You are on page 1of 6

‫النزعة اإلنسانية في التربية‪ :‬أنسنة التربية وتربية اإلنسان ـــ د‪.

‬علي أسعد وطفة‬


‫تعد النزعة اإلنسانية من أهم الحركات الفكرية التي تّو جت عصر النهضة وفجرت ينابيعه الفكرية واألدبية‪،‬‬
‫وقد قّد ر لها أن تجسد بأنساقها الفكرية رؤية ثورية في طبيعة اإلنسان قوامها التأكيد على الجوهر اإلنساني بما‬
‫ينطوي عليه من معاني الحرية واإلرادة والعقلنة والقدرة على تحديد المصير‪ ،‬واستطاعت أن تعّبر عن رؤية‬
‫فلسفية جديدة تنطلق من اإلنسان تستلهمه وتسعى إليه‪ ،‬فكان لها أن تشكل في عصرها ثورة فكرية شاملة أدت‬
‫إلى تصدع كبير في بنية المنظومات الفكرية التقليدية وتكويناتها السائدة في العصر الوسيط‪.‬‬
‫بدأت النزعة اإلنسانية بداية أدبية تجلت في إبداعات فكرية وفنية وأدبية غايتها النهوض بالروح الجمالية‬
‫والفنية عند اإلنسان‪ ،‬فأطلق المؤرخون على هذه الحركة تسمية "الهيومانيزم ‪ "Humanisme‬أي النزعة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬ثم أطلقوا على روادها تسمية "الهيومانيست ‪ "Les Humanistes‬أي رواد النزعة اإلنسانية‪ .‬وقد‬
‫أطلقت هذه التسمية ألن أصحاب هذه النزعة‪ ،‬وقد وجدوا في اآلداب والفنون المثال األعلى لإلنسانية‪ ،‬فآمنوا‬
‫بأهمية إعادة بناء اإلنسان في عصرهم وفقًا لهذه الروح األدبية اإلنسانية الجديدة‪.‬‬
‫فاألدب القديم يبحث في ماهية اإلنسان‪ ،‬ويحاول أن يرسم قضاياه واهتماماته ويبلوهما‪ ،‬وأن يرتفع به ويسمو‬
‫روحيًا ونفسيًا وأخالقيًا‪ .‬وكان ذلك حال اآلداب القديمة التي كانت تبعث في النفس هذه الطاقة اإلنسانية الملهمة‬
‫فتحركها في اتجاه تجسيد قيم الحق والخير والجمال والفضيلة‪ .‬فالفن واألدب كما يذهب أنصار هذا االتجاه‬
‫يسموان باإلنسان‪ ،‬وبالتالي فإن النزعة اإلنسانية تسعى إلى تحقيق هذا السمو الجمالي والروحي بحثًا في‬
‫ماهية اإلنسان واستجوابًا لمعانيه اإلنسانية‪ ،‬وسعيًا إلى تحريره‪ ،‬وإعادة االعتبار إلنسانيته المقهورة آخذة به‬
‫إلى مراتب الكمال‪.‬‬
‫وكانت إيطاليا في بداية النهضة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر مهد النهضة الفنية واألدبية‬
‫ألصحاب النزعة اإلنسانية في أوربا‪ .‬ومن أبرز رواد هذا اإلبداع اإلنساني يشار إلى ليناردو دافنتشي ومايكل‬
‫أنجلو ورافاييل وهم من أبرز رواد النهضة الفنية في إيطاليا‪.‬‬
‫ويعد األديب المشهور دانتي آليغايري (‪1321-1265‬م) رائد حركة النهضة اإلنسانية األصيلة في إيطاليا‪.‬‬
‫وهو مبدع الكوميديا التي أطلق عليها المعجبون بها "الكوميديا اإللهية"‪ .‬وتتضمن هذه الكوميديا وصفًا أدبيًا‬
‫رائعًا ألحوال العصر الذي عاش فيه‪ .‬كان دانتي هذا شغوفًا بآداب األقدمين وكان تقديره وحبه للثقافة اليونانية‬
