Professional Documents
Culture Documents
مقدمة
المبحث األول :العقالنية كمفهوم في الفلسفة األوروبية الحديثة (النهضة و عصر األنوار)
خاتمة
مقدمة :
إذا كان العقل في جوهره عالمي الهوية و الجذور ،إنساني المالمح و اآلفاق ،فإن العقالنية
غير ذلك ،إذ هي تتعدد بتعدد الثقافات و األمم ،و من ثم فإن العقالنيات العربية اليوم هي
1
حقيقة وجود يحمل في ذاته تناقضات العصر الذي يحياه .الشيء الذي حمل الفكر العربي منذ
نهاية القرن الماضي إلى محاوالت عدة لتجاوز واقعه من خالل تجاوز التراث بإعتباره
ماضيا متخلفا غير مساير لما يحياه .و ذلك باستلهامه مفاهيم من الفكر األوروبي ليتمكن من
التوفيق و إقامة التوازن بين واقعه و واقع مغاير له ،انطالقا من أنهما لحظتان فكريتان
مختلفتان ،حيث الفكر الطبيعي و التقني هو نتاج أوروبا الحديثة ،و األفكار الروحية هي
تراثه ،و من ثم أجريت عملية تكييف و محاولة تبيئة للفكر التقني األوروبي ،لكي يتوافق مع
األفكار الروحانية ،كما أجريت عملية مماثلة لألفكار الروحية لكي تقبل التقنية و أصبح
بالتالي جوهر المشكلة هي ما الذي نأخذه من اآلخر باعتباره "متقدّما" و ما الذي نتمسك به
صدمة التي حدثت بيننا و بين اآلخر قد أفضت بالضرورة إلى
في تراثنا؟ .فالشك من أن ال ّ
دخول ثقافة اآلخر على مجتمع يحوي ثقافة واحدة (أو لنقل فكرا واحدا) هي الثقافة العربية
اإلسالمية( ،التي تمثل ثقافة األمة كلها) ،هذا الدخول الذي أدى إلى نشوء تضاد بين
"ثقافتين" ثقافة أوروبية في مقابل ثقافة عاجزة عن إنتاج فكر .فكان من نتائج تلك (الصدمة)
دخول النزعة العقالنية إلى المجتمعات العربية اإلسالمية دون مجابهة تضمن استبدال
التوازن القديم إلى المجتمع بتوازن جديد أكثر فعالية و إنسانية ،إذ في هذا اإلطار نعتقد بأن
ثنائية األنا /اآلخر أصبح لها مغزى أعمق مما هو باد يعبر عن انكماش "الذات" "األنا" و
"الهوية" و تقوقعها ،و انغالقها ،خوفها من اآلخر ...و ال يحدث هذا االنكماش في اعتقادنا إال
حينما تكون البنى الثقافية المعبرة عن "الذات" و "األنا" و "الهوية" عاجزة ،أو ميتة.
و عليه لم تكتسب العقالنية شرعيتها كـمـفهوم على الـمـسـتوى الـفـلـسـفي و السياسي ..في
الفكر العربي ،و لم تكن امتداد أو استمرار للفكر العربي ،و إنما هي إحدى المسبقيات
المعرفية التي فرضت نفسها في ثنايا الفكر العربي ،بعد التعرف على مصادر الفلسفة و
النهضة األوروبية و عصر األنوار أو لنقل بعد الصدمة تحديدا .تعرف الفكر العربي على
العقالنية كان إثر لقائه بالغرب ،هذا التعرف الذي كان و ال يزال بتميز بالحذر بكثير من المد
و الجزر .ألن ما يبرر عدم وجود العقالنية كممارسة قائمة على اإليمان بقدرة العقل و على
2
تفسير المعقول و الالمعقول...إال أن الفكر ال يزال عاجزا عن المواجهة الالعقالنية السائدة،
و عن تأسيس تنظير عميق لسيرورة مقترحة لعقلنة الواقع ،أو على األقل لعقلنة جوانب من
الممارسة الواقعية ..فهو ال يزال يعاني صدمة التحوالت الكبرى التي تقع أمام عينيه بدون أن
يساهم فيها مباشرة ،كما ال يزال يأخد منها مواقف تحددها مرجعية ماضوية تقليدية عوض
أن تكون مرجعية ذات معقولية واضحة مبنية على االستبدال و التجريب...في حين الرجوع
إلى معقولية التفكير يفيد تحرر الفكر من المرجعية الماضوية الضيقة ،فالعقل هو مفتاح
الحداثة و المعقولية هي سبيل التحديث ،لذا نجد الفكر العربي تميز بثالث مستويات من
العقالنية:
المستوى األول :تواجد ال عقالنية متخلفة و سابقة زمنيا تمثلت في الموروث القديم الذي كان
سائدا من رؤى سحرية و واقع متصف في معظمه بالالمعقول.
