Professional Documents
Culture Documents
وفي هذا البحث سوف ُنقدم نبذة ُمختصرة عن مفهوم الحضارة بشكل عام ،ثم مفهوم الحضارة اإلسالمية بشكل
خاص ،ويتبعها عوامل قيامها ،واألسس التي قامت عليها ،وعناصرها ،ثم تطورها تاريخيا ،وجغرافيا ،وعوامل
ازدهارها ،والجوانب المختلفة في الحضارة اإلسالمية عن غيرها من الحضارات األخرى ،بجانب تسليط الضوء على
كبير في النهوض الحضاري ،حيث انعكس االستقرار
دور انظام األسرة في اإلسالم باعتباره نظاما فاعال ،كان له ا
االجتماعي لنظام الزواج على الجوانب الحضارية األخرى للمجتمع المسلم.
فاألسرة هي جزء ُمهم من القاعدة التي يقوم عليها المجتمع اإلسالمي ،لذلك فقد أعطاها اإلسالم من الرعاية
واالهتمام ما لم يعطيها أي نظام ديني أو اجتماعي آخر.
ولكي يكون لألسرة دور فعال ،يحب أن تكون قائمة على أُسس قوية ودائمة و ُمستقرة ،و ُمستمدة من أُصول راسخة،
أساسها القرآن الكريم والسنة النبوية.
نسأل اهلل -سبحانه وتعالى -التوفيق والقبول،،،
DOI:10.12816/0044280
1
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
Abstract
Islamic civilization is one of the greatest human civilizations that has existed throughout the ages, and
distinguished from others by its foundations and principles of material and spiritual constant.
That civilization was concerned with man as its primary purpose, and therefore sought peace, security,
the establishment of a virtuous society and the happiness of mankind.
Islam, by its principles and values, was the source of inspiration for the development and prosperity of
Islamic civilization.
In this paper, we will present a brief description of the concept of civilization in general, and then the
concept of Islamic civilization in particular, followed by the factors of its establishment, the
foundations on which it was founded, its elements, its historical development, geography and
prosperity factors and the different aspects of Islamic civilization. , In addition to shedding light on the
family system in Islam as an effective system, it played a major role in the advancement of civilization,
where the social stability of the marriage system reflected the other civilizational aspects of the Muslim
society.
The family is an important part of the base on which the Islamic community is based, so Islam gave it
care and attention unless it was given by any other religious or social system.
In order for the family to have an active role, it must be based on strong, durable and stable
foundations, rooted in solid foundations, based on the Holy Quran and Sunnah.
محتوى البحث
المطلب األول :الحضارة اإلسالمية ،مفهومها ،وتاريخها ،وجغرافيتها ،وعوامل قيامها.
المطلب الثاني :األسس واألصول التي قامت عليها الحضارة اإلسالمية.
المطلب الثالث :جوانب ازدهار الحضارة اإلسالمية سياسيا وثقافيا وأدبيا وعلميا واقتصاديا واجتماعيا
المطلب الرابع :نظام األسرة نموذجا الستقرار الحضارة اإلسالمية
التوصيات والمقترحات
الخاتمة
إشكالية البحث
جاء اإلسالم في زمن كانت أمة العرب في شبه الجزيرة العربية يعيشون حياة بدائية بسيطةُ ،متفرقين بين عدة
قبائل ،يعانون من الضعف ،والتشرذم ،بعيدين عن المدنية والحضارة ،ثم وحدهم بكلمة التوحيد ،وانطلقوا إلى ُمختلف
البلدان شرقا وغربا ،شماال وجنوبا ،حاملين مشاعل الهداية ،وناشرين نور اإلسالم في كل مكان.
لقد حمل اإلسالم في أُصوله جذور البقاء ،واالستمرار ،فكانت مبادئه ،وتعاليمه ،كفيلة بقيام واحدة من أعظم
الحضارات التي عرفتها البشرية ،فكانت الفتوحات التي قام بها المسلمون ،واالحتكاك بينهم وبين الحضارات القائمة
آنذاك ،وغير ذلك من العوامل األخرى ،مما ساعد على ازدهار الحضارة اإلسالمية ،وتفردها في الجوانب السياسية
والعسكرية واالقتصادية واالجتماعية والثقافية والعلمية.
فكانت هذه الحضارة قادرة على استيعاب الشعوب والحضارات األخرى في منظومتها الحضارية ،واالندماج فيها،
حتى صارت جغرافية العالم اإلسالمي شاملة لكل بقعة من بقاع األرض ،وذلك بفضل الخصائص التي تفردت بها
عن غيرها من الحضارات األخرى ،ومن أبرز تلك الخصائص :النظام األسري الذي كان وما زال قوة دافعة في
بقاؤها واستم ارريتها إلى وقتنا الحاضر.
السؤال :ما هو واقع الحضارة اإلسالمية اليوم؟ ..هل هو واقع نهوض وتأهب واستشراف حضاري ..،أم أنه واقع
تأخر وتخلف ،وانهيار حضاري؟ ،فاألسس الحضارية اإلسالمية ما زالت قائمة إلى يومنا هذا تسري في الكيان
اإلسالمي كما هي ،ومنها النظام األسري الذي تميزت بها.
2
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
سؤال سوف ُنحاول اإلجابة عليه من خالل هذا البحث وذلك من خاللُ ،معالجة مواطن الضعف في المجتمعات
اإلسالمية ،وطُرق النهوض بها.
أهداف البحث:
.1تسليط الضوء على مفهوم الحضارة ،ثم التعريف بالحضارة اإلسالمية وأهم خصائصها ،والتأكيد على أنها
الحضارة الوحيدة التي تمنح األمم الصورة المثلى للرقي الحضاري.
.2التأكيد على أن الحضارة اإلسالمية هي الوحيدة التي جمعت في طياتها الجوانب المادية والروحية لإلنسان،
وكذلك النواحي النفسية والفكرية وغيرها مما تتوق إليه النفس اإلنسانية.
.3المقارنة بين الحضارة اإلسالمية والحضارات األخرى ،وأبرز ما تميزت به الحضارة اإلسالمية.
.4بيان دور الحضارة اإلسالمية في بناء الشخصية اإلنسانية المتكاملة واهتمامها باإلنسان باعتباره ُمحور
الحضارة.
.5االستفادة من إمكانيات الحضارة اإلسالمية في النهوض بالمجتمعات لتحقيق الرفاه والعمران.
.6االستفادة من النظم اإلسالمية [االقتصادية واالجتماعية والسياسية] باعتبارها المكون الحقيقي للحضارة
اإلسالمية.
.7بيان نقاط الضعف التي تمر بها الحضارة اإلسالمية وطُرق عالجها.
.8بيان مفهوم األسرة في اإلسالم ،والمقارنة بينه وبين مفهومها في الشرائع األخرى.
.9بيان دور األسرة المسلمة في البناء الحضاري ،حيث إن الصعود الحضاري ُمرتبط بها ارتباطا وثيقا،
وكذلك حالة الضعف الحضاري.
منهج الدراسة:
سوف يتم اعتماد أكثر من منهج في هذه الدراسة ،حيث سيتم توظيف المنهج المناسب حسب طبيعة ومكان
الموضوع المطروح ،فالمنهج التاريخي لتتبع تطورات الحضارة اإلسالمية ،والمنهج االستنباطي الستنباط دالالت
أخير المنهج المقارن لالستفادة منه في تقرير أوجه االختالفات
النصوص التاريخية والقانونية والتشريعية والشرعية ،ثم ا
بين الحضارة اإلسالمية وغيرها من الحضارات األخرى الستنباط عوامل النهوض.
ﻁﺭيﻘة ﺍلتﻭﺜيﻕ:
تم توثيق المراجع باسﻡ ﺍلشهﺭﺓ ،ثﻡ ﺍسﻡ ﺍلمﺅلﻑ ،وعﺩﺩ ﺍلمجلﺩﺍﺕ ،ﻭﺍلﻁبعة ،ﻭبلـﺩ ﺍلنشـﺭ ،ودار النشر ،ﻭﺍلصفحة،
وسنة ﺍلنشﺭ ،وفي حال تكرار االقتباس من المرجع ،فإننا سوف نكتفي بـﺫﻜﺭ ﺍسـﻡ ﺍلشهﺭﺓ ،ﻭﺍسﻡ ﺍلمﺭجع.
