You are on page 1of 28

‫‪ 23‬ﻣﺎرس ‪2023‬‬ ‫ﻗﺴﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ واﻟﻌﻠﻮم اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ‬ ‫ﺑﺤﺚ ﻣﺤﻜﻢ‬

‫‪All rights reserved © 2023‬‬ ‫ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺤﻘﻮق ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ © ‪2023‬‬


‫امللخص التنفيذي‪:‬‬

‫لعل من نافل القول إن حديث السياسة صبغ بالكثير من الكالم التبريري األيديولوجي‪ ،‬والذي يعلي من‬
‫شأن «المصلحة»‪ ،‬باعتبارها نبراس السلوك السياسي‪ .‬وحري بي أن أنبّه إلى االنتقال الكبير الذي طرأ في‬
‫تمثلنا للسياسة وما يحيط بها‪ ،‬بين القدماء الذين مزجوا تدبير الناس بتدبير هللا للكون‪ ،‬والمحدثين الذين حاولوا‬
‫الفصل والتمييز‪ ،‬بل إقامة الحدود بين عالم قائم بذاته‪ ،‬وهو عالم السياسة وما عداه‪.‬‬

‫أحاول في دراستي هذه‪ ،‬أن أعود للضرورات العلمية والمنهجية لعملية التمايز والفصل التي تمت بين‬
‫السياسة‪ ،‬باعتبارها البحث عن المصلحة‪ ،‬واألخالق أو «النزعة المبدئية» في فكر وائل حالق‪ ،‬خاصة‬
‫وأن الباحث كان له هم واضح‪ ،‬يروم من خالله استكشاف اعوجاجات الحداثة‪ ،‬وأثرها السلبي على عملية‬
‫«تثوير» الفكر اإلسالمي عامة‪ ،‬والفكر اإلسالمي السياسي على وجه التخصيص‪.‬‬

‫إن سؤال العالقة بين المصلحة واألخالق‪ ،‬تنظيرا وتطبيقا في الفكر السياسي اإلسالمي‪ ،‬من االهتمامات‬
‫التي تفرض نفسها‪ ،‬فهل من عالقة بين المحددين المذكورين في التصور للفعل والممارسة السياسية داخل‬
‫البيئات اإلسالمية؟ وكيف عالج وائل حالق هذا التفصيل على ضوء إعادة اشتغاله على الشريعة والقرآن‬
‫كمصدرين للمنتج الفكري اإلسالمي؟ وما الحاجة المعاصرة‪ ،‬إلعادة التفكير في اشتراط التزام‪/‬إلزام أخالقي‪،‬‬
‫للفعل السياسي المصلحي؟‬

‫‪2‬‬
‫مقدمة‪:‬‬

‫يعد وائل حالق‪ ،‬المفكر واألكاديمي الكندي الجنسية‪ ،‬الفلسطيني األصل واالنتماء‪ ،‬واإلسالمي الهوى‬
‫والميول الفكري‪ ،‬مفكرا ما بعد حداثي* بامتياز – إذا اعتبرنا أن ما بعد الحداثة هي حركة نقد معرفي و ُِجهت‬
‫للحداثة – وناقدا للمشروع الحداثي عامة‪ ،‬ونسخته األوربية على وجه التخصيص‪.‬‬

‫كما يعد مفكرنا‪ ،‬واحدا من أهم األعالم الجدد والجادين للتنظير الفكري اإلسالمي المعاصر‪ ،‬خاصة‬
‫باشتغاله وانشغاله المثير لالنتباه – وللجدل – على مباحث إسالمية‪ ،‬كأصول الفقه والشريعة والحكم اإلسالمي‬
‫عامة‪ ،‬ومبحث األخالق خاصة‪ ،‬والذي ه ومناط االهتمام في ورقتي‪.‬‬

‫نبّه حالق‪ ،‬لضرورة ممارسة نقد مزدوج‪ ،‬األول يٌ َوجه للحداثة ونسختها األوروبية تحديدا‪ ،‬نصا‬
‫وتطبيقا‪ .‬والثاني ‪ -‬وه و ُم َتض َمن في النقد األول – فيفكك وينقد الرؤى اإلسالمية‪ ،‬داخل بناها الفكرية‪ ،‬تنظيرا‬
‫وتطبيقات تاريخية‪.‬‬

‫وإذ يمارس حالق هذا النوع من النقد؛ ألن له يقينا‪ ،‬مفاده «أننا إذا أمعنا النظر في النقد األخالقي الداخلي‬
‫بعد الحداثة الغربية‪ ،‬نجد نظائر قريبة‪ ،‬بل متطابقة بدرجة كبيرة بين ذلك النقد والمعاني المستترة للدعوة‬
‫اإلسالمية الحديثة لتأسيس حكم إسالمي»‪1‬؛ أي إن مخرجات عملية التفكيك والنقد المعرفية المزدوجة هاته؛‬
‫ُشتركة)‪ ،‬وخاصة في تمثل‬
‫للحداثة وللمتن الفكري اإلسالمي‪ ،‬تأول إلى نتائج جد متقاربة ويمكن أن نسميها (م َ‬
‫ُكو َنة له‪ ،‬نفسيا‪ ،‬واجتماعيا‪ ،‬وفي مقدمتها األخالق‪.‬‬
‫اإلنسان وأبعاده وخصائصه الم ِ‬

‫أحاول في هذه الدراسة‪ ،‬أن أحلل منظور وائل حالق‪ ،‬لمركزية األخالق في رؤيته النقدية الما بعد حداثية‬
‫اإلسالمية*‪ ،‬في تقاطعها – إن و ُِجد هذا التقاطع – مع إحدى أحجار الزاوية في البناء الحداثي الغربي‪ ،‬وهي‬
‫مقولة المصلحة‪ ،‬باعتبارها عقلنة للفعل اإلنساني؛ فرديا كان أ وجماعيا‪.‬‬

‫ألصوغ إشكاال كالتالي‪ :‬ماهي إذن أبرز أسس النقد الحالقي المزدوج للحداثة الغربية‪ ،‬وللفكر السياسي‬
‫اإلسالمي؟ وكيف عالج حالق – على ضوء هذا النقد المزدوج – مبحثي األخالق والمصلحة‪ ،‬باعتبارهما‬
‫وجهين – متنافرين – لنفس العملة؟ وهل يمكن الجمع بين هذين األسين في الفكر السياسي اإلسالمي‪ ،‬وبأي‬
‫شكل؟‬

‫‪ -1‬حالق وائل‪ ،‬الدولة المستحيلة‪ :‬البإسالم والسياسة ومأزق الحداثة األخالقي‪ ،‬ترجمة‪ :‬عمر وعثمان‪ ،‬مراجعة‪ :‬ثائر ديب‪ ،‬المركز العربي لألبحاث‬
‫ودراسة السياسات‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬بيروت أكتوبر ‪ ،2014‬ص ‪26‬‬
‫* لعل هذا التوصيف‪ ،‬قد يبد وغريبا‪ ،‬ولكن أعني به رأسا‪ ،‬االنتماء االبيستيمولوجي واألكاديمي لحالق‪ ،‬باعتباره مفكرا وناقدا ما بعد حداثي‪ ،‬وفي‬
‫نفس الوقت منظرا وناقدا إسالميا‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫أوال‪ -‬نقد مزدوج للحداثة والفكر السيايس اإلسالمي‪ ،‬عند وائل حالق‪:‬‬

‫ال أبغي في ورقتي هاته‪ ،‬عودة للتأصيالت األولى لماهية السياسة؛ وماهية األخالق – وإن كان األمر‬
‫ذا إفادة – ولكن أروم عرضا مقتضبا لما قدمه واحد من أهم المفكرين اإلسالميين المعاصرين؛ وائل حالق‪،‬‬
‫في موضوعة ال زالت سجالية‪ ،‬وهي العالقة بين الفعل السياسي والمحددات القيمية‪ ،‬أ وبتعبير أكثر وضوحا‬
‫العالقة بين السياسي واألخالقي‪.‬‬

‫يرى المفكر الفلسطيني‪ ،‬وائل حالق أن محاولة فهم التاريخ اإلسالمي – واألمر ينسحب كذلك على‬
‫واقعه – ال يتم سوى بدراسة وافية‪ ،‬ناقدة وعلمية للمنجز الحداثي‪ ،‬باعتبار أن هذا األخير يطرح نفسه كقاطرة‬
‫البدائل االجتماعية‪ ،‬التي يمكن أن تدخل المجتمعات الما قبل‪ -‬حداثية‪ ،‬للمرحلة التي تعتبر العنوان العريض‬
‫للعالم اآلن وهي الحداثة‪ .‬وتندرج هذه الممارسة الحالقية‪ ،‬للنقد‪ ،‬في إطار اشتغاله على عالقة العام‪ /‬الحداثي‪،‬‬
‫بالخاص‪/‬الما قبل‪-‬حدثي‪ ،‬ولعل من أهم المحاور التي أوالها حالق‪ ،‬اهتماما واضحا‪ ،‬األخالق والسياسة‬
‫وخاصة أن الحداثة أنتجت لنا ممارسة للسياسة منفلتة إلى حد كبير من كل إطار قيمي‪/‬أخالقي‪.‬‬

‫إن للحداثة ورطة‪ ،‬متعددة المظاهر والجوانب‪ ،‬سرعت من تأسيس حقبة معرفية كبرى‪ ،‬وهي ما يعرف‬
‫ب (ما بعد‪-‬الحداثة)‪ ،‬وقد كان من أهم الموضوعات التي ووجهت من كبار منظري هذه الحركة‪/‬الحقبة‬
‫المعرفية بالكثير من النقد‪ ،‬مبحث األخالق‪ .‬ولعل مناط عمل الورقة‪ ،‬إظهار قدر ة هذا األس األخالقي‪ ،‬والذي‬
‫يعد مكونا رئيسا في التنظير السياسي اإلسالمي‪ ،‬على قبول اإلبحار – إن جاز الوصف – في اتجاه مغاير‪،‬‬
‫فرضته بوصلة القارب الحداثي وه واتجاه المصلحة‪.‬‬

‫بتعبير أكثر جالء‪ ،‬لكل غامض‪ ،‬أبغي معرفة إمكانية تأسيس تالق بين المصلحة –باعتبارها أقنوم‬
‫الحداثة وفكرها السياسي – من جهة واألخالق من الجهة المقابلة‪ ،‬كحجر زاوية في معظم أدبيات الفكر‬
‫السياسي اإلسالمي‪.‬‬

‫‪ -1‬نقد الحداثة‪ ،‬كضرورة معرفية وتاريخية‪:‬‬

‫في البداية أجدني منحازا‪ ،‬وبشكل كلي‪ ،‬لهذه الدعوة الحالقية التي أطلقها الرجل في مقدمة كتابه »الدولة‬
‫المستحيلة«‪ ،‬الصادر سنة ‪ ،2013‬والتي يؤكد فيها على وجود ضرورية تاريخية و ُملِحة لـ «مراجعة‬
‫الحركات اإلسالمية لتصوراتها التاريخية والنظرية ومواقفها العملية بعد التطورات األخيرة‪ ،‬وهي مراجعة‬

‫‪4‬‬
‫باتت حتمية بال أدنى ريب»‪ ،2‬خاصة ما آل له التيار اإلسالمي‪ ،‬بعد ما عرف بالربيع العربي‪ ،‬من انحصار‬
‫وضبابية رؤية‪ ،‬نتجت عن الفشل – أو اإلفشال – الذي طالها أثناء ممارستها للحكم‪.‬‬

‫ينبه مفكرنا‪ ،‬في ذات اآلن‪ ،‬لضرورة المساهمة النقدية الفعالة والمُب ِدعة‪ ،‬لنا كمسلمين‪ ،‬لواقعنا – الذي‬
‫أُن ِتج بفاعلية التاريخ – وكذلك للمن َتج الحداثي في نسخته األوربية‪ .‬لهذا يعتبر حالق – ويشارك هنا طه‬
‫عبد الرحمن – أن المسلمين وعبر منتجهم الفكري الزاخر وتطبيقاته التاريخية‪ ،‬ساهموا في إنتاج الحداثة؛‬
‫إذ «يمثلون اليوم نحو خمس سكان العالم وأنهم بقدر ما يعيشون في العصر الحديث‪ ،‬فإنهم يعيشون أيضا‬
‫مشروع الحداثة‪ .‬إنهم شأنهم شأن غيرهم‪ ،‬جزء من ذلك المشروع»‪ ،3‬بل لهم الحق في إبداع «الصيغة‬
‫اإلسالمية للحداثة»‪ ،‬والتي «ترى أن األخالق مركزية‪ ،‬وهي قيمة ال يمكن فصلها عن الدين والسياسة»‪.4‬‬

‫يؤسس حالق مشروعة النقدي للحداثة األوروبية على طرح مفاده‪ :‬غياب األساس األخالقي وال ِق َيمي‬
‫في التنظير الحداثي منذ عصر األنوار‪ ،‬ولينسحب األمر كذلك على تطبيقاتها التاريخية‪ ،‬فيقول‪« :‬وهكذا‬
‫قام صعود مشروع الحداثة بشكل كامل وعميق على إبعاد األخالق عما أسميه بالمجاالت المركزية للحياة‬
‫الحديثة المتجسدة في الدولة‪ ،‬واالقتصاد الرأسمالي‪ ،‬والمادية‪ ،‬والتقنية‪ ،‬والبيروقراطية‪ ،‬والنفعية‪ ،‬والمنطق‬
‫األداتي»‪ ،5‬وقد نتج عن هذا الغياب‪/‬التغييب لألساس األخالقي والقيمي داخل المشروع الحداثي‪ ،‬انعكاسات‬
‫جد سلبية متعددة الجوانب والمظاهر‪ ،‬ولعل أهمها – وه وما يشغلني في المقال – هذا «التآكل العام المدمر‬
‫الذي يعتري المجاالت النفسية والروحية الداخلية للذات الحديثة»‪.6‬‬

