Professional Documents
Culture Documents
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
امللخَّص: Resume
131
جملَّة أبُوليُوس
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
:
حرصت الفل سفة على البحث والتفكري يف قضايا هلا صلة بالوجود اإلنساين اخلاص والعام
على حد سواء ،حيث اجتهت حنو إجياد حلول وخمرجات للقضايا العالقة واخلالفية فالفلسفة إذن
هي الطريق أو املسلك الذي البد من إتباعه من أجل معرفة املشكالت اليت شغلت الفالسفة" .هذا
()1
اإلنسان الذي كان«:يسكن ويتمركز يف الطبيعة عن طريق ما يسمى بالطبيعة اجلهوية احملدودة»
اليت زود هبا أثناء والدته كما هو الشأن بالنسبة لكل الكائنات األخرى .إذن اإلنسان بوصفه ذاتا
وموضوعا لكل معرفة ممكنة مل يظهر إال يف مطلع القرن التاسع عشر ،وكان هذا حبد ذاته من
أكرب الث ورات اليت زعزعت أركان الثقافة الغربية ،وكان سبب ظهوره هو «ذلك التصدع الذي
حدث يف تنظيم املعرفة ،والذي يسر ملفكري القرن التاسع عشر مهمة تعقل اإلنسان أي اعتباره
()2
ذاتا وموضوعا عوضا عن اعتباره طبيعة بشرية فحسب».
إال أن هذه املعرفة اليت عرفها القرن التاسع عشر هي نفسها اليت "تقضي على هذا اإلنسان
وبالتايل فاملوت والفناء مها مصريه احملتوم «،ولذا تعترب هذه الفكرة (موت اإلنسان) مشكلة نشأت
يف كنف الفكر الفلسفي الغريب الذي يقوم على هدم ونقض كل املركزيات ،وألنه ليس هناك أدىن
شك يف أن هذه اإلشكالية الفكرية اليت دعا إليها الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو M.
Foulcautهي فكرة لطاملا أرقت البشرية ولعل هذه احلرية يف حد ذاهتا عامل مهم من عوامل
شحن الذهن ودفعه إىل طرح تساؤالت للكشف عن هذه املشكلة املتعلقة باإلنسان الذي يؤكد
ميشال فوكو "أن هذا الكائن مل يكن موجودا قبل هناية القرن الثامن عشر ،بل إن هذا اإلنسان قد
صنعته املعرفة اجلديدة املختلفة اللغوية االقتصادية ،البيولوجية»( ،)3فاإلنسان كونه أداة معرفية
أزاحت عن العلوم غشاء القداسة وأصبح عرضة للتحليل والتشريح ،وأصبح يوصف باجلنسية كما
يوصف بالنطق وهو املقصود يف املعىن ،أي إنسان الفالسفة ليس اإلنسان كما هو يف الواقع خاصة
إذا علمنا أن هذا اإلنسان كان يف القدمي هو مركز األشياء وجوهرها.
132
جملَّة أبُوليُوس
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
فاإلنسان يف هذا العصر مل يعد ينظر إليه كونه أقدم مشكلة يف تاريخ الفالسفة ،حيث
أصبح ال يساوي شيئا يف أحسن األحوال أما يف معظمها فاإلنسان ال وجود له أصال ،فال هو معىن
موثوق به ،وال شيء مقدس ،وال وجود لذلك اإلنسان املتعايل واملتسامي ،وال شيء سوى التعدد
واالختالف ،واللعب احلر باملدلوالت ،والداللة الالهنائية ،وتكسري الوحدة والتشرذم مبعىن كلمة
الفوضى والعدم.
لقد كانت فلسفة موت اإلنسان اليت تعد نتيجة حتمية ملوت اإلله الذي دعت القبالنية إىل
عزله واقترحت اململكة اليهودية بديال عنه ،وفلسفة عزل اإلله يف الفلسفة القبالنية هي«منطق مهم
اليت مل ()4
يف بلورة األحكام والقضايا املتعلقة مبسرية التصوف وبنتائج نظرية التكوين واخللق»
تكتمل بعد حسب الرؤية القبالنية وهذا ما استثمرته املناهج ما بعد البنيوية ال سيما يف مقوالت
وثنائية احلضور والغياب.
إن أصدق وصف ميكن أن توصف به البشرية وصفا يليق حباهلا هو احلرية والقلق اليت غلبت
عن مسات هذا العصر ،فبعد أن «عرفت قرونا من الغرور والوهم واالدعاء وجربت شىت النظريات
والفلسفات تيقنت أهنا تسري م هرولة حنو حتفها وزواهلا وفنائها ،وتستعجل عنوة دمارها وتأكدت
أن ال شيء من حماوالهتا اليائسة يستطيع اجتثاثها من براثني الشقاء واهلالك والدمار»( )5هذا املصري
احملتوم الذي حتالفت عدة مناهج وتيارات للقضاء على هذا اإلنسان ،كالبنيوية اليت أعلنت صراحة
على لسان روا دها وموت هذا الكائن ،فهل كانت البنيوية فعال هي من أهدرت دم هذا اإلنسان،
وما هي الوسائل واملسوغات اليت استعملتها لبلوغ ذلك؟ ولإلجابة على هذه التساؤالت كان
حريا الولوج إىل هذه اإلشكالية من باب اإلبستيمولوجي للوقوف على حقيقة هذه القضية
والغوص إىل جوهرها.
