You are on page 1of 8

‫‪13/12/2023 11:56‬‬ ‫مؤسسة مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث ‪ -‬األنوار واالستبداد‪ ،‬هابرماس قارئ ًا نيتشه‬

‫األنوار واالستبداد‪ ،‬هابرماس قارئًا نيتشه‬

‫‪ ‬فئة ‪ :‬مقاالت‬

‫‪13‬‬
‫سبتمبر ‪2016‬‬
‫بقلم فوزية ضيف اهلل‬
‫قسم‪ :‬الفلسفة والعلوم اإلنسانية‬

‫األنوار واالستبداد‪ ،‬هابرماس قارئًا نيتشه*‬

‫األنوار‪-‬واالستبداد‪-‬هابرماس‪-‬قارئا‪-‬نيتشه‪https://w w w .mominoun.com/articles/4307-‬‬ ‫‪1/8‬‬


‫‪13/12/2023 11:56‬‬ ‫مؤسسة مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث ‪ -‬األنوار واالستبداد‪ ،‬هابرماس قارئ ًا نيتشه‬

‫‪ 1‬ـ اعتبارات تمهيدّي ة‪:‬‬

‫عرف القرن العشرون تداوًال للعديـد مـن المـدارس والتيـارات الفكريـة والفلسـفية التـي فقدت ثقتها في مشروع الح‬

‫وحروب زعزعت اإليمان في القيم التي بّش ر بها فالسفة األنوار‪ .‬فأصبحت الفلسفة نعيًا لقيم الحرّي ة والعدالة والسلم‪،‬‬
‫النزعات اإلنسانّية‪.‬‬

‫ينشغل هذا المقال بالنظر في قراءة هابرماس للموقف النيتشوي من فكرتي الحداثة واألنوار‪ ،‬ضمن الفصلين الثالث و‬

‫الكتاب في أصله األلماني (‪ )Der philosophische Diskurs der Moderne‬سنة ‪1985‬م‪ ،‬وترجم إلى الفرنسّي‬
‫‪ ،)philosophique de la modernité‬ثّم ترجمته فاطمة الجيوشي إلى العربية سنة ‪.1995‬‬

‫تجدر اإلشارة إلى أّن هابرماس ينتمي إلى الجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت‪ ،‬المنضوية تحت اسم "النظرّي ة النقدي‬

‫ونقدها‪ُ ،‬م نشئة "قوًال فلسفّيًا في الحداثة" امتّد من القرن الثامن عشر إلى اليوم‪ ،‬كما بادرت إلى تحطيم أوهام الحد‬
‫ناقدًا للمواقف الرافضة للحداثة‪ ،‬وقد انحاز إلى قراءة "فالسفة ما بعد الحداثة"‪ ،‬بدءًا بالفيلسوف األلماني فريدريك‬

‫في الحداثة" لمراجعة جملة المواقف الفلسفية للرافضين والناقدين لفكرتي الحداثة واألنوار‪.‬‬

‫استهّل هابرماس كتابه باإلشارة إلى محاضرته التي قّد مها سنة ‪1980‬م بمناسبة تسّلمه جائزة أدورنو‪ ،‬وقد كان ع‬

‫كانت الحداثة قد فشلت‪ ،‬أو أّنها لم ُتنجز أصًال‪ ،‬فذلك يعود في نظر هابرماس إلى انكسار الحياة وتجّز ئها إلى اختص‬

‫تجربة خالية من المعنى‪ ،‬لذلك يبدو هابرماس متحّفظًا على مصطلح "ما بعد الحداثة" الذي نحته الفيلسوف الف‬
‫السوسيولوجية المرتبطة بالتحديث الذي يعرفه المجتمع الصناعي المعاصر كمجتمع استهالكي‪ .‬يمكن شرح تحّفظ‬

‫التالية‪:‬‬

‫أّو ًال‪ :‬إذا كانت "الحداثة‪ :‬مشروعًا لم ُي نجز" في نظر هابرماس‪ ،‬فال يمكن الحديث عن مصطلح "ما بعد الحداثة"‪ ،‬بل‬
‫الحداثة" ليسوا في معزل عن الحداثة نفسها‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬ال ينبغي النظر إلى فشل مشروع الحداثة من جانبه السلبي فحسب‪.‬‬

