You are on page 1of 13

‫اتجاهات دراسة األنثروبولوجيا وفروعها ‪************:‬‬

‫الفصل األّو ل‪ -‬دراسة األنثروبولوجيا واتجاهاتها المعاصرة‬


‫أوًال‪-‬بداية دراسة األنثروبولوجيا‬
‫ثانيًا‪-‬االتجاهات المعاصرة في دراسة األنثروبولوجيا‬
‫الفصل الثاني‪ -‬األنثروبولوجيا الطبيعّية‬
‫الفصل الثالث‪ -‬األنثروبولوجيا النفسّية‬
‫الفصل الرابع‪ -‬األنثروبولوجيا الثقافية‬
‫الفصل الخامس‪ -‬األنثروبولوجيا االجتماعية‬
‫الفصل السادس‪ -‬المنهج األنثروبولوجي والدراسات الميدانّية‬
‫الفصل األّو ل‬
‫دراسة األنثروبولوجيا واتجاهاتها المعاصرة‬
‫أوًال‪ -‬بداية دراسة األنثروبولوجيا‬
‫ثانيًا‪ -‬االتجاهات المعاصرة لدراسة األنثروبولوجيا‬
‫‪ -1‬االتجاه التاريخي‬
‫‪-1/1‬االتجاه التاريخي‪ /‬التجزيئي‬
‫‪-1/2‬االتجاه التاريخي‪ /‬النفسي‬
‫‪ -2‬االتجاه البنائي‪ /‬الوظيفي‬
‫مقــّد مـة‬
‫لم تعرف األنثروبولوجيا قبل النصف الثاني من القرن العشرين‪ ،‬تقسيمات وفروعًا‪ ،‬إذ كانت‬
‫تتّم ألغراض خاصة بالباحث أو من يكّلفه‪ ،‬كدراسة حياة بعض المجتمعات أو مكوناتها‬
‫الثقافية ‪.‬‬
‫ومع انطالقتها في الستينات والسبعينات من القرن العشرين‪ ،‬حيث أخذت تتبلور مبادئها‬
‫وأهدافها‪ ،‬كانت ثّم ة محاوالت جاّد ة لتوصيفها كعلم خاص‪ ،‬وبالتالي وضع تقسيمات لها‬
‫وفروع من أجل تحقيق المنهجية التطبيقية من جهة‪ ،‬والشمولية البحثية التكاملية من جهة‬
‫أخرى‪ .‬فظهرت نتيجة ذلك تصنيفات متعّد دة‪ ،‬استند بعضها إلى طبيعة الدراسة ومنطلقاتها‪،‬‬
‫بينما استند بعضها اآلخر إلى أهدافها ‪.‬‬
‫فقد قّسمها ‪ /‬رالف بدنجتون‪ /‬في كتابه " مقّد مة في األنثربولوجيا االجتماعية " الصادر عام‬
‫‪، 1960‬إلى قسمين أساسيين ‪( :‬األنثربولوجيا العضوية أو الطبيعية‪ ،‬واألنثروبولوجيا‬
‫الثقافية )‪.‬‬
‫أّم ا ‪ /‬بارنو ‪ /‬فقد قّسمها في كتابه " األنثروبولوجيا الثقافية " الصادر عام ‪ ،1972‬إلى ثالثة‬
‫أقسام‪ ،‬هي ‪( :‬األنثروبولوجيا التطبيقية‪ ،‬األنثربولوجيا النفسية أو الثقافة والشخصية‪،‬‬
‫األنثروبولوجيا االجتماعية )‪.‬‬
‫ًا‬
‫وإذا اعتبرنا أّن االنثروبولوجيا التطبيقية‪ ،‬هي أقرب إلى المنهج البحثي وليست فرع من علم‬
‫األنثروبولوجيا‪ ،‬ومن ثّم قمنا بعملية توليف بين األقسام األخرى في التصنيفين السابقين‪،‬‬
‫أمكننا الوصول إلى التصنيف التالي الذي يضّم أربعة فروع (أقسام) رئيسة تشمل الجوانب‬
‫المتعّلقة باإلنسان ‪ /‬الفرد والمجتمع‪ ،/‬وهي ‪( :‬األنثروبولوجيا العضوية ‪ /‬الطبيعية ‪،‬‬
‫األنثربولوجيا النفسّية‪ ،‬األنثروبوبوجيا الثقافية‪ ،‬األنثروبولوجيا االجتماعية )‪ .‬وسنتعّرف فيما‬
‫يلي كّل فرع من هذه الفروع ‪.‬‬
‫أوًال‪-‬البدايات األولى لدراسة األنثروبولوجيا ‪:‬‬
‫شهد القرن العشرين مراحل تكوين األنثروبولوجيا وتطويرها‪ ،‬لتصبح كيانًا أكاديميًا ومهنة‬
‫متخّص صة عند كثير من العلماء والفالسفة والباحثين‪ .‬فعلى الرغم من أّن الفكر‬
‫األنثروبولوجي قد ظّل خالل العقدين األوليين من القرن العشرين‪ ،‬متأّثرًا إلى حّد بعيد‪،‬‬
‫بالنظريات التي سادت وتبلورت في السنوات األخيرة من القرن التاسع عشر‪ ،‬فإّنه سرعان ما‬
‫تغّير وتحّو ل إلى منطلقات جديدة‪ ،‬نتج عنها اّتجاهات متعّد دة إزاء دراسة اإلنسان وحضارته‪،‬‬
‫سواء ما كان منها نظريًا أو منهجّيًا (فهيم‪ ،1986 ،‬ص ‪)149‬‬
‫إّن االتجاه العلمي الذي نشط في القرن التاسع عشر‪ ،‬وتبلور في مجاالت متعّد دة‪ ،‬دفع العقل‬
‫اإلنساني إلى نبذ الفكر الفلسفي الذي كان يتحّفظ على قدرة العقل اإلنساني في التوّصل إلى‬
‫الحقيقة المطلقة‪ .‬وهذا ما نتج عنه قيم فكرية جديدة تدعو إلى النظر إلى العقل والمنطق‬
‫المحسوس‪ ،‬والواقع الملموس كأدوات للمعرفة‪ ،‬كما تدعو إلى التفاؤل بمستقبل اإلنسانية ‪.‬‬
‫إّال أن أحداث الحرب العالمية األولى ونتائجها السلبية على المجتمع اإلنساني‪ ،‬بّد دت هذا‬
‫التفاؤل‪ ،‬وأحّلت محّله النظرة التشاؤمية‪ .‬وهذا ما بدا في نظرة الفالسفة إلى مشكالت اإلنسان‬
‫في هذا القرن (القرن العشرين )‪ ،‬إلى حّد اعتقاد بعضهم أّن المستقبل صعب ومظلم مع‬
‫ظهور النازية في ألمانيا‪ ،‬والفاشية في إيطاليا‪ .‬وبلغ هذا االّتجاه ذروته فيما عرف‬
‫بالحركة( الوجودية) التي شاعت في فرنسا‪ ،‬وعلى رأسها‪ /‬جان بول سارتر‪ /‬الذي عاش ما‬
‫بين (‪)1980 -1905‬‬
‫ّا‬
‫وبرز مقابل هذا االتجاه التشاؤمي‪ ،‬اتجاه آخر اّتصف بالتفاؤل‪ ،‬كان من أبرز رو ده في‬
‫أمريكا الفيلسوف التربوي ‪ /‬جون ديوي ‪ /‬الذي عاش ما بين‬
‫(‪ .)1859-1952‬فقد أصدر كتابه الشهير " إعادة البناء في الفلسفة " وتبّنى فيه موقفًا‬
‫صريحًا مناهضًا للفلسفة الميتافيزيقية ‪.‬‬
‫ودعا فيه إلى ضرورة االهتمام بالبحث عن القوى المعنوية التي تحّر ك مناشط اإلنسان‪،‬‬
‫العتقاد‪ /‬ديوي‪ /‬أّن لدى هذا اإلنسان الكثير من اإلمكانات والقدرات التي يمكنه بواسطتها‬
‫الخروج من أزمته الراهنة ‪ ..‬كما تساعده في مشكالته الحياتية المتزايدة‪ ،‬دون اللجوء إلى‬
‫قوى خارجة عن نطاق الطبيعة ‪.‬‬
‫وكان للدين أيضًا تأثيراته في تشكيل الفكر األنثروبولوجي في العقود األولى من القرن‬
‫العشرين‪ ،‬وال سّيما على النظم االجتماعية‪ .‬إّال أّن ذلك التأثير تضاءل أمام تعاظم التيارات‬
‫التحّر رية وما رافقها من إنجازات علمية هائلة‪ ،‬األمر الذي حدا بالكنيسة في بداية النصف‬
‫الثاني من القرن العشرين‪ ،‬إلى تقّبل فكرة الحوار وحرية المناقشة في األمور الدينية والدنيوية‬