‫يرى حالق أن اإلسهام اإلسالمي في نقد المشر وع الحداثي األوربي ينبني أساسا على «إعادة إدخال‬
‫األخالق كآلية حاكمة للتكوين االجتماعي والذاتي»‪ ،7‬حيث ُغيبت األخالق في التأسيس النظري‪ ،‬والتطبيق‬
‫التاريخي للدولة الحديثة‪.‬‬

‫لقد أنتجت الحداثة منظومتها الفكرية الخاصة بها‪ ،‬والتي صاغت معنى خاصا لإلنسان‪ ،‬يمتح من معين‬
‫الفردانية‪ ،‬والعزلة بالمعنى المباعد للجمع‪ ،‬ويعلى قدر المنفعة ويجعلها ركن العالقة بين اإلنسان وأخيه –‬

‫‪ -2‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪9‬‬


‫‪ -3‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪24‬‬
‫‪ -4‬حوار مع المفكر وائل حالق‪ ،‬إصالح الحداثة‪ :‬األخالق واإلنسان الجديد في فلسفة طه عبد الرحمن‪ ،‬حوار‪ :‬عثمان أمكور‪ ،‬مركز نهوض للدراسات‬
‫واألبحاث‪2021 ،‬ن ص ‪5‬‬
‫‪ -5‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪.6‬‬
‫‪ -6‬نفس المرجع‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬
‫‪ -7‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪.7‬‬

‫‪5‬‬
‫إن لم نقل وعدوه حسب المتن الهوبزي – ولعل انتصار الدولة في السيطرة على مناحي المنظومة الحياتية‬
‫الحديثة‪ ،‬عبر امتالك القوة والعنف والقانون وغيرها‪ ،‬دليل قد يساعدني في اعتبار أن المعنى الحداثي‬
‫لإلنسان‪ ،‬ه ومعنى قلق ومضطرب‪ ،‬بل ومغترب عن ذاته وعن العالم‪.‬‬

‫يرى حالق‪ ،‬وجوب تثوير تمثالتنا لماهية الحداثة‪ ،‬وما يستتبعها‪ ،‬ويتجلى هذا التثوير‪ ،‬في إعادة االعتبار‬
‫للمحددات اإلسالمية للوجود‪ ،‬اإلنسان‪ ،‬االجتماع‪ ،‬الحكم وغيرها‪ .‬بتعبير أوضح‪ ،‬إنها محاولة للخروج من‬
‫الثنائيات التراتبية المفروضة‪ :‬حداثة‪/‬ما عداها وما قبلها‪ ،‬مركز‪/‬هامش‪ ،‬وصياغة عالقة جديدة؛ يكون فيها‬
‫لإلسالم‪ ،‬الذي شكل هوية ووجود ومعنى المسلمين منذ ‪ 12‬قرنا‪ ،‬شأن كبير وحضور بارز في تأسيس ما‬
‫يمكن تسميته «مشروع حداثة إسالمية»‪ ،‬تنفرد أساسا عن باقي نسخ الحداثة األخرى‪ ،‬وخاصة األوربية‪،‬‬
‫بكونها حداثة أخالقية‪.‬‬

‫إن النقد الحالقي للحداثة األوربية‪ ،‬لم يكن استثناء‪ ،‬أو شذوذا في الرؤية والتوجه‪ ،‬بل كان محاولة‬
‫إسالمية منه – داخل الدوائر األكاديمية الغربية – لطرح وجهة نظر خارجة عن المركزية الغربية‪ ،‬للمنتج‬
‫الحداثي األوروبي‪ ،‬نقدا للمتن وكذا للتطبيقات التاريخية‪ .‬كما أنه محاولة إسماع صوت غير‪-‬غربي‪ ،‬فيما‬
‫يخص الم َُسلًمة التي تنظر للنسخة األوروبية من الحداثة وبما تحمله‪ ،‬كحتمية تاريخية ولزوم اجتماعي‪،‬‬
‫وتُنصب التاريخ األوربي وصيا على تواريخ أخرى‪ .‬ولعل أهم ما عُ ِني به الرجل ها‪ ،‬ه وموضوعة األخالق‪،‬‬
‫وغيابها شبه التام – اللهم فيما ورد من تنظيرات المدرسة النقدية الما بعد حداثية – في التأصيل النظري‪،‬‬
‫وكذا في التطبيق التاريخي‪.‬‬

‫ربما الحظ الدارس للنص الحالقي‪ ،‬أن فيه مبالغة في ميله للحديث عن األخالق‪ ،‬ولكنه «اختيار واعي‬
‫وصائب ألن األخالق هي جوهر اإلنسان وجوهر مبحث القيم»‪ ،‬وقد يعيب البعض على مفكرنا‪ ،‬قصر‬
‫الحداثة على األخالق وغيابها‪ ،‬خاصة وأنها «حررت اإلنسان من قيود القيم واألخالق عن طريق تعويض‬
‫األخالق بحرية العقل في اختيار السلوكيات»‪ ،‬والتي انفلتت – أي السلوكيات االجتماعية لإلنسان – من كل‬
‫وازع أخالقي‪/‬قيمي وتنضبط فقط لـ «المصلحة والمنفعة واللذة»‪.8‬‬

‫‪ -8‬نون وئام‪ ،‬سوالمية نسرين‪ ،‬قضايا االستشراق عند وائل حالق «الشريعة ووعي الذات»‪ ،‬مذكرة لنيل شهادة الماستر في الفلسفة التطبيقية‪ ،‬غ‪.‬م‪،‬‬
‫جامعة ‪ 8‬اي ‪ ،1945‬الجزائر‪ ،2022/2021 ،‬ص ‪.47‬‬

‫‪6‬‬
‫«إن مسألة نقد الحداثة نمثل جزءا من وعي الذات»‪ ،9‬وعي حقيقي ينطلق من عملية تمحيص وفحص‬
‫عميق‪ ،‬ناقد للحداثة‪ ،‬من زاوية إسالمية‪ ،‬باعتبار هذه الحداثة كما أُ ِريد لها؛ على أقل تقدير‪ ،‬هي منتج إنساني‪،‬‬
‫له سلبياته كما له اإليجابيات‪.‬‬

‫فما هو هذا الجديد النقدي اإلسالمي‪ ،‬الم َُقدم كبديل عن مآزق الحداثة؟ وماهي أبرز مالمح هذه المقاربة‬
‫الحداثية اإلسالمية؟‬

‫‪ -2‬التأسيس لحداثة إسالمية‪:‬‬

‫لعل األصح نسبة «الحداثة اإلسالمية» للمفكر المغربي والفيلسوف اإلسالمي طه عبد الرحمن‪ ،‬غير‬
‫أن وائل حالق دفع مشروعه النقدي خطوة أخرى لألمام‪ ،‬لما قاطع طرحه الفكري الناقد للفكر اإلسالمي‪،‬‬
‫وخاصة جزأه السياسي‪ ،‬برؤى «طه»‪ ،‬خاصة في كتابه «إصالح الحداثة‪ :‬األخالق واإلنسان الجديد في‬
‫فلسفة طه عبد الرحمن» الصادر سنة ‪ ،2020‬واشترك وبشكل صريح‪ ،‬مع الفيلسوف المغربي في اعتبار‬
‫الحداثة منجزا إنسانيا‪ ،‬وأن المسلمين لهم كل الحق واألهلية في تقديم رؤاهم الخاصة؛ وبدائلهم للحداثة‬
‫وداخلها‪ ،‬باعتبارها مشروعا «كونيا»‪ ،‬ولكون المسلمين جزءا من هذا المشروع كما صرح حالق‪.‬‬

‫ولما كان األمر كذلك؛ أي إن المسلمين هم جزء ال يتجزأ من مشروع الحداثة‪ ،‬كان لهم من تم كل الحق‬
‫والمشروعية في نقدها‪ ،‬ونقد مآزقها‪ ،‬ومحاولة الدفع إلصالحها‪ ،‬بما ال يتعارض مع محدداتهم الهوياتية‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وهوما أسميته حداثة إسالمية‪.‬‬

‫ولعل من أهم المالحظات – السجالية – التي قد تعترض هذا المفهوم «حداثة إسالمية»‪ ،‬هوافتراض‬
‫تناقض إيتيمولوجي ضمني بين الحداثة من جهة‪ ،‬واإلسالمي من جهة أخرى‪ .‬باعتبار األولى؛ أي الحداثة‪،‬‬
‫هي صيرورة إنسان وتاريخ خاص؛ هوالتاريخ واإلنسان األوروبي‪ ،‬أما الثاني؛ أي الوصف إسالمي‪ ،‬فيحيل‬
‫رأسا على الدين اإلسالمي باعتباره رؤية للوجود والعالم‪ ،‬وهذا فيه الكثير من الصواب للوهلة األولى‪ ،‬غير‬
‫أن الربط المُقام هنا بين مصطلحين؛ متعارضين ظاهريا‪ ،‬لنحت مصطلح جديد ببعد إيتيمولوجي جديد كذلك‪،‬‬
‫هو إدراك ضمني وناقد – كما أوضحت – لمآزق الحداثة األوربية التاريخية‪ ،‬ومن تم ه ومحاولة اقتراح‬
‫بديل إبيستيمولوجي وتاريخي يبني على إيجابيات الحداثة – التي ال ينكرها سوى مجحف – وتجاوز ورطة‬
‫الحداثة الكبرى وخاصة السؤال األخالقي‪.‬‬

‫‪ -9‬نفس المرجع‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫لعل من أعمق المآزق التي سقطت فيها الحداثة‪ ،‬الفصل بين القانون واألخالق‪ ،‬فقد عمدت النصوص‬
‫الحداثية إلى اعتبار القانون؛ س ٍنّا وتطبيقا‪ ،‬قصرا على الدولة‪ ،‬فاستتبع األمر َت ٍ‬
‫وار لألخالق في المشهد‬
‫المجتمعي العام‪ ،‬باعتبار أن الدولة الحديثة ليست دولة أخالقية أوغير أخالقية؛ أي ليس لها كبير اهتمام‬
‫بحضور األخالق من عدمه‪.‬‬

‫َيع َت ِبر حالق أن البديل اإلسالمي لهذا الغياب – التغييب – لهذا المكون المرجعي األخالقي؛ داخل‬
‫صرح البناء الفكري للحداثة الغربية هو «إعادة الصياغة المُب ِدعة للشريعة والحكم اإلسالميين أكثر الطرق‬
‫المالئمة والبناءة إلعادة تشكيل المشروع الحديث الذي ه وبحاجة ماسة إلى إعادة البناء والتكوين على أسس‬
‫أخالقية»‪ ،10‬باعتبار أن الشريعة عند حالق َمك َمن األخالق‪ ،‬و ُم َتض َمنها‪ ،‬مما يجعلها أساس كل تحديث‬
‫إسالمي أخالقي‪ ،‬أو لنقل «حداثة إسالمية أخالقية»‪ .‬ويقول في هذا السياق «تلك األخالقوية الكامنة بقوة في‬
‫الشريعة تُ ِ‬
‫فصح عن بنية مثالية تجعلها في منأى عن فوضوية الواقع االجتماعي والسياسي واضطراباته»‪،11‬‬
‫وهو رده على ذلك البراديغم الحداثي الغريب‪ ،‬والذي يفصل القانوني عن األخالقي‪ ،‬وبناء على هذا البراديغم‬
‫المزعوم – حسب حالق – يتم اعتبار الشريعة َمعيبة؛ ألنها تربط االثنين؛ ال بل وتدمجهما‪.‬‬

‫ولما يستقصي حالق‪ ،‬مفهوما ذاع صيته ودرج‪ ،‬في اشتغال الكثيرين‪ ،‬بغية تجاوز عيوب الشريعة –‬
‫المُدعاة عنده – وهو مفهوم (اإلصالح)‪ ،‬فهو يجده بذات درجة العيب‪ ،‬كذلك‪ .‬لكونه مفهوما منحازا‪ ،‬ويتأسس‬
‫عند أصحابه على افتراض غير سليم‪ ،‬وه وافتراض سُ ْقم الشريعة وضعفها‪ ،‬وه وما يعترض عليه حالق‪،‬‬
‫ويستشكل عليه عند القائلين به‪ ،‬باعتبار أن «نطاقا مذهال من اللغة مُشبع أيديولوجيا بحمولة مرهقة من المعاني‬
‫المرموزة‪ ،‬متورط في تلك المخاتلة االصطالحية والمفاهيمية» ويعتبر أن حمولة مصطلح (إصالح)‪ ،‬هي‬
‫حمولة ُم َوج َهة غير بريئة‪ ،‬وغير علمية؛ ألنه «المصطلح المعياري المختار لوصف التحوالت التشريعية‬
‫التي أجريت في العالم اإلسالمي‪ ،‬تحت تأثير الهيمنة األوربية المباشرة‪ ،‬وغير المباشرة إذ هومصطلح‬
‫ُفصح عن موقف سياسي وأيديولوجي مفصل بعناية‪ ،‬يفترض بالضرورة أن ثمة عيوبا في الشريعة وتحتاج‬
‫ي ِ‬
‫للتصحيح والتحديث»‪ .12‬لست بمعرض تقديم رؤية نقدية لطروحات حالق‪ ،‬فليس هذا سياقها ولعلي أفردت‬
‫لألمر دراسة منفردة‪ ،‬غير أني أعتبر أن تشريح مفكرنا اإليتيمولوجي والوظيفي لمفهوم (اإلصالح)‪ ،‬طغى‬
‫عليه – في ظني الخاص – الكثير من األدلجة – التي عابها هوبذاته‪ -‬وطفح كالمه المثبت أعاله وغيره في‬
‫مواضع أخرى من كتابه «ما هي الشريعة؟»‪ ،‬ببعد نوستالجي وأقول حالم‪ ،‬ال يخاف من أن يُ َت َهم باالنزواء‬

