You are on page 1of 364

‫ﺯﻳﻊ‬

‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺮﻭ‬

‫يف الحالل‬
‫ﻨﺸ‬
‫ﺐ ﻟﻠ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬

‫;‬
‫ﺸﺮ‬
‫رواية‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫رقية طه‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يف الحالل‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﻋﺼ‬
‫ُ َّ ُ َ َّ ٰ ُ ُّ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ َ ً ُ َ ُ َ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫} َواتقوا ي ْوما ت ْرجعون فِي ِه إِل اهلل ۖ ثم توف ك‬
‫ﻜﺘ‬
‫َّ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ ُ ْ َ ُ َ‬ ‫َْ‬
‫نف ٍس ما كسبت وهم ل يظلمون {‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﺸﺮ‬

‫( �سورة البقرة )‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫إهداء‬
‫�إىل من و�ضع قدمي على �أول الطريق‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫�إىل من علمني معنى احلياء وغ�ض الب�رص‪،‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫�إىل من نق�ش على جدار قلبي مباد ًئا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ما زلت �أعي�ش بها حتى اليوم‪،‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫خ�صي�صا‬
‫ً‬ ‫�إىل من �أر�سله اهلل �إ ّيل‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حال �إىل حال‬


‫ليتبدل حايل من ٍ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�إىل فريقي الغايل‬


‫فريق العفة‬
‫ﻟﻠﻣزﯾد ﻣن اﻟﻛﺗب اﻟﺣﺻرﯾﺔ‬

‫زوروا ﻣوﻗﻌﻧﺎ‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻣوﻗﻊ ﻋﺻﯾر اﻟﻛﺗب‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠ‬
‫ﻨﺸ‬

‫‪www.booksjuice.com‬‬
‫ﺮﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫هناية‪ ...‬وبداية!‬

‫رجات ال�سلم بخطى وئيدة ُمتوق ًفا لال�سرتاحة عدة مرات‪،‬‬ ‫راح يرتقي َد ِ‬
‫ويف كل مرة ي�ضع يده على قلبه‪ُ ،‬يغم�ض عينيه بقوة وي�ضغط على �أ�سنانه‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫بيد مرتع�ش ٍة‬
‫بخفوت كي ال ي�سمعه �أحد‪ ،‬ثم ي�ستند على احلائط ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫يت�أ ّوه‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫ويوا�صل ال�صعود �إىل منزله‪.‬‬
‫يف اخلم�سني من عمره هو‪ ،‬يتميز وجهه بق�سمات جميلة و�إن كانت ال‬
‫تخلو من �صرامة وا�ضحة‪ ،‬فربغم �ضعفه ومر�ضه الذي أ� ّدى �إىل انخفا�ض‬
‫نظرات قوية‬
‫ٍ‬ ‫وزنه �إىل الن�صف تقري ًبا‪� ،‬إال �أن عينيه دائ ًما ما تَرى بها‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫جتعلك تختبئ منه حيا ًء‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫بيد‬
‫و�صل �إىل منزله بالطابق الرابع‪� ،‬أخرج املفاتيح من جيبه ٍ‬
‫مرتع�ش ٍة‪� ،‬سار بخطوات واهنة نحو الباب وهو يت�أوه بقوة‪� ،‬سقطت املفاتيح‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الرتاج‪ ،‬حاول �أن ينثني ليلتقطها ف�سقط هو‬ ‫من يده قبل �أن ُيدخلها يف ِ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫الآخر بجوارها‪� ،‬سمعت زوجته �صوت ارتطام خفيف باخلارج فلم تعب�أ‬
‫بذلك ووا�صلت حت�ضري الطعام كي تنتهي منه �سري ًعا قبل �أن يعود �أفراد‬
‫عائلتها من اخلارج‪ ،‬بعد ربع �ساعة تقري ًبا عاد ولده الأكرب من مدر�سته‬
‫الثانوية‪� ،‬صعد درجات ال�سلم بقفزات متتالية تت�سم باملرح‪ ،‬وما �إن و�صل‬
‫أر�ضا‪ ،‬ظل‬‫�إىل الطابق الرابع حتى �شهق بخوف وجل�س بجوار والده املُلقى � ً‬
‫ُيح ّرك ر�أ�سه ميي ًنا وي�سا ًرا يف حماولة منه لإفاقته‪ ،‬ونظ ًرا لعدم معرفته‬
‫مببادئ الإ�سعافات الأولية فلم ي�ستطع فعل �أي �شيء‪ ،‬نه�ض على الفور‬
‫‪9‬‬
‫و�أخذ يطرق باب منزلهم طرقات متتالية فزعة‪ ،‬ارتدت والدته حجابها‬
‫وقامت بفتح الباب بقلق‪ ،‬وملا ر�أت زوجها على هذا احلال �صرخت و�أمرت‬
‫ولدها �أن ي�ستغيث بجارهم الذي يعمل يف ال�صيدلية املجاورة ملنزلهم‪.‬‬
‫ب�سرعة الربق عاد الفتى ومعه جارهم‪ ،‬قاما بحمل الرجل و�إدخاله‬
‫يف �إحدى ال�سيارات ثم هروال به �إىل امل�شفى القريب‪ ،‬قام الأطباء بعدة‬
‫حماوالت لإفاقته وبعدها بد�أ يفتح عينيه �شي ًئا ف�شي ًئا‪ ،‬زفرة قوية من‬
‫اجلميع تَلحقها ابت�سامة كبرية وعبارات احلمد وال�شكر �إىل اهلل متلأ‬
‫الأجواء‪ ،‬نظر الرجل يف َعيني ابنه وظل ُيلي و�صاياه الأخرية عليه بعدما‬

‫ﻋﺼ‬
‫�شعر �أنه قد �آن �أوان الفراق‪ ،‬ثم �صعدت روحه �إىل بارئها‪ ،‬ومن هنا وجد‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الفتى نف�سه �أمام م�سئولية كبرية �أُلقيت على عاتقه بغت ًة ومن دون �سابق‬
‫ﻜﺘ‬
‫�إنذار‪.‬‬

‫‪z‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪10‬‬
‫‪-1-‬‬

‫منذ عدة �أ�شهر وهو يحمل ذلك ال�سر بداخله‪ ،‬مل ي�ستطع �أن ُيخرب‬
‫�أحدً ا به‪ ،‬هل الأمر خطري �إىل هذا احلد؟ �أم �أنه ال �أهمية له من الأ�سا�س‬

‫ﻋﺼ‬
‫مهل‪ ،‬فمن غري عادته‬ ‫جمال للحوار يف �أي وقت م�ضى؟! ولكن ً‬ ‫كي يكون ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�أن ُيخفي �أي �شيء عن �صديقه املق ّرب حممد مهما كان �صغ ًريا‪ ،‬ال �شك‬
‫�أن الأمر �سيغ�ضبه‪ ،‬ولكن ال بد �أن ُيخربه بكل ما يجول ب�صدره حتى ي�شعر‬
‫ﻜﺘ‬
‫بالراحة‪.‬‬
‫جل�س ذلك ال�شاب طويل القامة ذو الب�شرة القمحية والوجه غري‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫املمتلئ والعينني ال�سوداوين على مقعده املف�ضل بكافيرتيا كلية الهند�سة‬


‫ﺸﺮ‬

‫بانتظار و�صول �صديقه حممد‪ ،‬والذي ي�ستغرق �أكرث من ن�صف �ساعة داخل‬
‫الأتوبي�س حتى ي�صل �إىل اجلامعة‪ ،‬بد�أ ُيعيد ترتيب كلماته و�أفكاره قبل �أن‬
‫ﻭ‬

‫يلقيها على م�سامع �صديقه‪ ،‬ظل يف حالة من الت�شتت لدقائق �إ�ضافية حتى‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫زفر �ضائ ًقا وهو يخرب نف�سه ب�أن الأمر ال ي�ستحق كل هذا العناء‪ ،‬فهو مل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫يفعل �شي ًئا خاط ًئا لأن نيته مل تكن �سيئة‪ ،‬و�أن غ�ضب حممد �سيكون فقط‬
‫لأنه مل يخربه بالأمر من البداية لي�س �إال‪.‬‬
‫ال يعلم ملاذا يف هذا التوقيت بالتحديد تذكر والده املُتو ّفى فظهر �شبح‬
‫ابت�سامة حزينة على �شفتيه‪ ،‬فعندما مات والده كان يف ال�صف الثاين‬
‫الثانوي فتل ّقى جمرى حياته الهادئ الدائم اخل�ضرة َدفقة هواء عنيفة‬
‫كادت تع�صف به‪ ،‬وجد نف�سه بغتة �أمام م�سئولية �ضخمة مل ُيد ّرب على‬
‫‪11‬‬
‫التعامل معها‪ ،‬كانت �أخته هند حينها يف ال�صف الثالث الإعدادي‪،‬‬
‫ف�أ�صبح هو امل�سئول عنها بالإ�ضافة �إىل م�سئولياته نحو والدته ونحو‬
‫متطلبات منزلهم‪ ،‬تذكر و�صية والده الأخرية قبل موته فخفق قلبه بقوة‪.‬‬
‫«خد بالك من �أختك يا �إ�سالم‪ ،‬حافظ عليها وحطها يف عينيك يا‬
‫ابني»‪.‬‬
‫ومن بعيد‪ ،‬ظهر �شاب �أبي�ض الب�شرة‪ ،‬متو�سط الطول‪ ،‬تظهر على‬
‫مالحمه الطيبة وال َوداعة‪ ،‬يرتدي نظارة طبية وله ابت�سامة عذبة تريح‬

‫ﻋﺼ‬
‫القلب مبجرد ر�ؤيتها‪ ،‬حترك باجتاه �صديقه الذي يعرف مكانه جيدً ا‪،‬‬
‫ومبجرد �أن ر�آه ابت�سم‪ ،‬فانعك�ست ابت�سامته على وجه �إ�سالم‪ ،‬نه�ض الأخري‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫من مكانه وح ّيا �صديقه ثم جل�س �صامتًا‪ ،‬قطع �صمته حممد عندما قال‬
‫ﻜﺘ‬
‫متعج ًبا‪:‬‬
‫‪ -‬خري يا �إ�سالم! قولتلي �آجي بدري النهارده ليه؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�سارت ال�شم�س على ا�ستحياء واختفت وراء �إحدى البنايات وك�أنها‬


‫ال تريد �سماع ال�سر الذي يخ ّبئه �إ�سالم عن حممد كل هذه املدة‪َ ،‬خ َفت‬
‫ﺸﺮ‬

‫ال�ضوء �شي ًئا ف�شي ًئا‪ ،‬ن�سمة هواء خفيفة داعبت وجه �إ�سالم فما كان منه‬
‫غري �أنه تنهد بقوة و�ألقى بحمله العالق ب�صدره منذ مدة طويلة‪ ،‬نظر �إىل‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حممد وابت�سم ً‬
‫قليل وهو يقول‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬فيه بنت �أنا معجب بيها‪ ،‬وقررت �أتقدم لها‪.‬‬


‫ُ�س ّر حممد بذلك اخلرب �سرو ًرا فاق كل ت�صور‪ ،‬و�صاح بحما�س �شديد‪:‬‬
‫‪� -‬أيوة كده هي دي الأخبار احللوة اللي نبد�أ بيها يومنا‪.‬‬
‫ً‬
‫مت�سائل‪:‬‬ ‫ثم �أردف‬
‫‪ -‬ويا ترى مني املحظوظة اللي وقع عليها اختيارك؟ حد معانا‬
‫يف الدفعة هنا؟‬
‫‪12‬‬
‫�أوم�أ �إ�سالم بر�أ�سه ناف ًيا‪ ،‬ثم �أجاب بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬دي بنت عرفتها من على النت‪.‬‬
‫ً‬
‫مت�سائل بعدم ت�صديق‪:‬‬ ‫اكفه ّر وجهه فج�أة وردد‬
‫‪ -‬عرفتها من على النت!‬
‫وملّا مل يجد ردًا �سوى �إمياءة م�ؤكده من ر�أ�س �إ�سالم ارتفع حاجباه‬
‫حتى جاوزا نظارته‪ ،‬وقال ب�ضيق‪:‬‬
‫‪ -‬ب�س ده م�ش طريقنا يا �إ�سالم‪ ،‬م�ش احنا اللي نلعب ببنات‬

‫ﻋﺼ‬
‫النا�س!‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬وهو حد قالك �إين بلعب بيها؟! عيب يا حممد �أخوك راجل‬
‫ﻜﺘ‬
‫بردو‪ ،‬كل احلكاية �إين حبيت �أتعرف عليها الأول كوي�س‪ ،‬وملا‬
‫لقيت �أنها منا�سبة يل قررت �أتقدم لها‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫نظر يف عينيه نظرة يعرفها جيدً ا و�صمت‪� ،‬شعر �إ�سالم ب�أن كرامته قد‬
‫ُجرحت‪ ،‬و�أن �صديقه قد �أهانه بل ورمبا ظن به ظن ال�سوء‪ ،‬فقال مداف ًعا‬
‫ﺸﺮ‬

‫عن نف�سه‪:‬‬
‫ﻭ‬

‫‪ -‬البنت اللي هتجوزها يا حممد الزم �أكون عارف دماغها وتفكريها‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫كوي�س‪ ،‬عل�شان كده قولت �أتعرف عليها الأول على النت و�أفهم دماغها‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وبعدين �أروح �أتقدملها �إن �شاء اهلل‪.‬‬


‫‪ -‬طيب و�أنت عرفت ازاي �إن دي ممكن تكون منا�سبة ليك؟‬
‫‪ -‬كانت معايا يف جروب و�شوفت �أراءها وفهمت دماغها‪ ،‬باين‬
‫عليها متفتحة وحمرتمة‪.‬‬
‫رغ ًما عنه �صدرت منه �ضحكة �ساخرة‪� ،‬أَت َبعها بنظرات ُّ‬
‫تعجبية ذاهلة‬
‫وهو ي�س�أل يف �شك‪:‬‬
‫‪13‬‬
‫‪ -‬باين عليها! طيب وهي لو كانت حمرتمة كانت هرت�ضى تتكلم‬
‫معاك كده!‬
‫كيف له �أن ي�سخر منها بهذه الطريقة ويتهمها بالباطل! بل كيف له‬
‫�أن يتحدث عنها هكذا يف وجودي! �أ�أ�صابه اجلنون؟ �أم مل يدرك بعد‬
‫�أن من يتحدث عنها بهذا الأ�سلوب رمبا تكون زوجتي يف امل�ستقبل؟ كل‬
‫هذه اخلواطر طافت بذهنه يف حلظة واحدة‪ ،‬خرجت من عينيه نظرات‬
‫غا�ضبة �أتبعها بكلمات حازمة‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬حممد �أنا م�سمحلك�ش‪ ،‬يا تتكلم عنها ِعدل يا �إما ت�سكت‪.‬‬
‫هام�سا‪:‬‬
‫زفر حممد وقال ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬خال�ص يا �إ�سالم براحتك‪ ،‬يال عل�شان املحا�ضرة قربت تبد�أ‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪zzz‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫واقفة هي �أمامه تنظر له ب�إعجاب �شديد‪ ،‬فمنذ �شاهدته لأول مرة‬


‫بالأم�س وهو ال يغيب عن خميلتها‪ ،‬تدور يف دوامات احلياة وتتفاعل مع‬
‫ﺸﺮ‬

‫عائلتها وزميالتها ومن َث ّم ُتعاود التفكري فيه مرة �أخرى‪ ،‬تذهب �إىل ذلك‬
‫املبنى الرئي�سي لكلية الرتبية لتح�ضر حما�ضرتها وتعود �إىل املبنى ال�صغري‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫املجاور لتح�ضر املحا�ضرة الأخرى وال تن�سى �أن تنظر �إليه ولو ً‬
‫قليل كلما‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�سنحت لها الفر�صة‪ ،‬كم كان مميزً ا عن كل ما حوله‪ ،‬مل ُت�شاهد له ً‬


‫مثيل‬
‫من قبل‪ ،‬كلماته‪� ،‬ألوانه‪ ،‬والإح�سا�س الذي ت�شعر به عندما تقف ِقبالته‪ ،‬كل‬
‫هذا يجذبها �إليه بطريقة ما ويجعلها جتزم على �ضرورة احل�ضور بالغد‬
‫لتكون �أول املوجودين‪.‬‬
‫مل ت�شعر ب�أ�شعة ال�شم�س ال�ساخنة وهي تلفح وجهها �إال بعد ُم�ضي‬
‫عدة دقائق �إ�ضافية‪ ،‬حت�س�ست وجنتيها ف�ضحكت بتلقائية وك�أمنا �شعرت‬
‫‪14‬‬
‫�أخ ًريا بنداءات اال�ستغاثة امل�ستمرة الآتية من وجهها الأبي�ض ذي العينني‬
‫تنحت جان ًبا ووقفت بجوار �شجرة �صغرية ُمنت�صبة �أمام‬ ‫الع�سل ّيتني‪ّ ،‬‬
‫البناية التي خرجت منها قبل قليل‪ ،‬ول ِق َ�صر قامتها وقلة وزنها ا�ستطاعت‬
‫االحتماء بالكامل من �أ�شعة ال�شم�س‪ ،‬نظرت يف �ساعتها وك�أنها �أدركت‬
‫�أخ ًريا ت�أخر �صديقتيها اللتني ذهبتا قبل قليل لإح�ضار الطعام‪ ،‬حانت منها‬
‫التفاتة �سريعة �إليه وابت�سامة �صغرية ترت�سم على ثغرها‪� ،‬أتبعتها بنظرة‬
‫خاطفة لباب اجلامعة فوجدت هند و فاطمة قد عادتا �أخ ًريا‪ ،‬ف�أ�شارت‬

‫ﻋﺼ‬
‫وتب�سمت برباءة‪ ،‬ح�ضرت تلك التي رزقها اهلل بجمال خالب‪ ،‬حيث‬ ‫لهما ّ‬
‫وقوام مم�شوق‪ ،‬ونظرت لها وقد‬ ‫م ّيزها بب�شرة بي�ضاء وعينني زرقاوين ٍ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ات�سعت عيناها ب�شدة وقالت �ضاحكة‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫أنت ل�سه واقفة قدامه يا �سلمى؟‬
‫‪ِ �-‬‬
‫‪ -‬عاجبني �أوي يا فاطمة‪ ،‬الزم نكون موجودين ُبكرة ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ما�شي يا �ستي وماله‪ ،‬يال بقى عل�شان ناكل قبل ما املحا�ضرة‬


‫اجلاية تبد�أ‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أوم�أت بر�أ�سها مبت�سمة ثم تناولت طعامها وبد�أت بالتهامه بتلذذ‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫بعد انتهاء يومها الدرا�سي و�صلت ملنزلها و�صعدت درجات ال�سلم‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ببطء‪ ،‬وما �إن و�صلت �إىل باب �شقتها حتى �أدارت املفتاح بخفة داخل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫القفل‪ ،‬قامت بفتح الباب ووجلت‪ ،‬فور دخولها �سمعت �صرخات حما�سية‬
‫�آتية من �آخر ال�صالة‪ ،‬فتبينت �أنها من �أختها ال�صغرى والء تقول فيها‪:‬‬
‫‪� -‬سلمى تعايل ب�سرعة امل�سل�سل ل�سه بادئ �أهو‪ ،‬كوي�س حلقتي نف�سك‪.‬‬
‫ُ�س ّرت لذلك كث ًريا‪ ،‬و�أخربتها ب�أنها �ستذهب لت�ضع حقيبتها داخل‬
‫غرفتها وتعود على الفور‪� ،‬أثناء عودتها متتمت بهدوء وقد انتابها �شعور‬
‫ت�أنيبي‪:‬‬
‫‪15‬‬
‫‪ -‬ياااه لو الواحد يبطل م�سل�سالت‪ ،‬ويا �سالم لو يبطل الأغاين‬
‫كمان‪� ،‬أكيد وقتها هكون مرتاحة جدً ا‪ ،‬على الأقل م�ش هح�س‬
‫كل �شوية بت�أنيب ال�ضمري ده‪.‬‬
‫�سمعتها والء فنظرت لها ب�ضيق وقد ارتفع حاجبها الأي�سر للأعلى‬
‫وقالت بحنق‪:‬‬
‫أنت هتعملي فيها �ست ال�شيخة؟ يا تتفرجي يا مت�شي يا �سلمى‬
‫‪ِ �-‬‬
‫علي‪.‬‬
‫عل�شان متبوظي�ش احللقة َّ‬

‫ﻋﺼ‬
‫تنهدت �سلمى بقوة ثم ابت�سمت م�ست�سلمة وقالت‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬خال�ص هتفرج‪ ،‬يال قوليلي ح�صل �إيه من الأول‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫يبدو �أنه َ�ش َعر ببع�ض الت�أنيب يف �ضمريه خالل ال�ساعتني املا�ضيتني‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أي�ضا مل ي�ستطع الرتكيز بالكامل يف الكلمات التي �ألقاها‬ ‫ويبدو �أنه � ً‬


‫املُ ِ‬
‫حا�ضر يف تلك املحا�ضرة‪� ،‬أخذ ُيح ّدث نف�سه ب�أنه ما كان يجب عليه �أن‬
‫ﺸﺮ‬

‫ينطق بتلك الكلمات يف حق هذه الفتاة املجهولة‪ ،‬فرمبا الأمر بني �إ�سالم‬
‫ﻭ‬

‫وبينها على �شكل �آخر عك�س ما يتوقعه‪ ،‬ورمبا �أخط�أت هي و�أخط�أ �صديقه‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بالفعل‪ ،‬ولكنه ما زال ال َيحقّ له �أن يتحدث عنها ب�أي �سوء �أو يظن بها غري‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫اخلري‪ ،‬عزم على االعتذار ع ّما بدر منه مبجرد انتهاء تلك املحا�ضرة‪،‬‬
‫وبالفعل فور خروج الطالب من القاعة وقف �أمام �إ�سالم ونظر له بعينني‬
‫ت�ش ُّع منهما نظر ٌة وانية متوددة تتحلى بالطيبة وال�سالم‪ ،‬ومتتم معتذ ًرا‪:‬‬
‫ِ‬
‫‪� -‬إ�سالم معل�ش �أنا �آ�سف‪ ،‬مكن�ش ق�صدي �أتكلم عن البنت دي‬
‫كده‪ً ،‬‬
‫وفعل مكن�ش يحق يل �إين �أظلمها �أو �أقول عليها حاجة‬
‫وح�شة من وراها‪ ،‬ب�س �أنا ب�صراحة م�ش مقتنع بجواز النت ده‪،‬‬
‫‪16‬‬
‫و�شايف �إين ملا �أحب �أخطب واحدة الزم �أخدها من بيت �أهلها‬
‫و�أتعرف عليها عندهم عل�شان كل حاجة تبقى يف النور‪ ،‬ب�س‬
‫عموما دي �أراء بردو‪ ،‬معل�ش متزعل�ش مني‪.‬‬
‫ً‬
‫بد�أت التقطيبة تخف‪ ،‬وارت�سمت ابت�سامة �صغرية على �شفتيه وهو‬
‫يقول‪:‬‬
‫‪� -‬أنت عارف �إين م�ش بعرف �أزعل منك يا حممد لأنك �أغلى‬
‫�صديق عندي‪ ،‬ب�س مكنت�ش �أمتنى �أ�سمع منك �أنت بالذات كالم‬

‫ﻋﺼ‬
‫زي ده‪ ،‬وعلى العموم يا �سيدي على مدار الأيام اجلاية هتعرف‬
‫بنف�سك �إن وجهة نظرك دي غلط‪ ،‬متام؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�أوم�أ بر�أ�سه �إيجا ًبا وابت�سم‪� .‬سارا م ًعا يف هدوء تام باجتاه الكافيرتيا‬
‫ﻜﺘ‬
‫كما تع ّودا‪� ،‬أوقفهما ندا ٌء من جار و�صديق حممد والذي ُيدعى فاروق‪،‬‬
‫فتوقف ك ٌل منهما ونظرا �إليه‪ .‬زفر ٌة ُمتنقة �أطلقها فم �إ�سالم تلقائ ًيا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يوما‪ ،‬بينما ظهرت ابت�سامة وا�سعة‬ ‫مبجرد ر�ؤية فاروق‪ ،‬فهو مل يتقبله ً‬
‫على وجه حممد ورحب بجاره بحما�س �شديد‪ ،‬نظر فاروق لكل منهما وقد‬
‫ﺸﺮ‬

‫تبادل معهما نظرات الرتحيب‪ ،‬ثم قال بلباقة‪:‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ازيكم يا �شباب؟ كوي�س �أين �شوفتكم واهلل‪ ،‬كنت ب�س جاي‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أقولكم على الندوة اللي هتتعمل بكره يف اجلامعة ميكن حتبوا‬


‫تيجوا‪.‬‬
‫�شرد �إ�سالم عنهما ً‬
‫قليل و�أخذ يحدث نف�سه ب�ضيق‪:‬‬
‫‪ -‬هو كل ما ي�شوفنا هيقولنا على ندوة دينية! و�أكيد ندواته‬
‫كلها هتكون �شيوخ كبار وهيقعدوا يتكلموا كالعادة واحنا م�ش‬
‫فاهمني حاجة ويف الآخر ننام زي كل مرة!‬
‫‪17‬‬
‫حانت منه التفاتة �سريعة �إىل فاروق بعدما التقطت �أذنيه جمل ًة مل‬
‫ي�ستطع ا�ستيعابها‪ ،‬فقال بده�شة‪:‬‬
‫‪ -‬بتقول الندوة ا�سمها �إيه؟!‬
‫‪� -‬أحبك ولكن لن �أ�صارحك‪.‬‬
‫�ضحك �ساخ ًرا ثم قال يف تهكم‪:‬‬
‫‪ -‬ندوة دينية وا�سمها كده ازاي يعني؟ احنا هنهزر!‬
‫‪ -‬ال م�ش بهزر‪ُ ،‬بكرة ب�إذن اهلل ممكن ت�شرفنا وت�شوف بنف�سك‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ثم دار على َع ِقبيه لين�صرف بعدما �أخربهما باملكان واملوعد‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫املخ�ص�ص للندوة‪ ،‬نظر �إ�سالم �إىل حممد و�أخربه ب�أن فاروق بالت�أكيد‬
‫ﻜﺘ‬
‫يكذب عليهما وي�ستخدم بع�ض احليل لي�شجعهما على احل�ضور كما تفعل‬
‫الإعالنات التليفزيونية الكاذبة جلذب امل�شاهدين ل�شراء منتج ما‪� ،‬ضايق‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫هذا القول حممد ب�شدة وحاول الدفاع عن �صديقه بكل ما �أوتي من قوة‪،‬‬
‫و�أخرب �إ�سالم ب�أنه لو كذب رجال العامل �أجمع فلن يكذب فاروق حتت �أي‬
‫ﺸﺮ‬

‫بتحد ووافق على الذهاب للندوة لكي ُيثبت له فقط‬


‫ظرف‪ ،‬نظر له �إ�سالم ٍ‬
‫كذب من يدافع عنه‪ ،‬بادله حممد نف�س نظرة التحدي وهو ُي ِومئ بر�أ�سه‬
‫ﻭ‬

‫مواف ًقا ل ُيثبت له عك�س ذلك‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وبالفعل عاد كل منهما �إىل منزله بانتظار الغد للذهاب �إىل تلك‬
‫الندوة املجهولة‪ ،‬ظل �إ�سالم حائ ًرا طوال اليوم‪ ،‬هل ميكن �أن تكون هناك‬
‫ندوة دينية بهذا اال�سم؟ �أم �أن ظنه ِتاه فاروق �صحيح! �أخذ يفكر لبع�ض‬
‫الوقت ثم تذكر فج�أة �أن هند �أخته ال�صغرى معه يف نف�س اجلامعة ومن‬
‫املمكن �أن تكون قد �سمعت بهذه الندوة من قبل‪ ،‬ذهب لغرفتها وطرق‬
‫الباب بخفة‪ ،‬فقامت با�ستقباله مبرح كعادتها‪� ،‬س�ألها ع ّما �إذا كانت‬
‫�سمعت عن هذه الندوة‪ ،‬ف�أجابت م�ؤكدة‪:‬‬
‫‪18‬‬
‫‪� -‬أيوة عارفة �أنها ُبكرة‪.‬‬
‫‪ -‬مني اللي قالكم عليها؟‬
‫‪ -‬حاطني �إعالن كبري عندنا يف تربية عنها‪ ،‬و�سلمى �صاحبتي طول‬
‫اليوم واقفالنا قدامه ومبهورة بيه �أوي‪ ،‬ب�س ب�صراحة باين عليها‬
‫حلوةلأنالكالمالليمكتوبعنهاخمتلفومميزعن�أيندوةتانية‪.‬‬
‫�شعر باحلرج ال�شديد من نف�سه‪ ،‬فعلى ما يبدو �أنه قد خ�سر هذه‬
‫املناف�سة من قبل �أن تبد�أ‪ ،‬عاد ليكرر ال�س�ؤال على �أخته مرة‬
‫�أخرى كمحاولة �أخرية منه لإنقاذ املوقف‪ ،‬ف�أجابت بتعجب‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪� -‬أنت م�ستغرب ليه كده؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪� -‬أ�صل فيه واحد ممل كده ا�سمه فاروق قالنا عليها‪ ،‬وب�صراحة‬
‫ﻜﺘ‬
‫�أنا م�ش م�صدق‪ ،‬لأن �أكيد �أي حاجة هتيجي من ناحيته هتبقى‬
‫مملة زيه‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عموما‬
‫‪ -‬معرف�ش يا �إ�سالم‪� ،‬أنا قولتلك على اللي �أعرفه وخال�ص‪ً ،‬‬
‫ممكن حت�ضرها ُبكره وتت�أكد بنف�سك‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ومبا �أن هذا هو احلل الوحيد‪ ،‬ا�ست�سلم يف النهاية وقرر االنتظار للغد‬
‫ﻭ‬

‫ليعرف احلقيقة كاملة‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪zzz‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مدت �أ�شعة ال�شم�س ال�ساطعة خيوطها الذهبية عرب نافذة غرفتها‬


‫لتُداعب وجهها بخفة‪ ،‬ا�ستيقظت من نومها َن ِ�شطة وقد غمرتها ال�سعادة‪،‬‬
‫تناولت هاتفها م�ستندة �إىل طرف الفرا�ش ونظرت يف �ساعته ف�إذا هي‬
‫�صباحا‪ ،‬نه�ضت على الفور وقامت بفتح خزانتها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ال�سابعة والن�صف‬
‫اختارت ِب ً‬
‫نطال كحل ًيا من اجلينز وف�ستا ًنا ق�ص ًريا بالكاد ي�صل �إىل‬
‫ركبتيها والقتهما على الفرا�ش ب�إهمال‪ ،‬ثم �أح�ضرت ِمن�شفتها وذهبت‬
‫‪19‬‬
‫لتتو� أض� لت�ؤدي �صالة ال�صبح بعدما فاتها الفجر ككل يوم‪� ،‬أنهت �صالتها‬
‫وارتدت ثيابها على عجل‪ ،‬خرجت من منزلها لتلحق حما�ضرتها الأوىل‬
‫والتي �ستذهب بعدها �إىل الندوة التي احت ّلت ُج ّل تفكريها يف اليومني‬
‫املا�ضيني‪ ،‬انتهت املحا�ضرة فانطلقت بحما�س مع �صديقتيها �إىل املكان‬
‫املحدد للندوة‪ ،‬ومن ح�سن حظهن �أنهن وجدن بع�ض املقاعد الفارغة يف‬
‫ال�صفوف الأمامية فجل�سن بانتظار بدء الندوة‪.‬‬
‫بعد ع�شر دقائق تقري ًبا بد�أت الندوة‪ ،‬حتدث الداعية ال�شاب عن‬
‫احلب يف ديننا الإ�سالمي‪ ،‬ذلك احلب الفطري الذي يحدث عادة بني‬

‫ﻋﺼ‬
‫الرجل واملر�أة‪ ،‬احلب الذي من املمكن �أن يكون م�صد ًرا للثواب‪ ،‬ورمبا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أي�ضا م�صد ًرا للعقاب‪ ،‬ولكن كيف لنا �أن نفرق بني النوعني؟ الأمر يف‬ ‫� ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫غاية الب�ساطة‪ ،‬فالنوع الأول من احلب وهو احلب العفوي غري املق�صود‪،‬‬
‫�شاب عن‬
‫�سب فيه وال ي�سعى �إليه‪ ،‬ك�أن ي�سمع ٌ‬ ‫والذي ال يكون للإن�سان َك ٌ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫فتاة �أو يراها فج�أة فيتعلق قلبه بها‪ ،‬ف�إذا اتقى اهلل فيها ومل يدفعه هذا‬
‫التعلق �إىل فعل �أي �شيء حمرم من نظر ٍة �أو ُخلوة بل ودفعه �إىل ال�سعي‬
‫ﺸﺮ‬

‫وع ّفته وتقواه‪،‬‬


‫لالرتباط بها يف احلالل كان م�أجو ًرا ُمثا ًبا على �صربه ِ‬
‫بينما النوع الثاين من احلب وهو احلب الذي يكون واق ًعا باختيار الإن�سان‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫و�سعيه وك�سبه‪ ،‬كمن يت�ساهل يف النظر �إىل الن�ساء وحمادثتهن واالختالء‬


‫بهن‪ ،‬فال ِمر َية يف �أن هذا احلب ال ُيبيحه الإ�سالم و�إن كان يف النية �إمتام‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫هذا احلب بالزواج‪.‬‬


