You are on page 1of 19

‫جملَّة أبُوليُوس‬

‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬


‫قراءة يف مناذج‬

‫عبد اللطيف قادم‬

‫جامعة سوق أهراس‬

‫امللخَّص‪:‬‬ ‫‪Resume‬‬

‫‪Les historiens des idées nous‬‬


‫يرى مؤرخو األفكار أن مركزية اإلنسان‬ ‫‪rapporte que l’égocentrisme de‬‬
‫تعرضت إىل إهانات ثالث ‪ :‬األوىل كومسولوجية‬ ‫‪l’homme‬‬ ‫‪avait connu trois‬‬
‫‪humiliations‬‬ ‫‪,‬‬ ‫‪la‬‬ ‫‪première :‬‬
‫‪ :‬يف علم الفلك عند كوبرنيك ‪ ،‬واإلهانة الثانية‬ ‫‪cosmologique relative à l’astronomie‬‬
‫‪ :‬مع تشارلز داروين يف جمال علم البيولوجيا وعلم‬ ‫‪avec Copernic us , la deuxième‬‬
‫‪humiliation avec Charles Darwin en‬‬
‫األحياء ‪ ،‬أمااإلهانة الثالثة فكانت على يد‬ ‫‪biologie, la troisième fut L œuvre de‬‬
‫مكتشف الالشعور سيجموند فرويد يف جمال علم‬ ‫‪Sigmund Freud dans le domaine de‬‬
‫‪la psychologie . tous ces pré cites ont‬‬
‫النفس ‪ ،‬حيث سعت كل هذه األمساء إىل تقويض‬ ‫‪reconnu a délègue la centralisation de‬‬
‫نرجسية اإلنسان و قتله ‪ ،‬وقد سارت البنيوية‬ ‫‪l’homme et à le tuer, le structuralisme‬‬
‫‪de l’école française a suivi le même‬‬
‫وأشياعها من املدرسة الفرنسية على الدرب نفسه‬ ‫‪chemin (Althusser, Lévi-Strauss,‬‬
‫من أمثال لوي ألتوسري ‪ ،‬ليفي ستروس ‪ ،‬جاك‬ ‫‪Jacques Lacan, Michel Foucault,) et‬‬
‫‪c’est ainsi que l’homme s’enfuit de Sa‬‬
‫الكان ‪ ،‬و ميشال فوكو و هبذا يهرب اإلنسان‬ ‫‪réalité vers le nihilisme et perd‬‬
‫من واقعه ليقع يف حبال و شراك العدمية ‪ ،‬ويفقد‬ ‫‪l’envi de vivre pour déclarer sa mort‬‬
‫‪et son suicide . c’est ainsi que‬‬
‫الرغبة يف احلياة ‪ ،‬و يف األخري يعلن موته وانتحاره‬ ‫‪l’occident nous fait montrer son vrai‬‬
‫‪ ،‬و هكذا يكشف العامل الغريب عن وجهه احلقيقي‬ ‫‪visage ou l’homme fut le grand‬‬
‫‪perdant.‬‬
‫‪ ،‬حيث يكون اخلاسر األكرب هو اإلنسان‬ ‫‪Notre article penche sur les‬‬
‫‪.‬ويهدف هذا املقال إىل تتبع تبلور هذه الفكرة‬ ‫‪grands‬‬ ‫‪moments‬‬ ‫‪de cette idée‬‬
‫‪philosophique dans‬‬ ‫‪la pensée‬‬
‫الفلسفية و أبرز حمطاهتا يف الفكر الغريب‪.‬‬ ‫‪occidentale.‬‬

