You are on page 1of 8

‫‪.

‬المحاضرة السابعة‪ :‬مدخل عام إلى الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى‬

‫‪:‬المحاضرة السابعة‬

‫‪.‬مدخل عام إلى الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى‬

‫‪-1‬مدخل تاريخي للفلسفة في العصور الوسطى المسيحية‪:‬‬

‫إذا كان هذا املقياس يهتم أيضا بدراسة الفلسفة املسيحية فإنه ال يستقيم األمر دون احلديث عن مصطلح‬
‫‪Moyen-‬‬ ‫مهم يشكل االطار الذي من خالله نفهم روح الفلسفة املسيحية وتوجهاهتا ونقصد به‪ :‬العصر الوسيط‬
‫وأحيان ا ي أيت بص يغة اجلم ع العص ور الوس طى‪ .‬فبعض الكتاب ات حني تتن اول الفلس فة املس يحية فإهنا توظ ف‬ ‫‪âge‬‬

‫مصطلح الفلسفة يف العصور الوسطى للتعبري عن الفلسفة املسيحية‪ ،‬ومن قد تضاف كلمة "أوروبية" للتخصيص‬
‫أكثر فتصبح الفلسفة يف العصور الوسطى من أجل متييزها عن باقي الفلسفة اليت سادت يف مرحلة العصور الوسطى‬
‫مث ل الفلس فة االس المية والفلس فة اليهودي ة‪ .‬وينبغي أن نفهم أن احلديث عن الفلس فة يف العص ور الوس طى مرتب ط‬
‫بالفلسفة املسيحية أكثر منها بالفلسفة اإلسالمية واليهودية على الرغم من أن هاتان الفلسفتان األخريتان تنتميان‬
‫زمنيا إىل مرحلة العصور الوسطى‪.‬‬

‫زمنيا‪ ،‬هناك اختالف حول حتديد االطار الزمين للعصور الوسطى‪ ،‬فهناك بعض الكتابات تعترب أن العصور‬
‫الوسطى‪ ،‬كما تشري يف معناها‪ ،‬تعين املرحلة الوسطى اليت متتد من هناية احلضارة اليونانية‪-‬الرومانية وبداية العصر‬
‫احلديث ال ذي ب دأ يتش كل م ع حرك ة االص الح ال ديين والنهض ة األوروبي ة‪ ،‬أي مرحل ة وس طى بني س قوط روم ا‬
‫عاصمة االمرباطورية الرومانية عام ‪476‬م‪ ،‬وسقوط القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية سنة ‪1453‬م على أيدي‬
‫العثمانيني‪ ،‬فتارخييا تبدأ إذن مع القرن اخلامس امليالدي إىل غاية القرن اخلامس عشر‪ .‬وهناك بعض الكتابات جتعل‬
‫مرحلة العصور الوسطى أوسع لتشمل بداية املسيحية وبالتحديد مع أباء الكنيسة إىل غاية القرن اخلامس عشر‪،‬‬
‫وهناك من جيعلها أضيق حيث يعترب بدايتها فقط مع عصر النهضة األوروبية األوىل اليت حدثت يف القرن التاسع مع‬
‫اجلهود اليت قام هبا امللك شارملان من أجل بعث روح فكرية جديدة‪.‬‬

‫إذا كان هناك اتفاق حول هناية العصور الوسطى فإن هناك تباين حول بداياهتا‪ .‬فالرأي الذي يعرتها تبدأ مع‬
‫القرن اخلامس فهذا ألنه يربطها حبدث مهم يتمثل يف هو سقوط االمرباطورية الرومانية واختاذ املسيحية دينا للدولة‬
‫ال ذي ك ان م ع هناي ة الق رن الراب ع‪ ،‬ه ذا التح ول أعلن هناي ة الع امل الق دمي (اليون اين‪-‬الروم اين) وبداي ة ع امل جدي د‬
‫(مس يحي)‪ .‬وأم ا ال رأي ال ذي يعت رب ب داياهتا م ع ب القرن التاس ع فه ذا ألن ه يربطه ا حبدث مهم يتمث ل يف النهض ة‬
‫‪.‬المحاضرة السابعة‪ :‬مدخل عام إلى الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى‬

