You are on page 1of 13

‫حفريات في مابعد الحداثة أو مابعد الحداثية‬

‫إذا كانت الحداثة ال تقترن بمعنی زمني مستقر‪ ،‬فما مسوغ الكالم عن مابعد الحداثة؟ أهو‬
‫مسوغ تجاوز زمني لنسق فترة معينة؟ وفي ذلك مشكلة داللية! فاألصح أن نتكلم عن مابعد‬
‫حداثية ال مابعد حداثة‪ .‬وقد يرد على ذلك بأن مابعد الحداثة تمثل تجاوز لنسق معرفي مازال‬
‫قائما‪ ،‬وال يمثل فترة معينة ‪ ،‬وإ نما سيمثل خطاب مابعد الحداثة خطاب تقاطعي مع الخطاب‬
‫الذي يتبنى من قبل دعاة الحداثة‪ ،‬وال سيما في الفلسفة والفن والسياسية‪ .‬والرد هو أننا نتكلم‬
‫عن حداثة ال تستقر بزمن لطبيعتها الزئبقية‪ ،‬فال يمكن‪ ،‬قطعا‪ ،‬الكالم على ما يتجاوزها زمنة‪،‬‬
‫وكذلك فالتجاوز النسقي هو ضرب آخر من ضروب الحداثة ذاتها‪ ،‬فيصبح خطاب مابعد‬
‫الحداثة جزءا من خطاب حداثة منكر ألصوله ‪ ،‬مغمض العينين بشأن حقيقته‪ .‬ولكل ما سبق‪،‬‬
‫سيكون تحديدنا للداللة منحصرة بما بعد الحداثية أو مابعد الحداثوية‪ ،‬أي ‪Postmodernism‬‬
‫ألنها تمثل لحظة زمنية يمكن محاكاتها ومحاكاة نماذجها وإ ن امتدت إلى يومنا الحاضر‪.‬‬
‫فالمقوالت المنتجة حداثية هي‪ :‬مقوالت المركزية اإلنسانية‪ ،‬والذاتية‪ ،‬والعقالنية‪ ،‬والعلموية‪،‬‬
‫وتلك المقوالت ستشكل مصدرة للنقد المابعد حداثي‪ ،‬وعليه فإن خطاب مابعد الحداثية سيمثل‬
‫كل الخطاب الفلسفي الذي تبنى رؤية ناقدة للمركزية والذاتية اإلنسانية والعقالنية والعلموية‪،‬‬
‫كخطاب طارد لها‪ .‬وللمعنی المنبثق عن هذه المعرفة‪" ،‬فالسؤال المهم بالنسبة للمجتمعات‬
‫مابعد الحداثية هو‪ :‬من يقرر ما هي المعرفة ومن يعرف ماهي الحاجات التي يقرر بشأنها؟‬
‫»‪.‬‬
‫على ما سبق‪ ،‬سيكون الكالم عن مابعد الحداثية شبيه بتجاوز نسق ونزعة‪ ،‬وليس بنسقية‬
‫تاريخية متجاوزة زمنية فقط‪ ،‬بقدر ما هي تجاوز معیاري (معرفي ‪ -‬تاريخي)‪.‬‬
‫أصول المصطلح التاريخية ‪:‬‬

‫يتشظي المعجميون واألكيولوجيون‪ Z‬اللغويون‪ ،‬كما تتشظى مابعد الحدائية في ممارساتها ‪ ،‬في‬
‫تحديد اللحظة التاريخية لظهور مفهوم مابعد الحداثية زمنية‪.‬‬

‫‪ .1‬مابعد الحديث بوصفها لحظة فنية تاريخية (القرن التاسع عشر)‪:‬‬

‫يؤرخ البعض للظهور األول للمفهوم تاريخيا مع الرسام االنجليزي جون وتكنز تشابمان‪ ،‬ما‬
‫يقارب عام ‪ ،1870‬إذ يعد أول من استعمل مصطلح الرسم مابعد الحديث ‪.‬‬

‫‪ .2‬مابعد الحداثية بوصفها لحظة أدبية ‪ -‬تاريخية (القرن التاسع عشر)‪:‬‬

‫يؤرخ لمفهوم ما بعد الحداثية‪ ،‬حسب هذا الرأي (رأي منجز القرن التاسع عشر)‪ ،‬مع‬
‫هیسمانز" سنة ‪1879‬م)‪.‬‬

