You are on page 1of 120

‫اﻹﻣﺎم ﻋﻠﻲ ﺻﻮت اﻟﻌﺪاﻟﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴ‪‬ﺔ‬

‫ﻋﻠﻲّ وﺣﻘﻮق اﻹﻧﺴﺎن‬

‫الجزء األ ّول‬


‫تأليف‬

‫اﻷﺳﺘﺎذ اﻟﻜﺒﻴﺮ ﺟﻮرج ﺟﺮداق‬


‫دار ومكتبة‬
‫صعصعة‬
‫‪http://arab-unity.net/forums/index.php‬‬

‫حقوق الطبع محفوظة‬


‫الطبعة األولى‬
‫‪ ١٤٢٣‬ھـ ـ ‪ ٢٠٠٣‬م‬
‫دار ومكتبة‬
‫صعصعة‬
‫جدّحفص ـ مملكة البحرين‬
‫‪http://arab-unity.net/forums/index.php‬‬

‫إلى القارئ‬
‫من مقدمة الناشر للطبعة الثانية‬

‫النص الكامل للسفر الّذي أعدّه األديب الكبير جورج جرداق عن اإلمام عل ّي بن أبي طالب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ھذا ھو‬

‫أ ّما الكتاب الّذي صدر منذ حين فلقي من النجاح ما انقطع نظيره‪ ،‬وأحدث ضجة كبرى إذ تلقته الماليين من‬
‫القراء باالعجاب واإلكبار‪ ،‬وتُرجم إلى اللغات الفارسية والھندية واإلنكليزية‪ ،‬وز ّوره ناشر عراقي وأعاد طبعه‬
‫اختالسا ً على ما ھو مشھور‪ ،‬فليس إالّ فصوالً تمھيدية قليلة ومختصرة من ھذه الدراسة المطولة التي ندفع بھا‬
‫األن إلى القراء في الشرق‪.‬‬

‫وإذ يدفع المؤلف إلينا اليوم بھذه الدراسة الموسوعية بكاملھا للنشر‪ ،‬الب ّد له من إثبات فصولھا جميعا ً بالترتيب‬
‫الّذي وضعه أصالً قصد التدرج المنطقي بالحبث‪ .‬م ّما اقتضى بالضرورة أن يبدأ الجزء األ ّول من ھذا السفر‬
‫ببعض الفصول التي نشرت في الكتاب التمھيدي السابق وال سيما الفصول األولى التي تعتبر إطاراً تاريخيا ً الب ّد‬
‫من االستھالل به كي ال يبتر شيء من فصول ھذه الموسوعة‪ .‬أضف إلى ذلك أنّ ھذه الفصول ذاتھا منقحة‬
‫وموسعة ومضاف إليھا كثير من البحث والرأي الجزء بالذات‪ ،‬األبحاث الجديدة التي تُنشر ألول م ّرة وتستمر‬
‫حتّى آخر أجزاء ھذا السفر‪.‬‬

‫أ ّما ما يحتويه ھذا السفر من األبحاث الجديدة في أدب الدراسات العلوية‪ ،‬فقد أشار إليه المؤلف في مقدمته‬
‫الرائعة التي تلي ھذه الكلمة‪ .‬ومنھا األبحاث القيمة التي تستھدف ا لكشف عن تماسك شخصية اإلمام علي‪.‬‬
‫والمقابلة الممتعة بين اإلمام علي وسقراط عظيم فالسفة اليونان‪ ،‬في فلسفة االخالق وما إليھا‪ .‬ث ّم ما يمثله‬
‫عل ّي من أسباب العدالة الكونية الشاملة القائمة بذاتھا‪ .‬وتتبع معنى )اإلنسان( في إنسانيات العصور جملة‬
‫تمھيداً لتجلية ھذا المعنى عند ابن أبي طالب‪ ،‬والمقابلة بين علي ومفكري العصور في أكثر من جانب إبرازاً‬
‫لمكانة ھذا البطل العربي العظيم بين اولئك االبطال‪ .‬ث ّم ذلك البحث الخالق الّذي يضع المبادئ العلوية موض َع‬
‫المقابلة مع مبادئ الثورة الفرنسية الكبرى بنصوصھا الكاملة‪ ،‬وھو من اعمق وأدق االبحاث التي عالجھا اديب‬
‫عربي حتّى اآلن‪ .‬تلي ِه ابحاث واسعة في موضوع اإلمام علي والقومية العربية‪ .‬ومن ھذه الدراسات الجديدة‬
‫أيضا ً بسط احوال الناس بك ّل طوائفھم في عصر اإلمام علي وفي ما تاله من عصور بسطا ً مبنيا ً على نظر جديد‬
‫في دراسة تاريخنا‪ .‬ث ّم أثر اإلمام علي في تاريخ األدب العربي وفي توجيه الروح العربي‪ .‬تلي ذلك ابحاث‬
‫واسعة في معنى التشيع في تاريخ الشرق والر ّد على المؤلفين الّذين بحثوا ھذا الموضوع باسلوب تقليدي‬
‫متوارث لم يُج ّل حقيقة‪ .‬ومنھا تلك الفصول التي ينقد بھا المؤلف اساليب الباحثين العرب واالجانب عندما‬
‫يعالجون القضايا الھامة في احداث التاريخ العربي ويفسرون اخباره‪ .‬ث ّم استعراض لجميع المؤلفات التي‬
‫وضعت عن علي في لغة العرب ولغات االجانب‪.‬‬

‫واننا إذ ندفع إلى الطبع ھذه الموسوعة‪ ،‬نلبي رغبة العدد الكبير من المعجبين بأدب جورج جرداق‪ ،‬الّذين‬
‫ينتظرون منذ أكثر من عام‪ ،‬صدور ھذا السفر الخالد‪.‬‬
‫كلمة المؤلف‬

‫غريب واحد‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫تاريخ طوي ٌل‬ ‫لإلنساني ِة‬

‫أ ّما ما يؤلف طولَه فعم ُر اإلنسان القدي ُم تمت ّد به يد الدھر حتّى تصله بأول أيّ ِام األرض‪ ،‬ث ّم ھذا التط ّور المتثاقل‬
‫البطيء من مرحلة إلى مرحلة ومن حياة إلى حياة‪.‬‬

‫وأ ّما ما يؤلف غرابته فأكثر من أن يُساق في مقدمأ أو يُبحث في كتاب‪ .‬ولع ّل أبرز مظاھر ھذه الغرابة ما نراه‬
‫من فترات زمنية عاشتھا ھذه الجماعأ أو تلك من البشر‪ ،‬أو ھذا الفرد أو ذاك‪ ،‬في قمة من قمم الصعود‬
‫منخفضات سحيقة رھيبة من االنحدار‪ ،‬حتّى ليرتاب الناظر إلى ھذه القمم تُحاط بھاتيك‬ ‫َ‬ ‫اإلنساني بين‬
‫سر ارتفاع االغارقة في عصر من‬ ‫ف‬
‫ُ ّ‬ ‫ي‬ ‫فكيف‬ ‫ّ‬ ‫ال‬‫وإ‬ ‫!‬ ‫عليه‬ ‫يسير‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫قاصد‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫حسابي‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫نظام‬ ‫للتاريخ‬ ‫بأنّ‬ ‫المنحدرات‪،‬‬
‫عصور ھذا التاريخ واقع بين اعصر شتّى من المھاوي المتالحقة‪ .‬فإذا ھم يعبّرون عن حقيقتھم خالل ھذا‬
‫ص َو َر الخير والجمال وتكشف عن وجه الحق‪ ،‬وتضع عقولُھم اصوالً وقواعد‬ ‫الشموخ بعباقرة تصنع ايديدھم ُ‬
‫في الفن والعلم واالخالق وما إليھا من شؤون الفكر وشؤون الكيان اإلنساني جميعا ً‪ .‬وإذا بمدينتھم العظمى أثينا‬
‫تعلو في األرض حتّى إذا طمحتْ إليھا أبصار الغزاة تعالَوا إليھا من كل واد ووثبوا عليھا من ك ّل سھل فغالتھا‬
‫حرابُھم ونشرتْ على جدرانھا ظالل الفناء‪ ،‬ث ّم ما انكشفتْ لھم حقيقتھا وما تنطوي عليه من معاني الكمال‬
‫اإلنساني‪ ،‬إالّ ركعوا بين خرائبھا وقَبَعوا كاالطفال ينظرون ويسمعون ويطيعون ث ّم يقبّلون مواطي أقدام الشعراء‬
‫والمصورين والفالسفة‪ ،‬ويخلّون األرض التي قدّسھا الفكر وقد ھانت عليھم مطامعھم في الغزو وصغرتْ‬
‫حرابُھم والنت قسيّھم وانقلبوا من برابرة ُجفاة إلى بشر يحملون إلى الدنيا ما ق ّل أو ما كثر من معاني الجمال‬
‫التي لُقّنوھا بين أطالل المدينة العظمى! وإذا بأيدي االغارقة تمت ّد بنور االنسانية إلى أقاصي األرض‪ ،‬على‬
‫وأعظم بما يصنعون!‬ ‫ِ‬ ‫الحقب‬
‫رؤوس األيام وھام ُ‬

‫أ ّما ما يؤلف وحدةَ ھذا التاريخ‪ ،‬فكون المراحل التي م ّرت بھا شعوب العالم متشابھةً جوھراً وإن اختلفت شكالً‬
‫بعض االحايين؛ وكونُ السياط الموجعة التي ذاقتھا مواكب البشر جميعا ً تحملھا األيدي ذاتھا يغيّر اسمھا الزمانُ‬
‫ق خالل رحلة‬ ‫ويُكسبھا لونّھا المكان؛ وكون الغاية التي استھدف ْتھا شعوب األرض في سيرھا الموعر الشا ّ‬
‫التاريخ واحدةً كذلك وإن كان اختلفت عليھا االسماء! وفي تاريخ اإلنسانية الواحد أم ٌر يجعل ھذه الوحدة‬
‫موحد اسھمت‬ ‫ّ‬ ‫نسيج‬
‫ٌ‬ ‫سجله اإلنسان‪ ،‬فرداً أو جماعة‪ ،‬ھو‬ ‫ضرورةً الزمةً قائمة بذاتھا‪ ،‬وھو أنّ كل تقدم ّ‬
‫اإلنسانية بكاملھا فيه‪ ،‬وبكل عصورھا‪ ،‬منذ كل اإلنسان حتى يومه ھذا‪.‬‬

‫وإذا كانت ھذه ھي قصة التاريخ‪ :‬قصة التط ّور الشامل ضمن خطوط عا ّمة كبرى‪ ،‬فما ھو دورنا نحن العرب في‬
‫نسج حوادثه؟ وما ھو عملنا خالل مراحله في خدمة اإلنسانية‪ ،‬أي في خدمة أنفسنا؟‬

‫لقد اسھمنا‪ ،‬بحكم وجودنا على سطح األرض‪ ،‬بتاريخ اإلنسانية بما فيه من طول وغرابة ووحدة! اسھامنا في‬
‫ُ‬
‫شموخ‬ ‫غرابته أظھر وجه في صفحات تاريخنا الخاص‪ .‬ھذه الغرابة التي يمثلھا‪ ،‬في طور من اطوار تاريخنا‪،‬‬
‫وشموخ أقران له‪ ،‬بين منحدَرات ھبطت بُعيَ َد ايامه وتشقّقت بھا األرض حتى ما يبين لھا‬ ‫ُ‬ ‫عل ّي بن أبي طالب‬
‫ق بنا أن تنظر إليه كما ننظر إلى ك ّل قمة في تاريخ اإلنسانية الواحد‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫شموخ في الفكر والقلب خلي ٌ‬ ‫قعر‪.‬‬

‫وما ضيّق على اإلنسان آفاقه في القديم إالّ ما ارتضاه لنفسه من حدود شادھا الضالل ور ّكزتھا العادة وشمخ‬
‫بھا التاريخ جيالً بعد جيل‪.‬‬

‫وما عطّل على بصيرة المرء رؤية الرحاب الرحبة والمسافات البعيدة والقمم الشاھقة‪ ،‬إالّ غيو ٌم ثقيالت يتنفّس‬
‫الجھ ُل فتتراكم وتزدحم وتطغى وتسو ّد‪.‬‬

‫ولطالما ضاقت ھذه الحدود في أكثر عھود التاريخ‪ ،‬فعطلت مواھب اإلنسان التي أُوتيھا الكتشاف ينابع الخير‬
‫اللج ويشت ّد حريا ً فى مناكب‬
‫وراء الحدود‪ .‬ولطالما طغت ھذه الغيوم وتج ّھمت فمنعت عن اإلنسان أن يسبح في ّ‬
‫األرض‪.‬‬
‫واللج ومناكب األرض وما تحوي‪ ،‬فما ھي كثيرھا إالّ اكفّ العظماء‬‫ّ‬ ‫أ ّما ينابيع الخير ھذه‪ ،‬وأ ّما السماء‬
‫الحقيقيين الّذين م ّروا في ھذه األرض مرور الغمامات الخيّرة فوق الصحاري البيد! غمامات تم ّر كاألمل‬
‫ت الصحاري ھطول الحياة في جفاف اليَبَس‪ ،‬ث ّم تمضي وھي تاركةٌ‬‫المشرق في غتمة اليأس‪ .‬وتھط ُل في جنبا ِ‬
‫وراءھا الخضرةَ والنضرةَ والرواء وال ُ‬
‫سقيا لقوم جياع عطاش!‬

‫ث اإلنسان بصراً‬ ‫لقد طُويت صفحات التاريخ السود وبكت على نفسھا تلك الضالالت والغباواتُ التي ح ّد ِ‬
‫وبصيرة‪ ،‬وضيّقت على العظماء فحصرت بعضھم في نطاق من الناس ال تخطّاه آخرون وال يجوزه نظر‪ .‬فإذا‬
‫يخص طائفة من البشر وال قوماً دون قوم! وإذا‬ ‫ّ‬ ‫بالدائرة تتسع حتّى تشمل الخلق جميعا ً! وإذا بالعظيم الح ّ‬
‫ق ال‬
‫بسقراط لالغارقة والھنود والصينيين والعرب والناس اجمعين! وإذا غيره من العظماء لكل العالمين‪ .‬وإذا عل ّي‬
‫بن أبي طالب‪ ،‬عظيم طائفة العظماء في الشرق‪ ،‬لك ّل من تمشي به قد ٌم مثَله في ذلك ـ و َمثل أقرانه من نوابغ‬
‫األرض ـ َمثَل الشمس إذ تغمر األرض سھولھا وجبالھا‪ ،‬ق َممھا ووديانھا‪ ،‬ب ّرھا وبحرھا‪ ،‬فما على اإلنسان إالّ أن‬
‫يستنير بنورھا فال يُقيم دونه حدود وجدراناً‪ ،‬وأن يتدفّأ بنارھا في بردة أيامه فال يسعى في منع الدفء إلى‬
‫زوايا الصقيع من حياته‪.‬‬

‫في تاريخ الشرق‪ ،‬كما ھي الحال في تاريخ البشر جميعاً‪ُ ،‬غزاة‪ ،‬ومجرمون‪ ،‬ولصوص محترفون‪ ،‬وأغبياء‪،‬‬
‫ق العصور القديمة والمتوسطة أن يجعل منھم بعد ھالكھم ابطاالً وعظماء‪ ،‬فخلع عليھم في‬ ‫وتافھون‪ ،‬شاء منط ُ‬
‫الحالتين االلقاب الضخمة بغير حساب! وھا نحن ما نزال تصفع وجوھَنا‪ ،‬في الكتب يتنافس فى تلفيقھا بعض‬
‫حملة األلقاب‪ ،‬صفحاتٌ باردة كأنھا الزمھرير من »بطوالت« اولئك المجرمين‪ .‬وفصول من »عظمة« أولئك‬
‫التافھين‪ ،‬حتّى ليوھم ھذا النمطُ من المؤلفين قراءھم بأنّ البطولة ليست إالّ نوعا ً من تص ّرف النخاسين‪ ،‬وبأنّ‬
‫العظمة ليست إالّ شيئا ً من البراعة في النھب والسلب واالغتصاب والتقتيل والتدمير واصطناع أسباب االبادة‪،‬‬
‫والتجويع وكل أمر فظيع!‬
‫ِ‬ ‫الترويع‬
‫ِ‬ ‫التبجح بالجريمة والزھور بالتفاھة واالعتزاز بصناعة‬
‫ّ‬ ‫ث ّم‬

‫لذلك جئنا بھذا الكتاب‪ ،‬بعد أن طلبنا العافية ألولئك المؤلفين‪ .‬نل ّم فيه بشخصية بطل حق‪ ،‬ألنّه إنسان حقّ‪ ،‬لعلّنا‬
‫نضيفه إلى سلسلة المؤلفات الخيّرة التي تتكاثر في مكتبتنا العربية اليوم‪ .‬وبذلك نستيقظ على امور اھ ّمھا‪:‬‬

‫أنّ تاريخنا ھو أيضا ً صفحاتٌ رائعة من االشراق اإلنساني العظيم تش ّرفنا كعرب كما تضيف شرفا ً إلى تاريخ‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫ومن االُمور التي نستيقظ عليھا في دارسة عل ّي وعصره وما تالوه من عصور‪ ،‬ذلك المقدار العظيم من االسھام‬
‫في مقاومة الظالم ونصرة المظلوم؛ ومن معاندة االستعباد واالستغالل والعمل على تقويض أسبابھما بسنّ‬
‫األنظمة والدساتير في النطاق الذي تسمح به إمكانات الزمان والمكان‪ ،‬وبالتضحية في سبيل الكرامة اإلنسانية‬
‫بكل عزيز من الدم والحياة؛ فإذا بنا نعي أكثر فأكثر أن تاريخنا ليس كلّه ظلمةً وظلما ً‪ .‬ففي بقايا لياليه ومضات‬
‫بيض وشموس ضاحكات‪ ،‬ث ّم‬ ‫ٌ‬ ‫وبروق! وفي دياجيره متألقاتٌ وأھلّة! وفي غياھب َجوره ُغر ٌر حسانٌ وأيا ٌم‬
‫أمطا ٌر َھتَنَتْ بھا السماء على صحاريه رذاذاً تارة وطوراً عُبابا ً!‬

‫وإن مثل ھذه الصفحات المشرقة في تاريخنا لتؤھلنا إلى أن نعيد النظر في أنفسنا من جديد‪ ،‬تحطيما ً لكثير من‬
‫القيود التي كبلتنا بھا عصو ُر الظلمات الطويلة‪ ،‬وتمجيداً للبطولة الحقيقية التي ھي بطولة فرد من االفراد أو‬
‫جيل من االجيال في سبيل اإلنسانية بأسرھا‪ ،‬وتدعيما ً لقومية عربية انسانية تجعل خدمة اإلنسان ـ في نطاقھا‬
‫وفي كل نطاق ـ غايتَھا البعيدة وھدفھا األقصى‪ .‬ذلك أنّ الشعب الّذي أمكنه أن يعبّر عن عبقريته منذ أربعة‬
‫عشر قرنا ً برجل كعلي بن أبي طالب ث ّم بمجموعة من الناس كبعض تالميذه وأنصاره يومذاك‪ ،‬ھو شعب‬
‫يستطيع اليوم ـ في عصر غزو االفالك ـ أن يمشي مع القافلة التي تسير وھي تنظر أبداً إلى األمام‪ ،‬وھي إنٌ‬
‫نظرت إلى الوراء فلكي تستمد من وجودھا الطويل عزيمةً وقوة‪ ،‬ال لكي تستريح حيث حطّ بھا السير أو حيث‬
‫جرفھا تيّار التاريخ!‬

‫أضف إلى ذلك كله أمرين اثنين‪ ،‬أولھما‪ :‬أن كل شعب من شعوب ھذه األرض الوسيعة قد نظر إلى الشوامخ في‬
‫صفحاته الخاصة من تاريخ اإلنسانية الواحد‪ ،‬فدرسھا درسا ً كثيراً‪ ،‬وجلّى مكانة كل منھا فوضعه في مقامه‪،‬‬
‫مفيداً من ذلك عبرةً وقوة‪ .‬ث ّم راح بعد ذلك يبحث في أنصاف الشوامخ‪ ،‬وفي أنصاف ھؤالء كذلك‪ ،‬وھل ّم جراً‪،‬‬
‫متمما ً ما يمكن له أن يفيد من حوادث التاريخ وسيَ ِر أبطاله وعظمائه الحقيقيين‪ ،‬آخذاً منھم حافزاً جديداً له على‬
‫صة ُ‬ ‫المسير‪ .‬فل َم ال نفعل مثلما يفعلون؟ ول َم ال نضع شوامخنا إلى جانب شوامخھم بعد الموازنة والمقابلة وق ّ‬
‫تاريخنا واحدة وعظماؤنا لنا أجميعن؟‬
‫وثاني األمرين أنّ عل ّي بن أبي طالب من االفذاذ النادرين الذين إذ عرفتَھم على حقيقتھم بعيداً عن الصعيد‬
‫ي الذي درجنا على أساسه ندرس رجالنا وتاريخنا‪ ،‬عرفت أنّ محو َر عظمتھم إنما ھو اإليمان المطلق‬ ‫التقليد ّ‬
‫بكرامة اإلنسان وحقّه المقدس في الحياة الحرة الشريفة‪ ،‬وبأن ھذا اإلنسان متط ّور أبداً‪ ،‬وبأن الجمود والتقھقر‬
‫والتوقّف عند حال من أحوال الماضي أو الحاضر ليست إالّ نذير الموت ودليل الفناء‪.‬‬

‫فقلي ٌل جداً من عظماء التاريخ االقدمين ھم الذين يبذرون في عقلك ويُلقون في نفسك مثل ھذه القاعدة األصل‬
‫من قواعد التطور وكأن عليا ً ينزع بھا عن لسان الطبيعة وقلب الحياة‪» :‬ال تقسروا أوالدكم على اخالقكم فإنھم‬
‫مخلوقون لزمان غير زمانكم!«‬

‫وقليل جداً من عظماء التاريخ االقدمين ھم الذين يبذرون في عقلك ويلقون في نفسك مث َل ھذه القاعدة العظيمة‬
‫فتوجه كل نشاط وتراقب كل عمل‪» :‬من اعتدل يوماه فھو مغبون«‪ .‬وما يريد‬ ‫ّ‬ ‫التي تطال المسلك اإلنساني بكامله‬
‫ابن أبي طالب بذلك إالّ التصريح بأنّ الغبن ال يلحق الجماعة من الناس إالّ إذا استوى حاضرھم وأمسھم‪ ،‬وبأنّ‬
‫ال ُغنم ھو أن يكون حاضرھم خيراً من يومھم‪ .‬وال يت ّم ذلك إالّ باالنسياق مع تيار الحياة الذي ال يھدأ‪.‬‬

‫وقليل جداً من عظماء التاريخ االقدمين ھم الذين يبذرون في عقلك ويُلقون في نفسك موازينَ العدالة الكونية‬
‫تنبثق عن نفسھا وبنفسھا تقوم‪ ،‬متكشّفين بنور العقبرية أن »من أساء خلقه ّ‬
‫عذب نفسه!«‬

‫وقليل جداً من عظماء التاريخ االقدمين ھم الذين ادركوا وعاشوا وقالوا أن »كل إنسان نظير في الخلق« و »أن‬
‫الناس أُسوة!«‬

‫وقلي ٌل جداً من عظماء التاريخ االقدمين ھم الذين وعَوا أنّ »االحتكار جريمة« وأ نّه »ما جاع فقير إالّ بما ُمتّ َع‬
‫به غن ّي« وأنّ »الذنب الّذي ال يُغفر ھو ظلم العباد بعضھم لبعض« ثم راحوا يخلقون القوانين وينظمون‬
‫الدساتير على أساس ھذا الوعي الكريم!‬

‫وقلي ٌل جداً من عظماء التاريخ االقدمين ھم الذين عاشوا ھذه المبادىء األصول جميعاً‪ ،‬وجلّوھا وأقاموا عليھا‬
‫مذاھب فكرية واجتماعية متماسكة خرجوا بھا من نطاق االفكار المستق ّل بعضھا عن بعض إلى إقامة البناء‬
‫المنظم الواحد ذي القواعد واألركان!‬

‫ث ّم إن لما انبثق من وجود عل ّي قصةً في تاريخنا ذات فصول عجاب! قصة تنا َولت خطوطھا الكبرى من شموخ‬
‫علي من صموده وراحت تنسج حوادثھا أيدي الزمان! إنّھا قصة الثورة التي عاشھا العالم العربي خالل عصور‬
‫قائمات تناھى سوء حالھا في االستئثار واالمتھان وطغيان ليالي االستبداد الرھيب!‬

‫ي فيھا ـ بمقياس قوة البھيمة ـ إالّ وھو سي ٌد مطاع ين ّكل ويقتل وينھب ويسطو ويضرب الخل َ‬
‫ق بالترويع!‬ ‫فال قو ّ‬

‫لص فيھا إالّ وھ ّمته أن يأكگل الناس من اآلكلين!‬


‫وال ّ‬

‫وال سفّاح إالّ ورقاب األبرياء َمح َ‬


‫صدةٌ لسيفه!‬

‫وال جاھل إالّ وقصرهُ من جماجم المفكرين!‬

‫وال عبد إالّ وله مأثرةٌ في قتل ُحر!‬

‫وال تافه إالّ ويمشي في األرض مرحا ً وھو يحسب أ نّه يخرق األرض وأ نّه يبلغ الجبا َل طوالً!‬

‫عواع من جراء ھؤالء إالّ وله رأي وصوت وي ٌد في تحديد مدة الحياة لالحياء‪ ،‬وكأنّ تاريخنا من ثم‬ ‫وال َج ْرو َو ْ‬
‫فصل من تاريخ اإلنسانية العا ّم الذي عرف من ھذه المظالم كثيراً أو قليالً! وعلى سبيل المثل العابر‪ ،‬أفلم يحكم‬
‫»سيراكوز« في العصر القديم طاغية حقير يدعى دينيس فيبيع افالطون العظيم رقيقا ً فيفتديه أحد اصدقائه ويرد‬
‫إليه حريته! ث ّم يقوم بعد دينيس ابنٌ له احقر من ابيه يدعى دينيس الصغير‪ ،‬فيعقد النية على أن ين ّكل‬
‫بالفيلسوف الجليل‪ ،‬فينجو الفيلسوف للم ّرة الثانية؛ ث ّم يعود ويعتزم قتله‪ ،‬فينجو ھذه الم ّرة أيضا ً بأعجوبة على‬
‫يد أحد تالميذه المخلصين؟‬
‫أقول‪ :‬أ نّھا قصة الثورة التي عاشھا العالم العربي خالل المھالك المفزعة في ضمائر األحرار وعلى ألسنتھم‬
‫وبأيديھم‪ .‬وھم كثير في طليعتھم تالميذ علي اآلخذون من نھجه وخلقه وصموده في وجه االستبداد والممثلون‬
‫للقوى المعارضة في حكم الطغاة في أكثر أدوار تاريخنا المتوسط والقديم‪.‬‬

‫ثورة اإلنسان المرھَق المظلوم الذي تبنّى قصة الدفاع عن نفسه وعن المستعفين والمضطھدين مختاراً أو‬
‫َمسوقا ً ال فرق‪ .‬وقصة ھذه الثورة الطويلة التي علّلھا كثيرون فقال بعضھم إنّھا خي ٌر كلّھا فأيّدوھا‪ ،‬وقال بعضھم‬
‫إنّھا ش ّر كلّھا فأنكروھا‪ ،‬جديرة بأن تدرس في ضوء جديد وھي في حقيقتھا البعيدة التي نراھا استمرار مشدود‬
‫على الزمان لقصة علي ذاتھا مع محاربيه بالسيف والحيلة‪ .‬وھي بذلك صفحات من الكفاح في سبيل الحياة‬
‫خطھا في تاريخنا آباء لنا سابقون‪ ،‬فكانت لنا تعويضا ً عظيما ً عما فى أمسنا من آثام واعتداءات!‬

‫وخالصة القول‪ ،‬أننا إذ ننطلق من النطاق العربي إلى النطاق العالمي الوسيع‪ .‬ومن حدود الزمان العربي المقيّد‬
‫بتاريخين متقاربين إلى حدود الزمان العالمي الذي يشمل بدء وجود اإلنسان حتّى عصر النھضة في اوروبا‪،‬‬
‫سنّت دساتير‪ ،‬وقامت ثورات اجتماعية وأخالقية وسياسية‪ .‬الب ّد لنا أن ندرك‬
‫والذي عاش فيه عباقرةٌ عظام‪ ،‬و ُ‬
‫أنّ البن أبي طالب مكانة بين ھؤالء األفذاذ اصحاب الدساتير ومحدثي الثورات‪ ،‬فما ھي ھذه المكانة!وما ھو‬
‫محل الرجل بين أولئك الرجال؟‬

‫اليس من الغبن أن يدور الحديث في أكثر المؤلفات الموضوعة عن ابن أبي طالب حول موضوعات تكاد تنحصر‬
‫في واحد يدور فيه ك ّل بحث وكل جدال‪ ،‬وھو إنّ جاوزه فلكالم على الضرب بالسيوف حتّى تتقوس والطعن‬
‫بالرماح حتّى تتقصف‪ ،‬ث ّم عن مقاتليه تنحطّ عليھم الطير من السماء وتم ّزقھم سباع األرض؟!‬

‫إنّ لھذه األمور موضوعا ً في تاريخ علي وال ريب‪ ،‬ألنّ أخبارھا انحسرت عن ألف قضية وقضية في التاريخ‬
‫البعيد‪ .‬ولكن جوانب العظمة الحقيقية في ابن أبي طالب أكثر من ذلك‪ .‬وھي إن درست فلكي تتوضح بعض‬
‫الخفايا التاريخية في حياة الرجل وحياة معاصريه‪ ،‬ال لكي يدور على محورھا ك ّل بحث وك ّل نقاش‪.‬‬

‫سعة جديدة كذلك تتناول عبقريته‪ ،‬ث ّم‬ ‫لقد جھدنا أن يحفل الكتاب بنظرات جديدة تتعلق بعصر علي‪ ،‬وبنظرات مو ّ‬
‫بالتفاتة جامعة تشمل ما انطوى عليه تاريخ اإلنسانية من معنى اإلنسان بوصفه كائنا ً اجتماعيا ً وكيف تد ّرج ھذا‬
‫المعنى من طور إلى طور وفقا ً لسير التاريخ العا ّم‪ ،‬لنوضح بعد ذلك ما أمكننا أن نوضح من معنى اإلنسان عند‬
‫علي بن أبي طالب بالمقابلة بينه وبين مفكري العصور من بعض الجواب‪ ،‬وبين مبادئه العامة ومبادئ الثورة‬
‫الكبرى المعروفة بالثورة الفرنسية بوصفھا تجمع ما في اإلنسانيات القديمة والمتوسطة من معنى اإلنسان‪ ،‬ث ّم‬
‫بوصفھا خاتمة عھود في تاريخ البشر وفاتحة عھد جديد!‬

‫وم ّما أثبتناه أيضا ً في ھذا الكتاب أبحاث تتناول كال من عل ّي وسقراط بالتحليل‪ ،‬ث ّم تتناول الرجلين بالمقارنة‬
‫والموازنة في فلسفة األخالق وفي غيرھا من شؤون اإلنسان‪ .‬وبحث يُظھر أنّ عليّا ً يمثل في جملة كيانه جانبا ً‬
‫الغرض منھا الكشف عن مقدار ما في شخصية ابن أبي‬ ‫ُ‬ ‫عظيما ً من العدالة الكونية الشاملة‪ .‬ودراسة واسعةء‬
‫بحث وال يستقيم رأي‪ .‬ولقد بدا لنا من تماسك ھذه الشخصية ما يُدھش‬ ‫ٌ‬ ‫يصح بغير وجوده‬
‫ّ‬ ‫طالب من تماسك ال‬
‫ويُعجب‪ .‬ث ّم أبحاث تدور حول معنى التش ﱡيع في التاريخ العربي وفيھا كشف عن األغالط التي رضيَھا أكثر‬
‫المؤلفين ألنفسھم بصدد ھذا الموضع الدقيق‪ .‬وأخرى تتناول أثر عل ّي في األدب العربي خالل العصور‬
‫المتوسطة‪ .‬ودراسة خاصة بعنوان‪ :‬اإلمام عل ّي والقومية العربية‪ .‬ث ّم دراسات كثيرة غيرھا‪.‬‬

‫صل في اساليب الباحثين ساعة يدرسون تاريخنا القديم ويرون‬ ‫وقد مھدنا لھذه االبحاث جميعا ً برأي لنا مف ّ‬
‫آراءھم في قضاياه‪ .‬وبفضل تحدثنا فيه عن الحدود الحقيقية التي يمكننا أن ندرس تاريخنا ضمنھا‪ .‬وأنھيناھا‬
‫بالنظر في الدراسات التي وضعھا المؤلفون العرب واالجانب عن ابن أبي طالب وبابداء رأينا فيھا‪.‬‬

‫بقي أن نوضح أمراً يتعلق بما أشار إليه بعض النقّاد من مقاطع ھنا أو ھناك ھي أقرب إلى الشعر منھا إلى‬
‫ضحا ً في الفصل الذي عقدناه عن األوروبيين واإلمام‪ ،‬فقد كفينا نفسنا والقارئ‬ ‫البحث‪ .‬ول ّما كان ھذا األمر مو ّ‬
‫عناء إيضاحه اآلن‪ .‬وإنّ ردّنا على ھذا التز ّمت المنسوب زُوراً إلى العلم‪ ،‬والّذي يريد أن يسلب النا َر حرارتَھا‬
‫صنَعاه وقاال إنّه من صنع‬‫والريح عصفّھا والنھ َر مجاريه‪ ،‬والذي ال نرى فيه إالّ كالالً وعجزاً يتستران ببرقع َ‬
‫َ‬
‫العلم‪ ،‬لجدير بأنّ نلفت إليه النظر ألنّه يتناول جوھراً في أسلوب الدراسات‪ .‬ال عَرضا ً‪.‬‬
‫وأن نكون قد أنصفنا بعض أطوار تاريخنا وأفدنا منھا عبرةً في سيرنا الصاعد مع موكب الحياة المتجددة أبداً‪.‬‬
‫أُسوةً بغيرنا من إخواننا البشر الذين يُفيدون من تاريخھم الخاص‪ .‬وأُسوة بغيرنا وبأنفسنا ساعة نُفيد من تاريخ‬
‫اإلنسانية الشامل‪ .‬ذلِكم رجاؤنا من ھذا الكتاب‪.‬‬

‫بيروت ‪ ١٠‬اذار سنة ‪١٩٥٨‬‬

‫جورج سجعان جرداق‬


‫المقدّمة‬
‫بقَلَم ميخائيل نعمية‬

‫لنا في حياة العظماء معين ال ينضب من الخبرة والعبرة واإليمان واألمل‪ .‬فھم القمم التي نتطّلع بشَوق إليھا‬
‫صارنا‪ .‬وھم الذين يجدﱢدون ثقتنا بأنفسنا وبالحياة‬
‫ولھفة‪ ،‬والمنارات التي تكشﱢح الدياجير من أمام أرجلنا وأب َ‬
‫واھدافھا العبيدة السعيدة‪ .‬ولوالھم لتوالﱠنا القنوط في كفاحنا مع المجھول‪ ،‬ولرفعنا األعالم البيض من زمان‬
‫وقلنا للموت‪ :‬نحن أسراكَ وعبيدك يا موت‪ .‬فافعل بنا ما تَشا ُء‪.‬‬

‫صروا منﱠا‪ .‬وابن أبي طالب منھم‪.‬‬


‫إالّ أننا ما استسلمنا يوما ً للقنوط‪ ،‬ولن نستسلم‪ .‬فالنصر لنا بشھادة الذين انت َ‬
‫وھم معنا في كل حين‪ ،‬وإن قامت بيننا وبينھم وھدات سحيقة من الزمان والمكان‪ .‬فال الزمان بقادر أن يخنق‬
‫اصواتھم في آذاننا‪ ،‬وال الم َكان بماح صورھم من أذھاننا‪.‬‬

‫وھذا الكتاب الذي بين يديك خير شاھد على ما أقول‪ .‬فھو مك ﱠرس لحياة عظيم من عظماء البشرية‪ ،‬أنبتته أرض‬
‫وفجر ينابيع مواھبه االسال ُم‪ ،‬ولكنه ما كان لإلسالم وحده‪ .‬وإالّ فكيف لحياته‬
‫عربية‪ ،‬ولكنھا ما استأثرت به‪ .‬ﱠ‬
‫الفذأ أن تلھب روح كاتب مسيح ّي في لبنان‪ ،‬وفي العام ‪ ،١٩٥٦‬فيتصدﱠى لھا بالدرس والتمحيص والتحليل‪،‬‬ ‫ﱠ‬
‫ويتغنﱠى تغني الشاعر المتيﱠم بمفاتنھا ومآثرھا وبطوالتھا؟‬

‫وبطوالت اإلمام ما اقتصرت يوما ً على ميادين الحرب‪ .‬فقد كان بطالً في صفاء بصيرته‪ ،‬وطھارة وجدانه‪،‬‬
‫وسحر بيانه‪ ،‬وعمق إنسانيته‪ .‬وحرارة إيمانه‪ ،‬وسمو دعته‪ ،‬ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم‬
‫وتعبﱡده للحق أينما تجلّى له الح ّ‬
‫ق‪ .‬وھذه البطوالت‪ ،‬ومھما تقادم بھا العھد‪ ،‬ال تزال مقلعا ً غنيا ً نعود إليه اليوم‬
‫وفي ك ّل يوم كلما اشت ﱠد بنا الوجد إلى بناء حياة صالحة‪ ،‬فاضلة‪.‬‬

‫لست أُريد أن أستبق القارئ إلى الكشف عن مواطن المتعة في ھذا الكتاب‪ .‬فھي كثيرة‪ .‬منھا بيانٌ مشرق يسمو‬
‫ھنا وھناك إلى سوامق من الصور الشعرية‪ ،‬المشبوبة العاطفة‪ ،‬الزاھية اللون‪ ،‬العذبة الرنﱠة‪ .‬ومنھا اتﱢزان في‬
‫التقدير والتفسير‪.‬‬

‫علي وآرائه السياسية والدينية واالجتماعية واالقتصادية إلى مسرح الحياة التي‬
‫ﱟ‬ ‫ومنھا محاولة جريئة في نقل‬
‫نحياھا اليوم‪ .‬وھي محاولة بارعة وموفّقة‪ ،‬ما فطن لھا الذين كتبوا في الموضوع من قبل‪ .‬ناھيك باجتھادات‬
‫جديدة في تفسير بعض األحداث التي رافقت حياة اإلمام تفسيراً يغاير النمط الذي درج عليه مؤ ّرخوه حتّى‬
‫اليوم‪.‬‬

‫إنّه ليستحيل على أي مؤرخ أو كاتب‪ ،‬مھما بلغ من الفطنة والعبقرية‪ ،‬أن يأتيك حتّى في ألف صفحة بصورة‬
‫كاملة لعظيم من عيار اإلمام عل ّي‪ ،‬ولحقبة حافلة باألحداث الجسام كالحقبة التي عاشھا‪ .‬فالذي ف ﱠكره وتأ ّمله‪،‬‬
‫وقاله وعمله ذلك العمالق العربي بينه وبين نفسه وربّه ل ِم ّما لم تسمعه إذن ولم تبصره عين‪ .‬وھو أكثر بكثير‬
‫م ﱠما عمله بيده أو أذاعه بلسانه وقلمه‪ .‬وذ ذاك فكل صورة نرسمھا له ھي صورة ناقصة ال محالة‪ .‬وقصارى ما‬
‫نرجوه منھا أن تنبض بالحياة‪.‬‬

‫إالّ أن العبرة في كتاب من ھذا النوع ھي فى ّ‬


‫تفحص ما اتصل بنا من أعمال عل ّي وأقواله‪ .‬ث ّم في تف ﱡھمه تف ﱡھما ً‬
‫دقيقاً‪ ،‬عميقا ً‪ .‬ث ّم في عرضه عرضا ً تبرز منه صورة الرجل كما تخيله المؤلف وكما يشاؤك أن تتخيله‪.‬‬

‫ويقيني أن مؤلف ھذا السفر النفيس‪ ،‬بما في قلمه من لباقة‪ ،‬وما في قلبه من حرارة‪ ،‬وما في وجدانه من‬
‫إنصاف‪ ،‬قد نجح إلى حد بعيد في رسم صورة البن أبي طالب ال تستطيع امامھا إالّ أن تشھد بأنّھا الصورة الحيّأ‬
‫ألعظم رجل عربي بعد النبي‪.‬‬

‫بسكنتا‬

‫ميخائل نعمة‬
‫أرض المعجزات‬
‫ُ‬
‫َمھد النب ّوة‬
‫أرض ھي ال ُمعجزةُ بما كانت‪ ،‬وھ َي المعجزة بما ستكون!‬
‫ٌ‬

‫الغيث ومدّھا بالخضرة والنضرة والرواء ألطعمت جياع الدنيا وكست عُراة‬ ‫ُ‬ ‫فلواتٌ عظيمة االتّساع لو جادھا‬
‫تصور‪ .‬ولكنھا بَواد ما تزا ُل في أ ّول تكوينھا من رمال‬‫ّ‬ ‫العالمين‪ ،‬وفيھا من االمتداد ما ال يحده خيال وال يضبطه‬
‫أرض تثور‪ .‬ومن ُكثبات ھنا وأودية ھناك‬ ‫ٌ‬ ‫متع ّرجة ملتوية تم ّوجتْ أو تصلّبتْ أو لعبتْ بھا زعازع الريح فھ َي‬
‫ب تج ّم َع‬
‫ب الرمال فھي من عجب تقع ُد وتقوم‪ .‬ومن جبال ُجرد قليلة االرتفاع ھي الج ْد ُ‬ ‫حعلتھا اللوافح من َح ّ‬
‫سود نَ ِخرة كأنھا أُحرقت‬ ‫ضھا ذات حجارة ُ‬ ‫صلبة أر ُ‬ ‫وتك ّو َر وعال عل ّواً ھزيالً‪ .‬ومن قفار بركانية الفحة استوتْ ُ‬
‫بالنار فھي مقذوفاتٌ تج ّمدت حرارة وسواداً فدعوھا َح ّرات وجعلوا لھا أسماء ويا لبوس األسماء! إنّھا فلواتٌ ال‬
‫سكنى‪ .‬وھي في ذلك من أش ّد أقاليم العالم حرارة وأقلّھا سماحاً‬ ‫تصلح للزراعة وال لالقامة‪ ،‬وفي الزراعة علّةُ ال ّ‬
‫الغيث في بعض األقاليم فيكسبھا شيئا ً من الطراوة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بالنّدى على الرغم من بحار ثالثة تحيط بھا‪ .‬وقد يجودھا‬
‫فيتربّصون مواسمه فيخرجون إليه بكل ما لھم من إبل ونساء وأوالد‪ .‬إالّ أن ريح السموم وھي ش ّر ريح تثور‬
‫في جنباتھا وأواسطھا فتقضي على ك ّل رطب فيھا وقد تقضي على الحياة‪ .‬فإذا بالشعراء يغنّون نسيم الصبا‬
‫ھب عليھم من الشرق‪،‬‬ ‫المنعش إذا ّ‬

‫] ‪[ ٢٦‬‬

‫كمن يبتھجون بعبقة من رائحة الجنة!‬

‫أما أنھارھا فال نھر واحداً فيھا دائم الجريان‪ .‬ولكن سيو ٌل ِغزا ٌر تجري حين تفيض األمطار في بعض األقاليم‪،‬‬
‫سيالً لھا‪ ،‬فإذا بالقوم يحتالون على بعضھا بسدود تحبس المياه ولو إلى حين‪.‬‬
‫آخذة بطون األودية المشتبكة َم ِ‬

‫ت الشاسعة فال يتيه في‬ ‫أ ّما حيوانُھا فغي ُر سائ ِر األرض‪ .‬لقد جعل ﷲ له ُ‬
‫سوقا ً طواالً ليُمكنه أن يقطع المسافا ِ‬
‫سوقُهُ في الرمال‪ .‬وھيّأ له من قوة االحتمال والصبر‬ ‫عرض الفالة‪ .‬كما جعل لبعضه ُخفّا ً مستديراً كي ال تغرق ُ‬
‫صه بمقاومة الظمأ والقيظ‪ ،‬وبمعدة تختزن‬ ‫بمقدار ماھيّأ لموطنه من وعورة المسلك وأھوال الطريق‪ .‬ث ّم خ ّ‬
‫صاحب البعير‪ .‬الذي س ّماه ألفا ً من‬
‫ُ‬ ‫ي‪،‬‬
‫المياه أليّام‪ .‬وقد تُستخلص ھذه المياهُ باحدى الوسائل فيشربھا البدو ّ‬
‫األسماء‪.‬‬

‫ونبتُھا‪ ،‬ولن أسھب في وصفه‪ ،‬ناد ٌر‪ ،‬شائ ٌك َح ّران‪ ،‬ظمآن العروق!‬

‫أما بيوتھا فمن الخطأ أنّ تُدعى بيوتا ً‪ .‬فإن ھي إالّ مضارب تنفخ فيھا الرياح الالفحة ويغزوھا الح ّر القائظُ فإذا‬
‫بھا َوع ََراء الصحراء سوا ٌء بسواء‪ .‬وھي‪ ،‬إلى ذلك‪ ،‬ال تُض َرب إالّ في أقالي َم وأقاليم‪ .‬فمن العبث أنْ يسعى‬
‫ساكنوھا إلى اإلقامة حيث يشاؤون‪ ،‬أو يَقَ ُروا في مكانٌ أمين‪ ،‬فھم على موعد دائم مع الرحيل‪.‬‬

‫أ ّما آلة العيش فيھا فاألسودان‪ :‬التم ُر وما كان من الماء‪ .‬باإلضافة إلى ما قد يكون من لحم اإلبل وقنص البيد‪.‬‬

‫وتحمل طبيعة الصحراء قاطنيھا على الغزو فاالقتتال‪ .‬فالنزاع الدائم ھو نظامھم االجتماعي في األصل!‬

‫الذئب‬
‫َ‬ ‫وعلى صحاري الجزيرة وداراتھا تُلقي الشمس ردا ًء من لھيب فإذا الصعلوك يشوي على حصاھا‬
‫الجزُور‪.‬‬
‫الصريح أو الشاة َ‬

‫وعلى صحاري الجزيرة وداراتھا يخيّم الضج ُر القاتل والسأم المر‪ .‬فمشاھدھا‬
‫] ‪[ ٢٧‬‬

‫واحدة ال تتبد ُل في انبساط من محيط الرمال على قلّة الواحات‪ ،‬وفي األمل الكليل الذي ال تھيّي له الفلواتُ‬
‫انعقاداً وال امتداداً‪.‬‬

‫وليس من شأن ھذه الطبيعة القاسية‪ ،‬وھذه العيش الرتيب‪ ،‬وھذا الوجو ِد الصعب‪ ،‬أن تخلق في أھل الصحراء‬
‫تنب في‬
‫النفس ويمأل القلب‪ .‬فمثلھذه اال حاسيس ُ‬
‫َ‬ ‫شعوراً ب َ‬
‫س َع ِة الكون وشُمول الحياة وامتدا ِد قيَم الخير م ّما يُليّن‬
‫الخض ِر ال في ال َم َھام ِه البيد‪ ،‬ولدى الناعمين بالعيش ال في قلوب التاعسين‪.‬‬‫الواحات ُ‬

‫ى تناثر ھزيلةً عجفاء‪ ،‬كئيبةً سوداء‪ ،‬بين‬


‫وال عبرة في بعض قرى الجزيرة العامرة في ذلك الزمان‪ .‬فھي قر ً‬
‫ُ‬
‫ويعبس وجهُ األرض! عُمرانھا فأشبه ما يكون بالقليل إلى‬
‫ُ‬ ‫سود‪ ،‬تُباعد ما بينھا مجاھ ُل يض ّل فيھا الدلي ُل‬
‫ح ّرات ُ‬
‫جانب األق ّل‪ ،‬وبالعسير إلى جانب األعسر‪ .‬وھي فوق ذلك‪ .‬خاضعة لج ّو الصحراء العام من حيث قسوة المناخ‪،‬‬
‫وطغيان الفاقة‪ ،‬وبُعد األسفار والعزلة عن مآتي العالم‪ ،‬اللّھ ّم إالّ ما كان في بعض أرض الطائف ويثرب من ثروة‬
‫نسبية‪.‬‬

‫أ ّما م ّكة‪ ،‬فبيتٌ لالوثان!‬

‫فتجار من مقاييسھم أخ ُذ الروح بالدينار!‬


‫أ ّما أھلھا‪ّ ،‬‬

‫شظف من العيش في جحيم من الرمال‪ ،‬في سأم من الحال‪ ،‬في يأس من الغ ِد ماحق! ھذه ھي جزيرة العرب!‬

‫خصب و ُرواء‪ ،‬وغذا ٌء وكساء ووفرةٌ‬


‫ٌ‬ ‫وإنسانُھا؛ أليس من العجب أن يكون في ھذه األرض إنسان وفي جوارھا‬
‫من ك ﱢل عيش تكفي َمن َعبَ َر إليه سبيالً!‬

‫وجود ھذا اإلنسان في ھذه األرض ال يبغي عنھا بديالً وال يرضى بغيرھا‬

‫] ‪[ ٢٨‬‬

‫موطناً‪ ،‬وقد حاصرته جباله وبحاره وآفاقه وصحاريه‪ ،‬ھو المعجزة التي كانت‪ :‬معجزة الصحراء قبل ثور ِة‬
‫محمد وثور ِة علي!‬

‫تفجرت بالخير!‬
‫ولكن‪ ،‬ما ينابيع األرض إذا ّ‬

‫ما واحاتُ النعيم إذا اشتعلت بالخضرة!‬

‫ما ثروة الدنيا إذا تج ّمعتْ في بلد!‬

‫ما رطوبة الليل وأنداء الصباح وأنفاس الصبا!‬

‫ما أجسا ٌم تقيم على ناعم العيش في أرض تد ّر العس َل واللبنَ وتُعطي الم ّر واللبان!‬

‫ما ضحك الطبيعة‪ ،‬ومرحھا وتوثّبھا‪ ،‬في كل فردوس!‬

‫ما كل ما يُمكن للدنيا‪ ،‬دون جزير ِة العرب‪ ،‬أن تعطيه يومذاك!‬

‫ت على الدنيا!‬
‫أرض المعجزا ِ‬
‫ُ‬ ‫ما كل ذلك شأنا ً وقيمةً إلى جانب ما ستطل ُع به‬

‫ت الينابيع‪ ،‬وانجلتْ‬
‫وتوحد الزمن‪ ،‬وصف ِ‬
‫ّ‬ ‫لقد أطلّت على الدنيا يومذاك بما ھو أج ّل وأعظم‪ ،‬حين تنادى الكون‪،‬‬
‫قي ُم الحياة‪ ،‬وانطلق ضمير الوجود في محض من اإلنسانية المطلقة وفي فيض من تمجيد الخير وتصعيد‬
‫الطبيعة وتمديد عناصر الفضيلة‪ ،‬لتح ّل وحدةً حية في نزيل غار حراء‪ ،‬مح ّمد بن عبدﷲ! ث ّم لتستم ّر في صفوة‬
‫الخيّرين‪ ،‬الثائر العظيم عل ّي بن أبي طالب!‬

‫ث ھذا الكائن العظيم‪ ،‬واستمراره في ابن عمه العظيم‪ ،‬تجسيداً للحقيقة العظمى‪ ،‬على مثل ھذه األرض‪ .‬في‬ ‫بَ ْع ُ‬
‫صاحبي‬
‫ّ‬ ‫قوم من مقاييسھم أخ ُذ الروح بالدينار‪ ،‬ھو المعجزة التي ستكون‪ :‬معجزة الصحراء بعد مح ّمد وعل ّي‪،‬‬
‫الثورات االجتماعية الخيّرة على بؤس ذلك المحيط وذيّاك الزمان!‬

‫] ‪[ ٢٩‬‬

‫صوت مح ّمد‬
‫وھج في عينيه!‬
‫ٌ‬ ‫من لھيب الصحراء المحرقة‬

‫ومن انبساط الرمال أمام وھج الشمس صراحةٌ على شفتيه!‬

‫ومن جنائن يثرب وخمائل الطائف‪ ،‬ومن واحات الحجاز السابحة في الفضاء كأنھا الجز ُر المتناثرةُ في محيط‬
‫ق في دمه!‬‫من الرمل تحت ضوء القمر‪ ،‬نداوةٌ في قلبه ورف ٌ‬

‫ومن عصفت الرياح ال ُھوج‪ ،‬ثورةٌ في خياله!‬

‫س في روحه!‬
‫ومن بيان الشعر ونور السماء‪ ،‬سح ٌر في لسان ِه وقبَ ٌ‬

‫ومن صدق العزيمة ولغة الفكر‪ ،‬مضا ٌء في حسامه ورسالةٌ في يمينه!‬

‫ذاك ھو مح ّمد بن عبدﷲ‪ ،‬نب ّي العرب‪ ،‬ومحطّم الوثنية التي أقصت اإلنسان عن أخيه اإلنسان‪ :‬وثنية المال‪،‬‬
‫ووثنية العادة‪ ،‬العنصر الخرقاء!‬

‫ق من يد األعرابي ليستق ّر في جيوبھم!‬


‫كان بنو قريش يختصرون الدنيا بدرھم يَزل ُ‬

‫ب واألوھدة وتقطع‬
‫وكانوا يوجزون قِيَ َم الحياة بتجارة رابحة وكسب يضاف إلى كسب‪ ،‬وقافلة تسير في الشعا ِ‬
‫البي َد على حدو النّوق وال تجد لھا َمقيالً‬

‫] ‪[ ٣٠‬‬

‫غير ظل من دوحة قُ َرشيّة‪ ،‬وال َموئالً إالّ في مكة الوثنية حيث يعت ّز الدرھ ُم ويمشخ الدينار!‬
‫َ‬

‫وعصف في آذانھم صوتٌ تخلّعتْ له أعصابُھم‪ ،‬وتم ّزقتْ شھواتُھم ومالت به الدنيا عليھم تقول‪:‬‬

‫إنّ لإلنسان قيمةً غير التي تعرفون! وإنّ لالعراب ّي الساد ِر في مجاھل البيد رسالة غير التي تزعمون!‬

‫ذلك الصوت‪ ،‬كان صوت مح ّمد!‬

‫وجدّت اس ٌد وتميم في طريق الحماقة‪ ،‬وحثّوا السير في مھاوي الضالل‪ ،‬وطفقوا يَئِدون بناتھم وليس لھم في‬
‫وأدھنّ من حاجة إالّ اتّباع العادة وتمكين ما َحرّفَ اإلنسانُ من آيات الخالق‪ ،‬وما أنك َر من جمال الطبيعة‪ ،‬وما‬
‫ش ّوه من فتنة الكون!‬
‫وھمس الحياة يقول‪:‬‬
‫ُ‬ ‫الحب‬
‫ّ‬ ‫ق جرتْ عليه نسماتُ الحنان وخفقات‬
‫وتر ّد َد في أسماعھم صوتٌ رفي ٌ‬

‫ق الحياة والموت‪ ،‬وإنّما ھو‬


‫إليكم عن الوأد يا عباد ﷲ! لألنثى منكم مثل ما للذكر! وليس لمخلوق على آخر ح ّ‬
‫ﷲ َمن يحيي ويميت!‬

‫***‬

‫وانطلق األعراب يتفانون بح ّد السيف ويتقارعون بألسنة كأنّھا سياط الجحيم‪ ،‬ويلثمون أفواه العذارى على‬
‫فخرون‪ ،‬ورجال يُصرعون‪ .‬وأطفال يصرخون ويستغيثون‪ ،‬وينشأون‬ ‫شفا ِر المھنّد‪ ،‬فإذا ھم خلطٌ من فوارس يَ َ‬
‫على غير المودّة وغير االخاء‪.‬‬

‫ود ّوى في خيامھم صوتٌ أش ّد قصفا ً من الرعد‪ ،‬وأم ّد ھوالً من العاصفة‪،‬‬

‫] ‪[ ٣١‬‬

‫يردّد ويقول‪:‬‬

‫ما ھذا الذي تصنعون! ألَ ُكم أن تقتتلوا وأنتم إخوةٌ في خالق السماء واألرض؟ الحرب من عمل الشيطان والسلم‬
‫أولى بكم وفيه ُذواق النعيم الذي تشتھون!‬

‫ذلك الصوت‪ ،‬كان صوت مح ّمد!‬

‫العرب الزھ ُو كما لم يدرك شعبا ً وال أ ّمة!‬


‫َ‬ ‫وأدرك‬

‫العربيد‪ .‬فنال األعجم ّي من االمتھان‬


‫ق األعجفُ ِ‬ ‫ُ‬
‫والخل ُ‬ ‫وأبدوا من االحتقار لألعاجم ما يُبديه االعتدا ُد والغطرسة‬
‫ق ذلك على صاحب الرسالة فأفاق المتغطرسون على صوت يقول‪:‬‬ ‫ما أزرى بكرامت ِه كانسان‪ .‬فش ّ‬

‫ليس لعربي فض ٌل على أعجمي إالّ بالتقوى‪ .‬واإلنسان أخو اإلنسان ّ‬


‫أحب أم كره)‪(١‬‬

‫ذلك الصوت‪ ،‬كان صوت مح ّمد!‬

‫***‬

‫أما المعذبون في األرض‪.‬‬

‫ضيّقتْ عليھم الحياةُ فباتوا من الوجود‬ ‫أما المش ّردون الذين لفحتھم سمو ُم الصحراء‪ ،‬ونَبَ َذھم المجتمع األجير‪ .‬و َ‬
‫أحق َر من ذ ّرات الرمال‪ ،‬وصاروا من العيش على الصحائف السود؛ أ ّما أولئك فھ ُم أصدقاء صاحب الرسالة‪ ،‬كما‬
‫كان الفقراء والمنبوذون أصدقاء المسيح عيسى بن مريم وأصدقاء غيره من عظماء األرض‪ .‬وھو من أجلھم‬
‫جعل الحكم شورى وح ّرم االستعباد واستغال َل اإلنسان لإلنسان‪ ،‬وأ ّمم بيتَ المال وجھو َد الناس‪ ،‬وألھب ظھور‬
‫سداً في إلّه‪ ،‬وھم‬
‫أعمامه القرشيين بالسياط الخيّرة‪ ،‬وتطلّع بجملة كيانه إلى وحدة الكون مج ّ‬

‫‪ ١‬من أقوال صاحب الرسالة‪.‬‬

‫] ‪[ ٣٢‬‬
‫ص ْبيَةَ فيرجمونه بالحجارة ويسخرون منه!‬
‫يُغرون به السفھا َء وال ّ‬

‫مؤذن الرسول وأول مؤذن في‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫المعذبون في األرضق والمشردون واالرقّاء‪ ،‬الذين كان منھم بالل‬ ‫أ ّما أولئك‬
‫ى من نشيد الصباح وأم ّد سلطانا ً من ِجنح الليل‪ ،‬وأفع َل‬‫ق صد ً‬ ‫اإلسالم‪ ،‬فھم الذين تفتّحتْ قلوبھم على صوت أعم َ‬
‫في النفس من صوت القدَر‪:‬‬

‫»الخلق كلّھم عيا ُل ﷲ وأحبّھم إليه أنفعھم لعياله«)‪(١‬‬

‫ذلك الصوت‪ ،‬كان صوت مح ّمد!‬

‫***‬

‫أما خصو ُمه وراجموه والساخرون به‪ ،‬فقد تلقّوا عن لسانه ھذا الصوت المحيي‪:‬‬

‫ستَ ْغفِ ْر لَ ُھ ْم َو شا ِو ْر ُھ ْم فِي ْاألَ ْم ِر فَإِذا َعزَ ْمتَ‬


‫ضوا ِمنْ َح ْولِ َك فَاعْفُ َع ْن ُھ ْم َو ا ْ‬‫ب الَ ْنفَ ﱡ‬ ‫) َو لَ ْو ُك ْنتَ فَظًّا َغلِيظَ ا ْلقَ ْل ِ‬
‫فَتَ َو ﱠك ْل َعلَى ﷲِ إِنﱠ ﷲَ يُ ِح ﱡب ا ْل ُمتَ َو ﱢكلِينَ ( )‪(٢‬‬

‫ذلك الصوت‪ ،‬كان صوت مح ّمد!‬

‫***‬

‫أ ّما المحاربون في سبيل حياة أفضل‪ ،‬وأما أنصاره ضد الشر‪ ،‬وأما َمن قد تُحدّثھم نفوسھم بھدر الحقوق‬
‫والكرامات في ساعة الجھاد والذود عن الثورة القويمة‪ ،‬فقد ثبتت في قلوبھم ھذه الكلمات الرائعة‪:‬‬

‫»ال تغدروا وال تغلّوا وال تقتلوا وليداً وال امرأة وال شيخا ً فانيا ً وال منعزالً بصومعته‪ ،‬وال تحرقوا نخالً وال‬
‫تقطعوا شجراً وال تھدموا بناء«)‪(٣‬‬

‫ذلك الصوت‪ ،‬كان صوت مح ّمد!‬

‫وحمل العرب من ابن عبدﷲ ذلك الصوتَ الكريم‪ .‬وامتدّوا به أ ّول أمرھم‬

‫‪ ١‬من أقوال صاحب الرسالة‪.‬‬

‫‪ ٢‬آل عمران‪.١٥٩ :‬‬

‫‪ ٣‬من أقوال صاحب الرسالة‪.‬‬

‫] ‪[ ٣٣‬‬

‫ض حتّى أغرقوا فيه ك ّل ذي تاج وسلطان‪ .‬وحتّى أوثقوا الصلة بين اإلنسان واإلنسان‪ ،‬وبين‬ ‫على بسطه األر ِ‬
‫سدھا نب ّي الصحراء إلھا ً سويا ً ال شري َك له!‬
‫االنسان وروح الكائنات التي ج ّ‬

‫واتّسع ظل مح ّمد بن عبدﷲ وتعاظم حتّى اكتنف العالم القديم‪ .‬فإذا ھو من مط ّل الشمس إلى مغربھا أرض تُنبت‬
‫الخي َر والمعرفة والسلم! وإذا بنب ّي الصحراء يم ّد يده فوق الدنيا ليبذر في أرضھا بذور اإلخاء والحب‪.‬‬

‫وصار لدولة العرب رج ٌل في الھند‪ ،‬ورج ٌل في االندلس!‬


‫تاج شعب عظيم!‬
‫جبين الشمس ُ‬
‫ِ‬ ‫وعُقد على‬

‫ت‪ ،‬الدعوةُ إلى اإلخاء اإلنساني‪ .‬وكان رفع أيدي الحكام عن الشعب وأمواله وجھوده‪،‬‬
‫وكانت‪ ،‬على ھذا الصو ِ‬
‫ومساواةُ الناس في الحقوق‪ :‬الصغير والكبير‪ ،‬المحكوم والحاكم‪ ،‬العربي واألعجمي‪ ،‬فالناس كلھم إخوان‬
‫متساوون‪.‬‬

‫وكانت‪ ،‬على ھذا الصوت‪ ،‬الدعوةُ إلى تحريئر المرأة من جور الرجل‪ ،‬وتحرير العالم من ظلم صاحب العمل‪،‬‬
‫وتحرير الرقيق والخدم من العبودية والھوان بما يحمله فك ُر الزمان وتأذن به طبيعةُ المحيط‪ ،‬وإشرا ُك الشعب‬
‫في السلطان‪ ،‬على غير ما رأس فالسفة األولين الذين ق ّرروا حرمان العمال والصنّاع والموالي من الحقوق‬
‫المدينة لـ »انحطاط« ما يمارسونه من المھن والصناعات‪ ،‬وجعلوا الدنيا طبقات في الحقوق والواجبات!‬

‫كان أكثر ما يمكن أن يكون من الخير العا ّم في منطق ذيّاك الزمان وإمكانت أبنائه‪.‬‬

‫وح ّرم ال ّربا واستغالل اإلنسان لإلنسان!‬


‫ُ‬

‫وكان صوت عل ّي بن أبي طالب!‬

‫وكانت ثورةٌ على مجتمع آخذ من ك ّل بغي وعدوان!‬

‫] ‪[ ٣٤‬‬

‫] ‪[ ٣٥‬‬

‫الضمير العمالق‬
‫اإلمام عل ّي بن أبي طالب‪ ،‬عظيم العظماء‪ ،‬نسخة مفردةٌ لم ي َر لھا الشرق وال الغرب صورةً طبق األصل ال قديماً‬
‫وال حديثا ً‪.‬‬

‫شبلي الشميّل‬

‫] ‪[ ٣٦‬‬

‫] ‪[ ٣٧‬‬

‫على ھامة التاريخ‬


‫ما ھو من اآلدميين إالّ بمقدار ما يسمون بمقياس الضمير والوجدان‪.‬‬

‫ھالّ أعرتَ دنياك أذنا ً صاغيةً فتخبرك بما كان من أمر عظيم ما أعطت الدنيا أن تالحدّثك عن مثله إالّ قليالً بين‬
‫وجيل!‬ ‫جيل‬
‫صة الضمير‬ ‫عبقري حملتْ منه في وجدانھا ق ّ‬
‫ﱟ‬ ‫ھالّ أعرتَ دنياك أذنا ً وقلبا ً وعقالً فتُلقي إلى كيانك جميعا ً بخب ِر‬
‫العمالق يعلو ويعلو حتّى لَتھون عليه الدنيا وتھون الحياة‪ .‬ويھون البنونَ واألقربونَ والمال والسلطان ورؤية‬
‫الشمس المشرقة الغاربة‪ .‬وحتى يندفع بصاحبه ارتفاعا ً فما ھو من اآلدميين إالّ بمقدار ما يس ّمون بمقياس‬
‫والوجدان!‬ ‫الضمير‬
‫ھالّ أعرتَ دنياك ھذه األذنَ وھذا القلب وھذا العقل‪ ،‬فتروي لك مع المع ّري‪ ،‬ومع الطيّبين من األقربين‬
‫ق الصريعين‪ ،‬فإذا دماء الشھيد في أواخر الليل‬ ‫واألبعدين‪ ،‬قصةَ الشھادة تصبغ الفجر والشفق بدم العدل والح ّ‬
‫شَفقان!‬ ‫أ َوليائه‬ ‫وفي‬ ‫فجران‬
‫ِ‬
‫ھالّ ضربت بعينيك حيث شئتَ من تاريخ ھذا الشرق‪ ،‬سائالً عن فكر ھو من منطق الخير نقطةُ الدائرة‪ ،‬تشد‬
‫إليھا آراء جديدة في الحياة والموت‪،‬‬

‫] ‪[ ٣٨‬‬

‫ونظرات عميقة في الشرائع واألنظمة والدساتير وقوانين األخالق‪ ،‬وفي مكانھا من المجموعة البشرية على‬
‫صعيد التعامل والتعاطي وربط اإلنسان باإلنسان في مجتمع ھو من الك ّل وللك ّل على السواء!‬

‫ھالّ سألته عن فكر أنتج للناس مذھبا ً في الحكمة ھو من مذاھب العصور ومن نتاجھا القيّم يرثُهُ اال ّولون‬
‫فيورثونه االبناء واألحفاد‪ ،‬وفيجتمعون له‪ ،‬فيأخذون منه بقدر طاقتھم على األخذ وما يتركونه فھو للطالعين‬
‫ال ُمقبلين!‬

‫والناس منه في نعيم‪ .‬وم ّد أمام أنصاره وأخصامه الطريق وما‬


‫ُ‬ ‫ھالّ سألتَه عن ذكاء غريب أورث صاحبَه الشقاء‬
‫يزال! ذكاء العالم الباحث عن كل علّة وك ّل نتيجة؛ الراغب في االكتشاف والتبيين وتركيز ذاته على قواعد‬
‫ونواميس؛ العميق الواسع االدراك‪ ،‬السابر األغوار حتّى ال تفوته أعمال الناس وھي ما تزال في نفوسھم‬
‫خواط َر وفي رؤوسھم أفكاراً! ذكاء العالم الذي أُوتي من المواھب ما جعل عل َمه متصالً بكل علم أخالق ّي جاء‬
‫بعده في ھذا الشرق‪ ،‬بل أصالً له!‬

‫ھالّ عرفت بين العقول عقالً نافذاً كانت له السابقة في إدراك حقيقة كبرى ھي أصل الحقائق االجتماعية وعلّة‬
‫تركيب المجتمع وتسييره على ھذا النحو دون ذاك؛ وھي الموضوع الذي تدور عليه دراسات الباحثين العلماء‬
‫في الشرق والغرب اليوم بعد ألف وأربعمائة عام وما ينيف تم ّر على إدراكه إياھا‪ .‬وال نعني بھا إالّ واقع‬
‫االستغاللية وأساليھا في االحتيال على قواعد الطبيعة‪ ،‬وفي تضليل العقول عن اسبابھا الصحيحة ونتائجھا‬
‫وبعض‬
‫ُ‬ ‫المتحومة‪ .‬وتفاھة منطقھا الذي صنعه األغنيا الستثمار الفقراء‪ ،‬والحكام الحتكار مجھود الناس‪.‬‬
‫االلھيين لتثبيت سلطانھم على األرض!‬

‫ھل عرفتَ العقل الجبار يق ّرر‪ ،‬منذ بضعة عشر قرناً‪ ،‬الحقيقة االجتماعية الكبرى التي تضع حداً ألوھام لھا ألف‬
‫مصدر ومصدر فيعلن أنه »ما جاع‬

‫] ‪[ ٣٩‬‬

‫فقير إالّ بما ُمتّع به غني« ث ّم يردف قائالً لتقييم ھذه الحقيقة‪» :‬ما رأيتُ نعمةً موفورة إالّ وإلى جانبھا حق‬
‫مضيع!« أ ّما إلى أحد ُع ّماله فيبعث بھذا القول في صدد الحديث عن االحتكار‪ ،‬باب الغبن االجتماعي ودعامته‪:‬‬

‫وعيب على الوالة‪ ،‬فامنع من االحتكار!«‬


‫ٌ‬ ‫»وذلك باب مض ّرة للعامأ‪،‬‬

‫ھل عرفت عظيما ً دلّه عقله الجبّار‪ ،‬منذ بضعة عشر قرناً‪ ،‬على اكتشاف س ّر اإلنسانية الصحيح فإذا س ّرھا‬
‫متص ٌل اتصاالً عميقا ً بالشعب الذي لم يكن ح ّكام زمانه وملوكه ليقيموا له وزنا ً أو ليشعروا له بوجود إالّ في‬
‫نطاق ما يكون لھم سلّما ً ومطيّة‪ .‬فإذا كان رافاييل قد اتّخذ من إحدى فالّحات الريف اإليطالي نموذجا ً للعذراء أُ ّم‬
‫ِ‬
‫المسيح ليضع في ھذا النموذج كل ما يحبّه ويريده من معاني الكرم اإلنساني؛ وإذا كان تولستوي وفولتير‬
‫وغيتي قد عملوا في صنيعھم الفكري واالجتماعي ما ھو من روح رافاييل في صنيعه ھذا‪ ،‬فإن ذاك العظيم قد‬
‫سبقھم إليه بمئات السنين مع الفارق بين ظرفه الصعب وظروفھم المؤاتية‪ ،‬وبين مجتمعه الضيّق ومجتمعاتھم‬
‫الواسعة‪ ،‬فإذا ھو يحارب الملوك واألمراء والوالة واألثرياء! يحارب عبثھم وسخف تفكيرھم في سبيل الشعب‬
‫المظلوم المھان فيُقسم قائالً‪» :‬وايم ﷲ‪ ،‬ألنصفنّ المظلوم من ظالمه وألقودنﱠ الظالم بخزامته حتّى أورده منھ َل‬
‫الحق وإن كان كارھا ً«‪ .‬ث ّم يطلق في آذان أمراء زمانه العابثين ھذه الصيحة المد ّوية التي يكمن وراءھا من‬
‫المعرفة لحقيقة أھل االرستقراطية التافھين‪ ،‬المتعالين على تفاھتھم‪ ،‬ولحقيقة الشعب البائس الشقي‪ ،‬ما ال مزيد‬
‫عليه‪ ،‬فيقول بايجاز كأنه صوت القدَر‪» :‬أسفلُكم أعالكم‪ ،‬وأعالكم أسفلُكم!«‪ .‬وما يقصد من وراء ھذا إالّ اإلشارة‬
‫الصريحة إلى ما يُخفي الحرمانُ والجور من مواھب أبناء الشعب في الخير‪ .‬وإلى ما يستتر في ثبات االقطاعيين‬
‫والحكام والمتحكرين من شياطين الشر وأبالسة األذى والمكر!‬

‫] ‪[ ٤٠‬‬

‫ھل عرفتَ عظيما ً ساق إلى مدارك الناس حقيقةً إنسانية قديمة كاألزل‪ ،‬باقية كاألبد‪ ،‬عميقة حتّى ليستشفّھا كبار‬
‫العقول والنفوس ك ٌل منھم على نھجه ووفق مزاجه‪ ،‬وحتّى ليأبى العاديّون إالّ العيش في ظاللھا وھم ال يعرفون‪.‬‬
‫سط لھم األجداد واآلباء من أفكار وآراء ال تتطلب منھم عنا ًء وال جھداً أل نّھا أُن ِزلت فيھم‬
‫فإذا بھم يرضون بما ق َ‬
‫البحث عن المطلق‬ ‫َ‬ ‫منزلةَ العادة والتقليد‪ .‬حقيقة كانت أساسا ً لفلسفات إيجابية‪ ،‬وأُخرى سلبية‪ ،‬وأعني بھا‬
‫لالستقرار‪ .‬والبحث عن المطلق ال يعني في أعماقه الالّ البحث عن الحقيقة في وجه من الوجوه‪ .‬يتعاون في ھذا‬
‫البحث العق ُل والقلب والخيال وما ينبثق عنھا من خلق‪ ،‬ثم الظرفُ والمناسبة والدوافع والنوازع على اختالف‬
‫معانيھا وأشكالھا‪ .‬وقد أدرك ھذا المطلق على نحو معيّن‪ .‬ثم أدرك بعقله وقلبه إن في كل استقرار على المطلق‬
‫قوة؛ فإذا ھو مثا ُل ھذه القوة؛ وإذا ق ّوته تبدو في انتصاره وانكساره على السواء أل نّھا‪ ،‬ھنا وھناك‪ ،‬ھي الغالبة‬
‫ان عندھا النصر والھزيمة في ميدان القتال وميدان السياسة وكل ميدان‪ .‬فليس في الغلبة أو الھزيمة‬ ‫القاھرة سيّ ِ‬
‫مح ّك لھا؛ فھي إنّما تحمل بذاتھا ك ّل مقياس وكل ميزان!‬

‫ھل سألت تاريخ ھذا الشرق عن صالبة العقيدة ال تُج ّرحھا الزالز ُل وال يشوبھا من البراكين وھَنٌ ! وأي زلزال‬
‫أش ّد على العقيدة من ائتمار أقلّه إجماع الخصوم‪ ،‬وھم ُك ْث ٌر أقوياء‪ ،‬على التخطئة والتكفير وما إليھما من ذنوب!‬
‫ق للعقيدة من التھديد بالموت المحتوم‪ ،‬ث ّم من الموت نفسه! ث ّم‪ ،‬ھل سألتَ كيف يكون الصراع‬ ‫ي بركان أحر ُ‬ ‫وأ ّ‬
‫يوارب وال يساوم‪ ،‬وال ينطوي على نفع وال يدور في نطاق من األثرة واالستعالء‪ ،‬اللھ ّم إالّ‬ ‫ُ‬ ‫ال‬ ‫العقيدة‬ ‫أجل‬
‫من ِ‬
‫إذا كان نجاح العقيدة ھو النفع واالستعالء واألثرة!‬

‫ھل طلبتَ إلى الدنيا أن تناجيك بحديث الرحمة تنطلق من قلب مألته الرحمة ومن لسان تجري عليه بَرداً‬
‫وسالماً‪ ،‬فإذا ھي القوة الغالبة تتحطم‬

‫] ‪[ ٤١‬‬

‫المتفجر ِة بالمغريات تأتي من غير مصدرھا‪ ،‬في عھد ھو عھد القسوة واالستغالل‬
‫ّ‬ ‫على بابھا مغرياتُ األرض‬
‫واحتكار المنافع يتقاتل عليھا الخصوم ث ّم يلتقون على قتال صاحب القلب واللسان الرحيمين!‬

‫ھل عرفتَ البراءة في قاموس الكلمات التي يردّدھا الناس ويكتبونھا ويعيشونھا في كثيرھم أو قليلھم وك ّل منھم‬
‫بحكم تكوينه‪ ،‬تنادي إليھا أخواتھا جميعا ً من سالمة القلب وصفاء النية‪ ،‬والطھارة الخالصة التي لو‬ ‫يأخذ منھا ُ‬
‫َمثّلَتھا ل َما أحسنتَ لھا تشبيھا ً بدموع الليل وأنداء الفجر ألنّھا طھارةُ اإلنسان ما فَ ِ‬
‫ضلَه فج ٌر وال ليل! البراءة‬
‫الصافية الطاھرة تنبع من القلب السليم الطاھر الذي تطمئنّ إلى صاحبه كما يطمئنّ الشتاء إلى حرارة الشمس‪،‬‬
‫وتثق به كما تثق األرض بالماء فتحيا وتخض ّر!‬

‫ھل عرفتَ عظيما ً أدرك من أسباب المحبة والوفاء فوق ما أدرك اآلخرون! ث ّم ما أدرك ھذه المحبةَ وھذا الوفاء‬
‫ب وما تكلّف حباً‪ ،‬ووفى وما تكلّف وفا ًء‪ ،‬وفھ َم‬ ‫إالّ في نطاق الطبع الخالص الذي يجري بنفسه من نفسه‪َ ،‬‬
‫فأح ّ‬
‫سه إن الحرية لھا قدسيّةٌ يريدھا الوجو ُد ويأبى عنھا بديالً وفي رح ْبھا تدور كل عاطفة‬
‫بعميق فكره وعميق ح ّ‬
‫وكل فكر؛ وفي رحبھا يكون الحب ويجري الوفاء صريحين طليقين‪ ،‬فإذا »ش ّر االخوان َمن تُكلّف لَه« وإذا‬
‫خيرھم غير ھذا!‬
‫ھل سألت عن حاكم ّ‬
‫يحذر نفسه أن يأكل خبزاً فيشبع في َموان يكثر فيھا َمن ال عھ َد لھم بِشبَع؛ وأنْ يلبس ثوباً‬
‫ناعما ً وفي أبناء الشعب من يرتدي خشن اللباس؛ وأن يقتني درھما ً وفي الناس فق ٌر وحاجة؛ ويوصي أبناءه‬
‫لمكان دينار طَلَبَه من مال الشعب من غير‬‫ِ‬ ‫وأنصاره أالّ يسيروا مع نفوسھم غير ھذه السيرة؛ ثم يقاضي أخاه‬
‫بالء‪ ،‬ويقاضي أعوانه ومبايعيه ووالته من أجل رغيف يأكلونه في رشوة من غن ّي‪ .‬فيتھدّد ويتوعّد ويبعث إلى‬
‫أحد‬

‫] ‪[ ٤٢‬‬

‫ُوالته بأنه يُقسم با صادقا ً إنْ ھو خان من مال الشعب شيئا ً صغيراً أو كبيراً ليَشدّنّ عيه ش ّدةً ت َدعُه قلي َل الو ْفر‪،‬‬
‫ثقيل الظھر‪ ،‬ضئيل األمر‪ .‬ويخاطب آخر بھذا القول الموجز الرائع االيجاز‪» :‬بلغني أنك ج ّردتَ األرض فأخذت ما‬
‫تحت قدميك‪ ،‬وأكلتَ ما تحت قدميك‪ ،‬فارفع إل ّي حسابك«‪ .‬ويتوعد ثالثا ً ممن يرتشون ويسعون في االثراء على‬
‫ألعذرنّ‬
‫َ‬ ‫ّق ﷲ وارد ْد إلى ھؤالء أموالھم‪ ،‬فإنك إن لم تفعل ث ّم أمكنني ﷲ منك‬ ‫حساب المستضعفين‪ ،‬يقول‪» :‬فات ِ‬
‫إلى فيك‪ ،‬وألضربنّك بسيفي الذي ما ضربتُ به أحداً إالّ دخل النار!«‬

‫الخلق أميراً على زمانه ومكانه يطحن لنفسه فيأكل من يطحن خبزاً يابسا ً يكسره على ركبتيه؛‬ ‫ِ‬ ‫ھل عرفتَ من‬
‫ويرقع خفّه بيديه؛ وال يكتنز من دنياه كثيراً أو قليالً على ما م ّر‪ ،‬ألنّ ھ ّمه ليس إالّ أن يكون للمستض َعف‬
‫والمظلوم والفقير يُنصفھم من المستغلّين والمتحكرين ويمسك عليھم الحياةَ وكريم العيش؛ فما يعنيه أن يشبع‬
‫ويرتوي وينام ھانئا ً وفي األرض »من ال طمع له في القرص« وفيھا »بطونٌ غرثى وأكبا ٌد ح ّرى« قائالً‪ ،‬ويا‬
‫لشرف القول‪» :‬أأقنع من نفسي بأن يقال أمي ُر المؤمنين وال أُشاركھم مكارهَ الدھر؟« وألنّ أقل ما في ھذه الدنيا‬
‫شأنا ً ھو خي ٌر عنده من والية الناس إن لم يُقم حقا ً ويُزھق باطالً؟!‬

