You are on page 1of 28

‫أسس علم االجتماع‪ /‬ذ‪ .

‬شفيق‬
‫كلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية‬

‫وحدة أسس علم االجتماع‬


‫المحاضرة الرابعة‪ /‬الفصل األول‪ /‬الفوجين ‪ 3‬و ‪4‬‬
‫ذ‪ .‬شفيق عبد الغني‬
‫أسس علم االجتماع‪ /‬ذ‪ .‬شفيق‬

‫ابن خلدون وإسهاماته في الفكر االجتماعي‬

‫يمثل عبد الرحمان ابن خلدون (‪ )1332-1406‬نقطة مضيئة في تاريخ الفكر االجتماعي بشكل عام‪.‬‬
‫نشأت أسرته باألندلس‪ ،‬ثم انتقل بعد ذلك إلى تونس‪ .‬فعاش متنقال بين أقطار الشمال اإلفريقي والمشرق‬
‫العربي‪ ،‬من أجل تلقي العلم والمعرفة‪ .‬وقد اعتبره الكثيرون " أكبر مفكر اجتماعي ظهر في الفترة‬
‫الفاصلة بين زمن أرسطو وزمن ماكيافلي"‪.1‬‬

‫درس ابن خلدون علوم اللغة والمنطق والفلسفة وتقلد مناصب عليا‪ ،‬إذ تولى القضاء واشتغل قبل‬
‫ذلك حاجبا ومدرسا‪...‬الخ‪ .‬وقد مثل تقلده لمهام عديدة زادا أكسبه معرفة عميقة بأمور الدولة والسياسة‬
‫وتدبير شؤونها‪ .‬وأتاح له ذلك‪ ،‬معاينة أحوال " دول ضعيفة منحطة"‪ 2‬في المشرق والمغرب‪ .‬مما أفاده‬
‫في بناء تصور حول مراحل تطور الدول ونشأتها ودور العصبيات في ذلك‪.‬‬

‫في هذه المحاضرة‪ ،‬سوف نركز على بعض من إسهاماته‪ ،‬خاصة في ما يرتبط بدوره في نشأة علم‬
‫العمران البشري‪ ،‬والذي مثل إضافة نوعية لتاريخ الفكر االجتماعي‪ .‬وحسبنا أن تناول الفكر الخلدوني‪،‬‬
‫ال يمكن أن يستقيم في محاضرة أو عشر‪ ،‬بل لقد كتب حول فكره مئات األطروحات وألفت حوله كتب‬
‫عديدة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يظل فكره هاما بالنسبة لكل الباحثين في العلوم اإلنسانية واالجتماعية‪ .‬من هنا‪ ،‬سيتم‬
‫تناول جوانب بسيطة من إسهاماته‪ ،‬بما يفيد الطالب المبتدئ في علم االجتماع من الوقوف عند بعض مما‬
‫قدمه هذا المفكر من جهة‪ ،‬وربط ذلك بالتراكم الذي عرفه الفكر االجتماعي والذي أفضى إلى ظهور‬
‫السوسيولوجيا في القرن التاسع عشر‪.‬‬

‫في موضوع علم العمران وأهمية التاريخ في ذلك‬

‫لقد أنجز ابن خلدون أعماال هامة منها كتابه الشهير " العبر وديوان المبتدأ والخبر" وكتاب " المقدمة"‬
‫الذي ي مثل أهم مرجع يحوي مختلف أفكار ابن خلدون حول علم العمران‪ .‬هذا العلم الذي يعد ابن خلدون‬
‫مؤسسه والداعي له من خالل تأكيده أن موضوعه هو االجتماع اإلنساني الذي هو مسألة ضرورية‪،‬‬
‫يقتضيها الطابع المدني لإلنسان‪ ،‬أو صفته المدنية التي تعني العمران‪ .‬من هنا نفهم تعريف ابن خلدون‬
‫لموضوع هذا العلم‪ ،‬أي االجتماع البشري‪ ،‬بأنه " عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من‬

