدم هذا المفهوم بتعبيرات متعددة‪ ،‬من قبيل‪ :‬صورة‬
‫العالم‪ ،‬والنظرة إلى العالم‪ ،‬والنظرة الكلية‪ ،‬وغيرها‪ .‬وفي العالمين العربي والإسلامي‪ ،‬استخدمت العديد‬
‫من الاصطلاحات ال ّتي تعادل هذا المفهوم مثل‪“ :‬الرؤ ية ا�لكوني ّة‪ ”،‬أو “النظرة إلى العالم‪ ”،‬أو “رؤ ية العالم”‬
‫أو “التصو ّر الكلّيّ للعالم” وغيرها‪.‬‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic Ethics‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27‬‬


‫‪Downloaded from Brill.com12/26/2021 06:36:14PM‬‬
‫‪via free access‬‬
‫‪16‬‬ ‫عباس‬

‫إلا بواسطة المقابسات من النصوص المقدسة وتأو يلاتها اللاهوتية (عبد الرحمن ‪.)33 ،2000‬‬
‫فكل ما أسنده هيوم لما أسماه بـ“الحس الأخلاقي” إنما هو بنظر طه يستوعبه ما جاء به الدين باسم‬
‫“الفطرة” بما هي مفهوم مبثوث في سائر النصوص المقدسة” (عبد الرحمن ‪.)46 ،2000‬‬
‫ونقد طه للرؤ ية الأخلاقية الغربية على النحو السابق إنما جاء من منطلق أَ شك َلَت ِه ُ لعلاقة‬
‫الأخلاق بالدين‪ ،‬ودعوته لتأسيس الأخلاق على الدين وليس العكس حيث رأى أن فصل‬
‫الأخلاق عن الدين كما شاع لدى أرباب الرؤ ية الغربية قد انبنى بالأساس على مبادئ التوجه‬
‫إلى الإنسان عوض التوجه إلى الإله‪ ،‬والتوسل بالعقل بدل الأخلاق‪ ،‬والتعلق بالدنيا بدل‬
‫الآخرة‪ ،‬وهو ما سماه في روح الحداثة بـ“المروق“ نتيجة إنكار الدهرانيين لآمرية الإله” (عبد‬
‫الرحمن ‪ ،)100 ،2006‬وفي شرود ما بعد الدهرانية سمى هذا الفصل – أي بين الأخلاق والدين‬
‫– بـ“الشرود” حيث التمرد على إشهاد الإله على أعمال الإنسان‪ ،‬وهو ما يعني تجاوز رتبة المروق‬
‫إلى رتبة الخروج من الأخلاق بالكلية‪ .‬واعتبر كلتا الصورتين (المروق والشرود) من صور‬
‫“الدنيانية” الجامعة لوجوه الانفصالات عن الدين‪ .‬فالحداثة بنظر طه قامت بأخطر عملية انتزاع‬
‫لقطاعات الحياة من الدين‪ ،‬وأبرزها الأخلاق‪ .‬وهو العزل الذي اختار له اسم الدهرانية (وهي‬
‫النظر للأخلاق بمعزل عن ال� ل�ه) أي نزع الأخلاق عن لباسها الروحي وجعلها بلباس زمني‪ ،‬وهي‬
‫بذلك – أي الدهرانية – أخت للع َلمانية (بفتح العين)‪ ،‬بما هي فصل للسياسة عن الدين‪ .‬وأيضًا‬
‫أخت للع ِلمانية (بكسر العين)‪ ،‬بما هي فصل للعلم عن الدين‪ ،‬إذ كلها بنات للدنيانية‪ ،‬التي يراها‬
‫آفات تحرمه آدميته” (عبد الرحمن‬
‫ٍ‬ ‫والزجّ به في‬
‫ِ‬ ‫تصور ًا بائس ًا لرؤ ية العالم‪ ،‬تنتهي إلى ضياع الإنسان‬
‫‪.)15 ،2016‬‬
‫لم يقتصر نقد طه للتصور الأخلاقي على النقد الموجه للنموذج الغربي‪ ،‬بل تعداه إلى النموذج‬
‫الإسلامي‪ ،‬حيث عمد إلى نقد التصور الإسلامي (الكلامي والفلسفي والفقهي‪/‬الأصولي)‬
‫للأخلاق‪ .‬فالمتكلمون والفلاسفة المسلمون الذين تذبذبوا بين القول بتبعية الدين للأخلاق والقول‬
‫باستقلال الأخلاق عن الدين‪ ،‬إنما جاء موقفهم القلق بنظر طه لانسياقهم إلى التفكير في هذه‬
‫العلاقة وفق مقتضيات المنقول اليوناني‪ .‬أما الفقهاء والأصوليون الذين جعلوا الأخلاق تابعة‬
‫للدين وجعلوا منها رتبة ً لا تتعدي رتبة َ المصالح ا�لكمالية‪ ،‬فإنهم بنظر طه قد خالفوا المنطق السليم‬
‫في فهم حقيقة الدين‪ ،‬إذ الأخلاق بنظره أَ ولى برتبة المصالح الضرور ية من غيرها‪ ،‬فما ينبغي لدين‬
‫إلهي – ناهيك عن الإسلام – أن يقدم الاهتمام بشئون الحياة المادية للإنسان على الاهتمام‬
‫بكيفيات الارتقاء بحياته الروحية‪ ،‬والتي مدارها على الأخلاق‪ 7.‬فالدين والأخلاق بنظر طه شيء‬
‫واحد “فلا دين بغير أخلاق ولا أخلاق بغير دين” (عبد الرحمن ‪.)52–51 ،2000‬‬

‫‪ 7‬والجدير بالملاحظة في هذا الصدد أن نقد طه للفقهاء في اعتبار الأخلاق يقع في المرتبة التحسينية أو‬
‫التكميلية تعرض بدوره للنقد‪ ،‬ومن تلك الانتقادات التي وجهت لطه في هذا الصدد‪ ،‬نقد الخطيب‬
‫والذي رأى أن الأخلاق بنظر الفقهاء متفاوتة في الرتبة‪ ،‬خصوصا إذا ربطنا الأخلاق بالأحكام‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic‬‬ ‫‪Ethics‬‬


‫‪Downloaded‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27 06:36:14PM‬‬
‫‪from Brill.com12/26/2021‬‬
‫‪via free access‬‬
‫في البحث عن مشترك إنساني كوني‬ ‫‪17‬‬

