You are on page 1of 27

‫سؤال التضامن وتفعيل منظومة القيم‬

‫د‪ .‬عبد الرحمن العضراوي‬


‫أستاذ مقاصد الشريعة والفكر اإلسالمي بجامعة موالي سليمان ببني‬
‫مالل – اململكة املغربية‬

‫لقد كان التطور الهائل للعلوم والتكنولوجيا في العالم املعاصر يلح‬


‫على العقل اإلنساني مناقشة ما لم يسبق أن تمت مناقشته في العلوم‬
‫اإلنسانية والطبيعية‪ ،‬وهو مستقبل الكائنات البشرية وإنسانية هذه‬
‫الكائنات‪ .‬وذلك أن هذا املستقبل ينطوي على تهديدات كبرى‪ ،‬كان‬
‫أهمها مواجهة الخوف من انهيار البيئة وعالقتها بالتصنيع والتدمير‪،‬‬
‫والخوف من انهيار الحضارة اإلنسانية وزوالها من خالل كارثة نووية‪.‬‬
‫وانضاف إلى الئحة إنتاج الخوف بروز جائحة كورونا التي خيمت على‬
‫العالم كله‪ ،‬ولم تميز بين جنس وجنس‪ ،‬ولون ولون‪ ،‬وثقافة وثقافة‪،‬‬
‫ودين ودين‪ ،‬وغني وفقير‪ ،‬فجسدت بحق اشتراك البشرية في الشعور‬
‫بالخوف‪ ،‬واستكشاف أخطاره املمكنة بتخيلها قصد تجنب الوقوع‬
‫فيها‪ .‬وقد ارتبط هذا االستكشاف للخوف بسؤال القيم وأهميته في‬
‫فهم الواجب الوجودي الذي يستشعر قيمة كينونة اإلنسان وفاعليته‬
‫وضرورة التعارف مع اآلخر واالعتراف به‪ .‬وفتحت جائحة كوفيد ‪19‬‬
‫رؤية جديدة للعالم محورها التفكير القيمي باعتباره سؤاال فلسفيا‬
‫عميقا في بناء مستقبل عالمي روحه ‪-‬في املقام األول‪ -‬التأمل األخالقي‬
‫ومقاصده في الخروج من األنا إلى الغير عبر التواصل والتضامن‪.‬‬

‫‪91‬‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ ﻓﺼﻠﻴﺔ ﻣﺤﻜﻤﺔ ﺗﻌﻨﻰ ﺑﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﺗﺼﺪﺭ ﻋﻦ ﻣﻨﺘﺪﻯ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺔ ‪ -‬صيف ‪ / 2020‬العدد التاسع‬
‫إن علم األخالق باعتباره مجموع األوامر والنواهي املقررة دينا‬
‫أو عقال عند مجتمع مخصوص وفي‬
‫مرحلة تاريخية مخصوصة‪ ،‬ال ينفك‬
‫فتحت جائحة كوفيد‬ ‫عن علم القيم باعتباره نظرا في أحكام‬
‫القيمة التي تتعلق باألفعال إن تحسينا ‪ 19‬رؤية جديدة للعالم‬
‫محورها التفكير القيمي‬
‫باعتباره سؤاال فلسفيا‬ ‫أو تقبيحا‪ .‬فيتبين أن التفكير املتأمل‬
‫للواقع القيمي ودراسته بقواعد املنهج عميقا في بناء مستقبل‬
‫عالمي روحه ‪-‬في المقام‬
‫العلمي هو موضوع فلسفة القيم؛ إذ‬
‫الأول‪ -‬التأمل الأخالقي‬
‫القيمة هي كل ما له شأو في التصور وفي ومقاصده في الخروج من‬
‫الأنا إلى الغير عبر التواصل‬ ‫الفعل لدى األفراد والجماعات‪.‬‬
‫والتضامن‬
‫إن املتأمل في واقع قيم العالم‬
‫املعاصر يجد أن القيم ليست هي ما‬
‫يعوزه‪ ،‬بل إن الفاعلين هم الذين تعوزهم‬
‫القيم‪ ،1‬ولهذا يتساءل أحد الباحثين الغربيين عن وجود معايير قيمية‬
‫كونية في الثقافة الغربية‪ ،‬فتوصل إلى أنها ال تحمل أية كونية إال ما كان‬
‫من إمكانية وجوب التالقي والقدرة على التواصل‪.2‬‬
‫لقد صارت القيمة في السياق الوضعي هي “الوجود من حيث كونه‬
‫مرغوبا فيه أو موضع رغبة ممكنة”‪ ،‬فهي من الناحية الذاتية صفة‬
‫في األشياء قوامها أن تكون موضع تقدير إلى حد كبير‪ .‬ومن الناحية‬
‫‪ - 1‬فلسفة القيم‪ ،‬بول رزفرب ص ‪.119‬‬
‫‪2 - Reboul Olivier. Nos valeurs sont-elles universelles ? In: Revue française‬‬
‫‪de pédagogie, volume 97.p 10.‬‬

‫‪92‬‬
‫املوضوعية صفة في األشياء من حيث إنها جديرة ب�شيء قليل أو‬
‫كثير من التقدير‪ ،‬نحو قيمة العقل‬
‫والحرية والثقافة والتضامن ‪ ...‬وكلها‬
‫قيم أخالقية تواكب قيما أخرى هي المتأمل في واقع قيم‬
‫العالم المعاصر يجد أن‬
‫القيم الجمالية واملنطقية والسياسية‬
‫القيم ليست هي ما‬ ‫َُ‬
‫واالقتصادية‪ ،‬وبهذا صار ال يتكلم عنها يعوزه‪ ،‬بل إن الفاعلين هم‬
‫الذين تعوزهم القيم‬ ‫باعتبارها قيما منعزلة‪ ،‬وإنما تشكل‬
‫قيمية يقصد بها مجموع قيم‬ ‫منظومة َ‬
‫مترابطة تنتظم كال واحدا يضفي على كل‬
‫جزء من أجزائه داللته‪ ،‬ويمنحه بعده أو أبعاده في إطار ُسلم معين‬
‫تتسلسل فيه وفق منطق معين‪.‬‬
‫فالخير والعدالة واإلنصاف واملساواة والسلم واالعتراف والتعارف‬
‫والتضامن “قيم يمكن النظر إلى كل واحدة منها بمفردها‪ ،‬ويمكن‬
‫النظر إليها في ارتباطها داخل منظومة معينة تضفي عليها معنى خاصا‬
‫يختلف قليال أو كثيرا‪ ،‬قوة وشدة‪ ،‬عن معناها منفردة‪ .‬واملنظومة التي‬
‫تعطي لهذه القيم معناها الخاص ذاك‪ ،‬يجب النظر إليها‪ ،‬ال بوصفها‬
‫منظومة قيم وحسب‪ ،‬بل بوصفها كذلك منظومة ثقافية حضارية“‪.1‬‬
‫فالقيم الجمالية واألخالقية الدينية والعقلية تتعايش وتتحاور‪،‬‬
‫وقد تختصم دون أن تتصارع وينكر بعضها بعضا‪ .‬وذلك أن القيم‬

