Professional Documents
Culture Documents
إلى القارئ
من مقدمة الناشر للطبعة الثانية
النص الكامل للسفر الّذي أعدّه األديب الكبير جورج جرداق عن اإلمام عل ّي بن أبي طالب.
ّ ھذا ھو
أ ّما الكتاب الّذي صدر منذ حين فلقي من النجاح ما انقطع نظيره ،وأحدث ضجة كبرى إذ تلقته الماليين من
القراء باالعجاب واإلكبار ،وتُرجم إلى اللغات الفارسية والھندية واإلنكليزية ،وز ّوره ناشر عراقي وأعاد طبعه
اختالسا ً على ما ھو مشھور ،فليس إالّ فصوالً تمھيدية قليلة ومختصرة من ھذه الدراسة المطولة التي ندفع بھا
األن إلى القراء في الشرق.
وإذ يدفع المؤلف إلينا اليوم بھذه الدراسة الموسوعية بكاملھا للنشر ،الب ّد له من إثبات فصولھا جميعا ً بالترتيب
الّذي وضعه أصالً قصد التدرج المنطقي بالحبث .م ّما اقتضى بالضرورة أن يبدأ الجزء األ ّول من ھذا السفر
ببعض الفصول التي نشرت في الكتاب التمھيدي السابق وال سيما الفصول األولى التي تعتبر إطاراً تاريخيا ً الب ّد
من االستھالل به كي ال يبتر شيء من فصول ھذه الموسوعة .أضف إلى ذلك أنّ ھذه الفصول ذاتھا منقحة
وموسعة ومضاف إليھا كثير من البحث والرأي الجزء بالذات ،األبحاث الجديدة التي تُنشر ألول م ّرة وتستمر
حتّى آخر أجزاء ھذا السفر.
أ ّما ما يحتويه ھذا السفر من األبحاث الجديدة في أدب الدراسات العلوية ،فقد أشار إليه المؤلف في مقدمته
الرائعة التي تلي ھذه الكلمة .ومنھا األبحاث القيمة التي تستھدف ا لكشف عن تماسك شخصية اإلمام علي.
والمقابلة الممتعة بين اإلمام علي وسقراط عظيم فالسفة اليونان ،في فلسفة االخالق وما إليھا .ث ّم ما يمثله
عل ّي من أسباب العدالة الكونية الشاملة القائمة بذاتھا .وتتبع معنى )اإلنسان( في إنسانيات العصور جملة
تمھيداً لتجلية ھذا المعنى عند ابن أبي طالب ،والمقابلة بين علي ومفكري العصور في أكثر من جانب إبرازاً
لمكانة ھذا البطل العربي العظيم بين اولئك االبطال .ث ّم ذلك البحث الخالق الّذي يضع المبادئ العلوية موض َع
المقابلة مع مبادئ الثورة الفرنسية الكبرى بنصوصھا الكاملة ،وھو من اعمق وأدق االبحاث التي عالجھا اديب
عربي حتّى اآلن .تلي ِه ابحاث واسعة في موضوع اإلمام علي والقومية العربية .ومن ھذه الدراسات الجديدة
أيضا ً بسط احوال الناس بك ّل طوائفھم في عصر اإلمام علي وفي ما تاله من عصور بسطا ً مبنيا ً على نظر جديد
في دراسة تاريخنا .ث ّم أثر اإلمام علي في تاريخ األدب العربي وفي توجيه الروح العربي .تلي ذلك ابحاث
واسعة في معنى التشيع في تاريخ الشرق والر ّد على المؤلفين الّذين بحثوا ھذا الموضوع باسلوب تقليدي
متوارث لم يُج ّل حقيقة .ومنھا تلك الفصول التي ينقد بھا المؤلف اساليب الباحثين العرب واالجانب عندما
يعالجون القضايا الھامة في احداث التاريخ العربي ويفسرون اخباره .ث ّم استعراض لجميع المؤلفات التي
وضعت عن علي في لغة العرب ولغات االجانب.
واننا إذ ندفع إلى الطبع ھذه الموسوعة ،نلبي رغبة العدد الكبير من المعجبين بأدب جورج جرداق ،الّذين
ينتظرون منذ أكثر من عام ،صدور ھذا السفر الخالد.
كلمة المؤلف
غريب واحد.
ٌ ٌ
تاريخ طوي ٌل لإلنساني ِة
أ ّما ما يؤلف طولَه فعم ُر اإلنسان القدي ُم تمت ّد به يد الدھر حتّى تصله بأول أيّ ِام األرض ،ث ّم ھذا التط ّور المتثاقل
البطيء من مرحلة إلى مرحلة ومن حياة إلى حياة.
وأ ّما ما يؤلف غرابته فأكثر من أن يُساق في مقدمأ أو يُبحث في كتاب .ولع ّل أبرز مظاھر ھذه الغرابة ما نراه
من فترات زمنية عاشتھا ھذه الجماعأ أو تلك من البشر ،أو ھذا الفرد أو ذاك ،في قمة من قمم الصعود
منخفضات سحيقة رھيبة من االنحدار ،حتّى ليرتاب الناظر إلى ھذه القمم تُحاط بھاتيك َ اإلنساني بين
سر ارتفاع االغارقة في عصر من ف
ُ ّ ي فكيف ّ الوإ ! عليه يسير ً اقاصد ً ا حسابي ً ا نظام للتاريخ بأنّ المنحدرات،
عصور ھذا التاريخ واقع بين اعصر شتّى من المھاوي المتالحقة .فإذا ھم يعبّرون عن حقيقتھم خالل ھذا
ص َو َر الخير والجمال وتكشف عن وجه الحق ،وتضع عقولُھم اصوالً وقواعد الشموخ بعباقرة تصنع ايديدھم ُ
في الفن والعلم واالخالق وما إليھا من شؤون الفكر وشؤون الكيان اإلنساني جميعا ً .وإذا بمدينتھم العظمى أثينا
تعلو في األرض حتّى إذا طمحتْ إليھا أبصار الغزاة تعالَوا إليھا من كل واد ووثبوا عليھا من ك ّل سھل فغالتھا
حرابُھم ونشرتْ على جدرانھا ظالل الفناء ،ث ّم ما انكشفتْ لھم حقيقتھا وما تنطوي عليه من معاني الكمال
اإلنساني ،إالّ ركعوا بين خرائبھا وقَبَعوا كاالطفال ينظرون ويسمعون ويطيعون ث ّم يقبّلون مواطي أقدام الشعراء
والمصورين والفالسفة ،ويخلّون األرض التي قدّسھا الفكر وقد ھانت عليھم مطامعھم في الغزو وصغرتْ
حرابُھم والنت قسيّھم وانقلبوا من برابرة ُجفاة إلى بشر يحملون إلى الدنيا ما ق ّل أو ما كثر من معاني الجمال
التي لُقّنوھا بين أطالل المدينة العظمى! وإذا بأيدي االغارقة تمت ّد بنور االنسانية إلى أقاصي األرض ،على
وأعظم بما يصنعون! ِ الحقب
رؤوس األيام وھام ُ
أ ّما ما يؤلف وحدةَ ھذا التاريخ ،فكون المراحل التي م ّرت بھا شعوب العالم متشابھةً جوھراً وإن اختلفت شكالً
بعض االحايين؛ وكونُ السياط الموجعة التي ذاقتھا مواكب البشر جميعا ً تحملھا األيدي ذاتھا يغيّر اسمھا الزمانُ
ق خالل رحلة ويُكسبھا لونّھا المكان؛ وكون الغاية التي استھدف ْتھا شعوب األرض في سيرھا الموعر الشا ّ
التاريخ واحدةً كذلك وإن كان اختلفت عليھا االسماء! وفي تاريخ اإلنسانية الواحد أم ٌر يجعل ھذه الوحدة
موحد اسھمت ّ نسيج
ٌ سجله اإلنسان ،فرداً أو جماعة ،ھو ضرورةً الزمةً قائمة بذاتھا ،وھو أنّ كل تقدم ّ
اإلنسانية بكاملھا فيه ،وبكل عصورھا ،منذ كل اإلنسان حتى يومه ھذا.
وإذا كانت ھذه ھي قصة التاريخ :قصة التط ّور الشامل ضمن خطوط عا ّمة كبرى ،فما ھو دورنا نحن العرب في
نسج حوادثه؟ وما ھو عملنا خالل مراحله في خدمة اإلنسانية ،أي في خدمة أنفسنا؟
لقد اسھمنا ،بحكم وجودنا على سطح األرض ،بتاريخ اإلنسانية بما فيه من طول وغرابة ووحدة! اسھامنا في
ُ
شموخ غرابته أظھر وجه في صفحات تاريخنا الخاص .ھذه الغرابة التي يمثلھا ،في طور من اطوار تاريخنا،
وشموخ أقران له ،بين منحدَرات ھبطت بُعيَ َد ايامه وتشقّقت بھا األرض حتى ما يبين لھا ُ عل ّي بن أبي طالب
ق بنا أن تنظر إليه كما ننظر إلى ك ّل قمة في تاريخ اإلنسانية الواحد. ٌ
شموخ في الفكر والقلب خلي ٌ قعر.
وما ضيّق على اإلنسان آفاقه في القديم إالّ ما ارتضاه لنفسه من حدود شادھا الضالل ور ّكزتھا العادة وشمخ
بھا التاريخ جيالً بعد جيل.
وما عطّل على بصيرة المرء رؤية الرحاب الرحبة والمسافات البعيدة والقمم الشاھقة ،إالّ غيو ٌم ثقيالت يتنفّس
الجھ ُل فتتراكم وتزدحم وتطغى وتسو ّد.
ولطالما ضاقت ھذه الحدود في أكثر عھود التاريخ ،فعطلت مواھب اإلنسان التي أُوتيھا الكتشاف ينابع الخير
اللج ويشت ّد حريا ً فى مناكب
وراء الحدود .ولطالما طغت ھذه الغيوم وتج ّھمت فمنعت عن اإلنسان أن يسبح في ّ
األرض.
واللج ومناكب األرض وما تحوي ،فما ھي كثيرھا إالّ اكفّ العظماءّ أ ّما ينابيع الخير ھذه ،وأ ّما السماء
الحقيقيين الّذين م ّروا في ھذه األرض مرور الغمامات الخيّرة فوق الصحاري البيد! غمامات تم ّر كاألمل
ت الصحاري ھطول الحياة في جفاف اليَبَس ،ث ّم تمضي وھي تاركةٌالمشرق في غتمة اليأس .وتھط ُل في جنبا ِ
وراءھا الخضرةَ والنضرةَ والرواء وال ُ
سقيا لقوم جياع عطاش!
ث اإلنسان بصراً لقد طُويت صفحات التاريخ السود وبكت على نفسھا تلك الضالالت والغباواتُ التي ح ّد ِ
وبصيرة ،وضيّقت على العظماء فحصرت بعضھم في نطاق من الناس ال تخطّاه آخرون وال يجوزه نظر .فإذا
يخص طائفة من البشر وال قوماً دون قوم! وإذا ّ بالدائرة تتسع حتّى تشمل الخلق جميعا ً! وإذا بالعظيم الح ّ
ق ال
بسقراط لالغارقة والھنود والصينيين والعرب والناس اجمعين! وإذا غيره من العظماء لكل العالمين .وإذا عل ّي
بن أبي طالب ،عظيم طائفة العظماء في الشرق ،لك ّل من تمشي به قد ٌم مثَله في ذلك ـ و َمثل أقرانه من نوابغ
األرض ـ َمثَل الشمس إذ تغمر األرض سھولھا وجبالھا ،ق َممھا ووديانھا ،ب ّرھا وبحرھا ،فما على اإلنسان إالّ أن
يستنير بنورھا فال يُقيم دونه حدود وجدراناً ،وأن يتدفّأ بنارھا في بردة أيامه فال يسعى في منع الدفء إلى
زوايا الصقيع من حياته.
في تاريخ الشرق ،كما ھي الحال في تاريخ البشر جميعاًُ ،غزاة ،ومجرمون ،ولصوص محترفون ،وأغبياء،
ق العصور القديمة والمتوسطة أن يجعل منھم بعد ھالكھم ابطاالً وعظماء ،فخلع عليھم في وتافھون ،شاء منط ُ
الحالتين االلقاب الضخمة بغير حساب! وھا نحن ما نزال تصفع وجوھَنا ،في الكتب يتنافس فى تلفيقھا بعض
حملة األلقاب ،صفحاتٌ باردة كأنھا الزمھرير من »بطوالت« اولئك المجرمين .وفصول من »عظمة« أولئك
التافھين ،حتّى ليوھم ھذا النمطُ من المؤلفين قراءھم بأنّ البطولة ليست إالّ نوعا ً من تص ّرف النخاسين ،وبأنّ
العظمة ليست إالّ شيئا ً من البراعة في النھب والسلب واالغتصاب والتقتيل والتدمير واصطناع أسباب االبادة،
والتجويع وكل أمر فظيع!
ِ الترويع
ِ التبجح بالجريمة والزھور بالتفاھة واالعتزاز بصناعة
ّ ث ّم
لذلك جئنا بھذا الكتاب ،بعد أن طلبنا العافية ألولئك المؤلفين .نل ّم فيه بشخصية بطل حق ،ألنّه إنسان حقّ ،لعلّنا
نضيفه إلى سلسلة المؤلفات الخيّرة التي تتكاثر في مكتبتنا العربية اليوم .وبذلك نستيقظ على امور اھ ّمھا:
أنّ تاريخنا ھو أيضا ً صفحاتٌ رائعة من االشراق اإلنساني العظيم تش ّرفنا كعرب كما تضيف شرفا ً إلى تاريخ
اإلنسان.
ومن االُمور التي نستيقظ عليھا في دارسة عل ّي وعصره وما تالوه من عصور ،ذلك المقدار العظيم من االسھام
في مقاومة الظالم ونصرة المظلوم؛ ومن معاندة االستعباد واالستغالل والعمل على تقويض أسبابھما بسنّ
األنظمة والدساتير في النطاق الذي تسمح به إمكانات الزمان والمكان ،وبالتضحية في سبيل الكرامة اإلنسانية
بكل عزيز من الدم والحياة؛ فإذا بنا نعي أكثر فأكثر أن تاريخنا ليس كلّه ظلمةً وظلما ً .ففي بقايا لياليه ومضات
بيض وشموس ضاحكات ،ث ّم ٌ وبروق! وفي دياجيره متألقاتٌ وأھلّة! وفي غياھب َجوره ُغر ٌر حسانٌ وأيا ٌم
أمطا ٌر َھتَنَتْ بھا السماء على صحاريه رذاذاً تارة وطوراً عُبابا ً!
وإن مثل ھذه الصفحات المشرقة في تاريخنا لتؤھلنا إلى أن نعيد النظر في أنفسنا من جديد ،تحطيما ً لكثير من
القيود التي كبلتنا بھا عصو ُر الظلمات الطويلة ،وتمجيداً للبطولة الحقيقية التي ھي بطولة فرد من االفراد أو
جيل من االجيال في سبيل اإلنسانية بأسرھا ،وتدعيما ً لقومية عربية انسانية تجعل خدمة اإلنسان ـ في نطاقھا
وفي كل نطاق ـ غايتَھا البعيدة وھدفھا األقصى .ذلك أنّ الشعب الّذي أمكنه أن يعبّر عن عبقريته منذ أربعة
عشر قرنا ً برجل كعلي بن أبي طالب ث ّم بمجموعة من الناس كبعض تالميذه وأنصاره يومذاك ،ھو شعب
يستطيع اليوم ـ في عصر غزو االفالك ـ أن يمشي مع القافلة التي تسير وھي تنظر أبداً إلى األمام ،وھي إنٌ
نظرت إلى الوراء فلكي تستمد من وجودھا الطويل عزيمةً وقوة ،ال لكي تستريح حيث حطّ بھا السير أو حيث
جرفھا تيّار التاريخ!
أضف إلى ذلك كله أمرين اثنين ،أولھما :أن كل شعب من شعوب ھذه األرض الوسيعة قد نظر إلى الشوامخ في
صفحاته الخاصة من تاريخ اإلنسانية الواحد ،فدرسھا درسا ً كثيراً ،وجلّى مكانة كل منھا فوضعه في مقامه،
مفيداً من ذلك عبرةً وقوة .ث ّم راح بعد ذلك يبحث في أنصاف الشوامخ ،وفي أنصاف ھؤالء كذلك ،وھل ّم جراً،
متمما ً ما يمكن له أن يفيد من حوادث التاريخ وسيَ ِر أبطاله وعظمائه الحقيقيين ،آخذاً منھم حافزاً جديداً له على
صة ُ المسير .فل َم ال نفعل مثلما يفعلون؟ ول َم ال نضع شوامخنا إلى جانب شوامخھم بعد الموازنة والمقابلة وق ّ
تاريخنا واحدة وعظماؤنا لنا أجميعن؟
وثاني األمرين أنّ عل ّي بن أبي طالب من االفذاذ النادرين الذين إذ عرفتَھم على حقيقتھم بعيداً عن الصعيد
ي الذي درجنا على أساسه ندرس رجالنا وتاريخنا ،عرفت أنّ محو َر عظمتھم إنما ھو اإليمان المطلق التقليد ّ
بكرامة اإلنسان وحقّه المقدس في الحياة الحرة الشريفة ،وبأن ھذا اإلنسان متط ّور أبداً ،وبأن الجمود والتقھقر
والتوقّف عند حال من أحوال الماضي أو الحاضر ليست إالّ نذير الموت ودليل الفناء.
فقلي ٌل جداً من عظماء التاريخ االقدمين ھم الذين يبذرون في عقلك ويُلقون في نفسك مثل ھذه القاعدة األصل
من قواعد التطور وكأن عليا ً ينزع بھا عن لسان الطبيعة وقلب الحياة» :ال تقسروا أوالدكم على اخالقكم فإنھم
مخلوقون لزمان غير زمانكم!«
وقليل جداً من عظماء التاريخ االقدمين ھم الذين يبذرون في عقلك ويلقون في نفسك مث َل ھذه القاعدة العظيمة
فتوجه كل نشاط وتراقب كل عمل» :من اعتدل يوماه فھو مغبون« .وما يريد ّ التي تطال المسلك اإلنساني بكامله
ابن أبي طالب بذلك إالّ التصريح بأنّ الغبن ال يلحق الجماعة من الناس إالّ إذا استوى حاضرھم وأمسھم ،وبأنّ
ال ُغنم ھو أن يكون حاضرھم خيراً من يومھم .وال يت ّم ذلك إالّ باالنسياق مع تيار الحياة الذي ال يھدأ.
وقليل جداً من عظماء التاريخ االقدمين ھم الذين يبذرون في عقلك ويُلقون في نفسك موازينَ العدالة الكونية
تنبثق عن نفسھا وبنفسھا تقوم ،متكشّفين بنور العقبرية أن »من أساء خلقه ّ
عذب نفسه!«
وقليل جداً من عظماء التاريخ االقدمين ھم الذين ادركوا وعاشوا وقالوا أن »كل إنسان نظير في الخلق« و »أن
الناس أُسوة!«
وقلي ٌل جداً من عظماء التاريخ االقدمين ھم الذين وعَوا أنّ »االحتكار جريمة« وأ نّه »ما جاع فقير إالّ بما ُمتّ َع
به غن ّي« وأنّ »الذنب الّذي ال يُغفر ھو ظلم العباد بعضھم لبعض« ثم راحوا يخلقون القوانين وينظمون
الدساتير على أساس ھذا الوعي الكريم!
وقلي ٌل جداً من عظماء التاريخ االقدمين ھم الذين عاشوا ھذه المبادىء األصول جميعاً ،وجلّوھا وأقاموا عليھا
مذاھب فكرية واجتماعية متماسكة خرجوا بھا من نطاق االفكار المستق ّل بعضھا عن بعض إلى إقامة البناء
المنظم الواحد ذي القواعد واألركان!
ث ّم إن لما انبثق من وجود عل ّي قصةً في تاريخنا ذات فصول عجاب! قصة تنا َولت خطوطھا الكبرى من شموخ
علي من صموده وراحت تنسج حوادثھا أيدي الزمان! إنّھا قصة الثورة التي عاشھا العالم العربي خالل عصور
قائمات تناھى سوء حالھا في االستئثار واالمتھان وطغيان ليالي االستبداد الرھيب!
ي فيھا ـ بمقياس قوة البھيمة ـ إالّ وھو سي ٌد مطاع ين ّكل ويقتل وينھب ويسطو ويضرب الخل َ
ق بالترويع! فال قو ّ
وال تافه إالّ ويمشي في األرض مرحا ً وھو يحسب أ نّه يخرق األرض وأ نّه يبلغ الجبا َل طوالً!
عواع من جراء ھؤالء إالّ وله رأي وصوت وي ٌد في تحديد مدة الحياة لالحياء ،وكأنّ تاريخنا من ثم وال َج ْرو َو ْ
فصل من تاريخ اإلنسانية العا ّم الذي عرف من ھذه المظالم كثيراً أو قليالً! وعلى سبيل المثل العابر ،أفلم يحكم
»سيراكوز« في العصر القديم طاغية حقير يدعى دينيس فيبيع افالطون العظيم رقيقا ً فيفتديه أحد اصدقائه ويرد
إليه حريته! ث ّم يقوم بعد دينيس ابنٌ له احقر من ابيه يدعى دينيس الصغير ،فيعقد النية على أن ين ّكل
بالفيلسوف الجليل ،فينجو الفيلسوف للم ّرة الثانية؛ ث ّم يعود ويعتزم قتله ،فينجو ھذه الم ّرة أيضا ً بأعجوبة على
يد أحد تالميذه المخلصين؟
أقول :أ نّھا قصة الثورة التي عاشھا العالم العربي خالل المھالك المفزعة في ضمائر األحرار وعلى ألسنتھم
وبأيديھم .وھم كثير في طليعتھم تالميذ علي اآلخذون من نھجه وخلقه وصموده في وجه االستبداد والممثلون
للقوى المعارضة في حكم الطغاة في أكثر أدوار تاريخنا المتوسط والقديم.
ثورة اإلنسان المرھَق المظلوم الذي تبنّى قصة الدفاع عن نفسه وعن المستعفين والمضطھدين مختاراً أو
َمسوقا ً ال فرق .وقصة ھذه الثورة الطويلة التي علّلھا كثيرون فقال بعضھم إنّھا خي ٌر كلّھا فأيّدوھا ،وقال بعضھم
إنّھا ش ّر كلّھا فأنكروھا ،جديرة بأن تدرس في ضوء جديد وھي في حقيقتھا البعيدة التي نراھا استمرار مشدود
على الزمان لقصة علي ذاتھا مع محاربيه بالسيف والحيلة .وھي بذلك صفحات من الكفاح في سبيل الحياة
خطھا في تاريخنا آباء لنا سابقون ،فكانت لنا تعويضا ً عظيما ً عما فى أمسنا من آثام واعتداءات!
وخالصة القول ،أننا إذ ننطلق من النطاق العربي إلى النطاق العالمي الوسيع .ومن حدود الزمان العربي المقيّد
بتاريخين متقاربين إلى حدود الزمان العالمي الذي يشمل بدء وجود اإلنسان حتّى عصر النھضة في اوروبا،
سنّت دساتير ،وقامت ثورات اجتماعية وأخالقية وسياسية .الب ّد لنا أن ندرك
والذي عاش فيه عباقرةٌ عظام ،و ُ
أنّ البن أبي طالب مكانة بين ھؤالء األفذاذ اصحاب الدساتير ومحدثي الثورات ،فما ھي ھذه المكانة!وما ھو
محل الرجل بين أولئك الرجال؟
اليس من الغبن أن يدور الحديث في أكثر المؤلفات الموضوعة عن ابن أبي طالب حول موضوعات تكاد تنحصر
في واحد يدور فيه ك ّل بحث وكل جدال ،وھو إنّ جاوزه فلكالم على الضرب بالسيوف حتّى تتقوس والطعن
بالرماح حتّى تتقصف ،ث ّم عن مقاتليه تنحطّ عليھم الطير من السماء وتم ّزقھم سباع األرض؟!
إنّ لھذه األمور موضوعا ً في تاريخ علي وال ريب ،ألنّ أخبارھا انحسرت عن ألف قضية وقضية في التاريخ
البعيد .ولكن جوانب العظمة الحقيقية في ابن أبي طالب أكثر من ذلك .وھي إن درست فلكي تتوضح بعض
الخفايا التاريخية في حياة الرجل وحياة معاصريه ،ال لكي يدور على محورھا ك ّل بحث وك ّل نقاش.
سعة جديدة كذلك تتناول عبقريته ،ث ّم لقد جھدنا أن يحفل الكتاب بنظرات جديدة تتعلق بعصر علي ،وبنظرات مو ّ
بالتفاتة جامعة تشمل ما انطوى عليه تاريخ اإلنسانية من معنى اإلنسان بوصفه كائنا ً اجتماعيا ً وكيف تد ّرج ھذا
المعنى من طور إلى طور وفقا ً لسير التاريخ العا ّم ،لنوضح بعد ذلك ما أمكننا أن نوضح من معنى اإلنسان عند
علي بن أبي طالب بالمقابلة بينه وبين مفكري العصور من بعض الجواب ،وبين مبادئه العامة ومبادئ الثورة
الكبرى المعروفة بالثورة الفرنسية بوصفھا تجمع ما في اإلنسانيات القديمة والمتوسطة من معنى اإلنسان ،ث ّم
بوصفھا خاتمة عھود في تاريخ البشر وفاتحة عھد جديد!
وم ّما أثبتناه أيضا ً في ھذا الكتاب أبحاث تتناول كال من عل ّي وسقراط بالتحليل ،ث ّم تتناول الرجلين بالمقارنة
والموازنة في فلسفة األخالق وفي غيرھا من شؤون اإلنسان .وبحث يُظھر أنّ عليّا ً يمثل في جملة كيانه جانبا ً
الغرض منھا الكشف عن مقدار ما في شخصية ابن أبي ُ عظيما ً من العدالة الكونية الشاملة .ودراسة واسعةء
بحث وال يستقيم رأي .ولقد بدا لنا من تماسك ھذه الشخصية ما يُدھش ٌ يصح بغير وجوده
ّ طالب من تماسك ال
ويُعجب .ث ّم أبحاث تدور حول معنى التش ﱡيع في التاريخ العربي وفيھا كشف عن األغالط التي رضيَھا أكثر
المؤلفين ألنفسھم بصدد ھذا الموضع الدقيق .وأخرى تتناول أثر عل ّي في األدب العربي خالل العصور
المتوسطة .ودراسة خاصة بعنوان :اإلمام عل ّي والقومية العربية .ث ّم دراسات كثيرة غيرھا.
صل في اساليب الباحثين ساعة يدرسون تاريخنا القديم ويرون وقد مھدنا لھذه االبحاث جميعا ً برأي لنا مف ّ
آراءھم في قضاياه .وبفضل تحدثنا فيه عن الحدود الحقيقية التي يمكننا أن ندرس تاريخنا ضمنھا .وأنھيناھا
بالنظر في الدراسات التي وضعھا المؤلفون العرب واالجانب عن ابن أبي طالب وبابداء رأينا فيھا.
بقي أن نوضح أمراً يتعلق بما أشار إليه بعض النقّاد من مقاطع ھنا أو ھناك ھي أقرب إلى الشعر منھا إلى
ضحا ً في الفصل الذي عقدناه عن األوروبيين واإلمام ،فقد كفينا نفسنا والقارئ البحث .ول ّما كان ھذا األمر مو ّ
عناء إيضاحه اآلن .وإنّ ردّنا على ھذا التز ّمت المنسوب زُوراً إلى العلم ،والّذي يريد أن يسلب النا َر حرارتَھا
صنَعاه وقاال إنّه من صنعوالريح عصفّھا والنھ َر مجاريه ،والذي ال نرى فيه إالّ كالالً وعجزاً يتستران ببرقع َ
َ
العلم ،لجدير بأنّ نلفت إليه النظر ألنّه يتناول جوھراً في أسلوب الدراسات .ال عَرضا ً.
وأن نكون قد أنصفنا بعض أطوار تاريخنا وأفدنا منھا عبرةً في سيرنا الصاعد مع موكب الحياة المتجددة أبداً.
أُسوةً بغيرنا من إخواننا البشر الذين يُفيدون من تاريخھم الخاص .وأُسوة بغيرنا وبأنفسنا ساعة نُفيد من تاريخ
اإلنسانية الشامل .ذلِكم رجاؤنا من ھذا الكتاب.
لنا في حياة العظماء معين ال ينضب من الخبرة والعبرة واإليمان واألمل .فھم القمم التي نتطّلع بشَوق إليھا
صارنا .وھم الذين يجدﱢدون ثقتنا بأنفسنا وبالحياة
ولھفة ،والمنارات التي تكشﱢح الدياجير من أمام أرجلنا وأب َ
واھدافھا العبيدة السعيدة .ولوالھم لتوالﱠنا القنوط في كفاحنا مع المجھول ،ولرفعنا األعالم البيض من زمان
وقلنا للموت :نحن أسراكَ وعبيدك يا موت .فافعل بنا ما تَشا ُء.
وھذا الكتاب الذي بين يديك خير شاھد على ما أقول .فھو مك ﱠرس لحياة عظيم من عظماء البشرية ،أنبتته أرض
وفجر ينابيع مواھبه االسال ُم ،ولكنه ما كان لإلسالم وحده .وإالّ فكيف لحياته
عربية ،ولكنھا ما استأثرت به .ﱠ
الفذأ أن تلھب روح كاتب مسيح ّي في لبنان ،وفي العام ،١٩٥٦فيتصدﱠى لھا بالدرس والتمحيص والتحليل، ﱠ
ويتغنﱠى تغني الشاعر المتيﱠم بمفاتنھا ومآثرھا وبطوالتھا؟
وبطوالت اإلمام ما اقتصرت يوما ً على ميادين الحرب .فقد كان بطالً في صفاء بصيرته ،وطھارة وجدانه،
وسحر بيانه ،وعمق إنسانيته .وحرارة إيمانه ،وسمو دعته ،ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم
وتعبﱡده للحق أينما تجلّى له الح ّ
ق .وھذه البطوالت ،ومھما تقادم بھا العھد ،ال تزال مقلعا ً غنيا ً نعود إليه اليوم
وفي ك ّل يوم كلما اشت ﱠد بنا الوجد إلى بناء حياة صالحة ،فاضلة.
لست أُريد أن أستبق القارئ إلى الكشف عن مواطن المتعة في ھذا الكتاب .فھي كثيرة .منھا بيانٌ مشرق يسمو
ھنا وھناك إلى سوامق من الصور الشعرية ،المشبوبة العاطفة ،الزاھية اللون ،العذبة الرنﱠة .ومنھا اتﱢزان في
التقدير والتفسير.
علي وآرائه السياسية والدينية واالجتماعية واالقتصادية إلى مسرح الحياة التي
ﱟ ومنھا محاولة جريئة في نقل
نحياھا اليوم .وھي محاولة بارعة وموفّقة ،ما فطن لھا الذين كتبوا في الموضوع من قبل .ناھيك باجتھادات
جديدة في تفسير بعض األحداث التي رافقت حياة اإلمام تفسيراً يغاير النمط الذي درج عليه مؤ ّرخوه حتّى
اليوم.
إنّه ليستحيل على أي مؤرخ أو كاتب ،مھما بلغ من الفطنة والعبقرية ،أن يأتيك حتّى في ألف صفحة بصورة
كاملة لعظيم من عيار اإلمام عل ّي ،ولحقبة حافلة باألحداث الجسام كالحقبة التي عاشھا .فالذي ف ﱠكره وتأ ّمله،
وقاله وعمله ذلك العمالق العربي بينه وبين نفسه وربّه ل ِم ّما لم تسمعه إذن ولم تبصره عين .وھو أكثر بكثير
م ﱠما عمله بيده أو أذاعه بلسانه وقلمه .وذ ذاك فكل صورة نرسمھا له ھي صورة ناقصة ال محالة .وقصارى ما
نرجوه منھا أن تنبض بالحياة.
ويقيني أن مؤلف ھذا السفر النفيس ،بما في قلمه من لباقة ،وما في قلبه من حرارة ،وما في وجدانه من
إنصاف ،قد نجح إلى حد بعيد في رسم صورة البن أبي طالب ال تستطيع امامھا إالّ أن تشھد بأنّھا الصورة الحيّأ
ألعظم رجل عربي بعد النبي.
بسكنتا
ميخائل نعمة
أرض المعجزات
ُ
َمھد النب ّوة
أرض ھي ال ُمعجزةُ بما كانت ،وھ َي المعجزة بما ستكون!
ٌ
الغيث ومدّھا بالخضرة والنضرة والرواء ألطعمت جياع الدنيا وكست عُراة ُ فلواتٌ عظيمة االتّساع لو جادھا
تصور .ولكنھا بَواد ما تزا ُل في أ ّول تكوينھا من رمالّ العالمين ،وفيھا من االمتداد ما ال يحده خيال وال يضبطه
أرض تثور .ومن ُكثبات ھنا وأودية ھناك ٌ متع ّرجة ملتوية تم ّوجتْ أو تصلّبتْ أو لعبتْ بھا زعازع الريح فھ َي
ب تج ّم َع
ب الرمال فھي من عجب تقع ُد وتقوم .ومن جبال ُجرد قليلة االرتفاع ھي الج ْد ُ حعلتھا اللوافح من َح ّ
سود نَ ِخرة كأنھا أُحرقت ضھا ذات حجارة ُ صلبة أر ُ وتك ّو َر وعال عل ّواً ھزيالً .ومن قفار بركانية الفحة استوتْ ُ
بالنار فھي مقذوفاتٌ تج ّمدت حرارة وسواداً فدعوھا َح ّرات وجعلوا لھا أسماء ويا لبوس األسماء! إنّھا فلواتٌ ال
سكنى .وھي في ذلك من أش ّد أقاليم العالم حرارة وأقلّھا سماحاً تصلح للزراعة وال لالقامة ،وفي الزراعة علّةُ ال ّ
الغيث في بعض األقاليم فيكسبھا شيئا ً من الطراوة، ُ بالنّدى على الرغم من بحار ثالثة تحيط بھا .وقد يجودھا
فيتربّصون مواسمه فيخرجون إليه بكل ما لھم من إبل ونساء وأوالد .إالّ أن ريح السموم وھي ش ّر ريح تثور
في جنباتھا وأواسطھا فتقضي على ك ّل رطب فيھا وقد تقضي على الحياة .فإذا بالشعراء يغنّون نسيم الصبا
ھب عليھم من الشرق، المنعش إذا ّ
] [ ٢٦
أما أنھارھا فال نھر واحداً فيھا دائم الجريان .ولكن سيو ٌل ِغزا ٌر تجري حين تفيض األمطار في بعض األقاليم،
سيالً لھا ،فإذا بالقوم يحتالون على بعضھا بسدود تحبس المياه ولو إلى حين.
آخذة بطون األودية المشتبكة َم ِ
ت الشاسعة فال يتيه في أ ّما حيوانُھا فغي ُر سائ ِر األرض .لقد جعل ﷲ له ُ
سوقا ً طواالً ليُمكنه أن يقطع المسافا ِ
سوقُهُ في الرمال .وھيّأ له من قوة االحتمال والصبر عرض الفالة .كما جعل لبعضه ُخفّا ً مستديراً كي ال تغرق ُ
صه بمقاومة الظمأ والقيظ ،وبمعدة تختزن بمقدار ماھيّأ لموطنه من وعورة المسلك وأھوال الطريق .ث ّم خ ّ
صاحب البعير .الذي س ّماه ألفا ً من
ُ ي،
المياه أليّام .وقد تُستخلص ھذه المياهُ باحدى الوسائل فيشربھا البدو ّ
األسماء.
ونبتُھا ،ولن أسھب في وصفه ،ناد ٌر ،شائ ٌك َح ّران ،ظمآن العروق!
أما بيوتھا فمن الخطأ أنّ تُدعى بيوتا ً .فإن ھي إالّ مضارب تنفخ فيھا الرياح الالفحة ويغزوھا الح ّر القائظُ فإذا
بھا َوع ََراء الصحراء سوا ٌء بسواء .وھي ،إلى ذلك ،ال تُض َرب إالّ في أقالي َم وأقاليم .فمن العبث أنْ يسعى
ساكنوھا إلى اإلقامة حيث يشاؤون ،أو يَقَ ُروا في مكانٌ أمين ،فھم على موعد دائم مع الرحيل.
أ ّما آلة العيش فيھا فاألسودان :التم ُر وما كان من الماء .باإلضافة إلى ما قد يكون من لحم اإلبل وقنص البيد.
وتحمل طبيعة الصحراء قاطنيھا على الغزو فاالقتتال .فالنزاع الدائم ھو نظامھم االجتماعي في األصل!
الذئب
َ وعلى صحاري الجزيرة وداراتھا تُلقي الشمس ردا ًء من لھيب فإذا الصعلوك يشوي على حصاھا
الجزُور.
الصريح أو الشاة َ
وعلى صحاري الجزيرة وداراتھا يخيّم الضج ُر القاتل والسأم المر .فمشاھدھا
] [ ٢٧
واحدة ال تتبد ُل في انبساط من محيط الرمال على قلّة الواحات ،وفي األمل الكليل الذي ال تھيّي له الفلواتُ
انعقاداً وال امتداداً.
وليس من شأن ھذه الطبيعة القاسية ،وھذه العيش الرتيب ،وھذا الوجو ِد الصعب ،أن تخلق في أھل الصحراء
تنب في
النفس ويمأل القلب .فمثلھذه اال حاسيس ُ
َ شعوراً ب َ
س َع ِة الكون وشُمول الحياة وامتدا ِد قيَم الخير م ّما يُليّن
الخض ِر ال في ال َم َھام ِه البيد ،ولدى الناعمين بالعيش ال في قلوب التاعسين.الواحات ُ
شظف من العيش في جحيم من الرمال ،في سأم من الحال ،في يأس من الغ ِد ماحق! ھذه ھي جزيرة العرب!
وجود ھذا اإلنسان في ھذه األرض ال يبغي عنھا بديالً وال يرضى بغيرھا
] [ ٢٨
موطناً ،وقد حاصرته جباله وبحاره وآفاقه وصحاريه ،ھو المعجزة التي كانت :معجزة الصحراء قبل ثور ِة
محمد وثور ِة علي!
تفجرت بالخير!
ولكن ،ما ينابيع األرض إذا ّ
ما أجسا ٌم تقيم على ناعم العيش في أرض تد ّر العس َل واللبنَ وتُعطي الم ّر واللبان!
ت على الدنيا!
أرض المعجزا ِ
ُ ما كل ذلك شأنا ً وقيمةً إلى جانب ما ستطل ُع به
ت الينابيع ،وانجلتْ
وتوحد الزمن ،وصف ِ
ّ لقد أطلّت على الدنيا يومذاك بما ھو أج ّل وأعظم ،حين تنادى الكون،
قي ُم الحياة ،وانطلق ضمير الوجود في محض من اإلنسانية المطلقة وفي فيض من تمجيد الخير وتصعيد
الطبيعة وتمديد عناصر الفضيلة ،لتح ّل وحدةً حية في نزيل غار حراء ،مح ّمد بن عبدﷲ! ث ّم لتستم ّر في صفوة
الخيّرين ،الثائر العظيم عل ّي بن أبي طالب!
ث ھذا الكائن العظيم ،واستمراره في ابن عمه العظيم ،تجسيداً للحقيقة العظمى ،على مثل ھذه األرض .في بَ ْع ُ
صاحبي
ّ قوم من مقاييسھم أخ ُذ الروح بالدينار ،ھو المعجزة التي ستكون :معجزة الصحراء بعد مح ّمد وعل ّي،
الثورات االجتماعية الخيّرة على بؤس ذلك المحيط وذيّاك الزمان!
] [ ٢٩
صوت مح ّمد
وھج في عينيه!
ٌ من لھيب الصحراء المحرقة
ومن جنائن يثرب وخمائل الطائف ،ومن واحات الحجاز السابحة في الفضاء كأنھا الجز ُر المتناثرةُ في محيط
ق في دمه!من الرمل تحت ضوء القمر ،نداوةٌ في قلبه ورف ٌ
س في روحه!
ومن بيان الشعر ونور السماء ،سح ٌر في لسان ِه وقبَ ٌ
ذاك ھو مح ّمد بن عبدﷲ ،نب ّي العرب ،ومحطّم الوثنية التي أقصت اإلنسان عن أخيه اإلنسان :وثنية المال،
ووثنية العادة ،العنصر الخرقاء!
ب واألوھدة وتقطع
وكانوا يوجزون قِيَ َم الحياة بتجارة رابحة وكسب يضاف إلى كسب ،وقافلة تسير في الشعا ِ
البي َد على حدو النّوق وال تجد لھا َمقيالً
] [ ٣٠
غير ظل من دوحة قُ َرشيّة ،وال َموئالً إالّ في مكة الوثنية حيث يعت ّز الدرھ ُم ويمشخ الدينار!
َ
وعصف في آذانھم صوتٌ تخلّعتْ له أعصابُھم ،وتم ّزقتْ شھواتُھم ومالت به الدنيا عليھم تقول:
إنّ لإلنسان قيمةً غير التي تعرفون! وإنّ لالعراب ّي الساد ِر في مجاھل البيد رسالة غير التي تزعمون!
وجدّت اس ٌد وتميم في طريق الحماقة ،وحثّوا السير في مھاوي الضالل ،وطفقوا يَئِدون بناتھم وليس لھم في
وأدھنّ من حاجة إالّ اتّباع العادة وتمكين ما َحرّفَ اإلنسانُ من آيات الخالق ،وما أنك َر من جمال الطبيعة ،وما
ش ّوه من فتنة الكون!
وھمس الحياة يقول:
ُ الحب
ّ ق جرتْ عليه نسماتُ الحنان وخفقات
وتر ّد َد في أسماعھم صوتٌ رفي ٌ
***
وانطلق األعراب يتفانون بح ّد السيف ويتقارعون بألسنة كأنّھا سياط الجحيم ،ويلثمون أفواه العذارى على
فخرون ،ورجال يُصرعون .وأطفال يصرخون ويستغيثون ،وينشأون شفا ِر المھنّد ،فإذا ھم خلطٌ من فوارس يَ َ
على غير المودّة وغير االخاء.
] [ ٣١
يردّد ويقول:
ما ھذا الذي تصنعون! ألَ ُكم أن تقتتلوا وأنتم إخوةٌ في خالق السماء واألرض؟ الحرب من عمل الشيطان والسلم
أولى بكم وفيه ُذواق النعيم الذي تشتھون!
***
ضيّقتْ عليھم الحياةُ فباتوا من الوجود أما المش ّردون الذين لفحتھم سمو ُم الصحراء ،ونَبَ َذھم المجتمع األجير .و َ
أحق َر من ذ ّرات الرمال ،وصاروا من العيش على الصحائف السود؛ أ ّما أولئك فھ ُم أصدقاء صاحب الرسالة ،كما
كان الفقراء والمنبوذون أصدقاء المسيح عيسى بن مريم وأصدقاء غيره من عظماء األرض .وھو من أجلھم
جعل الحكم شورى وح ّرم االستعباد واستغال َل اإلنسان لإلنسان ،وأ ّمم بيتَ المال وجھو َد الناس ،وألھب ظھور
سداً في إلّه ،وھم
أعمامه القرشيين بالسياط الخيّرة ،وتطلّع بجملة كيانه إلى وحدة الكون مج ّ
] [ ٣٢
ص ْبيَةَ فيرجمونه بالحجارة ويسخرون منه!
يُغرون به السفھا َء وال ّ
***
أما خصو ُمه وراجموه والساخرون به ،فقد تلقّوا عن لسانه ھذا الصوت المحيي:
***
أ ّما المحاربون في سبيل حياة أفضل ،وأما أنصاره ضد الشر ،وأما َمن قد تُحدّثھم نفوسھم بھدر الحقوق
والكرامات في ساعة الجھاد والذود عن الثورة القويمة ،فقد ثبتت في قلوبھم ھذه الكلمات الرائعة:
»ال تغدروا وال تغلّوا وال تقتلوا وليداً وال امرأة وال شيخا ً فانيا ً وال منعزالً بصومعته ،وال تحرقوا نخالً وال
تقطعوا شجراً وال تھدموا بناء«)(٣
وحمل العرب من ابن عبدﷲ ذلك الصوتَ الكريم .وامتدّوا به أ ّول أمرھم
] [ ٣٣
ض حتّى أغرقوا فيه ك ّل ذي تاج وسلطان .وحتّى أوثقوا الصلة بين اإلنسان واإلنسان ،وبين على بسطه األر ِ
سدھا نب ّي الصحراء إلھا ً سويا ً ال شري َك له!
االنسان وروح الكائنات التي ج ّ
واتّسع ظل مح ّمد بن عبدﷲ وتعاظم حتّى اكتنف العالم القديم .فإذا ھو من مط ّل الشمس إلى مغربھا أرض تُنبت
الخي َر والمعرفة والسلم! وإذا بنب ّي الصحراء يم ّد يده فوق الدنيا ليبذر في أرضھا بذور اإلخاء والحب.
ت ،الدعوةُ إلى اإلخاء اإلنساني .وكان رفع أيدي الحكام عن الشعب وأمواله وجھوده،
وكانت ،على ھذا الصو ِ
ومساواةُ الناس في الحقوق :الصغير والكبير ،المحكوم والحاكم ،العربي واألعجمي ،فالناس كلھم إخوان
متساوون.
وكانت ،على ھذا الصوت ،الدعوةُ إلى تحريئر المرأة من جور الرجل ،وتحرير العالم من ظلم صاحب العمل،
وتحرير الرقيق والخدم من العبودية والھوان بما يحمله فك ُر الزمان وتأذن به طبيعةُ المحيط ،وإشرا ُك الشعب
في السلطان ،على غير ما رأس فالسفة األولين الذين ق ّرروا حرمان العمال والصنّاع والموالي من الحقوق
المدينة لـ »انحطاط« ما يمارسونه من المھن والصناعات ،وجعلوا الدنيا طبقات في الحقوق والواجبات!
كان أكثر ما يمكن أن يكون من الخير العا ّم في منطق ذيّاك الزمان وإمكانت أبنائه.
] [ ٣٤
] [ ٣٥
الضمير العمالق
اإلمام عل ّي بن أبي طالب ،عظيم العظماء ،نسخة مفردةٌ لم ي َر لھا الشرق وال الغرب صورةً طبق األصل ال قديماً
وال حديثا ً.
شبلي الشميّل
] [ ٣٦
] [ ٣٧
ھالّ أعرتَ دنياك أذنا ً صاغيةً فتخبرك بما كان من أمر عظيم ما أعطت الدنيا أن تالحدّثك عن مثله إالّ قليالً بين
وجيل! جيل
صة الضمير عبقري حملتْ منه في وجدانھا ق ّ
ﱟ ھالّ أعرتَ دنياك أذنا ً وقلبا ً وعقالً فتُلقي إلى كيانك جميعا ً بخب ِر
العمالق يعلو ويعلو حتّى لَتھون عليه الدنيا وتھون الحياة .ويھون البنونَ واألقربونَ والمال والسلطان ورؤية
الشمس المشرقة الغاربة .وحتى يندفع بصاحبه ارتفاعا ً فما ھو من اآلدميين إالّ بمقدار ما يس ّمون بمقياس
والوجدان! الضمير
ھالّ أعرتَ دنياك ھذه األذنَ وھذا القلب وھذا العقل ،فتروي لك مع المع ّري ،ومع الطيّبين من األقربين
ق الصريعين ،فإذا دماء الشھيد في أواخر الليل واألبعدين ،قصةَ الشھادة تصبغ الفجر والشفق بدم العدل والح ّ
شَفقان! أ َوليائه وفي فجران
ِ
ھالّ ضربت بعينيك حيث شئتَ من تاريخ ھذا الشرق ،سائالً عن فكر ھو من منطق الخير نقطةُ الدائرة ،تشد
إليھا آراء جديدة في الحياة والموت،
] [ ٣٨
ونظرات عميقة في الشرائع واألنظمة والدساتير وقوانين األخالق ،وفي مكانھا من المجموعة البشرية على
صعيد التعامل والتعاطي وربط اإلنسان باإلنسان في مجتمع ھو من الك ّل وللك ّل على السواء!
ھالّ سألته عن فكر أنتج للناس مذھبا ً في الحكمة ھو من مذاھب العصور ومن نتاجھا القيّم يرثُهُ اال ّولون
فيورثونه االبناء واألحفاد ،وفيجتمعون له ،فيأخذون منه بقدر طاقتھم على األخذ وما يتركونه فھو للطالعين
ال ُمقبلين!
ھالّ عرفت بين العقول عقالً نافذاً كانت له السابقة في إدراك حقيقة كبرى ھي أصل الحقائق االجتماعية وعلّة
تركيب المجتمع وتسييره على ھذا النحو دون ذاك؛ وھي الموضوع الذي تدور عليه دراسات الباحثين العلماء
في الشرق والغرب اليوم بعد ألف وأربعمائة عام وما ينيف تم ّر على إدراكه إياھا .وال نعني بھا إالّ واقع
االستغاللية وأساليھا في االحتيال على قواعد الطبيعة ،وفي تضليل العقول عن اسبابھا الصحيحة ونتائجھا
وبعض
ُ المتحومة .وتفاھة منطقھا الذي صنعه األغنيا الستثمار الفقراء ،والحكام الحتكار مجھود الناس.
االلھيين لتثبيت سلطانھم على األرض!
ھل عرفتَ العقل الجبار يق ّرر ،منذ بضعة عشر قرناً ،الحقيقة االجتماعية الكبرى التي تضع حداً ألوھام لھا ألف
مصدر ومصدر فيعلن أنه »ما جاع
] [ ٣٩
فقير إالّ بما ُمتّع به غني« ث ّم يردف قائالً لتقييم ھذه الحقيقة» :ما رأيتُ نعمةً موفورة إالّ وإلى جانبھا حق
مضيع!« أ ّما إلى أحد ُع ّماله فيبعث بھذا القول في صدد الحديث عن االحتكار ،باب الغبن االجتماعي ودعامته:
ھل عرفت عظيما ً دلّه عقله الجبّار ،منذ بضعة عشر قرناً ،على اكتشاف س ّر اإلنسانية الصحيح فإذا س ّرھا
متص ٌل اتصاالً عميقا ً بالشعب الذي لم يكن ح ّكام زمانه وملوكه ليقيموا له وزنا ً أو ليشعروا له بوجود إالّ في
نطاق ما يكون لھم سلّما ً ومطيّة .فإذا كان رافاييل قد اتّخذ من إحدى فالّحات الريف اإليطالي نموذجا ً للعذراء أُ ّم
ِ
المسيح ليضع في ھذا النموذج كل ما يحبّه ويريده من معاني الكرم اإلنساني؛ وإذا كان تولستوي وفولتير
وغيتي قد عملوا في صنيعھم الفكري واالجتماعي ما ھو من روح رافاييل في صنيعه ھذا ،فإن ذاك العظيم قد
سبقھم إليه بمئات السنين مع الفارق بين ظرفه الصعب وظروفھم المؤاتية ،وبين مجتمعه الضيّق ومجتمعاتھم
الواسعة ،فإذا ھو يحارب الملوك واألمراء والوالة واألثرياء! يحارب عبثھم وسخف تفكيرھم في سبيل الشعب
المظلوم المھان فيُقسم قائالً» :وايم ﷲ ،ألنصفنّ المظلوم من ظالمه وألقودنﱠ الظالم بخزامته حتّى أورده منھ َل
الحق وإن كان كارھا ً« .ث ّم يطلق في آذان أمراء زمانه العابثين ھذه الصيحة المد ّوية التي يكمن وراءھا من
المعرفة لحقيقة أھل االرستقراطية التافھين ،المتعالين على تفاھتھم ،ولحقيقة الشعب البائس الشقي ،ما ال مزيد
عليه ،فيقول بايجاز كأنه صوت القدَر» :أسفلُكم أعالكم ،وأعالكم أسفلُكم!« .وما يقصد من وراء ھذا إالّ اإلشارة
الصريحة إلى ما يُخفي الحرمانُ والجور من مواھب أبناء الشعب في الخير .وإلى ما يستتر في ثبات االقطاعيين
والحكام والمتحكرين من شياطين الشر وأبالسة األذى والمكر!
] [ ٤٠
ھل عرفتَ عظيما ً ساق إلى مدارك الناس حقيقةً إنسانية قديمة كاألزل ،باقية كاألبد ،عميقة حتّى ليستشفّھا كبار
العقول والنفوس ك ٌل منھم على نھجه ووفق مزاجه ،وحتّى ليأبى العاديّون إالّ العيش في ظاللھا وھم ال يعرفون.
سط لھم األجداد واآلباء من أفكار وآراء ال تتطلب منھم عنا ًء وال جھداً أل نّھا أُن ِزلت فيھم
فإذا بھم يرضون بما ق َ
البحث عن المطلق َ منزلةَ العادة والتقليد .حقيقة كانت أساسا ً لفلسفات إيجابية ،وأُخرى سلبية ،وأعني بھا
لالستقرار .والبحث عن المطلق ال يعني في أعماقه الالّ البحث عن الحقيقة في وجه من الوجوه .يتعاون في ھذا
البحث العق ُل والقلب والخيال وما ينبثق عنھا من خلق ،ثم الظرفُ والمناسبة والدوافع والنوازع على اختالف
معانيھا وأشكالھا .وقد أدرك ھذا المطلق على نحو معيّن .ثم أدرك بعقله وقلبه إن في كل استقرار على المطلق
قوة؛ فإذا ھو مثا ُل ھذه القوة؛ وإذا ق ّوته تبدو في انتصاره وانكساره على السواء أل نّھا ،ھنا وھناك ،ھي الغالبة
ان عندھا النصر والھزيمة في ميدان القتال وميدان السياسة وكل ميدان .فليس في الغلبة أو الھزيمة القاھرة سيّ ِ
مح ّك لھا؛ فھي إنّما تحمل بذاتھا ك ّل مقياس وكل ميزان!
ھل سألت تاريخ ھذا الشرق عن صالبة العقيدة ال تُج ّرحھا الزالز ُل وال يشوبھا من البراكين وھَنٌ ! وأي زلزال
أش ّد على العقيدة من ائتمار أقلّه إجماع الخصوم ،وھم ُك ْث ٌر أقوياء ،على التخطئة والتكفير وما إليھما من ذنوب!
ق للعقيدة من التھديد بالموت المحتوم ،ث ّم من الموت نفسه! ث ّم ،ھل سألتَ كيف يكون الصراع ي بركان أحر ُ وأ ّ
يوارب وال يساوم ،وال ينطوي على نفع وال يدور في نطاق من األثرة واالستعالء ،اللھ ّم إالّ ُ ال العقيدة أجل
من ِ
إذا كان نجاح العقيدة ھو النفع واالستعالء واألثرة!
ھل طلبتَ إلى الدنيا أن تناجيك بحديث الرحمة تنطلق من قلب مألته الرحمة ومن لسان تجري عليه بَرداً
وسالماً ،فإذا ھي القوة الغالبة تتحطم
] [ ٤١
المتفجر ِة بالمغريات تأتي من غير مصدرھا ،في عھد ھو عھد القسوة واالستغالل
ّ على بابھا مغرياتُ األرض
واحتكار المنافع يتقاتل عليھا الخصوم ث ّم يلتقون على قتال صاحب القلب واللسان الرحيمين!
ھل عرفتَ البراءة في قاموس الكلمات التي يردّدھا الناس ويكتبونھا ويعيشونھا في كثيرھم أو قليلھم وك ّل منھم
بحكم تكوينه ،تنادي إليھا أخواتھا جميعا ً من سالمة القلب وصفاء النية ،والطھارة الخالصة التي لو يأخذ منھا ُ
َمثّلَتھا ل َما أحسنتَ لھا تشبيھا ً بدموع الليل وأنداء الفجر ألنّھا طھارةُ اإلنسان ما فَ ِ
ضلَه فج ٌر وال ليل! البراءة
الصافية الطاھرة تنبع من القلب السليم الطاھر الذي تطمئنّ إلى صاحبه كما يطمئنّ الشتاء إلى حرارة الشمس،
وتثق به كما تثق األرض بالماء فتحيا وتخض ّر!
ھل عرفتَ عظيما ً أدرك من أسباب المحبة والوفاء فوق ما أدرك اآلخرون! ث ّم ما أدرك ھذه المحبةَ وھذا الوفاء
ب وما تكلّف حباً ،ووفى وما تكلّف وفا ًء ،وفھ َم إالّ في نطاق الطبع الخالص الذي يجري بنفسه من نفسهَ ،
فأح ّ
سه إن الحرية لھا قدسيّةٌ يريدھا الوجو ُد ويأبى عنھا بديالً وفي رح ْبھا تدور كل عاطفة
بعميق فكره وعميق ح ّ
وكل فكر؛ وفي رحبھا يكون الحب ويجري الوفاء صريحين طليقين ،فإذا »ش ّر االخوان َمن تُكلّف لَه« وإذا
خيرھم غير ھذا!
ھل سألت عن حاكم ّ
يحذر نفسه أن يأكل خبزاً فيشبع في َموان يكثر فيھا َمن ال عھ َد لھم بِشبَع؛ وأنْ يلبس ثوباً
ناعما ً وفي أبناء الشعب من يرتدي خشن اللباس؛ وأن يقتني درھما ً وفي الناس فق ٌر وحاجة؛ ويوصي أبناءه
لمكان دينار طَلَبَه من مال الشعب من غيرِ وأنصاره أالّ يسيروا مع نفوسھم غير ھذه السيرة؛ ثم يقاضي أخاه
بالء ،ويقاضي أعوانه ومبايعيه ووالته من أجل رغيف يأكلونه في رشوة من غن ّي .فيتھدّد ويتوعّد ويبعث إلى
أحد
] [ ٤٢
ُوالته بأنه يُقسم با صادقا ً إنْ ھو خان من مال الشعب شيئا ً صغيراً أو كبيراً ليَشدّنّ عيه ش ّدةً ت َدعُه قلي َل الو ْفر،
ثقيل الظھر ،ضئيل األمر .ويخاطب آخر بھذا القول الموجز الرائع االيجاز» :بلغني أنك ج ّردتَ األرض فأخذت ما
تحت قدميك ،وأكلتَ ما تحت قدميك ،فارفع إل ّي حسابك« .ويتوعد ثالثا ً ممن يرتشون ويسعون في االثراء على
ألعذرنّ
َ ّق ﷲ وارد ْد إلى ھؤالء أموالھم ،فإنك إن لم تفعل ث ّم أمكنني ﷲ منك حساب المستضعفين ،يقول» :فات ِ
إلى فيك ،وألضربنّك بسيفي الذي ما ضربتُ به أحداً إالّ دخل النار!«
الخلق أميراً على زمانه ومكانه يطحن لنفسه فيأكل من يطحن خبزاً يابسا ً يكسره على ركبتيه؛ ِ ھل عرفتَ من
ويرقع خفّه بيديه؛ وال يكتنز من دنياه كثيراً أو قليالً على ما م ّر ،ألنّ ھ ّمه ليس إالّ أن يكون للمستض َعف
والمظلوم والفقير يُنصفھم من المستغلّين والمتحكرين ويمسك عليھم الحياةَ وكريم العيش؛ فما يعنيه أن يشبع
ويرتوي وينام ھانئا ً وفي األرض »من ال طمع له في القرص« وفيھا »بطونٌ غرثى وأكبا ٌد ح ّرى« قائالً ،ويا
لشرف القول» :أأقنع من نفسي بأن يقال أمي ُر المؤمنين وال أُشاركھم مكارهَ الدھر؟« وألنّ أقل ما في ھذه الدنيا
شأنا ً ھو خي ٌر عنده من والية الناس إن لم يُقم حقا ً ويُزھق باطالً؟!