‫‪ .3‬مابعد الحداثية بوصفها وضع ثقافي ‪ -‬تاريخي منتصف القرن العشرين) ‪:‬‬

‫فيما يعيد البعض أصل مفهوم مابعد الحداثة إلى أرنولد توينبي عام ‪ ،1954‬فقد جعله يدل‬
‫على إمارات ثالث في ميزت الفكر والمجتمع الغربي مع منتصف القرن العشرين‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫الالعقالنية والفوضوية‪ Z‬والتشویش‪ Z‬وهنالك من يربط تاريخية المفهوم بالشاعر والناقد‬
‫األمريكي تشارلس أولسون في الخمسينيات‪ ،‬أو بالناقد الثقافي ليزي فيدلر في عام ‪. 1965‬‬

‫‪ .4‬مابعد الحداثية في الربع األخير من القرن العشرين‪:‬‬

‫يؤرخ البعض لما بعد الحداثية كحركة فلسفية وفنية وأدبية بدءا من نهايات منتصف القرن‬
‫العشرين والربع األخير منه‪ ،‬فديفيد هارفي يضع تاريخيتها ما بين انهيار الحركات الحداثوية‬
‫في عام ‪ 1968‬إلى ‪ 1972‬حقبة زمنية النبثاق مابعد الحداثية بالرغم من عدم تجانسها‬
‫واستقرارها المفهومي حينها)‪.‬‬
‫‪ .5‬من تأسيس المفهوم إلى الخطاب الرسمي ‪:‬‬

‫أما عن بدايات فاعلية خطاب وثقافة مابعد الحداثية والفكر المابعدي‪ ،‬عموما‪ ،‬فنستطيع إعادته‬
‫لرائد النقد والعدمية نيتشه‪ ،‬بذلك فهو يمثل بدایات وجذر مابعد الحداثة‪ ،‬أما عمل ليوتار في‬
‫الربع األخير من القرن العشرين الوضع مابعد الحداثي) فاليمكن عده العمل الذي اظهر‬
‫المفهوم وسکه‪ ،‬بل هو من أعطاه ميزة التداول العمومي التي جعلت منه خطابة عالميا‬
‫والسيما بعد ترجمة الكتاب إلى لغات أخرى غير الفرنسية‪ ،‬إذ يفهم ليوتار الوضع المعاصر‬
‫للمجتمعات الغربية على أنه وضع مابعد حداثي " وأن المجتمعات المعاصرة قد دخلت مرحلة‬
‫تاريخية جديدة منذ الثمانينات؛ فالرواية الكبرى حول مسيرة التقدم التي ال تتزحزح قد بدأت‬
‫بالتقلص‪ ... ،‬وشكل الموقف مابعد الحداثي قطيعة تاريخية بالنسبة للحداثة " ‪ ،‬هكذا يدخل‬
‫مفهوم مابعد الحداثة حيزه المستقل في األدبيات الثقافية والفلسفية المعاصرة كخطاب ضدي‬
‫ونقدي وحامل االستراتيجيات تفحصية تحليلية‪.‬‬

‫إلى ماذا تشير مابعد الحداثية؟‬

‫بالرغم من اعتقاد الكثير‪ ،‬ونحن معهم‪ ،‬بصعوبة تحديد مفهوم مابعد الحداثية بدقة تعريفية‬
‫تجعل المفهوم مقيدة معجمية‪ ،‬إال أننا نجد بأننا نستطيع تلمس مالمح إجرائية وأدائية لما بعد‬
‫الحداثية‪ ،‬فهي‪ ،‬بداية‪ ،‬مجموعة من األفكار الطاردة للحداثية على أنها فصال من فصول‬
‫التاريخ التي لزم تجاوزها ووجب غلقها)‪ .‬دالالت متنوعة لمفهوم هالمي سأسرد هنا مجمل‬
‫المحاوالت التعريفية بما بعد الحداثية‪ ،‬تضمينا لما سبق وما يأتي‪ ،‬وتقدم هذه المحاوالت‬
‫تعزيزا لما قررناه من تعددية المعنى لمفهومها مابعد الحداثية) ومنها ‪:‬‬

‫‪ -1‬مابعد الحداثية بوصفها مصطلح تاریخي ‪ :‬يقصد به المرحلة التي تتجاوز زمنيا مرحلة‬
‫الحداثة فهي المرحلة التي تسم عالمانا المعاصر‪ ،‬بما يحويه من تقدم تكنولوجي وإ عالمي‬
‫وثورة معلوماتية‪ ،‬وتحول في القيم نحو التعدد والشعبية والفرعية‪.‬‬
‫‪ - 2‬مابعد الحداثية بوصفها حساسية جديدة دامجة للمتفاوتات ‪ :‬وتدل هنا على رفضها‬
‫لمعادلة المعيارية التي أتت بها الحداثة من تفضيل قيم وثقافة وعرق معينيين على غيرها‪،‬‬
‫متمثلة بالدمج واالنحياز‪ ،‬فهي تدمج العليا بالدنيا ثقافية والبالية بالمتجددة (قيميا)‪ ،‬واألبيض‬
‫بالملون (عرقية)‪ ،‬لتنتج خليطة إنسانية يحمل مشعل التعدد المطلوب لغرض التعايش في عالم‬
‫التفاوت المعاصر‪.‬‬

