Professional Documents
Culture Documents
مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث - الأنوار والاستبداد، هابرماس قارئاً نيتشه
مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث - الأنوار والاستبداد، هابرماس قارئاً نيتشه
فئة :مقاالت
13
سبتمبر 2016
بقلم فوزية ضيف اهلل
قسم :الفلسفة والعلوم اإلنسانية
عرف القرن العشرون تداوًال للعديـد مـن المـدارس والتيـارات الفكريـة والفلسـفية التـي فقدت ثقتها في مشروع الح
وحروب زعزعت اإليمان في القيم التي بّش ر بها فالسفة األنوار .فأصبحت الفلسفة نعيًا لقيم الحرّي ة والعدالة والسلم،
النزعات اإلنسانّية.
ينشغل هذا المقال بالنظر في قراءة هابرماس للموقف النيتشوي من فكرتي الحداثة واألنوار ،ضمن الفصلين الثالث و
الكتاب في أصله األلماني ( )Der philosophische Diskurs der Moderneسنة 1985م ،وترجم إلى الفرنسّي
،)philosophique de la modernitéثّم ترجمته فاطمة الجيوشي إلى العربية سنة .1995
تجدر اإلشارة إلى أّن هابرماس ينتمي إلى الجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت ،المنضوية تحت اسم "النظرّي ة النقدي
ونقدهاُ ،م نشئة "قوًال فلسفّيًا في الحداثة" امتّد من القرن الثامن عشر إلى اليوم ،كما بادرت إلى تحطيم أوهام الحد
ناقدًا للمواقف الرافضة للحداثة ،وقد انحاز إلى قراءة "فالسفة ما بعد الحداثة" ،بدءًا بالفيلسوف األلماني فريدريك
في الحداثة" لمراجعة جملة المواقف الفلسفية للرافضين والناقدين لفكرتي الحداثة واألنوار.
استهّل هابرماس كتابه باإلشارة إلى محاضرته التي قّد مها سنة 1980م بمناسبة تسّلمه جائزة أدورنو ،وقد كان ع
كانت الحداثة قد فشلت ،أو أّنها لم ُتنجز أصًال ،فذلك يعود في نظر هابرماس إلى انكسار الحياة وتجّز ئها إلى اختص
تجربة خالية من المعنى ،لذلك يبدو هابرماس متحّفظًا على مصطلح "ما بعد الحداثة" الذي نحته الفيلسوف الف
السوسيولوجية المرتبطة بالتحديث الذي يعرفه المجتمع الصناعي المعاصر كمجتمع استهالكي .يمكن شرح تحّفظ
التالية:
أّو ًال :إذا كانت "الحداثة :مشروعًا لم ُي نجز" في نظر هابرماس ،فال يمكن الحديث عن مصطلح "ما بعد الحداثة" ،بل
الحداثة" ليسوا في معزل عن الحداثة نفسها.
ثانيًا :ال ينبغي النظر إلى فشل مشروع الحداثة من جانبه السلبي فحسب.
ثالثًا :تقوم رؤية هابرماس على إعادة الثقة بالحداثـة عـن طريـق الكشـف عن طرق حداثية أخرى تتأسس على مفهو
إليه في مجال األخالق والقانون ،ويدعو إلى ظهور تنظيمات ديمقراطية وقوانين وضعية أكثر فاعلّية.
علينا أن نبحث أّو ًال في مفهومي الحداثة واألنوار ،قبل المرور إلى النظر في قراءة هابرماس للنقد النيتشوي للحداثة.
)notions philosophiquesأّن الحداثة ليست مفهومًا ،ولكّنها داللة تأويلّية تطلق على حقبة تاريخية محّد دة تم
مفهومًا جديدًا لإلنسان ،للعقل وللهوّي ة ،يحتل مفهوم "" Modernityفي الفكر المعاصر مكانًا بارزًا ،فهو يشير بوج
إلى جوهرها ،ويفرض صورة جديدة لإلنسان والعقل والهوّي ة ،تتناقض جذريًا مع ما كان سائدًا في القرون الوسطى
النظر إلى الحياة وإلى اإلنسان بتفاؤل وحيوّي ة .تشمل العديد من المجاالت اإلنسانّية ،فتضّم المستويات العلمّية
والفلسفّية .ال ُتعّد الحداثة مذهبًا سياسيًا أو نظامًا ثقافّيًا أو اجتماعيًا ،ولكّنها حركة تطوير وإبداع عقالنية.