] [ ٤٣
بنيانه األخالقي واألدبي أصل يتّحد بأصول ،وطب ٌع ال يمكنه أن يجوز ذاته فيخرج عليھا ،حتى لكأنّ ھذه العدالة
وروح في روحه!
ٌ مادةٌ ُر ّكب منھا بُنيانه الجسماني نَف ُ
سه في جملة ما ُر ّكب منه ،فإذا ھي د ٌم في دمه
ھل عرفتَ ،في موطن الخصومات ،عظيما ً حاربه ذوو المنافع وفيھم نَف ٌر من ذوي قُرباه ،وقاتَلوه ،فخذل ِ
ت
ب الدنيا بسيف ظالم غاشم. المفاھي ُم اإلنسانيةُ المنتصرين عليه ألنه انتصا ٌر للحيلة والمساومة واالئتمار وكس ِ
ت المنكس َر ألن انكساره ،في ضوء العقل والقلب ،يتضمن جوھر الشھادة في سبيل كرامة اإلنسان ورفع ِ
ً
وحقوقه وما يتوق إليه من بلوغه العدالة والمساواة .وھكذا كان نص ُرھم ھزيمة وانكساره انتصاراً عظيما ً
لقيمة اإلنسان!
فائق الشجاعة ،يبلغ به حبّه لصفة اإلنسان في مقاتليه ،ويبلغ عطفُهِ ھل سألت التاريخ عن محارب شجاع
عليھم أن يوصي أصحابه ،وھو المصلح الصالح الكريم المغدور به ،فيقول» :ال تقاتلوھم حتّى يَبدأوكم ،فإذا
كانت الھزيمة بإذن ﷲ فال تقتلوا مدبراً ،وال تصيبوا مع ِوراً ،وال تجھزوا على جريح ،وال تھيجوا النساء
بأذى!« ثم تُجليه عن الماء عشراتُ األلوف المؤلفة من طالبي دمه على غير حقّ ،ويُبلغونه أنھم سيمنعون
عنه الماء الجاري حتّى يموت عطشا ً .فيزلزلھم عن الماء ويحتلّه .ث ّم يدعوھم إلى ھذا الماء أُسوةً بنفسه
وبصحبه وبالطير الشارب وال زاج َر له ،ث ّم يقول» :ما المجاھد الشھيد في سبيل ﷲ بأعظم أجراً م ّمن قد َر فعف:
لكاد أن يكون مالكا ً من المالئكة« حتّى إذا ھو طالته الي ُد اآلثمة فقضتْ عليه ،قال لصحبه بشأن قاتله» :ألنّ
تَعفوا أقرب إلى التقوى!«
أسباب الشجاعة الغريبة والفروسية النادرة .بأسباب العطف والحنان العجيبين،
ُ محارب شجاع تتصل في قلبه
فيصرع .وھو ال يعاتبھم إالّ منفرداً ،أعزل .حاسر الرأس .وھم
َ يضرب
َ فيعاتب المتآمرين به وله القدرة على أنْ
] [ ٤٤
مدججون بالسالح ال يكاد يبدو لھم وجهٌ إالّ من خالله؛ ث ّم يذ ّكرھم باالخاء اإلنساني وبالمودّات؛ ث ّم يبكي لھم إذا
ھم حثّوا السير في ھذا الطريق .حتى إذا أبوا إالّ د َمه وھو سيف المستض َعف والمحروم ،صبر لھم حتّى يبدأوه
الرياح السافيات برمال
ُ التقال ،ث ّم راح يُزلزلھم زلزلةً ويقصفھم قصفا ً ويعصف ،بمطامعھم كما تعصف
الصحراء فتذروھا بَدَداً بدداً .وھو ال يصرع منھم إالّ الطاغية الباغية الذي تَبيّن فيه العداء والقصد للشر! ث ّم إذا
ظفر بكى قتالھم وھم في الواقع قتلى األنانية واألثرة تأتيھم من المطمع السقيم والھوى المنحرف! ھو َ
ھل عرفتَ من الخلق أميراً توافرت لديه أسباب السلطان والثروة كما لم تتوافر لسواه فإذا ھو منھا جميعا ً في
شقاء وحسرة دائمين .وتوافرت لديه محاسن الحسب الشريف فقال» :ال حسب كالتواضع« .وأحبّه محبّوه
محب غال« بعد أن خاطب نفسه ّ فقال» :من أحبني فليستع َد للفقر جلبابا ً« .وغالوا في حبّه فقال» :ھلك ف ّي
يقول» :اللھ ّم اغفر لنا ما ال يعلمون!« فأل ّھوه ،فعاقبھم أشد عقاب! وكرھه آخرون فوقف منھم موقف الناصح
الخوانه في الخلق .وسبّوه فاستاء صحبُه وأجابوھم بالسباب فقال لھم» :أكره لكم أن تكونوا سبّابين«.
عاتب أخاك باالحسان إليه وارددْه
ْ وخاصموه وأساؤوا إليه وما حفظوا له غيبةً ثم خرجوا عليه ،فكان يقول» :
باالنعام عليه« .و »ال يكوننّ أخوك على مقاطعتك أقوى منك على صلته ،وال يكونن على االساءة أقوى منك
على االحسان« .وأغروه بمسايرة بعض اآلثمين ،ولو إلى حين ،حفاظا ً على سلطانه ،فقال» :صديقك من نھاك
وعد ّوك من أغراك« ثم أردف» :آث ِر الصدق حيث يض ّر بك على الكذب حيث ينفعك« .وحاربَه َمنْ أسدى إليھم
معروفه ،فخاطب نفسه يقول» :ال يُزھّدنّك بالمعروف من ال يشكر لك« .وتحدّثوا لديه عن نعيم األرض فنظر
إلى المتحدث يقول» :كفى
] [ ٤٥
بحسن الخلق نعيما ً« .ثم عادوا يُغرونه بالنصر يأتيه على أسلوب الحاكمين ،فقال» :ما ظفِ َر َمن ظفِر االثم به،
فغض عنھا طرفه وسال خاطره وھو ّ والغالب بالشر مغلوب« .وعلم من سيئات أخصامه ما ال يعرفه سواه،
أشرفُ أعمال الكريم َغ ْفلَتُه ع ّما يعلم« .وأعان أعداؤه والج َھلةُ من أنصاره الدھ َر عليه بما يُدخل
يرددَ » :
التشاؤم بالناس في ك ّل قلب ،فإذا به ما يزال يقول» :ال تظنّنّ بكلمة خرجتْ من أحد سوءاً وأنتَ تج ُد لھا في
الخير ُم ْحتَ َمالً!«
أخ لك في الدين أو نظي ٌر لك فيھل عرفت إماما ً لدين يوصي ُوالته بمثل ھذا القول في الناس» :فإنھم ال ّما ٌ
أعطھم من عفوك وصفحك مث َل الذي تحب أن يعطيك ﷲ من عفوه وصفحه!« ھل عرفت صاحب سلطان الخلقِ .
القرص الذي يُمسك عليه الحياةَ وما
َ ق في الشعب ،وصاحب ثروة أنكر منھا إالّ تم ّرد على سلطانه القامة الح ّ
الحياةُ لديه إالّ نفع إخوانه في الخلق ...أ ّما الدنيا فلتغ ّر سواه!
الفني
ّ ث ّم ،ھل سألت تاريخ ھذا الشرق عن نھج للبالغة آخذ من الفكر والخيال والعاطفة آيات تتّصل بالذوق
متفجر بالحسن المشبوب ّ الرفيع ما بقي اإلنسان وما بقي له خيال وعاطفة وفكر؛ مترابط باياته متساوق؛
واإلدراك البعيد؛ متدفّق بلوعة الواقع وحرارة الحقيقة والشوق إلى معرفة ما وراء الواقع ،متآلف يجمع بين
جمال الموضوع وجمال االخراج حتى ليندمج التعبي ُر بالمدلول ،فما أنت إزاءه إالّ ما يكون المرء قبالةً السيل إذ
ث الطبيعي الذي الب ّد له أن يكون بالضرورة على ما ھو ينحدر والبحر إذ يتم ّوج والريح إذ تطوف ،أو قبالة الحد ِ
كائنٌ عليه من الوحدة التي ال تُف ّرق بين عناصرھا إالّ لتمحو وجودَھا وتجعلھا إلى غير َك ْون!
] [ ٤٦
الحس السمعي للعقل بحيث يح ّول لك المعاني إلى أنعام ھي في ح ّد ذاتھا المعاني الكاملة
ّ بيانٌ ھو من مشاركة
الحس النظري للعقل بحيث يح ّول لك المعاني إلى لوحات فنيّة
ّ كما تشاء الطبيعةُ الحيّة وتريد .وھو من مشاركة
بروائع الفن تتمازج به صو ٌر وموسيقى ،وأنغا ٌم
ِ لھا خطوطُھا وأشكالھا وألوآنھا فإذا بك من ذلك في عالم زاخر
وألوان!
النقض على لسان العاصفة انقضاضا ً .ولو ھدّد الفسا َد والمفسدين لَت ّ
َفجر براكينَ لھا ّ ق بالتقريع بيانٌ لو نط َ
أضوا ٌء وأصوات .ولو انبسط في منطق لَخاطَ َب العقو َل والمشاعر فأقفل ك ّل باب على ك ّل حجة غير ما ينبسط
وصالً.
صلك بالكون ْ س ْوقاًَ ،و َو َ
الحس وأصل التفكير فساقك إلى ما يريده َ
ّ فيه .ولو دعا إلى تأ ّمل لَرافق فيك َم ْنشأ
ووحد فيك القوى لالكتشاف توحيداً .وھو لو راعاك ألدركتَ حنان األب ومنطق األبوة وصدْق الوفاء االنساني ّ
وحرارة المحبة التي تبدأ وال تنتھي! أ ّما إذا تحدّث إليك عن بھاء الوجود وجماالت الخلق وكماالت الكون ،فإنما
يكتب على قلبك بمداد من نور النجوم! بيانٌ ھو بالغةٌ من البالغة ،وتنزي ُل من التنزيل! بيان اتّصل بأسباب
البيان العربي ما كان منه وما يكون ،حتى قال أحدھم في صاحبه :إن كالمه دون كالم الخالق وفوق كالم
المخلوق!
ھل عرفتَ عقالً كھذا العقل ،وعلما ً كھذا العلم ،وبالغةً كھذه البالغة ،وشجاعةً كھذه الشجاعة ،تكتمل من
الحنان بما ال يعرف حدوداً حتى ليبھرك ھذا القدر من الحنان كما يبھرك ذلك القدر من المزايا تلتقي جميعاً
ي الحاكم القائد الذي يترك الناس وتتّحد في رج ّل من أبناء آدم وحواء .فإذا ھو العالم المفكر األديب االدار ّ
والحكام وذوي المطامع والجيوش يتآمرون به ،ليُقل عليك فيھ ّز فيك مشاع َر اإلنسان الذي له عواطف وأفكار،
فيھمس في قلبك ھذه النجوى الرائعة بما فيھا من حرارة العاطفة الكريمة قائالً» :فَ ْقد األحبّة
] [ ٤٧
وأعط َمن
ِ غربة« أو »ال تشمت بالمصائب« أو »ليكن دن ّوك من الناس لينا ً ورحمة« أو »واعفُ عمن ظلمك
وصل َمن قطعك وال تبغض من أبغضك!«
حرمك ِ
ھل عرفتَ من الخلق عظيما ً يلتقي مع المفكرين بسم ّو فكرھم ،ومع الخيّرين بحبھم العميق للخير ،ومع العلماء
بعلمھم ،ومع الباحثين بتنقيبھم ،ومع ذوي المودّة بموادتھم ،ومع الزھاد بزھدھم ،ومع المصلحين باصالحھم،
ومع المتألمين باالمھم ،ومع المظلومين بمشاعرھم وتمردھم ،ومع األدباء بأدبھم ،ومع األبطال ببطوالتھم،
ومع الشھداء بشھادتھم ،ومع كل انسانية بما يش ّرفھا ويرفع من شأنھا ،ث ّم إنّ له في ك ّل ذلك فضل القول الناتج
عن العمل ،والتضحية المتصلة بالتضيحة ،والسابقة في الزمان!
عظيما ً يھون لديك أمر غالبيه ونصر المنتصرين عليه ألنّ أيامھم إنّما ھي من األيام التي ﱠ
عجت بالمنتاقضات
ضھا سماءھا! واصطبغت بالغرائب حتّى أصبح فيھا شمال الحياة بمينھا وتحتُھا فوقَھا وأر ُ
وسوا ٌء لدى الحقيقة والتاريخ أعرفتَ ھذا العظيم أم لم تعرف؛ فالتاريخ والحقيقة يشھدان أنه الضمير العمالق
الشھيد أبو الشھداء عل ّي بن أبي طالب صوت العدالة اإلنسانية وشخصية الشرق الخالدة!
] [ ٤٨
] [ ٤٩
من الجذور العل ّوية
تسبح في صفاء السماء ،حتّى إذا استوتْ في مكانھا من الفضاء الالنھائي
ُ الشمس
َ يشھدان
ِ ويلبثان معا ً
ِ ـ
العجيب ،لبثتْ قليالً ث ﱠم راحت تھوي إلى جانب من الكون مجھول!
ـ كانت عبقريّة عل ّي تتفتح فيه ،وھو صب ّي ،شعوراً عميقا ً طاغيا ً بنصرة الخير ،وتضحيات أشبه بصنُع
المعجزات! )علي وحقوق اإلنسان ـ (٤
] [ ٥٠
] [ ٥١
ولكن ،إذا فات عليّا ً أن يحكم في رقاب الناس كبني أميّة ،وما كانت رسالته في مثل ھذا الحكم ،فما فاته أن يحكم
في قلوب الطيّبين من الناس .وله من صفات اإلنسان األمثل ما يجعله جديدراً بالسلطان على القلوب.
] [ ٥٢
وقبل أن أبدأ الكالم على عل ّي بن أبي طالب ،الب ّد من أن ألقي نظرةً عجلى إلى الوراء ،الستجالء الرابطة
العميقة التي تش ّد عليّا ً وذويه إلى مح ّمد ابن عبدﷲ ،سواء في الحوادث الجزئية التي تحمل تاريخا ً وأرقاماً ،أو
في األجواء الروحية واألديبة التي تھيأت في بيت واحد ،واجتمعت في ھذا وذاك من أھل البيتا ،وكان الرسول
التعبير األمثل واألكمل عن ھذه األجواء ،وكذلك كان ابن أبي طالب.
حين ُحرم الرسول منو حدْب األب وحنان األم ،كفِله جدّه ـ وج ّد علي ـ عبدالمطلب الھاشمي .وكان جده يحبه
ويفديه بنفسه .وكثيراً ما حدّث جلساءه وھو ينظر إلى حفيده ،بأنّه سيكون لھذا الطفل شأنٌ عظيم .وقد رفعه
جده ،مع صغر سنه ،وأقعده في مجلسه العام ،دون أعمامه ،في ظالل الكعبة.
ولما توفي جدّه ،كفله عمه أبو طالب ـ والد عل ّي ـ فاستمر الغالم يحيا في ج ّو الحنان والدعة وحسن التربية
الذي خلّفه األب الراحل لالبن المقيم.
أ ّما كيف كفِله أبو طالب بعد أبيه وھو أش ّد إخوته عَوزاً وأكثرھم بنين .فألنّ أباه عبدالمطّلب حين احتضر للموت
صة ھذا االختيار مقبولةٌ معقولة.
صه دون سائر أبنائه بشرف ھذه الكفالة وھذه الرعاية .وق ّ دعا أبا طالب وخ ّ
فعبد المطّلب يعرف أبناءه واحداً واحداً ويُدرك من حقيقتھم ما بدا وما خفي .وھو ما اختار أبا طالب استئناسا ً
بما يعرف من أمره وما يُدرك .فإنّ الحنان والعطف وإنْ كان ألكثر ُولد عبدالمطّلب منھما نصيب ،لم يبلغا في
قلوبھم من القوة والبعد ما بَلَغا في قلب أبي طالب .وأثر الحنان والعطف في ُحسن الكفالة والرعاية أظھ ُر من
أضف إلى ھذا أن أبا طالب كان يضمر من العطف على أثر المال .لذلك كله اختار أبا طالب أبوه لرعاية مح ّمدِ .
ابن أخيه ما يدفعه دفعا ً إلى رعايته وإن لم يكلّفه ذلك أبوه .فكيف إذا اجتمع
] [ ٥٣
وم ّما ال مراء فيه أن أبا طالب صاحب شخصية جميلة ومحبّبة .شخصية جميلة تطالعنا بحكمة الشيخ الطيّب
األمين المج ّرب الذي يضع ك ّل ما أُوتي من طيبة وأمانة وتجربة موض َع العمل والتنفيذ في ك ّل حال.
وھذه الصفات التي يستجليھا شيئا ً فشيئا ً ك ّل من اطّلع على سيرة ھذا الشيخ الجليل ،ھي التي أدركھا القرشيون
من أھل الجاھلية ساعة قالوا فيه» :قَ ّل أن يسود فقي ٌر وساد أبو طالب«.
وفي ھذا القول إشارة صريحة إلى نظر أھل مكة قبل اإلسالم إلى شؤون السيادة وكيف أنھا ال تُص ّرف إالّ على
أيدي األغنياء .وفيه كذلك إشارة صريحة إلى عظمة ُخلق أبي طالب التي ھيّأ ْته بالرغم من فقره إلى أن يسود
ويعلو رأيُه آراء األثرياء.
واستم ّرت األخالق الخيّرة التي يتميّز بھا بيت عبدالمطلب تتركز في نفسية مح ّمد وتبدو في تص ّرفاته .حتّى لكأنّ
ﷲ ل ّما اختار رسوله من بني عبدالمطلب اختار لتنشئته ھذا الع ّم الكريم .وكأنّ قوة الوجود الشاملة ھيّأت ألبي
طالب أن يعلم من أمر ابن أخيه ما ال يعلمه سواه .فإذا ھو يخرج بالصب ّي في يوم قحط وجدب ،ويطلب إليه
برفق ولين أن يلصق ظھره بالكعبة .فإذا الصب ّي يفعل ما طلب إليه ع ّمه ،ويلوذ بإصبعه نحو السماء وما في
السماء آنذاك غيمةٌ أو قَ َز َعةٌ من غيم .فإذا بالسحاب يُقبل من ھنا ومن ھنا ،فيھطل المطر ،فيخصب الوادي
وتحيا األرض .فل ّما سئل أبو طالب عن ھذا الصب ّي قال :ھو مح ّمد ابن أخي وفيه أقول:
] [ ٥٤
ويستم ّر أبو طالب في شرف خدمة ھذا الصبي .ويبادله الحنان والمودّة والعطف .ويرافقه دائما ً فال ينام إالّ إلى
جنبه ويخرج فيخرج معه .وكثيراً ما تھطل عيناه بالدمع ساعة ينظر إليه مشفقا ً قائالً :إذا رأيتُه ذكرتُ أخي أباه.
ويتھيّأ أبو طالب للرحيل إلى الشام في ر ّكب للتجارة .فحين يعزم على المسير ينظرب إليه مح ّمد ويقول» :يا
ق له أبو طالب ويردفه خلفه ويقول» :وﷲ ألخرجنّ به معي ال ع ّم ،إلى َمن تكلُني ال أب لي وال أُ ّم!« فير ّ
يفارقني وال أُفارقه أبداً«.
ق سفر له إلى الشام وھو ما يزال في حدود الرابعة عشرة أو ما وھكذا يأبى أبو طالب إالّ أن يكون مح ّم ٌد رفي َ
يق ّل .فيم ّران ب َمدين ووادي القرى وديار ثمود .ويقفان من بالد الشام عند جنائن األرض .ويلبثان معا ً يشھدان
تسبح في صفاء السماء ويُشرق وجھھا فوق ما ترامى من األرض ُ الطبيعة الحيّة والصامتة .يشھدان الشمس
وأطرافِھا ،حتّى إذا استوتال في مكانھا من الفضاء الالنھائي العجيب .لبثتْ قليالً ث ّم راحت تھوي إلى جانب من
الكون مجھول! وھي إذا لملمتْ آخر شعاعاتھا وغاصت وراء تُخوم األرض ،أقبل الليل يمت ّد ويسو ّد ويُلبس كل
وميض ليّنٌ من نجوم السماء!
ٌ شيء من نفسه ظالما ً ال يُزھيّه إالّ
فإذا ما بنفس أبي طالب من معاني الطبيعة يشفّ في نفس مح ّمد ،فإذا ھي جزء من ذاته يتك ّونّ وينمو تحت
نظرة الع ّم المحب .وإذا ك ّل ما في الطبيعة من ُموحيات الكآبة والحزن ،والفرحة والغبطة ،والبساطة والعمق،
يتجاوب في كيان مح ّمد ويمث ُل فيه روحا ً إنسانيا ً ومعاني كونيّة.
أجل ،كأنّ قوة الوجود الشاملة أرادت لھما أن يستيقظا معا ً في وحدة الطبيعة وامتثال النجوم ،على روعة الخلق
وصخب
وشفوف األثير ،وحركة األرضَ ،
ِ وفتنة الوجود .وعلى جمال األزل واألبد يجتمعان في كواكب السماء،
الحياة!
] [ ٥٥
وھذا ھو الراھب بُحيرا ،أو جرجس على األصل ،يُضيف ر ْكبا ً من قريش فيھم أبو طالب وابن أخيه ،في صومعة
غذي ما في نفس أبي طالب من ابن يسكنھا على طريق الشام وال يسكنھا إالّ من تناھى إليه عل ُم النصرانية ،فيُ ّ
ويبش ،إذ يُنبئُه بأنّ ھذا الصب ّي سيكون له في العالم شأنٌ عظيم .فينظر
ّ ويھش له
ّ أخيه وھو يلحظُه لحظا ً شديداً
أبو طالب إلى الصغير نظرة الحب واإلعجاب ،وبعطف األب على أع ّز بنيه .ويتح ّرك في نفسه الشعو ُر بموجبات
االستمرار على الخير الذي يربط مح ّمداً بع ّمه ويجعله س ّر بيته.
وراح أبو طالب يسمع أھل مكة ينعتون مح ّمداً باألمين ،وھو دامع العين خافق القلب ،إعجابا ً وغبطة!
ولما طلبتْ خديجة من مح ّمد أن يتزوج بھا ـ بعد أن ردّت طلب أشراف قريش من ذوي الجاه والمال ـ لم يجد
أمامه غير عمه أبي طالب ،نجيّه في المكرمات ،ليعقد في روحه وعلى لسانه ،رباطه المقدس مع ھذه السيدة
س السم ّو في أخالق مح ّمد ،فقد لبّى نداءه للحال وأدرك أنّ مح ّمداً لم
الفاضلة .ول ّما كان أبو طالب أو َل َمن ل َم َ
ينطق في ھذا المقام إالّ بما يريده ھو في أعماق نفسه وما يرتئيه.
وبعد أن ھبط الوحي على مح ّمد في غار حراء ،كان أ ّول من صلّى معه زوجته خديجة وعلي بن أبي طالب.
وكانا أول الناس ايمانا ً بالنبي .فلما بلغ ذلك أبا طالب قال لولده عل ّي :أي بن ّي ،ما ھذا الذي أنت عليه؟ فقال
ت ،آمنتُ برسول ﷲ وصدقتُ ما جاء به وصلّيت معه واتّبعته! فقال أبو طالب :يا بن ّي ،إنّه لم ي ْدعُك عل ّي :يا أب ِ
إالّ إلى خير ،فالز ْمه!
ولما أمر النبي المسلمين األ ّول أن يھاجروا إلى الحبشة تخلّصا ً من قريش ،كان جعفر بن أبي طالب على رأس
المھاجرين ،وكان اشدّھم حبا ً البن عمه الذي ربي وإياه في كنف أبيه.
] [ ٥٦
بالحب لمح ّمد ويدعو إلى نصرته .وكان يكث ُر عليه ك ّل عمل
ّ وكان أبو طالب أ ّول من قال شعراً في اإلسالم يفيض
أو قول فيه بعض األذى البن أخيه.
التجار أنھھم عازمون على قتله وقتل مح ّمد إلّ ْم يُخ ّل مح ّم ٌد الطري َ
ق ودمعت عينا أبي طالب ،يوم أبلغه القرشيّون ّ
التي يسلك .دمعتْ عينا أبي طالب ال خوفا ً على حياته وحياة بنيه وابن أخيه ،بل إعجابا ً بموقف مح ّمد ساعةَ
بلغه النبأ .وخالصة الخبر أنّ قريشا ً لما ائتمروا بمح ّمد وأرادوا قتله مشوا إلى عمه أبي طالب وطلبوا إليه أن
يسلمھم مح ّمداً فأبى .ومضى في دموعه ومضت قريش في ائتمارھا .ث ّم ذھبوا إلى أبي طلب ثانيةً وثالثةً وقالوا
له :يا أبا طالب ،إنّ لك سنّا ً وشرفا ً ومنزلة فينا .وقد استنھيناك من ابن أخيك فلم تنھه عنّا .وإنا وﷲ ال نصبر
على ھذا من ش ْتم آبائنا وتسفيه أحالمنا وعيب آلھتنا حتّى تكفّه عنّا أو ننازله وإياك حتّى يھلك أح ُد الفريقين!
تاريخ الوجو ِد كلّه مبھوتا ً ال يدري بعدھا ما
ُ وبلغ مح ّمداً ما كان من أمر ھؤالء ،فأطرق إطراقةً وقف إزاءھا
اتّجاھه! أيسير التاريخ في طريقه ھذه أم يتغيّر وجھه؟ ففي الكلمة الواحدة التي تنطبق بھا شفتا ھذا الرجل ُحك ٌم
على سير التاريخ! والتفتَ الرج ُل العظي ُم إلى ع ّمه وھو ممتل ٌئ بقوة إرادته ومضاء عزيمته وصدق دعوته
سم نفسية أصحاب الرساالت» :يا وإخالصه لِما َوقَفَ له نف َ
سه وحياتَه ،لينطق بھذه الكلمات الخالدات التي تُج ّ
ع ّم وﷲ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أتر َك ھذا األمر حتّى يُظھره ﷲُ أو أھلك فيه،
ما تركتُه!« وبكى أبو طالب إعجابا ً وحبّا ً عظيماً ،وكان وحده آنذاك الشاھد على اتجاه جديد سوف يتّجه التاريخ
على يد ابن أخيه!
ولم يكن ھذا الحب العميق الذي يلفّ مح ّمداً في بيت ع ّمه أبي طالب ليأتيه من جانب واحد وحسب ،بل كان ك ّل
من في البيت يضمر لمح ّمد
] [ ٥٧
العطف والحنان والب ّر ،وال سيما فاطمة بنت أسد زوجة أبي طالب ووالدة عل ّي .فقد كانت ھذه المرأة الفاضلة
تحدب على مح ّمد حدْب األ ّم على ابنھا بشھادة النب ّي نفسه الذي كان يكرمھا ويعظمھا ويدعوھا :أُ ّمي! وكان
يردّد أبداً ھذا القول» :لم يكن أح ٌد بعد أبي طالب أب ّر بي منھا!«
ولع ّل ھذا االحترام الذي كان مح ّمد يضمره ويبديه لزوجة ع ّمه أبي طالب ،وإنزاله إياھا منزلة األ ّم ،ثم شعوره
بالفرق العظيم بينھا وبين معظم النساء القرشيات يومذاك ،أمثال ح ّمالة الحطب ،أمو ٌر تجمعتْ في نفسه ودفع ْته
أحب بناته إلى نفسه باسمھا ،وأعني بھا السيدة فاطمة زوجة عل ّي وأ ّم الحسن والحسين.
ّ إلى أن يس ّمي
الخلق التي يتميز بھا بصورة ينس أبو طالب دقيقةً واحدة في حياته أنّ محمداً إنّما ھو استمرار عبقرية ُ َ ولم
عفوية ھو وأخوه عبدﷲ وأبوھما عبدالمطلب .فلما حضرته الوفاة جمع إليه قوما ً كثيراً وقال لھم» :إنّي
أوصيكم بمح ّمد خيراً فإنّه وكأني أنظر إلى صعاليك العرب وأھل الوبَر واالطراف والمستضعفين بين الناس قد
أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظّموا أمره فخاض بھم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش أذنابا ً وضعفاؤھم
أربابا ً .وإذا أعظ ُمھم عليه أحوجھم إليه ،وأبعدھم عنه أحظاھم عنده! يا معشر قريش ،كونوا له ُوالةً ولحزبه
ُحماة .وﷲِ ال يسلك أح ٌد سبيله إالّ رش َد وال يأخذ برأيه أح ٌد إالّ سعد .ولو كان لنفسي مدةٌ وألجلَي تأخي ٌر لدفعتُ
عنه الدواھي .إنّ محمداً ھو الصادق األمين فأجيبوا دعوته واجتمعوا على نصرته وراموا عد ّوه من وراء
حوزته فإنّه الشرف الباقي لكم على الدھر!«.
] [ ٥٨
توفي أبو طالب بعد أن كفل النب ّي وصانه وقاوم قريشا ً في سبيله ووقف في وجھھا مدافعا ً عن دعوته ،زھاء
اثنين واربعين عاما ً بليلھا ونھارھا.
ولما توفي أبو طالب شعر النب ّي بأنّه فقد أعظم ركن يستند إليه ويدفع عنه أذى قريش .وما كان ھذا الشعور إالّ
تدليالً على تجا ُذب أسباب الخير بين مح ّمد وعمه رب البيت الذي نشأ فيه وسما خلقه! وإذا كان من أسباب ھذا
الشعور بخسارة ابي طالب أنّ مح ّمداً فقد به نصيراً يفديه بدمه ويدفع عنه األذى وملجأ حصيا ً ضد قريش
والمستبدين الغالة من بنيھا حتى أنّه قال :ما نالني من قومي سوء حتى مات عمي أبو طالب« ،فما تعليل ھذا
الحزن العميق الذي غزا قلب مح ّمد بموت عمه؟ وما علّة ھذه الكآبة وما كان مح ّمد إالّ صبوراً حازما ً واثقا ً
بنصر رسالته مھما كثر العد ّو وق ّل الصديق .ومھما كان من شأن األخيار واألشرار! أجل ما علّة ھذه الكآبة إن
لم تكن الكارثة التي حلّت بمحمد ھي كارثة اإلنسان بأع ّز من يعطف عليه ويحميه؟ وما تكون ھذه الدموع
الغزار إن لم تكن شاھداً على أن النبي ـ كرجل ـ أحس بأنه فقد شيئا ً من ذاته ،من حاضره وماضيه؟
] [ ٥٩
وفي البيت الطالبّي الواحد تنمو الروح الواحدة بالصدق والصفاء ووحدة النظر إلى الكون والحياة .وتستم ّر
على أصول أعمق وفروع أكثر في عالقة النبي مع ربيبه الطفل ،ث ّم الصبي ،ث ّم الشاب ،ابن ع ّمه العظيم عل ّي بن
أبي طالب.
وإذا نحن نظرنا إلى ميالد اإلنسانية في قلب وروح ،رأينا أنّ عل ّي ابن أبي طالب إنّما ُول َد مؤمنا ً بالرسالة
الخيّرة ونصيراً لھا .فإن خصائص البيت الطالبي الذي ربي فيه مح ّمد ،انتقلت بصورة طبيعية إلى ابن ع ّمه
ساعة ميالده.
ونما خلق عل ّي على شمائل بيت أبيه أبي طالب ،ذاك الذي أصغت جدرانه أل ّول عبارة من مح ّمد ،وخرجت منه
الدعوة اإلسالمية إلى الوجود .فإنّ عليّا ً ما كاد يبلغ الرابعة من عمره ،حتّى ض ّمه مح ّمد إليه وآحاه وقد أشار
عل ّي إلى تع ّھد مح ّمد إياه ،بخطبته التي تس ّمى بالقاصعة وفيھا يقول:
»وقد تعلمون موضعي من رسول ﷲ ،٩بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة .وضعني في حجره وأنا ولي ٌد
يض ّمني إلى صدره ويكنفي
] [ ٦٠
سني جسدَه ويُشمني عرفَه .وما وجد لي كذبةً في قول وال خطلةً في فعل .وكنت أتبعه اتباع الفصيل فراشه ويُم ّ
أثر أُ ّمه يرفع لي في كل يوم من أخالقه علما ً ويأمرني باالقتداء به«.
وھذا ھو أول الزمن الذي يتأھل الغالم فيه لتلقّي بذور األخالق الفاضلة .ولطالما جاور عل ّي مح ّمداً في خلواته،
وسار على نھجه في االنقطاع عن القرشيين المتردين في ليل من جھالتھم وجمودھم على ما ھم عليه من
عادات واخالق .ولطالما عاش في ذلك الج ّو الزكي إلى جوار ابن ع ّمه وھو أثي ٌر لديه حبيب على قلبه .وإن مثل
ھذا الجوار وھذا االخاء لم يظفر به واحد ـ غير علي ـ من أصحاب الرسول وتالميذه!
نقد فتح علي بن أبي طالب عينيه على الطريق التي رسمھا ابن عمه .وعرف العبادة أول ما عرفھا من صالته.
ونع َم بعطفه وحنانه وإخائه .فإذا ھو من مح ّمد ما كان مح ّم ٌد من أبي طالب!
بحب ابن عمه .ونطق لسانه أ ّول ما نطق بما لقّنه إياه من رائع القول .واكتملت ّ وخفق قلب عل ّي أول ما خفق
رجولته أ ّول ما اكتملت لمؤازرة النبي المضط َھد! وإذا كان النبي يحبه أنصاره ،ويحترمه أعداؤه ،فھل يكون
ربيبه وتلميذه وأخوه عل ّي إالّ شيئا ً من كيانه! شيئا ً عظيما ً من كيان عظيم!
وإذا أسلم بعض الوجوه من قريش منذ أ ّول الدعوة احتكاما ً للعقل وتخلّصا ً من الوثنية؛ وإذا أسلم كثير من العبيد
واالرقّاء والمضطھدين طلبا ً للعدالة التي تتدفق بھا رسالة مح ّمد واستنكاراً للجور الذي يلھب ظھورھم
بسياطه؛ وإذا أسلم قو ٌم ،بعد انتصار النبي ،امتثاالً للواقع وتزلّفا ً للمنتصر كما ھي الحال بالنسبة ألكثر
االموينى؛ إذا أسلم ھؤالء جميعا ً في ظروف تتفاوت من حيث قيمتھا ومعانيھا اإلنسانية ،وتتّحد في خضوعھا
للمنطق أو للواقع الراھن ،فإنّ عل ّي بن أبي طالب قد ولد مسلما ً أل نّه من معدن الرسول مولداً ونشأة ،ومن
] [ ٦١
ذاته خلقا ً وفطرة .ث ّم أنّ الظرف الذي اعلن فيه ع ّما يكمن في كيانه من روح اإلسالم ومن حقيقته ،لم يكن شيئا ً
من ظروف اآلخرين .ولم يرتبط بموجبات العمر .ألنّ إسالم عل ّي كان أعمق من ضرورة االرتباط بالظروف إذ
كان جاريا ً من روحه كما تجري األشياء من معادنھا والمياه من ينابيعھا.
] [ ٦٢
ھذا أخي
قال النبي لعل ّي:
إن في َك لَشبھا ً من عيسى بن مريم! والستجالء ھذه الوقائع بأرقامھا الب ّد من ذكر بعض األحاديث التي تويدھا
ي مدى كان التآخي الروحي بين النبي وابن ع ّمه العظيم .كما تخبرنا إلى أي وتضمن وجودھاه ،وتخبرنا إلى أ ّ
ى كان عل ّي وارثا ً لمزايا الرسول ،مصطبغا ً بصبغته ،أثيراً لديه ،حبيبا ً إليه ،عظيما ً في جنانه وعلى لسانه.
مد ً
ّ
ويمكننا بعد ذلك أن نستنتج أن الرسول إنما كان يم ّھد لعل ّي سبيل الخالفة ضمن الحدود التي تشترطھا ثورة
سمو
ّ اإلسالم والتي يت ّم بھا سلطانه وانتشاره .يم ّھد لعل ّي سبيل الخالفة أل نّه رأى فيه صورةً عنه من حيث
الخلق ونبل المقصد وسائر المكارم التي سيجري عليھا القول بالتفصيل.
حدّث الطبراني عن ابن مسعود أنّ النبي قال :النظر إلى وجه عل ّي عبادة .وحدّث بعضھم عن سعد بن أبي
وقاص قال ،قال النبي :من آذى عليّا ً فقد آذاني.
وذكر اليعقوبي في الجزء الثاني من تاريخه أنّ النبي خرج ليالً بعد رجوعه من حجة الوداع منصرفا ً إلى
المدينة فصار إلى موضع بالقرب من الجحفة يقال له »غدير خم« لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة .وقام
خطيبا ً وأخذ
] [ ٦٣
وال من وااله وعاد من عاداه« .وجاء في بيد عل ّي بن أبي طالب وقال» :من كنت مواله فعل ّي مواله .اللّھ ّم ِ
التفسير الكبير لإلمام فخرالدين الرازي أنّ عمر بن الخطاب لقي عليّا ً بعد ذلك فقال له» :ھنيئا ً لك يا ابن أبي
طالب أصبحت موالي ومولى كل مؤمن ومؤمنة«.
وھذا الحديث أخرجه كثير من المؤرخين ومن العلماء أمثال الترمذي والنسائي واإلمام أحمد بن حنبل ،كما رواه
سان بن ثابت االنصاري ،قال:ستة عشرة صحابيا ً وقد ذكره عد ٌد من الشعراء أولھم ح ّ
يناديُھم ،يو َم الغدي ِر ،نَبيّھم *** بخ ﱟم ،وأسمع بالنب ّي منادياً
وقال :فمن موال ُكم ووليّكم؟ *** فقالوا ،ولم يبدوا ھناك التعاميا ً
إلھك موالنا ،وأنت نبيّنا؛ *** وما لك منّا بالوصاية عاصيا ً
فقال له :ق ْم يا عل ّي ،فانني *** رضيتُك من بعدي إماما ً وھاديا ً
ومن الشعراء الذين ذكروا ذلك اليوم أبو تمام الطائي .ومن الذين أسھبوا في وصفه الكميت األسدي في قصيدة
عينية يقول فيھا:
ومن كتاب اآلل البن خالويه عن أبي سعيد الخدري قال :قال رسول ﷲ لعلي بن أبي طالب :حبك إيمان ،وبغضك
نفاق .وأول من يدخل الجنة محبك ،وأ ّول من يدخل النار مبغضك.
وال يختلف الرواة والمحدثون في أنّ النب ّي طالما ردّد ھذه العبارة وھو ينظر إلى علي» :ھذا أخي!«
وقال النب ّي م ّرة لعل ّي» :إنّ فيك لَشبھا ً من عيسى بن مريم!« و »ال يُبغضك إالّ مناف ٌ
ق!«
] [ ٦٤
وجاء في الحديث عن أبي ھريرة أ نّه قال» :قال رسول ﷲ وھو في محفل من أصحابه :إن تنظروا إلى آدم في
علمه ونوح في ھ ّمه وإبراھيم في خلقه وموسى في مناجاته وعيسى في سنّه ومح ّمد في ھديه وعلمه ،فانظروا
إلى ھذا المقبل! فتطاول الناس بأعناقھم فإذا ھو عل ّي بن أبي طالب«.
وباإلسناد عن زيد بن أرقم» :قال رسول ﷲ أال أدلّكم على ما أن تساءلتم عليه لم تھلكوا ،إنّ وليّكم ﷲ وإن
إمامكم عل ّي بن أبي طالب فناصحوه وصدّقوه«.
وقال الرسول ،وقد شكا إلي ِه بعض أصحابه شأنا ً من شؤون علي :ما تريدون من عل ّي؟ما تريدون من علي؟ ما
تريدون من عل ّي؟ عل ّي مني وأنا منه وھو ول ّي كل مؤمن بعدي.
وبعث الرسول عليّا ً إلى اليمن فسأله جماعة من أتباعه أن يُركبھم إبل الصدقة ليريحوا إبلھم .فأبى عل ّي .فشكوه
إلى الرسول بعد رجعتھم .وتولّى شكايته سعد بن مالك الشھيد ،فقال :يا رسول ﷲ ،لقينا من عل ّي من الغلظة
وسوء الصحبة والتضييق ...ومضى يعدد ما لقيه .حتى إذا كان في وسط كالمه ضرب النبي على فخذه وھتف
به» :يا سعد بن مالك الشھيد ،بعض قولك ألخيك عل ّي؟ فوﷲ لقد علمت أنّه جيش في سبيل ﷲ«.
ويروى أن قريشا ً أصابتھا أزمة وقحط فقال مح ّم ٌد لعميّه حمزة والعبّاس :أالَ نحمل ثق َل أبي طالب في ھذا
المحل .فجاؤوا إليه فسألوه أن يدفع إليھم ُولدَه ليكفوه أمرھم فقال :دعوا لي عقيالً وخذوا من شئتم .فأخذ
اس طالباً ،وأخذ حمزة جعفراً ،وأخذ مح ّم ٌد عليّا ً وقال لھم :قد اخترتُ ما اختاره ﷲ لي عليكم! قالوا :فكان
العبّ ُ
وحسن تربيتهعل ّي في حجر الرسول منذ كان عمره ست سنين ،وكان ما يُسدي إليه من إحسانه وشفقته وب ّره ُ
كالمكافأة والمعاوضة لصنيع أبي طالب به حيث مات عبدالمطلب وجعله في حجره.
] [ ٦٥
من ھذه االحاديث ،ومن غيرھا ،يثبت أمر واح ٌد ال يقوم حوله جدل وھو :أنّ النبي كان يشعر بنوع من االخاء
لعلي بن أبي طالب ،وأنّ عليّا ً كان ممتلئا ً بھذا االخاء .ث ّم أنّ النبي كان ّ
يوجه االنظار إلى العظمة االنسانية التي
تتمثل في شخصية عل ّي ،وإلى أنّه خير من يستطيع أن يتمم شروط الرسالة من بعده.
ومن الروايات الثابتة ،ما يلقي نوراً ساطعا ً على ھذه االرادة الكونية التي شاءت أن يكون عل ّي شيئا ً من ذات
خصائص مخا كان ألحد أن يشارك بھا عليّا ً:
ُ الرسول .وقد ھيأت ھذه االرادة ظروفا ً ومناسبات برزت فيھا
فھا أنّ عليا ً ولد في الكعبة التي أصبحت قبلة أشواق المسلمين وكان مولده فيھا بعد أن أصبحت الدعوة
االسالمية شيئا ً موجوداً بذات مح ّمد وإن لم يكن قد افصح عنھا بعد .وكان موئله بيت أبي طالب ابيه ،بيت
مح ّمد.
وكان علي أ ّول من رأت عيناه إلى النبي وزوجته خديجة وھما يصلّيان! ث ّم إنّه كان أول المسلمين وھو لم يبلغ
الشباب .ولما عوتب على إسالمه دون مشورة ابيه أبي طالب ،أجاب على الفور» :لقد خلقني ﷲ من غير أن
يشاور أبا طالب .فما حاجتي أنا إلى مشاورته ألعبد ﷲ!«
وظ ّل اإلسالم زمنا ً وھو محصور في بيت مح ّمد :فيه وفي زوجته وابن ع ّمه ومواله زيد بن حارثة.
ويوم دعا النبي عشريته األقربين إلى طعام في بيته وشاء أن يحدثھم داعياً إياھم إلى اإلسالم ،قطع ع ّمه أبو
لھب حديثه واستنفر اآلخرين لينھضوا ويغادروه .ث ّم دعاھم مح ّمد في الغداة ك ّرة أخرى ،فلما طعموا قال لھم:
»ما أعل ُم انسانا ً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ،فأيكم يؤازرني على ھذا األمر؟« فأعرضوا عنه
وھ ّموا بمفادرة بيته كما فعلوا في المرة األولى .فما كان من عل ّي إالّ أن نھض ،وھو ما يزال صبيا ً دون الحلم،
وقال» :أنا يارسول
] [ ٦٦
حرب على من حاربتَ !« فضحك بنو ھاشم وقھقه بعضھم ،وجعلوا ينقلون بأنظارھم من أبي ٌ ﷲ عَونُك ،أنا
طالب إلى ابنه الغالم ،ث ّم انصرفوا مستھزئين.
وكان لواء علي مع النبي في ك ّل قتال وكل زحف .وما كانت فروسيته التي توجز معاني الشھامة فيه ،وما كان
دمه وقلبه ولسانه إالّ وقفا ً على ابن ع ّمه النبي وعلى إنجاح الرسالة النبوية .فقد فعل في أعداء مح ّمد األفاعيل
ضمن شروط الفروسية الشريفة .وثبت كالجبل الراسخ أمام صناديد قريش يوم بلغ الفزع من أنصار النبي
وزلزلت قلوبھم وقعة الخندق ،فانكشف عنه خيرة صحبه .فكانت من علي البادرة التي أعادت إلى المسلمين
الثقة بالنصر وآذنت بھزيمة قريش وأبطالھا.
وأكبر بجھاد عل ّي يوم فُتحت على يده حصون خيبر القوية وفيھا من المقاتلين األشداء كل من يُرغب ويخيف
لطول ممارستھم للحرب والقتال .وخالصة ذلك أنه حصار المسلمين لحصون خيبر كان قد طال .وأھل ھذه
الحصون يستميتون في الدفاع عنھا إيمانيا ً منھم بأن ھزيمتھم أمام مح ّمد ھي القضاء العاجل على مؤامرات
بني اسرائيل في جزيرة العرب ،وعلى تجاراتھم وزعاماتھم .فبعث الرسول أبا بكر الصديق إلى الحصن كي
يفتحه .فقاتل قتال البطل المؤمن بصالح القتال .ولكنه رجع دون أن يفتح الحصن .فبعث الرسول عمر بن
الخطاب في الغداة .فكان حظه كحظ أبي بكر أمام الحصن المنيع والمقاتلين األشداء .فدعا الرسول إليه عل ّي بن
أبي طالب وأمره بأن يمضي ويفتح الحصن .فمضى عل ّي إليه وھو ممتلئ غبطة بھذه الخدمة الجديدة للعقيدة
التي تحيا في دمه .فل ّما دنا من الحصن وأدرك أھله أن خصمھم إنما ھو علي بن أبي طالب الذي لم ينھزم في
قتال ولم يثبت له مقاتلون ،خرجوا إليه جماعات فضربه رج ٌل منھم فطرح تُرسه من يده فتناول عل ّي بابا ً ضخماً
وجعله في يده كالترس .فلم يزل في يده وھو يقاتل حتّى فتح الحصن المنيع .ولم يسقط
] [ ٦٧
ھذا الحصن إالّ بعد أن قتل أكثر فرسانه وفي طليعتھم قائدھم الحارث بن أبي زينب.
ولكنّ مثل ھذه البطولة وھذا االستشھاد ،ال يكونان في ساعتھما عمالً ابطيئا ً من شأنه أن يثير في الخيال صور
الموت ومأساة انتظاره! بل يجريان في غمرة من الحماسة الطاغية .وقد يكونان في رعاية الجماعات وتحت
االنظار والقلوب!
أ ّما علي بن أبي طالب ،فما كان أعجب أمره يوم غامر في سبيل عقيدته التي ھي عقيدة مح ّمد بن عبدﷲ ،وفي
سبيل الحق ورعاية الشرف واإلخاء ،ھذه المغامرة التي لم يعرف التاريخ أج ّل منھا ،وأقوى وأروع ،وأد ّل على
وحدة الذات بين عظيم وعظيم.
فعندما اشتدت مساءات قريش وسعى القوم جادّين إلى االجھاز على اإلسالم بقتل الرسول ،ذھب مح ّمد إلى بيت
أبي بكر الصدّيق وأخبره بأنّه عازم على الھجرة ألنّ قريشا ً قد ائتمرت به وتنوي قتله .فطلب الصدّيق أن
يصحبه في ھجرته فأجابه إلى ما طلب.
ول ّما اعتزم الرجالن مغادرة مكة ،كانا على يقين ال يطاه أدنى ش ّك في أنّ قريشا ً ستتبعھما .لذلك رأى مح ّمد ،بما
أوتي من عبقرية في إدراك االمور ،أن يسلك في ھجرته طرقا ً مألوفة لدى القرشيين ،وفي موعد كذلك غير
مألوف.
وفي الليلة ذاتھا التي اعتزم مح ّمد أن يھجر مكة فيھا أعدّت قريش عصابةً
] [ ٦٨
كبيرة من الرجال األشدّاء لقتله ،وأوفد ْتھم لكي يحاصروا داره مخافةَ أن يستتر بالظالم ويف ّر من أيديھم.
وامتثل عل ّي ألمر مح ّمد والغبطة تمأل نفسه كما ھي حاله أبداً أمام كل تضحية يقوم بھا في سبيل الرسول.
وأحاط ھؤالء الرجال من قريش بدار مح ّمد .وأوثقوا حولھا الحصار حتّى ليستحيل على الھواء أن يخرج منھا
شرعة .ثم جعلوا يوصوصون من فرجة إلى فراش النبي فيرون في الفراش رجالً دون أن يم ّر بسيوفھم ال ُم َ
فتطمئنّ خواطرھم إلى أنّ مح ّمداً لم يفر.
ول ّما كان الثلث األخير من الليل ،وكانت عيون ھؤالء ما تزال ترى رجالً راقداً في فراشه ،كان النبي في دار أبي
بكر ليخرج وإياه من َخوخة في ظھرھا وينطلقا إلى غار ثَور حيث لحق بھما رجا ٌل من قريش منع ﷲ عنھم
إدراك الرجلين الكبيرين.
لقد كان عل ّي بمغامرته ھذه استمراراً لمح ّمد .وكانت تضحيته من روح المقاومة التي عُرف بھا ابن عمه
العظيم .وكان مبيته في فراش النبي تزكية للدعوة وحافزاً على الجھاد الطويل! ث ّم إنّ في ھذه المغامرة ما يوجز
الحقيقة عن اإلمام وطباعه ومزاجه ،فإذا ھي صادرة عنه كما تصدر األشياء عن معادنھا دون تكلّف ودون
إجھاد .ففيھا نم ّوه الذھني المبكر الذي جعله يدرك حقيقة الدعوة التي يدق فھمھا صحيحا ً على من كان في مثل
سنّه .وفيھا زھده بالحياة إذا لم تكن عُمراً لمكارم األخالق .وفيھا صدقه الم ّر وإخالصه العجيب .وفيھا عدله
بين نفسه وبين سواه من أھل الجھاد ،وما يتوخاه بذلك من نصرة
] [ ٦٩
للمظلومين والمستضعفين إذا قُتل ھو ونجحت الرسالة على يدي صاحب الھجرة .وفيھا مواجھته لألمور
بسماحة وبساطة ال يعرف معھما إلى الكلفة سبيالً .وفيھا المروءة والوفاء والطيبة والشجاعة وسائر صفات
الفروسية التي يمثّلھا عل ّي بن أبي طالب .بل ھي شيء من استشھاده المقبل!
وتستمر صالت المودة واإلخاء بين مح ّمد وعلي .ويستمر بينھما تعاطي الخير على إنجاح الرسالة؛ ھذا
التعاطي الذي يتماسك في أعماقه ويتحد منذ أن عرف مح ّم ٌد أبا طالب ،ومنذ أن عرف عل ّي مح ّمداً ،ومنذ أن
اجتمع الثالثة في بيت واحد قام على مزايا الشھامة .وما كانت خصائص البيت الطالبي إالّ حافزاً ألبي طالب
علي على فھم عبقرية مح ّمد فھما ً يتمثل لدى األ ّول شعوراً وتضحية ،ولدى الثاني فكراً جباراً وشعوراً
ّ وابنه
ً ً ً
عميقا شامال وتضحية أشبه بصنع المعجزات!
ويحب عليّا ً ھذا الحب الذي يأخذ مصدره من حبّه للرسالة ذاتھا .ث ّم إنّه ال يكتفي
ّ ويدرك الرسول ھذه الحقيقة.
بأن يحبه وحده ،فنراه يحببه إلى الناس في ك ّل ظرف وك ّل مناسبة ليم ّھد له سبيل الخالفة في زمن يأتي ،شرط
أن يدرك الناس قيمة عل ّي بوصفه استمراراً للرسول فينتخبوه اختياراً وحبا ً وثقةً ،ال لكونه ابن البيت الھاشمي
وابن عم النبي .فإن قد اتّقى ھذه العصبية .بل إنه حاربھا جاھداً وحطّم مفاھيمھا تحطيما ً .وكان من جملة
أعماله أ نّه أقصى معظم الھاشميين ،وھم آله ،عن الوالية والعمالة وحظوظ الدنيا بعد أن حرم نفسه ھذه
الحظوظ.
] [ ٧٠
صفة ا إلمام
قال واصفو عل ّي بن أبي طالب وفيھم صاحب ذخائر العقبى ،إنّه كان وھو في تمام الرجولة ،ربعة القامة أميَ َل
إلى القصر .أسمر شديد السمرة .أبيض اللحية طويلھا .أدعج العينين في سعة .حسن الوجه واضح البشاشة
سم ،أغي َد كأنما عنقه إبريق فضة .عريض المنكبين لھما مشاش كمشاش السبع الضاري تبين عضدُه كثير التب ّ
من ساعده بل أُدمجا إدماجا ً .شثن الكفّين ،أبج ّر يميل إلى السمنة في غير إفراط .ضخم عضلة الساق دقيق
مستدقّھا .ضخم عضلة الذراع دقيق مستدقّھا .يتكفّأ في مشيته على نحو يقارب مشية النبي .ويُقدم في الحرب
فيقدم مھروالً اليلوي على شيء .ث ّم إنّ ٠ه كان من القوة الجسدية عيل ما يدھش العقول ،فربما رفع الفارس
بيده فَ َجل َد به األرض غير جاھد وال حافل كأنه يرفع طفالً وليداً .وربما أمسك بذراع البطل فكأنه أمسك بنفسه
فال يستطيع أن يتنفس .واشتھر عنه أ نّه لم يبارز فارسا ً إالّ صرعه مھما كانت قواه بالغة ومھما كان شأنه
ترس
ٌ ويتترس به كأنه
ّ عظيما ً .وقد يحمل الباب الضخم الذي يعيا األبطال بقلبه أو تحريكه فيأخذه بيد واحدة
عادي :وقد يزحزح بيد واحدة الصخر الضخم ال يزحزحه رجال مجتمعون .ث ّم إنّه قد يصيح الصيحة في ميدان
القتال فتنخلع لھا قلوب الشجعان افراداً وجماعات! وكان له من مكانة التركيب صالبة على الطوارئ الجوية فال
س ثياب الشتاء في الصيف أو ثياب الصيف في الشتاء! يبالي ألَبِ َ
] [ ٧١
العظيم ُ
الخلق ِ
ـ شكا أح ُد الناس عل ّي بن أبي طالب إلى عمر بن الخطاب في خصومة ،وكان عمر أميراً للمؤمنين .فأحضرھما
وقال لعل ّي :قف يا أبا الحسن بجانب خصمك! فبداالتأثّر علٮوجه عل ّي .فقال له عمر :أ َكر ِھتَ يا عل ّي أن تقف إلى
جانب خصمك؟ فقال عل ّي :ال يا أميرالمؤمنين! ولكني رأيتك لم تس ﱢو بيني وبينه ،إذ عظّمتَني بالتّكنية ولم تكنّه.
] [ ٧٣
ُ
الخلق العظيم
طنع تجزئةُ الصفات والطباع واالخالق في الكائن الح ّي وال سيما العظيم .فھي متماسكة من الصعب والمص َ
َ ً ً ً ً
متفاعلة يك ّمل بعضھا بعضا ويكون ھذا منھا سببا في ذاك أو نتيجة لذلك ،أو مرادفا ألحدھما أو لِ ِكليھما في
العلّة والنتيجة .لذلك ال تستھدف محاولتي التجزيئية ھذه إالّ عمالً ينقسم في النظرية ويتّحد في التطبيق .وفي
مثل ھذه التجزئة النظرية ما يسمح لي باالستنتاج والتعليل؛ على أن يجري ھذا االستنتاج من طبيعة األشياء
جريا ً عفويا ً بديھيا ً .كل ذلك في تلميح وإيجاز .وغايتنا أن نحيط بشخصية اإلمام عل ّي من نواحيھا جميعاً ،فتكون
معرفتنا لطباعه وأخالقه إطاراً يدور فيه بحثنا .فيما بعد .ولنبدأ بالكالم على عبادة اإلمام ومعناھا.
اشتھر عل ّي بن أبي طالب بتقواه التي كانت علّة الكثير من تص ّرفاته مع نفسه وذويه والناس .وإني ألرى أن
تقوى عل ّي ليست شيئا ً من العبودية المفروضة بحكم الظرف والھوى على أنماط من األتقياء ففيما ترى العبادة
لدى معظم ھؤالء رجع أصداء الضعف في نفوسھم احياناً ،ومعن ًى من معاني التھ ّرب من مواجھة الحياة
تقديس الناس والمجتمع لك ّل موروث
ُ واألحياء احيانا ً أخرى ،وھ َوسا ً موروثا ً ثم مدعوماً ،بھ َوس جديد مصدره
في أكثر األحيان،
] [ ٧٤
األرض والسماء، َ تراھا عند اإلمام أخذاً من كل قوة ووصالً ألطراف الحلقة الخلقيّة التي تشتد وتمت ّد حتى تجمع
روح التم ّرد على ِ ومعنى من معاني الجھاد في سبيل ما يربط األحياء بكل خير .وھي على كل حال شيء من
الفساد يريد محاربته من كل صوب؛ ثم على النفاق وروح االستغالل واالقتتال من أجل المنافع الخاصة من ھذا
الجانب ،وعلى المذلّة والفقر والمسكنة والضعف من الجانب اآلخر .ثم على سائر الصفات ا لتي تميّز بھا
عصره المضطرب والضعف من الجانب اآلخر .ثمه على سائر الصفات التي تميّز بھا عصره المضطرب القلِق.
أولم تكن تقواه من مقتضيات ھذه العالمة لإليمان وھي شي ٌء كثير من روح الشھادة في سبيل ما يراه عدالًَ .