‫يفوق الحدود والوصف‪ .‬وكانت أعمال دانتي تقع في دائرة ما يسمى بالنزعة اإلنسانية الحّقة المبكرة التي‬
‫كانت منطلقًا جديدًا للعناية باإلنسان كجوهر إنساني وإعادة النظر نقديًا في التصورات السيكوالئية الصرف‬
‫التي حرمت اإلنسان من معانيه الخالقة وجوانبه اإلنسانية المشرقة‪.‬‬
‫ويعرف األديب المشهور بترارك (‪ )1374-1304‬بأنه من أبرز دعاة هذا االتجاه اإلنساني‪ ،‬وهو من أكثر‬
‫األدباء في إيطاليا وفي أوربا حبًا لألدب الكالسيكي وعشقًا له‪ .‬وكان قد جمع مئات المخطوطات القديمة في‬
‫األدب الكالسيكي ونسخها بنفسه‪ .‬وكانت مكتبته من أنفس مكتبات الدنيا بالكتب اليونانية والمخطوطات‬
‫األصلية ألفالطون وشيشرون وغيرهم‪.‬‬
‫لقد سميت التربية الجديدة التي تتمركز حول قضايا اإلنسان عن طريق األدب واللغة والفن بالتربية اإلنسانية‪.‬‬
‫وكان اهتمام هذه التربية موجهًا إلى توظيف األدب والفن في تأكيد الفاعلية اإلنسانية‪ .‬وكانت آداب اليونان‬
‫والرومان وسيلة في تفجير هذه الطاقة اإلنسانية وتوجيهها نحو تحرير اإلنسان وتأكيد إنسانيته‪ .‬ولكن النزعة‬
‫اإلنسانية أخذت اتجاهين يتمثل األول في النزعة الشكلية الشيشرونية الضيقة‪ ،‬بينما يتمثل الثاني في النزعة‬
‫اإلنسانية الواقعية في التربية‪.‬‬
‫صورة اإلنسان في الفلسفة اإلنسانية‪:‬‬
‫تقوم الفلسفة اإلنسانية على منطلقات فلسفية تعلي من شأن اإلنسان عبر التأكيد على قيم الحرية والعقالنية‬
‫واإلبداع‪ ،‬وتعد هذه الحركة الفكرية من أكثر الحركات النقدية في أوربا في العصر الوسيط حيث استهدفت‬
‫مختلف المؤسسات والمنظومات الفكرية التقليدية التي كانت سائدة فاستطاعت عبر ذلك أن تقدم صورة جديدة‬
‫‪1‬‬
‫لإلنسان تعبر عن الطموحات الكبرى للعصر الذي ازدهرت فيه‪ .‬وال يمكننا فهم األسس الفكرية للنزعة‬
‫اإلنسانية في الفكر والثقافة والتربية مالم نقف ملّيًا عند أهم التصورات الفكرية التقليدية التي كانت سائدة في‬
‫العصر األوربي الكنسي اإلقطاعي في العصر الوسيط‪ ،‬حيث فرضت الكنيسة في حينها منظومة فكرية‬
‫أيديولوجية تعكس إلى حّد كبير طبيعة العصر بتكويناته االجتماعية الطبقية والسياسية التي تبلورت في وجود‬
‫نظام إقطاعي يقوم على تحالف عميق وشامل بين الكنيسة‪ ،‬بوصفها أهم مؤسسة فكرية أيديولوجية في العصر‬
‫الوسيط‪ ،‬وبين اإلقطاعيين واألباطرة الذين كانوا يضعون مقدرات اإلنسان والبالد تحت رحمة جشعهم‬
‫وتسلطهم الذي ال يرحم‪ .‬وقد تمثلت هذه المنظومة الفكرية األيديولوجية في ركائز أساسية ذات طابع تيولوجي‬
‫يضع اإلنسان في دائرة من السلبية المطلقة ويرى أن اإلنسان محكوم بقدر نهائي محتوم ال يمكن تغيير مساره‬
‫في رحلته عبر الكون‪ .‬تلك هي النظرة التيولوجية التي كانت سائدة في العصر الوسيط حول اإلنسان في‬
‫عالقته بالكون‪.‬‬
‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬
‫وعلى خالف هذه الرؤية التيولوجية للوجود قدمت النزعة اإلنسانية تصور فلسفي مختلف إلى حد كبير ينطلق‬
‫من أهمية اإلنسان بوصفه كائنًا غائيًا بذاته في مملكة الوجود‪ .‬فاإلنسان ليس مجرد ريشة في مهب الريح‬
‫تتقاذفها األقدار بل هو اإلنسان الفاعل تاريخيًا القادر على أن يصنع مصيره ويرسم قدره ببصيرة وعقالنية‬
‫تحكمها إرادة إنسانية بالغة القوة واالقتدار‪.‬‬
‫يعبر األديب والمفكر الفرنسي بيك دوال ميراندول (‪ )1494-1463‬عن الروح الفلسفية للنزعة اإلنسانية في‬
‫كتابه "أهلية اإلنسان" عام ‪ 1486‬والذي أحدث ضجة علمية كبيرة في عصره في هذا الكتاب ينظر ميراندول‬
‫إلى اإلنسان بوصفه قادرًا على تحديد حياته ومصيره بنفسه وهنا تكمن خصوصيته وجدارته اإلنسانية‪.‬‬
‫فاإلنسان يمكنه أن يقرر ماهيته ويحدد أبعاد كينونته اإلنسانية‪ ،‬فهو قادر عبر هذه الحرية أن ينحدر بقيمته إلى‬
‫ماهو أدنى من مستواه اإلنساني فيكون عبدًا ألهوائه وميوله البدائية‪ ،‬ويمكنه في المقابل أن يتجاوز حدود‬
‫إنسانيته الخالقة وأن يسمو بها إلى مصاف عليا تضاهي مصاف المالئكة‪.‬‬
‫وقد تعددت األعمال واألفكار المشكلة للنزعة اإلنسانية في عصر النهضة وبدأت حالة من التحول الجديد في‬
‫النظرة إلى اإلنسان بوصفه جوهرًا إنسانيًا‪ .‬وتستند هذه النظرة الجديدة إلى اإلنسان إلى التصورات التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬يشكل اإلنسان غاية إنسانية متفردة بذاتها‪ .‬فاإلنسان يجب أن يكون في هذا التصور في مركز الوجود‬
‫والعالم‪.‬‬
‫‪ -2‬يتميز اإلنسان بتفوقه النوعي حيث يتميز بقدرته على اإلبداع وامتالكه العقل والذكاء وهو فوق ذلك كله‬
‫يدرك مدى تفوقه على مختلف الكائنات الحية‪.‬‬
‫‪ -3‬اإلنسان هو سيد مصيره ومهندس وجوده وهو يمتلك القدرة على أن يحدد الغاية التي يسعى إليها في‬
‫معركة الوجود‪ .‬واإلنسان ليس محكومًا بقدر نهائي وحتمية مصيرية تفرضها قوى عليا ألن هللا سبحانه‬
‫وتعالى حمل اإلنسان مسؤولية االختيار وتحديد المصير‪.‬‬
‫لقد تغير مفهوم اإلنسان والرؤية التي كان يخضع لها في العصر الوسيط‪ ،‬فاإلنسان وفقًا لهذا التصور ال‬
‫يخضع ألية حتمية اجتماعية أو سياسية أو كنسية مهما كان نوعها وإذا كان هناك من خضوع فهو يخضع‬
‫لحتمية الحرية وقدر الذكاء اإلنساني الذي يتفرد به اإلنسان عن بقية الكائنات الحية في مملكة الطبعية‬
‫اإلنسانية‪ .‬وعلى هذا األساس فإن اإلنسان في هذه الرؤية ال يتحدد بطبيعة واحدة بل يستطيع أن يتجلى وفقًا‬
‫للحرية واإلرادة في مختلف الطبائع التي يريدها ويسعى إليها‪ .‬وهو وفقًا لهذه الصورة المبدع الذاتي لوجوده‪،‬‬
‫وبالتالي فإن الحياة الدنيا تفرض على اإلنسان أن يغير عالمه وأن يكيفه لمتطلباته واحتياجاته‪ ،‬وهذا يعني أنه‬
