You are on page 1of 33

‫جدلية العﻼقة بين الفلسفة والعلم والحضارة‬

‫نحو بناء نموذج معرفي أﺳﻼمي‬

‫عالية السعدي‬ ‫محمد ﺳيد ﺣسن‬

‫جامعة السلطان قابوس‪ ،‬قسم الفلسفة‬ ‫جامعة السلطان قابوس‪ ،‬قسم الفلسفة‬

‫ملﺨﺺ‬

‫وطﻮرت من النظريات العﻠمية القﺪيمة‪ ،‬واستطاﻋﺖ تقﺪيم نمﻮذجا ً‬


‫َ‬ ‫ازدهرت الحضارة اﻻسﻼمية وأﺑﺪﻋﺖ ﻋﻠﻮما ً جﺪيﺪة‪،‬‬
‫فريﺪا لبناء اﻻنسان‪ ،‬ومن ثم ﺑناء حضارة إنسانية‪ .‬واﻋتمﺪت هذه الحضارة ﻋﻠى التفاﻋﻼت ﺑين شتى مجاﻻت العﻠﻮم‬
‫الطبيعية‪ ،‬الرياضية‪ ،‬الﺪينية‪ ،‬واﻹنسانية؛ تحﺖ إطار فﻠسفة حاكمة يتعﻠق مﺪخﻠها الرئيسي ﺑالسؤال حﻮل ماهية المسﻠم‪ ،‬وما‬
‫يجب أن يكﻮن ﻋﻠيه؟ تﺪور أهمية هذه الﻮرقة البحثية في إﻋادة اﻹجاﺑة ﻋن السؤال الساﺑق‪ ،‬ﺑمحاولة تفكيك النمﻮذج‬
‫الحضاري اﻹسﻼمي‪ ،‬والكشف ﻋن النمﻮذج المعرفي الذي استنﺪت ﻋﻠيه ﻋمﻠية البناء الحضاري‪ ،‬والكشف ﻋن خصائصه‬
‫ومكﻮناته‪ ،‬من خﻼل ﻋمﻠية تحﻠيﻠية نقﺪية تهﺪف إلى إيضاح العﻼقة الجﺪلية ﺑين الفﻠسفة وﻋﻼقتها ﺑالﻮجﻮد‪ ،‬والعﻠم وﻋﻼقته‬
‫ﺑاﻷﺑستمﻮلﻮجية وإنعكاس هذه العﻼقة الجﺪلية ﻋﻠى نمﻮ وﺑناء الحضارة اﻹسﻼمية‪ .‬ﺑالكشف ﻋن طبيعة وماهية النمﻮذج‬
‫المعرفي الذي استنﺪت ﻋﻠيه الحضارة اﻹسﻼمية‪ ،‬وﺑمحاولة تطبيقه ﻋﻠى واقعنا الحضاري سنجﺪ أن ثمة تناقضات‬
‫ومغالطات ﺑين النمﻮذج المعرفي‪ ،‬والﻮاقع اﻹسﻼمي المعاصر‪.‬‬

‫‪.Dialectic‬‬ ‫‪Relationship between, Philosophy, Science and Civilization‬‬

‫‪Towards setting up an Islamic Epistemological Model‬‬

‫‪Mohamed Sayed Hassan‬‬ ‫‪Aalia Alsaadi‬‬


‫‪Qaboos Univ, Dept of Philosophy.‬‬ ‫‪Qaboos Univ, Dept of Philosophy.‬‬ ‫‪.‬‬
‫‪.‬‬

‫‪0‬‬
‫‪Abstract‬‬

‫‪Islamic civilization flourished created new sciences and developed antecedents' theories providing new‬‬
‫‪fashion for such scientific theories. Islamic civilization brought a unique model for both Man and‬‬
‫‪civilization. Islamic civilization based on the interactions between natural, exact sciences, and humanistic‬‬
‫‪approaches .All these interactions were presented throughout a universal philosophy concerning with‬‬
‫?‪questioning what is the essence of being a Muslim‬‬

‫‪the present paper re-answers the former question, through a critical-analysis process and by analyzing‬‬
‫‪Islamic epistemological model and finding out the epistemological characteristics and its constituents.‬‬
‫‪This critical attempt studies dialectic relationship between philosophy and ontology from one side and the‬‬
‫‪relation between science and epistemology from another side. This paper focuses on characteristics of‬‬
‫‪Islamic epistemological model and applying it to our present days. This process of analysis and‬‬
‫‪application leads us to find out there are fallacies and tensions are embodied in our present Islamic reality.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪ -1‬مﻘدمة‪:‬‬

‫تش ًكﻠﺖ الحضارة اﻹسﻼمية‪ ،‬واستطاﻋﺖ أن تنفتح ﻋﻠى الثقافات اﻷخرى ﺑفضل ﻋمﻠية الترجمة التي ساهمﺖ في نقل فكر‬
‫اﻷخر المخالف ثقافيا وﻋقائﺪيا‪ ،‬وﺑفضل الفتﻮحات ودخﻮل أفراد من ثقافات أخرى‪ ،‬اﻷمر الذي إنعكس إيجاﺑيا‪ ،‬وأسهم في‬
‫تشكيل العقل اﻹسﻼمي وخﻠق حضارة لها خصائص ميزتها ﻋن غيرها من الحضارات اﻷخرى‪ .‬وﺑفضل هذا اﻻنفتاح‬
‫الفكري وتﻮفر الرغبة لﻠمعرفة واﻹرادة الحقيقية لﻠتقﺪم؛ تشكل المﻮقف النقﺪي لﻠعقل اﻹسﻼمي من المﻮرث الثقافي من‬
‫جهة‪ ،‬والنظريات الفﻠسفية والعﻠمية التي نٌقﻠﺖ وت ُرجمﺖ الى العرﺑية من جهة أخرى‪ .‬لقﺪ سعى العقل اﻹسﻼمي إلى خﻠق‬
‫نﻮع من التﻮازن ﺑين قيم اﻹسﻼم المستمﺪة من القران ومن تعاليم الرسﻮل صﻠى ﷲ ﻋﻠيه وسﻠم‪ ،‬وﺑين اﻹنفتاح ﻋﻠى العالم‬
‫الخارجي واﻻهتمام ﺑالطبيعة وﺑالعﻠﻮم التجريبية؛ لمحاولة فهم اﻷولى والكشف ﻋن قﻮانينها ومحاولة السيطرة ﻋﻠيها‪ .‬ففي‬
‫ظل هذا المناخ الثقافي والعﻠمي الجﺪيﺪ تسعى هذه الﺪراسة لﻠكشف ﻋن المنطق اﻷﺑستمﻮلﻮجي لمكﻮنات الحضارة‬
‫اﻹسﻼمية‪ ،‬وﻋن اﻷلية التفاﻋﻠية التي نظمﺖ العﻼقات البنائية ﺑين مكﻮنات هذه الحضارة‪ .‬ولهذا فستكتفى الﺪراسة الحالية‬
‫ﺑﺪراسة التفاﻋل ﺑين العﻠم والفﻠسفة ﺑاﻋتبارهما من المكﻮنات اﻷساسية التي شكﻠﺖ الحضارة اﻹسﻼمية من جهة‪ ،‬وتأثير‬
‫المرجعية سﻮاء الﺪينية أوالفكرية ﺑاﻋتبارها سﻠطة تمارس ﻋﻠى كﻼ من العﻠم والفﻠسفة وإنعكاس هذا التأثير والممارسة‬
‫ﻋﻠى اﻻزدهار والتقﺪم الحضاري من جهة أخرى‪.‬‬

‫وذلك ﺑهﺪف الﻮصﻮل لمنطق الكشف ﻋن النمط اﻷﺑستمﻮلﻮجي الذي ش َكل جﻮهرا لﻠتفاﻋل ﺑين ﻋناصر الحضارة‪ ،‬والذي‬
‫ﺑﺪوره سيقﻮدنا لتأسيس نمﻮذجا ً ﺑنائيا ً لفهم ﺑنية التفاﻋل والﻮقﻮف ﻋﻠى خصائصه‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫ثم تأتي المرحﻠة الثانية من هذه الﺪراسة والتي تﺪور حﻮل التساؤل‪ :‬ما الخﻠل الذي حﺪث في ﺑنية التفاﻋل ﺑين ﻋناصر‬
‫الحضارة اﻹسﻼمية وانعكس سﻠبا ً ﻋﻠى الحضارة اﻹسﻼمية؟ وما هﻮ الميكانزم المﻮلﺪ لهذا التفاﻋل؟‬

‫ثم تأتى المرحﻠة الثالثة في هذه الﺪراسة وهي مرحﻠة اصﻼح الخﻠل في النمﻮذج المعرفي الذي ش َكل معالم الحضارة‬
‫اﻹسﻼمية‪ ،‬وذلك ﺑإﻋادة ترتيب العﻼقة ﺑين مكﻮنات الحضارة‪ ،‬ﺑهﺪف تجاوز المعﻮقات التي‪ -‬تزﻋم هذه الﺪراسة‪ -‬أنها‬
‫أسهمﺖ في تراجع الحضارة اﻹسﻼمية؛ مقارنة ﺑفترة ازدهارها وﻋصرها المجيﺪ‪ ،‬ومحاولة احيائها من جﺪيﺪ في ظل‬
‫التحﺪيات المعاصرة‪.‬‬

‫‪ -2‬الفلسفة والعلم في الحضارة اﻹﺳﻼمية‪:‬‬

‫في هذا المحﻮر سنتناول الفﻠسفة والعﻠم ﺑاﻋتبارهما من المكﻮنات اﻷساسية التي شكﻠﺖ الحضارة اﻹسﻼمية‪ ،‬واﻹسهامات‬
‫التي قﺪمها ك ٌل من العﻠماء والفﻼسفة والمفكرين‪ ،‬ولعبﺖ دورا في ازدهار الحركة الفكرية في تﻠك الفترة الزمانية‪ .‬فالفﻠسفة‬
‫دور في ﻋمﻠية التنﻮير الحضاري ﺑما تطرحه من مﻮضﻮﻋات جادة ونقﺪية‪ ،‬ومحاولة تقﺪيم أدلة وﺑراهين ﻋقﻠية ﻹثبات‬
‫لها ٌ‬
‫الحقيقة‪ ،‬والعﻠم الذي يعﺪ وجه أخر في العمﻠية التنﻮيرية‪ ،‬ﺑما يطرحه من تجارب‪ ،‬ﺑهﺪف الكشف ﻋن الظﻮاهر الطبيعية‬
‫ومحاولة التغﻠب ﻋﻠيها‪ ،‬واكتشاف القﻮانين المفسرة لها من خﻼل اتباع طرق تجريبية‪ ،‬واﻋتمادا ﻋﻠى المﻼحظة والتجرﺑة‪.‬‬
‫فإذا كان العﻠم لغته وصفية‪ ،‬فإن الفﻠسفة لغتها تفسيرية‪ ،‬وﺑالتالي من الطبيعي أن يكمل كﻼ من العﻠم والفﻠسفة ﺑعضهما‬
‫البعض ﺑاﻋتبارهما أدوات لﻠكشف ﻋن الحقيقية الكﻠية التي تتجاوز نطاق العﻠم والفﻠسفة‪ ،‬فﻠيس العﻠم وحﺪه واستغراقه في‬
‫الجزئيات‪ ،‬وليسﺖ الفﻠسفة وحﺪها وسعيها لﻠكشف ﻋن المبادئ اﻷولى والعﻠل البعيﺪة‪ ،‬فكﻼهما منفردين ومستقﻠين ﻋن‬
‫ﺑعضهما ﺑعضا‪ ،‬ويعجزان ﻋن إدراك الحقيقة الكﻠية‪ .‬والسؤال الذي يجب أن يطرح نفسه اﻷن ما طبيعة العﻼقة التي جمعﺖ‬
‫ﺑين الفﻠسفة والعﻠم في ظل الحضارة اﻹسﻼمية؟ وهل ظﻠﺖ ثاﺑتة ﻋﻠى مسار تطﻮر الحضارة اﻹسﻼمية؟ أم أن هذه العﻼقة‬
‫خارجي أث ًر في العﻼقة‬
‫ٌ‬ ‫تﻮتر‬
‫ٌ‬ ‫كانﺖ متﻮترة وقﻠقة؟ وهل هذا التﻮتر ناﺑع من داخل العﻼقة ﺑين العﻠم والفﻠسفة ذاتها‪ ،‬أم أنه‬
‫ﺑين الفﻠسفة والعﻠم؟‬

‫إن محاولة اﻹجاﺑة ﻋﻠى هذه اﻷسئﻠة يجعﻠنا نعتمﺪ ﻋﻠى المنهج التحﻠيﻠي النقﺪي لﻠكشف ﻋن ماهية هذه العﻼقة‪ ،‬ومحاولة‬
‫التﻮصل إلى إجاﺑات منطقية ومتسقة مع التطﻮر التاريخي لﻠحضارة اﻹسﻼمية‪ .‬وﺑنا ًء ﻋﻠى هذا الفهم‪ ،‬فإننا نجﺪ أنفسنا‬
‫مضطرين لﻼﻋتماد ﻋﻠى المنهج التاريخي لتقسيم الحضارة اﻹسﻼمية – ﺑهﺪف ﻋمﻠية التحﻠيل‪ -‬الى مرحﻠتين تاريخيتين‪:‬‬

‫‪ -1‬الحضارة اﻹسﻼمية من القرن الساﺑع إلى القرن العاشر‪ :‬مرحﻠة اﻻنفتاح الفكري‪.‬‬
‫‪ -2‬الحضارة اﻹسﻼمية من القرن الحادي ﻋشر إلى القرن السادس ﻋشر‪ :‬مرحﻠة اﻻنغﻼق الفكري‪.‬‬

‫وقﺪ اﻋتمﺪت الﺪراسة الحالية في هذا التقسيم ‪-‬إلى مرحﻠتين‪ -‬ﻋﻠى معيار استﺪﻻلي يستنﺪ ﻋﻠى قياس استقﻼلية العقل‪ ،‬ومﺪى‬
‫فاﻋﻠيته أو تبعية العقل لمتغيرات أو كيانات أخرى يﺪور العقل في فﻠكها‪ .‬ومن خﻼل القراءة التاريخية التحﻠيﻠية اﻋتمﺪت‬
‫الﺪراسة ﻋﻠى هذا التقسيم الذي يهﺪف إلى إﺑراز مﺪى استقﻼلية العقل اﻹسﻼمي وفاﻋﻠيته وانعكاس هذه الفاﻋﻠية ﻋﻠى ماهية‬
‫العﻼقة ﺑين العﻠم والفﻠسفة‪ ،‬وارتباط ذلك ﺑازدهار الحضارة ودفعها لﻸمام أو العكس‪ .‬ونتناول اﻷن مرحﻠة اﻻنفتاح الفكري‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫ونرى الميكانزم التفاﻋﻠي ﺑين الفﻠسفة والعﻠم ‪ -‬ﺑاﻋتبارهما طريقان متمايزان لﻠبحث ﻋن الحقيقة‪ -‬في داخل السياق‬
‫الحضاري اﻹسﻼمي وﺑعبارة أخرى نطرح السؤال‪ :‬ما الخصائص العقﻠية والثﻮاﺑﺖ والنفسية التي اتصف ﺑها العقل‬
‫اﻹسﻼمي في هذه الفترة التاريخية؟‬

‫‪ 1-1-2‬جدلية العﻼقة بين الفلسفة والعلم‪) :‬مرﺣلة اﻻنفتاح الفكري(‬

‫مع انتشار حركة الترجمة وازدهارها ونقل التراث الفكري اﻹغريقي إلى العرﺑية‪ ،‬أسهم ذلك في تفاﻋل العقل اﻹسﻼمي‬
‫مع المعطيات المعرفية القادمة من الحضارات اليﻮنانية والفارسية وﺑﻼد ما وراء النهرين؛ فأنعكف ﻋﻠيها ﺑالقراءة والﺪراسة‬
‫والتحﻠيل؛ ﻻستيعاﺑها وهضمها في مرحﻠة اتبًعها ﻋمﻠية التفاﻋل اﻹيجاﺑي المنتج لعﻠﻮم جﺪيﺪة في مرحﻠة ﻻحقها‪ .‬وﻻ شك‬
‫أن ما أﻋطى الحضارة اﻹسﻼمية طاﺑعها المميز ﺑاﻋتبارها حضارة مميزة ‪،‬هﻮ ذلك الجمع المتناغم ﺑين اﻻتجاه العﻠمي‬
‫التجريبي القائم ﻋﻠى المﻼحظة والمشاهﺪات والتجرﺑة من جهة‪ ،‬ومن الجهة اﻷخرى اﻻهتمام ﺑاﻻستﺪﻻل العقﻠي والبرهاني‪،‬‬
‫كما إنعكس في دراسة ﻋﻠم الكﻼم وأصﻮل الفقه والرياضيات‪ .‬وما يميز الحضارة اﻹسﻼمية ايضا في هذه المرحﻠة هي‬
‫فكرة التعﺪدية الثقافية ‪ ،Multi-Culturalism‬واﻻنفتاح ﻋﻠى اﻷخر ﺑكل تنﻮﻋاته الثقافية من فكر وأدب وفن وﻋﻠم‪ .‬وفي‬
‫ظل هذا المناخ الثقافي نبعﺖ الحضارة وتقﺪمﺖ‪ ،‬ولكن حتى نفهم طبيعة العﻼقة ﺑين العﻠم والفﻠسفة‪ -‬في ظل هذه المرحﻠة‪-‬‬
‫كان ﻻﺑﺪ من تحﻠيل هذه العﻼقة ؛ في ضﻮء ثاﺑﺖ ش َكل المحﻮر الرئيسي لﻠحضارة اﻹسﻼمية‪ ،‬وأقصﺪ ﺑه الﺪين‪ .‬فهناك‬
‫فرضية –سنسعى لﻠتحقق منها واختبارها ﺑطريقة تحﻠيﻠية‪ -‬أن الﺪين يعﺪ المفتاح الرئيسي الذي أدار محرك التفاﻋل ﺑين‬
‫العﻠم والفﻠسفة ﺑما يحمﻠه من قيم ولكن ﻋﻠينا ان نميز ‪-‬في هذا السياق‪ -‬ﺑين الﺪين كﻮحى إلهي ونصﻮص مقﺪسة وﺑين‬
‫ﻋﻠماء الﺪين ‪ ،Theologians‬الذين هم رجال ينتمﻮن لنفس الحضارة‪ ،‬وﺑما يحمﻠﻮنه من اتجاهات إيجاﺑية أو سﻠبية تنعكس‬
‫ﺑالضرورة ﻋﻠى تأويﻼتهم لﻠنصﻮص الﺪينية‪ ،‬وﻋﻠيه فإن التمييز ﺑين الﺪين ورجال الﺪين من الضرورة حتى ﻻ نقع تحﺖ‬
‫تأثير المغالطات المنطقية‪.‬‬

‫ففي كل السياقات وﻋبر المراحل التاريخية المختﻠفة تظل النصﻮص القرآنية ثاﺑتة ومقﺪسة ﺑاﻋتبارها وحيا إلهيا‪ ،‬وﺑما‬
‫تحمﻠه من قيم إيجاﺑية تﺪﻋﻮ لﻠبحث والتفكير والتأمل والتﺪﺑر‪ .‬ولعل القران الكريم يحمل العﺪيﺪ من النصﻮص التي تؤكﺪ قيم‬
‫ئ ﱠ ُ ا ْل َخ ْﻠقَ ُثمﱠ يُ ِعيﺪُه ُ ۚ‬ ‫البحث والتفكير واﻻستﺪﻻل العقﻠي‪ .‬كما في قﻮله تعالى في سﻮرة العنكبﻮت‪َ " :‬أ َو َل ْم ي َ َر ْوا َكي َ‬
‫ْف يُ ْب ِﺪ ُ‬
‫ئ ال ﱠن ْش َأة َ ْاﻵ ِخ َرةَ ۚ إ ِ ﱠن ﱠ َ ﻋَ َﻠ ٰى ُك ّ ِل‬
‫ْف ﺑَﺪ َ َأ ا ْل َخ ْﻠقَ ۚ ُثمﱠ ﱠ ُ يُن ِش ُ‬
‫ض َفان ُظ ُروا َكي َ‬ ‫يروا فِي ْ َ‬
‫اﻷ ْر ِ‬ ‫إ ِ ﱠن ٰ َذلِكَ ﻋَ َﻠى ﱠ ِ يَس ٌ‬
‫ِير )‪ُ (19‬ق ْل ِس ُ‬
‫ي ٍء َقﺪ ٌ‬
‫ِير )‪ (20‬صﺪق ﷲ العظيم‬ ‫َش ْ‬

‫فهذه اﻵيات تﻮضح تأكيﺪ اﻹسﻼم ﻋﻠى التفكير واﻻستﺪﻻل‪ ،‬واﻻنتقال من مقﺪمات الى نتائج‪ ،‬فاذا ما كانﺖ المقﺪمات‬
‫صحيحة كانﺖ النتيجة ﻻزمة ﻋنها وصحيحة‪ ،‬وإذا كانﺖ المشاهﺪات تؤكﺪ صحة المقﺪمات وجب اﻻنتقال من المشاهﺪات‬
‫الجزئية وصﻮﻻً إلى أن من الضرورة أن يكﻮن ﷲ هﻮ من َخﻠقَ هذا العالم‪ ،‬وأتقن صنعه‪ ،‬فهﻮ دليل لﻺيمان‪ ،‬وإثبات وجﻮد‬
‫ﷲ ودليل تﻮحيﺪ‪ .‬وهنا ﻻﺑﺪ من طرح سؤالين ما اﻷداة أو اﻷدوات الفكرية المستخﺪمة في إثبات الﻮحﺪانية ‪،‬والتي تساﻋﺪ‬
‫ﻋﻠى تفعيل قيم التفكير واﻻستﺪﻻل واﻻستنباط ﺑطريقة صحيحة؟ السؤال اﻷخر‪ :‬كيف تعامل كل من رجال الﺪين من جهة‬

‫‪3‬‬
‫والعﻠماء والفﻼسفة من جهة أخرى مع اﻷدوات الفكرية التي تعﺪ مؤشرات لﻠتفكير الصحيح؟ ونأخذ هنا مثاﻻ يعكس هذه‬
‫التساؤﻻت الساﺑقة‪ ،‬ونقصﺪ ﺑه هنا ﻋﻠم الكﻼم‪.‬‬

‫مع تعرف المسﻠمين ﻋﻠى نظريات الفكر اليﻮناني والمنطق اﻷرسطي‪ ،‬ومع التعرف ﻋﻠى نظرياتهم الميتافيزيقية؛ كان ﻻﺑﺪ‬
‫من البحث ﻋن تأليف ﻋﻠم جﺪيﺪ يسعى إلى تنزيه ﷲ‪ ،‬والبحث في صفاته وأفعاله‪ ،‬ﺑاﻋتماد التفكير ﺑاﻋتباره أداة صالحة؛‬
‫ولذلك كان الﻠجﻮء لﻠمنطق اﻷرسطي وﻋﻠى اﻻستﺪﻻﻻت المنطقية‪ ،‬واﻻﻋتماد ﻋﻠى شروط القياس الصحيح‪ .‬ومن هنا‬
‫تأسس ﻋﻠم الكﻼم الذي اختص ﺑالنظر في أمﻮر الشريعة‪ ،‬سعيا ألى أن يؤيﺪ مسائﻠها ﺑاﻷدلة العقﻠية‪ ،‬ومن هنا يتحقق اﻹيمان‬
‫ليس ﻋﻠى النقل فقط؛ ولكن مﺪﻋما ﺑأدلة ﻋقﻠية لمﻮاجهة أصحاب اﻷفكار والﺪيانات اﻷخرى‪) .‬السيﺪ‪ ،‬محمﺪ‪ .(178 :‬فالعقل‬
‫ﻋنﺪ المسﻠمين كان وسيﻠة فاﻋﻠة لﻼستشهاد ﺑه ﻋﻠى صحة ما جاء ﺑه الرسﻮل‪ .‬وإيمانا من ﻋﻠماء التﻮحيﺪ ﺑأهمية العقل‪ ،‬فقﺪ‬
‫رأوا أن اﻻستﺪﻻل والتفكير المنطقي اﻻستﺪﻻلي ﻻ يتناقض مع النصﻮص القرآنية‪ ،‬ومن هنا أشاد ﺑه الغزالي في أن ﻋﻠم‬
‫الكﻼم وسيﻠة لردء ودفع الشبه واﻷﺑاطيل‪) .‬الغزالي ‪(52: 1998 .‬‬

