You are on page 1of 28

‫جامعة البليدة ‪-2‬لونيس ي علي‬

‫كلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية‪-‬الميرخالد الجزائري‬


‫قسم العلوم اإلنسانية‬
‫شعبة علوم اإلعالم واالتصال‬
‫‪ o‬الطور‪ :‬ماستر‬
‫‪ o‬السداسي الثالث‬
‫‪ o‬المستوى الدراسي‪ :‬الثانية ماستر‬
‫‪ o‬التخصص‪ :‬االتصال الجماهيري والوسائط الجديدة‬
‫‪ o‬عنوان المقياس‪ :‬الفضاء العمومي والوسائط الجديدة‬
‫‪ o‬طبيعة المقياس‪ :‬محاضرة‬
‫‪ o‬أستاذة المادة‪ :‬شهرزاد لمجد‬
‫‪ o‬البريد اإللكتروني‪lchahra10@gmail.com :‬‬

‫"إن كل ما هو قيم يحتاج وقتا طويال للحصول على القوة‪ ،‬ال سيما إذا كان من النوع التعليمي وليس من التسلية‪،‬‬
‫وخالل ذلك يزدهرالزائف‪".‬‬
‫آرثر شوبنهاور‬

‫محاضرات الفضاء العمومي والوسائط الجديدة‬


‫الموسم الجامعي ‪2222-2222‬‬

‫األهداف التعليمية‬

‫‪ ‬تحديد بعض المفاهيم المرتبطة بموضوع المقياس‪.‬‬


‫‪ ‬التعريف باالتجاه أو التيار الفكري الذي ينتمي إليه صاحب نظرية الفضاء العمومي‪.‬‬
‫‪ ‬تحديد مفهوم الفضاء العمومي وسياق ظهوره وتطوره وتحوله البنيوي من وجهة نظر يورغن‬
‫هابرماس‪.‬‬
‫‪ ‬التعرف على عالقة الفضاء العمومي بوسائل اإلعالم واالتصال‪.‬‬
‫‪ ‬تحديد أبرز االنتقادات الموجهة لمفهوم هابرماس للفضاء العمومي‪.‬‬
‫‪ ‬تحديد مفهوم الفضاء العمومي االفتراضي‪.‬‬
‫‪ ‬تقصي وجود الفضاء العمومي خارج إطار الفكر الغربي‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪-I‬مدخل مفاهيمي‬

‫‪ ‬مفهوم الحداثة‬

‫يقول يورغن هابرماس إن موضوع الحداثة المثير للجدل المتعدد األوجه‪ ،‬ما انفك يالحقه منذ سبتمبر‬
‫‪ ،0891‬تاريخ إلقائه محاضرة بعنوان "الحداثة‪ :‬مشروع لم ينجز" بمناسبة استالمه جائزة أدورنو (هابرماس‪،‬‬
‫‪ .)1 ،0881‬وبهذا المعنى‪ ،‬يكون هابرماس قد عبر بنفسه عما يطرحه مفهوم الحداثة وموضوع اشتغالها‬
‫من إشكاالت‪ ،‬وعما يثيرانه من جدل ال يبدو أنه سيستقر في ظل تدافع فكري يحاول أن يطور نفسه باستمرار‬
‫بما يضمه من اتجاهات‪ ،‬وهو ما جعل محمد سبيال (‪ )3102‬مثال‪ ،‬يدمج بين تاريخ تطور الحداثة وتاريخ‬
‫نقدها‪.‬‬

‫تعد الحداثة مصطلحا إشكاليا‪ ،‬ومع ذلك يمكننا التعبير عن مفهومه بشكل عام على أنه يمثل مسيرة‬
‫المجتمعات الغربية منذ عصر النهضة إلى اليوم‪ ،‬ويشمل الترشيد االقتصادي والديمقراطية السياسية والعقالنية‬
‫في التنظيم االجتماعي‪ .‬وليست الحداثة مجرد تغيير أو تتابع أحداث‪ :‬إنها انتشار لمنتجات النشاط العقلي‪،‬‬
‫والمنتجات العلمية‪ ،‬والتكنولوجية‪ ،‬واإلدارية (أالن تورين‪.)0881 ،‬‬

‫ويرتكز المفكرون عادة في تعريف الحداثة إلى فكرتين أساسيتين هما‪ :‬فكرة الثورة ضد التقليد‪ ،‬وفكرة‬
‫مركزية العقل (وطفة‪.)3110 ،‬‬
‫ويشيع التمييز عادة بين الحداثة ‪ Modernité‬والتحديث ‪ .Modernisation‬تستخدم الحداثة في‬
‫نظر "جورج بالندي" لوصف الخصائص المشتركة للبلدان األكثر تقدما على صعيد التنمية التكنولوجية‪،‬‬
‫السياسية‪ ،‬االقتصادية واالجتمايية‪ ،‬بينما يستخدم التحديث لوصف العمليات التي بواسطتها تكتسب هذه‬
‫المستويات من التنمية (أفاية‪ .)0889 ،‬وقد استخدمت كلمة "حديث" في شكلها الالتيني ‪ Modernus‬ألول‬
‫مرة في أواخر القرن الخامس لتمييز الحاضر‪ ،‬الذي أصبح مسيحيا بشكل رسمي‪ ،‬عن الماضي الروماني‬
‫والوثني‪ ،‬وبمضمون متنوع‪ ،‬كان مصطلح "الحديث" يعبر المرة تلو المرة عن وعي حقبة تربط نفسها بماضي‬
‫القدماء لكي تنظر إلى نفسها باعتبارها نتيجة انتقال من القديم إلى الجديد (هابرماس‪.)0881 ،‬‬

‫ال يوجد اتفاق حول منشأ كلمة حداثة‪ ،‬ولكن تذهب بعض اآلراء إلى أن أول من استعمل الكلمة‬
‫هو شاتو بريان عام ‪ 0918‬وبعدها بعشر سنوات أبرز الشاعر الفرنسي "شارل بودلير ‪Charles‬‬
‫‪ )0981-0930( "Baudelaire‬كلمة الحداثة عند اهتمامه بعلم الجمال وتعريفه له (أبو النور حسن‪،‬‬
‫‪.)3103‬‬

‫‪2‬‬
‫يرى كل من كارل ماركس وإميل دوركايم وماكس فيبر أن الحداثة تجسد صورة نسق اجتماعي‬
‫متكامل‪ ،‬ومالمح نسق صناعي منظم وآمن‪ ،‬وكالهما يقوم على أساس العقالنية في مختلف المستويات‬
‫واالتجاهات (وطفة‪.)3110 ،‬‬

‫وبمفهوم هابرماس فإن الحداثة هي الوعي بالمرحلة التاريخية التي تقيم عالقة مع الماضي من أجل‬
‫أن تفهم ذاتها باعتبارها نوعا من االنتقال أو العبور من الماضي إلى الحاضر‪ .‬أي أن الحداثة ارتبطت‬
‫بفكرة التقدم أو الرقي ‪ Progrès‬والتي شكلت الفكر الليبرالي الحديث (أبو النور حسن‪)3103 ،‬‬

‫ترتبط فكرة الحداثة ارتباطا وثيقا بالعقلنة (أالن تورين‪ .)0881 ،‬ويمكن تعريفها عموما على النحو‬
‫التالي (حافظ‪:)0889 ،‬‬

‫مرحلة تبلغها المجتمعات اإلنسانية من خالل عملية التراكم التاريخي‪ ،‬والجهود‬ ‫‪‬‬
‫المبذولة لتحرير العقل من عجزه واستخدام إمكانياته في سبيل البناء‪.‬‬
‫ـ الحرية بمعنى االستخدام العلني للعقل في أمور المجتمع وقضاياه المختلفة‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫العقالنية بمعنى إحالل العقل أو التفكير العقالني محل التفكير الميتافيزيقي‬ ‫‪‬‬
‫واالحتكام إلى العقل في كل شأن كأحد مبادئ التنوير والحداثة‪.‬‬
‫انتقد بعض الفالسفة الحداثة‪ ،‬منهم هايدجر الذي لخص االنعكاسات السلبية للحداثة‪ ،‬فيما‬
‫يلي (الشيخ & الطائري‪ ،‬د‪.‬ت)‪:‬‬

‫‪ ‬عقالنية النظام‪ :‬أي هيمنة العقالنية على كل مظاهر الحياة‪.‬‬


‫‪ ‬اعتبار الذات أساس العالم ومقياسه‪ .‬ويسمى هايدجر هذا األمر بـ"ميتافيزيقا الذاتية"‪.‬‬
‫‪ ‬بسط التقنية على كل مظاهر الحياة‪ :‬أي إذالل الطبيعة وإخضاعها لغطرسة اإلنسان‪.‬‬
‫‪ ‬النظر إلى الكائنات كما لو كانت أرقاما تدار إدارة بيروقراطية‪ ،‬مما أدى إلى ظهور‬
‫توتاليتارية اجتمايية واقتصادية وسياسية‪.‬‬

‫وحسب الفيلسوف األلماني فريدريك هيغل (‪ )0920-0111‬فإن الحداثة بدأت مع عصر األنوار‬
‫بفعل هؤالء الذين أظهروا وييا وبصيرة باعتبار أن هذا العصر هو حد فاصل ومرحلة نهائية من التاريخ‬
‫(وطفة‪.)3110 ،‬‬

‫‪3‬‬
‫فما المقصود باألنوار؟‬

‫‪ ‬مفهوم األنوار (أو التنوير)‬

‫في معرض إجابته عن سؤال ما األنوار؟ يقول الفيلسوف إيمانويل كانط إن التنوير هو خروج‬
‫اإلنسان من حالة الوصاية التي يكون هو نفسه مسؤوال عنها‪ .‬والوصاية هي عدم قدرة المرء على استخدام‬
‫فكره دون توجيه من غيره (‪.)Kant, 1784‬‬

‫يحيل التنوير على عصر التحرر العقلي والفكري في القرن الثامن عشر‪ .‬واتخذ شكل المشروع‬
‫الفكري والنضالي الذي يريد تخليص البشرية من ظلمات العصور الوسطى وهيمنة رجال الكنيسة‪ .‬يرى‬
‫الباحث البلجيكي روالن مورتييه‪ ،‬أن القرن الثامن عشر هو أول عصر في التاريخ يشعر بذاتيته‪ ،‬وكيانيته‪،‬‬
‫ووحدته‪ ،‬كما يشعر بأنه مكلف بتأدية رسالة مهمة للبشرية هي‪ :‬التنوير(هاشم صالح‪.)3111 ،‬‬

‫شكل التنوير تيا ار عقليا حرك أوروبا كلها إبان القرن الثامن عشر‪ ،‬وتركز في باريس‪ ،‬ثم انتشر‬
‫منها في كل أنحاء أوروبا ومنها إلى المستعمرات األمريكية (سبنسر& كروز‪ .)3111 ،‬وهو تعبير عن فكرة‬
‫التقدم‪ ،‬وهدفه تحرير اإلنسان من الخوف وجعله سيدا(هوركايمر& أدورنو‪.)3118 ،‬‬

‫يرجع البعض بداية استخدام مصطلح التنوير بالمعنى الحديث المفصول عن المعنى الديني‪ ،‬أو‬
‫اإلنجيلي إلى ديكارت (‪ .)0811-0188‬فهو يتحدث مثال عن النور الطبيعي‪ ،‬الذي يقصد به مجمل‬
‫الحقائق التي يتوصل إليها اإلنسان عن طريق استخدام العقل فقط‪ .‬ولكن ديكارت ال يستخدم هذا المصطلح‬
‫كسالح ضد الدين أو باألحرى ضد رجال الدين كما سيفعل فيما بعد فولتير ودريدو‪ .‬إنما يستخدمه ضمن‬
‫سياق االحترام الكامل للقيم الدينية (صالح‪.)3111 ،‬‬

‫ما يميز فلسفة التنوير‪ ،‬بشكل عام‪ ،‬عن الفلسفة السابقة عليها حسب أالن بلوم ‪ Alan Bloom‬هو‬
‫عزمها على أن تمد جميع البشر بالمزايا التي كانت فيما قبل خاصة ببعض الفئات فقط وهو ما يمكن أن‬
‫نسميه بالحياة طبقا للعقل (تورين‪.)0881 ،‬‬

‫وفي عصر األنوار وما يليه بدأت الدولة المركزية بتقنياتها اإلدارية تأخذ مكان النظام اإلقطاعي‬
‫والتأكيد على العلوم والفيزياء الطبيعية التي توجد في أصل العطاءات التكنولوجية‪ ،‬وحيث بدأت الفنون تأخذ‬
‫ظاللها اإلبدايية في أوروبا (وطفة‪.)3110 ،‬‬