‫‪131‬‬
‫جملَّة أبُوليُوس‬
‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫‪:‬‬
‫حرصت الفل سفة على البحث والتفكري يف قضايا هلا صلة بالوجود اإلنساين اخلاص والعام‬
‫على حد سواء‪ ،‬حيث اجتهت حنو إجياد حلول وخمرجات للقضايا العالقة واخلالفية فالفلسفة إذن‬
‫هي الطريق أو املسلك الذي البد من إتباعه من أجل معرفة املشكالت اليت شغلت الفالسفة‪" .‬هذا‬
‫(‪)1‬‬
‫اإلنسان الذي كان‪«:‬يسكن ويتمركز يف الطبيعة عن طريق ما يسمى بالطبيعة اجلهوية احملدودة»‬
‫اليت زود هبا أثناء والدته كما هو الشأن بالنسبة لكل الكائنات األخرى‪ .‬إذن اإلنسان بوصفه ذاتا‬
‫وموضوعا لكل معرفة ممكنة مل يظهر إال يف مطلع القرن التاسع عشر‪ ،‬وكان هذا حبد ذاته من‬
‫أكرب الث ورات اليت زعزعت أركان الثقافة الغربية‪ ،‬وكان سبب ظهوره هو «ذلك التصدع الذي‬
‫حدث يف تنظيم املعرفة‪ ،‬والذي يسر ملفكري القرن التاسع عشر مهمة تعقل اإلنسان أي اعتباره‬
‫(‪)2‬‬
‫ذاتا وموضوعا عوضا عن اعتباره طبيعة بشرية فحسب‪».‬‬
‫إال أن هذه املعرفة اليت عرفها القرن التاسع عشر هي نفسها اليت "تقضي على هذا اإلنسان‬
‫وبالتايل فاملوت والفناء مها مصريه احملتوم‪ «،‬ولذا تعترب هذه الفكرة (موت اإلنسان) مشكلة نشأت‬
‫يف كنف الفكر الفلسفي الغريب الذي يقوم على هدم ونقض كل املركزيات‪ ،‬وألنه ليس هناك أدىن‬
‫شك يف أن هذه اإلشكالية الفكرية اليت دعا إليها الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو ‪M.‬‬
‫‪ Foulcaut‬هي فكرة لطاملا أرقت البشرية ولعل هذه احلرية يف حد ذاهتا عامل مهم من عوامل‬
‫شحن الذهن ودفعه إىل طرح تساؤالت للكشف عن هذه املشكلة املتعلقة باإلنسان الذي يؤكد‬
‫ميشال فوكو "أن هذا الكائن مل يكن موجودا قبل هناية القرن الثامن عشر‪ ،‬بل إن هذا اإلنسان قد‬
‫صنعته املعرفة اجلديدة املختلفة اللغوية االقتصادية‪ ،‬البيولوجية»(‪ ،)3‬فاإلنسان كونه أداة معرفية‬
‫أزاحت عن العلوم غشاء القداسة وأصبح عرضة للتحليل والتشريح‪ ،‬وأصبح يوصف باجلنسية كما‬
‫يوصف بالنطق وهو املقصود يف املعىن‪ ،‬أي إنسان الفالسفة ليس اإلنسان كما هو يف الواقع خاصة‬
‫إذا علمنا أن هذا اإلنسان كان يف القدمي هو مركز األشياء وجوهرها‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫جملَّة أبُوليُوس‬
‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫فاإلنسان يف هذا العصر مل يعد ينظر إليه كونه أقدم مشكلة يف تاريخ الفالسفة‪ ،‬حيث‬
‫أصبح ال يساوي شيئا يف أحسن األحوال أما يف معظمها فاإلنسان ال وجود له أصال‪ ،‬فال هو معىن‬
‫موثوق به‪ ،‬وال شيء مقدس‪ ،‬وال وجود لذلك اإلنسان املتعايل واملتسامي‪ ،‬وال شيء سوى التعدد‬
‫واالختالف‪ ،‬واللعب احلر باملدلوالت‪ ،‬والداللة الالهنائية‪ ،‬وتكسري الوحدة والتشرذم مبعىن كلمة‬
‫الفوضى والعدم‪.‬‬
‫لقد كانت فلسفة موت اإلنسان اليت تعد نتيجة حتمية ملوت اإلله الذي دعت القبالنية إىل‬
‫عزله واقترحت اململكة اليهودية بديال عنه‪ ،‬وفلسفة عزل اإلله يف الفلسفة القبالنية هي«منطق مهم‬
‫اليت مل‬ ‫(‪)4‬‬
‫يف بلورة األحكام والقضايا املتعلقة مبسرية التصوف وبنتائج نظرية التكوين واخللق»‬
‫تكتمل بعد حسب الرؤية القبالنية وهذا ما استثمرته املناهج ما بعد البنيوية ال سيما يف مقوالت‬
‫وثنائية احلضور والغياب‪.‬‬
‫إن أصدق وصف ميكن أن توصف به البشرية وصفا يليق حباهلا هو احلرية والقلق اليت غلبت‬
‫عن مسات هذا العصر‪ ،‬فبعد أن «عرفت قرونا من الغرور والوهم واالدعاء وجربت شىت النظريات‬
‫والفلسفات تيقنت أهنا تسري م هرولة حنو حتفها وزواهلا وفنائها‪ ،‬وتستعجل عنوة دمارها وتأكدت‬
‫أن ال شيء من حماوالهتا اليائسة يستطيع اجتثاثها من براثني الشقاء واهلالك والدمار»(‪ )5‬هذا املصري‬
‫احملتوم الذي حتالفت عدة مناهج وتيارات للقضاء على هذا اإلنسان‪ ،‬كالبنيوية اليت أعلنت صراحة‬
‫على لسان روا دها وموت هذا الكائن‪ ،‬فهل كانت البنيوية فعال هي من أهدرت دم هذا اإلنسان‪،‬‬
‫وما هي الوسائل واملسوغات اليت استعملتها لبلوغ ذلك؟ ولإلجابة على هذه التساؤالت كان‬
‫حريا الولوج إىل هذه اإلشكالية من باب اإلبستيمولوجي للوقوف على حقيقة هذه القضية‬
‫والغوص إىل جوهرها‪.‬‬
‫واهل دف من هذه الدراسة هو إبراز املكانة اليت حتتلها هذه الفكرة ضمن املشروع الفلسفي‬
‫والنقدي املعاصر‪ ،‬وما أحدثته من حتول جذري على أكثر من صعيد (سياسي اقتصادي‪ ،‬ثقايف‬
‫وفكري)‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫جملَّة أبُوليُوس‬
‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫‪1‬‬
‫لقد عرفت اإلنسانية عموما والغرب خصوصا حتوالت كبرية نتيجة للتغريات الفكرية‬
‫العميقة اليت استبدلت أسس ومبادئ الوعي القدمي مببادئ وأسس جديدة قامت وال تزال تقوم‬
‫عليها احلضارة الغربية احلديثة(‪ ،)6‬وقد كانت هذه التغريات الفكرية عميقة جدا‪ ،‬حيث استطاعت‬
‫أن تنقل احلضارة الغربية‪ ،‬ومن بعدها اإلنسانية نقلة نوعية كبرية‪ ،‬وشكلت سابقة تارخيية ال مثيل‬
‫هلا‪ ،‬ومل يقتصر تأثري هذه احلضارة على الغرب فحسب بل تعداه إىل العامل بأسره‪ ،‬هذه احلضارة‬
‫الغربية اليت تقوم على مبدأ « املركزيات‪ ،‬مركزية اإلله اليت تقوضت دعائمها وعزل فيها اإلله من‬
‫قبل القبالنية كما أسلفنا‪ ،‬مث ما لبث هذا اإلله أن قتل مرة ثانية قبل مئة عام على يد الفيلسوف‬
‫األملاين فريديريك نيتشه (‪ Nietzsche Friedrich )1900 - 1844‬الذي أعلن ذات مرة بأنه‬
‫"ال ميكنه أن جيعل من اإلله ضامنا له من زيغ الشيطان»(‪ )7‬كما يقول رينيه ديكارت (‪– 1596‬‬
‫‪ René Descartes )1650‬وباختصار شديد فقد قتل كل من اإلله واإلنسان معا‪ ،‬يقول‬
‫ميشيل فوكو الذي كان متأثرا بأفكار نيتشه‪« :‬يف أيامنا هذه‪ ،‬ال يزال نيتشه ميثل من بعيد نقطة‬
‫االنعطاف يف فكرنا‪ ،‬فقد أكد ليس على موت اإلله فحسب‪ ،‬بل على هناية اإلنسان أو موت‬
‫اإلنسان أيضا‪ ...‬حيث يظهر أن موت اإلله هو موت آخر إنسان يف هذا العامل مرتبطان‬
‫ببعضهما»(‪ )8‬فاملعرفة اليت ظهر هبا اإلنسان خالل القرن التاسع عشر هي اليت ستقضي عليه‪ ،‬فهو‬
‫كلما تفرق يف العلوم فقد قيمته وهويته‪ ،‬وبالتايل فاملوت والفناء مها مصريه احملتوم‪ ،‬فاإلنسان‬
‫املعاصر على وشك اإلحماء والضمور‪ ،‬وعلى وشك املوت إن مل يكن قد مات فعال‪« ،‬ذلك أن‬
‫اجملتمع املعاصر قوض دعائم اإلنسان مبتطلباته القاسية اليت جتعله خاضعا هلا‪ ،‬إذ ميوت هذا اإلنسان‬
‫يف اليوم مرات عديدة‪ ،‬إىل جانب هذه املتطلبات هناك مؤسسة قوية قد ظهرت يف اجملتمع املعاصر‬
‫فإذا كانت اللغة تلح على الظهور كوحدة تعذر علينا كينونتها كلما الحت يف‬ ‫(‪)9‬‬
‫وهي اللغة»‬
‫األفق‪ ،‬وهذا دليل كاف على تقويض دعائم النظام بأكمله‪ ،‬والذي ينجر عنه تقويض اإلنسان‬
‫(‪)10‬‬
‫الذي سيؤول ال حمالة إىل الفناء والزوال كلما الحت اللغة يف األفق وجتمعت‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫جملَّة أبُوليُوس‬
‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫لقد ولد الفكر الغريب يف عصر الشكل الكامل‪ ،‬الذي يسعى إىل هدم كل املركزيات بداية‬
‫مبركزية اإلله وصوال إىل مركزية اإلنسان‪ ،‬فأصبح اإلنسان ال يساوي شيئا يف أحسن األحوال أما‬
‫يف معظمها فاإلنسان ال وجود له أصال‪.‬‬
‫إال أن بشائر عصر النهضة ظهرت يف القرن اخلامس عشر ميالدي حمملة بدعوات حبث‬
‫وإحياء‪ ،‬جنمت عنه عدة عوامل سياسية‪ ،‬اقتصادية وفكرية شرعت يف زعزعة اإلقطاع الذي تعود‬
‫إليه دفة قيادة االقتصاد يف اجملتمع الزراعي‪ ،‬حيث وجدت الكنيسة يف هذا اإلقطاع خري سند هلا‪،‬‬
‫ومن هذا التحالف الذي نشأ بني الكنيسة واإلقطاع أخذ اجملتمع دوره يف احلياة‪ ،‬إذ يستند أساسا‬
‫إىل إلغاء اإلنسان‪ ،‬وجعله موضوعا من املوضوعات‪ ،‬أو شيئا من األشياء‪ ،‬اليت كان ميثلها ذلك‬
‫وكانت الكنيسة تعتمد على اإلقطاع يف جانبه املادي لتلعب دورا بارزا يف‬ ‫(‪)11‬‬
‫التحالف‪.‬‬
‫الصراعات السياسية واالجتماعية ضد األمراء وامللوك‪ ،‬واإلقطاع كان يعتمد على الكنيسة يف‬
‫جانبها الروحي إلخضاع الفالحني لنمط اقتصادي خلدمة مصاحل الكنيسة‪ ،‬وبذلك أصبح اإلنسان‬
‫يعيش يف عامل ال ميلك فيه أي شيء‪ ،‬وال يعرف من هو‪ ،‬وما هو دوره يف هذه احلياة؟ والعقل مل‬
‫يسمح له بالتعبري ما دام اإلرهاب الذي متارسه الكنيسة حتت دعوة محاية العقل من الزندقة‬
‫واالحنراف‪ ،‬كما أن العلم كان حكرا على رجال الدين ومفسريه الذين جعلوا من الالهوت علما‬
‫للعلوم(‪ )12‬وكانت الطبقة االرستقراطية حتتكر كل شيء مادامت هي الذات واآلخر هو املوضوع‪،‬‬
‫أو هو السيد واآلخر هو العبد‪ ،‬فكانت العالقة بني السيد والعبد هي األساس االجتماعي الذي‬
‫يتحكم يف اآلخرين‪،‬دون حراك اجتماعي‪.‬‬
‫إال أنه ومع ظهور جيل جديد من املفكرين واملثقفني حتت زعامة األملاين مارتن لوثر‬
‫‪ ، Martin L.‬الذي شن هجوما على الكنيسة الكاثوليكية بوصفها مؤسسة سلطوية دينية‬
‫وسياسية‪ ،‬هذه الفترة اليت كانت حقيقة بداية لقهر اإلنسان والفكر من قبل الكنيسة‪ ،‬اليت كانت‬
‫تصادر كل ما يتصل بالتفكري العلمي جاعلة من األساطري واخلرافات أساس التفكري واملصدر الذي‬
‫جيب اتباعه يف تفسري احلقائق‪ ،‬ومن بني أولئك الذين سامهوا يف رسم مالمح هذه الفترة كوبرنيك‬