‫ولهذا اﻋتمﺪ المتكﻠمﻮن ﻋﻠى المنطق اﻷرسطي ليؤسسﻮا منهجهم في التنظير والتفكير‪ ،‬ومن ثم الﺪفاع ﻋن الﺪين ضﺪ‬
‫المخالفين لهم في العقيﺪة كأصحاب الﺪيانات اﻷخرى‪ ،‬أو في الفكر كأصحاب الفرق الكﻼمية اﻷخرى‪ .‬ومن هنا يتضح‬
‫أهمية الفﻠسفة لرجال الﺪين في ﺑﺪايات الحضارة اﻹسﻼمية‪ ،‬ولكن السؤال هل أهمية الفﻠسفة كانﺖ أهمية مطﻠقة أم نسبية؟‬
‫ﺑعبارة أخرى هل أقبل رجال الﺪين اﻹسﻼمي ﻋﻠى الفﻠسفة والمنطق اﻻرسطي حبا فيهما كنظام معرفي يجنب الﻮقﻮع في‬
‫اﻷخطاء‪ ،‬ويضع معايير التفكير السﻠيم أم أقبﻠﻮا ﻋﻠيهما ﺑاﻋتبارهما أدوات غرضية لﻠﺪفاع ﻋن الشريعة وﻋﻠى المقﺪس‬
‫الﺪيني وليس لذاتهما؟ ومن هنا تحﺪث المفارقة داخل العقل اﻹسﻼمي إذ يمكننا الزﻋم أن العقل اﻹسﻼمي قُ ً‬
‫سم منهجيا الى‬
‫ثﻼث فئات‪ ،‬وكان لهذه المفارقة أثرها السﻠبي ﻋﻠى الحضارة اﻹسﻼمية ذاتها ‪ ،‬واستمرت حتى ﻋصرنا الحالي‪.‬‬

‫‪ -1‬ﻋقل متزن متحفظ‪ ،‬يؤمن ﺑالمﻮروث الثقافي‪ ،‬وﺑالتغيير المحﺪود ﺑما والمﻮروث الثقافي والﺪيني‪ .‬وهذا ونطﻠق‬
‫ﻋﻠيه العقل السﻠطﻮي ‪ ، Authoritative Reason‬وهﻮ ﻋقل أصحاب الفكر السﻠطﻮي‪.‬‬
‫‪ -2‬ﻋقل مستنير منفتح‪ ،‬وهﻮ ﻋقل متجﺪد ‪ ،‬يؤمن ﺑما هﻮ غير تقﻠيﺪي في الفكر والعمل‪ .‬وهذا نطﻠق ﻋﻠيه العقل الثﻮري‬
‫‪ ، Revolutionary Reason‬وهﻮ ﻋقل أصحاب الفكرغير التقﻠيﺪي كالفﻼسفة والعﻠماء‪.‬‬
‫‪ -3‬ﻋقل العامة‪ ،‬وهﻮ دائما ﻋقل متأثر ﺑالعاطفة أكثر من تأثره ﺑالحجج والبراهين العقﻠية ‪،‬وهﻮ ما نطﻠق ﻋﻠيه العقل‬
‫التاﺑع ‪، Dependent Reason‬وهﻮ يمثل النصيب اﻷكبر من العقﻮل في حضارتنا اﻹسﻼمية‪.‬‬

‫العقل السلطوي‬
‫علم الكﻼم‬

‫العقل الثوري‬
‫العقل التابع‬

‫‪4‬‬
‫شكل )‪ (1‬يوضح تصنيف العﻘل المعرفي اﻻﺳﻼمي‬

‫هذا التقسيم لﻠعقل اﻹسﻼمي يتجﻠى ﺑأوضح صﻮره في المﻮقف من الفﻠسفة‪ ،‬وانعكاس هذا المﻮقف ﻋﻠى استقبال الفكر‬
‫الفﻠسفي في أحضان الحضارة اﻹسﻼمية ﻋﻠى المستﻮي الثقافي ﺑاﻋتبارها من مكﻮنات الفكر والحضارة‪ ،‬ومن جهة أخرى‬
‫استقبال الفكر الفﻠسفي ﺑين الجمهﻮر والعامة‪ .‬فالعقل السﻠطﻮي تقبل ﻋﻠم الكﻼم ﺑاﻋتباره أداة لﻠﺪفاع ﻋن المقﺪس الﺪيني‪،‬‬
‫ﺑينما رفض الفكر الفﻠسفي ليس في ذاته‪ ،‬ولكن رفضه ﻷن المنهج الفﻠسفي يخالف ويعارض الفكر الذي يستنﺪ ﻋﻠيه العقل‬
‫السﻠطﻮي‪ .‬ﺑعبارة أخرى‪ ،‬إذا كان منهج المتكﻠمين قائم ﻋﻠى الﺪفاع ﻋن العقيﺪة ﺑاستخﺪام ادلة ﻋقﻠية‪ ،‬ودحض حجج‬
‫خصﻮمهم؛ فإن المنهج الفﻠسفي يبحث في القضايا ﺑصﻮرة مجردة لﻠﻮصﻮل لﻠحقيقية‪ ،‬وهﻮ ﺑحث ﻻ يتسنﺪ ﻋﻠى العقيﺪة‬
‫اﻹسﻼمية تحﺪيﺪا؛ ولكن النظر في القضية ﺑﻮجه مطﻠق‪ .‬فالمنهج الفﻠسفي أكثر ﻋمﻮمية وشمﻮلية من منهج المتكﻠمين‪،‬‬
‫والفﻠسفة هﺪفها هﻮ الﻮصﻮل إلى حقيقة الﻮجﻮد‪ ،‬ﻋﻠى الرغم من أن فﻼسفة المسﻠمين هﺪفهم هﻮ الحقيقة‪ ،‬وتأسيس اﻻيمان‬
‫ﻋﻠى أسس ﻋقﻠية ومنطقية‪ ،‬وهﻮ نفس أصحاب الفكر السﻠطﻮي؛ ولكن اختﻼف المنهج هﻮ الذي ش ًكل هذا اﻻتجاه المعارض‬
‫ﺑﺪاية من الفﻠسفة‪ .‬ﺑينما العقل التاﺑع فهﻮ ﻋقل العامة‪ ،‬وهﻮ كما أشرنا اليه ساﺑقا أنه ﻋقل ﻋاطفي يتأثر ﺑما يقال له‪ -‬خاصة‬
‫من أصحاب السﻠطة‪ ،‬ومن هنا ت ً‬
‫شكﻠﺖ ﺑﺪايات المﻮقف الشعبي من الفﻠسفة وهﻮ مﻮقف‪ ،‬ﻋﻠى الرغم من أنه مﻮقف رافض‬
‫ومتحفظ‪ ،‬إﻻ أنه اتصف ﺑالتسامح‪ ،‬وتﻮفير مساحة في داخل الحضارة اﻹسﻼمية ذاتها‪.‬‬

‫والسؤال اﻷن‪ :‬كيف ت ُفهم طبيعة التفاﻋﻼت ﺑين هذه اﻷنﻮاع الثﻼثة من العقﻮل في ﺑنية الحضارة اﻹسﻼمية في مرحﻠة‬
‫اﻻنفتاح؟ ﺑعبارة أخرى‪ ،‬ما الطبيعة التفاﻋﻠية لهذه العقﻮل؟ وما طبيعة المنتج الحضاري الناتج ﻋن هذه التفاﻋﻼت؟‬

‫يمكننا القﻮل هنا ﺑجﺪلية العﻼقة ﺑين العقل اﻹسﻼمي من جهة والعﻠم والفﻠسفة من جهة أخرى‪ ،‬وانعكاس هذا التفاﻋل ﻋﻠى‬
‫طبيعة الحضارة اﻹسﻼمية‪ ،‬ويمكن تقسيمها إلى مرحﻠتين‪ .‬وتتمثل في ظهﻮر ﻋﻠم الكﻼم‪ ،‬كما أشرنا ساﺑقا‪ ،‬ويمكن فهم‬
‫طبيعة التفاﻋل من خﻼل الشكل التالي‪ ،‬مع محاولة تﻮضييح طبيعة هذا التفاﻋل من خﻼل الشكل التالي‪:‬‬

‫‪C+‬‬

‫‪+R+‬‬

‫‪T+‬‬ ‫‪S+‬‬

‫شكل )‪ (2‬يوضح جدلية العﻼقة بين الدين )‪ (R‬والعلم)‪ (S‬وعلم الكﻼم)‪ ، (T‬وانعكاس ذلك على الحضارة)‪(C‬‬

‫لم تبﻠغ الحضارة اﻹسﻼمية إلى الذروة في ﺑﺪاية مرحﻠة اﻻزدهار؛ ﻷنها اﻋتمﺪت في ﺑﺪايتها ﻋﻠى فهم واستيعاب كل ما تم‬
‫نقﻠه‪ -‬ﻋبر الترجمة – سﻮاء من رياضيات وفﻠك وفيزياء وفﻠسفة وطب‪ ،‬فﻠزم اﻷمر فترة يتم فيها استيعاب هذه اﻷفكار‬
‫كمرحﻠة تمهيﺪية‪ ،‬يتبعها اﻹنتاج الفكري والعﻠمي الذي ميز المرحﻠة التالية لمرحﻠة اﻻزدهار‪ ،‬والتي تتمثل في الفترة من‬
‫‪5‬‬
‫القرن التاسع وحتى القرن الحادي العاشر‪ .‬وهنا نرى أن جﺪلية العﻼقة ﺑين الﺪين )‪ (R‬والعﻠم )‪ (S‬وﻋﻠم الكﻼم)‪ (T‬يمكن‬
‫ض ۗ أَ ِإ ٰلَهٌ‬
‫اء َو ْاﻷ َ ْر ِ‬ ‫فهمها ﺑﻮضﻮح من خﻼل اﻵية القرآنية في سﻮرة النمل "أ َ ﱠمن َي ْبﺪَأ ُ ْالخ َْﻠقَ ث ُ ﱠم يُ ِعيﺪُهُ َو َمن َي ْر ُزقُ ُكم ِ ّمنَ ال ﱠ‬
‫س َم ِ‬
‫ﱠم َع ﱠ ِ ۚ قُ ْل هَاتُﻮا ﺑ ُْرهَانَ ُك ْم ِإن ُكنت ُ ْم َ‬
‫صا ِدقِينَ )‪(64‬‬

‫فتقﺪيم البرهان هﻮ خير دليل ﻋﻠى صﻮاب وصحة اﻵيات‪ ،‬كما أنه إثبات لﻮجﻮد ﷲ وقﺪرته‪ .‬فهﺪف الﺪين من العﻠم تقﺪيم‬
‫ﺑرهان مادي تجريبيي‪ ،‬وهﺪف الﺪين من ﻋﻠم الكﻼم المساﻋﺪة في تقﺪيم ﺑراهين ﻋقﻠية متسقة وغير متناقضة تﺪﻋم وجﻮد‬
‫ﷲ وأفعاله وصفاته‪ ،‬ولهذا كانﺖ نظرة السﻠطة الﺪينية لعﻠم الكﻼم إيجاﺑية؛ ﻷن هﺪف رجال الﺪين وﻋﻠماء الكﻼم الﺪفاع ﻋن‬
‫المسائل الﺪينية ودﻋمها ضﺪ المخالفين دينيا‪ .‬كما أن نظرة رجال الﺪين لﻠعﻠم كانﺖ إيجاﺑية‪ ،‬فالعﻠم يتيح لﻠعﻠماء الكشف ﻋن‬
‫أسرار الﻮجﻮد‪ ،‬والتعرف ﻋﻠى النظام اﻹلهي في الخﻠق‪ ،‬وهذه أدلة تجريبية مادية تؤيﺪ وحﺪانية ﷲ‪ .‬فهذا التفاﻋل اﻹيجاﺑي‬
‫نصب في النهاية ﻋﻠى الحضارة‪ ،‬فكانﺖ حضارة إيجاﺑية متناغمة ﺑين‬
‫ً‬ ‫ﺑين رجال السﻠطة الﺪينية والعﻠماء والمتكﻠمين إ‬
‫مكﻮناتها‪ .‬والسؤال اﻷن‪ :‬هل ستظل هذه العﻼقة الجﺪلية التي أفرزت هذه التفاﻋﻠية اﻹيجاﺑية ﺑين ﻋناصر الحضارة‬
‫اﻹسﻼمية حتى نهاية مرحﻠة اﻻنفتاح العقﻠي؟ أم سيشهﺪ تغيير في طبيعة التفاﻋل ذاته؟ وهنا نتناول ﺑالتفاصيل طبيعة‬
‫الحضارة اﻹسﻼمية وفاﻋﻠيتها في الشق الثاني من مرحﻠة اﻻنفتاح‪.‬‬

‫نعرف مفهﻮم الحضارة اﻹسﻼمية يمكننا القﻮل أنها حاصل مجمﻮع كل ما قﺪمته الﺪول اﻹسﻼمية لﻠﺪين‬
‫إذا ما أردنا أن ً‬
‫اﻹسﻼمي ولﻠبشر؛ لرفع شأن اﻹنسان وقيمته‪ ،‬وتعزيز مكانته ﺑين اﻷمم‪ ،‬كما أنها تتضمن نشر المنتج الثقافي ماديا وفكريا‬
‫إلى الشعﻮب اﻷخرى‪ .‬فهي ﺑذلك حضارة فريﺪة وتختﻠف ﻋن سائر الحضارات اﻷخرى؛ ﻷنها تشكﻠﺖ من داخل العقيﺪة‬
‫اﻹسﻼمية‪ ،‬ولتحقيق غاية إسﻼمية والمتمثﻠة ﺑالﺪﻋﻮة الى ﷲ‪ .‬ولهذا انفتح العقل اﻹسﻼمي ﻋﻠى الشعﻮب والحضارات‬
‫اﻷخرى‪ ،‬وتقبﻠه لﻸخر المختﻠف له ثقافيا ولغﻮيا‪ ،‬وهذا اﻻنفتاح ساﻋﺪ العقل اﻹسﻼمي ﻋﻠى تقبل التعﺪدية‪ ،‬اﻷمر الذي‬
‫جعﻠه يطبًق قيم اﻹسﻼم الخاصة ﺑالتسامح والعﺪل واﻻحترام والﻮحﺪة ﺑين البشر‪ ،‬ومن هنا أخذت الحضارة اﻹسﻼمية ﺑُ ْعﺪا‬
‫إنسانيا وأخﻼقيا جﺪيﺪا‪ ،‬أكسبها طاﺑعا متميزا ﻋن سائر الحضارات اﻷخرى التي اتصفﺖ ﺑاﻻنغﻼق ﻋﻠى نفسها‪ .‬فهذا‬
‫التعريف الذي وضعناه لﻠحضارة اﻹسﻼمية يقﻮدنا الى محاولة استنباط خصائص تﻠك الحضارة‪ .‬والسؤال اﻷن‪:‬‬
‫ماخصائص الحضارة اﻹسﻼمية التي أﻋطتها مكانة ﺑين اﻷمم؟ ويمكننا القﻮا إنها تميزت ﺑالخصائص اﻷتية‪:‬‬

‫‪ -1‬إنها حضارة قامﺖ ﻋﻠى الﺪﻋﻮة اﻹسﻼمية‪ ،‬ونشر تﻠك الﺪﻋﻮة إلى اﻷمصار المختﻠفة‪ ،‬ومن ثم فهي حضارة‬
‫توﺣيدية‪ ، Theological‬نبعﺖ من داخل الﺪين‪ ،‬وقامﺖ من اجل نشره ﺑاﻋتباره دينا ﻋالميا‪.‬‬
‫‪ -2‬انها حضارة إنسانية ‪ Humanistic‬إذ إنها قامﺖ ﻋﻠى الﺪﻋﻮة‪ ،‬وأن اﻹسﻼم دين ﻋالمي هﺪفه اﻹنسان‪،‬‬
‫فاصطبغﺖ الحضارة ﺑالبعﺪ اﻹنساني‪ ،‬فالجميع سﻮاء ﻻ فرق ﺑين جنس وﻋرق ولﻮن وجنس‪.‬‬
‫‪ -3‬حضارة منفتحة تﻘبل التعددية ‪ ، Opened& Pluralism‬ومن ثم ارتبطﺖ ﺑالحضارة اﻹسﻼمية فكرة السﻼم‬
‫والتعايش والتجاور واﻷمن‪ ،‬اﻷمر الذي جعل الكثير من العﻠماء والتجار ورجال الﺪين ينتقﻠﻮن ﺑين ﻋﻮاصم اﻹسﻼم‬
‫ﺑحرية ودون خﻮف‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫‪ -4‬حضارة متوازنة ‪ Equilibrium‬إذ إنها لم تقتصر فقط ﻋﻠى الجانب الروحي وﺑعﻠﻮم الﺪين؛ ﺑل اهتمﺖ أيضا‬
‫ﺑالمادة ومعرفة قﻮانين التي تتحكم فيها‪ ،‬ومن هنا ظهر اﻻهتمام ﺑالمﻼحظة وﺑالتجريب‪ ،‬اﻷمر الذي انعكس ﻋﻠى‬
‫ظهﻮر حضارة تميزت ﺑالثراء الروحي والمادي‪.‬‬

‫توحيدية‪-‬‬
‫ايمانية‬

‫متوازنة‬
‫الحضارة‬ ‫انسانية‬
‫اﻻسﻼمية‬

‫منﻔتحة‪-‬‬
‫تعددية‬

‫شكل )‪ (3‬يوضح خصائﺺ الحضارة اﻹﺳﻼمية في مرﺣلة اﻻنفتاح الفكري‬

‫‪Productively‬‬ ‫في الحقيقة هناك العﺪيﺪ من الخصائص اﻷخرى التي تميز الحضارة اﻹسﻼمية مثل اﻹنتاجية‬
‫والمرونة ‪ ،Flexibility‬وهما خاصيتان أ ُدرجﺖ ﺑالترتيب تحﺖ خاصية التﻮازن وخاصية اﻻنفتاح والتعﺪدية‪ .‬ولكن‬
‫السؤال‪ :‬هل ستظل الحضارة اﻹسﻼمية محافظة ﻋﻠى خصائصها ﻋبر تاريخها؟ أم سيحﺪث تغيير في البنية الحضارية‬
‫يُﻠزمها تغيير في خصائصها؟ هذا السؤال سنجيب ﻋﻠيه ﻻحقا‪ .‬واﻷن نتناول الحركة العﻠمية والنشاط الفﻠسفي في مرحﻠة‬
‫اﻻزدهار الحضاري‪ ،‬يتبعه السؤال حﻮل استجاﺑة’ العقل اﻹسﻼمي‪ -‬ﺑأنﻮاﻋه الثﻼثة‪ -‬لهذا النشاط العﻠمي والفﻠسفي‪ ،‬وهﻮ‬
‫أمر ضروري يساﻋﺪ ﻋﻠى الكشف ﻋﻠى جﺪلية العﻼقة وتفاﻋﻼتها‪.‬‬

‫أ‪ -‬النشاط العلمي في ظل الحضارة اﻹﺳﻼمية‪:‬‬

‫تنﻮع النشاط العﻠمي لﻠعﻠماء المسﻠمين‪ ،‬واشتمل العﺪيﺪ من المجاﻻت المختﻠفة سﻮاء أكانﺖ طبيعية أم رياضية‪ .‬فنجﺪ ﻋﻠى‬
‫سبيل المثال ‪-‬ﻻ الحصر‪ -‬إسهامات شمﻠﺖ‪ :‬الطب‪،‬الصيﺪلة‪،‬الفيزياء‪،‬الكمياء ‪،‬الفﻠك‪ ،‬الرياضيات‪ ،‬الهنﺪسة‪ ،‬الميكانيكا‪،‬‬
‫الجغرافيا وغيرها من المجاﻻت اﻷخرى‪ .‬هذا النشاط يعكس مﺪى اﻹسهام الحقيقي والفاﻋل الذي قﺪمه العقل اﻹسﻼمي‬
‫لﻠبشرية في هذه الحقبة التاريخية‪ .‬ولنأخذ اﻷن ﺑعض هذه النماذج العﻠمية التي أثْرت الحضارة العﻠمية اﻹسﻼمية‪ .‬فنجﺪ‬
‫ﻋﻠى سبيل المثال‪ :‬أﺑا ﺑكر الرازي‪ ،‬الفاراﺑي‪ ،‬اﺑن سينا‪ ،‬اﺑن النفيس‪ ،‬اﺑن الهيثم‪ ،‬والخﻮارزمي ‪ ....‬ففي مجال الطب ﺑرز‬
‫أﺑﻮ ﺑكر الرازي )‪ (923 -864‬والذي قرأ مؤلفات جالينﻮس التي ت ُرجمﺖ إلى العرﺑية‪ ،‬ثم نجﺪ إسهامات الرازي الطبية‬
‫في كتاﺑه "الحاوي في الطب"‪ ،‬الذي ت ُرجم إلى الﻼتينية‪ ،‬وظل مرجعا في الطب حتى العصر الحﺪيث‪ ،‬وإليه يعﻮد الفضل‬
‫في ﺑناء المستشفى كمكان لعﻼج المرضى‪ .‬أيضا نجﺪ في مجال الطب اﺑن سينا )‪ ،(980-1037‬وإسهامه في هذا المجال‬
‫ﺑكتاﺑه القانﻮن في الطب‪ ،‬ﺑإضافة إلى كتاﺑه الشفاء‪ .‬فقﺪ أوضح أسباب العﺪيﺪ من اﻷمراض وأﻋراضها مثل كشفه ﻋن‬
‫اﻹنكﻠستﻮما أو الﺪودة المعﻮية ) اﺑن سينا‪ (186-4 :‬إضافة إلى اسهامات اﺑن سينا في الصيﺪلة وﻋرض خصائص العﺪيﺪ‬
‫من النباتات و استخﺪاماتها في العﻼج )اﺑن سينا ‪ .(1971 :‬وﻻﺑن سينا ايضا إسهامات في الجراحة‪ ،‬وطرق إيقاف النزيف‪،‬‬
‫‪7‬‬
‫والتأكيﺪ ﻋﻠى أهمية التشريح )محمﺪ محمﻮد‪ .(110-108:1987 .‬وأخيرا نجﺪ اﺑن النفيس )‪ (1213-1288‬وهﻮ أحﺪ‬
‫العﻼمات البارزة في تاريخ الطب في الحضارة اﻹسﻼمية والغرﺑية‪ ،‬إذ اكتشف الﺪورة الﺪمﻮية الصغرى ) ‪Pormann,‬‬
‫‪ ،(P& Smith S. 2007:47‬وأسهم إسهاما واضحا في ﻋﻠم وظائف اﻷﻋضاء والتشريح‪ .‬وقام اﺑن النفيس ﺑشروحات‬
‫هامة لشرايين القﻠب‪ ،‬ومنها الشريان اﻷورطي )محمﺪ محمﻮد‪.(103 :1987 .‬‬

‫دﻋنا ننتقل اﻷن الى نظام معرفي أخر ش ًكل أحﺪ معالم العﻠم في ظل الحضارة اﻹسﻼمية‪ ،‬وهﻮ ﻋﻠم الحساب‪ .‬فالمسﻠمﻮن‬
‫أسهمﻮا ﺑاختراع اﻷرقام والجذر الترﺑيعي‪ ،‬واستخﺪمﻮا الرمﻮز في حل المعادﻻت الرياضية‪ ،‬إضافة إلى تأسيسهم ﻋﻠم‬
‫طﻮر ﻋﻠم الجبر‪ ،‬وتبنى نظام العﺪد الهنﺪي‪،‬‬
‫الجبر والخﻮارزميات‪ .‬ويُعﺪ أﺑﻮ ﻋبﺪ ﷲ محمﺪ الخﻮارزمي )‪ (781-847‬من ً‬
‫إضافة إلى حساب المثﻠثات‪ ،‬وقﺪ استخﺪم الخﻮارزمي الهنﺪسة اﻹقﻠيﺪية في إثبات ﺑراهينه )‪ (Gerlald,T.1990:7‬إضافة‬
‫الى دائرة اهتمامات أخرى شمﻠﺖ الجغرافيا والفﻠك )‪.(Gandz,S.1938:319‬‬

