Professional Documents
Culture Documents
net/publication/342880852
CITATIONS READS
0 227
1 author:
SEE PROFILE
Some of the authors of this publication are also working on these related projects:
All content following this page was uploaded by Abduljaleel Kadhim Alwali on 12 July 2020.
تعد الفلسفة بمعناها األبستمولوجي (البحث عن الحقيقة) بمثابة الوعاء األمثل الستيعاب
مفهوم التسامح بمعناه األخالقي ،مثلما أجمعت معاجم الفلسفة وقواميس اللغة على تعريفه
على أنه (احترام الموقف المخالف) .فاعتراف الفلسفة بالبحث عن الحقيقة وليس امتالكها –
أي نسبية الحقيقة – وهذا هو التسامح بذاته ،أل ن الفلسفة ال تدعي امتالك الحقيقة بل البحث
عنها ،وليس من الحق أن يدعي أحداً احتكار المعرفة وكأنه هو وحده القادر على قول
الحق .فالبحث عن الحقيقة حقل متاح للجميع على مختلف اجناسهم وأديانهم وثقافاتهم؛
وعلى حد قول "ديكارت " (" )Descartesالعقل هو أحسن األشياء توزعا ً بين الناس
(بالتساوي) ،إ ذ يعتقد كل فرد أنه أوتى منه الكفاية ،وأن اختالف آرائنا ال ينشأ من أن
البعض أعقل من البعض اآلخر ،وإ نما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة ،وال
ينظر كل منا في نفس ما ينظر فيه اآل خر ،ألنه ال يكفي أن يكون للمرء عقل ،بل المهم هو
أن يحسن استخدامه" (ديكارت5891 ،م.) 561 – 561 :
تعود مناقشة مفهوم التسامح فلسفيا ً إلى الفلسفة اليونانية ،ما يعني أن المفهوم قديم قدم
الفلسفة .ويمكننا القول على الرغم من أن نظرة قدماء اليونان إلى األمم األخرى خارج
إقليمهم نظرة فيها نوع من التعالي ،إالا أ ن نسبية المعرفة هي فكرة يونانية خالصة مبدعها
"بروتاغوراس" ) (Protagorasالسفسطائي ) ،(Sophistالقائل " :اإلنسان هو مقياس كل
شيء ،فهو مقياس وجود الموجود منها ،ومقياس ال وجود غير الموجود منها" ،والتي
فسرها "افالطون" بقوله كما تظهر لي األشياء تكون بالنسبة لي ،وكما تظهر لك تكون
بالنسبة لك ،ألني وإياك بشر (افالطون5895 ،م) .وهذا ما يهدف إليه معنى التسامح
معرفيا ً.
ونوقش التسامح أيضا ً في الكتابات الرواقية ) (Stoic Schoolبمعنى التحمل ،وكان اتجاه
المدرسة الرواقية اتجاها ً أخالقيا ً ،لذا فهم ينظرون إلى التسامح بالمعنى األخالقي ،وأصبح
التحمل هو فضيلة تعني التسامح.
فض ً
ال عن ذلك ،كان التسامح مفهوماً فلسفياً واضح المعالم في نصوص فالسفة العصور
الوسطى كالكندي في رسائله الفلسفية ،وابن رشد في كتابه فصل المقال ،والقديس الفيلسوف
اوغسطين ( .)Saint Augustineوقد توج هذا اإلرث الفلسفي في الفلسفة الحديثة
والمعاصرة ،وتحديد ًا عند "جون لوك" ( (John Lockeفي كتابه رسالة في التسامح ،و
"فولتير" ) (Voltaireفي رسالته في التسامح ،و "كارل بوبر " ) (Karl Popperفي
المجتمع المفتوح وأعدائه ،و " غوتهولد إفرايم ليسينغ" ()Gotthold Ephraim Lessing
في كتابه تربية الجنس البشري ،و "جون ستيوارت ميل " ) (John Stuart Millفي كتابه
الحرية؛ فض ً
ال عن العديد من المصلحين اإليطاليين الذين رفضوا فكرة الثالوث ،وأسسوا
مبدأ التوحيد في المسيحية ،منهم "فاوستو سوتزيني" المعروف باسم "سوسينوس "
).(Fausto P. Sozzini
أما في العصر الحديث ف يعد التسامح من الشعارات اإليجابية التي تتبناها المجتمعات
المتمدنة ،وذلك لمواجهة سلوكيات العنف والتطرف .وتعد الفلسفة بمثابة البوتقة التي تختبر
فيها المفاهيم ،لذا فارتباط التسامح بالفلسفة يمنح التسامح القوة في التأثير على المجتمع
اإلنساني.
وإل يضاح مفهوم التسامح بالمعنى الفلسفي البد من النظر إليه وفقا للمحاور التالية:
-تعريف التسامح من المنظور الفلسفي.