‫‪ - 3‬مابعد الحداثية بوصفها وعية بأزمة منزلة المعرفة ‪ :‬وهذه الداللة هي ماقدمها‬

‫اليوتار في مشروعه الوضع مابعد الحداثي)‪ ،‬في كشفه لمشاكل المعرفة والثقافة المتجلية على‬
‫شكل مرویات کبری تحاول أن تفسر العالم والتاريخ واإلنسان‪ ،‬ولذلك فحال مابعد الحداثة هو‬
‫حال يعي هذه األزمة‪ ،‬ويحاول أن يثبت أن خطابات الحداثة وما قبلها قد استنفدت وقد حان‬
‫وقت تجاوزها‪.‬‬

‫‪ -4‬مابعد الحداثية بوصفها وضعة متميزة بواقعيته االفتراضية ‪ :‬وهذه الداللة هي األخرى‬
‫ترتبط برمز من رموز مابعد الحداثة وهو بودریار‪ ،‬في فكرته عن الواقعية المفترضة ‪-‬‬
‫االفتراضية‪ ،‬والتي كانت نتيجة لتطور الوضع المعلوماتي وثقافته‪ ،‬التي دمجت بین ماهو‬
‫واقعي‪ ،‬وماهو افتراضي إلى حد جعل اإلنسان عاجزة عن التمييز بينهما‪.‬‬

‫‪ -5‬مابعد الحدائية بوصفها األوضاع الثقافية للرأسمالية المتأخرة ‪ :‬ويقصد بها أن‬

‫مابعد الحداثية ستهتم بالجانب االقتصادي والجمالي‪ ،‬وليس في غرضية السلعة الربحية في‬
‫اإلنتاج‪ ،‬فالوعي المعاصر للمستهلك اخذ باالهتمام السلعة الجمالية‪.‬‬

‫‪ -6‬مابعد الحداثية بوصفها التخمة اإلعالمية في المجتمعات الغربية المعاصرة ‪:‬‬

‫وذلك نظرا لما نشهده من دور كبير وفعال لوسائل اإلعالم في صنع الحقيقة وإ لغاء الفارق‬
‫الزمكاني‪ ،‬وتفاوت اآلراء وإ مكانيات دعم الهويات وصنعها‪.‬‬
‫‪ - 7‬مابعد الحداثية بوصفها نقدا للثابت والقواعد المتعالية ‪ :‬فالموقف مابعد الحداثي يفرض‬
‫فهما جديدة للتاريخ والعالم واإلنسان والمعرفة ‪-‬بنقده للموقف الحدائي ‪ -‬إذ "ليس ثمة ثابت‬
‫يحكم المتحول‪ ،‬وليس ثمة عقل يفسر تفسیر ‪ ،‬غير متحيز‪ ،‬أوجه النشاط الثقافي البشري‪ ،‬كما‬
‫ال وجود لثقافة عالية نخبوية وأخرى دونية جماهيرية‪ ،‬بل كل ما هنالك هو تشکیل مستمر‬
‫اليمكن تبريره أو تفسيره باإلحالة إلى نموذج متعال‪ ،‬وإ نما يقبل التفسير فقط من داخله‪ ،‬مما‬
‫يجعل التفسير نفسه محکوم بأشكال مادته الخاصة وليس نتيجة ثوابت التتحول أو تتبدل ‪.‬‬

