You are on page 1of 20

‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬

‫مبدأ العليـــة‬
‫بني الغزالي وهيوم‬

‫*‪1‬‬
‫بلقصري مصطفى‬
‫د‪.‬حممد بن علي‬
‫املركز اجلامعي أمحد زبانة غليزان‬

‫امللخص‪:‬‬
‫مشكلة العلية هلا حضور يف الفكر اإلسالمي والغريب على حد سواء‪ ،‬وهي من أعقد املسائل أحفلها‬
‫باحليوية واخلصوبة وإثارة وجهات النظر املختلفة‪ ،‬وتنبع أمهية هذه املشكلة من كوهنا تتصل مباشرة بقضايا اإلهليات‬
‫والطبيعيات‪ ،‬وقد ساد منذ أرسطو تصور أن العلية من املبادئ العقلية الضرورية ‪ ،‬فاإلنسان جيد يف صميم طبيعته‬
‫الباعث الذي يبعثه إىل حماولة تعليل ما جيد من أشياء‪ ،‬حىت جاء الغزايل وبعده هيوم فقاما بقلب هذا التصور‪،‬‬
‫منتقدين كل األدلة اليت تتبث الضرورة العقلية‪ ،‬إنطلق الغزايل من فكرة تدخل اإلرادة اإلهلية يف احلوادث الطبيعية‪،‬‬
‫بينما إنطلق هيوم من مبادئ املذهب التجرييب‪ ،‬الذي ينفي أي دور للعقل يف توليد األفكار‪ .‬فكان لتصورهم‬
‫الثوري إنعاكاسات خطرية يف جمال العلوم اإلنسانية والطبيعية‪.‬‬
‫الكلمات االفتتاحية‪:‬‬

‫العلية‪ ،‬السببية‪ ،‬الضرورة العقلية‪ ،‬اإلقرتان‪ ،‬العلة واملعلول‪ ،‬تداعي األفكار‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫*‪ / -‬طالب دكتوراه تخصص فلسفة تطبيقية ‪/‬مخبر الدراسات النفسية واإلجتماعية والألنتروبولوجية بالمركز الجامعي أحمد زبانة غليزان‪.‬‬
‫‪199‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬
‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫مقدمة‬
‫العلية أول قضية فلسفية إستحوذت على الفكر البشري‪ ،‬ودفعته صوب التفكري لكشف لغز الوجود‪،‬‬
‫فبالنسبة لإلنسان الذي يتمتع بإمكانية التفكري متثل له العلة أهم العوامل اليت تقذف به يف تيار التأمل‪ ،‬ويتبلور يف‬
‫ذهنه مفهوم (ملا)؟ هذا املفهوم الذي يطرحه الذهن عن علة األشياء‪ ،‬فالعلية متثل من أوليات ما يدركه البشر يف‬
‫حياته اإلعتيادية‪ ،‬وهو من املبادئ العق لية الضرورية؛ ألن اإلنسان جيد يف صميم طبيعته الباعث الذي يبعثه إىل‬
‫حماولة تعليل ما جيد من أشياء‪ ،‬وتربير وجودها باستكشاف أسباهبا‪ .‬وهذا الباعث موجود بصورة فطرية يف الطبيعة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬بل قد يوجد عند عدة أنواع من احليوان أيضا‪ .‬فهو يلتفت إىل مصدر احلركة غريزيا؛ ليعرف سببها‪،‬‬
‫ويفحص عن منشأ الصوت؛ ليدرك علته‪.‬‬
‫ويف مقالنا هذا‪ ،‬سيكون جهدنا منكبا علىى العليةة‪ ،‬ملىا هلىا عالقىة بكىل العلىوم الطبيعيىة واإلنسىانية وغريهىا‪،‬‬
‫ففي ميدان امليكروفيزياء (ميكانيك الكىم) كىان للعليىة نتىائري خطىرية ومبهمىة تصىل إىل حىد إنكىار املبىدأ العليىة ‪ ،‬أمىا‬
‫يف اجمل ىىال الفلس ىىفي ف ىىد فالس ىىفة س ىىبقوا النظري ىىات العلمي ىىة الراهن ىىة ولعزعى ىوا املفه ىىوم التقلي ىىدي للعلي ىىة‪ ،‬ك ىىان أب ىىرلهم‬
‫فيلسىوفان كبىريان أحىدمها ينحىىدر مىن لمىرة الفالسىىفة املسىلم –أبىو حامىىد الغىزايل‪-‬واآلخىر يعىىد مىن عبىاقرة الفلسىىفة‬
‫الغربية‪ ،‬منطلق من اإلشكالية التالية‪:‬‬
‫كيف يتمثل مفهوم العلية عند الغزالي وهيوم‪ ،‬في ضوء تنازع العقل مع التجربة لها؟‬
‫‪ )1‬مفهوم العلية عندأبو حامد الغزالي (‪*)1111-1059‬‬
‫وقف مفكرو اإلسالم األشاعرة من العلية األرسطية موقف اإلنكار هلا واهلجوم العنيف عليها‪ .‬ومن اخلطأ‬
‫القول أن األشاعرة انكروا العلية إنكارا كامال‪ ،‬إمنا أنكروا فق تتصور أرسطو هلا ووععوا نظرية يف العلية تتوافق مع‬
‫عناصر املذهب توافقا تاما‪ ،‬وبلغت أوج نضجها لدى مفكر األشاعرة الكبري أيب حامد الغزايل‪ ،1‬الذي مل يكن‬
‫أول من أنكر مبدأ السببية فلقد سبقه املتكلم األشاعرة وكان أبو املعايل اجلويين هو الذي إستطاع أن يفصل‬
‫ب مبدأ اهلوية وعدم التناقض ومبدأ السبب الكايف وعمن هذا أمكنه تأسيس مبدأ اإلحتمال ليكمل تلميذه‬
‫الغزايل األسس اليت تقوم عليه العلوم الطبيعية‪.2‬‬

‫* فيلسوف ومتكلم وفقيه ومتصوف عريب‪ ،‬من أبرل مفكري العصر الذهيب يف اإلسالم‪ ،‬من أهم مؤلفاته إحياء علوم الدين‪ ،‬هتافت الفالسىفة‪ ،‬املنقىذ مىن‬
‫الضالل (أنظر معجم الفالسفة جورج طرابيشي‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ ،‬بريوت‪-‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ 2006 ،‬ص ‪.)426‬‬
‫‪ - 1‬علي سامي النشار‪ ،‬مناهري البحث عند مفكري اإلسالم‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بريوت‪ -‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،،1984 ،‬ص ‪.155‬‬
‫‪ - 2‬حمم ىىد ياس ى عربي ىىي‪ ،‬مواق ىىف ومقاص ىىد يف الفك ىىر الفلس ىىفي اإلس ىىالمي املق ىىارن‪ ،‬الش ىىبكة العربي ىىة ل ا ىىات والنش ىىر‪ ،‬ب ىىريوت لبن ىىان‪ ،‬الطبع ىىة األوىل‪،‬‬
‫‪ ،2013‬ص ‪.208‬‬
‫‪200‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬
‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫ينبغي أوال أن ال ننظر إىل الغزايل يف تصوره للعلة على أنه تعبري عن منطلقه الديين‪ ،‬كي ال ينتهي بنا‬
‫املطاف إىل إساءة الفهم والنظر إليه على أنه نوع من اإلرتيابية أو السفسطة‪ ،1‬بل جيب أن حنلل مفهوم الغزايل‬
‫للعلة مبوعوعية تتناسب‪ ،‬وطبيعة البحث الفلسفي‪.‬‬
‫سجل لنا الغزايل تصوراته األساسية عن العلة يف نصوص فدها يف كتاب املستصفى وكتاب اإلقتصاد يف‬
‫اإلعتقاد‪ ،‬لكن أهم نص هو الذي سجله يف مؤلفه الشهري هتافت الفالسفة‪ ،‬وكلمة التهافت هلا دالالت متعددة‬
‫تدل على األصح عند هنري كوربان تدمري الفالسفة لبعضهم البعض‪ ،‬وهنا يتالشى تناقض الغزايل‪ ،‬يف إقتناعه‬
‫بعدم أهلية العقل وكفاءته لبلوغ اليق اد نفسه‪ ،‬أي أنه على يق من تقويض الفالسفة عن طريق اجلدل‬
‫العقلي‪ ،‬فيمتد فعل النفي اد ذاته‪ 2‬إىل النقض الذايت‪.‬‬
‫وللعلة مقام مهم يف آراء الغزايل الفلسفية واملنطقية والدينية‪ .‬وميكن إعتبارها رابطة منطقية حكمت نسقه‬
‫املنهجي والفكري‪ ،3‬فلقد نقل الغزايل موعوع العلية إىل مكاهنا املنطقي‪ ،‬وكان من أهم املسائل اليت خيالف فيها‬
‫الفالسفة يف هذا العلم مذهبهم القائل تبأن اإلقرتان املشاهد يف الوجود ب األسباب واملسببات إقرتان تاللم‬
‫بالضرورة فليس يف املقدور وال يف اإلمكان إجياد السبب دون املسبب‪ ،‬وال وجود مسبب دون السببت‪ ،4‬ويرى‬
‫الغزايل خطورة هذه الفكرة الطبيعية للعلية أو للسببية‪ ،‬إذا طبقت يف نطاق ديين هام‪ .‬فيتجه حنو تراث األشاعرة‪،‬‬
‫ليستمد منه مادة‪ ،‬يصوغها صياغة كاملة‪ ،‬يف إنكار العالقة الضرورية الاللمة ب العلة واملعلول‪.‬‬
‫إن إنكار هذه العالقة يستند عند الغزايل إىل أننا نشاهد حادثت الواحدة بعد األخرى‪ ،‬فاصطلحنا على‬
‫تسمية إحدامها علة واألخرى معلوال بدون وجود أية رابطة عقلية اللمة ب احلادث ‪ ،‬يعرب الغزايل عن ذلك بقوله‬
‫تاالقرتان ب ما يعتقد يف العادة سببا وما يعتقد مسبباً ليس عرورياً عندنا بل كل شيئ ليس هذا ذاك وال ذاك‬
‫هذا‪ ،‬وال إثبات أحدمها متضمن إلثبات اآلخر وال نفيه متضمن لنفي اآلخر‪ ،‬فليس من عرورة وجود أحدمها‬
‫وجود اآلخر وال من عرورة عدم أحدمها عدم اآلخر مثل الري والشرب والشبع واألكل واالحرتاق ولقاء النار‬
‫والنور وطلوع الشمس واملوت وجز الرقبة والشفاء وشرب الدواء وإسهال البطن واستعمال املسهل وهلم جرا إىل‬
‫كل املشاهدات من امل قرتنات يف الطب والنجوم والصناعات واحلرف‪ ،‬وإن اقرتاهنا ملا سبق من تقدير ا هل سبحانه‬