‫ثالثًا‪ :‬تقوم رؤية هابرماس على إعادة الثقة بالحداثـة عـن طريـق الكشـف عن طرق حداثية أخرى تتأسس على مفهو‬

‫إليه في مجال األخالق والقانون‪ ،‬ويدعو إلى ظهور تنظيمات ديمقراطية وقوانين وضعية أكثر فاعلّية‪.‬‬

‫علينا أن نبحث أّو ًال في مفهومي الحداثة واألنوار‪ ،‬قبل المرور إلى النظر في قراءة هابرماس للنقد النيتشوي للحداثة‪.‬‬

‫‪ )notions philosophiques‬أّن الحداثة ليست مفهومًا‪ ،‬ولكّنها داللة تأويلّية تطلق على حقبة تاريخية محّد دة تم‬

‫مفهومًا جديدًا لإلنسان‪ ،‬للعقل وللهوّي ة‪ ،‬يحتل مفهوم ""‪ Modernity‬في الفكر المعاصر مكانًا بارزًا‪ ،‬فهو يشير بوج‬
‫إلى جوهرها‪ ،‬ويفرض صورة جديدة لإلنسان والعقل والهوّي ة‪ ،‬تتناقض جذريًا مع ما كان سائدًا في القرون الوسطى‬

‫األنوار‪-‬واالستبداد‪-‬هابرماس‪-‬قارئا‪-‬نيتشه‪https://w w w .mominoun.com/articles/4307-‬‬ ‫‪2/8‬‬


‫‪13/12/2023 11:56‬‬ ‫مؤسسة مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث ‪ -‬األنوار واالستبداد‪ ،‬هابرماس قارئ ًا نيتشه‬

‫النظر إلى الحياة وإلى اإلنسان بتفاؤل وحيوّي ة‪ .‬تشمل العديد من المجاالت اإلنسانّية‪ ،‬فتضّم المستويات العلمّية‬

‫والفلسفّية‪ .‬ال ُتعّد الحداثة مذهبًا سياسيًا أو نظامًا ثقافّيًا أو اجتماعيًا‪ ،‬ولكّنها حركة تطوير وإبداع عقالنية‪.‬‬

‫لقد عاد هابرماس إلى هيغل لتحديد معنى الحداثة‪ ،‬ويالحظ أّن هذا اللفظ يستعمل لإلشارة إلى حقبة تاريخّية ُتسّم ى‬
‫الرجوع إليه (هيغل) لنفهم داللة الصلة الداخلّية بين الحداثة والعقالنّية داللة ظّلت بال إشكال حتّى ماكس فيبر‪ ،‬وصار‬

‫المفهوم الهيجلي للحداثة لنرى مدى شرعّية ادعاء هؤالء الذين يضعون تحليالتهم تحت مقّد مات أخرى"[‪ .]1‬إال أّن ه‬

‫من جهة جعله الذاتّية أمرًا مطلقًا‪ ،‬وجعلها قادرة على التفكير في انطباقها على ذاتها‪ ،‬ذلك هو البعد السلبي الذ‬
‫"هل تفهم الحداثة ذاتها بشكل حقيقي؟ ومنذ ذلك الحين اتخذ العقل في الحقيقة مكان المصير‪ ،‬ويعرف أّن كّل ح‬

‫فلسفة هيجل حاجة الحداثة إلى بلوغ تأسيسها الذاتي إال بمقدار تجريد الراهن من القيمة و(‪ )...‬النقد‪ .‬وفي نهاية‬

‫اهتمامنا به وتنكر عليه إمكان نداء يرسله من أجل تجّد د ناقد لذاته"[‪.]2‬‬

‫لقد كان نيتشه واحدًا من الفالسفة األلمان الذين فّك روا في الحداثة بشكل جذرّي وريبي‪ ،‬فالحداثة انبنت بالنسبة إلي‬

‫العديد من اآلالم والمآسي رغم التزامها بتحقيق سعادته ورفاهّيته‪ .‬لذلك سعى نيتشه إلى تحطيم وتعرية المفا‬

‫مفهوم التطّو ر‪ ،‬اإلنسانّية‪ ،‬الهوّي ة الثقافّية‪ ،‬الهوّي ة األلمانية أو األوروبية[‪.]3‬‬