‫ولما سبق كله‪ ،‬يمكن أن نجمع داللة شاملة‪ ،‬نوعا ما‪ ،‬لها وتصبح وفقا للمعايير الفلسفية ما‬
‫تشير إلى "نقد القيم التنويرية ومزاعم الصدق التي يطلقها مفكرو القناعات ‪ ... ،‬ويمكن‬
‫اعتبار مابعد الحداثوية تطورة مشرقة لما يسمى اليوم بالمنعطف اللغوي الذي ميز الكثير من‬
‫الفلسفة المتأخرة" ‪ ،‬لذلك فهي تستفيد من االنجاز اللغوي ببعده التأويلي وتعمل على استبدال‬
‫الحقيقة الموضوعية بالحقيقة التأويلية‪ .‬فالحقيقة التأويلية تحترم الذاتانية لموضوع االستقصاء‬
‫والمستقصی کليهما‪ ،‬بل حتى القاريء والمستمع " ‪ .‬وهي لذلك أيضا تشير إلى " مجموعة‬
‫ممارسات بالغية‪ ،‬وستراتيجية‪ ،‬ونقدية‪ ،‬تستخدم مفاهیم معينة مثل االختالف‪ ،‬واإلعادة‪،‬‬
‫واألمر‪ ،‬والتشبيه‪ ،‬والواقعية المفرطة‪ ،‬لزعزعة مفاهيم أخرى مثل الحضور‪ ،‬والهوية‪ ،‬والتقدم‬
‫التاريخي‪ ،‬واليقين المعرفي ووحدة المعنى " ‪ ،‬فقد اعتدنا على نفاذ النص والفكرة وامتالكها‬
‫للمعنى منذ أولى كتابات الفالسفة إال أننا ومع مابعد الحداثية نجد موقفها من هذه المزاعم‬
‫واضحة وجلية والسيما مع أوج ما قدمه العقل مع المنجز التنويري فهي ‪" :‬ترفض اإلقرار‬
‫بأية حقائق موضوعية‪ ،‬وأية بنبات اجتماعية مستقلة ‪ ،‬واالستعاضة عنهما بالسعي وراء‬
‫المعاني " ‪ ،‬وهي بذلك تنقد الرسوخ والثبات الذي تقول به وتعتمده الحداثية في تمثلها الزمني‬
‫‪ -‬المقوالتي‪ ،‬فما بعد الحداثية تجعل النص الذي يكتب أو العمل الذي ينتج غير محکوم‪ ،‬من‬
‫حيث المبدأ‪ ،‬بأي قواعد راسخة أو قارة‪ ،‬وعليه فال يمكن الحكم عليهما عن طريق‬
‫تطبيقةمقوالت مألوفة على النص والعمل ‪.‬‬
‫لذلك فهي حركة أو وضع معاصر يمتاز بالنسبية‪ ،‬والتجزيء‪ ،‬واالختالفية‪ ،‬والمغايرة وعدم‬
‫االرتكان أو الثقة بالمطلقات الحقائقية أو الحكايات التاريخانية أو الشمولية والعالمية‪.‬‬

‫وبعبارة مختصرة‪ :‬إن مابعد الحداثية " هي واقع يسبح بل يتمرغ‪ ،‬في موجة من التشظي‬
‫والتغير‪ ،‬كما لو كان ذلك كل مافي األمر " ‪ ،‬فهي تشظي المركز والحضور والقصص‬
‫والمرويات الكبرى التاريخية والفلسفية‪ ،‬هي تغيير لقيم حتمية التقدم وتميز العرق والثقافة‬
‫الواحدة والجمود المحوري الذي ال يتيح للها مش والتعدد أي مجال معرفي‪.‬‬

‫ويمكن تحديد سمات ثالث لفكر مابعد الحداثية هي ‪| :‬‬

‫‪ -1‬إنه فكر متعة ‪ :‬ففكر مابعد الحداثية يظهر وكأنه مجرد إعادة دفاعية للموروث‬

‫الميتافيزيقي‪ ،‬فالخروج من فهم التصور الوظيفي للفكر إلى الفكر العلمي الواقعي‪ ،‬وهو بقدر‬
‫سعيه الواقعي فهو فكر يحاول أن يتخذ شكل الفعل التحرري ببعده األستطيقي والفني‪ ،‬وكذلك‬
‫في البعد األخالقي‪.‬‬

‫‪ - 2‬إنه فكر عدوى " إصابة " ‪ :‬فلن يكون على فكر مابعد الحداثية أن يوجه خطابا‬

‫تفسيرية نحو الماضي ورسائله‪ ،‬بل ممارسته أيضا على المضامين والمعاني المتعددة للمعرفة‬
‫المعاصرة‪ ،‬بمختلف فروعها‪ :‬اإلعالم‪ ،‬التقنية‪ ،‬الفنون‪ ،‬وأصل اإلصابة أو العدوى هنا هو أن‬
‫فهم المعرفة المنتجة مابعد حداثوية ستكون خالية من الوحدة الدوغمائية والنسقية الفلسفية‬
‫الصارمة‪ ،‬وستكون فاقدة ألية سمة قوية من الحقيقة الميتافيزيقية‪ ،‬فالبساطة هي السمة‬
‫األساس لها هنا‪.‬‬

‫‪ - 3‬إنه فکر تجاوزي للتقنية ‪ :‬أي أنه فكر يتجاوز ميتافيزيقيته بكشفه لميتافيزيقا التقنية‪،‬‬
‫ومشروعها الكوني‪ ،‬فهي (التقنية) تقرأ بوصفها استمرارة للميتافيزيقا الغربية وإ نهاءها‪.‬‬
‫ابذلك فهو فكر وعي بالميتافيزيقيا ومكانتها‪ ،‬وينطلق من مقوالت المعرفة التقليدية للفلسفة‬
‫ليطال األبعاد المعرفية والحياتية األخرى ‪ ،‬وبعدها يكشف من انطالقاته هذه أن عصر التقنية‬
‫قد أصبح عصرة ميتافيزيقيا لزم‪ ،‬هو اآلخر‪ ،‬تجاوزه‪.‬‬

