Professional Documents
Culture Documents
"إن كل ما هو قيم يحتاج وقتا طويال للحصول على القوة ،ال سيما إذا كان من النوع التعليمي وليس من التسلية،
وخالل ذلك يزدهرالزائف".
آرثر شوبنهاور
األهداف التعليمية
1
-Iمدخل مفاهيمي
مفهوم الحداثة
يقول يورغن هابرماس إن موضوع الحداثة المثير للجدل المتعدد األوجه ،ما انفك يالحقه منذ سبتمبر
،0891تاريخ إلقائه محاضرة بعنوان "الحداثة :مشروع لم ينجز" بمناسبة استالمه جائزة أدورنو (هابرماس،
.)1 ،0881وبهذا المعنى ،يكون هابرماس قد عبر بنفسه عما يطرحه مفهوم الحداثة وموضوع اشتغالها
من إشكاالت ،وعما يثيرانه من جدل ال يبدو أنه سيستقر في ظل تدافع فكري يحاول أن يطور نفسه باستمرار
بما يضمه من اتجاهات ،وهو ما جعل محمد سبيال ( )3102مثال ،يدمج بين تاريخ تطور الحداثة وتاريخ
نقدها.
تعد الحداثة مصطلحا إشكاليا ،ومع ذلك يمكننا التعبير عن مفهومه بشكل عام على أنه يمثل مسيرة
المجتمعات الغربية منذ عصر النهضة إلى اليوم ،ويشمل الترشيد االقتصادي والديمقراطية السياسية والعقالنية
في التنظيم االجتماعي .وليست الحداثة مجرد تغيير أو تتابع أحداث :إنها انتشار لمنتجات النشاط العقلي،
والمنتجات العلمية ،والتكنولوجية ،واإلدارية (أالن تورين.)0881 ،
ويرتكز المفكرون عادة في تعريف الحداثة إلى فكرتين أساسيتين هما :فكرة الثورة ضد التقليد ،وفكرة
مركزية العقل (وطفة.)3110 ،
ويشيع التمييز عادة بين الحداثة Modernitéوالتحديث .Modernisationتستخدم الحداثة في
نظر "جورج بالندي" لوصف الخصائص المشتركة للبلدان األكثر تقدما على صعيد التنمية التكنولوجية،
السياسية ،االقتصادية واالجتمايية ،بينما يستخدم التحديث لوصف العمليات التي بواسطتها تكتسب هذه
المستويات من التنمية (أفاية .)0889 ،وقد استخدمت كلمة "حديث" في شكلها الالتيني Modernusألول
مرة في أواخر القرن الخامس لتمييز الحاضر ،الذي أصبح مسيحيا بشكل رسمي ،عن الماضي الروماني
والوثني ،وبمضمون متنوع ،كان مصطلح "الحديث" يعبر المرة تلو المرة عن وعي حقبة تربط نفسها بماضي
القدماء لكي تنظر إلى نفسها باعتبارها نتيجة انتقال من القديم إلى الجديد (هابرماس.)0881 ،
ال يوجد اتفاق حول منشأ كلمة حداثة ،ولكن تذهب بعض اآلراء إلى أن أول من استعمل الكلمة
هو شاتو بريان عام 0918وبعدها بعشر سنوات أبرز الشاعر الفرنسي "شارل بودلير Charles
)0981-0930( "Baudelaireكلمة الحداثة عند اهتمامه بعلم الجمال وتعريفه له (أبو النور حسن،
.)3103
2
يرى كل من كارل ماركس وإميل دوركايم وماكس فيبر أن الحداثة تجسد صورة نسق اجتماعي
متكامل ،ومالمح نسق صناعي منظم وآمن ،وكالهما يقوم على أساس العقالنية في مختلف المستويات
واالتجاهات (وطفة.)3110 ،
وبمفهوم هابرماس فإن الحداثة هي الوعي بالمرحلة التاريخية التي تقيم عالقة مع الماضي من أجل
أن تفهم ذاتها باعتبارها نوعا من االنتقال أو العبور من الماضي إلى الحاضر .أي أن الحداثة ارتبطت
بفكرة التقدم أو الرقي Progrèsوالتي شكلت الفكر الليبرالي الحديث (أبو النور حسن)3103 ،
ترتبط فكرة الحداثة ارتباطا وثيقا بالعقلنة (أالن تورين .)0881 ،ويمكن تعريفها عموما على النحو
التالي (حافظ:)0889 ،
مرحلة تبلغها المجتمعات اإلنسانية من خالل عملية التراكم التاريخي ،والجهود
المبذولة لتحرير العقل من عجزه واستخدام إمكانياته في سبيل البناء.
ـ الحرية بمعنى االستخدام العلني للعقل في أمور المجتمع وقضاياه المختلفة.
العقالنية بمعنى إحالل العقل أو التفكير العقالني محل التفكير الميتافيزيقي
واالحتكام إلى العقل في كل شأن كأحد مبادئ التنوير والحداثة.
انتقد بعض الفالسفة الحداثة ،منهم هايدجر الذي لخص االنعكاسات السلبية للحداثة ،فيما
يلي (الشيخ & الطائري ،د.ت):
وحسب الفيلسوف األلماني فريدريك هيغل ( )0920-0111فإن الحداثة بدأت مع عصر األنوار
بفعل هؤالء الذين أظهروا وييا وبصيرة باعتبار أن هذا العصر هو حد فاصل ومرحلة نهائية من التاريخ
(وطفة.)3110 ،
3
فما المقصود باألنوار؟
في معرض إجابته عن سؤال ما األنوار؟ يقول الفيلسوف إيمانويل كانط إن التنوير هو خروج
اإلنسان من حالة الوصاية التي يكون هو نفسه مسؤوال عنها .والوصاية هي عدم قدرة المرء على استخدام
فكره دون توجيه من غيره (.)Kant, 1784
يحيل التنوير على عصر التحرر العقلي والفكري في القرن الثامن عشر .واتخذ شكل المشروع
الفكري والنضالي الذي يريد تخليص البشرية من ظلمات العصور الوسطى وهيمنة رجال الكنيسة .يرى
الباحث البلجيكي روالن مورتييه ،أن القرن الثامن عشر هو أول عصر في التاريخ يشعر بذاتيته ،وكيانيته،
ووحدته ،كما يشعر بأنه مكلف بتأدية رسالة مهمة للبشرية هي :التنوير(هاشم صالح.)3111 ،
شكل التنوير تيا ار عقليا حرك أوروبا كلها إبان القرن الثامن عشر ،وتركز في باريس ،ثم انتشر
منها في كل أنحاء أوروبا ومنها إلى المستعمرات األمريكية (سبنسر& كروز .)3111 ،وهو تعبير عن فكرة
التقدم ،وهدفه تحرير اإلنسان من الخوف وجعله سيدا(هوركايمر& أدورنو.)3118 ،
يرجع البعض بداية استخدام مصطلح التنوير بالمعنى الحديث المفصول عن المعنى الديني ،أو
اإلنجيلي إلى ديكارت ( .)0811-0188فهو يتحدث مثال عن النور الطبيعي ،الذي يقصد به مجمل
الحقائق التي يتوصل إليها اإلنسان عن طريق استخدام العقل فقط .ولكن ديكارت ال يستخدم هذا المصطلح
كسالح ضد الدين أو باألحرى ضد رجال الدين كما سيفعل فيما بعد فولتير ودريدو .إنما يستخدمه ضمن
سياق االحترام الكامل للقيم الدينية (صالح.)3111 ،
ما يميز فلسفة التنوير ،بشكل عام ،عن الفلسفة السابقة عليها حسب أالن بلوم Alan Bloomهو
عزمها على أن تمد جميع البشر بالمزايا التي كانت فيما قبل خاصة ببعض الفئات فقط وهو ما يمكن أن
نسميه بالحياة طبقا للعقل (تورين.)0881 ،
وفي عصر األنوار وما يليه بدأت الدولة المركزية بتقنياتها اإلدارية تأخذ مكان النظام اإلقطاعي
والتأكيد على العلوم والفيزياء الطبيعية التي توجد في أصل العطاءات التكنولوجية ،وحيث بدأت الفنون تأخذ
ظاللها اإلبدايية في أوروبا (وطفة.)3110 ،
4
مفهوم البرجوازية
تعني البرجوازية حسب قاموس المعاني ،الطبقة المتوسطة أي تلك التي تقع بين الطبقات العليا
والطبقات العاملة على السلم االجتماعي .بمفهوم النظرية الماركسية تعني البرجوازية كل ما له عالقة
بالرأسمال أو من يملكون رأس المال كالصناع والتجار وأصحاب المحالت الصغيرة .وهو مدلول معاكس
لمفهوم البروليتاريا أو الطبقة الكادحة.
اقترن ظهور الطبقة المتوسطة (البرجوازية) في أوروبا ،في بداية العصور الحديثة بتعزيز سلطان
الملكية كخير كفيل لصيانة مصالح هذه الطبقة اآلخذة في النمو ضد ما يقع عليها من اعتداءات الطبقات
ذات االمتيازات في "النظام القديم" القائم على اإلقطاع .ولم يكن للبرجوازية (الطبقة الوسطى) حقوق سياسية
تخولها المشاركة في ممارسة شؤون الحكم ،وإن كانت هذه الطبقة بفضل ثرائها وقدرتها على إمداد الحكومات
بحاجاتها من المال قد استطاعت في أحايين كثيرة التأثير بطريق غير مباشرة على نشاط هذه "الدولة
الوطنية" النائشة .ثم ما لبثت أن عمدت البورجوازية إلى تغيير أسس الحكم القديمة بصورة تفسح المجال
ألن يشارك أهل هذه الطبقة مشاركة فعلية في تدبير شؤون الحكم ،وألن يتجرد أصحاب السلطان في العهد
أو النظام القديم من كل امتيازاتهم وحقوقهم الموروثة (شكري.)3101 ،
ويعبر التنوير عن حركة المجتمع البرجوازي الفعلي في كليتها من خالل فكرته المتجسدة في
الشخصيات والمؤسسات (هوركايمر& أدورنو.)3118 ،
5
-IIمدرسة فرنكفورت
وهي توجب علينا تحليلها في المقام األول :تدمير العقل التنويري لنفسه".