‫إذا كان نيتشه قد سّم ى الفيلسوف "طبيبًا للحضارة‪ ،‬فذلك من جهة قدرته على تشخيص األمراض التي أضّر ت بالحضا‬

‫يعتبره مسؤوًال عن انحطاط الحضارة اليونانّية وانحطاط الفكر الفلسفّي ‪ ،‬من جهة اهتمامه بالعقل على حساب الح‬
‫سقراط التراجيديا اإلغريقية انحطاطًا للفّن وللفكر وللحضارة‪ .‬لقد كانت الحضارة األوروبّية في عصر نيتشه انعكاسًا وام‬

‫والحداثة بصورة مباشرة‪ .‬تشير الحداثة إلى الفترة التاريخّية من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين‪ ،‬وتمّيزت هذه‬

‫والعقائدّي ة الخاّص ة‪ ،‬أّو لها اإليمان المفرط بالعقل والعلم والحقيقة‪ ،‬ومناصرة فكرة التقّد م التي راجت أكثر في ظّل‬
‫علمّية وصناعّية‪ .‬قامت الحداثة على إثبات المعقول في مقابل التنّك ر للجسد والحّس والغريزة (الالمعقول)‪ ،‬لذلك عم‬

‫والشّر ‪ ،‬إنسانّي مفرط في إنسانّيته‪ ،‬اعتبارات على غير أوانها‪ ،‬والدة التراجيديا‪ ،‬عمد إلى نقد فكرة الحداثة واألنوار‪ ،‬ر‬

‫كان التقّد م في العلوم والتكنولوجيا مثًال مقصودًا ألجل سعادة اإلنسان‪ ،‬فإّنهما قد حّو ال حياة اإلنسان إلى مأساة‪ .‬ل‬

‫الوقت نفسه جالبًا ألشكال أخرى من اآلالم‪ ،‬لقد سلب اإلنسان أفراحه وجعله يزداد برودًا كّل يوم‪ .‬يكتب نيتشه في‬

‫العنكبوت الذي يحيك خيوط بيته‪ ،‬يصطاد فريسته ويمتّص دمها"[‪.]4‬‬

‫ُي بدي نيتشه موقفًا سالبًا من الحداثة ومن األنوار‪ ،‬ومن الحضارة األوروبّية إجماًال‪ ،‬إذ يشكو المشروع الحداثي التنو‬

‫الخارجّي على حساب اإلنسان الداخلّي ‪ ،‬لقد انخسفت قيم االقتدار تحت منظومة تكنولوجّية ال ترى من اإلنسان إال ما‬

‫فأنتجت هذه الحداثة حركة عدمّية أّد ت إلى زوال كّل القيم الحضارّي ة العظيمة‪ .‬لقد صارت شعوب الحداثة واألنوار س‬

‫بالعظمة‪ ،‬وكّل إحساس باألصل وبالزمان‪.‬‬

‫أفرزت الحضارة األوروبية قيمًا لالنحطاط ولالستبداد‪ ،‬رغم كونها تنادي باألنوار‪ .‬فإن كان األمر كذلك فإّن الحداثة األورو‬
‫األنوار‪-‬واالستبداد‪-‬هابرماس‪-‬قارئا‪-‬نيتشه‪https://w w w .mominoun.com/articles/4307-‬‬ ‫‪3/8‬‬
‫‪13/12/2023 11:56‬‬ ‫مؤسسة مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث ‪ -‬األنوار واالستبداد‪ ،‬هابرماس قارئ ًا نيتشه‬

‫يشير هابرماس إلى جملة االنتقادات الموّج هة نحو الحداثة وُي لّخصها في االّتهام القائم ضّد عقل يتأسس على‬

‫واالستغالل إال ليضع مكانها السيطرة التي ال تمّس للعقالنّية نفسها"[‪ .]5‬إّن ما يقع فيه هذا العقل هو نسيان أشكا‬

‫جاءت لتضع مكان االستبداد ‪ -‬الذي تزعم تجاوزه ‪ -‬أدوات أخرى للسيطرة‪ ،‬فحّو لت الذوات إلى مواضيع‪ ،‬وعّززت تواجد أ‬

