You are on page 1of 12

‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية ( ‪)Journal of Social and Human Science Studies‬‬

‫جامعة وهران‪ /02‬المجلد ‪ 11‬ع ‪2022/ 04/ 16 / 02‬‬


‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬
‫ــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫مفهوم الجنون عند ميشال فوكو‬
‫‪foucault's concept of madness‬‬
‫مخبر الفينومينولوجيا وتطبيقاتها‪ ،‬قسم‬ ‫جلولي عبد الحكيم* ‪DJELLOULI ABDELHAKIM‬‬
‫الفلسفة‪ ،‬كلية العلوم االجتماعية‬ ‫فلسفة‬ ‫‪Abdelhakimdjellouliphilo89@gmail.com‬‬
‫واإلنسانية‪ ،‬جامعة تلمسان‪ ،‬الجزائر‬
‫قسم الفلسفة‪ ،‬كلية العلوم االجتماعية‬ ‫فلسفة‬ ‫أد‪ .‬محمد شوقي الزين ‪Mohammed Chaiuki Zine‬‬
‫واإلنسانية‪ ،‬جامعة تلمسان‪ ،‬الجزائر‬ ‫‪mczine13@gmail.com‬‬

‫‪DOI: 10.46315/ 1714-011-02-03‬‬


‫اإلرسال‪ 2021/01/13 :‬القبول‪ 2021/04/24 :‬النشر‪2022/04/16 :‬‬

‫ملخص‪ :‬خالصة بحثنا تتمحور حول القراءة الفلسفية الجادة التي قدمها فوكو ملوضوع الجنون في تاريخ الغرب الحديث‪ .‬لقد حاولت‬
‫صوره على أنه مرض عقلي يستوجب العالج‪ ،‬لكن فوكو يعتقد أن الجنون‬ ‫"العقالنية الحديثة "أن تختزل الجنون في معناه الطبي وأن ُت ّ‬
‫نمط من الفكر املستقل‪ ،‬وشكل من أشكال الوجود األصيل وهو ينطوي على قيم جمالية ونظرة لإلنسان والحياة والعالم‪ ،‬وهي عوالم‬
‫ّ‬ ‫رمزية مهما ّ‬
‫تطور الطب العقلي سيبقى عاجزا عن اإلملام بها‪ ،‬وقد كان للجنون حضور قوي في الفنون واآلداب واملسرح وفي املخيلة‬
‫ُ‬
‫الجمعية في عصر النهضة حتى صار يخش ى أن يزاحم العقل في مكانته ويزيحه من مشهد الحياة‪ .‬وإن كانت السرديات الكبرى للعصر‬
‫الحديث قد أرخت لتاريخ سيادة العقل‪ ،‬فإن كتابة تاريخ الجنون هو املسار الذي أدرك فيه العقل الغربي وجهه القبيح وتعرف على‬
‫عدميته التي طاملا غفل عنها‪.‬‬
‫كلمات مفتاحية‪ :‬الجنون‪ ،‬الالعقل؛ الجسد؛ طب األمراض العقلية؛ الخطاب؛ العقالنية‪.‬‬
‫‪Abstract: Our research summary focuses on Foucault’s serious philosophical reading of madness in Western history.‬‬
‫‪Modern rationality" tried to drop madness in its medical sense and imagine it as a mental illness that requires treatment,‬‬
‫‪but Foucault believes that madness is an autonomous model of thought and an authentic form of existence that implies‬‬
‫‪aesthetic and theoretical values for man, life and the world. It is a symbolic universe, although sophisticated mental‬‬
‫‪medicine will remain unknown, and madness has had a strong presence in the arts, literature, theatre, and the collective‬‬
‫‪imagination of the Renaissance, until one fears that the spirit will be in its place and will be dissolved from the scene of‬‬
‫‪life. Although the great story. Although the great narrative of modern times has been rooted in the history of the‬‬
‫‪sovereignty of reason, the writing of the history of madness is the way in which the Western mind has recognized its ugly‬‬
‫‪face and knows its long neglected aggression.‬‬
‫‪Key words: Madness; Dereason; Body; Psychiatry; Discourse; Rationalism.‬‬