‫‪ ..‬بعيدًا عن األساليب القمعية التقليدية ‪)Burns,1973,p.892(.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬شّك ل هذا العلم دعامة أساسّية في ثقافة القرن العشرين عامة‪ ،‬وفي الفكر‬
‫األنثربولوجي خاصة‪ ،‬حيث كان وثيق الصلة بالفكر االجتماعي والقضايا اإلنسانية التي‬
‫أسهمت في تحديد موضوعات الدراسات األنثروبولوجية‪ ،‬ومناهجها وأهدافها ‪.‬‬
‫ثانيًا‪-‬االّتجاهات المعاصرة في دراسة األنثروبولوجيا ‪:‬‬
‫القت النظرية التطّو رية التي ظهرت في القرن التاسع عشر‪ ،‬انتقادات واسعة باعتبارها‬
‫استندت إلى الحدس والتخمين‪ ،‬وتعميم األحكام المطلقة على الثقافات اإلنسانية‪ ،‬من دون أن‬
‫تثبت صّح ة ذلك بالبراهين أو القرائن العملية ‪ /‬الواقعية‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬بدأت تضمحّل تدريجيًا مع بداية القرن العشرين‪ ،‬لتحّل محّلها أفكار نظرية جديدة‬
‫لدراسة الثقافات اإلنسانية‪ ،‬من حيث نشوؤها ومكّو ناتها وتطّو رها‪ .‬فكان أن ظهرت خالل‬
‫الربع الثاني من القرن العشرين ثالثة اتجاهات رئيسّية متفاعلة فيما بينها‪ ،‬رّك زت في‬
‫دراساتها على تناول العلوم االجتماعية‪ ،‬بأسسها ومنطلقاتها وأهدافها‪ .‬وهذا ما أسهم بفاعلية‬
‫في إرساء دعائم علم األنثربولوجيا المعاصر ‪.‬‬
‫‪-1‬االّتجاه التاريخي ‪:‬‬
‫ويقسم إلى قسمين ‪ :‬االتجاه التاريخي ‪ /‬التجزيئي ‪ ،‬واالّتجاه التاريخي النفسي‪ .‬وسنقّد م فيما‬
‫يلي عرضًا موجزّا لكّل منهما ‪.‬‬
‫‪ -1/1‬االّتجاه التاريخي ‪ /‬التجزيئي ‪ :‬ذكرنا أّن الفكر التطّو ري للحضارات اإلنسانية‪ ،‬أصبح‬
‫سائدًا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر‪ ،‬حيث بدأت تتبلور الدراسات األنثروبولوجية‬
‫‪.‬وظهر إلى جانبه أيضًا االّتجاه االنتشاري الذي يعتمد على أّن نشأة الحضارة اإلنسانية كّلها‬
‫ترجع إلى مصدر (مجتمع) واحد‪ ،‬ومنه انتشرت إلى أماكن أخرى في العالم ‪.‬‬
‫ويوجد االّتجاه االنتشاري في كّل من األنثروبولوجيا الثقافية واألنثروبولوجيا االجتماعية‪،‬‬
‫وإن أخذ طابعًا خاّص ّا في كّل منهما‪ .‬فتطبيق االتجاه االنتشاري في مجال األنثروبولوجيا‬
‫الثقافية‪ ،‬يتعّلق بجمع العناصر الثقافية‪ ،‬بما في ذلك من العناصر التكنولوجية والفكرية‪ ،‬بينما‬
‫يقتصر في مجال األنثروبولوجيا االجتماعية‪ ،‬على العالقات والنظم االجتماعية السائدة في‬
‫المجتمع‪ ،‬والتي تشمل بعض العناصر الثقافية‪ ،‬وال تشملها كّلها ‪.‬‬
‫ويقوم االتجاه هنا على مبدأ هام‪ ،‬وهو أّن النظم االجتماعية كثيرًا ما تستعار أو تنقل من مكان‬
‫إلى مكان آخر‪ .‬وبناء على ذلك‪ ،‬فإّن تشابه النظم االجتماعية والعادات‪ ،‬في المجتمع الواحد أو‬
‫في المجتمعات المختلفة‪ ،‬ال ينشأ على نحو تلقائي‪ ،‬وإّنما ناتج عن التشابه في اإلمكانات‬
‫االجتماعية والطبيعّية واإلنسانية‪( .‬جابر‪ ،1991 ،‬ص ‪) 85‬‬
‫وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬استمّر اهتمام الباحثين باستخدام المنهج التاريخي في تفسير ظاهرة‬
‫التباين بين الحضارات في المجتمعات اإلنسانية‪ .‬واعتمد هذا االّتجاه على مبدأين اثنين ‪.‬‬
‫أولهما ‪ :‬أّن االّتصال بين الشعوب المختلفة‪ ،‬كان بفعل االحتكاك الثقافي ‪ /‬الحضاري‪ ،‬المباشر‬
‫وغير المباشر‪.‬‬
‫وثانيهما ‪ :‬عملية انتشار بعض المكّو نات (الخصائص) الحضارية أو كّلها‪ ،‬من مصادرها‬
‫األصلية إلى المجتمعات األخرى‪ ،‬سواء بالرحالت التجارية أو بالكشوف أو بالحروب‬
‫واالستعمار‪ .‬وهذان المبدآن متكامالن في دراسة الظواهر الثقافية‪ ،‬ويمكن من خاللهما تفسير‬
‫التباين الحضاري بين الشعوب ‪.‬‬
‫وقد اعتمد هذا االّتجاه منهجًا تاريخيًا –جغرافيًا‪ ،‬قاده األلماني ‪/‬فريدريك راتزال ‪ /‬الذي رّك ز‬
‫على أهمّية االّتصاالت والعالقات الثقافية بين الشعوب المختلفة‪ ،‬ودورها في نمو الحضارة‬
‫الخاصة والعامة ‪.‬وتبعه في ذلك تالمذته‪ ،‬وال سّيما ‪ /‬هوينريخ شورتز‪ /‬الذي أبرز فكرة وجود‬
‫عالقات حضارية بين العالم القديم (إندونيسيا وماليزيا) والعالم الجديد (أمريكا) ‪.‬وكذلك‬
‫‪/‬ليوفرو بينيوس ‪ /‬صاحب نظرية (االنتشار الحضاري) بين إندونيسيا وأفريقيا‪.‬‬
‫وانطالقًا من هذا االّتجاه‪ ،‬ظهرت في أوروبا نظريتان مختلفتان حول التفسير االنتشاري‬
‫لعناصر الثقافة‪.‬‬
‫النظرية األولى ‪ :‬هي النظرية االنتشارية التي تعتمد األصل المركزي الواحد للثقافة ‪/‬‬
‫الحضارة ‪ .‬سادت هذه النظرية في إنكلترا‪ ،‬وأرجعت نشأة الحضارة اإلنسانية كّلها إلى‬
‫مصدر واحد‪ ،‬ومنه انتشرت إلى المجتمعات اإلنسانية األخرى ‪.‬‬
‫وكان من رّو اد هذه النظرية‪ ،‬عالم التشريح ‪ /‬إليوت سميث ‪ /‬وتلميذه ‪ /‬وليم بيري ‪ /‬اللذان رأيا‬
‫أّن الحضارة اإلنسانية‪ ،‬نشأت وازدهرت على ضفاف النيل في مصر القديمة‪ ،‬منذ حوالي‬
‫خمسة آالف سنة قبل الميالد ‪.‬‬
‫وعندما توافرت الظروف المناسبة للتواصل بين الجماعات البشرية‪ ،‬بدأت بعض مظاهر تلك‬
‫الحضارة المصرية القديمة تنتقل إلى أرجاء متعّد دة من العالم‪ ،‬حيث عجزت شعوبها عن‬
‫التقّد م الثقافي واالبتكار الحضاري‪ ،‬فراحت تعّو ض عن ذلك العجز باالستيراد والتقليد‪.‬‬
‫(رياض‪ ،1974 ،‬ص ‪)127‬‬
‫لقد نال ‪ /‬إليوت سميث ‪ /‬شهرة كبيرة عن جدارة‪ ،‬نتيجة أبحاثه عن المخ ودراساته في‬
‫األنثروبولوجية القديمة ‪ ،))Paleo-anthropology‬حيث انكّب في إحدى فترات حياته على‬
‫دراسة المخ في المومياء المصرية‪ .‬وقادته أبحاثه هذه إلى اإلقامة في مصر‪ ،‬حيث أدهشته‬
‫الحضارة المصرية القديمة‪ .‬وأخذ‪ ،‬كما فعل العديدون‪ ،‬يالحظ أّن الثقافة المصرية القديمة‪،‬‬