‫أي�ضا عن طرق املحافظة على القلب من الوقوع يف‬ ‫حتدث الداعية � ً‬
‫احلرام‪ ،‬ف�أخذ ُي�شجع ال�شباب على غ�ض الب�صر وجتنب االختالط لكي‬
‫يحافظوا على قلوبهم حتى يرزقهم اهلل لذة احلب الذي ُير�ضيه‪� ،‬أخربهم‬
‫عن جتربته ال�شخ�صية يف احلب‪� ،‬أخربهم كيف حافظ على قلبه طوال‬
‫�سنواته ال�سابقة وظل يدعو اهلل كث ًريا �أن ُيج ّنبه �شر هذه الفتنة حتى رزقه‬
‫‪20‬‬
‫اهلل قبل عامني مبن وهبها كل احلب‪ ،‬مبن عا�ش معها حيا ًة �أروع بكثري‬
‫من التي يرونها يف التلفاز �أو ي�سمعونها يف احلكايات‪ ،‬مبن دخلت معه يف‬
‫مناف�س ٍة �شريفة‪ ،‬الفائز فيها من ي�ستطيع �إ�سعاد الثاين �أكرث‪� ،‬أخذ َي ُح ُّثهم‬
‫على االنتظار وعدم الت�سرع‪� ،‬أخذ ُيخربهم عن روعة الإح�سا�س الذي‬
‫عا�شه هو بنف�سه‪ ،‬والذي يتمنى �أن ي�شعر به ك ٌل منهم‪ ،‬و�أخ ًريا ختم كالمه‬
‫ب�أنه يجب على اجلميع �أن يكون على يقني ب�أن اهلل قادر على �أن يرزقه‬
‫�أكرث بكثري مما يتمنى‪ ،‬فقط يجب �أن ي�صرب و ُيجاهد وحت ًما �سيجزيه‬
‫اهلل خ ًريا على �صربه‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫انتهت الندوة وخرج كل من يف القاعة وابت�سامته على �شفتيه ويف‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قلبه �إح�سا�س بالراحة واالن�شراح ال ُيكن �أن ُيو�صف‪ ،‬فكم الم�ست تلك‬
‫ﻜﺘ‬
‫الكلمات ِجدار قلوبهم‪ ،‬وكم �شعرت �أرواحهم بال�سعادة بعدما �سمعت �آيات‬
‫اهلل و�أحاديث نبيه عليه ال�صالة وال�سالم‪ ،‬خرج حممد تكاد �أع�ضا�ؤه تهتز‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�سرو ًرا‪ ،‬وقف �أمام املبنى ونظر ل�صديقه بانت�صار‪� ،‬ضحك �ضحكة متل�ؤها‬
‫الثقة وقال ببهجة �شديدة‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪� -‬إيه ر�أيك بقى يا عم؟ طلع م�ش كذاب �أهو‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أوم�أ �إ�سالم بر�أ�سه م�ؤيدً ا وقال ب�إعجاب‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬أل ب�صراحة اهلل ينور‪ ،‬عجبتني الفكرة وعجبني الأ�سلوب بتاع‬


‫متاما‪� ،‬أي نعم‬
‫الداعية‪ ،‬حاجة جديدة كده عك�س ما كنت �أتوقع ً‬
‫�أنا م�ش هقدر �أنفذ حاجة من اللي اتقال ب�س بردو حلوة‪.‬‬
‫‪ -‬ب�س �أنا بقى عجبني الكالم وقررت �أنفذه‪.‬‬
‫�س�أله متعج ًبا‪:‬‬
‫‪ -‬هتعمل �إيه يعني؟‬
‫‪21‬‬
‫ف�إذا ب�إ�شراقة كبرية تك�سو وجهه‪ ،‬و�إذا بنب�ضاته تت�سارع وهو يجيب‬
‫بنربة فطرية جميلة‪:‬‬
‫‪ -‬حبيت فكرة �إن زوجتي تبقى �أول حب يف حياتي‪ ،‬عل�شان كده‬
‫ب�إذن اهلل هف�ضل حمافظ على قلبي حلد ما �أقابلها‪ ،‬لأن‬
‫امل�شاعر وقتها هتكون طازة وم�ش م�ستهلكة‪ ،‬م�ش حابب �أنا‬
‫�إين �أتعرف على دي ودي ويف الآخر �أروح �أجتوز واحدة تانية‬
‫خال�ص‪ ،‬خليني كده بعفتي عل�شان �أر�ضي ربنا‪ ،‬و�أنا مت�أكد �إنه‬
‫هريزقني بواحدة عفيفة زيي‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ما�شي يا با�شا ربنا معاك‪ ،‬ويا ريت بجد كل النا�س زي الداعية‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ده كان الواحد ح�ضر علطول‪ ،‬امل�شكلة �إين م�ش برتاح للنا�س‬
‫ﻜﺘ‬
‫امللتزمني دول‪ ،‬بح�س �أنهم م�ش عاي�شني وم�ش بي�ضحكوا وكلهم‬
‫مملني زي فاروق كده‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫رمقه بنظرة جانبية وحادة‪ ،‬ثم قال با�ستياء‪:‬‬


‫‪ -‬بردو يا �إ�سالم! على فكرة لو عرفت فاروق عن قرب هتحبه‬
‫ﺸﺮ‬

‫جدً ا‪.‬‬
‫ﻭ‬

‫وقبل �أن ُيجيب التقطت عيناه فاروق الذي ي�سري نحوهما‪ ،‬حاول‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫كظم غيظه حتى ال ي�شعر �صديقه بال�ضيق‪ ،‬وتَ�ص ّنع االبت�سامة وهو ُيح ّيي‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫فاروق بربود‪� .‬س�ألهما الأخري عن ر�أيهما يف الندوة ف�أ�شادا بروعتها‪ ،‬هم‬


‫لين�صرف بعدما اطم�أن قلبه‪ ،‬ولكن �إ�سالم ا�ستوقفه و�س�أل �ساخ ًرا‪:‬‬
‫‪ -‬هو �أنتوا بجد بتعرفوا حتبوا زينا كده؟ يعني م�ش �أنتوا بتقولوا‬
‫�إن احلب ده حرام؟‬
‫رغ ًما عنه �صدرت منه �ضحك ٌة عالية‪ ،‬ا ْت َب َعها بابت�سامة وا�سعة وهو‬
‫يجيب ُم ّ‬
‫و�ض ًحا‪:‬‬
‫‪22‬‬
‫‪ -‬ال طب ًعا مني قال كده! لو احلب حرام مكن�ش ربنا خلقلنا قلب‪،‬‬
‫�صح وال �إيه؟‬
‫‪� -‬صح‪ ،‬ب�س �أنتوا اللي بتقولوا كده‪.‬‬
‫‪ -‬يا �إ�سالم افهم‪ ،‬احلب نف�سه عمره ما كان حرام‪ ،‬اللي بيح�صل‬
‫با�سم احلب من نظرات وكلمات ومقابالت هو ده اللي حرام‪،‬‬
‫النا�س اللي بيقولوا احنا مرتبطني وبنحب بع�ض وبي�سمحوا‬
‫لنف�سهم يعملوا حاجات كتري تغ�ضب ربنا با�سم احلب هو ده‬
‫هم اللي �شوهوا املعنى اجلميل ده م�ش احنا‪.‬‬
‫اللي حرام‪ ،‬يعني َ‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬جايز‪...‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عموما يا �سيدي لو فيه �أي حاجة تاين يف الندوة م�ش وا�ضحة‬ ‫‪ً -‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫قول‪ ،‬معل�ش م�ضطر �أم�شي دلوقتي‬ ‫وحابب ت�س�أل عليها ابقى ّ‬
‫عل�شان عندي حما�ضرة‪� ،‬سالم عليكم‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تركهما وغادر ذاه ًبا �إىل حما�ضرته‪ ،‬نظر حممد �إىل �إ�سالم و�س�أله‬
‫ع ّما �إذا كان قد اقتنع بكلمات فاروق الي�سرية ف�أجابه بالنفي‪ ،‬و�أخربه‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أن �شخ�صية فاروق تت�سم بالتعقيد وامللل‪ ،‬وب�أنه ُيعطي الأمور �أكرث من‬
‫حقها و ُي�ض ّيق على نف�سه كث ًريا‪ ،‬و�أنه يحاول فقط �أن يجعل نف�سه طبيع ًيا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أمامهما‪ ،‬ثم نظر ل�صديقه بثقة تامة و�أخربه �أن الطبيعي هو ما هما عليه‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫داع لكل هذا العناء والت�شدد‪.‬‬


‫الآن فال ٍ‬
‫‪zzz‬‬
‫كانت ليل ًة هادئة من ليايل ال�شتاء البارد‪� ،‬أط ّل القمر على ا�ستحياء‬
‫ُم ً‬
‫اطا بهالته الباهتة ليبدد ِق�س ًما ً‬
‫�ضئيل من ظلمة ال�سماء دون �أن يطغى‬
‫على رِدائها الأ�سود‪ ،‬دخلت غرفتها بعدما �أنهت عملها اليومي يف املنزل‬
‫وخال ِفه‪ ،‬قامت بغلق النافذة ب�إحكام حتى ال تت�سلل منها بع�ض‬
‫من تنظيف ِ‬
‫‪23‬‬
‫الن�سمات الباردة فتُثلج ج�سدها ال�ضئيل‪� ،‬أح�ضرت احلا�سوب اخلا�ص‬
‫بها وو�ضعته على فرا�شها وقامت بفتح موقع الفي�س بوك‪ ،‬تن ّقلت �سري ًعا‬
‫َب�سمت‬ ‫بني ال�صفحات ونظرت نظر ًة �سريعة على الإ�شعارات الواردة فت ّ‬
‫�ضاحكة من تلك الفتاة املجهولة وما تفعله معها ب�شكل م�ستمر‪ ،‬فربغم‬
‫�أنها مل تتحدث ُم�سب ًقا مع هذه التي ُتدعى حف�صة �إال �أنها دائ ًما جتد‬
‫نف�سها ُم�ضافة �إىل جمموعات جديدة على ذات املوقع بوا�سطة حف�صة‪،‬‬
‫كانت املجموعة الأخرية التي �أ�ضافتها �إليها حتمل ا�س ًما خمتل ًفا‪ ،‬هم�ست‬
‫بتعجب‪ :‬فريق العفة! انتابها الف�ضول لتعرف ن�شاط هذا الفريق فقررت‬

‫ﻋﺼ‬
‫الدخول �إىل املجموعة لتُلقي نظرة �سريعة وت�ستك�شف الأمر بنف�سها‪ ،‬ولكن‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يبدو �أن النظرة ال�سريعة طالت‪ ...‬طالت كث ًريا‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫بعد �ساعة ون�صف تقري ًبا طرقت والء باب الغرفة فلم جتد جوا ًبا‪،‬‬
‫ازدادت ِحدة طرقاتها فنه�ضت �سلمى بفزع وقامت بفتح الباب على‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الفور‪ ،‬نظرت لها والء والغ�ضب ميل�ؤها و�س�ألتها عن �سبب غلق الباب كل‬
‫هذه املدة‪ ،‬ف�أجابت متعجبة‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬هاه! م�ش عارفة‪ ،‬معل�ش م�أخدت�ش بايل �إنه كان مقفول‪.‬‬


‫�أح�ضرت والء ال�شيء الذي �أتت لت�أخذه من الغرفة وه ّمت باخلروج‪،‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ولكن نداءات �سلمى ا�ستوقفتها‪ ،‬اقرتبت من �أختها ونظرت لها برتقب‪،‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫فقالت �سلمى وقد نق�شت على ثغرها ابت�سامة جميلة‪:‬‬


‫‪ -‬ب�صي كده واحدة معرفها�ش دخلتني جروب جديد ب�س بجد‬
‫روعة �أوي‪.‬‬
‫‪ -‬روعة ازاي يعني؟‬
‫مل ت�ستطع �أن متحو بع�ض الكلمات التي ُح ِفرت يف ذاكرتها منذ �أن‬
‫أي�ضا �أن ُتعرب بدقة عما جتي�ش به نف�سها‪ ،‬فكو ُنها‬
‫قر�أتها‪ ،‬مل ت�ستطع � ً‬
‫‪24‬‬
‫�شخ�صي ًة ح�سا�سة للغاية يجعلها تت�أثر كث ًريا مبجرد قراءة �أو َ�سماع‬
‫كلمة �صغرية‪ ،‬وهذا ما حدث معها عندما قر�أت بع�ض املن�شورات يف تلك‬
‫املجموعة‪ ،‬و�شعرت �أن تلك الكلمات قد الم�ست جدار قلبها برقة‪ ،‬نظرت‬
‫لأختها ب�سعادة وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬نا�س كده يا بنتي حت�سي �إن عقلهم ن�ضيف ما �شاء اهلل‪ ،‬حت�سي‬
‫�أنهم عاي�شني لهدف معني وبي�ساعدوا بع�ض يقربوا من ربنا‪،‬‬
‫عجبني اجلو �أوي ب�صراحة‪ ،‬رغم �أين بعد اللي قريته ده حا�سه‬
‫هم اللي مزودينها �شوية‪.‬‬
‫�أن حياتي كلها غلط‪ ،‬يا �إما بقى َ‬

‫ﻋﺼ‬
‫انتابها الف�ضول ف�أدارت احلا�سوب جتاهها ودققت النظر فيه لدقيقة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ون�صف تقري ًبا‪ ،‬ثم زفرت مبلل و�أعادته لأختها مرة �أخرى وهي تقول بعدم‬
‫ﻜﺘ‬
‫اهتمام‪:‬‬
‫عليك‪.‬‬
‫‪ -‬بال�ش تقعدي معاهم كتري يا �سلمى بدل ما ي�أثروا ِ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وبال مباالة غادرت الغرفة لتُكمل ما كانت تفعله‪ ،‬نظرت �سلمى‬


‫لثوان قليلة‪ ،‬هاجمت ر�أ�سها فكر ٌة وما �أ�سرع �أن عزمت‬
‫حلا�سوبها ب�شرود ٍ‬
‫ﺸﺮ‬

‫على تنفيذها‪ ،‬قامت بفتح ال�صفحة ال�شخ�صية اخلا�صة بحف�صة ووقفت‬


‫تت�أملها لدقائق وهي ُترتب �أفكارها داخل عقلها‪ ،‬ثم قامت بال�ضغط على‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أيقونة الر�سائل وكتبت‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ال�سالم عليكم‪ً � ،‬أول كنت عاوزة �أ�شكرك على اجلروب اللي‬


‫دخلتيهوين من �شوية ومعل�ش حابة �أ�سالك على حاجة‪ ،‬هم‬
‫النا�س اللي يف اجلروب دول حقيقيني زينا؟ م�ش عارفة حا�سة‬
‫�إين م�ستغرباهم �شوية‪ ،‬يعني بالقي بو�ستاتهم �أ�سلوبها حلو‬
‫جدً ا وبت�شد‪ ،‬ويف نف�س الوقت بح�س �إنهم معقدين الدنيا‪،‬‬
‫�ساعات �أح�س �أنهم �صح و�ساعات �أح�س �أنهم مكربين املوا�ضيع‬
‫زيادة عن اللزوم‪...‬‬
‫‪25‬‬
‫توقفت ً‬
‫قليل اللتقاط �أنفا�سها وجتميع �أفكارها من جديد ثم ا�ست�أنفت‪:‬‬
‫‪ -‬ب�صي بيني وبينك كده‪� ،‬أنا بنت عادية يعني زي كل البنات‪ ،‬م�ش‬
‫عارفة �إذا كانت حياتي كده �صح وال غلط لأن كل اللي حواليا‬
‫زيي كده‪ ،‬ميكن كتري بح�س �إن ليا دور يف احلياة‪ ،‬ب�س م�ش‬
‫عاوزاك تقوليلي بقى هل �أنا ليا دور يف احلياة‬
‫ِ‬ ‫عارفة �إيه هو!‬
‫حال ًيا غري درا�ستي؟ مع العلم �إين يف ثانية تربية �إجنليزي وم�ش‬
‫بعمل �أي حاجة غري املذاكرة‪ ،‬فهل ده كايف وال يف حاجات تانية‬

‫ﻋﺼ‬
‫عليك‪ ،‬ب�س من‬
‫املفرو�ض تتعمل؟ معل�ش �أنا �آ�سفة جدً ا لو طولت ِ‬
‫�ساعة ما دخلت اجلروب و�أنا حا�سة �إنكم نا�س خمتلفني عننا‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وح�سيت براحة كبرية ملا قر�أت الكالم اللي بتكتبوه‪� ،‬آخر حاجة‬
‫ﻜﺘ‬
‫بقى‪ ،‬لو كالمكم وبو�ستاتكم دي �صح! معنى كده �إن حياتي كلها‬
‫غلط و�إن هدف الدرا�سة لوحده بردو غلط؟! ب�صي م�ش عارفة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أنا حمتارة وكان الزم �أكلمك‪ ،‬وعارفة �إننا متكلمنا�ش قبل كده‬
‫ب�س �ساحميني ملقيت�ش حد غريك �أ�س�أله‪ ،‬م�ستنية جوابك‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫قر�أت الر�سالة عدة مرات قبل �أن تغلق حا�سوبها وتَ�ست ِند بر�أ�سها‬
‫ﻭ‬

‫على ظهر ال�سرير وترتك ال َعنان لذاكرتها �أن ت�سرتجع �صو ًرا كثرية من‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حياتها املا�ضية والتي جعلتها تت�ساءل بحرية �أهذه ح ًقا هي احلياة التي‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫من املفرت�ض �أن تعي�شها؟ �أم �أن هناك هد ًفا �آخر جمهول!‬
‫‪zzz‬‬
‫جال�سا يتناول �إفطاره يف كافيرتيا اجلامعة مع‬
‫ذات �صباح بينما كان ً‬
‫�صديقه املقرب وهالة من ال�سكون التام ُتيط بهما‪ ،‬تذكر فج�أة ما حدث‬
‫بالأم�س �أثناء حديثه مع �صديقته �سارة ف�شعر بال�ضيق‪ ،‬حانت منه التفاتة‬
‫‪26‬‬
‫�سريعة �إىل حممد فوجده منهم ًكا يف تناول طعامه ومل ي�شعر بنظراته‪،‬‬
‫تنحنح ً‬
‫قليل وقال بحرج بالغ‪:‬‬
‫‪ -‬حممد �أنا كلمت �سارة امبارح‪.‬‬
‫اعتدل يف جل�سته وا�ستقام ظهره‪ ،‬نظر له بعدم فهم ومتتم‪:‬‬
‫‪ -‬طيب و�إيه اجلديد؟‬
‫�أجابه بنربة ي�شوبها الت�أنيب واخلجل‪:‬‬
‫‪ُ -‬ب�ص ب�صراحة كده �أنا طلبت منها �صورتها وهي وافقت‪ ،‬طلعت‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أحلى بكتري مما كنت �أتخيل والقيتني غ�صب عني بقولها كالم‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مكن�ش ينفع يتقال‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫الحظ الوجوم الذي ك�سا وجه �صديقه‪ ،‬حاول �أن ميت�ص �ضيقه وقال‬
‫مرب ًرا‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬يا حممد ما هو مكن�ش ينفع �أبقى بكلمها بقايل �ست �شهور‬


‫وحلد دلوقتي معرف�ش �شكلها!‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬وكمان بتكلمها من �ست �شهور!‬


‫ﻭ‬

‫‪ُ -‬ب�ص هي من �ساعة ما دخلت حياتي و�أنا عاوز �أقولك لأين م�ش‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫متعود �أخبي عليك حاجة‪ ،‬ب�س كنت عارف �إنك هتت�ضايق لو‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫عرفت‪...‬‬
‫قاطعه ً‬
‫قائل بابت�سامة خافتة م�ؤ ّنبة‪:‬‬
‫‪ -‬ب�س ملا لقيت �إنك بد�أت تتجرجر يف الغلط قولت تقويل عل�شان‬
‫�أ�شوفلك حل‪ ،‬واهلل فيك اخلري‪.‬‬
‫نه�ض من مكانه ببطء وجل�س باملقعد املجاور ل�صديقه‪ ،‬نظر له وقال‬
‫ب�صدق ظهر جل ًيا يف كلماته‪:‬‬
‫‪27‬‬
‫‪ -‬اللي ح�صل ح�صل‪ ،‬املهم دلوقتي �أنا م�ش عاوز �أعمل معاها �أي‬
‫حاجة غلط حلد ما �أجتوزها‪.‬‬
‫‪ -‬وهتتجوزها امتى بقى؟‬
‫ً‬
‫م�ستائل‪ .‬ف�أجابه �إ�سالم وقد ات�سعت ابت�سامته كث ًريا عندما‬ ‫قالها‬
‫تذكر �أمر زواجه منها وقال‪:‬‬
‫‪ -‬بعد ما �أتخرج و�أ�شتغل �إن �شاء اهلل‪.‬‬
‫‪ -‬يعني على الأقل بعد �سنتني؟ ده لو لقيت �شغل � ً‬
‫أ�صل بعد ما‬

‫ﻋﺼ‬
‫تتخرج‪.‬‬
‫‪.......-‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬وطب ًعا هتف�ضل تتكلم معاها حلد ما تيجي تتقدم لها!‬
‫ﻜﺘ‬
‫�أجابه ب�سرعة ُفجائية مل تكن ُمتوقعة منه‪:‬‬
‫‪� -‬أكيد طب ًعا يا بني‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫هم�س ب�أ�سلوبه الهادئ بعدما تق ّم�ص دور الأخ الأكرب لإ�سالم كما كان‬
‫يفعل دائ ًما‪ ،‬الأخ الأكرب النا�صح الأمني‪ ،‬والذي يتحمل م�سئولية �أخوته‬
‫ﺸﺮ‬

‫ال�صغار بعد رحيل والدهم‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬عاوز تكلمها �أكرث من �سنتني وما يح�صل�ش جتاوزات؟ تبقى‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بت�ضحك على نف�سك يا �إ�سالم‪ ،‬ملا �شوف من �ست �شهور ح�صل‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�إيه‪� ،‬أُمال بعد كده بقى!‬


‫‪ -‬يووه يا حممد‪ ،‬خال�ص يا عم �أنا غلطان �إين اتكلمت معاك‪� ،‬أنا‬
‫هت�صرف لوحدي يف املو�ضوع ده‪.‬‬
‫قالها ُمت�أف ًفا بعدما نه�ض من مكانه م�ستعدً ا للرحيل‪ .‬نه�ض �صديقه‬
‫هو الآخر ووقف �أمامه مبا�شرة‪ ،‬ارت�سمت على وجهه نظرة ب�شو�شة وهو‬
‫يقول بطيبته املعتادة‪:‬‬
‫‪28‬‬
‫‪ -‬م�ش عاوزك تت�ضايق من كالمي يا �إ�سالم‪� ،‬أنت عارف �إين م�ش‬
‫بقول كده �إال من خويف عليك‪ ،‬وقبل ما ترتيق وتقول �أي حاجة‬
‫علي يوم و�أقرب‬
‫�أنا عارف �إين مليان ذنوب‪ ،‬ب�س ميكن ييجي َّ‬
‫من ربنا و�أتوب وربنا يغفر يل‪ ،‬لكن مو�ضوع البنات ده يا عم‬
‫عامل زي الدوامة اللي م�ش بتنتهي‪ ،‬واحنا عندنا �أخوات بنات‬
‫والزم نخاف عليهم‪.‬‬
‫‪ -‬عندك حل للمو�ضوع من غري مواعظ؟‬
‫‪ -‬اللي �أنا �شايفه �إنك الزم تن�سحب من املو�ضوع ده بهدوء وتبعد‬

‫ﻋﺼ‬
‫عنها خال�ص‪ ،‬وت�أكد �إن لو ليك ن�صيب فيها هتتجوزها حتى لو‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ح�صل �إيه‪ ،‬ولو ملك�ش ن�صيب فيها يبقى م�ش هتتجوزها حتى‬
‫ﻜﺘ‬
‫لو قعدت تكلمها حلد ما تتخرج زي ما بتقول‪.‬‬
‫علي بكذب عليها‬ ‫‪� -‬إيه يا بني اللي �أنت بتقوله ده! عاوزها تقول َّ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بعد ده كله؟ خال�ص بقى �أنا هحاول �أخد بايل من كالمي معاها‬
‫وخال�ص‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬متام‪ ،‬ب�س حاول تقلل كالمك معاها بردو‪ ،‬ولو ح�سيت يف‬
‫�أي وقت �إنك ممكن تقول حاجة حرام يبقى اقفل الكمبيوتر‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ب�سرعة ك�أن النت ف�صل‪ ،‬رغم �إين حا�س�س �إن تقري ًبا كالمكم‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫كله حرام‪.‬‬
‫‪ -‬يا رااجل! كالمنا كله حرام! حتى لو كالم عادي! هنفتي بقى‪.‬‬
‫‪ -‬يا عم معرف�ش �أنا بقول تقري ًبا‪ ،‬ابقى ا�س�أل �شيخ وات�أكد‪.‬‬
‫وقبل �أن ُيجيب �إ�سالم َ�سمِ عا م ًعا �أذان الظهر‪� ،‬شعر حممد باالرتياح‬
‫وابت�سم ل�صديقه بخفة وقال‪:‬‬
‫‪ -‬تيجي ن�صلي الظهر؟ وادعي ربنا يعدي املو�ضوع ده على خري‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫‪ -‬ما�شي ب�س يال ب�سرعة جنيب �أي حاجة ناكلها لأين ميت من‬
‫اجلوع وبعدها نروح ن�صلي‪.‬‬
‫�أوم�أ بر�أ�سه مواف ًقا و�سارا م ًعا باجتاه باب اجلامعة للخروج منه ل�شراء‬
‫بع�ض ال�شطائر من اخلارج‪ ،‬وذلك ب�سبب ارتفاع �أ�سعار امل�أكوالت يف‬
‫كافيرتيا كلية الهند�سة‪ ،‬كان املكان مزدح ًما ب�شدة من جائعي اجلامعة‬
‫فا�ضطرا للتوقف بع�ض الوقت حتى االنتهاء من طلبهما‪ ،‬وما �إن �أزِفت‬
‫�ساعة الرحيل حتى نظر �إ�سالم يف �ساعته فوجدها قد دقت الثانية‬
‫ع�شر قبل خم�سة دقائق ف�أ�سرع بخطاه نحو قاعة املحا�ضرات ودخل على‬

‫ﻋﺼ‬
‫الفور قبل �أن يح�ضر املحا�ضر ويرف�ض دخولهما من بعده‪ ،‬وبالطبع ن�سيا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�صالتهما ككل يوم!‬
‫‪zzz‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫يف غرفتها ذات اللون الوردي الفاحت‪ ،‬وعلى �سريرها ال�صغري ذي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫اللون البني القامت‪ ،‬ترقد ُم�ستلقية على ظهرها وا�ضع ًة ك ّفيها خلف ر�أ�سها‬
‫ﺸﺮ‬

‫�سابح ًة يف فكر عميق‪ ،‬ما زالت عيناها ُمع ّلقة ب�سقف الغرفة نا�صع البيا�ض‬
‫وهي ت�سرتجع كل ما حدث اليوم‪ ،‬مرت امل�شاهد بوم�ضاتها ال�سريعة على‬
‫ﻭ‬

‫ذاكرتها فجعلت ابت�سامتها تت�سع �أكرث و�أكرث‪ ،‬تذكرت حديثها ال�صباحي‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مع �صديقتيها عندما �س�ألتهما ذلك ال�س�ؤال الذي �سيتوقف عليه اتخاذ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫العديد من القرارات املرتبطة بحياتها‪:‬‬


‫‪� -‬إيه ر�أيكم يف احلياة اللي احنا عاي�شينها دي؟‬
‫�أجابتاها على الفور ب�أن هذه احلياة مملة جدً ا‪ ،‬و�أن معظم اليوم‬
‫يتم ق�ضا�ؤه يف اجلامعة بني املحا�ضرات‪ ،‬واملتبقي منه يتم �أمام �شا�شات‬
‫احلا�سوب‪ً � ،‬إذا ال جديد يف الأمر‪� ،‬س�ألتهما هل ت�شعران بال�سعادة يف تلك‬
‫احلياة لكونكما تفعالن كل ما تريدان؟ ف�أجابتاها بالنفي‪ ،‬فكل �شيء يف‬
‫‪30‬‬
‫�شديد و�س�ألتهما هل‬
‫بحما�س ٍ‬
‫ٍ‬ ‫هذه احلياة �أ�صبح روتيني للغاية‪� ،‬صاحت‬
‫لديكما النية للتغيري وك�سر حاجز ذلك الروتني؟ ف�س�ألتاها باحلما�س‬
‫نف�سه عن كونها لديها �أية �أفكار لتحقيق ذلك‪ ،‬ف�أجابت بالنفي‪ ،‬ولكنها‬
‫وعدتهما ب�أنها �ستخربهما باخلطوة القادمة يف خالل يومني �أو ثالثة على‬
‫�أق�صى تقدير‪ ،‬ثم بعدها �شكرتهما ب�شدة على ذلك الت�شجيع‪ ،‬فح ًقا هكذا‬
‫تكون ال�صديقات‪.‬‬
‫أي�ضا اخلواطر التي مرت على ر�أ�سها �أثناء عودتها من‬ ‫تذكرت � ً‬
‫اجلامعة يف املوا�صالت العامة‪ ،‬تذكرت تعجبها ال�شديد من ذلك احلما�س‬

‫ﻋﺼ‬
‫الذي طغى على عقلها وزلزل كيانها مبجرد قراءة بع�ض املن�شورات على‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ال�شبكة العنكبوتية‪ ،‬تذكرت � ً‬
‫أي�ضا رد عقلها عليها ب�أن تلك املن�شورات‬
‫ﻜﺘ‬
‫تت�سم بالعقالنية ال�شديدة وبها بع�ض الآيات القر�آنية والأحاديث النبوية‬
‫ال�شريفة التي تق�شعر لها الأبدان‪ ،‬تذكرت حينها هم�ساتها لنف�سها‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬طيب وفيها �إيه ملا �أغري من نف�سي و�أكون �أح�سن من كده؟ م�ش‬
‫�أنا دا ًميا بقول �إين الزم �أكون مميزة عن كل البنات؟ ودا ًميا‬
‫ﺸﺮ‬

‫بردو برف�ض فكرة �إين �أكون عاي�شة احلياة الروتينية اللي كل‬
‫النا�س عاي�شاها دي وخال�ص؟ �أكيد �أنا م�ش خملوقة عل�شان‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫كده وم�ش ه�سمح لنف�سي �أكون كده‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫تذكرت هرولتها مبجرد دخول منزلها واجتاهها نحو حا�سوبها لتبحث‬


‫عن رد حف�صة على ر�سالتها التي �أر�سلتها لها قبل عدة �أيام ومل تلق جوا ًبا‬
‫�إىل الآن‪ ،‬و�أ ّكدت لنف�سها �أنه عن طريق كلماتها �ستعلم هل ح ًقا هم على‬
‫حق �أم �أن ما ت�سمعه عنهم من ات�سامهم بالتعقيد �صحيح‪ ،‬قامت بالدخول‬
‫�إىل ح�سابها على موقع الفي�س بوك وبالفعل وجدت ر�سالة من حف�صة‪،‬‬
‫قامت بفتحها على الفور وبد�أت تقر�أ فيها وابت�سامتها تت�سع وتت�سع حتى‬
‫كادت ت�صل �إىل �أذنيها‪ ،‬انتهت منها وبد�أت تقر�أها مرة �أخرى بهدوء‪:‬‬
‫‪31‬‬
‫‪ -‬وعليكم ال�سالم ورحمة اهلل وبركاته‪ً � ،‬أول بعتذر جدً ا على‬
‫الت�أخري ب�س مدخلت�ش نت اليومني اللي فاتوا‪ ،‬ثان ًيا بقى م�ش‬
‫عارفة �أو�صفلك قد �إيه �أنا مب�سوطة من ر�سالتك دي‪ ،‬ومبا‬
‫�إنك بد�أتي ت�س�أيل فده معناه �إنك حا�سة �إن فيه حاجة غلط يف‬
‫حياتك‪ ،‬ب�س يف نف�س الوقت خايفة تواجهي الغلط ده عل�شان‬
‫حواليك كده‪ ،‬نبد أ� واحدة واحدة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫اتعودتي تعي�شي كده وكل اللي‬
‫الدرا�سة يا �سلمى هدف مهم جدً ا يف احلياة‪ ،‬ب�س مينفع�ش‬
‫يكون هو هدفنا الوحيد‪ ،‬مينفع�ش �أكون عاي�شة عل�شان �أذاكر‬

‫ﻋﺼ‬
‫و�أجنح و�أتخرج و�أ�شتغل وب�س‪ ،‬الزم يكون فيه حاجات تانية!‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الزم �أطور نف�سي و�أطور �شخ�صيتي وتفكريي‪ ،‬الزم �أعرف �أنا‬
‫عاي�شة ليه ومهمتي �إيه يف الأر�ض‪ ،‬عل�شان يوم القيامة يكون‬
‫ﻜﺘ‬
‫ربنا را�ضي عني والر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم يكون فخور بيا‪،‬‬
‫وهو ده بالظبط اللي احنا بنحاول نعمله يف اجلروب‪ ،‬بنحاول‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫نعرف ديننا كوي�س ونعي�ش مببادئه ويف نف�س الوقت ن�ضحك‬


‫ونهزر ونفرف�ش ونعمل كل حاجة ب�س من غري ما نغ�ضب ربنا‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫حاجة كمان‪ ،‬كون �إنك م�ستغربة اجلو �أو خايفة منه �شوية‬
‫ﻭ‬

‫عليك‪ ،‬كمان ممكن تكوين‬ ‫فده طبيعي لأن املو�ضوع جديد ِ‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قابلتي يف حياتك مناذج لنا�س فاهمني الدين غلط وعلى طول‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫مك�شرين وبين�صحوا النا�س بطريقة فظة عل�شان كده قلقتي‪،‬‬