‫‪4‬‬
‫‪ ‬مفهوم البرجوازية‬

‫تعني البرجوازية حسب قاموس المعاني‪ ،‬الطبقة المتوسطة أي تلك التي تقع بين الطبقات العليا‬
‫والطبقات العاملة على السلم االجتماعي‪ .‬بمفهوم النظرية الماركسية تعني البرجوازية كل ما له عالقة‬
‫بالرأسمال أو من يملكون رأس المال كالصناع والتجار وأصحاب المحالت الصغيرة‪ .‬وهو مدلول معاكس‬
‫لمفهوم البروليتاريا أو الطبقة الكادحة‪.‬‬

‫وحسب القاموس السياسي "‪ :"Toupictionnaire‬مثلت البرجوازية في نهاية العصور الوسطى‪،‬‬


‫الطبقة االجتمايية الوسيطة بين طبقة النبالء والفالحين‪ .‬نشأت البرجوازية في المدن التي ساهمت في‬
‫تطورها‪ ،‬وتعمل في التجارة والتمويل والحرف‪.‬‬

‫اقترن ظهور الطبقة المتوسطة (البرجوازية) في أوروبا‪ ،‬في بداية العصور الحديثة بتعزيز سلطان‬
‫الملكية كخير كفيل لصيانة مصالح هذه الطبقة اآلخذة في النمو ضد ما يقع عليها من اعتداءات الطبقات‬
‫ذات االمتيازات في "النظام القديم" القائم على اإلقطاع‪ .‬ولم يكن للبرجوازية (الطبقة الوسطى) حقوق سياسية‬
‫تخولها المشاركة في ممارسة شؤون الحكم‪ ،‬وإن كانت هذه الطبقة بفضل ثرائها وقدرتها على إمداد الحكومات‬
‫بحاجاتها من المال قد استطاعت في أحايين كثيرة التأثير بطريق غير مباشرة على نشاط هذه "الدولة‬
‫الوطنية" النائشة‪ .‬ثم ما لبثت أن عمدت البورجوازية إلى تغيير أسس الحكم القديمة بصورة تفسح المجال‬
‫ألن يشارك أهل هذه الطبقة مشاركة فعلية في تدبير شؤون الحكم‪ ،‬وألن يتجرد أصحاب السلطان في العهد‬
‫أو النظام القديم من كل امتيازاتهم وحقوقهم الموروثة (شكري‪.)3101 ،‬‬

‫ويعبر التنوير عن حركة المجتمع البرجوازي الفعلي في كليتها من خالل فكرته المتجسدة في‬
‫الشخصيات والمؤسسات (هوركايمر& أدورنو‪.)3118 ،‬‬

‫‪5‬‬
‫‪-II‬مدرسة فرنكفورت‬

‫"كانت المفارقة التي وجدنا أنفسنا بمواجهتها طيلة مسيرة عملنا‪،‬‬

‫وهي توجب علينا تحليلها في المقام األول‪ :‬تدمير العقل التنويري لنفسه‪".‬‬

‫(هوركايمر& أدورنو‪)3118 ،‬‬

‫‪ ‬مدرسة فرنكفورت‪ :‬األسس والرواد‬

‫ليس باإلمكان أن نفهم تماما التحليل الذي اقترحه هابرماس للمجال العام البرجوازي‪ ،‬دون أن نأخذ‬
‫في االعتبار حقيقة أن هذا التحليل يمثل تقليدا معينا‪ :‬النظرية النقدية‪ ،‬أي مدرسة فرنكفورت‪ .‬يعطي هذا‬
‫االنتماء خصوصيته الفكرية‪ ،‬ويضعها في سياق تاريخي ملموس‪ .‬وهذا يعني من الناحية المنهجية أن عمل‬
‫هابرماس يفضل النهج النقدي‪ .‬الواقع الظاهر للظاهرة المرصودة (الفضاء العام البرجوازي)‪ ،‬والفئات‬
‫المفاهيمية المستخدمة لفهمها (ال أري العام‪ ،‬المواطن‪ ،‬التصويت)‪ ،‬هي في الواقع عرضة للتساؤل حول‬
‫الظروف التاريخية وحول حدود صحتها (‪.)Dahlgren, 1994‬‬

‫تعد مدرسة فرانكفورت‪ ،‬المعروفة أيضا باسم معهد البحوث االجتمايية‪ ،‬حركة فلسفية اجتمايية‬
‫وسياسية انطلقت من فرانكفورت‪ ،‬بألمانيا‪ ،‬وامتد تأثيرها الفلسفي إلى مختلف أنحاء العالم‪ ،‬وشكلت مصد ار‬
‫أساسيا لما يعرف بالنظرية النقدية‪ .‬تأسس معهد البحوث االجتمايية بفضل تبرع قدمه فليكس فايل عام‬
‫‪ ،0832‬بهدف تطوير الدراسات الماركسية في ألمانيا ثم ما لبث أن أصبح المعهد مدرسة فكرية محددة‬
‫المعالم بعد عام ‪ ،0822‬عندما أجبر بفعل المد النازي على االنتقال إلى الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬ليستقر‬
‫في جامعة كولومبيا‪ ،‬بنيويورك‪.‬‬

‫عرفت مدرسة فرانكفورت عبر تاريخها أجيال عديدة من المنظرين‪ .‬من أبرز شخصيات الجيل األول‬
‫‪Theodor‬‬ ‫نذكر‪ :‬ماكس هوركايمر ‪ ،)0812-0981( Max Horkheimer‬تيودور أدورنو‬
‫‪ ،)0888-0812(Adorno‬هربرت ماركوز ‪ ،)0818-0989(Herbert Marcuse‬إريك فروم ‪Eric‬‬
‫‪ .)0891-0811( Fromm‬وأما الجيل الثاني فقد قاده منذ سبعينيات القرن الماضي أحد أعالم المدرسة‬
‫البارزين وهو يورغن هابرماس‪ .Jürgen Habermas‬ويمكن الحديث أيضا عن "جيل ثالث" من المنظرين‬
‫النقديين‪ ،‬يمثلهم رمزيا في ألمانيا العمل المؤثر ألكسيل هونيث ‪ .Axel Honneth‬وظهر في وقت مبكر‬

‫‪6‬‬
‫من العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين‪ ،‬جيل رابع من علماء النظرية النقدية واندمجوا حول أحد أكثر‬
‫ممثليها نشاطا وهو راينر فورست ‪.)Corradetti, 2013( Rainer Forst‬‬

‫وهذا يعني أن النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت اتخذت في مسارها الطويل اتجاهات مختلفة‪ ،‬بسبب‬
‫الخلفيات االجتمايية لروادها من جهة واهتماماتهم المختلفة التي ارتبطت بأفكار عصر التنوير‪ ،‬من مثالية‬
‫كانت وهيجل إلى تأويلية ماكس فيبر وفينومينولوجية هوسرل (الدليمي‪.)3108 ،‬‬

‫‪ ‬مشروع معهد البحوث االجتماعية‬

‫قامت النظرية النقدية منذ نشأتها في الثالثينات من القرن العشرين بنقد جذري لمشروع التنوير بما‬
‫هو رمز الحداثة الغربية(‪ )...‬ففي خضم التطور التاريخي تبين أن المشروع التنويري أصبح أبعد عن‬
‫تحقيق المبادئ والقيم اإلنسانية التي قام عليها‪ ،‬والتي دافع عنها الفالسفة التنويريون‪ ،‬من أمثال جون‬
‫لوك وإيمانويل كانط ومونتيسكيو وديدرو وغيرهم من الفالسفة والمفكرين الذين عرفتهم أوروبا في بداية القرن‬
‫السابع عشر والقرن الثامن عشر‪ .‬لقد اتضح أن هذا المشروع لم يعد مؤهال أو قاد ار على تحرير اإلنسان‬
‫من مختلف أشكال السيطرة التي أصبحت تهدد وجوده‪ ،‬وخاصة في ظل النظم السياسية واالقتصادية‬
‫الشمولية التي بلغت أوجها وقمة غيابها في اللحظة التاريخية الحاسمة والخطيرة التي عايشها فالسفة مدرسة‬
‫فرانكفورت (بومنير‪.)3101 ،‬‬

‫وإذا كانت النظرة اليائسة لمدرسة فرانكفورت إبان مرحلتها األخيرة مستمدة أساسا من تحليل المجتمع‬
‫الغربي الحديث‪ ،‬إال أنه يجب النظر إليها أيضا في ضوء رؤية أوسع للفكر االجتماعي الراهن‪ ،‬سيما الذي‬
‫برز في ألمانيا نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬والذي لم تعبر عنه فقط معارضة الوضعية كنظرية للعلم‪ ،‬وإنما‬
‫أيضا المعاداة العامة للعلم والتكنولوجيات في ذاتهما‪ ،‬وفي حدود عواقبهما االجتمايية والثقافية ‪.‬‬

‫وعلى هذا النحو‪ ،‬يالحظ هيوجز ‪ Hughes‬في دراسته حول الفكر األوروبي بين عامي ‪-0981‬‬
‫‪ ،0821‬أن الثورة ضد الوضعية كانت مصحوبة بوضع عقيدة التقدم المادي موضع تساؤل‪ ،‬واالحتجاج‬
‫على "مكينة الحياة" الذي أحد تعبيراته في النزعة الرومانسية الجديدة "فلسفة الحياة"‪ ،‬وإعادة تأكيد القيم‬
‫الروحية مرة أخرى في أفكار ماكس فيبر المتشائمة عن الترشيد العقالني والتحرر من وهم العالم‪.‬‬

‫ثم أدت االضطرابات الشديدة والدمار الناجم عن الحرب العالمية األولى‪ ،‬وتجربة النظام االشتراكي‬
‫الوطني في ألمانيا‪ ،‬وهيمنة القوى العظمى‪ ،‬المنغمسة على نحو متزايد في سباق التسلح النووي‪ ،‬على العالم‬
‫وتقسيمه فيما بينهما منذ عام ‪ .0811‬أدت كلها إلى اإلسهام بشكل متصاعد في اإلحساس بالضياع‬
‫واالنحطاط الثقافي وبالالعقالنية المتنامية‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫وقد مثلت مدرسة فرانكفورت جزءا ال يتج أز من هذا الضرب من التفكير وكان تأثيرها المتصاعد في‬
‫الستينيات مرتبطا بال شك بالتجدد المتعدد األشكال‪ ،‬وبخاصة في بعض من قطاعات الطبقة الوسطى‪،‬‬
‫للنفور من العقلنة التقنية والبيروقراطية‪ .‬وفي نفس الوقت‪ ،‬فإن نقدها للمجتمع الحديث قام بشكل أساسي‬
‫على تحليل لطبيعة هذا المجتمع‪ ،‬ثم التعبير عنه صراحة وبصورة أكمل في كتاب ماركيوز (إنسان البعد‬
‫الواحد)‪ .‬وما سعى هذا التحليل إلى توضيحه‪ ،‬هو أن الطبقتين الرئيسيتين في المجتمع الرأسمالي‪ ،‬أي‬
‫البورجوازية والبروليتاريا‪ ،‬قد اختفيتا بوصفهما وسائط تاريخية فعالة‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬ال توجد طبقة سائدة‪ ،‬وإنما‬
‫يتم التسلط من جانب قوة الشخصانية‪ ،‬هي العقالنية العلمية التقنية‪ ،‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬ال توجد طبقة‬
‫معارضة‪ ،‬ألن الطبقة العاملة تم استيعابها واسترضاؤها‪ ،‬ليس فقط من خالل استهالك ضخم‪ ،‬وإنما أيضا‬
‫في عملية اإلنتاج المرشدة ذاتها(بوتمور‪.)3111 ،‬‬

‫وهكذا‪ ،‬تبلورت مهمة معهد البحوث االجتمايية حول مشروع تنويري جديد وهو مشروع يرتبط‬
‫بالماركسية ولهذا اتسم في بدايته بطابع ماركسي ثوري (أبو النور حسن‪ )3103 ،‬خاصة وأن سياق تأسيسه‬
‫جاء في أوضاع متقلبة‪ ،‬ويمكن النظر إلى هذا المعهد على أنه أحد أشكال االستجابة للحاجة التي استشعرها‬
‫الجناح اليساري من المثقفين نحو إعادة تقويم النظرية الماركسية‪ ،‬وبخاصة ما يتصل بتقويم العالقة بين‬
‫النظرية والممارسة في تلك الظروف المستجدة (‪ )...‬على أن المعهد لم يؤلف مدرسة متميزة في هذه المرحلة‬
‫المبكرة‪ ،‬إذ يالحظ مارتن جاي ‪ ،M. JAY‬أن فكرة إنشاء مدرسة متميزة لم تظهر إال بعد إجبار المعهد على‬
‫مغادرة مدينة فرانكفورت‪ .‬بل إن مصطلح مدرسة فرانكفورت نفسه لم يستخدم إال بعد عودة المعهد إلى ألمانيا‬
‫عام ‪( 0811‬بوتمور‪.)3111 ،‬‬

