You are on page 1of 61

‫الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية‬

‫وزارة التعليم العالي والبحث العلمي‬


‫جامعة لونيسي علي البليدة ‪2‬‬
‫كلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية – األمير خالد ‪-‬‬

‫قسم العلوم اإلنسانية‬


‫شعبة علوم اإلعالم واإلتصال‬

‫د‪ .‬نورالدين بوزيان‬


‫الرتبة العلمية‪ :‬أستاذ محاضر –ب‪-‬‬

‫دروس في مادة‪:‬‬

‫إثنوغرافيا الجمهور والمستخدمين‬

‫التخصص‪ :‬اتصال جماهيري والوسائط الجديدة‬


‫المستوى‪ :‬السنة الثانية ماستر‬
‫السداسي‪ :‬الثالث‬
‫تم تقديم هذه الدروس عن بعد ( منصة مودل ) خالل السنوات الجامعية‪:‬‬
‫‪2022/2021 – 2021/2020 - 2020/2019‬‬

‫السنة الجامعية‪2022-2021:‬‬
‫‪ -‬محتوى المادة‪-‬‬

‫‪ -‬المحاضرة ‪ :01‬األنثروبولوجيا‪ :‬المفهوم وإشكاالت المصطلح‪.‬‬


‫‪ -‬المحاضرة ‪ :02‬تاريخ األنثروبولوجيا‪.‬‬
‫‪ -‬المحاضرة ‪ :03‬مدخل إلى علم اإلثنوغرافيا‪.‬‬
‫‪ -‬المحاضرة ‪ :04‬االنتقادات الموجهة لإلثنوغرافيا‪.‬‬
‫‪ -‬المحاضرة ‪ :05‬القواعد المنهجية لإلثنوغرافيا‪.‬‬
‫‪ -‬المحاضرة ‪ :06‬نشأة منهجية اإلثنوغرافيا‪.‬‬
‫‪ -‬المحاضرة ‪ :07‬استخدام المنهج اإلثنوغرافيا في بحوث اإلعالم‪.‬‬
‫‪ -‬المحاضرة ‪ :08‬استخدام المنهج اإلثنوغرافي لدى دافيد مورلي‪.‬‬
‫‪ -‬المحاضرة ‪ :09‬الوضعيات النظرية لدافيد مورلي‪.‬‬
‫‪ -‬المحاضرة ‪ :10‬الوضعية المنهجية لدافيد مورلي‪.‬‬
‫‪ -‬المحاضرة ‪ :11‬إجراءات البحث اإلثنوغرافي‪.‬‬
‫‪ -‬المحاضرة ‪ :12‬أدوات البحث اإلثنوغرافي‪:‬‬
‫المحاضرة ‪ :01‬األنثروبولوجيا‪ :‬المفهوم وإشكاالت المصطلح‬

‫‪ .1‬تعريف األنثروبولوجيا‪:‬‬
‫في مستهل القرن العشرين كان العلماء المهتمون بمعالم تاريخ اإلنسان غير اإلعتيادية‬
‫والمثيرة والمحيرة يعرفون باإلنتثروبولوجيين؛ وهم أوالئك الذين كانوا يبحثون عن أبعد‬
‫أسالف اإلنسان وعن طروادة وعن الموطن األصلي للهنود األمركيين وعن عالقة نور‬
‫الشمس الساطع ولون البشرة وعن أصل العجلة وعن الدبوس وعن الفخار‪ ،‬ارادوا أن يعرفوا‬
‫كيف توصل اإلنسان إلى ذلك‪ ،‬لماذا يحكم بعض الناس ملك ويحكم بعضهم شيخ مسن ويحكم‬
‫آخرون محاربون وال تحكم النساء أحدا؟ ولماذا تنقل بعض الشعوب الملكية إلى سلسلة نسب‬
‫الذكور وبعضها إلى سلسلة نسب اإلناث وآخرون إلى كال الجنسين بالتساوي؟ ولماذا يمرض‬
‫بعض الناس ويموتون حين يعتقدون أنهم مسحورون؟ ويضحك آخرون من الفكرة ذاتها؟‬
‫بحثوا عن القضايا الكلية في حياة البشر وسلوكهم‪ ،‬وأثبتوا أن الناس في مختلف القارات‬
‫والمناطق كانوا متشابهين أكثر من كونهم مختلفين واكتشفوا نظائر كثيرة في تقاليد البشر‬
‫يمكن تفسير بعضها باالتصال التاريخي‪ ،‬بقول آخر أصبحت األنثروبولوجيا علم التشابهات‬
‫واالختالفات البشرية‪.‬‬

‫تشير العديد من المصادر إلى أن األنثروبولوجيا تعرف بأنها دراسة اإلنسان وإنجازاته‪،‬‬
‫ويرجع استقرار ترجمة كلمة أنثروبولوجيا بعلم اإلنسان في الكتابات العربية إلى أن الكلمة‬
‫مشتقة من كلمتين يونانيتين هما أنتروبوس ‪ Anthropos‬بمعنى "اإلنسان" ولوجوس‬
‫‪ Logos‬بمعنى " العلم " ومن تم فالترجمة الحرفية لكلمة أنثروبولوجيا هي "علم اإلنسان"‪،‬‬
‫والشك ن هذا التعريف يحتاج على حد تعبير كروبر ‪ A.L Krouber‬إلى مزيد من اإليضاح‬
‫ليصبح أكثر تحديدا وأكثر دقة طالما ال نستطيع الزعم بأن علوم األخرى مثل الفيسيولوجيا أو‬
‫علم وظائف األعضاء أو علم النفس يمكن اعتبارها جزءا من األنثروبولوجيا أو علم اإلنسان‬
‫ألنهما يوجهان اهتمامهما إلى اإلنسان أيضا‪ ،‬بيد أن هناك فارق جوهري يميز األنثروبولوجيا‬
‫عن اهتمامات هذين العلمين يتمثل أساسا في أن األنثروبولوجيا تهتم بدراسة االنسان كأنساق‬
‫اجتماعية في حين تتجه الفيسيولوجيا وعلم النفس في دراسته كانساق فردية‪ ،‬وهذا ما دفع‬

‫‪4‬‬
‫كروبر وآخرون إلى القول بأنها تهتم باإلنسان وأعماله وسلوكه في جماعاته المختلفة وساللته‬
‫المتابينة‪.‬‬

‫ويعود تاريخ استخدام هذا المصطلح حسب االنجليزي هادون للحضارتين االغريقية‬
‫والرومانية‪ ،‬حيث استخدمه أرسطو لإلشارة إلى الشخص الذي يتحدث عن نفسه‪ ،‬ويتضح من‬
‫هذا المعنى اللفظي الصطالح األنثروبولوجيا أن موضوع هذا العلم هو اإلنسان واإلنسان هو‬
‫اإلطار الوحيد الذي يحدد الوضوعات التي يدرسها هذا العلم أما الزمان والمكان فال يقيدان‬
‫الموضوعات التي تدخل في نطاقه؛ بمعنى أنه العلم الذي يدرس االنسان وأجداده وأصوله‬
‫منذ أقدم العصور واألزمنة حتى الوقت الحالي‪ ،‬فهو يدرس اإلنسان في كل زمان ومكان وال‬
‫يتقيد بفترات الزمن أو بحواجز المكان‪ ،‬لكنه يتقيد ببحث موضوع واحد ال يخرج عنه وهو‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫ربما تكون أفضل طريقة لتعريف األنثروبولوجيا هي ما كتبته الباحثة األنثروبولوجية‬


‫األمريكية الشهيرة مارجريت ميد ‪ )1979-1901 ( M.Mead‬حيث تقول‪ :‬نحن نصف‬
‫الخصائص اإلنسانية‪ ،‬البيولوجية والثقافية للنوع البشري عبر األزمان وفي سائر األماكن‪،‬‬
‫ونحلل الصفات البيولوجية والثقافية المحلية كأنساق مترابطة ومتغيرة‪ ،‬وذلك عن طريق‬
‫نماذج ومقاييس ومناهج متطورة‪ ،‬كما نهتم بوصف وتحليل النظم اإلجتماعية والتكنولوجيا‪،‬‬
‫ونعني أيضا ببحث اإلدراك العقلي لإلنسان وابتكاراته ومعتقداته ووسائل اتصاالته‪ ،‬وبصفة‬
‫عامة‪ ،‬فنحن األنثروبولوجيي نسعى لربط وتفسير نتائج دراساتنا في إطار نظريات التطور‬
‫أو مفهوم الوحدة النفسية المشتركة بين البشر‪ ،‬إن التخصصات األنثروبولوجية التي قد‬
‫تتضارب مع بعضها هي في ذاتها مبعث الحركة والتطور في هذا العلم الجديد وهي التي تثير‬
‫االنتباه وتعمل على اإلبداع والتجديد‪ ،‬هذا وتجدر اإلشارة إلى أن جزءا ال بأس به من عمل‬
‫األنثروبولوجي يوجه نحو القضايا العملية في مجاالت الصحة واإلدارة والتنمية االقتصادية‬
‫ومجاالت الحياة األخرى‪.‬‬

‫لكن هذا التعريف يعبر عن تصور األنثروبولوجيين األمريكيين ألهم مجاالت األنثروبولوجيا‬
‫والتي تعني في نظرهم دراسة اإلنسان من الناحيت العضوية والثقافية على حد سواء‪ ،‬في‬

‫‪5‬‬
‫حين توجد تعريفات أشمل لعلم األنثروبولوجيا ولعل تعريف كلود ليفي ستراوس يعتبر‬
‫أفضلها‪ ،‬حيث يقول‪ :‬إن األنثروبولوجيا تهدف إلى معرفة كلية وشمولية لإلنسان في عالقته‬
‫بامتداداته التاريخية ومحيطه الجغرافي‪.‬‬

‫‪ .2‬إشكاالت حول مصطلح األنثروبولوجيا‪:‬‬


‫يبدو أن اختالف مفاهيم األنثروبولوجيا مثلما أشرنا سابقا يحيلنا إلى ضرورة البحث عن‬
‫أسباب اختالف ه ذا المصطلح من منطقة إلى أخرى‪ ،‬وقد أمكننا عرض هذا اإلختالف على‬
‫النحو التالي‪:‬‬

‫‪ -‬األمريكيون‪:‬‬
‫تعني في نظرهم دراسة اإلنسان من الناحيت العضوية والثقافية على حد سواء‪ .‬ويستخدم‬
‫األمريكيون مصطلح األنثروبولوجيا الجسمية الفيزيقية ‪Anthropology Physical‬‬
‫لإلشارة إلى دراسة الجانب العضوي أو الحيوي لإلنسان بينما يستخدمون مصطلح‬
‫األنثروبولوجيا الثقافية ‪ Cultural Anthropology‬ليعني مجموع التخصصات التي تدرس‬
‫النواحي االجتماعية والثقافية لحياة اإلنسان‪ ،‬يدخل في ذلك الدراسات التي تتعلق بحياة‬
‫اإلنسان القديم أو حضارات ما قبل التاريخ والتي يشار إليها بعلم األركيولوجيا‪،‬‬
‫‪ ،Archeology‬كما تتناول األنثروبولوجيا الثقافية دراسة لغات الشعوب البدائية واللهجات‬
‫المحلية والتأثيرات المتبادلة بين اللغة والثقافة بصفة عامة وذلك في إطار ما يعرف بعلم‬
‫اللغويات ‪ Linguistics‬عالوة على ذلك يوجد مجاالن دراسيان آخران ذوا أهمية كبيرة‬
‫وهما اإلثنولوجيا ‪ Ethnology‬واإلثنوجرافيا ‪ .Ethnography‬ويمكن ابراز التصور‬
‫األمريكي لمجاالت األنثروبولوجيا في الشكل التالي‪:‬‬

‫‪6‬‬
‫األنثروبولوجيا‬

‫األنثروبولوجيا الطبيعية‬ ‫األنثروبولوجيا الثقافية‬

‫علم اللغويات‬

‫األركيولوجيا‬

‫اإلثنولوجيا‬

‫اإلثنوغرافيا‬

‫‪ -‬البريطانيون‪:‬‬
‫لقد اختار اإلنجليز تسمية أخرى وهي األنثروبولوجيا االجتماعية ‪Anthropology‬‬
‫‪ Social‬ونظروا إليها باعتبارها علما قائما بذاته ال يدرج تحته أي من األركيولوجيا أو‬
‫اللغويات ‪ ،‬وبدأ هذا التصور األنثروبولوجي مع التحول العظيم في البراديغم )‪(Paradigm‬‬
‫النظري في التقليد البريطاني في عام ‪ 1922‬مباشرة مع نشر كتاب برونيسالف مالينوفسكي‬
‫أرغونوتس غرب المحيط الهادئ‪ ،‬ونشر كتاب رادكليف براون سكان جزر االندمان‪ ،‬فهذان‬
‫الكتابان شكال ومؤلفاتهم طال ب الجيل التالي وسلما الفرضيات القادرة على البقاء لقيام‬
‫األنثروبولوجيا االجتماعية البريطانية‪ ،‬ويمكن ابراز التصور البريطاني لمجاالت‬
‫األنثروبولوجيا في الشكل التالي‪:‬‬

‫‪7‬‬
‫األنثروبولوجيا‬

‫األنثروبولوجيا الطبيعية‬ ‫األنثروبولوجيا اإلجتماعية‬

‫اإلثنولوجيا‬

‫اإلثنوغرافيا‬

‫األنثروبولجيا اإلقتصادية‬

‫األنثروبولوجيا السياسية‬

‫أنثروبولوجيا القرابة‬
‫واألسرة‬

‫‪ -‬الفرنسيون‪:‬‬
‫إن ما يدرجه األمريكيون تحت عبارة األنتروبولوجيا الثقافية يصطلح الفرنسيون على‬
‫اإلشارة إليه باألثنولوجيا أو األثنوجرافيا في بعض األحيان وهم يدرسونها تحت مظلة علم‬
‫االجتماع‪ ،‬وتعتبر األنثروبولوجيا في فرنسا متميزة كمدرسة أنثروبولوجية قومية صادقة مع‬
‫التقليد الفكري الفرنسي بشكل واسع‪ ،‬ومؤثرة بأفكارها في مناطق عديدة كبريطانيا‪ ،‬ألمانيا‬
‫وأمريكا‪ ،‬لتجعل من فرنسا بلدا يستحق مكانته عن جدارة باعتباره المنتج الرائد للفكر‬
‫اإلجتماعي وللممارسة اإلثنوغرافية‪ ،‬ويمكن ابراز التصور الفرنسي لمجاالت األنثروبولوجيا‬
‫في الشكل التالي‪:‬‬

‫األنثروبولوجيا‬ ‫علم اإلجتماع‬

‫األنثروبولوجيا الطبيعية‬ ‫اإلثنولوجيا‬


‫أو‬
‫اإلثنوغرافيا‬

‫‪8‬‬
‫‪ -‬األلمان‪:‬‬
‫تستخدم كلمة األنثروبولوجيا في ألمانيا خاصة قبل ‪ ( 1945‬تغير مفهوم المصطلع في ألمانيا‬
‫بعد الحرب) لإلشارة إلى الدراسة الطبيعية لإلنسان بينما تستخدم كلمة أثنولوجيا لتشير إلى‬
‫علم الشعوب ‪ Voelkerkunde‬إال أن االتجاهات تتعدد في المدارس األلمانية األثنولوجية‪،‬‬
‫هناك مثال اهتمامات بالنواحي النظرية الفلسفية وهناك أيضا اهتمامات بالنواحي المادية في‬
‫الثقافات اإلنسانية‪ ،‬وقد برز مؤخرا اتجاه جديد نحو الدراسات الميدانية‪ ،‬كما تشير بعض‬
‫المصادر إلى أن االثنولوجيا تنقسم في ألمانيا إلى فرعين مستقلين‪ ،‬فبينما يهتم علم الشعوب‬
‫بالشعوب المعتبرة الغريبة‪ ،‬يدرس علم الشعب الثقافة األلمانية بصورة حصرية‪ ،‬ويمكن‬
‫إبراز التصور األلماني لمجاالت األنثروبولوجيا في الشكل التالي‪:‬‬

‫األنثروبولوجيا‬

‫األنثروبولوجيا الطبيعية‬ ‫اإلثنولوجيا‬

‫علم الشعوب (أنتولوجيا)‬

‫علم الشعب‬

‫‪ .3‬العالقة بين األنثروبولوجيا‪ ،‬اإلثنولوجيا واإلثنوغرافيا‪:‬‬


‫يتساءل كلود ليفي ستروس ‪ LEVI-STRAUSS Claude‬في كتابه األنثروبولوجيا‬
‫البنيوية ‪ Anthropologie structurale‬عن العالقات واالختالفات الموجودة بين‬
‫اإلثنوغرافيا واإلثنولوجيا واألنثروبولوجيا؟ ثم يضيف فيقول‪ :‬اإلجابة على السؤال واضحة‬
‫نسبيًا‪ ،‬يبدو أن جميع البلدان لديهم تصور لإلثنوغرافيا بنفس الطريقة؛ حيث أن اإلثنوغرافيا‬
‫تتوافق مع المراحل األولى من البحث‪ :‬المالحظة والوصف‪ ،‬العمل الميداني‪ ،‬أين تشكل‬
‫الدراسة الحقلية (منوغرافيا) التي تطبق على مجموعة صغيرة ومحصورة وبدرجة كافية‬
‫لتمكن الباحث من جمع معظم معلوماته عن طريق تجربته الشخصية نفس النوع من الدراسة‬
‫اإلثنوغرافية‪ ،‬نضيف فقط أن اإلثنوغرافيا تشمل األساليب والتقنيات المتعلقة بالعمل في‬
‫الميدان في تصنيف ووصف وتحليل ظواهر ثقافية خاصة (سواء كانت أسلحة أو أدوات أو‬

‫‪9‬‬
‫معتقدات أو مؤسسات) في حالة األشياء المادية‪ ،‬تستمر هذه العمليات بشكل عام في المتحف‬
‫والتي يمكن اعتبارها في هذا الصدد امتدادًا للميدان‪.‬‬

‫بالمقارنة مع اإلثنوغرافيا ‪ ،‬فإن اإلثنولوجيا تمثل الخطوة األولى نحو التجميع والتوليف‪.‬‬
‫بدون استبعاد المالحظة المباشرة فإن اإلثنولوجيا تميل وتقدم استنتاجات واسعة بما يكفي‬
‫بحيث يصعب بناءها فقط على المعرفة المباشرة واألولية فقط‪ .‬هذا التجميع والتوليف يمكن‬
‫إجراءه في ثالثة اتجاهات‪ :‬جغرافيًا‪ ،‬تاريخيًا‪ ،‬منهجيا‪ ،‬بهذا المعنى يتم تطبيق مصطلح‬
‫اإلثنولوجيا‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬في مكتب اإلثنولوجيا األمريكية التابع لمعهد سميثسونيان أو‬
‫في معهد اإلثنولوجيا بجامعة باريس وفي جميع الحاالت ‪ ،‬اإلثنولوجيا تشمل وتتضمن‬
‫اإلثنوغرافيا كخطوة أولية لها وتشكل امتدادًا لها‪ ،‬على األقل لفترة طويلة وفي العديد من‬
‫البلدان ‪ ،‬اعتبرت هذه االزدواجية كافية في حد ذاتها‪.‬‬

‫على العكس من ذلك‪ ،‬أينما نصادف مصطلحات األنثروبولوجيا االجتماعية أو الثقافية‪ ،‬نجدها‬
‫مرتبطة بمرحلة ثانية وأخيرة من التجميع والتوليف التي تعتبر استنتاجات اإلثنوغرافيا‬
‫واإلثنولوجيا أساسا لها‪ ،‬في البلدان األنجلوسكسونية ‪ ،‬تهدف األنثروبولوجيا إلى اإلحاطة‬
‫الشاملة باإلنسان‪ ،‬مع اإللمام بالموضوع بكل امتداده التاريخي والجغرافي؛ وتطمح إلى‬
‫معرفة قابلة للتطبيق على كل مراحل التطور البشري منذ الجنس البشري األول إلى غاية‬
‫األجناس الحديثة؛ مع تقديم استنتاجات إيجابية أو سلبية‪ ،‬لكنها صالحة لكل المجتمعات‬
‫البشرية ‪ ،‬من أكبرالمدن الحديثة الكبيرة إلى أصغر قبيلة ميالنيزية (في غينيا الجديدة)‪.‬‬