المطلب األول :الحضارة اإلسالمية
تعريف عام بالحضارة
الحضارة لغة:
اب ، ِ ِ
ض َارة ض ّد َغ َ وح َ
ض َر ُحضا ار َ ضارة)َ ،ح َ ضورا ،وح َ جاء في معجم تاج العروس :حضر ،كنصر وعلمُ ،ح ُ
بح ْ ِ َّ ضر َّ
ضر عنده بم ْشهَد منه ،والرجل الحضور الكبير الذي َي ْح ُ ض َرة فُالن ،أَي َ ض َره إِيَّاهُ ،وكل ْمتُه َ
َح َ
الش ْي َء وأ ْ َح َ َ
أْ
ض َر بِ َخ ْي ٍر ،وفُ ٌ
الن ض َرة إِ َذا َح َ
الح ْ اس ،ومنه قولهم :صاحب الحضرة :أي المقام العالي ،وُيقال َ :رُج ٌل َح َس ُن ُ َّ
الن ُ
ِ الف ِ ِ ِ ِ
الب ْد ِو ،والح َ
ض َارةُ الب َد َاوة و َ
البادَية و َ ض َارة :خ ُ َ الح َالحاضرةُ و َ بخ ْي ٍر .و َ
ب َ ض ِر إِ َذا كان م ّمن َي ْذ ُكر الغائ َالم ْح َ
َح َس ُن َ
ِ ِ
ضروا َن أَهلَها َح َ ت بذلك أل َّ يف ُ ،س ِّمَي ْ
الر ُ الم ُد ُن والقَُرى و ِّ
ض ُر هي ُ الح َ
ض َرةُ و َ ض ِر والحاض َرة و َ
الح ْ الح َ
قامةُ في َ :اإل َ
3
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
الع ْد ِو
يد َض ٌار َ :ش ِد ُ س في ع ْد ِوه وفَر ِ
س م ْح َ
ٌَ َ الحضر :ارتِفاعُ الفََر ِ
ون لهم بِها قََرٌار .و ُ
األَمصار ومس ِ
اك َن ِّ
الدَي ِار الّتي َي ُك ُ ْ ََ ََ
]1[.
معنى حضارة في معجم اللغة العربية المعاصرة :كلمة َحضارة [مفرد] :جمعها حضارات (لغير المصدر):
حض َر.1
-1مصدر َ
اإلسالمية أ َْو َجهَا في اإلنساني "بلغت الحضارة طورَّ ُّ -2
ّ ّ تمدن ،عكس البداوة ،وهي مرحلة سابقة من مراحل الت ّ
ي".القرن الرابع الهجر ّ
اإلسالمية -مهد الحضارة" [.]2
ّ ضر "الحضارة
الح َ
االجتماعي في َ
ّ األدبي و
الفني و ّ
العلمي و ّ
ّ قي
الر ّ
-3مظاهر ُ
الحضارة اصطالحا:
تطور المفهوم االصطالحي لكلمة "حضارة" ،مع تطور العصور المختلفة التي قامت فيها تلك الحضارات ،حيث
تعددت المدارس الفكرية التي دارات حول مفهوم الحضارة ،وذلك تبعا للعقائد ،والقيم والمبادئ ،وتنوع العلوم والفكر،
واآلداب ،والفنون الحضارية المختلفة.
ويعرف ابن خلدون الحضارة بقوله( :إنما الحضارة هي تفنن في الترف واحكام الصنائع المستعملة في وجوهه (أي ُ
الترف) من المطابخ والمالبس والفرش واألبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله؛ فلكل واحد منها صنائع في استجابته
والتأنق فيه تختص به ويتلو بعضها بعضا؛ وتتكثر باختالف ما تنزع إليه النفوس من الشهوات والمالذ والتنعم
بأحوال الترف؛ وما تتلون به من العوائد ،فصار طور الحضارة في الملك يتبع طور البداوة ضرورة؛ لضرورة تبعية
الرفه للملك) [.]3
ويذهب إلى أن الحضارة هي أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال العمران زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه،
وتفاوت األمم في القلة والكثرة تفاوتا غير ُمنحصر.
ويذهب إلى منحى آخر أكثر تقدما في التعريف قائال( :إن الملك والدولة غاية للعصبية ،وأن الحضارة غاية البداوة،
وأن العمران كله من بداوة وحضارة وملك وسوقه (جمهور) له ُعمر محسوس ،كما أن للشخص الواحد من أشخاص
مر محسوسا [.]4
المكونات ُع ا
أما ﺍلمﺅﺭﺥ ﺍألمﺭيﻜي ﺩيﻭﺭﺍنﺕ في مﻭسﻭعته ﺍلضخمة "قصة الحضارة" فيرى أن (ﺍلحضاﺭﺓ نﻅاﻡ ﺍجتماعي يعين
ﺍإلنساﻥعلى ﺍلﺯياﺩﺓ مﻥ ﺇنتاجه ﺍلثقافي ،ﻭﺇنما تتألف ﺍلحضاﺭﺓ مﻥ عناصﺭ ﺃﺭبعة -:ﺍلمﻭﺍﺭﺩ ﺍالجتماعية ـ ﺍلنﻅﻡ
ﺍلسياسية ـ ﺍلتقاليﺩ ﺍلخلقية ُ -متابعة ﺍلعلﻭﻡ ﻭﺍلفنﻭﻥ ،وهي الحضارة التي تبدأ حيث ينتهي االضطراب ﻭﺍلقلﻕ)
[.]5
ويرى آخرون أن الحضارة هي ُمحاوالت اإلنسان؛ االستكشاف ،واالختراع ،والتفكير ،والتنظيم ،والعمل على استغالل
الطبيعية ،للوصول إلى مستوى حياة أفضل ،وهي حصيلة ُجهود األمم كلها.]6[.
ﺍلتعﺭيﻑ ﺍلثالﺙ" :ﺍلحضاﺭﺓ ، :هي ﺍلعاﺩﺓ التي يسيﺭ عليها ﺍلناﺱ في حياتهﻡ ﺍلعامة ﻭﺍلخاصة في قﻁﺭ مﻥ
ﺍألقﻁـاﺭ وفي زمن من األزمان [.]7
وقيل إن الحضارة هي " :ثمرة التفاعل بين اإلنسان والكون والحياة ،أي :ثمرة الجهود المبذولة من قبل الفكر
اإلنساني لالستفادة من األجهزة الكونية المتناثرة حولنا " [.]8
وفي الحقيقة فإن ُم صطلح الحضارة يشمل كل ما سبق ،كما يشمل غيره من التعريفات التي لم يتم ذكرها باعتبار
أن المفهوم يتسع ليشمل كل ما سبق ذكره.
وللحضارة عناصر أربعة تقوم عليها وضعها الدكتور مصطفى السباعي ـ رحمه اهلل ـ وهي :الموارد االقتصادية،
والنظم السياسية ،والتقاليد الخلقية ،و ُمتابعة العلوم والفنون(.)10
4
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
وتعد هذه العناصر األربعة شاملة لكل التعريفات لمفهوم الحضارة سواء في الشرق أو في الغرب ،ونوجز تعريفها
في تعريف قصير جامع.
يربط الكثير من العلماء مفهوم الحضارة اإلسالمية بما يكون عليه نمط الحياة ونظامها وفكرها وقيمها وأخالقها،
فإذا كان كل ما تم ذكره آنفا ،وفق هدي مبادئ اإلسالم ،وشرعه ،سميت تلك بالحضارة اإلسالمية ،سواء كان
المبدعون في ظل تلك الحضارة ُمسلمين أو غير ُمسلمين ممن يعيشون في بالد اإلسالم.
فالحضارة اإلسالمية هي نتاج لتفاعل ثقافات الشعوب التي دخلت في اإلسالم ،سواء كانت إيمانا ،أو انتماء ووالء
وانتسابا ،وهي خالصة لتالقح هذه الثقافات والحضارات التي كانت قائمة في المناطق التي وصلت إليها الفتوحات
اإلسالمية ،والنصهارها في بوتقة المبادئ والقيم والمثل التي جاء هداية للناس[.]11
والحضارة اإلسالمية نوعان :األول :حضارة أصيلة تُسمى حضارة الخلق واإلبداع ،مصدرها الوحيد اإلسالم ،وعرفها
العالم ألول مرة عن طريق اإلسالم ،والثاني :حضارة قام بها المسلمون في األمور التجريبية ،إحياء وامتدادا وتحسينا،
لما عرفه الفكر البشري من قبل ،وتُسمى حضارة البعث واإلحياء.]12[ .
فالحضارة اإلسالمية األصيلة جاءت في األمور التي لم يستطع العقل البشري أن يصل إليها بنفسه ،في النظم
السياسية واالقتصاد والتشريع ،واألخالق.