‫تضّم عناصر كثيرة يبدو أّن لها ما يوازيها في ثقافات بقاع أخرى من العالم‪ ،‬وقلبت نظرياته‬
‫الجريئة‪ ،‬االعتبارات التقليدية عن الزمان والمكان‪ .‬فلم يقتصر على القول بأّن العناصر‬
‫المتشابهة في حوض البحر األبيض المتوسط وأفريقيا والشرق األدنى والهند‪ ،‬من أصل‬
‫مصري‪ ،‬بل ذهب إلى أّن العناصر المماثلة في ثقافات أندونيسيا واألمريكتين‪ ،‬تنبع من‬
‫المصدر المصري ذاته ‪.‬‬
‫أّم ا ‪ /‬وليم بيري ‪ /‬فقد أعطى في كتابه (أبناء الشمس) شرحا كامًال للنظرية " الهيليوليتية‬
‫‪ " Heliolithic‬وهو االسم الذي أطلق على ‪ /‬المدرسة االنتشارية ‪ /‬عن تاريخ الثقافة‪.‬‬
‫فعنوان الكتاب‪ ،‬يشير إلى أحد عناصر المجّم ع الثقافي الذي تزعم هذه المدرسة أّن أصله في‬
‫مصر‪ ،‬ومنها انتشر‪ ..‬وهو االعتقاد بأّن الملك ابن الشمس‪ ،‬والعناصر األخرى في هذا‬
‫المجّم ع هي ‪ :‬التحنيط‪ ،‬بناء األهرامات‪ ،‬والقيمة الكبرى للذهب والآللىء ‪ (.‬هرسكوفيتز‪،‬‬
‫‪ ،1974‬ص ‪) 210‬‬
‫وتنطلق براهين ‪ /‬سميث وبيري ‪ /‬من أّن بناء األهرامات أيضًا من منشأ مصري‪ ،‬كما هي‬
‫الحال في أهرامات المكسيك‪ .‬وكذلك األمر في احتفاظ األفريقيين بعظم ساق الملك المتوّفى‪،‬‬
‫الستعماله في الطقوس الدينية نتيجة النتشار عادة التحنيط عند المصريين‪.‬‬
‫النظرية الثانية ‪ :‬هي النظرية االنتشارية التي تعتمد األصل الثقافي ‪ /‬الحضاري‪ ،‬المتعّد د‬
‫المراكز‪ .‬وكان من دعاة هذه النظرية‪ ،‬فريق من العلماء األلمان والنمساويين‪ ،‬وفي طليعتهم ‪/‬‬
‫فريتز جراينور ‪ /‬الذي عاش في الفترة ما بين ‪ )1934-1875‬و‪/‬وليم شميدت ‪ /‬الذي عاش‬
‫في الفترة ما بين (‪. )1959-1868‬‬
‫لقد رفض هذا الفريق فكرة المنشأ( المركز) الواحد للحضارة اإلنسانية‪ ،‬ألّن هذه الفكرة‬
‫ضرب من الخيال أكثر من قربها إلى األساس العلمي‪ .‬وافترضوا وجود مراكز حضارية‬
‫أساسية وعديدة ‪ ،‬في أماكن متفرقة في العالم‪ .‬ونشأ من التقاء هذه الحضارات‪ ،‬بعضها مع‬
‫بعض‪ ،‬دوائر ثقافية تفاعلت ببعض عمليات االنصهار والتشكيالت المختلفة ‪.‬‬
‫وكان ‪ /‬ويسلر ‪ /‬أّو ل من استعمل (الدائرة الثقافية) بهذا المعنى‪ ،‬في بحثه عن ثقافات الهنود‬
‫األمريكيين‪ .‬وال يزال تعريفه لهذا المفهوم على الرغم من تعديله‪ ،‬منذ ذلك الوقت مفيدا في‬
‫هذا المجال‪ .‬يقول ‪ /‬ويسلر ‪ " : /‬إذا أمكننا تجميع سكان العالم الجديد األصليين‪ ،‬أي الهنود‬
‫األمريكيين‪ ،‬فسنحصل على دوائر متعّد دة ‪ :‬دوائر طعام‪ ،‬دوائر منسوجات‪ ،‬ودوائر خزف ‪...‬‬
‫وغيرها‪ .‬وإذا أخذنا في الحسبان العناصر جميعها في وقت واحد‪ ،‬وحّو لنا الوحدات‬
‫االجتماعية أو القبلية‪ ،‬يمكننا أن نجد جماعات محّد دة المعالم‪ ،‬وهذا ما يعطينا الدوائر الثقافية‪،‬‬
‫أو تصنيفًا للجماعات وفق عناصر ثقافتهم "‪( .‬هرسكوفيتز‪ ،1974 ،‬ص ‪) 124‬‬
‫وهذا ما يفّسر أوجه االختالف عن تلك الثقافات المركزية األساسية‪ .‬إّال أّن أصحاب هذا‬
‫الرأي لم يقّد موا الدالئل على أماكن وجود تلك المراكز‪ ،‬أو عمليات تتبع حركات االّتصال‬
‫فيما بينها‪ ،‬ودراسة النتائج المترّتبة على ذلك‪ ،‬بطريقة منهجّية سليمة ‪ (.‬فهيم‪ ،1986 ،‬ص‬
‫‪)160‬‬
‫لقد كانت وجهة نظر المدرسة (الثقافية التاريخية) األلمانية – النمساوية‪ ،‬أكثر عمقًا وتنميقًا ‪..‬‬
‫وكانت عنايتها باختيار معايير الحكم على قيمة وقائع االقتباس المفترضة‪ ،‬وإصراراها على‬
‫الحيطة في استخدام مصادر المعلومات‪ ،‬ودّقتها في تحديد تعريفاتها‪ ،‬وغنى وثائقها‪ ،‬تتجاوب‬
‫كّلها تمامًا مع متطّلبات البحث العلمي الدقيق‪ ،‬ولهذا القت قبوًال واسعًا ‪.‬‬
‫تقوم نظرية المدرسة (الثقافية – التاريخية) في جوهرها‪ ،‬وكما شرحها زعيمها ‪ /‬وليم‬
‫شميدت ‪ ،/‬على نظرة صوفية إلى طبيعة الحياة وإلى التجربة اإلنسانية‪ .‬فقد نشأت هذه‬
‫المدرسة ضمن إطار فكري‪ ،‬واستخدمت تعبيرات ومصطلحات تختلف اختالفًا جوهريًا عن‬
‫النظرة العقالنية‪ ،‬وعن مفردات أغلب المفّك رين األنثروبولوجيين ‪ ..‬ويظهر ذلك في مناقشة ‪/‬‬
‫شميدت ‪/‬طرائق البحث في دراسة الدوائر الثقافية المختلفة‪ ،‬والتي تقسم إليها هذه المدرسة‪،‬‬
‫أي الثقافات جميعها ‪ ،.‬وترى أّنها انتخبت الثقافات الموجودة – اليوم – في العالم‪ ،‬بواسطة‬
‫انتشار عناصرها ‪.‬‬
‫ويعترف ‪ /‬شميدت ‪ ،/‬كما يعترف األنثروبولوجيون جميعهم‪ ،‬بالحاجة إلى فهم (معنى الحياة‬
‫البدائية) بالنسبة لمن يعيشونها‪ .‬واألهّم من ذلك‪ ،‬فهم معناها بالنسبة ألولئك الذين عاشوها في‬
‫العصور الغابرة ‪ ...‬ويقول ‪ /‬شميدت ‪ /‬إّننا نعرف ذلك باللجوء إلى المبدأ السيكولوجي‬
‫التعاطفي‪ ،‬الذي يستطيع اإلنسان بواسطته أن يضع نفسه في الحالة النفسّية للشخص الذي‬
‫يرتبط معه بعالقة ما‪(.‬هرسكوفيتز‪ ،1974 ،‬ص‪)213‬‬
‫أّم ا إسهام ‪ /‬فريتز جرابنور‪ /‬في منهج المدرسة التاريخية – الثقافية بوجه خاص‪ ،‬وفي علم‬
‫األنثروبولوجيا‪ ،‬بوجه عام‪ ،‬فتمّثل في التحديد الدقيق الموضوعي لمعايير تقييم انتشار بعض‬
‫العناصر الثقافية‪ ،‬من شعب إلى شعب آخر ‪.‬‬
‫فالنظام االجتماعي والثقافة السائدان عند جماعة (مجتمع ما) لهما تأثير انتقائي‪ ،‬إذ يحوالن‬
‫دون قبول نماذج ال تنسجم البّتة مع النسق القائم‪ .‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬ال يمكن تجاهل أثر‬
‫االقتباس على األنظمة االجتماعية‪ ،‬حيث تتوّقف فرص االقتباس على االحتكاكات التي تكون‬
‫وليدة المصادفات‪ .‬ومثال ذلك ‪ :‬أن تكون الثقافة التي احتّك بها الهنود المكسيكيون هي الثقافة‬
‫اإلسبانية‪ ،‬أمر يمكن اعتباره حدث اتفاقًا وَع َر ضًا‪ .‬وكذلك الحال بالنسبة لهنود الواليات‬