‫بهذا المعنى‪ ،‬يمكن القول أنه توجد بين األنثروبولوجيا واإلثنوغرافيا نفس العالقة التي‬
‫حددناها أعاله بين اإلثنولوجيا واإلثنوغرافيا‪ ،‬بالتالي ال تشكل اإلثنوغرافيا واإلثنولوجيا‬
‫واألنثروبولوجيا ثالثة تخصصات مختلفة أو ثالثة مفاهيم مختلفة لنفس الدراسات‪ .‬بل في‬
‫الواقع تمثل ثالث مراحل أو ثالث لحظات من نفس البحث‪ ،‬وتفضيل واحد من هذه‬
‫المصطلحات يعبر فقط عن االهتمام السائد والموجه نحو نوع من البحث ‪ ،‬والذي ال يمكن‬

‫‪10‬‬
‫المحاضرة ‪ :02‬تاريخ األنثروبولوجيا‬

‫يصف مؤرخو العلوم » األنثروبولوجية « بأنها أحدث العلوم االجتماعية على اإلطالق وأنها‬
‫ال تزال تتطور وتتقدم لتأخذ مكانتها المستقلة والفريدة بين العلوم األخرى التي تشاركها‬
‫دراسة اإلنسان وطبيعة الحياة البشرية ومراحل تطورها‪ .‬ورغم حداثة األنثروبولوجيا التي لم‬
‫تتبلور كدراسة متخصصة وعلم مستقل عن الفلسفة االجتماعية إال في أواخر القرن التاسع‬
‫عشر فان وصف ثقافات الشعوب والحضارات اإلنسانية وعقد المقارنات بينها قد جذبا بانتباه‬
‫كثيرا من المفكرين والكتاب منذ قديم الزمان‪ ،‬لقد حاول كثيرون عبر التاريخ تقديم‬
‫المالحظات الخاصة بالطبيعة اإلنسانية والوجود البشري كما افترضوا بعض التفسيرات‬
‫بصدد االختالفات القائمة بين الشعوب سواء في النواحي الجسمية أو في التقاليد والعرف‬
‫والمعتقدات‪ .‬بناء على ماسبق يمكن عرض تاريخ األنثروبولوجيا عبر مجموعة من المراحل‬
‫دون تناول األنثروبولوجيا كفرع معرفي فقط؛ ذلك أنه لفهم‬ ‫والفترات التاريخية‬
‫األنثروبولوجيا تاريخيا البد من العودة إلى المرحلة اليونانية التي يعتبرها األروبيون مصدر‬
‫المعرفة للعديد من العلوم‪.‬‬

‫‪ .1‬األنثروبولوجيا عند اليونان‪:‬‬

‫كتب عن أحالم الشعوب‬


‫يعتبر الباحث اإلغريقي اليوناني هيرودوتس المحب للسفر أول من َ‬
‫وعاداتهم وتقاليدهم‪ ،‬وعرض فكرة وجود اختالف وتنوع فيما بينهم‪ ،‬من حيث االتجاهات‬
‫الثقافية واللغوية والساللية والدينية‪ .‬ولذلك يعتبره معظم مؤرخي األنثربولوجيا الباحث‬
‫األنثروبولوجي األول في التاري‪ ،‬وهو يعتبر أول من قام بجمع معلومات وصفية بشكل دقيق‬
‫عن عدد كبير من الشعوب غير األوروبية‪ ،‬حيث تناول بالتفصيل معتقاداتهم وعاداتهم‬
‫ومالمحهم الجسدية وأصولهم الساللية‪ ،‬وقد جاء في أحد األوصاف التي قدمها هيرودوتس‬
‫التالي‪ :‬لهم عادة واحدة يختلفون فيها عن جميع أمم العالم األخرى فإنهم يتخذون اسم األم‬
‫وليس األب‪ ،‬فإذا سألت أحد الاليسيين من هو؟ أجابك بإعطاء اسمه الخاص ثم اسم أمه وهكذا‬
‫على خط النسب األنثوي‪ ،‬وفضلال عن ذلك إذا تزوجت إمرأة حرة رجال عبدا فإن أطفالهم‬
‫يكونون مواطنين كاميلين ولكن إذا تزوج رجل حر إمرأة أجنبية حتى ولو كان الرجل األول‬

‫‪11‬‬
‫في الدولة فإن األطفال يفقدون جميع حقوق المواطنة‪ .‬لقد أكد هذا الوصف األنثروبولوجي‬
‫للمؤرخ هيرودوتس على أن منهاجه في شرح ثقافة الشعوب وأنظمتهم االجتماعية‪ ،‬يتوافق‬
‫بشكل كبير مع أسس المنهج اإلثنوغرافي‪ ،‬خاصة أنه أجرى أيضا العديد من المقابالت‬
‫وسجل األقوال مثلما يفعل األنثروبولوجيون اليوم‪.‬‬

‫لقد انغمس أرسطو بدوره في التأمالت الفلسفية عن طبيعة الجنس البشري‪ ،‬وفي‬
‫األنثروبولوجيا الفلسفية الخاصة به ناقش االختالفات بين البشر والحيوانات على وجه العموم‬
‫واستنتج أنه رغم وجود حاجات مشتركة بينهم وبين الحيوانات‪ ،‬فاإلنسان وحده هو الذي‬
‫يحظى بالعقل والحكمة واألخالق‪ ،‬لقد أكد أيضا أن البشر في األساس إجتماعيون بطبيعتهم؛‬
‫وفي األنثروبولوجيا وعلوم أخرى يقوم مثل هذا النمط الشمولي من الفكر والذي يبحث عن‬
‫ترسيخ التشابهات وليس اإلختالفات بين جماعات الناس دورا بارزا إلى هذا اليوم‪ ،‬ومنه‬
‫يتضح تأثير الفكر اليوناني في هذا العلم‪.‬‬

‫‪ .2‬األنثروبولوجيا في العصور الوسطى‪:‬‬

‫يذكر المؤ ّرخون أنّه في هذه العصور الوسطى (المظلمة) تدهور التفكير العقالني‪ ،‬وأدينت‬
‫أيّة أفكار تخالف التعاليم المسيحيّة‪ ،‬أو ما تق ّدمه الكنيسة من تفسيرات للكون والحياة اإلنسانية‪،‬‬
‫سواء في منشئها أو في مآلها‪ ،‬ولكن إلى جانب ذلك‪ ،‬كانت مراكز أخرى وجّهت منطلقات‬
‫المعرفة‪ ،‬وح ّددت طبيعة الحضارة الغربية في تلك العصور‪ ،‬كبالط الملوك مثالً‪ ،‬الذي كان‬
‫يض ّم في العادة‪ ،‬فئات من المثقفين كرجال اإلدارة والسياسة والشعراء‪ ،‬يضاف إلى ذلك‬
‫التوسّع في دراسة القانون (جامعة بولونيا) ودراسة الفلسفة والالهوت (جامعة باريس) م ّما‬
‫كانت لـه آثار واضحة في الحياة األوربية العامة (السياسية واالجتماعية والثقافية والدينية)‬
‫ومهّد بالتالي للنهضة التي شهدتها أوروبا بعد هذه العصور‪.‬‬

‫قد ظهرت في هذه المرحلة محاوالت ع ّدة للكتابة عن بعض الشعوب‪ ،‬إالّ أنّها اتّسمت غالبا ً‬
‫بالوصف التخيّلي‪ ،‬بعيدة عن المشاهدة المباشرة على أرض الواقع‪ ،‬مثال ذلك ما قام به‬
‫األسقف ‪ /‬إسيدور ‪ Isidore /‬الذي عاش ما بين (‪ )636 -560‬حيث أع ّد في القرن السابع‬

‫‪12‬‬
‫الميالدي موسوعة عن المعرفة‪ ،‬وأشار فيها إلى بعض تقاليد الشعوب المجاورة وعاداتهم‪،‬‬
‫ولكن بطريقة وصفية عفوية‪ ،‬تتّسم بالسطحية والتحيّز‪ ،‬وم ّما ذكره‪ّ ،‬‬
‫أن قرب الشعوب من‬
‫أوربا أو بعدها عنها‪ ،‬يح ّدد درجة تق ّدمها‪ ،‬فكلّما كانت المسافة بعيدة‪ ،‬كان االنحطاط والتهور‬
‫الحضاري مؤ ّكدا لتلك الشعوب‪ ،‬ووصف الناس الذين يعيشون في أماكن نائية بأنّهم من‬
‫سالالت غريبة ال َخلق‪ ،‬حيث تبدو وجوههم بال أنوف‪ ،‬وقد ظلّت تلك المعلومات سائدة وشائعة‬
‫حتى القرن الثالث عشر‪ ،‬حيث ظهرت موسوعة أخرى أع ّدها الفرنسي باتولو ماكوس‬
‫‪ Batholo Macus‬والتي حظيت بشعبية كبيرة‪ ،‬على الرغم من أنّها لم تختلف كثيراً عن‬
‫سابقتها في االعتماد على الخيال‪.‬‬

‫‪ .3‬األنثروبولوجيا في عصر النهضة‪:‬‬

‫يتفق المؤرّخون على أن عصر النهضة في أوربا‪ ،‬بدأ في نهاية القرن الرابع عشر الميالدي‪،‬‬
‫حيث شرع األوروبيون بعملية دراسة انتقائية للعلوم والمعارف اإلغريقية والعربية‪ ،‬مترافقة‬
‫بحركة ريادية نشطة لالستكشافات الجغرافية‪ ،‬وتبع ذلك االنتقال من المنهج الفلسفي إلى‬
‫المنهج العلمي التجريبي‪ ،‬في دراسة الظواهر الطبيعية واالجتماعية‪ ،‬والذي تبلور وتكامل في‬
‫القرن السابع عشر‪ ،‬إن هذه التغيرات مجتمعة أدت إلى ترسيخ عصر النهضة أو ما سمي‬
‫(عصر التنوير) وأسهمت بالتالي في بلورة االنثربولوجيا في نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬كعلم‬
‫يدرس تطور الحضارة البشرية في إطارها العام وعبر التاريخ اإلنساني‪ ،‬األمر الذي استلزم‬
‫توافر الموضوعات الوصفية عن ثقافات الشعوب وحضاراتها‪ ،‬في أوروبا وخارجها‪ ،‬من‬
‫أجل المقارنات‪ ،‬والتعرف إلى أساليب حياة هذه الشعوب وترتيبها بحسب مراحل تطورية‬
‫معينة‪ ،‬بحيث يضع ذلك أساسا لنشأة علم األنثروبولوجيا‪.‬‬

‫بالعودة إلى األنشطة اإلستكشافات الجغرافية البد من التطرق إلى رحاالت كريستوف‬
‫كولومبوس (‪ ،)1506-1451‬الذي يرى البعض أنه من الناحية األنثروبولوجية تعتبر‬
‫مذكراته المتضمنة رحالته ومشاهداته واتصاالته مع "أهالي" العالم الجديد قد زخرت‬
‫بالمعرفة والبيانات والتفصيالت اإلثنوغرافية‪ ،‬وفي الحقيقية أن هذا األمر لم يقف عن هذا‬
‫الحد بل اتصفت كتاباته أيضا بالميل نحو الموضوعية ومحاولة تقصي األسباب وراء ما‬

‫‪13‬‬
‫شاهده أو سمع عنه من تقاليد أوطقوس أو ممارسات يومية وتلك صفة قلما وجدت في‬
‫الكتابات اإلثنوغرافية التي كانت سائدة حينذاك‪ .‬وتظهر موضوعية كريستوف كلومبوس في‬
‫وصفه للسكان األصليين في جزر الكاريبيان في المحيط األطلسي على النحو التالي ‪ّ " :‬‬
‫إن‬
‫أهل تلك الجزركلّهم عراة تماماً‪ ،‬الرجال منهم والنساء‪ ،‬كما ولدتهم أ َّمهاتهم‪ ،‬ومع ذلك فث ّمة‬
‫ّ‬
‫عورتهن بورق الشجر‪ ،‬أو قطعة من نسيج األلياف تصنع لهذا‬ ‫بعض النساء اللواتي يغطين‬
‫الغرض‪ ،‬ليست لديهم أسلحة ومواد من الحديد أو الصلب وهم ال يصلحون الستخدامها على‬
‫أيّة حال‪ ،‬وال يرجع السبب في ذلك إلىضعف أجسادهم‪ ،‬وإنّما إلى كونهم خجلون ومسالمون‬
‫بشكل يثير اإلعجاب‪ ،‬وكتب في وصفه لسكان أمريكا األصليين ‪ " :‬إنّهم يتمتّعون بحسن‬
‫ال َخلق وال ُخلُق‪ ،‬وق ّوة البنية الجسدية‪ ،‬كما أنّهم يشعرون بحرية التصرّف فيما يمتلكون‪ ،‬إلى‬
‫ح ّد أنّهم ال يتر ّددون في إعطاء من يقصدهم أيّا ً من ممتلكاتهم‪ ،‬عالوة على أنّهم يتقاسمون ما‬
‫عندهم برضى وسرور‪ .‬لم تثمر رحاالت كرستوف كلومبوس وكشفه للعالم عن مادة‬
‫إثنوغرافية قديمة فحسب وإنما كانت لها أهمية تاريخية كبرى في مجالي الفكر والسياسة‪،‬‬
‫األمر الذي جعل بعض المؤرخين األوروبيين المهتمين بالتقسيم الزمني للتاريخ يتفقون ‘لى‬
‫أن اكتشاف أمريكا في ‪ 1492‬قد أدخل أوروبا في حقبة جديدة‪.‬‬

‫لم يعد وصف الرحالة كافيا بل بدأ المفكرون والباحثون في استخالص أفكار نظرية من تلك‬
‫المادة اإلتنوغرافية التي يوفرها المستكشف أو الرحالة مثال‪ ،‬ولم تعد الكتابات تستمد‬
‫مصداقيتها من الخيال بل أصبحت تتجه نحو البحث الميداني وكانت أهم الخطوات في مجال‬
‫البحث الميداني ضمن حقل األنثروبولوجيا تلك التي قام بها الفرنسي ميشيل دي مونتاني‬
‫)‪ M.De Montaigne (1892-1532‬الذي أجرى مقابالت مع مجموعة من السكان‬
‫األصليين الذين كان بعض المكتشفين قد أحضروهم إلى أوربا‪ ،‬واستخدم مونتاني هؤالء‬
‫األسرى كإخباريين أي أنه جمع منهم معلومات عن العادات والتقاليد السائدة في موطنهم‬
‫األصلي وخرج من ذلك بمقولة أنه لفهم العالم البد من دراسة التنوع الحضاري للبشر‬
‫واستقصاء أسبابه‪ ،‬لذلك يتسنى ألوروبا أن تفهم ثقافات الشعوب األخرى باعتبار أن لها‬
‫منطلقاتها و أخالقياتها الخاصة بها وبالتالي نجد هذا الفيلسوف الفرنسي قد طرح مقدما فكرة‬
‫" النسبية األخالقية " ‪ Moral Relativity‬على حد تعبير ايدموند ليتش‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫وإلى جانب مونتاني هناك عالمين فرنسيين آخرين من مفكري القرن الثامن عشر واللذان‬
‫يرى األنثروبولوجيون في أعمالهما جذورا للفكر األنثروبولوجي النظري وهما مونتسكيو ‪B‬‬
‫)‪ .De Montesquieu (1758-1689‬وجان جاك روسو)‪،J.Rousseau (1778-1711‬‬
‫حيث تظهر أهمية مونتسكيو بالنسبة لألنثروبولوجيا اإلجتماعية بصفة خاصة عندما تطلع‬
‫على كتاب إيفانز بريتشارد بعنوان " تاريخ الفكر األنثروبولوجي " فنجده يبدأ بمونتيسكيو‪،‬‬
‫أما عن جان جاك روسو الذي يعتبره كلود ليفي شتراوس بمثابة "المعلم واألخ " والذي تأثر‬
‫به تأثرا كبيرا‪ ،‬نظرا لما تضمنته كتاباته من تناول للمادة اإلتنوغرافية عن الشعوب‬
‫المستكشفة‪ ،‬ولعل من األشياء الهامة في كتابات روسو من وجهة نظر األنثروبولوجيا أنه‬
‫استطاع أن يخلص نفسه من التحيز الثقافي لمجتمعه‪ ،‬و أن ينقد قيمه بينما يشيد ويستحسن‬
‫‪.‬‬
‫طرق حياة الشعوب بالمجتمعات األخرى‬

‫‪ .1‬مرحلة النشأة األكاديمية‪:‬‬


‫منذ القرن التاسع عشر‪ ،‬أصبحت تأخذ الدراسات األنتروبولوجية طابعا أكاديميا يسير نحو‬
‫ظهورها كعلم مستقل عن التراث االجتماعي كما طرحه الرواد األوئل‪ ،‬وذلك من خالل القيام‬
‫بالعديد من الدراسات حول بقايا الحياة اإلنسانية المكتشفة في الحفريات التي أجريت في‬
‫مناطق مختلفة من العالم‪ ،‬وكذلك بسبب تقدم دراسات علوم اآلثار‪ ،‬والتقدم الحاصل في فهم‬
‫الحضارات القديمة‪ .‬باإلضافة إلى تقدم األبحاث في العلوم الجيولوجية والباليونتولوجية والتي‬
‫كشفت عن عمر األرض التقريبي‪ ،‬ويرى األستاذ حسين عبد الحميد أحمد رشوان أن الفترة‬
‫الممتدة ما بين عامي ‪ 1871-1861‬هي فترة تبلور األنثروبولجيا كعلم مستقل وذلك بسبب‬
‫العديد من الدراسات التي ظهرت في هذه الفترة سواء في بريطانيا أو فرنسا أو في الواليات‬
‫المتحدة‪.‬‬

‫أما في القرن العشرين وفي الفترة الممتدة ما بين عامي ‪ 1900‬إلى عام ‪ 1924‬فإن علم‬
‫األنثروبولوجيا وصل مرحلة التبلور والصياغة لوحدات التحليل والتفكير الخاصة به‪،‬‬
‫وتميزت هذه الفترة بكثرة األبحاث الميدانية حول المجتمعات البدائية وبقايا آثار اإلنسان‬
‫القديم أو ما يسمى بالدراسات ما قبل التاريخ ( األركيولوجي ) وانتشار تدريس‬

‫‪15‬‬
‫األنثروبولوجيا في الجامعات العالمية‪ ،‬وأصبح هناك تمييزا بين األنثروبولوجيا من ناحية‬
‫واإلثنولوجيا من ناحية أخرى‪ ،‬ولو أنهما يشتركان في نفس موضوع البحث‪ ،‬ويرجع الفضل‬
‫الكبير فيتطبيق الدراسات الميدانية بطريقة منهجية لعالم األنثروبولجيا اإلنجليزي هادون‪،‬‬
‫عندما كان على أس بعثة علمية من جامعة كامبردج لدراسة منطقة توريس في المحيط‬
‫الهادي‪ ،‬واستغرقت تلك الدراسة عامين (‪ ، )1900-1898‬كذلك برز عالم اإلجتماع‬
‫واألنثروبولوجيا مالينوفسكي وراد كليف براون وآخرون‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫المحاضرة ‪ :03‬مدخل إلى علم اإلثنوغرافيا‬