لقد عاد هابرماس إلى هيغل لتحديد معنى الحداثة ،ويالحظ أّن هذا اللفظ يستعمل لإلشارة إلى حقبة تاريخّية ُتسّم ى
الرجوع إليه (هيغل) لنفهم داللة الصلة الداخلّية بين الحداثة والعقالنّية داللة ظّلت بال إشكال حتّى ماكس فيبر ،وصار
المفهوم الهيجلي للحداثة لنرى مدى شرعّية ادعاء هؤالء الذين يضعون تحليالتهم تحت مقّد مات أخرى"[ .]1إال أّن ه
من جهة جعله الذاتّية أمرًا مطلقًا ،وجعلها قادرة على التفكير في انطباقها على ذاتها ،ذلك هو البعد السلبي الذ
"هل تفهم الحداثة ذاتها بشكل حقيقي؟ ومنذ ذلك الحين اتخذ العقل في الحقيقة مكان المصير ،ويعرف أّن كّل ح
فلسفة هيجل حاجة الحداثة إلى بلوغ تأسيسها الذاتي إال بمقدار تجريد الراهن من القيمة و( )...النقد .وفي نهاية
اهتمامنا به وتنكر عليه إمكان نداء يرسله من أجل تجّد د ناقد لذاته"[.]2
لقد كان نيتشه واحدًا من الفالسفة األلمان الذين فّك روا في الحداثة بشكل جذرّي وريبي ،فالحداثة انبنت بالنسبة إلي
العديد من اآلالم والمآسي رغم التزامها بتحقيق سعادته ورفاهّيته .لذلك سعى نيتشه إلى تحطيم وتعرية المفا
إذا كان نيتشه قد سّم ى الفيلسوف "طبيبًا للحضارة ،فذلك من جهة قدرته على تشخيص األمراض التي أضّر ت بالحضا
يعتبره مسؤوًال عن انحطاط الحضارة اليونانّية وانحطاط الفكر الفلسفّي ،من جهة اهتمامه بالعقل على حساب الح
سقراط التراجيديا اإلغريقية انحطاطًا للفّن وللفكر وللحضارة .لقد كانت الحضارة األوروبّية في عصر نيتشه انعكاسًا وام
والحداثة بصورة مباشرة .تشير الحداثة إلى الفترة التاريخّية من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين ،وتمّيزت هذه
والعقائدّي ة الخاّص ة ،أّو لها اإليمان المفرط بالعقل والعلم والحقيقة ،ومناصرة فكرة التقّد م التي راجت أكثر في ظّل
علمّية وصناعّية .قامت الحداثة على إثبات المعقول في مقابل التنّك ر للجسد والحّس والغريزة (الالمعقول) ،لذلك عم
والشّر ،إنسانّي مفرط في إنسانّيته ،اعتبارات على غير أوانها ،والدة التراجيديا ،عمد إلى نقد فكرة الحداثة واألنوار ،ر
كان التقّد م في العلوم والتكنولوجيا مثًال مقصودًا ألجل سعادة اإلنسان ،فإّنهما قد حّو ال حياة اإلنسان إلى مأساة .ل
الوقت نفسه جالبًا ألشكال أخرى من اآلالم ،لقد سلب اإلنسان أفراحه وجعله يزداد برودًا كّل يوم .يكتب نيتشه في
ُي بدي نيتشه موقفًا سالبًا من الحداثة ومن األنوار ،ومن الحضارة األوروبّية إجماًال ،إذ يشكو المشروع الحداثي التنو
الخارجّي على حساب اإلنسان الداخلّي ،لقد انخسفت قيم االقتدار تحت منظومة تكنولوجّية ال ترى من اإلنسان إال ما
فأنتجت هذه الحداثة حركة عدمّية أّد ت إلى زوال كّل القيم الحضارّي ة العظيمة .لقد صارت شعوب الحداثة واألنوار س
أفرزت الحضارة األوروبية قيمًا لالنحطاط ولالستبداد ،رغم كونها تنادي باألنوار .فإن كان األمر كذلك فإّن الحداثة األورو
األنوار-واالستبداد-هابرماس-قارئا-نيتشهhttps://w w w .mominoun.com/articles/4307- 3/8