‫‪ ) 1‬عبد هللا العروي‪ ،‬ثقافتنا في ضوء التاريخ‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المغرب‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪.1997‬‬
‫ص ‪.57‬‬
‫‪ ) 2‬نفسه‪ ،‬ص ‪.58‬‬

‫‪2‬‬
‫أسس علم االجتماع‪ /‬ذ‪ .‬شفيق‬

‫األحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك‬
‫من المل ك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع‬
‫وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من األحوال‪...‬وما لذلك من العلل واألسباب"‪.3‬‬

‫ولما كانت نظرته للمجتمع وظواهره مستمدة من قناعة مترسخة لديه مؤداها أن العمران البشري‬
‫حقيقة طبيعية‪ ،‬تنجم عن االعتماد المتبادل بين بني البشر‪ ،‬الذين ال تفي قدرتهم على تحصيل حاجاتهم‪،‬‬
‫فإن لهذا االعتماد ظواهر يفرزها تحتاج إلى علم يدرسها ويدرس تغير هذا العمران الذي ال يدوم على‬
‫حال‪ ،‬والذي يخضع لتبدل مرتبط بتبدل عوائد األجيال في تعاقبها‪ .‬وذلك ما يفهم من قوله " وكأن هذا علم‬
‫مستقل بنفسه‪ ،‬فإنه ذو موضوع‪ ،‬وهو العمران البشري واالجتماع اإلنساني‪ .‬وذو مسائل‪ ،‬وهي بيان ما‬
‫يلحقة من العوارض واألحوال لذاته واحدة بعد أخرى‪ .‬وهذا شأن كل علم من العلوم وضعيا كان أو‬
‫عقليا"‪.4‬‬

‫لقد جعل لعلم العمران موضوعا شاسعا يختص به ‪ ،‬يرتبط بكل مناحي الحياة االجتماعية في البدو‬
‫والحضر‪ ،‬وذاك ما تكشف عنه مقدمته التي جعلها جامعة مانعة‪ ،‬تركز تفاصيلها على طبيعة الدول‬
‫وتطورها من حال إلى حال‪ .‬لذلك يرى أن هذا العلم الذي هو دراسة الحاضر يمكنه العودة إلى التاريخ‬
‫من خالل التمعن في أحداث الماضي ومعرفة كيفية حدوث ظواهره وتطورها‪ ،‬بما يجعل من التاريخ‬
‫حقال مزودا لعلم العمران واالجتماع بمادته‪ ،‬أو لنقل إنه مادته األساسية‪ .‬بل إن هناك من رأى أن علم‬
‫العمران الذي وضع أسسه ابن خلدون هو أقرب إلى علم التاريخ منه إلى علم االجتماع كما أسسه كونت‬
‫وكما تطور بعد هذا األخير‪ .‬فهذا المفكر المغربي محمد عابد الجابري‪ ،‬في مؤلفه " فكر ابن خلدون‪،‬‬
‫العصبية والدول‪ ،‬معالم نظرية خلدونية في التاريخ اإلسالمي" يبرز كيف أن ابن خلدون لم يهتم كثيرا‬
‫في مقدمته ال بالفرد وال باألسرة‪ ،‬كما أنه لم ير كز على العالقات االجتماعية في مستواها الدقيق وإنما‬
‫اهتم بشكل خاص بالقبيلة عندما تصبح قوة سياسية لها وزنها في سير األحداث‪ ،‬وهذا االهتمام جعل ابن‬
‫خلدون‪ ،‬بحسب الجابري‪ ،‬يركز أكثر على العمق‪ .‬أي أنه لم يتناول العالقات االجتماعية في تفاصيلها‬
‫األفقية الواسعة‪ ،‬بقدر ما سعى إلى دراسة ظاهرة اجتماعية أساسية بعينها هي ظاهرة الدولة خالل مراحل‬
‫نشأتها وتطورها‪ ،‬مما يدفع إلى االعتقاد أن علم العمران الذي اهتم به ابن خلدون أضيق من علم‬
‫االجتماع من الناحية األفقية وأعمق منه من الناحية العمودية‪ ،‬أي من الناحية التاريخية‪ .‬وهذا ما يجعل‬
‫علم العمران‪ ،‬حسب محمد عابد الجابري‪ ،‬أقرب لعلم التاريخ منه لعلم االجتماع‪.5‬‬