‫‪ - 1‬نظام القيم يف الثقافة العربية اإلسالمية‪ ،‬الجابري‪ ،‬ص ‪ ،48‬ضمن بحوث‬


‫األخالقيات اإلسالمية وأسس الديمقراطية‪ .2000 /‬ملف مجلة مقدمات‪.‬‬

‫‪93‬‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ ﻓﺼﻠﻴﺔ ﻣﺤﻜﻤﺔ ﺗﻌﻨﻰ ﺑﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﺗﺼﺪﺭ ﻋﻦ ﻣﻨﺘﺪﻯ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺔ ‪ -‬صيف ‪ / 2020‬العدد التاسع‬
‫تفصل عن الدين فمن حيث جعلها مطلبا عمليا من‬ ‫العقلية حين َ‬
‫مطالب العقل‪ ،‬وال تتحقق دون رقابة العقل‪ .‬والقيم الدينية حين تؤكد‬
‫على أسبقيتها على العقلية فمن حيث اعتبار الدين مسددا للعقل‪.‬‬
‫فدعوى استقالل أحدهما عن اآلخر بدعوى حرية العقل أو عدم‬
‫اكتماله‪ ،‬إشكالية تجزيئية ال تقف بمنظور برهاني قويم عند مصدرية‬
‫إرادة الفعل الروحية واملادية عند الفاعل اإلنساني‪.‬‬
‫فأية قيمة من القيم تدرس من حيث العالقة املزدوجة التي يقيمها‬
‫الفاعل الكائن من داخل مرجعيته الثقافية‪ ،‬مع الغايات املقاصدية‬
‫الضرورية والحاجية والتحسينية في الواقع اإلنساني‪ ،‬ملعرفة الشروط‬
‫الوظيفية التي تيهئ إمكان التعارف والتواصل والتضامن‪ .‬ومن تلك‬
‫الشروط ارتباط الفاعل بالقانون باعتباره الرمز األول املعبر عن‬
‫التضامن اآللي والتضامن العضوي‪ ،‬واملؤثر على الفاعلية االجتماعية‬
‫والسياسية والثقافية‪.‬‬
‫َ‬
‫إن كل ما تقدم من شأنه أن يكشف جوانب عديدة من مقاربة‬
‫سؤال القيم وتأطيره لتفعيل قيمة التضامن وتشغيل نظامها األخالقي‬
‫في زمن جائحة كورونا خاصة‪ ،‬وسيادة الخوف من املستقبل عامة‪.‬‬
‫وستتم هذه املقاربة بمنهج تحليلي من خالل محورين اثنين‪ ،‬يتناول‬
‫أولهما سؤال قيمة التضامن من خالل نماذج نظرية‪ ،‬وثانيهما قصدية‬
‫التضامن نحو أفق كوني لقيم التعاون‪.‬‬
‫سؤال قيمة التضامن من خالل نماذج نظرية‬
‫يمكن القول إن قيمة التضامن عبارة عن كفاية حاجة محتاج‬

‫‪94‬‬
‫ال�شيء‪ ،‬وهي انفعال نف�سي من لدن األنا ين ِتج شعورا بأن الغير محتاج‬
‫شيئا بسبب ضيق أو عسرة أو ابتالء‪ .‬وهذا الشعور بتألم املحتاج فطري‬
‫في الذات اإلنسانية‪ ،‬تندفع به للقيام بكفاية حاجته وتخليصه من آالم‬
‫تلك الحاجة املادية أو املعنوية‪ .‬فهذا الشعور تعاون وتكافل ومواساة‬
‫عند الكروب والشدائد واالبتالءات‪ .‬فالبشرية في تعاقبها التاريخي‬
‫عرفت على اختالف أديانها وثقافاتها وحضاراتها ابتالءات عديدة من‬
‫الزالزل والفياضانات واملجاعات والطواعين التي تحدث عنها املؤرخون‬
‫ومنهم املسلمون‪ ،‬نحو املقريزي وابن تغري بردي وابن كثير وابن إياس‬
‫وابن بطوطة وابن عذاري املراك�شي‪.‬‬
‫ومن هذه الطواعين طاعون عمواس‬
‫سنة ‪18‬هـ‪ ،‬وطاعون الجارف سنة ‪69‬هـ‪،‬‬
‫أن كوفيد ‪ 19‬في‬ ‫وطاعون األشراف سنة ‪87‬هـ‪ ،‬وطواعين‬
‫زمن العولمة ليس أمرا‬
‫جديدا في الجوائح‪ ،‬بل‬
‫أخرى في املشرق واملغرب‪ ..‬فبهذا يتبين‬
‫أن كوفيد ‪ 19‬في زمن العوملة ليس أمرا واقعة تاريخية تكشف‬
‫تطور العقل البشري‬ ‫جديدا في الجوائح‪ ،‬بل واقعة تاريخية‬
‫في مواجهتها بحسب‬
‫الإماكن التاريخي والسقف‬
‫تكشف تطور العقل البشري في مواجهتها‬
‫المعرفي الذي يحكم‬ ‫بحسب اإلمكان التاريخي والسقف‬
‫فترات الجوائح‬ ‫املعرفي الذي يحكم فترات الجوائح‪،‬‬
‫ومن ذلك اإلمكان تفعيل النظام القيمي‬
‫في معالجة إشكاليات الكوارث بتقوية‬
‫الشعور بإنسانية اإلنسان ومحورية التضامن في نظامها القيمي‪.‬‬

‫‪95‬‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ ﻓﺼﻠﻴﺔ ﻣﺤﻜﻤﺔ ﺗﻌﻨﻰ ﺑﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﺗﺼﺪﺭ ﻋﻦ ﻣﻨﺘﺪﻯ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺔ ‪ -‬صيف ‪ / 2020‬العدد التاسع‬
‫وقد تم إحكام قيمة التضامن بكونها فعال أخالقيا ذاتيا ممارسا من‬
‫الفرد والجماعة بمبادئ الدين والعلم والقانون‪ ،‬وبهذا لم تبق قضية‬
‫متعلقة باالستجابة للكينونة الذاتية‪ ،‬وإنما تتعداها لتكون قضية عالقة‬
‫مجتمعية‪ ،‬وفاعلية مؤسساتية‪ ،‬وعالقة دولية‪ ،‬وتحالف حضاري من‬
‫أجل سيادة قيم تكريم اإلنسان وعدالة الحقوق‪ .‬وهذا االمتداد لقيمة‬
‫التضامن في الواقع اإلنساني‪ ،‬أخرج استمداد معرفتها من منهج أبحاث‬
‫األخالق النظرية وتحديد الواجب من قواعد السلوك‪ ،‬إلى منهج دراسة‬
‫ظواهر االجتماع البشري عبر استعمال املنهج التجريبي واستخالص‬
‫القوانين املحركة للفعل التاريخي من خالل الوقائع التاريخية‪ .‬وفي هذا‬
‫السياق‪ ،‬ومن مرجعيات تصورية مختلفة‪ ،‬تم تحليل قيمة التضامن‬
‫وأهميتها في استقرار الوضع االجتماعي وتحقيق الفرد لذاتيته‪ .‬ويمكن‬
‫التمثيل لتلك التصورات بالنماذج الثالثة اآلتية‪ :‬نموذج ابن خلدون‪،‬‬
‫وليون ديجي‪ ،‬وأكسيل هونيث‪.‬‬
‫‪ -1‬نموذج ابن خلدون‪:‬‬
‫لم يسلك ابن خلدون منهج األخالقيين من الفقهاء واملتكلمين‬
‫واملتصوفة والفالسفة في التعريف بنظام القيم‪ ،‬وإنما اختار املنهج‬
‫التجريبي الذي يقوم على معايشة الوقائع املتشخصة بمادتها‪ ،‬أي ذات‬
‫الوجود الكياني العياني‪ ،‬حيث أبرز أن أهم عوامل التضامن االجتماعي‬
‫يعود إلى العصبية باعتبارها شعورا بالتالحم مع الجماعة والوالء الكلي‬
‫لها (مقدمة ابن خلدون)‪ ،‬فهي تتولد في البداية من عالقات النسب‬
‫وأواصر القرابة‪ ،‬ثم تتطور لتتخذ شكل الحلف أو االنتماء‪ ،‬ثم تتحول‬

‫‪96‬‬
‫مؤد إلى نشوء عصبية الدولة‪ ،‬التي حينما تستقر‬ ‫إلى والء مصلحي ّ‬
‫ٍ‬
‫وتوطد سيادتها قد تستغني عن العصبية وتحل محلها أجهزة الدولة‪.‬‬
‫فكلما ارتقت العصبية ارتقى التضامن املادي واملعنوي بين أفرادها‬
‫املنتمين لها‪ .‬يقول‪“ :‬وذلك ألنا قدمنا أن العصبية بها تكون الحماية‬
‫واملدافعة واملطالبة وكل أمر يجتمع عليه‪ ،‬وقدمنا أن اآلدميين‬
‫بالطبيعة اإلنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع‬
‫بعضهم عن بعض‪ ،‬فال بد أن يكون متغلبا عليهم بتلك العصبية‪ ،‬وإال‬
‫لم تتم قدرته على ذلك‪ ،‬وهذا التغلب هو امللك‪ ،‬وهو أمر زائد على‬
‫الرئاسة‪ ،‬ألن الرئاسة إنما هي سؤدد‪ ،‬وصاحبها متبوع‪ ،‬وليس له عليهم‬
‫قهر في أحكامه‪ ،‬وأما امللك فهو التغلب والحكم بالقهر”‪.1‬‬
‫واعتماد ابن خلدون على استكشاف قيمة التضامن من الواقع‬
‫التجريبي‪ ،‬إنما هو ضرورة منهجية ليس فيها استبعاد إلعمال األحكام‬
‫النظرية ملنظومة القيم التي يوجبها اإلسالم في االجتماع البشري‪ ،‬بل‬
‫عمل على إبراز تكامل معرفي بين القيم وأحكام القيم‪ ،‬حيث اتخذ‬
‫التاريخ ميدانا للدراسة تستخلص منه القيم والقوانين التي تحكم‬
‫الظواهر االجتماعية التاريخية‪ ،‬والتي ال تستقيم أية برمجة للحاضر‬
‫واملستقبل إال على هداها‪ .2‬وتكشف عالقة العصبية بالتضامن أهمية‬
‫االلتزام بالقيم في الدولة؛ إذ قد تبدو العالقة بينهما طردية باستمرار‬
‫على مستوى الكيف والكم‪ ،‬فكلما التزمت بمزيد من القيم وعملت على‬