13/12/2023 11:56 مؤسسة مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث -األنوار واالستبداد ،هابرماس قارئ ًا نيتشه
يشير هابرماس إلى جملة االنتقادات الموّج هة نحو الحداثة وُي لّخصها في االّتهام القائم ضّد عقل يتأسس على
واالستغالل إال ليضع مكانها السيطرة التي ال تمّس للعقالنّية نفسها"[ .]5إّن ما يقع فيه هذا العقل هو نسيان أشكا
جاءت لتضع مكان االستبداد -الذي تزعم تجاوزه -أدوات أخرى للسيطرة ،فحّو لت الذوات إلى مواضيع ،وعّززت تواجد أ
للهيمنة التي بّثتها األنوار في كّل مكان هي أنماط مخيفة تقع صناعتها بشكل متخٍّف ،ويقع انتشارها انتشارًا مخيف
تكون الحداثة في نظر نيتشه وفي قراءة هابرماس نوعًا من الملهاة التراجيدية ،الجامعة بين الضحك والبكاء ،بين
الهيمنة ،فتكون من جهة أولى ممتلئة باألمل الثوري ،وتكون من جهة ثانية مجّر دة من أدنى قّو ة على اإلمساك ب
تظهر لنا في قالب ثورّي ،لذلك اعتبر نيتشه الحداثة ومنتجاتها التنويرية ضربًا من إرادة االقتدار التي انحرفت عن هدف
عقالنّية جوفاء ال تعي دورها وال تنقد مفاهيمها وال تراجع مآالتها[.]7
لعّل ما يلوم عليه هابرماس هيغل هو عدم نقده الّد عاءات الحداثة ،لذلك عمد نيتشه ضمن الجزء الثاني من اعتبارات
إلى مراجعة موقفه من التاريخ بذكر مّض اره ومساوئه ،مثلما بّين ضمن العنوان الفرعّي "في منفعة ومّض ار التاريخ" ،فال
إّن اإلسراف في االعتماد عليه يطمس شعلة الحياة فيتالشى بريقها وجمالها[.]9
إّن جدل العقل في التاريخ وسيرورته من مرحلة الذات ،مرورًا بمرحلة الموضوع وصوًال إلى ما هو مطلق ،هو جد
للحداثة انطالقًا من قواها الفاعلة والمحّر كة .يعني ذلك أّن مشروع األنوار كان محتويًا منذ البدء على بذرة تآكله البا
على قياس برنامج حركة األنوار نفسها ،وهو ما أنتج تنافرًا بين مفهوم العقل وما سيصدر عنه من جدل تاريخّي يح
إّذاك عمد نيتشه إلى مراجعة مشروع األنوار بوضع العقل والذات على محّك النقد المحايث ،فكان مخّيرًا بين أمرين :إّم
العقل لكونه المسؤول عن فكرة األنوار المؤدّي ة بدورها ال محالة إلى االستبداد .لقد ألحق الوعي الهيغلي بالتار
الحتوائه على مضامين جوفاء ،لذلك حاول نيتشه إعادة تطبيق جدل العقل على مشروع األنوار كما فهمه أنصار الم
التاريخي الذي يخفي وراءه فكرة قاتمة عن الحداثة ،تبّرر االستبداد تحت اسم األنوار[ .]11بيد أّن نيتشه لن يستعير الم
التي يمكن أن يجّر نا إليها جدل التاريخ ،ولفضح أشكال القمع واالستبداد التي توارت وراء ثقة مطلقة في العقل .ل
جينيالوجّي في التاريخ ،يجعل من األسطورة األصل التاريخّي األّو لي .يتعّين على هذا األصل األسطورّي أن يحّل مسألة الت
يرى نيتشه أّن بناء الحداثة ليس رهين التقّد م إلى األمام ،وإّنما علينا العودة إلى الوراء ،إلى األصل األسطورّي .يعني
التراجيديا) التي ستقودنا حتمًا إلى زمان العظمة .ال تقوم األنوار الحقيقّية إال من خالل فهمنا للماضي ،والتعّم ق
واألصل .لم تكن حداثة األنوار في نظر نيتشه قادرة على فهم الزمان ،وال على فهم التاريخ ،وال على فهم الماض