-صيرورة التسامح عبر التاريخ الفلسفي.
-تصنيف التسامح .هل التسامح حقا ً طبيعيا ً أم فضيلة أخالقية؟
-حجج الفالسفة في التسامح.
-المجال التطبيقي للتسامح في دولة اإلمارات العربية المتحدة.
وسنعتمد في مناقشة هذه المحاور على تحليل النصوص الفلسفية ،وفقاً لكتابات الفالسفة
أنفسهم ،وتحليالت الباحثين في الشأن الفكري.
ويتفق أغلب الباحثين في الشأن الفلسفي بأن هناك أربعة معاني أساسية لمفهوم التسامح،
والتي من الممكن أ ن تكون جميعها موجودة في مجتمع ما وفي وقت واحد ،ومن الممكن
أيضا ً فهم االختالفات الناشئة حول معنى التسامح من التضارب في استخدام هذه المفاهيم.
هذه المعاني هي:
المعنى األول للتسامح هو االعتراف :التسامح هو تنظيم العالقة بين السلطة أو األغلبية
واألقلية المعارضة "المختلفة" (أو األقليات المختلفة) .فاألغلبية تمنح اال ذن لألقلية للعيش
وفقا ً لمعتقداتهم ،بشرط أن تقبل األقلية المركز المهيمن لألغلبية .يعني ذلك أن األقلية ال
تطالب بمكانة عامة وسياسية متساوية مع األغلبية ،بل تقبل بموقعها االدنى ،لذا يكون
التسامح معهم مبنيا ً على أسس براغماتية (نفعية) أو مبدئية ،ذلك أن األساس البراغماتي
للتسامح يشكل األقل تكلفة لجميع البدائل الممكنة ،وال يزعج السالم والنظام المدني ،كما
تفهمه األغلبية المسيطرة ،بل انه يساهم في دعم األغلبية المسيطرة وتقويتها .اما كونه
مبنيا ً على أسس مبدئية فألن الشخص قد يعتقد أنه من الصعب أخالقيا ً إجبار الناس على
التخلي عن بعض المعتقدات أو الممارسات الراسخة لديهم.
هذا هو المفهوم الذي وضعه "جوته " ) )Goetheعندما قال" :يجب أن يكون التسامح موقفاً
مؤقتا ً فقط :يجب أن يؤدي إلى االعتراف .أن نتسامح مع األذى" ( Stanford
.)Encyclopedia of Philosophy, 2017إذ يعني ذلك أن تعترف باألخر ،وتتعايش
معه ،وتبادله القبول والتقدير رغم األذى ،ليكون الهدف هو التبادل الخالق.
المعنى الثاني للتسامح هو التعايش :التسامح هو أفضل وسيلة إلنهاء الصراع أو تجنبه،
ومن خالله يكون السعي لتحقيق أهداف الفرد ،أي تعايش الجميع مع بعضهم ،وان كانت
هناك تباينات واختالفات.
ال يمثل التسامح هنا بين أغلبية وأقلية ،مثلما هو الحال في االعتراف ،بل تسامح بين
جماعات متساوية تقريبا ً في السلطة ،والذين يرون أن التسامح من أجل السالم االجتماعي ،
والسعي لتحقيق مصالحهم الخاصة .فإن التسامح المتبادل هو أفضل البدائل الممكنة (معاهدة
لوكسمبورغ للسالم لعام 5111م هي مثال على ذلك ) .إنهم يفضلون التعايش السلمي على
النزاع ،ويوافقون على حل توافقي متبادل ،إلى طريقة معينة للتعايش مع بعضهم اآلخر.