فالبشرية عجزت عن وضع ُنظم سياسية سليمة ،أو تحقيق عدالة اقتصادية ،أو اجتماعية ،أو تتفق على ُنظم
سليمة في الميراث ،وكانت مبادئ األخالق مثار خالف كبير بين الناس ،ومن هنا فقد رأي اإلسالم فيما سبق رأي
أصيل ،أنقذ المجتمع البشري من انحرافه ومتاهاته ،بل فرض نفسه على المجتمع البشري.
أما حضارة البعث واإلحياء ،فكانت في العلوم التجريبية ،كالرياضة والطب والفلك ..وغيرهما ،وهي تُبين مدى ما
وصل إليه المسلمون من تقدم في هذا الميدان إذ ورثوا الحضارة المصرية التي كانت قد تحولت إلى اليونان ،وورثوا
كذلك ثقافة الفرس والهند ،وكانت هذه الحضارات قد ذبلت وماتت وأحياها المسلمون ،وأضافوا إليها تفسيراتهم
وشروحهم ،حتى وصل المسلمون بهذه الحضارة إلى غاية بعيدة من االبتكار ،حتى أصبحت أفكارهم رائدة ،وانتقلت
إلى أوروبا[.]13
وعلى هذا فالحضارة اإلسالمية هي نتاج عمل إنساني ُمشترك بين جميع الشعوب واألمم ،وليست خاصة بأمة
ُمعينة أو قومية ُمعينة أو جنس ُمعين ،يربطهم قيم ومبادئ وتعاليم اإلسالم ،سواء كانوا من المسلمين أو من غيرهم
ممن يعيشون تحت لواء اإلسالم.
قامت الحضارة اإلسالمية مع انتشار اإلسالم في شتى بقاع األرض ،وحلت محل الحضارات القديمة ،إذ إن اإلسالم
انتشر من المحيط األطلسي إلى المحيط الهادي مكانيا ،وتوسع من أقصى األرض إلى أقصاها ،وزمانيا ُمنذ أن
حمل المسلمون رسالته في عهد النبي -صلى اهلل عليه وسلم -وقاموا بنشرها في العالم ،إلى وقتنا الحاضر.
ونور الحضارة اإلسالمية بدأ يشرق على العالم في بداية القرن األول الهجري ،حيث توسع اإلسالم جهة الشرق
باتجاه العراق وفارس وآسيا ،وشماال باتجاه بالد الترك ،ثم غربا وشماال باتجاه أوروبا عن طريق األندلس وصقلية،
حتى وصل للحدود الفرنسية ،ثم اتجه للشمال اإلفريقي ،حتى أصبح الشمال اإلفريقي يدين بدين اإلسالم ،ومن ثم
5
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
االتجاه إلى الجنوب ،ولكن جميع هذه االمتدادات كانت ُمتفاوتة التأثير ،حيث كانت بعض البلدان أسبق بالتأثر من
غيرها ،إلى أن استقر اإلسالم فيها .
المنورة ،وقد اعتنت ُمنذ
ولقد بدأت أول مظاهر هذه الحضارة مع تأسيس أول دولة للمسلمين وعاصمتها المدينة ّ
الوهلة األولى بالجوانب اإلنسانية والدينية على ٍ
حد سواء ،وقد سنت من أجل ذلك التشريعات القضائية واالجتماعية
قومات الحضارة.والسياسية واالقتصادية العادلة ..وغير ذلك من التشريعات ،وكانت هذه من أهم ُم ّ
اإلسالمية،
ّ ثم امتدت بعد ذلك سلسلة تاريخ الحضارة اإلسالمية في عهد الخلفاء الراشدين ،الذين وسعوا رقعة البالد
ونشروا فيها القيم والمبادئ التي جاء بها اإلسالم ،ثم جاء بعد ذلك األمويون والعباسيون ،فاهتموا بالعلم والعلوم،
وأسسوا حضارة علمية ال تُضاهى ،واستمرت هذه الحضارة في مسيراتها في عهد دولة المماليك ،والعثمانيين ،لتبقى
هذه الحضارة إلى زماننا هذا ،شاهدة على عظمتها وتفردها ،وقيمها .
أول :اتساع الحضارة اإلسالمية في عهد الخلفاء الراشدين[شكل رقم.]1
6
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
7
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
وقد استوعبت الحضارة اإلسالمية تلك العناصر و ُعنيت بها ،وسوف نتعرض هنا ألبرز تلك العناصر والعوامل التي
ساعدت على قيام الحضارة اإلسالمية:
.1البيئة الجغرافية :ال شﻚ في أن البيئة الجغرافية التي ينشأ فيها شعﺐ مﻦ الشعﻮب لها أثﺮ كبيﺮ في الشﻜﻞ
الحضاري الﺬي ينشئه ،ألن اإلنسان يأخﺬ مادة حضارية مما حوله ،والﻈﺮوف الﻄبيعية التي تحيط به لها
أعﻈﻢ األثﺮ في حفﺰ همته إلى العمﻞ واإلنشاء واالبتﻜار ،أو في تثبيﻂ همته وحﺮمانه مﻦ كﻞ تﻄلع إلى
جﺪيﺪ[ ،]14فاألمطار ،والمياه ،واألنهار ،وكون األقاليم على طرق رئيسة عالمية ،وتحسن المناخ ،والتربة
الجيدة ،كلها عوامل تُساعده على قيام الحضارة والتمدن في أي منطقة من مناطق العالم.
.2النظام السياسي :البد أن يسود المجتمع نظاما سياسيا ُمستقراُ ،يشعر المجتمع بالطمأنينة واالستقرار واألمن،
ليدفعه لإلنتاج ،واالرتقاء ،بعيدا عن الفوضى والقلق واالضطراب والخوف ،وهو ما يكفله النظام السياسي في
اإلسالم.
.3العوامل االقتصادية :للعوامل االقتصادية أهمية كبرى في تكوين الحضارة ،فقد تكون قبيلة من قبائل البدو
كبدو بالد العرب على درجة من الذكاء والفطنة ،ولكن ذكائها من غير وجود عوامل اقتصادية تُطمئنها على
مورد ُمحقق من الطعام والماء ستنفقه في شن الغارات ،ومخاطر الصيد[..]15
.4الدين :لقد جاء اإلسالم ليكون دستو ار للحياة ،سواء في شكلها الديني واألخروي أو الدنيوي ،وأرسى القيم
والمبادئ التي تُساعد على تحقيق السعادة الدنيوية واألخروية لإلنسان ،فال يطغى أحدهما على اآلخر ،كما
تميزت الحضارة اإلسالمية بوحدة العقيدة واإليمان ،التي تُحفز اإلنسان على عمارة األرض ،وهو ما ساعد
على قيام تلك الحضارة العظيمة.
.5األخالق والتربية :البد أن تكون هناك مجموعة من القيم األخالقية التي يجب أن تسود الجماعة ،ويكون هناك
قانون ُملزم بها ،بحيث يكون الخروج عليها مستوجبا للعقاب ،وكذلك البد أن يكون هناك تربية لألجيال الناشئة
على تعلم العلوم النافعة وتنشئتها التنشئة الصالحة ،لكي تتوارث تلك الحضارة ،وتقوم بدورها في نهضتها.
8
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
.6الوحدة الثقافية :تعد العوامل الثقافية من العوامل التي تُساعد في قيام الحضارات ،ونموها نموا سريعا ،فوحدة
اللغة تُساعد على انفتاح الشعوب على بعضها البعض ،مما ُيقرب المسافات ،ويوحد االتجاهات ،وُيحدد
المصير المشترك لبلوغ األهداف.
وهناك العديد من العوامل األخرى التي ساعدت على قيام تلك الحضارة ،وسوف تتم اإلشارة لها عند التعرض
لخصائص الحضارة اإلسالمية.
المطلب الﺜاني :األسس والﻘيم التي قامت عليها الحضارة اإلسالمية
تقوم الحضارات على قيم وأُسس ورساالت ،تعطيها الفرصة للبقاء واالستمرار ،وتشكيل اإلطار الفكري ،بحيث تُبلور
هويتها ،والخط الحضاري الذي تسير عليه ،وهذه األسس تختلف من أُمة إلى أُخرى ،والحضارة اإلسالمية ُمنذ
نشأتها ،باعتبارها رسالة إلهية ،قامت على أساس متين من القرآن الكريم والسنة النبوية ،بشكل أساسي ،بجانب
أُسس أُخرى سوف يتم التطرق لها الحقا ،لذا فقد خطت لنفسها العديد من القيم واألسس التي تعطيها من القوة
والدافعية لالستمرار في أداء رسالتها ،وسوف نذكر بعضا من تلك القيم واألسس التي قامت عليها ،ومنها:
أول :الﻘرآن الكريم
القرآن الكريم هو األصل األول من أُصول الحضارة اإلسالمية ،وهو الذي شكل هويتها وقيمها ،وهو المصدر األول
الذي قام عليه اإلسالم ،والمصدر األساسي للتشريع اإلسالمي.