‫المّتحدة األمريكية‪ ،‬الذين كان معظم احتكاكهم بالثقافتين اإلنجليزية والفرنسّية‪( .‬لينتون‪،‬‬
‫‪ ،1964‬ص ‪) 354‬‬
‫إّن هذه المعايير التي يدعونها معايير الكيف والكم‪ ،‬هي أساسية في الدراسات التي تتناول‬
‫النقل الثقافي جميعها‪ ،‬ومعناها بسيط جّد ا ؛ فعندما يبدو للعيان تماثل بين ثقافتي جماعتين‬
‫مختلفتين‪ ،‬فإّن حكمنا حول احتمال اشتقاقهما من مصدر واحد‪ ،‬يتوّقف على عدد العناصر‬
‫المتماثلة ومدى تشابكها‪ .‬فكّلما ازداد عدد العناصر المتماثلة‪ ،‬ازداد احتمال وقوع االقتباس ‪..‬‬
‫وينطبق األمر ذاته على مدى تداخل (تعقيد) عنصر من العناصر‪ .‬ولذا يمكن استخدام‬
‫القصص الشعبية‪ ،‬مثًال‪ ،‬استخدامًا مفيدًا في دراسة االحتكاك التاريخي بين الشعوب البدائية‪.‬‬
‫(هرسكو فيتز‪ ،‬ص ‪)213‬‬
‫ولم يقتصر التفسير االنتشاري على أوروبا فحسب‪ ،‬وإّنما امتّد أيضًا إلى أمريكا حيث ظهرت‬
‫حركة مماثلة آلراء ‪ /‬سميث وشميدت ‪ /‬من حيث نقد التفسير التطّو ري للثقافة‪ ،‬واالّتقاق على‬
‫فكرة انتشار العناصر الثقافية بطريق االستعارة والتقليد‪ ،‬كأساس لتفسير التباين الثقافي ‪/‬‬
‫الحضاري بين الشعوب ‪.‬‬
‫أّم ا بخصوص فكرة المراكز الحضارية (الدوائر الثقافية) فيرى أصحاب المدرسة األمريكية‪،‬‬
‫أّن المالمح المميّز ة لثقافة ما‪ ،‬وجدت أوًال في مركز ثقافي – جغرافي محّد د ثّم انتقلت إلى‬
‫أماكن أخرى من العالم‪ .‬وهذا يعني أّن أصحاب االّتجاه االنتشاري في أمريكا‪ ،‬رفضوا آراء‬
‫األوربيين بعدم إمكانية التطّو ر الحضاري المستقّل ‪ ،‬وأن بعض الناس بطبيعتهم غير مبتكرين‬
‫أو قادرين على القيام بعملية االبتكار والتطّو ر‪.‬‬
‫وكان األمريكي ‪ /‬فرانز بواز ‪ /‬الرائد األّو ل لهذا االّتجاه التاريخي ‪ /‬التجزيئي‪ ،‬قد عارض‬
‫الفكرة القائلة بوجود طبيعة واحدة وثابتة للتطّو ر الثقافي‪ .‬ورأى أّن أية ثقافة من الثقافات‪،‬‬
‫ليست إّال حصيلة نمو تاريخي معّين‪ .‬ولذلك‪ ،‬يتوجب على الباحث األنثروبولوجي أن يوّجه‬
‫اهتمامه نحو دراسة تاريخ العناصر المكّو نة لكّل ثقافة على حدة‪ ،‬قبل الوصول إلى تعميمات‬
‫بشأن الثقافة اإلنسانية بكاملها‪ .‬وقد أصّر‪ /‬بواز‪ /‬على أّنه لكي تصبح األنثربولوجيا علمًا‪ ،‬فال‬
‫بّد أن تعتمد في تكوين نظرياتها على المشاهدات والحقائق الملموسة‪ ،‬وليس على التخمينات‬
‫أو الفرضيات الحدسّية ‪.‬‬
‫ومن هذا المنطلق‪ ،‬استخدم ‪ /‬بواز ‪ /‬مصطلح (المناطق الثقافية) لإلشارة إلى مجموعة من‬
‫المناطق الجغرافية ذات النمط الثقافي الواحد‪ ،‬بصرف النظر عّم ا تحتويه هذه المناطق من‬
‫جماعات أو شعوب‪ .‬وقد طّبق ‪ /‬بواز ‪ /‬هذا المفهوم على ثقافات قبائل الهنود الحمر في‬
‫أمريكا‪ ،‬واستطاع تحديد – تمييز‪ -‬سبع مناطق ثقافية رئيسة‪ ،‬يندرج تحتها هذا العدد الهائل‬
‫من قبائل الهنود الحمر‪ ،‬والذي كان يزيد عن (‪ )50‬قبيلة‪ ،‬في الوقت الذي نزح األوروبيون‬
‫الستعمار القارة األمريكية ‪.‬‬
‫وبهذا يشير مفهوم (المنطقة الثقافية) إلى طرائق السلوك الشائعة بين عدد من المجتمعات التي‬
‫تتمّيز باشتراكها في عدد من مظاهر الثقافة‪ ،‬نتيجة لدرجة معّينة من االّتصال والتفاعل‪(.‬أبو‬
‫زيد‪ ،1980، ،‬ص ‪) 202‬‬
‫وإذا ما تصّفحنا كتابات ‪ /‬بواز ‪ /‬وجدنا أّن أفكاره تتمّيز عن أفكار‪ /‬سميث وبيري وشميدت ‪/‬‬
‫وغيرهم من االنتشاريين المتطّر فين‪ ،‬وذلك بتشديده على النقاط التالية ‪:‬‬
‫‪ -1‬إّن الدراسة الوصفية لالنتشار‪ ،‬مقّد مة لدراسة عملية االنتشار دراسة تحليلية ‪.‬‬
‫‪ -2‬يجب أن تكون دراسة االنتشار دراسة استقرائية‪ ،‬أي أّنه يجب دراسة العناصر الثقافية‬
‫المترابطة (المجّم عات الثقافية) التي يزعم أّنها ناشئة عن االنتشار تبعًا لعالقتها الداخلية‪ ،‬أكثر‬
‫من كونها مجموعة من العناصر شّك لها الباحث اعتباطيًا ‪.‬‬
‫‪ -3‬يجب أن تّتجه دراسة االنتشار من الخاص إلى العام‪ ،‬ورسم توزيع للعناصر في مناطق‬
‫محدودة‪ ،‬قبل رسم خارطة توّز عها في القارة‪ ،‬وترك الكالم عن توّز عها في العالم كّله ‪.‬‬
‫‪ -4‬إّن منهج دراسة العملية الديناميكية ‪،‬واالنتشار ليس سوى وجه من وجوهها‪ ،‬يجب أن‬
‫يكون منهجًا سيكولوجيًا‪ ،‬وأن يعود إلى الفرد بغية فهم حقائق التغّير الثقافي‪( .‬هرسكوفيتز‪،‬‬
‫‪ ،1974‬ص ‪)216‬‬
‫واستنادًا إلى هذه المنطلقات‪ ،‬يرى ‪ /‬بواز ‪ /‬أّن مراعاة العوامل السيكولوجية الكامنة في عملية‬
‫االقتباس‪ ،‬تكتسب أهمّية كبيرة في هذه الدراسات الثقافية‪ .‬كما يجب تحليل هذه الثقافات‬
‫بصورة إفرادية أوًال‪ ،‬ومن ثّم إجراء مقارنة تفصيلية فيما بينها‪ ،‬سواء من حيث نظامها‬
‫البنائي أو من حيث عناصرها‪ .‬وال تكون النتائج مقبولة‪ ،‬إّال بتحّر يات في مناطق عديدة ـ‬
‫تسمح بتعميم هذه النتائج ‪.‬‬
‫فقد اكتشف ‪ /‬بواز ‪ /‬أّن ثّم ة عددًا من السمات الثقافية المشتركة بين جماعات الهنود الحمر‪،‬‬
‫التي تعيش في السهول الساحلية ألمريكا الشمالية ‪.‬فعلى الرغم من أّن لكّل منها استقالليتها‬
‫الخاصة واسمها ولغتها وثقافتها‪ ،‬إّال أّن سكانها جميعهم يصطادون الجاموس للغذاء‪ ،‬ويبنون‬
‫المساكن على أعمدة يغطونها بالجلود التي يستخدمونها أيضًا في صنع المالبس‪.. .‬‬
‫وهكذا جاء مفهوم (مصطلح) المنطقة الثقافية‪ ،‬كتصنيف وصفي وتحليلي للثقافات‪ ،‬األمر‬
‫الذي يسهل المقارنة بين الثقافات‪ ،‬ومن ثّم الوصول إلى تعميمات بشأن الثقافة اإلنسانية كّلها ‪.‬‬
‫( أبو زيد‪ ،1980 ،‬ص ‪)203‬‬
‫ونتج عن هذا االّتجاه االنتشاري بوجه عام‪ ،‬أن بدأ األنثروبولوجيون ينظرون إلى أّن للثقافات‬