واهل دف من هذه الدراسة هو إبراز املكانة اليت حتتلها هذه الفكرة ضمن املشروع الفلسفي
والنقدي املعاصر ،وما أحدثته من حتول جذري على أكثر من صعيد (سياسي اقتصادي ،ثقايف
وفكري).
133
جملَّة أبُوليُوس
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
1
لقد عرفت اإلنسانية عموما والغرب خصوصا حتوالت كبرية نتيجة للتغريات الفكرية
العميقة اليت استبدلت أسس ومبادئ الوعي القدمي مببادئ وأسس جديدة قامت وال تزال تقوم
عليها احلضارة الغربية احلديثة( ،)6وقد كانت هذه التغريات الفكرية عميقة جدا ،حيث استطاعت
أن تنقل احلضارة الغربية ،ومن بعدها اإلنسانية نقلة نوعية كبرية ،وشكلت سابقة تارخيية ال مثيل
هلا ،ومل يقتصر تأثري هذه احلضارة على الغرب فحسب بل تعداه إىل العامل بأسره ،هذه احلضارة
الغربية اليت تقوم على مبدأ « املركزيات ،مركزية اإلله اليت تقوضت دعائمها وعزل فيها اإلله من
قبل القبالنية كما أسلفنا ،مث ما لبث هذا اإلله أن قتل مرة ثانية قبل مئة عام على يد الفيلسوف
األملاين فريديريك نيتشه ( Nietzsche Friedrich )1900 - 1844الذي أعلن ذات مرة بأنه
"ال ميكنه أن جيعل من اإلله ضامنا له من زيغ الشيطان»( )7كما يقول رينيه ديكارت (– 1596
René Descartes )1650وباختصار شديد فقد قتل كل من اإلله واإلنسان معا ،يقول
ميشيل فوكو الذي كان متأثرا بأفكار نيتشه« :يف أيامنا هذه ،ال يزال نيتشه ميثل من بعيد نقطة
االنعطاف يف فكرنا ،فقد أكد ليس على موت اإلله فحسب ،بل على هناية اإلنسان أو موت
اإلنسان أيضا ...حيث يظهر أن موت اإلله هو موت آخر إنسان يف هذا العامل مرتبطان
ببعضهما»( )8فاملعرفة اليت ظهر هبا اإلنسان خالل القرن التاسع عشر هي اليت ستقضي عليه ،فهو
كلما تفرق يف العلوم فقد قيمته وهويته ،وبالتايل فاملوت والفناء مها مصريه احملتوم ،فاإلنسان
املعاصر على وشك اإلحماء والضمور ،وعلى وشك املوت إن مل يكن قد مات فعال« ،ذلك أن
اجملتمع املعاصر قوض دعائم اإلنسان مبتطلباته القاسية اليت جتعله خاضعا هلا ،إذ ميوت هذا اإلنسان
يف اليوم مرات عديدة ،إىل جانب هذه املتطلبات هناك مؤسسة قوية قد ظهرت يف اجملتمع املعاصر
فإذا كانت اللغة تلح على الظهور كوحدة تعذر علينا كينونتها كلما الحت يف ()9
وهي اللغة»
األفق ،وهذا دليل كاف على تقويض دعائم النظام بأكمله ،والذي ينجر عنه تقويض اإلنسان
()10
الذي سيؤول ال حمالة إىل الفناء والزوال كلما الحت اللغة يف األفق وجتمعت.
134
جملَّة أبُوليُوس
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
لقد ولد الفكر الغريب يف عصر الشكل الكامل ،الذي يسعى إىل هدم كل املركزيات بداية
مبركزية اإلله وصوال إىل مركزية اإلنسان ،فأصبح اإلنسان ال يساوي شيئا يف أحسن األحوال أما
يف معظمها فاإلنسان ال وجود له أصال.
إال أن بشائر عصر النهضة ظهرت يف القرن اخلامس عشر ميالدي حمملة بدعوات حبث
وإحياء ،جنمت عنه عدة عوامل سياسية ،اقتصادية وفكرية شرعت يف زعزعة اإلقطاع الذي تعود
إليه دفة قيادة االقتصاد يف اجملتمع الزراعي ،حيث وجدت الكنيسة يف هذا اإلقطاع خري سند هلا،
ومن هذا التحالف الذي نشأ بني الكنيسة واإلقطاع أخذ اجملتمع دوره يف احلياة ،إذ يستند أساسا
إىل إلغاء اإلنسان ،وجعله موضوعا من املوضوعات ،أو شيئا من األشياء ،اليت كان ميثلها ذلك
وكانت الكنيسة تعتمد على اإلقطاع يف جانبه املادي لتلعب دورا بارزا يف ()11
التحالف.
الصراعات السياسية واالجتماعية ضد األمراء وامللوك ،واإلقطاع كان يعتمد على الكنيسة يف
جانبها الروحي إلخضاع الفالحني لنمط اقتصادي خلدمة مصاحل الكنيسة ،وبذلك أصبح اإلنسان
يعيش يف عامل ال ميلك فيه أي شيء ،وال يعرف من هو ،وما هو دوره يف هذه احلياة؟ والعقل مل
يسمح له بالتعبري ما دام اإلرهاب الذي متارسه الكنيسة حتت دعوة محاية العقل من الزندقة
واالحنراف ،كما أن العلم كان حكرا على رجال الدين ومفسريه الذين جعلوا من الالهوت علما
للعلوم( )12وكانت الطبقة االرستقراطية حتتكر كل شيء مادامت هي الذات واآلخر هو املوضوع،
أو هو السيد واآلخر هو العبد ،فكانت العالقة بني السيد والعبد هي األساس االجتماعي الذي
يتحكم يف اآلخرين،دون حراك اجتماعي.
