Professional Documents
Culture Documents
لقد جرت العادة في الكتب المدرسية ،التي تعرف الفلسفة وموضوعها ،أن تقسم
تلك الكتب مجاالت البحث الفلسفي إلى مباحث ثالثة رئيسية ،هي:
- 1مبحث المعرفة :ويختص هذا المبحث بدراسة إشكالية المعرفة كما تطرح
بالنسبة لإلنسان ،وفي هذا المبحث نجد عادة هذه النماذج من األسئلة :
كيف يعرف اإلنسان أشياء وظواهر العالم الذي يحيط به ويعيش فيه؟
وهل تعد تلك المعارف مطلقة ويقينية وثابتة؟ أم هي نسبية ويمكن أن يتسرب إليها
الشك وتقبل التغيير؟
كيف تتطور معارف اإلنسان وعلومه؟ وكيف تنشأ النظريات العلمية؟ هل يتم ذلك
عن طريق التقدم المستمر؟ أي أن كل نظرية علمية ما تمهد الطريق لظهور
نظرية أخرى؟ أم أن ذلك يتم عن طريق التحوالت والقطائع؟
وما هي طبيعة المناهج التي تطبقها العلوم المختلفة للوصول إلى معارف وقوانين
في الميادين التي ندرسها ونبحث فيها؟
وقد حدث في الفترة المعاصرة تطور مهم في هذا المبحث نتيجة للتجديد الذي
حصل في طريقة طرح األسئلة؛ حيث قد تم التخلي عن كثير من األسئلة السابقة؛
ألنها كانت تطرح في إطار إشكالية نظرية المعرفة ،كما وردت عند الفيلسوف
األلماني كانط ،وألن تلك اإلشكاليات تربط مبحث المعرفة بالفلسفة ،بينما نالحظ
أن التوجه المعاصر لمبحث المعرفة يطمح إلى أن يجعل هذا المبحث قريبا من
العلوم ،وبعيدا ما أمكن عن الفلسفة ،ولهذه الغاية ،أضحى مبحث المعرفة يحمل
أسماء جديدة ،مثل :فلسفة العلوم ،أو نظرية المعرفة العلمية ،أو اإلبستمولوجيا.
- 2مبحث القيم :يهتم هذا المبحث الفلسفي بالقيم التي يجب أن يخضع لها
اإلنسان ،إما في سلوكه لكي يكون خي ار ،وهذا مجال علم األخالق ،وقيمه
اإلنسانية هي الخير والشر؛ واما في تفكيره لكي يكون مستقيما وسليما ،وهذا هو
مجال علم المنطق ،والقيم المتداولة فيه هي الحقيقة والخطأ ،أو الصدق والكذب؛
واما في أذواقه والحكم على ما يبدعه في مجالي األدب والفن ،وهذا هو مجال علم
الجمال ،والقيم المتداولة فيه هي الجمال والقبح.
يطلق على مبحث الوجود في لغة الفلسفة أنطولوجيا ،وهذا اللفظ مركب من
كلمتين :أنطو Ontosوتعني "وجود" ،و لوغوس Logosوتعني "علم" أو" بحث".
والداللة العامة لهذا المصطلح المركب هي العلم الذي يهتم بالتفكير والتأمل في
الوجود بصفة عامة من أجل محاولة تفسيره ،وتكوين نظرية عامة عنه قد تشفي
غليل اإلنسان ودهشته .ولفظ "أنطولوجيا" رغم أنه مركب من كلمات يونانية
األصل ،إال أنه مصطلح حديث العهد نسبيا ،إذ ال نجده مستعمال في الفلسفة
اليونانية القديمة ،رغم أن قدماء فالسفة اليونان كانوا من األوائل الذين اهتموا
بمسألة الوجود ،وحاولوا صياغة نظريات عامة لفهم الوجود ولتفسيره.
إن التفكير في الوجود قديم ،أما االسم الذي أطلق على هذا النوع من التفكير فهو
حديث ،ذلك أن مصطلح أنطولوجيا لم يظهر في الفلسفة الغربية إال في القرن
الثامن عشر ،وقد استعمله للمرة األولى فيلسوف ألماني يدعى"وولف" (- 1679
1754م) ،وقد استخدمه كعنوان لكتابه" :الفلسفة األولى واألنطولوجيا".
واذا كان مصطلح "أنطولوجيا" حديث العهد ،فال يعني ذلك أن المسألة الفلسفية
التي يفكر فيها من خالل هذا المصطلح هي أيضا حديثة العهد ،إذ من المرجح
جدا أن التساؤل حول الوجود يعد من أقدم التساؤالت التي أثارها اإلنسان؛ فإذا كان
أصل التفكير الفلسفي هو الدهشة كما يقال ،فإن الدهشة تنبعث أوال -وقبل كل
شيء -من ظواهر هذا الكون الذي يعيش فيه اإلنسان ،تلك الظواهر التي تغيره
وتربكه ،وتقع غالبا خارج دائرة فهمه ،فتظل تشغل باله باستمرار ،كما أنه يحاول
أن يبحث لها عن تفسير يشفي غليله.
ويذكر لنا التاريخ المتداول للفلسفة أن الفالسفة اليونان القدامى هم أول من ارتقى
بالتساؤالت حول الوجود إلى مرتبة التساؤالت الفلسفية التي تطمح إلى صياغة
نظرة عامة وكلية عنه.
لقد اهتم هؤالء بمسألة الوجود ،وحاولوا إعطاء أجوبة من أجل فهم مظاهر
الطبيعة وأشياء العالم ،وكانت تلك األجوبة التي قدموها بمثابة خطوات هامة في
سبيل صياغة نظريات عامة عن الوجود .غير أن التفكير في الوجود لدى فالسفة
اليونان كان من خالل مفهوم آخر ،هو مفهوم" :الطبيعة" ""Physis؛ حيث نجد
لدى معظم هؤالء الحكماء األوائل قصائد وخواطر وشذرات حول الطبيعة ،أما
مبحث الوجود كما يعرف اآلن في كتب الفلسفة ،فقد كانت لحظة تأسيسه على يد
جعله موضوعا للفلسفة األولى ،وهو دراسة الفيلسوف اليوناني أرسطو ،الذي
الوجود من حيث هو موجود.
ولعل األجوبة في ميدان األنطولوجيا ،ال يمكن أن تكون واحدة ،ويقينية ونهائية،
بحيث تقنع تماما كل من يتلقاها ،مهما اختلف الزمان والمكان؛ ذلك أن هذه
األجوبة التي يقدمها الفالسفة عن التساؤالت المطروحة بصدد الوجود تبقى أجوبة
تأملية ،وليس هناك أي معيار يمكن من خالله التحقق من كونها صادقة أو
خاطئة ،ثم ألن موضوعها يتجاوز إمكانيات اإلنسان العادية في المعرفة .بيد أنه
يمكن اعتبار ذلك كله سببا في استمرار الفلسفة ،ما دام تكرار األسئلة وتعاقب
األجوبة هو الذي خلف هذا التراكم الفكري الذي اجتمع عليه الفالسفة.
ويمكن القول :إن بداية الفلسفة كانت أنطولوجية ،وكل فيلسوف مهما تفلسف فإنه
مطالب في النهاية بصياغة تصور حول مسألة الوجود ،باعتبارها مسألة مركزية
بالنسبة للتفكير الفلسفي ككل .لهذا سنركز في مبحث الوجود ،من خالل ما يأتي،
على بعض المدارس اليونانية القديمة مع االنفتاح على الفلسفة الحديثة والمعاصرة.