‫‪ -10‬حالق وائل‪ ،‬الدولة المستحيلة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬أنظر الهامش ‪ 15‬ص ‪23‬‬
‫‪ -11‬حالق وائل‪ ،‬ماهي الشريعة؟ ترجمة‪ :‬طاهرة عامر – طارق عثمان‪ ،‬مركز إنما للبحوث والدراسات‪ ،‬ط‪ .‬األولى ‪ ،2016‬بيروت‪ ،‬ص ‪17‬‬
‫‪ -12‬نفس المرجع‪ ،‬ص ص‪19-18‬‬

‫‪8‬‬
‫المعرفي في الزوايا المظلمة والرطبة من منتجنا الحضاري اإلسالمي وخاصة جزئه التشريعي‪ ،‬والذي‬
‫وجب اإلقرار – وبعيدا عن تحامل االستشراق – أنه كان هدفا وال زال لسهام نقد‪ ،‬من قبل مشاريع فكرية‪،‬‬
‫إسالمية رزينة‪.‬‬

‫لهذا أعتبر أن اإلصالح‪ ،‬التجديد‪ ،‬النقد‪ ،‬التحديث ‪ ...‬كلها مطالب معرفية وتاريخية‪ ،‬تُ ْعلِن بدءا – ووجوبا‬
‫– عن وجود اختالالت ومآخذ بل ومآزق‪ ،‬البد من الوقوف عليها مع الكثير من التدقيق والتمحيص والتشريح‬
‫العلمي‪ ،‬بعيدا عن منطق األفضلية والخيرية‪.‬‬

‫فإذا كانت الدولة الحديثة هي التجسيد الواقعي‪/‬البشري للسياسة والقانون‪ ،‬لكونها َت َملكتهما‪ ،‬وحددت‬
‫أشكالهما وأوقاتهما‪ ،‬وكذا مقوماتهما‪ ،‬باعتبارها (مالكة) للفضاء العام‪ ،‬فإن هذا ي َُح ِتم على المتبنين لطروحات‬
‫حداثية بديلة‪ ،‬وناقدة‪ ،‬وعلى رأسهم المسلمين أن ينجحوا في «تحدي التوفيق بين حقيقتين‪ :‬األولى هي‬
‫الوجود الحقيقي للدولة وحضورها القوي الذي ال يمكن إنكاره‪ ،‬والثانية هي الحقيقة األنطولوجية المتمثلة‬
‫في ضرورة استعادة شكل من حكم الشريعة»‪ .13‬وبعبارة ال يعتريها اللُبْس‪ ،‬الدولة الحديثة واقع ال يمكن النط‬
‫ُنجز للحقبة المعرفية الحداثية‪ ،‬ولما كان األمر كذلك‪ ،‬وجب على‬
‫عليه‪ ،‬أو تجاوزه‪ ،‬باعتباره أهم وأبرز م َ‬
‫المسلمين باعتبارهم يستشكلون على هذا اإلطار المعرفي‪ ،‬أن يقترحوا رؤية – تقويمية ‪/‬إصالحية – للدولة‬
‫تراعي أهم شروط حالق‪ ،‬وهي ضرورة ورود شكل من أشكال حكم الشريعة‪ ،‬وعلى رأسها البعد األخالقي‪.‬‬

‫فكيف قارب إذن حالق دعواه هذه؟ أي‪ ،‬ماهي دفوعات الرجل في سعية [إلعادة إحياء الشريعة]*‪ ،‬في‬
‫نظريات الحكم اإلسالمي؟ وما محل األخالق تحديدا‪ ،‬من جملة المحاججات تلك الناقدة للحداثة؟‬

‫ثانيا‪ -‬األخالق عند وائل حالق‪:‬‬

‫‪ -1‬األخالق‪ ،‬باعتبارها واقعا إسالميا‪:‬‬

‫يقول حالق‪« :‬حتى بداية القرن التاسع عشر‪ ،‬ولمدة اثني عشر قرنا قبل ذلك‪ ،‬كان قانون اإلسالم‬
‫األخالقي‪ ،‬المعروف بالشريعة‪ ،‬ناجحا في التفاعل مع القانون المتعارف عليه واألعراف المحلية السائدة‬
‫وعن القوة القانونية واألخالقية العليا التي تنظم شؤون كل من الدولة والمجتمع»‪ ،14‬أي أن الواقع اإلسالمي‬

‫‪ -13‬حالق وائل‪ ،‬الدولة المستحيلة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪22‬‬


‫* وضعت العبارة بين معقوفتين‪ ،‬لكونها مُستَهجنَة في المتن الحالقي باعتباره يؤكد أن الشريعة‪ ،‬لم تكن يوما‪ ،‬طيلة القرون االثني عشر‪ ،‬غائبة عن‬
‫المجتمع أو ميتة في تعاطيها معه‪ ،‬وحضورها فيه‪ ،‬حتى يتم إحياؤها من جديد‪ ،‬بل العكس تماما‪.‬‬
‫‪ -14‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪19‬‬

‫‪9‬‬
‫وإلى حدود القرن ‪19‬م – قرن االستعمار األوروبي – كان أخالقيا‪ ،‬معنى ذلك أن المحدد األخالقي كان‬
‫ي ُْؤخذ بعين االعتبار في أمور التدبير العام‪ ،‬من زاوية الفعل السياسي‪ ،‬الذي يسميه حالق «الحكم اإلسالمي»‪،‬‬
‫وموضوع هذا الفعل‪/‬الحكم؛ أي الجماعة المسلمة‪ .‬وقد اعتبرت األخالق‪ُ ،‬م َت َ‬
‫ض َم َنة في الشريعة‪ ،‬مصدرا‬
‫أساسيا في تعيير الفعل‪/‬الحكم السياسي – فرديا أ وجمعيا – بل استطاعت أن تضفي «تنظيما جيدا» على‬
‫المجتمع كما وصف «جون رولز»‪ ،‬مما ساعد على استمراره»‪ ،15‬مما يؤكد ما ذهبت إليه في التعليق‪ ،‬الذي‬
‫يرفض فيه حالق أي تلميح أ وتصريح – وخاصة االستشرافي ال ُمؤَدلَج – عن غروب شمس الشريعة‪ ،‬منذ‬
‫القرن الرابع‪ ،‬أ وحتى القرن الثامن الهجري‪.‬‬

‫قدم حالق العديد من الدفوعات‪ ،‬يؤكد بها وفيها استمرارية األخالق‪ ،‬عبر قناة الشريعة‪ ،‬في عملية تأطير‬
‫الفرد والجماعة المسلمة‪ ،‬وكذا السياسة اإلسالمية‪ ،‬وقد اشتغل مفككا الفقه اإلسالمي‪ ،‬والذي يعتبره مفكرنا‪،‬‬
‫من النماذج المعرفية اإلسالمية‪ ،‬التي استوعبت الفسيفساء العرقية‪ ،‬واإلثنية‪ ،‬والدينية للمجتمع اإلسالمي‪ ،‬بل‬
‫وشكلت «هذه التعددية المدهشة سمة جوهرية للفقه»‪ ،‬وجعلتها تتفاعل جدليا مع هذه المتغيرات لتنتج «آليات‬
‫واستراتيجيات فقهية استطاعت أن تدبر هذا التنوع وتضبطه بجدارة»‪ ،16‬وه وما تأتى عبر تنوع اآلراء‬
‫الفقهية‪ ،‬ودخولها في حالة مُحاجة بين بعضها البعض‪ ،‬وفي نفس المسألة الفقهية والتي قد تجد فيها عشرات‬
‫اآلراء‪ ،‬مما يُستنتج منه أن «أصول الفقه» كانت متفاعلة وبشكل قوي مع الوقائع المجتمعية‪ ،‬ولم تدخل في‬
‫حالة استاتيكية ‪/‬مدرسية كما يدعي الكثير‪.‬‬

‫ويرى حالق‪ ،‬أن تغليب الرأي الفقهي في مسألة ما‪ ،‬عن غيره‪َ ،‬ح َك َمه منطق «األرجح أو األصح‬
‫إبيستيمولوجيا»‪ ،17‬هذا صحيح‪ ،‬ولكن يجب التنبيه إلى كون الواقع والمتطلبات االجتماعية؛ كان لها التأثير‬
‫البالغ في رُ جحان رأي فقهي على رأي آخر‪ ،‬وه وما أسميه «األصح اجتماعيا‪/‬أخالقيا»؛ إذ الفقه وأصوله‬
‫ومسائله‪ ،‬هوالتعاطي اإلسالمي مع محددات الجماعة اإلسالمية‪ ،‬ومكوناتها‪ ،‬في شق العبادات والمعامالت‪،‬‬
‫وهوما سأعود له بتفصيل في الحقا‪.‬‬

‫المثال اآلخر‪ ،‬الذي يُحاجج به حالق‪ ،‬ويؤكد عبره حضور األخالق الدائم والمستمر في االجتماع‬
‫اإلسالمي‪ ،‬هو القضاء‪ ،‬والذي يعتبره مفكرنا‪ ،‬تبيئة قانونية‪/‬أخالقية للشريعة والفقه‪ ،‬فقد «كان القاضي‬
‫يتوسط بشكل دياليكتيكي بين المتطلبات األخالقية واالجتماعية (التي كان مشتركا فيها) من ناحية‪ ،‬وبين‬
‫المتطلبات الفقهية من ناحية أخرى‪ ،‬والتي كانت تعترف بفوقية كل من القانون األخالقي غير المدون‬

‫‪ -15‬نفس المرجع‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬


‫‪ -16‬حالق وائل‪ ،‬ما هي الشريعة؟‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪43‬‬
‫‪ -17‬نفس المرجع‪ ،‬نفس صفحة‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫والروابط االجتماعية المؤسسة أخالقيا»‪18‬؛ أي إن القاضي لم يكن غريبا عن البيئة الثقافية‪ ،‬والعرفية الدينية‬
‫واألخالقية‪ ،‬لوسط اشتغاله‪ ،‬بل العكس تماما‪ .‬فقد كان على دراية تامة بها‪ ،‬وبتعقيداتها‪ ،‬وه وما يالحظ مثال‬
‫في عمليات التحقيق التي يقودها في النوازل المعروضة عليه‪ ،‬بين المتنازعين‪ ،‬إذ كان القاضي ونوابه‪،‬‬
‫يتأكدون من أطراف النزاع‪ ،‬وخاصة وضعهم االعتباري في المجتمع‪ ،‬ومن سمعتهم األخالقية – ربما ما‬
‫يشبه جرحا وتعديال للمتقاضين‪ ،‬على منوال أهل صنعة الحديث ‪ ،-‬وقد كان القاضي يحكم بأحكام متباينة في‬
‫نفس النازلة‪ ،‬مراعاة منه الختالف هذه المحددات المشار لها‪ ،‬بين الناس عامة‪ ،‬والالجئين للقضاء خاصة‪.‬‬
‫فقد يكون الشخص معروفا بالعفاف‪ ،‬غير أنه أتى فعال مغايرا لذلك‪ ،‬ومعروفا بالصدق واألمانة‪ ،‬وصدر منه‬
‫ما قد يشذ عما عُ رف به بين الناس‪ ،‬فيأخذ القاضي بعين االعتبار هذا كله في أمر جلل وه وإصدار حكم في‬
‫نازلة ما‪ ،‬توخيا منه الحذر وابتغاء لمرضاة هللا‪.‬‬

‫وال ننسى هنا ال َمقصد الديني األسمى للقضاء‪ ،‬وهو تحقيق العدل‪ ،‬وإعطاء الناس حقوقها‪ ،‬ولن يتأتى‬
‫هذا سوى ب(تليين) فعل التقاضي‪ ،‬وجعله َك ِيسا‪ ،‬لبلوغ مقصده ذاك‪ .‬أضف أن المتقاضين كانوا يترافعون‬
‫بأنفسهم‪ ،‬باعتبار المعرفة القانونية لم تكن تقنية كما ه والحال اآلن‪ ،‬مما يجعل القاضي يلمس – في ظني‬
‫الخاص _ تلك النوازع الذاتية والموضوعية – وخاصة القيمية منها – لهؤالء وإلتيانهم هذا الفعل أ وذاك‪،‬‬
‫وخاصة مدى الصدق في القول‪ ،‬وما تنطوي عليه سريرة المتقاضين‪ .‬وه واألمر الذي ال يمكن أن نتخيل‬
‫حضوره في الشكل الحديث للتقاضي‪ ،‬والذي غلب عليه البعد التقني‪/‬األداتي‪/‬البيروقراطي‪.‬‬