‫يجب عليه أن يؤنسن الطبيعة ويسمها بطابعه اإلنساني المتفرد‪.‬‬
‫وفي دائرة هذا التصور الجديد لإلنسان نجد هذا التقدير الذاتي الذي يتخذه اإلنسان إزاء وجوده اإلنساني‪.‬‬
‫فاحترام اإلنسان وتقديره لذاته يأخذ مكانة مركزية في منظومة اهتماماته‪.‬وهذا يعني أنه يجب أن يعامل معاملة‬
‫غائية مفعمة برحابة االتصال وعطاء الخير والحرية‪ .‬هذه هي الصورة الجديدة لإلنسان التي تتفرد في تعظيم‬
‫الروح اإلنسانية وال تهمل مع ذلك أهمية الجسد حيث تعيد للجسد اإلنساني اعتباره بعد مرحلة طويلة من‬
‫‪2‬‬
‫االحتقار الذي اخترق الجسد وأباله عبر ظلمات العصر الوسيط برمته‪ .‬يقول إيراسموس ""‪Erasmes‬‬
‫)‪" (1469-1536‬أحد زعماء هذا التيار"‪" :‬اإلنسان ال يولد إنسانًا بل يصير كذلك"‪ .‬وفي هذا القول تأكيد على‬
‫طبيعة اإلنسان المتفرد وقدرته على تحديد المصائر عبر الفعل التربوي المدهش‪.‬‬
‫الروح التربوية الجديدة للنزعة اإلنسانية‪:‬‬
‫لقد كانت التربية المسيحية السائدة في العصر الوسيط معادية لفطرة اإلنسان وقواه الطبيعية‪ ،‬وكانت هذه‬
‫التربية تربية صوفية تقشفية بالغت في احتقار الطبيعة اإلنسانية ومقتضيات وجودها فاختزلت اإلنسان إلى بعد‬
‫واحد وأفرغته من مضامينه اإلنسانية‪ .‬لقد أسقطت هذه التربية من اعتباراتها متطلبات الجسد والعقل والعاطفة‬
‫في تربية اإلنسان‪.‬‬
‫لقد شكلت هذه الوضعية التربوية االغترابية لإلنسان بما تنطوي عليه من قهر وازدراء واختزال لمتطلبات‬
‫اإلنسان المقدمات األساسية لتطور تربوي يدعو إلى احترام اإلنسان وإعادة االعتبار إلى جوهره اإلنساني‪،‬‬
‫وانطلق هذا التطور في تجليات إنسانية تأخذ في جوهرها الجوانب الخالقة في اإلنسان التي تتمثل في القلب‬
‫والجسد والعاطفة والوجدان‪ ،‬وتنطلق من مبدأ إحياء هذه الجوانب اإلنسانية وتلبية متطلباتها في اتجاه تحقيق‬
‫الغاية اإلنسانية من وجود اإلنسان‪ .‬لقد كان هذا اإلحياء الجديد إلنسانية اإلنسان والوقوف على متطلباته‬
‫اإلنسانية ورفض النظرة التي تختزل اإلنسان إلى بعده الواحد يشكل منطلق وغاية ما يسمى بالنزعة اإلنسانية‬
‫في الحياة والتربية‪.‬‬
‫وتتمثل النزعة اإلنسانية في التربية في إحياء فكرة التربية الحرة وفقًا للتصورات اليونانية والرومانية القديمة‪.‬‬
‫وكانت هذه الحركة اإلحيائية تمثل الرغبة الكبرى في نمط متجدد من الحياة والتربية يختلف عن معايير وقيم‬
‫التربية الترويضية السائدة في العصر الوسيط‪.‬‬
‫ولو راجعنا منظومة التصورات اإلنسانوية التي نجدها عند أيراسموس ورابليه ومونتين وغيرهم لوجدنا لديهم‬
‫خطابًا تربويًا إنسانيًا يتصف بالجدة واألصالة ولو حاولنا أن نقدم تصنيفًا ألهم األفكار الجديدة التي يستندون‬
‫إليها في منظومتهم التربوية لوجدناها مختزلة في األفكار الرئيسة التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬يؤكد الخطاب التربوي اإلنساني أهمية العودة إلى كتب القدماء وحكمتهم والسيما في المرحلتين‬