‫*‪ -‬الباحث ال ُمرسل‪Abdelhakimdjellouliphilo89@gmail.com :‬‬


‫‪29‬‬
‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية ( ‪)Journal of Social and Human Science Studies‬‬
‫جامعة وهران‪ /02‬المجلد ‪ 11‬ع ‪2022/ 04/ 16 / 02‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫سنة ‪ 1961‬كتب "ميشال فوكو" )‪ (Michel Foucault‬كتابا مثيرا لالهتمام بعنوان‪:‬‬
‫"تاريخ الجنون في العصر الكالسيكي")‪ ،(l’histoire de folie a l’âge classique‬وقد أرخ فيه‬
‫للصراع الذي قام بين العقالنية )‪ (rationalisme‬التي سادت العصر الحديث‪ ،‬وبين القوى‬
‫التي تناقضها ويسميها "فوكو" "الالعقل" )‪ ،(déraison‬ويقصد بمفهوم "الالعقل" حصرا‬
‫تلك القوى الصاعدة والتجارب الفائقة التي زاحمت العقل وهددت وجوده‪ ،‬إما في‬
‫صورة خطابات تحتفي بالجنون كالفنون والرواية (دونكيشوت) واملسرح والكوميديا‪ ،‬وإما‬
‫متمردة على األخالق العامة ومعايير‬‫على هيئة فئات اجتماعية كان ُينظر إليها على أنها ّ‬
‫العقل‪ :‬كالسياسيين الساخطين وغريبي األطوار‪ ،‬والجانحين والعاطلين‪...‬فالغرض من‬
‫الكتاب هو تشخيص السمات القمعية واالقصائية التي اتسمت بها " العقالنية الحديثة"‬
‫ّ‬
‫سواء على مستوى االستحواذ على الخطاب وتملك الحقيقة(املعرفة)‪ ،‬أو على مستوى‬
‫ُ‬
‫املمارسات االجتماعية حيث ش ّيدت السجون واملصحات العقلية حتى يتم احتواء فئات‬
‫تعرضت لإلقصاء االجتماعي‪.‬‬
‫وكتابة تاريخ "للجنون" ليس له غاية في ذاته‪ ،‬وإنما هو "خيار منهجي" تبناه فوكو لنقد‬
‫الحداثة الغربية‪ ،‬ويتلخص منهجه في تعليق ما تقوله السرديات الكبرى التي تتغنى باألنوار‬
‫واالنتقال إلى فحص ما تقوله الوثائق املنسية املبعثرة‪ ،‬فال يمكن أن نفكك العقالنية‬
‫انطالقا من خطاباتها وإنما وجب تفكيكها انطالقا من خطابات هامشية وبالنزول إلى‬
‫األحداث املجهرية والتفاصيل التاريخية التي طواها النسيان‪ ،‬لذا فقد اعتمد فوكو على‬
‫أسلوب خاص في التوثيق (األركيولوجيا) يتيح له نبش الجوانب املعتمة واملنسية في التاريخ‬
‫مستعينا بالنصوص الهامشية واألرشيفات ومالحظات السجون وتقارير األطباء‪.‬‬
‫إذا‪ :‬ما تصور فوكو للجنون؟ وما الغاية من إثارة موضوع كهذا في عصر العقل‬
‫والعقالنية؟‬
‫‪ .1‬مصطلح الجنون من الناحية اللغوية‪:‬‬
‫"جن" أي ستر الش يء‬‫من الناحية اللغوية كلمة "جنون" في لسان العرب مشتقة من الفعل ّ‬
‫عن األنظار‪ ،‬لهذا نقول "الجنين" و"الجني" ألنهما مخفيان عن األبصار و"جنان الليل" ظالمه‬
‫وعتمته "وكل ش يء ستر عنك فقد جن عنك" (لسان العرب‪ ،‬صفحة ‪ .)92‬أما كلمة "‪ "folie‬في‬
‫الفرنسية فهي مشتقة من اللفظة الالتينية )‪ )follis‬وتعني "كرة منفوخة مملوءة بالهواء"‪ ،‬وهي‬
‫‪30‬‬
‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية ( ‪)Journal of Social and Human Science Studies‬‬
‫جامعة وهران‪ /02‬المجلد ‪ 11‬ع ‪2022/ 04/ 16 / 02‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫استعارة على انحباس قوى النفس وصراع الرغبات داخل الجسد‪(Larousse, 2005, p. ،‬‬
‫)‪،436‬‬
‫الجنون في اللسان العربي يعني "الحقيقة املتوارية الخفية" التي تخالف املحسوس (وهو‬
‫معنى ال يتعارض مع العقل) وعليه فنحن ال نلمس أي داللة "قدحية" تضفي على الجنون‬
‫معاني السلبية كما قد يتراءى للناظر‪ ،‬أما في اللساني الالتيني فهو حالة باطنية يختل فيها توازن‬
‫قوى النفس‪.‬‬
‫‪ .2‬الجنون كتجربة تاريخية وأشكال حضوره في الثقافة الغربية الحديثة‪.‬‬
‫الجنون في تاريخ الغرب الحديث كان يتحدد وفق املنظور السائد حوله في كل حقبة‪،‬‬
‫وقد رصد فوكو أربعة تحوالت تاريخية طرأت عليه في تاريخ الغرب وهي‪:‬‬
‫‪ 1.1‬في العصورالوسطى‪:‬‬
‫يذكر "فوكو" أن "الجنون" لم يكن موضوعا للمعرفة قبل القرن السابع عشر‪ ،‬ألنه‬
‫"لم يخرج عن كونه حالة مالزمة للطبيعة البشرية" )‪ ،(pensée rebelles, 2013, p. 36‬لذا‬
‫فقد كان ُينظر إليه في العصور الوسطى بنظرة أخالقية بوصفه لعنة إلهية وحضور للشر‬
‫ُ ّ‬
‫والرذيلة في العالم‪ ،‬وصورة من صور "املوت" (‪ )la mort‬والعدمية املشخصة‪ ،‬وعليه وجب‬
‫ُ‬
‫استبعاده ألنه يتنافى مع نواميس الطبيعة وبهجة الحياة‪ ،‬فقد اعتبر لزمن طويل "الحضور‬
‫املسبق للموت وشكله املهزوم" (تاريخ الجنون في العصر الكالسيكي‪ ،1961 ،‬صفحة ‪.)37‬‬
‫لكن فوكو يثني على "الجنون" ألنه في نظره منبر الحياة و"إرادة الحياة" ومن خالله‬
‫استطاعت اآلداب والفنون واملسارح أن تتحرر وأن تجعل من املوت "تفاهة كوميدية" تثير‬
‫السخرية وأن تعبر عن إرادة الحياة‪ ،‬فالجنون كما يقول هو الصوت الذي‪ " :‬يضحك‬
‫مسبقا من ضحك املوت ويتنبأ باملأتم وينزع عنه سالحه" (فوكو‪ ،1961 ،‬صفحة ‪.)37‬‬
‫‪ 2.1‬في عصرالنهضة‪:‬‬
‫في عصر النهضة تغيرت تلك النظرة األخالقية للجنون‪ ،‬وتحولت رمزيته من كونه لعنة‬
‫إلهية إلى رمزية حضور "لقوى غيبية" )‪(des forces inconnues‬و"معرفة سرية" تتجلى على‬
‫هيئة "صوت خفي لإلله أو الطبيعة" )‪ .(Evrard, 1995, p. 44‬هو صوت كان في مخيلة‬
‫املجتمع الغربي يمثل "تهديدا لقوى غيبة وهي في اآلن نفسه محل افتتان وإعجاب" ‪(Revel,‬‬
‫)‪2008, p. 34‬‬