‫لقد كانت المحكمة جزءا أصيال من بنية المجتمع اإلسالمي الما قبل حديث‪ ،‬وهذا يعني أنها كانت‬
‫تنبض بنبضه‪ ،‬وتنشغل بانشغاالته‪ ،‬ومن هذا المنطلق حرص القضاة حرصا شديدا على الحساسية القيمية‬
‫واألخالقية «فالقيم المشتركة مثل الشرف والنزاهة والعار والفضائل االجتماعية‪-‬الدينية قد عرفت طريقها‬
‫إلى ساحة القضاء»‪ .19‬ولعل من أبرز مظاهر ذلك حرص مؤسسة القضاء الدائم على رأب الصدع‪ ،‬وتقديم‬
‫الصلح وحل النزاعات عن طريق التفاوض‪ ،‬وهوما كان مقبوال كذلك عند المتقاضين أنفسهم‪ .‬وبعبارة‬
‫أخرى‪ ،‬خاطبت المؤسسة القضائية اإلسالمية الناس‪ ،‬بنفس خطابهم‪ ،‬وأبانت عن حرصها الشديد على صون‬
‫قيمهم وتغليبها في فعل التقاضي‪ ،‬وفي إعطاء الناس حقوقهم‪ ،‬فقد «كان المجتمع المسلم التقليدي منغمسا في‬
‫منظومة القيم التشريعية –القانونية التي أرستها الشريعة‪ ،‬بقدر ما كانت المحكمة بدورها منغمسة في القضاء‬
‫األخالقي للمجتمع»‪ ،‬لقد كان المجتمع اإلسالمي يعيش حقا الشريعة وأخالقها؛ ويتمثلها في تفاصيل حياته‪،‬‬
‫ولعل «من هم السمات البارزة لهذا المجتمع أنه كان يعايش اآلداب واألخالق التشريعية التي شكلت األسس‬

‫‪ -18‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪60‬‬


‫‪ -19‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪34‬‬

‫‪11‬‬
‫الدينية والعرفية للممارسة االجتماعية»‪ ،20‬لقد كان مجتمعا ذ وعرض بشري وجوهر ديني‪/‬سماوي‪ ،‬إن‬
‫وظفنا مفاهيم علم الكالم‪.‬‬

‫من النماذج التي يسوقها حالق؛ في محاججته عن فكرته حول مركزية األخالق في التاريخ واالجتماع‬
‫اإلسالميين‪ ،‬مسألة مكانة المرأة‪ ،‬وخاصة في ظل االدعاء عند بعض الطروحات االستشرافية‪ ،‬أن التاريخ‬
‫اإلسالمي لم يكشف لنا عن مظاهر تشريف المرأة المسلمة ممارسة وواقعا‪ ،‬يساوق فيها المتن الديني على‬
‫األقل‪ .‬بل على العكس تماما وجدنا – كما يدعي هؤالء – أن المرأة عانت وضعية دونية في مجتمع الرجل‬
‫المسلم‪.‬‬

‫بعد نقاش مطول خاضه حالق‪ ،‬يدافع فيه وبقوة‪ ،‬عما يعتبره ه والمكانة الفضلى للنساء‪ ،‬واقعا‪ ،‬في عملية‬
‫التقاضي‪ ،‬طرح مثاال خاصا وه والطالق‪ ،‬وأفاد أن هذه العملية كانت تخضع ألمرين‪ ،‬األول‪ :‬حق شرعي‬
‫للزوج‪ ،‬ويأتيه متى شاء‪ ،‬والثاني‪ :‬تأطير واقعي لهذا الحق الشرعي‪ ،‬لدرجة أدت لقلة قضايا الطالق في‬
‫سجالت المحاكم – خالل العهد العثماني مثال – وبالمقابل كثرة قضايا الخلع‪ ،‬لكون قرار الخروج من المؤسسة‬
‫الزواجية في هذه الحالة يعود للمرأة‪ ،‬فيقول‪« :‬والحال‪ ،‬أن قلة شيوع الطالق مقارنة بالخلع يوضح – في‬
‫هذا السياق – ثالث سمات مهمة للمقاربة اإلسالمية إلنهاء الزواج‪ :‬األولى‪ :‬في الوقت الذي كان فيه الطالق‬
‫امتيازا حصريا للزوج‪ ،‬فقد كان ثمة (ثمن)‪ .‬عليه أن يدفعه في مقابل هذا االمتياز»‪ ،‬وقد نتج عن هذا الواقع‬
‫الكابح لهذا االمتياز الديني للرجل‪ ،‬نقصان كبير في قضايا الطالق‪ ،‬من زاوية «الروادع المالية الضخمة»‬
‫هذا صحيح‪ ،‬وكذلك‪ ،‬لقوة «الروادع الشرعية واألخالقية التي رسختها القيم الفقهية واالجتماعية»‪.21‬‬

‫كما أن حالق نبه لما كان للطالق من أهمية كبرى في تحسين الوضعية المالية واالستقالل االقتصادي‬
‫للمرأة من جهة‪ ،‬وفي المقابل تأزيمه عند الرجل‪ ،‬لكون الطالق إن وقع «قد يكون بمثابة نقل للملكية في اتجاه‬
‫واحد‪ ،‬من الزوج للزوجة»‪ ،‬األمر الذي يصب في مصلحة الزوجات المطلقات ويمكنهن مثال من «شراء‬
‫نصيب أزواجهن في منزل الزوجية»‪ ،22‬وهوما أدى لعزوف األزواج وترددهم الكبير في تفعيل هذا الخيار‪،‬‬
‫الصعب أخالقيا وقيميا‪ ،‬والمكلف ماديا‪.‬‬

‫أكتفي بما سقت من نماذج‪ ،‬لدفوعات حالق‪ ،‬وأعتبرها قد أوفت الغرض منها‪ ،‬للتأكيد أن المجتمع‬
‫اإلسالمي القديم كان يتأطر بالشريعة فكريا ودينيا‪ ،‬ويعيشها ممارسة وواقعا‪ ،‬وأن الوضع كان يؤشر عن‬

‫‪ -20‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪38‬‬


‫‪ -21‬نفس المرجع‪ ،‬ص ص ‪66-65‬‬
‫‪ -22‬نفس المرجع‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫ارتباط عضوي‪/‬بنيوي بين القانون واألخالق‪ ،‬بين المؤسسات القانونية والحساسيات األخالقية والقيمية‬
‫الفاعلة في المجتمع‪ ،‬وكذا بين أهل الحل والعقد الشرعيين وعموم المسلمين‪.‬‬

‫‪ -2‬مركزية األخالق في مشروع وائل حالق‪:‬‬

‫إن وددت أن أقدم لهذا المبحث‪ ،‬فال بد من طرح السؤال التالي‪ :‬إن كان المسلمون قد حكموا أنفسهم‬
‫بالشريعة – وعاشوا بها – على مدار اثني عشر قرنا من تاريخهم قبل االستعمار أو صدمة الحداثة‪ ،‬وإن‬
‫كانت هذه األخيرة قد بنت نموذجها لإلنسان والمجتمع على (تحييد) األخالق‪ ،‬فماهي أهمية هذا األساس‬
‫القيمي واألخالقي في البديل اإلسالمي؟‬

‫قدر من غياب االنسجام بين‬


‫يقول وائل حالق‪« :‬يتم الكفاح السياسي والقانوني والثقافي لمسلمي اليوم من ٍ‬
‫تطلعاتهم األخالقية والثقافية من جهة والواقع األخالقي للعالم الحديث من جهة أخرى‪ ،‬وه والبد من العيش‬
‫فيه‪ ،‬وإن كانوا لم يصنعوه بأنفسهم»‪ .23‬إن رد الفعل المكافح بالوصف الحالقي‪ ،‬ضدا على الحداثة الغربية‬
‫عند المسلمين‪ ،‬مؤداه غياب ارتباط بين بنيتهم الدينية والفكرية‪ ،‬والتي تقيم لألخالق اعتبارا مهما‪ ،‬من جهة‪،‬‬
‫والواقع المفروض والذي ه ومغاير أخالقيا وقيميا بالضرورة‪ .‬إن انتماء المسلمين للحداثة باعتبارها الشكل‬
‫الذي اتخذه الوجود البشري في عصرنا هذا‪ ،‬هوانتماء سالب‪ ،‬مفعول به‪ ،‬في مقابل الحضاري الموجب‬
‫الفاعل لآلخر الغربي‪ ،‬في تحديد شكل ومضامين ومعايير‪ ،‬بل وحتى محاذير هذه الحداثة‪.‬‬

‫وقد أدى هذا الوضع التراتبي‪ ،‬لتأسيس براديغمات‪ ،‬فاعلة أيديولوجيا‪ ،‬تعتبر أن ال شكل وال معنى للوجود‬
‫واالجتماع البشريين‪ ،‬سوى ذاك الحداثي الغربي‪ ،‬وأن ال تاريخ ومعرفة مبنية عنه‪ ،‬سوى ذاك المستمد من‬
‫األطر المرجعية الحداثية الغربية‪ ،‬مما أنتج نطاقا مركزيا أوربيا‪/‬غربيا ه والعُمدة‪ ،‬ونطاقات غير أوربية ‪/‬‬
‫غير غربية‪ ،‬ال تعد وأن تكون مؤثثا للمشهد الحضاري على أحسن تقدير‪.‬‬

‫وكما أن لكل فعل‪ ،‬رد يماثله في الدرجة ويخالفه في المنطلقات‪ ،‬فقد أنتج في البيئة اإلسالمية رد فعل‬
‫أيديولوجي في شق كبير منه‪ ،‬تمظهر في دعوات للعودة للذات والتأسيس لالنغالق الهوياتي اإلسالمي‪ ،‬كما‬
‫قدمته بعض من التنظيرات المحسوبة على الفكر السياسي اإلسالمي‪ ،‬خالل ما عرف ببدايات عصر النهضة‬
‫اإلسالمي‪ ،‬مع العلم أن جزءا من المكون الحركي للفكر السياسي اإلسالمي «هي ظاهرة حداثية»‪ ،‬أي‬
‫«ظاهرة لم تكن ممكنة بغير الحداثة‪ ،‬وأنها رد فعل على الحداثة‪ ،‬بقدر ما هي منتوجها»‪.24‬‬

‫‪ -23‬حالق وائل‪ ،‬الدولة المستحيلة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪33‬‬


‫‪ -24‬عفان محمد‪ ،‬هل تعد الحركات اإلسالمية السياسية حركات متعلمنة؟‪ ،‬دراسات‪ ،‬مركز نهوض للدراسات والبحوث‪ ،2022 ،‬ص ‪7‬‬

‫‪13‬‬
‫فإن كان األمر‪ ،‬كما وصفه حالق‪ ،‬تطلعات أخالقية وثقافية إسالمية ال تجد نفسها ومطلوبها‪ ،‬في النسخة‬
‫الحداثية الغربية المفروضة عليها‪ ،‬فما الحال المقترح لتجاوز هذا المأزق الكبير؟‬

‫ينطلق حالق من فكرة أساس‪ ،‬وه ومركزية األخالق اإلسالمية‪ .‬فإن كان كا المكون األخالقي كان‬
‫من عُ َم ِد االجتماع اإلسالمي‪ ،‬قبل االستعمار‪ ،‬فيجب أن يبقى كذلك‪ ،‬باعتبار األخالق والمعطيات القيمية‬
‫هي النطاق المركزي في الرؤية اإلسالمية‪ ،‬وه وما دعمه مفكرنا بحجج معرفية متنوعة‪ .‬ولما كان حالق‪،‬‬
‫كما بينت سالفا‪ ،‬يرفض الفصل االستشرافي بين القانون واألخالق‪ ،‬ويعتبر أن عكس هذا االدعاء هو الذي‬
‫و ُِجد في البيئة اإلسالمية‪ ،‬نظرا لكون الشريعة ليست فقط مدونة قانونية باردة‪ ،‬وبدون روح‪ ،‬بل هي نظام‬
‫أخالقي قائم بذاته‪ ،‬إذ األخالق في المقاربة اإلسالمية غالبة على القانون‪ ،‬ومؤطرة له – مقاصديا‪ .‬فإنه يذهب‬
‫لضرورة استعادة الشريعة وجعلها حاكما فيما يمكن أن يكون عليه‪ ،‬هذا التمثل اإلسالمي‪-‬الحداثي الجديد‪،‬‬
‫سواء للفرد المسلم وللجماعة كذلك‪ .‬وهو ما أواله أهمية واضحة لما فكك ما أسميه بـ «فلسفة العبادات»‬
‫في اإلسالم‪ ،‬باعتبارها تتجاوز البعد الطقوسي‪-‬الحركي الروتيني‪ ،‬إلى إدراك أعمق لماهية اإلنسان المسلم‬
‫الطيع للخالق الكلي القدرة‪ ،‬في النطق بالشهادتين‪ ،‬إذ «شهادة أن (ال إله إال‬
‫وخاصة أبعاده القيمية‪ ،‬كاإلذعان ِ‬
‫هللا) هي راية االستسالم إلى النظام األعلى‪ ،‬وكل ما يمثله»‪ ،25‬ومن ثم فهي انتماء ضمني لنظام وجودي‪/‬‬
‫قيمي‪.‬‬