القرآن هو الذي حث على العلم والتعلم والعمل ،وهذه القيم الثالثة تعد حجر الزاوية في أي حضارة ،وبدونهما ال
تُقام ألي حضارة قائمة ،فالقرآن الكريم كان هو المحرك األساسي لقيام الحضارة اإلسالمية.
وحتى يتضح لنا دور القرآن الكريم في الحضارة اإلسالمية ،فقد نظم القرآن الكريم الحياة األساسية لإلنسان ،وذلك
على النحو التالي:
.1النواحي الدينية :فقد شرع لإلنسان الصالة والصيام والزكاة والحج ،ونظم له العالقات األخرى سواء بينه وبين
ربه ،أو بينه وبين الناس ،ولذلك يجتمع المسلمون في المساجد كل يوم خمس مرات ،وفي اليوم األسبوعي وهو يوم
الجمعة ،ثم في السنة مرة ،أثناء أداء مناسك الحج.
كل تلك العبادات وغيرها من الشعائر بهدف تعليمهم الصبر ،والتحمل ،والبذل والسخاء ،والتكافل ،واالعتناء بالفقراء.
.2النواحي االجتماعية واألخالقية :احتوى القرآن على الكثير من األحكام والمبادئ الخلقية منها:
المعامالت :فقد شرع اهلل -عز وجل -الكثيرمن األحكام لتنظيم المعامالت بين الناس ،فأمر بالوفاء العهود والعقود
والديون ،ونهى عن الربا وأكل أموال الناس بالباطل ،ونهى عن البخس في الميزان ،واقامة الشهادة ،والعدل.
الحدود والقصاص :فقد حرم القتل ،وأباح القصاص ،وأقام الحدود في الزنا والقذف ،والسرقة وقطع الطريق ،وغير
ذلك..
األخالق :احتوى القرآن على الكثير من اآلداب واألخالق اإلسالمية ،منها :االستئذان بين أهل البيت ،والتزاور،
وفرض الحجاب ،والقاء التحية ،والصدق واألمانة ،وعدم التجسس والغيبة والنميمة ،والصلح بين الناس ..وغير ذلك
من اآلداب.
.3االقتصاد :لقد أرسى القرآن الكريم القواعد الكلية لتنظيم االقتصاد ،وجاء بعناصر ُمتكاملة ،تمد الفكر العلمي
بحاجته منه ،وتشتمل على األسس التي تكفل للجنس البشري أوضاعا اقتصادية تكفل له مستويات عالية من
الرفاهية ،قبل أن يكون عليها علم االقتصاد ،ويصل ما وصل إليه من تقدم ،ومما جاء في القرآن[:]16
-إرساء مبدأ العمل.
9
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
-الزكاة.
-تحريم الربا.
-الميراث.
-قانون من أين لك هذا؟.
-األرض التي فُتحت عنوة [الخراج].
-صك النقود.
.4النواحي األدبية والعلمية :كان العرب من األقوام ذات الفصاحة والبيان ،وساعدهم على ذلك جمال اللغة العربية
وسعة كلماتها ،وقوة ألفاظها ،فكانوا من أحسن الناس بيانا ،فلما جاء كتاب اهلل –عز وجلُ -مفصل و ُمحكم اآليات،
وقوي البيان ،كانت استيعابهم له سريعا ،وتأثرهم به عظيما ،فزاد من جمال األدب لديهم ،وصرفهم عما ال يفيد إلى
ما يفيدهم في أُمور دينهم ودنياهم ،بل كانت كلمات قليلة كفيلة بتغيير الكثير مما كان يصعب تغييره.
كذلك أطلق القرآن الكريم العقول من عقالها ،وحررها ،وأعلى من شأن العلم والعلماء ،وشجع على االعتناء بالفكر
واللغة ،واالنفتاح على اآلخرين ،واإلبداع ،واالرتقاء العلمي.
.5النواحي السياسية :االحكام والشرائع في اإلسالم ال تقتصر على أُمور الدين ،والعبادات فقط ،بل هي نظام
شامل للحياة ،ومنها الحياة السياسية للمسلمين ،فكما نظم اإلسالم العالقات بين األفراد ،نظمها كذلك بين األمم
والشعوب ،سواء في السلم أو الحرب ،وعقد الصلح ،وفرض الجزية ،وعقد الهدنة ،وأرسى مبدأ الجهاد والدفاع عن
الدعوة ،وأقام مجتمع المدينة ،وأنشأ الو ازرات والدواوين .وغيرها من األمور..
األصل الﺜاني :السنة النبوية
السنة النبوية هي األصل الثاني من أُصول الحضارة اإلسالمية ،وُيقصد بها ما أُضيف إلى النبي -صلى اهلل عليه
وسلم -من قول أو فعل أو تقرير أو صفة ُخلُقية أو خ ْلقية ،وما يتصل بالرسالة من أحواله الشريفة قبل البعثة
ونحو ذلك.
السنة القولية كقول النبي -صلى اهلل عليه وسلم ( -إنما األعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى فمن كانت
هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) .
-أما السنة الفعلية فهي كل ما صدر عنه -صلى اهلل عليه وسلم -من أفعال . . .مثال ذلك :صالته وحجه
المبينة لمجمل القرآن ،ومثاله :قضاؤه -صلى اهلل عليه وسلم -بشاهد ويمين في األموال .
-وأما السنة التقريرية فهي كل ما صدر عن صحابي ،أو أكثر من أقوال أو أفعال علم بها -عليه الصالة
والسالم -فسكت عنها ولم ينكرها ،أو وافقها وأظهر استحسانه لها .
مثالها :أكل الصحابة الضب على مائدة رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -ولم ينكر عليهم ذلك[. ]17
األﺜر الحضاري للسنة النبوية:
إن السنة النبوية لها األثر العظيم في تحقيق السلوك الحضاري عند اإلنسان ،وفي إعداد األجيال ،وتهيئتهم لإلفادة
من كل علم ومهارة ،وهي التي تغرس في عقولهم ونفوسهم القيم والضوابط التي تتحول إلى مصابيح براقة تُنير لهم
الطريق ،فيستعملون عقولهم ومهاراتهم وعلومهم وابتكاراتهم بحكمة ،وُيقدمون ألمتهم وللبشرية كل ما يفيدها،
ويصبحون قادة للنهضة الحقيقة وصنع الحضارية اإلنسانية ،وروادا للتقدم الذي تسعد به البالد والعباد.
إن غاية الحضارة في السنة النبوية السمو بالحياة اإلنسانية ،والحياة اإلنسانية ُمعقدة كثيرة الجوانب ،ففيها حياة
فكرية وعقلية ،وحياة مادية وعملية ومعاشية ،وحياة نفسية وخلقية ،وحياة اجتماعية إلى جانب الحياة الفردية،
10
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
والحضارة الصالحة هي التي تسمو بتلك الجوانب وتعدل بينها ،فال ُيظلم جانب منها جانبا آخر ،وال ينمو واحد
ويضمر آخر.
ومن أُصول ومقومات الحضارة في السنة النبوية أن تكون إنسانية اإلنسان هي القيمة العليا في المجتمع ،وأن تكون
الخصائص اإلنسانية فيه هي موضع التكريم واالعتبار ،حينئذ يكون المجتمع ُمتحضار [.]18
األصل الﺜالث :حضارة العرب
يقصد بالعرب "هم أرومة الجنس السامي الذي كان يقطن سكان الجزيرة العربية ،الذي تفرع منه الكلدانيين واآلشوريين
والكنعانيون ،والعبرانيون ،وسائر األمم السامية التي سكنت بين النهرين وفلسطين ،وما يحيط بفلسطين من بادين
وحضر.]19[ ،
ويتوزع العرب على ثالثة أقسام ،عرب عاربة أو عرباء ،وعرب ُمتعربة ،وعرب ُمستعربة.
العرب العاربة :ذكر ابن دريد ( ،)837-933في "الجمهرة" أنهم تسع قبائل :عاد وثمود وعمليق وطسم وجديس
وأميم وجاسم ،وهي أُمم ُمنقرضة ،إال بقايا .وهؤالء ُيسمون العرب البائدة ،ألن قبائلهم بادت واضمحلت ،ولم يبق
منهم إال فلول انصهرت في القبائل األخرى.