‫للهيمنة التي بّثتها األنوار في كّل مكان هي أنماط مخيفة تقع صناعتها بشكل متخٍّف ‪ ،‬ويقع انتشارها انتشارًا مخيف‬

‫‪ 2‬ـ هابرماس قارئًا نيتشه‪ :‬األنوار واالستبداد‬

‫تكون الحداثة في نظر نيتشه وفي قراءة هابرماس نوعًا من الملهاة التراجيدية‪ ،‬الجامعة بين الضحك والبكاء‪ ،‬بين‬

‫الهيمنة‪ ،‬فتكون من جهة أولى ممتلئة باألمل الثوري‪ ،‬وتكون من جهة ثانية مجّر دة من أدنى قّو ة على اإلمساك ب‬

‫تظهر لنا في قالب ثورّي ‪ ،‬لذلك اعتبر نيتشه الحداثة ومنتجاتها التنويرية ضربًا من إرادة االقتدار التي انحرفت عن هدف‬

‫عقالنّية جوفاء ال تعي دورها وال تنقد مفاهيمها وال تراجع مآالتها[‪.]7‬‬

‫لعّل ما يلوم عليه هابرماس هيغل هو عدم نقده الّد عاءات الحداثة‪ ،‬لذلك عمد نيتشه ضمن الجزء الثاني من اعتبارات‬

‫إلى مراجعة موقفه من التاريخ بذكر مّض اره ومساوئه‪ ،‬مثلما بّين ضمن العنوان الفرعّي "في منفعة ومّض ار التاريخ"‪ ،‬فال‬

‫إّن اإلسراف في االعتماد عليه يطمس شعلة الحياة فيتالشى بريقها وجمالها[‪.]9‬‬

‫إّن جدل العقل في التاريخ وسيرورته من مرحلة الذات‪ ،‬مرورًا بمرحلة الموضوع وصوًال إلى ما هو مطلق‪ ،‬هو جد‬

‫للحداثة انطالقًا من قواها الفاعلة والمحّر كة‪ .‬يعني ذلك أّن مشروع األنوار كان محتويًا منذ البدء على بذرة تآكله البا‬
‫على قياس برنامج حركة األنوار نفسها‪ ،‬وهو ما أنتج تنافرًا بين مفهوم العقل وما سيصدر عنه من جدل تاريخّي يح‬

‫للمطلق لم تمّك نه من تخّطي عتبات الحداثة وعثرات األنوار[‪.]10‬‬

‫إّذاك عمد نيتشه إلى مراجعة مشروع األنوار بوضع العقل والذات على محّك النقد المحايث‪ ،‬فكان مخّيرًا بين أمرين‪ :‬إّم‬

‫العقل لكونه المسؤول عن فكرة األنوار المؤدّي ة بدورها ال محالة إلى االستبداد‪ .‬لقد ألحق الوعي الهيغلي بالتار‬

‫الحتوائه على مضامين جوفاء‪ ،‬لذلك حاول نيتشه إعادة تطبيق جدل العقل على مشروع األنوار كما فهمه أنصار الم‬
‫التاريخي الذي يخفي وراءه فكرة قاتمة عن الحداثة‪ ،‬تبّرر االستبداد تحت اسم األنوار[‪ .]11‬بيد أّن نيتشه لن يستعير الم‬

‫التي يمكن أن يجّر نا إليها جدل التاريخ‪ ،‬ولفضح أشكال القمع واالستبداد التي توارت وراء ثقة مطلقة في العقل‪ .‬ل‬

‫جينيالوجّي في التاريخ‪ ،‬يجعل من األسطورة األصل التاريخّي األّو لي‪ .‬يتعّين على هذا األصل األسطورّي أن يحّل مسألة الت‬

‫يرى نيتشه أّن بناء الحداثة ليس رهين التقّد م إلى األمام‪ ،‬وإّنما علينا العودة إلى الوراء‪ ،‬إلى األصل األسطورّي ‪ .‬يعني‬

‫التراجيديا) التي ستقودنا حتمًا إلى زمان العظمة‪ .‬ال تقوم األنوار الحقيقّية إال من خالل فهمنا للماضي‪ ،‬والتعّم ق‬