إال أنه ومع ظهور جيل جديد من املفكرين واملثقفني حتت زعامة األملاين مارتن لوثر
، Martin L.الذي شن هجوما على الكنيسة الكاثوليكية بوصفها مؤسسة سلطوية دينية
وسياسية ،هذه الفترة اليت كانت حقيقة بداية لقهر اإلنسان والفكر من قبل الكنيسة ،اليت كانت
تصادر كل ما يتصل بالتفكري العلمي جاعلة من األساطري واخلرافات أساس التفكري واملصدر الذي
جيب اتباعه يف تفسري احلقائق ،ومن بني أولئك الذين سامهوا يف رسم مالمح هذه الفترة كوبرنيك
135
جملَّة أبُوليُوس
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
136
جملَّة أبُوليُوس
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
الداخلية للجزئيات املكونة للمادة ،وأبعد الفرضيات والتعميمات ،ومن هنا يثبت أن اإلنسان خادم
للطبيعة ومفسر هلا وخاضع لنظامها ،وخدمة اإلنسان للطبيعة يكون متهيدا للمنظور البنيوي:
« الذي جعل اإلنسان حبيس النسق اللغوي بالرغم من أن اإلنسان سيد على الطبيعة ال خادم هلا
وهذا ما يعترب أول إعالن ملوت اإلنسان الذي ظهر واضحا مع ()17
باملنظور العلمي التجرييب»
نيتشه ،عندما أعلن موت اإلله ومع فوكو وبارت اللذين أعلنا موت اإلنسان وموت املؤلف.
حدثت يف جمال البيولوجيا مع تشارلز داروين Charles 2
Darwinيف كتابه أصل األنواع ،حيث وصف اإلنسان بالقردية ،وأرجعه إىل أصول حيوانية،
وهبذا تكون الداروينية األساس الثاين يف تقويض مركزية اإلنسان ،حيث أثبتت انتماءه إىل عامل
احليوان ،عامل حيكمه الصراع من أجل البقاء (البقاء لألقوى ،قانون الغاب).
:تلقى اإلنسان صفعة أخرى مست كربياءه ،وكان ذلك على يد 3
سيجموند فرويد بعد اكتشافه لالشعور ،أي يف جمال علم النفس ،وهذا يعترب ثالث إذالل حلق
بالبشرية ،بعد إذالل علم الفلك ،والبيولوجيا (علم األحياء) ،حيث أعطت النظرية النفسية صورة
عن اإلنسان أصبحت نفسه حمبوكة خبيوط قوة أو بأوتار صادرة عن مناطق بعيدة،وأزمنة سحيقة،
أو مضمورة على حنو ال يقع حتت سيطرتنا ومهيئة يف كل حلظة وآن لالحنالل.
2
هذا االكتشاف يف جمال احلياة النفسية هو «تأكيد على جربية احلياة النفسية ،يف العقل
والوعي واإلرادة احلرة»( ،)18إذ مل تعد حتدد أ مهية اإلنسان ال يف كونه عاقال ،وال يف كونه ذاتا
قاصدة وواعية متحكمة يف نفسها ويف مواضيعها اخلارجية باملعىن الديكاريت« :أنا أفكر إذا أنا
ولكن بوصفه كائنا حيا له حاجياته ورغباته املرتبطة به بدافع الغريزة واحلاجيات ()19
موجود»،
اجلسدية ،حيث يكون هذا السلوك اإلنساين يرتبط بدوائر الالوعي أكثر من الوعي ،وبالالشعور
أكثر من الشعور ،وبالالعقل أكثر من العقل.
137
جملَّة أبُوليُوس
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
أما املاركسية فقد قوضت فكرة الفردية واالستقاللية الذاتية ،اليت أكدت عليها كل من
الوجودية والرومانسية ،وأكدت مقابل ذلك على قيمة البنية والطبقة والطبقات االجتماعية على
حساب الفرد والوعي واإلرادة احلرة ،ومن هنا دعا كارل ماركس K. Marxإىل« :اغتراب
ألن كارل ()20
اإلنسان عن ناتج عمله الذي يعترب يف الوقت ذاته اغترابا عن نفسه وعن ذاته»،
ماركس ينظر إىل العمل يف شكله الصحيح على أنه وسيط يستخدمه يف حتقيق ذاته وتنمية مللكاته
اإلنسانية .واالغتراب عند ماركس يعين« أن اإلنسان ال يستطيع أن حيقق ذاته كنشاط خالق يف
العامل ،بل أن العامل ،الطبيعة واآلخرين وهو نفسه ،تصبح مغتربة بالنسبة إليه إهنا تغلوه وتقف ضده
كموضوعات غريبة على الرغم أهنا تكون من خلقه )21(».لذلك فالعمل املغترب«:يفصل املوضوع
املنتج عن اإلنسان ،وكذلك يسلبه حياته النوعية ،ويبدل أفضليته على احليوان إىل انعدام متايز،
وباملثل فإن العمل املغترب بتحويله ()22
حيث إن جسده غري العضوي أي الطبيعي يسلب منه»،
لنشاط اإلنسان الذايت التلقائي إىل وسيلة ،فإنه بذلك حيول احلياة النوعية لإلنسان إىل وسيلة
للوجود املادي.