‫‪ - 1‬مقدمة ابن خلدون ص ‪.110‬‬


‫‪ - 2‬التفسير اإلسالمي للتاريخ‪ ،‬عماد الدين خليل‪ ،‬ص ‪ 8‬و‪.9‬‬

‫‪97‬‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ ﻓﺼﻠﻴﺔ ﻣﺤﻜﻤﺔ ﺗﻌﻨﻰ ﺑﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﺗﺼﺪﺭ ﻋﻦ ﻣﻨﺘﺪﻯ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺔ ‪ -‬صيف ‪ / 2020‬العدد التاسع‬
‫تأصيلها في البنية االجتماعية‪ ،‬كلما تمكنت من حماية وحدتها وإطالة‬
‫عمرها الحضاري‪ ،‬وكلما عملت على التخلي عن االلتزامات القيمية‬
‫كلما عرضت نفسها للتدهور واالنحطاط‪.‬‬
‫‪ -2‬نموذج ليون ديجي‪:‬‬
‫ذكرت املوسوعة السياسية‪ 1‬أن نظرية التضامن االجتماعي قامت‬
‫على أسس نقد علمي للمذهب الفردي‪ ،‬منها‪:‬‬
‫أوال‪ :‬استمداد املذهب الفردي مقوماته األساسية من مبادئ مدرسة‬
‫القانون الطبيعي الذي قام على تقديس الحرية الفردية واعتبارها حقا‬
‫أساسيا وطبيعيا ال يجوز للدولة أن تمسها‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬مغاالته في تقديس اإلرادة الفردية واالهتمام باملصلحة‬
‫الخاصة على حساب املصلحة العامة‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬أن نظرته للحرية واملساواة ال تهتم بالفروقات الطبيعية بين‬
‫األفراد في الحاجة وفي القدرة‪ ،‬األمر الذي يؤدي إلى اختالل التوازن‬
‫الواقعي بين األفراد‪ ،‬وهو ما يبعد تحقق الطمأنينة في املجتمع‪.‬‬
‫ومن الذين طوروا نظرية التضامن االجتماعي‪ :‬ليون ديجي الذي‬
‫اعتمد منهج املالحظة والتجربة في تكوين القاعدة القانونية من خالل‬
‫الوقائع االجتماعية‪ ،‬وأكد في نظريته على األسس اآلتية‪:‬‬
‫أن اإلنسان اجتماعي بطبعه وال يستطيع العيش إال في جماعة‪،‬‬
‫وهذا يقت�ضي وجود مجتمع يعيش فيه اإلنسان مع غيره من الناس‪.‬‬
‫أن التضامن قائم بين جميع أفراد العالم‪ ،‬إال أن التضامن‬

‫‪1 - https://political-encyclopedia.org/dictionary/‬‬

‫‪98‬‬
‫العالمي غير واضح وما زال متأخرا النقسام العالم إلى أمم‪.‬‬
‫أن اإلنسان قد يشترك في الشعور بحاجات متشابهة ويدفعه إلى‬
‫ذلك التضامن لتحقيقها‪.‬‬
‫أن شرعية القانون الوضعي ال بد لها أن يكون القصد منها خدمة‬
‫مبدإ التضامن االجتماعي‪ ،‬وأن املجتمع يقوم على التضامن‪ ،‬والقانون‬
‫هو تعبير عن هذا التضامن وتطبيق له‪.‬‬
‫أن القاعدة القانونية يجب أن تتوافر فيها صفتان‪ :‬صفة‬
‫اجتماعية وصفة فردية‪ ،‬فهي اجتماعية ألنها وجدت لتنظيم عالقات‬
‫األفراد واملجتمع‪ ،‬وهي فردية ألن ضمير الفرد يشتمل عليها‪ ،‬وألنها‬
‫تطبق على األفراد‪.‬‬
‫أن القاعدة القانونية هي التي يشعر جمهور األفراد بأنها ضرورية‬
‫والزمة لصيانة التضامن االجتماعي‪ ،‬وأنه من العدل تسخير قوة الدولة‬
‫وعنصر اإلكراه واإلجبار فيها لكفاية احترامه‪ ،‬وأن عنصر الجزاء في‬
‫القاعدة القانونية يرجع إلى إحساس الجماعة وشعورها بضرورة‬
‫وواجب احترام هذه القاعدة لتحقيق التضامن االجتماعي‪.‬‬
‫أن أساس القاعدة القانونية هو الشعور بالعدل والتضامن‬
‫االجتماعي‪.‬‬
‫ويقترح ديجي إقامة محكمة تتكون من ممثلين لكل الطبقات‬
‫االجتماعية مهمتها تفسير مفهوم التضامن تفسيرا ملزما‪.‬‬
‫وإذا كانت مميزات نظرية التضامن االجتماعي تكمن في إبراز الدور‬
‫األكبر الذي تقوم به الدولة والقانون من أجل تحقيق املساواة بين‬

‫‪99‬‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ ﻓﺼﻠﻴﺔ ﻣﺤﻜﻤﺔ ﺗﻌﻨﻰ ﺑﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﺗﺼﺪﺭ ﻋﻦ ﻣﻨﺘﺪﻯ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺔ ‪ -‬صيف ‪ / 2020‬العدد التاسع‬
‫األفراد‪ ،‬وتوطيد املصلحة العامة في منع تطرف املذهب الفردي‪ .‬فإنها‬
‫تخضع الجميع تحت استبداد الدولة الذي ينكره املذهب الفردي‪،‬‬
‫وتلغي فكرة الحق وتحويلها إلى وظيفة اجتماعية‪ ،‬حيث تجعل من‬
‫أصحاب الحقوق موظفين عاملين لتحقيق الخير املشترك دون النظر‬
‫إلى مصلحتهم الذاتية‪.‬‬
‫‪ -3‬نموذج أكسيل هونيث‪:‬‬
‫وهو أحد أعضاء مدرسة فرانكفورت ومن أتباع فلسفة يورغن‬
‫هابرماس األخالقية‪ ،‬ففي كتابه النضال من أجل االعتراف في الفلسفة‬
‫االجتماعية‪ ،‬أو في كتابه مجتمع االزدراء‪ ،1‬دافع بحرارة عن نظرية‬
‫االعتراف من أجل إعادة بناء شبكة العالقات االجتماعية واإلنسانية‬
‫ومعالجة األمراض االجتماعية‪ ،‬نحو معاناة الظلم االجتماعي والسيا�سي‬
‫والالمساواة وكل أشكال االحتقار أو االزدراء؛ إذ ال يمكن تحقيق قيم‬
‫التسامح وكرامة اإلنسان وضمان حقوقه األساسية املشروعة أخالقيا‬
‫وسياسيا وقانونيا إال بتحقيق مبدإ االعتراف الذي أبان عنه من خالل‬
‫ثالث دوائر‪ :‬دائرة الحب‪ ،‬ودائرة الحق القانوني والسيا�سي‪ ،‬ودائرة‬
‫التضامن االجتماعي‪.‬‬
‫فالحب بحسبه هو الصورة األولية لالعتراف؛ إذ أنه يربط الفرد‬

‫‪1 - Axel Honneth, La société du mépris, vers une nouvelle théorie critique,‬‬
‫‪traduit par Olivier voirol, Pierre rusch et Alexandre dupeyrix. Paris : la dé-‬‬
‫‪couverte. 2006.‬‬
‫‪Axel Honneth, La lutte pour la reconnaissance dans la philosophie social,‬‬
‫‪traduit par Pierre rusch,2013.‬‬