‫ومن محددات عمق هذه الفلسفة العباداتية اإلسالمية‪ ،‬أسبقية النية في كل فعل‪ ،‬لكونها ذاك اإلقرار‬
‫الروحي على توجيه العبادة خالصة هلل‪ ،‬وه والدخول في حالة التركيز وال َتفرُ د في آدائها‪ ،‬بدون التأثر‬
‫بالشواغل األخرى‪ ،‬ولهذا «يعتبر توافر النية في األعمال العبادية المتكررة ضمانا لعدم القيام بالفعل كأداء‬
‫جسدي آلي يفتقر إلى المحتوى‪ ،‬كفعل يُغرس في العقل والروح وفي الملكات العقلية والشعورية لدى كل‬
‫أداء‪ ،‬كأنه يؤدى كل مرة ألول مرة»‪ .26‬إن حضور النية في العمل العبادي ضمان اإلبقاء على معناها‬
‫وتحققه‪ ،‬فالنية في الصالة بلوغ معنى االرتباط بالخالق‪ ،‬وفي الزكاة هي تأكيد لصواب فلسفة الجسد الواحد‬
‫في الحديث الشريف؛ ألنه معنى األخوة اإلسالمية‪ ،‬وغيرها من المعاني العميقة والقوية‪ ،‬والتي هي عُ َمد‬
‫فلسفة أخالقية قائمة بذاتها في الممارسة العباداتية للمسلم‪.‬‬

‫تطرق حالق‪ ،‬وهو يقدم لرؤيته الحداثية‪/‬األخالقية البديلة‪ ،‬للفلسفة األخالقية القرآنية‪ ،‬واعتبر أن جوهر‬
‫التعاطي القرآني مع األخالق؛ ومقصده األسمى‪ ،‬هوإتيان الخير ودفع الشر‪ .‬ونبه مفكرنا‪ ،‬إلى حفز القرءان‬

‫‪ -25‬حالق وائل‪ ،‬الدولة المستحيلة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪221‬‬


‫‪ -26‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪224‬‬

‫‪14‬‬
‫الدائم الناس على فعل الخير‪ ،‬لكونه غاية هللا في خلقه‪ ،‬بل إن «الكرم والقدرة اإللهيين صمما منظومة الخلق‬
‫وإعادة الخلق والموت بكاملها – أي سلسلة القوانين التي تحكم عمل الكون – خصيصا ن أجل هدف وحيد‪،‬‬
‫وه وحفز الناس على عمل الخير»‪ ،27‬ويتجلى التطبيق العملي‪ ،‬أ وإمكانيته – على أقل تقدير – في التركيز‬
‫القرآني الدائم على عمل الصالحات‪ ،‬والذي ه والقناة القرآنية إلتيان هذا الخير ودفع الشر‪.‬‬

‫إن النص القرآني مليء بآيات‪ ،‬توجه عمل المسلم الموحد والمؤمن‪ ،‬للصالح منه‪ ،‬وتحثه عليه‪ ،‬ابتغاء‬
‫رضى هللا والفوز الدنيوي؛ كما األخروي‪ .‬كما جاء في سورة النمل‪ ،‬مثال‪ ،‬من قوله تعالى‪« :‬من عمل صالحا‬
‫من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون»‪ ،28‬وقول هللا‬
‫جل وعلى‪ ،‬كذلك‪« :‬وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا»‪ ،29‬وغيرهما‬
‫من المواضع القرآنية الكثيرة‪ .‬ونجد أن القرآن الكريم‪ ،‬وازن‪ ،‬وجعل من شروط ائتمان شر الظلم وهضم‬
‫الحقوق‪ ،‬اجتناب العمل الطالح وتعويضه بأعمال فيها مصلحة للذات المسلمة المؤمنة بداية‪ ،‬وللناس‪ ،‬ذات‬
‫قيمة وحمولة أخالقية رفيعة‪ ،‬مصداقا لقول هللا عز وجل‪ ،‬في سورة فصلت‪« :‬من عمل عمال صالحا فلنفسه‬
‫ومن أساء فعليها وما ربك بظالم للعبيد»‪.30‬‬

‫إن هذه الفلسفة القرآنية‪ ،‬الحاثة على جلب المصلحة بالعمل الصالح الخير‪ ،‬ودفع المفسدة‪ ،‬أساس نظري‬
‫معرفي‪/‬وجودي‪ ،‬يؤطر سلوك المسلم‪ ،‬ويؤثر فيه‪ .‬إنها تمثل منظومة تربوية قرآنية متماسكة‪ ،‬تجعل من القيم‬
‫واألخالق نبراس السلوك اليومي للمسلم‪ ،‬بغية تحصينه من أفعال السوء‪ ،‬بتذكير دائم ومتكرر بضرورة دفع‬
‫الشر بفعل الخير‪.‬‬

‫وقد ارتبطت الفلسفة األخالقية القرآنية‪ ،‬وكذا الشريعة‪ ،‬بمنظومة لها أهميتها كذلك‪ ،‬وهي الجزاء والعقاب‪.‬‬
‫فكان من المالحظات‪/‬االتهامات التي وجهت لها‪ ،‬ال ِغلظة في العقاب وأحكامه‪ ،‬مما ال يتسق‪ ،‬كما تزعم هذه‬
‫االتهامات‪ ،‬مع مقصد العدل والرحمة الربانيين‪ .‬وهنا نجد مفكرنا‪ ،‬يجادل هذه المزاعم‪ ،‬ويتحفظ على قياس‬
‫العقوبة اإللهية بعقوبة الدولة‪ ،‬ويعتبر األمرين متمايزين‪ ،‬لكون العقوبة اإللهية إن ُغلِظت؛ ففي حق الظلم‬
‫والظالمين‪« ،‬ذلك أن هللا‪ ،‬بالنسبة إلى من يستحقون العقاب‪ ،‬جبار وشديد العقاب بدرجة وبصورة ال يمكن‬
‫للعقل البشري تخيلهما»‪ ،‬ويقل حجم العقوبة وشكلها‪ ،‬وربما آلت لرحمة وتوبة من هللا‪ ،‬إن كان الفعل من أناس‬
‫ليسوا ذوي الدور االجتماعي البارز والمكانة المُتص ِدرة‪ ،‬فيكون إثمهم في حق أنفسهم والناس وهللا‪ ،‬أقل مما‬

‫‪ -27‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪167‬‬


‫‪ -28‬القرآن الكريم‪ ،‬برواية ورش‪ ،‬سورة النحل‪ ،‬اآلية ‪97‬‬
‫‪ -29‬القرآن الكريم‪ ،‬برواية ورش‪ ،‬سورة الكهف‪ ،‬اآلية ‪88‬‬
‫‪ -30‬القرآن الكريم‪ ،‬برواية ورش‪ ،‬سورة فصلت‪ ،‬اآلية ‪46‬‬

‫‪15‬‬
‫هو عليه‪ ،‬فعل غيرهم من ذوي الحظوة «‪ .‬أما بالنسبة إلى صغار اآلثمة واألكبر من ذلك قليال‪ ،‬فهوغفور‬
‫رحيم‪ .‬والتوبة تنفع‪ .».‬ومن عدل هللا‪ ،‬أن جعل تقييم أفعال العباد‪ ،‬ي َُس َبق فيه العمل الصالح والحسنات‪ ،‬على‬
‫العمل الطالح والسيئات‪ ،‬وتُستبدل الثانية باألولى «فهي ال تغفر كثيرا من الذنوب فحسب‪ ،‬بل يًثاب العمل‬
‫الصالح يكون له تأثير مقابل للسوء في الحساب النهائي»‪ ،‬بل ويتجاوز العمل الصالح وحسناته في هذه‬
‫الحالة‪ ،‬العمل السيء وذنوبه ألن «الثواب مضاعف»‪ .31‬يقول هللا تعالى في سورة آل عمران‪« :‬وأما الذين‬
‫آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم»‪ ،32‬إن هذه اآلية وغيرها‪ ،‬تُظهر بل وتؤكد هذا التمييز اإليجابي‬
‫الرباني للثواب على العقاب‪ ،‬بوصفه من أهم أشكال ِحلم هللا بعباده؛ وعدالته بينهم‪ ،‬ويؤكد هذا بما ليس فيه‬
‫مجال للسجال‪ ،‬أن فلسفة القرآن في الحث على إتيان الخير وعمل الصالحات‪ ،‬هو «بالتعريف (قربى) من‬
‫هللا في الدنيا واآلخرة»‪.33‬‬

‫إن فلسفة األخالق القرآنية‪ ،‬وما يساوقها من ثنائية‪ ،‬ثواب وعقاب‪ ،‬مقصدها ه وإقامة العدل بين الناس‪،‬‬
‫والخير‪ ،‬نقيض قيمي للطرح البراغماتي‪/‬األداتي‪ ،‬الذي يرى أن األعمال الخيرة هي‬
‫ِ‬ ‫عبر تغليب الصالح‬
‫األعمال النافعة والمصلحية‪ ،‬وما عداه من أفعال ال تجلب المصالح وتجلب الضرر فهي غير أخالقية*‪ .‬قد‬
‫كان النقاش الفلسفي األخالقي حول إشكالية‪ ،‬األخالق في ذاتها‪ ،‬أم األخالق لوظيفتها‪ ،‬يصب في هذا التحول‬
‫الكبير الذي تم‪ ،‬من األخالق المتعالية ذات المصدر اإللهي‪ ،‬إلى أخالق وضعية يُرسمها اإلنسان ويضفي‬
‫عليها طابع النسبية؛ أي المرور من األخالق المطلقة في ذاتها‪ ،‬لألخالق النسبية لوظيفتها‪.‬‬

‫لقد أكد الدين اإلسالمي أن األخالق والقيم معطى فطري طبيعي‪ُ ،‬م َت َ‬
‫ضمن في اإلنسان‪ ،‬ولم يقم سوى‬
‫باستنهاض هذه المعطيات‪ ،‬وتكثيفها‪ ،‬خاصة بقرنها بالقربى من هللا‪ ،‬وبمصلحة الناس‪ ،‬وتحقيق العدل كمقصد‬
‫أسمى وغاية أكبر‪ .‬وهي كذلك ضرورة يقتضيها العيش واالجتماع البشريين‪ ،‬فالناس ليسوا جمادات‪ ،‬أو‬
‫حيوانات‪ ،‬أو روبوتات‪ ،‬تُ َطبق فقط‪ ،‬دون َت َمثُل ما تطبقه‪ ،‬وتقييمه‪ ،‬بل وتقويمه كذلك‪ .‬ولهذا كانت األخالق‬
‫باعتبارها استعدادات فطرية لدى البشر‪ ،‬يقتضيها العيش المشترك‪ ،‬مفروضة من هللا؛ إلعطائها القوة الداللية‬
‫الالئقة بها‪ ،‬والالزمة لها‪ .‬وباعتبار هذه القوة الداللية للقيم‪ ،‬وه وما يكون بتذكر وتأكيد إلهي‪ ،‬فاألخالق‬
‫الوضعية المتمحورة حول اإلنسان‪ ،‬فاشلة عند وائل حالق‪ ،‬لكونها خاضعة لموضوعها؛ أي إن األخالق‬
‫الوضعية في الطروحات الحداثية وغيرها‪ ،‬تجعل موضوعها والذي هو اإلنسان‪ ،‬فاعال‪ ،‬في عالقته بها‪،‬‬
‫بل ومسيطرا‪ ،‬عبر تقليص أو تمديد لمجال الحضور األخالقي‪ ،‬وربطه بالمنفعة‪ ،‬بل ودفع األخالق لنطاق‬

‫‪ -31‬حالق وائل‪ ،‬الدولة المستحيلة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪221‬‬


‫‪ -32‬القرآن الكريم‪ ،‬برواية ورش‪ ،‬سورة آ ل عمران‪ ،‬اآلية ‪58‬‬
‫‪ -33‬حالق وائل‪ ،‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪222‬‬
‫* أتطرق للمصلحة وفلسفتها عند وائل حالق‪ ،‬ومن خالله جزء كبير من الفكر اإلسالمي‪ ،‬في الجزء الثالث من الدراسة‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫ثانوي‪ ،‬مقابل هيمنة العقل ذي النطاق المركزي‪ .‬وهذا ما يمنع األخالق‪/‬القيم الوضعية‪ ،‬من كبح جموح‬
‫العقل‪ ،‬ومن تم كبح جموح اإلنسان‪.‬‬

‫إن مركزة األخالق‪ ،‬ودفعها للنطاق المركزي مرة أخرى‪ ،‬لن يتم حسب حالق سوى‪ ،‬بالخروج من‬
‫المغاالة في محورة اإلنسان والعقل‪ ،‬واالبتعاد عن سطوة التيار النفعي‪ ،‬الذي أقام صرحا تعبديا لقيم المتعة‪،‬‬
‫والسعادة الطارئة‪ ،‬والمصلحة الفردية الضيقة‪.‬‬

‫يعتبر حالق‪ ،‬أن الوعي بالذات المسلمة – وعيا فوكويا – شرط أساسي في بناء األخالق اإلسالمية‪،‬‬
‫أخالق الشريعة اإلسالمية تحديدا‪ ،‬والتي تنظم عيش الناس وتكفل سعادتهم وراحتهم في الدنيا‪ ،‬وتحافظ على‬
‫حقوقهم‪ ،‬كما تراعي حاجتهم وضعفهم‪ ،‬وتحثهم وتدفعهم على بذل الجهد والطاقة فيما ينفع الدين والدنيا‪،‬‬
‫وهوما أوضحته سابقا فيما أسميته بفلسفة العبادات ومنظومتها‪ .‬ويقترح حالق‪ ،‬هذه األخالق اإلسالمية‪،‬‬
‫كجمع معرفي بين الحداثة واألخالق‪ ،‬والشريعة‪ ،‬ما يؤهلها لتكون بديال معتبرا لدعوات إصالح الحداثة‬
‫الغربية‪.‬‬