ض
ِ يق ألم ثم، ؟«ينفعك حيث الكذب على ك ر
ّ يض حيث التي يتحدث عنھا بقوله» :عالمة اإليمان أن تؤثر الصدق
يحي شھي َد ھذا الصدق ،إذا َ شھي َد ھذا الصدق وكانت مناف ُع زمانه في غير الصدق؟ بل ِزد على ذلك وقل :ألم
صر في عبادة اإلمام تبيّن له أنّ عليّا ً متمرد في عبادته صحت مقاييس الشھادة على األحياء؟ ث ّم ،إن َمنْ تب ّ ّ
ب وتقواه كما ھو متمرد في أسلوبه في السياسة والحكم ففي عبادته افتتان الشاعر يقف في ھيكل الوجود الرح ِ
صافي النفس ممتلي القلب ،حتى إذا انكشفت له جماالت ھذا الكون تجاوبت وما في كيانه من أصداء وأظالل َ
وموازين ،فأطلق ھذه اآلية الرائعة التي نرى فيھا دستوراً كامالً لتقوى األحرار وعبادة عظماء النفوس» :إنّ
قوما ً عبدوا ﷲ رغبةً فتلك عبادة التجار .وإن قوما ً عبدوا ﷲ رھبةً فتلك عبادة ﷲ العبيد .وإن قوما ً عبدوا ﷲ
شكراً فتلك عبادة األحرار!«.
إن عبادة اإلمام ليست شيئا ً من سلبية الخائف الھارب أو التاجر الراغب العظيم ،الواعي نفسه والكون ،على
أساس من خبرة المج ّرب وعقل الحكيم وقلب الشاعر!
يوجھھم إلى
تجار العبادات في نعيم اآلخرة .كان ّ سبيل الخير اإلنساني العام أو قل في سبيل أمر أج ّل من رغبة ّ
التقوى لع ّل فيھا ما يحملھم على أن يعدلوا وينصفوا المظلوم من الظالم ،فيقول» ،عليكم بتقوى ﷲ ...وبالعدل
على الصديق والعد ّو« .وال خير في التقوى ،في نظر اإلمام ،إالّ إذا دفعتك إلى أن تعترف بالح ّ
ق قبل أن تُشھد
عليه ،وأالّ تحيف على من تبغض وال تأثم في من تحب« وأالّ تخدع أحداً وأن تعفو ع ّمن أساء إليك.
ومن كان معنى العبادة في نفسه ھذا المعنى الب ّد أن ينظر إلى الحياة كما نظر إليھا علي بن أبي طالب! فھي ال
تُبتغى لمتاع وال تُرجى للذة عابرة .بل لما يمكنھا أن تحتوي من أصداء تتجاوب مع النفس الشاملة .لذلك زھد
عل ّي في الدنيا وتقشف .وكان صادقا ً في زھده كما كان صادقا ً في كل ما نتج عن يمينه أو بَ َد َر من قلبه ولسانه.
زھد في لذة الدنيا وسبب الدولة وعلة السلطان وكل ما يطمح لبلوغه اآلخرون ويرون أ نّه مرتَكز وجودھم.
فإذا ھو يسكن مع أوالده في بيت متواضع تأوي إليه الخالفة ال الملك .وإذا ھو يأكل الشعير تطحنه امرأته
بيديھا فيما كان ع ّماله يعيشون على أطايب الشام وخيرات مصر ونعيم العراق وما يمكن للحجاز أن يقدّم وكثيراً
ما كان يأبى على زوجته ان تطحن له فيطحن لنفسه وھو أميرالمؤمنين .ويأكل من الخبز اليابس الذي يكسره
قعلى ركبته .وكان إذا أرعده البرد واشت ّد عليه الصقيع ال يتخذ له ع ّدةً من دثار يقيه أذى البرد بل يكتفي بما ر ّ
من الباس الصيف إغراقا ً منه في صوفية الروح .روى ھارون بن عنترة عن أبيه قال :دخلتُ على عل ّي
بالخورنق ،وھو فصل شتاء وعليه خلق قطيفة ھو يرعد فيه .فقلت :يا أميرالمؤمنين ،إن ﷲ قد جعل لك وألھلك
في ھذا المال نصيباً ،وأنت تفعل ذلك بنفسك؟ فقال :وﷲ ما أرزؤكم شيئاً ،وما ھي إالّ قطيفتي التي أخرجتُھا من
المدينة.
] [ ٧٦
سمع عل ٌي يقول على المنبرَ » :من يشتري مني سيفي ھذا ،فلو كان عندي ثمن إزار ما بُعته« .فقام إليه رج ٌل
و ُ
فقال :أسلفك ثمن إزار!«
وخرج عل ﱞي إلى السوق يقول» :من عنده قميص بثالثة دراھم؟« فقال رجل» :عندي« .فجاء به فأعجبه،
فأعطاه ث ّم لبسه وقال» :الحمد الذي ھذا من رياشه!«
وأتى أحدُھم عليّا ً بطعام نفيس حلو يقال له الفالوذج ،فلم يأكله عل ٌي ونظر إليه يقول» :وﷲِ إنك لطيّب الريح،
حسن اللون ،طيّب الطعم ،ولكن أكره أن أع ّود نفسي ما لم تعت ْد«.
وظل يعيش في بيته عيش الكفاف حتى غدر به ابن ملجم .وإنّ أحداً من رعاياه لم يمت عن نصيب أق ّل من
النصيب الذي مات عنه عل ّي وھو خليفة المسلمين .ولعمري إن صوفية عل ّي ھذه ليست إالّ معنى ومزاجا ً من
أو لم تكن فروسية عل ّي في حقيقتھا تعبيراًعن معاني فروسيته ومزاجھا ،وإن بدا للبعض أنھما مختلفانَ .
شھامة وخلق؟ وجھاداً في سبيل فكرة سامية وإنسانية تتّجه به إلى نصرة المضطھدين والمستضعفين وإلى
انتزاعھم من بين األنياب الضارية؟ وھي إذا كانت كذلك ـ وھي كذلك ـ أفالتأبى عليه أن ينعم في بلد يكثر فيه
االشقياء والتعساء!
ع يوما ً فلم يجدوا في البيت شيئا ً يأكلونه .فخرج عل ٌي ليعمل في وقد روى أحدھم أنّ عليّا ً أصابه وعائلته الجو ُ
وأجر نفسه ليلةً يسقي نخالً بشيء من شعير حتى أصبح واستلم الشعير وطحنوا ثلثه فجعلوا سبيل كسب القوت ّ
نضجه أتى مسكينٌ يرجو طعاما ً فأطعموه .ثم صنع الثلث الثاني فلماُ منه شيئا ً ليأكلوه ويقال له الحريرة .فل ّما ت ّم
ت ّم نضجه أتى آخر يرجو طعاما ً فأطعموه ثم صنع الثالث فأتى أسي ٌر من المشركين فسأل فأطعموه وطووا يومھم
ذلك دون طعام.
] [ ٧٧
وقد حملت ھذه السيرةُ الطيبة عم َر بن عبدالعزيز ـ أحد خلفاء األسرة األموية التي تكره عليّا ً وتختلف له
السيئات وتسبّه على المنابر ـ على أن يقول :أزھد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب!
يبى آجرة على آجرأ وال لبنة على لبنة وال قصبة على قصبة .وأ نّه أبى أن يسكن القصر والمشھور أنّ عليّا ً لم ِ
األبيض الذي كان مع ّداً له بالكوفة لئال يرفع سكنه عن سكن أولئك الفقراء الكثيرين الذين يقيمون في خصاصھم
البائسة .ومن كالم عل ّي ھذا القو ُل الذي انبثق عن اسلوبه في العيش انبثاقا ً» :أأقنع من نفسي بأن يقال
»أميرالمؤمنين« وال أشاركھم مكاره الدھر؟« ويروي ابن األثير أنّ عليّا ً تزوج فاطمة بنت الرسول وما لھما
فراش إالّ جلد كبش ينامان عليه بالليل ويعلفان عليه ناضجا ً لھما بالنھار .فلما صار خليفة قدم عليه ما ٌل من
ٌ
أصفھان فقسمه على سبعة أسھم ،فوجد فيه رغيفا ً فقسمه على سبعة!
***
ويمثل عل ّي ابن أبي طالب الفروسية بأروع معانيھا وبكل ما تنطوي عليه من ألوان الشھامة .واالباء والترفع
أصالن من أصول روح الفروسية .فھما إذن من طبائع اإلمام .لذلك كان بغيضا ً لديه أن ينال أحد الناس باألذى
وإن آذاه .وأن يبادر مخلوقا ً باالعتداء ولو على ثقة بأنّ ھذا المخلوق إنّما يقصد قتله .وروح االباء والترفّع ھذه
ھي التي ارتفعت به عن مقابلة االمويين بالسباب يوم جعلوا يرشقونه به .فليس من خلق العظيم أن ينال َمن
ناصبوه العداء بالسباب ولو سبّوه .بل إنّه منع على أصحابه أن ينالوا األمويين بالشتيمة المقذعة .فھو ما كاد
يسمع قوما ً من أصحابه ھؤالء يسبّون أھل الشام أيام حروبھم بصفين ،أل نّھم سايروا الغدر وماشوا الخديعة،
حتى قال لھم» :إني أكره لكم
] [ ٧٨
أن تكونوا سبابين ،ولكنكم لو وصفتم اعمالھم وذكرتم حالھم كان أصوب في القول ،وأبلغ في العذر ،وقلتم
مكان سبكم إياھم :اللّھ ّم احقن دماءنا ودماءھم واصلح ذات بيننا وبينھم ،واھدھم من ضاللتھم حتى يعرف
الحق من جھله ،ويرعوى عن الغ ّي والعدوان من لھج به«.
ومروءة اإلمام أندر من أن يكون لھا مثيل في التاريخ .وحوادث المروءة في سيرته أكثر من أن تعد منھا أنّه
أبى على جنده وھم في حال من النقمة والسخط أن يقتلوا عد ّواً تراجع ،وأن يتركوا عدواً جريحا ً فال يسعفوه
كما أبى عليھم أن يكشفوا ستراً أو يأخذوا ماالً .ومنھا أ نّه صلّى في وقعة الجمل على القتلى من أعدائه وطلب
لھم الغفران .وأ نّه حين ظفر بأل ّد اعدائه الذين يتحينون الفرص للتخلص منه ،وھم عبدﷲ بن الزبير ومروان
بن الحكم وسعيد بن العاص ،عفا عنھم وأحسن إليھم وأبى على أنصاره أن يتعقّبوھم بسوء وھم على ذلك
قادرون .ومن حوادث المروءة ھذه أنّ عليّا ً ظفر بعمرو بن العاص ،وھو ال يقل خطراً عليه من معاوية بن أبي
سفيان ،فأعرض عنه وتركه ينجو بحياته ويستمر في مؤامرته ضده ،ألنّ عمراً ھذا رجاه ،على أسلوب خاص،
أن يعفّ عنه وقد أصبح ذو الفقار فوق ھامته! ولو قضى عل ّي على عمرو آنذاك لكان قضى على المكر والدھاء
وجيش معاوية! وفي معركة صفين ،حاول معاوية وجماعته أن يميتوا عليّا ً عطشاً ،فحالوا بينه وبين الماء
ومنا ً وھم يقولون له :وال قطرة حتى تموت عطشا ً! ولكن ،ما كان من أمره وأمر جيش معاوية بعد ذلك؟ كان أن
حمل عليھم الفارس العظيم فأجالھم عن الماء .ث ّم أتاح لھم أن يشربوا منه كما يشرب جنده .وھو لو منع
عنھمالماء النتصر عليھم وأضطرھم إلى التسليم خشية الموت ظمأ! وعرف مرة أن رجلين من أنصاره يناالن
من عائشة في موقعة الجمل التي أدارتھا عائشة للقضاء عليه فأمر بجلدھما مائة جلدة
] [ ٧٩
ث ّم أقبل على عائشة بعد انتصاره في ھذه الموقعة وودعھا أكرم وداع ،وسار ھو نفسه في ركابھا أمياالً ،ث ّم
أوصى بھا وأرسل من يخدمھا ويخفّ بھا ويوصلھا إلى المدينة مك ّرمة محترمة .قيل أنّه أرسل معھا عشرين
أمرأة من نساء عبد القيس ع ّممھن بعمائم الرجال وقلّدھن السيوف .فلما كانت عائشة ببعض الطريق ذ ّكرت
عليّا ً بما ال يجوز أن يُذكر به .وتأفّفت وقالتَ :ھتَك ستري برجاله وجنده الذين وكلھم بي! فلما وصلت إلى
المدينة ألقى النساء عمائمھن وقلن لھا :إنّما نحن نسوة!
ولما ظھرت حيلة معاوية أطلق اإلمام عل ّي ھذه العبارة التي تصيح أن تكون صيغةً للخلق العظيم ،قال» :وﷲ
ما معاوية بأدھى منھي ،ولكنه يغدر ويفجر ولوال كراھية الغدر لكنتُ من أدھى الناس«.
] [ ٨٠
ومن قوله في التشديد على ضرورة الصدق مھما اختلفت الظروف» :عالمة اإليمان أن تؤثر الصدق حيث
يض ّرك ،على الكذب حيث ينفعك!«
والشجاعة في حدودھا الصحيحة ليست عمالً جسديا ً بل طبعا ً من طباع النفس ومزيّة من مزايا اإليمان.
وشجاعة اإلمام ھي من اإلمام بمنزلة التعبير من الفكرة وبمثابة العمل من االرادة ،ألنّ محورھا الدفاع عن طبع
في الحق وإيمان بالخير!
والمشھور أن أحداً من االبطال لم ينھض له في ميدان .وأن فارسا ً لم يثبت أمامه على صھوة .فقد كان ،لجرأته
على الموت ،ال يھاب صنديداً بالغا ً ما بلغ من القوة والبأس والصولة ورھبة الصيت .بألن فكرة الموت لم تجل
موقف نزال .وإنّه لم يقارع بطالً إالّ بعد أن حاوره لينصحه ويھديه .والمشھور
ِ م ّرة في خاطر اإلمام وھو في
أ نّه أجترأ ،وھو غالم لم يط ّر شاربه بعد ،على عمرو بن عبد و ّد فارسالجزيرة العربية وبطل المشركين المھاب
في مواقعھم مع المسلمين .وكان اجتراؤه العجيب على ھذا الفارس انتصاراً منه للھداية على الغرور ،وعلى
الزھو والخيالء .فلما كانت وقعة الخندق ،في مطلع االسالم ،خرج عمرو مقنّعا ً بالحديد ينادي جيش المسلمين:
من يبارز؟ فھال عليّا ً ھذا التحدّي وأثار عزيمته ،فصاح :أنا له! فقال النبي ،وبه إشفاق عليه لحداثة سنه من
جھة ،ولبأس عمرو من جھة ثانية ،وكان عمرو يساوي ألف فارس في نظر أصحابه وأعدائه ،قال لعل ّي :إنه
عمرو .اجلس! وبعد أخذ ور ّد طويلين ،وبعد أن كرر عمرو نداءه مراراً وھو يؤنب المسلمين ،أذن النبي لعل ّي
فمشى إليه ف ِرحا ً مغتبطا ً .فنظر إليه عمرو فاستصغره وأبى أن ينازله .ث ّم أقبل عليه يسأله من أنت؟ فقال عل ّي:
أنا علي ،ولم يزد .قال عمرو :ابن عبد مناف؟ قال :ابن أبي طالب .فأقبل عمرو عليه يقول :يا ابن أخي،
] [ ٨١
من أعمامك َمن ھو أسنّ ،وإني أكره أن أريق دمك .فقال له عل ّي :لكني وﷲِ ال أكره أن أريق دمك .فغضب
عمرو وأھوى إليه بسيف قال واصفوه كأنّه شعلة نار .واستقبل عل ّي الضربة بدرقته فقدّھا السيف وأصاب
رأسه .ثم ضربه عل ّي على عاتقه فسقط ونھض ،وسقط ونھض ،وثار الغبار ،فما انجلى إالّ عن عمرو وھو
صريع!
وقد سبق التحدّث عن فصول من شجاعته النادرة بعد أن أكتملت رجولته وكيف إنّه كان يخلع أشد الفرسان
صولة وأرھبھم جانبا ً من صھواتھم فيرفعھم بيده في الھوء ويجلد بھم األرض جلداً ،ال جاھداً وال متعبا ً.
وفي نھج البالغة أن معاوية انتبه يوما ً فرأى عبدﷲ بن الزبير جالسا ً تحت رجليه على سريره ،فقعد ،فقال له
عبدﷲ يداعبه:
يا أميرالمؤمنين :لو شئت أن أفتك بك لفعلتُ .فقال :لقد شجعت بعدنا يا أبابكر! فقال:وما الذي تنكره من
شجاعتي وقد وقفتُ في الصفّ إزاء عل ّي بن أبي طالب؟ قال :الجر َم أنّه قَتَلك وأباك بيسرى يديه وبقيت اليمنى
فارغة يطلب من يقتله بھا!
وإذا عرفنا أن عبدﷲ بن الزبير من أشد األبطال بأسا ً ومن ل َد أصحاب الفتنة خصومةً لعل ّي ،أدركنا مدى ما
يص ّوره من شجاعة عل ّي وبطولته ساعةَ أراد أن يبالغ في وصف شجاعته ھو فما رأى أبلغ من أن يص ّور نفسه
لعلي وحرصه الشديد على أن يكتم كل
ّ واقفا ً في صفﱢ من المحاربين إزاء عل ّي! وإذا عرفنا كذلك عداء معاوية
فضيلة من فضائله عمالً بمصلحة ملكه الجديد ،ثم رأيناه يقول ھذا القول ،أدركنا من شجاعة عل ّي ھذا المدى
البعيد الذي حمل معاوية قسراً على االعتراف بما اعترف به.
***
وكان علي ،مع قوته البالغة وشجاعته النادرة ،يتورع عن البغي أيّا ً كان
] [ ٨٢
الظرف فقد أجمع المخبرون والرواة والمؤرخون أنّ عليّا ً يأنف القتال إالّ إذا ُحم َل عليه حمال فكان يسعى أن
يس ّوي االمور مع أخصامه ومن يبادره بالعداوة على وجوه سلمية تحقن الدم وتحول دون النزال .وكان يردّد
على اسماع ابنه الحسن ھذا القول» :ال تدعونّ الى مبارزة«.
ول ّما كان قول اإلمام ال يخرج إال عن معدن صاف ،فقد طالما عمل بوصيته البنه الحسن وعفّ عن القتال إالّ
مك َرھا ً .من ذلك أن جنود الخوارج لما أخذوا يعد ّون العدة ليحاربوه ،ونصحه أحدھم بان يبادرھم قبل أن
يبادروه ،أجاب قائال» :ال أقاتلھم حتى يقاتلوني «.ورأى أن شھامة الفارس وعقيدة المؤمن بالخبر ،ووثبة
االنسانية في روحه ،تقضي عليه بأن يجادلھم لعلّھم قانعون .وفيما كان يعظ قوما ً فيھم كثير من الخوارج الذين
يكفّرونه ،بھرت عظتُه بعض ھؤالء الخوارج فصاح ،وقدأرغمته بالغةُ عل ّي وسحر بيانه على االعجاب
واإلكبار ،قائالً :قاتَلَه ﷲ كافراً ما أفقھه! فھ ّم أتباع عل ّي بقتله ،فصاح بھم يقول :إنّما ھو ّ
سب بسبب أو عف ٌو
عن ذنب!
وقد م ّر بنا ذكر ما كان من شأنه وشأن جنود معاوية ساعة عزم ھؤالء على أن يميتوه عطشا ً .وساعة قابل
سيئاتھم باحسانه فلم يمنع عنھم ورود الماء بلساواھم بنفسه وأتباعه! وله مع معاوية وجنوده أخبار ال يتسع
لذكرھا مجال .وكلّھا تشير إلى عبقرية علويّة خاصة في التورع عن البغي وفي األخذ بالحسنى من ذلك ما رواه
أحد مؤرخي سيرة اإلمام قال:
واتفق في يوم صفين أن خرج من أصحاب معاوية رج ٌل يسمى كريز ابن الصباح الحمري فصاح بين الصفّين
من يبارز؟ فخرج إليه رج ٌل من أصحاب علي فقتله كريز ووقف عليه ونادى :من يبارز؟ فخرج إليه آخر ،فقتله
وألقاه على األ ّول ،ثم نادى :من يبارز؟ فخرج إليه الثالث فصنع به صنيعه بصاحبيه .ثم نادى رابعةً :من يبارز؟
فأحجم الناس جمعيا ً ورج َع
] [ ٨٣
من كان في الصف األول إلى الصفالذي يليه! وخاف عل ّي أن يشيع الرعب بين صفوفه ،فخرج إلى ذلك الرجل
ال ُمد ّل بشجاعته وبأسه فصرعه .ثم قال يُسمع الصفوف :يا أيھا الناس ،لو لم تبدأونا ما بدأناكم ،ثم رجع إلى
مكانه!
ومن ذلك ما جرى يوم موقعة الجمل .فحين اجتمع عليه اخصامه وساروا بجھدھم إليه ،أمر اصحابه أن
يصطفھوا ففعلوا ،فقال لھم» :ال ترموا بسھم وال تطعنوا برمح ،وال تضربوا بسيف ،وأعذروا!« وكان يأمل
ي االمور سلما ً فيحقن الدماء فال يموت من الناس َمن يموت قتيالً! وما ھي إالّ
بذلك أن يجتنب الحرب ويسو ّ
دقيقة حتى رمى رج ٌل من عسكر القوم بسھم فقتل رجالً من اصحاب عل ّي» :فصاح عل ّي» :اللھمأشھد« .ثم
أصيب رجل آخر فقتل ،فقال »اللّھ ّم أشھد« .وأصيب عبدﷲ بن بديل فأتى به اخوه يحمله فقال عل ّي» :اللّھ ّم
أشھد« .ثم كانت الحرب.
] [ ٨٤
والبغضاء .وما كان لعل ّي أن يستنجد الصداقة على العداوة لوال ذلك الفيض العظيم من الوفاء والحنان تزخر به
نفسه ويطغى على جنانه.
ومن الدالئل القاطعة على عاطفة الوفاء العميقة التي كانت تعمر قلب اإلمام ،وعلى دفق المودة في نفسه،
اخباره مع عد ّويه الزبير بن الع ّوام وطلحة بن عبيدﷲ اللذين ألبّا عليه انصاره وض ّماھم إلى اخصامه واندفعا
بھم جميعاً ،وعلى رأسھم عائشة ،إلى قتاله.
فمن ذلك ما رواه الثقاة من المخبرين عن المشاھدين أنصاراً وأخصاماً ،قالوا أنّ الزبير وطلحة ل ّما ّ
ألحا في
حربه وإنكار بيعته والتجنّي عليه في موقعة الجمل المشھورة ،خرج عل ّي إليھما حاسراً ال يحتمي بدرع وال
بسالح ،تدليالً على نوايا السلم التي يُضمر ،ونادى :يا زبير! أخرج إل ّي .فخرج الزبير إليه مدججا ً بالسالح.
وسمعت عائشة ذلك فصاحت :واحرباه! ذلك ألنّھا لم يخالجھا أق ّل شك في أنّ الزبير ال محالة مقتول .فخص ُم
عل ّي مقض ّي عليه بالموت إذا نازله ،مھما كان حظه من الشجاعة عظيما ً ومھما كانت خبرته بالقتال فائقة.
ولش ّد ما دھشت عائشة ومن حولھا وھم يرون إلى عل ّي بن أبي طالب يعانق الزبير!
أخرجك؟
َ وعاد عل ّي يسأل الزبير بلھجة الصداقة القديمة :ويحك يا زبير ،ما الذي
وربما بكى عل ّي في مثل ھذا الموقف! ولكن الزبير استمر في قتال اإلمام حتى صرع .وكان مصرعه على كره
من راعي المودّات ،عل ّي بن أبي طالب!
] [ ٨٥
وكان من حسن وفائه للخلفاء الثالثة الذين سبقوه ،والذين أعانھم برأيه وعمله ومسلكه ومقاله ،أ نّه س ّمى
ثالثة من أبنائه بأسمائھم وھم :أبو بكر وعمر وعثمان.
جار عليه .فإنّ عليّا ً
ولع ّل موقف اإلمام من مقتل خصمه طلحة ال يجاريه في التاريخ موقفُ خصم من خصم له َ
ساعة وقف على جثة طلحة وھو قتيل ،بلغ به الحزن أشد مبلغ ،وبيك أح ّر بكاء ،واندفعت الذكريات العزيزة
على قلبه دموعا ً غزاراً من عينيه ولوعةً محرقة في قلبه .وجعل ينظر إليه ويقول :عزيز عل ّي أن أراك ،يا أبا
مح ّمد ،مج ّدالً تحت نجوم السماء! وتمنّى لو أخذه ﷲ قبل ھذا اليوم بعشرين سنة!
ولكنّ صاحب المودّات لم ير َع اصدقاؤه له مودة .أل نّھم لم يكونوا ليطمعوا بأن يحولوا بينه وبين نفسه ،فيطلق
أيديھم في خيرات األرض دون سائر الخلق.
يقول عل ّي:
وليس عل ّي في ھذا المجال قائالً ثم عامالً .بل ھو القول يجري من طبيعة العمل الذي يُعمل ،والشعور الذي
يحس ،والحياة التي يحيا! فعل ّي أكرم الناس مع الناس .وأبعد الخلق عن أن ينال الخلق باألذى .وأقربھم إلى بذل
ّ
نفسه في سبيلھم على أن يقتنع ضميره بضرورة ھذا البذل! أ َوليست حياته كلھا سلسلة معارك في سبيل
ورثَة االمجاد
المظلومين والمستضعفين ،وانتصاراً دائما ً للشعب دون من يريدونه آلة إنتاج لھم »من السادة َ
العائلية« أ َولم يكن سيفا ً صارما ً فوق أعناق القرشيين الذين أرادوا استغالل الخالفة واالمارة للسلطان والجاه
وتكديس األموال؟ ألم يُضع الخالفة والحياة على األرض أل نّه أبى مسايرة أھل الدنيا في استبعاد إخوانھم
الضعفاء والفقراء والمظلومين؟ أليس عل ّي أعظم الناس
] [ ٨٦
رفقا ً بالناس يوم دفع عنه اخاه عقيالً الذي جاءه يطلب من مال الشعب وآثر أن يلوي عنه اخوه ھذا ويساير
ق حاله؟ اليس عل ّيمعاوية على أن يأذن له في التص ّرف بالقليل القليل من مال الفقير والمظلوم والعامل و َمن ر ّ
أبا ً كريما ً لشعبه في توجييه الوالة والعمال نحو الرفق بالناس والضرب على أيدي المستغلّين من ذوي الوجاھة
والسلطان مشدّداً في ھذا التوجيه مھدداً بالعقاب! أليس عل ّي ھو صاحب ھذه الوصايا المك ّررة في آذان ُوالته :
»أنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجھم فإنھم خزان الرعية! ال تحسموا أحداً عن حاجته وال تحبسوه
عن طلبته! وال تبيعنّ للناس في الخراج كسوةَ شتاء وال صيف ،وال دابّة يعتملون عليھا! وال تضربن أحداً
سوطا ً لمكان درھم!«
أ َوليس عل ّي صاحب العھد الرائع إلى األشتر النخعي عامله على مصر وأعمالھا وفيه يقول» :وال تكونَنّ عليھم
سبعا ً ضاريا ً تغتنم أكلھم فإنّھم صنفان إ ّما أخ لك في الدين ،أو نظي ٌر لك في الخلق! أعطيھم من عفوك وصفحكَ
تبجحنّ بعقوبة!« ثم يقول له» :وامنع
َ تحب أن يعطيك ﷲُ من عفوه وصفحه .وال تندمنّ على عفو وال ّ مثل الذي
من االحتكار« .وتشديد علي في منع االحتكار كان من االسباب البعيدة في ما كان من أمره وأمر معاوية
وأنصاره فھؤالء يريدون الملك والمال والمغانم ألنفسھم ،وعل ّي يريدھا جميعا ً للشعب.
وبلغ عل ّي من الرفق بالناس وطلب العذر لھم عما يفعلون أن حاربه أھ ُل البصرة وضربوا وجھه ووجوه أوالده
بالسيوف وسبّوه ولعنوه ،فلما ظفر بھم رفع السيفَ عنھم وأدخلھم في أمانه .ومن ذلك أيضا ً أنّه أوصى خيراً
بقاتله األثيم ابن ملجم على ما سنرى.
وجاء في وصيته للحسن والحسين» :قوال الحق .وكونا للظالم خصما ً وللمظلوم عونا ً«.
] [ ٨٧
أوصاھما بأن يكونا للظالم خصما ً ولو كان من ذويھما وأن يكونا للمظلوم عونا ً ولو كان من أقاصي األرض!
سعى عل ّي في تحطيم الظالمين وفي رفع الحيف عن المستضعفين :سعى لذلك بقلبه ولسانه وحسامه ودمه!
وكان ال يساير في ھذا السبيل وال يھادن ولو فقد حياته!
علي أعدل الناس ،بل الغريب أن ال يكونه! وأخبار عل ّي في عدله تراث يش ّرف المكانة
ّ وليس غريبا ً أن يكون
ً ً
اإلنسانية والروح اإلنساني من ذلك ما م ّر بنا من أنه أخاه عقيال أراد منه ماال يجريه من مال الشعب .فأبى
اإلمام عليه ذلك ألنّ المعوزين أجدر بھذا المال وھو مالھم وھدّده اخوه بأن يتركه إلى خصمه معاوية فما أثّر
ذلك في نفسه وال بدّل من أمره فأقبل أخوه على معاوية وھو يقول» :معاوية خير لي في دنياي!«
وكان معاوية عند رأي عقيل فيه! فقد كان بيت المال في نظر معاوية سالحا ً في يديه يم ّكن به من سلطانه
ويفدي به مسلكه ويستعيد به امجاد اميّة السالفات.
وكان اإلمام يأبي الترفّع عن رعاياه في المخاصمة والمقاضاة .بل أ نّه كان يسعى إلى المقاضاة إذا وجبت
لتشبّعه من روح العدالة .من ذلك أ نّه وجد درعه عند عرب ّي مسيحي من عامة الناس .فأقبل به إلى أحد القضاة
واسمه شريح ،ليخاصمه ويقاضيه .ول ّما كان الرجالن أمام القاضي قال عل ّي :إنّھا درعي ولم أبع ولم أھب!
فسأل القاضي الرجل المسيحي :ما تقول فيما يقول أميرالمؤمنين؟ فقال العربي المسيحي :ما الدرع إالّ درعي
وما أميرالمؤمنين عندي بكاذب! وھنا التفت القاضي شريح إلى عل ّي يسأله :ھل من بيّنة تشھد أنّ ھذه الدرع
لك؟ فضحك عل ّي وقال :أصاب شريح ،مالي بيّنة! فقضى شريح بالدرع للرجل المسيحي ،فأخذھا ومشى
وأميرالمؤمنين ينظر إليه! إالّ أنّ الرجل لم
] [ ٨٨
يخطُ خطوات قالئل حتّى عاد يقول :أ ّما أنا فأشھد أنّ ھذه أحكام أنبياء! أميرالمؤمنين يدينني إلى قاضى يقضي
عليه! ثم قال :الدرع وﷲِ درعك يا أميرالمؤمنين وقد كنتُ كاذبا ً فيما ادّعيتُ ! وبعد زمن شھد الناس ھذا الرجل
وھو من أصدق الجنود وأش ّد االبطال بأسا ً وبالء في قتال الخوارج يوم النھروان ،إلى جانب اإلمام عل ّي!
كنت على بيت مال عل ّي بن أبي طالب ،وكاتبه .فكان في بيت ماله عقد لؤلؤ كان أصابه يوم البصرة .فأرسلت
إل ّي بنت علي بن أبي طالب ،فقالت لي :إنّه قد بلغني أنّ في بيت مال أميرالمؤمنين عقد لؤلو ،وھو في يدك،
وأنا أحب أن تعيرنيه اتج ّمل به في يوم االضحى ،فأرسلتُ إليھا :عاريةً مضمونةً مردودة بعد ثالثة أيام يا بنت
أميرالمؤمنين .فقال :نعم ،عارية مضمونة مردودة بعد ثالثة أيام .فدفعته إليھا ،وإذا أميرالمؤمنين رآه عليھا
فعرفه ،فقال لھا :من اين جاء إليك ھذا العقد؟ فقالت :استعرته من أبي رافع خازن بيت مال أميرالمؤمنين
ألتزيّن به في العبد ثم أردّه .فبعث إل ّي أميرالمؤمنين ،فجئته ،فقال لي :اتخون المسلمين يا ابن رافع؟ فقلت:
معاذ ﷲ أن أخون المسلمين! فقال كيف أعرت بنت أميرالمؤمنين العقد الذي في بيت مال المسلمين بغير أذني
ورضاھم؟ فقلت :يا أميرالمؤمنين ،إنّھا بنتك ،وسألتني أعيره تتزيّن به ،فأعرتھا إياه عارية مضمونة مردودة
على أن ترده سالما ً إلى موضعه! فقال :ردّه من يومك ،وإياك أن تعود إلى مثله فتنالك عقوبتي! فبلغت مقالته
ابنته ،فقالت له :يا أميرالمؤمنين ،أنا بنتك وبضعة منك ،فمن أحق بلبسه مني؟ فقال لھا :يا بنت أبي طالب ،ال
تذھبي بنفسك عن الحق ،أك ّل نساء المھاجرين واألنصار يتزيّن في مثل ھذا العيد بمثل ھذا؟! فقبضه منھا
ورددتُه إلى موضعه.
] [ ٨٩
وتجري في روحه العدالة حتّى أمام أبسط األمور .فھو إذا استوى وأخ َذ الناس في ح ّ
ق باختيا ِر متاع من أمتعة
الدنيا آثر أن يكون ھذا االختيار من نصيب غيره لئالّ يشعر ھذا الغير بأن النصيب األوفر من الحقوق مالزم
للكبير دون الصغير .من ذلك أ نّه ذھب يوما ً إلى أبي النوار ومعه غالمه .فاشترى من أبي النوار قميصين
اثنين ،ثم قال لغالمه :اختر ايّھما شئت! فاختار الغالم أحدھما ،وأخذ عل ّي اآلخر!
ووصايا اإلمام ،ورسائله إلى الوالة تكاد تدور حول محور واحد ھو :العدل وما تواطأ الناس عليه ،أباعد
وأقارب ،إالّ أل نّه ميزان العدالة الذي ال يميل إلى قريب وال يساير نافذاً وال يجوز فيه إالّ الحق .فإن عثمان بن
عفان ل ّما ول ّي أمر المسلمين اطلق ايدي األقارب واألعوان والصحابة في كل مورد من موارد الجاه والثروة،
منقاداً بذلك إلى آراء بطانة السوء وكان مروان اشدّھم تأثيراً عليه .فخالف بما فع َل الوصية الحكيمة التي
اوصى بھا أبو بكر الصدّيق خليفته عمر بن الخطاب إذ قال له» :إحذر ھؤالء النفر من أصحاب رسول ﷲ)صلى
وأحب ك ّل امرئ منھم نفسه!«
ّ ﷲ عليه وآله( ،الذين انتفخت أجوافھم وطمحت أبصارھم
وكان في نفس عل ّي شيء من ھؤالء الذين انتفخت أجوافھم .فلما صارت الخالفة إليه أبى إالّ أن يعدل فيھم،
فعزل منھم من عزل ،وأبعد عن السلطان واالحتكار من أبعد .وحارب كل من تحدثه نفسه بأن يح ّول الرسالة
لتصب في بيته ماالً وسلطانا ً! وطالما ردّد على اسماع ھؤالء قوله الرائع» :إني
ّ عن مجاريھا الطبيعية العادلة
ألعرف ما يصلحكم ولكن ال اصلحكم بفساد نفسي!«
وكان من شأنه وشأن ھؤالء ما كان ،حتى انھزم الظالمون في حكوماتھم وإن انتصروا بالحيلة والظرف .وحتى
انتصر العدل في قلب عل ّي وقلوب اتباعه وإن ظُلموا وظُلم!
] [ ٩٠
وحين مات عل ّي من طعنة ابن ملجم األثيمة ،رثته أ ّم الھيثم النخعية بقصيدة باكية ،منھا ھذا البيت الذي يص ّور
نظرة الناس إلى عل ّي ومعرفتھم بعدله المش ّرف:
العدا واألقربينا
ق ال يرتاب فيه *** ويعد ُل في ِ
يقيم الح ّ
وعل ّي ھو القائل:
***
ق عند عظماء الناس .وھي عند عل ّي ھذا الخلق التّصالھا ،في ينابيعھا ،بكل طباعه الباقية .فھي والصراحة خل ٌ
والصدق واالخالص والمروءة وما إليھا أخوات .فمن صراحته أ نّه لم يكن يخفي شيئا ً م ّما يضمر أو يحسب،
وال يُظھر شيئا ً م ّما ال يخفي وال ينوي .وأ نّه لم يكن ليألف الحيلة في معاملة أخصامه المعتدين وھو أعلم الناس
بأنّ في الحيلة الخالص من ھؤالء وم ّما يضمرون له من شر .وفي حديثنا السابق عن صدق اإلمام وإخالصه ما
يُعتبر حديثا ً عن الصراحة المطلقة التي كانت من مزاياه ،وما أكثرھا!
ومن أصول أخالقه أ نّه كان يعتمد البساطة في كل ما يأتيه ،ويمقت التكلف .بل ربما كان ذلك مالك األمر في
طباعه .وكان يقول» :شر اإلخوان من تُكلّف له« .ويقول أيضا ً» :إذا احتشم المؤمن أخاه فقد فارقه« .ويقصد
باالحتشام مراعاة الصديق حتّى التكلّف! وكان ال يتصنّع في رأي يراه أو نصيحة يسديھا أو رزق يھبه أو مال
أصحاب األغراض من استرضائه بالحيلة ،وحتى يسأم المداورون
ُ يمنعه .وكانت ھذه الطبعيّة تالزمه حتى يسأم
المراوغون من أ نّه مصطنع إياھم راض عنھم .فإذا ھم ينسبون إليه القسوة والجفوة والزھو على الناس .وما
كان اإلمام ذا قسوة أو جفوة أو زھو مقصود وغير مقصود!
] [ ٩١
بل كان ما يبدر منه انقياداً للطبع والسجيّة دون تكلّف ودون رياء .ول ّما كان المحيطون به ـ في معظمھم ـ أھل
منافع خاصة ،فقد ساء بھم ظنه فما تكلّف أن يخفي ھذا االستيارء .وليس صدق الشعور وإظھاره زھوراً وليس
جفوة .بل أنّ عليّا ً كان يمقت الزھو ويمقت العجب وال يرضاه .ولطالما نھى ُولدَه وأعوانه وعماله عن الكبر
والعجب .ومن قوله في نصح ھؤالء» :إياك واإلعجاب بنفسك« و »اعلم أنّ اإلعجاب ضد الصواب ،وآفة
األلباب« .كان يمقت التكلّف حتى عند مادحيه .فربما أفرط أحدھم في مدحه فإذا ھو يستوقفه ليقول له» :أنا
دون ما تقول« .وربما أفرط في اتّھامه في نفسه ،فال يتكلّف أن يخفي ما عرف من طويته فيقول» :وفوق ما
في نفسك!« وكرهَ عل ّي التكلّف في محبّيه المغالين كما كره التكلّف في مبغضيه المفرطين ،فقال» :ھلك ّ
في
ومبغض قال) «(١ذلك ألنّ في كل إفراط ظاھرة تكلّف! إنّه ال يتكبّر وال يتواضع ،ألن في
ٌ محب غال،
ّ اثنان:
التكبّر تكلّفا ً وفي التواضع تكلّفا ً كذلك .بل يظھر نفسه كما ھي ،صريحة صراحة الحق وصراحة الطبيعة! وھل
رأيت في الناس من ھو أودع ،وأجمل مسلكاً ،من عل ّي ساعة رآه بعضھم وھو يحمل في ملحفه تمراً قد اشتراه،
فقالوا له :أال نحمله عنك؟ فقال ببساطة العظيم» :أبو العيال أحق بحمله!«
وأنّه لمن الخطأ الشائع أن تع ّد التواضع المقصود فضيلة من فضائل النفس ،بل أنّه شيء من التكلّف المقيت.
ولم يكن عل ّي بالمتواضع ولكنه لم يكن متكبراً .بل كان يُظھر ما في طويته دون أن يحسب للتواضع حسابا ً أو
للتكبر .فكالھما ليس من عدّة العظيم .أما إذا رآه بعضھم متكبراً ،ورآه بعضھم متواضعاً ،فإن الخطأ في الحالتين
خطأ الناس في نظرتھم إليه وتعليلھم أحواله.
١محب غال :متجاوز الح ّد في حبه .مبغض قال :متجاوز الحد في بغضه.
] [ ٩٢
فھو منھا براء .يقول صاحب »عبقرية اإلمام« » :كان يخرج إلى معاوية حاسر الرأس ومبارزوه مقنّعون
بالحديد ،أفعجيب أن يخرج إليھم حاسر النفس وھم مقنعون بالحيلة والرياء؟«
سط.
أ ّما الجفوة فال جفوة في خلق اإلمام ،بل سماحة وتب ّ
ومن خلقه ما تميّز به من سالمة القلب .فھو ال يحمل ضغينة على مخلوق وال يعرف حقداً حتّى على أل ّد اعدائه
ومناوئيه ومن يحقدون عليه حسداً وكرھا ً .فقد م ّر معنا أ نّه نھى أوالده وذويه ،قبيل موته ،أن يقتلوا أحداً من
أقرباء قاتله ابن ملجم .وبكى على خصمه طلحة وكان طلحة ھذا يطلب رأسه .ورثاه بقول صادق المودة ظاھر
اللوعة .وأوصى أصحابه إالّ يقاتلوا الخوارج بالرغم من محاربتھم اياه ،ومن أنّ قاتله أحدھم ،ومن أنّھم نكلوا
باصحابه وأذاقوه وإياھم من األذى قدر ما أذاقه معاوية وعمرو بن العاص وأعوانھما .ذلك ألنّه شعر
باخالصھم لقضيتھم وإن كانوا على خطأ وضالل .ث ّم إنّه ليس في تاريخه وأخباره جميعا ً ما يد ّل على طبيعة
تحقد على األعداء ،حتى أنّه لم يحقد على معاوية نفسه ،محتكما ً إلى الحق في قلبه وإلى الصراحة في لسانه
وإلى السيف في يده .وليس من طبيعة الفروسية أن تحقد وإن كان من طبيعتھا أال تنام على ضيم يلحق بھا وأال
تھجع على ظلم يلحق باآلخرين .ولكن ھذه الطبيعة النبيلة التي ال تحقد حتى على َمن عالنھا العداء وأراد لھا
الموت ،كانت تحاط بالحاقدين الساخطين المفرطين في الحقد والسخط .وأقوال عل ّي الرائعة تفيض باألسى الم ّر
لِما فيه من طيبة وحب ،ولما في اآلخرين من غدر.
وكان من ُخلقه أن يكون كريما ً ال حدود لكرمه .ولكنّه الكر ُم السليم بأصوله وغاياته ال كرم الوالة وذوي
السلطان الذين »يكرمون« بأموال الناس وجھودھم .وھم إذا ُكرموا على ھذا النحو فإنما يكرمون على ذويھم
وأقاربھم
] [ ٩٣
والضاربين بسيوفھم في سبيل ما يملكون .وھم إذا ُكرموا فوق ذلك فلكي يقال فيھم أنھم من أھل الكرم وھي
صفةٌ تزيد المر َء وجاھةً لدى الجماعات وتُكسبه عطفا ً وتستر ما اختلس وتلقي سدالً على جوره الن كان من
أھل الجور وعلى عجزه في سياسة الناس إن كان من ذوي العجز .ھذا اللون من ألوان الكرم الذي ال يختلف
عن الرشوة في معناه ،والذي عرفه أكثر المشھورين بالكرم في تاريخنا سوانا من ذوي الوجاھة والسلطان ،لم
كرمه ھو الكرم الذي يعبّر عن جملة المروءات يعرفه عل ّي بن أبي طالب م ّرة في حياته ولم يأبه له .وإنّما َ
موجھة .ففيما كان يزجر ابنته زجراً شديداً إذا ھي استعارت من بيت اال ّمة قالدة تزيّن بھا ّ متّحدةً في نفسه
جيَدھا أُسوة ببعض البنات في عيد من األعياد ،وفيما كان يزجر أخاه عقيالً إذا ھو طلب إليه أن يمدّه بقليل من
األموال العا ّمة ،وفيما كان يُبعد عنه كل طالب رشوة وكل راغب في عطاء على غير جھد وبغير حقّ ،كان في ما
تمجل) (١يدُه فيتناول أُجرته فيھبھا ألھل ھو ثابتٌ من الروايات ،يسقي بيده النخ َل لقوم من يھود المدينة حتى َ
الفاقة والعوز ،ويشتري بھا األرقّاء ويح ّررھم في الحال .وم ّما رواه الشعب ّي عن لسان عارفيه أنّه كان أسخى
علي
ّ أصح الشھادات في بعض األحوال ،فكيف يكون كرم ّ الناس على الخلق م ّما يملك .وإذا كانت شھادة الخصم
وقد شھد به معاوية بن أبي سفيان الذي يجتھد في وصمه وعيبه قائالً» :لو ملك عل ّي بيتا ً من تبر وبيتا ً من تبن
ألنفذ تب َره قبل تبنه!«
***
وبعد ،أفليس من متممات ھذه الصفات النبيلة ،ومن مزايا الفروسية العلوية ،ومن متممات العبقرية األدبية
التي سيأتي الكالم عليھا ،أن تقترن جميعا ً بھذه
١تمجل يده :تنفط من العمل ويظھر فيھا المجل .والعامة تقول :بقبقت.
] [ ٩٤
الثقة بالنفس التي عُرف بھا اإلمام! بل أنّ الثقة شيء مالز ٌم بالضرورة لھذه الخصائص .فاإلمام يعمل وھو
ق فيه .فليس تصدّيه لفارس الجزيرة عمرو بن ودّ ،والنبي وأصحابه مطمئن إلى نبل العمل وصراحة الح ّ
يحذرونه من سوء المصير ،إالّ شاھداً على ھذه الثقة بالشجاعة التي تمتلىء بھا نفسه .وخروجه إلى الصالة ّ
دون أن يصطحب من يقيه خطر األعداء وھم كث ٌر حواليه ،حتّى أدركه ابن ملجم وضربه بالسيف المسموم،
أليس شاھداً ھذه على الثقة بالحق التي تفيض به جوارحه! وسيرته كلھا ،اليست سلسلة من أعمال وأقوال تد ّل
على أن الرجل إنّما ھو مطمئنّ إلى الصالح ما يعمل ،عنيد في ھذا االطمئنان ،ألنّ عمله وقوله نابعان من عقل
جبار ،وخلق عظيم!
سھا في نفسه ،وفي فيض من إيمانه بعدله ،وفي حال من اختالف الناس فيه وفي ج ّو من ھذه الثقة األصيلة يح ّ
فال يبدّل من موقفه وال يلين ،قال» :لو ضربتُ خيشوم المؤمن بسيفي ھذا على أن يُبغضني ما أبغضني .ولو
صببتُ الدنيا بج ّماتھا) (١على المنافق على أن يحبني ما أحبّني !« وفي مثل ذلك يقول أيضا ً» :إني وﷲ ،لو
ع) (٤األرض كلّھا ،ما باليتُ وال استوحشت!«لقيتُھم) (٢واحداً) (٣وھم طال ُ
وبھذه الثقة الرائعة يقول إلى سھل بن حنيف األنصاري ،وھو عامله على المدينة ،عندما علم أن قوما ً من
أھلھا لحقوا بمعاوية» :أما بعد ،فقد بلغني أن رجاالً م ّمن قبلك يتسلّون إلى معاوية ،فال تأسف على ما يفوتك
من عددھم ويذھب عنك من مددھم .إنّھم ،وﷲِ ،لم ينفروا من جور ولم يلحقوا بعدل!«
٢يعني اخصامه.
] [ ٩٥
مع ُك ّل علم
ـ أق ّل الناس قيمة أقلّھم علما ً اإلمام علي
] [ ٩٦
] [ ٩٧
ثقافة اإلمام
فذ من أفذاذ العقل .وھو بذلك قطب اإلسالم وموسوعة المعارف العربية ليس من علم عرب ّي عل ّي بن أبي طالب ّ
إالّ وقد وضع أصله أو ساھم في وضعه .أما بالغته ،وأما عبقريته في االجتماع ،فسيأتي عليھما قو ٌل كثير .أ ّما
علومه ومواھبه في الفقه والقضاء والعربية وما إليھا ،فھي التي سنتحدث عنھا في ھذا الفصل موجزين،
مضافا ً إليھا ما اقتُضيت إضافته من الكالم على حكمته .وإنّا إذا أوجزنا القول في ھذه السعة من ثقافته وموابھه
فألنّ القائلين فيھا كثير .وألنّ الباحثين قد أوسعوھا درسا ً .وغايتنا في ھذا الكتاب أن نختصر حيث أسھبوا،
ى بعيد ي مد ً ونُسھب حيث أوجزوا أو أھملوا .ولنبدأ بالكالم على القرآن والحديث ،ثم على غيرھما ،لندرك الي أ ّ
أصاب النب ّي في وصفه عليا ً ساعة قال» :أنا مدينة العلم وعل ّي بابھا«.
ُرب ّي عل ّي بن أبي طالب برعاية النبي ابن ع ّمه وتتملذ له .وورث أخالقه وأسلوبه في النظر إلى الحياة والخلق.
صر الحكيم الذي ينفذ إلى
وجرى الميراث في قلبه وعقله سواء بسواء .وعكف على دراسة القرآن دراسة المتب ّ
لباب األشياء فيعي حقائقھا ويستوحيھا .وقد أُتيح له أن يتصرف إلى ھذه الدراسة العميقة النافذة خالل الزمن
الطويل الذي استخلف فيه أبو بكر ،فعمر وعثمان .فإذا ھو يتقن القرآن نصا ً ويحياه جوھراً فيستقيم به لسانه
كما يستقيم جنانه.
] [ ٩٨
ق له فيه غبار .وليس في ذلك ما يُستغرب وقد رافق اإلما ُم النبي أط ّو َل زمن رافقه فيه
أما علمه بالحديث فال يُش ّ
مجاھ ٌد أو صحابي .فسمع منه ما سمعه اآلخرون وما لم يسمعوه .ويقال أنّ عليّا ً لم يكن يروي من الحديث إالّ
ما سمعه بنفسه من الرسول أل نّه كان مطلق اإليمان بأنّ كلمةً واحدة من حديث النبي لم تفت قلبه وأُذنيه .وقيل
لعل ّي» :ما لك أكثر أصحاب رسول ﷲ)صلى ﷲ عليه وآله(حديثاً؟«» :إنّي كنتُ إذا سألته أنبأني وإذا سكت
ابتدأني!«
***
ومن الطبيعي أن يُحسن عل ّي بن أبي طالب اإلسالم فقھا ً كما أحسنه عمالً فإن معاصريه لم يعرفوا من ھو أفقه
سر حلّه
منه وأصلح فتوى .ولعلمه الكثير وفقھه كان موضع ثقة أبي بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب في مكا تع ّ
من المشكالت والمعضالت ،كما كان مرجعھما األخير في االستشارة .وطالما أفاد الخليفان من مشورته وعلمه.
وكما كان مرجعا ً ألبي بكر وعمر في شؤؤن الفتوى ،كان كذلك مرجعا ً لسائر الصحابة .وندر أن نھضت لغيره
حجة أفضل من حجته في مسائل الشريعة. ّ
ولم يقف علم عل ّي بالفقه عند علمه بنصوصه وأحكامه ،بل تجاوزه إلى العلم بأدوات الفقه ومنھا علم الحساب
الذي كانت معرفته فيه تفوق معرفة معاصريه.
وإذا كان أبو حنيفة إمام الفقه األكبر في العصور اإلسالمية التي تلت عصر عل ّي ،فإنّما ھو تمليذ لعلي .فقد قرأ
أبو حنيفة على جعفر بن مح ّمد ،وجعفر تتملذ ألبيه ،إلى أن ينتھي األمر إلى عل ّي بن أبي طالب .وكذلك اإلمام
مالك ابن انس فإنّه تلميذ عل ّي بالتسلسل .فقد أخذ عن ربيعة وربيعة أخذ عن عكرمة وعكرمة أخذ عن عبدﷲ
بن عباس ،وعبدﷲ بن عباس قرأ على عل ّي .وقيل البن عباس استاذ أولئك جميعا ً» :أين علمك من علم ابن
عمك؟«
] [ ٩٩
يُجمع الصحابة علي أنّ النبي قال م ّرة» :أقضاكم عل ّي« .فقد كان عل ّي أقضى أھل زمانه أل نّه كان أعلمھم
بالفقه والشريعة وھما في اإلسالم مصدر القضاء .ث ّم إنّه أوتي من قوة العقل ما يكشف له عن الوجه األكثر
صوابا ً واألش ّد انطباقا ً على المنطق إذا اختلفت الوجوه .كما أوتي من صفاء الوجدان ما ّ
يوجھه في استخدام
علمه في القضاء أصدق توجيه ،فيعدل في الحكم على أساس من العقل والضمير جميعا ً .ومن المأثور عن عمر
بن الخطاب قوله لعل ّي» :ال بارك ﷲ في معضلة لم تحكم فيھا يا أبا الحسن« وقوله» :لوال عل ّي لھلك عمر«.
وقوله أيضا ً» :ال يُفتينّ أح ٌد في المسجد وعل ّي حاضر!«
وسوف نتحدث مطوالً عن عبقرية عل ّي في القضاء وع ّما اكتشف من معقوالته ساعة نسوق الكالم على
الموازنة بين عل ّي ومبادئه ،ورجال الثورة الفرنسية الكبرى ومبادئھم.
يتوخون أن ينفذوا من كلّ ولما كان علي بن أبي طالب من الذين ال يكتفون بالنظر في األمور نظراً عابراً ،بل
مشكلة إلى لبابھا ،فقد أمعن النظر في القرآن وموضوعه الدين إمعانا ً ينساق إليه المفكرون انسياقا ً .فإذا به
صر .وما كان لعبقري كعل ّي أن يكتفي من الدين يجعل الدين موضوعا ً من موضوعات التفكير والتأمل والتب ّ
بظاھره من إجراء األحكام وإقامة الحدود وطقوس العبادة .فإذا الناس ـ معظم الناس ـ ينصرفون إلى ظاھر
الدين وإلى نتائجه في المعاملة والقضاء انصرافا ً حسابيا ً أو يكاد يكونه .وإذا عل ّي يفقه الدين ـ إلى جانب فقھه
ع للفكر المحض والدراسة الخالصة والتأمل البعيد .فال ينتھي من التفكير الظاھ ِر من أحكامه ـ على أ نّه موضو ٌ
والدرس والتأمل إالّ ليثق بأن ھذا الدين
] [ ١٠٠
إنّما يقوم على ركائز وأركان تتفاعل وتتقارب وتتحد في أصولھا وحقيقتھا.
من ھنا نشأ علم الكالم أو فلسفة الدين اإلسالمي .ومن ھنا كان عل ّي أول المتكلمين بل أبا علم الكالم ،فإن
األوئل من أصحاب ھذا العلم لم يستقوا إالّ من معين علي بن أبي طالب ،ولم تتوفر لديھم أسبابه إالّ عن طريقه.
وإن األواخر ظلوا يھتدون به ويعتبرونه إمامھم وإمام األ ّولين .فھذا واصل بن عطاء مؤسس المعتزلة وھي
تعطي العقل مداه في موضوعات الدين ،ھو تلميذ أبي ھاشم بن مح ّمد بن الحنفية،َ أ ّول فرقة إسالمية تجاھد ألن
وأبوه تلميذ علي بن أبي طالب .وما يقال في المعتزلة يقال في األشعرية .فإن األشاعرة تالميذ المعتزلة الذين
تلقّوا علمھم عن واصل بن عطاء تلميذ عل ّي بالتسلسل.
ثم أن التص ّوف اإلسالمي واج ٌد أصوله وبذوره في نماذج شتّى من نھج البالغة .وقد استند أھل التص ّوف في
اإلسالم إلى ھذا النماذج قبل أن يعرف المسلمون أھل الفكر اليوناني .وقبل أن ينقلوا إلى العربية فلسفة
االغريق والھنود وغيرھم .و َمن شاء فليرجع إلى حديث أبي العيناء لعبيد ﷲ بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل،
في نھج البالغة البن أبي الحديد ،ففيه كثير من اإليضاح لما ذكرنا.
وكأن ﷲ أراد أن يكون علي بن أبي طالب ركن العربية في علومھا كما كان ركن اإلسالم في علومه .فإن أھل
تبحره فيھا ،ومنطقه السليم ،وقواه
زمانه لم يكن فيھم من يقف إلى جانب اإلمام في علوم العربية .وقد ساعده ّ
الذھنية الخارقة ،أن يبادر إلى ضبط العربية بأصول وقواعد تستند إلى الدليل والبرھان ،م ّما يشير إلى مقدرته
العقلية على الوزن والقياس .فھو بحق واضع األساس في العلوم العربية ومم ّھد طريقھا لك ّل من أتى بعده.
وم ّما يثبته التاريخ أنّ عليّا ً ھو واضع علم النحو .فقد دخل عليه تلميذه وصاحبه أبو األسود الدؤلي يوماً
] [ ١٠١
فرآه مطرقا ً مفكراً .فقال له :في َم تفكر يا أميرالمؤمنين؟ قال :إني سمعتُ ببلدكم ھذا ـ يعني الكوفة ـ لحناً ،فأردت
أن أضع كتابا ً في أصول العربية .ثم ألقى إليه صحيفة فيھا :الكالم اسم وفعل وحرف الخ.
ويروون ذلك على صورة أخرى فيقولون أن أبا األسود الدؤلي شكا إلى اإلمام شيوع اللحن على ألسنة العرب
الختالفھم باألعاجم بعد الفتوحات العربية واالعاجم أھل رطانة ولحن .فأطرق اإلمام ھنيھةً ثم قال ألبي األسود:
اكتب ما أملي عليك .فتناول أبو األسود قلما ً وصحيفة .فقال عل ّي :أن كالم العرب يتركب من اسم وفعل وحرف.
فاالسم ما أنبأ عن المس ّمى ،والفعل ما أنبأ عن حركة المس ّمى ،والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم وال فعل.
وأن األشياء ثالثة :ظاھر ومضمر وشيء ليس بظاھر وال مضمر ،يعني اسم اإلشارة على قول بعض النحاة .ثم
أنح ھذا النحو يا أبا األسود« .ف ُعرف ھذا العلم بعلم النحو من ذلك اليوم.
قال ألبي األسود ُ » :
ومن مزايا عل ّي حدة الذكاء وسرعة الفطنة .ومواقفه االرتجالية الكثيرة تشھد له بقوة البديھة التي لم يكن
يجاريه فيھا أحد .وطالما كان يرسل المثل السائر والحكمة الرائعة وھو يرتجل في أنصاره أو في أعدائه .وربما
كان عل ّي فريد زمانه في سرعة الفطنة إلى معضالت الحساب .وكان معاصروه يعدون ھذه المعضالت ألغازاً
قلما تفقه سرھا العقول وقلّما تدرك إلى حلھا سبيالً .وم ّما يروى في ھذا المجال أنّ امرأة جاءت إليه وشكت من
أمرھا أن أخاھا مات عن ستماية دينار ولم يقسم لھا من ميراثه ھذا إالّ ديناراً واحداً .فقال لھا :لعلّه ترك زوجة
وابنتين وأما ً واثني عشر أخا ً وأنت؟ فكان كما قال!