‫ق في أقاليم األرض جميعا ً‪ .‬وما‬


‫تألب عليه الخل ُ‬
‫ّ‬ ‫ھل عرفتَ ‪ ،‬في موطن العدالة‪ ،‬عظيما ً ما كان إالّ على ح ّ‬
‫ق ولو‬
‫كان عد ّوه إالّ على باطل ولو مأل السھ َل والجبل‪ .‬ألنّ العدالة فيه فيست مذھبا ً مكتسبا ً وإنْ اصبحتْ في نھجه‬
‫مذھبا ً فيما بعد؛ وليست خطةً أوضح ْتتھا سياسة الدولة وإنْ كان ھذا الجانبال من مفاھيمھا لديه؛ وليست طريقا ً‬
‫يسلكھا عن ع ْمد فتوصله من أھل المجتمع إلى مكان الصدارة وإن ھو سلَكھا فأوصل ْته إلى قلوب الطيّبين‪ ،‬بل‬
‫ألنھا في‬

‫] ‪[ ٤٣‬‬

‫بنيانه األخالقي واألدبي أصل يتّحد بأصول‪ ،‬وطب ٌع ال يمكنه أن يجوز ذاته فيخرج عليھا‪ ،‬حتى لكأنّ ھذه العدالة‬
‫وروح في روحه!‬
‫ٌ‬ ‫مادةٌ ُر ّكب منھا بُنيانه الجسماني نَف ُ‬
‫سه في جملة ما ُر ّكب منه‪ ،‬فإذا ھي د ٌم في دمه‬

‫ھل عرفتَ ‪ ،‬في موطن الخصومات‪ ،‬عظيما ً حاربه ذوو المنافع وفيھم نَف ٌر من ذوي قُرباه‪ ،‬وقاتَلوه‪ ،‬فخذل ِ‬
‫ت‬
‫ب الدنيا بسيف ظالم غاشم‪.‬‬ ‫المفاھي ُم اإلنسانيةُ المنتصرين عليه ألنه انتصا ٌر للحيلة والمساومة واالئتمار وكس ِ‬
‫ت المنكس َر ألن انكساره‪ ،‬في ضوء العقل والقلب‪ ،‬يتضمن جوھر الشھادة في سبيل كرامة اإلنسان‬ ‫ورفع ِ‬
‫ً‬
‫وحقوقه وما يتوق إليه من بلوغه العدالة والمساواة‪ .‬وھكذا كان نص ُرھم ھزيمة وانكساره انتصاراً عظيما ً‬
‫لقيمة اإلنسان!‬

‫فائق الشجاعة‪ ،‬يبلغ به حبّه لصفة اإلنسان في مقاتليه‪ ،‬ويبلغ عطفُه‬‫ِ‬ ‫ھل سألت التاريخ عن محارب شجاع‬
‫عليھم أن يوصي أصحابه‪ ،‬وھو المصلح الصالح الكريم المغدور به‪ ،‬فيقول‪» :‬ال تقاتلوھم حتّى يَبدأوكم‪ ،‬فإذا‬
‫كانت الھزيمة بإذن ﷲ فال تقتلوا مدبراً‪ ،‬وال تصيبوا مع ِوراً‪ ،‬وال تجھزوا على جريح‪ ،‬وال تھيجوا النساء‬
‫بأذى!« ثم تُجليه عن الماء عشراتُ األلوف المؤلفة من طالبي دمه على غير حقّ‪ ،‬ويُبلغونه أنھم سيمنعون‬
‫عنه الماء الجاري حتّى يموت عطشا ً‪ .‬فيزلزلھم عن الماء ويحتلّه‪ .‬ث ّم يدعوھم إلى ھذا الماء أُسوةً بنفسه‬
‫وبصحبه وبالطير الشارب وال زاج َر له‪ ،‬ث ّم يقول‪» :‬ما المجاھد الشھيد في سبيل ﷲ بأعظم أجراً م ّمن قد َر فعف‪:‬‬
‫لكاد أن يكون مالكا ً من المالئكة« حتّى إذا ھو طالته الي ُد اآلثمة فقضتْ عليه‪ ،‬قال لصحبه بشأن قاتله‪» :‬ألنّ‬
‫تَعفوا أقرب إلى التقوى!«‬
‫أسباب الشجاعة الغريبة والفروسية النادرة‪ .‬بأسباب العطف والحنان العجيبين‪،‬‬
‫ُ‬ ‫محارب شجاع تتصل في قلبه‬
‫فيصرع‪ .‬وھو ال يعاتبھم إالّ منفرداً‪ ،‬أعزل‪ .‬حاسر الرأس‪ .‬وھم‬
‫َ‬ ‫يضرب‬
‫َ‬ ‫فيعاتب المتآمرين به وله القدرة على أنْ‬

‫] ‪[ ٤٤‬‬

‫مدججون بالسالح ال يكاد يبدو لھم وجهٌ إالّ من خالله؛ ث ّم يذ ّكرھم باالخاء اإلنساني وبالمودّات؛ ث ّم يبكي لھم إذا‬
‫ھم حثّوا السير في ھذا الطريق‪ .‬حتى إذا أبوا إالّ د َمه وھو سيف المستض َعف والمحروم‪ ،‬صبر لھم حتّى يبدأوه‬
‫الرياح السافيات برمال‬
‫ُ‬ ‫التقال‪ ،‬ث ّم راح يُزلزلھم زلزلةً ويقصفھم قصفا ً ويعصف‪ ،‬بمطامعھم كما تعصف‬
‫الصحراء فتذروھا بَدَداً بدداً‪ .‬وھو ال يصرع منھم إالّ الطاغية الباغية الذي تَبيّن فيه العداء والقصد للشر! ث ّم إذا‬
‫ظفر بكى قتالھم وھم في الواقع قتلى األنانية واألثرة تأتيھم من المطمع السقيم والھوى المنحرف!‬ ‫ھو َ‬

‫ھل عرفتَ من الخلق أميراً توافرت لديه أسباب السلطان والثروة كما لم تتوافر لسواه فإذا ھو منھا جميعا ً في‬
‫شقاء وحسرة دائمين‪ .‬وتوافرت لديه محاسن الحسب الشريف فقال‪» :‬ال حسب كالتواضع«‪ .‬وأحبّه محبّوه‬
‫محب غال« بعد أن خاطب نفسه‬ ‫ّ‬ ‫فقال‪» :‬من أحبني فليستع َد للفقر جلبابا ً«‪ .‬وغالوا في حبّه فقال‪» :‬ھلك ف ّي‬
‫يقول‪» :‬اللھ ّم اغفر لنا ما ال يعلمون!« فأل ّھوه‪ ،‬فعاقبھم أشد عقاب! وكرھه آخرون فوقف منھم موقف الناصح‬
‫الخوانه في الخلق‪ .‬وسبّوه فاستاء صحبُه وأجابوھم بالسباب فقال لھم‪» :‬أكره لكم أن تكونوا سبّابين‪«.‬‬
‫عاتب أخاك باالحسان إليه وارددْه‬
‫ْ‬ ‫وخاصموه وأساؤوا إليه وما حفظوا له غيبةً ثم خرجوا عليه‪ ،‬فكان يقول‪» :‬‬
‫باالنعام عليه«‪ .‬و »ال يكوننّ أخوك على مقاطعتك أقوى منك على صلته‪ ،‬وال يكونن على االساءة أقوى منك‬
‫على االحسان«‪ .‬وأغروه بمسايرة بعض اآلثمين‪ ،‬ولو إلى حين‪ ،‬حفاظا ً على سلطانه‪ ،‬فقال‪» :‬صديقك من نھاك‬
‫وعد ّوك من أغراك« ثم أردف‪» :‬آث ِر الصدق حيث يض ّر بك على الكذب حيث ينفعك«‪ .‬وحاربَه َمنْ أسدى إليھم‬
‫معروفه‪ ،‬فخاطب نفسه يقول‪» :‬ال يُزھّدنّك بالمعروف من ال يشكر لك«‪ .‬وتحدّثوا لديه عن نعيم األرض فنظر‬
‫إلى المتحدث يقول‪» :‬كفى‬

‫] ‪[ ٤٥‬‬

‫بحسن الخلق نعيما ً«‪ .‬ثم عادوا يُغرونه بالنصر يأتيه على أسلوب الحاكمين‪ ،‬فقال‪» :‬ما ظفِ َر َمن ظفِر االثم به‪،‬‬
‫فغض عنھا طرفه وسال خاطره وھو‬ ‫ّ‬ ‫والغالب بالشر مغلوب«‪ .‬وعلم من سيئات أخصامه ما ال يعرفه سواه‪،‬‬
‫أشرفُ أعمال الكريم َغ ْفلَتُه ع ّما يعلم«‪ .‬وأعان أعداؤه والج َھلةُ من أنصاره الدھ َر عليه بما يُدخل‬
‫يردد‪َ » :‬‬
‫التشاؤم بالناس في ك ّل قلب‪ ،‬فإذا به ما يزال يقول‪» :‬ال تظنّنّ بكلمة خرجتْ من أحد سوءاً وأنتَ تج ُد لھا في‬
‫الخير ُم ْحتَ َمالً!«‬

‫أخ لك في الدين أو نظي ٌر لك في‬‫ھل عرفت إماما ً لدين يوصي ُوالته بمثل ھذا القول في الناس‪» :‬فإنھم ال ّما ٌ‬
‫أعطھم من عفوك وصفحك مث َل الذي تحب أن يعطيك ﷲ من عفوه وصفحه!« ھل عرفت صاحب سلطان‬ ‫الخلق‪ِ .‬‬
‫القرص الذي يُمسك عليه الحياةَ وما‬
‫َ‬ ‫ق في الشعب‪ ،‬وصاحب ثروة أنكر منھا إالّ‬ ‫تم ّرد على سلطانه القامة الح ّ‬
‫الحياةُ لديه إالّ نفع إخوانه في الخلق‪ ...‬أ ّما الدنيا فلتغ ّر سواه!‬

‫الفني‬
‫ّ‬ ‫ث ّم‪ ،‬ھل سألت تاريخ ھذا الشرق عن نھج للبالغة آخذ من الفكر والخيال والعاطفة آيات تتّصل بالذوق‬
‫متفجر بالحسن المشبوب‬ ‫ّ‬ ‫الرفيع ما بقي اإلنسان وما بقي له خيال وعاطفة وفكر؛ مترابط باياته متساوق؛‬
‫واإلدراك البعيد؛ متدفّق بلوعة الواقع وحرارة الحقيقة والشوق إلى معرفة ما وراء الواقع‪ ،‬متآلف يجمع بين‬
‫جمال الموضوع وجمال االخراج حتى ليندمج التعبي ُر بالمدلول‪ ،‬فما أنت إزاءه إالّ ما يكون المرء قبالةً السيل إذ‬
‫ث الطبيعي الذي الب ّد له أن يكون بالضرورة على ما ھو‬ ‫ينحدر والبحر إذ يتم ّوج والريح إذ تطوف‪ ،‬أو قبالة الحد ِ‬
‫كائنٌ عليه من الوحدة التي ال تُف ّرق بين عناصرھا إالّ لتمحو وجودَھا وتجعلھا إلى غير َك ْون!‬

‫] ‪[ ٤٦‬‬
‫الحس السمعي للعقل بحيث يح ّول لك المعاني إلى أنعام ھي في ح ّد ذاتھا المعاني الكاملة‬
‫ّ‬ ‫بيانٌ ھو من مشاركة‬
‫الحس النظري للعقل بحيث يح ّول لك المعاني إلى لوحات فنيّة‬
‫ّ‬ ‫كما تشاء الطبيعةُ الحيّة وتريد‪ .‬وھو من مشاركة‬
‫بروائع الفن تتمازج به صو ٌر وموسيقى‪ ،‬وأنغا ٌم‬
‫ِ‬ ‫لھا خطوطُھا وأشكالھا وألوآنھا فإذا بك من ذلك في عالم زاخر‬
‫وألوان!‬

‫النقض على لسان العاصفة انقضاضا ً‪ .‬ولو ھدّد الفسا َد والمفسدين لَت ّ‬
‫َفجر براكينَ لھا‬ ‫ّ‬ ‫ق بالتقريع‬ ‫بيانٌ لو نط َ‬
‫أضوا ٌء وأصوات‪ .‬ولو انبسط في منطق لَخاطَ َب العقو َل والمشاعر فأقفل ك ّل باب على ك ّل حجة غير ما ينبسط‬
‫وصالً‪.‬‬
‫صلك بالكون ْ‬ ‫س ْوقاً‪َ ،‬و َو َ‬
‫الحس وأصل التفكير فساقك إلى ما يريده َ‬
‫ّ‬ ‫فيه‪ .‬ولو دعا إلى تأ ّمل لَرافق فيك َم ْنشأ‬
‫ووحد فيك القوى لالكتشاف توحيداً‪ .‬وھو لو راعاك ألدركتَ حنان األب ومنطق األبوة وصدْق الوفاء االنساني‬ ‫ّ‬
‫وحرارة المحبة التي تبدأ وال تنتھي! أ ّما إذا تحدّث إليك عن بھاء الوجود وجماالت الخلق وكماالت الكون‪ ،‬فإنما‬
‫يكتب على قلبك بمداد من نور النجوم! بيانٌ ھو بالغةٌ من البالغة‪ ،‬وتنزي ُل من التنزيل! بيان اتّصل بأسباب‬
‫البيان العربي ما كان منه وما يكون‪ ،‬حتى قال أحدھم في صاحبه‪ :‬إن كالمه دون كالم الخالق وفوق كالم‬
‫المخلوق!‬

‫ھل عرفتَ عقالً كھذا العقل‪ ،‬وعلما ً كھذا العلم‪ ،‬وبالغةً كھذه البالغة‪ ،‬وشجاعةً كھذه الشجاعة‪ ،‬تكتمل من‬
‫الحنان بما ال يعرف حدوداً حتى ليبھرك ھذا القدر من الحنان كما يبھرك ذلك القدر من المزايا تلتقي جميعاً‬
‫ي الحاكم القائد الذي يترك الناس‬ ‫وتتّحد في رج ّل من أبناء آدم وحواء‪ .‬فإذا ھو العالم المفكر األديب االدار ّ‬
‫والحكام وذوي المطامع والجيوش يتآمرون به‪ ،‬ليُقل عليك فيھ ّز فيك مشاع َر اإلنسان الذي له عواطف وأفكار‪،‬‬
‫فيھمس في قلبك ھذه النجوى الرائعة بما فيھا من حرارة العاطفة الكريمة قائالً‪» :‬فَ ْقد األحبّة‬

‫] ‪[ ٤٧‬‬

‫وأعط َمن‬
‫ِ‬ ‫غربة« أو »ال تشمت بالمصائب« أو »ليكن دن ّوك من الناس لينا ً ورحمة« أو »واعفُ عمن ظلمك‬
‫وصل َمن قطعك وال تبغض من أبغضك!«‬
‫حرمك ِ‬

‫ھل عرفتَ من الخلق عظيما ً يلتقي مع المفكرين بسم ّو فكرھم‪ ،‬ومع الخيّرين بحبھم العميق للخير‪ ،‬ومع العلماء‬
‫بعلمھم‪ ،‬ومع الباحثين بتنقيبھم‪ ،‬ومع ذوي المودّة بموادتھم‪ ،‬ومع الزھاد بزھدھم‪ ،‬ومع المصلحين باصالحھم‪،‬‬
‫ومع المتألمين باالمھم‪ ،‬ومع المظلومين بمشاعرھم وتمردھم‪ ،‬ومع األدباء بأدبھم‪ ،‬ومع األبطال ببطوالتھم‪،‬‬
‫ومع الشھداء بشھادتھم‪ ،‬ومع كل انسانية بما يش ّرفھا ويرفع من شأنھا‪ ،‬ث ّم إنّ له في ك ّل ذلك فضل القول الناتج‬
‫عن العمل‪ ،‬والتضحية المتصلة بالتضيحة‪ ،‬والسابقة في الزمان!‬

‫عظيما ً يھون لديك أمر غالبيه ونصر المنتصرين عليه ألنّ أيامھم إنّما ھي من األيام التي ﱠ‬
‫عجت بالمنتاقضات‬
‫ضھا سماءھا!‬ ‫واصطبغت بالغرائب حتّى أصبح فيھا شمال الحياة بمينھا وتحتُھا فوقَھا وأر ُ‬

‫وسوا ٌء لدى الحقيقة والتاريخ أعرفتَ ھذا العظيم أم لم تعرف؛ فالتاريخ والحقيقة يشھدان أنه الضمير العمالق‬
‫الشھيد أبو الشھداء عل ّي بن أبي طالب صوت العدالة اإلنسانية وشخصية الشرق الخالدة!‬

‫ت في كل زمن عليّا ً بعقله وقلبه ولسانه وذي فقاره!!‬


‫قواك فأعطي ِ‬
‫ِ‬ ‫ت‬
‫عليك يا دنيا لو حشد ِ‬
‫ِ‬ ‫وماذا‬

‫] ‪[ ٤٨‬‬

‫] ‪[ ٤٩‬‬
‫من الجذور العل ّوية‬
‫تسبح في صفاء السماء‪ ،‬حتّى إذا استوتْ في مكانھا من الفضاء الالنھائي‬
‫ُ‬ ‫الشمس‬
‫َ‬ ‫يشھدان‬
‫ِ‬ ‫ويلبثان معا ً‬
‫ِ‬ ‫ـ‬
‫العجيب‪ ،‬لبثتْ قليالً ث ﱠم راحت تھوي إلى جانب من الكون مجھول!‬

‫ـ كانت عبقريّة عل ّي تتفتح فيه‪ ،‬وھو صب ّي‪ ،‬شعوراً عميقا ً طاغيا ً بنصرة الخير‪ ،‬وتضحيات أشبه بصنُع‬
‫المعجزات! )علي وحقوق اإلنسان ـ ‪(٤‬‬

‫] ‪[ ٥٠‬‬

‫] ‪[ ٥١‬‬

‫النّب ّي وأبو طالب‬


‫وكأنﱠ ق ﱠوة الكون أرادت لھما أن يستيقظا معاً في وحدة الطبيع ِة وامتثال النجوم‪ ،‬على روعة َ‬
‫الخلق وفتنة‬
‫وص َخب الحياة!‬
‫الوجود‪ .‬وعلى جمال األزل واألبد يجتمعان في كواكب السماء‪ ،‬وشفوف األثير‪ ،‬وحركة األرض‪َ ،‬‬
‫إذا نظرنا من األمور إلى بواطنھا دون ظواھرھا‪ ،‬وإلى معانيھا دون أشكالھا‪ ،‬وإلى استمرار حقيقتھا باإلجمال ال‬
‫علي بن أبي طالب ھي قضية مح ّمد بن عبدﷲ‪ .‬وأن موقف‬ ‫ّ‬ ‫إلى تأريخ جزئياتھا بالتفصيل‪ ،‬تبيّنَ لنا أن قضية‬
‫علي وأنصاره من معاوية وجماعته ھو موقف الرسول والمسلمين األ ّول من أبي سفيان وأبي جھل و َمن‬
‫وراءھما من العصابة القرشية‪ ،‬مع فارق واحد ھو أنّ الرسول استطاع أن يقھر عصابة التجار والمستبدين‬
‫والمستغلين وبائعي الدنيا برتبة وبدولة من قريش‪ ،‬فيما اختلف الظرفُ وحساب األقدار بالنسبة لعل ّي بن أبي‬
‫طالب فلم يقھر عصابة التجار والمستبدين والمستغلين وبائعي الدنيا برتبة وبدولة من األسرة األموية‪.‬‬

‫ولكن‪ ،‬إذا فات عليّا ً أن يحكم في رقاب الناس كبني أميّة‪ ،‬وما كانت رسالته في مثل ھذا الحكم‪ ،‬فما فاته أن يحكم‬
‫في قلوب الطيّبين من الناس‪ .‬وله من صفات اإلنسان األمثل ما يجعله جديدراً بالسلطان على القلوب‪.‬‬

‫] ‪[ ٥٢‬‬

‫وقبل أن أبدأ الكالم على عل ّي بن أبي طالب‪ ،‬الب ّد من أن ألقي نظرةً عجلى إلى الوراء‪ ،‬الستجالء الرابطة‬
‫العميقة التي تش ّد عليّا ً وذويه إلى مح ّمد ابن عبدﷲ‪ ،‬سواء في الحوادث الجزئية التي تحمل تاريخا ً وأرقاماً‪ ،‬أو‬
‫في األجواء الروحية واألديبة التي تھيأت في بيت واحد‪ ،‬واجتمعت في ھذا وذاك من أھل البيتا‪ ،‬وكان الرسول‬
‫التعبير األمثل واألكمل عن ھذه األجواء‪ ،‬وكذلك كان ابن أبي طالب‪.‬‬

‫حين ُحرم الرسول منو حدْب األب وحنان األم‪ ،‬كفِله جدّه ـ وج ّد علي ـ عبدالمطلب الھاشمي‪ .‬وكان جده يحبه‬
‫ويفديه بنفسه‪ .‬وكثيراً ما حدّث جلساءه وھو ينظر إلى حفيده‪ ،‬بأنّه سيكون لھذا الطفل شأنٌ عظيم‪ .‬وقد رفعه‬
‫جده‪ ،‬مع صغر سنه‪ ،‬وأقعده في مجلسه العام‪ ،‬دون أعمامه‪ ،‬في ظالل الكعبة‪.‬‬

‫ولما توفي جدّه‪ ،‬كفله عمه أبو طالب ـ والد عل ّي ـ فاستمر الغالم يحيا في ج ّو الحنان والدعة وحسن التربية‬
‫الذي خلّفه األب الراحل لالبن المقيم‪.‬‬
‫أ ّما كيف كفِله أبو طالب بعد أبيه وھو أش ّد إخوته عَوزاً وأكثرھم بنين‪ .‬فألنّ أباه عبدالمطّلب حين احتضر للموت‬
‫صة ھذا االختيار مقبولةٌ معقولة‪.‬‬
‫صه دون سائر أبنائه بشرف ھذه الكفالة وھذه الرعاية‪ .‬وق ّ‬ ‫دعا أبا طالب وخ ّ‬
‫فعبد المطّلب يعرف أبناءه واحداً واحداً ويُدرك من حقيقتھم ما بدا وما خفي‪ .‬وھو ما اختار أبا طالب استئناسا ً‬
‫بما يعرف من أمره وما يُدرك‪ .‬فإنّ الحنان والعطف وإنْ كان ألكثر ُولد عبدالمطّلب منھما نصيب‪ ،‬لم يبلغا في‬
‫قلوبھم من القوة والبعد ما بَلَغا في قلب أبي طالب‪ .‬وأثر الحنان والعطف في ُحسن الكفالة والرعاية أظھ ُر من‬
‫أضف إلى ھذا أن أبا طالب كان يضمر من العطف على‬ ‫أثر المال‪ .‬لذلك كله اختار أبا طالب أبوه لرعاية مح ّمد‪ِ .‬‬
‫ابن أخيه ما يدفعه دفعا ً إلى رعايته وإن لم يكلّفه ذلك أبوه‪ .‬فكيف إذا اجتمع‬

‫] ‪[ ٥٣‬‬

‫ھذا العطف وھذا التكليف‪.‬‬

‫وم ّما ال مراء فيه أن أبا طالب صاحب شخصية جميلة ومحبّبة‪ .‬شخصية جميلة تطالعنا بحكمة الشيخ الطيّب‬
‫األمين المج ّرب الذي يضع ك ّل ما أُوتي من طيبة وأمانة وتجربة موض َع العمل والتنفيذ في ك ّل حال‪.‬‬

‫وھذه الصفات التي يستجليھا شيئا ً فشيئا ً ك ّل من اطّلع على سيرة ھذا الشيخ الجليل‪ ،‬ھي التي أدركھا القرشيون‬
‫من أھل الجاھلية ساعة قالوا فيه‪» :‬قَ ّل أن يسود فقي ٌر وساد أبو طالب«‪.‬‬

‫وفي ھذا القول إشارة صريحة إلى نظر أھل مكة قبل اإلسالم إلى شؤون السيادة وكيف أنھا ال تُص ّرف إالّ على‬
‫أيدي األغنياء‪ .‬وفيه كذلك إشارة صريحة إلى عظمة ُخلق أبي طالب التي ھيّأ ْته بالرغم من فقره إلى أن يسود‬
‫ويعلو رأيُه آراء األثرياء‪.‬‬

‫واستم ّرت األخالق الخيّرة التي يتميّز بھا بيت عبدالمطلب تتركز في نفسية مح ّمد وتبدو في تص ّرفاته‪ .‬حتّى لكأنّ‬
‫ﷲ ل ّما اختار رسوله من بني عبدالمطلب اختار لتنشئته ھذا الع ّم الكريم‪ .‬وكأنّ قوة الوجود الشاملة ھيّأت ألبي‬
‫طالب أن يعلم من أمر ابن أخيه ما ال يعلمه سواه‪ .‬فإذا ھو يخرج بالصب ّي في يوم قحط وجدب‪ ،‬ويطلب إليه‬
‫برفق ولين أن يلصق ظھره بالكعبة‪ .‬فإذا الصب ّي يفعل ما طلب إليه ع ّمه‪ ،‬ويلوذ بإصبعه نحو السماء وما في‬
‫السماء آنذاك غيمةٌ أو قَ َز َعةٌ من غيم‪ .‬فإذا بالسحاب يُقبل من ھنا ومن ھنا‪ ،‬فيھطل المطر‪ ،‬فيخصب الوادي‬
‫وتحيا األرض‪ .‬فل ّما سئل أبو طالب عن ھذا الصب ّي قال‪ :‬ھو مح ّمد ابن أخي وفيه أقول‪:‬‬

‫وأبيض يُستسقى الغمام بوجھه *** ثمال اليتمامى‪ ،‬عصمةٌ لألرامل‬

‫التحاب وتعاطي الخير بين الصبي وع ّمه‪.‬‬


‫ّ‬ ‫ومھما يكن من شأن ھذه الرواية‪ ،‬فھي رم ٌز إلى مقدار عظيم من‬

‫] ‪[ ٥٤‬‬

‫ويستم ّر أبو طالب في شرف خدمة ھذا الصبي‪ .‬ويبادله الحنان والمودّة والعطف‪ .‬ويرافقه دائما ً فال ينام إالّ إلى‬
‫جنبه ويخرج فيخرج معه‪ .‬وكثيراً ما تھطل عيناه بالدمع ساعة ينظر إليه مشفقا ً قائالً‪ :‬إذا رأيتُه ذكرتُ أخي أباه‪.‬‬

‫ويتھيّأ أبو طالب للرحيل إلى الشام في ر ّكب للتجارة‪ .‬فحين يعزم على المسير ينظرب إليه مح ّمد ويقول‪» :‬يا‬
‫ق له أبو طالب ويردفه خلفه ويقول‪» :‬وﷲ ألخرجنّ به معي ال‬ ‫ع ّم‪ ،‬إلى َمن تكلُني ال أب لي وال أُ ّم!« فير ّ‬
‫يفارقني وال أُفارقه أبداً«‪.‬‬

‫ق سفر له إلى الشام وھو ما يزال في حدود الرابعة عشرة أو ما‬ ‫وھكذا يأبى أبو طالب إالّ أن يكون مح ّم ٌد رفي َ‬
‫يق ّل‪ .‬فيم ّران ب َمدين ووادي القرى وديار ثمود‪ .‬ويقفان من بالد الشام عند جنائن األرض‪ .‬ويلبثان معا ً يشھدان‬
‫تسبح في صفاء السماء ويُشرق وجھھا فوق ما ترامى من األرض‬ ‫ُ‬ ‫الطبيعة الحيّة والصامتة‪ .‬يشھدان الشمس‬
‫وأطرافِھا‪ ،‬حتّى إذا استوتال في مكانھا من الفضاء الالنھائي العجيب‪ .‬لبثتْ قليالً ث ّم راحت تھوي إلى جانب من‬
‫الكون مجھول! وھي إذا لملمتْ آخر شعاعاتھا وغاصت وراء تُخوم األرض‪ ،‬أقبل الليل يمت ّد ويسو ّد ويُلبس كل‬
‫وميض ليّنٌ من نجوم السماء!‬
‫ٌ‬ ‫شيء من نفسه ظالما ً ال يُزھيّه إالّ‬

‫فإذا ما بنفس أبي طالب من معاني الطبيعة يشفّ في نفس مح ّمد‪ ،‬فإذا ھي جزء من ذاته يتك ّونّ وينمو تحت‬
‫نظرة الع ّم المحب‪ .‬وإذا ك ّل ما في الطبيعة من ُموحيات الكآبة والحزن‪ ،‬والفرحة والغبطة‪ ،‬والبساطة والعمق‪،‬‬
‫يتجاوب في كيان مح ّمد ويمث ُل فيه روحا ً إنسانيا ً ومعاني كونيّة‪.‬‬

‫أجل‪ ،‬كأنّ قوة الوجود الشاملة أرادت لھما أن يستيقظا معا ً في وحدة الطبيعة وامتثال النجوم‪ ،‬على روعة الخلق‬
‫وصخب‬
‫وشفوف األثير‪ ،‬وحركة األرض‪َ ،‬‬
‫ِ‬ ‫وفتنة الوجود‪ .‬وعلى جمال األزل واألبد يجتمعان في كواكب السماء‪،‬‬
‫الحياة!‬

‫] ‪[ ٥٥‬‬

‫وھذا ھو الراھب بُحيرا‪ ،‬أو جرجس على األصل‪ ،‬يُضيف ر ْكبا ً من قريش فيھم أبو طالب وابن أخيه‪ ،‬في صومعة‬
‫غذي ما في نفس أبي طالب من ابن‬ ‫يسكنھا على طريق الشام وال يسكنھا إالّ من تناھى إليه عل ُم النصرانية‪ ،‬فيُ ّ‬
‫ويبش‪ ،‬إذ يُنبئُه بأنّ ھذا الصب ّي سيكون له في العالم شأنٌ عظيم‪ .‬فينظر‬
‫ّ‬ ‫ويھش له‬
‫ّ‬ ‫أخيه وھو يلحظُه لحظا ً شديداً‬
‫أبو طالب إلى الصغير نظرة الحب واإلعجاب‪ ،‬وبعطف األب على أع ّز بنيه‪ .‬ويتح ّرك في نفسه الشعو ُر بموجبات‬
‫االستمرار على الخير الذي يربط مح ّمداً بع ّمه ويجعله س ّر بيته‪.‬‬

‫وراح أبو طالب يسمع أھل مكة ينعتون مح ّمداً باألمين‪ ،‬وھو دامع العين خافق القلب‪ ،‬إعجابا ً وغبطة!‬

‫ولما طلبتْ خديجة من مح ّمد أن يتزوج بھا ـ بعد أن ردّت طلب أشراف قريش من ذوي الجاه والمال ـ لم يجد‬
‫أمامه غير عمه أبي طالب‪ ،‬نجيّه في المكرمات‪ ،‬ليعقد في روحه وعلى لسانه‪ ،‬رباطه المقدس مع ھذه السيدة‬
‫س السم ّو في أخالق مح ّمد‪ ،‬فقد لبّى نداءه للحال وأدرك أنّ مح ّمداً لم‬
‫الفاضلة‪ .‬ول ّما كان أبو طالب أو َل َمن ل َم َ‬
‫ينطق في ھذا المقام إالّ بما يريده ھو في أعماق نفسه وما يرتئيه‪.‬‬

‫وبعد أن ھبط الوحي على مح ّمد في غار حراء‪ ،‬كان أ ّول من صلّى معه زوجته خديجة وعلي بن أبي طالب‪.‬‬
‫وكانا أول الناس ايمانا ً بالنبي‪ .‬فلما بلغ ذلك أبا طالب قال لولده عل ّي‪ :‬أي بن ّي‪ ،‬ما ھذا الذي أنت عليه؟ فقال‬
‫ت‪ ،‬آمنتُ برسول ﷲ وصدقتُ ما جاء به وصلّيت معه واتّبعته! فقال أبو طالب‪ :‬يا بن ّي‪ ،‬إنّه لم ي ْدعُك‬ ‫عل ّي‪ :‬يا أب ِ‬
‫إالّ إلى خير‪ ،‬فالز ْمه!‬

‫ولما أمر النبي المسلمين األ ّول أن يھاجروا إلى الحبشة تخلّصا ً من قريش‪ ،‬كان جعفر بن أبي طالب على رأس‬
‫المھاجرين‪ ،‬وكان اشدّھم حبا ً البن عمه الذي ربي وإياه في كنف أبيه‪.‬‬

‫] ‪[ ٥٦‬‬

‫بالحب لمح ّمد ويدعو إلى نصرته‪ .‬وكان يكث ُر عليه ك ّل عمل‬
‫ّ‬ ‫وكان أبو طالب أ ّول من قال شعراً في اإلسالم يفيض‬
‫أو قول فيه بعض األذى البن أخيه‪.‬‬

‫التجار أنھھم عازمون على قتله وقتل مح ّمد إلّ ْم يُخ ّل مح ّم ٌد الطري َ‬
‫ق‬ ‫ودمعت عينا أبي طالب‪ ،‬يوم أبلغه القرشيّون ّ‬
‫التي يسلك‪ .‬دمعتْ عينا أبي طالب ال خوفا ً على حياته وحياة بنيه وابن أخيه‪ ،‬بل إعجابا ً بموقف مح ّمد ساعةَ‬
‫بلغه النبأ‪ .‬وخالصة الخبر أنّ قريشا ً لما ائتمروا بمح ّمد وأرادوا قتله مشوا إلى عمه أبي طالب وطلبوا إليه أن‬
‫يسلمھم مح ّمداً فأبى‪ .‬ومضى في دموعه ومضت قريش في ائتمارھا‪ .‬ث ّم ذھبوا إلى أبي طلب ثانيةً وثالثةً وقالوا‬
‫له‪ :‬يا أبا طالب‪ ،‬إنّ لك سنّا ً وشرفا ً ومنزلة فينا‪ .‬وقد استنھيناك من ابن أخيك فلم تنھه عنّا‪ .‬وإنا وﷲ ال نصبر‬
‫على ھذا من ش ْتم آبائنا وتسفيه أحالمنا وعيب آلھتنا حتّى تكفّه عنّا أو ننازله وإياك حتّى يھلك أح ُد الفريقين!‬
‫تاريخ الوجو ِد كلّه مبھوتا ً ال يدري بعدھا ما‬
‫ُ‬ ‫وبلغ مح ّمداً ما كان من أمر ھؤالء‪ ،‬فأطرق إطراقةً وقف إزاءھا‬
‫اتّجاھه! أيسير التاريخ في طريقه ھذه أم يتغيّر وجھه؟ ففي الكلمة الواحدة التي تنطبق بھا شفتا ھذا الرجل ُحك ٌم‬
‫على سير التاريخ! والتفتَ الرج ُل العظي ُم إلى ع ّمه وھو ممتل ٌئ بقوة إرادته ومضاء عزيمته وصدق دعوته‬
‫سم نفسية أصحاب الرساالت‪» :‬يا‬ ‫وإخالصه لِما َوقَفَ له نف َ‬
‫سه وحياتَه‪ ،‬لينطق بھذه الكلمات الخالدات التي تُج ّ‬
‫ع ّم وﷲ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أتر َك ھذا األمر حتّى يُظھره ﷲُ أو أھلك فيه‪،‬‬
‫ما تركتُه!« وبكى أبو طالب إعجابا ً وحبّا ً عظيماً‪ ،‬وكان وحده آنذاك الشاھد على اتجاه جديد سوف يتّجه التاريخ‬
‫على يد ابن أخيه!‬

‫ولم يكن ھذا الحب العميق الذي يلفّ مح ّمداً في بيت ع ّمه أبي طالب ليأتيه من جانب واحد وحسب‪ ،‬بل كان ك ّل‬
‫من في البيت يضمر لمح ّمد‬

‫] ‪[ ٥٧‬‬

‫العطف والحنان والب ّر‪ ،‬وال سيما فاطمة بنت أسد زوجة أبي طالب ووالدة عل ّي‪ .‬فقد كانت ھذه المرأة الفاضلة‬
‫تحدب على مح ّمد حدْب األ ّم على ابنھا بشھادة النب ّي نفسه الذي كان يكرمھا ويعظمھا ويدعوھا‪ :‬أُ ّمي! وكان‬
‫يردّد أبداً ھذا القول‪» :‬لم يكن أح ٌد بعد أبي طالب أب ّر بي منھا!«‬

‫ولع ّل ھذا االحترام الذي كان مح ّمد يضمره ويبديه لزوجة ع ّمه أبي طالب‪ ،‬وإنزاله إياھا منزلة األ ّم‪ ،‬ثم شعوره‬
‫بالفرق العظيم بينھا وبين معظم النساء القرشيات يومذاك‪ ،‬أمثال ح ّمالة الحطب‪ ،‬أمو ٌر تجمعتْ في نفسه ودفع ْته‬
‫أحب بناته إلى نفسه باسمھا‪ ،‬وأعني بھا السيدة فاطمة زوجة عل ّي وأ ّم الحسن والحسين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إلى أن يس ّمي‬

‫سلمنّه وال نترك‬


‫وقال أبو طالب م ّرةً لوفد قريش الذي جاء يطلب إليه تسليم مح ّمد للعصابة القرشية‪» :‬فوﷲ ال نُ ْ‬
‫نصرته حتّى نفنى عن آخرنا‪«.‬‬

‫الخلق التي يتميز بھا بصورة‬ ‫ينس أبو طالب دقيقةً واحدة في حياته أنّ محمداً إنّما ھو استمرار عبقرية ُ‬ ‫َ‬ ‫ولم‬
‫عفوية ھو وأخوه عبدﷲ وأبوھما عبدالمطلب‪ .‬فلما حضرته الوفاة جمع إليه قوما ً كثيراً وقال لھم‪» :‬إنّي‬
‫أوصيكم بمح ّمد خيراً فإنّه وكأني أنظر إلى صعاليك العرب وأھل الوبَر واالطراف والمستضعفين بين الناس قد‬
‫أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظّموا أمره فخاض بھم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش أذنابا ً وضعفاؤھم‬
‫أربابا ً‪ .‬وإذا أعظ ُمھم عليه أحوجھم إليه‪ ،‬وأبعدھم عنه أحظاھم عنده! يا معشر قريش‪ ،‬كونوا له ُوالةً ولحزبه‬
‫ُحماة‪ .‬وﷲِ ال يسلك أح ٌد سبيله إالّ رش َد وال يأخذ برأيه أح ٌد إالّ سعد‪ .‬ولو كان لنفسي مدةٌ وألجلَي تأخي ٌر لدفعتُ‬
‫عنه الدواھي‪ .‬إنّ محمداً ھو الصادق األمين فأجيبوا دعوته واجتمعوا على نصرته وراموا عد ّوه من وراء‬
‫حوزته فإنّه الشرف الباقي لكم على الدھر!«‪.‬‬

‫] ‪[ ٥٨‬‬

‫توفي أبو طالب بعد أن كفل النب ّي وصانه وقاوم قريشا ً في سبيله ووقف في وجھھا مدافعا ً عن دعوته‪ ،‬زھاء‬
‫اثنين واربعين عاما ً بليلھا ونھارھا‪.‬‬

‫ولما توفي أبو طالب شعر النب ّي بأنّه فقد أعظم ركن يستند إليه ويدفع عنه أذى قريش‪ .‬وما كان ھذا الشعور إالّ‬
‫تدليالً على تجا ُذب أسباب الخير بين مح ّمد وعمه رب البيت الذي نشأ فيه وسما خلقه! وإذا كان من أسباب ھذا‬
‫الشعور بخسارة ابي طالب أنّ مح ّمداً فقد به نصيراً يفديه بدمه ويدفع عنه األذى وملجأ حصيا ً ضد قريش‬
‫والمستبدين الغالة من بنيھا حتى أنّه قال‪ :‬ما نالني من قومي سوء حتى مات عمي أبو طالب«‪ ،‬فما تعليل ھذا‬
‫الحزن العميق الذي غزا قلب مح ّمد بموت عمه؟ وما علّة ھذه الكآبة وما كان مح ّمد إالّ صبوراً حازما ً واثقا ً‬
‫بنصر رسالته مھما كثر العد ّو وق ّل الصديق‪ .‬ومھما كان من شأن األخيار واألشرار! أجل ما علّة ھذه الكآبة إن‬
‫لم تكن الكارثة التي حلّت بمحمد ھي كارثة اإلنسان بأع ّز من يعطف عليه ويحميه؟ وما تكون ھذه الدموع‬
‫الغزار إن لم تكن شاھداً على أن النبي ـ كرجل ـ أحس بأنه فقد شيئا ً من ذاته‪ ،‬من حاضره وماضيه؟‬
‫] ‪[ ٥٩‬‬

‫النّب ّي وعل ّي بن أبي طالب‬


‫كنا ننظر إلى عل ّي في أيّام النبي كما ننظر إلى النجم‪ .‬عمر بن الخطاب‬

‫وفي البيت الطالبّي الواحد تنمو الروح الواحدة بالصدق والصفاء ووحدة النظر إلى الكون والحياة‪ .‬وتستم ّر‬
‫على أصول أعمق وفروع أكثر في عالقة النبي مع ربيبه الطفل‪ ،‬ث ّم الصبي‪ ،‬ث ّم الشاب‪ ،‬ابن ع ّمه العظيم عل ّي بن‬
‫أبي طالب‪.‬‬

‫وإذا نحن نظرنا إلى ميالد اإلنسانية في قلب وروح‪ ،‬رأينا أنّ عل ّي ابن أبي طالب إنّما ُول َد مؤمنا ً بالرسالة‬
‫الخيّرة ونصيراً لھا‪ .‬فإن خصائص البيت الطالبي الذي ربي فيه مح ّمد‪ ،‬انتقلت بصورة طبيعية إلى ابن ع ّمه‬
‫ساعة ميالده‪.‬‬

‫ونما خلق عل ّي على شمائل بيت أبيه أبي طالب‪ ،‬ذاك الذي أصغت جدرانه أل ّول عبارة من مح ّمد‪ ،‬وخرجت منه‬
‫الدعوة اإلسالمية إلى الوجود‪ .‬فإنّ عليّا ً ما كاد يبلغ الرابعة من عمره‪ ،‬حتّى ض ّمه مح ّمد إليه وآحاه وقد أشار‬
‫عل ّي إلى تع ّھد مح ّمد إياه‪ ،‬بخطبته التي تس ّمى بالقاصعة وفيھا يقول‪:‬‬

‫»وقد تعلمون موضعي من رسول ﷲ‪ ،٩‬بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة‪ .‬وضعني في حجره وأنا ولي ٌد‬
‫يض ّمني إلى صدره ويكنفي‬

‫] ‪[ ٦٠‬‬

‫سني جسدَه ويُشمني عرفَه‪ .‬وما وجد لي كذبةً في قول وال خطلةً في فعل‪ .‬وكنت أتبعه اتباع الفصيل‬ ‫فراشه ويُم ّ‬
‫أثر أُ ّمه يرفع لي في كل يوم من أخالقه علما ً ويأمرني باالقتداء به‪«.‬‬

‫وھذا ھو أول الزمن الذي يتأھل الغالم فيه لتلقّي بذور األخالق الفاضلة‪ .‬ولطالما جاور عل ّي مح ّمداً في خلواته‪،‬‬
‫وسار على نھجه في االنقطاع عن القرشيين المتردين في ليل من جھالتھم وجمودھم على ما ھم عليه من‬
‫عادات واخالق‪ .‬ولطالما عاش في ذلك الج ّو الزكي إلى جوار ابن ع ّمه وھو أثي ٌر لديه حبيب على قلبه‪ .‬وإن مثل‬
‫ھذا الجوار وھذا االخاء لم يظفر به واحد ـ غير علي ـ من أصحاب الرسول وتالميذه!‬

‫نقد فتح علي بن أبي طالب عينيه على الطريق التي رسمھا ابن عمه‪ .‬وعرف العبادة أول ما عرفھا من صالته‪.‬‬
‫ونع َم بعطفه وحنانه وإخائه‪ .‬فإذا ھو من مح ّمد ما كان مح ّم ٌد من أبي طالب!‬

‫بحب ابن عمه‪ .‬ونطق لسانه أ ّول ما نطق بما لقّنه إياه من رائع القول‪ .‬واكتملت‬ ‫ّ‬ ‫وخفق قلب عل ّي أول ما خفق‬
‫رجولته أ ّول ما اكتملت لمؤازرة النبي المضط َھد! وإذا كان النبي يحبه أنصاره‪ ،‬ويحترمه أعداؤه‪ ،‬فھل يكون‬
‫ربيبه وتلميذه وأخوه عل ّي إالّ شيئا ً من كيانه! شيئا ً عظيما ً من كيان عظيم!‬

‫وإذا أسلم بعض الوجوه من قريش منذ أ ّول الدعوة احتكاما ً للعقل وتخلّصا ً من الوثنية؛ وإذا أسلم كثير من العبيد‬
‫واالرقّاء والمضطھدين طلبا ً للعدالة التي تتدفق بھا رسالة مح ّمد واستنكاراً للجور الذي يلھب ظھورھم‬
‫بسياطه؛ وإذا أسلم قو ٌم‪ ،‬بعد انتصار النبي‪ ،‬امتثاالً للواقع وتزلّفا ً للمنتصر كما ھي الحال بالنسبة ألكثر‬
‫االموينى؛ إذا أسلم ھؤالء جميعا ً في ظروف تتفاوت من حيث قيمتھا ومعانيھا اإلنسانية‪ ،‬وتتّحد في خضوعھا‬
‫للمنطق أو للواقع الراھن‪ ،‬فإنّ عل ّي بن أبي طالب قد ولد مسلما ً أل نّه من معدن الرسول مولداً ونشأة‪ ،‬ومن‬
‫] ‪[ ٦١‬‬

‫ذاته خلقا ً وفطرة‪ .‬ث ّم أنّ الظرف الذي اعلن فيه ع ّما يكمن في كيانه من روح اإلسالم ومن حقيقته‪ ،‬لم يكن شيئا ً‬
‫من ظروف اآلخرين‪ .‬ولم يرتبط بموجبات العمر‪ .‬ألنّ إسالم عل ّي كان أعمق من ضرورة االرتباط بالظروف إذ‬
‫كان جاريا ً من روحه كما تجري األشياء من معادنھا والمياه من ينابيعھا‪.‬‬

‫لقد كان أول سجود المسلمين األ ّول‪ ،‬آللھة قريش!‬

‫وكان أول سجود عل ّي الله مح ّمد!‬

‫أالَ إنّه إسالم الرجل الذي أُتيح له أن ينشأ على ّ‬


‫حب الخير وينمو في رعاية النبي ويصبح إمام العادلين من‬
‫بعده‪ ،‬وربّان السفينة في غمرة العواصف واألمواج!‬

‫] ‪[ ٦٢‬‬

‫ھذا أخي‬
‫قال النبي لعل ّي‪:‬‬

‫إن في َك لَشبھا ً من عيسى بن مريم! والستجالء ھذه الوقائع بأرقامھا الب ّد من ذكر بعض األحاديث التي تويدھا‬
‫ي مدى كان التآخي الروحي بين النبي وابن ع ّمه العظيم‪ .‬كما تخبرنا إلى أي‬ ‫وتضمن وجودھاه‪ ،‬وتخبرنا إلى أ ّ‬
‫ى كان عل ّي وارثا ً لمزايا الرسول‪ ،‬مصطبغا ً بصبغته‪ ،‬أثيراً لديه‪ ،‬حبيبا ً إليه‪ ،‬عظيما ً في جنانه وعلى لسانه‪.‬‬
‫مد ً‬
‫ّ‬
‫ويمكننا بعد ذلك أن نستنتج أن الرسول إنما كان يم ّھد لعل ّي سبيل الخالفة ضمن الحدود التي تشترطھا ثورة‬
‫سمو‬
‫ّ‬ ‫اإلسالم والتي يت ّم بھا سلطانه وانتشاره‪ .‬يم ّھد لعل ّي سبيل الخالفة أل نّه رأى فيه صورةً عنه من حيث‬
‫الخلق ونبل المقصد وسائر المكارم التي سيجري عليھا القول بالتفصيل‪.‬‬

‫حدّث الطبراني عن ابن مسعود أنّ النبي قال‪ :‬النظر إلى وجه عل ّي عبادة‪ .‬وحدّث بعضھم عن سعد بن أبي‬
‫وقاص قال‪ ،‬قال النبي‪ :‬من آذى عليّا ً فقد آذاني‪.‬‬

‫وذكر اليعقوبي في الجزء الثاني من تاريخه أنّ النبي خرج ليالً بعد رجوعه من حجة الوداع منصرفا ً إلى‬
‫المدينة فصار إلى موضع بالقرب من الجحفة يقال له »غدير خم« لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة‪ .‬وقام‬
‫خطيبا ً وأخذ‬

‫] ‪[ ٦٣‬‬

‫وال من وااله وعاد من عاداه«‪ .‬وجاء في‬ ‫بيد عل ّي بن أبي طالب وقال‪» :‬من كنت مواله فعل ّي مواله‪ .‬اللّھ ّم ِ‬
‫التفسير الكبير لإلمام فخرالدين الرازي أنّ عمر بن الخطاب لقي عليّا ً بعد ذلك فقال له‪» :‬ھنيئا ً لك يا ابن أبي‬
‫طالب أصبحت موالي ومولى كل مؤمن ومؤمنة«‪.‬‬

‫وھذا الحديث أخرجه كثير من المؤرخين ومن العلماء أمثال الترمذي والنسائي واإلمام أحمد بن حنبل‪ ،‬كما رواه‬
‫سان بن ثابت االنصاري‪ ،‬قال‪:‬‬‫ستة عشرة صحابيا ً وقد ذكره عد ٌد من الشعراء أولھم ح ّ‬

‫يناديُھم‪ ،‬يو َم الغدي ِر‪ ،‬نَبيّھم *** بخ ﱟم‪ ،‬وأسمع بالنب ّي منادياً‬

‫وقال‪ :‬فمن موال ُكم ووليّكم؟ *** فقالوا‪ ،‬ولم يبدوا ھناك التعاميا ً‬
‫إلھك موالنا‪ ،‬وأنت نبيّنا؛ *** وما لك منّا بالوصاية عاصيا ً‬

‫فقال له‪ :‬ق ْم يا عل ّي‪ ،‬فانني *** رضيتُك من بعدي إماما ً وھاديا ً‬

‫ومن الشعراء الذين ذكروا ذلك اليوم أبو تمام الطائي‪ .‬ومن الذين أسھبوا في وصفه الكميت األسدي في قصيدة‬
‫عينية يقول فيھا‪:‬‬

‫دوح غدي ِر خ ﱟم *** أبانَ له الواليَة لو أُطيعا‬


‫ِ‬ ‫ويوم الدَوح‪،‬‬

‫أر مثله حقا ً أُضيعا‬


‫أر مثل ذاك اليوم يوماً‪ *** ،‬ولم َ‬
‫ولم َ‬

‫ومن كتاب اآلل البن خالويه عن أبي سعيد الخدري قال‪ :‬قال رسول ﷲ لعلي بن أبي طالب‪ :‬حبك إيمان‪ ،‬وبغضك‬
‫نفاق‪ .‬وأول من يدخل الجنة محبك‪ ،‬وأ ّول من يدخل النار مبغضك‪.‬‬

‫وال يختلف الرواة والمحدثون في أنّ النب ّي طالما ردّد ھذه العبارة وھو ينظر إلى علي‪» :‬ھذا أخي!«‬

‫وقال النب ّي م ّرة لعل ّي‪» :‬إنّ فيك لَشبھا ً من عيسى بن مريم!« و »ال يُبغضك إالّ مناف ٌ‬
‫ق!«‬

‫] ‪[ ٦٤‬‬

‫وجاء في الحديث عن أبي ھريرة أ نّه قال‪» :‬قال رسول ﷲ وھو في محفل من أصحابه‪ :‬إن تنظروا إلى آدم في‬
‫علمه ونوح في ھ ّمه وإبراھيم في خلقه وموسى في مناجاته وعيسى في سنّه ومح ّمد في ھديه وعلمه‪ ،‬فانظروا‬
‫إلى ھذا المقبل! فتطاول الناس بأعناقھم فإذا ھو عل ّي بن أبي طالب«‪.‬‬

‫وباإلسناد عن زيد بن أرقم‪» :‬قال رسول ﷲ أال أدلّكم على ما أن تساءلتم عليه لم تھلكوا‪ ،‬إنّ وليّكم ﷲ وإن‬
‫إمامكم عل ّي بن أبي طالب فناصحوه وصدّقوه«‪.‬‬

‫وقال الرسول‪ ،‬وقد شكا إلي ِه بعض أصحابه شأنا ً من شؤون علي‪ :‬ما تريدون من عل ّي؟ما تريدون من علي؟ ما‬
‫تريدون من عل ّي؟ عل ّي مني وأنا منه وھو ول ّي كل مؤمن بعدي‪.‬‬

‫وبعث الرسول عليّا ً إلى اليمن فسأله جماعة من أتباعه أن يُركبھم إبل الصدقة ليريحوا إبلھم‪ .‬فأبى عل ّي‪ .‬فشكوه‬
‫إلى الرسول بعد رجعتھم‪ .‬وتولّى شكايته سعد بن مالك الشھيد‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ﷲ‪ ،‬لقينا من عل ّي من الغلظة‬
‫وسوء الصحبة والتضييق‪ ...‬ومضى يعدد ما لقيه‪ .‬حتى إذا كان في وسط كالمه ضرب النبي على فخذه وھتف‬
‫به‪» :‬يا سعد بن مالك الشھيد‪ ،‬بعض قولك ألخيك عل ّي؟ فوﷲ لقد علمت أنّه جيش في سبيل ﷲ‪«.‬‬

‫ويروى أن قريشا ً أصابتھا أزمة وقحط فقال مح ّم ٌد لعميّه حمزة والعبّاس‪ :‬أالَ نحمل ثق َل أبي طالب في ھذا‬
‫المحل‪ .‬فجاؤوا إليه فسألوه أن يدفع إليھم ُولدَه ليكفوه أمرھم فقال‪ :‬دعوا لي عقيالً وخذوا من شئتم‪ .‬فأخذ‬
‫اس طالباً‪ ،‬وأخذ حمزة جعفراً‪ ،‬وأخذ مح ّم ٌد عليّا ً وقال لھم‪ :‬قد اخترتُ ما اختاره ﷲ لي عليكم! قالوا‪ :‬فكان‬
‫العبّ ُ‬
‫وحسن تربيته‬‫عل ّي في حجر الرسول منذ كان عمره ست سنين‪ ،‬وكان ما يُسدي إليه من إحسانه وشفقته وب ّره ُ‬
‫كالمكافأة والمعاوضة لصنيع أبي طالب به حيث مات عبدالمطلب وجعله في حجره‪.‬‬

‫] ‪[ ٦٥‬‬

‫من ھذه االحاديث‪ ،‬ومن غيرھا‪ ،‬يثبت أمر واح ٌد ال يقوم حوله جدل وھو‪ :‬أنّ النبي كان يشعر بنوع من االخاء‬
‫لعلي بن أبي طالب‪ ،‬وأنّ عليّا ً كان ممتلئا ً بھذا االخاء‪ .‬ث ّم أنّ النبي كان ّ‬
‫يوجه االنظار إلى العظمة االنسانية التي‬
‫تتمثل في شخصية عل ّي‪ ،‬وإلى أنّه خير من يستطيع أن يتمم شروط الرسالة من بعده‪.‬‬
‫ومن الروايات الثابتة‪ ،‬ما يلقي نوراً ساطعا ً على ھذه االرادة الكونية التي شاءت أن يكون عل ّي شيئا ً من ذات‬
‫خصائص مخا كان ألحد أن يشارك بھا عليّا ً‪:‬‬
‫ُ‬ ‫الرسول‪ .‬وقد ھيأت ھذه االرادة ظروفا ً ومناسبات برزت فيھا‬

‫فھا أنّ عليا ً ولد في الكعبة التي أصبحت قبلة أشواق المسلمين وكان مولده فيھا بعد أن أصبحت الدعوة‬
‫االسالمية شيئا ً موجوداً بذات مح ّمد وإن لم يكن قد افصح عنھا بعد‪ .‬وكان موئله بيت أبي طالب ابيه‪ ،‬بيت‬
‫مح ّمد‪.‬‬

‫وكان علي أ ّول من رأت عيناه إلى النبي وزوجته خديجة وھما يصلّيان! ث ّم إنّه كان أول المسلمين وھو لم يبلغ‬
‫الشباب‪ .‬ولما عوتب على إسالمه دون مشورة ابيه أبي طالب‪ ،‬أجاب على الفور‪» :‬لقد خلقني ﷲ من غير أن‬
‫يشاور أبا طالب‪ .‬فما حاجتي أنا إلى مشاورته ألعبد ﷲ!«‬

‫وظ ّل اإلسالم زمنا ً وھو محصور في بيت مح ّمد‪ :‬فيه وفي زوجته وابن ع ّمه ومواله زيد بن حارثة‪.‬‬

‫ويوم دعا النبي عشريته األقربين إلى طعام في بيته وشاء أن يحدثھم داعياً إياھم إلى اإلسالم‪ ،‬قطع ع ّمه أبو‬
‫لھب حديثه واستنفر اآلخرين لينھضوا ويغادروه‪ .‬ث ّم دعاھم مح ّمد في الغداة ك ّرة أخرى‪ ،‬فلما طعموا قال لھم‪:‬‬
‫»ما أعل ُم انسانا ً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به‪ ،‬فأيكم يؤازرني على ھذا األمر؟« فأعرضوا عنه‬
‫وھ ّموا بمفادرة بيته كما فعلوا في المرة األولى‪ .‬فما كان من عل ّي إالّ أن نھض‪ ،‬وھو ما يزال صبيا ً دون الحلم‪،‬‬
‫وقال‪» :‬أنا يارسول‬

‫] ‪[ ٦٦‬‬

‫حرب على من حاربتَ !« فضحك بنو ھاشم وقھقه بعضھم‪ ،‬وجعلوا ينقلون بأنظارھم من أبي‬ ‫ٌ‬ ‫ﷲ عَونُك‪ ،‬أنا‬
‫طالب إلى ابنه الغالم‪ ،‬ث ّم انصرفوا مستھزئين‪.‬‬

‫وكان لواء علي مع النبي في ك ّل قتال وكل زحف‪ .‬وما كانت فروسيته التي توجز معاني الشھامة فيه‪ ،‬وما كان‬
‫دمه وقلبه ولسانه إالّ وقفا ً على ابن ع ّمه النبي وعلى إنجاح الرسالة النبوية‪ .‬فقد فعل في أعداء مح ّمد األفاعيل‬
‫ضمن شروط الفروسية الشريفة‪ .‬وثبت كالجبل الراسخ أمام صناديد قريش يوم بلغ الفزع من أنصار النبي‬
‫وزلزلت قلوبھم وقعة الخندق‪ ،‬فانكشف عنه خيرة صحبه‪ .‬فكانت من علي البادرة التي أعادت إلى المسلمين‬
‫الثقة بالنصر وآذنت بھزيمة قريش وأبطالھا‪.‬‬

‫وأكبر بجھاد عل ّي يوم فُتحت على يده حصون خيبر القوية وفيھا من المقاتلين األشداء كل من يُرغب ويخيف‬
‫لطول ممارستھم للحرب والقتال‪ .‬وخالصة ذلك أنه حصار المسلمين لحصون خيبر كان قد طال‪ .‬وأھل ھذه‬
‫الحصون يستميتون في الدفاع عنھا إيمانيا ً منھم بأن ھزيمتھم أمام مح ّمد ھي القضاء العاجل على مؤامرات‬
‫بني اسرائيل في جزيرة العرب‪ ،‬وعلى تجاراتھم وزعاماتھم‪ .‬فبعث الرسول أبا بكر الصديق إلى الحصن كي‬
‫يفتحه‪ .‬فقاتل قتال البطل المؤمن بصالح القتال‪ .‬ولكنه رجع دون أن يفتح الحصن‪ .‬فبعث الرسول عمر بن‬
‫الخطاب في الغداة‪ .‬فكان حظه كحظ أبي بكر أمام الحصن المنيع والمقاتلين األشداء‪ .‬فدعا الرسول إليه عل ّي بن‬
‫أبي طالب وأمره بأن يمضي ويفتح الحصن‪ .‬فمضى عل ّي إليه وھو ممتلئ غبطة بھذه الخدمة الجديدة للعقيدة‬
‫التي تحيا في دمه‪ .‬فل ّما دنا من الحصن وأدرك أھله أن خصمھم إنما ھو علي بن أبي طالب الذي لم ينھزم في‬
‫قتال ولم يثبت له مقاتلون‪ ،‬خرجوا إليه جماعات فضربه رج ٌل منھم فطرح تُرسه من يده فتناول عل ّي بابا ً ضخماً‬
‫وجعله في يده كالترس‪ .‬فلم يزل في يده وھو يقاتل حتّى فتح الحصن المنيع‪ .‬ولم يسقط‬

‫] ‪[ ٦٧‬‬

‫ھذا الحصن إالّ بعد أن قتل أكثر فرسانه وفي طليعتھم قائدھم الحارث بن أبي زينب‪.‬‬

‫ث ّم أن ھنالك أمراً عجبا ً!‬


‫لقد عرف التاريخ أبطاالً يحاربون في سبيل عقيدة وإن كانوا يؤثرون السلم على الحرب ويفضلون أن تجري‬
‫مكرھين إلى القتال‪.‬‬
‫األمور في مجاريھا الطبيعية دون ما يضط ّرھم َ‬

‫وعرف التاريخ ابطاالً استشھدوا في سبيل غاية شريفة وھدف نبيل!‬

‫ولكنّ مثل ھذه البطولة وھذا االستشھاد‪ ،‬ال يكونان في ساعتھما عمالً ابطيئا ً من شأنه أن يثير في الخيال صور‬
‫الموت ومأساة انتظاره! بل يجريان في غمرة من الحماسة الطاغية‪ .‬وقد يكونان في رعاية الجماعات وتحت‬
‫االنظار والقلوب!‬

‫أ ّما علي بن أبي طالب‪ ،‬فما كان أعجب أمره يوم غامر في سبيل عقيدته التي ھي عقيدة مح ّمد بن عبدﷲ‪ ،‬وفي‬
‫سبيل الحق ورعاية الشرف واإلخاء‪ ،‬ھذه المغامرة التي لم يعرف التاريخ أج ّل منھا‪ ،‬وأقوى وأروع‪ ،‬وأد ّل على‬
‫وحدة الذات بين عظيم وعظيم‪.‬‬

‫فعندما اشتدت مساءات قريش وسعى القوم جادّين إلى االجھاز على اإلسالم بقتل الرسول‪ ،‬ذھب مح ّمد إلى بيت‬
‫أبي بكر الصدّيق وأخبره بأنّه عازم على الھجرة ألنّ قريشا ً قد ائتمرت به وتنوي قتله‪ .‬فطلب الصدّيق أن‬
‫يصحبه في ھجرته فأجابه إلى ما طلب‪.‬‬

‫ول ّما اعتزم الرجالن مغادرة مكة‪ ،‬كانا على يقين ال يطاه أدنى ش ّك في أنّ قريشا ً ستتبعھما‪ .‬لذلك رأى مح ّمد‪ ،‬بما‬
‫أوتي من عبقرية في إدراك االمور‪ ،‬أن يسلك في ھجرته طرقا ً مألوفة لدى القرشيين‪ ،‬وفي موعد كذلك غير‬
‫مألوف‪.‬‬

‫وفي الليلة ذاتھا التي اعتزم مح ّمد أن يھجر مكة فيھا أعدّت قريش عصابةً‬

‫] ‪[ ٦٨‬‬

‫كبيرة من الرجال األشدّاء لقتله‪ ،‬وأوفد ْتھم لكي يحاصروا داره مخافةَ أن يستتر بالظالم ويف ّر من أيديھم‪.‬‬

‫يسجى بُردَه األخضر وأن‬


‫ّ‬ ‫غير أنّ مح ّمداً كان في ليلة الھجرة ھذه‪ ،‬قد أس ّر إلى ابن ع ّمه علي بن أبي طالب أن‬
‫ينام في فراشه‪ .‬وأمره أن يتخلّف بعده بمكة حتّى يؤدّي الودائع التي كانت عنده للناس!‬

‫وامتثل عل ّي ألمر مح ّمد والغبطة تمأل نفسه كما ھي حاله أبداً أمام كل تضحية يقوم بھا في سبيل الرسول‪.‬‬

‫وأحاط ھؤالء الرجال من قريش بدار مح ّمد‪ .‬وأوثقوا حولھا الحصار حتّى ليستحيل على الھواء أن يخرج منھا‬
‫شرعة‪ .‬ثم جعلوا يوصوصون من فرجة إلى فراش النبي فيرون في الفراش رجالً‬ ‫دون أن يم ّر بسيوفھم ال ُم َ‬
‫فتطمئنّ خواطرھم إلى أنّ مح ّمداً لم يفر‪.‬‬

‫ول ّما كان الثلث األخير من الليل‪ ،‬وكانت عيون ھؤالء ما تزال ترى رجالً راقداً في فراشه‪ ،‬كان النبي في دار أبي‬
‫بكر ليخرج وإياه من َخوخة في ظھرھا وينطلقا إلى غار ثَور حيث لحق بھما رجا ٌل من قريش منع ﷲ عنھم‬
‫إدراك الرجلين الكبيرين‪.‬‬

‫لقد كان عل ّي بمغامرته ھذه استمراراً لمح ّمد‪ .‬وكانت تضحيته من روح المقاومة التي عُرف بھا ابن عمه‬
‫العظيم‪ .‬وكان مبيته في فراش النبي تزكية للدعوة وحافزاً على الجھاد الطويل! ث ّم إنّ في ھذه المغامرة ما يوجز‬
‫الحقيقة عن اإلمام وطباعه ومزاجه‪ ،‬فإذا ھي صادرة عنه كما تصدر األشياء عن معادنھا دون تكلّف ودون‬
‫إجھاد‪ .‬ففيھا نم ّوه الذھني المبكر الذي جعله يدرك حقيقة الدعوة التي يدق فھمھا صحيحا ً على من كان في مثل‬
‫سنّه‪ .‬وفيھا زھده بالحياة إذا لم تكن عُمراً لمكارم األخالق‪ .‬وفيھا صدقه الم ّر وإخالصه العجيب‪ .‬وفيھا عدله‬
‫بين نفسه وبين سواه من أھل الجھاد‪ ،‬وما يتوخاه بذلك من نصرة‬
‫] ‪[ ٦٩‬‬

‫للمظلومين والمستضعفين إذا قُتل ھو ونجحت الرسالة على يدي صاحب الھجرة‪ .‬وفيھا مواجھته لألمور‬
‫بسماحة وبساطة ال يعرف معھما إلى الكلفة سبيالً‪ .‬وفيھا المروءة والوفاء والطيبة والشجاعة وسائر صفات‬
‫الفروسية التي يمثّلھا عل ّي بن أبي طالب‪ .‬بل ھي شيء من استشھاده المقبل!‬

‫وتستمر صالت المودة واإلخاء بين مح ّمد وعلي‪ .‬ويستمر بينھما تعاطي الخير على إنجاح الرسالة؛ ھذا‬
‫التعاطي الذي يتماسك في أعماقه ويتحد منذ أن عرف مح ّم ٌد أبا طالب‪ ،‬ومنذ أن عرف عل ّي مح ّمداً‪ ،‬ومنذ أن‬
‫اجتمع الثالثة في بيت واحد قام على مزايا الشھامة‪ .‬وما كانت خصائص البيت الطالبي إالّ حافزاً ألبي طالب‬
‫علي على فھم عبقرية مح ّمد فھما ً يتمثل لدى األ ّول شعوراً وتضحية‪ ،‬ولدى الثاني فكراً جباراً وشعوراً‬
‫ّ‬ ‫وابنه‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عميقا شامال وتضحية أشبه بصنع المعجزات!‬

‫ويحب عليّا ً ھذا الحب الذي يأخذ مصدره من حبّه للرسالة ذاتھا‪ .‬ث ّم إنّه ال يكتفي‬
‫ّ‬ ‫ويدرك الرسول ھذه الحقيقة‪.‬‬
‫بأن يحبه وحده‪ ،‬فنراه يحببه إلى الناس في ك ّل ظرف وك ّل مناسبة ليم ّھد له سبيل الخالفة في زمن يأتي‪ ،‬شرط‬
‫أن يدرك الناس قيمة عل ّي بوصفه استمراراً للرسول فينتخبوه اختياراً وحبا ً وثقةً‪ ،‬ال لكونه ابن البيت الھاشمي‬
‫وابن عم النبي‪ .‬فإن قد اتّقى ھذه العصبية‪ .‬بل إنه حاربھا جاھداً وحطّم مفاھيمھا تحطيما ً‪ .‬وكان من جملة‬
‫أعماله أ نّه أقصى معظم الھاشميين‪ ،‬وھم آله‪ ،‬عن الوالية والعمالة وحظوظ الدنيا بعد أن حرم نفسه ھذه‬
‫الحظوظ‪.‬‬

‫] ‪[ ٧٠‬‬

‫صفة ا إلمام‬
‫قال واصفو عل ّي بن أبي طالب وفيھم صاحب ذخائر العقبى‪ ،‬إنّه كان وھو في تمام الرجولة‪ ،‬ربعة القامة أميَ َل‬
‫إلى القصر‪ .‬أسمر شديد السمرة‪ .‬أبيض اللحية طويلھا‪ .‬أدعج العينين في سعة‪ .‬حسن الوجه واضح البشاشة‬
‫سم‪ ،‬أغي َد كأنما عنقه إبريق فضة‪ .‬عريض المنكبين لھما مشاش كمشاش السبع الضاري تبين عضدُه‬ ‫كثير التب ّ‬
‫من ساعده بل أُدمجا إدماجا ً‪ .‬شثن الكفّين‪ ،‬أبج ّر يميل إلى السمنة في غير إفراط‪ .‬ضخم عضلة الساق دقيق‬
‫مستدقّھا‪ .‬ضخم عضلة الذراع دقيق مستدقّھا‪ .‬يتكفّأ في مشيته على نحو يقارب مشية النبي‪ .‬ويُقدم في الحرب‬
‫فيقدم مھروالً اليلوي على شيء‪ .‬ث ّم إنّ ‪٠‬ه كان من القوة الجسدية عيل ما يدھش العقول‪ ،‬فربما رفع الفارس‬
‫بيده فَ َجل َد به األرض غير جاھد وال حافل كأنه يرفع طفالً وليداً‪ .‬وربما أمسك بذراع البطل فكأنه أمسك بنفسه‬
‫فال يستطيع أن يتنفس‪ .‬واشتھر عنه أ نّه لم يبارز فارسا ً إالّ صرعه مھما كانت قواه بالغة ومھما كان شأنه‬
‫ترس‬
‫ٌ‬ ‫ويتترس به كأنه‬
‫ّ‬ ‫عظيما ً‪ .‬وقد يحمل الباب الضخم الذي يعيا األبطال بقلبه أو تحريكه فيأخذه بيد واحدة‬
‫عادي‪ :‬وقد يزحزح بيد واحدة الصخر الضخم ال يزحزحه رجال مجتمعون‪ .‬ث ّم إنّه قد يصيح الصيحة في ميدان‬
‫القتال فتنخلع لھا قلوب الشجعان افراداً وجماعات! وكان له من مكانة التركيب صالبة على الطوارئ الجوية فال‬
‫س ثياب الشتاء في الصيف أو ثياب الصيف في الشتاء!‬ ‫يبالي ألَبِ َ‬

‫] ‪[ ٧١‬‬

‫العظيم‬ ‫ُ‬
‫الخلق ِ‬
‫ـ شكا أح ُد الناس عل ّي بن أبي طالب إلى عمر بن الخطاب في خصومة‪ ،‬وكان عمر أميراً للمؤمنين‪ .‬فأحضرھما‬
‫وقال لعل ّي‪ :‬قف يا أبا الحسن بجانب خصمك! فبداالتأثّر علٮوجه عل ّي‪ .‬فقال له عمر‪ :‬أ َكر ِھتَ يا عل ّي أن تقف إلى‬
‫جانب خصمك؟ فقال عل ّي‪ :‬ال يا أميرالمؤمنين! ولكني رأيتك لم تس ﱢو بيني وبينه‪ ،‬إذ عظّمتَني بالتّكنية ولم تكنّه‪.‬‬

‫مشي الماشي مع‬


‫َ‬ ‫راكب فمشى معه قو ٌم فقال‪ :‬ألَكم حاجة؟ قالوا‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬انصرفوا‪ ،‬فإنﱠ‬
‫ٌ‬ ‫علي وھو‬‫ﱟ‬ ‫ـ خرج‬
‫الراكب مفسدةٌ للراكب ومذلّة للماشي‪.‬‬
‫] ‪[ ٧٢‬‬

‫] ‪[ ٧٣‬‬

‫ُ‬
‫الخلق العظيم‬
‫طنع تجزئةُ الصفات والطباع واالخالق في الكائن الح ّي وال سيما العظيم‪ .‬فھي متماسكة‬ ‫من الصعب والمص َ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫متفاعلة يك ّمل بعضھا بعضا ويكون ھذا منھا سببا في ذاك أو نتيجة لذلك‪ ،‬أو مرادفا ألحدھما أو لِ ِكليھما في‬
‫العلّة والنتيجة‪ .‬لذلك ال تستھدف محاولتي التجزيئية ھذه إالّ عمالً ينقسم في النظرية ويتّحد في التطبيق‪ .‬وفي‬
‫مثل ھذه التجزئة النظرية ما يسمح لي باالستنتاج والتعليل؛ على أن يجري ھذا االستنتاج من طبيعة األشياء‬
‫جريا ً عفويا ً بديھيا ً‪ .‬كل ذلك في تلميح وإيجاز‪ .‬وغايتنا أن نحيط بشخصية اإلمام عل ّي من نواحيھا جميعاً‪ ،‬فتكون‬
‫معرفتنا لطباعه وأخالقه إطاراً يدور فيه بحثنا‪ .‬فيما بعد‪ .‬ولنبدأ بالكالم على عبادة اإلمام ومعناھا‪.‬‬

‫اشتھر عل ّي بن أبي طالب بتقواه التي كانت علّة الكثير من تص ّرفاته مع نفسه وذويه والناس‪ .‬وإني ألرى أن‬
‫تقوى عل ّي ليست شيئا ً من العبودية المفروضة بحكم الظرف والھوى على أنماط من األتقياء ففيما ترى العبادة‬
‫لدى معظم ھؤالء رجع أصداء الضعف في نفوسھم احياناً‪ ،‬ومعن ًى من معاني التھ ّرب من مواجھة الحياة‬
‫تقديس الناس والمجتمع لك ّل موروث‬
‫ُ‬ ‫واألحياء احيانا ً أخرى‪ ،‬وھ َوسا ً موروثا ً ثم مدعوماً‪ ،‬بھ َوس جديد مصدره‬
‫في أكثر األحيان‪،‬‬

‫] ‪[ ٧٤‬‬

‫األرض والسماء‪،‬‬ ‫َ‬ ‫تراھا عند اإلمام أخذاً من كل قوة ووصالً ألطراف الحلقة الخلقيّة التي تشتد وتمت ّد حتى تجمع‬
‫روح التم ّرد على‬ ‫ِ‬ ‫ومعنى من معاني الجھاد في سبيل ما يربط األحياء بكل خير‪ .‬وھي على كل حال شيء من‬
‫الفساد يريد محاربته من كل صوب؛ ثم على النفاق وروح االستغالل واالقتتال من أجل المنافع الخاصة من ھذا‬
‫الجانب‪ ،‬وعلى المذلّة والفقر والمسكنة والضعف من الجانب اآلخر‪ .‬ثم على سائر الصفات ا لتي تميّز بھا‬
‫عصره المضطرب والضعف من الجانب اآلخر‪ .‬ثمه على سائر الصفات التي تميّز بھا عصره المضطرب القلِق‪.‬‬
‫أولم تكن تقواه من مقتضيات ھذه العالمة لإليمان‬ ‫وھي شي ٌء كثير من روح الشھادة في سبيل ما يراه عدالً‪َ .‬‬
‫ض‬
‫ِ‬ ‫يق‬ ‫ألم‬ ‫ثم‪،‬‬ ‫؟‬‫«‬‫ينفعك‬ ‫حيث‬ ‫الكذب‬ ‫على‬ ‫ك‬ ‫ر‬
‫ّ‬ ‫يض‬ ‫حيث‬ ‫التي يتحدث عنھا بقوله‪» :‬عالمة اإليمان أن تؤثر الصدق‬
‫يحي شھي َد ھذا الصدق‪ ،‬إذا‬ ‫َ‬ ‫شھي َد ھذا الصدق وكانت مناف ُع زمانه في غير الصدق؟ بل ِزد على ذلك وقل‪ :‬ألم‬
‫صر في عبادة اإلمام تبيّن له أنّ عليّا ً متمرد في عبادته‬ ‫صحت مقاييس الشھادة على األحياء؟ ث ّم‪ ،‬إن َمنْ تب ّ‬ ‫ّ‬
‫ب‬ ‫وتقواه كما ھو متمرد في أسلوبه في السياسة والحكم ففي عبادته افتتان الشاعر يقف في ھيكل الوجود الرح ِ‬
‫صافي النفس ممتلي القلب‪ ،‬حتى إذا انكشفت له جماالت ھذا الكون تجاوبت وما في كيانه من أصداء وأظالل‬ ‫َ‬
‫وموازين‪ ،‬فأطلق ھذه اآلية الرائعة التي نرى فيھا دستوراً كامالً لتقوى األحرار وعبادة عظماء النفوس‪» :‬إنّ‬
‫قوما ً عبدوا ﷲ رغبةً فتلك عبادة التجار‪ .‬وإن قوما ً عبدوا ﷲ رھبةً فتلك عبادة ﷲ العبيد‪ .‬وإن قوما ً عبدوا ﷲ‬
‫شكراً فتلك عبادة األحرار!«‪.‬‬

‫إن عبادة اإلمام ليست شيئا ً من سلبية الخائف الھارب أو التاجر الراغب العظيم‪ ،‬الواعي نفسه والكون‪ ،‬على‬
‫أساس من خبرة المج ّرب وعقل الحكيم وقلب الشاعر!‬

‫وجه الناس إلى أن يتّقواه ﷲ في‬


‫وبھذا المفھوم للتقوى والعبادة كان عل ّي ّ‬
‫] ‪[ ٧٥‬‬

‫يوجھھم إلى‬
‫تجار العبادات في نعيم اآلخرة‪ .‬كان ّ‬ ‫سبيل الخير اإلنساني العام أو قل في سبيل أمر أج ّل من رغبة ّ‬
‫التقوى لع ّل فيھا ما يحملھم على أن يعدلوا وينصفوا المظلوم من الظالم‪ ،‬فيقول‪» ،‬عليكم بتقوى ﷲ‪ ...‬وبالعدل‬
‫على الصديق والعد ّو«‪ .‬وال خير في التقوى‪ ،‬في نظر اإلمام‪ ،‬إالّ إذا دفعتك إلى أن تعترف بالح ّ‬
‫ق قبل أن تُشھد‬
‫عليه‪ ،‬وأالّ تحيف على من تبغض وال تأثم في من تحب« وأالّ تخدع أحداً وأن تعفو ع ّمن أساء إليك‪.‬‬

‫ومن كان معنى العبادة في نفسه ھذا المعنى الب ّد أن ينظر إلى الحياة كما نظر إليھا علي بن أبي طالب! فھي ال‬
‫تُبتغى لمتاع وال تُرجى للذة عابرة‪ .‬بل لما يمكنھا أن تحتوي من أصداء تتجاوب مع النفس الشاملة‪ .‬لذلك زھد‬
‫عل ّي في الدنيا وتقشف‪ .‬وكان صادقا ً في زھده كما كان صادقا ً في كل ما نتج عن يمينه أو بَ َد َر من قلبه ولسانه‪.‬‬
‫زھد في لذة الدنيا وسبب الدولة وعلة السلطان وكل ما يطمح لبلوغه اآلخرون ويرون أ نّه مرتَكز وجودھم‪.‬‬
‫فإذا ھو يسكن مع أوالده في بيت متواضع تأوي إليه الخالفة ال الملك‪ .‬وإذا ھو يأكل الشعير تطحنه امرأته‬
‫بيديھا فيما كان ع ّماله يعيشون على أطايب الشام وخيرات مصر ونعيم العراق وما يمكن للحجاز أن يقدّم وكثيراً‬
‫ما كان يأبى على زوجته ان تطحن له فيطحن لنفسه وھو أميرالمؤمنين‪ .‬ويأكل من الخبز اليابس الذي يكسره‬
‫ق‬‫على ركبته‪ .‬وكان إذا أرعده البرد واشت ّد عليه الصقيع ال يتخذ له ع ّدةً من دثار يقيه أذى البرد بل يكتفي بما ر ّ‬
‫من الباس الصيف إغراقا ً منه في صوفية الروح‪ .‬روى ھارون بن عنترة عن أبيه قال‪ :‬دخلتُ على عل ّي‬
‫بالخورنق‪ ،‬وھو فصل شتاء وعليه خلق قطيفة ھو يرعد فيه‪ .‬فقلت‪ :‬يا أميرالمؤمنين‪ ،‬إن ﷲ قد جعل لك وألھلك‬
‫في ھذا المال نصيباً‪ ،‬وأنت تفعل ذلك بنفسك؟ فقال‪ :‬وﷲ ما أرزؤكم شيئاً‪ ،‬وما ھي إالّ قطيفتي التي أخرجتُھا من‬
‫المدينة‪.‬‬