‫تولى اإلشراف على المعهد في بداية تأسيسه كارل غرونبرغ‪ ،‬وهو أحد أبرز مفكري المدرسة‬
‫الماركسية النمساوية‪ ،‬ثم خلفه ماكس هوركايمر عندما عين مدي ار للمعهد‪ ،‬حيث جعل من الفلسفة النقدية‬
‫الموضوع األساسي للنظرية االجتماعية التي اهتمت في البداية بتحليل البنيات االجتماعية واالقتصادية‬
‫للمجتمع القائم‪ ،‬ويظهر هذا االهتمام بالجانب الفلسفي النقدي عند هوركايمر في مقاله االفتتاحي للمعهد‬
‫الذي كان عنوانه "الحالة الراهنة للفلسفة االجتماعية وواجبات معهد األبحاث االجتماعية"(بومنير‪،‬‬
‫‪.)3101‬‬

‫وفي عام ‪ 0820‬أنشئ ملحق للمعهد في جنيف بسويس ار‪ ،‬ثم في فبراير ‪ 0822‬استقر به مكتب‬
‫من ‪ 30‬عضوا‪ ،‬صار المركز اإلداري للمعهد الذي أغلقه النازيون‪ .‬وافتتح بشكل مواز ملحقان أصغر من‬
‫األول في باريس وفي لندن‪ ،‬ومنذ سبتمبر ‪ 0822‬لم تعد مدرسة فرانكفورت فرانكفورتية‪ ،‬فمجلتها تصدر في‬
‫فرنسا‪ ،‬ومقرها الرئيسي في سويسرا‪ ،‬واستمرت هذه الغربة حتى ‪ 0811‬حين استعاد المعهد عمله في دياره‬
‫‪8‬‬
‫بعد انقطاع دام سبعة عشر عاما‪ .‬وفي غضون ذلك كان المعهد قد ارتبط في الواقع بالواليات المتحدة‪ .‬ولقد‬
‫حولت أمواله إلى هناك عام ‪ ،0810‬وكان المعهد قد ارتبط بجامعة كولومبيا منذ ‪ 0821‬بناء على اقتراح‬
‫من بوتلر‪ ،‬حتى أنه احتفظ بالفرع النيويوركي للمعهد‪ ،‬بعد العودة إلى فرانكفورت (لوران آسون‪.)3111 ،‬‬

‫‪ ‬مراحل تطور مدرسة فرانكفورت‬

‫يمكن تمييز أربع مراحل في تاريخ تطور مدرسة فرانكفورت (بوتومور‪:)3111 ،‬‬

‫المرحلة األولى (‪ :)3211-3291‬تميزت بتنوع البحوث‪ ،‬ولم يكن المعهد يستوحي أثناءها مفهوما‬
‫معينا للفكر الماركسي كما تجسد بعدها في النظرية النقدية‪.‬‬

‫المرحلة الثانية (‪ :)3291-3211‬هي مرحلة المنفى في أمريكا الشمالية (‪ )...‬وأثناء المنفى‪ ،‬بدأ‬
‫األعضاء البارزين بالمعهد‪ ،‬وبتوجيه من هوركايمر في تمحيص آرائهم النظرية بطريقة أكثر منهجية‪ ،‬لتتشكل‬
‫بالتدريج معالم مدرسة فكرية متميزة‪ .‬وحين عاد المعهد إلى فرانكفورت عام ‪ ،0811‬بدأت تتضح األفكار‬
‫الرئيسية للنظرية النقدية‪ ،‬من خالل عدد من الكتابات المهمة‪ ،‬وأضحت مدرسة فرانكفورت تمارس تأثي ار جليا‬
‫على الفكر االجتماعي األلماني‪.‬‬

‫المرحلة الثالثة بعد عام ‪ ،3291‬وهي مرحلة التأثير الفكري والسياسي األكبر‪ ،‬والتي وصلت إلى‬
‫ذروتها أواخر الستينيات‪ ،‬مع النمو المتسارع لحركة الطلبة الراديكالية‪.‬‬

‫المرحلة الرابعة‪ :‬مع بداية السبعينيات‪ ،‬بدأ تأثير مدرسة فرانكفورت في االنحسار ببطء‪ .‬والحقيقة‬
‫أنها كفت أن تتواجد كمدرسة‪ ،‬بموت أدورنو عام ‪ 0888‬وهوركايمر عام ‪ .0812‬كما أنها حادت في سنواتها‬
‫األخيرة بعيدا عن الماركسية التي وهبتها الحياة في األصل‪ ،‬مما جعلها‪ ،‬وبتعبير جاي‪" :‬تفقد الحق في أن‬
‫تكون من بين فروعها المتعددة"‪.‬‬

‫كذلك أخذ تناولها اإلجمالي للنظرية االجتمايية في االبتعاد بشكل متزايد عن األشكال الجديدة أو‬
‫المتجددة من الفكر الماركسي‪ .‬ومع ذلك شقت بعض المفاهيم الرئيسية لهذه المدرسة طريقها إلى مؤلفات‬
‫الكثيرين من المشتغلين بعلم االجتماع‪ ،‬سواء من الماركسيين أو غير الماركسيين‪ ،‬كما أنها تطورت بطريقة‬
‫مبدعة على يد هابرماس‪ ،‬فيما يتصل بنقد متجدد لشروط إمكانية المعرفة االجتماعية‪ ،‬وفي إعادة تقويم‬
‫نظرية ماركس عن التاريخ والرأسمالية الحديثة‪.‬‬

‫فرنكفورت‬
‫‪ ‬مواضيع اشتغال مدرسة ا‬

‫ركز منظرو مدرسة فرانكفورت في تناولهم إلشكاليات بحثهم على عدد من القضايا من أهمها‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫‪-3‬النظرية والممارسة‪ :‬يمكن القول إن النظرية النقدية هي مجموعة القضايا التي تشكل إطا ار‬
‫نظريا لنقد النظام االجتماعي القائم ومحاولة الكشف عن تناقضاته بحثا عن نظام اجتماعي تنعدم فيه هذه‬
‫التناقضات‪.‬‬

‫لقد حاولت النظرية النقدية جاهدة على المستوى النظري أن تعالج عالقة النظرية بالممارسة‬
‫"‪ "Praxis‬من منظور المادية الجدلية‪ ،‬وهذا واضح من خالل تأكيد هوركايمر على أن قيمة النظرية تتحدد‬
‫من خاللها عالقتها بالممارسة (أبو النور حسن‪.)3103 ،‬‬

‫‪-9‬التشيؤ واالغتراب ‪Reification and Alineation‬‬

‫تعتبر هذه المقولة إطا ار مرجعيا لمعظم أفكار فالسفة المدرسة النقدية (أبو النور حسن‪.)3103 ،‬‬
‫فقد كان للنظرة األحادية للعقل‪ ،‬حسبهم‪ ،‬نتيجتها الحتمية المتمثلة في سعيه الحثيث للسيطرة على كل شيء‬
‫بما في ذلك اإلنسان نفسه‪ ،‬هذا األخير الذي أصبح مهددا بل خاضعا لما أسماه الفيلسوف المجري جورج‬
‫لوكاش (الذي أثر في الجيل األول لفالسفة مدرسة فرانكفورت) في كتابه الموسوم بـ"التاريخ والوعي الطبقي"‬
‫بالتشيؤ ‪( la reification‬بومنير‪ ،)3101 ،‬وهو برأيه تحول الصفات اإلنسانية إلى أشياء جامدة واتخاذها‬
‫لوجود مستقبل واكتسابها لصفات غامضة غير إنسانية (أبو النور حسن‪ ،)3103 ،‬وهو ما حدث‬
‫للمجتمعات الغربية التي عرفت تقدما علميا وتقنيا كبي ار وحققت قفزات جد معتبرة في عمليتي التحديث‬
‫والعقلنة‪ ،‬لكنها وقعت فريسة النازية والفاشية والستالينية (بومنير‪.)3101 ،‬‬

‫وعالجت النظرية مصطلح االغتراب‪ ،‬فذهبت إلى أن العمال والمديرين في النظام الرأسمالي مغتربون‪،‬‬
‫ألنهم محرومون من إشباع حاجاتهم األساسية وسلوكياتهم مدفوعة بالمصلحة وليس بالحب‪ .‬إنهم قد يكونون‬
‫أطباء أو محامين‪ ،‬لكنهم بالتأكيد ليسوا بش ار (أبو النور حسن‪.)3103 ،‬‬

‫‪-1‬العقل األداتي أو العقالنية التقنية‪:‬‬

‫يقول هوركايمر وأدورنو في إجابتهما عن سؤال‪ :‬كيف نفسر تدمير العقل التنويري لنفسه بحيث‬
‫أصبحت اإلنسانية تخوض في حالة جديدة من البربرية بدل أن تصل إلى حالة إنسانية حقيقية؟ إن ذلك قد‬
‫تم عندما تحول العقل أداة للسيطرة على الطبيعة ثم على اإلنسان‪ ،‬والمقصود بالعقل هنا العقل األداتي أو‬
‫التقني القائم على التكميم والقياس والفاعلية والموجه نحو ما هو عملي وتطبيقي ونفعي‪ .‬فالفكر الذي أصبح‬
‫بمثابة آلة رياضية إنما يتضمن تكريسا للعالم بوصفه إجراء خاصا (بومنير‪.)3101 ،‬‬

‫‪10‬‬
‫ويعد العقل األداتي أو العقالنية التقنية من المصطلحات األساسية والجوهرية في قضايا النظرية‬
‫النقدية‪ .‬فقد ظهر عند هوركايمر من خالل كتابه "جدل التنوير ‪ "Dialectic of Enlightenment‬باالشتراك‬
‫مع أدورنو‪ ،‬وظهر كذلك في كتاب آخر له وهو "أفول العقل ‪ "Eclipse of Reason‬وظهر مع ماركيوز‬
‫من خالل مؤلفه "اإلنسان ذو البعد الواحد"‪ ،‬والعقل األداتي لدى هؤالء هو منطق التفكير وأسلوب في رؤية‬
‫العالم (أبو النور حسن‪.)3103 ،‬‬

‫‪-9‬النظرية النقدية والفلسفة األلمانية‬

‫تأثر فالسفة مدرسة فرانكفورت بنتاج الفكر الفلسفي األلماني ولكنهم توجهوا بالنقد لعدة اتجاهات‬
‫منه‪ .‬واتخذوا من هذا النقد أرضية خصبة ومادة خام لبناء نظريتهم النقدية (أبو النور حسن‪.)3103 ،‬‬

‫‪ ‬عالقة هابرماس بمدرسة فرانكفورت‬

‫لم يكن يورغن هابرماس مجرد امتداد للجيل األول من أصحاب النظرية النقدية‪ ،‬وإنما كان وما زال‬
‫ناقدا للنقد أيضا‪ ،‬بذلك أعطى التنوير داللة إيجابية فعالة‪ .‬اتبع هابرماس الخط الفلسفي النقدي نفسه الذي‬
‫تأسس على يد فالسفة مدرسة فرانكفورت‪ ،‬ولكنه حاول تطوير المفهوم الفلسفي للنظرية النقدية ومدرسة‬
‫فرانكفورت‪ ،‬فكان بأعماله المختلفة المهندس الرئيسي للنظرية النقدية الجديدة‪ .‬تأثر هابرماس كثي ار بالعديد‬
‫من المذاهب واالتجاهات الفلسفية‪ ،‬فإلى جانب الكانطية والهيجلية والماركسية والتيارات الفلسفية األلمانية‬
‫في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر‪ ،‬فإننا نجد أن المصادر األساسية لنظرية هابرماس النقدية قد بدأت‬
‫أوال من خالل تأثره العميق بفلسفة هيدجر‪ ،‬ثم الفالسفة األلمان المعاصرين وخاصة رواد مدرسة (أبو النور‬
‫حسن‪.)3103 ،‬‬

‫اتخذ هابرماس‪ ،‬كأبرز مفكري الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت ‪ Francfort‬منحى آخر في‬
‫فهم "األنوار" الذي تعتبر "الحداثة" مظهره األساسي‪ ،‬معتب ار هاته األخيرة "كمشروع لم ينجز وأنه أسيئ فهم‬
‫األنوار‪ ،‬مخالفا اتجاه اآلباء األوائل للمدرسة ( أدورنو وهوركهايمر‪ )...‬باعتبارهم أن ظهور األنظمة‬
‫التوتاليتارية في أوروبا النصف األول من القرن العشرين كان من نتائج "حداثة األنوار" (حيسون‪.)3101 ،‬‬
‫وقد اختار هابرماس "الحداثة مشروع لم ينجز" عنوانا لمحاضرة قدمها بمناسبة استالمه لجائزة أدورنو‬
‫(هابرماس‪.)0881 ،‬‬