‫يطرح حالق‪ ،‬في نص مطول‪ ،‬في كتابه «الدولة المستحيلة»‪ ،‬شروط تأسيس النظام األخالقي وتحققه‬
‫كامال‪ ،‬من خالل‪:‬‬

‫‪ -1‬سيادة إلهية‪ً ،‬ت َ‬


‫ترجم فيها المبادئ األخالقية واإللهية لقوانين عملية واقعية‪.‬‬

‫‪ -2‬فصل صارم للسلطات‪.‬‬

‫ًنسج بين القيم والحقائق الواقعية‪.‬‬


‫‪ -3‬إنباء السلطتين التشريعية والقضائية على نسيج أخالقي‪ ،‬ي َ‬

‫‪ -4‬سلطة تنفيذية تضع السيادة اإللهية‪ ،‬موضع التنفيذ‪.‬‬

‫‪ -5‬قاعدة أخالقية‪ ،‬تنبني عليها القواعد القانونية العملية‪ ،‬مثل المساواة ونظام العدالة االجتماعية القائم‬
‫في القرءان‪ ،‬لخدمة المجتمع‪.‬‬

‫‪ -6‬سيادة مؤسسات تعليمية‪ ،‬مبنية على الشروط الخمس المذكورة‪.‬‬

‫‪ -7‬سيادة نظام تعليمي يطرح أسئلة الحياة الفاضلة األخالقية‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫‪َ -8‬ت َم ًث ًل معنى آخر لمفهوم المواطن‪ ،‬يرتكز على العالقات األخالقية المتبادلة بين أفراد المجتمع‬
‫األخالقي النموذجي‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫‪ -9‬اعتبار االهتمام بالنفس وتربيتها‪ ،‬امتدادا للكون األخالقي‪.‬‬

‫إنها خريطة طريق‪ ،‬لما يمكن أن يكون عليه الحكم اإلسالمي‪ ،‬أ والبديل اإلسالمي للحداثة‪ ،‬في تمثل‬
‫حالق‪ ،‬والذي يتأسس و ًي َع َرف بقاعدته األخالقية اإلسالمية الواضحة‪ ،‬ويلتزم بتجاوز كل مآزق الحداثة‪،‬‬
‫وعلى رأسها‪ ،‬ورطة األخالق والقيم‪ .‬وانطالقا من هذا‪ ،‬يمكن تكثيف شروط الوصفة الحالقية‪ ،‬لبديله‪ ،‬في‪:‬‬
‫أوال‪ :‬ضرورة تجاوز الفرد الالأخالقي الحداثي‪ ،‬لإلنسان األخالقي ماهية وفاعلية‪ ،‬ثانيا‪ :‬سلطة تدبر الفضاء‬
‫ؤطر أخالقيا‪ ،‬وأخيرا‪ :‬قواعد قانونية منضبطة للقيم والفضائل‪ ،‬لتأطير العقل وكبح جموحه‪.‬‬ ‫وت َ‬ ‫العام‪ً ،‬ت َ‬
‫راقب ً‬

‫على ضوء ما رأيناه سابقا‪ ،‬من إقرار ترابط بنيوي بين األخالق والمصلحة‪ ،‬تغليبا للثانية على األولى‬
‫في التمثالت الحداثية‪ ،‬ولألولى على الثانية في الطروحات اإلسالمية الكالسيكية‪ .‬ما ه وجديد وائل حالق‪،‬‬
‫وكيف وازن بين المكونين البنيويين في االجتماع اإلنساني؟ وماذا يعني حالق بالمصلحة‪ ،‬في ظل سيطرة‬
‫براديغم حداثي لها؟‬

‫ثالثا‪ -‬املصلحة عند وائل حالق‪:‬‬

‫‪ -1‬في وجوب نقد البراديغم الحداثي للمصلحة‪:‬‬

‫اعتمدت الحداثة الغربية‪ ،‬على مصفوفة براديغمات‪ ،‬تحكمها‪ ،‬وتتخذها مفاتيح لفهم الوجود واالجتماع‬
‫اإلنسانيين‪ ،‬وما يتفرع عنه‪ ،‬في قضايا السياسة واالقتصاد والفن واألخالق وغيرها‪ .‬وقد أوضحت سابقا في‬
‫هذه الدراسة*‪ ،‬أن حالق‪ ،‬انطلق من ضرورة فهم؛ ونقد للحداثة‪ ،‬ال محيد عنها‪ ،‬في سبيل فهم؛ ونقد رزين‬
‫للتصورات اإلسالمية‪ ،‬واالنطالق بعد ذلك في التأسيس لبديل لنا‪.‬‬

‫وقد اعتبرت المصلحة‪ ،‬أ ومذهب اللذة ‪ ،hédonism‬أ والمنفعة ‪ ،utilitarianism‬الشكل األخالقي‬
‫للمذهب التجريبي الوضعي‪ ،‬في مرحلة التأسيس الحداثي‪ .‬وبوصف أكثر دقة‪ ،‬منحى مقلنة األخالق‪ ،‬وإضفاء‬
‫المسحة الفردانية عليها‪.‬‬

‫‪ -34‬حالق وائل‪ ،‬نفس المرجع‪ ،‬راجع الصفحة ‪252‬‬


‫* راجع ما قلته في الجزء األول من هذه الدراسة‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫حاولت الطروحات المقرة لبراديغم المصلحة‪/‬المنفعة‪ ،‬أن تتماهى مع تعريف جون ستيوارت ميل‪ ،‬في‬
‫كون «نظرية المنفعة لم يقصد منها شيئا ما مقابال للذة‪ ،‬بل قصد اللذة عينها مع غياب األلم»‪ ،35‬وقد ًن ِسجت‬
‫صر‬ ‫منظومة أخالقية على مقاس هذا البراديغم المؤسس‪ ،‬تجعل كل خير ه ونافع ضرورة‪ ،‬والعكس‪ ،‬بل ً‬
‫اخت ِ‬
‫في زيادة اللذة‪ ،‬وما ه وشر؛ هوغير نافع في إنقاص األلم لزوما‪ً ،‬لت َعمد المنفعة‪/‬المصلحة‪/‬اللذة «كمبدأ أعظم‬
‫سعادة كأساس لألخالق»‪.36‬‬

‫تأسس البراديغم‪ ،‬هذا صحيح‪ ،‬ونسج منظومة أخالقية حوله‪ ،‬انضبط لها الفرد والجماعة الحداثيين‪،‬‬
‫لردح طويل من الزمن‪ ،‬إلى أن عرفت الحداثة مشاكل وأزمات‪ ،‬استلزمت وقفة نقدية‪ .‬وه وما عمد (آالن‬
‫تورين)‪ ،‬على سبيل الذكر‪ ،‬إليضاحه‪ ،‬في كتابه الذائع الصيت «نقد الحداثة»‪ .‬فقد اعتبر أن عملية النقد‪-‬‬
‫التفكيك للحداثة «ال تؤدي إلى رفضها ولكن (‪ )...‬يًفصل بين عناصرها ويحلل ويقيم كل عنصر منها بدال‬
‫من أن نظل حبيسي الكل أو الالشيء»‪ ،37‬ويندرج هذا الموقف في إطار محاوالت إصالح الحداثة‪ ،‬ككل‬
‫تقبل جزئياته هذا التقويم واإلصالح‪ ،‬بعدما طالها من اتهامات‪ ،‬كان من أبرزها‪ ،‬اعتبارها «كحركة للتدمير‬
‫الخالق»‪.38‬‬

‫وقد أوضح تورين‪ ،‬نقال عن طروحات المدرسة النقدية لفرانكفورت‪ ،‬أن االنتقال التاريخي من العقل‬
‫الموضوعي‪ ،‬إلى العقل األداتي؛ أي انتصار النزعة العقالنية األداتية‪ ،‬برز في طغيان التقنية والتكنيك‪،‬‬
‫و«خدمة حاجات المستهلك أو الديكتاتور التي ال تخضع للعقل»‪ .39‬ويمكن أن ندرج هنا‪ ،‬كذلك بعض مالمح‬
‫ًلزمة للجماعة‪ ،‬ومقبولة عندها‪ ،‬بمقدار ما هي نافعة‪،‬‬
‫النقد الفوكوي‪ ،‬لألخالق الجمعية‪ ،‬والتي يمكن اعتبارها م ِ‬
‫والعكس صحيح‪ ،‬فمثال‪ :‬طاعة القوانين والقواعد القيمية العامة للمجتمع الحداثي‪ ،‬وااللتزام بها‪ ،‬قائمة‪ ،‬لكونها‬
‫نافعة؛ ذات مصلحة عند الفرد والجماعة الحداثيين‪ .‬ويتم إضفاء شرعية على هذه المسلمات البراديغمية‪،‬‬
‫بحضور سً لَط عديدة‪ ،‬منها العلم مثال‪ ،‬حتى يصير السلوك البشري المعتبر نافعا‪ ،‬ه وذاك المراعي لقول‬
‫العلم‪ ،‬أ والقانون‪ ،‬أ والدولة‪ ،‬وغيرها من وسائل الضغط األيديولوجي‪ .‬فيعتبر مثال‪ ،‬هذا السلوك في األكل‪ ،‬أ‬
‫رعن‬‫والحديث‪ ،‬أ والصحة النفسية‪ ،‬أ والعالقات االجتماعية‪ ،‬أ والموقف من القضايا العالمية‪ ،‬مقبوال‪ ،‬إن ًش ِ‬
‫بورقة علمية داعمة‪ ،‬أ وقانون‪ ،‬أو حملة إعالمية‪ ،‬وربما بعد مضي وقت صار العكس تماما‪ ،‬ومرة أخرى‬

‫‪ -35‬ميل جون ستيوارت‪ ،‬النفعية‪ ،‬ترجمة‪ :‬سعاد شاهرلي حرار‪ ،‬مراجعة‪ :‬هيثم غالب الناهي‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬بيروت‪ ،‬تموز‬
‫(يوليو) ‪ ،2012‬ص ‪35‬‬
‫‪ -36‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪37‬‬
‫‪ -37‬تورين آالن‪ ،‬نقد الحداثة‪ ،‬ترجمة‪ :‬أنور مغيث‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪ ،1997 ،‬ص ‪130‬‬
‫‪ -38‬نفس المراجع‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬
‫‪ -39‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪131‬‬

‫‪19‬‬
‫بحضور‪ ،‬لنفس قنوات الضغط وفاعليتها‪ .‬وأستحضر هنا ما رافق اإلعالن عن «الحجر الصحي»‪ ،‬زمن‬
‫تفشي وباء «كورونا»‪ ،‬في العديد من الدول الغربية‪ ،‬من نقاش بدأ بسؤال تقييد الحرية الفردية‪ ،‬من عدمه‪،‬‬
‫وهل يجب النط عليها في لحظات االستثناء؟ ليقول العلماء‪ ،‬ويؤيدهم الساسة‪ ،‬قولهم ويعتبرون أن النافع‪،‬‬
‫الذي فيه مصلحة للفرد والجماعة ه وما كان من تقييد للحريات‪ .‬فكان بذلك للعلم‪ ،‬والقانون‪ ،‬والدولة‪ ،‬سلطا‬
‫فرضتها‪ ،‬فيما اعتبرته هي نافعا‪ ،‬وذا مصلحة‪ ،‬واألمثلة كثيرة في هذا الصدد‪.‬‬

‫ينتقد تورين ما أسماه «القوى األساسية»‪ ،‬الفاعلة والمسيطرة على المجتمع الحداثي‪ ،‬وهي «الجنس‬
‫واالستهالك السلعي والمؤسسة اإلنتاجية واألمة»‪ ،‬ويعتبر أن هذه القوى‪ ،‬أنتجت «الالمجتمع» حسب‬
‫توصيفه‪ ،‬بسبب «تفكك الحداثة الكالسيكية»‪ .40‬وقد تم هذا التفكك في األصول النظرية‪ ،‬أو الجذور‪ ،‬التي‬
‫قامت عليها الحداثة‪ ،‬فمثال‪ :‬ال يمكن النظر للفردية باعتبارها تحريرا للذات الحداثية‪ ،‬هذه التي صارت‬
‫موضوع المؤسسة اإلنتاجية‪ ،‬بل صارت قوة لها كما يقول ماركس‪ ،‬وهي كذلك مجال صراع ضار للثقافة‬
‫االستهالكية‪ ،‬ويمكن القول أن الفردانية والفرد‪ ،‬أصبحا موضوعا لالستهالك كذلك‪ ،‬بحضور األمة تارة‪،‬‬
‫وغيابها تارة أخرى‪ ،‬في معرض التحول إلى المواطن الكوني‪.‬‬