‫] ‪[ ٧٦‬‬

‫سمع عل ٌي يقول على المنبر‪َ » :‬من يشتري مني سيفي ھذا‪ ،‬فلو كان عندي ثمن إزار ما بُعته«‪ .‬فقام إليه رج ٌل‬
‫و ُ‬
‫فقال‪ :‬أسلفك ثمن إزار!«‬

‫وخرج عل ﱞي إلى السوق يقول‪» :‬من عنده قميص بثالثة دراھم؟« فقال رجل‪» :‬عندي«‪ .‬فجاء به فأعجبه‪،‬‬
‫فأعطاه ث ّم لبسه وقال‪» :‬الحمد الذي ھذا من رياشه!«‬

‫وأتى أحدُھم عليّا ً بطعام نفيس حلو يقال له الفالوذج‪ ،‬فلم يأكله عل ٌي ونظر إليه يقول‪» :‬وﷲِ إنك لطيّب الريح‪،‬‬
‫حسن اللون‪ ،‬طيّب الطعم‪ ،‬ولكن أكره أن أع ّود نفسي ما لم تعت ْد«‪.‬‬

‫وظل يعيش في بيته عيش الكفاف حتى غدر به ابن ملجم‪ .‬وإنّ أحداً من رعاياه لم يمت عن نصيب أق ّل من‬
‫النصيب الذي مات عنه عل ّي وھو خليفة المسلمين‪ .‬ولعمري إن صوفية عل ّي ھذه ليست إالّ معنى ومزاجا ً من‬
‫أو لم تكن فروسية عل ّي في حقيقتھا تعبيراًعن‬ ‫معاني فروسيته ومزاجھا‪ ،‬وإن بدا للبعض أنھما مختلفان‪َ .‬‬
‫شھامة وخلق؟ وجھاداً في سبيل فكرة سامية وإنسانية تتّجه به إلى نصرة المضطھدين والمستضعفين وإلى‬
‫انتزاعھم من بين األنياب الضارية؟ وھي إذا كانت كذلك ـ وھي كذلك ـ أفالتأبى عليه أن ينعم في بلد يكثر فيه‬
‫االشقياء والتعساء!‬

‫ع يوما ً فلم يجدوا في البيت شيئا ً يأكلونه‪ .‬فخرج عل ٌي ليعمل في‬ ‫وقد روى أحدھم أنّ عليّا ً أصابه وعائلته الجو ُ‬
‫وأجر نفسه ليلةً يسقي نخالً بشيء من شعير حتى أصبح واستلم الشعير وطحنوا ثلثه فجعلوا‬ ‫سبيل كسب القوت ّ‬
‫نضجه أتى مسكينٌ يرجو طعاما ً فأطعموه‪ .‬ثم صنع الثلث الثاني فلما‬‫ُ‬ ‫منه شيئا ً ليأكلوه ويقال له الحريرة‪ .‬فل ّما ت ّم‬
‫ت ّم نضجه أتى آخر يرجو طعاما ً فأطعموه ثم صنع الثالث فأتى أسي ٌر من المشركين فسأل فأطعموه وطووا يومھم‬
‫ذلك دون طعام‪.‬‬

‫] ‪[ ٧٧‬‬
‫وقد حملت ھذه السيرةُ الطيبة عم َر بن عبدالعزيز ـ أحد خلفاء األسرة األموية التي تكره عليّا ً وتختلف له‬
‫السيئات وتسبّه على المنابر ـ على أن يقول‪ :‬أزھد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب!‬

‫يبى آجرة على آجرأ وال لبنة على لبنة وال قصبة على قصبة‪ .‬وأ نّه أبى أن يسكن القصر‬ ‫والمشھور أنّ عليّا ً لم ِ‬
‫األبيض الذي كان مع ّداً له بالكوفة لئال يرفع سكنه عن سكن أولئك الفقراء الكثيرين الذين يقيمون في خصاصھم‬
‫البائسة‪ .‬ومن كالم عل ّي ھذا القو ُل الذي انبثق عن اسلوبه في العيش انبثاقا ً‪» :‬أأقنع من نفسي بأن يقال‬
‫»أميرالمؤمنين« وال أشاركھم مكاره الدھر؟« ويروي ابن األثير أنّ عليّا ً تزوج فاطمة بنت الرسول وما لھما‬
‫فراش إالّ جلد كبش ينامان عليه بالليل ويعلفان عليه ناضجا ً لھما بالنھار‪ .‬فلما صار خليفة قدم عليه ما ٌل من‬
‫ٌ‬
‫أصفھان فقسمه على سبعة أسھم‪ ،‬فوجد فيه رغيفا ً فقسمه على سبعة!‬

‫وكان عل ّي يقول‪» :‬أفضل الزھد إخفاء الزھد«‪.‬‬

‫***‬

‫ويمثل عل ّي ابن أبي طالب الفروسية بأروع معانيھا وبكل ما تنطوي عليه من ألوان الشھامة‪ .‬واالباء والترفع‬
‫أصالن من أصول روح الفروسية‪ .‬فھما إذن من طبائع اإلمام‪ .‬لذلك كان بغيضا ً لديه أن ينال أحد الناس باألذى‬
‫وإن آذاه‪ .‬وأن يبادر مخلوقا ً باالعتداء ولو على ثقة بأنّ ھذا المخلوق إنّما يقصد قتله‪ .‬وروح االباء والترفّع ھذه‬
‫ھي التي ارتفعت به عن مقابلة االمويين بالسباب يوم جعلوا يرشقونه به‪ .‬فليس من خلق العظيم أن ينال َمن‬
‫ناصبوه العداء بالسباب ولو سبّوه‪ .‬بل إنّه منع على أصحابه أن ينالوا األمويين بالشتيمة المقذعة‪ .‬فھو ما كاد‬
‫يسمع قوما ً من أصحابه ھؤالء يسبّون أھل الشام أيام حروبھم بصفين‪ ،‬أل نّھم سايروا الغدر وماشوا الخديعة‪،‬‬
‫حتى قال لھم‪» :‬إني أكره لكم‬

‫] ‪[ ٧٨‬‬

‫أن تكونوا سبابين‪ ،‬ولكنكم لو وصفتم اعمالھم وذكرتم حالھم كان أصوب في القول‪ ،‬وأبلغ في العذر‪ ،‬وقلتم‬
‫مكان سبكم إياھم‪ :‬اللّھ ّم احقن دماءنا ودماءھم واصلح ذات بيننا وبينھم‪ ،‬واھدھم من ضاللتھم حتى يعرف‬
‫الحق من جھله‪ ،‬ويرعوى عن الغ ّي والعدوان من لھج به‪«.‬‬

‫ومروءة اإلمام أندر من أن يكون لھا مثيل في التاريخ‪ .‬وحوادث المروءة في سيرته أكثر من أن تعد منھا أنّه‬
‫أبى على جنده وھم في حال من النقمة والسخط أن يقتلوا عد ّواً تراجع‪ ،‬وأن يتركوا عدواً جريحا ً فال يسعفوه‬
‫كما أبى عليھم أن يكشفوا ستراً أو يأخذوا ماالً‪ .‬ومنھا أ نّه صلّى في وقعة الجمل على القتلى من أعدائه وطلب‬
‫لھم الغفران‪ .‬وأ نّه حين ظفر بأل ّد اعدائه الذين يتحينون الفرص للتخلص منه‪ ،‬وھم عبدﷲ بن الزبير ومروان‬
‫بن الحكم وسعيد بن العاص‪ ،‬عفا عنھم وأحسن إليھم وأبى على أنصاره أن يتعقّبوھم بسوء وھم على ذلك‬
‫قادرون‪ .‬ومن حوادث المروءة ھذه أنّ عليّا ً ظفر بعمرو بن العاص‪ ،‬وھو ال يقل خطراً عليه من معاوية بن أبي‬
‫سفيان‪ ،‬فأعرض عنه وتركه ينجو بحياته ويستمر في مؤامرته ضده‪ ،‬ألنّ عمراً ھذا رجاه‪ ،‬على أسلوب خاص‪،‬‬
‫أن يعفّ عنه وقد أصبح ذو الفقار فوق ھامته! ولو قضى عل ّي على عمرو آنذاك لكان قضى على المكر والدھاء‬
‫وجيش معاوية! وفي معركة صفين‪ ،‬حاول معاوية وجماعته أن يميتوا عليّا ً عطشاً‪ ،‬فحالوا بينه وبين الماء‬
‫ومنا ً وھم يقولون له‪ :‬وال قطرة حتى تموت عطشا ً! ولكن‪ ،‬ما كان من أمره وأمر جيش معاوية بعد ذلك؟ كان أن‬
‫حمل عليھم الفارس العظيم فأجالھم عن الماء‪ .‬ث ّم أتاح لھم أن يشربوا منه كما يشرب جنده‪ .‬وھو لو منع‬
‫عنھمالماء النتصر عليھم وأضطرھم إلى التسليم خشية الموت ظمأ! وعرف مرة أن رجلين من أنصاره يناالن‬
‫من عائشة في موقعة الجمل التي أدارتھا عائشة للقضاء عليه فأمر بجلدھما مائة جلدة‬

‫] ‪[ ٧٩‬‬

‫ث ّم أقبل على عائشة بعد انتصاره في ھذه الموقعة وودعھا أكرم وداع‪ ،‬وسار ھو نفسه في ركابھا أمياالً‪ ،‬ث ّم‬
‫أوصى بھا وأرسل من يخدمھا ويخفّ بھا ويوصلھا إلى المدينة مك ّرمة محترمة‪ .‬قيل أنّه أرسل معھا عشرين‬
‫أمرأة من نساء عبد القيس ع ّممھن بعمائم الرجال وقلّدھن السيوف‪ .‬فلما كانت عائشة ببعض الطريق ذ ّكرت‬
‫عليّا ً بما ال يجوز أن يُذكر به‪ .‬وتأفّفت وقالت‪َ :‬ھتَك ستري برجاله وجنده الذين وكلھم بي! فلما وصلت إلى‬
‫المدينة ألقى النساء عمائمھن وقلن لھا‪ :‬إنّما نحن نسوة!‬

‫ضھا على بعض دليل‪ .‬ومن أروع حلقاتھا الصد ُ‬


‫ق‬ ‫وتتماسك ھذه الصفات الكريمة في سلسلة ال تنتھي وبع ُ‬
‫واالخالص وقد بلغ به الصدق مبلغا ً أضاع به الخالفة وھو لو رضي عن الصدق بديالً في بعض أحواله لَما نال‬
‫منه عد ّو وال انقلب عليه صديق‪ .‬وقد حدث أن اجتمع عليه م ّرةً كبار المھاجرين يريدون اقناعه بمسايرة معاوية‬
‫يستتب له األمر فيقصيه فخالفھم جميعا ً مترفعا ً عن الحيلة والمواربة‪ .‬وقد جاءه المغيرة بن شعبة بعد‬
‫ّ‬ ‫إلى أن‬
‫مبايعته بالخالفة‪ ،‬وھو من ذوي الحنكة والحيلة وحسن التدبير‪ ،‬فقال له‪» :‬إنّ لك حق الطاعة والنصيحة وإن‬
‫الرأي اليوم تحر ُز به ما في غد‪ .‬وإن الضياع اليوم تُضيع به ما في غد أقرر معاوية على عمله وأقرر ابن عامر‬
‫على عمله‪ ،‬وأقرر العمال على أعمالھم حتى إذا أتتك طاعتھم وبيعة جنودھم استبدلتَ أو تركت!«‬

‫ولما ظھرت حيلة معاوية أطلق اإلمام عل ّي ھذه العبارة التي تصيح أن تكون صيغةً للخلق العظيم‪ ،‬قال‪» :‬وﷲ‬
‫ما معاوية بأدھى منھي‪ ،‬ولكنه يغدر ويفجر ولوال كراھية الغدر لكنتُ من أدھى الناس‪«.‬‬

‫] ‪[ ٨٠‬‬

‫ومن قوله في التشديد على ضرورة الصدق مھما اختلفت الظروف‪» :‬عالمة اإليمان أن تؤثر الصدق حيث‬
‫يض ّرك‪ ،‬على الكذب حيث ينفعك!«‬

‫والشجاعة في حدودھا الصحيحة ليست عمالً جسديا ً بل طبعا ً من طباع النفس ومزيّة من مزايا اإليمان‪.‬‬
‫وشجاعة اإلمام ھي من اإلمام بمنزلة التعبير من الفكرة وبمثابة العمل من االرادة‪ ،‬ألنّ محورھا الدفاع عن طبع‬
‫في الحق وإيمان بالخير!‬

‫والمشھور أن أحداً من االبطال لم ينھض له في ميدان‪ .‬وأن فارسا ً لم يثبت أمامه على صھوة‪ .‬فقد كان‪ ،‬لجرأته‬
‫على الموت‪ ،‬ال يھاب صنديداً بالغا ً ما بلغ من القوة والبأس والصولة ورھبة الصيت‪ .‬بألن فكرة الموت لم تجل‬
‫موقف نزال‪ .‬وإنّه لم يقارع بطالً إالّ بعد أن حاوره لينصحه ويھديه‪ .‬والمشھور‬
‫ِ‬ ‫م ّرة في خاطر اإلمام وھو في‬
‫أ نّه أجترأ‪ ،‬وھو غالم لم يط ّر شاربه بعد‪ ،‬على عمرو بن عبد و ّد فارسالجزيرة العربية وبطل المشركين المھاب‬
‫في مواقعھم مع المسلمين‪ .‬وكان اجتراؤه العجيب على ھذا الفارس انتصاراً منه للھداية على الغرور‪ ،‬وعلى‬
‫الزھو والخيالء‪ .‬فلما كانت وقعة الخندق‪ ،‬في مطلع االسالم‪ ،‬خرج عمرو مقنّعا ً بالحديد ينادي جيش المسلمين‪:‬‬
‫من يبارز؟ فھال عليّا ً ھذا التحدّي وأثار عزيمته‪ ،‬فصاح‪ :‬أنا له! فقال النبي‪ ،‬وبه إشفاق عليه لحداثة سنه من‬
‫جھة‪ ،‬ولبأس عمرو من جھة ثانية‪ ،‬وكان عمرو يساوي ألف فارس في نظر أصحابه وأعدائه‪ ،‬قال لعل ّي‪ :‬إنه‬
‫عمرو‪ .‬اجلس! وبعد أخذ ور ّد طويلين‪ ،‬وبعد أن كرر عمرو نداءه مراراً وھو يؤنب المسلمين‪ ،‬أذن النبي لعل ّي‬
‫فمشى إليه ف ِرحا ً مغتبطا ً‪ .‬فنظر إليه عمرو فاستصغره وأبى أن ينازله‪ .‬ث ّم أقبل عليه يسأله من أنت؟ فقال عل ّي‪:‬‬
‫أنا علي‪ ،‬ولم يزد‪ .‬قال عمرو‪ :‬ابن عبد مناف؟ قال‪ :‬ابن أبي طالب‪ .‬فأقبل عمرو عليه يقول‪ :‬يا ابن أخي‪،‬‬

‫] ‪[ ٨١‬‬

‫من أعمامك َمن ھو أسنّ ‪ ،‬وإني أكره أن أريق دمك‪ .‬فقال له عل ّي‪ :‬لكني وﷲِ ال أكره أن أريق دمك‪ .‬فغضب‬
‫عمرو وأھوى إليه بسيف قال واصفوه كأنّه شعلة نار‪ .‬واستقبل عل ّي الضربة بدرقته فقدّھا السيف وأصاب‬
‫رأسه‪ .‬ثم ضربه عل ّي على عاتقه فسقط ونھض‪ ،‬وسقط ونھض‪ ،‬وثار الغبار‪ ،‬فما انجلى إالّ عن عمرو وھو‬
‫صريع!‬

‫وقد سبق التحدّث عن فصول من شجاعته النادرة بعد أن أكتملت رجولته وكيف إنّه كان يخلع أشد الفرسان‬
‫صولة وأرھبھم جانبا ً من صھواتھم فيرفعھم بيده في الھوء ويجلد بھم األرض جلداً‪ ،‬ال جاھداً وال متعبا ً‪.‬‬

‫وفي نھج البالغة أن معاوية انتبه يوما ً فرأى عبدﷲ بن الزبير جالسا ً تحت رجليه على سريره‪ ،‬فقعد‪ ،‬فقال له‬
‫عبدﷲ يداعبه‪:‬‬
‫يا أميرالمؤمنين‪ :‬لو شئت أن أفتك بك لفعلتُ ‪ .‬فقال‪ :‬لقد شجعت بعدنا يا أبابكر! فقال‪:‬وما الذي تنكره من‬
‫شجاعتي وقد وقفتُ في الصفّ إزاء عل ّي بن أبي طالب؟ قال‪ :‬الجر َم أنّه قَتَلك وأباك بيسرى يديه وبقيت اليمنى‬
‫فارغة يطلب من يقتله بھا!‬

‫وإذا عرفنا أن عبدﷲ بن الزبير من أشد األبطال بأسا ً ومن ل َد أصحاب الفتنة خصومةً لعل ّي‪ ،‬أدركنا مدى ما‬
‫يص ّوره من شجاعة عل ّي وبطولته ساعةَ أراد أن يبالغ في وصف شجاعته ھو فما رأى أبلغ من أن يص ّور نفسه‬
‫لعلي وحرصه الشديد على أن يكتم كل‬
‫ّ‬ ‫واقفا ً في صفﱢ من المحاربين إزاء عل ّي! وإذا عرفنا كذلك عداء معاوية‬
‫فضيلة من فضائله عمالً بمصلحة ملكه الجديد‪ ،‬ثم رأيناه يقول ھذا القول‪ ،‬أدركنا من شجاعة عل ّي ھذا المدى‬
‫البعيد الذي حمل معاوية قسراً على االعتراف بما اعترف به‪.‬‬

‫***‬

‫وكان علي‪ ،‬مع قوته البالغة وشجاعته النادرة‪ ،‬يتورع عن البغي أيّا ً كان‬

‫] ‪[ ٨٢‬‬

‫الظرف فقد أجمع المخبرون والرواة والمؤرخون أنّ عليّا ً يأنف القتال إالّ إذا ُحم َل عليه حمال فكان يسعى أن‬
‫يس ّوي االمور مع أخصامه ومن يبادره بالعداوة على وجوه سلمية تحقن الدم وتحول دون النزال‪ .‬وكان يردّد‬
‫على اسماع ابنه الحسن ھذا القول‪» :‬ال تدعونّ الى مبارزة«‪.‬‬

‫ول ّما كان قول اإلمام ال يخرج إال عن معدن صاف‪ ،‬فقد طالما عمل بوصيته البنه الحسن وعفّ عن القتال إالّ‬
‫مك َرھا ً‪ .‬من ذلك أن جنود الخوارج لما أخذوا يعد ّون العدة ليحاربوه‪ ،‬ونصحه أحدھم بان يبادرھم قبل أن‬
‫يبادروه‪ ،‬أجاب قائال‪» :‬ال أقاتلھم حتى يقاتلوني‪ «.‬ورأى أن شھامة الفارس وعقيدة المؤمن بالخبر‪ ،‬ووثبة‬
‫االنسانية في روحه‪ ،‬تقضي عليه بأن يجادلھم لعلّھم قانعون‪ .‬وفيما كان يعظ قوما ً فيھم كثير من الخوارج الذين‬
‫يكفّرونه‪ ،‬بھرت عظتُه بعض ھؤالء الخوارج فصاح‪ ،‬وقدأرغمته بالغةُ عل ّي وسحر بيانه على االعجاب‬
‫واإلكبار‪ ،‬قائالً‪ :‬قاتَلَه ﷲ كافراً ما أفقھه! فھ ّم أتباع عل ّي بقتله‪ ،‬فصاح بھم يقول‪ :‬إنّما ھو ّ‬
‫سب بسبب أو عف ٌو‬
‫عن ذنب!‬

‫وقد م ّر بنا ذكر ما كان من شأنه وشأن جنود معاوية ساعة عزم ھؤالء على أن يميتوه عطشا ً‪ .‬وساعة قابل‬
‫سيئاتھم باحسانه فلم يمنع عنھم ورود الماء بلساواھم بنفسه وأتباعه! وله مع معاوية وجنوده أخبار ال يتسع‬
‫لذكرھا مجال‪ .‬وكلّھا تشير إلى عبقرية علويّة خاصة في التورع عن البغي وفي األخذ بالحسنى من ذلك ما رواه‬
‫أحد مؤرخي سيرة اإلمام قال‪:‬‬

‫واتفق في يوم صفين أن خرج من أصحاب معاوية رج ٌل يسمى كريز ابن الصباح الحمري فصاح بين الصفّين‬
‫من يبارز؟ فخرج إليه رج ٌل من أصحاب علي فقتله كريز ووقف عليه ونادى‪ :‬من يبارز؟ فخرج إليه آخر‪ ،‬فقتله‬
‫وألقاه على األ ّول‪ ،‬ثم نادى‪ :‬من يبارز؟ فخرج إليه الثالث فصنع به صنيعه بصاحبيه‪ .‬ثم نادى رابعةً‪ :‬من يبارز؟‬
‫فأحجم الناس جمعيا ً ورج َع‬

‫] ‪[ ٨٣‬‬

‫من كان في الصف األول إلى الصفالذي يليه! وخاف عل ّي أن يشيع الرعب بين صفوفه‪ ،‬فخرج إلى ذلك الرجل‬
‫ال ُمد ّل بشجاعته وبأسه فصرعه‪ .‬ثم قال يُسمع الصفوف‪ :‬يا أيھا الناس‪ ،‬لو لم تبدأونا ما بدأناكم‪ ،‬ثم رجع إلى‬
‫مكانه!‬

‫ومن ذلك ما جرى يوم موقعة الجمل‪ .‬فحين اجتمع عليه اخصامه وساروا بجھدھم إليه‪ ،‬أمر اصحابه أن‬
‫يصطفھوا ففعلوا‪ ،‬فقال لھم‪» :‬ال ترموا بسھم وال تطعنوا برمح‪ ،‬وال تضربوا بسيف‪ ،‬وأعذروا!« وكان يأمل‬
‫ي االمور سلما ً فيحقن الدماء فال يموت من الناس َمن يموت قتيالً! وما ھي إالّ‬
‫بذلك أن يجتنب الحرب ويسو ّ‬
‫دقيقة حتى رمى رج ٌل من عسكر القوم بسھم فقتل رجالً من اصحاب عل ّي‪» :‬فصاح عل ّي‪» :‬اللھمأشھد«‪ .‬ثم‬
‫أصيب رجل آخر فقتل‪ ،‬فقال »اللّھ ّم أشھد«‪ .‬وأصيب عبدﷲ بن بديل فأتى به اخوه يحمله فقال عل ّي‪» :‬اللّھ ّم‬
‫أشھد«‪ .‬ثم كانت الحرب‪.‬‬

‫ق من اخالقه وھي متصلة اتصاالً وثيقا ً بمبدئه العام‬


‫وطبيعة التورع عن البغي اصل من أصول نفسية علي وخل ٌ‬
‫الذي يقوم بمعرفة العھد وصيانة الذمة والرحمة بالناس حتى يخونوا كل عھد ويقسوا دون كل رحمة‪ .‬ومن‬
‫أروع صور المودة وآيات الوفاء أن يقف فارس في حومة الحرب وينظر إلى معارفه من منازليه نظرة المؤاخاة‬
‫الداعية إلى السلم ويذ ّكرھم ما بينه وبينھم من عھد سبق ومودة تربأ بنفسھا أن تنقلب أو تخون‪ .‬يذ ّكرھم ما‬
‫بينه وبينھم من عھد يريد بذلك أن ينزع من أيديھم السالح ويحل ما تعقّد من األمور على صورة ھي للسلم‬
‫والصفاء أقرب! فإنّه ال يحاب عد ّواً له سابقةُ مودة به إالّ أن يأخذ بتذكيره ھذه السابقة ويستعيد على مسامعه‬
‫ما سلف من عھد االخاء والصفاء فلع ّل في الصداقة القديمة ما يحيي ضمير ھذا العدو فيكون له رادعا ً عن‬
‫العداوة‬

‫] ‪[ ٨٤‬‬

‫والبغضاء‪ .‬وما كان لعل ّي أن يستنجد الصداقة على العداوة لوال ذلك الفيض العظيم من الوفاء والحنان تزخر به‬
‫نفسه ويطغى على جنانه‪.‬‬

‫ومن الدالئل القاطعة على عاطفة الوفاء العميقة التي كانت تعمر قلب اإلمام‪ ،‬وعلى دفق المودة في نفسه‪،‬‬
‫اخباره مع عد ّويه الزبير بن الع ّوام وطلحة بن عبيدﷲ اللذين ألبّا عليه انصاره وض ّماھم إلى اخصامه واندفعا‬
‫بھم جميعاً‪ ،‬وعلى رأسھم عائشة‪ ،‬إلى قتاله‪.‬‬

‫فمن ذلك ما رواه الثقاة من المخبرين عن المشاھدين أنصاراً وأخصاماً‪ ،‬قالوا أنّ الزبير وطلحة ل ّما ّ‬
‫ألحا في‬
‫حربه وإنكار بيعته والتجنّي عليه في موقعة الجمل المشھورة‪ ،‬خرج عل ّي إليھما حاسراً ال يحتمي بدرع وال‬
‫بسالح‪ ،‬تدليالً على نوايا السلم التي يُضمر‪ ،‬ونادى‪ :‬يا زبير! أخرج إل ّي‪ .‬فخرج الزبير إليه مدججا ً بالسالح‪.‬‬
‫وسمعت عائشة ذلك فصاحت‪ :‬واحرباه! ذلك ألنّھا لم يخالجھا أق ّل شك في أنّ الزبير ال محالة مقتول‪ .‬فخص ُم‬
‫عل ّي مقض ّي عليه بالموت إذا نازله‪ ،‬مھما كان حظه من الشجاعة عظيما ً ومھما كانت خبرته بالقتال فائقة‪.‬‬

‫ولش ّد ما دھشت عائشة ومن حولھا وھم يرون إلى عل ّي بن أبي طالب يعانق الزبير!‬

‫عانقه طويالً ألنّ اسباب المودّة ال تنقطع في القلب الكبير!‬

‫أخرجك؟‬
‫َ‬ ‫وعاد عل ّي يسأل الزبير بلھجة الصداقة القديمة‪ :‬ويحك يا زبير‪ ،‬ما الذي‬

‫قال‪ :‬دم عثمان!‬

‫قال‪ :‬قَتَ َل ﷲ أوالنا بدم عثمان!‬

‫وجع َل عل ّي يذ ّكره العھود والصداقات وأيّام االخ ّوة السالفات!‬

‫وربما بكى عل ّي في مثل ھذا الموقف! ولكن الزبير استمر في قتال اإلمام حتى صرع‪ .‬وكان مصرعه على كره‬
‫من راعي المودّات‪ ،‬عل ّي بن أبي طالب!‬

‫] ‪[ ٨٥‬‬

‫وكان من حسن وفائه للخلفاء الثالثة الذين سبقوه‪ ،‬والذين أعانھم برأيه وعمله ومسلكه ومقاله‪ ،‬أ نّه س ّمى‬
‫ثالثة من أبنائه بأسمائھم وھم‪ :‬أبو بكر وعمر وعثمان‪.‬‬
‫جار عليه‪ .‬فإنّ عليّا ً‬
‫ولع ّل موقف اإلمام من مقتل خصمه طلحة ال يجاريه في التاريخ موقفُ خصم من خصم له َ‬
‫ساعة وقف على جثة طلحة وھو قتيل‪ ،‬بلغ به الحزن أشد مبلغ‪ ،‬وبيك أح ّر بكاء‪ ،‬واندفعت الذكريات العزيزة‬
‫على قلبه دموعا ً غزاراً من عينيه ولوعةً محرقة في قلبه‪ .‬وجعل ينظر إليه ويقول‪ :‬عزيز عل ّي أن أراك‪ ،‬يا أبا‬
‫مح ّمد‪ ،‬مج ّدالً تحت نجوم السماء! وتمنّى لو أخذه ﷲ قبل ھذا اليوم بعشرين سنة!‬

‫ولكنّ صاحب المودّات لم ير َع اصدقاؤه له مودة‪ .‬أل نّھم لم يكونوا ليطمعوا بأن يحولوا بينه وبين نفسه‪ ،‬فيطلق‬
‫أيديھم في خيرات األرض دون سائر الخلق‪.‬‬

‫يقول عل ّي‪:‬‬

‫لب شعيرة ما فعلتُ ‪ .‬وإن‬


‫»وﷲ لو أعطيتُ األقاليم السبعة بما تحت أفالكھا على أن أعصي ﷲ في نملة أسلبُھا ّ‬
‫دنياكم أھون عندي من ورقة في فم جرادة!«‬

‫وليس عل ّي في ھذا المجال قائالً ثم عامالً‪ .‬بل ھو القول يجري من طبيعة العمل الذي يُعمل‪ ،‬والشعور الذي‬
‫يحس‪ ،‬والحياة التي يحيا! فعل ّي أكرم الناس مع الناس‪ .‬وأبعد الخلق عن أن ينال الخلق باألذى‪ .‬وأقربھم إلى بذل‬
‫ّ‬
‫نفسه في سبيلھم على أن يقتنع ضميره بضرورة ھذا البذل! أ َوليست حياته كلھا سلسلة معارك في سبيل‬
‫ورثَة االمجاد‬
‫المظلومين والمستضعفين‪ ،‬وانتصاراً دائما ً للشعب دون من يريدونه آلة إنتاج لھم »من السادة َ‬
‫العائلية« أ َولم يكن سيفا ً صارما ً فوق أعناق القرشيين الذين أرادوا استغالل الخالفة واالمارة للسلطان والجاه‬
‫وتكديس األموال؟ ألم يُضع الخالفة والحياة على األرض أل نّه أبى مسايرة أھل الدنيا في استبعاد إخوانھم‬
‫الضعفاء والفقراء والمظلومين؟ أليس عل ّي أعظم الناس‬

‫] ‪[ ٨٦‬‬

‫رفقا ً بالناس يوم دفع عنه اخاه عقيالً الذي جاءه يطلب من مال الشعب وآثر أن يلوي عنه اخوه ھذا ويساير‬
‫ق حاله؟ اليس عل ّي‬‫معاوية على أن يأذن له في التص ّرف بالقليل القليل من مال الفقير والمظلوم والعامل و َمن ر ّ‬
‫أبا ً كريما ً لشعبه في توجييه الوالة والعمال نحو الرفق بالناس والضرب على أيدي المستغلّين من ذوي الوجاھة‬
‫والسلطان مشدّداً في ھذا التوجيه مھدداً بالعقاب! أليس عل ّي ھو صاحب ھذه الوصايا المك ّررة في آذان ُوالته ‪:‬‬
‫»أنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجھم فإنھم خزان الرعية! ال تحسموا أحداً عن حاجته وال تحبسوه‬
‫عن طلبته! وال تبيعنّ للناس في الخراج كسوةَ شتاء وال صيف‪ ،‬وال دابّة يعتملون عليھا! وال تضربن أحداً‬
‫سوطا ً لمكان درھم!«‬

‫أ َوليس عل ّي صاحب العھد الرائع إلى األشتر النخعي عامله على مصر وأعمالھا وفيه يقول‪» :‬وال تكونَنّ عليھم‬
‫سبعا ً ضاريا ً تغتنم أكلھم فإنّھم صنفان إ ّما أخ لك في الدين‪ ،‬أو نظي ٌر لك في الخلق! أعطيھم من عفوك وصفحكَ‬
‫تبجحنّ بعقوبة!« ثم يقول له‪» :‬وامنع‬
‫َ‬ ‫تحب أن يعطيك ﷲُ من عفوه وصفحه‪ .‬وال تندمنّ على عفو وال‬ ‫ّ‬ ‫مثل الذي‬
‫من االحتكار«‪ .‬وتشديد علي في منع االحتكار كان من االسباب البعيدة في ما كان من أمره وأمر معاوية‬
‫وأنصاره فھؤالء يريدون الملك والمال والمغانم ألنفسھم‪ ،‬وعل ّي يريدھا جميعا ً للشعب‪.‬‬

‫وبلغ عل ّي من الرفق بالناس وطلب العذر لھم عما يفعلون أن حاربه أھ ُل البصرة وضربوا وجھه ووجوه أوالده‬
‫بالسيوف وسبّوه ولعنوه‪ ،‬فلما ظفر بھم رفع السيفَ عنھم وأدخلھم في أمانه‪ .‬ومن ذلك أيضا ً أنّه أوصى خيراً‬
‫بقاتله األثيم ابن ملجم على ما سنرى‪.‬‬

‫وجاء في وصيته للحسن والحسين‪» :‬قوال الحق‪ .‬وكونا للظالم خصما ً وللمظلوم عونا ً«‪.‬‬

‫] ‪[ ٨٧‬‬
‫أوصاھما بأن يكونا للظالم خصما ً ولو كان من ذويھما وأن يكونا للمظلوم عونا ً ولو كان من أقاصي األرض!‬
‫سعى عل ّي في تحطيم الظالمين وفي رفع الحيف عن المستضعفين‪ :‬سعى لذلك بقلبه ولسانه وحسامه ودمه!‬
‫وكان ال يساير في ھذا السبيل وال يھادن ولو فقد حياته!‬

‫علي أعدل الناس‪ ،‬بل الغريب أن ال يكونه! وأخبار عل ّي في عدله تراث يش ّرف المكانة‬
‫ّ‬ ‫وليس غريبا ً أن يكون‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اإلنسانية والروح اإلنساني من ذلك ما م ّر بنا من أنه أخاه عقيال أراد منه ماال يجريه من مال الشعب‪ .‬فأبى‬
‫اإلمام عليه ذلك ألنّ المعوزين أجدر بھذا المال وھو مالھم وھدّده اخوه بأن يتركه إلى خصمه معاوية فما أثّر‬
‫ذلك في نفسه وال بدّل من أمره فأقبل أخوه على معاوية وھو يقول‪» :‬معاوية خير لي في دنياي!«‬

‫وكان معاوية عند رأي عقيل فيه! فقد كان بيت المال في نظر معاوية سالحا ً في يديه يم ّكن به من سلطانه‬
‫ويفدي به مسلكه ويستعيد به امجاد اميّة السالفات‪.‬‬

‫وكان اإلمام يأبي الترفّع عن رعاياه في المخاصمة والمقاضاة‪ .‬بل أ نّه كان يسعى إلى المقاضاة إذا وجبت‬
‫لتشبّعه من روح العدالة‪ .‬من ذلك أ نّه وجد درعه عند عرب ّي مسيحي من عامة الناس‪ .‬فأقبل به إلى أحد القضاة‬
‫واسمه شريح‪ ،‬ليخاصمه ويقاضيه‪ .‬ول ّما كان الرجالن أمام القاضي قال عل ّي‪ :‬إنّھا درعي ولم أبع ولم أھب!‬
‫فسأل القاضي الرجل المسيحي‪ :‬ما تقول فيما يقول أميرالمؤمنين؟ فقال العربي المسيحي‪ :‬ما الدرع إالّ درعي‬
‫وما أميرالمؤمنين عندي بكاذب! وھنا التفت القاضي شريح إلى عل ّي يسأله‪ :‬ھل من بيّنة تشھد أنّ ھذه الدرع‬
‫لك؟ فضحك عل ّي وقال‪ :‬أصاب شريح‪ ،‬مالي بيّنة! فقضى شريح بالدرع للرجل المسيحي‪ ،‬فأخذھا ومشى‬
‫وأميرالمؤمنين ينظر إليه! إالّ أنّ الرجل لم‬

‫] ‪[ ٨٨‬‬

‫يخطُ خطوات قالئل حتّى عاد يقول‪ :‬أ ّما أنا فأشھد أنّ ھذه أحكام أنبياء! أميرالمؤمنين يدينني إلى قاضى يقضي‬
‫عليه! ثم قال‪ :‬الدرع وﷲِ درعك يا أميرالمؤمنين وقد كنتُ كاذبا ً فيما ادّعيتُ ! وبعد زمن شھد الناس ھذا الرجل‬
‫وھو من أصدق الجنود وأش ّد االبطال بأسا ً وبالء في قتال الخوارج يوم النھروان‪ ،‬إلى جانب اإلمام عل ّي!‬

‫وعن عل ّي بن أبي رافع‪ ،‬قال‪:‬‬

‫كنت على بيت مال عل ّي بن أبي طالب‪ ،‬وكاتبه‪ .‬فكان في بيت ماله عقد لؤلؤ كان أصابه يوم البصرة‪ .‬فأرسلت‬
‫إل ّي بنت علي بن أبي طالب‪ ،‬فقالت لي‪ :‬إنّه قد بلغني أنّ في بيت مال أميرالمؤمنين عقد لؤلو‪ ،‬وھو في يدك‪،‬‬
‫وأنا أحب أن تعيرنيه اتج ّمل به في يوم االضحى‪ ،‬فأرسلتُ إليھا‪ :‬عاريةً مضمونةً مردودة بعد ثالثة أيام يا بنت‬
‫أميرالمؤمنين‪ .‬فقال‪ :‬نعم‪ ،‬عارية مضمونة مردودة بعد ثالثة أيام‪ .‬فدفعته إليھا‪ ،‬وإذا أميرالمؤمنين رآه عليھا‬
‫فعرفه‪ ،‬فقال لھا‪ :‬من اين جاء إليك ھذا العقد؟ فقالت‪ :‬استعرته من أبي رافع خازن بيت مال أميرالمؤمنين‬
‫ألتزيّن به في العبد ثم أردّه‪ .‬فبعث إل ّي أميرالمؤمنين‪ ،‬فجئته‪ ،‬فقال لي‪ :‬اتخون المسلمين يا ابن رافع؟ فقلت‪:‬‬
‫معاذ ﷲ أن أخون المسلمين! فقال كيف أعرت بنت أميرالمؤمنين العقد الذي في بيت مال المسلمين بغير أذني‬
‫ورضاھم؟ فقلت‪ :‬يا أميرالمؤمنين‪ ،‬إنّھا بنتك‪ ،‬وسألتني أعيره تتزيّن به‪ ،‬فأعرتھا إياه عارية مضمونة مردودة‬
‫على أن ترده سالما ً إلى موضعه! فقال‪ :‬ردّه من يومك‪ ،‬وإياك أن تعود إلى مثله فتنالك عقوبتي! فبلغت مقالته‬
‫ابنته‪ ،‬فقالت له‪ :‬يا أميرالمؤمنين‪ ،‬أنا بنتك وبضعة منك‪ ،‬فمن أحق بلبسه مني؟ فقال لھا‪ :‬يا بنت أبي طالب‪ ،‬ال‬
‫تذھبي بنفسك عن الحق‪ ،‬أك ّل نساء المھاجرين واألنصار يتزيّن في مثل ھذا العيد بمثل ھذا؟! فقبضه منھا‬
‫ورددتُه إلى موضعه‪.‬‬

‫] ‪[ ٨٩‬‬

‫وتجري في روحه العدالة حتّى أمام أبسط األمور‪ .‬فھو إذا استوى وأخ َذ الناس في ح ّ‬
‫ق باختيا ِر متاع من أمتعة‬
‫الدنيا آثر أن يكون ھذا االختيار من نصيب غيره لئالّ يشعر ھذا الغير بأن النصيب األوفر من الحقوق مالزم‬
‫للكبير دون الصغير‪ .‬من ذلك أ نّه ذھب يوما ً إلى أبي النوار ومعه غالمه‪ .‬فاشترى من أبي النوار قميصين‬
‫اثنين‪ ،‬ثم قال لغالمه‪ :‬اختر ايّھما شئت! فاختار الغالم أحدھما‪ ،‬وأخذ عل ّي اآلخر!‬
‫ووصايا اإلمام‪ ،‬ورسائله إلى الوالة تكاد تدور حول محور واحد ھو‪ :‬العدل وما تواطأ الناس عليه‪ ،‬أباعد‬
‫وأقارب‪ ،‬إالّ أل نّه ميزان العدالة الذي ال يميل إلى قريب وال يساير نافذاً وال يجوز فيه إالّ الحق‪ .‬فإن عثمان بن‬
‫عفان ل ّما ول ّي أمر المسلمين اطلق ايدي األقارب واألعوان والصحابة في كل مورد من موارد الجاه والثروة‪،‬‬
‫منقاداً بذلك إلى آراء بطانة السوء وكان مروان اشدّھم تأثيراً عليه‪ .‬فخالف بما فع َل الوصية الحكيمة التي‬
‫اوصى بھا أبو بكر الصدّيق خليفته عمر بن الخطاب إذ قال له‪» :‬إحذر ھؤالء النفر من أصحاب رسول ﷲ)صلى‬
‫وأحب ك ّل امرئ منھم نفسه!«‬
‫ّ‬ ‫ﷲ عليه وآله(‪ ،‬الذين انتفخت أجوافھم وطمحت أبصارھم‬

‫وكان في نفس عل ّي شيء من ھؤالء الذين انتفخت أجوافھم‪ .‬فلما صارت الخالفة إليه أبى إالّ أن يعدل فيھم‪،‬‬
‫فعزل منھم من عزل‪ ،‬وأبعد عن السلطان واالحتكار من أبعد‪ .‬وحارب كل من تحدثه نفسه بأن يح ّول الرسالة‬
‫لتصب في بيته ماالً وسلطانا ً! وطالما ردّد على اسماع ھؤالء قوله الرائع‪» :‬إني‬
‫ّ‬ ‫عن مجاريھا الطبيعية العادلة‬
‫ألعرف ما يصلحكم ولكن ال اصلحكم بفساد نفسي!«‬

‫وكان من شأنه وشأن ھؤالء ما كان‪ ،‬حتى انھزم الظالمون في حكوماتھم وإن انتصروا بالحيلة والظرف‪ .‬وحتى‬
‫انتصر العدل في قلب عل ّي وقلوب اتباعه وإن ظُلموا وظُلم!‬

‫] ‪[ ٩٠‬‬

‫وحين مات عل ّي من طعنة ابن ملجم األثيمة‪ ،‬رثته أ ّم الھيثم النخعية بقصيدة باكية‪ ،‬منھا ھذا البيت الذي يص ّور‬
‫نظرة الناس إلى عل ّي ومعرفتھم بعدله المش ّرف‪:‬‬

‫العدا واألقربينا‬
‫ق ال يرتاب فيه *** ويعد ُل في ِ‬
‫يقيم الح ّ‬

‫وعل ّي ھو القائل‪:‬‬

‫عليكم بالعدل على الصديق والعد ّو!‬

‫***‬

‫ق عند عظماء الناس‪ .‬وھي عند عل ّي ھذا الخلق التّصالھا‪ ،‬في ينابيعھا‪ ،‬بكل طباعه الباقية‪ .‬فھي‬ ‫والصراحة خل ٌ‬
‫والصدق واالخالص والمروءة وما إليھا أخوات‪ .‬فمن صراحته أ نّه لم يكن يخفي شيئا ً م ّما يضمر أو يحسب‪،‬‬
‫وال يُظھر شيئا ً م ّما ال يخفي وال ينوي‪ .‬وأ نّه لم يكن ليألف الحيلة في معاملة أخصامه المعتدين وھو أعلم الناس‬
‫بأنّ في الحيلة الخالص من ھؤالء وم ّما يضمرون له من شر‪ .‬وفي حديثنا السابق عن صدق اإلمام وإخالصه ما‬
‫يُعتبر حديثا ً عن الصراحة المطلقة التي كانت من مزاياه‪ ،‬وما أكثرھا!‬

‫ومن أصول أخالقه أ نّه كان يعتمد البساطة في كل ما يأتيه‪ ،‬ويمقت التكلف‪ .‬بل ربما كان ذلك مالك األمر في‬
‫طباعه‪ .‬وكان يقول‪» :‬شر اإلخوان من تُكلّف له«‪ .‬ويقول أيضا ً‪» :‬إذا احتشم المؤمن أخاه فقد فارقه«‪ .‬ويقصد‬
‫باالحتشام مراعاة الصديق حتّى التكلّف! وكان ال يتصنّع في رأي يراه أو نصيحة يسديھا أو رزق يھبه أو مال‬
‫أصحاب األغراض من استرضائه بالحيلة‪ ،‬وحتى يسأم المداورون‬
‫ُ‬ ‫يمنعه‪ .‬وكانت ھذه الطبعيّة تالزمه حتى يسأم‬
‫المراوغون من أ نّه مصطنع إياھم راض عنھم‪ .‬فإذا ھم ينسبون إليه القسوة والجفوة والزھو على الناس‪ .‬وما‬
‫كان اإلمام ذا قسوة أو جفوة أو زھو مقصود وغير مقصود!‬

‫] ‪[ ٩١‬‬

‫بل كان ما يبدر منه انقياداً للطبع والسجيّة دون تكلّف ودون رياء‪ .‬ول ّما كان المحيطون به ـ في معظمھم ـ أھل‬
‫منافع خاصة‪ ،‬فقد ساء بھم ظنه فما تكلّف أن يخفي ھذا االستيارء‪ .‬وليس صدق الشعور وإظھاره زھوراً وليس‬
‫جفوة‪ .‬بل أنّ عليّا ً كان يمقت الزھو ويمقت العجب وال يرضاه‪ .‬ولطالما نھى ُولدَه وأعوانه وعماله عن الكبر‬
‫والعجب‪ .‬ومن قوله في نصح ھؤالء‪» :‬إياك واإلعجاب بنفسك« و »اعلم أنّ اإلعجاب ضد الصواب‪ ،‬وآفة‬
‫األلباب«‪ .‬كان يمقت التكلّف حتى عند مادحيه‪ .‬فربما أفرط أحدھم في مدحه فإذا ھو يستوقفه ليقول له‪» :‬أنا‬
‫دون ما تقول«‪ .‬وربما أفرط في اتّھامه في نفسه‪ ،‬فال يتكلّف أن يخفي ما عرف من طويته فيقول‪» :‬وفوق ما‬
‫في نفسك!« وكرهَ عل ّي التكلّف في محبّيه المغالين كما كره التكلّف في مبغضيه المفرطين‪ ،‬فقال‪» :‬ھلك ّ‬
‫في‬
‫ومبغض قال)‪ «(١‬ذلك ألنّ في كل إفراط ظاھرة تكلّف! إنّه ال يتكبّر وال يتواضع‪ ،‬ألن في‬
‫ٌ‬ ‫محب غال‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اثنان‪:‬‬
‫التكبّر تكلّفا ً وفي التواضع تكلّفا ً كذلك‪ .‬بل يظھر نفسه كما ھي‪ ،‬صريحة صراحة الحق وصراحة الطبيعة! وھل‬
‫رأيت في الناس من ھو أودع‪ ،‬وأجمل مسلكاً‪ ،‬من عل ّي ساعة رآه بعضھم وھو يحمل في ملحفه تمراً قد اشتراه‪،‬‬
‫فقالوا له‪ :‬أال نحمله عنك؟ فقال ببساطة العظيم‪» :‬أبو العيال أحق بحمله!«‬

‫وأنّه لمن الخطأ الشائع أن تع ّد التواضع المقصود فضيلة من فضائل النفس‪ ،‬بل أنّه شيء من التكلّف المقيت‪.‬‬
‫ولم يكن عل ّي بالمتواضع ولكنه لم يكن متكبراً‪ .‬بل كان يُظھر ما في طويته دون أن يحسب للتواضع حسابا ً أو‬
‫للتكبر‪ .‬فكالھما ليس من عدّة العظيم‪ .‬أما إذا رآه بعضھم متكبراً‪ ،‬ورآه بعضھم متواضعاً‪ ،‬فإن الخطأ في الحالتين‬
‫خطأ الناس في نظرتھم إليه وتعليلھم أحواله‪.‬‬

‫‪ ١‬محب غال‪ :‬متجاوز الح ّد في حبه‪ .‬مبغض قال‪ :‬متجاوز الحد في بغضه‪.‬‬

‫] ‪[ ٩٢‬‬

‫فھو منھا براء‪ .‬يقول صاحب »عبقرية اإلمام« ‪» :‬كان يخرج إلى معاوية حاسر الرأس ومبارزوه مقنّعون‬
‫بالحديد‪ ،‬أفعجيب أن يخرج إليھم حاسر النفس وھم مقنعون بالحيلة والرياء؟«‬

‫سط‪.‬‬
‫أ ّما الجفوة فال جفوة في خلق اإلمام‪ ،‬بل سماحة وتب ّ‬

‫ومن خلقه ما تميّز به من سالمة القلب‪ .‬فھو ال يحمل ضغينة على مخلوق وال يعرف حقداً حتّى على أل ّد اعدائه‬
‫ومناوئيه ومن يحقدون عليه حسداً وكرھا ً‪ .‬فقد م ّر معنا أ نّه نھى أوالده وذويه‪ ،‬قبيل موته‪ ،‬أن يقتلوا أحداً من‬
‫أقرباء قاتله ابن ملجم‪ .‬وبكى على خصمه طلحة وكان طلحة ھذا يطلب رأسه‪ .‬ورثاه بقول صادق المودة ظاھر‬
‫اللوعة‪ .‬وأوصى أصحابه إالّ يقاتلوا الخوارج بالرغم من محاربتھم اياه‪ ،‬ومن أنّ قاتله أحدھم‪ ،‬ومن أنّھم نكلوا‬
‫باصحابه وأذاقوه وإياھم من األذى قدر ما أذاقه معاوية وعمرو بن العاص وأعوانھما‪ .‬ذلك ألنّه شعر‬
‫باخالصھم لقضيتھم وإن كانوا على خطأ وضالل‪ .‬ث ّم إنّه ليس في تاريخه وأخباره جميعا ً ما يد ّل على طبيعة‬
‫تحقد على األعداء‪ ،‬حتى أنّه لم يحقد على معاوية نفسه‪ ،‬محتكما ً إلى الحق في قلبه وإلى الصراحة في لسانه‬
‫وإلى السيف في يده‪ .‬وليس من طبيعة الفروسية أن تحقد وإن كان من طبيعتھا أال تنام على ضيم يلحق بھا وأال‬
‫تھجع على ظلم يلحق باآلخرين‪ .‬ولكن ھذه الطبيعة النبيلة التي ال تحقد حتى على َمن عالنھا العداء وأراد لھا‬
‫الموت‪ ،‬كانت تحاط بالحاقدين الساخطين المفرطين في الحقد والسخط‪ .‬وأقوال عل ّي الرائعة تفيض باألسى الم ّر‬
‫لِما فيه من طيبة وحب‪ ،‬ولما في اآلخرين من غدر‪.‬‬

‫وكان من ُخلقه أن يكون كريما ً ال حدود لكرمه‪ .‬ولكنّه الكر ُم السليم بأصوله وغاياته ال كرم الوالة وذوي‬
‫السلطان الذين »يكرمون« بأموال الناس وجھودھم‪ .‬وھم إذا ُكرموا على ھذا النحو فإنما يكرمون على ذويھم‬
‫وأقاربھم‬

‫] ‪[ ٩٣‬‬

‫والضاربين بسيوفھم في سبيل ما يملكون‪ .‬وھم إذا ُكرموا فوق ذلك فلكي يقال فيھم أنھم من أھل الكرم وھي‬
‫صفةٌ تزيد المر َء وجاھةً لدى الجماعات وتُكسبه عطفا ً وتستر ما اختلس وتلقي سدالً على جوره الن كان من‬
‫أھل الجور وعلى عجزه في سياسة الناس إن كان من ذوي العجز‪ .‬ھذا اللون من ألوان الكرم الذي ال يختلف‬
‫عن الرشوة في معناه‪ ،‬والذي عرفه أكثر المشھورين بالكرم في تاريخنا سوانا من ذوي الوجاھة والسلطان‪ ،‬لم‬
‫كرمه ھو الكرم الذي يعبّر عن جملة المروءات‬ ‫يعرفه عل ّي بن أبي طالب م ّرة في حياته ولم يأبه له‪ .‬وإنّما َ‬
‫موجھة‪ .‬ففيما كان يزجر ابنته زجراً شديداً إذا ھي استعارت من بيت اال ّمة قالدة تزيّن بھا‬ ‫ّ‬ ‫متّحدةً في نفسه‬
‫جيَدھا أُسوة ببعض البنات في عيد من األعياد‪ ،‬وفيما كان يزجر أخاه عقيالً إذا ھو طلب إليه أن يمدّه بقليل من‬
‫األموال العا ّمة‪ ،‬وفيما كان يُبعد عنه كل طالب رشوة وكل راغب في عطاء على غير جھد وبغير حقّ‪ ،‬كان في ما‬
‫تمجل)‪ (١‬يدُه فيتناول أُجرته فيھبھا ألھل‬ ‫ھو ثابتٌ من الروايات‪ ،‬يسقي بيده النخ َل لقوم من يھود المدينة حتى َ‬
‫الفاقة والعوز‪ ،‬ويشتري بھا األرقّاء ويح ّررھم في الحال‪ .‬وم ّما رواه الشعب ّي عن لسان عارفيه أنّه كان أسخى‬
‫علي‬
‫ّ‬ ‫أصح الشھادات في بعض األحوال‪ ،‬فكيف يكون كرم‬ ‫ّ‬ ‫الناس على الخلق م ّما يملك‪ .‬وإذا كانت شھادة الخصم‬
‫وقد شھد به معاوية بن أبي سفيان الذي يجتھد في وصمه وعيبه قائالً‪» :‬لو ملك عل ّي بيتا ً من تبر وبيتا ً من تبن‬
‫ألنفذ تب َره قبل تبنه!«‬

‫***‬

‫وبعد‪ ،‬أفليس من متممات ھذه الصفات النبيلة‪ ،‬ومن مزايا الفروسية العلوية‪ ،‬ومن متممات العبقرية األدبية‬
‫التي سيأتي الكالم عليھا‪ ،‬أن تقترن جميعا ً بھذه‬

‫‪ ١‬تمجل يده‪ :‬تنفط من العمل ويظھر فيھا المجل‪ .‬والعامة تقول‪ :‬بقبقت‪.‬‬

‫] ‪[ ٩٤‬‬

‫الثقة بالنفس التي عُرف بھا اإلمام! بل أنّ الثقة شيء مالز ٌم بالضرورة لھذه الخصائص‪ .‬فاإلمام يعمل وھو‬
‫ق فيه‪ .‬فليس تصدّيه لفارس الجزيرة عمرو بن ودّ‪ ،‬والنبي وأصحابه‬ ‫مطمئن إلى نبل العمل وصراحة الح ّ‬
‫يحذرونه من سوء المصير‪ ،‬إالّ شاھداً على ھذه الثقة بالشجاعة التي تمتلىء بھا نفسه‪ .‬وخروجه إلى الصالة‬ ‫ّ‬
‫دون أن يصطحب من يقيه خطر األعداء وھم كث ٌر حواليه‪ ،‬حتّى أدركه ابن ملجم وضربه بالسيف المسموم‪،‬‬
‫أليس شاھداً ھذه على الثقة بالحق التي تفيض به جوارحه! وسيرته كلھا‪ ،‬اليست سلسلة من أعمال وأقوال تد ّل‬
‫على أن الرجل إنّما ھو مطمئنّ إلى الصالح ما يعمل‪ ،‬عنيد في ھذا االطمئنان‪ ،‬ألنّ عمله وقوله نابعان من عقل‬
‫جبار‪ ،‬وخلق عظيم!‬

‫سھا في نفسه‪ ،‬وفي فيض من إيمانه بعدله‪ ،‬وفي حال من اختالف الناس فيه‬ ‫وفي ج ّو من ھذه الثقة األصيلة يح ّ‬
‫فال يبدّل من موقفه وال يلين‪ ،‬قال‪» :‬لو ضربتُ خيشوم المؤمن بسيفي ھذا على أن يُبغضني ما أبغضني‪ .‬ولو‬
‫صببتُ الدنيا بج ّماتھا)‪ (١‬على المنافق على أن يحبني ما أحبّني !« وفي مثل ذلك يقول أيضا ً‪» :‬إني وﷲ‪ ،‬لو‬
‫ع)‪ (٤‬األرض كلّھا‪ ،‬ما باليتُ وال استوحشت!«‬‫لقيتُھم)‪ (٢‬واحداً)‪ (٣‬وھم طال ُ‬

‫وبھذه الثقة الرائعة يقول إلى سھل بن حنيف األنصاري‪ ،‬وھو عامله على المدينة‪ ،‬عندما علم أن قوما ً من‬
‫أھلھا لحقوا بمعاوية‪» :‬أما بعد‪ ،‬فقد بلغني أن رجاالً م ّمن قبلك يتسلّون إلى معاوية‪ ،‬فال تأسف على ما يفوتك‬
‫من عددھم ويذھب عنك من مددھم‪ .‬إنّھم‪ ،‬وﷲِ‪ ،‬لم ينفروا من جور ولم يلحقوا بعدل!«‬

‫‪ ١‬أي‪ :‬لو كفأت عليه الدنيا بجليلھا وحقيرھا‪.‬‬

‫‪ ٢‬يعني اخصامه‪.‬‬

‫‪ ٣‬أي‪ :‬لو كنت واحداً‪.‬‬

‫‪ ٤‬أي‪ :‬ملء األرض‪.‬‬

‫] ‪[ ٩٥‬‬
‫مع ُك ّل علم‬
‫ـ أق ّل الناس قيمة أقلّھم علما ً اإلمام علي‬

‫ـ ال بارك ﷲ في معضلة ال تحكم فيھا‪ ،‬يا أبا الحسن عمر بن الخطاب‬

‫] ‪[ ٩٦‬‬

‫] ‪[ ٩٧‬‬

‫ثقافة اإلمام‬
‫فذ من أفذاذ العقل‪ .‬وھو بذلك قطب اإلسالم وموسوعة المعارف العربية ليس من علم عرب ّي‬ ‫عل ّي بن أبي طالب ّ‬
‫إالّ وقد وضع أصله أو ساھم في وضعه‪ .‬أما بالغته‪ ،‬وأما عبقريته في االجتماع‪ ،‬فسيأتي عليھما قو ٌل كثير‪ .‬أ ّما‬
‫علومه ومواھبه في الفقه والقضاء والعربية وما إليھا‪ ،‬فھي التي سنتحدث عنھا في ھذا الفصل موجزين‪،‬‬
‫مضافا ً إليھا ما اقتُضيت إضافته من الكالم على حكمته‪ .‬وإنّا إذا أوجزنا القول في ھذه السعة من ثقافته وموابھه‬
‫فألنّ القائلين فيھا كثير‪ .‬وألنّ الباحثين قد أوسعوھا درسا ً‪ .‬وغايتنا في ھذا الكتاب أن نختصر حيث أسھبوا‪،‬‬
‫ى بعيد‬ ‫ي مد ً‬ ‫ونُسھب حيث أوجزوا أو أھملوا‪ .‬ولنبدأ بالكالم على القرآن والحديث‪ ،‬ثم على غيرھما‪ ،‬لندرك الي أ ّ‬
‫أصاب النب ّي في وصفه عليا ً ساعة قال‪» :‬أنا مدينة العلم وعل ّي بابھا«‪.‬‬

‫ُرب ّي عل ّي بن أبي طالب برعاية النبي ابن ع ّمه وتتملذ له‪ .‬وورث أخالقه وأسلوبه في النظر إلى الحياة والخلق‪.‬‬
‫صر الحكيم الذي ينفذ إلى‬
‫وجرى الميراث في قلبه وعقله سواء بسواء‪ .‬وعكف على دراسة القرآن دراسة المتب ّ‬
‫لباب األشياء فيعي حقائقھا ويستوحيھا‪ .‬وقد أُتيح له أن يتصرف إلى ھذه الدراسة العميقة النافذة خالل الزمن‬
‫الطويل الذي استخلف فيه أبو بكر‪ ،‬فعمر وعثمان‪ .‬فإذا ھو يتقن القرآن نصا ً ويحياه جوھراً فيستقيم به لسانه‬
‫كما يستقيم جنانه‪.‬‬

‫] ‪[ ٩٨‬‬

‫ق له فيه غبار‪ .‬وليس في ذلك ما يُستغرب وقد رافق اإلما ُم النبي أط ّو َل زمن رافقه فيه‬
‫أما علمه بالحديث فال يُش ّ‬
‫مجاھ ٌد أو صحابي‪ .‬فسمع منه ما سمعه اآلخرون وما لم يسمعوه‪ .‬ويقال أنّ عليّا ً لم يكن يروي من الحديث إالّ‬
‫ما سمعه بنفسه من الرسول أل نّه كان مطلق اإليمان بأنّ كلمةً واحدة من حديث النبي لم تفت قلبه وأُذنيه‪ .‬وقيل‬
‫لعل ّي‪» :‬ما لك أكثر أصحاب رسول ﷲ)صلى ﷲ عليه وآله(حديثاً؟«‪» :‬إنّي كنتُ إذا سألته أنبأني وإذا سكت‬
‫ابتدأني!«‬

‫***‬

‫ومن الطبيعي أن يُحسن عل ّي بن أبي طالب اإلسالم فقھا ً كما أحسنه عمالً فإن معاصريه لم يعرفوا من ھو أفقه‬
‫سر حلّه‬
‫منه وأصلح فتوى‪ .‬ولعلمه الكثير وفقھه كان موضع ثقة أبي بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب في مكا تع ّ‬
‫من المشكالت والمعضالت‪ ،‬كما كان مرجعھما األخير في االستشارة‪ .‬وطالما أفاد الخليفان من مشورته وعلمه‪.‬‬
‫وكما كان مرجعا ً ألبي بكر وعمر في شؤؤن الفتوى‪ ،‬كان كذلك مرجعا ً لسائر الصحابة‪ .‬وندر أن نھضت لغيره‬
‫حجة أفضل من حجته في مسائل الشريعة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ولم يقف علم عل ّي بالفقه عند علمه بنصوصه وأحكامه‪ ،‬بل تجاوزه إلى العلم بأدوات الفقه ومنھا علم الحساب‬
‫الذي كانت معرفته فيه تفوق معرفة معاصريه‪.‬‬

‫وإذا كان أبو حنيفة إمام الفقه األكبر في العصور اإلسالمية التي تلت عصر عل ّي‪ ،‬فإنّما ھو تمليذ لعلي‪ .‬فقد قرأ‬
‫أبو حنيفة على جعفر بن مح ّمد‪ ،‬وجعفر تتملذ ألبيه‪ ،‬إلى أن ينتھي األمر إلى عل ّي بن أبي طالب‪ .‬وكذلك اإلمام‬
‫مالك ابن انس فإنّه تلميذ عل ّي بالتسلسل‪ .‬فقد أخذ عن ربيعة وربيعة أخذ عن عكرمة وعكرمة أخذ عن عبدﷲ‬
‫بن عباس‪ ،‬وعبدﷲ بن عباس قرأ على عل ّي‪ .‬وقيل البن عباس استاذ أولئك جميعا ً‪» :‬أين علمك من علم ابن‬
‫عمك؟«‬

‫] ‪[ ٩٩‬‬

‫ـ يُراد علي ـ فقال‪» :‬كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط!«‬

‫يُجمع الصحابة علي أنّ النبي قال م ّرة‪» :‬أقضاكم عل ّي«‪ .‬فقد كان عل ّي أقضى أھل زمانه أل نّه كان أعلمھم‬
‫بالفقه والشريعة وھما في اإلسالم مصدر القضاء‪ .‬ث ّم إنّه أوتي من قوة العقل ما يكشف له عن الوجه األكثر‬
‫صوابا ً واألش ّد انطباقا ً على المنطق إذا اختلفت الوجوه‪ .‬كما أوتي من صفاء الوجدان ما ّ‬
‫يوجھه في استخدام‬
‫علمه في القضاء أصدق توجيه‪ ،‬فيعدل في الحكم على أساس من العقل والضمير جميعا ً‪ .‬ومن المأثور عن عمر‬
‫بن الخطاب قوله لعل ّي‪» :‬ال بارك ﷲ في معضلة لم تحكم فيھا يا أبا الحسن« وقوله‪» :‬لوال عل ّي لھلك عمر«‪.‬‬
‫وقوله أيضا ً‪» :‬ال يُفتينّ أح ٌد في المسجد وعل ّي حاضر!«‬

‫وسوف نتحدث مطوالً عن عبقرية عل ّي في القضاء وع ّما اكتشف من معقوالته ساعة نسوق الكالم على‬
‫الموازنة بين عل ّي ومبادئه‪ ،‬ورجال الثورة الفرنسية الكبرى ومبادئھم‪.‬‬

‫يتوخون أن ينفذوا من كل‬‫ّ‬ ‫ولما كان علي بن أبي طالب من الذين ال يكتفون بالنظر في األمور نظراً عابراً‪ ،‬بل‬
‫مشكلة إلى لبابھا‪ ،‬فقد أمعن النظر في القرآن وموضوعه الدين إمعانا ً ينساق إليه المفكرون انسياقا ً‪ .‬فإذا به‬
‫صر‪ .‬وما كان لعبقري كعل ّي أن يكتفي من الدين‬ ‫يجعل الدين موضوعا ً من موضوعات التفكير والتأمل والتب ّ‬
‫بظاھره من إجراء األحكام وإقامة الحدود وطقوس العبادة‪ .‬فإذا الناس ـ معظم الناس ـ ينصرفون إلى ظاھر‬
‫الدين وإلى نتائجه في المعاملة والقضاء انصرافا ً حسابيا ً أو يكاد يكونه‪ .‬وإذا عل ّي يفقه الدين ـ إلى جانب فقھه‬
‫ع للفكر المحض والدراسة الخالصة والتأمل البعيد‪ .‬فال ينتھي من التفكير‬ ‫الظاھ ِر من أحكامه ـ على أ نّه موضو ٌ‬
‫والدرس والتأمل إالّ ليثق بأن ھذا الدين‬

‫] ‪[ ١٠٠‬‬

‫إنّما يقوم على ركائز وأركان تتفاعل وتتقارب وتتحد في أصولھا وحقيقتھا‪.‬‬

‫من ھنا نشأ علم الكالم أو فلسفة الدين اإلسالمي‪ .‬ومن ھنا كان عل ّي أول المتكلمين بل أبا علم الكالم‪ ،‬فإن‬
‫األوئل من أصحاب ھذا العلم لم يستقوا إالّ من معين علي بن أبي طالب‪ ،‬ولم تتوفر لديھم أسبابه إالّ عن طريقه‪.‬‬
‫وإن األواخر ظلوا يھتدون به ويعتبرونه إمامھم وإمام األ ّولين‪ .‬فھذا واصل بن عطاء مؤسس المعتزلة وھي‬
‫تعطي العقل مداه في موضوعات الدين‪ ،‬ھو تلميذ أبي ھاشم بن مح ّمد بن الحنفية‪،‬‬‫َ‬ ‫أ ّول فرقة إسالمية تجاھد ألن‬
‫وأبوه تلميذ علي بن أبي طالب‪ .‬وما يقال في المعتزلة يقال في األشعرية‪ .‬فإن األشاعرة تالميذ المعتزلة الذين‬
‫تلقّوا علمھم عن واصل بن عطاء تلميذ عل ّي بالتسلسل‪.‬‬

‫ثم أن التص ّوف اإلسالمي واج ٌد أصوله وبذوره في نماذج شتّى من نھج البالغة‪ .‬وقد استند أھل التص ّوف في‬
‫اإلسالم إلى ھذا النماذج قبل أن يعرف المسلمون أھل الفكر اليوناني‪ .‬وقبل أن ينقلوا إلى العربية فلسفة‬
‫االغريق والھنود وغيرھم‪ .‬و َمن شاء فليرجع إلى حديث أبي العيناء لعبيد ﷲ بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل‪،‬‬
‫في نھج البالغة البن أبي الحديد‪ ،‬ففيه كثير من اإليضاح لما ذكرنا‪.‬‬
‫وكأن ﷲ أراد أن يكون علي بن أبي طالب ركن العربية في علومھا كما كان ركن اإلسالم في علومه‪ .‬فإن أھل‬
‫تبحره فيھا‪ ،‬ومنطقه السليم‪ ،‬وقواه‬
‫زمانه لم يكن فيھم من يقف إلى جانب اإلمام في علوم العربية‪ .‬وقد ساعده ّ‬
‫الذھنية الخارقة‪ ،‬أن يبادر إلى ضبط العربية بأصول وقواعد تستند إلى الدليل والبرھان‪ ،‬م ّما يشير إلى مقدرته‬
‫العقلية على الوزن والقياس‪ .‬فھو بحق واضع األساس في العلوم العربية ومم ّھد طريقھا لك ّل من أتى بعده‪.‬‬
‫وم ّما يثبته التاريخ أنّ عليّا ً ھو واضع علم النحو‪ .‬فقد دخل عليه تلميذه وصاحبه أبو األسود الدؤلي يوماً‬

‫] ‪[ ١٠١‬‬

‫فرآه مطرقا ً مفكراً‪ .‬فقال له‪ :‬في َم تفكر يا أميرالمؤمنين؟ قال‪ :‬إني سمعتُ ببلدكم ھذا ـ يعني الكوفة ـ لحناً‪ ،‬فأردت‬
‫أن أضع كتابا ً في أصول العربية‪ .‬ثم ألقى إليه صحيفة فيھا‪ :‬الكالم اسم وفعل وحرف الخ‪.‬‬

‫ويروون ذلك على صورة أخرى فيقولون أن أبا األسود الدؤلي شكا إلى اإلمام شيوع اللحن على ألسنة العرب‬
‫الختالفھم باألعاجم بعد الفتوحات العربية واالعاجم أھل رطانة ولحن‪ .‬فأطرق اإلمام ھنيھةً ثم قال ألبي األسود‪:‬‬
‫اكتب ما أملي عليك‪ .‬فتناول أبو األسود قلما ً وصحيفة‪ .‬فقال عل ّي‪ :‬أن كالم العرب يتركب من اسم وفعل وحرف‪.‬‬
‫فاالسم ما أنبأ عن المس ّمى‪ ،‬والفعل ما أنبأ عن حركة المس ّمى‪ ،‬والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم وال فعل‪.‬‬
‫وأن األشياء ثالثة‪ :‬ظاھر ومضمر وشيء ليس بظاھر وال مضمر‪ ،‬يعني اسم اإلشارة على قول بعض النحاة‪ .‬ثم‬
‫أنح ھذا النحو يا أبا األسود«‪ .‬ف ُعرف ھذا العلم بعلم النحو من ذلك اليوم‪.‬‬
‫قال ألبي األسود ‪ُ » :‬‬

‫ومن مزايا عل ّي حدة الذكاء وسرعة الفطنة‪ .‬ومواقفه االرتجالية الكثيرة تشھد له بقوة البديھة التي لم يكن‬
‫يجاريه فيھا أحد‪ .‬وطالما كان يرسل المثل السائر والحكمة الرائعة وھو يرتجل في أنصاره أو في أعدائه‪ .‬وربما‬
‫كان عل ّي فريد زمانه في سرعة الفطنة إلى معضالت الحساب‪ .‬وكان معاصروه يعدون ھذه المعضالت ألغازاً‬
‫قلما تفقه سرھا العقول وقلّما تدرك إلى حلھا سبيالً‪ .‬وم ّما يروى في ھذا المجال أنّ امرأة جاءت إليه وشكت من‬
‫أمرھا أن أخاھا مات عن ستماية دينار ولم يقسم لھا من ميراثه ھذا إالّ ديناراً واحداً‪ .‬فقال لھا‪ :‬لعلّه ترك زوجة‬
‫وابنتين وأما ً واثني عشر أخا ً وأنت؟ فكان كما قال!‬

‫وفيما كان يخطب ذات يوم على منبر الكوفة‪ ،‬سأله أحدھم عن رجل مات وترك زوجة وأبوين وابنتين‪ .‬فأجاب‬
‫من فوره‪ :‬صار ثُمنھا تُسعا ً ! وسميت ھذه الفريضة بالفريضة المنبرية أل نّه أفتى بھا وھو على المنبر‪.‬‬

‫] ‪[ ١٠٢‬‬

‫وحس أصيل وقوةٌ على الحصر واالستنباط وااليجاز ثم جھد دائب على‬ ‫ّ‬ ‫والحكمة بما ھي نظ ٌر نافذ وعق ٌل محيط‬
‫ذلك جميعاً‪ ،‬إنّما ھي من آثار اإلمام عل ّي‪ .‬فإنّ له في ذلك ما يجعل له مركزاً جليالً بين حكماء األمم وأفذاذ‬
‫التاريخ‪ .‬ولعمري أن أشباه عل ّي في القدرة على استخراج النظريات من الحوادث وإرسالھا أمثاالً خالدة‪ ،‬لقلي ٌل‬
‫قليل! وقد كان لھذه الحكمة العلوية أبلغ أألثر في توجيه الثقافة اإلسالمية وفي طبعھا بطابع انساني مصدره‪،‬‬
‫في الدرجة األولى‪ ،‬اثنان‪ :‬مح ّمد بن عبدﷲ وعل ّي بن أبي طالب!‬

‫وقد أكثر اإلمام من النظر الفلسفي في شؤون الحياة والكون والمجتمع البشري‪ ،‬وفي أمور التوحيد وااللوھة‬
‫والتطلع إلى ما وراء الطبيعة‪ .‬فكان‪ ،‬كما م ّر معنا‪ ،‬مؤسس علم الكالم وفلسفة االلھيات في اإلسالم‪ .‬وكان استاذاً‬
‫ع وشارحون‪ .‬وفي كتابه‬ ‫اعترف برشده وأصالته كل من لحق به من أصحاب اآلراء والمقوالت وھم له اتبا ٌ‬
‫فيض من فرائد الحكمة التي يجلس بھا في الصف األول بين حكماء األمم‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫العظيم »نھج البالغة«‬

‫وحين قال النبي‪» :‬علماء أمتي كأنبياء اسرائيل«‪ ،‬ألم يكن يقصد عليّا ً بالذات!؟‬

‫] ‪[ ١٠٣‬‬
‫اإلمام عل ّي وحقوق اإلنسان‬
‫‪١‬‬

‫في طريق الح ّرية‬


‫الناس فيه أُسوة‪ .‬ـ وأ ّما الذنب الذي ال يُغفر‪ ،‬فظلم‬
‫ُ‬ ‫ـ ال تكن عبد غيرك وقد ج َعلَك ﷲ ح ّراً‪ .‬ـ إياك واالستئثار بما‬
‫العباد بعضھم لبعض‪ .‬ـ ألنصفنّ المظلو َم ِمن ظالمه‪ .‬ـ بئس ال ُعدوانُ على العباد‪ .‬ـ كل إنسان نظي ٌر لك في الخلق‪.‬‬
‫تحب لنفسك‪ ،‬واكره له ما تكره لھا‪ .‬ـ أشقى الرعاة من شقيت به رعيّته‪ .‬ـ َمن أمنتُ أذيّتَه‬ ‫ّ‬ ‫ـ أحبب لغيرك ما‬
‫أخوته‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫في‬ ‫فارغب‬
‫اإلمام علي‬

‫] ‪[ ١٠٤‬‬

‫] ‪[ ١٠٥‬‬

‫التجربة القاسية‬
‫ـ وﷲِ إني ألعترف بالحق قبل أن أش َھد عليه‪.‬‬

‫أمرنا صعب مستص َعب‪ ،‬وال يعي حديثنا إالّ صدور أمينة وأحالم رزينة‪ .‬اإلمام علي‬
‫ـ إنّ َ‬

‫صيحة نسفت بُنيانھم نسفا ً ودكت سقوقھم د ّكا ً وق ّوضت جدرانھم تقويضا ً وكانت على‬‫تلو َ‬
‫صم آذانھم بصيَحة َ‬ ‫ـو َ‬
‫موفورة‪.‬‬ ‫ونعمةً‬ ‫وسالما ً‬ ‫برداً‬ ‫والمظلومين‬ ‫المستضعفين‬ ‫قلوب‬
‫لإلمام عل ّي بن أبي طالب في حقوق اإلنسان وغاية المجتمع أصو ٌل وآراء تمت ّد لھا في األرض جذور وتعلو لھا‬
‫فروع‪ .‬أ ّما العلوم االجتماعية الحديثة فما كانت إالّ لتؤيّد معظم ھذه اآلراء وھذه األصول‪ .‬ومھما اتّخذت العلوم‬
‫االجتماعية من صور وأشكال‪ ،‬ومھما اختلف عليھا من مس ّميات‪ ،‬فإن علّتھا واحدة وغايتھا واحدة كذلك‪ .‬وھما‬
‫رفع الغبن واالستبداد عن كاھل الجماعات‪ .‬ثم بناء المجتمع على أسس أصلح تحفظ لإلنسان حقوقه في العيش‬
‫وكرامته كإنسان‪ .‬ومحورھا حرية القول والعمل ضمن نطاق يُفي ُد وال يُنسيء‪ .‬وتخضع ھذه العلوم لظروف‬
‫معيّنة من الزمان والمكان لھا األثر األول في تكوينھا على ھذا النحو أو ذاك‪.‬‬

‫] ‪[ ١٠٦‬‬

‫وإذا رجعنا إلى الماضي ونظرنا في شؤونه على أساس ھذا الواقع‪ ،‬تَبَيّن لنا أنّ في ك ّل زمن مضى كفاحا ً متّقداً‬
‫بين االستبداد والحكم المطلق وھدر حقوق الجماعة وكبت الحريات من جھة‪ ،‬وبين النزوع إلى العدالة والحكم‬
‫المستند إلى الشّورى والعمل على حفظ الحقوق العامة وإطالق الحريات من جھة ثانية‪ .‬وما كا نت الثورات‬
‫القديمة الخيّرة اآلنية من الجانب المظلوم إالّ انتفاضات يقوم بھا المضطھدون والمفكرون للقضاء على ظلم‬
‫اجتماعي وإنشاء قواعد جديدة تقوم على أنقاض ھذا الظلم‪ ،‬وتتفق بمنطقھا وقيمتھا مع الوضع التط ّوري الذي‬
‫بلغ إليه المجتمع‪.‬‬

‫وقد كان لعل ّي بن أبي طالب في تاريخ حقوق اإلنسان شأنٌ أي شأن‪ .‬وآراؤه فيھا تتصل اتصاالً كثيراً باإلسالم‬
‫علي‬
‫ّ‬ ‫يومذاك وھي تدور على محور من رفع االستبداد والقضاء على التفاوت الطبقي بين الناس‪ .‬و َمن عرف‬
‫بن أبي طالب وموقفه من قضايا المجتمع‪ ،‬أدرك أ نّه السيف المسلّط على رقاب السمتبدَين الطغاة‪ .‬وأ نّه‬
‫الساعي في تركيز العدالة االجتماعية بارائه وأدبه وحكومته وسياسته‪ .‬وبكل موقف له م ّمن يتجاوزون الحقوق‬
‫العامة إلى امتھان الجماعة واالستھتار بمصالحھا وتأسيس األمجاد على الكواھل المتعبة‪.‬‬

‫نضجت في ذھن اإلمام القوي‪ ،‬فكرةُ العدالة االجتماعية على أساس من حقوق الجماعة التي الب ّد لھا أن تنتھي‬
‫بإزالة الفروق الھائلة بين الطبقات التي يُتخم ثريّھا وأميرھا ويضوي فقيرھا وصغيرھا‪ .‬فكان صوته في معركة‬
‫العدالة االجتماعية ھذه مد ّويا ً أبداً‪ ،‬وسوطه عامالً أبداً‪ ،‬ودفاعه عن قيّم اإلنسان عظيما ً أبداً‪ ،‬شديداً ال ھوادة فيه‬
‫وال لين‪ .‬كان في حكومته المث َل األعلى للحاكم الواعي لحقوق اإلنسان في تلك الحقبة من تاريخ البشر‪ .‬العام َل‬
‫على تنفيذ منطوقھا بكافّة ما لديه من وسائل‪ .‬ولم يكن في ذن اإلمام ما ھو أوضح ـ على وضوح األشياء جميعاً‬
‫فيه ـ من واقع المجتمع في زمانه كيف يكون‬

‫] ‪[ ١٠٧‬‬

‫ى يأذن الزمان بتطويره! ولم‬ ‫وعلى أي أساس من الغبن االجتماعي يقوم‪ .‬ثم كيف يجب أن يكون وإلى أي مد ً‬
‫يكن في إرادة اإلمام ـ على ما فيھا من الدوافع إلى الخير ـ ما يشغلھا أكثر م ّما يشغلھا السعي في ھذا التطوير‪.‬‬
‫ولم يكن في المغريات جميعا ً ما يجنَح بھذه اإلرادة عن ھذا السعي‪ .‬وال في المؤامرات ما يكبت فيھا ق َوة‬
‫أحب على قلب اإلمام من أن يُقيم حقا ً ويُزھق باطالً على‬
‫ّ‬ ‫االنطالق إلى العمل واإلجادة فيه‪ .‬فليس ھنالك ما ھو‬
‫أساس ال يتزعزع من رأيه في الحق والباطل وموضوعاتھما‪ .‬وكان صدقه في التفكير والشعور‪ ،‬ثم إخالصه في‬
‫تطبيق ما يفكر به ويشعر‪ ،‬سببين في أال يعطي ال ُوالة والعمال األقوياء للجماھير والمستضعفين خصوصا ً‪.‬‬
‫وأمام اإلفتئات على سلطان الحق واقعا ً ما وقع تدبيره من ھوى األخصام واألنصار‪ .‬وذلك تقريراً لحقوق‬
‫اإلنسان الطبيعية في العيش الكريم وفي الحياة الخيّرة ال تشطر الناس شطرين فتُرجي عليھم ستا َرين مختلفين‪:‬‬
‫وأبيض ضاحكا ً!‬
‫َ‬ ‫أسو َد موجعا ً‬

