You are on page 1of 22

‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفية التقليدية‪:‬‬

‫قراءة يف املنهج األركيولوجي‬

‫عبد احلق طاليب‪ ‬جامعة عباس لغرور‪ ‬خنشلة‪ ‬اجلزائر‬


‫‪Email : sw.blz@live.fr‬‬
‫تاريخ القبول ‪4402/40/02 :‬‬ ‫تاريخ املراجعة ‪4402/40/04 :‬‬ ‫تاريخ الرسال‪4402/42/42 :‬‬

‫‪Abstract‬‬ ‫ملخص‬

‫‪The‬‬ ‫‪archaeological‬‬ ‫‪approach‬‬ ‫ُي َع ُّد املنهج األركيولوجي الذي وضع‬


‫‪founded by the French philosopher‬‬ ‫آلياته الفيلسوف واملؤرخ الفرنس ي‬
‫‪Michel Foucault is one of the most‬‬ ‫"ميشيل فوكو"‪ ،‬أحد أبرز املناهج‬
‫َ‬
‫‪important philosophical methods of‬‬
‫‪contemporary‬‬ ‫‪epistemology.‬‬
‫الفلسفية التي ط َفت على سطح الدراسات‬
‫‪Foucault, through archeology, has‬‬ ‫الفلسفية والتاريخية في اإلبستيمي‬
‫‪attempted to criticize Western‬‬ ‫املعاصر‪ ،‬حيث حاول "فوكو" من خالل‬
‫‪cultural structures in various fields‬‬ ‫الب َنى الثقافية الغربية في‬
‫األركيولوجيا نقد ُ‬
‫‪in‬‬ ‫‪order‬‬ ‫‪to‬‬ ‫‪identify‬‬ ‫‪the‬‬ ‫مجاالتها املختلفة‪ ،‬بهدف الكشف عن‬
‫‪epistemological foundations that‬‬ ‫ُ‬
‫‪contribute to the establishment of‬‬
‫األس اإلبستيوولوجية التي ُسام في‬
‫‪discourse in different paradigms. In‬‬ ‫التأسي للخطاب في املراحل املعرفية‬
‫‪addition to trying to carry out‬‬ ‫املختلفة‪ ،‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬فقد َس َعا‬
‫َّ‬
‫‪scientific studies in history, we‬‬ ‫"فوكو"إلى تحقيق مدفين متكاملين‪ ،‬توثال‬
‫‪will determine where Foucault‬‬ ‫في‪ :‬تقويض امليتافيزيقا وتفكيك مقوالتها‪،‬‬
‫‪sought to destroy metaphysics and‬‬ ‫إضافة إلى محاولة تحقيق مبدأ العلوية في‬
‫‪deconstruct his arguments.‬‬
‫‪Keywords: Michel‬‬ ‫;‪Foucault‬‬ ‫الدراسات التاريخية والفلسفية‪ .‬ومذا ما‬
‫;‪archaeology‬‬ ‫;‪genealogy‬‬ ‫سنقوم بتحليله في مذه الدراسة‪.‬‬
‫;‪modernism‬‬ ‫;‪postmodernism‬‬ ‫كلمات مفتاحية‪ :‬ميشيل فوكو‪،‬‬
‫‪discourse; authority; metaphysics‬‬ ‫األركيولوجيا‪ ،‬الجينيالوجية‪ ،‬الحداثة‪ ،‬ما‬
‫بعد الحداثة‪ ،‬الخطاب‪ ،‬اللغة‪ ،‬الجنون‪،‬‬
‫السلطة‪ ،‬املنهج الحفري‪ ،‬القطيعة‬
‫اإلبستيوولوجية‪ ،‬امليتافيزيقا‪.‬‬
‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫‪Résumé‬‬
‫‪L'approche archéologique fondée par le philosophe français Michel Foucault est‬‬
‫‪l'une des méthodes philosophiques les plus importantes de l'épistémologie‬‬
‫‪contemporaine. Foucault, par l'archéologie, a tenté de critiquer les structures‬‬
‫‪culturelles occidentales dans divers domaines afin de dégager les fondements‬‬
‫‪épistémologiques qui contribuent à l'établissement du discours dans différents‬‬
‫‪paradigmes. Où Foucault a cherché à détruire la métaphysique et à déconstruire‬‬
‫‪ses arguments, en plus d'essayer de réaliser des études scientifiques dans‬‬
‫‪l'histoire.‬‬

‫;‪Mots-clés: Michel Foucault; archéologie; généalogie; modernisme‬‬


‫‪postmodernisme; discours; autorité; métaphysique‬‬

‫َ‬ ‫َم َّثل َُ ُّ‬


‫واملويزات التي ط َبعت اإلبستيمي املعاصر‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫عدد املناهج الفلسفية أم َّ الخصائص‬
‫عدد في النتائج‪ ،‬نظرا الختالف‬ ‫الت ُّ‬‫عددت املنطلقات والقراءات‪ ،‬مذا ما َّأدى ضرورة إلى َّ‬ ‫فقد َُ َّ‬
‫ُ‬
‫املنهج املعتود في تحليل الظامرة نفسها‪ ،‬وربوا يوكن القول إ َّن الفتح الجينيالوجي الذي قام به‬
‫لهبت َفتيل النقد الحاد الذي َ‬
‫انص َهرت‬ ‫ِّ‬ ‫"فريديريك نيتشة"‪ ،‬كان بوثابة الشرارة الفلسفية التي َأ َ‬
‫ِّ‬
‫والسرديات الكبرى‪ ،‬الغارقة في وثنية املثالية واملطلقية‪ .‬فكانت‬ ‫معه مختلف الخطابات الغربية َّ‬
‫َّ‬ ‫الجينيالوجيا النيتشوية بوثابة الجدار َّ‬
‫الصلب الذي تحطوت عليه مختلف مقوالت خطاب‬
‫الحداثة الذي َّ‬
‫شيدته الفلسفة الغربية منذ اللحظة السقراطية‪ ،‬وصوال إلى اللحظة الديكارتية‬
‫وما استتبعها من الفلسفات املثالية األملانية على شاكلة فلسفة "إيوانويل كانط" و"فريديريك‬
‫التفت املشاريع‬ ‫ميجل"؛ فوع بزوغ شو القرن الثامن عشر الذي َّاتخذ التنوير شعا ا له‪َّ ،‬‬
‫ر‬
‫عيا إلى تحقيق مدف الخروج من حالة القصور التي ُي َعا ِّنيها‬ ‫الفلسفية حول مذه املقولة َس ً‬
‫َ‬
‫العقل األوروبي بالتعبير الكانطي؛ فكان تحرير الذات من ِّرْبق ِّة الوصاية املوارسة عليها من ِّق َب ِّل‬
‫تجسد في املجاالت‬ ‫السلطات املختلفة‪ ،‬الغاية التي َس َعى فالسفة األنوار إلى تحقيقها؛ مذا ما َّ‬
‫املختلفة‪ ،‬سياسيا‪ ،‬اجتواعيا‪ ،‬واقتصاديا‪ .‬فوشروع الحداثة بوختلف مقوالته ما فتئ أن َأ َب َ‬
‫ان‬

‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪52‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬


‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫جرد شعارات‬ ‫عن عيوبه وسلبياته؛ فوختلف الوعود التي َب َّش َر بها الخطاب الحداثوي‪ ،‬كانت ُم َّ‬
‫َّرنانة وأومام زائفة‪ ،‬ل تجد لها الذات صدى على أرض الواقع‪ ،‬مذا ما جعل الحضارة الغربية‬
‫وألن الفيلسوف طبيب الحضارة بالتعبير النيتشوي‪ ،‬كان‬ ‫ُعيش أزمة َق ْيوية ووجودية بامتياز؛ َّ‬
‫ِّ‬
‫لزاما إيجاد البدائل التي يوكن لها أن ُتخرج الذات من حالة ُّ‬
‫الركود التي آلت إليه‪ .‬كانت مذه هي‬
‫املهوة التي حاول الفالسفة املابعد حداثيين تحقيقها على أرض الواقع‪ ،‬فقد كانت النظرة‬
‫ص ُّب في جومر املشهد الفلسفي والثقافي ملختلف املشاريع‬ ‫اإلصالحية ملا أفسدته الحداثة َت ُ‬
‫الفلسفية‪َّ ،‬‬
‫وبالرغ من االختالف في املنطلقات واملسلوات لكنها تلتقي في غاياتها وأمدافها‪.‬‬
‫َ‬
‫ل يكن "نيتشة" _بوا ق َّدمه من أعوال مختلفة_ مرحلة عابرة في الفكر الفلسفي عووما‬
‫ْ‬ ‫َّ َ َّ‬
‫حاد‪َ ،‬س َيلقى في الفكر املعاصر‬
‫والغربي على وجه الخصوص‪ ،‬بل إن ما قدمه من مشروع نقدي ٍّ‬
‫ُق ُبوال وإجواعا ُم ْنقطع النظير من ق َبل الكثير من الفالسفة الغربيين‪ ،‬ومو القائل‪َّ :‬‬
‫"إن الرجال‬ ‫ِّ‬
‫َّ‬
‫العظواء يولدون بعد مواته "‪ ،‬فكان لهذه النبوءة أن تتحقق فعال‪ ،‬فقد أصبح للنبي زارا أشياع‬
‫ُ‬
‫ُوم ِّريدين‪ ،‬وم من ُع ِّرفوا فيوا بعد بالنيتشويين الجدد‪ ،‬ومن أبرز مؤالء الفيلسوف الفرنس ي‬
‫ُ‬
‫حطوه مطرقة الجينيالوجيا النيتشوية من مقوالت الحضارة الغربية‪،‬‬ ‫"ميشيل فوكو"‪ .‬فوا ل ت ِّ‬
‫َ‬
‫سيكون لها نصيب من النقد والتحليل من طرف األركيولوجيا الفوكوية؛ فوا ق َّد َمه "فوكو" من‬
‫ضد األنساق الفلسفية الغربية‪ ،‬إذ عول‬ ‫أعوال منذ بداياته األولى‪ ،‬ستكون حولة شرسة َّ‬

‫املنقب املنتقد‪ ،‬باحثا عن التوظهرات والتجليات التي‬ ‫َْ‬ ‫"فوكو" على َّ‬
‫السفر بين األرشيفات ِّبعي ِّن ِّ‬
‫من خاللها يوكن كشف األالعيب السلطوية في املجاالت املختلفة‪ ،‬بداية بخطاب الجنون‬
‫واملؤسسات الطبية‪ ،‬مرورا باملؤسسة العقابية‪ ،‬وصوال إلى توليد مفهوم السلطة الحيوية‬
‫َّ‬
‫وكيف انتقلت السلطة من السيطرة على الروح إلى السيطرة على الجسد؛ مذا ما حلله "ميشال‬
‫فوكو" في"الرقابة والعقاب"‪ ،‬وثالثيته املعنونة بـ‪" :‬تاريخ الجنسانية"‪ .‬مذا على املستوى املعرفي‪،‬‬
‫َّ‬
‫املؤلف الذي َّ‬ ‫َّ‬
‫خصه "فوكو" لشرح‬ ‫َّأما على املستوى املنهجي فقد مثل كتاب "أركيولوجيا املعرفة"‬
‫منهجيته الحفرية في النقد‪ ،‬فعلى امتداد صفحات الكتاب‪،‬حاول"فوكو" بيان أصالة منهجه‬
‫األركيولوجي من خالل مجووع اآلليات اإلجرائية التي اعتودما كترسانة منهجية في مسيرته‬

‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪53‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬


‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫النقدية‪ .‬انطالقا موا سبق يوكننا التساؤل عن الدالالت املفهومية ملنهجية الحفر األركيولوجي‬
‫الفوكوية‪ ،‬فإن كان املنهج األركيولوجي ُيعنى بوصف الخطاب وتحليله ونقده‪ ،‬فكيف َّ‬
‫عرف‬
‫َّ‬
‫"فوكو" الخطاب من ِّوجهة نظر أركيولوجية؟ وفيوا تتوثل أم الغايات واملقاصد اإلبستيوولوجية‬
‫التي سعى "فوكو" إلى تحقيقها من خالل مشروعه الحفري النقدي؟‬
‫‪ .1‬يف مفهوم األركيولوجيا واخلطاب‪:‬‬
‫أوال‪ :‬يف الداللة املفهومية لألركيولوجيا‪:‬‬
‫ألول َم َّرة في‬ ‫ُي َ‬
‫عرف املنهج الفوكوي باملنهج األركيولوجي‪ ،‬وقد استعول "فوكو" مذا املفهوم َّ‬
‫كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكالسيكي" (‪،) Classique Histoire de la Folie a L’âge‬‬
‫باإلضافة إلى َّ‬
‫أن كتابه "مولد العيادة" )‪ (Naissance de la Clinique‬كان يحول عنوانا فرعيا‬
‫الطب َّية"‪ ،‬وبعد نشر "فوكو" "الكلوات واألشياء" ‪(Les Mots et les‬‬ ‫َّ‬
‫ومو" أركيولوجيا النظرة ِّ‬
‫)‪ Choses‬حول مو اآلخر عنوانا فرعيا‪ ،‬ومو "أركيولوجيا العلوم اإلنسانية"‪ ،‬وفي سنة ‪1191‬م‪،‬‬
‫وضح فيه بشكل ُم َع َّوق اآلليات التي اعتودما في بلورة املنهج الذي‬ ‫ُ‬
‫أصدر "فوكو" كتابه الذي ي ِّ‬
‫اعتوده‪ ،‬ومو الكتاب املعنون بـ"أركيولوجيا املعرفة"(‪ ،)L’archéologie du Savoir‬مذا ما َي ُد ُّل‬
‫اصطالحا‪ُ ،‬عني‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫الفوكوية‪ ،‬فاألركيولوجيا‬ ‫حورَّيه مصطلح األركيولوجيا في الفلسفة‬ ‫على مدى ِّم ِّ‬
‫قديوا‪ ،‬باستعوال األدوات والوسائل‬ ‫العل الذي ُيعنى بدراسة الحضارات التي َش َّي َدما اإلنسان ً‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫بالنسبة‬ ‫املختلفة‪ ،‬بهدف الحفر والتنقيب عن اآلثار واملعال التي خلفتها تلك الحضارات؛ َّأما ِّ‬
‫َّ‬
‫املعرفية‬ ‫فإنه يستخدم مذا املفهوم للونهج الذي وضعه في دراسته وتحليله للبنى‬ ‫لـ"فوكو"‪َّ ،‬‬

‫رسوية إس‬ ‫َّ‬ ‫الغربية‪ ،‬حيث ُي ِّق ُّر في أركيولوجيا املعرفة‪َّ ،‬أنه أطلق على منهجه "وبكيفية َّربوا‬
‫َّ‬
‫التي ستعول على وصف املوارسات الخطابية بطريقة مخالفة لباقي املناهج‬ ‫الحفريات"‪َّ 1،‬‬

‫أن املناهج املعوول بها غير قادرة على وصف الخطاب وتحليله‬ ‫التاريخية؛ ففي نظر "فوكو" َّ‬
‫َّ‬
‫بالكيفية الالزمة‪ ،‬وانطالقا من مذا‪ُ ،‬ي َب ِّرر "فوكو" اعتواده على املنهج األركيولوجي في قوله‪" :‬فقد‬
‫ُّ‬ ‫َ َ ُ‬
‫ألي كان أن يزمو‬
‫سبق أن وجدت مناهج كثيرة قادرة على وصف اللغة وتحليلها‪ ،‬بحيث ال يوكن ٍّ‬
‫ُ‬
‫ضيف ً‬
‫منهجا جديدا إليها"‪ 2،‬مذا ما يدل على السأم الذي كان‬ ‫عيا َّأنه ُي‬
‫بنفسه ُويعجب بها‪ُ ،‬م َّد ًّ‬
‫ُ‬ ‫ينتاب "فوكو" من املألوف الذي ال ُيبدع وال يأُي بأي جديد‪ ،‬بحك َّ‬
‫أن املناهج املعتودة في‬ ‫ِّ‬
‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪54‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬
‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫الن َّ‬
‫سقية َّ‬
‫الرتيبة‪ ،‬وانطالقا من مذه‬ ‫الدراسات التاريخية‪ ،‬ال تخرج عن كونها تائهة بين جدران‬ ‫ِّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫النقطة بالذات‪ ،‬يطرح "فوكو" سؤاال ُم ًّ‬ ‫ُّ‬
‫قدمه األركيولوجيا‬
‫يخص الجديد الذي ست ِّ‬ ‫هوا فيوا‬
‫مقارنة باملناهج األخرى؛ حيث يقول‪" :‬فواذا بوسع الحفريات أن ُتقدمه َّ‬
‫بالنظر إلى ما ل يكن في‬ ‫ِّ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫‪3‬‬
‫قدمه؟ وما جزاء ُم ِّه َّوة شاقة كهذه؟"‬ ‫ِّوس ِّع املناهج الوصفية األخرى أن ت ِّ‬
‫ُي ِّجيب "فوكو" عن مذه اإلشكالية في حوار له مع جريدة "‪ "Le Monde‬الفرنسية سنة‬
‫للداللة على وصف الوثيقة‪ ،‬ول يقصد اكتشاف‬ ‫بأنه "استعول لفظ األركيولوجيا َّ‬ ‫‪1191‬م‪َّ ،‬‬

‫بداية‪ ،‬أو الكشف عن عظام وهي رمي "؛‪ 4‬إذن فالوصف والوثيقة موا أساس األركيولوجيا‪،‬‬
‫التي ُي َع ِّرفها "فوكو" بقوله‪" :‬أمكننا استنادا إلى قانون األلفاظ ‪-‬والذي ال ُيطابق قانون علواء‬
‫أي محاولة للجري‬ ‫اللغة‪ -‬أن ُنطلق على تلك األبحاث اس حفريات‪ ،‬ومو لفظ ال َي َّ‬
‫تضون َّ‬
‫ُ ْ َ ُ َّ‬ ‫َّ‬
‫بأي تنقيب أو سبر جيولوجي‪ ،‬بل َي ُد ُّل على الفكرة‬ ‫واللهث وراء البدايات‪ ،‬كوا ال يقرن التحليل ِّ‬
‫يل في مستوى وجوده‪ ،‬وفي مستوى‬ ‫صف مدفه استنطاق املَا ِّق َ‬ ‫واملحورية َّ َ‬
‫العامة ِّلو ٍّ‬ ‫َّ‬ ‫األساسية‬
‫سب إليها‪ ،‬واملنظومة َّ‬ ‫َ‬
‫الخطابية التي َينت ُ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫العامة‬ ‫العبارية التي توارس عليه‪ ،‬والتشكيلة‬ ‫الوظيفة‬
‫َ ُ‬
‫الحتفاظه وظهوره‪ ،‬فالحفريات ت ِّصف الخطابات كووارسات ُم َح َّددة في عنصر نظام االحتفاظ‬
‫‪5‬‬
‫والظهور"‪.‬‬
‫أن األركيولوجيا ال ُسعى للبحث عن البدايات األولى‪ ،‬فهي ليست‬ ‫َّيتضح من مذا‪َّ ،‬‬

‫ألن الوصف األركيولوجي يسعى في جومره إلى استنطاق‬ ‫تنقيبيا‪َّ ،‬‬


‫ًّ‬ ‫مبحثا جيولوجيا أو‬
‫أن منهجية َّ‬ ‫ُ‬
‫املنطوقات(‪ )énoncé‬أو العبارات امل َتو َّثلة في األرشيف؛ ويوكن القول َّ‬
‫النقد‬
‫َّ‬
‫ظلها الخطابات‪ ،‬من خالل‬ ‫األركيولوجي‪ُ ،‬سعى للكشف عن األس التاريخية التي ُشكلت في ِّ‬
‫أن الخطاب مو ما‬‫تحليل القطائع )‪ (Les Ruptures‬التي شهدتها مختلف اإلبستيويات‪ ،‬بحك َّ‬

‫ُسعى األركيولوجيا إلى وصفه وتحليله ودراسته‪ ،‬إضافة إلى َّأنها تهدف أساسا إلى وضع اليد على‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫طريقة ُمغايرة في رصد نظ املعرفة‪ ،‬عن طريق تحليل الخطاب في مستوى ظهوره وأفوله‬
‫َّ‬
‫الثقافات كوا لو كان سلسلة من ُّ‬ ‫َّ‬
‫"ويتوثل ذلك في ُّ‬
‫النظ املعرفية تتقاس‬ ‫تصور تاريخ‬ ‫واندثاره‪،‬‬
‫لفترات تاريخية دائرة الحقيقة"؛‪ 9‬وبهذا يكون التاريخ األركيولوجي‪ ،‬دراسة نقدية ملختلف‬

‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪55‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬


‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫مركزية الحقيقة‪َّ ،‬‬


‫َّ‬ ‫َ َّ‬
‫ألن األركيولوجيا بوثابة "وصف وتحليل‬ ‫الخطابات التي شكلت في فترة ما‬
‫تخلي‬ ‫َّ‬
‫للتاريخ العام ملجووع املوارسات الخطابية وغير الخطابية‪ ،‬فتحليلية تاريخ الخطاب فيها ِّ‬
‫لكنها في الوقت نفسه ُُ َ‬
‫عنى بوجووع اآلثار الفعلية للخطاب عبر‬ ‫الشوولية التاريخية‪َّ ،‬‬ ‫ُّ‬
‫مطلق عن‬
‫ْ‬
‫االتصال‬
‫املتقطعة‪ ،‬التي ال ُعرف ِّ‬
‫ِّ‬ ‫التاريخ"‪ 7،‬إذ َيغ ُدو التاريخ عبارة عن سلسلة من األحداث‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الصفات والخصائص‬ ‫أبدا‪ ،‬لكونها خاضعة ملبدأ الشتات والتبعثر؛ فكل مرحلة تاريخية‪ ،‬لها من ِّ‬
‫تتويز عن باقي املراحل التي تليها؛ وبناء على مذا‪َّ ،‬تتجه األركيولوجيا نحو تلك‬ ‫ما يجعلها َّ‬