‫وبعد نقد عبد الرحمن المزدوج للتصورين‪ :‬الأخلاقيين الغربي والإسلامي ومن منطق التكامل‬
‫لا التجزيء والوصل لا الفصل‪ ،‬والجمع بين العقل والشرع‪ ،‬وبين العقل والقلب وبين العقل‬
‫والحس‪ ،‬جاء جواب عبد الرحمن على سؤال الأخلاق في لباس ائتماني حاول فيه صاحبه‬
‫تجاوز ما أسماه بـ“الضرر الخلقي لحضارة اللوغوس‪ ”،‬وتأسيس حضارة يكون فيها السلطان‬
‫لـ“الإيتوس‪( ”،‬أي الخلق) بضم الخاء‪ ،‬بحيث تتحدد فيها حقيقة الإنسان‪ ،‬لا بعقله أو بقوله‪ ،‬وإنما‬
‫بخلقه أو فعله (عبد الرحمن ‪.)146 ،2000‬‬
‫وقد بنى طه عبد الرحمن الجواب الائتماني لسؤال الأخلاق على عدد من الأركان والمبادئ‬
‫حيث عدد طه أركان نظر يـته الأخلاقية والتي سماها بـ “نظر ية التعبد” في سؤال الأخلاق في‬
‫ثلاثة أركان‪ ،‬أولها‪ :‬ركن “الميثاق الأول والأخلاق ا�لكونية‪ ”،‬ومقتضاه أن الإنسان قد تعهد أمام‬
‫ال� ل�ه سبحانه وتعالى يوم خاطبه‪﴿ :‬أَ لَسْتُ ب ِر َبِّك ُم﴾ (الاَعراف‪ )172 :‬فأجاب‪﴿ :‬بَلى﴾‪ .‬وهذا التعهد‬
‫الإنساني هو الميثاق الذي أخذه الشارع من العقلاء؛ وبهذا الميثاق تزود الإنسان بالأخلاق التي‬
‫تحميه من التزلزل‪ ،‬وهي ذات طبيعة كونية من حيث خصائصها‪ ،‬وهي كذلك أخلاق مؤسسة‬
‫من لدن الشرع لعلو رتبته على العقل واستغنائه عنه‪ ،‬وبهذا الركن يجمع طه بين العقل والشـرع‪.‬‬
‫أما الركن الثاني‪“ :‬شق الصدر والأخلاق العميقة‪ ”،‬فيبنيه طه على الحادثة التار يخية لشق صدر‬
‫ن تطهير ية وتزكو ية ليجمع بين القلب والعقل‪ ،‬و يخلص من ذلك إلى‬
‫النبي‪ ،‬وما تستدعيه من معا ٍ‬
‫أن الأخلاق الإسلامية أخلاق عميقة لأنّها أخلاق تطهير وتزكية لا تجميل‪ ،‬وتأهيل لا تثبيط‪،‬‬
‫وتجديد لا تقليد‪ .‬أما الركن الثالث‪“ :‬تحو يل القبلة والأخلاق الحركية‪ ”،‬وهو الذي يتعلق بالجمع‬
‫بين العقل والحـس‪ ،‬ويتفـرع عنـه أن الأخلاق الإسلامية أخلاق حركية؛ لأنّها أخلاق إشارة‬
‫لا عبارة‪ ،‬وانفتاح لا انغلاق‪ ،‬واجتماع لا انقطاع (عبد الرحمن ‪.)159–142 ،2000‬‬
‫أما المبادئ التي ارتكز عليها الجواب الائتماني لسؤال الأخلاق فقد بسطها طه فى بؤس‬
‫الدهرانية حيث عدد خمسة مبادئ ينبني عليها أنموذجه الأخلاقي وهي‪( :‬مبدأ الشاهدية‪ ،‬ومبدأ‬
‫الآياتية‪ ،‬ومبدأ الإيداعية‪ ،‬ومبدأ الفطر ية‪ ،‬ومبدأ الجمعية)‪ .‬فجعل طه من “مبدأ الشاهدية الإلهية”‬
‫أصل التخلق الإنساني‪ ،‬فلولا شهادة الإله لهذه الأعمال وشهادته عليها لما تم للإنسان ت ُخل ّقٌ‪ ،‬ناهيك‬
‫عن كمال التخلق‪ ،‬وأما “مبدأ الآياتية” فمقتضاه أن اتصال الدين بالعالم عبارة عن اتصال آيات‪،‬‬
‫لا اتصال ظواهر‪ ،‬والمبدأ الثالث هو “مبدأ الإيداعية” و يقصد به أن الأشياء ودائع عند الإنسان‪،‬‬
‫و يقتضي ذلك منا أن ننسب الأشياء إلى بارئها وشاهدها نسبة مطلقة‪ ،‬وإلا فلا أقل من أن‬
‫ننسبها إليه قبل أن ننسبها إلى أنفسنا‪ ،‬والمبدأ الرابع هو “مبدأ الفطر ية” ومقتضاه أن الأخلاق‬

‫الفقهية الخمسة‪ ،‬وحكم أصول الأخلاق يختلف عن مكارمها‪ ،‬وكذا تختلف المكارم نفسها بين درجتي‬
‫إلزام النفس بها وقطع الوعد بفعلها وبين أن تعرى عن وعد أو التزام‪ .‬ولذا فإن تصور طه اعتبار‬
‫الفقهاء أن الأخلاق في المرتبة التحسينية أو التكميلية تصور يشوبه عدم الدقة في فهم كلام الفقهاء‬
‫(الخطيب ‪.)256–255 ،2011‬‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic Ethics‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27‬‬


‫‪Downloaded from Brill.com12/26/2021 06:36:14PM‬‬
‫‪via free access‬‬
‫‪18‬‬ ‫عباس‬

‫كل ّه أخلاق‪،‬‬ ‫مأخوذة من الفطرة‪ ،‬والمبدأ الخامس هو “مبدأ الجمعية” ومقتضاه أن الدين المنز َل ُ‬
‫وذلك لأن إنسانية الإنسان لا تتحقق بعقلانيته المجردة‪ ،‬وإنما بأخلاقيته المس َ ّددة‪ ،‬ولم يَنز ِل الدين‬
‫إلا �لكي يرتقى بهذه الإنسانية بفضل كمال التخلق‪ .‬وهذه المبادئ الخمسة قادرة بنظر طه على‬
‫“إخراج الإنسان المؤتمن من مشقة التخلق إلى متعة التخلق‪ ،‬ومن ضيق الظواهر وانفصالها إلى‬
‫سعة الآيات واتصالها‪ ،‬ومن التسلط على الأشياء إلى الترفق بها‪ ،‬ومن التخلق الظاهر إلى أصوله‬
‫في أغوار الباطن‪ ،‬ومن تخليق الإنسان لذاته بعضًا إلى تخليقها كلًا‪ ،‬باطنًا وظاهرًا؛ وبهذا تنتقل‬
‫هذه القيم الأخلاقية إلى رتبة القيم الجمالية” (عبد الرحمن ‪.)108–93 ،2014‬‬
‫ومقاربة طه على النحو السابق لسؤال الأخلاق ربما تغاير كليًا مقاربة هابرماس‪ ،‬سواء من‬
‫حيث منطلقاتها التأسيسية أو من حيث كنهها أو مبادئها التأسيسية‪ ،‬أو حتى من حيث الغايات‬
‫التي ترنو إليها‪� ،‬لكن ربما تظل الأنسنة وا�لكونية مشترك ًة ما بين طه وهابرماس في مقاربتهما‬
‫لسؤال الأخلاق‪ ،‬فالأصل في الإنسانية لدى عبد الرحمن هو الأخلاقية وليس العقلانية‪ ،‬أي أن‬
‫الإنسانية أساسها الأخلاق وليس العقل‪ ،‬دون أن يفيد ذلك حدوث الانفصال بين العقل والخُلق‬
‫في الإنسان أو القول بعدم حاجة الإنسان للعقل ‪.‬وفى هذا المضمار يقول طه ‪“:‬إن الإنسان‪،‬‬
‫بقدر ما يزداد أخلاقية‪ ،‬يزداد إنسانية ‪ ،‬ولا نقول إن الإنسان بقدر ما يزداد عقلانية يزداد‬
‫إنسانية” (عبد الرحمن ‪ .)58 ،2013‬هذا وقد دفع منطق الوصل لدى طه وتداخلات الأخلاق‬
‫والحس والعقل إلى تعميق النظر في مستو يات هذه التداخلات‪ ،‬ليستنتج بأن “الأخلاق هي‬
‫الميزة الإنسانية الأولى أي التي يكون بها الإنسان إنسانا” (عبد الرحمن ‪ )14 ،2000‬وأن “قوة‬
‫الخُلق وليست قوة العقل هي التي تميز الإنسان عن الحيوان” (عبد الرحمن ‪ ،)209 ،2002‬بل إن‬
‫وجود الإنسان ليس متقدم ًا على وجود الأخلاق وإنما مصاحب لوجودها‪ .‬ويستدعي هذا بنظر‬
‫طه إنشاء نظر ية أخلاقية يكون من أصولها مبدأ الجمع بين شروط الأخلاقية وشروط الإنسانية‪،‬‬
‫فتتحقق عالمية الإنسان بالأخلاق‪ ،‬وتجنبه هذه الخاصية الأخلاقية كذلك خطر استرقاق العلم‬
‫ُ‬
‫وتشي ّئه أو ما يسميه طه بـ“الاسترقاقية” (عبد الرحمن ‪.)65 ،2000‬‬ ‫المادي للإنسان‬
‫�لكن ربما يظل الانتقال إلى ا�لكوني على مستوى الأخلاق مشكِلًا لدى طه‪ ،‬حيث يظل‬
‫المنظور الأخلاقي البديل الذي يطمح طه إلى تشييده إنما يستقي مقوماته من داخل المجال‬
‫ل من الأحوال‪ ،‬بناء على‬
‫التداولي الإسلامي الذي يرفض عبد الرحمن أن يفكر خارجه بأي حا ٍ‬
‫قناعة مبررة راسخة لديه بأنه ليس هناك أقدر من الدين الإسلامي على تقديم أخلاق أكمل قيمة‬
‫وأكثر حركية‪ ،‬تعد عصارة ما حققه من تراكم ناتج من خاتميته وتتميمه لمكارم الأخلاق (عبد‬
‫الرحمن ‪ .)63 ،2013‬وهو ما يعني في نهاية المطاف أن الانتقال إلى ما هو كوني الاندماج على‬
‫المستوى القيمي إنما هو مرهون ومشروط بالخصوصية القيمية أو إحياء نظا ٍم للقيم خاص بالسياق‬
‫الإسلامي يستمد مقوماته من عقلانية إيمانية تكفل لها النصوص الدينية المؤسسة يقينيتها وتعرج‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic‬‬ ‫‪Ethics‬‬