وكان لهؤالء العرب ممالك وأُمم امتدت إلى الشام؛ وكانت لهم قصور وأبنية ُمختلفة ومدن و ُمعظمهم شماليون .وقيل
إن هؤالء العرب جميعا ملكوا في العراق (بابل) ،ثم نزحوا إلى جزيرة العرب[.]20
العرب المتعربة ،وهم عرب الجنوب ،ويدعون القحطانيين ،نسبة إلى يعرب بن قحطان .وقد سموا ُمتعربة ألنهم
أخذوا العربية عن العرب البائدة ،فهم ليسوا خلصا.
وقد عرف هؤالء ممالك هي :مملكة المعينيين ومملكة السبيئيين ومملكة دولة اليمن الكبرى ،أما دولتهم الصغرى
فعرفت مملكة الجبئيين ،ومملكة القتبانيين ،ومملكة القريين[.]21
العرب المستعربة :وهم ينتسبون إلى إسماعيل وأبنائه ،وُيقال لهم االسماعليون والعدنانيون ،وكذلك المعديون
والن ازريون ،ويبدأ تاريخهم في القرن التاسع عشر قبل الميالد ،بيد أن أخبارهم قليلة وغير ثابتة .وتأتي أخبارهم التي
رواها العرب ُمتممة ألخبار التوراة ،كما يتوافق ظهورهم ومطلع النصرانية ،وكانوا قبائل وأمما في تهامة ،ومنها
انطلقوا إلى الشام والحجاز ونجد[.]22
األصل الرابع :الحضارة الفارسية
الفرس أُمة عريقة في الحضارة ،وقد ازدهرت حضارتها في زمن الدولة الساسانية ،وبرزت في السياسة ،واإلدارة،
والحروب ،ومظاهر الترف والرفاهية ،وكان لها دين رسمي هو الزرادشتي ،ولغة ذات آداب وحكمة هي اللغة
الفهلوية ،ولما فتح اهلل على المسلمين بالد فارس ،وقوضوا عرش األكاسرة ،اختلط الفرس بالمسلمين ،وعرفوا منهم
الشيء الكثير عن محاسن الدين اإلسالمي وسماحته ،وانه دين اإلخاء والمساواة ،والتعاطف والتراحم ،والمحبة
واإليثار؛ وصاروا موالي للمسلمين ،وأقبلوا على اللغة العربية يدرسونها ويحصلونها[.]23
وقد أسهم الفرس في الحركة العلمية والتأليف ،بل ونبغوا فيهما ،واستفادت الحضارة اإلسالمية من ذلك ،فقد نقلت
إلى اللغة العربية بعض األلفاظ التي تعبر عن مظاهر الحضارة ،وليس لها ُمقابل في اللغة العربية ،ودخلت في
ُبنيتها ،كما نبغ الكثير من موالي الفرس في ُمختلف العلوم العربية واإلسالمية.
األصل الخامس :الحضارة اليونانية والرومانية
اليونان أُمة ذات حضارة عريقة ،وقد نبغت في الفلسفة والعلوم ،والفنون واآلداب ،وظهر فيها أساطير الفكر في
العالم القديم مثل :سقراط ،وأفالطون ،وأرسطو ،وقد انتشرت ثقافتهم في الشرق على إثر فتوحات اإلسكندر ،وقيام
أُسر يونانية حاكمة في الشام ومصر خاصة ،وفي القرون السابقة على اإلسالم نقل ُسريان الشام والعراق إلى لغتهم
11
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
السريانية كثي ار من تأليف اليونان في الفلسفة ،والطب ،والرياضيات ،والكيمياء ،والفلك والجغرافيا ،وعلقوا عليها
وشرحوها.
ولما ظهرت الدولة الرومانية امتزجت حضارتها – والسيما في تشريع القوانين وهندسة الطرق – بالحضارة اليونانية
وأثرت فيها[.]24
وفي العصر العباسي تُرجمت الكثير من الكتب ،وأرسلت البعوث إلى القسطنطينية ،وبذل لها األموال الوفيرة ،وبذلك
كانت الحضارية اليونانية والرومانية من األسس التي قامت عليها الحضارة اإلسالمية.
المطلب الﺜالث :جوانب ازدهار الحضارة اإلسالمية
تُعتبر الحضارة اإلسالمية من الحضارات اإلنسانية ذات اإلنجازات العظيمة على كافة المستويات الحياتية لإلنسان،
سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو تعليمية أو ثقافية ...أو غيرهما ،ولقد انفردت هذه الحضارة بالتوازن
بين كافة تلك المستويات ،والتي سارت جنبا إلى جنب ،فأصبح اإلنسان يعيش أزهى العصور في ظلها ،وسوف
يتم التعرض ألبرز تلك الجوانب:
أول :الجوانب السياسية واإلدارية:
إحدى المميزات التي تميز بها اإلسالم وانفرد بها عن الرساالت السابقة ،كونه جاء للعالمين ،أي أنه رسالة عالمية،
ذات تعاليم خالدة ،تضمن له البقاء واالستمرار ،وتحفظ المجتمع من التفكك والضعف.
وقد وضع اإلسالم لكافة الجوانب القواعد واألسس المستمدة من الكتاب والسنة النبوية ،التي تضمن سالمة المجتمع
البشري ،منها :الجوانب السياسية ،وأُسس من أجل ذلك علم خاص بهذا أسماه" ،السياسة الشرعية" ،فحدد واجبات
الحاكم والمحكوم ،ونظم أُمور الدولة اإلدارية والسياسية.
الدولة:
الدولة في الفكر اإلسالمي هي دولة عقيدة ،ودولة علماء ،ودولة اجتماع أُمة على الخير .والدولة من حيث التكوين
الزماني والمكاني بدأت بوصول المصطفى -عليه الصالة والسالم -إلى المدينة المنورة .فبعد وصوله -صلى اهلل
عليه -وسلم للمدينة تكون فيها جذور الدولة المتعارف عليها ،وهي:
األرض :المدينة المنورة ،وهي بداية الدولة اإلسالمية الكبرى.
الشعب :المهاجرون واألنصار (سكان المدينة المنورة).
القيادة والسيادة :أجمع المسلمون على قيادة النبي صلى اهلل عليه وسلم[.]25
الدستور :صحيفة المدينة.
حدود الدولة اإلسالمية:
أبرز إنجازات الجانب السياسي للحضارة اإلسالمية هي االمتداد الحضاري للدولة اإلسالمي ،زمانيا ومكانيا ،حيث
اتسعت رقعتها على مدار عدة قرون ،وذلك بفضل نجاح نظامها السياسي ،وذلك على النحو التالي:
العهد النبوي1-11( :هـ) نقطة البداية المدينة المنورة ،ثم اتسعت بعد فتح مكة المكرمة والطائف وتبوك ،وأصبحت
الحدود الفعلية كما يلي:
الشمال :تبوك
الجنوب :بحر العرب
الشرق :الخليج اإلسالمي [الخليج العربي]
الغرب :بحر القلزم [البحر األحمر]
12
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
عهد الخلفاء الراشدين11-33( :هـ) :توسعت الدولة في هذا العهد مساحيا حتى بلغت في أوروبا (3700000ميل)،
وفي الهند وباكستان (1300000ميل) ،وفي قارة استراليا (300000ميل)[.]27
الدولة األموية:
اتسعت رقعة الدولة اإلسالمية في هذا العهد وخاصة في عهد الوليد بن عبد الملك حيث تم فتح إسبانيا (األندلس)
وجميع بالد المغرب حتى عبر جبال البرانس إلى داخل فرنسا وشرقا امتدت الفتوحات إلى بعض مناطق الهند.
الدولة العباسية :في هذا العهد اتسعت الدولة اإلسالمية وضمت معظم مناطق الحضارات وأصبحت تحتوي على
اآلتي :العراق ،والشام ،وفارس ،وافريقيا ،ومصر ،والجزيرة العربية ،واسبانيا ،وأجزاء واسعة من شبة الجزيرة الهندية.
الدولة العثمانية ( :)1299-1922اتسعت الفتوحات في عهد الدولة العثمانية وامتدت حتى شملت قبرص ودول
البلقان في أوروبا وبلغاريا ،وكريت ،والقرم ،وجزر اليونان ،وامتدت في إفريقيا حتى وصلت الصومال والسودان،
وتوسعت كذلك في آسيا.
وما سبق من تطور وتوسع في حضارة اإلسالم ،ودولته ما كان ليكون في ظل الفوضى ،وعدم التنظيم.