في القرن العشرين شكلت آراء الفيلسوف "جون ستيورات مل" األساس في تكوين مذهب
الكثرة (التعددية) ،مما حضي بتأييد أغلب فئات المجتمع .وقد نادى "جون ستيوارت مل "
بالحرية الفردية ،التي تعني بأن يعمل األفراد وفقا ً لألسلوب المرجح لديهم .والحرية الفردية
تنمي شعور الفرد بشخصيته المستقلة ،وأ ن سبب استياء الناس يعود إلى فقدانهم حرياتهم
الذاتية .وعلى ذلك البد من التسامح االجتماعي ،وليس بإمكان الدين أو الدولة الحد من هذا
التسامح .إ ذ يقول" :إننا إذا أسكتنا صوتاً فربما نكون قد أسكتنا الحقيقة ،وإن الرأي الخاطئ
ربما يحمل في جوانبه بذور الحقيقة الكامنة ،وان الرأي المجمع عليه ال يمكن قبوله على
أسس عقلية إال إذا دخل واقع التجربة والتمحيص ،وأن هذا الرأي ما لم يواجه تحديا ً من
وقت ألخر فإنه سيفقد أهميته وتأثيره" (.)Mill, 1974
المعنى الثالث للتسامح هو االحترام :التسامح يعني االحترام ،أي أن تحترم فيه األطراف
المتسامحة بعضها البعض بمعنى أكثر تبادالً .فعلى الرغم من االختالفات الجذرية بين
الجماعات اإلنسانية في معتقداتهم األخالقية ،ونظرتهم نحو ماهية الحياة ،والتباين في
ممارساتهم الثقافية ،إال أ ن هناك اطار ًا اجتماعياً مشتركا ً يتعلق بالمسائل األساسية كالحقوق
والحريات وتوز يع الموارد ،تقبله جميع األطراف على قدم المساواة ،وليس هناك افضلية
أخالقية أو ثقافية لطرف على آخر .وهناك نموذجان لمفهوم االحترام هما "المساواة
الرسمية" ،و "المساواة النوعية" .المساواة الرسمية تقوم على التمييز الصارم بين المجال
السياسي والخاص ،حيث يجب أن تقتصر االختالفات األخالقية ( أي الثقافية أو الدينية) بين
مواطني الدولة القانونية على المجال الخاص ،بحيث ال تؤدي إلى نزاعات في المجال
السياسي ،وخرق ذلك يؤدي إلى عدم التسامح .أما "المساواة النوعية" ،فتعني أن يحترم
األشخاص بعضهم بعضاً على قدم المساواة السياسية مع هوية "أخالقية – ثقافية" معينة،
يجب احترامها والتسامح معها باعتبارها شيئا ً( :أ) مهم بشكل خاص للشخص (ب) يمكنه
توفير أسباب وجيهة لبعض االستثناءات أو التغييرات العامة في الهياكل القانونية
واالجتماعية القائمة .وهكذا يُنظر إلى المساواة واالندماج االجتماعي والسياسي على أنهما
يتوافقان مع االختالف الثقافي ،ضمن حدود معينة (أخالقية) من المعاملة بالمثل
(.)Stanford Encyclopedia of Philosophy, 2017
المعنى الرابع للتسامح هو التقدير :التقدير يعني وجود فكرة أكمل وأكثر تطلبا ً لالعتراف
المتبادل بين المواطنين ،وأكثر بعداً من مفهوم االحترام .وهنا ال يعني التسامح احترام
أشكال الحياة الثقافية أو األديان األخرى فقط ،بل يعني أيضا ً وجود نوعا ً من التقدير
األخالقي لمعتقداتهم ،على اعتبار أن جميع هذه المفاهيم ذات قيمة أخالقية ،على الرغم من
اختالفها عن بعضها .لذا يرتقي مفهوم التسامح هنا ليبلغ مرتبة التقدير المحترم من كل
فئات المجتمع لكل المعتقدات السائدة بينهم ،فكل المعتقدات تحظى بالتقدير من الجميع.
لكن يبقى السؤال المطروح اآلن أي هذه المفاهيم األربعة للتسامح صالح للتطبيق في مجتمع
معين؟ و لإلجابة على ذلك البد من مراعاة أمرين مهمين :األول :معرفة طبيعة التناقضات
الموجودة في المجتمع ،والتي تتطلب وجود التسامح .والثاني :يتطلب تبريراً معياريا ً كافياً
ومقنعاً للتسامح في سياق اجتماعي معين .من المهم أن نضع في اعتبارنا أن مفهوم التسامح
بحد ذاته ال يقدم لنا حلو ً
ال لهذه اال شكالية ،بل ان الحلول تعتمد على فهم المجتمع "موضوع
الدراسة" وفقا لتاريخه ومنهجيته (.)Stanford Encyclopedia of Philosophy, 2017
صيرورة التسامح وفقا لتاريخ الفلسفة:
يمكن القول بأ ن بذرة نشوء التسامح تعود إلى الحضارة اليونانية ،وباألخص في حقل
الفلسفة قبل حقبة "سقراط" ،إذ أن المدرسة السفسطائية ) (Sophistic Schoolهي