ليس باإلمكان أن نفهم تماما التحليل الذي اقترحه هابرماس للمجال العام البرجوازي ،دون أن نأخذ
في االعتبار حقيقة أن هذا التحليل يمثل تقليدا معينا :النظرية النقدية ،أي مدرسة فرنكفورت .يعطي هذا
االنتماء خصوصيته الفكرية ،ويضعها في سياق تاريخي ملموس .وهذا يعني من الناحية المنهجية أن عمل
هابرماس يفضل النهج النقدي .الواقع الظاهر للظاهرة المرصودة (الفضاء العام البرجوازي) ،والفئات
المفاهيمية المستخدمة لفهمها (ال أري العام ،المواطن ،التصويت) ،هي في الواقع عرضة للتساؤل حول
الظروف التاريخية وحول حدود صحتها (.)Dahlgren, 1994
تعد مدرسة فرانكفورت ،المعروفة أيضا باسم معهد البحوث االجتمايية ،حركة فلسفية اجتمايية
وسياسية انطلقت من فرانكفورت ،بألمانيا ،وامتد تأثيرها الفلسفي إلى مختلف أنحاء العالم ،وشكلت مصد ار
أساسيا لما يعرف بالنظرية النقدية .تأسس معهد البحوث االجتمايية بفضل تبرع قدمه فليكس فايل عام
،0832بهدف تطوير الدراسات الماركسية في ألمانيا ثم ما لبث أن أصبح المعهد مدرسة فكرية محددة
المعالم بعد عام ،0822عندما أجبر بفعل المد النازي على االنتقال إلى الواليات المتحدة األمريكية ،ليستقر
في جامعة كولومبيا ،بنيويورك.
عرفت مدرسة فرانكفورت عبر تاريخها أجيال عديدة من المنظرين .من أبرز شخصيات الجيل األول
Theodor نذكر :ماكس هوركايمر ،)0812-0981( Max Horkheimerتيودور أدورنو
،)0888-0812(Adornoهربرت ماركوز ،)0818-0989(Herbert Marcuseإريك فروم Eric
.)0891-0811( Frommوأما الجيل الثاني فقد قاده منذ سبعينيات القرن الماضي أحد أعالم المدرسة
البارزين وهو يورغن هابرماس .Jürgen Habermasويمكن الحديث أيضا عن "جيل ثالث" من المنظرين
النقديين ،يمثلهم رمزيا في ألمانيا العمل المؤثر ألكسيل هونيث .Axel Honnethوظهر في وقت مبكر
6
من العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ،جيل رابع من علماء النظرية النقدية واندمجوا حول أحد أكثر
ممثليها نشاطا وهو راينر فورست .)Corradetti, 2013( Rainer Forst
وهذا يعني أن النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت اتخذت في مسارها الطويل اتجاهات مختلفة ،بسبب
الخلفيات االجتمايية لروادها من جهة واهتماماتهم المختلفة التي ارتبطت بأفكار عصر التنوير ،من مثالية
كانت وهيجل إلى تأويلية ماكس فيبر وفينومينولوجية هوسرل (الدليمي.)3108 ،
قامت النظرية النقدية منذ نشأتها في الثالثينات من القرن العشرين بنقد جذري لمشروع التنوير بما
هو رمز الحداثة الغربية( )...ففي خضم التطور التاريخي تبين أن المشروع التنويري أصبح أبعد عن
تحقيق المبادئ والقيم اإلنسانية التي قام عليها ،والتي دافع عنها الفالسفة التنويريون ،من أمثال جون
لوك وإيمانويل كانط ومونتيسكيو وديدرو وغيرهم من الفالسفة والمفكرين الذين عرفتهم أوروبا في بداية القرن
السابع عشر والقرن الثامن عشر .لقد اتضح أن هذا المشروع لم يعد مؤهال أو قاد ار على تحرير اإلنسان
من مختلف أشكال السيطرة التي أصبحت تهدد وجوده ،وخاصة في ظل النظم السياسية واالقتصادية
الشمولية التي بلغت أوجها وقمة غيابها في اللحظة التاريخية الحاسمة والخطيرة التي عايشها فالسفة مدرسة
فرانكفورت (بومنير.)3101 ،
وإذا كانت النظرة اليائسة لمدرسة فرانكفورت إبان مرحلتها األخيرة مستمدة أساسا من تحليل المجتمع
الغربي الحديث ،إال أنه يجب النظر إليها أيضا في ضوء رؤية أوسع للفكر االجتماعي الراهن ،سيما الذي
برز في ألمانيا نهاية القرن التاسع عشر ،والذي لم تعبر عنه فقط معارضة الوضعية كنظرية للعلم ،وإنما
أيضا المعاداة العامة للعلم والتكنولوجيات في ذاتهما ،وفي حدود عواقبهما االجتمايية والثقافية .
وعلى هذا النحو ،يالحظ هيوجز Hughesفي دراسته حول الفكر األوروبي بين عامي -0981
،0821أن الثورة ضد الوضعية كانت مصحوبة بوضع عقيدة التقدم المادي موضع تساؤل ،واالحتجاج
على "مكينة الحياة" الذي أحد تعبيراته في النزعة الرومانسية الجديدة "فلسفة الحياة" ،وإعادة تأكيد القيم
الروحية مرة أخرى في أفكار ماكس فيبر المتشائمة عن الترشيد العقالني والتحرر من وهم العالم.
ثم أدت االضطرابات الشديدة والدمار الناجم عن الحرب العالمية األولى ،وتجربة النظام االشتراكي
الوطني في ألمانيا ،وهيمنة القوى العظمى ،المنغمسة على نحو متزايد في سباق التسلح النووي ،على العالم
وتقسيمه فيما بينهما منذ عام .0811أدت كلها إلى اإلسهام بشكل متصاعد في اإلحساس بالضياع
واالنحطاط الثقافي وبالالعقالنية المتنامية.
7
وقد مثلت مدرسة فرانكفورت جزءا ال يتج أز من هذا الضرب من التفكير وكان تأثيرها المتصاعد في
الستينيات مرتبطا بال شك بالتجدد المتعدد األشكال ،وبخاصة في بعض من قطاعات الطبقة الوسطى،
للنفور من العقلنة التقنية والبيروقراطية .وفي نفس الوقت ،فإن نقدها للمجتمع الحديث قام بشكل أساسي
على تحليل لطبيعة هذا المجتمع ،ثم التعبير عنه صراحة وبصورة أكمل في كتاب ماركيوز (إنسان البعد
الواحد) .وما سعى هذا التحليل إلى توضيحه ،هو أن الطبقتين الرئيسيتين في المجتمع الرأسمالي ،أي
البورجوازية والبروليتاريا ،قد اختفيتا بوصفهما وسائط تاريخية فعالة .فمن ناحية ،ال توجد طبقة سائدة ،وإنما
يتم التسلط من جانب قوة الشخصانية ،هي العقالنية العلمية التقنية ،ومن ناحية أخرى ،ال توجد طبقة
معارضة ،ألن الطبقة العاملة تم استيعابها واسترضاؤها ،ليس فقط من خالل استهالك ضخم ،وإنما أيضا
في عملية اإلنتاج المرشدة ذاتها(بوتمور.)3111 ،
وهكذا ،تبلورت مهمة معهد البحوث االجتمايية حول مشروع تنويري جديد وهو مشروع يرتبط
بالماركسية ولهذا اتسم في بدايته بطابع ماركسي ثوري (أبو النور حسن )3103 ،خاصة وأن سياق تأسيسه
جاء في أوضاع متقلبة ،ويمكن النظر إلى هذا المعهد على أنه أحد أشكال االستجابة للحاجة التي استشعرها
الجناح اليساري من المثقفين نحو إعادة تقويم النظرية الماركسية ،وبخاصة ما يتصل بتقويم العالقة بين
النظرية والممارسة في تلك الظروف المستجدة ( )...على أن المعهد لم يؤلف مدرسة متميزة في هذه المرحلة
المبكرة ،إذ يالحظ مارتن جاي ،M. JAYأن فكرة إنشاء مدرسة متميزة لم تظهر إال بعد إجبار المعهد على
مغادرة مدينة فرانكفورت .بل إن مصطلح مدرسة فرانكفورت نفسه لم يستخدم إال بعد عودة المعهد إلى ألمانيا
عام ( 0811بوتمور.)3111 ،
تولى اإلشراف على المعهد في بداية تأسيسه كارل غرونبرغ ،وهو أحد أبرز مفكري المدرسة
الماركسية النمساوية ،ثم خلفه ماكس هوركايمر عندما عين مدي ار للمعهد ،حيث جعل من الفلسفة النقدية
الموضوع األساسي للنظرية االجتماعية التي اهتمت في البداية بتحليل البنيات االجتماعية واالقتصادية
للمجتمع القائم ،ويظهر هذا االهتمام بالجانب الفلسفي النقدي عند هوركايمر في مقاله االفتتاحي للمعهد
الذي كان عنوانه "الحالة الراهنة للفلسفة االجتماعية وواجبات معهد األبحاث االجتماعية"(بومنير،
.)3101
وفي عام 0820أنشئ ملحق للمعهد في جنيف بسويس ار ،ثم في فبراير 0822استقر به مكتب
من 30عضوا ،صار المركز اإلداري للمعهد الذي أغلقه النازيون .وافتتح بشكل مواز ملحقان أصغر من
األول في باريس وفي لندن ،ومنذ سبتمبر 0822لم تعد مدرسة فرانكفورت فرانكفورتية ،فمجلتها تصدر في
فرنسا ،ومقرها الرئيسي في سويسرا ،واستمرت هذه الغربة حتى 0811حين استعاد المعهد عمله في دياره
8
بعد انقطاع دام سبعة عشر عاما .وفي غضون ذلك كان المعهد قد ارتبط في الواقع بالواليات المتحدة .ولقد
حولت أمواله إلى هناك عام ،0810وكان المعهد قد ارتبط بجامعة كولومبيا منذ 0821بناء على اقتراح
من بوتلر ،حتى أنه احتفظ بالفرع النيويوركي للمعهد ،بعد العودة إلى فرانكفورت (لوران آسون.)3111 ،
يمكن تمييز أربع مراحل في تاريخ تطور مدرسة فرانكفورت (بوتومور:)3111 ،
المرحلة األولى ( :)3211-3291تميزت بتنوع البحوث ،ولم يكن المعهد يستوحي أثناءها مفهوما
معينا للفكر الماركسي كما تجسد بعدها في النظرية النقدية.