‫أمويتها في بلورة خطاب الحقيقة‪.‬‬ ‫َّ‬


‫االنفصاالت التي يشهدما الخطاب‪ ،‬بالنظر إلى ِّ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫وتجلياته‪،‬‬
‫سلط الضوء على املجال املعرفي في جويع مستوياته ِّ‬ ‫فاالستراتيجية الفوكوية‪ِّ ُ ،‬‬
‫مذا ما يصطلح عليه "فوكو" بـ"اإلبستمي"(‪ )épistémè‬الذي يعني به‪" :‬مجووع العالقات التي‬
‫ُ‬
‫وحد في فترة ُم َع َّينة بين املوارسات الخطابية‪ ،‬التي تفسح املجال أمام أشكال‬ ‫بإمكانها أن ت ِّ‬
‫صورًّيا‪َّ ،‬إنها َّ‬
‫النوط الذي َي ِّت ُّ حسبه االنتقال‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أبستوولوجيا وعلوم وأحيانا بونظومات مصاغة ِّ‬
‫‪8‬‬
‫التنظير اإلبستيوولوجي والعولية والصياغة الصورية"‪.‬‬ ‫داخل ُشكيلة خطابية‪ ،‬إلى َّ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫عبر عن مجووع العالقات املترابطة‪ ،‬التي من شأنها أن ُعطي الشرعية ملعرفة‬ ‫فاإلبستيمي ي ِّ‬
‫ُمع َّينة‪ ،‬أو ملجووع معارف ليصطلح عليها بوصفها ِّع ًلوا‪ ،‬وهي أيضا ما َيونح الشرعية لظهور‬
‫النظري أو العولي؛ إضافة إلى ما سبق‪ ،‬يرى‬ ‫التنظيرات اإلبستوولوجية‪ ،‬سواء في مستواما َّ‬‫َّ‬
‫َّ‬ ‫"فوكو" َّ‬
‫أن اإلبستيمي يتوثل في "مجووع العالقات التي ُيوكننا الوقوف عليها في فترة ما بين‬
‫حدد َّ‬
‫املهوة الجومرية لألركيولوجيا‪،‬‬ ‫العلوم فيوا ُنحلل مستوى انتظاماتها الخطابية"‪ 1.‬ولهذا ُت َّ‬
‫ِّ‬
‫في كونها ُسعى للكشف عن األس املعرفية التي قام على أساسها البراديغ املعرفي‪ ،‬إذ يكون‬
‫ذلك من خالل تحليل سلسلة العالقات القائوة بين مختلف العلوم؛ مذا ما ُي َؤ ِّدي إلى َّ‬
‫تنقية‬
‫اتية‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫بالذ َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وبالتالي إلغاء‬ ‫وحي‬
‫التاريخ امليتافيزيقي من مختلف مقوالته‪ ،‬ومن ج ِّل املظامر التي ت ِّ‬
‫ُ َ‬
‫القداسة التي ُعطى ملقولة الذات في التحليالت التاريخية‪.‬‬
‫َ‬ ‫وعلى مذا األساس‪ ،‬جهد "فوكو" في عزل ووصف مختلف ُّ‬
‫النظ املعرفية‪ ،‬التي ت ْر ُّتد في‬
‫حقيقة تاريخ تكوينها وظهورما‪ ،‬إلى ثالث ِّح ْق َبات كبرى في تاريخ الفكر الغربي‪ ،‬اصطلح عليها‬

‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪56‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬


‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫اعا‪ :‬عصر النهضة‪ ،‬العصر الكالسيكي و العصر الحديث‪ 11،‬دون أن يكون بين مذه املراحل‬ ‫ت َب ً‬
‫ِّ‬
‫َ‬
‫أ ُّي استورار أو ِّاتصال‪ ،‬بل فواصل وقطائع )‪ .(Des Ruptures‬استنادا إلى مذا‪ ،‬سيعول "فوكو"‬
‫تتب ًعا‬
‫تكونت وظهرت في الحقب الزمانية الكبرى واملختلفة‪ُّ ،‬‬ ‫على َت َت ُّبع مختلف املعارف التي َّ‬
‫الداخلية ملجول الخطابات‪،‬‬ ‫الب َنى َّ‬
‫تاريخيا وفقا ملنظور تحليلي أركيولوجي‪ ،‬كاشفا من خالله عن ُ‬
‫التاريخي باملفهوم الكالسيكي الذي ُعتوده املناهج األخرى؛ خصوصا‬ ‫بعيدا في ذلك عن السياق َّ‬
‫ِّ‬
‫أن "فوكو" في معرض تحليالته‪ ،‬ال يفتأ َيصف تلك املناهج املعتودة في تحليل املنظومات‬ ‫َّ‬

‫الدقيق‪ ،‬وعليه سنحاول‬ ‫بأنها قاصرة أو عاجزة عن الوصف َّ‬ ‫َ َّ‬


‫شكلت عبر التاريخ‪َّ ،‬‬ ‫املعرفية التي ُ‬
‫ُ‬
‫السياق‪ ،‬إشكالية العالقة بين األركيولوجيا وتاريخ األفكار‪ .‬فوا هي طبيعة‬ ‫أن ن ِّبين في مذا ِّ‬
‫ُ‬
‫العالقة التي تحك املنهج بحقل تاريخ األفكار؟ وما هي أبرز الخصائص التي ت ِّ‬
‫ويز األركيولوجيا‬
‫التحليل َّ‬
‫والتأويل (باملعنى الجينيالوجي) عن تاريخ األفكار؟‬ ‫كونهج يعتود الوصف‪َّ ،‬‬
‫ثانيا‪ :‬يف الفرق بني األركيولوجيا وتاريخ األفكار‪:‬‬
‫وثل األركيولوجيا نقطة اإلبداع القصوى في الفلسفة الفوكوية‪ ،‬نظرا لكونها َّ‬ ‫ُ‬
‫أسست‬ ‫ت ِّ‬
‫لقواعد منهج جديد في دراسة الخطابات في مختلف مستوياتها وموارساتها‪ ،‬دراسة ذات طبيعة‬
‫تاريخية‪ ،‬نظرا لكون الخطاب ‪-‬موضوع األركيولوجيا‪ -‬ظهر في فترة ما من فترات التاريخ‪ ،‬فكان‬
‫أس له من منهج‪ ،‬وبين املنهج املعوول به في أغلب األبحاث‬ ‫على "فوكو" ضبط الفرق بين ما َّ‬
‫ًّ‬
‫منهجيا القيام "بتوييز‬ ‫التاريخية‪ ،‬ومو تاريخ األفكار‪ .‬حيث يرى "فوكو"‪َّ ،‬أنه َّ‬
‫يتوجب عليه‬
‫طريقته عن تاريخ األفكار‪ ،‬ومن جهة أخرى إبراز أوجه اختالف التحليل األركيولوجي عن املناهج‬
‫‪11‬‬
‫الوصفية لذلك التاريخ"‪.‬‬
‫أقر "فوكو" بذلك‪ ،‬أي صعوبة َّ‬
‫التوييز بين منهجين يكادان‬ ‫أن َّ‬
‫املهوة صعبة كوا َّ‬ ‫بالرغ من َّ‬
‫َّ‬
‫أن يكونا متداخلين إلى َح ًّد يصعب معه الفصل بينهوا؛ َّإال َّ‬
‫أن "فوكو" يرى َّ‬
‫أن تاريخ األفكار‬
‫يتويز َّ‬
‫بأن "له دورين اثنين‪ ،‬فهو من ناحية يحكي تاريخ األطراف والهوامش‪ ،‬وال يحكي إطالقا‬ ‫َّ‬
‫َّ‬ ‫الناقصة غير َّ‬‫تاريخ العلوم‪ ،‬بل تاريخ تلك املعارف َّ‬
‫املؤسسة‪ ،‬والتي ال تتوكن من الحصول على‬
‫العلوية"‪ 12،‬فتاريخ األفكار ال يقف على جومر املعارف والخطابات‪ ،‬بل يكتفي فقط‬ ‫َّ‬ ‫صفة‬
‫بالسرد التاريخي‪ ،‬واقفا على الهوامش دون َّ‬
‫الت ُّ‬
‫عوق في املامية األساسية التي تحتويها تلك املباني‬ ‫َّ‬
‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪57‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬
‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫ختص بكونها ل‬‫ُّ‬ ‫َ‬


‫للتحليل‪ ،‬فاملنظومات املعرفية فيوا يرى "فوكو"‪ ،‬ت‬ ‫املعرفية التي ُأخضعت َّ‬
‫العلوية‪ ،‬فهي معارف ناقصة ل ُت َّ‬ ‫َ‬
‫ؤس‬ ‫َّ‬ ‫ُستطع يوما أن ترقي إلى مستوى ُيؤ ِّملها لتكتس ي صفة‬
‫أن تاريخ األفكار يهت ُّ فقط بدراسة "تاريخ تلك الفلسفات‬ ‫علوية متينة؛ إضافة إلى َّ‬ ‫على قواعد َّ‬
‫ُ‬
‫األشباح‪ ،‬التي تخالط اآلداب والفن والعل والقانون واألخالق وحتى حياة البشر اليومية‪ ،‬تاريخ‬
‫الفكرية العريقة‪ ،‬التي ل تتبلور يوما ما في منظومة دقيقة َّ‬
‫فردية[‪ ]...‬تاريخ‬ ‫َّ‬ ‫تلك املوضوعات‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫تلك َّ‬
‫الجانبية‪ ،‬التي تثيرما الكتابة اليومية التي تختفي بسرعة وال تحصل أبدا على‬ ‫الضوضاء‬
‫املجالت‪ ،‬الجرائد‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫واملؤلفين غير املنقطعين عن‬ ‫ِّ‬ ‫والنجاحات العابرة‬ ‫صفة األثر[‪ ]...‬مثل‬
‫التأليف"‪ 13.‬يقول "فوكو"‬ ‫َّ‬
‫ؤرخ األفكار‪ ،‬فهو ُم َّ‬
‫جرد‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫وبناءا على مذا‪ ،‬يتضح مدى ضيق املجال الذي يعول من خالله م ِّ‬
‫وصف سطحي ملختلف املوارسات الجانبية‪ ،‬سواء في مجال الفن أو اآلداب أو القانون؛ وفي‬
‫َّ‬
‫العووم مجووع املعارف التي ل تتوكن أبدا أن تضع لنفسها أثرا في التاريخ اإلنساني؛ وما يجعل‬
‫باملؤلف‪ ،‬أو كاتب‬ ‫مجال مذا الحقل املعرفي ً‬
‫ضيقا إلى أبعد الحدود‪ ،‬مو االمتوام املبالغ فيه ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الدراسة والبحث التاريخي‪.‬‬ ‫الوثيقة‪ ،‬واعتباره الحلقة األساسية في ِّ‬
‫والتعليق عليها‪ ،‬بعيدا كل البعد عن‬ ‫جرد تحليل لآلراء َّ‬‫أن تاريخ األفكار ُم َّ‬ ‫جو ُل القول‪َّ ،‬‬ ‫ُوم َ‬
‫اخلية التي جعلتها تظهر‪ ،‬فهو يقتفي أثر الخطأ أينوا‬ ‫تحليل املعرفة‪ ،‬والكشف عن بنياتها ال َّد َّ‬
‫املتضونة في الوثائق التي يعرضها على الدراسة‬ ‫َّ‬ ‫عنى بتحليل الحقيقة‬‫وجده‪ ،‬دون أن ُي َ‬
‫ُ َّ‬
‫والوصف‪ ،‬إضافة إلى إغفاله للخلفيات التاريخية لتك الوثائق املحللة‪ ،‬مذا ما يجعله غارقا في‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫والدقة في النتائج‪.‬‬
‫متامات الذاتية‪ ،‬التي تبعد البحث عن العلوية ِّ‬
‫َّأما املستوى الثاني الذي ُيعنى بدراسته تاريخ األفكار‪ ،‬فهو َّ‬
‫"النفاذ إلى الفروع املعرفية‬
‫َّ‬
‫ليتحول مذا الفرع‬ ‫َّ‬
‫الهامشية‪،‬‬ ‫القائوة ودراستها وتأويلها"‪ 14،‬مذا ما سيعول على نزع صفة‬
‫نصب على تاريخ العلوم‬ ‫اوية ُم َّ‬
‫حددة‪ ،‬فامتوامه ُم ٌّ‬ ‫املعرفي إلى أسلوب في تحليل املوضوعات من ز َّ‬
‫َ َّ‬
‫واآلداب والفلسفات‪ ،‬بوصف املعارف التي ُشكلت من خاللها أس الجانب العولي‪ ،‬دون أن‬
‫والصوري؛ مذا ما ُيحيل بالضرورة إلى استكشاف مختلف َّ‬
‫التجارب‬ ‫النظري ُّ‬ ‫َت َّ‬
‫وتد إلى الجانب َّ‬

‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪58‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬


‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫ألن تاريخ األفكار في جومره "فرع معرفي يتناول‬ ‫التي ُيدونها الخطاب في اتصالها وانفصالها‪َّ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ُ‬
‫البدايات والنهايات‪ ،‬ويهت ُّ بوصف ألوان اال ِّتصال املبهوة‪ ،‬وألوان العودة‪ ،‬وبإعادة إنشاء‬
‫َ‬
‫ؤرخ األفكار في حالة ت ُّتبع‬ ‫ُ‬ ‫‪15‬‬ ‫َ َّ‬ ‫َّ ُّ‬
‫التطورات الخ ِّطية املتعاقبة للتاريخ"؛ وانطالقا من ذلك‪ ،‬سيكون م ِّ‬
‫وكيفية انتقالها من حقل إلى حقل آخر‪ ،‬وكيف ترتبط اآلثار‬ ‫َّ‬ ‫دائ لنشأة املفامي املختلفة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫املؤسسات االجتواعية؛ كوا يسعى دائوا إلى إعادة إحياء التراث القدي ‪،‬‬ ‫املنتجة بوختلف‬
‫الصدد يقول‬ ‫األكثر تأثيرا وفاعلية ورواجا في صورته األولى التي نشأ وتبلور فيها‪ ،‬وفي مذا َّ‬
‫والطرق‪ ،‬كوا يغدو وصفا َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ًّ‬ ‫"فوكو"‪" :‬يغدو تاريخ األفكار ً‬
‫للدوائر‬ ‫معرفيا تتداخل فيه املناهج‬ ‫فرعا‬
‫‪19‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫شدد عليها وتربط بينها‪ ،‬وتدرجها في كل ما ليست هي"‪.‬‬ ‫املتراكزة التي تحيط باآلثار‪ ،‬وُ ِّ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫حلل إال‬‫إذن فهذا الدوران مو الركيزة التي يستند إليها تاريخ األفكار‪ ،‬مذا التاريخ الذي ال ي ِّ‬
‫ُّ‬
‫هوته األساسية الجري وراء بدايات النشوء‪ُ ،‬بغية الوقوف عند األصل‬ ‫الص َّواء‪ُ ،‬م َّ‬‫الوالدة َّ‬
‫ََ‬
‫وإعادته إلى حاضر ال َي ُو ُّت بصلة إلى لحظة تك ُّونها‪ ،‬يخضع كل مذا إلى ثالثة أفكار رئيسية‪،‬‬
‫التقليد الذي تجاوزته ضرورات‬ ‫النشأة واالتصال والك َّلية‪ ،‬وهي أفكار ُُعتبر من باب َّ‬ ‫َّ‬
‫متو ِّثلة في‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫وبالتالي سيغدو التاريخ‬ ‫ترسبات اإلرث امليتافيزيقي‪َّ ،‬‬ ‫البحث التاريخي‪ ،‬إضافة إلى َّأنها من ُّ‬
‫َّ‬
‫خصوصيات تاريخ‬ ‫أن الوصف الحفري‪ ،‬ال ُي ُّ‬
‫وت إلى ما ت َّ ذكره من‬ ‫ميتافيزيقيا محضا‪ .‬في حين َّ‬
‫َ َ‬ ‫األفكار بأية صلة‪َّ ،‬‬
‫ألن الوصف األركيولوجي كوا َّ‬
‫حدد له "فوكو" معامله األساسية‪" ،‬فيه تخ ٍّل‬ ‫ِّ‬
‫َّ‬
‫مطلق عن تاريخ األفكار‪ ،‬ورفض منهجي ملسلواته وطرقه‪ ،‬ومحاولة إلقامة تاريخ آخر ملا قاله‬
‫البشر"‪ 17،‬عن طريق تناول مختلف القطائع واالنفصاالت اإلبستيوولوجية‪ ،‬دون االكتراث‬
‫للبداية أو النهاية‪.‬‬
‫هوة األساسية لألركيولوجيا‪ ،‬ال تتوحور في البحث عن األفكار واملعارف التي من شأنها‬ ‫فاملُ َّ‬
‫تتجسد في "تحديد مذه الخطابات من حيث هي‬ ‫َّ‬ ‫أن تظهر أو تختفي في خطاب ما‪ ،‬بل َّ‬
‫إن غايتها‬
‫عينة‪ ،‬فهي تنظر للخطاب على َّأنه وثيقة"‪ 18،‬فيكون معول َّ‬
‫التحليل‬ ‫موارسات تحكوها قواعد ُم َّ‬
‫مادة الوصف‬‫أن الخطاب ُيعتبر َّ‬ ‫وج ًها إلى مختلف البنى الخطابية‪ ،‬بوعنى َّ‬ ‫األركيولوجي‪ُ ،‬م َّ‬
‫التوييز بينه وبين الوثيقة‪َّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫األركيولوجي‪ ،‬لكونه موضوع البحث والدراسة‪ ،‬شريطة أن يت َّ َّ‬
‫ِّ‬

‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪59‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬


‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫ُ‬
‫األركيولوجيا تلغي دور الوثيقة في عولية البحث التاريخي‪ ،‬لكونها ليست مبحثا تأويليا يسعى‬
‫ص ًبا‬ ‫إن األركيولوجيا ُُ َ‬
‫عنى بالخطاب باعتباره ُن ْ‬ ‫إلنتاج خطاب من خطاب آخر ُيعتبر َّأوليا‪ ،‬بل َّ‬
‫تجلياته َّ‬
‫وآلياته واستراتيجيته في املوارسة‪.‬‬ ‫ًّ‬
‫أثريا قائوا بذاته‪ ،‬له ِّ‬
‫التوايز واضح بين األركيولوجيا وتاريخ األفكار‪ ،‬من‬‫أن َّ‬
‫إضافة إلى ما سبق‪ ،‬يرى "فوكو" َّ‬
‫خالل استبعاد أن تكون األركيولوجيا ُسعى للبحث عن مظامر َّ‬
‫التواصل أو االستورارية بين‬
‫الخطابات في الحقب املعرفية املختلفة‪ ،‬واللهث وراء تحديد لحظة البداية ومجووع َّ‬
‫الت ُّ‬
‫حوالت‬
‫َ‬
‫خصوصيتها‪ ،‬وفي ت ُّتبع تلك‬
‫َّ‬ ‫التي اعترت الخطاب‪ ،‬بل ينحصر دورما في‪" :‬تحديد الخطابات في‬
‫َّ‬
‫الذاتية‪َّ ،‬‬ ‫الخارجية وفي ُ‬
‫ألن غايتها تحليل الفوارق‬ ‫ص َّورما‬ ‫َّ‬ ‫الخطابات من خالل مظامرما‬
‫واالختالفات بين ص َّيغ الخطاب ووجومه"‪ 11،‬بعيدا في ذلك عن االمتوام بتاريخ االستور َّ‬
‫ارية‪،‬‬ ‫ِّ ِّ‬
‫ؤس ُ "فوكو" لفكرة أساسية في‬ ‫ُ‬ ‫ُ ََْ‬
‫الذي يعتب ُر من قبيل التاريخ األسطوري؛ ومن مذه النقطة ي ِّ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫وصف الخطاب‪ ،‬وهي القطيعة أو االنفصالية (‪ ،)La Rupture‬التي ت ِّلغي معها مقولة الذات‬
‫كوحور في تحليل األرشيف‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫بوويزات تجعل منها منهجا مغايرا‬ ‫زيادة على ما سبق‪ ،‬يرى "فوكو" أن األركيولوجيا تختص ِّ‬
‫توثل في إسقاط األثر وعدم اإلعالء من شأنه‪َّ ،‬‬ ‫َ َّ‬
‫وإنوا البحث‬ ‫لباقي املناهج التاريخية والنقدية‪ ،‬ت‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫عن اللحظة التي يظهر فيها‪ ،‬بعيدا في ذلك عن ربطه بالذات التي أنتجته‪ ،‬سواء منفردة أو‬
‫والنفس ي على حد السواء‪َّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫مجتوعة‪ ،‬وذلك بعزل األحداث الخطابية عن س َّياقها االجتواعي َّ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫َّ‬
‫الذات املبدعة‪ ،‬واعتبارما علة وجود األثر ومبدأ وحدته‪ ،‬أمر ال ُت ُّ‬ ‫َّ‬
‫قر عليه‬ ‫"اإللحاح على دور‬
‫النصوص‬ ‫نص كباقي ُّ‬ ‫النظر إليه على َّأنه ٌّ‬
‫تنوعه‪ ،‬يجب َّ‬ ‫أركيولوجيا املعرفة"‪ 21،‬فالخطاب على ُّ‬
‫َّ‬
‫األخرى‪ ،‬دون إضفاء مالة من القداسة عليه‪ ،‬تجعل من جومر موارساته مغطى ِّب ُح ُج ٍّب ال‬
‫َّ‬ ‫يتوكن الباحث األركيولوجي من إدراكها‪ ،‬فاألركيولوجيا ُت ِّلغي َّ‬ ‫َّ‬
‫كل االعتبارات الذاتية‬
‫َّ‬
‫نسقية‬ ‫واأليديولوجية‪ ،‬مهوا كان مصدرما‪ ،‬وبهذا يصل التاريخ إلى تحقيق املوضوعية‪ُ ،‬متجاوزا‬
‫التحليل امليتافيزيقي‪.‬‬‫َّ‬

‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪60‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬


‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫آخر الخصائص التي ُيفردما "فوكو" لألركيولوجيا‪ ،‬نفيه أن تكون محاولة "لترديد ما ِّقيل‪،‬‬
‫ومويته"‪ 21،‬فالوصف األركيولوجي لي تكرارا لخطابات‬ ‫مامية الخطاب َّ‬ ‫من خالل َّ‬
‫التعوق في َّ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫قد تبلورت‪ ،‬وال إعادة صياغتها بلغة مخالفة‪ ،‬وال يكون ذلك إال بنزع تلك الرابطة الوثيقة بين‬
‫َّ‬
‫عوا أراد أن يقوله البشر من خالل ما كانوا ُي َف ِّكرون فيه؛‬
‫املؤلف وأثره‪ ،‬بتجامل مدف الكشف َّ‬
‫يتحول التحليل إلى دراسة الجانب السيكولوجي أو السوسيولوجي‪ ،‬ومذا ما ُيبعد‬ ‫ألنه عادة ما َّ‬ ‫َّ‬

‫النص عن سياقه الذي ُو ِّض َع فيه‪ ،‬كون التحليل األركيولوجي ال يسعى للكشف عن البنية‬ ‫َّ‬
‫فالتعامل يكون مع الخطاب ُمنعزال‪ ،‬بوعنى َّ‬
‫أن‬ ‫للنص‪ ،‬من خالل ربطها باملؤلف؛ َّ‬ ‫النفسية َّ‬
‫ُ‬
‫الخطاب كأرشيف‪ ،‬مختلف عن باقي العناصر األخرى‪ ،‬التي من شأنها أن تب ِّعده عن سياقه‬
‫الحقيقي‪ ،‬ويكون ذلك بتحليل منطوقات الخطاب‪ ،‬و الكشف عن آثارما ومدى ارتباطها بالواقع‬
‫الذي ظهرت فيه‪.‬‬
‫َّ َ‬ ‫من خالل أم الخصائص التي َّ‬
‫بأنها ت ُبرز كونهج قائ بذاته‪،‬‬ ‫تتويز بها األركيولوجيا‪ ،‬نالحظ‬ ‫ِّ‬
‫ومادة دراستها؛ إضافة إلى َّ‬
‫أن تلك املبادئ‬ ‫فهي وصف وتحليل للخطاب الذي ُيعتبر موضوعها َّ‬
‫خاصية سنجد َّ‬
‫بأن‬ ‫َّ‬ ‫التي ُتويز األركيولوجيا‪ ،‬نلو فيها انسجاما وتناسقا إلى أبعد الحدود‪ُّ ،‬‬
‫فكل‬ ‫ِّ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫لها فاعلية في وصف البنى املعرفية‪ ،‬وسنجدما حاضرة في نقد مختلف الخطابات التي بنيت‬
‫ُ‬
‫على أساسها الحضارة الغربية؛ يت ُّ ذلك عن طريق أربع مفامي أساسية‪ ،‬ي ِّ‬
‫حددما "فوكو"‬
‫اإلطراد‪ ،‬مفهوم شرط اإلمكان؛ إذ‬
‫السلسلة‪ ،‬مفهوم ِّ‬
‫بالتسلسل اآلُي‪ :‬مفهوم الحادث‪ ،‬مفهوم ِّ‬
‫َّ‬ ‫حقيقيا َّ‬
‫ًّ‬ ‫ُ‬ ‫يرى "فوكو" َّ‬
‫منهجيته وتاريخ األفكار‬ ‫للتوايز بين‬ ‫أن مذه املفامي ‪ُ ،‬عتبر وجها‬
‫واالطراد يتعارض مع‬
‫السلسلة مع الوحدة‪ِّ ،‬‬ ‫"فالحادث يتعارض مع الخلق واإلبداع‪ ،‬وتتعارض ِّ‬
‫الطريقة‪ ،‬وشرط اإلمكان يتعارض مع َّ‬ ‫َّ‬
‫الداللة"‪ 22،‬يقول "فوكو"‪.‬‬
‫َّ‬
‫تتويز إذن األركيولوجيا عن تاريخ األفكار‪ ،‬سواء على مستوى املوضوع أو الهدف‪ ،‬أو املبادئ‬
‫"إن وصف الخطاب يتعارض‬ ‫التوايز في قوله‪َّ :‬‬‫والقواعد املُعتودة‪ُ ،‬ويلخص "فوكو" مذا َّ‬
‫ِّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ومنهجية تاريخ الفكر[‪ ]...‬فاألمر في تاريخ الفكر يتعلق بإعادة إنشاء خطاب جديد[‪ ]...‬فهو دوما‬
‫وباستورار يسعى إلى البحث عن املعنى الحقيقي وراء املعنى املجازي[‪َّ ]...‬أما تحليل الخطاب‪،‬‬

‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪61‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬


‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬
‫َّ‬
‫التعامل مع العبارة كش يء قائ الذات ال ُي ِّحيل إلى مستوى آخر‪ ،‬له‬ ‫َف َه ُّوه األساس ي مو َّ‬
‫‪23‬‬
‫وتويزه كحدث ال أصول له‪ ،‬وتحديد شروط وجوده"‪.‬‬ ‫َّ‬
‫خصوصيته ُّ‬

‫َي َّتضح من خالل مذا التحليل ملختلف أوجه الخالف بين املنهج األركيولوجي وتاريخ األفكار‪،‬‬
‫خصوصية املنهج الفوكوي‪ُّ ،‬‬
‫وتويزه عن باقي املناهج األخرى‪ ،‬سواء التاريخية أو التأويلية أو‬
‫التاريخ ُم َّتخذة‬
‫تكونت عبر َّ‬ ‫اللسانية‪ ،‬التي ُُعنى بدراسة الخطاب‪ ،‬وتحليل ُ‬
‫البنى املعرفية التي َّ‬ ‫ِّ‬
‫يشكل‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫من األرشيف موضوعا لها‪ ،‬ومادة أولى في دراستها‪ ،‬مذا األرشيف الذي ينتظ في خطاب ِّ‬
‫َّ ُ‬
‫ساؤل عن مامية الخطاب من َّ‬ ‫محور َّ‬
‫الزاوية األركيولوجية‪،‬‬ ‫التحليل األركيولوجي؛ وذلك يدفعنا للت‬
‫فوا هي داللة الخطاب عند "ميشيل فوكو"؟‬
‫ثالثا‪ :‬يف داللة اخلطاب‪Le Discours :‬‬
‫أن األركيولوجيا في جومرما منهج‬ ‫ُيوثل الخطاب حقل الحفر األركيولوجي‪ ،‬ب ُحك َّ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ُّ‬
‫لدراسة الخطاب ووصفه‪ ،‬والوقوف عند ُشكالته‪ ،‬انقطاعاته وانفصاالته في املراحل الكبرى‬
‫َّ‬
‫املؤلفات الفوكوية‪ ،‬سيالحظ ‪-‬بالتأكيد‪َّ -‬‬ ‫ُ‬ ‫التي شهدتها الحضارة الغربية َّ‬
‫أن‬ ‫تأمل في‬
‫ومرت بها‪ ،‬فامل ِّ‬
‫احتل مركزا أساسيا في مختلف أعواله‪ ،‬وإن بدرجات متفاوتة؛ فبدءا من‬‫َّ‬ ‫مفهوم الخطاب قد‬
‫َّ‬ ‫"تاريخ الجنون"‪ ،‬يعتبر "فوكو" َّ‬
‫أن مشكلة الجنون ُينظر إليها مع أدباء النزعة اإلنسانية "ضون‬
‫ما ُيحيل عليه الكون الخطابي"‪ 24،‬واألمر نفسه نلوسه في "مولد العيادة"‪ ،‬حين َّ‬
‫يتحدث "فوكو"‬
‫َّ‬ ‫َّ َّ ُّ‬ ‫َّ‬
‫أن الظهور املكثف للخطاب وطريقة وصفه‪،‬‬ ‫وكيفية تحليله ووصفه‪ .‬إال‬ ‫الط ِّبي‬
‫عن الخطاب ِّ‬
‫نجده في كتاب "الكلوات واألشياء"‪ ،‬من خالل دراسة أم ِّ الخطابات التي بلورتها الحضارة‬
‫الغربية‪ ،‬في الحقب الكبرى املح َّددة تباعا‪ ،‬من عصر النهضة إلى العصر الكالسيكي ث َّ العصر‬
‫أن الخطاب كان امليزة األساسية إلبستيمي العصر الكالسيكي‪،‬‬ ‫الحديث‪ .‬إذ سيالحظ "فوكو"‪َّ ،‬‬

‫املتوثلة في "إسناد اس إلى األشياء‪ ،‬فخالل قرنين من الزمان‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫من خالل َّ‬
‫املهوة التي أوكلت إليه‪ِّ ،‬‬
‫األول لألنطولوجيا"؛‪َّ 25‬أما في "أركيولوجيا املعرفة"‪ ،‬الذي ُي ُّ‬
‫عد تنظيرا‬ ‫كان الخطاب الغربي املكان َّ‬
‫ًّ‬
‫منهجيا ملختلف الحقول الخطابية التي َّتوت دراستها وتحليلها (الجنون‪ ،‬املرض‪ ،‬اللغة‪،‬‬
‫ً‬
‫"أحيانا يعني‬ ‫فكل مذه املوارسات تنتظ في خطاب ُيعرفه "فوكو" َّ‬
‫بأنه‪:‬‬ ‫االقتصاد‪ ،‬البيولوجيا)‪ُّ ،‬‬
‫ِّ‬

‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪62‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬


‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫ُ‬
‫تويزة من العبارات‪ ،‬وأحيانا ثالثة‪،‬‬ ‫امليدان العام ملجووع العبارات‪ ،‬وأحيانا أخرى مجووعة م ِّ‬
‫‪29‬‬
‫تدل داللة وصف على عدد ُم َع َّين من العبارات و ُشير إليها"‪.‬‬ ‫موارسة لها قواعدما‪ُّ ،‬‬
‫شكل معرفة ُم َّ‬ ‫ُ‬ ‫َُ‬
‫عينة حول‬ ‫إذن فالخطاب مو مجووع العبارات في مجال عام أو مت َو ِّيز‪ ،‬ي ِّ‬
‫الفعلية التي يكتسيها‪ ،‬ويضيف "فوكو" إلى مفهوم‬ ‫َّ‬ ‫حدد معامله ِّوفق املوارسات‬ ‫عين‪َ ،‬ت َت َّ‬
‫موضوع ُم َّ‬

‫بأنه‪" :‬مجووعة من العبارات بوصفها تنتمي إلى ذات التشكيلة الخطابية‪ ،‬فهو لي‬ ‫الخطاب َّ‬

‫تكرر إلى ما ال نهاية‪ ،‬يوكن الوقوف على ظهورما واستعوالها‬ ‫وحدة بالغية أو صورية قابلة ألن َت َّ‬
‫خالل التاريخ[‪ ]...‬بل مو عبارة عن َع َد ٍّد محصور من العبارات‪ ،‬التي نستطيع تحديد شروط‬
‫‪27‬‬
‫زمانيا‪ ،‬له باإلضافة إلى ذلك التاريخ"‪.‬‬ ‫مثاليا‪ ،‬وال ًّ‬
‫النحو‪ ،‬لي شكال ًّ‬ ‫وجودما‪ .‬ومو على مذا َّ‬