"والدة التراجيديا اإلغريقية من رحم الموسيقى" ،ولم تكن طامحة إلى فهم الماضي ألّنها عّينته منذ البدء زمانًا متر
من الّلزوم ،لذلك أجهضت والدة األنوار وحّل محّلها شبح االستبداد المخيف .هكذا قضت األنوار بانحالل األسطورة وز
الحداثة أن تكون العصر النهائّي للتاريخ[ .]12فكيف يمكن أن نحكم على اإلنسان بالفناء ضمن عقلنة تاريخّية؟
يرّد نيتشه هذا المآل المأساوّي لعقل األنوار إلى النهم التاريخّي ،أو التخمة التاريخّية التي غّيبت في اإلنسان جانبه الف
ذلك على ما هو جدلّي تاريخّي رامية عرض الحائط كّل ما أّس سته حضارة اليونان .لقد ضاع المعنى عندما ضاع هذا األص
إّن الفكر الحداثّي هو فكر تقّد مّي غير تراجعّي ،لذلك ال يمكنه أن يكون جينيالوجّيًا ،وال يمكنه العودة إلى األص
األسطورّي ة .ال تستفيق هذه األصول األسطورّي ة إال بالنسبة لمن يدرك معاني فلسفة المستقبل ،لذلك يكتب نيتشه ق
لن تدركوا معناه إال إذا كنتم مهندسي المستقبل ،والعارفين بالحاضر"[ .]14يشحذ نيتشه الوعي الحديث للزمان بص
الحداثة على أّنها معرض من اللحظات المتتالية والمتجاورة على شكل معرض لّلوحات الفنّية ،فإّن الفهم النيتشوي
تلتقي الحداثة مع القديم .ينبغي على نيتشه أن ُي عّو ل على فاغنار لينقذ جوهر األسطورة وكذلك جوهر الّد ين .تع
وتطلعه على تجارب قديمة فائقة العظمة ،فمثلما انتصر فاغنار على الثقافة اإلسكندرّي ة وجعل الشعب ثائرًا في
وسيجعل شعب الحداثة ثائرًا في وجوه االستبداد التي طغت على حرّي ته تحت اسم العقل .يعيد نيتشه كتابة األسطو
في جسد المجتمع الذي أنهكته نظرّي ات الحداثة الزائفة وتحريكًا للقوى التي تجّم دت في زمان جدلّي متصّلب .ينف
قادرة على فضح بصمات عقل شارف على نهاية اإلنسان نفسه ،وأقدم على تجفيف وجوده من كّل معنى .لذلك يلّح
المستقبل"[.]15
لقد عمل نيتشه على إعادة والدة التراجيديا من روح الموسيقى ،لكّنه تخّلى فيما بعد عن غنائّيات فاغنار ،ساعيًا إ
الرومانسّية األلمانّية بأّي ة صلة .اعتبر نيتشه ديونيزوس إله المستقبل ،وجعل من الشعر مرّب يًا للبشرّي ة ،إيمانًا بأّن الميثولو
تعزيز إرادة االقتدار لديه[ .]16يكتب هابرماس ... " :في عصر بدأت فيه األنوار تشّك بذاتها يمكن لعبادة ديونيزوس
أوربيدوس ،ونقد السفسطائّية ،أن تمّثل جاذبّية ما ،غير أّنه وفقًا لرأي فرانك السبب الرئيسي إلعادة التقييم هو أّن بإمك
أّن ديونيزوس سيعود ذات يوم ،يبعثه السّر المقّد س ويخّلصه من الجنون ،وبهذا يتمّيز عن كّل آلهة اليونان بوصفه إله
لماذا العودة إلى اليونان إن كان نيتشه يعتبر العودة إلى األصول تؤّد ي إلى البربرّي ة في كّل مكان؟ ال يمكن لنيتش
األصول ،فنيتشه ليس مفّك ر أصول ،ألّنه فيلسوف النسيان ال فيلسوف الّذاكرة .فالنسيان هو األفق الذي يصبح فيه الحد
اليونان تمجيدًا لهم أو تأريخًا لنموذجهم وإّنما هي استحضار لممارساتهم الفنّية والفكرّي ة من جهة المحاكاة أل
اليونان المجازّي ال إلى اليونان التاريخّي ،لذلك تعتبر والدة التراجيديا عودة تأويلّية ترسم لنا نموذجًا مخصوصًا من
الوجود.