‫وقد أدرك في ضوء عقله الجبار‪ ،‬أن الطبقيّة الماديّة في الناس إن ھي إالّ سبيل لن يؤدي السي ُر فيھا إالّ إلى‬
‫سف والنكاية والفجور في الحكم والمعاملة‪ ،‬ثم‬ ‫غايات ُمنكرة من الجمود في العقل والخبث في النفس‪ .‬وإلى التع ّ‬
‫المنكب على طلب الجاه والثروة بغير‬
‫ُ‬ ‫إلى الفساد العريض وسائر األوضاع الملفّقة في ھذا الجانب الغاصب‬
‫بالء‪ .‬كما يؤدي إلى السقم في الحال والشعور بھوان الحياة وسوء الظن باإلنسان‪ ،‬وإلى التباغض والتحاسد في‬
‫الجانب اآلخر الذي يذھب جھده لسواه‪ .‬وفي الجانبين تستق ّر العوامل المؤدية‪ ،‬في النتيجة‪ ،‬إلى انھيار المجتمع‬
‫ان طاحنان تنسحق بينھما الكفاءات والحقوق‬ ‫انھياراً ال ش َك فيه‪ .‬حتى لكأنّ طبقتي المجتمع ھاتين ما ھما إالّ فَ ّك ِ‬
‫وتتم ّزق الضحايا!‬

‫كانت قاعدة االرستقراطيين النبالء في أواخر خالفة عثمان‪ ،‬وال سيما‬

‫] ‪[ ١٠٨‬‬

‫سنَن اإلسالم في طلب العدالة والمساواة في الحقوق‪ .‬وأن يُذلّوا‬ ‫األمويين منھم‪ ،‬أن يخرج معظمھم على ُ‬
‫الجماھير ويستعبدوھا ويلقوا في صفوفھا الخوف من الحاكم والذعر حتّى من المثول بين يديه‪ .‬وأن يھدروا‬
‫دماءھا كما يھدرون حقوقھا إذا وقع ذلك في نفوسھم موقعا ً حسنا ً‪ .‬وأالّ يعفّوا عن الرشوة وما إليھا‪ ،‬ثم يبعثوا‬
‫عن أنفسھم إرھاصات تُنبي بما ھم ساعون فيه أو مقبلون عليه من تخضيب راياتھم بدماء الذمم والحقوق‬
‫العا ّمة وتحويل الخالفة إلى ملك‪ ،‬وديموقراطية اإلسالم إلى عنجھية ُحكم فردي‪ .‬وبات ھؤالء بين صالبة اإلمام‬
‫علي في العدالة االجتماعية وبين مطامعھم في الرئاسة والوالية والمال‪ ،‬يسلكون مسلك المقامرين يترقبون‬
‫مفاجآت الربح والمغنم بين حين وحين‪.‬‬

‫ولما كانت قاعدة أولئك القوم ھذا الفيض من المطمع المنحرف وھذا االسلوب في التربّص بالعدالة االجتماعية‬
‫للتر ّكز من جديد على قواعد من الوثنية السياسية والوثنية االجتماعية‪ ،‬كان ابن أبي طالب أمام تجربة قاسية‪،‬‬
‫غاية في القساوة‪ ،‬تتشابك عناصرھا وتتداخل‪ ،‬وتفرض عليه موقفا ً ھو من الصعوبة بحيث يتعسر على صاحبه‬
‫ق وأحداث رھيبة‪ .‬وھو من الخطورة بحيث يترتب عليه‪،‬‬ ‫اضطراب وقل ٌ‬
‫ٌ‬ ‫مداراة األزمة والخروج منھا والعص ُر‬
‫إلى ح ﱟد بعيد‪ ،‬مصير الخالفة واإلسالم وما يستوجبانه في الناس من فضائل خلقية وعدالة اجتماعية‪ .‬وھو من‬
‫الدقة بحيث يكون المح ّك لشخصية صاحبه وحقيقة مواھبه في الوفاء للحقوق العامة‪ ،‬ومضاء عزيمته في‬
‫إشاعة الفضائل الفردية واالجتماعية‪ ،‬وطاقته على الصبر والصمود‪.‬‬

‫كان ابن أبي طالب أمام تجربة أشبه بالتجربة التي م ّر بھا النبي في المعركة القائمة‪ ،‬يومذاك‪ ،‬بين السماح‬
‫والديموقراطية وإشاعة روح العدل من جانب‪ ،‬وبين الغدر واالستئثار وعقلية التجار والنبالء من جانب آخر‪.‬‬

‫كان ابن أبي طالب أمام تجربة قاسية! ولن ھذه القساوة إنما تأخذ معناه وصيغتھا من نظر المراقبين البعيدين‪.‬‬
‫أما في قلب اإلمام وفي ذھنه فما ھي من‬

‫] ‪[ ١٠٩‬‬

‫القساوة بحيث تجعله يحيد عن الطريق التي ارتضاھا مسلكا ً ولو قيد شعرة‪ .‬فمن أُوتي الطاقة التي آتاھا ﷲُ‬
‫عليّا ً ھانت لديه القساوات إالّ قساوة القعود عن إشاعة العدالة وروح الحرية والعمل على زرع الفضائل الخلقية‬
‫التي تصون ھذه الحرية وھذه العدالة‪.‬‬

‫وتجار قريش بھذه‬


‫ّ‬ ‫أ ّما مح ّمد بن عبدﷲ فقد ص ّم آذان أبي سفيان وأبي لھب وح ّمالة الحطب وآكلة األكباد‬
‫الصيحة التي نسفتْ بنيانھم نسفا ً ود ّكت سقوفھم د ّكا ً وق ّوضت جدرانھم تقويضا ً وكانت على قلوب المستعفين‬
‫واألرقاء برداً وسالما ً ونعمةً موفورة‪» :‬يا ع ّم‪ ،‬وﷲ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن‬
‫أترك ھذا األمر حتى يُظھره ﷲ أو أھلك فيه ما تركتُه!«‬

‫أ ّما مح ّمد بن عبدﷲ‪ ،‬فيو َم قالوا له‪» :‬إن كنتَ جئتَ بھذا الحديث تطلب ماالً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون‬
‫أكثرنا ماالً‪ .‬وإن كنت إنّما تطلب الشرفَ فينا فنحن نس ّودك علينا‪ .‬وإن كنت تريد ملكا ً ملّكناك علينا« أجاب يقول‪:‬‬
‫»ما جئتُ بما جئتكم به أطلب أموالكم‪ ،‬وال الشرفَ فيكم‪ ،‬وال الملك عليكم‪ .‬ولكن ﷲ بعثني إليكم رسوالً وأنزل‬
‫عل ّي كتاباً‪ ،‬وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً‪ ،‬فبلّغتكم رساالت ربي‪ .‬فإن تقبلوه فھو حظّكم في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وإن تردّوه عل ّي‪ ،‬أصبر ألمر ﷲ حتى يحكم بيني وبينكم«‪.‬‬

‫وتجار الواليات‬
‫ّ‬ ‫الح َكم‬
‫أ ّما عل ّي بن أبي طالب‪ ،‬فماذا كان من شأنه مع ابن أبي سفيان وآكلة االكباد وابن َ‬
‫والجيوش المجرورة بالغباوة والمنفعة‪ ،‬ومع المساومين حتى في حدود العقيدة واالتّجاه؟ لقد ص ّم آذانھم‪ ،‬ھو‬
‫أيضاً‪ ،‬بھذه الصيحة التي نسفت بنيانھم نسفا ً ود ّكت سقوفھم د ّكا ً وق ّوضت جدرانھم تقويضا ً وكانت على قلوب‬
‫ّ‬
‫والمعذبين برداً وسالما ً ونعمةً موفورة‪» :‬أسفلُكم أعالكم وأعالكم أسلفكم! وﷲِ ما‬ ‫المستضعفين والمظلومين‬
‫أمرتُ بالجور ما أ ّم نج ٌم نجما ً! وايم ﷲ ألنصفنّ المظلوم من ظالمه وألقودنّ الظالم بخزامته حتى أورده‬

‫] ‪[ ١١٠‬‬

‫منھل الحق وإن كان كارھا ً! وﷲ إني ألعترف بالحق قبل أن أشھد عليه! وﷲ ما أُبالي أدخلتُ على الموت أو‬
‫إلي!«)‪(١‬‬
‫خرج الموتُ ّ‬

‫أ ّما عل ّي بن أبي طالب فيوم قالو له‪ :‬نحن أع ّزة قوم! أجاب يقول‪» :‬الذليل عندي عزي ٌز حتى آخذ الحق له‪.‬‬
‫ي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه!«‬ ‫والقو ّ‬
‫ولكنّ ‪ ،‬كيف أطلق ابن أبي طالب قوليه من نطاق البيان إلى نطاق العمل؟ من الفكرة المعقولة إلى التجسيم‬
‫ي؟ وماذا كان من أمره وأمر الناس؟‬
‫الماد ّ‬

‫‪ ١‬تجدھا في أماكن مختلفة من نھج البالغة‪.‬‬

‫] ‪[ ١١١‬‬

‫من ھنا‬
‫المسيح نظرته العارمة بثورة الحياة على رؤساء أورشليم‪ ،‬وعلى لحاھم الطويل ِة التي تَحرك في‬ ‫ُ‬ ‫ـ وألقى‬
‫ض‬
‫وتصرعُھم إلى األر ِ‬
‫َ‬ ‫ت وجھه‬ ‫سما ِ‬
‫ذنب الشيطان‪ ،‬ورماھم بقسوة الصاعقة تُرغب الغاصبين في ق َ‬ ‫أطرافھا ُ‬
‫صرعا ً عنيفا ً ثم تأكلھم نا ُرھا على شفتيه‪ ،‬عاصفا ً ھادراً يشتد يقول‪» :‬يا مراؤون! يا أوال َد األفاعي! أُريد رحمةً‬
‫صادين! تأكلونَ بيوتَ األرامل‬ ‫صفّون من البعوضأ وتبلعون الجمل! ِ‬
‫تظلمون الف َعلة والح ّ‬ ‫ال ذبيحة! إنكم تُ َ‬
‫ولعلة تطيلون صالتكم!«‬

‫جعل اإلنسان من أجل السبت!«‬ ‫ـ »يا مراؤون! يا أوال َد األفاعي! إنّما ُج ِع َل السبتُ من ِ‬
‫أجل اإلنسان ولم يُ ِ‬

‫ـ كاد الفقر أن يكون كفراً‪ .‬مح ّمد‬

‫ـ لو تمثﱠ َل لي الفقر رجالً لقتلته‪ .‬علي‬

‫يخرج على الناس شاھراً سيفه‪ .‬أبو ذ ّر‬ ‫ُ‬ ‫ـ ع َِجبتُ لمن ال يج ُد القوتَ في بيته كيف ال‬
‫نظ َر عل ّي إلى الوجود نظرةً ال يتعطّل فيھا ح ﱞد من حدود العقل والقلب والجسد‪ .‬وال يطغى فيھا تأ ّم ُل اإلنسان في‬
‫الكون واالندماج في كماالته‪ ،‬على النظر في حقوق اإلنسان المرتبط باألرض ارتباط عيش وبقاء‪ .‬أو على النظر‬
‫سبيل البقاء وما يقتضيه من مق ّومات‪.‬‬
‫ِ‬ ‫في حقوق الجماعة المتعاونة المتكافلة في‬

‫] ‪[ ١١٢‬‬

‫فھو إ ّما دعا إلى اإلعجاب بروعة الوجود وعجائب الخلق‪ ،‬دعا في الحين ذاته إلى توجيه األفراد والجماعات‬
‫توجيھا ً صحيحا ً يسير بھم في طريق التعاون االقتصادي والتكافُل المادّي الذي يضمن لھم الوصول إلى الخير‬
‫األكبر‪ :‬إلى المحافظة على كرامة اإلنسان المر ّكب من فكر يعمل‪ ،‬وعاطفة تتح ّرك‪ ،‬وجسد له عليك ح ّ‬
‫ق ولك به‬
‫المعنى المادّي من معاني وجودك‪.‬‬

‫وھو إ ّما سعى في تطھير الضمير وتقديس الشوق وسماحة الوجدان‪ ،‬راح في الوقت نفسه يسعى في تنظيم‬
‫مجتمع عادل له قوانين وضعيّة ھي بمثابة األساس من البناء‪.‬‬

‫وإن رغبة عل ّي الصادقة في االرتفاع بالمسلك اإلنساني‪ ،‬وفي تربية العقل والقلب والضمير‪ ،‬وفي تصفية‬
‫الدخائل وإشاعة الفضائل الروحية فيھا؛ أقول إن رغبته في ھذه األمور التي نوجز فنسميھا الفضائل الخلقية‪،‬‬
‫أو الفضائل الروحية‪ ،‬ھي التي حملته على أن يبدأ‪ ،‬قبل الخالفة وبعدھا‪ ،‬من نقطة انطالق معينة في بنائه‬
‫ُ‬
‫الخلقي واالجتماعي السليم‪ ،‬وأعني بھا‪ :‬تيسير الخبز والماء والكساء والمسكن لھذا اإلنسان الذي يريده في‬
‫الخلق الكريم‪ .‬أو قُل تيسير آلة العيش لإلنسان الذي يدعوه لصفاء الروح!‬
‫ذروة ُ‬
‫فال يستطيع إعجابا ً بروعة الوجود وال شعوراً بجمال الخلق وقيمة الحياة‪ ،‬وال يُفرغ إلنماء المعاني اإلنسانية‬
‫الشريفة في القلب والوجدان‪ ،‬ذاك العا ُمل الذي يعمل ـ أيا ً كان نوع العمل ـ وال يقبض أجراً يتكافأ مع جھده‪ ،‬بل‬
‫ي وقح المطمح والھوى!‬ ‫يأكل أج َره محتك ٌر ثر ّ‬

‫وال يستطيع إعجابا ً بروعة الوجود وال شعوراً بجمال الخلق وقيمة الحياأ‪ ،‬وال يفرغ النماء المعاني اإلنسانية‬
‫في القلب والوجدان‪ ،‬ذاك المواطنُ المضطَھد الذي يتلقّى السياط الموجعة من »نبيل« أقام نفسه عليه أميراً‬
‫فأتخم حيث جاع‪ ،‬وأثر حيث فقد القوتَ الضروري‪ .‬أو من حاكم جاء ليكون‬

‫] ‪[ ١١٣‬‬

‫له خادما ً فإذا ھو الناھب السالب المحيي المميت بغير حساب!‬

‫وال يستطيع إعجابا ً بروعة الوجود وال شعوراً بجمال الخلق وقيمة الحياة‪ ،‬وال يفرغ إلنماء المعاني اإلنسانية‬
‫لمكان درھم ال‬
‫ِ‬ ‫صاحب الشرطة فيُذلّه‬
‫ُ‬ ‫الشريفة في القلب والوجدان‪ ،‬ذلك العربي‪ ،‬أو األعجمي‪ ،‬الذي يدخل عليه‬
‫المبذر المسرف على غير حق له حتى بالرغيف ما دا َم المواطنون العاملون ال‬ ‫ّ‬ ‫يقدر على وفائه لـ »أميره«‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫يملكون أرغفة؛ أو يقتله لقول تلفظ به فما أرضاه‪ ،‬وينھب رزقه ورزق عياله ليض ّمھا إلى خزانة وال أو‬
‫سلطان‪ ،‬أو ملك من ملوك الزمان!‬

‫ال يستطيع أن يتحلّى بالصدق ويمتاز بالطيبة ويعيش في نھجة الفضيلة وينفي من قلبه الحس َد والمقت والحقد‬
‫ومظاھر االنحراف عن قوانين الخير‪ .‬ذاك الذي سلبَه الفق ُر ك ّل فضيلة وأفسد عليه العو ُز كل سكينة في النفس‬
‫وك ّل اطمئنان في الخاطر‪.‬‬

‫يضج‬
‫ّ‬ ‫ال يستطيع أن يكون رجالً واثقا ً بجمال الحياة‪ ،‬مؤمنا ً بعدالة الخلق‪ ،‬ناصحا ً ألخيه محبا ً لقريبه‪ ،‬ذاك الذي‬
‫لھب اإليمان ويح ّول الحب إلى أحقاد‬
‫َ‬ ‫فيمتص من جسمه د َم الحياة ويُطف ُئ في روحه‬
‫ّ‬ ‫في معدته سعي ُر الجوع‬
‫عميقة‪ ،‬وطمأنينة الخاطر وصفاء الروح إلى ظنون سوداء ومخاوفَ مقيتة!‬

‫ال يستطيع أن يحب فيسمو به الحب‪ ،‬ذاك الذي تُقيّده أغال ٌل ثقيلة من الشعور بالدونيّة والتبعيّة وزراية الذات‪،‬‬
‫وھو شعور يرتبط ارتباطا ً وثيقا ً بالحاجة والعوز!‬

‫ال يستطيع أن يكون فاضالً‪ ،‬ذاك الذي يحتاج إلى الرغيف! فالرغيف لجميع الطبقات ھو أداة السالم األولى‪.‬‬
‫ويحس ويقيم عالقاته بالناس على أساس‬ ‫ّ‬ ‫وھو عدّة االستقرار والنظام واآللة التي تعد اإلنسان ألن يفكر‬
‫الشعب من المھبط الذي رماه فيه‬
‫ُ‬ ‫صحيح‪ .‬ورفع الع ّوز ھو السلّم التي يصعد على درجاتھا‬

‫] ‪[ ١١٤‬‬

‫سوا َد األعظم فيه يشعرون بأنھم غرباء عن‬


‫وح َج َر فيه على أحاسيسه الشريفة‪ ،‬وجع َل ال ّ‬ ‫الحرمان والكبت‪َ ،‬‬
‫األرض‪ ،‬وعن بالدھم‪ ،‬وعن أنفسھم‪ ،‬وعن العمل الفاضل المفيد‪ .‬رفع العوز وحده يقضي على التبعية‪ ،‬وعلى‬
‫الشعور بالدونية‪ ،‬وعلى االنحدار إلى أتون األحقاد‪.‬‬

‫***‬

‫وينافق المنافقون ويُكثرون من النفاق حتى ّ‬


‫يكذبھم واقع الناس في ك ّل مكان وك ّل زمان!‬

‫ينافقون حتى ّ‬
‫تكذبھم الشمس الطالعة والقم ُر المضيء وصفاء الينبوع ونبتُ األرض!‬

‫ينافقون حتى ّ‬
‫تكذبھم إرادة الحياة!‬
‫ينافقون إذ يزعمون أنّ أداة السالم بين الناس إنّما ھي البقاء على حالة راھنة من تُخمة ھنا وجوع ھناك‪ ،‬فما‬
‫الحب تتط ّور أبداً وتطلب إلى‬
‫ّ‬ ‫تحب أبناءھا حبا ً جماً‪ ،‬وھي من أجل ھذا‬
‫ُ‬ ‫على ال ُم َ‬
‫تخم أن يُذعن لمشيئة الحياة التي‬
‫أبنائھا أن يتط ّوروا‪ .‬وما عليه من ثم أن يرضى لحاله وحال الناس تبديالً أو تطويراً‪ .‬وما على الجائع‪ ،‬في‬
‫زعمھم‪ ،‬أن يطلب حقا ً له مھضوما ً؛ وأن يثور للقمة العيش تُنتزع من حلق أبنائه لتُلقى فُتاتا ً على موائد‬
‫َ‬
‫المتخمين!‬

‫وشغب وأخ ّل باألمن وھدّد‬


‫َ‬ ‫أما إذا طلب ھذا الجائع حقه المھضوم وثار للرغيف يُنتزع من حلق أبنائه‪ ،‬فقد كف َر‬
‫راحة اآلمنين المسترخين على جھده حريراً ِد َم ْقسا ً!‬

‫وأساليب المنافين في المحافظة على أسباب تخمتھم و »أمنھم« من جھة‪ ،‬وعلى استعباد الجماھير الطاوية‬
‫الخاوية من جھة ثانية‪ ،‬عجيبة وغريبة!‬

‫سبل يسلكونھا تُم ّھدھا لھم عقليّةُ ھذا الزمن وصفاتُه‪ .‬ولع ّل أبرز ھذه السبل في التاريخ‬‫وللمنافقين في كل زمن ُ‬
‫المتوسط والقديم‪ ،‬ھي ما استغلّوه‬

‫] ‪[ ١١٥‬‬

‫من أمور الدين تفسيراً وتأويالً! يستوي في ذلك أھ ُل النفاق من أصحاب المنافع لدى اإلغريق والرومان‪ .‬وفي‬
‫البوذية واليھودية‪ .‬وفي النصرانية واإلسالم‪.‬‬

‫سبل ألنّ يستغلّھا المنافقون‪ ،‬فھي ما يدّعونه من أنّ أنبيا َءھم دَعوا إلى الزھادة في الدنيا وإلى‬
‫أ ّما أقرب ھذه ال ُ‬
‫التقشّف في العيش وإلى القناعة بالفقر والقعود عن كل طموح‪.‬‬

‫يدّعون ذلك ويدعون إليه الجماھير‪ ،‬توفيراً لكنوز األرض يحتبسونھا عن الناس‪ ،‬وينعمون بھا وحدھم آمنين!‬

‫وإزاء ھذا االدّعاء وھذه الدعوة‪ ،‬الب ّد من توضيح ما نراه صدقا ً وحقاً‪ ،‬تمھيداً إلدراك األساس الذي بنى عل ّي بن‬
‫أبي طالب سياسته عليه‪ ،‬وأقام دستوره‪.‬‬

‫صحيح أنّ بوذا‪ ،‬مح ّرر الحياة العظيم‪ ،‬كان قانعا ً زاھداً ال تھتفُ نفسه برخاء وال تھفو إلى نعيم‪ .‬وأ نّه كان‬
‫ٌ‬
‫يكتفي بأيسر نصيب من المطعم والمشرب والملبس وسائر أسباب العيش!‬

‫صة الزھ َد وما إليه فيكتفي من الدنيا بما‬


‫وصحيح أنّ كنفوشيوس‪ ،‬حكيم الصين ونبيّھا‪ ،‬كان يُؤثر في حياته الخا ّ‬
‫ال يكتفي بأضعافه محبّوه ومقدّرو رسالته!‬

‫وصحيح أنّ سقراط لم يكن يبدّل عباءته في الشتاء وال في الصيف‪ ،‬وال يمنع قسوةَ التراب والحجارة من أن‬
‫تنال قدميه الحافيتين‪ ،‬وال أھوال الطبيعة في الح ّر والق ّر من أن تُصيب رأسه العاري ومنكبيه‪ .‬وأ نّه لم يلتفت‬
‫في حياته م ّرة إلى ناعم من العيش أو ُمريح من المجلس‪ ،‬وربما قاوم الجو َع والعطش أياما ً طواالً!‬

‫الحجر ويلبس الخشنَ ويأكل الخشب‪ .‬وكان‬


‫َ‬ ‫سد‬‫وصحيح أن المسيح »كان ـ كما يصفه اإلمام عل ّي صادقا ً ـ يتو ّ‬
‫ٌ‬
‫إدا ُمه الجوع وسراجه بالليل القمر‪ ،‬وظالله في الشتاء مشارق األرض ومغاربھا‪ ،‬وفاكھته وريحانه ما تُنبت‬
‫األرض‬

‫] ‪[ ١١٦‬‬

‫للبھائم‪ .‬ولم تكن له زوجة تفتنُه وال ول ٌد يُحزنه وال ما ٌل يلفتُه‪ ،‬وال طم ٌع يُذلّه‪ ،‬دابّتُه رجاله وخادمه يداه!«‬
‫وصحيح أنّ مح ّمداً كان »قد قُبضت عنه أطراف الدنيا ووطئت لغيره أكنافُھا‪ ،‬وفُطم عن رضاعھا‪ ،‬وزُوي عن‬
‫زخارفھا«‪ .‬وأ نّه كان زاھداً متقشفا ً ال يأكل إالّ خشنَ المأمل وإذا أكل ال يشبع‪ .‬وأ نّه خرج من الدنيا ـ كما يقول‬
‫أبو ذ ّر الغفاري ـ ولم يمأل بطنه في يوم من طعامين‪ .‬وأ نّه كان إذا شبع من التمر ال يشبع من الخبز‪ ،‬وقد يم ّر‬
‫به ھال ٌل ثم ھالل ال يوقد في بيته نا ٌر لخبز وال لطبخ!‬

‫بطمريه‪ ،‬ومن طعمه بقرصيه« ومن المسكن بما ھو من‬ ‫وصحيح أنّ عل ّي بن أبي طالب كان »مكتفيا ً من دنياه ِ‬
‫خصاص الفقراء دون القصور‪ .‬وأن أخباره في القناعة والزھد أكثر من أن تُحصى وأشھر من أن يقام عليھا‬
‫دليل‪ ،‬ويكفي منھا ما أثبتناه في بعض فصول ھذا الكتاب‪.‬‬

‫وصحيح أن صاحبه أبا ذ ّر الغغاري كان قانعا ً بأرغفة يابسة من خبز الشعير يأكلھا وزجه وبنيه‪ ،‬مكتفيا ً بھا راياً‬
‫عن حاله ھذا كل الرضا مطمئنا ً إليه كل االطمئنان!‬

‫***‬

‫صحيح كل ھذا!‬
‫ٌ‬

‫الصحة‪ .‬وھو أنّ ھؤالء أصحاب رساالت لھم في ھذه الرساالت‬ ‫ّ‬ ‫غير أنّ ھناك أمراً آخر ھو أيضا ً صحيح كل‬
‫نفسھا مادّة االكتفاء والشبع والحياة‪ .‬فغيرھم ال يُطيق ما يُطيقون‪ ،‬وال يحمل ما يحملون وال يومض في قلبه ما‬
‫خاص ال تقاس عليه أحوال اآلخرين‪ .‬ثم إنّ لھم‬
‫ﱟ‬ ‫يومض في قلوبھم من أنوار مشرقة تُكيّف أحوالھم على نمط‬
‫من االھتمام بأحوال الجماعات ما يمنعھم من أن يستكينوا إلى مطعم وملبس ومنام‪.‬‬

‫] ‪[ ١١٧‬‬

‫أضف إلى ذلك أنك قد تجد في أجسامھم من القوة ما ليس شرطا ً أن يكون في أجسام سائر الناس‪ .‬فبوذا‪ ،‬مثالً‬
‫كان أقوى الھنود في زمانه كما يروي الرواة‪ .‬وسقراط كان أوثق المحاربين اإلغريق بنيةً وأرھبھم جانباً‬
‫وأجلدھم في القتال‪ .‬وعل ّي بن أبي طالب كان من القوة الجسدية بحيث نعلم! وسوا ٌء تميّز ھؤالء الزاھدون‬
‫بطاقات جسدية خاصة أم لم يتميّزوا‪ ،‬فإنّ ھنالك أمراً أكثر خطراً في ھذا المجال‪:‬‬

‫من يطّلع على فصول حياة ھؤالء الرجال‪ ،‬يدرك أ ّو َل ما يدرك أنھم ثائرون‪ .‬وأھداف ثوراتھم مستمدّة من‬
‫وظروف الناس حولھم وفي العالم‪ .‬وفي ھؤالء من‬ ‫ِ‬ ‫مجتمعاتھم‪ .‬وأساليبھم في الكفاح مقيّدةٌ بزمانھم ومكانھم‬
‫قُتل بثورته كسقراط والمسيح وعلي بن أبي طالب‪ ،‬وفيھم َمن لم يتم ّكن المعتدون من قتلھم كبوذا ومح ّمد‪.‬‬

‫والثائرون قو ٌم ال يمكنھم أن ينعموا في عيشھم‪ ،‬ألنّ طبيعة الثورة ال تفسح لھم في المجال ألن ينعموا ومن‬
‫أول ما يتر ّكز على صاحب الثورة‪.‬‬
‫شروط النعيم االستقرار‪ .‬وألنّ ھجوم المحافظين المعادين للثورة إنما يتر ّكز ّ‬
‫المالحق المضط َھد ال يمكنه أن ينعم في‬
‫َ‬ ‫ق إلى أن ينتصر‪ ،‬مضط َھد إلى أن تُكتب له الغلبة‪ .‬والثائر‬ ‫مالح ٌ‬
‫َ‬ ‫فھو‬
‫العيش ويطلب خيرات الدنيا‪ ،‬إالّ إذا بلغ غايته من الثورة‪ ،‬أو تخلّى عنھا‪.‬‬

‫من ھنا كان زھد ھؤالء االنبياء الثائرين‪ ،‬وان عزوفھم عن الدنيا‪.‬‬

‫وھم‪ ،‬على كل حال‪ ،‬أحرا ٌر في ما اختاروا ألنفسھم من ألوان العيش وفي ما ارتضوا لھا من طرق االكتفاء‪.‬‬
‫ق قلي ٌل أو كثير في أن يناقشھم في ما اختاروا‪ ،‬وفي ما ارتضوا‪ .‬فقد حملوا أنفسھم على ذلك ولم‬
‫وليس ألحد ح ّ‬
‫يُ ْح َملوا‪.‬‬

‫بقي أن ننظر في ما نراه من أقوال يسيرة لدى ھؤالء يدعون بھا إلى الزھد‪ :‬قلنا إن ھؤالء األنبياء وأمثالھم من‬
‫المصلحين في التاريخ‪ ،‬إنّما كانوا ثائرين‬

‫] ‪[ ١١٨‬‬
‫على أسلوب زمانھم في الثورة وفي الكفاح‪.‬‬

‫روحھا المعبّرة عن‬


‫ُ‬ ‫ومن البديھي أنّ الثورة ال تقوم بصاحبھا وحده وإن أخذت صيغتَھا من أقواله‪ ،‬واصطبغت‬
‫حاجات محيطه وعن مرحلة التاريخ التي يم ّر بھا زمانه‪ .‬بل إنّھا بحاجة إلى عدد من الخلق يتجند لھا ويكافح‬
‫ّ‬
‫في سبيلھا‪ .‬ول ّما كان األمر كذلك‪ ،‬فإنّ ھؤالء المتجنّدين في نصرة صاحب الثورة إنّما تتّحد ظروفھم بظروفه‬
‫وتُشبه حالُھم حاله‪ .‬وفي ھذا الواقع وحده ما يب ّرر زھدھم بنعيم العيش وقناعتھم بالكفاف‪ .‬وفي ھذا الواقع‬
‫وحده ما يب ّرر دعوتھم على لسان صاحب الرسالة الثائر ـ إلى القناعة تحويالً لجھودھم إلى نصرة الثورة‬
‫وتمكينا ً ألقدامھم في الجھاد‪.‬‬

‫فھذه األقوال اليسيرة ألصحاب الرساالت في الزھد والقناعة‪ ،‬ليست إذن إالّ معالجة استثنائية لحالة موقّتة‬
‫مرتبطة بأشخاص معيّنين في زمان ومكان معيّنين‪ .‬فھي أسلوب في التدبير الموقّت وليست دعوة دائمة إلى‬
‫طلب الفقر والعزوف عن الدنيا‪ .‬وليست تزيينا ً للحاجة ھنا وتوفيراً للتخمة ھناك‪.‬‬

‫إن أصحاب الرساالت لم يجعلوا من تقشّفھم قاعدةً يسير عليھا الناس‪ .‬وال من اقتناعھم بأيس ِر ما يمكن من‬
‫أدوات العيش وآالته نھجا ً ينھجه اآلخرون‪ ،‬وسنّة! ولو كان األمر كذلك ـ وھو ليس كذلك ـ لَ َما كان لثوراتھم‬
‫أصحاب الوجاھات الموروثة وذوو المال المكنوز والحكم الجائر والفساد العريض‪.‬‬
‫ُ‬ ‫غاية ولَ َما عاداھم‬

‫فليس معقوالً وال مقبوالً أن يثور بوذا أو المسيح أو مح ّمد على مجتمع فيه اآلكل والمأكول‪ ،‬والظالم والمظلوم‪،‬‬
‫تخم‪ ،‬فينسف بنيانه ويد َك دعائمه‪ ،‬واضعا ً حياته وحياة أنصاره في كفّة النصر أو الموت‪ ،‬ثم يعود‬‫والجائع وال ُم َ‬
‫ويدعو الناس إلى األخذ بما كان من التفاوت والتمايز بين طبقات الناس‪ ،‬ويزيّن للمتخمين التخمة وللفقراء‬
‫الفقر ولكل إنسان ما كان فيه من أحوال البؤس والنعيم‪.‬‬

‫] ‪[ ١١٩‬‬

‫ولنا من تعاليم أصحاب الرساالت ومن حياتھم‪ ،‬ما يُخزي المنافقين الداعين إلى الزھد والتقشّف والفقر‪،‬‬
‫المتستّرين بعبارات ربما اخترعوھا ونسبوھا زوراً إلى أولئك الثائرين‪.‬‬

‫ولنا من تعاليمھم ومن حياتھم كذلك‪ ،‬ما يؤيّد مذھبنا في أنھم زھدوا ولكنّھم لم يدعوا إلى الزھد‪ ،‬وتقشّفوا‬
‫وأرادوا للناس جميعا ً نعي َم العيش فال فقير وال مستضعف‪ ،‬وال آكل وال مأكول‪ .‬كل ذلك تيسيراً لحياة اجتماعية‬
‫عادلة‪ ،‬وحياة خلقية شريفة‪.‬‬

‫***‬

‫فھذا الروح النق ّي بوذا يھتف في إنجيله بضرورة العمل من أجل سعادة الناس ورخائھم‪ ،‬ال من أجل إفقارھم‬
‫وإلقائھم في جحيم الع َوز الذي يزيّنه بعض المتعبّدين ألبناء األرض! ثم يجعل نفسه مسؤوالً عن البؤس المادّي‬
‫في طبقات الناس بقدر ما ھو مسؤول عن البؤس الروحي‪ .‬ومن أقواله‪» :‬عاونوا اآلخرين وابسطوا إليھم‬
‫قلوبكم بالمودّة!«‬

‫وھذا كنفوشيوس يُطلق ھذه الكلمة الرائعة‪ ،‬وكأ نّه يلعن الفقر ويجعل التذ ّمر من الحياة منوطا ً به فيقول‪» :‬إنّه‬
‫خص ھذا العظي ُم جانبا ً‬
‫ّ‬ ‫ق على اإلنسان أن يكون فقيراً دون تذ ّمر‪ ،‬من أن يكون غنيا ً دون غطرسة!« وقد‬ ‫ألش ّ‬
‫لحض الناس على االھتمام بالناحية المادية من حياتھم‪ ،‬دون أن يتكلف تزيين البؤس المادّي‬ ‫ّ‬ ‫تعاليمه‬ ‫من‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫عظيم‬
‫لمن شا َء لھم أن يحيوا في غنى الروح! ومن روائعه الخالدة على الدھر‪ ،‬ھذه الكلمة التي تجعل الحياةَ على‬
‫األرض‪ ،‬بكافّة متطلبّاتھا التي تكفل لھا البقاء السعيد في شروط ماديّة وروحية على السواء‪ ،‬ھي كل الصالة‪:‬‬
‫»حياتي ھي صالتي!«‬

‫وھذا سقراط ال يرى بين شروط الحكم ما ھو أج ّل من الشرط الذي يقيّد الحاكم بمنافع العا ّمة فال يستطيع إلى‬
‫نھبھم سبيالً‪ .‬ولو اكتفى للناس‬
‫] ‪[ ١٢٠‬‬

‫طاب له أن يرتضي لھم التقشّفَ والزھادةَ كما ارتضاھما لنفسه‪ ،‬ولَما وضع‬ ‫بما اكتفاه لنفسه من آلة العيش لَ َ‬
‫مثل ھذا الشرط‪ .‬وھو يسعى في إصالح القوانين‪ ،‬وتوجيه السياسة‪ ،‬ويھاجم الطغاة والطغيان‪ ،‬في غاية أساسية‬
‫روح الحكم‪ ،‬كما يجعل المحافظة‬
‫َ‬ ‫ھي‪ :‬رفع الحاجة عن الشعب‪ .‬ثم إنّه يجعل المساواة في الحقوق والواجبات‬
‫عليھا واجب الحاكم‪ .‬ويشنّ حربا ً على األسباب التي تخلق التمايُز في الثروة بين البلد الواحد‪ ،‬ويقسو على‬
‫األفراد الذين يجمعون المال في غفلة من العا ّمة‪ .‬ومن اطلع على حوارياته الشھيرة‪ ،‬رأى في إحداھما إصراره‬
‫الحكيم على جعل رفاھية الشعب الماديّة إطاراً يدور فيه عم ُل الحاكمين ومن يطمحون إلى الحكم‪ .‬من ذلك ما‬
‫سوف نراه في حينه‪ ،‬من االسئلة التي كان يطرحھا على َمن يھيء نفسه لحكم أثينا وتدور في معظمھا حو َل ما‬
‫يجب على الحاكم أن يعرفه من مصادر الثروة الماديّة‪ ،‬ومن طرق استغاللھا وتوزيعھا على أبناء الشعب‬
‫استناداً إلى قوانين عا ّمة ال تبيحال الفق َر ھنا والثراء ھناك‪.‬‬

‫وھذا المسيح‪ ،‬الثائر األعظم‪ ،‬يقول‪» :‬ليس بالخبز وحده يحيا اإلنسان!« وفي ھذا القول دلي ٌل ساطع على‬
‫تعظيمه شأن الخبز‪ ،‬وعلى أنّ رفع الحاجة وتيسير مادّة البقاء ھي األصل واألساس‪.‬‬

‫وتجار العبادات الذين أرادوا أن‬


‫وإن ما يريده المسيح بقوله ھذا ليختلف ك ّل االختالف ع ّما أ ّوله رجا ُل الكھانة ّ‬
‫ى أو أھواء‪ ،‬من أجل مجد اآلب‬ ‫يمنعوا الخبزَ عن الناس ليوفّروه ألنفسھم‪ .‬ولذويھم‪ ،‬ولك ّل َمن لھم فيه ھو ً‬
‫السماوي!!!‬

‫سرون ھذا القول تفسيراً منافقا ً يُبعد الناس عن التفكير في العمل من أجل الخبز‪ ،‬أو يغريھم بأن‬ ‫ففيما ھم يف ّ‬
‫يعملوا وال يأكلوا ألن الدنيا »فانية« وألن النعيم ال يكون نعيما ً حقا ً إالّ في اآلخرة‪ ،‬يريد المسيح ـ كما ھو واضح‬
‫ـ أن يجعل الخبز ھو األساس‪ ،‬ثم يلفت نظرك إلى أن الخبز ليس وحده قوام‬

‫] ‪[ ١٢١‬‬

‫تفرغ ـ بعد حصولك على الخبز ـ إلى صفاء الروح و َدعَة القلب‪.‬‬
‫الحياة‪ .‬فعليك إذن أن َ‬

‫وكيف ال تكون إرادة المسيح متجھة إلى توفير خيرات األرض لجميع الناس‪ ،‬وھو ال يجد في الصالة التي دعا‬
‫إلى ترديدھا ما ھو أعظم من طلب الخبز‪ ،‬قائالً‪» :‬أبانا الذي في السماوات‪ِ ...‬‬
‫أعطنا خبزنا كفافنا!«‬

‫وما كانت رسالة المسيح ـ في أعظم جانب منھا ـ إالّ ثورةً كاسحة على المغتصبين الناھبين المرائين من الكھنة‬
‫سوسة على ماء الحياة في‬ ‫والح ّكام والتجار‪ ،‬الذين يتب ّذخون على جھد الفقير ويعيشون على دمه كما تعيش ال ّ‬
‫الشجرة المثمرة! وماذا يعني الثائر األكبر إالّ توفير الخبز والماء والكساء أوالً‪ ،‬لعا ّمة الناس‪ ،‬بھذا القول‬
‫تخمين من أتباع القياصرة‪ ،‬في حشد‬ ‫الجريء الذي يصف به »أشراف« أورشليم‪ ،‬ومنافقيھا‪ ،‬وكھنتھا‪ ،‬وال ُم َ‬
‫عا ّم عظيم من ھؤالء جميعاً‪ ،‬ومن غيرھم‪ ،‬في أش ّد عصور االستعمار الروماني لبالدنا قسوةً وإرھابا ً‪:‬‬

‫»إنھم يحزمون أحماالً ثقيلةً شاقّة الحمل‪ ،‬ويضعونھا على أكتاف الناس‪ .‬وھم ال يريدون أن يح ّركوھا بإصبعھم!‬

‫»وكل أعمالھم يعملونھا لكي ينظرھم الناس! فيعرضون عصائبھم ويُعظّمون أھداب ثيابھم‪ ،‬ويحبون المتّكأ‬
‫والمجالس األولى في المجامع‪ ،‬والتحيّات في األسواق‪ ،‬وأن يدعوھم الناس‪ :‬سيّدي‪ ،‬سيّدي!«‬
‫َ‬ ‫األول في الوالئم‪،‬‬

‫والمسيح ال يقبل صالة ھؤالء المنافقين ألنّھم يأكلون جھد الناس ويمنعون عنھم حقّھم في الخبز‪ .‬يقول‪:‬‬

‫»وي ٌل لكم أيّھا الكتبة والف ﱢرسيّون المراؤون ألنكم تأكلون بيوت األرامل ولعلّة تُطيلون صالتكم!«‬

‫وما تُمثّل »بيوتُ األرامل« في ذھن المسيح إالّ البيوت التي تض ّم قوما ً جياعا ً ُمعوزين‪ .‬والفقر والع َوز لعنةٌ على‬
‫لسان الثائر األعظم الذي تحدّى‬
‫] ‪[ ١٢٢‬‬

‫وبطش استعمارھا‪ ،‬كما تحدّى كھنة أورشليم وأشرافھا وأمراءھا‬ ‫َ‬ ‫امبراطورية روما وجيوشھا وقوانيھا‬
‫وعاداتھم وتقاليدھم جميعاً‪ ،‬بجسده الناحل‪ ،‬ونظرته العارمة بثورة الحياة‪ ،‬وبقسوة الصاعقة تشت ّد على‬
‫الغاصبين في قسمات وجھه الشاحب ثم تأكلّھم نا ُرھا على شفتيه‪ ،‬لتخلّي المكان لقوم ال يأكلون خبز الجائع وال‬
‫يشربون ماء الظامىء وال يترھّلون بجھ ِد الناس وال يأتون من روما ليستعمروا بالداً ليست لھم!‬

‫تجار العبادات إرادته‬‫إن الثائر األعظم الذي دعا نفسه »إن اإلنسان« تمجيداً لحياة اإلنسان‪ ،‬والذي ز ّو َر ّ‬
‫صب على المستغلّين والمتخمين وأعداء الشعب المتآمرين على لقمة‬ ‫ّ‬ ‫لمنافعھم القائمة بإفقار الناس‪ ،‬ھو الذي‬
‫صادين« ھذه اللعنةَ األبديةَ‬ ‫الجائع وجھد الصانع »الذين يأكلون بيوت األرامل‪ ..‬والذين يظلمون الفَ َعلة‪ ،‬والح ّ‬
‫س في وجوھھم المسلوخة عن‬ ‫ذنب الشيطان‪ ،‬وتف ّر َ‬
‫ق في لحاھم الطويلة التي تح ّركَ في أطرافھا ُ‬ ‫اآلكلة‪ ،‬إذ ح ّد َ‬
‫الحب في نفسه ـ ما اعتادوه من‬ ‫ّ‬ ‫وجه الدينار والشاھدة على وقاحة ضمائرھم‪ ،‬وأرذل في نفوسھم ـ بقسوة‬
‫تجميد وتقديس‪ ،‬وأرجفھم عاصفا ً ھادراً يشت ّد يقول‪:‬‬

‫»يا أوالد األفاعي!«‬

‫وإن الثائر األعظم الذي دعا نفسه »ابن اإلنسان« تجميداً لحياة اإلنسان‪ ،‬ھو الذي سفّه ك ّل ما ال يخدم اإلنسان‬
‫ولو نُ ﱢز َل في القوم منزلةَ األمر المقدّس والطقس المعبود‪ .‬فحين جاءه حش ٌد من اليھود برئاسة كبي ِر ك ّھانھم‬
‫يريدون أن يمتحنوه في شؤون عباداتھم ليأخذوا عليه ما يُنكرونه من موقفه فيدينوه‪ ،‬فيخلّصوا نفاقھم من‬
‫صدق ِه وحقارتَھم من عظمته‪ ،‬ثم حاوروه في أمر يوم السبت وداوروه‪ ،‬لفّھم جميعا ً بنظرته التي تقسو على‬
‫التآمر قسوةً رھيبة‪ ،‬وص ّوب إلى رئيسھم الجليل قوله‪:‬‬

‫»يا ُمرائي!«‬

‫] ‪[ ١٢٣‬‬

‫وانتفض في الثياب المزركشة جسدّه الكھنوت ّي المقدّس‪ ..‬فنظر المسيح الثائ ُر إلى‬
‫َ‬ ‫صعق الرئيس الجليل‪...‬‬
‫ف ُ‬
‫قداسة رئيس الكھنة من جديد‪ ،‬ليعريّه من ثوب النفاق من جديد‪:‬‬

‫»يا ُمرائي! إنّما ُخلق السبتُ من أجل اإلنسان‪ ،‬ولم يُجعل االنسانُ من أجل السبت!«‬

‫وھكذا‪ ،‬فإن العبادات نفسھا‪ ،‬والطقوس جميعاً‪ ،‬إنّما ُخلقت ـ في نظر المسيح ـ لخدمة اإلنسان‪ .‬وأ ّول ما يُخدم به‬
‫اإلنسانُ به اإلنسانُ ھو تمھيد الطريق أمامه للحصول على الخبز‪.‬‬

‫وإن المسيح الذي اختار لنفسه ھذا اللقب العظيم »ابن اإلنسان«‪ ،‬ھو الذي يبارك العم َل من أجل الخبز‪ ،‬ويجعل‬
‫أساس كل دين‪ ،‬ومظھر كل عبادة‪ .‬أليس ھو الذي قال ـ وقد شاء امتحان اإليمان‬
‫َ‬ ‫تيسير آلة العيش لجميع الناس‬
‫الحق في النفوس‪ ،‬وھو لديه اإليمان باإلنسان أ ّوالً ـ‪ُ » :‬جعتُ فاطعمتموني‪ ،‬عطشتُ فسقيتموني‪ ،‬كنت غريبا ً‬
‫فآويتموني الخ«‪.‬‬

‫قال ذلك ولم يقل‪ :‬كنت أُصلّي فصلّيتم معي!‬

‫وثورة المسيح في ھذا الشأن أوسع من أن نحدّھا ھنا‪ .‬فأقواله التي يزجر بھا المتآمرين على لقمة الجائع‬
‫ويسوطّ بھا جلودھم‪ ،‬تمأل االناجيل األربعة‪ .‬وكذلك أقواله التي يُثير بھا الفقراء والمستضعفين على ناھيبھم‬
‫وغاصبي حقوقھم ومستعمري بالدھم!‬
‫وأخيراً‪ ،‬أفلم تكن التھمة الكبرى التي َحم َل كھنةُ اليھود بھا الرومانيين على محاكمة المسيح ثم على قتله‪ ،‬تلك‬
‫الثورة الجارفة التي ألقى بذورھا في قلوب المضطھدين والمستضعفين واألرقّاء وسائر الذين أشرفوا على‬
‫الغرق في خص ﱟم تَعس رھيب من الجوع والظمأ وال ُعري والتش ّرد والعبودية!‬

‫الشعب‪ ،‬ويمنع أن تُعطى جزيةٌ لقيصر!«‬


‫َ‬ ‫ألم تكن التھمة الكبرى »إنّه يھيّج‬

‫] ‪[ ١٢٤‬‬

‫الشعب أن يعطي جزيةً لقيصر؟ أليس توفيراً للرغيف الذي ينھبه قيصر وأُمرأؤه‬ ‫َ‬ ‫المسيح‬
‫ُ‬ ‫ولماذا منع‬
‫والمستعلون على الناس‪ ،‬من حلق الجائع وبيت المعوز وكفّ اليتم؟‬

‫ث ّم‪ ،‬ألم يتذ ّرع كھنةُ أورشليم لدى ممثّل القيصر‪ ،‬بضرورة المحافظة على أسلوب القيصر الكبير ـ والقياصرة‬
‫الصغار التابعين ـ في نھب‪ .‬الناس واحتكار ثرواتھم المادّية‪ ،‬ساعة أبلغوه قائلين‪» :‬إذا لم تصلبه فلن تكون‬
‫محبا ً لقيصر!«‬

‫ألم يقف المسيح في حشد من الخلق فيھم الحاكم والمحكوم‪ ،‬واآلكل والمأكول‪ ،‬ليخاطبھم جميعا ً بھذه الكلمات‬
‫الخالدات‪:‬‬

‫ضع تحت المكيال‪ ،‬لكن على المنارة ليُنير ك ّل من في البيت!«‬


‫سراج ويو َ‬
‫ٌ‬ ‫»ال يُوقَد‬

‫والبيت ھو العالم بأسره‪ .‬وك ّل من في البيت ھم البشر جميعا ً‪ .‬والسراج الذي يُنير ھنا وال يبعث نوره إلى ھناك‬
‫سراج يرسل الحرارة والنور إلى كل زوايأ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫يجب أن يُحطّم ويوقَد مكانه‬

‫ومن ث ّم‪ ،‬أفال يكون أولئك الذين يز ّورون ھذه اإلرادة الثائرة الحكيمة التي ترغب لطبقات الناس جميعا ً في الح ّ‬
‫ق‬
‫الوافر في العيش الكريم‪ ،‬والذين يزيّنون للخلق الزھادة والفقر والقناعةَ التي ال تنتھي ـ ليوفّروا خيرات األرض‬
‫لذواتھم المقدّسة ويُقيموا من نعيم األرض في جنائنه الوارفة ـ أفال يكونون مرائين ومنافقين وأوالد أفاعي كما‬
‫أسماھم ھو نفسه!!‬

‫يضج باآلكل والمأكول‪ ،‬والناھب والمھوب‪ ،‬والمستضعف‬ ‫ُ‬ ‫وھذا مح ّمد‪ ،‬أخو المسيح‪ ،‬الثائر على مجتمع‬
‫والمستعلي‪ ،‬وبالعاملين على إبقاء التفاوت بين الخلق قاعدةً وأصالً‪ ،‬وعلى سحق الطبقات الفقيرة بالفقر‪،‬‬
‫الناس قائالً‪:‬‬
‫َ‬ ‫يخاطب القرآنُ على لسانه‬

‫)فَا ْمشُوا فِي َمنا ِكبِھا َو ُكلُوا ِمنْ ِر ْزقِ ِه( فيأمر باالستمتاع بآلة البقاء وھو‬

‫] ‪[ ١٢٥‬‬

‫يخص فئةً من الناس دون فئة وال قوما ً دون قوم‪ .‬ويقول في مكان آخر‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫األكل من أرزاق األرض‪ .‬وھو ال‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫شقّا فأ ْنبَ ْتنا فِيھا َحبًّا َو ِعنَبا ً َو ق ْ‬
‫ضبا ً َو َز ْيتُونا ً‬ ‫َ‬
‫شقَ ْقنَا ْاأل ْر َ‬
‫ض َ‬ ‫ُ‬
‫صبًّا ث ﱠم َ‬ ‫ْ‬ ‫)فَ ْليَ ْنظُ ِر ْا ِإل ْنسانُ إِلى طَعا ِم ِه أَنّا َ‬
‫صبَ ْبنَا الما َء َ‬
‫ق ُغ ْلبا ً)‪َ .(١‬و فا ِك َھةً َو أَبًّا( )‪.(٢‬‬
‫َو نَ ْخالً َو َحدائِ َ‬

‫أ ّما ھو فيقول‪» :‬الناس شركاء في ثالث‪ :‬الماء والكأل والنار«‪ .‬ويُثيب َمن يعمل ويأمر له بما يحفظ له كرامة‬
‫العيش‪ .‬ويرغب في أالّ يكون على وجه األرض معو ٌز أو فقير‪ .‬وكان‪ ،‬حين يجيئه الفيء‪ ،‬يو ّزعه بين أصحابه‬
‫ويُرجئ ابنته فاطمة ويقول‪ :‬حتى يكتفي الناس أوالً)‪«(٣‬‬

‫ولن أُطيل الكالم ھنا على موقف مح ّمد من قضية الفقر والغنى‪ .‬ففي الفصل التالي بيان جل ّي لدعوة اإلنسان في‬
‫اإلسالم إلى العمل المنتج الذي يعود بالنفع على صاحبه فال يُعو ّز وال يجوزع وال يبيت فقيراً‪ ،‬حتى ليَف ُ‬
‫ضل‬
‫العملال المفي ُد في إسالم محمد ك ّل صوم وك ّل صالة‪ ،‬كما ھي الحال في مسيحية المسيح! ومح ّمد الذي ال يرتضي‬
‫الفقر وال يزيّن الع َوز ھو القائل‪» :‬كاد الفقر أن يكون كفراً!« وسوف نبين في الفصل التالي عبقرية مح ّمد في‬
‫الوقوف على كثير من أسرار البناء االجتماعي‪ .‬وفي دعوته إلى أخذ الحياة مأخذاً جميالً قوامه العمل النافع‬
‫واإلثابة بالطيّبات‪.‬‬

‫وھذا أبو ذ ّر الغفاري‪ ،‬الزاھد القانع المتقشّف ـ وال حق لنا عليه في ما اصطفاه لنفسه من آلة العيش ـ يشنّ‬
‫على الفقر حربا ً شعواء‪ .‬ويقضي شھي َد الدفاع عن حقوق الجماعة في اليُسر‪ .‬ومن روائعه في ھذا الحرب التي‬
‫شنّھا على الفقر و »فلسفة« اإلفقار قوله‪» :‬إذا ذھب الفق ُر إلى بلد قال له الكفر‪ :‬خذني معك! »الكفر بك ّل قيمة‬
‫وكل فضيلة وكل عبادة! ومنھا أيضا ً‪:‬‬

‫‪ ١‬غلبا‪ :‬غلباء‪ ،‬وھي الحديقة المتكاثفة الشجر‪.‬‬

‫‪ ٢‬األب‪ :‬العشب رطبه ويابسه‪.‬‬

‫‪» ٣‬مح ّمد والمسيح« لخالد مح ّمد خالد ص ‪.٨٨‬‬

‫] ‪[ ١٢٦‬‬

‫»عجبتُ لمن ال يجد القُوتَ في بيته كيف ال يخرج على الناس شاھراً سيفه!«‬

‫***‬

‫وفي الزاھدين القانعين الذين أخذوا الناس بالتصيحة و ُولوا أمو َرھم باالرشاد‪ ،‬عد ٌد عظيم أبَوا على الناس أن‬
‫يزھدوا وأن يقنعوا وأن يعيشوا في الحاجة ويتركوا للناھبين خيرات األرض‪.‬‬

‫وإنّا لنجد ھؤالء حتى في أسفار العبرانيين وإلھم عات متسلّطٌ جبّا ٌر في أكثر األحيان‪ ،‬ال يُشبه إالّ قليالً إلهَ‬
‫المسيح ومح ّمد و »ﷲُ محبّةٌ« عندھما و »رحمنٌ رحيم!«‬
‫ِ‬

‫فبالرغم من عت ّو إله العبرانيين على الغالب‪ ،‬ومن جبروته‪،‬ترى أنبياء العھد العتيق يسلطون سيف النقمة على‬
‫آكلي خبز الفقير‪ ،‬وعلى الفقير نفسه ساعة يزھد ويقنع ويأبى إالّ الخنوع لمن أقاموا أنفسھم عليه أسياداً‪.‬‬

‫فھذا يشوع بن سيراخ يھتف قائالً‪:‬‬

‫»أنقذ المظلوم من يد الظالم وال تكن صغي َر النفس في القضاء‬

‫»ال تصرف طرفك عن المعوز وال تصنع شيئا ً يجلب عليك لعنة اإلنسان‬

‫ضتك على أخيك وصديقك وال تدعھا تصدأ تحت الحجر‬


‫»أتلف ف ّ‬

‫»وإنّما يُنقل الملك من أ ّمة إلى أ ّمة ألجل المظالم والشتائم واألموال‬

‫أعن المسكين في ع َوزه‪ .‬كن أبا ً لليتامى«‪.‬‬


‫» ِ‬

‫يتوجه بھا إلى قانون الدولة‪ ،‬فألن حركة‬ ‫ّ‬ ‫توجه يشوع بن سيراخ إلى ضمائر األفراد بھذه الدعوة‪ ،‬ولم‬ ‫وإذا ّ‬
‫التاريخ القاھرة أوقفته عند ھذا الح ّد‪ .‬وإنّما نريد ھنا أن نُظھر ما نحن بصدَده من القول بأن الزاھدين القانعين‬
‫لم يكونوا ليرضوا للناس بما ارتضوه ألنفسھم من آلة العيش اليسير‪ .‬بل نبّھوا إلى أن الفقر ظل ٌم وأن الفقير‬
‫يجب أالّ يقنع إالّ بأن ينال حقّه من العيش الكريم‪.‬‬
‫اسمع ثانية ما يقوله يشوع بن سيراخ‪ ،‬الزاھد القانع المتقشّف‪:‬‬

‫] ‪[ ١٢٧‬‬

‫»رأس المعيشة الماء والخبز واللباس والبيت الساتر للسوءة!«‬

‫ثم اسمع ما يقوله في وصف حال الغن ّي وحال الفقير‪ ،‬وفي القول استنكاراً للفقر ألن صاحبه مظلوم‪ ،‬وفيه إثارةٌ‬
‫مبطّنة‪:‬‬

‫َ‬
‫ويصخب‪ ،‬والفقير يُظلم ويتض ّرع!«‬ ‫»الغن ّي يظل ُم‬

‫سيراخ م ّمن يستغلّك ھذا‬


‫َ‬ ‫وإن كنتَ قانعا ً زاھداً راضيا ً بأن تظ ّل فقيراً وأن يأكل جھدَك المستغلّون‪ ،‬و َ‬
‫ض َعك ابنُ‬
‫الموضع الذي يُثيرك وال اليب‪:‬‬

‫»إن كنتَ نافعا ً استغلّك‪ ،‬وإن كنتَ عقيما ً خذ لك! إن كان لك ما ٌل عاشرك واستنفد مالك وھو ال يتعب!«‬

‫وما نجده في سفر ابن سيراخ من دعوة المستضعفين إلى االخذ بحقّھم في األرزاق‪ ،‬ومن السخط على مستغلي‬
‫طبقات الشعب‪ ،‬نجده كذلك في سفر أيّوب الراضي لنفسه بأن يزھد وأن يقنع‪ .‬يتحدّث أيّوب عن المنافقين فيضع‬
‫محتكري الثروات وھاضمي حقوق الجماعة في طليعتھم‪ ،‬فيقول في واحد منھم ھذا القول الشديد الوطأة على‬
‫أھل البغي واالحتكار‪:‬‬

‫»قد أبتلع أمواالً إالّ أ نّه يقيئُھا‪ .‬ﷲ يستخرجھا من جوفه أل نّه ھضم المساكين واستلب البيوت ولم يَبنِھا؛ ك ّل‬
‫بقي في أخبائه‪ .‬تكشف السماوات عن إثمه واألرض‬ ‫ظالم مدّخ ٌر في كنوزه‪ ،‬وتأكله نا ٌر لم يُنفخ فيھا وتُتلف ما َ‬
‫تقوم عليه!«‬

‫ويصف أيّوب المحتكرين الذين يعيشون بجھد البائسين وال يتعبون‪ ،‬وأولئك الذين يحصدون ويعصرون‬
‫ويبيتون جياعا ً عطاشا ً ال كسوة لھم وال مأوى‪ ،‬فيقول ھذا القول الرائع‪:‬‬

‫حمار اليتيم ويرتھنون ثو َر األرملة‪ .‬يطردون‬


‫َ‬ ‫»فإنّ من الناس َمن ينقلون التخوم ويسلبون القطعان‪ .‬يستاقون‬
‫المساكين عن الطريق فيختبىء بائسو األرض جميعا ً‪ .‬يحصدون حقالً ليس لھم ويقطفون الكرم اغتصابا ً‪.‬‬
‫يُبيتون ال ُعراةَ بال‬

‫] ‪[ ١٢٨‬‬

‫لباس ال كسوةَ لھم في البرد‪ ،‬فيبتلّون من مطر الجبال وال مأوى لھم فيلطأون إلى الصخور‪ .‬يخطفون اليتامى‬
‫عن الثّد ّ‬
‫ي ويرتھنون ما على البائسين فيذھبونَ عراةً ال لباس لھم ويحملون الحزم وھم جائعون يُص َھرون بين‬
‫خطوط المحراث ويدوسون في المعاصر وھم ِعطاش!‬

‫وفي أنبياء العھد العتيق شاعر عظيم ھو أشعيا الذي بلغ من زھده أ نّه مشى عاريا ً حافيا ً فكان آيةً وأعجوبةً‬
‫َ‬
‫ثالث سنين‪.‬‬

‫يقف أشعيا في وجوه الطغاة والمنافقين والمتحكرين وقفة جبّار ال يعثر به جائ ٌر إالّ سقط منكبّا ً على وجھه‪.‬‬
‫ضھم مع بعض وإالّ‬ ‫ي‪ .‬ويدعو المدينة إلى أن يعدل أبناؤھا بع ُ‬ ‫ويسوط جلو َد أھل البغي بشاعريّة ّ‬
‫فذة وفكر قو ّ‬
‫ثقُلت عليھم المعصية وقُلبت وجوھُھم وتدنست من تحتھم األرض فيسقطون وال يعودون يقومون‪ ،‬وأصبحت‬
‫ّ‬
‫مدينتھم ُرجمةً وعمرانُھم خراباً‪.‬‬
‫وما المدينة الظالمة على لسانه إالّ مدينة المنافقين الذين يحتكرون ويغتصبون‪ ،‬ويأكلون عم َل العامل وجھ َد‬
‫الفقير‪ ،‬ثم يصلّون لربّھم ويُكثرون‪ .‬يقول أشعيا مخاطبا ً المدينة الظالمة‪:‬‬

‫يحب الرشوة‪ .‬ال ينصفون اليتي َم ودعوى األرملة ال تصل إليھم«‪ .‬ثم يخاطب‬‫ّ‬ ‫س ّراق‪ .‬ك ّل‬
‫»رؤساؤك شركاء ال ُ‬
‫ھؤالء ويھدّد الجائرين الذين يطحنون وجوه البائسين قائالً لھم‪:‬‬

‫»وي ٌل للذين يشترعون شرائ َع الظلم والذين يكتبون كتابة الجور والزور ليحرقوا حق الضعفاء ويصدّوھم عن‬
‫الحكم ويسلبوا حت بائسي الشعب لتكون األرامل مغنما ً لھم وينھبوا اليتامى!«‬

‫ثم ينظر أشعيا إلى ھؤالء الذين يحتكرون ثروات الشعب ويستغلّونه ويدعونه إلى أن يزھد ويقنع‪ ،‬فيرى أ نّھم‬
‫يكثرون من االھتمام بالصوم وغيره من فرائض العبادة عندھم‪ ،‬فيبعث صوته في آذانھم يُجلج ُل قائالً‪:‬‬

‫] ‪[ ١٢٩‬‬

‫وتسخرون جميع ع ّمالكم‪ .‬إنكم للخصومة والمشاجرة تصومون‬ ‫ّ‬ ‫»إنكم في يوم صومكم تجدون مرا ّمكم‬
‫ولتّضربوا بكلمة النفاق‪ .‬ال تصوموا لتسمعوا أصواتكم في ال َعالء‪ .‬أھكذا يكون الصو ُم الذي فيه يُعنّي اإلنسانُ‬
‫سح وال ّرما َد تس ّمي ذلك صوماً؟ أليس ھذا ھو الصوم الذي َ‬
‫آثره ﷲُ‪:‬‬ ‫نفسه؟ أإذا حنى رأسه كالبردي وافترش ال ِم َ‬
‫َح ﱡل قيود النفاق وفَ ّك ربط النير وإطالق المضغوطين أحراراً وكسر كل نير؟!«‬

‫ّ‬
‫يسخرون الع ّمال ليبقى الفقير فقيراً ويزداد الغن ّي غنى‪ ،‬والذين يربطون قيود النفاق وال‬ ‫وھكذا‪ ،‬فإنّ صوم الذين‬
‫ونير‬
‫َ‬ ‫نير البؤس‬‫يحلّونھا‪ ،‬والذين يضغطون على المستض َعفين ويمنعون عنھم أن يحطّموا من أعناقھم َ‬
‫العبودية‪ ،‬إنّ صوم ھؤالء ھو أقبح ضروب التفاھة والنفاق على لسان أشعيا الزاھد!‬

‫ويلتفت أشعيا ثانيةً إلى ھؤالء المنافقين‪ ،‬فيرى أنھم يكثرون من الصالة كما يكثرون من الصوم رياء وخداعاً‪،‬‬
‫وتق ّربا ً إلى ﷲ عن طريق ھي أقرب إلى الرشوة‪ .‬فيخاطبھم بلسان ﷲ قائالً‪:‬‬

‫أحجب عين ّي عنكم‪ .‬وإن أكثرتم من الصة ال أستمع إليكم ألنّ أيديكم مملوءة من الدماء‪.‬‬
‫ُ‬ ‫»فحين تبسطون أيديكم‬
‫التمسوا االنصاف وأغيثوا المظلوم وارفعوا الحاجة وأنصفوا اليتيم وحاموا عن األرملة!«‬

‫وما أروع تصوير أشيعا ألولئك الجائرين ينھبون الضعفاء ويحتكرون جھودھم ثم يزيّنون لھم الزھادة والفقر‪،‬‬
‫تھذب بھا الريح‪ .‬يقول‪:‬‬
‫َ‬ ‫إذ يصفھم بأنھم ليسوا من المجتمع أكثر من زوائد تافھة الب ّد أن‬

‫»ووالجائرون كالغفى الھافي)‪«(١‬‬

‫***‬

‫‪ ١‬الغفى‪ :‬ما يكون في الحنطة كالزؤان والتبن يخرج منه فيرمى به‪ .‬الھافي‪ :‬الذي تذھب به الريح‪.‬‬

‫] ‪[ ١٣٠‬‬

‫وھكذا يتّفق الزاھدون القانعون من أصحاب الرساالت و َمن يليھم‪ ،‬على حقيقة أساسية تقوم بضرورة إصالح‬
‫الناس برفع الحاجة المادّية عنھم أوالً‪ ،‬لكي يفسحوا في المجال لھم في الطريق إلى فضائل القلب‪ .‬وھم إذا‬
‫شبَع والحياة‪ ،‬على ما تقدّم‪.‬‬
‫زھدوا وقنعوا فألنھم يجدون في رساالتھم نفسھا مادّة االكتفاء وال ّ‬
‫ق الجرأة المعجزة حين يطأ بقدميه وقاحة المستغلّين‪ ،‬ويسحق كبرياءھم مع‬ ‫فھذا المسيح‪ ،‬مثالً‪ ،‬يسلك طري َ‬
‫ظھور أولئك الذين بتّوا عھداً مع شيطان االحتكار‬
‫َ‬ ‫وط الحيا ِة الغاضب ِة لنفسھا‬
‫س ِ‬
‫مكايد أيديھم‪ ،‬ويغشى ب َ‬
‫ع إلى‬ ‫واالغتصاب‪ ،‬وعقدوا ِحلفا ً مع الجور‪ .‬ويشت ّد على المنافقين كزوبعة مھلكة وعاصف ذا ِ‬
‫ت بَ َرد تصر ُ‬
‫األرض صرعا ً عنيفاً‪ ،‬ويخلّع أكتاف المستعمرين الرومان وأكناف قيصرھم ساعة يدعو الضعفاء إلى االمتناع‬
‫عن دفع الضرائب‪ ،‬فتقوده ھذه الجرأة المش ّرفة في طريق الموت على أيدي المنافقين والمستعمرين‪ ،‬حتى إذا‬
‫رجالن من المستضعفين وطلبا إليه أن يكونا عن يمينه وشماله وھو صاعد إلى أُورشليم نظر إليھما‬ ‫ِ‬ ‫جاءه‬
‫بعطف يقول‪:‬‬

‫»أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشربھا أنا؟!«‬

‫وأقصاھما عن طريقه رحمةً وحبّا ً‪.‬‬

‫***‬

‫سروا بعض أقوال المسيح وبعض فصول حياته تفسيراً يزيّن الفقر للناس كي يتركوا‬ ‫وكما نافق المنافقون فف ّ‬
‫ألنفسھم خيرات األرض ينعمون بھا ُغنما ً حالالً ويحكمون الخلق حكم الطغاة فيأوي إلى بيوتھم سلَ ُ‬
‫ب البائسين‬
‫»أراد ُوالةُ الحم في تاريخنا ـ في العھد األموري وما بعده ـ ن يدوم لھم النفوذ والسيطرة‪ ،‬والظلم والطغيان‪،‬‬
‫فأوعزوا إلى أذنابھم الخونة أن يضعوا أحاديث يصوغون للناس منھا قيوداً وأغالالً تساعدھم على استعباد‬
‫األحرار‪ ،‬واستغالل الجماھير‪ ،‬فلفقّوا‬

‫] ‪[ ١٣١‬‬

‫أحاديث على لسان األنبياء مرغبّينم في الخنوع والخضوع والخدمة واالستسالم)‪«(١‬‬

‫ولكنّ من اطلع على سيَر األنبياء اطّالعا ً حقاً‪ ،‬أدرك أنھم أرذلوا الفق َر وألقوا في الجحيم ك ّل من دعا إليه من‬
‫المنافقين‪ ،‬وإالّ ل َما ثار عليھم محافظو زمانھم ولَما التفت حولھم المستض َعفون!‬

‫ويقدّم لنا عباقرة العرب األولون شواھ َد ملء أعمالھم تد ّل على فھمھم العميق لطبيعة العالقة بين أعمال الفرد‬
‫ونظام المجتمع‪ ،‬وطبيعة الصالة الوثيقة التي تربط ربطا ً دائما ً بين فعل اإلنسان وأجھزته المادّية‪ .‬يريدون أن‬
‫يقضوا على الخرافة القائلة بفصل األعمال الروحية‪ ،‬أو النشاط الذھني‪ ،‬فصالً تا ّما ً عن الحالة المادّية‪ .‬يريدون‬
‫بذلك أن يقضوا على الخرافات المزعجة الشائعة في ھذا الشرق منذ كان الشرق‪ ،‬والتي تدور حو َل فكرة واحدة‬
‫ال تختلف بجوھرھا وإن اختلفت عليھا صي ُغ الكالم وأساليب التعبير‪ :‬فكرة القناعة على أنّھا كنز ال يفنى! أو‬
‫فكرة االكتفاء بما يسميّه أھل الكھانة بـ »الروحانية« دون »متاع الدنيا الزائلة!«‬

‫أقول إنّ عباقرة العرب األولين قد أدركوا ھذه الحقيقة فسعوا في تحطيم الخرافة المزعجة التي ما تزال ترھق‬
‫شرقنا حتى اليوم‪ :‬خرافة الدعوة إلى الفقر واالكتفاء بكنز القناعة الذي ال يفنى!! وقد بلغت ببعضھم محاربة‬
‫الفقر حداً يثير االعجاب بمقدار ما تثير السخط تلك »الفلسفة« االفقارية التي يبشّر بھا بعض القدّيسين‬
‫واألولياء! ولَطالما سعوا في تبرئة ُمقترف الجريمة إذا كان المجتمع ھو المتسبّب في ھذه الجريمة‪ ،‬وفي تحليل‬
‫ما ُح ّرم إذا كان ھذا التحريم علّة في نسبة األثم إلى غير المتسبّب الحقيق ّي فيه‪ .‬وإليك ھذه الواقعة الرائعة التي‬

‫‪» ١‬أھل البيت« لمح ّمد جواد مغنية ص ‪.١٤١‬‬

‫] ‪[ ١٣٢‬‬

‫أثبتھا المف ّكر ّ‬


‫الفذ خالد محمد خالد في كتابه الجليل »من ھنا نبدأ« نرويھا بايجاز‪:‬‬
‫سرق غلمانٌ لحاطب بن أبي بلعة‪ ،‬ناقةَ رجل من مزينة‪ .‬واعترفوا بجنايتھم‪ .‬و ُرفع األمر إلى عمر بن الخطاب‪.‬‬
‫فرأى نفسه أمام جريمة استوفت كل عناصر اإلدانة‪ :‬من سرقة‪ ،‬وسارق‪ ،‬واعتراف ال يشوبه ضغط أو إكراه!‬
‫فب َم يقضي؟‬

‫ط ُعوا أَ ْي ِديَ ُھما َجزا ًء بِما َك َ‬


‫سبا‬ ‫سا ِرقَةُ فَا ْق َ‬
‫ق َو ال ّ‬
‫سا ِر ُ‬
‫ألقى عمر على وجوه المتّھمين نظرة‪ ،‬ثم تال قول ﷲ‪َ ) :‬و ال ّ‬
‫نَكاالً ِمنَ ﷲِ َو ﷲُ( ‪ .‬وھ ّم عمر أن يأمر بقطع أيديھم‪ .‬غير أ نّه عاد يفحص وجوھھم من جديد‪ ،‬فماذا رأى؟‬

‫رأى وجوھا ً أملقت من الدم‪ ،‬وعيونا ً انطفأ فيھا كل ومض وبريق‪ ،‬وجسوما ً أعياھا البؤس والشقاء‪ ،‬فسأل َمن‬
‫سيّد ھؤالء؟ ائتوني به!‬

‫فلما جاء سيدھم‪ ،‬عبدالرحمن بن حاطب‪ ،‬قال عمر‪ :‬لقد ھممتُ أن أقطع أيدي ھؤالء لوال ما أعلمه من أنكم‬
‫تدئبونھم وتجيعونھم حتى إن أحدھم لو أكل ما ح ّرم ﷲ عليه‪ ،‬لح ّل له! وايم ﷲ إذا أفعل ألغرمنّك غرامةً توجعك‬
‫وتزجرك!‬

‫ثم سأل صاحب الناقة المسروقة قائالً‪ :‬كم تساوي ناقتك يا مزن ّي؟ فقال‪ :‬أربعماية‪ .‬قال عمر لعبدالرحمن بن‬
‫وأعطه ثمانماية‪ .‬وم ّرةً أخرى ألقى نظرةً نابعة من فطنته ورحمته معا ً‬
‫ِ‬ ‫حاطب سيد الغلمان المتّھمين‪ :‬اذھب‬
‫وقال‪ :‬أ ّما أنتم‪ ،‬فاذھبوا!‬

‫أ ّما عل ّي فسيرتُه حافلةٌ بالسعي في رفع الع َوز عن الناس‪ .‬ودستوره في الوالية قائم على ھذا األساس‪ .‬وسوف‬
‫يجيء تفصيل ذلك في مكانه‪ .‬لقد زھد الرجل وتقشّف ولكنّه أبى على الناس أن يعيشوا عيش القانعين بالفقر‪،‬‬
‫وإالّ لَ َما وقف مواقفه المعروفة من أھل الوجاھات ومغتصبي األموال العا ّمة‪ ،‬ولَ َما‬

‫] ‪[ ١٣٣‬‬

‫أخذ منھم ما ليس لھم ودفعھا إلى أصحابھا أھل العو َز والفاقة‪.‬‬

‫ويروي الشعب ّي أ نّه دخل الرحبة في الكوفة وھو غال ٌم في غلمان‪ .‬فإذا ھو بعل ّي بن أبي طالب قائما ً على‬
‫ق منه شيء‪ ،‬ثم ينصرف ولم يحمل إلى‬ ‫ضة‪ .‬وإذا بعل ّي يقسم المال بين الناس حتى لم يب َ‬
‫صبرتين من ذھب وف ّ‬
‫بيته قليالً أو كثيراً‪.‬‬

‫ولكنّ عليّا ً الذي لم يحمل إلى بيته من المال شيئاً‪ ،‬ھو الذي يخاطب كالًّ من الناس قائالً له‪:‬‬

‫ـ »اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً«‪.‬‬

‫ومسلك الحق في نظر عل ّي ال يؤدّي إلى ما ھو أج ّل وأعظم من رفع الحاجة عن الناس‪ .‬وله في ذلك قول صريح‬
‫ال يحتمل تأويالً‪» :‬لو سلكتم الح ّ‬
‫ق من نھجه البتھجت بكم السبل وما عا َل فيكم عائل ـ أي ما أفتقر فيكم فقير!«‬

‫عرب الجاھلية ھاجم فيھم قناعتھم بزھيد العيش قائالً‪ :‬ـ»وأنتم‪ ،‬معشر العرب‪ُ ،‬منيخون بين‬ ‫َ‬ ‫وھو إذا ھاھجم‬
‫حجارة ُخشن‪ ،‬تشربون الكد َر وتأكلون الجشَب ـ أي الطعام الغليظ الفقير«‪.‬‬

‫ويص ّرح عل ّي أ نّه ال يأنف الطعا َم الشھ ّي والملبس الناعم والمسكن الغن ّي ولكنّه يأنفھا وفي األرض قو ٌم فقراء‬
‫ال يحظون بما يحظى به ھو إن ف َعل‪ .‬وفي ھذا التصريح دلي ٌل على أ نّه يرغب أ ّو َل ما يرغب في أن يوفّر للناس‬
‫نصيبا ً كافيا ً من آلة العيش‪ .‬وأ نّه مادام في الناس من ال عھ َد له بالشبع وال مطمع له بالقُرص‪ ،‬فعلى قائد ھؤالء‬
‫شبح الفقر عنھم زال عنه‪ ،‬وإالّ فما معنى القياأد‬
‫ُ‬ ‫الناس أن يحمل ما يحملون‪ ،‬ويعاني ما يعانون‪ ،‬حتى إذا زال‬
‫وما معنى الوالية؟ يقول عل ّي‪:‬‬

‫ـ »أأقنع من نفسي بأن يقال أميرالمؤمنين‪ ،‬وال أشاركھم مكاره الدھر؟«‬


‫وھكذا‪ ،‬فإن مكاره الدھر تعني عند عل ّي‪ :‬مساوئ الفقر‪.‬‬

‫وھو ال يمنع عن ابنته أن تتزيّن يوم العيد بعقد من اللؤلؤ إالّ ألنّ عدداً‬

‫] ‪[ ١٣٤‬‬

‫من بنات اآلخرين ال يستطعن سبيالً إلى مثل ھذا التزيّن‪ .‬وقد م ّر بنا كيف أ نّه أم َر ابنته أن تُعيد إلى بيت المال‬
‫وقد شاءت أن تزيّن به جيدھا في أحد األعياد‪ ،‬قائالً لھا‪:‬‬

‫ق! أك ّل نساء المھاجرين واألنصار يتزيّنّ في مثل ھذا العيد‬


‫بنفسك عن الح ّ‬
‫ِ‬ ‫ـ »يا بنت ابن أبي طالب‪ ،‬ال تذھبي‬
‫بمثل ھذا؟«‬

‫إذن‪ ،‬فمن ھنا سيبدأ عل ّي ساعة يؤول إليه أم ُر الجماعة من العمل على تيسير الخبز والماء والكساء للناس‬
‫جميعاً‪ ،‬على أسلوب ھو إلى المناھج االشتراكية أقرب‪.‬‬

‫وإنّه لمن الطبيعي أن يبدأ عل ّي من ھنا وھو الذي يلحظ أنّ السياط الموجعة التي يضرب بھا ﷲ الناس‪ ،‬كثيرة‪.‬‬
‫أوليس ھو صاحب ھذا القول الذي‬ ‫غير أنّ واحداً منھا ال يؤلم ويؤذي كھذا السوط المخيف وأعني‪ :‬الفقر‪َ .‬‬
‫يكشف لك عن اإليمان العميق بضرورة رفع الحاجة‪ ،‬وعن الفھم الصحيح ألحوال الناس وطبائع األشياء‬
‫ومقدّمات األمور ونتائجھا‪ .‬أقول أليس ھو صاحب ھذه الكلمة‪» :‬ما ضرب ﷲ عباده بسوط أوج َع من الفقر!«‬
‫ھذا الفقر الذي زيّنه بعض الزاھدين ودعوا إليه الناس‪ .‬فأخطأوا وأساؤوا عن قصد أو غير قصد‪ .‬والذي حاربه‬
‫اإلمام في الناس كما حاربه النبي‪ ،‬وكما حاربه الثائر العظيم أبو ذ ّر الغفاري رأس شيعة عل ّي وضحيّة بني أميّة‬
‫وأسلوبھم في الحكم والسياسة؟‬