‫أن الخطاب عند "فوكو" مو بوثابة سلسلة من العبارات املندرجة‬ ‫َي َّتضح من خالل مذا‪َّ ،‬‬
‫ُ‬
‫ضون ُشكيلة خطابية واحدة‪ ،‬تكون العبارة (املنطوق‪ِّ )Enoncé-‬و ْح َدت ُه األساسية‪ ،‬أو بوعنى‬
‫َّ‬ ‫آخر؛ إ َّن العبارة هي َّ‬
‫النواة األولى التي يتشكل منها الخطاب‪ ،‬فوجووع عبارات يستلزم وجود‬
‫العام للعبارة‪ ،‬التي‬ ‫البد من اإلملام باملعنى‬ ‫خطاب‪ ،‬فلتحليله والكشف عن موارساته‪َّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫َّ ُ‬
‫"إما ألشير بها إلى عدد من العبارات (كوا لو كان األمر يعني‬ ‫ص ِّر ُح به‪:‬‬ ‫استخدمها "فوكو" فيوا ُي َ‬
‫فردية) أو ُألميزما عن تلك املجووعات التي ُأسويها الخطابات (مثلوا َّ‬
‫يتويز الجزء‬ ‫أفرادا وأحداثا َّ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ستقل لذاته‬ ‫الكل) وتبدو العبارة ألول وملة كعنصر بسيط‪ ،‬أو جزء ال يتجزأ قابل ألن ي ِّ‬ ‫عن ِّ‬
‫حبة تطفو فوق سطح نسيج هي عنصره‬ ‫ُويقي عالقات مع عناصر أخرى مشابهة له[‪َّ ]...‬‬
‫‪28‬‬
‫املكون‪ ،‬فالعبارة أبسط جزء في الخطاب"‪ .‬فالعبارة هي الوحدة األساسية في تكوين ِّ‬
‫أي‬ ‫ِّ‬
‫َُ‬
‫خطاب‪ ،‬إذن فهي بوثابة الجزء من الكل‪ ،‬فالكل منا ُيو ِّثل الخطاب‪ ،‬والجزء تو ِّثله العبارة‪ ،‬التي‬
‫ْ‬ ‫ُت ْد َر ُك على السطح‪َّ ،‬‬
‫ألنها تطفو على مختلف املساحات الخطابية التي أنتجتها البشرية‪ِّ ،‬وفقا‬
‫لضرورات ُم َع َّينة‪ ،‬ميزتها األساسية االنفصال الحاصل بينها في مستويات تكوينها أو موارساتها؛‬
‫أي قطيعة تكون أوال على‬ ‫أن َّ‬‫فإن كانت العبارة هي الوحدة الجومرية في الخطاب‪ ،‬فهذا يعني َّ‬
‫َّ‬
‫أموية لها‪ ،‬لكونها تظهر فجأة وتختفي بسرعة‪" ،‬إال َّأنها‬ ‫مستوى العبارة التي تبدو ال قيوة وال َّ‬
‫ً‬
‫‪21‬‬
‫للشك حدث غريب"‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫بكل تأكيد وبوا ال َي َد ُع مجاال‬
‫تظل مع ذلك حدثا [‪ ]...‬فالعبارة ِّ‬
‫ُّ‬

‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪63‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬


‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫َ َ ُّ‬ ‫َّ‬


‫وألن العبارة تحتل موقعا جومريا في التحليل األركيولوجي‪ ،‬فإن "فوكو" يحاول أن ي ِّ‬
‫ويزما‬
‫ومويزاتها‪ ،‬عن باقي املفامي األخرى التي تتداخل معها‪ ،‬سواء على مستوى املفهوم‬
‫بخصائصها ِّ‬
‫أو املوارسة؛ على غرار القضية‪ ،‬والفعل اللساني والجولة‪ .‬فوا مو قوام العبارة؟ وما هي‬
‫ُ‬
‫ُم َو ِّيزاتها األساسية؟ وما مو الفرق بينها وبين القضية؟ ومن جهة أخرى‪ ،‬مل العبارة ت َرادف في‬
‫معناما الجولة؟‬
‫مفهومية‪ ،‬بين العبارة ومجووعة‬ ‫َّ‬ ‫تفرد للعبارة‪ ،‬يقوم "فوكو" بإجراء مقارنات‬ ‫ُ‬
‫إلعطاء معنى م ِّ‬
‫الزمية مع اللغة‪" ،‬فبدون عبارات‬ ‫الت َّ‬ ‫من املفامي ذات الصلة املباشرة بها‪ ،‬بدءا من عالقتها َّ‬
‫ِّ‬
‫َّ‬ ‫ليست َّثوة لغة‪ ،‬لكن ليست ُّ‬
‫كل عبارة شرطا لوجود اللغة [‪ ]...‬فاللغة ال توجد إال من حيث هي‬
‫َّ‬
‫منظومة لبناء عبارات موكنة‪ ،‬ومن جانب آخر‪ ،‬ال توجد إال من حيث هي وصف ملجووع‬
‫‪31‬‬
‫العبارات الواقعة‪ ،‬فاللغة والعبارة لي لهوا نف املستوى في الوجود‪ ،‬وال َي ْس َت ِّو َّيان فيه"؛‬
‫ً‬ ‫أن مذا َّ‬‫غير َّ‬
‫التالزم الحاصل بين اللغة والعبارة‪ ،‬ال يجعل منها شرطا في وجود اللغة‪ ،‬فقد تكون‬
‫متساويان في الوجود‪ .‬إذ ُي َب ِّين "فوكو" في مذا‬ ‫َ‬ ‫فإنهوا غير‬ ‫اللغة وال توجد معها العبارة‪ ،‬ومنه َّ‬

‫أن قيوة العبارة فيوا تحوله من داللة في خطاب ما‪ ،‬فوستوى وجودما يقترن بوا‬ ‫الصدد‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫وثله من دور في سلسلة املنطوقات التي َّ‬ ‫ُ‬
‫يتكون منها الخطاب‪.‬‬ ‫ت ِّ‬
‫أن العبارة بوثابة إشارة أو دليل‪،‬‬ ‫يخص اإلشارة وعالقتها بالعبارة‪ ،‬فيعتبر"فوكو" َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّأما فيوا‬
‫عدة إشارات متجاورة‪- ،‬ول ال َّربوا؟‪َّ -‬كلوا َّ‬
‫كنا‬ ‫ألنه "ينبغي القول بأن َّثوة عبارة َّكلوا ُك َّنا أمام َّ‬ ‫َّ‬
‫َّ‬
‫أمام دليل‪ ،‬ودليل واحد فقط؛ وبذلك تكون عتبة العبارة هي عتبة وجود األدلة"‪ 31،‬نفه من‬
‫َّ‬
‫وبالتالي فالعالقة بين‬ ‫أدلة‪َّ ،‬‬ ‫مذا‪َّ ،‬أنه ُيوكننا إدراك العبارة‪ ،‬سواء من دليل واحد أو مجووعة‬
‫أن َّ‬
‫أموية العبارة تكون في تكوين‬ ‫أبدا‪ ،‬إضافة إلى َّ‬
‫متساوية وال فرق بينهوا ً‬
‫َ‬ ‫اإلشارة والعبارة‬
‫َّ‬ ‫فكل جولة َّ‬ ‫ُ‬
‫أن الجولة ُعتبر الوحدة األولى في الكالم‪ُّ ،‬‬ ‫الجول‪ ،‬بحك َّ‬
‫البد من أن تتخللها‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫سانية التي ُيوكننا أو‬
‫الل َّ‬
‫العبارة؛ فبالنسبة للتحليل النحوي‪ُ ،‬عتبر العبارة "مجووعة العناصر ِّ‬
‫أبدا أن نعثر على العبارة في ِّغياب‬‫ال ُيوكننا أن َن َت َع َّر َف فيها على صورة جولة"‪ 32،‬فال يوكن ً‬

‫الجول‪.‬‬

‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪64‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬


‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫أمر َّ‬
‫البد من‬ ‫أن العالقة بين العبارة والقضية املنطقية‪ٌ ،‬‬ ‫ومن جهة أخرى‪ ،‬يرى "فوكو" َّ‬

‫املتكونة من موضوع ومحوول ورابطة‪ ،‬من‬ ‫َّ‬


‫فالقضية في املنطق‪ُ ،‬عني تلك الوحدة‬ ‫الفصل فيه؛‬
‫ِّ‬
‫ألنه من املوكن الحديث عن عبارتين‬ ‫أن القضية غير الزمة لتكوين العبارة‪َّ ،‬‬ ‫منا يعتقد "فوكو" َّ‬

‫ألن "املقايي التي‬ ‫خطابية مختلفة‪َّ ،‬إال َّأننا ال نلو فيها َّأية َّ‬
‫قضية‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫نتويان إلى مجووعات‬‫َت َ‬
‫موية قضية ما‪ ،‬وبتوييز عدد آخر من القضايا داخل وحدة صيغة ما‪ ،‬وإظهار‬ ‫ُسوح بتحديد َّ‬
‫استقاللها أو اكتوالها‪ ،‬ال تصلح لوصف الوحدة املتويزة للعبارة"‪ 33.‬فالقضيتان "ل ُي ْ‬
‫ص ِّغ‬ ‫ِّ‬
‫منطقية‪ ،‬وفي الوقت‬ ‫َّ‬ ‫التوييز بينهوا من وجهة نظر‬‫صغ"‪ ،‬ال يوكننا َّ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ٌ َّ ً‬ ‫ٌ‬
‫أحد"‪" ،‬صحيح أن أحدا ل ي ِّ‬
‫القضية "ملك فرنسا الحالي أصلع"‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أن‬ ‫قضيتين مختلفتين‪ ،‬في حين َّ‬ ‫نفسه‪ ،‬ال يوكن اعتبارموا َّ‬
‫َ‬ ‫بأنها َّإما صادقة أو كاذبة‪َّ ،‬‬ ‫يوكن وصفها َّ‬
‫بسياق ضوني ُيؤ ِّكدما؛ حيث يوكن‬ ‫ألنها ارتبطت َ‬
‫تحدد في‬ ‫منطقيا‪َّ ،‬إال َّأنها ُُعتبر عبارة؛ فالعالقة بين العبارة والقضية املنطقية‪َ ،‬ت َّ‬
‫ًّ‬ ‫اعتبارما كاذبة‬
‫ُ َ َ‬
‫صاغ في قضية منطقية‪ ،‬لكن مذا ال يعني َّأنها ُغيب إذا كانت‬ ‫َّ‬
‫إمكانية أن ت‬ ‫كون العبارة تحتول‬
‫َّ‬
‫فإمكانية العثور على العبارة في كنف القضية قائوة‪ ،‬دون أن يكون مناك تالزم‬ ‫القضية غائبة‪،‬‬
‫ضروري بين املفهومين‪.‬‬
‫نتيجة لهذا‪ ،‬أمكننا القول َّ‬
‫أن العبارة أو املنطوق‪ُ ،‬يو ِّثل الوحدة األساسية التي َّ‬
‫يتكون منها‬
‫وأن بين العبارة والجولة والقضية واإلشارة اللغوية‪ ،‬اختالفات وتوايزات‪َّ ،‬‬
‫البد على‬ ‫الخطاب‪َّ ،‬‬