‫لكن �صدقيني اللي هيعرف دينه �صح وينفذه هيبقى �أروع مثال‬
‫لل�شخ�ص امل�سلم وكل النا�س هتحبه وعمرهم ما هيخافوا منه‪،‬‬
‫�أنا عارفه �إنك ممكن متكوني�ش م�ستوعبة �إنه ينفع نبقى االتنني‬
‫مع بع�ض‪ ،‬ب�س لو حابة تقربي من ربنا �أكرث وتعريف عن دينك‬
‫معاك واحدة واحدة حلد ما تو�صلي‬‫لك وممكن �أم�شي ِ‬ ‫�أنا عينيا ِ‬
‫أنت عايزاه‪� ،‬إيه ر�أيك؟‬
‫للي � ِ‬
‫‪32‬‬
‫تذكرت بعدها �شعور الراحة الذي غمرها‪ ،‬ور ّدها على حف�صة ب�أن هذا‬
‫الكالم �أ�سعدها كث ًريا وبالت�أكيد �ستتحدث معها يف وقت الحق بعدما تفكر‬
‫يف حياتها من جديد وتعيد ترتيبها‪ ،‬و�أخ ًريا بد�أت عيناها يف اخلفوت �شي ًئا‬
‫ف�شي ًئا‪ ،‬ا�ست�سلمتا بعد عناء لطالئع نوم �آخذة يف الزحف نحو مع�سكرها‪،‬‬
‫قبل �أن تر�ضخا ل�سبات عميق ينتظر جمهول الأحالم‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫ُترى �أين هي؟ يعتقد �أنها كانت هنا قبل قليل‪ ،‬ظل يبحث عنها فوق‬

‫ﻋﺼ‬
‫املن�ضدة‪ ،‬على �سطح الكومودينو‪ ،‬بني ثنايا غطائه الأزرق‪ ،‬ورمبا � ً‬
‫أي�ضا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حتت ال�سجادة املُف ِرت�شة منت�صف الغرفة‪ ،‬بحث عنها يف كل مكان ولكن‬
‫بال جدوى‪ ،‬فقد اختفت ك�سراب ح ّلق بعيدً ا وهو على غري نية للرجوع‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫�أخ ًريا قام م�ست�سل ًما وذهب �إىل هاتفه ل ُيحدث منقذه الوحيد واملعتاد يف‬
‫يائ�سا ثم قال‪:‬‬
‫تلك املواقف‪ ،‬زفر ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ازيك يا كابنت؟ بقولك �إيه معاك املذكرة بتاعت دكتور عبد‬


‫ﺸﺮ‬

‫الرحمن؟ �أ�صلي م�ش القيها خال�ص وحمتاجها �ضروري‬


‫الأ�سبوع ده‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬معايا يا �إ�سالم‪ ،‬خال�ص هجيبهالك بكره ب�إذن اهلل‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�ش ّقت االبت�سامة اخلفيفة �أخ ًريا طريقها بني �شفتيه اليائ�ستني وقال‬
‫ب�أريحية‪:‬‬
‫‪ -‬ما�شي �شك ًرا يا حممد‪ .‬معل�ش لو قلقتك من النوم وال حاجة‪.‬‬
‫‪ -‬ال وال يهمك‪� ،‬أنا قاعد بتفرج على برنامج‪ ،‬ملا يخل�ص هبقى‬
‫�أنام �إن �شاء اهلل‪.‬‬
‫ً‬
‫مت�سائل‪:‬‬ ‫همهم‬
‫‪33‬‬
‫‪ -‬برنامج �إيه ده؟ ميكن �أجي �أتفرج معاك‪.‬‬
‫قال املقطع الأخري �ضاح ًكا‪ ،‬ف�أجاب �صديقه بتلقائية‪:‬‬
‫‪ -‬برنامج ديني كده‪.‬‬
‫‪ -‬ما �شاء اهلل ما �شاء اهلل‪ ،‬ربنا يهديك يا بني‪.‬‬
‫‪ -‬يا عم ما ت�سيبني يف حايل بقى ميكن ربنا يهديني ويقربني‬
‫منه‪.‬‬
‫‪ -‬خال�ص يا �شيخ حممد كمل يا �أخويا كمل‪� ،‬أنا ب�س م�ستغرب‬

‫ﻋﺼ‬
‫ا�شمعنى النهارده يعني!‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ً‬
‫مت�سائل بجدية ممزوجة بالتعجب‪ ،‬فما كان من �صديقه غري �أنه‬ ‫قالها‬
‫نظر لوهلة �إىل التلفاز ثم تب�سم ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬عادي كنت بقلب ولقيته والكالم �شدين‪ ،‬املهم روح �أنت دلوقتي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وهجيبلك املذكرة بكره حا�ضر‪.‬‬


‫وقبل �أن يجيب �إ�سالم قال حممد ب�شيء من احلزم‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ومااا تكلم�ش �سارة تاين‪ ،‬مفهوم؟‬


‫ﻭ‬

‫نظر �إ�سالم �إىل مر�آته ب�شيء من الذهول ثم متتم وهو على نف�س‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫احلالة‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬زي ما تكون بتقر أ� �أفكاري‪ ،‬خال�ص م�ش هكلمها النهارده‬


‫عل�شان خاطرك‪ ،‬يال �سالم‪.‬‬
‫�أغلق كل منهما هاتفه بعدها مبا�شرة‪ ،‬جل�س �إ�سالم لي�ستكمل ما بد�أه‬
‫من مذاكرة وحت�ضري ملحا�ضرات الغد‪ ،‬بينما �أنهى حممد ذلك الربنامج‬
‫املفاجئ و�سار بخطوات بطيئة نحو �سريره‪ ،‬الذي �ألقى بج�سده عليه بقوة‬
‫وذهب يف �سبات عميق‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫�صبيحة اليوم التايل ا�ستقبل �إ�سالم �صديقه وعلى وجهه �ضحكات‬
‫متتالية‪ ،‬وك�أنه يتعجب من م�شاهدة ذلك امل�سلم لربنامج ذي �سمات‬
‫�إ�سالمية‪ ،‬يبدو �أنه مل يعتد على مثل هذه املواقف ولهذا �أده�شه ما حدث‪،‬‬
‫مازحا عن حمتوى ذلك الربنامج الذي جذب‬ ‫وقف بجوار �صديقه و�س�أله ً‬
‫انتباه ال�شيخ ال�صغري‪ ،‬ف�أجاب حممد با�س ًما وقد ملعت عيناه بربيق مل ي َر‬
‫له مثيل من قبل‪:‬‬
‫‪ -‬كان يا �سيدي بيحكي مواقف ح�صلت يف حياة الر�سول عليه‬
‫ال�صالة وال�سالم وال�صحابة ر�ضي اهلل عنهم‪ ،‬كان بي�شرحلنا‬

‫ﻋﺼ‬
‫قد �إيه الر�سول تعب عقبال ما ن�شر الدين الإ�سالمي بال�شكل‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ده‪ ،‬و�إن ال�شباب دلوقتي �سايبني الدين ده وكل تفا�صيل احلياة‬
‫ﻜﺘ‬
‫اللي بي�شملها وما�شيني ورا �شوية مو�ضات متخلفة بن�ستوردها‬
‫من الغرب‪ ،‬ال والأغرب �أنهم عاجبهم �أوي احلال ده‪ ،‬ولو �شافوا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حد متم�سك بدينه بتالقيهم بي�ضحكوا عليه ويقولوا �إنه قدمي‬


‫ورجعي ومعقد!‬
‫ﺸﺮ‬

‫�صمت ً‬
‫قليل ثم تنهد تنهيدة حزينة و�أردف‪:‬‬
‫‪ -‬الكالم كان حلو �أوي‪ ،‬رغم �إين ح�سيت �ساعتها �إين مق�صر‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫جامد و�إين م�ش هينفع �أعي�ش كده كتري‪ ،‬نف�سي ت�ساعدين يا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�إ�سالم ون�شجع بع�ض ونبد�أ نفهم ديننا �شوية‪.‬‬


‫‪ -‬يا بني ما احنا كوي�سني �أهو احلمد هلل‪ ،‬يعني ال �سجاير وال‬
‫خمدرات وال معاك�سة بنات وال �أماكن م�شبوهة وال حاجة‪،‬‬
‫احنا �أح�سن من �شباب كتري ب�س �أنت اللي �شكلك مت�أثر ل�سه‬
‫بالكلمتني اللي �سمعتهم‪.‬‬
‫�أخذ يحك ذقنه ب�أطراف �أنامله بعدم اقتناع ثم قال مبرارة‪:‬‬
‫‪35‬‬
‫‪ -‬ب�س ده م�ش كفاية يا �إ�سالم‪ ،‬معتقد�ش �أبدً ا �إن دي احلياة اللي‬
‫املفرو�ض نعي�شها‪ ،‬بجد نف�سي ت�شجعني حتى لو ملرة واحدة يا‬
‫عم‪ ،‬ما �أنا طول عمري معاك على احللوة واملرة‪.‬‬
‫أ�صل‪ ،‬بحب حياتي كده ورا�ضي‬ ‫‪ -‬ما هي امل�شكلة �إين م�ش مقتنع � ً‬
‫بيها‪ ،‬وبعدين يا عم ربنا يطول عمرنا ونبقى �أح�سن مع الوقت‪.‬‬
‫عموما‬
‫‪� -‬أكيد يف يوم هقدر �أقنعك يا �إ�سالم وهنتغري �سوا‪ً ،‬‬
‫الربنامج اللي بكلمك عنه ده هييجي الأربعاء اجلاي‪ ،‬هبقى‬
‫�أكلمك �ساعتها و�أخليك تتفرج عليه وبعدها �أ�شوف قرارك �إيه‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫وقبل �أن ينطق �إ�سالم ببنت �شفة قال حممد مبنتهى احل�سم‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬واملو�ضوع كده منتهي بالن�سبايل‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪zzz‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ال يزال ذلك الهدوء ال َف ْجري م�سيط ًرا بكامل قوته على احلي كله‪.‬‬
‫على غري عادتها يف تلك ال�ساعة املت�أخرة من الليل ا�ستفاقت من نومها‬
‫ﺸﺮ‬

‫بكوب من املاء‪ ،‬ثم عادت من جديد وتدثرت‬‫ونه�ضت من فرا�شها لرتتوي ٍ‬


‫ﻭ‬

‫حتت الغطاء‪ ،‬وك�أنها قد �شعرت بتلك الروح التي تنتظرها يف مكان ما‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫جتهله‪ ،‬وجدت نف�سها فج�أة تنه�ض من جديد وتقوم بفتح جهاز احلا�سوب‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫اخلا�ص بها لتُلقي نظرة �سريعة على موقع الفي�س بوك وبعدها تعاود النوم‬
‫مرة �أخرى‪� ،‬أقل من خم�س دقائق ووجدت ر�سالة جديدة من تلك الفتاة‬
‫املجهولة حمتواها‪:‬‬
‫م�ستنياك على فكرة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬كنت‬
‫عقدت ما بني حاجبيها يف ده�شة‪ ،‬ثم كتبت بف�ضول‪:‬‬
‫‪ -‬بجد؟ ا�شمعنى؟‬
‫‪36‬‬
‫كنت على بايل طول اليوم وح�سيت �إين ممكن‬ ‫‪ -‬م�ش عارفة‪ِ ،‬‬
‫�أكلمك النهارده‪.‬‬
‫أنت‬
‫‪ -‬حبيبتي �شك ًرا بجد‪ ،‬ب�صي �أنا فكرت كتري يف الكالم اللي � ِ‬
‫فعل حياتي كلها غلط؟‬‫بعتيهويل وبردو حمتارة‪ ،‬هو �أنا ً‬
‫‪ -‬م�ش بالظبط‪ ،‬حمتاجني نظبط ب�س �شوية حاجات وهتكوين‬
‫‪ %100‬ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫ارت�سمت على وجهها عالمات احلرية ب�صورة �أكرب‪ ،‬تراجعت بظهرها‬

‫ﻋﺼ‬
‫للخلف ال�صق ًة �إياه بظهر كر�سيها وتنهدت بتعب‪� ،‬صمتت ِ‬
‫لثوان ثم كتبت‪:‬‬
‫‪ -‬طيب املفرو�ض �أبد�أ منني؟ ب�صراحة ل�سه خايفة وبردو‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫علي فكرة �إن االلتزام ده يعني تعقيد‪ ،‬و�إين لو بقيت‬‫م�سيطرة َّ‬
‫ﻜﺘ‬
‫زيكم حياتي هتبقى كئيبة‪� ،‬أنا �آ�سفة �إين بقول كده ب�س ده اللي‬
‫جوايا‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ارت�سمت ابت�سامة خفيفة على وجهها وهي جتيب‪:‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫عليك‪� ،‬أهم حاجة بال�ش‬


‫‪ -‬طبيعي حت�سي بكده لأن املو�ضوع جديد ِ‬
‫ت�ضغطي على نف�سك‪ ،‬ام�شي معاها واحدة واحدة وابدئي غريي‬
‫ﻭ‬

‫أنك لو حاولتي تغريي كل حاجة يف نف�س الوقت‬‫حاجة حاجة‪ ،‬ل ِ‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ممكن تنجحي �أول كام يوم‪ ،‬لكن بعدها هتح�سي �إن املو�ضوع‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�صعب ومعقد زي ما بتقويل وم�ش هتقدري تكملي طريقك‪.‬‬


‫‪ -‬طيب بردو �أبد�أ ازاي؟‬
‫‪� -‬أنا �شخ�ص ًيا بداية تغيريي كانت من بو�ستات اجلروب‪ ،‬كنت‬
‫بقر�أ البو�ست من دول و�أقول لنف�سي‪ :‬طيب و�أنا معمل�ش احلاجة‬
‫وهم اللي بيعملوها �أح�سن مني يف ايه؟‬
‫الفالنية دي ليه؟ طيب َ‬
‫علي فرتة كنت بقعد مع نف�سي و�أفكر كتري وو�صلت لأين‬ ‫جات َّ‬
‫‪37‬‬
‫الزم �أتغري‪ ،‬ومن �ساعتها بد�أت �أخد احلاجات ال�سهلة و�أظبطها‬
‫يف �أ�سلوب حياتي وتفكريي‪ ،‬ومرة يف مرة بد�أت �آخد حاجات‬
‫�أ�صعب و�أ�صعب واحلمد هلل ربنا قدرين واتغريت كتري عن زمان‬
‫ول�سه بردو مكملة يف طريقي �أهو ب�إذن اهلل‪ ،‬ممكن جتربي‬
‫الطريقة دي ولو منفعت�ش نفكر يف حاجة غريها‪.‬‬
‫‪ -‬اممم حا�ضر هحاول‪.‬‬
‫‪ -‬ممكن طلب بقى؟ ابقى طمنيني على �أخبارك دا ًميا‪ ،‬حقيقي‬
‫هبقى مب�سوطة جدً ا ملا �أتابع خطوات التزامك وقربك من ربنا‬

‫ﻋﺼ‬
‫خطوة بخطوة‪ ،‬و�أنا واثقة �إنك قدها ب�إذن اهلل‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫لك �أوي‪.‬‬
‫‪ -‬حا�ضر يا حف�صة‪ ،‬بجد �شك ًرا ِ‬
‫ﻜﺘ‬
‫وبالفعل‪ ،‬بعدما حتم�ست لتلك الفكرة قامت بالدخول �إىل املجموعة‬
‫املزعومة و�أخذت تقر�أ بع�ض املن�شورات تارة وتفكر يف حمتواها وما‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يجذبها منها تارة �أخرى‪ ،‬بينما �أغلقت حف�صة هاتفها ونه�ضت من‬
‫مكانها لت�ستعد ل�صالة الفجر‪ ،‬م�ضت الدقائق �أمام �شا�شة احلا�سوب‬
‫ﺸﺮ‬

‫تتبعها الدقائق حتى �أمت �أ�صغر العقربني دورة وبع�ض دورة يف ميدان‬
‫�ساعته‪ ،‬انتبهت �سلمى فج�أة لبع�ض خيوط ال�ضوء اخلافت التي ت�سللت‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عرب نافذتها لت�ضيء غرفتها ذات اللون الوردي‪ ،‬فنه�ضت على الفور لأداء‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�صالتها قبل �شروق ال�شم�س‪ ،‬وقد �شعرت ببع�ض اخلجل املمزوج بالتعجب‬
‫من فعلتها تلك‪ ،‬فقد كادت ُت�ض ّيع �صالتها التي بها تر�ضي اهلل لتبحث عن‬
‫�أي �شيء تفعله لتنال به ر�ضا اهلل!‬
‫انتهت من �صالتها وجل�ست مرة �أخرى على حا�سوبها‪ .‬بعد �أقل من‬
‫ن�صف ال�ساعة عزمت على �إر�سال ر�سالة جديدة حلف�صة بها �أول قرار‬
‫اتخذته لتعديل خط أ� ما كانت تفعله �ساب ًقا‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫‪ -‬حف�صة باركيلي‪ ،‬احلمد هلل �أخدت �أول قرار يف طريقي للتغيري‪،‬‬
‫قررت �إين هبطل �أن�شر �أي �صور لبنات ب�شعرها �أو لب�سها �ضيق‬
‫أنت ممكن‬‫على النت مهما ح�صل‪ ،‬عارفة �إنه قرار �صغري �أوي و� ِ‬
‫علي ويف نف�س الوقت ممكن‬ ‫علي‪ ،‬ب�س ح�سيت �إنه �سهل َّ‬
‫ت�ضحكي َّ‬
‫مينع ذنوب كتري كانت هتجيلي كل ما ولد ي�شوف ال�صور دي‬
‫�أو بنت تقرر تقلدها‪ ،‬و�أنا ب�صراحة يف ِغنى عن الذنوب دي‪،‬‬
‫أنت اللي قولتيلي �أبد�أ باحلاجات ال�سهلة دي وواحدة‬ ‫وكمان � ِ‬
‫واحدة �أكرب �أهدايف‪ ،‬دعواتك بقى يا حف�صتي‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫قر�أت الر�سالة مرة �أخرى‪ ،‬تنهدت ب�أريحية‪ ،‬ثم �أغلقت حا�سوبها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ونه�ضت لتُكمل نومها حتى موعد حما�ضرتها الأوىل‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪zzz‬‬
‫يف ال�سماء ُزرقة �صافية ُتزينها بع�ض ال�سحابات ال�صغرية التي تداعب‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بع�ضها البع�ض مبرح طفويل‪ ،‬و�أ�سراب من الطيور اجلميلة ُتلق يف الهواء‬


‫ﺸﺮ‬

‫لت�شاركهما يف ر�سم تلك اللوحة الرائعة التي تعك�س ذلك اجلمال الرباين‬
‫الباهر‪ ،‬يف ظل ذلك اجلو املفعم باحلياة جل�س �إ�سالم ب�صحبة �صديقه‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حممد يف كافيترييا اجلامعة‪ ،‬بد�أ الأخري بتناول �إفطاره ب�سكون كعادته‪،‬‬


‫بينما �أخذ �إ�سالم يفكر يف ذلك ال�س�ؤال الذي لطاملا طر�أ على ر�أ�سه عدة‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مرات منذ ما حدث �أم�س‪:‬‬


‫‪ -‬حممد م�ش هو عادي ملا الراجل يقول ملراته كل اللي بيح�س‬
‫بيه؟‬
‫قالها ذلك املرتدد فار ًكا ذقنه‪ .‬ف�أتاه رد �صديقه ب�شيء من التعجب‪:‬‬
‫‪� -‬س�ؤال غريب! �أكيد طب ًعا عادي‪ ،‬ا�شمعنى؟‬
‫‪39‬‬
‫‪� -‬أ�صلي ملا خل�صت كالم مع �سارة امبارح وجيت �أقر�أ املحادثة‬
‫تاين ح�سيت ب�شوية ت�أنيب �ضمري‪ ،‬رغم �أننا متفقني على اجلواز‬
‫وهي دلوقتي تعترب مراتي‪ ،‬عل�شان كده ب�س�ألك لأين م�ستغرب‬
‫من �إح�سا�سي ده‪.‬‬
‫وب�شيء من الده�شة �س�أل‪:‬‬
‫‪ -‬مراتك منني يا �إ�سالم فهمني؟ وكمان طاملا ح�سيت بت�أنيب‬
‫�ضمري يبقى �أكيد قولت حاجات مكن�ش ينفع تتقال‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أجاب مداف ًعا عن فعلته بكل ثقة‪:‬‬
‫‪ -‬احنا االتنني بنحب بع�ض وم�ستحيل نتخلى عن �أحالمنا اللي‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حلمناها �سوا‪ ،‬وم�ستحيل بردو حد يقدر يفرقنا عن بع�ض‪ ،‬يعني‬
‫ﻜﺘ‬
‫خال�ص مفي�ش م�شكلة ملا �أتعامل معاها على �إنها مراتي حلد‬
‫ب�س ما �أتخرج و�أتقدم لها ر�سمي‪ ،‬وبالن�سبة للكالم فعادي يعني‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كنت بعربلها عن حبي ليها وب�أكد لها �إنها بتاعتي وم�ستحيل‬


‫تكون حلد غريي‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫وبكل مو�ضوعية وعقالنية قال‪:‬‬


‫‪ -‬ما في�ش حاجة ا�سمها ( ُتعترب مراتي)‪ ،‬ما هي يا �إما مراتك يا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�إما لأ‪ ،‬وهي حال ًيا م�ش مراتك‪ ،‬عل�شان كده املفرو�ض تتعامل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫معاها زي �أي بنت غريبة عنك‪ ،‬حبك ليها م�ش مربر �أبدً ا �إنك‬
‫تقولها كالم زي ده‪ .‬حقيقي �أنا �أمتنى �إنك تتجوز البنت اللي‬
‫بتحبها‪ ،‬لكن يف نف�س الوقت احنا منعرف�ش علم الغيب‪ ،‬جايز‬
‫يكون ربنا كاتب واحدة تانية من ن�صيبك‪� ،‬ساعتها بقى هيكون‬
‫�إيه موقفك ملا تقولها كالم قولته لواحدة قبلها يف احلرام؟ ما‬
‫حتافظ على قلبك يا عم حلد ما تتجوزها وبعدين ابقى اعمل‬
‫اللي �أنت عاوزه!‬
‫‪40‬‬
‫‪ -‬عاجبني �أوي العقل اللي نزل عليك فج�أة ده!‬
‫قالها �ضاح ًكا‪ ،‬ف�أجابه �صديقه بابت�سامة خفيفة‪:‬‬
‫‪ -‬من �ساعة ما ح�ضرت الندوة الأخرية دي و�أنا تفكريي اتغري‬
‫متاما بالن�سبة ملو�ضوع احلب ده‪ ،‬ا�ستفدت منها حاجات كتري‪،‬‬
‫ً‬
‫ربنا يبارك لفاروق عل�شان قالنا عليها‪.‬‬
‫‪ -‬ما�شي يا عم‪ ،‬يال نقوم بقى عل�شان املحا�ضرة قربت تبد�أ‪.‬‬
‫وبالفعل قام كل منهما من مكانه متج ًها �إىل قاعة املحا�ضرات‪ ،‬ويف‬

‫ﻋﺼ‬
‫ر�أ�س كل منهما فكرة غري قابلة للتغيري‪ ،‬ف�أحدهما يظن �أنه �أخ ًريا وجد‬
‫فتاة �أحالمه ومن حقه �أن يفعل معها ما ي�شاء‪ ،‬بينما الآخر ي�سعى بكل ما‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�أوتي من قوة للمحافظة على قلبه لكي يهديه نق ًيا ملن ت�ستحق‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪zzz‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عجل هبطت من �سيارة الأجرة ودخلت من باب كليتها ُمهرولة‬ ‫على ٍ‬


‫لت�ستطيع اللحاق مبحا�ضرتها الأوىل بعدما فاتها على الأقل ربعها‪ ،‬كانت‬
‫ﺸﺮ‬

‫ُتدرك جيدً ا �أن املحا�ضر لن ي�سمح لها بالدخول‪ ،‬ولكنها قررت املحاولة‬
‫وذلك لأهمية تلك املحا�ضرة‪� ،‬سارت باجتاه املبنى الرئي�سي لكلية الرتبية‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫فوجدت كل من هند و فاطمة جتل�سان على مقعد ما هناك‪� ،‬شعرت براحة‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫كبرية تغمرها بعدما �أيقنت �أن املحا�ضر مل ي� ِأت بعد �أو �أن املحا�ضرة قد‬
‫متاما‪َ ،‬م ُثلت �أمامهما وقامت بالتقاط �أنفا�سها التي هربت قبل‬
‫مت �إلغا�ؤها ً‬
‫قليل‪ ،‬نظرت لها هند وقد رفعت حاجبها الأمين‪ ،‬و�س�ألت باهتمام‪:‬‬
‫‪ -‬ات�أخرتي ليه يا �أ�ستاذة؟ م�ش من عادتك يعني!‬
‫علي نومة‪.‬‬
‫‪ -‬معل�ش �أ�صلي كنت �سهرانة �شوية على النت وراحت َّ‬
‫هي املحا�ضرة اتلغت؟‬
‫‪41‬‬
‫‪� -‬أيوه‪ ،‬ب�س قو ِّلنا بقى �إيه اللي كان م�سهرك يا جميل؟‬
‫قالتها فاطمة �ضاحكة وقد غمزت بعينها الي�سرى‪ ،‬ف�أجابت �سلمى‬
‫بحما�س‪:‬‬
‫‪ -‬كنت بقر أ� �شوية حاجات كده وخال�ص قررت �أعمل ثورة على‬
‫نف�سي و�أتغري‪.‬‬
‫‪ -‬وهتعملي �إيه بقى؟ هتطريي وال هتم�شي على املايه؟‬
‫‪ -‬قررت �أحاول �أظبط حياتي و�أركز يف كل ت�صرفاتي و�أ�شوف‬

‫ﻋﺼ‬
‫هي تر�ضي ربنا وال لأ‪.‬‬
‫ابت�سمت هند وقالت بت�سا�ؤل‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬جميل‪ ،‬ب�س �إيه �سبب قرارك ده؟‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬فاكرين البنت اللي دخلتني اجلروب اللي قولتلكم عليه؟‬
‫اتكلمت معاها وب�صراحة ارحتت جدً ا‪ ،‬ح�سيت �إين بطري و�أنا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بقر أ� كالمها‪ ،‬ح�سيت براحة كبرية كمان ملا قعدت �أفكر مع‬
‫نف�سي ولقيت �إين الزم �أبد�أ �أعدل من ت�صرفاتي‪ ،‬ادعويل بقى‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أقدر �أنفذ اللي بتمناه‪.‬‬


‫قالتها ثم نظرت لكلتيهما وا�ستطردت‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬على فكرة �أنتوا وعدتوين �أنكم هتم�شوا يف الطريق ده معايا‪،‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫النهارده �أول ما �أروح البيت ب�إذن اهلل هدخلكم اجلروب‬


‫وعموما �أنا �أول قرار �أخدته للتغيري هو �إين‬
‫ً‬ ‫و�أ�شوف ر�أيكم فيه‪،‬‬
‫م�ش هحط �أبدً ا �صورة بنت ب�شعرها على الربوفايل �أو النت‬
‫عامة‪.‬‬
‫نظرة تعجبية بعمر الثواين من فاطمة‪� ،‬أتبعتها ب�ضحكات متتالية‬
‫حتى كادت ُترديها قتيلة‪ ،‬حاولت ال�سيطرة على انفعاالتها ب�صعوبة وقالت‬
‫�ساخرة‪:‬‬
‫‪42‬‬
‫‪ -‬يا �سالم! هو ده التغيري من وجهة نظرك؟ ده ا�سمه تعقيد‬
‫وهيافة ح�ضرتك‪� ،‬سايبني كل احلاجات املهمة يف احلياة‬
‫وما�سكني يف ق�شور وتقوليلي تغيري وال التزام؟ يا �شيخة و�أنا‬
‫اللي افتكرتك هتتغريي بجد!‬
‫امتقع وجهها وقد ظهرت به مالمح خيبة الأمل‪ ،‬وقالت هام�سة‪:‬‬
‫‪� -‬أنا عارفة �إنها حاجة �صغرية جدً ا‪ ،‬ب�س �إيه امل�شكلة ملا �أبد�أ‬
‫واحدة واحدة؟ م�ش �أح�سن من ملا �أبد�أ بال�صعب و�آجي بعد‬

‫ﻋﺼ‬
‫يومني و�أقول م�ش قادرة �أكمل؟ املهم �أنتوا معايا وال لأ؟‬
‫وكما ُيقال يف املثل ال�شعبي «ال�سكوت عالمة الر�ضا» كان رد كلتيهما‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أي�ضا‪ ،‬ولكن من نوع �آخر‪� ،‬سكوت يحمل بني طياته الال مباالة‬ ‫�سكوتًا � ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫وال�سخرية‪ ،‬نظرت لهما وقد زادها �صمتهما �إ�صرا ًرا‪ ،‬وقالت بكل ثقة‪:‬‬
‫‪ -‬طيب متام‪� ،‬أنا هكمل طريقي لوحدي ب�إذن اهلل‪ ،‬وهن�شوف‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�سلمى دي يف يوم من الأيام هتكون عاملة ازاي‪ ،‬هن�شوف هل‬


‫الق�شور دي بداية كوي�سة لواحدة زيي وال الزم �أبد أ� من ال�صعب‬
‫ﺸﺮ‬

‫عل�شان مقدر�ش �أكمل!‬


‫ﻭ‬

‫جل�ست بجوراهما بتعب‪ ،‬وقالت لنف�سها بيقني تام‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬حتى لو حمد�ش �ساعدين‪ ،‬ف�أنا مت�أكدة �إن ربنا معايا وهيعي ّني‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫دا ًميا �أين �أم�شي يف طريقه‪ ،‬وب�إذن اهلل هكمل حتى لو الكل‬
‫اتريق لأن �أنا اللي �صح‪ .‬قويني يــارب!‬

‫‪z‬‬
‫‪43‬‬
‫‪-2-‬‬

‫م�ساء الأربعاء‪ ،‬احلادية ع�شرة قبل منت�صف الليل حتديدً ا‪.‬‬


‫كان ال�سكون ُيخ ّيم على البيت يف تلك ال�ساعة املت�أخرة من ذلك‬

‫ﻋﺼ‬
‫الليل ال�شاتي‪� ،‬إ�سالم قد َغ ّط يف �سبات عميق قبل قليل‪ ،‬بينما جل�ست‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫هند ب�صالة املنزل ت�شاهد فيل ًما �أجنب ًيا على احلا�سوب اخلا�ص بها وقد‬
‫ﻜﺘ‬
‫و�ضعت ال�سماعات بكلتا �أذنيها‪ ،‬وعلى اجلانب الآخر جل�ست والدتها تقر�أ‬
‫يف كتاب اهلل‪ ،‬دقائق من ال�صمت مرت قبل �أن ت�سمع الأم �صيحات متتالية‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�آتية من غرفة �إ�سالم تنادي با�سم هند‪ ،‬اقرتبت من ابنتها وطرقت على‬
‫كتفها بخفة‪ ،‬وقالت بابت�سامة خفيفة‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫أخوك عاوز �إيه‪.‬‬


‫‪ -‬معل�ش يا بنتي قومي �شويف � ِ‬
‫ﻭ‬

‫انتبهت لها هند فقامت بنزع ال�سماعات ال�صغرية وقالت بت�سا�ؤل‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬بتقويل حاجة يا ماما؟‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫وقبل �أن جتيب الأم �سمعت هند نداءات �إ�سالم املتكررة‪ ،‬فنه�ضت على‬
‫الفور ودلفت من باب غرفته‪ ،‬وقالت بتعجب‪:‬‬
‫‪� -‬إيه يا �إ�سالم مالك؟‬
‫�أ�شار �إىل هاتفه املحمول‪ ،‬وقال ب�ضيق م�صحوب ببقايا نعا�سه‪:‬‬
‫‪� -‬سكتي البتاع ده م�ش عارف �أنام منه‪.‬‬
‫‪44‬‬
‫�أم�سكت هند بالهاتف ونظرت يف �شا�شته فوجدت املت�صل حممد‪،‬‬
‫�أخربت �إ�سالم بذلك فلم يعب�أ ومل ُي ِجبها حتى‪ ،‬فهم�ست بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬طيب خد رد ميكن يكون عاوزك يف حاجة مهمة‪.‬‬
‫‪ -‬م�ش قادر يا هند‪ ،‬عينيا بتقفل لوحدها‪.‬‬
‫‪ -‬طيب �أكن�سل؟‬
‫‪ -‬اعملي �أي حاجة املهم خليه ي�سكت‪.‬‬
‫وبالفعل قامت هند بغلق االت�صال وو�ضعت الهاتف مكانه و�سارت‬

‫ﻋﺼ‬
‫باجتاه باب الغرفة‪ ،‬وقبل �أن تخرج منه �سمعت رنني الهاتف من جديد‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫فعادت على الفور ونظرت لأخيها وقالت‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬يا �إ�سالم دي خام�س مرة يت�صل‪� ،‬أكيد فيه حاجة �ضروري‪.‬‬
‫‪ -‬لأ يا هند م�ش حاجة �ضروري‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬يعني �أنت عمال تكلمني ده كله وم�ش عارف ترد على �صاحبك‬
‫يا �إ�سالم؟!‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أجابها �ضائ ًقا بعدما نفد �صربه‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬بيت�صل عل�شان يقويل على برنامج كان متفق معايا ال�صبح �إننا‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫هن�شوفه �سوا‪ ،‬ارحتتي؟ وطب ًعا لو رديت هيف�ضل يحاول معايا‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫أ�سا�سا‪ ،‬يال بقى‬