‫ال يمثل علم اإلثنوغرافيا طريقة واحدة خاصة بجمع البيانات‪ ،‬بل هو أسلوب بحث يتميز‬
‫بأهدافه المتمثلة في فهم المعاني االجتماعية وأنشطة الناس في "حقل" معين ونهج يتضمن‬
‫ارتباط وثيق مع هذا األسلوب‪ ،‬بحيث غالبا ما يشاركه في هذا الفهم‪ .‬كما ترتكز اإلثنوغرافيا‬
‫على الرأي القائل بأن الهدف الرئيسي للعلوم االجتماعية هو فهم تصرفات الناس وتجاربهم‬
‫في العالم وطرق الحياة التي تنشأ من خالل دوافعهم وما تعكسه تجاربهم الخاصة‪ .‬وبمجرد‬
‫أن يكون هذا هو الهدف المركزي للبحث‪ ،‬يتم اكتساب المعرفة بالعالم االجتماعي عن طريق‬
‫جمع المعلومات باأللفة‪ ،‬لذلك تعتبر اإلثنوغرافيا مركزية وأساسية كطريقة ألنها تتضمن هذا‬
‫الجمع باأللفة من خالل الممارسة اليومية ومعاني الفعل االجتماعي‪.‬‬

‫وللوصول إلى المعاني االجتماعية ومراقبة السلوك والعمل بشكل وثيق مع أصحاب الميدان‬
‫وربما المشاركة في هذا المجال معهم‪ ،‬هناك عدة طرق يمكن استخدامها في علم اإلثنوغرافيا‬
‫لجمع البيانات ‪ ،‬مثل المقابالت المتعمقة ‪ ،‬ومالحظة المشاركين ‪ ،‬والوثائق الشخصية ‪،‬‬
‫وتحليل الخطاب للغة الطبيعية‪ .‬على هذا النحو فإن اإلثنوغرافيا لديها مجال عمل متميز في‬
‫العلوم االجتماعية‪.‬‬

‫لقد كانت هناك "حكايات للمسافرين" لعدة قرون ‪ ،‬تعود حتى إلى العصور القديمة‪ ،‬والتي تعد‬
‫شكالً من أشكال البحوث اإلثنوغرافيا التي يزعم أنها تمثل بعض جوانب الواقع االجتماعي‪،‬‬
‫على أساس التعارف والمراقبة عن كثب‪ ،‬على الرغم من أنها تعكس في كثير من األحيان‬
‫التحيز الثقافي والسياسي لهؤالء المالحظين‪ ،‬وقد بدأت أبحاث اإلثنوغرافيا بشكل مضبوط‬
‫مع بداية القرن العشرين مع اثنين من التطورات الفكرية المستقلة بالكامل‪ ،‬األولى في‬
‫بريطانية ‪ ،‬واألخرى في أمريكا الشمالية‪.‬‬

‫األول تمثل في ظهور األنثروبولوجيا االجتماعية التقليدية الكالسيكية في بريطانيا‪ ،‬مع كوكبة‬
‫من المفكرين مثل مالينوفسكي ‪ ،‬بواس ‪ ،‬رادكليف براون وإيفانز بريتشاد‪ .‬بحيث أن معظمهم‬
‫كان بريطانيا أو عمل في بريطانيا باستثناء بواس‪ ،‬وهذا ما يفسر العالقة الوثيقة بين‬

‫‪17‬‬
‫األنثروبولوجيا االجتماعية واالستعمار البريطاني‪ .‬وعلى الرغم من أن األنثروبولوجيا‬
‫االجتماعية لم تعد بمثابة الخادمة لالستعمار‪ ،‬إال أن أصولها كانت مرتبطة باحتياجات‬
‫اإلمبراطورية البريطانية العظمى لفهم الثقافات والمجموعات التي كانت تسعى لحكمها‬
‫بمجرد اكتمال فترة االستعمار واندماجها في عائلة األمم البريطانية إذا أمكن ذلك‪.‬‬

‫ب ناء على ما سبق يتضح سبب تطور اإلثنوغرافيا في بداية القرن العشرين وليس في ذروة‬
‫الفتوحات االستعمارية في القرن التاسع عشر‪ .‬لقد كان علماء األنثروبولوجيا المذكورين سلفا‬
‫رائدين في مقاربة تتضمن تعارفًا وثيقًا مع مجموعات وثقافات ما قبل الثورة الصناعية عن‬
‫طريق االنغماس والمراقبة عن قرب‪.‬‬

‫التطور الثاني كان عمل مدرسة شيكاغو في علم االجتماع‪ ،‬والذي استخدم تقنيات المالحظة‬
‫الستكشاف ال مجموعات الموجودة على هامش المجتمع الصناعي الحضري في الواليات‬
‫المتحدة خالل سنوات ‪ 1920‬و ‪ .1930‬مع بعض االستثناء في اختيار هذه المجموعات‪ ،‬كان‬
‫ال تركيز على المحرومين‪ ،‬المستبعدين ‪ ،‬الهامشيين والغريبين ‪ ،‬وهو التركيز الذي وصفه‬
‫فيما بعد إرفينج جوفمان كمحاولة للتطرق إلى "وجهة نظر الغريب من الداخل أو الداخل‬
‫الهامشي"‪ .‬لقد أورثوا علم االجتماع دراسات مهمة للعديد من المجموعات الفرعية المنحرفة‬
‫مثل‪ :‬تجار المخد رات وعصابات الشوارع ومهن حضارية غير اعتيادية مختلفة كالمضيفات‬
‫رقصات األجرة ‪ ،‬وعوالم اجتماعية غير معروفة نسبيًا مثل تلك الموجودة في المنازل‬
‫المتساقطة وقاعات هزلية والمهاجرون البولنديون وثقافة األحياء الشعبية اليهودية وثقافة‬
‫األحياء الفقيرة (باإلضافة إلى ثق افة النخبة الثرية في كاليفورنيا جولد كوست)‪ .‬وفي كل هذه‬
‫الحاالت شارك المحققون بفاعلية في اإلعداد وضبط الدراسات بشكل وثيق‪ ،‬بحيث تضع‬
‫المدرسة في اعتبارها مثلما كان يقول روبرت بارك الذي يعتبر من أوائل الباحثين في‬
‫شيكاغو ‪ ،‬لطلبته الجامعيين في الطور االول " للبحوث الحقيقية المالحظة المباشرة‬
‫ضرورية"‪.‬‬

‫في حين أن األنثروبولوجيا االجتماعية تسمى هذا النهج من البحوث "اإلثنوغرافيا" ‪ ،‬فإن‬
‫علماء االجتماع يميلون إلى تسميتها بمالحظة المشاركين أو البحث الميداني ‪ ،‬ولكن هذا يعني‬

‫‪18‬‬
‫تقريبا نفس المفهوم عندما يتعلق بالطريقة التي أجريت بها األبحاث‪ ،‬لكن رغم أن هناك‬
‫بعض االختالفات بين هذين التيارين الفكريين‪ ،‬إال أنه توجد الكثير من أوجه التشابه‪ ،‬بحيث‬
‫تلخصت مهمة كل منهما في عبارة وولكوت (‪" )1973‬وصف ثقافي" ‪ ،‬فبينما سعت‬
‫األنثروبولوجيا االجتماعية الستكشاف الجماعات والثقافات ما قبل الصناعية مما تحتم على‬
‫اإلثنوغرافيين تبني دو ًرا بحثيًا أوليًا ليس له عالقة بالميدان أو غريبا عنه‪ .‬فالمجموعات التي‬
‫درسها رواد مدرسة شيكاغو كانت غير مألوفة وغريبة قليال مقارنة بالطبقة المتوسطة‬
‫واألميركيين بالغرب األوسط‪ .‬فدورهم البحثي باعتبارهم "من الداخل األمريكي وليسوا‬
‫غرباء" ليست مضمونة‪ .‬منذ ذلك الحين‪ ،‬انتقل علم اإلثنوغرافيا إلى العلوم االجتماعية‬
‫األخرى‪ ،‬ال سيما التعليم ‪ ،‬والدراسات الصحية والعمل االجتماعي واالختالفات بين استخدام‬
‫البحوث االجتماعية واألنثروبولوجيا االجتماعية من طرف اإلثنوغرافيا ازدادت اتساعا ‪،‬‬
‫على الرغم من حقيقة أن األنثروبولوجيا االجتماعية اآلن توازي علم االجتماع في التركيز‬
‫على البحوث الحضرية والصناعية‪.‬‬

‫اإلثنوغرافيا "الكبيرة" و "الصغيرة"‪:‬‬


‫تفهم اإلثنوغرافيا بشكل عام على أنها وصفية تما ًما أي " القول مثلما هو موجود في الداخل"‬
‫بحيث يمكن تقديم أحكام أكثر منطقية‪ .‬هناك نوعان من التعاريف‪ ،‬يستخدم أحدهما "علم‬
‫اإلثنوغرافيا" كمرادف للبحث النوعي ككل ‪ ،‬ويصف عمليا أي مقاربة تتجنب الدراسات‬
‫االستقصائية كوسيلة لجمع البيانات كإثنوغرافيا‪ .‬وهذا ما يطلق عليه اسم "اإلثنوغرافيا‬
‫الكبيرة" أو "اإلثنوغرافيا كمفهوم على أنه نهج نوعي" وقد تم تقديمه بشكل واضح من‬
‫وجهة نظر وولكوت (‪ )1973‬على أساس أن علم اإلثنوغرافيا هو في الواقع وجهة نظر‬
‫للبحث وليست طريقة للقيام بذلك‪ .‬أما اآلخرون فيعرفون علم اإلثنوغرافيا على أنه يعني‬
‫"البحث الميداني" أو "العمل الميداني" ‪ ،‬وهو ما يمكن أن يسمى "باإلثنوغرافيا الصغيرة" أو‬
‫" اإلثنوغرافية كمفهوم للعمل في الميدان "‪ .‬في هذا التعريف ‪ ،‬تصبح اإلثنوغرافيا طريقة‬
‫خاصة ب إجراء البحث النوعي‪ .‬وقد لخصت هذه الطريقة لفعل هذه األشياء بشكل أفضل من‬
‫طرف بورغس ‪: Burgess‬‬

‫‪19‬‬
‫" يتضمن البحث الميداني دراسة الوضعية الحقيقية للحياة‪ ،‬ولهذا يالحظ الباحثون الميدانيون‬
‫األشخاص في األماكن التي يعيشون فيها ‪ ،‬ويشاركونهم حتى في أنشطتهم اليومية‪ .‬أما‬
‫األساليب التي يمكن استخدامها في هذه الدراسات فتكون مرنة ومفتوحة وغير هيكلية "‬

‫ومع ذلك ‪ ،‬حتى في هذه الحالة‪ ،‬تشمل علم اإلثنوغرافيا على منهج ومنهجية‪ ،‬وهو ما يعني‬
‫أنها أكثر من مجرد طريقة لجمع البيانات‪ .‬على هذا األساس‪ ،‬فإن اإلثنوغرافيا "الصغيرة"‬
‫ليست دائما بهذا الحجم‪ .‬وبتعريفها بهذه الطريقة ‪ ،‬ال تزال اإلثنوغرافيا "الصغيرة" تتضمن‬
‫أحكا ًما وأسس حول ‪ :‬موضوع البحث ‪ ،‬وهو دراسة األشخاص في بيئات تحدث بشكل‬
‫طبيعي‪ ،‬دور الباحث في هذا السياق‪ ،‬وهو فهم وشرح ما يفعله األشخاص في هذا اإلطار عن‬
‫طريق المشاركة المباشرة فيه؛ والبيانات التي يتم جمعها والتي تحدث بشكل طبيعي يجب أن‬
‫يتم التقاطها دون فرض المعنى عليها من الخارج‪ .‬تنبع هذه القضايا التقنية من مجموع بناء‬
‫نظري وفلسفي ‪ -‬وهي بالتالي منهجية بحيث "اإلثنوغرافيا مفهوم كالعمل الميداني " أكثر من‬
‫مجرد مجموعة من القواعد اإلجرائية لجمع البيانات (أي أن اإلثنوغرافيا هي أكثر من مجرد‬
‫طريقة جمع البيانات)‪ .‬هذا هو السبب في أنه من غير الصحيح مساواة اإلثنوغرافيا بتقنية‬
‫واحدة معينة لجمع البيانات ‪ ،‬مثل مالحظة المشاركين ‪ ،‬على الرغم من أن هذا قد يكون أحد‬
‫الطرق الرئيسية لجمع البيانات في علم اإلثنوغرافيا‪ .‬كما تستخدم اإلثنوغرافيا " الصغيرة"‬
‫عدة طرق تسمح للوصول إلى المعاني االجتماعية ‪ ،‬ومراقبة األنشطة ‪ ،‬والمشاركة بشكل‬
‫وثيق فيها مع المجموعة‪.‬‬

‫إن الكتابات والتقارير حول اإلثنوغرافيا التي قدمها هامرسلي وأتكينسون ‪Hammersley‬‬
‫‪ ،and Atkinson‬والتي تضم بيرجس ‪ Burgess‬أو ما يمثل أهم المؤلفين البريطانيين‬
‫البارزين حول هذا الموضوع ‪ ،‬توضح نوعية هذا العلم كمنهج ومنهجية (انظر‬
‫‪ 1983 Hammersley and Atkinson‬؛ ‪ 1998 Hammersley and Atkinson‬؛‬
‫‪1990‬‬ ‫انظر أيضا ً أعمالهما المنفصلة‪1992 ،1990 .1989 Hammersley :‬؛‬
‫‪1992 ، Atkinson‬؛ ‪ .)1984 ،Burgess 1982‬وفي تعريف موجز ‪ ،‬يصف هامرسلي‬
‫(‪ )2-1 :1990‬ما يدعى هنا " في علم اإلثنوغرافيا كعمل ميداني ‪ ،‬أو" اإلثنوغرافيا‬

‫‪20‬‬
‫الصغيرة في المصطلح العادي ‪ ،‬وضع أسس ومراجع لطريقة جمع البيانات وكذلك القضايا‬
‫المنهجية األوسع‪ .‬ووفقا ل ‪ Hammersley‬علم اإلثنوغرافيا هو البحث مع الميزات التالية‪:‬‬

‫• يتم دراسة سلوك الناس في السياقات اليومية العادية بدالً من تجارب وظروف غير طبيعية‬
‫يتم إنشاءها من طرف الباحث‪.‬‬

‫• يتم جمع البيانات من خالل تقنيات مختلفة ولكن في المقام األول عن طريق المالحظة‪.‬‬

‫• يعتبر جمع البيانات مرنًا وغير منظم لتجنب الترتيبات واالستعدادات المسبقة التي تفرض‬
‫قيود فئوية على ما يقوله ويفعله الناس‪.‬‬

‫• يكون التركيز عادة على نسق أو مجموعة واحدة وعلى أدنى نطاق‪.‬‬

‫• يتضمن تحلي ل البيانات إسناد معاني اإلجراءات البشرية الموضحة والموصوفة‪ .‬أي‬
‫تفسيرها بشكل واقعي من خالل ربط تلك اإلجراءات واألفعال بسياقها الطبيعي‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫المحاضرة ‪ :04‬االنتقادات الموجهة لإلثنوغرافيا‬

‫إذا تركنا جانبا النقد الساخر للمعنى المشترك‪ ،‬فهناك نقدان رئيسيان لإلثنوغرافيا في العلوم‬
‫االجتماعية‪ ،‬ينبثقان من مصادر متعاكسة تقريباً‪ .‬يأتي نقد العلوم الطبيعية من دعاة نموذج‬
‫البحوث االجتماعية المرتكزة على العلوم الطبيعية‪ ،‬ويتهم اإلثنوغرافيا بالسقوط في الشوائب‬
‫أو عدم احترام معايير العلم ‪ ،‬والتي تشكل المقياس المناسب للعلوم االجتماعية‪ .‬ثم يأتي نقد ما‬
‫بعد الحداثة أساسًا ضمن النموذج اإلنساني للبحث االجتماعي‪ ،‬حيث يأتي علماء اإلثنوغرافيا‬
‫أنفسهم للتعبير النقدي عن ممارساتهم ضمن الحوافز‪ ،‬وتحت الدوافع الناجمة عن نظريات ما‬
‫بعد الحداثة‪ .‬في شكله المتطرف يقوم هذا النقد بتجزئة اإلثنوغرافيا إلى عملياتها التأسيسية‪،‬‬
‫ويتهمها بالذوبان في الفراغ أو في استخدام القياس القديم‪.‬‬

‫يرى تيار نموذج العلوم الطبيعية في العلوم االجتماعية أن هذه األخيرة يجب أن تكون نموذجًا‬
‫عن العلوم الطبيعية "وهو موقف يُعرف بـ "الوضعية" حيث تتعامل العلوم االجتماعية مع‬
‫مشكال ت مشابهة لتلك الخاصة بالعلوم الطبيعية‪ .‬إذ يجب عليها البحث عن السببية االجتماعية‬
‫عند شرح النشاط البشري والتطلع إلى تفسيرات استنتاجية ؛ كما يجب أن تتعامل مع األنظمة‬
‫والكل‪ .‬لكن اإلثنوغرافيا حسب النقد ال يرقى إلى مستوى معايير هذا النموذج‪.‬‬

‫وتجدر اإلشارة إلى أن هناك سمات بارزة في علم اإلثنوغرافيا تستحق إعادة التأكيد إلظهار‬
‫عدم التوافق أو اإلساءة التي تقدمها لنموذج البحث االجتماعي المرتكز على العلوم الطبيعية‪.‬‬
‫تركز اإلثنوغرافيا على األنشطة العادية للناس في األماكن الطبيعية‪ ،‬وتستخدم أساليب جمع‬
‫ا لبيانات غير المصممة والمرنة ‪ ،‬وتفرض على الباحث أن يشارك بنشاط في هذا المجال أو‬
‫مع األشخاص قيد الدراسة بحيث يستكشف معاني هذا النشاط البشري لدى األفراد أنفسهم‬
‫ولدى المجتمع بشكل أوسع‪ .‬إن صيغة هذه السمات تخالف العديد من المبادئ األساسية لدى‬
‫العلوم الطبيعية‪ ،‬فب عض هذه المبادئ تتعلق بدور الباحث‪ ،‬إذ ال يسمح نموذج البحث العلمي‬
‫الطبيعي للباحث بأن يصبح متغيرًا في التجربة‪ ،‬رغم ذلك فإن علماء اإلثنوغرافيا ال‬
‫ينفصلون عن البحث‪ ،‬فحسب درجة مشاركتهم في اإلعداد هم أنفسهم جزء من الدراسة‪ ،‬وهذا‬

‫‪22‬‬
‫ما يؤدي للتأثير في الحقل أو البيئة من خالل االنتشار والوجود‪ .‬على هذا األساس إذا‬
‫استخدمت مالحظة المشاركين في جمع البيانات ‪ ،‬فإن اإلثنوغرافيا يمكن أن تقحم االستبطان‬
‫‪ ،‬أو ما يسميه أدلر (‪ )8-97 :1998‬بالمالحظة التلقائية‪ ،‬حيث أن تجارب وتغييرات الباحث‬
‫الخاصة أثناء المشاركة في الحقل تصبح جز ًءا من البيانات ‪ ،‬وهذا شيء ينتقد منذ فرانسيس‬
‫بيكون باعتباره غير علمي‪ .‬أما المبادئ األخرى فتتعلق بأساليب جمع البيانات‪ ،‬فيمكن‬
‫لألساليب غير الهيكلية والمرنة وذات النهاية المفتوحة أن تقحم البحث في عملية تجميع غير‬
‫منتظم للبيانات‪ ،‬إذ يمنع عدم وجود هيكل للتجميع من التقييم الجيد للبيانات ألن االختالفات‬
‫التي تظهر في البيانات يمكن أن تعزى إلى االختالفات في طريقة جمعها‪.‬‬