‫‪100‬‬
‫بجماعة محددة‪ ،‬وخاصة األسرة التي تمكنه من تحقيق مقصد‬
‫الثقة في النفس بكونه منطلقا إلثبات‬
‫الوجود الفردي واملشاركة في الحياة‬
‫ال يمكن تحقيق قيم‬ ‫االجتماعية‪ .‬ويأخذ الحق عنده طابعا‬
‫قانونيا وسياسيا‪ ،‬بحيث يتم االعتراف التسامح وكرامة الإنسان‬
‫وضمان حقوقه الأساسية‬
‫المشروعة أخالقيا‬
‫باإلنسان ذاتا حاملة لحقوق مستحقة‬
‫وسياسيا وقانونيا إال‬ ‫تتوقف على االستقاللية القانونية‪ .‬أما‬
‫بتحقيق مبدإ االعتراف‬ ‫التضامن االجتماعي – حسب هونيث‬
‫‪ -‬فهو الصورة األكثر اكتماال لتعامل‬
‫الذات مع أفراد املجتمع وإقامة عالقات‬
‫دائمة معهم‪ ،‬تؤكد لكل فرد تقدير ذاته‪ ،‬وأنه يتمتع بمجموعة من‬
‫الصفات واملميزات التي تسمح له باالنسجام أو االندماج اإليجابي‬
‫مع وضعه االجتماعي‪ .‬فالتقدير املتبادل بين الذوات الفردية يؤسس‬
‫لالحترام املتبادل في ضوء قيم املمارسة املشتركة‪.‬‬
‫ويمكن استخالص كون التضامن االجتماعي كما يراه هونيث‪،‬‬
‫تفسير عميق ملا دعاه أستاذه هابرماس بالعقالنية التواصلية التي‬
‫تنظم عملية التفاعل والتفاوت بين أفراد املجتمع‪ ،‬فأكد أن االعتراف‬
‫شرط لتحقيق الهوية الشخصية املفارقة لهوية الفرد التي يمكن أن‬
‫تنشأ مستقلة عن القيم املشتركة للمجتمع‪ .‬فاالعتراف في حقيقته‬
‫تضامن فاعل في البناء االجتماعي‪ ،‬يواجه النزاعات والصراعات التي‬
‫تتولد عن الشعور بالظلم واالحتقار وفقدان الكرامة اإلنسانية‪.‬‬

‫‪101‬‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ ﻓﺼﻠﻴﺔ ﻣﺤﻜﻤﺔ ﺗﻌﻨﻰ ﺑﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﺗﺼﺪﺭ ﻋﻦ ﻣﻨﺘﺪﻯ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺔ ‪ -‬صيف ‪ / 2020‬العدد التاسع‬
‫فبقدر ما كانت تجربة االعتراف الشرط األساس الذي يتوقف عليه‬
‫اكتمال الهوية الشخصية في جملتها‪ ،‬بقدر ما يكون غيابه ‪ -‬بسبب‬
‫انتهاك شروط التفاعل االجتماعي‪ -‬وسيلة لكيال يحصل اإلنسان على‬
‫االعتراف الذي يستحقه‪ ،‬األمر الذي يولد عنده الشعور باالحتقار‬
‫الذي يجد به نفسه مهددا بفقدان شخصيته وهويته‪ ،‬فتكون ردود‬
‫أفعاله بصفة عامة عبارة عن مشاعر أخالقية مرافقة لتجربة االحتقار‬
‫أي الشعور بالذل والغضب والسخط‪.1‬‬
‫إن القصد من هذه النماذج في تحليل التضامن االجتماعي بيان‬
‫االهتمام به في ضمان تحقيق الخير في املجتمع سواء تعلق بالحق أو‬
‫الكرامة أو الهوية أو االستقرار أو التسامح‪ ،‬بعيدا عن تجارب االحتقار‬
‫واالزدراء وخاصة في زمن الجوائح املفاجئة التي ال يد لإلنسان في جلبها‬
‫أو في دفعها‪ ،‬حيث يصاب الناس بخسائر مادية ومعنوية دون أن تكون‬
‫َ‬
‫في حسبانهم أو يعدوا لها عدة ت ِقيهم بأسها‪ ،‬فقد يكون اإلنسان في‬
‫ضه الجائحة‬ ‫تع َّ‬
‫كفاية من العيش بل في سعة منه‪ ،‬ولكن ال يلبث أن ُ‬
‫فتقلب حياته رأسا على عقب‪ ،‬فقيرا‬ ‫بأنيابها فتؤمله بآالم مفاجئة‪ْ ،‬‬
‫بعد غنى‪ ،‬وعيشا نكدا مخيفا بعد طمأنينة وأمن‪ .‬وهذه الجوائح كما‬
‫تصيب الفرد‪ ،‬تصيب املجتمع والدولة‪ ،‬فالدولة تتعرض بفعل الجوائح‬
‫الطارئة إلى مخاطر عديدة اقتصادية واجتماعية وسياسية‪ ،‬قد تصل‬
‫بها إلى التراجع واالنهيار‪.‬‬
‫وفي البحث عن إيجاد الحلول املوضوعية آلثار الجوائح املادية‬

‫‪1- Axel Honneth, La société du mépris, p 193.‬‬

‫‪102‬‬
‫والنفسية‪ ،‬يندرج سؤال التضامن من جانب العمل‪ ،‬أهو متعلق‬
‫بذاتية الفرد ويقظة ضميره في الشعور بآالم اآلخر‪ ،‬وليس للدولة أي‬
‫إلزام للفرد بالقيام بواجب التضامن‪ ،‬أم أن القانون ومسؤولية الدولة‬
‫يفرضان القيام بواجب التضامن من حيث إنهما ال يتحققان فعال‬
‫إال إذا تحقق التضامن بشكل واقعي‪ ،‬أم أن األمر هو ذاتي من حيث‬
‫املوقف من االعتراف باآلخر‪ ،‬فيكون االعتراف محركا لفاعلية القانون‬
‫والدولة من أجل ضمان الحقوق ودفع االزدراء‪.‬‬
‫وإذا كانت هذه النماذج النظرية التاريخية تهدف إلى بيان التضامن‬
‫في سياق تطور مفهوم الدولة في التعامل مع منظومة القيم التي تكشف‬
‫أن االجتماع البشري قائم على التضامن في تفاعله مع الحق واالعتراف‬
‫والتواصل‪ ،‬فإن فكرة التضامن ال تدرك في التحوالت القيمية في‬
‫الفكر الغربي‪ ،‬إال بفهم املرتكزات التي قامت عليها فلسفة حقوق‬
‫اإلنسان ووالدتها من الصراع مع مقوالت للفكر املسيحي‪ ،‬وبروز سيادة‬
‫العقل املطلقة في تقرير ماهية عدد من املفاهيم نحو القيم واألخالق‬
‫والعالقات السياسية وحقوق اإلنسان‪.‬‬
‫وهكذا من الثورة الفرنسية إلى الثورة الصناعية إلى تقوية‬
‫الرأسمالية والليبرالية في عصر الحداثة وما بعدها‪ ،‬فنمى االهتمام‬
‫بالتضامن في تطور أجيال من الفكر الحقوقي حددها التشيكي كاريل‬
‫فاساك سنة ‪ ( 1977‬ويكيبيديا) في ثالثة‪ :‬الجيل األول ويتعلق بالحقوق‬
‫املدنية والسياسية التي بدأت في الظهور خالل القرنين السابع والثامن‬
‫عشر‪ ،‬وكان مضمونها الحرية الشخصية وحماية الفرد من االنتهاكات‪.‬‬