‫�إين �أقوم و�أنا م�ش قادر �أحترك من مكاين � ً‬
‫أنت‬
‫أنت والبتاع ده بدل ما �أقوم و� ِ‬
‫ات�صريف وام�شي من هنا � ِ‬
‫عارفة اللي هيح�صل‪.‬‬
‫وكعادة �إ�سالم عندما يغ�ضب‪ ،‬لن ي�ستطيع �أحد التفاهم معه‪،‬‬
‫با�ست�سالم حملت هند الهاتف وخرجت من الغرفة و�أغلقت الباب خلفها‬
‫يف هدوء‪ ،‬زفرة قوية زفرتها فور خروجها �أتبعتها ب�إلقاء الهاتف ب�ضيق‬
‫‪45‬‬
‫على املن�ضدة املجاورة لها‪ ،‬ثم عادت من جديد لت�ست�أنف م�شاهدة فيلمها‬
‫الأجنبي‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫وعلى ُبعد �أمتار حيث منزل ال�سيد طارق كانت جتل�س ابنته الكربى‬
‫�سلمى على حا�سوبها �أخ ًريا بعد انقطاع الإنرتنت ليومني كاملني وهي يف‬
‫�أ�شد احلاجة �إليه‪ ،‬قامت بالدخول �إىل موقع الفي�س بوك ووجدت �صديقتها‬
‫ف�س ّرت لذلك كث ًريا‪� ،‬أر�سلت لها ر�سالة ق�صرية‪،‬‬
‫حف�صة موجودة بالفعل ُ‬

‫ﻋﺼ‬
‫وكان حمتواها‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫معاك �شوية؟ ح�صلت �شوية حاجات‬
‫‪ -‬حف�صة ممكن �أتكلم ِ‬
‫ﻜﺘ‬
‫�ضايقتني اليومني اللي فاتوا ب�س النت كان فا�صل فمعرفت�ش‬
‫�أكلمك‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مرت دقيقة تلو الأخرى حتى �أمت العقرب ال�صغري ربع دورة يف ميدان‬
‫حمتاجاك‬
‫ِ‬ ‫�ساعته ومل ي�أتها �أي رد‪ ،‬بعثت بر�سالة �أخرى حمتواها‪« :‬حف�صة‬
‫ﺸﺮ‬

‫�ضروري بجد»‪ .‬وانتظرت ً‬


‫قليل حتى �أجابت الأخرية ب�شيء من اخلجل‪:‬‬
‫‪� -‬سلمى �أنا �آ�سفة �سيبت املوبايل وقمت �أعمل حاجة‪ ،‬خري يا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حبيبتي مالك؟‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬عندي �إحباط داخل جواه حتدي!‬


‫�أعجبها التعبري ولكنها مل تفهم املغزى منه‪ ،‬فكتبت‪:‬‬
‫‪ -‬مبعنى؟‬
‫‪ -‬فاكرة ملا قولتلك �إين كلمت �صاحباتي على فكرة التغيري وهما‬
‫علي وم�ش ناويني مي�شوا معايا‬
‫�شجعوين؟ كلمتهم تاين واتريقوا َّ‬
‫يف طريقي‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫معاك �أهو وب�إذن اهلل‬
‫عموما م�ش م�شكلة �أنا ِ‬‫‪ -‬توقعت كده بردو‪ً ،‬‬
‫أنت لوحدك وبعد كده حاويل معاهم‬ ‫م�ش ه�سيبك‪ ،‬ابدئي � ِ‬
‫واحدة واحدة‪.‬‬
‫علي وح�سوا‬
‫‪ -‬مكنت�ش عاوزة كده‪ ،‬بجد ات�ضايقت جدً ا ملا اتريقوا َّ‬
‫�إين كده بهرج معاهم و�إين م�ش جادة يف املو�ضوع‪� ،‬أنا مت�أكدة‬
‫�إين �صح‪ ،‬ومت�أكدة �إن ب�إذن اهلل احلاجات ال�صغرية دي هتكرب‬
‫مع الوقت‪� ،‬صح وال �إيه؟‬
‫ابت�سمت حف�صة وكتبت م�ؤكدة‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪� -‬صح طب ًعا‪� ،‬أي �إن�سان يا �سلمى بيفكر �إنه يتغري طبيعي جدً ا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫هيالقي �شوية �صعوبات قدامه‪ ،‬طبيعي هيالقي نا�س بت�ستخف‬
‫ﻜﺘ‬
‫عليك هتالقي‬
‫بيه وب�أفكاره‪ ،‬ب�س عارفة؟ ملا يبد أ� التغيري ده يبان ِ‬
‫بيتخذوك قدوة ليهم‪� ،‬ساعتها ب�س‬
‫ِ‬ ‫النا�س يف عيلتك وكليتك‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كنت �صح‪ ،‬و�إن احلاجات ال�صغرية دي كربت‬ ‫أنت ِ‬


‫هتح�سي �أن � ِ‬
‫وهم كلهم‬
‫وكربت حلد ما بقت �سلمى اخللوقة املختلفة بجد‪َ ،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫هتالقيهم ل�سه واقفني مكانهم‪.‬‬


‫‪ -‬ياااه يا حف�صة‪ ،‬متعرفي�ش كالمك برييحني قد �إيه‪ ،‬حا�ضر‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫هكمل ب�إذن اهلل وم�ش هت�ستلم لكالم �أي حد‪ ،‬كمان �أنا من‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫النوع اللي دماغي نا�شفة �أوي يف احلق‪ ،‬ربنا يقويني‪.‬‬


‫‪ -‬ربنا يريح قلبك يا حبيبتي‪ ،‬يال بقى هتقوليلي قرار رقم اتنني‬
‫امتى؟‬
‫‪� -‬أول ما �أخده هقولك �إن �شاء اهلل‪.‬‬
‫تركتها وذهبت �إىل تلك املجموعة التي كانت ‪ -‬بف�ضل اهلل‪ -‬لها دو ٌر‬
‫ري يف تغيري نظرتها حلياتها بهذه الطريقة‪ ،‬ظلت تبحث هنا وهناك عن‬ ‫كب ٌ‬
‫‪47‬‬
‫اخلطوة القادمة يف التغيري‪ ،‬كانت ت�شعر براحة �شديدة يف كونها واحدة‬
‫راق وبه روحانيات عالية‪،‬‬ ‫من �أفراد ذلك املجتمع ال�صغري‪ ،‬جمتمع نقي‪ٍ ،‬‬
‫رغم �شعورها بالده�شة من هذه ال�سرعة يف اتخاذ ذلك القرار بالتحديد‪،‬‬
‫�إال �أنها كانت ت�شعر دائ ًما ب�أن اهلل قد ي�سر لها كل ال�سبل وبعث لها حف�صة‬
‫لتدلها على هذه املجموعة لتكون �سب ًبا يف التقرب منه �أكرث و�أكرث‪ ،‬ح ًقا ال‬
‫تعلم �أي �شيء �سوى �أنها تريد �أن ترتقي بنف�سها وفقط‪ ،‬تريد �أن ت�صبح‬
‫م�سلمة بحق وتتحول من جمرد �إن�سانة عادية �إىل �إن�سانة قدوة‪.‬‬
‫‪zzz‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫�صباحا ظل �إ�سالم‬
‫ً‬ ‫�صبيحة اليوم التايل بعد انتهاء حما�ضرة الثامنة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يتفر�س يف الوجوه يف ترقب باح ًثا عن تو�أمه‪ ،‬فمن غري عادة حممد �أن‬
‫ﻜﺘ‬
‫يت�أخر عن �أي حما�ضرة مهما كانت‪ ،‬ومن غري عادته � ً‬
‫أي�ضا �أن ُيغلق هاتفه‬
‫بهذا ال�شكل‪� ،‬أخذ يدور حول البناية عدة دورات باح ًثا عنه فلم ِ‬
‫يجد ذلك‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مر به زميلهما �شادي ف�س�أله �إ�سالم ع ّما �إذا كان قد �شاهد حممد يف‬
‫املحا�ضرة ال�سابقة �أو يف �أي مكان‪ ،‬ف�أجاب بالنفي و�أخذ ميرح معه بع�ض‬
‫الوقت ثم غادر على الفور‪ ،‬وقف �إ�سالم ُمت�أف ًفا للحظات ثم نوى الذهاب‬
‫ﺸﺮ‬

‫�إىل الكافيترييا النتظاره هناك‪� ،‬أعاد االت�صال به من جديد �أثناء �سريه‬


‫ﻭ‬

‫فوجد �أن الهاتف ما زال مغل ًقا‪� ،‬ضحك متعج ًبا ثم قال‪:‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ما تفتح موبايلك يا عم حممد‪ ،‬ما هو م�ش معقولة موقف �صغري‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫زي ده يزعلك �أوي كده‪ ،‬خال�ص يا عم �أنا هتنازل وه�صاحلك‬


‫زي كل مرة ب�س رد علينا‪.‬‬
‫ل وقد عال �صوته ً‬
‫قليل ف�أكمل‬ ‫انتبه �إىل �أنه يحدث نف�سه على امل أ‬
‫�سريه �صامتًا باجتاه املكان املراد‪ ،‬وقبل �أن ي�صل �إىل الكافيترييا وجد‬
‫فاروق يعرت�ض طريقه وينظر له ب�ضيق �شديد‪ ،‬توقف �إ�سالم وتبادل معه‬
‫النظرات‪ ،‬ثم �س�أل م�ضط ًرا‪:‬‬
‫‪48‬‬
‫‪ -‬م�شوفت�ش حممد يا فاروق؟‬
‫ً‬
‫مت�سائل بلهجة جريحة وقد ظهر الغ�ضب على عينيه‪:‬‬ ‫�أجاب‬
‫‪ -‬حممد؟ هو �أنت جاي تفتكر حممد دلوقتي!‬
‫نظر له �إ�سالم بتعجب وقد ارتفع حاجبه الأمين ً‬
‫قليل وقال‪:‬‬
‫‪ -‬يعني �إيه!‬
‫ح�ضرت يف ذهن فاروق حلظات من م�شاهد �سابقة فامتلأت عيناه‬
‫بالعربات‪ ،‬و�أجاب بخفوت‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬دور عليه يا �إ�سالم‪ ،‬ب�س معتقد�ش �إنك هتالقيه‪...‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫نظر له �إ�سالم بعدم فهم‪ ،‬ف�ألقى عليه فاروق نظرة �أخرية ميل�ؤها‬
‫ﻜﺘ‬
‫القهر ثم �سار �أمامه ال يدري �إىل �أين يذهب‪ ،‬بل �أنه ال يدري � ً‬
‫أي�ضا ما‬
‫الذي جاء به �إىل اجلامعة بعد ما حدث �أم�س‪� ،‬أح ًقا مل ي�ستطع املكوث يف‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫منزلهم يف هذا التوقيت بالتحديد؟ �أم مل ي�ستطع ر�ؤية ال�شارع مبا فيه من‬
‫وجوه حزينة فقرر الهرب �إىل �أي مكان وقادته قدماه �إىل حيث يقف الآن؟‬
‫ﺸﺮ‬

‫ظل مي�شي على غري هدى حتى وجد نف�سه يقف �أمام �أحد املقاعد‪ ،‬جل�س‬
‫عليه وظلت �صور من املا�ضي تتحرك �أمام عينيه وهو يت�أمل وفقط‪ ،‬بينما‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وقف �إ�سالم للحظات وقد ملأته الده�شة قبل �أن يتمتم بحنق‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬هو الواد ده غريب كده ليه! �أنا � ً‬


‫أ�صل طول عمري م�ش مرتاحله!‬
‫زفر زفرة قوية ثم عاود ال�سري مرة �أخرى باجتاه كافيرتيا اجلامعة‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫حتت مظلة ليل يق�سو بربده حي ًنا ويتعطف بن�سماته �أحيا ًنا جل�ست‬
‫كعادتها �أمام حا�سوبها بعدما �أحكمت غلق النافذة كي ال تت�سرب منها‬
‫تلك الن�سمات الباردة من الهواء‪ ،‬قامت بفتح موقع الفي�س بوك لتخرب‬
‫‪49‬‬
‫�صديقتها حف�صة مبا و�صلت �إليه من قرارات‪ ،‬بد�أت بكتابة ر�سالتها‬
‫ب�أحرف من �أمل‪ ،‬وعلى ثغرها ابت�سامة جميلة تت�سع �شي ًئا ف�شي ًئا‪.‬‬
‫‪ -‬حف�صة �أنا حا�سة �إين مب�سوطة ومرتاحة �أوي من �ساعة ما‬
‫دخلت اجلروب ده‪ ،‬بجد م�ش عارفة �أ�شكرك ازاي‪ ،‬هدعيلك‬
‫�أكيد‪ ،‬متهي�أيل دي �أف�ضل هدية ممكن �أقدمهالك‪.‬‬
‫قامت ب�إر�سالها‪ ،‬ثم ا�ستطردت‪:‬‬
‫‪ -‬ودلوقتي بقى يا �ستي هقولك على قراراتي اجلديدة‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫� ًأول‪ :‬مفي�ش كالم مع �شباب يف اجلامعة نهائي �إال لل�ضرورة‪� ،‬أنا‬
‫أ�صل كنت بعمل كده تلقائي‪ ،‬ب�س دلوقتي بد�أت �أعدد النوايا‬ ‫� ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عل�شان �أخد ثواب �أكرث‪ ،‬خليتها بنية �إين �أعف قلبي‪ ،‬و�إين‬
‫ﻜﺘ‬
‫�أحافظ على قلوب ال�شباب اللي حواليا‪ ،‬ولو افتكرت نية كمان‬
‫هحطها عليهم‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ثان ًيا‪ :‬هحاول �أبطل �أغاين‪ ،‬بد�أت �أحمل �أنا�شيد للنا�س اللي‬
‫قولتيلي عليهم وب�إذن اهلل �أ�سمعهم بدل الأغاين‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ثال ًثا و�أخ ًريا‪ :‬خال�ص ب�إذن اهلل هبطل م�سل�سالت خال�ص‪،‬‬
‫ﻭ‬

‫ه�شوف ب�س �آخر حلقتني من امل�سل�سل اللي �شغال دلوقتي وبعد‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ما يخل�ص �أوعدك ب�إذن اهلل م�ش هعلق نف�سي بواحد غريه‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫تاين‪.‬‬
‫هاه �إيه ر�أيك بقى؟ �أنفع �أبقى تلميذة �شطورة وال لأ؟ وهل املعدل‬
‫اللي ما�شية بيه ده حلو وال �إيه؟ ومعل�ش بجد �إين مقدرت�ش �أبطل‬
‫كل احلاجات يف نف�س الوقت‪ ،‬ب�س �أختك قوية بردو وب�إذن اهلل‬
‫قريب جدً ا هاجي �أقولك �إين بطلتهم نهائي‪ ،‬يال ه�ستنى ردك‪،‬‬
‫مع ال�سالمة‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫ا�ستلمت حف�صة الر�سالة وقر�أتها و�أجابت بكل حما�س‪:‬‬
‫فيك‪� ،‬أيوة كده هو ده الكالم‬
‫‪ -‬حبيبتي يا �سلمى ربنا يبارك ِ‬
‫وال بال�ش‪ ،‬وعلى فكرة طاملا حطيتي رجلك على �أول الطريق‬
‫هتالقيك مع مرور الوقت بت�سيبي حاجات كتري تغ�ضب ربنا‬
‫ِ‬
‫فيك وعارفة �إنك قدها ب�إذن‬
‫عل�شان تنويل ر�ضاه‪� ،‬أنا واثقة ِ‬
‫اهلل‪.‬‬
‫‪zzz‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫جال�سا يف فرا�شه وهو يلهث ب�شدة‪ ،‬ظل‬ ‫فتح عينيه يف فزع وا�ستوى ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حماول ال�سيطرة على‬ ‫ً‬ ‫ُيح ّدق �أمامه بخوف وهو ي�ضع كفه على �صدره‬
‫ﻜﺘ‬
‫كابو�سا مرع ًبا‪ ،‬ر�ؤيته ملحمد وهو يغرق يف هذا النهر‬ ‫ً‬ ‫انفعاله‪ ،‬لقد كان‬
‫العميق‪ ،‬نظرته الال مبالية له وعدم اهتمامه مب�ساعدته على النجاة‪،‬‬
‫كلمة �صديقه التي قالها قبل اختفا�ؤه حتت املاء‪� :‬شك ًرا يا �صاحبي‪ ،‬والتي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مثيل من قبل‪ ،‬كل هذا كان �سب ًبا يف‬ ‫كانت ُم�صاحبة لنظرة مل ي َر لها ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫�إ�صابته بالهلع بهذا ال�شكل‪ ،‬ا�ستطاع ال�سيطرة على انفعاله ب�صعوبة‪،‬‬


‫�أم�سك بهاتفه ونظر يف �ساعته ف�إذا هي ال�سابعة والن�صف م�سا ًء‪� ،‬أخذ‬
‫ﻭ‬

‫يبحث عن �أي ات�صال قادم من حممد فلم يجد‪ ،‬فقد كان �آخر ات�صال‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫متثاقل قام ي�ستند على مرفقيه‪ ،‬قبل �أن ينتهي‬ ‫ً‬ ‫بينهما قبل يومني اثنني‪،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫به الأمر واق ًفا على الأر�ض ب�شيء من الإعياء‪ ،‬حترك ببطء نحو احلمام‪،‬‬
‫نظر يف مر�آته الدائرية فوجد �شحو ًبا يظهر جل ًيا على وجهه‪ ،‬قام بغ�سل‬
‫وجهه وتن�شيفه بخفة‪ ،‬ثم انتقل �إىل خزانة مالب�سه وقام بارتداء �أول ما‬
‫ر�آه �أمامه وهبط من منزله ُمقر ًرا الذهاب ملنزل حممد‪.‬‬
‫يف الطريق و�أثناء جلو�سه بجوار �إحدى نوافذ الأتوبي�س الذي �س ُيق ّله‬
‫�إىل منزل �صديقه بد�أت بع�ض الطم�أنينة تت�سلل �إىل قلبه‪� ،‬أخذ ُيحدث‬
‫‪51‬‬
‫مفزعا فح�سب‪ ،‬و�أنه بالت�أكيد لي�س له �أي‬
‫نف�سه ب�أن ما ر�آه لي�س �إال حل ًما ً‬
‫عالقة بالواقع‪ ،‬ها هو قد و�صل �إىل مراده‪ ،‬ترجل من الأتوبي�س واجته‬
‫�س ًريا �إىل ال�شارع الذي يقطن به �صديقه‪� ،‬سار ب�ضع خطوات فتبني له �أن‬
‫ال�شارع مزدحم ب�شدة‪ ،‬يبدو �أن هناك منا�سبة ما‪ ،‬ف�آثر الرجوع للخلف‬
‫قليل وا�ستدار ليتجه �إىل ال�شارع املجاور ومنه �إىل اجلهة املقابلة من‬ ‫ً‬
‫مهل‪ ،‬فهناك يقطن فاروق ومن املمكن �أن يراه مرة‬ ‫�شارع حممد‪ ،‬ولكن ً‬
‫�أخرى‪ ،‬يا حلظه ال�سيئ‪ ،‬زفر ب�ضيق قبل �أن ُيحدث نف�سه ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬وهو �إيه اللي هيوقفه يف ال�شارع دلوقتي يعني!‬
‫�سار خطوة تلو الأخرى حتى اقرتب من منزل حممد‪� ،‬شعر براحة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�شديدة تغمره بعدما جتاوز منزل فاروق ومل يره‪ ،‬ولكن هيهات‪ ،‬فراحته‬
‫ﻜﺘ‬
‫التي مل يتجاوز عمرها الثواين مل تكتمل‪ ،‬ها هو قد ظهر �أمامه من جديد‬
‫ً‬
‫قائل با�ستنكار‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪� -‬أنت جيت �أخ ًريا! واهلل فيك اخلري‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫نظر �إليه ب�إ�شفاق‪ ،‬ثم قال �ساخ ًرا‪:‬‬


‫‪ -‬فاروق يا حبيبي مالك؟ �أنت مري�ض!‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪� -‬أ�ستغفرك ربي و�أتوب �إليك‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫قالها متمت ًما وهو يحاول التحكم يف ع�صبيته حتى ال ينطق ل�سانه مبا‬
‫ال ُيح َمد عقباه‪ ،‬نظر له �إ�سالم نظرة �أخرية ثم قال ُم ِنه ًيا هذا احلوار‬
‫الثقيل‪:‬‬
‫‪� -‬أنا طالع ملحمد دلوقتي لأين م�ش فا�ضي للكالم العجيب بتاعك‬
‫ده‪.‬‬
‫‪ -‬ما �أنا قولتلك م�ش هتالقيه!‬
‫‪52‬‬
‫قالها بابت�سامة مت�أملة‪ ،‬ف�أجاب �إ�سالم مبلل‪:‬‬
‫‪� -‬أُمال راح فني يعني؟!‬
‫‪ -‬يعني �أنت م�ش عارف؟‬
‫‪ -‬م�ش عارف �إيه؟! ما تبطل الألغاز اللي بتتكلم بيها دي‪..‬‬
‫‪zzz‬‬
‫م�ساء الأربعاء احلادية ع�شرة قبل منت�صف الليل‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫جال�سا يتناول طعام الع�شاء حني �شعر ب�أمل خفيف يف‬ ‫كان حممد ً‬
‫�صدره‪ ،‬وكعادته مل يعب�أ بذلك وا�ست�أنف تناول طعامه‪ ،‬بد�أت الآالم ت�شتد‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عليه �شي ًئا ف�شي ًئا‪ ،‬ترك قطعة اخلبز التي كان يحملها يف يده و�ضغط على‬
‫ﻜﺘ‬
‫�صدره بقوة‪ ،‬طرقت نهى ‪�-‬أخته التي ت�صغره بثالثة �أعوام‪ -‬باب الغرفة‬
‫وهي حتمل طب ًقا يف يدها‪ ،‬وقالت بحنان‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬و�آدي الزيتون يا �سيدي‪ ،‬هاه عاوز حاجة تاين قبل ما �أنام؟‬


‫ﺸﺮ‬

‫مل ي�ستطع ل�سانه نطق �أي �شيء‪ ،‬غري �أنه جاهده ً‬


‫قائل ب�صعوبة‪:‬‬
‫‪� -‬شك ًرا يا نهى‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قامت بو�ضع الطبق �أمامه‪ ،‬وقبل �أن ت�ستدير على �أعقابها لتن�صرف‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫فزعا‪،‬‬
‫الحظت على وجهه بع�ض التعبريات الغريبة‪ ،‬والتي �أحالت فرحتها ً‬
‫فمالحمه املنكم�شة مبا فيها عينيه املغم�ضتني بقوة �شديدة حتى كادتا �أن‬
‫تعت�صرا مقلتيهما‪ ،‬و�أ�سنانه التي ت�ضغط بقوة على �شفتيه‪ ،‬ويده التي كادت‬
‫�أن تقتلع قلبه من مكانه‪ ،‬وتلك الآهة املكتومة التي �شعرت �أنه ينتزعها من‬
‫انتزاعا‪ ،‬كل هذا كان �سب ًبا يف �إ�صابتها بالهلع‪ ،‬فما كان منها غري‬
‫ً‬ ‫�أعماقه‬
‫�أنها اقرتبت منه ب�شدة‪ ،‬ر ّبتت على كتفه بخوف وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬حممد مالك؟‬
‫‪53‬‬
‫‪ -‬مفي�ش يا نهى‪ ،‬مفي�ش‪.‬‬
‫نظرت له بحدة‪ ،‬و�صاحت قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬مفي�ش ازاي؟ ّ‬
‫قول مالك وال حا�س�س ب�إيه؟‬
‫ب�ضيق يف تنف�سه‪ ،‬مع ازدياد �آالم �صدره �أكرث و�أكرث مل يعد يحتمل‬
‫�شعر ٍ‬
‫ذلك ح ًقا‪ ،‬قال ب�صوت قارب على الرحيل‪:‬‬
‫‪ -‬ات�صليلي ب�إ�سالم ب�سرعة يا نهى‪ ،‬خليه ييجي‪.‬‬
‫وبالفعل �أم�سكت بهاتفه النقال وبحثت عن ا�سم �إ�سالم وقامت‬

‫ﻋﺼ‬
‫باالت�صال على الفور‪ ،‬ات�صلت مرة �أتبعتها بالثانية‪ ،‬والثالثة‪ ،‬حتى �أمتت‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫اخلم�س ومل جتد �أي �إجابة‪ ،‬زفرت بع�صبية ونظرت له بعينني متلأهما‬
‫اللهفة‪ ،‬فات�سعت عيناها برعب حينما وجدت ر�أ�سه ُمن ّك ًبا على الطاولة‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫قليل فوجدته ما زال يت�أوه‬ ‫هرولت باجتاهه بفزع وحاولت حتريك ر�أ�سه ً‬
‫تلك الآهة املكتومة‪ ،‬قررت االت�صال بوالدها ولكنها تذكرت �أنه لن ي�ستطيع‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫احل�ضور قبل �ساعتني على الأقل‪� ،‬شعرت �أن عقلها ُ�شل عن التفكري و�أنها‬
‫ﺸﺮ‬

‫ما عادت تدري ماذا يجب �أن تفعل‪ ،‬ف�أ�سرعت اخلطى نحو غرفة والدتها‬
‫و�أيقظتها من نومها بفزع‪ ،‬هرولت الأم �إىل غرفة ابنها و�أمرت نهى �أن‬
‫ﻭ‬

‫تت�صل بفاروق جارهم وتطلب منه الت�صرف يف الأمر‪ ،‬وذلك لأنهم‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫يعي�شون يف تلك البناية وحدهم ولن ت�ستطيع الفتاة الهبوط لل�شارع لنداء‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أحد اجلريان يف تلك ال�ساعة املت�أخرة من الليل‪ ،‬تناولت نهى الهاتف من‬
‫جديد وقامت بالبحث عن ا�سم فاروق و�ضغطت على زر االت�صال‪ ،‬فتح‬
‫قليل ليطرد منهما بقايا نعا�سه‪ ،‬ثم �أم�سك‬ ‫الأخري عينيه و�أخذ يفركهما ً‬
‫بهاتفه و�أجاب بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬ال�سالم عليكم‪ ،‬ازيك يا حممد؟‬
‫�أجابت ب�سرعة بالغة‪:‬‬
‫‪54‬‬
‫‪ -‬وعليكم ال�سالم‪� ،‬أنا �أخت حممد‪ ،‬بعد �إذن ح�ضرتك تعاىل‬
‫ً‬
‫حال‪.‬‬
‫خفق قلبه ب�شدة بعدما �سمع �صوتها‪ ،‬حاول ال�سيطرة على رد فعله‬
‫و�أجاب باتزان‪:‬‬
‫‪ -‬خري فيه حاجة ح�صلت؟‬
‫‪ -‬حممد تعبان �أوي والزم يروح امل�ست�شفى‪ ،‬بعد �إذنك تعاىل‬
‫ب�سرعة لأننا م�ش عارفني نت�صرف‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬حا�ضر �أنا جاي ً‬
‫حال ب�إذن اهلل‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ناه�ضا يف حركة ُفجائية‪ ،‬ارتدى حذاءه‬
‫قالها ذلك الذي �أزاح غطاءه ً‬
‫وهرول باجتاه منزل حممد‪ ،‬حني و�صل �إىل املنزل طرق الباب بقوة‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫فقامت الأم بفتح الباب و�أ�شارت �إىل غرفة حممد قائلة ب�أمل‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬اتف�ضل يا بني هو جوه‪.‬‬


‫قام بالدخول �إىل غرفته ب�سرعة بالغة‪َ ،‬ف ِزع عندما ر�آه وك�أنه يحارب‬
‫ﺸﺮ‬

‫ليلتقط �أنفا�سه‪ ،‬وقف �أمامه وقال بابت�سامة قلقة وهو يربت على يديه‪:‬‬
‫‪ -‬خال�ص يا حممد عم جمدي جاي ً‬
‫حال وهرنوح امل�ست�شفى‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حاول �أن ي�ساعده ليجعله ي�ستلقي على الفرا�ش �إىل �أن ي�أتي جارهم‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫أر�ضا‪ ،‬فزعت والدته و�أخته من ذلك واقرتبتا‬ ‫ب�سيارته‪ ،‬ففوجئ ب�سقوطه � َ‬


‫منه �سري ًعا‪ ،‬حاول فاروق �أن يرفعه مرة �أخرى ف�أ�شار له حممد ب�أن يكف‬
‫عن ذلك‪ ،‬يبدو �أنه مل يعد يحتمل �أي �شيء‪ ،‬ظل فقط ينظر لوالدته‬
‫نظرات ا�شتياق‪� ،‬أراد �أال ُيدير عينيه عنها وحاول االبت�سام ً‬
‫قليل‪ ،‬بادلته‬
‫والدته بابت�سامة مت�أملة وقد امتلأت عيناها بالدموع‪ ،‬ثم وجدته ُي�سك‬
‫بيد فاروق بخفة ويقول ب�صوت ال يكاد ُي�سمع‪:‬‬
‫‪55‬‬
‫‪ -‬خد بالك منهم يا فاروق‪ ،‬وخد بالك من �إ�سالم‪ ،‬باهلل عليك ما‬
‫ت�سيبه �إال ملا يكون قريب من ربنا‪� ،‬أنا كان نف�سي نقرب من ربنا‬
‫�سوا ب�س ميكن ملحق�ش‪ ،‬قوله �إين �ضيعت عمري كله و�أنا عاي�ش‬
‫غلط‪ ،‬م�ش عاوزه هو كمان يعمل كده‪ ،‬باهلل عليك يا فاروق خليه‬
‫يبقى زيك ما�شي؟ دي و�صيتي ليك يا فاروق‪ ،‬اوعى تن�ساها‪.‬‬
‫ربت على يده برفق‪ ،‬وقال بنربة ميل�ؤها الأ�سى‪:‬‬
‫‪ -‬حا�ضر حا�ضر واهلل‪ ،‬ب�إذن اهلل هعمل كل اللي �أنت عايزه‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ارتاح ب�س دلوقتي حلد ما العربية تيجي‪.‬‬
‫هام�سا‪:‬‬
‫�أغم�ض عينيه وقال ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪� -‬أ�شهد‪� ...‬أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل‪ ،‬و�أ�شهد �أن حممدً ا ر�سول اهلل‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫مرت الدقائق وك�أنها �ساعات‪ ،‬بل رمبا �سنني‪� ،‬أخذ اجلميع ينظر �إىل‬
‫ال�سماء ويدعو اهلل �أن ي�أتي الرجل ب�أق�صى �سرعة‪� ،‬سمع فاروق �صوت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫العربة تقرتب من املنزل �شي ًئا ف�شي ًئا‪ ،‬نظر من النافذة فت�أكد من و�صولها‬
‫فهم�س ب�أريحية �أن احلمد هلل‪ .‬ثم عاد ملحمد من جديد‪ ،‬وقال مبت�س ًما‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬خال�ص يا حممد العربية و�صلت �أهي‪ ،‬معل�ش خم�س دقائق‬


‫ﻭ‬

‫بالظبط ونكون يف امل�ست�شفى ب�إذن اهلل‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اقرتب منه �أكرث و�أم�سك بيده ليجعله ينه�ض معه فلم يجد �أي‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ا�ستجابة‪ ،‬حاول حتريكه ميي ًنا وي�سا ًرا ولكن بال جدوى‪ ،‬نظر يف عينيه‬
‫�صارخا وهو يحركه بعنف‪:‬‬ ‫ً‬ ‫املغلقتني بفزع‪ ،‬وقال‬
‫علي يا‬
‫‪ -‬حممد! يا حممد! حممد يال العربية جات‪ ،‬حممد رد َّ‬
‫علي �أرجوك!‬
‫حممد! حممد رد َّ‬
‫نظر بلهفة �إىل والدته التي ات�سعت عيناها ب�شدة‪ ،‬ثم عاود النظر �إليه‬
‫من جديد وظل ُيح ّركه وهو ما زال ي�صرخ‪:‬‬
‫‪56‬‬
‫‪ -‬حممد خال�ص هرنوح امل�ست�شفى �أهو‪� ،‬أنت م�ش برتد ليه‬
‫علي‪ ،‬حممد قول �أي حاجة! قول �أي حااااجة‬‫هاه! حممد رد َّ‬
‫�أرجوووووك‪.‬‬
‫ولكن ال حياة ملن تنادي‪ ،‬ما عاد ي�سمع �صوتًا عدا تلك ال�شهقات الآتية‬
‫من خلفه‪ ،‬حاول التحقق من وجود �أي نف�س يخرج من �أنفه �أو بع�ض‬
‫النب�ضات الآتية من قلبه فلم يجد‪� ،‬أم�سكه مرة �أخرى و�أخذ يحركه من‬
‫ً‬
‫حماول تكذيب ما يراه وظل يردد‪:‬‬ ‫جديد‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬يـ ــارب‪ ،‬ي ـ ـ ــارب‪.‬‬
‫�سقطت الأم على الأر�ض من �أثر �صدمتها وانهارت باكية على ولدها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الوحيد‪� ،‬أما عن نهى فهي �إىل الآن غري م�ستوعبة ما يحدث وتنظر للم�شهد‬
‫ﻜﺘ‬
‫ً‬
‫مهرول باجتاه باب املنزل‪ ،‬و�صرخ‬ ‫بذهول وفقط‪ ،‬نه�ض فاروق من مكانه‬
‫ب�أعلى �صوته ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬حد يلحقني ب�سرعة النب�ض وقف‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫�صعد ال�سيد جمدي وابنه وقاموا بحمل حممد وذهبوا به �سري ًعا �إىل‬
‫العربة ومعهم فاروق الذي طلب من والدة حممد �أن تت�صل بوالده وتخربه‬
‫ﻭ‬