‫لقد أدرك عل ّي أن الفقر يتحدّى ك ّل فضيلة حتى ليغدو آلة للكفر والجحود‪ .‬لذلك راح يحارب الفقر في كل مجال‬
‫ويأخذ السبيل عليه ويُخزي ك ّل من دعا إليه‪ .‬فإذا كان المرء فطينا ً فإن »الفقر يُخرس الفطن« في مذھب عل ّي‪.‬‬
‫وإذا كان الوطن يريد أن يض ّم أبناء مخلصين محبّين‪ ،‬ال أشتاتا ً من الناس متحاسدين يشعرون شعو َر الغريب‬
‫المستوحش‪ ،‬فعلى ھذا الوطن أالّ‬

‫] ‪[ ١٣٥‬‬

‫غريب في بلده« كما يقول عل ّي! وإذا كان الموت أبشع ما يُل ّم باإلنسان من‬
‫ٌ‬ ‫يدَع بين أبنائه فقيراً ألن »الفقير‬
‫أحداث وجوده‪ ،‬فإنّه ـ على لسان عل ّي ـ دون الفقر بشاعةً ألن »الفقر ھو الموت األكبر!«‬

‫لھيب النا ِر‬


‫ُ‬ ‫وما أقدس ھذا السوط يرفعه عل ّي على الفقر وعلى الذين يزيّنونه من المنافقين فيأكلھم كما يأكل‬
‫ال ُعصافةَ الخبيثة‪ ،‬ويُحطّم مكايدھم على عيونھم‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬

‫»لو تمثّ َل لي الفق ُر رجالً لقتلتُه!«‬

‫والمجتمع في نظر ابن أبي طالب جس ٌد واحد ال يجوز أن يجمع المتناقضات وأن يقوم نظامه على التفاوت في‬
‫الحقوق والواجبات‪ .‬ال يجوز في مجتمع ابن أبي طالب أن يُتخم عضو ويجوع آخر‪ .‬وأن يعمل عضو وتجري‬
‫ض عليه إالّ‬‫المكافأة باألرزاق لغير العامل‪ .‬وعلى شدة اھتمام ابن أبي طالب بالسماء‪ ،‬فإن يوما ً واحداً لم يم ِ‬
‫ويشغله باالھتمام بعباد ﷲ على األرض فال يھمل من أمورھم يسيراً‪ ،‬وھم أجمل نماذج الخلق الكامل‪ .‬وذلك‬
‫تمشيّا ً مع نظرته العامة إلى الناس والوجود‪ ،‬ووصالً لسيرته بسيرة النبي الذي جاء على لسانه القول‪َ ) :‬و‬
‫َج َع ْلنَا اللﱠ ْي َل لِباسا ً َو َج َع ْلنَا النﱠھا َر َمعاشا ً( ‪.‬‬

‫من ھنا‪ ،‬وعلى ھذا األساس‪ ،‬اتّجه اإلمام عل ّي إلى المجتمع يحيي قوانينه ويعمل لھا ويريدھا صالحة خيّرة‪ .‬ثم‬
‫يضع كالًّ من النصح والسيف في موضعه تدعيما ً آلرائه وتثبيتا ً لموقفه من طبقات الناس في زمانه‪ .‬وراح ال‬
‫يُعني بشيء عنايته بتوطيد أركان العدالة االجتماعية‪ .‬أ َوليس ھو القائل لمھنئيه بالوالية فيما بعد‪ ،‬وقد دخلوا‬
‫عليه فإذا ھو يرفأ نعله بيديه‪» :‬إن ھذا النعل ھو خير عندي من واليتكم ھذه إن لم أقم حقا ً وأزھق باطالً!«‬

‫سلوا لنعيمھا بخدمة الجماعة قبل غيرھا من الوسائل‪ .‬لذلك‬


‫أما العاملون لآلخرة‪ ،‬فإن اإلمام يريد منھم أن يتو ّ‬
‫جعل اإلمام خير اآلخرة‪ ،‬لمن يريده‪ ،‬منوطا ً‬

‫] ‪[ ١٣٦‬‬

‫بالعمل في الناس عمال مستقيما ً‪ .‬وفي طليعة ھذا العمل‪ :‬المساھمة في توفير الخبز والماء والكساء للمجموعة‬
‫البشرية‪ ،‬وفي رفع الحاجة عن العامة ومحاربة الظالمين وإغاثة المظلومين‪ ،‬ثم في اعالن حقوق الناس‬
‫والدفاع عنھا‪.‬‬

‫علي مرة على العالء بن زياد الحارثي وھو من أصحابه‪ .‬فل ّما رأى سعة داره قال له‪ :‬ما كنت تصنع‬ ‫ّ‬ ‫دخل اإلمام‬
‫بسعة ھذه الدار في ھذه الدنيا؟ أما أنت إليھا في اآلخرة أحوج؟ وبَلَى‪ ،‬إن شئت بلغتَ بھا اآلخرة‪ :‬تُقري فيھا‬
‫الضيف وتصل فيھا الرحم وتُطلع منھا الحقوق مطال َعھا‪ ،‬فإذا أنت قد بلغت بھا اآلخرة!‬

‫ويقول لكميل بن زياد في معنى الصالة والصوم‪:‬‬

‫يا كميل‪ ،‬ليس الشأن أن تصلي وتصوم وتتصدق‪ ،‬وإنّما الشأن أن تكون الصالة بقلب نق ّي وعمل عند ﷲ‬
‫مرض ّي‪ ،‬وانظر فيما تصلّي‪ ،‬وعالم تصلّي‪ ،‬فإن لم يكن من وجھه وحلّه فال قبول!«‬

‫وإذا كان الفقيه في خدمة العقل والناس‪ ،‬فإن فقيھا ً واحداً يفوق في القيمة الف عابد‪» :‬فقيهٌ واحد أش ّد على‬
‫إبليس من ألف عابد!«‬

‫وقد بلغ به له اھتمامه بحياة الناس على األرض‪ ،‬قبل اآلخرة‪ ،‬وبخبزھم اليومي‪ ،‬أ نّه كان يغتدي َ‬
‫فجر كل نھار‬
‫التجار‪ ،‬اتّقوا ﷲ‪،‬‬
‫معشر ّ‬
‫َ‬ ‫ويطوف في أسواق الكوفة وھو خليفة ويقف على أھل كل سوق وينادي قائالً‪» :‬يا‬
‫واقتربوا من المبتاعين‪ ،‬وتزيّنوا بالحلم‪ ،‬وتناھوا عن اليمين‪ ،‬وجانبوا الكذب‪ ،‬وتجافوا عن الظلم‪ ،‬وأنصفوا‬
‫المظلومين‪ ،‬وأوفوا الكيل والميزان‪ ،‬وال تبخسوا الناس أشياءھم‪ ،‬وال تعيشوا في األرض مفسدين!«‬

‫وروي عن نوف البكالي أ نّه قال‪:‬‬

‫أتيتُ أميرالمؤمنين وھو في مسجد الكوفة فقلت‪ :‬عليك السالم يا أميرالمؤمنين ورحمة وبركاته‪ ،‬فقال‪ :‬وعليك‬
‫يا نوف ورحمة ﷲ وبركاته‪.‬‬

‫] ‪[ ١٣٧‬‬

‫فقلت له‪ :‬يا أميرالمؤمنين‪ِ ،‬عظني‪ :‬أحسن إلى الناس يحسن ﷲ إليك‪ .‬فقلت‪ :‬زدني يا أميرالمؤمنين‪ .‬فقال‪ :‬يا‬
‫نوف‪ ،‬إن س ّرك أن تكون معي يوم القيامة فال تكن للظالمين معينا ً!«‬

‫فخدمة اإلنسان‪ ،‬ورفع الحاجة‪ ،‬وتحطيم الظلم‪ ،‬ھي نقطة االنطالق في سياسة ابن أبي طالب! وقد نظر إليه‬
‫النبي م ّرة وقال له‪:‬‬

‫حب المستضعفين فجعلك ترضى بھم أتباعا ً ويرضون بك‬


‫وھب لك ّ‬
‫َ‬ ‫»يا عل ّي! إنّ ﷲ قد زيّنك بأحب زينة لديه‪:‬‬
‫إماما ً!«‬
‫] ‪[ ١٣٨‬‬

‫قبل اإلمام‬
‫ـ ما آمن َمن باتَ شبعان وجاره جائع‪.‬‬

‫ـ ما أكل أحدُكم طعاما ً قطّ خيراً من عمل يده‪.‬‬

‫ـ ال يشكر ﷲ من ال يشكر الناس‪.‬‬

‫ـ الناس شركاء في ثالث‪ :‬في الماء والكأل والنار‪.‬‬

‫ـ َمن احتكر فھو خاطئ‪ ،‬و َمن ظَلم من األرض شيئا ً طُ ّوقه من سبع أرضين‪.‬‬

‫ـ الناس كلّھم سواسيةٌ كأسنان المشط‪.‬‬

‫ـ صالح ذات البين أفضل من عا ّمة الصالة والصيام‪.‬‬

‫ـ تفكي ُر ساعة واحدة خي ٌر من عبادة سنة‪.‬‬

‫ـ الخلق كلّھم ِعيا ُل ﷲ وأحبّھم إليه أنفعھم لعياله‪.‬‬

‫ـ الدين المعاملة‪.‬‬

‫ـ كونوا عبا َد ﷲ إخوانا ً‪.‬‬

‫أحب أم كره‪ .‬النبي‬


‫ـ اإلنسان أخو اإلنسان ّ‬

‫صل القول في موقف عل ّي بن أبي طالب من المجتمع ونظامه‪ ،‬واإلنسان وحقوقه‪ ،‬الب ّد من إلقاء نظرة‬ ‫قبل أن نف ّ‬
‫عجلى على موقف النب ّي من ھذه األمور جميعاً‪ ،‬وعلى أسلوبه في أخذ الحياة‪.‬‬

‫] ‪[ ١٣٩‬‬

‫ُني النب ّي بشؤون الناس وقضايا المجتمع‪ ،‬عنايةً تامة‪ .‬وتولّى اإلسال ُم المعامالت العا ّمة كما تولّى السلوك‬
‫ع َ‬
‫الفردي بتوجيه وتشريع‪ .‬فاإلسالم ليس في عزلة عن المجتمع وما يجب له من قوانين‪ .‬وقد بلغ من اھتمام‬
‫اإلسالم بالمجتمع أ نّه ع ّد ك ّل خدمة اجتماعية لونا ً من العبادة‪ .‬بل الن خدمة الجماعة ھي فوق إقامة الشعائر‬
‫الدينية في معنى العبادة الصحيحة واإليمان الخيّر‪ .‬يقول النب ّي‪» :‬صالح ذات البين أفضل من عا ّمة الصالة‬
‫والصيام«‪ .‬والحادثة التالية كافية في الداللة على ھذا االتّجاه الصريح في اإلسالم‪ُ .‬روي عن ابن عبدﷲ أ نّه‬
‫قال‪:‬‬

‫صاحب الكساء‪ .‬فمنّا من‬


‫ُ‬ ‫»كنّا مع النبي في سفر فمنّا الصائم ومنّا المفطر‪ .‬فنزلنا منزالً في يوم حا ّر‪ ،‬أكث ُرنا ظالًّ‬
‫يتّقي الشمس بيده‪ .‬فسقط الص ّوام‪ ،‬وقام المفطرون فضربوا األبنية وسقوا الركاب‪ .‬فقال الرسول‪ :‬ذھب‬
‫المفطرون اليو َم باألجر كلّه«‪.‬‬

‫أليس في ذلك دليل قاطع على أنّ النبي لم يكن ليجيز إقامة الفرائض الدينية على حساب المعاش؟ فما قضية‬
‫االفطار والصوم بذات شأن إذا كانت عائقا ً دون البناء‪ ،‬ودون خدمة الجماعة‪ ،‬ودون النظر في أسباب البقاء‬
‫وتنظيم السعي تنظيما ً يقتضي التعاون الجماعي‪ .‬ھكذا آثر النبي اإلفطار في شھر الصوم مع خدمة الناس‪ ،‬على‬
‫الصوم في حينه مع العزلة واالبتعاد عن العمل المفيد‪.‬‬

‫ثم‪ ،‬أليس في قول النب ّي‪» :‬من رأى منكم ُمنكراً فليغيّره بيده‪ ،‬ف َمن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فمن لم يستطع فبقلبه‬
‫وھو أضعف اإليمان« إشارة صريحة إلى ضرورة األخذ بما يفيد الجماعة وينفع الناس‪ ،‬وإلى المسؤولية التي‬
‫تطال المجتمع والفرد في رفع ما يسيء‪.‬‬

‫وھنالك أحاديث نبوية كثيرة تقطع بأن فضل من يخدم الجماعة بسبيل من السبل ھو أكثر من فضل العابد الزاھد‬
‫المصلّي‪ .‬فإذا كان العالم يأتي‪ .‬المجتمع‬

‫] ‪[ ١٤٠‬‬

‫بالخير فال شك أ نّه يفضل مليون عابد‪ ،‬في نظر النبي‪ ،‬كما يفضل البد ُر ماليين الكواكب‪» :‬فضل العالم على‬
‫العابد كفضل القمر على سائر الكواكب‪ ،‬ويعظّم النبي العقل أل نّه القوة المبدعة في اكتشاف ما يفيد الناس على‬
‫األرض‪ ،‬تعظيما ً ال مزيد عليه إذ يقول‪» :‬تفكير ساعة واحدة خي ٌر من عبادة سنة‪«.‬‬

‫ويسير اإلسالم في ھذه الخطة في االھتمام بالمجتمع وما ينظمه ويحييه‪ ،‬وفي توجيه الناس إلى األرض إلى‬
‫نام(‬ ‫ض َعھا لِ ْ‬
‫ال◌َ ِ‬ ‫ض َو َ‬ ‫ق لَ ُك ْم ما فِي ْاألَ ْر ِ‬
‫ض َج ِميعا ً( ‪َ ) ،‬و ْاألَ ْر َ‬ ‫األرض وإلى العمل فيھا واالستفادة من خيراتھا‪َ ) :‬خلَ َ‬
‫ض َذلُوالً فَا ْمشُوا فِي َمنا ِكبِھا َو ُكلُوا ِمنْ ِر ْزقِ ِه!( ھذا‪ ،‬ويجعل اإلسالمال شكر الناس‬ ‫و )ھ َُو الﱠ ِذي َج َع َل لَ ُك ُم ْاألَ ْر َ‬
‫الباس الوحيد الذي يدخله َمن يريد شكر ﷲ‪ .‬فإن من ال يعرف الناس ال يعرف ﷲ‪ .‬يقول النبي‪» :‬ال شكر ﷲ من‬
‫ال يشكر الناس‪«.‬‬

‫أما العمل المنتج المفيد‪ ،‬فقد بلغ النبي بتقديسه حداً عظيماً‪ ،‬فإذا ھو ال يكتفي بالثناء على العامل‪ ،‬وال بشكره‪،‬‬
‫وال بإثابته‪ ،‬بل يقبّل يداً ورمت من كثرة العمل ويقول‪» :‬تلك ي ٌد يحبّھا ﷲ ورسوله!«‬

‫ومن أجمل ما د ّل به النب ّي على تقديسه العمل المثمر ھذه الرواية‪:‬‬

‫وجهَ ھذه القوة وصرف‬ ‫صلب العضالت يمشي فتمنّوا لو أ نّه ّ‬ ‫رأي أصحاب النبي رجالً جلداً قويا ً شديد البنية ُ‬
‫ھذه الشدّة في الجھاد في سبيل ﷲ فقالوا‪» :‬حبّذا لو كان جلدُه في سبيل ﷲ!« فقال لھم النبي ھذا القول الحكيم‪:‬‬
‫صبية له صغار‬‫خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فھو في سبيل ﷲ! وإن كان خرج يسعى على ِ‬ ‫َ‬ ‫»إن كان‬
‫فھو في سبيل ﷲ! وإن كان خرج على زوجة يعفھا عن الحرام فھو في سبيل ﷲ! وإن كان خرج يسعى على‬
‫نفسه يمن ُعھا السؤا َل فھو في سبيل ﷲ!«‬

‫وتروي كتب الحديث الكثير من أحاديث النبي التي يقدس بھا العمل ويك ّرم العامل ومنھا‪» :‬إن ﷲ يحب العبد‬
‫المؤمن المحترف‪ «.‬و »ما أكل أحدكم‬

‫] ‪[ ١٤١‬‬

‫طعاما ً قطّ خيراً من عمل يده‪«.‬‬

‫وإذا كان للعمل مثل ھذه القيمة‪ ،‬بل ھذه القداسة‪ ،‬فعلى العامل أن يتقن ما يعمل‪ .‬وھو إذا فَ َع َل نف َع وانتفع وب ّرر‬
‫يحب إذا عمل أحدُكم عمالً أن يُتقنه«‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وجودَه في المجتمع وأحبّه ﷲ وق ّربه إليه‪ .‬يقول مح ّمد‪» :‬إن ﷲ‬

‫قلنا إن اإلسالم يجعل األرض ذلوالً يمشي في مناكبھا الناس ويأكلون من رزقھا ويفيدون من خيراتھا‪ .‬ولكن ما‬
‫ھو موقفه من توزيع ھذه الخيرات التي تفيض بھا األرض؟‬
‫ھل ھي من حق فئة من الناس دون فئة؟ أم أنھا توزع على أساس من الجھد والصنيع والحاجة؟ ھل ھذه‬
‫الخيرات احتكار للملوك واألمراء واألثرياء والغاصبين‪ ،‬أم ھي حقوق عامة يتعاون المجتمع على توزيعھا‬
‫توزيعا ً عادالً يُمسك عليه بناءه القويم؟‬

‫ينظر اإلسالم إلى الجماعة نظرة منطق وعدل ال يھون بھا من الجماعة أحدٌ‪ ،‬وال يعلو أح ٌد إالّ بناء على جھد‪.‬‬
‫ولكل جھد مكافأة من واجب المجتمع أن يق ّرھا‪ .‬فليس من صفة المجتمع المستقيم أن يجوع فيه العامل ويتخم‬
‫فيه البطر الكسول الخدّاع‪ .‬وليس من صفة المجتمع المستقيم أن يھون عليه جھد العامل‪ ،‬وأن يأتي الذي ال‬
‫يعمل بخيرات األرض‪ ،‬كما ھي الحال في المجتمعات القديمة التي سبقت اإلسالم‪ .‬أو كما ھي الحال ـ على باب‬
‫التعيين ـ في المجتمع القرشي الجاھل الذي يستغ ّل أمويّوه سائر الناس‪ .‬ونرى أن اإلسالم ح ّرم ا لترف‪ ،‬بإصرار‬
‫كثير‪ ،‬في مجتمع يكون معظم أفراده فقراء‪ .‬ح ّرم الترف الذي يقابله في الجماعة الع َو ُز والحاجة‪ ،‬مدركا ً أن ھذا‬
‫الترف‪ ،‬في مثل ھذا المجتمع‪ ،‬ال يكون بھذا الجانب إالّ ليكون الحرمان بالجانب اآلخر‪ .‬وبما أ نّه ليس من ح ّ‬
‫ق‬
‫إنسان وال من ش َرفه أن يستثمر جھ َد إنسان‪ ،‬وبما أنّ الترف‬

‫] ‪[ ١٤٢‬‬

‫واإلسراف المف ّرطين ال يت ّمان في المجتمع المعوز إالّ بھذا اإلستثمار‪ ،‬فإنّ النب ّي يس ّمي بيوت المترفين بيوت‬
‫الشياطين‪» :‬فال أراھا إالّ ھذه االقفاص التي تسير الناس بالديباج« وفي القرآن‪َ ) :‬و َك ْم أَ ْھلَ ْكنا ِمنْ قَ ْريَة بَ ِط َرتْ‬
‫س َكنْ ِمنْ بَ ْع ِد ِھ ْم إِالّ قَلِيالً( ويحارھم القرآن في مكان آخر بھذا القول الرائع العجيب‬ ‫شتَھا فَتِ ْل َك َمسا ِكنُ ُھ ْم لَ ْم تُ ْ‬
‫َم ِعي َ‬
‫ق َعلَ ْي َھا ا ْلقَ ْو ُل فَ َد ﱠم ْرناھا تَ ْد ِميراً( وكي ال‬ ‫في روعته‪َ ) :‬و إِذا أَ َردْنا أَنْ نُ ْھلِ َك قَ ْريَةً أَ َم ْرنا ُم ْت َرفِيھا فَفَ َ‬
‫سقُوا فِيھا فَ َح ﱠ‬
‫يقوم الغبن إلى جانب ال ُغنم في المجتمع الواحد‪ ،‬والحاجة إلى جانب التخمة‪ ،‬يسعى اإلسالم في تھديم الطرق‬
‫المؤدية إلى ھذا االنحراف‪ ،‬وھي ما تنضوي تحب اسماء االحتكار واالستثمار واالقتطاع والنصب وما إليھا‪.‬‬
‫فإنّ النب ّي يحارب ھذه األمور ويُنزلھا منزلة المحرمات‪ .‬أ ّما في االحتكار فيقول‪» :‬من احتكر فھو خاطئ« وفي‬
‫الغصب واالقتطاع يقول‪ ،‬مھدداً بھذا العقاب الرھيب‪َ » :‬من ظَلَ َم ِمنَ األرض شيئا ً طُ ّوقه من سبع أرضين«‪.‬‬
‫ولج وھو عليه غضبان«‪.‬‬ ‫ويقول أيضا ً‪» :‬من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي ﷲ ع ّز ّ‬

‫ضعافا ً‬ ‫أ ّما االستغالل فكان شكله الظاھر آنذاك‪ :‬الربا! الربا على أنواعه‪ ،‬وفيه يقول القرآن‪) :‬ال تَأْ ُكلُوا ال ﱢربَوا أَ ْ‬
‫الربا( ‪ .‬ويمضي في تھديد المرابين والتشديد عليھم منعا ً‬ ‫ُمضا َعفَةً( ‪ .‬وفي مكان آخر ‪َ ) :‬و أَ َح ﱠل ﷲُ ا ْلبَ ْي َع َو َح ﱠر َم ﱢ‬
‫سعى( ‪ .‬فكيف‬ ‫سان إِالّ ما َ‬ ‫ال ِ◌ ْن ِ‬
‫س لِ ْ‬ ‫لما قد يج ّره من استغالل الناس للناس‪ .‬والعدل االجتماعي يقضي )أَنْ لَ ْي َ‬
‫تتك ّون طبقة كبار االثرياء إن لم يكن من النصب واحتكار المنافع وجعل المال في مقاييس المجتمع مساويا ً‬
‫لإلنسان في القيمة والعطاء‪ ،‬أو ھو فوق اإلنسان! أما الحريمة االجتماعية الكبرى‪ .‬فھي أن يتواطأ المحتكرون‬
‫والح ّكام على اغتصاب الشعب وأكل جھوده باإلثم‪َ ) :‬و ال تَأْ ُكلُوا أَ ْموالَ ُك ْم بَ ْينَ ُك ْم بِا ْل ِ‬
‫باط ِل َو تُ ْدلُوا بِھا إِلَى ا ْل ُح ّك ِام‬
‫س بِا ْال ِ◌ ْث ِم َو أَ ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُمونَ ( ‪ .‬ويقول النب ّي‪» :‬ما أك ّل أحدكم طعاما ً قطّ خيراً من‬ ‫لِتَأْ ُكلُوا فَ ِريقا ً ِمنْ أَ ْم ِ‬
‫وال النّا ِ‬

‫] ‪[ ١٤٣‬‬

‫عمل يده‪ «.‬وفي سورة الزلزلة‪) :‬فَ َمنْ يَ ْع َم ْل ِم ْثقا َل َذ ﱠرة َخ ْيراً يَ َرهُ( ‪ .‬و ) ُك ﱡل نَ ْفس بِما َك َ‬
‫سبَتْ َر ِھينَةٌ( أ ّما المال‪،‬‬
‫فبالرغم من أ نّه مق ّرر في ملكية األفراد‪ ،‬ال يجوز أن يُحبس في أيدي فئة معيّنة من الناس فتتداوله ھذه الفئة‬
‫وتحتكر به المنافع والجھود وتُذل العامة وتحكم به في رقاب العباد‪ .‬يقول القرآن في المال‪َ ) :‬ك ْي ال يَ ُكونَ دُولَةً‬
‫بَيْنَ ْاألَ ْغنِيا ِء ِم ْن ُك ْم(‬

‫فالمال‪ ،‬في القرآن والحديث‪ ،‬مال الجماعة أ ّوالً‪ .‬وال ينال منه األفراد إالّ بقدّر آخذ من حاجتھم إليه ومن سعيھم‬
‫في سبيله‪ .‬لذلك ُح ﱢر َم في اإلسالم أن يستغل الفر ُد جھ َد اآلخرين أق ّل استغالل‪ .‬كما ُحح ﱢرم أن يجم َع منه جامع‬
‫وضرب الصحابه االمثا َل بسيرته‬
‫َ‬ ‫فوق ما يحتاج إليه‪ .‬وقد جع َل النب ّي ھذين المبدأين أساسا ً في سياسته المالية‪.‬‬
‫وأقواله على ما يجب عليھم اتّباعه من ھذا القبيل‪:‬‬

‫كان في الصحابة رج ٌل عزيز على النب ّي يدعى رفاعة بن زيد‪ ،‬أُصيب في إحدى الغزوات بسھم قاتل‪ .‬فوفدعلى‬
‫النب ّي الوافدون يع ّزونه بمقتل رفاعة قائلين‪» .‬ھنيئا ً له‪ ،‬يا رسول ﷲ لقد ذھب شھيداً«‪ ،‬يريدون بذلك أن‬
‫يُطمئنوا النب ّي ويخففوا من أساه‪ .‬غير أنھم أدركوا أن النب ّي لم يخفّ أساه ولم يطمئنّ إلى مصير رفاعة بعد‬
‫الموت‪ ،‬ساعة اجابھم في أسى‪:‬‬

‫»كالّ! إن الشّملة التي أخذھا من المغانم يو َم خيبر لتَشتعل عليه ناراً«‪.‬‬

‫النبي أل نّه أخذ شيئا ً قليالً من أموال الجماعة‪ .‬وكان عليه‬


‫ّ‬ ‫لقد مات رفاعة شھيداً‪ .‬ومع ذلك فھو آثم على لسان‬
‫إالّ يأخذ ھذه الشّملة اختالساً‪ ،‬وأن ينتظر توزيع ملك الجماعة عليھم واحداً واحداً فال ينال أحدُھم إالّ نصيبه‪.‬‬

‫وإذا شئت أن تنظر في قيمة ھذا الموقف الذي يقفه اإلسال ُم من المستَغلﱢين والمحتكرين سوا ٌء أكان ما استغلّه‬
‫واحتكروه كثيراً أو قليالً‪ ،‬وأن تُرجعه إلى أصوله العميقة‪ ،‬فما عليك إالّ أن تدرك أن اإلسالم يشيد بعظمة الحياة‬
‫ويعترف‬

‫] ‪[ ١٤٤‬‬

‫بأن اإلنسان الح ّي ھو مدار ھذا الوجود الذي خلقه وضبطه إلهٌ واحد‪ .‬فكيف يجوز أن يحرم ھذا اإلنسان حقه في‬
‫الحياة‪ ،‬ومن أسباب الحياة المعاش‪ .‬تحرمه إياه عصابةٌ من السفھاء واألغبياء والمتاجرين باالرزاق واالرواح‬
‫على بالھة وخمول كثير!‬

‫فالمال‪ ،‬كما يبدو من خالل نظرة النب ّي إليه‪ ،‬ليس إالّ واسطة إلقامة حدود العيش بالنسبة للكائن االجتماعي‪.‬‬
‫فاإلنسان‪ ،‬إذ ق ّرر له الكون حقّه في الھواء والنور‪ ،‬ق ّرر له مثل ھذا الحق في خيرات األرض وھي من مركبات‬
‫ھذا الھواء والنور وما إليھما! وليس لجاره أو لمواطنه أن يحرمه ھذا الحق الذي ق ّررته له عملية الكون‬
‫بالذات‪ ،‬استناداً إلى نھج تافه ينھجه في مجتمع سقيم! يقول النب ّي‪» :‬الناس شركاء في ثالث‪ :‬في الماء والكأل‬
‫النبي يقرر حقيقةً أبديّة أزليّة ھي أعمق من ك ّل‬
‫ّ‬ ‫والنار‪ «.‬وإذا نظرنا إلى ھذا القول‪ ،‬في حدود المطلق‪ ،‬رأينا أنّ‬
‫دستور وك ّل قانون‪ ،‬ألنّھا تصوير لحق األحياء بالحياة‪ .‬وإذا نظرنا إلى ھذا القول‪ ،‬في حدود الزمان والمكان وما‬
‫ھما ُمحتمالن من شروط العالقات العامة‪ ،‬أدركنا أ نّه إنّما يريد اشتراكيةً صريحة في األموال يكون الحصول‬
‫منھا‪ ،‬على كثير أو قليل‪ ،‬بمقياس الجھد ثم بمقدار الحاجة! وھو لم يأمر باشاعة ملكية الماء والكأل والنار ھذا‬
‫األمر الصريح‪ ،‬إالّ ألنّھا ضرورات الحياة في تلك البيئة العربية الصحراوية القديمة‪ .‬وإذا كان لھذا المجتمع‬
‫حاجة في المال‪ ،‬باإلضافة إلى الماء والكأل والنار‪ ،‬فإنّه عند ذاك يكره للمال أن يكون دُولةً بين األغنياء‪.‬‬

‫وال يقف أمام حصول الفرد على حقه حسب وال نشأة وال جنس وال معتقد ودين‪ .‬فلكل إنسان ما سعى‪ ،‬أيّا ً كان‬
‫ھذا اإلنسان‪ .‬والفرد والجماعة متكافالن في كافة الحقوق‪ .‬فالفرد إ ّما كفل له المجتمع فرصة للعمل‪ ،‬وكفل له‬
‫حقه في األجر ضمن نطاق من جھده وطاقته‪ ،‬ثم ضمن نطاق من حاجته‪ ،‬وھذا‬

‫] ‪[ ١٤٥‬‬

‫أو َرع في المعنى اإلنساني‪ ،‬وجب على ھذا الفرد أن يكون‪ ،‬في دوره‪ ،‬عونا ً للجماعة‪ ،‬وأن يكيّف حريّته الفردية‬
‫بما ال يسيء إلى مواطنيه‪ .‬فليس للجماعة أن تظلم مسؤول‪ .‬يقول النب ّي‪» :‬كلّكم راع وكلكم مسؤول عن‬
‫رعيته«‪ .‬ث ّم أنه حرية الفرد ال تعني‪ ،‬في حال من األحوال‪ ،‬إلحاق الضرر بالجماعة‪ .‬وقد ضرب النب ّي مثالً رائعا ً‬
‫لضرر الحرية الشخصية إذا لم تقيّدھا المنفعة العامة قال‪» :‬إن قوما ً ركبوا في سفينة فاقتسموا‪ ،‬فصار لكل رجل‬
‫منھم موضع‪ .‬فنقر رجل منھم موضعه بفأس‪ ،‬فقالوا له‪ :‬ما تصنع؟ قال‪ :‬ھو مكاني أصنع فيه ما أشاء‪ .‬فإنّ‬
‫أخذوا على يده نجا ونجوا‪ .‬وإن تركوه ھلك وھلكوا«‪ .‬ثم أنّ ھذا الفرد مكلّف‪ ،‬بوصفه عضواً في الجماعة‪ ،‬بأن‬
‫يزيل المنكر حيث يكون‪ ،‬مساھمةً منه في رفع المستوى العام‪» :‬من رأى منكم منكراً الخ«‪.‬‬

‫ولطالما سعى النب ّي إلى أن يعطي ك ّل يوم دليالً على أنّ األخالق العظيمة إنما تقوم بإرشاد الناس بالمسلك ال‬
‫بالوعظ‪ ،‬وأنّ رحمة الناس تقوم بالعمل ال بالقول‪ .‬فالنب ّي لم يكن يعيش في معزل عن الناس‪ ،‬بل كان يخالطھم‬
‫كباراً وصغاراً‪ ،‬ويستمع إليھم‪ ،‬ويؤانسھم‪ ،‬ويخدمھم على نھج العظماء الحقيقيين‪.‬‬
‫ومن القصص التي يرويھا أبو ھريرة أ نّه خرج م ّرةً في صحبة النبي إلى السوق‪ ،‬فأتيا بائعا ً اشترى منه النب ّي‬
‫ق في العيش ما‬ ‫حاجته وأخذ بوصيه بأن يطلب الحالل من المكسب فال يحتكر وال يستغ ّل وال يدّعي أنّ له من الح ّ‬
‫ليس لسواه‪.‬‬

‫وكان البائع يجھل أنّ محدّثه إنّما ھو النب ّي نفسه‪ .‬فلما أخبره أبو ھريرة بأمره‪ ،‬اضطرب وانحنى على يده يريد‬
‫تقبيلھا‪ .‬فانتزع مح ّم ٌد يده بشدّة وقال للرجل‪:‬‬

‫] ‪[ ١٤٦‬‬

‫ـ ال تفعلوا ما كان يفعله األعاجم مع ملوكھم‪ ،‬فإن تقبيل الى اليد معناه المذلّة لغير ﷲ‪.‬‬

‫ول ّما حاول أبو ھريرة أن يحمل ما اشتراه النب ّي من متاع‪ ،‬نھاه النب ّي‪ ،‬ث ّم نظر إليه مبتسما ً وقال‪:‬‬

‫ق من الغير بحمله!‬
‫ـ خ ﱢل عنك‪ ،‬فصاحب الشيء أح ّ‬

‫أ ّما األباطرة والملوك فإن اإلسالم يسيء بھم الظنّ ‪ ،‬بل ينفيھم من المجتمع نفيا ً مطلقاً‪ ،‬فھم الفاسدون‬
‫سدُوھا َو َج َعلُوا أَ ِع ﱠزةَ أَ ْھلِھا أَ ِذلﱠةً(‬
‫المفسدون‪) :‬إِنﱠ ا ْل ُملُو َك إِذا د ََخلُوا قَ ْريَةً أَ ْف َ‬

‫وكان أش ّد ما يھول النب ّي من أمر الملوك والسالطين تلك الغطرسة الفارغة وذاك االستعالء التافه‪ ،‬ثم ما‬
‫صة من أشكال المبالغة ومظاھر التھويل‪ .‬ذلك ألنّ النب ّي كان يقدّس صفة‬ ‫يحيطون به أنفسھم وشؤونھم الخا ّ‬
‫الحياة في الناس جميعا ً كما يقدّس ك ّل ما يراه حقيقة‪ .‬وھو يعتبر البساطة والطبعيّة في القول والعمل ركنا ً‬
‫اساسيّا ً من أركان الحياة الشريفة الفاضلة‪ .‬ولطالما كان ينھي أصحابه عن الوقوف له ساعةَ يُقبل عليھم وھم‬
‫جالسون‪ ،‬مردّداً على أسماعھم ما مفاده‪ :‬ال تعاملوني كما تعامل األعاجم ملوكھا!‬

‫ومن أخباره التي تد ّل على كرھه المبالغة والتھويل وھما إطار تدور فيه أحال ُم الملوك والسالطين‪ ،‬ا نّه لما‬
‫الشمس صدفةً‪ ،‬فقال الناس‪ :‬إن السماء قد حزنت على ابن النبي‪ .‬فل ّما بلغ ذلك‬‫ُ‬ ‫توفّي ابنه إبراھيم ُكسفت‬
‫مح ّمداً‪ ،‬جمع الناس وخطبھم قائالً‪:‬‬

‫ُكسفان لموت أحد!« لقد أدرك النب ّي أنّ في المبالغة والتھويل‬


‫ِ‬ ‫آيتان من آيات ﷲ ال ت‬
‫ِ‬ ‫ـ »إنّ الشمس والقمر‬
‫عداوةً لبساطة الحياة الصادقة‪ .‬وأنّ حب المبالغة والتھويل من صفات الملوك الذين انقطعت الصالتُ الطبيعية‬
‫الحيّة بينھم وبين الحياة واألحياء‪ ،‬فخطب الناس بھذا القول الرائع الذي ينتزع به‬

‫] ‪[ ١٤٧‬‬

‫عن إرادة الحياة نفسھا وإرادة الكون القائم بما فيه جميعا ً ال تُكسفُ شمسه لموت أحد وال يزول قمره!‬

‫ويحضرنا بھذا المجال ما دعا إليه النب ّي من ضرورة أخ ِذ الحياة أخذاً بسيطا ً جميالً ال تعقيد فيه وال تكلّف‪ .‬وإنّما‬
‫ذلك لعالقته الوثيقة بموضوعنا ألنّ ھذا األسلوب في أخذه الحياة إنّما ھو أساس اإلسالم كما شاءه النب ّي وكما‬
‫بناه‪ .‬ف َمن أمعن النظر في ك ّل محتويات اإلسالم على تباين موضوعاتھا‪ ،‬أدرك أنّھا نابعة جميعا ً من أصل عميق‬
‫شامل واحد‪ ،‬ھو‪ :‬البساطة التي ال تزييف فيھا وال تمويه‪ ،‬أو قُل‪ :‬ھو الصدقمع الحياة!‬

‫ويلخص خالد مح ّمد خالد ھذا األسلوب تلخيصا ً جميالً يقول‪:‬‬

‫»وإنّه ـ أي النب ّي ـ ليخدش أعرابيّا ً ذات م ّرة دون عمد‪ ،‬فيُص ّر على أن يخدشه األعراب ّي مثلھا‪.‬‬

‫ويقف فوق المنبر في جالل عظيم ليقول ألصحابه الذين يستمعون إليه‪:‬‬
‫ـ » َمن جلدت له ظھراً‪ ،‬فھذا ظھري فليقتد منه! و َمن كنتُ أخذتُ من ماله شيئاً‪ ،‬فھذا مالي فليأخذ منه!«‬

‫إنّه لم يجلد في حياته ظھراً‪ ،‬ولكنّه الصدق المطلق مع الحياة يمارسه مح ّمد في أنقى صوره وأوفھا بالذ ّمة‬
‫والطھر‪.‬‬

‫وإذا كانت حياته لم تتلفّع قطّ برياء أو ضعف‪ ،‬فھي كذلك لم تتلفّع قطّ بغرور وال بكبرياء‪.‬‬

‫لقد كان يسابق زوجته ويخصف نعلَه بيده ويرقع ثوبه بنفسه‪.‬‬

‫ولقد حلب شاته‪ ،‬وخدم أھله‪ ،‬وحمل الطوب مع أصحابه وربط على بطنه الحجر من الجوع!‬

‫وكان إذا سار في الطريق ومعه أصحابه‪ ،‬دعاھم ليتقدّموا عليه‪ .‬وإذا قدم عليھم وھم جلوس جلس حيث انتھى‬
‫به المجلس‪ .‬وكان يقول لھم دائما ً حين‬

‫] ‪[ ١٤٨‬‬

‫خاص‪» :‬اني أكره أن أتميّز عليكم«‪.‬‬


‫ّ‬ ‫يدعونه لتكريم‬

‫ھذا ھو الصدق مع الحياة)‪«(١‬‬

‫ق لھذه الحقيقة‪.‬‬
‫وفي كل ما رويناه من أخبار النب ّي في ھذا الفصل‪ ،‬تصدي ٌ‬

‫أ ّما الح ّكام فعليھم من الواجبات والمسؤوليات ما يجعل منھم خدَما ً للجماعة ال أسياداً طُغاةً عُتادة‪ ،‬وال لصوصا ً‬
‫محترفين!‬

‫وفي سيرة النب ّي أنّ قوما ً أخبروه بأن واليا ً من الوالة قبل ھدية‪ .‬فاستطلع حقيقة ھذا الخبر فثبت لديه ما أُخبر‬
‫به‪ .‬فغضب واستدعى الوالي إليه‪ ،‬فل ّما أتاه قال له النبي‪:‬‬

‫ـ كيف تأخذ ما ليس لك بحقّ؟‬

‫فأجاب الوالي معتذراً‪:‬‬

‫ـ لقد كانت ھدية‪ ،‬يا رسول ﷲ‬

‫فأجابه الرسول جوابا ً فيه كثير من عبقرية االدراك ل َما يم ّھد طريق الرشوة بين المحكوم والحاكم‪ ،‬معطيا ً جوابه‬
‫صيغة ھذا السؤال‪:‬‬

‫ـ أرأيت لو قع َد أحدكم في داره ولم نُ َولّه عمالً‪ ،‬أكان الناس يھدونه شيئاً؟‬

‫ثم أمره أن ير ّد الھدية إلى بيت مال العا ّمة‪ .‬وعزله عن عمله في الحال‪.‬‬

‫ق الرشوة‪ .‬وعلّم الحاكم أالّ يسلك ھذه الطريق مع الناس‪ .‬كما‬ ‫ھكذا علّم النب ّي الناس أالّ يسلكوا إلى حقّھم طري َ‬
‫ق له بشيء من معاش الناس‪ ،‬وأ نّه إنما يحكم الناس ليكون لھم أبا ً ال ليصبح فيھم ل ّ‬
‫صا ً‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫علّمه أن ال ح ّ‬

‫وھكذا أظھر نقمته العادلة على الطبقة الحاكمة ساعةَ تستغ ّل سلطتّھا حتى في قبول الھدية‪ ،‬فكيف في انتّھاب‬
‫األموال واحتكار الثروات وھدر الحقوق وظلم العا ّمة‪.‬‬
‫‪» ١‬كتاب مح ّمد والمسيح« ص ‪ ١٦٢‬ـ ‪.١٦٣‬‬

‫] ‪[ ١٤٩‬‬

‫والحاكم في اإلسالم ال يكون إالّ باالختيار واإلجماع‪ .‬وال يستم ّد سلطته إالّ من إرادة العا ّمة ومن السھر على ما‬
‫فيه خير الناس ورعايتھم بالتي ھي أحسن‪ .‬ويفرض اإلسالم على الحاكم أن يشاور محكوميه في ك ّل ما ال‬
‫يعرف له حالًّ مرضيا ً‪َ ) :‬و أَ ْم ُرھُ ْم شُورى بَ ْينَ ُھ ْم( ‪ .‬وليس ھذا الحاكم ح ٌ‬
‫ق زائ ٌد في الملك والمال والقانون‪ .‬بل إن‬
‫حقّه المحدّد له ال يُحفظ إالّ بمقدار ما يسعى ھو في المحافظة على كرامات الناس وحقوقھم من كل ضرب‪.‬‬

‫وال يقف اإلسالم عند ھذا الح ّد من الرغبة في إنصاف الشعب من الحاكم بل يعدوه إلى إثارة المستضعفين‬
‫والمصظھدين على من استضعفھم واضطھدھم‪ .‬وينذر القرآنُ بالعذاب أولئك الذين شقوا وأُھينوا وھُدرت‬
‫حقوقھم وأُكل نصيبھم واستُثمرت جھودھم وظلموا‪ ،‬الذا ھم تنازلوا عن حقوقھم الطبيعية في العيش ورضوا‬
‫بھذا الظلم ولم يثوروا‪ ،‬وأذعنوا للضغط أو غيره من أسباب اإلساءة‪ ،‬ويس ّميھم »ظالمي أنفسھم«‪.‬‬

‫أ ّما النب ّي فيقول‪:‬‬

‫ـ » َمن قُتل دون مظلمته فھو شھيد!« ويقول في مكان آخر‪ :‬ـ »إنّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده‬
‫أوشك أن يعمھم ﷲ تعالى بعقاب!«‬

‫أ ّما في النطاق اإلنساني العا ّم‪ ،‬فإنّ اإلسالم يحارب العصبيّة الدينيّة في كثير من أحوالھا‪» :‬ال إكراه في الدين«‬
‫أحب أم كره« والناس جميعا ً إخوةٌ‬ ‫ّ‬ ‫ويحارب العصبيّة القبليّة والعنصريّة أش ّد حرب‪ :‬فـ »اإلنسان أخو اإلنسان‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ضلنا ُھ ْم عَلى كثِير ِم ﱠمنْ‬ ‫َ‬ ‫مك ّرمون‪َ ) :‬و لَقَ ْد َك ﱠر ْمنا بَنِي آ َد َم َو َح َم ْلنا ُھ ْم فِي ا ْلبَ ﱢر َو ا ْلبَ ْح ِر َو َر َز ْقنا ُھ ْم ِمنَ الطيﱢبا ِ‬
‫ت َو ف ﱠ‬ ‫ﱠ‬
‫ضيالً( ‪.‬‬‫َخلَ ْقنا تَ ْف ِ‬

‫والنب ّي إذا تحدّث إلى الناس تحدّث إليھم جميعا ً‪ :‬إلى العرب واألعاجم‪،‬‬

‫] ‪[ ١٥٠‬‬

‫والحمر والبيض‪ ،‬والصفر والسود! تحدّث إليھم بوصفھم اخوةً متعاونين متكافلين تجمع بينھم صفةُ اإلنسان‬
‫وجوھر اإلنسانية‪ ،‬وال تف ّرقھم قوميّاتٌ وأجناس‪ ،‬بل يختلف بعضھم عن بعض‪ ،‬ويفض ُل واحدھم اآلخر‪ ،‬بمقدار‬
‫ما في نفسه من رغبة في الخير‪ .‬يقول النب ّي‪:‬‬

‫»أيھا الناس‪ ،‬النّ ربّكم واحد وإنّ أباكم واحد‪ .‬ليس لعرب ّي على عجمي وال لعجمي على عرب ّي وال ألحمر على‬
‫أبيض‪ ،‬وال ألبيض على أحمر‪ ،‬فض ٌل إالّ بالتقوى! أال فليبلّغ الشاھد منكم الغائب!«‬

‫النبي ساعةَ يجعل التقوى واإليمان والتديّن جميعا ً تدور في نطاق من خدمة الجماعة‪ ،‬وتفقد ك ّل‬
‫ّ‬ ‫وما أعظم‬
‫معناھا ساعةَ يخلّي صاحبُھا العم َل الناف َع‪ ،‬فيقول‪» :‬أحسن مجاورة َمن جاورك تكن مؤمنا ً« و »الخلق كلّھم‬
‫عيال ﷲ وأحبّھم إليه أنفعھم لعياله!« و »الدين المعاملة!«‬

‫سأل رج ٌل مح ّمداً قال‪ :‬أي اإلسالم خير؟ فقال‪:‬‬

‫»تُطعم الطعام وتقرأ السالم على من عرفتَ ومن لم تعرف!«‬

‫فاإلسالم‪ ،‬كما يريده النب ّي‪ ،‬يقوم بخدمة الناس وباحترامھم ال فرق فيھم بينَ مسلم وغير مسلم‪ ،‬وال بين عربي‬
‫وعجمي‪ ،‬وال بين أحمر وأبيض‪ ،‬أو بين َمن عرفت و َمن لم تعرف‪ .‬فصفة اإلنسان وحدھا كافيةٌ ألن تحملك على‬
‫حب اإلنسان وإطعامه ومبادرته بالتحيّة‪.‬‬
‫ّ‬
‫يخص المسلمين‪ .‬وفي األحاديث التي اثبتناھا في‬
‫ّ‬ ‫في اآلية ) َو لَقَ ْد َك ﱠر ْمنا بَنِي آ َد َم الخ( يك ّرم ﷲ الخل َ‬
‫ق جميعا ً وال‬
‫ھذا الفصل أن خير اإلسالم ھو أن تبسط يدك وقلبك ووجھك لجميع الناس‪ ،‬وأن تحسن جوارھم ومعاملتھم‬
‫وتنفھم وتحبّھم!‬

‫وعن النب ّي خي ٌر عظيم الداللة على ما أراده لإلسالم من معاني الخير القائمة بالخدمة واالغاثة والعمل من أجل‬
‫نفسھا حتّى في البھائم‪ .‬فقد ساق‬‫الحياة ِ‬

‫] ‪[ ١٥١‬‬

‫صة القصيرة قال‪:‬‬


‫ألصحابه م ّرة ھذه الق ّ‬

‫ـ »بينما بغ ّي تسير ذات يوم‪ ،‬إذ رأت كلبا ً يلھث من العطش‪ .‬فخلعت نعلھا وأدلته بحبل في بئر ومألته ماء‬
‫وسقت الكلب‪ .‬فشكر ﷲ لھا وأدخلھا الجنّة!«‬

‫وإنّه لعظيم حقا ً ھذا الموقف يقفه النب ّي إزاء الحياة إذ يقدّسھا مثل ھذا التقديس‪ ،‬فيرى أنّ ﷲ يشكر البغ ّي‬
‫صرع في ساحة القتال‬ ‫ويدُخلھا الجنّة إذا ھي أروت ظمأ بھيمة عطشى‪ ،‬وقد ال يرى مثل ھذا الفضل لمجاھد ُ‬
‫على ما م ّر معنا من خبر رفاعة بن زيد‪.‬‬

‫ويشدّد النب ّي على مثل ھذا المعنى في حديث له يقول‪:‬‬

‫ت امرأةٌ النا َر في ھ ّرة حبستھا‪ .‬فال ھي أطعمتھا وال ھي تركتھا!«‬


‫ـ »دخل ِ‬

‫ت النار إنما دخلتھا ألنّھا لم تُطعم ھ ّرة‬


‫فإذا كانت البغ ّي تدخل الجنّة ألنھا أغاثت كلبا ً‪ .‬وإذا كانت المرأة التي دخل ِ‬
‫ولم تسقِھا ولم تتركھا طليقةً ترتزق‪ ،‬فما يكون شأن المحتكرين والمستغلين الذين ينھبون أموال الشعب‬
‫ّ‬
‫صون جھود الطبقات الكادحة! وما يكون شأن الذين يسعون في تفرقة الناس طبقات اجتماعية واقتصاديّة‬ ‫ويمت ّ‬
‫متباينة يأكل كبيرھا صغيرھا أكالً حقيراً‪ ،‬وإلى طوائف متنافرة متعادية‪ ،‬ثم إلى أجناس يقاتل بعضھا بعضا ً‬
‫ويدعو لنفسه بالرفعة والسؤدد دون سواه!‬

‫ضلھم ﷲ على كثير م ّما خلق تفضيالً!‬


‫ما يكون شأن مستعبدي الجماھير وھم بنو آدم الذين ف ّ‬

‫ّ‬
‫ويتبذخون بجھودھم وھُم إنما‬ ‫وما يكون شأن قوم يعتدون على قوم وينھبون خيراتھم ويستعمرون أرضھم‬
‫ُخلقوا شعوبا ً وقبائل ليتعارفوا ـ كما جاء في القرآن ـ ال ليتعادوا!‬

‫***‬

‫] ‪[ ١٥٢‬‬

‫ھذه ھي الخطوط العا ّمة لتعاونُ الجنس البشري الواحد في القرآن وفي الحديث‪.‬‬

‫وقد سار عليھا ح ّكام المسلمين و ُوالتُھم بمنھى الدقّة في عھدين اثنين‪ .‬وخالفوھا أش ّد مخالفة في عھدين اثنين‬
‫كذلك‪ .‬أ ّما يوم ساروا عليھا‪ ،‬ففي عھد النب ّي وخالفة أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب ثم في خالفة اإلمام‬
‫عل ّي‪ .‬أما يوم خالفوھا ففي عھد عثمان الذي استغ ّل أنسباؤه األمويون لينَ جانبه وتستّروا به‪ .‬ثم في العھود‬
‫التي جاءت بعد اإلمام عل ّي وھي العصور األموية فالعباسيّة في الشام وبغداد باستثناء المدة الوجيزة التي‬
‫استخلف فيھا عمر بن عبدالعزيز‪ :‬الشخصيّة األمويّة ّ‬
‫الفذة‪ ،‬وباستثناء بعض الفترات القالئل التي كانت تم ّر في‬
‫تلك األعص ُر مروراً عاجالً فال يستقيم لھا أن تفعل كثيراً‪.‬‬

‫***‬
‫أ ّما عھد عثمان بن عفان‪ ،‬وھو الذي يعنينا طويالً في أبحاثنا الالحقة‪ ،‬فقد تح ّولت فيه مقاييس الحكم ع ّما كانت‬
‫عليه فيما سبق‪ ،‬إذ استولى بنو أميّة على األرض والمال والناس واحتكروا األرزاق العا ّمة‪ .‬وكان الخليفة‬
‫الثالث من مراعاة الرحم على ما أفسح لھم في المجال ألن يخرجوا بالخالفة عن وجھھا األنساني ويم ّھدوا‬
‫لتحويلھا إلى ملك أموي خالص‪ .‬وسوف يأتي تفصيل ذلك في مكانه‪.‬‬

‫وبعد مض ّي زمن آل األمر إلى عل ّي بن أبي طالب الذي استلم الحكم على أثر ثورة شعبيّة لھا ك ّل معاني الثورة‬
‫من أسباب وأھداف‪ ،‬فكيف أدرك ابنّ أبي طالب الوالية‪ ،‬وماذا كان من أمره؟‬

‫] ‪[ ١٥٣‬‬

‫الوالية ِم َن الجماعة‬
‫ـ ال صواب مع ترك المشورة‪.‬‬

‫ـ إنّمكا أنا رج ٌل منكم‪ ،‬لي ما لكم وعل ﱠي ما عليكم‪.‬‬

‫ـ والزموا السوا َد األعظم‪ ،‬فإن يد ﷲ مع الجماعة‪.‬‬

‫من‬ ‫أودَعھا‬ ‫فما‬ ‫راعيھا‪،‬‬ ‫خزائن‬ ‫الرعيّة‬ ‫قلوب‬ ‫ـ‬


‫ـ عدل أو جور وجده فيھا‪ .‬علي‬

‫موجزاً بليغاً‪ ،‬بسيطا ً عميقا ً كالحقيقة نفسھا‪ ،‬حتى لكأنّه ومضةُ العقلوھتفة الروح‪:‬‬
‫َ‬ ‫ـ وقال قوالً‬

‫والقرابة!«‬ ‫بالصحابة‬ ‫الخالفة‬ ‫أتكون‬ ‫»واعجباه!‬


‫كانت الخالفة قبل أن تؤول إلى ابن أبي طالب آخذةً بالتح ّول إلى ملك أموي‪ ،‬كما تقدم‪ .‬أو أ نّھا قد تح ّولت إلى‬
‫ق لھم يعود بأسبابه‬ ‫ي بالفعل! وكان ُوالة األمر والوزراء والمستوزرون قد تع ّودوا الوالية على أ نّھا ح ّ‬
‫ملك أمو ّ‬
‫إلى الحسب والنشأة وإلى ما يُبذل في تثبيته من أموال ورشوات‪ ،‬ومداورات ومساومات‪ .‬كما كانوا قد تعودوا‬
‫أن ينظروا إلى حقوق الشعب على أ نّھا منوطة بارادة ال ُوالة مھما كان شأن ھذه اإلرادة في مقاييس الخير‬
‫والشر‪ .‬فالجماھير‬

‫] ‪[ ١٥٤‬‬

‫المستضعفة لم تكن في نظر أولئك القوم إالّ ظھوراً تُع ّرى لتصبح مراعي للسيّاط ومرافع لألثقال‪.‬‬

‫أضف إلى ذلك أنّ خالفة عثمان قد أتاحت الفرصة لھؤالء الوالة ومعظمھم من بني أمية‪ ،‬أو من أنصارھم‬
‫النازعين منزعَھم في النظر إلى األمور‪ ،‬ألن يعملوا في أنحاء البالد المرتبطة بالخالفة على إعداد العدّة كاملةً‬
‫ي تدعمه األموال والرشوات والمساومات وإطالق أيدي النافذين في مقدّرات العامة وفي‬ ‫لتشييد ملك أمو ّ‬
‫رقابھم‪ ،‬وفي ابتياع الجيوش المحاربة بثمن منقود أو موعود‪ .‬ثم في تقريب من تُرجى المناصرة وإبعاد من ال‬
‫يناصرون‪ .‬فإذا الدولة منقسمة على ھذه القواعد الجديدة يستحدثھا األمويون الذين ما كانوا في اإلسالم‪،‬‬
‫س َع لھم في االحتكار واالستغالل‬‫بشھادة التاريخ‪ ،‬إالّ ما كانوا في الجاھلية‪ .‬والذا معظم النافذين يخذلون إالّ َمن و ّ‬
‫مفتاح بيت المال وسيف السلطان‪ ،‬وقدّم لھم الشعب في جملة ما قدّم فأصبح م ّما‬ ‫َ‬ ‫وجعل في أيديھم‬ ‫والحكم‪َ ،‬‬
‫ملكت أيمانھم‪ .‬وإذا الشعب بين مؤمن بالخير العام قانع بنصرة الحاكم العادل وإن لم يُج ِر عليه الرزق أنھاراً‪.‬‬
‫وبين مرت ّد مع المرتدّين قابع يتربّص بالعدل والعادلين حتى الذا ثار طالّب الملك ساوم‪ .‬فساند إذا ربح‪ ،‬أو عاد‬
‫يساوم من جديد ويساند‪.‬‬

‫***‬
‫آلت الخالفة إلى أبن أبي طالب والدنيا على ھذه الحال‪ ،‬والقوم سائرون في ما سائرون فيه‪ :‬فإ ّما استماتةٌ في‬
‫مناصرة الخالفة في شخص اإلمام الذي يعرفون عدله وميله إلى العا ّمة‪ .‬وإ ّما إفراط في مساندة الملك في‬
‫العنصر األموي الذي يأبى إالّ استعادة امجاده الجاھلية مھما توعّرت الطريق وتھشّم فيھا من الضحايا‪ .‬وھو لم‬
‫صح إلى عثمان‬ ‫يكن ليأبه للخالفة تصير إليه وقد ساھم أج ّل مساھمة في إدارة شؤونھا بعھدَي أبي وعمر‪ ،‬ونَ َ‬
‫في عھده‪ ،‬وما‬

‫] ‪[ ١٥٥‬‬

‫ق‪ .‬يدلّك على أنّ عليّا ً لم يكن ليأبه للخالفة تصير‬‫شكا من البيعة تذھب إليھم عنه وماه اھت ّم م ّرةً إالّ باقامة الح ّ‬
‫إليه أو تذھب عنه‪ ،‬وعلى أ نّه لم يكن ليريدھا يومذاك وقد أرادوه لھا‪ ،‬شھو ٌد من التاريخ وشھو ٌد من قوله‪ .‬فمن‬
‫كالمه يو َم أُري َد على البيعة بعد مقتل عثمان‪» :‬دعوني والتمسوا غيري‪ .‬وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلّي‬
‫أسم ُعكم وأطوعكم لمن وليّتموه أمركم‪ .‬وأنا لكم وزيراً خي ٌر لكم مني أميراً«‪.‬‬

‫لم يكن ليرضى بالخالفة يومذاك أل نّه يريد لھا وجھا ً والقوم يريدون لھا وجھا ً آخر‪ .‬فما ھو منھم بھا‪ ،‬وال ھم‬
‫منه! وأل نّه كان‪ ،‬كما قال‪» ،‬في دھر عنود وزمن كؤود يُع ّد فيه المحسن مسيئاً‪ ،‬ويزداد الظالم عت ّواً«‪ .‬وألن‬
‫ض ﱞم ذوو أسماع‪،‬‬ ‫والمحجة قد تنكرت‪ ،‬والناس يعملون في الشبھات ويسيرون في الشھوات‪ُ .‬‬ ‫ّ‬ ‫»اآلفاق قد اغامت‬
‫وبك ٌم ذوو كالم‪ ،‬وعم ٌي ذوو أبصار‪ .‬ال أحرار صدق عند اللقاء‪ ،‬وال إخوان ثقة عند البالء«‪ .‬وألنّ القوم لن‬
‫يحتملوا منه أن يجيبھم فيركب منھم ما يعلم‪ ،‬وأالّ يصغي منھم إلى عتب العاتب وقول الراغب!‬

‫ھذه ھي حقيقة الحال التي م ّر بھا اإلمام عل ّي في األيام القالئل التي تلت مقتل عثمان وسبقت استخالفه والقوم‬
‫ويلحون‪ ،‬ويتردد ھو في قبول البيعة والوجھاء والنافذون على غير ما يريدھم عليه من الرغبة في‬ ‫ّ‬ ‫يبايعون له‬
‫الخير‪ .‬غير أن ھنالك ما يحمل ابن أبي طالب على أن يقبل بما أرادوا له من البيعة‪ .‬فالعدالة االجتماعية في‬
‫خطر‪ .‬والناس يأكل قويّھم ضعيفھم وقد أُطلقت أيدي النافذين منھم والحاكمين في األرزاق واألعناق‪ .‬واألثرياء‬
‫والنبالء يتحلّبون شھوةً القتطاع األرض واحتكار الخيرات وابتالع الناس! فأنّى له أن يمكث بعيداً عن مركز‬
‫القيادة والحالة ھذه الحال‪ ،‬واألمور قد تصبح في جحملتھا‪ ،‬بعد قليل‪ ،‬في أيدي »أغيلمة من قريش« على ح ّد‬
‫تعبير النبي؟ وھذه الفئة‬

‫] ‪[ ١٥٦‬‬

‫القليلة قد أذلّت الجماعة والسواد األعظم‪ ،‬والجماعة في نظر عل ّي تلزمھا ي ُد ﷲ‪» :‬والزموا السواد األعظم فإنّ‬
‫واجب عليه والن كلّفه ھذا من التح ّمل ما ال طاقة عليه لمحسن »في‬
‫ٌ‬ ‫يدا مع الجماعة‪ «.‬إذن‪ ،‬فقبول البيعة‬
‫زمن كؤود يُع ّد المحسن فيه مسيئا ً!«‬

‫وفجارھا‪ ،‬فيتّخذون مال ﷲ‬


‫ّ‬ ‫يقول عل ّي‪» :‬ول ّك أسفا ً يعترين وجزعا ً يريبني‪ ،‬من أن َ‬
‫يلي ھذه األمة سفھاؤھا‬
‫دُوالً‪ ،‬وعباد ﷲ خ َوالً‪ ،‬والصالحين حرباً‪ ،‬والقاسطين حزبا ً«‪.‬‬

‫وكان عل ّي بطبعه ينفر من العزلة إذا لم تكن العزلة نفسھا في خدمة الجماعة‪ .‬فاإلنسان إ ّما اعتزل وھو قادر‬
‫على خدمة الناس‪ ،‬أنكر ذاته‪ .‬كما جحد الغاية من وجوده في مجتمع يريد من أفراده أن يتعاونوا في الخير‬
‫ويتساندوا في المعروف‪ .‬وأصبح عل ّي إمام الناس‪ .‬ولكي نفھم حكومة عل ّي وسياسته االقتصادية والمالية‬
‫واالجتماعية‪ ،‬الب ّد أن نعود بھا إلى أصل واحد لديه‪ ،‬ھو‪ :‬أسلوبه في فھم الوالية مصدراً وغاية‪.‬‬

‫***‬

‫لم تكن الوالية في نظر ابن أبي طالب حقا ً يوليه ﷲ بشراً فيستأثر به ويدوم عليه ما شاء ھو وما شاء له ذلك‬
‫المتنفذون واألقربون‪ ،‬كما أصبحت فيما بعد في ملك بني أمية وبني العباس‪ ،‬وكما كانت في تاريخ أوروبا‬
‫الوسيط إذ ع ّرفوا الوالي ـ أو الملك ـ بأنّه ظ ّل ﷲ على األرض‪ ،‬وبأن إرادته ھي إرادة خالق السماء ال يُنظر فيھا‬
‫إلى ما يجوز وما ال يجوز! بل إن الوالية في نظره ھي من الجماعةء تُولي من تشاء وتخلع من تشاء إثابةً على‬
‫إحسان وعقابا ً على إساءة‪ .‬يقول عل ّي‪» :‬فإن ولّوك في عافية وأجمعوا عليك فقم في أمرھم‪ .‬وإن اختلفوا‬
‫فدعھم وما ھم فيه‪ .‬ويقول أيضا ً‪» :‬انظروا‪ ،‬فإن أنكرتم فأنكروا‪ .‬وإن عرفتم فآزروا‪ .‬ح ّ‬
‫ق وباطل‪ .‬ولك ّل أھل!«‬

‫] ‪[ ١٥٧‬‬

‫أ ّما سلطة الوالي فمست َمدّة من القيام بتنفيذ الشرائع االجتماعية األكثر صالحا ً‪ .‬يقول عل ّي في خطبة البيعة‪:‬‬
‫»أيھا الناس‪ ،‬إنّما أنا رجل منكم لي ما لكم‪ .‬وعل ّي ما عليكم‪ .‬والحق ال يُبطله شيء‪ «.‬ويقول في خطبة اخرى‪:‬‬
‫»أيھا الناس‪ ،‬إني وﷲ ال أحثّكم على طاعة إالّ أسبقكم إليھا‪ ،‬وال أنھاكم عن معصية إالّ أتناھى قبلكم عنھا«‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬فالحاكم ال يطاع لذاته بل لعدالته وتنفيذه للشرائع االجتماعية الخيّرة!‬

‫ولم تكن الوالية في نظر ابن أبي طالب بابا ً ُ‬


‫يلجه الوالي إلى الخيرات ينال منھا ما يُتخم ثم يقسمھا بين األھل‬
‫يلجه الوالي إلى انصاف الناس والقامة أقصى ما‬ ‫واألقارب واالخوان‪ ،‬واألنصار واألعوان‪ .‬إنّما الوالية باب ُ‬
‫يمكن أن يقام من أسباب المساواة بينھم‪ ،‬واالثابة على البالء بقدر البالء‪ ،‬والمنع من االحتكار واالستغالل جھ َد‬
‫ما يحتمل الزمان‪ ،‬ومالزمة الحق ولو كانت ھذه المالزمة طريقا ً إلى ھالك الوالي على أيدي المفسدين‪ ،‬ثم‬
‫توجيه الضمائر والعقول إلى الخير توجيھا ً له أصول وقواعد ثابتة في خلق الوالي وفي مسلكه!‪ ،‬بعث عل ّي‪،‬‬
‫فيما بعد‪ ،‬إلى بعض عماله يقول‪» :‬أ ّما بعد‪ ،‬فال يكن حظك في واليتك ماالً تستفيده‪ ،‬وال غيظا ً تشفيه‪ ،‬ولكن إماتة‬
‫ق«‪.‬‬
‫باطل‪ ،‬وإحياء ح ّ‬

‫الوالية في نظر عل ّي إنصافُ الجماعة من الفئة الباغية ألن »يد ﷲ مع الجماعة«‪ .‬وھي ال بالصحابة تقوم وال‬
‫بالقرابة؛ وإنّ عليّا ً ليعجب من ھذا المنطق في فھم الخالفة فيقول قوالً موجزاً بليغاً‪ ،‬بسيطا ً عميقا ً كالحقيقة‬
‫نفسھا‪ ،‬حتى لكأنّه ومضة العقل وھتفة الروح‪» :‬واعجباه! تكون الخالفة بالصحابة والقرابة!«‬

‫س ُل به إلى‬‫لم تكن الوالية في نظر ابن أبي طالب حسبا ً تُشيّد عليه األمجاد وال شرفا ً قديما ً تُبنى له العروش ويُتو ّ‬
‫استعباد الناس‪ .‬فإنّه »ال حسب كالتواضع وال شرف كالعلم« و »الكرم أعطف من الرحم!« ولم تكن قھراً‬

‫] ‪[ ١٥٨‬‬

‫ماديا ً تخضع به الجماعات للسيف والنار وقطع االرزاق وھدر الدماء! وال قھراً معنويا ً تخضع به الجماعات‬
‫للوالي بالترھيب أو الترغيب‪ ،‬وھو اإلمام الذي عبد ربه ال رغبةً في ثوابه وال خوفا ً من عقابه‪ ،‬بل أل نّه يستحق‬
‫توجھا ً إلى الضمير الفرد برعاية الخير‪ ،‬وإلى الضمير االجتماعي‪ ،‬والضمير اإلنساني‪ ،‬ثم‬ ‫العبادة‪ .‬إنّما كانت ّ‬
‫مخاطبةً لعقل الجماعة الذي يرى فيحكم‪ ،‬فيقضي للوالي بأعماله‪ ،‬أو عليه‪.‬‬

‫ق في أن‬
‫ق ملء الح ّ‬‫ولم تكن الوالية استبداداً في الرأي بعد استتباب األمر‪ .‬فالشورى أولى‪ .‬وللجماعة الح ّ‬
‫يطالبوا الوالي »بأالّ يحتجز دونھم س ّراً وال يطوي دونھم أمراً« إالّ في ما كان احتجازه وطيّه إلى حين‪ ،‬من‬
‫مصلحة الجماعة بالذات‪.‬‬

‫ق أيضا ً في أن يدركوا وإليھم بالرأي في ك ّل ما يعود عليھم بالخير‪ .‬وعلى الوالي ملء‬ ‫ق ملء الح ّ‬
‫وللجماعة الح ّ‬
‫الواجب في أن يستقبل وجوه اآلراء جميعا ً لع ّل في ھذه اآلراء ما لم يخطر بباله أو يھجس به ضميره أو يبلغه‬
‫عل ُمه‪ .‬ذلك ألن »من استقبل وجوه اآلراء ـ كما يقول عل ّي ـ عرف مواقع الخطأ«‪ .‬ومن عرف مواقع الخطأ‬
‫أمكنه أن ينفذ إلى الصواب‪ .‬فآراء الجماعة ضرورةٌ يُفيد منھا الوالي في معنى واليته وتفيد منھا الجماعة في‬
‫معنى التولّي عليھا‪ .‬وھي‪ ،‬على كل حال‪ ،‬تحسم األمور على صورة ال يقع بعدھا ندم‪ .‬ويعترف عل ّي بھذه‬
‫الحقائق اعترافا ً ال يقبل تأويالً إذ يقول‪» :‬ال صواب مع ترك المشورة«‪ .‬وليس من صفة الوالي في شيء أن‬
‫يتوجه عل ّي إلى‬
‫ّ‬ ‫سالً إلى بلوغ حاجة من الحاجات خفيةً عن الخلق‪ .‬لذلك‬ ‫يحيط أعماله بالغموض وأن يتستّر تو ّ‬
‫ق من حقوقھم قائالً‪» :‬واستصبحوا من شعل ِة مصباح واضح!«‬ ‫الناس ليدلّھم على ھذا الح ّ‬

‫لم تكن الخالفة في مذھب ابن أبي طالب بعداً عن الناس وانصرافا ً عن‬
‫] ‪[ ١٥٩‬‬

‫الشعب ودن ّواً من ال ِكبر واحتجابا ً عن النظر في األحوال العا ّمة وحاجات االفراد والجماعات‪ .‬بل إنّھا سبب في‬
‫حجة‪.‬‬
‫تقريب الوالي من الناس وعطفه عليھم وتواضعه لھم‪ ،‬ثم انصرافٌ تا ّم إليھم ال عذ َر يُقبَل دونه وال ّ‬

‫والناس إن سخطوا على الوالي بسبب من ھذه األسباب جميعا ً الب ّد أن يثقل عليه أم ُرھم كما ثقل عليھم أمره‪،‬‬
‫ألنّ موقفھم منه يجب أن يكون صورةً عن موقفه منھم‪ .‬وفي ذلك يقول عل ّي‪» :‬قلوب الرعيّة خزائن راعيھا‪،‬‬
‫فما أودعھا من عدل أو جور‪ ،‬وجدَه فيھا!«‬

‫ولم تكن الوالية في مذھب ابن أبي طالب عصبيّةً ألن التع ّ‬
‫صب مذموم إالّ إذا كان »المكارم الخصال واألخذ‬
‫بالفضل والكفّ عن البغي وإنصاف الخلق واجناب الفساد في األرض«‪.‬‬

‫والوالية‪ ،‬على ك ّل حال‪ ،‬ليست في مذھب ابن أبي طالب ألولئك الذين يقول فيھم‪» :‬لو ُولّوا عليكم لعملوا فيكم‬
‫بأعمال كسرى وقيصر!« والذين ھم »من أھل المكر والغدر« و »أولي الجور والظلم« و »أ َكلَة ال ّرشا!« والذين‬
‫يقدّم الطعام ـ في واليتھم ـ إلى شبعان!«‬

‫لذلك كلّه لم يقبل عل ّي بالخالفة إالّ معتزما ً أن يقيم حقا ً ويزھق باطالً وإالّ فمفارقة الحياة أولى!‬

‫وھو لذلك وغير ذلك يھيب بالناس أن يحاسبوا ُوالتَھم ويراقبوا أعمالھم‪ .‬وبأالّ يقبلوا بوال إن لم يكن خادما ً‬
‫لھم‪ .‬وبأن يُبدوا السخط إذا شاؤوا وأن يُبدوا الرضا‪ .‬فيقول لھم‪» :‬أالَ تسخطون وتنقمون أنّ يتولّى عليكم‬
‫السفھاء‪ ...‬فتُع ّموا بالذ ّل وتق ّروا بالخسف ويكون نصيبكم الخسران !« بل إنّه يضع السخط من الجور موض َع‬
‫الناس الرضا والسخط‪ :‬ف َمن رضي أمراً فقد دخل فيه‪.‬‬‫َ‬ ‫المقابلة مع الرضا بالعدل‪ ،‬في قول حكيم‪» :‬إنّما يجمع‬
‫ومن سخط فقد خرج منه«‪.‬‬

‫] ‪[ ١٦٠‬‬

‫وھو لذلك ولغير ذلك لن يوصي بالخالفة بعده الحد ألنّ األمر يجب أن يُناط بالجماعة وحدھا‪ .‬فإذا ھم طلبوا إليه‬
‫أن يستخلف ابنه الحسن بعده‪ ،‬أبى وقال ھذا القول الذي تنتھي إليه المكار ُم في صفات الحاكم والوالي كما‬
‫تنتھي إليه صراحةُ االعتراف بالحريّات العا ّمة وبحقوق الناس في تسيير أمورھم على ما يعلمون ويختارون‪،‬‬
‫»ال آم ُركم وال أنھاكم‪ ،‬أنتم أعلم!«‬

‫فلماذا يأمرھم باستخالف ابنه إذا ھم أنكروه؟‬

‫ولماذا ينھاھم عنه إذا ھم وجدوا فيه َمن يرضون عنه!‬

‫أوليسوا‪ ،‬ھم في الحالتين أعلم بأحوالھم وحاجاتھم وشؤون مجتمعه؟‬


‫َ‬

‫ق في تقرير ما يودّون أن يصيروا إليه؟‬


‫أوليس لھم وحدھم الح ّ‬
‫َ‬

‫بعلي‬
‫ّ‬ ‫ق اإلنسان في والية نفسه‪ .‬وقد بلغ‬‫أقول‪ :‬إنّھا الغاية التي ينتھي إليھا احترام حريّة الجماعة وتقرير ح ّ‬
‫احترا ُم حريّات الناس أن أباح لھم الحريّة حتى في ما يتعلّق بمواالتھم ايّاه أو باعتزالھم عنه‪ .‬وذلك بعد أن وااله‬
‫ق الجماعة في َمن يولّون عليھم‪ .‬فھو يأبى كل ما يأتي عن‬ ‫السواد األعظم وأصبح اعتزال فريق منھم انكاراً لح ّ‬
‫طريق الضغط أو االكراه‪ .‬من ذلك ما كان من أمره مع نفر أبوا أن يبايعوا‪ .‬فھو لم يحتر ولم يرتبك‪ .‬ولم يُك ِره‬
‫ولم يغفل ع ّما قد يسيء إلى إرادة الجماعة في وقت معا ً‪ .‬فأباح لھؤالء أن يلزموا رأيھم ثم أن يفرغوا من أمر‬
‫الناس اعترافا ً منه بحق األفراد والجماعة في نطاق واحد‪ .‬وتفصيل ذلك أنّ سعد بن أبي وقّاص‪ ،‬وھو أحد‬
‫أصحاب الشورى‪ ،‬أبى أن يبايع‪ ،‬فتركه عل ّي وشأنه بعد أن قال لعل ّي‪ :‬ما عليك مني من بأس‪.‬‬
‫ومن ھؤالء النّفر أيضا ً عبدﷲ بن عمر‪ ،‬فقد أبى عبدﷲ أن يبايع‪ ،‬فطلب عل ّي من يكفله لئالّ يثير الفتنة‪ .‬فأبى أن‬
‫يقدّم كفيالً‪ .‬فقال له عل ّي‪ :‬ما علمتُك إالّ سيء الخلق صغيراً وكبيراً‪ .‬ثم قال‪ :‬خلّوه وأنا كفيله! وأبى البيعة‬

‫] ‪[ ١٦١‬‬

‫قو ٌم آخرون‪ ،‬فخلّى عل ّي بينھم وبين ما أرادوا شرط أن يعتزلوا الفتنة فال يُسيئوا إلى إرادة األعظم‪ .‬وشاء قوم‬
‫من الثائرين أن يُكرھوا المتخلّفين عن البيعة فيحملوھم قسراً عليھا‪ ،‬فأبى عل ّي ذلك أش ّد إباء‪ .‬لقد كانت قاعدته‬
‫العا ّمة في شأن البيعة مستندة إلى ھذه الحقيقة التي يراھا ويعبّر عنھا بقوله‪» :‬ف َمن بايع طائعا ً قبلتُ منه‪ .‬ومن‬
‫أبى تركتُه«‪ .‬فحريّة األفراد مكفولة في حكومة عل ّي إالّ إذا ألحقت األذى بحريّة الجماعة‪ .‬لذلك لم يترك ھذه‬
‫الح ّرية للزبير بن العوام وطلحة بن عبيدﷲ ومعاوية بن أبي سفيان وقد تركھا لسعد بن أبي وقاص وعبدﷲ بن‬
‫عمر وغيرھما من الذين أبوا أن يبايعوا‪ .‬فأولئك الثالثة طامحون إلى والية االامر لِ َما تض َمن لھم ھذه الوالية‬
‫من ثروة ومجد وسلطان‪ .‬فھم لذلك ثائرون على الخليفة الجديد أن لم يكن اليوم فغداً‪ .‬وھم لذلك عامدون إلى‬
‫سر لھم‬‫ى من األموال والجنود تُي ّ‬ ‫ق الصفوف واالستئثار بما الناس فيه أُسوة‪ .‬ثم أنّ لھؤالء الثالثة قو ً‬ ‫الفتنة وش ّ‬
‫أسباب الفتنة‪ .‬لذلك لم يتركھم عل ّي وشأنھم‪ .‬وسوف نبتيّن صدق نظرة اإلمام إلى ھؤالء في باب »المؤامرة‬
‫الكبرى على اإلمام«‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬فالوالية من الجماعة؛ وال إكراه على البيعة إالّ إذا اقتضت مصلحة الجماعة‪ ،‬ال مصلحة الوالي‪ ،‬ھذا‬
‫االكراه‪ .‬وھو أج ّل المفاھيم لعالقة الحاكم بالمحكوم‪ ،‬في ما يتعلّق بحرية القول والعمل‪ .‬وكان من الطبيعي‪،‬‬
‫والحالة ھذه‪ ،‬أن يربط ابن أبي طالب ُوالته وع ّماله بالشعب بمثل ما ارتبط به ھو‪ .‬فكان شديد المراقبة لھم على‬
‫ما سنراه في حينه‪ ،‬يشدّد عليھم في كل ما يلزمھم من رعاية الحقوق العا ّمة‪ .‬وقد خطا في ذلك خطوة رائعة‬
‫تنسجم مع دستوره العام في الحقوق والواجبات‪ ،‬وتنسجم كذلك مع أرقى دساتير االمم الحاضرة‪ ،‬وھي أ نّه‬
‫جعل من المحكوم نفسه رقيبا ً أعلى على الحاكم ومصدراً ألسلوبه في الحكم‪ .‬فكان إذا ولّى أحدھم إقليما ً من‬
‫االقاليم‪ ،‬أو مدينة من المدن‪،‬‬

‫] ‪[ ١٦٢‬‬

‫أعطاه عھداً يقرأه على الناس‪ .‬فإذا أق ّره الناس بعد أن يقرأ عليھم العھد‪ ،‬كان ھذا العھد عقداً بينھم وبينه ال‬
‫يجوز لھم أن ينحرفوا عنه‪ ،‬وال يجوز للحاكم أن يتأ ّوله أو يخالفه في كثير أو قليل‪ .‬أما إذا انحرف عنه‪ ،‬فإن‬
‫عليّا ً يوجب عليه العقوبة وينفذھا فيه من فوره‪.‬‬

‫] ‪[ ١٦٣‬‬

‫الحريّة وينابيعھا‬
‫ـ ال تكن عبد غيرك وقد جعلك ﷲ ح ّراً‬

‫ـ وقد أذنتُ لك أن تكون من أمر َك على ما بدا لك‪.‬‬

‫ـ ولم تكونوا في شيء من حاالتكم ُمكرھين‪.‬‬

‫غيرھما‪.‬‬ ‫أُكره‬ ‫لم‬ ‫كما‬ ‫أكرھما‬ ‫لم‬ ‫أبَيَا‬ ‫ولو‬ ‫األمر‪،‬‬ ‫ھذا‬ ‫على‬ ‫فبايعاني‬ ‫ـ‬
‫عل ّي‬
‫سس التي قامت عليھا مناھج عل ّي في الحكومة والسياسة‬ ‫ھذا اإليمان األصيل العميق بالحرية‪ ،‬تلقاه في األ ُ‬
‫صل وأجمل‪ ،‬وأم َر ونھى‪ ،‬وسال َم وحارب‪ ،‬وعزل وأثبت‪ ،‬وخالط الناس‪ ،‬وعامل ُولده‪،‬‬ ‫واالدارة‪ .‬وھو بوحيھا فَ ّ‬
‫وعبد ربه! أ ّما نطرته إلى الحريّة فمستقاة من نظرته العامة إلى الكون‪ ،‬وإلى المجتمع‪ :‬قطب ھذا الوجود‬
‫المتحرك في طريق الخير األعلى!‬