المستوى الثاني :حضور عقالنية (فوقية) كونها مكتسبة عن اآلخر أي انفعالية اتجاه آليات
الحضارة الحديثة ،و ذلك ما مثله الفكر النهضوي في القرنين األخيرين.
المستوى الثالث :هناك عقالنية تأسيسية من خالل استيعاب المناهج المعاصرة و الطروحات
المختلفة التي و أن اتفقت على منطلق "النهوض" فإنها تختلف في الرؤية و التعامل في
كرس الكثير من المثقفين العرب جهدهم و
تحقيق هذا النهوض فمن هذا المستوى األخير َ
محاوالتهم للبرهنة على ضعف األسس المنطقية لهذا الجانب أو ذاك من الثقافة العربية
اإلسالميةالتقليدية ،أو قوة هذه األسس في هذا الميدان أو ذاك من الفكر العربي اإلسالمي ...و
الحقيقة أنهم كانوا هنا و هناك من خالل طرح إشكالياتهم و مقاربات تحليالتهم..يص َبون في
محاولة اإلجابة عن التساؤالت التالية:
عن ما مدى حضور العقل و العقالنية في الفكر العربي قديما أو حديثا؟ و عن مكانة العقالنية
و أنواعها ،و داللتها في أنواع الخطاب العربي و التساؤل بالتالي عن مستقبل نمط التفكير
العربي ،و عن مدى إمكانية تطوير "عقل عربي" مبدع ،منتج؟ بل و أيضا عن إمكانية
تأسيس عقالنية عربية إستشرافية مجابهة لزخم التحوالت التي تشهدها الساحة الفكرية
العالمية خاصة.
3
ضمن هذه التساؤالت و غيرها ...يندرج هذا العمل كمقاربة تأسيسية ذات طابع استقصائي
لعقالنيات الفكر العربي ،غايتنا في ذلك استقراء مدى تواجدها ،و كيفيات طرحها ،و بالتالي
الكشف عن إمكانية تأسيسها من خالل االتجاهات و النماذج الفكرية العربية التي تبنتها سواء
كهاجس أو طموح أو محاولة تكريس ..لذا كان اختيارنا "للجابري" كمفكر عربي معاصر إال
ألنه من جهة يمثل في اعتقادي نموذج تطبيقي لالشكالية ،و من جهة أخرى يحمل مشروعا
ثقافيا يعيد وعينا بالتاريخ من خالل رسم حدود عقلنا العربي بنظام العالقة التي تحكمه من
خالل جينالوجيا العقل ،فنموذجنا إذن ،يحمل على عاتقه مهمة النقد العلمي لبنية "العقل
العربي" ،بهدف ارساء قاعدة نظرية نقدية ينطلق منها لتغيير بنية التفكير و الثقافة العربيين
في العصر الحديث بما ينسجم و مقتضيات التقدم في العصر الحديث ..و بالتالي تحقيق تنمية
في الفكر العربي المعاصر قائمة على الطرح العقالني لكل قضايا الفكر.
لذا جاء هذا البحث وفق تصورنا لمشروع الخطة التي اعتمدناها بالشكل التالي و المؤلفة من
أربعة فصول ،كل فصل بمبحثين.
المبحث األول :العقالنية كمفهوم في الفلسفة األوروبية الحديثة (النهضة و عصر األنوار)
في نظرية المعرفة (االيبستمولوجيا) ،العقالنية (أو العقلية) تطلق علي اي فكر يحتكم الي
االستنتاج (أو المنطق) كمصدر للمعرفة أو للتفسير .بمعني ادق ،المنهج (أو النظرية) الذي
يتخذ من العقل واالستنباط معيارا للحقيقة بدال من المعايير الحسية .هنالك مواقف مختلفة من
العقالنية ،منها المعتدل الذي يري ان االستنتاج له األفضلية علي الطرق األخري الكتساب
1
المعرفة ،ومنها األكثر تشددا الذي يتخذ من االستنتاج المصدر الوحيد للمعرفة.