‫‪ - 1‬حممود محدي لقزوق‪ ،‬املنهري الفلسفي بن الغزايل وديكارت‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،1997 ،‬ص‪.141‬‬
‫‪ - 2‬هنري كوربان‪ ،‬تاريخ الفلسفة اإلسالمية منذ الينابيع حىت وفاة ابن رشد‪ ،‬ترمجة نصري مروة وحسن قبيسي‪ ،‬عويدات للنشر‪ ،‬الطبعة الثانية‪،1998 ،‬‬
‫ص ‪.277‬‬
‫‪ - 3‬رفيق العجم‪ ،‬املنطق عند الغزايل يف أبعاده األرسطية وخصوصياته اإلسالمية دار املشرق‪ ،‬بريوت لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،1989 ،‬ص ‪.246‬‬
‫‪ - 4‬أبو حامد حممد الغزايل‪ ،‬هتافت الفالسفة‪ ،‬دار املشرق‪ ،‬بريوت‪-‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،1986 ،‬ص ‪195‬‬
‫‪201‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬
‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫خيلقها على التساوق ال لكونه عروريا يف نفسه غري قابل للفرق بل يف املقدور خلق الشبع دون األكل وخلق‬
‫املوت دون جز الرقبة وإدامة احلياة مع جز الرقبة وهلم جرا إىل مجيع املقرتنات‪ ،‬وأنكر الفالسفة إمكانه وادعوا‬
‫استحالتهت‪.1‬‬
‫إذا يرى الغزايل أنه ال يوجد شيء إمسه سببية بالطريقة اليت يراها الفالسفة أي أنه توجد عالقة جوهرية‬
‫علية حقيقية ب السبب واملسبب أو ب العلة واملعلول‪ ،‬ب السبب كالظاهرة‪ ،‬فنحن حسب تعبري الغزايل نرى‬
‫الشمس تشرق‪ ،‬النهار يعم الكون‪ ،‬العطشان يرتوي بشرب املاء‪ ،‬واجلائع يشبع عند أكل الطعام وهذا كله وهم‪،‬‬
‫فليس هناك عرورة عقلية هنتدي على غرارها إىل وجود عالقة ب املاء والعطشان ح يرتوي‪ ،‬فعلة اإلرواء ال‬
‫متسها األيدي وال تراها األع ‪ ،‬غاية ما يف ذاك أن اإلقرتان املتكرر أكسبنا معرفة ذلك وليس الضرورة العقلية‪.‬‬
‫ويع الغزايل مثاال يتبث فكرته وهو اإلحرتاق يف القطن عند مالقاة النار فريى أنه جيول أن يتالقى القطن‬
‫والنار دون أن حيدث أي إحرتاق‪ .‬وجيول إنقالب القطن رمادا حمرتقا بدون أن يتالقى مع النار فالنار إذن ليست‬
‫فاعلة اإلحرتاق على اإلطالق‪ .‬بل إهنا ال تفعل شيئا فيقول تإن فاعل اإلحرتاق خيلق السواد يف القطن والتفرق يف‬
‫أجزائه وجعله حراقا أو رمادا هو ا هل تعاىل فأما النار فهي مجاد ال فعل هلات‪ ،2‬إذن فما دليل الفالسفة على أهنا‬
‫الفاعل‪ ،‬وما الذي دعاهم إىل القول هبذه العالقة التاللمية بينهما وب اإلحرتاق‪ .‬الواقع أنه ال دليل وال برهان على‬
‫أن إحدى احلادثت علة ل خرى واألخرى معلول هلا سوى جمرد املشاهدة‪ .‬واملشاهدة تدل على احلصول عنده وال‬
‫تدل على احلصول به‪ ،‬وأنه ال علة سواه‪.‬‬
‫يدعم الغزايل رأيه بأمثلة ثتبت رأيه‪ ،‬منها تأن إنسالك الروح والقوى املدركة ليس متوالدا من فعل‬
‫الطبائع‪ :‬احلرارة والربودة والرطوبة واليبوسة‪ .‬وال من فعل األب‪ .‬وال من فعل اإلنسان نفسه‪ ،‬فليس اإلنسان فاعال‬
‫حلياته وحواسه وسائر املعاين اليت هي فيه ومعلوم أهنا موجودة عنده‪ ،‬ومل نقل أهنا موجودة بهت‪ ،3‬إذا كل هذه‬
‫موجودة عنده وليست به وألن وجودها إما بغري واسطة‪ ،‬أو بواسطة املالئكة املوكل هبذه األمور احلادثة املعلولة‪،‬‬
‫‪4‬‬
‫يف نظرية الفيض‪ ،‬كما هي عند إبن سينا الذي يرى بأن واهب الصور هو‬ ‫وهذا ما يؤكده الفالسفة املسلم‬
‫العقل الفعال‪.‬‬

‫‪ - 1‬املصدر السابق ص ‪.195‬‬


‫‪ - 2‬املصدر السابق ص ‪196‬‬
‫‪ - 3‬املصدر نفسه ص ‪.197‬‬
‫‪ - 4‬علي ليكي‪ ،‬فكرة العلية يف فلسفة الغزايل‪ ،‬ديوان املطبوعات اجلامعية‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬د‪/‬ط‪ ،‬د‪/‬س‪ ،‬ص ‪.333‬‬
‫‪202‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬
‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫ال عالقة علية إذن بوجه من الوجوه ب املمكنات‪ ،‬ولكن تفسري حدوث حادثة بعد أخرى باطراد العادة‬
‫ليس إال إذا كان اإلحراق حيدث عقيب مماسة النار‪ ،‬والري بعد شرب املاء‪ ،‬فليس للمماسة وال للشرب دخل يف‬
‫وجود اإلحرتاق والري‪ .‬بل الكل حدث طبقا لقانون جالم مرغم له أن يوجد اإلحرتاق بدون مماسة أو الري بدون‬
‫الشرب‪.‬‬
‫ولكن النتائري اليت تنتري عن إنكار العلية كافية هلدم حقائق العلوم كلها‪ ،‬فإن العلوم كلها تستند إىل هذا‬
‫القانون‪ ،‬وهذا يتدرجا بنا إىل لون آخر من املناقشة‪ ،‬وهذا ما حاول الفالسفة إلزام الغزايل به‪ ،‬من حماالت شنيعة‬
‫نتيجة إرجاعه كل فعل إىل ذات اإلرادة املطلقة‪.1‬‬
‫تنبه الغزايل إىل هذا يف قوله تفإن قيل‪ :‬فهذا جير إىل ارتكاب جماالت شنيعة‪ ،‬فإنه إذا أنكرت لزوم‬
‫املسببات عن أسباهبا وأعيف إىل إرادة خمرتعها ومل يكن لإلرادة أيضا منهري خمصوص متع بل أمكن تفننه وتنوعه‬
‫فليجول كل واحد منا أن يكون ب يديه سباع عارية ونريان مشتعلة وجبال راسية وأعداء مستعدة باألسلحة وهو‬
‫ال يراها ألن ا هل تعاىل ليس خيلق الرؤية له‪ .‬ومن وعع كتابا يف بيته فليجول أن يكون قد انقلب عند رجوعه إىل‬
‫بيته غالما عاقالً متصرفا أو انقلب حيوانا‪ ،‬أو ترك غالما يف بيته فليجول انقالبه كلبا أو ترك الرماد فليجول انقالبه‬
‫مسكا وانقالب احلجر ذهبا والذهب حجرات‪.2‬‬
‫ولكن الغزايل جييب بقوله‪ :‬ت إن ثبت أن املمكن كونه ال جيول أن خيلق لإلنسان علم بعدم كونه لزم هذه‬
‫احملاالت‪ .‬وحنن ال نشك يف هذه الصور اليت أوردمتوها فإن ا هل خلق لنا علما بأن هذه املمكنات مل يفعلها ومل ندع‬
‫أن هذه األمور واجبة بل هي ممكنة جيول أن تقع وجيول أن ال تقع واستمرار العادة هبا مرة بعد أخرى يرسخ يف‬
‫أذهاننا جرياهنا على وفق العادة املاعية ترسخاً ال تنفك عنهت‪.3‬‬
‫هكذا يلجأ الغزايل إىل ا هل على أنه الضامن هلذا العلم بعدم فعله هذه املمكنات‪ ،‬وثبات جمرى العادة‬
‫الذي ليس عرورري هو الذي ميد إعتقادنا يف العادة بأسسه‪،4‬‬
‫إذا حسب الغزايل أن من املسلم به أن النار خلقت‪ ،‬ايث إذا تالقت مع قطعت متماثلت أحرقتهما‪،‬‬
‫ومل تفرق بينهما طاملا كانتا متماثلت من مجيع الوجوه ولكن مع هذا جيول أن يلقى شخص يف النار فال حيرتق‪،‬‬
‫فقد تتغري صفة النار أو تتغري صفة الشخص‪.‬‬