‫اإلنسانية كيانات مستقّلة من حيث المنشأ والتطّو ر والمالمح الرئيسة التي تمّيز بعضها من‬
‫بعض‪ .‬وهذا ما عّز ز فكرة تعّد د الثقافات وتنّو عها‪ ،‬وطرح مفهوم النسبية الثقافية التي‬
‫أصبحت من أهّم المفهومات األساسّية في الفكر األنثربولوجي وتطّو ره‪ ،‬كعلم خاص من‬
‫العلوم اإلنسانية لـه منطلقاته وأهدافه‪ ،‬توجب دراسته من خاللها ‪.‬‬
‫ولكّن نظرية االنتشار الثقافي بحسب فكرة الدوائر المّتحدة المركز‪ ،‬القت انتقادات شديدة‪،‬‬
‫ومنها ما وّج هه ‪ /‬إدوارد سابير‪ /‬الذي ذكر ثالثة تحّفظات على فكرة التوّز ع المستمّر ‪:‬‬
‫أولها ‪ :‬يمكن أن يكون االنتشار في أحد االّتجاهات‪ ،‬أسرع منه في اّتجاه آخر ‪.‬‬
‫ثانيها‪ :‬قد يكون الشكل األقدم تاريخيًا‪ ،‬تعّر ض لتعديالت في المركز‪ ،‬بحيث يخطىء الباحث‬
‫في تحديد المركز الحقيقي ألصل الشكل‪.‬‬
‫وثالثها‪ :‬قد يكون لتحّر كات السكان داخل منطقة التوّز ع‪ ،‬آثار تؤّد ي إلى سوء تأويل نموذج "‬
‫االنتشار الثقافي " ‪.‬‬
‫ّل‬
‫ولكن‪ ،‬هل يعني هذا التخ ي عن محاوالت إعادة تركيب االحتكاك التاريخي‪ ،‬بين الشعوب‬
‫البدائية والتطّو ر التاريخي للمناطق التي ليس لها تاريخ؟ والجواب ‪ :‬ليس ثّم ة ما يبّرر هذه‬
‫النتيجة‪ .‬ويبدو أّن هذا الجهد المبذول في هذا المجال‪ ،‬إذا ما أخذ كل شيء في الحسبان‪ ،‬جدير‬
‫باالهتمام والعناية‪ ،‬بشرطين ‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يكون باإلمكان اعتبار المنطقة المختارة للتحليل‪ ،‬ذات وحدة تاريخّية‪.‬‬
‫‪ -2‬أن يكون الهدف من التحليل‪ ،‬تقرير احتمال وقوع التطّو رات التاريخية‪ ،‬وليس تقرير‬
‫الحقيقة المطلقة عنها ‪ (.‬هرسكوفيتز‪ ،1974‬ص ‪) 221‬‬
‫ولكن‪ ،‬مهما تعّد دت األدّلة على ظاهرة االنتشار الثقافي‪ ،‬فإّنه يتعّذ ر بالنسبة للمجتمعات غير‬
‫المتعّلمة –وفي معظم األحيان – التمييز بين العناصر الثقافية التي تسّر بت إليها من الخارج‪،‬‬
‫وبين العناصر التي نشأت من داخلها‪ .‬ويّتضح من وجهة النظر التجريبية‪ ،‬أّن كّل ثقافة‬
‫بمفردها اقتبست عن الثقافات األخرى‪ ،‬أشياء أكثر من التي اخترعتها بذاتها‪ .‬والدليل على‬
‫ذلك‪ ،‬االنتشار الواسع لعناصر ثقافية معقدة في مجاالت التكنولوجية والفنون الشعبية‪،‬‬
‫والمعتقدات الدينية والمؤّسسات االجتماعية‪( .‬لينتون‪ ،1967 ،‬ص ‪)272‬‬
‫وهكذا نجد‪ ،‬أّن عملية االنتشار الثقافي تسير في اّتجاهين‪ ،‬حيث يستفيد كّل مجتمع من ثقافة‬
‫المجتمع اآلخر الذي يحتّك به ‪ ..‬وال سّيما في المجتمعات الكبيرة‪ ،‬حيث تتّم عملية االنتشار‬
‫الثقافي من خالل اقتباس عناصر من ثقافات أخرى‪ ،‬وانتشار مقّو ماتها وأنماطها الرئيسة‬
‫والفرعية‪ ،‬بين فئات هذه المجموعة البشرية الكبيرة‪.‬‬
‫‪ -1/2‬االّتجاه التاريخي ‪ /‬النفسي ‪:‬‬
‫بدأ االّتجاه التاريخي ‪ /‬التجزيئي يتعّد ل ويأخذ مسارات جديدة‪ ،‬حيث ظهرت فكرة توسيع‬
‫المفهوم التاريخي في دراسة الثقافات اإلنسانية‪ ،‬وذلك بفضل من تأّثروا بنتائج علم النفس‪،‬‬
‫وال سّيما ‪ /‬سيغموند فرويد ‪ /‬الذي عاش ما بين (‪ )1939-1852‬وتالمذته‪ ،‬الذين رأوا أّنه‬
‫باإلمكان فهم الثقافة من خالل التاريخ‪ ،‬مع االستعانة ببعض مفهومات علم النفس وطرائقه‬
‫التحليلية‪ .‬وهذا ما كان لـه أثر كبير في االّتجاه نحو الكشف عن األنماط المختلفة للثقافات‬
‫اإلنسانية‪.‬‬
‫فقد رأت ‪ /‬روث بيند كيت ‪ /‬ورفاقها أّن دراسة التاريخ‪ ،‬بوقائعه وأحداثه‪ ،‬ال تكفي لتفسير‬
‫الظواهر االجتماعية والثقافية‪ ،‬وذلك ألن الظاهرة الثقافية بحّد ذاتها مسألة معّقدة ومتشابكة‬
‫العناصر‪ .‬فهي تجمع بين التجربة الواقعية المكتسبة والتجربة السيكولوجية (النفسية )‪ ،‬وأّن‬
‫أية سمة من السمات الثقافية‪ ،‬تضّم مزيجّا من النشاط الثقافي والنفسي بالنسبة لبيئة معّينة ‪.‬‬
‫( أبو زيد‪،1980 ،‬‬
‫‪)227‬‬
‫وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬فإّن أية ثقافة ال تؤّلف نظامًا مغلقًا أو قوالب جامدة‪ ،‬يجب أن تتطابق‬
‫معها سلوكات أعضاء المجتمع جميعهم ‪ .‬ويتبّين من حقيقة الثقافة السيكولوجية‪ ،‬أن الثقافة –‬
‫بهذه الصفة – ال تستطيع أن تفعل شيئًا‪ ،‬ألّنها ليست سوى مجموع سلوكات األشخاص الذين‬
‫يؤّلفون مجتمعًا خاصًا (في وقت معين ومكان محّد د) وأنماط عادات التفكير عند هؤالء‬
‫األشخاص‪.‬‬
‫ولكّن ‪ ،‬على الرغم من أّن هؤالء األشخاص يلتزمون – عن طريق التعّلم واالعتياد‪ -‬بأنماط‬
‫الجماعة التي ولدوا فيها ونشأوا‪ ،‬فإّنهم يختلفون في ردود أفعالهم تجاه المواقف الحياتية التي‬
‫يتعّرضون لها معًا‪ .‬كما أّنهم يختلفون أيضًا في مدى رغبة كّل منهم في التغيير‪ ،‬إذ إّن‬
‫الثقافات جميعها عرضة للتغيير‪( .‬هرسكو فيتز ‪ ،1974‬ص‪)65‬‬
‫وهذا يدّلل على مرونة الثقافة‪ ،‬وإتاحتها فرصة االختيار ألفرادها ‪ ..‬بحيث أّن القيم التي‬
‫يتمّسك بها مجتمع ما وتميزه من المجتمعات األخرى‪ ،‬ليست كّلها ثابتة بالمطلق وتنتقل إلى‬
‫حياة األجيال المتعاقبة‪ ،‬وإّنما ثّم ة قيم متغّيرة‪ ،‬تتغّير بحسب التغّيرات االجتماعية والثقافية‬
‫التي يمّر بها المجتمع‪.‬‬
‫ويعتبر كتاب " أنماط الثقافة " الذي نشرته‪ /‬بيند كيت ‪ /‬عام ‪ ،1932‬البداية الحقيقية لبلورة‬
‫االّتجاه التاريخي ‪ /‬النفسي في دراسة الثقافات اإلنسانية‪ .‬حيث أوضحت الدراسة أّنه من‬
‫الضرورة النظرة إلى الثقافات في صورتها اإلجمالية‪ ،‬أي كما هي في تشكيلها العام‪ .‬وذلك‪،‬‬
‫ألّن لكّل ثقافة مركز خاص تتمحور حوله وتشّك ل نموذجًا خاصًا بها‪ ،‬يميزها عن الثقافات‬