وتتمثل خطورة اغتراب العمل عند ماركس يف أن اإلنسان املغترب عن ناتج عمله هو يف
الوقت نفسه اغتراب عن الذات وعن البشر اآلخرين يف جمتمع مستلب ال تكون عالقة الناس فيما
بينهم عالقة بني أشخاص متماثلني ،بل عالقة خادم وسيد ،ومستثمر مبستثمر شخص أدىن
بشخص أمسى ،وهكذا النظام التراتيب ملختلف املهن ،فاغتراب العمل هو السلب الكامل لإلنسانية،
ونفي النفي إمنا يأيت مع إلغاء العمل املغترب.
وهكذا يربز الدور احلقيقي الذي لعبه الفالسفة الريبيون يف قتل اإلنسان (كارل
ماركس،فرويد ،فريدريك نيتشه) ،هذا األخري الذي تدين له الفلسفة احلديثة بشكل كبري ،وذلك
من خالل حتليالته اجلينيالوجية ،حيث وصفت فلسفته بالعبثية والعدمية ،والفوضوية وأصبحت مع
مرور الزمن تراثا فكريا يتجه إليه اجلميع لالحتماء به يف مواجهة العقل ،حيث يقول ميشيل سريس
« Michel Serreإن العقل قاتل لألقليات منذ والدته ،وإن اخلطاب يف املنهج هو خطاب
138
جملَّة أبُوليُوس
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
هذا الكالم إذا ما قورن مبا قاله الفالسفة اجلدد من أمثال فوكو ،ديريدا دولوز، ()23
حرب»
اليوتار ،فهو ضنني وشحيح ،حيث يقول فرنسوا شاتيليه François Jean de Chastellux
"الدعوة إىل العقل دعوة للخضوع" ،كما يقول برينارد ليفي "املثال العلمي مثال بوليسي" ويقول
()24
أيضا «لقد أثبت ميشيل فوكو أن العقل أداة استعباد".
وبناء على ذلك ،جند أن فلسفة نيتشه وجهت نقدا كبريا وعنيفا للعقل األنواري ،واملرياث
الفلسفي الغريب برمته ،ومقوالته عن املنطق والعقل واحلقيقة ،ومن مث كان اإلعالن عن موت اإلله،
وكان هذا اإلعالن مبثابة« :كشف منذ ذلك احلني عن وحدة اإلنسان ،ألن القول مبوت اإلنسان
يعدل القول بأن اإلنسان وحيد يف العامل )25».وهبذا يكون نيتشه قد ذهب إىل أبعد من ذلك ،فما
ينفيه هو وجود ما هو مغاير ،يف أي شكل كان.
إذن فقتل اإلله ال يكفي إلجناز عملية تغيري القيم ،وإمنا« :يطال النفي أيضا مجيع القيم
أي جممل األسباب اليت أعطاها اإلنسان لنفسه ،ال منذ أيام املسيح فحسب، ()26
املسماة بالعليا»،
بل منذ أيام سقراط ،كما يلقي عصا الطاعة ،وبالتايل ازدواج العامل الذي جعل من الفلسفة تاريخ
خضوع اإلنسان.
لقد كان اإلعالن عن موت اإلله حلظة خطرية يف مسرية الفلسفة الغربية اليت أذنت مليالد
اإلنسان املتفوق واخلارق ،حيث استطاع نيتشه أن ينزع الغالف األسطوري عن صورة اإلنسان
األخالقية وامليتافيزيقية اليت رمستها الفاشية من األكاذيب ،واألضاليل ،أكاذيب املذهب العقالين
اإلغريقي ،وأضاليل املذهب الصويف اليهودي-املسيحي ،اليت رمسها عن اإلنسان أسري األساطري،
()27
الصانع ألوهام معيارية.
وهكذا ستقود صرخة نيتشه موت اإلله إىل نتيجة كانت حتمية وهي موت اإلنسان وموت
النزعة اإلنسانية ،وهكذا ميكن القول إن نبوءة نيتشه قد حتققت ،وذلك بتجريد الواقع من قيمته
ومع ناه ،وحيويته عن طريق اصطناع عام مثايل شيد باألكاذيب ،إذ مل يكن هذا اإلنسان من أقدم
املشكالت إطالقا اليت طرحت على املعرفة اإلنسانية ،وال أكثرها دميومة ،مبعىن موت اإلنسان.
139
جملَّة أبُوليُوس
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
ويثبت نيتشه أنه" :قد جرد الواقع من قيمته ومعناه وحيويته ،عن طريق اصطناع عامل مثايل
مشي د باألكاذيب" وهبذا تكون بنود ميشال فوكو قد حتققت بقوله ليس اإلنسان أقدم املشكالت
اليت انطرحت على املعرفة اإلنسانية وال أكثرها دميومة مبعىن موت وفناء هذا اإلنسان.
3
واملتأمل يف خطابات هؤالء النقاد واملفكرين يلحظ أهنم يلتفون حول نقطة مركزية واحدة:
هي اهلدم والتقويض :مبعىن الفوضى والعدم ،فما هو الرابط بني نقد فلسفة امليتافيزيقا عند نيتشه
Fridirich Netcheiz.ومارتن هايدجر ،M. Heidiggerوجاك دريدا ،J. Dirridaوكذا
اخلطاب األنتروبولوجي عند كلود ليفي ستروس ،Claude Lévi-Straussالذي يلح على
هويته العلمية ،وبني أركولوجيا املعرفة واجلينيالوجيا عند ميشال فوكو ،M. Foucaultهؤالء
فرسان البنيوية اليت كانت سباقة إىل الدعوة إىل موت اإلنسان ،كوهنا كما يقول روجيه جارودي
يف كتابه البنيوية فلسفة موت اإلنسان ،إذ تعترب من الروافد األوىل اليت استقى منها هؤالء الفالسفة
أفكارهم.