‫‪ - 1‬املرجع السابق ص ‪335‬؟‬


‫‪ - 2‬أبو حامد حممد الغزايل‪ ،‬هتافت الفالسفة‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.198‬‬
‫‪ - 3‬املصدر نفسه ص ‪.199‬‬
‫‪ - 4‬أبو يعرب املرلوقي‪ ،‬مفهوم السببية عند الغزايل‪،‬دار بوسالمة للطباعة والنشر‪ ،‬تونس‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬ص ‪.106‬‬
‫‪203‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬
‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫إن أهم ما نالحظه يف هذا البحث الذي تناوله الغزايل من أطرافه العلمية كلها‪ ،‬ونعتقد أنه قد سبق يف‬
‫ذلك العلماء التجريبي الذين جاؤوا فيما بعد‪ ،‬أنه مل يكن مهتم بالرابطة الضرورية أهي موجودة أم ال يف الوجود‪،‬‬
‫لذلك ال يتكلم عن إنعدام النظام يف غياب الضرورة‪ ،‬بل يريد الغزايل أن يعلمنا أن املعرفة التجريبية هلا مدى‬
‫وجودي‪ ، 1‬فنبه الغزايل إىل ما مساه باليق التدرييب‪ ،‬موعحا الفرق الدقيق‪ ،‬الذي ال يتبينه كثري من الباحث ‪ ،‬بينه‬
‫وب اليق العلمي‪.‬‬
‫اليق العلمي هو ذاك الذي يأيت مثرة لرباه علمية قاطعة جمردة‪ ،‬بعيدا عن سلطان النفس وتأتراثها‪،‬‬
‫وهو حيتاج كما يقرر الغزايل يف أكثر من موعع يف كتابه (اإلحياء)‪ ،‬إىل معاناة دائبة هتدف إىل حترير العقل من‬
‫أهواء النفس وأوهامها‪ ،‬كما حيتاج إىل تعبيد الطريق إليه وتصفيته من تعاريري الزغل الفكري وتضاريس الظنون‬
‫والعصبيات‪.‬‬
‫أما اليق التدرييب فهو ما توافرت له الرباه اليت تكسب النفس طمأنينة إليه وثقة بإمكان اإلعتماد عليه‬
‫دون أن تصاحبها براه علمية قاطعة‪ .‬ومن أبرل األمثلة فيما يراه الغزايل‪ ،‬تلك اإلقرتانات املستمرة ب أمرين‬
‫سا بق والحق‪ ،‬ايث يتخيلها الناظر لطول اإلقرتان أسبابا ومسسبات‪ .‬ذلك ألن طول اإلقرتان ب أمرين دون‬
‫وجود أي إنفكاك بينهما يورث النفس طمأنينة بأن اإلقرتان سيستمر وأن شذوذا لن يقع يف العالقة القائمة‬
‫بينهما‪ ،‬وذلك كيق النفس بأن النار ستظل حترق‪ ،‬إعتمادا على التجارب الكثرية املاعية اليت مل يظهر فيها أي‬
‫ختلف وشذوذ‪.‬‬
‫ويقرر الغزايل أن هذا اليق ‪ ،‬وإن مل يكن علميا‪ ،‬ففيه من القوة ما يكفي لإلعتماد عليه يف إقامة أنظمة‬
‫احلياة‪ ،‬والتعامل معها طبقا لنواميس القائمة‪ .‬وذلك كي ال يقع اإلنسان يف تيه وإعطراب وس اإلحتماالت‬
‫العقلية اليت قد جتعله ال يثق بشئ‬
‫رأى الغزايل التعارض ب املنطق اليوناين والنقل‪ ،‬فلم ير بدا من القضاء على األول لكي ينقد الثاين‪ .‬وقد‬
‫تابع الغزايل مفكر عاصره ومات بعده بقليل الشهرستاين‪ ،‬فرب أيضا نقد العلية‪ ،‬وخرق العادة مبعجزات األنبياء‪،‬‬
‫مث عرض األشعري املتأخر إبن خلدون لنظرية األشعرية يف العلية عرعا فاتنا يف مقدمته‪.2‬‬
‫‪ )2‬نقد إين رشد لمفهوم العلية عند الغزالي‬

‫‪ - 1‬املرجع نفسه ص ‪.106‬‬


‫‪ - 2‬علي سامي النشار‪ :‬مناهري البحث عند مفكري اإلسالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.158‬‬
‫‪204‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬
‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫لقد تقدم قولنا أن النتائري اليت يفضي إليها تصور الغزايل للعلية‪ ،‬كفيل بتدمري كل العلوم‪ ،‬فإعتقاد أن العلة‬
‫ليست عالقة عرورية يعين أنه ميكن أن حيدث أي شئ من أي شئ‪ ،‬وال خيفى علينا خطورة هذا يف كل جماالت‬
‫احلياة‪ ،‬وقد قدمنا كذلك بأن الغزايل تنبه إىل هذه النتيجة اخلطرية‪ ،‬وتدارك ذلك ليقرر بأن اإلقرتان ب العلة‬
‫واملعلول عروري ومستمر‪ ،‬ليبقى نظام الكون تابع لنواميس قائمة حددها ا هل‪ ،‬كما خلق يف اإلنسان علما بذلك‪،‬‬
‫غري أن هذا اإلقرتان ليس واجب عقليا وإمنا هو من املمكنات‪.‬‬
‫إن هذا التفسري الغزايل برد نتائري تصوره للعلة إىل ا هل‪ ،‬نرى أنه أخرجه عن إطاره الفلسفي إىل ما هو‬
‫ثابت يف العقائد الدينية األشعرية‪ ،‬فكان ال بد عليه وهو يناقش احلكماء يف كتابه التهافت‪ ،‬أن يلتزم باملنهري‬
‫العقلي الذي صارع به الفالسفة‪ ،‬أي كان لزاما عليه أن يب وفق املنهري العقلي الذي أنتهجه أن يوعح كيف‬
‫خيلق ا هل ذلك العلم يف ذهن اإلنسان يف أن اإلقرتان ب السبب واملسبب دائم وال ينقطع‪.‬‬
‫إن أهم إنتقاد وجه للغزايل وهو الذي يعنينا من ب اإلنتقادات األخرى‪ ،‬هو ذلك الذي سجل يف تاريخ‬
‫الفكر الفلسفي اإلسالمي‪ ،‬ب الغزايل وإبن رشد (‪ 1)1198-1126‬يف كتابه هتافت التهافت الذي وععه‬
‫خصيصا للرد على مسائل كتاب هتافت الفالسفة الغزايل‪.‬‬
‫ميكن أن نقسم نقد إبن رشد إىل ثالثة الطرق‪ ،‬أوهلا نقده على املنهري املتبع لدى الغزايل يف نقد‬
‫الفالسفة‪ ،‬والثاين النقد الكالمي املتضمن الرد عليهم يف قسم اإلهليات‪ ،‬مث النقد الفلسفي‪.‬‬
‫بداية يعيب إبن رشد على الغزايل إختياره املنهجي‪ ،‬يف وجه ‪ :‬األول‪ :‬الغزايل هدفه التشكيك يف آراء‬
‫الفالسفة فق وهو ال يب غريها بيانا إجيابيا‪ ،‬الثاين‪ :‬دحض الغزايل ألفكار الفالسفة كان من خالل أقواهلم عن‬
‫طرق تركيبها وتقطيعها قصد نقضها وال يعتمد املوعوع الدروس‪.2‬‬
‫أما النقد الكالمي نلخصه يف ثالثة نقاط‪:‬‬
‫سن َِّة‬ ‫ِ ِ‬
‫‪ -‬أن نفي السببية وعرورهتا عند الغزايل هو تكذيب هل ذاته حسب إبن رشد يف قوله فَةلَ ْن تَج َد ل ُ‬
‫سن َِّة اللَّ ِه تَ ْح ِو ايًل [فاطر‪ ،]43/‬فا هل ذاته يؤكد إذن أن جريان العامل عرورري ومستمر على‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫الله تَة ْبد ايًل َولَ ْن تَج َد ل ُ‬

‫‪ - 1‬حممد بن أمحد بن رشد‪ ،‬يكىن بأبا الوليد‪ ،‬ويلقب باحلفيد متييزا له عن أبيه وجده اللذين كان قاعي وفقيه مشهورين‪ ،‬إهتم مبشكلة العقل‬
‫والنقل وما بينم من إتصال‪ ،‬ظفر بشهرة مل حيظى ه ا أي فيلسوف إسالمي وقرن بأرسطو أجيابا أو سلبا (أنظر موسوعة الفلسفة لعبد الرمحن بدوي ج‪1‬‬
‫ص ‪.)19‬‬
‫‪ - 2‬أبو يعرب املرلوقي‪ ،‬مفهوم السببية عند الغزايل‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.131‬‬
‫‪205‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬
‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫وترية واحدة وليس على جمرى العادة‪ ،1‬وما كان ساريا بصفة مستمرة وعلى من مع ‪ ،‬وعروري يف الوقت ذاته‬
‫فهو عقلي‪.‬‬
‫– كما أن نفي احلتمية السببية جيعل الداللة على وجود ا هل أمر متعذرا‪ ،2‬يعرب عن إبن رشد بقوله‬
‫توينبغي أن من حد كون األسباب مؤثرة بإذن ا هل يف مسبباهتا‪ ،‬أنه قد أبطل احلكمة وأبطل العلم [‪ ]...‬والقول‬
‫بنفغي األسباب يف الشاهد ليس له سبيل إىل إثبات سبب فاعل يف الغائب‪ ،‬ألن احلكم على الغائب من ذلك‬
‫إمنا يكون من قبل احلكم على الشاهد‪ ،‬فهؤالء ال سبيل هلم إىل معرفة ا هل تعاىلت‪.3‬‬
‫‪ -‬يؤدي هذا النفي حسب إبن رشد إىل الدهرية حتما‪ ،‬ألن العامل إذا كان ممكنا وليس عروري اجلريان‪،‬‬
‫فإنه ال توجد أي حكمة منه يقول إبن رشد توباجلملة مىت رفعنا األسباب واملسببات مل يكن ههنا شئ يرد به‬
‫على القائل باإلتفاق أعين الذين يقولون ال صانع ههنا وإمنا مجيع ما حدث يف العامل إمنا هو عن األسباب‬
‫املاديةت‪.4‬‬
‫كذلك فمل النقد الفلسفي يف ثالثة نقاط‪:‬‬
‫‪ -‬يريد إبن رشد أن يبقي على التصور األرسطي للعلة‪ ،‬باعتبارها عالقة عقلية عرورية‪ ،‬فريفض تصور‬
‫الغزايل واألشاعرة ويصف إنكار وجود األسباب الفاعلة اليت نشاهدها يف احملسوسات هو قول سفسطائي‪ ،‬ال‬
‫يستطيع صاحبه أن يعرتف أن كل فعل ال بد له من فاعل‪ ،‬والقول بأن األفعال الصادرة عن العلة ليس بقوة كامنة‬
‫فيها‪ ،‬بل بقوة مفارقة حيتاج إىل اث وفحص كثري‪ ،‬ذلك أن ل شياء ذوات وصفات هي اليت إقتضت األفعال‬
‫اخلاصة هبا‪ ،‬وإختلف مبوجبها ذوات األشياء وأمساؤها وحدودها‪ ،5‬وعليه يكون إنكار وجود األسباب إنكارا‬
‫ل شياء ذاهتا وال تصبح متميزة عن بعضها يف اإلسم والفاعلية‪ ،‬والعقل عند إبن رشد ليس هو شئ أكثر من‬
‫إدراكه املوجودات بأسباهبا وبه يفرتق من سائر القوى املدركة فمن رفع األسباب رفع العقل‪ ،6‬وهذا يعين أن إقرار‬