المرحلة الثانية ( :)3291-3211هي مرحلة المنفى في أمريكا الشمالية ( )...وأثناء المنفى ،بدأ
األعضاء البارزين بالمعهد ،وبتوجيه من هوركايمر في تمحيص آرائهم النظرية بطريقة أكثر منهجية ،لتتشكل
بالتدريج معالم مدرسة فكرية متميزة .وحين عاد المعهد إلى فرانكفورت عام ،0811بدأت تتضح األفكار
الرئيسية للنظرية النقدية ،من خالل عدد من الكتابات المهمة ،وأضحت مدرسة فرانكفورت تمارس تأثي ار جليا
على الفكر االجتماعي األلماني.
المرحلة الثالثة بعد عام ،3291وهي مرحلة التأثير الفكري والسياسي األكبر ،والتي وصلت إلى
ذروتها أواخر الستينيات ،مع النمو المتسارع لحركة الطلبة الراديكالية.
المرحلة الرابعة :مع بداية السبعينيات ،بدأ تأثير مدرسة فرانكفورت في االنحسار ببطء .والحقيقة
أنها كفت أن تتواجد كمدرسة ،بموت أدورنو عام 0888وهوركايمر عام .0812كما أنها حادت في سنواتها
األخيرة بعيدا عن الماركسية التي وهبتها الحياة في األصل ،مما جعلها ،وبتعبير جاي" :تفقد الحق في أن
تكون من بين فروعها المتعددة".
كذلك أخذ تناولها اإلجمالي للنظرية االجتمايية في االبتعاد بشكل متزايد عن األشكال الجديدة أو
المتجددة من الفكر الماركسي .ومع ذلك شقت بعض المفاهيم الرئيسية لهذه المدرسة طريقها إلى مؤلفات
الكثيرين من المشتغلين بعلم االجتماع ،سواء من الماركسيين أو غير الماركسيين ،كما أنها تطورت بطريقة
مبدعة على يد هابرماس ،فيما يتصل بنقد متجدد لشروط إمكانية المعرفة االجتماعية ،وفي إعادة تقويم
نظرية ماركس عن التاريخ والرأسمالية الحديثة.
فرنكفورت
مواضيع اشتغال مدرسة ا
ركز منظرو مدرسة فرانكفورت في تناولهم إلشكاليات بحثهم على عدد من القضايا من أهمها:
9
-3النظرية والممارسة :يمكن القول إن النظرية النقدية هي مجموعة القضايا التي تشكل إطا ار
نظريا لنقد النظام االجتماعي القائم ومحاولة الكشف عن تناقضاته بحثا عن نظام اجتماعي تنعدم فيه هذه
التناقضات.
لقد حاولت النظرية النقدية جاهدة على المستوى النظري أن تعالج عالقة النظرية بالممارسة
" "Praxisمن منظور المادية الجدلية ،وهذا واضح من خالل تأكيد هوركايمر على أن قيمة النظرية تتحدد
من خاللها عالقتها بالممارسة (أبو النور حسن.)3103 ،
تعتبر هذه المقولة إطا ار مرجعيا لمعظم أفكار فالسفة المدرسة النقدية (أبو النور حسن.)3103 ،
فقد كان للنظرة األحادية للعقل ،حسبهم ،نتيجتها الحتمية المتمثلة في سعيه الحثيث للسيطرة على كل شيء
بما في ذلك اإلنسان نفسه ،هذا األخير الذي أصبح مهددا بل خاضعا لما أسماه الفيلسوف المجري جورج
لوكاش (الذي أثر في الجيل األول لفالسفة مدرسة فرانكفورت) في كتابه الموسوم بـ"التاريخ والوعي الطبقي"
بالتشيؤ ( la reificationبومنير ،)3101 ،وهو برأيه تحول الصفات اإلنسانية إلى أشياء جامدة واتخاذها
لوجود مستقبل واكتسابها لصفات غامضة غير إنسانية (أبو النور حسن ،)3103 ،وهو ما حدث
للمجتمعات الغربية التي عرفت تقدما علميا وتقنيا كبي ار وحققت قفزات جد معتبرة في عمليتي التحديث
والعقلنة ،لكنها وقعت فريسة النازية والفاشية والستالينية (بومنير.)3101 ،
وعالجت النظرية مصطلح االغتراب ،فذهبت إلى أن العمال والمديرين في النظام الرأسمالي مغتربون،
ألنهم محرومون من إشباع حاجاتهم األساسية وسلوكياتهم مدفوعة بالمصلحة وليس بالحب .إنهم قد يكونون
أطباء أو محامين ،لكنهم بالتأكيد ليسوا بش ار (أبو النور حسن.)3103 ،
يقول هوركايمر وأدورنو في إجابتهما عن سؤال :كيف نفسر تدمير العقل التنويري لنفسه بحيث
أصبحت اإلنسانية تخوض في حالة جديدة من البربرية بدل أن تصل إلى حالة إنسانية حقيقية؟ إن ذلك قد
تم عندما تحول العقل أداة للسيطرة على الطبيعة ثم على اإلنسان ،والمقصود بالعقل هنا العقل األداتي أو
التقني القائم على التكميم والقياس والفاعلية والموجه نحو ما هو عملي وتطبيقي ونفعي .فالفكر الذي أصبح
بمثابة آلة رياضية إنما يتضمن تكريسا للعالم بوصفه إجراء خاصا (بومنير.)3101 ،
10
ويعد العقل األداتي أو العقالنية التقنية من المصطلحات األساسية والجوهرية في قضايا النظرية
النقدية .فقد ظهر عند هوركايمر من خالل كتابه "جدل التنوير "Dialectic of Enlightenmentباالشتراك
مع أدورنو ،وظهر كذلك في كتاب آخر له وهو "أفول العقل "Eclipse of Reasonوظهر مع ماركيوز
من خالل مؤلفه "اإلنسان ذو البعد الواحد" ،والعقل األداتي لدى هؤالء هو منطق التفكير وأسلوب في رؤية
العالم (أبو النور حسن.)3103 ،
تأثر فالسفة مدرسة فرانكفورت بنتاج الفكر الفلسفي األلماني ولكنهم توجهوا بالنقد لعدة اتجاهات
منه .واتخذوا من هذا النقد أرضية خصبة ومادة خام لبناء نظريتهم النقدية (أبو النور حسن.)3103 ،
لم يكن يورغن هابرماس مجرد امتداد للجيل األول من أصحاب النظرية النقدية ،وإنما كان وما زال
ناقدا للنقد أيضا ،بذلك أعطى التنوير داللة إيجابية فعالة .اتبع هابرماس الخط الفلسفي النقدي نفسه الذي
تأسس على يد فالسفة مدرسة فرانكفورت ،ولكنه حاول تطوير المفهوم الفلسفي للنظرية النقدية ومدرسة
فرانكفورت ،فكان بأعماله المختلفة المهندس الرئيسي للنظرية النقدية الجديدة .تأثر هابرماس كثي ار بالعديد
من المذاهب واالتجاهات الفلسفية ،فإلى جانب الكانطية والهيجلية والماركسية والتيارات الفلسفية األلمانية
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ،فإننا نجد أن المصادر األساسية لنظرية هابرماس النقدية قد بدأت
أوال من خالل تأثره العميق بفلسفة هيدجر ،ثم الفالسفة األلمان المعاصرين وخاصة رواد مدرسة (أبو النور
حسن.)3103 ،
اتخذ هابرماس ،كأبرز مفكري الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت Francfortمنحى آخر في
فهم "األنوار" الذي تعتبر "الحداثة" مظهره األساسي ،معتب ار هاته األخيرة "كمشروع لم ينجز وأنه أسيئ فهم
األنوار ،مخالفا اتجاه اآلباء األوائل للمدرسة ( أدورنو وهوركهايمر )...باعتبارهم أن ظهور األنظمة
التوتاليتارية في أوروبا النصف األول من القرن العشرين كان من نتائج "حداثة األنوار" (حيسون.)3101 ،
وقد اختار هابرماس "الحداثة مشروع لم ينجز" عنوانا لمحاضرة قدمها بمناسبة استالمه لجائزة أدورنو
(هابرماس.)0881 ،
11
-IIIالفضاء العمومي في الفكر الغربي الحديث
يشير مفهوم الفضاء العمومي إلى الظروف االجتمايية إلمكانية تشكيل رأي عام .ويشير األخير
إلى المهام النقدية ،والتأثريية وللسيطرة التي يضطلع بها المجال العام إزاء الدولة .إن المجال العام البرجوازي
كقوة حرة ومنفتحة ،ال يتألف من رعايا الدولة ،وال من وكالء اقتصاديين خاصين منشغلين بمصالح شخصية،
بل يشكلون عموم عقالني وبالتالي "مستنير" الذي في ظل ظروف مناقشة حرة ،مجردة من أي مرجعية
دوغماتية للسلطة أو تقليد ،يصبح قادر على توليد سلطة شريية ،بمعنى التعبير عن المصلحة العامة
األصيلة (.)Trom, 1989, 96
كرس مفهوم الفضاء العمومي من قبل الفيلسوف األلماني يورغن هابرماس في بداية الستينيات من
القرن الماضي لوصف تكوين "المجال العام البرجوازي" خالل القرن الثامن عشر في كل من إنجلترا ،وفرنسا،
وألمانيا .المفهوم الذي كان بداية في خدمة السلطة القائمة ،ثم طور شيئا فشيئا خطابه الخاص المعارض
لألمير .بالنسبة لهابرماس ،لكي يشكل الفضاء العمومي الرأي العام ،فإنه يجب أن يتمحور على جمهور
من األشخاص المستقلين بشكل ما عن الخطاب المهيمن والقادرين على تشكيل رأي عقالني من جهة ،ومن
جهة أخرى ،على فضاء رمزي مفتوح لكل المواطنين والذي تعبر خالله األفكار وتناقش .إن محرك الفضاء
العمومي هو استخدام الجمهور للعقالنية ،ودعامته الصحافة والنوادي والصالونات ).(Ballarini, 2011
في كتابه "الفضاء العمومي :حفرية العمومية ( )publicitéكبعد مكون للمجتمع البورجوازي" ،قدم
هابرماس دراسة سوسيو تاريخية لتحوالت بنية الفضاء العمومي البرجوازي منذ بدايته إلى يومنا هذا .يدافع
هابرماس في أطروحته عن فكرة الفضاء العمومي كمقولة فلسفية تبلورت في القرنين السابع عشر والثامن
عشر ،كما يصف لنا التفكك الذي لحق بهذا المفهوم في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (علوش،
.)3101-3101
الكتاب هو في األصل موضوع أطروحة هابرماس في السوسيولوجيا قدمها عام 0880بجامعة
ماربورغ بألمانيا ،وهو يبارة عن دراسة لبنية ووظيفة النموذج الليبرالي للفضاء العمومي البورجوازي في
أوروبا ،يحلل فيه ظهور هذا النموذج وتحوالته التاريخية منذ العصر الهليني مرو ار بالعصر الروماني حتى
العصر الحديث (حيسون.)3101 ،
يوظف هابرماس مفهوم األركيولوجيا (الحفرية) لرصد مفهوم الفضاء العمومي من جهة (علوش،
:)3101-3101
.0تكونه التاريخي؛
12
.3تحوالته المرتبطة بالوضع االقتصادي واالجتماعي والسياسي؛
.2وظيفته األساس (الحوار الحجاج ،اإلقناع :أي دوره التواصلي)؛
.1تفاعله مع عناصر البنية العامة للمجتمع البرجوازي؛
.1ارتباطه بالرأي العام ،وطرق اشتغاله ،واستعمال الجمهور للعقل استعماال عموميا أو غير عمومي،
إما في اتجاه قبول السلطة (االستالب والخضوع والهيمنة) أو ضد السلطة (القوة المضادة).