‫اإلغريقية والرومانية‪ .‬لقد شكل األدب الكالسيكي الالتيني واإلغريقي القديم مركز اهتمام اإلنسانيين وشغفهم‬
‫بال حدود‪ .‬وكان حبهم للعلوم العقلية والفلسفية وإعجابهم بها يفوق كل تصور وحدود‪.‬‬
‫‪ -2‬عملت الحركة اإلنسانية على تأكيد شخصية الطفل ومحبته واحترامه بوصفه كينونة إنسانية خيرة‬
‫وأصيلة وهي بذلك تتخذ موقفًا رافضًا من النظرة السلبية التي أحاطت بالطفولة في العصر الوسيط‪ .‬فالطفل‬
‫ليس كائنًا سلبيًا وليست الطفولة مرحلة انتقالية بل هي كينونة إنسانية قائمة بذاتها ومؤثرة في تكوين الشخصية‬
‫وبعثها في اتجاه الخلق واإلبداع‪.‬‬
‫‪ -3‬أكدت النزعة اإلنسانية على أهمية بناء الجانب العقلي النقدي وذلك على خالف ماهو سائد في ذلك‬
‫العصر حيث كان الطفل يتلقى تربية ترويضية تعتمد على االنطباعات التي تسجلها الذاكرة‪ .‬ومن أجل هذه‬
‫الغاية فإن التربية اإلنسانية كانت تركز على أهمية بناء ملكة الحكم والتفكير عند الطفل عبر منهج الحوار‬
‫النقدي المستمر بين المعلم والتلميذ‪.‬‬
‫‪ -4‬الحياة التربوية تقتضي عنصر المنافسة في اتجاه تكوين العقول واإلرادة وعلى هذا األساس فإن النزعة‬
‫اإلنسانية في التربية كانت تؤكد روح المنافسة بين األطفال والمتعلمين في سبيل الوصول إلى أعلى درجة من‬
‫درجات النضج العقلي واإلبداع الذهني عند الناشئة واألطفال‪.‬‬
‫‪ -5‬وقد يكون موقف النزعة اإلنسانية من مسألة التوازن بين الجسد والعقل والنفس أكثر القضايا أهمية‬
‫وخطورة في النظام الفكري للنزعة اإلنسانية في التربية‪ .‬لقد رفع اإلنسانيون شعار التوازن التربوي بين‬
‫النفس والعقل والجسد‪ .‬وهم بذلك كانوا يستلهمون الروح التربوية التي كانت سائدة في العهد اإلغريقي التي‬
‫نلمسها في التربية األثينية والتي تتجلى في الفكر التربوي عند سقراط وأفالطون وأرسطو‪ .‬ومن هذا المنطلق‬
‫كانت النزعة اإلنسانية تعارض الموقف التربوي الكالسيكي الذي أهمل مطالب الجسد والعقل في الطفولة‬
‫‪3‬‬
‫واإلنسان‪ .‬لقد عبر اإلنسانويون عن هاجسهم اإلنساني هذا في إعادة االعتبار لإلنسان كجوهر ال ينفصم عراه‬
‫بين الجسد والروح والعقل والنفس وهو مبدأ إنساني يؤكد مثال اإلنسان الكامل روحًا وجسدًا وعقًال‪.‬‬
‫‪ -6‬كان عصر الظالم يخيم على العقل بدياجيره الفكرية وكأن العالم قد اكتشف مرة واحدة وإلى األبد‬
‫فأسدل الستار على إمكانية العقل في االكتشاف والبحث واإلبداع!! وذلك ألن الحقائق الدينية قد وصلت إلى‬
‫غاية اإلنسانية في كشف مجاهل الطبيعة واإلنسان‪ .‬لقد اعترضت الكنيسة على محاوالت العقل في الكشف‬
‫عن العالم واإلبداع في هتك الحجب التي وضعتها الكنيسة على عيون العلماء والفقهاء من الناس فالحركة‬