‫وإذا ما انتقﻠنا اﻷن إلى مجال جﺪيﺪ من مجاﻻت العﻠﻮم الطبيعية وتحﺪيﺪا الفيزياء‪ ،‬سيظهر اسم العالم أﺑي ﻋﻠى الحسن ﺑن‬
‫الهيثم )‪ ،(1040- 965‬الذي يعﺪ من العﻠماء البارزين في الحضارة اﻹسﻼمية‪ ،‬والذي انتقل تأثير نظرياته إلى الغرب‪.‬‬
‫وتعﻮد أهمية ﺑن الهيثم ليس فقط في وضع نظريات في اﻹدراك الحسي واﻹﺑصار ولكن أيضا إلى اﻋتماده ﻋﻠى المنهج‬
‫إلى‬ ‫لﻠﻮصﻮل‬ ‫وسيﻠة‬ ‫التجرﺑة‬ ‫واﻋتماد‬ ‫المﻼحظات‪،‬‬ ‫صحة‬ ‫من‬ ‫لﻠتحقق‬ ‫كأداة‬ ‫التجريبي‬
‫النتائج ‪(Ahmed,D.2010:38.39& Linderg,D.1976:37).‬‬

‫وهﻮ منهج جﺪيﺪ خالف ﺑه ﺑن الهيثم نظرية أرسطﻮ في اﻹدراك الذي اﻋتقﺪ أن اﻻﺑصار يتم من خﻼل الصﻮرة ‪،Form‬‬
‫فصﻮرة المﻮضﻮع هي التي تﺪخل العين وليس مادته‪ .‬كما ﻋارض اﺑن الهيثم ﺑطﻠيمﻮس الذي اﻋتقﺪ أن العين تحذف اﻷشعة‪.‬‬
‫)‪ (Elbizri,N.2005:189. 218‬ولهذا قﺪم اﺑن الحسن تصﻮره في كتاﺑه "البصريات" أن الرؤية تحﺪث ﻋن طريق اشعة‬
‫الضﻮء والذي يشكل في منتصف العين‪ .‬ولهذا اقترح أن الضﻮء انعكس من أسطح مختﻠفة‪ ،‬في اتجاهات مختﻠفة‪ ،‬وهﻮ ما‬
‫يسبب أن اﻷشياء أو المﻮضﻮﻋات تبﺪو مختﻠفة‪.‬‬

‫وهكذا سنجﺪ ﻋبر تناولنا لتاريخ العﻠم اﻹسﻼمي العﺪيﺪ من العﻠماء البارزين في مجاﻻت شتى‪ ،‬اﻷمر الذي جعل الكثير من‬
‫الباحثين‪-‬ﻋﻠى حﺪ سﻮاء في الغرب والشرق‪ -‬يُرجعﻮن الفضل الى تقﺪمهم إلى ﻋﻠماء المسﻠمين وكتاﺑاتهم المختﻠفة التي‬
‫أثْرت أوروﺑا‪ ،‬وساهمﺖ في تقﺪمها‪ .‬فعﻠى سبيل المثال‪ ،‬يﺪافع جﻮرج سارتﻮن ﻋن الحضارة اﻹسﻼمية وﻋﻠمائها‪ ،‬ويرى‬
‫أن لﻠمسﻠمين إسهاماتا ً ﻻ يمكن أن تكﻮن الحضارة اﻹسﻼمية ﺑسببها مجرد تقﻠيﺪ ‪ copycat‬لﻠثقافات المتعﺪدة التي اختﻠط‬
‫ئ ‪(Sarton,G.1975:214) .‬‬
‫تصﻮرخاط ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ﺑها اﻹسﻼم وتفاﻋل معها‪ .‬فحكم كهذا‪ -‬لﺪى ﺑعض المؤرخين‪ -‬يعﺪ‬

‫ويرى سارتﻮن أن المسﻠمين خﻠقﻮا وﻋا ًء حقيقيا ً لﻠمعرفة‪ ،‬فهم لم يكتفﻮا ﺑالترجمة من اليﻮنان والهنﺪ وفارس‪ ،‬ولكنهم سعﻮا‬
‫يكتف ﺑالنقل ﻋن اليﻮنان ودمجها‬
‫ُ‬ ‫شيئ ما جﺪيﺪ‪ .‬ﻋﻠى سبيل المثال‪ ،‬في الرياضيات لم‬
‫لتحﻮيل المعارف التي اكتسبﻮها إلى ٍ‬
‫مع مصﺪر أخر من الهنﺪ‪ .‬ولهذا يزﻋم سارتﻮن إن لم يكن هذا الفعل اختراﻋاً‪ ،‬فإذا ً ﻻ يﻮجﺪ اختراع في العﻠم‪ .‬فاﻻختراع‬
‫العﻠمي ﺑبساطة حياكة‪ ،‬ورﺑط لخيﻮط منفصﻠة‪ ،‬ومحاولة إيجاد ﻋقﺪ جﺪيﺪ‪ .‬فإذا لم يخترع العﻠماء المسﻠمﻮن جﺪيﺪا؛ فان هذا‬

‫‪8‬‬
‫يعنى العﺪم ‪ ،ex-Nihilo‬وهذا مخالف لﻠحقيقة‪ .(Sarton,G.1975:275) .‬وهنا نجﺪ أننا ﺑصﺪد الﺪفاع ﻋن حق نسب‬
‫الفضل إلى تطﻮر أوروﺑا إلى تأثير العﻠماء العرب ونظرياتهم؛ التي فتحﺖ طرق جﺪيﺪة في مجال المعرفة‪ .‬فكما اﻋترف‬
‫العقل اﻹسﻼمي ﺑفضل الترجمة ﻋن فارس واليﻮنان والهنﺪ في إثراء الحضارة اﻹسﻼمية‪ ،‬كذلك ﻋﻠى الغرب أن يتقبل هذه‬
‫الحقيقة ﺑفضل العﻠماء المسﻠمين‪" .‬إن اﻹهمال النسبي لﻠعﻠم العرﺑي هﻮ جزء من إهمال تاريخ العﻠم ﺑﻮجه ﻋام"‬
‫)‪ ،(Mahdi,M.1996:1027‬ولﻠمﻮضﻮﻋية التاريخية والعﻠمية ﻻ يمكن إنكار أثر العﻠم اﻹسﻼمي في الفكر اﻷوروﺑي‬
‫والحضارة الغرﺑية‪ .‬فالتشريح والجراحة وأدواتها المستخﺪمة وخيﻮط الجراحة‪ ،‬وﺑناء المستشفيات‪ ،‬واستخﺪام المعادﻻت‬
‫الرياضية والﻠﻮغاريتمات وحساب المثﻠثات‪ ،‬ونظرية إﺑن الهيثم في الضﻮء التي مهﺪت لنظريات نيﻮتن في الضﻮء؛ كﻠها‬
‫تﻮضح أثر العﻠماء المسﻠمين واختراﻋاتهم التي أسهمﺖ حضاريا في تقﺪم الحضارة الغرﺑية‪.‬‬

‫وفى الحقيقة لسنا هنا ﺑصﺪد الحﺪيث ﻋن إنجازات العﻠماء المسﻠمين الذين ﺑرﻋﻮا في المجاﻻت التي أشرنا إليها‪ ،‬ولكن‬
‫ﺑصﺪد البحث ﻋن اﻷسس المنطقية ‪ logical foundations‬لﻠعﻠم اﻹسﻼمي‪ .‬ﺑعبارة أخرى؛ سيكﻮن مﻮضﻮع اﻻهتمام‬
‫هنا ﺑالتساؤل حﻮل المﻮجهات النظرية التي ﻋﻠيها ُ‬
‫شيًﺪ ﻋﻠيها العﻠم اﻹسﻼمي‪ ،‬وﻋﻼقة هذه المﻮجهات ﺑالفﻠسفة وطبيعة‬
‫الميكانزم التفاﻋﻠي الذي انعكس ﻋﻠى الحضارة اﻹسﻼمية‪ .‬ومن ثم فإن اﻹجاﺑة ﻋﻠى هذا السؤال ستؤجل حتى اﻻنتهاء من‬
‫اﻹسهام الذي قﺪمه الفﻼسفة المسﻠمين لﻠحضارة اﻹسﻼمية في هذه المرحﻠة التاريخية‪ .‬ومن ثم ستكﻮن الصﻮرة أكثر شمﻮلية‬
‫ووضﻮحا‪ ،‬لتمكنا من فهم الميكانزم التفاﻋﻠي ﺑين العﻠم والفﻠسفة في السياق الحضاري اﻹسﻼمي‪ .‬اﻷن ننتقل إلى مناقشة‬
‫طبيعة الفكر الفﻠسفي وقضاياه في تﻠك الفترة التي أشرنا اليها‪.‬‬

‫ب‪ -‬النشاط الفلسفي في ظل الحضارة اﻹﺳﻼمية‪:‬‬

‫ﻋرفﺖ الفﻠسفة اﻻسﻼمية ﺑانها خﻠيط من جهﺪ ﺑشري اشترك فيه كل من العرب وغيرهم سﻮاء من دخل اﻻسﻼم ام من‬
‫الذين ﻋاشﻮا في ظل الﺪولة اﻻسﻼمية‪ .‬وقﺪ تمﺖ ترجمة التراث اليﻮناني وﺑﻮادر الفكر الفﻠسفي اﻻسﻼمي ﺑرزت مع‬
‫الترجمات اﻻولى لﻠفكر اليﻮناني‪ .‬والرواية تقﻮل ان "المؤلفات العﻠمية والطبية هي أقﺪم ما ت ُرجم الى العرﺑية" )ماجﺪ‬
‫فخري‪ (15:1974 ،‬إلى جانب الحكم اﻻخﻼقية المنسﻮﺑة لسقراط وصﻮلﻮن وهرمس وفيثاغﻮرس ولقمان‪ ،‬فقﺪ غﻠب‬
‫ﻋﻠيهم الطاﺑع العمﻠي في تفكيرهم ثم تالى ذلك تناول الجانب النظري التجريﺪي‪ .‬ورﺑما من اﻻسباب التي أسهمﺖ في‬
‫ترجمة هذا الجانب هﻮ ﻋﻠم الكﻼم والمرحﻠة التي وصل اليها من التعقيﺪ وتنﻮع مﺪارسه المختﻠفه ومﻮضﻮﻋاته‪ .‬يقﻮل‬
‫اﻷستاذ المرحﻮم محمﺪ ﻋاﺑﺪ الجاﺑري في كتاﺑه )نحن والتراث(‪» :‬نقل أجﺪادنا الفﻠسفة اليﻮنانية‪ ،‬كما وصﻠتهم‪ ،‬إلى الﻠغة‬
‫العرﺑية‪ ،‬وحاولﻮا التﻮفيق ﺑينها وﺑين معطيات المجتمع اﻹسﻼمي الﺪينية والفكرية‪ .‬ولكنهم لم يفعﻠﻮا ذلك لمجرد النقل‬
‫والتﻮفيق‪ .‬لم يكن ﻋمﻠهم ذلك مجرد ترف فكري‪ ،‬وﻻ كان صادرا ً ﻋن الرغبة في اﻻطﻼع ﻋﻠى ما لﺪى الغير من‬
‫معارف وﻋﻠﻮم‪ ،‬ﺑل كانﺖ هناك دوافع ﻋميقة إلى ذلك‪ ،‬دوافع ناﺑعة من واقعهم اﻻجتماﻋي والسياسي والثقافي؛ وﺑكﻠمة‬
‫واحﺪة‪ :‬واقعهم الحضاري العام«‪.‬‬

‫اهتم المسﻠمﻮن في ﺑﺪاية معرفتهم ﺑالفكر اليﻮناني ﺑالجانب العمﻠي‪ ،‬وقﺪ سعى السريان النصارى إلى اﻻهتمام ﺑالمنطق‬
‫اﻷرسطي والفﻠسفة اﻻغريقية‪ ،‬وذلك تمهيﺪا ً لﺪراسة المؤلفات الﻼهﻮتية‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫وهنا يعﻮد الى التساؤل حﻮل تعامل المسﻠمين الفﻼسفة والعﻠماء مع الفكر اليﻮناني في سياق اﻻسﻼم ﺑكل ما يتضمن من‬
‫رسالة الﻮحي والفكرة ﺑانه نظرية شامﻠة لكل مناحي الحياة الﺪنيﻮية واﻻخروية‪ .‬وأن الفﻠسفة اﻻسﻼمية تناولﺖ مضامين‬
‫جﺪيﺪة في سياق اﻻسﻼم او تناولﺖ مﻮضﻮﻋات تناولتها الفﻠسفة اليﻮنانية "ولكن ﺑصﻮرة اسﻼمية"‬

‫من المثير أنه يحكى ﻋن المامﻮن‪ ،‬الذي ﻋرف ﻋنه ولعه ﺑالثقافات اﻻجنبية وﺑالذات الثقافة اليﻮنانية ﺑانه راى في المنام‬
‫ارسطﻮ نفسه يقﻮل له انه ﻻ فارق اساسيا ﺑين الشريعة اي اﻻسﻼم والحكمة )الفﻠسفة( اليﻮنانية‪) .‬جان جﻮليفيه‪:38 ،‬‬
‫‪(1983‬‬

‫نجﺪ الفكر الفﻠسفي ظهر وﺑرز في سياق ديني وهﻮ الﺪين اﻻسﻼمي وهنا كانﺖ محاوﻻت الفﻼسفة في التﻮفيق ﺑين الفكر‬
‫الفﻠسفي ﺑكل مقﺪماته ومعطياته مع النظرية والمعتقﺪ اﻻسﻼمي حيث وجﺪ الفﻼسفة انهما يسيران في فﻠك واحﺪ ويسعيان‬
‫الى غاية واحﺪة‪.‬‬

‫فاﺑن حزم المتﻮفي )‪ 456‬ه‪ (1063/‬ذكر في كتاﺑه "الفصل في المﻠل والنحل" ﻋن الفﻠسفة "الفﻠسفة ﻋﻠى الحقيقة انما‬
‫معناها وثمرتها‪ ،‬والغرض المقصﻮد نحﻮه ﺑتعﻠمها‪ ،‬ليس هﻮ شيئا غير اصﻼح النفس ﺑان تستعمل في دنياها الفضائل‬
‫وحسن السيرة المؤدية الى سﻼمتها في المعاد‪ ،‬وحسن سياستها لﻠمنزل والرﻋية‪ .‬وهذا نفسه‪ ،‬ﻻ غيره‪ ،‬هﻮ الغرض في‬
‫الشريعة‪ .‬هذا ما ﻻ خﻼف فيه ﺑين احﺪ من العﻠماء ﺑالفﻠسفة وﻻ ﺑين احﺪ من العﻠماء ﺑالشريعة")ﺑن حزم ‪.(94:1317: .‬‬

‫نجﺪ التأثير اليﻮناني واضحا ً في ﺑﻠﻮرة البنية النظرية لﻠفﻠسفة والتفكير الفﻠسفي في اﻻسﻼم والذي ﺑرز في قضية محﻮرية‬
‫وهي التﻮفيق ﺑين الحكمة والشريعة‪ .‬ويتضح ذلك في فكرة العﻠل اﻻرﺑعة‪ ،‬سعى الفﻼسفة المسﻠمين الى المزاوجة ﺑين‬
‫الفﻠسفة اليﻮنانية وﺑين الثقافة اﻹسﻼمية‪ ،‬واختﻠفﺖ مﻮاقفهم حسب اهتماماتهم‪) ،‬الكمالي‪ (37 :1993 ،‬ظهر الفﻼسفة‬
‫اﻻلهيين اخذوا ﺑالفﻠسفة اﻻلهية كالكنﺪي والفاراﺑي واﺑن سينا واﺑن رشﺪ واﺑن طفيل واﺑن ﺑاجة‪ ،‬والفﻼسفة الطبيعيين ممن‬
‫اهتمﻮا ﺑالفﻠسفة الطبيعية كالرياضيات والكيمياء والطب‪ ،‬كالبيروني واﺑن حيان واﺑن الهيثم‪ ،‬والفﻼسفة اﻻخﻼقيين كاﺑن‬
‫مسكﻮية واﺑن خﻠﺪون‪ .‬وفي هذه المرحﻠة سعﻮا الى اثبات ان ﻻ تعارض ﺑين ما جاء ﺑه الﻮافﺪ اليﻮناني مع الﺪين‪ ،‬وذلك‬
‫الفﻠسفة تتضمن ﻋﻠم الرﺑﻮﺑية وﻋﻠم الﻮحﺪانية ومعرفة الفضيﻠة‪ ،‬وﺑالتالي هناك اتفاق ﺑين ما جاء ﺑه الرسل وما تضمنته‬
‫الكتب الفﻠسفية من محتﻮى‪ .‬ان تناولهم لهذه القضايا او المسائل هي نفسها ولكن طريقتهم في تناول هذه المسائل‬
‫والقضايا وتفسيرهم لها تختﻠف او ﺑعيﺪة ﻋن الﻮصف والتفسير الﺪيني اﻻسﻼمي لها وذلك مثﻼ مسالة النبﻮة والنبي‪.‬‬
‫وكذلك ﺑان الخﻠق واجب وﺑانه ازلي يختﻠف ﻋن الرؤية اﻻسﻼمية التي ترى ان الخﻠق فعﻼ حرا يفعﻠه ﷲ وﻻ يمكن‬
‫وصفه ﺑالﻮجﻮب وفي الفﻠسفة اﻻلﻮهية‪.‬‬

‫في هذه المرحﻠة نجﺪ أن المفكرين المسﻠمين سعﻮا الى اﻻشتغال ﺑالفﻠسفة اليﻮنانية من جانب ومن جانب اخر سعﻮا الى‬
‫ان يظﻠﻮا مسﻠمين‪ .‬فهذه الفﻠسفة الﻮافﺪة تتضمن ضمن ما تتضمنه من افكار هي منافية لما هﻮ مﻮجﻮد في الﺪين اﻻسﻼمي‬
‫مثﻼ القﻮل ﻋنﺪ ارسطﻮ قضية العالم اﻻزلي وتعارضها لفكرة ان العالم هﻮ مخﻠﻮق كما هﻮ في الﺪين اﻻسﻼمي ‪ .‬ﺑل ان‬
‫ﻋنﻮان كتاب الكنﺪي "كتاب في الفﻠسفة اﻻولى" والذي اهﺪاه لﻠخﻠيفة المعتصم يعتبر ﻋنﻮان ارسطي ﺑحق‪ (41) .‬وهذه‬

‫‪10‬‬
‫ﺑحق ذاتها تعتبر قضية مهمة ﺑمعنى ﻋﺪم اﻻﻋتراض ﻋﻠى الﻮافﺪ الجﺪيﺪ‪ .‬وفي هذا الكتاب ذكر الكنﺪي المبﺪأ اﻻول وهﻮ‬
‫انه‪" :‬ﻻ يمكن ﻻحﺪ من الناس ان يحيط ﺑالحق جميعه وكل ما نعرفه من الحق انما هﻮ حصيﻠة الجهﻮد المتعاقبة لجميع‬
‫الناس ‪".....‬‬

‫_اوﻻ الكنﺪي ويعﺪ من المفكرين الذين ﺑرزوا في مرحﻠة التكﻮين الفﻠسفي حيث انتقل ﺑالفﻠسفة من طﻮر الترجمة والنقل‬
‫الى طﻮر الشرح والتأليف‪ ،‬وسعى الى التﻮفيق ﺑينها وﺑين اﻻسﻼم‪ ،‬مع اﻻحتفاظ ﺑاﻷصﻮل اﻻساسية لﻠﺪين اﻻسﻼمي‬
‫)الكمالي‪" (45 :1993 ،‬ان كانﺖ حقا فعنﺪنا ما هﻮ أحق منه‪ ،‬وان كانﺖ ﺑاطﻼ فقﺪ كفيناه"‪ ،‬ففي هذه المرحﻠة أهﺪي‬
‫كتاﺑه "كتاب في الفﻠسفة اﻻولى" الى الخﻠيفة المعتصم ﺑا )حكم فيما ﺑين ‪ 833‬و ‪ 842‬م(‪.‬‬

‫يرى الكنﺪي ان الفرق ﺑين العﻠم اﻻنساني والعﻠم اﻻلهي هﻮ فرق اﻻسﻠﻮب والمصﺪر اما من حيث المحتﻮى فكﻼهما‬
‫يسعيان لغاية واحﺪة وهي السعادة وهناك اتفاق ﺑين تعاليم الﺪين وﺑين محتﻮى الكتب الفﻠسفية من حيث ﻋﻠم الرﺑﻮﺑية وﻋﻠم‬
‫الﻮحﺪانية ومعرفة الحق والفضيﻠة‪ .‬ولكن تناول الفﻼسفة المسﻠمين هذه القضايا من مفاهيم ومصطﻠحات فﻠسفية مثل‬
‫مصطﻠح وجﻮد جﻮاهر غير مادية او تناهي جرم العالم‪.‬‬

‫وﺑحث الكنﺪي في قضية ﷲ الذي هﻮ واحﺪ وﻋﻠة وحﺪة المخﻠﻮقات ومن ثم ﻋﻠة وجﻮدها ﻷنه ﻻ يﻮجﺪ وجﻮد اﻻ واحﺪا‬
‫او مﻮحﺪا‪ .‬وقضية صعﻮد النفس ﺑما تكتسبه من فضائل انطﻼقا من العالم المحسﻮس حتى ﻋالم العقل فيما وراء افﻼك‬
‫الكﻮاكب والنجﻮم‪ ،‬هذا العالم الذي تتحﺪ فيه مع نﻮر الخالق‪ .‬ﻋنﺪ ذكر ﷲ نجﺪ الكنﺪي يسميه ﺑالﻮاحﺪ الحق ﺑينما يطﻠق‬
‫ﻋﻠيه الفاراﺑي اﻻول‪ .‬ورغم كﻮنهما مصطﻠحان فﻠسفيان ولكنهما من اسماء ﷲ الحسنى والتي جاء ذكرها في القران‪،‬‬
‫فهل استطاع الفكر اﻻسﻼمي ان يستقل ﻋن الﺪين‪ ،‬اﻻ نجﺪ صﺪى الفكر الﺪيني واضحا‪ .‬وهذا يعﺪ مثاﻻ واضحا لفكرة‬
‫التناغم ﺑين الفكر وﺑين الﺪين وكيف انعكسﺖ هذه النظرة التناغمية ﻋﻠى الحضارة اﻹسﻼمية فاتسمﺖ في تﻠك الﻠحظة‬
‫لكثير من النقﺪ‬
‫ٍ‬ ‫التاريخية ﺑالتعايش والتقارب ﺑين مكﻮناتها الثقافية‪ .‬وﻻ شك ان الكنﺪي ﺑنظرته التﻮافقية لم يتعرض‬
‫كالفﻼسفة الﻼحقين ﻋﻠيه كأمثال الفاراﺑي وﺑن سينا والﻠذان استطاﻋا ان يقﺪما رؤية فﻠسفية أكثر ﻋمقا من تﻠك التي قﺪمها‬
‫الكنﺪي‪ .‬وقﺪ سمح لهما المناخ الثقافي والحضاري‪ -‬الى حﺪ كبير‪ -‬ﺑتقﺪيم نظريتهما في الﻮجﻮد والنفس والعالم‪ -‬ﺑشكل‬
‫مرن ومتسامح ﻋﻠى ﻋكس قراءة رجال السﻠطة الﺪينية لنصﻮص الفاراﺑي وﺑن سينا وﺑن رشﺪ في مرحﻠة اﻻنغﻼق‬
‫الفكري‪ .‬وإذا ما انتقﻠنا اﻻن الى نمﻮذج اخر لﻠفكر الفﻠسفي اﻹسﻼمي في ﻋصر اﻻنفتاح الفكري سنجﺪ الفاراﺑي الذي‬
‫جاء ﺑعﺪ الكنﺪي وقﺪ "وضع ومارس نمطا ً فﻠسفيا ً أكثر استقﻼﻻً ازاء المعطيات الﺪينية" )جان جﻮليفيه‪ .(1983:45 ،‬لقﺪ‬
‫قﺪم الفاراﺑي العﺪيﺪ من النظريات الفﻠسفية التي حاول فيها ﺑناء جسر لﻠرﺑط ﺑين الفﻠسفة والﺪين خاصة تﻠك المتعﻠقة‬
‫ﺑمسالة العالم هل هﻮ قﺪيم ام حادث ومسالة معرفة ﷲ هل هي كﻠية ام جزئية ومسألة النفس اﻹنسانية ﺑاﻹضافة الى‬
‫فكرته التي طرحها ﻋن النبﻮة‪ .‬فقﺪ رأى كما هﻮ في كتاﺑه ان المﺪينة الفاضﻠة ﻻﺑﺪ وان يرأسها فيﻠسﻮف وحكيم ونبي في‬
‫نفس الﻮقﺖ‪ ،‬وفي فكرة الفيض او الصﺪور أي كيف يفيض العالم كﻠه من المﻮجﻮد اﻻول‪ ،‬خﻼفا لنظرية اﻻسﻼم ﻋن‬
‫الخﻠق‪ ،‬يجعل التعقل هﻮ مصﺪر الﻮجﻮد هي خﻠيط من مصادر مختﻠفة تأثر ﺑها الفاراﺑي‪ ،‬ﺑإلهيات افﻠﻮطين وطبيعيات‬
‫‪11‬‬
‫ارسطﻮ وفﻠك ﺑطﻠيمﻮس‪ .‬فا هﻮ "جﻮهر‪ ،‬اذا حصﻠﺖ المﻮجﻮدات مرتبة مراتبها‪ ،‬ان يأتﻠف ويرتبط وينتظم ﺑعضها مع‬
‫ﺑعض‪ ،‬ائتﻼفا ً وارتباطا ً وانتظاما ً تصير ﺑها اﻻشياء الكثيرة جمﻠة واحﺪة وتحصل كشيء واحﺪ" )الفاراﺑي‪ ،‬اراء اهل‬
‫المﺪينة الفاضﻠة‪ ،‬فصل ‪(8‬‬