انتشر مفهوم الفضاء العموم على نطاق واسع بعد ترجمة كتاب هابرماس إلى اإلنجليزية في
تسعينيات القرن الماضي خاصة في األوساط األكاديمية ،وقد تناولته تخصصات عديدة ،وإن كان هابرماس
قد طرح المفهوم باألساس في إطار مجال العلوم السياسية ،للبحث في أسباب تراجع الديمقراطية والمشاركة
السياسية في المجتمعات الغربية (عبد المحسن ،د.ت).
أثار يورغن هابرماس النقاش حول الفضاء العمومي من خالل تتبعه تاريخ هذه الظاهرة من صالونات
القرن الثامن عشر إلى المساحات المادية أو االفتراضية المعاصرة حيث يشارك المواطنون في المحادثات
المتعلقة بالصالح العام .والمقصود بالفضاء العمومي ،هو أوال وقبل كل شيء ،مجال حياتنا االجتمايية
حيث يمكن تشكيل شيء من قبيل الرأي العام .ويشترط أن يكون الوصول إلى المجال العام مفتوحا لجميع
المواطنين ،ويتعاملون فيه مع المسائل ذات االهتمام العام دون التعرض لإلكراه ( .)Adut, 2012عندما
يفحص هابرماس الفضاء العمومي البرجوازي ،فإنه ال يقبل تعريفه الذاتي ،بل يسعى إلى توضيح الظروف
التاريخية التي جعلته في وقت ما ممكنا وفي وقت آخر عفا عليه الزمن .سيركز تحليله بعد ذلك على
الظروف ،وعلى األسباب االجتمايية ،وعلى نمط تشغيل التحول(.)Dahlgren, 1994
يميز هابرماس بين نموذج الفضاء العمومي المهيكل تمثيليا ،الذي ارتبط في أوروبا بالسلطة
الفيودالية والكنيسة والبالط الملكي ،ونموذج الفضاء العمومي البورجوازي الذي ظهر بعد اختفاء األول نتيجة
للتحوالت البنيوية التي عرفها ،فقد وعت البورجوازية بذاتها بعد تشكلها كطبقة قائمة وعملت على تكوين
استقالل خاص بها تجاه السلطة عن طريق تأسيس قواعد الحوار والمناقشة العامة ،تجلى ذلك بشكل واضح
في إنجلت ار نهاية القرن السابع عشر الميالدي وفي فرنسا نهاية القرن الثامن عشر وقد انتقل النقاش العمومي
إلى الصالونات والمقاهي ثم إلى النوادي األدبية وما لبث أن استقر كأحد البنود الرئيسية في الدساتير
الغربية(حيسون.)3101 ،
برأي هابرماس ،نجحت الطبقات البرجوازية الصاعدة في أوروبا الغربية ،من خالل محاربة امتيازات
الدولة المطلقة ،في إفساح المجال للنقاش بين الدولة والمجتمع المدني .على عكس ما أسماه هابرماس
13
"الدعاية التمثيلية" في فترة القرون الوسطى ،والتي كان النبالء الحاكمون راضين خاللها عن تقديم مشهد
السلطة للناس ،يوفر الفضاء العام الجديد للمواطنين إمكانية مناقشة ممارسة سلطة الدولة ،وبعبارة أخرى،
يتم تحويل األفراد الذين يستخدمون عقلهم النقدي إلى جمهور .بلغ الفضاء العام البرجوازي ،الذي تميز
بنقاشات وكتابات "رجال األدب" ،ذروته بين بداية ومنتصف القرن التاسع عشر.
عند استعادة هذا التطور ،يؤكد هابرماس على جوانبه اإليجابية ،لكنه يسلط الضوء على أحد العيوب
األساسية في النظرة العالمية التي تستخدمها الطبقات البرجوازية لتمثيل نفسها ،وهي الشمولية .بالطبع ،هناك
اختالفات محددة في التطور العام للفضاء العام في ألمانيا وبريطانيا العظمى وفرنسا ،ولكن في معظم
الحاالت نالحظ أن الحقوق المرتبطة بالمواطنة ،أي الولوج إلى الفضاء العام ،أو التصويت ،ال يمنح للجميع.
في األساس ،يتعلق األمر فقط بأصحاب الممتلكات(.)Dahlgren, 1994
الفضاء العمومي بالنسبة لهابرماس هو مكان لتشكيل الرأي العام ( .)Ballarini, 2010ويعرفه
بأنه االستخدام العمومي للعقل داخل المجتمعات البرجوازية (مالفي.)3100 ،
كما يعرفه بأنه مجتمع افتراضي أو خيالي ليس من الضروري التواجد في مكان معروف أو مميز
(في أي فضاء) ،فهو مكون من مجموعة من األفراد لهم سمات مشتركة مجتمعين مع بعضهم كجمهور،
ويقومون بوض ع وتحديد احتياجات المجتمع مع الدولة ،فهو يبرز اآلراء واالتجاهات من خالل السلوكيات
والحوار ،والتي تسعى للتأكيد على الشؤون العامة للدولة وهو شكل مثال (خضر.)3101 ،
ويمكن فهم المجال العام ،حسب هابرماس دائما ،كفضاء ألشخاص خاصين مجتمعين على شكل
عموم ،هؤالء األشخاص يدافعون عن هذا الفضاء العمومي المنظم من طرف السلطة ،وهم في نفس الوقت
ضدها ،وذلك من أجل نقاش القواعد العامة للتبادل في ميدان تبادل السلع والعمل االجتماعي (المجال
الذي بقي خاصا وأهميته ذات بعد عام) ،وسيط هذا التعارض بين الفضاء العمومي والسلطة هو وسيط
أصلي ال سابق تاريخيا ،إنه االستخدام العمومي للعقل (حيسون.)3101 ،
14
من هو يورغن هابرماس Jürgen habermas؟
ولد هابرماس عام 9191في دوسلدورف Düsseldorfفي عائلة بروتستانتية ،والده كان طالبا سابقا
في الفلسفة .تحصل هابرماس على البكالوريا عام 9191ودرس الفلسفة ،علم النفس ،األدب األلماني،
التاريخ واالقتصاد في غوتنغن بزيوريخ وبون .ناقش أطروحة الدكتوراه درجة ثالثة عام .9199خالل العامين
المواليين كان يعيش من الكتابة الصحفية المستقلة ومن منحة بحث ،قبل أن يصبح عام 2591مساعدا
لتيودور أدورنو في معهد البحوث االجتماعية بفرنكفورت .ولكنه غادره عام 9191إلى ماربورغ Marbourg
أين ناقش أطروحته للحصول على أعلى درجة علمية أي ما يعادل دكتوراه دولة .مارس بعدها تدريس
الفلسفة في هيدلبارغ Heidelbergثم عاد إلى فرنكفورت عام 9199ليأخذ كرس ي ماكس هوركايمر الذي
غادر إلى التقاعد .رفض إدارة معهد البحوث االجتماعية وفضل تكريس نفسه إلى التدريس ولكتبه
ومداخالته العامة مثل الصحافة التي نشر فيها العديد من المقاالت السياسية .وفي هذه الفترة بالتحديد
أجرى رحالته األولى كأستاذ زائر في الخارج مثل الواليات المتحدة .وفي عام ،9199غادر فرنكفورت مجددا
أين أصبح أحد مديري معهد Max-Planck de Starnbergأين أعد نظرية الفعل التواصلي التي ظهرت عام
.9199عاد مجددا إلى فرنكفورت ليشغل كرس ي فيلسوف إلى غاية تقاعده عام .9119ويعد هابرماس
السياق الذي حفز اهتمام هابرماس بالفضاء العمومي :يقول هابرماس في إحد حواراته" :يمثل
انهيار النازية وبناء الديمقراطية التي حصلت بعد هذا االنهيار ،تمثيال للحظة الحاسمة ،سواء في ألمانيا
الفدرالية أو إيطاليا ومؤخرا في إسبانيا والبرتغال ،تمثل سنة 9199بالنسبة إلينا في ألمانيا وأوروبا منعطفا
نحو األفضل .وهذا دون شك ليس من قبيل الصدفة ،إنه الفهم الجيد للديمقراطية ولعالقة المساواة بين
المواطنين (األشهب.)9192 ،
ويرى هابرماس بأنه يمكن تصور المجال العام البرجوازي ،قبل كل شيء ،على أنه مجال ألفراد
خاصين مجتمعين في شكل عموم ،يطالبون بالمجال العام المنظم من قبل السلطة ضد السلطات العمومية
نفسها ،إلشراكهم في النقاش حول القواعد العامة التي تحكم العالقات في مجال تبادل السلع والعمل
االجتماعي المخصخص أساسا ولكن ذي الصلة بالعموم .ويعتبر هابرماس أن وسيلة المواجهة هذه غريبة