‫‪11‬‬
‫‪-III‬الفضاء العمومي في الفكر الغربي الحديث‬

‫‪ ‬مفهوم الفضاء العمومي‬

‫يشير مفهوم الفضاء العمومي إلى الظروف االجتمايية إلمكانية تشكيل رأي عام‪ .‬ويشير األخير‬
‫إلى المهام النقدية‪ ،‬والتأثريية وللسيطرة التي يضطلع بها المجال العام إزاء الدولة‪ .‬إن المجال العام البرجوازي‬
‫كقوة حرة ومنفتحة‪ ،‬ال يتألف من رعايا الدولة‪ ،‬وال من وكالء اقتصاديين خاصين منشغلين بمصالح شخصية‪،‬‬
‫بل يشكلون عموم عقالني وبالتالي "مستنير" الذي في ظل ظروف مناقشة حرة‪ ،‬مجردة من أي مرجعية‬
‫دوغماتية للسلطة أو تقليد‪ ،‬يصبح قادر على توليد سلطة شريية‪ ،‬بمعنى التعبير عن المصلحة العامة‬
‫األصيلة (‪.)Trom, 1989, 96‬‬

‫كرس مفهوم الفضاء العمومي من قبل الفيلسوف األلماني يورغن هابرماس في بداية الستينيات من‬
‫القرن الماضي لوصف تكوين "المجال العام البرجوازي" خالل القرن الثامن عشر في كل من إنجلترا‪ ،‬وفرنسا‪،‬‬
‫وألمانيا‪ .‬المفهوم الذي كان بداية في خدمة السلطة القائمة‪ ،‬ثم طور شيئا فشيئا خطابه الخاص المعارض‬
‫لألمير‪ .‬بالنسبة لهابرماس‪ ،‬لكي يشكل الفضاء العمومي الرأي العام‪ ،‬فإنه يجب أن يتمحور على جمهور‬
‫من األشخاص المستقلين بشكل ما عن الخطاب المهيمن والقادرين على تشكيل رأي عقالني من جهة‪ ،‬ومن‬
‫جهة أخرى‪ ،‬على فضاء رمزي مفتوح لكل المواطنين والذي تعبر خالله األفكار وتناقش‪ .‬إن محرك الفضاء‬
‫العمومي هو استخدام الجمهور للعقالنية‪ ،‬ودعامته الصحافة والنوادي والصالونات )‪.(Ballarini, 2011‬‬

‫في كتابه "الفضاء العمومي‪ :‬حفرية العمومية (‪ )publicité‬كبعد مكون للمجتمع البورجوازي"‪ ،‬قدم‬
‫هابرماس دراسة سوسيو تاريخية لتحوالت بنية الفضاء العمومي البرجوازي منذ بدايته إلى يومنا هذا‪ .‬يدافع‬
‫هابرماس في أطروحته عن فكرة الفضاء العمومي كمقولة فلسفية تبلورت في القرنين السابع عشر والثامن‬
‫عشر‪ ،‬كما يصف لنا التفكك الذي لحق بهذا المفهوم في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (علوش‪،‬‬
‫‪.)3101-3101‬‬
‫الكتاب هو في األصل موضوع أطروحة هابرماس في السوسيولوجيا قدمها عام ‪ 0880‬بجامعة‬
‫ماربورغ بألمانيا‪ ،‬وهو يبارة عن دراسة لبنية ووظيفة النموذج الليبرالي للفضاء العمومي البورجوازي في‬
‫أوروبا‪ ،‬يحلل فيه ظهور هذا النموذج وتحوالته التاريخية منذ العصر الهليني مرو ار بالعصر الروماني حتى‬
‫العصر الحديث (حيسون‪.)3101 ،‬‬
‫يوظف هابرماس مفهوم األركيولوجيا (الحفرية) لرصد مفهوم الفضاء العمومي من جهة (علوش‪،‬‬
‫‪:)3101-3101‬‬
‫‪ .0‬تكونه التاريخي؛‬

‫‪12‬‬
‫‪ .3‬تحوالته المرتبطة بالوضع االقتصادي واالجتماعي والسياسي؛‬
‫‪ .2‬وظيفته األساس (الحوار الحجاج‪ ،‬اإلقناع‪ :‬أي دوره التواصلي)؛‬
‫‪ .1‬تفاعله مع عناصر البنية العامة للمجتمع البرجوازي؛‬
‫‪ .1‬ارتباطه بالرأي العام‪ ،‬وطرق اشتغاله‪ ،‬واستعمال الجمهور للعقل استعماال عموميا أو غير عمومي‪،‬‬
‫إما في اتجاه قبول السلطة (االستالب والخضوع والهيمنة) أو ضد السلطة (القوة المضادة)‪.‬‬

‫انتشر مفهوم الفضاء العموم على نطاق واسع بعد ترجمة كتاب هابرماس إلى اإلنجليزية في‬
‫تسعينيات القرن الماضي خاصة في األوساط األكاديمية‪ ،‬وقد تناولته تخصصات عديدة‪ ،‬وإن كان هابرماس‬
‫قد طرح المفهوم باألساس في إطار مجال العلوم السياسية‪ ،‬للبحث في أسباب تراجع الديمقراطية والمشاركة‬
‫السياسية في المجتمعات الغربية (عبد المحسن‪ ،‬د‪.‬ت)‪.‬‬

‫أثار يورغن هابرماس النقاش حول الفضاء العمومي من خالل تتبعه تاريخ هذه الظاهرة من صالونات‬
‫القرن الثامن عشر إلى المساحات المادية أو االفتراضية المعاصرة حيث يشارك المواطنون في المحادثات‬
‫المتعلقة بالصالح العام‪ .‬والمقصود بالفضاء العمومي‪ ،‬هو أوال وقبل كل شيء‪ ،‬مجال حياتنا االجتمايية‬
‫حيث يمكن تشكيل شيء من قبيل الرأي العام‪ .‬ويشترط أن يكون الوصول إلى المجال العام مفتوحا لجميع‬
‫المواطنين‪ ،‬ويتعاملون فيه مع المسائل ذات االهتمام العام دون التعرض لإلكراه (‪ .)Adut, 2012‬عندما‬
‫يفحص هابرماس الفضاء العمومي البرجوازي‪ ،‬فإنه ال يقبل تعريفه الذاتي‪ ،‬بل يسعى إلى توضيح الظروف‬
‫التاريخية التي جعلته في وقت ما ممكنا وفي وقت آخر عفا عليه الزمن‪ .‬سيركز تحليله بعد ذلك على‬
‫الظروف‪ ،‬وعلى األسباب االجتمايية‪ ،‬وعلى نمط تشغيل التحول(‪.)Dahlgren, 1994‬‬

‫يميز هابرماس بين نموذج الفضاء العمومي المهيكل تمثيليا‪ ،‬الذي ارتبط في أوروبا بالسلطة‬
‫الفيودالية والكنيسة والبالط الملكي‪ ،‬ونموذج الفضاء العمومي البورجوازي الذي ظهر بعد اختفاء األول نتيجة‬
‫للتحوالت البنيوية التي عرفها‪ ،‬فقد وعت البورجوازية بذاتها بعد تشكلها كطبقة قائمة وعملت على تكوين‬
‫استقالل خاص بها تجاه السلطة عن طريق تأسيس قواعد الحوار والمناقشة العامة‪ ،‬تجلى ذلك بشكل واضح‬
‫في إنجلت ار نهاية القرن السابع عشر الميالدي وفي فرنسا نهاية القرن الثامن عشر وقد انتقل النقاش العمومي‬
‫إلى الصالونات والمقاهي ثم إلى النوادي األدبية وما لبث أن استقر كأحد البنود الرئيسية في الدساتير‬
‫الغربية(حيسون‪.)3101 ،‬‬

‫برأي هابرماس‪ ،‬نجحت الطبقات البرجوازية الصاعدة في أوروبا الغربية‪ ،‬من خالل محاربة امتيازات‬
‫الدولة المطلقة‪ ،‬في إفساح المجال للنقاش بين الدولة والمجتمع المدني‪ .‬على عكس ما أسماه هابرماس‬

‫‪13‬‬
‫"الدعاية التمثيلية" في فترة القرون الوسطى‪ ،‬والتي كان النبالء الحاكمون راضين خاللها عن تقديم مشهد‬
‫السلطة للناس‪ ،‬يوفر الفضاء العام الجديد للمواطنين إمكانية مناقشة ممارسة سلطة الدولة‪ ،‬وبعبارة أخرى‪،‬‬
‫يتم تحويل األفراد الذين يستخدمون عقلهم النقدي إلى جمهور‪ .‬بلغ الفضاء العام البرجوازي‪ ،‬الذي تميز‬
‫بنقاشات وكتابات "رجال األدب"‪ ،‬ذروته بين بداية ومنتصف القرن التاسع عشر‪.‬‬

‫عند استعادة هذا التطور‪ ،‬يؤكد هابرماس على جوانبه اإليجابية‪ ،‬لكنه يسلط الضوء على أحد العيوب‬
‫األساسية في النظرة العالمية التي تستخدمها الطبقات البرجوازية لتمثيل نفسها‪ ،‬وهي الشمولية‪ .‬بالطبع‪ ،‬هناك‬
‫اختالفات محددة في التطور العام للفضاء العام في ألمانيا وبريطانيا العظمى وفرنسا‪ ،‬ولكن في معظم‬
‫الحاالت نالحظ أن الحقوق المرتبطة بالمواطنة‪ ،‬أي الولوج إلى الفضاء العام‪ ،‬أو التصويت‪ ،‬ال يمنح للجميع‪.‬‬
‫في األساس‪ ،‬يتعلق األمر فقط بأصحاب الممتلكات(‪.)Dahlgren, 1994‬‬

‫‪ ‬تعريف الفضاء العمومي‬

‫الفضاء العمومي بالنسبة لهابرماس هو مكان لتشكيل الرأي العام (‪ .)Ballarini, 2010‬ويعرفه‬
‫بأنه االستخدام العمومي للعقل داخل المجتمعات البرجوازية (مالفي‪.)3100 ،‬‬

‫كما يعرفه بأنه مجتمع افتراضي أو خيالي ليس من الضروري التواجد في مكان معروف أو مميز‬
‫(في أي فضاء)‪ ،‬فهو مكون من مجموعة من األفراد لهم سمات مشتركة مجتمعين مع بعضهم كجمهور‪،‬‬
‫ويقومون بوض ع وتحديد احتياجات المجتمع مع الدولة‪ ،‬فهو يبرز اآلراء واالتجاهات من خالل السلوكيات‬
‫والحوار‪ ،‬والتي تسعى للتأكيد على الشؤون العامة للدولة وهو شكل مثال (خضر‪.)3101 ،‬‬

‫ويمكن فهم المجال العام‪ ،‬حسب هابرماس دائما‪ ،‬كفضاء ألشخاص خاصين مجتمعين على شكل‬
‫عموم‪ ،‬هؤالء األشخاص يدافعون عن هذا الفضاء العمومي المنظم من طرف السلطة‪ ،‬وهم في نفس الوقت‬
‫ضدها‪ ،‬وذلك من أجل نقاش القواعد العامة للتبادل في ميدان تبادل السلع والعمل االجتماعي (المجال‬
‫الذي بقي خاصا وأهميته ذات بعد عام)‪ ،‬وسيط هذا التعارض بين الفضاء العمومي والسلطة هو وسيط‬
‫أصلي ال سابق تاريخيا‪ ،‬إنه االستخدام العمومي للعقل (حيسون‪.)3101 ،‬‬

‫‪14‬‬
‫من هو يورغن هابرماس ‪Jürgen habermas‬؟‬

‫ولد هابرماس عام ‪ 9191‬في دوسلدورف ‪ Düsseldorf‬في عائلة بروتستانتية‪ ،‬والده كان طالبا سابقا‬
‫في الفلسفة‪ .‬تحصل هابرماس على البكالوريا عام ‪ 9191‬ودرس الفلسفة‪ ،‬علم النفس‪ ،‬األدب األلماني‪،‬‬
‫التاريخ واالقتصاد في غوتنغن بزيوريخ وبون‪ .‬ناقش أطروحة الدكتوراه درجة ثالثة عام ‪ .9199‬خالل العامين‬
‫المواليين كان يعيش من الكتابة الصحفية المستقلة ومن منحة بحث‪ ،‬قبل أن يصبح عام ‪ 2591‬مساعدا‬
‫لتيودور أدورنو في معهد البحوث االجتماعية بفرنكفورت‪ .‬ولكنه غادره عام ‪ 9191‬إلى ماربورغ ‪Marbourg‬‬
‫أين ناقش أطروحته للحصول على أعلى درجة علمية أي ما يعادل دكتوراه دولة‪ .‬مارس بعدها تدريس‬
‫الفلسفة في هيدلبارغ ‪ Heidelberg‬ثم عاد إلى فرنكفورت عام ‪ 9199‬ليأخذ كرس ي ماكس هوركايمر الذي‬
‫غادر إلى التقاعد‪ .‬رفض إدارة معهد البحوث االجتماعية وفضل تكريس نفسه إلى التدريس ولكتبه‬
‫ومداخالته العامة مثل الصحافة التي نشر فيها العديد من المقاالت السياسية‪ .‬وفي هذه الفترة بالتحديد‬
‫أجرى رحالته األولى كأستاذ زائر في الخارج مثل الواليات المتحدة‪ .‬وفي عام ‪ ،9199‬غادر فرنكفورت مجددا‬
‫أين أصبح أحد مديري معهد ‪ Max-Planck de Starnberg‬أين أعد نظرية الفعل التواصلي التي ظهرت عام‬
‫‪ .9199‬عاد مجددا إلى فرنكفورت ليشغل كرس ي فيلسوف إلى غاية تقاعده عام ‪ .9119‬ويعد هابرماس‬