‫األخرى ‪.‬‬
‫ومن هذا المنظور‪ ،‬قامت‪ /‬بيند كيت‪ /‬بإجراء دراسة مقارنة بين ثقافات بدائية متعّد دة‪،‬‬
‫وخلصت إلى أّن ثّم ة عالقات قائمة بين النموذج الثقافي العام ومظاهر الشخصية‪ ،‬وهذا ما‬
‫ينعكس لدى األفراد في تلك المجتمعات ‪.‬‬
‫(‪)F reidle, 1977, p.302‬‬
‫ومن الممكن دراسة مظاهر التكّيف المورفولوجي (الشكلي) للنوع البشري بالمصطلحات‬
‫المألوفة في علم األحياء‪ ،‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬كان ال بّد من تطوير أساليب فنّية جديدة لوصف‬
‫مظاهر التكّيف السلوكي والنفسي‪ .‬ويعّد مفهوم الثقافة من أهم المفهومات التي طّو رت في هذا‬
‫المجال‪ ،‬وأكثرها فائدة وحيوية‪ .‬ومع أّن هذا المفهوم اقتصر في السابق على النواحي‬
‫الوصفية‪ ،‬فإّنه – على أضعف تقدير – زّو دنا بطريقة محّد دة للتعّر ف إلى النتاج النهائي‬
‫لعمليات التكّيف‪ ،‬فوضع بالتالي أسسًا للمقابلة بين النماذج المختلفة لطرق التكّيف‪( .‬لينتون‪،‬‬
‫‪ ،1967‬ص ‪) 196‬‬
‫لقد شهد االّتجاه التاريخي‪ /‬النفسي في الدراسات األنثربولوجية‪ ،‬ظهورًا متمّيزًا في الربع‬
‫الثاني من القرن العشرين‪ ،‬مترافقًا مع انتشار مدرسة التحليل النفسي التي أنشأها ‪ /‬فرويد ‪/‬‬
‫واستمّد منها األنثروبولوجيون الكثير من المفاهيم النفسية‪ ،‬لتحديد العالقات المتبادلة بين الفرد‬
‫وثقافته في إطار المنظومة الثقافية ‪ /‬االجتماعية‪.‬‬
‫وقد انصّب اهتمام أصحاب هذا االّتجاه‪ ،‬على دراسة الموضوعات المتعّلقة بالتمييز الثقافي ‪/‬‬
‫االجتماعي‪ ،‬باالستناد إلى الميزات النفسية السائدة بين األفراد والجماعات‪ .‬وتعّد دراسة بيند‬
‫كيت‪ ،‬بعنوان " الكريزنتيموم والسيف ‪ ،The Chrsyanthemum and the Sword‬عام‬
‫‪ " 1946‬من أهّم الدراسات في هذا االّتجاه‪ ،‬حيث بحثت في عالقة الثقافة بالشخصّية‬
‫اليابانية ‪.‬‬
‫وهذا ما ساعد في بلورة السياسة األمريكية تجاه استسالم المحاربين اليابانيين في أثناء‬
‫الحرب العالمية الثانية‪ .‬وأوضحت الدراسة أّن الجنود اليابانيين كانوا سيرفضون االستسالم‬
‫بصورة مطلقة‪ ،‬ويستمرون في القتال حتى الموت‪ .‬إّال أّن تأثير مبادىء الطاعة والوالء‬
‫لإلمبراطور على هؤالء الجنود‪ ،‬جعلهم يستجيبون لتعليماته ويخضعون ألوامره ‪ (.‬المرجع‬
‫السابق‪ ،‬ص‪)510‬‬
‫ولكن يرى بعض العلماء _ وهو محّق في ذلك – أّن االنشغال الزائد باألشكال الخارجية‬
‫للثقافة‪ ،‬قد أّثر سلبيًا في المحاوالت الرامية إلى تفّهم داللتها السيكولوجية‪ .‬ومن المعروف أن‬
‫الحقيقة النهائية للثقافة‪ ،‬هي سيكولوجية ‪ ..‬ونقصد بذلك‪ ،‬أّن وجود الثقافة يرتبط ارتباطًا وثيقًا‬
‫بوجود أناس يديرون مؤّسساتها‪ .‬وهذه الحقيقة السيكولوجية للثقافة تفّسر االستقرار الثقافي‪،‬‬
‫أو باألحرى‪ ،‬تفّسر السبب الذي من أجله تشعر الكائنات البشرية بارتياح كبير عندما تعيش‬
‫وفق نظام رتيب معروف ‪.‬‬
‫وهذه الحقيقة تفّسر أيضًا آلية التغّير الثقافي‪ .‬فاألفراد في كّل مجتمع يملكون قابليات وحوافز‬
‫وميوًال‪ ،‬وقدرات تؤّد ي دورها ضمن إطار القالب الثقافي العام‪ ،‬وتسهم باستمرار في مراجعة‬
‫التقاليد القائمة‪ ،‬وإدخال تحسينات عليها‪( .‬لينتون‪ ،1967 ،‬ص ‪) 285‬‬
‫وكان من نتيجة ذلك‪ ،‬ظهور مدرسة ثقافية نفسية (أمريكية) من روادها ‪( :‬كاليد كالكهون‪،‬‬
‫مرغريت ميد‪ ،‬رالف لينتون) وغيرهم مّم ن اعتمدوا على مفهوم بناء الشخصّية األساسي‬
‫الذي يشير إلى مجموعة الخصائص السيكولوجية والسلوكية‪ ،‬التي يبدو أّنها تتطابق مع كّل‬
‫النظم والعناصر والسمات التي تؤّلف أية ثقافة‪( .‬أبو زيد‪ ،1989 ،‬ص‪ )238‬إذ إّنه على‬
‫الرغم من أّن النمط الثقافي السائد في إي مجتمع‪ ،‬ال يمكن أن يزيد – أو يقّلل – من وجود‬
‫الفوارق الفردية في نطاق الثقافة الواحدة‪ ،‬إّال أن تلك العالقة القائمة بين األنماط الثقافية‬
‫والشخصّية الفردية‪ ،‬وما تحدث من تأثيرات متبادلة بينهما‪ ،‬ال يجوز إهمالها‪ ،‬بل يجب أخذها‬
‫في الحسبان أثناء دراسة الثقافات اإلنسانية ‪)Freidle, 1977, p.303(.‬‬
‫إّن األساس السيكولوجي للقوانين االجتماعية القائمة‪ ،‬مثل ‪( :‬أنماط السلوك الثابتة‪ ،‬واألعراف‬
‫والتقاليد‪ ،‬والعادات والقيم)‪ ،‬هو تكوين أطر استناد مشتركة‪ ،‬ناتجة عن احتكاك األفراد‬
‫بعضهم ببعض ؛ وإذا ما تكّو نت مثل هذه األطر االستنادية وتغلغلت في أعماق الفرد‪،‬‬
‫أصبحت عامًال هاّم ًا في تحديد ردود فعله أو تعديلها‪ ،‬في األوضاع التي سيواجهها فيما بعد‪،‬‬
‫سواء كانت اجتماعية أو غير اجتماعية‪ ،‬وال سّيما في الحاالت التي ال يكون الحافز فيها جّيد‬
‫التنظيم‪ ،‬أي في حالة تجربة ليس لها سوابق في السلوك الذي اعتاد عليه الفرد‪( .‬هرسكوفيتز‪،‬‬
‫‪ ،1974‬ص ‪) 68‬‬
‫وضمن هذا االّتجاه أيضًا‪ ،‬اهتّم ‪ /‬مالينوفسكي ‪ /‬بنظرية فرويد وكتاباته النفسّية ‪ /‬وعالقة ذلك‬
‫بالمحّر مات الجنسّية‪ ،‬من خالل المادة التي جمعها ميدانيًا من سكان جزيرة (التروبرياند )‪ .‬إّال‬
‫أّنه عارض تفسير فرويد لعالقة االبن باألم وغيرته من األب في إطار ما أسماه فرويد بـ‬
‫(عقدة أوديب )‪ ،‬وقّد م بدّال منها تفسيرًا وظيفّيًا‪ ،‬توّص ل من خالله إلى أّن تحريم العالقات‬
‫الجنسية المكّو نة للعائلة الموّح دة (النووية) والتي تشمل ‪ " :‬األم واألبناء واألخوة واألخوات "‬
‫هو الذي يمنع ما قد ينشأ من صراعات داخلية‪ ،‬بسبب الغيرة أو التنافس ‪..‬‬
‫وهذا ما يحفظ بالتالي تماسك األسرة‪ ،‬ويمنع تفّك ك أواصرها وتهديم كيانها‪،‬‬
‫وما ينجم عنه من ضعف المجتمع العام‪ ،‬وتهديد وحدته وتماسكه‪.‬‬