لقد كانت محاولتنا من خالل المدخل االصطالحي أوال ،محاولة لضبط مفهوم العقالنية
كمفهوم و نظام قائم على االستدالل (العقل) في مقابل (تضاد) أنظمة قائمة على المثالية أو
- 1أبو حمدان ( محمد ) ،الفالسفة والفكر األسالمي ( ،طرق الفكر ) ،الشركة العالمية للكتاب ،دار الكتاب اللبناني ،
بيروت ،لبنان .1985 ،ص 99
4
الحسيّة ،كما أنها تضاد للعفوية القائمة على الدوافع الالعقالنية كمصدر لكل فعل إنساني ،و
بالتالي حاولنا أيضا استجالء مفهومها كرؤية للعالم مبنية على االتفاق الكلي بين ما هو عقلي
(التناسق) و واقع الكون .تبعا لهذا السياق االصطالحي و المفهومي حاولنا في المبحث
التركيز على تاريخية مفهوم العقالنية من خالل نشأتها و تطورها كاتجاه في الفكر األوروبي
الحديث (النهضة و عصر األنوار) هذا االتجاه الذي ظهر في القرن السادس عشر و ما بعده،
و الحامل ألولية العقل ،منطلقا في عدة معان متكاملة و متفاوتة ،مقصيا بذلك من الواقع كل
ما ليس عقليا أو ذو طابع عقلي (أي خارج عن دائرة التفسير العقلي) و بشيء من التركيز
أيضا حاولنا إبراز الشروط التي أنتجت االتجاه و المفهوم ..كالتطور الصناعي ،و
االكتشافات العلمية المعرفية و الجغرافية ..التي كان لها دور ضاغط باتجاه عقلنة كل جوانب
الحياة استجابة لمطلب الكم و النوع في التراكم الصناعي ،معتمدين في ذلك على نذمجة
لممثلي هذا االتجاه على المستوى الفكري و الفلسفي "كديكارت" ،و "كانط"..آخذين بعين
االعتبار اختالف نمط العقالنية داخل هذا االتجاه.
- 1ابن أبي صبيعة ،عيون األنباء في طبقات األطباء ،دار الثقافة ،بيروت ،لبنان ،ج ،2د ت ،ص 70
5
الفصل الثاني :فهم العقل في التراث العربي اإلسالمي
من خالل المدخل اإلشكالي للفصل الذي حاولنا فيه تقصي اصطالح العقل لغة و معنى و
تقصي داللته خاصة في القرآن الكريم باعتباره مرجعية نصية ال محيد عنها في الفكر
عرفوه و فهموه ،و من ثم
العربي قديما أو حديثا ،تتبعنا مفهوم العقل عند الكالميين كيف َ
كيف ّ
وظفوه في مختلف القضايا التي تجادلوا حولها ..مركزين في ذلك على مسألة استخدامه
إما كقدرة إلهية لعقلنة النص الديني ،و إما كقدرة برهانية للدفاع عن العقائد ،و قد اتخدنا في
هذا المبحث فرقة المعتزلة كتيار بارز ضمن الفرق الكالمية حرصا منا مع ما يتماشى و
منطق البحث الذي اعتمدنا ،مع اإلشارة إلى أن هذا المبحث كان مختصرا و مكثفا إلى أبعد
الحدود حتى ال يكون على حساب إشكالية البحث.
لقد أفردت هذا المبحث للنظر في اشكالية العقل و النقل من أجل الوقوف على البواكير و
اإلرهاصات األولى لبعض أنماط التفكير العقالني من خالل اضطرار الفالسفة المسلمين من
اتخاذ موقف اتجاه مسألة التوفيق بين الدين و الفلسفة ،و طبعا حضور العقل في هذه األخيرة
كقدرة على تأويل النص و تكييفه بما يتوافق و الشريعة كان من أهداف بحثنا إبراز إمكانية
العقل و حدوده عند هؤالء الفالسفة،و من ثم إبراز تلك الجهود العقالنية التي طبعت
تفكيرهم ..كما جاء اقتصارنا على "ابن رشد" و "ابن خلدون" كوقفات لهذا المبحث لسببين:
باعتبارهما شكال منعرجا معرفيا بارزا من خالل إعادتهما النظر في مسار الثقافة العربية
اإلسالمية.