‫‪103‬‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ ﻓﺼﻠﻴﺔ ﻣﺤﻜﻤﺔ ﺗﻌﻨﻰ ﺑﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﺗﺼﺪﺭ ﻋﻦ ﻣﻨﺘﺪﻯ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺔ ‪ -‬صيف ‪ / 2020‬العدد التاسع‬
‫ثم الجيل الثاني من الحقوق االجتماعية واالقتصادية والثقافية‪،‬‬
‫ومضمونها كيفية عيش الناس وعملهم سويا والضروريات األساسية‬
‫للحياة‪ ،‬وتستند إلى أفكار املساواة‪ ،‬وقد بدأت في الظهور مع بروز آثار‬
‫الثورة الصناعية وتطو الفكر الليبرالي وتقوية هيمنة الرأسمالية‪.‬‬
‫ثم الجيل الثالث من الحقوق ويتعلق بحقوق التضامن‪ ،‬وتتعلق‬
‫بالحق في التنمية املستدامة والحق في السالم والحق في بيئة صحية‪،‬‬
‫وقد تم تقنينه في إعالن الجمعية لألمم املتحدة سنة ‪ .1986‬وعلى‬
‫الرغم من أن ظهور هذا الجيل الثالث تماهى مع النقد القيمي العميق‬
‫الذي كشف املآالت السيئة للحداثة والليبرالية‪ ،‬فإنه لم يعكس في‬
‫بلورته القوة النقدية ملنظومة الفكر الحداثي القيمية واالقتصادية‬
‫والسياسية والثقافية‪ .‬ويبرز غياب هذا االنعكاس في أهم االنتقادات‬
‫لحقوق التضامن التي تعلقت بكونها منوطة باملجتمعات والدول وليس‬
‫باألفراد‪ ،‬وهذه اإلناطة من شأنها عدم العناية بالجيلين األولين من‬
‫الحقوق الفردية‪ ،‬وما يقتضيانه من املساءلة واملحاسبة‪.‬‬
‫يبدو أن سؤال التضامن من خالل النماذج النظرية القيمية‬
‫والحقوقية‪ ،‬محتاج ملزيد من التحليل والتفكير‪ ،‬حيث تبرز مفارقة‬
‫كبيرة بين التنظير الفلسفي لقيم التضامن وبين مجريات الفعل‬
‫السيا�سي واالقتصادي الذي تقف تصرفاته أمام تحقيق التضامن‬
‫في أنواعه الفردية واملجتمعية والدولية‪ ،‬ولعل بيان قصدية التضامن‬
‫من شأنها أن تفتح آفاقا من االجتهاد في جعل قيم التضامن من قوانين‬
‫التعارف في بناء سعادة لجميع البشر وليس فقط ملجموعة من البشر‬

‫‪104‬‬
‫ليس فقط في زمن الجوائح والكوارث‪ ،‬بل في أزمنة الرخاء والضيق‪.‬‬
‫قصدية التضامن‪ :‬نحو أفق كوني لقيم التعاون‬
‫لقد ارتبطت القصدية الغائية بفلسفة األديان أكثر من ارتباطها‬
‫بالفلسفة العقلية التي ال تهتم بالغايات إال من جهة قصدية الفاعل‬
‫الكائن في الحياة الواقعية‪ ،‬وتوسع ارتباطها في فلسفة األديان يتأسس‬
‫على املزاوجة بين األخالق واألحكام‪ .‬فمقاصد األحكام في اإلسالم قيم‬
‫أخالقية في جوهرها متعلقة باألوامر والنواهي‪ .‬يقول ابن رشد‪« :‬وينبغي‬
‫أن تعلم أن مقصود الشرع إنما هو تعليم الحق والعمل الحق‪ ،‬والعلم‬
‫الحق هو معرفة هللا تبارك وتعالى وسائر املوجودات على ما هي عليه‪،‬‬
‫وبخاصة الشريفة منها‪ ،‬ومعرفة السعادة األخروية والشقاء األخروي‪.‬‬
‫والعمل الحق هو امتثال األفعال التي تفيد السعادة‪ ،‬وتجنب األفعال‬
‫‪1‬‬
‫التي تفيد الشقاء‪ .‬واملعرفة بهذه األفعال هي التي تسمى العلم العملي»‪.‬‬
‫فقصدية الدين متعلقة بالعلم العملي الذي تتكامل فيه األفعال‬
‫الظاهرية وهي األحكام الفقهية‪ ،‬واألفعال النفسانية هي األخالق‪ ،‬من‬
‫حيث إن الخلق كما يرى ابن مسكويه «حال للنفس داعية لها إلى أفعالها‬
‫من غير فكر وال روية»‪ ،2‬وهو عند الغزالي «هيئة في النفس راسخة‬
‫تصدر عنها األفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية‪ ،‬فإذا‬
‫كانت الهيئة بحيث تصدر عنها األفعال الجميلة املحمودة عقال وشرعا‬
‫سميت تلك الهيئة خلقا حسنا‪ ،‬وإن كان الصادر عنها األفعال القبيحة‬

‫‪ - 1‬فصل المقال‪ ،‬ابن رشد‪ ،‬ص ‪.49‬‬


‫‪ - 2‬هتذيب األخالق ص ‪.265‬‬

‫‪105‬‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ ﻓﺼﻠﻴﺔ ﻣﺤﻜﻤﺔ ﺗﻌﻨﻰ ﺑﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﺗﺼﺪﺭ ﻋﻦ ﻣﻨﺘﺪﻯ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺔ ‪ -‬صيف ‪ / 2020‬العدد التاسع‬
‫سميت الهيئة التي هي املصدر خلقا سيئا»‪.1‬‬
‫وال قطيعة مطلقا بين الفعل الظاهري والفعل النف�سي‪ ،‬فالثاني‬
‫مقصد لألول‪ ،‬وحسن األول ال يتم دون حسن الثاني‪ ،‬وبناء عليه فال‬
‫أحكام بال مقاصد‪ ،‬وال مقاصد بال أخالق‪ ،‬وال مقاصد دون تعليل‪،2‬‬
‫ولهذا كان أول أمر علمي أسس عليه الشاطبي فكرته املقاصدية هي‬
‫إثباته القطعي للتعليل في الدين‪ ،3‬وأن ما ال يعلل باملصلحة يندر‬
‫وجوده‪.‬‬
‫وقصدية الدين أوسع من حفظ الكليات الخمس التي استقراها‬
‫األصوليون من مجموع النص الشرعي‪ ،‬وحصروها في حفظ الدين‬
‫والنفس والعقل واملال والنسل‪ ،‬وذلك ألن املفاهيم الدالة على املصالح‬
‫الكلية للدين متغيرة‪ ،‬ولهذا قد نقول إن كلية القيم مقصد كلي‪،‬‬
‫وبحفظه يحفظ اإلنسان والكون‪ ،‬فعندما تكون السيادة للقيم يتم‬
‫التفكير في مسالك تحقيق العمران الجالب للسعادة والخير والحق‬
‫والجمال‪.‬‬
‫وهكذا فقصدية التضامن متعلقة بحفظ الدين واإلنسان والكون‪،‬‬
‫باعتبارها علما عمليا لجلب املنافع ودفع املضار التي تلحق باإلنسان‪،‬‬
‫بسبب األمراض االجتماعية والنفسية‪ ،‬أو بسبب الكوارث والجوائح‬
‫البيئية والصحية‪ .‬فكان من مقاصد قصدية التضامن تحقيق مقصد‬

‫‪ - 1‬إحياء علوم الدين ‪.1440 /3‬‬


‫‪ - 2‬سؤال األخالق‪ ،‬طه عبد الرحمان‪ ،‬ص ‪.51‬‬
‫‪ - 3‬الموافقات للشاطبي ‪.4 /2‬‬

‫‪106‬‬
‫العدل بوصفه حقا اجتماعيا وإنصافا ملزما‪ ،‬له ارتباط وثيق بنظرية‬
‫االعتراف وإلزامية الدولة والقانون‪ ،‬وله ارتباط باملشترك القيمي بين‬
‫الفرد واملجتمع والدولة واألمة‪ ،‬وباملشترك املصلحي اإلنساني بين الدول‬
‫واألمم‪ ،‬وبالتفاعل بين األجيال املتعاقبة على جلب اختالف املصالح‪.‬‬
‫لكنه ارتباط نف�سي ووجداني وعقلي محتاج ملزيد من االجتهاد‬
‫العقالني في تكاملية الدين والعقل‪ ،‬ولتنامي النقد املنهجي لتجربة‬
‫التفريق بينهما‪ ،‬وكيف أن اإلقصاء ألحدهما يشكل سببا مركزيا في ميالد‬
‫أزمة القيم في الفكر اإلنساني والحضارة اإلنسانية‪ .‬ولبيان االرتباط‬
‫بين قصدية التضامن ومقصد العدل االجتماعي‪ ،‬يمكن تحديد ثالث‬
‫ركائز لهذه القصدية‪:‬‬
‫األولى‪ :‬حرية الشعور‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬املساواة اإلنسانية‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬التعاون اإلنساني‪.‬‬
‫فاألولى‪ :‬تعتبر عقيدة اإلخالص مرجعا للحرية الشعورية‪ ،‬من حيث‬
‫إن الشعور الباطني والنف�سي من ذاتية الفرد ال يبقى خاضعا ألي فعل‬
‫نف�سي يخضع للذة والشهوة املنتجة للظلم والتعدي‪ .‬فالحرية مسألة‬
‫باطنية تلتقي بجذور الفطرة في تأصيلها ميزان العمل الخيري في ذاتية‬
‫كل نفس إنسانية‪ .‬والتحرر من نزعات الشر ال يحصل حقيقة ما لم‬
‫تسنده رؤية واضحة لعقيدة التوحيد تجعله مستقال في اتخاذ قراراته‬
‫بعيدا عن كل ما يشوش اإلخالص لها في طلب أن تقوم الحياة على‬
‫جلب الحسنات ودفع السيئات‪.‬‬