‫مقوالت مابعد الحداثية‪ ،‬أو هل من مقوالت؟‬

‫لعل القول بفكرة مقولة لما بعد الحداثية بصنع نوع من مركزية كنا نتحاشاها في بداية بحثنا‪،‬‬
‫ذلك ألنها تعيدنا للخطاب الحداثي المتمرکز حول مقوالت محددة ‪.‬‬

‫إال أنني اعتقد أن تجريد نزعة وحركة مابعد الحداثية من آلياتها ومقوالتها يجعلها خواء ‪ ،‬بل‬
‫وغير قادرة على أن تحل محل خطاب آخر ألن الفراغ ال يمال‪.‬‬

‫على ذلك‪ ،‬وجدت أن أعرض وأضع بعض المقوالت التي تقابل مقوالت الحداثية‪ ،‬وإ ن كانت‬
‫ستتعدد بكم أكثر مما أنتجته الحداثية‪ ،‬وهذا األمر طبيعي نسبة لخطاب مابعد الحداثية ‪-‬‬
‫الكثير اآلليات واألدوات واالستراتيجيات‪ .‬لكن المقوالت اللينة والطيعة هذه ستبقى مفتوحة‬
‫ألننا لسنا أمام تمذهب ثقافي أو منهجية صارمة كما الحداثية‪ ،‬ألن مابعد الحداثية ليست‬
‫منهجية في التفكير‪ ،‬بقدر ما هي فضاء فكري جديد ومغایر ‪ ،‬أخذ ينبثق ويتشكل‪ .‬وهذا‬
‫الفضاء ليس مجرد امتداد للحداثة على الصعيد الوجودي‪ ،‬وال هو مجرد تأويل لها على‬
‫الصعيد المعرفي‪ ،‬وإ نما هو اختراق الفضائها‪ ،‬وتفكيك المنطقها‪ ،‬وخروج على نماذجها في‬
‫الرؤية والعبارة أو في األسلوب والمعاملة " لذلك هي حال غير قار‪ ،‬وقراريته تعني موته‬
‫كمشروع يراد له النقد المستمر والتكيف قصير المدى الذي يشكل أهم ميزة من ميزاته ‪.‬‬

‫احتفت مابعد الحداثة " بالتشظي والتشتيت والالتقريرية كمقابل لشمولیات الحداثة‬
‫وثوابتها ‪ ...،‬وبذلك تلعب مابعد الحداثية دورا هاما في إعادة تعريف الحقائق المتغيرة وفي‬
‫زعزعة الثقة بالثوابت مما يفضي إلى تعرية صيرورة الحقائق وتحيزاتها‪ .‬فهي تسعى إلى‬
‫إبراز صناعية وتصنيع الحقيقة الدنيوية ‪ ،‬وإ بطال مقولة طبيعته المتعالية‪ .‬فترى مابعد‬
‫الحداثية أن تحقيق إدراك هذه الصناعية وثقافيتها على عكس طبيعيتها) هو رسالتها اإلنسانية‬
‫وردها المباشر على الحداثية وعلى شعاراتها البراقة‪ .‬أما من المنظور االستراتيجي‬
‫النصوصي فتسعى مابعد الحداثية إلى تأصيل النص وانفتاحه وإ نكاره للحد والحدود‪ ،‬مما‬
‫يجعله يقبل التأويل المستمر والتأطير المتحول أبدا‪ .‬وينجم عن هذه النصوصية النهائية‬
‫النص‪ ،‬والمحدودية المعنى‪ ،‬وتعدد الحقائق والعوالم بتعدد القراءات "‬

‫ومن أهم مقوالت مابعد الحداثة ‪ :‬العدمية‪ ،‬الغياب‪ ،‬االختالف‪ ،‬التفكيك‪ ،‬التعددية ‪ ،‬الهامش‪،‬‬
‫ولن أفصل الحديث بهذه المقوالت‪ ،‬بداية‪ ،‬بل ستنثر على فصول الكتاب مع رموزها من‬
‫المفكرين والفالسفة‪ ،‬من نیتشه إلى بودریار‪.‬‬

‫ولنعلم أن ما سبق من المقوالت والعبارات هي مشاريع نقائضية ونقدية المقوالت الحداثية‪،‬‬