‫‪ ) 3‬عبد الرحمان ابن خلدون‪ ،‬المقدمة‪ ،‬تحقيق عبد هللا محمد الدرويش‪ ،‬دار يعرب‪ ،‬دمشق‪ ،‬سوريا‪ ،2004 ،‬ص ‪.125‬‬
‫‪ ) 4‬محمد عابد الجابري‪ ،‬فكر ابن خلدون‪ ،‬العصب ية والدولة‪ ،‬معالم نظرية خلدونية في التاريخ اإلسالمي‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بيروت‬
‫لبنان‪ ،‬الطبعة السادسة‪ ،1994 ،‬ص ‪.105‬‬
‫‪ ) 5‬نفسه‪ ،‬ص‪.130/129 :‬‬

‫‪3‬‬
‫أسس علم االجتماع‪ /‬ذ‪ .‬شفيق‬

‫ضمن هذا الزخم الهائل من الموضوعات التي تتضمنها المقدمة‪ ،‬يولي ابن خلدون أهمية قصوى لمفهوم‬
‫العصبية ودورها في نشوء الدولة واضمحاللها‪ .‬راسما بذلك فلسفة لتطور التاريخ‪ ،‬كما يبرز أرنولد‬
‫توينبي‪ ،‬فلسفة تقرأ التاريخ وتحوالته وفق رؤية دائرية تنشأ فيها الدول وتتطور وتزدهر ثم سرعان ما‬
‫يدب الضعف في مفاصلها وتتحلل لحمتها لتتقهقر من جديد تاركة المجال لعصبية أقوى‪.‬‬

‫العصبية والدولة في فكر ابن خلدون‬

‫تتشكل أعمدة فكر ابن خلدون من مفاهيم أربعة‪ :‬الطبيعة‪ ،‬االجتماع‪ ،‬الملك والعصبية‪ .‬ويمثل المفهوم‬
‫األخير في نظريته عامال مهما‪ ،‬ومفسرا للديناميات االجتماعية والسياسية‪ .‬من هنا‪ ،‬فإن العصبية تمثل‬
‫عامل نصرة ودعم للحاكم‪.‬‬

‫في تحليله لنظرية العصبية عند ابن خلدون‪ ،‬يربط محمد عابد الجابري بين العصبية ومفهوم الوازع‬
‫الذي يعتبر أساس االجتماع والتعاون كما ورد ذلك في الفكر الخلدوني‪ .‬ذلك أن اإلنسان بوصفه مدني‬
‫بالطبع‪ ،‬ينطوي سلوكه على جوانب من العدوان والشر المتأصل فيه‪ ،‬والذي هو من آثار القوى‬
‫الحيوانية‪ .‬من هنا‪ ،‬كان الوازع ضرورة تفرضها طبيعة اإلنسان المجبول على الخير والشر وعلى‬
‫العدوان والتعاون في آن واحد‪ .‬تبعا لذلك‪ ،‬فإن حفظ الحياة وبقاء اإلنسان يقتضيان وجود سلطة تحفظ‬
‫للمجتمع استمراريته وتماسكه وتكبح كل قوة تهدد هذا الوجود‪ .‬ومادامت حياة البدو تختلف عن حياة أهل‬
‫المدن والحواضر‪ ،‬وأخالق وأنماط حياتهم مختلفة‪ ،‬فإن الوازع يختلف‪ .‬إذ يكون الوازع طبيعيا فطريا في‬
‫البادية حيث تتسم الحياة ببساطتها‪ ،‬بينما يزداد الوازع تركيبا وتعقيدا في حياة حضرية أكثر تعقيدا‪.‬‬