‫‪107‬‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ ﻓﺼﻠﻴﺔ ﻣﺤﻜﻤﺔ ﺗﻌﻨﻰ ﺑﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﺗﺼﺪﺭ ﻋﻦ ﻣﻨﺘﺪﻯ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺔ ‪ -‬صيف ‪ / 2020‬العدد التاسع‬
‫فبين الجلب والدفع يسمو اإلنسان في مواجهة دوافع الحياة التي ال‬
‫تقهر في جميع األحوال والتي ال بد أن يخضع اإلنسان لضغطها في أكثر‬
‫األحيان‪ .‬ولن يكون التحرر الشعوري من لذائذ الحياة وشهواتها ضامنا‬
‫للفرد سعادته استنادا لعقيدة ال توازن بين املادة واملعنى في الحياة‪ ،‬أو‬
‫استنادا لعقيدة عقلية ال ترى إال املادة والحس‪ .‬فإذن الحرية الشعورية‬
‫املقصودة أوسع من كون الحرية هي التحرر من جميع السلط‪ ،‬فهذا‬
‫التحرر بذاته سلطة‪ ،‬ومن ثم كانت عقيدة اإلخالص مستقلة في بناء‬
‫مفهوم الحرية الشعورية املنتجة للقيم العالية‪ .‬قال هللا تعالى‪ ( :‬قل‬
‫هو هللا أحد هللا الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) (سورة‬
‫اإلخالص)‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬إذا حصلت هذه الحرية الشعورية ووجدت من الضمانات‬
‫القانونية والتدبير السيا�سي ما يرسخ التحرر النف�سي‪ ،‬فإن املساواة‬
‫حاصلة بالتبع‪ ،‬بل النفس البصيرة بالتوحيد لن تقبل بالتفاوت البعيد‬
‫عن الحق‪ ،‬وستكون نفسا رافعة مطلب تقرير حق املساواة‪ ،‬ولن تقبل‬
‫بديل التفاوت القائم على الدين أو الجنس أو اللون أو اللغة أو املال‬
‫أو السلطة‪ ،‬بل ستعمل بالحكمة القيمية ملعالجة التفاوت الخارج عن‬
‫القوانين الكونية والطبيعية والتشريعية‪.‬‬
‫فاملرجعية العقدية قررت وحدة الجنس في املنشإ واملصير‪،‬‬
‫وفي الحقوق والواجبات‪ ،‬ال فضل إال بالعمل الصالح وال كرامة إال‬
‫بالتقوى‪ ،‬يقول هللا تعالى‪« :‬ولقد خلقنا اإلنسان من ساللة من طين‬
‫ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة‬

‫‪108‬‬
‫مضغة فخلقنا املضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا‬
‫آخر فتبارك هللا أحسن الخالقين) (سورة املؤمنون‪ ،)12-14 :‬ويقول‪( :‬‬
‫ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات‪،‬‬
‫وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيال) (سورة اإلسراء‪ .)70 :‬ويقول‬
‫النبي عليه الصالة والسالم‪« :‬أنتم بنو آدم‪ ،‬وآدم من تراب»‪ .1‬وبهذا‬
‫التقرير بنص الوحي القطعي يتقوى الشعور الوجداني الفردي باملساواة‬
‫روحا ومعنى‪ ،‬لتكون مسلكا واقعيا نحو تحقيق عدالة اجتماعية غير‬
‫محدودة بعنصر وال قبيلة وال دولة وال سلطة‪.‬‬
‫والثالثة‪ :‬كما ضبطت عقيدة التوحيد الحرية الشعورية واملساواة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬ضبطت التعاون اإلنساني‪ ،‬فقد عملت على إبراز دور‬
‫التعاون بين األفراد واملجتمعات في تحقيق العدل االجتماعي‪ ،‬ولم تترك‬
‫الحرية الفردية واملجتمعية في فو�ضى‪ ،‬فأبان النص الشرعي عن وسطية‬
‫فريدة بين مصلحة املجتمع ومصلحة الفرد‪ ،‬فللمجتمع مصلحة عليا ال‬
‫بد أن تنتهي عندها حرية األفراد‪ ،‬وللفرد ذاته مصلحة خاصة ال بد‬
‫أن ال تؤدي إلى اإلضرار باملجتمع‪ .‬وعلى قاعدة ومبدإ ال ضرر وال ضرار‬
‫أسس التكامل بين املصلحة العامة والخاصة سبيال النتظام االجتماع‬
‫البشري واستقامة العيش في الوجود‪.‬‬
‫فالدولة مؤسسة اجتماعية تتحمل مسؤولية كفائية للسهر على‬
‫تطبيق القانون من أجل ترسيخ وحدتها العقدية والشعورية‪ ،‬التي‬

‫‪ - 1‬أخرجه أبو داود يف سننه‪ ،‬كتاب األدب‪ ،‬باب يف التفاخر باألحساب‪ ،‬رقم‬
‫الحديث ‪.5116‬‬

‫‪109‬‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ ﻓﺼﻠﻴﺔ ﻣﺤﻜﻤﺔ ﺗﻌﻨﻰ ﺑﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﺗﺼﺪﺭ ﻋﻦ ﻣﻨﺘﺪﻯ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺔ ‪ -‬صيف ‪ / 2020‬العدد التاسع‬
‫تحصل مصالح أفرادها وتقوي التكافل بينهم ملواجهة تحديات الحياة‬
‫ومنها زمن الجوائح بحماية الضعفاء ورعاية تحقيق العيش الكريم‬
‫كل على حدة‪ ،‬يتحمل مسؤولية عينية في تزكية ذاته‬ ‫لهم‪ .‬واألفراد ٌّ‬
‫وعالقتها بمحيطه األسري واملجتمعي‪ ،‬وفي حفظ دينه ونفسه وعقله‬
‫وماله ونسله‪ ،‬بما يؤطره معرفيا ليكون حارسا أمينا على رعاية املصالح‬
‫العامة للدولة واألمة‪.‬‬
‫إنها معادلة اجتماعية للتضامن بين الدولة وأفرادها منضبطة‬
‫بقواعد علمية ال تطغى فيها الحرية الفردية على الحرية الجماعية وال‬
‫العكس‪ .‬قال تعالى‪( :‬وتعاونوا على البر والتقوى وال تعاونوا على االثم‬
‫والعدوان) (سورة املائدة‪ ،)2 :‬وقوله‪( :‬وقل اعملوا فسيرى هللا عملكم‬
‫ورسوله واملومنون) (سورة التوبة‪ .)105 :‬فمعادلة التضامن االجتماعي‬
‫قائمة على تعاون مشروط بالبر والتقوى‪ ،‬وعلى عمل مشروط أيضا‬
‫بتقييم الدين واملجتمع والدولة والعالم ككل‪ .‬ولذا كان التضامن‬
‫قضية أخالقية وقيمية وشرطا علميا وسببا واقعيا في تحقيق العدل‬
‫االجتماعي املثبت للحقوق واملنصف للكرامة اإلنسانية‪.‬‬
‫وبهذا يتبين أن العدل االجتماعي بركائزه الثالث ليس قضية فرد‬
‫أو مجتمع أو دولة‪ ،‬إنها قضية إنسانية وحضارية مقصدها التعاون‬
‫اإلنساني والتكافل‪ ،‬فاإلنسانية كلها مطالبة بتحقيق التعارف باعتباره‬
‫مقصدا لخلق هللا الناس مختلفين (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر‬
‫وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند هللا أتقاكم إن‬
‫هللا عليم خبير) (سورة الحجرات‪ :‬اآلية ‪ ،)13‬وإن هذا يقت�ضي تحقيق‬