كونهما مثال "للجابري" (موضوع بحثنا) مرجعية تنويرية في مسار العقل العربي ،الشيء
الذي جعله يدمجهما ضمن مشروعه النقدي كحل تجاوزي للقراءة و للتعامل مع التراث.1
- 1ابن سينا ،النجاة ،تحقيق عبد الرحمن عميرة ،دار الجيل ،بيروت ،لبنان ،ج، 2د ت .ص 102
6
الفصل الثالث :العقالنية بين القديم والمعاصر
اعتقد سقراط بأن على البشر أن يفهموا أنفسهم أوال قبل أن يفهموا العالم ،و أن التفكير
العقالني هو الطريق الوحيد لتحقيق ذلك.
علينا أن نتطرق إلى فهم اإلغريق للعالم ,لكي نعي ما قصد سقراط .المرء بالنسبة لهم ,يتكون
من جزئين ,الجسد و الروح .الروح لها جزئان أساسيان ,الجزء الالعقالني ,وهو الخاص
بالمشاعر والرغبات ,والجزء العقالني وهو النفس.
وهم يرون أن في تجاربنا اليومية ,الروح الالعقالنية تنجذب إلى الجسد برغباته وتندمج
الروح الالعقالنية معه ,فيصبح إدراكنا للعالم محدود بما تؤتينا به حواسنا الجسدية .الروح
العقالنية هي أبعد من ادراكنا ولكن يمكن التواصل معها بالصور ,األحالم وخالفه.
مهمة الفيلسوف إذا ,كما يرى سقراط ,هي إصالح ,وفي نهاية المطاف استئصال الروح
الالعقالنية ,وبالتالي الحاجة إلى اإلصالح األخالقي ,وبعدها تفعيل الروح العقالنية كي يكون
إنسان مكتمل يظهر الجوهر الروحاني االسمي وهو ما زال في جسده.
العقالنية الحقيقية ,بالنسبة لسقراط ,هي ليست فقط عملية تفكير ,وإنما تغيير في الوعي
والطبيعة النوعية للمرء .الروح العقالنية تنظر إلى العالم بنظرة روحانية ,ترى األشكال
األفالطونية ,أو جوهر األشياء .معرفة العالم تحتاج إلى أن يعرف المرء روحه أوال ,وبالتالي
' يفهموا أنفسهم أوال'.1
- 1باشالر ( غاستون ) ،العقالنية التطبيقية ،ترجمة ،بسام الهاشم ،المؤسسة الجامعية للدراسات النشر والتوزيع ،بيروت
،لبنان ،ط .1984، 1ص 125
7
سقراط لم ينشر أو يكتب أي من أفكاره ,ولكنه كان دائما في مناقشات مع اآلخرين .عادة كان
يبدأ بطرح سؤال بالغي ,يوحي بأنه قابل لإلجابة .بعد االطالع على اإلجابات من اآلخرين,
يستمر في طرح األسئلة حتى تحل كل نقاط الخالف أو حتى يقر اآلخرين على عدم القدرة
على إجابة السؤال .سقراط لم يدعي أنه يعرف اإلجابة ,ولكن هذا لم يمنع قدرته على تناول
المشكالت بشكل عقالني .كان هدفه أن في النهاية طريقتنا الفكرية لفهم العالم معيبة و وجب
تجاوز ذلك للحصول على معرفة حقيقية لحقيقة األشياء.
إن اللغة العربية غنية جدا بالمفردات التي تعني العقل ،فقد تعني الحجر ،والحلم ،والنهى ،
والقلب واللب والعلم والفؤاد وغيرها ....فقد وردت هذه العبارات ـ رغم أنها مترادفة ـ لكن
لكل واحدة منها مرادفة للعقل من زاوية معينة ،وما يالحظ أن اللغة العربية تناولته سواء
على لسان شعراء الجاهلية ،أو أثناء الدعوة اإلسالمية ،كما وردت هذه العبارات في القرآن
الكريم.