‫ولئن كان الوازع ضروري لدرء العدوان الذي يلحق الفرد والجماعة‪ ،‬فإن هذا العدوان يختلف بحسب ما‬
‫إذا كان صادرا من أفراد اتجاه بعضهم بعضا من داخل الجماعة نفسها أو من خارجها‪ .‬ومهما يكن أصل‬
‫العدوان‪ ،‬داخليا أم خارجيا‪ ،‬فإن المعتدى عليهم يحتاجون إلى نصرة من ذويهم وأنسابهم‪ ،‬أو إلى من يزع‬
‫الناس بعضهم بعضا ويحد من عدوانهم‪ .‬وذاك ما يفهم من قول ابن خلدون " وذلك ألننا قدمنا‪ :‬أن‬
‫العصبية تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع عليه‪ .‬وقدما أن اآلدميين بالطبيعة اإلنسانية‬
‫يحتاجو ن في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض‪ ،‬فالبد أن يكون متغلبا عليهم بتلك‬
‫العصبية‪ ،‬وإال لم تتم قدرته على ذلك‪....‬وصاحب العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها"‪.6‬‬

‫‪ ) 6‬عبد الرحمان ابن خلدون‪ ،‬المقدمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.272‬‬

‫‪4‬‬
‫أسس علم االجتماع‪ /‬ذ‪ .‬شفيق‬

‫والظاهر في تحليل ابن خلدون للعصبية أن هذه األخيرة تتقوى أواصرها أكثر في ظل الظروف‬
‫االقتصادية والطبيعية القاسية التي تمر منها الدول‪ .‬مما يخلق منها دافعا قويا يدفع الجماعات التي تتوق‬
‫إلى الحكم والحصول على السيادة والملك الستثمارها ضد العصبيات الحاكمة أو المناوئة‪ .‬فتقدم‬
‫الجماعات نفسها بديال عن القوى السياسية واالجتماعية صاحبة الملك‪ ،‬وتبعا لذلك تتشكل ذروة النمو‬
‫االجتماعي ودورته‪.‬‬

‫بيد أن العصبية‪ ،‬إن كانت تشكل مصدر قوة الدول والجماعات من أهل الملك والسلطان‪ ‬فإنها تمثل‬
‫مصدر ضعف وتقهقر لحكم هذه الجماعات ل ّما تضعف شوكتها بفعل شيوع البدخ بين أفراد الجماعات‬
‫المسيطرة الذين يسلكون طريق الشهوات والملذّات‪ .‬يكشف ابن خلدون دور العصبية في دورة الملك‬
‫وسلطة الدولة‪ ،‬ويتحدث باستفاضة عن تطور الدولة التي تمر بثالثة أطوار‪ :‬الشباب حيث تكون‬
‫عصبيات الدولة متساوية‪ ،‬الرجولة حيث تستقل عصبية واحدة بالملك والمجد وتعوض العصبيات‬
‫األخرى بالموالي والصنائع‪ ،‬الكهولة حيث ت ّمحي العصبية بسبب الترف وانحطاط األخالق وتصبح‬
‫الدولة ملكا للموالي والعبيد‪.7‬‬

‫ويكشف تحليله لمراحل تطور الدولة أنها متداخلة في ما بينها‪ ،‬حيث يؤثر تطور العصبية في الدولة‬
‫فتحقق هذه األخيرة تطور البشر من البداوة إلى الحضارة‪ ،‬بمعنى أن الدولة تحقق الغاية من الحياة‬
‫البشرية التي هي العمران‪.‬‬