‫‪31‬‬
‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية ( ‪)Journal of Social and Human Science Studies‬‬
‫جامعة وهران‪ /02‬المجلد ‪ 11‬ع ‪2022/ 04/ 16 / 02‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ُ‬
‫في عصر النهضة احتل الجنون املنابر في الفنون والثقافة والروايات واملسرح واحيطت‬
‫شخصية املجنون بهالة من التقديس واالجالل ممزوج بالحذر والخوف‪.‬‬
‫ّ‬
‫لقد تحول الجنون في هذه الفترة – فيما يرويه فوكو ‪ -‬إلى "فن خالق" يعبر عن‬
‫الحقيقة عن طريق الطرافة والهزل واللعب والسخرية‪ ،‬فصار "لسان حال الحكمة"‪:‬‬
‫"يتحدث للعشاق عن الحب‪ ،‬ويتحدث عن حقيقة الحياة للشباب‪ ،‬وعن رداءة واقع األشياء‬
‫إلى املغرورين بأنفسهم والوقحين والكذابين" (فوكو‪ ،1961 ،‬صفحة ‪.)35‬‬
‫إنها لحظة "حضور الجنون في العقل‪ ،‬ولحظة حلول العقل في الجنون"‪ ،‬وهذا‬
‫االندماج الغريب حسب فوكو حدث في عصر النهضة بفضل ازدهار اآلداب والفنون‬
‫وبالخصوص املسرح‪.‬‬
‫لقد تميز عصر النهضة أيضا بتسامحه مع "الجنون" وقبوله كحالة مالزمة للوجود‬
‫اإلنساني‪ :‬فكل إنسان مهما كان عاقال ومستقيما يحمل قدرا من الجنون كالطيش‬
‫والعصيان والرغبة والهذيان‪.‬‬
‫‪ 3.1‬في العصرالكالسيكي‪:‬‬
‫ّ‬
‫"عقالنية ديكارت" وامتدادها في الثقافة الغربية الحديثة مثلت لحظة حاسمة في‬
‫صنف‬‫تحويل الجنون إلى وهم‪ ،‬حيث أصبح العقل وحده هو "معيار الحقيقة"‪ ،‬فقد ّ‬
‫ّ‬
‫"ديكارت" الجنون "ضمن رحلة الشك وكل أشكال الخطأ" (فوكو‪ ،1961 ،‬صفحة ‪ )67‬ألن‬
‫ّ‬
‫تمثل الوعي ّ‬ ‫الذات التي تشك ال ّ‬ ‫ّ‬
‫التام‪.‬‬ ‫محل للجنون فيها مادامت‬
‫ّ‬
‫وسبب استبعاد الجنون بشكل كامل – في نظر فوكو‪ -‬هو تهديده لعالقة الذات‬
‫أن الخطر في القرن‬ ‫الشك الديكارتي يشهد على ّ‬ ‫ّ‬
‫بالحقيقة التي أقامها ديكارت‪ " :‬فمسار‬
‫ّ‬ ‫وأن الجنون اح ّ‬‫السابع عشر قد ال‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫تل موقعا خارج ميدان االنتماء‪ ،‬حيث تمتلك الذات‬ ‫ز‬
‫الحق في الحقيقة‪ ،‬إن هذا امليدان هو العقل ذاته في الفكر الكالسيكي" (فوكو‪،1961 ،‬‬ ‫ّ‬
‫صفحة ‪.)69‬‬
‫وبموازاة االقصاء الفلسفي ظهر اقصاء اجتماعي للمجانين ابتداء من القرن السابع‬
‫عشر‪ ،‬حيث انتشرت أماكن االعتقال والسجون وقل التسامح مع الفئات التي تشترك مع‬
‫ّ‬
‫واملتسولين واملرض ى‪.‬‬ ‫املجانين في بعض الصفات‪ :‬كغريبي األطوار والعاطلين‬
‫ّ ّ‬
‫وفتح املستشفيات بكثافة – في اعتقاد فوكو‪ -‬لم يكن له عالقة بالترقي في مشاعر‬
‫والرحمة‪ ،‬وإنما هو نتاج لصعود "النظام البرجوازي" وتغلغله في املجتمع‬ ‫االنسانية ّ‬
‫‪32‬‬
‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية ( ‪)Journal of Social and Human Science Studies‬‬
‫جامعة وهران‪ /02‬المجلد ‪ 11‬ع ‪2022/ 04/ 16 / 02‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ََ‬
‫قرن بين " الجنون" و"العطالة"‪ ،‬ففي عصر الوباء‬ ‫الغربي الحديث‪ ،‬وهو النظام الذي‬
‫(الجذام) سابقا كان ُمبرر االعتقال هو الخوف من العدوى‪ ،‬لكن في العصر الكالسيكي‬
‫صارت العطالة ُم ّبررا للعزل ألنها ملعونة أخالقيا (تتعارض مع إرادة الرب) ومرفوضة‬
‫ُ‬
‫اجتماعيا (ألنها تجلب الفوض ى والعنف وتثقل كاهل الدولة) وعليه فاملجنون نظر إليه في‬
‫العصر الكالسيكي بمنظور اقتصادي واجتماعي‪ ،‬أي أنه شخص عاطل ينتمي لفئات غير‬
‫منتجة وغيرنافعة‪ ،‬وهي فئات تهدد النظام العام وتشوه صورة املدينة‪.‬‬
‫" لقد بدأ من العصر الكالسيكي ينظر إلى املجنون‪ -‬وربما ألول مرة‪ -‬من خالل إدانة‬
‫أخالقية للعطالة‪ ،‬ومن خالل نظرة اجتماعية رهيبة وفرها عالم العمل‪ .‬لقد كان لهذا العالم‬
‫سلطة أخالقية تبيح له رفض كل الفئات االجتماعية غير النافعة" (فوكو‪ ،1961 ،‬صفحة‬
‫‪.)96‬‬
‫النظر إلى املجانين باعتبارهم "عاطلين" كان له مبررين في نظر فوكو نتاجا عن سيطرة‬
‫النظام البرجوازي‪ :‬مبرر اقتصادي وهو الحث على العمل لتحقيق منفعة وقيمة اقتصادية‬
‫ومبرر أخالقي وهو أن العمل في حد ذاته ُي ّ‬
‫عد معيارا يقاس به اندماج الفرد في األخالق العامة‬
‫وبعده عن الكسل واالحتيال والسرقة والرذيلة‪ ،‬والرابط الذي كان يجمع بين السلطة‬
‫األخالقية واالقتصادية ويزيد من هيمنة السلطة البرجوازية هو القانون‪.‬‬
‫هنا بدأت "السلطة البرجوازية" تمتد أفقيا في عالقات اجتماعية وفي املؤسسات‬
‫وتتغلغل في القوانين واألخالق العامة‪ ،‬وهو ما يفسر النظرة االقصائية لكل ما له صلة‬
‫بالجنون‪.‬‬
‫ويرجع فوكو تشديد االعتقاالت وتوظيف البوليس إلى الحاجة امللحة لليد العاملة في‬
‫مطلع القرن الثامن عشر‪ ،‬في ظل انتشار املتسولين وتفش ي البطالة وانخفاض األجور وندرة‬
‫السيولة‪.‬‬
‫ولعل غاية التيار العقالني في تحييد الجنون من الخطاب واخفائه من املظهر‬
‫االجتماعي هو "إسكات صوته" (‪ .)réduire au silence‬ونالحظ أن فوكو يكثف في كتابه من‬
‫استعمال مفهومي "الصوت"(‪ )silence‬والصمت")‪" (la voix‬صوت العقل" هو الخطاب‬
‫السائد الذي يحتكر الحقيقة‪ ،‬والذي ال يقوم إال على إصمات أو إسكات الخطابات‬
‫املغايرة‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية ( ‪)Journal of Social and Human Science Studies‬‬