‫لذلك نجد أن مابعد الحداثية إنما تمثل إستراتيجية وضع " موضع النقد والتحليل العالقات التي‬
‫أقامها المحدثون مع المفردات التي قرأوا من خاللها العالم واألشياء‪ ...‬كالتنوير والتقدم‬
‫والعقالنية والعلمانية والديمقراطية والليبرالية‪ ،‬نحن [إذن] إزاء منطقة جديدة يرتكز فيها عمل‬
‫النقد ال على المقوالت والمفاهيم ذاتها بل على طريقة استخدامها أو كيفية إدارتها والتعاطي‬
‫معها ‪ ،‬هذه الطريقة في التعاطي تعيد فهم العقالنية وكل المرويات الحداثية في ظل بدائل‬
‫إدارية للخطاب والفهم تتمثل في ما انف ذكره مما أسميناه مقوالت مابعد حداثية‪.‬‬

‫مقارنة مابين الحداثية ومابعد الحداثية (بصفتها خاتمة)‪:‬‬

‫إن التمييز بين الخطابين ‪ :‬الحداثي وما بعده‪ ،‬يستند على ضدية فارقة بين الطرفين‪" ،‬فإذا كان‬
‫منطق الحداثة الفلسفية قائم على ما هو جديد وموحد ومتعقل‪ ،‬فإن نظيره مابعد الحداثي قائم‬
‫على ما هو زائل ومتشذر وفوضوي " ‪ ،‬وتلخيصة لما سبق ذكره‪ ،‬وتحديدا للتمايز بين العقل‬
‫الحداثي وما بعد الحداثي‪ ،‬فإنه يلزم علينا عقد نوع من المقارنة لتبيان الحدود الفاصلة بين‬
‫االتجاهين فكريا ومفهومية‪ ،‬وذلك كما يلي ‪:‬‬

‫الحداثية ‪Modernism‬‬ ‫مابعد الحدائية ‪Post – modernism‬‬


‫‪ - 1‬القصص والسرديات‬ ‫‪ - 1‬ضد السرديات الكبرى‪.‬‬
‫الكبرى‬

‫‪ - 2‬األفكار الكلية والشمولية‪.‬‬ ‫‪ - 2‬التفكيك للكليات‬

‫‪ - 3‬األصل‪.‬‬ ‫‪ - 3‬االختالف‪.‬‬

‫‪ - 4‬المرجعية الواحدة أو المركز‬ ‫‪ - 4‬التعددية ولنزوع‪.‬‬

‫‪ - 5‬التأليف‪.‬‬ ‫‪ - 5‬ضد التأليف ‪ ،‬نحو النسق‪.‬‬

‫‪ -6‬االنغالق‪.‬‬ ‫‪ -6‬االنفتاح‪.‬‬

‫‪ - 7‬التراتبية‪.‬‬ ‫‪ – 7‬الفوضى‬

‫‪ - 8‬القصدية (وجود الغاية)‪.‬‬ ‫‪ - 8‬اللعب‪.‬‬

‫‪ - 9‬الخطة أو النظام‪.‬‬ ‫و ‪ -‬الصدفة‪.‬‬

‫‪ - 10‬التشبيه‪.‬‬ ‫‪ – 10‬التضاد‪.‬‬

‫‪ - 11‬الحضور‪.‬‬ ‫‪ - 11‬الغياب‪.‬‬

‫‪ - 12‬الحتمية‪.‬‬ ‫‪ - 12‬الالحتمية‪.‬‬

‫وبذلك نكون قد وقفنا على أهم السجاالت المفهومية التي كان لها الدور في اعادة فهم وضعية‬
‫العقل الغربي وتموقعه في ابجديات المعرفة البشرية ‪ ،‬وسنحاول فهم تطبيقات هذه المفاهيم‬
‫تبعة في كتابنا عبر شخصيات البحث والدراسة فيه‪.‬‬
‫وفيما يخص كتابنا فإن العمل على كشف مدیات خطاب مابعد الحداثة في مختلف مجاالت‬
‫المعرفة والواقع‪ ،‬وإ يضاح الحضور المابعدي فيه يجعله نصة ثرية ومفيدة للقارئ العربي‪،‬‬
‫عالوة على أهمية أصل البحث في خطاب المرحلة وما لحق بها من ضرورة المراجعات‬
‫لركام اإلخفاقات التي خلفتها األنساق ونظريات السرد التاريخانية؛ وعليه فهو نص متعدد‬
‫لهدم هذه البناءات على المروي المأزوم‬

‫_________________________________________________‬

‫‪ ‬وبشكل عام‪ ،‬فإن األفكار األساسية لعصر التنوير هي ذات األفكار التي اعتنقتها مدرسة‬
‫فلسفية عرفت بالمدرسة اإلنسانية‪ ،‬وبإمكاننا هنا تلخيص هذه األفكار بالنقاط التالية ‪:‬‬

‫ا‪ .‬ان هناك ذات مستقرة ومتماسكة ومعرفة‪ ،‬وهي ذات واعية وعقالنية ومستقلة وكونية‪،‬‬
‫فالتوجد ظروف أو اختالفات فيزيائية تؤثر بشكل جوهري على ما ينبثق عن هذه الذات من‬
‫فعل‪.‬‬