‫الكارولوجنية اليت قام هبا امللك شارملان ‪Charlemagne‬يف القرن التاسع حينما أنشأ مدارس تعليمية أحدثت هنضة‬
‫فكرية كبرية يف العصور الوسطى بعد الركود الفكري الكاسح نتيجة هناية العامل القدمي وغلق املدارس الرومانية‬
‫وتراجع اللغة الالتينية‪ .‬وأما الرأي الذي يعترب بداياهتا مع القرن الثاين فهذا ألنه يربطها مبرحلة آباء الكنيسة اليت‬
‫عرفت بدايات تشكل الفلسفة املسيحية ونضجها مع القديس أوغسطني‪.‬‬

‫واستنادا إىل هذه اآلراء ميكن تقسيم العصور الوسطى إىل مرحلة اآلباء ‪ Age patristique‬اليت متتد من القرن‬
‫الث اين إىل غاي ة الق رن الس ابق الس ابع‪ ،‬واملرحل ة الثاني ة املتمثل ة يف املرحل ة االس كوالئية ال يت تب دأ م ع الق رن التاس ع‬
‫لتنتهي م ع ب دايات الق رن اخلامس عش ر‪ُ .‬ع رفت مرحل ة اآلب اء باالس تثمار الكب ري يف الفلس فة القدمية لل دفاع عن‬
‫املسيحية ضد الوثنية والغنوصية‪ ،‬ومن أشهر ممثليها القديس أوغسطني الذي تأثر كثريا بأفكار األفالطونية احملدثة‪.‬‬
‫أما املرحلة الثانية فهي املرحلة اليت بدأت مع القرن التاسع وتنتهي مع بدايات القرن اخلامس عشر‪ ،‬ويشار إليها‬
‫باملرحلة اإلسكوالئية أو املدرسية نسبة إىل التعليم الذي كان يف املدارس اليت أنشأها شارملان‪.‬‬

‫ويف املرحلة اإلسكوالئية ميكن التمييز بني ثالثة هنضات أو مراحل فكرية األوىل‪ :‬االسكوالئية املبكرة اليت‬
‫تبدأ من القرن احلادي عشر إىل غاية القرن الثاين عشر ويف هذه املرحلة ساد النقاش حول مسألة الكليات‪ ،‬املرحلة‬
‫الثاني ة متت د من الق رن الث اين عش ر إىل غاي ة الق رن الث الث عش ر وهي مرحل ة اكتش اف فلس فة أرس طو وهن ا نش ب‬
‫ص راع بني ال دومينيكان ال ذين يناص رون فلس فة أرس طو والفرانسيس كان ال ذين يناص رون فلس فة أفالط ون‪ ،‬ومن‬
‫الفالس فة ال ذين اش تهروا يف ه ذه املرحل ة ن ذكر توم ا االكوي ين ال ذي ح اول التوفي ق بني األرس طية واملس يحية‪،‬‬
‫واملرحلة األخرية ومتثل االسكوالئية املتأخرة اليت ظهرت يف القرن الرابع عشر ومتيزت بالثورة على النظم الفكرية‬
‫القدمية وامليل إىل املعرفة التجريبية ومن أشهر ممثليها جند وليام أوكام‪.‬‬

‫السمة الرئيسية اليت طبعت العصور الوسطى األوروبية هو طغيان الدين الكنسي على احلياة الفكرية‪ ،‬حيث‬
‫كان الفكر يف هذه املرحلة توجهه الكنيسة بالطريقة اليت ختدم غاياهتا ومصاحلها‪ .‬يف املرحلة السابقة على العصور‬
‫الوسطى‪ ،‬أي يف الفلسفة اليونانية‪-‬الرومانية كان الفكر مستقل عن الدين ومل يكن له سلطة على الفالسفة‪ ،‬ولكن‬
‫طيلة املرحلة املمتدة من سقوط روما إىل غاية هناية العصور الوسطى وبداية عصر النهضة واالصالح الديين كان‬
‫الوضع خمتلفا متاما فالفكر يف هذه املرحلة كان ينشط حتت أنظار الكنيسة والذي منح هذه الشرعية هلا هو تبين‬
‫املس يحية دين ا رمسيا للدول ة فأص بحت الكنيس ة هي املؤسس ة ال يت تس ري أم ور ال دين والفك ر وإىل اإلم رباطور تع ود‬
‫مهمة تسيري شؤون الدنيا‪ ،‬وأما العقل فلم تكن له غاية أخرى سوى خدمة الكنيسة وتربير سيطرهتا‪ ،‬وأمام هذا‬
‫‪.‬المحاضرة السابعة‪ :‬مدخل عام إلى الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى‬