ولذا جيب أن نعرج على البنيوية كوهنا أول من دعا إىل موت اإلنسان وإهدار دمه،على
الرغم من أن املنهج البنيوي اللساين«منهج لغوي يقارب النصوص األدبية مقاربة من الداخل
تفكيكا وتركيبا ،ويتعامل مع النص املعطى باعتباره بنية مغلقة يف مستويات لسانية وصفية ،هتدف
بشكل من األشكال إىل استكشاف البنيات املنطقية والقواعد العميقة ،اليت تتحكم يف توليد
()28
النصوص واخلطابات».
إال أن البنيوية «هتمل السياق اخلارجي ،وتقصي املبدع من حساباهتا وتغض الطرف عن
العوامل النفسية واالجتماعية والتارخيية ،اليت يكون هلا دور من األدوار البارزة يف عملية اإلبداع
()29
والتأثري ،ومن هنا تقتل البنيوية اإلنسان ،وهتمش التاريخ وتتعاىل عن الواقع».
فأشياع البنيوية يقدموهنا على أهنا« :ثورة كوبرنيكية جديدة يف تاريخ العلم املعاصر
()30
ويعتربون ظهورها مبثابة احلدث املعريف أكثر بروزا يف النصف الثاين من القرن العشرين».
140
جملَّة أبُوليُوس
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
و هذا ميثل « أعظم جمهود واع وعميق يتم بذله يف هذا العصر من أجل حترير العلم من
رواسب اإلديولوجيا والفكر امليتافيزيقي اليت بقيت عالقة يف سنوات عديدة يف جمال العلوم
خاصة إذا علمنا أن البنيوية بوصفها مشروعا يف خطاب نقد احلداثة الغربية وإن ()31
اإلنسانية»
ولدت نتيجة لكشوفات اللسانيات احلديثة يف القرن العشرين ،إال أن الشيء املخفي يف هذا القول:
« هو كوهنا جاءت نتيجة لكشوفات اللسانيات احلديثة يف القرن السادس عشر ،أي بدءا من
الفلسفة التجريبية على يد لوك ،Lockو هيوم Humeمرورا إىل الفلسفة العقلية واملثالية على
يد كانط ،Kantوهيغل Hegelوديكارت ،René Descartes.وصوال إىل الفلسفة
()32
الظاهرية عند نيتشه و هوسرل Husserlوهيدخر »...Heidegger
إذ يرى هؤالء أن اهلاجس االبستمولوجي الذي حيرك البنيوية هو احلرص على احترام الدقة
واملوضوعية والصرامة العلمية ،واهلدف من وراء كل هذا هو جتديد التصور التقليدي السائد عن
العامل واإلنسان ،وكذا الطموح إىل تأسيس علوم إنسانية واجتماعية متلك من املوضوعية
واملصداقي ة ما ال يقل عن تلك اليت تتوفر يف العلوم الطبيعية ،وال يتحقق ذلك إال من خالل توفر
شرطني أساسيني مها:
أ -استبعاد املظاهر الواعية واملعاشة من جمال الواقع والظواهر االجتماعية واإلنسانية،
والبحث فقط عن عالقات جمردة ميكن التعبري عنها بواسطة مفاهيم دقيقة.
ب -اإللغ اء التام لإلنسان الذي يهيمن على امليتافيزيقا الكالسيكية برمتها وعلى بدائلها
الرائجة اليوم ،ويؤكد هؤالء األشياع على أن هذين الشرطني يتوفران يف النموذج السيميولوجي
كما تقترحه اللسانيات ،واألنثروبولوجيا والتحليل النفسي ،وهذا النموذج يعد مبثابة العلم املرشد
إىل الطريق الذي يسلك إىل حتقيق ذلك املطمح.
وتتسم البنيوية خبصائص ومميزات هي :التحوالت ،الشمولية ،التنظيم الذايت.
أ -الشمولية :La Totalitéوتعين التماسك والتناسق الداخلي ،وعلى هذا فإن اجلزء ال
قيمة له إال يف سياق الكل الذي ينتظمه ،إن املقولة األساسية يف املنظور البنيوي" :ليس مقولة
141
جملَّة أبُوليُوس
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
الكينونة ،بل مقولة العالقة ،واألطروحة املركزية للبنيوية هي تأكيد أسبقية العالقة على الكينونة،
وأولوية الكل على األجزاء ،فالعنصر ال قوام له وال معىن إال بعقده للعالقات املكونة له ،وال سبيل
()33
إال تعريف الوحدات إال بعالقاهتا ،فهي أشكال ال جواهر.
ب -التحوالت :Transformationsتفيد بأن البنية نظام من التحوالت ال يعرف
()34
الثبات« ،فهي دائمة التحول والتغري وليست شكال جامدا».
جـ -الضبط الذايت :Autoréglageوهو الذي يتكفل بوقاية البنية وحفظها حفاظا
ذاتيا،ينطلق من داخل البنية ،ال من خارج حدودها ،وهذا ما حيفظ للبنية بقاءها ،وحيقق ضربا من
مبعىن أن للبنيات قوانينها اخلاصة اليت تالقي بعض العوامل اخلارجية املستقلة ()35
االنغالق الذايت،
عنها.