‫رأى الفاراﺑي ان النبﻮة هي ظاهرة طبيعية ترتبط ﺑالنظام الفﻠكي وتكﻮن لكل انسان تحققﺖ فيه شروط معينة فهي ليسﺖ‬
‫اصطفاء من ﷲ‪ ،‬فالنبﻮة فيض ﻋﻠى القﻮة الناطقة النظرية ويتصل ﺑالقﻮة المتخيﻠة ويؤثر فيها والمتخيﻠة دون العقل هي‬
‫القادرة ﻋﻠى إدراك الجزئيات وتنظيمها‪ .‬ﺑل ذهب الى القﻮل ﺑان تعبير اﻻنبياء ليس "كﻼم ﷲ" ﺑل هﻮ كﻼم اﻻنبياء‬
‫أنفسهم‪ ،‬ﺑل هﻮ ما حاكﺖ ﺑه قﻮتهم المتخيﻠة المعقﻮﻻت الفائضة ﻋﻠيهم من العقل المفارق‪ .‬وكذلك رايه اﻻخﻼقي في‬
‫مسالة الثﻮاب والعقاب‪ ،‬فهما ﻋقﻠيان روحيان فقط‪ ،‬وﻻ مجال لحشر اﻻجساد او اﻻﺑﺪان ﺑيﻮم القيامة‪ .‬لقﺪ أراد الفاراﺑي ان‬
‫يعقﻠن هذه القضية وغيرها من القضايا اﻷخرى ذات الصﻠة ﺑالعقيﺪة اﻹسﻼمية ويضعها في اطاراٍ ﻋقﻼني ٍا حيث زﻋم أن‬
‫النفﻮس من ذاتها تكﻮن في حال سعادة او شقاء وفق اﻻﻋمال واﻻتجاه الذي سارت ﺑه في هذه الحياة وهي نفﻮس جاهﻠة‬
‫لم تصل الى رتبة العقل المستفاد وﻋﻠيه صائرة الى العﺪم "كنفﻮس البهائم" ﻻ ثﻮاب لها وﻻ ﻋقاب‪.‬‬

‫فيﻠسﻮف اسﻼميا ً حاول ان يقﺪم رؤية أكثر ﻋقﻼنية لقضايا دينية يغﻠب ﻋﻠيها العقل التقﻠيﺪي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وقﺪ سار ﻋﻠى نفس الﺪرب‬
‫وهﻮ في إطار هذا سعى لكي يﻮحﺪ ﺑين الﺪين والفكر ﺑاﻋتبار ان غايتهما واحﺪة‬

‫فاﺑن سينا سار ﻋﻠى خطى ارسطﻮ في مﻮسﻮﻋة "الشفاء" التي شمﻠﺖ جميع العﻠﻮم‪ ،‬وﻋالج فيه وفي كتاﺑه "اﻻشارات‬
‫والتنبيهات" ﻋﻠم النبﻮة والمعجزات حيث اﻋتمﺪ فيهما ﻋﻠى نظرية في العقل كما هي في اﻻفﻼطﻮنية الجﺪيﺪة والتي ترى‬
‫ﺑان المعرفة‪ ،‬ﺑشرط ان تتﻮافر لها اﻻرادة والرياضة‪ ،‬تتمثل في اﻻتصال ﺑالعقل الفعال الذي يفيض ﻋﻠى النفس صﻮرا‬
‫معقﻮلة‪ .‬وكﻠما تقﺪم العقل انتقل من مستﻮى الى مستﻮى اﻋﻠى حتى يصل في النهاية الى درجة العقل القﺪسي الذي يمكنه‬
‫ان يتصل ﺑالعقﻮل المفارقة ذاتها وفي النهاية ﺑالعقل اﻻول الذي هﻮ المبﺪع اﻻول او المعﻠﻮل اﻻول‪ .‬في تحﻠيﻠه لفكرة‬
‫الخﻠق اﻋتبار الخﻠق ﺑﻮصفه ﻋطاء وجﻮد ينطﻠق من الﻮاجب الﻮجﻮد الى الممكن الﻮجﻮد‪.‬‬

‫اما ﻋن الرازي فمع اشتﺪاد يﺪ القمع ﻋﻠى الخﻠفاء العباسيﻮن‪ ،‬كان جريئا في طرحه لقضايا فﻠسفية ﻋرضته لتنﺪيﺪ‬
‫المؤلفين التاﺑعين في تبنيه ﻵراء الطبيعيين القﺪامى‪) .‬فخري‪ (139 :1974 ،‬الى جانب اهتمامه ﺑالمﻮسيقى في الطب‬
‫الروحاني‪ ،‬جاهر ﺑالمذهب الفيثاغﻮري اﻻفﻼطﻮني في التقمص او التناسخ‪ ،‬حيث ذهب الى ان النفس التي لم يتهيأ لها‬
‫التطهر ﺑالفﻠسفة فإنها تستمر في هذا العالم حتى يتم لها اكتشاف سر الفﻠسفة الشافي فتتحﻮل من اسر العالم المادي الى‬
‫العالم العقﻠي‪ .‬وفي ﻋرضه لمشكﻠة ذﺑح الحيﻮان ﺑرر ذﺑحها‪ ،‬البري منه واﻻليف‪ ،‬ﺑانه نﻮع من تحرير نفﻮسها من‬
‫ﻋبﻮدية اﻻجساد وهﻮ يقرﺑها من مصيرها اﻻخير الذي يتيح لها الحﻠﻮل في اجساد اخرى أشرف‪ ،‬نظير جسﺪ اﻻنسان‪.‬‬

‫من خﻼل هذا العرض السريع لنماذج لﻠفكر الفﻠسفي والقضايا المطروحة وجﺪت طريقها –الى حﺪ كبير‪ -‬الى الﻮاقع‬
‫الثقافي اﻹسﻼمي وﺑقبﻮل من المفكرين ولم يتناول أحﺪ من رجال الﺪين استنادا ً الى السﻠطة الﺪينية مسالة تكفير أصحاب‬
‫هذه اﻵراء واضطهادهم‪ .‬لقﺪ كان هناك نﻮع من القبﻮل الجزئي ﻵراء الفﻼسفة المسﻠمين وهم ما سمح ﺑانتشار فكرهم‬

‫‪12‬‬
‫ونظرياتهم ولم يتعرضﻮا لﻠعقاب او التكفير في هذه المرحﻠة وهذا يعكس طبيعة الجﺪل الذي تمتعﺖ ﺑه هذه المرحﻠة‬
‫التاريخية من ﻋمر الحضارة اﻹسﻼمية ولغة التناغم والتسامح التي صارت ﺑين مكﻮناتها‪ .‬ﻋﻠى ﻋكس مرحﻠة اﻻنغﻼق‬
‫الفكري الذي ظهر فيها رجال دين ومفكرين اتصفﻮا ﺑالتشﺪد واﻻنتصار ﻵرائهم واﻻنتصار لﻠمطﻠق وتزكيته في ﺑنية‬
‫الحضارة اﻹسﻼمية‪ .‬اﻻمر الذي انعكس سﻠبا ﻋﻠى الحضارة اﻹسﻼمية وانحصار التنﻮع والتعﺪدية والخضﻮع لﻠمطﻠق‬
‫الذي سيعﺪ هﻮ الثاﺑﺖ الذي ستتشكل ﺑنية الحضارة اﻹسﻼمية ومكﻮناتها الثقافية اﻋتمادا ﻋﻠى هذا المطﻠق والذي سيكﻮن‬
‫من اثاره دخﻮل الحضارة لمرحﻠة جﺪيﺪة من مراحل تطﻮرها التاريخي وهﻮ ما أطﻠقنا ﻋﻠيه مرحﻠة اﻻنغﻼق الفكري‪.‬‬

‫هنا نجﺪ أن ثمة التقاء ﺑين الفﻠسفة والعﻠم‪ ،‬فإذا كان العﻠم يهﺪف الى وصف الظﻮاهر وكيفية حﺪوثها‪ ،‬فإن الفﻠسفة تحاول أن‬
‫تفسر ما وصل اليه العﻠم‪ .‬فالفﻠسفة ‪ interpretative‬تفسيرية تأويﻠية ﺑينما العﻠم ‪ descriptive‬وصفي‪ .‬وهنا ليس ﺑغريب‬
‫أن نجﺪ ﻋﻠماء مسﻠمين انشغﻠﻮا ﺑالفﻠسفة‪ ،‬ولهم إسهامات واضحة فيها‪ ،‬مثل الرازي‪ ،‬إﺑن سينا‪ ،‬إﺑن النفيس‪ ،‬واﺑن الهيثم‪.‬‬
‫فإذا كان اﻻمر كذلك هل يمكن أن نُطﻠق ﻋﻠى هؤﻻء العﻠماء المنشغﻠين ﺑالفﻠسفة ﺑفﻼسفة ﻋﻠم ‪philosophers of‬‬
‫‪science‬؟ في الحقيقة أن اﻹجاﺑة ﻋﻠى هذا السؤال هل ﺑاستطاﻋتنا كباحثين أن نطﻠق ﻋﻠى ﻋﻠماء المسﻠمين ﺑفﻼسفة ﻋﻠﻮم‪،‬‬
‫أو أن الحضارة اﻹسﻼمية انتجﺖ ما يمكننا ان نطﻠق ﻋﻠيه اﻷن ﺑفﻠسفة العﻠم ‪Philosophy of Science‬؟ ﻻ يمكن أن‬
‫تتضح اﻻن اﻻ ﺑعمﻠية تحﻠيل نقﺪي نكشف ﺑها اﺑعاد هذا السؤال وما يتضمنه من إشكاﻻت‪ .‬فعمﻠية التحﻠيل النقﺪي تستﺪﻋى‬
‫اﻻن السؤال الذي سبق ان طرحناه ساﺑقا والمتعﻠق ماهي المﻮجهات النظرية التي ُ‬
‫شيًﺪ ﻋﻠيها العﻠم اﻹسﻼمي‪ ،‬وﻋﻼقة هذه‬
‫المﻮجهات ﺑالفﻠسفة وطبيعة الميكانزم التفاﻋﻠي الذي انعكس ﻋﻠى الحضارة اﻹسﻼمية‪.‬‬

‫الكشف ﻋن المنطق الذي أنتج هذا التفاﻋل؛ كان ﻻﺑﺪ من تحﻠيل ﺑنبة الحضارة اﻹسﻼمية ومكﻮناتها‪ ،‬التي استنﺪت ﻋﻠيها‪،‬‬
‫وت ٌحﺪَدَ هنا في هذا السياق أنها العﻠم والفﻠسفة وﻋﻼقتهما ﺑالﺪين‪ .‬ولهذا كخطﻮة أولية في التحﻠيل سنحاول الكشف ﻋن مﻮقف‬
‫العقل اﻹسﻼمي ﺑأنﻮاﻋه الثﻼثة من مكﻮنات الحضارة‪ ،‬وهﻮ أمر ضروري‪ ،‬ﻷنه سيكشف لنا أﺑعادا جﺪيﺪة لفهم الحضارة‬
‫اﻹسﻼمية ومن ثم تقييمها ﺑطريقة مﻮضﻮﻋية محايﺪة‪ ،‬لتﻮضيح أسباب الضعف الكامن في ماهية وجﻮهر الحضارة‬
‫اﻹسﻼمية ذاتها‪ ،‬والتي ساهمﺖ ﻋﻠى إنهيارها‪ ،‬وﻋﺪم قﺪرتها ﻋﻠى العﻮدة مجﺪدا‪ ،‬ﻋﻠى الرغم من تﻮفر المقﻮمات البشرية‬
‫والمادية وهذا هﻮ اﻹشكال الذي تسعى الﺪراسة الحالية إلى طرحه‪ .‬فمن خﻼل الكشف ﻋن الخﻠل اﻷﺑستمﻮلﻮجي الكامن‬
‫في جﻮهر الحضارة اﻹسﻼمية يمكننا معالجته ﺑما يسمح ﺑعﻮدتها مجﺪدا كما ﻋادت الحضارة الصينية والحضارة الهنﺪية‪.‬‬

‫صنفﺖ العﻠﻮم في ظل الحضارة اﻹسﻼمية الى فئتين‪:‬‬


‫لقﺪ ُ‬

‫‪ -‬ﻋﻠﻮم دينية شرﻋية ‪.‬‬

‫‪ -‬ﻋﻠﻮم دنيﻮية‪.‬‬

‫فقﺪ وضع الباحثﻮن العﻠﻮم الﺪينية فﻮق العﻠﻮم الﺪنيﻮية‪ ،‬رغم كﻮن اﻷخيرة هامة ومفيﺪة لخﺪمة الﺪين ذاته‪ .‬ورﺑما يرى‬
‫البعض أن العﻠﻮم الﺪنيﻮية والفﻠسفة صارت متﻮازية مع العﻠﻮم الﺪينية في ظل الحضارة اﻹسﻼمية‪ .‬ويرى ﺑن خﻠﺪون ان‬
‫العﻠﻮم الﺪينية والفﻠسفة نمﺖ ﺑالتﻮازي‪ ،‬ولكن ﺑعض رجال الﺪين لم يقﺪروا الفﻠسفة حق تقﺪير)‪Ibn-‬‬
‫‪13‬‬
‫‪ .(Khaldon.1980:143-147‬وفي الحقيقة قﺪ أشار ﺑن خﻠﺪون الى قضية مهمة ولكنه لم يستطع الكشف ﻋن أسباب‬
‫ﻋﺪم التقﺪير هذا لﻠفﻠسفة‪‘ ،‬وهذا ما تحاول هذه الﺪراسة الكشف ﻋنه من خﻼل ﻋمﻠية التحﻠيل النقﺪي لبنية الحضارة اﻹسﻼمية‬
‫ذاتها‪.‬‬

‫فاذا كانﺖ النظرة لﻠعﻠﻮم ﺑناء ﻋﻠى هذا التصنيف الهرمي؛ فتظل القضية المهمة هل ثمة وحﺪة ﺑين العﻠﻮم ﻋرفها العقل‬
‫اﻹسﻼمي؟ ولﻺجاﺑة ﻋﻠى هذا السؤال نجﺪ أنه من الضرورة التمييز ﺑين ثﻼثة تصﻮرات لﻠﻮحﺪة ﺑين العﻠﻮم‪:‬‬

‫‪ -‬وﺣدة مستﻘلة شكلية ‪Formal Independent Unity:‬‬


‫وهي وحﺪة شكﻠية تزﻋم ﺑأهمية العﻠﻮم المختﻠفة ولكن كل نظام معرفي مستقل ﺑذاته ﻋﻠى مستﻮى التطبيق‪ .‬وهذا‬
‫النمط السائﺪ في ظل الحضارة اﻹسﻼمية‪.‬‬
‫‪ -‬وﺣدة توازى غير مفعَلة ‪Inactivated Parallel Unity:‬‬
‫وهي وحﺪة جزئية تسعى لﻠرﺑط ﺑين النظم المعرفية المختﻠفة ولكنها ﻋاجزة ﻋﻠى الرغم من محاولة الرﺑط لكن‬
‫العقل ﻋاجز ﻋن تفعيﻠها‪ .‬وهﻮ نمﻮذج محﺪود‪ ،‬و ُجﺪ ﺑين العﻠماء والفﻠسفة في هذا السياق‪ ،‬ولكنه يفسر اﻹجاﺑة ﻋن‬
‫السؤال الذي طرح ساﺑقا هل أنتج المسﻠمﻮن‪ -‬نتيجة هذا التقارب ﺑين العﻠم والفﻠسفة‪ -‬فﻠسفة لﻠعﻠم؟ أو أنتج لنا ما‬
‫يعرف ﺑفيﻠسﻮف لﻠعﻠم الذي سنتناوله في اﻹجاﺑة ﻋنه ﻻحقا ﻋنﺪ تشخيص الضعف الكامن في الحضارة اﻹسﻼمية‪.‬‬
‫‪ -‬وﺣدة التفاعل التكاملي‪Interactive integrated Unity :‬‬
‫وهي وحﺪة تكامﻠية ﺑين العﻠﻮم قائمة ﻋﻠى الفهم والتطبيق والتفكيك والتركيب وتشترط استقﻼلية العقل وﻋﺪم‬
‫تاﺑعيته‪ .‬وهي نﻮع من الﻮحﺪة لم يصل اليها العقل اﻹسﻼمي ولم يﺪركها وسنﻮضح أسباب هذا ﻻحقا‪.‬‬
‫كثر من الباحثين أن ﻋﻠماء المسﻠمين كان لﺪيهم وحﺪة معرفة وكما سبقﺖ اﻹشارة ﺑأمثﻠة ﻋﻠى ذلك ﺑاﺑن‬
‫وهنا يرى ٌ‬
‫سينا والرازي وﺑن الهيثم والخﻮارزمي إضافة إلى البيروني وغيرهم‪ .‬ولكن السؤال الذي لم يتطرق اليه الباحثﻮن‬
‫أي نﻮع من أنﻮاع الﻮحﺪة الثﻼثة‪ -‬التي قمنا ﺑتحﻠيﻠها‪ -‬تﺪﻋم حجتهم القائﻠة ﺑﻮحﺪة العﻠﻮم ﻋنﺪ المسﻠمين؟ وهﻮ سؤا ُل‬
‫ي من أجل الكشف ﻋن التﻮتر الﺪاخﻠي الكامن في ﺑنية الحضارة اﻹسﻼمية‪ .‬وقﺪ يزﻋم ﺑعضهم وحﺪة‬
‫ي ضرور ُ‬
‫نقﺪ ُ‬
‫المعرفة اﻹسﻼمية وتكامﻠها ﺑتأسيس حجته ﻋﻠى "الطب النبﻮي" كﺪليل وحﺪة‪ ،‬وهي محاولة البحث ﻋن أسباب‬
‫المرض وﻋﻼجه‪ ،‬ومن ثم فهﻮ نﻮع يجمع ﺑين ما هﻮ ديني وما هﻮ طبيعي‪ ،‬أو فيزيائي ‪،‬ونتيجة لهذا فهﻮ نﻮع من‬
‫المعرفة المقﺪسة )‪.(Beg,M. 1986:57‬‬
‫وتستمر محاوﻻت الﺪفاع ﻋن وحﺪة العﻠم ﺑين الﺪين والعﻠم في ظل الحضارة اﻹسﻼمية‪ ،‬إذ زﻋم ‪ Bucaille‬في‬
‫كتاﺑه اﻻنجيل والقرأن والعﻠم أن ليس ثمة انفصال ﺑين العﻠم و الﺪين واﻹسﻼم‪ ،‬فقﺪ ﻋﺪَ اﻹسﻼم الﺪين والعﻠم‬
‫كاﻷختين التﻮأمتين‪ .‬فمنذ البﺪاية‪-‬كما يزﻋم ﺑﻮسيل‪ -‬قﺪ وجه اﻹسﻼم لﻠعﻠماء ﺑاﻻهتمام ﺑالعﻠم وتطبيق الفهم‬
‫والتصﻮر جاء متزامنا مع خطﻮات مذهﻠة مع العﻠم والذي شكل المﻠمح اﻷساسي لﻠحضارة اﻹسﻼمية‪ .‬ولﺪرجة أن‬
‫العﻠم الذي يشكل الحصة اﻷﻋظم لﻠحضارة اﻻنسانية لﻠﺪرجة التي قادت ﺑعضهم لﻠزﻋم أن العﻠم هﻮ الذي يشكل‬
‫الحقيقة العظمى لﻠحضارة اﻹسﻼمية)‪(Bucaille,M.1979:IX‬‬

‫‪14‬‬
‫وزﻋم محمﺪ إقبال أن ميﻼد اﻹسﻼم ﺑَ ً‬
‫شر ﺑمﻮلﺪ الفكر اﻻستقرائي‪ .‬ورأى أن اﻹسﻼم يرﺑط ﺑين العالم القﺪيم والعالم‬
‫الحﺪيث‪ .‬واﻋتمﺪت حجته ﻋﻠى أن اﻹسﻼم وإن كان ينتمي الى العالم القﺪيم‪ ،‬فانه كان ﻋصريا في روحه‬
‫)‪ ،(Iqbal,M.1930:177‬ويرى أن ثمة وحﺪة وتكامل ﺑين المعرفة في ظل الحضارة اﻹسﻼمية‪ ،‬ولهذا يزﻋم‬
‫محمﺪ اقبال ان العﻠم اﻹسﻼمي جاء الى الﻮجﻮد من الزواج ﺑين الروح التي تشكﻠﺖ من الﻮحي القرآني والعﻠﻮم‬
‫المﻮجﻮدة لﻠحضارات العﺪيﺪة التي ورثها اﻹسﻼم والتي تحﻮلﺖ تحﻮﻻ طبيعيا ﻋبر القﻮة والطاقة الروحية وتشكيﻠها‬
‫في جﻮهر جﺪيﺪ مختﻠف ومستمر ﻋن تﻠك الروح السائﺪة من قبل‪ (Nasr.S:1976) .‬من هنا يتضح أن العﻠم في‬
‫ظل الحضارة اﻹسﻼمية كان في حالة من التصالح واﻻئتﻼف مع العﻠم الﺪيني والشرﻋي‪ .‬ولكنها وحﺪة يتضمنها‬
‫ﻋمﻠية تﺪخل او يمكن القﻮل وحﺪة ﻋﻠى مستﻮى التﺪخل والمراقبة ‪interference and surveillance‬العﻠﻮم‬
‫الﺪينية لسائر العﻠﻮم اﻻخرى هذا من جهة ‘ومن جهة أخرى وحﺪة ﻋﻠى مستﻮى الشكل ﺑحيث لم ينتج إنتاجا جﺪيﺪا‬
‫أو نشاطا معرفيا جﺪيﺪا كنتيجة لهذا التفاﻋل القائم ﺑين العﻠﻮم المختﻠفة‪.‬‬

‫)‪Authoritative (R‬‬

‫)‪Revolutionary (P‬‬ ‫)‪Revolutionary(S‬‬

‫)‪Dependent (C‬‬

‫شكل )‪ (4‬يوضح عﻼقة بين نمط العﻘل اﻹﺳﻼمي وتفاعله مع العلم والدين وانعكاس ذلك على الحضارة اﻹﺳﻼمية في مرﺣلة‬
‫اﻻنفتاح الفكري‬