‫‪135‬‬
‫جملَّة أبُوليُوس‬
‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫‪ ،Copernic‬تشارلز داروين ‪ ،Charles Darwin.‬سيجموند فرويد ‪، S. Freud‬‬


‫كارل ماركس ‪ ،K. Marx‬فريدريك نيتشه ‪ ،N. Frédéric‬ومع هؤالء عرفت اإلنسانية‬
‫واإلنسان معا عدة إذالالت سحقت كينونته ووجوده‪ ،‬وعرف أيضا جروحا مست كربياءه وعلوه‬
‫ميكن حصرها يف‪:‬‬
‫‪ :‬كومسولوجية‪ ،‬وذلك مع عامل الفلك كوبرنيك حيث« أثبت أن‬ ‫‪1‬‬
‫األرض ليست مركزا للكون‪ ،‬بل إهنا ال متثل سوى جزئية زهيدة من مدار الشمس»‬
‫(‪ ،)13‬فكوبرنيك قوض مركزية األرض اليت قال هبا بطليموس‪ ،‬وتبنتها الكنيسة‪ ،‬وهذا التقويض أيضا‬
‫لإلنسان‪ ،‬ومن هنا يكون اإلنسان وكوكبه ال ميثالن سوى نقطة متناهية الصغر يف حبر اجملرات‬
‫واألفالك اليت ال قرار هلا‪ )14(.‬وها هو ذا العامل اإلنساين يفقد على حني بغتة مركزه نتيجة اكتشاف‬
‫كوبرنيك الذي« فجر الدوائر البلورية اليت كانت حتبس اإلنسان واألرض يف شرنقة باعثة على‬
‫االطمئنان»(‪ )15‬وهكذا أصبح اإلنسان عدمي الشأن هو وكوكبه مقارنة مع باقي الكواكب‪.‬‬
‫كما يعد كل من فرنسيس بيكون (‪ ،Francis Bacon )1626 - 1561‬غاليلو‪ ،‬جون‬
‫لوك ‪ ،)1704 - 1632( Jean L.‬ودافيد هيوم ‪ )1772 - 1711( David Hume‬الذين ارتبط‬
‫أمساؤهم بالفلسفة الكنسية وترهاهتا‪ ،‬القائمة على التفسري األسطوري الالهويت للطبيعة‪ ،‬حيث‬
‫أصبحت الطبيعة كتابا مفتوحا حيل حمل الكتاب املقدس‪ ،‬و غدت الطبيعة أشكاال هندسية‬
‫وحسابية ترتبط عناصرها اجلزئية عرب عال قات بينها‪ ،‬ال ضخضع لتراتيب أنطولوجية كما كانت يف‬
‫الفكر القدمي والوسطي‪ ،‬فاملكان عبارة عن نقاط متجانسة مما مهد للتصور الرياضي امليكانيكي‬
‫(‪)16‬‬
‫للطبيعة‪.‬‬
‫أما غاليلو فيعده الباحثون الشخصية الرئيسة يف مسرح الثورة العلمية‪ ،‬إذ استطاع بنقده ملن‬
‫سبقه أن يصل إىل تطوير العلم التجرييب نافيا أن يكون املنطق األرسطي أداة صاحلة للكشف‬
‫العلمي‪ ،‬ألنه منطق قياسي يبين صحة النتائج انطالقا من صدق الفروض يف املقدمات‪ ،‬وهذا ما‬
‫جيعل العلم التجرييب ممهدا للدراسات النقدية املوضوعية (البنيوية)‪،‬حيث ركز غاليلو على العالقات‬

‫‪136‬‬
‫جملَّة أبُوليُوس‬
‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫الداخلية للجزئيات املكونة للمادة‪ ،‬وأبعد الفرضيات والتعميمات‪ ،‬ومن هنا يثبت أن اإلنسان خادم‬
‫للطبيعة ومفسر هلا وخاضع لنظامها‪ ،‬وخدمة اإلنسان للطبيعة يكون متهيدا للمنظور البنيوي‪:‬‬
‫« الذي جعل اإلنسان حبيس النسق اللغوي بالرغم من أن اإلنسان سيد على الطبيعة ال خادم هلا‬
‫وهذا ما يعترب أول إعالن ملوت اإلنسان الذي ظهر واضحا مع‬ ‫(‪)17‬‬
‫باملنظور العلمي التجرييب»‬
‫نيتشه‪ ،‬عندما أعلن موت اإلله ومع فوكو وبارت اللذين أعلنا موت اإلنسان وموت املؤلف‪.‬‬
‫حدثت يف جمال البيولوجيا مع تشارلز داروين ‪Charles‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪ Darwin‬يف كتابه أصل األنواع‪ ،‬حيث وصف اإلنسان بالقردية‪ ،‬وأرجعه إىل أصول حيوانية‪،‬‬
‫وهبذا تكون الداروينية األساس الثاين يف تقويض مركزية اإلنسان‪ ،‬حيث أثبتت انتماءه إىل عامل‬
‫احليوان‪ ،‬عامل حيكمه الصراع من أجل البقاء (البقاء لألقوى‪ ،‬قانون الغاب)‪.‬‬
‫‪ :‬تلقى اإلنسان صفعة أخرى مست كربياءه‪ ،‬وكان ذلك على يد‬ ‫‪3‬‬
‫سيجموند فرويد بعد اكتشافه لالشعور‪ ،‬أي يف جمال علم النفس‪ ،‬وهذا يعترب ثالث إذالل حلق‬
‫بالبشرية‪ ،‬بعد إذالل علم الفلك‪ ،‬والبيولوجيا (علم األحياء)‪ ،‬حيث أعطت النظرية النفسية صورة‬
‫عن اإلنسان أصبحت نفسه حمبوكة خبيوط قوة أو بأوتار صادرة عن مناطق بعيدة‪،‬وأزمنة سحيقة‪،‬‬
‫أو مضمورة على حنو ال يقع حتت سيطرتنا ومهيئة يف كل حلظة وآن لالحنالل‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫هذا االكتشاف يف جمال احلياة النفسية هو «تأكيد على جربية احلياة النفسية‪ ،‬يف العقل‬
‫والوعي واإلرادة احلرة»(‪ ،)18‬إذ مل تعد حتدد أ مهية اإلنسان ال يف كونه عاقال‪ ،‬وال يف كونه ذاتا‬
‫قاصدة وواعية متحكمة يف نفسها ويف مواضيعها اخلارجية باملعىن الديكاريت‪« :‬أنا أفكر إذا أنا‬
‫ولكن بوصفه كائنا حيا له حاجياته ورغباته املرتبطة به بدافع الغريزة واحلاجيات‬ ‫(‪)19‬‬
‫موجود‪»،‬‬
‫اجلسدية‪ ،‬حيث يكون هذا السلوك اإلنساين يرتبط بدوائر الالوعي أكثر من الوعي‪ ،‬وبالالشعور‬
‫أكثر من الشعور‪ ،‬وبالالعقل أكثر من العقل‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫جملَّة أبُوليُوس‬
‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫أما املاركسية فقد قوضت فكرة الفردية واالستقاللية الذاتية‪ ،‬اليت أكدت عليها كل من‬
‫الوجودية والرومانسية‪ ،‬وأكدت مقابل ذلك على قيمة البنية والطبقة والطبقات االجتماعية على‬
‫حساب الفرد والوعي واإلرادة احلرة‪ ،‬ومن هنا دعا كارل ماركس ‪ K. Marx‬إىل‪« :‬اغتراب‬
‫ألن كارل‬ ‫(‪)20‬‬
‫اإلنسان عن ناتج عمله الذي يعترب يف الوقت ذاته اغترابا عن نفسه وعن ذاته‪»،‬‬
‫ماركس ينظر إىل العمل يف شكله الصحيح على أنه وسيط يستخدمه يف حتقيق ذاته وتنمية مللكاته‬
‫اإلنسانية‪ .‬واالغتراب عند ماركس يعين« أن اإلنسان ال يستطيع أن حيقق ذاته كنشاط خالق يف‬
‫العامل‪ ،‬بل أن العامل‪ ،‬الطبيعة واآلخرين وهو نفسه‪ ،‬تصبح مغتربة بالنسبة إليه إهنا تغلوه وتقف ضده‬
‫كموضوعات غريبة على الرغم أهنا تكون من خلقه‪ )21(».‬لذلك فالعمل املغترب‪«:‬يفصل املوضوع‬
‫املنتج عن اإلنسان‪ ،‬وكذلك يسلبه حياته النوعية‪ ،‬ويبدل أفضليته على احليوان إىل انعدام متايز‪،‬‬
‫وباملثل فإن العمل املغترب بتحويله‬ ‫(‪)22‬‬
‫حيث إن جسده غري العضوي أي الطبيعي يسلب منه‪»،‬‬
‫لنشاط اإلنسان الذايت التلقائي إىل وسيلة‪ ،‬فإنه بذلك حيول احلياة النوعية لإلنسان إىل وسيلة‬
‫للوجود املادي‪.‬‬
‫وتتمثل خطورة اغتراب العمل عند ماركس يف أن اإلنسان املغترب عن ناتج عمله هو يف‬
‫الوقت نفسه اغتراب عن الذات وعن البشر اآلخرين يف جمتمع مستلب ال تكون عالقة الناس فيما‬
‫بينهم عالقة بني أشخاص متماثلني‪ ،‬بل عالقة خادم وسيد‪ ،‬ومستثمر مبستثمر شخص أدىن‬
‫بشخص أمسى‪ ،‬وهكذا النظام التراتيب ملختلف املهن‪ ،‬فاغتراب العمل هو السلب الكامل لإلنسانية‪،‬‬
‫ونفي النفي إمنا يأيت مع إلغاء العمل املغترب‪.‬‬
‫وهكذا يربز الدور احلقيقي الذي لعبه الفالسفة الريبيون يف قتل اإلنسان (كارل‬
‫ماركس‪،‬فرويد‪ ،‬فريدريك نيتشه)‪ ،‬هذا األخري الذي تدين له الفلسفة احلديثة بشكل كبري‪ ،‬وذلك‬
‫من خالل حتليالته اجلينيالوجية‪ ،‬حيث وصفت فلسفته بالعبثية والعدمية‪ ،‬والفوضوية وأصبحت مع‬
‫مرور الزمن تراثا فكريا يتجه إليه اجلميع لالحتماء به يف مواجهة العقل‪ ،‬حيث يقول ميشيل سريس‬
‫‪« Michel Serre‬إن العقل قاتل لألقليات منذ والدته‪ ،‬وإن اخلطاب يف املنهج هو خطاب‬