‫‪ - 1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.56‬‬


‫‪ - 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪56‬‬
‫‪ - 3‬أيب الوليىىد إبىىن رشىىد‪ ،‬الكشىىف عىىن منىىاهري األدلىىة يف عقائىىد أهىىل امللىىة‪ ،‬مركىىز دراسىىات الوحىىدة العربيىىة‪ ،‬بىىريوت‪-‬لبنىىان‪ ،‬الطبعىىة األوىل‪ ،1998 ،‬ص‬
‫‪.327‬‬
‫‪ - 4‬أبو يعرب املرلوقي‪ ،‬مفهوم السببية عند الغزايل‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪.57‬‬
‫‪ - 5‬أيب الوليد إبن رشد‪ ،‬هتافت التهافت‪ ،‬دار الفكر اللبناين‪ ،‬بريوت‪-‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،1993 ،‬ص ‪.290‬‬
‫‪ - 6‬املرجع نفسه ص ‪292‬‬
‫‪206‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬
‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫مبدأ السببية واحد من أهم مقومات العقل‪ ،‬واملنهجية العقلية اليت تبىن عليها العلوم الضروررية‪ 1‬العقل حسب إبن‬
‫إرشد من نفى عقالنية العالقة ب العلة واملعلول فهو بذلك أنزل القوى املدركة لإلنسان مبرتبة أدىن‪.‬‬
‫‪ -‬يلزم إبن رشد الغزايل واملتكلم ‪ ،‬بنقضهم عرورة اإلرتباط ب األسباب أن ينفو أيضا مبدأ التناقض‪،2‬‬
‫يقول إبن رشد تذهب بعض أن ا هل تعاىل يوصف بالقدرة على مجع املتقابل ‪ ،‬وشبهتهم أن قضاء العقل منا‬
‫بامتناع ذلك إمنا ذلك إمنا هو شئ طبع عليه العقل‪ ]...[ ،‬وهؤالء يلزمهم أال يكون للعقل طبيعة حمصلة وال‬
‫للموجودات وال يكون الصدق املوجود فيه تابعا بوجود املوجوداتت‪ ،3‬أي أن األشاعرة حسب إبن رشد‪،‬‬
‫بامتناعهم الضرورة ب املسسببات إمنا ذلك من طباع العقل‪ ،‬أن مينع ما يشاهده احلس‪ ،‬وهذا يعين أن العقل ال‬
‫يصادق احلس بل يكذبه‪.‬‬
‫‪ -‬إن فكرة العادة اليت قال هبا الغزايل‪ ،‬هىي حسب إبن سوى مراوغة وخداع لتمرير‪ ،‬رأيه‪ ،‬كما أهنا مبهمة‬
‫وال حتل مشكلة معرفية‪ ،‬والغزايل جاء به يف مقابل الطبيعة الذي ترتكز عليه‪ ،‬ونقد هذا املفهوم ميثل حمور رد إبن‬
‫رشد على الغزايل يف تصوره للسببية‪.4‬‬
‫‪ )3‬مفهوم العلية عند دفيد هيوم (‪*)1776-1711‬‬
‫من املعروف أن مفهوم السببية من ب املفاهيم األساسية اليت أقيم عليها العلم التجرييب‪ ،‬يقول أرسطو‪:‬‬
‫تإن العلم هو معرفة األسبابت‪ ،‬فمن املستحيل أن يقوم االستدالل العملي دون قيام مبدأ السببية‪ ،‬بل ميكن القول‬
‫بأن كل املعارف البشرية قائمة على مبدأ السببية‪ .‬وبدون هذا املبدأ ال ميكن للعقل البشري أن يتجاول االنطباعات‬
‫احلسية اليت يكتسبها‪.‬‬
‫وملا كان املذهب التجرييب ال يرى يف العلة معىن الضرورة‪ ،‬وهذا يعين أنه ال ميكن أن نبين علوم من غري‬
‫الضرورة‪ ،‬من هنا بد أ احلسيون يفكرون يف حل إشكالية العلية تنسجم مع مذهبهم التجرييب‪ ،‬ولعل أبرل شخص‬
‫فكر يف ذلك الفيلسوف األسكتلنذي دفيد هيوم ليقرتح حال أو تفسريا سيكلوجيا خيلص به املذهب التجرييب يف‬
‫واحدة من أعظم املشكالت اليت جعلت منه ينعت مبذهب شكي‪.‬‬

‫‪ - 1‬رعا سعادة‪ ،‬مشكلة الصراع ب العقل والدين‪ ،‬دار الفكر اللبناين‪ ،‬بريوت‪-‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،1990 ،‬ص‪.129‬‬
‫‪ - 2‬أبو يعرب املرلوقي‪ ،‬مفهوم السببية عند الغزايل‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.58‬‬
‫‪- 3‬أيب الوليد إبن رشد‪ ،‬هتافت التهافت‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.290‬‬
‫‪ - 4‬أبو يعرب املرلوقي‪ ،‬مفهوم السببية عند الغزايل‪ ،‬مرجع سابق ‪.58 ،‬‬

‫‪207‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬


‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫إن ديفيد هيوم أول من وعع مشكلة العلية يف إطارها العلمي الصحيح‪ ،‬وانتهت حتليالته إىل أن‬
‫العالقة العلية هي العالقة الوحيدة اليت تنقل الذهن إىل أبعد مما هو حمسوس‪ ،‬إهنا املربر الوحيد لالستدالل على‬
‫متسائال ‪:‬على أي أساس نستنتري أن العلل املعينة سوف يكون هلا‬
‫ً‬ ‫الوقائع‪ ،‬ومع هذا راح يتشكك فيها ويفحصها‬
‫بالضرورة تلك املعلوالت املعينة؟ ملاذا نستدل من إحدامها على األخرى‪ ،‬وذلك هو التساؤل الذي اختذ فيما بعد‬
‫شكال أكثر عمومية كاآليت ‪:‬ملاذا خنرج من اخلربة التجريبية الراهنة بأية استنتاجات تتجاول احلاالت املاعية اليت‬
‫ً‬
‫مرت خبربتنا؟ أي‪ :‬ملاذا منارس االستقراء؟‪.1‬‬
‫كان يعترب هيوم العلية تصورا أساسيا يف حياة الرجل العادي ويف نظريات املعرفة عند كثري من الفالسفة‪.‬‬
‫كان يعتقد الرجل العادي أن لكل حادثة ولكل شئ علة وأن العلية مبدأ واجب التسليم وأنه ليس موعوعا‬
‫للشك وأنه يرتتب على الشك فيه إعطراب سلوكه يف حياته العملية – يضطرب سلوكه لو وجد الشمس يف‬
‫الصباح ومل ير يرى الضوء والنهار‪ ،‬أو وجد النار جبانب مواد قابلة لإلحرتاق ومل حترتق‪ ،‬أو وجد الثلري يتساق ومل‬
‫يشعر بالربودة وهكذا‪ .‬ومن الواعح أن النظرية اليت سادت منذ أيام أرسطو حىت العصر احلديث عن طبيعة العلم‬
‫والقانون هي أنه البحث عن العلل مبدأ قائم يف العقل‪ ،‬وأنه مبدأ عروري‪ ،‬وأنه ال ميكن إنكاره أو تصور نقيضه‪،‬‬
‫وأنه مبدأ فطري فينا منذ نشأتنا‪ ،‬أو أن لدينا إستعدادا طبيعيا لإلعتقاد به ح تنشأ يف اخلربة ما يكشف عنه‪ :‬هو‬
‫فينا مستقال عن اخلربة احلسية وإن مل حنس به إال بعد مواجهة تلك اخلربة وهبذا املعىن يسمى مبدأ العلية مبدأ‬
‫قبليا‪.2‬‬
‫حلل هيوم فكرة العلية فوجدها تتكون من ثالثة عالقات هي‪ ،‬اإلتصال‪ ،‬األسبقية الزمانية والضرروة‪.‬‬
‫األوىل عالقة اإلتصال‪ :‬يقول هيوم تأن فكرة العلية ال بد أن تكون مستمدة من بعض العالقة ب‬
‫األشياء‪ ،‬هذه العال قة ينبغي حماولة كشفها‪ ،‬يف املقام األول أجد األشياء اليت تعد علال ومعلوالت متصلة فيما‬
‫بينها‪ ،‬وال شئ يفعل يف الزمان واملكان إذا كان مفصوال عن الزمان واملكان الذي وجد فيه‪ ،‬بالرغم من أن بعض‬
‫األشياء املفصولة تنتري أشياء أخرى‪ ،‬ومع ليادة البحث يتب أهنا مرتبطة بسلسلة من العلل تربطها باألشياء‬