‫واألصل‪ .‬لم تكن حداثة األنوار في نظر نيتشه قادرة على فهم الزمان‪ ،‬وال على فهم التاريخ‪ ،‬وال على فهم الماض‬
‫"والدة التراجيديا اإلغريقية من رحم الموسيقى"‪ ،‬ولم تكن طامحة إلى فهم الماضي ألّنها عّينته منذ البدء زمانًا متر‬

‫األنوار‪-‬واالستبداد‪-‬هابرماس‪-‬قارئا‪-‬نيتشه‪https://w w w .mominoun.com/articles/4307-‬‬ ‫‪4/8‬‬


‫‪13/12/2023 11:56‬‬ ‫مؤسسة مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث ‪ -‬األنوار واالستبداد‪ ،‬هابرماس قارئ ًا نيتشه‬

‫من الّلزوم‪ ،‬لذلك أجهضت والدة األنوار وحّل محّلها شبح االستبداد المخيف‪ .‬هكذا قضت األنوار بانحالل األسطورة وز‬

‫الحداثة أن تكون العصر النهائّي للتاريخ[‪ .]12‬فكيف يمكن أن نحكم على اإلنسان بالفناء ضمن عقلنة تاريخّية؟‬

‫يرّد نيتشه هذا المآل المأساوّي لعقل األنوار إلى النهم التاريخّي ‪ ،‬أو التخمة التاريخّية التي غّيبت في اإلنسان جانبه الف‬

‫ذلك على ما هو جدلّي تاريخّي رامية عرض الحائط كّل ما أّس سته حضارة اليونان‪ .‬لقد ضاع المعنى عندما ضاع هذا األص‬

‫إّن الفكر الحداثّي هو فكر تقّد مّي غير تراجعّي ‪ ،‬لذلك ال يمكنه أن يكون جينيالوجّيًا‪ ،‬وال يمكنه العودة إلى األص‬

‫األسطورّي ة‪ .‬ال تستفيق هذه األصول األسطورّي ة إال بالنسبة لمن يدرك معاني فلسفة المستقبل‪ ،‬لذلك يكتب نيتشه ق‬

‫لن تدركوا معناه إال إذا كنتم مهندسي المستقبل‪ ،‬والعارفين بالحاضر"[‪ .]14‬يشحذ نيتشه الوعي الحديث للزمان بص‬

‫الحداثة على أّنها معرض من اللحظات المتتالية والمتجاورة على شكل معرض لّلوحات الفنّية‪ ،‬فإّن الفهم النيتشوي‬
‫تلتقي الحداثة مع القديم‪ .‬ينبغي على نيتشه أن ُي عّو ل على فاغنار لينقذ جوهر األسطورة وكذلك جوهر الّد ين‪ .‬تع‬

‫وتطلعه على تجارب قديمة فائقة العظمة‪ ،‬فمثلما انتصر فاغنار على الثقافة اإلسكندرّي ة وجعل الشعب ثائرًا في‬

‫وسيجعل شعب الحداثة ثائرًا في وجوه االستبداد التي طغت على حرّي ته تحت اسم العقل‪ .‬يعيد نيتشه كتابة األسطو‬

‫في جسد المجتمع الذي أنهكته نظرّي ات الحداثة الزائفة وتحريكًا للقوى التي تجّم دت في زمان جدلّي متصّلب‪ .‬ينف‬

‫قادرة على فضح بصمات عقل شارف على نهاية اإلنسان نفسه‪ ،‬وأقدم على تجفيف وجوده من كّل معنى‪ .‬لذلك يلّح‬
‫المستقبل"[‪.]15‬‬

‫لقد عمل نيتشه على إعادة والدة التراجيديا من روح الموسيقى‪ ،‬لكّنه تخّلى فيما بعد عن غنائّيات فاغنار‪ ،‬ساعيًا إ‬

‫الرومانسّية األلمانّية بأّي ة صلة‪ .‬اعتبر نيتشه ديونيزوس إله المستقبل‪ ،‬وجعل من الشعر مرّب يًا للبشرّي ة‪ ،‬إيمانًا بأّن الميثولو‬

‫تعزيز إرادة االقتدار لديه[‪ .]16‬يكتب هابرماس‪ ... " :‬في عصر بدأت فيه األنوار تشّك بذاتها يمكن لعبادة ديونيزوس‬