لقد تأّو ل نيتشه أصل التراجيديا اإلغريقّية انطالقًا من ثنائّية األبولوني والّد يونيزوسي ،ويتعّلق األمر بشرح كيف يعيش
وديونيزوس هما إلهان أودع فيهما اإلغريق أعمق معتقداتهم الجمالّية ،ويمّثالن صراعًا بين غريزتين اثنتين :الحلم و
البطل التراجيدّي والمتفّر جون والجوقة (الكورس) ،ويشّك لون كًال واحدًا .تعّبر هذه الوحدة عن عبقرّي ة التراجيديا اإلغ
األنوار-واالستبداد-هابرماس-قارئا-نيتشهhttps://w w w .mominoun.com/articles/4307- 5/8
13/12/2023 11:56 مؤسسة مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث -األنوار واالستبداد ،هابرماس قارئ ًا نيتشه
عناصر الّطبيعة ،لذلك تتماهى شخصّية الفّنان التراجيدّي كلّيًا مع وحدة الوجود األزلّي ،ويتحّرر من الذاتّي ومن الفردّي
أدرك نيتشه أّن أسطورة ديونيزوس هي الكفيلة بإحياء شعب أفقدته األنوار حتى أشكاله البدائّية للتدّي ن ،وجّر ته
االجتماعي حّتى في طقوسه المسرفة[ .]19يالحظ هابرماس تقاربًا بين صورة ديونيزوس اإلله الغائب الذي يبّش ر بمجي
عودة نيتشه لديونيزوس ليست لها غاية أخرى غير العمل على تحرير الشعوب من سلطة األنوار من جهة النظر في إم
اإلغريقية بنقده للحداثة ،فيعيد النظر في ذاتّية األنوار التي فرضت بشكل استبدادّي ،ليخّلصها من عزلتها ومن ضيقه
لقد تخّلى نيتشه عن فاغنار لكونه قد "تكّثفت فيه الحداثة حّقا" ،ولكونه "يشارك الرومانسيين أفق تحّق ق العصر الح
لكّنه يجعل العقل المتمركز على الذات في مواجهة مع مطلق آخر للعقل ،هو الفّن اإلغريقّي نفسه ،من جهة ك
أشكال االلتزامات النفعّية أو األخالقّية .ينبغي إلغاء الفردّي ة التي فرضتها حداثة األنوار من خالل االتحاد بالطبيعة .لذ
أن ينتظر من الميثولوجيا الجديدة إال شكًال من االنعتاق ُي لغي كّل الوساطات"[ .]22إّن عدمّية عصر األنوار راجعة ف
الحداثة بقدوم هذا اإلله الغائب "ديونيزوس".