‫اإلنسانية تريد أن تكتشف العالم من جديد وأن تكتشف فيه عناصر الجدة في مختلف تكويناته في الجغرافية‬
‫والتاريخ والفلك واإلنسان‪ .‬فالروح التي سادت الحركة اإلنسانية هي روح نزاعة إلى اكتشاف العالم واإلنسان‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس أطلق على عصر النهضة والسيما الحركة اإلنسانية فيه بأنه عصر اكتشاف اإلنسان حيث‬
‫بدا العقل اإلنساني يتفتق في الكشف عن مجاهل الطبيعة واإلنسان كشفًا ال ينقطع سعيه وال ينفك طموحه‪.‬‬
‫النزعة اإلنسانية الضيقة والمحدودة‬
‫إحياء اإلنسان‪ ،‬وإعادة االعتبار إلى اإلنسانية المقهورة في العصر الوسيط‪ ،‬كان جوهر الحركة اإلنسانية في‬
‫التربية‪ ،‬وقد أسس لهذه الحركة مفكرون عمالقة عرفوا بقدرتهم العبقرية الهائلة في تحريك المشاعر اإلنسانية‬
‫واحترام متطلبات القلب والعاطفة والوجدان‪.‬‬
‫ولكن النزعة اإلنسانية بأصالتها التي وجدناها عند دانتي وبترارك‪ ،‬تحولت مع الزمن إلى نزعة شكلية قوامها‬
‫مجرد االهتمام بلغات القدامى وآدابهم‪ ،‬وأصبح هدف التربية االهتمام بمظاهر اللغة واألدب عوضًا عن الحياة‪.‬‬
‫وهذا يعني أن االهتمام بدأ يتجه نحو الشكل على حساب الجوهر والمضمون‪ .‬وهذا التوجه الجديد بدأ يأخذ ما‬
‫يسمى بالتربية اإلنسانية الضيقة وقد شاع هذا النوع من التربية في مدارس أوربا من القرن السادس عشر‬
‫حتى منتصف القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫لقد أهملت التربية اإلنسانية الشكلية هذه مطالب الروح والجسد واالهتمام بقضايا اإلنسان الحيوية من جديد‪،‬‬
‫بل أصبحت تمرينًا له على الشكليات وتهيئة لحياة شكلية كانت مقبولة في ذلك الحين‪ .‬واقتصرت التربية مرة‬
‫أخرى على ممارسات مشبعة بالشكلية القاصرة على اللغة واألدب‪ .‬وحتى التذوق األدبي لم يعد أمرًا مهمًا في‬
‫هذه النزعة اإلنسانية‪ ،‬ألن األهمية انتقلت إلى الشكل‪ .‬وقد شملت هذه النزعة الجامعات كما سادت في‬
‫المدارس الثانوية‪ .‬وماكاد القرن السابع عشر يطل حتى أصبحت شكلية هذا النوع من التربية ال تقل سخافة‬
‫عن شكلية التربية المدرسية في العصور الوسطى‪ .‬وهنا يمكن القول في وصف هذه الوضعية بأن هذه التربية‬
‫لم تفعل أكثر من أنها "أنزلت سقراط عن العرش لتجلس عليه شيشرون"‪.‬‬
‫ولقد سميت هذه التربية اإلنسانية الضيقة بالشيشرونية (نسبة إلى شيشرون)‪ .‬حيث كان هدف التربية مجرد‬
‫تمكين الفرد من اإلنشاء بالالتينية إنشاء صحيحًا‪ .‬وكان شيشرون رائد هذا االتجاه في العصر الروماني‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس كانت مناهج المدرسة تقتصر على دراسة كتابات شيشرون ومقلديه وأن الحديث والكتابة‬
‫يجب أن يكونا على طريقة شيشرون وبجمله‪.‬‬
‫وهكذا أصبحت التربية اإلنسانية تقوم على استعراض األدب الكالسيكي‪ .‬وأصبحت هذه التربية تقوم على‬