المدرسة األولى تاريخيا ً التي حولت مجرى التفكير الفلسفي من الطبيعة إلى اإل نسان ،سير ًا
على مبدأ أن هدف المعرفة هو خدمة اإلنسان .وكان االتجاه الفلسفي قبل المدرسة
السفسطائية ينصب على البحث في الطبيعة لمعرفتها وتفسيرها ،كي يتبدد خوف اإلنسان
من الظواهر الطبيعية .لذا فرواد المدرسة السفسطائية ساروا على مبدأ " لماذا ال نتوجه إلى
اإلنسان مباشرة ،بد ً
ال من أن نتوجه إلى الطبيعة ،طالما أن الهدف من البحث هو خدمة
االنسان" .وو فقا لذلك تحول مجرى التفكير الفلسفي لهذه المدرسة من الطبيعة إلى اإلنسان ،
وأصبح اإلنسان هو مقياس الحقيقة ،فكانت مقولة "بروتاغوراس" الشهيرة اإل نسان هو
المقياس لجميع األشياء ،اإل نسان الفرد وليس المجموع ،وتلك هي نسبية المعرفة ،والتي
أنبنى عليها التسامح معرفيا ً .وهذا ما أكده في العصر الحديث كل من "ديدروت" و
"ميرابو" )" ،(Denis Diderot and Mirabeauعلى أ ن كل شيء في الوجود خاضع
لقانون النسبية ،سواء كان ذلك ف ي الطبيعة أو في المجتمع ،وسواء كان اآلخر يتعلق
بالتركيب التحتي أو التركيب الفوقي للمجتمع" (علبي1001 ،م.)00 :
أما الكندي في رسائله الفلسفية ،فقد أكد على احترامه لألمم الخالية من قبلهم فيما انتجت من
أفكار وآراء ،فإن لقت قبوالً فنعما هي ،وان لم تلق قبو ً
ال فنشكرهم عليها ألنهم نبهونا على
مواطن الخطأ .إذ يقول " وينبغي أن ال نستحي من استحسان الحق واقتناء الحق من أين
أتى ،وا ن أتى من االجناس القاصية عنا واألمم المباينة لنا ،فانه الشي أولى بطالب الحق
من الحق" (الكندي5880 ،م.)501 :
وفي القرن الثاني عشر ،نوقشت مسأل ة التعايش السلمي بين األديان ،اليهودية والمسيحية
واإلسالم ،وقد تمثل ذلك في كتابات الفيلسوفين "موسى بن ميمون" و "ابن رشد" ،إذ كان
ابداعهم الفلسفي يتمثل في البحث الفلسفي عن الحقيقة ضد العقائد المطلقة .لقد دافع "ابن
رشد" في كتابه فصل المقال عن علوم الغير في معتقداتهم بشأن الكون واإلنسان ،سواء
كان ذلك الغير مشارك لنا في الملة أو غير مشارك ،وأفتى بضرورة "أن نضرب بأيدينا
إلى كتبهم ،فننظر فيما قالوه من ذلك ،فإن كان كله صوابا ً قبلناه منهم ،وإن كان فيه ما ليس
بصواب نبهنا عليه" (ابن رشد5889 ،م .)85 :وعذر أصحابها إذا هم اخطئوا الصواب،
وقد ارتقى "ابن رشد" في مقام التسامح إلى مرتبة العدل ،مقتديا ً في ذلك بأرسطو ،إذ يقول :
" أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي به لنفسه ،أعني أن يجهد نفسه في طلب
الحجج لخصومه كما يجهد نفسه في طلب الحجج لمذهبه ،وأن يقبل لهم من الحجج النوع
الذي يقبله لنفسه" .عليه يمكن القول بأن "ابن رشد" ارتقى بالتسامح إلى مستوى العدل الذي
يتخطى التساهل ،ورفع العالقة إلى مستوى االيثار ،حيث عرف التسامح بأنه "احترام الحق
في االختالف" (ابن رشد5860 ،م.)01 :
ويعد عمل "جان بودين" ) )Jean Bodinم ن االعمال المهمة في تطوير مفهوم حديث
للتسامح في كتبه الستة في الخير العام ( ،)1576وقد وضع تبريراً سياسياً لمفهوم التسامح،
يسميه ( (Politiquesالذي يعني استقرار الدولة .وبالنسبة له ،فإن الحفاظ على السيادة
السياسية كان له األولوية في الحفاظ على الوحدة الدينية ،وأوصى بالتسامح كسياسة متفوقة
في حالة التعددية والنزاعات الدينية.
لقد انتج فالسفة القرن السابع عشر ثالث نظريات في التسامح "باروخ دي سبينوزا "
( ،)Baruch de Spinoza’s Tractatus Theologico-Politicus, 1670و "بييربايلي "
( ،)Pierre Bayle’s Commentaire Philosopique, 1686و "جون لوك" ( John
.)Locke’s A Letter Concerning Toleration, 1689
سبينوزا في رسالته في الالهوت والسياسة يرى بأ ن الدولة لديها مهمة تحقيق السالم
والعدالة ،وبالتالي لها الحق في تنظيم ممارسة الدين ،لكن الحق الطبيعي في حرية الفكر
والحكم وفي الدين "الداخلي " ال يمكن تكليفه بالدولة ،هنا تجد السلطة السياسية الحدود
الواقعية لسلطتها.