‫‪Downloaded‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27 06:36:14PM‬‬
‫‪from Brill.com12/26/2021‬‬
‫‪via free access‬‬
‫في البحث عن مشترك إنساني كوني‬ ‫‪19‬‬

‫بها نحو اللامتناهي وتمنحها عمق ًا ليس له مثيل في أخلاق التناهي التي تحصر ذاتها في أفق سطحي‬
‫يورثها التذبذب وعدم الاستقرار‪ .‬فأخلاق الدين في نظر طه هي الأصل‪ ،‬وما الرؤى الأخلاقية‬
‫الغربية في حقيقة أمرها إلا فروع اقتبست مقوماتها من الدين على نحو مباشر أو غير مباشر‪ ،‬ث َم‬
‫عمدت إلى تور ية اقتباسها وإخراجه عن وصفه الديني الأصلي؛ لأنه قد ثبت‪ ،‬بما لا يدع مجال ًا‬
‫للشك‪ ،‬أن الهو ية الإنسانية هي في أساسها وفي حقيقتها هو ية دينية (عبد الرحمن ‪.)149 ،2000‬‬
‫فهل أمكن الانتقال إلى ما هو كوني ومشترك إنساني باقتراح التواصل والمناقشة كما هو لدى‬
‫هابرماس؟ أو تجاوز ما هو قومي أو إثني أو ديني إلى ما هو إنساني باقتراح التقريب التداولي كما‬
‫هو لدى عبد الرحمن؟‬

‫سؤال التواصل بين هابرماس وطه عبد الرحمن‬ ‫‪4‬‬

‫إذا كانت صيغة “التواصل” هي الأبرز في مشروع هابرماس‪ ،‬فإن “التداولية” أو بالأحرى‬
‫“التقريب التداولي” يمثل المقابل الذي ربما يؤدي نفس الغرض في المشروع الفكري لطه عبد‬
‫الرحمن لتعو يل كل من هابرماس وطه على الحجاج والمناقشة كممارسة فكر ية وآلية لإدارة أي‬
‫حوار‪ ،‬وكذا على اللغةكأداة ووعاء للفكر وممكن من ممكنات التواصل الفعال بين الذوات‪ ،‬وأيضًا‬
‫لتعو يلهما على الأخلاق كمعيار يجب الالتزام به في ثنايا الحوار وعمليات الحجاج‪ .‬فكيف جرى‬
‫توظيف هذه الثلاثية (الحجاج‪/‬المناقشة‪ ،‬اللغة‪ ،‬الأخلاق) في كلا المشروعين؟ وما مدى إمكانية‬
‫الانتقال بهذه الثلاثية في كلا المشروعين من المحلي إلي ا�لكوني للبحث عن المشترك الإنساني؟‬
‫انبنت مقاربة هابرماس للتواصل على ركيزتين‪ :‬الأولى هي العقل التواصلي‪ ،‬والثانية هي اللغة‪،‬‬
‫فـهابرماس الذي ظل مهووسًا بأن “الحداثة مشروع لم يكتمل بعد” وأن العقلانية أو العقل‬
‫الأداتي الذي يعد ركيزة أساسية لمشروع الحداثة قد أشهر إفلاسه بانتهائه إلى حالة من التشيؤ‪،‬‬
‫فإنه رأى كذلك في العقل التواصلي بديلًا لهذا العقل الأداتي‪ ،‬فالعقل التواصلي بنظر هابرماس‬
‫“يتجاوز العقلانية الغربية التي أعطت أولو ية مطلقة للعقل الغائي والتي تهدف إلى تحقيق مصالح‬
‫وغايات معينة‪ ،‬فهذا العقل يُبنى على فعل خل ّاق يقوم على الاتفاق وبعيدًا عن الضغط والتعسف‬
‫وهدفه بلورة إجماع يعبر عن المساواة داخل فضاء عام ينتزع فيه الفرد جانبًا من ذاتيته ويدمجها‬
‫في المجهود الجماعي الذي يقوم بالتفاهم والتواصل العقلي” (‪ ،)Habermas 1984, 10‬فالعقل‬
‫التواصلي الذي يقترحه هابرماس يستلزم نسق ًا اجتماعيًا ديمقراطيًا يشمل الجميع ولا يستبعد أحدًا‪،‬‬
‫وهدفه ليس الهيمنة بل الوصول إلى التفاهم‪ .‬وقد حاول هابرماس في صياغته للعقل التواصلي أن‬
‫يستلهم تحليل ماكس فيبر (‪ )Max Weber‬لتطور العقلانية الهادفة وتضاؤل عقلانية القيمة في‬
‫ظل التحديث‪ ،‬وهو التحليل الذى ارتبط عند فلاسفة مدرسة فرانكفورت من هوركهايمر إلى‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic Ethics‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27‬‬


‫‪Downloaded from Brill.com12/26/2021 06:36:14PM‬‬
‫‪via free access‬‬
‫‪20‬‬ ‫عباس‬

‫ماركوز بنظر ية لوكاتش عن التشيؤ (‪ ،)reification‬ورأى هابرماس أن الصيغ الفردية لعقلانية‬