‫يستفيض ابن خلدون في عرضه ألثر العصبية في انحطاط الدولة كما في جاهها وملكها‪ ،‬فيرى أن الجيل‬
‫الثالث من حياة الدولة‪ ،‬حينما تطل على االنحطاط ويدب في عصبية حكامها الضعف وتتهاوى " يلبسون‬
‫يموهون بها وهم في األكثر أجبن من‬
‫على الناس في الشارة والزي وركوب الخيل وحسن الثقافة‪ّ ،‬‬
‫النسوان على ظهورها "‪ .‬ففي هذا المرحلة تدخل الدولة في دوامة أزمات متكررة وخانقة تفضي بها إلى‬
‫أن تصبح لقمة سائغة في يد كل العصبيات المناوئة لها‪.‬‬

‫لقد وضع ابن خلدون‪ ،‬من خالل تحليله لمراحل تطور الدولة‪ ،‬فلسفة للتاريخ‪ ،‬بموجبها تتطور‬
‫المجتمعات في منحى دائري‪ ،‬يبدأ بالنشأة والتأسيس فالتطور واالزدهار ثم التقهقر واالنحطاط‪ .‬وفي إطار‬
‫ذلك‪ ،‬يخصص للعصبية مكانة مركزية في كل المراحل‪ .‬وكأن نشوء الدول وزوالها يخضع لحتمية‬
‫تاريخية‪ ،‬تنشأ فيها مرتكزة على قوة الجيل األول المؤسس الذي يكون مصمما على إرساء أركان النظام‬

‫‪ )‬يقصد بكلمة السلطان هنا ما يقابل اللفظ الفرنسي ‪.Pouvoir‬‬


‫‪ ) 7‬العروي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.71‬‬

‫‪5‬‬
‫أسس علم االجتماع‪ /‬ذ‪ .‬شفيق‬

‫وتأمين الحكم‪ ،‬ثم يلحق به الجيل الثاني الذي يعيش في استقرار ورفاهية ثم سرعان ما يأتي جيل ثالث‬
‫ويسرع من تر ّهل الدولة من جراء تنام ي النزاع بين مكوناته فتضعف عصبيتها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مولع بالبدخ واالفتتان‬

‫قضايا منهجية في فكر ابن خلدون‬

‫تكشف نظرة ابن خلدون لموضوع علم العمران أن هذا األخير ال يقتصر على وصف األحداث‬
‫لذاتها‪ ،‬بل إن له غاية تتمثل في تقصي الطبيعة والخصائص التي تتسم بها المجتمعات على اختالفها من‬
‫أجل الكشف عن ما يحكم تطور االجتماع اإلنساني من قوانين‪ .‬بيد أن الكشف عن األسباب والمسببات‬
‫التي تحدد قواني ن حدوث الظواهر‪ ،‬إنما يفترض منهجا علميا تتكامل فيه رؤية المؤرخ والعالم االجتماعي‬
‫بغية النظر السديد لوقائع العمران كما هي ال كما يهواها الباحث‪ .‬من هنا‪ ،‬فسر ابن خلدون أحوال‬
‫العمران تفسيرا طبيعيا‪ :‬الملك طبيعي وكذلك الترف والحضارة واالستقالل بالمجد واالنحالل والخراب‪.‬‬
‫وبحسب المفكر المغربي عبد هللا العروي‪ ،‬فقد حاول ابن خلدون أن يجعل من ميدان االجتماع البشري‬
‫نطاق الحتمية الطبيعية التامة بعدما خلّصه من ميدان الخوارق والمعجزات‪ .8‬واثقا من مبدأ جبرية‬
‫الظواهر االجتماعية‪ ،‬فهي حسب فهمه ال تتولد عن صدف كما أنها ال تنبثق من فراغ‪ ،‬وال هي خاضعة‬
‫إلرادات األفراد وميوالتهم‪ ،‬وإنما هي خاضعة لجبرية توجهها‪ .‬على أن القول بجبرية الظواهر‪ ،‬ال يعني‪،‬‬
‫كما يشير إلى ذلك المفكر محمد عابد الجابري‪ ،‬أن ابن خلدون كان جبريا يرجع الظواهر إلى القضاء‬
‫والقدر‪ ،‬بل كان يرى أن األمور تحدث وفق مستقر العادة‪.9‬‬