شكل الحكم :الشورى
القرآن الكريم والسنة النبوية ُيقرران أن الحكم في اإلسالم يقوم على الشورى؛ لذا فقد جعل اهلل -عز وجل -أمر
المسلمين شورى بينهم ،وقرن اتصافهم بها بإقامتهم الصالة ،واستجابتهم لربهم ،وساق وصفهم بهذا مساق األوصاف
ِ ِ الثابتة ،والسجايا الالزمة ،كأنه شأن اإلسالم ومن مقتضياته" ،قال تعالىَِّ :
َّالةَ استَ َج ُابوا ل َرِّبه ْم َوأَقَ ُ
اموا الص َ ين ْ
(والذ َ
َ ُ
ور ٰى َب ْيَنهُ ْم) ،الشورى ،38:كما أمر رسوله بالمشورة ،ووعده بتأييده ،قال تعالى( :وشاورهم في األمر). َوأ َْم ُرُه ْم ُش َ
وذكر ابن خلدون :أن الخالفة هي( :حمل الكافة على ُمقتضى النظر الشرعي في مصالحهم األخروية والدنيوية
الراجعة إليها) ،إذ إن أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها مصالح اآلخرة ،فهي في الحقيقة :خالفة عن
صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به .
وقال بعض العلماء المتأخرين :الخالفة هي الرياسة العظمى والوالية العامة الجامعة القائمة بحراسة الدين والدنيا
[.]26
اإلدارة:
تتميز اإلدارة في اإلسالم بأنها ذات مقاصد ُمحددة من أجل الوصول إلى أهدافها ،وتتفق مع روح المصلحة العامة،
وفي اإلطار العام الذي رسمه الشارع ،حيث تتفق مع مقاصد الشرع الخمسة ،وهي :حفظ الدين والنفس والعقل،
والنسل والمال ،وأخي ار إنها تُمارس أعمالها من خالل تقديم خدمة أو سلعة مشروعة إلى جميع الناس بال تمييز
لعرق أو لون أو لسان أو منزلة اجتماعية ،أو ُمعتقد ديني وخاصة في الحقوق العامة ،وأن القائمين عليها يستشعرون
ثقل األمانة الملقاة على عاتقهم ،وأن مهامها وفقا لقواعد وأحكام قانونية واضحة مصدرها القرآن الكريم والسنة
النبوية.
وتُعرف اإلدارة بإنها العمليات [التخطيط ،والتنظيم ،والتوجيه ،والرقابة] التي يوجه إليها المدير من تحت إمارته،
لتحقيقها بوصفها هدفا إلدارته ،وذلك بأعلى كفاءة وكفاية وأقل جهد وأكبر عائد .وتُطبق على كل أشكال اإلدارة
سواء كانت إدارة عامة [حكومية] ،أو إدارة أعمال [ربحية خاصة] ،أو إدارة دولة ،أو إدارة مؤسسات عامة ،أو
مؤسسات خيرية ...الخ
13
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
معرفة تُعالج قضايا إسالمية (علوم القرآن والحديث ،الفقه والتشريع.).. -
معرفة تجادل عن قضايا إسالمية (علم الكالم ،الفلسفة ،اآلداب.).. -
معرفة ُمنبثقة عن قضايا إسالمية (التاريخ ،علوم اللغة ،البالغة.).. -
معرفة ُمتشكلة لحل قضايا إسالمية (الحساب ،الطب.).. -
معرفة ُمتشكلة بدوافع إسالمية (العلوم الصرفية). -
معرفة تُعبر عن قضايا إسالمية (اآلداب والفنون.).. -
معرفة تستهدف تنفيذ مطالب الحياة اإلسالمية (علوم اإلدارة ،السياسة ،التربية). -
معرفة تُحلل مالمح الحياة اإلسالمية (علم النفس ،االجتماع.).. -
معرفة تحكي وتوثق للحياة اإلسالمية (التاريخ ،اآلداب ،الجغرافيا.).. -
معرفة تؤكد قيم المبادئ اإلسالمية وتدعو إليها (األخالق ،الرقائق.]27[).. -
ونبغ في هذه العلوم الكثير من العلماء ،ففي علم التاريخ كان الطبري والدينوري ،واليعقوبي ،والمسعودي ،حيث قام
هؤالء العلماء بتقديم رؤية عالمية للبشرية للتاريخ البشرى تستمد ُمقوماتها من المنظور اإلسالمي ،الذي ُيعاين
التاريخ من خالل توالي الرساالت السماوية ذات األصول المشتركة والهدف الواحد .فتنوعت المعالجات التاريخية
ما بين تواريخ عامة تعتمد منهجا حوليا أو موضوعيا ،أو تواريخ محلية تتابع ُمعطيات مدنية ما أو أقليم أو كيان
سياسي ،وآالف كتب التراجم..
وفي الجغرافيا برع ابن جبير وابن بطوطة ،والهروي ،والمقدسي ،والبلخي وصححت الجغرافيا اإلسالمية ُمعطيات
الجغرافيا.
وفي الفلسفة ظهر الكندي ،والفارابي ،وابن سينا ،وابن ماجه ،وابن رشد ،وفي علم االجتماع ظهر ابن خلدون ،وفي
الملك ونظام السياسية كانت تنظيرات الطرطوشي في سراج الملوك ،والماوردي في األحكام السلطانية،
في (سياسة نامة) وغيرهم.
إن عقيدة اإلسالم منحت الفن منظو ار توحيديا أصيال كان في نهاية األمر بمثابة كسب مهم لمفاهيم التجريد التي
لم تبلغها الفنون األخرى في العالم إال عبر القرن األخير[.]28
وفي علم الفلك برع المسلمون في إنشاء المراصد ﺍلعلمية ﻭﺍلفلﻜية في ﻃليﻄلة ﻭفاﺭﺱ ،ﻭسمرقند ،وعلم حساب
المثلثات ،واآلالت الفلكية...
ﺜالﺜا :الجوانب القتصادية.
ازدهرت الحياة االقتصادية ازدها ار عظيما في ظل الحضارة اإلسالمية على كافة المستويات سواء كانت الزراعية،
أو الصناعية أو التجارية أو المالية.
14
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
الزراعة:
فتح المسلمون الكثير من البلدان التي تعد أراضيها من أخصب بقاع العالم ،إال أن حالتها كانت سيئة بسبب
الحروب بين القوتين الكبيرتين في ذلك الوقت ،وهما :الروم والفرس ،فكان البد من إعادة تحسين أحوالها ،فبنوا
السدود ،وشقوا القنوات ،واألنهار ،وأقاموا عليها الجسور والقناطر ،حتى أن عمرو بن العاص استخدم 10آالف
عامل إلصالح طريق الري في مصر صيفا وشتاء ،وقد زاد اهتمام العباسيين بذلك ،ففي صدر دولتهم جددوا حفر
القنوات القديمة ،واستحدثوا قنوات جديدة ،وخصوصا العراق ،حتى أصباح ما بين النهرين :دجلة والفرات أشبه
بشبكة من القنوات واألنهار وأطلقوا عليه "النواظم"[.]29
واعتنوا باألرض فاستغلوها االستغالل الصحيح ،وزرعوها بكل أنواع النباتات ،وسمدوا األرض ،وعرفوا التلقيح ،ونقل
زراعة النباتات من دول إلى دول أُخرى ،وازدادت الحاصالت الزراعية.
الصناعة:
ساعد اتساع رقعة الدولة اإلسالمية في تنوع ثرواتها ،المعدنية والطبيعية ،فاستفاد منها المسلمون أيما استفادة،
فأتقنوا الكثير من الصناعات ،واشتهروا بها ،ومنها :صناعات الحديد والنحاس ،والذهب والفضة ،ومصانع السكر
والحرير ،والقطن ،وصناعات نسيج الكتان الذي اشتهرت بها مصر ،والعطور ،ومعقدات الفاكهة ،وصناعات الورق،
واآلالت الرياضية الدقيقة ...وغير ذلك من الصناعات.
التجارة:
كان للعرب قبل اإلسالم معرفة بالتجارة ،وخبرها ،ولها عندهم منزلة مرموقة ،ولما جاء اإلسالم ،واتسعت الفتوحات،
وارتقت الزراعة ،والصناعة ونشطت التجارة ،واتسعت حتى أصبح للمسلمين صالت تجارية ،مع ُمعظم بالد العالم،
وامتدت تجارتهم إلى الشرق حتى وصلت إلى الفلبين والصين ،والى الغرب حتى وصلت إلى بالد الفرنجة ،والى
الجنوب حتى وصلت إلى نيجيريا ،والحبشة ،وسواحل إفريقيا ،والى الشمال حتى وصلت إلى بالد الروس.
وأصبحت الكثير من المدن اإلسالمية مراكز تجارية حافلة بمظاهر التبادل التجاري ،البري والبحري ،ومن أهم تلك
المدن ،بغداد ،والبصرة ،والقاهرة ،واإلسكندرية ،وأصفهان ،وطرابلس ،وصيدا وبيروت.