‫جامعة وهران‪ /02‬المجلد ‪ 11‬ع ‪2022/ 04/ 16 / 02‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ 4.1‬تحول الجنون إلى موضوع للمعرفة (طب األمراض العقلية)‪:‬‬
‫بدأ منظور جديد ينبثق في القرن الثامن عشر‪ ،‬وهو "املنظور الطبي" ‪(le regard‬‬
‫)‪médicale‬فلم يعد الجنون لعنة إلهية كما كان في العصور الوسطى‪ ،‬وال هو شكل من‬
‫أشكال التعبير الفني وبهجة الحياة كما كان في عصر النهضة‪ ،‬وال هو فئة العاطلين في‬
‫املجتمع البرجوازي‪ ،‬إنما هو "مرض وجب عالجه" وانحراف عن الطبيعة‪ .‬يقول فوكو في‬
‫التصور يجد طريقه إلى التنظيم‪ ،‬واستقام داخل وعي‬ ‫هذا السياق‪" :‬شيئا فشيئا بدأ هذا ّ‬
‫طبي صاغ ما كان ُينظر إليه باعتباره انحرافا اجتماعيا‪ ،‬باعتباره مرضا للطبيعة‪ ،‬وهذا ما‬
‫يدفع إلى افتراض وجود ما يشبه السيرورة التكوينية التي تقود من التجربة االجتماعية إلى‬
‫املعرفة العلمية وتتطور دون توقف من الوعي الجماعي إلى العلم الوضعي" (فوكو‪،1961 ،‬‬
‫صفحة ‪.)103‬‬
‫"فالنظرة الطبية للجنون" خرجت من رحم "النظرة االجتماعية" وهي امتداد‬
‫"ملحاكمات أخالقية" لفئات خرجت عن معايير العقل فيخضم نقاش اجتماعي وقانوني‬
‫حول وضعية املجانين ومصيرهم‪ ،‬وفي هذا السياق هنالك حضور الفت للمنهج املاركس ي في‬
‫كتابات فوكو املبكرة حول الجنون‪ ،‬ألنه يرد نشأة املعارف العلمية لشروطها التاريخية‬
‫ولتراكم األحداث االجتماعية والسياسية واالقتصادية‪.‬‬
‫وقد الحظ فوكو في أرشيف الحجز واملصحات في العصر الكالسيكي أن تقارير األطباء‬
‫مشبعة باملالحظات األخالقية مثل (مشاغب‪ ،‬طاغي‪ ،‬عاص ي‪ ،‬ساخط) وهذا يعني أن املعرفة‬
‫الطبية تعاملت مع الجنون بمعايير خارجة عن املنظور الطبي‪.‬‬
‫وحتى يثبت الحمولة األخالقية للمعرفة الطبية يروي فوكو من مالحظات ّ‬
‫مدونة في‬
‫األرشيف‪ :‬قصة قس تم رميه في مصحة عقلية مع املجانين عقابا له ألنه كان معروفا‬
‫ُ‬
‫بالجشع ويقرض الناس ماال مقابل مضاعفته عند إرجاعه وقد كتب على ملفه الطبي‬
‫سج ُن ُوي َع َام ُل كما ُي َعامل املجانين)‪ ،‬وقصة أخرى لفتاة حسناء سخطت على زوج طاعن‬
‫ُ(ي َ‬
‫تم فرضه عليها كزوج بالقوة‪ ،‬ويستخلص فوكو من هذه القصة األخيرة للفتاة‬ ‫في السن ّ‬
‫ّ‬ ‫والقس أن (املستشفى ّ‬
‫والسجن) شكال فضاء واحدا في الثقافة الغربية‪ ،‬فضاء مزدوج‬
‫(للعقاب والعالج) في اآلن نفسه‪ ،‬وخلص أيضا إلى أن "الساخط" )‪ (le furieux‬وهو أقل‬
‫األشخاص معارضة للنظام لم يعد هو اآلخر مقبوال وقد ُيسجن لسخطه‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية ( ‪)Journal of Social and Human Science Studies‬‬
‫جامعة وهران‪ /02‬المجلد ‪ 11‬ع ‪2022/ 04/ 16 / 02‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫وعليه فالجنون في طب األمراض العقلية لم يكن مرضا باملعنى الطبي الدقيق للكلمة‬
‫ُ‬
‫في نظر فوكو بل اعتبر مرضا ألنه مرادف لالنحراف األخالقي وللتمرد السياس ي‪ ،‬والعالج ال‬
‫يكون طبيا بقدر ما يكون عقابا أخالقيا‪.‬‬
‫على هذا األساس ُيصنف فوكو ضمن املفكرين "املناهضين لطب األمراض العقلية"‬
‫(‪ )antipsychiatrie‬أمثال "رونالد النج" (‪ )1989-1972 Ronald Laing‬و"فرونكو بساغليا"‬
‫(‪ )1980-1924 Franco Basaglia‬و"دافيد كوبر" (‪ )1986-1931 David Cooper‬وغيرهم‪،‬‬
‫وهم في الغالب أطباء في األمراض العقلية من جنسيات مختلفة يشتركون مع فوكو في‬
‫موقف يقارب طب األمراض العقلية من زاوية اجتماعية وتاريخية ويجمعون حول اعتبار‬
‫أن "تطبيب" من اعتبروا غير أسوياء ومجانين كان مصحوبا بمحاكمات أخالقية فرضتها‬
‫معايير املجتمع والظروف االقتصادية‪ ،‬وعالج هؤالء جاء باألساس لخدمة مخطط‬
‫استراتيجي للهيمنة نسجته السلطة البرجوازية من أجل إحالل التطبيع في السلوك وإرساء‬
‫الطاعة والخضوع والقضاء على الثورة واملناهضة السياسية‪ .‬وعليه فالجنون ال ُيقرأ في‬
‫سياقه التاريخ إال بوصفه ظاهرة من "ظواهر اإلقصاء االجتماعي" )‪.(Bert, 2011, p. 28‬‬
‫وإحاطة الجنون بمعرفة طبية وتحويله إلى "مرض" كان له غايتان على األرجح وفق ما‬
‫كتبه فوكو‪ :‬أوال اخفاء صوته‪ ،‬والقضاء على عوامله الرمزية التي كان ُيحتفى بها في عصر‬
‫النهضة باعتبارها تجل للحقيقة في بعدها األنطولوجي واإلنساني‪ ،‬وثانيا تمرير أخالقيات‬
‫ُ‬
‫املجتمع البرجوازي في ثوب معرفية طبية تدعي البراءة والحياد‪ ،‬وهي في الحقيقة تضمر‬
‫اإلقصاء في صورة عالج‪" .‬فما كان ينقص الحمقى املعتقلين ‪ -‬كما يقول فوكو‪ -‬هو اسم‬
‫مرض ى عقليين" (فوكو‪ ،1961 ،‬صفحة ‪.)141‬‬
‫ويذكر فوكو أن "عصر األنوار" في القرن الثامن عشر حاول أن يحقق توافقا بين‬
‫النظرة القانونية للجنون والنظرة االجتماعية‪ ،‬وقد ُولدت "النظرة الطبية" في كنف هذين‬
‫ّ‬
‫النظرتين‪ :‬فالنظرة الطبية للمجنون باعتباره مريضا تولدت بين االقرار القانوني بقصوره‬
‫وعجزه‪ ،‬وبين االقرار االجتماعي بخطوته‪" .‬إن املرض العقلي‪ -‬كما يقول ‪ -‬الذي يتخذه‬
‫الطب موضوعا له تطور ببطء باعتباره وحدة أسطورية لذات قانونية عاجزة‪ ،‬ولإلنسان‬
‫ُ‬
‫الذي نظر إليه كمشوش على أمن الجماعة‪ .‬تم كل هذا تحت تأثير الفكر السياس ي‬
‫واألخالقي للقرن الثامن عشر " (فوكو‪ ،1961 ،‬صفحة ‪.)154‬‬