‫* قيلسوف جترييب وعامل إقتصاذ ومؤرخ إفليزي‪ ،‬ينفي أي دور للعقل‪ ،‬فيبين كل املعرفة على اإلدراكات احلسية أهم مؤلفاته اث يف العقل البشري‪،‬‬
‫رسالة يف الطبيعة البشرية‪ ،‬حماورات عن الدين الطبيعي (أنظر الدليل الفلسفي الشامل اجلزء الثالث لرحيم أبو رغيف املوساوي‪ ،‬دار احملجة البيضاء‪،‬‬
‫بريوت‪-‬لبنان‪،‬الطبعة األوىل‪ ،2015 ،‬ص ‪)631‬‬
‫‪ - 1‬املرجع سابق‪ ،‬ص ‪150‬‬
‫‪ - 2‬حممد فهمي ليدان‪ ،‬اإلستقراء واملنهري العلمي دار اجلامعات املصرية‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬د‪/‬ط‪ ،1977 ،‬ص ‪.104‬‬
‫‪208‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬
‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫املفصولة‪ ،‬ونبقى دائما نفرتض هذا اإلتصال حىت يف حالة عدم القدرة على كشفه‪ ،‬من هنا نعتقد أن عًلقة‬
‫اإلتصال أساسية وجوهرية للعليةت‪.1‬‬
‫الثانية عالقة األسبقية الزمانية‪ :‬يقول ت أما العالقة اجلوهرية الثانية يف العلل واملعلوالت يرفضها اجلميع‬
‫وهي قابلة للجدل‪ ،‬وهي األسبقية الزمانية للعلة عن املعلول‪ ،‬فريى البعض أن هذه األسبقية غري عرورية إذ ميكن‬
‫أن حيدث الفعل يف اللحظة نفسها‪ ،‬وبالرغم من أن التجربة تكذب ذلك يف غالب األحوال إال أننا نستطيع أن‬
‫نقرر ذلك عن طريق اإلستنتاج أو الربهانت‪.2‬‬
‫يتب لنا مما سبق أن هيوم مل ينكر أن لكل حادثة علة؛ بل جاء ليقوض النظريات العقلية يف مصدر‬
‫إعتقادنا مببدأ العلية و تفسري الفالسفة العقلي له‪ ،‬فريى هيوم أن تصور العلية تصور معقد وليس بسيطا‪ ،‬إذ‬
‫يتضمن ثالثة أفكار وهي السبق واجلوار املكاين والضرورة كما بينا سلفا من أقواله‪ .‬ومل يشكل السبق واجلوار‬
‫مشكلة لديه إذ ال توجد صعوبة يف فهمها‪ ،‬ولكنه رأى أن فكرة الضرورة يف العالقة العلية فكرة تستلزم التحليل‪،3‬‬
‫فيقول ت الشئ قد يكون متصال بشئ آخر وسابقا عنه يف الزمان دون إعتباره علة له‪ ،‬هناك العالقة الضرورية اليت‬
‫ال بد أن نأخذها باإلعتبار‪ ،‬وهذه العالقة مهمة كثريا من العالقات األخرىت‪.4‬‬
‫لقد لعم الفالسفة العقليون أن عالقة العلية تتضمن فكرة الضرورة وكان يقصدون أنه إذا حدثت العلة‬
‫جيب أن يتبعها حدوث املعلول‪ ،‬وكأن الوجوب عندهم وجوب منطقي أي ما ال ميكن إنكاره‪ ،‬ألهنا عرورة آتية‬
‫من العقل بطرق فطري أو قبلي‪ ،5‬فعندما ننظر حولنا من إىل املوعوعات اخلارجية‪ ،‬وعندما نعترب عمل األسباب‪،‬‬
‫فإننا ال نستطيع من خالل حالة مفردة أن نكتشف أي تأثري أو إرتباط عروري‪ ،‬وال أي خاصية تشد املفعول إىل‬
‫السبب‪ ،‬وجتعل أحدمها إستتباعا لآلخر ال يتخلف عنه أبدا‪ ،‬وإمنا فد فق أن أحدمها يتبع اآلخر تباعا فعليا‪....‬‬
‫إنه ال يبدو أن يف الطبيعة حالة واحدة من حاالت اإلرتباط‪ ،‬ميكن تصورها‪ ،‬فكل األحداث تبدو سائبة منفصلة‪،‬‬
‫حدث يتبع حدث‪ ،‬ولكننا ال نستطيع أن نبصر أي راب بينهم‪ ،‬فتبدو األحداث مقرتنة ولكنها التبدو أيضا‬

‫‪1‬‬
‫‪-David HUME, Traité de la nature humaine, Livre I de l'Entendement, traduit de l'anglais‬‬
‫‪par Philippe Folliot, Édition numérique réalisée le 28 janvier 2005 à Chicoutimi, Ville de‬‬
‫‪Saguenay, province de Québec, Canada. Texte revu et corrigé le 11 décembre 2009. P 83.‬‬
‫‪ - 2‬املصدر نفسه‪ .‬ص ‪.83‬‬
‫‪ - 3‬حممد فهمي ليدان‪ ،‬اإلستقراء واملنهري العلمي ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.105‬‬
‫‪4‬‬
‫سبق ذكره ‪- Traité de la nature humaine, P84,‬‬
‫‪ - 5‬حممد فهمي ليدان‪ ،‬اإلستقراء واملنهري العلمي ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.105‬‬
‫‪209‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬
‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫مرتابطة‪ ،1‬يعلمنا هيوم أنه ال ميكننا القول بأن للعلية الضرورة العقلية أو القبلية أو املنطقية؛ يعلمنا هيوم أنه ال‬
‫ميكننا القول بأن جمرد حتليل العلة يتضمن وجود املعلول كأحد عناصرها‪ ،‬أو أن حتليل احمللول يتضمن علته‪ .‬يرى‬
‫هيوم أننا ال نستطيع أن نكتشف بطريق قبلي الدفء أي أن حتليل معىن الدفء ال يتضمن يف ذاته عنصر النار أو‬
‫حرارة الشمس‪ ،‬وحتليل معىن النار ال يتضمن عنصر الدفء‪ .‬حتليل معىن النار يتضمن معرفة للعناصر الطبيعية‬
‫والكيمياوية اليت أدت إىل إحداث النار‪ ،‬ولكن ليس الدفء أحد تلك العناصر‪ .‬حتليل معىن اخلبز يتضمن ما‬
‫يتألف منه من عناصر مثل القمح أو الذرة مطحونة مضافا إليها املاء وهليب النار وليس التغذي أو سد اجلوع أحد‬
‫تلك العناصر‪ .‬ميكنك تصور النار دون تصور اإلحرتاق أو الدفء أو تصور اخلبز دون تصور التغذي‪ .‬التصوران‬
‫خمتلفان وليس الواحد منهما داخال يف حتليل اآلخر‪ .‬ليست للعالقة العلية الضرورة املنطقية اليت لعالقة التعريف‬
‫باملعرف مثال أو للبديهيات كقولنا أن املثلث شكل حماط بثالثة خطوط مستقيمة متقاطعة أو أن اجلزء أصغر من‬
‫الكل أو أن نزول املطر يبلل الطرق‪ ،‬إن حتليل املوعوع يف كل من تلك العبارات يؤدي إىل أن احملمول يساويه أو‬
‫هو جزء منه‪ ،‬ايث يرتتب على إنكارنا لتلك القضايا وقوع يف التناقض أو أن تصور نقيض تلك القضايا تصور‬
‫مستحيل لدى العقل‪ .‬إن خالصة هذه الفكرة أن القول بان لكل حادثة علة ليست قضية حتليلية‪.2‬‬
‫ينتقل هيوم إىل مناقشة أن ملبدأ العلية مصدره التجرييب‪ .‬يطبق معياره األساسي لصدق األفكار فيتساءل‬
‫هل ب أفكارنا فكرة الضرورة؟ جييب بالنفي‪ .‬ح ننظر إىل األشياء واحلوادث يف العامل اخلارجي تلك اليت نقول‬
‫أن بينها عالقات علية‪ ،‬فإننا ال نكتشف أي عالقة عرورية ترب املعلول بالعلة وجتعل املعلول نتيجة ال مناص‬
‫منها بعد حدوث العلة‪ .‬إن ما نراه يف احلقيقة هو أن شيئ أو حادثت تتابعتا يف احلدوث أمام إدراكنا‪ .‬حيدث يل‬
‫إنطباع حسي ح أرى الشمس يف الصباح مث يتبعه إنطباع رؤية الضوء‪ .‬ما حدث إمنا هو تتابع أو تاللم ب‬
‫إنطباع ‪.‬‬
‫فإذا إنتقلنا من جمال مالحظة احلوادث الطبيعية إىل جمال املالحظة الذاتية ألنفسنا‪ ،‬يتساءل هيوم هل‬
‫نعثر ع لى إنطباع حسي أو فكرة إمسه الضرورة؟ قد يقال إننا نشعر يف داخلنا بقوة خفية هي إرادتنا مثلما حيدث‬
‫ح أريد حتريك عضو ما يف جسمي مث يليه حتريك ذلك العضو – أليست العالقة ب اإلرادة واحلركة عالقة‬
‫علية؟ يرد هيوم على هذا السؤال بقوله إننا ال نعرف معرفة دقيقة كيف يتم الفعل اإلرادي‪ ،‬وال نعرف ما ذا يتم يف‬
‫أنفسنا قبل أن يتحرك العضو املراد حتريكه‪ ،‬وال نعرف حقيقة العالقة ب الفعل اإلرادي واحلركة العضوية‪ .‬إن معرفة‬