‫‪ .2‬هذه الذات تدرك نفسها وتدرك العلم عن طريق العقل المفكر‪ ،‬الذي يفترض انه الشكل‬
‫األرقى لألداء الذهني‪ ،‬والشكل الموضوعي الوحيد‪.‬‬

‫‪ .3‬وهذا النمط من اإلدراك الناتج عن الذات العاقلة الموضوعية هو العلم الذي يمكن أن‬
‫يوفر الحقائق الشاملة عن العالم‪ ،‬بغض النظر عن الوضع الفردي للمدرك‪.‬‬

‫‪ .4‬المعرفة الناتجة عن العلم هي (حقيقة) وهي أزلية‪.‬‬

‫‪ .5‬ان المعرفة ‪ /‬الحقيقة التي ينتجها العلم عن طريق الذات العاقلة والموضوعية العارفة)‬
‫ستقود دائما نحو التقدم والكمال‪ .‬وعن طريق العلم العقل ‪ /‬الموضوعية)‪ Z‬يمكن تحليل وتطوير‬
‫كل المؤسسات والممارسات اإلنسانية‪.‬‬
‫‪ .6‬العقل هو الحكم النهائي الذي يحدد ما هو حقيقي‪ ،‬وما هو صحيح‪ ،‬وما هو جيد (ما هو‬
‫أخالقي وما هو قانوني)‪ .‬والحرية تقوم على طاعة القوانين التي تتطابق مع المعرفة المكتشفة‬
‫من قبل العقل‪.‬‬

‫‪ .7‬في عالم يحكمة العقل‪ ،‬ستكون الحقيقة دائما هي الحق وهي الخير‪( .‬وهي الجمال)‪،‬‬
‫اليمكن أن يكون هناك صراع بين ما هو حقيقي وما هو صحيح‪.‬‬

‫‪ .8‬لذلك‪ ،‬فإن العلم هو النموذج لكل أشكال المعرفة المفيدة اجتماعيا‪ ،‬والعلم يتسم بالحيادية‬
‫والموضوعية‪ ،‬والعلماء الذي ينتجون المعرفة العلمية عن طریق القدرات العقالنية غير‬
‫المنحازة‪ ،‬يجب أن يكونوا أحرارا في اتباع قوانين العقل‪ ،‬وأن ال تحفزهم اهتمامات أخرى‬
‫(مثل المال والسلطة)‪.‬‬

‫‪ .9‬يجب أن تكون اللغة أو طريقة التعبير المستخدمة في إنتاج ونشر المعرفة عقالنية ايضا‬
‫ولكي تكون اللغة عقالنية ايضا البد ان تتسم بالوضوح والبد ان تعبر عن العلم الحقيقي ‪/‬‬
‫المدرك الذي يالحظه العقل فقط ويجب ان يكون هناك ترابط ثابت وموضوعي‪ Z‬بين مواضيع‬
‫الدراسة وبين الكلمات المستخدمة عنها‪.‬‬

‫‪27‬‬

‫إذن ما المقصود بما بعد الحداثة؟‬

‫هناك مشكلة أساسية نواجهها‪ ،‬تتمثل بمحاولة الوصول إلى تعريف دقيق المفهوم ما بعد‬
‫الحداثة‪ ،‬فمعظم التعريفات الشائعة تتسم بالغموض وغالبا ما تكون غير متوافقة مع بعضها‪،‬‬
‫وهناك أيضا قدر كبير من التداخل والتشويش في مصطلحات مثل ‪post modernity :‬‬

‫‪ ،modernism -‬وغالبا ما يكون هناك میل لربط المصطلحين‪modernism - post‬‬


‫‪ modernism‬بحركات فنية وفكرية ظهرت بشكل خاص في مجالي العمارة واألدب‪ ،‬آما‬
‫المصطلحين‪ POST - modernity - modernity‬فيستخدمان عادة لإلشارة إلى تغيرات‬
‫في البنى االجتماعية واالقتصادية‪ .‬لكن هذا التمييز ليس نهائيا وتاما ‪ ،‬فالكثيرون يستخدمون‬
‫مصطلح ‪ post modernism‬عند الحديث عن التحوالت االجتماعية واالقتصادية‪ .‬ومن أجل‬
‫الوصول إلى تحليل اعمق سنحاول أن نتناول بالدراسة االتجاهات المختلفة‪.‬‬