‫التداخل الحاصل بين مختلف‬ ‫ألن َّ‬


‫األركيولوجيا أخذما بعين االعتبار في تحليل الخطابات؛ َّ‬
‫ُّ‬
‫املفامي اللغوية‪ ،‬مو ما يجعل من األركيولوجيا منهجا ُم َت َو ِّي ًزا‪ ،‬لكون "فوكو" استطاع من خالل‬
‫السابقة‪ ،‬تبيين مدى الفرق الذي يوجد بين األركيولوجيا كونهج وصفي‪ ،‬عن باقي‬ ‫ا َّلتوييزات َّ‬
‫والتفكيك‪ ،‬خصوصا َّ‬
‫وأن الوصف الحفري‪ُ ،‬م َو َّجه‬ ‫املناهج األخرى‪ ،‬كاللسانيات والتأويل َّ‬
‫ِّ‬
‫َّ‬
‫يتجسد عادة في اللغة‪.‬‬ ‫مباشرة إلى تحليل الخطاب‪ ،‬ومو ما‬

‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪65‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬


‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫‪ .4‬األركيولوجيا بين العلم وامليتافيزيقا‬


‫أوال‪ :‬األركيولوجيا كمنهج علمي صارم‪:‬‬
‫لقد كان "فوكو" على غرار أقطاب البنيوية في املجاالت املختلفة‪ ،‬أمثال "كلود ليفي‬
‫ستروس" "‪ "Claude Levi Strauss‬في مجال األنثوربولوجيا‪ ،‬و"جاك الكان" "‪"Jacques Lacan‬‬
‫في مجال التحليل النفس ي‪ ،‬و"لوي ألتوسير" "‪ "Louis Althusser‬في مجال الفلسفة؛ ‪ ،‬يسعى‬
‫َّ‬
‫الدقة في األبحاث‬‫إلى تحقيق العلوية والخروج من دائرة التفكير امليتافيزيقي‪ ،‬ومنه الوصول إلى ِّ‬
‫‪34‬‬
‫الفلسفية‪ ،‬فقد كان املسعى األساس ي لـفوكو َّأنه أراد أن يجعل الفلسفة مبحثا علويا دقيقا‪،‬‬
‫َّ‬
‫ُيضاهي في دقته املباحث العلوية األخرى‪ ،‬وتكون نتائجها ُم َوا ِّثلة لتلك التي ُح ِّققت في امليادين‬
‫َّ‬
‫العلوية املختلفة‪ ،‬فقد كان إيوان "فوكو" قويا بضرورة إلغاء الذات ومعارضة النزعة‬
‫التخلي عن وم النزعة اإلنسانية والفكر التاريخي‪ ،‬عن طريق‬
‫اإلنسانية‪ ،‬فكان السبيل إلى ذلك ِّ‬
‫االقتداء بالهدي العلمي‪ ،‬وفتح الباب أمام تأسي نزعة إنسانية‪ ،‬نزعة مغايرة في منهجها‬
‫ؤسسة في قوامها على قواعد‬ ‫ونتائجها لتلك التي شهدما الخطاب الحداثوي األوروبي‪ ،‬نزعة ُم َّ‬
‫اعتقد َّ‬
‫بأنه ثابت ال‬ ‫وأس علوية دقيقة بعيدة في ذلك عن النسق امليتافيزيقي‪ُ ،‬م َحطوة كل ما ُ‬
‫ِّ‬
‫وأن السياق الفكري الذي نشأ في ظله "فوكو"‪ ،‬كان ُمتوركزا حول الفكر‬ ‫يتغير؛‪ 35‬خصوصا َّ‬

‫أن الفلسفة‬ ‫البرغسوني والسارتري‪" ،‬فبرغسون")‪ (Henri Bergson‬بنزعته الروحية‪ ،‬اعتبر َّ‬

‫الحي‪ ،‬وعلى أساس مذا الفه‬ ‫َّ‬


‫الحقيقية هي امليتافيزيقا‪ ،‬املتجهة نحو الجومر الداخلي للوجود ِّ‬
‫للعال بوصفه عولية إبداعية‪ ،‬بلور "برغسون" نظريته في املعرفة‪ ،‬لتصبح معها مقوالت‬
‫النشاط والحدس والحرية من أساسيات مذه النظرية‪ 39.‬إضافة إلى مجووع االنتقادات التي‬
‫َّ‬
‫وجهها "برغسون" إلى املنهج التجريبي خالل تطبيقه على املادة الحية‪ ،‬بدعوى قداسة مذه‬
‫املادة وخاصة منها اإلنسان ومن منا كان االمتوام الجومري في الفلسفة البرغسونية بالجانب‬
‫التام ملختلف املُنجزات التي َّ‬
‫حققها العل ‪ ،‬فقد كان‬ ‫الذاُي (الروحي)‪ ،‬واإلغفال أو التجامل َّ‬
‫تركيز برغسون على َّ‬
‫الديوومة وحرية اإلنسان‪ ،‬بوثابة إعالء للجانب الروحي والذاتية‪.‬‬
‫وغير بعيد عن "برغسون" نجد "جون بول سارتر")‪ ،(Jean-Paul Sartre‬الذي انطلق في‬
‫تحليله األونطولوجي للوجود‪ ،‬بتحويله لعولية التفلسف من النظرة إلى الخارج إلى النظرة إلى‬
‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪66‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬
‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫ُ ُّ‬
‫الذات اإلنسانية‪ ،‬كونها توثل أساس الوجود اإلنساني‪ ،‬مذا الوجود الساعي دائوا إلى البحث‬
‫عن الحرية‪ ،‬في ِّخض ِّ القلق ومختلف الحاالت النفسية التي ُعيشها الذات الواعية‪ ،‬ومن منا‬
‫َّ‬
‫تبين الفرق بين وجودية سارتر والفلسفة العلوية‪ ،‬التي احتضنت وتبنت مبادئ املنهج التجريبي‬
‫فاملعرفة عند سارتر تكون عن طريق املشاركة‪ ،‬بوعنى تلك التجربة التي ُعيشها الذات‪ ،‬في حين‬
‫‪37‬‬
‫أن املعرفة التجريبية هي ما يرادف التجربة الحسية‪.‬‬
‫وعليه كان عول "فوكو" ومهوته األساسية‪ ،‬هي َّ‬
‫النظر بعين الناقد ملثل مذه األطروحات‪،‬‬
‫سعيا منه لوضع قطيعة إبستيوولوجية مع التراث الفكري الغربي الذي َّ‬
‫شيدته الحداثة‬
‫الغربية‪ ،‬على غرار ما فعله "غاستون باشالر" في نظرية الهدم والبناء‪ ،‬فقد دعا "فوكو" إلى‬
‫ُّ َ‬
‫الرؤى الذاتية واأليديولوجية‪ ،‬أو السلطوية ًّأيا كان مصدرما‪،‬‬ ‫ضرورة تحرير الخطاب من كل‬
‫فوهوة الفيلسوف في نظره الكشف عن الحقيقة بين ثنايا الخطاب‪ ،‬وإن كانت الحقيقة غير‬ ‫َّ‬
‫ُمحددة وغير واضحة املعال ‪" ،‬فون الفه الذاُي تنبج الحقيقة كاختزال للوشروع الذاُي‬
‫ُ‬
‫‪38‬‬
‫للفيلسوف حينها ت ْد َر ُك اللحظة التحريرية للفيلسوف حين يجد نفسه خارج عتبة املوضوعي"‪.‬‬
‫حول عن‬ ‫غير َّ‬
‫والت ُّ‬ ‫ل ُعد الحقيقة إذن ‪-‬مع "فوكو"‪ -‬ذلك الثابت املستقر‪ ،‬الذي ال يعرف َّ‬
‫الت ُّ‬

‫مساره الذي ُوضع فيه‪ ،‬بل أصبحت معه وغيره من الفالسفة املابعد حداثيين‪ ،‬قابلة للتأويل‬
‫ً‬
‫وأبعادا ربوا كانت َّ‬
‫خفية فيوا مض ى‪ ،‬فقد حاول "فوكو" رصد التاريخ‬ ‫والتفكيك‪ ،‬لتأخذ دالالت‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫املرجعية الفكرية الثابتة‬ ‫وثل‬ ‫الحضاري للفكر والثقافة الغر َّبيين‪ ،‬واضعا قطيعة مع كل ما ي ِّ‬
‫ُ‬ ‫فالقراءة الجديدة التي أُى بها "فوكو"‪ ،‬أو الكتابة التاريخية إن َّ‬
‫صح القول‪ ،‬ت َو ِّثل ثورة منهجية‬
‫وُعدد مستويات التحليل‪ ،‬وإعادة بناء مقولة‬ ‫في كتابة التاريخ‪ ،‬ثورة قائوة على االنفصالية ُّ‬

‫عد بوثابة ثورة منهجية‬ ‫الحدث التاريخي باختالف مجاالته وأبعاده‪ .‬فاألركيولوجيا الفوكوية ُُ ُّ‬
‫ُ‬ ‫ضد املناهج الغربية َّ‬
‫املتبعة‪ ،‬واملعتودة في دراسة التراث باختالف مجاالته وحقبه‪ ،‬فل تقنع‬
‫ُّ‬
‫والتجود‬ ‫تلك الدراسات "فوكو"‪ ،‬من زاوية َّأنها جعلت املعرفة تقبع خلف أسوار الثبات‬
‫ُُ‬
‫الالمتناهي‪ ،‬بل سعى إلى فتح الباب نحو أفق فكرية مجهولة النتائج معلومة املبادئ واألس ‪.‬‬

‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪67‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬


‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫ثانيا‪ :‬تقويض خطاب امليتافيزيقا‪:‬‬