وفيما كان يخطب ذات يوم على منبر الكوفة ،سأله أحدھم عن رجل مات وترك زوجة وأبوين وابنتين .فأجاب
من فوره :صار ثُمنھا تُسعا ً ! وسميت ھذه الفريضة بالفريضة المنبرية أل نّه أفتى بھا وھو على المنبر.
] [ ١٠٢
وحس أصيل وقوةٌ على الحصر واالستنباط وااليجاز ثم جھد دائب على ّ والحكمة بما ھي نظ ٌر نافذ وعق ٌل محيط
ذلك جميعاً ،إنّما ھي من آثار اإلمام عل ّي .فإنّ له في ذلك ما يجعل له مركزاً جليالً بين حكماء األمم وأفذاذ
التاريخ .ولعمري أن أشباه عل ّي في القدرة على استخراج النظريات من الحوادث وإرسالھا أمثاالً خالدة ،لقلي ٌل
قليل! وقد كان لھذه الحكمة العلوية أبلغ أألثر في توجيه الثقافة اإلسالمية وفي طبعھا بطابع انساني مصدره،
في الدرجة األولى ،اثنان :مح ّمد بن عبدﷲ وعل ّي بن أبي طالب!
وقد أكثر اإلمام من النظر الفلسفي في شؤون الحياة والكون والمجتمع البشري ،وفي أمور التوحيد وااللوھة
والتطلع إلى ما وراء الطبيعة .فكان ،كما م ّر معنا ،مؤسس علم الكالم وفلسفة االلھيات في اإلسالم .وكان استاذاً
ع وشارحون .وفي كتابه اعترف برشده وأصالته كل من لحق به من أصحاب اآلراء والمقوالت وھم له اتبا ٌ
فيض من فرائد الحكمة التي يجلس بھا في الصف األول بين حكماء األمم. ٌ العظيم »نھج البالغة«
وحين قال النبي» :علماء أمتي كأنبياء اسرائيل« ،ألم يكن يقصد عليّا ً بالذات!؟
] [ ١٠٣
اإلمام عل ّي وحقوق اإلنسان
١
] [ ١٠٤
] [ ١٠٥
التجربة القاسية
ـ وﷲِ إني ألعترف بالحق قبل أن أش َھد عليه.
أمرنا صعب مستص َعب ،وال يعي حديثنا إالّ صدور أمينة وأحالم رزينة .اإلمام علي
ـ إنّ َ
صيحة نسفت بُنيانھم نسفا ً ودكت سقوقھم د ّكا ً وق ّوضت جدرانھم تقويضا ً وكانت علىتلو َ
صم آذانھم بصيَحة َ ـو َ
موفورة. ونعمةً وسالما ً برداً والمظلومين المستضعفين قلوب
لإلمام عل ّي بن أبي طالب في حقوق اإلنسان وغاية المجتمع أصو ٌل وآراء تمت ّد لھا في األرض جذور وتعلو لھا
فروع .أ ّما العلوم االجتماعية الحديثة فما كانت إالّ لتؤيّد معظم ھذه اآلراء وھذه األصول .ومھما اتّخذت العلوم
االجتماعية من صور وأشكال ،ومھما اختلف عليھا من مس ّميات ،فإن علّتھا واحدة وغايتھا واحدة كذلك .وھما
رفع الغبن واالستبداد عن كاھل الجماعات .ثم بناء المجتمع على أسس أصلح تحفظ لإلنسان حقوقه في العيش
وكرامته كإنسان .ومحورھا حرية القول والعمل ضمن نطاق يُفي ُد وال يُنسيء .وتخضع ھذه العلوم لظروف
معيّنة من الزمان والمكان لھا األثر األول في تكوينھا على ھذا النحو أو ذاك.
] [ ١٠٦
وإذا رجعنا إلى الماضي ونظرنا في شؤونه على أساس ھذا الواقع ،تَبَيّن لنا أنّ في ك ّل زمن مضى كفاحا ً متّقداً
بين االستبداد والحكم المطلق وھدر حقوق الجماعة وكبت الحريات من جھة ،وبين النزوع إلى العدالة والحكم
المستند إلى الشّورى والعمل على حفظ الحقوق العامة وإطالق الحريات من جھة ثانية .وما كا نت الثورات
القديمة الخيّرة اآلنية من الجانب المظلوم إالّ انتفاضات يقوم بھا المضطھدون والمفكرون للقضاء على ظلم
اجتماعي وإنشاء قواعد جديدة تقوم على أنقاض ھذا الظلم ،وتتفق بمنطقھا وقيمتھا مع الوضع التط ّوري الذي
بلغ إليه المجتمع.
وقد كان لعل ّي بن أبي طالب في تاريخ حقوق اإلنسان شأنٌ أي شأن .وآراؤه فيھا تتصل اتصاالً كثيراً باإلسالم
علي
ّ يومذاك وھي تدور على محور من رفع االستبداد والقضاء على التفاوت الطبقي بين الناس .و َمن عرف
بن أبي طالب وموقفه من قضايا المجتمع ،أدرك أ نّه السيف المسلّط على رقاب السمتبدَين الطغاة .وأ نّه
الساعي في تركيز العدالة االجتماعية بارائه وأدبه وحكومته وسياسته .وبكل موقف له م ّمن يتجاوزون الحقوق
العامة إلى امتھان الجماعة واالستھتار بمصالحھا وتأسيس األمجاد على الكواھل المتعبة.
نضجت في ذھن اإلمام القوي ،فكرةُ العدالة االجتماعية على أساس من حقوق الجماعة التي الب ّد لھا أن تنتھي
بإزالة الفروق الھائلة بين الطبقات التي يُتخم ثريّھا وأميرھا ويضوي فقيرھا وصغيرھا .فكان صوته في معركة
العدالة االجتماعية ھذه مد ّويا ً أبداً ،وسوطه عامالً أبداً ،ودفاعه عن قيّم اإلنسان عظيما ً أبداً ،شديداً ال ھوادة فيه
وال لين .كان في حكومته المث َل األعلى للحاكم الواعي لحقوق اإلنسان في تلك الحقبة من تاريخ البشر .العام َل
على تنفيذ منطوقھا بكافّة ما لديه من وسائل .ولم يكن في ذن اإلمام ما ھو أوضح ـ على وضوح األشياء جميعاً
فيه ـ من واقع المجتمع في زمانه كيف يكون
] [ ١٠٧
ى يأذن الزمان بتطويره! ولم وعلى أي أساس من الغبن االجتماعي يقوم .ثم كيف يجب أن يكون وإلى أي مد ً
يكن في إرادة اإلمام ـ على ما فيھا من الدوافع إلى الخير ـ ما يشغلھا أكثر م ّما يشغلھا السعي في ھذا التطوير.
ولم يكن في المغريات جميعا ً ما يجنَح بھذه اإلرادة عن ھذا السعي .وال في المؤامرات ما يكبت فيھا ق َوة
أحب على قلب اإلمام من أن يُقيم حقا ً ويُزھق باطالً على
ّ االنطالق إلى العمل واإلجادة فيه .فليس ھنالك ما ھو
أساس ال يتزعزع من رأيه في الحق والباطل وموضوعاتھما .وكان صدقه في التفكير والشعور ،ثم إخالصه في
تطبيق ما يفكر به ويشعر ،سببين في أال يعطي ال ُوالة والعمال األقوياء للجماھير والمستضعفين خصوصا ً.
وأمام اإلفتئات على سلطان الحق واقعا ً ما وقع تدبيره من ھوى األخصام واألنصار .وذلك تقريراً لحقوق
اإلنسان الطبيعية في العيش الكريم وفي الحياة الخيّرة ال تشطر الناس شطرين فتُرجي عليھم ستا َرين مختلفين:
وأبيض ضاحكا ً!
َ أسو َد موجعا ً
وقد أدرك في ضوء عقله الجبار ،أن الطبقيّة الماديّة في الناس إن ھي إالّ سبيل لن يؤدي السي ُر فيھا إالّ إلى
سف والنكاية والفجور في الحكم والمعاملة ،ثم غايات ُمنكرة من الجمود في العقل والخبث في النفس .وإلى التع ّ
المنكب على طلب الجاه والثروة بغير
ُ إلى الفساد العريض وسائر األوضاع الملفّقة في ھذا الجانب الغاصب
بالء .كما يؤدي إلى السقم في الحال والشعور بھوان الحياة وسوء الظن باإلنسان ،وإلى التباغض والتحاسد في
الجانب اآلخر الذي يذھب جھده لسواه .وفي الجانبين تستق ّر العوامل المؤدية ،في النتيجة ،إلى انھيار المجتمع
ان طاحنان تنسحق بينھما الكفاءات والحقوق انھياراً ال ش َك فيه .حتى لكأنّ طبقتي المجتمع ھاتين ما ھما إالّ فَ ّك ِ
وتتم ّزق الضحايا!
] [ ١٠٨
سنَن اإلسالم في طلب العدالة والمساواة في الحقوق .وأن يُذلّوا األمويين منھم ،أن يخرج معظمھم على ُ
الجماھير ويستعبدوھا ويلقوا في صفوفھا الخوف من الحاكم والذعر حتّى من المثول بين يديه .وأن يھدروا
دماءھا كما يھدرون حقوقھا إذا وقع ذلك في نفوسھم موقعا ً حسنا ً .وأالّ يعفّوا عن الرشوة وما إليھا ،ثم يبعثوا
عن أنفسھم إرھاصات تُنبي بما ھم ساعون فيه أو مقبلون عليه من تخضيب راياتھم بدماء الذمم والحقوق
العا ّمة وتحويل الخالفة إلى ملك ،وديموقراطية اإلسالم إلى عنجھية ُحكم فردي .وبات ھؤالء بين صالبة اإلمام
علي في العدالة االجتماعية وبين مطامعھم في الرئاسة والوالية والمال ،يسلكون مسلك المقامرين يترقبون
مفاجآت الربح والمغنم بين حين وحين.
ولما كانت قاعدة أولئك القوم ھذا الفيض من المطمع المنحرف وھذا االسلوب في التربّص بالعدالة االجتماعية
للتر ّكز من جديد على قواعد من الوثنية السياسية والوثنية االجتماعية ،كان ابن أبي طالب أمام تجربة قاسية،
غاية في القساوة ،تتشابك عناصرھا وتتداخل ،وتفرض عليه موقفا ً ھو من الصعوبة بحيث يتعسر على صاحبه
ق وأحداث رھيبة .وھو من الخطورة بحيث يترتب عليه، اضطراب وقل ٌ
ٌ مداراة األزمة والخروج منھا والعص ُر
إلى ح ﱟد بعيد ،مصير الخالفة واإلسالم وما يستوجبانه في الناس من فضائل خلقية وعدالة اجتماعية .وھو من
الدقة بحيث يكون المح ّك لشخصية صاحبه وحقيقة مواھبه في الوفاء للحقوق العامة ،ومضاء عزيمته في
إشاعة الفضائل الفردية واالجتماعية ،وطاقته على الصبر والصمود.
كان ابن أبي طالب أمام تجربة أشبه بالتجربة التي م ّر بھا النبي في المعركة القائمة ،يومذاك ،بين السماح
والديموقراطية وإشاعة روح العدل من جانب ،وبين الغدر واالستئثار وعقلية التجار والنبالء من جانب آخر.
كان ابن أبي طالب أمام تجربة قاسية! ولن ھذه القساوة إنما تأخذ معناه وصيغتھا من نظر المراقبين البعيدين.
أما في قلب اإلمام وفي ذھنه فما ھي من
] [ ١٠٩
القساوة بحيث تجعله يحيد عن الطريق التي ارتضاھا مسلكا ً ولو قيد شعرة .فمن أُوتي الطاقة التي آتاھا ﷲُ
عليّا ً ھانت لديه القساوات إالّ قساوة القعود عن إشاعة العدالة وروح الحرية والعمل على زرع الفضائل الخلقية
التي تصون ھذه الحرية وھذه العدالة.
أ ّما مح ّمد بن عبدﷲ ،فيو َم قالوا له» :إن كنتَ جئتَ بھذا الحديث تطلب ماالً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون
أكثرنا ماالً .وإن كنت إنّما تطلب الشرفَ فينا فنحن نس ّودك علينا .وإن كنت تريد ملكا ً ملّكناك علينا« أجاب يقول:
»ما جئتُ بما جئتكم به أطلب أموالكم ،وال الشرفَ فيكم ،وال الملك عليكم .ولكن ﷲ بعثني إليكم رسوالً وأنزل
عل ّي كتاباً ،وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ،فبلّغتكم رساالت ربي .فإن تقبلوه فھو حظّكم في الدنيا واآلخرة.
وإن تردّوه عل ّي ،أصبر ألمر ﷲ حتى يحكم بيني وبينكم«.
وتجار الواليات
ّ الح َكم
أ ّما عل ّي بن أبي طالب ،فماذا كان من شأنه مع ابن أبي سفيان وآكلة االكباد وابن َ
والجيوش المجرورة بالغباوة والمنفعة ،ومع المساومين حتى في حدود العقيدة واالتّجاه؟ لقد ص ّم آذانھم ،ھو
أيضاً ،بھذه الصيحة التي نسفت بنيانھم نسفا ً ود ّكت سقوفھم د ّكا ً وق ّوضت جدرانھم تقويضا ً وكانت على قلوب
ّ
والمعذبين برداً وسالما ً ونعمةً موفورة» :أسفلُكم أعالكم وأعالكم أسلفكم! وﷲِ ما المستضعفين والمظلومين
أمرتُ بالجور ما أ ّم نج ٌم نجما ً! وايم ﷲ ألنصفنّ المظلوم من ظالمه وألقودنّ الظالم بخزامته حتى أورده
] [ ١١٠
منھل الحق وإن كان كارھا ً! وﷲ إني ألعترف بالحق قبل أن أشھد عليه! وﷲ ما أُبالي أدخلتُ على الموت أو
إلي!«)(١
خرج الموتُ ّ
أ ّما عل ّي بن أبي طالب فيوم قالو له :نحن أع ّزة قوم! أجاب يقول» :الذليل عندي عزي ٌز حتى آخذ الحق له.
ي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه!« والقو ّ
ولكنّ ،كيف أطلق ابن أبي طالب قوليه من نطاق البيان إلى نطاق العمل؟ من الفكرة المعقولة إلى التجسيم
ي؟ وماذا كان من أمره وأمر الناس؟
الماد ّ
] [ ١١١
من ھنا
المسيح نظرته العارمة بثورة الحياة على رؤساء أورشليم ،وعلى لحاھم الطويل ِة التي تَحرك في ُ ـ وألقى
ض
وتصرعُھم إلى األر ِ
َ ت وجھه سما ِ
ذنب الشيطان ،ورماھم بقسوة الصاعقة تُرغب الغاصبين في ق َ أطرافھا ُ
صرعا ً عنيفا ً ثم تأكلھم نا ُرھا على شفتيه ،عاصفا ً ھادراً يشتد يقول» :يا مراؤون! يا أوال َد األفاعي! أُريد رحمةً
صادين! تأكلونَ بيوتَ األرامل صفّون من البعوضأ وتبلعون الجمل! ِ
تظلمون الف َعلة والح ّ ال ذبيحة! إنكم تُ َ
ولعلة تطيلون صالتكم!«
جعل اإلنسان من أجل السبت!« ـ »يا مراؤون! يا أوال َد األفاعي! إنّما ُج ِع َل السبتُ من ِ
أجل اإلنسان ولم يُ ِ
يخرج على الناس شاھراً سيفه .أبو ذ ّر ُ ـ ع َِجبتُ لمن ال يج ُد القوتَ في بيته كيف ال
نظ َر عل ّي إلى الوجود نظرةً ال يتعطّل فيھا ح ﱞد من حدود العقل والقلب والجسد .وال يطغى فيھا تأ ّم ُل اإلنسان في
الكون واالندماج في كماالته ،على النظر في حقوق اإلنسان المرتبط باألرض ارتباط عيش وبقاء .أو على النظر
سبيل البقاء وما يقتضيه من مق ّومات.
ِ في حقوق الجماعة المتعاونة المتكافلة في
] [ ١١٢
فھو إ ّما دعا إلى اإلعجاب بروعة الوجود وعجائب الخلق ،دعا في الحين ذاته إلى توجيه األفراد والجماعات
توجيھا ً صحيحا ً يسير بھم في طريق التعاون االقتصادي والتكافُل المادّي الذي يضمن لھم الوصول إلى الخير
األكبر :إلى المحافظة على كرامة اإلنسان المر ّكب من فكر يعمل ،وعاطفة تتح ّرك ،وجسد له عليك ح ّ
ق ولك به
المعنى المادّي من معاني وجودك.
وھو إ ّما سعى في تطھير الضمير وتقديس الشوق وسماحة الوجدان ،راح في الوقت نفسه يسعى في تنظيم
مجتمع عادل له قوانين وضعيّة ھي بمثابة األساس من البناء.
وإن رغبة عل ّي الصادقة في االرتفاع بالمسلك اإلنساني ،وفي تربية العقل والقلب والضمير ،وفي تصفية
الدخائل وإشاعة الفضائل الروحية فيھا؛ أقول إن رغبته في ھذه األمور التي نوجز فنسميھا الفضائل الخلقية،
أو الفضائل الروحية ،ھي التي حملته على أن يبدأ ،قبل الخالفة وبعدھا ،من نقطة انطالق معينة في بنائه
ُ
الخلقي واالجتماعي السليم ،وأعني بھا :تيسير الخبز والماء والكساء والمسكن لھذا اإلنسان الذي يريده في
الخلق الكريم .أو قُل تيسير آلة العيش لإلنسان الذي يدعوه لصفاء الروح!
ذروة ُ
فال يستطيع إعجابا ً بروعة الوجود وال شعوراً بجمال الخلق وقيمة الحياة ،وال يُفرغ إلنماء المعاني اإلنسانية
الشريفة في القلب والوجدان ،ذاك العا ُمل الذي يعمل ـ أيا ً كان نوع العمل ـ وال يقبض أجراً يتكافأ مع جھده ،بل
ي وقح المطمح والھوى! يأكل أج َره محتك ٌر ثر ّ
وال يستطيع إعجابا ً بروعة الوجود وال شعوراً بجمال الخلق وقيمة الحياأ ،وال يفرغ النماء المعاني اإلنسانية
في القلب والوجدان ،ذاك المواطنُ المضطَھد الذي يتلقّى السياط الموجعة من »نبيل« أقام نفسه عليه أميراً
فأتخم حيث جاع ،وأثر حيث فقد القوتَ الضروري .أو من حاكم جاء ليكون
] [ ١١٣
وال يستطيع إعجابا ً بروعة الوجود وال شعوراً بجمال الخلق وقيمة الحياة ،وال يفرغ إلنماء المعاني اإلنسانية
لمكان درھم ال
ِ صاحب الشرطة فيُذلّه
ُ الشريفة في القلب والوجدان ،ذلك العربي ،أو األعجمي ،الذي يدخل عليه
المبذر المسرف على غير حق له حتى بالرغيف ما دا َم المواطنون العاملون ال ّ يقدر على وفائه لـ »أميره«
َ ّ
يملكون أرغفة؛ أو يقتله لقول تلفظ به فما أرضاه ،وينھب رزقه ورزق عياله ليض ّمھا إلى خزانة وال أو
سلطان ،أو ملك من ملوك الزمان!
ال يستطيع أن يتحلّى بالصدق ويمتاز بالطيبة ويعيش في نھجة الفضيلة وينفي من قلبه الحس َد والمقت والحقد
ومظاھر االنحراف عن قوانين الخير .ذاك الذي سلبَه الفق ُر ك ّل فضيلة وأفسد عليه العو ُز كل سكينة في النفس
وك ّل اطمئنان في الخاطر.
يضج
ّ ال يستطيع أن يكون رجالً واثقا ً بجمال الحياة ،مؤمنا ً بعدالة الخلق ،ناصحا ً ألخيه محبا ً لقريبه ،ذاك الذي
لھب اإليمان ويح ّول الحب إلى أحقاد
َ فيمتص من جسمه د َم الحياة ويُطف ُئ في روحه
ّ في معدته سعي ُر الجوع
عميقة ،وطمأنينة الخاطر وصفاء الروح إلى ظنون سوداء ومخاوفَ مقيتة!
ال يستطيع أن يحب فيسمو به الحب ،ذاك الذي تُقيّده أغال ٌل ثقيلة من الشعور بالدونيّة والتبعيّة وزراية الذات،
وھو شعور يرتبط ارتباطا ً وثيقا ً بالحاجة والعوز!
ال يستطيع أن يكون فاضالً ،ذاك الذي يحتاج إلى الرغيف! فالرغيف لجميع الطبقات ھو أداة السالم األولى.
ويحس ويقيم عالقاته بالناس على أساس ّ وھو عدّة االستقرار والنظام واآللة التي تعد اإلنسان ألن يفكر
الشعب من المھبط الذي رماه فيه
ُ صحيح .ورفع الع ّوز ھو السلّم التي يصعد على درجاتھا
] [ ١١٤
***
ينافقون حتى ّ
تكذبھم الشمس الطالعة والقم ُر المضيء وصفاء الينبوع ونبتُ األرض!
ينافقون حتى ّ
تكذبھم إرادة الحياة!
ينافقون إذ يزعمون أنّ أداة السالم بين الناس إنّما ھي البقاء على حالة راھنة من تُخمة ھنا وجوع ھناك ،فما
الحب تتط ّور أبداً وتطلب إلى
ّ تحب أبناءھا حبا ً جماً ،وھي من أجل ھذا
ُ على ال ُم َ
تخم أن يُذعن لمشيئة الحياة التي
أبنائھا أن يتط ّوروا .وما عليه من ثم أن يرضى لحاله وحال الناس تبديالً أو تطويراً .وما على الجائع ،في
زعمھم ،أن يطلب حقا ً له مھضوما ً؛ وأن يثور للقمة العيش تُنتزع من حلق أبنائه لتُلقى فُتاتا ً على موائد
َ
المتخمين!
وأساليب المنافين في المحافظة على أسباب تخمتھم و »أمنھم« من جھة ،وعلى استعباد الجماھير الطاوية
الخاوية من جھة ثانية ،عجيبة وغريبة!
سبل يسلكونھا تُم ّھدھا لھم عقليّةُ ھذا الزمن وصفاتُه .ولع ّل أبرز ھذه السبل في التاريخوللمنافقين في كل زمن ُ
المتوسط والقديم ،ھي ما استغلّوه
] [ ١١٥
من أمور الدين تفسيراً وتأويالً! يستوي في ذلك أھ ُل النفاق من أصحاب المنافع لدى اإلغريق والرومان .وفي
البوذية واليھودية .وفي النصرانية واإلسالم.
سبل ألنّ يستغلّھا المنافقون ،فھي ما يدّعونه من أنّ أنبيا َءھم دَعوا إلى الزھادة في الدنيا وإلى
أ ّما أقرب ھذه ال ُ
التقشّف في العيش وإلى القناعة بالفقر والقعود عن كل طموح.
يدّعون ذلك ويدعون إليه الجماھير ،توفيراً لكنوز األرض يحتبسونھا عن الناس ،وينعمون بھا وحدھم آمنين!
وإزاء ھذا االدّعاء وھذه الدعوة ،الب ّد من توضيح ما نراه صدقا ً وحقاً ،تمھيداً إلدراك األساس الذي بنى عل ّي بن
أبي طالب سياسته عليه ،وأقام دستوره.
صحيح أنّ بوذا ،مح ّرر الحياة العظيم ،كان قانعا ً زاھداً ال تھتفُ نفسه برخاء وال تھفو إلى نعيم .وأ نّه كان
ٌ
يكتفي بأيسر نصيب من المطعم والمشرب والملبس وسائر أسباب العيش!
وصحيح أنّ سقراط لم يكن يبدّل عباءته في الشتاء وال في الصيف ،وال يمنع قسوةَ التراب والحجارة من أن
تنال قدميه الحافيتين ،وال أھوال الطبيعة في الح ّر والق ّر من أن تُصيب رأسه العاري ومنكبيه .وأ نّه لم يلتفت
في حياته م ّرة إلى ناعم من العيش أو ُمريح من المجلس ،وربما قاوم الجو َع والعطش أياما ً طواالً!
] [ ١١٦
للبھائم .ولم تكن له زوجة تفتنُه وال ول ٌد يُحزنه وال ما ٌل يلفتُه ،وال طم ٌع يُذلّه ،دابّتُه رجاله وخادمه يداه!«
وصحيح أنّ مح ّمداً كان »قد قُبضت عنه أطراف الدنيا ووطئت لغيره أكنافُھا ،وفُطم عن رضاعھا ،وزُوي عن
زخارفھا« .وأ نّه كان زاھداً متقشفا ً ال يأكل إالّ خشنَ المأمل وإذا أكل ال يشبع .وأ نّه خرج من الدنيا ـ كما يقول
أبو ذ ّر الغفاري ـ ولم يمأل بطنه في يوم من طعامين .وأ نّه كان إذا شبع من التمر ال يشبع من الخبز ،وقد يم ّر
به ھال ٌل ثم ھالل ال يوقد في بيته نا ٌر لخبز وال لطبخ!
بطمريه ،ومن طعمه بقرصيه« ومن المسكن بما ھو من وصحيح أنّ عل ّي بن أبي طالب كان »مكتفيا ً من دنياه ِ
خصاص الفقراء دون القصور .وأن أخباره في القناعة والزھد أكثر من أن تُحصى وأشھر من أن يقام عليھا
دليل ،ويكفي منھا ما أثبتناه في بعض فصول ھذا الكتاب.
وصحيح أن صاحبه أبا ذ ّر الغغاري كان قانعا ً بأرغفة يابسة من خبز الشعير يأكلھا وزجه وبنيه ،مكتفيا ً بھا راياً
عن حاله ھذا كل الرضا مطمئنا ً إليه كل االطمئنان!
***
صحيح كل ھذا!
ٌ
الصحة .وھو أنّ ھؤالء أصحاب رساالت لھم في ھذه الرساالت ّ غير أنّ ھناك أمراً آخر ھو أيضا ً صحيح كل
نفسھا مادّة االكتفاء والشبع والحياة .فغيرھم ال يُطيق ما يُطيقون ،وال يحمل ما يحملون وال يومض في قلبه ما
خاص ال تقاس عليه أحوال اآلخرين .ثم إنّ لھم
ﱟ يومض في قلوبھم من أنوار مشرقة تُكيّف أحوالھم على نمط
من االھتمام بأحوال الجماعات ما يمنعھم من أن يستكينوا إلى مطعم وملبس ومنام.
] [ ١١٧
أضف إلى ذلك أنك قد تجد في أجسامھم من القوة ما ليس شرطا ً أن يكون في أجسام سائر الناس .فبوذا ،مثالً
كان أقوى الھنود في زمانه كما يروي الرواة .وسقراط كان أوثق المحاربين اإلغريق بنيةً وأرھبھم جانباً
وأجلدھم في القتال .وعل ّي بن أبي طالب كان من القوة الجسدية بحيث نعلم! وسوا ٌء تميّز ھؤالء الزاھدون
بطاقات جسدية خاصة أم لم يتميّزوا ،فإنّ ھنالك أمراً أكثر خطراً في ھذا المجال:
من يطّلع على فصول حياة ھؤالء الرجال ،يدرك أ ّو َل ما يدرك أنھم ثائرون .وأھداف ثوراتھم مستمدّة من
وظروف الناس حولھم وفي العالم .وفي ھؤالء من ِ مجتمعاتھم .وأساليبھم في الكفاح مقيّدةٌ بزمانھم ومكانھم
قُتل بثورته كسقراط والمسيح وعلي بن أبي طالب ،وفيھم َمن لم يتم ّكن المعتدون من قتلھم كبوذا ومح ّمد.
والثائرون قو ٌم ال يمكنھم أن ينعموا في عيشھم ،ألنّ طبيعة الثورة ال تفسح لھم في المجال ألن ينعموا ومن
أول ما يتر ّكز على صاحب الثورة.
شروط النعيم االستقرار .وألنّ ھجوم المحافظين المعادين للثورة إنما يتر ّكز ّ
المالحق المضط َھد ال يمكنه أن ينعم في
َ ق إلى أن ينتصر ،مضط َھد إلى أن تُكتب له الغلبة .والثائر مالح ٌ
َ فھو
العيش ويطلب خيرات الدنيا ،إالّ إذا بلغ غايته من الثورة ،أو تخلّى عنھا.
من ھنا كان زھد ھؤالء االنبياء الثائرين ،وان عزوفھم عن الدنيا.
وھم ،على كل حال ،أحرا ٌر في ما اختاروا ألنفسھم من ألوان العيش وفي ما ارتضوا لھا من طرق االكتفاء.
ق قلي ٌل أو كثير في أن يناقشھم في ما اختاروا ،وفي ما ارتضوا .فقد حملوا أنفسھم على ذلك ولم
وليس ألحد ح ّ
يُ ْح َملوا.
بقي أن ننظر في ما نراه من أقوال يسيرة لدى ھؤالء يدعون بھا إلى الزھد :قلنا إن ھؤالء األنبياء وأمثالھم من
المصلحين في التاريخ ،إنّما كانوا ثائرين
] [ ١١٨
على أسلوب زمانھم في الثورة وفي الكفاح.
فھذه األقوال اليسيرة ألصحاب الرساالت في الزھد والقناعة ،ليست إذن إالّ معالجة استثنائية لحالة موقّتة
مرتبطة بأشخاص معيّنين في زمان ومكان معيّنين .فھي أسلوب في التدبير الموقّت وليست دعوة دائمة إلى
طلب الفقر والعزوف عن الدنيا .وليست تزيينا ً للحاجة ھنا وتوفيراً للتخمة ھناك.
إن أصحاب الرساالت لم يجعلوا من تقشّفھم قاعدةً يسير عليھا الناس .وال من اقتناعھم بأيس ِر ما يمكن من
أدوات العيش وآالته نھجا ً ينھجه اآلخرون ،وسنّة! ولو كان األمر كذلك ـ وھو ليس كذلك ـ لَ َما كان لثوراتھم
أصحاب الوجاھات الموروثة وذوو المال المكنوز والحكم الجائر والفساد العريض.
ُ غاية ولَ َما عاداھم
فليس معقوالً وال مقبوالً أن يثور بوذا أو المسيح أو مح ّمد على مجتمع فيه اآلكل والمأكول ،والظالم والمظلوم،
تخم ،فينسف بنيانه ويد َك دعائمه ،واضعا ً حياته وحياة أنصاره في كفّة النصر أو الموت ،ثم يعودوالجائع وال ُم َ
ويدعو الناس إلى األخذ بما كان من التفاوت والتمايز بين طبقات الناس ،ويزيّن للمتخمين التخمة وللفقراء
الفقر ولكل إنسان ما كان فيه من أحوال البؤس والنعيم.
] [ ١١٩
ولنا من تعاليم أصحاب الرساالت ومن حياتھم ،ما يُخزي المنافقين الداعين إلى الزھد والتقشّف والفقر،
المتستّرين بعبارات ربما اخترعوھا ونسبوھا زوراً إلى أولئك الثائرين.
ولنا من تعاليمھم ومن حياتھم كذلك ،ما يؤيّد مذھبنا في أنھم زھدوا ولكنّھم لم يدعوا إلى الزھد ،وتقشّفوا
وأرادوا للناس جميعا ً نعي َم العيش فال فقير وال مستضعف ،وال آكل وال مأكول .كل ذلك تيسيراً لحياة اجتماعية
عادلة ،وحياة خلقية شريفة.
***
فھذا الروح النق ّي بوذا يھتف في إنجيله بضرورة العمل من أجل سعادة الناس ورخائھم ،ال من أجل إفقارھم
وإلقائھم في جحيم الع َوز الذي يزيّنه بعض المتعبّدين ألبناء األرض! ثم يجعل نفسه مسؤوالً عن البؤس المادّي
في طبقات الناس بقدر ما ھو مسؤول عن البؤس الروحي .ومن أقواله» :عاونوا اآلخرين وابسطوا إليھم
قلوبكم بالمودّة!«
وھذا كنفوشيوس يُطلق ھذه الكلمة الرائعة ،وكأ نّه يلعن الفقر ويجعل التذ ّمر من الحياة منوطا ً به فيقول» :إنّه
خص ھذا العظي ُم جانبا ً
ّ ق على اإلنسان أن يكون فقيراً دون تذ ّمر ،من أن يكون غنيا ً دون غطرسة!« وقد ألش ّ
لحض الناس على االھتمام بالناحية المادية من حياتھم ،دون أن يتكلف تزيين البؤس المادّي ّ تعاليمه من ً ا عظيم
لمن شا َء لھم أن يحيوا في غنى الروح! ومن روائعه الخالدة على الدھر ،ھذه الكلمة التي تجعل الحياةَ على
األرض ،بكافّة متطلبّاتھا التي تكفل لھا البقاء السعيد في شروط ماديّة وروحية على السواء ،ھي كل الصالة:
»حياتي ھي صالتي!«
وھذا سقراط ال يرى بين شروط الحكم ما ھو أج ّل من الشرط الذي يقيّد الحاكم بمنافع العا ّمة فال يستطيع إلى
نھبھم سبيالً .ولو اكتفى للناس
] [ ١٢٠
طاب له أن يرتضي لھم التقشّفَ والزھادةَ كما ارتضاھما لنفسه ،ولَما وضع بما اكتفاه لنفسه من آلة العيش لَ َ
مثل ھذا الشرط .وھو يسعى في إصالح القوانين ،وتوجيه السياسة ،ويھاجم الطغاة والطغيان ،في غاية أساسية
روح الحكم ،كما يجعل المحافظة
َ ھي :رفع الحاجة عن الشعب .ثم إنّه يجعل المساواة في الحقوق والواجبات
عليھا واجب الحاكم .ويشنّ حربا ً على األسباب التي تخلق التمايُز في الثروة بين البلد الواحد ،ويقسو على
األفراد الذين يجمعون المال في غفلة من العا ّمة .ومن اطلع على حوارياته الشھيرة ،رأى في إحداھما إصراره
الحكيم على جعل رفاھية الشعب الماديّة إطاراً يدور فيه عم ُل الحاكمين ومن يطمحون إلى الحكم .من ذلك ما
سوف نراه في حينه ،من االسئلة التي كان يطرحھا على َمن يھيء نفسه لحكم أثينا وتدور في معظمھا حو َل ما
يجب على الحاكم أن يعرفه من مصادر الثروة الماديّة ،ومن طرق استغاللھا وتوزيعھا على أبناء الشعب
استناداً إلى قوانين عا ّمة ال تبيحال الفق َر ھنا والثراء ھناك.
وھذا المسيح ،الثائر األعظم ،يقول» :ليس بالخبز وحده يحيا اإلنسان!« وفي ھذا القول دلي ٌل ساطع على
تعظيمه شأن الخبز ،وعلى أنّ رفع الحاجة وتيسير مادّة البقاء ھي األصل واألساس.
سرون ھذا القول تفسيراً منافقا ً يُبعد الناس عن التفكير في العمل من أجل الخبز ،أو يغريھم بأن ففيما ھم يف ّ
يعملوا وال يأكلوا ألن الدنيا »فانية« وألن النعيم ال يكون نعيما ً حقا ً إالّ في اآلخرة ،يريد المسيح ـ كما ھو واضح
ـ أن يجعل الخبز ھو األساس ،ثم يلفت نظرك إلى أن الخبز ليس وحده قوام
] [ ١٢١
تفرغ ـ بعد حصولك على الخبز ـ إلى صفاء الروح و َدعَة القلب.
الحياة .فعليك إذن أن َ
وكيف ال تكون إرادة المسيح متجھة إلى توفير خيرات األرض لجميع الناس ،وھو ال يجد في الصالة التي دعا
إلى ترديدھا ما ھو أعظم من طلب الخبز ،قائالً» :أبانا الذي في السماواتِ ...
أعطنا خبزنا كفافنا!«
وما كانت رسالة المسيح ـ في أعظم جانب منھا ـ إالّ ثورةً كاسحة على المغتصبين الناھبين المرائين من الكھنة
سوسة على ماء الحياة في والح ّكام والتجار ،الذين يتب ّذخون على جھد الفقير ويعيشون على دمه كما تعيش ال ّ
الشجرة المثمرة! وماذا يعني الثائر األكبر إالّ توفير الخبز والماء والكساء أوالً ،لعا ّمة الناس ،بھذا القول
تخمين من أتباع القياصرة ،في حشد الجريء الذي يصف به »أشراف« أورشليم ،ومنافقيھا ،وكھنتھا ،وال ُم َ
عا ّم عظيم من ھؤالء جميعاً ،ومن غيرھم ،في أش ّد عصور االستعمار الروماني لبالدنا قسوةً وإرھابا ً:
»إنھم يحزمون أحماالً ثقيلةً شاقّة الحمل ،ويضعونھا على أكتاف الناس .وھم ال يريدون أن يح ّركوھا بإصبعھم!
»وكل أعمالھم يعملونھا لكي ينظرھم الناس! فيعرضون عصائبھم ويُعظّمون أھداب ثيابھم ،ويحبون المتّكأ
والمجالس األولى في المجامع ،والتحيّات في األسواق ،وأن يدعوھم الناس :سيّدي ،سيّدي!«
َ األول في الوالئم،
والمسيح ال يقبل صالة ھؤالء المنافقين ألنّھم يأكلون جھد الناس ويمنعون عنھم حقّھم في الخبز .يقول:
»وي ٌل لكم أيّھا الكتبة والف ﱢرسيّون المراؤون ألنكم تأكلون بيوت األرامل ولعلّة تُطيلون صالتكم!«
وما تُمثّل »بيوتُ األرامل« في ذھن المسيح إالّ البيوت التي تض ّم قوما ً جياعا ً ُمعوزين .والفقر والع َوز لعنةٌ على
لسان الثائر األعظم الذي تحدّى
] [ ١٢٢
وبطش استعمارھا ،كما تحدّى كھنة أورشليم وأشرافھا وأمراءھا َ امبراطورية روما وجيوشھا وقوانيھا
وعاداتھم وتقاليدھم جميعاً ،بجسده الناحل ،ونظرته العارمة بثورة الحياة ،وبقسوة الصاعقة تشت ّد على
الغاصبين في قسمات وجھه الشاحب ثم تأكلّھم نا ُرھا على شفتيه ،لتخلّي المكان لقوم ال يأكلون خبز الجائع وال
يشربون ماء الظامىء وال يترھّلون بجھ ِد الناس وال يأتون من روما ليستعمروا بالداً ليست لھم!
تجار العبادات إرادتهإن الثائر األعظم الذي دعا نفسه »إن اإلنسان« تمجيداً لحياة اإلنسان ،والذي ز ّو َر ّ
صب على المستغلّين والمتخمين وأعداء الشعب المتآمرين على لقمة ّ لمنافعھم القائمة بإفقار الناس ،ھو الذي
صادين« ھذه اللعنةَ األبديةَ الجائع وجھد الصانع »الذين يأكلون بيوت األرامل ..والذين يظلمون الفَ َعلة ،والح ّ
س في وجوھھم المسلوخة عن ذنب الشيطان ،وتف ّر َ
ق في لحاھم الطويلة التي تح ّركَ في أطرافھا ُ اآلكلة ،إذ ح ّد َ
الحب في نفسه ـ ما اعتادوه من ّ وجه الدينار والشاھدة على وقاحة ضمائرھم ،وأرذل في نفوسھم ـ بقسوة
تجميد وتقديس ،وأرجفھم عاصفا ً ھادراً يشت ّد يقول:
وإن الثائر األعظم الذي دعا نفسه »ابن اإلنسان« تجميداً لحياة اإلنسان ،ھو الذي سفّه ك ّل ما ال يخدم اإلنسان
ولو نُ ﱢز َل في القوم منزلةَ األمر المقدّس والطقس المعبود .فحين جاءه حش ٌد من اليھود برئاسة كبي ِر ك ّھانھم
يريدون أن يمتحنوه في شؤون عباداتھم ليأخذوا عليه ما يُنكرونه من موقفه فيدينوه ،فيخلّصوا نفاقھم من
صدق ِه وحقارتَھم من عظمته ،ثم حاوروه في أمر يوم السبت وداوروه ،لفّھم جميعا ً بنظرته التي تقسو على
التآمر قسوةً رھيبة ،وص ّوب إلى رئيسھم الجليل قوله:
»يا ُمرائي!«
] [ ١٢٣
وانتفض في الثياب المزركشة جسدّه الكھنوت ّي المقدّس ..فنظر المسيح الثائ ُر إلى
َ صعق الرئيس الجليل...
ف ُ
قداسة رئيس الكھنة من جديد ،ليعريّه من ثوب النفاق من جديد:
»يا ُمرائي! إنّما ُخلق السبتُ من أجل اإلنسان ،ولم يُجعل االنسانُ من أجل السبت!«
وھكذا ،فإن العبادات نفسھا ،والطقوس جميعاً ،إنّما ُخلقت ـ في نظر المسيح ـ لخدمة اإلنسان .وأ ّول ما يُخدم به
اإلنسانُ به اإلنسانُ ھو تمھيد الطريق أمامه للحصول على الخبز.
وإن المسيح الذي اختار لنفسه ھذا اللقب العظيم »ابن اإلنسان« ،ھو الذي يبارك العم َل من أجل الخبز ،ويجعل
أساس كل دين ،ومظھر كل عبادة .أليس ھو الذي قال ـ وقد شاء امتحان اإليمان
َ تيسير آلة العيش لجميع الناس
الحق في النفوس ،وھو لديه اإليمان باإلنسان أ ّوالً ـُ » :جعتُ فاطعمتموني ،عطشتُ فسقيتموني ،كنت غريبا ً
فآويتموني الخ«.
وثورة المسيح في ھذا الشأن أوسع من أن نحدّھا ھنا .فأقواله التي يزجر بھا المتآمرين على لقمة الجائع
ويسوطّ بھا جلودھم ،تمأل االناجيل األربعة .وكذلك أقواله التي يُثير بھا الفقراء والمستضعفين على ناھيبھم
وغاصبي حقوقھم ومستعمري بالدھم!
وأخيراً ،أفلم تكن التھمة الكبرى التي َحم َل كھنةُ اليھود بھا الرومانيين على محاكمة المسيح ثم على قتله ،تلك
الثورة الجارفة التي ألقى بذورھا في قلوب المضطھدين والمستضعفين واألرقّاء وسائر الذين أشرفوا على
الغرق في خص ﱟم تَعس رھيب من الجوع والظمأ وال ُعري والتش ّرد والعبودية!
] [ ١٢٤
الشعب أن يعطي جزيةً لقيصر؟ أليس توفيراً للرغيف الذي ينھبه قيصر وأُمرأؤه َ المسيح
ُ ولماذا منع
والمستعلون على الناس ،من حلق الجائع وبيت المعوز وكفّ اليتم؟
ث ّم ،ألم يتذ ّرع كھنةُ أورشليم لدى ممثّل القيصر ،بضرورة المحافظة على أسلوب القيصر الكبير ـ والقياصرة
الصغار التابعين ـ في نھب .الناس واحتكار ثرواتھم المادّية ،ساعة أبلغوه قائلين» :إذا لم تصلبه فلن تكون
محبا ً لقيصر!«
ألم يقف المسيح في حشد من الخلق فيھم الحاكم والمحكوم ،واآلكل والمأكول ،ليخاطبھم جميعا ً بھذه الكلمات
الخالدات:
والبيت ھو العالم بأسره .وك ّل من في البيت ھم البشر جميعا ً .والسراج الذي يُنير ھنا وال يبعث نوره إلى ھناك
سراج يرسل الحرارة والنور إلى كل زوايأ.
ٌ يجب أن يُحطّم ويوقَد مكانه
ومن ث ّم ،أفال يكون أولئك الذين يز ّورون ھذه اإلرادة الثائرة الحكيمة التي ترغب لطبقات الناس جميعا ً في الح ّ
ق
الوافر في العيش الكريم ،والذين يزيّنون للخلق الزھادة والفقر والقناعةَ التي ال تنتھي ـ ليوفّروا خيرات األرض
لذواتھم المقدّسة ويُقيموا من نعيم األرض في جنائنه الوارفة ـ أفال يكونون مرائين ومنافقين وأوالد أفاعي كما
أسماھم ھو نفسه!!
يضج باآلكل والمأكول ،والناھب والمھوب ،والمستضعف ُ وھذا مح ّمد ،أخو المسيح ،الثائر على مجتمع
والمستعلي ،وبالعاملين على إبقاء التفاوت بين الخلق قاعدةً وأصالً ،وعلى سحق الطبقات الفقيرة بالفقر،
الناس قائالً:
َ يخاطب القرآنُ على لسانه
)فَا ْمشُوا فِي َمنا ِكبِھا َو ُكلُوا ِمنْ ِر ْزقِ ِه( فيأمر باالستمتاع بآلة البقاء وھو
] [ ١٢٥
يخص فئةً من الناس دون فئة وال قوما ً دون قوم .ويقول في مكان آخر: ّ األكل من أرزاق األرض .وھو ال
َ َ َ ً
شقّا فأ ْنبَ ْتنا فِيھا َحبًّا َو ِعنَبا ً َو ق ْ
ضبا ً َو َز ْيتُونا ً َ
شقَ ْقنَا ْاأل ْر َ
ض َ ُ
صبًّا ث ﱠم َ ْ )فَ ْليَ ْنظُ ِر ْا ِإل ْنسانُ إِلى طَعا ِم ِه أَنّا َ
صبَ ْبنَا الما َء َ
ق ُغ ْلبا ً)َ .(١و فا ِك َھةً َو أَبًّا( ).(٢
َو نَ ْخالً َو َحدائِ َ
أ ّما ھو فيقول» :الناس شركاء في ثالث :الماء والكأل والنار« .ويُثيب َمن يعمل ويأمر له بما يحفظ له كرامة
العيش .ويرغب في أالّ يكون على وجه األرض معو ٌز أو فقير .وكان ،حين يجيئه الفيء ،يو ّزعه بين أصحابه
ويُرجئ ابنته فاطمة ويقول :حتى يكتفي الناس أوالً)«(٣
ولن أُطيل الكالم ھنا على موقف مح ّمد من قضية الفقر والغنى .ففي الفصل التالي بيان جل ّي لدعوة اإلنسان في
اإلسالم إلى العمل المنتج الذي يعود بالنفع على صاحبه فال يُعو ّز وال يجوزع وال يبيت فقيراً ،حتى ليَف ُ
ضل
العملال المفي ُد في إسالم محمد ك ّل صوم وك ّل صالة ،كما ھي الحال في مسيحية المسيح! ومح ّمد الذي ال يرتضي
الفقر وال يزيّن الع َوز ھو القائل» :كاد الفقر أن يكون كفراً!« وسوف نبين في الفصل التالي عبقرية مح ّمد في
الوقوف على كثير من أسرار البناء االجتماعي .وفي دعوته إلى أخذ الحياة مأخذاً جميالً قوامه العمل النافع
واإلثابة بالطيّبات.
وھذا أبو ذ ّر الغفاري ،الزاھد القانع المتقشّف ـ وال حق لنا عليه في ما اصطفاه لنفسه من آلة العيش ـ يشنّ
على الفقر حربا ً شعواء .ويقضي شھي َد الدفاع عن حقوق الجماعة في اليُسر .ومن روائعه في ھذا الحرب التي
شنّھا على الفقر و »فلسفة« اإلفقار قوله» :إذا ذھب الفق ُر إلى بلد قال له الكفر :خذني معك! »الكفر بك ّل قيمة
وكل فضيلة وكل عبادة! ومنھا أيضا ً:
] [ ١٢٦
»عجبتُ لمن ال يجد القُوتَ في بيته كيف ال يخرج على الناس شاھراً سيفه!«
***
وفي الزاھدين القانعين الذين أخذوا الناس بالتصيحة و ُولوا أمو َرھم باالرشاد ،عد ٌد عظيم أبَوا على الناس أن
يزھدوا وأن يقنعوا وأن يعيشوا في الحاجة ويتركوا للناھبين خيرات األرض.
وإنّا لنجد ھؤالء حتى في أسفار العبرانيين وإلھم عات متسلّطٌ جبّا ٌر في أكثر األحيان ،ال يُشبه إالّ قليالً إلهَ
المسيح ومح ّمد و »ﷲُ محبّةٌ« عندھما و »رحمنٌ رحيم!«
ِ
فبالرغم من عت ّو إله العبرانيين على الغالب ،ومن جبروته،ترى أنبياء العھد العتيق يسلطون سيف النقمة على
آكلي خبز الفقير ،وعلى الفقير نفسه ساعة يزھد ويقنع ويأبى إالّ الخنوع لمن أقاموا أنفسھم عليه أسياداً.
»ال تصرف طرفك عن المعوز وال تصنع شيئا ً يجلب عليك لعنة اإلنسان
»وإنّما يُنقل الملك من أ ّمة إلى أ ّمة ألجل المظالم والشتائم واألموال
يتوجه بھا إلى قانون الدولة ،فألن حركة ّ توجه يشوع بن سيراخ إلى ضمائر األفراد بھذه الدعوة ،ولم وإذا ّ
التاريخ القاھرة أوقفته عند ھذا الح ّد .وإنّما نريد ھنا أن نُظھر ما نحن بصدَده من القول بأن الزاھدين القانعين
لم يكونوا ليرضوا للناس بما ارتضوه ألنفسھم من آلة العيش اليسير .بل نبّھوا إلى أن الفقر ظل ٌم وأن الفقير
يجب أالّ يقنع إالّ بأن ينال حقّه من العيش الكريم.
اسمع ثانية ما يقوله يشوع بن سيراخ ،الزاھد القانع المتقشّف:
] [ ١٢٧
ثم اسمع ما يقوله في وصف حال الغن ّي وحال الفقير ،وفي القول استنكاراً للفقر ألن صاحبه مظلوم ،وفيه إثارةٌ
مبطّنة:
َ
ويصخب ،والفقير يُظلم ويتض ّرع!« »الغن ّي يظل ُم
»إن كنتَ نافعا ً استغلّك ،وإن كنتَ عقيما ً خذ لك! إن كان لك ما ٌل عاشرك واستنفد مالك وھو ال يتعب!«
وما نجده في سفر ابن سيراخ من دعوة المستضعفين إلى االخذ بحقّھم في األرزاق ،ومن السخط على مستغلي
طبقات الشعب ،نجده كذلك في سفر أيّوب الراضي لنفسه بأن يزھد وأن يقنع .يتحدّث أيّوب عن المنافقين فيضع
محتكري الثروات وھاضمي حقوق الجماعة في طليعتھم ،فيقول في واحد منھم ھذا القول الشديد الوطأة على
أھل البغي واالحتكار:
»قد أبتلع أمواالً إالّ أ نّه يقيئُھا .ﷲ يستخرجھا من جوفه أل نّه ھضم المساكين واستلب البيوت ولم يَبنِھا؛ ك ّل
بقي في أخبائه .تكشف السماوات عن إثمه واألرض ظالم مدّخ ٌر في كنوزه ،وتأكله نا ٌر لم يُنفخ فيھا وتُتلف ما َ
تقوم عليه!«
ويصف أيّوب المحتكرين الذين يعيشون بجھد البائسين وال يتعبون ،وأولئك الذين يحصدون ويعصرون
ويبيتون جياعا ً عطاشا ً ال كسوة لھم وال مأوى ،فيقول ھذا القول الرائع:
] [ ١٢٨
لباس ال كسوةَ لھم في البرد ،فيبتلّون من مطر الجبال وال مأوى لھم فيلطأون إلى الصخور .يخطفون اليتامى
عن الثّد ّ
ي ويرتھنون ما على البائسين فيذھبونَ عراةً ال لباس لھم ويحملون الحزم وھم جائعون يُص َھرون بين
خطوط المحراث ويدوسون في المعاصر وھم ِعطاش!
وفي أنبياء العھد العتيق شاعر عظيم ھو أشعيا الذي بلغ من زھده أ نّه مشى عاريا ً حافيا ً فكان آيةً وأعجوبةً
َ
ثالث سنين.
يقف أشعيا في وجوه الطغاة والمنافقين والمتحكرين وقفة جبّار ال يعثر به جائ ٌر إالّ سقط منكبّا ً على وجھه.
ضھم مع بعض وإالّ ي .ويدعو المدينة إلى أن يعدل أبناؤھا بع ُ ويسوط جلو َد أھل البغي بشاعريّة ّ
فذة وفكر قو ّ
ثقُلت عليھم المعصية وقُلبت وجوھُھم وتدنست من تحتھم األرض فيسقطون وال يعودون يقومون ،وأصبحت
ّ
مدينتھم ُرجمةً وعمرانُھم خراباً.
وما المدينة الظالمة على لسانه إالّ مدينة المنافقين الذين يحتكرون ويغتصبون ،ويأكلون عم َل العامل وجھ َد
الفقير ،ثم يصلّون لربّھم ويُكثرون .يقول أشعيا مخاطبا ً المدينة الظالمة:
يحب الرشوة .ال ينصفون اليتي َم ودعوى األرملة ال تصل إليھم« .ثم يخاطبّ س ّراق .ك ّل
»رؤساؤك شركاء ال ُ
ھؤالء ويھدّد الجائرين الذين يطحنون وجوه البائسين قائالً لھم:
»وي ٌل للذين يشترعون شرائ َع الظلم والذين يكتبون كتابة الجور والزور ليحرقوا حق الضعفاء ويصدّوھم عن
الحكم ويسلبوا حت بائسي الشعب لتكون األرامل مغنما ً لھم وينھبوا اليتامى!«
ثم ينظر أشعيا إلى ھؤالء الذين يحتكرون ثروات الشعب ويستغلّونه ويدعونه إلى أن يزھد ويقنع ،فيرى أ نّھم
يكثرون من االھتمام بالصوم وغيره من فرائض العبادة عندھم ،فيبعث صوته في آذانھم يُجلج ُل قائالً:
] [ ١٢٩
وتسخرون جميع ع ّمالكم .إنكم للخصومة والمشاجرة تصومون ّ »إنكم في يوم صومكم تجدون مرا ّمكم
ولتّضربوا بكلمة النفاق .ال تصوموا لتسمعوا أصواتكم في ال َعالء .أھكذا يكون الصو ُم الذي فيه يُعنّي اإلنسانُ
سح وال ّرما َد تس ّمي ذلك صوماً؟ أليس ھذا ھو الصوم الذي َ
آثره ﷲُ: نفسه؟ أإذا حنى رأسه كالبردي وافترش ال ِم َ
َح ﱡل قيود النفاق وفَ ّك ربط النير وإطالق المضغوطين أحراراً وكسر كل نير؟!«
ّ
يسخرون الع ّمال ليبقى الفقير فقيراً ويزداد الغن ّي غنى ،والذين يربطون قيود النفاق وال وھكذا ،فإنّ صوم الذين
ونير
َ نير البؤسيحلّونھا ،والذين يضغطون على المستض َعفين ويمنعون عنھم أن يحطّموا من أعناقھم َ
العبودية ،إنّ صوم ھؤالء ھو أقبح ضروب التفاھة والنفاق على لسان أشعيا الزاھد!
ويلتفت أشعيا ثانيةً إلى ھؤالء المنافقين ،فيرى أنھم يكثرون من الصالة كما يكثرون من الصوم رياء وخداعاً،
وتق ّربا ً إلى ﷲ عن طريق ھي أقرب إلى الرشوة .فيخاطبھم بلسان ﷲ قائالً:
أحجب عين ّي عنكم .وإن أكثرتم من الصة ال أستمع إليكم ألنّ أيديكم مملوءة من الدماء.
ُ »فحين تبسطون أيديكم
التمسوا االنصاف وأغيثوا المظلوم وارفعوا الحاجة وأنصفوا اليتيم وحاموا عن األرملة!«
وما أروع تصوير أشيعا ألولئك الجائرين ينھبون الضعفاء ويحتكرون جھودھم ثم يزيّنون لھم الزھادة والفقر،
تھذب بھا الريح .يقول:
َ إذ يصفھم بأنھم ليسوا من المجتمع أكثر من زوائد تافھة الب ّد أن
***
١الغفى :ما يكون في الحنطة كالزؤان والتبن يخرج منه فيرمى به .الھافي :الذي تذھب به الريح.
] [ ١٣٠
وھكذا يتّفق الزاھدون القانعون من أصحاب الرساالت و َمن يليھم ،على حقيقة أساسية تقوم بضرورة إصالح
الناس برفع الحاجة المادّية عنھم أوالً ،لكي يفسحوا في المجال لھم في الطريق إلى فضائل القلب .وھم إذا
شبَع والحياة ،على ما تقدّم.
زھدوا وقنعوا فألنھم يجدون في رساالتھم نفسھا مادّة االكتفاء وال ّ
ق الجرأة المعجزة حين يطأ بقدميه وقاحة المستغلّين ،ويسحق كبرياءھم مع فھذا المسيح ،مثالً ،يسلك طري َ
ظھور أولئك الذين بتّوا عھداً مع شيطان االحتكار
َ وط الحيا ِة الغاضب ِة لنفسھا
س ِ
مكايد أيديھم ،ويغشى ب َ
ع إلى واالغتصاب ،وعقدوا ِحلفا ً مع الجور .ويشت ّد على المنافقين كزوبعة مھلكة وعاصف ذا ِ
ت بَ َرد تصر ُ
األرض صرعا ً عنيفاً ،ويخلّع أكتاف المستعمرين الرومان وأكناف قيصرھم ساعة يدعو الضعفاء إلى االمتناع
عن دفع الضرائب ،فتقوده ھذه الجرأة المش ّرفة في طريق الموت على أيدي المنافقين والمستعمرين ،حتى إذا
رجالن من المستضعفين وطلبا إليه أن يكونا عن يمينه وشماله وھو صاعد إلى أُورشليم نظر إليھما ِ جاءه
بعطف يقول:
***
سروا بعض أقوال المسيح وبعض فصول حياته تفسيراً يزيّن الفقر للناس كي يتركوا وكما نافق المنافقون فف ّ
ألنفسھم خيرات األرض ينعمون بھا ُغنما ً حالالً ويحكمون الخلق حكم الطغاة فيأوي إلى بيوتھم سلَ ُ
ب البائسين
»أراد ُوالةُ الحم في تاريخنا ـ في العھد األموري وما بعده ـ ن يدوم لھم النفوذ والسيطرة ،والظلم والطغيان،
فأوعزوا إلى أذنابھم الخونة أن يضعوا أحاديث يصوغون للناس منھا قيوداً وأغالالً تساعدھم على استعباد
األحرار ،واستغالل الجماھير ،فلفقّوا
] [ ١٣١
ولكنّ من اطلع على سيَر األنبياء اطّالعا ً حقاً ،أدرك أنھم أرذلوا الفق َر وألقوا في الجحيم ك ّل من دعا إليه من
المنافقين ،وإالّ ل َما ثار عليھم محافظو زمانھم ولَما التفت حولھم المستض َعفون!