فالبنيوية ولدت ضمن املرجعية الفكرية للحداثة ،حيث سعت إىل تفكيك األسس اليت
أقامت عليها احلداثة بناءها الشامل مؤكدة على الذات والعقل والتاريخ ،إال أهنا مل تكن صائبة
حسب املشروع البنائي« ،حيث أهنا ال تقدم نظرة صائبة ومتكاملة ،قادرة على تفسري كلي للعامل
والوجود جيعلها مرة أخرى بنية لإلنسان مناسبة له ،لذا ركزت املعرفة البنيوية على الكون حقيقة
واقعة ميكن لإلنسان إدراكها ،وهكذا توجهت توجها مشوليا إدماجيا يعاجل العامل بأكمله مبا فيه
فالبنية إذا حتمل فلسفة متثل يف طبعتها الدوغمائية نقطة الوصول لفلسفة موت ()36
اإلنسان»
أليس هذا دليال على أن النظام الذي سيتقوض؟ وهذا ما أكده ميشيل فوكو يف قوله ()37
اإلنسان،
«إن اإلنسان ليس جوهرا،وأنه مل يعد املوضوع الوحيد للمعرفة اإلنسانية اجملردة L’humanisme
،Abstraitاليت عرب عنها كتاب حمدثون مثل سانت اكزبري ، St. Exuperyوكتاب معاصرون
مثل ألبري كامي ،Albert Camusوبياتيار دو شاردان P. de Chardinباعتبارها نزعة ضيقة
()38
وناقصة ال هتتم سوى باألسوء من الناس.
وكانت لإلسهامات الفرنسية دور بارز يف إنضاج البنيوية ،حيث عمل كلود ليفي ستروس
يف حقل االنتروبولوجيا الذي أعاد إىل األذهان « :اخلطوات األساسية اليت أجنزها علم اللسان
142
جملَّة أبُوليُوس
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
143
جملَّة أبُوليُوس
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
األدب فنجد الفرنسي روالن بارت L. Barthesالذي ينطلق يف أحباثه املبكرة من املنهج البنيوي،
الذي أطاح بقدسية الكاتب – من قناعة راسخة ،مفادها أن« داللة النص يف الكتابة ال تنبع من
منتجه ،بل من خالل عالقته بالقارئ ،وهو ما مكن الكتابة من أن تعري الكاتب متاما من كل
مكانة ميتافيزيقية ليتحول إىل جمرد ساحة (مفترق طرق) تلتقي وتعيد االلتقاء فيها اللغة اليت هي
خمزون ال هنائي من حاالت التكرار واألصداء واالقتباسات ،واإلشارات على حنو يغدو معه القارئ
()46
حرا متاما يف أن يدخل النص يف أي اجتاه يشاء،ولذلك كان إعالنه التارخيي عن موت املؤلف»
،الذي يقول عنه بارت بأن« هذا املؤلف شخصية حديثة النشأة وهي دون شك وليدة النزعة
التجريبية اإلجنليزية والعقالنية الفرنسية واإلميان بالفرد الذي واكب حركة اإلصالح الديين إىل
،وهنا يقصد باملؤلف الذات العارفة ()47
قيمة الفرد أو الشخص البشري كما يفضل أن يقال»
واملتعالية اليت أقرهتا الفلسفة املثالية ،والذات احلالة اليت نادى هبا الرومانسيون ،وهي فكرة متتد
جذورها إىل نيتشه الذي دعا إىل موت اإلله ،مث هايدجر يف سعيه إىل تقويض صرح الفلسفة
العقلية املثالية ،وميشيل فوكو الذي أعلن صراحة موت اإلنسان من خالل حفرياته.
4
إذا كانت فكرة موت اإلنسان تأسست يف الفلسفة الغربية ،وتدرجت عرب األزمنة من
مفكر إىل آخر لكن الذي أرسى دعائمها وأسسها هو املفكر اليساري البارز ،الكاتب البنيوي
التفكيكي ميشال فوكو ( )1984/1926والذي يعد حلقة الوصل بني البنيوية وما بعد البنيوية،
فالدارس لفكر ميشيل فوكو يالحظ أن فكره شهد عدة نقالت فكرية فهو بدأ بنيويا وانتهى
تفكيكيا ،ذلك لكون بدايته الفكرية قد تأثرت أساسا باملدرسة البنيوية الفرنسية اليت هيمنت على
احلياة الثقافية الفرنسية يف اخلمسينيات وبداية الستينيات ،وقد «حاول يف هذه الفترة ابتكار منهج
فكري خاص وهو األركولوجيا»( ،)48وقد اهتم ميشال فوكو مبفهوم اخلطاب والسلطة والقوة ،إذ
يرى أن اخلطابات ترتبط بقوة املؤسسات واملعارف العلمية ،مبعىن أن املعارف يف عصر ما تشكل
144
جملَّة أبُوليُوس
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
خطابا يتضمن قواعد معينة يتعارف عليها اجملتمع ،فشكل قوته وسلطته احلقيقية ،وبتعبري آخر فإن
لكل جمتمع قوته وسلطته ،ويتم التعبري عن تلك السلطات باخلطاب واملعرفة.