‫‪ - 1‬دافيد هيوم‪ ،‬حتقيق يف الذهن البشري‪ ،‬ترمجة حممد حمجوب‪ ،‬املنظمة العربية للرتمجة‪ ،‬بريوت –لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،2008 ،‬ص‪.106‬‬
‫‪ - 2‬حممد فهمي ليدان‪ ،‬اإلستقراء واملنهري العلمي ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.105‬‬
‫‪210‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬
‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫تلك العالقة إمنا هي معرفة العالقة ب العقل والبدن‪ ،‬وذلك هو السر األعظم‪ .‬ال ينكر هيوم عالقة العلية ب‬
‫اإل رادة وحركة األعضاء ولكنه ينكر أن تلك العالقة تتضمن معىن الضرورة باملعىن التحليلي‪ .‬كل ما نعرفه عن تلك‬
‫العالقة هو إرتباط حادثت معا‪.‬‬
‫ينتقل هيوم من ذلك إىل القول بان ليس مصدر تصور العلية أساسا فطريا أو قبليا‪ ،‬وإمنا أساس جترييب‪،‬‬
‫وجترييب مبعىن حمدد هو إدراك تتابع حادثت وتاللمهما تاللما متكررا‪ ،‬وأن إدراك هذا التاللم املتكرر يؤدي بعقولنا‬
‫إىل تكوين تعادةت عن هذا اإلرتباط لدرجة إننا ح نرى احلادثة تأت يف املستقبل نتوقع حدوث احلادثة تبت اليت‬
‫إرتب حدوثها يف إدراكنا املاعي ادوث تأت‪ .‬تصور العلة إذن عروري‪ ،‬ولكن ليست الضرورة منطقية وال قبلية‬
‫وإمنا هي عرورة نفسية أساسها إدراك تاللم لوج من احلوادث وإرتباط ذلك التاللم يف الذهن وتكوين عادة عن‬
‫توقع ذلك التاللم يف املستقبل‪ .‬تلك الضرورة بالتوقع وتكوين العادة تؤدي إىل اإلعتقاد بتصور العلية‪.1‬‬
‫ينتهي هيوم بتعريف للعلة بتعريف السبب على أنه تموعوعا يتبعه موعوع‪ ،‬ايث تكون كل املوعوعات‬
‫املماثلة ل ول متبوعة مبوعوعات مماثلة للثاينت‪ ،‬ويضيف تعريف أخر للسبب فيسميه تموعوعا متبوع مبوعوع‬
‫آخر‪ ،‬وحيمل ظهوره الفكر دوما إىل ذلك اآلخرت‪ .2‬إن هذا التعريف يعتربه يراه وليم كلي رايت يف كتابه تاريخ‬
‫ال فلسفة احلديثة وأن هيوم يقصد به أنه نفرض يف مجيع احلاالت اليت نستطيع أن نالحظ فيها موعوعا معينا أو‬
‫حدثا وليكن (أ)‪ ،‬يتبعه باستمرار موعوع آخر أو حدث وليكن (ب)‪ ،‬وانه يف مجيع احلاالت اليت نستطيع أن‬
‫نالحظ (ب) فد أن (أ) يسبقه على الدوام‪ ،‬فإننا نستطيع أن نستنتري أن (أ) هي علة (ب)‪ ،‬وأن (ب) تتبعها‬
‫باستمرار يف احلاالت املستقبلية‪ ،‬أننا نكون على يق من الناحية العملية من هذه النتيجة‪ ،‬على الرغم من أننا ال‬
‫نستطيع أن نربهن عليها بطريقة رياعية‪ .3‬وطبقا هلذا يعترب مبدأ السببية عند هيوم تدبريا من أجل أغراض عملية‪،‬‬
‫وهو يتعامل م ع الوقائع اليت ميكن رؤيتها مباشرة‪ ،‬وينبئنا مبدأ السببية بأن هناك دائما سببا مناسبا ميكننا أن حنصل‬
‫به على النتيجة املنشودة‪.4‬‬
‫‪ )4‬نقد مفهوم العلية عند هيوم‪:‬‬

‫‪- 1‬املرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.106‬‬


‫‪ - 2‬دافيد هيوم‪ ،‬حتقيق يف الذهن البشري‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.109‬‬
‫‪ - 3‬وليم كلي رايت‪ ،‬تاريخ الفلسفة احل ديثة‪ ،‬ترمجة حممود سيد أمحد‪ ،‬التنوير للطباعة والنشر والتوليع‪ ،‬بريوت‪-‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،2010 ،‬ص‬
‫‪.212‬‬
‫‪ - 4‬فليب فرانك‪ ،‬فلسفة العلم الصلة ب العلم والفلسفة‪ ،‬ترمجة علي علي ناصف‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل‪،‬‬
‫‪1983‬ص ‪.343‬‬
‫‪211‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬
‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫لقد سبق القول أن هيوم أول فيلسوف وعع مشكلة العلة يف إطارها العلمي الصحيح‪ ،‬فقد نبه‬
‫على ما كان يعتقد أن العالقة ب العلة واملعلول عرورية‪ ،‬وأن العقل يظفر هبا بديهيا‪ ،‬لكن هيوم قام مبا ميكن أن‬
‫نسميه اجلانب اهلدمي‪ ،‬لكنه تركنا دون أن يب منشأ العالقة وأكتفى بالتفسري السيكولوجي مما أثار حافظة‬
‫الفالسفة‪ ،‬وهوجم تصور هيوم للعلية‪ ،‬ولنا على احلل اهليومي بعض التعليقات نراها أساسية ملعرفة ما وقع فيه هيوم‬
‫من الشك نتيجة حسيته‪.‬‬
‫يقوم التفسري السيكولوجي اهليومي على أسس أو خطوات أربعة تسري وفق بعضها البعض يف اإلنسان‪،‬‬
‫وهي اليت تنتري الضرورة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ -‬التتابع أو التعاقب‪ :‬يرى هيوم أنه مهما نظرنا إىل املوعوعات اخلارجية‪ ،‬ونعترب عمل األسباب‪ ،‬فإننا ال‬
‫نستطيع من حالة مفردة أن نكتشف أي ارتباط عروري‪ ،‬وإمنا فد فق أن أحدمها تتبع تبوعا فعليا‪،‬‬
‫فالدفع الصادر من كرة بلياردو مصحوب اركة يف الكرة الثانية‪ ،‬هو مجلة ما يظهر حلواسنا‪ ،‬أما الذهن‬
‫فال يشعر بإحساس أو إنطباع داخلي من هذا التعاقب يف املوعوعات‪.1‬‬
‫‪ -‬التكرار‪ :‬حسب هيوم أن فكرة اإلرتباط الضروري يف األحداث تنشأ من حصول عدد من احلاالت‬
‫املشاكلة لإلقرتان املنتظم لتلك األحداث‪ ،‬وليس حالة واحدة مفردة‪ ،‬ومع ذلك فليس مثة يف عدة‬
‫احلاالت ما ختتلف به عن حالة من احلاالت املفردة اليت نفرتض عمنا أهنا متشاكلة متام التشاكل‪ ،‬ما‬
‫عدا أنه بعد تكرر حاالت متشاكلة‪,2‬‬
‫يرى هيوم أن هذا التعاقب والتكرار مها مبدأين خارجي نصل هبم إىل املرحلة السيكولوجية‪ ،‬اليت‬
‫يتنري عنها عصر الضرورة ب العلة واملعلول وهو راجع إىل العملية العقلية اليت تستخدم يف الوصول إىل‬
‫هذا القانون ‪ ،‬إن إحدى عمليات العقل إذا كانت تستدعي عملية أخرى تتبعها بدون ختلف فإنه ينمو‬
‫ب العمليت مبضي الزمن رابطة قوية دائمة وهي اخلطوة الثالثة منسيها رابطة تداعي المعاني‪ ،‬ويصحب‬
‫هذا التداعي نوع من إلزام العقلي وهو اخلطوة الرابعة واألخرية فيحصل يف الذهن املعىن املتصل بإحدى‬
‫العمليت العقليت كما حدث املعىن املتصل بالعملية األخرى‪ ،‬هذا اإللزام العقلي هو أساس ما نسميه‬
‫بالضرورة اليت ندركها يف الرابطة ب العلة واملعلول‪.3‬‬

‫‪ - - 1‬دافيد هيوم‪ ،‬حتقيق يف الذهن البشري‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪94‬‬