‫‪))Freidle, 1977, p. 303‬‬
‫وخالصة القول‪ ،‬إّن هذه االّتجاهات بأفكارها وتطبيقاتها‪ ،‬مّثلت مرحلة انتقالية بين‬
‫األنثروبولوجيا الكالسيكية التي كانت تعتمد على التخمينات والتفسيرات النظرية فحسب‪،‬‬
‫وبين األنثروبولوجيا الحديثة التي بدأت مع النصف الثاني من القرن العشرين معتمدة على‬
‫الدراسات الميدانية ‪ /‬التحليلية‪ ،‬والتي تعنى بالجوانب االجتماعية الثقافية المكّو نة للفكر‬
‫األنثروبولوجي‪.‬‬
‫وهذا ما أّد ى بالتالي إلى ظهور التخّصص في علم األنثروبولوجيا‪ ،‬مّم ا ساعد في إرساء‬
‫المبادىء األساسّية لألنثروبولوجيا المعاصرة ‪.‬‬
‫‪-2‬االّتجاه البنائي ‪ /‬الوظيفي ‪:‬‬
‫ترافق نشوء هذا االّتجاه مع ظهور اّتجاه االنتشار الثقافي‪ ،‬كرّد فعل عنيف على النظرية‬
‫التطّو رية‪ .‬وقد تمّيز االّتجاه البنائي‪ ،‬بأّنه ليس تطّو ريًا وليس تاريخيًا‪ ،‬حيث رّك ز على دراسة‬
‫الثقافات اإلنسانية كّل على حدة‪ ،‬في واقعها الحالي ‪ /‬المكاني والزماني ‪./‬‬
‫وهذا ما جعله يختلف عن الدراسات التاريخّية‪ ،‬ألّنه اعتمد العلم في دراسة الثقافات اإلنسانية‬
‫كظاهرة‪ ،‬يجب البحث في عناصرها والكشف عن العالقات القائمة فيما بينها‪ ،‬ومن ثّم‬
‫العالقات القائمة فيما بينها وبين الظواهر األخرى‪( .‬فهيم‪ ،1986 ،‬ص ‪)164‬‬
‫يعود الفضل في تبلور االّتجاه البنائي ‪ /‬الوظيفي في الدراسات األنثروبولوجية‪ ،‬إلى أفكار‬
‫العالمين البريطانيين‪( ،‬برونسلو مالينوفسكي) و (راد كليف براون )‪ ،‬اللذين عاشا في أواخر‬
‫القرن التاسع عشر والنصف األول من القرن العشرين‪ .‬ويدينان باّتجاهاتهما النظرية‪ ،‬إلى‬
‫أفكار عالم االجتماع ‪ /‬إميل دوركهايم ‪ /‬الذي رّك ز اهتمامه على الطريقة التي تعمل بها‬
‫المجتمعات اإلنسانية ووظائف نظمها االجتماعية‪ ،‬وليس على تاريخ تطّو ر هذه المجتمعات‬
‫والسمات العامة لثقافاتها‪.‬‬
‫ولعّل ‪ /‬كلود ليفي ستروس ‪ /‬الوحيد بين البنائيين الفرنسيين‪ ،‬الذي يستخدم كلمة (بناء أو‬
‫بنائية) صراحة في عناوين كتبه ومقاالته‪ ،‬ابتداء من مقاله الذي كتبه عام ‪ ،1945‬عن "‬
‫التحليل البنائي " في اللغويات وفي األنثروبولوجيا‪ ،‬والذي يعتبر – بحق –" ميثاق " النزعة‬
‫البنائية‪ ،‬وإلى كتاب " األبنية األولية للقرابة " الذي كان سببًا في ذيوع اسمه وشهرته‪ ،‬والذي‬
‫يعتبره الكثيرون أهّم وأفضل إنجاز في األنثروبولوجيا الفرنسية على اإلطالق ‪ ..‬ومن ثّم إلى‬
‫كتابه " األنثروبولوجيا البنائية "‪.‬‬
‫وعلى الرغم من االنتقادات التي وّجهت إليه‪ ،‬فال يزال يؤمن بأّن البنيوية (البنائية) هي أكثر‬
‫المناهج قدرة على تحليل المعلومات وفهم األثنوجرافيا وتقريبها إلى األذهان‪ ،‬وإّنها في الوقت‬
‫نفسه‪ ،‬أفضل وسيلة يمكن بها تجاوز المعلومات والوقائع العيانية المشّخ صة‪ ،‬والوصول إلى‬
‫الخصائص العامة للعقل اإلنساني‪ .‬فقد أفلح في أن يحّقق للبنائية ما لم يحّققه غيره‪ ،‬مع أّنه لم‬
‫يقم بدراسات حقلية بين الشعوب المتخّلفة (البدائية )‪ ،‬وحتى حين قام بدراساته في (البرازيل‬
‫والباكستان) كان يمضي فترات قصيرة ومتباعدة بين الجماعات التي درسها‪ .‬وخرج بالبنائية‬
‫من مجال األنثروبولوجيا‪ ،‬إلى ميادين الفكر المختلفة‪ ،‬الواسعة والرحيبة‪ .‬وجعل منها اتجاهًا‬
‫فكريًا ومنهجيًا يهدف إلى الكشف عن العمليات العقلية العامة‪ ،‬وله تطبيقاته في األدب‬
‫والفلسفة واللغة والميثولوجيا (األسطورة) والدين والفن‪ .‬وبلغ من قّو ة البنائية أن أصبحت في‬
‫البداية‪ ،‬تمّثل تهديدًا مباشرًا للوجودية التي ترّك ز على الفرد والسلوك الفردي‪( .‬أبو زيد‪،‬‬
‫‪ ،2001‬ص ‪) 83-82‬‬
‫فاالّتجاه البنائي ‪ /‬الوظيفي‪ ،‬يعّبر في جملته عن منهج دراسي تّم التوّص ل إليه من خالل‬
‫المقابلة (الموازنة) بين الجماعات اإلنسانية (المجتمعات) والكائنات البشرية (األفراد )‪ .‬ولم‬
‫يعد استخدامه مقصورًا على األنثروبولوجيين‪ ،‬وإّنما تناولـه أيضًا علماء االجتماع بالفحص‬
‫والتطبيق والتعديل‪ ،‬على يد ‪ /‬تلكوت بارسونز‪ ،‬وجورح ميرتون ‪ ./‬كما ارتبط أيضًا بالعلوم‬
‫الطبيعية‪ ،‬وال سّيما علوم الحياة والكيمياء‪))Leach, 1982, p.184 .‬‬
‫فقد رأى ‪ /‬مالينوفسكي ‪ /‬أّن األفراد يمكنهم أن ينشئوا ألنفسهم ثقافة خاصة‪ ،‬أو أسلوبًا معّينًا‬
‫للحياة‪ ،‬يضمن لهم إشباع حاجاتهم األساسية‪ ،‬البيولوجية والنفسّية واالجتماعية‪ .‬ولذلك ربط‬
‫الثقافة – بجوانبها المختلفة‪ ،‬المادية والروحية واالجتماعية‪ ،‬باالحتياجات اإلنسانية ‪.‬‬
‫فاالهتمام بالبنية ‪ ،Struture‬كترابط منّظم وخفي للعناصر الثقافية‪ ،‬يساعد النموذج في‬
‫تفسيره وراء العالقات االجتماعية‪ ،‬يوازيه في اتجاه آخر اهتمام وظائفي بالمعنى الذي‬
‫يحّد ده ‪ /‬مالينوفسكي ‪ ،/‬والذي تعني فيه الوظيفة ‪ :‬تلبية حاجة من الحاجات‪ ،‬ويكون فيها‬
‫التحليل الوظيفي هو ذلك الذي ‪ " :‬يسمح بتحديد العالقة بين العمل الثقافي والحاجة عند‬
‫اإلنسان‪ ،‬سواء كانت هذه الحاجة أولية أو فرعية ‪ /‬ثانوية " (لبيب‪ ،1987 ،‬ط‪ ،3‬ص‪) 12‬‬
‫فالثقافة كيان كّلي وظيفي متكامل ‪ ،‬يماثل الكائن الحي‪ ،‬بحيث ال يمكن فهم دور وظيفة أي‬
‫عضو فيه‪ ،‬إّال من خالل معرفة عالقته بأعضاء الجسم األخرى‪ ،‬وإّن دراسة هذه الوظيفة‬
‫بالتالي‪ ،‬تمّك ن الباحث األثنولوجي من اكتشاف ماهية كل عنصر وضرورته‪ ،‬في هذا الكيان‬
‫المتكامل ‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬دعا ‪ /‬مالينوفسكي ‪ /‬إلى دراسة وظيفة كّل عنصر ثقافي‪ ،‬عن طريق إعادة تكوين‬
‫تاريخ نشأته أو انتشاره‪ ،‬وفي إطار عالقته مع العناصر األخرى‪ .‬وهذا يقتضي دراسة‬