‫الخلفية المنطقية لمناهج العلوم الطبيعية المهيكلة والمصممة للغاية تقلل االختالفات الدخيلة‬
‫من أجل عزل الشوائب في البيانات‪ .‬لهذا السبب في أن القواعد اإلجرائية في نماذج العلوم‬
‫الطبيعية للبحث االجتماعي مصممة للقضاء على اآلثار الدخيلة لكل من الباحث واألداة‬
‫المستخدمة لجمع البيانات‪.‬‬

‫يرى كل من دينزين ولينكولن ‪ 1998‬أنه من أجل تلبية بعض معايير العلوم الطبيعية‪ ،‬قام‬
‫بعض اإلثنوغرافيين بتحسين قواعد إجراءاتهم البحثي‪ ،‬مؤكدين على علمية وجدية ممارستها‪.‬‬
‫فقد تم تنظيم ممارسة اإلثنوغرافيا وجعلها صارمة ورسمية بحيث ال يمكن فقط أن يكون علم‬
‫اإلثنوغرافيا نموذجًا للعلوم الطبيعية بل أصبح جز ًءا منه‪ ،‬إذ يمكن استخدام اإلثنوغرافيا‬
‫كمرحلة أولية في الدراسات الكمية باإلضافة إلى إعطاء حسابات سببية‪ ،‬واستخدام أساليب‬
‫منظمة لجمع البيانات وتقديم بعضها في شكل رقمي وإحصائي‪.‬‬

‫لكن بعض علماء اإلثنوغرافيا اآلخرون قاموا بالرد على نموذج العلوم الطبيعية للبحوث‬
‫االجتماعية بتأكيدهم الشديد على أولوية النماذج البديلة التي ال تسعى إلى مالئمة أساليب‬
‫ونهج العلوم الطبيعية‪ ،‬داعين بدالً من ذلك ما يسميه هيوز (‪ )1990‬النموذج اإلنساني للبحث‬
‫االجتماعي‪ ،‬كما فعل جوفمان (‪ )1961‬في اإلثنوغرافيا المستشفى‪ .‬وفي حين يرى نموذج‬
‫البحث العلمي الطبيعي أن الكائن البشري متأثر بالقوى االجتماعية الخارجية‪ ،‬بحيث هذا‬
‫السلوك هو نتيجة للسببية االجتماعية‪ ،‬يعيد النموذج اإلنساني تأكيد فكرة على أن الناس‬

‫‪23‬‬
‫نشطون ومبدعون ومطلعون‪ .‬وتتلخص هذه القدرات في مفهوم أن الناس "تقدم معنى" ؛‬
‫لديهم القدرة على منح معنى لعالمهم‪ ،‬وتقتصر هذه المعاني دائ ًما على الموقع الهيكلي‬
‫والمؤسسي للشخص‪ ،‬لكن الناس يمتلكون "وعيًا عمليًا" ‪ -‬أي ‪ ،‬مجموعة من المعارف التي‬
‫تمكنهم من معرفة الحياة االجتماعية من الداخل ‪ -‬ويمتلكون القدرة للتعبير على هذا الفهم‪.‬‬
‫"علم االجتماع التفسيري" ‪ ،‬مثل مقاربة جوفمان الدرامية ‪ ،‬والظاهرتية االجتماعية لشوتز أو‬
‫علم اإلثنومثودولوجيا لكرافينكل ‪ ،‬أظهروا المعرفة المعقدة الضرورية للناس العاديين بشكل‬
‫روتيني إلدارة السلوك االجتماعي وإنجازه ‪ ،‬على هذا األساس "اإلثنوغرافيا اإلنسانية" هي‬
‫نمط من أشكال اإلثنوغرافيا التي تسعى إلى استكشاف قدرات بناء الحقيقة‪ .‬في الواقع غالبا ً ما‬
‫يصور أصحاب هذا التيار "العمل الميداني في مفهوم اإلثنوغرافية" باعتباره أكثر الوسائل‬
‫التي يمكن االعتماد عليها للكشف عن هذه المعاني‪ .‬وهكذا ترى "اإلثنوغرافيا اإلنسانية"‬
‫نفسها على أنها طريقة جد متميزة للوصول إلى الواقع االجتماعي‪ .‬ومن هذا المنظور ‪ ،‬يجب‬
‫أن تكشف األبحاث اإلثنوغرافية عن واقع الناس الذي يشكل ممارسات تفسيرية بدالً من أن‬
‫تهتم بمصالح نماذج العلوم الطبيعية للبحث االجتماعي‪ .‬ومن بين المدافعين عن هذه الوضعية‬
‫‪ ،‬الدراسات الكالسيكية لإلثنوغرافيا مثل دراسات بلومر (‪ )1969‬وفيلستيد (‪، )1970‬‬
‫واألبحاث األحدث من قبل هيوز (‪ )1990‬وهولشتاين وغوبريوم (‪.)1998‬‬

‫الرد الثالث هو محاو لة تجاوز االنقسام القديم بين العلوم الطبيعية والنماذج اإلنسانية للبحث‬
‫االجتماعي ‪ ،‬والتناقضات المرتبطة بين الكم والنوع واألرقام والمعنى‪ .‬ويتحقق هذا التجاوز‬
‫من خالل االعتماد على الموضوعات داخل ما بعد الحداثة‪ .‬حيث تتشابه "األعداد" و‬
‫"المعنى" على جميع المستويات (‪ ، )Dey 1993: 17–28‬وغالبا ً ما تتطلب بعضها البعض‬
‫أو أن تكون متضمنة في بعضها البعض‪ .‬تعتمد األشكال األولية للتعداد (مثل العد) على‬
‫معاني الوحدة المحسوبة معاً‪ ،‬وغالبًا ما تُفهم المعاني االجتماعية بشكل أفضل عند التعبير‬
‫عنها بالنسبة لعدد المشاهدات المشار إليها أو عدد التجارب التي تصفها (حول استخدام‬
‫أشكال مختلفة من العد في البحث النوعي مثلما يشير بريمان ‪.1988‬‬

‫‪24‬‬
‫المحاضرة ‪ :05‬القواعد المنهجية لإلثنوغرافيا‪:‬‬

‫‪ .1‬فلسفة البحث االجتماعي‪:‬‬

‫يمكن تعريف فلسفة البحث االجتماعي على أنها دراسة نظريات المعرفة التي تؤكد على‬
‫طرق بحثيه معينة‪ .‬وبالمعنى الكالسيكي‪ ،‬تقدم مناهج البحث االجتماعي إمكانية اختبار تقنيات‬
‫جمع البيانات التي يتم من خاللها إجراء األبحاث‪ ،‬أي أنها توفر التدريب العملي في كيفية‬
‫إجراء البحوث‪ .‬مع ذلك فقد جعلتنا التطورات في النظرية االجتماعية والفلسفية ندرك أن هذه‬
‫التقنيات أو القواعد اإلجرائية موجودة ضمن إطار فلسفي ونظري أوسع‪ ،‬والذي يمكن أن‬
‫يطلق عليه "المنهجية"‪.‬‬

‫المنهجية ‪ +‬القواعد اإلجرائية = المناهج ‪ ------‬المعرفة‬

‫هذه الوضعيات المنهجية تقحم الباحثين في االلتزامات النظرية سواء كانوا مدركين لها أم ال‬
‫‪ ،‬ألنها تنطوي على افتراضات حول طبيعة المجتمع (تسمى االفتراضات "األنطولوجية")‬
‫واالفتراضات حول طبيعة المعرفة (تسمى االفتراضات "اإلبستمولوجية")‪ .‬كما يمكن أن‬
‫تستلزم هذه الوضعيات المنهجية أيضًا أنواعًا مختلفة من الممارسات البحثية‪ ،‬حيث أنها تدفع‬
‫الباحثين الستخدام تقنيات مختلفة لجمع البيانات‪ .‬وبذلك ينتهي بهم األمر إلى إنتاج أنواع‬
‫مختلفة تما ًما من البيانات‪ .‬وقد سميت دراسة هذا السياق المنهجي األوسع لطرق البحث‬
‫بفلسفة البحث االجتماعي ‪ Hughes 1990‬؛ انظر أيضا ً ‪. Ackroyd and Hughes‬‬
‫‪1981‬‬

‫إن أكثر االدعاءات إثارة للجدل في هذه الحجة ليست أن أساليب البحث تحصل على سلطتها‬
‫وشرعيتها من نظريات معينة من المعرفة ‪ ،‬ولكن يختار الباحثون تقنيات جمع البيانات‬
‫لتوظيفها في أي جزء من البحث بسبب االلتزام المسبق بهذا الموضع المنهجي بدالً من‬
‫االبتعاد عن النفعية العملية‪ .‬من الممكن تصور أن هذا التفضيل قائم على أساس علمي‪ ،‬حيث‬
‫يعتقد الباحثون أن إحدى المنهجيات ومجموعة األساليب والتقنيات تكون أكثر علمية من‬

‫‪25‬‬
‫غيرها ‪ -‬إذ يمكن أن تكون ذاتية وشخصية‪ .‬وقد يفتقر الباحث إلى الكفاءة لفهم وتطبيق‬
‫أسلوب واحد أو آخر‪ :‬بما أنه ال يمكننا االعتماد أو الخوف من أجهزة الكمبيوتر‪ ،‬أو ال نحب‬
‫ال تحدث إلى الناس‪ ،‬فإننا نتجنب تلك الطرق التي تنطوي على أوجه القصور لدينا‪ .‬لكن مهما‬
‫كان السبب‪ ،‬لدينا تحيز‪ .‬فوفقا لهيغوس‪: Hughes‬‬

‫‪ -‬إن طرق جمع البيانات المستخدمة لجعل العالم االجتماعي قابل للقياس والفهم ليست أدوات‬
‫محايدة‪ ،‬لكنها تعمل في موضع منهجي معين‪.‬‬

‫‪-‬بما أن المنهجيات تضع القواعد اإلجرائية التي من خاللها يمكن الحصول على المعرفة‬
‫موثوقة والموضوعية‪ ،‬فإن اختيار أسلوب جمع البيانات ال تمليه المشكلة المطروحة ‪ ،‬ولكن‬
‫إلى حد كبير عن طريق التفضيالت المسبقة في ذاتية الباحث‪.‬‬

‫‪-‬يجب تحديد االختالفات في أنواع البيانات المنتجة في الخيارات المنهجية من قبل الباحث‬
‫بدالً من القرارات المتعلقة بالمشكلة المطروحة‪.‬‬

‫‪ -‬على المستوى التقني ‪ ،‬قد يكون من المرغوب ‪ ،‬بل ومن الضروري ‪ ،‬الجمع بين أساليب‬
‫متعددة ‪ ،‬ولكن على المستوى األنطولوجي والمعرفي يمكن أن يؤدي ذلك إلى تزاوج‬
‫وضعيات منهجية غير متوافقة‪.‬‬

‫في شرحه لفلسفة البحث االجتماعي ‪ ،‬أوجز جون هيغوس ‪ Hughes John‬نموذجين من‬
‫البحوث االجتماعية التي استندت على وضعيتين منهجيتين مختلفتين‪ ،‬األولى نموذج العلوم‬
‫الطبيعية القائم على الوضعية والثانية النموذج اإلنساني القائم على الطبيعة‪ .‬هذان النموذجان‬
‫متعارضان بشكل حصري‪.‬‬

‫‪ .2‬نموذج العلوم الطبيعية للبحوث االجتماعية‪:‬‬

‫يستند نموذج العلوم الطبيعية للبحث االجتماعي على الوضعية‪ .‬يتم تلخيص السمات األساسية‬
‫لهذا الموقف المنهجي في كلمة "إيجابي" ‪ ،‬والتي تستحضر في اللغة اإلنجليزية صورة‬
‫"اليقين" و "الدقة" و "الموضوعية"‪ .‬وخصائصه األساسية هي أن األساليب والمفاهيم‬

‫‪26‬‬
‫والقواعد اإلجرائية للعلوم الطبيعية يمكن تطبيقها على دراسة الحياة االجتماعية‪ .‬وهذا ينطوي‬
‫على افتراضات علمية حول طبيعة المجتمع ‪ ،‬حيث يُنظر إلى الحياة االجتماعية على أنها‬
‫تتكون من هياكل موضوعية مستقلة عن األشخاص المعنيين ‪ ،‬وتتألف من مجموعات ومن‬
‫النظم التي تتجاوز الوعي لدى األفراد‪ .‬وبالتالي هناك "عالم حقيقي" مستقل عن تصورات‬
‫الناس عنه‪ :‬فالعالم االجتماعي يكشف لنا‪ ،‬وليس مبني من طرفنا‪ .‬وبالتالي ‪ ،‬فإن المعرفة‬
‫الموضوعية ممكنة ‪ ،‬ألن هناك حقيقة ثابتة غير قابلة للتغيير يمكن ألي بحث أن يصل إليها‬
‫بدقة وعمق‪ .‬باإلضافة إلى ذلك هناك المزيد من االفتراضات اإلبستمولوجية‪ :‬معرفة الحياة‬
‫االجتماعية ال يمكنها الكشف إال على ما يمكن مالحظته خارجيا عن طريق الحواس وما‬
‫يمكن أيضا الكشف عنه من خالل العالقات السببية الموجودة في الحياة االجتماعية‪ .‬على هذا‬
‫األساس تتبع االفتراضات اإلبستمولوجية أنه من الممكن والمرغوب فيه تطوير بيانات شبيهة‬
‫بالقانون حول العالم االجتماعي عن طريق منهج الفرضية االستنتاجية واستخدام التفسيرات‬
‫االستنتاجية االستداللية‪ .‬هذه العبارات تعني في جوهرها استنباط البيانات العامة من النظرية‬
‫أو القانون ‪ ،‬ليتم من خاللها تشكيل الفروض‪ ،‬ثم اختبارها بعد ذلك في حالة التنبؤ والمالحظة‪.‬‬
‫على هذا األساس ‪ ،‬فإن البيانات الخاصة بنموذج العلوم الطبيعية للبحوث االجتماعية تسمى‬
‫"صلبة" ‪ ،‬بحيث أنها غير ملوثة بالعمليات التفسيرية والمعنوية للناس‪ ،‬سواء كان هؤالء‬
‫األشخاص هم موضوع البحث أو الباحثين أنفسهم‪.‬‬

‫‪ .3‬النموذج اإلنساني للبحث االجتماعي‪:‬‬

‫منذ بداية الستينيات‪ ،‬كان هناك هجوم فكري على الوضعية‪ ،‬من بعض األشخاص كـ‪ :‬توماس‬
‫كون ‪ ،‬كارل بوبر ومن تيارات مختلفة في علم االجتماع التفسيري ‪ ،‬مثل الظاهراتية‬
‫واإلثنوميثودولوجيا‪ .‬هذا ما أدى إلى هجوم فكري على نموذج العلوم الطبيعية للبحوث‬
‫االجتماعية وأيضا ً على قواعده اإلجرائية التي تأكد على صدق المعرفة باعتبارها موثوقة‬
‫وموضوعية‪ .‬لذلك كان هناك هجوم على فكرة االستبيانات‪ ،‬كطرق موثوق بها لجمع‬
‫البيانات‪ ،‬بغض النظر عن مدى جودتها ونجاعتها‪ .‬لقد تم الطعن في جوهر المناهج القديمة‬
‫والمتعارف عليها‪ ،‬مع مستوى من النقد الالذع الذي اقترب ما وصفه باوسون (‪1999‬‬

‫‪27‬‬
‫‪ ) Pawson‬بحرب النموذج أو البراديغم‪ .‬على هذا األساس ظهرت تقاليد جديدة أو على نحو‬
‫أكثر مالءمة ‪ ،‬أعيد اكتشافها ‪ ،‬ألن أفكارها كانت قديمة‪ ،‬والتي أعطت شرعية لقواعد‬
‫إجرائية جديدة وبالتالي أساليب جديدة لجمع وتحليل البيانات (مثل تحليل المحادثة) أو إعادة‬
‫اختراع وتعميم تلك الغير مستخدمة منذ فترة طويلة ( اإلثنوغرافيا ‪ ،‬التحليل الوثائقي ‪،‬‬
‫المقابالت المتعمقة ومالحظة المشاركين)‪ .‬ويصف هوغوس‪ Hughes‬هذه البحوث بالنموذج‬
‫اإلنساني للبحث االجتماعي (وهي عبارة تستخدمها أيضًا بيرجر ‪ 1963‬وبروين ‪، )1966‬‬
‫وترتكز على منهجية المذهب الطبيعي (وتسمى هذه المنهجية أحيانًا النموذج التفسري أو‬
‫التأويلي‪.‬‬

‫التيار الطبيعي هو اتجاه يهتم بدراسة الحياة االجتماعية في ظروف حقيقية تحدث بشكل‬
‫طبيعي‪ ،‬أي تجربة‪ ،‬مالحظة‪ ،‬وصف‪ ،‬فهم‪ ،‬وتحليل مالمح الحياة االجتماعية في مواقف‬
‫محددة عندما تحدث بشكل مستقل عن التالعب العلمي‪ .‬إن التركيز على المواقف الطبيعية‬
‫يؤدي إلى هذا االتجاه الذي يوصف بأنه "طبيعي" ‪ ،‬بحيث يظهر من خالل االنتباه إلى ما‬
‫يشعر به الب شر ‪ ،‬ويدركون ‪ ،‬ويفكرون ويفعلون في المواقف الطبيعية التي ال يتم تجريبها أو‬
‫التحكم فيها تجريبياً‪ .‬وتعرف هذه الحاالت التي تحدث بشكل طبيعي أحيانًا بالحاالت " وجهًا‬
‫لوجه" أو التفاعل التافه أو الحياة اليومية‪ .‬كما يتم التأكيد على تحليل "معاني" الناس من‬
‫وجهة نظرهم ‪ :‬المشاعر‪ ،‬التصورات‪ ،‬العواطف‪ ،‬األفكار‪ ،‬المزاج‪ ،‬المعتقدات والعمليات‬
‫التفسيرية ألفراد المجتمع كما هم أنفسهم يفهمونها ويوضحونها‪.‬‬

‫‪ .4‬األسس المنهجية لإلثنوغرافيا‪:‬‬

‫من الواضح أن المبرر المنهجي الرئيسي لإلثنوغرافيا يأتي من التيار الطبيعي والنموذج‬
‫اإلنساني للبحث االجتماعي‪ .‬هذا يقدم لنا ما أطلقنا عليه في السابق النوع "اإلنساني" من‬
‫اإلثنوغرافيا‪ .‬وهو ما يفكر فيه معظم الناس عندما يتأملون في علم اإلثنوغرافيا وما يفعله‬
‫معظم علماء اإلثنوغرافيا عندما يمارسون العمل الميداني‪" :‬االقتراب من الداخل" ‪" ،‬سرد‬
‫الموضوع كما هو" ‪" ،‬تقديم تقرير من الداخل" ‪" ،‬سرد حقيقي للظواهر الطبيعية" ‪ ،‬مع‬
‫إعطاء "وصف سميك" وبيانات "غنية جدًا"‪ .‬إنه البحث الذي يتخلى عن نماذج العلوم‬

‫‪28‬‬
‫الطبيعية لممارسة البحث‪ ،‬مثل اختبار الفرضيات‪ ،‬التحليل االستنتاجي‪ ،‬الوصف والقياس عن‬
‫طريق األرقام؛ إنه يتخلى حتى عن خطابات وطموحات العلوم الطبيعية لصالح فهم السلوك‬
‫الذي يحدث بشكل طبيعي بشروطه الخاصة‪ .‬لكن رغم ذلك ‪ ،‬فإن نوع اإلثنوغرافيا الذي‬
‫نطلق عليه "علميًا" أو "وضعيا" يعتمد على عناصر كلتا المنهجيتين ويرتبط بنموذجي‬
‫البحث‪ .‬إنه يفعل ذلك بقبول اإلجماع التقليدي بأن العلم الطبيعي هو المعيار الذي يجب أن‬
‫ي َُح َكم من خالله البحث ومن خالل القول بأن هناك عالما ً "حقيقياً" يمكن الوصول إليه‪ .‬ومع‬
‫ذلك ‪ ،‬فهه يعتقد أن علم اإلثنوغرافيا ربما يكون أكثر علمية من األساليب الكمية ألنه يمكن‬
‫الباحثين من الوصول بشكل أفضل إلى هذا العالم "الحقيقي"‪.‬‬