‫القيمة لا بد وأن ترتبط بمفهوم الفعل التواصلي بين الأفراد حتى يمكن مقاومة القيم التي فرضها‬
‫العقل بعد تحوله إلى مجرد أداة‪ ،‬وذلك بفضل مجموعة القيم الموضوعية المتعارف عليها‪.‬‬
‫والحاصل أن هابرماس حاول تجاوز الاستعمال التقني للعقل إلى الاستعمال الحواري للعقل‬
‫بين الذوات ضمن الفضاء العمومي‪ .‬والعقلانية التواصلية التي يقترحها هابرماس لا تمتلك قبل بداية‬
‫النقاش العمومي أية معايير متعينة وثابتة وقيم متعالية ومطلقة ولا تنطلق من رؤ ية منغلقة للعالم‬
‫تقوم بإملائها على أفراد المجتمع وإنما تقترح مجموعة إجراءات تكون موضوعًا للنقاش والتفاوض‬
‫وتترك الفرصة للفاعلين �لكي يشاركوا في إعادة تأسيسها في العالم المعايش‪ .‬ويمكن القو ّل‪ ،‬إن هذا‬
‫الانتقال من “العقلانية التقنية” إلى “العقلانية التواصلية‪ ”،‬يندرج في الاستراتيجية التي يتبعها‬
‫فيلسوف التواصلية في محاولته لإعادة بناء المفهوم الحديث للعقلانية (‪.)Habermas 1987a, 395‬‬
‫على هذا النحو تحوز العقلانية التواصلية التي يقترحها هابرماس على بنية رمزية للتفاعل‬
‫وتحافظ دوم ًا على طابعها الإجرائي الذي يقبل التعديل والإصلاح والتغيير والتطوير ومواءمة‬
‫تغير الظروف وتغيير الفاعلين لمصالحهم‪ .‬كما تنغرس العقلانية التواصلية في التجربة اللغو ية وتعتمد‬
‫النقاش والحوار والتفاوض وتبحث عن الإقناع‪ .‬وبذلك تعد اللغة ركيزة أساسية في نظر ية الفعل‬
‫التواصلي التي صاغها هابرماس‪ ،‬حيث كانت فلسفة اللغة عنده أهم الروافد الأساسية في تكوين‬
‫نظر ية الفعل التواصلي‪ ،‬واهتم هابرماس بأعمال اللغو يين وفلسفة اللغة‪ ،‬و بخاصة كل من جون‬
‫أوستن ‪ ،‬وجون سيرل في نظر ية أفعال الكلام‪ 8،‬كما استفاد هابرماس من جورج هربرت ميد‬
‫في نظر ية “التفاعل الرمزي” ووجد أن غياب شروط التفاعل الرمزي يعني غياب القدرة على‬
‫التواصل وكذلك غياب اللغة نفسها‪ ،‬فاللغة هي التي جعلت الإنسان إنسان ًا يتواصل مع الآخر بنظر‬
‫هابرماس (‪.)Habermas 1987b, 9, 27–29‬‬
‫فاللغة لدى هابرماس لا تعبر عن قيمة مجردة في ذاتها‪ ،‬بمعنى أنها لا تنحصر في سحر البيان‪ ،‬ولا‬
‫ترتبط فقط بالتعبير والوصف‪ ،‬فوظيفة اللغة لدى هابرماس تعد في المقام الأول والأخير وظيفة‬
‫تواصلية‪ ،‬وهذا ما أشار إليه في مقالته عن “ماذا نعني بالتداولية ا�لكونية؟” حيث أكد على أن‬
‫“الحديث عن اللغة لن يكون على مستوى الشكل بقدر ما هو على مستوى الفعل‪ ،‬ولذلك وجب‬
‫تجاوز المفاهيم الصوتية‪ ،‬والتركيبية‪ ،‬والدلالية للغة لنتحدث عن مفهوم رابع أساسي وهو مفهوم‬
‫التداولية‪ ،‬وبهذا ننتقل من دراسة ا�لكفاية اللغو ية إلى دراسة ا�لكفاية التواصلية” (‪Habermas‬‬
‫‪.)1998, 21‬‬

‫‪ 8‬وهي النظر ية التي تنطلق مما يسمى بفلسفة اللغة الطبيعية التي طرحها فتجنشتاين في مؤلفه بحوث فلسفية‬
‫حيث استحالة الفصل بين الدلالة والتركيب والتداول‪ ،‬وقد طور كل من جون سيرل وجون أوستن‬
‫نظر ية فتجنشتاين واقترحا معايير جديدة لتصنيف أفعال الكلام‪.‬‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic‬‬ ‫‪Ethics‬‬


‫‪Downloaded‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27 06:36:14PM‬‬
‫‪from Brill.com12/26/2021‬‬
‫‪via free access‬‬
‫في البحث عن مشترك إنساني كوني‬ ‫‪21‬‬

‫فاللغة لدى هابرماس إضافة إلى كفايتها اللغو ية (التركيبية والصوتية والدلالية) فإنها كذلك‬
‫تعد أساسا للتواصل كما للتفاهم والتفاعل والبحث عن المشترك يقول‪“ :‬الجملة المصاغة جيدًا من‬
‫الناحية النحو ية تستجيب لشروط المعقولية‪ ،‬وعلى من يشارك في التواصل أن يكون مستعدًا‬
‫للتفاهم بالتعبير في كل مرة عن ادعاءات الحقيقة والصدق والدقة‪ ،‬ومفترضًا بشكل متبادل أن‬
‫هذه الادعاءات م�حترمة‪ ،‬ومن ث َم فإن الجمل تكون موضوع تحليل لساني بينما أفعال الكلام تكون‬
‫موضوع تحليل تداولي” (‪ ،)Habermas 1988c, 368‬فإذا كان البحث اللساني يهتم بتراكيب‬
‫الجمل فإن التداول بنظر هابرماس يتجاوز وصف شيء ما بواسطة جملة معينة‪ ،‬والتعبير عن قصد‬
‫المتكلم‪ ،‬إلى إقامة علاقة تداولية بين المتكلم والمستمع‪ ،‬وهذه العلاقة التداولية تُدار وفق ما أسماه‬
‫هابرماس بـ“أخلاقيات المناقشة‪”.‬‬
‫وأخلاقيات المناقشة على نحو ما سبق إنما هي في حقيقتها امتداد للفعل التواصلي‪ ،‬وقد ارتأى‬
‫هابرماس أنها تنهض على مبدأين‪ :‬المبدأ الأول هو المبدأ (ميم) أي “مناقشة‪ ”،‬و يعني قبول كل‬
‫المشاركين الدخول في مناقشة عملية يمكنها ادعاء الصلاحية‪ ،‬يضاف إليه المبدأ (كاف) أي‬
‫“ا�لكونية‪ ”،‬والذي يفترض توافر أربعة معايير (المعقولية‪ ،‬والحقيقة‪ ،‬والصواب‪ ،‬والصدقية)‪،‬‬
‫بحيث تحظى هذه المعايير بموافقة الجميع دون ضغط أو إكراه وتسهل عملية تحمل النتائج والتأثيرات‬
‫الناجمة عنها من طرف جميع الأشخاص المعنيين‪ .‬و يُعد مبدأ ا�لكونية هذا الذي صاغه هابرماس‬
‫كقاعدة حجاجية بديلًا للأمر المطلق لكانط‪ ،‬فعوض أن يحاول هابرماس فرض قواعد بعينها على‬
‫الآخرين والتي أراد لها أن تصبح كونية‪ ،‬رأى أنه “يجب أن أخضع قاعدتي �لكي يفحصوها‬
‫بالمناقشة ويمنحوني ادعاءات صلاحيتها ا�لكونية ” (‪.)Habermas 1986, 88–89‬‬
‫إذا كان سؤال التواصل لدى هابرماس على النحو السابق يعول على العقل التواصلي واللغة‬
‫وأخلاقيات المناقشة للانتقال إلى ا�لكوني والبحث عن المشترك الإنساني‪ ،‬فإن الأمر لدى طه‬
‫عبد الرحمن ربما يغاير ذلك نوعًا ما‪ ،‬حيث انشغل طه عبد الرحمن بـ“مشروعية الاختلاف” أي ًا‬
‫كان هذا الاختلاف فلسفيًا أو فكري ًا باعتباره حق ًا يوجبه التنوع الثقافي والحضاري‪ ،‬ومن ث َم‬
‫للرؤ ية العربية والإسلامية كما للغربية الحق في إبراز خصوصيتها وفرادتها المتمثلة في طرائق النظر‬
‫ل�لكون والإنسان‪ .‬أما الذات التي تذوب تدر يجيًا في ذات الآخر باقتباس مفاهيمه وأدواته‬
‫وقضاياه بغية تحديث الذات‪ ،‬بحيث تنتهي إلى النظر إلى الذات بعين الغير‪ ،‬والنظر للغير بعين‬
‫الغير كذلك‪ ،‬هذه الذات بنظر طه تمتلك هو ية مائعة أو سائلة أو مغتربة أو قلقة (عبد الرحمن‬
‫‪ .)158 ،2006‬والخصوصيات الماثلة في واقع الفكر بنظر طه تمثل جسد ا�لكونية‪ ،‬فالمعاني ا�لكونية‬
‫في صوغها ونقلها تلبس لباس الخصوصية‪ ،‬أي أنها تتكلم لغة مخصوصة‪ ،‬وتُنّطَقْ في مجتمع خاص‪.‬‬
‫ن تلبس لباس الخصوصيات المختلفة‪ ،‬والحقيقة‬
‫ومن ث َم فا�لكونية وفق هذا التصور عبارة عن معا ٍ‬
‫ا�لكونية ليست إلا مجموعة خصوصيات متضافرة فيما بينها‪ ،‬أو منظورات مختلفة لشيء واحد لا‬
‫يمكن أن ندركه في ذاته من حيث هو مستقل عن هذه المنظورات الخاصة‪ ،‬وإنما ندركه من‬
‫خلال هذه الخصوصيات التي تتوارد عليه (عبد الرحمن ‪.)118–117 ،2013‬‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic Ethics‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27‬‬