‫‪35‬‬
‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية ( ‪)Journal of Social and Human Science Studies‬‬
‫جامعة وهران‪ /02‬المجلد ‪ 11‬ع ‪2022/ 04/ 16 / 02‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ .3‬مفهوم الجنون في كتابات ميشال فوكو‪:‬‬
‫من غير املجدي أن نعرف "الجنون" )‪ (folie‬تعريفا معجميا‪ ،‬ألنه سيوقعنا فيما أراد‬
‫فوكو أن يتجنبه‪ ،‬فمصطلح الجنون مصطلح " مرتحل طرأت عليه عدة تحوالت"‬
‫)‪ (abécédaire de Michel Foucault, 2004, p. 49‬وهو غير مفصول عن التجارب‬
‫االجتماعية واألحداث التاريخية التي شكلته في تاريخ الغرب وهو ال يخلو من التعقيد‬
‫والتبعثر وتدخل في تشكيله عدة جوانب (سياسية وأخالقية وقانونية واجتماعية‪)..،‬‬
‫تتجاوزمعناه الطبي البسيط‪.‬‬
‫ولهذا السبب يعتقد فوكو أن "املعرفة الطبية" عجزت عن تقديم رؤية متماسكة‬
‫"للجنون" ألن وجوده بوصفه حاالت "االستيالب"(‪ (aliénation‬في الثقافة الغربية ال ُيقرأ إال‬
‫في خطابات "مبعثرة" ال يحكمها أي نسق معرفي أو خطاب نص ي‪ ،‬لذا وصف "فوكو" الجنون‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫في عبارة بليغة فقال عنه أنه "املعنى في حالة تشظي" )‪(Foucault, 1972, p. 181‬ومعنى‬
‫ّ‬
‫العبارة هو أنه ال يمكن قراءة الجنون إال خارج النسق والنظام العام للخطاب السائد‪،‬‬
‫وفوكو نفسه عندما أرخ للجنون اقتحم تبعثر خطاباته وتعدد مرجعياته فراح يبحث في‬
‫الطبية والقرارات ّ‬ ‫ّ‬ ‫الروايات األدبية وأثره في النصوص القانونية ّ‬
‫السياسية‬ ‫والتقارير‬
‫واملمارسات االجتماعية‪.‬‬
‫إن اإلحاطة بالجنون وتحديد جوهره مرهون بدراسته في حالة تمزقه التاريخي وكتاب‬
‫فوكو ال يقدم لنا تعريفا شامال ووجيزا للجنون‪ ،‬لكنه ‪-‬في نظرنا‪ -‬تأريخ ألشكال املمارسات‬
‫التي خضع لها‪ ،‬وداخل هذا التأريخ يمكننا أن نحدد معامله ونرصد التحوالت التي طرأت‬
‫عليه‪.‬‬
‫‪ 1.2‬الجنون بوصفه خطابات‪:‬‬
‫لقد قرأ فوكو "الجنون" من زاوية فلسفية وطرحه بوصفه منظومة الخطابات التي‬
‫كانت سائدة حوله في العصر الحديث‪ ،‬فال يمكن أن نختزله في الخطاب الطبي الذي يعتبره‬
‫مرضا عقليا‪ ،‬وإنما نحدده من خالل منظومة الخطابات وما تولد عن تالقيها‪ ،‬ونحدده أيضا‬
‫من خالل املمارسات االجتماعية التي خضها لها في عالقته باملؤسسات (حجز‪ ،‬سجن‪،‬‬
‫مصحة‪.)..‬‬
‫وقد فرق فوكو بين لحظتين أساسيتين لظهور الجنون على شكل خطاب‪:‬‬