لقد أطلق فوكو حكمه املتعلقة مبوت اإلنسان حني يقول« :ومع ذلك هناك شيء واحد
أكيد ،وهو أن اإلنسان ليس املشكلة األقدم ،أو األكثر ثباتا اليت طرحت على الفكر اإلنساين ،فإذا
أخذنا فترة زمنية قصرية نسبيا وحيزا جغرافيا حمددا كما هو الشأن بالنسبة للثقافة األوروبية منذ
القرن السادس عشر ،فإننا سنتأكد يف إطارها من أن اإلنسان اختراع حديث العهد ...والواقع أن
من بني كل الطفرات العديدة اليت أثرت على معرفة األشياء ونظامها وعلى معرفة اهلويات
واالختالف واخلصائص ،واملعادالت واألشياء ،وباختصار يف مركز كل حلقات هذا التاريخ
العميق للواحد ذاته هناك طفرة واحدة ابتدأت منذ قرن ونصف القرن واليت هي اآلن يف طورها
النهائي ،هي اليت مسحت بظهور شكل أو هيئة اإلنسان وعموما فاإلنسان ليس إال اختراعا تبني لنا
()49
اركولوجيا فكرنا بكل سهولة تاريخ وال تاريخ وال داللة ،ورمبا هنايته الوشيكة».
لقد تأثر فوكو تأثرا كبريا نيتشه وبفكره ،واعتربه واحدا من الرموز القوية يف الفكر الغريب،
وأكد على أنه األهم من بني كل الفالسفة احلداثيني ،فقد دفع بالتساؤل القدمي حول ماهية اإلله
واإلنسان إىل أقصى درجاته ،إذ ضخطى اإلنسان وأعلن موت اإلله وعوض اإلنسان العادي الضعيف
باإلنسان األعلى القوي الذي ميكنه أن حيطم بإرادته مجيع القيم املندثرة وجيعل لنفسه قيما تناسب
طموحه وإرادته ويف هذا اجملال يقول ديكارت :إن إعالن موت اإلله عند نيتشه الذي أصر على
عدم جعل اإلله ضامنا له من زيغ الشيطان« وهكذا يكون نيتشه بقتله لإلله يكون قد قتل اإلنسان
أيضا ...حيث يظهر أن موت اإلله وموت آخر إنسان يف هذا العامل مرتبطان ببعضهما»(.)50
ويرى فوكو أن اإلنسان يف القرن العشرين ميوت يف اليوم الواحد عدة مرات ،فهو يعاين من
األنظمة السياسية الغربية والشرقية على حد سواء ،واليت حياول كل منها أن ميرر بضاعته الفاسدة
كما يعاين اإلنسان يف ذلك الزمان من ويالت احلروب ووسائل اإلبادة ()51
حتت غطاء اإلنسانية
اجلماعية يف بقاع متعددة من العامل ،ويعاين أيضا من سيطرة التكنولوجيا والتقنية والتقدم الصناعي
145
جملَّة أبُوليُوس
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
اهلائل ،خاصة وأهنا مل تكن مشروعا بريئا ،لكوهنا تضع الشعوب الغربية أمام متام امليتافيزيقا،
واستيفاء إمكاناهتا الثاوية ،بل إن التقنية املعاصرة حسب هايدجر مارتن« :تسوق الغرب إىل حنو
من العماية غريب ونادر وتزج به يف عدمية كوكبية ال خالص من أحابيلها ،وضخسف به يف هاوية
ويف هذا الصدد يقول هايدجر الهجا بلسان الشعب األملاين« :إننا مشدودون ()52
ال عديل هلا».
بني فكي ملزمة ،وإن شعبنا يكاد يتحمل ضغط هذه امللزمة ،األعنف من نوعها ،ومن جهة هاهو
الشعب يتموقع يف الوسط )53(».لقد عايش هايدجير عن كثب احلرب الباردة ،وعايش خالل هذه
احلرب اخلوف األورويب الذي يشبه إىل حد املس من اجلنون ،وهذا خوفا من قيام حرب
تكنولوجية ال تبقي وال تذر ،وكانت هذه املظاهر تقوي عند اإلنسان الغريب (األورويب) الشعور
حينئذ بأن « :املشروع احلضاري والثقايف الغريب آيل للزوال والتشظي وأن أوروبا األنطوتارخيية
مهددة يف ماهيتها بكارثة الدمار التكنولوجي والنووي )54(»،وهبذا يكون مصري هذا اإلنسان الفناء
والزوال بسبب هذه التقنية.
وميكن القول إن األحداث اليت عرفها العامل ،خاصة ما بعد احلرب العاملية الثانية،واحلرب
الباردة ،وثورة الطالب يف ماي 1968بفرنسا ،كل هذه األحداث لعبت دورا بارزا يف صياغة
التشكيالت الفكرية والفلسفية ،ومن هنا قتلت البنيوية وأشياعها اإلنسان ،وأراقوا دمه ،كما
كانت البنيوية تتغذى على واقع مأزوم بعدما اجتهت حدهتا إىل نسف الوجودية من جذورها:
«حني اعتربت أن اإلنسان ليس موضوعا على اإلطالق»(.)55
وعليه ومهما يكن املسوغ الذي ألجله مت اإلعالن عن موت اإلله أو موت اإلنسان
واملؤلف ،فإن الذي ال شك فيه أن هذه الدعاوي «أوقعت اإلنسان الغريب ودفعت به إىل الوقوع
يف شراك وأحاييل الشك والعدمية ،حيث أصبح الفكر الغريب غارقا يف وحل فوضى التفسري،
وحتول احلياة إىل عامل ال متناهي الرغبات ،عامل املتعة والشهوة ،حيث غاب ()56
وغياب املعىن»،
كل مجيل ،وحل حمله مبدأ اللذة ،ليفقد اإلنسان الرغبة يف احلياة ومن ذلك يعلن عن موته
وانتحاره ،وهكذا يكشف الغرب عن وجهه احلقيقي حيث يكون اخلاسر األكرب هو اإلنسان.