ويقدّم لنا عباقرة العرب األولون شواھ َد ملء أعمالھم تد ّل على فھمھم العميق لطبيعة العالقة بين أعمال الفرد
ونظام المجتمع ،وطبيعة الصالة الوثيقة التي تربط ربطا ً دائما ً بين فعل اإلنسان وأجھزته المادّية .يريدون أن
يقضوا على الخرافة القائلة بفصل األعمال الروحية ،أو النشاط الذھني ،فصالً تا ّما ً عن الحالة المادّية .يريدون
بذلك أن يقضوا على الخرافات المزعجة الشائعة في ھذا الشرق منذ كان الشرق ،والتي تدور حو َل فكرة واحدة
ال تختلف بجوھرھا وإن اختلفت عليھا صي ُغ الكالم وأساليب التعبير :فكرة القناعة على أنّھا كنز ال يفنى! أو
فكرة االكتفاء بما يسميّه أھل الكھانة بـ »الروحانية« دون »متاع الدنيا الزائلة!«
أقول إنّ عباقرة العرب األولين قد أدركوا ھذه الحقيقة فسعوا في تحطيم الخرافة المزعجة التي ما تزال ترھق
شرقنا حتى اليوم :خرافة الدعوة إلى الفقر واالكتفاء بكنز القناعة الذي ال يفنى!! وقد بلغت ببعضھم محاربة
الفقر حداً يثير االعجاب بمقدار ما تثير السخط تلك »الفلسفة« االفقارية التي يبشّر بھا بعض القدّيسين
واألولياء! ولَطالما سعوا في تبرئة ُمقترف الجريمة إذا كان المجتمع ھو المتسبّب في ھذه الجريمة ،وفي تحليل
ما ُح ّرم إذا كان ھذا التحريم علّة في نسبة األثم إلى غير المتسبّب الحقيق ّي فيه .وإليك ھذه الواقعة الرائعة التي
] [ ١٣٢
رأى وجوھا ً أملقت من الدم ،وعيونا ً انطفأ فيھا كل ومض وبريق ،وجسوما ً أعياھا البؤس والشقاء ،فسأل َمن
سيّد ھؤالء؟ ائتوني به!
فلما جاء سيدھم ،عبدالرحمن بن حاطب ،قال عمر :لقد ھممتُ أن أقطع أيدي ھؤالء لوال ما أعلمه من أنكم
تدئبونھم وتجيعونھم حتى إن أحدھم لو أكل ما ح ّرم ﷲ عليه ،لح ّل له! وايم ﷲ إذا أفعل ألغرمنّك غرامةً توجعك
وتزجرك!
ثم سأل صاحب الناقة المسروقة قائالً :كم تساوي ناقتك يا مزن ّي؟ فقال :أربعماية .قال عمر لعبدالرحمن بن
وأعطه ثمانماية .وم ّرةً أخرى ألقى نظرةً نابعة من فطنته ورحمته معا ً
ِ حاطب سيد الغلمان المتّھمين :اذھب
وقال :أ ّما أنتم ،فاذھبوا!
أ ّما عل ّي فسيرتُه حافلةٌ بالسعي في رفع الع َوز عن الناس .ودستوره في الوالية قائم على ھذا األساس .وسوف
يجيء تفصيل ذلك في مكانه .لقد زھد الرجل وتقشّف ولكنّه أبى على الناس أن يعيشوا عيش القانعين بالفقر،
وإالّ لَ َما وقف مواقفه المعروفة من أھل الوجاھات ومغتصبي األموال العا ّمة ،ولَ َما
] [ ١٣٣
أخذ منھم ما ليس لھم ودفعھا إلى أصحابھا أھل العو َز والفاقة.
ويروي الشعب ّي أ نّه دخل الرحبة في الكوفة وھو غال ٌم في غلمان .فإذا ھو بعل ّي بن أبي طالب قائما ً على
ق منه شيء ،ثم ينصرف ولم يحمل إلى ضة .وإذا بعل ّي يقسم المال بين الناس حتى لم يب َ
صبرتين من ذھب وف ّ
بيته قليالً أو كثيراً.
ولكنّ عليّا ً الذي لم يحمل إلى بيته من المال شيئاً ،ھو الذي يخاطب كالًّ من الناس قائالً له:
ومسلك الحق في نظر عل ّي ال يؤدّي إلى ما ھو أج ّل وأعظم من رفع الحاجة عن الناس .وله في ذلك قول صريح
ال يحتمل تأويالً» :لو سلكتم الح ّ
ق من نھجه البتھجت بكم السبل وما عا َل فيكم عائل ـ أي ما أفتقر فيكم فقير!«
عرب الجاھلية ھاجم فيھم قناعتھم بزھيد العيش قائالً :ـ»وأنتم ،معشر العربُ ،منيخون بين َ وھو إذا ھاھجم
حجارة ُخشن ،تشربون الكد َر وتأكلون الجشَب ـ أي الطعام الغليظ الفقير«.
ويص ّرح عل ّي أ نّه ال يأنف الطعا َم الشھ ّي والملبس الناعم والمسكن الغن ّي ولكنّه يأنفھا وفي األرض قو ٌم فقراء
ال يحظون بما يحظى به ھو إن ف َعل .وفي ھذا التصريح دلي ٌل على أ نّه يرغب أ ّو َل ما يرغب في أن يوفّر للناس
نصيبا ً كافيا ً من آلة العيش .وأ نّه مادام في الناس من ال عھ َد له بالشبع وال مطمع له بالقُرص ،فعلى قائد ھؤالء
شبح الفقر عنھم زال عنه ،وإالّ فما معنى القياأد
ُ الناس أن يحمل ما يحملون ،ويعاني ما يعانون ،حتى إذا زال
وما معنى الوالية؟ يقول عل ّي:
وھو ال يمنع عن ابنته أن تتزيّن يوم العيد بعقد من اللؤلؤ إالّ ألنّ عدداً
] [ ١٣٤
من بنات اآلخرين ال يستطعن سبيالً إلى مثل ھذا التزيّن .وقد م ّر بنا كيف أ نّه أم َر ابنته أن تُعيد إلى بيت المال
وقد شاءت أن تزيّن به جيدھا في أحد األعياد ،قائالً لھا:
إذن ،فمن ھنا سيبدأ عل ّي ساعة يؤول إليه أم ُر الجماعة من العمل على تيسير الخبز والماء والكساء للناس
جميعاً ،على أسلوب ھو إلى المناھج االشتراكية أقرب.
وإنّه لمن الطبيعي أن يبدأ عل ّي من ھنا وھو الذي يلحظ أنّ السياط الموجعة التي يضرب بھا ﷲ الناس ،كثيرة.
أوليس ھو صاحب ھذا القول الذي غير أنّ واحداً منھا ال يؤلم ويؤذي كھذا السوط المخيف وأعني :الفقرَ .
يكشف لك عن اإليمان العميق بضرورة رفع الحاجة ،وعن الفھم الصحيح ألحوال الناس وطبائع األشياء
ومقدّمات األمور ونتائجھا .أقول أليس ھو صاحب ھذه الكلمة» :ما ضرب ﷲ عباده بسوط أوج َع من الفقر!«
ھذا الفقر الذي زيّنه بعض الزاھدين ودعوا إليه الناس .فأخطأوا وأساؤوا عن قصد أو غير قصد .والذي حاربه
اإلمام في الناس كما حاربه النبي ،وكما حاربه الثائر العظيم أبو ذ ّر الغفاري رأس شيعة عل ّي وضحيّة بني أميّة
وأسلوبھم في الحكم والسياسة؟
لقد أدرك عل ّي أن الفقر يتحدّى ك ّل فضيلة حتى ليغدو آلة للكفر والجحود .لذلك راح يحارب الفقر في كل مجال
ويأخذ السبيل عليه ويُخزي ك ّل من دعا إليه .فإذا كان المرء فطينا ً فإن »الفقر يُخرس الفطن« في مذھب عل ّي.
وإذا كان الوطن يريد أن يض ّم أبناء مخلصين محبّين ،ال أشتاتا ً من الناس متحاسدين يشعرون شعو َر الغريب
المستوحش ،فعلى ھذا الوطن أالّ
] [ ١٣٥
غريب في بلده« كما يقول عل ّي! وإذا كان الموت أبشع ما يُل ّم باإلنسان من
ٌ يدَع بين أبنائه فقيراً ألن »الفقير
أحداث وجوده ،فإنّه ـ على لسان عل ّي ـ دون الفقر بشاعةً ألن »الفقر ھو الموت األكبر!«
والمجتمع في نظر ابن أبي طالب جس ٌد واحد ال يجوز أن يجمع المتناقضات وأن يقوم نظامه على التفاوت في
الحقوق والواجبات .ال يجوز في مجتمع ابن أبي طالب أن يُتخم عضو ويجوع آخر .وأن يعمل عضو وتجري
ض عليه إالّالمكافأة باألرزاق لغير العامل .وعلى شدة اھتمام ابن أبي طالب بالسماء ،فإن يوما ً واحداً لم يم ِ
ويشغله باالھتمام بعباد ﷲ على األرض فال يھمل من أمورھم يسيراً ،وھم أجمل نماذج الخلق الكامل .وذلك
تمشيّا ً مع نظرته العامة إلى الناس والوجود ،ووصالً لسيرته بسيرة النبي الذي جاء على لسانه القولَ ) :و
َج َع ْلنَا اللﱠ ْي َل لِباسا ً َو َج َع ْلنَا النﱠھا َر َمعاشا ً( .
من ھنا ،وعلى ھذا األساس ،اتّجه اإلمام عل ّي إلى المجتمع يحيي قوانينه ويعمل لھا ويريدھا صالحة خيّرة .ثم
يضع كالًّ من النصح والسيف في موضعه تدعيما ً آلرائه وتثبيتا ً لموقفه من طبقات الناس في زمانه .وراح ال
يُعني بشيء عنايته بتوطيد أركان العدالة االجتماعية .أ َوليس ھو القائل لمھنئيه بالوالية فيما بعد ،وقد دخلوا
عليه فإذا ھو يرفأ نعله بيديه» :إن ھذا النعل ھو خير عندي من واليتكم ھذه إن لم أقم حقا ً وأزھق باطالً!«
] [ ١٣٦
بالعمل في الناس عمال مستقيما ً .وفي طليعة ھذا العمل :المساھمة في توفير الخبز والماء والكساء للمجموعة
البشرية ،وفي رفع الحاجة عن العامة ومحاربة الظالمين وإغاثة المظلومين ،ثم في اعالن حقوق الناس
والدفاع عنھا.
علي مرة على العالء بن زياد الحارثي وھو من أصحابه .فل ّما رأى سعة داره قال له :ما كنت تصنع ّ دخل اإلمام
بسعة ھذه الدار في ھذه الدنيا؟ أما أنت إليھا في اآلخرة أحوج؟ وبَلَى ،إن شئت بلغتَ بھا اآلخرة :تُقري فيھا
الضيف وتصل فيھا الرحم وتُطلع منھا الحقوق مطال َعھا ،فإذا أنت قد بلغت بھا اآلخرة!
يا كميل ،ليس الشأن أن تصلي وتصوم وتتصدق ،وإنّما الشأن أن تكون الصالة بقلب نق ّي وعمل عند ﷲ
مرض ّي ،وانظر فيما تصلّي ،وعالم تصلّي ،فإن لم يكن من وجھه وحلّه فال قبول!«
وإذا كان الفقيه في خدمة العقل والناس ،فإن فقيھا ً واحداً يفوق في القيمة الف عابد» :فقيهٌ واحد أش ّد على
إبليس من ألف عابد!«
وقد بلغ به له اھتمامه بحياة الناس على األرض ،قبل اآلخرة ،وبخبزھم اليومي ،أ نّه كان يغتدي َ
فجر كل نھار
التجار ،اتّقوا ﷲ،
معشر ّ
َ ويطوف في أسواق الكوفة وھو خليفة ويقف على أھل كل سوق وينادي قائالً» :يا
واقتربوا من المبتاعين ،وتزيّنوا بالحلم ،وتناھوا عن اليمين ،وجانبوا الكذب ،وتجافوا عن الظلم ،وأنصفوا
المظلومين ،وأوفوا الكيل والميزان ،وال تبخسوا الناس أشياءھم ،وال تعيشوا في األرض مفسدين!«
أتيتُ أميرالمؤمنين وھو في مسجد الكوفة فقلت :عليك السالم يا أميرالمؤمنين ورحمة وبركاته ،فقال :وعليك
يا نوف ورحمة ﷲ وبركاته.
] [ ١٣٧
فقلت له :يا أميرالمؤمنينِ ،عظني :أحسن إلى الناس يحسن ﷲ إليك .فقلت :زدني يا أميرالمؤمنين .فقال :يا
نوف ،إن س ّرك أن تكون معي يوم القيامة فال تكن للظالمين معينا ً!«
فخدمة اإلنسان ،ورفع الحاجة ،وتحطيم الظلم ،ھي نقطة االنطالق في سياسة ابن أبي طالب! وقد نظر إليه
النبي م ّرة وقال له:
قبل اإلمام
ـ ما آمن َمن باتَ شبعان وجاره جائع.
ـ َمن احتكر فھو خاطئ ،و َمن ظَلم من األرض شيئا ً طُ ّوقه من سبع أرضين.
ـ الدين المعاملة.
صل القول في موقف عل ّي بن أبي طالب من المجتمع ونظامه ،واإلنسان وحقوقه ،الب ّد من إلقاء نظرة قبل أن نف ّ
عجلى على موقف النب ّي من ھذه األمور جميعاً ،وعلى أسلوبه في أخذ الحياة.
] [ ١٣٩
ُني النب ّي بشؤون الناس وقضايا المجتمع ،عنايةً تامة .وتولّى اإلسال ُم المعامالت العا ّمة كما تولّى السلوك
ع َ
الفردي بتوجيه وتشريع .فاإلسالم ليس في عزلة عن المجتمع وما يجب له من قوانين .وقد بلغ من اھتمام
اإلسالم بالمجتمع أ نّه ع ّد ك ّل خدمة اجتماعية لونا ً من العبادة .بل الن خدمة الجماعة ھي فوق إقامة الشعائر
الدينية في معنى العبادة الصحيحة واإليمان الخيّر .يقول النب ّي» :صالح ذات البين أفضل من عا ّمة الصالة
والصيام« .والحادثة التالية كافية في الداللة على ھذا االتّجاه الصريح في اإلسالمُ .روي عن ابن عبدﷲ أ نّه
قال:
أليس في ذلك دليل قاطع على أنّ النبي لم يكن ليجيز إقامة الفرائض الدينية على حساب المعاش؟ فما قضية
االفطار والصوم بذات شأن إذا كانت عائقا ً دون البناء ،ودون خدمة الجماعة ،ودون النظر في أسباب البقاء
وتنظيم السعي تنظيما ً يقتضي التعاون الجماعي .ھكذا آثر النبي اإلفطار في شھر الصوم مع خدمة الناس ،على
الصوم في حينه مع العزلة واالبتعاد عن العمل المفيد.
ثم ،أليس في قول النب ّي» :من رأى منكم ُمنكراً فليغيّره بيده ،ف َمن لم يستطع فبلسانه ،فمن لم يستطع فبقلبه
وھو أضعف اإليمان« إشارة صريحة إلى ضرورة األخذ بما يفيد الجماعة وينفع الناس ،وإلى المسؤولية التي
تطال المجتمع والفرد في رفع ما يسيء.
وھنالك أحاديث نبوية كثيرة تقطع بأن فضل من يخدم الجماعة بسبيل من السبل ھو أكثر من فضل العابد الزاھد
المصلّي .فإذا كان العالم يأتي .المجتمع
] [ ١٤٠
بالخير فال شك أ نّه يفضل مليون عابد ،في نظر النبي ،كما يفضل البد ُر ماليين الكواكب» :فضل العالم على
العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ،ويعظّم النبي العقل أل نّه القوة المبدعة في اكتشاف ما يفيد الناس على
األرض ،تعظيما ً ال مزيد عليه إذ يقول» :تفكير ساعة واحدة خي ٌر من عبادة سنة«.
ويسير اإلسالم في ھذه الخطة في االھتمام بالمجتمع وما ينظمه ويحييه ،وفي توجيه الناس إلى األرض إلى
نام( ض َعھا لِ ْ
ال◌َ ِ ض َو َ ق لَ ُك ْم ما فِي ْاألَ ْر ِ
ض َج ِميعا ً( َ ) ،و ْاألَ ْر َ األرض وإلى العمل فيھا واالستفادة من خيراتھاَ ) :خلَ َ
ض َذلُوالً فَا ْمشُوا فِي َمنا ِكبِھا َو ُكلُوا ِمنْ ِر ْزقِ ِه!( ھذا ،ويجعل اإلسالمال شكر الناس و )ھ َُو الﱠ ِذي َج َع َل لَ ُك ُم ْاألَ ْر َ
الباس الوحيد الذي يدخله َمن يريد شكر ﷲ .فإن من ال يعرف الناس ال يعرف ﷲ .يقول النبي» :ال شكر ﷲ من
ال يشكر الناس«.
أما العمل المنتج المفيد ،فقد بلغ النبي بتقديسه حداً عظيماً ،فإذا ھو ال يكتفي بالثناء على العامل ،وال بشكره،
وال بإثابته ،بل يقبّل يداً ورمت من كثرة العمل ويقول» :تلك ي ٌد يحبّھا ﷲ ورسوله!«
وجهَ ھذه القوة وصرف صلب العضالت يمشي فتمنّوا لو أ نّه ّ رأي أصحاب النبي رجالً جلداً قويا ً شديد البنية ُ
ھذه الشدّة في الجھاد في سبيل ﷲ فقالوا» :حبّذا لو كان جلدُه في سبيل ﷲ!« فقال لھم النبي ھذا القول الحكيم:
صبية له صغارخرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فھو في سبيل ﷲ! وإن كان خرج يسعى على ِ َ »إن كان
فھو في سبيل ﷲ! وإن كان خرج على زوجة يعفھا عن الحرام فھو في سبيل ﷲ! وإن كان خرج يسعى على
نفسه يمن ُعھا السؤا َل فھو في سبيل ﷲ!«
وتروي كتب الحديث الكثير من أحاديث النبي التي يقدس بھا العمل ويك ّرم العامل ومنھا» :إن ﷲ يحب العبد
المؤمن المحترف «.و »ما أكل أحدكم
] [ ١٤١
وإذا كان للعمل مثل ھذه القيمة ،بل ھذه القداسة ،فعلى العامل أن يتقن ما يعمل .وھو إذا فَ َع َل نف َع وانتفع وب ّرر
يحب إذا عمل أحدُكم عمالً أن يُتقنه«. ّ وجودَه في المجتمع وأحبّه ﷲ وق ّربه إليه .يقول مح ّمد» :إن ﷲ
قلنا إن اإلسالم يجعل األرض ذلوالً يمشي في مناكبھا الناس ويأكلون من رزقھا ويفيدون من خيراتھا .ولكن ما
ھو موقفه من توزيع ھذه الخيرات التي تفيض بھا األرض؟
ھل ھي من حق فئة من الناس دون فئة؟ أم أنھا توزع على أساس من الجھد والصنيع والحاجة؟ ھل ھذه
الخيرات احتكار للملوك واألمراء واألثرياء والغاصبين ،أم ھي حقوق عامة يتعاون المجتمع على توزيعھا
توزيعا ً عادالً يُمسك عليه بناءه القويم؟
ينظر اإلسالم إلى الجماعة نظرة منطق وعدل ال يھون بھا من الجماعة أحدٌ ،وال يعلو أح ٌد إالّ بناء على جھد.
ولكل جھد مكافأة من واجب المجتمع أن يق ّرھا .فليس من صفة المجتمع المستقيم أن يجوع فيه العامل ويتخم
فيه البطر الكسول الخدّاع .وليس من صفة المجتمع المستقيم أن يھون عليه جھد العامل ،وأن يأتي الذي ال
يعمل بخيرات األرض ،كما ھي الحال في المجتمعات القديمة التي سبقت اإلسالم .أو كما ھي الحال ـ على باب
التعيين ـ في المجتمع القرشي الجاھل الذي يستغ ّل أمويّوه سائر الناس .ونرى أن اإلسالم ح ّرم ا لترف ،بإصرار
كثير ،في مجتمع يكون معظم أفراده فقراء .ح ّرم الترف الذي يقابله في الجماعة الع َو ُز والحاجة ،مدركا ً أن ھذا
الترف ،في مثل ھذا المجتمع ،ال يكون بھذا الجانب إالّ ليكون الحرمان بالجانب اآلخر .وبما أ نّه ليس من ح ّ
ق
إنسان وال من ش َرفه أن يستثمر جھ َد إنسان ،وبما أنّ الترف
] [ ١٤٢
واإلسراف المف ّرطين ال يت ّمان في المجتمع المعوز إالّ بھذا اإلستثمار ،فإنّ النب ّي يس ّمي بيوت المترفين بيوت
الشياطين» :فال أراھا إالّ ھذه االقفاص التي تسير الناس بالديباج« وفي القرآنَ ) :و َك ْم أَ ْھلَ ْكنا ِمنْ قَ ْريَة بَ ِط َرتْ
س َكنْ ِمنْ بَ ْع ِد ِھ ْم إِالّ قَلِيالً( ويحارھم القرآن في مكان آخر بھذا القول الرائع العجيب شتَھا فَتِ ْل َك َمسا ِكنُ ُھ ْم لَ ْم تُ ْ
َم ِعي َ
ق َعلَ ْي َھا ا ْلقَ ْو ُل فَ َد ﱠم ْرناھا تَ ْد ِميراً( وكي ال في روعتهَ ) :و إِذا أَ َردْنا أَنْ نُ ْھلِ َك قَ ْريَةً أَ َم ْرنا ُم ْت َرفِيھا فَفَ َ
سقُوا فِيھا فَ َح ﱠ
يقوم الغبن إلى جانب ال ُغنم في المجتمع الواحد ،والحاجة إلى جانب التخمة ،يسعى اإلسالم في تھديم الطرق
المؤدية إلى ھذا االنحراف ،وھي ما تنضوي تحب اسماء االحتكار واالستثمار واالقتطاع والنصب وما إليھا.
فإنّ النب ّي يحارب ھذه األمور ويُنزلھا منزلة المحرمات .أ ّما في االحتكار فيقول» :من احتكر فھو خاطئ« وفي
الغصب واالقتطاع يقول ،مھدداً بھذا العقاب الرھيبَ » :من ظَلَ َم ِمنَ األرض شيئا ً طُ ّوقه من سبع أرضين«.
ولج وھو عليه غضبان«. ويقول أيضا ً» :من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي ﷲ ع ّز ّ
ضعافا ً أ ّما االستغالل فكان شكله الظاھر آنذاك :الربا! الربا على أنواعه ،وفيه يقول القرآن) :ال تَأْ ُكلُوا ال ﱢربَوا أَ ْ
الربا( .ويمضي في تھديد المرابين والتشديد عليھم منعا ً ُمضا َعفَةً( .وفي مكان آخر َ ) :و أَ َح ﱠل ﷲُ ا ْلبَ ْي َع َو َح ﱠر َم ﱢ
سعى( .فكيف سان إِالّ ما َ ال ِ◌ ْن ِ
س لِ ْ لما قد يج ّره من استغالل الناس للناس .والعدل االجتماعي يقضي )أَنْ لَ ْي َ
تتك ّون طبقة كبار االثرياء إن لم يكن من النصب واحتكار المنافع وجعل المال في مقاييس المجتمع مساويا ً
لإلنسان في القيمة والعطاء ،أو ھو فوق اإلنسان! أما الحريمة االجتماعية الكبرى .فھي أن يتواطأ المحتكرون
والح ّكام على اغتصاب الشعب وأكل جھوده باإلثمَ ) :و ال تَأْ ُكلُوا أَ ْموالَ ُك ْم بَ ْينَ ُك ْم بِا ْل ِ
باط ِل َو تُ ْدلُوا بِھا إِلَى ا ْل ُح ّك ِام
س بِا ْال ِ◌ ْث ِم َو أَ ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُمونَ ( .ويقول النب ّي» :ما أك ّل أحدكم طعاما ً قطّ خيراً من لِتَأْ ُكلُوا فَ ِريقا ً ِمنْ أَ ْم ِ
وال النّا ِ
] [ ١٤٣
عمل يده «.وفي سورة الزلزلة) :فَ َمنْ يَ ْع َم ْل ِم ْثقا َل َذ ﱠرة َخ ْيراً يَ َرهُ( .و ) ُك ﱡل نَ ْفس بِما َك َ
سبَتْ َر ِھينَةٌ( أ ّما المال،
فبالرغم من أ نّه مق ّرر في ملكية األفراد ،ال يجوز أن يُحبس في أيدي فئة معيّنة من الناس فتتداوله ھذه الفئة
وتحتكر به المنافع والجھود وتُذل العامة وتحكم به في رقاب العباد .يقول القرآن في المالَ ) :ك ْي ال يَ ُكونَ دُولَةً
بَيْنَ ْاألَ ْغنِيا ِء ِم ْن ُك ْم(
فالمال ،في القرآن والحديث ،مال الجماعة أ ّوالً .وال ينال منه األفراد إالّ بقدّر آخذ من حاجتھم إليه ومن سعيھم
في سبيله .لذلك ُح ﱢر َم في اإلسالم أن يستغل الفر ُد جھ َد اآلخرين أق ّل استغالل .كما ُحح ﱢرم أن يجم َع منه جامع
وضرب الصحابه االمثا َل بسيرته
َ فوق ما يحتاج إليه .وقد جع َل النب ّي ھذين المبدأين أساسا ً في سياسته المالية.
وأقواله على ما يجب عليھم اتّباعه من ھذا القبيل:
كان في الصحابة رج ٌل عزيز على النب ّي يدعى رفاعة بن زيد ،أُصيب في إحدى الغزوات بسھم قاتل .فوفدعلى
النب ّي الوافدون يع ّزونه بمقتل رفاعة قائلين» .ھنيئا ً له ،يا رسول ﷲ لقد ذھب شھيداً« ،يريدون بذلك أن
يُطمئنوا النب ّي ويخففوا من أساه .غير أنھم أدركوا أن النب ّي لم يخفّ أساه ولم يطمئنّ إلى مصير رفاعة بعد
الموت ،ساعة اجابھم في أسى:
وإذا شئت أن تنظر في قيمة ھذا الموقف الذي يقفه اإلسال ُم من المستَغلﱢين والمحتكرين سوا ٌء أكان ما استغلّه
واحتكروه كثيراً أو قليالً ،وأن تُرجعه إلى أصوله العميقة ،فما عليك إالّ أن تدرك أن اإلسالم يشيد بعظمة الحياة
ويعترف
] [ ١٤٤
بأن اإلنسان الح ّي ھو مدار ھذا الوجود الذي خلقه وضبطه إلهٌ واحد .فكيف يجوز أن يحرم ھذا اإلنسان حقه في
الحياة ،ومن أسباب الحياة المعاش .تحرمه إياه عصابةٌ من السفھاء واألغبياء والمتاجرين باالرزاق واالرواح
على بالھة وخمول كثير!
فالمال ،كما يبدو من خالل نظرة النب ّي إليه ،ليس إالّ واسطة إلقامة حدود العيش بالنسبة للكائن االجتماعي.
فاإلنسان ،إذ ق ّرر له الكون حقّه في الھواء والنور ،ق ّرر له مثل ھذا الحق في خيرات األرض وھي من مركبات
ھذا الھواء والنور وما إليھما! وليس لجاره أو لمواطنه أن يحرمه ھذا الحق الذي ق ّررته له عملية الكون
بالذات ،استناداً إلى نھج تافه ينھجه في مجتمع سقيم! يقول النب ّي» :الناس شركاء في ثالث :في الماء والكأل
النبي يقرر حقيقةً أبديّة أزليّة ھي أعمق من ك ّل
ّ والنار «.وإذا نظرنا إلى ھذا القول ،في حدود المطلق ،رأينا أنّ
دستور وك ّل قانون ،ألنّھا تصوير لحق األحياء بالحياة .وإذا نظرنا إلى ھذا القول ،في حدود الزمان والمكان وما
ھما ُمحتمالن من شروط العالقات العامة ،أدركنا أ نّه إنّما يريد اشتراكيةً صريحة في األموال يكون الحصول
منھا ،على كثير أو قليل ،بمقياس الجھد ثم بمقدار الحاجة! وھو لم يأمر باشاعة ملكية الماء والكأل والنار ھذا
األمر الصريح ،إالّ ألنّھا ضرورات الحياة في تلك البيئة العربية الصحراوية القديمة .وإذا كان لھذا المجتمع
حاجة في المال ،باإلضافة إلى الماء والكأل والنار ،فإنّه عند ذاك يكره للمال أن يكون دُولةً بين األغنياء.
وال يقف أمام حصول الفرد على حقه حسب وال نشأة وال جنس وال معتقد ودين .فلكل إنسان ما سعى ،أيّا ً كان
ھذا اإلنسان .والفرد والجماعة متكافالن في كافة الحقوق .فالفرد إ ّما كفل له المجتمع فرصة للعمل ،وكفل له
حقه في األجر ضمن نطاق من جھده وطاقته ،ثم ضمن نطاق من حاجته ،وھذا
] [ ١٤٥
أو َرع في المعنى اإلنساني ،وجب على ھذا الفرد أن يكون ،في دوره ،عونا ً للجماعة ،وأن يكيّف حريّته الفردية
بما ال يسيء إلى مواطنيه .فليس للجماعة أن تظلم مسؤول .يقول النب ّي» :كلّكم راع وكلكم مسؤول عن
رعيته« .ث ّم أنه حرية الفرد ال تعني ،في حال من األحوال ،إلحاق الضرر بالجماعة .وقد ضرب النب ّي مثالً رائعا ً
لضرر الحرية الشخصية إذا لم تقيّدھا المنفعة العامة قال» :إن قوما ً ركبوا في سفينة فاقتسموا ،فصار لكل رجل
منھم موضع .فنقر رجل منھم موضعه بفأس ،فقالوا له :ما تصنع؟ قال :ھو مكاني أصنع فيه ما أشاء .فإنّ
أخذوا على يده نجا ونجوا .وإن تركوه ھلك وھلكوا« .ثم أنّ ھذا الفرد مكلّف ،بوصفه عضواً في الجماعة ،بأن
يزيل المنكر حيث يكون ،مساھمةً منه في رفع المستوى العام» :من رأى منكم منكراً الخ«.
ولطالما سعى النب ّي إلى أن يعطي ك ّل يوم دليالً على أنّ األخالق العظيمة إنما تقوم بإرشاد الناس بالمسلك ال
بالوعظ ،وأنّ رحمة الناس تقوم بالعمل ال بالقول .فالنب ّي لم يكن يعيش في معزل عن الناس ،بل كان يخالطھم
كباراً وصغاراً ،ويستمع إليھم ،ويؤانسھم ،ويخدمھم على نھج العظماء الحقيقيين.
ومن القصص التي يرويھا أبو ھريرة أ نّه خرج م ّرةً في صحبة النبي إلى السوق ،فأتيا بائعا ً اشترى منه النب ّي
ق في العيش ما حاجته وأخذ بوصيه بأن يطلب الحالل من المكسب فال يحتكر وال يستغ ّل وال يدّعي أنّ له من الح ّ
ليس لسواه.
وكان البائع يجھل أنّ محدّثه إنّما ھو النب ّي نفسه .فلما أخبره أبو ھريرة بأمره ،اضطرب وانحنى على يده يريد
تقبيلھا .فانتزع مح ّم ٌد يده بشدّة وقال للرجل:
] [ ١٤٦
ـ ال تفعلوا ما كان يفعله األعاجم مع ملوكھم ،فإن تقبيل الى اليد معناه المذلّة لغير ﷲ.
ول ّما حاول أبو ھريرة أن يحمل ما اشتراه النب ّي من متاع ،نھاه النب ّي ،ث ّم نظر إليه مبتسما ً وقال:
ق من الغير بحمله!
ـ خ ﱢل عنك ،فصاحب الشيء أح ّ
أ ّما األباطرة والملوك فإن اإلسالم يسيء بھم الظنّ ،بل ينفيھم من المجتمع نفيا ً مطلقاً ،فھم الفاسدون
سدُوھا َو َج َعلُوا أَ ِع ﱠزةَ أَ ْھلِھا أَ ِذلﱠةً(
المفسدون) :إِنﱠ ا ْل ُملُو َك إِذا د ََخلُوا قَ ْريَةً أَ ْف َ
وكان أش ّد ما يھول النب ّي من أمر الملوك والسالطين تلك الغطرسة الفارغة وذاك االستعالء التافه ،ثم ما
صة من أشكال المبالغة ومظاھر التھويل .ذلك ألنّ النب ّي كان يقدّس صفة يحيطون به أنفسھم وشؤونھم الخا ّ
الحياة في الناس جميعا ً كما يقدّس ك ّل ما يراه حقيقة .وھو يعتبر البساطة والطبعيّة في القول والعمل ركنا ً
اساسيّا ً من أركان الحياة الشريفة الفاضلة .ولطالما كان ينھي أصحابه عن الوقوف له ساعةَ يُقبل عليھم وھم
جالسون ،مردّداً على أسماعھم ما مفاده :ال تعاملوني كما تعامل األعاجم ملوكھا!
ومن أخباره التي تد ّل على كرھه المبالغة والتھويل وھما إطار تدور فيه أحال ُم الملوك والسالطين ،ا نّه لما
الشمس صدفةً ،فقال الناس :إن السماء قد حزنت على ابن النبي .فل ّما بلغ ذلكُ توفّي ابنه إبراھيم ُكسفت
مح ّمداً ،جمع الناس وخطبھم قائالً:
] [ ١٤٧
عن إرادة الحياة نفسھا وإرادة الكون القائم بما فيه جميعا ً ال تُكسفُ شمسه لموت أحد وال يزول قمره!
ويحضرنا بھذا المجال ما دعا إليه النب ّي من ضرورة أخ ِذ الحياة أخذاً بسيطا ً جميالً ال تعقيد فيه وال تكلّف .وإنّما
ذلك لعالقته الوثيقة بموضوعنا ألنّ ھذا األسلوب في أخذه الحياة إنّما ھو أساس اإلسالم كما شاءه النب ّي وكما
بناه .ف َمن أمعن النظر في ك ّل محتويات اإلسالم على تباين موضوعاتھا ،أدرك أنّھا نابعة جميعا ً من أصل عميق
شامل واحد ،ھو :البساطة التي ال تزييف فيھا وال تمويه ،أو قُل :ھو الصدقمع الحياة!
»وإنّه ـ أي النب ّي ـ ليخدش أعرابيّا ً ذات م ّرة دون عمد ،فيُص ّر على أن يخدشه األعراب ّي مثلھا.
ويقف فوق المنبر في جالل عظيم ليقول ألصحابه الذين يستمعون إليه:
ـ » َمن جلدت له ظھراً ،فھذا ظھري فليقتد منه! و َمن كنتُ أخذتُ من ماله شيئاً ،فھذا مالي فليأخذ منه!«
إنّه لم يجلد في حياته ظھراً ،ولكنّه الصدق المطلق مع الحياة يمارسه مح ّمد في أنقى صوره وأوفھا بالذ ّمة
والطھر.
وإذا كانت حياته لم تتلفّع قطّ برياء أو ضعف ،فھي كذلك لم تتلفّع قطّ بغرور وال بكبرياء.
لقد كان يسابق زوجته ويخصف نعلَه بيده ويرقع ثوبه بنفسه.
ولقد حلب شاته ،وخدم أھله ،وحمل الطوب مع أصحابه وربط على بطنه الحجر من الجوع!
وكان إذا سار في الطريق ومعه أصحابه ،دعاھم ليتقدّموا عليه .وإذا قدم عليھم وھم جلوس جلس حيث انتھى
به المجلس .وكان يقول لھم دائما ً حين
] [ ١٤٨
ق لھذه الحقيقة.
وفي كل ما رويناه من أخبار النب ّي في ھذا الفصل ،تصدي ٌ
أ ّما الح ّكام فعليھم من الواجبات والمسؤوليات ما يجعل منھم خدَما ً للجماعة ال أسياداً طُغاةً عُتادة ،وال لصوصا ً
محترفين!
وفي سيرة النب ّي أنّ قوما ً أخبروه بأن واليا ً من الوالة قبل ھدية .فاستطلع حقيقة ھذا الخبر فثبت لديه ما أُخبر
به .فغضب واستدعى الوالي إليه ،فل ّما أتاه قال له النبي:
فأجابه الرسول جوابا ً فيه كثير من عبقرية االدراك ل َما يم ّھد طريق الرشوة بين المحكوم والحاكم ،معطيا ً جوابه
صيغة ھذا السؤال:
ـ أرأيت لو قع َد أحدكم في داره ولم نُ َولّه عمالً ،أكان الناس يھدونه شيئاً؟
ثم أمره أن ير ّد الھدية إلى بيت مال العا ّمة .وعزله عن عمله في الحال.
ق الرشوة .وعلّم الحاكم أالّ يسلك ھذه الطريق مع الناس .كما ھكذا علّم النب ّي الناس أالّ يسلكوا إلى حقّھم طري َ
ق له بشيء من معاش الناس ،وأ نّه إنما يحكم الناس ليكون لھم أبا ً ال ليصبح فيھم ل ّ
صا ً. ّ علّمه أن ال ح ّ
وھكذا أظھر نقمته العادلة على الطبقة الحاكمة ساعةَ تستغ ّل سلطتّھا حتى في قبول الھدية ،فكيف في انتّھاب
األموال واحتكار الثروات وھدر الحقوق وظلم العا ّمة.
» ١كتاب مح ّمد والمسيح« ص ١٦٢ـ .١٦٣
] [ ١٤٩
والحاكم في اإلسالم ال يكون إالّ باالختيار واإلجماع .وال يستم ّد سلطته إالّ من إرادة العا ّمة ومن السھر على ما
فيه خير الناس ورعايتھم بالتي ھي أحسن .ويفرض اإلسالم على الحاكم أن يشاور محكوميه في ك ّل ما ال
يعرف له حالًّ مرضيا ًَ ) :و أَ ْم ُرھُ ْم شُورى بَ ْينَ ُھ ْم( .وليس ھذا الحاكم ح ٌ
ق زائ ٌد في الملك والمال والقانون .بل إن
حقّه المحدّد له ال يُحفظ إالّ بمقدار ما يسعى ھو في المحافظة على كرامات الناس وحقوقھم من كل ضرب.
وال يقف اإلسالم عند ھذا الح ّد من الرغبة في إنصاف الشعب من الحاكم بل يعدوه إلى إثارة المستضعفين
والمصظھدين على من استضعفھم واضطھدھم .وينذر القرآنُ بالعذاب أولئك الذين شقوا وأُھينوا وھُدرت
حقوقھم وأُكل نصيبھم واستُثمرت جھودھم وظلموا ،الذا ھم تنازلوا عن حقوقھم الطبيعية في العيش ورضوا
بھذا الظلم ولم يثوروا ،وأذعنوا للضغط أو غيره من أسباب اإلساءة ،ويس ّميھم »ظالمي أنفسھم«.
ـ » َمن قُتل دون مظلمته فھو شھيد!« ويقول في مكان آخر :ـ »إنّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده
أوشك أن يعمھم ﷲ تعالى بعقاب!«
أ ّما في النطاق اإلنساني العا ّم ،فإنّ اإلسالم يحارب العصبيّة الدينيّة في كثير من أحوالھا» :ال إكراه في الدين«
أحب أم كره« والناس جميعا ً إخوةٌ ّ ويحارب العصبيّة القبليّة والعنصريّة أش ّد حرب :فـ »اإلنسان أخو اإلنسان
َ ْ
ضلنا ُھ ْم عَلى كثِير ِم ﱠمنْ َ مك ّرمونَ ) :و لَقَ ْد َك ﱠر ْمنا بَنِي آ َد َم َو َح َم ْلنا ُھ ْم فِي ا ْلبَ ﱢر َو ا ْلبَ ْح ِر َو َر َز ْقنا ُھ ْم ِمنَ الطيﱢبا ِ
ت َو ف ﱠ ﱠ
ضيالً( .َخلَ ْقنا تَ ْف ِ
والنب ّي إذا تحدّث إلى الناس تحدّث إليھم جميعا ً :إلى العرب واألعاجم،
] [ ١٥٠
والحمر والبيض ،والصفر والسود! تحدّث إليھم بوصفھم اخوةً متعاونين متكافلين تجمع بينھم صفةُ اإلنسان
وجوھر اإلنسانية ،وال تف ّرقھم قوميّاتٌ وأجناس ،بل يختلف بعضھم عن بعض ،ويفض ُل واحدھم اآلخر ،بمقدار
ما في نفسه من رغبة في الخير .يقول النب ّي:
»أيھا الناس ،النّ ربّكم واحد وإنّ أباكم واحد .ليس لعرب ّي على عجمي وال لعجمي على عرب ّي وال ألحمر على
أبيض ،وال ألبيض على أحمر ،فض ٌل إالّ بالتقوى! أال فليبلّغ الشاھد منكم الغائب!«
النبي ساعةَ يجعل التقوى واإليمان والتديّن جميعا ً تدور في نطاق من خدمة الجماعة ،وتفقد ك ّل
ّ وما أعظم
معناھا ساعةَ يخلّي صاحبُھا العم َل الناف َع ،فيقول» :أحسن مجاورة َمن جاورك تكن مؤمنا ً« و »الخلق كلّھم
عيال ﷲ وأحبّھم إليه أنفعھم لعياله!« و »الدين المعاملة!«
فاإلسالم ،كما يريده النب ّي ،يقوم بخدمة الناس وباحترامھم ال فرق فيھم بينَ مسلم وغير مسلم ،وال بين عربي
وعجمي ،وال بين أحمر وأبيض ،أو بين َمن عرفت و َمن لم تعرف .فصفة اإلنسان وحدھا كافيةٌ ألن تحملك على
حب اإلنسان وإطعامه ومبادرته بالتحيّة.
ّ
يخص المسلمين .وفي األحاديث التي اثبتناھا في
ّ في اآلية ) َو لَقَ ْد َك ﱠر ْمنا بَنِي آ َد َم الخ( يك ّرم ﷲ الخل َ
ق جميعا ً وال
ھذا الفصل أن خير اإلسالم ھو أن تبسط يدك وقلبك ووجھك لجميع الناس ،وأن تحسن جوارھم ومعاملتھم
وتنفھم وتحبّھم!
وعن النب ّي خي ٌر عظيم الداللة على ما أراده لإلسالم من معاني الخير القائمة بالخدمة واالغاثة والعمل من أجل
نفسھا حتّى في البھائم .فقد ساقالحياة ِ
] [ ١٥١
ـ »بينما بغ ّي تسير ذات يوم ،إذ رأت كلبا ً يلھث من العطش .فخلعت نعلھا وأدلته بحبل في بئر ومألته ماء
وسقت الكلب .فشكر ﷲ لھا وأدخلھا الجنّة!«
وإنّه لعظيم حقا ً ھذا الموقف يقفه النب ّي إزاء الحياة إذ يقدّسھا مثل ھذا التقديس ،فيرى أنّ ﷲ يشكر البغ ّي
صرع في ساحة القتال ويدُخلھا الجنّة إذا ھي أروت ظمأ بھيمة عطشى ،وقد ال يرى مثل ھذا الفضل لمجاھد ُ
على ما م ّر معنا من خبر رفاعة بن زيد.
ّ
ويتبذخون بجھودھم وھُم إنما وما يكون شأن قوم يعتدون على قوم وينھبون خيراتھم ويستعمرون أرضھم
ُخلقوا شعوبا ً وقبائل ليتعارفوا ـ كما جاء في القرآن ـ ال ليتعادوا!
***
] [ ١٥٢
ھذه ھي الخطوط العا ّمة لتعاونُ الجنس البشري الواحد في القرآن وفي الحديث.
وقد سار عليھا ح ّكام المسلمين و ُوالتُھم بمنھى الدقّة في عھدين اثنين .وخالفوھا أش ّد مخالفة في عھدين اثنين
كذلك .أ ّما يوم ساروا عليھا ،ففي عھد النب ّي وخالفة أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب ثم في خالفة اإلمام
عل ّي .أما يوم خالفوھا ففي عھد عثمان الذي استغ ّل أنسباؤه األمويون لينَ جانبه وتستّروا به .ثم في العھود
التي جاءت بعد اإلمام عل ّي وھي العصور األموية فالعباسيّة في الشام وبغداد باستثناء المدة الوجيزة التي
استخلف فيھا عمر بن عبدالعزيز :الشخصيّة األمويّة ّ
الفذة ،وباستثناء بعض الفترات القالئل التي كانت تم ّر في
تلك األعص ُر مروراً عاجالً فال يستقيم لھا أن تفعل كثيراً.
***
أ ّما عھد عثمان بن عفان ،وھو الذي يعنينا طويالً في أبحاثنا الالحقة ،فقد تح ّولت فيه مقاييس الحكم ع ّما كانت
عليه فيما سبق ،إذ استولى بنو أميّة على األرض والمال والناس واحتكروا األرزاق العا ّمة .وكان الخليفة
الثالث من مراعاة الرحم على ما أفسح لھم في المجال ألن يخرجوا بالخالفة عن وجھھا األنساني ويم ّھدوا
لتحويلھا إلى ملك أموي خالص .وسوف يأتي تفصيل ذلك في مكانه.
وبعد مض ّي زمن آل األمر إلى عل ّي بن أبي طالب الذي استلم الحكم على أثر ثورة شعبيّة لھا ك ّل معاني الثورة
من أسباب وأھداف ،فكيف أدرك ابنّ أبي طالب الوالية ،وماذا كان من أمره؟
] [ ١٥٣
الوالية ِم َن الجماعة
ـ ال صواب مع ترك المشورة.
موجزاً بليغاً ،بسيطا ً عميقا ً كالحقيقة نفسھا ،حتى لكأنّه ومضةُ العقلوھتفة الروح:
َ ـ وقال قوالً
] [ ١٥٤
المستضعفة لم تكن في نظر أولئك القوم إالّ ظھوراً تُع ّرى لتصبح مراعي للسيّاط ومرافع لألثقال.
أضف إلى ذلك أنّ خالفة عثمان قد أتاحت الفرصة لھؤالء الوالة ومعظمھم من بني أمية ،أو من أنصارھم
النازعين منزعَھم في النظر إلى األمور ،ألن يعملوا في أنحاء البالد المرتبطة بالخالفة على إعداد العدّة كاملةً
ي تدعمه األموال والرشوات والمساومات وإطالق أيدي النافذين في مقدّرات العامة وفي لتشييد ملك أمو ّ
رقابھم ،وفي ابتياع الجيوش المحاربة بثمن منقود أو موعود .ثم في تقريب من تُرجى المناصرة وإبعاد من ال
يناصرون .فإذا الدولة منقسمة على ھذه القواعد الجديدة يستحدثھا األمويون الذين ما كانوا في اإلسالم،
س َع لھم في االحتكار واالستغاللبشھادة التاريخ ،إالّ ما كانوا في الجاھلية .والذا معظم النافذين يخذلون إالّ َمن و ّ
مفتاح بيت المال وسيف السلطان ،وقدّم لھم الشعب في جملة ما قدّم فأصبح م ّما َ وجعل في أيديھم والحكمَ ،
ملكت أيمانھم .وإذا الشعب بين مؤمن بالخير العام قانع بنصرة الحاكم العادل وإن لم يُج ِر عليه الرزق أنھاراً.
وبين مرت ّد مع المرتدّين قابع يتربّص بالعدل والعادلين حتى الذا ثار طالّب الملك ساوم .فساند إذا ربح ،أو عاد
يساوم من جديد ويساند.
***
آلت الخالفة إلى أبن أبي طالب والدنيا على ھذه الحال ،والقوم سائرون في ما سائرون فيه :فإ ّما استماتةٌ في
مناصرة الخالفة في شخص اإلمام الذي يعرفون عدله وميله إلى العا ّمة .وإ ّما إفراط في مساندة الملك في
العنصر األموي الذي يأبى إالّ استعادة امجاده الجاھلية مھما توعّرت الطريق وتھشّم فيھا من الضحايا .وھو لم
صح إلى عثمان يكن ليأبه للخالفة تصير إليه وقد ساھم أج ّل مساھمة في إدارة شؤونھا بعھدَي أبي وعمر ،ونَ َ
في عھده ،وما
] [ ١٥٥
ق .يدلّك على أنّ عليّا ً لم يكن ليأبه للخالفة تصيرشكا من البيعة تذھب إليھم عنه وماه اھت ّم م ّرةً إالّ باقامة الح ّ
إليه أو تذھب عنه ،وعلى أ نّه لم يكن ليريدھا يومذاك وقد أرادوه لھا ،شھو ٌد من التاريخ وشھو ٌد من قوله .فمن
كالمه يو َم أُري َد على البيعة بعد مقتل عثمان» :دعوني والتمسوا غيري .وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلّي
أسم ُعكم وأطوعكم لمن وليّتموه أمركم .وأنا لكم وزيراً خي ٌر لكم مني أميراً«.
لم يكن ليرضى بالخالفة يومذاك أل نّه يريد لھا وجھا ً والقوم يريدون لھا وجھا ً آخر .فما ھو منھم بھا ،وال ھم
منه! وأل نّه كان ،كما قال» ،في دھر عنود وزمن كؤود يُع ّد فيه المحسن مسيئاً ،ويزداد الظالم عت ّواً« .وألن
ض ﱞم ذوو أسماع، والمحجة قد تنكرت ،والناس يعملون في الشبھات ويسيرون في الشھواتُ . ّ »اآلفاق قد اغامت
وبك ٌم ذوو كالم ،وعم ٌي ذوو أبصار .ال أحرار صدق عند اللقاء ،وال إخوان ثقة عند البالء« .وألنّ القوم لن
يحتملوا منه أن يجيبھم فيركب منھم ما يعلم ،وأالّ يصغي منھم إلى عتب العاتب وقول الراغب!
ھذه ھي حقيقة الحال التي م ّر بھا اإلمام عل ّي في األيام القالئل التي تلت مقتل عثمان وسبقت استخالفه والقوم
ويلحون ،ويتردد ھو في قبول البيعة والوجھاء والنافذون على غير ما يريدھم عليه من الرغبة في ّ يبايعون له
الخير .غير أن ھنالك ما يحمل ابن أبي طالب على أن يقبل بما أرادوا له من البيعة .فالعدالة االجتماعية في
خطر .والناس يأكل قويّھم ضعيفھم وقد أُطلقت أيدي النافذين منھم والحاكمين في األرزاق واألعناق .واألثرياء
والنبالء يتحلّبون شھوةً القتطاع األرض واحتكار الخيرات وابتالع الناس! فأنّى له أن يمكث بعيداً عن مركز
القيادة والحالة ھذه الحال ،واألمور قد تصبح في جحملتھا ،بعد قليل ،في أيدي »أغيلمة من قريش« على ح ّد
تعبير النبي؟ وھذه الفئة
] [ ١٥٦
القليلة قد أذلّت الجماعة والسواد األعظم ،والجماعة في نظر عل ّي تلزمھا ي ُد ﷲ» :والزموا السواد األعظم فإنّ
واجب عليه والن كلّفه ھذا من التح ّمل ما ال طاقة عليه لمحسن »في
ٌ يدا مع الجماعة «.إذن ،فقبول البيعة
زمن كؤود يُع ّد المحسن فيه مسيئا ً!«
وكان عل ّي بطبعه ينفر من العزلة إذا لم تكن العزلة نفسھا في خدمة الجماعة .فاإلنسان إ ّما اعتزل وھو قادر
على خدمة الناس ،أنكر ذاته .كما جحد الغاية من وجوده في مجتمع يريد من أفراده أن يتعاونوا في الخير
ويتساندوا في المعروف .وأصبح عل ّي إمام الناس .ولكي نفھم حكومة عل ّي وسياسته االقتصادية والمالية
واالجتماعية ،الب ّد أن نعود بھا إلى أصل واحد لديه ،ھو :أسلوبه في فھم الوالية مصدراً وغاية.
***
لم تكن الوالية في نظر ابن أبي طالب حقا ً يوليه ﷲ بشراً فيستأثر به ويدوم عليه ما شاء ھو وما شاء له ذلك
المتنفذون واألقربون ،كما أصبحت فيما بعد في ملك بني أمية وبني العباس ،وكما كانت في تاريخ أوروبا
الوسيط إذ ع ّرفوا الوالي ـ أو الملك ـ بأنّه ظ ّل ﷲ على األرض ،وبأن إرادته ھي إرادة خالق السماء ال يُنظر فيھا
إلى ما يجوز وما ال يجوز! بل إن الوالية في نظره ھي من الجماعةء تُولي من تشاء وتخلع من تشاء إثابةً على
إحسان وعقابا ً على إساءة .يقول عل ّي» :فإن ولّوك في عافية وأجمعوا عليك فقم في أمرھم .وإن اختلفوا
فدعھم وما ھم فيه .ويقول أيضا ً» :انظروا ،فإن أنكرتم فأنكروا .وإن عرفتم فآزروا .ح ّ
ق وباطل .ولك ّل أھل!«
] [ ١٥٧
أ ّما سلطة الوالي فمست َمدّة من القيام بتنفيذ الشرائع االجتماعية األكثر صالحا ً .يقول عل ّي في خطبة البيعة:
»أيھا الناس ،إنّما أنا رجل منكم لي ما لكم .وعل ّي ما عليكم .والحق ال يُبطله شيء «.ويقول في خطبة اخرى:
»أيھا الناس ،إني وﷲ ال أحثّكم على طاعة إالّ أسبقكم إليھا ،وال أنھاكم عن معصية إالّ أتناھى قبلكم عنھا«.
الوالية في نظر عل ّي إنصافُ الجماعة من الفئة الباغية ألن »يد ﷲ مع الجماعة« .وھي ال بالصحابة تقوم وال
بالقرابة؛ وإنّ عليّا ً ليعجب من ھذا المنطق في فھم الخالفة فيقول قوالً موجزاً بليغاً ،بسيطا ً عميقا ً كالحقيقة
نفسھا ،حتى لكأنّه ومضة العقل وھتفة الروح» :واعجباه! تكون الخالفة بالصحابة والقرابة!«
س ُل به إلىلم تكن الوالية في نظر ابن أبي طالب حسبا ً تُشيّد عليه األمجاد وال شرفا ً قديما ً تُبنى له العروش ويُتو ّ
استعباد الناس .فإنّه »ال حسب كالتواضع وال شرف كالعلم« و »الكرم أعطف من الرحم!« ولم تكن قھراً
] [ ١٥٨
ماديا ً تخضع به الجماعات للسيف والنار وقطع االرزاق وھدر الدماء! وال قھراً معنويا ً تخضع به الجماعات
للوالي بالترھيب أو الترغيب ،وھو اإلمام الذي عبد ربه ال رغبةً في ثوابه وال خوفا ً من عقابه ،بل أل نّه يستحق
توجھا ً إلى الضمير الفرد برعاية الخير ،وإلى الضمير االجتماعي ،والضمير اإلنساني ،ثم العبادة .إنّما كانت ّ
مخاطبةً لعقل الجماعة الذي يرى فيحكم ،فيقضي للوالي بأعماله ،أو عليه.
ق في أن
ق ملء الح ّولم تكن الوالية استبداداً في الرأي بعد استتباب األمر .فالشورى أولى .وللجماعة الح ّ
يطالبوا الوالي »بأالّ يحتجز دونھم س ّراً وال يطوي دونھم أمراً« إالّ في ما كان احتجازه وطيّه إلى حين ،من
مصلحة الجماعة بالذات.
ق أيضا ً في أن يدركوا وإليھم بالرأي في ك ّل ما يعود عليھم بالخير .وعلى الوالي ملء ق ملء الح ّ
وللجماعة الح ّ
الواجب في أن يستقبل وجوه اآلراء جميعا ً لع ّل في ھذه اآلراء ما لم يخطر بباله أو يھجس به ضميره أو يبلغه
عل ُمه .ذلك ألن »من استقبل وجوه اآلراء ـ كما يقول عل ّي ـ عرف مواقع الخطأ« .ومن عرف مواقع الخطأ
أمكنه أن ينفذ إلى الصواب .فآراء الجماعة ضرورةٌ يُفيد منھا الوالي في معنى واليته وتفيد منھا الجماعة في
معنى التولّي عليھا .وھي ،على كل حال ،تحسم األمور على صورة ال يقع بعدھا ندم .ويعترف عل ّي بھذه
الحقائق اعترافا ً ال يقبل تأويالً إذ يقول» :ال صواب مع ترك المشورة« .وليس من صفة الوالي في شيء أن
يتوجه عل ّي إلى
ّ سالً إلى بلوغ حاجة من الحاجات خفيةً عن الخلق .لذلك يحيط أعماله بالغموض وأن يتستّر تو ّ
ق من حقوقھم قائالً» :واستصبحوا من شعل ِة مصباح واضح!« الناس ليدلّھم على ھذا الح ّ
لم تكن الخالفة في مذھب ابن أبي طالب بعداً عن الناس وانصرافا ً عن
] [ ١٥٩
الشعب ودن ّواً من ال ِكبر واحتجابا ً عن النظر في األحوال العا ّمة وحاجات االفراد والجماعات .بل إنّھا سبب في
حجة.
تقريب الوالي من الناس وعطفه عليھم وتواضعه لھم ،ثم انصرافٌ تا ّم إليھم ال عذ َر يُقبَل دونه وال ّ
والناس إن سخطوا على الوالي بسبب من ھذه األسباب جميعا ً الب ّد أن يثقل عليه أم ُرھم كما ثقل عليھم أمره،
ألنّ موقفھم منه يجب أن يكون صورةً عن موقفه منھم .وفي ذلك يقول عل ّي» :قلوب الرعيّة خزائن راعيھا،
فما أودعھا من عدل أو جور ،وجدَه فيھا!«
ولم تكن الوالية في مذھب ابن أبي طالب عصبيّةً ألن التع ّ
صب مذموم إالّ إذا كان »المكارم الخصال واألخذ
بالفضل والكفّ عن البغي وإنصاف الخلق واجناب الفساد في األرض«.
والوالية ،على ك ّل حال ،ليست في مذھب ابن أبي طالب ألولئك الذين يقول فيھم» :لو ُولّوا عليكم لعملوا فيكم
بأعمال كسرى وقيصر!« والذين ھم »من أھل المكر والغدر« و »أولي الجور والظلم« و »أ َكلَة ال ّرشا!« والذين
يقدّم الطعام ـ في واليتھم ـ إلى شبعان!«
لذلك كلّه لم يقبل عل ّي بالخالفة إالّ معتزما ً أن يقيم حقا ً ويزھق باطالً وإالّ فمفارقة الحياة أولى!
وھو لذلك وغير ذلك يھيب بالناس أن يحاسبوا ُوالتَھم ويراقبوا أعمالھم .وبأالّ يقبلوا بوال إن لم يكن خادما ً
لھم .وبأن يُبدوا السخط إذا شاؤوا وأن يُبدوا الرضا .فيقول لھم» :أالَ تسخطون وتنقمون أنّ يتولّى عليكم
السفھاء ...فتُع ّموا بالذ ّل وتق ّروا بالخسف ويكون نصيبكم الخسران !« بل إنّه يضع السخط من الجور موض َع
الناس الرضا والسخط :ف َمن رضي أمراً فقد دخل فيه.َ المقابلة مع الرضا بالعدل ،في قول حكيم» :إنّما يجمع
ومن سخط فقد خرج منه«.