‫في أحد الجوانب الهامة ‪ ،‬يتطابق نوعا اإلثنوغرافيا في ما يرونه الهدف المناسب‬
‫لإلثنوغرافيا‪ ،‬على الرغم من أنهما ينطلقان من مواقف منهجية متعارضة تماما‪ .‬فكالهما له‬
‫فكرة ساذجة بإمكانية تقديم حقائق موضوعية حول الظاهرة قيد الدراسة‪ ،‬والتي تسمح‬
‫اإلثنوغرافيا بتقديمها على شكل تصريحات أفضل وبيانات حقيقية تعكس الفهم "الحقيقي"‬
‫لهذه الظاهرة‪ .‬وهكذا فإن اإلثنوغرافيا بشكل فريد من نوعه تجعل إشكالية العالم االجتماعي‬
‫غير مثيرة للمشاكل‪ ،‬ألنها الوحيدة التي لديها القدرة للكشف عن العالم االجتماعي كما هو في‬
‫الواقع‪ .‬ولهذا السبب الحظ سيلفرمان (‪ )1985‬أن أنواع اإلثنوغرافيا الطبيعية والوضعية‬
‫تسعى إلى القضاء على آثار الباحث من أجل تمثيل الصورة "الحقيقية" والفهم "الحقيقي"‬
‫بشكل أفضل للظاهرة المدروسة‪ ،‬فاألول عن طريق التوصية بأن يقوم اإلثنوغرافيين بتبني‬
‫الثقافة واإلطار العام ليصبحوا "من الداخل" ‪ ،‬أما الثاني من خالل التوصية بتوحيد جميع‬
‫إجراءات وأدوات البحث‪ .‬وبهذا المعنى ‪ ،‬فإن كال النوعين من اإلثنوغرافيا يشتركان في ما‬
‫يعرف بـ "الواقعية الساذجة"‪ .‬يتعارض "ما بعد الحداثة" مع كال النوعين من اإلثنوغرافيا‬
‫في هذا األمر ‪ ،‬حيث يهاجم األسس التي يدعيان أنها تمثل "الواقع" والمعايير التي يدعيان‬
‫بشرعيتها ودقة بياناتها‪ .‬هذا التحدي يجعل اإلثنوغرافيا "المجال األكثر إثارة للجدل في‬
‫البحث النوعي اليوم" (‪)Denzin and Lincoln 1998: xvi‬؛ وهذا ما يصفه دنزين‬
‫ولينكولن (‪ )1998‬بـ "األزمة المزدوجة" في اإلثنوغرافيا المعاصرة ‪ ،‬حيث يتم التشكيك في‬
‫صحة بياناته وادعاءاتها بالتمثيلية من قبل بعض العلماء اإلثنوغرافيين‪ .‬ومن ثم ‪ ،‬يشير‬

‫‪29‬‬
‫أتكينسون وهامرسلي (‪ )1998‬عن حق إلى أنه ال يوجد توجه فلسفي أو نظري واحد يمكن‬
‫أن يطرح ادعاء فريد يوفر األساس المنطقي لإلثنوغرافيا ‪ ،‬حيث أن كل تيار يؤيد ويقر‬
‫نسخة من البحث اإلثنوغرافي‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫المحاضرة ‪ :06‬نشأة منهجية اإلثنوغرافيا‬

‫يرجع تاريخ مولد منهجية اإلثنوغرافيا عادة لفترة بين أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن‬
‫العشرين‪ ،‬وقد تطورت المنهجية داخليا لتصبح إثنولوجيا‪ ،‬والذي يعتبر فرع من المعرفة‬
‫انشق في النصف األول من القرن التاسع عشر من األنثروبولوجيا التقليدية‪ .‬وكانت‬
‫اإلثنولوجيا تهتم أكثر ما تهتم بدراسة البشر وثقافتهم وتصنيف مالمحهم وصفاتهم البارزة‪.‬‬
‫وقبل ظهور منهجية اإلثنوغرافيا‪ ،‬لم يجمع علماء اإلثنولوجيا المعلومات من خالل المالحظة‬
‫المستمرة‪ ،‬وبدال من ذلك‪ ،‬قاموا بدراسة وفحص سجالت الدوائر والبعثات الحكومية‪ ،‬مراكز‬
‫التوثيق‪ ،‬روايات الرحالت والتقارير التي كتبت عنها‪.‬‬

‫لم تصبح منهجية اإلثنوغرافيا علما بارزا بقوة فجأة في األنثروبولوجيا‪ ،‬وباألحرى فإنه نشأ‬
‫وظهر بالتدرج من خالل أعمال مؤلفين متعددين‪ ،‬من بينهم عالم األنثروبولوجيا ذي األصول‬
‫البولندية‪ ،‬مالينوفسكي (‪ ،)1942-1884‬واإلنجليزي ردكليف براون (‪ .)1955-1881‬لقد‬
‫استوعبت األنثروبولوجيا االجتماعية اإلنجليزية ذات الطابع اإلثنوغرافي المناخ الفكري‬
‫السائد زمنها ألصحاب الفلسفة الوضعية طبقا لما ذكره رادكليف براون باعتبارها علما‬
‫طبيعيا للمجتمع‪ .‬وقد كان هجوم هذا األخير العدواني الجدلي العنيف موجه ضد‬
‫األنثروبولوجيا التأملية المكتبية السائدة‪ ،‬التي كانت تعتمد على مصادر ثانوية بدال من التعهد‬
‫مالحظة مباشرة للحقائق االجتماعية‪.‬‬ ‫باستخدام‬

‫ويعتبر مالينوفسكي عادة أول من وضع منهجا لمنهجية اإلثنوغرافيا‪ ،‬ففي مقدمته الشهيرة‬
‫لكتابه " مغامرو المحيط الباسيفيكي الغربي ‪ "1922‬الذي يعرض بحثه حول جزر‬
‫تروبرياند‪ ،‬أين يصف مالينوفسكي المبادئ المنهجية التي تشكل الجزء األساسي من الهدف‬
‫الرئيسي لإلثنوغرافيا‪ ،‬وهو "فهم وجهة نظر لمواطن وعالقته بالحياة وذلك لمعرفة رؤيته‬
‫لعالمه"‪ ،‬وعاش مالينوفسكي وسط أهل الجزر لمدة عامين وتعلم لغتهم والحظ الحياة‬
‫االجتماعية للقرية بشكل مباشر وشارك في أنشطة الحياة اليومية‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫ومنذ العشرينيات من القرن العشرين وما بعدها‪ ،‬أدمج منهج اإلثنوغرافيا مع علم االجتماع‬
‫حيث تبناه الباحثون في جامعة شيكاغو ثم تم إدماجه مع علم النفس‪ .‬فعل عكس ما قد يتصوره‬
‫المرء‪ ،‬ظهرت اإلثنوغرافيا كمنهج سليم وصحيح من بداية األربعينيات وما بعدها من خالل‬
‫مناهج نظرية متعددة وألغراض مختلفة‪ .‬نذكر منها‪:‬‬

‫‪ .1‬مدرسة شيكاغو األولى‪:‬‬

‫ظهر منهج البحث اإلثنوغرافي ألول مرة في نهاية القرن التاسع العشر على يد مقدمي‬
‫أبحاث علم االجتماع بالجامعة‪ .‬بدأ البحث اإلمبريقي في هذا القسم تحت إرشاد وتوجيه عالمي‬
‫االجتماع وليام توماس (‪ )1947-1863‬وروبرت بارك (‪ .)1944-1864‬اللذان أوليا اهتماما‬
‫كبيرا للتغيرات التي كانت تحدث في مدينتهما‪ .‬لقد كان بارك على الخصوص يرى أن على‬
‫علماء االجتماع االهتمام بالمشاكل الحضرية‪ ،‬وأكد أنه ال ينبغي ترك مثل هذه األمور لكتاب‬
‫الروايات المهتمين بالشؤون االجتماعية مثل الكاتب الفرنسي إميل زوال‪.‬‬

‫كان قسم علم االجتماع بالجامعة غير راض بالمرة عن البيانات اإلحصائية التي قدمها المسح‬
‫الشامل الذي كلفت وكاالت حكومية بالقيام به‪ ،‬ونتيجة لذلك وبإشراف بارك‪ ،‬بدأ برنامج بحث‬
‫بعيد المدى بهدف تم تحديده وهو دراسة الظواهر الحضرية بشكل مباشر في مواقعها المحددة‬
‫والمعتادة‪.‬‬

‫‪ .2‬مدرسة شيكاغو الثانية‪:‬‬

‫خالل الثالثينيات من القرن العشرين التحق بكلية علم النفس بشيكاغو أعضاء هيئة تدريس‬
‫جدد من بينهم‪ :‬لويس ويرث ‪ ،‬هربرت بلومر ‪ ،‬لويد وارنر وهيوز‪ .‬باإلضافة إلى طالبهم‪:‬‬
‫وليام وايت ‪ ،‬هوارد بيكر ‪ ،‬بالنشر جير ‪ ،‬أنسلم ستراوس ‪ ،‬ميلفي دالتون ‪ ،‬إيرفنج جوفمان‬
‫‪ ،‬فريد ديفيز ‪ ،‬روسالي واك‪ .‬الذين أصدروا سلسلة من الدراسات التي أحدثت ثورة في‬
‫نظريات االنحراف‪ ،‬التعليم‪ ،‬العمل‪ .‬وفي تلك الفترة أصبح البحث اإلثنوغرافي تأسيسيا بعد‬
‫أن أصبح يدرس للطلبة ويخضع للتفكير والدراسة المنهجية وأصبح في النهاية مدونا بقانون‬
‫في الكتب المقررة في الستينيات‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫وقد خرج منهج البحث اإلثنوغرافي إلى الوجود كما نعرفه اليوم‪ ،‬من خالل عمل هيوز‬
‫(‪ . ) 1983-1897‬كان هذا األخير مقتنعا أن المالحظة بالمشاركة هي طريقة لجمع البيانات‬
‫تمكن من موضوعية أوجه نشاط وخبرات فاعلين معينين‪.‬‬

‫‪ .3‬النظرية التفاعلية‪:‬‬

‫حظى منهج المالحظة بالمشاركة بدور مميز وأهمية نظرية محددة في النظرية التفاعلية‪،‬‬
‫وهي منحى نظري نشأ في فترة الثالثينيات والخمسينيات من القرن العشرين بواسطة‬
‫هربرت بلومر (‪.)1987-1900‬‬

‫مع أن مدرسة شيكاغو التي نشأت في نطاق علم االجتماع والتفاعلية التي نشأت في نطاق‬
‫قسم الفلسفة‪ ،‬كانتا حقيقتين مميزتين ومختلفتين فإنه كانت هناك صالت وتأثيرات متعددة‬
‫بينهما‪ .‬بحيث قدمت مناهج البحث الخاصة ببارك‪ ،‬القواعد األساسية والمقدمات المنطقية‬
‫الميثودولوجية لنظريات بلومر‪.‬‬

‫كان بلومر يعتقد ان البحث االجتماعي يجب أن يتبنى نهجا "طبيعيا" وأن يعتمد على العمل‬
‫الميداني كي يمسك بتالبيب منظور العمال االجتماعيين وأن يرى الحقيقة من وجهة نظرهم‪.‬‬
‫وفي هذا تناقض بلومر مع ميد معلمه الخاص الذي كان يزكي المنهج التجريبي الذي كان‬
‫علماء النفس يستخدمونه‪.‬‬

‫لقد لخص كل من دينزين (‪ )1970‬وسيلفرمان (‪ )1993‬المبادئ الميثودولوجية للتفاعلية‬


‫تلخيصا جيدا‪ ،‬وهي كما نذكرها باختصار شديد للغاية‪:‬‬

‫‪ -1‬الربط بين الرمز والتفاعالت‪ ،‬مظهرا كيف تنشأ المعاني في سياق السلوك‬
‫والتصرفات‬
‫‪ -2‬األخذ بنظر المبحوثين‪.‬‬
‫‪ -3‬دراسة الشخصية ' ذات الموقف' للتفاعل‪.‬‬
‫‪ -4‬التعميم من المقدمات المتعلقة بالسمات واألوصاف إلى النظريات‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫لقد كانت هذه المبادئ جنبا إلى جنبا مع تعاليم هيوز مصدر إلهام لجيل من الباحثين‪ .‬بعدما‬
‫عرف عنهم أنهم أبناء شيكاغو الجدد ميزوا أنفسهم عن علم االجتماع االنحراف والمهن‪ ،‬من‬
‫خالل تقديمهم ألبحاث منهجية ونظامية‪ ،‬ومن ابرز األمثلة لها بحث باكر (‪ ، )1961‬وهو‬
‫دراسة إثنوغرافية عن الطلبة في مدرسة طبية استغرق إعدادها ثالث سنوات‪.‬‬

‫‪ .4‬اإلثنوميثودولوجيا " منهجية الجماعة"‪:‬‬

‫خالل الخمسينيات من القرن العشرين‪ ،‬وجنبا إلى جنب مع النظرية التفاعلية وأعمال‬
‫جوفمان‪ ،‬برز منهج جديد أنشأه هارولد كارفينكل وأطلق عليه فيما بعد "منهجية الجماعة"‪.‬‬
‫وكان يعني باستخدامه هذا اللفظ دراسة الوسائل والطرق التي يستخدمها الناس في حياتهم‬
‫اليومية‪ ،‬وذلك من أجل معرفة وإدراك وتصنيف أفعالهم وافعال اآلخرين‪ .‬وقد طور كارفينكل‬
‫أفكاره في نهاية األربعينيات بينما كان يحضر حلقات دراسية يعقدها شوتز‪ ،‬وكان كارفينكل‬
‫ف ي ذلك الوقت طالبا شابا عند تالكوت بارسونز‪ .‬وقد تسببت نظريات هذا األخير في صياغة‬
‫التمارين والدراسات اإلرشادية التي ألفها كارفينكل لطالبه‪ ،‬بحيث كان الهدف من هذه‬
‫التمارين مخالفة معيار قديم‪ .‬لقد وجهت الدعوة لبعض الطالب أن يتصرفوا من ‪ 15‬د إلى‬
‫‪1‬سا كاملة كما لو كانوا نزالء في بيوتهم الخاصة‪ ،‬ويتناولون طعامهم بسعر محدد في‬
‫األسبوع أو الشهر‪ ،‬وكانت مهمتهم في حاالت أخرى دخول محل أو دكان والتحدث مع‬
‫الزبون كما لو كانوا عضوا من جماعة البائعين في المحل‪ .‬لم تكن دراسة كارفينكل الخاصة‬
‫هذه شيئا مبتكرا بشكل كامل‪ ،‬كانت تشبه األعمال المثيرة الدالة على الجسارة أو البراعة التي‬
‫ينتجها منتج األفالم أو التلفزيون كالكاميرا الخفية‪ .‬كانت ايضا تشبه تجارب المختبرات في‬
‫نهاية األربعينيات من القرن العشرين التي كان يديرها أخصائيون نفسيون حول الضغط‬
‫النفسي للخضوع لضغط الجماعة أو التمرد والعصيان ضده‪ .‬وعلى أي حال لم يكن كارفينكل‬
‫مهتما باآلليات النفسية الفردية‪ ،‬لكنه كان مهتما باألحرى بقوة افتراضات ودعاوى الفطرة‬
‫السليمة وبمقاومة النظام الخلقي واالجتماعي‪ .‬في الحقيقة سعى كارفينكل من خالل دراسته‬
‫أن يظهر ويدلل على أن جوهر النظام االجتماعي يتكون ليس فقط من قيم المجتمع المشتركة‪،‬‬
‫ولكن أيضا من مصطلحات وتقاليد الفطرة السليمة‪ ،‬والثقة والتوقعات واآلمال المتبادلة‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫وجذب الجزء النظري المركزي لمنهجية الجماعة عمل مؤلفين متعددين‪ :‬فاستمر في دراسة‬
‫الشروط ( الثقة‪ ،‬التوقعات واآلمال المعيارية‪...‬إلخ) التي تدعم النظام االجتماعي (بارسونز)‪،‬‬
‫وفي فحص ودراسة خصائص االتجاه الطبيعي مع (شوتز) والذي يمثله استنتاج واستدالل‬
‫الفطرة السليمة في العالم الطبيعي والعادي‪.‬‬

‫في النصف الثاني من الخمسينيات تولى كارفينكل أيضا تنفيد سلسلة من المالحظات‬
‫اإلثنوغرافية في إطار المنظمات مثل دراسة هيئة محلفين بقاعة إحدى المحاكم‪ ،‬ودراسة هيئة‬
‫األطباء النفسيين في جامعة كاليفورنيا‪ .‬وقد تسبب هذا المنهج في دراسة سلسلة من الدراسات‬
‫اإلثنوغرافية التي أدارها زمالء كارفينكل وتالمذته خالل الستينيات والسبعينيات في‬
‫مجموعة منوعة في إطار مؤسسي‪ :‬أقسام الشرطة‪ ،‬مكاتب رؤساء التحرير في الصحف‬
‫اليومية‪ ،‬دورات العالج النفسي فنادق الطريق‪...،‬إلخ‪.‬‬

‫ومنذ النصف الثاني من الستينيات وما بعدها‪ ،‬شدت نظريات كارفينكل انتباه عدد متزايد من‬
‫مناصريه‪ ،‬حيث مثل سيكوريل الجانب المنهجي لإلثنوميثودولوجيا أو عنصرها األكثر‬
‫عرضة للحوار مع العلوم االجتماعية التقليدية‪ ،‬وقد ساهم البحث الذي أعده عن التعليم وعن‬
‫العالقة بين الشرطة ومحضري التشريح والعالقة بين الطبيب ومرضاه في خلق منهج‬
‫إثنوغرافي ذي طابع إثنوميثودولوجي‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫المحاضرة ‪ :07‬استخدام المنهج اإلثنوغرافي في بحوث االعالم‬

‫خاضت بحوث استخدام الوسائط اإلعالمية في نهاية السبعينيات تجربة ما اصطلح على‬
‫تسميته بــ "التحول اإلثنوغرافي" في العرف البريطاني الفكري العريض للدراسات الثقافية‬
‫التي أسسها البريطاني ريتشارد هوجارت والمؤرخ وعالم االجتماع اإلنجليزي إدوارد بي‬
‫ثومبسون والروائي الماركسي ريموند ويليامز‪ ،‬في أواخر الخمسينيات‪ .‬وقد كان هذا التحول‬
‫إيذانا بظهور منهج جديد داخل نطاق دراسات وسائل االتصال التي كانت يطلق عليها بشكل‬
‫منوع اسم إثنوغرافيا الجمهور أو اإلثنوغرافيا النقدية‪.‬‬