‫الوضع اخلاضع متاما لسلطة الكنيسة مل تظهر أية شروط فلسفة اجتماعية متماسكة بإمكاهنا أن تواجه وتثور على‬
‫هيمنته ا‪ ،‬وك ان لزام ا انتظ ار بداي ة عص ر النهض ة ح ىت يتم احي اء ال رتاث الروم اين وتظه ر أفك ارا جدي دة وتنطل ق‬
‫حركة االصالح لتعيد رسم عالقة اإلنسان بالرب ويتم حترير الفكر من شراك الكنيسة‪.‬‬

‫مل تكن عالقة العقل باإلميان عالقة بسيطة يف العصور الوسطى حبيث ميكن أن يتفقا أو خيتلفا دون أن حيدث‬
‫ذل ك ص داما عنيف ا بينهم ا ألن الكنيس ة يف واق ع األم ر مل تكن تف رض ذاهتا باعتباره ا منظوم ة من احلق ائق ميكن‬
‫مناقشتها أو رفضها أو تأكيدها علميا وعقليا وإمنا تفرض ذاهتا فرضا على حنو ما يفعل الكيان السياسي أو القواعد‬
‫القانوني ة ال يت ينبغي الرض وخ هلا وتطبيقه ا‪ .‬فلم تكن هن اك امكاني ة ملعارض ة أفك ار الكنيس ة أو ح ىت مناقش تها‬
‫واملوقف الوحيد املتاح هو تأييد مصاحلها اعالء الوالء هلا‪.‬‬

‫وك ان التعليم يف العص ور الوس طى يش تغل بالطريق ة ال يت ختدم ال دين وتؤك د حقائق ه‪ .‬وك انت العل وم ال يت‬
‫ت درس تس مى ب الفنون احلرة وتنقس م إىل قس مني ثالثي ة ورباعي ة‪ ،‬أم ا األوىل فهي‪ :‬النح و والص رف واخلطاب ة‬
‫(اجلدل)‪ ،‬أما الرباعية فتشمل احلساب واهلندسة والفلك واملوسيقى‪ .‬وهذه العلوم مل تكن هلا غاية يف ذاهتا وإمنا يتم‬
‫تعليماها بالقدر الذي تشكل فائدة يف علم االهليات فاألوىل جتد مربرها يف ضرورهتا لقراءة الكتاب املقدس وتعاليم‬
‫آباء الكنيسة وشرحها وفهمها‪ ،‬وأما الرباعية فهي ضرورية حلساب مواقيت الطقوس واألعياد الدينية‪ ،‬هلذا مل تكن‬
‫هناك مساعي لتطوير هذه العلوم ونشرها يف العصور الوسطى ألن الغاية منها حمددة سلفا وبالقدر الذي تسهم يف‬
‫خدمة الكنيسة‪.‬‬

‫إذا كان العلوم يف العصور الوسطى موجهة بالطريقة اليت ختدم الدين فإن منهج املعرفة نفسه كان خيضع‬
‫بوليتزر ‪Georges Politzer‬‬ ‫لتوجيه الكنيسة حيث كان كل شيء يفسر عن طريق الدين ويف ذلك يقول جورج‬
‫»تفسر الكنيسة القروسطية اجملتمع والدولة باهلل‪ ،‬كذلك كانت تفسر باهلل علمها‪ .‬فنظرياهتا كافة حتيط هبا "هالة‬
‫التكريس اإلهلي"‪ .‬وتعاليم الدين األساسية‪ ،‬العقائد‪ ،‬موحى هبا من اهلل‪ ،‬وهذا الوحي حجة قاهرة يف تأييد صحتها‬
‫(‪ )...‬ومنهج الوص ول إىل احلق ائق ليس دراس ة الوق ائع(الطبيع ة)وإمنا دراس ة النص وص « وب ذلك ف إن املعرف ة‬
‫القروس طية جتد ص دقها مبدى تش بثها احلريف باحلق ائق ال يت أوحى هبا اهلل حيث ك ان اجله د الفك ري يف العص ور‬
‫الوسطى يتجه إىل شرح النصوص وتأويلها وليس إىل الطبيعة وتفسريها‪ ،‬حىت عملية دراسة هذه النصوص وتأويلها‬
‫كان يقوم هبا أهل الثقات الذين ميزهم اهلل بكرامات متكنهم من بلوغ بعض احلقائق اليت عرضها على البشر ومل‬
‫يكن الـتأويل أبدا متاحا للجميع‪ ،‬ويف تأويلهم كانوا يسريون على خطى من سبقوهم من الشراح الثقات‪ .‬ما يعين‬
‫‪.‬المحاضرة السابعة‪ :‬مدخل عام إلى الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى‬