‫بالأمر لي�أتي �إليهم على الفور‪ ،‬و�أكد لها ب�أنه �سيخربها بكل جديد ‪�-‬إن‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ُوجد‪.-‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪zzz‬‬
‫مرت الدقائق على من داخل العربة ببطء خميف‪ ،‬ف�أحدهم قلبه يكاد‬
‫يقتلع �صدره من كرثة نب�ضاته‪ ،‬والآخر ال ُيكاد ُي�سمع لنب�ضاته �صوتًا‪ ،‬بينما‬
‫ال�سائق ومن بجواره يف حالة من اال�ضطراب ال�شديد‪ ،‬توقفت ال�سيارة‬
‫وهبط الرجال على عجل حاملني ذاك املري�ض �إىل غرفة الطبيب‪ ،‬دخل‬
‫حممد �إىل غرفة العمليات ووقف فاروق �أمام الباب املغلق وظل يتمتم‬
‫‪57‬‬
‫بالدعاء‪ ،‬ب�ضع دقائق فقط ووجده ُيفتح من جديد‪ ،‬خرجت منه املمر�ضة‬
‫م�سرعة باجتاه غرفة ما‪ ،‬ناداها فاروق لي�س�ألها عن �صاحبه ف�أجابت‬
‫بتوتر‪:‬‬
‫‪ -‬ادعيله‪.‬‬
‫ثوان حتى عادت ب�سرعة �أكرب من املرة ال�سابقة‪ ،‬دخلت‬‫وما هي �إال ٍ‬
‫الغرفة و�أغلقت الباب خلفها‪ ،‬ظل فاروق يدعو اهلل �أن ُينجي �صاحبه‪ ،‬حتى‬
‫وجد الباب ُيفتح من جديد ويخرج منه الطبيب‪� ،‬س�أله فاروق بلهفة كبرية‬

‫ﻋﺼ‬
‫عن �صديقه‪ ،‬ف�أجاب ب�أ�سف‪:‬‬
‫‪ -‬عملنا كل اللي نقدر عليه‪ ،‬ب�س ده ق�ضاء ربنا‪ ،‬البقاء هلل‪.‬‬
‫ً‬
‫مت�سائل بذهول‪:‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ات�سعت عيناه بفزع ال مثيل له‪� ،‬شهق‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬مات؟ حممد مات!‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وملا مل يجد جوا ًبا انكم�شت مالحمه‪ ،‬وظل يتمتم ب�أمل‪:‬‬


‫‪� -‬إنا هلل و�إنا �إليه راجعون‪� ،‬إنا هلل و�إنا �إليه راجعون‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ميكن لو كان جه بدري �شوية كنا قدرنا نلحق قلبه قبل ما‬
‫متاما‪ ،‬ولكن ده ن�صيبه‪� ،‬شد حيلك‪.‬‬ ‫يتوقف ً‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قالها الطبيب وهو ُير ّبت على كتف فاروق‪ ،‬ثم �سار مغاد ًرا املمر ليرتك‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫جمال لذلك ال�شاب لتفريغ تلك ال�شحنة املت�أملة التي يحملها بقلبه‪ ،‬ظل‬‫ً‬
‫فاروق عدة حلظات يحاول ا�ستيعاب كل ما حدث‪ ،‬يحاول ا�ستيعاب �أن‬
‫�صديقه الآن مل يعد موجودًا بينهم‪ ،‬يحاول ا�ستيعاب �أنه �آن الآن وقت‬
‫احل�ساب‪ ،‬فهل كنت على ا�ستعداد لتلك اللحظة يا حممد‪� ،‬أم ماذا �سيكون‬
‫م�صريك؟ �شعر ب�أمل يف ر�أ�سه من فرط التفكري‪ ،‬فارمتى على �أول كر�سي‬
‫بجواره ودفن وجهه بني كفيه‪ ،‬وظل يخرب اهلل مبا يحمله قلبه من �أحزان‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫دقائق مرت ال يعلم �أقليلة هي �أم كثرية قبل �أن ينه�ض من مكانه فج�أة‬
‫متج ًها �إىل غرفة الطبيب لي�س�أله عن �إجراءات دفن حممد‪ ،‬ويطلب منه‬
‫�أن ُيلقي عليه نظرة �أخرية قبل الرحيل‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫نظر �إ�سالم لفاروق نظرة القادمني من كوكب �آخر‪ ،‬مل ي�ستطع �أن‬
‫ينطق ببنت �شفة‪� ،‬ضاقت عيناه وجتمعت فيهما العربات‪ ،‬ظل ينظر‬
‫لفاروق للحظات قبل �أن ُيحادثه ب�صوت جت�سد فيه احلزن بكامل �سطوته‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪� -‬أنت بتقول �إيه؟ حممد مات بجد؟!‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�سمع ال�س�ؤال ف�ضاقت عيناه ناظ ًرا �إىل �شرفة بعيدة بائ�سة ي�ستعيد من‬
‫ﻜﺘ‬
‫ً‬
‫�صارخا‪:‬‬ ‫ما�ضيه م�شهد ما‪ ،‬ثم �أجابه‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬بقولك حممد مات قدام عيني‪ ،‬عارف يعني �إيه مات قدام‬
‫عيني؟ عارف يعني �إيه �آخر حاجة يقولهايل تبقى خلي بالك‬
‫ﺸﺮ‬

‫من �إ�سالم وخليه يقرب من ربنا؟ عارف يعني �إيه كان نف�سه‬
‫يكون �أح�سن من كده ب�س ب�سبب تريقتك عليه ف�ضل واقف مكانه‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حلد ما مات؟ طب عارف يعني �إيه مات؟ يعني بيتحا�سب هاه!‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫عارف يعني �إيه بيتحا�سب؟ بجد �أنا م�ش متخيل �إنك ل�سه لك‬
‫عني تيجي حلد هنا بعد كل اللي ح�صل ده! يعني ال �ساعدته‬
‫وهو عاي�ش وال حتى اهتميت �إنك تلحقه قبل ما ميوت!‬
‫لعلها �أوىل املرات التي ُي ّلجم فيها ل�سانه بهذا ال�شكل‪ ،‬اكتفى فقط‬
‫بنظرة خاوية حتت قدميه يحاول فيها �أن يدرك كل ما �سمعه للتو‪ ،‬نظر له‬
‫فاروق بقهر وا�ضح وقال‪:‬‬
‫‪59‬‬
‫‪� -‬أنا عمري ما ه�ساحمك وال هعفيك من امل�سئولية يا �إ�سالم‪ ،‬لأنه‬
‫كان ممكن يبقى �أف�ضل من كده بكتري لوال �إنه عنده �صاحب‬
‫عموما خال�ص‪ ،‬الكالم مبقا�ش له الزمة‪ ،‬املهم دلوقتي‬ ‫زيك‪ً ،‬‬
‫ندعيله لأنه �أكيد حمتاج دعاءنا‪.‬‬
‫�ألقى تلك الكلمات الثقيلة على م�سامعه وغادر‪ ،‬بينما �أخذ �إ�سالم ينظر‬
‫�إىل ذلك ال�صوان فتبني ‪-‬من دون اجلميع‪ -‬والد حممد‪ ،‬والذي جل�س يف‬
‫املقدمة‪� ،‬أخذ ي�س�أل نف�سه‪� :‬أح ًقا مات حممد؟ �أح ًقا لن يراه ثانية بعد‬
‫الآن؟ �ألن يتخرج معه؟ �ألن يبقى بجانبه �إىل الأبد كما وعده؟ �ألن يقف‬

‫ﻋﺼ‬
‫�إىل جواره يوم عر�سه كما اتفق معه؟ �أبالفعل ذهب تو�أمه؟ ولكن كيف‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ذهب بتلك ال�سرعة؟ وكيف �سيعي�ش من دونه بعد الآن؟ وكيف �سيتحمل‬
‫ﻜﺘ‬
‫مرارة الذنب الذي و�ضعه فاروق على عاتقه؟ كيف كل هذا‪ ،‬كيف! �أخذت‬
‫تلك اخلواطر وغريها تدور بر�أ�سه وهو ي�سري باجتاه ذلك املكان املظلم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يف عينيه باهر ال�ضوء يف عيون الآخرين‪� ،‬شعر فج�أة بيد دافئة تلم�س يده‪،‬‬
‫ا�ستفاق من �شروده على وجه والد حممد املنكم�شة مالحمه‪� ،‬س�أله وهو‬
‫ﺸﺮ‬

‫العامل بالإجابة‪:‬‬
‫‪ -‬هو حممد مات ً‬
‫فعل؟‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫احت�ضنه ذلك العجوز ً‬


‫قائل بتمام الر�ضى‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ربك وا�سرتد هديته يا بني‪ ،‬احلمد هلل على كل �شيء‪.‬‬


‫مل يتفوه بحرف‪ ،‬اكتفى ب�إلقاء ج�سده على الكر�سي املجاور لوالد‬
‫حممد وجل�س لبع�ض الوقت‪ ،‬فتارة ينظر حوله بعدم ت�صديق وتارة �أخرى‬
‫يذهب �إىل عامل �آخر‪ ،‬عامل �صنعه هو لنف�سه كي يهرب من تلك احلقيقة‬
‫املريرة‪ ،‬ا�ستمر على تلك احلالة لدقائق �أو رمبا ل�ساعات‪ ،‬حتى وجد من‬
‫ُيربت على كتفه ً‬
‫قائل بابت�سامة هادئة‪:‬‬
‫‪60‬‬
‫‪ -‬بن�ست�أذن ح�ضرتك تطلع ترتاح يا �أ�ستاذ عل�شان هن�شيل‬
‫الكرا�سي‪.‬‬
‫نظر حوله ف�إذا به ال يرى �أحدً ا �سواه‪ ،‬ال يعلم ماذا حدث‪ ،‬و�أين ذهب‬
‫اجلميع دون �أن يلحظهم‪ ،‬قام يف هدوء وا�ستقل الأتوبي�س عائدً ا �إىل منزله‪،‬‬
‫قام بفتح الباب فوجد �أخته ووالدته بانتظاره‪� ،‬س�ألت الأخرية بقلق‪:‬‬
‫‪ -‬كنت فني حلد ن�ص الليل يا بني؟‬
‫‪ -‬كنت يف م�شوار‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أجابها بفتور ثم �سار باجتاه غرفته و�أغلق الباب خلفه بقهر‪ ،‬تبادلت‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫والدته مع هند النظرات التعجبية‪ ،‬فقررت الأخرية الدخول �إىل غرفة‬
‫�أخيها لت�ستف�سر عن �سبب ت�أخره نظ ًرا لأنه غري معتاد على ذلك‪ ،‬فتحت‬
‫ﻜﺘ‬
‫الباب على عجل و�س�ألت باهتمام‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬كنت فني ده كله يا �إ�سالم؟ احنا خوفنا يكون ال قدر اهلل ح�صلك‬
‫وخ�صو�صا �إنك قافل موبايلك‪.‬‬
‫ً‬ ‫حاجة‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ام�شي يا هند‪.‬‬
‫ً‬
‫ﻭ‬

‫حماول الهرب من العامل �أجمع‪،‬‬ ‫قالها وو�ضع غطاء ال�سرير فوق ر�أ�سه‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أزاحت الغطاء عن ر�أ�سه وقالت ب�ضيق‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬أل م�ش هم�شي �إال ملا تقويل �إيه اللي ح�صل وخالك تت�أخر �أوي‬
‫كده‪.‬‬
‫�صارخا وك�أنه �أخ ًريا وجد ً‬
‫منفذا لتلك امل�شاعر‬ ‫ً‬ ‫نه�ض من مكانه و�أجاب‬
‫املكتومة بداخله‪:‬‬
‫‪ -‬عاوزة تعريف ح�صل �إيه؟ هاه؟ �أقولك ح�صل �إيه‪ ،‬حممد‬
‫علي و�أنا‬
‫�صاحبي مات و�أنا كنت ال�سبب يف موته‪ ،‬فاكرة ملا رن َّ‬
‫‪61‬‬
‫معربتو�ش؟ �ساعتها كان بيموت و�أنا �أول واحد ات�صل بيه‪� ،‬أ�صله‬
‫كان فاكرين �صاحب بجد وهلحقه‪.‬‬
‫ات�سعت عينا هند بفزع ال مثيل له‪ ،‬وقبل �أن تنطق بحرف واحد وجدته‬
‫ي�ست�أنف �صراخه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬طيب عارفة �إن باباه �أول ما �شافني �أخدين باحل�ضن جامد؟‬
‫�أ�صله فاكرين زي ابنه وبيقويل �أنت من ريحة الغايل‪ ،‬م�سكني‬
‫الراجل ميعرف�ش �أن ابنه كان ممكن يكون �أح�سن من كده‬
‫بكتري لوال �أنه عنده �صاحب ندل زيي‪ ،‬ميعرف�ش �إن حممد كان‬

‫ﻋﺼ‬
‫دائ ًما بيقويل عاوزين نلحق نقرب من ربنا قبل ما منوت و�أنا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫كنت ب�ضحك عليه و�أقوله يا عم احنا ل�سه قدامنا العمر طويل‪،‬‬
‫خلينا نعي�ش حياتنا �شوية وبعدين نبقى نقرب‪ ،‬مكنت�ش �أعرف‬
‫ﻜﺘ‬
‫�أنه قدامه يوم واحد ب�س وم�شوفهو�ش تاين‪ ،‬مكنت�ش �أعرف �أنه‬
‫ب�سهولة كده هيبد�أ يتحا�سب واهلل �أعلم هو مرتاح دلوقتي وال‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لأ‪.‬‬
‫ظل يلهث ب�شدة وهو يعود بظهره �إىل ظهر �سريره‪� ،‬أغلق عينيه وحاول‬
‫ﺸﺮ‬

‫التقاط �أنفا�سه‪ ،‬ثم ا�ست�أنف ً‬


‫قائل‪:‬‬
‫ﻭ‬

‫‪ -‬عارفة �آخر حاجة قالها �إيه قبل ما ميوت؟ قال خلوا بالكم‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫من �إ�سالم وخلوه يقرب من ربنا عل�شان م�ش عاوزه ميوت زيي‪،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫علي �أكرث ما يو�صي على �أهله؟ دلوقتي‬ ‫عارفة يعني �إيه يو�صي َّ‬
‫ب�س عرفت ليه هو كان دائ ًما بيقويل �إين �أكرت من تو�أمه! اهلل‬
‫علي تاين‪،‬‬
‫يكرمك يا هند اطلعي دلوقتي وم�ش عاوز حد يدخل َّ‬
‫كفاية اللي �أنا فيه‪.‬‬
‫نظرت له هند نظرة مت�أملة ثم غادرت الغرفة‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫‪62‬‬
‫ُقبيل الفجر بقليل‪ ،‬و�أمام تلك النافذة املُغطاة برزاز الأمطار وقف‬
‫ينظر �إىل الال �شيء‪� ،‬أخذت �صور من املا�ضي تن�ساب �أمام عينيه‪� ،‬أخذ‬
‫يتذكر الكثري من املواقف التي تربطه مبحمد‪ ،‬ال يعلم ملاذا يف هذا‬
‫التوقيت بالتحديد تذكر موقف حممد عندما مات والده‪ ،‬كان يرى امل�شهد‬
‫�أمامه وك�أنه حدث بالأم�س‪ ،‬تذكر كيف �شعر باالنك�سار عندما مات والده‬
‫وهو يف مثل هذه ال�سن ال�صغرية‪ ،‬تذكر ات�صاله املفاجئ مبحمد وطلبه‬
‫منه احل�ضور على الفور‪ ،‬تذكر �سرعة تلبية �صديقه للنداء بعك�س ما فعل‬
‫هو عندما احتاجه‪ ،‬تذكر وقفته بجواره وم�ساعدته على ا�ستذكار درو�سه‬

‫ﻋﺼ‬
‫لكي ي�ستطيعا االلتحاق بكلية الهند�سة كما متنيا‪ ،‬تذكر ت�شجعيه الدائم له‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وحثه على حمل م�سئولية ذلك املنزل ال�صغري وم�ساعدته على حتمل تلك‬
‫امل�سئولية حتى ا�ستطاع بف�ضل اهلل االعتياد عليها‪ ،‬تذكر الكلمات التي‬
‫ﻜﺘ‬
‫قالها حممد والتي ما زالت تطرق �أذنيه �إىل الآن‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪� -‬أنت راجل البيت دلوقتي يا �إ�سالم‪ ،‬يال ام�سح دموعك وقوم‬
‫ح�س�س �أمك و�أختك �إن ليهم ظهر و�سند‪ ،‬و�أنا جنبك �أهو‬
‫ﺸﺮ‬

‫وعمري ما ه�سيبك‪ ،‬متخف�ش يا �إ�سالم‪ ،‬متخف�ش!‬


‫�أخذ ي�ضرب النافذة مرات متتالية بغ�ضب كبري‪ ،‬ومع كل �صرخة‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫من يده امل�سكينة كانت هناك �صرخة �أقوى من قلبه املكلوم‪ ،‬وملا �شعر‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بالتعب �أ�سند ر�أ�سه على النافذة و�أغم�ض عينيه و�أخذت دموعه تن�ساب‬
‫ب�صمت‪ ،‬عدة ثواين مرت فقط قبل �أن ي�سمع �أذان الفجر‪ ،‬وكغري العادة‬
‫قرر الذهاب لأداء ال�صالة يف موعدها‪ ،‬قام بفتح باب غرفته وذهب �إىل‬
‫احلمام ليتو�ض�أ وعاد �إىل الغرفة على الفور‪� ،‬أدى �صالته ثم ا�ستلقى على‬
‫ً‬
‫حماول النوم‪.‬‬ ‫الفرا�ش‬
‫�ساعة وربع ال�ساعة مرت وعينه ال يغم�ض لها جفن‪ ،‬فتلك الذكريات‬
‫امل�ؤملة تفرت�س ر�أ�سه امل�سكني طوال الليل حتى كاد �أن ُيجن‪� ،‬سمع �صوتًا‬
‫‪63‬‬
‫ً‬
‫حماول الهرب من ذكرياته ب�أي طريقة‪،‬‬ ‫بخارج الغرفة فنه�ض على الفور‬
‫فتح باب غرفته فوجد والدته تقر أ� يف كتاب اهلل‪ ،‬وما �أن ر�أته حتى هرولت‬
‫باجتاهه‪ ،‬م�سحت على �شعره بحنان وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬البقاء هلل يا �إ�سالم‪ ،‬عامل �إيه دلوقتي يا بني؟‬
‫‪ -‬احلمد هلل يا �أمي‪.‬‬
‫بهدوء �أجاب‪ ،‬فابت�سمت قائلة بحما�س �شديد‪:‬‬
‫‪ -‬عارف كنت بعمل �إيه دلوقتي؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫نظر �إىل امل�صحف املو�ضوع على الطاولة‪ ،‬ثم عاود النظر �إليها وك�أنه‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ي�ستعجب من �س�ؤالها املعلومة �إجابته‪ ،‬ابت�سمت بهدوء و�أجابت‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬قراءة القر�آن يف وقت بعد الفجر ده بتكون حلوة �أوي‪ ،‬بعدها‬
‫ب�إذن اهلل هدعي ملحمد �صاحبك كتري �إن ربنا يرحمه ويجعله‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫من �أهل اجلنة‪.‬‬


‫ولأول مرة منذ ليلة �أم�س ت�ستطيع االبت�سامة �أن ت�شق طريقها عرب‬
‫ﺸﺮ‬

‫�شفتيه البائ�ستني‪ ،‬نظر لوالدته بامتنان �شديد وقال‪:‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ربنا يباركلك يا �أمي‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ً‬
‫مت�سائل‪:‬‬ ‫ثم قال‬
‫‪ -‬هو �أنا ينفع �أعمله حاجة تنفعه دلوقتي بعد ما مات؟‬
‫‪� -‬أيوة طب ًعا يا حبيبي‪ ،‬الر�سول عليه ال�صالة وال�سالم بيقول‪:‬‬
‫«�إذا مات ابن �آدم انقطع عمله �إال من ثالث‪� :‬صدقة جارية �أو علم‬
‫ينتفع به �أو ولد �صالح يدعو له»‪.‬‬
‫ف�سرة‪:‬‬
‫قالتها وهي تربت على كتفه‪ ،‬ثم �أردفت ُم ّ‬
‫‪64‬‬
‫‪ -‬يعني �أنت ممكن تطلع �صدقة عنه‪� ،‬أو لو كان بيقولك �أي‬
‫معلومة مفيدة نفذها وفيد بيها النا�س‪ ،‬وكمان دائ ًما خليك‬
‫فاكره بدعائك‪.‬‬
‫‪� -‬شك ًرا يا �أمي ‪.‬‬
‫قالها ب�صدق تام‪ ،‬ثم دار على �أعقابه لين�صرف‪ ،‬دخل غرفته و�أغلق‬
‫بابها كعادته وجل�س يفكر يف كل كلمة قالتها �أمه‪.‬‬
‫‪zzz‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ال�ساد�سة والن�صف م�سا ًء تقري ًبا‪� ،‬أم�سكت �سلمى هاتفها النقال‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بحما�س �شديد‪ ،‬نظرت �إليه بفرحة كالأطفال‪ ،‬ثم ذهبت و�أغلقت باب‬
‫ﻜﺘ‬
‫غرفتها و�أخذت تردد خلفه‪:‬‬
‫�إح�سا�سك ملا �إيديك بتمد اخلري‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أول ما ت�شوف الفرحة يف عني الغري‬


‫ﺸﺮ‬

‫وك�أنك يف ال�سما طاير فوق �أعلى من الطري‬


‫را�ض وفرحان‪.‬‬ ‫وكفاية يكون ربنا عنك ِ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وحلمنا يف قلبنا‪ ،‬جوانا اخلري يزيد‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫حتى النجوم لو يف ال�سما عمرها ما تكون بعيد‬


‫خليك زي ما ربنا رايدك يالقيك‬
‫لو ت�سعد غريك‪ ،‬يكرب فيه احلب وفيك‬
‫وتكون فوق زي جنوم ال�سما‪� ،‬آه ويعليك‬
‫خلينا نكرب �أجمل �شيء جوا الإن�سان‬
‫‪65‬‬
‫وعلى غري دراية منها ارتفع �صوتها‪ ،‬مما جعل �أختها ال�صغرى ت�أتي‬
‫�إليها مهرولة وت�صيح بها قائلة‪:‬‬
‫‪� -‬إيه يا بنتي ده! �صوتك وا�صل لآخر ال�شارع!‬
‫عادت �سلمى �أخ ًريا �إىل �أر�ض الواقع وانتبهت ملا فعلته للتو‪ ،‬ف�أخف�ضت‬
‫�صوت الهاتف و�صمتت م�ست�شعرة احلرج‪ ،‬نظرت لها والء مت�سائلة عن‬
‫�سبب تلك ال�ضو�ضاء‪ ،‬ف�أجابت �أختها باهتمام‪:‬‬
‫‪� -‬أن�شودة جديدة نزلتها ملن�شد ا�سمه حممد عبا�س كانت حف�صة‬

‫ﻋﺼ‬
‫وخ�صو�صا لأنها بدون مو�سيقى‬
‫ً‬ ‫قالتلي عليه‪ ،‬حبيتها جدً ا‬
‫فم�أخدت�ش بايل �إن �صوتي ِع ِلي‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وك�أنها بكلمتها تلك �ساعدت على ثوران الربكان اخلامد داخل والء‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ازداد �صياح الأخرية وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬تااين هتقوليلي مو�سيقى! ليه يعني هي حرام؟ م�ش كفاية‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قعدتي تقويل الأغاين حرام وبقيتي بت�سمعي �أنا�شيد‪ ،‬دلوقتي‬


‫ﺸﺮ‬

‫كمان بقت الأنا�شيد اللي مبو�سيقى حرام وهتدخلنا النار! �أنا‬


‫بجد م�ش عارفة مني اللي لعب يف عقلك بال�شكل ده!‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ومبحاولة منها للمحافظة على هدوئها قالت‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬يا بنتي �أنا مقولت�ش هتدخلوا النار وال الكالم ده‪ ،‬وكمان م�ش‬
‫�أنا اللي �أقول حرام وال حالل لأين معندي�ش العلم الكايف لده‪،‬‬
‫كل احلكاية �إين �سمعت حديث عن الر�سول �صلى اهلل عليه‬
‫احلر واحلرير‬
‫و�سلم بيقول‪« :‬ليكونن من �أمتي �أقوام ي�ستحلون ِ‬
‫واخلمر واملعازف» فب�صراحة خفت �أكون من النا�س دول‬
‫فقولت �أبطل �أ�سمع مو�سيقى �أح�سن‪ ،‬واحلمد هلل �أنا مرتاحة‬
‫دلوقتي جدً ا ودي �أهم حاجة‪.‬‬
‫‪66‬‬
‫تنهدت والء وقد بدا عليها عدم االقتناع‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫يهديك ويهدينا جمي ًعا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬براحتك يا �سلمى‪ ،‬ربنا‬
‫قالتها وتركت الغرفة وغادرت‪ ،‬ف�ألقت �سلمى هاتفها على الفرا�ش‬
‫وقامت بفتح احلا�سوب اخلا�ص بها لتقم بتنزيل جمموعة �أخرى من‬
‫الأنا�شيد‪ ،‬وما �أن انتهت حتى قامت بفتح ح�سابها على موقع الفي�س بوك‪،‬‬
‫فوجدت ر�سالة �آتية من حف�صة وكان حمتواها‪:‬‬
‫‪� -‬سلمتي! بقالك ثالث �أيام م�ش بتقوليلي �آخر �أخبارك‪ ،‬لعله‬

‫ﻋﺼ‬
‫خري يا حبيبتي‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫ابت�سمت لر�سالتها تلك و�أجابت‪:‬‬
‫‪ -‬خري جدً ا احلمد هلل‪ ،‬كنت ب�س م�ستنية ملا �أعمل �شوية حاجات‬
‫حلوين كده عل�شان �أقولهوملك مرة واحدة‪ ،‬ب�صي يا �ستي‪،‬‬
‫مبدئ ًيا كده امل�سل�سل خل�ص احلمد هلل وب�إذن اهلل م�ش ه�شوف‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫غريه تاين‪ ،‬وكمان حملت �شوية �أنا�شيد للمن�شدين اللي قولتيلي‬


‫ﺸﺮ‬

‫عليهم و�أهي ما�شية بف�ضل اهلل‪.‬‬


‫وحل�سن احلظ كانت حف�صة � ً‬
‫أي�ضا مت�صلة بالإنرتنت يف ذلك الوقت‪،‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫كتبت على الفور ب�سعادة بالغة‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ياااه بقى �أيوة كده‪ ،‬هو ده الكالم وال بال�ش‪� ،‬أنا حا�سة �إين‬
‫ممكن �أدخل اجلنة ب�سببك يا �سلمى‪.‬‬
‫وببالغ التعجب كتبت‪:‬‬
‫‪ -‬ب�سببي �أنا؟ ازاي!‬
‫‪� -‬أ�صل �أنا دائ ًما ببعت جروبات دينية للبنات اللي عندي‬
‫وبن�صحهم وبكتب لهم بو�ستات وكده‪ ،‬لكن مكونت�ش بالقي‬
‫‪67‬‬
‫�أي تفاعل معايا‪� ،‬ساعات كان بيجيلي �إحباط وبقول لنف�سي‬
‫خال�ص �أبطل اللي بعمله ده طاملا مفي�ش حد بيهتم‪ ،‬لكن بعدها‬
‫كنت برجع �أفتكر احلديثني اللي قالهم الر�سول �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم دول‪:‬‬
‫رجل واحدً ا خري لك من حمر النعم» و «من دعا‬ ‫«لأن يهدي اهلل بك ً‬
‫�إىل هدى كان له من الأجر مثل �أجور من تبعه ال ينق�ص ذلك من �أجورهم‬
‫�شي ًئا‪ ،‬ومن دعا �إىل �ضاللة كان عليه من الإثم مثل �آثام من تبعه ال َينق�ص‬
‫َ ْ ْ َ‬
‫ذلك من �آثامهم �شي ًئا»‪ ،‬وكمان كنت دائ ًما بفتكر الآية دي } َومن أحس ُن‬

‫ﻋﺼ‬
‫ال إنَّن م َِن ال ْ ُم ْسلم َ‬
‫َ َ َ َ ً ََ َ‬ ‫َ ْ ً ِّ َّ َ َ َ‬
‫ني{‪ ،‬و�أقعد �أقول‬ ‫ِِ‬ ‫الا وق ِ ِ‬ ‫قول ممن دع إِل الل َِّ وع ِمل ص ِ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫لنف�سي اوعي تي�أ�سي‪ ،‬م�ش ميكن بنت تكون حمتاجة ن�صيحتك وب�سبب‬
‫ﻜﺘ‬
‫كلمة واحدة منك حياتها تتغري‪ ،‬م�ش ميكن ب�سبب الكلمة دي تدخلي‬
‫اجلنة‪ ،‬واحلمد هلل �أخ ًريا لقيتك يا �سلمى وح�سيت �إن بجد اللي بعمله‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫له قيمة‪ ،‬وكل ما ب�شوفك قدامي بتتغريي ده بيخليني طايرة من الفرحة‪،‬‬


‫يــارب يا �سلمى زي ما اجتمعنا يف الدنيا نتجمع �سوا يف الفردو�س الأعلى‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫دمعت عيناها وهي تقر أ� تلك احلروف‪ ،‬ال تعلم ملاذا‪ ،‬ولكن رمبا �شعرت‬
‫ﻭ‬

‫بتلك الطاقة الإيجابية التي تبثها تلك الر�سالة‪ ،‬الطاقة الإيجابية التي‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫تخربها ب�أال ت�ستلم مهما حدث‪ ،‬الطاقة الإيجابية التي تخربها ب�أن تفعل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ال�صواب وفقط دون احلاجة �إىل انتظار النتيجة‪ ،‬فالنتيجة النهائية‬


‫�سرتاها حت ًما عند رب العاملني‪ ،‬الطاقة الإيجابية التي تخربها ب�أنها على‬
‫الطريق احلق‪ ،‬الطريق الذي ال يجب �أن حتيد عنه �أبدً ا‪ ،‬فربغم ابتعاد‬
‫متاما عن حياة �سلمى‪� ،‬إال �أن هناك ً‬
‫خيطا رفي ًعا‬ ‫ما تتحدث عنه حف�صة ً‬
‫خيطا ي�صرخ بكلتيهما‪ :‬ال ت�ست�سلمي‪ ،‬فحتم ًا � ِ‬
‫أنت‬ ‫يربط كل منهما بالآخر‪ً ،‬‬
‫الفائزة يف النهاية‪.‬‬
‫‪68‬‬
‫ا�ستفاقت �سلمى من �شرودها �أخ ًريا وتذكرت �أنها مل ُ ِ‬
‫تب حف�صة‪،‬‬
‫فكتبت ببالغ احلب‪:‬‬
‫أنت جميلة �أوي‪ ،‬وكالمك جه يف وقته املنا�سب‪،‬‬ ‫‪ -‬ياااه يا حف�صة � ِ‬
‫يجازيك خري على كل حاجة حلوة بتعمليها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫حقيقي ربنا‬
‫‪� -‬أنا م�ش بعمل حاجة‪ ،‬جزانا و�إياكم يا غالية‪.‬‬
‫فكرت عدة حلظات ثم كتبت‪:‬‬
‫‪ -‬طيب مبا �إنك �شجعتيني‪ ،‬كنت عاوزة �أ�س�أل على حاجة كده‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ب�صي هو عادة �أنا م�ش ب�صلي الظهر يف الكلية‪ ،‬ب�س ملا بروح‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ب�صليه‪ ،‬هو كده عادي؟‬
‫‪ -‬وم�ش بت�صليه ليه؟‬
‫ﻜﺘ‬
‫بتعجب �س�ألت‪ .‬ف�أجابت �سلمى وقد ا�ست�شعرت احلرج‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬عل�شان م�ش هينفع �أ�صلي بالبنطلونات ال�ضيقة دي‪.‬‬


‫أنت �شايفة �إيه؟‬
‫‪ -‬طيب � ِ‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬يا حف�صة �أنا اللي ب�س�ألك!‬


‫ﻭ‬

‫أنت اللي جتاوبي‪.‬‬


‫م�ستنياك � ِ‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬ب�س �أنا‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬يعني �إيه؟‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬يعني هتب�صي على كالمك اللي فوق ده‪ ،‬وتقوليلي يا ترى ملا‬
‫تروحي عند ربنا هتقدري تقوليله يا رب �أنا كنت ب�ضيع الظهر‬
‫علطول عل�شان الب�سة بنطلون؟ تفتكري دي هتبقى �إجابة‬
‫مقنعة؟‬
‫ابتلعت ريقها ب�صعوبة‪� ،‬شعرت بالندم لكونها و�ضعت نف�سها يف هذا‬
‫امل�أزق‪� ،‬أجابت بحرية‪:‬‬
‫‪69‬‬
‫‪ -‬م�ش عارفة‪.‬‬
‫‪ -‬لأ عارفة!‬
‫كتبتها بعناد‪ ،‬فازداد حرج �سلمى و�س�ألت‪:‬‬
‫‪ -‬طيب �أعمل �إيه؟‬
‫‪ -‬عندك جيبة؟‬
‫‪� -‬آه عندي اتنني م�ش بلب�سهم‪ ،‬ب�س �إيه عالقة ده باملو�ضوع؟‬
‫‪ -‬طيب ممكن عل�شان نر�ضي ربنا ت�سمعي احلل اللي هقولك‬