‫‪ .1‬على ماذا كان يحتوي هذا المنهج الجديد؟‬

‫قبل التحول اإلثنوغرافي كان محللو وسائل االتصال ينسبون للتلفزيون قوى هائلة في توجيه‬
‫األذواق وآراء الناس والتحكم فيها‪ ،‬وقد نشأت وجهة النظر النظرية هذه من المذهب‬
‫الماركسي في فرنسا عن طريق الفيلسوف لويس ألثوسير وفي ألمانيا عن طريق تيودور‬
‫أدورنو وماركس هوركهايمر من مدرسة فرنكفورت‪ ،‬الذي اكد ان وسائل االتصال كانت‬
‫أدوات تستخدمها الدولة للدعاية اإليديولوجية السائدة ونشرها‪ .‬ولم يكن العلماء والباحثون‬
‫الذين كانوا يعملون في مجال الدراسات الثقافية معارضين تماما لوجهة النظر هذه بقدر ما‬
‫أقروا بأن التلفزيون كان وسيلة قوية لإلغراء واإلقناع‪ ،‬لكنهم انتقدوا الحتمية النصية للمذهب‬
‫أو النظرية‪ .‬وطبقا لرأي ستيوارت هول فإنه على العكس من ذلك‪ ،‬لم تكن جماهير‬
‫المستهلكين مستقبلين سلبيين للمعاني على اإلطالق‪ ،‬بل انهم كانوا يقدمون معانيهم الخاصة‬
‫بهم‪ ،‬وكان بإمكانهم حتى رفض تلك المعاني التي كانت تقترحها النصوص التلفزيونية‪.‬‬
‫بالطبع كان النص يسعى لنقل فحوى الرسائل‪ ،‬ولكن إذا لم تتقبلها الجماهير بسرعة وبشكل‬
‫فعلي فإن النصوص تصبح بال أي وقع أو تأثير‪ .‬لم تكن مشاهدة التلفزيون بالنشاط المنعزل‬
‫الذي يعرض في هدوء تام‪ ،‬وأنت جالس وحدك في غرفة مظلمة‪ ،‬كما كان يتخيل العلماء‪.‬‬
‫فعلى العكس كان نشاط يؤدى في سياق عائلي محلي عريض يحدد التلقي ويقرره‪ ،‬على‬
‫سبيل المثال‪ :‬يشاهد الناس برامج التلفزيون أثناء تناولهم لوجبة الغداء بينما يناقش الملتفون‬
‫حول مائدة الطعام ويتدخلون في انسياب وتدفق وسائل اإلعالم‪ ،‬وبالتالي يقطعون تواصلهم‬

‫‪36‬‬
‫معها‪ ،‬وتبعا لهذا يصبح هناك مساحة بين المنتج (للبرنامج) والمستهلك النهائي (المشاهد)‬
‫حيث تحدد أوجه النشاط العائلي ظروف تلقي البرنامج‪ ،‬وبعواقب ال يمكن التكهن بها بسهولة‪.‬‬

‫من أجل هذا أصدرت إثنوغرافيا التلقي مقاالت نقد ضد نظريات وسائل االتصال السائدة‬
‫حتى اآلن‪ .‬األول ضد نظريات االتصال التي كانت تستخدم بكثرة‪ ،‬والثاني ضد المنهجيات‬
‫التي كانت ومازالت تستخدم بكثرة في دراسات استهالك الوسائط اإلعالمية‪ .‬لقد استطاعت‬
‫اإلثنوغرافيا وصف ممارسات االستهالك من وجهة النظر الفعلية الواقعية للجماهير الحقيقية‪،‬‬
‫من خالل رسم الخطوط الكبرى للمعاني التي ينسبها مستهلكو وسائل االتصال للنصوص‬
‫والتقنيات التي يلقونها في حياتهم اليومية‪.‬‬

‫‪ .2‬المراكز والباحثون‪:‬‬

‫كان هناك ثالث معاهد أساسية مشاركة في إثنوغرافيا التلقي‪ :‬مركز الدراسات الثقافية‬
‫المعاصرة (‪ )CCCS‬في جامعة برمنجهام‪ ،‬ومركز األبحاث للتجديد واالبتكار والثقافة‬
‫والتكنولوجيا بجامعة برونل ببريطانيا‪ ،‬ومعهد لودويج أوهالند األلماني للدراسات الثقافية‬
‫اإلمبريقية )‪ (EKW‬بجامعة توبنغن‪ .‬ومع ذلك كانت أول دراسة تستفيد استفادة شاملة من‬
‫منهج البحث اإلثنوغرافي مشروعا أمريكيا استغرق تنفيذه ثالثة سنوات من طرف جيمس لو‬
‫‪ 1980Lull‬حول الفوائد االجتماعية للتلفزيون من خالل العائالت‪ (.‬تم القيام بهذه الدراسة‬
‫في ويسكونسين بكاليفورنيا‪ ،‬حيث أجريت المالحظات والمقابالت على عينة مكونة من ‪300‬‬
‫أسرة‪ ،‬أمضى المالحظون فترات ما بعد الظهر وأمسيات كاملة في صحبة أعضاء األسرة‪،‬‬
‫كما كانوا يلعبون مع أطفالها ويشاهدون التلفزيون معهم)‬

‫وقرب نهاية الثمانينيات بدأ جيمس لول‪ ،‬دورثي هوبسون‪ ،‬دافيد مورلي‪ ،‬روجر سيلفرستون‪،‬‬
‫شون موريس‪ ،‬أين آنج وجانس رادواي وآخرون في التفكير مليا في مناهج أبحاثهم وفي‬
‫اختبار فعالية وصحة استكشافاتهم‪ ،‬وذلك ألنهم لم يضعوا في اعتبارهم من قبل مطلقا مدى‬
‫تأثير وجود الباحث في مجال خاص جدا كمجال األسرة على سلوك المبحوثين الذين تتم‬
‫مالحظتهم‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫المحاضرة ‪ :08‬استخدام المنهج اإلثنوغرافي لدى دافيد مورلي‪.‬‬

‫إذا كان عمل مورلي إلى حد كبير في تيار بحث حول العائالت والتقنيات ‪ -‬ولدت في سياق‬
‫التقدم المتزايد لتكنولوجيات االتصال المنزلي (‪ ، VCR‬الحواسيب الصغيرة ‪ ،‬الخ) ‪-‬‬
‫استفادت دراسة جمهور برنامج ‪( nationwide‬مورلي ‪ )1980‬من االهتمام المستمر‪.‬‬
‫تميزت هذه الدراسة بمنظور نظري يتناقض مع التيار السائد في ذلك الوقت‪ ،‬وكانت بمثابة‬
‫نقطة تحول في أبحاث وسائل اإلعالم‪.‬‬

‫إذن كان التركيز على تحليل البرامج اإلخبارية العامة أو المجاالت السياسية‪ ،‬وكان " جمهور‬
‫برنامج ‪ )1980( " nationwide‬نقطة البداية الستجواب واالستعالم فيما يسمى برامج‬
‫االتصال السياسي الموجهة لجمهور كبير وغير متجانس‪ ،‬وبالتالي بدأت سلسلة كاملة من‬
‫األبحاث حول األنواع الشعبية (الرياضة ‪ ،‬المنوعات ‪ ،‬أوبرا ‪ ،‬المسلسالت البوليسية ‪ ،‬وما‬
‫إلى ذلك)‪ .‬إن أسئلة التمثيل من حيث النوع‪ :‬األنثوي‪/‬المذكر والطبقة االجتماعية‬
‫والمجموعات العرقية هي محور هذا البحث‪.‬‬

‫على نفس مستوى التفكير في نموذج "الترميز وفك الترميز" لستيوارت هول‪ ،‬كان الهدف‬
‫على وجه الخصوص من دراسة "النص" في جمهور برنامج ‪ ، nationwide‬تحديد أنماط‬
‫التفسير والتأويل من خالل متغيرات الطبقة االجتماعية والنوع أو الجنس‪ .‬وقد أظهرت نتائج‬
‫هذه الدراسة مدى تعقيد وتنوع نماذج فك الترميز‪ ،‬واستحالة إدراكها في فكرة الطبقة‬
‫االجتماعية لوحده ا‪ .‬لقد تم تصور هذه الدراسة على أنها التبرير النظري لما يسمى بمدرسة‬
‫الدراسات الثقافية‪ ،‬إال أنها كانت موضوعًا للعديد من ردود الفعل النقدية وفي نفس الوقت‬
‫تواصل إلهامها للعديد من التعليقات‪.‬‬

‫إن كتاب التلفزيون العائلي لمورلي سنة ‪ ،1986‬الذي كتب في سياق يعترف فيه بالدور‬
‫النشط للمتلقي في بناء معنى الرسائل‪ ،‬أين يتم التأكيد على أهمية سياق التلقي‪ ،‬يشير إلى‬
‫التحول من دراسة النصوص نحو دراسة الجماهير‪ .‬إن فكرة "فك الترميز" تفسح المجال ل‬
‫"سياق االستماع"‪ .‬بخالف الدراسة السابقة جمهور برنامج ‪ ، nationwide‬يهتم مورلي هنا‬

‫‪38‬‬
‫بعملية االستماع للتلفزيون‪ ،‬ويحاول فهم النشاط في حد ذاته وليس من حيث االستجابات‬
‫المحددة لبرنامج معين‪.‬‬

‫سوف "يستكشف" مورلي (باستخدام منهج إثنوغرافي) التفاعالت بين مختلف أفراد العائلة‬
‫حول الشاشة الصغيرة ‪ ،‬في سياق استقبال "طبيعي" للتلفزيون‪ :‬فضاء محلي‪.‬‬

‫في هذه الدراسة تمت مالحظة ومقابلة ‪ 18‬عائلة إنجليزية تتكون من شخصين بالغين وطفلين‬
‫على األقل‪ ،‬معظمهم من الطبقة العاملة‪ .‬كان الهدف المحدد حسب مورلي هو استكشاف‬
‫االختالفات داخل كل أسرة ولكن أيضا بين العائالت‪ .‬ويركز بشكل أساسي على مسألة‬
‫عالقات القوة بين الجنسين‪ ،‬لكنه ال يتخلى عن إطار تحليل بنية الجمهور من حيث الطبقة‬
‫والتعليم واأليديولوجية ‪ ،‬إلخ ‪ ،‬المطورة على الصعيد الوطني‪ .‬بدال من ذلك ‪ ،‬يقترح أن يتم‬
‫تضمين قضايا الطبقة أو الدخل كخصائص ثانوية وليس كعامل يشتغل مباشرة في تحليل‬
‫األبعاد االجتماعية لالستماع والتفسير‪.‬‬

‫يمثل المشروع المعنون "االستخدامات المنزلية لتقنيات المعلومات واالتصاالت" ‪ ،‬الذي‬


‫أجري مناصفة بين مورلي وسيلفرستون في مركز أبحاث ثقافة االبتكار والتكنولوجيا في‬
‫جامعة برونيل في عام ‪ ،1989‬اتجاهًا جديدًا للعمل‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬لم يعد التلفزيون هو محور‬
‫االهتمام الرئيسي أين يهتم مورلي بجميع التقنيات المحلية للمعلومات واالتصاالت (التي‬
‫تتضمن التلفزيون) ؛ ومن ناحية أخرى ‪ ،‬يركز مورلي على دور وسائل اإلعالم في التعبير‬
‫عن المجاالت الخاصة والعامة ‪ ،‬وبالتالي يحاول تحديد سياق أين تكون فيه المناقشات حول‬
‫دور وسائل اإلعالم في بناء الهويات الثقافية في وضع أفضل‪.‬‬

‫على نطاق أوسع ‪ ،‬ينطوي هذا المشروع لدى مورلي على إعادة صياغة سياقات دراسة‬
‫استهالك التلفزيون في إطار سوسيوتقني وثقافي أوسع‪ ،‬والتزام كبير في عمل إثنوغرافي‬
‫تجريبي‪ ،‬من المحتمل أن يسمح بفهم تعقيدات ظاهرة التلقي‪ .‬والهدف من ذلك هو فهم‬
‫ديناميكيات استغال ل وترويض التكنولوجيا في األسر‪ ،‬أي دمجها في البيت بشكل يومي ‪،‬‬
‫وكيفية ادارة كل أسرة عالمها االقتصادي واالجتماعي والتكنولوجي ( ما يدعوه مورلي‬

‫‪39‬‬
‫االقتصاد األخالقي)‪ .‬تُفهم معاني التلفزيون على أنها خصائص ناشئة للممارسات السياقية‬
‫للتلقي؛ ويتم تصور هذه الممارسات على أنه يجري بناءها في بيئات اجتماعية صغرى‬
‫تشكلها األسرة والتفاعالت التي تحدث داخلها‪.‬‬

‫من جمهور برنامج ‪ ،1980 nationwide‬مرورا بالتلفزيون العائلة سنة ‪ ،1986‬وصوال‬


‫إلى االتصاالت المحلية سنة ‪ ، 1990‬تحولت اهتمامات مورلي البحثية من أسئلة‬
‫اإليديولوجية وتحليل الرسائل التلفزيونية (من خالل سلسلة من أسئلة حول البنية الطبقية‬
‫وعملية فك الترميز) ‪ ،‬نحو االنتباه إلى التمايز بين ممارسات االستماع من حيث الجنس‬
‫داخل سياق األسرة‪ .‬انطوى هذا التحول على إعادة صياغة مسألة التلقي ضمن سياق أوسع‪،‬‬
‫مما أدى إلى وصالت بين‪-‬استطراديه أو متداخلة بين التكنولوجيات الجديدة‪ ،‬وسائل اإلعالم‬
‫وديناميكيات األسرة‪ ،‬من أجل ادراك وفهم عملية التلقي في جوانبها المتعددة‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫المحاضرة ‪ :09‬الوضعيات النظرية لدافيد مورلي‪:‬‬

‫تضمنت مسألة التلقي العديد من تقاليد البحث في سائل اإلعالم؛ فبعضها بنيت من خالل‬
‫اإلجابة التي اقترحتها‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬اعتمادا على المقاربات والنماذج التي يتم بناء الخطابات من‬
‫خاللها‪ ،‬تبدو الحجج المقدمة متناقضة‪ .‬وتؤدي الجوانب المنهجية للباحثين دورا حاسما‪ ،‬لكن‬
‫االختالفات تبدو أنها تكمن أكثر في الصور التي يتم بناؤها حول كل عنصر من عناصر‬
‫عملية التلقي‪ .‬سواء كان المشاهد (القارئ) أو النص الذي يواجهه أو عالقة أحدهم باآلخر‪.‬‬

‫في إطار عمل الدراسات الثقافية للتلقي‪ ،‬ال يزال التفكير النظري لمورلي حول جمهور‬
‫وسائل اإلعالم واحدًا من أهمها ‪ ،‬وال سيما فيما يتعلق بمسألة التأويل (فك الترميز)‪ .‬ومن‬
‫خالل معالجة إشكالية التلقي بأسلوب يسعى إلى الربط المباشر بين العمليات الخطابية‬
‫والنصية واالجتماعية‪ ،‬أصبح باإلمكان إعادة تركيز أسئلة الجمهور والسلطة في حيز‬
‫الممارسات التفسيرية‪ .‬إنها مقدمة لمفهوم السياق المحلي (مركزي منهجية مورلي) ‪ ،‬الذي‬
‫جعل من الممكن التركيز على الحيز المحدد للتعبير عن هذه المستويات المتعددة من التصميم‬
‫لبلوغ أهداف هذه الدراسات‪.‬‬

‫يثير استعراض اإلطار التحليلي إلشكالية التلقي لدى ‪ Morley‬عددًا من األسئلة‪:‬‬

‫‪ -‬ما هي عواقب مثل هذا اإلطار لفهم الجمهور التلفزيوني وممارسات المستهلكين؟‬
‫‪ -‬كيف تكون إشكالية السياق المحلي ذات صلة؟‬
‫‪ -‬كيف تبدأ فكرة ديناميكية األسرة في التدخل؟‬
‫‪ -‬كيف ينبغي أن نفهم االنتقال من "التلفزيون" إلى "التكنولوجيا المنزلية" وما هي‬
‫اآلثار؟‬
‫‪ -‬فيما يتعلق بالمواقف النظرية‪ ،‬في النهاية‪ ،‬هل هذا اإلصرار على دراسة عملية التلقي‬
‫في هذا السياق األوسع تجد مبرراتها؟‬

‫‪41‬‬
‫‪ .1‬دراسة جمهور برنامج ‪ nationwide‬وعالقة النص‪/‬القارئ‪:‬‬

‫إن أهمية دراسة جمهور برنامج ‪ nationwide‬تستحق بعض االهتمام للحظة‪ ،‬خاصة أنها‬
‫توضح سؤال العالقة الذي يناقش النص والقارئ‪.‬‬

‫في البداية تألف العمل جمهور برنامج ‪ nationwide‬من تحليل البرنامج التلفزيوني‪ ،‬وتمييز‬
‫السم ات الرسمية الخاصة به‪ ،‬والطرق المختلفة الستجواب الجمهور واألشكال المحددة‬
‫للتنظيم النصي المستخدم‪ .‬في الخطوة الثانية‪ ،‬كان الهدف هو فحص كيفية تفسير البرنامج من‬
‫قبل أفراد من مختلف الطبقات االجتماعية‪ ،‬بهدف تحديد دور األطر الثقافية في تحديد‬
‫التفسيرات الفردية‪.‬‬

‫يكم ن اهتمام هذه الدراسة في إدخال قضايا الطبقة والجنس في صميم دراسة عمليات‬
‫االتصال اإلعالمي‪ .‬وقد تمت معالجة هذه القضايا في األصل في أعمال هوجارت ‪ ،‬وليامز ‪،‬‬
‫وكذلك في عمل مجموعة تيلكيل على وجه الخصوص‪ .‬كما يمكن فهم جمهور برنامج‬
‫‪ - nationwide‬بكلمات مورلي ‪ -‬على أنه ترجمة عملية لنموذج "الترميز وفك الترميز"‬
‫الخاص بفريق ستيوارت هول‪ .‬كان الهدف من البحث هو تحديث الحواجز التوجيهية المشفرة‬
‫في الرسالة‪ ،‬من أجل معر فة إلى أي مدى فك التشفير الذي تقوم به المستقبالت ينتمي أو ال‬
‫ينتمي إلى "قراءاتها المفضلة"‪ .‬كانت المهمة التالية هي دراسة إلى أي مدى تم "تغيير" هذه‬
‫التفسيرات‪ ،‬او بمعنى آخر‪ ،‬لفحص كيف تم تحديدها من خالل عملية توزيع‪ -‬محكومة‬
‫وموجهة اجتماعيا برموز ثقافية‪.‬‬

‫‪ .2‬بعض نتائج دراسة مورلي (جمهور برنامج ‪:)nationwide‬‬


‫‪ -‬إن نجاح البرنامج في نقل المعنى المفضل أو المهيمن سيعتمد على ما إذا كان يصادف‬
‫القراء الذين يتبنون الرموز واأليديولوجيات المستمدة من مجاالت مؤسسية أخرى‬
‫(مثل الكنائس أو المدارس) التي تتوافق مع تلك الموجودة في البرنامج أو تعمل‬
‫بالتوازي مع تلك الخاصة بالبرنامج أو وهو يصادف القراء الذين يتبنون الرموز‬

‫‪42‬‬
‫المأخوذة من مناطق أو مؤسسات أخرى (مثل النقابات العمالية أو الثقافات الفرعية‬
‫"المنحرفة") التي تتعارض إلى حد كبير مع تلك الخاصة بالبرنامج‪.‬‬
‫‪ -‬يمكن القول أن المجموعات المتدربة‪ ،‬ومجموعات النقابة ومجموعات أصحاب‬
‫المتاجر وطالب الجامعات السود يتشاركون نفس الموقف‪ ،‬ولكن فك ترميزهم‬
‫لبرنامج تلفزيوني يتأثر باتجاهات مختلفة حسب الخطابات والمؤسسات التي ينتمون‬
‫إليها‪ .‬على هذا األساس يؤكد مورلي على أهمية االختالفات الثقافية في نفس الفئة‪.‬‬
‫‪ -‬إذا ربطنا فك الترميز باالنتماءات السياسية‪ ،‬فعندئذ يبدو أن المجموعات التي تهيمن‬
‫عليها التيارات المحافظة كالطالب في طور التكوين‪ ،‬المعلمين ومديري البنوك ‪-‬‬
‫تنتج قراءات مسيطرة‪ ،‬في حين أن الذين تهيمن عليهم خطابات العمل أو التيار‬
‫االشتراكي هم أكثر عرضة إلنتاج قراءات تفاوضية أو معارضة ‪.‬‬
‫‪" -‬لفهم المعاني المحتملة لر سالة معينة‪ ،‬نحتاج إلى خريطة ثقافية للجمهور الذين توجه‬
‫إليهم هذه الرسالة ‪ -‬خريطة توضح مختلف الموارد الثقافية والموارد الرمزية المتاحة‬
‫للمجموعات الفرعية الموضوعة بشكل مختلف داخل هذا الجمهور‪ .‬ستساعد هذه‬
‫الخريطة على إظهار كيفية إنتاج المعاني االجتماعية للرسالة من خالل تفاعل الرموز‬
‫المضمنة في النص مع الرموز التي تنتجها األجزاء المختلفة للجمهور‪.‬‬