‫أحد أبرز مفكري الجيل الثاني لمدرسة فرنكفورت )‪.(Ballarini, 2010‬‬

‫السياق الذي حفز اهتمام هابرماس بالفضاء العمومي‪ :‬يقول هابرماس في إحد حواراته‪" :‬يمثل‬
‫انهيار النازية وبناء الديمقراطية التي حصلت بعد هذا االنهيار‪ ،‬تمثيال للحظة الحاسمة‪ ،‬سواء في ألمانيا‬
‫الفدرالية أو إيطاليا ومؤخرا في إسبانيا والبرتغال‪ ،‬تمثل سنة ‪ 9199‬بالنسبة إلينا في ألمانيا وأوروبا منعطفا‬
‫نحو األفضل‪ .‬وهذا دون شك ليس من قبيل الصدفة‪ ،‬إنه الفهم الجيد للديمقراطية ولعالقة المساواة بين‬
‫المواطنين (األشهب‪.)9192 ،‬‬

‫ويرى هابرماس بأنه يمكن تصور المجال العام البرجوازي‪ ،‬قبل كل شيء‪ ،‬على أنه مجال ألفراد‬
‫خاصين مجتمعين في شكل عموم‪ ،‬يطالبون بالمجال العام المنظم من قبل السلطة ضد السلطات العمومية‬
‫نفسها‪ ،‬إلشراكهم في النقاش حول القواعد العامة التي تحكم العالقات في مجال تبادل السلع والعمل‬
‫االجتماعي المخصخص أساسا ولكن ذي الصلة بالعموم‪ .‬ويعتبر هابرماس أن وسيلة المواجهة هذه غريبة‬
‫ودون سابقة تاريخية‪ :‬إنه توجه الناس لالستخدام العمومي لعقولهم (‪.)Habermas, 1991, 27‬‬

‫‪15‬‬
‫كما يحدد هابرماس مفهوم الفضاء العمومي البرجوازي في كونه مساحة اجتمايية محددة‪ ،‬يتزامن‬
‫ظهورها مع تطور الرأسمالية في أوروبا الغربي‪ .‬وال تعد صفة "برجوازية" ثانوية هنا‪ ،‬فهي تعمل على إبراز‬
‫الظروف التاريخية الخاصة والبعد الطبقي للظاهرة‪ .‬كفئة تحليلية‪ ،‬يقدم الفضاء العمومي البرجوازي رابطا‬
‫ديناميكيا بين سلسلة من الفاعلين والعوامل والسياقات‪ ،‬ضمن بناء نظري متماسك‪ .‬مجموع مثل هذا التشكيل‪،‬‬
‫وقدرته على مراعاة االعتبارات المؤسسية والخطابية هو ما يعطي هذا المفهوم قوته التحليلية‪ .‬يدمج تحليل‬
‫هابرماس‪ ،‬من بين أمور أخرى‪ ،‬منظورات نظرية حول التاريخ‪ ،‬والبنية االجتمايية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬وعلم اجتماع‬
‫اإلعالم‪ ،‬وطبيعة الرأي‪ ،‬وهذا ال يعطي سوى فكرة بسيطة عن تعقيد هذا المفهوم (‪.)Dahlgren, 1994‬‬

‫أخذ يورغن هابرماس ‪ )...-0838 ( Jürgen Habermas‬مفهوم الفضاء العمومي ( ‪espace‬‬


‫‪ )public‬عن كانط ‪ E. Kant‬الذي قال به وتم استعماله بكثرة في مجال التحليل السياسي منذ سبعينيات‬

‫القرن الماضي‪ ،‬فهو الفضاء الوسطي الذي ّ‬


‫تكون تاريخيا في زمن األنوار بين المجتمع المدني والدولة‪،‬‬
‫إنه أيضا المكان المتاح مبدئيا لجميع المواطنين حيث بإمكانهم االجتماع لتكوين رأي عام(حيسون‪،‬‬
‫‪.)3101‬‬
‫مثل الفضاء العمومي في نظر هابرماس حلبة للنقاش العام التي تدور فيها المساجالت وتتشكل‬
‫فيها اآلراء والمواقف حول القضايا التي تجسد اهتمامات الناس‪ ،‬فهو يقوم بالدرجة األولى بمهمة المراقبة‬
‫كما يمكن أن يمنع بواسطة النقد العمومي إمكانية القيام بمشاريع غير متالئمة مع توجهاته واحتياجاته(عليوي‪،‬‬
‫‪ .)3109‬وحسب هابرماس‪ ،‬فقد نشأ المجال العام السياسي أوال في بريطانيا العظمى في مطلع‬
‫القرن الثامن عشر‪ .‬فقد ناشدت القوى التي تسعى للتأثير على ق اررات سلطة الدولة الجمهور‬
‫الناقد من أجل إضفاء الشريية على المطالب أمام هذا المنتدى الجديد(‪.)Habermas, 1991‬‬

‫‪ ‬التحول البنيوي لمؤسسات الفضاء العمومي‪:‬‬

‫لكي يعرف هابرماس المجال العام البرجوازي‪ ،‬كان في حاجة أوال لتعريف الفئتين المتعارضتين‬
‫العمومي والخاص‪ ،‬مجالين يوجد بينهما المجال االجتماعي‪ ،‬المجتمع المدني‪ .‬هذا التوزيع له تاريخ طويل‬
‫يجد في الغرب جذوره في المدن اإلغريقية‪ .‬ويجعل هابرماس من الصالون البرجوازي‪ ،‬الخاص‪ ،‬نقطة‬
‫ارتكاز المجال العام (‪.)Ballarini, 2010‬‬

‫يرى هابرماس أن الفصـ ـ ـ ـ ــل بين المجال الخاص والمجال العام لم يظهر إال في العص ـ ـ ـ ـ ــر الحديث‬
‫(العلوي‪ .)3101 ،‬وقد رصـ ـ ـ ــد هابرماس في مؤلفه السـ ـ ـ ــابق الذكر‪ ،‬تطور مفهومي "العام" و"الخاص" منذ‬
‫العص ـ ـ ــر الوس ـ ـ ــيط انطالقا من التعاريف الواردة في القانون الروماني حتى نهاية القرن الثامن عش ـ ـ ــر الذي‬

‫‪16‬‬
‫ع ـ ـ ـ ــرف تـ ـ ـ ـ ـفـ ـ ـ ـ ـك ـ ـ ـ ــك الـ ـ ـ ـ ـخـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ــوط الـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـريض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة لـ ـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـ ـط ـ ـ ـ ــور "الـ ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ــام" و"الـ ـ ـ ـ ـخ ـ ـ ـ ــاص" (‪)...‬‬
‫شــكل البالط أول العموم‪ ،‬لكن ســرعان ما أصــبحت المدينة تضــطلع بالوظائف الثقافية للبالط‪ ،‬فقد‬
‫كانت مركز نشاط المجتمع البرجوازي‪.‬‬

‫تفككت بعد ذلك بنيويا الحياة العامة في البالطات لتنتقل إلى الصالونات بالمدن‪ ،‬في فرنسا خالل‬
‫تلك الفترة ضمت الصالونات األدبية النبالء وكبار البورجوازية لتشكل ما يسمى بـ"األنتلجنسيا"‪ ،‬كما أن البالط‬
‫في إنجلت ار غدا مكانا للعائلة الملكية التي أصبحت تعيش منعزلة‪ ،‬وال يتم االقتراب منها إال في المناسبات‬
‫الرسمية في الوقت الذي اتجه فيه المفكرون والنبالء إلى المقاهي وأصبح بالتالي لألدب مكانة خاصة في‬
‫الصالونات اإلنجليزية‪ ،‬عكس ما حدث في ألمانيا‪ ،‬فنظ ار ألنها ال تتوفر على بورجوازية مدينية في تلك الفترة‬
‫بالمفهوم الذي يؤسس لفضاء عمومي بورجوازي قادر على استيعاب التحول البنيوي للحياة العامة في‬
‫البالطات فلم يكن التطور حاصال كما هو الشأن بالنسبة إلنجلت ار ثم في فرنسا وانتقل بعد ذلك إلى ألمانيا‬
‫حسب فورستر ‪( F.G.Forster‬حيسون‪.)3101 ،‬‬

‫ربط هابرماس نشأة الفضاء العمومي‪ ،‬إذا‪ ،‬بنشأة الدولة القومية الحديثة بتنظيماتها المؤسسية على‬
‫المستوى السياسي وتقنياتها التكنولوجية وتعدد واتساع أدوات تداول ونقل المعلومات‪ ،‬حيث حقق اقتصاد‬
‫السوق االستقالل االقتصادي لألفراد عن األسرة والعائلة بالتحول من االقتصاد المنزلي إلى اقتصاد السوق‪،‬‬
‫ومن ثم منحهم –وفق الرؤية الحداثية‪ -‬فرصا متساوية للتنافس في المجال العام (سياسيا وليس فقط‬
‫اقتصاديا)‪ .‬كما فصل بين المجال الخاص والمجال العام بعد أن كانا متداخلين ومترابطين حيث كانت تعتبر‬
‫األسرة الوحدة األولية في عملية اإلنتاج وكان رب األسرة هو العائل االقتصادي الذي يعتمد عليه أفراد‬
‫األسرة‪ ،‬ترتب على ذلك تفكك العائلة وغيرها من الوحدات والتكوينات االجتمايية القائمة على عالقات القرابة‬

‫وفي هذا اإلطار‪ ،‬يتمسك هابرماس بوجود تعارض بين الدائرة العمومية والدولة‪ ،‬ذلك أن الدولة‬
‫تسعى إلى ضبط العالقات وتطوير وسائل الهيمنة والسيطرة على الرأي العام‪ ،‬وتوجيهه نحو أهدافها (موظفة‬
‫كل الترسانة القانونية وكل وسائل الدعاية)‪ ،‬في حين أن دور الفضاء العمومي يقتصر‪ ،‬أساسا‪ ،‬على نقد‬
‫آليات السيطرة والهيمنة‪ ،‬معتمدا في ذلك على العقل وحده لبناء رأي عمومي قادر على لعب دور الوساطة‬
‫حيث يقول‪ :‬تلعب اآلراء العمومية دور الوساطة بين حاجات المجتمع والدولة (العلوي‪.)3101 ،‬‬

‫‪17‬‬
‫‪-IV‬سمات وخصائص الفضاء العمومي‬

‫يصف هابرماس الفضاء العمومي بأنه "مساحة مشتركة بين الذوات" يتم إعادة إنتاجها من خالل‬
‫العقالنية التواصلية(‪ .)Dahlberg, 2005‬ويوضح في أعماله كيف يصبح الفضاء العمومي مكانا للتجمع‬
‫والنقاش حول المشكالت المتعلقة بعمل الدولة( ‪ .)Véronique, 2006‬وذلك من خالل تحقيقه الشروط‬
‫التالية (سمية عبد المحسن‪ ،‬د‪.‬ت)‪:‬‬

‫‪ .0‬المساواة وعدم التمييز‪ ،‬فالمجال العام يقوم على تكوين عالقات وصالت اجتمايية بين األفراد‬
‫المختلفين بغض النظر عن الحالة االجتمايية‪ -‬تتأسس على المشترك اإلنساني والمساواة وتفوق‬
‫الحجة األقوى وليس التراتبية الطبقية‪ ،‬وبعيدا عن تأثير القوة أو النفوذ االجتماعي أو االقتصادي‬
‫أو المنصب العام‪.‬‬
‫‪ .3‬إتاحة نقاش جميع القضايا المشتركة بين أفراد المجتمع‪ ،‬والتي كانت من قبل حك ار على الدولة‪.‬‬
‫‪ .2‬إتاحة المجال العام للجميع‪ ،‬فهو مجال مفتوح لكل أفراد المجتمع للمشاركة والفعل فيه (‪)inclusive‬‬
‫وليس حصريا على فئة أو مجموعة معينة أو محددة مسبقا (‪.)exclusive‬‬