‫‪110‬‬
‫حق الجوار اإلنساني حسب القوانين القيمية املشتركة‪ ،‬قال الرسول‬
‫عليه الصالة والسالم‪« :‬وهللا ال يؤمن‪ ،‬وهللا ال يؤمن‪ ،‬وهللا ال يؤمن‪،‬‬
‫َ‬
‫قالوا من يا رسول هللا؟ قال‪ :‬الذي ال يأمن جا ُره بوائقه»‪ ،1‬فعموم‬
‫الجار يؤسس مطلب مد اإلنسان العون لكل إنسان محتاج للعون‬
‫بأصول معتبرة بغض النظر عن االختالف الديني والعرقي واللغوي‪ .‬إنها‬
‫املجاورة اإلنسانية‪ ،‬فال �شيء في الوجود يعيش لنفسه‪ ،‬لكنه محكوم‬
‫بسنن دينية وطبيعية وكونية تيسر تفاعله مع املوجودات‪.‬‬
‫ويستنبط من خالل ما تقدم أن فلسفة التضامن االجتماعي قاعدة‬
‫أوسع من التأمين‪ .‬وذلك أن فكرة التأمين تقوم على أساس اشتراك‬
‫جمع غفير من الناس في إزالة الضرر الحاصل بسب من األسباب‪ ،‬فلو‬
‫بقيت هذه اإلزالة الجماعية آلثار الخطر على خلفية التعاون اإلنساني‬
‫والتكافل االجتماعي‪ ،‬لكان تضامنا اجتماعيا ناتجا عن الشعور القيمي‬
‫بفعل الخير وعالقته بالحق اإلنساني‪ .‬لكن ملا تحول من األريحية‬
‫اإلنسانية الخيرة التي قد تنتظم في عقد تعاوني‪ ،‬إلى عقد استرباح مادي‬
‫هم فيه للشركة املؤسسة إال الربح والزيادة فيه‪ ،‬لم يبق خاضعا‬ ‫ال ّ‬
‫للتضامن الخيري في إطالقه العام‪ .‬ولهذا فالتأمين االجتماعي أو الصحي‬
‫أو التجاري على الحوادث والجوائح مثل جائحة كوفيد ‪ ،19‬له قوانينه‬
‫التنفيذية التي ال تندرج ضمن قصدية التضامن الخيري االجتماعي‬
‫وقيمها األخالقية‪.‬‬

‫جاره بوائ َقه‪ ،‬رقم‬


‫‪ - 1‬أخرجه البخاري يف صحيحه‪ ،‬كتاب األدب‪ ،‬باب من ال يأمن ُ‬
‫الحديث ‪.6016‬‬

‫‪111‬‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ ﻓﺼﻠﻴﺔ ﻣﺤﻜﻤﺔ ﺗﻌﻨﻰ ﺑﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﺗﺼﺪﺭ ﻋﻦ ﻣﻨﺘﺪﻯ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺔ ‪ -‬صيف ‪ / 2020‬العدد التاسع‬
‫وقد يظهر هذا في اعتبار الزكاة والصدقة نموذجا للقيم العملية‬
‫من حيث هي فلسفة خلقية لها ارتباط وثيق بتفعيل قصدية التضامن‬
‫االجتماعي في تنشيط العمل الخيري خصوصا في زمن الجوائح‪ ،‬التي‬
‫تكثر فيها حاجة املحتاجين للحفاظ على عيشهم وكرامتهم‪ .‬فحينما‬
‫تنتظم الزكاة والصدقة باعتبارها فرضا شرعيا جامعا بين رؤية‬
‫أخالقية وتدبير مالي‪ ،‬في تطبيق مؤس�سي يخرجها من الواجب الفردي‬
‫إلى واجب الدولة الذي تمارسه انطالقا من سيادتها‪ ،1‬فتن�شئ جهازا‬
‫مكلفا بشؤون الزكاة والصدقة‪ ،‬يعمل على جبايتها وتنظيمها حتى تقوم‬
‫بالتمويل لكل ذي تجارة أو حرفة أو خدمة عامة وخاصة‪ ،‬يحتاج معها‬
‫إلى مال يفتقده‪ .‬وبهذا تغطى جوانب املحتاجين بنوعين من اإلنفاق‪:‬‬
‫أحدهما اإلنفاق االستهالكي الذي يتعلق مثال بالعجزة واملر�ضى واأليتام‬
‫واملشردين واملعوزين والعاطلين ‪ ...‬أو اإلنفاق االستثماري الذي يتعلق‬
‫مثال بالفقراء القادرين على العمل واإلنتاج كالتجار والصناع والحرفيين‬
‫وأرباب املشاريع التجارية والصناعية الصغرى‪.‬‬
‫إن قصدية التضامن االجتماعي وعالقتها باملنظومة القيمية الكونية‬
‫في مواجهة تحديات الكوارث النازلة في الواقع واملنتظرة في املستقبل‪ ،‬ال‬
‫تقف عند حدود املعالجة ملراعاة أخالق الجوار في التعاون‪ ،‬بل تتعداه‬

‫‪ - 1‬قال ابن العربي يف تفسير قوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم‬
‫وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ) سورة التوبة اآلية ‪ :103‬إن الخطاب خص‬ ‫هبا ّ‬
‫به النبي صلى اهلل عليه وسلم ويشركه فيه جميع األمة معنى وفعال‪ .‬أحكام القرآن‬
‫‪ .577-574 /2‬وهذا مما يستنبط منه جواز إشراف الدولة على شؤون الزكاة‬
‫بتنظيم مؤسسة تابعة لها على تدبير أمور الزكاة جباية وتوزيعا وصرفا لمستحقيها‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫إلى مالحظة مشكلة التنمية التي تتم تحت مظلة التضامن والتعاون‬
‫الدولي ملحاصرة وطأة الفقر والحرمان وأمراض التخلف الحضاري‪.‬‬
‫وتبرز هذه املشكلة من خالل ما يبرزه جلبار ريست‪ 1‬من أن التنمية‬
‫عهد جديد ومشروع جماعي للبشرية‪ ،‬يخدم املصالح الخاصة للدول‬
‫األكثر قوة في العالم‪.‬‬
‫لكنها تقدم في صيغة استراتيجية شاملة تخدم الصالح العام‪،‬‬
‫فتحدد بوصفها مجموعة من التدابير التقنية‪ ،‬توظيف املعرفة‬
‫العلمية‪ ،‬وتنمية اإلنتاجية‪ ،‬وتقوية املبادالت الدولية‪ ،‬ولهذا حسب‬
‫جلبار يتم تعريف التخلف بوصفه حالة حرمان عوض تعريفه بوصفه‬
‫نتيجة لظروف تاريخية‪ ،‬واعتبار املتخلفين مجرد فقراء بدون التساؤل‬
‫عن أسباب عوزهم‪ .‬ولذا‪ ،‬فالسبيل الوحيد املمكن للخروج من الفقر‪،‬‬
‫من منظور الدول الغربية املانحة هو منطق الدخول في سكة التنمية‬
‫التي رسموها للنمو واملساعدات‪ ،‬وشرط ذلك الدخول هو اإلرغام على‬
‫االنخراط في التبعية االقتصادية والثقافية وتحقيق مصالح املانحين‬
‫بالدرجة األولى‪.‬‬
‫إن ما يمكن استنتاجه هو أن املساعدات املوصلة للتنمية ليست‬
‫قائمة على أي نظرية من النظريات األخالقية في الغرب نحو ما قدمنا‬
‫عند ليون ديجي في تأسيس التضامن االجتماعي على الحق والقانون‪ ،‬أو‬
‫أكسيل هونيث في تأسيس وجوب االعتراف باآلخر‪ ،‬ويمكن أن نضيف‬
‫‪ - 1‬ابتداع التنمية‪ ،‬ترجمة الحسن مصباح ص ‪ ،37‬مجلة المنعطف ع ‪،24-23‬‬
‫سنة ‪ .2004/1425‬العنوان األصلي للمقال ‪L’invention du développement‬‬
‫وقد نشر يف مجلة ‪.L’écologiste-vol 2- n4 –hiver 2001‬‬