‫لقﺪ قامﺖ الحضارة اﻹسﻼمية ﺑهﺪف ديني تمثل في الﺪﻋﻮة إلى الﺪين‪ ،‬فالﺪين اﻹسﻼمي له رسالة ﻋالمية‪ ،‬وقام رجاله ﺑنشره‬
‫ﺑين اﻷمم ولتصحيح مفاهيم الﺪين ﻋنﺪ المنتسبين الجﺪد له؛ كان اﻻهتمام ﺑالعﻠﻮم الﺪينية‪ ،‬وﺑعﻠم الكﻼم‪ ،‬ﺑاﻋتباره أداة‬
‫ضرورية ومنطقية لﺪﻋم اﻵراء الﺪينية ﺑبراهين ﻋقﻠية لﻠﺪفاع ﻋن الﺪين اﻹسﻼمي لكل المخالفين له سﻮاء ﻋقائﺪيا أم مذهبيا‪.‬‬
‫ولهذا احتل رجل الﺪين مكانة كبرى في اﻹسﻼم واحتل القضاة الذين يحكمﻮن ﺑشرع ﷲ مكانة كبرى في ظل الحضارة‬
‫اﻹسﻼمية‪ .‬ومن هنا أﻋطيﺖ سﻠطة استمﺪ رجل الﺪين سﻠطته من سﻠطة الﺪين نفسه‪ ،‬وصارت هناك وحﺪة ﺑين أوامر رجل‬
‫الﺪين ونﻮاهيه واوامر ونﻮاهي الﺪين‪ ،‬فهﻮ القائم ﻋﻠيه والممثل له ﺑين الجميع‪ .‬ومن هذا المنظﻮر الﺪيني كانﺖ النظرة إلى‬
‫العﻠم والفﻠسفة ﺑاﻋتبارهما نظم معرفية هامة ﻻستكمال الحضارة ولبناء الﻮﻋي اﻹسﻼمي‪ .‬وهذا إشكال كبير تمثل في‬
‫ي ﻋالم الﺪين نسبي‪ ،‬يكمن في فهمه لﻠنص واﻻستﺪﻻﻻت التي اﻋتمﺪ ﻋﻠيها‬
‫الﻮحﺪة ﺑين ما هﻮ مطﻠق وما هﻮ نسبي‪ .‬فرأ ُ‬
‫ﻻستخراج رأيه‪ ،‬ومن ثمة فهﻮ متغير وقاﺑل لﻠتعﺪيل واﻻﻋتراض ﻋﻠيه‪ ،‬ﻋﻠى ﻋكس النص الﺪيني فهﻮ مقﺪس ومطﻠق وﻻ‬

‫‪15‬‬
‫يخضع لﻠتغيير‪ .‬ولهذا أفرز هذا الفهم مذاهبا فقهية متعﺪدة‪ ،‬اﻋتمﺪت ﻋﻠى اﻻستﺪﻻﻻت المنطقية‪ ،‬واﻷقيسة لﻸحكام‪ ،‬وفهم‬
‫النصﻮص الﺪينية‪ .‬ففي ظل المرحﻠة اﻷولى لﻠحضارة اﻹسﻼمية وهى مرحﻠة اﻻنفتاح تميزت ﺑالتعﺪدية الفقهية‬
‫‪Pluralistic Jurisprudence‬والتعﺪدية الثقافية‪ Multi Culturalism‬اﻷمر الذي أتاح مناخا لﻠتعايش ولقبﻮل اﻻخر‬
‫المخالف سﻮاء ﻋﻠى مستﻮى المجال الﺪاخﻠي الﻮاحﺪ‪ -‬يقصﺪ ﺑه هنا الﺪين‪ -‬كما في اﻻختﻼف الفقهي ﺑين المﺪارس اﻹسﻼمية‬
‫كالحنفية والحنبﻠية و الشافعية و المالكية ومذهب اﻻمام الﻠيث ﺑن سعﺪ‪ -‬حتى وان لم يكتب له اﻻنتشار فﻠم يكن خﻼﻻ او‬
‫ﻋيبا في البيئة الثقافية اﻹسﻼمية‪ ،‬ﻷنه افتقر إلى التﻼميذ التاﺑعين له؛ فقﺪ تمييز ﺑالتسامح والتعايش وأيضا حتى ﻋﻠى‬
‫المستﻮى الخارجي نظرة الﺪين ورجاله لﻠعﻠﻮم الﺪنيﻮية اﻷخرى فقﺪ تميزت أيضا ﺑالتعايش والتسامح لحﺪ كبير‪ .‬وهنا نرى‬
‫ان العقل السﻠطﻮي وﻋﻠى الرغم من السﻠطة المتاحة له ﺑاﻋتباره متﻮحﺪا مع النص الﺪيني ذاته اﻻ انه كان متسامحا ومتعايشا‬
‫امر مهم‪ ،‬وهﻮ أن التسامح والتعايش لم يكن تسامحا مطﻠقا‪ ،‬ولم يكن تعايشا مطﻠقا‪ ،‬ولكنه‬
‫مع المخالف‪ .‬وهنا يجب تﻮضيح ٍ‬
‫كان متﺪرجا في درجة التسامح والتعايش ﺑحيث تتﻮقف درجة تسامحه وتعايشه ﻋﻠى المﻮقف ذاته‪ .‬فالعقل السﻠطﻮي‬
‫المتسامح اظهر مفارقات في هذه الفترة من التطﻮر الحضاري‪ ،‬كما سنﻮضح ذلك ﺑأمثﻠة‪ .‬ولكن يمكننا القﻮل ان الصﻮرة‬
‫النهائية لﻠعقل السﻠطﻮي‪ -‬في هذه الفترة الحضارية‪ -‬غﻠبﺖ ﻋﻠيها صفتا التسامح والتعايش‪ ،‬وهذا أهم ما ميزه وانعكس‬
‫إيجاﺑيا ﻋﻠى الحضارة اﻹسﻼمية‪ .‬والسؤال المهم اﻷن في ظل هذا الجﻮ الثقافي من التسامح والتعايش كيف انعكسﺖ نظرة‬
‫العقل اﻹسﻼمي ﻋﻠى العﻠم والفﻠسفة؟‬

‫إذا كانﺖ الحضارة اﻻسﻼمية قائمة ﻋﻠى الﺪين‪ ،‬وكل مكﻮن من مكﻮنات الحضارة يتأسس ويقﻮم ﻋﻠى مﺪى الخﺪمة الذي‬
‫يقﺪمه لتحقيق رسالة الﺪين‘ والﺪين يقﻮم ﻋﻠى تفسير قضاياه وأحكامه رجال الﺪين؛ فمن المنطقي رؤية كيف ﻋبر رجال‬
‫الﺪين ﻋن وجهة النظر الﺪينية ﺑخصﻮص العﻠم والفﻠسفة ﺑاﻋتبارها سﻠطة مرجعية ‪ .Reference‬فالﺪين‪ -‬سﻮاء النصﻮص‬
‫القرآنية أو اﻻحاديث النبﻮية‪ -‬شجع العﻠم وهناك امر نبﻮي ﺑطﻠب العﻠم فﻼشك ان نظرة الﺪين إيجاﺑية لﻠعﻠم ولكن من‬
‫المغالطات التي يقع فيها الباحثﻮن تعميم الحكم ﺑالنظرة اﻹيجاﺑية التي يحمﻠها الﺪين لﻠعﻠم‪ .‬ولهذا يقتضي الفعل النقﺪي ان‬
‫نميز ﺑين ثﻼثة أنﻮاع من المغالطات غير الﻮاضحة والتي سببﺖ الكثير من المفارقات الحضارية في اﻹسﻼم‪ .‬وتزﻋم هذه‬
‫الﺪراسة ان هذه المغالطات يمكن تصنيفها إلى ما يﻠي‪:‬‬

‫أ‪ -‬مغالطة تحﺪيﺪ المقصﻮد ﺑالعﻠم‪ ،‬هل هﻮ العﻠم الﺪيني ‪ religious‬ام الﺪنيﻮي ‪ .Secular‬فإشكال المعنى المقصﻮد‬
‫ﺑالعﻠم يظهر أثناء اﻻضطراب الحضاري‪.‬‬
‫ب‪ -‬مغالطة المطﻠق والنسبي هل العﻼقة ﺑين الﺪين في ذاته والعﻠم في ذاته او نظرة الﺪين لﻠعﻠم إيجاﺑية ﺑصﻮرة مطﻠقة‬
‫ام انها نظرة إيجاﺑية ﺑصﻮرة نسبية‪.‬‬
‫ت‪ -‬مغالطة التﻮحيﺪ ﺑين الﺪين ورجل الﺪين‪ .‬فكثير من الناس تخﻠط ﺑين الﺪين وﺑين رجل الﺪين ﺑاﻋتبارهما كيانا ً واحﺪا ً‬
‫ولهذا وجب الفصل ﺑين الﺪﺑن ورجل الﺪين‪ ،‬واﻋتبارهما كيانين منفصﻠين‪.‬‬

‫كان ﻻﺑﺪ من تفنيﺪ هذه المغالطات حتى يتسنى لنا الحكم ﻋﻠى طبيعة العﻼقة التي جمعﺖ ﺑين العﻠم والﺪين في هذه الفترة‪.‬‬
‫ويظل السؤال‪ :‬هل مارس العقل السﻠطﻮي دورا في تحﺪيﺪ حركة العﻠم ونشاطه في هذه الفترة التاريخية؟ ﺑعبارة أخرى‬

‫‪16‬‬
‫هل اتصفﺖ العﻼقة ﺑين الﺪين والعﻠم ‘الذي شجع اﻹسﻼم ﻋﻠى تعﻠمه وتحصيﻠه‪ ،‬أنها إيجاﺑية ﺑصﻮرة مطﻠقة وان هذه العﻼقة‬
‫تظل إيجاﺑية حتى في حالة تﺪخل رجال الﺪين لتحﺪيﺪ ما هﻮ إيجاﺑي وما ليس كذلك؟ وهل هذه العﻼقة متﻮترة ام تظل‬
‫محكﻮمة ﺑالمناخ الثقافي القائم ﻋﻠى التعايش والتسامح المميز لهذه المرحﻠة؟ فعﻠى سبيل المثال العﻼقة ﺑين الﺪين والعﻠم‬
‫كانﺖ جيﺪة ليس في ذاتها؛ ولكن وفقا لﻠهﺪف الذي يحققه هذا العﻠم‪ .‬فالفﻠك ‪ Astronomy‬ﻋﻠى سبيل المثال يعﺪ من العﻠﻮم‬
‫التي نالﺖ استحسان وقبﻮل من العقل السﻠطﻮي‪ ،‬لﻼستفادة منه في تحﺪيﺪ قبﻠة المسﻠمين لﻠصﻼة‪ ،‬إضافة الى ان الفﻠك يسهم‬
‫في دﻋم اﻹيمان ﺑا ودقة صنعه‪ ،‬ودليل وجﻮده ضﺪ غير المسﻠمين‪ .‬ومن ثم تميزت العﻼقة ﺑين الفﻠك والعقل السﻠطﻮي‬
‫أنها ﻋﻼقة ذات طاﺑع إيجاﺑي‪ .‬ﺑينما لم تكن هذه العﻼقة جيﺪة ﺑين العقل السﻠطﻮي وﺑين ‪Astrology‬أو ما يعرف ﺑالتنجيم‪،‬‬
‫لمخالفته تعاليم الﺪين‪ .‬كما نجﺪ أن ﻋﻼقة الﺪين ﺑالطب ﻋﻼقة إيجاﺑية اﻻ ان العقل السﻠطﻮي اﻋترض ﻋﻠى ﺑعض القضايا‬
‫الطبية‪ ،‬واوقف نشاط اﻷطباء في هذا المجال مثل تشريح المخ ﺑاﻋتباره من اﻷمﻮرغير المقبﻮلة شرﻋا‪ .‬فعﻠى سبيل المثال‬
‫فإن الرازي الذي اهتم ﺑالفسيﻮلﻮجيا اﻹنسانية وسعيه لمعرفة ميكانزيم المخ والجهاز العصبي‪ ،‬لم يستطع استكمال ﻋمﻠه‬
‫ﺑسبب اﻋتراض العقل السﻠطﻮي‪ .‬ولم يقتصر اﻻمر ﻋﻠى الرازي‪ ،‬ﺑل امتﺪ كذلك ﻻﺑن النفيس واﺑن سينا ‪ ،‬فعﻠى الرغم من‬
‫أنهم قﺪمﻮا إسهامات في تشريح ﻋﻠم الحيﻮان إﻻ أنه نادرا ما نجﺪ تفاصيل ﻋن التشريح اﻹنساني‪ ،‬وإن وجﺪ فقﺪ تم ممارسته‬
‫ﺑعيﺪا ﻋن رقاﺑة السﻠطة الﺪينية )السرجاني ‪.(137- 133: .2009.‬‬

‫إذا تﺪخل العقل السﻠطﻮي الممثل لﻠﺪين حتى يحﺪ من نشاط العﻠماء ﺑحجة ان نشاطهم هذا يخالف النصﻮص الﺪينية‪ .‬ونتيجة‬
‫لهذا التﺪخل فان العﻼقة اﻹيجاﺑية لم تكن مطﻠقة ﻻن هناك وجﺪت رقاﺑة من العقل السﻠطﻮي ولكن في ظل الحالة الثقافية‬
‫العامة التي تميزت ﺑها تﻠك المرحﻠة فكان الﻮفاق والقبﻮل والتعايش هﻮ النمط العام المميز لﻠعﻼقة ﺑين رجال الﺪين والعﻠم‬
‫الطبيعي‪ .‬والسؤال اﻻن هل تميزت العﻼقة ﺑين الﺪين والفﻠسفة ﺑنفس هذه الحالة من اﻻنسجام والﻮفاق ام ﻻ؟‬

‫ﺑعﺪ ظهﻮر ﻋﻠم الكﻼم –كما أوضحنا ساﺑقا‪ -‬انتشرت فﻠسفة اﻻغريق ﻋﻠى يﺪ المسﻠمين وﺑﺪأت حركة التنﻮير داخل الحضارة‬
‫اﻹسﻼمية فظهرت اﻋﻼم كما أشرنا ساﺑقا كالكنﺪي‘ الفاراﺑي‘ ﺑن سينا‘ سعﺖ الى تفعيل نظريات ارسطﻮ وفهم اﺑعادها‬
‫وذلك ﺑتطبيقها في سياق حضاري مختﻠف‪ .‬فسعﻮا الى تفسير الحركة وتفسير ال ِعﻠًة اﻷولى ﺑاستخﺪام نظريات ارسطﻮ‪.‬‬
‫وكما اوضحنا انهم تعرضﻮا لمسائل خطيرة كقضية العالم حادث ام قﺪيم‪ ،‬وهل العقل الكﻠي يﺪرك الكﻠيات والجزئيات ام‬
‫الكﻠيات فقط وغيرها من هذه اﻹشكاﻻت التي تعرضنا لها‪ .‬وما يهمنا اﻻن في هذا السياق ليس الﺪخﻮل في مناقشة هذه‬
‫القضايا الفﻠسفية ولكن كيف استقبل العقل اﻹسﻼمي الفﻠسفة وإسهامات الفﻼسفة سﻮاء كانﺖ إسهامات سياسية أو أخﻼقية‬
‫أو معرفية أو تﻠك المتعﻠقة ﺑاﻹلهيات‪.‬‬

‫اﻷمر الغريب هنا أن الفﻠسفة لم تكن مجاﻻ قاصرا ﻋﻠى المفكرين‪ ،‬ﺑل اهتم ﺑها وﺑﺪراستها ﻋﺪد ٌ ﻻ ﺑأس ﺑه من العﻠماء فنجﺪ‬
‫الرازي‘ﺑن سينا‪ ،‬ﺑن الهيثم لهم إسهاماتهم في الكتاﺑة الفﻠسفية إضافة إلى اسهاماتهم العﻠمية " كتاب المﺪخل الى المنطق"‬
‫لﻠرازي‪ ،‬وله أراء تتعﻠق ﺑاﻹﻋجاز العﻠمي في القران والنبﻮة‪ .‬وقﺪ اختﻠف ﻋﻠيه المفكرون والباحثﻮن حﻮل حقيقة ايمانه‬
‫)العبﺪ‪ (5 :1977.‬أيضا)‪ (Walker.1992:87-89‬اﻻختﻼف حﻮل حقيقة الرازي اﻹيمانية لم يكن في الفترة التي ﻋاش‬

‫‪17‬‬
‫فيها‪ ،‬ولكن في فترة ﻻحقة ﻋﻠى وفاته‪ ،‬وهذا يعطى لنا مؤشرا ً أن لﻠرازي أقﻮاﻻً فﻠسفية‪ ،‬إضافة الى ﻋمﻠه كطبيب لم‬
‫يتعرض إلى اضطهاد يذكر وهﻮ دليل ﻋﻠى التعايش والتسامح الفكري‪.‬‬

‫اخر في الفﻠك والرياضيات‪ ،‬اهتم كثيرا ﺑالترجمة والفﻠسفة حتى ا ٌط ِﻠق ﻋﻠيه فيﻠسﻮفا ً‪ ،‬وهﻮ " أﺑﻮ يعقﻮب ﺑن إسحاق‬
‫ﻋال ٌم ُ‬
‫الكنﺪي )‪ (873- 805‬حاول الكنﺪي التﻮفيق ﺑين الفﻠسفة وﻋﻠم الكﻼم من جهة وﺑين الﺪين من جهة أخرى فنجﺪ له ارا ًء في‬
‫اﻹلهيات‪ ،‬وفى نظرية المعرفة وﻋﻼقة الﻮحي ﺑالفﻠسفة‪ .‬وﻋﻠى الرغم من كتاﺑاته اﻻ ان تأثير الكنﺪي لم يكن قﻮيا ﻷنه لم‬
‫يصل لﺪرجة التعمق التي وصل اليها الفاراﺑي وﺑن سينا وهذا ما حمل ﺑعضهم إلى ﻋﺪم تكفيره وإلحاده كالغزالي ﻻحقا‬
‫ﻋﻠى سبيل المثال‪ .‬وﺑفرض انه تناول وقﺪم أرا ًء فﻠسفية إﻻ أنه ظل غير مضطه ٍﺪ في ظل مرحﻠة اﻻنفتاح وحتى الزﻋم‬
‫القائل إنه تﻮفى وحيﺪا منعزﻻ ﺑسبب تﻮلى المعتصم الحكم وكان متشﺪدا دينيا ولكن ليس هناك دليل يؤيﺪ هذا الزﻋم‪.‬‬
‫)‪ .(Adamson,.2005:34‬وهذا يثبﺖ صحة الفرضية التي انطﻠقنا منها وهي ان التسامح والتعايش كان قائما وان العقل‬
‫السﻠطﻮي ‪-‬المتمثل في رجال الﺪين‪ -‬تقبل الفﻠسفة ليس في كﻠيتها ولكن تقبل منها الطبيعيات واﻷخﻼق والسياسة ﻋﺪا‬
‫اﻹلهيات ﻷنها تخالف النصﻮص الﺪينية‪.‬‬

‫وما يثبﺖ التعايش ﺑين الفﻠسفة والعﻠم في فترة اﻻنفتاح الحضاري ما كتبه ﺑن سينا في الفﻠسفة مثل‪ :‬كتاب الشفاء‪ ،‬وكتاب‬
‫النجاة في المنطق واﻻلهيات‪ .‬وﻋﻠى الرغم من كتاﺑات اﺑن سينا الفﻠسفية‪ ،‬إﻻ أنه لم يتم الحاق اﻷذى ﺑه إﻻ ﺑعﺪ وفاته فكثر‬
‫منتقﺪوه‪ ،‬ومنهم من كفًره كالغزالي الذي ولﺪ ﺑعﺪ وفاة اﺑن سينا ﺑما يقرب من ﻋشرين ﻋاما )‪ (1058-1111‬واﺑن تيمية‬
‫)‪ (1263-1328‬وغيره مثل اﺑن كثير الذي ولﺪ تقريبا ﺑعﺪ مرور ثﻼثمائة ﻋام ﺑعﺪ وفاة الشيخ الرئيس‪.‬‬

‫يثن العﻠماء من اﻻنشغال ﺑالفﻠسفة والمنطق‪ ،‬وهذا دليل انفتاح العقل‪ .‬ولهذا اكتسب العقل اﻹسﻼمي‬
‫من هنا نﻼحظ أن العﻠم لم ِ‬
‫المنشغل ﺑالعﻠم والفكر ﺑالعقل الثﻮري الذي طرح أفكارا ً وسعى لعمﻠية تأليف ﺑين ما هﻮ نقﻠى‪ ،‬وذلك ﺑإدخال ما هﻮ ﻋقﻠي‬
‫في ﺑنية التفكير اﻹسﻼمي‪ .‬ولهذا اتصف أنه ﻋق ُل ثﻮري‪ .‬فالمساحة التي خصصها العقل السﻠطﻮي لﻠعﻠم أكبر من المساحة‬
‫التي خصصها لﻠفكر الفﻠسفي في داخل السياق الحضاري‪ ،‬وهذا اﻻنحياز لصالح العﻠم يعﻮد الى سببين‪:‬‬

‫‪ -1‬العﻠم يؤيﺪ ويﺪﻋم ﺑالﺪليل المادي وجﻮد ﷲ وكمال صنعه ﺑاﻋتباره الخالق لﻠعالم ومخﻠﻮقاته‪.‬‬
‫‪ -2‬الفﻠسفة ﺑما تمﻠكه من أدوات نقﺪية تمثل تهﺪيﺪا لﻠفكر السﻠطﻮي ﺑزﻋم انها تهﺪد الﺪين‪ .‬وهذه مغالطة‪ ،‬فالفكر الفﻠسفي‬
‫يهﺪد السﻠطة التي يمنحها رجال الﺪين ﺑانتساﺑهم لﻠﺪين ويمثل درﻋا ً لﻠحماية من النقﺪ‪ .‬ولهذا يعﺪ نﻮ ٌ‬
‫ع من التعﻮيض‬
‫‪ ،Compensation‬وهي إحﺪى الحيل النفسية التي يﻠجأ اليها الﻮﻋي لﻠتغطية ﻋﻠى ضعف أو قﻠة حيﻠة أو ﻋﺪم‬
‫الكفاءة‪.‬‬

‫وقﺪ ﻋبًرنا ﻋن هذا التفاﻋل البيني في الشكل )‪ ،(5‬ﻹيضاح الميكانزم التفاﻋﻠي ﺑين الﺪين والعﻠم والفﻠسفة ومساحة كل مكﻮن‬
‫من هذه المكﻮنات داخل السياق الحضاري اﻻسﻼمي‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫‪P‬م‬
‫‪P‬‬ ‫‪S‬‬
‫‪+‬‬ ‫‪+‬‬
‫‪C‬‬
‫مرحلة اﻻزدهار‬
‫‪-‬‬ ‫‪R‬‬
‫وحدة بين‬
‫_‬ ‫ماهو‬ ‫‪R‬‬
‫وجودي‬
‫‪+‬‬ ‫ومعرفي‬
‫ن‬
‫‪-‬‬ ‫معرفي‬
‫‪P‬‬ ‫‪S‬‬
‫نهاية الحضارة‬

‫شكل )‪ (5‬يوضح عﻼقة بين التفاعل بين الدين والعلم والفلسفة ومدلول التفاعل ﺣضاريا في مرﺣلة اﻻنفتاح الفكري‬

‫في الﻮاقع الحضارة هي المحصﻠة النهائية التي تتفاﻋل فيها هذه المكﻮنات الحضارية المنفصﻠة‪ ،‬وترتبط معا في نسيج‬
‫يخﻠق ﺑينها ﻋنصر الﻮحﺪة واﻻنسجام الﺪاخﻠي ويعطى لها شكﻠها المميز‪ .‬كما ان الممارسات الفكرية السﻠﻮكية هي انعكاس‬
‫لهذا الفهم وهذا اﻻتساق الﺪاخﻠي فينتج ﻋن ذلك ممارسات تتصف ﺑاﻻتساق واﻻنسجام مع الميكانزم الﺪاخﻠي لﻠحضارة او‬
‫ينتج تﻮترا ً داخﻠيا َ ‪ Internal tension‬داخل البنية الحضارية ﺑين ﻋناصر ومكﻮنات الحضارة وﺑين الممارسات فينتج‬
‫ع من الممارسات الشاذة التي تحتاج إلى تبرير ﻋقﻼني‪ Rational justification.‬لى الرغم من أننا أوضحنا انﻮاع‬
‫نﻮ ٌ‬
‫العقل اﻹسﻼمي وتعاطيه مع مكﻮنات الحضارة‪ ،‬وانعكاس هذا التفاﻋل ﺑطريقة افرزت حالة متميزة من التعايش والتسامح‬
‫ﺑين أنﻮاع العقﻮل الثﻼث‪ .‬واوضحنا ان هذا التعايش هﻮ من سمح لﻠعﻠماء ﺑﺪراسة الفﻠسفة ورجال الﺪين من دراسة ﻋﻠم‬
‫الكﻼم وتقبل مباحث الفﻠسفة والمنطق‪ ،‬ﻋﺪا اﻻلهيات وأنتج هذا استقبال العقل التاﺑع ‪dependent reason‬هذا الفهم‪،‬‬
‫فسادت حالة من السﻠﻮك الحضاري والتعﺪدية الحضارية‪ ،‬وقبﻮل اﻷخر‪ ،‬وهذا قﺪ أشرنا اليه ﺑالتعﺪد الثقافي والتعﺪد الفقهي‪.‬‬
‫ولكن ظﻠﺖ هناك وقائع شاذة ﻋن هذا السياق المتسامح القائم ﻋﻠى التعﺪدية واحترام اﻷخر‪ .‬والسؤال الذي يجب أن يُطرح‬
‫اﻻن ما هذه الﻮقائع؟ وماهي مﺪلﻮﻻتها اﻻﺑستمﻮلﻮجية وانعكاساتها الحضارية؟‬