‫‪ - 2‬املصدر نفسه ص ‪107‬‬
‫‪ - 3‬حممد باقر الصدر‪ ،‬فلسفتنا‪ ،‬دار التعارف للمطبوعات‪ ،‬يريوت – لبنان‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،2009 ،‬ص ‪121‬‬
‫‪212‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬
‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫نالحظ أن التفسري اهليومي يقوم على خطوت التعاقب والتكرار‪ ،‬جماهلم خارج الذهن‪ ،‬وخطوت‬
‫تداعي األفكار واإللزام العقلي جملهم الداخلي يف الذهن‪.‬‬
‫نسل اآلن الضوء على هذه اخلطوات‪ ،‬لنرى هل فعال تتم وفقهما العملية العقلية لنصل إىل مفهوم‬
‫العلية؟‬
‫‪ -‬إذا كان حسب هيوم أن العادة وحدها هي اليت أدت باإلنسان إىل استخالص النتائري‪ ،‬إذ توهم أنه ما‬
‫دامت احلوادث مرتبطة يف امل اعي فال بد أن ترتب كذلك بالتجارب املقبلة‪ ،‬وعليه فكرة السببية ذاتية‬
‫حمضة‪ ،‬وهي خدعة من اخليال الذي مييل إىل فرض الرابطة ب األشياء واحلوادث ليس هلا وجود إال يف‬
‫العقل الذي يدركها‪ ،1‬فلماذا يبذل هيوم جهدا يف سبيل تربير التوقع والبناء التلقائي احلاصل ب بين‬
‫اإلنسان يف حياهتم العامة لتتابع الوقائع وترتب حدوث األشياء على غريها؟ فإذا مل يكن للعلية معىن‬
‫فلماذا حياول هيوم تعليل بناء الذهن على االقرتان الدائم بالعادة؟ وملاذا العادة بالذات؟ مث يعرب عنه هيوم‬
‫بأنه مبدأ من مبادئ الطبيعة اإلنسانية يقر الكل بفاعليته‪.2‬‬
‫‪ -‬إن الضرورة اليت ندركها يف العالقة العلية ب العلة واملعلول‪ ،‬ال يوجد فيها أي أثر إللزام العقل باستدعاء‬
‫إحدى الفكرت عند حصول الفكرة األخرى فيه‪ ،‬ولذا ال ختتلف هذه الضرورة املدركة ب ما إذا كان‬
‫لدينا فكرة معينة عن الصلة وما إذا مل تكن‪ ،‬فليست الضرورة يف مبدأ العلية سيكولوجيا بل موعوعها‪،3‬‬
‫يعين أنه إذا إجتهنا إىل فكرة العلة واملعلول مبعزل عن الواقع اخلارجي مثل اإلحراق والنار‪ ،‬هل هذه الفكرة‬
‫بينهم عالقة عرورة يف الذهن أم يف اخلارج؟ فحسب هيوم الضرورة حالة ذهنية خارجية‪ ،‬ولكن لو إجتهنا‬
‫إىل كل العقول وتسألنا عن إدراك العالقة ب اإلحراق (املعلول) وب وجود النار (العلة)‪ ،‬وجدنا أن هلا‬
‫واقع خارجي موعوعي‪ ،‬أي إذ وجدت (أ) وجدت (ب)‪ ،‬ال بد من أكل الدواء ألجل الشفاء‪ ،‬ال بد‬
‫للموت بعد قطع الرأس‪ ،‬هذه بديهية خارجية حتمية وليست حتمية ذهنية‪ ،‬بل الذهن يدركها وينتزعها‬
‫من اخلارج‪ ،‬فإذا مشينا مع هيوم يصبح اخلارج بدون عرورة‪ ،‬وهذا يستلزم أن يصدر أي شئ من أي‬
‫شئ‪ ،‬وممكن أن تكون النار غري حمرقة‪ ،‬وهذا يشكل إهنيار للعلوم‪.‬‬

‫‪ - 1‬لكي فيب حممود وأمحد أم ‪ ،‬قصة الفلسفة احلديثة‪ ،‬مطبعة دار الكتب املصرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1936 ،‬ص ‪240‬‬
‫‪ - 2‬حممد ناصر‪ :‬هنري العقل‪ ،‬تأصيل األسس وتقومي النهري‪ ،‬دار احملب ‪ ،‬قم‪ ،2014 ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬ص ‪177‬‬
‫‪ - 3‬حممد باقر الصدر‪ ،‬فلسفتنا‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪122‬‬
‫‪213‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬
‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫‪ -‬إن فكرة العلية الذي نظفر هبا حسب النظرية اهليومية‪ ،‬هل ميكن نضيفها إىل العامل اخلارجي؟‪ ،‬ولنفرتض‬
‫مع هيوم أن العقل ال جيبب هنا ال بالنفي أو اإلجياب‪ ،‬وهذا يعين أن القضية اليت نتسائل عنها تهل‬
‫لفكرة العلية ب احلرارة والتمدد واقع موعوعي؟ت قضية مشكوك فيها أي حمتملة‪ ،‬هنا نود أن نعرف‪ :‬هل‬
‫باإلمكان أن فعل من التجربة مرجحا لإلعتقاد هبذه القضية‪ ،‬وسببا لتدعيم إحتمال صدقها؟ فحسب‬
‫هيوم يبدو ذل ك غري ممكننا كونه ال يرى يف التجربة واخلربة احلسية سندا إلثبات شئ إال إذا كان ظهر‬
‫مباشرة يف خربتنا احلسية‪ ،1‬وهذا يؤدي بنا إىل أنه ال سبيل إىل إثبات أي واقع موعوعي ال من التجربة‬
‫وال من اخلربة احلسية‪.‬‬
‫‪ -‬إذا كان هيوم ال يرى أي إعتقاد مبعرفة قبلية على التجربة فمن أين عثر على مبدأ عدم التناقض؟ وكيف‬
‫للتجربة أن متدنا به؟ مث كيف نستطيع أن نقيم العموم على ذلك؟‪ ،2‬فحسب ما يقرره هيوم مما قدمنا‪،‬‬
‫فإن ميكن القول أن شئ يوجد وال يوجد‪ ،‬وأن النار ممكن أن حترق وممكن أن الحترق‪ ،‬ومبدأ عدم‬
‫التناقض الذي ال ميكن لديفيد هيوم وال للتجريب أن يربهنوا عليه هو أهم مبدأ‪ ،‬تبىن عليه كل العلوم‬
‫سواء منها العقلية أو التجريبية‪ ،‬وبدونه تنهار كل العلوم‪.‬‬
‫‪ -‬من ب الفالسفة الذين سجلوا مالحظاهتم على تصور هيوم للعلية‪ ،‬فد الفيلسوف إميانويل كان الذي‬
‫يقر يف بداية كتابه مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة بالدور اهلام الذي لعبه هيوم يف فكر كان وأنه أيقظه من‬
‫سباته الدومجاطي‪ ،‬غري أنه سجل عليه مالحظات مهمة يرى كان أهنا السبب يف النتائري السلبية اليت‬
‫توصل إليها هيوم والضرر الذي أحلقه بالفلسفة‪ ،‬وهو أن هيوم توهم أن طبيعتنا ختضع ملبدأ واحد هو‬
‫مبدأ التناقض‪ ،‬وأنه يرى أن الرياعيات البحتة تتألف من القضايا التحليلية فق ‪ ،‬أما امليتافيزيقا فهي‬
‫تتألف من القضايا القبلية وحدها‪ ،‬وهذا حسب كان خطأ بليغ فمت عنه النتائري املؤسفة اليت أثرت‬
‫على نظرته كلها‪ ،‬ولو أنه توسع يف سؤاله عن أصل األحكام الرتكيبية الستطاع جتاول تصوره امليتافيزيقي‬
‫للعلية‪ ، 3‬ما حيدده كان بأنه مشكلة بالنسبة إىل هيوم هو أن املعرفة املفرتعة القبلية ليست شيئا آخر‬
‫سوى العادة املستحكمة‪ ،‬يف أجياد شيء صادق‪ ،‬إهنا عملية ذاتية تصف ذلك تومها‪.4‬‬

‫‪ - 1‬حممد باقر الصدر‪ ،‬األسس املنطقية لإلستقراء‪ ،‬مؤسسة العارف للمطبوعات‪ ،‬بريوت‪-‬لبنان‪ -‬الطبعة األوىل‪ 2008 ،‬ص ‪.101‬‬
‫‪ - 2‬حممد ناصر‪ :‬هنري العقل‪ ،‬تأصيل األسس وتقومي النهري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪177‬‬
‫‪ - 3‬إمانويل كان ‪ ،‬مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة‪ ،‬ترمجة ناليل إمساعيل حس ‪ ،‬موفم للنشر‪ ،‬الرغاية – اجلزائر‪،‬د‪/‬ط‪ ،1991 ،‬ص ‪16‬‬
‫‪ - 4‬بارتريىىك هيلىىي‪ ،‬صىىور املعرفىىة مقدمىىة لفلسىىفة العلىىم املعاصىىرة‪ ،‬ترمجىىة نىىور الىىدين شىىيخ عبيىىد‪ ،‬املنظمىىة العربيىىة للرتمجىىة‪ ،‬بىىريوت‪-‬لبنىىان‪ ،‬الطبعىىة األوىل‪،‬‬
‫‪ ،2008‬ص ‪.75‬‬
‫‪214‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬
‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫‪ -‬بالنسبة إىل كان ‪ ،‬أن طريقة هيوم يف سرب العقل‪ ،‬مالحظا أن الناس ال يبنون حقائقهم على أي معرفة‬
‫قبلية‪ ،‬فإن ما خيلق قيمة للمبدأ ليس يف أقله عرورة القانون‪ ،‬ولكنه فائدته العامة يف جمرى التجربة‪ ،‬وتربل‬
‫ذاتية عرورية من العقم الذي يسميه هيوم بالعادة‪ ،‬ويستنتري أن كل ادعاءات العقل بقدرته على املضي‬
‫خارج املنطقة التجريبية هي ادعاءات ال معىن هلا‪ ،‬هذا ما قاد هيوم إىل الشك يف كل ما يتعلق باستخدام‬
‫املبادئ‪ 1،‬وهذا ما جعل هيوم ينعت بأملع الشكاك ‪ ،‬ذلك أنه نفى أي قيمة موعوعية ملبدأ العلية على‬
‫مستوى التجربة‪ ،‬ويف نفس الوقت ال سبيل للعقل أن يظفر هبذا املبدأ‪ ،‬وهذا قمة الشك‪ ،‬إذ يستحيل أي‬
‫شئ يف أن جيد مربرا يقينيا‪.‬‬
‫ي ريد كان أن يعلمنا أن مبدأ العلية هو مبدأ أويل قبلي متعايل على التجربة‪ ،‬وال ميكن أن نشتقه‬
‫منها‪ ،‬وأن أي حماولة إلنتزاعه من التجربة ستؤدي بنا إىل التناقض ونفي املبدأ ذاته‪ ،‬فهو يندرج عمن‬
‫املقوالت العقلية الكانطية‪ ،‬اليت تدخل يف بنية العقل وتشكله‪ ،‬وملا كان هيوم ذو نزعة حسية‪ ،‬حرمته إىل‬
‫أن يصل إىل هذه احلقيقة وفق ما يراه كان ‪.‬‬
‫فما يؤخذ على منتقدي العلية عدم دقة فكرهتم عن العلة واملوجود‪ ،‬فيتصورون العلة كاهنا شئ‪،‬‬
‫بينما هي رابطة أو عالقة ب شيئ ‪ ،‬ويتصورون املوجود على أنه جمرد ماهية غري فعالة‪ ،‬مع أنه يف جوهره‬
‫فعال‪ ،‬ويف هذا يقول لوي الفال ( ‪ )1951-1883‬إن الفعل ليس تابعا للموجود‪ ،‬حيث جيب أن‬
‫نضع املوجود أوال‪ :‬مث من بعده الفعل‪ ،‬وإمنا ينبغي أن نقرر أن الفعل هو ماهية املوجود‪ ،‬واملسلك الباطن‬
‫الذي به يكون يف نفس الوقت الذي يصنع نفسه‪ ،‬وهلذا ميكننا أن نقول إن املوجود هو نفسه ليس شيئا‬
‫آخر غري الفعل أي الفعالية‪ ،‬وهو أن املوجود هو وفعل املوجود شئ واحد‪ ،2‬وهذا يعين أن تأثري العلة يف‬
‫املعلول يكون متلبسا هبا‪ ،‬حيث ال ميكن أن نشاهد يف اخلارج هذا التأثري مبعزل عن العلة مما يوهم بأنه ال‬
‫يوجد عالقة عرورية ب العلة واملعلول‪.‬‬