‫‪Downloaded from Brill.com12/26/2021 06:36:14PM‬‬
‫‪via free access‬‬
‫‪22‬‬ ‫عباس‬

‫وانطلاقًا من فهم طه ل�لكونية على النحو السابق تأتي مقاربته لسؤال التواصل وصوغه لنظريته‬
‫في التداول على أساس وجود مجالات تداولية متجاورة ومتعددة‪ ،‬فثمة مجال تداولي لكل أمة‬
‫وبمراعاته تحافظ على كيانها وأصالتها‪ ،‬إلا أن هذا المجاـل يكـون بنظر طه عرضـة للاختـراق مـن‬
‫قبـل أفكاـر وثقافات وافـدة مـن مجاـلات أخـرى‪ ،‬و�لكـي تـتم المحافظـة علـى خصوصـية هـذا‬
‫المجاـل مـن المسخ أو التشو يه لابد مـن عمليـة تكييـف لتلـك الأفكاـر الوافـدة مـع هـذا المجاـل‬
‫الأصـلي‪ ،‬وهذه العملية يسميها طه عبد الرحمن بـ“التقريب التداولي‪ ”،‬وهو ذلـك الإجراء الذي به‬
‫يتم وصل المنقول بالمأصول أو جعل المنقول نفسه مأصول ًا (عبد الرحمن ‪ .)237 ،1994‬فالتقريب‬
‫ظ ِر‬
‫التداولي بهذا المعنى يعد مرادفًا للتواصل بين المجالات التداولية‪ ،‬إلا أن هذا التواصل الذي يُن َ ّ‬
‫له طه يعد مقيدًا ومشروطًا بإفادة وإخصاب مجال التداول الأصلي (أي العربي الإسلامي الذي‬
‫ينتمي إليه طه)‪ ،‬فرؤ ية طه على هذا النحو والتي جعلت من مجال التداول بمقتضياته (اللغو ية‬
‫والعقدية والمعرفية) ركيزة لها‪ ،‬وبنت هذا المجال على أساس مبدأ التفضيل‪ ،‬إذ “ليس في جميع‬
‫الأمم أمة ُأوتيت من صحة العقيدة وبلاغة اللسان وسلامة العقل مثلما أوتيت أمة العرب‪،‬‬
‫تفضيل ًا من ال� ل�ه” (عبد الرحمن ‪ ،)252 ،1994‬وهذا التصور القائم على المركز ية الثقافية‪ ،‬من‬
‫شأنه تقو يض إمكان الانتقال من المحلي ل�لكوني‪ ،‬أو حتى إمكان التلاقح بين المجالات التداولية‬
‫والتأسيس للمفاضلة بين الثقافات والحضارات‪ ،‬بحيث يقدس أنموذج ًا ثقافيًا على آخر‪ ،‬و يجعل‬
‫من هذا الأنموذج غير قابل للجدل‪ ،‬ومصدر ًا للأحكام والمعارف والقيم‪ ،‬وهي نظرة أحادية‬
‫خصوصية قومية تقوم على تزكية الخلاف‪ ،‬وعلى التعصب الـذي يحيل إلى نـوع من الوثوقية‬
‫التي تغلق باـب الـحـوار والمناقشة‪ .‬كما أن التقريب التداولي الخارجي الذي يقترحه طه كإجراء‬
‫للتفاعل مع المجالات التداولية الأخرى والثقافات الوافدة‪ ،‬يظل يجعل من مجال التداول الأصلي‬
‫(العربي الإسلامي) ومقتضياته (اللغو ية والعقدية والمعرفية)‪ ،‬مرجع ًا يحاكَم عليها الوافد‪ .‬وهو ما‬
‫يفضي بالضرورة إلى مجالات تداولية متصارعة لا متلاقحة‪.‬‬
‫وعلى الرغم من مفارقة طه عبد الرحمن لهابرماس في مقاربة سؤال التواصل إلا أنهما يتفقان‬
‫على إعطاء الأولو ية للحجاج والمناقشة والحوار واللغة كأداة للتواصل بين المتحاورين للوصول‬
‫للحقيقة‪ .‬فكل منهما أعطى معنى مماثلا للحقيقة كونها نتاج ًا لتبادل البراهين والحجج بين المتحاورين‪.‬‬
‫فهابرماس ومن أجل صياغة مفهومه للفاعلية التواصلية وللمجال العمومي اضطر إلى إعادة النظر‬
‫في مسألة الحقيقة فالحقيقة بنظره ليست معطى جوهري ًا سابق ًا على الوجود الانساني‪ ،‬وإنما هي‬
‫نتاج لعملية تبادل البراهين والحجج وهي بذلك تتويج لاتفاق ذي طبيعة اجتماعية‪ ،‬وهذا ما يسميه‬
‫هابرماس بـ“النظر ية الإجماعية للحقيقة‪ ”،‬حيث تغدو الحقيقة نتاج ًا للتداول العمومي والنقاش‬
‫العام والإجماع الذي ينتج عن هذا التداول (‪ ،)Habermas 1988a‬ومن هنا يدعو هابرماس‬
‫إلى التواضع في الإعلان عن الموقف لأن ذلك من شروط الحوار‪ ،‬والاعتراف بإمكان الوقوع‬
‫في الخطأ مبدأ من مبادئ النقاش العمومي‪ ،‬فلا شيء معفي من السؤال والنقد والمناقشة‪ ،‬وكل‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic‬‬ ‫‪Ethics‬‬