‫ويحدد هابرماس عوامل نجاح الفضاء العمومي في العناصر التالية (العالونة‪:)3102 ،‬‬

‫‪ .0‬مدى الوصول واالنتشار‪.‬‬


‫‪ .3‬درجة الحكم الذاتي (المواطنون يجب أن يكونوا أح اررا‪ ،‬يتخلصون من السيطرة والهيمنة واإلجبار)‪.‬‬
‫‪ .2‬رفض االستراتيجية (كل فرد يشارك على قدم ومساواة)‪.‬‬
‫‪ .1‬الفهم والثقة والوضوح في المضمون اإلعالمي‪.‬‬
‫‪ .1‬وجود سياق اجتماعي مالئم‪.‬‬
‫‪ .8‬الثقة والوضوح والصدق في المضمون اإلعالمي‪.‬‬

‫ومن أهم السمات التي حددها هابرماس للمجال العام ما يلي(العالونة‪:)3102 ،‬‬

‫‪ .0‬المجال العام حيز من حياتنا االجتمايية يمكن من خالله أن يتم تشكيل ما يقترب من الرأي‬
‫العام‪.‬‬
‫‪ .3‬المجال العام ينشأ من ناس خصوصيين‪ ،‬يجتمعون معا كجمهور ليتناولوا احتياجات المجتمع من‬
‫الدولة‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫‪ .2‬المجال العام هو مجموعة أشخاص يستفيدون من عقالنيتهم وتفكيرهم في مناقشة المسائل العامة‪.‬‬

‫ويورد هابرماس أربعة فروض لتشكل الفضاء العمومي (‪:)Fraser, 1992‬‬

‫‪ .0‬بإمكان المحاورين في المجال العام وضع الفوارق بينهم جانبا والتداول كما لو كانوا متساوين‬
‫اجتماييا‪ ،‬االفتراض ينص إذا‪ ،‬على أن المساواة المجتمعية ليست شرطا ضروريا للديمقراطية‬
‫السياسية‪.‬‬

‫‪ .3‬أن كثرة وتعدد الجماهير المتنافسة ال يؤدي إلى مزيد من الديمقراطية بل يبتعد عنها‪ ،‬وأن مجاال‬
‫عاما واحدا وشامال هو األفضل دائما من وجود جماهير متعددة‪.‬‬

‫‪ .2‬أن الخطاب في المجاالت العامة يجب أن يقتصر على التداول حول الصالح العام‪ ،‬وأن ظهور‬
‫المصالح الخاصة والقضايا الخاصة أمر غير مرغوب فيه دائما‪.‬‬

‫‪ .1‬أن المجاالت العامة الديمقراطية الفعالة تتطلب فصال تاما بين المجتمع المدني والدولة‪.‬‬

‫‪-V‬وسائل اإلعالم والفضاء العمومي‬

‫إن تطور الديمقراطية الجماهيرية في البلدان الغربية يتصادف تاريخيا مع ترقية وسائل االتصال‬
‫الجماهيري في صف المؤسسات المهيمنة للفضاء العمومي (‪ )...‬ويمكن استخدام مفهوم الفضاء العمومي‬
‫كمرادف لعملية الرأي العام أو لوسائل اإلعالم نفسها(‪ .)Dahlgren, 1994‬وهذا ما جعل مجمل الدراسات‬
‫التي قام بها هابرماس حول االتصال والرأي العام تتفق على أن الفضاء العمومي تكون تاريخيا بفعل اإلعالم‬
‫واالتصال (مالفي‪" ،)3100 ،‬إذ ال يمكن التأريخ للفضاء العمومي دون االستعانة بتطور وسائل اإلعالم‬
‫التي أطرته وساهمت في تشكيله‪ ،‬بدءا بصحافة الرأي في منتصف القرن الثامن عشر‪ ،‬والصحافة التجارية‬
‫–الشعبية‪ -‬في منتصف القرن التاسع عشر‪ ،‬والوسائل السمعية‪-‬البصرية في منتصف القرن العشرين‪،‬‬
‫والعالقات العامة المعممة منذ السبعينيات من القرن الماضي"(العياضي‪.)3100 ،‬‬

‫يتفق الباحثون على العالقة الوطيدة بين وسائل اإلعالم والفضاء العمومي فدومينيك وولتن (‪)0880‬‬
‫‪ Dominique Wolton‬مثال "يرى أن الفضاء العمومي مهيكل بشكل قوي من طرف وسائل اإلعالم‪ .‬ويرى‬
‫الباحث الفرنسي لويس كير (‪ Louis Quere)0893‬بأن هناك نوع من القرابة المرفولوجية بين الفضاء‬
‫العمومي ووسائل اإلعالم‪ ،‬دون أن تكون بينهما عالقات جينية" (العياضي‪.)3103 ،‬‬

‫‪19‬‬
‫فقد ركز يورغن هابرماس في رصده التحول البنيوي للفضاء العمومي البرجوازي‪ ،‬على تطور اآللة‬
‫اإلعالمية في تاريخ أوروبا‪ ،‬خصوصا إنجلت ار وفرنسا وألمانيا‪ ،‬وعلى انعكاساتها في تشكيل الرؤية النقدية‬
‫في المجتمع األوروبي‪ .‬فظهور مؤسسات ووسائط إعالمية أخرى‪ ،‬أدى إلى تجذر الروح النقدية في المجتمع‬
‫األوروبي‪ ،‬وكان ظهور الصحافة بمثابة عنصر ثان في التحول الذي عرفه المجتمع األوروبي بعد العالقات‬
‫التجارية ما قبل‪-‬رأسمالية‪ ،‬وهي العالقات التي كان لها تأثير وانعكاس على النظام السياسي واالجتماعي‬
‫في أوروبا (األشهب‪.)3102 ،‬‬

‫يرى هابرماس أن نمو العقل العمومي كان في حاجة إلى أدوات الدعاية التي استعملتها البرجوازية‬
‫من أجل توجيه المجتمع‪ ،‬وقيادة العقل نحو التحرر من الفكر الظالمي (العلوي‪ .)3101 ،‬ووفرت وسائل‬
‫اإلعالم وقتها أدوات مثالية لتمرير الدعاية البرجوازية‪ ،‬صحيح أن الصحافة –في بداية ظهورها‪ -‬لم تكن‬
‫تهتم بالمواضيع السياسية‪ ،‬حيث انحصر اهتمامها باألخبار المتعلقة بالتجارة‪ ،‬ولكن في فترة الحقة لم تعد‬
‫الصحافة كما كانت عليه في بداية الظهور تهتم باإلعالنات التجارية والمعلومات‪ ،‬بل تحولت إلى وسيلة‬
‫نقدية تستخدمها الطبقة البرجوازية للتعريف بمشروعها المجتمعي لدى الجمهور الواسع قصد اكتسابه‪،‬‬
‫والدفاع عن مصالحها ضد سلطة الدولة‪ .‬كما أن الصحافة كانت مفتوحة أيضا للجمهور نفسه للتعبير عن‬
‫رأيه في القضايا المطروحة‪ ،‬خاصة الخانات التي كانت لبريد القراء‪ .‬وبعد الصحافة النقدية‪ ،‬جاء دور‬
‫المجالت في تعزيزها هذا الفضاء‪ ،‬ثم برز المسرح ليلعب دو ار مهما في بلورة الفضاء العمومي النقدي‪،‬‬
‫وبازدياد حركة اإلبداع والنشر نشطت دور النشر بشكل أكثر لتصبح الثقافة جزءا من الصناعة‪ ،‬الشيء‬
‫الذي جعل المعلومة لم تعد حك ار على فئة بعينها‪ ،‬بل غدت في متناول فئة واسعة من الناس‪ .‬والعامل‬
‫اآلخر الذي زاد من انتشار المعلومة‪ ،‬تمثل في انتشار المكتبات العمومية وتعدد نقط القراءة ونوادي األنوار‬
‫التي كانت تهتم بنشر المعرفة النقدية (األشهب‪.)3102 ،‬‬

‫‪ ‬تراجع الفضاء العمومي‬

‫يرى هابرماس أن الفضاء العمومي تفكك وتدهور في القرنين التاسع عشر والعشرين‪ ،‬إذ أخذت‬
‫الصحف والمجالت ووسائل اإلعالم بالعموم تزيد من انتشارها‪ ،‬وصارت غارقة في مؤسسات رأسمالية‬
‫عمالقة‪ ،‬تعمل من أجل المصالح الخاصة لعدد قليل من األشخاص‪ ،‬أما الرأي العام فقد خسر استقالليته‬
‫ووظيفته النقدية‪ ،‬وبدال من أن يدعم تشكيل الرأي العام العقالني فقد أصبح مسيرا‪ ،‬ويمكن التالعب به‪ ،‬وكل‬
‫ذلك أثر سلبا على حرية اإلنسان‪ ،‬بدال من أن يجعل هذا الحرية تنمو وتزدهر (المحمداوي‪.)3101 ،‬‬

‫‪20‬‬
‫ويتحدث هابرماس عن تضخم اآللة الدعائية للطبقة البرجوازية بعدما أحكمت سيطرتها على السلطة‬
‫السياسية‪ .‬فمع تطور وسائل اإلعالم واالتصال بظهور الراديو والتلفزيون ازداد تغلغل هذه الطبقة االجتمايية‪،‬‬
‫وتعقدت شبكات استغاللها لهذه الوسائط قصد المحافظة على مصالحها‪ ،‬لكن رغم هذه الصورة القاتمة‬
‫للدعاية التي تطبع عالمنا اليوم‪ ،‬فإن هابرماس يدعو إلى ضرورة التحرر منها ومقاومتها عن طريق خلق‬
‫دعاية مضادة ونقدية‪ ،‬يكون فيها المواطن الحر والمستقل والمشارك هو الفاعل الحقيقي(األشهب‪.)3101 ،‬‬

‫وفي هذا الشأن‪ ،‬يميز هابرماس بين نوعين من العمومية‪ :‬عمومية نقدية حاملة لرأي عام نقدي‪،‬‬
‫وعمومية دعائية خاضعة لوسائل اإلعالم الرسمية وموجهة من طرف الدولة لكل المواطنين وفق أغراضها‬
‫(العلوي‪ ،)3101 ،‬ولهذا يرى هابرماس أن صورة الفضاء العمومي كما تجسدت في القرن ‪ 09‬حدث لها‬
‫انحراف نتيجة التدخل الكبير للدولة في جميع مجاالت الحياة مما أدى إلى ما يسميه "إعادة الفيودالية إلى‬
‫الفضاء العمومي"‪ .‬فالتدخل المتعدد في فضاءات عامة وخاصة باالعتماد على تقنيات التسيير اإلداري‬
‫والتقني أضعف الوظائف النقدية للفضاء العمومي‪ .‬فالرأي العام فقد دوره كذلك بسبب خضوعه لمجموعة‬
‫المصالح التي تستعمل تقنية اإلشهار لمصلحتها الخاصة والستم اررية سلطتها‪ ،‬حيث تم تعويض الدعاية‬
‫النقدية بدعاية الهتاف والتهويل‪ .‬مما جعل الفضاء العمومي يتجه نحو فضاء التهليل والهتاف‪ .‬حيث أصبحت‬
‫السياسة مهرجانا وحل التسويق السياسي محل الخطابة‪ .‬في عصر الدعاية المتاليبة بالعقول ليس المحرك‬
‫هو الرأي العام بل التوافق المصنوع الممهد لإلجماع(علوش‪ .)3101 ،‬فالدعاية إذا‪ ،‬أداة تستخدمها الدولة‬
‫الحديثة لتوجيه عقول الناس وصناعتها والتحكم فيها وإفراغها من أي محتوى نقدي (العلوي‪.)3101 ،‬‬

‫إن المجال العام‪ ،‬كما يرى هابرماس‪ ،‬قد اجتيح إما من قبل الدولة أو من قبل النسق االقتصادي‪ ،‬وبالتالي‬
‫فال يمكن للديمقراطية أن تعيش دونما إعادة بناء المجال العام ومن دون عودة الجدل السياسي الحر‬
‫والمستقل(المحمداوي‪.)3101 ،‬‬

‫‪ ‬نقد تصور هابرماس للفضاء العمومي‬

‫بينما يتفق العديد من المنظرين مع هابرماس فيما يتعلق بأهمية النقاش والمشاركة السياسية للمواطنين‬
‫من أجل ديمقراطية قوية‪ ،‬ينتقد الكثيرون أيضا الصياغة الخاصة بهابرماس للفضاء العمومي ( ‪Dahlberg,‬‬
‫‪ .)2005‬فدالجرن ‪ )0881( Dahlgren‬مثال‪ ،‬يرى أن تحليل هابرماس طموح حقا ومقنع أساسا‪ ،‬لكنه ال‬
‫يخلو من مشكالت‪ .‬وبالتالي‪ ،‬يمكن اتهامه بالمبالغة المزدوجة‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬لم يظهر الخطاب البرجوازي‬
‫أبدا درجة العقالنية التي ينسبها إليه هابرماس‪ ،‬حتى في أوجه‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬فإن الوضع في عصر‬
‫الرأسمالية المتقدمة –مثلما هو قاتم‪-‬بعيد كل البعد عن أن يكون مسدودا ويائسا كما يدعي‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫فريزر النقاط محل المساءلة بالنسبة لها فيما يتعلق بمفهوم هابرماس للفضاء العمومي‬
‫وتحدد نانسي ا‬
‫في (علوش‪:)3101/3101 ،‬‬