‫‪ .3‬مفهوم السياق الداخلي‪:‬‬

‫يعتبر مورلي (‪ )1992‬مشاهدة التلفزيون نشاطًا يوميًا معقدًا‪ ،‬بحيث أنه في األساس محلي‬
‫وممارسًا بشكل رئيسي في المنزل ‪" :‬يتم تلقي التلفزيون في سياق قوي ومعقد بالفعل"‪ .‬تثير‬
‫الطبيعة الفعلية "السياقية" للتلقي أسئلة ذات صلة حول كيفية استخدام التلفزيون في المنزل‪،‬‬
‫وحول عملية اتخاذ القرار الختيار البرامج‪ ،‬وما إلى ذلك‪ .‬إن مفهوم السياق الداخلي يسمح‬
‫بفهم أفضل لهذه الظاهرة‪.‬‬

‫البيئة أو "اإلطار" لتلقي الرسائل ‪" -‬بشكل خاص" أو "مع العائلة" ‪ -‬تفترض أن‬
‫االستخدامات المنتجة منها تتشكل حسب متطلبات هذه البيئات نفسها‪ .‬والسؤال المطروح إذن‬

‫‪43‬‬
‫هو‪ :‬كيفية فهم إنتاج العمليات االتصالية ضمن اإلطار "الطبيعي" للتلقي بحد ذاته وإعادة‬
‫تعريفه في هذا اإلطار ومن خالل هذه العمليات ‪ -‬وفي هذا السياق كيف يتم دمج التقنيات‬
‫المحلية وتعبئتها من قبل هذه الهياكل‪.‬‬

‫لقد أدى الحديث عن تقنيات االتصاالت في المجال المنزلي إلى تركيز مورلي على تحليله‬
‫لكيفية أن تصبح هذه التقنيات "مضمنة" بشكل جيد وموضح في الديناميكيات الداخلية لتنظيم‬
‫الفضاء المحلي‪ .‬كما أنه يضيف بعدا هاما للتحليل من حيث أنه يضع مكان التلقي على مفترق‬
‫طرق الخطاب المحلي (الخاص) والعام‪.‬‬

‫‪ .4‬التلفزيون كتقنية منزلية‪:‬‬

‫من خالل دراسات التلقي‪ ،‬يبقى فهم مكان التلفزيون في المجتمع المعاصر قضية رئيسية‬
‫بالنسبة لمورلي‪ .‬يُعرِّف اإلطار المقترح التلفزيون بأنه وسيط أساسي محلي‪ ،‬يجب أن يُنظر‬
‫إليه في سياق األسرة وفي السياق األوسع للحقائق االجتماعية والسياسية واالقتصادية (حقائق‬
‫يتم إعادة صياغتها باستمرار ضمن العالقات الداخلية)‪ ،‬كما يُنظر إلى التلفزيون باعتباره‬
‫جزءاً من الثقافة التقنية وثقافة االستهالك‪ ،‬محلية ووطنية‪ ،‬خاصة وعامة على السواء‪.‬‬

‫اعتبر مورلي ‪ 1992‬التلفزيون وسيلة تنتمي لجميع تقنيات االتصال المحلية‪ « :‬يجب أن‬
‫ينظر إلى التلفزيون اآلن ‪ ،‬ليس بمعزل ‪ ،‬بل كواحد من عدد من تكنولوجيات المعلومات‬
‫واالتصاالت ‪ ،‬يشغل وقتًا محليًا ومساحة إلى جانب مسجل الفيديو‪ ،‬والكمبيوتر والهاتف ‪،‬‬
‫باإلضافة إلى جهاز والكمان ‪ ،‬وآلة الرد والستيريو والراديو‪» .‬‬

‫هنا ‪ ،‬تتضمن التكنولوجيا الشيء نفسه‪ ،‬من حيث الممارسات التي يولدها ‪ ،‬والمعاني التي‬
‫يثيرها‪ .‬فالتكنولوجيا ليس لها قيمة مادية فحسب‪ ،‬بل لها قيمة رمزية‪ ،‬وهذا المعنى يتشكل من‬
‫خالل االستخدامات التي تنتج عنها‪ ،‬ومن هن ا تأتي أهمية فهم كيفية دمجها في الحياة األسرية‬
‫اليومية‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫بناء على ما سبق يقترح مورلي فهم التكنولوجيا كنظام تقني وما ّدي واجتماعي وثقافي يشمل‬
‫القواعد واالستخدامات والعالقات‪.‬‬

‫‪ .5‬ديناميكيات العائلة‪:‬‬

‫من خالل التلفزيون العائلي‪ ،‬يقدم مورلي تصوراً جديداً للجمهور‪ :‬يتم إجالء المتفرج الفردي‬
‫لصالح مجموعة ‪-‬العائلة ‪-‬المشاهدة‪ .‬تصبح الوحدة األساسية "المنزلية" ولم تعد االستماع‬
‫فردي‪.‬‬

‫يهدف هذا البعد من تحليل ديناميكيات األسرة إلى تحديد األسرة كمكان نشط للممارسات‬
‫االجتماعية والممارسات تحت تأثير كل من البيئة االجتماعية والثقافية بالمعنى الواسع‪،‬‬
‫والخصائص المحددة الموجودة ضمن كل عائلة (مورلي ‪ : )1992‬المنازل‪ ،‬العائالت‪ ،‬مقيدة‬
‫‪ ،‬متضاربة ‪ ،‬متناقضة‪ .‬لديهم تاريخهم الخاص ‪ ،‬تقاليدهم ‪ ،‬أساطيرهم الخاصة ‪ ،‬أسرارهم‬
‫الخاصة‪ .‬إنهم واألفراد الذين يؤلفونهم أكثر أو أقل انفتاحًا أو إغالقًا بالتأثيرات الخارجية‪ ،‬أو‬
‫أكثر أو أقل مناعة من نداءات المعلنين والعاملين في مجال الترفيه للشراء أو التسلية من‬
‫خالل التلفزيون‪» .‬‬

‫إن إشكالية ديناميكيات العائلة تجعل من الممكن مناقشة الطريقة التي يفسر بها المشاهدون‬
‫الرسائل‪ ،‬وتوفر إطارًا فكريا مفيدًا لفحص العالقات االجتماعية ‪ -‬عائلية في المقام األول ‪-‬‬
‫والتي يتم من خاللها مشاهدة التلفزيون‪.‬‬

‫يجب أن تسمح دراسة ديناميكيات العائلة كما تم تنفيذها من قبل مورلي بتحليل االستماع‬
‫الفردي في سياق العالقات األسرية‪ ،‬من خالل التفاعالت التي تحدث فيها‪ .‬يجب أن يأخذ هذا‬
‫السياق في الحسبان العوامل الضرورية في ممارسة االستماع‪ ،‬والتي تنطوي على قضايا‬
‫السلطة والمسؤولية والسيطرة في مكان معين وفي أوقات معينة‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫المحاضرة ‪ :10‬الوضعية المنهجية لدافيد مورلي‪:‬‬

‫في جميع أعماله حول التلقي‪ ،‬يتخذ مورلي موقفا يتطلب االلتزام بالعمل التجريبي‪ ،‬وعلى‬
‫وجه التحديد‪ :‬العمل اإلثنوغرافي‪ .‬أثار العمل المبكر‪ ،‬جمهور برنامج ‪nationwide‬‬
‫وتلفزيون العائلة‪ ،‬العديد من االنتقادات المنهجية‪ .‬بالعودة إلى جمهور برنامج‬
‫‪ ،nationwide‬يعترف مورلي بأنه قد تناول األسئلة المنهجية من وجهة نظر واقعية‬
‫(فقط الموارد المتاحة ونوع البيانات المطلوبة تم أخذها في االعتبار)‪ .‬هذه الخيارات‬
‫المنهجية تتكبد ما قد يدعوه الخبير االقتصادي "تكلفة الفرصة"‪.‬‬

‫يفترض مورلي أن مشاهدة التلفزيون نشاط معقد‪ ،‬يتواجد مع مجموعة متنوعة من‬
‫الممارسات المحلية األخرى وال يمكن فهمه إال في سياقها‪ .‬وهو بذلك يطرح الحاجة إلى‬
‫تقديم وصف مفصل لتعقد هذا النشاط‪ ،‬وفائدة وجهة النظر اإلثنوغرافية‪ .‬من خالل‬
‫السماح للباحث بدخول عالم األسرة‪ ،‬فإن النهج اإلثنوغرافي سيمكن من فهم األنماط‬
‫المرجعية على المستويين الفردي واالجتماعي‪ ،‬من خالل جعل األسر تصف تصرفاتها‬
‫وإيماءاتها فيما يتعلق بالتكنولوجيات‪.‬‬

‫إحدى األدوات المفضلة لدى ‪ Morley‬هي الصورة اإلثنوغرافية‪ ،‬التي توفر بيانات‬
‫مثيرة لالهتمام حول االستخدامات المحلية للتكنولوجيات‪ .‬هذا النهج هو نقطة انطالق‬
‫للبحث في العالقات ا لداخلية من خالل االستهالك واالستخدامات‪ ،‬والتي يمكن أن تكون‬
‫مفيدة جدا لتصميم األجهزة والبرمجيات لما يسمى التقنيات المحلية‪.‬‬

‫‪ .1‬مسارات البحث والتفكير‪:‬‬

‫من أهم التطورات في أبحاث الجمهور اإلقرار بأهمية سياق االستماع‪ ،‬وباألخص السياق‬
‫المحلي للتلفزيون‪ .‬بدأ الباحثون في الدراسات الثقافية هذه الحركة نحو الدور الفعال‬
‫للمتلقي في إنتاج المعنى‪ ،‬ومع النصوص ذات المغزى قام مورلي بتعميق أبعاد سياق‬
‫التلقي‪ .‬أجريت عدد من التحقيقات حول كيفية استهالك مضامين التلفزيون في محيطه‬

‫‪46‬‬
‫الطبيعي‪ ،‬وفي نفس الوقت تم االعتراف بالجانب السياقي القوي للتلقي‪ .‬تبدو األسئلة‬
‫المطروحة من وجهة النظر البحثية هذه ذات صلة وثيقة بالموضوع‪ :‬كيف تتم عمليات‬
‫االتصال في أطرها الطبيعية؟ وكيف يتم في هذا السياق دمج وتعبئة وسائل اإلعالم‬
‫والتكنولوجيا في هذه العوالم الخاصة؟‬

‫يتم تحليل وسائل اإلعالم التلفزيونية ليس من وجهة نظر خارجية‪ ،‬ولكن من وجهة نظر‬
‫اندماجها الفعال في المجال الداخلي‪ ،‬ضمن ديناميكيات األسرة‪ .‬من ناحية‪ ،‬يتم تحليل‬
‫التكنولوجيا كنظام يتكون من قواعد واستخدامات يتم إعادة تعريفها باستمرار من خالل‬
‫التفاعالت العائلية‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬تتشكل العالقات األسرية وممارسات التلقي تبادليا‪،‬‬
‫في السياق المحلي للتلقي التلفزيوني‪ .‬يمكن أن يكون هذا التصور للتكنولوجيا في السياق‬
‫الداخلي مفيدًا لتحليل عوامل االستحواذ على التكنولوجيا‪ ،‬بقدر ما يمنحها من معنى منتج‬
‫من طرف السياق ومن خالل العالقات التي يتضمنها‪.‬‬

‫‪ .2‬إثنوغرافيا التلقي لمورلي‪:‬‬

‫تعد الخيارات المنهجية لمورلي جز ًءا من مجموعة من أبحاث التلقي التي تتميز بالتوجه‬
‫إثنوميثودولوجي‪ :‬إثنوغرافيا الجماهير‪ ،‬التحقق من العمليات التأويلية الموضوعة من‬
‫طرف المتلقي‪ .‬تستند الجهود البحثية على وحدات مختلفة من التحليل‪ :‬الفرد (كموضوع‬
‫اجتماعي أو ذاتية فردية) الجماعة والعالقات الذاتية المشتركة في تجربة الحياة اليومية‪.‬‬

‫يبدو أن المنظور اإلثنوميثودولوجي وتحديدًا الطرق اإلثنوغرافية مصممة بالكامل‬


‫للسماح بالوصول إلى النطاقات "الطبيعية" وخصائصها‪ .‬وفي إطار إشكالية التلقي‪ ،‬فإن‬
‫إمكانية فهم تلقي مضامين وسائل اإلعالم في الحياة اليومية ممكنة من خالل النهج‬
‫اإلثنوغرافي الذي يسمح بالتغلغل في عوالم األسرة في سياق إطارها العملي الفردي‬
‫واالجتماعي‪ ،‬من اجل وصف هذه األعمال‪.‬‬

‫تألفت الدراسات اإلثنوغرافية للجماهير من "الخروج إلى الميدان" لمحاولة وصف‪،‬‬


‫وعليه حتما تفسير وتأويل ممارسات األفراد في سياقهم الثقافي‪ ،‬استنادًا إلى مالحظات‬

‫‪47‬‬
‫األنشطة اليومية‪ .‬وتكمن الفائدة من هذه المناهج أساسًا في إمكانيات الفهم السياقي التي‬
‫تسمح بها خاصة من خالل تسهيل عملية فهم الصالت بين الجوانب المختلفة للظاهرة قيد‬
‫الدراسة‪.‬‬

‫بشكل عام ‪ ،‬تساعد المناهج النوعية على فهم جيد للعمليات التي من خاللها تحصل وسائل‬
‫اإلعالم أو التكنولوجيات على معنى وتقوم بتحديث مجموعة متنوعة من الممارسات‪:‬‬
‫فالنهج التأويلي يوفر إمكانية "مشاهدة التلفزيون" على الخصوص في سياق موسع‬
‫لدراسة االستهالك كرمز‪ ،‬وبعبارة أخرى مثل المشاركة في خلق عالم رمزي للمعنى‪ .‬أما‬
‫فيما يتعلق باتساع مدى البحث‪ ،‬فإن االنتقادات التقليدية للدراسات اإلثنوغرافية للجماهير‬
‫تتعلق بدائرتها البحثية التي تكون في الغالب ضيقة للغاية وتحد من نطاقها‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫المحاضرة ‪ :11‬إجراءات البحث اإلثنوغرافي‪:‬‬

‫يقدم لوكنت وشينسول ‪ LeCompte and Schensul 1999‬خطوة بخطوة اإلجراء للقيام‬
‫بدراسة إثنوغرافية‪ ،‬والكثير من هذه العملية مشابهة للمناهج النوعية األخرى‪.‬‬

‫المرحلة األولى هي تحديد المشكلة أو الظاهرة التي ينبغي استكشافها‪ .‬واألسئلة األكثر‬
‫مالءمة لإلثنوغرافيا تشمل دراسة كيف تعي مجموعة معينة من الناس أو ترى ظاهرة‬
‫محددة‪ .‬والهدف النهائي لمجرى البحث اإلثنوغرافي هو محاولة فهم العالم كما تراه‬
‫المجموعة موضع الدراسة‪.‬‬

‫واألمر الوثيق الصلة باختيار السؤال البحثي‪ ،‬وهو اختيار الموقع الميداني؛ أي المكان الفعلي‬
‫أو األماكن الفعلية التي سيتم فيها جمع المعلومات‪ ،‬وفي بعض الحاالت يتم تطوير السؤال‬
‫البحثي أوال وبعدها يتم اختيار موقع ميداني مناسب‪ .‬وفي حاالت أخرى قد يجد الباحث موقعا‬
‫ميدانيا مثيرا لالهتمام فيطور سؤاال مناسبا للموقع‪.‬‬

‫وبغض النظر عن كيفية تحديد الموقع‪ ،‬يجب على الباحث بعدها الوصول إلى منفذ (الدخول)‬
‫وتقرير ما الذي سيدرسه‪ ،‬وكما هو الحال عموما مع البحوث الميدانية‪ ،‬فإن الباحث‬
‫اإلثنوغرافي سيستخدم بشكل عام تعيين قصدي ويمكن صقل هذا التعيين باستخدام الرواة‬
‫الرئيسيين وهم األعضاء منذ مدة طويلة في المجموعة تحت الدراسة الذين لديهم معرفة‬
‫خبيرة بإجراءات المجموعة‪ ،‬ونشاطاتهم وأنماط اتصاالتها‪ .‬وباستخدام المعرفة التي يقدمها‬
‫الرواة يقرر الباحث ما هي السملوكيات التي سيراقبها ومتى وأين سيراقبها‪ ،‬وأي األفراد‬
‫سيختار للمقابالت المكثفة وأي الوثائق الرئيسية يمكن أن تكون ذات صلة لتحليلها‪.‬‬

‫وبمجرد رسم خريطة استراتيجية التعيين‪ ،‬يبدأ العمل الميداني‪ .‬والكثير من المناقشات السابقة‬
‫بشأن جمع البيانات خالل المالحظة الميدانية ينطبق أيضا على البحوث اإلثنوغرافية‪ ،‬فيجب‬

‫‪49‬‬
‫على الباحثيين أخذ مالحظات وافرة‪ .‬ويقد إيمرسون ‪ Emerson‬وفريتز ‪ Fretz‬وشو‬
‫‪ Show 1995‬اقتراحات إلنشاء أربعة أنماط من المالحظات الميدانية‪:‬‬

‫الوصف المكثف‪ :‬وصف قصير يكتب أو يسجل في الميدان الذي يسلط الضوء على‬ ‫‪-‬‬
‫العوامل األكثر أهمية التي تمت مالحظتها أو أثيرت خالل المقابلة‪ .‬وهذا الوصف‬
‫يساعد في إبراز ما الذي يجب تأكيده في التقارير الالحقة‪.‬‬
‫‪ -‬الوصف الموسع‪ :‬وتجري كتابته بعد فترة المراقبة أو بعد المقابلة‪ ،‬بتسجيل تفصيالت‬
‫غير مدرجة في الوصف المكثف‪ ،‬ويجب أن تكون هذه الوثائق تامة وعميقة بأكبر‬
‫قدر ممكن‪ ،‬وفي البحوث اإلثنوغرافية تتوفر الكثير من التفصيالت أفضل من أن‬
‫تكون غير كافية‪.‬‬
‫‪ -‬يوميات‪/‬محاضرة الميدان‪ :‬تسجل ردود فعل الباحث الشخصية‪ ،‬وانطباعاته وتأمالته‬
‫حول العمل الميداني أو المقابلة وتكون في المقام األول تعليقات شخصية أكثر منها‬
‫تقريرا دقيقا‪.‬‬
‫‪ -‬مالحظة التحليل والتفسير‪ :‬هي محاوالت من قبل الباحث لدمج البيانات الرصدية‬
‫وبيانات المقابالت في نظام تحليل متماسك‪ ،‬وهذه هي محاوالت الباحث األولى‬
‫للعثور على نظام أة أنماط في البيانات‪.‬‬

‫ويتبع تحليل البيانات في بحوث اإلثنوغرافيا نفس األنماط كما في أشكال البحوث النوعية‬
‫األخرى‪ ،‬فالباحث يبحث عن أنماط وثيمات عامة في البيانات‪ .‬وفي نهاية المطاف‪،‬‬
‫ستظهر فئات تحليلية وسيتم التحقق منها مرة أخرى مقابل البيانات لمعرفة ما إذا كانت‬
‫تقدم تفسيرات ثابتة أو متسقة‪ .‬وفي نفس الوقت يقوم الباحث بتفسير البيانات وبتقديم بعض‬
‫األسس المفهومية لفهم عا أكبر لتصورات المجموعات وسلوكياتهم‪.‬‬