تحدث القرآن بإسهاب عن العقل ومشتقاته ومرادفاته ،حيث نجد موزعة كالتالي:
8
9ـ الحكم وحكمه ومشتقاتهما وردت في 30آية
كما تناول األدب والشعر العقل أما على لسان الشعراء في الجاهلية أو في العهد اإلسالمي ،
فقد
تصابيت أو بانت بعقلك زينب وقد جعل الود الذي كان يذهب ويقصد بقوله هذا أن المحب
فقد السيطرة على عقله من شدة حبه ،وهذا يعني أن الوجدان يكون قد تغلب على القوة العاقلة
،لذلك يقول أحد الشراح <<:فجاءت بمعنى القوة العاقلة التي فارقت 1صاحبها بسبب
العشق>>
أما حسان ابن ثابت فقد استعمله بهدف دعوي ،حيث ينسب له الضالل والبعد عن الحق في
قوله :ترحل عن قوم فضلت عقولهم وحل على قوم بنور مجدد.
بينما استعمل بعض الشعراء مفردات أخرى تعني العقل منها « اللب » ،وقد استعملها كعب
بن مالك في ديوانه بقوله :حكما يراها المجرمون بزعمهم مرحا ويفهمها أولو األلباب أما
مفردة النهى فقد وردت عند بعض الشعراء .فقد استعملها األعشى في قوله :تعالوا فإن
العلم عند ذوي النهى من الناس كالبلقاء باد حجولها.
كما استعمل العرب مفردة الحلم ،ويتجلى هذا في قول الشاعر علي ابن هشام :لعمرك إن
الحليم زين ألهله وما الحلم إال عادة وتحلم.
إذا لم يكن صمت الفتى من بالدة وعي فإن الصمت أهدى وأسلم.1
واستعمل حمزة بن عبد المطلب مفردة الفؤاد مكان العقل ليثبت أنه محل اإليمان حيث قال
حمدت هللا حين هدى فؤادي إلى اإلسالم والدين الحنيف من خالل ما تقدم نالحظ أن
المفردات والمصطلحات التي وردت في معنى العقل مختلفة في دقة معانيها وفهمها وشرحها
- 1باشالر ( غاستون ) ،الفكر العلمي الجديد ،ترجمة ،عادل العوا ،موفم للنشر ،الجزائر ، 1990 ،ص 140
9
،ولكن هناك من اعتقد أنها كلها ترد لتعني العقل ،وأن اإلختالفات بينها هي اختالفات طفيفة
ال تكاد تذكر.
أما فلسفيا فقد أجمع أغلب علماء اللغة العربية ومعهم بعض فالسفة اللغة أن « عقل » هي
مصدر الفعل « عقل » وبالتالي وبما أن المصدر يدل في الغالب على حدث ما مجردا من
الزمان والمكان ،والذي يعني أنه اسم ال وجود لذات له في الخارج ،فالحدث هو األمر
الذي يقوم به الفاعل .لذلك يقول الدكتور زكي نجيب «:فأظنهم جميعا (يقصد المفكرين
الذين اختلفوا في تعريف العقل وتحديده في عصرنا الراهن ـ على األقل ـ متفقون على ابعاد
معنى اليجوز أبدا أن ينصرف إليه مفكر واحد ،وهو المعنى الذي يتصور أن ثمة في عالم
الكائنات كائنا مستقال بذاته قائما برأسه اسمه « عقل » كما يشير هماليا مثال إلى جبل معين
معلوم ،فلتتعدد التعريفات كما يريد أصحابها على أنها تلتقي كلها في نقطة واحدة هي أن
1
العقل اسم .
في هذا المبحث ركزنا بصفة أكثر على المنطلقات و المفاهيم الموظفة داخل الخطاب
النهضوي بتياريه الرئيسيين (السلفي ،الليبرالي) كونهما اتسما بمواقف و طروحات بديلة
لتجربة النهضة الغربية عموما و لمواجهتهما للوضع العربي بكل ما يحمل خصوصا .مما
جعلنا في هذه المحاولة نبرز إشكالية الثنائية (الألنا/اآلخر) و التي ترددت في الخطابين،
مركزين على الخطاب الليبرالي الحامل لمشروع العقلنة ،التقدم ..و إذن الكيفية التي تصورها
بعض الرواد و نظروا لها من خالل محاوالتهم في إبراز الشروط الضرورية لتجاور
اإلنحطاط.