‫‪138‬‬
‫جملَّة أبُوليُوس‬
‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫هذا الكالم إذا ما قورن مبا قاله الفالسفة اجلدد من أمثال فوكو‪ ،‬ديريدا دولوز‪،‬‬ ‫(‪)23‬‬
‫حرب»‬
‫اليوتار‪ ،‬فهو ضنني وشحيح‪ ،‬حيث يقول فرنسوا شاتيليه ‪François Jean de Chastellux‬‬
‫"الدعوة إىل العقل دعوة للخضوع"‪ ،‬كما يقول برينارد ليفي "املثال العلمي مثال بوليسي" ويقول‬
‫(‪)24‬‬
‫أيضا «لقد أثبت ميشيل فوكو أن العقل أداة استعباد"‪.‬‬
‫وبناء على ذلك‪ ،‬جند أن فلسفة نيتشه وجهت نقدا كبريا وعنيفا للعقل األنواري‪ ،‬واملرياث‬
‫الفلسفي الغريب برمته‪ ،‬ومقوالته عن املنطق والعقل واحلقيقة‪ ،‬ومن مث كان اإلعالن عن موت اإلله‪،‬‬
‫وكان هذا اإلعالن مبثابة‪« :‬كشف منذ ذلك احلني عن وحدة اإلنسان‪ ،‬ألن القول مبوت اإلنسان‬
‫يعدل القول بأن اإلنسان وحيد يف العامل‪ )25».‬وهبذا يكون نيتشه قد ذهب إىل أبعد من ذلك‪ ،‬فما‬
‫ينفيه هو وجود ما هو مغاير‪ ،‬يف أي شكل كان‪.‬‬
‫إذن فقتل اإلله ال يكفي إلجناز عملية تغيري القيم‪ ،‬وإمنا‪« :‬يطال النفي أيضا مجيع القيم‬
‫أي جممل األسباب اليت أعطاها اإلنسان لنفسه‪ ،‬ال منذ أيام املسيح فحسب‪،‬‬ ‫(‪)26‬‬
‫املسماة بالعليا‪»،‬‬
‫بل منذ أيام سقراط‪ ،‬كما يلقي عصا الطاعة‪ ،‬وبالتايل ازدواج العامل الذي جعل من الفلسفة تاريخ‬
‫خضوع اإلنسان‪.‬‬
‫لقد كان اإلعالن عن موت اإلله حلظة خطرية يف مسرية الفلسفة الغربية اليت أذنت مليالد‬
‫اإلنسان املتفوق واخلارق‪ ،‬حيث استطاع نيتشه أن ينزع الغالف األسطوري عن صورة اإلنسان‬
‫األخالقية وامليتافيزيقية اليت رمستها الفاشية من األكاذيب‪ ،‬واألضاليل‪ ،‬أكاذيب املذهب العقالين‬
‫اإلغريقي‪ ،‬وأضاليل املذهب الصويف اليهودي‪-‬املسيحي‪ ،‬اليت رمسها عن اإلنسان أسري األساطري‪،‬‬
‫(‪)27‬‬
‫الصانع ألوهام معيارية‪.‬‬
‫وهكذا ستقود صرخة نيتشه موت اإلله إىل نتيجة كانت حتمية وهي موت اإلنسان وموت‬
‫النزعة اإلنسانية‪ ،‬وهكذا ميكن القول إن نبوءة نيتشه قد حتققت‪ ،‬وذلك بتجريد الواقع من قيمته‬
‫ومع ناه‪ ،‬وحيويته عن طريق اصطناع عام مثايل شيد باألكاذيب‪ ،‬إذ مل يكن هذا اإلنسان من أقدم‬
‫املشكالت إطالقا اليت طرحت على املعرفة اإلنسانية‪ ،‬وال أكثرها دميومة‪ ،‬مبعىن موت اإلنسان‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫جملَّة أبُوليُوس‬
‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫ويثبت نيتشه أنه‪" :‬قد جرد الواقع من قيمته ومعناه وحيويته‪ ،‬عن طريق اصطناع عامل مثايل‬
‫مشي د باألكاذيب" وهبذا تكون بنود ميشال فوكو قد حتققت بقوله ليس اإلنسان أقدم املشكالت‬
‫اليت انطرحت على املعرفة اإلنسانية وال أكثرها دميومة مبعىن موت وفناء هذا اإلنسان‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫واملتأمل يف خطابات هؤالء النقاد واملفكرين يلحظ أهنم يلتفون حول نقطة مركزية واحدة‪:‬‬
‫هي اهلدم والتقويض‪ :‬مبعىن الفوضى والعدم‪ ،‬فما هو الرابط بني نقد فلسفة امليتافيزيقا عند نيتشه‬
‫‪ Fridirich Netcheiz.‬ومارتن هايدجر ‪ ،M. Heidigger‬وجاك دريدا ‪،J. Dirrida‬وكذا‬
‫اخلطاب األنتروبولوجي عند كلود ليفي ستروس ‪ ،Claude Lévi-Strauss‬الذي يلح على‬
‫هويته العلمية‪ ،‬وبني أركولوجيا املعرفة واجلينيالوجيا عند ميشال فوكو ‪،M. Foucault‬هؤالء‬
‫فرسان البنيوية اليت كانت سباقة إىل الدعوة إىل موت اإلنسان‪ ،‬كوهنا كما يقول روجيه جارودي‬
‫يف كتابه البنيوية فلسفة موت اإلنسان‪ ،‬إذ تعترب من الروافد األوىل اليت استقى منها هؤالء الفالسفة‬
‫أفكارهم‪.‬‬
‫ولذا جيب أن نعرج على البنيوية كوهنا أول من دعا إىل موت اإلنسان وإهدار دمه‪،‬على‬
‫الرغم من أن املنهج البنيوي اللساين«منهج لغوي يقارب النصوص األدبية مقاربة من الداخل‬
‫تفكيكا وتركيبا‪ ،‬ويتعامل مع النص املعطى باعتباره بنية مغلقة يف مستويات لسانية وصفية‪ ،‬هتدف‬
‫بشكل من األشكال إىل استكشاف البنيات املنطقية والقواعد العميقة‪ ،‬اليت تتحكم يف توليد‬
‫(‪)28‬‬
‫النصوص واخلطابات»‪.‬‬
‫إال أن البنيوية «هتمل السياق اخلارجي‪ ،‬وتقصي املبدع من حساباهتا وتغض الطرف عن‬
‫العوامل النفسية واالجتماعية والتارخيية‪ ،‬اليت يكون هلا دور من األدوار البارزة يف عملية اإلبداع‬
‫(‪)29‬‬
‫والتأثري‪ ،‬ومن هنا تقتل البنيوية اإلنسان‪ ،‬وهتمش التاريخ وتتعاىل عن الواقع‪».‬‬
‫فأشياع البنيوية يقدموهنا على أهنا‪« :‬ثورة كوبرنيكية جديدة يف تاريخ العلم املعاصر‬
‫(‪)30‬‬
‫ويعتربون ظهورها مبثابة احلدث املعريف أكثر بروزا يف النصف الثاين من القرن العشرين‪».‬‬