146
جملَّة أبُوليُوس
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
الهوامـــش
- )1عمر مهيل ،البنيوية يف الفكر الفلسفي املعاصر ،ديوان املطبوعات اجلامعية ،اجلزائر ،ص .84
- )2نفسه ،ص .84
- )3عبد الوهاب جعفر ،النبيوية بني العلم والفلسفة عند فوكو ،دار املعرفة ،1978 ،ص 143
- )4حممد سامل سعد اهلل ،األسس الفلسفية لنقد ما بعد البنيوية ،دار احلوار سوريا ،ط.250 ،2007 ،1
- )5حممود بابا عمي ،دور العامل يف عصر ما بعد احلداثة :مقاربة يف الفعل احلضاري ،رسالة املسجد ،عدد
،1اجلزائر ،1015 ،ص .18
- )6نفسه :ص .18
- )7عمر مهيبل ،البنيوية يف الفكر الفلسفي املعاصر ،مرجع سابق ،ص .89
- Annie Guedez : Foucault édition universitaire, Psycho thèque, Paris, )8
1972, page 54.
- )9عمر مهيبل ،البنيوية يف الفكر الفلسفي املعاصر ،مرجع سابق ،ص .88
- )10نفسه ،ص .89
- )11علي شريعيت ،العودة إىل الذات :الزهراء لإلعالم العريب ،القاهرة ،1986 ،ص .247
- )12حممود منقد اهلامشي ،الكارثة املنتظرة :التيارات األصولية يف الفكر املعاصر يف كتاب العنف األصويل،
نواب األرض والسماء ،رياض الرايس للكتب ،لندن ،1995 ،ص .260
- )13منصف بوزفور ،حديث اإلنسان يف األنتروبولوجيا والفلسفة والتحليل النفسي ،مقامات للنشر والتوزيع،
اجلزائر ،2013 ،ص .479
- )14حممد أزراح ،مقال منشور يف جريدة الشروق اليومي ،عدد ،4571اجلزائر ،2014 ،ص .23
- )15روحية قارودي ،البنيوية فلسفة موت اإلنسان ،ترمجة جابر عصفور ،دار الطليعة للنشر ،لبنان ،ط ،1
،1979ص .9
- )16حممد سبيال ،التحوالت الفكرية الكربى للحداثة ،مساراهتا االبسيمولوجية ودالالهتا الفلسفية ،جملة فكر
ونقد ،املغرب ،1997 ،ص .38
- )17عبد اهلل إبراهيم ،املركزية الغربية ،إشكالية التكوين والتمركز حول الذات ،املركز الثقايف العريب ،الدار
البيضاء ،ط ،1997 ،1ص .58
- )18منصف بوزفور ،مرجع سابق ،ص .479
147
جملَّة أبُوليُوس
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
- )19مادان ساروب ،دليل متهيدي إىل ما بعد البنيوية وما بعد احلداثة ،ترمجة :مخيسي بوغرارة ،منشورات
خمرب الترمجة يف اللسانيات ،جامعة منتوري ،قسنطينة ،2003 ،ص 18
- )20فيصل عباس ،اغتراب اإلنسان املعاصر وشقاء الوعي ،دار املنهل اللبناين ،بريوت ،ط ،2008 ،1ص
.204
- )21نفسه ،نفس الصفحة.204 ،
- )22نفسه ،ص .204
- Michel Seres, Thanatocratie Critique n° 289, Mars 1972, page 177.)23
- François Chatelet, Chronique des Idées Perdues: Op Cit, page 122.)24
- )25روجي جارودي ،البنيوية فلسفة موت اإلنسان ،ترمجة جورج طرابلسي ،دار الطليعة للطباعة والنشر،
بريوت ،ط ،1981 ،2ص .5
- )26نفسه ،الصفحة نفسها.
- )27نيتشه ،هذا اإلنسان ،ص .8
- )28فادي عاصلة ،موت اإلنسان يف فلسفة ميشال فوكو ،مقال منشور يف الشبكة العنكبوتية.
- )29نفسه.
- )30عبد الرزاق الراوي ،موت اإلنسان يف اخلطاب الفلسفي ،هيدجر ،ستروس ،فوكو ،دار الطليعة للطباعة
والنشر ،بريوت ،2000 ،ص .17
- )31عبد الرزاق الدواي ،موت اإلنسان يف اخلطاب الفلسفي ،هيدجر ،ستروس ،فوكو ،دار الطليعة للطباعة
والنشر ،بريوت ،2000 ،ص .17
- )32عبد الغين بازة ،املسارات االبستيمولوجية للبنيوية ،قراءة يف األصول املعرفية ،مقال ،ص .52
- )33يوسف فغليسي ،إشكالية املصطلح يف اخلطاب النقدي العريب اجلديد ،الدار العربية ناشرون ،اجلزائر،
ص .121
- )34روجيه غارودي ،البنيوية فلسفة موت اإلنسان.
- )35إبراهيم زكريا ،مشكلة البنية.
- )36عبد الكرمي درويش ،فاعلية القارئ يف إنتاج النص ،املرايا الالمتناهية ،جملة الكرمل ،عدد ،2000 ،63
ص .153
- )37روجيه جارودي ،البنيوية فلسفة موت اإلنسان ،مصدر سابق.
- )38عمر مهيل ،مرجع سابق ،ص .89
148
جملَّة أبُوليُوس
العَدد السابع جوان 2017 موت اإلنسان يف الفلسفة الغربية احلديثة :من نيتشة إىل فوكو
149