‫‪ ‬المساواة بين المشاركين في النقاش‪.‬‬


‫‪ ‬تقديم الوحدة على تعددية الجماهير‪.‬‬
‫‪ ‬إشكالية التعارض بين الفضاء العام والخاص‪.‬‬
‫‪ ‬الفصل الصارم بين المجتمع المدني والدولة‬

‫فريزر ويورغن هابرماس فيما يلي(علوش‪،‬‬


‫ويمكن إجمال نقاط االختالف بين نانسي ا‬
‫‪:)3101/3101‬‬

‫‪ ‬تقول فرايزر إن المشكل ليس فقط في أن هابرماس يؤمثل ‪ idealises‬الفضاء العمومي البرجوازي‬
‫بل يفشل كذلك في معالجة الفضاءات العمومية األخرى المنافسة‪ :‬الالبرجوازية والالليبرالية‪.‬‬
‫‪ ‬ال تتفق نانسي فرايزر مع هابرماس في كون الجمهور وحيد – وان ساحة النقاش وحيدة‪ -‬وأن‬
‫الجمهور موحد‪ .‬باالعتماد على أعمال ماري رايان التي كشفت أن انبثاق الفضاء العمومي البرجوازي‬
‫كان في األصل متزامن مع فضاءات أخرى غيبها هابرماس‪ :‬فالحون‪ ،‬نساء النخبة‪ ،‬طبقة عاملة‪.‬‬
‫فال بد من االعتراف حسب فرايزر بتعدد الجماهير لدمقرطة الفضاء العمومي ورفع الحيف عن‬
‫باقي الفضاءات المهمشة‪ .‬وفي نفس السياق ترفض نانسي فرايزر فكرة أن ساحة النقاش وحيدة‪،‬‬
‫لكونها تغيب عن أذهاننا باقي ساحات النقاش الموجودة آنذاك المعبرة عن طموحات وهويات الفئات‬
‫االجتمايية األخرى‪ .‬كذلك ترد فرايزر على هابرماس بأن الجمهور لم يكن موحدا‪ ،‬بل كان متعددا‪.‬‬
‫تدافع فرايزر بشدة عن ضرورة إدماج األسئلة الخاصة إلى الفضاء العمومي حتى تستفيد األقليات‬ ‫‪‬‬
‫منه خصوصا النساء لطرح مطالبهن‪.‬‬
‫‪ ‬ترى نانسي فرايزر أنه إذا كان المجتمع المدني والدولة يندرجان في إطار فصل خالص‪ ،‬فإن الفضاء‬
‫العمومي لن يصل إلى تصور أشكال التسيير الذاتي والتنسيق بين الجماهير وتحمل المسؤولية‬
‫السياسية حيث المهام األساسية للمجتمع الديمقراطي الحقيقي‪.‬‬

‫وقد راجع هابرماس نفسه بعض المبادئ الذي صاغ على أساسه منظوره للفضاء العمومي واعترف‬
‫"في المقدمة التي وضعها للطبعة الفرنسية لمؤلفه المذكور‪ ،‬آنفا‪ ،‬سنة ‪ ،0881‬أنه بالغ في نظرته‬
‫التشاؤمية للطاقة المقاومة والنقدية التي يتمتع بها الجمهور المتعدد والمتنوع والمختلف في عاداته الثقافية‬
‫التي تتعدى حدود طبقته االجتمايية"(العياضي‪.)3100 ،‬‬

‫‪22‬‬
‫‪-VI‬الفضاء العمومي االفتراضي‬

‫ساهم التطور السريع في مجال تكنولوجيا اإلعالم واالتصال وظهور االنترنت في إحياء النقاش‬
‫حول الفضاء العمومي ودوره في الحياة العامة للمجتمعات‪ .‬وكان هذا التطور يبشر في بدايته بتحقق الفضاء‬
‫العمومي على النحو المثالي الذي تحدث عنه هابرماس‪ ،‬وهو ما ذهب إليه العديد من الباحثين قبل أن‬
‫تظهر دراسات تشكك في الفضاء السيبراني بما هو فضاء للنقاش العقالني النقدي وفق تصور هابرماس‪،‬‬
‫وتباينت اآلراء حول مدى اقتراب الفضاء السيبراني من معايير المجال العام‪.‬‬

‫‪ ‬مفهوم الفضاء العمومي االفتراضي‬

‫تؤسس الميديا الجديدة فضاء متنوع األبعاد يحتضن أنماطا متعددة من التفاعل (ما بين ذاتية‬
‫وجمعية) وأنماطا من الكتابة الجديدة (التدوين مثال) وأنماطا من االتصال ذات نماذج تقليدية رغم وجودها‬
‫في الفضاء االفتراضي كاإلعالن والتسويق (الحمامي‪.)3100 ،‬‬

‫يعرف ريد يرك مايور الفضاء العمومي االفتراضي أو السيبراني بكونه بيئة إنسانية تكنولوجية جديدة‬
‫للتعبير والمعلومات والتبادل‪ .‬وهو يتكون أساسا من دائرة وسطية تكونت تاريخيا بين المجتمع المدني والدولة‬
‫وهو متاح لجميع المواطنين للتعبير(رياح‪.)3109 ،‬‬

‫ويعرف جويل دو روزناي ‪ Joel Rosnay‬الفضاء الرقمي أو الفضاء السيبيري بوصفه فضاء يجمع‬
‫بين مكونين هما‪ :‬الفضاء والزمان اإللكترونيين‪ .‬فضاء تم خلقه بواسطة شبكات التواصل التي أقيمت بين‬
‫الحواسيب‪ .‬ويحيل إلى صورة لشبكة علمية تربط بين كل األدمغة الفردية المرتبطة على المستوى العالمي‬
‫والتي تشكل ما يسمى بـ"الدماغ الكوني"‪ .‬كما يدعوه روزناي‪ :‬دماغ هجين‪ ،‬بيولوجي إلكتروني‪ .‬إنه فضاء‬
‫للشبكات اآللية والعضوية المترابطة فيما بينها بشكل ال متناه‪ ،‬بال حدود(قاوقو‪.)3101 ،‬‬

‫ويعرفه يونج ‪ young‬بأنه فضاء عام طبيعي ورمزي مكون من اتصال اجتماعي مركب يفتح المجال‬
‫أمام قمع النظم االجتمايية التقليدية ويتصف بأنه مجال تفاعلي يعتمد على المشاركة (زروق & بضياف‪،‬‬
‫‪.)3101‬‬

‫يمكن حصر خصوصية الفضاء العمومي االفتراضي في المستويات التالية (الحمامي‪:)3100 ،‬‬

‫‪ ‬إعادة تشكيل الحدود بين الخاص والعام‬


‫‪ ‬أشكال جديدة من الفعل االجتماعي‬
‫‪ ‬جماليات جديدة‬

‫‪23‬‬
‫‪ ‬المستخدم المبتكر‬
‫‪ ‬نخب جديدة‬
‫‪ ‬الفضاء العمومي والميديا الجديدة‬

‫يقول الصادق الحمامي (‪ )3100‬إن عالقة الميديا الجديدة والمجال العمومي ارتبطت في السياق‬
‫الغربي بإشكالية اإلحياء‪ ،‬أي إحياء الميديا الجديدة للنموذج األصلي للمجال العمومي‪ ،‬ومن ثمة استكشاف‬
‫أصول الحداثة وتجديدها واستكمال مشروعها‪ .‬فإحياء النموذج األصيل للمجال العمومي يمكن أن يمثل‬
‫مخرجا ألزمة الديمقراطية وحال ممكنا ألمراضها‪ ،‬من خالل تأسيس الديمقراطية التداولية التي تتجسد في‬
‫الديمقراطية اإللكترونية‪ .‬واعتبر البعض أن فضاءات اإلنترنت االتصالية تعد تجسيدا فعليا لما تحدث عنه‬
‫هابرماس‪ ،‬وبالخصوص فضاء التدوين‪ ،‬الذي ينتعش بالحوارات والنقاشات‪ ،‬بين عدة أطياف وشرائح من‬
‫المجتمع‪ ،‬بدءا من المواطن العادي‪ ،‬والصحفي ووصوال إلى السياسي وهو ما يجعله وفقا لبعض الباحثين‬
‫يعتبر الفضاء األمثل الذي يجسد الفضاء العمومي (بعزيز‪.)3100 ،‬‬

‫يرى فيدال ‪ vedel‬أنه من خالل تبسيط تدفق المعلومات وتسهيل التفاعل بين األفراد‪ ،‬تتيح الشبكات‬
‫اإللكترونية للمواطنين المشاركة بنشاط أكبر في حياة العامة وبالتالي تعزيز الديمقراطية (هواري‪)3101 ،‬‬
‫ولكن بالرغم من أن األنترنت توسع المجال العمومي ألنها تتيح فضاءات جديدة للنخب البديلة وتساهم في‬
‫تجاوز البعد النخبوي والتمثيلي لصالح التداولي للمجال العمومي‪ ،‬كما تعزز الميديا الجديدة مشاركة المواطنين‬
‫في الحياة السياسية عبر أدوات جديدة‪ .‬وهي بالتالي تساهم في تأسيس الديمقراطية التداولية‪ .‬إال أن العديد‬
‫من الباحثين يعتبرون بالمقابل أن األنترنت ال يمكن أن تغير بشكل أساسي الحياة السياسية (‪ )...‬أي أن‬
‫الفضاء االفتراضي يمكن أن يساهم في تشظي المجال العمومي الذي يتحول إلى فضاءات ال تتفاعل مع‬
‫بعضها البعض‪ .‬هكذا تظل النقاشات على األنترنت نقاشات متخصصة وعدائية أحيانا وتتعلق بمواضيع‬
‫ضيقة ال تتصل دائما بالشأن العام ومنحصرة على جماعات منسجمة فكريا‪ .‬كما أن المستخدمين يستهلكون‬
‫المعلومات بشكل عشوائي وخارج سياق التواصل االجتماعي‪ .‬ومن جهة أخرى فإن التخمة المعلوماتية ال‬
‫يمكن أن تكون منطلقا لتأسيس النقاش الجماعي(الحمامي‪.)3100 ،‬‬

‫يمكننا القول إن االنترنيت تسهل توسيع المجال العام الذي يتشكل عندما يدخل الناس في مداوالت‬
‫حول المسائل السياسية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تظهر مالحظات الخطاب السيبراني أيضا‪ ،‬أن جودة هذا الخطاب ال‬
‫ترقى إلى مستوى متطلبات نموذج المجال العام‪ .‬فأوال‪ ،‬يهدد تسليع الفضاء السيبراني استقاللية التفاعل العام‬
‫عبر االنترنيت‪ .‬وثانيا‪ ،‬غالبا ما تكون االنعكاسية جزءا ضئيال جدا من المداوالت السيبرانية‪ .‬وثالثا‪ ،‬تعاني‬
‫العديد من المنتديات عبر االنترنت من عدم احترام االستماع لآلخرين والحد األدنى من االلتزام بالعمل مع‬
‫‪24‬‬
‫االختالف‪ .‬ورابعا‪ ،‬هناك صعوبة في التحقق من مطالبات الهوية والمعلومات المقدمة‪ .‬وخامسا‪ ،‬االستثناءات‬
‫الواسعة من المنتديات عبر االنترنت ناتجة عن عدم المساواة االجتمايية‪ .‬وأخيرا‪ ،‬يميل الخطاب إلى الهيمنة‬
‫الكمية والنويية من قبل أفراد وجماعات معينة (‪.)Dahlerg, 2001‬‬

‫وفي هذا النطاق‪ ،‬فإن تشظي فضاءات األنترنت يهدد النموذج التقليدي للمجال العمومي‪ .‬إذ يقتضي‬
‫أط ار مكانية وزمانية وإشكاليات مشتركة بل لغة مشتركة أيضا يتشكل من خاللها النقاش المتنوع والمتعدد‪،‬‬
‫ألن الشرط األساسي للنقاش األصيل هو أن يقبل المواطنون بالجدل في موضوع واحد وفي الوقت ذاته‪.‬‬
‫هكذا يتيح الفضاء اإلعالمي انفتاح المواطنين على اآلراء المتعددة والمتناقضة في إطار نقاش متعارض‪.‬‬
‫وعندما يتفكك هذا اإلطار الزماني والمكاني المشترك إلى أطر متعددة ومتناثرة ومتجانسة وغير متواصلة‬
‫فإن المواطنين يفقدون إمكانية االطالع على اآلراء المتنوعة حول اإلشكاليات المشتركة ألنهم ينغلقون داخل‬
‫جماعات ضيقة (الحمامي‪.)3100 ،‬‬