‫أوربيدوس‪ ،‬ونقد السفسطائّية‪ ،‬أن تمّثل جاذبّية ما‪ ،‬غير أّنه وفقًا لرأي فرانك السبب الرئيسي إلعادة التقييم هو أّن بإمك‬

‫أّن ديونيزوس سيعود ذات يوم‪ ،‬يبعثه السّر المقّد س ويخّلصه من الجنون‪ ،‬وبهذا يتمّيز عن كّل آلهة اليونان بوصفه إله‬

‫لماذا العودة إلى اليونان إن كان نيتشه يعتبر العودة إلى األصول تؤّد ي إلى البربرّي ة في كّل مكان؟ ال يمكن لنيتش‬

‫األصول‪ ،‬فنيتشه ليس مفّك ر أصول‪ ،‬ألّنه فيلسوف النسيان ال فيلسوف الّذاكرة‪ .‬فالنسيان هو األفق الذي يصبح فيه الحد‬

‫اليونان تمجيدًا لهم أو تأريخًا لنموذجهم وإّنما هي استحضار لممارساتهم الفنّية والفكرّي ة من جهة المحاكاة أل‬

‫اليونان المجازّي ال إلى اليونان التاريخّي ‪ ،‬لذلك تعتبر والدة التراجيديا عودة تأويلّية ترسم لنا نموذجًا مخصوصًا من‬

‫الوجود‪.‬‬

‫لقد تأّو ل نيتشه أصل التراجيديا اإلغريقّية انطالقًا من ثنائّية األبولوني والّد يونيزوسي‪ ،‬ويتعّلق األمر بشرح كيف يعيش‬
‫وديونيزوس هما إلهان أودع فيهما اإلغريق أعمق معتقداتهم الجمالّية‪ ،‬ويمّثالن صراعًا بين غريزتين اثنتين‪ :‬الحلم و‬

‫البطل التراجيدّي والمتفّر جون والجوقة (الكورس)‪ ،‬ويشّك لون كًال واحدًا‪ .‬تعّبر هذه الوحدة عن عبقرّي ة التراجيديا اإلغ‬
‫األنوار‪-‬واالستبداد‪-‬هابرماس‪-‬قارئا‪-‬نيتشه‪https://w w w .mominoun.com/articles/4307-‬‬ ‫‪5/8‬‬
‫‪13/12/2023 11:56‬‬ ‫مؤسسة مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث ‪ -‬األنوار واالستبداد‪ ،‬هابرماس قارئ ًا نيتشه‬

‫عناصر الّطبيعة‪ ،‬لذلك تتماهى شخصّية الفّنان التراجيدّي كلّيًا مع وحدة الوجود األزلّي ‪ ،‬ويتحّرر من الذاتّي ومن الفردّي‬

‫المتغطرسة بفضل ظهورها على نحو فنّي [‪.]18‬‬

‫أدرك نيتشه أّن أسطورة ديونيزوس هي الكفيلة بإحياء شعب أفقدته األنوار حتى أشكاله البدائّية للتدّي ن‪ ،‬وجّر ته‬

‫االجتماعي حّتى في طقوسه المسرفة[‪ .]19‬يالحظ هابرماس تقاربًا بين صورة ديونيزوس اإلله الغائب الذي يبّش ر بمجي‬

‫عودة نيتشه لديونيزوس ليست لها غاية أخرى غير العمل على تحرير الشعوب من سلطة األنوار من جهة النظر في إم‬

‫اإلغريقية بنقده للحداثة‪ ،‬فيعيد النظر في ذاتّية األنوار التي فرضت بشكل استبدادّي ‪ ،‬ليخّلصها من عزلتها ومن ضيقه‬

‫لقد تخّلى نيتشه عن فاغنار لكونه قد "تكّثفت فيه الحداثة حّقا"‪ ،‬ولكونه "يشارك الرومانسيين أفق تحّق ق العصر الح‬
‫لكّنه يجعل العقل المتمركز على الذات في مواجهة مع مطلق آخر للعقل‪ ،‬هو الفّن اإلغريقّي نفسه‪ ،‬من جهة ك‬