‫ويقترح بعض الباحثين النوعيين كدايمون و هولواي ‪Daymon and 2002‬‬


‫‪ Holloway‬أن البحث اإلثنوغرافي الناجح يمزج معا المنظور" الخارجي" للباحث مع‬
‫المنظور " الداخلي" ألولئك األفراد الذين تمت مالحظتهم‪ .‬وتتم مناقشة هذا األسلوب‬
‫أحيانا على أنه مزج بين وجهات النظر ‪ Etic‬ووجهت نظر ‪ Emic‬ونهج ‪ Etic‬يعطي‬

‫‪50‬‬
‫معنى على أساس المفاهيم العلمية العامة‪ ،‬والمبادئ والنظريات‪ ،‬في حين أن نهج ‪Emic‬‬
‫يعطي معنى للخصال واألنماط الثقافية على أساس منظور الرواة داخل نظام المعاني‬
‫الداخلي في ثقافتهم‪.‬‬

‫وكما هو الحال بأشكال البحث النوعي األخرى‪ ،‬فإن المرحلة األخيرة من البحوث‬
‫اإلثنوغرافية هو إعداد التقرير المكتوب‪ .‬ويبدأ التقرير عموما ببيان عن الغرض أو‬
‫السؤال البحثي الموجه‪ ،‬ووصف للمنهاج الذي يتضمن مشاعر الباحث الشخصية حول‬
‫الموضوع العام‪ ،‬ويكون متبوعا بالدليل كاألمثلة التي توضح المواضيع الرئيسية للبيانات‬
‫وتفسيرات الباحث للبيانات والتأثيرات المتوقعة للنظرية وللممارسة المستقبلية‪ .‬وكما هو‬
‫الحال في تقارير البحث النوعية‪ ،‬قد يكون تقرير البحث اإلثنوغرافي مسهبا نوعا ما‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫المحاضرة ‪ :12‬أدوات البحث اإلثنوغرافي‪:‬‬

‫‪ .1‬المالحظة بالمشاركة )‪:(Participant Observation‬‬

‫يصطلح على المالحظة بالمشاركة التدخل الوظيفي ‪ Functional Pénétration‬وتسمى‬


‫أيضا المالحظة غير المنظمة ‪ ،Observation Unstrectured‬إن من واجبات الباحث‬
‫االثنوغرافي تأدية أدوار معينة في المجتمع المدروس‪ ،‬وذلك من أجل حصوله على‬
‫المعلومات الموضوعية‪ ،‬في حين إذا تواجد الباحث في عشيرة أو قبيلة غريبة عنه حين‬
‫يُالحظ أنه فرد غريب عن تلك العشيرة يجعل هؤالء األفراد موضوع المالحظة يغيرون في‬
‫سلوكهم العادي‪ ،‬كما قد يدلون بأقوال ال تعبر عن واقعهم وعن حالتهم وعن شخصيتهم‪،‬‬
‫وذلك لشعورهم بأنهم خاضعون لمالحظة الغير‪ ،‬لذلك البد للباحث أن يقوم" بدور "ما في‬
‫المجتمع بحيث يتقبله أفراد المجتمع وكأنه أحد منهم وبالتالي يكتسب ثقتهم ويبدد الشكوك‬
‫حول مهمته‪.‬‬

‫أين يتوجب عليه أن يتكلم لغتهم ويستخدم في تفكيره نفس التصورات أو المفاهيم السائدة‪،‬‬
‫ويشعر بالقيم التي يعتنقونها ويعمل معهم ويشاركهم طعامهم واحتفاالتهم وحتى ارتداء‬
‫مالبسهم ‪.‬ويتعين عليه أيضا طوال فترات الدراسة كتابة تقارير يومية ‪ Filed Notes‬عن‬
‫كل صغيرة وكبيرة تقابله أثناء دراسته وعندما يتحصل الباحث االثنوغرافي عن كل ما‬
‫يخص أسلوب المعيشة في المجتمع المدروس‪ ،‬يبدأ في التحليل والكشف عن عناصر البناء‬
‫االجتماعي من تصرفات‪ ،‬عادات‪ ،‬ردود أفعال ‪...‬وغيرها‪ ،‬وذلك حتى تصبح دراسة مفهومة‬
‫وواضحة‪.‬‬

‫وعلى الباحث االثنوغرافي أن يستخدم المالحظة بالمشاركة في جميع المعلومات في وصف‬


‫جميع السلوكيات واألنماط والعادات التي تم رصدها دون استثناء وتسمى هذه الطريقة‬
‫بالطريقة الكلية ‪ Holistic Method‬ويحدد بريتشارد ايفانز شروط نجاح المالحظة‬
‫بالمشاركة فيما يلي‪:‬‬

‫‪52‬‬
‫‪ ‬قضاء الباحث لفترة كافية بين أفراد المجتمع المدروس في معيشتهم مرتبط بحجم‬
‫المجتمع وطبيعة المشكلة المراد دراستها‪.‬‬
‫‪ ‬أن يكون الباحث طوال فترة المالحظة على صلة وثيقة باألهالي‪ ،‬خاصة بإشراكه في‬
‫معظم جوانب حياتهم‪.‬‬
‫‪ ‬على الباحث االثنوغرافي أن يستخدم في حديثه مع أفراد المجتمع المدروس لغتهم ألن‬
‫المترجم قد يفشل في نقل األفكار والمعاني بدقة كاملة‪ ،‬فعامل اللغة هام في تطبيق هذا‬
‫المنهج‪.‬‬
‫‪ ‬ضرورة المالحظة الشاملة لكل جوانب الحياة االجتماعية‪ ،‬وان اقتصرت الدراسة‬
‫على جزء ما‪ ،‬وذلك قصد فهم الجانب التفصيلي وتحديد وظائفه‪.‬‬
‫‪ ‬على الباحث أن يتخلى عن قيمه وحضارته قدر المستطاع مؤقتا حتى يستطيع تحقيق‬
‫المالحظة الموضوعية‪ ،‬بالوصف الدقيق للظاهرة المدروسة ولكن عندما ينتقلون إلى‬
‫مرحلة الفهم واإلدراك العميق فإنهم يحتاجون للكثير من الحدس‪ ،‬ويجب عدم إغفال‬
‫أهمية مزاح الباحث وطباعه‪ ،‬فقد يحدث أن يخفق أحد الباحثين في دراسة مجتمع‬
‫معين ولكنه ينجح في مجتمع آخر‪.‬‬
‫‪ ‬يحتاج الباحث لمهارة أدبية في نقل ووصف وتحليل البناء االجتماعي إلى لغته‪ ،‬إذ‬
‫عليه أن يبين ويشرح معنى الظواهر االجتماعية ويبرز معناها بوضوح لينجح في‬
‫عمله‪.‬‬
‫‪ ‬فيما يتعلق بتدوين التقارير اليومية‪ ،‬نالحظ أن أفضل الظروف لتسجيل المعلومات هي‬
‫مكان المحادثة وأثناء حدوثها‪ ،‬إذ يترتب على ذلك إبعاد عامل التحيز في االختبار؛ أي‬
‫التحيز في تسجيل معلومات معينة‪ ،‬وإهمال معلومات أخرى‪ ،‬أو عامل ضعف الذاكرة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وقد تؤدي هذا التسجيل أو تدوين المعلومات إلى إثارة شكوك األفراد‬
‫الخاضعين للمالحظة‪ ،‬وقد يؤدي أيضا إلى تشويه الصورة الطبيعية للظاهرة‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫‪ .2‬طريقة المقابلة غير الموجهة ‪: Unguided Interview‬‬

‫مقابلة البحث هي تقنية مباشرة ‪ ،‬تستعمل من أجل مسائلة األفراد بكيفية منعزلة‪ ،‬لكن أيضا‬
‫في بعض الحاالت مساءلة جماعات بطريقة نصف موجهة تسمح بأخذ معلومات كيفية بهدف‬
‫التعرف العميق على األشخاص‪.‬‬

‫يستخدم الباحث االثنوغرافي أثناء الدراسة الميدانية‪ ،‬باإلضافة إلى طريقة المالحظة‬
‫بالمشاركة طريقة "المقابلة غير الموجهة" وتتمثل في مقابلة بعض أفراد مجتمع الدراسة أو‬
‫كلهم حسب عينة الدراسة فيحاول في المقابالت األولية اكتساب ثقتهم‪ ،‬حيث يبدأ الباحث في‬
‫توجيه األسئلة ألفراد العينة محل الدراسة ‪ ،‬مع اتاحت لهم الفرصة لإلجابة المطولة دون‬
‫توجيه اإلجابة وجهة م عينة‪ ،‬وعندما ينتقلون في الحديث من موضوع آلخر ال يحاول قطع‬
‫الحديث وإنما على العكس تماما يشجعهم بكلمة أو أخرى تزيد من حماسهم في االسترسال في‬
‫الحديث حول الموضوع الذي يهم الباحث‪.‬‬

‫ويمكن لهذا الباحث تدوين تلك المعلومات أو تسجيلها باآلالت الحديثة‪ ،‬إذا كان قد اكتسب‬
‫ثقتهم‪ ،‬وفي حالة عدم اكتساب تلك الثقة يمكن تدوين النقاط األساسية بطريقة ال تثير الشك‪،‬‬
‫وفي بعض األحيان ال يكتسب الباحث أية معلومات أثناء المقابلة غير الموجهة‪ ،‬وإنما عليه‬
‫تدوين كل ما يسمعه بعد المقابلة مباش رة حتى ال ينسى بعض عناصرها‪ ،‬وتتلخص أهمية‬
‫هذه الطري قة في اتاحتها لفرصة إظهار سمات شخصية األفراد وذلك بإعطاء المعلومات‬
‫التفصيلية عن الموضوعات التي تدور حولها األسئلة‪.‬‬

‫‪ .3‬طريقة المقابلة الموجهة ‪: Guided Interview‬‬

‫وتتمثل في استخدام استمارة متكونة من مجموعة من األسئلة موضوعة بدقة حول موضوع‬
‫معين‪ ،‬وتشمل االستمارة كذلك اإلجابات المحتملة بحيث يمكن ملؤها بسرعة وتفريغها في‬
‫جداول وعلى الباحث أن يقرأ كل سؤال أمام الشخص المراد دراسته ثم تسجيل إجابته بوضع‬
‫عالمة أمام إحدى اإلجابات المكتوبة‪ ،‬هذه الطريقة غير شائعة في الدراسات الخاصة‬
‫بالمجتمعات الريفية البدائية‪ ،‬كونها تثير شكو ك األفراد لعدم تعودهم عليها وخاصة وأنه في‬

‫‪54‬‬
‫الغالب ال يعرف القراءة والكتابة ولم يحدث أن قابله شخص ما وأخذ يسجل أقواله‪ ،‬لذا‬
‫ينحصر استخدامها فقط في المجتمعات الحضارية‪.‬‬

‫‪ .4‬طريقة االختبارات النفسية‪:‬‬

‫هذه الطريقة غير شائعة وتستخدم في األنثروبولوجيا االجتماعية أثناء الدراسات الميدانية‬
‫لبعض االختبارات النفسية لتحديد خصائص شخصية أفراد المجتمع المدروس‪ ،‬مثل " اختبار‬
‫روشاخ* ‪" Rorschach Test‬ونشير هنا إلى أن القليل من علماء األنثروبولوجيا المتعلقة‬
‫بعلم االجتماع‪ ،‬يستخدمون هذا النوع من اإلختبار‪ ،‬وذلك لتكون الحصة األوفر في‬
‫استخ دامات علماء االنثروبولوجبا الثقافية الذين يتخصصون في تحديد العالقة بين الشخصية‬
‫والحضارة في مجتمع ما‪.‬‬

‫ويرى ‪ Mauss Marcel‬في كتابه ‪ Manuel d’ethnographie‬أن العمل المثالي في هذه‬


‫المهمة يتطلب توفر ثالثة أشخاص ‪:‬عالم جيولوجي ‪ Un géologue‬وعالم نباتي ‪Un‬‬
‫‪botaniste‬وباحث اثنوغرافي ‪ ، Un ethnographe‬حيث يرى بأن الطريقة األولى لبدء‬
‫العمل تتطلب المرور بثالثة عناصر أساسية أولها فتح ما يسمى بــ "جريدة الطريق" التي‬
‫يتم فيها تسجيل العمل اليومي للباحث فتسهل له مهمته وتنظم له العمل قصد االطالع على‬
‫المعلومات المسجلة بسهولة ‪ ،‬كما يعتبر الباحث ملزما بالقيام بعملية "جرد" المعلومات‬
‫المجمعة وبوضع " وثيقة وصفية ‪ " Une fiche descriptive‬مفصلة ترفق بعدة مالحق‬
‫خصوصا ملحق فوتوغرافي و ملحق سينما توغرافي إن أمكن‪.‬‬

‫وقبل أن يتطرق ‪ Mauss Marcel‬لطرق المالحظة‪ ،‬وضع مخططا يعتبره األنسب لدراسة‬
‫مجتمع ما‪ ،‬يشمل ثالث خطوات متتابعة ومترابطة ومتكاملة ( يدعى مخطط دراسة مجتمع)‪:‬‬

‫‪55‬‬
‫‪ ‬المورفولوجيا االجتماعية‪Morpholologie sociale :‬‬

‫يتكون كل مجتمع من جماهير ودراسة هذا المجتمع باعتباره يتكون من جماهير وفي ميدانه‬
‫يشكل ما نسمه" مورفولوجيا اجتماعية "حيث تسمح بفهم الديموغرافيا ‪Démographie‬‬
‫والجغرافيا البشرية‪Géographie humaine .‬‬

‫‪ ‬الفيزيولوجيا االجتماعية‪physiologie sociale: :‬‬

‫تدرس الظواهر في حد ذاتها ووظائفها‪ ،‬خالل حركيتها‪ ،‬وقد صنفها حسب درجة ماديتها إلى‪:‬‬

‫‪ -‬التقنيات ‪ les techniques :‬تشمل كل الفنون والحرف الخاصة باإلنتاج بما في ذلك‬
‫كل العلوم فال يوجد مجتمع بدائي يكون مجردا من العلوم‪ ،‬باإلضافة طبعا إلى الحرب‬
‫التي اعتبرها ‪ Mauss Marcel‬ضمن التقنيات كونها تعتبر فن التخريب‪.‬‬
‫‪ -‬االستطيقا ‪ L’esthétique :‬وتهتم بالجانب الجمالي للمجتمع الذي يعتبر ماديا بنسبة‬
‫كبيرة حتى عندما يظهر مثاليا‪.‬‬
‫‪ -‬االقتصاد ‪ L’économie :‬يهتم بكل الظواهر االقتصادية وكل ما يتعلق باألموال‪،‬‬
‫باإلضافة إلى الظواهر القانونية‪.‬‬
‫‪ -‬الظواهر العامة ‪ Phénomènes généraux :‬وتشمل هذه الظواهر اللغة في‬
‫المرتبة األولى ويليها الظواهر الوطنية داخل الوطن ذاته والظواهر الخارجية‪.‬‬

‫‪ ‬الطريقة المورفولوجية والكارتوغرافية ‪ : Cartographique‬تقام على كل أعضاء‬


‫المجتمع محل الدراسة‪ ،‬ويجب أيضا وضع خريطة جغرافية للمجتمع المدروس كما يتم‬
‫تسجيل كل المواضع التي يمكن أن نرصد فيها حضور أفراد المجموعات المدروسة‬
‫وعددها وعدد سكانها‪ ،‬فاإلحصاء الديموغرافي يعتبر أساس أي مهمة ‪ ،‬أما بالنسبة لآلسر‬
‫فالجرد يجب أن يكون كامال من خالل تحديد ‪:‬العمر‪ ،‬والجنس والطبقة‪ ،‬إلخ ‪.‬وتتضمن‬
‫طريقة الجرد وثيقة كارتوغرافية ‪ Une fiche cartographique‬تسمح بتحديد كل‬
‫موضع دقة ‪ :‬مخطط المنزل‪ ،‬مخطط كل طابق منه إن أمكن ومخطط كل غرفة ‪...‬الخ‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫المالحق‬
‫صور لدراسات إثنوغرافية‬
‫قائمة المصادر والمراجع‪:‬‬

‫بارث فريديريك وآخرون‪ ،‬ترجمة باقادر أبوبوكر احمد وإيمان الوكيلي‪ ،‬األنثروبولوجيا حقل‬ ‫‪-‬‬
‫علمي واحد وأربع مدارس‪ ،‬المركز العربي لألبحاث ودراساة السياسات‪ ،‬بيروت‪.2017 ،‬‬
‫عامر مصباح ‪ ،‬المدخل إلى علم األنثروبولوجيا‪ ،‬دار الكتاب الحديث‪ ،‬القاهرة‪.2020 ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫بيرتي ج بيلتو‪ ،‬ترجمة سعد الدين كاظم‪ ،‬دراسة األنثروبولوجيا المفهوم والتاريخ‪ ،‬بيت الحكمة‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫بغداد‪.2010 ،‬‬
‫توماس هيالند إريكسن‪ ،‬فين سيفرت نيلسن‪ ،‬تر‪ :‬عبده الريس‪ ،‬تاريخ األنثروبولوجيا‪ ،‬المركز‬ ‫‪-‬‬
‫القومي للترجمة‪ ،‬القاهرة‪.2014 ،‬‬
‫حسين فهيم‪ ،‬قصة األنثروبولوجيا‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة والفنون‬ ‫‪-‬‬
‫واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،‬فبراير ‪.1986‬‬
‫زينب حسن زيود‪ ،‬األنثروبولوجيا علم دراسة اإلنسان طبيعيا واجتماعيا وحضاريا‪ ،‬دار‬ ‫‪-‬‬
‫االعصار العلمي‪.2015 ،‬‬
‫عيسى الشماس‪ ،‬مدخل إلى علم اإلنسان‪ ،‬منشورات إتحاد كتاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،2004 ،‬ص‪.28‬‬ ‫‪-‬‬
‫فاروق مصطفى اسماعيل‪ ،‬األنثروبولوجيا الثقافية‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪.1980‬‬
‫محمد عبده محجوب‪ ،‬مقدمة في األنثروبولوجيا المجاالت النظرية والتطبيقية‪ ،‬دار المعرفية‬ ‫‪-‬‬
‫الجامعية‪ ،‬القاهرة‪.2000 ،‬‬
‫مصطفى تلوين‪ ،‬مدخل عام في األنثروبولوجيا‪ ،‬دار الفرابي‪ ،‬بيروت‪.2011 ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫شريهان حوامدة‪ ،‬نشأة اأنثروبولوجيا في العصر القديم‪ ،‬بتاريخ ‪ ،2022/01/13‬على ‪،19:54‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪https://e3arabi.com‬‬
‫زاهيد مصطفى‪ ،‬مدخل إلى الفكر األنثروبولوجي‪ ،‬بتاريخ‪ ،2022/02/31 :‬على ‪،22:03‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪https://www.aranthropos.com/%D9%85%D8%AF%D8%AE%D9%84-‬‬
‫‪%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%D8%B1-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D8%AB%D8%B1%D9%88%D8%A8%‬‬
‫‪/D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A‬‬
‫يوسف زروق‪ ،‬األنثروبولوجيا في عصر النهضة االوروبية‪ ،‬بتاريخ‪ ،2022/01/27 :‬على‬ ‫‪-‬‬
‫‪http://sociomaroc.blogspot.com/2012/08/blog-post_29.html ،19:22‬‬

‫‪- LEVI-STRAUSS Claude, Anthropologie structurale, Librairie Plon, paris, 1958.‬‬


‫‪- David Morley et la problématique de la réception, r Florence Millerand,‬‬
‫‪28/01/2019 http://www.commposite.org‬‬
‫‪- Ethnography, John D.Brewer, Open University Press, McGraw-Hill Education,‬‬
‫‪2000.‬‬
‫‪-‬‬

You might also like