ودون سابقة تاريخية :إنه توجه الناس لالستخدام العمومي لعقولهم (.)Habermas, 1991, 27
15
كما يحدد هابرماس مفهوم الفضاء العمومي البرجوازي في كونه مساحة اجتمايية محددة ،يتزامن
ظهورها مع تطور الرأسمالية في أوروبا الغربي .وال تعد صفة "برجوازية" ثانوية هنا ،فهي تعمل على إبراز
الظروف التاريخية الخاصة والبعد الطبقي للظاهرة .كفئة تحليلية ،يقدم الفضاء العمومي البرجوازي رابطا
ديناميكيا بين سلسلة من الفاعلين والعوامل والسياقات ،ضمن بناء نظري متماسك .مجموع مثل هذا التشكيل،
وقدرته على مراعاة االعتبارات المؤسسية والخطابية هو ما يعطي هذا المفهوم قوته التحليلية .يدمج تحليل
هابرماس ،من بين أمور أخرى ،منظورات نظرية حول التاريخ ،والبنية االجتمايية ،والسياسية ،وعلم اجتماع
اإلعالم ،وطبيعة الرأي ،وهذا ال يعطي سوى فكرة بسيطة عن تعقيد هذا المفهوم (.)Dahlgren, 1994
لكي يعرف هابرماس المجال العام البرجوازي ،كان في حاجة أوال لتعريف الفئتين المتعارضتين
العمومي والخاص ،مجالين يوجد بينهما المجال االجتماعي ،المجتمع المدني .هذا التوزيع له تاريخ طويل
يجد في الغرب جذوره في المدن اإلغريقية .ويجعل هابرماس من الصالون البرجوازي ،الخاص ،نقطة
ارتكاز المجال العام (.)Ballarini, 2010
يرى هابرماس أن الفصـ ـ ـ ـ ــل بين المجال الخاص والمجال العام لم يظهر إال في العص ـ ـ ـ ـ ــر الحديث
(العلوي .)3101 ،وقد رصـ ـ ـ ــد هابرماس في مؤلفه السـ ـ ـ ــابق الذكر ،تطور مفهومي "العام" و"الخاص" منذ
العص ـ ـ ــر الوس ـ ـ ــيط انطالقا من التعاريف الواردة في القانون الروماني حتى نهاية القرن الثامن عش ـ ـ ــر الذي
16
ع ـ ـ ـ ــرف تـ ـ ـ ـ ـفـ ـ ـ ـ ـك ـ ـ ـ ــك الـ ـ ـ ـ ـخـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ــوط الـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـريض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة لـ ـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـ ـط ـ ـ ـ ــور "الـ ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ــام" و"الـ ـ ـ ـ ـخ ـ ـ ـ ــاص" ()...
شــكل البالط أول العموم ،لكن ســرعان ما أصــبحت المدينة تضــطلع بالوظائف الثقافية للبالط ،فقد
كانت مركز نشاط المجتمع البرجوازي.
تفككت بعد ذلك بنيويا الحياة العامة في البالطات لتنتقل إلى الصالونات بالمدن ،في فرنسا خالل
تلك الفترة ضمت الصالونات األدبية النبالء وكبار البورجوازية لتشكل ما يسمى بـ"األنتلجنسيا" ،كما أن البالط
في إنجلت ار غدا مكانا للعائلة الملكية التي أصبحت تعيش منعزلة ،وال يتم االقتراب منها إال في المناسبات
الرسمية في الوقت الذي اتجه فيه المفكرون والنبالء إلى المقاهي وأصبح بالتالي لألدب مكانة خاصة في
الصالونات اإلنجليزية ،عكس ما حدث في ألمانيا ،فنظ ار ألنها ال تتوفر على بورجوازية مدينية في تلك الفترة
بالمفهوم الذي يؤسس لفضاء عمومي بورجوازي قادر على استيعاب التحول البنيوي للحياة العامة في
البالطات فلم يكن التطور حاصال كما هو الشأن بالنسبة إلنجلت ار ثم في فرنسا وانتقل بعد ذلك إلى ألمانيا
حسب فورستر ( F.G.Forsterحيسون.)3101 ،
ربط هابرماس نشأة الفضاء العمومي ،إذا ،بنشأة الدولة القومية الحديثة بتنظيماتها المؤسسية على
المستوى السياسي وتقنياتها التكنولوجية وتعدد واتساع أدوات تداول ونقل المعلومات ،حيث حقق اقتصاد
السوق االستقالل االقتصادي لألفراد عن األسرة والعائلة بالتحول من االقتصاد المنزلي إلى اقتصاد السوق،
ومن ثم منحهم –وفق الرؤية الحداثية -فرصا متساوية للتنافس في المجال العام (سياسيا وليس فقط
اقتصاديا) .كما فصل بين المجال الخاص والمجال العام بعد أن كانا متداخلين ومترابطين حيث كانت تعتبر
األسرة الوحدة األولية في عملية اإلنتاج وكان رب األسرة هو العائل االقتصادي الذي يعتمد عليه أفراد
األسرة ،ترتب على ذلك تفكك العائلة وغيرها من الوحدات والتكوينات االجتمايية القائمة على عالقات القرابة
وفي هذا اإلطار ،يتمسك هابرماس بوجود تعارض بين الدائرة العمومية والدولة ،ذلك أن الدولة
تسعى إلى ضبط العالقات وتطوير وسائل الهيمنة والسيطرة على الرأي العام ،وتوجيهه نحو أهدافها (موظفة
كل الترسانة القانونية وكل وسائل الدعاية) ،في حين أن دور الفضاء العمومي يقتصر ،أساسا ،على نقد
آليات السيطرة والهيمنة ،معتمدا في ذلك على العقل وحده لبناء رأي عمومي قادر على لعب دور الوساطة
حيث يقول :تلعب اآلراء العمومية دور الوساطة بين حاجات المجتمع والدولة (العلوي.)3101 ،
17
-IVسمات وخصائص الفضاء العمومي
يصف هابرماس الفضاء العمومي بأنه "مساحة مشتركة بين الذوات" يتم إعادة إنتاجها من خالل
العقالنية التواصلية( .)Dahlberg, 2005ويوضح في أعماله كيف يصبح الفضاء العمومي مكانا للتجمع
والنقاش حول المشكالت المتعلقة بعمل الدولة( .)Véronique, 2006وذلك من خالل تحقيقه الشروط
التالية (سمية عبد المحسن ،د.ت):
.0المساواة وعدم التمييز ،فالمجال العام يقوم على تكوين عالقات وصالت اجتمايية بين األفراد
المختلفين بغض النظر عن الحالة االجتمايية -تتأسس على المشترك اإلنساني والمساواة وتفوق
الحجة األقوى وليس التراتبية الطبقية ،وبعيدا عن تأثير القوة أو النفوذ االجتماعي أو االقتصادي
أو المنصب العام.
.3إتاحة نقاش جميع القضايا المشتركة بين أفراد المجتمع ،والتي كانت من قبل حك ار على الدولة.
.2إتاحة المجال العام للجميع ،فهو مجال مفتوح لكل أفراد المجتمع للمشاركة والفعل فيه ()inclusive
وليس حصريا على فئة أو مجموعة معينة أو محددة مسبقا (.)exclusive
ويحدد هابرماس عوامل نجاح الفضاء العمومي في العناصر التالية (العالونة:)3102 ،
ومن أهم السمات التي حددها هابرماس للمجال العام ما يلي(العالونة:)3102 ،
.0المجال العام حيز من حياتنا االجتمايية يمكن من خالله أن يتم تشكيل ما يقترب من الرأي
العام.
.3المجال العام ينشأ من ناس خصوصيين ،يجتمعون معا كجمهور ليتناولوا احتياجات المجتمع من
الدولة.
18
.2المجال العام هو مجموعة أشخاص يستفيدون من عقالنيتهم وتفكيرهم في مناقشة المسائل العامة.
.0بإمكان المحاورين في المجال العام وضع الفوارق بينهم جانبا والتداول كما لو كانوا متساوين
اجتماييا ،االفتراض ينص إذا ،على أن المساواة المجتمعية ليست شرطا ضروريا للديمقراطية
السياسية.
.3أن كثرة وتعدد الجماهير المتنافسة ال يؤدي إلى مزيد من الديمقراطية بل يبتعد عنها ،وأن مجاال
عاما واحدا وشامال هو األفضل دائما من وجود جماهير متعددة.