‫ﻋﺼ‬
‫عليه ده؟ واعتربيه يا �ستي جتربة ملدة �أ�سبوع وبعدين قوليلي‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ر�أيك‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫جميلة تلك احلف�صة‪ ،‬وجميلة كلماتها‪ ،‬فمن غري عادتها �أن ُتعاتب‬
‫�صديقتها �أو توبخها ب�سبب ذنب ما تفعله‪ ،‬بل على العك�س حتاول دائ ًما‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫انتقاء كلماتها قبل �أن تكتبها‪ ،‬حتاول � ً‬


‫أي�ضا �أن جتعل قرار التغيري ينبت‬
‫من داخل �سلمى‪ ،‬و�أال ت�سمح لنف�سها �أن تفر�ضه عليها‪ ،‬فهي تعلم يقي ًنا‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أن القرار النابع من داخل الإن�سان يكن له الت�أثري الأقوى‪ ،‬لذلك فهذا هو‬
‫وخ�صو�صا �سلمى‪ ،‬التي وقفت‬
‫ً‬ ‫الأ�سلوب املُتبع لديها يف ن�صح �أي �شخ�ص‪،‬‬
‫ﻭ‬

‫�أمام جملة حف�صة الأخرية وقد بد�أت تهد�أ ً‬


‫قليل‪ ،‬و�س�ألت بف�ضول‪:‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬حل �إيه؟‬
‫عاوزاك الأ�سبوع اجلاي كله تنزيل من بيتك متو�ضية‪ ،‬وتلب�سي‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫أنت يف‬
‫طقم وا�سع وعليه جيبة من االتنني اللي عندك‪ ،‬هتنزيل و� ِ‬
‫نيتك �إنك تر�ضي ربنا‪ ،‬و�إنك م�ش عاوزة حاجة من الدنيا غري‬
‫أنت نازلة �إنه يثبتك ويحببك يف اللب�س ده‬
‫ر�ضاه عنك‪ ،‬وادعي و� ِ‬
‫ومرتجعي�ش للبنطلونات تاين‪ ،‬ووقت ما ت�سمعي الأذان روحي‬
‫�صلي علطول وبعدين كملي يومك براحتك‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫‪� -‬إيه ده يا بنتي! يعني عاوزاين �أرمي كل اللب�س اللي عندي و�أروح‬
‫اجلامعة يوم ًيا باجليبتني دول ب�س؟‬
‫كتبتها بتعجب �شديد‪ ،‬ف�أجابت حف�صة بهدوء كعادتها‪:‬‬
‫‪ -‬لأ طب ًعا م�ش هرنميهم‪ ،‬ممكن ب�س ننفذ الفكرة دي الأ�سبوع‬
‫اجلاي وبعدين نبقى نفكر فيما بعد ذلك؟‬
‫‪ -‬ما�شي يا �ستي من عينيا‪ ،‬جنرب م�ش هنخ�سر حاجة‪.‬‬
‫فيك ووفقك ملا يحبه‬‫عينيك يا �سلمتي‪ ،‬بارك اهلل ِ‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬ت�سلم‬

‫ﻋﺼ‬
‫وير�ضاه‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫وبالفعل‪ ،‬مع بداية الأ�سبوع اجلديد بد�أت �سلمى يف تنفيذ ما اتفقت‬
‫عليه مع �صديقتها‪ ،‬حيث قامت بارتداء �إحدى التنورتني التي متتلكهما‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أي�ضا تو�ض�أت قبل �أن تهبط من منزلها‪ ،‬و�صلت �إىل اجلامعة وذهبت‬‫و� ً‬
‫م�سرعة �إىل حيث جتل�س كل من هند وفاطمة و�س�ألتهما عن ر�أيهما فيما‬
‫ﺸﺮ‬

‫ترتدي‪ ،‬ف�أجابت هند ب�إعجاب‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫عليك‬
‫‪ -‬حلو الطقم ده يا �سلمى ما �شاء اهلل‪ ،‬مربوك ِ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬حلو يا �سلمى‪ ،‬ب�س اجليبة دي م�ش بت�شنكلك؟‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫قالتها فاطمة �ضاحكة‪ ،‬ف�أجابت �سلمى وقد بادلتها ال�ضحك‪:‬‬


‫‪ -‬لأ م�ش بت�شنكلني احلمد هلل‪ ،‬وعلى فكرة ده م�ش طقم جديد‪،‬‬
‫هو كان عندي من فرتة ب�س مكنت�ش بلب�سه‪.‬‬
‫جل�ست بجوارهما و�أخذت تتبادل معهما �أطراف احلديث حتى �سمعت‬
‫�أذان الظهر‪ ،‬نه�ضت من مكانها وقالت بحما�س‪:‬‬
‫‪71‬‬
‫‪ -‬يا بنات �أنا رايحة �أ�صلي الظهر قبل ما املحا�ضرة تبد�أ‪ ،‬بدل ما‬
‫�أ�ضطر �أ�أجله زي كل يوم‪.‬‬
‫وبالت�أكيد مل تنتظر �أن تقرتح �إحداهما �أن ت�أتي معها لأنها تعرف‬
‫ر�أيهما م�سب ًقا‪ ،‬فقد كانت منذ يوم واحد فقط تفعل مثلهما‪� ،‬سارت باجتاه‬
‫م�سجد الكلية‪ ،‬وما �إن اختفت عن ناظريهما حتى اقرتبت فاطمة من هند‬
‫و�س�ألت بقلق‪:‬‬
‫أنت م�ش حا�سة �إن �سلمى متغرية �شوية اليومني دول؟‬
‫‪ِ �-‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬لأ عادي‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�شعرت فاطمة باالنزعاج من ذلك الرد البارد‪ ،‬ف�أعادت �س�ؤالها‬
‫بطريقة �أخرى ولكن �أكرث حدة‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫أنت م�ش حا�سة �إنها بقت غريبة جدً ا اليومني‬
‫‪ -‬عادي ازاي؟ يعني � ِ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫دول وم�ش قريبة مننا زي الأول؟‬


‫التفتت هند ل�صديقتها و�أجابت بنفاد �صرب‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬أل م�ش غريبة وال حاجة‪ ،‬كل احلكاية �إن البنت حبت تغري من‬
‫ﻭ‬

‫نف�سها �شوية‪ ،‬وكل ما تيجي تكلمنا يف اللي بتفكر فيه بناخد‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫املو�ضوع بهزار وتريقة‪ ،‬حلد ما بقت تعمل اللي هي عاوزاه من‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫غري ما تاخد ر�أينا‪.‬‬


‫�صمتت ً‬
‫قليل‪ ،‬ثم ا�ست�أنفت حديثها بلهجة حازمة‪:‬‬
‫‪ -‬و�سواء كنا موافقني على التغيري ده �أو لأ يا فاطمة‪ ،‬م�ش من‬
‫حقنا �أبدً ا �إننا نتدخل يف حياتها ال�شخ�صية‪ ،‬هي حرة تعمل‬
‫اللي هي عاوزاه طاملا ده هرييحها‪ ،‬ومتقلقي�ش يا �ستي �سلمى‬
‫عمرها ما هتتغري علينا‪.‬‬
‫‪72‬‬
‫‪ -‬مممم جايز!‬
‫بعد عدة دقائق عادت �سلمى من جديد وعلى وجهها ابت�سامة ب�شو�شة‪،‬‬
‫�س�ألتها فاطمة عن �سر كل تلك ال�سعادة‪ ،‬ف�أجابت بنربة جميلة‪:‬‬
‫علي يف وقته‬
‫‪ -‬حا�سة �إين مرتاحة �أوي و�أنا م�صلية الفر�ض اللي َّ‬
‫كده‪ ،‬دلوقتي ب�س هقدر �أكمل يومي يف اجلامعة من غري ت�أنيب‬
‫�ضمري‪.‬‬

‫‪z‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪73‬‬
‫‪-3-‬‬

‫مر �أ�سبوع كامل و�إ�سالم على نف�س احلالة‪ ،‬يجل�س يف تلك البقعة‬
‫املظلمة يف زاوية غرفته ُم�س ًكا بهاتفه‪ ،‬ال يخرج من تلك الو�ضعية الكئيبة‬

‫ﻋﺼ‬
‫�إال ل�شراء م�ستلزمات املنزل ويعود لها من جديد‪ ،‬كان منظره متغ ًريا ب�شكل‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫كبري‪ ،‬حليته نابتة ب�شكل غري مهذب‪� ،‬شاربه على نف�س املنوال‪ ،‬هندامه مل‬
‫ف�ضل االنعزال عن اجلميع بهاتفه‬ ‫يعد ُي�ش ّكل له �أي �أهمية مثل ذي قبل‪ّ ،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫العامر ب�صور املُتو َّفى‪.‬‬
‫كانت والدته ت�شعر بانفطار قلبها على ولدها الوحيد‪ ،‬وعلى تلك‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫احلالة التي تراه عليها‪ ،‬فمنذ موت حممد وهو يجل�س وحده هكذا طوال‬
‫ﺸﺮ‬

‫اليوم وال يتحدث مع �أحد �إال لل�ضرورة الق�صوى‪ ،‬غري �أنه مل يذهب �إىل‬
‫وخ�صو�صا‬
‫ً‬ ‫اجلامعة كل هذه املدة‪ ،‬الأمر الذي جعل قلق والدته يزداد‬
‫ﻭ‬

‫لأن االمتحانات النهائية للف�صل الدرا�سي الأول على و�شك البدء‪ ،‬ورغم‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�صعوبة املوقف لعلمها مبكانة حممد يف قلب ابنها �إال �أنها قررت ا�ستجماع‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�شجاعتها والدخول �إليه للتحدث يف الأمر ‪.‬‬


‫ويف نف�س تلك اللحظة بينما هي غارقة يف ُلة �أفكارها باخلارج كان‬
‫�إ�سالم ي�صارع تلك الأفكار ال�سوداء التي حتاول �أن تهاجمه لتفرت�سه يف‬
‫الداخل‪ ،‬فتُذكره مبا حدث قبل يومني وكان له بالغ الأثر يف ا�ستمرار حزنه‬
‫وي�أ�سه‪ ،‬فعندها كان قد قرر الذهاب �إىل منزل والد حممد ليطمئن على‬
‫�أ�سرته وي�س�أله ما �إذا كانوا يحتاجون �إىل �أي �شيء‪ ،‬فهو الآن يعترب يف‬
‫‪74‬‬
‫مكانة ابنه املتويف‪ ،‬ولكنه عندما و�صل حدث ما مل يكن يتوقعه‪ ،‬حيث‬
‫�شكره والد حممد و�أخربه ب�أن فاروق ي�أتي �إليهم من حني لآخر و ُيح�ضر‬
‫لهم كل ما يحتاجونه‪ ،‬الأمر الذي جعل �إ�سالم ي�شعر بالإحباط ال�شديد‬
‫والندم على ذلك التق�صري يف حق رفيقه وعائلته‪ ،‬مل ينت ِه الأمر على ذلك‬
‫فح�سب‪ ،‬بل �أنه عندما هبط درجات ال�سلم وكاد �أن يخرج من البوابة‬
‫ملح فاروق على ُبعد ِب�ضعة �أمتار‪ ،‬وبحركة تلقائية منه �أخفى ج�سده خلف‬
‫الباب حتى ال يراه ثانية‪ ،‬و�أخذ ي�س�أل نف�سه‪ :‬هل يذهب ويحدثه �أم يرحل‬
‫بهدوء‪ ،‬وب�سرعة هائلة قفزت تلك اجلملة الثقيلة التي قالها فاروق �إىل‬

‫ﻋﺼ‬
‫ر�أ�سه‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪� -‬أنا عمري ما ه�ساحمك وال هعفيك من امل�سئولية يا �إ�سالم‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫فقرر �أن ُيلقي عليه نظرة �أخرية ويغادر على الفور‪ ،‬ولكن من �سوء‬
‫حظه �أن فاروق كان قد ر�آه بالفعل ومل ُي ِعره �أي اهتمام‪ ،‬الأمر الذي جعل‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�إ�سالم يت�صبب عر ًقا‪ ،‬و�أخذ ُي�سرع اخلطى نحو نهاية ال�شارع حتى يختفي‬
‫متاما من �أمامه‪.‬‬
‫ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬افتح يا �إ�سالم يا بني‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫انت�شله النداء امل�سبوق بطرق خفيف على باب حجرته من براثن‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ذكرياته‪ ،‬قام يف هدوء وفتح باب غرفته‪ ،‬فوجد والدته تبت�سم له‪ ،‬قامت‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫باحت�ضانه فت�سللت بع�ض الطم�أنينة �إىل قلبه‪� ،‬أحاطته بذراعها و�سارت به‬
‫باجتاه الفرا�ش وجل�ست معه‪ ،‬قالت مت�سائلة على الفور‪:‬‬
‫‪ -‬هتف�ضل على احلال ده كتري يا �إ�سالم؟‬
‫�أجابها ويف حروفه ُيوم�ض بريق االنك�سار‪:‬‬
‫‪ -‬مكنت�ش �أعرف �إين بحبه �أوي كده يا �أمي‪ ،‬عمري ما تخيلت �إنه‬
‫ممكن يختفي من حياتي فج�أة كده‪ ،‬حممد كان بالن�سبايل كل‬
‫‪75‬‬
‫حاجة‪ ،‬كان الأب والأخ وال�صديق‪ ،‬حا�س�س �إن حياتي فا�ضية‬
‫�أوي من غريه‪ ،‬م�ش عارف ازاي ممكن �أكملها لوحدي!‬
‫وفور �سماعها لتلك الكلمات املغزولة حروفها بن�سيج الآالم حتركت‬
‫دمعة حائرة يف عينيها‪ ،‬وك�أنها قد تذكرت م�شهدً ا قد ًميا ملعت �آثاره على‬
‫قليل و�أجابت ب�شيء من ال�صمود‪:‬‬ ‫عينيها احلزينتني‪ ،‬حاولت التما�سك ً‬
‫‪ -‬لو احلزن يا بني هريجع اللي راح كنت هقولك احزن وعيط‬
‫وك�سر الدنيا كلها‪ ،‬ب�س خال�ص ده قدر ربنا والزم نر�ضى بيه‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫تنهدت ً‬
‫قليل ثم �أردفت‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬فاكر يا �إ�سالم ملا �أبوك مات؟ كنت �أنت وقتها يف تانية ثانوي‬
‫وهند يف تالتة �إعدادي‪� ،‬ساعتها �أنا ح�سيت �إين اتك�سرت مبعنى‬
‫ﻜﺘ‬
‫الكلمة‪ ،‬ح�سيت �إين م�ستحيل �أقدر �أ�شيل م�سئوليتكم لوحدي‪،‬‬
‫ب�س ملا هديت وقعدت �أفكر مع نف�سي لقيت �إن ربنا رحيم‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ومفي�ش حاجة هتح�صلنا غري ملا يكون فيها اخلري لينا‪ ،‬مهما‬
‫كنا �شايفينها �صعبة دلوقتي‪ ،‬اجلنة م�ش �أي حد يدخلها يا‬
‫ﺸﺮ‬

‫�إ�سالم‪ ،‬الزم ن�صرب ونحت�سب ونر�ضى يا بني‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫م�سحت على �شعره وهي تبت�سم بفخر وقالت‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬و�أديك �أهو كربت وبقيت مهند�س قد الدنيا وعرفت �أربيك �أنت‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫و�أختك‪ ،‬احلياة مبتقف�ش على حد يا بني‪ ،‬ولو امليت ده غايل‬


‫عندنا ً‬
‫فعل يبقى نعمل اللي يفيده يف قربه‪ ،‬م�ش نزعل ونعيط‬
‫وخال�ص‪.‬‬
‫�ألقت ذلك احلمل الثقيل الذي كانت حتمله بقلبها طوال الأيام‬
‫املا�ضية ونه�ضت من مكانها يف هدوء‪� ،‬أغلقت الباب خلفها بينما ظلت‬
‫جملتها الأخرية ترتدد على عقل �صغريها‬
‫‪76‬‬
‫«لو امليت ده غايل عندنا ً‬
‫فعل يبقى نعمل اللي يفيده يف قربه‪ ،‬م�ش‬
‫نزعل ونعيط وخال�ص»‬
‫‪zzz‬‬
‫أي�ضا وقد قامت بتنفيذ كل ما اتفقت عليه مع‬ ‫مر الأ�سبوع على �سلمى � ً‬
‫حف�صة‪ ،‬والآن حان موعد تقرير نهاية الأ�سبوع كما �أ�سمته هي م�سب ًقا‪،‬‬
‫قامت بفتح ح�سابها على موقع الفي�س بوك و�أر�سلت ر�سالة حلف�صة‪ ،‬كان‬
‫حمتواها‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬حابة �أقولك ب�س �إين نفذت كل اللي اتفقنا عليه الأ�سبوع اللي‬
‫فات احلمد هلل‪ ،‬كنت بروح باجليبة كل يوم وما فاتتني�ش �أي‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�صالة ظهر بف�ضل اهلل‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫وبكل حفاوة وفرحة كتبت �صديقتها‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بك �أوي يا �سلمى‪ ،‬ربنا يثبتك ويقربك منه‬ ‫‪� -‬أنا حقيقي فخورة ِ‬
‫كمان وكمان‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬عارفة؟ من �شوية جربت �ألب�س الطقم اللي املفرو�ض هروح بيه‬


‫الكلية يوم الأحد �إن �شاء اهلل‪ ،‬ح�سيت �إن املو�ضوع �صعب �أوي يا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حف�صة‪ ،‬ح�سيت �إين م�ش قادرة �أرجع �ألب�س �ضيق تاين‪ ،‬بقيت‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بب�ص على البنطلون اللي مبني كل تفا�صيل رجلي وم�ش متخيلة‬


‫�إن دي �أنا‪ ،‬يعني بعد ما كانت كل حاجة خمتفية دلوقتي خال�ص‬
‫علي كده!‬
‫هخلي كل النا�س تتفرج َّ‬
‫‪� -‬شعور طبيعي جدً ا يا �سلمى‪ ،‬عل�شان طول الفرتة اللي فاتت‬
‫اتعودتي على ال�سرت‪ ،‬دلوقتي بقى ب�إيدك ت�ستفيدي من ال�شعور‬
‫ده‪� ...‬أو تقتليه!‬
‫‪77‬‬
‫�أخذت تقر�أ كلماتها الأخرية عدة مرات‪� ،‬شعرت �أن كل كلمة تخرتق‬
‫قلبها وتزلزل كيانها‪� ،‬أح ًقا ذلك ال�شعور يعترب مبثابة فر�صة ذهبية يجب‬
‫�أن تغتنمها قبل �أن ين�سيها ال�شيطان ذلك الأمر؟ �أم �أن حف�صة تبالغ يف‬
‫التعبري فح�سب! �شعرت ب�أنها بحاجة ما�سة �إىل االختالء بنف�سها والتفكري‬
‫بعمق‪ ،‬فكتبت من�سحبة‪:‬‬
‫‪ -‬بعد �إذنك يا حف�صة‪ ،‬هكلمك تاين بليل ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫‪ -‬رايحة فني يا بنتي؟‬
‫‪ -‬معل�ش �سيبيني دلوقتي‪ ،‬راجعالك تاين �إن �شاء اهلل يف �أقرب‬

‫ﻋﺼ‬
‫وقت‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�أر�سلتها ثم �أغلقت املوقع على الفور‪ ،‬نه�ضت من مكانها وذهبت باجتاه‬
‫ﻜﺘ‬
‫خزانة مالب�سها وقامت بفتحها‪� ،‬أخذت تنظر �إليها مل ًيا ثم قامت ب�إخراج‬
‫�أحد بناطيلها و�أم�سكت به �أمام املر�آة‪ ،‬عدة ثواين مرت دون �أن تدري‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قبل �أن ت�ستفيق من �شرودها وتقرر �أن ُتغلق باب غرفتها وتعيد ارتداء‬
‫ذلك البنطال من جديد‪ ،‬وبالفعل ارتدته فلم تتحمل تلك احلالة التي ر�أت‬
‫ﺸﺮ‬

‫قليل‪ ،‬وحدث معها‬ ‫نف�سها عليها و�سارعت بنزعه وا�ستبداله ب�آخر �أو�سع ً‬
‫ما حدث �ساب ًقا فا�ستبدلته بثالث‪ ،‬وظلت هكذا حتى و�صلت �إىل اخلام�س‪،‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مل تعد ت�شعر بالراحة قط يف تلك البناطيل ال�ضيقة‪� ،‬سارعت بنزعه هو‬
‫الآخر و�ألقت بهم جمي ًعا داخل اخلزانة وارمتت على الفرا�ش وقد ظهر‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫عليها التعب‪.‬‬
‫�ساعة كاملة مرت‪ ،‬اختتمتها �سلمى ب�إم�ساكها بر�أ�سها التي �أمل به الأمل‬
‫من فرط التفكري‪ ،‬ظلت كلمات حف�صة ترتدد على عقلها وتقرع ر�أ�سها‬
‫كقرع الطبول‪ ،‬حاولت �أن تكف عقلها عن التفكري‪ ،‬حاولت �أن ت�شعر بالال‬
‫مباالة التي كانت ت�شعر بها قبل ذلك الأ�سبوع‪ ،‬ولكنها مل ت�ستطع‪ ،‬زفرت‬
‫زفرة قوية انتزعتها من �أعماقها وقالت وهي ت�ستغيث‪:‬‬
‫‪78‬‬
‫‪ -‬يااارب �ساعدين‪ ،‬مبقيت�ش فاهمة حاجة وال عارفة �أعمل حاجة‪،‬‬
‫م�ش متخيلة �إين ممكن �أبطل بنطلونات وم�ش قادرة بردو �أنزل‬
‫بيهم تاين‪ ،‬تعبت بجد‪ ،‬تعبت!‬
‫بعد حلظات �سمعت �أذان املغرب ُيرفع من �أحد امل�ساجد القريبة‪،‬‬
‫حل لتوقف تلك املعركة العنيفة‬ ‫فهبت واقفة وك�أنها �أخ ًريا قد وجدت ً‬
‫الدائرة داخل ر�أ�سها‪ .‬تو�ض�أت‪� ،‬أدت �صالتها وظلت تدعو اهلل كث ًريا �أن‬
‫يعينها على ما هي مقدمة عليه‪ ،‬ثم وقفت �أمام النافذة وظلت عيناها‬
‫ال�س ُحب الراب�ضة هناك يف ذلك الف�ضاء‬ ‫تتابع احلركة البطيئة لتلك ُ‬

‫ﻋﺼ‬
‫الف�سيح‪ ،‬ا�ستن�شقت بع�ض الن�سمات الليلية الهادئة‪ ،‬ثم هم�ست لنف�سها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مت�سائلة‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬بتعملي يف نف�سك كده ليه يا �سلمى؟ فني قوتك؟ فني ال�شيطان‬
‫اللي قررتي �إنك تهزميه؟ ليه متوقعة �إن القرار �صعب �أوي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أنت جربتي تتنازيل عنهم �أ�سبوع كامل‪� ،‬إيه‬


‫كده؟ طيب ما � ِ‬
‫امل�شكلة بقى ملا تتنازيل عنهم علطول!‬
‫ﺸﺮ‬

‫ا�ستدارت ونظرت �إىل خزانتها وقالت بح�سم‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬خال�ص �أنا هطلع كل اللب�س ال�ضيق دلوقتي و�أخليه على جنب‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫و�أ�شوف �إيه اللي باقي‪ ،‬جايز �ألآقي حاجات حلوة ووا�سعة كنت‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫نا�سياها‪.‬‬
‫وبالفعل قامت ب�إخراج تلك البناطيل ال�ضيقة ومعها ب�ضعة قم�صان‬
‫وف�ساتني ق�صرية‪ ،‬و�أخ ًريا القليل من التنانري التي ال تتعدى الركبتني‬
‫ف�ض ًال عن كونها ت�صف ج�سدها �أكرث من الالزم‪ ،‬ثم نظرت �إىل اخلزانة‬
‫وانتابتها حالة ه�ستريية من ال�ضحك وقالت ذاهلة‪:‬‬
‫‪ -‬معقولة! ده الدوالب بقى �أبي�ض! هلب�س �إيه �أنا بقى دلوقتي؟‬
‫‪79‬‬
‫�أغم�ضت عينيها ثم زفرت وهي تقول ب�إ�صرار‪:‬‬
‫‪ -‬بردو م�ش هلب�سكم تاين‪ ،‬م�ستحيل �أفرط يف نعمة ال�سرت اللي‬
‫ح�سيت بيها اليومني اللي فاتوا‪ ،‬م�ش مهم بقى‪ ،‬هحاول �أق�ضيها‬
‫ب�أي حاجة حلد ما �أجيب جديد‪ ،‬وب�إذن اهلل �أنا قدها‪ ،‬ب�إذن‬
‫اهلل‪.‬‬
‫ثم قررت �أن تذهب لتق�ص على حف�صة ما حدث لت�ستمع �إىل كلماتها‬
‫قدمة عليه‪،‬‬
‫التي تريح قلبها دائ ًما وتعطيها احلما�س لت�ستمر على ما هي ُم ِ‬

‫ﻋﺼ‬
‫بعدما قامت برتتيب تلك الثياب ال�ضيقة من جديد وو�ضعتهم يف مكان‬
‫خا�ص بهم‪ ،‬وذلك لأنها قررت االحتفاظ بهم لرتتديهم لزوجها‪ ...‬زوجها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وفقط‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪zzz‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫جال�سا هكذا يف تلك البقعة الظلماء بال حراك حتى بعد ما‬ ‫�أ�سيظل ً‬
‫قالته والدته قبل �ساعات! �أ�ستظل �أيامه متر على هذا النحو من الب�ؤ�س؟‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أهذا الذي �أو�صى به حممد قبل موته؟ �أهذا ما متناه له طيلة حياته؟‬
‫بالطبع ال‪ ،‬ولكن ما ع�ساه �أن يفعل ذلك امل�سكني بعدما قارب على اجلنون‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫من فرط حبه وافتقاده ل�صديقه! ذلك احلب الذي مل يدرك قيمته �إال‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بعدما فقده‪.‬‬
‫ظل ل�ساعات يفكر يف كلمات والدته الأخرية‪ ،‬ومن ثم قرر الذهاب‬
‫بع�ضا من �آالمه‪ ،‬ورغم علمه ب�ضيقه‬‫لفاروق لعله ي�ستطيع �أن ُيزيل عنه ً‬
‫بديل فقرر خو�ض‬ ‫ال�شديد منه يف تلك الأيام بالتحديد‪� ،‬إال �أنه مل يجد له ً‬
‫التجربة وحتمل نتائجها‪ ،‬وبالفعل نه�ض من فرا�شه البائ�س‪ ،‬ب ّدل مالب�سه‬
‫وغادر على الفور متج ًها �إىل منزل فاروق‪ ،‬فور و�صوله وقف �أمام الباب‬
‫وقد بدا عليه التوتر‪� ،‬شيء ما بداخله �أخربه �أن ُيغادر بال رجعة‪� ،‬شيء ما‬
‫‪80‬‬
‫�أخربه �أنه يف الطريق اخلاطئ‪ ،‬ولكنه حاول �أن َين ِف�ض غبار تلك الأفكار‬
‫ال�سوداء عن ر�أ�سه وقرر �إمتام ما �أتى لأجله �إىل النهاية‪ ،‬طرق الباب عدة‬
‫طرقات مرتع�شة‪ ،‬وما �إن �سمع �صوت تلك الأقدام املقرتبة حتى زاد �شعوره‬
‫بالتوتر‪ ،‬خطوات ما بني الثالث واخلم�س خطاها للخلف قبل �أن ُيفتح‬
‫الباب بوا�سطة فاروق‪ ،‬ظل كل منهما ينظر للآخر ب�صمت‪ ،‬حتى قطعه‬
‫خال‬
‫�إ�سالم ب�إلقاء التحية على فاروق‪� ،‬أوم�أ الأخري بر�أ�سه ُمي ًبا بوجه ٍ‬
‫من �أي تعبري‪ ،‬مما جعل هالة من الندم حتيط ب�إ�سالم وتخربه ب�أنه �أخط�أ‬
‫من البداية يف قراره ذاك‪ ،‬ابتلع ريقه وقال بحرج‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬كنت عاوز منك خدمة يا فاروق‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مل يرد‪ ،‬بل �أنه مل يبت�سم حتى‪ ،‬كانت ق�سماته يظهر عليها القليل من‬
‫ﻜﺘ‬
‫العطف‪ ،‬ولكن يبدو �أن ذلك امل�شهد الذي ر�آه قبل �أيام ما زال حمفو ًرا يف‬
‫ذاكرته مان ًعا �إياه من تقبل �إ�سالم ب�أي �شكل من الأ�شكال‪ ،‬عندما مل يجد‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الأخري ردًا قال م�ستطردًا‪:‬‬


‫‪ -‬ممكن ت�ساعدين �أكون زي ما حممد كان عاوز؟ عاوز �أقرب‬
‫ﺸﺮ‬

‫من ربنا و�أعي�ش �صح زي ما كان دائ ًما بيقويل‪ ،‬ب�س م�ش عارف‬
‫�أعمل �إيه و�أبد�أ منني!‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬يا ريت ت�سيبني يف حايل يا �إ�سالم‪� ،‬أنا تعبان وم�ش قادر �أن�سى‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�شكل حممد وهو بيموت قدام عيني‪ ،‬وم�ش قادر �أن�سى �إنك كنت‬
‫ال�سبب الأ�سا�سي يف �إنه ميوت وهو بال�شكل ده ب�سبب �إحباطك‬
‫الدائم له ولت�صرفاته‪.‬‬
‫متاما ليبعد عنه كل‬
‫ورغم �شعوره بق�سوة كلماته �إال �أنه وجدها منا�سبة ً‬
‫ما ُيذ ّكره بذلك امل�شهد الذي لطاملا حاول ن�سيانه ومل ُيفلح‪� .‬شعر �إ�سالم‬
‫�أن ل�سانه قد أُ�جلم بعدما �سمع تلك الكلمات الثقيلة‪ ،‬فقرر �إلقاء جملته‬
‫الأخرية ال�ستعادة ما تبقى من كرامته املهانة واملغادرة على الفور‪:‬‬
‫‪81‬‬
‫‪ -‬ما�شي يا فاروق �أنا هم�شي‪ ،‬ب�س متن�سا�ش �إين جيت يف يوم‬
‫وطلبت منك تاخد ب�إيدي للجنة و�أنت رف�ضت ت�ساعدين‪ ،‬يعني‬
‫�أنت عملت معايا زي ما �أنا عملت مع حممد بالظبط! مع‬
‫ال�سالمة يا �صاحب �صاحبي‪.‬‬
‫ظهر على فاروق بع�ض الت�أثر‪ ،‬فلي�س من عادته �أن يرد من يحتاجه‬
‫خائ ًبا‪ ،‬ولكنه حاول �أال ي�ست�سلم لإح�سا�سه هذه املرة ومل يتف ّوه ب�أي حرف‪،‬‬
‫مما جعل �إ�سالم يهبط درجات ال�سلم وقد �أحاطه الندم من كل اجتاه‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫فور عودته ملنزله دخل غرفته و�أغلق الباب خلفه يف �شيء من العنف‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫املُثقل بالت�أفف‪� ،‬ألقى بج�سده املتعب على فرا�شه وظل يتقلب ومل تغم�ض‬
‫له عني‪ ،‬وكعادة قلوب الأمهات �شعرت والدته مبعاناته رغم تلك احلائط‬
‫ﻜﺘ‬
‫ال�سميكة التي تف�صله عنها فهرعت �إليه‪ ،‬جل�ست على حافة الفرا�ش‬
‫وقالت بعتاب‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬مر�ضيت�ش �أدخل من بدري قولت ميكن تنام‪ ،‬وبعدها نزلت من‬


‫ﺸﺮ‬

‫غري ما تقويل وقلقتني عليك‪ ،‬دلوقتي بقى ممكن تقويل كنت‬


‫فني و�إيه اللي مطري النوم من عينك كده؟‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬كنت‪...‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫فج�أة‪ ،‬توقفت الكلمات يف فيه ال�شاكي‪ ،‬مل يعرف مبا ُيخربها‪� ،‬أ ُيخربها‬
‫باحلقيقة كاملة وتهان كرامته �أمامها هي الأخرى! �أم يحفظ ماء وجهه‬
‫ويحاول الهرب من الإجابة! قرر اختيار اخليار الثاين و�أخربها ب�أنه قام‬
‫بزيارة �أحد �أ�صدقاء حممد‪ .‬مل تقتنع‪ ،‬فلمعة احلزن تلك التي تراها يف‬
‫عينيه ال بد �أن وراءها �شي ًئا ما‪� ،‬شي ًئا �أرادت بقوة �أن تعرفه ولكنها لن‬
‫ت�ضغط عليه �أكرث من ذلك‪ ،‬حاولت تغيري املو�ضوع وقالت مازحة‪:‬‬
‫‪82‬‬
‫قول بقى �صحيح هو �أنت م�ش ناوي تروح‬ ‫‪ -‬ما�شي ما علينا‪ّ ،‬‬
‫اجلامعة؟ وال عجبتك قعدتك معايا كده؟‬
‫‪ -‬م�ش عاوز �أروح يف حتة يا �أمي‪ ،‬عاوزكم ب�س ت�سيبوين يف حايل‬
‫و�أنا هبقى كوي�س‪.‬‬
‫نظرت يف عينيه وقالت بحزم‪:‬‬
‫‪� -‬إ�سالم‪ ،‬فوق لنف�سك! االمتحانات خال�ص كلها ثالثة �أ�سابيع‬
‫وتبد�أ‪ ،‬واخد بالك يعني �إيه ثالثة �أ�سابيع‪ ،‬م�ستقبلك يا بني بعد‬