‫‪Downloaded‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27 06:36:14PM‬‬
‫‪from Brill.com12/26/2021‬‬
‫‪via free access‬‬
‫في البحث عن مشترك إنساني كوني‬ ‫‪23‬‬

‫الموضوعات إنما تكتسب شرعيتها من خلال المناقشات العمومية التي تتيح الوصول إلى الحقيقة‬
‫الإجماعية (‪ .)Habermas 1988a, vi‬أما طه عبد الرحمن فالحقيقة لديه لم تختلف كثير ًا عما ذكر‬
‫هابرماس‪ ،‬فالحوار لدى طه ينزل منزلة الحقيقة‪ ،‬وإذا كان الأصل في الكلام من جهة مضمونه‬
‫هو الحقيقة‪ ،‬فكذلك الأصل فيه من جهة قائله هو الحوار‪ .‬و يقول طه في حوارات من أجل‬
‫المستقبل‪“ :‬إن طر يق الوصول إلى الحق ليس واحدًا‪ ،‬وإنما طرق شتى لا ح ّد لها” معتبر ًا إن‬
‫“الحق هو نفسه على خلاف الرأي السائد‪ ،‬ليس ثابتًا لا يتغير‪ ،‬بل أصله أن يتغير ويتجدد‪ ،‬وما‬
‫كان في أصله متجدد ًا‪ ،‬فلابد من أن يكون الطر يق الموصل إليه متعدد ًا‪ ،‬ومتى و ُجد التعدد‬
‫في الطرق‪ ،‬فثمة حاجة إلى قيام حوار بين المتوسلين بها” (عبد الرحمن ‪� .)8–7 ،2011‬لكن‬
‫هذه السردية الحوار ية التي دعمها طه ورأى فيها ضرورة لحياة العقل وتوسعته وتعميق مداركه‪،‬‬
‫وتقليص الخلاف بين المتحاورين‪ ،‬لا تعني أن ثمة تغير ًا جذري ًا طرأ على موقف طه من مناقشة‬
‫إشكال التراث والتقريب التداولي أو جدلية التراث مع الوافد‪ ،‬إذ التراث بنظره “كل متكامل‬
‫لا يقبل التفرقة بين أجزائه‪ ،‬ووحدة مستقلة لا يقبل التبعية لغيره” (عبد الرحمن ‪ ،)30 ،2011‬فما‬
‫أنجزه طه في حوارات من أجل المستقبل – فيما يخص إشكال التراث – هو تأكيد وتوضيح‬
‫وتلخيص لما أنجزه في تجديد المنهج في تقويم التراث‪ ،‬فـ(العقيدة واللغة والمعرفة) تمثل مقتضيات‬
‫ومحددات للمجال التداولي العربي الإسلامي وتمثل في نفس الوقت مظاهر الإنتاجية فيه‪ ،‬وما هو‬
‫منقول عن الغير‪ ،‬ينبغي أن يخضع لتحو يلات تصحيحية حتى يصبح متلائمًا مع مقتضيات المجال‬
‫التداولي العربي الإسلامي (عبد الرحمن ‪.)30–29 ،2011‬‬

‫على سبيل الختام‬

‫يمكن الوقوف على عدد من النتائج التي أفضت إليها مقاربة أسئلة الديني والأخلاقي والتواصلي‬
‫لدى كل من الفيلسوف الألماني هابرماس والفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن‪ ،‬في اشتغالهما على‬
‫الحداثة نقدًا وتمحيصً ا‪ ،‬بحثًا عن المشترك الإنساني لبلوغ أفق كوني يسوده التسامح‪.‬‬
‫أول ًا‪ :‬في بحث هابرماس لدور الدين في الفضاء العمومي ع َ ّد هابرماس القبول بالمختلف الديني‬
‫وترسيخ ثقافة التسامح والقبول بالتعددية الثقافية أساسًا للوصول لأخلاق كونية‪ ،‬واعتبر ذلك‬
‫المخرج الوحيد لمشكلة العنف والإقصاء التي توجه من طرفي الدينيين والعلمانيين‪ .‬أما عن موقع‬
‫الدين لدى طه فإن النزوع للدين بنظره سلوك فطري لاشعوري مغروز في الذات البشر ية وفق‬
‫منطق المواثقةكما سماه طه (أي الميثاق الإلهي الذي أخذه ال� ل�ه على عباده في عالم الذر)‪ .‬والتطرف‬
‫والعنف بنظر طه لا يرتبط بالديني‪ ،‬بل بالفهم المنغلق والمتشدد للديني‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬في بحث جدلية الديني والأخلاقي نجد طه عبد الرحمن لا يعتد بغير الأخلاق المستلهمة‬
‫من الدين (الإسلامي تحديد ًا كونه يجمع بين َشرطي الأخلاقية والإنسانية)؛ كونها – أي‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic Ethics‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27‬‬


‫‪Downloaded from Brill.com12/26/2021 06:36:14PM‬‬
‫‪via free access‬‬
‫‪24‬‬ ‫عباس‬

‫الأخلاق الإسلامية – في اعتقاده‪ ،‬هي الوحيدة القادرة على إمدادنا برؤ ية أكمل قيمة وأكثر‬
‫حركة‪ ،‬وفي المقابل نجد هابرماس ورغم توكيده على علاقة الديني بالأخلاقي‪ ،‬إلا أنه لم ينشغل‬
‫بسؤال الأخلاق في بعده الميتافيز يقي‪ ،‬بل في بعده التواصلي‪ ،‬ومن ث َم دشن ما اصطلح عليه‬
‫بـ“أخلاقيات النقاش‪ ”.‬وهو ما شكل منعطف ًا بارز ًا في تفكيره‪ ،‬ضمن كتابه الوعي الأخلاقي‬
‫والفعل التواصلي‪ ،‬وفيه بَيّنَ أن هدفه هو توظيف منطق الفعل التواصلي لبلورة نظر ية الفعل‬
‫التواصلي انطلاقا من أخلاقيات النقاش أو الحجاج‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬رغم انشغال طه بالتمركز على الذات العربية والإسلامية وتراثها استمداد ًا لآلياته وأدواته‬
‫وتشغيلًا لها في تداوليته‪ ،‬ورغم اختلاف تلك التداولية عن تواصلية هابرماس‪ ،‬وافتراقهما في‬
‫المنطلقات بل وحتى في الغايات إلا أنهما اشتركا في الآليات‪ ،‬فإذا كانت تداولية طه تنبني على‬
‫عقلانية عملية وترى فيها مخرج ًا من مأزق الذات العربية الإسلامية ومنفذًا لبلوغ حداثة ذات‬
‫نكهة إسلامية (ومن ث َم فالمنحى الذي يقترحه عبد الرحمن هو أقرب إلى منحي أسلمة الحداثة)‪.‬‬
‫فإنه على الجانب الآخر تنبني تواصلية هابرماس على عقلانية تواصلية والتي يرى فيها مخرج ًا‬
‫ومنقذًا للحداثة بعد إقراره بأنها مشروع لم يكتمل بعد‪( ،‬ومن ث َم فمشروع هابرماس جاء لإحياء‬
‫الحداثة ورد الاعتبار لها من دون تجاوزها كما فعل أصحابه من رواد مدرسة فرانكفورت)‪،‬‬
‫كذلك نجد كلتا المقاربتين انبنتا على إعطاء دور تأو يلي وتداولي للغة يتجاوز الإطار الوصفي‪،‬‬
‫حت ّم َ على‬
‫وينتقل بها من كونها مجرد أداة للتواصل إلى اعتبارها “آلية” لإنتاج الخطاب‪ ،‬وهذا ما َ‬
‫كلتا المقاربتين استثمار مجالات اللغة الثلاثة‪ :‬التركيب‪ ،‬والدلالة‪ ،‬والتداول‪ ،‬وتوظيف آليات‬
‫الاستدلال الحجاجية والمنطقية‪.‬‬
‫رابع ًا‪ :‬لقد نحت كلتا المقاربتين في أشكلتهما للديني والتواصلي والأخلاقي إلى بلوغ أفق‬
‫كوني وتبحثان في المشترك الإنساني‪ ،‬رغم تباين رؤيتيهما حول ما هو كوني وآلية بلوغه‪ ،‬فمقاربة‬
‫هابرماس ترى أنه يمكن التوصل إلى المعايير الأخلاقية عبر نقاش حر عقلاني‪ ،‬تبحث فيه نتائج‬
‫كل معيار من تلك المعايير الأخلاقية انطلاقًا من خاصيته الكلية‪ ،‬أي القبول والرضا العام عن‬
‫طر يق الإقناع العقلي لا القوة والقسر‪ ،‬وهو الأمر الذي يكشف بجلاء عن انحيازه للحداثة ودفاعه‬
‫عنها‪ ،‬إذ إن الحداثة تستدعي أن يقوم النظام الأخلاقي على أساس عقلاني‪� .‬لكن ربما يظل بلوغ‬
‫غايةكهذه أقرب للمثال منها للواقع‪ ،‬إذ كيف يمكننا مجرد التفكير بنظام أخلاقي ينطبق على جميع‬
‫البشر بشتى مشاربهم وأنماط حياتهم؟‪.‬‬
‫على الجانب الآخر تأتي مقاربة طه لتنطلق من بؤرة إسلامية فالنظام الأخلاقي الإسلامي‬
‫هو الأقوم بنظر صاحب التداولية (طه)‪ ،‬وقد بدا هذا الانحياز من خلال تقسيم طه للزمن‬
‫الأخلاقي إلى ثلاث دوائر‪ :‬تاريخ الأخلاق اليهودية‪ ،‬وتاريخ الأخلاق المسيحية‪ ،‬وتاريخ الأخلاق‬
‫الإسلامية‪ ،‬معتبر ًا أن الزمن الإسلامي يبقى بمنزلة الزمن الأخلاقي الذي تتحقق فيه ظاهرة الحداثة‬
‫والذي يتم ّم ما نقص في سابق الأزمان من المكارم‪ ،‬باعتبار أن “الطور الخاتم من تحقق الميثاق‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic‬‬ ‫‪Ethics‬‬