‫أورد تورين‪ ،‬ملمحا مهما للصراع الفكري الكبير‪ ،‬الذي خاضه «إميل دوركهايم» ضد «المفهوم النفعي‬
‫للعقد االجتماعي»‪ ،‬وطور لمفهومه عن «اإلنسان المزدوج»‪ ،41‬هذا الذي في يقف مرتبكا‪ ،‬بين التمثالت‬
‫القيمية – األطر النظرية – والرغبة‪ ،‬بل اعتبر دوركهايم أنه ًن ِجح في تغليب الطرف الثاني‪ ،‬ليتم اإلعالن‬
‫عن والدة إنسان الرغبة‪ ،‬الذي ال يمكن إال تعريفه وتوصيفه‪ ،‬بكونه (أنا اللذة أ والرغبة النفعية)‪ .‬وقد نبه‬
‫تورين‪ ،‬إلى محاولة دوركهايم مجابهة «النفعيين‪ ،‬بدولة قوية قادرة على فرض احترام االتفاقات الضرورية‬
‫بين مصلحة المجتمع ورغبات الفرد»‪ ،42‬غير أن محاولة احترام التوازنات هاته‪ ،‬سرعان ما تختل‪ ،‬إذ‬
‫مصلحة المجتمع الحداثي‪ ،‬تبنى بأنا اللذة الفردية كما أسميته‪ ،‬وفي تفاعل جدلي‪ ،‬فالمجتمع الحداثي يعرف‬
‫نفسه – ضرورة – أنه حامي الرغبات الفردية‪ ،‬يطلق عنانها أ ويقيدها‪ ،‬ال لسبب سوى لكونها ركنه الركين‪.‬‬

‫وينبهنا آالن تورين‪ ،‬لجزئية مفصلية في نقده‪ ،‬لما يطرح سؤاال بالغ األهمية‪« ،‬كيف يمكن للفرد في‬
‫هذه الظروف أن يفلت من قوانين مصلحته التي هي في نفس الوقت قوانين المنفعة االجتماعية؟»‪43‬؛ أي نعم‬
‫معرفة الكيفية والطريقة أساسية‪ ،‬غير أني أسجل مالحظة – ربما هي هامشية – غير أنها ذات أثر عندي‬

‫‪ -40‬نفس المرجع‪ ،‬ص ص ‪138 -137‬‬


‫‪ -41‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪177‬‬
‫‪ -42‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪178‬‬
‫‪ -43‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪179‬‬

‫‪20‬‬
‫في ما يأتي من جواب تورين‪ ،‬فقبل توصيف كيفية االنفالت هاته‪ ،‬البد من معرفة مدى تشابه مصلحة الفرد‪،‬‬
‫بمصلحة الجماعة؟ والقوانين الفاعلة في هذا الطرف‪ ،‬وفي ذاك؟‪ .‬وال أخفي أن سؤال تورين‪ ،‬حكمته مسلمة‪،‬‬
‫ال يمكن الركون لها‪ ،‬وهي مسلمة اعتبار أن ما يحكم وجود الفرد في الحداثة‪ ،‬يحكم كذلك وجود الجماعة‪،‬‬
‫وإن كان ماكس فيبر يذهب لكون الدولة الحداثية‪ ،‬قد استولت على الركح في المشهد الحداثي‪ ،‬عبر احتكارها‬
‫لكل مناحي الوجود اإلنساني فرديا كان‪ ،‬أ وجمعيا‪ ،‬وكذا من خالل ادعاء التمثيل الحصري إلرادة الفرد‬
‫والجماعة‪ .‬لتظهر فعاليات المجتمع الحداثي‪ ،‬في حضور الدولة بحد ذاتها‪.‬‬

‫وعودة لسؤال تورين‪ ،‬فقد كشف النقاب عن حتمية‪ ،‬يخضع لها الفرد – الذي حً ِرر في نصوص الحداثة‬
‫على أقل تقدير من كل سلطة‪ -‬هي المصلحة والمنفعة‪ ،‬التي يتشابه فيها ما ه وفردي بالجمعي‪ .‬ويعتبر تورين‬
‫في جوابه‪ ،‬أن ما يمكن أن ينتشل الفرد من طغيان اللذة‪-‬النفعية‪ ،‬ه وعودة جمالية‪-‬إيتيقية‪ ،‬يعاود بها هذا الفرد‬
‫التعرف لذاته وللوجود‪ .‬غير أن عائقا يعترض مسار االنتشال الوجودي هذا‪ ،‬وه ونزعة األنانية الطاغية في‬
‫المجتمعات الحداثية‪ ،‬والتي يعد إنسان أ وأنا اللذة النفعية‪ ،‬مياهها الجوفية‪.‬‬

‫فكيف عالج حالق‪ ،‬والذي سار في دروب وأزقة النقد األكاديمي الغربي للحداثة‪ ،‬هذه المعطيات؟ وما‬
‫المعنى الذي أعطاه للحداثة‪ ،‬في بديله الحداثي اإلسالمي األخالقي؟‬

‫‪ -2‬المصلحة في الحداثة اإلسالمية‪:‬‬

‫لن أقف طويال عند تعريف المصلحة‪ ،‬لغة واصطالحا‪ ،‬عند العلماء المسلمين‪ ،‬كأبي حامد الغزالي‪،‬‬
‫أم نجم الدين الطوفي‪ ،‬أ وأبي إسحاق الشاطبي‪ ،‬وغيرهم‪ .‬غير أن المصلحة لغة‪ ،‬ترادف ألفاظا‪ ،‬كالنفع‪،‬‬
‫والحسن‪ ،‬والخير‪ ،‬والصواب‪.44‬‬

‫أما اصطالحا‪ ،‬فبالرغم من االختالف الذي قد يالحظ نتيجة التشعيبات عند األصوليين‪ ،‬فيمكن توحيد‬
‫المصطلح شرعا من حيث ه وحفظ أصول الدين‪ ،‬عبر «جلب منفعة أ ودفع مضرة»‪ ،‬كما يقر اإلمام الغزالي‪،‬‬
‫في المستصفى‪ ،‬وأسس «قيام حياة اإلنسان‪ ،‬وتمام عيشه»‪ ،‬سواء أكانت معنوية أ ومادية‪ ،‬حسب ما ذهب له‬
‫اإلمام الشاطبي‪ ،‬والعز بن عبد السالم‪ ،‬الذي يعتبر أن «المصلحة لذة أ وسببها‪ ،‬أ وفرحة أ وسببها» وغيرهم‬

‫‪ -44‬راجع مادة «صلح»‪ ،‬ابن منظور‪ ،‬محمد بن مكرم‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬ط‪ .‬الثالثة‪ ،‬ج‪ ،7.‬بيروت‪ ،1999 ،‬ص ص‪384 :‬‬
‫و‪385‬‬

‫‪21‬‬
‫كثير‪ ،‬من علماء األصول‪ .45‬ويمكن إرجاع المصطلح لركنين أساسين‪ :‬األول‪ -‬حفظ حقوق هللا‪ ،‬بحفظ تشريعه‬
‫ودينه‪ ،‬والثاني‪ :‬حفظ حقوق العباد‪.‬‬

‫أصدر وائل حالق سنة ‪ ،2001‬كتابه «السلطة المذهبية‪ :‬التقليد والتجديد في الفقه اإلسالمي»‪ ،‬قام فيه‬
‫بما أسماه «حفرا تاريخيا» في الشريعة‪ ،‬أبرز فيه معنى وأشكال التقليد والثبات‪ ،‬الذين طغيا عليها‪ ،‬ومساحات‬
‫التغيير والتجديد فيها كذلك‪ .‬وقد نبه مفكرنا‪ ،‬إلى ركن أساس في مقاربته‪ ،‬وه وأن االجتهاد والتقليد‪ ،‬وجب‬
‫إخضاعهما لفهم تاريخي‪ ،‬وفق آليات تتعلق ببعد مصلحي للجماعة المسلمة‪ .‬ونبه أنه على عكس علماء الكالم‬
‫والفالسفة‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬فالفقهاء «كانوا مكبلين بثقافتهم الشرعية»‪ ،‬من جهة‪ ،‬و«مقيدين بحقيقة البنية التحتية‬
‫االجتماعية والثقافية على األرض»‪ .46‬لقد كانت المصلحة واحتياجات المجتمع‪ ،‬حاضرة وبقوة في اشتغال‬
‫الفقهاء‪ ،‬خاصة‪ ،‬والشريعة اإلسالمية عامة‪ ،‬ولم يكونوا منفصلين عنها *‪ ،‬بل ومارست تأثيرا واضحا وبينا‬
‫خاصة لما نتصفح كتب الفتاوى‪.‬‬

‫يقر حالق‪ ،‬وهو يناقش مراحل التأسيس الفقهي للشريعة‪ ،‬بممارسة الفقهاء للتأويل؛ وفقا لمحددات‬
‫المنهج جهة‪ ،‬والموضوع المًشت َغل عليه من جهة ثانية‪ ،‬والفاعلية االجتماعية من جهة ثالثة‪ .‬وانطالقا من هذه‬
‫المرتكزات الثالثة‪ :‬النص‪ ،‬المنهج‪ ،‬والمجتمع‪ ،‬فقد أن ِتجت المذاهب الفقهية‪ ،‬باعتبارها كينونة آراء مجموعة‪،‬‬
‫وفي نفس الوقت‪ ،‬أن ِتجت اآلراء المختلف عليها‪ ،‬ما أسماه حالق «التعددية االجتهادية»‪ ،‬التي ظلت عصرا‬
‫معرفيا أساسا في البنية الكلية للشريعة‪ .‬وتشه على استمراريتها‪ ،‬حقيقة عدم إمكانية كبح التعددية‪ ،‬كنتاج‬
‫للتنوع في التفكير الشرعي‪ ،‬ولخضوعها لـ «منعطفات التاريخ اإلسالمي»‪ ،‬وقد الحظ حالق األثر السلبي‬
‫للقرن اتسع عشر‪ ،‬أدى لـ «اجتثاث جذور»‪ ،47‬هذه التعددية الفقهية‪.‬‬

‫وأطرح هنا سؤاال‪ :‬أي رأي فقهي نعتمد؟ وما معايير ذلك؟‬

‫الجواب على هذا االستشكال‪ ،‬يفتح باب الحديث عن المصلحة من وراء تبني رأي فقهي بعينه‪ ،‬وهي‬
‫مصلحة رُ ِبطت بحفظ المذهب هذا صحيح‪ ،‬وكذلك بالسلطة السياسية‪ ،‬خاصة «عالقة الفقه بالسياسة في‬

‫‪ -45‬أنظر‪ :‬الغزالي‪ ،‬أب وحامد‪ ،‬المستصفى في أصول افقه‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد بن عبد السالم الشافعي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ط‪ .‬األولى‪ ،‬ج‪ ،1 .‬بيروت‪،‬‬
‫‪ ،1993‬ص‪ ،174 :‬وانظر‪ :‬ابن عبد السالم‪ ،‬أب ومحمد بن عز الدين بن عبد العزيز‪ ،‬القواعد الصغرى‪ ،‬تحقيق‪ :‬إياد خالد الطباع‪ ،‬دار الفكر المعاصر‪،‬‬
‫ط‪ .‬األولى‪ ،‬دمشق‪1416 ،‬ه‪ ،‬ص‪ .32 :‬وانظر‪ :‬الشاطبي‪ ،‬ـاب وإسحاق‪ ،‬الموافقات‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد هللا دراز‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬ج‪ ،2 .‬بيروت‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪25 :‬‬
‫‪ -46‬حالق‪ ،‬وائل‪ ،‬السلطة المذهبية‪ :‬التقليد والتجديد في الفقه اإلسالمي‪ ،‬ترجمة‪ :‬عباس عباس‪ ،‬مراجعة‪ :‬د‪ .‬فهد بن عبد الرحمن الحمودي‪ ،‬دار المدار‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ط‪ .‬الثانية‪ ،‬بيروت‪ ،2018 ،‬ص‪21 :‬‬
‫* راجع عرضي حول أهمية الفقيه‪ ،‬والقاضي‪ ،‬والمفتي‪ ،‬في المجتمع اإلسالمي‪ ،‬في الجزء الثاني من هذه الدراسة‪.‬‬
‫‪ -47‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪185‬‬

‫‪22‬‬
‫الحضارة اإلسالمية»‪ ،‬والصراع الخفي بين «نزوات رجال السياسة ورغبتهم في توظيف الدين لصالحهم م‬
‫ناحية ورغبة الفقهاء والعلماء في ترويض الساسة وكبح تسلطهم خدمة للشرع من ناحية أخرى»‪.48‬‬

‫وقد نحت محاوالت الفقهاء‪ ،‬في اتجاه استحضار المصلحة المجتمعية‪ ،‬أثناء استنباط كل رأي فقهي‪،‬‬
‫خاصة عبر القياس‪ ،‬من خالل التنبيه لجدوى ربط نازلة ال حكم فيها‪ ،‬بأخرى ذات حكم أصلي؛ وتشترك مع‬
‫األولى‪ ،‬بالمصلحة القائمة في مسار القياس هذا‪ .‬ولهذا أً ِكدت «العلة الناجمة عن مراعاة المصلحة العامة»‪،‬‬
‫والتي ًتقدَم على «أخرى أكدتها اعتبارات أخرى»‪.49‬‬