‫المثال اﻷول‪:‬‬

‫ﺑن جرير الطبري )‪ (839-923‬فقيه ورجل تاريخ ومفسر حتى لقُب ﺑشيخ المفسرين‪ .‬وﻋﻠى الرغم من شهرته وﻋﻠمه إﻷ‬
‫أنه تعرض لمحنة في أواخر حياته ﺑسبب التعصب الﺪيني ﻷنصار المذهب الحنبﻠي الذي ساد في ﺑغﺪاد في هذه الفترة‬
‫التاريخية‪ .‬وﻋﻠى الرغم من ﻋﻠمه وورﻋه اﻻ انه أضطهﺪ من قبل زﻋيم الحناﺑﻠة في ذلك الﻮقﺖ‪ -‬أﺑﻮﺑكر ﺑن داود واتهامه‬

‫‪19‬‬
‫ﺑصفات مثل اﻹلحاد اﻻمر الذي جعﻠه يجﻠس في داره وفرض الحصار ﻋﻠيه ممنﻮﻋا من مقاﺑﻠة الناس وطﻼﺑه حتى تﻮفى‬
‫ومنع دفنه في مقاﺑر المسﻠمين‪ ،‬ود ُفن في منزله )اﺑن ﻋساكر‪ .(52 -51 :1995 .‬ولعل السبب في اتهام الحناﺑﻠة لﻠطبري‬
‫أنه مﻠحﺪ ليس لكتبه فقﺪ خﻠﺖ من الفﻠسفة؛ ولكن ﻋﺪم اﻋتناق الطبري لفكر الحناﺑﻠة‪ ،‬وهﻮ ما جعﻠهم يتعامﻠﻮن معه معامﻠة‬
‫قاسية‪ .‬فعﻠى مستﻮى الفكر معارضة او مخالفة الفكر المذهبي السائﺪ أحﺪ اﻷسباب الجﻮهرية ﻹطﻼق صفة اﻻلحاد‪ .‬وهنا‬
‫نجﺪ صراﻋا في الحقيقة ﺑين نمطين من المعتقﺪات‪ .‬المغالطة هنا ان المعتقﺪين نسبيان ‪Relative‬ومن ثم فاحتمالية التعايش‬
‫وقبﻮل اﻻخر نتيجة حتمية في ظل مناخ التعﺪدية الثقافية التي سبق وان أشرنا اليه‪ .‬وﻋﻠى الرغم من أن المعتقﺪين نسبيين‬
‫في ذاتهما اﻻ ان العقل السﻠطﻮي حﻮل أحﺪ المعتقﺪين من نسبي ورفعه لمرتبه المقﺪس ومن ثم فهﻮ مطﻠق‪ .‬وﺑما انه معتقﺪ‬
‫ومذهب مطﻠق فكل مخالف له فهﻮ ضﺪ الﺪين ذاته‪ .‬إنها نفس الممارسة التي قام ﺑها العقل السﻠطﻮي مع العﻠم والفﻠسفة ذاتها‬
‫ﺑﻮضع حﻮاجز لما هﻮ جائز ومقبﻮل شرﻋا –وفقا لﻠقراءة المذهبية لعﻠماء المذهب السائﺪ‪ -‬وليس من وجهة نظر الﺪين ذاته‪.‬‬
‫فالتﻮتر في ﺑنية الحضارة اﻹسﻼمية نتج ﻋنﺪما لم تﻠتزم إحﺪى مكﻮنات الحضارة – المذاهب الﺪينية‪ ،‬وليس الﺪين ذاته‪-‬‬
‫ﺑمكانتها النسبية داخل السياق الحضاري والسعي الى تجاوز هذه المكانة الى مكانة المطﻠق‪ .‬وهنا نجﺪ أن من يقﻮم ﺑممارسة‬
‫العنف الفكري ويحﻮله الى ممارسة فعﻠية العقل التاﺑع ‪ Dependent reason‬وهﻮ ﻋقل العامة‪ .‬وهنا نصل الى نتيجة‬
‫مهمة ان التعايش والسﻼم الﺪاخﻠي ﻻ ينبعان من القاﻋﺪة الجماهيرية‪ ،‬أو من العقل التاﺑع ولكن مسؤوﻻ ﻋنه العقل السﻠطﻮي‬
‫فهﻮ من يسمح ﺑالتعايش وﻋﻠى النقيض هﻮ المسؤول ﻋن حالة الﻼتسامح؛ ﻷن المﻮقف الفكري من العقل السﻠطﻮي ينتقل‬
‫الى مﻮقف العقل التاﺑع ليتحﻮل من مرحﻠة الفكر الى الممارسات‪ .‬وهذا ما سنجﺪه في حاﻻت أخرى في ظل الحضارة‬
‫اﻹسﻼمية في مرحﻠة اﻻزدهار‪.‬‬

‫المثال الثاني‪:‬‬

‫لهذا التﻮتر الﺪاخﻠي‪ ،‬اﺑن حزم اﻻنﺪلسي )‪ (994-1064‬الفقيه الظاهري اﻻنﺪلسي وهﻮ الذي جﺪد المذهب‪ ،‬وﺑعث ﺑه مجﺪدا‬
‫في المغرب العرﺑي‪ .‬والمذهب الظاهري يقﻮم ﻋﻠى ظاهر النص‪ ،‬ويرفض القياس الفقهي الذي اﻋتمﺪ ﻋﻠيه الفقه التقﻠيﺪي‬
‫فالﺪليل الﻮاضح من القران والسنة يعﺪ كافيا واجماع الصحاﺑة ﺑﺪﻻ من القياس حتى ﻻ يقع خﻼف ﺑين جمهﻮر المسﻠمين‪.‬‬
‫وصفه البعض ﺑانه فيﻠسﻮفا كما انه يعﺪ من أكثر اﻻﻋﻼم اﻹسﻼمية تأليفا ﺑعﺪ الطبري‪ ،‬واشتغل ﺑالسياسة وكان مجﺪدا‬
‫يكتف ﺑالنقﺪ العقﻼني‪ ،‬ولكن تعرض لﻼضطهاد وهﺪم ﺑيته‪ ،‬ومصادرة أمﻮاله‪،‬‬
‫ُ‬ ‫لﻠفكر‪ .‬نقﺪه أصحاب المذهب المالكي‪ ،‬ولم‬
‫وتعرضﺖ كتبه لﻠحرق وفرض ﻋﻠيه الحصار‪ .‬والسؤال أيضا كيف يفسر هذا الﻼاتساق المنطقي ﺑين التعايش والتسامح‬
‫وﺑين اضطهاد ﺑن حزم اﻻنﺪلسي؟ ﻋﻠى الرغم من ان أصحاب الفقه المالكي ومجﺪد الفقه الظاهري قﺪما محاولتين لفهم‬
‫الﺪين اﻹسﻼمي‪ .‬ومن ثم فكﻠتا المحاولتين نسبيتين لفهم المقﺪس المطﻠق‪ .‬ولكن محاولة ارتقاء المالكية من كﻮنها مذهب‬
‫نسبي والحكم ﻋﻠيها ﺑاﻋتبارها المطﻠق ذاته فهذا يعنى انها تساوى النص القرآني ذاته في قﺪسيته‪ .‬وهﻮ ما تسبب في هذه‬
‫الحالة من اﻻضطهاد التي تعرض لها اﺑن حزم ﻷنه قﺪم فكرا ً يخالف النسبي‪ -‬الذي ارتقى لﻠمقﺪس المطﻠق‪ -‬في لحظة أغفل‬
‫فيها التعايش والتعﺪدية وهي لحظة ﺑﺪاية هيمنة العقل السﻠطﻮي ﻋﻠى السياق الحضاري‪.‬‬

‫المثال الثالث‪:‬‬

‫‪20‬‬
‫أﺑﻮ ﻋبﺪ ﷲ حسين ﺑن منصﻮر الحﻼج )‪ (858-922‬وهﻮ من المتصﻮفين الذين ﻋاشﻮا في العراق وقﺪم رؤية جﺪيﺪة‬
‫لﻠتصﻮف ليس ﺑاﻋتباره جهادا فرديا او ﻋﻼقة فردية محضة ﺑين الفرد وﷲ ولكن تصﻮفا ذاتي تتحﺪ ‪Intersubjectivity‬‬
‫فكر ومنهج جﺪيﺪ ٌ يخالف اجماع العﻠماء اﻻمر‬
‫فيه نفﻮس المتصﻮفين والزاهﺪين لمﻮاجهة فساد النفس والمجتمع‪ .‬وهذا يعﺪ ُ‬
‫الذي قاد لتعرض الحﻼج لمحنة حقيقية انتهﺖ ﺑاضطهاده الى ان انتهى اﻻمر ﺑقتﻠه وحرق جسﺪه‪ .‬والسؤال أين قيم التسامح‬
‫والتعايش؟ وكيف يمكن تبرير هذه الحادثة في ﺑنية الحضارة اﻹسﻼمية القائمة ﻋﻠى التعﺪدية؟ ﻻ نجﺪ مبررا لهذه الحادثة‬
‫اﻻ انها جاءت في نهاية مرحﻠة اﻻزدهار وهي الﻠحظة التاريخية الفارقة ﺑين فترتين من ﻋمر الحضارة اﻹسﻼمية‪ .‬وهنا‬
‫نجﺪ ان العقل اﻹسﻼمي في نهاية مرحﻠة اﻻزدهار أصيب ﺑحالة من التشتﺖ الﺪاخﻠي ‪ Internal dispersion‬فعﻠى سبيل‬
‫المثال‪ ،‬في حالة الحﻼج يأخذ ﺑالمعنى الظاهر ويرفض المعنى الباطن الذي أكﺪ ﻋﻠيه الحﻼج في كتاﺑاته وأقﻮاله‪ .‬ﺑينما‬
‫المفارقة‪ ،‬ان نفس العقل‪ -‬في حالة اﺑن حزم اﻻنﺪلسي‪ -‬يرفض الظاهر ويؤمن ﺑالباطن‪ ،‬فحقيقة النص ﻻ تكمن في ظاهره‬
‫ولكن في ﺑاطنه‪ .‬هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى فإن في نهاية المرحﻠة الحضارية اﻷولى سيتﻮقف العقل اﻹسﻼمي ﻋن‬
‫القراءة التعﺪدية وإنتاج أفكار جﺪيﺪة ﻋﻠى مستﻮى الفكر فيصاب العقل اﻻسﻼمي ﺑحالة من الجمﻮد والتشﺪد الفكري الذي‬
‫سينعكس ﻋﻠى الثﻼثة مستﻮيات من العقل ويؤدي إلى حالة من التسامح ﻋﻠى المستﻮى الشكﻠي‪ ،‬ﺑينما في واقع اﻻمر حالة‬
‫من الﻼتسامح ﻋﻠى مستﻮى المضمﻮن‪ ،‬واقصﺪ ﺑه الفكر‪.‬‬

‫من هذه الحاﻻت نجﺪ أن تفسير التﻮتر الﺪاخﻠي في ﺑنية الحضارة اﻹسﻼمية في مرحﻠتها اﻷولى مرجعه إلى العقل السﻠطﻮي‪،‬‬
‫وهى حركة هاﺑطة ينتقل فيها الفكر من العقل السﻠطﻮي الى العقل التاﺑع مجاوزا لﻠعقل الثﻮري الذى يمثل مرحﻠة تنقية‬
‫لﻠفكر ‪) purification‬شكل ‪ ،(1-6‬وهﻮ يمثل مرحﻠة نقﺪية هامة ﻻستمرار الحضارة وفاﻋﻠيتها‪ .‬ﺑينما ما سيحﺪث في‬
‫المرحﻠة الثانية في مرحﻠة تطﻮر الحضارة اﻹسﻼمية‪ ،‬كما نزﻋم‪ -‬ستنتقل الحركة لتصبح حركة صاﻋﺪة ينتقل فيها‬
‫الممارسات في ظل الركﻮد الفكري وانغﻼقه‪) .‬شكل ‪(2-6‬‬

‫العقل‬
‫السلطوي‬

‫العقل التابع‬ ‫العقل الثوري‬ ‫العقل السلطوي‬


‫العقل التابع‬

‫شكل )‪ (6-2‬يوضح ﺣركة العﻘل التصاعدية من العامة صعودا الفكر‬ ‫شكل )‪ (6-1‬يوضح ﺣركة العﻘل الهابطة للعﻘل التابع‬

‫ان القراءة النقﺪية لﻮاقع الحضارة اﻹسﻼمية يﻮضح ان العقل السﻠطﻮي لعب دورا مهما وكان محﻮرا أساسيا في تشكيل‬
‫الحضارة وفرض العﻼقة ﺑين مكﻮناتها‪ .‬والسؤال اﻻن هل ظل العقل السﻠطﻮي واحﺪا متفردا ام شاركه السﻠطة ﻋقﻮ ٌل‬
‫أخرى؟ ولكن التحﻠيل النقﺪي كشف أن العقل السﻠطﻮي لم يتضمن فقط العقل الﺪيني المتمثل في رجال الﺪين ولكن يشمل‬
‫أيضا ﻋقﻼ اخرا سﻠطﻮيا لم يستطع العقل اﻹسﻼمي التخﻠص منه والذي انعكس ﺑشكل مؤثر وفاﻋل ﻋﻠى العقل الثﻮري‬
‫ﺑشقيه الفﻠسفي والعﻠمي‪ ،‬ونقصﺪ ﺑه تحﺪيﺪا العقل اﻻرسطي وتراثه العﻠمي والفﻠسفي‪ .‬وفي الحقيقة تتأسس حجتنا ﻋﻠى أن‬
‫العقل اﻻرسطي – ﺑاﻋتباره ﻋقﻼ سﻠطﻮيا‪ -‬مثل ﻋائقا لﻠحضارة اﻻسﻼمية‪ ،‬وفى الﻮقﺖ نفسه كشف ﻋن الخﻠل الكامن في‬
‫‪21‬‬
‫طبيعة العقل اﻹسﻼمي في شقيه الثﻮري المتضمن العﻠم والفﻠسفة ﺑاﻋتبارهما من مكﻮنات الحضارة اﻹسﻼمية‪ .‬والسؤال‬
‫اﻷن‪ :‬ما الخﻠل في العقل اﻹسﻼمي؟ وكيف انعكس هذا ﻋﻠى تطﻮر الحضارة اﻹسﻼمية؟‬

‫لقﺪ ﻻحظنا مﺪى تأثر الفﻼسفة المسﻠمين من أمثال الفاراﺑي واﺑن سينا ﺑنظريات ارسطﻮ وﺑمنطقه‪ ،‬وأصبح هﻮ النمﻮذج‬
‫الفكري الذي سعﻮا الى تطبيقه في ﻋمﻠية التﻮافق ﺑين الﺪين اﻹسﻼمي والمسائل المتعﻠق ﺑالميتافيزيقا والمعرفة‪ ،‬خاصة‬
‫العﻠة الغائية‪ ،‬ومعرفة الكﻠيات والجزئيات الى غيرها من قضايا أخرى‪ .‬وهنا ﺑﻼ شك يظهر تأثر العقل اﻹسﻼمي الثﻮري‬
‫س ْﻠطة ﻻ يجب الخروج ﻋﻠيها من اجل تحقيق ﻋمﻠية التﻮافق‬
‫‪-‬في شقه الفﻠسفي‪ -‬ﺑأرسطﻮ وكيف انه مثل لﻠفﻼسفة ُ‬
‫‪ reconciliation‬ﺑين الﺪين والفﻠسفة‪ .‬ولم يمثل ارسطﻮ سﻠطة لﻠفﻼسفة المسﻠمين ولكنه أيضا مث ًل سﻠطة لﻠعﻠماء المسﻠمين‬
‫أنفسهم‪ .‬فما تﻮضحه هذه الﺪراسة هي القاء الضﻮء ﻋﻠى المفارقة رغم التقﺪم العﻠمي الذي وصل اليه العﻠماء المسﻠمﻮن‬
‫واﻻكتشافات العﻠمية القائمة ﻋﻠى اسس تجريبية واضحة اﻻ انهم مع ذلك لم يستطيعﻮا تجاوز واسقاط ارسطﻮ ﺑاﻋتباره‬
‫سﻠطة فكرية لهم وهذا يمثل الفارق ﺑين العقل اﻹسﻼمي واﻷوروﺑي كما سنﻮضح ﻻحقا‪ .‬والسؤال اﻷن‪ :‬كيف ﺑَ ْ‬
‫ﺪت سﻠطة‬
‫ارسطﻮ وأ َثرت في تناول العﻠماء المسﻠمين لﻠظﻮاهر الطبيعية؟‬

‫فنجﺪ ﻋﻠى سبيل المثال‪ ،‬أﺑا ﻋبﺪ ﷲ البتاني )‪ (858-929‬ﻋالم فﻠك مسﻠم لُ َ‬
‫قب ﺑبطﻠيمﻮس العرب؛ ﻻكتشافاته‪ ،‬وحساﺑاته‬
‫الفﻠكية الﺪقيقة‪ .‬وفى الحقيقة كانﺖ إسهاماته وكتبه مثل " الزيج الصاﺑئ" من أهم كتبه التي ت ُرجمﺖ إلى الﻼتينية‪ ،‬وكانﺖ‬
‫اكتشافاته مﻠهما لكﻮﺑرنيقﻮس وكبﻠر وجاليﻠيﻮ‪ .‬إن إسهامات البتاني أوضحﺖ أن نظريات ﺑطﻠيمﻮس‪ -‬القائمة ﻋﻠى تصﻮر‬
‫ارسطﻮ ﺑثبات اﻷفﻼك‪ ،‬وﻋﺪم حركتها‪ ،‬وأنها غير قاﺑﻠة لﻠحركة والتغير وان مﺪار اﻻفﻼك دائرية وهﻮ اﻻمر الذى ﻋﺪله‬
‫ﺑطﻠيمﻮس ذاته ورأى أن مساره ‪ Epicycle‬وليس دائريا‪ .‬وهﻮ نفس المسار الذي سيتفق ﻋﻠيه ﻋﻠماء الفﻠك المسﻠمﻮن‪.‬‬
‫لقﺪ أكتشف أن أوج الشمس ‪Solar Apogee‬ليسﺖ ثاﺑتة ولكنها تتحرك ﺑبطيء‪ ،‬وأن المسار ﺑه ميل او انحﺪار أي انه‬
‫ليس كرويا او دائريا ‪ .ecliptic‬لقﺪ رأى البتاني ان تطبيق ﺑطﻠيمﻮس المبني ﻋﻠى تصﻮرات ارسطية كان خاطئا‪ ،‬وقﺪ‬
‫ارتكب ﻋﺪدا من اﻷخطاء سﻮاء ﻋﻠى المستﻮى المﻼحظة‪ ،‬أو اﻻستﺪﻻل الرياضي‪ .‬ولم يكن البتاتي هﻮ الﻮحيﺪ الذي انتقﺪ‬
‫تصﻮر ﺑطﻠيمﻮس فهناك اﺑن الهيثم أيضا الذي زﻋم ان أفكار ﺑطﻠيمﻮس ﻋن الحركة المتعﻠقة ﺑالكﻮاكب كانﺖ خاطئة‪ .‬إضافة‬
‫الى أﺑي الريحان محمﺪ البيروني )‪ (973-1048‬ألف كتاﺑا مشهﻮرا في الفﻠك أطﻠق ﻋﻠيه" كتاب القانﻮن المسعﻮدي"‪ ،‬قال‬
‫إن اﻷرض تﺪور حﻮل محﻮرها‪ ،‬ولكنه ذهب كما ذهب ارسطﻮ وﺑطﻠيمﻮس إلى أن اﻷرض هي مركز الكﻮن‪ .‬كما أنه أول‬
‫من اخترع خارطة نصف الكرة اﻷرضية ‪ Plan sphere‬لرصﺪ حركات النجﻮم‪ ،‬اﻷمر الذي أسهم في مﻼحظة حركات‬
‫الكﻮاكب‪ .‬وﻋﻠى الرغم من انه أوضح أخطاء ﺑطﻠيمﻮس في الحساﺑات فإنه لم يتجاوزه‪ .‬نﻼحظ هنا اننا ﺑصﺪد وجﻮد اختﻼف‬
‫ﺑين العﻠماء المسﻠمين وﺑما طرحه ارسطﻮ وﺑطﻠيمﻮس‪ .‬ومن ثم فان دحض نظرية ﺑطﻠيمﻮس صارت قضية مكررة او‬
‫زﻋما مكررا ﻋبر مسير الحضارة اﻹسﻼمية‪ -‬في مرحﻠتها اﻷولى والثانية اﻻ انها مع ذلك لم تسقط اﻻ ﻋنﺪما اسقطها‬
‫كﻮﺑرنيقﻮس والسؤال لماذا لم تسقط نظرية كﻮﺑرنيقﻮس ﻋﻠى الرغم من اكتشاف العﻠماء المسﻠمين خطأ تصﻮراتها؟ فاﻹجاﺑة‬
‫ﻋﻠى هذا السؤال ست ُعطى ﻻحقا‬

‫‪22‬‬
‫في واقع اﻷمر‪ -‬تزﻋم هذه الﺪراسة ‪ -‬أن نظرية ارسطﻮ الفيزيائية مثﻠﺖ نمﻮذجا لعﻠماء الفﻠك المسﻠمين ﻋﻠى وجه التحﺪيﺪ‪،‬‬
‫وخاصة ﻷنها تعﺪ نمﻮذجا لتفسير العﻠم تفسيرا غائيا فأرسطﻮ في نظريته يجمع ﺑين الميتافيزيقي والعﻠمي وهﻮ ما مث ًل‬
‫نمﻮذجا لﻠمسﻠمين‪ .‬فالعﻠل اﻷرﺑع ﻋنﺪ ارسطﻮ المادية والصﻮرية والفاﻋﻠة والغائية واهمها العﻠة الصﻮرية والغائية‪ .‬إضافة‬
‫إلى ﻋﻼقة اﻻفﻼك ﺑالمحرك اﻷول الذي يحرك ومع ذلك يظل ثاﺑتا ﻻن الثبات رمزا لﻠكمال‪ .‬وﻋﻠى الرغم من النقﺪ الذي‬
‫وجه لﻠفﻼسفة المسﻠمين المتأثرين ﺑأرسطﻮ‪ ،‬اﻻ انه ﻋﻠى مستﻮى العﻠم ظل ارسطﻮ وفكره سﻠطة لﻠعقل اﻹسﻼمي الثﻮري‪.‬‬
‫فنمﻮذج الفيزياء اﻻرسطية يمزج ﺑين اﻻنطﻮلﻮجي واﻻﺑستمﻮلﻮجي وهﻮ ما يمثل اﻷساس الذي قام ﻋﻠيه العﻠم اﻹسﻼمي‪.‬‬
‫إذ إن أساسه تشجيع الفﻠك ودراسته وﻋﺪم التعرض له ﺑالنقﺪ‪ ،‬ﻷنه دفاﻋا ﻋن الﺪين واثبات وجﻮد ﷲ ﺑمعرفة دقة صنعه‪،‬‬
‫إضافة الى تشجيع الفﻠك لتحﺪيﺪ التقﻮيم الهجري واﻻشهر الهجرية ومﻮاﻋيﺪ الحج وغيرها إضافة الى تحﺪيﺪ الق ْبﻠة ﺑطريقة‬
‫صحيحة‪ .‬فاﻷﺑستمﻮلﻮجيا ترد لﻸنطﻮلﻮجيا وهﻮ نفس النمﻮذج العﻠمي الذي طرحه ارسطﻮ لفهم الﻮجﻮد ولهذا ظل ارسطﻮ‬
‫ذي سﻠطة ﻋﻠى العقل اﻹسﻼمي في شقه الثﻮري وهذا يفسر ﻋﻠى الرغم من اكتشاف العﻠماء المسﻠمين التي قادتهم الى‬
‫إﻋﻼن أخطاء ارسطﻮ إﻻ أنه ﻻ أحﺪ من العﻠماء سعى الى اسقاط ارسطﻮ وظل محتﻼ العقل العﻠمي وهناك ادلة تﺪﻋم هذه‬
‫الفرضية‪ ،‬وهي ﻋﻠى النحﻮ اﻷتي‪:‬‬