‫‪140‬‬
‫جملَّة أبُوليُوس‬
‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫و هذا ميثل « أعظم جمهود واع وعميق يتم بذله يف هذا العصر من أجل حترير العلم من‬
‫رواسب اإلديولوجيا والفكر امليتافيزيقي اليت بقيت عالقة يف سنوات عديدة يف جمال العلوم‬
‫خاصة إذا علمنا أن البنيوية بوصفها مشروعا يف خطاب نقد احلداثة الغربية وإن‬ ‫(‪)31‬‬
‫اإلنسانية»‬
‫ولدت نتيجة لكشوفات اللسانيات احلديثة يف القرن العشرين‪ ،‬إال أن الشيء املخفي يف هذا القول‪:‬‬
‫« هو كوهنا جاءت نتيجة لكشوفات اللسانيات احلديثة يف القرن السادس عشر‪ ،‬أي بدءا من‬
‫الفلسفة التجريبية على يد لوك ‪ ،Lock‬و هيوم ‪ Hume‬مرورا إىل الفلسفة العقلية واملثالية على‬
‫يد كانط ‪ ،Kant‬وهيغل ‪ Hegel‬وديكارت ‪ ،René Descartes.‬وصوال إىل الفلسفة‬
‫(‪)32‬‬
‫الظاهرية عند نيتشه و هوسرل ‪ Husserl‬وهيدخر ‪»...Heidegger‬‬
‫إذ يرى هؤالء أن اهلاجس االبستمولوجي الذي حيرك البنيوية هو احلرص على احترام الدقة‬
‫واملوضوعية والصرامة العلمية‪ ،‬واهلدف من وراء كل هذا هو جتديد التصور التقليدي السائد عن‬
‫العامل واإلنسان‪ ،‬وكذا الطموح إىل تأسيس علوم إنسانية واجتماعية متلك من املوضوعية‬
‫واملصداقي ة ما ال يقل عن تلك اليت تتوفر يف العلوم الطبيعية‪ ،‬وال يتحقق ذلك إال من خالل توفر‬
‫شرطني أساسيني مها‪:‬‬
‫أ‪ -‬استبعاد املظاهر الواعية واملعاشة من جمال الواقع والظواهر االجتماعية واإلنسانية‪،‬‬
‫والبحث فقط عن عالقات جمردة ميكن التعبري عنها بواسطة مفاهيم دقيقة‪.‬‬
‫ب‪ -‬اإللغ اء التام لإلنسان الذي يهيمن على امليتافيزيقا الكالسيكية برمتها وعلى بدائلها‬
‫الرائجة اليوم‪ ،‬ويؤكد هؤالء األشياع على أن هذين الشرطني يتوفران يف النموذج السيميولوجي‬
‫كما تقترحه اللسانيات‪ ،‬واألنثروبولوجيا والتحليل النفسي‪ ،‬وهذا النموذج يعد مبثابة العلم املرشد‬
‫إىل الطريق الذي يسلك إىل حتقيق ذلك املطمح‪.‬‬
‫وتتسم البنيوية خبصائص ومميزات هي‪ :‬التحوالت‪ ،‬الشمولية‪ ،‬التنظيم الذايت‪.‬‬
‫أ‪ -‬الشمولية ‪ :La Totalité‬وتعين التماسك والتناسق الداخلي‪ ،‬وعلى هذا فإن اجلزء ال‬
‫قيمة له إال يف سياق الكل الذي ينتظمه‪ ،‬إن املقولة األساسية يف املنظور البنيوي‪" :‬ليس مقولة‬

‫‪141‬‬
‫جملَّة أبُوليُوس‬
‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫الكينونة‪ ،‬بل مقولة العالقة‪ ،‬واألطروحة املركزية للبنيوية هي تأكيد أسبقية العالقة على الكينونة‪،‬‬
‫وأولوية الكل على األجزاء‪ ،‬فالعنصر ال قوام له وال معىن إال بعقده للعالقات املكونة له‪ ،‬وال سبيل‬
‫(‪)33‬‬
‫إال تعريف الوحدات إال بعالقاهتا‪ ،‬فهي أشكال ال جواهر‪.‬‬
‫ب‪ -‬التحوالت ‪ :Transformations‬تفيد بأن البنية نظام من التحوالت ال يعرف‬
‫(‪)34‬‬
‫الثبات‪« ،‬فهي دائمة التحول والتغري وليست شكال جامدا‪».‬‬
‫جـ‪ -‬الضبط الذايت ‪ :Autoréglage‬وهو الذي يتكفل بوقاية البنية وحفظها حفاظا‬
‫ذاتيا‪،‬ينطلق من داخل البنية‪ ،‬ال من خارج حدودها‪ ،‬وهذا ما حيفظ للبنية بقاءها‪ ،‬وحيقق ضربا من‬
‫مبعىن أن للبنيات قوانينها اخلاصة اليت تالقي بعض العوامل اخلارجية املستقلة‬ ‫(‪)35‬‬
‫االنغالق الذايت‪،‬‬
‫عنها‪.‬‬
‫فالبنيوية ولدت ضمن املرجعية الفكرية للحداثة‪ ،‬حيث سعت إىل تفكيك األسس اليت‬
‫أقامت عليها احلداثة بناءها الشامل مؤكدة على الذات والعقل والتاريخ‪ ،‬إال أهنا مل تكن صائبة‬
‫حسب املشروع البنائي‪« ،‬حيث أهنا ال تقدم نظرة صائبة ومتكاملة‪ ،‬قادرة على تفسري كلي للعامل‬
‫والوجود جيعلها مرة أخرى بنية لإلنسان مناسبة له‪ ،‬لذا ركزت املعرفة البنيوية على الكون حقيقة‬
‫واقعة ميكن لإلنسان إدراكها ‪،‬وهكذا توجهت توجها مشوليا إدماجيا يعاجل العامل بأكمله مبا فيه‬
‫فالبنية إذا حتمل فلسفة متثل يف طبعتها الدوغمائية نقطة الوصول لفلسفة موت‬ ‫(‪)36‬‬
‫اإلنسان»‬
‫أليس هذا دليال على أن النظام الذي سيتقوض؟ وهذا ما أكده ميشيل فوكو يف قوله‬ ‫(‪)37‬‬
‫اإلنسان‪،‬‬
‫«إن اإلنسان ليس جوهرا‪،‬وأنه مل يعد املوضوع الوحيد للمعرفة اإلنسانية اجملردة ‪L’humanisme‬‬
‫‪ ،Abstrait‬اليت عرب عنها كتاب حمدثون مثل سانت اكزبري ‪ ، St. Exupery‬وكتاب معاصرون‬
‫مثل ألبري كامي ‪ ،Albert Camus‬وبياتيار دو شاردان ‪ P. de Chardin‬باعتبارها نزعة ضيقة‬
‫(‪)38‬‬
‫وناقصة ال هتتم سوى باألسوء من الناس‪.‬‬
‫وكانت لإلسهامات الفرنسية دور بارز يف إنضاج البنيوية‪ ،‬حيث عمل كلود ليفي ستروس‬
‫يف حقل االنتروبولوجيا الذي أعاد إىل األذهان‪ « :‬اخلطوات األساسية اليت أجنزها علم اللسان‬