‫أشكال االلتزامات النفعّية أو األخالقّية‪ .‬ينبغي إلغاء الفردّي ة التي فرضتها حداثة األنوار من خالل االتحاد بالطبيعة‪ .‬لذ‬
‫أن ينتظر من الميثولوجيا الجديدة إال شكًال من االنعتاق ُي لغي كّل الوساطات"[‪ .]22‬إّن عدمّية عصر األنوار راجعة ف‬
‫الحداثة بقدوم هذا اإلله الغائب "ديونيزوس"‪.‬‬

‫لّم ا كان مفهوم الحداثة متأّس سًا على نظرّي ة في السلطة‪ ،‬بدءًا بسلطة العقل نفسها‪ ،‬فإّن نيتشه ُي دين هذا الم‬
‫النيتشوي للحداثة يستعير اقتدارات فنّية تجعل من النقد ممكنًا بصورة إيحائّية‪ ،‬ألّنه "ال يعترف بالملكة النقدّي ة للتقييم‬

‫للعقل الذي يبقى مرتبطًا ‪-‬على األقّل باإلجراء بسير التبرير القائم على الحّجة‪ -‬بالمعرفة الموضعة (‪objectivante‬‬
‫بإزالة التضليل الذي يحوم حول فكرة الحداثة والذي أنتجته نظرّي ة استبدادّي ة بمعضلة نقد العقل‪ .‬يقع حّل هذه المعض‬

‫من منظور الفّنان‪ .‬هاهنا يقترح نيتشه إمكانّية النظر إلى العلم فنّيًا من خالل نظرة تحّر كها وسائل العلم‪ .‬غير أّنه‬
‫تستند إلى أرضّية ميتافيزيقّية أو رومانسّية[‪.]24‬‬

‫خاتمة‪:‬‬

‫إذا كان هيغل قد رأى في الحداثة وفي الّد ولة الحديثة الشكل األقصى لتحّق ق "الروح المطلق"‪ ،‬فإّن نيتشه اعتبر‬
‫األصنام" لكونها الصنم الذي ابتدعه اإلنسان األخير‪ .‬لذلك فإّن المؤمنين بهذا الّص نم هم "الفائضون عن اللزوم"‪ ،‬الذ‬
‫الواحد فوق اآلخر بغرض الوصول إلى السلطة‪ .‬إّن الشعب والّد ولة ضّد ان ال يجتمعان في نظر نيتشه‪ ،‬فعندما توجد‬

‫الشعب‪ ،‬فصار اإلنسان الحديث ال هو بالّس عيد‪ ،‬وال هو بمانح الّس عادة‪ .‬قادته دولة الثقافة‪ ،‬دولة الحداثة‪ ،‬نحو التفّك ك‬
‫وجود الّد ولة‪ .‬تعّبر الّد ولة الحديثة عن إرادة النفي وقوى االرتكاس‪ ،‬لذلك كان يشّبهها دومًا بكلب منافق‪.‬‬

‫لذلك لم ينفّك نيتشه عن نقد الّد يمقراطّية الحديثة‪ ،‬من جهة كونها نتاجًا من نتاجات األنوار‪ ،‬فكانت تعني بالنسبة‬
‫انحطاطًا للممارسة السياسّية‪.‬‬

‫األنوار‪-‬واالستبداد‪-‬هابرماس‪-‬قارئا‪-‬نيتشه‪https://w w w .mominoun.com/articles/4307-‬‬ ‫‪6/8‬‬


‫‪13/12/2023 11:56‬‬ ‫مؤسسة مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث ‪ -‬األنوار واالستبداد‪ ،‬هابرماس قارئ ًا نيتشه‬

‫إّن اقتران األنوار باالستبداد ضمن قراءة نيتشه للحداثة‪ ،‬هو اقتران فاضح لمدى انحطاط القيم التي نادى بها فالسف‬
‫والعقالنيات‪ ،‬قد جّر دت اإلنسان من قيم أخرى أكثر عمقًا وأكثر حميمّية ال يمكن أن يقّد مها له النموذج العلمي مه‬

‫ضرورة العودة إلى المثال الفنّي اإلغريقّي ليستلهم منه دواء إلنسان أنهكته فكرة الحداثة وانطلت عليه حيلة األنوا‬

‫* نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون‪ ،‬العدد الثامن‪ ،2016 ،‬إصدارات مؤسسة مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث‪.‬‬