أما "بيير بايلي" فهو أول مفكر يحاول تطوير حجة صالحة عالمياً للتسامح ،والتي تنطوي
على تسامح عالمي ألشخاص من ديانات مختلفة ،وكذلك ألولئك الذين ينظر إليهم على أنهم
يفتقرون إلى أي إيمان .وهو ال يقر بمقياس للحقيقة سوى العقل ،ويقول" :بأن المعتقد الذي
يبرز لنا مغلوطا ً يجب التسامح معه ألنه قد يكون حقا ً .ويرى أن أكبر خطر في أي دين هو
أن ال يكون متسامحا ً ،ومن واجب الدولة أن تسمح بكل شيء إال عدم التسامح" (حنفي،
5899م .)110 :يؤمن "بايلي" بأن ليس للعقل القدرة على التيقن ،و عليه يجب الركون إلى
فكرة التسامح ،ألن البشر جميعاً يهدفون للوصول إلى الحقيقة ،وقد يختص بعضهم بمعرفة
بعض الحقائق والبعض األ خر بحقائق أخرى ،والعقل يحتمل الخطأ والصواب ،عندها يعد
ضمير الفرد هو المصدر الوحيد في معرفة الحقائق.
لقد ميز "جون لوك" بين الدولة والكنيسة من منظور ليبرالي ،ف واجب الدولة تأمين
"المصالح المدنية" لمواطنيها ،أما "رعاية الروح" فهي ليست من اختصاصها ،على أنها
مسألة بين الفرد وهللا ،حيث يتحمل الفرد وحده مسؤولية أفعاله" .ينبغي التمييز بدقة
ووضوح بين مهام الحكم المدني وبين الدين ،وتأسيس الحدود الفاصلة والعادلة بينهما .وإذا
لم نفعل هذا فلن تكون هناك نهاية للخالفات التي سوف تنشأ على الدوام بين من يملكون
االهتمام بصالح نفوس البشر من جهة ،ومن يهتمون بصالح الدولة من جهة أخرى" (لوك،
5889م.)11 :
كما ورسم "لوك " حدوداً للتسامح ،حيث ال يقبل ألي أحد أن يغامر وينتهك قوانين العدل
والمساواة التي تأسست من أجل الحفاظ على هذه األشياء .ومن يغامر يجب أن يمنعه
الخوف من العقاب الذي هو عبارة عن الحرمان من الخيرات المدنية أو الخيرات التي من
حقه أن يتمتع بها .يعني "لوك" بالخيرات المدنية الحياة والحرية والصحة وراحة الجسم،
باإلضافة الى امتالك األشياء مثل المال ،واألرض ،والبيوت ،واألثاث ،وما شابه ذلك .و
" ال يمكن التسامح على اإلطالق مع الذين ينكرون وجود هللا .فالوعد والعهد والقسم ،من
حيث هي روابط المجتمع البشري ،ليس لها قيمة بالنسبة إلى الملحد .فإنكار هللا ،حتى لو
كان بالفكر فقط ،يفك جميع األشياء" (لوك5889 ،م.) 19 :
وقد طالب مفكرو التنوير الفرنسي بالتسامح على أسس مختلفة ،فهناك فرق بين التركيز
على االستقرار السياسي والتركيز على التعايش الديني .يناقش "مونتسكيو" في كتابه عن
روح الشرائع ) (Montesquieu’s on the Spirit of the Law, 1748تسامح الديانات
المختلفة ،بغرض الحفاظ على الوحدة السياسية والسالم ،لكنه يحذر من أن هناك حدود ًا
لقبول الديانات الجديدة أو التغييرات في الديانة المهيمنة ،مع النظر إلى العالقة بين الدستور
واألخالق وعادات الناس .إذ يعني ذلك أنه البد أن يكون هناك حدود ًا للتسامح ،أي أنه
يؤمن بالتسامح المشروط (مونتسكيو1050 ،م).
الفرق بين المنظورين – السياسي والديني – واضح بشكل أكبر في كتابات "جان جاك
(Jean-Jacques Rousseau’s Social Contract, روسو" في العقد االجتماعي
) ،1762إذ يحاول فيه التغلب على الصراع الديني والتعصب ،من خالل إضفاء الطابع
المؤسسي على "الدين المدني " الذي يجب أن يتقاسمه الجميع.
لقد كانت فكرة "دين العقل" كبديل عن األديان الراسخة من أجل التغلب على الخالفات
بينهما نموذجية بالنسبة إلى عصر التنوير ،حيث وجدت عند مفكرين مثل "فولتير "
( )Voltaireو "ديديروت" ( )Diderotو "كانط" ( .)Kantيعد "فولتير" من أشهر
المدافعين عن حرية التفكير ،ورسالته في التسامح هي دراسة حول الحرية .وكان التسامح
عنده مرتبطا ً بإدارة شؤون الدولة ،ويوصي بخضوع الكنيسة إلدارة الدولة ،أي أن الدين
البد أ ن يتبع الدولة فهي التي تسيره كي تحافظ على وحدة المجتمع ،وتلك هي فكرة
ارسطية ،وكان حلم "فولتير" الذي لم يتحقق هو أ ن تتخلص البشرية من التعصب
والالعقالني ،وتتجه لعبادة الكائن األعلى.