‫أن املعرفة يف العصور الوسطى كانت يف أحسن أحواهلا إعادة إنتاج ما مت إنتاجه من قبل‪ .‬مل تكن هناك أية حرية‬
‫يف التفكري يف العصور الوسطى ألن املنهج السائد آنذاك كان يلغي أية حماولة يف اإلبداع أو حىت االعرتاض عما ه و‬
‫سائد‪ ،‬أو وضع ما أسسه السابقون من الثقات (رجال الدين) موضع مسائلة‪ ،‬وكانت الكنيسة تفرض رقابتها على‬
‫العق ول وتقم ع ك ل فك ر ح ر‪ .‬هلذا ف إن دور العق ل ه و خدم ة ال دين والتأكي د على احلق ائق ال يت أنزهلا اهلل بطريق ة‬
‫عقلية فكانت بذلك‪» :‬مهمة العقل أن يثبت ذلك على وجه التحديد وأن يكدس األدلة يف صاحل الالهوت « وإذا‬
‫وصل العقل إىل شيء آخر غري هذه احلقائق فمعىن ذلك أنه قد ضل الطريق‪.‬‬

‫يف العص ور الوس طى‪» :‬ك انوا مييل ون للش روحات والش روحات على الش روحات إىل م ا الهناي ة « وب ذلك‬
‫أغرقوا العامل باستدالالت وحتليالت عقلية تدور حول الهوت عقيم ال يؤدي إىل أي مضمون جديد سوى تنقية‬
‫وهتذيب منهج االس تدالالت وال رباهني الص ورية‪ .‬وق د س اورا يف ه ذا الطري ق أمي اال تق در أل ف س نة أو تزي د‪.‬‬
‫وباالستناد إىل هذا الوضع الفكري واأليديولوجي الذي ساد يف العصور الوسطى املسيحية جاءت األطروحة اليت‬
‫تعترب العصور الوسطى هي عصور ظالم ألن العقل مل يكن يشتغل بشكل مستقل بل كان موجها من طرف رجال‬
‫الدين بالطريقة اليت خيدم االميان الكنسي‪.‬‬

‫وباملقابل هناك موقف آخر يقدم قراءة متفهمة للعصور الوسطى املسيحية وال يتبىن موقفا معاديا هلا حيث‬
‫يذهب هذا املوقف إىل ضرورة التمييز يف العصور الوسطى بني املرحلة املبكرة ( من القرن اخلامس إىل غاية القرن‬
‫العاشر) اليت شهدت ركودا فكريا وانتشار اجلهل نتيجة غلق املدارس القدمية وانكماش الثقافة الرومانية وتراجع‬
‫اللغة الالتينية‪ ،‬واملرحلة املتأخرة اليت امتدت( من القرن احلادي عشر إىل القرن الرابع عشر) اليت عرفت انتعاشا‬
‫فكري ا نتيج ة اكتش افه العقالني ة األرس طية من خالل الفالس فة املس لمني‪ ،‬حيث مت تأس يس اجلامع ات( الس وربون‪،‬‬
‫اكسفورد بولونيا‪ )...‬وتـأسست مراكز ترمجة لنقل علوم املسلمني وفلسفتهم فبدأت تتشكل العقالنية املسيحية اليت‬
‫ت دعوا إىل تأوي ل النص وص املقدس ة بطري ق عقلية وظه رت ه ذه العقالنية بش كل واض ح يف فلسفة الق ديس أبيالر‬
‫وبلغت قمته ا يف فلس فة الق ديس توم ا اإلكوي ين‪ .‬إن اكتش اف فلس فة أرس طو أح دث ه زة فكري ة يف معتق دات‬
‫العصور الوسطى املسيحية‪ ،‬حيث أصبح العقل وألول مرة يطالب اإلميان تربير صحة مقوالته وحقائقه‪ ،‬وهو واقع‬
‫مل يكن قبل ذلك ممكنا‪ .‬مساعي التوفيق بني الدين املسيحي والفلسفة اليونانية كانت مع بداية ظهور املسيحية أي‬
‫مع عصر اآلباء وتعد فلسفة القديس أوغسطني أحسن معرب عن مساعي هذا التوفيق‪ ،‬وكانت فلسفة أوغسطني‬
‫األفالطوني ة هي املهيمن ة على فك ر العص ور الوس طى ح ىت اكتش اف فلس فة أرس طو‪ ،‬حيث مت االبتع اد عن فلس فة‬
‫أوغس طني ومع ه فلس فة أفالط ون وح ل مكاهنا فلس فة أرس طو‪ .‬ولكن فلس فة أوغس طني ك انت افالطوني ة بامتي از‬
‫‪.‬المحاضرة السابعة‪ :‬مدخل عام إلى الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى‬