‫‪142‬‬
‫جملَّة أبُوليُوس‬
‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫كما وضعه تريتركوي‪،‬‬ ‫(‪)39‬‬


‫‪ Linguistique‬وخاصة علم األصوات الكالمية ‪»Phonologie‬‬
‫على اعتبار أن هذه املنجزات كانت هي امللهم ألحباثه اخلاصة‪« ،‬فعلم األصوات الكالمية ينتقل من‬
‫الظاهرات اللغوية الواعية إىل دراسة بنيتها التحتية الالواعية‪ ،‬كما يرفض أن يعامل األلفاظ على أهنا‬
‫كيانات مستقلة‪ ،‬ويتخذ أساسا لتحليله العالقات بني األلفاظ‪ ،‬ويأخذ مبفهوم النسق ‪Système‬‬
‫(‪)40‬‬
‫ويرمي إىل اكتشاف قوانني عامة‪».‬‬
‫ومن هنا ميكن القول بأن ليفي ستروس يرى بأن البنية« نظام آيل له ميكانيزماته اخلاصة اليت‬
‫تعمل بطريقة رمزية ال شعورية‪ ،‬حيث قد يصح لنا القول بأن كل بنية ال بد أن تكون بنية حتتية أو‬
‫سفلية‪ ،‬ألهنا يف صميمها آلية ال شعورية‪ ،‬تكمن يف خلق العالقات املدركة‪ ،‬وتعمل عملها من وراء‬
‫الوعي املباشر لألفراد»(‪.)41‬‬
‫أما بالنسبة جليل دولوز فريى أنه « ال ميكن أن تكون مثة بنية إال بوجود لغة‪ ،‬وآية ذلك فإنه‬
‫حني احلديث عن الالشعور بوصفه بنية‪ ،‬وحني نتحدث عن بنية األجسام‪ ،‬فإننا نعين بذلك أن‬
‫لألجسام لغتها اخلاصة أال وهي لغة األعراض واألمارات»(‪.)42‬‬
‫وهلذا جيدر األمر بنا أن نقول حسب رأي هؤالء أن البنيوية يف نظرهم هي أساس العلوم‬
‫اإلنسانية‪ ،‬هذا ما أكده كلود ليفي ستروس يف مقولته املشهورة‪« :‬إما أن تكون العلوم اإلنسانية‬
‫(‪)43‬‬
‫بنيوية‪ ،‬وإما أن ال تكون علوما على اإلطالق»‬
‫هكذا توصلت األلسنية قبل سائر العلوم اإلنسانية األخرى إىل بلوغ دقة تشابه دقة العلوم‬
‫الطبيعية‪ ،‬يف بنية اللغة‪ ،‬أو حىت يف توحيد اإليديولوجيات‪ ،‬كما عمل لوي ألتوسري ‪ Luis Alto‬يف‬
‫االقتصاد املاركسي الذي أعاد قراءة كتاب رأس املال‪ ،‬وقدم نقدا ملاركس حماوال فهمه من خالل‬
‫تلك الشبكة من املفاهيم املستقاة من التحليل النفسي واأللسنية البنائية‪ ،‬دون أن يهمل دور جاك‬
‫الكان يف التحليل النفسي الذي قدم بدوره قراءة مغايرة لفرويد‪ ،‬حيث ذهب إىل القول بأن‬
‫االعتماد على علم اللغة البنائي سوف يسهم يف تقدمي وصف الالشعور بطريقة علمية‪ ،‬وتفهم‬
‫قوانينه بالدقة الالزمة‪ )44(،‬وقد استند يف كل ذلك على‪« :‬املنهج اللغوي البنيوي‪ )45(».‬أما يف جمال‬

‫‪143‬‬
‫جملَّة أبُوليُوس‬
‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫األدب فنجد الفرنسي روالن بارت ‪ L. Barthes‬الذي ينطلق يف أحباثه املبكرة من املنهج البنيوي‪،‬‬
‫الذي أطاح بقدسية الكاتب – من قناعة راسخة‪ ،‬مفادها أن« داللة النص يف الكتابة ال تنبع من‬
‫منتجه‪ ،‬بل من خالل عالقته بالقارئ‪ ،‬وهو ما مكن الكتابة من أن تعري الكاتب متاما من كل‬
‫مكانة ميتافيزيقية ليتحول إىل جمرد ساحة (مفترق طرق) تلتقي وتعيد االلتقاء فيها اللغة اليت هي‬
‫خمزون ال هنائي من حاالت التكرار واألصداء واالقتباسات‪ ،‬واإلشارات على حنو يغدو معه القارئ‬
‫(‪)46‬‬
‫حرا متاما يف أن يدخل النص يف أي اجتاه يشاء‪،‬ولذلك كان إعالنه التارخيي عن موت املؤلف»‬
‫‪،‬الذي يقول عنه بارت بأن« هذا املؤلف شخصية حديثة النشأة وهي دون شك وليدة النزعة‬
‫التجريبية اإلجنليزية والعقالنية الفرنسية واإلميان بالفرد الذي واكب حركة اإلصالح الديين إىل‬
‫‪،‬وهنا يقصد باملؤلف الذات العارفة‬ ‫(‪)47‬‬
‫قيمة الفرد أو الشخص البشري كما يفضل أن يقال»‬
‫واملتعالية اليت أقرهتا الفلسفة املثالية‪ ،‬والذات احلالة اليت نادى هبا الرومانسيون‪ ،‬وهي فكرة متتد‬
‫جذورها إىل نيتشه الذي دعا إىل موت اإلله‪ ،‬مث هايدجر يف سعيه إىل تقويض صرح الفلسفة‬
‫العقلية املثالية‪ ،‬وميشيل فوكو الذي أعلن صراحة موت اإلنسان من خالل حفرياته‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫إذا كانت فكرة موت اإلنسان تأسست يف الفلسفة الغربية‪ ،‬وتدرجت عرب األزمنة من‬
‫مفكر إىل آخر لكن الذي أرسى دعائمها وأسسها هو املفكر اليساري البارز‪ ،‬الكاتب البنيوي‬
‫التفكيكي ميشال فوكو (‪ )1984/1926‬والذي يعد حلقة الوصل بني البنيوية وما بعد البنيوية‪،‬‬
‫فالدارس لفكر ميشيل فوكو يالحظ أن فكره شهد عدة نقالت فكرية فهو بدأ بنيويا وانتهى‬
‫تفكيكيا‪ ،‬ذلك لكون بدايته الفكرية قد تأثرت أساسا باملدرسة البنيوية الفرنسية اليت هيمنت على‬
‫احلياة الثقافية الفرنسية يف اخلمسينيات وبداية الستينيات‪ ،‬وقد «حاول يف هذه الفترة ابتكار منهج‬
‫فكري خاص وهو األركولوجيا»(‪ ،)48‬وقد اهتم ميشال فوكو مبفهوم اخلطاب والسلطة والقوة‪ ،‬إذ‬
‫يرى أن اخلطابات ترتبط بقوة املؤسسات واملعارف العلمية‪ ،‬مبعىن أن املعارف يف عصر ما تشكل‬