- 1الباهي (حسان) ،اللغة والمنطق ( بحث في المفارقات) ،المركز الثقافي العربي ،دار األمان للنشر ،الرباط ،المغرب ،
ط .2000 ، 1ص 67
10
في هذا المبحث حاولنا الوقوف عند أهم التيارات الفكرية التي أجمعت على أن أهم شروط
تحقيق النهضة هو العمل على تحديث أو تجديد النظر إلى مسألة التراث ..فكان اختيارنا
لبعض رواد هذه التيارات على اعتبار اهتمامهم بقضايا التراث شكل منعطفا على مستوى
الفكر العربي المعاصر من خالل تشخيصهم ألزمته و من ثم نقد بناه المنتجة له ..و على
اعتبار أن معظم كتابتهم طبعت بمفاهيم ذات طابع "استنساخي" تارة "و "منحوتة" تارة
أخرى ..رغم توجهاتهم التي اختلفت من حيث المنهج و الموقف و الرؤية اتجاه التراث ،إال
أننا حولنا تصنيف هذه التوجيهات على أساس المنطلق الفكري الذي طبع توجهاتهم ،غايتنا
في ذلك الوقوف على إشكالياتهم و طبيعة منهجهم ،و من ثم محاولة تقييم حلولهم ..بما
يتماشي و ما رسمناه لهذا البحث.1
خاتمة :
تفسر العقالنية في كثير من األحيان على أنها تقابل التجريبية ،ولكن بنظرة أكثر عمومية،
واإلثنين ليسوا متنافيين .هنالك العديد من الفالسفة الذين يمكن تصنيفهم بالعقالنيين
والتجريبيين.
يجادل بعض من مؤيدي العقالنية بأنه إذا بدأنا من قواعد أساسية كمسلمات الهندسة ،فإنه من
الممكن استنتاج كل المعرفة التي يمكن معرفتها .الفيلسوفان سبينوزا وليبنتز كانا أبرز من
- 1بدوي ( عبد الرحمن ) ،أمانويل كانط ،وكالة المطبوعات الجامعية ،الكويت ،ط ، 1977. ، 1ص 33
11
تمسك بهذا الفكر ،و محاولتهما لفهم المشاكل المعرفية والميتافيزيقية التي أثارها ديكارت
أدت إلى تنمية النهج األساسي للعقالنية.
سبينوزا وليبنتز قاال من حيث المبدأ كل المعرفة بما فيها المعرفة العلمية يمكن الحصول
عليها من االستنتاج وحده ،ولكن الحظا أن ذلك غير ممكن من حيث التطبيق للبشر ما عدا
مواضيع معينة كالرياضيات .ولكن ليبنتز أقر بأن "كلنا تجريبيين في ثالث أرباع أفعالنا".
أبو حمدان ( محمد ) ،الفالسفة والفكر األسالمي ( ،طرق الفكر ) ،الشركة العالمية
للكتاب ،دار الكتاب اللبناني ،بيروت ،لبنان .1985 ،
·أبو ريان ( محمد علي ) ،تايخ الفكر الفلسفي ( الفلسفة اليونانية ) ،دار النهضة العربية ،
12
·ابن أبي صبيعة ،عيون األنباء في طبقات األطباء ،دار الثقافة ،بيروت ،لبنان ،ج ،2د
ت،
·ابن سينا ،النجاة ،تحقيق عبد الرحمن عميرة ،دار الجيل ،بيروت ،لبنان ،ج، 2د ت.
·باشالر ( غاستون ) ،الفكر العلمي الجديد ،ترجمة ،عادل العوا ،موفم للنشر ،
·الباهي (حسان) ،اللغة والمنطق ( بحث في المفارقات) ،المركز الثقافي العربي ،دار
·بدوي ( عبد الرحمن ) ،أمانويل كانط ،وكالة المطبوعات الجامعية ،الكويت ،ط، 1
1977.
13