يعرض الفيلسوف األلماني "لسنغ " ( )G.E.Lessingفي مسرحيته "ناثان الحكيم "
) (Nathan the Wise, 1779بشكل أدبي فكرة التسامح بين األديان ،وذلك عن طريق
العمل الصالح وليس التعصب األحمق ،وصار هذا العمل مثالً يضرب في التسامح .يصور
"جون ستيوارت ميل " في كتابه الحرية ()John Stuart Mill’s on Liberty, 1859
االنتقال إلى تصور حديث للتسامح ،فهو لم يعد مشغوالً بمسألة التناغم الديني ،وال يقصر
مسألة التسامح على االختالفات الدينية ،بل ان تسامح المجتمع الحديث مطلوب أيض اً
التعامل مع األشكال األخرى للتعددية الثقافية واالجتماعية والسياسية التي ال يمكن التوفيق
بينها .يقدم "ميل" ثالث حجج رئيسية للتسامح .األولى ضرر المبدأ ،وفي هذه الحالة تعتبر
ممارسة السلطة السياسية أ و االجتماعية شرعية فقط ،إذا لزم األمر لمنع حدوث ضرر
جسيم لشخص من قبل شخص أخر .الثانية النفعية ،وفي هذه الحالة يكون هناك ما يبرر
التسامح من خالل النفعية ،في كون أن اآلراء غير الصحيحة ال تؤدي إلى بناء عملية التعلم
االجتماعي المثمر .الحجة الثالثة تجارب التعايش غير ا لمعتاد ،صنف هذا النوع بالتعايش
الرومانسي ،مع التشديد على القيم الفردية واألصالة ( Stanford Encyclopedia of
.)Philosophy, 2017
نستخلص من هذا االستعراض الذي يرصد تاريخ التسامح فلسفيا ً ،بأن الفالسفة قد نظروا
إلى التسامح من زوايا متعددة ومختلفة زمانيا ً ومكانيا ً؛ لكن ما يجمعهم جميعا ً هو أ ن
التسامح عبارة عن فعل ضروري للتعايش السلمي بين االجناس واألديان والثقافات
المتعددة .ونستطيع القول أيضا ً بأن بعض الفالسفة يتحفظ على مفهوم التسامح ،خوفا ً من
جنوحه إلى االستبداد .ويفضل البعض استخدام كلمة "احترام" بدالً من كلمة التسامح ،عل ى
اعتبار أننا نتسامح مع من ال نستطيع منعه ،فالمتسامح طالما ً هو ضعيف من المحتمل جد ًا
أن يصبح غير متسامح إذا ما تزايدت قوته حسب مايرى "ميرابو" ( )Mirabeauالذي
يقول " :ان السلطة التي تتسامح يمكن أن ال تتسامح" .وأيضاً كما يقول "دنيس ديدروت "
(" :)Denis Diderotالتسامح هو نظام المقهور ،والذي يتركه عندما يغدو قويا ً ،لدرجة أن
يصبح قاهراً ال متسامحا ً" (علبي1001 ،م).
تصنيف التسامح:
هل التسامح حقا ً طبيعيا ً أ م فضيلة أخالقية؟ كان من بين األسئلة الفلسفية التي تثار حول
التسامح عبر تطور مفهومه واختالف أشكاله .الحق الطبيعي هو الحق الفطري الذي منه
يشعر اإلنسان بأ نه حق بذاته ،أي الحق الكائن بطبيعة اإلنسان ،وال يجوز التنازل عنه،
وهو بمثابة قانون طبيعي الشتقاقه من نظام وجودنا على حد تعبير "مونتسكيو" .ويعد السلم
أول القوانين الطبيعية ،بينما الثاني هو طلب القوت ،أما الثالث ف هو الرغبة في العيش في
مجتمع (مونتسكيو1050 ،م).