‫تعليم األطفال القواعد الشكلية للغة الالتينية وبعض قواعد اليونانية وقليل من الحساب‪.‬‬
‫أما الطرائق المتبعة فكانت شكلية ال تأخذ طبيعة الطفل بعين االعتبار‪ ،‬حيث أقرت هذه الطرائق مبدأ أن الطفل‬
‫راشد صغير (وليس صغير الراشد) حيث كان يطالب بتعلم اللغات األجنبية وأن يتعلم لغته األم‪ .‬ناهيك عن أن‬
‫هذا التعليم كان تعليمًا شكليًا للنحو والبيان‪ .‬ومن جديد أصبح االستظهار والحفظ والتلقين األصم هو عماد هذه‬
‫التربية وديدنها‪ .‬وقد اعتمدت هذه التربية العقاب البدني في أكثر صوره صرامة وصلفًا‪ .‬وهذا يعني في نهاية‬
‫األمر أن النزعة اإلنسانية في التربية قد سقطت إلى مستوى التربية الوسيطية إن لم تزد عليها من حيث‬
‫إهمالها للجوانب اإلنسانية في اإلنسان بعد أن كانت ممثلة لهذا التوجه اإلنساني أي أنها انقلبت على مبادئها‬
‫األصلية وموجهاتها الفلسفية األولى التي كانت إنسانية في حقيقة األمر‪.‬‬
‫النزعة اإلنسانية الواقعية‪:‬‬
‫‪4‬‬
‫بدأت النزعة اإلنسانية الضيقة تضيق الخناق من جديد على اإلنسان في بداية عصر النهضة‪ ،‬وكان البالء‬
‫الذي جاءت به أشد ويًال وثبورًا من البالء الذي ألحقته التربية المسيحية الوسيطة باإلنسان‪ ،‬ولم تكن التربية‬
‫اإلنسانية الشكلية الضيقة أكثر من مقصلة جديدة إلنسانية اإلنسان في نهاية األمر‪ .‬لقد فقد اإلنسان من جديد‬
‫معالم إنسانيته وأسقط جوهره اإلنساني من جديد‪ .‬إنه يروض اآلن بشدة أكبر وقسوة أكثر إنه يوضع في قفص‬
‫االغتراب من جديد‪ .‬فاإلنسان لم يعد أكثر من ذاكرة ال حياة فيها إنه ذاكرة للنصوص األدبية القديمة وأريد له‬
‫أن يصبح شيشرونيًا في عصر لم يعد فيه شيشرون خطيبًا مفوهًا‪.‬‬
‫هذا الواقع االغترابي الجديد وهذه المحنة اإلنسانية وجدت في أصل البحث عن طاقة جديدة للخروج باإلنسان‬
‫من مآزقه االغترابية الجديدة‪ .‬وكان على كوكبة من المفكرين العمالقة أن يتحركوا لتفجير تصورات جديدة‬
‫تستطيع أن تحرك المياه الراكدة وأن تدفع العصر إلى رؤية جديدة وتربية أكثر جدة‪ .‬وهذه التصورات كانت‬
‫تجسد رحلة اإلنسان للبحث عن هويته اإلنسانية وقد تمثلت هذه الحركة الجديدة في أعمال عدد من الرواد‬
‫اإلنسانيين الذين عرفوا بعبقريتهم الفذة وثقافتهم الواسعة وإيمانهم المطلق باإلنسان كقيمة إنسانية‪ .‬وهؤالء‬
‫الرواد كثر وأبرزهم إيراسموس ورابليه ومونتين‪ .‬لقد أعلن هؤالء الرواد ثورتهم ضد التربية الشكلية الضيقة‬
‫وأعلنوا رفضهم المطلق لمختلف األشكال التربوية االغترابية السائدة في عصرهم وانطلقوا للتبشير بتربية‬
‫إنسانية جديدة أقل ما يقال عنها بأنها كانت تبحث عن القيمة الجوهرية لإلنسان وتعمل على إعادة االعتبار‬
‫للجوهر اإلنساني‪ .‬فاإلنسان ليس قيمة شكلية وال تكمن قيمته في صوغ شكلي لألدب والشعر والخطابة إنه‬