‫الثقافات اإلنسانية كّل على حدة‪ ،‬وكما هي في وضعها الراهن‪ ،‬وليس كما كانت أو كيف‬
‫تغّيرت ‪.‬‬
‫وبذلك يكون ‪ /‬مالينوفسكي ‪ /‬قد قّد م مفهوم( الوظيفة) كأداة منهجّية تمّك ن الباحث‬
‫األنثروبولوجي من إجراء مالحظاته بطريقة مرّك زة ومتكاملة‪ ،‬في أثناء وصفه للثقافة‬
‫البدائية‪) Freidle, 1977, p.304( .‬‬
‫أّم ا ‪ /‬براون ‪ /‬فقد قام من جهته‪ ،‬بدور رئيس في تدعيم أسس االّتجاه البنائي ‪ /‬الوظيفي‪ ،‬في‬
‫الدراسات األنثروبولوجية‪ ،‬وذلك مع بداية القرن العشرين‪ ،‬موّجهًا األثنولوجيا نحو الدراسات‬
‫المتزامنة‪ ،‬وليس نحو التفسير البيولوجي للثقافة كما فعل ‪ /‬مالينوفسكي ‪. /‬‬
‫اعتمد ‪ /‬براون في دراسة المجتمع وتفسير الظواهر االجتماعية تفسيرًا اجتماعيًا‪ ،‬بنائيًا‬
‫ووظيفيًا‪ ،‬على فكرة الوظيفية التي نادى بها ‪ /‬دوركهايم ‪ /‬والتي تقوم على دراسة المجتمعات‬
‫اإلنسانية‪ ،‬من خالل المطابقة (المماثلة) بين الحياة االجتماعية والحياة العضوية‪ ،‬كما هي‬
‫الحال في المشابهة بين البناء الجسمي المتكامل عند اإلنسان‪ ،‬والبناء االجتماعي المتكامل في‬
‫المجتمعات اإلنسانية ‪.‬‬
‫ويوضح ‪ /‬براون ‪ /‬طبيعة هذا (البناء االجتماعي) بأّنه يندرج تحت هذا المفهوم‪ ،‬العالقات‬
‫االجتماعية كّلها‪ ،‬والتي تقوم بين شخص وآخر‪ .‬كما يدخل في ذلك التمايز القائم بين األفراد‬
‫والطبقات‪ ،‬بحسب أدوارهم االجتماعية‪ ،‬والعالقات التي تنّظم هذه األدوار‪ .‬وكما يستمّر تجّد د‬
‫بناء الكائن العضوي طوال حياته‪ ،‬فكذلك تتجّد د الحياة االجتماعية مع استمرارية البناء‬
‫االجتماعي في عالقاته وتماسكه ‪.‬‬
‫واستنادًا إلى ذلك‪ ،‬يصبح االعتراف بالتنّو ع الثقافي بين المجتمعات – مهما كان شكله‪ -‬إحدى‬
‫الخطوات الهامة في تطّو ر علم األنثروبولوجيا‪ ،‬انطالقًا من النقاط التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬إّن الثقافة تعبير عن سلوك شعب ما‪ ،‬وعن قواعد هذا الشعب ‪.‬‬
‫‪ -2‬إّن مجموع التنّو عات في العقيدة والسلوك الفرديين لدى أفراد جماعة معّينة وفي زمن‬
‫معّين‪ ،‬يحّد د ثقافة تلك الجماعة ‪ ..‬وهذا صحيح بالنسبة للثقافات الفرعية في الوحدات‬
‫الصغيرة‪ ،‬داخل الكّل االجتماعي‪.‬‬
‫‪ -3‬ليست العقيدة والسلوك في أي مجتمع‪ ،‬أبدًا نتاج الصدفة‪ ،‬بل يتحّو الن وفق قواعد راسخة‪.‬‬
‫‪ -4‬يجب استنباط هذه القواعد بواسطة االستقراء من التوافق المالحظ في العقائد وأنماط‬
‫السلوك لدى جماعة ما ‪ ..‬وهي تشمل نماذج ثقافة تلك الجماعة ‪.‬‬
‫‪ -5‬كّلما صغر حجم الجماعة‪ ،‬كانت نماذج عقائدها وسلوكاتها‪ ،‬أكثر تجانس فيما إذا تساوت‬
‫ًا‬
‫األمور األخرى‪.‬‬
‫‪ -6‬قد يظهر لدى الفئات االختصاصية‪ ،‬تنّو ع في حقل اختصاصها أكثر اّتساعًا مّم ا يظهر‬
‫لدى الفئات األخرى‪ ،‬المساوية لها في الحجم‪ ،‬بين الجماعة الكلّية‪( .‬هرسكوفيتز‪ ،1974 ،‬ص‬
‫‪) 264-263‬‬
‫وإزاء هذه األمور مجتمعة‪ ،‬ال بّد من االعتراف بأهمّية مسألة التجانس الثقافي والتنافر‬
‫الثقافي‪ ،‬في الدراسات األثنولوجية‪ ،‬وفي أثناء مناقشة النظريات األنثروبولوجية‪.‬‬
‫وإذا كان ‪ /‬مالينوفسكي ‪ /‬أخذ بفكرة النظم االجتماعية لتأمين الحاجات البيولوجية والنفسية‬
‫لألفراد‪ ،‬بينما اّتجه ‪ /‬براون ‪ /‬نحو مسألة تماسك النظام االجتماعي‪ ،‬من حيث مكّو ناته‬
‫وعالقاته‪ ،‬فأّنهما رفضا معًا فكرة تجزئة العناصر الثقافية (مكّو نات البناء االجتماعي) إلى‬
‫وحدات صغيرة يقوم الباحث بدراسة منشئها أو انتشارها وتطّو رها ‪..‬‬
‫واعتمدا بدّال من ذلك على الدراسات الميدانية‪ ،‬لوصف الثقافات بوضعها الراهن‪ .‬وقد وجد‬
‫هذا االّتجاه قبوًال واسعًا لدى المهتّم ين بدراسة الثقافات اإلنسانية في النصف األّو ل من القرن‬
‫العشرين‪ ،‬وال سّيما بين األنثربولوجيين األوروبيين‪ ،‬الذين انتشروا في المستعمرات إلجراء‬
‫دراسات ميدانية‪ ،‬وجمع المواد األولية الالزمة لوصف الثقافات في هذه المجتمعات‪ ،‬وتحليلها‬
‫في إطارها الواقعي وكما هي في وضعها الراهن ‪.‬‬
‫**‬
‫مصادر الفصل ومراجعه‪:‬‬
‫‪ -‬أبو زيد‪ ،‬أحمد (‪ )1980‬البناء االجتماعي – مدخل لدراسة المجتمع‪ ،‬ج‪ ،1‬الهيئة المصرية‬
‫العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة ‪.‬‬
‫‪ -‬أبو زيد (‪ )2001‬الطريق إلى المعرفة‪ ،‬كتاب العربي (‪ ،) 46‬منشورات مجّلة العربي‪،‬‬
‫الكويت ‪.‬‬
‫‪ -‬جابر‪ ،‬سامية (‪ )1991‬علم اإلنسان – مدخل إلى األنثروبولوجيا االجتماعية والثقافية‪ ،‬دار‬
‫العلوم العربية‪ ،‬بيروت ‪.‬‬
‫‪ -‬رياض‪ ،‬محمد (‪ )1974‬اإلنسان – دراسة في النوع والحضارة‪ ،‬دار النهضة العربية‪،‬‬
‫بيروت ‪.‬‬
‫‪ -‬فهيم‪ ،‬حسين (‪ )1986‬قصة األنثروبولوجيا – فصول في تاريخ اإلنسان‪ ،‬عالم المعرفة‬
‫(‪ ،) 198‬الكويت ‪.‬‬
‫‪ -‬لبيب‪ ،‬الطاهر (‪ )1987‬سوسيولوجيا الثقافة‪ ،‬دار الحوار‪ ،‬الالذقية ‪.‬‬
‫‪ -‬لينتون‪ ،‬رالف (‪ )1967‬األنثروبولوجيا وأزمة العالم الحديث‪ ،‬ترجمة‪ :‬عبد الملك الناشف‪،‬‬
‫المكتبة العصرية‪ ،‬بيروت ‪.‬‬
‫‪ -‬هرسكوفيتز‪ ،‬ميلفيل‪ .‬ج (‪ )1974‬أسس األنثروبولوجيا الثقافية‪ ،‬ترجمة ‪ :‬رباح النفاخ‪،‬‬
‫وزارة الثقافة‪ ،‬دمشق ‪.‬‬
‫‪. Burns , Edward (1973) Western Civizalition , New York -‬‬
‫‪Freidl ,John (1977) Anthropology , HarperandRowPublishers, New -‬‬
‫‪. York‬‬
‫‪Leach , Edmund, (1982) Social Anthropology , Font and -‬‬
‫‪. Paperbacks -‬‬

‫‪: Toutes les réactions‬‬


‫‪1010‬‬

You might also like