‫لما يناقش حالق قاعدة التصحيح في الفقه‪ ،‬يؤكد ورود الفاعلية االجتماعية في الحم‪ ،‬وفي رً جحان رأي‬
‫على ما عاه في نازلة ما‪ ،‬في حالة تعد األحكام واآلراء‪ ،‬فيقول‪« :‬وقد يقوم التصحيح أيضا على اعتبارات‬
‫األعراف المألوفة (العادة)»‪ ،‬ويعتبر أن الدوافع االجتماعية‪ ،‬وخاصة المصلحة‪ ،‬قد تحدد مسار الرأي‬
‫الشرعي (الفتوى) مثال‪ ،‬تكوينا – أي أثناء استنباطه‪ -‬وبنية معرفية‪ً ،‬ت َدعَ م بأدلة‪ ،‬في ترجيح األصح من‬
‫الصحيح‪ .‬ويزيد فكرة التأثير االجتماعي‪/‬المصلحي‪ ،‬وضوحا‪ ،‬ودور في تشكل الرأي الشرعي ورجحانه‪،‬‬
‫لما يسوق كالما البن عابدين في «شرح المنظومة» حيث يقول‪ :‬ليس كل رأي صحيح حتى يفتى به؛ ألن‬
‫الصحيح في نفسه ال يفتى به لكون غيره أوفق؛ لتغير الزمان وللضرورة ونح وذلك»‪ .50‬ما دام األمر فيه‬
‫مراعاة لتبدل الزمان وللضرورة‪ ،‬فإن ضرورة مراعاة المصلحة‪ ،‬شرط أساسي في إصدار الرأي الشرعي‪.‬‬

‫يختم حالق‪ ،‬كتابه «تاريخ النظريات الفقهية في اإلسالم»‪ ،‬بفصل سادس‪ ،‬بعنوان «تحديات الحداثة‬
‫نح وأصول نظرية جديدة مؤصلة للفقه»‪ ،‬أورد فيه رؤيته إلمكانية [ تثوير]‪ ،‬أصول الفقه‪ ،‬ومالئمتها مع‬
‫معطيات الحداثة‪ ،‬ونبه لذلك المأزق الذي عرفه المجتمع اإلسالمي باإلبقاء على الحضور التقليدي للشريعة‪،‬‬
‫قبل الحداثة‪ .‬وكنتيجة فقد عمدت طروحات فكرية‪ ،‬لمحاولة إيجاد حل‪ ،‬إما عبر نقل اآللة القانونية الغربية‬
‫تارة‪ ،‬أ وبتجاوز الضيق المذهبي؛ بإتاحة المجال لالختيار في األحكام بين المذاهب‪ ،‬للجواب على الحاجات‬
‫الحديثة‪ ،‬والتي رأى مفكرنا «أن سن المزيد من القوانين على أساس قضايا مختلطة يمكن أن يؤدي إلى‬
‫مشاكل في تماسك االجتهاد»‪ .51‬وقد أورد تقسيما ثنائيا لهاته المحاوالت‪ ،‬فيه فئة النفعيين كما أسماهم‪،‬‬
‫والذي رأوا ضرورة لتغليب المصلحة في عملية تبيئة جديدة للشريعة «فإطار عملهم اقتصر على مفاهيم‬

‫‪ -48‬حالق‪ ،‬وائل‪ ،‬نشأة الفقه اإلسالمي وتطوره‪ ،‬ترجمة‪ :‬رياض الميالي‪ :‬مراجعة‪ :‬د‪ .‬فهد عبد الرحمن الحمودي‪ ،‬دار المدار اإلسالمي‪ ،‬ط‪ .‬األولى‪،‬‬
‫بيروت‪ ،2007 ،‬ص‪19 :‬‬
‫‪ -49‬حلق‪ ،‬وائل‪ ،‬السلطة المذهبية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪194‬‬
‫‪ -50‬نفس الرجع‪ ،‬ص ‪205‬‬
‫‪ -51‬حاق‪ ،‬وائل‪ ،‬تاريخ النظريات الفقهية في اإلسالم‪ :‬مقدمة في أصول الفقه السني‪ ،‬ترجمة‪ :‬أ‪.‬د‪ .‬أحمد موصللي‪ ،‬مراجعة‪ :‬د‪ .‬فهد عبد الرحمن‬
‫الحمودي‪ ،‬دار المدار اإلسالمي‪ ،‬ط‪ .‬األولى‪ ،‬بيوت‪ ،‬يوني و‪ ،2007‬ص ‪274‬‬

‫‪23‬‬
‫الفائدة والحاجة والعوز»‪ ،52‬وفئة المتحررين‪ ،‬والذين مارسوا بحثا غريبا في خلد مخالفيهم‪ ،‬إال أنهم رفضوا‬
‫حسب حالق‪ ،‬تغيير تراتبية الشريعة والمفاهيم الوضعية‪« ،‬أن تخضع لهذه المفاهيم وتستبدلها بأفكار منظمة‬
‫لتحليل نصي‪/‬سياقي حيث يتم التركيز على القانون اإلنساني»‪ .53‬ويؤكد حال على ضرورة انضباط الشريعة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬لضوابط‪ ،‬منها‪ :‬أوال) عالقة المكونات االجتماعية باألحكام التشريعية‪ ،‬ثانيا) تأثير حركة التشريح‬
‫على فكر ومحاوالت اإلصالح‪.‬‬

‫خامتة‪ ،‬ورأي‪:‬‬

‫حاولت في هذه الدراسة‪ ،‬أن أحلل بعضا مما طرحه وائل حالق فيما يخص موضوعتي األخالق‬
‫والمصلحة‪ .‬وأظهرت أن األكاديمي الفلسطيني‪ ،‬وفقا لرؤيته الناقدة المزدوجة‪ ،‬جعل من المكون األخالقي‬
‫قاعدة أساسا‪ ،‬للبديل اإلسالمي الحداثي‪ .‬كما اتضح عبر تفاصيل الدراسة‪ ،‬أن الشكل الذي يقترحه حالق لهذا‬
‫المكون األخالقي‪ ،‬ه والشريعة‪ ،‬وينطلق في ذلك من قاعدة االرتباط البنيوي بين البعد القانوني للشريعة‪،‬‬
‫بالبعد القيمي األخالقي‪ .‬ونقد حالق نقدا كبيرا التطبيقات التاريخية للحداثة‪ ،‬لما دفعت األخالق للنطاق‬
‫الهامشي وأبقت على العقل والعلم واإلنسان في النطاق المركزي‪ ،‬مما نتج عنه جموح كبير الحظناه في‬
‫أزمات الحداثة العميقة‪ .‬وللخروج من هذه المعضلة يقترح حالق‪ ،‬كبح جماح العقل واإلنسان‪ ،‬عبر التأطير‬
‫األخالقي الصارم‪.‬‬

‫من ناحية أخرى‪ ،‬أوضحت‪ ،‬اإلشكاالت البراديغمية للحداثة‪ ،‬وخاصة التأسيس لألخالق النسبية‪ ،‬ذات‬
‫النزعة الفردانية‪ ،‬وقد نبهت الطروحات النقدية‪ ،‬لما آل له األمر من طغيان غاية اللذة والمنفعة‪.‬‬

‫ثم انتقلت‪ ،‬للتركيز على أهمية المصلحة في عملية االستدالل الشرعي‪ ،‬عند العلماء المسلمين القدماء‪،‬‬
‫وطغيانه في تنظيرات مفكري النهضة اإلسالمية بتياراتها األيديولوجية المتنوعة‪ ،‬والتشديد أن المصالح‬
‫السياسية‪ ،‬االقتصادية‪ ،‬االجتماعية‪ ،‬وغيرها‪ ،‬وجب مراعاتها في عملية التأصيل التجديدي للفقه والشريعة‪.‬‬

‫ألقول‪ ،‬إن التعويل على محددات التقويم النفسي‪ ،‬والذي أظهرته من خالل نقاش ما أسميته «فلسفة‬
‫العبادات»‪ ،‬بالغ األهمية في عودة األخالق للمجال العام‪ .‬فالمالحظ‪ ،‬أن القانون عجز عن التقليل من نوازع‬
‫الشر‪ ،‬وهوما بشرت به الحداثة‪ ،‬والقائلون بها في المجتمعات اإلسالمية‪ .‬وفي نفس الوقت‪ ،‬فتعويل التيار‬
‫اإلسالمي على استدعاء إرث أخالقي‪ ،‬والذي يفرض لزوما مجتمعا أخالقيا‪ ،‬يشوبه الكثير من الخلل‪ ،‬خاصة‬

‫‪ -52‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪325‬‬


‫‪ -53‬نفس المرجع‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫لما طغت النسخة الغربية من الحداثة‪ .‬كما أن التعويل على «طهرانية» الخطاب األخالقي اإلسالمي‪ ،‬يجعله‬
‫ضعيفا في مجابهة سؤال المنفعة‪ ،‬اللذة‪ ،‬والمصلحة‪ ،‬والتي هي نوازع الوجود اإلنساني‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫املصادر واملراجع املعتمدة‬
‫‪ -‬القرآن الكريم‪ ،‬برواية ورش‪.‬‬

‫*‪ -‬المصادر‪:‬‬

‫‪ -‬ابن منظور‪ ،‬محمد بن مكرم‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬ط‪ .‬الثالثة‪ ،‬ج‪ ،7.‬بيروت‪1999 ،‬‬

‫‪ -‬ابن عبد السالم‪ ،‬أبو محمد بن عز الدين بن عبد العزيز‪ ،‬القواعد الصغرى‪ ،‬تحقيق‪ :‬إياد خالد الطباع‪ ،‬دار الفكر‬
‫المعاصر‪ ،‬ط‪ .‬األولى‪ ،‬دمشق‪1416 ،‬هـ‪.‬‬

‫‪ -‬الشاطبي‪ ،‬أبو إسحاق‪ ،‬الموافقات‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد هللا دراز‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬ج‪ ،2 .‬بيروت‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬

‫‪ -‬الغزالي‪ ،‬أبو حامد‪ ،‬المستصفى في أصول افقه‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد بن عبد السالم الشافعي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ط‪ .‬األولى‪،‬‬
‫ج‪ ،1 .‬بيروت‪1993 ،‬‬

‫*‪ -‬المراجع‪:‬‬

‫‪ -‬تورين آالن‪ ،‬نقد الحداثة‪ ،‬ترجمة‪ :‬أنور مغيث‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪1997 ،‬‬

‫‪ -‬حالق‪ ،‬وائل‪:‬‬

‫تاريخ النظريات الفقهية في اإلسالم‪ :‬مقدمة في أصول الفقه السني‪ ،‬ترجمة‪ :‬أ‪ .‬د‪ .‬أحمد موصللي‪ ،‬مراجعة‪ :‬د‪ .‬فهد عبد‬
‫الرحمن الحمودي‪ ،‬دار المدار اإلسالمي‪ ،‬ط‪ .‬األولى‪ ،‬بيوت‪ ،‬يونيو ‪2007‬‬

‫الدولة المستحيلة‪ :‬اإلسالم والسياسة ومأزق الحداثة األخالقي‪ ،‬ترجمة‪ :‬عمرو عثمان‪ ،‬مراجعة‪ :‬ثائر ديب‪ ،‬المركز‬
‫العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬بيروت أكتوبر ‪2014‬‬

‫السلطة المذهبية‪ :‬التقليد والتجديد في الفقه اإلسالمي‪ ،‬ترجمة‪ :‬عباس عباس‪ ،‬مراجعة‪ :‬د‪ .‬فهد بن عبد الرحمن الحمودي‪،‬‬
‫دار المدار اإلسالمي‪ ،‬ط‪ .‬الثانية‪ ،‬بيروت‪2018 ،‬‬

‫ماهي الشريعة؟ ترجمة‪ :‬طاهرة عامر – طارق عثمان‪ ،‬مركز إنما للبحوث والدراسات‪ ،‬ط‪ .‬األولى‪ ،‬بيروت‪2016 ،‬‬

‫نشأة الفقه اإلسالمي وتطوره‪ ،‬ترجمة‪ :‬رياض الميالي‪ :‬مراجعة‪ :‬د‪ .‬فهد عبد الرحمن الحمودي‪ ،‬دار المدار اإلسالمي‪،‬‬
‫ط‪ .‬األولى‪ ،‬بيروت‪2007 ،‬‬

‫‪ -‬ميل‪ ،‬جون ستيوارت‪ ،‬النفعية‪ ،‬ترجمة‪ :‬سعاد شاهرلي حرار‪ ،‬مراجعة‪ :‬هيثم غالب الناهي‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪ ،‬بيروت‪ ،‬تموز (يوليو) ‪2012‬‬

‫*‪ -‬دراسات‪:‬‬

‫‪ -‬عفان محمد‪ ،‬هل تعد الحركات اإلسالمية السياسية حركات متعلمنة؟ دراسات‪ ،‬مركز نهوض للدراسات والبحوث‪،‬‬
‫‪2022‬‬

‫‪26‬‬
‫*‪ -‬رسائل جامعية‪:‬‬

‫‪ -‬نون وئام‪ ،‬سوالمية نسرين‪ ،‬قضايا االستشراق عند وائل حالق «الشريعة ووعي الذات»‪ ،‬مذكرة لنيل شهادة الماستر‬
‫في الفلسفة التطبيقية‪ ،‬غ‪ .‬منشورة‪ ،‬جامعة ‪ 8‬اي ‪ ،1945‬الجزائر‪2022/2021 ،‬‬

‫*‪ -‬حوارات‪:‬‬

‫‪ -‬حوار مع المفكر وائل حالق‪ ،‬إصالح الحداثة‪ :‬األخالق واإلنسان الجديد في فلسفة طه عبد الرحمن‪ ،‬حوار‪ :‬عثمان‬
‫أمكور‪ ،‬مركز نهوض للدراسات واألبحاث‪2021 ،‬‬

‫‪27‬‬
All rights reserved © 2023 2023 © ‫ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺤﻘﻮق ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‬

You might also like