‫‪Downloaded‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27 06:36:14PM‬‬
‫‪from Brill.com12/26/2021‬‬
‫‪via free access‬‬
‫في البحث عن مشترك إنساني كوني‬ ‫‪25‬‬

‫الأول أعقل الأطوار جميعا؛ فلما كان مضمون هذا الميثاق هو الجمع بين العقل و الشرع‪ .‬لم يحصل‬
‫تمام هذا الجمع إلا مع الطور الخاتم من أطواره” (عبد الرحمن ‪ .)168 ،2000‬وقد رهن طه عبد‬
‫الرحمن تحقيق ا�لكونية الأخلاقية بتبني المنظور الأخلاقي الإسلامي دون سواه‪ ،‬وكان هاجسه‬
‫على الدوام جعل الخصوصية الأخلاقية الإسلامية أخلاقًا كونية تبسط رداءها على العالم بأسره‬
‫من منطلق أن لا عقلانية أسمى من عقلانية الإسلام (عبد الرحمن ‪ )162 ،2000‬وأنه “ليس في‬
‫جميع الأمم‪ ،‬أمة أوتيت من صحة العقيدة وبلاغة اللسان وسلامة العقل مثلما أوتيت أمة العرب‪،‬‬
‫تفضيلًا من ال� ل�ه” (عبد الرحمن ‪ )252 ،1993‬وعليه فإن إصرار طه عبد الرحمن على أن يجعل من‬
‫خلفيته الدينية الإسلامية بداية حتمية في مناقشة مختلف القضايا الراهنة‪ ،‬بما في ذلك المشكلات‬
‫الأخلاقية‪ ،‬يجعل الوصول إلى مشترك كوني في الأخلاق أمرًا صعبًا إن لم يكن متعذًرا‪ ،‬وتبقى‬
‫ا�لكونية المشتركة التي يدعو إليها طه في حقيقتها خصوصية تتوق إلى أن تصير كونية بدعوتها‬
‫الآخر إلى تبني قيمها ومبادئها‪ ،‬وفق قناعة ترى أخلاقَ الغير لا تصلح لأن تصبح كونية بسبب‬
‫قصور العقل الذي قامت عليه وبسبب طبيعتها اللائكية وفي المقابل يرفع من قدر الذات ويبالغ‬
‫في إعلاء قيمها‪ .‬وربما لا يخفى أن تصور ًا كهذا يعد على الأقل بنظر الحداثيين والتنوير يين إقصاء‬
‫لكافة المنظومات الأخلاقية التي تبتعد عن ديانة التوحيد (اليهودية‪ ،‬والمسيحية‪ ،‬والإسلامية)‪.‬‬
‫ومن ث َم لا يمكن بهذا الإقصاء تمرير الفكر الأخلاقي الإسلامي من المحلي ل�لكوني‪ ،‬ومن ث َم يتعذر‬
‫أو تتعثر محاولة بلوغ أفق كوني لدى طه كما تعثرت لدى هابرماس‪.‬‬
‫وبناء ً على ما سبق فإن ما يمكن الحديث عنه لدى كل من طه وهابرماس ليست مقاربة لما‬
‫هو أخلاقي وقيمي كإطار “ل�لكوني‪ ”،‬وإنما هي أقرب إلى مجرد مسعى التوافق حول إطار قيمي‬
‫“للتعايش” ونبذ العنف والدور الذي يمكن أن يقوم به الدين في هذا المضمار كمصدر للقيم‬
‫والأخلاق‪.‬‬

‫المصادر والمراجع‬

‫أبو‪ ،‬سليم‪“ .2004 .‬الأسس الطبيعية والفلسفية لعلم الأخلاق‪ ”،‬ترجمة‪ :‬عبد الحميد فهمي الجمال‪.‬‬
‫مجلة ديوجين ‪.61–42 :172‬‬
‫الأشهب‪ ،‬محمد عبد السلام‪ .2014 .‬مناظرة هابرماس ورولز‪ ،‬دراسة ضمن “سؤال العدالة في‬
‫الفلسفة السياسية‪ ”.‬تحرير‪ :‬محمد المصباحي‪ .‬الرباط‪ :‬كلية الآداب والعلوم الانسانية‪ ،‬سلسلة‬
‫ندوات ومناظرات‪ ،‬رقم ‪.179‬‬
‫بورادوري‪ ،‬جيوفانا‪ .2013 .‬الفلسفة في زمن الإرهاب‪ :‬حوارات مع يورغين هابرماس وجاك‬
‫دريدا‪ ،‬ترجمة‪ :‬خلدون النبواني‪ .‬بيروت‪ :‬المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات‪.‬‬
‫جمال‪ ،‬خن‪ .2017 .‬إشكالية الحداثة والفعل الفلسفي في الفكر الغربي المعاصر يورغين هابرماس‬
‫نموذج ًا‪ .‬رسالة دكتوراه‪ ،‬كلية العلوم الاجتماعية‪ ،‬قسم الفلسفة‪ ،‬جامعة وهران ‪.2‬‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic Ethics‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27‬‬