لّم ا كان مفهوم الحداثة متأّس سًا على نظرّي ة في السلطة ،بدءًا بسلطة العقل نفسها ،فإّن نيتشه ُي دين هذا الم
النيتشوي للحداثة يستعير اقتدارات فنّية تجعل من النقد ممكنًا بصورة إيحائّية ،ألّنه "ال يعترف بالملكة النقدّي ة للتقييم
للعقل الذي يبقى مرتبطًا -على األقّل باإلجراء بسير التبرير القائم على الحّجة -بالمعرفة الموضعة (objectivante
بإزالة التضليل الذي يحوم حول فكرة الحداثة والذي أنتجته نظرّي ة استبدادّي ة بمعضلة نقد العقل .يقع حّل هذه المعض
من منظور الفّنان .هاهنا يقترح نيتشه إمكانّية النظر إلى العلم فنّيًا من خالل نظرة تحّر كها وسائل العلم .غير أّنه
تستند إلى أرضّية ميتافيزيقّية أو رومانسّية[.]24
خاتمة:
إذا كان هيغل قد رأى في الحداثة وفي الّد ولة الحديثة الشكل األقصى لتحّق ق "الروح المطلق" ،فإّن نيتشه اعتبر
األصنام" لكونها الصنم الذي ابتدعه اإلنسان األخير .لذلك فإّن المؤمنين بهذا الّص نم هم "الفائضون عن اللزوم" ،الذ
الواحد فوق اآلخر بغرض الوصول إلى السلطة .إّن الشعب والّد ولة ضّد ان ال يجتمعان في نظر نيتشه ،فعندما توجد
الشعب ،فصار اإلنسان الحديث ال هو بالّس عيد ،وال هو بمانح الّس عادة .قادته دولة الثقافة ،دولة الحداثة ،نحو التفّك ك
وجود الّد ولة .تعّبر الّد ولة الحديثة عن إرادة النفي وقوى االرتكاس ،لذلك كان يشّبهها دومًا بكلب منافق.
لذلك لم ينفّك نيتشه عن نقد الّد يمقراطّية الحديثة ،من جهة كونها نتاجًا من نتاجات األنوار ،فكانت تعني بالنسبة
انحطاطًا للممارسة السياسّية.
إّن اقتران األنوار باالستبداد ضمن قراءة نيتشه للحداثة ،هو اقتران فاضح لمدى انحطاط القيم التي نادى بها فالسف
والعقالنيات ،قد جّر دت اإلنسان من قيم أخرى أكثر عمقًا وأكثر حميمّية ال يمكن أن يقّد مها له النموذج العلمي مه
ضرورة العودة إلى المثال الفنّي اإلغريقّي ليستلهم منه دواء إلنسان أنهكته فكرة الحداثة وانطلت عليه حيلة األنوا
* نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون ،العدد الثامن ،2016 ،إصدارات مؤسسة مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث.
[ -]1هابرماس ،القول الفلسفي للحداثة ،ترجمة فاطمة الجيوشي ،دمشق ،منشورات وزارة الثقافة ،دراسات فلسفّية ،1995 ،ص 12
[sé la modernité de manière radicalement sceptique », Dossier, « Pourquoi lire Nietzsche aujourd’hui », Magazine Littéraire, Nietzsche contre le nihilisme, N° 383 Janvier 2000, P.27 -]3
[t Janvier 1989. La philosophie à l’époque tragique des Grecs, suivi de Sur l’avenir de nos établissements d’enseignement, Textes et variantes établis par G. Colli et M. Montinari, -]4
( .Traduits de l’allemand par Jean-Louis Backes, Michel Haar et Marc B. de Launay, paris, Gallimard, 1990, 14, [83], p.61الترجمة من عندنا)
[, « De l’utilité et des inconvénients de l’histoire pour la vie », Textes et variantes établis par G. Colli et M. Montinari, Traduits de l’allemand par Pierre Rusch, Paris, Gallimard, 1990 -]8
[ -]9راجع ،فوزية ضيف اهلل" ،من فينومينولوجيا الذاكرة إلى جينيالوجيا النسيان" ،يتفّكرون ،الهوّية والذاكرة ومسارات االعتراف ،مؤسسة مؤمنون بال حدود ،العدد الرابع ،صيف ،2014ص 82
[.Nietzsche, La Naissance de la Tragédie, in Œuvres Complètes, Tome 1, Trad. Ph. Lacoue-Labarthe, Paris, 1977, p.147 -]13