‫وكان من السهل حتقيق التوافق بني الفلسفة املثالية األفالطونية واملسيحية بسبب التقارب بينهما‪ ،‬أما فلسفة أرسطو‬
‫فك انت فلس فة عقلي ة منطقي ة وواقعي ة تتع ارض م ع احلق ائق االمياني ة املس يحية‪ .‬هلذا ينبغي التمي يز بني عقلن ة االميان‬
‫املسيحية اليت أسسها أوغسطني وعقلنة االميان املسيحي اليت أسسها توما االكويين‪ ،‬األوىل كانت يف مقابل فلسفة‬
‫أفالطون املثالية والثانية يف مقابل فلسفة أرسطو الواقعية‪.‬‬

‫وعندما نتحدث عن العقالنية يف العصور الوسطى بفعل تأثري فلسفة أرسطو ينبغي أن نضع هذه الصفة يف‬
‫معناها الداليل اخلاص هبذه املرحلة‪ ،‬فال ميكن املقارنة بني العقالنية يف املرحلة احلديثة والعقالنية يف العصور الوسطى‬
‫وق د أش ار أرنس ت كاس رير إىل ذل ك بقول ه‪» :‬وال زعم بوج ود عقالني ة وس يطة ي دل على ع دم الدق ة والكفاي ة يف‬
‫القول‪ .‬فلم تتسع املذاهب الوسيطة ألي مكان لنوع مذهبنا العقالين احلديث أي للنزعة الفكرية اليت نصادفها عند‬
‫ديك ارت وس بينوزا و ليبني تز‪ ،‬أو عن د فالس فة الق رن الث امن عش ر‪ .‬فلم يتش كك أي فيلس وف مدرس ي يف املكان ة‬
‫الس امية ألي ة حقيق ة م وحى هبا (‪ )...‬ومل يكن مب دأ اس تقالل العق ل معروف ا يف الفك ر الوس يط‪ .‬فالعق ل ال يس تمد‬
‫نوره من نفسه بل يلزمه منبع أعظم يستنري به‪ ،‬كي يقوم بعمله « هلذا ال ميكن املقارنة بني النور الذي ينبعث من‬
‫مشوع الكنائس واألنوار اليت يكون منبعها العقل‪.‬‬

‫‪-2‬مصادر الفلسفة المسيحية‪:‬‬

‫ميكن تقسيم مص ادر الفلسفة املس يحية إىل قسمني مصادر دينية ممثلة يف العهد القدمي والعهد اجلديد‪،‬‬
‫ومصادر فكرية فلسفية يونانية‪ ،‬اسالمية عربية ويهودية‪.‬‬

‫أ‪-‬المصادر الدينية‪:‬‬
‫يعد الكتاب املقدس املصدر الديين الرئيسي للفلسفية املسيحية‪ ،‬حيث يقول ف‪ ":‬لو سألنا مفكرا من القرن‬
‫الوسيط أن يسمي‪ ،‬وفقا لتسلسل األمهية‪ ،‬منابع فلسفته‪ ،‬ألعطى بكل تأكيد املقام األول للكتاب املقدس‪ ،‬لكالم‬
‫اهلل كما وجده مودعا يف أسفار العهدين القدمي واجلديد"‪ .‬ويتألف الكتاب املقدس عند املسيحيني من العهد القدمي‬
‫والعه د اجلدي د‪ ،‬أم ا العه د الق دمي فه و ذل ك الكت اب ال ذي ينظم عالق ة ب ين اس رائيل باهلل‪ ،‬ويش مل يش مل أس فار‬
‫التوراة واألنبياء وأسفار الكتابات‪ ،‬أما العهد اجلديد فهو خاص باملسيحيني ويظم أربعة أسفار وتسمى باألناجيل‪،‬‬
‫أثنني منها حتمل اسم تالميذ اليسوع مها "مىت" و"يوحنا" وأثنني من معاوين القديس بولس مها "مرقس" و"لوقا"‪،‬‬
‫وموضوع كل هذه األناجيل رواية السرية الذاتية لليسوع‪ .‬وكتابة هذه األناجيل على املرجح ابتدأت قبل عام ‪70‬‬
‫ميالدي وانتهت مع هنية القرن امليالدي األول أو بداية الثاين‪.‬‬
‫‪.‬المحاضرة السابعة‪ :‬مدخل عام إلى الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى‬