.2أن الخطاب في المجاالت العامة يجب أن يقتصر على التداول حول الصالح العام ،وأن ظهور
المصالح الخاصة والقضايا الخاصة أمر غير مرغوب فيه دائما.
.1أن المجاالت العامة الديمقراطية الفعالة تتطلب فصال تاما بين المجتمع المدني والدولة.
إن تطور الديمقراطية الجماهيرية في البلدان الغربية يتصادف تاريخيا مع ترقية وسائل االتصال
الجماهيري في صف المؤسسات المهيمنة للفضاء العمومي ( )...ويمكن استخدام مفهوم الفضاء العمومي
كمرادف لعملية الرأي العام أو لوسائل اإلعالم نفسها( .)Dahlgren, 1994وهذا ما جعل مجمل الدراسات
التي قام بها هابرماس حول االتصال والرأي العام تتفق على أن الفضاء العمومي تكون تاريخيا بفعل اإلعالم
واالتصال (مالفي" ،)3100 ،إذ ال يمكن التأريخ للفضاء العمومي دون االستعانة بتطور وسائل اإلعالم
التي أطرته وساهمت في تشكيله ،بدءا بصحافة الرأي في منتصف القرن الثامن عشر ،والصحافة التجارية
–الشعبية -في منتصف القرن التاسع عشر ،والوسائل السمعية-البصرية في منتصف القرن العشرين،
والعالقات العامة المعممة منذ السبعينيات من القرن الماضي"(العياضي.)3100 ،
يتفق الباحثون على العالقة الوطيدة بين وسائل اإلعالم والفضاء العمومي فدومينيك وولتن ()0880
Dominique Woltonمثال "يرى أن الفضاء العمومي مهيكل بشكل قوي من طرف وسائل اإلعالم .ويرى
الباحث الفرنسي لويس كير ( Louis Quere)0893بأن هناك نوع من القرابة المرفولوجية بين الفضاء
العمومي ووسائل اإلعالم ،دون أن تكون بينهما عالقات جينية" (العياضي.)3103 ،
19
فقد ركز يورغن هابرماس في رصده التحول البنيوي للفضاء العمومي البرجوازي ،على تطور اآللة
اإلعالمية في تاريخ أوروبا ،خصوصا إنجلت ار وفرنسا وألمانيا ،وعلى انعكاساتها في تشكيل الرؤية النقدية
في المجتمع األوروبي .فظهور مؤسسات ووسائط إعالمية أخرى ،أدى إلى تجذر الروح النقدية في المجتمع
األوروبي ،وكان ظهور الصحافة بمثابة عنصر ثان في التحول الذي عرفه المجتمع األوروبي بعد العالقات
التجارية ما قبل-رأسمالية ،وهي العالقات التي كان لها تأثير وانعكاس على النظام السياسي واالجتماعي
في أوروبا (األشهب.)3102 ،
يرى هابرماس أن نمو العقل العمومي كان في حاجة إلى أدوات الدعاية التي استعملتها البرجوازية
من أجل توجيه المجتمع ،وقيادة العقل نحو التحرر من الفكر الظالمي (العلوي .)3101 ،ووفرت وسائل
اإلعالم وقتها أدوات مثالية لتمرير الدعاية البرجوازية ،صحيح أن الصحافة –في بداية ظهورها -لم تكن
تهتم بالمواضيع السياسية ،حيث انحصر اهتمامها باألخبار المتعلقة بالتجارة ،ولكن في فترة الحقة لم تعد
الصحافة كما كانت عليه في بداية الظهور تهتم باإلعالنات التجارية والمعلومات ،بل تحولت إلى وسيلة
نقدية تستخدمها الطبقة البرجوازية للتعريف بمشروعها المجتمعي لدى الجمهور الواسع قصد اكتسابه،
والدفاع عن مصالحها ضد سلطة الدولة .كما أن الصحافة كانت مفتوحة أيضا للجمهور نفسه للتعبير عن
رأيه في القضايا المطروحة ،خاصة الخانات التي كانت لبريد القراء .وبعد الصحافة النقدية ،جاء دور
المجالت في تعزيزها هذا الفضاء ،ثم برز المسرح ليلعب دو ار مهما في بلورة الفضاء العمومي النقدي،
وبازدياد حركة اإلبداع والنشر نشطت دور النشر بشكل أكثر لتصبح الثقافة جزءا من الصناعة ،الشيء
الذي جعل المعلومة لم تعد حك ار على فئة بعينها ،بل غدت في متناول فئة واسعة من الناس .والعامل
اآلخر الذي زاد من انتشار المعلومة ،تمثل في انتشار المكتبات العمومية وتعدد نقط القراءة ونوادي األنوار
التي كانت تهتم بنشر المعرفة النقدية (األشهب.)3102 ،
يرى هابرماس أن الفضاء العمومي تفكك وتدهور في القرنين التاسع عشر والعشرين ،إذ أخذت
الصحف والمجالت ووسائل اإلعالم بالعموم تزيد من انتشارها ،وصارت غارقة في مؤسسات رأسمالية
عمالقة ،تعمل من أجل المصالح الخاصة لعدد قليل من األشخاص ،أما الرأي العام فقد خسر استقالليته
ووظيفته النقدية ،وبدال من أن يدعم تشكيل الرأي العام العقالني فقد أصبح مسيرا ،ويمكن التالعب به ،وكل
ذلك أثر سلبا على حرية اإلنسان ،بدال من أن يجعل هذا الحرية تنمو وتزدهر (المحمداوي.)3101 ،
20
ويتحدث هابرماس عن تضخم اآللة الدعائية للطبقة البرجوازية بعدما أحكمت سيطرتها على السلطة
السياسية .فمع تطور وسائل اإلعالم واالتصال بظهور الراديو والتلفزيون ازداد تغلغل هذه الطبقة االجتمايية،
وتعقدت شبكات استغاللها لهذه الوسائط قصد المحافظة على مصالحها ،لكن رغم هذه الصورة القاتمة
للدعاية التي تطبع عالمنا اليوم ،فإن هابرماس يدعو إلى ضرورة التحرر منها ومقاومتها عن طريق خلق
دعاية مضادة ونقدية ،يكون فيها المواطن الحر والمستقل والمشارك هو الفاعل الحقيقي(األشهب.)3101 ،
وفي هذا الشأن ،يميز هابرماس بين نوعين من العمومية :عمومية نقدية حاملة لرأي عام نقدي،
وعمومية دعائية خاضعة لوسائل اإلعالم الرسمية وموجهة من طرف الدولة لكل المواطنين وفق أغراضها
(العلوي ،)3101 ،ولهذا يرى هابرماس أن صورة الفضاء العمومي كما تجسدت في القرن 09حدث لها
انحراف نتيجة التدخل الكبير للدولة في جميع مجاالت الحياة مما أدى إلى ما يسميه "إعادة الفيودالية إلى
الفضاء العمومي" .فالتدخل المتعدد في فضاءات عامة وخاصة باالعتماد على تقنيات التسيير اإلداري
والتقني أضعف الوظائف النقدية للفضاء العمومي .فالرأي العام فقد دوره كذلك بسبب خضوعه لمجموعة
المصالح التي تستعمل تقنية اإلشهار لمصلحتها الخاصة والستم اررية سلطتها ،حيث تم تعويض الدعاية
النقدية بدعاية الهتاف والتهويل .مما جعل الفضاء العمومي يتجه نحو فضاء التهليل والهتاف .حيث أصبحت
السياسة مهرجانا وحل التسويق السياسي محل الخطابة .في عصر الدعاية المتاليبة بالعقول ليس المحرك
هو الرأي العام بل التوافق المصنوع الممهد لإلجماع(علوش .)3101 ،فالدعاية إذا ،أداة تستخدمها الدولة
الحديثة لتوجيه عقول الناس وصناعتها والتحكم فيها وإفراغها من أي محتوى نقدي (العلوي.)3101 ،
إن المجال العام ،كما يرى هابرماس ،قد اجتيح إما من قبل الدولة أو من قبل النسق االقتصادي ،وبالتالي
فال يمكن للديمقراطية أن تعيش دونما إعادة بناء المجال العام ومن دون عودة الجدل السياسي الحر
والمستقل(المحمداوي.)3101 ،
بينما يتفق العديد من المنظرين مع هابرماس فيما يتعلق بأهمية النقاش والمشاركة السياسية للمواطنين
من أجل ديمقراطية قوية ،ينتقد الكثيرون أيضا الصياغة الخاصة بهابرماس للفضاء العمومي ( Dahlberg,
.)2005فدالجرن )0881( Dahlgrenمثال ،يرى أن تحليل هابرماس طموح حقا ومقنع أساسا ،لكنه ال
يخلو من مشكالت .وبالتالي ،يمكن اتهامه بالمبالغة المزدوجة .فمن ناحية ،لم يظهر الخطاب البرجوازي
أبدا درجة العقالنية التي ينسبها إليه هابرماس ،حتى في أوجه .ومن ناحية أخرى ،فإن الوضع في عصر
الرأسمالية المتقدمة –مثلما هو قاتم-بعيد كل البعد عن أن يكون مسدودا ويائسا كما يدعي.
21
فريزر النقاط محل المساءلة بالنسبة لها فيما يتعلق بمفهوم هابرماس للفضاء العمومي
وتحدد نانسي ا
في (علوش:)3101/3101 ،
تقول فرايزر إن المشكل ليس فقط في أن هابرماس يؤمثل idealisesالفضاء العمومي البرجوازي
بل يفشل كذلك في معالجة الفضاءات العمومية األخرى المنافسة :الالبرجوازية والالليبرالية.
ال تتفق نانسي فرايزر مع هابرماس في كون الجمهور وحيد – وان ساحة النقاش وحيدة -وأن
الجمهور موحد .باالعتماد على أعمال ماري رايان التي كشفت أن انبثاق الفضاء العمومي البرجوازي
كان في األصل متزامن مع فضاءات أخرى غيبها هابرماس :فالحون ،نساء النخبة ،طبقة عاملة.