‫‪144‬‬
‫جملَّة أبُوليُوس‬
‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫خطابا يتضمن قواعد معينة يتعارف عليها اجملتمع‪ ،‬فشكل قوته وسلطته احلقيقية‪ ،‬وبتعبري آخر فإن‬
‫لكل جمتمع قوته وسلطته‪ ،‬ويتم التعبري عن تلك السلطات باخلطاب واملعرفة‪.‬‬
‫لقد أطلق فوكو حكمه املتعلقة مبوت اإلنسان حني يقول‪« :‬ومع ذلك هناك شيء واحد‬
‫أكيد‪ ،‬وهو أن اإلنسان ليس املشكلة األقدم‪ ،‬أو األكثر ثباتا اليت طرحت على الفكر اإلنساين‪ ،‬فإذا‬
‫أخذنا فترة زمنية قصرية نسبيا وحيزا جغرافيا حمددا كما هو الشأن بالنسبة للثقافة األوروبية منذ‬
‫القرن السادس عشر‪ ،‬فإننا سنتأكد يف إطارها من أن اإلنسان اختراع حديث العهد‪ ...‬والواقع أن‬
‫من بني كل الطفرات العديدة اليت أثرت على معرفة األشياء ونظامها وعلى معرفة اهلويات‬
‫واالختالف واخلصائص‪ ،‬واملعادالت واألشياء‪ ،‬وباختصار يف مركز كل حلقات هذا التاريخ‬
‫العميق للواحد ذاته هناك طفرة واحدة ابتدأت منذ قرن ونصف القرن واليت هي اآلن يف طورها‬
‫النهائي‪ ،‬هي اليت مسحت بظهور شكل أو هيئة اإلنسان وعموما فاإلنسان ليس إال اختراعا تبني لنا‬
‫(‪)49‬‬
‫اركولوجيا فكرنا بكل سهولة تاريخ وال تاريخ وال داللة‪ ،‬ورمبا هنايته الوشيكة»‪.‬‬
‫لقد تأثر فوكو تأثرا كبريا نيتشه وبفكره‪ ،‬واعتربه واحدا من الرموز القوية يف الفكر الغريب‪،‬‬
‫وأكد على أنه األهم من بني كل الفالسفة احلداثيني‪ ،‬فقد دفع بالتساؤل القدمي حول ماهية اإلله‬
‫واإلنسان إىل أقصى درجاته‪ ،‬إذ ضخطى اإلنسان وأعلن موت اإلله وعوض اإلنسان العادي الضعيف‬
‫باإلنسان األعلى القوي الذي ميكنه أن حيطم بإرادته مجيع القيم املندثرة وجيعل لنفسه قيما تناسب‬
‫طموحه وإرادته ويف هذا اجملال يقول ديكارت‪ :‬إن إعالن موت اإلله عند نيتشه الذي أصر على‬
‫عدم جعل اإلله ضامنا له من زيغ الشيطان« وهكذا يكون نيتشه بقتله لإلله يكون قد قتل اإلنسان‬
‫أيضا‪ ...‬حيث يظهر أن موت اإلله وموت آخر إنسان يف هذا العامل مرتبطان ببعضهما»(‪.)50‬‬
‫ويرى فوكو أن اإلنسان يف القرن العشرين ميوت يف اليوم الواحد عدة مرات‪ ،‬فهو يعاين من‬
‫األنظمة السياسية الغربية والشرقية على حد سواء‪ ،‬واليت حياول كل منها أن ميرر بضاعته الفاسدة‬
‫كما يعاين اإلنسان يف ذلك الزمان من ويالت احلروب ووسائل اإلبادة‬ ‫(‪)51‬‬
‫حتت غطاء اإلنسانية‬
‫اجلماعية يف بقاع متعددة من العامل‪ ،‬ويعاين أيضا من سيطرة التكنولوجيا والتقنية والتقدم الصناعي‬

‫‪145‬‬
‫جملَّة أبُوليُوس‬
‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫اهلائل‪ ،‬خاصة وأهنا مل تكن مشروعا بريئا‪ ،‬لكوهنا تضع الشعوب الغربية أمام متام امليتافيزيقا‪،‬‬
‫واستيفاء إمكاناهتا الثاوية‪ ،‬بل إن التقنية املعاصرة حسب هايدجر مارتن‪« :‬تسوق الغرب إىل حنو‬
‫من العماية غريب ونادر وتزج به يف عدمية كوكبية ال خالص من أحابيلها‪ ،‬وضخسف به يف هاوية‬
‫ويف هذا الصدد يقول هايدجر الهجا بلسان الشعب األملاين‪« :‬إننا مشدودون‬ ‫(‪)52‬‬
‫ال عديل هلا‪».‬‬
‫بني فكي ملزمة‪ ،‬وإن شعبنا يكاد يتحمل ضغط هذه امللزمة‪ ،‬األعنف من نوعها‪ ،‬ومن جهة هاهو‬
‫الشعب يتموقع يف الوسط‪ )53(».‬لقد عايش هايدجير عن كثب احلرب الباردة‪ ،‬وعايش خالل هذه‬
‫احلرب اخلوف األورويب الذي يشبه إىل حد املس من اجلنون‪ ،‬وهذا خوفا من قيام حرب‬
‫تكنولوجية ال تبقي وال تذر‪ ،‬وكانت هذه املظاهر تقوي عند اإلنسان الغريب (األورويب) الشعور‬
‫حينئذ بأن‪ « :‬املشروع احلضاري والثقايف الغريب آيل للزوال والتشظي وأن أوروبا األنطوتارخيية‬
‫مهددة يف ماهيتها بكارثة الدمار التكنولوجي والنووي‪ )54(»،‬وهبذا يكون مصري هذا اإلنسان الفناء‬
‫والزوال بسبب هذه التقنية‪.‬‬
‫وميكن القول إن األحداث اليت عرفها العامل‪ ،‬خاصة ما بعد احلرب العاملية الثانية‪،‬واحلرب‬
‫الباردة‪ ،‬وثورة الطالب يف ماي ‪ 1968‬بفرنسا‪ ،‬كل هذه األحداث لعبت دورا بارزا يف صياغة‬
‫التشكيالت الفكرية والفلسفية‪ ،‬ومن هنا قتلت البنيوية وأشياعها اإلنسان‪ ،‬وأراقوا دمه‪ ،‬كما‬
‫كانت البنيوية تتغذى على واقع مأزوم بعدما اجتهت حدهتا إىل نسف الوجودية من جذورها‪:‬‬
‫«حني اعتربت أن اإلنسان ليس موضوعا على اإلطالق»(‪.)55‬‬
‫وعليه ومهما يكن املسوغ الذي ألجله مت اإلعالن عن موت اإلله أو موت اإلنسان‬
‫واملؤلف‪ ،‬فإن الذي ال شك فيه أن هذه الدعاوي «أوقعت اإلنسان الغريب ودفعت به إىل الوقوع‬
‫يف شراك وأحاييل الشك والعدمية‪ ،‬حيث أصبح الفكر الغريب غارقا يف وحل فوضى التفسري‪،‬‬
‫وحتول احلياة إىل عامل ال متناهي الرغبات‪ ،‬عامل املتعة والشهوة‪ ،‬حيث غاب‬ ‫(‪)56‬‬
‫وغياب املعىن‪»،‬‬
‫كل مجيل‪ ،‬وحل حمله مبدأ اللذة‪ ،‬ليفقد اإلنسان الرغبة يف احلياة ومن ذلك يعلن عن موته‬
‫وانتحاره‪ ،‬وهكذا يكشف الغرب عن وجهه احلقيقي حيث يكون اخلاسر األكرب هو اإلنسان‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫جملَّة أبُوليُوس‬
‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫الهوامـــش‬
‫‪ - )1‬عمر مهيل‪ ،‬البنيوية يف الفكر الفلسفي املعاصر‪ ،‬ديوان املطبوعات اجلامعية‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ص ‪.84‬‬
‫‪ - )2‬نفسه‪ ،‬ص ‪.84‬‬
‫‪ - )3‬عبد الوهاب جعفر‪ ،‬النبيوية بني العلم والفلسفة عند فوكو‪ ،‬دار املعرفة‪ ،1978 ،‬ص ‪143‬‬
‫‪ - )4‬حممد سامل سعد اهلل‪ ،‬األسس الفلسفية لنقد ما بعد البنيوية‪ ،‬دار احلوار سوريا‪ ،‬ط‪.250 ،2007 ،1‬‬
‫‪ - )5‬حممود بابا عمي‪ ،‬دور العامل يف عصر ما بعد احلداثة‪ :‬مقاربة يف الفعل احلضاري‪ ،‬رسالة املسجد‪ ،‬عدد‬
‫‪ ،1‬اجلزائر‪ ،1015 ،‬ص ‪.18‬‬
‫‪ - )6‬نفسه‪ :‬ص ‪.18‬‬
‫‪ - )7‬عمر مهيبل‪ ،‬البنيوية يف الفكر الفلسفي املعاصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.89‬‬
‫‪- Annie Guedez : Foucault édition universitaire, Psycho thèque, Paris, )8‬‬
‫‪1972, page 54.‬‬
‫‪ - )9‬عمر مهيبل‪ ،‬البنيوية يف الفكر الفلسفي املعاصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.88‬‬
‫‪ - )10‬نفسه‪ ،‬ص ‪.89‬‬
‫‪ - )11‬علي شريعيت‪ ،‬العودة إىل الذات‪ :‬الزهراء لإلعالم العريب‪ ،‬القاهرة‪ ،1986 ،‬ص ‪.247‬‬
‫‪ - )12‬حممود منقد اهلامشي‪ ،‬الكارثة املنتظرة‪ :‬التيارات األصولية يف الفكر املعاصر يف كتاب العنف األصويل‪،‬‬
‫نواب األرض والسماء‪ ،‬رياض الرايس للكتب‪ ،‬لندن‪ ،1995 ،‬ص ‪.260‬‬
‫‪ - )13‬منصف بوزفور‪ ،‬حديث اإلنسان يف األنتروبولوجيا والفلسفة والتحليل النفسي‪ ،‬مقامات للنشر والتوزيع‪،‬‬
‫اجلزائر‪ ،2013 ،‬ص ‪.479‬‬
‫‪ - )14‬حممد أزراح‪ ،‬مقال منشور يف جريدة الشروق اليومي‪ ،‬عدد ‪ ،4571‬اجلزائر‪ ،2014 ،‬ص ‪.23‬‬
‫‪ - )15‬روحية قارودي‪ ،‬البنيوية فلسفة موت اإلنسان‪ ،‬ترمجة جابر عصفور‪ ،‬دار الطليعة للنشر‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط ‪،1‬‬
‫‪ ،1979‬ص ‪.9‬‬
‫‪ - )16‬حممد سبيال‪ ،‬التحوالت الفكرية الكربى للحداثة‪ ،‬مساراهتا االبسيمولوجية ودالالهتا الفلسفية‪ ،‬جملة فكر‬
‫ونقد‪ ،‬املغرب‪ ،1997 ،‬ص ‪.38‬‬
‫‪ - )17‬عبد اهلل إبراهيم‪ ،‬املركزية الغربية‪ ،‬إشكالية التكوين والتمركز حول الذات‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬ط‪ ،1997 ،1‬ص ‪.58‬‬
‫‪ - )18‬منصف بوزفور‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.479‬‬