] [ ١٦٠
وھو لذلك ولغير ذلك لن يوصي بالخالفة بعده الحد ألنّ األمر يجب أن يُناط بالجماعة وحدھا .فإذا ھم طلبوا إليه
أن يستخلف ابنه الحسن بعده ،أبى وقال ھذا القول الذي تنتھي إليه المكار ُم في صفات الحاكم والوالي كما
تنتھي إليه صراحةُ االعتراف بالحريّات العا ّمة وبحقوق الناس في تسيير أمورھم على ما يعلمون ويختارون،
»ال آم ُركم وال أنھاكم ،أنتم أعلم!«
بعلي
ّ ق اإلنسان في والية نفسه .وقد بلغأقول :إنّھا الغاية التي ينتھي إليھا احترام حريّة الجماعة وتقرير ح ّ
احترا ُم حريّات الناس أن أباح لھم الحريّة حتى في ما يتعلّق بمواالتھم ايّاه أو باعتزالھم عنه .وذلك بعد أن وااله
ق الجماعة في َمن يولّون عليھم .فھو يأبى كل ما يأتي عن السواد األعظم وأصبح اعتزال فريق منھم انكاراً لح ّ
طريق الضغط أو االكراه .من ذلك ما كان من أمره مع نفر أبوا أن يبايعوا .فھو لم يحتر ولم يرتبك .ولم يُك ِره
ولم يغفل ع ّما قد يسيء إلى إرادة الجماعة في وقت معا ً .فأباح لھؤالء أن يلزموا رأيھم ثم أن يفرغوا من أمر
الناس اعترافا ً منه بحق األفراد والجماعة في نطاق واحد .وتفصيل ذلك أنّ سعد بن أبي وقّاص ،وھو أحد
أصحاب الشورى ،أبى أن يبايع ،فتركه عل ّي وشأنه بعد أن قال لعل ّي :ما عليك مني من بأس.
ومن ھؤالء النّفر أيضا ً عبدﷲ بن عمر ،فقد أبى عبدﷲ أن يبايع ،فطلب عل ّي من يكفله لئالّ يثير الفتنة .فأبى أن
يقدّم كفيالً .فقال له عل ّي :ما علمتُك إالّ سيء الخلق صغيراً وكبيراً .ثم قال :خلّوه وأنا كفيله! وأبى البيعة
] [ ١٦١
قو ٌم آخرون ،فخلّى عل ّي بينھم وبين ما أرادوا شرط أن يعتزلوا الفتنة فال يُسيئوا إلى إرادة األعظم .وشاء قوم
من الثائرين أن يُكرھوا المتخلّفين عن البيعة فيحملوھم قسراً عليھا ،فأبى عل ّي ذلك أش ّد إباء .لقد كانت قاعدته
العا ّمة في شأن البيعة مستندة إلى ھذه الحقيقة التي يراھا ويعبّر عنھا بقوله» :ف َمن بايع طائعا ً قبلتُ منه .ومن
أبى تركتُه« .فحريّة األفراد مكفولة في حكومة عل ّي إالّ إذا ألحقت األذى بحريّة الجماعة .لذلك لم يترك ھذه
الح ّرية للزبير بن العوام وطلحة بن عبيدﷲ ومعاوية بن أبي سفيان وقد تركھا لسعد بن أبي وقاص وعبدﷲ بن
عمر وغيرھما من الذين أبوا أن يبايعوا .فأولئك الثالثة طامحون إلى والية االامر لِ َما تض َمن لھم ھذه الوالية
من ثروة ومجد وسلطان .فھم لذلك ثائرون على الخليفة الجديد أن لم يكن اليوم فغداً .وھم لذلك عامدون إلى
سر لھمى من األموال والجنود تُي ّ ق الصفوف واالستئثار بما الناس فيه أُسوة .ثم أنّ لھؤالء الثالثة قو ً الفتنة وش ّ
أسباب الفتنة .لذلك لم يتركھم عل ّي وشأنھم .وسوف نبتيّن صدق نظرة اإلمام إلى ھؤالء في باب »المؤامرة
الكبرى على اإلمام«.
إذن ،فالوالية من الجماعة؛ وال إكراه على البيعة إالّ إذا اقتضت مصلحة الجماعة ،ال مصلحة الوالي ،ھذا
االكراه .وھو أج ّل المفاھيم لعالقة الحاكم بالمحكوم ،في ما يتعلّق بحرية القول والعمل .وكان من الطبيعي،
والحالة ھذه ،أن يربط ابن أبي طالب ُوالته وع ّماله بالشعب بمثل ما ارتبط به ھو .فكان شديد المراقبة لھم على
ما سنراه في حينه ،يشدّد عليھم في كل ما يلزمھم من رعاية الحقوق العا ّمة .وقد خطا في ذلك خطوة رائعة
تنسجم مع دستوره العام في الحقوق والواجبات ،وتنسجم كذلك مع أرقى دساتير االمم الحاضرة ،وھي أ نّه
جعل من المحكوم نفسه رقيبا ً أعلى على الحاكم ومصدراً ألسلوبه في الحكم .فكان إذا ولّى أحدھم إقليما ً من
االقاليم ،أو مدينة من المدن،
] [ ١٦٢
أعطاه عھداً يقرأه على الناس .فإذا أق ّره الناس بعد أن يقرأ عليھم العھد ،كان ھذا العھد عقداً بينھم وبينه ال
يجوز لھم أن ينحرفوا عنه ،وال يجوز للحاكم أن يتأ ّوله أو يخالفه في كثير أو قليل .أما إذا انحرف عنه ،فإن
عليّا ً يوجب عليه العقوبة وينفذھا فيه من فوره.
] [ ١٦٣
الحريّة وينابيعھا
ـ ال تكن عبد غيرك وقد جعلك ﷲ ح ّراً
غيرھما. أُكره لم كما أكرھما لم أبَيَا ولو األمر، ھذا على فبايعاني ـ
عل ّي
سس التي قامت عليھا مناھج عل ّي في الحكومة والسياسة ھذا اإليمان األصيل العميق بالحرية ،تلقاه في األ ُ
صل وأجمل ،وأم َر ونھى ،وسال َم وحارب ،وعزل وأثبت ،وخالط الناس ،وعامل ُولده، واالدارة .وھو بوحيھا فَ ّ
وعبد ربه! أ ّما نطرته إلى الحريّة فمستقاة من نظرته العامة إلى الكون ،وإلى المجتمع :قطب ھذا الوجود
المتحرك في طريق الخير األعلى!
أما معاني ھذه الحرية فتنبع من العالقات التي يرتبط بھا أبناء المجتمع ،بقدر ما تنبع من الضمائر والوجدانات.
ولھا أركانٌ ھنا وأركان ھناك ،وال تقوم مقاييسھا إالّ عليھا جميعا ً .ھكذا ﱢ
يقرر العقل والتجربة ،وھكذا يق ّرر ابن
أبي طالب!
أما العالقات التي يرتبط بھا أبناء المجتمع ،وھم ذوو صفتين فردية واجتماعية،
] [ ١٦٤
فقد وقف اإلمام سياسته وحكومته وإدراته على تجويدھا بما يم ّكن للناس من العيش الكريم ،ويھبھم الفرصة
لالنطالق في ميدان الحرية بأمتع أشكالھا ومعانيھا ،ولالمتداد في االفق اإلنساني الوسيع!
أول مسلك في ھذا النطاق البن أبي طالب ،كان أن عالن الناس بمسؤوليته في إقامة ما ھو حق وتھديم ما ھو
باطل اعفاء لھم من محاولة فاشلة قد يفكرون باللجوء إليھا لمعصية أو إثم فردي ،مستشفعين لذلك بمودّة أو
قرابة أو مناصرة يراد بھا أج ٌر يُلحق الغبن بالجماعة! ثم إنّه قدّم ،لتقرير ھذه المسؤولية ،إرھاصات من قوله
وعمله قبل الخالفة وبعدھا .وأرى القوم مسلكا ً ذا وجه إيجابي يقوم بالتوجيه إلى الخير وبالعمل على تركيز
أسبابه والدوافع إليه .ومسلكا ً آخر ذا وجه سلبي يقوم بالشدّة في إقامة الحدود مع األبعدين واألقربين وفيھم
خص ُمه وأخوه .ث ّم إنّه مطمئنّ إلى ما يعرفه الناس ،كل الناس ،من زھده وتعفّفه ،والتزامه ما ال يلزم من أسباب
الزھد والتعفّف .وما ذاك إالّ امعانا ً في رعاية المستضعفين بالشعور والوجدان إلى جانب ما ھو عازم عليه من
ق ال من باب الجود واالحسان! مطمئنّ إلى نفسه السعي في رفع الجور عنھم ،ورفع الحاجة بما ھو من باب الح ّ
ق إلىق إلى مصفّى العسل وفي الشعب َمن ال عھ َد له بقرص الشعير ،وأن يُد ّل الطري َ وھو يأبى أن يُد ّل الطري َ
نسائج الق ّز وفي الشعب َمن ال طمع له بالطمر المرقّع؛ وأن يقال أميرالمؤمنين وال يشاركھم مكاره الدھر!
لقد ح ّرر عل ّي نفسه مما تقيّد به ُوالةُ زمانه من اغالل اإلشادة بالحسب والنسب! وح ّرر نفسه من المطمع في
الملك والمال والجاه والكبر واالستعالء! وح ّرر نفسه من العرف إن لم يدُر في نطاق العقل السليم والحاجة
االجتماعية والشوق االنساني الخيّر! وح ّررھا من تخصيص ذويه ومحبيه بما ينفعھم دون
] [ ١٦٥
سواھم ،ومن الحقد على أخصامه واالنتقام من مبغضيه! وحرر ضميره من ك ّل مناجاة بعمل ال يثق بصالحه أو
قول ال يرضاه ،فكان الضمير العمالق! ثم حرر جسده من شھوة المأكل والمشرب والملبس والمسكن إالّ ما كان
من الضرورات البديھية القاھرة .وھو لم يكن ليتناول ثمنا ً لھذه الضرورات من بيت المال العا ّم على حقّه في
الحصول على نصيب منه كبعض نصيب ع ّماله ووالته على األق ّل .فتُحدّثنا الرواية الثابتة أ نّه ربما باع سيفه
سع على العمال والوالة كي ال يضط ّروا إلى قبول الرشوة م ّما ودرعه وأمتعته ليأكل وبنيه باثمانھا ،فيما كان يو ّ
ق ومسايرة الباطل!يؤدي إلى ظلم الح ﱢ
ح ّرر اإلمام عل ّي نفسه من ھذه األمور جميعا ً ليت ّم له أن يتفلّت من ك ّل قيد يحول بينه وبين العدل على الصديق
والعد ّو معا ً .ويوجز ،ھو نفسه ،حالته ھذه بقوله» :من ترك الشھوات كان ح ّراً«.
أ ّما تقواه فما كانت إالّ تقوى األحرار ،يؤمنون فيعملون بوحي ما يؤمنون به ال تظاھُر ھناك وال مواربة! ال
خشية من عقاب وال طمع في ثواب!
أ ّما ضمان الحريّة للناس ،فيقوم في الدرجة األولى على العمل .وقد أنزل اإلما ُم الجس َد العامل من األرض منزلة
القلب الكريم من الجنّة فقال في الطيبين» ،قلوبھم في الجنان وأجسادھم في العامل «.ويقوم نفع العمل بإثابة
العامل بما يعمل ،على ما سيأتي بيانه بالتفصيل.
وإعال ًء منه لشأن الحرية ،والعمل الح ّر ،أشترط أالّ يُجب َر عامل على عمل .فالعمل الذي ال يواكبه الر ضا
الوجداني العميق ،فيه إساءة إلى الحرية ثم إلى العمل ذاته .يقول» :ولست أرى أن أجبر أحداً على عمل
للحث على العمل الذي يفيد الجماعة ،وللمحافظة على الحرية الفردية في وقت واحد ،بأن ّ يكرھه« .ويكتفي
يجعل نتيجة العمل من حق العامل وحده ،وبأن يحرم َمن كرھه لغير مب ّرر مقبول» :والنھ ُر لمن عمل دون من
ك ِرھَه«.
] [ ١٦٦
نطاق ھذا البحث .فلو استعرض المرء لفظة الحرية في ذلك العصر ِ وھنا الب ّد من اإلشارة إلى أمر ذي خطر في
ل َما وج َد لھا مدلولھا الواسع العام إالّ في نھج اإلمام عل ّي .فإنّ كلمة الحرية ومشتقّاتھا جميعاً ،لم يكن لھا من
المدلول في عصر اإلمام إالّ ما يقوم منھا في معارضة الر ّ
ق .فالحرية ضد العبودية ،والح ّر ضد العبد أو الرقيق.
فلو نظرنا في المدلول الصحيح لكلمة عمر بن الخطاب المشھور» :متى استعبدتم الناس وقد ولدتھم أمھاتھم
أحراراً« لرأينا أن صيغة ھذه العبارة ،والظرف الذي قيلت فيه ،والدوافع التي أھابت بابن الخطاب إلى قولھا،
تتفق جميعا ً على أن عمر ال يعني باإلحرار إالّ أولئك الذين ليسوا عبيداً يباعون ويشترون.
أما لفظة »األحرار« التي تعني أصحاب الحق في القول والعمل الحر ،فليست تلك التي يوردھا ابن الخطاب في
عبارته ھذه .نضيف إلى ذلك دليالً آخر ،ھو أن عمر ّ
توجه بقوله ھذا إلى الذين يستعبدون الناس فيأمرھم باال
يسترقّوا َمن ولدتھم أمھاتھم أحراراً .وھو لم يتوجه بقوله ھذا إلى االرقاء أنفسھم فيأمرھم بأن يثوروا على
ّ
موجھة إليھم وحدھم،
ّ مستعبديھم شرا ًء وبيعا ً .إذن ،فاألمر منوط بإرادة االسياد في كلمة عمر ،والنصيحة
واألفضل أالّ يسترقّوا المستضعفين من الناس.
بنص صريح له، ﱟ أما عند عل ّي بن أبي طالب فاألمر غير ذلك .ومفھوم الحرية أوسع وأع ّم .نستد ّل على ذلك
أوالً ،ثم بما نستنبطه من دستوره العا ّم الذي نرى منه وجوھا ً في معظم أقواله وعھوده ووصاياه .فإزاء كلمة
عمر التي أشرنا إليھا ،يقول عل ّي نصا ً» :ال تكن عبد غيرك وقد جعلك ﷲ حراً «.فانظر كيف ّ
توجه عل ّي بقوله
إلى َمن يريده أن يثق بنفسه ويستشعر روح الحرية ومعناھا ،فألقى في نفسه ما يوقظه على أصل من أصول
وجوده ،وھو أن طبيعة الكون جعلته ح ّراً ال يتم ّرد وال يُطيع وال يعمل وال يقول إالّ على
] [ ١٦٧
ق الطبيعي .وھو بذلك إنّما يلقي في نفسه بذور الثورة على كل ما من شأنه أن يضيّق عليه أساس من ھذا الح ّ
ويسلبه حقّه في أن يكون ح ّراً.
يتوجه إلى األسياد فيأمرھم باالّ يستعبدوا احداً، ّ وال يظنّنّ القارئ أن الفرق بسيط بين كلمة عمر بن الخطاب إذ
يتوجه إلى الكافّة فيخبرھم بأنھم أحرار ،ويجعل األمر مرھونا بإرادتھم ھم ،ال
ً ّ علي بن أبي طالب إذ
ّ وبين كلمة
ق يتناول األصول بإرادة األسياد إذا شاؤوا استعبدوا وإذا شاؤوا أعتقوا .فالفرق في نظرنا شائ ٌع عظيم .وھو فر ٌ
صه ھذا ،نابعة من أصولھا ال الفروع .ويشير إلى عمق نظرة اإلمام عل ّي إلى مفھوم الحرية .فالحرية ،في ن ّ
ي في ذلك ق في أن يق ّرروا مصيرھم استناداً إلى أنھم أحرا ٌر حقا ً ال رأ ّالطبيعية :من الناس الذين لھم وحدھم الح ّ
لمن يريد أن يسلبھم ھذه الحرية أو »يمنحھم« إياھا.
ومن عمق ھذه النظرة العلوية إلى الحرية ،أنّ عليّا ً يق ّرر بقوله ھذا ،أن الحرية عمل وجدانّي خالص ،مالز ٌم
سر عليھا ،ألنّھا نابعةٌ من الذات ال تلقائية
للحياة الداخلية التي ترسم بذاتھا الخطوطَ والحدو َد والمعاني فال تُق َ
وال خارجية .وھي إذا كانت كذلك فليس ألحد أن يُك َره اآلخر أو يجبره في ھذا النطاق ،ألنّ عمله ھذا يأتي فارغا ً
ي معنى ،خالصا ً من أي أثر.من أ ّ
ق جذري ال فرعي :ھناك حرية وأحرار تُناط قضاياھم بإراد ِة َمن يبيعونإذن ،فالفرق بين كلمتي عمر وعل ّي فر ٌ
ويشترون ،فھي حريةٌ معلّقة وھم أحرار مسيّرون .وھي حرية شكلية ال تنبع بحدودھا ومعانيھا من معينھا
سم خطوطُھا خارج الذات وخارج الوجدان .وھم أحرا ٌر أُقصوا عن وجداناتھم وارتبطوا باتّفاقات الطبيعي بل تُر َ
ومعاھدات .وھنا حريّة وأحرار تناط قضاياھم بالطبيعة اإلنسانية نفسھا ،وھي طبيعة ح ّرة بأصولھا وينابيعھا.
فالحرية إذن مطلقة وحدودھا الرفض والقبول ضمن نطاق الحياة الداخلية والوجدان .واألحرار
] [ ١٦٨
ي ھذا ،ھي التي تخلق الثوراتمخيّرون يقبلون ويرفضون عن اقتناع وعن إيجابية .والحرية بمفھومھا العلو ّ
وتنشئ الحضارات وتقيم عالقات الناس على أُسس التعاون الخيّر ،وتربط األفراد والجماعات بما يشدّھم إلى
الخير ألنّ االرتباط حين يكون طرفاه االقتناع والقبول ھو وحده الطبيعي بين االرتباطات.
ول ّما كان مفھوم الحرية عند عل ّي ھو ھذا المفھوم الدقيق العميق ،كان الب ّد لمعناھا من أن يكون ھو المعنى
صة والعا ّمة .إلى ك ّل ما يرتبط بوجدانات الناس ونزعاتھم وحياتھمالذي يُنظَر على أساسه إلى األحوال الخا ّ
الداخلية ،وإلى ك ّل ما يتّصل بالعالقات العا ّمة .وكان الب ّد أن تُبنى عليه حقوق اإلنسان.
سك الشديد بحيث تتساوق منبثقاتُھا جميعا ً وتتعاون ،وبحيث ول ّما كانت شخصيّة عل ّي بن أبي طالب من التما ُ
تتّحد في أصلھا األصيل وغايتھا األخيرة .فإنّك ال شك واگجد ھذا المفھوم للحريّة أنّي اتّجھتَ معه وأيّانَ سرتَ .
صلةَ الوثيقة بين معنى من معانيه ،أو عمل من أعماله ،وبين ھذا المفھوم للحريّة ،فما أ ّما إذا فاتك أن تلحظ ال ّ
عليك إالّ أن تعيد نظرك من جديد في ما أنت ب َ
صدَده فإذا أنت أمام ھذه الصل ِة الوثيقة وجھا ً لوجه.
سك الشخصية بحيث ال يتناقض أبداً .وھو من سالمة الطبع وأصالة الفكر بحيث الفعل ّي بن أبي طالب من تما ُ
أسباب
ٌ يتعارض .وسوف نُبرز ھذه الناحية الھا ّمة في بن أبي طالب في فصل آت عقدناه ودفعتناه إلى عقده
ذكرنانا.
من المعروف أنّ نظرية القضاء والقدَر لھا مكانٌ في األديان الشرقية جميعا ً.
] [ ١٦٩
وأنّ لھا أصوالً بعيدة في فلسفات القُدامى وفي مفاھيمھم اإللھية وما يتّصل بھا من ُ
سنَن أخالقية كان لھا في
توجيه األفراد عم ٌل ملحوظ وإن كان محدوداً.
ومن المعروف كذلك أنّ مذاھب كثيرةً نشأت في المسيحية واإلسالم وغيرھما من غاياتھا تعلي ُل الحوادث
صة والعا ّمة ،القريبة والبعيدة ،على ضوء ھذه النظرية .وال غرابة في أن تترتّب على ھذا االسلوب في
الخا ّ
صة في األخالق والمسلك ترفع المسؤولية في العمل عن المتسبّب فيه لتلقيھا على
تعليل الحوادث ،مناھج خا ّ
القضاء والقدر.
الطبيعي لديھا
ّ ول ّما كان من أصول ھذه المذاھب القدرية أن تجعل زما َم الحوادث بيد القدَر وحده ،فقد بات من
تعطيل ك ّل معن ًى من معاني الحرية التي تفرض وجو َد القدرة على االختيار ،وتجعل المختار في النتيجة مسؤوالً
أل نّه ح ّر.
لناقض نفسه ولَ َما كان لقوله في الحرية شأنٌ .فإنّه ال يكون إذ ذاك أكثر من قول عابر ال يصدر
َ إنّه لو قال بذلك
عن أصل عميق وال يھدف إلى غاية معلومة وال يعبّر عن حقيق ِة قائلة إالّ بمقدار ما تعبّر الخاطرةُ الطارئة
الذاھبة!
أ ّما إذا كان لقوله في الحرية ھذا الشأن الذي نراه ،فإنّه منك ٌر َ
سوق اإلنسان بيد القدَر إنكاراً شديداً وال شك.
وإنّه ناظر إلى القدَر بعين َمن ال يضع إمكاناته فوق إمكانات اإلنسان الح ّر الذي يرى ويعلم ويختار ويتّجه!
] [ ١٧٠
وماذا قال؟
األجر على مسيركم وأنتم سائرون .وعلى ُمقامكم وأنتم مقيمون .ولم تكونوا في شيء من
َ »إنّ ﷲ قد أعظم لكم
حاالتكم ُمك َرھين وال إليھا مضط ّرين!«
فقال الشامي:
»كيف يكون ذلك والقضاء والقدر ساقانا ،وعنھما كان مسيرنا وانصرافنا؟«
فقال له عل ّي:
ت
الثواب والعقاب ولم تأ ِ
ُ »ويحك يا أخا أھل الشام! لعلّك ظننتَ قضاء الزما ً وقدَراً محتوما ً! لو كان كذلك لبطل
الئمةٌ لمذنب وال محمدةٌ لمحسن ،ولَ َما كان المحسن أولى بثواب اإلحسان من المسيء ،وال المسيء أولى
بعقوبة المذنب من المحسن!«
قلنا إنّه ل ّما كان مفھوم الحريأ عند عل ّي ھو ھذا المفھوم الدقيق العميق ،كان الب ّد لمعناه من أن تُبنى عليه
حقوق اإلنسان .وھذا ما نراه واضحا ً كل الوضوح في دستور عل ّي في الناس .فھو يعترف لإلفراد بحقّھم في
االنتخاب واالعتزال ،وفي القول والعمل ،وفي العيش الكريم ،ثم يساوي بينھم جميعا ً في الحقوق والواجبات.
وال يجعل لھذه الحرية حدوداً إالّ إذا اقتضت مصلحة الجماعة مثل ھذه الحدود.
ونحن إذا تابعنا سيرة اإلمام في الناس ،كما تبينّاھا في الفصول السابقة وكما سنتبيّنھا في الفصول الالحقة،
ألفيناه ال يعارض بتصرفاته ودستوره ھذا المفھوم للحرية في كثير أو قليل .وقد عالج ھذا المفھوم تلقينا ً
وتطبيقا ً في إقامة
] [ ١٧١
الحقوق العامة .ورعاه في أصحابه وأعدائه على السواء .وقد م ّر بنا في مطلع ھذا الفصل ،كيف ق ّرر أ نّه ال
سخر أح ٌد في عمل .وم ّر معنا في الفصل السابق كيف أ نّه
يجوز إجبار أحد على أن يعمل ما يكره عمله .وال أن يُ ّ
لم يستكره بعض الناس على مبايعته بل تركھم على خطأھم ،وھو واثق بأنھم على خطأ .ولماذا يستكرھھم،
طالما أن بقاءھم على خطأھم ال يؤذي الجماعة وال يسيء إلى الحقوق العامة ،وطالما أنھم اختاروا ألنفسھم
ھذه الطريق راضين ع ّما يصيبھم فيه من خير أو شر» :وأنتم أعلم بالحالل والحرام ،فاستغنوا بما علمتم«.
ويقول مخاطبا ً المغيرة بن شبعة» :وقد أذنتُ لك أن تكون من أمرك على ما بدا لك!«
من ذلك أيضا ً أنّ حبيبا ً بن سلم الفھري جاءه م ّرةً يقول :اعتزل أم َر الناس فيكون أمرھم شورى بينھم .فقال
عل ّي :وما أنت وھذا األمر؟ اسكت فانّك لست ھناك وال بأھل له .فقال حبيب وقال :وﷲِ لترينّي بحيث تكره!
وجه به أحدھم إلى بن أبي طالب والزمانُوليس بخاف على القارىء ما في ھذا القول من التھديد الصريح يت ّ
حرب عليه .ولكن ،ما كان من أمر عل ّي؟ ھل أمر به وفي يده أن يأمر وقد أطلق في وجھه مثل ھذا ٌ والناس
ُ
التھديد؟ أم ھل سجنه فمنع عليه أن يكون ح ّراً في عدائه وتأليب قومه عليه؟ أم ماذا؟
إنه لم يفعل شيئا ً من ھذا .بل نظر إلى صاحب التھديد وقال بلھجة الواثق من عدالته المعترف بحق اآلخرين في
أن يقولوا ويفعلوا» :وما أنتَ ولو أجلبتَ بخيلك ورجلك! ال أبقى ﷲ عليك إن أبقيتَ عل ّي! إذھب فص ّوب وص ّعد
ما بدا لك!«
نضيف إلى ذلك شواھد أُخرى تد ّل على مقدار ما كان يترك من الحرية الواسعة السمحة ألصحابه وأعدائه على
السواء .من ھذه الشواھد أن نفراً كانوا
] [ ١٧٢
يرحلون من الحجاز والعراق ويأتون الشام ليلحقوا بمعاوية ،فما كان عل ّي ليصدّھم أو يعرض لھم ،وما كان
يحاول استبقاءھم أو إغراءھم .فھم في مذھبه أحرار يعملون عن مدى تص ّورھم ويسلكون سبيلھم إلى ما
يريدون .يقول عل ّي» :اللھ ّم إني دللتُھم على طريق الرحمة وحرصتُ على توفيقھم بالتنبيه والتذكرة ،ليثيب
راج ٌع ويتّعظَ متذكر ،فلم يُطع لي قول .اللّھ ّم إني أُعيد عليھم القول«...
ق في الحرية .فمن شاءلقد دلّھم ھو على طريق الخير وخالّھم أحراراً ال يجبر وال يستكره .فليستخدموا ھذا الح ّ
منھم اھتدى ،و َمن لم يشأ فأمامه طريق الشام رحبة واسعة ،ومعاوية في انتظاره يُعطي فيُكثر العطاء!
ول ّما كتب إليه عاملُه على المدينة سھل بن حنيف األنصاري يخبره بأنّ قوما ً من أھلھا لحقوا بمعاوية ،كتب
عل ّي إليه يقول:
»أ ّما بعد ،فقد بلغني أنّ رجاالً م ّمن قِبَلك يتسلّلون إلى معاوية .فال تأسف على ما يفوتك من عددھم ويذھب عنك
من َمدَدھم .فإنّما ھم أھل دنيا مقبلون عليھا ومسرعون إليھا .وقد عرفوا العدل ورأه وسمعوه ووعوه ،وعلموا
ق أُسوة ،فھربوا إلى األثرة .فبُعداً لھم وسحقا ً! إنھم ،وﷲ ،لم ينفروا من جور ،ولمأنّ الناس عندنا في الح ّ
يلحقوا بعدل!«
ق الناس في الحرية الواسعة أسلوبه في معاملة الخوارج .فقد كان يحسن وشاھ ٌد آخر على معرفة عل ّي ح ّ
معاملة من أقام منھم معه .ويعرف أنّ أحدھم يھم بالخروج فال يستكرھه وال يستبقيه ،وال يرضى بأن يتع ّرض
له من أصحاب أحد .ثم إنّه كان يعطيھم نصيبھم من الفيء أسوةً بسائر الناس ،ويفسح لھم في المجال ألن
يتوجھوا حيث يشاؤون .فالحريّة أساس في المعاملة .والناس أحرار في ما يرون من عمل وقول ،ومواالة
ومعاداة ،إالّ أن يعتدوا على الناس ويُفسدوا في األرض فأنھم حينذاك غير أحرار .وإنّه حينذاك مقيم
] [ ١٧٣
ما ل ِز َمھم من الحدود في غير لين.
الخ ّريت بن راشد ،بأ نّه لن يأت ّم به ولن يشھد معه الصالة ولن يأتمر بما يأمر
وقد أخبره أحدھم م ّرة ،واسمه ِ
ّ َ ّ
ولن يكون له عليه سلطان .فما كان من عل ّي إال أن أق ّره على ما أرتأى وأراد وخاله ح ّراً في ما شاء .ثم كانت
الخ ﱢريت بن راشد بعدھا ومعه أصحاب له كثير .فما استكرھھم عل ّي على البقاء معه وال منعھم من أيا ٌم خرج ِ
الخروج ،وبيده أن يستكره وان يمنع .فل ّما اساؤوا استغالل ھذه الحرية فاعتدوا على الناس األبرياء ونھبوا
وعاثوا في األرض فساداً وتركوا على أنفسھم سبيالً ،ارسل عل ّي إليھم َمن أنصف منھم لألرض والناس.
ويھ ّزك في ابن أبي طالب من اعترافه للناس بح ّريتھم أكث ُر من ھذا .يھ ّزك فيه ھذا االنسجامال بين سيرته في
يصح عنه االنحراف .فھو معترفٌ بھذا ّ الناس وبين إيمانه بأنّ الحرية أص ُل إنساني ال يجوز فيه التأويل وال
ق في الحريّة ألصحابه حتى في أخطر المواقف عليه :في جھاد القاسطين والفاسقين وأھل الردّة عن الحق الح ّ
وقد مألوا األرض وطلبوا دمه في جملة ما يطلبون .فلما كان جھاد ھؤالء أمراً تقضي به كل المقاييس
والموازين ،ويقضي به الوجدان الذي يرعى العدالة والحق ،كان الب ّد البن أبي طالب .من أنصار في الحرب
وأعوان .ولكنه لم يكن ليستكره أحداً من ھؤالء األنصار على جھاد وقتال .ولم يكن يجبر قريبا ً أو بعيداً ،بما
لديه من حق الوالية وبما في يده من قوة السلطان ،على أن يثبتوا إلى جانبه في محاربة القاسطين الفاسقين.
لم يكن ليلجأ في ذلك إلى قھر مادّي أو معنوي .فالقھر ،بمختلف ألوانهُ ،مناف الصول النظرة العلوية إلى
ويتوجه إلى
ّ الحرية وشروطھا .إنّما كان يتوجه إلى عقول القوم بمنطق العقل وما لديه من حجة وبرھان.
قلوبھم وضمائرھم بمنطق القلب والضمير وما لديه من قوة ودليل .فيلحق به من
] [ ١٧٤
يلحق ويتخلّف عنه من يتخلّف .فيثبت األولين بالرضى والثناء ويعود على اآلخرين بأبلغ الوعظ وأبلغ النّصح
وأبلغ التحريض .فمن ظ ّل منھم حيث ھو ،فإنّه ح ّر .فعل ّي ال يقبل االكراه وال يجيزه .وھو يأبى أن يلحق به أحد
الناس عن غير بصيرة وغير إيمان .لذلك لم يجبر من الناس أحداً على أن يلحق به في حرب الجمل وحرب
صفّين وحرب الخوارج ،ولو شاء لجنّد من الناس ملء السھل والجبل!
] [ ١٧٥
ـ ولجأ عل ّي إلى توسيع معاني الح ّرية لدى معاصريه ،وفي الوقت نفسه لجأ إلى توسيع الشعور بالمسؤولية.
إذن ،فالحرية مكفولة أصالً في نھج اإلمام ودستوره في الناس :يكفلھا الواجدان االنساني بوصفه قوةً ال تعمل
باالكراه .وتكفلھا قوانينُ الطبيعة التي ال يمكن االعتداء على حركتھا الح ّرة في قليل أو كثير .ويكفلھا العم ُل
االجتماعي الصحيح الذي ال يستقيم إال بمقدار ما ھو خاضع ألصول الوجدان اإلنساني وقوانين الطبيعة الثابتة
يحس ح ّراً ،ويفكر حراً ،ويقول حراً .وال يجوز إجباره في غير ھذه
ّ على ح ّريتھا .فاإلنسان إذن ح ّر بأصوله:
الحدود إالّ إذا جاز إفناؤه.
فانتَ ال يمكنك أن تقضي على نور الشمس إالّ إذا منعته عن غايته
] [ ١٧٦
في اإلنارة وإشاعة الدفء بحاجز تقيمه بين أش ّعته وبين غايته .إذن فقد أخرجتَه إلى نطاق من اإلمانة واإلفناء.
وأنت ال يمكنك أن تبدّل من مجاري الرياح إالّ إذا صدمتَھا في طريقھا إلى غايتھا بما يثبت لھا .إذن فقد قضيتَ
عليھا ،حيث صدمتَھا ،باإلماتة واإلفناء!
وكذلك موجة البحر وزھرة القفر وطير السماء .فك ّل ما في الكون ح ﱞر بأصوله وشروط وجوده ال يبل إالّ بھذه
الحرية قانونا ً وإالّ تعطّل وانتھى أمره.
ھذه الحرية ھي التي أدركھا ابن أبي طالب في أعماقه ادراكا ً بعيداً فانطلق لسانه بما أدرك من أمرھا في نفسه.
وعمل بوحي ما أدرك وما قال عمالً يبرره ھو ،وتبرره القوانين الطبيعية ،وتبرره القوانين الطبيعية ،وتبرره
غاية اإلنسان ومصلحة المجتمع .وقد عرفنا من قوله وعمله ھذين الشيء الكثير .وعرفنا كيف سعى في توجيه
حركة االفراد عمالً بشروط ھذه الحرية .وإنّ أمراً أساسيا ً واحداً يتعلق بحرية اإلنسان االجتماعي لم يفته ،فإذا
ھو يرعى حرية األفراد إلى أقصى ح ّد ضمنَ نطاق من حرية الجماعة ومصلحتھا وغاية وجودھا.
ففيما نرى نفراً من مفكري اليونان القدماء ،ومفكري أوروبا في العصر الوسيط ،ينظرون في حرية األفراد
دونما اھتمام بمصلحة الجماعة وبالحرية العامة ،فيقودھم تفكيرھم إلى أن يبيحوا خروج الفرد على الجماعة
واستئثاره بما ھو من حقھم؛ وفيما نرى نفراً آخرين من المفكرين ينظرون في مصلحة الجماعة دونما اھتمام
بحرية الفرد وما له من حقوق .فيبيحون الضغط على الوجدان والتسخير في العمل؛ نرى ابن أبي طالب ينظر
في حرية الفرد ومصلحة الجماعة نظرة موحدة شاملة .فال يغبن ھذا وال يؤذي تلك .بل يقيم بينھما انسجاماً
يجعل الفرد جديراً باستخدام حريته .ويجعل الجماعة خليقة باالستفادة من االجتماع .بل قل يجعل الفرد للجماعة
والجماعة للفرد في نطاق من الحرية
] [ ١٧٧
الرحبة السمحة .وسوف نعود إلى مثل ھذا الحديث في كالمنا على شؤون األرض والمال وطرق االستغالل.
ولكي يجعل عل ّي حرية الفرد في نطاق من حرية الجماعة ومصلحة أھلھا ،قاده النظر العميق إلى اكتشاف
حقيقة اجتماعية اساسية .وھي أن الناس المرتبطين بالمجتمع ،الب ّد لھم من توجيه شعورھم بالحرية توجيھا ً
معيّنا ً ال يح ّد من أصول ھذه الحرية ،بل يمنع استخدامھا على أسلوب بدائي يض ّر باآلخرين .فحرية األفراد لديه
ليست الحرية اإلباحية الرعناء .بل ھي مقترنة أبداً بالشعور بالمسؤولية .ولكي يجعل ھذا الشعور بالمسؤولية
أمراً ال يتعارض مع الشعور بالحرية الواسعة ،لم يلجأ ،شأن بعض الفالسفة والمفكرين األقدمين ،إلى التضييق
على الناس في معنى الحرية .بل لجأ إلى وسيلة ھي في نظرنا أج ّل الوسائل شأنا ً وأعظمھا قيمةً وأدلّھا على
عمق األغوار االنسانية والمفاھيم االجتماعية في شخصية ابن أبي طالب.
لجأ إلى توسيع معنى الحرية في مدارك الناس؛ وفي الوقت نفسه لجأ إلى توسيع معنى الشعور بالمسؤولية.
ومن آياته في ھذه الوسيلة الرائعة ،ما سوف نذكره من أمره مع أھل القرية الذين شاؤوا أن يحفروا مجرى
ّ
يسخرھم ،بل ّ
يسخرھم في العمل .فأمره عل ّي بأالّ النھر الذي عفا ودرس .فطلبوا إلى عامله على قريتھم أن
يطلب إليھم أن يعملوا في الحفر ويتقاضوا على ذلك أجراً .ثم أن يكون األجر ،والنھر فيما بعد ،لمن عملوا بمل
حريتھم ،ولمن شعروا بأنھم مسؤولون ع ّما عملوه وھم أحرا ٌر في أن يثابوا خيراً وفي أالّ يثابوا!
وكأني بعل ّي يحيا منذ بضعة عشر قرنا ً ھذه العاطفة الكريمة التي ص ّورھا العبقري الفرنسي جان جاك روسو
منذ قرنين إذ قال» :إن إيماننا باإلنسان ووالءنا لإلنسانية ،ھما اللذان يثيران في طبيعتنا الخيّرة أعمق الدوافع
ّ
المسخر إنسانا ً بشريا ً نابھا!« ألن نجعل من البليد
] [ ١٧٨
لقد تعيّن في دستور عل ّي ،أنّ الحرية الحرة يجب أن تصقل نفسھا فتقيد بالشعور بالمسؤولية وھو ال يؤذيھا،
بل ينفعھا وينفع العمل الفردي واالجتماعي .لذلك لم يجعل المسؤولية بحدودھا الشكلية الظاھرة ،ھي المح ّرك
والباعث على العمل الصالح .بل جعل الحرية نفسھا مسؤولة .وجعل األحرار مسؤولين .وناط مقدار ھذه
المسؤولية بمقدار الحرية .فإذا كانت المسؤولية ال تتبلور في االفكار الجامدة والقلوب المأسورة والعواطف
المكبوتة والشخصيات المحدودة .فألنھا ال تتبلو إال في نطاق الحرية التي تطلق األفكار والعواطف الشخصية،
وتمدھا بالغذاء النافع المق ّوي.
وبھذه النظرة يكون عل ّي قد رفع القيود الضيّقة واألغالل الثقيلة التي تفرضھا السلطات على الناس كي يجنوا
لمجتمھم عمالً كثيراً .فإذا بھم عاجزون عن أن يعملوا ألنھم غير أحرا .وإذا بالمسؤولية في نظرھم ال تنبع من
أفكارھم وأحاسيسھم الحرة الطليقة التي بھا وحدھا بُج ّود العمل ،بل ھي شيء مرتبط بإرادة السلطة وبغمزة
عين من الحاكم .وإذا بعزائمھم تثبط ورجولتھم تضعف وقواھم تذھب في غير طريقھا المستقيم.
بعد أن ترك اإلمام األفراد في مجتمعه السليم أحراراً مخيّرين ،وترك لھذه الحرية نفسھا أن تقودھم إلى الشعور
بالمسؤولية ،وإلى التفكير الدائم بأنھم مرتبطون بمجتمع له عليھم حقوق ،راح يحكم ويضع النظريات ،على
اصول من ھذه الحقيقة؛ فيثب على ضوئھا ويعاقب ،ويأمر وينھي ،على ما رأيناه ثم على ما سنراه بالتفصيل.
***
وإننا إذ نكتفي بھذا القدر اليسير من الكالم على الحرية ومفاھيمھا عند عل ّي ،ندعو القارئ إلى انتظار فصول
آتية نتحدث فيھا مط ّوالً عن ھذه الحرية ،وذلك في أساس الكالم على المبادئ اإلنسانية بين ثورة عل ّي
] [ ١٧٩
والثورة الفرنسية الكبرى .ولَسوف يرى القارئ إذ ذاك مقدار ما ترك عل ّي في آثاره من أفكار ثورية عميقة،
جديرة بالحياة ،داعية إلى التط ّور .ومقدار ما أدرك من روح الحرية التي ال يجوز معھا إرھاب للضمير وال
تخويفٌ للنفس ،والتي ال تعترف من اإلنسانية إالّ بوجھھا الجميل وخيرھا األصيل!
] [ ١٨٠
ـ عل ّي :ال!
قلنا إنّ الحرية بمفاھيمھا الواسعة ھي مصدر األصالة في حكومة عل ّي ،وفي سياسته .وإنّا لديه مرتبطة
بعالقات أبناء المجتمع بعضھم ببعض بقدر ما ھي مرتبطة بالضمير والوجدان .ثم إن اإلنسان الصاعد في
طريق التعاون والتآخي ،ال يمكنه ھذا الصعود إن لم يكن حراً بجانبيّه الذات ّي واالجتماعي .فليس حراً ذاك الذي
ال يصفو ضميره من الشوائب التي تحطّ بالقدر اإلنساني .وليس حراً ذاك الذي يھمله المجتمع عمليا ً وإن أق ّر
بحقوقه ،أو ببعضھا .إقراراً نظريا ً.
في سبيل ھذا البناء في الفرد وفي الجماعة ،وقف عل ّي من محبّيه و ُمبغضيه
] [ ١٨١
ق وال يزعزعه ع ّما ھو عليه وع ٌد أو وعيد. على السواء موقفَ المص ّمم العازم ال يقھره مطم ٌع في غير الح ّ
ق العلم
صعب مستصعب« .وكان يعلم ح ٌّ ق العلم أنّ ذاك ثقي ٌل على بعض الناس فيقول» :إنّ أمرنا وكان يعلم ح ّ
صةً فيقول» :والح ّ
ق ثقي ٌل على ال ُوالة ...وك ّل حق ثقيل!« ّ خا الةوُ ال على ل
ٌ ثقي أيضا ً أن ذاك
ق على ال ُوالة والوجھاء أم خفَ ،فإنّ عقله وضميره جميعا ً يأمران وما ولكن سوا ٌء عند ابن أبي طالب أثَقُ َل ،الح ّ
لغيرھما شأنٌ لديه .وھما يأمران بأالّ يُھ َمل الظامئون إلى العدل االجتماع ّي وأال يھونَ على المشترع والحاكم
ّ
أم ُرھم فيعانوا من الحاجة ما يُذلّھم فيُصلقھم باألرض ،ويقاسوا من الجوع ما تجفّ به حلوقُھم وتستعر
وأجة الليل ،أو يقرقفوا تحت سوط الرياح في زمھرير الشتاء! وھما يأمران بأالّ بح ّر الھجير ّ أجوافھم ،ويُح ّرقوا َ
ّ
المتبذخين تخمين والمترھّلين اآلكلين على شبع والشاربين على غير ظمأ، تُترك خيراتُ األرض بين أيدي ال ُم َ
بأموال العا ّمة على غير جھد وغير بَالء! أولئك الذين أخذوا الدنيا كما يأخذھا الفي ُل إذ يكتفي من دنياه بقرض
يفجر ينابيعه ،واالستراح ِة في الظ ّل بع َد استراحة لم يسبقھا عناء!
ب ماء لم ّ عشب لم يزرعه ،وشر ِ
وقد صدق ظنّ ابن أبي طالب في أنّ النافذين والوجھاء من القوم لن يتحملوا أسلوبه في الوالية ولن يطيقوا
صالبته في الدفاع عن ھذا األسلوب ،على نحو ما أعلن قبل البيعة .فقد أرادوه ،بعد البيعة ،أن يكون لھم دون
العامة ،فأبى أن يكون لغير الحق.
جاءه طلحة والزبير يساومانه قائلين» :نبايعك على أنّا شركاؤك في ھذا األمر!« فقال غير متردّد :ال! فتف ّرقا
عنه ،وزحفا عليه بالجيوش على ما سيأتي بيانه ،وعل ّي أعل ُم الناس بما لطلحة والزبير من نفوذ ومكانة .ولكنه
العدل! ولكنه ابن أبي طالب الذي يقول لھؤالء وھؤالء» :أتأمرونني أن أطلب
] [ ١٨٢
إنّ الطعام ال يُقدﱠم إلى شبعان ،كما يقول عل ّي .والثروة قليلةً كانت أو كثيرة ،ال تكون مشروعةً في مذھبه إالّ إذا
كانت عن غير طريق االحتكار واستغالل العا ّمة واإلفادة من السلطة.
بعض ما أجرموا .وللظالمين بعض ما ظلموا .غير أ نّه ال يغتفر جريمة االحتكار َ علي للمجرمين ّ وقد يغتفر
ونھب أموال الشعب .وال يغتفر لطبقة المحتكرين أن يظلموا العامل والكادح والمستض َعف بخبزھم ومائھم .وإنّ
ي المضعيف ،والمحتكر للعا ّمة،الظلم بألوانه جميعا ً لعنةٌ على لسان ابن أبي طالب .غير أنّ أفحشه ھو ظلم القو ّ
والحاكم للمحكوم .وعل ّي ال يتسامح بمثل ھذا الظلم الذي يخلق في المجتمع الطبقية المادّية ،ورذائلھا
وجرائمھا.
الحجة الصريحة على المستغلّين والغاصبين في أدب عل ّي ،كثيرةٌ وافية .فأنّى اتّجھتَ في ّ واألدلّة التي تقيم
تحس تلك الحرقة التي تُلھب أقوال عل ّي ساعةَ يتحدّث عن االستغالل والغصب .ويكاد يتحدّث ّ »نھج البالغة«
ق بأنّ الغصب جريمة اجتماعية عنھما في ك ّل خطبة له وفي ك ّل مقال .وفي أقواله جميعا ً ما يدل على أ نّه واث ٌ
والمستغل مجر ٌم أيّا ً كان .وأن جمع المال من غير طرقه الطبيعية إنّما له تَبِعاتٌ جسا ٌم تَل َزم صاحبَھا على كال
حال.
» ...ويتذ ّكر أمواالً َج َم َعھا وأغ َمض في مطالبھا ـ أي لم يف ّرق بين حالل وحرام ـ وأخ َذھا من ُمص ّرحاتھا
ومشتبّھاتھا ،وقد لزمته تبعاتُ جمعھا!« أ ّما كسب الحالل الذي ال يد فيه الستغالل أو احتكار ،فيقول عل ّي في
صاحبهَ » :من َمات من كسب الحالل مات وﷲ راض عنه!«
] [ ١٨٣
واستغالل النفوذ ونھب األرزاق وسائر ما شيّده أولئك األثرياء الذين يقول في أمثالھم» :وأ ّما األغنياء من
مواقع النّعم« .فخطب الناس يقول:
ِ صبوا آلثار
ترف ِة فتع ّ
ُم َ
ق ال يبطله
»أال إنّ كل قطيعة أقط َعھا عثمان ،وكل ما أعطاه من مال ﷲ ،فھو مردود في بيت المال .فإنّ الح ّ
ق
تزوج به النساء وف ّرق في البلدان لرددته .فإن العدل في سعة .ومن ضاق عليه الح ّ
شيء .ولو وجدتُه فد َ
فالجور عليه أضيق!«
قد يعل بعض الوالة وأصحاب السلطان فال يُثيبون على غير جھد ،وال يبذرون مال الشعب بإرادة متق ّرب أو
قريب ،أو بإشارة صديق أو حبيب .أ ّما أن يعود وال إلى ما أيسروا في عسر الشعب ،في أيام لم تكن أيامه،
فيحاسبھم ،فيستعيد منھم ما ليس لھم ،فتلك داللة على عمق نظرته إلى األمور ،وعلى أن إيمانه بالعدالة
سر لجميع الناس من اإليمان .بل انه موط على دعائم من العقل الرجيح الذي ال تفوته االجتماعية ليس ما يتي ّ
خفايا األمور وال يطغى عليه عُرف العصر والناس .فإذا كان للمرء أال يُثاب إالّ في نطاق من خدمة الجماعة،
ق مايتي ألف درھم تُبذل له من مال الشعب ،يومفأي جھد في سبيل الجماعة بَ َذلهُ الحارث بن الحكم حتى يستح ّ
زواجه ببنت عثمان ھو ھذا الجھد وھذه الخدمة!؟ُ عرسه ،إن لم يكن
ي جھد في سبيل الجماعة قدَمه طلحة والزبير حتى يحصال على أموال الدولة بغير حساب ،ويقطعا ما ال طَ َم َع وأ ّ
ببعضه للماليين من الناس؟ من أين ألحدھما ،الزبير ،أن يقتني من األرقّاء ألف عبد وألفَ أ َمة؟ أ ّما إذا كان لھما
معاش والناس في المعاش ٌ فضل السابقة في اإلسالم ،فإن الفضل في ذلك عند ﷲ ،كما يقول عل ّي ،والدنيا
أُسوة!
وما ھي وجوه الخير التي أطلّت على الشعب مع الوالة من قرابة عثمان
] [ ١٨٤
سع عليھم في الملك واألموال والثروات واألجناد والتحكم في الرقاب؟ وفي ھؤالء معاوية
وأنصاره كي يو ّ
الراشي والحكم بن العاص وعبدﷲ بن سعد وغيرھم من األھل واألنصار؟!
من أين لمعاوية فلسطين وحمص تُض ّمان إلى واليته ،واألجناد األربعة تُجمع له قيادتھا.
أجل ،يا ھذا! من أين ھذا؟! كيف حصلتَ على ھذه القصور وھذه األموال وليس في أعمالك ما يثبت على صعيد
الخدمة العا ّمة فيما لو أطلّت عليك الشمس!!
وھنالك أم ٌر جدير بأن يُنظ َر فيه .وھو أنّ عليّا ً كان يحسب اقتطاع األرض بالقرابة والنفوذ في جملة المال
المنھوب .ذلك ألنّه يعرف ،بحكم الواقع ،أنّ ھذه األرض مصدر ثروة ثم علّة تملّك .ثم يرى بسديد عقله أن
مقتطعيھا من الحكام واألثرياء والنبالء ال شك أنھم سيسعون في استرقاق العا ّمة لخدمة ھذه األرض واستخراج
ّ
تضخم الثروة لديھم ،فيما يتضاءل اآلخرون شيئا ً فشيئا ً .ثم يعود أصحاب خيراتھا مما يجعل األرض سببا ً في
االقطاعات الكبيرة فيشترون من صغار المالّكين ما يملكون ،حتى تتألف في الشعب طبقة االقطاعيين وطبقة
المغبونين .يقول علي» :وال يطمعنّ منك في اعتقاد عقدة ـ اقتطاع ضيعة ـ بمن يليھا من الناس في شرب أو
عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرھم«.
] [ ١٨٥
أصحاب الضياع الواسعة من النفوذ والسلطان واسترقاق الناس فيُ وقد صدقت نظرة اإلمام إلى ما يصير إليه
ت االقطاعات الكبيرة الضخمة والضياع سبيلھا ،ثم بھا! يقول الدكتور طه حسين في كتابه »عثمان«ُ » :وجد ِ
الواسعة العريضة من جھة ،وقام فيھا العاملون من الرقيق والموالي من جھة أخرى ،فظھرت في اإلسالم طبقة
جديدة من الناس ھي طبقة البلوتوقراطية التي تمتاز ،إلى ارستقراطيتھا التي تأتيھا من المولد ،بكثرة المال
وضخامة الثراء وكثرة األتباع أيضا ً!«
نصيب أكثر من سواه ،في مذھب عل ّي ،إالّ بجھد ٌ إن المال واألرض ،والخيرات الناجمة عنھما ،ليس ألحد فيھا
وحاجة .و َمن أبي ھذه الحقيقةَ فقد خان الشعب »وأعظ ُم الخيانة خيانة األ ّمة« في نظر اإلمام .و َمن خان األ ّمة
ي له ،وال شأن لموقفه من الخليفة الجديد .لذلك ھو عازم على أن يعمل بما يحفظ لھذه االمة حقوقھا. فال رأ َ
وابن أبي طالب إذا عزم ال يخشى موقف النافذين منه وال قولھم فيه .وال ھو يأبه للحاقھم بأخصامه ومحاربيه.
فھو الحق الذي يعزم والعدالة التي تنطق .وليس حتى ألصحاب النب ّي والمجاھدين معه فض ٌل بھذه الصحبة وھذا
الجھاد على غيرھم من الخلق:
وفجروا االنھار ،وركبوا الخيل ّ »أيھا الناس ،أالَ ال يقولَنّ رجال منكم غداً قد َغ َمرت ُھ ُم الدنيا فامتلكوا العقار،
واتخذوا الوصائف المرقّقة ،إذا ما منعتُھم ما كانوا يخوضون فيه وأصرتُھم إلى حقوقھم التي تعلمونَ :ح َر َمنا
ابنُ أبي طالب حقوقنا! أال وأيّما رجل من المھاجرين واالنصار من أصحاب رسول ﷲ يرى أن الفض له على
سم بينكم بالسويّة ،وال فضل فيه ألحد سواه بصحبته ،فإن الفضل غداً عند ﷲ فانتم عباد ﷲ ،والمال مال ﷲ ،يُق ّ
على أحد«.
] [ ١٨٦
العا ّمة ،لو الدافع األول الذي حمل أولئك الوجھاء على ترك ابن أبي طالب وااللتحاق بابن أبي سفيان على ما
ضل شريفا ً على مشروف ألن مقاييس الشرف في عمله لم تكن سيأتي بيانه بالتفصيل .فإن عليّا ً لم يكن ليف ّ
مقاييس زمانه ،وال عربيا ً على أعجمي ألن اإلنسان أخو اإلنسان في الخلق بضمير عل ّي .ولم يكن يصانع أولئك
الرؤساء وزعماء القبائل كما كان يفعل ابن ھند ،وال يستميل أحداً إلى نفسه بمال األ ّمة! قال األشتر النخعي
لعل ّي:
ي الناس واح ٌد .وقد اختلفوا بعد ذلك وتعادوا وضعفت وأھل الكوفأ ورأ ُ
ِ »إنّا قاتلنا أھل البصرة بأھل البصرة
النيّة وق ّل العد ُد وأنت تأخذھم بالعدل وتعمل فيھم بالحق وتُنصفال فيھم الوضي َع من الشريف فليس للشريف
فضجت طائفةٌ م ّمن معك من الحق إذا عموا به ،واغت ّموا من العدل إذ صاروا
ّ عندك فض ُل منزلة على الوضيع،
فيه ،ورأوا صنائع معاوية عند أھل الغناء والشرف فباعوا أنفُسھم إليه وأكثرھم يحتوي الح ّ
ق ويشتري الباط َل،
فإن تبذل المال يمل إليك أعناق وتصفُ نصيحتھم لك ويُستخلص ودّھم!« فأجابه عل ﱞي من فوره:
أما موجز دستور عل ّي في ھذا الوضع ،فقوله في عھده إلى االشتر» :إياك واالستئثار بما الناس فيه أسوة!«
والحقوق العا ّمة ھي ما يتساوى فيه الناس ،وإياھا يعني ابنُ أبي طالب!
] [ ١٨٧
رفع الحاجة
ق سواء.
ـ وأن تكونوا عندي في الح ّ
دولھم.
تصح نصيحتھم إال بقلة استئقال َ
ّ ـ وال
علي
ّ ـ أشقى الرعاة من شقيت به رعيّته.
ھذه الحقوق العامة يوصي بھا عل ّي ،ويرعاھا ،ويحصر في رعايتھا معنى الوالية .ثم إنّه على ضوئھا يُثبت
عامالً ويعزل آخر .وتتّسع مفاھيم ھذه الحقوق عنده وتتشعب .غير أنّھا تلتقي جميعا ً في نطاق حصين من رفع
الحاجة عن العا ّمة و ِمن أالّ يكون فيھم َمن يجوع فتُھان فيھا كرامةُ الجنس اإلنساني .وال بأس أن تُجاز القوانين
لرفع ھذه الحاجة ،إذا لم يكن في تطبيق القانون ما يكفي لرفعھا .فكما أن العبادة في مذھب عل ّي ليس من شأنھا
أن تجعل اإلنسان متن ّكراً للحياة العا ّمة ،وكما أنّ الدين ھو المعاملة ،وسالمة العقيدة ھي سالمة المسلك ،فكلذلك
ُسخر األنظمة لتيسير الحاجات المادّية للكافّة ورفع الحاجة عنھا حتى ال يھون المر ُء على نفسه وال الب ّد من أن ت ّ
] [ ١٨٨
واجب على المشترع والحاكم ال منّة ،.وھو بالنسبة ح ّ
ق ال سؤال. ٌ تھون عليه دنياه .ورفع الحاجة عن الشعب
وقد شدّد عل ّي في ذلك حتى ق ّل أن تجد له كالما ً أو وصية أو عھداً إالّ ويمأله ما ق ّرره من ھذا الح ّ
ق على العمال
وال ُوالة.
وكيف ال يكون رفع الحاجة عن الشعب واجبا ً على المشترع والحاكم في دستور عل ّي ،وحقا ً أساسيا ً من حقوق
العامة ،وھو الذي ال يرى في سيئات االكاسرة والقياصرة ،على كثرة ما لھم من سيئات ،أبر ّز من استھانتھم
بالشعب .فإذا بھم يھملون ما له من حقوق في خضرة األرض ورخ ّي العيش فيأثمون إذ يعملون على إفقاره
فيقول» :تأ ّملوا في حال تشتّتھم وتف ّرقھم ،ليال ّي كانت األكاسرة والقياصرة أربابا ً لھم يجتازونھم) (١عن ريف
اآلفاق وبحر العراق وخضرة الدنيا« إلى منابت الشيخ ومھافي الريح ون َك ِد المعاش فتركوھم عالةً مساكين!
وقد يضط ّر عل ّي إلى تھديد ھؤالء ال ُوالة بأش ّد العقوبات إذا ھم خانوا من مال الشعب شيئا ً صغيراً أو كبيراً .وقد
التوجع في نفسه مبلغا ً عظيما ً إذا أدركه أحدھم بأن واليا ً أو عامالً بات على غصب أو احتكار .فإذا به ّ
يوجه ّ يبلغ
ّ
بعث إلى بعض ع ّماله يقول» :بلغني أنك ج ّردت األرض فأخذت ما ق وثورة العدلَ . ُ
إليه قوالً تمأله عصبيّة الح ّ
تحت قدميك ،وأكلت ما تحت يديك .فارفع إلي حسابك!«
وأوصيك خيراً بقوله» :فارفع إل ّي حسابك« .فوراءه ،في جملة ما وراءه .إيمانه المطلق بضرورة اإلنصاف
حتى إنّه ال يرى مكانا ً لالطالة والتعليل واالمھال .ھذا اإليمان الذي يجمع ،في ومضة خاطفة الفھم العميق لواقع
١يتجازونھم :يقبضونھم.