‫وإذا كان تحديده لموضوع علم العمران واالجتماع‪ ،‬قد دفعه إلى االهتمام بالتاريخ بأحداثه ووقائع‬
‫عمرانه واجتماعه بوصفه أصلح مادة خام لوضع أسس االجتماع اإلنساني‪ .‬فإنه حينما سعى إلى الكشف‬
‫عن عادات متواترة وضوابط عامة لكل عمران بشري‪ ،‬لم يكن يتوخى من علم العمران‪ ،‬بحسب عبد هللا‬
‫العروي‪ ،‬أن يحل محل التاريخ‪ ،‬بل نظر إليه كمبحث مساعد فقط‪ .10‬لقد دفعه حرصه على أن يكون‬
‫التاريخ " نظر وتحقيق وتعليل للكائنات" أن يشترط أن " البد أن يسرد هذا التاريخ سردا خاليا من‬
‫الشوائب وأن يحلل بعد ذلك تحليال واقعيا يستخدم المنهج العلمي‪ ،‬الذي يربط األسباب بمسبباتها‪ ،‬والذي‬
‫ينظر إلى الوقائع العمرانية أو االجتماعية كما هي ال كما نهوى أن تكون"‪.11‬‬

‫‪ ) 8‬عبد هللا العروي‪ ،‬مرجع سابق الذكر‪ ،‬ص ‪.66‬‬


‫‪ ) 9‬محمد عابد الجابري‪ ،‬مرجع سابق الذكر‪ ،‬ص ‪.74‬‬
‫‪ ) 10‬عبد هللا العري‪ ،‬مفهوم التاريخ‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،2005 ،‬ص ‪.53‬‬
‫‪ ) 11‬محمد عابد الجابري‪ ،‬مرجع سابق الذكر‪ ،‬ص ‪.53‬‬

‫‪6‬‬
‫أسس علم االجتماع‪ /‬ذ‪ .‬شفيق‬

‫لقد أظهرت إنتاجات ابن خلدون استيعابه العميق لمغزى العلم وغايته القصوى القائمة على‬
‫استشراف المستقبل‪ ،‬لذلك لم يقتصر على تفسير األحوال العمرانية في الماضي والحاضر‪ ،‬بل تعدى ذلك‬
‫إلى تفسير ما سيأتي في المستقبل من أحوال أيضا‪ ،‬وذاك ما يفهم من قوله " ‪...‬وشرحت‪ ...‬ما يعرض في‬
‫االجتماع اإلنساني من العوارض الذاتية‪...‬حتى تنزع من التقليد يدك‪ ،‬وتقف على أحوال ما قبلك من‬
‫األيام واألجيال وما بعدك"‪ .12‬وبذلك‪ ،‬تكون الممارسة التاريخية‪ ،‬عنده " ممارسة تنتج معرفة بقوانين‬
‫الحركة التاريخية للواقع االجتماعي‪ .‬أي‪ ،‬معرفة الكل االجتماعي في صيرورته التاريخية‪ ،‬محكوما‬
‫بمنطقه الداخلي"‪.13‬‬

‫والبين أن الغايات التي رسمها للعالقة بين التاريخ وعلم العمران قد دفعته إلى جعل التأريخ خبر عن‬
‫ا الجتماع اإلنساني‪ ،‬اجتماع ال يمثل مجرد حدث وإنما يتعدى ذلك ليكون عالقة عمرانية بين البشر‬
‫وعالمهم " فعمران العالم هو بناؤه االجتماعي الذي يقضي بتحويله وتنظيمه وإنتاجه بشكل يجعله قابال‬
‫ألن يكون عالم البشر فيعتمرونه‪ .‬إنه‪ ،‬إذن‪ ،‬عالقة اجتماعية‪ ،‬وبالتالي تاريخية بين البشر والعالم"‪.14‬‬