‫إنسان يتدفق بالمعاني اإلنسانية إنه إنسان يمتلك قلبًا وعواطف وميوًال إنسانية‪ ،‬إنسان يفيض قدرة على التأمل‬
‫والتفكير إنه عقل يعقل‪ ،‬إنسان يحيا بجسد ينبض حسًا وحركة وبالتالي فإن تلبية مطالب الجسد والروح والحياة‬
‫والعقل تمثل الجوهر الحقيقي إلنسانية اإلنسان‪ .‬وتلك هي الغاية التي كان يسعى إليها كل مفكر إنسانوي‬
‫أصيل‪ .‬لقد انتظمت جهود هؤالء المفكرين في البحث عن اإلنسان وتأكيد قيمته اإلنسانية‪ ،‬فحددوا السبل‬
‫والمضامين والغايات التربوية واألساليب التي تمكنهم من الوصول إلى الغاية التي تمكنهم من تحقيق التوافق‬
‫بين اإلنسان وقيمته اإلنسانية من جهة وبين اإلنسان والواقع الذي يعيش فيه من جهة ثانية‪.‬‬
‫نحو نزعة إنسانية عربية في التربية‪:‬‬
‫من ينظر اليوم إلى مؤسساتنا التربوية العربية يصاب بصدمة عنيفة لما آلت إليه من تصدع وانهيار‪ .‬وتكون‬
‫هذه الصدمة على أشدها عندما يقارن بين أوضاع التربية في العصر الوسيط الغربي الذي عرف بعصر‬
‫الظالم وبين التربية التي تسود في مختلف المؤسسات التربوية العربية القائمة اليوم‪ .‬فأوضاع التعليم لدينا‬
‫اليوم شديدة التشابه مع أوضاع التعليم والتربية في العصر الوسيط‪ .‬وهناك عوامل مشتركة بين المرحلتين‬
‫تتمثل في شكلية التعليم ونّص يته وغياب البعد اإلنساني في مختلف المظاهر التربوية في التربية األسرية كما‬
‫هو الحال في التربية المؤسساتية‪ .‬فاألجيال العربية تعيش أكثر حاالت االغتراب التربوي التي تتمثل في‬
‫إسقاط مطالب الروح والجوهر اإلنساني‪ .‬والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم ماذا تبقى من اإلنسان العربي‬
‫كجوهر إنساني‪ .‬أين هي النزعة اإلنسانية التي يمكن أن تعيد لإلنسان العربي المقهور بعضًا من إنسانيته‬
‫المهدورة؟ ألسنا اليوم بحاجة إلى وميض إنساني جديد يبدد الظالم الذي تفرضه األنظمة التربوية العربية على‬
‫القلوب والعقول؟ أسئلة وأسئلة كثيرة يمكن لنا أن نطرحها في واقعنا التربوي والثقافي في ضوء النزعة‬
‫اإلنسانية وفي ضوء غيرها من الحركات الفكرية التي دفعت العالم إلى قمم حضارية شامخة؟‬

‫مراجع المقالة‪:‬‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫‪-1‬علي وطفة‪ ،‬سعد الشريع‪ ،‬التربية تاريخ والفكر التربوي تطور ‪ ،‬في جدل الواقع والنظرية‪ ،‬مطبعة‬
‫الفيصل‪ ،‬الكويت‪.2005 .‬‬
‫‪Hubert Hannoun, Anthologie des penseurs de I'éducation, P.U.F. Paris, 1995.-2‬‬
‫‪.p82‬‬
‫‪Margolin G.C.L'humanisme en Europe au tempes de la renaissance. P.U.F.Paris, -3‬‬
‫‪5‬‬
.1981
Garin E,I'education de I'homme moderne: La pedagogie de la renaissance, 1400- -4
.1600. Fayard, Paris. 1968
Vedrin H.Les philosophies de la renaissance, PUF. Paris 1971-5

You might also like