] [ ١٨٩
وھو إ ّما بلغه أنّ عامالً آخر يأكل ما تحت يديه من أموال العامة ،بعث إليه على عجل يقول» :فاتّق ﷲ واردد
ألعذرن إلى ﷲ فيك) !(١وﷲِ لو أنّ الحسن ّ إلى ھؤالء القوم أموالھم .فإنّك إن لم تفعل ثم أمكنني ﷲ منك
والحسين فعال مثل الذي فعلتَ ما كانت لھما عندي ھوادة ،وال ظفراً مني بإرادة ،حتى آخذ الح ّ
ق منھما ،وأزيل
الباطل عن مظلمتھما«.
وأرسل علي رجالً يدعى »سعد« إلى زياد بن أبيه يأمره بأن يحمل إلى بيت المال ما عنده منه .وكان قد بلغه أنّ
زياداً يتقلّب في النعيم يستأثر به على الضعيف والفقير واألرملة واليتيم .وأنه يتظاھر بالفضيلة وھو عنھا بعيد.
ألح عليه ،فتجبّر زياد وتكبّر ونھره .فكتب إليه عل ّي يقول:
فل ّما كان الرسول عند زياد ّ
»إن سعداً ذكر لي أنك شتمته ظالما ً وجبھته تجبّراً وتكبّراً ،وقد قال رسول ﷲ» :٩الكبرياء والعظمة « .فمن
صمتَ
تكبّر سخط ﷲ عليه .وأخبرني أنك مستكث ٌر من األلوان في الطعام .وأنك تدھّن كل يوم ،فماذا عليك لو ُ
أياما ً وتصدّقت ببعض ما عندك محتسباً ،وأكلت طعامك في مرة مراراً أو أطعمته فقيراً .أتطمع ،وأنت متقلّب في
النعيم تستأثر فيه على الجار المسكين والضعيف الفقير واألرملة واليتيم ،أن يجب لك أجر الصالحين
المتصدقين .وأخب ّرني أنك تتكلم كالم األبرار وتعمل عمل الخاطئين.
] [ ١٩٠
وإن كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت وعملك أحبطت الخ«.
ويواصل عل ّي أوامره للوالة بكفّ األيدي عن الغضب بكافة الوانه .ويحارب الرشوة وھو يرى فيھا أتفهَ ما يربط
ق وصاحبه .ويس ّمي الح ّكام الذى يقبلونھا »أكلّة ال ّرشا« .ث ّم
الحاكم بالمحكوم من عالقة ،وأوھنَ صلة بين الح ﱡ
يُدرك إلى أي مدى من الفساد يُقاد المجتمع بالفساد .حتى الذا بلَغه أنّ أحد أمراء األجناد يرتشي ،خلّع له كتفيه
ق فاشتروه) (١وأخذوھم بالباطل بھذه الھ ﱠزة العنيفة» :أ ّما بعد ،فإنّما أھلك من كان قبلك أنھم منعوا الناس الح ّ
فاقتدوه«).(٢
وقد يدعى أحد الوالة إلى وليمة فيمضي إليھا ،فإذا بعل ّي يؤنّبه أشد تأنيب ،ويوبخه أعنف توبيخ! أفإلقام ِة حق
ق يقام بدون رشوة؟ أم النزال الباطل منزلةَ الحق وليس للوالي أن يفعل ذلك يريدون أن يرشوه بالدعوه والح ّ
ولو أُعطي سلطان األرض؟! ثم ،كيف يمضي إلى وليمة يُدعى إليھا الثر ّ
ي ويُب َعد عنھا الفقير والمعوز ،وفي
ذلك مظھ ٌر من مظاھر التفرقة بين الناس ،ثم إشعا ٌر لھم بھذه التفرقة ،م ّما يج ّرح بعض الخواطر ،ويج ّرح قلب
عل ّي! أ ّما حين يستقيم المجتمع ،فليُد َع قوم وليُب َعد آخرون ،فما في ذلك غبن!
وقد يخال البعض أنّ اإلمام يغالي في مثل ھذه المحاسبة الدقيقة للوالة .غير أ نّه حين يدرك أنّ اإلمام قد ر ّكز
ھؤالء الوالة على صعيد مادّي يكفيھم الحاجةَ وال يجوز من بعده االرتشاء أيّا ً كان لونه ،وال التطلّع إلى المغانم
ق وال مغاالة في ھذه الدقة ،وإنّما ھي من أعمال العقل الذي ينھج مھما ق ّل شأنھا ،يعرف عند ذاك أ نّه على ح ّ
نھجا ً صحيحا ً له موازين ومقاييس .فيأبى ھذه السابقة وإن ق ّل خطرھا فإنّ خطر الالحقة أش ّد .ونحدّد زمن
السابقة ھنا بأيام علي وال نعود بھا إلى أيام عثمان! لقد بذل عل ّي من مال الدولة للوالة
ق بالرشوة.
١حجبوا عن الناس حقھم فاضطر الناس لشراء الح ّ
٢كلفوھم بإتيان الباطل فأتوه ،فصار الباطل قدوة يتبعھا األبناء بعد اآلباء »نھج البالغة«.
] [ ١٩١
ما يقيھم الحاجةَ وما تج ّره من االنزالق في َد َرك الرشوة ،فلماذا يرتشون؟ ثم إن ھناك حقيقة ضمنيّة في ھذا
الباب يلفت عل ّي أنظا َر الوالة إليھا ،وھي أ نّه ال يبيح للوالي أن يغنم من الناس بالوالية ولو غدا ًء أو عشا ًء،
فإنّ ھذا الغنم إذا جاء عن طريق الوالية كان أشبه بالسرقة أو الرشوة ،والذي ال يُس َمح له بأن يُرشى بعشاء
فلن يُباح له ،طبعاً ،أن يسرق مدينةً أو يرتشي بجھد شعب!
وھذه الشدّة التي كان يعامل بھا الوالة المسيئين ،يقابلھا تشجيع للمحسن منھم وإثابة .وإليك ما بعث به إلى
سلمة عامله على البحرين حين ولّى مكانه النعمان بن عجالن ودعاه إليه ليصحبه في حملته على عمر بن أبي َ
معاوية:
»إنّي قد ولّيتُ النعمان بن عجالن البحرين من غير ذ ﱟم لك وال تھمة في ما تحت يدك .ولعمري لقد أحسنتَ
الوالية وأدّيت األمانة .فأقبل إل ّي غير ظنين وال ملوم .فإني أريد المسير إلى ظلمة أھل الشام ،وأحببتُ أن تشھد
معي أمرھم .فإنك م ّمن أستظھ ُر به على جھاد العدو .جعلنا ﷲ وإياك من الذين يھدون بالحق وبه يعدلون«.
يشجعھم من إحسان
ّ إذن ،فالذين ال يخونون األ ّمة من الوالة وال يرتشون ،لھم ما يقيھم الحاجة من المال ،وما
أميرالمؤمنين إليھم .أ ّما الخائنون فعقابھم العتاب ،ثم التوبيخ الشديد ،ثم العزل ،ثم الحبس مع العزل إذا ھم
أكثروا من االساءة.
وھنالك غاصبون ومحتكرون ومستغلون غير الوالة ما يزالون يسعون في الحصول على الثراء العريض!
ھنالك مج ّمعو األموال وحاصروھا ومقتطعو األراضي والضياع .ھؤالء يحاربھم اإلمام حربا ً ال ھوادة فيھا.
ويحارب فيھم البط َر والجشع الباطل وحبس االستغالل .ويسعى في أن يحول بينھم وبين األموال التي يريدون
تضخيمھا.
] [ ١٩٢
أ ّما الغصب فقد ح ّرمه عل ّي في كل ما قال وفعل وأقام من حدود .وأ ّما االحتكار فقد شدّد في منعه» :واعلم أنّ في
وعيب على الوالة ،فامنع من
ٌ كثير منھم احتكاراً للمنافع وتح ّكما ً في البياعات وذلك باب مض ّرة للعا ّمة
االحتكار!« ثم يقول» :و َمن قارفَ ُحك َرةً بعد نھيك ،فن ّكل به وعاقبه في غير إسراف«.
أ ّما اقتطاع األرض والضياع فله فيه رأي ھو عقل العاقل وشرف الوالي ،وقد م ّر الكالم عليه .أ ّما االستغالل
بألوانه جميعا ً فھو شيء من الغصب واالحتكار ،فاإلمام ال يھادن فيه .وله في ذلك أقوال ال تح ّد من »نھج
البالغة« بمكان .لقد قصد اإلمام من وراء ذلك إلى تحطيم الوسائل التي تؤدّي إلى تكديس األموال وتضخيم
الثروات كما تقدم في غير ھذا الفصل من الكتاب .ھذه األموال والثروات ،التي ال تلبث أن تنحصر في فئة خاصة
وتصبح » ُد َولةً بين األغنياء« دون غيرھم من فئات المجتمع.
ولقد كره للمجتمع الصالح تضخيم األموال ھذا ،الذي ال يقوم على جھد وال ينشأ عن كفاءة .ويؤدّي في غايته
البعيدة إلى خلق طبقة المترفين الكسالى المترھّلين الذين يعيشون على حساب الجماعة الفقيرة .وطبقة أخرى
معوزة ُمعسرة تعمل وتشقى وال أمل لھا في طعام وكساء .ثم يؤدي إلى انھيار الب ّد منه في خلق الفرد وفي خلق
الجماعة .فإذا الفقراء ضحايا األثرياء .وإذا الكادحون ضحايا الخانعين التافھين .وإذا االخالق ضحايا الطبقتين.
وإذا المجتمع بناء ينھار! يقول اإلمام واصفا ً بعض أحوال الناس في زمانه:
ورب كادح خاسر .وقد أصبحتم في زمن ال يزداد الخير فيه إالّ إدباراً ،والش ّر فيه إالّ أقباالً، ّ فرب دائب ُمضيّع،
» ّ
ّ ّ
والشيطان في ھالك الناس إال طمعا ً .اضرب بطرفك حيث شئت من الناس :ھل تُبصر إال فقيراً يكابد فقراً ،أو
غنيا ً بدّل نعمة ﷲ كفراً ،أو بخيالً اتّخذ البخل بحق ﷲ وقراً.
] [ ١٩٣
أين خيا ُركم وصلحاؤكم وأحراركم وسمحاؤكم؟ وأين المتورعون في مكاسبھم؟ والمتن ّزھو في مذاھبھم؟«
ب فكره وسالمة فطرته وعظيم ُخلقه ،أن ك ّل نظام ال يستھدف رفع الحاجة عن عا ّمة
أجل ،لقد أدرك عل ّي بصائ ِ
الناس ،ال قيمة له.
وإنّ السنن االجتماعية التي تخلق مجتمعات تكون فيھا طبقاتٌ من الناس فريسة لطبقة ضئيلة العدد م ّمن أسموا
أنفسه »أشرافا ً وسادة« وراحوا ينھبون حقوق الشعب وأمواله وأرزاقه بوقاحة وفجور ،ھي سننٌ وقحةٌ
وفاجرة» .والفجور ـ كما يقول عل ّي ـ دا ُر حصن ذليل ال يمنع أھلَه وال يُح ِر ُز َمن لجأ إليه!«
***
بعد ذلك يأتي العمل االيجابي لرفع الحاجة عن الشعب ،وھو يقوم على مرتكزين اثنين ،أولھما:
إن األموال واألراضي والضياع وجميع مصادر الثروة ھي ملك الجماعة تُو ّزع على األفراد بقدر االستحقاق
والحاجة بعد أن تتاح الفرصة للعمل لجميع ھؤالء .وليس ألحد أن يتصرف بما تمليه عليه اإلرادة الفردية
الخالصة دونما نظر إلى المصلحة العا ّمة .ثم إنّه ليس من مصلحة ھذا الفرد بالذات أالّ يتعاون مع الجماعة .فھو
ُقبض منه عنھم ي ٌد واحدة،
ُ يعطيھا وھي تعطيه .وعطاؤھا أكثر! يقول عل ّي» :من يقبض يده عن عشيرته فإنّما ت
وتقبض
ُ
] [ ١٩٤
ق ما يمكن من التطبيق .فالشعب جس ٌد واحد وعلى الدولة أن تكون القيّمة العادلة على تطبيق ھذه السياسة أد ّ
وعلى الدولة أن ترى أعضاءه جميعا ً بما تستحقّ ،ال إھمال وال تقصير وال تفرقة! وھي ،لذلك ،تأخذ نسبا ً من
االرباح والرساميل ذاتھا ـ نسبا ً غير مطلقة التحديد ،بل ھي ترتفع وتنخفض بالنسبة للمصلحة العا ّمة .فإذا
اقتضت المحافظة على سالمة الجماعة وعلى كرامتھا وأسباب معاشھا ،أن يؤخذ من االرباح والرساميل
نسب عظيمة جداً كان ذلك دون ترد ّد.
ٌ واالراضي واالمالك
وثانيھما :النظر في عمارة األرض ،فإنّھا قوام المعاش واالزدھار االقتصادي .لذلك فإنّ على الوالة والع ّمال أن
ينظروا في عمارة األرض فوق ما ينظرون في الحصول على حق الدولة المشروع في الخراج .فالخراج نفسه ـ
وھو ملك الجماعة في نتيجة كل حساب ـ ال يمكن إدراكه إالّ بالعمارة .وال يسعى في تحصيل الضرائب من
سفُه وطاش وأراد أن يخرب البالد ويھلك العباد ويجعل أمره في الجماعة واألرض ال عمارة فيھا إالّ وال َ
ترفون
ُ َ م فيھا قصور بوجود وال .أمير طيش أو حاكم بسفه وال ، بذاتھا الوالية ضئيالً قليالً ...واألرض ال تعمر
ّ
مترھلون أو ذوو ثراء وسخف وكبر .وإنّما تعمر بجھد العاملين فيھا وبثراء أھلھا من كافة الناس.
ويشدّد عل ّي في تحريم أخذ الخراج من الشعب إذا لم يكن الشعب راضيا ً عن حالته االقتصادية وعن ُوالته
وحكامه .فأصول االجتماع ،والقواعد االنسانية ،والمقاييس االخالقية ،تحتّم جميعا ً أن يكون عطاء الشعب
للدولة عن يُسر ال عن عسر .فلينظر الوالة في تحسين أحوال العامة ،إذن ،قبل أن ينظروا في االخذ منھم .يقول
عل ّي لعماله على الخراج:
»وال تبي َعن للناس في الخراج كسوة شتاء وال صيف ،وال رزقا ً يأكلونه،
] [ ١٩٥
وال دابّة يعتملون عليھا .وال تضربّن أحداً منھم سوطا ً لمكان درھم .وال تُقمه على رجله في طلب درھم .وال تبع
ألحد منھم ع ََرضا ً في شيء من الخراج .فإنّما أمرنا أن نأخذ منھم بالعفو!« ويقول أيضا ً» :وتفقّد أمر الخراج
بما يُصلح أھله .فإنّ في صالحه وصالحھم صالحا ً لمن سواھم .وال صالح لمن سواھم إالّ بھم!«
وتراوحھا بين العمارة والخراب ،وترتيب صالح الدولة على صالح العامل
ُ وھذه النظرة إلى أحوال األرض
والفالّح ،ھي من الصحة والدقّة بحيث أن العلوم االقتصادية واالجتماعية تؤيدھا اليوم ،وقد انقضى على عھد
صاحبھا قرون طوال!
رأى بعض المفكرين األوائل أنّ عمارة األرض تكون بأن يُستخدم فيھا األرقّاء واألسرى والمستضعفون غصباً
وقسراً .وإن ھم رحموا فالمأجورن من الناس يُنتجون فينالون بعض الجزاء .أما الجزاء االوفى في شرع أولئك
المفكرين فيذھب لطبقة تملك األرض وتستغلّھا بغير جھد ،ھي طبقة أصحاب الجاللة والس ّمو و »الشرف«
الرفيع والنبالء واألثرياء وأھل االرستقراطية الفارغة والفساد العريض وسائر المترھّلين.
ولطمالما سقطت قيمة اإلنسان وقيمة العمل في مثل ھذه الشرائع .ولَطالما أفاد الح ّكام وأنصارھم من بؤس
الناس وشقاء الكادحين اللذين تبررھما شرائ ُع االستعباد ،بل قل شرائع التقتيل الجماعي ،في التاريخ القديم
والحديث .وقد كان من نتائج ھذا النمط من التفكير االجتماعي البدائي .أن تساند الح ّكام والكھنة ،وتعاونوا على
ضوا دم الجماعات وروحھا باسم الوطن تارة وباسم أن يم ّ
] [ ١٩٦
الرب الذي يعبدون تارة أخرى .وإليك صورة عن ھذا الواقع الذي نرسم ،نأخذھا عن العالم المؤرخ االنكيزي
ولز ،يقول:
»كان الكھنة يلقّنون الناس أنّ األرض التي يزرعونھا ،ويدأبون فيھا ،ليست لھم ،وإنّما ھي لآللھة التي في
المعابد .وقد يھبھا اآللھة للح ّكام ،ويھبھا الح ّكام لمن يشاؤون من خدّمھم وموظفيھم.
والتاريخ العربي ،بعد عل ّي ،سيقدّم لنا شواھد ال تحصى من استئثار الح ّكام باألرض واألموال واألرزاق ومن
ق األلھي« الذي ھو حقّھم يعطون من يشأوون ويحرمون من يشاؤون وليس ألحد لجوئھم إلى أسطورة »الح ّ
ّ
الرب وھم ممثلوه على األرض فھي ،إذن ،ملكھم!!
ّ أن يعارضھم فيما يفعلون ألن األرض ملك
أ ّما عل ّي بن أبي طالب ،فتتوضح األمور في عقله على صورة رائعة! وال يعمرھا إالّ المفيدون منھا .فھم إ ّما
ذھبت أتعابھم إلى حلوق الحكام وبطون
] [ ١٩٧
المترفين وأكياس الوالة وجيوب المحتكرين ،تھاونوا وأھملوا ،وابتأست حالھم ومن حقھم ذلك! وھم إ ّما ذھبت
أتعابھم إلى أوالدھم ،ثم إلى بيت مال الدولة التي تُعنى ،فعالً ،بالمصالح العا ّمة ،أقبلوا على العمل وثبتوا فيه،
وانتعشت حالھم وانتعشت فيھم الدولة.
إنّ رضا الشعب بھذا الصدد ھو ،في نظر عل ّي ،المقياس الوحيد لصالح النظام وصالح الحاكم .أما الضغط
والقسر فھما من سقط التدبير .يقول عل ّي» :وإن أفضل ق ّرة عين الوالة استقامة العدل في البالد ،وظھور مودّة
تصح نصيحتھم إالّ بقلّة استثقال ُد َولھم!«
ّ الرعية ،وإنّه ال تظھر مودّتھم إالّ بسالمة صدورھم ،وال
ولتقديس العمل في األرض ،وكل عمل ،ووضع الحدود الحصينة دون البطالة ودون التمنّع عن العمل ،ق ّرر عل ّي
أن االساس في تفضيل الناس بعضھم على بعض ھو العمل ،ال الحسب الموروث وال السيادة المصطنعة .كما
وخذله لمن يسأل أو يطلب وال يعمل ّ ق ّرر إثابة ك ﱟل بما يعمل .وشدّد في ذلك حتى عُرف بانتصاره لمن يعمل.
صته مع أخيه عقيل بن أبي طالب إذا جاء يطلب من بيت المال ماالً بغير جھد عمالً يفيد به ،وتفيد الجماعة .وق ّ
بذله فردّه خائباً ،قصة معروفة .وليس في نظر عل ّي ما .ھو أبعد عن العدل من أالّ يثاب عامل على عمله؛ و ِمن
بعض عمله مھما كان ھذا البعض ُ أن يذھب جھد عامل إلى شدق مستثمر مستغ ﱟل؛ و ِمن أن يضيع على العامل
قليالً؛ ومن أن يكون في االعمال المتقنة ما ھو صغير وكبير!
فرب عامل »دائب مضيّع ،وكادح خاسر« في زمنه .وھو يأبى ذلك! اسمع ھذا القول الخالد ،الذي يبقى في ّ
أصول الدساتير االجتماعية واالنسانية ما بقي المجتمع واالنسان:
»ثم اعرف لكل امرىء منھم ما أبلى ـ أي ما عمل ـ وال تُضي َعنّ بالء
] [ ١٩٨
امرئ إلى غيره .وال تقصرنّ به دون غاية بالئه .وال يدعونّك شرف امرئ إلى أن تعظّم من بالئه ما كان
صغيراً ،وال ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بالئه ما كان عظيما ً!«
فعمارة األرض ،والمكافأة العادلة على العمل ،ھما األساس السليم الذي ارتأى عل ّي أن يبني عليه مجتمعاً
سليما ً .جاءه مرةً أھل إقليم من األقاليم يقولون له إنّ في بالدھم نھراً قد طمرت االيام مجراه فعفا ،وأنّ في
يسخرھم في احتفار ھذا النھرﱢ حفره من جديد خيراً لھم .ورجوه بعد ذلك أن يأمر عامله على إقليمھم يأن
الدارس .فما كان من عل ّي إالّ أن قبل فكرة احتفار النھر ،غير أ نّه أبي عليھم ما ارتضوه ألنفسھم من التسخير.
فكتب إلى عامله واسمه قرظَة بن كعب ،يقول:
»أما بعد ،فإنّ قوما ً من أھل َع َملك أتوني فذكروا أنّ لھم نھراً قد عفا ودرس ،وأنھم إن حفروه واستخرجوه
عمرت بالدھم ،وقووا على ك ّل خراجھم ،وزاد فيء المسلمين قِبَلھم .وسألوني الكتاب إليك لتأخذھم بعمله
وتجمعھم لحفره واالنفاق عليه .ولستُ أرى أن أجبُر أحداً على عمل يكرھه .فادعُھم إليك ،فإن كان األمر في
أحب أن يعمل ف ُمره بالعمل .والنھر لمن عمل دون من َك ِرھه .وألن يعمروا ويقووا
ّ النھر على ما وصفوا ف َمن
أحب إل ّي من أن يضعفوا .والسالم«.
ّ
سخروا .بل العمل ھو الشريعة والقاعدة .يقولفليس التسخير مما يجوز في شرع عل ّي وإن رضي الناس أن يُ ّ
نصيب إالّ للذين يعملون فيه .ثم إنّ الذين يكرھون العمل ال
ٌ عل ّي» :وأُمرتم بالعمل« .أما النھر فلن يكون فيه
يجوز إجبارھم عليه .والعمل بالرغبة .دون إكراه أو إجبار ،أم ٌر يشدّد عليه ابن أبي طالب في كل شأن .وھو
يشدّد عليه مشيراً تارةً وطوراً مصرحا ً .ومن دستوره في ذلك ھذا القول الصريح الذي جعلَه قاعدةً في ما يتعلّق
بالعمل:
] [ ١٩٩
وبھذه النظرة العميقة ألحوال العمل والعامل ،استطاع عل ّي أن يسبق مف ّكري الغرب بما ينيف عن ألف عام .ث ّم
إنّه ر ّكز نظرته ھذه على أساس من العدالة ال أرفع منه وال أعقل .فھو ال يجبر الناس على العمل وإن مفيداً ألن
انتقاص من القيمة اإلنسانية وإساءةٌ إلى الحرية الخا ّ
صة ثم إلى العمل نفسه الذي ال ٌ فكرة االجبار بح ّد ذاتھا
تكتمل شروطه باالكراه .ولكنه يدفعھم إليه ،من جھة ثانية ،بأن يجعل خيرات ھذا العمل من نصيب العاملين
وحدھم:
»والنھر لمن عمل دون من كرھه «.ثم ،أليست ھذه النظرة ھي أحد األسس الرئيسية التي تقوم عليھا النظريات
االجتماعية الصالحة في القرن العشرين!
إذن ،فلكل أن يعمل! وليس ھنالك صغير وال كبير إالّ بما يعمل! ولك ّل من يعمل جزاء عمله! وليس للبطير
الكسول ومن يدّعي الشرف ونبل المحتد أن يذھب إليه شيء من تعب الكادحين مھما كان ھذا الشيء قليالً! وإنّ
أحب أحداً فإنّما »يحب المحترفَ األمين« كما يقول عل ّي.
ﷲ إن ّ
ق األفراد بالطبع .غير أنھا ال تكون ـ بمجلتھا ـ من حقّھموإذا جاء العمل النافع بالملكية ،فإنّ ھذه الملكية من ح ّ
إالّ بمقدار من ينسجم ذلك مع مصلحة الجماعة .أما إذا كانت المصلحة العامة تقضي بالح ّد من ھذه الملكية فھذا
ما يجب أن يصار إليه ،ال تردّد في ذلك وال جدال! فإن كل ملكية الب ّد لھا من أن تخدم الجماعة ،ألنّ العبرة فيھا
ھي :المنفعة العا ّمة إلى جانب المنفعة الخاصة! وإذا فُھمت حدود الملكية على ھذا النحو ،كانت سببا ً رئيسيا ً في
تضخم المال وعلى خلق الطبقية االقتصادية في المجتمع. ّ القضاء على
أ ّما إذا كان في المجتمع قوم ال يستطيعون العمل لعجز أو قصور ،كالطفوأل اليتيمة أو كالرقة في السن .فھل
ق ھؤالء في الحياة الكريمة كما تھملھم المجتمعات العربية اليوم ،مثالً؟ أم أ نّه ينظر إليه
يھمل اإلمام عل ّي ح ّ
بعين اإلنسان
] [ ٢٠٠
العادل ،القائم بأصول نظرته على المقاييس اإلنسانيأ التي تنبنّاھا المجتمعات العادلة الصحيحة؟
إنّ للجماعة على الفرد حقوقا ً .وإن للفرد على الجماعة مثل ھذه الحقوق .والشعب جسم واحد متكافل متعاون،
وكل فرد فيه يثاب بما يعمل .وقد »قسم ﷲ بين الناس معايشھم« فليس من حق أحد أن يستأثر بمعيشة سواه.
أما العاجز عن العمل ،أي عمل ،كالطفل والشيخ ،فعلى الجماعة أن تقوم بحاجاته .عليھا انصافه مثل انصاف
ق للفرد على الجماعة ،ال منّة وال عطف! واجب مر ّكز ،ال ب ّر وال احسان! أما المسؤول غيره من الناس .وھذا ح ّ
أحوج
ُ ة ّ ي الرع بين من ھؤالء :
ّ فإنّيعل اإلمام يقول . ممثليھا بأشخاص فالدولة ّ،
ق الح المباشر عن إقامة ھذا
علي
ّ إلى االنصاف من غيرھم .وتع ّھد أھل اليتم وذوي الرقة في السن) (١م ّمن ال حيلة لھم!« وإذا لم يكن
ليُطلق عليه ھذا األصل من أصول تدبيره االجتماعي لفظ »الضمان االجتماعي« أفال نرى ،نحن ،أ نّه سبق
ألوف المفكرين الغربيين إلى إدراك ھذه الضرورة االجتماعية ،وإلى جعل العمل بھا واجبا ً من واجبات الدولة،
ال عطفا ً من »جود« المحسنين ،وال غيثا ً من سماء الغيورين ،وال شركا ً من أشراك المنافقين!!
] [ ٢٠١
وم ّما يدخل في باب رفع الحاجة عن الشعب ،ذلك االھتمام العظيم الذي كان يبديه عل ّي نفسه بما كان
»األشراف« من العمال في عھد عثمان ال يقيمون له وزناً ،وبما ال تعيره أكثر حكومات العالم العرب ّي اليوم
التفاتاً ،وذلك لـ »صغر« شأنه من جھة ،والنشغالھم بما يس ّمونه »سياسات عليا« من جھة ثانية.
أما ھذا الشيء »البسيط« فلم يكن بسيطا ً في نظر عل ّي ،ألنّ عليّا ً كان عظيما ً حقاً ،والعظمة والبساطة تلتقيان
ع والقوت ،وبدراھم العا ّمة التي يسطھو عليھا أبداً ،وأعني به :االھتمام بأحوال السوق التي يباع فيھا المتا ُ
التجار فينھبونھا بواسطة الكيل والميزان والسعر .وحين نعلم اليوم أنّ غالء أسعار الملح ـ وھو شيء ال قيمة ّ
عجلت بايقاد نار الثورة الفرنسية، ّ
له في حساب أكثر الحكام المشارقة ـ كان في جملة االسباب الرئيسية التي ّ
ندرك قيمة آرائھم في ما ھو بسيط وغير بسيط من األمور ،كما ندرك قيمة سياستھم »العليا« الباردة!«
لم يكن عل ّي صاحب سياسات »عليا« بل صاحب عدل في الحكم وأمانة في العمل .لذلك كان يغتدي صبيحة ك ّل
يوم فيطوف بنفسه أسواق الكوفة ويتفقد بنفسه أھل ك ّل سوق منھا ،ويفحص بنفسه أحوال الشارين والبائعين،
التجار قسراً على أن يكونوا بشراً ال ج ّزارين .ويقف على رؤوسھم مذ ّكراً أيّاھم بالعقاب
ويحمل المخالفين من ّ
لناس اليسير من حقوقھم ،ثم يناديھم قائالً:
َ بخسوا أو إن ھم احتكروا أو اختلسو
لقد اقتنع ضمير عل ّي واقتنع عقله بأنّ الناس في المعاش أُسوة .وبأن ھذه
١راجع النص في ص ١٤٣من ھذا الكتاب.
] [ ٢٠٢
وكانت وصايا اإلمام لعماله على االمصار تتالحق وفيھا أوامر مشدّدة برفع كل حجز ،وعدم استيفاء الضرائب
من أھل الحاجة؛ ثم بمساعدة ھؤالء كي تُقبل عليھم األرض بالخير .فيما كان يأمر باستيفاء ھذه الضرائب
أضعافا ً مضاعفة من األغنياء كي يثري بيت مال الجماعة تحقيقا ً لما يمكن تحقيقه من المساواة بين الناس!
وكم يصغر في نظرنا ،اليوم ،في عصر إعالن حقوق اإلنسان ،أن نرى الكثير من حكومات ھذا الشرق السعيد،
الفريد في سعادته ،تُثقل أھل الحاجة من الشعب بالضرائب تستوفيھا من قُوتھم الضروري ،ومن دمھم،
بالتھديد .والوعيد ،والحجز ،وبيع ما لديھم من ضئيل الممتلكات تحت أعينھم ،وبما إلى ذلك جميعا ً من وسائل
العصور الفرعونية ،أو القراقوشية ،أو السلطانية .مع العلم بأن ھذه الحكومات ال تعرف شيئا ً عن حقيقة ھذا
العشب الذي تريد أكله ،وال تعترف له بحقوق ،وال تعمل على رفع الحاجة عنه كي يستطيع مكافأتھا »جھودھا«
المشكورة!
وكم يعظم في نظرنا ابنُ أبي طالب حين يقول لكل من عماله .وھو يراقبھم كي ال يقصروا أو يھملوا ،وكان ذلك
من بضعة عشر قرنا ً» :ال تبيعنّ للناس في الخراج كسوة شتاء وال صيف ،وال رزقا ً يأكلونه ،وال دابة يعتملون
عليھا .وال تضربنّ أحداً منھم سوطا ً لمكان درھم .وال تقمه على رجله في
] [ ٢٠٣
طلب درھم ،وال تبع ألحد منھم َع َرضا ً في شيء من الخراج فإنّما أمرنا أن نأخذ منھم بالعفو!«» .وليكن نظرك
في عمارة األرض أبلغ من نظرك في استجالب الخراج!«
لقد أدرك اإلمام عل ّي الحقيقة الكبرى في تكوين المجتمع الطبق ّي ،فصاغھا بھذه الكلمات القالئل ،في ذاك العھد
صلھا وأوضحھا في أكثر من مكان من عھوده ووصاياه ،قال» :ما جاع فقي ٌر إالّ بما ُمتّع به البعيد ،بعد أن ف ّ
غني!«
ھذه الحقيقة الكبرى ،التي تقيم عليھا األنظمة العادلة اليوم ،قواعدھا في العالقات المادّية بين الناس ،سبق البن
صلھا بما يسمح به زمانه من قواعد وأصول. أبي طالب أن أدركھا منذ بضعة عشر قرناً ،وأن ف ّ
] [ ٢٠٤
االجتماعية العلوية:
يمكننا تلخيص فلسفة المجتمع عند عل ّي بعبارات تِسع يقوم عليھا تصويره ألحوال المجتمع من حيث الثراء
والفقر ،ومن حيث الطبقية المالية ،ثم يجري عليھا دستوره في رفع الحاجة عن العا ّمة والمساواة بين الناس
جميعا ً في الحقوق والواجبات .أ ّما العبارات التسع ،فھي:
إمنع من االحتكار.
إعرف لك ّل امرىء منھم ما أبلى وال تضيعنّ بالء امرىء إلى غيره إيّاك واالستئثار بما الناس فيه أسوة.
فإذا أنت أمعنت النظر في ھذه العبارات ،أدركت أ نّھا أصو ٌل عميقة في بناء كل مجتمع صحيح تُحفظ فيه حقوق
اإلنسان وتُرعى فيه الحرية اإلنسانيأ بأروع معانيھا وأوسعھا .أصول تقوم عليھا النظريات االشتراكية الحديثة
وال تخالفھا في شيء.
] [ ٢٠٥
ـ وكيف يغرق ھؤالء من المواضيع الحيﱠ ِة في ُمطلقات ال تجوز حتى في جماد الطبيعة! وكيف يتﱠخدون من
سنُ إما ُحدﱢدت قياسات الوزن والمساحة حدوداً لإلنسان الذي ال يُحدّ ،وللحياة المتحركة المتط ّورة التي تأ َ
إنسان! ال ھو وإذا حياة ال ھ َي فإذا االنقباض، ويلزمھا بإطالق
ويتابع عل ّي بن أبي طالب سيره الصاعد في الطريق الرحب .فيق ّرر لإلنسان على تُخوم حقوقه في المعاش،
حقوقا ً أُخرى ال يكتمل إالّ بھا .ويجوز كل نطاق إلى الحدود اإلنسانية البعيدة ال تقف عند عقيدة معيّنة وال تنتھي
ي بكافّة عناصره ومق ّوماته الماديّة عند تخوم العنصريّة الضيّقة المؤذية .وذلك تأكيداً لكرامة الجنس البشر ّ
واألخالقيّة.
يأبى ابنُ أبي طالب أن يفرض على الناس عقيدة معيّنة فيما يتعلّق بالدين أو المذھب .وفي ك ّل ما له صلة قريبة
أو بعيدة بالوجدان الخالص وحياة اإلنسان الداخلية التي تتص ّور وتتلّون بصور وألوان نابعة من الذات أو
حاصلة من ارتباطات اإلنسان بالبيئة الخاصة والعامة .فھو ،وإن كان خليفة
] [ ٢٠٦
النبي وحصن اإلسالم وأميرالمسلمين ،يأبى أش ّد إباء أن يفرض على أحد من الناس أن يؤمن بما يؤمن به
المسلمون دينا ً .فالناس أحرار في أن يؤمنوا با ما يرون .وأن يعتقد كل منھم على طريقته في االعتقاد شرط
أالّ يلحق ذلك األذى بالجماعة .والخلق كلھم عيال ﷲ ،والدين ھو المعاملة.
وصفةُ اإلنسان كافية في نظر اإلمام عل ّي تجعله محترماً ،محبوباً ،مرفوقا ً به ،معطوفا ً عليه ،غير مھدور حقّه.
سبُعا ً ضاريا ً تغتنم أكلھم فإنھم صنفان :إ ّما ٌ
أخ يقول في رسالته إلى عامله على مصر» :وال تكوننّ عليھم)َ (١
فأعطھم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك ﷲ من عفوه ِ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.
تبج َحن بعقوبة!«
وصفحه .وال تندمن على عفو وال َ
ق مثل ما لك وإن اختلف عنك ببعض ما يعتقد ،أو بك ّل ما يعتقد .والدين نفسه ،أليست
إذن ،فلك ّل إنسان من الح ّ
غايته أن يشدّك إلى اآلخرين برابطة االخاء؟ فإذا ُوجدت رابطة االخاء بصفة اإلنسان وحدھا ،فما في ذلك إثم!
وھو ،على كل حال ،يريدك أالّ تجعل رأيك في أمر من أمور الحياة واألحياء مدار الحكم والقياس المطلق.
فالحياة واسعة الحدود واألحياء في ھذه السعة دائرون ،فما عليك أن تقيم نفسك الح َك َم ّ
األول واألخير على
ب أمر تخاله عظيما ً وھو في سعة الوجود غير عظيم. تص ّرفات الخلق وھم ال يلحقون بك األذى .وما أدراك! ف ُر ّ
صا ً صريحا ً» :فال تستصغرن عبداً ً
ورب امرئ تستصغر شأنه وھو ،لو عرفتَ ،أرفع منك شأنا! يقول اإلمام ن ّ ّ
من عبيد ﷲ فربّما يكون وليّه وأنت ال تعلم!« فإذا أنت حملتَ ھذا القول الحكيم
] [ ٢٠٧
وإذا كان أخوك على خطاء أو إساءة ،فعليك أن تعطيه من عفوك وصفحك وأالَ تندم أبداً على عفو وصفح .ثم
وصي
ّ عليك أن »تحصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك« .وعلى ابن آدم ،أيّا ً كان معتقده» ،أن يكون
يحب لغيره ما يحب لنفسه ،يكره له ما يكره لھا» :فأحبب لغيرك ما َ نفسه« وأن تكون صلته بغيره صلةَ من
ق »ال يدع وارض من الناس بما ترضاه لھم من نفسك« .ثم أن المؤمن الح ّ َ تحب لنفسك واكره له ما تكره لھا،
للخير غايةً اال أ ّمھا« .والخير كل الخير ھو العدل في الخلق ال فر َ
ق بين واحدھم واآلخر .ث ّم إنّ َمن قابَ َل الدنيا
ّ
على منھاج مح ّمد ال يختلف في شيء ع ّمن يقابلھا على منھاج المسيح ،أو على منھاج ك ّل َمن تمثلت به
الفضائل اإلنسانية .فالمھ ّم في نظر عل ّي على الدنو من الفضيلة .أما الوسائل فالناس فيھا أحرار .يقول عل ّي:
»وقد كان في رسول ﷲ ،٩كاف لك في األسوة ،إذ قُبضت عنه أطرافھا ـ أطراف الدنيا ـ وفُطم عن رضاعھا،
شن ويأكل سد الحجر ويلبس َ
الخ ِ وزُوي عن زخارفھا .والن شئتُ قلتُ في عيسى بن مريم ،٧فلقد كان يتو ّ
ق األرض ومغاربھا ،وفاكھتُه وريحانه ما تُنبت الجشب .وكان إدامه الجو َع وسراجه بالليل القم َر ،وظالله مشار َ
َ
ّ
األرض للبھائم ولمت تكن له زوجة تفتنه وال ول ٌد يحزنه وال مال يلفِتُه ،وال طم ٌع يذله .دابّته رجاله وخادمه
يداه!« ويقول في مكان آخر» :أولئك قو ٌم اتّخذوا األرض بساطاً ،وترابھا فراشاً ،وماءھا طيباً ،ثم قرضوا الدنيا
قرضا ً على منھاج المسيح!« والحقيقة التي أدركھا مح ّمد ساعة قال» :األنبياء إخوةٌ أ ّمھاتُھم شتى ودينھم
واحد« أدركھا عل ّي ساعة قال في مح ّمد» :ومضى على ما مضى عيه الرس ُل األ ّولون« .وفي ھذين القولين
اعترافٌ ال يقبل تأويالً بأن
] [ ٢٠٨
الفضيلة إنّما ھي التي تجمع الناس ،كما تجمعھم في األصل الصفةُ اإلنسانية.
فحرية العقيدة الدينية حق من حقوق الناس في دستور اإلمام عل ّي .فبما أنّ الحرية ال تُج ّزأ ،فإن اإلنسان ال
يمكنه أن يكون حراً من جانب ومقيداً من جانب آخر .فالمسلم أخو النصراني شاء أم أبى ،ألنّ اإلنسان أخو
اإلنسان أحب أم كره! ولو لم يكن الدن ّو من الفضيلة ھو المقياس األصيل في دستور اإلمام في الحرية ،ولو لم
تكن الحرية الفاضلة حقّا ً مقدّسا ً لديه ،لَ َما امتدح َمن يسيرون على منھاج المسيح كما امتدح من يسيرون على
منھاج مح ّمد! وقد سبق لنا أن ذكرنا خبر عل ّي مع النصراني الذي سرق له درعه وادّعى أ نّه اشتراھا .وكيف
عامله معاملة الن ّد للندّ ،أو األب لالبن .ثم ما كان من شأنھما أمام شريح القاضي ،وكيف أصبح النصراني في
عداد من ناصروا اإلمام بدمھم وحياتھم!
ولطالما ردّدت جنبات الحجاز والعراق أخبار عل ّي في إنصاف صاحب ھذا الرأي م ّمن يدين بغيره من اآلراء إذا
حدّثته نفسه بأن ينحرف به عن معتقده أو يجور عليه .ولطالما شاھد الناس عليّا ً يعت ّم بعمامته الخضراء ويردّد
على أسماعھم ما قاله ،م ّرةً ،في مسجد المدينة ،جا ّداً ك ّل الج ّد:
»ولو ثُنيت لي وسادة فجلستُ عليھا لحكمت في أھل التوراة بتوارتھم ،وفي أھل اإلنجيل بإنجيلھم ،وفي أھل
القرآن بقرآنھم ،حتى تركتُ ك ّل كتاب ينطق من نفسه :لقد صدق عل ّي!«
] [ ٢٠٩
أرأيت كيف يحدّد علي اتّقاء ﷲ بأالّ يظلم اإلنسان أخاه اإلنسان وبأالّ يبغي عليه في كثير أو قليل؟
ضل؟
ثم أرأيت كيف يجعل المسلمين وغير المسلمين في درجة واحدة ال تمايُز بينھم وال تفا ُ
ومثل ھذه التسوية بين المسلمين وغير المسلمين في حكم عل ّي نراھا أنّى اتّجھنا معه.
فھو إ ّما تحدّث إلى المسلمين عن أحوالھم َج َع َل رفع لظلم عن كواھل الناس أُولى ما يجب أن يتحلّوا به من
فضائل اإلسالم فقال:
ق ...وأضا َء لكم اإلسالم ،ل َما ظُلم منكم مسل ٌم وال معاھَد)«(١
»ولو سلكتم الح ّ
ق ورفع الظلم عن مدينة األنبار ساعةَ غزاھا سفيان بن عوف وھو إ ّما عنّف المسلمين لتخا ُذلھم عن نصرة الح ّ
األسدي ون ّكل بأھلھاَ ،عنّفھم ألنّھم لم يدفعوا الظلم عن إخوانھم وأخواتھم من أبناء المدينة ال فر َ
ق فيھم بين َمن
أسلم أو عاھَد ،قائالً:
» ...ولقد بلَغني أن الرجل منھم كان يدخل على المرأة المسلمة ،واألخرى المعاھدة ،فينتزع ِحجلھا الخ ...فلو
أنّ امرءاً مسلما ً مات من بعد ھذا أسفا ً ما ان به ملوما ً«.
وھو إ ّما بعث بعھد إلى مح ّمد بن أبي بكر حين والّه مصر بعث إليه يقول:
»أوصيك بالعدل على أھل الذ ّمة ،وبانصاف المظلوم وبالشدّة على الظالم وبالعفو عن الناس واالحسان ما
استطعت! وليكن القريب والبعيد عندك في الحق سواء«.
] [ ٢١٠
لقد أمره بالعفو عن جميع الناس ،بعد أن لفت نظره إلى أھل الذ ّمة تمكينا ً لفكرة التسوية بين الناس في ذھنه.
ق من حقوقھم!«
ومن عھده إلى نصارى نجران ھذه العبارة ...» :ال يضاموا وال يُظلموا وال ينقص ح ﱞ
وكان ھذا الموقف يقفه عل ّي من التعصب انبثاقا ً طيبعيّا ً عن شخصية صاحبه القائل في روح الوجود الشامل:
إنّ لكل إنسان كرامةً عند عل ّي .وإن لك ّل صوت سامعا ً.
صب أھل الجھل والغباء من أبناء كل دين في العصور الغابرة ،فإن ھذه الحقيقة عن عل ّي وعلى الرغم من تع ّ
ّ
جعلت عارفيه من نصارى العرب ،في زمانه وبُعيد زمانه ،من أش ّد الناس حبا ً له وتعلقا ً به .وقد أشار ابن أبي
الحديد إلى ذلك في شرح النھج قال» :وما أقول في رجل ـ يعني عليّا ً ـ تحبّه أھل الذ ّمة على تكذيبھم بالنب ّوة
الخ«.
ولقد بنى عل ّي معاملته لغير المسلمين على قوله ھذا» :أموالھم كأموالنا ودماؤھم كدمائنا!«
***
صب الديني مذموم في منطق عل ّي .وھو مغاير ألبسط قواعد الحرية التي يؤمن بھا على أوسع نطاق
إذن فالتع ّ
ويقيسھا بأرحب المقاييس .وإذا نحن قابلنا بين موقفه ھذا ممن ال يدينون بمعتقده ،وبين رجال »اإليمان«
السمح وتشدّدھم
ِ االوروبيين في العصور الوسطى ،وال سيما القائمين على محاكم التفتيش ،ثم بين سماحة
المقيت ،لرأيناه يسمو حيث ينحدرون .وال عجب في
] [ ٢١١
ذلك ،فاإليمان عند عل ّي كان نابعا ً من أصوله اإلنسانية ،ومن نظرته العامة إلى الحياة والوجود .فيما كان إيمان
الكثيرين من أُولئك مظھراً من مظاھر العبودية التي انقلبت فيھم إلى عادة ،ال أصالة إنسانية فيھا ،وال جمال!
ونحن ،إذا حاربنا اليوم التعصب الديني أو المذھبي ،وما عاد التعصب الديني بذي شأن على كل حال ،فإن بعض
صباً للمذاھب السياسية ال يعفو وال
صبا ً أفتك وأخطر :تعصبّا ً للقوميات أو العنصريات؛ أو تع ّ األمم قد أبدلت به تع ّ
صب يعترف يعذر وال يقابل اإلنسان بصفح أو سماح! وفي ذلك ما فيه من رعونة وغباء وأثرة مؤذية .فإن المتع ّ
ق إالّ بين يديه! وأنّ نظرته إلى الدنيا ھي النظرة! وأن رأيه في شؤون لك ،ضمناً ،بأ نّه مال ُك الحق وال ح ّ
ق ال يجوز فيه تعديل وال يعدلُهُ رأي! فإذا بھؤالء المتعصبين للعنصريات أو للمذاھب اإلنسان والحياة مطل ٌ
السياسية يغرقون في المطلقات من حيث يعرفون أو ال يعرفون! والغرق في المطلق ،فيما يتعلق بالمذھب
والمسلك ،شيء من الجمود ،فالموت! وكيف يغرق ھؤالء من المواضيع الحيّة والجارية من حال إلى حال ،في
مطلقات ال تجوز حتى في جماد الطبيعة! وكيف يتّخدون من قياسات الوزن والمساحة حدوداً لإلنسان الذي ال
سنُ إ ّما ُحدّدت بإطالق ويلزمھا اإلنقباض ،فإذا ھي ال حياة وإذا ھو اليُحدّ ،وللحياة المتح ّركة المتط ّورة التي تأ ّ
إنسان!
صب بكافّة ألوانه من طباع بعض الناس من قديم الزمان .فھذا اإلمام الجليل ال َ
يفرغ من محاربة وكأنّ ھذا التع ّ
صب بسائر أشكاله ومظاھره .وھو يرى في التعصب للقبيلة أو للعنصر التعصب الديني حتى يعود ليحارب التع ّ
بغيا ً وإفساداً ثم تشويھا ً لوجه الحياة الجميل .ويرى في الفخر باآلباء ضربا ً من ضروب ھذا التع ّ
صب فيُخزيه.
اسمعه كيف يخاطب أھل العصبيّة من أبناء زمانه:
] [ ٢١٢
»أالَ وقد أمعنتم في الغي وأفسدتم في األرض! فا ﷲ في كبر الحميّة ،وفخر الجاھلية .فإنّه َمالقِ ُح البغضاء
ومنافخ الشيطان التي خدع بھا االم َم الماضية والقرون الخالية!
»أالَ فالحذ َر الحذ َر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبرون عن حسبَھم وترفعوا فوق نسبھم ـ أي احتقروا
وجاحدوا ﷲ على ما صنع ،فإنھم قواع ُد أساس العصبيّة ودعائم أركان
َ غيرھم من الناس وتعصبوا عليھم ـ
الفتنة!«
صب للقبيلة والعنصر بغيا ً وإفساداً وتشويھا ً لوجه الحياة ،ثم يقرنه إلى الفتنة ،يعود ليطلق وبعد أن يجعل التع ّ
صب أيّا ً كان لونُه ،مق ّرراً قاعدة ال أراھا تزداد مع األيام إالّ رسوخاً ،يقول:
ّ التع معنى في ھذا المذھب الحكيم
وليرجع الراجعون إلى ك ّل ما قيل في معنى التعصب ،فإنّھم لن يجدوا في أصوله أكثر من ھذا األصل المزدوج
الذي ذكره ابنُ أبي طالب :فإ ّما أن يتعصب المتعصبون عن جھل وإ ّما أن يتعصبوا عن سفاھة! وكال الجھل
البغي واإلفسا َد والكبر على الحياة ،وھي ما ص ّورھا ابنُ أبي طالب في قوليه السابقين!
َ والسفاھة يحتمالن
صبا ً للفضيلة والعدالة والحقوقصب مذموم في عقيدة ابن أبي طالب .اللّھ ّم إن لم يكن تع ّ وھكذا ،فإن ك ّل تع ّ
تعصبا ً النصاف الطبقات المظلومة من ناھبيھا ومحتكري خيراتھا! اللّھ ّم إن لم كن ّ العا ّمة! اللّھ ّم إن لم يكن
صبا ً للحرية نفسھا ولكرامة الجنس اإلنساني!ّ تع يكن لم إن م
ّ ھّ ل ال ! الضمير وسالمة والصدق صبا ً لالستقامة تع ّ
صبا ً النصاف الخلق من المعصبين لألذى! يقول اإلمام في خطبته المس ّماة بالقاصعة : اللّھ ّم إن لم يكن تع ّ
] [ ٢١٣
األمور واألخالق الرغيبة واألحالم العظيمة واآلثار المحمودة ،واألخذ بالفضل والكفّ عن البغي واالنصاف
للخلق واجتناب المفاسد في األرض!«
] [ ٢١٤
والسلم
ِ الحرب
ُ
ـ ھلكَ من ادﱠعى وخاب من افترى
ـ ُحط عھدك بالوفاء ،وال تغدرنﱠ بذ َمتك والتخيسنﱠ بعھدك وال تختلنﱠ عدوك وال تقوينﱠ سلطانك بسفك دم حرام
عل ّي
ق كثيرةٌ فوق ھذه .في طليعتھا عقد حبل المودّة واأللفة بين الناس أفراداً ولإلنسان على اإلنسان حقو ٌ
وجماعات ،قبائل وشعوبا ً .الناس اإلخوة الذين يجمعھم أص ٌل واحد ،وطري ٌ
ق مشتركة ،وغاياتٌ ال تتباعد.
فإنّ الحرية ،واليُسر ،واألنظمة الموضوعة ،واألعمال الموروثة ،والمساعي المستحدثة ،وغيرھا م ّما يتعلق
باإلنسان ،أمو ٌر ال معنى لھا وال مب ّرر للنظر فيھا ،مع الحرب التي تمحق اإلنسان ومن أجله كانت ك ّل تلك
األمور!
ق لئيم! كاذب ُ
وخل ٌ ٌ وك ّل قول يدّعي خدمة اإلنسان وال يدعو إلى السلم ،ھو قو ٌل
وك ّل عمل يدّعي خدمة الحياة ثم يدفع األحياء إلى الموت تحت سنابك
] [ ٢١٥
وكل نظر في حال اإلنسان وحال الحياة ال تتبعه الدعوة إلى المؤاخاة بين البشر اإلخوة ،ھو نظ ٌر عاج ٌز ورأ ٌ
ي
سقيم!
فما أعجز القول والعمل والنظر ساعة تنقلب األنھار دما ًء والرياض صحارى ويطلع الشوك في القصور!
وما أعجز القول والعمل والنظر ساعةَ يرتفع اإلنسان كال ُعصافة في طريق الزوبعة ،ويُطرح في أشداق حرب
تأكله أكالً عظيما ً فإذا ھو ال شيء! وإذا جماالت الحياة وأمنياتھا قد أصبحت عدما ً وخواء! وإذا البوم تھبط إلى
خرائب عمرانه فتق ّر فيھا وتجد لنفسھا محالً!
وإذا كانت الحرب َمھلكةً فالسلم وحده َمنجاة! وھو ،إلى ذلك ،الغاية الموصلة إلى غايات :ھو الحالة التي تم ّكن
ابناء اإلنسانية الواحدة من أن يستخدموا مواھبھم وطاقاتھم جميعاً ،ويتعاونوا في مساعيھم الواحدة ،ليبلغوا
أمانيھم المشتركة الواحدة ،مرحلةً مرحلة.
وابن أبي طالب الذي تتماسك مذاھبُه في كل ميدان تماسك الفروع النامية على أصل واحد ،يدرك أن السلم
سياج عظيم يشيد حول اإلنسان وحول الحياة فيمنع عنھما ك ّل شر.
ُ
يخاطب ابنُ أبي طالب الناس قائالً» :إنّ ﷲ لم يخلقكم عبثا ً!«
إنّ يجيب عن ھذا السؤال بنفسه ،يقول» :إنّ ﷲ خلقكم َحر َما ً في أرضه وأمنا ً بين خلقه ...وجم َع ألفتكم فنشرت
النعمةُ عليكم جناح كرامتھا وأسالت لكم جداول نعيمھا!«
فاأللفة إن ھي إالّ نعمة الوجود على الناس في مذھب عل ّي .وإليك قبسا ً من الدفء والحنان العظيمين اللذين
يشيعان في قلب ابن أبي طالب وعلى لسانه
] [ ٢١٦
»وعقد ﷲ بينھم حبل األلفة التي ينتقلون في ظلّھا ويأوون إلى كنفھا بنعمة ال يعرف أح ٌد من المخلوقين لھا
قيمةً ،أل نّھا أرجح من ك ّل ثمن وأج ّل من ك ّل خطر!«
وتتعاون األعمال واألقوال في حياة عل ّي تنفيراً من التعادي والتناحر واالقتتال ،وتحسينا ً للتصافي والتآلف
والمؤاخاة! وھو يأمر بالتعاون من أجل السلم ،ويعمل له ،لـ »أنّ في الصح أمناً للبالد« .ويأمر بكراھية الحرب،
ويكرھھا ،ألن الحرب عدوان و »بئس العدوان على العباد «.وألنّ الخسارة ھي في ك ّل حال ،النتيجة المحتومة
لھذا العدوان» :و َمن زر َع العدوان حص َد الخسران!« وألنّ في الحرب ويالً على بني اإلنسان :على المنتصر
والمنكسر معا ً! وفي الحرب امتھانٌ لكرامة اإلنسان ھو الخروج على العقل والضمير والمودّات وقيمة الحياة
في شخص الغالب .وھو المھانة والمذلّة وضياع الدم والحياة في شخص المغلوب .وفي مذھب عل ّي أنّ »الغالب
بالش ّر مغلوب« ،وليس ھنالك ما ھو ش ّر من القتال وسف الدم.
وكان من مبادئ األمور عند عل ّي أن يذكر الغارات ،وھي مظاھر الحرب في القبائل الجاھلية قبل اإلسالم ،في
عدد السوءات المريعة .فالغارات وعبادة األصنام ووأد البنات من معدن واحد في نظره .وھي ،إلى ذلك ،تجسيد
لجھل اإلنسان حقيقةَ نفسه وحقيقة الحياة ،وبئس الجھل في ك ّل حاالته ،يقول عل ّي» :وأطباق جھل من بنات
موؤودة ،وأصنام معبودة ،وغارات مشنونة!«
] [ ٢١٧
وقد بلغ به مقتُه للحرب أ نّه كان ينھى عن القتال حتى في أضيق حدوده وأعني المبارزة ،فيقول» :ال تدعونّ
إلى مبارزة« .ولع ّل قارئ عل ّي يلحظ أ نّه كثيراً ما يذ ّم أخالقا ً في الناس وأشياء في الدنيا .أ ّما في أخالق الناس
فكان يذ ّم المي َل إلى الفتنة والجنوح إلى القتال أ ّول ما يذ ّم .وأ ّما الدنيا فال يسوؤه من وجوھھا وجه أقبح من
ھائج قال فيھا» :وإنّھا دا ُر حرب وسلب ونھب!« ٌ ھاجه من أمورھا
الحرب ،فتراه إذا َ
ق يعلو
ق بقدر ما ھي تغطية للباطل .والسماء واألرض ُوجدنا بالحق في مذھب عل ّي .وبالح ّ والحرب متلفةٌ للح ّ
اإلنسان ويقوم المجتمع وتسعد الدنيا .أ ّما الباطل فھو مجمع المخزيات والرذائل .وإذا كان األمر كذلك فما ھو
نصيب الحرب من القيمة في خاتمة ك ّل حساب؟ إنّھا مجمع المخزيات والرذائل »ألنھا ـ أي الحرب ـ إذا أقلت
ق
شبّھت« أي ارتفع فيھا شأن الباطل وانخفض صوت الحق .وإذا كان السلم ھو الحقّ ،فإن » َمن تعدّى الح ّ ُ
ضاع مذھبه!«
ھذا ھو أساس نظرة علي إلى الحرب .وال عجب في ذلك ،فھو نظ ٌر يالئم إيمانه العميق بالحرية ،ويالئم ثقته
باإلنسان ،ويالئم احترامه العميق للحياة واألحياء وما يجب أن ينصبّوا عليه من العمل الخيّر المفيد.
وھو لذلك يكتفي بأن يخاطب أصحابه في بعض الحاالت قائالً» :وحس ُ
ب عد ّوكم خروجھم من الھدى إلى
الضالل« منعا ً من الفتنة وميالً إلى السلم.
وھو لذلك يأمر المخطىء المسيء بأن يعتذر ع ّما فعل رفعا ً ألسباب القتال .ويأمر َمن أسيء إليه بأن يقبل عذر
من اعتذر له مھما كان ذنبه عظيماً ،قائالً له» :إقبل عذر من اعتذر إليك!« و »قاتل ھواك بعقلك تسلم لك
المودّة!«
وھو لذلك ال يرى في شيعته صفةً أجدر بالتقدير من نزوعھم إلى السلم
] [ ٢١٨
وميلھم عن الحرب وإلحاحھم في طلب العافية ألنفسھم وللناس جميعاً ،فيقول في ما يجب أن يكونوه» :شيعتنا
إن غضبوا لم يظلِموا بركةٌ على َمن جاوروا سل ٌم لمن خالطوا«.