‫وارتباطا بتحديده لموضوع علم العمران‪ ،‬استطاع ابن خلدون أن يضع تقسيما للمعرفة اإلنسانية من‬
‫خالل تمييزه بين العلوم والفنون وما شابه ذلك‪ ،‬منبها إلى أن أي ميدان من ميادين المعرفة إنما يتحدد‬
‫ويعترف له بصفة العلمية من خالل سرد مادته للكشف عن سبيل الوصول إليها‪.‬‬

‫لقد شدد ابن خلدون في تحديده لموضوع علم العمران ومنهجه‪ ،‬على أهمية المقارنة بين ماضي الظواهر‬
‫وحاضرها من خالل الوقوف عند ظواهر مختلفة واستجالء أوجه التشابه واالختالف بينها بغية الكشف‬
‫عن القوانين التي توجه ظواهر العمران التي تتسم بالتغير الدائم‪ .‬حيث أحوال المجتمعات في دينامية‬
‫دائمة ومتغيرة تلعب فيها العصبيات دورا ال يستهان به في تغليب كفة جماعة على أخرى‪ .‬ومن أجل‬
‫دراسة الظواهر العمرانية وضع خطوات منهجية تقوم على المالحظة والوصف والتحليل والتفسير‪.‬‬
‫فاكتشاف القوانين المتحكمة في ظواهر العمران ال يمكن أن يتحقق إال بعد جمع عدد ضخم من الحقائق‪،‬‬
‫ومالحظة ما يقترن بها أو يليها من وقائع‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإن جمع هذه الحقائق " يمكن أن يتأتى من خالل‬
‫مصدرين‪ :‬الوقائع الماضية ومالحظة األحداث الراهنة"‪ .15‬وفي السياق ذاته‪ ،‬نجده يهتم كثيرا‪،‬‬

‫‪ ) 12‬مهدي عامل‪ ،‬في علمية الفكر الخلدوني‪ ،‬دار الفارابي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،1985 ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪ ) 13‬نفسه‪.‬‬
‫‪ ) 14‬نفسه‪ ،‬ص ‪.28‬‬
‫‪ ) 15‬أنتوني غدنز‪ ،‬علم االجتماع‪ ،‬مع مدخالت عربية‪ ،‬ترجمة فايز الصياغ‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،2005 ،‬ص ‪.56‬‬

‫‪7‬‬
‫أسس علم االجتماع‪ /‬ذ‪ .‬شفيق‬

‫وباستمرار‪ ،‬بعلل الحوادث والوقائع وأسبابها‪ .‬وهذا ما دفعه للتأكيد على " أن فن التاريخ في ظاهره ال‬
‫يزيد على أخبار عن األيام والدول وفي بطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق"‪.16‬‬

‫إن من يتفحص‪ ،‬بعمق‪ ،‬مؤلف ابن خلدون‪ ،‬يستشف أنه قد ضمنه مقدمة تمهيدية يبسط فيها المنهج العلمي‬
‫وكل ما يحتاج إليه المؤرخ‪ ،‬والسبيل الذي يجب أن يسلكه‪ .‬محددا المضامين الكبرى لهذا المنهج في‬
‫مستويين‪:‬‬

‫‪ -‬مستوى عام يقوم على قواعد يجملها‪ ،‬بشكل مباشر أو غير مباشر‪ ،‬في التزود بالعلم والتشكيك‬
‫والموضوعية والحيطة عند التعميم‪.‬‬

‫‪ -‬مستوى خاص يقوم على قواعد التأمل واالستقراء والتحقيق العقلي والتحقيق الحسي والمقارنة‬
‫والتجربة والنظر في الحوادث في إطارها الزماني‪.‬‬