فال بد من االعتراف حسب فرايزر بتعدد الجماهير لدمقرطة الفضاء العمومي ورفع الحيف عن
باقي الفضاءات المهمشة .وفي نفس السياق ترفض نانسي فرايزر فكرة أن ساحة النقاش وحيدة،
لكونها تغيب عن أذهاننا باقي ساحات النقاش الموجودة آنذاك المعبرة عن طموحات وهويات الفئات
االجتمايية األخرى .كذلك ترد فرايزر على هابرماس بأن الجمهور لم يكن موحدا ،بل كان متعددا.
تدافع فرايزر بشدة عن ضرورة إدماج األسئلة الخاصة إلى الفضاء العمومي حتى تستفيد األقليات
منه خصوصا النساء لطرح مطالبهن.
ترى نانسي فرايزر أنه إذا كان المجتمع المدني والدولة يندرجان في إطار فصل خالص ،فإن الفضاء
العمومي لن يصل إلى تصور أشكال التسيير الذاتي والتنسيق بين الجماهير وتحمل المسؤولية
السياسية حيث المهام األساسية للمجتمع الديمقراطي الحقيقي.
وقد راجع هابرماس نفسه بعض المبادئ الذي صاغ على أساسه منظوره للفضاء العمومي واعترف
"في المقدمة التي وضعها للطبعة الفرنسية لمؤلفه المذكور ،آنفا ،سنة ،0881أنه بالغ في نظرته
التشاؤمية للطاقة المقاومة والنقدية التي يتمتع بها الجمهور المتعدد والمتنوع والمختلف في عاداته الثقافية
التي تتعدى حدود طبقته االجتمايية"(العياضي.)3100 ،
22
-VIالفضاء العمومي االفتراضي
ساهم التطور السريع في مجال تكنولوجيا اإلعالم واالتصال وظهور االنترنت في إحياء النقاش
حول الفضاء العمومي ودوره في الحياة العامة للمجتمعات .وكان هذا التطور يبشر في بدايته بتحقق الفضاء
العمومي على النحو المثالي الذي تحدث عنه هابرماس ،وهو ما ذهب إليه العديد من الباحثين قبل أن
تظهر دراسات تشكك في الفضاء السيبراني بما هو فضاء للنقاش العقالني النقدي وفق تصور هابرماس،
وتباينت اآلراء حول مدى اقتراب الفضاء السيبراني من معايير المجال العام.
تؤسس الميديا الجديدة فضاء متنوع األبعاد يحتضن أنماطا متعددة من التفاعل (ما بين ذاتية
وجمعية) وأنماطا من الكتابة الجديدة (التدوين مثال) وأنماطا من االتصال ذات نماذج تقليدية رغم وجودها
في الفضاء االفتراضي كاإلعالن والتسويق (الحمامي.)3100 ،
يعرف ريد يرك مايور الفضاء العمومي االفتراضي أو السيبراني بكونه بيئة إنسانية تكنولوجية جديدة
للتعبير والمعلومات والتبادل .وهو يتكون أساسا من دائرة وسطية تكونت تاريخيا بين المجتمع المدني والدولة
وهو متاح لجميع المواطنين للتعبير(رياح.)3109 ،
ويعرف جويل دو روزناي Joel Rosnayالفضاء الرقمي أو الفضاء السيبيري بوصفه فضاء يجمع
بين مكونين هما :الفضاء والزمان اإللكترونيين .فضاء تم خلقه بواسطة شبكات التواصل التي أقيمت بين
الحواسيب .ويحيل إلى صورة لشبكة علمية تربط بين كل األدمغة الفردية المرتبطة على المستوى العالمي
والتي تشكل ما يسمى بـ"الدماغ الكوني" .كما يدعوه روزناي :دماغ هجين ،بيولوجي إلكتروني .إنه فضاء
للشبكات اآللية والعضوية المترابطة فيما بينها بشكل ال متناه ،بال حدود(قاوقو.)3101 ،
ويعرفه يونج youngبأنه فضاء عام طبيعي ورمزي مكون من اتصال اجتماعي مركب يفتح المجال
أمام قمع النظم االجتمايية التقليدية ويتصف بأنه مجال تفاعلي يعتمد على المشاركة (زروق & بضياف،
.)3101
يمكن حصر خصوصية الفضاء العمومي االفتراضي في المستويات التالية (الحمامي:)3100 ،
23
المستخدم المبتكر
نخب جديدة
الفضاء العمومي والميديا الجديدة
يقول الصادق الحمامي ( )3100إن عالقة الميديا الجديدة والمجال العمومي ارتبطت في السياق
الغربي بإشكالية اإلحياء ،أي إحياء الميديا الجديدة للنموذج األصلي للمجال العمومي ،ومن ثمة استكشاف
أصول الحداثة وتجديدها واستكمال مشروعها .فإحياء النموذج األصيل للمجال العمومي يمكن أن يمثل
مخرجا ألزمة الديمقراطية وحال ممكنا ألمراضها ،من خالل تأسيس الديمقراطية التداولية التي تتجسد في
الديمقراطية اإللكترونية .واعتبر البعض أن فضاءات اإلنترنت االتصالية تعد تجسيدا فعليا لما تحدث عنه
هابرماس ،وبالخصوص فضاء التدوين ،الذي ينتعش بالحوارات والنقاشات ،بين عدة أطياف وشرائح من
المجتمع ،بدءا من المواطن العادي ،والصحفي ووصوال إلى السياسي وهو ما يجعله وفقا لبعض الباحثين
يعتبر الفضاء األمثل الذي يجسد الفضاء العمومي (بعزيز.)3100 ،
يرى فيدال vedelأنه من خالل تبسيط تدفق المعلومات وتسهيل التفاعل بين األفراد ،تتيح الشبكات
اإللكترونية للمواطنين المشاركة بنشاط أكبر في حياة العامة وبالتالي تعزيز الديمقراطية (هواري)3101 ،
ولكن بالرغم من أن األنترنت توسع المجال العمومي ألنها تتيح فضاءات جديدة للنخب البديلة وتساهم في
تجاوز البعد النخبوي والتمثيلي لصالح التداولي للمجال العمومي ،كما تعزز الميديا الجديدة مشاركة المواطنين
في الحياة السياسية عبر أدوات جديدة .وهي بالتالي تساهم في تأسيس الديمقراطية التداولية .إال أن العديد
من الباحثين يعتبرون بالمقابل أن األنترنت ال يمكن أن تغير بشكل أساسي الحياة السياسية ( )...أي أن
الفضاء االفتراضي يمكن أن يساهم في تشظي المجال العمومي الذي يتحول إلى فضاءات ال تتفاعل مع
بعضها البعض .هكذا تظل النقاشات على األنترنت نقاشات متخصصة وعدائية أحيانا وتتعلق بمواضيع
ضيقة ال تتصل دائما بالشأن العام ومنحصرة على جماعات منسجمة فكريا .كما أن المستخدمين يستهلكون
المعلومات بشكل عشوائي وخارج سياق التواصل االجتماعي .ومن جهة أخرى فإن التخمة المعلوماتية ال
يمكن أن تكون منطلقا لتأسيس النقاش الجماعي(الحمامي.)3100 ،
يمكننا القول إن االنترنيت تسهل توسيع المجال العام الذي يتشكل عندما يدخل الناس في مداوالت
حول المسائل السياسية .ومع ذلك ،تظهر مالحظات الخطاب السيبراني أيضا ،أن جودة هذا الخطاب ال
ترقى إلى مستوى متطلبات نموذج المجال العام .فأوال ،يهدد تسليع الفضاء السيبراني استقاللية التفاعل العام
عبر االنترنيت .وثانيا ،غالبا ما تكون االنعكاسية جزءا ضئيال جدا من المداوالت السيبرانية .وثالثا ،تعاني
العديد من المنتديات عبر االنترنت من عدم احترام االستماع لآلخرين والحد األدنى من االلتزام بالعمل مع
24
االختالف .ورابعا ،هناك صعوبة في التحقق من مطالبات الهوية والمعلومات المقدمة .وخامسا ،االستثناءات
الواسعة من المنتديات عبر االنترنت ناتجة عن عدم المساواة االجتمايية .وأخيرا ،يميل الخطاب إلى الهيمنة
الكمية والنويية من قبل أفراد وجماعات معينة (.)Dahlerg, 2001
وفي هذا النطاق ،فإن تشظي فضاءات األنترنت يهدد النموذج التقليدي للمجال العمومي .إذ يقتضي
أط ار مكانية وزمانية وإشكاليات مشتركة بل لغة مشتركة أيضا يتشكل من خاللها النقاش المتنوع والمتعدد،
ألن الشرط األساسي للنقاش األصيل هو أن يقبل المواطنون بالجدل في موضوع واحد وفي الوقت ذاته.
هكذا يتيح الفضاء اإلعالمي انفتاح المواطنين على اآلراء المتعددة والمتناقضة في إطار نقاش متعارض.