‫‪ -‬ﻋﻠى الرغم من اﻋتماد العﻠماء المسﻠمين ﻋﻠى التجرﺑة في الﻮصﻮل لﻠنتائج‪ ،‬وﻋﻠى الرغم من اﻋتماد ارسطﻮ ﻋﻠى‬
‫اﻻستنتاج المنطقي‪ ،‬وتهميش دور التجرﺑة في العﻠم اﻻ ان ارسطﻮ‪-‬مع ذلك‪ -‬ظل نمﻮذجا لﻠعﻠم ومن أخذ منه مثل‬
‫ﺑطﻠيمﻮس اﻻسكنﺪراني‪.‬‬
‫‪ -‬العﻠم اﻻرسطي له أﺑعاد ميتافيزيقية وكذلك العﻠم اﻹسﻼمي له اﺑعاد ميتافيزيقية فكان ﻻﺑﺪ من اﻹﺑقاء ﻋﻠى النمﻮذج‬
‫اﻷرسطي لﻠعﻠم كنمﻮذجا لﻠجمع ﺑين اﻻﺑستمﻮلﻮجي واﻻنطﻮلﻮجي‪ .‬ودليل ذلك نظرية النبض التي طرحها‬
‫الرازي‪ -‬ﻋﻠى الرغم من تمسكه ﺑالمنهج التجريبي واﻋتماد التجرﺑة‪ ،‬فاﺑن النفيس مكتشف الﺪورة الﺪمﻮية الصغرى‬
‫ظنَ أن النبض وحركة الﺪم وسيﻠة لنشر الروح‪ .‬إذ ظنَ أن تﻮقف حركة الﺪم لفترة طﻮيﻠة قﺪ يؤدي ﻻحتراق القﻠب‪.‬‬
‫ومن ثم فان دوران الﺪم ضروري حتى ﻻ تحرق الروح القﻠب )‪ (Eda&Corma:2012,133‬فنظريات ﺑن‬
‫النفيس في الجهاز الﺪوري والقﻠب كانﺖ قائمة –ﻋﻠى الرغم من تجريبيتها الظاهرة‪ -‬ﻋﻠى أسس ميتافيزيقية نقصﺪ‬
‫ﺑها الروح الﻼمرئية ‪.(Attewell,2003:325-350) invisible spirit.‬‬
‫‪ -‬ﻋﻠى الرغم من إثبات ﺑن الهيثم أن اﻻدراك الحسي يحﺪث ليس ﺑسبب صﻮرة المﻮضﻮع المﺪرك‪ -‬كما صرح ﺑذلك‬
‫ارسطﻮ‪ -‬وليس مادته ولكن المﻮضﻮع يحتﻮي ﻋﻠى ﻋﺪد من النقاط الضﻮئية التي تنعكس من سطح المﻮضﻮع‬
‫ﻋﻠى العين فيتكﻮن إدراكٌ لﻠمﻮضﻮع وفقا لقﻮانين اﻹﺑصار‪ ( Russell. 1996: 703).‬وﻋﻠى الرغم من أهمية‬
‫هذا اﻻكتشاف إﻻ أن ارسطﻮ ﺑاﻋتباره نمﻮذجا لﻠعﻠم ظل قائما ولم يسقط‪ .‬ﺑﺪليل أن اﺑن الهيثم أثناء اطﻼﻋه ﻋﻠى‬
‫كتاب ﺑطﻠيمﻮس المقسط وجﺪ ﻋﺪد من التناقضات في فرضيات اﻷخير المتعﻠقة ﺑالتأثير الضﻮئي لﻠشمس وﻋﻼقته‬
‫ﺑحجمها إضافة الى مﻼحظته تناقضات متعﻠقة ﺑحركة الكﻮاكب ومسارها )‪.(Saliba.1996:74‬‬
‫‪ -‬ﻋﻠى الرغم من التقﺪم الذي قام ﺑه العﻠماء المسﻠمين في مجال الطبيعة والكمياء‪ ،‬إﻻ أن التساؤل القائل ﺑأصل المادة‬
‫لم يتطرق اليه أحﺪ من العﻠماء المسﻠمين‪ ،‬رغم أنه سؤا ٌل مشروع في ظل الفﻠسفة اليﻮنانية‪ ،‬وفى الفيزياء اﻻغريقية‬
‫‪23‬‬
‫ﻋﻠى وجه العمﻮم وﻋنﺪ فيزياء ارسطﻮ ﻋﻠى وجه التحﺪيﺪ إﻻ أنه سؤال تم اسقاطه‪ -‬ﺑطريقة مقصﻮدة‪ -‬وهﻮ دليل‬
‫ﻋﻠى قيام العﻠم اﻹسﻼمي ﻋﻠى أسس ميتافيزيقية‪ .‬وﻋﻠى الرغم من تناول الفﻼسفة المسﻠمين لفكرة أصل المادة اﻻ‬
‫ان العﻠماء والفيزيائيين اكتفﻮا ﺑالصمﺖ‪ ،‬ولكن ظل ارسطﻮ هﻮ النمﻮذج لهم‪ ،‬حتى وان أسقطﻮا ﺑعضا ً من اسئﻠته‬
‫وحتى ولﻮ انطﻮت ﺑعض نظرياته ﻋﻠى أخطاء كما أوضحنا‪.‬‬

‫ولهذا إن أردنا فهم ﻋﻼقة العقل الثﻮري – اقصﺪ ﺑه هنا في هذا السياق‪ -‬العﻠم اﻹسﻼمي والفﻠسفة اﻻسﻼمية ﺑأرسطﻮ‬
‫ﺑاﻋتباره من الركائز التي استنﺪت ﻋﻠيها الحضارة اﻹسﻼمية‪ ،‬يمكننا الزﻋم ان العﻠم اﻹسﻼمي يتناسب ﺑطريقة ﻋكسية‬
‫مع النظريات العﻠمية اﻻرسطية‪ -‬ومع ذلك أﺑقى ﻋﻠى نمﻮذجه‪ -‬ﺑمعنى انه قﺪم من اﻵراء والنظريات التي تخالف‬
‫نظريات ارسطﻮ ﺑما ثبﺖ ﻋجز نمﻮذجه في تفسير الظﻮاهر الطبيعية ولكنه مع ذلك لم يستطع اسقاطه واثبات ﻋجزه‬
‫الكامل في تفسير الظﻮاهر‪ .‬ومن جهة أخرى فان الفﻠسفة اﻹسﻼمية تتناسب ﺑطريقة طردية مع نظريات ارسطﻮ‪ ،‬وﻋﺪ ً‬
‫العقل الثﻮري ﺑشقه الفﻠسفي أن ارسطﻮ يعﺪ نمﻮذجا متكامﻼ في فهم كﻼ من الطبيعة والﻮجﻮد ولهذا نجﺪ نماذج من‬
‫الفﻼسفة المسﻠمين من سعﻮا الى تطبيق نمﻮذج ارسطﻮ في محاولة التﻮفيق ﺑين العقل والنقل‪ .‬والسؤال اﻻن كيف يمكن‬
‫ان نفهم هذه الطبيعة الجﺪلية ﺑين مكﻮنات الحضارة اﻹسﻼمية‪ :‬الﺪين‪ ،‬العﻠم‪ ،‬والفﻠسفة وانعكاسها ﻋﻠى البناء الحضاري‬
‫ذاته؟ ان ﻋمﻠية القراءة النقﺪية والتحﻠيل النقﺪي لﻠنصﻮص الفﻠسفية والعﻠمية وﺑاﻻﻋتماد ﻋﻠى المنهج التاريخي استطاﻋﺖ‬
‫هذه اﻷدوات البحثية الكشف ﻋن طبيعة العﻼقة الجﺪلية ﺑين مكﻮنات الحضارة من جهة والبناء الحضاري اﻹسﻼمي‬
‫من جهة أخرى كما يتضح ذلك في الشكل التالي‪.‬‬

‫_‬
‫‪S‬‬
‫‪R‬‬

‫_ ‪_ +‬‬
‫_‬
‫‪C‬‬
‫‪+‬‬
‫_‬
‫‪+‬‬
‫‪+‬‬
‫‪P‬‬
‫‪+‬‬ ‫‪A‬‬

‫)‬

‫شكل )‪ (7‬يوضح الية التفاعل والعﻼقة الجدلية بين مكونات الحضارة‬

‫‪24‬‬
‫إذ إن الرمز)‪ (R‬يشير إلى الﺪين ﺑما يتضمنه من سﻠطة لﻠنص‪ ،‬والرمز)‪ (A‬يشير الى ارسطﻮ ﺑما يتضمنه من سﻠطة‬
‫فكرية‪ ،‬ويشير الرمز)‪ (S‬إلى العﻠم الطبيعي والرياضي‪ ،‬ويشير الرمز)‪ (P‬إلى الفﻠسفة والمنطق وأخيرا يشير‬
‫الرمز)‪ (C‬الى الحضارة‪ .‬وسنحاول في هذه الفقرة شرح هذا التفاﻋل الﺪيناميكي ﺑين مكﻮنات الحضارة‪ .‬إذ نجﺪ أن‬
‫كل ﻋنصر من مكﻮنات الحضارة نقصﺪ )العقل السﻠطﻮي( يرتبط ﺑثﻼث ﻋﻼقات متﺪاخﻠة ﺑينها )العقل الثﻮري‪ :‬العﻠم‬
‫والفﻠسفة( يرتبط ﺑعﻼقتين فقط ﺑينما نفتقﺪ لعﻼقة متﺪاخﻠة وتفاﻋﻠية ﺑين العﻠم والفﻠسفة ﻋﻠى مستﻮى التفاﻋل الﺪيناميكي‬
‫كما سنﻮضح‪.‬‬

‫فعﻠى المستﻮى العقل السﻠطﻮي الذي أوضحنا أنه ينقسم الى سﻠطتين‪ :‬الﺪين متمثﻼ في رجال الﺪين وﺑين ارسطﻮ‪ .‬إذا‬
‫ما نظرنا ﺑعﻼقة الﺪين ﺑأرسطﻮ ﺑاﻋتباره سﻠطة شاركﺖ رجال الﺪين نفﻮذها فهي نظرة سﻠبية لما تتضمن اراء اﻷخير‬
‫وﺑما انعكسﺖ نظرياته سﻠبا ﻋﻠى افساد ﻋقيﺪة ﺑعض المسﻠمين‪ .‬وكذلك الحال فان الفكر اﻻرسطي ﻻ يتفاﻋل مع فكر‬
‫ديني ينفي المخالف له كما انه اقصائي‪ . Exclusive‬فالعقل السﻠطﻮي ﺑشقيه تجمعهما ﻋﻼقة سﻠبية كما هﻮ مﻮضح‬
‫ﺑالشكل‪ .‬وﺑالنسبة لعﻼقة الﺪين ﺑالعقل الثﻮري متمثﻼ في العﻠم‪ ،‬ونرى انه ﻋﻠى الرغم من ان الﺪين شجع ﻋﻠى العﻠم‬
‫وطﻠبه‪ ،‬فإننا نجﺪ ان المؤشر يشير الى العﻠم ﺑاتجاه سﻠبيا‪ .‬مثل تﻠك المﻮضﻮﻋات البحثية التي يٌرى انها تتعارض مع‬
‫النص الﺪيني مثل تشريح المخ ﻋﻠى وجه التحﺪيﺪ والتنجيم ‪ .Astrology‬وهنا يجب التمييز ﺑين الﺪين كنص ثاﺑﺖ‬
‫ورؤية رجال الﺪين" التأويﻠية" وهي رؤى نسبية‪ .‬فنظرة رجال الﺪين لﻠعﻠم إيجاﺑية خاصة العﻠﻮم التي تأتى ﺑالنفع لﻠﺪين‬
‫ﺑطريقة مباشرة مثل تﻠك تحﺪد القبﻠة‪ ،‬واكتشاف القﻮانين الطبيعية ﻹثبات قﺪرة ﷲ والرياضيات لحل قضايا الميراث‬
‫والمﻮاريث‪ .‬واما ﺑالنسبة لعﻼقة الﺪين ﺑالعقل الثﻮري متمثﻼ في الفﻠسفة؛ فهي سﻠبية من جهته إيجاﺑية من جهة الفﻠسفة‪.‬‬
‫فالفﻠسفة من وجهة نظر الﺪين اقاويل فاسﺪة والقائل ﺑمقﻮﻻت الفﻼسفة اليﻮنان والمعتقﺪ ﺑها فهﻮ كافر كالفاراﺑي واﺑن‬
‫سينا وﻋبﺪ ﷲ ﺑن المقفع )‪ (724-759‬والحﻼج وغيرهم‪ .‬ﺑينما الفﻠسفة نظرت الى الﺪين نظرة إيجاﺑيه من اجل إقامة‬
‫نﻮع من التﻮازن ﺑين ما هﻮ ديني ‪ religious‬وما هﻮ دنيﻮي ‪ secular‬ومن ثم احﺪاث نﻮع من التﻮفيق ﺑين النقل‬
‫والعقل‪ .‬ويتضح هذا الهﺪف من خﻼل ﻋﻠم الكﻼم كمنتج معرفي خرج من رحم الفﻠسفة من أجل الﺪفاع ﻋن اﻹسﻼم‬
‫والتصﺪي لﻠمعارضين والمخالفين من المﻠل اﻷخرى‪.‬‬

‫اما ﺑالنسبة ﻷرسطﻮ ﺑاﻋتباره يشغل نصيبا في العقل السﻠطﻮي فإنه ارتبط ﺑعﻼقة إيجاﺑية مع الفﻠسفة ﺑاﻋتباره المعﻠم‬
‫ويﺪين له جميع فﻼسفة اﻹسﻼم ﺑالفضل‪ ،‬إذ أسسﻮا فﻠسفتهم ﻋﻠى أسس نظريات ارسطﻮ الميتافيزيقية والطبيعية‪.‬‬
‫وﺑالنسبة لعﻼقة ارسطﻮ ﺑالعﻠم اﻹسﻼمي لم يكن كافيا ليغطي التساؤﻻت التي اثارها العﻠماء المسﻠمين خاصة في‬
‫الفيزياء والفﻠك وهذا ما اوضحه العﻠماء المسﻠمين ﺑاكتشاف نظريات تخالف نظريات ارسطﻮ واﻋتمادهم التجريب‬
‫كأداة فاﻋﻠة لتحصيل المعرفة‪ ،‬ومع ذلك فقﺪ ظل العﻠماء المسﻠمين يحمﻠﻮن تقﺪيرا ﻷرسطﻮ وﻋﺪم قﺪرة ﻋﻠى تجاوزه‬
‫وهذه مفارقة أ ًخرت العﻠم اﻹسﻼمي لقرون ﻋﺪيﺪة‪ .‬كل هذه التفاﻋﻼت ﺑين مكﻮنات الحضارة – في مرحﻠتها اﻷولى –‬
‫انعكسﺖ إيجاﺑا وسﻠبا ﻋﻠى الحضارة ذاتها وأظهرت نﻮﻋا من التﻮتر الﺪاخﻠي في البنية الحضارية‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫وﺑين ما كشف ﻋنه التحﻠيل النقﺪي في ﻋﺪم وجﻮد تفاﻋل ديناميكي ﺑين الفﻠسفة والعﻠم‪ ،‬كانا يسيران في خطﻮط متﻮازية‬
‫‪ paralleled lines‬وليسﺖ متقاطعة ‪ intersected lines‬وهنا نصل لﻺجاﺑة ﻋﻠى السؤال الذي طرحناه ساﺑقا لماذا‬
‫لم ينتج العﻠماء المسﻠمﻮن – ﻋﻠى الرغم من انشغالهم ﺑالفﻠسفة ‪-‬أو العكس؟ لماذا لم يستطع الفﻼسفة ان يﻠقَبﻮا ﺑفﻼسفة‬
‫ﻋﻠم‪ ،‬رغم انشغالهم ﺑالعﻠم؟‪ .‬في الﻮاقع كشف التحﻠيل النقﺪي ان العقل اﻹسﻼمي يعانى قصﻮرا في الجانب التنظيري‬
‫‪ theorizing‬وهذا ما جعل ﻋﺪم استطاﻋة الفﻼسفة المسﻠمين تناول قضايا العﻠم من زاوية فﻠسفية‪ -‬حتى ان العﻠماء‬
‫انفسهم اكتفﻮا ﺑطرح تساؤﻻت وفرضيات قائمة ﻋﻠى المﻼحظات والتجريب‪ .‬وهذا القصﻮر ناتج ﻋن النظرة الجزئية‬
‫وليسﺖ الرؤية الكﻠية والشمﻮلية التي يتصف ﺑها الفيﻠسﻮف لتناول قضايا العﻠم‪ .‬وهناك العﺪيﺪ من اﻷدلة التي تعكس‬
‫هذا القصﻮر ﻋﻠى مستﻮى التنظير‪.‬‬

‫‪ -1‬ﻋﻠى سبيل المثال‪ ،‬رغم أن العﻠماء المسﻠمين قطعﻮا شﻮطا كبيرا في التجريب والمﻼحظات والفروض اﻻ انهم لم‬
‫يستطيعﻮا تأسيس قﻮاﻋﺪ المنهج التجريبي وتأصيﻠه فكريا كما فعل فرنسيس ﺑيكﻮن في القرن الساﺑع ﻋشر‪.‬‬
‫فالفﻼسفة المنشغﻠﻮن ﺑالعﻠم والعكس كانﻮا يسيرون في خطﻮط متﻮازية دون محاولة إيجاد نقاط التقاطع‪ ،‬أو محاولة‬
‫طار نظري‪ ،‬ولعل هذا القصﻮر هﻮ من جعﻠهم يتمسكﻮن‬
‫تجميع هذه الخطﻮات المتعﻠقة ﺑاﻹجراء التجريبي في إ ٍ‬
‫ﺑأرسطﻮ ﻋﻠى الرغم من ان التجارب اثبتﺖ خطأ تصﻮراته‪.‬‬
‫‪ -2‬ﻋﻠى الرغم من أن الفﻠكين المسﻠمين استطاﻋﻮا – ﻋبر المﻼحظات والحساﺑات الرياضية‪ -‬اثبات أن ثمة حركة‬
‫تقﻮم ﺑها الكﻮاكب وهﻮ امر نفاه ارسطﻮ وقﺪ كان الطريق متاحا لهم لتحقيق اسبقية ﻋﻠى كﻮﺑرنيقﻮس‪ ،‬إﻻ أن اﻷخير‬
‫وتاﺑعيه كبﻠر وجاليﻠيﻮ استطاﻋﻮا تحقيق نصرا ﻋﻠميا –ليس ﻷنهم فقط اثبتﻮا مركزية الشمس ولكنهم استطاﻋﻮا‬
‫اسقاط ارسطﻮ ﺑاﻋتباره نمﻮذجا لﻠعﻠم وهﻮ امر لم يستطع العقل اﻹسﻼمي تجاوزه او اسقاطه‪.‬‬
‫‪ -3‬ﻋﻠى الرغم من ان العﻠماء المسﻠمين اهتمﻮا ﺑالفﻠك واهتمﻮا ﺑالبصريات إﻻ أنهم لم يستطيعﻮا اختراع التﻠسكﻮب‬
‫الفﻠكي‪ ،‬واكتفﻮا فقط ﺑجهاز اﻻسطرﻻب‪ .‬وهذا يﻮضح فكرة الخطﻮط المتﻮازية وليسﺖ المتقاطعة ﻋنﺪ العقل‬
‫اﻹسﻼمي‪ .‬فالمسﻠمﻮن قﺪ ﻋرفﻮا البصريات وقياس مﺪى البصر‪ optometry‬إضافة لمعرفتهم ﺑالعﺪسات والمرايا‬
‫واناﺑيب المﻼحظة لفحص السماء‪ ،‬إﻻ أنهم مع ذلك لم يحققﻮا قفزة ذهنية ﺑاختراع التﻠسكﻮب‪ .‬هذا القصﻮر في‬
‫الجانب التنظيري ‪theorizing‬هﻮ ما أﺑقى سﻠطة ارسطﻮ ﻋﻠى العقل اﻹسﻼمي ﺑرغم مخالفتهم الصريحة‬
‫لنظرياته‪ ،‬وهﻮ ما سمح ﺑعﺪم التﻮصل لﻮضع أسس المنهج التجريبي كما وضعه ﺑيكﻮن في اﻷرجﻮان الجﺪيﺪ‪.‬‬

‫ويتماشى كﻼمنا في هذه القراءة النقﺪية مع ما ذهب اليه ﺑرتﺪانﺪ راسل‪ ،‬إذ أشاد ﺑالعﻠم اﻹسﻼمي كما أشاد ﺑه اﻻخرون‬
‫لطرقه التقنية العﺪية اﻻ انه مع ذلك كان ينتقص لﻠطاقة العقﻠية ‪ Intellectual energy‬المطﻠﻮﺑة لﻺﺑﺪاع والتجﺪيﺪ‪ ":‬العﻠم‬
‫اﻹسﻼمي كان له اﺑتكارات‪ ،‬لكن كان ينقصه الطاقة الفكرية" )‪ .(Russell. 1945:Ch x‬واﻷن ننتقل سريعا الى المرحﻠة‬
‫الثانية من مراحل تطﻮر الحضارة اﻹسﻼمية لنرى العﻼقة ﺑين الﺪين والفﻠسفة والعﻠم وانعكاس هذا التفاﻋل ﻋﻠى الحضارة‪.‬‬

‫‪ 2-1- 2‬جدلية العﻼقة بين الفلسفة والعلم‪) :‬مرﺣلة اﻻنغﻼق الفكري(‬

‫‪26‬‬
‫لقﺪ ﻻحظنا طبيعة التفاﻋل ﺑين مكﻮنات الحضارة اﻹسﻼمية في ﺑﺪاية نشأتها وحتى نهاية القرن العاشر‪ ،‬وحﻠﻠنا طبيعة‬
‫الميكانيزم التفاﻋﻠي ﺑين مكﻮنات الحضارة وﻋﻼقات التفاﻋل البينية كما في شكل )‪ (7‬ﺑهﺪف معرفة اﻷخطاء الكامنة‬
‫في ﺑنية الحضارة اﻹسﻼمية وانتهينا ﺑمناقشة أسباب قصﻮر العقل اﻹسﻼمي في تﻠك الفترة التاريخية‪ .‬والﻮاقع أن‬
‫مرحﻠة اﻻنغﻼق الفكري تأتى كنتيجة منطقية وضرورة تاريخية لﻠمرحﻠة اﻷولى ولكن مع اﻻختﻼف الكيفي والكمي‪.‬‬
‫فمن حيث انتشار قيم التسامح والتعايش ﺑين المكﻮنات الحضارية وطبيعة العﻼقة ﺑين أنﻮاع العقﻮل الثﻼث‪ ،‬فهذا يمثل‬
‫اختﻼفا كيفيا‪ ،‬ﺑينما من حيث حجم اﻻختراﻋات واﻵﻻت التي تم اكتشافها في هذه الحقبة مقارنا ﺑالمرحﻠة اﻷولى يمثل‬
‫اختﻼفا كميا ً‪.‬‬