‫دونه في مقدمته الشهيرة‪ ،‬أنه قد أرسى قواعد معرفة اجتماعية‬


‫يكشف فكر ابن خلدون‪ ،‬خاصة ما ّ‬
‫عميقة شكلت أرضية للمفكرين بعده‪ .‬وذلك ما يستشفه القارئ لرأي جاستون بوتول‪ ،‬لما هو يجعل فكر‬
‫ابن خلدون أقرب لعلم االجتماع الوضعي كما سيظهر الحقا مع كونت‪ .‬يقول بوتول " يوجد في مؤلف‬
‫ابن خلدون عمل مرموق من علم االجتماع الوضعي يحتوي على القواعد األساسية لمجتمع إفريقيا‬
‫الشمالية‪ ،‬حيث أن جانبا كبيرا من األوصاف التي أوردها ينطبق حتى اآلن على الحياة االجتماعية لهذه‬
‫المنطقة"‪ . 17‬من جانبه‪ ،‬يبرز ساطع الحصري أهمية التراث الخلدوني‪ ،‬من خالل تأكيده على أن ابن‬
‫خلدون في الكتاب األول من المقدمة يضع المعالم العريضة لعلم االجتماع العام‪ ،‬وفي الكتابين الثاني‬
‫والثالث علم االجتماع السياسي‪ ،‬وفي الرابع علم اجتماع الحياة الحضرية‪ ،‬وفي الخامس علم االجتماع‬
‫االقتصادي وفي الكتاب السادس يحدد مالمح علم اجتماع المعرفة"‪.18‬‬

‫‪ ) 16‬حسن الساعاتي‪ ،‬المنهج في مقدمة ابن خلدون‪ ،‬ضمن‪ :‬عبد الرحمان ابن خلدون‪ ،‬المقدمة‪ ،‬ترجمة عبد هللا محمد الدرويش‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‬
‫‪.35‬‬
‫‪ ) 17‬أورده عبد هللا محمد الدرويش في المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.71‬‬
‫‪ ) 18‬ورد في أنتوني غدنز‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.55‬‬

‫‪8‬‬
‫أسس علم االجتماع‪ /‬ذ‪ .‬شفيق‬

‫قائمة المراجع المعتمدة في المحاضرة‬


‫‪ -‬ابن خلدون عبد الرحمان‪ ،‬المقدمة‪ ،‬تحقيق عبد هللا محمد الدرويش‪ ،‬دار يعرب‪ ،‬دمشق‪ ،‬سوريا‪.2004 ،‬‬

‫‪ -‬الجابري محمد عابد‪ ،‬فكر ابن خلدون‪ ،‬العصبية والدولة‪ ،‬معالم نظرية خلدونية في التاريخ اإلسالمي‪ ،‬مركز دراسات‬
‫الوحدة العربية‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة السادسة‪.1994 ،‬‬

‫‪ -‬العروي عبد هللا‪ ،‬ثقافتنا في ضوء التاريخ‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المغرب‪،‬‬
‫الطبعة الرابعة ‪.1997‬‬

‫‪ -‬العروي عبد هللا‪ ،‬مفهوم التاريخ‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة الرابعة‪.2005 ،‬‬

‫‪ -‬أنتوني غدنز‪ ،‬علم االجتماع‪ ،‬مع مدخالت عربية‪ ،‬ترجمة فايز الصياغ‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪.2005 ،‬‬

‫‪ -‬عامل مهدي‪ ،‬في علمية الفكر الخلدوني‪ ،‬دار الفارابي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪.1985 ،‬‬

‫‪9‬‬
‫أسس علم االجتماع‪ /‬ذ‪ .‬شفيق‬

‫ملحق ‪:‬‬
‫يتضمن هذا الملحق مقاال هاما حول المنهج العلمي في مقدمة ابن خلدون‪ .‬يمكن التركيز‬
‫على الجزء من الصفحة ‪ 39‬إلى الصفحة ‪.51‬‬

‫ورد هذا المقال في‪ :‬ابن خلدون عبد الرحمان‪ ،‬المقدمة‪ ،‬تحقيق عبد هللا محمد الدرويش‪،‬‬
‫دار يعرب‪ ،‬دمشق‪ ،‬سوريا‪ ( .2004 ،‬المقال منشور في تقديم المحقق)‪.‬‬

‫‪10‬‬

You might also like