‫‪36‬‬
‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية ( ‪)Journal of Social and Human Science Studies‬‬
‫جامعة وهران‪ /02‬المجلد ‪ 11‬ع ‪2022/ 04/ 16 / 02‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ -‬لحظة انبثاق خطاب الجنون في العوالم الرمزية‪ :‬وهي اللحظة التي عبر فيها عن نفسه‬
‫داخل الثقافة الغربية‪ ،‬إما على شكل ممارسات اجتماعية (داخل السجن واملصحات‪)..‬‬
‫وإما في صورة خطابات شعرية وأدبية ومسرحية وفنية والتي وجد فيها فرصة للتعبير عن‬
‫صوته في خطاب ساخر ومعرفة مقموعة أو نبوءات ساذجة‪.‬‬

‫‪ -‬لحظة ميالد الخطاب العلمي (العقالني)‪ :‬وهي اللحظة التي تم التعبير فيها عن‬
‫الجنون بوصفه نقيضا للعقل ومرضا يستوجب عالجه‪.‬‬
‫‪ 2.2‬الجنون في عالقته الجدلية بالعقل‪:‬‬
‫الجنون ‪ -‬كما قرأه فوكو‪ -‬له موضعان‪ :‬موضع مستقل عن الذات وخارج عنها‪ ،‬أي‬
‫أن له أنطولوجيا برانية وهي عوامله الرمزية وتجلياته كخطاب وممارسات‪ ،‬وموضع جواني‬
‫داخل الذات‪ ،‬وهو في كلتا الحالتين يزاحم العقل سواء خارج الذات أو داخلها وينافسه‬
‫في احتالل املساحات واملو اقع والسيطرة على منبرالحقيقة‪.‬‬
‫الجنون له وجود مستقل عن الذات ألنه على حسب وصف فوكو "كينونة ال‬
‫متعينة" يحضر في كل مكان (في املسرح والشعر والروايات والخطابات) دون أن يتخذ‬
‫يتلبس أحيانا "بخطاب العقل" ويعبر عن نفسه داخله‪.‬‬‫شكال صريحا ونهائيا‪ ،‬وهو ّ‬
‫وكأن ما يقصده فوكو – إذا ما استعرنا مفاهيم دوسارتو‪ -‬هو أن العقل يتميز بالطابع‬
‫االستراتيجي ألنه يحتل املركز ويستحوذ على خطاب الحقيقة‪ ،‬أما الجنون فيتصف بالحيل‬
‫التكتيكية وهو يتحين الفرصة املناسبة في لحظة خاطفة الحتالل مكان العقل ليعبر عن‬
‫نفسه على شكل نبوءات أو تعبيرات ساخرة‪ ،‬ثم يختفي ليتجول ويحتل مواقع أخرى من‬
‫الخطاب‪.‬‬
‫وللجنون أيضا وجود داخل الذات ألن طبيعتنا كبشر في نظر فوكو حاملة للجنون‪،‬‬
‫وهو "ليس فقط ما يرتبط باإلنسان من كل جانب‪ ،‬بل هو متضمن فيه" (فوكو‪،1961 ،‬‬
‫صفحة ‪ )46‬أي أن لدينا جانب جنوني نحمله داخل أنفسنا وهو جانب متجذر ال تقل‬
‫أصالته عن جانبنا العقالني‪.‬‬
‫ّ‬
‫ويستشهد فوكو بأنشطة البشر ليبين أن جانبهم الجنوني ) ‪ (super- raison‬هو الذي‬
‫ّ‬
‫صنع انجازاتهم‪ ،‬فالجنون كما يقول نجده‪ " :‬في الطموح الذي يصنع السياسيين‪ ،‬وفي البخل‬