‫ﻋﺼ‬
‫ما تعبت فيه ال�سنني دي كلها هي�ضيع من �إيدك‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ابت�سم �ساخ ًرا وقال‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬م�ش م�شكلة‪ ،‬ما هو حممد كمان م�ستقبله �ضاع‪.‬‬
‫‪ -‬حممد م�ستقبله م�ضاع�ش وال حاجة‪ ،‬ده ن�صيبه اللي مكتوب‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عند ربنا‪ ،‬املهم �أنت تاخد بالك من م�ستقبلك دلوقتي وتكمل‬


‫احللم اللي حلمتوه �سوا‪ ،‬الزم تكون املهند�س اللي عنده �ضمري‬
‫ﺸﺮ‬

‫وبرياعي ربنا يف �شغله وبيخدم بلده زي ما كنتوا دائ ًما بتتمنوا‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬وحممد بردو كان بيتمنى �إننا نكون �أح�سن من كده‪ ،‬كان بيتمنى‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�إننا نقرب من ربنا ونعي�ش �صح بدل اال�ستهتار اللي كنا فيه ده‪،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ومات قبل ما يلحق يعمل حاجة‪� ،‬أحققله حلمه ده كمان ازاي‬


‫بقى!‬
‫متاما ب�شكل �أفزع والدته‪ ،‬ولكنها �أجابت ب�شيء من‬
‫قالها وقد انهار ً‬
‫الثبات املُ�صطنع‪:‬‬
‫‪ -‬حتققله حلمه ب�إنك تكون �إن�سان بيتقي ربنا‪ ،‬تعمل بن�صايحه‬
‫اللي كان دائ ًما بيقولهالك لعل الثواب يو�صله‪ ،‬تدعيله‪ ،‬تطلع‬
‫‪83‬‬
‫�صدقة عنه‪ ،‬دي �أكرث حاجة ممكن تفيده دلوقتي‪� ،‬إمنا حزنك‬
‫وتفريطك يف م�ستقبلك ده م�ش هيفيده ب�أي حاجة‪.‬‬
‫َ�ص َمت‪ ،‬مل يجد ما يقوله‪ ،‬فاقرتبت منه والدته �أكرث وقالت ويف �صوتها‬
‫�شيء من الرتجي‪:‬‬
‫‪� -‬إ�سالم يا بني‪ ،‬ا�سمع كالمي‪ ،‬روح كليتك بكره وتابع درا�ستك‬
‫وامتحاناتك ومت�ضيع�ش ال�سنة ون�ص اللي فا�ضلينلك خلينا‬
‫نرتاح بقى‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫نظر �إليها وقد �أ�شفق عليها ثم قال م�ست�سل ًما‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أنت عايزاه كله‪ ،‬حا�ضر‪.‬‬
‫‪ -‬حا�ضر يا �أمي‪ ،‬هعمل اللي � ِ‬
‫وبالفعل قرر موا�صلة درا�سته لري�ضي والدته لي�س �إال‪ ،‬فهي يف ر�أيه لي�س‬
‫ﻜﺘ‬
‫لها �أي ذنب يف كل ما حدث‪� ،‬أخذ يتحرك كالآلة‪ ،‬يذهب ويعود‪ ،‬يح�ضر‬
‫هذه املحا�ضرة وتلك‪ ،‬ولكن بال روح‪ ،‬فروحه ‪ -‬يف ر�أيه‪ -‬قد غادرت مع‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ذلك الراحل‪ ،‬ظل هكذا حتى بد�أت فرتة االمتحانات‪ ،‬والتي فيها كان‬
‫ﺸﺮ‬

‫يحاول الرتكيز قدر امل�ستطاع ليحقق فقط ما متناه �أحبا�ؤه‪ ،‬وعندما انتهى‬
‫بد�أ يعود من جديد حلالته ال�سابقة‪ ،‬جتدد اجلرح بقلبه‪ ،‬لي�س بقوة حدوثه‬
‫ﻭ‬

‫حينها بالت�أكيد ولكن ندبته الباقية �آملته‪ ،‬و�شعو ًرا قو ًيا باملرارة ظل يالحقه‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ومل ي�ستطع التغلب عليه حتى بعد مرور �أكرث من �شهر ون�صف ال�شهر على‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وفاة �صديقه‪ ،‬ولكن ما ع�ساه �أن يفعل؟ �سيظل يحاول‪ ،‬فقط يحاول لعله‬
‫ينجح يف النهاية‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫وها هي الآن تقف �أمام حا�سوبها ولأول مرة بعد انتهاء االمتحانات‪،‬‬
‫تقف وقد ملأها احلما�س ملوا�صلة طريقها نحو اجلنة‪� ،‬أر�سلت ر�سالة‬
‫حلف�صة تخربها فيها ب�أنها على �أمت ا�ستعداد لأخذ اخلطوة القادمة يف‬
‫‪84‬‬
‫التغيري‪ ،‬و�أنها �ستحاول بكل طاقتها �أن ت�ستغل تلك الإجازة يف كل ما يفيد‪،‬‬
‫مرت �ساعة تتبعها الأخرى ولكن ال جميب‪ ،‬تعجبت فقامت ب�إر�سال ر�سالة‬
‫أي�ضا مل تر �أي رد‪ ،‬مر يومان كامالن وهي تنتظر‪،‬‬ ‫ثانية وثالثة ولكنها � ً‬
‫حتى �أنها �أ�صبحت ال ُتغلق حا�سوبها على �أمل منها يف ا�ستالم �أي �شيء‬
‫يطمئنها على �صديقتها‪ ،‬وبالفعل‪ ،‬يف �ساعة ما ا�ستلمت ر�سالة من حف�صة‬
‫تخربها فيها ب�أنها موجودة الآن‪ ،‬جل�ست �أمام حا�سوبها وقلبها ينب�ض‬
‫ب�شدة‪ ،‬وكتبت بتوتر ظهر جل ًيا يف حروفها املبعرثة‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫عليك �أوي!‬
‫كنت فني يا بنتي؟ قلقتيني ِ‬ ‫‪ِ -‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬معل�ش يا �سلمتي‪� ،‬أ�صل كتب كتابي كان امبارح‪ ،‬م�ش هتباركيلي‬
‫وال �إيه؟‬
‫ﻜﺘ‬
‫حال �إىل حال‪ ،‬ما بني الفرح والتعجب‬
‫ويف حلظة واحدة تبدل حالها من ٍ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫والده�شة والبهجة‪ ،‬كتبت‪:‬‬


‫أنت بتتكلمي بجد يا حف�صة؟‬ ‫‪ -‬كتب كتاب مني؟ � ِ‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬كتب كتابي كان امبارح‪ ،‬وفرحي بعد �أربعة �أيام‪ ،‬ومت�س�أليني�ش‬


‫ازاي لأين �أنا نف�سي معرف�ش!‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬طيب حلظة ب�س كده �أ�ستوعب الكالم وبعدين �أباركلك حا�ضر‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫كتبتها وقد اقرتب حاجبها الأمين بالأي�سر يعك�سان ده�شتها‪� ،‬ضحكت‬


‫ف�سرة‪:‬‬
‫حف�صة من رد فعل �صديقتها وكتبت ُم ّ‬
‫‪ -‬م�ش عارفة �أنا قولتلك املعلومات دي قبل كده وال جمات�ش‬
‫عموما يعني‪� ،‬إيهاب خطيبي م�سافر واملفرو�ض‬ ‫فر�صة‪ ،‬ب�س ً‬
‫كان هينزل �إجازة على �آخر ال�سنة عل�شان نعمل الفرح‪ ،‬دلوقتي‬
‫ح�صلتله ظروف مفاجئة وقررنا نقدم الفرح وب�إذن اهلل ه�سافر‬
‫‪85‬‬
‫عاوزاك تدعيلي جامد لأين خايفة �شوية وم�ش‬
‫ِ‬ ‫معاه علطول‪،‬‬
‫م�ستوعبة �إين خال�ص هتجوز بعد كام يوم‪.‬‬
‫بد�أت �سلمى ت�ستوعب املوقف‪ ،‬بد�أت تت�سللها بع�ض من امل�شاعر الدافئة‬
‫الراقية واملبهجة‪� ،‬شعرت للحظة �أن فرحتها تفوق فرحة العرو�س نف�سها‪،‬‬
‫كتبت ببالغ احلما�س‪:‬‬
‫‪� -‬أنا مب�سوطة �أووي يا حف�صة‪� ،‬أختي بتتجوز يا نا�س‪ ،‬ده �إيه‬
‫لك لأنك‬‫الفرحة دي! ربنا ي�سعدك يا حف�صة ويجعله خري زوج ِ‬
‫�أ�ص ًال ت�ستاهلي كل خري‪ ،‬وبدعيلك طب ًعا من غري ما تقويل‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫وب�إذن اهلل ربنا هرييح قلبك وكل قلقك ده هريوح وهيفرح‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قلبك بحاللك يا عرو�سة‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫أنت‪،‬‬
‫‪ -‬يا رب يا �أحلى �أخت‪ ،‬املهم بقى‪ ،‬عاوزين نتكلم عنك � ِ‬
‫قوليلي قررتي تعملي �إيه يف الإجازة؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ل�سه م�ش عارفة‪ ،‬ب�س عادي هبقى �أكلمك بعد الفرح ب�شوية‬
‫ب�إذن اهلل ونتفق‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫متنت �أال تك�سر فرحتها‪ ،‬ولكنها �أدركت �أنه ال مفر من �إخبارها‪ ،‬فكتبت‬
‫ﻭ‬

‫بحروف بائ�سة‪:‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫معاك و�أنا هناك زي‬


‫‪� -‬سلمى‪� ،‬أنا ممكن معرف�ش �أتوا�صل ِ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫دلوقتي‪.‬‬
‫‪ -‬م�ش هينفع تتوا�صلي معايا؟ طيب ليه؟!‬
‫ببالغ اخلوف والتعجب كتبتها‪ ،‬ف�أجابت حف�صة‪:‬‬
‫‪� -‬إيهاب ظروفه ملخبطة �شوية لأنه ل�سه بيحط رجليه على �أول‬
‫الطريق‪ ،‬فغال ًبا كده هن�شتغل ليل ونهار حلد ما نقف على‬
‫رجلينا و�ساعتها م�ش هقدر �أدخل نت زي الأول‪� ،‬أنا مكونت�ش‬
‫‪86‬‬
‫علي �أكرث ملا تالقيني اختفيت‬
‫ناوية �أقولك‪ ،‬ب�س خوفت تقلقي َّ‬
‫عليك متزعلي�ش‪.‬‬
‫فج�أة فقررت �أعرفك كل حاجة وباهلل ِ‬
‫مل ترد‪ ،‬اكتفت بنظرة خاوية حتت قدميها‪� ،‬أتبعتها بكفيها تعبثان‬
‫بعينيها الالمعتني‪� ،‬شعرت حف�صة مبا قد ت�شعر به �صديقتها من �آالم‪،‬‬
‫فكتبت م�شجعة �إياها‪:‬‬
‫‪� -‬سلمى! ممكن ت�سمعيني؟‬
‫كنت ال�سبب يف كل‬
‫أنت ِ‬ ‫‪ -‬يا حف�صة �أنا بجد بحبك �أوي‪ ،‬و� ِ‬

‫ﻋﺼ‬
‫اخلطوات اللي �أخدتها دي‪ ،‬حقيقي م�ش هعرف �أعمل �أي‬
‫حاجة من غريك!‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عاوزاك تركزي يف الكلمتني اللي هقولهوملك دول وحتطيهم‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫حلقة يف ودنك‪ :‬اللي معاه القر�آن والدعاء يا �سلمى م�ش هيكون‬
‫حمتاج لأي �إن�سان‪ ،‬هما دول �سالحك اللي هتقوي بيهم نف�سك!‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مل ترد‪ ،‬ولكنها هذه املرة كانت حتاول ا�ستيعاب ما قد ُكتب‪ ،‬فتلك‬
‫الكلمات �شعرت �أنها مهمة‪ ،‬وا�ستثنائية‪ ،‬ا�ست�أنفت حف�صة كالمها وكتبت‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫بك الفرتة ال�صغرية اللي فاتت دي لقيتك‬ ‫‪ -‬من خالل معرفتي ِ‬


‫ﻭ‬

‫�إن�سانة ‪-‬ب�سم اهلل ما �شاء اهلل‪ -‬قوية وقادرة على نف�سك‪ ،‬كل‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫كنت حمتاجاه �إنك تالقي حد ي�شجعك ويحط رجلك على‬ ‫اللي ِ‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أول الطريق‪ ،‬وقد كان‪ ،‬دلوقتي حف�صة هرتوح‪ ،‬لكن �سلمى‬


‫هتف�ضل موجودة والزم تكمل طريقها ومتوقفو�ش على �شخ�ص‬
‫معني‪ ،‬ابدئي اقرئي يف اجلروب من جديد وحددي خطواتك‬
‫بنف�سك‪ ،‬ملا حت�سي �إنك تعبتي وم�ش قادرة تكملي طريقك‬
‫معاك القر�آن والدعاء‪ ،‬افتحي م�صحفك‬ ‫ا�ستخدمي �سالحك‪ِ ،‬‬
‫أنت بتقويل لربنا يا رب ابعتلي ر�سالة‪ ،‬اتعودي دائ ًما تقويل‬
‫و� ِ‬
‫‪87‬‬
‫جواك يف �سجودك واف�ضلي اتكلمي حلد ما ترتاحي‪،‬‬ ‫كل اللي ِ‬
‫أرجوك يا �سلمى‬
‫ويقويك‪ِ � ،‬‬
‫ِ‬ ‫ما تن�سي�ش تدعي كتري ربنا يثبتك‬
‫اوعي ت�سمحي لل�شيطان �إنه يهزمك‪� ،‬أو ت�سمعي كلمتني بايخني‬
‫معاك القر�آن والدعاء يا‬
‫من �أي حد فتتنازيل عن هدفك‪ِ ،‬‬
‫معاك �سالحك يا �سلمى اوعي تتخلي عنه!‬
‫�سلمى فاهماين؟ ِ‬
‫مل ت�ستطع �أن متنع عرباتها من الت�سرب‪ ،‬وذلك لأنها مل تتوقع �أن‬
‫تختفي حف�صة من حياتها بهذه ال�سرعة‪� ،‬شعرت ب�أنها زرعت بقلبها‬

‫ﻋﺼ‬
‫زهرة بي�ضاء و�أح�ضرت لها املاء ثم رحلت‪ ،‬رحلت تارك ًة �إياها لتعتني بهذه‬
‫الزهرة وحدها وترويها وحدها حتى تراها تزدهر وتت�سع �أمام عينيها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫لت�صبح حديقة نقية ذات جمال خالب‪� ،‬شعرت �أن اهلل �أر�سل �إليها حف�صة‬
‫ﻜﺘ‬
‫لتقوم بدو ٍر ما يف حياتها‪ ،‬و�سرعان ما انتهى هذا الدور بعدما و�ضعت‬
‫أح�ست للحظة �أنها قد ا�ستوعبت احلكمة من‬ ‫قدميها على �أول الطريق‪ّ � ،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كل ذلك‪ ،‬فكتبت بتمام القبول‪:‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬حا�ضر يا حف�صة هحاول‪ ،‬هتوح�شيني‪.‬‬


‫أنت كمان يا �صغننة‪ ،‬ممكن بقى تبقي تبعتيلي كل خطواتك‬ ‫‪ -‬و� ِ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫كنت بتعملي؟ عاوزة يوم ما �أفتح الفي�س تاين �أفتخر‬ ‫زي ما ِ‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ب�أختي وبخطواتها اجلديدة‪.‬‬


‫أنت م�ش موجودة‬
‫‪ -‬كنت هعمل كده من غري ما تقويل‪ ،‬لأن حتى لو � ِ‬
‫فروحك دائ ًما هتف�ضل معايا‪ ،‬يال روحي �شويف جتهيزاتك يا‬
‫عرو�سة لأين �أكيد عطلتك كتري‪.‬‬
‫‪ -‬بحبك يف اهلل بجد يا �سلمى‪ ،‬يال �أ�ستودعك اهلل الذي ال ت�ضيع‬
‫ودائعه‪.‬‬
‫‪88‬‬
‫كتبتها ورحلت‪ ،‬رحلت وال �أحد يعلم متى �ستعود‪� ،‬أغدً ا؟ �أبعد غد؟ �أم‬
‫بعد �شهر؟ �أو رمبا بعد �سنة‪ ،‬ورمبا �أكرث من ذلك‪ ،‬ال ب�أ�س‪ ،‬ف�سلمى تلك‬
‫العنيدة �ستوا�صل طريقها مهما كانت الظروف والعواقب‪ ،‬فتاة مثلها‬
‫قررت العودة لطريق اهلل لن ت�ست�سلم للظروف بتلك الب�ساطة‪ ،‬حت ًما هي‬
‫معك‬
‫�أقوى من ذلك‪ ،‬انه�ضي يا �سلمى‪ ،‬انه�ضي وتابعي طريقك‪ ،‬فاهلل ِ‬
‫كنت‪.‬‬
‫�أينما ِ‬
‫‪zzz‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫جاعل من �ساعده الأمين و�سادة نومه‪ ،‬ويغطي‬ ‫على حاله راقدً ا بفرا�شه ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عينيه ب�ساعده الأي�سر‪ ،‬متر �أمام عينيه بع�ض الذكريات‪ ،‬تلك الذكريات‬
‫التي تتلذذ ب�إيالمه وتتفنن يف كيفية الظهور ب�أ�سو�أ الطرق‪ ،‬وك�أنها تت�صارع‬
‫ﻜﺘ‬
‫مع بع�ضها البع�ض يف �أي منها �ستفوز بلقب قاهرة القلوب‪ ،‬بينما والدته‬
‫‪-‬تلك امل�سكينة‪ -‬جتل�س باخلارج وقد بلغ منها الأمل مبلغه‪ ،‬وذلك لأنها مل‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تره على هذه احلالة منذ مات والده قبل عدة �سنوات‪� ،‬شعرت �أن حزنه‬
‫على حممد �أ�شبه بحزنه على والده حني وفاته‪ ،‬ولكن حينها كان وجود‬
‫ﺸﺮ‬

‫حممد يف حياته له بالغ الأثر يف تقبله لوفاة والده واجتيازه لتلك املرحلة‬
‫ﻭ‬

‫ال�صعبة من حياته‪ ،‬ولكن الآن من ذا الذي �سي�ساعده على تقبل اختفاء‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أعز �صديق لقلبه من حياته بهذا ال�شكل؟ من ي�ستطيع �أن يزيل عن قلبه‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫تلك املرارة وذلك ال�شعور القوي بالذنب جتاه من رحل؟ من قادر على �أن‬
‫يوما‪،‬‬
‫يعود به لإ�سالم ال�سابق؟ ذلك ال�شاب الذي مل تفارق ال�ضحكة وجهه ً‬
‫حتى يف �أ�صعب حلظاته كان يجد من ُيخرجها من قلبه عمدً ا‪ ،‬بعد تفكري‬
‫قررت �أن حتاول معه مرة �أخرى‪ ،‬لعلها ت�ستطيع �أن تفوز ولو بالقليل من‬
‫�إ�سالم ال�سابق‪ ،‬طرقت الباب بخفة وفتحته وهي تلقي التحية على ذلك‬
‫امليت احلي‪� ،‬أجابها بابت�سامة خفيفة طفت على �سطح �شفتيه يف تكا�سل‪،‬‬
‫يف حماولة منها جلذب انتباهه �س�ألت‪:‬‬
‫‪89‬‬
‫‪ -‬وحممد عامل �إيه دلوقتي؟‬
‫مل ت�شعر بالرع�شة التي �سرت بج�سده بعدما ذكرت تلك احلروف‬
‫الأربع‪ ،‬نظر لها وهو يحاول �أال ي�سمح لدموعه �أن تطفو من مقلتيه �أمامها‪،‬‬
‫مل ُيجب‪ ،‬ولكن عينيه نطقت بتلك الده�شة التي ملأته ب�سبب ذلك ال�س�ؤال‬
‫ف�سرة‪:‬‬
‫الغريب‪� ،‬شعرت �أنها جنحت فيما خططت له‪ ،‬فقالت ُم ّ‬
‫‪ -‬تفتكر هو مرتاح دلوقتي يا �إ�سالم؟ م�ش ميكن يكون حمتاج‬
‫حد يدعيله يا بني؟ م�ش ميكن يكون حمتاج ثواب يو�صله ب�أي‬

‫ﻋﺼ‬
‫طريقة؟ حاول تغري من نف�سك يا �إ�سالم لعل تغيريك ده يفيده‬
‫ب�أي حاجة‪ ،‬حاول تنفع نف�سك وتنفع �صاحبك يا بني‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬م�ش عارف �أبد�أ منني يا �أمي وم�ش القي حد ي�ساعدين‪� ،‬أنا ً‬
‫فعل‬
‫ﻜﺘ‬
‫ندمان �إين م�سمعت�ش كالمه من الأول‪ ،‬م�ش متخيل �إين كنت‬
‫ممكن �أموت و�أنا على احلالة دي‪ ،‬طيب ولو ُمت‪ ،‬هقول لربنا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�إيه؟ حقيقي مبقيت�ش عارف �أت�صرف ازاي!‬


‫ﺸﺮ‬

‫وك�أنه قد �أراد فقط البوح مبا ُي�ض ّيق براح �صدره �إىل تلك ال�سيدة ذات‬
‫احل�ضن الدافئ‪ ،‬ع ّلها ت�ساعده على التخل�ص من تلك امل�شاعر اخلانقة‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫التي ي�شعر بها‪� ،‬ألقى كلماته و�سكت مرة �أخرى‪ ،‬فهم�ست والدته وهي‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫تنظر �إليه بعينني تفي�ضان حن ًوا وح ًبا‪:‬‬


‫‪ -‬ميكن كانت غلطتي �إين حماولت�ش �أغر�س فيكم الدين من‬
‫�صغركم‪ ،‬وكان كل همي تبقوا متفوقني ومب�سوطني و�أفتخر بيكم‬
‫قدام النا�س‪ ،‬ب�س ملا �شوفت موت حممد املفاجئ خوفت تروح‬
‫مني وربنا ميكون�ش را�ضي عنك فقولت الزم �آجي و�أكلمك‪.‬‬
‫ا�ست�أنفت كالمها وهي تربت على كتفه وتنظر يف عينيه الالمعتني‪:‬‬
‫‪90‬‬
‫‪ -‬دور على ال�صحبة ال�صاحلة اللي تعينك يا �إ�سالم‪ ،‬حاول تق�ضي‬
‫الباقي من عمرك �صح يا بني‪ ،‬بال�ش تكرر غلطتي عل�شان متكت�شف�ش‬
‫فج�أة �إن عمرك كله �ضاع من غري ما تكون عملت �أي حاجة لآخرتك‪.‬‬
‫ولأول مرة منذ زمن تت�سع ابت�سامته �إىل هذا احلد‪ ،‬نظر لوالدته وقد‬
‫هام�سا‪:‬‬
‫ت�سللت الراحة �إىل كامل ج�سده‪ ،‬وقال ً‬
‫‪� -‬أول مرة �أ�شوفك بتتكلمي كده يا �أمي‪.‬‬
‫ابت�سمت وظلت تنظر �إليه وهي �صامتة‪ ،‬ف�س�ألها‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬طيب �أالقي فني ال�صحبة ال�صاحلة دي؟ جايز ملا �أبد�أ �أحقق‬
‫و�صية حممد و�أغري من نف�سي �أح�س �إين ارحتت �شوية‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬تقري ًبا كنت قولت قبل كده �إن حممد عنده واحد �صاحبه‬
‫ﻜﺘ‬
‫متدين كده‪ ،‬ما ت�شوفه ميكن ياخد ب�إيدك ويكون هو ال�صاحب‬
‫ال�صالح اللي بتدور عليه‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ومن جديد تذكر كل ما حدث من فاروق يف الفرتة املا�ضية‪ ،‬تذكر �أول‬


‫احل ّدة التي �صاحبت عباراته حينها‪،‬‬‫يوم ر�آه فيه بعد وفاة حممد وتلك ِ‬
‫ﺸﺮ‬

‫تذكر كلماته وقتما و�صف له ليلة وفاة حممد وبعدها �ألقى على عاتقه‬
‫ﻭ‬

‫م�سئولية ما حدث‪ ،‬تذكر زيارته املفاجئة له وطلبه الذي قوبل بالرف�ض‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وعدم االهتمام من ِقبل فاروق‪ ،‬الأمر الذي جعله ي�شعر �أن كرامته قد‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫دُه�ست يف الرتاب‪ ،‬عاد من �شروده على �صوت والدته املنادية‪ ،‬ف�أجاب‬


‫بنفور‪:‬‬
‫‪ -‬لأ م�ش هينفع ده‪� ،‬شويف حل تاين‪.‬‬
‫�شعرت �أن ثمة �شيء م�ؤمل يدور بداخله‪ ،‬مل ت�س�أله كعادتها و�أخذت‬
‫تفكر يف ذلك احلل الآخر‪ ،‬قليل من الدقائق مرت قبل �أن ت�صيح فج�أة‬
‫قائلة بحما�س‪:‬‬
‫‪91‬‬
‫‪� -‬أنا ازاي جما�ش يف بايل املو�ضوع ده قبل كده!‬
‫ال�شباب ال�صاحلني يا بني هتالقيهم �أكيد مواظبني على ال�صالة يف‬
‫اجلامع‪ ،‬حاول �أنت كمان ت�صلي اخلم�س فرو�ض يف اجلامع وب�إذن اهلل‬
‫هتالقي ال�صحبة ال�صاحلة هناك‪.‬‬
‫�أعجبته الفكرة فابت�سم و�أوم�أ بر�أ�سه �إيجا ًبا مقر ًرا جعلها اخلطوة‬
‫الأوىل من خطوات التغيري‪ ،‬داع ًيا اهلل �أن تنجح تلك اخلطوة‪ ،‬فقط من‬
‫�أجل تنفيذ و�صية �صديقه!‬
‫‪zzz‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�صباح اجلمعة الأوىل من �إجازة ن�صف العام جل�ست �سلمى �أمام‬
‫ﻜﺘ‬
‫�شرفتها امل�شم�سة وظلت تنظر �إىل ال�سماء وهي ُت َّذ ّكر نف�سها ب�أنه تبقى‬
‫يوم واحد فقط على حفل زفاف حف�صة‪ ،‬متنت لو �أنها ت�ستطيع الذهاب‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫متنت �أن تراها وج ًها لوجه وتقا�سمها فرحة ذلك اليوم ولكن ُبعد امل�سافة‬
‫حال بينها وبني �أمنيتها‪� ،‬أخذت تتذكر كلمات حف�صة الأخرية والتي ال‬
‫ﺸﺮ‬

‫تعلم متى �ستتلقى غريها‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫«اللي معاه القر�آن والدعاء يا �سلمى م�ش هيكون حمتاج لأي �إن�سان‪،‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫هم دول �سالحك اللي هتقوي بيهم نف�سك»‬ ‫َ‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ال�س ُحب املتكومة هناك يف‬


‫رددت هام�سة وهي ال زالت تنظر �إىل تلك ُ‬
‫ذلك الف�ضاء الف�سيح‪:‬‬
‫‪ -‬حا�ضر يا حف�صة‪ ،‬ه�ستخدم �سالحي دائ ًما وم�ش هتنازل عن‬
‫هديف ب�إذن اهلل مهما ح�صل‪.‬‬
‫بتحد‪:‬‬
‫ثم نظرت للمر�آة املجاورة لها وابت�سمت وهي تقول ِ‬
‫‪92‬‬
‫عليك الدور �إنك حتددي‬
‫‪ -‬ودلوقتي بقى يا �ست �سلمى جه ِ‬
‫خطوتك القادمة بنف�سك‪ ،‬يال وريني قوتك ومواجهتك للنا�س‬
‫وانتقاداتهم لوحدك‪.‬‬
‫بد�أت ت�سرتجع �أيامها املا�ضية منذ تعرفت على حف�صة وتعدد على‬
‫�أ�صابعها ال�صغرية ما �أجنزته قائلة بحما�س‪:‬‬
‫‪ -‬وبكده �أكون بطلت م�سل�سالت و�أفالم‪ ،‬بدلت الأغاين وخليتها‬
‫�أنا�شيد‪ ،‬بطلت �أكلم �شباب �إال لل�ضرورة‪ ،‬واظبت على ال�صالة‬

‫ﻋﺼ‬
‫يف البيت وبرا البيت‪ ،‬بطلت �أن�شر �صور بنات على النت‪ ،‬و�أخ ًريا‬
‫بطلت البنطلونات واللب�س ال�ضيق‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يف تلك اللحظة نادت عليها والدتها لتطلب منها م�ساعدتها يف حت�ضري‬
‫ﻜﺘ‬
‫ما �سيقدمونه لل�ضيوف القادمني بعد �صالة اجلمعة مبا�شرة‪ ،‬حيث كان‬
‫من املعتاد �أن ي�أتي جميع �أفراد عائلة والدها عندهم كل جمعة باعتبار‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أنه �أكرب �أخوته‪ ،‬وجدتها �سلمى فر�صة ذهبية لتنفيذ اخلطوة التي لطاملا‬
‫�أجلتها قبل ذلك عدة مرات‪ ،‬وبالفعل ذهبت �إىل املطبخ لت�ساعد والدتها‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫وما �أن �سمعت �أول طرقة على باب منزلها حتى هرعت �إىل غرفتها و�أغلقت‬
‫الباب خلفها‪ ،‬بد�أت يف ارتداء مالب�سها ومن ثم حجابها‪ ،‬انتهت و�ألقت‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫نظرة �أخرية على هندامها قبل الرحيل ف�شعرت �أن حجابها يبدو ق�ص ًريا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫لدرجة �أنه يربز ً‬


‫بع�ضا من مفاتنها‪ ،‬فنزعته وقامت با�ستبداله ب�آخر �أطول‬
‫منه وقامت بتجربته على وجهها ومن ثم �صاحت بفرحة كالأطفال‪:‬‬
‫‪ -‬اللــه‪ ،‬و�آدي كمان خطوة جديدة مكنت�ش عاملة لها ح�ساب‪ ،‬من‬
‫النهارده هلب�س ُط َرح طويلة وب�س‪ ،‬على الأقل �أكون مرتاحة و�أنا‬
‫مدارية نف�سي كده‪ ،‬يا رب ثبتني وقويني‪.‬‬
‫انتهت من تعديل هندامها للمرة الثانية وخرجت من غرفتها لت�ستقبل‬
‫الزائرين‪ ،‬كان من املعتاد �أن يجل�س والدها و�أخوته يف �صالة املنزل‪،‬‬
‫‪93‬‬
‫بينما يجل�س ال�شباب والبنات مع بع�ضهم البع�ض يف الغرفة املفتوحة على‬
‫ال�صالة‪ ،‬ذهبت �سلمى �إىل عمها وعماتها و�ألقت عليهم التحية‪ ،‬ومن ثم‬
‫وقفت �أمام غرفة ال�شباب و�ألقت التحية عن ُبعد وجل�ست ب�أقرب كر�سي‬
‫للباب‪ ،‬نظرت لها ابنة عمها متعجبة و�س�ألت بده�شة‪:‬‬
‫‪ -‬م�ش هت�سلمي يا بنتي؟!‬
‫�شعرت باحلرج ال�شديد‪ ،‬حيث �أنها املرة الأوىل التي تفعل فيها ذلك‬
‫الفعل‪ ،‬ف�ساب ًقا كانت ُت�صافح اجلميع وجتل�س لتمرح معهم‪ ،‬ولكن ما �إن‬

‫ﻋﺼ‬
‫تيقنت �أن ذلك ال يجوز للفتاة امل�سلمة حتى قررت منع ذلك املرح املُفرط‬
‫مع �أقاربها ال�شباب باعتبارهم �أجانب عنها‪ ،‬حاولت اخلروج من ذلك‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫املوقف املحرج وبابت�سامتها املرحة قالت‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬يعني �أ�سلم دلوقتي وال �أروح �أجيب الع�صري؟ الع�صري �أهم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫طب ًعا‪.‬‬
‫ثم قفزت من مكانها وهرعت �إىل املطبخ‪ ،‬تنف�ست ال�صعداء بعدما‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أح�ست بالراحة ال�شديدة نتيجة لنجاح خطتها تلك املرة وعدم م�صافحتها‬
‫لأي من �أقاربها ال�شباب‪ ،‬قررت �أن تفعل ذلك يف كل مرة ي�أتي �إليهم‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أحدهم حتى يعتاد اجلميع على عدم م�صافحتها لهم‪ ،‬حملت �أكواب‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫الع�صري وقامت بتقدميها للجميع ثم جل�ست يف كر�سيها املجاور للباب‬