‫‪147‬‬
‫جملَّة أبُوليُوس‬
‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫‪ - )19‬مادان ساروب‪ ،‬دليل متهيدي إىل ما بعد البنيوية وما بعد احلداثة‪ ،‬ترمجة‪ :‬مخيسي بوغرارة‪ ،‬منشورات‬
‫خمرب الترمجة يف اللسانيات‪ ،‬جامعة منتوري‪ ،‬قسنطينة‪ ،2003 ،‬ص ‪18‬‬
‫‪ - )20‬فيصل عباس‪ ،‬اغتراب اإلنسان املعاصر وشقاء الوعي‪ ،‬دار املنهل اللبناين‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،2008 ،1‬ص‬
‫‪.204‬‬
‫‪ - )21‬نفسه‪ ،‬نفس الصفحة‪.204 ،‬‬
‫‪ - )22‬نفسه‪ ،‬ص ‪.204‬‬
‫‪- Michel Seres, Thanatocratie Critique n° 289, Mars 1972, page 177.)23‬‬
‫‪- François Chatelet, Chronique des Idées Perdues: Op Cit, page 122.)24‬‬
‫‪ - )25‬روجي جارودي‪ ،‬البنيوية فلسفة موت اإلنسان‪ ،‬ترمجة جورج طرابلسي‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط ‪ ،1981 ،2‬ص ‪.5‬‬
‫‪ - )26‬نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬
‫‪ - )27‬نيتشه‪ ،‬هذا اإلنسان‪ ،‬ص ‪.8‬‬
‫‪ - )28‬فادي عاصلة‪ ،‬موت اإلنسان يف فلسفة ميشال فوكو‪ ،‬مقال منشور يف الشبكة العنكبوتية‪.‬‬
‫‪ - )29‬نفسه‪.‬‬
‫‪ - )30‬عبد الرزاق الراوي‪ ،‬موت اإلنسان يف اخلطاب الفلسفي‪ ،‬هيدجر‪ ،‬ستروس‪ ،‬فوكو‪ ،‬دار الطليعة للطباعة‬
‫والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،2000 ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪ - )31‬عبد الرزاق الدواي‪ ،‬موت اإلنسان يف اخلطاب الفلسفي‪ ،‬هيدجر‪ ،‬ستروس‪ ،‬فوكو‪ ،‬دار الطليعة للطباعة‬
‫والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،2000 ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪ - )32‬عبد الغين بازة‪ ،‬املسارات االبستيمولوجية للبنيوية‪ ،‬قراءة يف األصول املعرفية‪ ،‬مقال‪ ،‬ص ‪.52‬‬
‫‪ - )33‬يوسف فغليسي‪ ،‬إشكالية املصطلح يف اخلطاب النقدي العريب اجلديد‪ ،‬الدار العربية ناشرون‪ ،‬اجلزائر‪،‬‬
‫ص ‪.121‬‬
‫‪ - )34‬روجيه غارودي‪ ،‬البنيوية فلسفة موت اإلنسان‪.‬‬
‫‪ - )35‬إبراهيم زكريا‪ ،‬مشكلة البنية‪.‬‬
‫‪ - )36‬عبد الكرمي درويش‪ ،‬فاعلية القارئ يف إنتاج النص‪ ،‬املرايا الالمتناهية‪ ،‬جملة الكرمل‪ ،‬عدد ‪،2000 ،63‬‬
‫ص ‪.153‬‬
‫‪ - )37‬روجيه جارودي‪ ،‬البنيوية فلسفة موت اإلنسان‪ ،‬مصدر سابق‪.‬‬
‫‪ - )38‬عمر مهيل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.89‬‬

‫‪148‬‬
‫جملَّة أبُوليُوس‬
‫العَدد السابع جوان ‪2017‬‬ ‫موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة ‪ :‬من نيتشة إىل فوكو‬

‫‪ - )39‬نفسه‪ ،‬ص ‪.89‬‬


‫‪ - )40‬نفسه‪ ،‬ص ‪.21‬‬
‫‪ - )41‬زكريا إبراهيم‪ ،‬مشكالت فلسفية‪ ،‬مشكلة البنية‪ ،‬مكتبة مصر‪ ،‬دون ط‪ ،‬دون تاريخ‪ ،‬ص ‪.33‬‬
‫‪ - )42‬نفسه‪ ،‬ص ‪.34‬‬
‫‪ - )43‬نفسه‪ ،‬ص ‪.37‬‬
‫‪ - )44‬صالح فظل‪ ،‬نظرية البنائية يف النقد األديب‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة‪ ،‬بغداد‪.85 ،1987 ،‬‬
‫‪- http://www.colorado.edu/english?ENGL2012/pages/lacan.htm )45‬‬
‫‪Jacqus Lacan.‬‬
‫‪ - )46‬املصطفي عمراين‪ ،‬روالت بارت من موت املؤلف إىل حرية القارئ‪ ،‬جملة البيان‪ ،‬عدد ‪ ،456‬املغرب‪،‬‬
‫‪ ،2006‬ص ‪.52‬‬
‫‪ - )47‬رامال صلدن‪ ،‬النظرية األدبية املعاصرة‪ ،‬ترمجة جابر عصفور‪ ،‬دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬ط‪ ،1991 ،1‬ص ‪.129‬‬
‫‪ - )48‬باسم علي خريسان‪ ،‬ما بعد احلداثة‪ ،‬دراسة يف املشروع الثقايف الغريب الغريب‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫‪ ،2006‬ص ‪.98‬‬
‫‪ - )49‬عمر مهيل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.89‬‬
‫‪ - )50‬نفسه‪ ،‬ص ‪.89‬‬
‫‪- La Quainzaine Littéraire, du 15 Mai, 1966, page 14.)51‬‬
‫‪- Martin Heidigger : Introduction a le Metaphisique, Trad. G Kahn )52‬‬
‫‪2ème ed, p‬‬
‫‪ - )53‬عمر مهيل‪ ،‬البنيوية يف الفكر الفلسفي املعاصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.89‬‬
‫‪ - )54‬حممد الشيكر‪ ،‬هايدجر وسؤال احلداثة‪ ،‬إفريقيا الشرق‪ ،‬املغرب‪ ،2006 ،‬ص ‪.134‬‬
‫‪ - )55‬سافروف‪ ،‬من فلسفة الوجود إىل البنيوية‪ ،‬ص ‪.168‬‬
‫‪ - )56‬عبد الغين بارة‪ ،‬املسارات االستيمولوجية للبنيوية‪ ،‬قراءة يف األصول املعرفية‪ ،‬مقال‪.‬‬

‫‪149‬‬

You might also like