‫‪37‬‬
‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية ( ‪)Journal of Social and Human Science Studies‬‬
‫جامعة وهران‪ /02‬المجلد ‪ 11‬ع ‪2022/ 04/ 16 / 02‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫الذي يصنع الثروة‪ ،‬وفي الفضول الصريح الذي يحرك الفالسفة والعلماء" (فوكو‪،1961 ،‬‬
‫صفحة ‪. )44‬‬
‫ُ‬
‫ومن أسرار الجنون في ما يذكره فوكو هو أنه يضمر في مسار تحققه غايات العقل‪،‬‬
‫وكأن العقل ال يكتفي بمساره الخاص وإنما يحقق نفسه داخل خطاب الجنون‪ ،‬فلوال وجود‬
‫"االفراط" ملا تحقق االتزان ولوال وجود الفوض ى ملا تحقق النظام ولوال وجود البخل ملا‬
‫تحققت الثروة وقس على ذلك من الثنائيات‪ ،‬وفي هذا سياق يقول فوكو‪ " :‬نحن بحاجة إلى‬
‫جنون الحب للحفاظ على النوع ونحن بحاجة إلى هذيان الطموح لضمان سير جيد للنظام‬
‫السياس ي‪ ،‬ونحن في حاجة لجشع مفرط من أجل انتاج الثروة" (فوكو‪ ،1961 ،‬صفحة‬
‫‪.)199‬‬
‫الجنون ال ُيفهم وال يتحدد إال في جدليته مع العقل‪ ،‬فيتخذان حينا شكل الصراع‬
‫والفرقة وشكل التمازج والتماهي حينا آخر‪ ،‬فالعقالء يرون في الجنون وكأنه مرآة عاكسة‬
‫لحقيقتهم السرية والغامضة وهو الجانب الذي تنفلت فيه قوى النفس من السيطرة‪،‬‬
‫والجنون بدوره يجد في العقل مساحة الفرجة التي يعبر بها عن خطابه‪ " :‬إن طبيعة الجنون‬
‫هي أن يكون عقال خفيا " (فوكو‪ ،1961 ،‬صفحة ‪)199‬‬
‫خالصة‪:‬‬
‫لقد قرأ فوكو الجنون في مساره التاريخي من ناحية فلسفية استقرأ فيها نظرة الثقافة‬
‫الغربية للمجانين معتمدا على تحليل الخطابات السائدة (قوانين‪ ،‬روايات لوحات فنية‪).. ،‬‬
‫وهي الزاوية التي كشف فيها عن الجنون في بعده األنطولوجي أي في عالقته بالوجود‪ ،‬وفي‬
‫بعده الذاتي وصلته بطبيعة اإلنسان وكيف أن املعرفة الطبية اختزلت الجنون في املرض‬
‫لتخفي عوامله الرمزية‪.‬‬
‫ويربط فوكو بين الجنون والعقل في عالقة وثيقة‪ ،‬ألن سرد تاريخ الجنون في نظره هو‬
‫في اآلن نفسه سرد لتاريخ العقل‬
‫وإن كانت السرديات الكبرى قد أرخت لتاريخ سيادة العقل‪ ،‬فإن كتابة تاريخ الجنون‬
‫هو تسليط الضوء على اللحظة التي أدرك فيها العقل الغربي وجهه القبيح وتعرف على‬
‫عدميته التي طاملا غفل عنها‪.‬‬
‫ينتهي فوكو بمدح الجنون والدعوة إلى استنطاق عوامله الرمزية‪ ،‬فهو كما يراه سر‬
‫ّ‬
‫متعة الحياة وانفتاح على الرغبة املتجددة والحرية‪ ،‬فليس املجنون من فقد عقله وإنما من‬
‫‪38‬‬
‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية ( ‪)Journal of Social and Human Science Studies‬‬
‫جامعة وهران‪ /02‬المجلد ‪ 11‬ع ‪2022/ 04/ 16 / 02‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫فك العقال على نفسه ليسرح ويمرح ويعيش لعبة الحياة‪ ،‬والجنون كما يصوره فوكو هو‬
‫أقرب إلى حالة " الطفل" في االنفتاح على جسده ورغباته وإن كان يعبر عن جانب اإلنسان‬
‫الطفولي فهو يعبر أيضا في مساره التاريخي‪ .‬عن صورة االنسان املستلب داخل املجتمع‬
‫الغربي الحديث‪.‬‬
‫ّ ّ‬
‫يدعو فوكو في كتابه القراء لعدم التنكر لتجربة الجنون‪ ،‬فهي تجربة أصيلة تعكس‬
‫الوفاء لصوت الطبيعة واالنتماء لعالم الحرية وفك القيود وانفتاح على الرغبة املتجددة‪.‬‬
‫وينهي كتابه بقراءة للحظة جنون "نيتشه" وقرب موته‪ ،‬وكيف كانت لحظة فارقة‬
‫ومفصلية في حياته ألنها مزجت بين جنونه ونبوغ فكره‪ ،‬بين لحظة فنائه و انفتاحه على‬
‫األبدية‪.‬‬
‫********‬