‫أما معاني ھذه الحرية فتنبع من العالقات التي يرتبط بھا أبناء المجتمع‪ ،‬بقدر ما تنبع من الضمائر والوجدانات‪.‬‬
‫ولھا أركانٌ ھنا وأركان ھناك‪ ،‬وال تقوم مقاييسھا إالّ عليھا جميعا ً‪ .‬ھكذا ﱢ‬
‫يقرر العقل والتجربة‪ ،‬وھكذا يق ّرر ابن‬
‫أبي طالب!‬

‫أما العالقات التي يرتبط بھا أبناء المجتمع‪ ،‬وھم ذوو صفتين فردية واجتماعية‪،‬‬

‫] ‪[ ١٦٤‬‬

‫فقد وقف اإلمام سياسته وحكومته وإدراته على تجويدھا بما يم ّكن للناس من العيش الكريم‪ ،‬ويھبھم الفرصة‬
‫لالنطالق في ميدان الحرية بأمتع أشكالھا ومعانيھا‪ ،‬ولالمتداد في االفق اإلنساني الوسيع!‬

‫أول مسلك في ھذا النطاق البن أبي طالب‪ ،‬كان أن عالن الناس بمسؤوليته في إقامة ما ھو حق وتھديم ما ھو‬
‫باطل اعفاء لھم من محاولة فاشلة قد يفكرون باللجوء إليھا لمعصية أو إثم فردي‪ ،‬مستشفعين لذلك بمودّة أو‬
‫قرابة أو مناصرة يراد بھا أج ٌر يُلحق الغبن بالجماعة! ثم إنّه قدّم‪ ،‬لتقرير ھذه المسؤولية‪ ،‬إرھاصات من قوله‬
‫وعمله قبل الخالفة وبعدھا‪ .‬وأرى القوم مسلكا ً ذا وجه إيجابي يقوم بالتوجيه إلى الخير وبالعمل على تركيز‬
‫أسبابه والدوافع إليه‪ .‬ومسلكا ً آخر ذا وجه سلبي يقوم بالشدّة في إقامة الحدود مع األبعدين واألقربين وفيھم‬
‫خص ُمه وأخوه‪ .‬ث ّم إنّه مطمئنّ إلى ما يعرفه الناس‪ ،‬كل الناس‪ ،‬من زھده وتعفّفه‪ ،‬والتزامه ما ال يلزم من أسباب‬
‫الزھد والتعفّف‪ .‬وما ذاك إالّ امعانا ً في رعاية المستضعفين بالشعور والوجدان إلى جانب ما ھو عازم عليه من‬
‫ق ال من باب الجود واالحسان! مطمئنّ إلى نفسه‬ ‫السعي في رفع الجور عنھم‪ ،‬ورفع الحاجة بما ھو من باب الح ّ‬
‫ق إلى‬‫ق إلى مصفّى العسل وفي الشعب َمن ال عھ َد له بقرص الشعير‪ ،‬وأن يُد ّل الطري َ‬ ‫وھو يأبى أن يُد ّل الطري َ‬
‫نسائج الق ّز وفي الشعب َمن ال طمع له بالطمر المرقّع؛ وأن يقال أميرالمؤمنين وال يشاركھم مكاره الدھر!‬

‫لقد ح ّرر عل ّي نفسه مما تقيّد به ُوالةُ زمانه من اغالل اإلشادة بالحسب والنسب! وح ّرر نفسه من المطمع في‬
‫الملك والمال والجاه والكبر واالستعالء! وح ّرر نفسه من العرف إن لم يدُر في نطاق العقل السليم والحاجة‬
‫االجتماعية والشوق االنساني الخيّر! وح ّررھا من تخصيص ذويه ومحبيه بما ينفعھم دون‬

‫] ‪[ ١٦٥‬‬

‫سواھم‪ ،‬ومن الحقد على أخصامه واالنتقام من مبغضيه! وحرر ضميره من ك ّل مناجاة بعمل ال يثق بصالحه أو‬
‫قول ال يرضاه‪ ،‬فكان الضمير العمالق! ثم حرر جسده من شھوة المأكل والمشرب والملبس والمسكن إالّ ما كان‬
‫من الضرورات البديھية القاھرة‪ .‬وھو لم يكن ليتناول ثمنا ً لھذه الضرورات من بيت المال العا ّم على حقّه في‬
‫الحصول على نصيب منه كبعض نصيب ع ّماله ووالته على األق ّل‪ .‬فتُحدّثنا الرواية الثابتة أ نّه ربما باع سيفه‬
‫سع على العمال والوالة كي ال يضط ّروا إلى قبول الرشوة م ّما‬ ‫ودرعه وأمتعته ليأكل وبنيه باثمانھا‪ ،‬فيما كان يو ّ‬
‫ق ومسايرة الباطل!‬‫يؤدي إلى ظلم الح ﱢ‬

‫ح ّرر اإلمام عل ّي نفسه من ھذه األمور جميعا ً ليت ّم له أن يتفلّت من ك ّل قيد يحول بينه وبين العدل على الصديق‬
‫والعد ّو معا ً‪ .‬ويوجز‪ ،‬ھو نفسه‪ ،‬حالته ھذه بقوله‪» :‬من ترك الشھوات كان ح ّراً«‪.‬‬

‫أ ّما تقواه فما كانت إالّ تقوى األحرار‪ ،‬يؤمنون فيعملون بوحي ما يؤمنون به ال تظاھُر ھناك وال مواربة! ال‬
‫خشية من عقاب وال طمع في ثواب!‬
‫أ ّما ضمان الحريّة للناس‪ ،‬فيقوم في الدرجة األولى على العمل‪ .‬وقد أنزل اإلما ُم الجس َد العامل من األرض منزلة‬
‫القلب الكريم من الجنّة فقال في الطيبين‪» ،‬قلوبھم في الجنان وأجسادھم في العامل‪ «.‬ويقوم نفع العمل بإثابة‬
‫العامل بما يعمل‪ ،‬على ما سيأتي بيانه بالتفصيل‪.‬‬

‫وإعال ًء منه لشأن الحرية‪ ،‬والعمل الح ّر‪ ،‬أشترط أالّ يُجب َر عامل على عمل‪ .‬فالعمل الذي ال يواكبه الر ضا‬
‫الوجداني العميق‪ ،‬فيه إساءة إلى الحرية ثم إلى العمل ذاته‪ .‬يقول‪» :‬ولست أرى أن أجبر أحداً على عمل‬
‫للحث على العمل الذي يفيد الجماعة‪ ،‬وللمحافظة على الحرية الفردية في وقت واحد‪ ،‬بأن‬ ‫ّ‬ ‫يكرھه«‪ .‬ويكتفي‬
‫يجعل نتيجة العمل من حق العامل وحده‪ ،‬وبأن يحرم َمن كرھه لغير مب ّرر مقبول‪» :‬والنھ ُر لمن عمل دون من‬
‫ك ِرھَه«‪.‬‬

‫] ‪[ ١٦٦‬‬

‫نطاق ھذا البحث‪ .‬فلو استعرض المرء لفظة الحرية في ذلك العصر‬ ‫ِ‬ ‫وھنا الب ّد من اإلشارة إلى أمر ذي خطر في‬
‫ل َما وج َد لھا مدلولھا الواسع العام إالّ في نھج اإلمام عل ّي‪ .‬فإنّ كلمة الحرية ومشتقّاتھا جميعاً‪ ،‬لم يكن لھا من‬
‫المدلول في عصر اإلمام إالّ ما يقوم منھا في معارضة الر ّ‬
‫ق‪ .‬فالحرية ضد العبودية‪ ،‬والح ّر ضد العبد أو الرقيق‪.‬‬
‫فلو نظرنا في المدلول الصحيح لكلمة عمر بن الخطاب المشھور‪» :‬متى استعبدتم الناس وقد ولدتھم أمھاتھم‬
‫أحراراً« لرأينا أن صيغة ھذه العبارة‪ ،‬والظرف الذي قيلت فيه‪ ،‬والدوافع التي أھابت بابن الخطاب إلى قولھا‪،‬‬
‫تتفق جميعا ً على أن عمر ال يعني باإلحرار إالّ أولئك الذين ليسوا عبيداً يباعون ويشترون‪.‬‬

‫أما لفظة »األحرار« التي تعني أصحاب الحق في القول والعمل الحر‪ ،‬فليست تلك التي يوردھا ابن الخطاب في‬
‫عبارته ھذه‪ .‬نضيف إلى ذلك دليالً آخر‪ ،‬ھو أن عمر ّ‬
‫توجه بقوله ھذا إلى الذين يستعبدون الناس فيأمرھم باال‬
‫يسترقّوا َمن ولدتھم أمھاتھم أحراراً‪ .‬وھو لم يتوجه بقوله ھذا إلى االرقاء أنفسھم فيأمرھم بأن يثوروا على‬
‫ّ‬
‫موجھة إليھم وحدھم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مستعبديھم شرا ًء وبيعا ً‪ .‬إذن‪ ،‬فاألمر منوط بإرادة االسياد في كلمة عمر‪ ،‬والنصيحة‬
‫واألفضل أالّ يسترقّوا المستضعفين من الناس‪.‬‬

‫بنص صريح له‪،‬‬ ‫ﱟ‬ ‫أما عند عل ّي بن أبي طالب فاألمر غير ذلك‪ .‬ومفھوم الحرية أوسع وأع ّم‪ .‬نستد ّل على ذلك‬
‫أوالً‪ ،‬ثم بما نستنبطه من دستوره العا ّم الذي نرى منه وجوھا ً في معظم أقواله وعھوده ووصاياه‪ .‬فإزاء كلمة‬
‫عمر التي أشرنا إليھا‪ ،‬يقول عل ّي نصا ً‪» :‬ال تكن عبد غيرك وقد جعلك ﷲ حراً‪ «.‬فانظر كيف ّ‬
‫توجه عل ّي بقوله‬
‫إلى َمن يريده أن يثق بنفسه ويستشعر روح الحرية ومعناھا‪ ،‬فألقى في نفسه ما يوقظه على أصل من أصول‬
‫وجوده‪ ،‬وھو أن طبيعة الكون جعلته ح ّراً ال يتم ّرد وال يُطيع وال يعمل وال يقول إالّ على‬

‫] ‪[ ١٦٧‬‬

‫ق الطبيعي‪ .‬وھو بذلك إنّما يلقي في نفسه بذور الثورة على كل ما من شأنه أن يضيّق عليه‬ ‫أساس من ھذا الح ّ‬
‫ويسلبه حقّه في أن يكون ح ّراً‪.‬‬

‫يتوجه إلى األسياد فيأمرھم باالّ يستعبدوا احداً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وال يظنّنّ القارئ أن الفرق بسيط بين كلمة عمر بن الخطاب إذ‬
‫يتوجه إلى الكافّة فيخبرھم بأنھم أحرار‪ ،‬ويجعل األمر مرھونا بإرادتھم ھم‪ ،‬ال‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫علي بن أبي طالب إذ‬
‫ّ‬ ‫وبين كلمة‬
‫ق يتناول األصول‬ ‫بإرادة األسياد إذا شاؤوا استعبدوا وإذا شاؤوا أعتقوا‪ .‬فالفرق في نظرنا شائ ٌع عظيم‪ .‬وھو فر ٌ‬
‫صه ھذا‪ ،‬نابعة من أصولھا‬ ‫ال الفروع‪ .‬ويشير إلى عمق نظرة اإلمام عل ّي إلى مفھوم الحرية‪ .‬فالحرية‪ ،‬في ن ّ‬
‫ي في ذلك‬ ‫ق في أن يق ّرروا مصيرھم استناداً إلى أنھم أحرا ٌر حقا ً ال رأ ّ‬‫الطبيعية‪ :‬من الناس الذين لھم وحدھم الح ّ‬
‫لمن يريد أن يسلبھم ھذه الحرية أو »يمنحھم« إياھا‪.‬‬

‫ومن عمق ھذه النظرة العلوية إلى الحرية‪ ،‬أنّ عليّا ً يق ّرر بقوله ھذا‪ ،‬أن الحرية عمل وجدانّي خالص‪ ،‬مالز ٌم‬
‫سر عليھا‪ ،‬ألنّھا نابعةٌ من الذات ال تلقائية‬
‫للحياة الداخلية التي ترسم بذاتھا الخطوطَ والحدو َد والمعاني فال تُق َ‬
‫وال خارجية‪ .‬وھي إذا كانت كذلك فليس ألحد أن يُك َره اآلخر أو يجبره في ھذا النطاق‪ ،‬ألنّ عمله ھذا يأتي فارغا ً‬
‫ي معنى‪ ،‬خالصا ً من أي أثر‪.‬‬‫من أ ّ‬
‫ق جذري ال فرعي‪ :‬ھناك حرية وأحرار تُناط قضاياھم بإراد ِة َمن يبيعون‬‫إذن‪ ،‬فالفرق بين كلمتي عمر وعل ّي فر ٌ‬
‫ويشترون‪ ،‬فھي حريةٌ معلّقة وھم أحرار مسيّرون‪ .‬وھي حرية شكلية ال تنبع بحدودھا ومعانيھا من معينھا‬
‫سم خطوطُھا خارج الذات وخارج الوجدان‪ .‬وھم أحرا ٌر أُقصوا عن وجداناتھم وارتبطوا باتّفاقات‬ ‫الطبيعي بل تُر َ‬
‫ومعاھدات‪ .‬وھنا حريّة وأحرار تناط قضاياھم بالطبيعة اإلنسانية نفسھا‪ ،‬وھي طبيعة ح ّرة بأصولھا وينابيعھا‪.‬‬
‫فالحرية إذن مطلقة وحدودھا الرفض والقبول ضمن نطاق الحياة الداخلية والوجدان‪ .‬واألحرار‬

‫] ‪[ ١٦٨‬‬

‫ي ھذا‪ ،‬ھي التي تخلق الثورات‬‫مخيّرون يقبلون ويرفضون عن اقتناع وعن إيجابية‪ .‬والحرية بمفھومھا العلو ّ‬
‫وتنشئ الحضارات وتقيم عالقات الناس على أُسس التعاون الخيّر‪ ،‬وتربط األفراد والجماعات بما يشدّھم إلى‬
‫الخير ألنّ االرتباط حين يكون طرفاه االقتناع والقبول ھو وحده الطبيعي بين االرتباطات‪.‬‬

‫ول ّما كان مفھوم الحرية عند عل ّي ھو ھذا المفھوم الدقيق العميق‪ ،‬كان الب ّد لمعناھا من أن يكون ھو المعنى‬
‫صة والعا ّمة‪ .‬إلى ك ّل ما يرتبط بوجدانات الناس ونزعاتھم وحياتھم‬‫الذي يُنظَر على أساسه إلى األحوال الخا ّ‬
‫الداخلية‪ ،‬وإلى ك ّل ما يتّصل بالعالقات العا ّمة‪ .‬وكان الب ّد أن تُبنى عليه حقوق اإلنسان‪.‬‬

‫سك الشديد بحيث تتساوق منبثقاتُھا جميعا ً وتتعاون‪ ،‬وبحيث‬ ‫ول ّما كانت شخصيّة عل ّي بن أبي طالب من التما ُ‬
‫تتّحد في أصلھا األصيل وغايتھا األخيرة‪ .‬فإنّك ال شك واگجد ھذا المفھوم للحريّة أنّي اتّجھتَ معه وأيّانَ سرتَ ‪.‬‬
‫صلةَ الوثيقة بين معنى من معانيه‪ ،‬أو عمل من أعماله‪ ،‬وبين ھذا المفھوم للحريّة‪ ،‬فما‬ ‫أ ّما إذا فاتك أن تلحظ ال ّ‬
‫عليك إالّ أن تعيد نظرك من جديد في ما أنت ب َ‬
‫صدَده فإذا أنت أمام ھذه الصل ِة الوثيقة وجھا ً لوجه‪.‬‬

‫سك الشخصية بحيث ال يتناقض أبداً‪ .‬وھو من سالمة الطبع وأصالة الفكر بحيث ال‬‫فعل ّي بن أبي طالب من تما ُ‬
‫أسباب‬
‫ٌ‬ ‫يتعارض‪ .‬وسوف نُبرز ھذه الناحية الھا ّمة في بن أبي طالب في فصل آت عقدناه ودفعتناه إلى عقده‬
‫ذكرنانا‪.‬‬

‫الموجھة التي تدفع ابن أبي طالب إلى أن يربطَ كل ما ينبثق‬


‫ّ‬ ‫وإذا شئت دليالً حاضراً على ھذه الحركة العفويّة‬
‫عنه من قول أو عمل بمفھوم الحرية كما أوضحناه‪ ،‬فإليك الدليل‪:‬‬

‫من المعروف أنّ نظرية القضاء والقدَر لھا مكانٌ في األديان الشرقية جميعا ً‪.‬‬

‫] ‪[ ١٦٩‬‬

‫وأنّ لھا أصوالً بعيدة في فلسفات القُدامى وفي مفاھيمھم اإللھية وما يتّصل بھا من ُ‬
‫سنَن أخالقية كان لھا في‬
‫توجيه األفراد عم ٌل ملحوظ وإن كان محدوداً‪.‬‬

‫ومن المعروف كذلك أنّ مذاھب كثيرةً نشأت في المسيحية واإلسالم وغيرھما من غاياتھا تعلي ُل الحوادث‬
‫صة والعا ّمة‪ ،‬القريبة والبعيدة‪ ،‬على ضوء ھذه النظرية‪ .‬وال غرابة في أن تترتّب على ھذا االسلوب في‬
‫الخا ّ‬
‫صة في األخالق والمسلك ترفع المسؤولية في العمل عن المتسبّب فيه لتلقيھا على‬
‫تعليل الحوادث‪ ،‬مناھج خا ّ‬
‫القضاء والقدر‪.‬‬

‫الطبيعي لديھا‬
‫ّ‬ ‫ول ّما كان من أصول ھذه المذاھب القدرية أن تجعل زما َم الحوادث بيد القدَر وحده‪ ،‬فقد بات من‬
‫تعطيل ك ّل معن ًى من معاني الحرية التي تفرض وجو َد القدرة على االختيار‪ ،‬وتجعل المختار في النتيجة مسؤوالً‬
‫أل نّه ح ّر‪.‬‬

‫واجھھا عل ّي بن أبي طالب‪ .‬ولكن على أي أسلوب؟‬


‫ھذه القضيّة بالذات‪َ ،‬‬
‫ھل قال بأنّ القضاء والقدر ـ وھما يد ﷲ في فلسفات القدامى ومذاھبھم ـ يسوقان االنسان س ّوقا ً فال رأي له في‬
‫ما ھو مبسوط عينيه من شؤون الحياة‪ ،‬وال اختيار له في ما ھو صائ ٌر إليه؟‬

‫لناقض نفسه ولَ َما كان لقوله في الحرية شأنٌ ‪ .‬فإنّه ال يكون إذ ذاك أكثر من قول عابر ال يصدر‬
‫َ‬ ‫إنّه لو قال بذلك‬
‫عن أصل عميق وال يھدف إلى غاية معلومة وال يعبّر عن حقيق ِة قائلة إالّ بمقدار ما تعبّر الخاطرةُ الطارئة‬
‫الذاھبة!‬

‫أ ّما إذا كان لقوله في الحرية ھذا الشأن الذي نراه‪ ،‬فإنّه منك ٌر َ‬
‫سوق اإلنسان بيد القدَر إنكاراً شديداً وال شك‪.‬‬
‫وإنّه ناظر إلى القدَر بعين َمن ال يضع إمكاناته فوق إمكانات اإلنسان الح ّر الذي يرى ويعلم ويختار ويتّجه!‬

‫] ‪[ ١٧٠‬‬

‫وماذا قال؟‬

‫قال لشيخ من أھل الشام حضر صفّين‪:‬‬

‫األجر على مسيركم وأنتم سائرون‪ .‬وعلى ُمقامكم وأنتم مقيمون‪ .‬ولم تكونوا في شيء من‬
‫َ‬ ‫»إنّ ﷲ قد أعظم لكم‬
‫حاالتكم ُمك َرھين وال إليھا مضط ّرين!«‬

‫فقال الشامي‪:‬‬

‫»كيف يكون ذلك والقضاء والقدر ساقانا‪ ،‬وعنھما كان مسيرنا وانصرافنا؟«‬

‫فقال له عل ّي‪:‬‬

‫ت‬
‫الثواب والعقاب ولم تأ ِ‬
‫ُ‬ ‫»ويحك يا أخا أھل الشام! لعلّك ظننتَ قضاء الزما ً وقدَراً محتوما ً! لو كان كذلك لبطل‬
‫الئمةٌ لمذنب وال محمدةٌ لمحسن‪ ،‬ولَ َما كان المحسن أولى بثواب اإلحسان من المسيء‪ ،‬وال المسيء أولى‬
‫بعقوبة المذنب من المحسن!«‬

‫وقال أيضا ً‪:‬‬

‫»إن كنت صادقا ً كافيناك‪ ،‬وإن كنت كاذبا ً عاقبناك«‪.‬‬

‫وال يكون قدريا ً من يكافىء صادقا ً ويعاقب كاذبا ً‪.‬‬

‫قلنا إنّه ل ّما كان مفھوم الحريأ عند عل ّي ھو ھذا المفھوم الدقيق العميق‪ ،‬كان الب ّد لمعناه من أن تُبنى عليه‬
‫حقوق اإلنسان‪ .‬وھذا ما نراه واضحا ً كل الوضوح في دستور عل ّي في الناس‪ .‬فھو يعترف لإلفراد بحقّھم في‬
‫االنتخاب واالعتزال‪ ،‬وفي القول والعمل‪ ،‬وفي العيش الكريم‪ ،‬ثم يساوي بينھم جميعا ً في الحقوق والواجبات‪.‬‬
‫وال يجعل لھذه الحرية حدوداً إالّ إذا اقتضت مصلحة الجماعة مثل ھذه الحدود‪.‬‬

‫ونحن إذا تابعنا سيرة اإلمام في الناس‪ ،‬كما تبينّاھا في الفصول السابقة وكما سنتبيّنھا في الفصول الالحقة‪،‬‬
‫ألفيناه ال يعارض بتصرفاته ودستوره ھذا المفھوم للحرية في كثير أو قليل‪ .‬وقد عالج ھذا المفھوم تلقينا ً‬
‫وتطبيقا ً في إقامة‬

‫] ‪[ ١٧١‬‬
‫الحقوق العامة‪ .‬ورعاه في أصحابه وأعدائه على السواء‪ .‬وقد م ّر بنا في مطلع ھذا الفصل‪ ،‬كيف ق ّرر أ نّه ال‬
‫سخر أح ٌد في عمل‪ .‬وم ّر معنا في الفصل السابق كيف أ نّه‬
‫يجوز إجبار أحد على أن يعمل ما يكره عمله‪ .‬وال أن يُ ّ‬
‫لم يستكره بعض الناس على مبايعته بل تركھم على خطأھم‪ ،‬وھو واثق بأنھم على خطأ‪ .‬ولماذا يستكرھھم‪،‬‬
‫طالما أن بقاءھم على خطأھم ال يؤذي الجماعة وال يسيء إلى الحقوق العامة‪ ،‬وطالما أنھم اختاروا ألنفسھم‬
‫ھذه الطريق راضين ع ّما يصيبھم فيه من خير أو شر‪» :‬وأنتم أعلم بالحالل والحرام‪ ،‬فاستغنوا بما علمتم«‪.‬‬
‫ويقول مخاطبا ً المغيرة بن شبعة‪» :‬وقد أذنتُ لك أن تكون من أمرك على ما بدا لك!«‬

‫من ذلك أيضا ً أنّ حبيبا ً بن سلم الفھري جاءه م ّرةً يقول‪ :‬اعتزل أم َر الناس فيكون أمرھم شورى بينھم‪ .‬فقال‬
‫عل ّي‪ :‬وما أنت وھذا األمر؟ اسكت فانّك لست ھناك وال بأھل له‪ .‬فقال حبيب وقال‪ :‬وﷲِ لترينّي بحيث تكره!‬

‫وجه به أحدھم إلى بن أبي طالب والزمانُ‬‫وليس بخاف على القارىء ما في ھذا القول من التھديد الصريح يت ّ‬
‫حرب عليه‪ .‬ولكن‪ ،‬ما كان من أمر عل ّي؟ ھل أمر به وفي يده أن يأمر وقد أطلق في وجھه مثل ھذا‬ ‫ٌ‬ ‫والناس‬
‫ُ‬
‫التھديد؟ أم ھل سجنه فمنع عليه أن يكون ح ّراً في عدائه وتأليب قومه عليه؟ أم ماذا؟‬

‫إنه لم يفعل شيئا ً من ھذا‪ .‬بل نظر إلى صاحب التھديد وقال بلھجة الواثق من عدالته المعترف بحق اآلخرين في‬
‫أن يقولوا ويفعلوا‪» :‬وما أنتَ ولو أجلبتَ بخيلك ورجلك! ال أبقى ﷲ عليك إن أبقيتَ عل ّي! إذھب فص ّوب وص ّعد‬
‫ما بدا لك!«‬

‫نضيف إلى ذلك شواھد أُخرى تد ّل على مقدار ما كان يترك من الحرية الواسعة السمحة ألصحابه وأعدائه على‬
‫السواء‪ .‬من ھذه الشواھد أن نفراً كانوا‬

‫] ‪[ ١٧٢‬‬

‫يرحلون من الحجاز والعراق ويأتون الشام ليلحقوا بمعاوية‪ ،‬فما كان عل ّي ليصدّھم أو يعرض لھم‪ ،‬وما كان‬
‫يحاول استبقاءھم أو إغراءھم‪ .‬فھم في مذھبه أحرار يعملون عن مدى تص ّورھم ويسلكون سبيلھم إلى ما‬
‫يريدون‪ .‬يقول عل ّي‪» :‬اللھ ّم إني دللتُھم على طريق الرحمة وحرصتُ على توفيقھم بالتنبيه والتذكرة‪ ،‬ليثيب‬
‫راج ٌع ويتّعظَ متذكر‪ ،‬فلم يُطع لي قول‪ .‬اللّھ ّم إني أُعيد عليھم القول‪«...‬‬

‫ق في الحرية‪ .‬فمن شاء‬‫لقد دلّھم ھو على طريق الخير وخالّھم أحراراً ال يجبر وال يستكره‪ .‬فليستخدموا ھذا الح ّ‬
‫منھم اھتدى‪ ،‬و َمن لم يشأ فأمامه طريق الشام رحبة واسعة‪ ،‬ومعاوية في انتظاره يُعطي فيُكثر العطاء!‬

‫ول ّما كتب إليه عاملُه على المدينة سھل بن حنيف األنصاري يخبره بأنّ قوما ً من أھلھا لحقوا بمعاوية‪ ،‬كتب‬
‫عل ّي إليه يقول‪:‬‬

‫»أ ّما بعد‪ ،‬فقد بلغني أنّ رجاالً م ّمن قِبَلك يتسلّلون إلى معاوية‪ .‬فال تأسف على ما يفوتك من عددھم ويذھب عنك‬
‫من َمدَدھم‪ .‬فإنّما ھم أھل دنيا مقبلون عليھا ومسرعون إليھا‪ .‬وقد عرفوا العدل ورأه وسمعوه ووعوه‪ ،‬وعلموا‬
‫ق أُسوة‪ ،‬فھربوا إلى األثرة‪ .‬فبُعداً لھم وسحقا ً! إنھم‪ ،‬وﷲ‪ ،‬لم ينفروا من جور‪ ،‬ولم‬‫أنّ الناس عندنا في الح ّ‬
‫يلحقوا بعدل!«‬

‫ق الناس في الحرية الواسعة أسلوبه في معاملة الخوارج‪ .‬فقد كان يحسن‬ ‫وشاھ ٌد آخر على معرفة عل ّي ح ّ‬
‫معاملة من أقام منھم معه‪ .‬ويعرف أنّ أحدھم يھم بالخروج فال يستكرھه وال يستبقيه‪ ،‬وال يرضى بأن يتع ّرض‬
‫له من أصحاب أحد‪ .‬ثم إنّه كان يعطيھم نصيبھم من الفيء أسوةً بسائر الناس‪ ،‬ويفسح لھم في المجال ألن‬
‫يتوجھوا حيث يشاؤون‪ .‬فالحريّة أساس في المعاملة‪ .‬والناس أحرار في ما يرون من عمل وقول‪ ،‬ومواالة‬
‫ومعاداة‪ ،‬إالّ أن يعتدوا على الناس ويُفسدوا في األرض فأنھم حينذاك غير أحرار‪ .‬وإنّه حينذاك مقيم‬

‫] ‪[ ١٧٣‬‬
‫ما ل ِز َمھم من الحدود في غير لين‪.‬‬

‫الخ ّريت بن راشد‪ ،‬بأ نّه لن يأت ّم به ولن يشھد معه الصالة ولن يأتمر بما يأمر‬
‫وقد أخبره أحدھم م ّرة‪ ،‬واسمه ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ولن يكون له عليه سلطان‪ .‬فما كان من عل ّي إال أن أق ّره على ما أرتأى وأراد وخاله ح ّراً في ما شاء‪ .‬ثم كانت‬
‫الخ ﱢريت بن راشد بعدھا ومعه أصحاب له كثير‪ .‬فما استكرھھم عل ّي على البقاء معه وال منعھم من‬ ‫أيا ٌم خرج ِ‬
‫الخروج‪ ،‬وبيده أن يستكره وان يمنع‪ .‬فل ّما اساؤوا استغالل ھذه الحرية فاعتدوا على الناس األبرياء ونھبوا‬
‫وعاثوا في األرض فساداً وتركوا على أنفسھم سبيالً‪ ،‬ارسل عل ّي إليھم َمن أنصف منھم لألرض والناس‪.‬‬

‫ويھ ّزك في ابن أبي طالب من اعترافه للناس بح ّريتھم أكث ُر من ھذا‪ .‬يھ ّزك فيه ھذا االنسجامال بين سيرته في‬
‫يصح عنه االنحراف‪ .‬فھو معترفٌ بھذا‬ ‫ّ‬ ‫الناس وبين إيمانه بأنّ الحرية أص ُل إنساني ال يجوز فيه التأويل وال‬
‫ق في الحريّة ألصحابه حتى في أخطر المواقف عليه‪ :‬في جھاد القاسطين والفاسقين وأھل الردّة عن الحق‬ ‫الح ّ‬
‫وقد مألوا األرض وطلبوا دمه في جملة ما يطلبون‪ .‬فلما كان جھاد ھؤالء أمراً تقضي به كل المقاييس‬
‫والموازين‪ ،‬ويقضي به الوجدان الذي يرعى العدالة والحق‪ ،‬كان الب ّد البن أبي طالب‪ .‬من أنصار في الحرب‬
‫وأعوان‪ .‬ولكنه لم يكن ليستكره أحداً من ھؤالء األنصار على جھاد وقتال‪ .‬ولم يكن يجبر قريبا ً أو بعيداً‪ ،‬بما‬
‫لديه من حق الوالية وبما في يده من قوة السلطان‪ ،‬على أن يثبتوا إلى جانبه في محاربة القاسطين الفاسقين‪.‬‬

‫لم يكن ليلجأ في ذلك إلى قھر مادّي أو معنوي‪ .‬فالقھر‪ ،‬بمختلف ألوانه‪ُ ،‬مناف الصول النظرة العلوية إلى‬
‫ويتوجه إلى‬
‫ّ‬ ‫الحرية وشروطھا‪ .‬إنّما كان يتوجه إلى عقول القوم بمنطق العقل وما لديه من حجة وبرھان‪.‬‬
‫قلوبھم وضمائرھم بمنطق القلب والضمير وما لديه من قوة ودليل‪ .‬فيلحق به من‬

‫] ‪[ ١٧٤‬‬

‫يلحق ويتخلّف عنه من يتخلّف‪ .‬فيثبت األولين بالرضى والثناء ويعود على اآلخرين بأبلغ الوعظ وأبلغ النّصح‬
‫وأبلغ التحريض‪ .‬فمن ظ ّل منھم حيث ھو‪ ،‬فإنّه ح ّر‪ .‬فعل ّي ال يقبل االكراه وال يجيزه‪ .‬وھو يأبى أن يلحق به أحد‬
‫الناس عن غير بصيرة وغير إيمان‪ .‬لذلك لم يجبر من الناس أحداً على أن يلحق به في حرب الجمل وحرب‬
‫صفّين وحرب الخوارج‪ ،‬ولو شاء لجنّد من الناس ملء السھل والجبل!‬

‫صا ً صرحيا ً‪ .‬وأقام على ھذه األصول بناءه‬


‫لقد أدرك علي بن أبي طالب الحرية بأصولھا‪ ،‬فأطلق إدراكه ھذا ن ّ‬
‫الجبار في األخالق الخاصة والعامة‪ ،‬وفي عالقات الناس بعضھم ببعض‪ .‬وعمل بموجباتھا مصلحا ً ومشترعا ً‬
‫ق الناس في الحرية الواسعة كل يوم دليالً‪ ،‬ولكن ضمنَ نطاق‬ ‫وقائداً وحاكما ً وواعظا ً‪ .‬وأعطى على احترامه ح ّ‬
‫يرسمه مفھوم الحرية نفسه‪ ،‬وھو أالّ تسيء حرية البعض إلى حرية الجماعة‪.‬‬

‫] ‪[ ١٧٥‬‬

‫الحرية بين الفرد والجماعة‬


‫ق الدوافع ألن نجعل من‬
‫يثيران في طبيعتنا الخيّرة أعم َ‬
‫ِ‬ ‫اللذان‬
‫ِ‬ ‫ـ إنّ إيماننا باإلنسان‪ ،‬ووالءنا لإلنسانية‪ ،‬ھما‬
‫سو‬‫البليد المسخر إنسانا ً بشريّا ً نابھا! رو ّ‬

‫وشروط وجوده ال يقبل إالّ بھذه‬


‫ِ‬ ‫ـ وكذلك موجةُ البحر وزھرةُ الفقر وطي ُر السماء فك ّل ما في الكون ُح ﱞر بأصوله‬
‫الح ّرية قانونا ً وإال تعطﱠ َل وانتھى أم ُره!‬

‫ـ ولجأ عل ّي إلى توسيع معاني الح ّرية لدى معاصريه‪ ،‬وفي الوقت نفسه لجأ إلى توسيع الشعور بالمسؤولية‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬فالحرية مكفولة أصالً في نھج اإلمام ودستوره في الناس‪ :‬يكفلھا الواجدان االنساني بوصفه قوةً ال تعمل‬
‫باالكراه‪ .‬وتكفلھا قوانينُ الطبيعة التي ال يمكن االعتداء على حركتھا الح ّرة في قليل أو كثير‪ .‬ويكفلھا العم ُل‬
‫االجتماعي الصحيح الذي ال يستقيم إال بمقدار ما ھو خاضع ألصول الوجدان اإلنساني وقوانين الطبيعة الثابتة‬
‫يحس ح ّراً‪ ،‬ويفكر حراً‪ ،‬ويقول حراً‪ .‬وال يجوز إجباره في غير ھذه‬
‫ّ‬ ‫على ح ّريتھا‪ .‬فاإلنسان إذن ح ّر بأصوله‪:‬‬
‫الحدود إالّ إذا جاز إفناؤه‪.‬‬

‫فانتَ ال يمكنك أن تقضي على نور الشمس إالّ إذا منعته عن غايته‬

‫] ‪[ ١٧٦‬‬

‫في اإلنارة وإشاعة الدفء بحاجز تقيمه بين أش ّعته وبين غايته‪ .‬إذن فقد أخرجتَه إلى نطاق من اإلمانة واإلفناء‪.‬‬

‫وأنت ال يمكنك أن تبدّل من مجاري الرياح إالّ إذا صدمتَھا في طريقھا إلى غايتھا بما يثبت لھا‪ .‬إذن فقد قضيتَ‬
‫عليھا‪ ،‬حيث صدمتَھا‪ ،‬باإلماتة واإلفناء!‬

‫وكذلك موجة البحر وزھرة القفر وطير السماء‪ .‬فك ّل ما في الكون ح ﱞر بأصوله وشروط وجوده ال يبل إالّ بھذه‬
‫الحرية قانونا ً وإالّ تعطّل وانتھى أمره‪.‬‬

‫ھذه الحرية ھي التي أدركھا ابن أبي طالب في أعماقه ادراكا ً بعيداً فانطلق لسانه بما أدرك من أمرھا في نفسه‪.‬‬
‫وعمل بوحي ما أدرك وما قال عمالً يبرره ھو‪ ،‬وتبرره القوانين الطبيعية‪ ،‬وتبرره القوانين الطبيعية‪ ،‬وتبرره‬
‫غاية اإلنسان ومصلحة المجتمع‪ .‬وقد عرفنا من قوله وعمله ھذين الشيء الكثير‪ .‬وعرفنا كيف سعى في توجيه‬
‫حركة االفراد عمالً بشروط ھذه الحرية‪ .‬وإنّ أمراً أساسيا ً واحداً يتعلق بحرية اإلنسان االجتماعي لم يفته‪ ،‬فإذا‬
‫ھو يرعى حرية األفراد إلى أقصى ح ّد ضمنَ نطاق من حرية الجماعة ومصلحتھا وغاية وجودھا‪.‬‬

‫ففيما نرى نفراً من مفكري اليونان القدماء‪ ،‬ومفكري أوروبا في العصر الوسيط‪ ،‬ينظرون في حرية األفراد‬
‫دونما اھتمام بمصلحة الجماعة وبالحرية العامة‪ ،‬فيقودھم تفكيرھم إلى أن يبيحوا خروج الفرد على الجماعة‬
‫واستئثاره بما ھو من حقھم؛ وفيما نرى نفراً آخرين من المفكرين ينظرون في مصلحة الجماعة دونما اھتمام‬
‫بحرية الفرد وما له من حقوق‪ .‬فيبيحون الضغط على الوجدان والتسخير في العمل؛ نرى ابن أبي طالب ينظر‬
‫في حرية الفرد ومصلحة الجماعة نظرة موحدة شاملة‪ .‬فال يغبن ھذا وال يؤذي تلك‪ .‬بل يقيم بينھما انسجاماً‬
‫يجعل الفرد جديراً باستخدام حريته‪ .‬ويجعل الجماعة خليقة باالستفادة من االجتماع‪ .‬بل قل يجعل الفرد للجماعة‬
‫والجماعة للفرد في نطاق من الحرية‬

‫] ‪[ ١٧٧‬‬

‫الرحبة السمحة‪ .‬وسوف نعود إلى مثل ھذا الحديث في كالمنا على شؤون األرض والمال وطرق االستغالل‪.‬‬

‫ولكي يجعل عل ّي حرية الفرد في نطاق من حرية الجماعة ومصلحة أھلھا‪ ،‬قاده النظر العميق إلى اكتشاف‬
‫حقيقة اجتماعية اساسية‪ .‬وھي أن الناس المرتبطين بالمجتمع‪ ،‬الب ّد لھم من توجيه شعورھم بالحرية توجيھا ً‬
‫معيّنا ً ال يح ّد من أصول ھذه الحرية‪ ،‬بل يمنع استخدامھا على أسلوب بدائي يض ّر باآلخرين‪ .‬فحرية األفراد لديه‬
‫ليست الحرية اإلباحية الرعناء‪ .‬بل ھي مقترنة أبداً بالشعور بالمسؤولية‪ .‬ولكي يجعل ھذا الشعور بالمسؤولية‬
‫أمراً ال يتعارض مع الشعور بالحرية الواسعة‪ ،‬لم يلجأ‪ ،‬شأن بعض الفالسفة والمفكرين األقدمين‪ ،‬إلى التضييق‬
‫على الناس في معنى الحرية‪ .‬بل لجأ إلى وسيلة ھي في نظرنا أج ّل الوسائل شأنا ً وأعظمھا قيمةً وأدلّھا على‬
‫عمق األغوار االنسانية والمفاھيم االجتماعية في شخصية ابن أبي طالب‪.‬‬

‫لجأ إلى توسيع معنى الحرية في مدارك الناس؛ وفي الوقت نفسه لجأ إلى توسيع معنى الشعور بالمسؤولية‪.‬‬
‫ومن آياته في ھذه الوسيلة الرائعة‪ ،‬ما سوف نذكره من أمره مع أھل القرية الذين شاؤوا أن يحفروا مجرى‬
‫ّ‬
‫يسخرھم‪ ،‬بل‬ ‫ّ‬
‫يسخرھم في العمل‪ .‬فأمره عل ّي بأالّ‬ ‫النھر الذي عفا ودرس‪ .‬فطلبوا إلى عامله على قريتھم أن‬
‫يطلب إليھم أن يعملوا في الحفر ويتقاضوا على ذلك أجراً‪ .‬ثم أن يكون األجر‪ ،‬والنھر فيما بعد‪ ،‬لمن عملوا بمل‬
‫حريتھم‪ ،‬ولمن شعروا بأنھم مسؤولون ع ّما عملوه وھم أحرا ٌر في أن يثابوا خيراً وفي أالّ يثابوا!‬

‫وكأني بعل ّي يحيا منذ بضعة عشر قرنا ً ھذه العاطفة الكريمة التي ص ّورھا العبقري الفرنسي جان جاك روسو‬
‫منذ قرنين إذ قال‪» :‬إن إيماننا باإلنسان ووالءنا لإلنسانية‪ ،‬ھما اللذان يثيران في طبيعتنا الخيّرة أعمق الدوافع‬
‫ّ‬
‫المسخر إنسانا ً بشريا ً نابھا!«‬ ‫ألن نجعل من البليد‬

‫] ‪[ ١٧٨‬‬

‫لقد تعيّن في دستور عل ّي‪ ،‬أنّ الحرية الحرة يجب أن تصقل نفسھا فتقيد بالشعور بالمسؤولية وھو ال يؤذيھا‪،‬‬
‫بل ينفعھا وينفع العمل الفردي واالجتماعي‪ .‬لذلك لم يجعل المسؤولية بحدودھا الشكلية الظاھرة‪ ،‬ھي المح ّرك‬
‫والباعث على العمل الصالح‪ .‬بل جعل الحرية نفسھا مسؤولة‪ .‬وجعل األحرار مسؤولين‪ .‬وناط مقدار ھذه‬
‫المسؤولية بمقدار الحرية‪ .‬فإذا كانت المسؤولية ال تتبلور في االفكار الجامدة والقلوب المأسورة والعواطف‬
‫المكبوتة والشخصيات المحدودة‪ .‬فألنھا ال تتبلو إال في نطاق الحرية التي تطلق األفكار والعواطف الشخصية‪،‬‬
‫وتمدھا بالغذاء النافع المق ّوي‪.‬‬

‫وبھذه النظرة يكون عل ّي قد رفع القيود الضيّقة واألغالل الثقيلة التي تفرضھا السلطات على الناس كي يجنوا‬
‫لمجتمھم عمالً كثيراً‪ .‬فإذا بھم عاجزون عن أن يعملوا ألنھم غير أحرا‪ .‬وإذا بالمسؤولية في نظرھم ال تنبع من‬
‫أفكارھم وأحاسيسھم الحرة الطليقة التي بھا وحدھا بُج ّود العمل‪ ،‬بل ھي شيء مرتبط بإرادة السلطة وبغمزة‬
‫عين من الحاكم‪ .‬وإذا بعزائمھم تثبط ورجولتھم تضعف وقواھم تذھب في غير طريقھا المستقيم‪.‬‬

‫بعد أن ترك اإلمام األفراد في مجتمعه السليم أحراراً مخيّرين‪ ،‬وترك لھذه الحرية نفسھا أن تقودھم إلى الشعور‬
‫بالمسؤولية‪ ،‬وإلى التفكير الدائم بأنھم مرتبطون بمجتمع له عليھم حقوق‪ ،‬راح يحكم ويضع النظريات‪ ،‬على‬
‫اصول من ھذه الحقيقة؛ فيثب على ضوئھا ويعاقب‪ ،‬ويأمر وينھي‪ ،‬على ما رأيناه ثم على ما سنراه بالتفصيل‪.‬‬

‫***‬

‫وإننا إذ نكتفي بھذا القدر اليسير من الكالم على الحرية ومفاھيمھا عند عل ّي‪ ،‬ندعو القارئ إلى انتظار فصول‬
‫آتية نتحدث فيھا مط ّوالً عن ھذه الحرية‪ ،‬وذلك في أساس الكالم على المبادئ اإلنسانية بين ثورة عل ّي‬

‫] ‪[ ١٧٩‬‬

‫والثورة الفرنسية الكبرى‪ .‬ولَسوف يرى القارئ إذ ذاك مقدار ما ترك عل ّي في آثاره من أفكار ثورية عميقة‪،‬‬
‫جديرة بالحياة‪ ،‬داعية إلى التط ّور‪ .‬ومقدار ما أدرك من روح الحرية التي ال يجوز معھا إرھاب للضمير وال‬
‫تخويفٌ للنفس‪ ،‬والتي ال تعترف من اإلنسانية إالّ بوجھھا الجميل وخيرھا األصيل!‬

‫] ‪[ ١٨٠‬‬

‫من أين لك ھذا؟‬


‫ـ إن ھذا المال ليس لي وليس لك‪.‬‬

‫س ُعنا أن نُعط أمرءاً أكثر من حقّه‪.‬‬


‫ـ ال يَ َ‬
‫بالجور في َمن ُوليتُ عليه؟ وﷲ ما أطو ُر به ما أ ﱠم نج ٌم في السماء نجما ً! عل ّي‬
‫ـ أتأمروني أن أطلب النصر َ‬

‫ـ طلحة والزبير‪ :‬نبايعك على أنﱠا شركاء في ھذا األمر!‬

‫ـ عل ّي‪ :‬ال!‬

‫قشر المحتكرين من ك ّل مال اغتصبوه كما تُقشَر عن العصا َ‬


‫لحھا!‬ ‫ـ وراح عل ّي يَ ِ‬

‫قلنا إنّ الحرية بمفاھيمھا الواسعة ھي مصدر األصالة في حكومة عل ّي‪ ،‬وفي سياسته‪ .‬وإنّا لديه مرتبطة‬
‫بعالقات أبناء المجتمع بعضھم ببعض بقدر ما ھي مرتبطة بالضمير والوجدان‪ .‬ثم إن اإلنسان الصاعد في‬
‫طريق التعاون والتآخي‪ ،‬ال يمكنه ھذا الصعود إن لم يكن حراً بجانبيّه الذات ّي واالجتماعي‪ .‬فليس حراً ذاك الذي‬
‫ال يصفو ضميره من الشوائب التي تحطّ بالقدر اإلنساني‪ .‬وليس حراً ذاك الذي يھمله المجتمع عمليا ً وإن أق ّر‬
‫بحقوقه‪ ،‬أو ببعضھا‪ .‬إقراراً نظريا ً‪.‬‬

‫في سبيل ھذا البناء في الفرد وفي الجماعة‪ ،‬وقف عل ّي من محبّيه و ُمبغضيه‬

‫] ‪[ ١٨١‬‬

‫ق وال يزعزعه ع ّما ھو عليه وع ٌد أو وعيد‪.‬‬ ‫على السواء موقفَ المص ّمم العازم ال يقھره مطم ٌع في غير الح ّ‬
‫ق العلم‬
‫صعب مستصعب«‪ .‬وكان يعلم ح ّ‬‫ٌ‬ ‫ق العلم أنّ ذاك ثقي ٌل على بعض الناس فيقول‪» :‬إنّ أمرنا‬ ‫وكان يعلم ح ّ‬
‫صةً فيقول‪» :‬والح ّ‬
‫ق ثقي ٌل على ال ُوالة‪ ...‬وك ّل حق ثقيل!«‬ ‫ّ‬ ‫خا‬ ‫الة‬‫و‬‫ُ‬ ‫ال‬ ‫على‬ ‫ل‬
‫ٌ‬ ‫ثقي‬ ‫أيضا ً أن ذاك‬

‫ق على ال ُوالة والوجھاء أم خفَ ‪ ،‬فإنّ عقله وضميره جميعا ً يأمران وما‬ ‫ولكن سوا ٌء عند ابن أبي طالب أثَقُ َل‪ ،‬الح ّ‬
‫لغيرھما شأنٌ لديه‪ .‬وھما يأمران بأالّ يُھ َمل الظامئون إلى العدل االجتماع ّي وأال يھونَ على المشترع والحاكم‬
‫ّ‬
‫أم ُرھم فيعانوا من الحاجة ما يُذلّھم فيُصلقھم باألرض‪ ،‬ويقاسوا من الجوع ما تجفّ به حلوقُھم وتستعر‬
‫وأجة الليل‪ ،‬أو يقرقفوا تحت سوط الرياح في زمھرير الشتاء! وھما يأمران بأالّ‬ ‫بح ّر الھجير ّ‬ ‫أجوافھم‪ ،‬ويُح ّرقوا َ‬
‫ّ‬
‫المتبذخين‬ ‫تخمين والمترھّلين اآلكلين على شبع والشاربين على غير ظمأ‪،‬‬ ‫تُترك خيراتُ األرض بين أيدي ال ُم َ‬
‫بأموال العا ّمة على غير جھد وغير بَالء! أولئك الذين أخذوا الدنيا كما يأخذھا الفي ُل إذ يكتفي من دنياه بقرض‬
‫يفجر ينابيعه‪ ،‬واالستراح ِة في الظ ّل بع َد استراحة لم يسبقھا عناء!‬
‫ب ماء لم ّ‬ ‫عشب لم يزرعه‪ ،‬وشر ِ‬

‫وقد صدق ظنّ ابن أبي طالب في أنّ النافذين والوجھاء من القوم لن يتحملوا أسلوبه في الوالية ولن يطيقوا‬
‫صالبته في الدفاع عن ھذا األسلوب‪ ،‬على نحو ما أعلن قبل البيعة‪ .‬فقد أرادوه‪ ،‬بعد البيعة‪ ،‬أن يكون لھم دون‬
‫العامة‪ ،‬فأبى أن يكون لغير الحق‪.‬‬

‫جاءه طلحة والزبير يساومانه قائلين‪» :‬نبايعك على أنّا شركاؤك في ھذا األمر!« فقال غير متردّد‪ :‬ال! فتف ّرقا‬
‫عنه‪ ،‬وزحفا عليه بالجيوش على ما سيأتي بيانه‪ ،‬وعل ّي أعل ُم الناس بما لطلحة والزبير من نفوذ ومكانة‪ .‬ولكنه‬
‫العدل! ولكنه ابن أبي طالب الذي يقول لھؤالء وھؤالء‪» :‬أتأمرونني أن أطلب‬

‫] ‪[ ١٨٢‬‬

‫س َم َر سمي ٌر وما أ ﱠم نج ٌم في السماء نجما ً! أالّ إنّ‬


‫النصر بالجور في من وليّتُ عليه؟ وﷲ ما أطور ـ آمر ـ به ما َ‬
‫عطاء المال في غير حقه إسراف وتبذير!«‬

‫إنّ الطعام ال يُقدﱠم إلى شبعان‪ ،‬كما يقول عل ّي‪ .‬والثروة قليلةً كانت أو كثيرة‪ ،‬ال تكون مشروعةً في مذھبه إالّ إذا‬
‫كانت عن غير طريق االحتكار واستغالل العا ّمة واإلفادة من السلطة‪.‬‬
‫بعض ما أجرموا‪ .‬وللظالمين بعض ما ظلموا‪ .‬غير أ نّه ال يغتفر جريمة االحتكار‬ ‫َ‬ ‫علي للمجرمين‬ ‫ّ‬ ‫وقد يغتفر‬
‫ونھب أموال الشعب‪ .‬وال يغتفر لطبقة المحتكرين أن يظلموا العامل والكادح والمستض َعف بخبزھم ومائھم‪ .‬وإنّ‬
‫ي المضعيف‪ ،‬والمحتكر للعا ّمة‪،‬‬‫الظلم بألوانه جميعا ً لعنةٌ على لسان ابن أبي طالب‪ .‬غير أنّ أفحشه ھو ظلم القو ّ‬
‫والحاكم للمحكوم‪ .‬وعل ّي ال يتسامح بمثل ھذا الظلم الذي يخلق في المجتمع الطبقية المادّية‪ ،‬ورذائلھا‬
‫وجرائمھا‪.‬‬

‫الحجة الصريحة على المستغلّين والغاصبين في أدب عل ّي‪ ،‬كثيرةٌ وافية‪ .‬فأنّى اتّجھتَ في‬ ‫ّ‬ ‫واألدلّة التي تقيم‬
‫تحس تلك الحرقة التي تُلھب أقوال عل ّي ساعةَ يتحدّث عن االستغالل والغصب‪ .‬ويكاد يتحدّث‬ ‫ّ‬ ‫»نھج البالغة«‬
‫ق بأنّ الغصب جريمة اجتماعية‬ ‫عنھما في ك ّل خطبة له وفي ك ّل مقال‪ .‬وفي أقواله جميعا ً ما يدل على أ نّه واث ٌ‬
‫والمستغل مجر ٌم أيّا ً كان‪ .‬وأن جمع المال من غير طرقه الطبيعية إنّما له تَبِعاتٌ جسا ٌم تَل َزم صاحبَھا على كال‬
‫حال‪.‬‬

‫وإليك ما يقوله عل ّي في إحدى خطبه وكان يتحدّث عن جامع المال‪:‬‬

‫»‪ ...‬ويتذ ّكر أمواالً َج َم َعھا وأغ َمض في مطالبھا ـ أي لم يف ّرق بين حالل وحرام ـ وأخ َذھا من ُمص ّرحاتھا‬
‫ومشتبّھاتھا‪ ،‬وقد لزمته تبعاتُ جمعھا!« أ ّما كسب الحالل الذي ال يد فيه الستغالل أو احتكار‪ ،‬فيقول عل ّي في‬
‫صاحبه‪َ » :‬من َمات من كسب الحالل مات وﷲ راض عنه!«‬

‫لذلك عزم عل ّي على أن يد ّك ما ارتفع في العھد السابق من حصون االحتكار‬

‫] ‪[ ١٨٣‬‬

‫واستغالل النفوذ ونھب األرزاق وسائر ما شيّده أولئك األثرياء الذين يقول في أمثالھم‪» :‬وأ ّما األغنياء من‬
‫مواقع النّعم«‪ .‬فخطب الناس يقول‪:‬‬
‫ِ‬ ‫صبوا آلثار‬
‫ترف ِة فتع ّ‬
‫ُم َ‬

‫ق ال يبطله‬
‫»أال إنّ كل قطيعة أقط َعھا عثمان‪ ،‬وكل ما أعطاه من مال ﷲ‪ ،‬فھو مردود في بيت المال‪ .‬فإنّ الح ّ‬
‫ق‬
‫تزوج به النساء وف ّرق في البلدان لرددته‪ .‬فإن العدل في سعة‪ .‬ومن ضاق عليه الح ّ‬
‫شيء‪ .‬ولو وجدتُه فد َ‬
‫فالجور عليه أضيق!«‬

‫قد يعل بعض الوالة وأصحاب السلطان فال يُثيبون على غير جھد‪ ،‬وال يبذرون مال الشعب بإرادة متق ّرب أو‬
‫قريب‪ ،‬أو بإشارة صديق أو حبيب‪ .‬أ ّما أن يعود وال إلى ما أيسروا في عسر الشعب‪ ،‬في أيام لم تكن أيامه‪،‬‬
‫فيحاسبھم‪ ،‬فيستعيد منھم ما ليس لھم‪ ،‬فتلك داللة على عمق نظرته إلى األمور‪ ،‬وعلى أن إيمانه بالعدالة‬
‫سر لجميع الناس من اإليمان‪ .‬بل انه موط على دعائم من العقل الرجيح الذي ال تفوته‬ ‫االجتماعية ليس ما يتي ّ‬
‫خفايا األمور وال يطغى عليه عُرف العصر والناس‪ .‬فإذا كان للمرء أال يُثاب إالّ في نطاق من خدمة الجماعة‪،‬‬
‫ق مايتي ألف درھم تُبذل له من مال الشعب‪ ،‬يوم‬‫فأي جھد في سبيل الجماعة بَ َذلهُ الحارث بن الحكم حتى يستح ّ‬
‫زواجه ببنت عثمان ھو ھذا الجھد وھذه الخدمة!؟‬‫ُ‬ ‫عرسه‪ ،‬إن لم يكن‬

‫ي جھد في سبيل الجماعة قدَمه طلحة والزبير حتى يحصال على أموال الدولة بغير حساب‪ ،‬ويقطعا ما ال طَ َم َع‬ ‫وأ ّ‬
‫ببعضه للماليين من الناس؟ من أين ألحدھما‪ ،‬الزبير‪ ،‬أن يقتني من األرقّاء ألف عبد وألفَ أ َمة؟ أ ّما إذا كان لھما‬
‫معاش والناس في المعاش‬ ‫ٌ‬ ‫فضل السابقة في اإلسالم‪ ،‬فإن الفضل في ذلك عند ﷲ‪ ،‬كما يقول عل ّي‪ ،‬والدنيا‬
‫أُسوة!‬

‫وما ھي وجوه الخير التي أطلّت على الشعب مع الوالة من قرابة عثمان‬

‫] ‪[ ١٨٤‬‬
‫سع عليھم في الملك واألموال والثروات واألجناد والتحكم في الرقاب؟ وفي ھؤالء معاوية‬
‫وأنصاره كي يو ّ‬
‫الراشي والحكم بن العاص وعبدﷲ بن سعد وغيرھم من األھل واألنصار؟!‬

‫من أين لمعاوية فلسطين وحمص تُض ّمان إلى واليته‪ ،‬واألجناد األربعة تُجمع له قيادتھا‪.‬‬

‫ومن أين لغيره والدور والقصور في ك ّل بلد وك ّل مصر؟‬

‫أجل‪ ،‬يا ھذا! من أين ھذا؟! كيف حصلتَ على ھذه القصور وھذه األموال وليس في أعمالك ما يثبت على صعيد‬
‫الخدمة العا ّمة فيما لو أطلّت عليك الشمس!!‬

‫ق ال يبطله‬‫المعوج على اعوجاجه‪ ،‬والح ّ‬


‫ّ‬ ‫بحجة ألنّ يظل‬
‫أ ّما إذا م ّر الزمان على احتوائك المال واألرض‪ ،‬فما ذاك ّ‬
‫شيء‪ .‬إذن‪ ،‬فكل قطيعة‪ ،‬وكل مال أُعطي بغير حق‪ ،‬ھو مردود في بيت لمال ولو ُوجد قد تُز ّوج به النساء وفُ ّرق‬
‫في أنحاء األرض‪ .‬فإن العدل‪ ،‬وھو في سعة‪ ،‬لن يضيق ولن يُح ّد في إطار من ھذه اإلطارات التي قد يتعلّل بھا‬
‫المستنفعون!‬

‫وھنالك أم ٌر جدير بأن يُنظ َر فيه‪ .‬وھو أنّ عليّا ً كان يحسب اقتطاع األرض بالقرابة والنفوذ في جملة المال‬
‫المنھوب‪ .‬ذلك ألنّه يعرف‪ ،‬بحكم الواقع‪ ،‬أنّ ھذه األرض مصدر ثروة ثم علّة تملّك‪ .‬ثم يرى بسديد عقله أن‬
‫مقتطعيھا من الحكام واألثرياء والنبالء ال شك أنھم سيسعون في استرقاق العا ّمة لخدمة ھذه األرض واستخراج‬
‫ّ‬
‫تضخم الثروة لديھم‪ ،‬فيما يتضاءل اآلخرون شيئا ً فشيئا ً‪ .‬ثم يعود أصحاب‬ ‫خيراتھا مما يجعل األرض سببا ً في‬
‫االقطاعات الكبيرة فيشترون من صغار المالّكين ما يملكون‪ ،‬حتى تتألف في الشعب طبقة االقطاعيين وطبقة‬
‫المغبونين‪ .‬يقول علي‪» :‬وال يطمعنّ منك في اعتقاد عقدة ـ اقتطاع ضيعة ـ بمن يليھا من الناس في شرب أو‬
‫عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرھم‪«.‬‬

‫] ‪[ ١٨٥‬‬

‫أصحاب الضياع الواسعة من النفوذ والسلطان واسترقاق الناس في‬‫ُ‬ ‫وقد صدقت نظرة اإلمام إلى ما يصير إليه‬
‫ت االقطاعات الكبيرة الضخمة والضياع‬ ‫سبيلھا‪ ،‬ثم بھا! يقول الدكتور طه حسين في كتابه »عثمان«‪ُ » :‬وجد ِ‬
‫الواسعة العريضة من جھة‪ ،‬وقام فيھا العاملون من الرقيق والموالي من جھة أخرى‪ ،‬فظھرت في اإلسالم طبقة‬
‫جديدة من الناس ھي طبقة البلوتوقراطية التي تمتاز‪ ،‬إلى ارستقراطيتھا التي تأتيھا من المولد‪ ،‬بكثرة المال‬
‫وضخامة الثراء وكثرة األتباع أيضا ً!«‬

‫نصيب أكثر من سواه‪ ،‬في مذھب عل ّي‪ ،‬إالّ بجھد‬ ‫ٌ‬ ‫إن المال واألرض‪ ،‬والخيرات الناجمة عنھما‪ ،‬ليس ألحد فيھا‬
‫وحاجة‪ .‬و َمن أبي ھذه الحقيقةَ فقد خان الشعب »وأعظ ُم الخيانة خيانة األ ّمة« في نظر اإلمام‪ .‬و َمن خان األ ّمة‬
‫ي له‪ ،‬وال شأن لموقفه من الخليفة الجديد‪ .‬لذلك ھو عازم على أن يعمل بما يحفظ لھذه االمة حقوقھا‪.‬‬ ‫فال رأ َ‬
‫وابن أبي طالب إذا عزم ال يخشى موقف النافذين منه وال قولھم فيه‪ .‬وال ھو يأبه للحاقھم بأخصامه ومحاربيه‪.‬‬
‫فھو الحق الذي يعزم والعدالة التي تنطق‪ .‬وليس حتى ألصحاب النب ّي والمجاھدين معه فض ٌل بھذه الصحبة وھذا‬
‫الجھاد على غيرھم من الخلق‪:‬‬

‫وفجروا االنھار‪ ،‬وركبوا الخيل‬ ‫ّ‬ ‫»أيھا الناس‪ ،‬أالَ ال يقولَنّ رجال منكم غداً قد َغ َمرت ُھ ُم الدنيا فامتلكوا العقار‪،‬‬
‫واتخذوا الوصائف المرقّقة‪ ،‬إذا ما منعتُھم ما كانوا يخوضون فيه وأصرتُھم إلى حقوقھم التي تعلمون‪َ :‬ح َر َمنا‬
‫ابنُ أبي طالب حقوقنا! أال وأيّما رجل من المھاجرين واالنصار من أصحاب رسول ﷲ يرى أن الفض له على‬
‫سم بينكم بالسويّة‪ ،‬وال فضل فيه ألحد‬ ‫سواه بصحبته‪ ،‬فإن الفضل غداً عند ﷲ فانتم عباد ﷲ‪ ،‬والمال مال ﷲ‪ ،‬يُق ّ‬
‫على أحد‪«.‬‬

‫علي في التسوية بين الناس جميعا ً في الحقوق‬


‫ﱞ‬ ‫وإن ھذا االسلوب يلجأ إليه‬

‫] ‪[ ١٨٦‬‬
‫العا ّمة‪ ،‬لو الدافع األول الذي حمل أولئك الوجھاء على ترك ابن أبي طالب وااللتحاق بابن أبي سفيان على ما‬
‫ضل شريفا ً على مشروف ألن مقاييس الشرف في عمله لم تكن‬ ‫سيأتي بيانه بالتفصيل‪ .‬فإن عليّا ً لم يكن ليف ّ‬
‫مقاييس زمانه‪ ،‬وال عربيا ً على أعجمي ألن اإلنسان أخو اإلنسان في الخلق بضمير عل ّي‪ .‬ولم يكن يصانع أولئك‬
‫الرؤساء وزعماء القبائل كما كان يفعل ابن ھند‪ ،‬وال يستميل أحداً إلى نفسه بمال األ ّمة! قال األشتر النخعي‬
‫لعل ّي‪:‬‬

‫ي الناس واح ٌد‪ .‬وقد اختلفوا بعد ذلك وتعادوا وضعفت‬ ‫وأھل الكوفأ ورأ ُ‬
‫ِ‬ ‫»إنّا قاتلنا أھل البصرة بأھل البصرة‬
‫النيّة وق ّل العد ُد وأنت تأخذھم بالعدل وتعمل فيھم بالحق وتُنصفال فيھم الوضي َع من الشريف فليس للشريف‬
‫فضجت طائفةٌ م ّمن معك من الحق إذا عموا به‪ ،‬واغت ّموا من العدل إذ صاروا‬
‫ّ‬ ‫عندك فض ُل منزلة على الوضيع‪،‬‬
‫فيه‪ ،‬ورأوا صنائع معاوية عند أھل الغناء والشرف فباعوا أنفُسھم إليه وأكثرھم يحتوي الح ّ‬
‫ق ويشتري الباط َل‪،‬‬
‫فإن تبذل المال يمل إليك أعناق وتصفُ نصيحتھم لك ويُستخلص ودّھم!« فأجابه عل ﱞي من فوره‪:‬‬

‫س ِه َو َمنْ أَسا َء فَ َعلَ ْيھا َو‬


‫»أ ّما ما ذكرت من عملنا وسيرتنا بالعدل فإنّ ﷲ ع ّزوج ّل يقول‪َ ) :‬منْ َع ِم َل صالِحا ً فَلِنَ ْف ِ‬
‫أخوفُ ! وأ ّما ما ذكرت من أن الحق ثقُل عليھم‬ ‫صراً فيما ذكرت َ‬ ‫ما َربﱡكَ بِظَالّم لِ ْل َعبِي ِد( ‪ .‬وأنا ِمن أن أكون مق ّ‬
‫ففارقونا لذلك‪ ،‬فقد علم ﷲ أنھم لم يفارقونا من جور وال لجأوا إذ فارقونا إلى عدل وأ ّما ما ذكرت من بذل‬
‫س ُعنا أن نُؤتي امرءاً من المال أكثر من حقّه!«‬ ‫األموال واصطناع الرجال فإنّه ال يَ َ‬

‫أما موجز دستور عل ّي في ھذا الوضع‪ ،‬فقوله في عھده إلى االشتر‪» :‬إياك واالستئثار بما الناس فيه أسوة!«‬
‫والحقوق العا ّمة ھي ما يتساوى فيه الناس‪ ،‬وإياھا يعني ابنُ أبي طالب!‬

‫] ‪[ ١٨٧‬‬

‫رفع الحاجة‬
‫ق سواء‪.‬‬
‫ـ وأن تكونوا عندي في الح ّ‬

‫ـ ما جاع فقي ٌر إال بما ُمتع به غن ّي‬

‫ـ ما رأيتُ نعمةً موفورة إال وإلى جانبھا ح ﱞ‬


‫ق مضيع‪.‬‬

‫ـ لك ّل ذي رمق فوتٌ ‪ ،‬ولكل حبّة آكل‪.‬‬

‫دولھم‪.‬‬
‫تصح نصيحتھم إال بقلة استئقال َ‬
‫ّ‬ ‫ـ وال‬

‫علي‬
‫ّ‬ ‫ـ أشقى الرعاة من شقيت به رعيّته‪.‬‬

‫ھذه الحقوق العامة يوصي بھا عل ّي‪ ،‬ويرعاھا‪ ،‬ويحصر في رعايتھا معنى الوالية‪ .‬ثم إنّه على ضوئھا يُثبت‬
‫عامالً ويعزل آخر‪ .‬وتتّسع مفاھيم ھذه الحقوق عنده وتتشعب‪ .‬غير أنّھا تلتقي جميعا ً في نطاق حصين من رفع‬
‫الحاجة عن العا ّمة و ِمن أالّ يكون فيھم َمن يجوع فتُھان فيھا كرامةُ الجنس اإلنساني‪ .‬وال بأس أن تُجاز القوانين‬
‫لرفع ھذه الحاجة‪ ،‬إذا لم يكن في تطبيق القانون ما يكفي لرفعھا‪ .‬فكما أن العبادة في مذھب عل ّي ليس من شأنھا‬
‫أن تجعل اإلنسان متن ّكراً للحياة العا ّمة‪ ،‬وكما أنّ الدين ھو المعاملة‪ ،‬وسالمة العقيدة ھي سالمة المسلك‪ ،‬فكلذلك‬
‫ُسخر األنظمة لتيسير الحاجات المادّية للكافّة ورفع الحاجة عنھا حتى ال يھون المر ُء على نفسه وال‬ ‫الب ّد من أن ت ّ‬

‫] ‪[ ١٨٨‬‬
‫واجب على المشترع والحاكم ال منّة‪ ،.‬وھو بالنسبة ح ّ‬
‫ق ال سؤال‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫تھون عليه دنياه‪ .‬ورفع الحاجة عن الشعب‬
‫وقد شدّد عل ّي في ذلك حتى ق ّل أن تجد له كالما ً أو وصية أو عھداً إالّ ويمأله ما ق ّرره من ھذا الح ّ‬
‫ق على العمال‬
‫وال ُوالة‪.‬‬

‫وكيف ال يكون رفع الحاجة عن الشعب واجبا ً على المشترع والحاكم في دستور عل ّي‪ ،‬وحقا ً أساسيا ً من حقوق‬
‫العامة‪ ،‬وھو الذي ال يرى في سيئات االكاسرة والقياصرة‪ ،‬على كثرة ما لھم من سيئات‪ ،‬أبر ّز من استھانتھم‬
‫بالشعب‪ .‬فإذا بھم يھملون ما له من حقوق في خضرة األرض ورخ ّي العيش فيأثمون إذ يعملون على إفقاره‬
‫فيقول‪» :‬تأ ّملوا في حال تشتّتھم وتف ّرقھم‪ ،‬ليال ّي كانت األكاسرة والقياصرة أربابا ً لھم يجتازونھم)‪ (١‬عن ريف‬
‫اآلفاق وبحر العراق وخضرة الدنيا« إلى منابت الشيخ ومھافي الريح ون َك ِد المعاش فتركوھم عالةً مساكين!‬

‫وقد يضط ّر عل ّي إلى تھديد ھؤالء ال ُوالة بأش ّد العقوبات إذا ھم خانوا من مال الشعب شيئا ً صغيراً أو كبيراً‪ .‬وقد‬
‫التوجع في نفسه مبلغا ً عظيما ً إذا أدركه أحدھم بأن واليا ً أو عامالً بات على غصب أو احتكار‪ .‬فإذا به ّ‬
‫يوجه‬ ‫ّ‬ ‫يبلغ‬
‫ّ‬
‫بعث إلى بعض ع ّماله يقول‪» :‬بلغني أنك ج ّردت األرض فأخذت ما‬ ‫ق وثورة العدل‪َ .‬‬ ‫ُ‬
‫إليه قوالً تمأله عصبيّة الح ّ‬
‫تحت قدميك‪ ،‬وأكلت ما تحت يديك‪ .‬فارفع إلي حسابك!«‬

‫وأوصيك خيراً بقوله‪» :‬فارفع إل ّي حسابك«‪ .‬فوراءه‪ ،‬في جملة ما وراءه‪ .‬إيمانه المطلق بضرورة اإلنصاف‬
‫حتى إنّه ال يرى مكانا ً لالطالة والتعليل واالمھال‪ .‬ھذا اإليمان الذي يجمع‪ ،‬في ومضة خاطفة الفھم العميق لواقع‬

‫‪ ١‬يتجازونھم ‪ :‬يقبضونھم‪.‬‬

‫] ‪[ ١٨٩‬‬

‫إدراك ما قد ينجم عن ذلك من انھيار خلقي واجتماعي‬


‫ِ‬ ‫ق مھضوم وآخر مطلوب؛ إلى‬ ‫المجتمع المتأرجح بين ح ّ‬
‫في الغاصب والمغصوب على السواء؛ إلى الثقة الكاملة بضرورة إقامة العدل وليقع ھذا من نفوس االعوان‬
‫حيث وقع! كل ذلك على عصبية تأبى فتغضب فتوجز قائلةً‪» :‬فارفع إل ّي حسابك!«‬

‫وھو إ ّما بلغه أنّ عامالً آخر يأكل ما تحت يديه من أموال العامة‪ ،‬بعث إليه على عجل يقول‪» :‬فاتّق ﷲ واردد‬
‫ألعذرن إلى ﷲ فيك)‪ !(١‬وﷲِ لو أنّ الحسن‬ ‫ّ‬ ‫إلى ھؤالء القوم أموالھم‪ .‬فإنّك إن لم تفعل ثم أمكنني ﷲ منك‬
‫والحسين فعال مثل الذي فعلتَ ما كانت لھما عندي ھوادة‪ ،‬وال ظفراً مني بإرادة‪ ،‬حتى آخذ الح ّ‬
‫ق منھما‪ ،‬وأزيل‬
‫الباطل عن مظلمتھما«‪.‬‬

‫وأرسل علي رجالً يدعى »سعد« إلى زياد بن أبيه يأمره بأن يحمل إلى بيت المال ما عنده منه‪ .‬وكان قد بلغه أنّ‬
‫زياداً يتقلّب في النعيم يستأثر به على الضعيف والفقير واألرملة واليتيم‪ .‬وأنه يتظاھر بالفضيلة وھو عنھا بعيد‪.‬‬
‫ألح عليه‪ ،‬فتجبّر زياد وتكبّر ونھره‪ .‬فكتب إليه عل ّي يقول‪:‬‬
‫فل ّما كان الرسول عند زياد ّ‬

‫»إن سعداً ذكر لي أنك شتمته ظالما ً وجبھته تجبّراً وتكبّراً‪ ،‬وقد قال رسول ﷲ‪» :٩‬الكبرياء والعظمة «‪ .‬فمن‬
‫صمتَ‬
‫تكبّر سخط ﷲ عليه‪ .‬وأخبرني أنك مستكث ٌر من األلوان في الطعام‪ .‬وأنك تدھّن كل يوم‪ ،‬فماذا عليك لو ُ‬
‫أياما ً وتصدّقت ببعض ما عندك محتسباً‪ ،‬وأكلت طعامك في مرة مراراً أو أطعمته فقيراً‪ .‬أتطمع‪ ،‬وأنت متقلّب في‬
‫النعيم تستأثر فيه على الجار المسكين والضعيف الفقير واألرملة واليتيم‪ ،‬أن يجب لك أجر الصالحين‬
‫المتصدقين‪ .‬وأخب ّرني أنك تتكلم كالم األبرار وتعمل عمل الخاطئين‪.‬‬

‫‪ ١‬ألعاقبنك عقابا ً يكون لي عذراً عند ﷲ من فعلتك ھذه‪.‬‬

‫] ‪[ ١٩٠‬‬
‫وإن كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت وعملك أحبطت الخ«‪.‬‬

‫ويواصل عل ّي أوامره للوالة بكفّ األيدي عن الغضب بكافة الوانه‪ .‬ويحارب الرشوة وھو يرى فيھا أتفهَ ما يربط‬
‫ق وصاحبه‪ .‬ويس ّمي الح ّكام الذى يقبلونھا »أكلّة ال ّرشا«‪ .‬ث ّم‬
‫الحاكم بالمحكوم من عالقة‪ ،‬وأوھنَ صلة بين الح ﱡ‬
‫يُدرك إلى أي مدى من الفساد يُقاد المجتمع بالفساد‪ .‬حتى الذا بلَغه أنّ أحد أمراء األجناد يرتشي‪ ،‬خلّع له كتفيه‬
‫ق فاشتروه)‪ (١‬وأخذوھم بالباطل‬ ‫بھذه الھ ﱠزة العنيفة‪» :‬أ ّما بعد‪ ،‬فإنّما أھلك من كان قبلك أنھم منعوا الناس الح ّ‬
‫فاقتدوه«)‪.(٢‬‬

‫وقد يدعى أحد الوالة إلى وليمة فيمضي إليھا‪ ،‬فإذا بعل ّي يؤنّبه أشد تأنيب‪ ،‬ويوبخه أعنف توبيخ! أفإلقام ِة حق‬
‫ق يقام بدون رشوة؟ أم النزال الباطل منزلةَ الحق وليس للوالي أن يفعل ذلك‬ ‫يريدون أن يرشوه بالدعوه والح ّ‬
‫ولو أُعطي سلطان األرض؟! ثم‪ ،‬كيف يمضي إلى وليمة يُدعى إليھا الثر ّ‬
‫ي ويُب َعد عنھا الفقير والمعوز‪ ،‬وفي‬
‫ذلك مظھ ٌر من مظاھر التفرقة بين الناس‪ ،‬ثم إشعا ٌر لھم بھذه التفرقة‪ ،‬م ّما يج ّرح بعض الخواطر‪ ،‬ويج ّرح قلب‬
‫عل ّي! أ ّما حين يستقيم المجتمع‪ ،‬فليُد َع قوم وليُب َعد آخرون‪ ،‬فما في ذلك غبن!‬

‫وقد يخال البعض أنّ اإلمام يغالي في مثل ھذه المحاسبة الدقيقة للوالة‪ .‬غير أ نّه حين يدرك أنّ اإلمام قد ر ّكز‬
‫ھؤالء الوالة على صعيد مادّي يكفيھم الحاجةَ وال يجوز من بعده االرتشاء أيّا ً كان لونه‪ ،‬وال التطلّع إلى المغانم‬
‫ق وال مغاالة في ھذه الدقة‪ ،‬وإنّما ھي من أعمال العقل الذي ينھج‬ ‫مھما ق ّل شأنھا‪ ،‬يعرف عند ذاك أ نّه على ح ّ‬
‫نھجا ً صحيحا ً له موازين ومقاييس‪ .‬فيأبى ھذه السابقة وإن ق ّل خطرھا فإنّ خطر الالحقة أش ّد‪ .‬ونحدّد زمن‬
‫السابقة ھنا بأيام علي وال نعود بھا إلى أيام عثمان! لقد بذل عل ّي من مال الدولة للوالة‬

‫ق بالرشوة‪.‬‬
‫‪ ١‬حجبوا عن الناس حقھم فاضطر الناس لشراء الح ّ‬

‫‪ ٢‬كلفوھم بإتيان الباطل فأتوه‪ ،‬فصار الباطل قدوة يتبعھا األبناء بعد اآلباء »نھج البالغة«‪.‬‬

‫] ‪[ ١٩١‬‬

‫ما يقيھم الحاجةَ وما تج ّره من االنزالق في َد َرك الرشوة‪ ،‬فلماذا يرتشون؟ ثم إن ھناك حقيقة ضمنيّة في ھذا‬
‫الباب يلفت عل ّي أنظا َر الوالة إليھا‪ ،‬وھي أ نّه ال يبيح للوالي أن يغنم من الناس بالوالية ولو غدا ًء أو عشا ًء‪،‬‬
‫فإنّ ھذا الغنم إذا جاء عن طريق الوالية كان أشبه بالسرقة أو الرشوة‪ ،‬والذي ال يُس َمح له بأن يُرشى بعشاء‬
‫فلن يُباح له‪ ،‬طبعاً‪ ،‬أن يسرق مدينةً أو يرتشي بجھد شعب!‬

‫وھذه الشدّة التي كان يعامل بھا الوالة المسيئين‪ ،‬يقابلھا تشجيع للمحسن منھم وإثابة‪ .‬وإليك ما بعث به إلى‬
‫سلمة عامله على البحرين حين ولّى مكانه النعمان بن عجالن ودعاه إليه ليصحبه في حملته على‬ ‫عمر بن أبي َ‬
‫معاوية‪:‬‬

‫»إنّي قد ولّيتُ النعمان بن عجالن البحرين من غير ذ ﱟم لك وال تھمة في ما تحت يدك‪ .‬ولعمري لقد أحسنتَ‬
‫الوالية وأدّيت األمانة‪ .‬فأقبل إل ّي غير ظنين وال ملوم‪ .‬فإني أريد المسير إلى ظلمة أھل الشام‪ ،‬وأحببتُ أن تشھد‬
‫معي أمرھم‪ .‬فإنك م ّمن أستظھ ُر به على جھاد العدو‪ .‬جعلنا ﷲ وإياك من الذين يھدون بالحق وبه يعدلون«‪.‬‬

‫يشجعھم من إحسان‬
‫ّ‬ ‫إذن‪ ،‬فالذين ال يخونون األ ّمة من الوالة وال يرتشون‪ ،‬لھم ما يقيھم الحاجة من المال‪ ،‬وما‬
‫أميرالمؤمنين إليھم‪ .‬أ ّما الخائنون فعقابھم العتاب‪ ،‬ثم التوبيخ الشديد‪ ،‬ثم العزل‪ ،‬ثم الحبس مع العزل إذا ھم‬
‫أكثروا من االساءة‪.‬‬

‫وھنالك غاصبون ومحتكرون ومستغلون غير الوالة ما يزالون يسعون في الحصول على الثراء العريض!‬
‫ھنالك مج ّمعو األموال وحاصروھا ومقتطعو األراضي والضياع‪ .‬ھؤالء يحاربھم اإلمام حربا ً ال ھوادة فيھا‪.‬‬
‫ويحارب فيھم البط َر والجشع الباطل وحبس االستغالل‪ .‬ويسعى في أن يحول بينھم وبين األموال التي يريدون‬
‫تضخيمھا‪.‬‬
‫] ‪[ ١٩٢‬‬