وفكرة الحق الطبيعي ارتبطت بالنظرية السياسية التي تقرر بأ ن لكل فرد حقوق أساسية ال
تستطيع الحكومة رفضها أو انتزاعها عنه .واختلف الفالسفة حول ماهية هذه الحقوق
الطبيعية ،البعض يراها حق الحياة والحرية والتملك على حد تعبير "جون لوك" .أما حرية
الرأي والتعبير فهو حقا ً طبيعيا ً وأساسيا ً للمجتمع ،وفقا ً "لسبينوزا" وفالسفة التنوير .وفي
اإلعالن العالمي لحقوق االنسان الذي اعتمده المؤتمر العام لليونسكو في دورته 19في
باريس في نوفمبر عام 5881م جاء في المادة (" ) 59أن لكل شخص الحق في حرية
التفكير والضمير والدين" وفي المادة ( )58حرية الرأي والتعبير ،أما المادة ( )16فتؤكد
على هدف التربية في " تنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات
العنصرية أو الدينية" (األمم المتحدة5881 ،م) .لذا فالتسامح يرتبط بالحقوق الطبيعية ،لكن
لم يشر إ ليه الفالسفة صراحة كبقية الحقوق الطبيعية األخرى.
وإذا كان التسامح مرتبطا ً بالحقوق الطبيعية ،فهل هو بذلك حقا ً وضعيا ً وفقا ً للقوانين
المكتوبة و القوانين األخالقية؟ فإن كان حقا ً قانونيا ً تصدره هيئة تشريعية لدولة ما في عصر
ما ،فمعنى ذلك أن التسامح يصبح ال تسامحاً مع من يرفض التسامح .فالتسامح في هذه
الحالة يفرض بقوة القانون ،أي بالعنف ،والعنف هو الالتسامح بعينه ،ألنه يستعمل وسائل
القوة واالضطهاد ضد من ال يؤمن بفكرة ما وال يمارسها ،السيما اذا كان ذلك الفكر دينيا ً
عقديا ً أو أيديولوجيا ً شموليا ً ،حاله في ذلك حال األفكار الشمولية التي مورست بسلطات
وحكومات عبر التاريخ .لذا جاء التسامح رداً – بكل ما يعنيه هذا الرد – على ممارسات
الالتسامح العنيفة على كافة الصعد (وهبه1009 ،م).
وإذا كان التسامح ليس هكذا ،فهل هو فضيلة أخالقية؟ وإذا كان كذلك فأي نوع من الفضيلة
هو؟ وعلى الرغم من أ ن هذا السؤال األخالقي هو سؤال معاصر يناقش في األوساط
الفلسفية ،وقد ت م االهتمام به إبان حاله االهتمام بقضايا العصر الحالية ،إ اال أن هذا السؤال
نوقش منذ المدرسة الرواقية التي تناولت التسامح على أنه فضيلة أخالقية تعني التحمل.
فالفضيلة األخالقية بشكل عام هي ميول الشخص نحو عمل الخير .والفضائل األخالقية
عديدة كاإلخالص ،والهدوء ،والشجاعة ،والعدل ،واالعتراف بالجميل ،والتسامح ،والمحبة،
وغير ذلك .هذه الفضائل هي التي تنظم قواعد السلوك اإلنساني ،والفضيلة هي الميزة
األساسية التي تميز االنسان عن باقي الكائنات الحية األخرى؛ وكان "ارسطو" يعد هذه
الفضائل مكتسبة .وقيمة الفضيلة في أن تعاش ،فهي ممارسة حياتية ،والتسامح هو فضيلة
بالنسبة لمن يمارسه من الناس ،وترتبط بالفضائل األخرى كضبط النفس ،والتواضع،
والكرم ،والعطف ،والرحمة ،والمغفرة.
أما ( )Lopez de Vegaفيعرف التسامح على أنه " مجرد عمل من قبل العقل ،وفي ذلك
جوهر الفضائل ،فالتسامح هو قوة .والستحالة الحصول على ما نشتهي ،نلجأ إلى التسامح،
لنعيش ويعيش اآلخرون" (وهبه1009 ،م).
يقول غاندي " ال أحب كلمة التسامح لكن ال أجد كلمة أفضل" (صديق1050 ،م" .)81 :إن
هذا التسامح نحو األديان األخرى ،الذي تعلمته في صغري ،لم يعني بالضرورة أن اإليمان
باهلل ،عن إدراك ووعي ،كان يمأل نفسي في تلك األيام ،ومع ذلك فإن شيئا ً واحداً كان قد
تغلغل إلى أعماق نفسي في ذلك الوقت ،ذلك هو االيمان بأن األخالق أساس كل شيء،
وبأن الحق هو أساس األخالق ،ومن ثم فقد أصبح الحق الهدف الذي أبتغيه وأخذ إيماني
بالحق يزداد على مر األيام ،وإدراكي لمعناه يتسع في مداه شيئا فشيئا" (صديق1050 ،م:
.)81
وتتمثل مرجعية التسامح في دولة االمارات إلى مبادئ الدين اإلسالمي ،وإرث الشيخ زايد
(األب المؤسس) -رحمه هللا -الفكري والعملي ،وأخالق وقيم المجتمع اإلماراتي .فض ً
ال
عن المعاهدات الدولية ،والقيم المشتركة بين البشر .ونستطيع أن نوجز التطبيقات العملية
لهذه األنواع من التسامح في دولة االمارات وفقا ً لوقائع عدة ،لكن سوف نتطرق إلى ما
ينتمي للجانب الفلسفي على أنه ذو أهمية خاصة في البناء الفكري لإلنسان ،والذي من
خالله ينعكس على السلوك والتصرفات ،فيصبح حقيقة ملموسة على أرض الواقع.