‫المصادر الفلسفية‪:‬‬ ‫ب‪-‬‬


‫‪ ‬الفلس**فة اليوناني**ة‪ :‬مل تكن كتب الفلس فة اليوناني ة حاض رة بق وة يف العص ور الوس طى‪ ،‬ومل تكن معروف ة‬
‫كم ا نعرفه ا يف عص رنا احلايل أو ح ىت يف العص ر احلديث‪ .‬فلم تع رف كتاب ات أرس طو أو لنق ل أغلبه ا إال يف‬
‫املرحلة األخرية العصور الوسطى‪ ،‬أما أفالطون فكانت تقريبا جمهولة كليا‪ ،‬حيث متت ترمجة حماورة طيماوس‬
‫يف القرن الرابع‪ ،‬أما حماورة ميون وفيدون يف القرن الثاين عشر‪ .‬أما مؤلفات أرسطو فيمكن تقسيم تلقيها يف‬
‫العصور الوسطى إىل ثالث مراحل فإىل غاية القرن الثاين عشر (‪)1160-1150‬مل يكن ُيعرف من مؤلفات‬
‫أرس طو س وى الكتب املنطقي ة املتمثل ة يف املق والت والعب ارة‪ ،‬ومل تص بح كتب أرس طو متداول ة يف العص ور‬
‫الوسطى إىل بعد هنايات القرن الثاين عشر وبدايات القرن الثالث عشر‪ .‬تعدد الرتمجات وعدم اكتماهلا يف بعض‬
‫األحي ان أث ر س لبا على فهم واس تيعاب أفك ار أرس طو‪ ،‬ويتم مجع كتب ه وت دقيقها إال م ع العص ر احلديث‪ .‬أم ا‬
‫الفلسفة اليونانية األخرى فلم تكن معروفة يف العصور الوسطى بشكل مباشر وإمنا بواسطة مؤلفني آخرين‪.‬‬
‫‪ ‬الفلسفية االسالمية‪ :‬تدين الفلسفة املسيحية إىل الفلسفة االسالمية كما تدين إىل الفلسفة اليونانية‪ .‬فإىل‬
‫غاية القرن الثالث عشر كانت برامج التدريس واملذاهب واملواضيع حماكات لألصل االسالمي واليهودي حيث‬
‫كان لفلسفة الفارايب‪ ،‬اليت ترمجت بعض كتبه إىل الالتينية يف القرن الثاين عشر‪ ،‬عظيم األثر على الفلسفة املسحية ‪،‬‬
‫وكتب ابن سينا أيضا هلا تأثري على الفكر املسيحي وكان أول كتاب عرف عندهم هو كتاب الشفاء الذي تناول‬
‫فيه املنطق وامليتافيزيقا والفلسفة الطبيعية والرياضيات كما أن كتب الغزايل الذي كتب مقاصد الفالسفة وهتافت‬
‫الفالسفة كانا معروفان عند الفالسفة املسيحيني وابن رشد الذي يعترب الشارح األكرب ألرسطو‪ ،‬فإذا كان الفارايب‬
‫واالبن سينا عرفا أرسطو فإن ابن رشد شرح أفكاره‪.‬‬
‫‪ ‬الفلسفية اليهودية‪ :‬تأثري الفلسفة اليهودية يف الفكر املسيحي أقل مقارنة بتأثري الفلسفة االسالمية إال أنه‬
‫تأثريها يضل حمسوسا فإذا كان املسلمون هم الذين ترمجوا أرسطو فإن اليهود هم الذين عملوا على نقله إىل العامل‬
‫املس يحي من خالل ترمجاهتم‪ ،‬أم ا خبص وص الشخص يات الفلس فية اليهودي ة ال يت أث رت على الفك ر املس يحي جند‬
‫اسحاق االسرائيلي ( ‪ )950 -850‬الذي يعد أول يهودي مزج بني الفلسفة األفالطونية اجلديدة والفكر التورايت‬
‫اليهودي‪ .‬وقد مت ت داول كتابه التع اريف يف الق رن الث الث عشر املس يحي‪ ،‬وأم ا ص موئيل ابن جربول‪-1021( ‬‬
‫‪ )1058‬ال ذي كتب باللغ ة العربي ة مت ت رجم إىل الالتيني ة يف الق رن الث اين عش ر‪ ،‬ومن أش هر كتب ه "ينب وع احلي اة"‬
‫حيث أث ر كث ريا يف كتاب ات بين افنتورا وألب ري الكب ري وتوم ا االكوي ين‪ ،‬أم ا ابن ميم ون ال ذي كتب دالل ة احلائرين‬