‫ولهذا حذر جوردن غراهام ‪ Gordan Graham‬من شدة التفاؤل حول قدرة األنترنت على التغيير‬
‫وتطوير المجال العام أو تعزيز الديمقراطية‪ ،‬فإذا كان لشبكة األنترنت المقدرة على كسر حاجز نشر‬
‫المعلومات‪ ،‬فإن هذا سيؤدي إلى مزيد من اآلراء المنشورة‪ ،‬وبالتالي فإن أي رأي سيضيع بين زحمة اآلراء‪،‬‬
‫وسيصعب ألي شخص وقتئذ التأثير على العملية الديمقراطية‪ ،‬كما سيؤدي ذلك أيضا إلى المزيد من‬
‫إضعاف قدرة الرأي الفردي على التأثير في عملية صناعة القرار أو صناعة األحداث السياسية‪ ،‬بسبب حالة‬
‫التزاحم الشديدة بين اآلراء الفردية‪ ،‬ومن ناحية أخرى يشكك غراهام في فرضية أن اتساع نطاق النفاذ إلى‬
‫األنترنيت سيقود إلى بناء حالة من التوافق العام داخل المجتمع‪ ،‬فعلى العكس يؤدي النفاذ إلى مصادر‬
‫المعلومات وكثافة االتصال والجدل العام على الشبكة حول مختلف القضايا إلى حالة من التفكك داخل‬
‫المجتمع (المهدي‪.)3109 ،‬‬

‫‪ -VII‬تجليات الفضاء العمومي في العالم العربي واإلسالمي‬

‫إذا أردنا إسقاط مفهوم الفضاء العمومي ذي النتاج الفكري الغربي على البيئة العربية اإلسالمية فإنه‬
‫يمكننا "المجازفة" بالقول إن أقدم صورة لمثالية النقاش في الشأن العام تبرز في مجتمع المدينة المنورة حين‬
‫كان المسجد يشكل فضاء لتداول الرأي في القضايا العامة على قدم من المساواة بين المسلمين‪ .‬ولكن هذا‬
‫اإلسقاط يفتقد إلى التأسيس إذا ما اعتبرنا أن مفهوم هابرماس يعتبر كوسيط بين المجتمع المدني والدولة‪،‬‬
‫وأن مجتمع المدينة كان في مرحلة بناء هذه الدولة‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫لهذا وعلى حد تعبير نصر الدين العياضي فإن إسقاط المفاهيم المعاصرة المقدمة للفضاء العمومي في‬
‫البيئة العربية اإلسالمية يبدو أنه يفتقد أرضية تاريخية تؤسسه‪ .‬فمحاوالت زرعه في السياق االجتماعي‬
‫والسياسي الذي تشهده الدول العربية تزايد مع الحديث عن اإلصالح الشامل على الصعيد الوطني والدولي‪،‬‬
‫وارتفاع األصوات المطالبة به‪.‬‬

‫فتاريخيا‪ ،‬يمكن القول إن الفضاء العمومي كحيز فيزيائي‪-‬مادي قد وجد تجسيده في المساجد‪،‬‬
‫والزوايا‪ ،‬والكتاب والمجالس األدبية والثقافية‪ ،‬والصحف والمجالت العربية التي تميزت بسمتها األدبية‪-‬‬
‫الثقافية‪-‬الوعظية‪ .‬لكن أمام توسع هيمنة االستعمار وتزايد بطشه تسيست الكثير من هذه األطر‪ .‬ولم تقم‬
‫بدور الوسيط بين المجتمع والدولة الدخيلة "االستعمارية"‪ ،‬بل تحولت تدريجيا إلى أطر للنضال لتقويض‬
‫أسس هذه الدولة ومحوها من الوجود(‪ )...‬لذا نالحظ أن الصحافة في الدول التي خرجت من ريقة االستعمار‬
‫قد انفردت بطابعها التجنيدي والتعبوي الذي استبعد النقاش والجدل‪ ،‬بعد استبعاد التعددية السياسية اعتقادا‬
‫بأنها تجافي الوحدة الوطنية وتؤدي إلى تقسيم وتفتيت وحدة األمة والدولة"(العياضي‪.)3103 ،‬‬

‫"تأسيسا على القياس‪ ،‬يمكن أن ندرك مدى صعوبة الحديث عن الفضاء العمومي بالمفهوم‬
‫الهبرماسي في المنطقة العربية بالنظر إلى العناصر الثالثة التالية‪ :‬المجتمع المدني‪ ،‬والمواطنة‪ ،‬والجدل‬
‫والعقالنية(العياضي‪.)3100،‬‬

‫ورغم نفي بعض الباحثين وجود مجتمع مدني بالوطن العربي إال أن باحثا كمحمد عابد الجابري "يقدر أن‬
‫بعض المجتمعات العربية تعيش اليوم إرهاصات قيام المجتمع المدني‪ ،‬وأن بوادر هذا المجتمع كانت موجودة‬
‫قبل منتصف الخمسينيات من القرن الماضي في كل من سوريا ومصر"(العياضي‪.)3100 ،‬‬

‫‪ ‬الفضاء العمومي في البلدان المغاربية‬

‫يمكن النظر إلى الفضاء العمومي في البلدان المغاربية من ثالثة أبعاد(ناشي‪:)3100 ،‬‬

‫‪-‬المجال السياسي‪ :‬ال يمكن فصل الفضاء العمومي عن أشكال ممارسة السلطة وطبيعة النظام السياسي‬
‫القائم‪ ،‬ال ينبغي دراسته ضمن آفاق تأخذ باالعتبار عينة ممارسات تلك السلطة حسب الفضاءات‪ ،‬الظروف‬
‫الوطنية والمراحل التاريخية‪ .‬تستوجب العالقة بين العمومي والسلطة مواصلة الحذر لمعرفة كيف يتغير‬
‫"العمومي" وفق تغير األشكال السياسية في مختلف القطاعات من الخاص إلى العام‪ ،‬فالبنسبة لنظام الملكية‬
‫في تونس نمر من الحبوس األهلي إلى الحبوس العام‪ ،‬من الملكية الخاصة للمتحكم في السلطة المركزية‬
‫سواء كان السلطان أو الباي (أمالك الباي) إلى أمالك الدولة‪ .‬الحال نفسه بالنسبة لإلدارة التي كان طابع‬
‫تراثي ألنها كانت مرتبطة بتراث السلطة لتستقل فيما بعد وتصبح اإلدارة العامة الحالية‪ .‬بإمكاننا تعداد‬

‫‪26‬‬
‫األمثلة‪ ،‬لكن ما يجب عدم نسيانه هو البحث من أجل رسم مراحل تكوين مختلف الفضاءات العمومية‬
‫انطالقا من مثال ملموس ذو داللة لبناء تفكير شامل حوله‪.‬‬

‫‪-‬المجال االقتصادي‪ :‬من المهم التفكير في العالقة الثنائية خاص‪ -‬عام‪ ،‬فاإلصالحات االقتصادية التي‬
‫وجهت السياسات العمومية نحو السوق ونحو الخوصصة كانت في أصل تغيير براديغما السياسات‬
‫االقتصادية في البلدان المغاربية الثالثة‪ .‬فما هي نتائج هذه اإلصالحات على العالقة الثنائية خاص‪-‬عام؟‬
‫كيف يتم حاليا تحديد العالقة بينهما؟ هل هناك بالفعل تقليل من قيمة "العمومي" في مقابل تبجيل "الخاص"؟‬
‫من الواضح أن هناك إعادة انتشار للنشاط في الفضاءين بما قد يساهم في ميالد "المجتمع المدني"‪ ،‬أو على‬
‫األقل‪ ،‬ميالد أشكال جديدة النخراط العمومي في مجاالت جديدة تؤدي إلى إعادة تحديد الفضاء العمومي‬
‫في البلدان المغاربية‪.‬‬

‫‪-‬المجال اإلعالمي‪ :‬نشهد في ميدان وسائل االتصال تطو ار سريعا للوسائط الحديثة لنشر المعلومات والتي‬
‫أصبحت تستهدف فئات عريضة من العالم العربي‪ ،‬فبعد الموجة األولى للقنوات الفضائية مثل (الجزيرة‬
‫والمنار‪ )...‬نلحظ اليوم ظهور وتعميم القنوات الفضائية الناطقة بالعربية التي تلقى رواجا لدى العديد من‬
‫المشاهدين العرب‪ ،‬وهذا ما دفع العديد من الدول العربية إلى إعادة تشكيل المشهد اإلعالمي السمعي الوطني‬
‫على طريقت ها الخاصة‪ ،‬وهو الحال بالنسبة للمغرب وتونس بعد الثورة‪ .‬كيف باإلمكان قراءة هذا التغير في‬
‫المشهد اإلعالمي؟ هل هو تحرير للعمل اإلعالمي؟ هل هو خوصصة له؟ أم أنه شكل من أشكال إعادة‬
‫االنتشار للعملية االتصالية في الفضاء العمومي المتحول؟ هل باإلمكان الحديث عن "رأي عام عربي" أو‬
‫عن "الشارع العربي" الذي يتجاوز الحدود الوطنية ويخترق إرادات الدولة –األمة؟‬

‫‪ ‬نموذج "الثورة التونسية" وتحوالت الفضاء العمومي في البلدان المغاربية‪:‬‬

‫الحديث عن الفضاءات العمومية خصوصا بعد الثورة التونسية يقود إلى ضرورة إثارة الدور الفعال الذي‬
‫لعبته التكنولوجيات الحديثة لإلعالم واالتصال واإلشارة إلى دور الشبكات االجتمايية االفتراضية بالخصوص‬
‫فايسبوك وتويتر بدرجة أقل‪.‬‬

‫لقد ساهمت هذه الوسائل السوسيو تقنية في تشكيل مجال للنقد سمح لرواد االنترنيت بتطوير طرق‬
‫مختلفة "لفنون المقاومة"‪ ،‬سواء كان ذلك من خالل تبني استراتيجيات جديدة‪ ،‬أو كان ذلك من خالل االلتفاف‬
‫ومراوغة الرقابة المفروضة على النقد عبر الفضاءات االفتراضية‪ .‬أثر االرتباط الوثيق للتكنولوجيات الحديثة‬
‫لإلعالم واالتصال باألشكال الجديدة لاللتزام في إنجاز وتشكل النقد االجتماعي بشكل بالغ وبطرق تنظيمية‬
‫ال مركزية على مستوى الشبكات االجتمايية‪ .‬فاإلضافة إلى الدور الذي لعبته في تجديد الحركات االحتجاجية‬

‫‪27‬‬
‫وممارسة المقاومة وتجلي ألوجه جديدة للنقد وااللتزام النضالي‪ ،‬فتحت شبكات التواصل االجتماعي المجال‬
‫لممارسة النقد في وقته (ضمن ظرفه الزمني الحقيقي) وفي "الفضاء االفتراضي" منفلتة بذلك من األشكال‬
‫المتعددة للسيطرة والرقابة‪ ،‬وهذا ما يعطيها خاصية تجاوز الحدود الوطنية‪ ،‬والتي أعادت تعريف الفضاء‬
‫العمومي ومنحته أرضية جديدة وأدوا ار غير معهودة‪.‬‬

‫لقد ساهم‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬اآلالف من رواد االنترنيت في اندالع االحتجاجات وتنظيم المظاهرات‪،‬‬
‫مستخدمين في ذلك الفايسبوك الذي سمح بنشر المعلومات عن األحداث لحظة وقوعها‪ ،‬مؤسسين ذلك على‬
‫الشهادات الحية ومقاطع الفيديو المصورة من طرف الهواة‪ ،‬وقد كانت الغاية من ذلك توضيح صور القمع‬
‫الدموية وضحاياه‪ ،‬وتنظيم وتنسيق التعبئة الجمايية في مختلف الفضاءات العمومية‪ ،‬كما فتحت االنترنيت‬
‫اآلفاق أمام الحركة االحتجاجية التي بدأت في سيدي بوزيد وتوسعت فيما بعد إلى مدن وجهات أخرى‪ ،‬مما‬
‫أعطاها في الوقت نفسه بعدا وطنيا ودوليا‪ .‬الحالة التونسية مفيدة للغاية وتستحق التوقف عندها مليا لفهم‬
‫أهمية هذه الثورة‪ ،‬التي لم يتم حصر كل نتائجها‪ ،‬في محاولة إلعادة تشكيل الفضاءات العمومية‬
‫المغاربية(ناشي‪.)3100 ،‬‬

‫‪28‬‬

You might also like