‫أ ّما الغصب فقد ح ّرمه عل ّي في كل ما قال وفعل وأقام من حدود‪ .‬وأ ّما االحتكار فقد شدّد في منعه‪» :‬واعلم أنّ في‬
‫وعيب على الوالة‪ ،‬فامنع من‬
‫ٌ‬ ‫كثير منھم احتكاراً للمنافع وتح ّكما ً في البياعات وذلك باب مض ّرة للعا ّمة‬
‫االحتكار!« ثم يقول‪» :‬و َمن قارفَ ُحك َرةً بعد نھيك‪ ،‬فن ّكل به وعاقبه في غير إسراف«‪.‬‬

‫أ ّما اقتطاع األرض والضياع فله فيه رأي ھو عقل العاقل وشرف الوالي‪ ،‬وقد م ّر الكالم عليه‪ .‬أ ّما االستغالل‬
‫بألوانه جميعا ً فھو شيء من الغصب واالحتكار‪ ،‬فاإلمام ال يھادن فيه‪ .‬وله في ذلك أقوال ال تح ّد من »نھج‬
‫البالغة« بمكان‪ .‬لقد قصد اإلمام من وراء ذلك إلى تحطيم الوسائل التي تؤدّي إلى تكديس األموال وتضخيم‬
‫الثروات كما تقدم في غير ھذا الفصل من الكتاب‪ .‬ھذه األموال والثروات‪ ،‬التي ال تلبث أن تنحصر في فئة خاصة‬
‫وتصبح » ُد َولةً بين األغنياء« دون غيرھم من فئات المجتمع‪.‬‬

‫ولقد كره للمجتمع الصالح تضخيم األموال ھذا‪ ،‬الذي ال يقوم على جھد وال ينشأ عن كفاءة‪ .‬ويؤدّي في غايته‬
‫البعيدة إلى خلق طبقة المترفين الكسالى المترھّلين الذين يعيشون على حساب الجماعة الفقيرة‪ .‬وطبقة أخرى‬
‫معوزة ُمعسرة تعمل وتشقى وال أمل لھا في طعام وكساء‪ .‬ثم يؤدي إلى انھيار الب ّد منه في خلق الفرد وفي خلق‬
‫الجماعة‪ .‬فإذا الفقراء ضحايا األثرياء‪ .‬وإذا الكادحون ضحايا الخانعين التافھين‪ .‬وإذا االخالق ضحايا الطبقتين‪.‬‬
‫وإذا المجتمع بناء ينھار! يقول اإلمام واصفا ً بعض أحوال الناس في زمانه‪:‬‬

‫ورب كادح خاسر‪ .‬وقد أصبحتم في زمن ال يزداد الخير فيه إالّ إدباراً‪ ،‬والش ّر فيه إالّ أقباالً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فرب دائب ُمضيّع‪،‬‬
‫» ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والشيطان في ھالك الناس إال طمعا ً‪ .‬اضرب بطرفك حيث شئت من الناس‪ :‬ھل تُبصر إال فقيراً يكابد فقراً‪ ،‬أو‬
‫غنيا ً بدّل نعمة ﷲ كفراً‪ ،‬أو بخيالً اتّخذ البخل بحق ﷲ وقراً‪.‬‬

‫] ‪[ ١٩٣‬‬

‫أين خيا ُركم وصلحاؤكم وأحراركم وسمحاؤكم؟ وأين المتورعون في مكاسبھم؟ والمتن ّزھو في مذاھبھم؟«‬

‫ب فكره وسالمة فطرته وعظيم ُخلقه‪ ،‬أن ك ّل نظام ال يستھدف رفع الحاجة عن عا ّمة‬
‫أجل‪ ،‬لقد أدرك عل ّي بصائ ِ‬
‫الناس‪ ،‬ال قيمة له‪.‬‬

‫ض على التفاوت الباطل بين طبقات المجتمع‪.‬‬


‫إنّ ك ّل◌ّ قانون تافه ومقيتٌ إذا لم يق ِ‬

‫وإنّ السنن االجتماعية التي تخلق مجتمعات تكون فيھا طبقاتٌ من الناس فريسة لطبقة ضئيلة العدد م ّمن أسموا‬
‫أنفسه »أشرافا ً وسادة« وراحوا ينھبون حقوق الشعب وأمواله وأرزاقه بوقاحة وفجور‪ ،‬ھي سننٌ وقحةٌ‬
‫وفاجرة‪» .‬والفجور ـ كما يقول عل ّي ـ دا ُر حصن ذليل ال يمنع أھلَه وال يُح ِر ُز َمن لجأ إليه!«‬

‫س ٌخ ال محالة عند ذاك‪ :‬متف ّ‬


‫سخ في الطبقات‬ ‫وألن الفجور ال يمنع أھله وال يعصم َمن لجأ إليه‪ ،‬فإن المجتمع متف ّ‬
‫التي اغتُصبت حقوقُھا‪ ،‬ومتف ّ‬
‫س ٌخ في الطبقة الغاصبة‪ ،‬سوا ٌء بسواء!‬

‫***‬

‫بعد ذلك يأتي العمل االيجابي لرفع الحاجة عن الشعب‪ ،‬وھو يقوم على مرتكزين اثنين‪ ،‬أولھما‪:‬‬

‫إن األموال واألراضي والضياع وجميع مصادر الثروة ھي ملك الجماعة تُو ّزع على األفراد بقدر االستحقاق‬
‫والحاجة بعد أن تتاح الفرصة للعمل لجميع ھؤالء‪ .‬وليس ألحد أن يتصرف بما تمليه عليه اإلرادة الفردية‬
‫الخالصة دونما نظر إلى المصلحة العا ّمة‪ .‬ثم إنّه ليس من مصلحة ھذا الفرد بالذات أالّ يتعاون مع الجماعة‪ .‬فھو‬
‫ُقبض منه عنھم ي ٌد واحدة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يعطيھا وھي تعطيه‪ .‬وعطاؤھا أكثر! يقول عل ّي‪» :‬من يقبض يده عن عشيرته فإنّما ت‬
‫وتقبض‬
‫ُ‬
‫] ‪[ ١٩٤‬‬

‫منھم عنه أيد كثيرة!«‬

‫ق ما يمكن من التطبيق‪ .‬فالشعب جس ٌد واحد‬ ‫وعلى الدولة أن تكون القيّمة العادلة على تطبيق ھذه السياسة أد ّ‬
‫وعلى الدولة أن ترى أعضاءه جميعا ً بما تستحقّ‪ ،‬ال إھمال وال تقصير وال تفرقة! وھي‪ ،‬لذلك‪ ،‬تأخذ نسبا ً من‬
‫االرباح والرساميل ذاتھا ـ نسبا ً غير مطلقة التحديد‪ ،‬بل ھي ترتفع وتنخفض بالنسبة للمصلحة العا ّمة‪ .‬فإذا‬
‫اقتضت المحافظة على سالمة الجماعة وعلى كرامتھا وأسباب معاشھا‪ ،‬أن يؤخذ من االرباح والرساميل‬
‫نسب عظيمة جداً كان ذلك دون ترد ّد‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫واالراضي واالمالك‬

‫وثانيھما‪ :‬النظر في عمارة األرض‪ ،‬فإنّھا قوام المعاش واالزدھار االقتصادي‪ .‬لذلك فإنّ على الوالة والع ّمال أن‬
‫ينظروا في عمارة األرض فوق ما ينظرون في الحصول على حق الدولة المشروع في الخراج‪ .‬فالخراج نفسه ـ‬
‫وھو ملك الجماعة في نتيجة كل حساب ـ ال يمكن إدراكه إالّ بالعمارة‪ .‬وال يسعى في تحصيل الضرائب من‬
‫سفُه وطاش وأراد أن يخرب البالد ويھلك العباد ويجعل أمره في‬ ‫الجماعة واألرض ال عمارة فيھا إالّ وال َ‬
‫ترفون‬
‫ُ َ‬ ‫م‬ ‫فيھا‬ ‫قصور‬ ‫بوجود‬ ‫وال‬ ‫‪.‬‬‫أمير‬ ‫طيش‬ ‫أو‬ ‫حاكم‬ ‫بسفه‬ ‫وال‬ ‫‪،‬‬ ‫بذاتھا‬ ‫الوالية ضئيالً قليالً‪ ...‬واألرض ال تعمر‬
‫ّ‬
‫مترھلون أو ذوو ثراء وسخف وكبر‪ .‬وإنّما تعمر بجھد العاملين فيھا وبثراء أھلھا من كافة الناس‪.‬‬

‫ويشدّد عل ّي في تحريم أخذ الخراج من الشعب إذا لم يكن الشعب راضيا ً عن حالته االقتصادية وعن ُوالته‬
‫وحكامه‪ .‬فأصول االجتماع‪ ،‬والقواعد االنسانية‪ ،‬والمقاييس االخالقية‪ ،‬تحتّم جميعا ً أن يكون عطاء الشعب‬
‫للدولة عن يُسر ال عن عسر‪ .‬فلينظر الوالة في تحسين أحوال العامة‪ ،‬إذن‪ ،‬قبل أن ينظروا في االخذ منھم‪ .‬يقول‬
‫عل ّي لعماله على الخراج‪:‬‬

‫»وال تبي َعن للناس في الخراج كسوة شتاء وال صيف‪ ،‬وال رزقا ً يأكلونه‪،‬‬

‫] ‪[ ١٩٥‬‬

‫وال دابّة يعتملون عليھا‪ .‬وال تضربّن أحداً منھم سوطا ً لمكان درھم‪ .‬وال تُقمه على رجله في طلب درھم‪ .‬وال تبع‬
‫ألحد منھم ع ََرضا ً في شيء من الخراج‪ .‬فإنّما أمرنا أن نأخذ منھم بالعفو!« ويقول أيضا ً‪» :‬وتفقّد أمر الخراج‬
‫بما يُصلح أھله‪ .‬فإنّ في صالحه وصالحھم صالحا ً لمن سواھم‪ .‬وال صالح لمن سواھم إالّ بھم!«‬

‫وتراوحھا بين العمارة والخراب‪ ،‬وترتيب صالح الدولة على صالح العامل‬
‫ُ‬ ‫وھذه النظرة إلى أحوال األرض‬
‫والفالّح‪ ،‬ھي من الصحة والدقّة بحيث أن العلوم االقتصادية واالجتماعية تؤيدھا اليوم‪ ،‬وقد انقضى على عھد‬
‫صاحبھا قرون طوال!‬

‫ويفجر منھا الخير فيأمن األفراد والجماعات؟ لقد‬


‫ّ‬ ‫ولكن‪ ،‬كيف يتاح لھذا الشعب أن يجھد في عمارة األرض‬
‫وضع عل ّي لذلك قاعدة عامة ھي من القواعد التي تق ّرھا العلوم االجتماعية الحديثة أيضا ً!‬

‫رأى بعض المفكرين األوائل أنّ عمارة األرض تكون بأن يُستخدم فيھا األرقّاء واألسرى والمستضعفون غصباً‬
‫وقسراً‪ .‬وإن ھم رحموا فالمأجورن من الناس يُنتجون فينالون بعض الجزاء‪ .‬أما الجزاء االوفى في شرع أولئك‬
‫المفكرين فيذھب لطبقة تملك األرض وتستغلّھا بغير جھد‪ ،‬ھي طبقة أصحاب الجاللة والس ّمو و »الشرف«‬
‫الرفيع والنبالء واألثرياء وأھل االرستقراطية الفارغة والفساد العريض وسائر المترھّلين‪.‬‬

‫ولطمالما سقطت قيمة اإلنسان وقيمة العمل في مثل ھذه الشرائع‪ .‬ولَطالما أفاد الح ّكام وأنصارھم من بؤس‬
‫الناس وشقاء الكادحين اللذين تبررھما شرائ ُع االستعباد‪ ،‬بل قل شرائع التقتيل الجماعي‪ ،‬في التاريخ القديم‬
‫والحديث‪ .‬وقد كان من نتائج ھذا النمط من التفكير االجتماعي البدائي‪ .‬أن تساند الح ّكام والكھنة‪ ،‬وتعاونوا على‬
‫ضوا دم الجماعات وروحھا باسم الوطن تارة وباسم‬ ‫أن يم ّ‬
‫] ‪[ ١٩٦‬‬

‫الرب الذي يعبدون تارة أخرى‪ .‬وإليك صورة عن ھذا الواقع الذي نرسم‪ ،‬نأخذھا عن العالم المؤرخ االنكيزي‬
‫ولز‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫»كان الكھنة يلقّنون الناس أنّ األرض التي يزرعونھا‪ ،‬ويدأبون فيھا‪ ،‬ليست لھم‪ ،‬وإنّما ھي لآللھة التي في‬
‫المعابد‪ .‬وقد يھبھا اآللھة للح ّكام‪ ،‬ويھبھا الح ّكام لمن يشاؤون من خدّمھم وموظفيھم‪.‬‬

‫الرب مالكھا! وعليه أن‬


‫ّ‬ ‫»واستكشف الرجل العادي شيئا ً فشيئا ً أنّ الرقعة التي كان يزرعھا لم تكن له‪ ،‬إذ كان‬
‫للرب‪ .‬أو أنّ اإلله قد وھبھا للحاكم‪ ،‬وللحاكم أن يفرض عليھا ما يراه من الضرائب‪ .‬أو‬ ‫ّ‬ ‫يدفع جزءاً من محصوله‬
‫للرب أو الحاكم أو للسيّد في بعض األحيان عم ٌل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أنّ الحاكم قد منحھا إلى موظف ھو سيّد للرجل العادي‪ .‬وكان‬
‫يجب قضاؤه‪ .‬وكان لِزاما ً على الرجل العادي عند ذلك أن يترك رقعته ويشتغل لمواله‪ .‬ولم يحدث قطّ أن تحدّد في‬
‫ذھنه وال أن اتّضح لديه تماما ً أمر رقعة األرض التي كان يزرعھا‪ :‬إلى أي ح ّد كانت ملكيته لھا‪ .‬إذن ليس للرجل‬
‫العادي من األمر‪ ،‬وال من الحياة‪ ،‬وال من األرض شيء‪(١)«.‬‬

‫والتاريخ العربي‪ ،‬بعد عل ّي‪ ،‬سيقدّم لنا شواھد ال تحصى من استئثار الح ّكام باألرض واألموال واألرزاق ومن‬
‫ق األلھي« الذي ھو حقّھم يعطون من يشأوون ويحرمون من يشاؤون وليس ألحد‬ ‫لجوئھم إلى أسطورة »الح ّ‬
‫ّ‬
‫الرب وھم ممثلوه على األرض فھي‪ ،‬إذن‪ ،‬ملكھم!!‬
‫ّ‬ ‫أن يعارضھم فيما يفعلون ألن األرض ملك‬

‫أ ّما عل ّي بن أبي طالب‪ ،‬فتتوضح األمور في عقله على صورة رائعة! وال يعمرھا إالّ المفيدون منھا‪ .‬فھم إ ّما‬
‫ذھبت أتعابھم إلى حلوق الحكام وبطون‬

‫‪» ١‬من ھنا نبدأ« لخالد مح ّمد خالد ص ‪.٢٦‬‬

‫] ‪[ ١٩٧‬‬

‫المترفين وأكياس الوالة وجيوب المحتكرين‪ ،‬تھاونوا وأھملوا‪ ،‬وابتأست حالھم ومن حقھم ذلك! وھم إ ّما ذھبت‬
‫أتعابھم إلى أوالدھم‪ ،‬ثم إلى بيت مال الدولة التي تُعنى‪ ،‬فعالً‪ ،‬بالمصالح العا ّمة‪ ،‬أقبلوا على العمل وثبتوا فيه‪،‬‬
‫وانتعشت حالھم وانتعشت فيھم الدولة‪.‬‬

‫إنّ رضا الشعب بھذا الصدد ھو‪ ،‬في نظر عل ّي‪ ،‬المقياس الوحيد لصالح النظام وصالح الحاكم‪ .‬أما الضغط‬
‫والقسر فھما من سقط التدبير‪ .‬يقول عل ّي‪» :‬وإن أفضل ق ّرة عين الوالة استقامة العدل في البالد‪ ،‬وظھور مودّة‬
‫تصح نصيحتھم إالّ بقلّة استثقال ُد َولھم!«‬
‫ّ‬ ‫الرعية‪ ،‬وإنّه ال تظھر مودّتھم إالّ بسالمة صدورھم‪ ،‬وال‬

‫ولتقديس العمل في األرض‪ ،‬وكل عمل‪ ،‬ووضع الحدود الحصينة دون البطالة ودون التمنّع عن العمل‪ ،‬ق ّرر عل ّي‬
‫أن االساس في تفضيل الناس بعضھم على بعض ھو العمل‪ ،‬ال الحسب الموروث وال السيادة المصطنعة‪ .‬كما‬
‫وخذله لمن يسأل أو يطلب وال يعمل‬ ‫ّ‬ ‫ق ّرر إثابة ك ﱟل بما يعمل‪ .‬وشدّد في ذلك حتى عُرف بانتصاره لمن يعمل‪.‬‬
‫صته مع أخيه عقيل بن أبي طالب إذا جاء يطلب من بيت المال ماالً بغير جھد‬ ‫عمالً يفيد به‪ ،‬وتفيد الجماعة‪ .‬وق ّ‬
‫بذله فردّه خائباً‪ ،‬قصة معروفة‪ .‬وليس في نظر عل ّي ما‪ .‬ھو أبعد عن العدل من أالّ يثاب عامل على عمله؛ و ِمن‬
‫بعض عمله مھما كان ھذا البعض‬ ‫ُ‬ ‫أن يذھب جھد عامل إلى شدق مستثمر مستغ ﱟل؛ و ِمن أن يضيع على العامل‬
‫قليالً؛ ومن أن يكون في االعمال المتقنة ما ھو صغير وكبير!‬

‫فرب عامل »دائب مضيّع‪ ،‬وكادح خاسر« في زمنه‪ .‬وھو يأبى ذلك! اسمع ھذا القول الخالد‪ ،‬الذي يبقى في‬ ‫ّ‬
‫أصول الدساتير االجتماعية واالنسانية ما بقي المجتمع واالنسان‪:‬‬
‫»ثم اعرف لكل امرىء منھم ما أبلى ـ أي ما عمل ـ وال تُضي َعنّ بالء‬

‫] ‪[ ١٩٨‬‬

‫امرئ إلى غيره‪ .‬وال تقصرنّ به دون غاية بالئه‪ .‬وال يدعونّك شرف امرئ إلى أن تعظّم من بالئه ما كان‬
‫صغيراً‪ ،‬وال ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بالئه ما كان عظيما ً!«‬

‫فعمارة األرض‪ ،‬والمكافأة العادلة على العمل‪ ،‬ھما األساس السليم الذي ارتأى عل ّي أن يبني عليه مجتمعاً‬
‫سليما ً‪ .‬جاءه مرةً أھل إقليم من األقاليم يقولون له إنّ في بالدھم نھراً قد طمرت االيام مجراه فعفا‪ ،‬وأنّ في‬
‫يسخرھم في احتفار ھذا النھر‬‫ﱢ‬ ‫حفره من جديد خيراً لھم‪ .‬ورجوه بعد ذلك أن يأمر عامله على إقليمھم يأن‬
‫الدارس‪ .‬فما كان من عل ّي إالّ أن قبل فكرة احتفار النھر‪ ،‬غير أ نّه أبي عليھم ما ارتضوه ألنفسھم من التسخير‪.‬‬
‫فكتب إلى عامله واسمه قرظَة بن كعب‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫»أما بعد‪ ،‬فإنّ قوما ً من أھل َع َملك أتوني فذكروا أنّ لھم نھراً قد عفا ودرس‪ ،‬وأنھم إن حفروه واستخرجوه‬
‫عمرت بالدھم‪ ،‬وقووا على ك ّل خراجھم‪ ،‬وزاد فيء المسلمين قِبَلھم‪ .‬وسألوني الكتاب إليك لتأخذھم بعمله‬
‫وتجمعھم لحفره واالنفاق عليه‪ .‬ولستُ أرى أن أجبُر أحداً على عمل يكرھه‪ .‬فادعُھم إليك‪ ،‬فإن كان األمر في‬
‫أحب أن يعمل ف ُمره بالعمل‪ .‬والنھر لمن عمل دون من َك ِرھه‪ .‬وألن يعمروا ويقووا‬
‫ّ‬ ‫النھر على ما وصفوا ف َمن‬
‫أحب إل ّي من أن يضعفوا‪ .‬والسالم«‪.‬‬
‫ّ‬

‫سخروا‪ .‬بل العمل ھو الشريعة والقاعدة‪ .‬يقول‬‫فليس التسخير مما يجوز في شرع عل ّي وإن رضي الناس أن يُ ّ‬
‫نصيب إالّ للذين يعملون فيه‪ .‬ثم إنّ الذين يكرھون العمل ال‬
‫ٌ‬ ‫عل ّي‪» :‬وأُمرتم بالعمل«‪ .‬أما النھر فلن يكون فيه‬
‫يجوز إجبارھم عليه‪ .‬والعمل بالرغبة‪ .‬دون إكراه أو إجبار‪ ،‬أم ٌر يشدّد عليه ابن أبي طالب في كل شأن‪ .‬وھو‬
‫يشدّد عليه مشيراً تارةً وطوراً مصرحا ً‪ .‬ومن دستوره في ذلك ھذا القول الصريح الذي جعلَه قاعدةً في ما يتعلّق‬
‫بالعمل‪:‬‬

‫] ‪[ ١٩٩‬‬

‫»أالَ فاعملوا في الرغبة!«‬

‫وبھذه النظرة العميقة ألحوال العمل والعامل‪ ،‬استطاع عل ّي أن يسبق مف ّكري الغرب بما ينيف عن ألف عام‪ .‬ث ّم‬
‫إنّه ر ّكز نظرته ھذه على أساس من العدالة ال أرفع منه وال أعقل‪ .‬فھو ال يجبر الناس على العمل وإن مفيداً ألن‬
‫انتقاص من القيمة اإلنسانية وإساءةٌ إلى الحرية الخا ّ‬
‫صة ثم إلى العمل نفسه الذي ال‬ ‫ٌ‬ ‫فكرة االجبار بح ّد ذاتھا‬
‫تكتمل شروطه باالكراه‪ .‬ولكنه يدفعھم إليه‪ ،‬من جھة ثانية‪ ،‬بأن يجعل خيرات ھذا العمل من نصيب العاملين‬
‫وحدھم‪:‬‬

‫»والنھر لمن عمل دون من كرھه‪ «.‬ثم‪ ،‬أليست ھذه النظرة ھي أحد األسس الرئيسية التي تقوم عليھا النظريات‬
‫االجتماعية الصالحة في القرن العشرين!‬

‫إذن‪ ،‬فلكل أن يعمل! وليس ھنالك صغير وال كبير إالّ بما يعمل! ولك ّل من يعمل جزاء عمله! وليس للبطير‬
‫الكسول ومن يدّعي الشرف ونبل المحتد أن يذھب إليه شيء من تعب الكادحين مھما كان ھذا الشيء قليالً! وإنّ‬
‫أحب أحداً فإنّما »يحب المحترفَ األمين« كما يقول عل ّي‪.‬‬
‫ﷲ إن ّ‬

‫ق األفراد بالطبع‪ .‬غير أنھا ال تكون ـ بمجلتھا ـ من حقّھم‬‫وإذا جاء العمل النافع بالملكية‪ ،‬فإنّ ھذه الملكية من ح ّ‬
‫إالّ بمقدار من ينسجم ذلك مع مصلحة الجماعة‪ .‬أما إذا كانت المصلحة العامة تقضي بالح ّد من ھذه الملكية فھذا‬
‫ما يجب أن يصار إليه‪ ،‬ال تردّد في ذلك وال جدال! فإن كل ملكية الب ّد لھا من أن تخدم الجماعة‪ ،‬ألنّ العبرة فيھا‬
‫ھي‪ :‬المنفعة العا ّمة إلى جانب المنفعة الخاصة! وإذا فُھمت حدود الملكية على ھذا النحو‪ ،‬كانت سببا ً رئيسيا ً في‬
‫تضخم المال وعلى خلق الطبقية االقتصادية في المجتمع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫القضاء على‬
‫أ ّما إذا كان في المجتمع قوم ال يستطيعون العمل لعجز أو قصور‪ ،‬كالطفوأل اليتيمة أو كالرقة في السن‪ .‬فھل‬
‫ق ھؤالء في الحياة الكريمة كما تھملھم المجتمعات العربية اليوم‪ ،‬مثالً؟ أم أ نّه ينظر إليه‬
‫يھمل اإلمام عل ّي ح ّ‬
‫بعين اإلنسان‬

‫] ‪[ ٢٠٠‬‬

‫العادل‪ ،‬القائم بأصول نظرته على المقاييس اإلنسانيأ التي تنبنّاھا المجتمعات العادلة الصحيحة؟‬

‫إنّ للجماعة على الفرد حقوقا ً‪ .‬وإن للفرد على الجماعة مثل ھذه الحقوق‪ .‬والشعب جسم واحد متكافل متعاون‪،‬‬
‫وكل فرد فيه يثاب بما يعمل‪ .‬وقد »قسم ﷲ بين الناس معايشھم« فليس من حق أحد أن يستأثر بمعيشة سواه‪.‬‬
‫أما العاجز عن العمل‪ ،‬أي عمل‪ ،‬كالطفل والشيخ‪ ،‬فعلى الجماعة أن تقوم بحاجاته‪ .‬عليھا انصافه مثل انصاف‬
‫ق للفرد على الجماعة‪ ،‬ال منّة وال عطف! واجب مر ّكز‪ ،‬ال ب ّر وال احسان! أما المسؤول‬ ‫غيره من الناس‪ .‬وھذا ح ّ‬
‫أحوج‬
‫ُ‬ ‫ة‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫الرع‬ ‫بين‬ ‫من‬ ‫ھؤالء‬ ‫‪:‬‬
‫ّ فإنّ‬‫ي‬‫عل‬ ‫اإلمام‬ ‫يقول‬ ‫‪.‬‬ ‫ممثليھا‬ ‫بأشخاص‬ ‫فالدولة‬ ‫ّ‪،‬‬
‫ق‬ ‫الح‬ ‫المباشر عن إقامة ھذا‬
‫علي‬
‫ّ‬ ‫إلى االنصاف من غيرھم‪ .‬وتع ّھد أھل اليتم وذوي الرقة في السن)‪ (١‬م ّمن ال حيلة لھم!« وإذا لم يكن‬
‫ليُطلق عليه ھذا األصل من أصول تدبيره االجتماعي لفظ »الضمان االجتماعي« أفال نرى‪ ،‬نحن‪ ،‬أ نّه سبق‬
‫ألوف المفكرين الغربيين إلى إدراك ھذه الضرورة االجتماعية‪ ،‬وإلى جعل العمل بھا واجبا ً من واجبات الدولة‪،‬‬
‫ال عطفا ً من »جود« المحسنين‪ ،‬وال غيثا ً من سماء الغيورين‪ ،‬وال شركا ً من أشراك المنافقين!!‬

‫غريب في بلده‪ ،‬ال يريد أن يُقطع الفق ُر والجوع بثمن‬


‫ٌ‬ ‫فإنّ عليّا ً الذي يرى أنّ الفقر ھو الموت األكبر‪ ،‬وإن الفقير‬
‫ّ‬
‫من المنّة والعطف الكاذب من جھة الحاكم‪ .‬وال بثمن من الخضوع والمذلة والمسكنة من جھة المحكوم‪ .‬لذلك‬
‫يقرر ھذه الحقيقة تعظيما ً لكرامة اإلنسان إذ يقول‪» :‬الجوع خي ٌر من ذ ّل الخضوع!« فعلى المرء أن ينال حقّه‬
‫ونفسه في عافية ألن »شر الفقر فقر النفس!«‬

‫‪ ١‬الذين تقدمت بھم السن فعجزوا عن العمل‪.‬‬

‫] ‪[ ٢٠١‬‬

‫وم ّما يدخل في باب رفع الحاجة عن الشعب‪ ،‬ذلك االھتمام العظيم الذي كان يبديه عل ّي نفسه بما كان‬
‫»األشراف« من العمال في عھد عثمان ال يقيمون له وزناً‪ ،‬وبما ال تعيره أكثر حكومات العالم العرب ّي اليوم‬
‫التفاتاً‪ ،‬وذلك لـ »صغر« شأنه من جھة‪ ،‬والنشغالھم بما يس ّمونه »سياسات عليا« من جھة ثانية‪.‬‬

‫أما ھذا الشيء »البسيط« فلم يكن بسيطا ً في نظر عل ّي‪ ،‬ألنّ عليّا ً كان عظيما ً حقاً‪ ،‬والعظمة والبساطة تلتقيان‬
‫ع والقوت‪ ،‬وبدراھم العا ّمة التي يسطھو عليھا‬ ‫أبداً‪ ،‬وأعني به‪ :‬االھتمام بأحوال السوق التي يباع فيھا المتا ُ‬
‫التجار فينھبونھا بواسطة الكيل والميزان والسعر‪ .‬وحين نعلم اليوم أنّ غالء أسعار الملح ـ وھو شيء ال قيمة‬ ‫ّ‬
‫عجلت بايقاد نار الثورة الفرنسية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫له في حساب أكثر الحكام المشارقة ـ كان في جملة االسباب الرئيسية التي ّ‬
‫ندرك قيمة آرائھم في ما ھو بسيط وغير بسيط من األمور‪ ،‬كما ندرك قيمة سياستھم »العليا« الباردة!«‬

‫لم يكن عل ّي صاحب سياسات »عليا« بل صاحب عدل في الحكم وأمانة في العمل‪ .‬لذلك كان يغتدي صبيحة ك ّل‬
‫يوم فيطوف بنفسه أسواق الكوفة ويتفقد بنفسه أھل ك ّل سوق منھا‪ ،‬ويفحص بنفسه أحوال الشارين والبائعين‪،‬‬
‫التجار قسراً على أن يكونوا بشراً ال ج ّزارين‪ .‬ويقف على رؤوسھم مذ ّكراً أيّاھم بالعقاب‬
‫ويحمل المخالفين من ّ‬
‫لناس اليسير من حقوقھم‪ ،‬ثم يناديھم قائالً‪:‬‬
‫َ‬ ‫بخسوا‬ ‫أو‬ ‫إن ھم احتكروا أو اختلسو‬

‫»يا معشر التجار الخ‪(١)...‬‬

‫لقد اقتنع ضمير عل ّي واقتنع عقله بأنّ الناس في المعاش أُسوة‪ .‬وبأن ھذه‬
‫‪ ١‬راجع النص في ص ‪ ١٤٣‬من ھذا الكتاب‪.‬‬

‫] ‪[ ٢٠٢‬‬

‫وأسلوب في دفع الفرد في طريق الحرية‪ ،‬وعام ٌل على بناء‬


‫ٌ‬ ‫الحقيقة إنّما ھي ضرورةٌ من ضرورات الحياة‬
‫المجتمع بنا ًء صحيحا ً‪ .‬فإذا ھو يجعل المساواة في الحقوق قانونا‪ .‬ثم يق ّرر على ضوء ھذا القانون أن أھل‬
‫ً‬
‫الحاجة أول من أھل السابقة في اإلسالم باألموال العا ّمة‪ ،‬وأنّ الحاجة نفسھا تعادل الجھد المبذول والعمل النافع‬
‫في االستحقاق؛ فھي‪ ،‬على ھذا‪ ،‬مبرر للحصول على المال وتملّك األرض!‬

‫وكانت وصايا اإلمام لعماله على االمصار تتالحق وفيھا أوامر مشدّدة برفع كل حجز‪ ،‬وعدم استيفاء الضرائب‬
‫من أھل الحاجة؛ ثم بمساعدة ھؤالء كي تُقبل عليھم األرض بالخير‪ .‬فيما كان يأمر باستيفاء ھذه الضرائب‬
‫أضعافا ً مضاعفة من األغنياء كي يثري بيت مال الجماعة تحقيقا ً لما يمكن تحقيقه من المساواة بين الناس!‬

‫وكم يصغر في نظرنا‪ ،‬اليوم‪ ،‬في عصر إعالن حقوق اإلنسان‪ ،‬أن نرى الكثير من حكومات ھذا الشرق السعيد‪،‬‬
‫الفريد في سعادته‪ ،‬تُثقل أھل الحاجة من الشعب بالضرائب تستوفيھا من قُوتھم الضروري‪ ،‬ومن دمھم‪،‬‬
‫بالتھديد‪ .‬والوعيد‪ ،‬والحجز‪ ،‬وبيع ما لديھم من ضئيل الممتلكات تحت أعينھم‪ ،‬وبما إلى ذلك جميعا ً من وسائل‬
‫العصور الفرعونية‪ ،‬أو القراقوشية‪ ،‬أو السلطانية‪ .‬مع العلم بأن ھذه الحكومات ال تعرف شيئا ً عن حقيقة ھذا‬
‫العشب الذي تريد أكله‪ ،‬وال تعترف له بحقوق‪ ،‬وال تعمل على رفع الحاجة عنه كي يستطيع مكافأتھا »جھودھا«‬
‫المشكورة!‬

‫وكم يعظم في نظرنا ابنُ أبي طالب حين يقول لكل من عماله‪ .‬وھو يراقبھم كي ال يقصروا أو يھملوا‪ ،‬وكان ذلك‬
‫من بضعة عشر قرنا ً‪» :‬ال تبيعنّ للناس في الخراج كسوة شتاء وال صيف‪ ،‬وال رزقا ً يأكلونه‪ ،‬وال دابة يعتملون‬
‫عليھا‪ .‬وال تضربنّ أحداً منھم سوطا ً لمكان درھم‪ .‬وال تقمه على رجله في‬

‫] ‪[ ٢٠٣‬‬

‫طلب درھم‪ ،‬وال تبع ألحد منھم َع َرضا ً في شيء من الخراج فإنّما أمرنا أن نأخذ منھم بالعفو!«‪» .‬وليكن نظرك‬
‫في عمارة األرض أبلغ من نظرك في استجالب الخراج!«‬

‫لقد أدرك اإلمام عل ّي الحقيقة الكبرى في تكوين المجتمع الطبق ّي‪ ،‬فصاغھا بھذه الكلمات القالئل‪ ،‬في ذاك العھد‬
‫صلھا وأوضحھا في أكثر من مكان من عھوده ووصاياه‪ ،‬قال‪» :‬ما جاع فقي ٌر إالّ بما ُمتّع به‬ ‫البعيد‪ ،‬بعد أن ف ّ‬
‫غني!«‬

‫ھذه الحقيقة الكبرى‪ ،‬التي تقيم عليھا األنظمة العادلة اليوم‪ ،‬قواعدھا في العالقات المادّية بين الناس‪ ،‬سبق البن‬
‫صلھا بما يسمح به زمانه من قواعد وأصول‪.‬‬ ‫أبي طالب أن أدركھا منذ بضعة عشر قرناً‪ ،‬وأن ف ّ‬

‫حدثني الكاتب الللبناني الصديق ج‪.‬ح‪ .‬قال‪:‬‬

‫العوز والفاقة وويالتھما‪ ،‬قلت لوزير‬


‫َ‬ ‫يوم كنت في أحد البلدان األوروبية التي تسعى في تحرير اإلنسان من‬
‫معارف ذلك البلد‪ :‬نحن العرب‪ ،‬سبقناكم أكثر من ألف عام إلى إدراك حقيقة المجتمع الطبقي التي تعملون أنتم‬
‫اليوم على توضيحھا‪ .‬فقال الوزير األوروبي‪ :‬وكيف كان ذلك؟ قال‪ :‬منذ بضعأ عشر قرنا ً قال عل ّي بن أبي‬
‫ق مضيع«‪ .‬فقال األوروبي‪ :‬إنّما نحن أفضل منكم! قال‪ :‬ل َم؟‬ ‫طالب‪» :‬ما رأيت نعمةً موفورة إالّ وإلى جانبھا ح ّ‬
‫وكيف؟ قال‪ :‬ألنّ عربيا ً منكم اكتشف ھذه الحقيقة منذ بضعة عشر قرنا ً وأنتم ما تزالون في مظلمة اجتماعية‪،‬‬
‫فيما طبّقناھا نحن قبلكم‪ .‬فأنتم متأخرون عنّا بضعة عشر قرنا ً في ھذا المعنى!‬
‫وقبل أن أختم ھذا الفصل الب ّد من قول أوجز به كل ما تقدم‪ ،‬ثم أدعو القارئ ألن يقابل بين أحدث النظريات‬
‫سس النظرية‬ ‫االجتماعية السليمة‪ ،‬وأُ ُ‬

‫] ‪[ ٢٠٤‬‬

‫االجتماعية العلوية‪:‬‬

‫يمكننا تلخيص فلسفة المجتمع عند عل ّي بعبارات تِسع يقوم عليھا تصويره ألحوال المجتمع من حيث الثراء‬
‫والفقر‪ ،‬ومن حيث الطبقية المالية‪ ،‬ثم يجري عليھا دستوره في رفع الحاجة عن العا ّمة والمساواة بين الناس‬
‫جميعا ً في الحقوق والواجبات‪ .‬أ ّما العبارات التسع‪ ،‬فھي‪:‬‬

‫إمنع من االحتكار‪.‬‬

‫ما جاع فقي ٌر إالّ بما ُمتّع به غن ّي‪.‬‬

‫ما رأيت نعمة موفورة إالّ وإلى جانبھا حق مضيع‪.‬‬

‫وليكن نظرك في عمارة األرض ابلغ من نظرك في استجالب الخراج‪.‬‬

‫لست أرى أن أجبر أحداً على عمل يكرھه‪.‬‬

‫قلوبھم في الجنان وأجسادھم في العمل‪.‬‬

‫النھر لمن عمل دون من كرھه‪.‬‬

‫إعرف لك ّل امرىء منھم ما أبلى وال تضيعنّ بالء امرىء إلى غيره إيّاك واالستئثار بما الناس فيه أسوة‪.‬‬

‫فإذا أنت أمعنت النظر في ھذه العبارات‪ ،‬أدركت أ نّھا أصو ٌل عميقة في بناء كل مجتمع صحيح تُحفظ فيه حقوق‬
‫اإلنسان وتُرعى فيه الحرية اإلنسانيأ بأروع معانيھا وأوسعھا‪ .‬أصول تقوم عليھا النظريات االشتراكية الحديثة‬
‫وال تخالفھا في شيء‪.‬‬

‫وبعد‪ .‬فليبارك القارئ ھذا العقل العربي الجبّار!‬

‫] ‪[ ٢٠٥‬‬

‫تعصب وال إطالق‬


‫ٌ‬ ‫ال‬
‫ـ وإذا ُوجدت رابطة اإلخاء اإلنساني بصفة اإلنسان وحدھا‪ ،‬فما في ذلك إثم!‬

‫ـ وكيف يغرق ھؤالء من المواضيع الحيﱠ ِة في ُمطلقات ال تجوز حتى في جماد الطبيعة! وكيف يتﱠخدون من‬
‫سنُ إما ُحدﱢدت‬ ‫قياسات الوزن والمساحة حدوداً لإلنسان الذي ال يُحدّ‪ ،‬وللحياة المتحركة المتط ّورة التي تأ َ‬
‫إنسان!‬ ‫ال‬ ‫ھو‬ ‫وإذا‬ ‫حياة‬ ‫ال‬ ‫ھ َي‬ ‫فإذا‬ ‫االنقباض‪،‬‬ ‫ويلزمھا‬ ‫بإطالق‬
‫ويتابع عل ّي بن أبي طالب سيره الصاعد في الطريق الرحب‪ .‬فيق ّرر لإلنسان على تُخوم حقوقه في المعاش‪،‬‬
‫حقوقا ً أُخرى ال يكتمل إالّ بھا‪ .‬ويجوز كل نطاق إلى الحدود اإلنسانية البعيدة ال تقف عند عقيدة معيّنة وال تنتھي‬
‫ي بكافّة عناصره ومق ّوماته الماديّة‬ ‫عند تخوم العنصريّة الضيّقة المؤذية‪ .‬وذلك تأكيداً لكرامة الجنس البشر ّ‬
‫واألخالقيّة‪.‬‬
‫يأبى ابنُ أبي طالب أن يفرض على الناس عقيدة معيّنة فيما يتعلّق بالدين أو المذھب‪ .‬وفي ك ّل ما له صلة قريبة‬
‫أو بعيدة بالوجدان الخالص وحياة اإلنسان الداخلية التي تتص ّور وتتلّون بصور وألوان نابعة من الذات أو‬
‫حاصلة من ارتباطات اإلنسان بالبيئة الخاصة والعامة‪ .‬فھو‪ ،‬وإن كان خليفة‬

‫] ‪[ ٢٠٦‬‬

‫النبي وحصن اإلسالم وأميرالمسلمين‪ ،‬يأبى أش ّد إباء أن يفرض على أحد من الناس أن يؤمن بما يؤمن به‬
‫المسلمون دينا ً‪ .‬فالناس أحرار في أن يؤمنوا با ما يرون‪ .‬وأن يعتقد كل منھم على طريقته في االعتقاد شرط‬
‫أالّ يلحق ذلك األذى بالجماعة‪ .‬والخلق كلھم عيال ﷲ‪ ،‬والدين ھو المعاملة‪.‬‬

‫وصفةُ اإلنسان كافية في نظر اإلمام عل ّي تجعله محترماً‪ ،‬محبوباً‪ ،‬مرفوقا ً به‪ ،‬معطوفا ً عليه‪ ،‬غير مھدور حقّه‪.‬‬
‫سبُعا ً ضاريا ً تغتنم أكلھم فإنھم صنفان‪ :‬إ ّما ٌ‬
‫أخ‬ ‫يقول في رسالته إلى عامله على مصر‪» :‬وال تكوننّ عليھم)‪َ (١‬‬
‫فأعطھم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك ﷲ من عفوه‬ ‫ِ‬ ‫لك في الدين أو نظير لك في الخلق‪.‬‬
‫تبج َحن بعقوبة!«‬
‫وصفحه‪ .‬وال تندمن على عفو وال َ‬

‫ق مثل ما لك وإن اختلف عنك ببعض ما يعتقد‪ ،‬أو بك ّل ما يعتقد‪ .‬والدين نفسه‪ ،‬أليست‬
‫إذن‪ ،‬فلك ّل إنسان من الح ّ‬
‫غايته أن يشدّك إلى اآلخرين برابطة االخاء؟ فإذا ُوجدت رابطة االخاء بصفة اإلنسان وحدھا‪ ،‬فما في ذلك إثم!‬

‫وھو‪ ،‬على كل حال‪ ،‬يريدك أالّ تجعل رأيك في أمر من أمور الحياة واألحياء مدار الحكم والقياس المطلق‪.‬‬
‫فالحياة واسعة الحدود واألحياء في ھذه السعة دائرون‪ ،‬فما عليك أن تقيم نفسك الح َك َم ّ‬
‫األول واألخير على‬
‫ب أمر تخاله عظيما ً وھو في سعة الوجود غير عظيم‪.‬‬ ‫تص ّرفات الخلق وھم ال يلحقون بك األذى‪ .‬وما أدراك! ف ُر ّ‬
‫صا ً صريحا ً‪» :‬فال تستصغرن عبداً‬ ‫ً‬
‫ورب امرئ تستصغر شأنه وھو‪ ،‬لو عرفتَ ‪ ،‬أرفع منك شأنا! يقول اإلمام ن ّ‬ ‫ّ‬
‫من عبيد ﷲ فربّما يكون وليّه وأنت ال تعلم!« فإذا أنت حملتَ ھذا القول الحكيم‬

‫‪ ١‬أي على الناس جميعا ً‪.‬‬

‫] ‪[ ٢٠٧‬‬

‫إلى مداه البعيد‪ ،‬أدركتَ موقفه الصريح من التعصب واالطالق!‬

‫وإذا كان أخوك على خطاء أو إساءة‪ ،‬فعليك أن تعطيه من عفوك وصفحك وأالَ تندم أبداً على عفو وصفح‪ .‬ثم‬
‫وصي‬
‫ّ‬ ‫عليك أن »تحصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك«‪ .‬وعلى ابن آدم‪ ،‬أيّا ً كان معتقده‪» ،‬أن يكون‬
‫يحب لغيره ما يحب لنفسه‪ ،‬يكره له ما يكره لھا‪» :‬فأحبب لغيرك ما‬ ‫َ‬ ‫نفسه« وأن تكون صلته بغيره صلةَ من‬
‫ق »ال يدع‬ ‫وارض من الناس بما ترضاه لھم من نفسك«‪ .‬ثم أن المؤمن الح ّ‬ ‫َ‬ ‫تحب لنفسك واكره له ما تكره لھا‪،‬‬
‫للخير غايةً اال أ ّمھا«‪ .‬والخير كل الخير ھو العدل في الخلق ال فر َ‬
‫ق بين واحدھم واآلخر‪ .‬ث ّم إنّ َمن قابَ َل الدنيا‬
‫ّ‬
‫على منھاج مح ّمد ال يختلف في شيء ع ّمن يقابلھا على منھاج المسيح‪ ،‬أو على منھاج ك ّل َمن تمثلت به‬
‫الفضائل اإلنسانية‪ .‬فالمھ ّم في نظر عل ّي على الدنو من الفضيلة‪ .‬أما الوسائل فالناس فيھا أحرار‪ .‬يقول عل ّي‪:‬‬

‫»وقد كان في رسول ﷲ‪ ،٩‬كاف لك في األسوة‪ ،‬إذ قُبضت عنه أطرافھا ـ أطراف الدنيا ـ وفُطم عن رضاعھا‪،‬‬
‫شن ويأكل‬ ‫سد الحجر ويلبس َ‬
‫الخ ِ‬ ‫وزُوي عن زخارفھا‪ .‬والن شئتُ قلتُ في عيسى بن مريم‪ ،٧‬فلقد كان يتو ّ‬
‫ق األرض ومغاربھا‪ ،‬وفاكھتُه وريحانه ما تُنبت‬ ‫الجشب‪ .‬وكان إدامه الجو َع وسراجه بالليل القم َر‪ ،‬وظالله مشار َ‬
‫َ‬
‫ّ‬
‫األرض للبھائم ولمت تكن له زوجة تفتنه وال ول ٌد يحزنه وال مال يلفِتُه‪ ،‬وال طم ٌع يذله‪ .‬دابّته رجاله وخادمه‬
‫يداه!« ويقول في مكان آخر‪» :‬أولئك قو ٌم اتّخذوا األرض بساطاً‪ ،‬وترابھا فراشاً‪ ،‬وماءھا طيباً‪ ،‬ثم قرضوا الدنيا‬
‫قرضا ً على منھاج المسيح!« والحقيقة التي أدركھا مح ّمد ساعة قال‪» :‬األنبياء إخوةٌ أ ّمھاتُھم شتى ودينھم‬
‫واحد« أدركھا عل ّي ساعة قال في مح ّمد‪» :‬ومضى على ما مضى عيه الرس ُل األ ّولون«‪ .‬وفي ھذين القولين‬
‫اعترافٌ ال يقبل تأويالً بأن‬

‫] ‪[ ٢٠٨‬‬

‫الفضيلة إنّما ھي التي تجمع الناس‪ ،‬كما تجمعھم في األصل الصفةُ اإلنسانية‪.‬‬

‫فحرية العقيدة الدينية حق من حقوق الناس في دستور اإلمام عل ّي‪ .‬فبما أنّ الحرية ال تُج ّزأ‪ ،‬فإن اإلنسان ال‬
‫يمكنه أن يكون حراً من جانب ومقيداً من جانب آخر‪ .‬فالمسلم أخو النصراني شاء أم أبى‪ ،‬ألنّ اإلنسان أخو‬
‫اإلنسان أحب أم كره! ولو لم يكن الدن ّو من الفضيلة ھو المقياس األصيل في دستور اإلمام في الحرية‪ ،‬ولو لم‬
‫تكن الحرية الفاضلة حقّا ً مقدّسا ً لديه‪ ،‬لَ َما امتدح َمن يسيرون على منھاج المسيح كما امتدح من يسيرون على‬
‫منھاج مح ّمد! وقد سبق لنا أن ذكرنا خبر عل ّي مع النصراني الذي سرق له درعه وادّعى أ نّه اشتراھا‪ .‬وكيف‬
‫عامله معاملة الن ّد للندّ‪ ،‬أو األب لالبن‪ .‬ثم ما كان من شأنھما أمام شريح القاضي‪ ،‬وكيف أصبح النصراني في‬
‫عداد من ناصروا اإلمام بدمھم وحياتھم!‬

‫ولطالما ردّدت جنبات الحجاز والعراق أخبار عل ّي في إنصاف صاحب ھذا الرأي م ّمن يدين بغيره من اآلراء إذا‬
‫حدّثته نفسه بأن ينحرف به عن معتقده أو يجور عليه‪ .‬ولطالما شاھد الناس عليّا ً يعت ّم بعمامته الخضراء ويردّد‬
‫على أسماعھم ما قاله‪ ،‬م ّرةً‪ ،‬في مسجد المدينة‪ ،‬جا ّداً ك ّل الج ّد‪:‬‬

‫يسجل في أجمل صفحاته ھذا القو َل العمالق‬


‫ّ‬ ‫» َمن آذى إنجيليّا ً فقد آذاني!« ولطالما فخ ّر تاريخنا العرب ّي وھو‬
‫التاريخ العرب ّي عل ّي بن أبي طالب‪:‬‬

‫»ولو ثُنيت لي وسادة فجلستُ عليھا لحكمت في أھل التوراة بتوارتھم‪ ،‬وفي أھل اإلنجيل بإنجيلھم‪ ،‬وفي أھل‬
‫القرآن بقرآنھم‪ ،‬حتى تركتُ ك ّل كتاب ينطق من نفسه‪ :‬لقد صدق عل ّي!«‬

‫ثم اسمع ما يأمر أمي ُرالمسلمين به معقالً بن قيس‪:‬‬

‫تبغ على أھل القبلة)‪ (١‬وال تظلم‬


‫ّق ﷲ يا معقل ما استطعت‪ .‬ال ِ‬
‫»ات ِ‬

‫‪ ١‬أھل القبلة‪ :‬المسلمون‪،‬‬

‫] ‪[ ٢٠٩‬‬

‫أھل الذ ّمة‪ ،‬وال تكبّر فإن ﷲ ال يحب المتكبرين!«‬

‫أرأيت كيف يحدّد علي اتّقاء ﷲ بأالّ يظلم اإلنسان أخاه اإلنسان وبأالّ يبغي عليه في كثير أو قليل؟‬

‫ضل؟‬
‫ثم أرأيت كيف يجعل المسلمين وغير المسلمين في درجة واحدة ال تمايُز بينھم وال تفا ُ‬

‫ومثل ھذه التسوية بين المسلمين وغير المسلمين في حكم عل ّي نراھا أنّى اتّجھنا معه‪.‬‬

‫فھو إ ّما تحدّث إلى المسلمين عن أحوالھم َج َع َل رفع لظلم عن كواھل الناس أُولى ما يجب أن يتحلّوا به من‬
‫فضائل اإلسالم فقال‪:‬‬

‫ق‪ ...‬وأضا َء لكم اإلسالم‪ ،‬ل َما ظُلم منكم مسل ٌم وال معاھَد)‪«(١‬‬
‫»ولو سلكتم الح ّ‬
‫ق ورفع الظلم عن مدينة األنبار ساعةَ غزاھا سفيان بن عوف‬ ‫وھو إ ّما عنّف المسلمين لتخا ُذلھم عن نصرة الح ّ‬
‫األسدي ون ّكل بأھلھا‪َ ،‬عنّفھم ألنّھم لم يدفعوا الظلم عن إخوانھم وأخواتھم من أبناء المدينة ال فر َ‬
‫ق فيھم بين َمن‬
‫أسلم أو عاھَد‪ ،‬قائالً‪:‬‬

‫»‪ ...‬ولقد بلَغني أن الرجل منھم كان يدخل على المرأة المسلمة‪ ،‬واألخرى المعاھدة‪ ،‬فينتزع ِحجلھا الخ‪ ...‬فلو‬
‫أنّ امرءاً مسلما ً مات من بعد ھذا أسفا ً ما ان به ملوما ً«‪.‬‬

‫وھو إ ّما بعث بعھد إلى مح ّمد بن أبي بكر حين والّه مصر بعث إليه يقول‪:‬‬

‫»أوصيك بالعدل على أھل الذ ّمة‪ ،‬وبانصاف المظلوم وبالشدّة على الظالم وبالعفو عن الناس واالحسان ما‬
‫استطعت! وليكن القريب والبعيد عندك في الحق سواء«‪.‬‬

‫‪ ١‬أھل الذمة‪ ،‬أو المعاھدون‪ :‬الداخلون في ذمة المسلمين من أھل الكتاب‪.‬‬

‫] ‪[ ٢١٠‬‬

‫لقد أمره بالعفو عن جميع الناس‪ ،‬بعد أن لفت نظره إلى أھل الذ ّمة تمكينا ً لفكرة التسوية بين الناس في ذھنه‪.‬‬

‫ق من حقوقھم!«‬
‫ومن عھده إلى نصارى نجران ھذه العبارة‪ ...» :‬ال يضاموا وال يُظلموا وال ينقص ح ﱞ‬

‫وجعل عل ّي ديّة النصراني كديّة المسلم!‬

‫وكان ھذا الموقف يقفه عل ّي من التعصب انبثاقا ً طيبعيّا ً عن شخصية صاحبه القائل في روح الوجود الشامل‪:‬‬

‫شخص عن شخص‪ ،‬وال يُلھيه صوتٌ عن صوت!«‬


‫ٌ‬ ‫»وال يلويه‬

‫إنّ لكل إنسان كرامةً عند عل ّي‪ .‬وإن لك ّل صوت سامعا ً‪.‬‬

‫صب أھل الجھل والغباء من أبناء كل دين في العصور الغابرة‪ ،‬فإن ھذه الحقيقة عن عل ّي‬ ‫وعلى الرغم من تع ّ‬
‫ّ‬
‫جعلت عارفيه من نصارى العرب‪ ،‬في زمانه وبُعيد زمانه‪ ،‬من أش ّد الناس حبا ً له وتعلقا ً به‪ .‬وقد أشار ابن أبي‬
‫الحديد إلى ذلك في شرح النھج قال‪» :‬وما أقول في رجل ـ يعني عليّا ً ـ تحبّه أھل الذ ّمة على تكذيبھم بالنب ّوة‬
‫الخ«‪.‬‬

‫ولقد بنى عل ّي معاملته لغير المسلمين على قوله ھذا‪» :‬أموالھم كأموالنا ودماؤھم كدمائنا!«‬

‫سنّة ِمن بعده!‬


‫وأرادھا ُ‬

‫***‬

‫صب الديني مذموم في منطق عل ّي‪ .‬وھو مغاير ألبسط قواعد الحرية التي يؤمن بھا على أوسع نطاق‬
‫إذن فالتع ّ‬
‫ويقيسھا بأرحب المقاييس‪ .‬وإذا نحن قابلنا بين موقفه ھذا ممن ال يدينون بمعتقده‪ ،‬وبين رجال »اإليمان«‬
‫السمح وتشدّدھم‬
‫ِ‬ ‫االوروبيين في العصور الوسطى‪ ،‬وال سيما القائمين على محاكم التفتيش‪ ،‬ثم بين سماحة‬
‫المقيت‪ ،‬لرأيناه يسمو حيث ينحدرون‪ .‬وال عجب في‬

‫] ‪[ ٢١١‬‬
‫ذلك‪ ،‬فاإليمان عند عل ّي كان نابعا ً من أصوله اإلنسانية‪ ،‬ومن نظرته العامة إلى الحياة والوجود‪ .‬فيما كان إيمان‬
‫الكثيرين من أُولئك مظھراً من مظاھر العبودية التي انقلبت فيھم إلى عادة‪ ،‬ال أصالة إنسانية فيھا‪ ،‬وال جمال!‬

‫ونحن‪ ،‬إذا حاربنا اليوم التعصب الديني أو المذھبي‪ ،‬وما عاد التعصب الديني بذي شأن على كل حال‪ ،‬فإن بعض‬
‫صباً للمذاھب السياسية ال يعفو وال‬
‫صبا ً أفتك وأخطر‪ :‬تعصبّا ً للقوميات أو العنصريات؛ أو تع ّ‬ ‫األمم قد أبدلت به تع ّ‬
‫صب يعترف‬ ‫يعذر وال يقابل اإلنسان بصفح أو سماح! وفي ذلك ما فيه من رعونة وغباء وأثرة مؤذية‪ .‬فإن المتع ّ‬
‫ق إالّ بين يديه! وأنّ نظرته إلى الدنيا ھي النظرة! وأن رأيه في شؤون‬ ‫لك‪ ،‬ضمناً‪ ،‬بأ نّه مال ُك الحق وال ح ّ‬
‫ق ال يجوز فيه تعديل وال يعدلُهُ رأي! فإذا بھؤالء المتعصبين للعنصريات أو للمذاھب‬ ‫اإلنسان والحياة مطل ٌ‬
‫السياسية يغرقون في المطلقات من حيث يعرفون أو ال يعرفون! والغرق في المطلق‪ ،‬فيما يتعلق بالمذھب‬
‫والمسلك‪ ،‬شيء من الجمود‪ ،‬فالموت! وكيف يغرق ھؤالء من المواضيع الحيّة والجارية من حال إلى حال‪ ،‬في‬
‫مطلقات ال تجوز حتى في جماد الطبيعة! وكيف يتّخدون من قياسات الوزن والمساحة حدوداً لإلنسان الذي ال‬
‫سنُ إ ّما ُحدّدت بإطالق ويلزمھا اإلنقباض‪ ،‬فإذا ھي ال حياة وإذا ھو ال‬‫يُحدّ‪ ،‬وللحياة المتح ّركة المتط ّورة التي تأ ّ‬
‫إنسان!‬

‫صب بكافّة ألوانه من طباع بعض الناس من قديم الزمان‪ .‬فھذا اإلمام الجليل ال َ‬
‫يفرغ من محاربة‬ ‫وكأنّ ھذا التع ّ‬
‫صب بسائر أشكاله ومظاھره‪ .‬وھو يرى في التعصب للقبيلة أو للعنصر‬ ‫التعصب الديني حتى يعود ليحارب التع ّ‬
‫بغيا ً وإفساداً ثم تشويھا ً لوجه الحياة الجميل‪ .‬ويرى في الفخر باآلباء ضربا ً من ضروب ھذا التع ّ‬
‫صب فيُخزيه‪.‬‬
‫اسمعه كيف يخاطب أھل العصبيّة من أبناء زمانه‪:‬‬

‫] ‪[ ٢١٢‬‬

‫»أالَ وقد أمعنتم في الغي وأفسدتم في األرض! فا ﷲ في كبر الحميّة‪ ،‬وفخر الجاھلية‪ .‬فإنّه َمالقِ ُح البغضاء‬
‫ومنافخ الشيطان التي خدع بھا االم َم الماضية والقرون الخالية!‬

‫»أالَ فالحذ َر الحذ َر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبرون عن حسبَھم وترفعوا فوق نسبھم ـ أي احتقروا‬
‫وجاحدوا ﷲ على ما صنع‪ ،‬فإنھم قواع ُد أساس العصبيّة ودعائم أركان‬
‫َ‬ ‫غيرھم من الناس وتعصبوا عليھم ـ‬
‫الفتنة!«‬

‫صب للقبيلة والعنصر بغيا ً وإفساداً وتشويھا ً لوجه الحياة‪ ،‬ثم يقرنه إلى الفتنة‪ ،‬يعود ليطلق‬ ‫وبعد أن يجعل التع ّ‬
‫صب أيّا ً كان لونُه‪ ،‬مق ّرراً قاعدة ال أراھا تزداد مع األيام إالّ رسوخاً‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫ّ‬ ‫التع‬ ‫معنى‬ ‫في‬ ‫ھذا المذھب الحكيم‬

‫صب لشيء من األشياء إالّ عن علة تحتمل تمويه الجھالء‪ ،‬أو‬


‫»ولقد نظرتُ فيما وجدتُ أحداً من العالمين يتع ّ‬
‫حجة تليط بعقول السفھاء!«‬
‫ّ‬

‫وليرجع الراجعون إلى ك ّل ما قيل في معنى التعصب‪ ،‬فإنّھم لن يجدوا في أصوله أكثر من ھذا األصل المزدوج‬
‫الذي ذكره ابنُ أبي طالب‪ :‬فإ ّما أن يتعصب المتعصبون عن جھل وإ ّما أن يتعصبوا عن سفاھة! وكال الجھل‬
‫البغي واإلفسا َد والكبر على الحياة‪ ،‬وھي ما ص ّورھا ابنُ أبي طالب في قوليه السابقين!‬
‫َ‬ ‫والسفاھة يحتمالن‬

‫صبا ً للفضيلة والعدالة والحقوق‬‫صب مذموم في عقيدة ابن أبي طالب‪ .‬اللّھ ّم إن لم يكن تع ّ‬ ‫وھكذا‪ ،‬فإن ك ّل تع ّ‬
‫تعصبا ً النصاف الطبقات المظلومة من ناھبيھا ومحتكري خيراتھا! اللّھ ّم إن لم كن‬ ‫ّ‬ ‫العا ّمة! اللّھ ّم إن لم يكن‬
‫صبا ً للحرية نفسھا ولكرامة الجنس اإلنساني!‬‫ّ‬ ‫تع‬ ‫يكن‬ ‫لم‬ ‫إن‬ ‫م‬
‫ّ‬ ‫ھ‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫!‬ ‫الضمير‬ ‫وسالمة‬ ‫والصدق‬ ‫صبا ً لالستقامة‬ ‫تع ّ‬
‫صبا ً النصاف الخلق من المعصبين لألذى! يقول اإلمام في خطبته المس ّماة بالقاصعة ‪:‬‬ ‫اللّھ ّم إن لم يكن تع ّ‬

‫صبكم لمكارم الخصال ومحاسن‬


‫»فإن كان الب ّد من العصبية فليكن تع ّ‬

‫] ‪[ ٢١٣‬‬
‫األمور واألخالق الرغيبة واألحالم العظيمة واآلثار المحمودة‪ ،‬واألخذ بالفضل والكفّ عن البغي واالنصاف‬
‫للخلق واجتناب المفاسد في األرض!«‬

‫صب لفكرة أو لحالة راھنة أيّةً كانت‪ ،‬وصيّته بالخوارج‬


‫ومن آياته في االندفاع مع الطبيعة الخيّرة التي تكره التع ّ‬
‫وقد قسطوا عليه وحاربوه م َل قواھم قال‪:‬‬

‫ق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه!«‬


‫»ال تقاتلوا الخوارج من بعدي‪ .‬فليس َمن طلب الح ّ‬

‫صب بأنّه ال يخطىء‪ ،‬يأمر بالمشورة ثم‬


‫صب ال يعني إالّ اعتراف المتع ّ‬
‫ولكي يجعل اإلمام في أفھام الناس أن التع ّ‬
‫يعطي المثل بنفسه فيقول‪» :‬فال تكفّوا عن مقالة بحقّ‪ ،‬أو مشورة بعدل‪ ،‬فإني لستُ في نفسي بفوق أن‬
‫أخطىء!«‬

‫] ‪[ ٢١٤‬‬

‫والسلم‬
‫ِ‬ ‫الحرب‬
‫ُ‬
‫ـ ھلكَ من ادﱠعى وخاب من افترى‬

‫ـ الغالب بالش ّر مغلوب‬

‫ـ بئس العدوان على العباد‬

‫ـ إنﱠ في الصلح أمنا ً للبالد‬

‫ـ ُحط عھدك بالوفاء‪ ،‬وال تغدرنﱠ بذ َمتك والتخيسنﱠ بعھدك وال تختلنﱠ عدوك وال تقوينﱠ سلطانك بسفك دم حرام‬
‫عل ّي‬

‫ق كثيرةٌ فوق ھذه‪ .‬في طليعتھا عقد حبل المودّة واأللفة بين الناس أفراداً‬ ‫ولإلنسان على اإلنسان حقو ٌ‬
‫وجماعات‪ ،‬قبائل وشعوبا ً‪ .‬الناس اإلخوة الذين يجمعھم أص ٌل واحد‪ ،‬وطري ٌ‬
‫ق مشتركة‪ ،‬وغاياتٌ ال تتباعد‪.‬‬

‫فإنّ الحرية‪ ،‬واليُسر‪ ،‬واألنظمة الموضوعة‪ ،‬واألعمال الموروثة‪ ،‬والمساعي المستحدثة‪ ،‬وغيرھا م ّما يتعلق‬
‫باإلنسان‪ ،‬أمو ٌر ال معنى لھا وال مب ّرر للنظر فيھا‪ ،‬مع الحرب التي تمحق اإلنسان ومن أجله كانت ك ّل تلك‬
‫األمور!‬

‫ق لئيم!‬ ‫كاذب ُ‬
‫وخل ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وك ّل قول يدّعي خدمة اإلنسان وال يدعو إلى السلم‪ ،‬ھو قو ٌل‬

‫وك ّل عمل يدّعي خدمة الحياة ثم يدفع األحياء إلى الموت تحت سنابك‬

‫] ‪[ ٢١٥‬‬

‫الخيل وشظايا الحديد‪ ،‬ھو عم ٌل منافق وشيء عقيم!‬

‫وكل نظر في حال اإلنسان وحال الحياة ال تتبعه الدعوة إلى المؤاخاة بين البشر اإلخوة‪ ،‬ھو نظ ٌر عاج ٌز ورأ ٌ‬
‫ي‬
‫سقيم!‬
‫فما أعجز القول والعمل والنظر ساعة تنقلب األنھار دما ًء والرياض صحارى ويطلع الشوك في القصور!‬

‫وما أعجز القول والعمل والنظر ساعةَ يرتفع اإلنسان كال ُعصافة في طريق الزوبعة‪ ،‬ويُطرح في أشداق حرب‬
‫تأكله أكالً عظيما ً فإذا ھو ال شيء! وإذا جماالت الحياة وأمنياتھا قد أصبحت عدما ً وخواء! وإذا البوم تھبط إلى‬
‫خرائب عمرانه فتق ّر فيھا وتجد لنفسھا محالً!‬

‫وإذا كانت الحرب َمھلكةً فالسلم وحده َمنجاة! وھو‪ ،‬إلى ذلك‪ ،‬الغاية الموصلة إلى غايات‪ :‬ھو الحالة التي تم ّكن‬
‫ابناء اإلنسانية الواحدة من أن يستخدموا مواھبھم وطاقاتھم جميعاً‪ ،‬ويتعاونوا في مساعيھم الواحدة‪ ،‬ليبلغوا‬
‫أمانيھم المشتركة الواحدة‪ ،‬مرحلةً مرحلة‪.‬‬

‫وابن أبي طالب الذي تتماسك مذاھبُه في كل ميدان تماسك الفروع النامية على أصل واحد‪ ،‬يدرك أن السلم‬
‫سياج عظيم يشيد حول اإلنسان وحول الحياة فيمنع عنھما ك ّل شر‪.‬‬
‫ُ‬

‫يخاطب ابنُ أبي طالب الناس قائالً‪» :‬إنّ ﷲ لم يخلقكم عبثا ً!«‬

‫ولِ َم خلق ﷲ الناس في مذھبه؟‬

‫إنّ يجيب عن ھذا السؤال بنفسه‪ ،‬يقول‪» :‬إنّ ﷲ خلقكم َحر َما ً في أرضه وأمنا ً بين خلقه‪ ...‬وجم َع ألفتكم فنشرت‬
‫النعمةُ عليكم جناح كرامتھا وأسالت لكم جداول نعيمھا!«‬

‫فاأللفة إن ھي إالّ نعمة الوجود على الناس في مذھب عل ّي‪ .‬وإليك قبسا ً من الدفء والحنان العظيمين اللذين‬
‫يشيعان في قلب ابن أبي طالب وعلى لسانه‬

‫] ‪[ ٢١٦‬‬

‫ساعة يتحدّث عن السالم واأللفة‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫»وعقد ﷲ بينھم حبل األلفة التي ينتقلون في ظلّھا ويأوون إلى كنفھا بنعمة ال يعرف أح ٌد من المخلوقين لھا‬
‫قيمةً‪ ،‬أل نّھا أرجح من ك ّل ثمن وأج ّل من ك ّل خطر!«‬

‫أصغ إلى ھذه‬


‫ِ‬ ‫وإذا كان السلم بين الناس مبعثا ً لمثل ھذا النعيم‪ ،‬فعال َم يتعادى الناس األشقّاء ولِ َم يتنافرون؟‬
‫الزفرة من قلب عل ّي‪:‬‬

‫سك ب َھلَكة نفسك؟ أليس من نومك يقظة؟«‬


‫»يا أيھا اإلنسان! ما آنَ َ‬

‫وتتعاون األعمال واألقوال في حياة عل ّي تنفيراً من التعادي والتناحر واالقتتال‪ ،‬وتحسينا ً للتصافي والتآلف‬
‫والمؤاخاة! وھو يأمر بالتعاون من أجل السلم‪ ،‬ويعمل له‪ ،‬لـ »أنّ في الصح أمناً للبالد«‪ .‬ويأمر بكراھية الحرب‪،‬‬
‫ويكرھھا‪ ،‬ألن الحرب عدوان و »بئس العدوان على العباد‪ «.‬وألنّ الخسارة ھي في ك ّل حال‪ ،‬النتيجة المحتومة‬
‫لھذا العدوان‪» :‬و َمن زر َع العدوان حص َد الخسران!« وألنّ في الحرب ويالً على بني اإلنسان‪ :‬على المنتصر‬
‫والمنكسر معا ً! وفي الحرب امتھانٌ لكرامة اإلنسان ھو الخروج على العقل والضمير والمودّات وقيمة الحياة‬
‫في شخص الغالب‪ .‬وھو المھانة والمذلّة وضياع الدم والحياة في شخص المغلوب‪ .‬وفي مذھب عل ّي أنّ »الغالب‬
‫بالش ّر مغلوب«‪ ،‬وليس ھنالك ما ھو ش ّر من القتال وسف الدم‪.‬‬

‫وكان من مبادئ األمور عند عل ّي أن يذكر الغارات‪ ،‬وھي مظاھر الحرب في القبائل الجاھلية قبل اإلسالم‪ ،‬في‬
‫عدد السوءات المريعة‪ .‬فالغارات وعبادة األصنام ووأد البنات من معدن واحد في نظره‪ .‬وھي‪ ،‬إلى ذلك‪ ،‬تجسيد‬
‫لجھل اإلنسان حقيقةَ نفسه وحقيقة الحياة‪ ،‬وبئس الجھل في ك ّل حاالته‪ ،‬يقول عل ّي‪» :‬وأطباق جھل من بنات‬
‫موؤودة‪ ،‬وأصنام معبودة‪ ،‬وغارات مشنونة!«‬
‫] ‪[ ٢١٧‬‬

‫وقد بلغ به مقتُه للحرب أ نّه كان ينھى عن القتال حتى في أضيق حدوده وأعني المبارزة‪ ،‬فيقول‪» :‬ال تدعونّ‬
‫إلى مبارزة«‪ .‬ولع ّل قارئ عل ّي يلحظ أ نّه كثيراً ما يذ ّم أخالقا ً في الناس وأشياء في الدنيا‪ .‬أ ّما في أخالق الناس‬
‫فكان يذ ّم المي َل إلى الفتنة والجنوح إلى القتال أ ّول ما يذ ّم‪ .‬وأ ّما الدنيا فال يسوؤه من وجوھھا وجه أقبح من‬
‫ھائج قال فيھا‪» :‬وإنّھا دا ُر حرب وسلب ونھب!«‬ ‫ٌ‬ ‫ھاجه من أمورھا‬
‫الحرب‪ ،‬فتراه إذا َ‬

‫ق يعلو‬
‫ق بقدر ما ھي تغطية للباطل‪ .‬والسماء واألرض ُوجدنا بالحق في مذھب عل ّي‪ .‬وبالح ّ‬ ‫والحرب متلفةٌ للح ّ‬
‫اإلنسان ويقوم المجتمع وتسعد الدنيا‪ .‬أ ّما الباطل فھو مجمع المخزيات والرذائل‪ .‬وإذا كان األمر كذلك فما ھو‬
‫نصيب الحرب من القيمة في خاتمة ك ّل حساب؟ إنّھا مجمع المخزيات والرذائل »ألنھا ـ أي الحرب ـ إذا أقلت‬
‫ق‬
‫شبّھت« أي ارتفع فيھا شأن الباطل وانخفض صوت الحق‪ .‬وإذا كان السلم ھو الحقّ‪ ،‬فإن » َمن تعدّى الح ّ‬ ‫ُ‬
‫ضاع مذھبه!«‬

‫ھذا ھو أساس نظرة علي إلى الحرب‪ .‬وال عجب في ذلك‪ ،‬فھو نظ ٌر يالئم إيمانه العميق بالحرية‪ ،‬ويالئم ثقته‬
‫باإلنسان‪ ،‬ويالئم احترامه العميق للحياة واألحياء وما يجب أن ينصبّوا عليه من العمل الخيّر المفيد‪.‬‬

‫وھو لذلك يكتفي بأن يخاطب أصحابه في بعض الحاالت قائالً‪» :‬وحس ُ‬
‫ب عد ّوكم خروجھم من الھدى إلى‬
‫الضالل« منعا ً من الفتنة وميالً إلى السلم‪.‬‬

‫وھو لذلك يأمر المخطىء المسيء بأن يعتذر ع ّما فعل رفعا ً ألسباب القتال‪ .‬ويأمر َمن أسيء إليه بأن يقبل عذر‬
‫من اعتذر له مھما كان ذنبه عظيماً‪ ،‬قائالً له‪» :‬إقبل عذر من اعتذر إليك!« و »قاتل ھواك بعقلك تسلم لك‬
‫المودّة!«‬

‫وھو لذلك ال يرى في شيعته صفةً أجدر بالتقدير من نزوعھم إلى السلم‬

‫] ‪[ ٢١٨‬‬

‫وميلھم عن الحرب وإلحاحھم في طلب العافية ألنفسھم وللناس جميعاً‪ ،‬فيقول في ما يجب أن يكونوه‪» :‬شيعتنا‬
‫إن غضبوا لم يظلِموا بركةٌ على َمن جاوروا سل ٌم لمن خالطوا«‪.‬‬

‫***‬

‫ولكنّ ھذه الحرارة في التنفير من الحرب والدعوة إلى السلم ال تعني االستسالم والخضوع في حال من األحوال‪،‬‬
‫أل نّھا ال تعني الھروب من المسؤولية وإطالق العنان للمفسدين‪ .‬فالحرب ليست كريھةً لذاتھا‪ ،‬بل لِ َما تؤذي‬
‫وتسيء‪ .‬والسلم ليس محبّبا ً لذاته‪ ،‬بل لِ َما يعطي أھلَه من إمكانات للطمأنينة‪ ،‬وما يأذن به للناس من اإلنصراف‬
‫إلى تحسين المجتمع‪ ،‬وما يفتح أمام األحياء من طرق الحياة الرحبة الواسعة‪.‬‬

‫فقد تنتھي االساءة في بعض األنظمة والقوانين إلى أن تتج ّمد على قھر الضعيف وظلم السواد األعظم‪ ،‬وأن‬
‫ترغب لنفسھا في السلم كي ال تمت ّد إلى جمودھا ي ُد الحياة فتُذيبھا وتُبذل بھا جديداً! فھل الخير عند ذاك إالّ في‬
‫القتال سحقا ً لھذا الجمود ومحقا ً لھؤالء الجامدين!‬

‫وقد تنتھي االساءة في بعض األفراد‪ ،‬أو الطبقات الشبيحة باألفراد‪ ،‬إلى أن يريدوا الحياة مغنما ً لھم‪ ،‬واألرض‬
‫والبشر عبيداً أرقّاء‪ ،‬وأن يرغبوا ألنفسھم في السلم كي ال تطالھم ي ُد الح ّ‬
‫ق فتُلغي‬ ‫َ‬ ‫مكسباً‪ ،‬وحياةَ الناس موتا ً‪،‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫وجودھم وتم ّزق عن الدنيا قناعھا األسود المقيت! فھل من الخير عند ذاك إال في القتال تحطيما لھذه الطبقيّة‬
‫وركالً لھؤالء التافھين!‬
‫فلو كان لك ﱟل من الحرب والسلم قيمةٌ ذاتية مطلقة‪ ،‬لكانت الثورات التي قامت بھا شعوب العالم على الطغاة‬
‫والمستغلّين والمستعمرين‪ .‬إثما ً وش ّراً‪ .‬ولكان الخضوع لمشيئة المجرمين من األباطرة واألكاسرة والقياصرة‪،‬‬
‫يُمنا ً وخيراً!‬

‫ولكنّ الحقيقة أن الخير كل الخير يكمن في ما يعود على الناس بما يُصلح‬

‫] ‪[ ٢١٩‬‬

‫شقُوا وابتأسوا وھُضموا وأُكلت حقوقُھم‪ ،‬فالحرب منفعةٌ‬


‫أحوالھم‪ .‬فإذا نعموا في حياتھم فالسلم أولى بھم‪ .‬وإذا َ‬
‫إلى أن يستق ّر بينھم سل ٌم حقيقي مر ّكز على أصول إنسانية شريفة‪ ،‬ليس فيھا شيء من معنى االستسالم‬
‫للطغيان والخضوع للظلم‪.‬‬

‫ھذه الحقيقة أدركھا عل ّي بن أبي طالب إدراكا ً ال مأخذ فيه عليه‪.‬‬

‫فالحرب التي يكرھھا عل ّي بن أبي طالب‪ ،‬ھي حرب أبي سفيان وأبي لھب لمح ّمد‪ ،‬ال حرب مح ّمد لھا‪.‬‬

‫والحرب التي يمقتھا ابنُ أبي طالب ھي حرب ال ُغزاة القاسطين الفاسقين ألھل الخير وطالّب الحق‪ ،‬ال حرب‬
‫ھؤالء ألولئك!‬

‫إنّه يدعوك ألن ال تكون جانكيزخان‪ ،‬وھوالكو‪ ،‬وھتلر‪ .‬ولكنه يأبى عليك أن تكون من أبناء اإلنسانية التي سعى‬
‫ھؤالء في تدميرھا‪ ،‬وتتحدّث عن السلم فيما تحصد سيوفُھم رؤوس األبرياء‪.‬‬

‫وھكذا‪ ،‬فإنّ الحرب قد تصبح ضرورةً في مذھب عل ّي‪.‬‬

‫ق مغصوب ومال منھوب وكرامة مباحة ودم مھدور‪ ،‬فإنّھا‬ ‫إلنصاف مظلوم من ظالم‪ ،‬وانتصاراً لح ﱟ‬
‫ِ‬ ‫فإذا كانت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ضرورة اجتماعية وإنسانية عند ذاك‪ ،‬شرط أال يصار إليھا إال بعد محاوالت متعاقبة في سبيل التفاھم بغير قتال‪.‬‬
‫اسمعه بماذا يخاطب أصحابه وقد استبطأوا اذنه لھم في القتال بصفﱢين‪ ،‬ومقاتلوه ھم القاسطون الذين يقول فيھم‬
‫ق ال يُبصرونه‪ُ ،‬مو ّزعون بالجور والظلم ال يعدلون«‪:‬‬
‫»إنھم حيارى عن الح ّ‬

‫»أما قولكم‪ :‬أك ّل ذلك كراھية الموت؟ فوﷲ ما أُبالي أدخلتُ على الموت أو خرج الموت إل ّي! وأ ّما قولكم‪ :‬أش ّكا ً‬
‫في أھل الشام؟ فوﷲ ما دفعتُ الحرب يوما ً إالّ وأنا أطمع أن تلحق بي طائفةٌ فتھتدي بي وتعشو إلى ضوئي‬
‫أحب إل ّي من أن أُقاتلھا على ظالھا وإن كانت تبوء بآثامھا!«‬
‫وذلك ّ‬

‫] ‪[ ٢٢٠‬‬

‫ثم ش َرطَ أال تكون الغاية من ھذه الحرب النصر بح ّد ذاته‪ ،‬وال االنتقام‪ ،‬وال التنكيل‪ ،‬وال األذى‪ ،‬وال االساءة إلى‬
‫ق إلى نصابه ساعةَ يكون أخو الحرب مؤمناً‬ ‫أسير أو جريح أو ُمدبر أو امرأة أو شيخ أو غالم‪ .‬بل إعادة الح ّ‬
‫بأنه على حقّ‪ ،‬وبأن خصمه ظالم الب ّد من أن يُنصف منه‪ .‬فإذا أُد ِركت الغاية بأق ّل نصيب من القتال وجب إيقافه‬
‫في الحال‪ .‬فاستنكار سفك الدماء إالّ بالضرورة القاھرة قاعدةٌ أساسية في حروب عل ّي‪ .‬لذلك كان من منطق‬
‫الغاية التي تھدف إليھا الحرب في مذھبه‪ ،‬أن يبدأ خص َمه الظالم بالنصح‪» :‬وايم ﷲ‪ ،‬ألنصفن للمظلوم‬
‫وألنصحنّ للظالم!«‬

‫وكثيراً ما كان يلجأ إلى ترھيب خصمه وتخويفه إذا لم يُ ِجده الترغيب في السلم‪ .‬إذ المھ ّم لديه أالّ تُھ َرق الدماء‬
‫حيث يمكن أن تُحقن‪ .‬قال في تخوف أھل النھروان‪:‬‬