وقد أدى ازدهار التجارة إلى ابتكار بعض األنظمة المالية والتجارية التي عرفتها أوروبا عنهم ،وأنشأت النقابات
المسؤولة عن ُمراقبة المعامالت التجارية ،وأصبحت التجارة مظه ار عظيما من مظاهر اإلسالم ،واحتلت تجارة
المسلمين المكانة األولى على مستوى العالم ،وتحكيم المسلمين لغير المسلمين ،وازدهار الجاليات المسلمة.
النظام المالي:
يعد النظام المالي لكل دولة هي األساس الذي تُسير عليها أُمورها ومصالحها المالية ،و ُمنذ أن جاء اإلسالم وضع
نظاما ماليا فريدا ،يتمثل في بيت مال المسلمين وهو ما يشبه و ازرة المالية في عصرنا الحاضر ،وقد أُنشأ هذا البيت
بشكل رسمي في عهد الخليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي اهلل عنه ،-وكان ذلك بسب كثرة األموال
المتدفقة إلى بيت المال بسبب الفتوحات واالنتصارات التي حققها المسلمون ،واتساع رقعة الدولة ،وتنظيم أُمور
الدولة المالية ،وازدياد أعداد الخاضعين للدولة من البلدان التي فتحها المسلمون.
وتعددت مصادر موارد بيت المال ،منها :الزكاة وهي فريضة إسالمية ،والخراج وهو ُمقدار من المال أو المحاصيل,
كانت تُفرض على األراضي التي تصالح األعاجم عليها ،والجزية وهي ضريبة شخصية فرضها اإلسالم على
الرجال القادرين من أهل الذمة ُمقابل بقائهم على دينهم ,والكف عنهم ،والحماية لهم ،فهم في ذمة المسلمين ،والفيء
وهو كل شيء حصل عليه المسلمون من أموال منقولة وغير منقولة بدون قتال ،والغنيمة وهي كل شيء حصل
عليه المسلمون من أموال منقولة وغير منقولة (األراضي) بقتال ،والعشور (المكوس) يرجع نظام ضريبة العشور
15
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
إلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب وهي ضريبة فرضها المسلمون على التجار األجانب الذين يأتون ببضاعتهم
من دار الحرب إلى دار اإلسالم.
رابعا :الجوانب الجتماعية:
أثرت الحضارة اإلسالمية كثي ار في شكل المجتمعات التي دخلها اإلسالم ،واصطبغت فيها بصبغة إسالمية عربية
واضحة ،وكان ذلك على عدة محاور:
تكوين المجتمع العربي المسلم :حيث كانت له سماته التي أثرت على حياة المسلمين وحضارتهم ،وكان -
هذا المجتمع عبارة عن عدة طبقات ،منها :كبار رجال الدولة ،ثم العلماء واألدباء ،ثم الجند ،ثم رجال
األعمال ،ثم العامة وسواد األمة وأخي ار الخدم.
األسرة المسلمة :وسوف يتم التعرض لها الحقا. -
ال ّرق :أعلى اإلسالم من قدر اإلنسان ،قال تعالى( :ولقد كرمنا بني آدم ،)..فجاء بالكثير من التشريعات -
التي تفضي في النهاية إلى الخالص من هذه الظاهرة التي عانت منها البشرية ،وأعلى من قيمة "الحرية"،
فضيق كل المصادر التي تفضي إليه ،وتُساعده على البقاء.
16
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
17
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
نظام قائم على االستم اررية :فالرابط األساسي في العالقة الزوجية التي هي أساس تكوين األسرة ،قائم على االستمرار
والديمومة ،مما يكفل لها البقاء ،واالستقرار على مستوى الفرد والمجتمع.
دور األسرة الحضاري:
األسرة هي المؤسسة الكبرى التي تُساهم بقوة وفاعلية في بناء الحضارة اإلنسانية ،باعتبارها اللبنة التي ال تقوم
بدونها أي حضارة ،فكلما كانت األسرة قوية ُمتماسكة قائمة على أُسس وقيم ،كلما كان البنيان الحضاري ُمتماسكا،
وقاد ار على االستمرار والبقاء.
من أجل ذلك تقوم الحكومات ببذل الجهود الحثيثة لإلبقاء على تماسك البنيان االجتماعي لألسرة ،فتشرع من أجلها
القوانين والنظم ،التي تكفل لها االستقرار ،لما تقوم به من دور كبير في بناء المجتمع حضاريا ،وتقدمه في مسيرته
الحياتية على كافة المستويات واألصعدة.
كما توفر األسرة لإلنسان المناخ المالئم لممارسة دوره وتحقيق الغاية النبيلة التي ُخلق من أجلها ،واالستخالف في
األرض وتعميرها ،وتُساعده كذلك على إشباع حاجاته المادية واالجتماعية والعقائدية ،وتنشئته التنشئة الحسنة ،مما
ُيساهم في تطوير وتنمية الوعي الحضاري لإلنسان.
إن التطلع إلى البناء الحضاري المعاصر ،واللحاق به ،يستدعي المحافظة على الكيان األسري ،فهو الذي يتفاعل
مع المعطيات الحضارية ،سواء كانت مادية أو غير مادية.
ويضاف إلى ما سبق دور األسرة في النموذج الحضاري ،فاألسرة هي التي تُربي األجيال الجديدة ،وتعيد إنتاج ُ
المرجعية الحضارية اإلسالمية لديها ،وليس الدولة ،فالحضارة اإلسالمية ُمستمرة في الوجود بسبب وجود األسرة،
وحفاظها على كيانها.
التوصيات والمﻘترحات
أول :التوصيات
.1وضع الخطط واالستراتيجيات التي تُساعد األمة على النهوض الحضاري واستشراف المستقبل.
.2دراسة عوامل التخلف الحضاري ،والضعف االقتصادي ،والتفكك االجتماعي ،و ُمعالجتها للحاق بالركب
الحضاري.
.3تفعيل التواصل الحضاري مع األمم والشعوب المتقدمة واالستفادة من برامج التنمية المستدامة ،لتوفير بيئة
آمنة للشعوب اإلسالمية ،للنهوض من جديد.
.4دراسة عوامل النهوض اإلسالمي ،والتمسك باألصول والثوابت ،لتجديد الروح اإلسالمية في الجسد اإلسالمي.
.5تفعيل دور األسرة المسلمة في البناء الحضاري ،وامدادها بكافة األدوات والوسائل التي تُساعدها على تنشئة
األجيال تنشئة صالحة ،تؤهلهم للقيام بدورهم الحضاري.
.6تفعيل دور الدولة في االهتمام باألجيال الجديدة وتوعيتهم وتحصينهم ضد األفكار الهدامة ،وتبصيرهم بدورهم
في البناء الحضاري.
.7تكثيف لقاءات التواصل الحضاري ،باعتبارها الطريقة األمنة لتحقيق ثقافة التعايش السلمي ،ومن ثم تحقيق
الشهود الحضاري.
.8حشد الطاقات السياسة واالقتصادية والفكرية والثقافية ،لتحقيق التنمية الحضارية الشاملة.
-4بذل الجهود الدولية الفاعلة ،لتحقيق كرامة اإلنسان ،وحفظ حقوقه ،واقامة العدل الناجز ،وتحقيق التعايش
اآلمن بين المجتمعات البشرية.
18
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
ﺜانيا :المﻘترحات:
عقد المؤتمرات واللقاءات الفاعلة مثل :مؤتمر الجمعية العربية للحضارة والفنون اإلسالمية ،بغرض غرس -
القيم الحضاري في نفوس أفراد المجتمع ،والتعريف بحضارة اإلسالم والمسلمين.
إنشاء منتدى للتواصل الحضاري يشرف على تعزيز ثقافة التواصل الفكري والحضاري والعلمي بين -
الشعوب المختلفة.
عقد ورش عمل خاصة بالنشء والشباب المسلم ،للتعريف بالحضارة اإلسالمية ،وفنونها. -
توجيه الرأي العام نحو قضايا األمة والتفاعل معها ،من أجل التخلص من كافة وسائل التراجع الحضاري. -
تشكيل رابطة من ُعلماء المسلمين والمتخصصين من أساتذة الجامعات ،و ُعلماء اآلثار ،والحضارة، -
لمعالجة القضايا المعاصرة ،وازالة الشبهات التي تدور حول اإلسالم وحضارته ،وبيان الوجه الحضاري
الحقيقي لألمة اإلسالمية ،وانجازاتها البشرية.
الخاتمة
الحمد هلل الذي بنعمته تتم الصالحات ،والحمد هلل الذي جعلنا م ِ
سلمين ،والحمد هلل الذي أنعم علينا بكتابه المبين، ُ
الناس ِ بن ِ
عبداهلل الرسول األمين ،بذلك النور المبين الذي ندعو ِ
محمد ِ الحمد لِلَّه الذي بعث فينا خاتَ َم المرسلين،
و ُ
َ
جميعا إليه..