‫‪Downloaded from Brill.com12/26/2021 06:36:14PM‬‬
‫‪via free access‬‬
‫‪26‬‬ ‫عباس‬

‫حرب‪ ،‬علي‪“ .1995 .‬من العقلانية النقدية إلى نقد العقلانية‪ ”،‬مجلة دراسات عربية ‪.31–19 :8‬‬
‫الخطيب‪ ،‬معتز‪“ .2011 .‬البعد الأخلاقي والقيمي للفقه الإسلامي‪ ”.‬في‪ :‬ندوة سؤال الأخلاق‬
‫والقيم في عالمنا المعاصر‪ .266–249 ،‬الرباط‪ :‬الرابطة المحمدية للعلماء‫‬‪‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬.‬‬
‫رشيد‪ ،‬العلوي‪ .2014 .‬الشر‪ ،‬والدين وخطاب الحداثة‪ :‬دراسات في الفلسفة السياسية المعاصرة‪.‬‬
‫بغداد‪ :‬دار نيبور‪.‬‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬طه‪ .1993 .‬تجديد المنهج في تقويم التراث‪ .‬الدار البيضاء‪ :‬المركز الثقافي العربي‪.‬‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬طه‪ .1996 .‬الفلسفة والترجمة‪ .‬بيروت‪ :‬المركز الثقافي العربي‪.‬‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬طه‪ .1999 .‬فقه الفلسفة‪ :‬القول الفلسفي‪ ،‬كتاب المفهوم والتأثيل‪ .‬الدار البيضاء‪:‬‬
‫المركز الثقافي العربي‪.‬‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬طه‪ .2000 .‬سؤال الأخلاق‪ :‬مساهمة فى النقد الأخلاقي للحداثة‪ .‬بيروت‪ :‬المركز‬
‫الثقافي العربي‪.‬‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬طه‪“ .2002 .‬رؤ ية علمية لتجديد مقاصد الشر يعة‪ ”.‬مجلة قضايا إسلامية معاصرة‬
‫‪.231–208 :18‬‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬طه‪ .2006 .‬روح الحداثة‪ :‬المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية‪ .‬بيروت‪ :‬المركز‬
‫الثقافي العربي‪.‬‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬طه‪ .2011 .‬حوارات من أجل المستقبل‪ .‬بيروت‪ :‬الشبكة العربية للأبحاث والنشر‪.‬‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬طه‪ .2012 .‬روح الدين‪ :‬من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية‪ .‬الدار البيضاء‪ :‬المركز‬
‫الثقافي العربي‪.‬‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬طه‪ .2013 .‬الحوار أفقا للفكر‪ .‬بيروت‪ :‬الشبكة العربية للأبحاث والنشر‪.‬‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬طه‪ .2014 .‬بؤس الدهرانية‪ :‬النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين‪ .‬بيروت‪:‬‬
‫الشبكة العربية للأبحاث والنشر‪.‬‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬طه‪ .2016 .‬شرود ما بعد الدهرانية‪ :‬النقد الائتماني للخروج من الأخلاق‪ .‬بيروت‪:‬‬
‫المؤسسة العربية للفكر والإبداع‪.‬‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬طه‪ .2017 .‬دين الحياء‪ :‬من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني‪ ،‬ج‪ .1‬بيروت‪ :‬المؤسسة‬
‫العربية للفكر والإبداع‪.‬‬
‫كاده‪ ،‬ليلي‪“ .2014 .‬الاستلزام الحواري في الدرس اللساني الحديث طه عبد الرحمن نموذج ًا‪ ”.‬مجلة‬
‫الممارسات اللغو ية ‪.194–165 :)3(3‬‬
‫‪.‬هابرماس‪ ،‬يورغين‪ .1995 .‬القول الفلسفي للحداثة‪ ،‬ترجمة‪ :‬فاطمة الجيوشي‪ .‬دمشق‪ :‬منشورات‬
‫وزارة الثقافة‪.‬‬
‫هابرماس‪ ،‬يورغين‪ .2006 .‬مستقبل الطبيعة الإنسانية نحو نسالة ليبرالية‪ ،‬ترجمة‪ :‬جورج كتوره‪.‬‬
‫بيروت‪ :‬المكتبة الشرقية‪.‬‬
‫هاو‪ ،‬آلن‪ .2005 .‬النظر ية النقدية مدرسة فرنكفورت‪ ،‬ترجمة‪ :‬ثامر ديب‪ .‬دمشق‪ :‬منشورات‬
‫وزارة الثقافة سور يا‪.‬‬

‫‪10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic‬‬ ‫‪Ethics‬‬


‫‪Downloaded‬‬ ‫‪5 (2021) 1–27 06:36:14PM‬‬
‫‪from Brill.com12/26/2021‬‬
‫‪via free access‬‬
‫في البحث عن مشترك إنساني كوني‬ 27

:‫” مؤمنون بلا حدود‬.‫ “جدلية الدين والحق عند هابرماس‬.2015 .‫ عامر عبد زيد‬،‫الوائلي‬
https://mominoun.com/pdf1/2015-04/5526716ad161d2067271407.pdf.
Habermas, Jürgen. 1974. “On Social Identity.” Telos 19: 91–103.
Habermas, Jürgen. 1984. The Theory of Communicative Action, vol. 1, Reason and the
Rationalization of Society, translated by Thomas McCarthy. Boston: Beacon.
Habermas, Jürgen. 1986. Morale et communication: conscience morale et activité com-
municationnelle, translated by Christian Bouchindhomme. Paris: Flammarion.
Habermas, Jürgen. 1987a. Théorie de l’agir communicationnel, 2 vols. Paris: Fayard.
Habermas, Jürgen. 1987b. The Theory of Communicative Action, vol. 2, Lifeworld and
System. Cambridge: Polity.
Habermas, Jürgen. 1988a. L’Espace public. Paris: Payot.
Habermas, Jürgen. 1988b. Le discours philosophique de la modernité: Douze conférances,
translated by Christian Bouchindhomme and Rainer Rochlitz. Paris: Gallimard.
Habermas, Jürgen. 1988c. On the Logic of the Social Sciences, translated by Shierry
Weber Nicholson and Jerry A. Stark. Cambridge: Polity.
Habermas, Jürgen. 1992. De l’éthique de la discussion, translated by Mark Hunuadi.
Paris: Flammarion.
Habermas, Jürgen. 1993. La pensée postmétaphysique, translated by Rainer Rochlitz.
Paris: Armand Colin.
Habermas, Jürgen. 1998. “What is universal pragmatics?” IEEE Transactions on
Professional Communication 41(2): 143–145.
Habermas, Jürgen. 2006. “Religion in the Public Sphere.” European Journal of Philosophy
14(1): 1–25.
Habermas, Jürgen. 2007. “Modernity: An Unfinished Project.” In Contemporary
Sociological Theory, edited by Craig J. Calhoun et al., 444–450. Malden, MA:
Blackwell.
Habermas, Jürgen. 2008. Between Naturalism and Religion. Cambridge: Polity.
Habermas, Jürgen. 2010. An Awareness of What Is Missing: Faith and Reason in a
Post-Secular Age. Cambridge: Polity.
Passerin d’Entrèves, Maurizio and Seyla Benhabib, eds. 1997. Habermas and the
Unfinished Modernism Project: Critical Essays on the Philosophical Discourse of
Modernity, Cambridge, MA: MIT Press.

10.1163/24685542-12340070 | Journal of Islamic Ethics 5 (2021) 1–27


Downloaded from Brill.com12/26/2021 06:36:14PM
via free access

You might also like