‫‪39‬‬
)Journal of Social and Human Science Studies ( ‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية‬
2022/ 04/ 16 / 02 ‫ ع‬11 ‫ المجلد‬/02‫جامعة وهران‬
ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315
‫ــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
:‫قائمة املصادر‬
،)‫ املغرب (الدار البيضاء‬،‫ سعد بنكراد‬:‫ ترجمة‬،‫ تاريخ الجنون في العصر الكالسيكي‬،)1961(‫ ميشال فوكو‬.1
.2006 ،1‫ ط‬،‫املركز الثقافي العربي‬
2. Michel Foucault )1972(, histoire de la folie a l’âge classique, paris éditions Gallimard
:‫قائمة القواميس واملوسوعات‬
.‫ دار الصادر‬،‫ بيروت‬،)‫ط‬.‫س‬.‫ (د‬،)‫ حرف النون‬-‫ لسان العرب (املجلد الثالث عشر‬،‫ ابن منظور‬.3
4. Michel btay)2005( grand dictionnaire de la philosophie, Larousse, paris, éditions
LAROUSSE.
5. Judith Revel(2008), dictionnaire de Michel Foucault, paris, ellipses.
6. Les éditions sils maria(2004), abécédaire de Michel Foucault, Belgique, Les éditions sils
maria.
:‫قائمة املراجع‬
7. Berdin(2013), pensée rebelles (Foucault- Derrida- Deleuze), Auxerre, sciences humaines
éditions.
8. Frank Evrard(1995), Michel Foucault et histoire du sujet en occident, paris, éditions
BERNARD-LACOSTE.
9. Jean François Bert(2011), introduction de Michel Foucault, paris, éditions la découverte.

40

You might also like