‫صرعى بأثناء ھذا النھر على غير بيّنة من ربّكم‪ .‬وال سلطان مبين معكم‪ .‬وقد كنتُ‬ ‫»فأنا نذيركم أن تُصبحوا َ‬
‫ت ال أبا‬
‫نھيتُكم عن ھذه الحكومة فأبيتم عل ّي إباء المخالفين المنابذين)‪ ،(١‬حتى صرفتُ رأي إلى ھواكم‪ .‬ولم آ ِ‬
‫لكم‪ .‬بُجراً)‪ (٢‬وال أردتُ لكم ض ّراً‪ «.‬ثم إليك ھذا الدعاء العجيب بنزعته اإلنسانية يطلقه إمام يتألب عليه‬
‫أخصامه بصفّين‪ ،‬وقد عزم على لقائھم بعد أن فشلت مساعي السلم‪:‬‬

‫رب‪ ،‬ھذه األرض التي جعلتَھا قراراً لألنام و َمد َرجا ً للھوا ّم واألنعام‪ ،‬وما ال يحصى م ّما يُرى وم ّما ال‬‫»اللّھ ّم‪ّ ،‬‬
‫ورب الجبال الرواسي التي جعلتَھا‬
‫ّ‬ ‫يُرى؛‬

‫‪ ١‬نھاھم عن إجابة أھل الشام في طلب التحكيم بقوله‪» :‬إنھم رفعوا المصاحف ليرجعوا إلى حكمھا الخ‪ «.‬وقد خالفه أھل النھروان ـ‬
‫أي الخوارج ـ بقولھم‪» :‬دعينا إلى كتاب ﷲ فنحن أحق باإلجابة إليه‪ «.‬بل إنھم اغلظوا في القول حتّى قال بعضھم‪» :‬لئن لم تجبھم إلى‬
‫كتاب أسلمناك لھم وتخلينا عنك‪«.‬‬

‫‪ ٢‬بجراً‪ :‬شراً‪.‬‬

‫] ‪[ ٢٢١‬‬

‫لألرض أوتاداً وللخلق اعتماداً‪ ،‬إن أظھرتَنا على عد ّونا فجنّبنا البغي‪ ،‬وسدّدنا بالحق! وإن أظھرتَھم علينا‬
‫فارزقنا الشھادة واعصمنا من الفتنة!«‬

‫وحب عل ّي للسلم وتعلّقه بأسبابه حتى قبَيل القتال بلحظات‪ ،‬أمران ال يختلف فيھما شاھدان من األصحاب‬ ‫ّ‬
‫والعد ّو‪ .‬وسيرته حافلة بمظاھر ھذا الحب للسلم وھذه الكراھية للحرب‪ .‬من ذلك ما جرى يوم موقعة الجمل‪:‬‬
‫فحين اجتمع عليه أخصامه القاسطون وساروا بجندھم إليه‪ ،‬أم َر أصحابه أن يصطفّوا‪ ،‬فقال لھم‪» :‬ال ترموا‬
‫بسھم‪ ،‬وال تطعنوا برمح‪ ،‬وال تضربوا بسيف‪ ،‬واعذروا« ولم يقاتلھم إالّ بعد أن َرموا من أصحابه ثالثة‬
‫فصرعوھم‪ ،‬وأش َھ َد على ذلك ربّه ثالثا ً!‬

‫ولطالما خرج اإلمام إلى الزاحفين لقتاله حاس َر الرأس أعز َل من السالح‪ ،‬وھم موقّرون بالحديد معتصمون به‪،‬‬
‫المحب ومن‬
‫ّ‬ ‫صنون له بالجحود والمكابرة‪ ،‬من لھجة القلب‬ ‫يحاورھم بالمودّة ويذ ّكرھم بالخير ويخاطبھم بما يتح ّ‬
‫ُ‬
‫بيان العاطفة الحنون‪ .‬حتى لكأنّه‪ ،‬وھُم أمامه قِط ٌع من الليل بما ألبسو من دروع وتُروس‪ ،‬يتقلّد من احترامه‬
‫العميق لإلنسان درعاً‪ ،‬ومن إيمانه بعدالة مسعاه تُرساً‪ ،‬ومن ثقته بالضمير اإلنساني حصناً‪ ،‬ومن عطفه على‬
‫المظلوم ووفائه للحق وحبه للسالم ألف مجنّ ! إنه ھو القائل‪َ » :‬من أمنتَ من أذيّته فارغب في أُخ ّوته!« وھو‬
‫الذي يكره الخصومة أش ّد الكره ألنّ الخصومة من أذيّته فارغب في أُخ ّوته!« وھو الذي يكره الخصومة أش ّد‬
‫الكره ألن الخصومة والمراء تھدّمان أخالق الفرد وتعصفان بشخصية الجماعة بما ينبت عليھما من نفاق‪:‬‬
‫»إياكم والمرا َء والخصومة فإنھما يمرضان القلب وينبت عليھما النفاق!«‬

‫لطالما خرج إلى مقاتليه على ھذه الصورة تدليالً على نفوره من القتال‪ ،‬وعلى ميله الخالص إلى ج ّل المشكالت‬
‫بأسلوب ھو إلى المودّة واالخاء أقرب‪ ،‬وتحقيقا ً للقاعدة التي وضعھا لمثل ھذا الظرف‪» :‬خذ على عد ّوك‬
‫يحس قيمتھا إالّ اإلنسان اإلنسان‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بالفضل فإنّه أحلى الظفرين«‪ .‬ثم توكيداً لحقيقة ال‬

‫] ‪[ ٢٢٢‬‬

‫وھي أنّ القتال ش ّر‪ ،‬وأن الخير الذي يجنبه الغالب ال قيمة له أل نّه أتى عن طريق ھذا الشر‪» :‬ما خي ُر خير ال‬
‫يأتي إالّ بش ّر‪ ،‬وما قيمة يُسر ال يأتي إالّ بعسر!« فھو يدرأ الشر بكل وسيلة‪ .‬ويطلب اليُسر لمبادىء الصالح‬
‫بغير ال ُعسر! حتى إذا أبى أعداؤه إالّ قتاله ظلماً‪ ،‬وإالّ د َمه ودم البقيّة الخيّرة من أعوانه‪ ،‬عاد يكرر عليھم نداءه‬
‫من جديد‪ .‬فإذا أص ّروا على اإلثم وأصبحت الحرب ضرورة اجتماعية وإنسانية‪ ،‬ترك لھم أن يبدأوه القتال‪ .‬فإن‬
‫يخرج الموت إليه‪ ،‬فيزعزع الرجال‬
‫ِ‬ ‫ھم فعلوا حاربَھم‪ .‬ويا البن أبي طالب يدخل على الموت إذ ذاك إن لم‬
‫ويصرع األبطال‪.‬‬
‫وإنّه الدفاع األكرم عن عدالة يريدونھا جوراً‪ ،‬وعن كرامة يھدرونھا ھدراً‪ ،‬وعن حرية يودّون لو كانت‬
‫عبودية‪ ،‬وعن إنسان يريده عزيزاً ويأبون إالّ إذالله وبك ّل جواد تحتھم نيطَ غ ّل وقي ٌد ثقيل!‬

‫إنّه الدفاع عن ضرورات اجتماعية ومطالب إنسانية ال يكون القعود دونھا إالّ تخاذالً وكفراً‪ .‬يقول اإلمام عل ّي في‬
‫موضوع قتاله لمعاوية‪» :‬ولقد ضربتُ أنفَ ھذا األمر وعينه‪ ،‬وقلّبت ظھره وبطنه‪ ،‬فلم َ‬
‫أر لي إالّ القتا َل أو‬
‫الكفر«‪.‬‬

‫وإليك كيف يوجز ابنُ أبي طالب الفصل األول من وقعة الجمل‪:‬‬

‫»وكان طلحة والزبير أول َمن بايعني ثمن نقضا بيعتي على غير حدَث‪ .‬وأخرجا أ ّم المؤمنين إلى البصرة‪،‬‬
‫فصرتُ إليھما في المھاجرين واألنصار‪ ،‬فدعوتُھما إلى أن يرجعا إلى ما خرجا منه فأبَيا‪ .‬فبالغت في الدعاء‪،‬‬
‫وأحسنتُ في اللقاء!« وكان عل ّي قد بعث إليھما وھو ببعض الطريق إلى الكوفة بابنه الحسن وابن عمه عبدﷲ‬
‫بن عباس وع ّمار بن ياسر وقيس بن سعد ابن عبادة‪ ،‬لعلّھما يقطعان الفتنة‪ ،‬فأبَيا‪ .‬وفي ذلك يقول عل ّي‪:‬‬

‫»وسرتُ بھم ـ أي بالمھاجرين واألنصار ـ حتى نزلتُ بظھر البصرة فأعذرتُ‬

‫] ‪[ ٢٢٣‬‬

‫في الدعاء وأقلتُ العثرة‪ ،‬وناشدتھم عقد بيعتھم فأبوا إالّ قتالي‪ ،‬فاستعنتُ ﷲ عليھم‪ .‬فقُتل َمن قتل وولّوا‬
‫مدبرين‪ .‬فسألوني ما كنتُ دعوتُھم إليه قبل اللقاء‪ ،‬فقبلتُ العافية ورفعتُ عنھم السيف واستعملتُ عليھم عبدﷲ‬
‫بن عباس‪ ،‬وبعثتُ إليھم ُزفَر بن قيس‪ ،‬فاسأله عنّا وعنھم!«‬

‫المغلوب نفسه‪ .‬فبكى‬


‫َ‬ ‫التوجع ما أدرك‬
‫ّ‬ ‫وھو إذا ُكتب له النصر بفضل شجاعته القائمة وإيمانه العميق‪ ،‬أدركه من‬
‫وتألم‪ .‬وخال إلى نفسه كئيبا ً حزينا ً كما ال يكون‪ .‬وإنھا‪ ،‬لعمري‪ ،‬مأساة القلب الكبير يجب أبناءه أش ّد الحب‪،‬‬
‫ويكره الظلم أش ّد الكره‪ ،‬فإذا القوم ھم أبناؤه الظالمون‪ ،‬وإذا ھو بين العطف على االبناء والكراھية للظلم في‬
‫تأجج النار أو أش ّد سعيراً!‬
‫مثل ّ‬

‫ولم يكن على قلب اإلمام ما ھو أكرهُ من أن يرى دما ً مراقا ً‪ .‬وإذا لم يكن على ثقة بأن ُوالته وع ّماله إذا قاتلوا‬
‫عفّوا عن إراقة الدماء إالّ بحاجة العدالة والحقّ‪ ،‬أكثر من أوامره إليھم بأالّ يسفكوا دما ً‪ .‬أضف إلى ذلك نظرة‬
‫عبقرية كان يلقيھا فتكشف عن الجانب الدول ّي في ھذا الموضوع‪ ،‬كما تكشف عاطفتُه عن الجانب اإلنساني‬
‫الخالص فيه‪ .‬فسف ُك الدماء يزيل السلطان في نظر اإلمام‪ ،‬ويُفقده معناه‪ ،‬وال سيّما إذا كان عمداً؛ وھو ال يع ُذر‬
‫بعث ألحد عماله يقول‪» :‬وال تُق ّوينّ سلطانك بسفك دم حرام‪ ،‬فإن ذلك م ّما يضعفه ويوھنه‪ ،‬بل يزيله‬ ‫َ‬ ‫فيه‪.‬‬
‫وينقله‪ .‬وال عُذ َر لك عند ﷲ وال عندي في قتل العمد!«‬

‫وإني ألعرض للقارئ‪ ،‬بھذا الصدد‪ ،‬أمراً عَجبا ً! فأي عرف في غير ابن أبي طالب‪ ،‬قائ َد جماعة يأمر ُوالته بأالّ‬
‫يستعملوا على الجيش إالّ َمن كره القتل وإلحاق األذى بالناس‪ ،‬ثم عَذ َر وعفّ وكان عطوفا ً رحيما ً طاھر القلب ال‬
‫يلجأ إلى عنف وال يقسو! اسمعه‪ ،‬وﷲ‪ ،‬يأمر عامله على مصر بھذا القول‪» :‬وو ﱢل من جنودك أنقاھم جيبا ً ـ أي‬
‫أطھرھم قلبا ً ـ وأفضلھم‬

‫] ‪[ ٢٢٤‬‬

‫حلما ً‪ :‬م ّمن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو على األقوياء)‪ ،(١‬وم ّمن ال يثيره‬
‫العنف الخ‪«...‬‬

‫وتلح‪ ،‬بعد أن تسقط في‬


‫ّ‬ ‫إذن‪ ،‬فعل ّي يحب السلم ويأمر به‪ ،‬ويكره الحرب وينھى عنھا وال يأتيھا إلم تأتِ ِه ھي‬
‫معالجتھا المداراةُ بالمودّة واالحسان‪ .‬وھو إن حارب سعى في أالّ يكثر صرعى القتال‪ ،‬وعفﱠ كلما قدر‪ ،‬وطالما‬
‫رحب‬‫والغالب في وقت معا ً‪ .‬وھو إ ّما تلقى دعوةً للصلح تأتيه من عد ّوه ّ‬
‫َ‬ ‫المغلوب‬
‫َ‬ ‫قد قدر وطالما عفّ ‪ .‬ثم رثى‬
‫وحيّا ً »فإنّ في الصلح دعةً للجنود وراحةً من الھموم وأمنا ً للبالد‪ «.‬وله أوامر كثيرة لقواده وعماله يوصيھم‬
‫فيھا بأن ينھجوا نھجه ھذا‪ ،‬إلى جانب وصاياه بأالّ يقاتلوا قتاالً أرعن فيممتشوا السيف بتلك السھولة التي‬
‫تَ َع ﱠودھا القواد والمحاربون في العصور القديمة‪ .‬ومن ذلك قوله‪» :‬وال تح ّركوا بأيديكم وسيوفكم في ھوى‬
‫ألسنتكم!« وقوله أيضا ً‪» :‬وال أعاقب على الظنّة« و »لستُ ُمقاتله حتى أدعوه وأُع ِذ َر له‪ ،‬فإن ثاب ورجع قبلنا‬
‫منه‪ ،‬وإن أبى إالّ االعتزام على حربنا استعنّا ﷲَ عليه‪ ،‬وناجزناه«‪ .‬وسوف ننتحدث بالتفصيل عن مواقف ابن‬
‫أبي طالب من أخصامه المعتدين عليه‪.‬‬

‫***‬

‫ولإلنسان على اإلنسان حق الوفاء بالعھد تدعيما ً الركان السلم بين اإلفراد والجماعات‪ ،‬ومكرھةً للحرب‪ .‬وال‬
‫فرق أن يكون العقد بين أبناء المذھب الواوحد أو المذاھب المختلفة‪ .‬وال أن يكون بين أبناء القوم الواحد وبين‬
‫قوم وآخرين‪ .‬وال أن يكون بين مسالم ومسالم أو محارب‪ .‬وال بين صديق وصديق أو عد ّو! ال مذھب وال قومية‬
‫وال حالة سلم أو حرب تحول دون الوفاء بالعھد في خاطر ابن أبي طالب وفي حكمه‪ .‬ذلك ألن الوفاء بالعھد‬
‫تدعيم ألركان السلم كما‬

‫‪ ١‬ينبو على األقوياء‪ :‬يشتد ويعلو عليھم ليكف أيديھم عن الضعفاء‪.‬‬

‫] ‪[ ٢٢٥‬‬

‫تقدم‪ ،‬وفي السلم أمنُ البالد وراحة الناس‪ .‬وأل نّه خدمة للمجتمع المرتبط بقوانين وذمم‪ .‬ثم إنّه غذاء للضمير‬
‫اإلنساني الذي يسعى اإلمام في االرتفاع به ما أمكن االرتفاع‪ .‬وھو‪ ،‬بذلك كله‪ ،‬سبب في التقارب والتوا ّد بين‬
‫األفراد والجماعات والقبائل والشعوب‪ .‬وھو في كل أحواله مظھ ٌر من مظاھر الصدق واحترام الشخصية‬
‫ت َمن أعطى العھد ومن أعطي له سواء بسواء‪ .‬ثم إن الوفاء بالعھد يرافقه‪ ،‬أبداً‪ ،‬االطمئنان من‬‫اإلنسانية في ذا ِ‬
‫الجانبين‪ .‬وإذا اطمأنّ الجانبان كان لك ّل منھما أن يعمل بوحي الحرية التي يستشعرھا فيتمكن من ممارستھا في‬
‫حدود ھذا االطمئنان‪ .‬لذلك كان الوفاء بالعھد من دستور ابن أبي طالب في الخالفة والوالية‪ .‬ففرض على كل من‬
‫أعطى عھداً أو ذمة أن يصونھما بجسده وروحه فيھلك أو يفي بھما‪.‬‬

‫ويتألم ابن أبي طالب من النكث بالعھد بمقدار ما يتألم من الكذب‪ .‬يقول في خطبة له‪» ،‬إن الوفاء توأ ُم الصدق‬
‫وال أعلم ُجنّة ـ وقاية ـ أوقى منه‪ .‬وال يغدر من علم كيف المرجع‪ .‬ولقد أصبحنا في زمان قد اتّخذ أكثر أھله‬
‫ب وجه الحيلة‬ ‫الح ّو ُل القُلّ ُ‬
‫الغدر َكيسا ً ونسبَھم أھ ُل الجھل فيه إلى حسن الحيلة! ما لھم؟ قاتلھم ﷲ؟ قد يرى ُ‬
‫ودونه مان ٌع من أمر ﷲ في الدين)‪«(١‬‬

‫ويقول في رسالة منه إلى عامله على مصر‪» :‬وإن عقدت بينك وبين عد ّوك عقدة ـ أي ميثاقا ً ـ أو ألبسته منك‬
‫فححط عھدك بالوفاء‪ ،‬وار َع ذ ّمتك باألمانة‪ ،‬واجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت ـ أي حافظ على ما‬
‫ذ ّمة‪ُ ،‬‬

‫‪ ١‬كيسا ً‪ :‬عقالً‪ ،‬وأھل ذلك الزمان يعدون الغدر من العقل وحسن الحيلة‪ ،‬كأنھم أھل السياسة من بني زماننا‪ .‬واإلمام علي يعجب من‬
‫زعمھم ويقول‪ :‬ما لھم؟ قائلھم ﷲ! يزعمون ذلك مع أنّ البصير بتحويل األمور وتقليبھا قد يى وجه الحيلة في بلوغ مراده لكنه يجد‬
‫دون األخذ به مانعا ً من أمر ﷲ ونھيه الخ‪.‬‬

‫] ‪[ ٢٢٦‬‬

‫أعطيت من عھدك بروحك ـ وال تغدون بذمتك‪ ،‬وال تخيسنَ بعھدك‪ ،‬وال تختلنّ عد ّوك ـ أي ال تخ َد عدوك«‪ .‬ثم إنّه‬
‫ال يكتفي بھذه التوصية الصريحة بأال يخدع اإلنسان حتى عد ّوه ومقاتله‪ ،‬بل يشدّد على مت تحدّثه نفسه من‬
‫ال ُوالة بأن يعطي عھداً مبھما ً يتح ّمل التأويل والتفسير على غير المراد‪ ،‬لمخادعة من أُعطي له ھذا العھد‪،‬‬
‫وللتملّص من الميثاق رغبةً في نقضه وعدم التزامه‪ ،‬أو في الجور وما إليه‪ .‬يشدّد اإلمام على مثل ھؤالء‬
‫فيقول‪» :‬وال تعقد عقداً تجوز فيه العلل‪ ،‬وال تع ّولنّ على ِ‬
‫لحن قول بعد التأكيد والتوثقة)‪«(١‬‬

‫يعش ھذا الرأي بك ّل كيانه وينفّذ‬


‫َ‬ ‫ولم يكن ابنُ أبي طالب ليرى رأيا ً أو يأمر بتنفي ِذ مذھب من مذاھبه إالّ بعد أن‬
‫ھذا المذھب في كل أحواله جريا ً على عادته في ذلك‪ .‬فإذا كان الوفاء بالعھد من آرائه ومن مذاھبه فإنّ عقبةً‬
‫سر اجتيازُھا‪ .‬من ذلك ما جرى له في وقعة‬ ‫واحدةً لم تكن لتحول بينه وبين ھذا الوفا مھما َ‬
‫ص ُع َب أ ُمرھا وتع ّ‬
‫صفّين على أثر خدعة التحكيم المشھورة‪ .‬فإنّ أمر ھذه الخدعة ما كاد ينكشف للناس جميعا ً حتى قام محمد بن‬
‫جريش إلى عل ّي وقال له‪» :‬يا أمي َرالمؤمنين‪ ،‬أ َما إلى الرجوع عن ھذا الكتاب سبيل؟ فوﷲِ إني ألخاف أن يورث‬
‫ذالً« مشيراً بذلك إلى الكتاب ـ أو العھد بالتحكيم ـ الذي وقّعه عل ّي على أن ال يكون في األمر خدعة‪ .‬فقال عل ّي‪:‬‬
‫أبَ ْع َد أن كتبناه ننقضه؟ إن ھذا ال يح ّل!‬

‫ثم إنّ عليّا ً ھو القائل‪» :‬واعتصموا بالذمم!« و »ذ ّمتي بما أقول رھينة!«‬

‫‪ ١‬العلل‪ :‬جمع علة وھي‪ ،‬في النقد والكالم‪ ،‬بمعنى ما يصرفه عن وجھه ويحوله إلى غير المراد‪ ،‬وذلك يطرأ على الكالم عند ابھامه‬
‫وعدم صراحته‪ .‬لحن القول‪ :‬ما يقبل التوجيه كالتورية والتعويض‪ .‬يقول‪ :‬إذا رأيت ثقالً التزام العھد‪ ،‬فال تركن إلى لحن ا لقول‬
‫لتتملص منه‪ ،‬بل خذ بأصرح الوجوه لك وعليك‪.‬‬

‫] ‪[ ٢٢٧‬‬

‫وھكذا يبدو لنا أن دعوة عل ّي إلى السلم إنّما ھي في نتيجتھا البعيدة‪ ،‬تعبي ٌر عن ك ّل ما كان يطلبه للناس من عدل‬
‫ومساواة وحرية‪ .‬بل تعبير ع ّما كان يضمره في نفسه‪ ،‬ويعلنه في دستوره‪ ،‬من العمل الشامل في سبيل‬
‫اإلنسان‪ :‬العمل الذي يريد أن يستوعب ك ّل ميدان تخصب فيه اإلنسانية وتنمو‪.‬‬

‫وإنّ عليّاً‪ ،‬بدعوته الحا ّرة إلى األلفة بين أبناء البشر األشقّاء‪ ،‬ليستوي وسائر آباء اإلنسانية القُدامى! فما أشبه‬
‫دعوته بھذه العاطفة الكريمة التي يعبّر عنھا مح ّمد بقوله‪» :‬كونوا عبّا َد ﷲ إخوانا ً«‪ .‬ث ّم بھذه الفكرة العظيمة‬
‫التي يطلقھا النب ّي أيضا ً ساعةَ يسأله أحدُھم‪» :‬ما أفضل األعمال؟« فيجيب قائالً‪» :‬أفضل األعمال بذ ُل السالم‬
‫للعالم!«‬

‫وما أشبه صوت عل ّي بغايته و ُمحتواه‪ ،‬بصوت أشعيا إذ يتص ّور ما يمكن أن تؤول إليه أحوال الناس حين‬
‫قريب أو بعيد‪ ،‬فيقول ھذا القول العظيم‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫يتصافون‪ ،‬وإذ يؤ ّكد أنّ تص ّوره ال محالةَ محقّ ٌ‬
‫ق في غد‬

‫أخرجوا وللذين في اللظمة اب ُرزوا فيرعون في الطرق ويكون مرعاھم في كل الرواني‪.‬‬


‫ُ‬ ‫»يقال لألسرى‪:‬‬

‫ق وفي القفر أنھا ٌر وفي األرض القاحلة مخارج مياه!‬


‫ويج َعل في البريّة طري ٌ‬
‫» ُ‬

‫الناس بيوتا ً يسكنون فيھا ويغرسون كروما ً ويأكلون ثمرھا‪ .‬ال يبنون ويسكن آخ ُر وال يغرسون ويأكل‬
‫ُ‬ ‫»ويبني‬
‫آخر‪.‬‬

‫الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الماعز‪ .‬ال ترفع أُ ّمةٌ على‬


‫ُ‬ ‫»يطبعون سيوفھم سككا ً ورماحھم مناجل‪ .‬يسكن‬
‫أُ ّمة سيفا ً وال يتعلّمون الحرب فيما بعد!«‬

‫] ‪[ ٢٢٨‬‬

‫ال ظالم وال مظلوم‬


‫ق منه عل ّي‬ ‫ـ الذليل عندي عزي ٌز حتى أخذ الح ّ‬
‫ق له‪ ،‬والعزيزعندي ذلي ٌل حتى آخذ الح ّ‬

‫الجور‪َ .‬وحسبما يتوھﱠھج إلى‬ ‫يحب اإلنسانُ الجما ُل يكره القبح‪ .‬وعلى مقدار ما يطلب العدل ينفر من َ‬‫ّ‬ ‫ـ بقَدَر ما‬
‫الكھوف واألودية وصخور‬
‫ِ‬ ‫عبر‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫دفء الوجود تھوله برودة العدم‪ .‬وھو التحمله قد ماه في وعورة األرض‬
‫حب!‬
‫اليُ ّ‬ ‫الذي‬ ‫فھ َو‬ ‫يكره‬ ‫ال‬ ‫الذي‬ ‫أ ّما‬ ‫المودﱠة!‬ ‫ديار‬ ‫إلى‬ ‫إال‬ ‫الجبال‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وتتصل حلقات السيرة العلوية في القضايا العا ّمة اتّصاال ُمحكما كريما‪ .‬وتتداخل مواھب عل ّي في اإلدارة‬
‫الفذة في وحدة متالزمة العناصر‪ّ ،‬‬
‫فذة!‬ ‫والوالية والقيادة واألخالق العظيمة تداخالً تتألف منه الشخصية العلويّة ّ‬
‫فإذا ثورته على االحتكار واالستغالل ھي في الوقت ذاته ثورةٌ على الظلم والظالمين‪ .‬وإذا نقمته على األثرياء‬
‫واألقوياء المستثمرين ثراءھم وق ّوتھم بما يؤذي الجماعة‪ ،‬وعلى األغبياء المتعالين‪ ،‬ھي في ح ّد ذاتھا نقمةٌ‬
‫على االستبداد بكافّة أشكاله‪ .‬وإذا نزوعه العميق إلى رعاية المستضعفين بالعدل وقد ُولدوا بشراً ال يھونون إالّ‬
‫في مجتمع مغلوط‪ ،‬وإلى تحرير المستعبدين‪ ،‬وقد ُخلقوا أحراراً ال يذلّون‬

‫] ‪[ ٢٢٩‬‬

‫إال وقد ذلّت الكرامة اإلنسانية بالذات‪ ،‬ھي في الحين نفسه نقمةٌ على من أھان وأذ ّل!‬

‫وإذا كان في ما رأيناه حتى اآلن من انتصار اإلمام ألھل الحاجة‪ ،‬انتصا ٌر للمظلوم؛ وإذا كان في ما رأيناه حتى‬
‫اآلن من سخط اإلمام على خصوم اإلنسانية والمجتمع والعاملين في غير ھدي الضمير‪ ،‬سخطٌ على الظالم؛ فما‬
‫صاً‪ ،‬ما‬
‫صا ً منطوقا ً‪ .‬ففي الظلم ن ّ‬
‫بسبب يكفينا عناء الكالم على موقف ابن أبي طالب من الظلم والظالمين ن ّ‬
‫ٌ‬ ‫ذاك‬
‫ھو أشمل من االحتكار واالستغالل واالستھتار بالكرامات؛ وما ھو أبعد في اإلشارة إلى ھذه النقائص‪ ،‬إلى ما بدا‬
‫منھا وما اختفى! والظلم على كال حال‪ ،‬لفظٌ ال تج ُد لإلمام قوالً في خطبة أو وصية أو عھد إالّ وھو فيه‪ .‬وإالّ‬
‫تنصب على روحه ومعناه‪ .‬وإالّ ولسانه وبيانه يصيبانه بكل لعنة! لذلك وجب إفراد فصل يبحث في‬ ‫ُ‬ ‫وثورته‬
‫موقف عل ّي من الظلم والظالمين‪ ،‬والطغاة العتاة المفسدين الذين ما أھمل ابن أبي طالب قتالھم في وجدانه‬
‫وعلى لسانه‪ ،‬وبدستوره وذي فقاره‪ ،‬صيانةً للعا ّمة من غصب الغاصبين ومظالم العابثين‪.‬‬

‫أ ّما قتال الظلم فقد كان في تاريخ اإلنسان منذ كان اإلنسان‪ ،‬ولكن على وجوه وأشكال! وكث َر حملَةُ أعباء ھذا‬
‫القتال في عھود الفئات المستأسدة الطاغية كثرةً تش ّرف تاريخ اإلنسانية بقدر ما ينحطّ به ظل ُم الغاشمين وظ ّل‬
‫ھؤالء المقاتلون يتناوبون ويتعاونون ويتوارثون روح القتال‪ .‬ومن عظماء اإلنسانية َمن كانت أيامھم حلقات‬
‫متواصلة من الصراع‪ .‬فما تاريخ المسيح إالّ ثورة على المستعمرين الرومان‪ ،‬والمستعمرين الداخليين من‬
‫الملولك واالرستقراطيين وعبيد الوثنية االجتماعية‪ ،‬وما تاريخ مح ّمد إالّ استمرار لتاريخ المسيح في ثورة‬
‫تعصف عصفا ً وال تنقلب نسيما ً نديّا ً إالّ إذا نال المظلومون ما تريده لھم من حال‪.‬‬

‫] ‪[ ٢٣٠‬‬

‫وما يقال في المسيح ومح ّمد يقال في سقراط وغاليليو وفولتير وتولستوي وبوشكين وبتھوفن وغوركي‬
‫وروسو وجورج برنارد شو وغاندي و َمن إليھم من أعالم التاريخ اإلنساني‪ .‬وكما يتح ّول الظلم في النفوس‬
‫المشرب والمطعم والملبس‬
‫ُ‬ ‫واالجسام إلى مادّة من مادّتھا‪ ،‬فإذا ھو شيء من أشيائھا يسھل اتيانّه كما يسھل‬
‫والتنفّس‪ ،‬على نحو ما نرى في حياة نيرون وجانكيزخان وأجالف المماليك وباشوات بني عثمان‪ ،‬ورجال‬
‫ديوان التفتيش أو المحكمة »المقدسة« في أوروبا بالعصرو المتوسطة‪ ،‬وفي حياة األباطرة واألكاسرة‬
‫والفراعنة والسالطين التافھين‪ ،‬في سيرة الحجاج بن يوسف وزياد بن أبيه وعبيدﷲ بن زياد ومسلم بن عقبة‬
‫و َمن إليھم‪ ،‬فكذلك يتح ّول مقت الظلم في نفوس اآلخرين وفي أجسامھم إلى مادّتھا فإذا ھو شيء من أشيائھا‬
‫يعيش بھا مع النبض والخفوق‪.‬‬

‫بھذا أستطيع أن أعلّل ثبوت األوليين على المظالم بما فيھا من فظائع وشنائع ثبوتا ً ال يتطلب أي جھد‪ ،‬وال‬
‫يبتغي في معظم الحاالت أيّة غاية كبيرة أو صغيرة أبع َد من صدور األشياء عن مصادرھا‪ ،‬حتى لينادي أحدُھم‬
‫الحجاجال ابن يوسف َح َرسيّه‪ ،‬وھو على مائدة الطعام في رھط من أصحابه‪ ،‬قائالً له‪» ،‬يا حرس ّي‪ ،‬اضرب‬
‫عنقه« مشيراً إلى عجوز مسكين يقف مرتجفا ً بين يديه ولم يرتكب إثما ً كثيراً أو قليالً‪ .‬ثم يتابع طعامه كأنّ أمراً‬
‫لم يكن‪ .‬يفعل ذلك بنفس البساطة التي ينادي بھا غال َمه قائالً له‪ :‬يا غالم‪ ،‬ھات لنا ما ًء مب ّرداً! وحتى ليحرق‬
‫نيرون روما وھو يشرب الكأس ويصغي إلى الشعر والعزف والغناء!‬

‫وبھذا أستطيع أن أعلّل أيضا ً ثبوت اآلخرين على مصارعة الظلم واالستبداد ثبوتا ً ال يكونون إالّ به‪ ،‬حتى‬
‫ليشرب سقراط الس ّم كما يشرب الدواء إذا كان شربُه نھايةً محتومة لھذا الثبوت‪ .‬وحتى ليحارب فولتير أكبر‬
‫رأس في أوروبا‬

‫] ‪[ ٢٣١‬‬

‫أصحاب الحسين بن‬


‫ُ‬ ‫بزمانه وكأنه مدفوع إلى ذلك كما يُدفع الظمآن إلى الماء والجوعان إلى الخبز‪ .‬وحتى ليَقف‬
‫عل ّي بين يديه ويقولوا له‪ ،‬وقد تألّبت عليه الدولة األموية فھو منفر ٌد وحيد‪ :‬نموت معك!‬

‫ھذه الطائفة العظيمة من أبناء البشر يأتي ابنُ أبي طالب في طليعتھا‪ .‬لقد جاء‪ ،‬كما يقول ليقيم حقا ً ويزھق‬
‫باطالً! فحدوده في الدولة ھي ھذه الحدود! ولكن ما أبع َد أطراف الدنيا القائمة ضمن ھذه الحدود والظالمون في‬
‫زمانه أعظم عدداً وأش ّد بأسا ً!‬

‫ال ظالم وال مظلوم!‬

‫ھذه ھي إرادة ابن أبي طالب‪ .‬وھذا ما يأباه زمانه! ويتخلّف عن مسايرته في ھذه اإلرادة حتى المظلومون‬
‫أنفسھم لخوف قديم أل ﱠم بھم فباتوا يخشون معاندة ظالميھم‪ .‬أو لجھل ُحملوا به على قبول الرشوة إالّ َمن خلق‬
‫ربّك من كبار القلوب!‬

‫ولكن‪ ،‬ھل يضعف عل ّي والناس متألّبون عليه سائرون إليه في ركاب النافذين؟ ھل يضعف الفارس الغريب‬
‫الكئيب في أرض اآلالم يقيم بھا بين السباع الضواري‪ ،‬وفي أبناء آدم وح ّواء كراھيةً للموت‪ ،‬ال شكّ؟‬

‫ھل يضعف و »الظالم يزداد عت ّواً« والنافذون »يعملون في الشبھات« ويتاجرون بضمائرھم فيدفعونھا ثمنا ً‬
‫للمغانم ينتھزونھا وللمنابر يفرعونھا‪ ،‬والبالد نھبةٌ لھم وھم لمظالمھم متع ّ‬
‫صبون يأخذھم ال ِكبر ويغريھم الفخر؛‬
‫يتل ّونون ألوانا ً ويعدّون لكل حق باطالً ويتقارضون الثناء ويتراقبون الجزاء‪ ،‬وقد استغلّوا العدل والحقّ‪ ،‬وطغوا‬
‫وبغوا وأفسدوا في األرض وتجبّروا؟‬

‫ھل يضعف وأنصاره أنفسھم »ما ع ّزت دعوةُ َمن دعاھم‪ ،‬وال استراح قلب َمن قاساھم‪ .‬و َمن فاز به فقد فاز‬
‫ص ُم ذوو أسماع‪ ،‬بُك ٌم ذوو كالم‪ ،‬ال أحرار صدق عند اللقاء وال إخوان ثقة عند البالء!«‬
‫بالسھم األخيب! ُ‬

‫] ‪[ ٢٣٢‬‬

‫إن المرء ليضعف في مثل ھذه الشروط‪ ،‬إن لم يكن عل ّي بن أبي طالب! فالحنان العميق الذي ي ّكنه عل ّي للناس‬
‫يحمله على أالّ يھادن من أساء للناس ولو كانت حياته الثمن لذلك! وإنه ليكذب‪ ،‬لعمري‪ ،‬أو يجھل حقيقة‬
‫الطبائع‪َ ،‬من يخال أنّ من شروط الحنان والرقّة‪ ،‬القعو َد عن الثورة على الظالمين‪ .‬وأنّ من مظاھر العاطف ِة‬
‫ال َودود‪ ،‬االستسالم دون التم ّرد ودون العنف في ھذا التم ّرد! فالحنانُ والعطف يحمالنك دون ت ّرد على أنّ تتم ّرد‬
‫وتثور على الظالم تخليصا ً لمن تعطف عليھم م ّما يرسفون به من قيود! وإن العطف والحنان والحب ھي التي‬
‫تدفعك‪ ،‬في بعض الحاالت‪ ،‬إلى العنف حتى أقصى حدوده‪.‬‬

‫يحب اإلنسانُ الجما َل يكره القبح‪ .‬وعلى مقدار ما يطلب العدل ينفر من الجور‪ .‬وحسبما يتوھّج إلى‬‫ّ‬ ‫فبقدر ما‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫دفء الوجود تھوله برودة العدم‪ .‬وھو ال يحمل سيفا يھوي به على أعناق الطغاة التافھين إال إذا كانت الحياة‬
‫معبداً له ونعيما ً! وال تحمله قدماه في وعورة األرض عب َر الكھوف واألودية وصخور الجبال‪ ،‬إالّ إلى ديار‬
‫يحب!‬
‫ّ‬ ‫المودّة! أما الذي ال يكره فھو الذي ال‬
‫وأسوق دليالً جديداً على الرقّة والحنان في مزاج عل ّي يتّحدان والتم ّر َد وال ُعنف اتّحا َد األشياء بذاتھا‪ ،‬في سبيل‬
‫رفع الظلم بك ّل أشكاله‪:‬‬

‫روت سودة بنت عمارة الھمذانية أنھا جاءت إلى عل ّي تشتكي من رجل والّه صدّقاتھم‪ ،‬فقال لھا بتعطّ ِ‬
‫ف ورأفة‪:‬‬
‫ألك حاجة؟ فأخبرته خبر الرجل‪ ،‬فبكى ثم قال‪ :‬اللّھ ّم إني لم آمرھم بظلم خلقك وال ترك حقك!« ثم أخرج من‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫جيبه قطعة من ورق فكتب فيھا‪:‬‬

‫»‪ ...‬فأوفوا بالكيل والميزان وال تبخسوا الناس أشياءھم وال تعيثوا في األرض مفسدين‪ .‬إذا أتاك كتابي ھذا‬
‫فاحتفظ بما في يدك حتى يأتي من يقبضه منك!«‬

‫] ‪[ ٢٣٣‬‬

‫فانظر كيف بلغ به العطف على المرأة المظلومة الشاكية ح ّداً أبكاه‪ .‬ثم كيف انقلب ھذا العطفُ عنفا ً آمراً ناھياً‬
‫يتوجه به إلى جامع الصدقات الذي جار!‬ ‫ّ‬ ‫سريعا ً مقتضب اللھجة‬

‫إن ابن أبي طالب لن يتراجع عن محاربة البغي‪ ،‬ولن يضعفَ وفي األرض عزيز يضطھد ذليالً‪ ،‬وكبير يقھر‬
‫صغيراً! لن يضعف ولن يتراجع وفي قلبه من الحنان والمحبة ما يكفل له الثبوت في الصراع بين الح ّ‬
‫ق‬
‫والباطل‪ ،‬وما يضمن له القدرة على قيادة المعركة‪.‬‬

‫وكان عل ّي يؤمن إيمانا ً وطيداً بأ نّه »الب ّد من إمام يُؤخذ به للضعيف من القوي وللمظلوم من الظالم حتى‬
‫يستريح بَ ّر ويُستراح من فاجر« و »أن ﷲ قد أعاذ الناس من أن يجوز عليھم« فكيف يجور عليھم الجائرون!‬
‫و »أنه امتحن األمراء بالجور« فإذا ظلمو‪.‬ا انتھى أم ُرھم أل نّه »إن أمھل الظال َم فلن يفوت ُ‬
‫أخذه فھو له‬
‫بالمرصاد على مجاز طريقه!« وعند ذاك يكون »يوم العدل على الظالم أش ّد من يوم الجور على الملظوم!«‬
‫ومن أوامر ابن أبي طالب الدائمة‪» :‬أمرتكم بالشدّة على الظالم« و »خذوا على يد الظالم السفيه!«‬

‫ق والباطل‪ .‬وھو إذا أط ّل على ھذا‬‫أجل! إنّ في قلبه من الحنان والمحبّة ما يكفل له الثبوت في الصراع بين الح ّ‬
‫الصراع من بعيد أوج َز يقول‪» :‬لنظھر االصالح في بالدك فيأمن المظلومون من عبادك«‪ .‬ثم الذا ھو دنا من‬
‫ق وإن كان‬ ‫المعترك قال‪» :‬وايم ﷲ ألنصفن المظلوم من ظالمه وآلخذن الظال َم بخزامته حتى أورده منھ َل الح ّ‬
‫كارھا ً!« أو اطلق ھذه العبارة‪» :‬الكفّ عن البغي واإلنصاف للخلق واجتناب المفاسد في األرض!« وھو إذا كان‬
‫في قلب الصراع الرھيب تفَقّد أنصاره فإذا ھم قليل‪ .‬ونظر إلى أخصامه فإذا ھم كثير‪ .‬فنظر في أحواله وأحوال‬
‫ق من جنبه«‪ .‬ثم إنّه لن يكفّ عن محاربة‬ ‫الناس وقال‪» :‬ما ضعفتُ وال جبنتُ ! فألنقبن الباط َل حتى يخرج الح ّ‬
‫الظلم‬

‫] ‪[ ٢٣٤‬‬

‫ولو رأى شھادته مائلة لعينيه‪ .‬ولن يبالي ولو تألّب ِ‬


‫ت العرب عليه يساندھا أھ ُل األرض جميعاً‪ ،‬في شعاب األرض‬
‫ووھادھا!‬

‫ويزداد أبن أبي طالب ثقةً بنفسه وإيمانا ً بعدالة ما يعمل فيقول‪» :‬الذليل عندي عزي ٌز حتى آخذ الح ّ‬
‫ق له‪ ،‬والعزيز‬
‫ق منه‪» «.‬فوﷲِ ما أبالي أدخلتُ على الموت أو خرج لموتُ إل ّي«‪.‬‬ ‫عندي ذلي ٌل حتى آخذ الح ّ‬

‫وإذا ھو قاتل الظالمين فبقي لھم في األرض صولة‪ ،‬قال‪» :‬وبقيت بقيّة من أھل البغي‪ ،‬ولئن أذن ﷲ في الك ّرة‬
‫يتشذر في أطراف البالد ّ‬
‫تشذراً«‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ألديلنّ منھم إالّ ما‬

‫ورجال العلم في مذھب عل ّي قادة األ ّمة‪ ،‬وعليھم من ث ّمة مسؤولياتٌ ِجسام في طليعتھا مقاومةُ الظالم واالنتصار‬
‫للمظلوم‪ .‬يقول‪» :‬وقد أخذ ﷲُ على العلماء أنّ ال يُقا ّروا على كظّة ظالم وال س َغب مظلوم!«‬
‫ذنوب الناس‬
‫َ‬ ‫ولكي ال تكون في عداد القوم الظالمين‪ ،‬وال في َمن يعينون على الظلم أو يرضون به‪ ،‬يجعل عل ّي‬
‫ضھا إالّ الظلم‪ ،‬فيقول‪» :‬وأ ّما الذنب ال يُغفر فظلم العباد بعضھم لبعض«‪ .‬وھو يرى‪ ،‬في‬
‫في درجات يُغتفر لھم بع ُ‬
‫ك ّل حال‪ ،‬أنّ »ظلم الضعيف أفحش الظلم!«‬

‫وھكذا وضع ابنُ أبي طالب رفع الظلم بأشكاله وألوانه جميعا ً ـ وال سيّما الظلم المادّي ـ في أساس دستوره في‬
‫الشعب‪ .‬وھكذا حارب الظالمين بلسانه وسيفه وھو معتص ٌم بذ ّمته في ذلك‪ ،‬وظ ّل يُذيل من أھل البغي حتى‬
‫استشھد عظيما ً! ولو قد استوت قدماه من مزالق دھره لَغيّر أشياء!‬

‫وتيك آية ابن أبي طالب!‬

‫] ‪[ ٢٣٥‬‬

‫دستور اإلمام في الوالة‬


‫ـ إيّاك واالستئثا َر بما الناس فيه أسوة‬

‫عل ّي‬

‫بعد أن تبيّن لنا موقف اإلمام عل ّي من المجتمع وأحواله‪ ،‬وظھر لنا أسلوبه في العمل من أجل توطيد العالقات‬
‫االجتماعية على أساس من العدالة متين‪ ،‬الب ّد من إثبات مختارات من كتاب بعث به إلى االشتر النخعي ل ّما والّه‬
‫على مصر وأقطارھا‪ ،‬وھو أطول عھوده ومن أجلّھا شأنا ً‪.‬‬

‫وإذا كانا قد استندنا في دراستنا ھذه على مختلف عھود اإلمام وكتبه‪ ،‬ألن حقوق الفرد والجماعة ظاھرة فيھا‬
‫جميعاً‪ ،‬فال يمكننا االستغناء عن إثبات مختارات من كتابه ھذا لعامله على مصر‪ .‬ذلك أل نّه أجمع كتبه وعھوده‬
‫آلرائه في بناء المجتمع‪ .‬ففي ھذا الكتاب الجليل دستور عل ّي في الوالة كامالً إالّ ما تناثر في بقي ِة كتبه وعھوده‬
‫سس أخرى وأركان‪ ،‬نأخذ بعضا ً منھا ونثبتھا في خاتمة ھذا الكتاب‪.‬‬ ‫من أُ ُ‬

‫وھكذا نتيح الفرصة ألن يطّلع القراء على فصل من أروع ما أنتجه العقل والقلب في ربط الناس بالعالقات‬
‫االجتماعية واالنسانية الخيّرة‪.‬‬

‫وإليك بعض ما جاء في كتاب عل ّي إلى األشتر‪:‬‬

‫] ‪[ ٢٣٦‬‬

‫وجھتُك إلى بالد قد جرت عليھا ُد َو ٌل قبلك من عدل وجور‪ .‬وأنّ الناس ينظرون من أمورك في‬ ‫»ث ّم اعلم أني قد ّ‬
‫ّ‬
‫مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الوالة قِبَلك‪ ،‬ويقولون فيك ما كنت تقول فيھم؛ وإنما يُستد ّل على الصالحين بما‬
‫حب الذخائر إليك ذخيرةَ العمل الصالح‪ .‬فا ِملك ھواك وش ُّح بنفسك عما‬ ‫سن عباده‪ ،‬فليكن أ ّ‬ ‫يُجري ﷲ لھم على أل ُ‬
‫ال يح ّل لك فإن الش َّح بالنفس االنصافُ منھا فيما أحبّت أو كرھت‪ .‬وأشعر قلبك الرحمة للرعية‪ ،‬والمحبّة لھم‪،‬‬
‫أخ لك في الدين أو نظي ٌر لك في‬ ‫سبعا ً ضاريا ً تغتنم أكلھم فإنھم صنفان‪ :‬إ ّما ٌ‬‫واللطف بھم‪ ،‬وال تكوننّ عليھم ُ‬
‫الخلق‪ ،‬يَف ُرط منھم الزلّل)‪ (١‬ويُؤتى على أيديھم في العمد والخطاء؛ فأعطھم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب‬
‫صة‬‫الناس من نفسك ومن خا ّ‬
‫َ‬ ‫صف‬‫تبج َحنّ بعقوبة‪ .‬أن ّ‬
‫أن يعطيك ﷲ من عفوه وصفحه‪ .‬وال تند َمن على عفو وال َ‬
‫ظلَ َم عباد ﷲ كان ﷲ خصمه دون عباده‪ .‬وليس‬ ‫ى من رعيّتك‪ ،‬فإنّك اال تفعل تَظلم! و َمن َ‬
‫أھلك و َمن لك فيه ھو ً‬
‫ُ‬
‫شيء أدعى إلى تغيير نعمة ﷲ وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم‪ ،‬فإنّ ﷲ سميع دعوة المضطھدين وھو‬
‫للظالمين بالمرصاد‪.‬‬
‫وليكن أحب األمور إليك أوسطھا في الحق وأع ّمھا في العدل وأجم َعھا لرضا الرعية‪ .‬وليس أح ٌد من الرعيّة أثق َل‬
‫الرخاء وأق ّل معونةً في البالد‪ ،‬وأكره لالنصاف‪ ،‬وأسأ َل باإللحاق‪ ،‬وأق ّل شكراً عند‬ ‫على الوالي مؤونةً في َ‬
‫صة‪ .‬والُع ّدةُ لالعداء العا ّمة من‬
‫اإلعطاء وأبطأ عذراً عند المنع‪ ،‬وأضعف صبراً عند مل ّمات الدھر من أھل الخا ّ‬
‫صغ ُوك لھم و َميلك معھم‪.‬‬
‫األ ّمة‪ ،‬فليكن َ‬

‫وليكن أبع َد رعيّتك منك‪ ،‬وأشنأھم)‪ (٢‬عندك‪ ،‬أطلَبُھم لمعائب الناس)‪(٣‬؛‬

‫‪ ١‬يفرط‪ :‬يسبق‪ .‬الزلل‪ :‬الخطأ‪.‬‬

‫‪ ٢‬أشنأھم‪ :‬أبغضھم‪.‬‬

‫‪ ٣‬األطلب للمعائب‪ :‬األشد طلبا ً لھا‪.‬‬

‫] ‪[ ٢٣٧‬‬

‫ست ََرھا‪ .‬فال تكشفنّ ع ّما غاب عنك منھا فإنّما عليك تطھير ما ظھر لك‪،‬‬ ‫فإنّ في الناس عيوبا ً الوالي أح ّ‬
‫ق َمن َ‬
‫وتغاب عن كل ما ال‬
‫َ‬ ‫فاستر العورة ما استطعت‪ .‬أطلق عن الناس عقدة كل حقد‪ ،‬واقطع عنك سبب كل ِوتر)‪،(١‬‬
‫غاش وإن تشبّه بالناصحين‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫تعجلَن إلى تصديق ساع‪ ،‬فإن الساعي‬ ‫يصح لك‪ ،‬وال َ‬
‫ّ‬

‫وال تُدخلَنّ في مشورتك بخيالً يعدل بك عن الفضل‪ ،‬وال جبانا ً يُضعفك عن األمور‪ ،‬وال حريصا ً يُزيّن لك الش َّره‬
‫بالجور‪ .‬إن ش ّر وزرائك من كان لألشرار قبلك وزيراً‪ ،‬و َمن شرك ُھم في اآلثام؛ فال يكونن لك بطانة فإنھم أعوان‬
‫الخلَف م ّمن لم يعاون ظالما ً على ظلمه وال آثما ً على إثمه! ثم‬‫األثمة وإخوان الظّلمة‪ ،‬وأنت واج ٌد منھم خير َ‬
‫ليكن آث ُرھم)‪ (٢‬عندك أقولھم ب ُم ّر الحق لك)‪ (٣‬وأقلّھم مساعدة فيما يكون منك م ّما كره ﷲ ألوليائه واقعا ً ـ ذلك‬
‫ـ من ھواك حيث وقع‪.‬‬

‫وال يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء؛ فإن في ذلك تزھيداً ألھل االحسان في االحسان‪ ،‬وتدريبا ً‬
‫ألھل االساءة على االساءة! وأل ِزم كالًّ منھم ما ألزم نفسه‪ .‬واعلم أ نّه ليس شيء بأدعى إلى ُحسن ظنّ راع‬
‫برعيته من إحسانه إليھم‪ ،‬وتخفيفه المؤونات عليھم‪ ،‬وترك استكراھه إياھم على ما ليس قِبَلَھم)‪ .(٤‬فليكن منك‬
‫سن ظنّك به لَ َمن حسُنَ بالؤك)‪ (٥‬عنده‪ ،‬وإن‬ ‫ق َمن ح ُ‬
‫في ذلك أم ٌر يجتمع لك به حسنُ الظنّ برعيّتك‪ .‬وإن أح ّ‬
‫صلح‬
‫َ‬ ‫ما‬ ‫تثبيت‬ ‫في‬ ‫الحكما‪،‬‬ ‫(‬ ‫‪٦‬‬‫)‬ ‫ومنافثة‬ ‫العلماء‪،‬‬ ‫مدارسة‬ ‫ق من ساء ظنّك به لَ َمن ساء بالؤك عنده‪ .‬وأكثر‬ ‫أح ّ‬
‫عليه أم ُر بالدك وإقامة ما استقام به‬

‫‪ ١‬الوتر‪ :‬العداوة‪.‬‬

‫‪ ٢‬الضمير يعود على الوزراء في كالم لإلمام‪.‬‬

‫‪ ٣‬ليكن أفضلھم لديك أكثرھم قوالً بالحق المر‪ .‬ومرارة الحق‪ :‬صعوبته على نفس الوالي‪.‬‬

‫‪ ٤‬قبلھم‪ ،‬بكسر ففتح‪ :‬عندھم‪.‬‬

‫‪ ٥‬البالء ھنا‪ :‬الصنع‪ ،‬حسنا ً كان أو سيئا ً‪.‬‬

‫‪ ٦‬المنافثة‪ :‬المحادثة‪.‬‬

‫] ‪[ ٢٣٨‬‬
‫الناس قبلك‪َ .‬و َو ﱢل من جنودك أنقاھم ِجيبا ً)‪ (١‬وأفضلھم حلما ً‪ :‬م ّمن يُبطىء عن الغضب ويستريح إلى ال ُعذر‬
‫ويرأف بالضعاء وينبو على األقوياء)‪ (٢‬وم ّمن ال يُثيره ال ُعنف‪.‬‬

‫ثم تفقّد من أمورھم ما يتفقّد الوالدان من ولدھما‪ ،‬وال يتفاقمنّ في نفسك شيء ق ّويتَھم به)‪ (٣‬وال ت َْحقِ َرنّ لطفا ً‬
‫لطيف أمورھم‬ ‫ِ‬ ‫وحسن الظنّ بك؛ وال تدَع تفقّد‬ ‫تعاھدتھم به)‪ (٤‬وإن ق ّل‪ ،‬فإنّه داعيةٌ لھم إلى بذل النصيحة لك ُ‬
‫اتّكاالً على جسيمھا‪ ،‬فإنّ لليسير من لطفك موضعا ً ينتفعون به‪ ،‬وللجسيم موقعا ال يستغنون عنه‪ .‬وإن عطفك‬
‫ً‬
‫يعطف قلوبھم عليك‪ .‬وإنّ أفضل ق ّر ِة عين لوالة استقامةُ العدل في البالد‪ ،‬وظھور مودّة الرعيّة‪ ،‬وإنّه‬ ‫في البالد ِ‬
‫تص َح نصيحتھم إالّ بقلّة استثقال د َُولِھم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وال‬ ‫صدورھم‪،‬‬ ‫بسالمة‬ ‫إال‬ ‫ّتھم‬
‫ال تظ َھ ُر مود‬

‫صرنّ به دون غاية بالئه‪ ،‬وال‬


‫ثم اعرف لك ّل امرئ منھم ما أبلى وال تضيفن بالء امرئ إلى غيره)‪ ،(٥‬وال تق ّ‬
‫ض َعة امرئ إلى أن تستصغر من بالئه ما كان‬‫يدع ّونّك شرف امرئ إلى أن تُعظم ِمن بالئه ما كان صغيراً وال َ‬
‫عظيما ً‪.‬‬

‫ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك)‪ (٦‬في نفسك م ّمن ال تضيق به االمور وال تُمح ُكهُ)‪(٧‬الخصوم وال‬
‫يتمادي في الزلّة وال تُشرف نفسه على‬

‫‪ ١‬يقال‪ :‬نقي الجيب أي‪ :‬طاھر القلب‪.‬‬

‫‪ ٢‬ينبو على األقوياء‪ :‬يشتد ويعلو عليھم ليكف ايديھم عن ظلم الضعفاء‪.‬‬

‫‪ ٣‬تفاقم األمر‪ :‬عظم‪ .‬يقول ال تع ّد شيئا ً ق ّويتھم به غاية في العظم زائداً ع ّما يستحقون‪ ،‬فكل شيء ق ّويتھم به واجب عليك اتيانه‪ .‬وھم‬
‫مستحقون لنيله‪.‬‬

‫‪ ٤‬أي ال تع ّد شيئا ً من تلطفك معھم حقيراً فتتركه لحقارته‪ ،‬بل كل تلطف وإن ق ّل فله موقع من قلوبھم‪.‬‬

‫‪ ٥‬ال تنسبن عمل امرئ إلى غيره‪ ،‬وال تقصر به في الجزاء دون ما يبلغ منتھى عمله الجليل‪.‬‬

‫‪ ٦‬ثم اختر الخ‪ :‬انتقال من الكالم في الجند إلى الكالم في القضاء‪.‬‬

‫‪ ٧‬تمحكه‪ :‬تضيق خلقه‪.‬‬

‫] ‪[ ٢٣٩‬‬

‫شبُھات)‪ (٢‬وآخذھم بالحجج وأقلّھم تب ّرما ً بمراجعة‬


‫مطمع وال يكتفي بأدنى فھم دون أقصاه)‪ (١‬وأوقفھم في ال ّ‬
‫الخصم وأصبرھم على تكشّف األمور‪ ،‬وأصر َمھم عند اتضاح الحكم‪ ،‬م ّمن ال يزدھيه إطراء وال يستميله إغراء‪،‬‬
‫وأولئك قلي ٌل؛ ثم أكثر تعاھُد قضائه)‪ (٣‬وأفسح له في البذل ما يزيل علّته وتق ّل معه حاجته إلى الناس‪ .‬وأعط ِه‬
‫صتك ليأمنَ بذل َك اغتيال الرجال له عندك‪ .‬فانظر في ذاك نظراً‬ ‫من المنزلة لديك ما ال يطمع فيه غي ُره من خا ّ‬
‫بليغا ً‪.‬‬

‫ب الجور والخيانة‪.‬‬
‫ش َع ِ‬ ‫وأثرةً‪ ،‬فإنھم ِجما ٌ‬
‫ع من ُ‬ ‫َ‬ ‫ثم انظر في أمور ع ّمالك فاستعملھم اختياراً)‪ (٤‬وال تولّھم محاباةً‬

‫وحجةٌ‬
‫ّ‬ ‫ثم أسبغ عليھم االرزاق فإنّ ذلك قوة لھم على استصالح أنفسھم‪ ،‬وغن ًى لھم عن تناول ما تحت أيديھم‪،‬‬
‫عليھم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك‪ .‬ثم تفقّد أعمالھم وابعث العيونَ من أھل الصدق والوفاء عليھم‪ ،‬فإنّ‬
‫تعاھُدك في الس ّر ألمورھم َحدوةٌ ـ َح ّ‬
‫ث ـ لھم على استعمال األمانة بالرعية‪.‬‬

‫وتفقّد أمر الخراج بما يُ ُ‬


‫صلح أھله‪ ،‬فإنّ في صالحه وصالحھم صالحا ً لمن سواھم‪ ،‬وال صالح لمن سواھم إالّ‬
‫َ‬
‫بھم‪ ،‬ألنّ الناس كلھم عيا ٌل على الخراج وأھله‪ .‬وليكن نظ ُر َك في عمارة األرض أبلغ من نظرك في استجالب‬
‫درك إالّ بالعمارة‪ ،‬ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البالد وأھلك العباد‪ ،‬ولم يستقم أمره‬
‫الخراج ألنّ ذلك ال يُ َ‬
‫إالّ قليالً‪.‬‬

‫فالن شكوا ثِقالً)‪ (٥‬أو علّةً أو انقطاع شرب أو إحالة أرض أغتمرھا‬

‫‪ ١‬ال يكتفي في الحكم بما يبدو له باول فھم وأقر به‪ ،‬دون أن يأتي على أقصى الفھم بعد التأ ّمل‪.‬‬

‫‪ ٢‬الشبھات‪ :‬ما ال يتضح الحكم فيه‪ .‬يريد إنه ينبغي الوقوف عن الحكم حتى يرد الحادثة إلى أصل صحيح‪ .‬ولفظه »أوقفھم« نابعة‬
‫باالعراب للفظة »أفضل«‪.‬‬

‫‪ ٣‬تعاھد‪ :‬تتبعه باالستكشاف والتعرف‪.‬‬

‫‪ ٤‬أي‪ :‬ولھم االعمال باالمتحان‪ ،‬ال محاباة‪ ،‬أي‪ :‬اختصاصا ً وميالً منك لمعاونتھم‪ ،‬وال اثرة‪ ،‬أي‪ :‬استبداداً بال مشورة‪ ،‬فإنّ المحاباة‬
‫واالثرة يجمعان الجور والخيانة‪.‬‬

‫‪ ٥‬ثقل المضروب من مال الخراج‪.‬‬

‫] ‪[ ٢٤٠‬‬

‫عطش فخفّف عنھم بما ترجو أن يصلُح به أمرھم‪ ،‬وال يثقلنّ عليك شيء خفّفت به المؤونة‬ ‫ٌ‬ ‫غرق أو أجحف بھا‬
‫وتبجحك)‪(١‬‬ ‫ّ‬ ‫عنھم‪ ،‬فإنّه ُذخ ٌر يعودون به عليك في عمارة بالدك‪ ،‬وتزيين واليتك‪ ،‬مع استجالبك ح َ‬
‫سن ثنائھم‪،‬‬
‫باستفاضة العدل فيھم‪ .‬فإنّ العمران محتَ َم ٌل ما ح ّملتَه‪ .‬وإنّما يؤتى خراب األرض من إعواز أھلھا‪ ،‬وإنّما يُعو ِز‬
‫أھلھا إلشراف أنفس الوالة على الجمع)‪ (٢‬وقلّة انتفاعھم ِ‬
‫بالعبَر‪.‬‬

‫ثم انظر في أمور كتّابك فو ﱢل على أمورك خي َرھم م ّمن ال يجھل مبل َغ قدر نفسه في األمور‪ ،‬فإنّ الجاھل بقدر‬
‫نفسه يكون بقدر غيره أجھل‪ .‬ثم ال يكن اختيارك إياھم على فراستك واستنامتك)‪(٣‬وحسن الظنّ منك‪ ،‬فإنّ‬
‫الرجال يتعرفون لفراسات)‪ (٤‬الوالة بتصنّعھم وليس وراء ذلك من النصيحة واألمانة شيء‪ .‬ولكن اختبرھم بما‬
‫ُولّوا للصالحين قبلك‪ :‬فاعمد ألحسنھم كان في العا ّمة أثراً وأع َرفھم باألمانة وجھا ً! ومھما يكن في كتّابك من‬
‫عيب فتغابيتَ عنه أُلزمتَه‪.‬‬

‫ص بھم خيراً‪ :‬المقيم منھم والمضطرب)‪ (٥‬بماله‪ ،‬فإنّھم موا ّد المنافع‬


‫بالتجار وذوي الصناعات وأو ِ‬‫ّ‬ ‫ص‬
‫ثم استو ِ‬
‫وأسباب المرافق وجال بھما من المباعد والمطارح في ب ّرك وبحرك وسھلك وجبلك‪ .‬وتفقّد أمورھم بحضرتك‬ ‫ُ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وشحا قبيحا واحتكارا للمنافع وتحك ّما في البياعات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وفي حواشي بالدك‪ .‬واعلم أنّ في كثير منھم ضيقا فاحشا‬
‫وعيب على الوالة‪ ،‬فامنع من االحتكار فإنّ رسول ﷲ)صلى ﷲ عليه وآله( منع منه‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫وذلك باب مض ّرة للعا ّمة‬
‫وليكن البيع بيعا ً سمحا ً‪:‬‬

‫‪ ١‬التبجح‪ :‬سرور المرء بما يرى من حسن عمله في العدل‪.‬‬

‫‪ ٢‬أي لتطلع أنفسھم إلى جمع المال‪.‬‬

‫‪ ٣‬الفراسة‪ ،‬بالكسرة‪ :‬قوة الظن وحسن النظر في االمور‪ .‬االستنامة‪ :‬السكون والثقة‪ ،‬أي‪ :‬ال يكون انتخاب الكتاب تابعا ً لميلك الخاص‪.‬‬

‫‪ ٤‬يتعرفون للفراسات‪ :‬يتوسلون إليھا لتعرفھم بھا‪.‬‬

‫‪ ٥‬المضطرب‪ :‬المتردد بأمواله بين البلدان‪.‬‬


‫] ‪[ ٢٤١‬‬

‫بموازين عدل‪ ،‬وأسعار ال تُجحف بالفريقين من البائع والمبتاع‪ .‬ف َمن قارف حك َرةً)‪ (١‬بعد نھيك إياه فنكل به‬
‫وعاقبه في غير إسراف‪.‬‬

‫ثم يتحدث اإلمام عن الطبقة المعوزة فيقول‪:‬‬

‫واحفظ ما استحفظك من حقه فيھم‪ ،‬واجعل لھم قسما ً من بيت المال‪ ،‬وقسما ً من غالّت كل بلد‪ ،‬فإن لالقصى‬
‫منھم مثل الذي لألدنى‪ ،‬وك ﱞل قد استُرعيتَ حقّه؛ فال يشغلنّك عنھم بط ٌر‪ ،‬فإنّك ال تُع َذر بتضييعك التافهَ إلحكامك‬
‫ُشخص)‪ (٢‬ھ ّمك عنھم‪ ،‬وال تُص ّعر خدّك لھم‪ ،‬وتفقّد أُمو َر من ال يصل إليك منھم‪ ،‬فإنّ ھؤالء‬ ‫الكثي َر المھ ّم‪ .‬وال ت ِ‬
‫ّ‬
‫من بين الرعيّة أحوج إلى اإلنصاف من غيرھم‪ .‬وتع ّھد أھل اليتيم وذوي الرقة)‪ (٣‬في السنّ م ّمن ال حيلة له‪.‬‬

‫واجعل لذوي الحاجات)‪ (٤‬منك قسما ً تف ّرغ لھم فيه شخصك‪ ،‬وتجلس لھم مجلسا ً عاما ً فتتواضع فيه الذي‬
‫ش َرطك)‪ (٥‬حتى يكلّمك متكلّ ُم ُھم غير ُمتَتَعتِع)‪ (٦‬فإني سمعت‬ ‫ُقعد عنھم جندّك وأعوانك من أحراسك و ُ‬ ‫خلقك‪ ،‬وت ِ‬
‫ي‬
‫ّ‬ ‫القو‬ ‫من‬ ‫حقه‬ ‫فيھا‬ ‫لضعيف‬ ‫ُ‬
‫ذ‬ ‫ؤخ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫ة‬ ‫م‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ّس‬
‫د‬ ‫تق‬ ‫لن‬ ‫»‬ ‫(‪:‬‬ ‫‪٧‬‬ ‫)‬ ‫موطن‬ ‫غير‬ ‫في‬ ‫يقول‬ ‫(‬ ‫وآله‬ ‫عليه‬ ‫ﷲ‬ ‫صلى‬ ‫رسول ﷲ)‬
‫ونح عنھم الضيق واألنف)‪.(١٠‬‬ ‫الخرق)‪ (٨‬منھم اِل ِع َي)‪ (٩‬ﱢ‬‫غير متتعتع‪ «.‬ثم احتمل ُ‬

‫ثم أمو ٌر من أمورك الب ّد لك من مباشرتھا‪ :‬منھا إجابة ع ّمالك بما يعبا عنه كتّابك‪ .‬ومنھا إصدار حاجات الناس‬
‫َحر ُج‬
‫بوم ورودھا عليك بما ت َ‬

‫‪ ١‬قارف‪ :‬خالط‪ .‬الحكرة‪ :‬االحتكار‪.‬‬

‫‪ ٢‬ال تشخص ھمك‪ :‬ال تصرف ھمك‪.‬‬

‫‪ ٣‬ذوو اليتيم‪ :‬االيتام‪ .‬ذوو الرقة في السن‪ :‬المتقدمون فيه‪.‬‬

‫‪ ٤‬لذوي الحاجات‪ :‬أي للمتظلمين‪.‬‬

‫‪ ٥‬أي تأمر بأن يقعد عنھم جندك وأعوانك واحراسك وشرطك فال يتعرضوا لھم‪.‬‬

‫‪ ٦‬التعتعة في الكالم‪ :‬التردد فيه من عجز وع ّي‪ ،‬والمراد‪ ،‬غير خائف‪.‬‬

‫‪ ٧‬أي في مواطن كثيرة‪.‬‬

‫‪ ٨‬الخرق‪ :‬العنف‪ ،‬ضد الرفق‪.‬‬

‫‪ ٩‬العي‪ :‬العجز عن النطق‪.‬‬

‫‪ ١٠‬األنف‪ :‬االستنكاف واالستكبار‪.‬‬

‫] ‪[ ٢٤٢‬‬

‫ض لك ّل يوم ع َمله‪ ،‬فإن لكل يوم ما فيه‪.‬‬


‫به صدور أعوانك)‪ ،(١‬وام ِ‬

‫وال تُط ّولَنّ احتجاجك عن رعيتك فإنّ احتجاب الوالة عن الرعية شُعبةٌ من الضيق‪ ،‬وقلّة علم باألمور‪،‬‬
‫واالحتجاب منھم يقطع عنھم عل َم ما احتجبوا دونه عندھم الكبير‪ ،‬ويعظم الصغير‪ ،‬ويَقبُ ُح الحسن ويحسنُ‬
‫القبيح‪ ،‬ويشاب الحق بالباطل‪ ،‬وإنّما الوالي بش ٌر ال يعرف ما توارى عنه الناس به من األمور‪ ،‬وليست على‬
‫سماتٌ )‪ (٢‬تُع َرف به ضروب الصدق والكذب‪ ،‬وإنّما أنت أحد رجلين‪ :‬إ ّما أمر ٌؤ سخت نفسك بالبذل في‬
‫ق ِ‬‫الح ّ‬
‫ق تعطيه أو فعل كريم تُسديه؟ أو مبتل ًى بالمنع فما أس َرع كفّ الناس عن‬
‫ق ففيم احتجاجك من واجب ح ﱟ‬‫الح ّ‬
‫مسألتك إذا أيسوا من بَذلك)‪ ،(٣‬مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك م ّما ال مؤونة فيه عليك من شكا ِة مظملة أو‬
‫طلب إنصاف في معاملة!‬

‫ثم إن للوالي خاصةً وبطانة فيھم استئثا ٌر‪ ،‬وتطا ُو ٌل‪ ،‬وقلّة إنصاف في معاملة‪ ،‬فاحسم)‪ (٤‬مادّة أولئك بقطع‬
‫أسباب تلك األحوال‪ ،‬وال تُقطعنّ ألحد من حاشيتك وحا ّمتك)‪ (٥‬قطيعةً)‪ ،(٦‬وال يَط ِم َعنّ منك في اعتقاد عُقدة)‪(٧‬‬
‫تُض ّر بمن يليھا منَ الناس في شرب عمل مشترك يحملون‬

‫‪ ١‬تحرج‪ :‬تضيق‪ .‬بما تخرج به صدور االعوان‪ ،‬يريد‪ :‬أن األھوان‪ ،‬تضيق صدروھم بتعجيل الحاجات‪ ،‬ويحبون المماطلة في قضائھا‬
‫استجالبا ً للمنفعة أو اظھاراً للجبروت‪.‬‬

‫‪ ٢‬سمات‪ :‬عالمات‪ ،‬أي ليس للحق عالمات ظاھرة يتميز بھا الصدق من الكذب وإنّما يعرف ذلك باالمتحان واالختيار‪.‬‬

‫‪ ٣‬يقول‪ :‬فإن قنط الناس من قضاء مطالبھم منك أسرعوا إلى البعد عنك‪ ،‬فال حاجة لالحتجاب‪.‬‬

‫‪ ٤‬احسم‪ :‬اقطع‪ .‬يقول‪ :‬اقطع مادة شرورھم عن الناس بقطع اسباب تعديھم‪ ،‬وإنما يكون ذلك باالخذ على ايديھم ومنعھم من التصرف‬
‫في شؤون العامة‪.‬‬

‫‪ ٥‬الحامه كالطامة‪ :‬الخاصة والقرابة‪.‬‬

‫‪ ٦‬االقطاع‪ :‬المنحة من األرض‪ .‬والقطيعة‪ :‬الممنوح منھا‪.‬‬

‫‪ ٧‬االعتقاد‪ :‬االمتالك‪ .‬العقدة‪ :‬الضيعة واعتقاد الضيعة‪ :‬اقتناؤھا‪.‬‬

‫] ‪[ ٢٤٣‬‬

‫مؤونته على غيرھم فيكون مھنأ)‪ (١‬ذلك لھم دونك‪ ،‬وعيبُه عليك في الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫وألزم الحق َمن لَ ِز َمهُ من القريب والبعيد‪ ،‬وكن في ذلك صابراً محتسبا ً واقعا ً ذلك من قرابتك وخا ّ‬
‫صتك حيث‬
‫وابتغ بما يَثقُ ُل عليك منه؛ فإنّ مغبّة ذلك محمودة)‪.(٢‬‬
‫ِ‬ ‫وقع‪.‬‬

‫وإن ظنّت الرعيةُ بك حيّفا ً ـ أي ظلما ً ـ فأص ِحر لھم)‪ (٣‬بعذرك‪ ،‬واعدل عنك في ظنونھم باصحارك؛ فإنّ في ذلك‬
‫رياضةً منك لنفسك)‪ ،(٤‬ورفقا ً برعيتك‪ ،‬وإعذرااً)‪ (٥‬تبلغ به حاجتك من تقويمھم على الح ّ‬
‫ق‪.‬‬

‫ال تدف َعنّ صلحا ً دعاك إليه عد ّوك و فيه رضا‪ ،‬فإنّ في الصلح دعةً لجنودك وراحةً من ھمومك وأمنا ً لبالدك‬
‫وإن عقدتَ بينك وبين عد ّوك عُقدةً أو ألبسته منك ذ ّمةً)‪ ،(٦‬فحطّ عھدك بالوفاء‪ ،‬ورا َع ذ ّمتك باألمانة‪ ،‬واجعل‬
‫سنَ بعھدك)‪ ،(٨‬وال تختلن)‪ (٩‬عد ّوك‪ .‬وال تعقد عقداً‬ ‫نفسك ُجنّةً دون ما اعطيَتَ )‪ (٧‬وال تغد َرن بذ ّمتك‪ ،‬وال ِ‬
‫تخ َ‬
‫لحن)‪ (١١‬قول بعد التأكيد والتوثقة‪.‬‬
‫تج ّوز فيه العلل)‪ ،(١٠‬وال تع ّولنْ على ِ‬

‫وال تق ّوينَ سلطانك بسفك دم حرام‪ ،‬فإن ذلك م ّما يضعفه ويوھنه بل‬

‫‪ ١‬مھنأ‪ :‬منفعة ھنيئة‪.‬‬

‫‪ ٢‬المغبة العاقبة‪ ،‬يقول‪ :‬إنه الزام الحق لمن لزمھم‪ ،‬وإن ثقل على الوالي وعليھم‪ ،‬محمود العاقبة بحفظ الدولة‪.‬‬

‫‪ ٣‬اصحر‪ :‬أبرز لھم وبين عذرك‪.‬‬

‫‪ ٤‬أي‪ :‬رياضة منك لنفسك‪ ،‬تعويداً لنفسك‪ ،‬على العدل‪.‬‬


‫‪ ٥‬االعذار‪ :‬تقديم العذر‪.‬‬

‫‪ ٦‬أصل معنى الذمة‪ :‬وجدان مودع في جبلة اإلنسان ينبھه لرعاية حق ذوي الحقوق عليه ويدفعه الداء ما يجب عليه منھا‪ ،‬ثم اطلقت‬
‫على معنى العھد‪.‬‬

‫‪ ٧‬الجنة‪ :‬الوقاية‪ ،‬يقول‪ :‬حافظ على ما اعطيت من العھد بروحك‪.‬‬

‫‪ ٨‬خاس بعھده‪ :‬خانه ونقضه‪.‬‬

‫‪ ٩‬الختل‪ :‬الخداع‪.‬‬

‫‪ ١٠‬العلل‪ :‬جمع علة وھي في النقد والكالم‪ ،‬بمعنى ما يصرفه عن وجھه ويح ّوله اللى غير المراد‪ ،‬وذلك يطرأ على الكالم عند ابھامه‬
‫وعدم صراحته‪.‬‬

‫‪ ١١‬لحن القول‪ :‬ما يقبل التوجيه كالتورية والتريعض‪ ،‬يقول‪ ،‬إذا رأيت ثقالً من التزام العھد فال تركن إلى لحن القول للتملص منه‪ ،‬بل‬
‫خذ باصرح الوجوه لك وعليك‪.‬‬

‫] ‪[ ٢٤٤‬‬

‫يزيله وينقلُھال‪ .‬وال عذر لك عند ﷲ وال عندي في قتل العمد! وإيّاك والمنّ على رعيتك باحسانك‪ ،‬أو التزيّد)‪(١‬‬
‫في ما كان من فعلك‪ ،‬أو أن ت ِعدھم فتُتبع موعدك ُ‬
‫بخلفك‪ ،‬فإن المنّ يُبطل اإلحسان‪ ،‬والتزيّد يذھب بنور الحقّ‪،‬‬
‫والخلف يوجب المقت عند ﷲ والناس‪.‬‬

‫وإيّاك والعجلة باألمور قبل أوآنھا أو التسقّط)‪ (٢‬عند إمكانھا‪ ،‬أو ال َوھن عنھا إذا استوضحت‪ .‬فضع ك ّل أمر‬
‫موضعه‪ ،‬وأوقع ك ّل أمر موقعه‪.‬‬

‫ٌ‬
‫مأخوذ منك لغيرك‪،‬‬ ‫وإيّاك واالستئثار بما الناس فيه أُسوة)‪ ،(٣‬والتغابي ع ّما تُعنى به م ّما قد َو َ‬
‫ضح للعيون‪ ،‬فإنّه‬
‫وع ّما قليل تنكشف عنك أغطية األمور ويُنتَف منك للمظلوم‪ .‬إملك حميّة أنفك)‪ (٤‬وسورة َحدّك وسطوة يدك‬
‫وغرب لسانك)‪ (٥‬واحترس من كل ذلك بكفّ البادرة)‪ (٦‬وتأخر السطوة حتى يسكن غضبك فتملك االختبار‪.‬‬ ‫َ‬

‫والواجب عليك أن تتذ ّكر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة أو سنّة فاضلة فتجتھد لنفسك في اتّباع ما‬
‫الحجة لنفسي عليك لكي ال تكون لك علّةٌ عند تس ّرع نفسك على‬
‫ّ‬ ‫عھدت إليك في عھدي ھذا‪ ،‬واستوثقتال به من‬
‫ھواھا‪ .‬وأنا أسأل ﷲ أن يوفّقني وإياك لِ َما فيه رضاه من اإلقامة على العذر الواضح إليه والى خلقه)‪ (٧‬مع‬
‫حسن الثناء في العباد وجميل االثر في البالد!«‬

‫وسوف نزيد على عھد ابن أبي طالب لألشتر‪ ،‬بعض األوامر والوصايا التي يك ّمل بھا دستوره العظيم في‬
‫الوالية‪ ،‬وير ّكزه‪ ،‬ويصر عليه‪ ،‬ويمدّه بالدفء والحنان‪ .‬وذلك في باب المختارات من أدب اإلمام‪ ،‬في فصول‬
‫تأتي في مكانھا‪.‬‬

‫أ ّما اآلن‪ ،‬فإلى االبحاث التي تتناول المعاني اإلنسانية بين مفكري العصور جملةً وبين عل ّي‪ ،‬ثم إلى القابلة بين‬
‫مبادىء الثورة الفرنسية الكبرى‪ ،‬والمبادئ التي خلّفتھا ثورة ابن أبي طالب!‬

‫‪ ١‬التزيد‪ :‬اظھار الزيادة في األعمال والمبالغة في وصف الواقع منھا في معرض االفتخار‪.‬‬

‫‪ ٢‬التسقط‪ ،‬يريد به ھنا‪ :‬التھاون‪.‬‬

‫‪ ٣‬احذر أن تخص نفسك بشيء تزيد به عن الناس‪ ،‬وھو م ّما تجب فيه المساواة من الحقوق العا ّمة‪.‬‬

‫‪ ٤‬أي املك نفسك عند الغضب‪.‬‬


‫‪ ٥‬السورة‪ :‬الحدة‪ ،‬والحد‪ :‬اليأس‪ ،‬والغرب‪ :‬الحد تشييھا ً له بحد السيف ونحوه‪.‬‬

‫‪ ٦‬البادرة‪ :‬ما يبدر من اللسان عند الغضب‪ ،‬واطالق اللسان يزيد الغضب انقاذاً‪ ،‬والسكوت يطفئ من لھبه‪.‬‬

‫‪ ٧‬يريد من العذر الواضح‪ :‬العدل‪ ،‬فإنّه عذر لك ند من قضيت عليه عذر عند ﷲ في من أجريت عليه عقوبة أو حرمته من منفعة‪.‬‬

‫‪http://arab-unity.net/forums/index.php‬‬

You might also like