‫‪113‬‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ ﻓﺼﻠﻴﺔ ﻣﺤﻜﻤﺔ ﺗﻌﻨﻰ ﺑﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﺗﺼﺪﺭ ﻋﻦ ﻣﻨﺘﺪﻯ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺔ ‪ -‬صيف ‪ / 2020‬العدد التاسع‬
‫إليهما العدالة كإنصاف كما يقدمها جون رولز‪ ،‬وأخالق العناية كما‬
‫تقدمها فيرجينيا هيلد‪ .1‬األمر الذي قد يفتح مزيدا من التأمل الفكري‪،‬‬
‫واالجتهاد املبدع في تطوير ما تتضمنه قصدية التضامن من الجمع‬
‫بين املنطق األخالقي النظري والعملي‪ ،‬الذي يلزم بتفعيل مبدإ التعاون‬
‫املؤسس على قاعدة حق املحتاج واملحروم في أموال األغنياء من األفراد‬
‫والدول‪.‬‬
‫وقد يتجه هذا التطوير نحو جهتين‪ :‬األولى تتناول بناء القيم‬
‫الكونية املشتركة املحققة للتعاون االجتماعي اإلنساني املتجاوز لعوائق‬
‫كونية غربية تفرض رؤيتها ملواجهة الفقر بحق القوة‪ .‬والثانية تتناول‬
‫بناء استراتيجيات لبرامج التضامن في زمن الجوائح ال تخضع لنفس‬
‫املرجعية القيمية‪ ،‬التي أسست عليها برامج منظمات عديدة لألمم‬
‫املتحدة‪ ،‬وذلك بقصد تشييد أفق قيمي كوني‪ ،‬يصنع عهدا حقيقيا‬
‫يعم عالم اإلنسانية من السالم والسعادة والرفاهية‪.‬‬
‫خاتمة‪:‬‬
‫إن سؤال التضامن ومنظومة القيم في الواقع العالمي املعاصر سؤال‬
‫معقد يطمح إلى إخراج التضامن االجتماعي من كونه حسابا مصلحيا‬
‫كميا وكيفيا في املنظور االقتصادي الليبرالي املهيمن على العالم؛ إلى‬

‫‪ - 1‬أخالق العناية‪ ،‬ترجمة ميشال حنا متياس‪ ،‬عالم المعرفة ع ‪.2008 /356‬‬
‫وهي ترى أن العناية قد تقدم األخالق األوسع واألعمق والتي يجب البحث يف‬
‫داخلها عن العدالة (ص ‪ ،)26‬فهما متمايزان من حيث إن العدالة ترتكز على أسئلة‬
‫تتعلق باإلنصاف والمساواة والحقوق الفردية والمبادئ المجردة والتطبيق الذي‬
‫يتناسب معها‪ ،‬وترتكز أخالق العناية على العناية والثقة واالستجابة ص ‪.22‬‬

‫‪114‬‬
‫كونه قيمة خلقية عملية حاكمة على العقل اإلنساني املعاصر‪ ،‬فتعيد‬
‫صناعته من أجل التفكير في حقيقة اإلنسان وغائية وجوده‪.‬‬
‫ومستقبل التضامن يتوقف على‬
‫إدراك العالم املعاصر أن مبدأ مسؤولية‬
‫تحقيق مبدإ التضامن ال تقل عن مستقبل التضامن يتوقف‬
‫مسؤولية مبدإ حرية السوق واالقتصاد‪ ،‬على إدراك العالم المعاصر‬
‫أن مبدأ مسؤولية تحقيق‬
‫مبدإ التضامن ال تقل عن‬
‫ولذا يتوجب تفعيل منظومة قيم حرية‬
‫مسؤولية مبدإ حرية‬ ‫الشعور واملساواة والتعاون للحد من‬
‫السوق واالقتصاد‬ ‫الفقر القيمي في تدبير حرية السوق في‬
‫النظام الليبرالي‪.‬‬
‫وإذا كان من فعل حضاري لقصدية‬
‫التضامن فإنه يتحدد في مطلب إحداث تغيير شمولي على األخالقية‬
‫السائدة في املجتمعات املعاصرة‪ ،‬فقد تكون هناك سيولة في الحديث‬
‫عن األخالق العقلية‪ ،‬لكن جانبها العملي أنتج تناقضات يبتعد بها الفعل‬
‫السيا�سي واالقتصادي عن مبادئ تحقيق العدل االجتماعي‪ .‬يقول‬
‫أولريش شيفر «إننا نشهد من كثب كيف تولد الرأسمالية املحررة من‬
‫القيود فائزين ومندحرين‪ ،‬وكيف تجازي بال حساب وتعاقب بال رحمة‪،‬‬
‫وكيف تؤدي إلى تزايد هوة التفاوت بين الفقراء واألغنياء اتساعا‪ ،‬فما‬
‫من أحد يشك في أن الهوة الفاصلة بين شرائح املجتمع املختلفة قد‬
‫أخذت تزداد اتساعا»‪ ،1‬وبهذا يتأكد أن من الحلول املعتبرة لردم هوة‬

‫‪ - 1‬اهنيار الرأسمالية‪ ،‬أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود‪ ،‬ترجمة‬

‫‪115‬‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ ﻓﺼﻠﻴﺔ ﻣﺤﻜﻤﺔ ﺗﻌﻨﻰ ﺑﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﺗﺼﺪﺭ ﻋﻦ ﻣﻨﺘﺪﻯ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺔ ‪ -‬صيف ‪ / 2020‬العدد التاسع‬
‫التفاوت غير الطبيعي‪ ،‬الوعي باالجتهاد اإلبداعي في تحقيق قصدية‬
‫التضامن وجعلها قوة عاملة وعاملة تسعى نحو تكريم اإلنسان وتوفير‬
‫الجهد في عملية التنمية الحقيقية املستدامة املجددة للطاقة الخلقية‬
‫واملعرفية واإلنتاجية في العالم‪.‬‬
‫إن تعميق وظيفة التعارف واالعتراف في بناء منظومة قيم كونية‬
‫روحية وإنسانية كالعدل االجتماعي واملساواة ومحاربة الظلم وحفظ‬
‫النفس وتكريم اإلنسان ومناهضة االستعالء= منظومة متكاملة تنمي‬
‫الشعور باملسؤولية األخالقية التي ال يبقى معها مفهوم التضامن‬
‫االجتماعي في تحليله وتركيبه محصورا في مرجعية ثقافة وحضارة‬
‫واحدة‪ ،‬بل يتوجب النظر إليه من خالل قراءة معرفية لجدلية‬
‫الخصو�صي والكوني‪ ،‬وللعالقة التفاعلية املتوازنة بين الحضارات‬
‫والثقافات‪ ،‬التي ال يتم معها الشعور باستعالء طرف حضاري على‬
‫آخر أو بهيمنة حضارة على الحضارات‪ .‬فمن شأن حوار الحضارات‬
‫وتحالفها وتحقيق التكافؤ بينها‪ ،‬أن يدعم خروج األخالقية الكونية من‬
‫حيز املثل العليا والتنظير الفكري إلى حيز الواقع العملي والتطبيقي‪،‬‬
‫والتي بها يتحقق التعافي من األنانية الحضارية التحيزية‪ ،‬وتحقيق‬
‫االستراتيجيات لبرامج التضامن االجتماعي ذات األبعاد العملية التي‬
‫تحقق الحوار بين القيم‪ ،‬وتبتكر مناهج واقعية ألخالق كونية التعارف‬
‫واالعتراف من أجل االستثمار في الخير‪ ،‬وبناء عالم أفضل متوافق على‬
‫املصالح الحقيقية ال املوهومة‪ ،‬وخال من الصراع حولها‪.‬‬

‫عدنان عباس علي‪ ،‬عالم المعرفة ع ‪ ،2010 /371‬ص ‪.23‬‬

‫‪116‬‬
‫تعتبر جائحة كورونا اختبارا مهما لتقديم أجوبة علمية لسؤال‬
‫التضامن ومنظومة القيم الكونية‪ ،‬فهي كما تدعو األسرة اإلنسانية‬
‫ملزيد من التضامن فيما بينها على املستوى الوطني واإلقليمي والعالمي‪،‬‬
‫تدعو أيضا العقل اإلنساني إلى مساءلة ذاته في نظامه التجريدي واملادي‬
‫والتقني والوضعي‪ ،‬وممارسة النقد التفكيكي ملسار العوملة والليبرالية‬
‫املتوحشة في موقفها الفكري من التنمية املستدامة‪ ،‬والنظر املعرفي‬
‫الجاد في العودة إلى األخالق الدينية وراهنيتها وإدراك مدى أهميتها في‬
‫جعل التضامن قيمة مركزية في سبيل تحقيق منظومة أخالقية كونية‬
‫متوازنة جوهرها إنسانية اإلنسان‪.‬‬

‫‪117‬‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ ﻓﺼﻠﻴﺔ ﻣﺤﻜﻤﺔ ﺗﻌﻨﻰ ﺑﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﺗﺼﺪﺭ ﻋﻦ ﻣﻨﺘﺪﻯ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺔ ‪ -‬صيف ‪ / 2020‬العدد التاسع‬

You might also like