‫يف البداية كان يعتقد أن ابن جربول عريب مسلم ومل يتم التحقق من هويته اليهودية إال مع القرن ‪.19‬‬ ‫‪‬‬
‫‪.‬المحاضرة السابعة‪ :‬مدخل عام إلى الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى‬

‫بالعربية وترجم إىل العربية مث إىل الالتينية قبل ‪ ،1230‬فقد أثر مبقاربته التوفيقية بني األرسطية والرتاث اليهودي يف‬
‫كل من توما االكويين واكهارت‬
‫‪ - 3‬إشكالية الفلسفة المسيحية‪:‬‬
‫هل ميكن احلديث عن "فلسفة مسيحية" دون أن يثري ذلك إشكاال فلسفيا؟ سؤال طرحه اتيان جيلسون يف‬
‫كتاب ه روح الفلس فة املس يحية‪ ،‬كطري ق ملعاجلة طبيع ة العالق ة ال يت ترب ط بني الفلس فة وال دين عموم ا والفلس فة‬
‫واملسيحية بشكل خاص‪ .‬هذه العالقة تطرح بإحلاح بطبيعة الفكر الذي ساد يف مرحلة العصور الوسطى ألن روح‬
‫هذه املرحلة ووعيها كان يتمثل يف الدين وانسان هذه املرحلة حينما فكر وأعمل دواليب عقله كان جل تفكريه‬
‫مرتبط باملسائل الدينية‪ ،‬فانتج لنا ما ميسى بالفلسفة االسكوالئية فهل هذه الفلسفة املرتبطة بالدين تستحق أن نطلق‬
‫عليها لقب "الفلسفة"؟ لإلجابة عن هذه االشكالية أورد اتيان جيلسون ثالثة مواقف متباينة‪.‬‬
‫األول‪ :‬ذل ك ال ذي أورده املؤرخ ون‪ ،‬والث اين يتمث ل يف موق ف الفالس فة‪ ،‬والث الث وه و موق ف ميثل ه‬
‫االس كوالئيني‪ .‬أم ا املوق ف األول ف ريى أن ال يوج د ش يء ميكن أن نس ميه فلس فة يف العص ور الوس طى وم ا ه و‬
‫موجود إمنا هو جمرد الهويت مت مزجه بالفلسفة اليونانية‪ .‬فكل ما يسمونه فلسفة هو جمرد أفكار أفالطونية وأرسطية‬
‫مت تطبيقه ا على ال دين‪ ،‬ويف أحس ن أح واهلم هي حماول ة اجلم ع بني أفالط ون وأرس طو‪ .‬إن ه ذا املوق ف ينفي نفي ا‬
‫مطلقا أن تكون للعصور الوسطى فلسفة خاصة هبا‪ ،‬نابعة من داخلها ومن ابداعها بل كل ما نسميه فلسفة هي‬
‫من لدن الفكر اليوناين‪.‬‬
‫أما املوقف الثاين فيمثله العقليون اخللص وهو موقف نابع من تشريح طبيعة العالقة اليت تربط بني الفلسفة‬
‫باعتباره ا مي داين التفك ري العقلي وال دين مي دان االميان‪ ،‬والعق ل واالميان حس ب ه ذا املوق ف متناقض ان وال ميكن‬
‫اجلمع بينهما ألنه ال ميكن اجلمع والتوفيق بني الفلسفة اليت تقوم على العقل والوحي الذي قوامه الالمعقول ومنه‬
‫فإنه مصطلح الفلسفة املسحية ال يستقيم منطقيا ألهنا متناقضان جذريا‪.‬‬
‫أم ا املوق ف الث الث فه و ال ذي متثل ه االس كوالئية اجلدي دة‪ .‬وينقس م إىل ثالث ة آراء‪ .‬رأي يعتق د أن الفلس فة‬
‫وس يلة تس اعد اإلنس ان لقب ول بعض احلق ائق الديني ة‪ ،‬ويف ه ذه احلال ة ال توج د فلس فة مس تقلة ب ذاهتا وإمنا تابع ة‬
‫لالهوت‪ ،‬ويتجلى هذا الرأي يف األوغسطينية اليت تعترب أن اإلميان هو الذي يقود إىل التعقل(أؤمن ألتعقل)‪ ،‬وال رأي‬
‫الثاين والذي متثله الفلسفة التوماوية يعترب أن الفلسفة جزء من الالهوت وتابع ة له‪ ،‬ولكن يؤمنون أن العقل هو‬
‫الذي يقود إىل اإلميان‪( ،‬أتعقل ألؤمن)‪ ،‬وما مييز الرأي األول والثاين هو أن ليس هناك فلسفة مسيحية فاألول مبا‬
‫أنه مينح األولوية لإلميان على العقل فهو يف النهاية ال يؤمن سوى بالالهوت املسيحي‪ ،‬أما الرأي الثاين فهو يعترب أن‬
‫‪.‬المحاضرة السابعة‪ :‬مدخل عام إلى الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى‬