لقد كان لتطلعات نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء ( الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم
حاكم إمارة دبي) إلى أ ن تكون دولة اإلمارات العربية المتحدة عاصمة التسامح ،وقد تمثل
ذلك في تأسيس جائزة محمد بن راشد للتسامح ،وتأسيس المعهد الدولي للتسامح ،وإعالنه
المبادئ الثمانية لدبي عام 1058م ،وتتجسد قيم التسامح في المبدأ الثاني منها ،إذ يؤكد على
عدم وجود فرق بين مواطن ومقيم ،أو غني وفقير ،أو ذكر وأنثى ،أو مسلم وغير مسلم في
تطبيق القانون .وفي المبدأ الخامس يؤكد على أن مجتمع دبي يسوده االحترام ،ويربط كاف ة
مكوناته التسامح ،ويبتعد عن العنصرية والتمييز ،وال قبول لمن يصنفون المجتمعات أو
يثيرون الكراهية.
يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في كتابه في السعادة وااليجابية "عندما نسافر
خارج الدولة فان أكثر ما نفاخر به الناس والعالم ،ليس ارتفاع مبانينا ،وال اتساع شوارعنا،
وال ضخامة اسواقنا ،بل نفاخرهم بتسامح دولة اإلمارات ،نفاخرهم بأننا دولة يعيش فيها
جميع البشر على اختالفاتهم ال تي خلقهم هللا عليها بمحبة حقيقية وتسامح حقيقي ،يعيشون
ويعملون معاً لبناء مستقبل أبنائهم دون خوف من تعصب أ و كراهية أو تمييز عنصري أو
تفرقة بناء على لون أو دين أو طائفة أو عرق" (آل مكتوم1059 ،م.)558 :
المراجع العربية
ابن رشد (5889م) .فصل المقال (تحقيق :محمد عابد الجابري) .بيروت :مركز دراسات
الوحدة العربية.
ابن رشد (5860م) .تهافت التهافت (الطبعة الثالثة ،فقرة ( ،)01تحقيق :سليمان دنيا).
القاهرة :دار المعارف.
افالطون (5895م) .محاورة تياتيتوس (ترجمة :فؤاد برباره) .دمشق :وزارة الثقافة.
آل مكتوم ،محمد بن راشد (1059م) .تأمالت في السعادة واإليجابية .دبي :إكسبلورر
للنشر والتوزيع.
الوالي ،عبد الجليل (1001م ) .نظرية المثل :البناء االفالطوني والنقد االرسطي .عمان :
دار الوراق.
الكندي (5880م ) .رسالة إلى المعتصم باهلل في الفلسفة األولى (تحقيق احمد فؤاد
األهواني) .القاهرة :دار احياء الكتب العربية.
األمم المتحدة (5881م) .اعالن مبادئ حقوق اإلنسان ( مؤتمر اليونسكو في دورته .)19
باريس :األمم المتحدة.
ديكارت ،رينيه (5891م ) .مقال عن المنهج (ترجمة :محمود محمد الخضيري) .القاهرة:
الهيئة المصرية للكتاب.
حنفي ،حسن (5899م) .الموسوعة الفلسفية العربية (المجلد األول ،مادة التسامح) (تحرير:
معن زيادة) .بيروت :معهد اإلنماء العربي.
صديق ،رامي عطا (1050م) .غاندي :رسالة الالعنف والتسامح .بيروت :دار جداول
للنشر والتوزيع.
علبي ،عاصف (1001م) .أضواء على التسامح .بيروت :دار الفكر اللبناني.
فولتير (1050م) فولتير :رسائل فولتير الفلسفية (ترجمة :عادل زعيتر) .بيروت :دار
التنوير للطباعة والنشر والتوزيع.
لوك ،جون (5889م) .رسالة في التسامح (ترجمة :منى أبو سنه) .اإلسكندرية :المجلس
األعلى للثقافة.
مونتسكيو (1050م ) .روح الشرائع (ترجمة :عادل زعيتر) .القاهرة :الهيئة المصرية
العامة للكتاب.
وهبه ،مراد (1009م) المعجم الفلسفي (مادة التسامح) .القاهرة :دار قباء الحديثة.
المراجع األجنبية