***
ولكنّ ھذه الحرارة في التنفير من الحرب والدعوة إلى السلم ال تعني االستسالم والخضوع في حال من األحوال،
أل نّھا ال تعني الھروب من المسؤولية وإطالق العنان للمفسدين .فالحرب ليست كريھةً لذاتھا ،بل لِ َما تؤذي
وتسيء .والسلم ليس محبّبا ً لذاته ،بل لِ َما يعطي أھلَه من إمكانات للطمأنينة ،وما يأذن به للناس من اإلنصراف
إلى تحسين المجتمع ،وما يفتح أمام األحياء من طرق الحياة الرحبة الواسعة.
فقد تنتھي االساءة في بعض األنظمة والقوانين إلى أن تتج ّمد على قھر الضعيف وظلم السواد األعظم ،وأن
ترغب لنفسھا في السلم كي ال تمت ّد إلى جمودھا ي ُد الحياة فتُذيبھا وتُبذل بھا جديداً! فھل الخير عند ذاك إالّ في
القتال سحقا ً لھذا الجمود ومحقا ً لھؤالء الجامدين!
وقد تنتھي االساءة في بعض األفراد ،أو الطبقات الشبيحة باألفراد ،إلى أن يريدوا الحياة مغنما ً لھم ،واألرض
والبشر عبيداً أرقّاء ،وأن يرغبوا ألنفسھم في السلم كي ال تطالھم ي ُد الح ّ
ق فتُلغي َ مكسباً ،وحياةَ الناس موتا ً،
ً ّ
وجودھم وتم ّزق عن الدنيا قناعھا األسود المقيت! فھل من الخير عند ذاك إال في القتال تحطيما لھذه الطبقيّة
وركالً لھؤالء التافھين!
فلو كان لك ﱟل من الحرب والسلم قيمةٌ ذاتية مطلقة ،لكانت الثورات التي قامت بھا شعوب العالم على الطغاة
والمستغلّين والمستعمرين .إثما ً وش ّراً .ولكان الخضوع لمشيئة المجرمين من األباطرة واألكاسرة والقياصرة،
يُمنا ً وخيراً!
ولكنّ الحقيقة أن الخير كل الخير يكمن في ما يعود على الناس بما يُصلح
] [ ٢١٩
فالحرب التي يكرھھا عل ّي بن أبي طالب ،ھي حرب أبي سفيان وأبي لھب لمح ّمد ،ال حرب مح ّمد لھا.
والحرب التي يمقتھا ابنُ أبي طالب ھي حرب ال ُغزاة القاسطين الفاسقين ألھل الخير وطالّب الحق ،ال حرب
ھؤالء ألولئك!
إنّه يدعوك ألن ال تكون جانكيزخان ،وھوالكو ،وھتلر .ولكنه يأبى عليك أن تكون من أبناء اإلنسانية التي سعى
ھؤالء في تدميرھا ،وتتحدّث عن السلم فيما تحصد سيوفُھم رؤوس األبرياء.
ق مغصوب ومال منھوب وكرامة مباحة ودم مھدور ،فإنّھا إلنصاف مظلوم من ظالم ،وانتصاراً لح ﱟ
ِ فإذا كانت
ّ ّ َ
ضرورة اجتماعية وإنسانية عند ذاك ،شرط أال يصار إليھا إال بعد محاوالت متعاقبة في سبيل التفاھم بغير قتال.
اسمعه بماذا يخاطب أصحابه وقد استبطأوا اذنه لھم في القتال بصفﱢين ،ومقاتلوه ھم القاسطون الذين يقول فيھم
ق ال يُبصرونهُ ،مو ّزعون بالجور والظلم ال يعدلون«:
»إنھم حيارى عن الح ّ
»أما قولكم :أك ّل ذلك كراھية الموت؟ فوﷲ ما أُبالي أدخلتُ على الموت أو خرج الموت إل ّي! وأ ّما قولكم :أش ّكا ً
في أھل الشام؟ فوﷲ ما دفعتُ الحرب يوما ً إالّ وأنا أطمع أن تلحق بي طائفةٌ فتھتدي بي وتعشو إلى ضوئي
أحب إل ّي من أن أُقاتلھا على ظالھا وإن كانت تبوء بآثامھا!«
وذلك ّ
] [ ٢٢٠
ثم ش َرطَ أال تكون الغاية من ھذه الحرب النصر بح ّد ذاته ،وال االنتقام ،وال التنكيل ،وال األذى ،وال االساءة إلى
ق إلى نصابه ساعةَ يكون أخو الحرب مؤمناً أسير أو جريح أو ُمدبر أو امرأة أو شيخ أو غالم .بل إعادة الح ّ
بأنه على حقّ ،وبأن خصمه ظالم الب ّد من أن يُنصف منه .فإذا أُد ِركت الغاية بأق ّل نصيب من القتال وجب إيقافه
في الحال .فاستنكار سفك الدماء إالّ بالضرورة القاھرة قاعدةٌ أساسية في حروب عل ّي .لذلك كان من منطق
الغاية التي تھدف إليھا الحرب في مذھبه ،أن يبدأ خص َمه الظالم بالنصح» :وايم ﷲ ،ألنصفن للمظلوم
وألنصحنّ للظالم!«
وكثيراً ما كان يلجأ إلى ترھيب خصمه وتخويفه إذا لم يُ ِجده الترغيب في السلم .إذ المھ ّم لديه أالّ تُھ َرق الدماء
حيث يمكن أن تُحقن .قال في تخوف أھل النھروان:
صرعى بأثناء ھذا النھر على غير بيّنة من ربّكم .وال سلطان مبين معكم .وقد كنتُ »فأنا نذيركم أن تُصبحوا َ
ت ال أبا
نھيتُكم عن ھذه الحكومة فأبيتم عل ّي إباء المخالفين المنابذين) ،(١حتى صرفتُ رأي إلى ھواكم .ولم آ ِ
لكم .بُجراً) (٢وال أردتُ لكم ض ّراً «.ثم إليك ھذا الدعاء العجيب بنزعته اإلنسانية يطلقه إمام يتألب عليه
أخصامه بصفّين ،وقد عزم على لقائھم بعد أن فشلت مساعي السلم:
رب ،ھذه األرض التي جعلتَھا قراراً لألنام و َمد َرجا ً للھوا ّم واألنعام ،وما ال يحصى م ّما يُرى وم ّما ال»اللّھ ّمّ ،
ورب الجبال الرواسي التي جعلتَھا
ّ يُرى؛
١نھاھم عن إجابة أھل الشام في طلب التحكيم بقوله» :إنھم رفعوا المصاحف ليرجعوا إلى حكمھا الخ «.وقد خالفه أھل النھروان ـ
أي الخوارج ـ بقولھم» :دعينا إلى كتاب ﷲ فنحن أحق باإلجابة إليه «.بل إنھم اغلظوا في القول حتّى قال بعضھم» :لئن لم تجبھم إلى
كتاب أسلمناك لھم وتخلينا عنك«.
٢بجراً :شراً.
] [ ٢٢١
لألرض أوتاداً وللخلق اعتماداً ،إن أظھرتَنا على عد ّونا فجنّبنا البغي ،وسدّدنا بالحق! وإن أظھرتَھم علينا
فارزقنا الشھادة واعصمنا من الفتنة!«
وحب عل ّي للسلم وتعلّقه بأسبابه حتى قبَيل القتال بلحظات ،أمران ال يختلف فيھما شاھدان من األصحاب ّ
والعد ّو .وسيرته حافلة بمظاھر ھذا الحب للسلم وھذه الكراھية للحرب .من ذلك ما جرى يوم موقعة الجمل:
فحين اجتمع عليه أخصامه القاسطون وساروا بجندھم إليه ،أم َر أصحابه أن يصطفّوا ،فقال لھم» :ال ترموا
بسھم ،وال تطعنوا برمح ،وال تضربوا بسيف ،واعذروا« ولم يقاتلھم إالّ بعد أن َرموا من أصحابه ثالثة
فصرعوھم ،وأش َھ َد على ذلك ربّه ثالثا ً!
ولطالما خرج اإلمام إلى الزاحفين لقتاله حاس َر الرأس أعز َل من السالح ،وھم موقّرون بالحديد معتصمون به،
المحب ومن
ّ صنون له بالجحود والمكابرة ،من لھجة القلب يحاورھم بالمودّة ويذ ّكرھم بالخير ويخاطبھم بما يتح ّ
ُ
بيان العاطفة الحنون .حتى لكأنّه ،وھُم أمامه قِط ٌع من الليل بما ألبسو من دروع وتُروس ،يتقلّد من احترامه
العميق لإلنسان درعاً ،ومن إيمانه بعدالة مسعاه تُرساً ،ومن ثقته بالضمير اإلنساني حصناً ،ومن عطفه على
المظلوم ووفائه للحق وحبه للسالم ألف مجنّ ! إنه ھو القائلَ » :من أمنتَ من أذيّته فارغب في أُخ ّوته!« وھو
الذي يكره الخصومة أش ّد الكره ألنّ الخصومة من أذيّته فارغب في أُخ ّوته!« وھو الذي يكره الخصومة أش ّد
الكره ألن الخصومة والمراء تھدّمان أخالق الفرد وتعصفان بشخصية الجماعة بما ينبت عليھما من نفاق:
»إياكم والمرا َء والخصومة فإنھما يمرضان القلب وينبت عليھما النفاق!«
لطالما خرج إلى مقاتليه على ھذه الصورة تدليالً على نفوره من القتال ،وعلى ميله الخالص إلى ج ّل المشكالت
بأسلوب ھو إلى المودّة واالخاء أقرب ،وتحقيقا ً للقاعدة التي وضعھا لمثل ھذا الظرف» :خذ على عد ّوك
يحس قيمتھا إالّ اإلنسان اإلنسان.
ّ بالفضل فإنّه أحلى الظفرين« .ثم توكيداً لحقيقة ال
] [ ٢٢٢
وھي أنّ القتال ش ّر ،وأن الخير الذي يجنبه الغالب ال قيمة له أل نّه أتى عن طريق ھذا الشر» :ما خي ُر خير ال
يأتي إالّ بش ّر ،وما قيمة يُسر ال يأتي إالّ بعسر!« فھو يدرأ الشر بكل وسيلة .ويطلب اليُسر لمبادىء الصالح
بغير ال ُعسر! حتى إذا أبى أعداؤه إالّ قتاله ظلماً ،وإالّ د َمه ودم البقيّة الخيّرة من أعوانه ،عاد يكرر عليھم نداءه
من جديد .فإذا أص ّروا على اإلثم وأصبحت الحرب ضرورة اجتماعية وإنسانية ،ترك لھم أن يبدأوه القتال .فإن
يخرج الموت إليه ،فيزعزع الرجال
ِ ھم فعلوا حاربَھم .ويا البن أبي طالب يدخل على الموت إذ ذاك إن لم
ويصرع األبطال.
وإنّه الدفاع األكرم عن عدالة يريدونھا جوراً ،وعن كرامة يھدرونھا ھدراً ،وعن حرية يودّون لو كانت
عبودية ،وعن إنسان يريده عزيزاً ويأبون إالّ إذالله وبك ّل جواد تحتھم نيطَ غ ّل وقي ٌد ثقيل!
إنّه الدفاع عن ضرورات اجتماعية ومطالب إنسانية ال يكون القعود دونھا إالّ تخاذالً وكفراً .يقول اإلمام عل ّي في
موضوع قتاله لمعاوية» :ولقد ضربتُ أنفَ ھذا األمر وعينه ،وقلّبت ظھره وبطنه ،فلم َ
أر لي إالّ القتا َل أو
الكفر«.
وإليك كيف يوجز ابنُ أبي طالب الفصل األول من وقعة الجمل:
»وكان طلحة والزبير أول َمن بايعني ثمن نقضا بيعتي على غير حدَث .وأخرجا أ ّم المؤمنين إلى البصرة،
فصرتُ إليھما في المھاجرين واألنصار ،فدعوتُھما إلى أن يرجعا إلى ما خرجا منه فأبَيا .فبالغت في الدعاء،
وأحسنتُ في اللقاء!« وكان عل ّي قد بعث إليھما وھو ببعض الطريق إلى الكوفة بابنه الحسن وابن عمه عبدﷲ
بن عباس وع ّمار بن ياسر وقيس بن سعد ابن عبادة ،لعلّھما يقطعان الفتنة ،فأبَيا .وفي ذلك يقول عل ّي:
] [ ٢٢٣
في الدعاء وأقلتُ العثرة ،وناشدتھم عقد بيعتھم فأبوا إالّ قتالي ،فاستعنتُ ﷲ عليھم .فقُتل َمن قتل وولّوا
مدبرين .فسألوني ما كنتُ دعوتُھم إليه قبل اللقاء ،فقبلتُ العافية ورفعتُ عنھم السيف واستعملتُ عليھم عبدﷲ
بن عباس ،وبعثتُ إليھم ُزفَر بن قيس ،فاسأله عنّا وعنھم!«
ولم يكن على قلب اإلمام ما ھو أكرهُ من أن يرى دما ً مراقا ً .وإذا لم يكن على ثقة بأن ُوالته وع ّماله إذا قاتلوا
عفّوا عن إراقة الدماء إالّ بحاجة العدالة والحقّ ،أكثر من أوامره إليھم بأالّ يسفكوا دما ً .أضف إلى ذلك نظرة
عبقرية كان يلقيھا فتكشف عن الجانب الدول ّي في ھذا الموضوع ،كما تكشف عاطفتُه عن الجانب اإلنساني
الخالص فيه .فسف ُك الدماء يزيل السلطان في نظر اإلمام ،ويُفقده معناه ،وال سيّما إذا كان عمداً؛ وھو ال يع ُذر
بعث ألحد عماله يقول» :وال تُق ّوينّ سلطانك بسفك دم حرام ،فإن ذلك م ّما يضعفه ويوھنه ،بل يزيله َ فيه.
وينقله .وال عُذ َر لك عند ﷲ وال عندي في قتل العمد!«
وإني ألعرض للقارئ ،بھذا الصدد ،أمراً عَجبا ً! فأي عرف في غير ابن أبي طالب ،قائ َد جماعة يأمر ُوالته بأالّ
يستعملوا على الجيش إالّ َمن كره القتل وإلحاق األذى بالناس ،ثم عَذ َر وعفّ وكان عطوفا ً رحيما ً طاھر القلب ال
يلجأ إلى عنف وال يقسو! اسمعه ،وﷲ ،يأمر عامله على مصر بھذا القول» :وو ﱢل من جنودك أنقاھم جيبا ً ـ أي
أطھرھم قلبا ً ـ وأفضلھم
] [ ٢٢٤
حلما ً :م ّمن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو على األقوياء) ،(١وم ّمن ال يثيره
العنف الخ«...
***
ولإلنسان على اإلنسان حق الوفاء بالعھد تدعيما ً الركان السلم بين اإلفراد والجماعات ،ومكرھةً للحرب .وال
فرق أن يكون العقد بين أبناء المذھب الواوحد أو المذاھب المختلفة .وال أن يكون بين أبناء القوم الواحد وبين
قوم وآخرين .وال أن يكون بين مسالم ومسالم أو محارب .وال بين صديق وصديق أو عد ّو! ال مذھب وال قومية
وال حالة سلم أو حرب تحول دون الوفاء بالعھد في خاطر ابن أبي طالب وفي حكمه .ذلك ألن الوفاء بالعھد
تدعيم ألركان السلم كما
] [ ٢٢٥
تقدم ،وفي السلم أمنُ البالد وراحة الناس .وأل نّه خدمة للمجتمع المرتبط بقوانين وذمم .ثم إنّه غذاء للضمير
اإلنساني الذي يسعى اإلمام في االرتفاع به ما أمكن االرتفاع .وھو ،بذلك كله ،سبب في التقارب والتوا ّد بين
األفراد والجماعات والقبائل والشعوب .وھو في كل أحواله مظھ ٌر من مظاھر الصدق واحترام الشخصية
ت َمن أعطى العھد ومن أعطي له سواء بسواء .ثم إن الوفاء بالعھد يرافقه ،أبداً ،االطمئنان مناإلنسانية في ذا ِ
الجانبين .وإذا اطمأنّ الجانبان كان لك ّل منھما أن يعمل بوحي الحرية التي يستشعرھا فيتمكن من ممارستھا في
حدود ھذا االطمئنان .لذلك كان الوفاء بالعھد من دستور ابن أبي طالب في الخالفة والوالية .ففرض على كل من
أعطى عھداً أو ذمة أن يصونھما بجسده وروحه فيھلك أو يفي بھما.
ويتألم ابن أبي طالب من النكث بالعھد بمقدار ما يتألم من الكذب .يقول في خطبة له» ،إن الوفاء توأ ُم الصدق
وال أعلم ُجنّة ـ وقاية ـ أوقى منه .وال يغدر من علم كيف المرجع .ولقد أصبحنا في زمان قد اتّخذ أكثر أھله
ب وجه الحيلة الح ّو ُل القُلّ ُ
الغدر َكيسا ً ونسبَھم أھ ُل الجھل فيه إلى حسن الحيلة! ما لھم؟ قاتلھم ﷲ؟ قد يرى ُ
ودونه مان ٌع من أمر ﷲ في الدين)«(١
ويقول في رسالة منه إلى عامله على مصر» :وإن عقدت بينك وبين عد ّوك عقدة ـ أي ميثاقا ً ـ أو ألبسته منك
فححط عھدك بالوفاء ،وار َع ذ ّمتك باألمانة ،واجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت ـ أي حافظ على ما
ذ ّمةُ ،
١كيسا ً :عقالً ،وأھل ذلك الزمان يعدون الغدر من العقل وحسن الحيلة ،كأنھم أھل السياسة من بني زماننا .واإلمام علي يعجب من
زعمھم ويقول :ما لھم؟ قائلھم ﷲ! يزعمون ذلك مع أنّ البصير بتحويل األمور وتقليبھا قد يى وجه الحيلة في بلوغ مراده لكنه يجد
دون األخذ به مانعا ً من أمر ﷲ ونھيه الخ.
] [ ٢٢٦
أعطيت من عھدك بروحك ـ وال تغدون بذمتك ،وال تخيسنَ بعھدك ،وال تختلنّ عد ّوك ـ أي ال تخ َد عدوك« .ثم إنّه
ال يكتفي بھذه التوصية الصريحة بأال يخدع اإلنسان حتى عد ّوه ومقاتله ،بل يشدّد على مت تحدّثه نفسه من
ال ُوالة بأن يعطي عھداً مبھما ً يتح ّمل التأويل والتفسير على غير المراد ،لمخادعة من أُعطي له ھذا العھد،
وللتملّص من الميثاق رغبةً في نقضه وعدم التزامه ،أو في الجور وما إليه .يشدّد اإلمام على مثل ھؤالء
فيقول» :وال تعقد عقداً تجوز فيه العلل ،وال تع ّولنّ على ِ
لحن قول بعد التأكيد والتوثقة)«(١
ثم إنّ عليّا ً ھو القائل» :واعتصموا بالذمم!« و »ذ ّمتي بما أقول رھينة!«
١العلل :جمع علة وھي ،في النقد والكالم ،بمعنى ما يصرفه عن وجھه ويحوله إلى غير المراد ،وذلك يطرأ على الكالم عند ابھامه
وعدم صراحته .لحن القول :ما يقبل التوجيه كالتورية والتعويض .يقول :إذا رأيت ثقالً التزام العھد ،فال تركن إلى لحن ا لقول
لتتملص منه ،بل خذ بأصرح الوجوه لك وعليك.
] [ ٢٢٧
وھكذا يبدو لنا أن دعوة عل ّي إلى السلم إنّما ھي في نتيجتھا البعيدة ،تعبي ٌر عن ك ّل ما كان يطلبه للناس من عدل
ومساواة وحرية .بل تعبير ع ّما كان يضمره في نفسه ،ويعلنه في دستوره ،من العمل الشامل في سبيل
اإلنسان :العمل الذي يريد أن يستوعب ك ّل ميدان تخصب فيه اإلنسانية وتنمو.
وإنّ عليّاً ،بدعوته الحا ّرة إلى األلفة بين أبناء البشر األشقّاء ،ليستوي وسائر آباء اإلنسانية القُدامى! فما أشبه
دعوته بھذه العاطفة الكريمة التي يعبّر عنھا مح ّمد بقوله» :كونوا عبّا َد ﷲ إخوانا ً« .ث ّم بھذه الفكرة العظيمة
التي يطلقھا النب ّي أيضا ً ساعةَ يسأله أحدُھم» :ما أفضل األعمال؟« فيجيب قائالً» :أفضل األعمال بذ ُل السالم
للعالم!«
وما أشبه صوت عل ّي بغايته و ُمحتواه ،بصوت أشعيا إذ يتص ّور ما يمكن أن تؤول إليه أحوال الناس حين
قريب أو بعيد ،فيقول ھذا القول العظيم:
ٌ يتصافون ،وإذ يؤ ّكد أنّ تص ّوره ال محالةَ محقّ ٌ
ق في غد
الناس بيوتا ً يسكنون فيھا ويغرسون كروما ً ويأكلون ثمرھا .ال يبنون ويسكن آخ ُر وال يغرسون ويأكل
ُ »ويبني
آخر.
] [ ٢٢٨
الجورَ .وحسبما يتوھﱠھج إلى يحب اإلنسانُ الجما ُل يكره القبح .وعلى مقدار ما يطلب العدل ينفر من َّ ـ بقَدَر ما
الكھوف واألودية وصخور
ِ عبر
َ ُ
دفء الوجود تھوله برودة العدم .وھو التحمله قد ماه في وعورة األرض
حب!
اليُ ّ الذي فھ َو يكره ال الذي أ ّما المودﱠة! ديار إلى إال الجبال،
ً ً ً
وتتصل حلقات السيرة العلوية في القضايا العا ّمة اتّصاال ُمحكما كريما .وتتداخل مواھب عل ّي في اإلدارة
الفذة في وحدة متالزمة العناصرّ ،
فذة! والوالية والقيادة واألخالق العظيمة تداخالً تتألف منه الشخصية العلويّة ّ
فإذا ثورته على االحتكار واالستغالل ھي في الوقت ذاته ثورةٌ على الظلم والظالمين .وإذا نقمته على األثرياء
واألقوياء المستثمرين ثراءھم وق ّوتھم بما يؤذي الجماعة ،وعلى األغبياء المتعالين ،ھي في ح ّد ذاتھا نقمةٌ
على االستبداد بكافّة أشكاله .وإذا نزوعه العميق إلى رعاية المستضعفين بالعدل وقد ُولدوا بشراً ال يھونون إالّ
في مجتمع مغلوط ،وإلى تحرير المستعبدين ،وقد ُخلقوا أحراراً ال يذلّون
] [ ٢٢٩
إال وقد ذلّت الكرامة اإلنسانية بالذات ،ھي في الحين نفسه نقمةٌ على من أھان وأذ ّل!
وإذا كان في ما رأيناه حتى اآلن من انتصار اإلمام ألھل الحاجة ،انتصا ٌر للمظلوم؛ وإذا كان في ما رأيناه حتى
اآلن من سخط اإلمام على خصوم اإلنسانية والمجتمع والعاملين في غير ھدي الضمير ،سخطٌ على الظالم؛ فما
صاً ،ما
صا ً منطوقا ً .ففي الظلم ن ّ
بسبب يكفينا عناء الكالم على موقف ابن أبي طالب من الظلم والظالمين ن ّ
ٌ ذاك
ھو أشمل من االحتكار واالستغالل واالستھتار بالكرامات؛ وما ھو أبعد في اإلشارة إلى ھذه النقائص ،إلى ما بدا
منھا وما اختفى! والظلم على كال حال ،لفظٌ ال تج ُد لإلمام قوالً في خطبة أو وصية أو عھد إالّ وھو فيه .وإالّ
تنصب على روحه ومعناه .وإالّ ولسانه وبيانه يصيبانه بكل لعنة! لذلك وجب إفراد فصل يبحث في ُ وثورته
موقف عل ّي من الظلم والظالمين ،والطغاة العتاة المفسدين الذين ما أھمل ابن أبي طالب قتالھم في وجدانه
وعلى لسانه ،وبدستوره وذي فقاره ،صيانةً للعا ّمة من غصب الغاصبين ومظالم العابثين.
أ ّما قتال الظلم فقد كان في تاريخ اإلنسان منذ كان اإلنسان ،ولكن على وجوه وأشكال! وكث َر حملَةُ أعباء ھذا
القتال في عھود الفئات المستأسدة الطاغية كثرةً تش ّرف تاريخ اإلنسانية بقدر ما ينحطّ به ظل ُم الغاشمين وظ ّل
ھؤالء المقاتلون يتناوبون ويتعاونون ويتوارثون روح القتال .ومن عظماء اإلنسانية َمن كانت أيامھم حلقات
متواصلة من الصراع .فما تاريخ المسيح إالّ ثورة على المستعمرين الرومان ،والمستعمرين الداخليين من
الملولك واالرستقراطيين وعبيد الوثنية االجتماعية ،وما تاريخ مح ّمد إالّ استمرار لتاريخ المسيح في ثورة
تعصف عصفا ً وال تنقلب نسيما ً نديّا ً إالّ إذا نال المظلومون ما تريده لھم من حال.
] [ ٢٣٠
وما يقال في المسيح ومح ّمد يقال في سقراط وغاليليو وفولتير وتولستوي وبوشكين وبتھوفن وغوركي
وروسو وجورج برنارد شو وغاندي و َمن إليھم من أعالم التاريخ اإلنساني .وكما يتح ّول الظلم في النفوس
المشرب والمطعم والملبس
ُ واالجسام إلى مادّة من مادّتھا ،فإذا ھو شيء من أشيائھا يسھل اتيانّه كما يسھل
والتنفّس ،على نحو ما نرى في حياة نيرون وجانكيزخان وأجالف المماليك وباشوات بني عثمان ،ورجال
ديوان التفتيش أو المحكمة »المقدسة« في أوروبا بالعصرو المتوسطة ،وفي حياة األباطرة واألكاسرة
والفراعنة والسالطين التافھين ،في سيرة الحجاج بن يوسف وزياد بن أبيه وعبيدﷲ بن زياد ومسلم بن عقبة
و َمن إليھم ،فكذلك يتح ّول مقت الظلم في نفوس اآلخرين وفي أجسامھم إلى مادّتھا فإذا ھو شيء من أشيائھا
يعيش بھا مع النبض والخفوق.
بھذا أستطيع أن أعلّل ثبوت األوليين على المظالم بما فيھا من فظائع وشنائع ثبوتا ً ال يتطلب أي جھد ،وال
يبتغي في معظم الحاالت أيّة غاية كبيرة أو صغيرة أبع َد من صدور األشياء عن مصادرھا ،حتى لينادي أحدُھم
الحجاجال ابن يوسف َح َرسيّه ،وھو على مائدة الطعام في رھط من أصحابه ،قائالً له» ،يا حرس ّي ،اضرب
عنقه« مشيراً إلى عجوز مسكين يقف مرتجفا ً بين يديه ولم يرتكب إثما ً كثيراً أو قليالً .ثم يتابع طعامه كأنّ أمراً
لم يكن .يفعل ذلك بنفس البساطة التي ينادي بھا غال َمه قائالً له :يا غالم ،ھات لنا ما ًء مب ّرداً! وحتى ليحرق
نيرون روما وھو يشرب الكأس ويصغي إلى الشعر والعزف والغناء!
وبھذا أستطيع أن أعلّل أيضا ً ثبوت اآلخرين على مصارعة الظلم واالستبداد ثبوتا ً ال يكونون إالّ به ،حتى
ليشرب سقراط الس ّم كما يشرب الدواء إذا كان شربُه نھايةً محتومة لھذا الثبوت .وحتى ليحارب فولتير أكبر
رأس في أوروبا
] [ ٢٣١
ھذه الطائفة العظيمة من أبناء البشر يأتي ابنُ أبي طالب في طليعتھا .لقد جاء ،كما يقول ليقيم حقا ً ويزھق
باطالً! فحدوده في الدولة ھي ھذه الحدود! ولكن ما أبع َد أطراف الدنيا القائمة ضمن ھذه الحدود والظالمون في
زمانه أعظم عدداً وأش ّد بأسا ً!
ھذه ھي إرادة ابن أبي طالب .وھذا ما يأباه زمانه! ويتخلّف عن مسايرته في ھذه اإلرادة حتى المظلومون
أنفسھم لخوف قديم أل ﱠم بھم فباتوا يخشون معاندة ظالميھم .أو لجھل ُحملوا به على قبول الرشوة إالّ َمن خلق
ربّك من كبار القلوب!
ولكن ،ھل يضعف عل ّي والناس متألّبون عليه سائرون إليه في ركاب النافذين؟ ھل يضعف الفارس الغريب
الكئيب في أرض اآلالم يقيم بھا بين السباع الضواري ،وفي أبناء آدم وح ّواء كراھيةً للموت ،ال شكّ؟
ھل يضعف و »الظالم يزداد عت ّواً« والنافذون »يعملون في الشبھات« ويتاجرون بضمائرھم فيدفعونھا ثمنا ً
للمغانم ينتھزونھا وللمنابر يفرعونھا ،والبالد نھبةٌ لھم وھم لمظالمھم متع ّ
صبون يأخذھم ال ِكبر ويغريھم الفخر؛
يتل ّونون ألوانا ً ويعدّون لكل حق باطالً ويتقارضون الثناء ويتراقبون الجزاء ،وقد استغلّوا العدل والحقّ ،وطغوا
وبغوا وأفسدوا في األرض وتجبّروا؟
ھل يضعف وأنصاره أنفسھم »ما ع ّزت دعوةُ َمن دعاھم ،وال استراح قلب َمن قاساھم .و َمن فاز به فقد فاز
ص ُم ذوو أسماع ،بُك ٌم ذوو كالم ،ال أحرار صدق عند اللقاء وال إخوان ثقة عند البالء!«
بالسھم األخيب! ُ
] [ ٢٣٢
إن المرء ليضعف في مثل ھذه الشروط ،إن لم يكن عل ّي بن أبي طالب! فالحنان العميق الذي ي ّكنه عل ّي للناس
يحمله على أالّ يھادن من أساء للناس ولو كانت حياته الثمن لذلك! وإنه ليكذب ،لعمري ،أو يجھل حقيقة
الطبائعَ ،من يخال أنّ من شروط الحنان والرقّة ،القعو َد عن الثورة على الظالمين .وأنّ من مظاھر العاطف ِة
ال َودود ،االستسالم دون التم ّرد ودون العنف في ھذا التم ّرد! فالحنانُ والعطف يحمالنك دون ت ّرد على أنّ تتم ّرد
وتثور على الظالم تخليصا ً لمن تعطف عليھم م ّما يرسفون به من قيود! وإن العطف والحنان والحب ھي التي
تدفعك ،في بعض الحاالت ،إلى العنف حتى أقصى حدوده.
يحب اإلنسانُ الجما َل يكره القبح .وعلى مقدار ما يطلب العدل ينفر من الجور .وحسبما يتوھّج إلىّ فبقدر ما
ّ ً ُ
دفء الوجود تھوله برودة العدم .وھو ال يحمل سيفا يھوي به على أعناق الطغاة التافھين إال إذا كانت الحياة
معبداً له ونعيما ً! وال تحمله قدماه في وعورة األرض عب َر الكھوف واألودية وصخور الجبال ،إالّ إلى ديار
يحب!
ّ المودّة! أما الذي ال يكره فھو الذي ال
وأسوق دليالً جديداً على الرقّة والحنان في مزاج عل ّي يتّحدان والتم ّر َد وال ُعنف اتّحا َد األشياء بذاتھا ،في سبيل
رفع الظلم بك ّل أشكاله:
روت سودة بنت عمارة الھمذانية أنھا جاءت إلى عل ّي تشتكي من رجل والّه صدّقاتھم ،فقال لھا بتعطّ ِ
ف ورأفة:
ألك حاجة؟ فأخبرته خبر الرجل ،فبكى ثم قال :اللّھ ّم إني لم آمرھم بظلم خلقك وال ترك حقك!« ثم أخرج من ِ
ً
جيبه قطعة من ورق فكتب فيھا:
» ...فأوفوا بالكيل والميزان وال تبخسوا الناس أشياءھم وال تعيثوا في األرض مفسدين .إذا أتاك كتابي ھذا
فاحتفظ بما في يدك حتى يأتي من يقبضه منك!«
] [ ٢٣٣
فانظر كيف بلغ به العطف على المرأة المظلومة الشاكية ح ّداً أبكاه .ثم كيف انقلب ھذا العطفُ عنفا ً آمراً ناھياً
يتوجه به إلى جامع الصدقات الذي جار! ّ سريعا ً مقتضب اللھجة
إن ابن أبي طالب لن يتراجع عن محاربة البغي ،ولن يضعفَ وفي األرض عزيز يضطھد ذليالً ،وكبير يقھر
صغيراً! لن يضعف ولن يتراجع وفي قلبه من الحنان والمحبة ما يكفل له الثبوت في الصراع بين الح ّ
ق
والباطل ،وما يضمن له القدرة على قيادة المعركة.
وكان عل ّي يؤمن إيمانا ً وطيداً بأ نّه »الب ّد من إمام يُؤخذ به للضعيف من القوي وللمظلوم من الظالم حتى
يستريح بَ ّر ويُستراح من فاجر« و »أن ﷲ قد أعاذ الناس من أن يجوز عليھم« فكيف يجور عليھم الجائرون!
و »أنه امتحن األمراء بالجور« فإذا ظلمو.ا انتھى أم ُرھم أل نّه »إن أمھل الظال َم فلن يفوت ُ
أخذه فھو له
بالمرصاد على مجاز طريقه!« وعند ذاك يكون »يوم العدل على الظالم أش ّد من يوم الجور على الملظوم!«
ومن أوامر ابن أبي طالب الدائمة» :أمرتكم بالشدّة على الظالم« و »خذوا على يد الظالم السفيه!«
ق والباطل .وھو إذا أط ّل على ھذاأجل! إنّ في قلبه من الحنان والمحبّة ما يكفل له الثبوت في الصراع بين الح ّ
الصراع من بعيد أوج َز يقول» :لنظھر االصالح في بالدك فيأمن المظلومون من عبادك« .ثم الذا ھو دنا من
ق وإن كان المعترك قال» :وايم ﷲ ألنصفن المظلوم من ظالمه وآلخذن الظال َم بخزامته حتى أورده منھ َل الح ّ
كارھا ً!« أو اطلق ھذه العبارة» :الكفّ عن البغي واإلنصاف للخلق واجتناب المفاسد في األرض!« وھو إذا كان
في قلب الصراع الرھيب تفَقّد أنصاره فإذا ھم قليل .ونظر إلى أخصامه فإذا ھم كثير .فنظر في أحواله وأحوال
ق من جنبه« .ثم إنّه لن يكفّ عن محاربة الناس وقال» :ما ضعفتُ وال جبنتُ ! فألنقبن الباط َل حتى يخرج الح ّ
الظلم
] [ ٢٣٤
ويزداد أبن أبي طالب ثقةً بنفسه وإيمانا ً بعدالة ما يعمل فيقول» :الذليل عندي عزي ٌز حتى آخذ الح ّ
ق له ،والعزيز
ق منه» «.فوﷲِ ما أبالي أدخلتُ على الموت أو خرج لموتُ إل ّي«. عندي ذلي ٌل حتى آخذ الح ّ
وإذا ھو قاتل الظالمين فبقي لھم في األرض صولة ،قال» :وبقيت بقيّة من أھل البغي ،ولئن أذن ﷲ في الك ّرة
يتشذر في أطراف البالد ّ
تشذراً«. ّ ألديلنّ منھم إالّ ما
ورجال العلم في مذھب عل ّي قادة األ ّمة ،وعليھم من ث ّمة مسؤولياتٌ ِجسام في طليعتھا مقاومةُ الظالم واالنتصار
للمظلوم .يقول» :وقد أخذ ﷲُ على العلماء أنّ ال يُقا ّروا على كظّة ظالم وال س َغب مظلوم!«
ذنوب الناس
َ ولكي ال تكون في عداد القوم الظالمين ،وال في َمن يعينون على الظلم أو يرضون به ،يجعل عل ّي
ضھا إالّ الظلم ،فيقول» :وأ ّما الذنب ال يُغفر فظلم العباد بعضھم لبعض« .وھو يرى ،في
في درجات يُغتفر لھم بع ُ
ك ّل حال ،أنّ »ظلم الضعيف أفحش الظلم!«
وھكذا وضع ابنُ أبي طالب رفع الظلم بأشكاله وألوانه جميعا ً ـ وال سيّما الظلم المادّي ـ في أساس دستوره في
الشعب .وھكذا حارب الظالمين بلسانه وسيفه وھو معتص ٌم بذ ّمته في ذلك ،وظ ّل يُذيل من أھل البغي حتى
استشھد عظيما ً! ولو قد استوت قدماه من مزالق دھره لَغيّر أشياء!
] [ ٢٣٥
عل ّي
بعد أن تبيّن لنا موقف اإلمام عل ّي من المجتمع وأحواله ،وظھر لنا أسلوبه في العمل من أجل توطيد العالقات
االجتماعية على أساس من العدالة متين ،الب ّد من إثبات مختارات من كتاب بعث به إلى االشتر النخعي ل ّما والّه
على مصر وأقطارھا ،وھو أطول عھوده ومن أجلّھا شأنا ً.
وإذا كانا قد استندنا في دراستنا ھذه على مختلف عھود اإلمام وكتبه ،ألن حقوق الفرد والجماعة ظاھرة فيھا
جميعاً ،فال يمكننا االستغناء عن إثبات مختارات من كتابه ھذا لعامله على مصر .ذلك أل نّه أجمع كتبه وعھوده
آلرائه في بناء المجتمع .ففي ھذا الكتاب الجليل دستور عل ّي في الوالة كامالً إالّ ما تناثر في بقي ِة كتبه وعھوده
سس أخرى وأركان ،نأخذ بعضا ً منھا ونثبتھا في خاتمة ھذا الكتاب. من أُ ُ
وھكذا نتيح الفرصة ألن يطّلع القراء على فصل من أروع ما أنتجه العقل والقلب في ربط الناس بالعالقات
االجتماعية واالنسانية الخيّرة.
] [ ٢٣٦
وجھتُك إلى بالد قد جرت عليھا ُد َو ٌل قبلك من عدل وجور .وأنّ الناس ينظرون من أمورك في »ث ّم اعلم أني قد ّ
ّ
مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الوالة قِبَلك ،ويقولون فيك ما كنت تقول فيھم؛ وإنما يُستد ّل على الصالحين بما
حب الذخائر إليك ذخيرةَ العمل الصالح .فا ِملك ھواك وش ُّح بنفسك عما سن عباده ،فليكن أ ّ يُجري ﷲ لھم على أل ُ
ال يح ّل لك فإن الش َّح بالنفس االنصافُ منھا فيما أحبّت أو كرھت .وأشعر قلبك الرحمة للرعية ،والمحبّة لھم،
أخ لك في الدين أو نظي ٌر لك في سبعا ً ضاريا ً تغتنم أكلھم فإنھم صنفان :إ ّما ٌواللطف بھم ،وال تكوننّ عليھم ُ
الخلق ،يَف ُرط منھم الزلّل) (١ويُؤتى على أيديھم في العمد والخطاء؛ فأعطھم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب
صةالناس من نفسك ومن خا ّ
َ صفتبج َحنّ بعقوبة .أن ّ
أن يعطيك ﷲ من عفوه وصفحه .وال تند َمن على عفو وال َ
ظلَ َم عباد ﷲ كان ﷲ خصمه دون عباده .وليس ى من رعيّتك ،فإنّك اال تفعل تَظلم! و َمن َ
أھلك و َمن لك فيه ھو ً
ُ
شيء أدعى إلى تغيير نعمة ﷲ وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم ،فإنّ ﷲ سميع دعوة المضطھدين وھو
للظالمين بالمرصاد.
وليكن أحب األمور إليك أوسطھا في الحق وأع ّمھا في العدل وأجم َعھا لرضا الرعية .وليس أح ٌد من الرعيّة أثق َل
الرخاء وأق ّل معونةً في البالد ،وأكره لالنصاف ،وأسأ َل باإللحاق ،وأق ّل شكراً عند على الوالي مؤونةً في َ
صة .والُع ّدةُ لالعداء العا ّمة من
اإلعطاء وأبطأ عذراً عند المنع ،وأضعف صبراً عند مل ّمات الدھر من أھل الخا ّ
صغ ُوك لھم و َميلك معھم.
األ ّمة ،فليكن َ
٢أشنأھم :أبغضھم.
] [ ٢٣٧
ست ََرھا .فال تكشفنّ ع ّما غاب عنك منھا فإنّما عليك تطھير ما ظھر لك، فإنّ في الناس عيوبا ً الوالي أح ّ
ق َمن َ
وتغاب عن كل ما ال
َ فاستر العورة ما استطعت .أطلق عن الناس عقدة كل حقد ،واقطع عنك سبب كل ِوتر)،(١
غاش وإن تشبّه بالناصحين.
ٌ تعجلَن إلى تصديق ساع ،فإن الساعي يصح لك ،وال َ
ّ
وال تُدخلَنّ في مشورتك بخيالً يعدل بك عن الفضل ،وال جبانا ً يُضعفك عن األمور ،وال حريصا ً يُزيّن لك الش َّره
بالجور .إن ش ّر وزرائك من كان لألشرار قبلك وزيراً ،و َمن شرك ُھم في اآلثام؛ فال يكونن لك بطانة فإنھم أعوان
الخلَف م ّمن لم يعاون ظالما ً على ظلمه وال آثما ً على إثمه! ثماألثمة وإخوان الظّلمة ،وأنت واج ٌد منھم خير َ
ليكن آث ُرھم) (٢عندك أقولھم ب ُم ّر الحق لك) (٣وأقلّھم مساعدة فيما يكون منك م ّما كره ﷲ ألوليائه واقعا ً ـ ذلك
ـ من ھواك حيث وقع.
وال يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء؛ فإن في ذلك تزھيداً ألھل االحسان في االحسان ،وتدريبا ً
ألھل االساءة على االساءة! وأل ِزم كالًّ منھم ما ألزم نفسه .واعلم أ نّه ليس شيء بأدعى إلى ُحسن ظنّ راع
برعيته من إحسانه إليھم ،وتخفيفه المؤونات عليھم ،وترك استكراھه إياھم على ما ليس قِبَلَھم) .(٤فليكن منك
سن ظنّك به لَ َمن حسُنَ بالؤك) (٥عنده ،وإن ق َمن ح ُ
في ذلك أم ٌر يجتمع لك به حسنُ الظنّ برعيّتك .وإن أح ّ
صلح
َ ما تثبيت في الحكما، ( ٦) ومنافثة العلماء، مدارسة ق من ساء ظنّك به لَ َمن ساء بالؤك عنده .وأكثر أح ّ
عليه أم ُر بالدك وإقامة ما استقام به
١الوتر :العداوة.
٣ليكن أفضلھم لديك أكثرھم قوالً بالحق المر .ومرارة الحق :صعوبته على نفس الوالي.
٦المنافثة :المحادثة.
] [ ٢٣٨
الناس قبلكَ .و َو ﱢل من جنودك أنقاھم ِجيبا ً) (١وأفضلھم حلما ً :م ّمن يُبطىء عن الغضب ويستريح إلى ال ُعذر
ويرأف بالضعاء وينبو على األقوياء) (٢وم ّمن ال يُثيره ال ُعنف.
ثم تفقّد من أمورھم ما يتفقّد الوالدان من ولدھما ،وال يتفاقمنّ في نفسك شيء ق ّويتَھم به) (٣وال ت َْحقِ َرنّ لطفا ً
لطيف أمورھم ِ وحسن الظنّ بك؛ وال تدَع تفقّد تعاھدتھم به) (٤وإن ق ّل ،فإنّه داعيةٌ لھم إلى بذل النصيحة لك ُ
اتّكاالً على جسيمھا ،فإنّ لليسير من لطفك موضعا ً ينتفعون به ،وللجسيم موقعا ال يستغنون عنه .وإن عطفك
ً
يعطف قلوبھم عليك .وإنّ أفضل ق ّر ِة عين لوالة استقامةُ العدل في البالد ،وظھور مودّة الرعيّة ،وإنّه في البالد ِ
تص َح نصيحتھم إالّ بقلّة استثقال د َُولِھم.
ِ وال صدورھم، بسالمة إال ّتھم
ال تظ َھ ُر مود
ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك) (٦في نفسك م ّمن ال تضيق به االمور وال تُمح ُكهُ)(٧الخصوم وال
يتمادي في الزلّة وال تُشرف نفسه على
٢ينبو على األقوياء :يشتد ويعلو عليھم ليكف ايديھم عن ظلم الضعفاء.
٣تفاقم األمر :عظم .يقول ال تع ّد شيئا ً ق ّويتھم به غاية في العظم زائداً ع ّما يستحقون ،فكل شيء ق ّويتھم به واجب عليك اتيانه .وھم
مستحقون لنيله.
٤أي ال تع ّد شيئا ً من تلطفك معھم حقيراً فتتركه لحقارته ،بل كل تلطف وإن ق ّل فله موقع من قلوبھم.
٥ال تنسبن عمل امرئ إلى غيره ،وال تقصر به في الجزاء دون ما يبلغ منتھى عمله الجليل.
] [ ٢٣٩
ب الجور والخيانة.
ش َع ِ وأثرةً ،فإنھم ِجما ٌ
ع من ُ َ ثم انظر في أمور ع ّمالك فاستعملھم اختياراً) (٤وال تولّھم محاباةً
وحجةٌ
ّ ثم أسبغ عليھم االرزاق فإنّ ذلك قوة لھم على استصالح أنفسھم ،وغن ًى لھم عن تناول ما تحت أيديھم،
عليھم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك .ثم تفقّد أعمالھم وابعث العيونَ من أھل الصدق والوفاء عليھم ،فإنّ
تعاھُدك في الس ّر ألمورھم َحدوةٌ ـ َح ّ
ث ـ لھم على استعمال األمانة بالرعية.
فالن شكوا ثِقالً) (٥أو علّةً أو انقطاع شرب أو إحالة أرض أغتمرھا
١ال يكتفي في الحكم بما يبدو له باول فھم وأقر به ،دون أن يأتي على أقصى الفھم بعد التأ ّمل.
٢الشبھات :ما ال يتضح الحكم فيه .يريد إنه ينبغي الوقوف عن الحكم حتى يرد الحادثة إلى أصل صحيح .ولفظه »أوقفھم« نابعة
باالعراب للفظة »أفضل«.
٤أي :ولھم االعمال باالمتحان ،ال محاباة ،أي :اختصاصا ً وميالً منك لمعاونتھم ،وال اثرة ،أي :استبداداً بال مشورة ،فإنّ المحاباة
واالثرة يجمعان الجور والخيانة.
] [ ٢٤٠
عطش فخفّف عنھم بما ترجو أن يصلُح به أمرھم ،وال يثقلنّ عليك شيء خفّفت به المؤونة ٌ غرق أو أجحف بھا
وتبجحك)(١ ّ عنھم ،فإنّه ُذخ ٌر يعودون به عليك في عمارة بالدك ،وتزيين واليتك ،مع استجالبك ح َ
سن ثنائھم،
باستفاضة العدل فيھم .فإنّ العمران محتَ َم ٌل ما ح ّملتَه .وإنّما يؤتى خراب األرض من إعواز أھلھا ،وإنّما يُعو ِز
أھلھا إلشراف أنفس الوالة على الجمع) (٢وقلّة انتفاعھم ِ
بالعبَر.
ثم انظر في أمور كتّابك فو ﱢل على أمورك خي َرھم م ّمن ال يجھل مبل َغ قدر نفسه في األمور ،فإنّ الجاھل بقدر
نفسه يكون بقدر غيره أجھل .ثم ال يكن اختيارك إياھم على فراستك واستنامتك)(٣وحسن الظنّ منك ،فإنّ
الرجال يتعرفون لفراسات) (٤الوالة بتصنّعھم وليس وراء ذلك من النصيحة واألمانة شيء .ولكن اختبرھم بما
ُولّوا للصالحين قبلك :فاعمد ألحسنھم كان في العا ّمة أثراً وأع َرفھم باألمانة وجھا ً! ومھما يكن في كتّابك من
عيب فتغابيتَ عنه أُلزمتَه.
٣الفراسة ،بالكسرة :قوة الظن وحسن النظر في االمور .االستنامة :السكون والثقة ،أي :ال يكون انتخاب الكتاب تابعا ً لميلك الخاص.
بموازين عدل ،وأسعار ال تُجحف بالفريقين من البائع والمبتاع .ف َمن قارف حك َرةً) (١بعد نھيك إياه فنكل به
وعاقبه في غير إسراف.
واحفظ ما استحفظك من حقه فيھم ،واجعل لھم قسما ً من بيت المال ،وقسما ً من غالّت كل بلد ،فإن لالقصى
منھم مثل الذي لألدنى ،وك ﱞل قد استُرعيتَ حقّه؛ فال يشغلنّك عنھم بط ٌر ،فإنّك ال تُع َذر بتضييعك التافهَ إلحكامك
ُشخص) (٢ھ ّمك عنھم ،وال تُص ّعر خدّك لھم ،وتفقّد أُمو َر من ال يصل إليك منھم ،فإنّ ھؤالء الكثي َر المھ ّم .وال ت ِ
ّ
من بين الرعيّة أحوج إلى اإلنصاف من غيرھم .وتع ّھد أھل اليتيم وذوي الرقة) (٣في السنّ م ّمن ال حيلة له.
واجعل لذوي الحاجات) (٤منك قسما ً تف ّرغ لھم فيه شخصك ،وتجلس لھم مجلسا ً عاما ً فتتواضع فيه الذي
ش َرطك) (٥حتى يكلّمك متكلّ ُم ُھم غير ُمتَتَعتِع) (٦فإني سمعت ُقعد عنھم جندّك وأعوانك من أحراسك و ُ خلقك ،وت ِ
ي
ّ القو من حقه فيھا لضعيف ُ
ذ ؤخ ُ ي ال ة م
ّ أ ّس
د تق لن » (: ٧ ) موطن غير في يقول ( وآله عليه ﷲ صلى رسول ﷲ)
ونح عنھم الضيق واألنف).(١٠ الخرق) (٨منھم اِل ِع َي) (٩ﱢغير متتعتع «.ثم احتمل ُ
ثم أمو ٌر من أمورك الب ّد لك من مباشرتھا :منھا إجابة ع ّمالك بما يعبا عنه كتّابك .ومنھا إصدار حاجات الناس
َحر ُج
بوم ورودھا عليك بما ت َ
٥أي تأمر بأن يقعد عنھم جندك وأعوانك واحراسك وشرطك فال يتعرضوا لھم.
] [ ٢٤٢
وال تُط ّولَنّ احتجاجك عن رعيتك فإنّ احتجاب الوالة عن الرعية شُعبةٌ من الضيق ،وقلّة علم باألمور،
واالحتجاب منھم يقطع عنھم عل َم ما احتجبوا دونه عندھم الكبير ،ويعظم الصغير ،ويَقبُ ُح الحسن ويحسنُ
القبيح ،ويشاب الحق بالباطل ،وإنّما الوالي بش ٌر ال يعرف ما توارى عنه الناس به من األمور ،وليست على
سماتٌ ) (٢تُع َرف به ضروب الصدق والكذب ،وإنّما أنت أحد رجلين :إ ّما أمر ٌؤ سخت نفسك بالبذل في
ق ِالح ّ
ق تعطيه أو فعل كريم تُسديه؟ أو مبتل ًى بالمنع فما أس َرع كفّ الناس عن
ق ففيم احتجاجك من واجب ح ﱟالح ّ
مسألتك إذا أيسوا من بَذلك) ،(٣مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك م ّما ال مؤونة فيه عليك من شكا ِة مظملة أو
طلب إنصاف في معاملة!
ثم إن للوالي خاصةً وبطانة فيھم استئثا ٌر ،وتطا ُو ٌل ،وقلّة إنصاف في معاملة ،فاحسم) (٤مادّة أولئك بقطع
أسباب تلك األحوال ،وال تُقطعنّ ألحد من حاشيتك وحا ّمتك) (٥قطيعةً) ،(٦وال يَط ِم َعنّ منك في اعتقاد عُقدة)(٧
تُض ّر بمن يليھا منَ الناس في شرب عمل مشترك يحملون
١تحرج :تضيق .بما تخرج به صدور االعوان ،يريد :أن األھوان ،تضيق صدروھم بتعجيل الحاجات ،ويحبون المماطلة في قضائھا
استجالبا ً للمنفعة أو اظھاراً للجبروت.
٢سمات :عالمات ،أي ليس للحق عالمات ظاھرة يتميز بھا الصدق من الكذب وإنّما يعرف ذلك باالمتحان واالختيار.
٣يقول :فإن قنط الناس من قضاء مطالبھم منك أسرعوا إلى البعد عنك ،فال حاجة لالحتجاب.
٤احسم :اقطع .يقول :اقطع مادة شرورھم عن الناس بقطع اسباب تعديھم ،وإنما يكون ذلك باالخذ على ايديھم ومنعھم من التصرف
في شؤون العامة.
] [ ٢٤٣
مؤونته على غيرھم فيكون مھنأ) (١ذلك لھم دونك ،وعيبُه عليك في الدنيا واآلخرة.
وألزم الحق َمن لَ ِز َمهُ من القريب والبعيد ،وكن في ذلك صابراً محتسبا ً واقعا ً ذلك من قرابتك وخا ّ
صتك حيث
وابتغ بما يَثقُ ُل عليك منه؛ فإنّ مغبّة ذلك محمودة).(٢
ِ وقع.
وإن ظنّت الرعيةُ بك حيّفا ً ـ أي ظلما ً ـ فأص ِحر لھم) (٣بعذرك ،واعدل عنك في ظنونھم باصحارك؛ فإنّ في ذلك
رياضةً منك لنفسك) ،(٤ورفقا ً برعيتك ،وإعذرااً) (٥تبلغ به حاجتك من تقويمھم على الح ّ
ق.
ال تدف َعنّ صلحا ً دعاك إليه عد ّوك و فيه رضا ،فإنّ في الصلح دعةً لجنودك وراحةً من ھمومك وأمنا ً لبالدك
وإن عقدتَ بينك وبين عد ّوك عُقدةً أو ألبسته منك ذ ّمةً) ،(٦فحطّ عھدك بالوفاء ،ورا َع ذ ّمتك باألمانة ،واجعل
سنَ بعھدك) ،(٨وال تختلن) (٩عد ّوك .وال تعقد عقداً نفسك ُجنّةً دون ما اعطيَتَ ) (٧وال تغد َرن بذ ّمتك ،وال ِ
تخ َ
لحن) (١١قول بعد التأكيد والتوثقة.
تج ّوز فيه العلل) ،(١٠وال تع ّولنْ على ِ
وال تق ّوينَ سلطانك بسفك دم حرام ،فإن ذلك م ّما يضعفه ويوھنه بل
٢المغبة العاقبة ،يقول :إنه الزام الحق لمن لزمھم ،وإن ثقل على الوالي وعليھم ،محمود العاقبة بحفظ الدولة.
٦أصل معنى الذمة :وجدان مودع في جبلة اإلنسان ينبھه لرعاية حق ذوي الحقوق عليه ويدفعه الداء ما يجب عليه منھا ،ثم اطلقت
على معنى العھد.
٩الختل :الخداع.
١٠العلل :جمع علة وھي في النقد والكالم ،بمعنى ما يصرفه عن وجھه ويح ّوله اللى غير المراد ،وذلك يطرأ على الكالم عند ابھامه
وعدم صراحته.
١١لحن القول :ما يقبل التوجيه كالتورية والتريعض ،يقول ،إذا رأيت ثقالً من التزام العھد فال تركن إلى لحن القول للتملص منه ،بل
خذ باصرح الوجوه لك وعليك.
] [ ٢٤٤
يزيله وينقلُھال .وال عذر لك عند ﷲ وال عندي في قتل العمد! وإيّاك والمنّ على رعيتك باحسانك ،أو التزيّد)(١
في ما كان من فعلك ،أو أن ت ِعدھم فتُتبع موعدك ُ
بخلفك ،فإن المنّ يُبطل اإلحسان ،والتزيّد يذھب بنور الحقّ،
والخلف يوجب المقت عند ﷲ والناس.
وإيّاك والعجلة باألمور قبل أوآنھا أو التسقّط) (٢عند إمكانھا ،أو ال َوھن عنھا إذا استوضحت .فضع ك ّل أمر
موضعه ،وأوقع ك ّل أمر موقعه.
ٌ
مأخوذ منك لغيرك، وإيّاك واالستئثار بما الناس فيه أُسوة) ،(٣والتغابي ع ّما تُعنى به م ّما قد َو َ
ضح للعيون ،فإنّه
وع ّما قليل تنكشف عنك أغطية األمور ويُنتَف منك للمظلوم .إملك حميّة أنفك) (٤وسورة َحدّك وسطوة يدك
وغرب لسانك) (٥واحترس من كل ذلك بكفّ البادرة) (٦وتأخر السطوة حتى يسكن غضبك فتملك االختبار. َ
والواجب عليك أن تتذ ّكر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة أو سنّة فاضلة فتجتھد لنفسك في اتّباع ما
الحجة لنفسي عليك لكي ال تكون لك علّةٌ عند تس ّرع نفسك على
ّ عھدت إليك في عھدي ھذا ،واستوثقتال به من
ھواھا .وأنا أسأل ﷲ أن يوفّقني وإياك لِ َما فيه رضاه من اإلقامة على العذر الواضح إليه والى خلقه) (٧مع
حسن الثناء في العباد وجميل االثر في البالد!«
وسوف نزيد على عھد ابن أبي طالب لألشتر ،بعض األوامر والوصايا التي يك ّمل بھا دستوره العظيم في
الوالية ،وير ّكزه ،ويصر عليه ،ويمدّه بالدفء والحنان .وذلك في باب المختارات من أدب اإلمام ،في فصول
تأتي في مكانھا.
أ ّما اآلن ،فإلى االبحاث التي تتناول المعاني اإلنسانية بين مفكري العصور جملةً وبين عل ّي ،ثم إلى القابلة بين
مبادىء الثورة الفرنسية الكبرى ،والمبادئ التي خلّفتھا ثورة ابن أبي طالب!
١التزيد :اظھار الزيادة في األعمال والمبالغة في وصف الواقع منھا في معرض االفتخار.
٣احذر أن تخص نفسك بشيء تزيد به عن الناس ،وھو م ّما تجب فيه المساواة من الحقوق العا ّمة.
٦البادرة :ما يبدر من اللسان عند الغضب ،واطالق اللسان يزيد الغضب انقاذاً ،والسكوت يطفئ من لھبه.
٧يريد من العذر الواضح :العدل ،فإنّه عذر لك ند من قضيت عليه عذر عند ﷲ في من أجريت عليه عقوبة أو حرمته من منفعة.
http://arab-unity.net/forums/index.php