‫اإلميان ال ميكن الغائ ه ولكن مينح األولوي ة للعق ل على اإلميان‪ ،‬ولكن‪ ،‬يف النهاي ة‪ ،‬وه و مينح األولوي ة للعق ل فإن ه ال‬
‫ش يء مييزه عن موق ف املؤرخني والفالس فة الل ذين يؤمن ون بالعق ل فق ط وب ذلك ينفي ض منيا وج ود "فلس فة‬
‫مسيحية"‪ ،‬ألنه يف النهاية ال يعرتف سوى بالعقل‪ .‬ورأي ثالث يؤمن بوجود "فلسفة مسيحية حق ة" هلا أصالتها‬
‫وإبداعاهتا‪ .‬وهذا الرأي األخري هو الذي يدعمه اتيان جيلسون ويدافع عنه‪ ،‬ويف احلقيقة فإن هذا الرأي هو حماولة‬
‫للتوفي ق ال رأي األول وال رأي الث اين‪ .‬وذل ك من خالل توف ري حتلي ل طبيع ة العالق ة ال يت مجعت الفك ر الفلس في م ع‬
‫املس يحية وم ا هي األش ياء ال يت أخ ذهتا من الفلس فة وم اهي األم ور ال يت أض افتها مبع ىن حماول ة القبض على روح‬
‫الفلسفة املسيحية هذه الروح اليت ال توجد يف أي فلسفة أخرى‪ .‬حيث يعترب أتيان جيلسون ان الفلسفة احلديثة من‬
‫ديكارت إىل غاية كانط وحىت فالسفة القرن التاسع عشر مدينة للفلسفة الوسيطية وهناك ـفكار طرحتها الفلسفة‬
‫احلديثة العقالنية ال يتاح تفسريها إال بالعودة إىل الرتاث الفلسفي الوسطي‪ ،‬مثل براهني وجود اهلل وفكرة خلود‬
‫النفس ال يت جتدها يف لفلس فة ديك ارت فهي يف األص ل موج ودة يف ال رتاث املس يحي‪ ،‬كم ا أن واحدي ة اهلل واخلل ق‬
‫املستمر واخللق من العدم والعناية االهلية اليت طرحتها املسيحية واليت تداولتها الفلسفة احلديثة مل تكن معروفة يف‬
‫الرتاث اليوناين‪ ،‬هلذا ال ميكن فهما يف الفلسفة احلديثة دون العودة إىل الفلسفة الوسيطية‪ .‬هناك العديد من فالسفة‬
‫احلداثة ممن تأثروا بالفلسفة الوسيطية مثل مالربانش وباسكال وليبنيتز وكانط‪ ،‬حىت بعض اعداء العصور الوسطى‬
‫يعرتفون بفضل الفلسفة الوسيطية يف اضاءة بعض األفكار امليتافيزيقية‪ .‬كل كتاب اتيان جيلسون "روح الفلسفة‬
‫املس يحية" يس ري يف ه ذا االجتاه ال ذي يؤك د على أص الة الفلس فة املس حية واالش ادة باس هاماهتا يف ت اريخ الفك ر‬
‫البشري‪ ،‬وهو يرد يدافع عن الفلسفة املسيحية فإنه أيضا ساهم يف رد االعتبار ملرحلة العصور الوسطى ككل اليت‬
‫كثريا ما مت وصفها بعصور الظالم‪.‬‬

You might also like