لقد حاولنا من خالل هذا السرد حول التعريف بالحضارة اإلسالمية ،وأُصولها ،وعوامل ازدهارها ،والجوانب المزدهرة
فيها ،واختيار األسرة المسلمة نموذجا مؤث ار في الحضارة اإلسالمية ،للوصول إلى اإلجابة عن سؤال البحث :ما هو
واقع الحضارة اإلسالمية اليوم؟ ..هل هو واقع نهوض وتأهب واستشراف حضاري ..،أم أنه واقع تأخر وتخلف،
وانهيار حضاري؟..
نقول :إن األسس الحضارية اإلسالمية ما زالت قائمة إلى يومنا هذا ،وما زالت الخصائص التي تميزت بها تسري
في الكيان اإلسالمي كما هي ،وما تمر به الحضارة اإلسالمية من ضعف وتراجع ،هو من األمور العارضة التي
تمر بها أي أمة من األمم ،وأن الواقع هو نهوض وتأهب حضاري ،حيث تحمل الحضارة اإلسالمية في داخلها
بذور البقاء ،وهي سماتها الفريدة المتمثلة في الربانية ،والعالمية ،والشمول ،واليسر ،والتجدد ،حيث تفي بحاجات
اإلنسان في كل زمان ومكان ،وأخي ار الخلود ،حيث تكفل اهلل -عز وجل -بحفظ اإلسالم ،ألنه الحق من رب
ق ِم ْن رِّب ُكم فَآ َِمُنوا َخ ْي ار لَ ُكم وِا ْن تَ ْكفُروا فَِإ َّن لِلَّ ِه ما ِفي السَّماو ِ
ات الر ُسو ُل بِا ْل َح ِّ
اء ُك ُم َّ (يا أَيُّهَا َّ
ََ َ ُ ْ َ َ ْ اس قَ ْد َج َ
الن ُ العالمين َ
ان اللَّهُ َعلِيما َح ِكيما) [النساء.]170 : و ْاأل َْر ِ
ض َو َك َ َ
وصلى اهلل وسلم على المبعوث بالرحمة والهدى ،والحجة على الخلق أجمعين..
المراجع:
[ :]1الزبيدي ،محمد مرتضى الحسيني ،تاج العروس ،ج ،11ص 27وما يليها ،تحقيق عبد الكريم الغرباوي،
مطبعة حكومة الكويت1972 ،م1292 ،هـ.
[ :]2عمر ،أحمد مختار ،معجم اللغة العربية المعاصرة ،ج ،1ص ،513الطبعة األولى ،عالم الكتب1429 ،م،
2008م.
[ :]3ﺍبﻥ خلﺩﻭﻥ ،عبﺩ ﺍلﺭحمﻥ ،المقدمة ،ص ،548تحقيق وتعليق وشرح :د .على عبد الواحد وافي ،ﺩﺍﺭ نهضة
مصﺭ ،ﺍلقاهﺭﺓ .
[ :]4المصدر السابق.
19
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
[ :]5ديورانت ،ول وايريل ،قصة ﺍلحضاﺭﺓ ،ترجمة د .زكي نجيب محمود ،ط ،3القاهرة ،اإلدارة الثقافية بجامعة
الدول العربية ،ﺝ ،1ص. 1965 ،3
[ :]6أبو خليل ،د .شوقي ،ﺍلحضاﺭﺓ ﺍلعﺭبية ﺍإلسالمية ﻭمﻭجﺯ عﻥ ﺍلحضاﺭﺍﺕ ﺍلسابقة ،مجلد ،1ط 2بيروت ـ
دمشق ،دار الفكر المعاصر1417 ،هـ ـ 1996م ،ص.20
[ :]7فروخ ،د .عمر :العرب في حضارتهم وثقافتهم1 ،مج ،ط ،2بيروت :دار العلم للماليين ،ص ،66لم يذكر
التاريخ الطبعة.
[ :]8إدريس ،د .جعفر شيخ :صراع الحضارات ومستقبل الدعوة اإلسالمية ـ بحث منشور ضمن فاعليات المؤتمر
الذي أقامته مجلة البيان بقاعة الصداقة بالخرطوم يوم 17رجب 1423هـ الموافق 24سبتمبر سنة 2002م .
-10السباعي ،د .مصطفى :من روائع حضارتنا ،دار الوراق للنشر والتوزيع ،المكتب اإلسالمي ،ط1420 ،1هـ،
1999م ،ص.69 :
[ – ]11التويجري ،د .عبد العزيز ،خصائﺹ ﺍلحضاﺭﺓ ﺍإلسالمية ﻭﺁفـاﻕ ﺍلمستقبل ،مع الترجمتين اإلنجليزية
والفرنسية ،ص ،14منشورات االيسيسكو ،ط1436 ،2ه2015 ،م.
[ :]12شلبي ،د .ﺃحمﺩ ،مﻭسﻭعة ﺍلحضاﺭﺓ ﺍإلسالمية ،ج ،1ص ،53مﻜتبة ﺍلنهضة ﺍلمصﺭية ،القاهرة،1987 ،
ط.12
[ :]13المرجع السابق ص.14
[ :]14مؤنس ،د .حسين :الحضارة ،دراسة في أصول وعوامل قيامها ،وتطورها ،سلسلة عالم المعرفة ،ص.27
[ :]15شلبي ،د .أبو زيد :تاريخ الحضارة اإلسالمية والفكر اإلسالمي ،القاهرة ،مكتبة وهبة1383 ،هـ1964 ،م،
ص.13
[ :]16المرجع السابق ،ص.43
[ :]17اإلسالمية ،مجلة البحوث :العدد ،27الرئاسة العامة للبحوث واإلفتاء ،المملكة العربية السعودية ،اإلصدار:
من ربيع األول إلى جمادى الثانية لسنة 1410هـ،
[ :]18جاسم ،د .محمد صفاء :السنة النبوية وأثرها في بناء المنهج التفصيلي للحياة اإلسالمية ،مجلة كلية اآلداب
– جامعة بغداد العدد ،102 :ص.323
[ :]19العقاد ،عباس محمود :أثر العرب في الحضارة األوروبية ،القراءة للجميع ،1998 ،دار نهضة مصر للطباعة
والنشر والتوزيع ،ص.5
[ :]20سقال ،د.ديزيره :العرب في العصر الجاهلي ،دار الصداقة العربية ،بيروت ،1995 ،ص.21 ،20
[ :]21المرجع السابق41 ،40 :
[ :]22المرجع السابق57 :
[ :]23شلبي ،د.أبو زيد :تاريخ الحضارة اإلسالمية والفكر اإلسالمي ،القاهرة ،مكتبة وهبة1383 ،هـ1964 ،م،
ص.63
[ :]24المرجع السابق ،ص.65
[ :]25الضيحان ،د .عبد الرحمن بن إبراهيم :الدولة والحكم في اإلسالم الفكر والتطبيق ،المملكة العربية السعودية،
ط1411 3هـ ،1991 ،ص.173
[ :]26الزحيلي ،أ.د وهبة :الفقه اإلسالمي وأدلته ،دار الفكر -سوريَّة – دمشق ،الطبعة ،ج ،8ص .6362
20
العدد التاسع مجلة العمارة والفنون
[ :] 27خليل ،عماد الدين :مدخل إلى الحضارة اإلسالمية ،المركز الثقافي العربي ،الدار العربية للعلوم ناشرون،
1426هـ2005 ،م ،ص.71 ،70
[ :]28المرجع السابق [.]74 ،73
[ :]29شلبي ،د .أبو زيد :مرجع سابق ،ص.261
[ :]30ابن منظور ،أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ،لسان العرب ،دار صادر ،بيروت ،ت711:هـ ،ج،4
ص.20
[ :]31الموسوعة الفقهية الكويتية -ج ،4ص.223
[ :]32عقلمة ،د.محمد :نظام األسرة في اإلسالم ،ط ,2مكتبة الرسالة الحديثة –األردن 1409 ،هـ 1989 ،م ج
،1ص .18
[ :]33الزبيبي ،أحمد عبد الجليل :دعائم استقرار األسرة في ظل الشريعة اإلسالمية ،القوامة والنفقة أنموذجا ،دراسة
تحليلية ُمقارنة ،مجلة جامعة ﺩمشﻕ للعلﻭﻡ ﺍالقتصاﺩية ﻭﺍلقانﻭنية ،المجلد ،28 :العدد األول2012 :م ،ص .416
*******************
الخرائط:
21