‫الفن‬

‫أوال هناك فن ما بعد حداثي ليس فقط في مجال الرسم أو النحت بل أيضا في مجاالت‬
‫العمارة والموسيقى واألدب والدراما والخاصيتان األساسيتان لهذا النوع من الفن هما االفتقار‬
‫إلى العمق والمعنى‪ ،‬والتنوع في األشكال والمضمون‪ .‬وتتحدث الناقدة الفنية (سوزي غابليل‬
‫‪ )Suzy Gablik‬في تعليقها عن المباني والتنظيم العمراني في لوس أنجلوس عن الفضاء‬
‫المتعدد األبعاد والمراوغ لما بعد الحداثة‪ .‬حيث أي شي يرافق أي شي ‪ ،‬كلعبة بدون قواعد‪.‬‬
‫الصور العائمة‪ ...‬ال تحتفظ بأي عالقة مع االشياء ويصبح المعنى قابال للتجزئة كمفاتيح‬
‫التشغيل في لوحة واحدة‪ .‬الجزيئات غير المترابطة وغير المتسقة‪ ،‬تنزلق الواحدة تلو األخرى‬
‫دون أن تنجح في االرتباط بمشهد متماسك‪ .‬أن تقلب هذه الجزيئات‪ ،‬وليس تفاعالتها‬
‫المتبادلة‪ ،‬ال يساعد على ان تكون معنی ثابت)‪.‬‬

‫ورغم أن ذلك يبدو غريبا‪ ،‬اال أننا لسنا بحاجة للذهاب إلى لوس أنجلوس النعرف عن ماذا‬
‫نتحدث‪ .‬ففي المملكة المتحدة البريطانية على سبيل المثال‪ ،‬يبدو ان المباني الجديدة التي‬
‫شيدت خالل العقد األخير ال تنسجم تماما مع ما سبقها من عمران‪ ،‬ولقد تم تجديد العديد من‬
‫مدننا من قبل معماريين حضوا بحرية كاملة إلشباع خياالتهم الجانحة (وتفكيرهم الفانتازي)‪.‬‬
‫لنلقي نظرة على سكك حديد دوكالندوز في لندن التي تخترق واحدة من أكثر أجزاء العالم‬
‫انشغاال‪ ،‬وسنجد عمارة ما بعد الحداثة في اظهر صورها‪ .‬كما أن اإلعالنات وتسجيالت‬
‫أغاني البوب هي أمثلة جيدة لفن ما بعد الحداثة في اظهر صورها‪ .‬فعزف األلحان السريعة‬
‫إلى جانب مباريات كرة القدم‪ ،‬وعزف الموسيقى التقليدية‪ ،‬ألقناعنا برکوب طائرات إحدى‬
‫الخطوط الجوية‪ ،‬ومشاهدة أغاني با فاروني في الساحات العامة‪ ،‬هي أدلة على اختفاء‬
‫الفاصل بين الثقافتين العليا والشعبية (فكل شي يرافق أي شي‪ ،‬کلعبة بدون قواعد)‪.‬‬
‫على الصعيد الثقافي‪ ،‬فإن نمو تأثير وسائل األعالم سواء في صناعة اإلعالن‪ ،‬أو التلفزيون‪Z،‬‬
‫أو السينما‪ ،‬قاد أيضا إلى تحوالت هائلة في الكيفية التي ينظر فيها الناس إلى العلم‪ .‬وسيجادل‬
‫الكثير من ما بعد الحداثيين بالقول أن الصورة صارت هي كل شي‪ ،‬وهي الحقيقة‪ .‬ديزني‬
‫الند و ‪ MTV‬وماكدونالد هي حياة حقيقية‪ ،‬وما نشاهده في التلفزيون هو حياة حقيقية‪ ،‬لقد‬
‫اصبح التلفزيون‪ Z‬هو الحياة الحقيقة‪ .‬ويعتقد البعض أن ما بعد الحداثيين ينظرون إلى األعالم‬
‫بطريقة مختلفة تماما عن أولئك الذين يعتبرونه مجرد وسيلة لالتصاالت‪ :‬وبالنسبة لهم‬
‫األعالم اليوم ليس وسيلة اتصال بقدر ما هو وسيلة إنشاء وتركيب‪ .‬فمن خالل نطاقها الواسع‬
‫وشموليتها‪ ،‬تقوم وسائل األعالم ببناء بيئة جديد لنا‪ ،‬وهي بيئة تتطلب نظرية معرفية‬
‫اجتماعية جديدة وشكل جديد من التجارب‪ .‬لقد خلقت وسائل األعالم ما يمكن تسميتة ب‬
‫(واقع إلكتروني) تغمره الصور والرموز‪ ،‬وهو واقع أبطل أي معنى الحقيقة موضوعية تكمن‬
‫خلف الرموز‪ ...‬لم يعد ممكنا التمييز بين الخيال والحقيقة»‪( .‬کومیر ‪.)1997 :‬‬

‫_______________________________________________‬

You might also like