وعندما يتفكك هذا اإلطار الزماني والمكاني المشترك إلى أطر متعددة ومتناثرة ومتجانسة وغير متواصلة
فإن المواطنين يفقدون إمكانية االطالع على اآلراء المتنوعة حول اإلشكاليات المشتركة ألنهم ينغلقون داخل
جماعات ضيقة (الحمامي.)3100 ،
ولهذا حذر جوردن غراهام Gordan Grahamمن شدة التفاؤل حول قدرة األنترنت على التغيير
وتطوير المجال العام أو تعزيز الديمقراطية ،فإذا كان لشبكة األنترنت المقدرة على كسر حاجز نشر
المعلومات ،فإن هذا سيؤدي إلى مزيد من اآلراء المنشورة ،وبالتالي فإن أي رأي سيضيع بين زحمة اآلراء،
وسيصعب ألي شخص وقتئذ التأثير على العملية الديمقراطية ،كما سيؤدي ذلك أيضا إلى المزيد من
إضعاف قدرة الرأي الفردي على التأثير في عملية صناعة القرار أو صناعة األحداث السياسية ،بسبب حالة
التزاحم الشديدة بين اآلراء الفردية ،ومن ناحية أخرى يشكك غراهام في فرضية أن اتساع نطاق النفاذ إلى
األنترنيت سيقود إلى بناء حالة من التوافق العام داخل المجتمع ،فعلى العكس يؤدي النفاذ إلى مصادر
المعلومات وكثافة االتصال والجدل العام على الشبكة حول مختلف القضايا إلى حالة من التفكك داخل
المجتمع (المهدي.)3109 ،
إذا أردنا إسقاط مفهوم الفضاء العمومي ذي النتاج الفكري الغربي على البيئة العربية اإلسالمية فإنه
يمكننا "المجازفة" بالقول إن أقدم صورة لمثالية النقاش في الشأن العام تبرز في مجتمع المدينة المنورة حين
كان المسجد يشكل فضاء لتداول الرأي في القضايا العامة على قدم من المساواة بين المسلمين .ولكن هذا
اإلسقاط يفتقد إلى التأسيس إذا ما اعتبرنا أن مفهوم هابرماس يعتبر كوسيط بين المجتمع المدني والدولة،
وأن مجتمع المدينة كان في مرحلة بناء هذه الدولة.
25
لهذا وعلى حد تعبير نصر الدين العياضي فإن إسقاط المفاهيم المعاصرة المقدمة للفضاء العمومي في
البيئة العربية اإلسالمية يبدو أنه يفتقد أرضية تاريخية تؤسسه .فمحاوالت زرعه في السياق االجتماعي
والسياسي الذي تشهده الدول العربية تزايد مع الحديث عن اإلصالح الشامل على الصعيد الوطني والدولي،
وارتفاع األصوات المطالبة به.
فتاريخيا ،يمكن القول إن الفضاء العمومي كحيز فيزيائي-مادي قد وجد تجسيده في المساجد،
والزوايا ،والكتاب والمجالس األدبية والثقافية ،والصحف والمجالت العربية التي تميزت بسمتها األدبية-
الثقافية-الوعظية .لكن أمام توسع هيمنة االستعمار وتزايد بطشه تسيست الكثير من هذه األطر .ولم تقم
بدور الوسيط بين المجتمع والدولة الدخيلة "االستعمارية" ،بل تحولت تدريجيا إلى أطر للنضال لتقويض
أسس هذه الدولة ومحوها من الوجود( )...لذا نالحظ أن الصحافة في الدول التي خرجت من ريقة االستعمار
قد انفردت بطابعها التجنيدي والتعبوي الذي استبعد النقاش والجدل ،بعد استبعاد التعددية السياسية اعتقادا
بأنها تجافي الوحدة الوطنية وتؤدي إلى تقسيم وتفتيت وحدة األمة والدولة"(العياضي.)3103 ،
"تأسيسا على القياس ،يمكن أن ندرك مدى صعوبة الحديث عن الفضاء العمومي بالمفهوم
الهبرماسي في المنطقة العربية بالنظر إلى العناصر الثالثة التالية :المجتمع المدني ،والمواطنة ،والجدل
والعقالنية(العياضي.)3100،
ورغم نفي بعض الباحثين وجود مجتمع مدني بالوطن العربي إال أن باحثا كمحمد عابد الجابري "يقدر أن
بعض المجتمعات العربية تعيش اليوم إرهاصات قيام المجتمع المدني ،وأن بوادر هذا المجتمع كانت موجودة
قبل منتصف الخمسينيات من القرن الماضي في كل من سوريا ومصر"(العياضي.)3100 ،
يمكن النظر إلى الفضاء العمومي في البلدان المغاربية من ثالثة أبعاد(ناشي:)3100 ،
-المجال السياسي :ال يمكن فصل الفضاء العمومي عن أشكال ممارسة السلطة وطبيعة النظام السياسي
القائم ،ال ينبغي دراسته ضمن آفاق تأخذ باالعتبار عينة ممارسات تلك السلطة حسب الفضاءات ،الظروف
الوطنية والمراحل التاريخية .تستوجب العالقة بين العمومي والسلطة مواصلة الحذر لمعرفة كيف يتغير
"العمومي" وفق تغير األشكال السياسية في مختلف القطاعات من الخاص إلى العام ،فالبنسبة لنظام الملكية
في تونس نمر من الحبوس األهلي إلى الحبوس العام ،من الملكية الخاصة للمتحكم في السلطة المركزية
سواء كان السلطان أو الباي (أمالك الباي) إلى أمالك الدولة .الحال نفسه بالنسبة لإلدارة التي كان طابع
تراثي ألنها كانت مرتبطة بتراث السلطة لتستقل فيما بعد وتصبح اإلدارة العامة الحالية .بإمكاننا تعداد
26
األمثلة ،لكن ما يجب عدم نسيانه هو البحث من أجل رسم مراحل تكوين مختلف الفضاءات العمومية
انطالقا من مثال ملموس ذو داللة لبناء تفكير شامل حوله.
-المجال االقتصادي :من المهم التفكير في العالقة الثنائية خاص -عام ،فاإلصالحات االقتصادية التي
وجهت السياسات العمومية نحو السوق ونحو الخوصصة كانت في أصل تغيير براديغما السياسات
االقتصادية في البلدان المغاربية الثالثة .فما هي نتائج هذه اإلصالحات على العالقة الثنائية خاص-عام؟
كيف يتم حاليا تحديد العالقة بينهما؟ هل هناك بالفعل تقليل من قيمة "العمومي" في مقابل تبجيل "الخاص"؟
من الواضح أن هناك إعادة انتشار للنشاط في الفضاءين بما قد يساهم في ميالد "المجتمع المدني" ،أو على
األقل ،ميالد أشكال جديدة النخراط العمومي في مجاالت جديدة تؤدي إلى إعادة تحديد الفضاء العمومي
في البلدان المغاربية.
-المجال اإلعالمي :نشهد في ميدان وسائل االتصال تطو ار سريعا للوسائط الحديثة لنشر المعلومات والتي
أصبحت تستهدف فئات عريضة من العالم العربي ،فبعد الموجة األولى للقنوات الفضائية مثل (الجزيرة
والمنار )...نلحظ اليوم ظهور وتعميم القنوات الفضائية الناطقة بالعربية التي تلقى رواجا لدى العديد من
المشاهدين العرب ،وهذا ما دفع العديد من الدول العربية إلى إعادة تشكيل المشهد اإلعالمي السمعي الوطني
على طريقت ها الخاصة ،وهو الحال بالنسبة للمغرب وتونس بعد الثورة .كيف باإلمكان قراءة هذا التغير في
المشهد اإلعالمي؟ هل هو تحرير للعمل اإلعالمي؟ هل هو خوصصة له؟ أم أنه شكل من أشكال إعادة
االنتشار للعملية االتصالية في الفضاء العمومي المتحول؟ هل باإلمكان الحديث عن "رأي عام عربي" أو
عن "الشارع العربي" الذي يتجاوز الحدود الوطنية ويخترق إرادات الدولة –األمة؟
الحديث عن الفضاءات العمومية خصوصا بعد الثورة التونسية يقود إلى ضرورة إثارة الدور الفعال الذي
لعبته التكنولوجيات الحديثة لإلعالم واالتصال واإلشارة إلى دور الشبكات االجتمايية االفتراضية بالخصوص
فايسبوك وتويتر بدرجة أقل.
لقد ساهمت هذه الوسائل السوسيو تقنية في تشكيل مجال للنقد سمح لرواد االنترنيت بتطوير طرق
مختلفة "لفنون المقاومة" ،سواء كان ذلك من خالل تبني استراتيجيات جديدة ،أو كان ذلك من خالل االلتفاف
ومراوغة الرقابة المفروضة على النقد عبر الفضاءات االفتراضية .أثر االرتباط الوثيق للتكنولوجيات الحديثة
لإلعالم واالتصال باألشكال الجديدة لاللتزام في إنجاز وتشكل النقد االجتماعي بشكل بالغ وبطرق تنظيمية
ال مركزية على مستوى الشبكات االجتمايية .فاإلضافة إلى الدور الذي لعبته في تجديد الحركات االحتجاجية
27
وممارسة المقاومة وتجلي ألوجه جديدة للنقد وااللتزام النضالي ،فتحت شبكات التواصل االجتماعي المجال
لممارسة النقد في وقته (ضمن ظرفه الزمني الحقيقي) وفي "الفضاء االفتراضي" منفلتة بذلك من األشكال
المتعددة للسيطرة والرقابة ،وهذا ما يعطيها خاصية تجاوز الحدود الوطنية ،والتي أعادت تعريف الفضاء
العمومي ومنحته أرضية جديدة وأدوا ار غير معهودة.
لقد ساهم ،منذ البداية ،اآلالف من رواد االنترنيت في اندالع االحتجاجات وتنظيم المظاهرات،
مستخدمين في ذلك الفايسبوك الذي سمح بنشر المعلومات عن األحداث لحظة وقوعها ،مؤسسين ذلك على
الشهادات الحية ومقاطع الفيديو المصورة من طرف الهواة ،وقد كانت الغاية من ذلك توضيح صور القمع
الدموية وضحاياه ،وتنظيم وتنسيق التعبئة الجمايية في مختلف الفضاءات العمومية ،كما فتحت االنترنيت
اآلفاق أمام الحركة االحتجاجية التي بدأت في سيدي بوزيد وتوسعت فيما بعد إلى مدن وجهات أخرى ،مما
أعطاها في الوقت نفسه بعدا وطنيا ودوليا .الحالة التونسية مفيدة للغاية وتستحق التوقف عندها مليا لفهم
أهمية هذه الثورة ،التي لم يتم حصر كل نتائجها ،في محاولة إلعادة تشكيل الفضاءات العمومية
المغاربية(ناشي.)3100 ،
28