‫‪ - 1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.107‬‬


‫‪ - 2‬عبد الرمحن بدوي‪ ،‬مدخل جديد إىل الفلسفة‪ ،‬وكالة املطبوعات‪ ،‬الكويت‪،‬د‪/‬ط‪ ،1974 ،‬ص ‪.112‬‬

‫‪215‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬


‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫خاتمة‪:‬‬
‫بعد عرعنا لتصور الغزايل وهيوم للعلية‪ ،‬نصل إىل نتائري التصورين‪ ،‬فنجملها يف النقاط التالية‪:‬‬
‫‪ -‬كل من الغزايل وهيوم إنطلق من مبادئ وأسس اإلنتماء املذهيب‪ ،‬مبعىن من إيديولوجيا خاصة‪،‬‬
‫كانت احملفز والباعث ألخذ تصور مع ‪ ،‬فالغزايل ينطلق من ثوابت األشعرية اليت ترى يف أن ا هل خالق‬
‫ومريد لكل شئ‪ ،‬ونفت أي واسطة أو قوة موجودة يف األشياء ينبثق عنها معلوهلا‪ ،‬أما هيوم فكان ال بد‬
‫أن جيد من مصادره التجريبية احلسية ما يفسر به العلية‪ ،‬فالتجأ إىل النظرية السيكلوجيا مالذا ينفي به أي‬
‫مصدر عقلي للعلية‪.‬‬
‫‪ -‬الغزايل ينكر العلية ب األشياء النه جيعل الفاعل الوحيد هو ا هل‪ ،‬بينما هيوم ينكر العلية ألن‬
‫التجربة هي وحدها مصدر املعرفة‪ ،‬ال تكشف لنا عن قوة فاعلة أوعن إرتباط عرورري ب األشياء‪.‬‬
‫‪ -‬العلية يف ذهن اإلنسان عند هيوم تأيت من رؤية شئ يتبعه شئ آخر‪ ،‬أما الغزايل فالعادة هي‬
‫اليت تولد فكرة العلة ع ند اإلنسان‪ ،‬كما أن الغزايل يستعمل لفظة تاإلقرتانت يف هيوم يستخدم لفظة‬
‫تالتتابعت‪.‬‬
‫‪ -‬هيوم ال يسند العلية ذات متعالية أو قوة عالية كا هل واملالئكة‪ ،‬بل ترك املصدر مبهما‪ ،‬ال نعرف‬
‫من هو الفاعل‪ ،‬يف ح الغزايل يرى أن ا هل هو الفاعل‪.‬‬

‫‪216‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬


‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫الكتب المقدسة‪:‬‬
‫القرآن الكرمي‬
‫قائم ةةة المصادر والمراج ةةع‪:‬‬
‫‪ -‬أبو حامد حممد الغزايل‪ ،‬هتافت الفالسفة‪ ،‬دار املشرق‪ ،‬بريوت‪-‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثالثة‪.1986 ،‬‬
‫‪ -‬أيب الوليىىد إبىىن رشىىد‪ ،‬الكشىىف عىىن منىىاهري األدلىىة يف عقائىىد أهىىل امللىىة‪ ،‬مركىىز دراسىىات الوحىىدة العربيىىة‪ ،‬بىىريوت‪-‬‬
‫لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‪.1998 ،‬‬
‫‪-‬أيب الوليد إبن رشد‪ ،‬هتافت التهافت‪ ،‬دار الفكر اللبناين‪ ،‬بريوت‪-‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‪.1993 ،‬‬
‫‪ -‬أبو يعرب املرلوقي‪ ،‬مفهوم السببية عند الغزايل‪،‬دار بوسالمة للطباعة والنشر‪ ،‬تونس‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬د‪/‬س‪.‬‬
‫‪ -‬إمانويل كان ‪ ،‬مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة‪ ،‬ترمجة ناليل إمساعيل حس ‪ ،‬موفم للنشر‪ ،‬الرغاية–اجلزائر‪،‬د‪/‬ط‪.‬‬
‫‪ -‬بارتريك هيلي‪ ،‬صور املعرفة مقدمة لفسلفة العلىم املعاصىرة‪ ،‬ترمجىة نىور الىدين شىيخ عبيىد‪ ،‬املنظمىة العربيىة للرتمجىة‪،‬‬
‫بريوت‪-‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‪.2008 ،‬‬
‫‪ -‬رعا سعادة‪ ،‬مشكلة الصراع ب العقل والدين‪ ،‬دار الفكر اللبناين‪ ،‬بريوت‪-‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‪.1990 ،‬‬
‫‪ -‬رفيىق العجىىم‪ ،‬املنطىىق عنىىد الغىزايل يف أبعىىاده األرسىطية وخصوصىىياته اإلسىىالمية دار املشىىرق‪ ،‬بىىريوت لبنىىان‪ ،‬الطبعىىة‬
‫األوىل‪.1989 ،‬‬
‫‪ -‬لكي فيب حممود وأمحد أم ‪ ،‬قصة الفلسفة احلديثة‪ ،‬مطبعة دار الكتب املصرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫‪.1936‬‬
‫‪ -‬عبد الرمحن بدوي‪ ،‬مدخل جديد إىل الفلسفة‪ ،‬وكالة املطبوعات‪ ،‬الكويت‪،‬د‪/‬ط‪.1974 ،‬‬
‫‪ -‬علىىي سىىامي النشىىار‪ ،‬منىىاهري البحىىث عنىىد مفكىىري اإلسىىالم دار النهضىىة العربيىىة‪ ،‬بىىريوت‪ -‬لبنىىان‪ ،‬الطبعىىة الثالثىىة‪،‬‬
‫‪.1984‬‬
‫‪ -‬علي ليكي‪ ،‬فكرة العلية يف فلسفة الغزايل‪ ،‬ديوان املطبوعات اجلامعية‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬د‪/‬ط‪ ،‬د‪/‬س‬
‫‪ -‬فل يب فرانك‪ ،‬فلسفة العلم الصلة ب العلم والفلسفة‪ ،‬ترمجة علي علي ناصف‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات‬
‫والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل‪.1983 ،‬‬
‫‪ -‬حممد باقر الصدر‪ ،‬األسس املنطقية لإلستقراء‪ ،‬مؤسسة العارف للمطبوعات‪ ،‬بريوت‪-‬لبنان‪ -‬الطبعة األوىل‪،‬‬
‫‪.2008‬‬
‫‪ -‬حممد باقر الصدر‪ ،‬فلسفتنا‪ ،‬دار التعارف للمطبوعات‪ ،‬يريوت – لبنان‪ ،‬الطبعة الثالثة‪.2009 ،‬‬
‫‪ -‬حممد فهمي ليدان‪ ،‬اإلستقراء واملنهري العلمي دار اجلامعات املصرية‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬د‪/‬ط‪.1977 ،‬‬
‫‪217‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬
‫جامعة موالي الطاهر سعيدة‬ ‫متون‬ ‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬
‫‪ -‬حممد ناصر‪ ،‬هنري العقل‪ ،‬تأصيل األسس وتقومي النهري‪ ،‬دار احملب ‪ ،‬قم‪ ،‬الطبعة األوىل‪.2014 ،‬‬
‫‪ -‬حممىىد ياسى عربيىىي‪ ،‬مواقىىف ومقاصىىد يف الفكىىر الفلسىىفي اإلسىىالمي املقىىارن‪ ،‬الشىىبكة العربيىىة ل اىىات والنشىىر‪،‬‬
‫بريوت لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‪.2013 ،‬‬
‫‪ -‬حممود محدي لقزوق‪ ،‬املنهري الفلسفي بن الغزايل وديكارت‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الرابعة‪.1997 ،‬‬
‫‪ -‬حممود فهمي ليدان‪ ،‬اإلستقراء واملنهري العلمي‪ ،‬دار اجلامعات املصرية‪ ،‬د‪/‬ط‪.1977 ،‬‬
‫‪ -‬هنري كوربان‪ ،‬تاريخ الفلسفة اإلسالمية منذ الينابيع حىت وفاة ابن رشد‪ ،‬ترمجة نصري مروة وحسن قبيسي‪،‬‬
‫عويدات للنشر‪ ،‬الطبعة الثانية‪.1998 ،‬‬
‫‪ -‬وليم كلي رايت‪ ،‬تاريخ الفلسفة احلديثة‪ ،‬ترمجة حممود سيد أمحد‪ ،‬التنوير للطباعة والنشر والتوليع‪ ،‬بريوت‪-‬لبنان‪،‬‬
‫الطبعة األوىل‪.2010 ،‬‬
‫المصادر األجنبية‪:‬‬
‫‪David HUME, Traité de la nature humaine, Livre I de‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪l'Entendement, traduit de l'anglais par Philippe Folliot, Édition‬‬
‫‪numérique réalisée le 28 janvier 2005 à Chicoutimi, Ville de Saguenay,‬‬
‫‪province de Québec, Canada. Texte revu et corrigé le 11 décembre‬‬
‫‪2009‬‬

‫‪218‬‬ ‫العدد الرابع ‪ :‬ديسمرب ‪2017‬‬

You might also like