‫إذا كان "فوكو" قد َّاتخذ من العلوية سبيال يلزم ِّاتباعه لتحقيق اليقين‪ ،‬فهذا ما يلزم عنه‬
‫اتجامه إلى مشروع تقويض امليتافيزيقا‪ ،‬أو تفكيك النسق امليتافيزيقي؛ ومن مذا املنطلق‬
‫سيتبلور فه جديد للحقيقة‪ ،‬فإن كانت محاولة "كانط" لجعل امليتافيزيقا علوا قائوا بذاته‬
‫"فإن "ميشيل فوكو" سينحو نحوا مغايرا‬ ‫كباقي العلوم األخرى‪ ،‬لها مكانتها في التاريخ الفلسفي‪َّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫لذلك تواما‪ ،‬ذلك َّأنه عندما ت ِّر ُد فكرة تقويض امليتافيزيقا‪ ،‬ت ِّحيل مباشرة إلى تقويض للتاريخ‬
‫َُ‬
‫الذي تق ِّدم به امليتافيزيقا نفسها‪ ،‬في الشكل الذي أعطاه َّإياه "ميجل" ومدما للتاريخ الهيجلي‪،‬‬
‫قرره "فوكو" في قوله‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫‪31‬‬
‫وتقويضا ملفهوم الزمان التاريخي كوا أرسته املثالية املطلقة" ومذا ما ي ِّ‬
‫أن عصرنا كله حاول بكل الوسائل أن يفلت من قبضة ميجل سواء عن طريق املنطق أو‬
‫ُّ‬ ‫ُ"أدرك َّ‬
‫عن طريق اإلبستيولوجيا‪ ،‬أو عن طريق مارك أو عن طريق نيتشه[‪َّ ]...‬‬
‫لكن االنفالت من‬
‫وإننا واعون إلى أي حد مو قريب َّ‬ ‫بدقة تكاليف مذا االنفالت‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ ُ‬
‫منا‬ ‫ِّ ٍّ‬ ‫قدر‬
‫قبضة ميجل‪ ،‬إننا ن ِّ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫‪41‬‬
‫فكر ِّض َّد ميجل"‪.‬‬
‫بطريقة ماكرة‪ ،‬وإن ما تبقى لنا من ميغلية‪ ،‬مو الذي يسوح لنا أن ن ِّ‬
‫النص‪ ،‬مدى الحضور القوي للفلسفة الهيجلية‪ ،‬وإن في صورتها‬ ‫َّيتضح من خالل مذا َّ‬
‫أن الفكر الفلسفي الذي يسير في الخطى الهيجلية‪ ،‬يجب َّ‬
‫التخلي‬ ‫أقر "فوكو" َّ‬
‫السلبية‪ ،‬فقد َّ‬
‫عنه أو باألحرى مجاوزته‪ ،‬فالفلسفة كوا كان سائدا في خطاب الحداثة الغربية‪ ،‬قد اكتولت‬
‫أن الفلسفة ل يكن لها تاريخ‬‫عند "ميجل"‪ ،‬ومن املعاني التي يوكن أن ُُعطى لهذا املفهوم‪ ،‬مو َّ‬
‫َُ‬ ‫َّ‬
‫إال عند املثالية املطلقة‪ ،‬فوع "ميجل" ارتفعت امليتافيزيقا إلى مستوى التاريخ في صو ٍّر ِّ‬
‫متعددة‪،‬‬
‫الشتات الفلسفي‪ ،‬في تاريخ َّ‬ ‫َّ‬ ‫أن "ميجل" مو الذي َّ‬ ‫ومن أموها َّ‬
‫تحددت نهايته في املعرفة‬ ‫وحد‬ ‫ِّ‬
‫‪41‬‬ ‫َّ‬
‫املطلقة‪ ،‬بوا تحوله اللفظة واملفهوم من معنى‪.‬‬
‫قيام فلسفة بعد‬ ‫انطالقا من مذا الواقع الفكري‪ ،‬كان "فوكو" دائ التساؤل عن إمكانية َ‬
‫الفلسفة الهيجلية‪ ،‬وهي اإلشكالية التي فرضت نفسها في الخطاب الفلسفي املعاصر‪ ،‬كوا مو‬
‫الحال في فينومينولوجيا "مايدغر"‪ ،‬في محاولة منها ملجاوزة امليتافيزيقا التي اعتبرما "مايدغر"‬
‫نسيان الوجود‪َّ ،‬إال َّأنه في قراءته لـهيجل‪ ،‬يقف موقف املُؤيد‪ ،‬باعتباره َّ‬
‫التحديد الهيجلي للتاريخ‬ ‫ِّ‬

‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪68‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬


‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫بالتحديد الصحيح في جزء منه والخاطئ في‬ ‫لكنه لي كذلك َّ‬ ‫كنوو للفكر لي تحديدا خاطئا‪َّ ،‬‬

‫مرة أن تجد التعبير عن‬‫صحة امليتافيزيقا التي استطاعت مع "ميجل" وألول َّ‬ ‫اآلخر‪َّ ،‬إنه صحيح َّ‬
‫َّ‬ ‫يتبين َّ‬
‫ماميتها املطلقة في املنظومة الفلسفية؛‪ 42‬ومن منا َّ‬
‫أن "ميجل" مثل نقطة مامة في الفكر‬
‫َّ ُ‬
‫لكنها ُعتبر مرتكزا أساسيا في قيام فلسفة تخرج عن‬ ‫املعاصر‪ ،‬وإن كانت بالصورة النقدية‪،‬‬
‫َّ‬
‫النسق امليتافيزيقي‪ ،‬فقد أكد "فوكو" دائوا على السلطة التي فرضها النسق الهيجلي على‬
‫جادة لتحطي األلواح التي‬ ‫تتلخص في محاولة َّ‬ ‫مهوته َّ‬ ‫الفلسفة املعاصرة َّ‬
‫برمتها‪ ،‬حيث اعتبر أن َّ‬
‫‪43‬‬ ‫َّ‬
‫وضعها النسق الهيجلي‪.‬‬
‫تقدم يتساءل "فوكو"‪" :‬مل مازال بإمكاننا أن نتفلسف في مجال ما باالستغناء‬ ‫وبناء على ما َّ‬
‫ً‬
‫عن ميجل؟ مل يجوز أن توجد فلسفة غير ميجلية؟ وما مو ميجلي في فكرنا‪ ،‬مل ُي ُّ‬
‫عد‬
‫بالضرورة غير فلسفي؟ وكل ما مو مناقض للفلسفة‪ ،‬مل ُي ُّ‬
‫عد بالضرورة غير ميجلي"‪ 44.‬فقراءة‬
‫أن الفلسفة التي فرضها‬ ‫"فوكو" لـهيجل كانت منطلقا حاسوا في مشروعه النقدي بحك َّ‬

‫نصبت نفسها كراع للفكر الفلسفي‪ ،‬أو كإطار عام‬ ‫البراديغ الهيجلي في مختلف مستوياتها‪َّ ،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫عتبرة أ َّي محاولة للخروج عن مذا اإلطار مآلها السقوط والفشل‪ ،‬أو‬
‫ألي محاولة للتفلسف؛ م ِّ‬
‫ِّ‬
‫َّ‬
‫الخروج عن الفلسفة‪ ،‬لكن "فوكو" رأى أن مذا األنووذج امليتافيزيقي قد استنفذ كل مقوالته‪،‬‬
‫ومن الضرورة البحث عن ُس ُبل أخرى إلنتاج الحقيقة الفلسفية‪ ،‬وإن كانت مذه األخيرة غير‬
‫الض ِّيقة ملفهوم الحقيقة في مختلف‬‫محددة؛ فقد حاول "فوكو" أن يتجاوز تلك النظرة َّ‬‫َّ‬
‫َُ‬
‫مستوياتها‪ ،‬فلي من الجدوى البحث عن الحقيقة في إطار محدود‪ ،‬بل األجدر أن نؤ ِّرخ لتلك‬
‫الحقائق‪ ،‬ونقوم بقراءة نقدية للتاريخ في كل حقبه الزمنية‪ ،‬من خالل األثر املتواجد داخل‬
‫الخطابات املتعددة‪.‬‬
‫َّتتضح إذا وجهة نظر "فوكو" من املناهج املعتودة من طرف الفالسفة في معالجته ملختلف‬
‫َّ‬
‫املشكالت الفلسفية‪ ،‬إذ عاب عليها الثبات واالستقرار عند نقطة واحدة وخصوصا مع تضييق‬
‫ثاوي ًة بين ثنايا ُ‬
‫الحطام امليتافيزيقي‬ ‫ظلت َ‬ ‫َّ‬
‫العام للقراءات التاريخية‪ ،‬تلك القراءات التي‬
‫اإلطار ِّ‬
‫َّ‬
‫الدور املنوط باملثقف‪ ،‬ل يعد يتوحور‬ ‫أن َّ‬ ‫الذي تجاوزته مقوالت الخطاب املعاصر‪ ،‬إضافة إلى َّ‬

‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪69‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬


‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫حول النقد وصياغة الحلول للوشكالت املختلفة‪ ،‬سواء على املستوى السياس ي أو االجتواعي‬
‫الناقد‪ .‬ومذا بحسب "فوكو"‬‫محل املتلقي ال َّ‬ ‫أو الثقافي األنثربولوجي‪ ،‬في حين َّ‬
‫أن الذات تبقى َّ‬
‫ِّ‬
‫نتيجة لغياب الح ِّ النقدي‪ ،‬وبهذه الصورة يكون العول الفلسفي قد ابتعد ِّكلية عن جومره‪،‬‬
‫ََ‬ ‫َّ‬
‫َّ‬
‫لتتحول اإلجابة إلى سؤال‬ ‫ألننا "في الفلسفة ال ننتهي‪ ،‬فق َد ُرما أن تظل ُسأل باستورار ُلتجيب‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫جديد‪ ،‬وهي ك ُروح ُساؤلية نقدية‪ ،‬ترفض أن ت َت َج َّود في املعنى الواحد‪ ،‬أو الحقيقة الواحدة‪،‬‬
‫وثنية الفكر‪ِّ ،‬حفاظا على ِّإبداعية العقل‪ ،‬وضوانا‬ ‫فتراما باستورار ُتحارب الحقائق‪َ ،‬ت َن ُّكرا ِّل َّ‬
‫جددما‪ ،‬فتاريخ الفلسفة تاريخ قطيعات وثورات إبستيوية َت َت َّ‬
‫حدد بوقتضياتها‬ ‫اريتها َوت ُّ‬
‫الستور َّ‬
‫أن العق الذي أصاب املناهج التقليدية‪ ،‬جعل من الح‬ ‫الحقائق َوت َت َع َّدد األنساق"‪ 45.‬في حين َّ‬

‫فتربعت امليتافيزيقا على عرش الفلسفة‪،‬‬ ‫النقدي الصارم يكون غائبا عن املشهد الفلسفي‪َّ ،‬‬
‫وترتب عن مذا الواقع الفكري‬‫فكان نتيجة ذلك‪ ،‬اُساع الهوة بين اإلنسان وكينونته األصيلة‪َّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫تصو ٌر للذات قائ على مختلف أشكال التطويع والتقييد والتدجين‪ ،‬بحك أن الخطاب‬ ‫املتأزم‪ُّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫السلطوي املعرفي‪ ،‬قد عول دور الوصاية املطلقة على الذات‪ .‬ومن مذا املنطلق اتجهت‬
‫األبحاث الفوكوية صوب تحرير الفكر من القيود التي فرضتها النسقية‪ ،‬وضاعت في خ َ‬
‫ض ِّوها‬ ‫ِّ‬
‫أنطولوجيا الذات الغربية‪ ،‬وتناثر وجودما بين الشبكة السلطوية ومؤسساتها املختلفة؛ فكانت‬
‫األركيولوجيا الفوكوية بآلياتها الحفرية بوثابة كشف للووارسات السلطوية في املجاالت‬
‫املتعددة‪ ،‬وزعزعة لليقين الذي رسوت معامله مقوالت الخطاب الحداثوي‪،‬فاستطاعت بذلك‬
‫ِّ‬
‫التنقيب في مختلف اآلليات السلطوية التي عولت على تطويع الذوات عبر تنظيراتها وموارساتها‬
‫على حد سواء‪ ،‬والكشف عن مدى التواشج الحاصل بين ثنائية املعرفي‪ /‬السلطوي‪ ،‬وكيف َّ‬
‫أن‬ ‫ٍّ‬
‫كال املقولتين ُعوالن لتحقيق مدف واحد ومو التدجين والتطويع‪.‬‬

‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪70‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬


‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫اهلوامش واإلحاالت‪:‬‬

‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪71‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬


‫عبد احلق طاليب‬ ‫ميشيل فوكو وجتاوز املناهج الفلسفيّة التّقليديّة‬

‫مج ‪ .51‬عدد ‪( 5‬جانفي ‪) 9152‬‬ ‫‪72‬‬ ‫جملة منتدى األستاذ‬

You might also like