‫فمرحﻠة التطﻮر الحضاري الثانية ستشهﺪ انتشارا ً وهيمنة لﻠعقل السﻠطﻮي المتمثل في رجال الﺪين ﻋﻠى حساب‬
‫المكﻮنات اﻷخرى العﻠم والفﻠسفة‪ ،‬وﻋﻠى حساب سﻠطة ارسطﻮ ذاتها؛ التي تشاركه نفس المنزلة‪ .‬ومن ثم ستتﻼشى قيم‬
‫التسامح و التعايش ﺑين أنﻮاع العقﻮل الثﻼث‪ ،‬وسيزداد التشﺪد والتطرف الذى سينعكس سﻠبا ﻋﻠى الحركة العﻠمية‬
‫والفﻠسفية‪ ،‬وسيع َجل ﺑسقﻮط الحضارة اﻹسﻼمية‪ .‬وسنﻮرد مجمﻮﻋة من الﻮقائع التي تصﻮر لنا هيمنة العقل السﻠطﻮي‬
‫ﻋﻠى مكﻮنات الحضارة اﻹسﻼمية‪.‬‬

‫‪ -1‬أبو ﺣامد الغزالي )‪(1058-1111‬‬

‫فيﻠسﻮف وفقيه إسﻼمي‪ ،‬ويعﺪ أﺑرز الذين اشتغﻠﻮا ﺑالفﻠسفة في العالم اﻹسﻼمي‪ ،‬وقﺪم تحﻠيﻼ ناقﺪا لﻠفﻠسفة اليﻮنانية وأقسامها‪.‬‬
‫وقﺪ انتقﺪ الفﻼسفة المسﻠمين أمثال‪ :‬الفاراﺑي‪ ،‬واﺑن سينا‪ ،‬واﺑن رشﺪ وكفَرهم في ثﻼثة مسائل؛ وﺑﺪ َﻋهم في سبعة ﻋشر‬
‫مسالة‪ .‬وقﺪ كان لكتاﺑه )تهافﺖ الفﻼسفة( اﻷثر اﻷكبر لﺪى العامة ﺑتكﻮين اتجاه سﻠبي لﻠفﻠسفة حتى ﻋصﻮر متقﺪمة‪ .‬والمفارقة‬
‫أن الغزالي الفقيه والفيﻠسﻮف الذي كفَر اﺑن رشﺪ الفقيه والقاضي الشرﻋي والفيﻠسﻮف‪ ،‬فإنه أقرب ما يكﻮن متصفا ﺑأنه‬
‫ﻋقﻼني ثﻮري رافض لﻼتباع والتقﻠيﺪ‪ .‬وفي واقع اﻻمر أن انتقاد الغزالي لﻠفﻼسفة وتكفيره لهم لم يشفع له‬
‫ٌ‬ ‫ﻋق ٌل تنﻮير ٌ‬
‫ي‬
‫ﻋنﺪ رجال الﺪين الذين انتقﺪوا الغزالي نفسه أمثال اﺑن تيمية واﺑن الجﻮزي‪ .‬فيقﻮل اﺑن تيمية ﻋن الغزالي‪ " :‬يﻮجﺪ في كﻼم‬
‫أﺑي حامﺪ من أصﻮل هؤﻻء الفﻼسفة المﻼحﺪة الذين يحرفﻮن كﻼم ﷲ ورسﻮله صﻠى ﷲ ﻋﻠيه وسﻠم ﻋن مﻮاضعه كما‬
‫فعﻠﺖ طائفة القرامطة والباطنية" )أﺑن تيمية‪.(403- .2004 :‬‬

‫‪ -2‬ابن رشد )‪(1126-1198‬‬

‫قاضى وفقيه وفيﻠسﻮف وطبيب‪ ،‬ﻋاش ومات في اﻻنﺪلس ويعﺪ أحﺪ اهم المفكرين في الحضارة اﻹسﻼمية تصﺪى لفكر‬
‫الغزالي المتشﺪد من الفﻠسفة وأصﺪر كتاﺑه "تهافﺖ التهافﺖ" ردا منه ﻋﻠى كتاب الغزالي "تهافﺖ الفﻼسفة" الذي ذهب فيه‬
‫لتكفير الفﻼسفة‪ .‬في الحقيقة ﺑن رشﺪ مثل نمﻮذجا تنﻮيريا في تﻠك الحقبة الزمانية في وقﺖ انتشر فيه التشﺪد وتظهر سطﻮة‬
‫العقل السﻠطﻮي لرجال الﺪين ﻋﻠى الفكر الثﻮري‪ .‬وﻋﻠى الرغم من فكر ﺑن رشﺪ المستنير إﻻ أنه تعرض لمحنة كبرى ﺑعﺪ‬
‫أن أحرقﺖ كتبه‪ ،‬وتم تكفيره‪ ،‬وﺑعﺪ أن حرم اﻻشتغال ﺑالفﻠسفة لخطﻮرتها‪.‬‬

‫‪ -3‬لسان الدين بن الﺨطيب )‪(1313-1347‬‬


‫‪27‬‬
‫يعﺪ واحﺪٌ من المؤرخين والفﻼسفة الذين اشتغﻠﻮا ﺑالطب في اﻻنﺪلس ُحكم ﻋﻠيه ﺑالسجن ﺑعﺪ أن اتهم ﺑاﻹلحاد‪ ،‬وأثناء سجنه‬
‫قُتل ودفنﻮا جثته‪ ،‬ثم أخرجﺖ جثته اليﻮم التالي لﻠﺪفن‪ ،‬وتم اشعال النار ﺑجﻮار جثته فاحترق شعر رأسه ثم ردت الى قبره‬
‫مرة أخرى وهذا يعكس حالة التشﺪد الذي انتقل من العقل السﻠطﻮي لﻠعقل التاﺑع مرورا ﺑالعقل الثﻮري الذي كان إقصائيا ً‬
‫لذاته هﻮ اﻻخر‪ .‬وهذا ما نراه في النمﻮذج الثاني الذي يعكس هذا النﻮع من الﻼتعايش‪.‬‬

‫يقﻮل تقى الﺪين ﺑن الصﻼح المتﻮفى ﻋام )‪ :(1245‬إن الفﻠسفة أس السفه واﻻنحﻼل‪ ،‬ومادة الحيرة والضﻼل‪ ،‬ومثار الزيغ‬
‫والزنﺪقة‪ ...‬ومن تفﻠسف ﻋميﺖ ﺑصيرته ﻋن محاسن الشريعة المؤيﺪة ﺑالبراهين‪ ،‬ومن تﻠبس ﺑها فارقه الخذﻻن والحرمان‬
‫واستحﻮذ ﻋﻠيه الشيطان‪ ،‬وأظﻠم قﻠبه ﻋن نبﻮة محمﺪ صﻠى ﷲ ﻋﻠيه وسﻠم‪ .‬وقال أيضا‪" :‬استعمال اﻻصطﻼحات المنطقية‬
‫في مباحث اﻻحكام الشرﻋية من المنكرات والرقاﻋات المستحﺪثة وليس ﺑاﻷحكام الشرﻋية‪-‬و الحمﺪ‪ -‬افتقار الى المنطق‬
‫أصﻼ‪ ،‬هﻮ قعاقع قﺪ اغنى ﷲ ﻋنها كل صحيح الذهن‪ ،‬فالﻮاجب ﻋن السﻠطان اﻋزه ﷲ ان يﺪفع ﻋن المسﻠمين شر هؤﻻء‬
‫المشائيم ويخرجهم من المﺪارس ويبعﺪهم )الذهبي‪.(143:1985 .‬‬

‫من خﻼل هذه اﻷمثﻠة وغيرها التي تعكس مﺪى سيطرة العقل السﻠطﻮي – الﺪيني‪ -‬ﻋﻠى العﻠم والفﻠسفة نقﻮل إن التصادم‬
‫ع أيضا ﺑينى ﻋﻠى مستﻮى ما هﻮ ديني‪ ،‬فكل فكر‬
‫ليس ﺑين الﺪيني والﺪنيﻮي فقط‪ ،‬ولكن ﻋﻠى مستﻮى الﺪنيﻮي يﻮجﺪ صرا ٌ‬
‫يخالف اﻻجماع يعﺪ ﺑاطﻼ فالتصﻮف ﺑاطل ﻷنه يخالف اﻻجماع ﺑﺪليل نقﺪ رجال الﺪين كاﺑن كثير واﺑن تيمية لﻠغزالي‪.‬‬
‫وهذا مؤشر مهم ﻻنحسار التعﺪدية –ﺑشكل واضح‪ -‬والرجﻮع الى فكرة الﻮاحﺪية‪ .‬وهنا يكمن اﻹشكال‪ ،‬فجﻮهر الحضارة‬
‫يقﻮم ﻋﻠى التعﺪدية سﻮاء أكانﺖ فكرية أم ثقافية في مناخ يسﻮده التسامح والتعايش‪ ،‬وهذا ما ميز الحضارة اﻹسﻼمية في‬
‫مرحﻠتها اﻷولى‪ .‬وﻋﻠى الجهة اﻷخرى‪ ،‬نرى أن المرحﻠة الثانية انتهﺖ ﺑعمﻠية ﻋكسية‪ ،‬وهي رد التعﺪدية الثقافية والفكرية‬
‫‪multiculturalism‬الى نﻮع جﺪيﺪ من الﻮاحﺪية المطﻠقة ‪Absolute Oneness‬‬

‫‪Absolute Oneness‬‬ ‫‪Absolute Oneness‬‬

‫‪multiculturalism‬‬ ‫‪multiculturalism‬‬

‫)‪ (8-2‬نهاية الحضارة‬ ‫شكل )‪ (8-1‬بداية الحضارة‬

‫في ظل هذه الحالة من ردَ التعﺪدية الثقافية إلى الﻮاحﺪية‪ ،‬نجﺪ أن ﻋﻼقات التفاﻋﻠية ﺑين مكﻮنات الحضارة ستختﻠف اختﻼفا‬
‫له انعكاسات سﻠبية ﻋﻠى الحضارة اﻻسﻼمية‪ .‬فكما هﻮ مﻮضح ﺑالشكل )‪ (5‬نجﺪ ان نظرة الﺪين لﻠعﻠم والﺪين صارت سﻠبية‬
‫‪ .‬فالعﻠم صار مقيﺪا ﺑما يتفق مع اراء وفتاوى ﻋﻠماء الﺪين‪ ،‬وصار التمييزواضحا ﺑين العﻠﻮم الشرﻋية والعﻠﻮم الﺪنيﻮية‪،‬‬
‫‪28‬‬
‫ﺑينما كانﺖ نظرة العﻠماء لﻠﺪين نظرة استسﻼم وخضﻮع فﻠم نجﺪ أحﺪا من الفﻠكيين له اسهامات في ﻋﻠم التنجيم‪ ،‬ولم نجﺪ‬
‫احﺪا ً من العﻠماء تجاوز حﺪود العقل في تساؤﻻت تتجاوز العقل ذاته ولم نجﺪ احﺪا ً من اﻷطباء اجرى وتقﺪم خطﻮات‬
‫مﻠمﻮسة في ﻋﻠم التشريح الخاص ﺑاﻹنسان او ﺑالمخ اﻹنساني ل ُح ْرمة هذا اﻹجراء من قبل رجال الﺪين‪ .‬ﺑينما زادت النظرة‬
‫السﻠبية لرجال الﺪين لﻠفﻠسفة والفﻼسفة وات ُهم المشتغﻠين ﺑها ﺑالكفر والزنﺪقة كاﺑى الحيان التﻮحيﺪي المتﻮفى )‪ (1023‬ولم‬
‫يكتف اﻻمر ﻋﻠى هذا الحﺪ ولكنه تعﺪاه الى اﻻدﺑاء أيضا المشتغﻠين ﺑالفكر الفﻠسفي كاﺑى العﻼء المعري صاحب رسالة‬
‫الغفران المتﻮفى)‪(1058‬الذى اتهم أيضا ﺑالزنﺪقة وﻋمر الخيام صاحب الرﺑعيات المتﻮفى )‪ (1131‬والذى اتهم ﺑالكفر‬
‫وقيل ﻋنه انه استخﺪم الﻠغة الرمزية في السخرية ﺑالﺪين‪ ،‬واﺑن ﻋرﺑي الفيﻠسﻮف والمتصﻮف المتﻮفى)‪ (1241‬الذى اتهم‬
‫هﻮ اﻻخر ﺑالزنﺪقة لقﻮله ﺑﻮحﺪة الﻮجﻮد‪ .‬وفى الحقيقة في هذه المرحﻠة التاريخية سيتم الفصل تﺪريجيا ﺑين العﻠم و الفﻠسفة‬
‫‪-‬أول مرة‪ -‬وسيقتصر العﻠماء ﻋﻠى مﻮضﻮع العﻠم ﺑمعزل ﻋن التصﻮرات الفﻠسفية‪ ،‬ﺑينما سيقتصر دور الفﻠسفة ﻋﻠى‬
‫التأمﻼت الميتافيزيقية واﻻﺑستمﻮلﻮجية القاصرة ﻋﻠى التﻮفيق ﺑين المعقﻮل والمنقﻮل أو ﺑين الفﻠسفة و الﺪين‪ .‬فهذه التفاﻋﻼت‬
‫الﺪينياميكية ﺑين مكﻮنات الحضارة ستنعكس سﻠبا ﻋﻠى الحضارة وﻋﻠى انكماشها ثقافيا وتﻮقعها حﻮل ذاتها‪ ،‬وترد‪-‬كما‬
‫اشرنا ساﺑقا‪ -‬التعﺪدية الى الﻮاحﺪية‪ -‬وسيؤثر هذا اﻻنغﻼق ﻋﻠى انتشار قيم الﻼتسامح‪ ،‬والتعصب الﺪينى ومن ثم انتشار‬
‫حالة الﻼتعايش‪.‬‬

‫النتيجة‪:‬‬

‫في ضﻮء القراءة النقﺪية لجﺪلية العﻼقة ﺑين مكﻮنات الحضارة اﻹسﻼمية؛ استطاﻋﺖ هذه الﺪراسة تصﻮر نمﻮذج‬
‫إﺑستمﻮلﻮجي يﻮضح العﻼقات التفاﻋﻠية ﺑين مكﻮنات الحضارة اﻹسﻼمية في مرحﻠتيها اﻷولى والثانية‪ ،‬حاولنا فيها تقﺪيم‬
‫تصﻮر لﻠعقل اﻹسﻼمي‪ -‬في ظل هذه التفاﻋﻼت الﺪيناميكية – و ذلك ﺑتقسيم العقل اﻹسﻼمي الى ثﻼثة أنﻮاع‪ :‬سﻠطﻮي‪،‬‬
‫ثﻮري‪ ،‬وتاﺑع ورأينا التﺪاخﻼت و العﻼقات ﺑين اﻷنﻮاع الثﻼثة وانعكاساتها ﻋﻠى طبيعة التفاﻋﻼت ومن ثم انعكاساتها ﻋﻠى‬
‫شكل وتطﻮر الحضارة‪ .‬وفي ظل هذا التصﻮر اﻻﺑستمﻮلﻮجي‪ -‬وضعﺖ هذه الﺪراسة تصﻮرا جﺪيﺪا لﻮحﺪة المعرفة في ظل‬
‫الحضارة اﻹسﻼمية وذلك ﺑتقسيمها الى ثﻼثة أنﻮاع من الﻮحﺪة وهي وحﺪة مستقﻠة شكﻠية‪ ،‬وحﺪة تﻮازى غير مفعَﻠة‪ ،‬ووحﺪة‬
‫التفاﻋل التكامﻠي‪.‬‬

‫ووضحنا ﻋﻠى الرغم من انشغال العﻠماء ﺑالفﻠسفة‪ ،‬وﻋﻠى الرغم من تقﺪيم اكتشافات ﻋﻠمية جﺪيﺪة اﻋتمادا ﻋﻠى التجرﺑة؛‬
‫لماذا ﻋجز العقل العرﺑي ﻋﻠى اكتشاف المنهج التجريبي ووضع قﻮاﻋﺪه‪ ،‬وأن هذا اﻷمر يرجع إلى قصﻮر في العقل‬
‫التنظيري اﻹسﻼمي ﺑسبب سﻠطة ونفﻮذ العقل السﻠطﻮي ﻋﻠى العقل الثﻮري ﺑشقيه العﻠمي و الفﻠسفي‪ .‬ولهذا نرى أنه لﻮ‬
‫استطاع العﻠماء المسﻠمﻮن صياغة التصﻮر القائل ﺑعﻠمانية العﻠم ‪ Secularization od Science‬ﻻنعكس ذلك إيجاﺑا‬
‫ﻋﻠى شكل الحضارة‪ ،‬وﻋﻠى طبيعة المنتج المعرفي في شقيه العﻠمي و الفﻠسفي ورﺑما كتب لﻠحضارة اﻹسﻼمية‬
‫اﻻستمرارية‪ ،‬كما استمرت الحضارة اﻷوروﺑية منذ انحﺪار الحضارة اﻹسﻼمية وحتى ﻋصرنا الحاضر‪.‬‬

‫المراجع‪:‬‬

‫‪29‬‬
‫أوﻻ‪ :‬مراجع باللغة العربية‪:‬‬

‫أﺑﻮ ﺑكر‪ ،‬احمﺪ‪ .(2001) .‬تاريخ مﺪينة السﻼم تاريخ ﺑغﺪاد وذيﻠه والمستفاد‪ ،‬تحقيق ﺑشار ﻋﻮاد معروف‪ ،‬دار الغرب‬
‫اﻹسﻼمي‪ ،‬ﺑيروت‪ ،‬الجزء الثاني ‪،‬ص‪. 164‬‬

‫اﺑن تيمية‪ ،‬احمﺪ‪ .(2004) .‬مجمﻮع الفتاوى‪ ،‬مجمع المﻠك فهﺪ لطباﻋة المصحف الشريف‪ ،‬الممﻠكة العرﺑية السعﻮدية‪،‬‬
‫الجزء ‪ ،10‬ص ‪.403‬‬

‫اﺑن سينا‪ ،‬أﺑﻮ ﻋﻠي‪ .(1971) .‬القانﻮن في الطب‪ :‬تحقيق د خﻠيل أﺑﻮ خﻠيل ‘الجزء الراﺑع دار المعارف ﺑيروت‬

‫اﺑن سينا ‘أﺑﻮ ﻋﻠي‪ :‬القانﻮن في الطب ‘الجزء الراﺑع ‘مركز التراث لﻠبرمجيات‪.‬‬

‫اﺑن ﻋساكر‪ ،‬أﺑﻮ القاسم‪ .(1995) .‬تاريخ دمشق‪ ،‬تحقيق ﻋمرو ﺑن غرامة العمروي‪ ،‬دار الفكر لﻠطباﻋة و النشر والتﻮزيع‪،‬‬
‫الجزء ‪ 52‬ص‪.52-51‬‬

‫الحﻠﻮ‪ ،‬ﻋبﺪه‪ .(1995) .‬الﻮافي في تاريخ الفﻠسفة العرﺑية‪ ،‬دار الفكر الﻠبناني‪ ،‬ﺑيروت‪ ،‬الطبعة اﻻولى‪.‬‬

‫الذهبي‪ ،‬شمس الﺪين‪ .(1985) .‬سيرة اﻋﻼم النبﻼء تحقيق اﻻرناؤط ‪ ،‬الجزء ‪ 23‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬ﺑيروت‪.‬‬

‫السيﺪ‪ ،‬محمﺪ‪ . (1987) .‬اصالة ﻋﻠم الكﻼم‪ ،‬دار الثقافة لﻠنشر والتﻮزيع‪ ،‬الطبعة اﻷولى‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫السرجاني‘ راغب‪ .(2009) .‬قصة العﻠﻮم الطبية في الحضارة اﻹسﻼمية‘ مؤسسة دار ارقام لﻠنشر والتﻮزيع و الترجمة‘‬
‫القاهرة‘ ص ص‪137- 133:‬‬

‫الكمالي‪ ،‬محمﺪ محمﺪ‪ .(1993) .‬محاضرات في الفﻠسفة اﻻسﻼمية‪ ،‬نظرية المعرفة في ثﻮب جﺪيﺪ‪ ،‬مؤسسة الفاو لﻠنشر والتﻮزيع واﻻﻋﻼن‪،‬‬
‫اليمن ‪ ،‬الطبعة اﻻولى‪.‬‬

‫الغزالي‪،‬اﺑﻮ حامﺪ)‪‘ (1998‬دار اﻻرقم ﺑن اﻻرقم‘ ﺑيروت‪ ،‬الجزء اﻷول‬

‫جﻮليفيه‪ ،‬جان‪ .(1983) .‬انتشار الفكر الفﻠسفي في ﻋﻼقته ﺑاﻷسﻼم حتى اﺑن سينا‪ .‬في كتاب اﻻسﻼم والفﻠسفة والعﻠﻮم‪،‬‬
‫ارﺑع محاضرات ﻋامة نظمتها اليﻮنسكﻮ‪ ،‬اليﻮنسكﻮ‪ ،‬ﺑاريس‪.‬‬

‫فخري‪ ،‬ماجﺪ‪ .(1974 ) .‬تاريخ الفﻠسفة اﻻسﻼمية‪ ،‬الﺪار المتحﺪة لﻠنشر‬

‫محمﺪ محمﻮد‪ .(1987) .‬الطب ﻋنﺪ العرب والمسﻠمين تاريخ ومساهمات‪ ،‬دار السعﻮدية لﻠطبع والنشر ‘جﺪة‪ ،‬ص ص‬
‫‪.110-108‬‬

‫ثانيا‪ :‬مراجع باللغة اﻻنجليزية‬

‫‪Ahmed, D(2010) Islam, Science and the Challenge of History, Yale University Press.PP38.39.‬‬

‫‪30‬‬
Adamson,P(2005) Al-Kindi ,The Cambridge Companion to Arabic Philosophy: Cambridge University
Press, Cambridge. P 34.

Attewell.C(2003) Islamic Medicines: Perspectives on the Greek Legacy in the History of ISLAMIC
Medical Tradition in West Asia in Selin,H (Ed)Medicne across cultures: History and Practice of Medicine
in Non Western Cultures. Dordrech, Netherlands: Kluwer Academic Publishers,PP325-350
.

Beg,M.A(1986)Wisdom of Islamic Civilization, A Miscellany of Islamic Quotations, Kuala Lumur .P 57


.

Bucaille'M(1979) The Bible, the Qu'ran and Science, Translated by AliatIR, Paris, English edition, North
American Trust Publication, Indianpolis.'IX .

Ede,A&Cormck,L.B(2012) A History of Science in Society. From the Ancient Creeks to the Scientific
Revolution, North York, Canada University Toronto Press

Elbizri, N(2005) A Philosophical perspective on Al-Hazen's Optics. Arabic Science and Philosophy, Vol
15, Cambridge University Press.PP189.218.

Gandz,S(1938)The Algebra of Inheritance: Rehabilitation of Al-Khuarizmi,Osiris,61,p319.Bruges, Saint


Catherine Press .

Gerlald,T(1990) Al-Khwarizmi Abu Jafar Muhammad ibn MUSA, Dictionary of Scientific Biography,7
New York, Charles Scribner's Sons .

Iqbal,M(1930) Six Lectures on the Reconstruction of Religious Thought in Islam, Kapurart print press,
Lahore,p177 .

Linderg, D(1976) Theories of Vision from Al-Kindi to Kepler, University of Chicago Press,
Chicago.P37.

Mahdi,M(1996) Post face: Approaches to History of Arabic Science. In Encyclopedia of the History of
Arabic Science(ed) Rashed, R&. Morelon, R, Routledge, London& New York, Vol 3,P1027.

Nasr,S.H(1976) Islamic Science :An illustrated Study, Photographs by Michaup,R, World of Islam
Festival Publishing Company,Ltd,P9.

Pormann, P& Smith, S(2007) Medieval Islamic Medicine, Georgetown University, Washington, DC.P47.

Russell,B(1945) History of Western Philosophy, Simon and Schuster,INC, Rockefeller Center, New
York, Book 2 Part 2, Ch x.

31
Russell,G.A(1996) The Emergence of Physiological Optics, in Encyclopedia of the History of Arabic
Science, Vol(2), London.

Saliba, G(1996) Arabic Planetary Theories after the Eleventh Century, in Encyclopedia of the History of
Arabic Science, Vol(1), London.

Sarton ,G(1975)Science in the Mid-East, World center, Yesterday, Today and Tomorrow,(Ed)Nanda, R,
Cooper Square Publishers, New York.P214.

Walker,P(1992).The Political Implications of Al-Razi's Philosophy in Charles E Butterworth. The


Political aspects of Islamic Philosophy in honor of Muslim Mahdi. Harvard University Press.PP78-89.

32

You might also like