‫[‪ -]1‬هابرماس‪ ،‬القول الفلسفي للحداثة‪ ،‬ترجمة فاطمة الجيوشي‪ ،‬دمشق‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬دراسات فلسفّية‪ ،1995 ،‬ص ‪12‬‬

‫[‪ -]2‬هابرماس‪ ،‬القول الفلسفي للحداثة‪ ،‬ص ‪70‬‬

‫[‪sé la modernité de manière radicalement sceptique », Dossier, « Pourquoi lire Nietzsche aujourd’hui », Magazine Littéraire, Nietzsche contre le nihilisme, N° 383 Janvier 2000, P.27 -]3‬‬

‫[‪t Janvier 1989. La philosophie à l’époque tragique des Grecs, suivi de Sur l’avenir de nos établissements d’enseignement, Textes et variantes établis par G. Colli et M. Montinari, -]4‬‬

‫‪( .Traduits de l’allemand par Jean-Louis Backes, Michel Haar et Marc B. de Launay, paris, Gallimard, 1990, 14, [83], p.61‬الترجمة من عندنا)‬

‫[‪ -]5‬هابرماس‪ ،‬القول الفلسفّي للحداثة‪ ،‬ص ‪91‬‬

‫‪]6[-‬هابرماس‪ ،‬القول الفلسفّي للحداثة‪ ،‬ص ‪91‬‬

‫[‪ -]7‬هابرماس‪ ،‬القول الفلسفّي للحداثة‪ ،‬ص ‪91‬‬

‫[‪, « De l’utilité et des inconvénients de l’histoire pour la vie », Textes et variantes établis par G. Colli et M. Montinari, Traduits de l’allemand par Pierre Rusch, Paris, Gallimard, 1990 -]8‬‬

‫[‪ -]9‬راجع‪ ،‬فوزية ضيف اهلل‪" ،‬من فينومينولوجيا الذاكرة إلى جينيالوجيا النسيان"‪ ،‬يتفّكرون‪ ،‬الهوّية والذاكرة ومسارات االعتراف‪ ،‬مؤسسة مؤمنون بال حدود‪ ،‬العدد الرابع‪ ،‬صيف ‪ ،2014‬ص ‪82‬‬

‫‪ ]10[-‬هابرماس‪ ،‬القول الفلسفّي للحداثة‪ ،‬ص ص ‪140‬ـ‪141‬‬

‫[‪ -]11‬هابرماس‪ ،‬القول الفلسفّي للحداثة‪ ،‬ص ‪141‬‬

‫[‪ -]12‬هابرماس‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ص ‪142-141‬‬

‫[‪.Nietzsche, La Naissance de la Tragédie, in Œuvres Complètes, Tome 1, Trad. Ph. Lacoue-Labarthe, Paris, 1977, p.147 -]13‬‬

‫[‪.Nietzsche, Considérations inactuelles II, p.303 -]14‬‬

‫[‪.Nietzsche, La Naissance de la Tragédie, P.69 -]15‬‬

‫‪]16[-‬هابرماس‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ص ‪145-144‬‬

‫‪ ]17[-‬هابرماس‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪150‬‬

‫[‪.Nietzsche, La Naissance de la tragédie, § 2 et §3, pp.46-50 -]18‬‬

‫‪ ]19[-‬هابرماس‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ص ‪151-150‬‬

‫[‪ -]20‬هابرماس‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ص‪152-151.‬‬

‫[‪ -]21‬هابرماس‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪152‬‬

‫[‪ -]22‬هابرماس‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪154‬‬

‫‪]23[-‬هابرماس‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪158‬‬

‫‪]24[-‬هابرماس‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ص ‪152-151‬‬

‫األنوار‪-‬واالستبداد‪-‬هابرماس‪-‬قارئا‪-‬نيتشه‪https://w w w .mominoun.com/articles/4307-‬‬ ‫‪7/8‬‬


‫‪13/12/2023 11:56‬‬ ‫مؤسسة مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث ‪ -‬األنوار واالستبداد‪ ،‬هابرماس قارئ ًا نيتشه‬

‫األنوار‪-‬واالستبداد‪-‬هابرماس‪-‬قارئا‪-‬نيتشه‪https://w w w .mominoun.com/articles/4307-‬‬ ‫‪8/8‬‬

You might also like