‫وبد�أت ت�ستمع �إىل حديثهم‪ ،‬قليل من الدقائق مرت قبل �أن ينادي عليها‬
‫والدها ليطلب منها �أن تفتح الباب للطارق املجهول‪� ،‬ألقت نظرة �سريعة‬
‫على احلا�ضرين فالحظت غياب يا�سر ابن عمها ف ُبهت وجهها وظل قلبها‬
‫يخفق ب�شدة‪ ،‬وقبل �أن تفكر فيما يجب �أن تفعله نادى عليها والدها مرة‬
‫�أخرى ف�أخذت تتحرك ببطء �شديد وهي تفكر يف �أية طريقة ت�ستخدمها‬
‫للخروج من ذلك امل�أزق املفاجئ‪ ،‬و�صلت �إىل الباب وقامت بفتحه فوجدت‬
‫‪94‬‬
‫يا�سر �أمامها ‪ -‬كما توقعت‪ -‬ميد �إليها يده وعلى وجهه ابت�سامة هادئة‪،‬‬
‫الكثري من امل�شاعر املت�ضاربة اجتاحتها فوجدت ل�سانها ينطق بكل براءة‪:‬‬
‫‪� -‬إيدي م�ش بت�سلم‪.‬‬
‫نظرة تعجبية من يا�سر مل ت ِق ّل عن نظرتها البلهاء بعدما �أدركت ما‬
‫قالته للتو‪ ،‬فهم�ست مو�ضحة وقد ت�سارعت نب�ضات قلبها‪:‬‬
‫‪� -‬إيدي م�ش بت�سلم على رجالة‪ ،‬ق�صدي يعني بطلت �أ�سلم على‬
‫رجالة‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫قليل وهي تنظر � ً‬
‫أر�ضا‪ ،‬ر�أته وهو يرتكها ويعرب‬ ‫قالتها وعادت للخلف ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫املمر ُمتج ًها �إىل والدها و�أخوته و�سمعت �ضحكاته املتتالية وهو يحدثهم‪،‬‬
‫�سمعته وهو يخربهم مبا حدث‪� ،‬سمعت �ضحكات اجلميع على فعلتها‬
‫ﻜﺘ‬
‫وكلماتها تلك ف�أ�سرعت بالدخول �إىل غرفتها بعدما قررت االكتفاء مبا‬
‫ف�ضلت �أن ُت�ضي ما تبقى من‬ ‫حدث‪ ،‬وبرغم ا�شتياقها لأقاربها �إال �أنها ّ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كلمات ُتزيد من حرجها‪ ،‬مل‬


‫ٍ‬ ‫بدل من �أن ت�ستمع �إىل‬‫يومها يف غرفتها ً‬
‫تنت ِه من نزع حجابها بعد و�سمعت والدها ُينادي عليها من جديد لتح�ضر‬
‫ﺸﺮ‬

‫كو ًبا من الع�صري لذلك ال�شاب الثالثيني‪ ،‬زفرت بقوة وقامت بالتعديل‬
‫ﻭ‬

‫من هيئة حجابها وخرجت وقد ا�ستحال وجهها �إىل اللون الأحمر‪ ،‬ق ّدمت‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫كوب الع�صري البن عمها يف �صمت‪ ،‬و�سارت بخطوات حاولت �أن جتعلها‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫متزنة لكي ال تنف�ضح حقيقة م�شاعرها �أمام اجلميع‪ ،‬وقبل �أن ت�صل �إىل‬
‫كر�سيها املجاور للباب جاءها �صوته القائل‪:‬‬
‫أنت جدعة على فكرة‪.‬‬
‫‪ -‬ب�س � ِ‬
‫ت�س ّمرت مكانها و�س�ألت نف�سها‪� :‬أح ًقا ما �سمعته للتو؟ حانت منها‬
‫التفاتة �سريعة �إىل احلا�ضرين الناظرين جميعهم باجتاهها ومل ُتدرك‬
‫ماذا يجب �أن تفعل‪ ،‬ا�ستطرد ذلك املنقذ الثالثيني كالمه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪95‬‬
‫أنت مقتنعة بيه‪ ،‬واوعي يهمك كالم �أي حد‪.‬‬
‫‪ -‬اعملي اللي � ِ‬
‫مازحا‪:‬‬
‫ثم نظر للجميع وقال ً‬
‫‪ -‬لو حد فكر ي�سلم عليها تاين هقطعله �إيده‪.‬‬
‫وها هو يا�سر ذلك ال�شاب الذي يكربها مبا يزيد عن ع�شرة �سنوات‪،‬‬
‫ال�شاب الذي لطاملا �شعرت ب�صعوبة مواجهته هو بالتحديد نتيج ًة لكونه‬
‫ُيعترب مبثابة �أخ لها‪ ،‬ال�شاب الذي لطاملا داعبها و�أح�ضر لها احللوى منذ‬
‫قدمة‬
‫�أن كانت طفلة‪ ،‬ها هو الآن يتفهم موقفها بل وي�شجعها على ما هي ُم ِ‬

‫ﻋﺼ‬
‫عليه‪� ،‬أرادت �أن ت�شكره ب�شدة‪� ،‬أرادت �أن ُتخربه �أنه �أنقذها من �أكرث‬
‫املواقف املحرجة التي مرت بها يف حياتها‪� ،‬أرادت �أن تخربه بالكثري مما‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ت�شعر به‪ ،‬ولكنها اكتفت بقولها‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬حا�ضر ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫ثم ذهبت �إىل عمها وعماتها وجل�ست معهم وقالت مازحة‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬م�ش كل مرة بقى هتيجوا ومت�شوا والواحد ما يلحق�ش ي�شبع‬


‫ﺸﺮ‬

‫منكم كده‪ ،‬يا تيجوا تقعدوا معانا يا �إما احنا هنقعد معاكم‪.‬‬
‫ارت�سمت ابت�سامة حنونة على ثغر عمها وقال‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬تعالوا يا بنتي عل�شان هنا �أو�سع‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫وبالفعل ح�ضر اجلميع وجل�سوا �سو ًيا‪ ،‬وها هي تلك العنيدة ت�سببت يف‬
‫اجتماع العائلة كلها يف مكان واحد ولأول مرة منذ مدة طويلة‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫و�صل �إىل منزله بعدما �أدى �صالة الع�صر‪ ،‬دخل غرفته و�ألقى بج�سده‬
‫على فرا�شه وظل يفكر يف كل ما حدث طوال الأ�سبوعني املا�ضيني‪ ،‬تذكر‬
‫ذهابه اليومي للم�سجد كما وعد والدته‪ ،‬تذكر �صالة الفجر التي حر�ص‬
‫‪96‬‬
‫على �أدائها على عك�س ما كان يفعل �ساب ًقا‪ ،‬تذكر الراحة التي كان يعتقد‬
‫�أنه �سي�شعر بها‪ ،‬تذكر ال�صحبة ال�صاحلة التي توقع �أن يجدها من �أول‬
‫وهلة‪ ،‬ولكن يبدو � ّأل فائدة من كل املحاوالت‪ ،‬نه�ض من فرا�شة مرة �أخرى‬
‫و�أم�سك بهاتفه وقام بالدخول �إىل موقع الفي�س بوك ع ّله يجد ما ي�شغل‬
‫بدل من ال�سماح لتلك الأفكار اخلانقة �أن ت�سيطر على ر�أ�سه‪،‬‬ ‫قليل ً‬
‫باله ً‬
‫نظرة �سريعة على قائمة الأ�صدقاء املت�صلني حال ًيا �ألقاها قبل �أن ُيغلق‬
‫هاتفه على وجه ال�سرعة ويلقيه على فرا�شه‪ ،‬تعجب من فعلته تلك‪ ،‬ف�ساب ًقا‬

‫ﻋﺼ‬
‫كانت من �أ�سعد حلظاته تلك اللحظة التي يدخل فيها على املوقع فيجدها‬
‫مت�صلة الآن‪� ،‬سارة حبه الأول‪ ،‬تلك الفتاة التي �أح�س معها مب�شاعر مل‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ي�شعر بها من قبل مع �أي �شخ�ص‪ُ ،‬ترى ماذا حدث له الآن؟ ملاذا ت�أثرت‬
‫ﻜﺘ‬
‫عالقتهما �إىل هذا احلد بعد وفاة حممد؟ ملاذا �أ�صبح ال ُيطيق احلديث‬
‫معها �أكرث من خم�س دقائق على �أق�صى تقدير؟ �أ�أ�صبح ال ُيحبها؟ �أم مل‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يعد يرغب يف مزيد من الذنوب؟ رمبا هي الإجابة الثانية‪ ،‬مرة �أخرى‬


‫حاول �أن ينف�ض غبار تلك الأفكار عن ر�أ�سه وقرر الذهاب لأخته ال�صغرى‬
‫ﺸﺮ‬

‫قليل‪ ،‬عله يجد الدواء يف احلديث معها‪� ،‬سار بخطوات بطيئة‬ ‫كي يحدثها ً‬
‫ﻭ‬

‫مفتوحا بع�ض ال�شيء‪� ،‬أطل بر�أ�سه منه وقال‬ ‫ً‬ ‫نحو غرفتها فوجد الباب‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مبت�س ًما‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ممكن �أدخل؟‬
‫َ�ش َعرت باحلنني �إىل ذلك ال�صوت وتلك االبت�سامة‪� ،‬ألقت ما كانت‬
‫حتمله يف يدها وقفزت من فرا�شها وهرولت باجتاهه‪ ،‬قامت بفتح الباب‬
‫على م�صرعيه و�أ�شارت �إليه ليدخل وهي تقول مبنتهى ال�سعادة‪:‬‬
‫‪ -‬ممكن طب ًعا‪ ،‬ده �أنا م�ستنية اللحظة دي من زمان �أوي يا‬
‫�إ�سالم‪.‬‬
‫‪97‬‬
‫جل�سا م ًعا على فرا�شها‪ ،‬ابت�سمت له وهي تنظر �إليه بعينني تفي�ضان‬
‫حن ًوا‪ ،‬وقالت متمنية‪:‬‬
‫‪ -‬م�ش هرتجع لطبيعتك بقى يا �إ�سالم؟ نف�سي �أوي �أ�شوف �إ�سالم‬
‫بتاع زمان‪.‬‬
‫‪ -‬بحاول واهلل يا هند ب�س م�ش قادر‪ ،‬حا�س�س �إن حياتي ملها�ش‬
‫�أي معنى‪ ،‬حتى التجربة اللي بد�أت فيها وقولت ممكن تريحني‬
‫�شوية تقري ًبا ف�شلت‪ ،‬حقيقي مبقيت�ش عارف �أعمل �إيه!‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ممكن �أعرف �إيه هي التجربة دي؟ وليه حا�س�س �أنها ف�شلت؟‬
‫�أغم�ض عينيه وتنهد بقوة‪ ،‬وك�أنه ي�سرتجع بتلك التنهيدة �أحداث �شهر‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫كامل م�ضى‪ ،‬نظر يف عينيها‪ ،‬ابت�سم لها تلك االبت�سامة املت�أملة التي اعتاد‬
‫ﻜﺘ‬
‫عليها وقال‪:‬‬
‫‪ -‬كنت بحاول �أبطل اال�ستهتار اللي �أنا فيه ده‪ ،‬و�أعي�ش حياتي �صح‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عل�شان �أحقق و�صية حممد‪ ،‬فكرت �إين ممكن �أالقي ال�صحبة‬


‫ال�صاحلة اللي تعينني على طريقي اجلديد يف امل�سجد‪ً ،‬‬
‫وفعل‬
‫ﺸﺮ‬

‫واظبت على ال�صالة يف امل�سجد طول الأ�سبوعني اللي فاتوا‪،‬‬


‫ﻭ‬

‫ب�س للأ�سف ملقيت�ش اللي بدور عليه‪ ،‬عارفة ليه؟‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫نطقت عيناها بتلك اللهفة التي حتملها بداخلها‪ ،‬فا�ستطرد ً‬


‫قائل‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬لأن تقري ًبا كل اللي �شوفتهم هناك �شيوخ كبار‪ ،‬وب�صراحة كنت‬
‫بتحرج �أروح �أتكلم معاهم‪ ،‬ميكن كنت متوقع �إين �أالقي �شباب‬
‫كتري يف �سني هناك‪ ،‬وا�ستغربت جدً ا ملا اكت�شفت �إن ال�شارع كله‬
‫مفيهو�ش �شاب واحد مواظب على �صالته!‬
‫‪ -‬طيب ما �أنت كنت زي كل ال�شباب دول يا �إ�سالم‪ ،‬م�ستغرب ليه‬
‫بقى؟!‬
‫‪98‬‬
‫كرد على كلماته‪ ،‬ولكنها تركت يف نف�سه بالغ احلرج‪،‬‬
‫قالتها بتلقائية ٍ‬
‫�أجابها ب�صوت م�ضطرب‪:‬‬
‫‪ -‬عندك حق يا هند‪ ،‬ب�س �أنا خال�ص احلمد هلل واظبت على‬
‫�صالتي‪ ،‬امل�شكلة �إين م�ش حا�س�س بطعم ال�صالة‪ ،‬وال حا�س�س‬
‫�إين بد�أت �أقرب من ربنا‪ ،‬وال �أي حاجة‪ ،‬حا�س�س �إين جمرد �آلة‬
‫بروح وباجي وخال�ص‪ ،‬م�ش عارف ليه!‬
‫تقم�صت دور الأخت الكربى و�أجابت بعقالنية‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ب�س �أنا عارفة‪ ،‬م�شكلتك يا �إ�سالم �إن الدافع ورا تغيريك ده‬
‫غلط‪ ،‬يعني �أنت بتفكر تتغري ب�س لأنك مت�أثر مبوت حممد‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وحزين عليه‪ ،‬ومع الوقت طبيعي حزنك على حممد هيقل‬
‫ﻜﺘ‬
‫و�إح�سا�سك بت�أنيب ال�ضمري هيقل وبالتايل م�ش هتكمل الطريق‬
‫اللي بد�أت فيه‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل �إنك برتوح امل�سجد عل�شان ب�س‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بتدور على ال�صحبة ال�صاحلة اللي تعينك على طريقك لربنا‪،‬‬


‫مع �إنك املفرو�ض تروح �أو ًال عل�شان ت�ؤدي �صالتك اللي هي �أول‬
‫ﺸﺮ‬

‫طريقك لربنا‪.‬‬
‫ﻭ‬

‫‪ -‬كالمك باين عليه حلو‪ ،‬ب�س بردو م�ش فاهم ق�صدك �إيه‪.‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ُ -‬ب�ص يا �إ�سالم‪ ،‬الطبيعي �إنك لو عاوز تتغري بجد يبقى هتتغري‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫عل�شان تر�ضي ربنا‪ ،‬هتتغري عل�شان �أنت مقتنع �إن حياتك غلط‬
‫وحمتاج تظبطها‪ ،‬هتتغري عل�شان نف�سك‪ ،‬م�ش عل�شان حممد‬
‫قالك‪ ،‬من الآخر يا �إ�سالم‪� ،‬شوف قلبك حمتاج �إيه عل�شان‬
‫يرتاح واعمله‪.‬‬
‫وك�أنه وجد ما كان يبحث عنه منذ مدة ف�صاح بها ويف �صوته راحة‬
‫كبرية‪:‬‬
‫‪99‬‬
‫‪ -‬ياااه يا هند‪� ،‬أنا ازاي مفكرت�ش بالطريقة دي قبل كده! �أنا‬
‫فعل كان كل همي �إين �أح�س �إين بعمل �أي حاجة من اللي‬ ‫ً‬
‫حممد قالهايل وب�س‪ ،‬لكن عمري ما فكرت �أ�صلي بقلبي �أو‬
‫�أقر أ� قر�آن بقلبي‪ ،‬عمري ما فكرت �أنا حياتي فيها �أخطاء �إيه‬
‫وقررت �أعدلها‪ ،‬عمري ما كنت جاد يف كوين ً‬
‫فعل عاوز �أتغري‬
‫من جوايا‪.‬‬
‫نه�ض من مكانه ونظر لها بامتنان �شديد وهم�س‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬بجد �شك ًرا يا هند‪� ،‬أنا حمتاج دلوقتي �أقعد مع نف�سي �شوية‬
‫و�أفكر بطريقة خمتلفة‪� ،‬أنا هتغري ب�إذن اهلل عل�شان ربنا‪ ،‬هدور على‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫طريق ربنا عل�شان �أم�شي فيه‪ ،‬وب�إذن اهلل هالقيه حتى لو كنت لوحدي‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫�سار باجتاه باب الغرفة‪ ،‬وقبل �أن يخرج منها نظر لها و�س�ألها بف�ضول‬
‫بالغ‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪� -‬إال قوليلي �صحيح‪ ،‬جبتي الكالم احللو ده كله منني؟‬


‫وبرباءة �شديدة �أجابت‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬بقعد �ساعات �أتناق�ش مع �سلمى �صاحبتي‪ ،‬وتقري ًبا قالتلي‬


‫ﻭ‬

‫حاجة زي كده قبل كده‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬طيب وما فكرتي�ش تنفذي الكالم ده؟‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أوم�أت بر�أ�سها نف ًيا و�أجابت‪:‬‬


‫‪ -‬م�ش حا�سة �إن وقته دلوقتي يا �إ�سالم‪� ،‬أنا حابة حياتي كده‬
‫وعاوزه �أعي�شها براحتي‪ ،‬ربنا يوفقك �أنت ب�س ولو احتجت �أي‬
‫حاجة �أنا موجودة‪ ،‬املهم �أ�شوف �إ�سالم بتاع زمان رجع من‬
‫تاين‪.‬‬
‫‪ -‬ب�إذن اهلل يا هند‪.‬‬
‫‪100‬‬
‫قالها م�صحوبة بابت�سامة خفيفة وعاد �إىل غرفته من جديد‪ ،‬جل�س‬
‫�أمام مكتبه و�أخذ يفكر يف تلك الكلمات التي �أنارت له دربه وجعلته يفكر‬
‫بطريقة خمتلفة‪ ،‬كم كانت حمقة هند يف كل ما قالته‪ ،‬وكم كان خمط ًئا‬
‫هو يف تعامله مع الأمر منذ البداية‪ ،‬قرر البدء ب�صالته‪ ،‬حيث �أنها �أول‬
‫ما ُيحا�سب عليه العبد يوم القيامة‪ ،‬قرر الذهاب �إليها بقلبه‪ ،‬قرر جعلها‬
‫�أول طريقه �إىل اهلل‪ ،‬مل يفكر يف �شيء �آخر �سواها‪� ،‬شعر �أنه حني ت�ستقيم‬
‫�صالته �سي�ستقيم معها كل �شيء‪ ،‬وها هو املوعد الآخر لل�صالة قد �أتى‪ ،‬ها‬
‫هو ي�سمع �أذان املغرب ُيرفع من �أحد امل�ساجد القريبة من بيته‪ ،‬نه�ض على‬

‫ﻋﺼ‬
‫ً‬
‫حماول �أن ينال ثواب كل‬ ‫الفور وهبط من منزله و�سار بخطوات هادئة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫خطوة يخطوها باجتاه بيت اهلل‪ ،‬و�صل �إىل امل�سجد وانتظر �إقامة ال�صالة‪،‬‬
‫�أدى �صالته وجل�س بانتظار در�س املغرب‪ ،‬كان الدر�س عن ف�ضل القر�آن‬
‫ﻜﺘ‬
‫و�سط ما قال الإمام �سمع �إ�سالم تلك الآية التي ف�سرت له‬ ‫الكرمي‪ ،‬ويف‬
‫َ َّ َ ُ َ َ ً َ ً‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ َ َ‬
‫كل �شيء‪} ،‬ومن أعرض عن ذِك ِري فإِن ل م ِعيشة ضنك{‪� ،‬شعر �أن هناك‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫خيوطا من ال�ضوء �أنارت عقله‪ ،‬هم�س لنف�سه‪:‬‬ ‫ُ‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪� -‬آه عل�شان كده بقى‪ ،‬م�ش القي حياتي وال القي نف�سي لأين بعيد‬
‫عن ذكر ربنا‪ ،‬فني القر�آن اللي املفرو�ض �أكون حافظه �أو على‬
‫ﻭ‬

‫الأقل فاهمه وبعمل بيه‪ ،‬فني ل�ساين اللي دائ ًما بريدد الأذكار‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫واال�ستغفار وال�صالة على احلبيب عليه ال�صالة وال�سالم‪ ،‬فني‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫قلبي اللي عاي�ش حياته كلها يف طاعة اهلل‪ ،‬طبيعي جدً ا حياتي‬
‫كلها تبقى كئيبة ومليانة هموم طول ما �أنا بعيد عن ربنا‪.‬‬
‫عاد من ِخ�ضم �أفكاره �إىل الواقع فوجد �أن الإمام ُيلقي بكلماته‬
‫الأخرية وينهي در�سه‪ ،‬نه�ض من مكانه و�سارع باخلروج عائدً ا �إىل منزله‪،‬‬
‫مهرول باح ًثا عن م�صحفه الذي وجده يف ذلك الرف النائي‬‫ً‬ ‫دخل غرفته‬
‫وتتناثر عليه ذرات الرتاب‪ ،‬احت�ضنه بني كفيه وظل ير�سل �إليه نظرات‬
‫‪101‬‬
‫االعتذار من هاتني العينني الالمعتني بالعربات‪� ،‬أح�ضر ً‬
‫منديل ورق ًيا من‬
‫جيبه وقام ب�إبعاد تلك الذرات الرتابية البائ�سة التي جتر�أت على امل�سا�س‬
‫مب�صحفه الغايل‪ ،‬ثم ذهب به �إىل مكتبه وجل�س يقر�أ يف �أول �صفحة ُف ِتحت‬
‫ً‬
‫حماول ا�ستيعاب‬ ‫�أمامه‪ ،‬قر أ� هذه املرة بقلبه مع ل�سانه‪ ،‬قر�أ ببطء �شديد‬
‫ً‬
‫حماول فهم كل معنى تريد الآية �أن تخربه به‪،‬‬ ‫كل حرف ينطقه ل�سانه‪،‬‬
‫وبعدما انتهى وجد �أنه قد قر أ� ثالث �صفحات فقط‪ ،‬ولكنه �شعر بال�سعادة‬
‫تغمر قلبه وك�أن كلمات القر�آن قد م�ست روحه ون ّب�أته ب�أنه الآن فقط قد‬
‫وجد طريق اهلل‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪z‬‬ ‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪102‬‬
‫‪-4-‬‬

‫انتهت �إجازة ن�صف العام وعاد كل طالب �إىل حياته الطبيعية‪� ،‬أخذت‬
‫�سلمى ُترتّب خزانتها وجتهز املالب�س التي �سوف ترتديها يف �أول �أ�سبوع‬

‫ﻋﺼ‬
‫متاما‬
‫لها يف الف�صل الدرا�سي الثاين‪ ،‬بعدما انتهت من تفريغ مكتبها ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ا�ستعدادًا ال�ستقبال �أكوام الكتب واملذكرات القادمة بعد عدة �أيام‪ ،‬وعلى‬
‫ب ُعد �أمتار وقف �إ�سالم يفعل نف�س ال�شيء بطاولته ال�صغرية قبل �أن ي�سمع‬
‫ﻜﺘ‬
‫تلك الطرقات اخلفيفة على باب منزله‪ ،‬يف بداية الأمر �شعر �أنه ُخ ّيل له‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ولكن مع ا�ستمرار تلك الطرقات وارتفاع �صوتها تيقن �أن �أحدهم يقف‬
‫بالفعل خلف الباب‪ ،‬عدة خطوات خطاها قبل �أن يفتح الباب وتنكم�ش‬
‫ﺸﺮ‬

‫مالمح وجهه ا�ستغرا ًبا نتيجة لر�ؤية �آخر �شخ�ص توقع �أن يراه �أمام الباب‪،‬‬
‫تبادال م ًعا النظرات ال�صامتة‪ ،‬حتدثت �أعينهما قبل �أن يتحدث ثغرهما‪،‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أحدهما نطقت عيناه ببالغ الده�شة من ر�ؤية الآخر‪ ،‬بينما الآخر ابتلع‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ل�سانه حيا ًء ومل يقدر على التفوه ب�أي كلمة‪ ،‬طال ال�صمت الذي قطعه‬
‫�إ�سالم بت�أدية واجبه ك�صاحب املنزل وهم�س‪:‬‬
‫‪ً �-‬‬
‫أهل يا فاروق‪.‬‬
‫‪ -‬يا ترى هتعمل معايا زي ما عملت معاك؟‬
‫قالها متوق ًعا رد الفعل‪ ،‬ولكن ما حدث كان عك�س توقعه‪ ،‬وجد �إ�سالم‬
‫يبت�سم له ويف�سح له الطريق وهو ي�شري �إىل الداخل ً‬
‫قائل بابت�سامة خفيفة‪:‬‬
‫‪103‬‬
‫‪ -‬أل طب ًعا‪ ،‬احنا ما اتربينا�ش �إننا نحرج حد جه حلد عندنا‪،‬‬
‫اتف�ضل‪.‬‬
‫�شعر باخلجل من نف�سه ومن فعلته ال�سابقة‪ ،‬ومن تلك الإ�ساءة التي‬
‫قابلها �إ�سالم بالإح�سان‪ ،‬ثمة �شعور بالذنب يحاوطه‪ ،‬ولكن ابت�سامة‬
‫�إ�سالم الهادئة انعك�ست على وجهه وخففت من ذلك ال�شعور‪ ،‬وجد نف�سه‬
‫يخرج تلك الكلمات من �أعماق قلبه‪:‬‬
‫عموما �أنا م�ش جاي �أت�ضايف‪ ،‬كل‬
‫‪ -‬ربنا يريح قلبك يا �إ�سالم‪ً ،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫اللي جاي �أطلبه منك حاجة واحدة ب�س‪.‬‬
‫‪ -‬اتف�ضل!‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬يا ريت ت�ساحمني على كل اللي عملته معاك‪� ،‬أنا عارف �إنك‬
‫ﻜﺘ‬
‫جيتلي يف �أكرث وقت كنت حمتاجني فيه‪ ،‬وعارف �إين غلطت‬
‫جامد ملا ات�صرفت بالطريقة دي‪ ،‬و�صدقني من �ساعتها و�أنا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حا�س�س بالذنب من ناحيتك‪ ،‬ب�س حقيقي املوقف كان �صعب‬


‫علي ومكنت�ش م�ستحمل �أي حاجة بالذات منك �أنت‪.‬‬
‫َّ‬
‫ﺸﺮ‬

‫قالها و�صمت‪ ،‬وملّا مل يجد �أي رد من �إ�سالم ا�ستطرد كالمه‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬ليك حق القبول �أو الرف�ض‪ ،‬وحتى لو رف�ضت‪ ،‬ف�أنا بردو موجود‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ب�إذن اهلل يف �أي وقت حتتاجني فيه‪ ،‬وي�سعدين �إين �أ�ساعدك‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫على القرب من ربنا‪.‬‬


‫‪ -‬م�ساحمك‪.‬‬
‫باغته �إ�سالم بقولها‪ ،‬فانفرجت �أ�سارير فاروق وات�سعت ابت�سامته وهو‬
‫ي�س�أل بعينيه عن مدى م�صداقية تلك الكلمة‪� ،‬أح ًقا �ساحمه �إ�سالم بتلك‬
‫ال�سهولة بعد كل ما حدث! ا�ستطاع �إ�سالم تف�سري �ألغاز عيني زميله ورد‬
‫بتلقائية‪:‬‬
‫‪104‬‬
‫‪ -‬الفرتة اللي فاتت كانت من �أ�صعب فرتات حياتي‪ ،‬وكان كل‬
‫اللي تاعبني فعل ًيا هو موت حممد‪ ،‬عل�شان كده اللي �أنت عملته‬
‫عموما �أنا خال�ص‬
‫م�أخد�ش حيز كبري من تفكريي �إال كام يوم‪ً ،‬‬
‫بد�أت �أعيد ح�ساباتي وناوي ب�إذن اهلل �أعي�ش حياتي �صح‪،‬‬
‫وقررت كمان �إين �أ�سامح �أي حد غلط يف حقي لعل ده يرفع‬
‫قدري عند ربنا‪.‬‬
‫‪ -‬حقيقي يا �إ�سالم م�ش عارف �أ�شكرك ازاي!‬
‫‪ -‬ال�شكر هلل‪� ،‬أنا معملت�ش حاجة‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ربنا ير�ضى عنك يا رفيق‪� ،‬أ�سيبك دلوقتي بقى لأن مهمتي‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫انتهت‪ ،‬وهنتقابل تاين كتري ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫�صافحه وغادر على الفور‪ ،‬ظل �إ�سالم يتتبع �أثره بعينيه حتى اختفى‬
‫عن ناظريه‪ ،‬وعلى وجهه تلك االبت�سامة الهادئة ال�ساكنة الودودة‪ ،‬نعم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ها هو فاروق ي�أتي �إليه بكامل �إرادته ليعتذر له عن كل ما بدر منه‪ ،‬وها‬
‫هو �إ�سالم يقبل ذلك االعتذار بكل ب�ساطة وبدون �أن ي�شعر ب�أي جرح يف‬
‫ﺸﺮ‬

‫كرامته �أو رغبة ملحة يف االنتقام‪ ،‬يبدو �أن ذلك الفتى ُو ّفق يف اتخاذ‬
‫امل�سار ال�صحيح لبناء �شخ�صيته اجلديدة‪ ،‬غفر اهلل لك يا �إ�سالم وهداك‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�إىل طريقه امل�ستقيم‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪zzz‬‬
‫�صبيحة اليوم التايل ذهب �إ�سالم �إىل اجلامعة وعلى وجهه ابت�سامة‬
‫م�شرقة‪ ،‬وكحركة فطرية منه �أخذ يتفر�س يف الوجوه باح ًثا عن تو�أمه‪،‬‬
‫بحث عنه يف مكانهما املف�ضل داخل الكافيرتيا‪ ،‬وملّا مل يجده بد�أت‬
‫ابت�سامته تبهت �شي ًئا ف�شي ًئا‪ ،‬ود لو �أنه يراه‪� ،‬أو يرى خياله فح�سب‪ ،‬رمبا‬
‫ذلك ُيخفف من حدة ال�شوق الذي ي�شعر به‪ ،‬ولكن ذلك لن يحدث‪ ،‬هو‬
‫‪105‬‬
‫على يقني من ذلك‪ ،‬فعهد اخليال قد انتهى‪ ،‬ومع بداية دخوله يف دوامة‬
‫احلزن التي جتتاح قلبه من �آن لآخر وجد ذلك الكف احلاين مي�سك‬
‫بذراعه‪ ،‬وجد �أحدهم يهم�س بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬كنت حا�س�س �إين هالقيك هنا‪.‬‬
‫التفت ف�إذا به ي�صطدم بتلك االبت�سامة املنقو�شة على ثغر فاروق‪ ،‬تلك‬
‫االبت�سامة التي ُته ّيئه لإخراج كل ما جتي�ش به نف�سه‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك‬
‫مل ُي ِرد �أن يتحدث يف الأمر‪ ،‬فعالقته بفاروق مل تتوطد �إىل هذا احلد‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫حاول تغيري املو�ضوع فقال م�ستف�س ًرا‪:‬‬
‫‪ -‬متعرف�ش �أول حما�ضرة لينا هتكون امتى؟‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬كل حما�ضرات كهرباء ومدين هتبد�أ من الأ�سبوع اجلاي ب�إذن‬
‫ﻜﺘ‬
‫اهلل‪.‬‬
‫‪ -‬يعني �أم�شي خال�ص؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عموما �أنا قاعد �شوية وبعدين هم�شي ب�إذن اهلل‪،‬‬


‫‪ -‬زي ما حتب‪ً ،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫لو حابب ت�ستنى ومن�شي �سوا يبقى �أف�ضل‪.‬‬


‫‪ -‬فا�ضي وال وراك حاجة؟‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬غال ًبا فا�ضي‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬طيب كنت عايز �آخد ر�أيك يف مو�ضوع مبا �إنك عارف يف الدين‬
‫يعني‪.‬‬
‫ابت�سم فاروق ُم َر ِّح ًبا و�أوم أ� بر�أ�سه للداللة على موافقته‪ ،‬جل�س �إ�سالم‬
‫على �أحد املقاعد‪ ،‬فرتك فاروق الكر�سي املجاور له �شاغ ًرا وجل�س ً‬
‫مقابل‬
‫له‪ ،‬يف تلك اللحظة حاول �إ�سالم التحكم يف تعبريات وجهه كي ال ينف�ضح‬
‫�أمره‪ ،‬ثم بد أ� ب�سرد ق�صته على م�سامع رفيقه لعله يجد عنده الرد الذي‬
‫ي�صيب ت�أنيب �ضمريه ذاك يف مقتل‪:‬‬
‫‪106‬‬
‫‪ -‬فيه واحد �أعرفه اتعرف على بنت من على النت‪ ،‬كان الأول‬
‫بيتكلم معاها عادي وواحدة واحدة بد�أ يتعلق بيها ويحبها‪،‬‬
‫بعدها ب�شوية بد أ� يكون فيه �شوية جتاوزات بينهم يف الكالم‪،‬‬
‫هو وعدها باجلواز بعد ما يخل�ص درا�سة‪ ،‬وهو عند وعده لأنه‬
‫ً‬
‫فعل بيحبها‪ ،‬ب�س هل اللي بيح�صل دلوقتي ده فيه م�شكلة؟‬
‫ث ّبت نظراته داخل عينيه‪ ،‬ثم انفرج ثغره عن ابت�سامة خفيفة وقال‪:‬‬
‫‪ -‬لو مكن�ش حا�س�س �إن فيه م�شكلة مكن�ش �س�أل‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫يبدو �أنه حمق‪ ،‬فاملرء م ّنا ال يبد�أ يف �إلقاء الأ�سئلة �إال عندما يرتفع‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�ضجيج ذاك الذي ُيدعى �ضم ًريا داخل قلبه‪ ،‬وكلما زادت قوة ال�صوت‬
‫وحدته كان الدافع وراء البحث عن الإجابة �أكرب‪ ،‬مل يتحدث الفتى‪ ،‬ولكن‬
‫ﻜﺘ‬
‫�صديقه ا�ستطاع بب�ساطة فك �شفرات عينيه ثم هم بالرد على ال�س�ؤال‪ ،‬يف‬
‫حني قاطعه �إ�سالم وقال باح ًثا عن جواب‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬طيب ليه ده غلط؟ ما هي كده كده هتبقى مراته بعد مدة‬


‫ﺸﺮ‬

‫معينة!‬
‫ً‬
‫حمتفظا بتلك االبت�سامة الهادئة‪:‬‬ ‫�أجاب وهو ما زال‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪� -‬أقولك ليه‪ ،‬لأن بب�ساطة هي دلوقتي م�ش مراته‪ ،‬هي واحدة‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�شرعا زيها زي �أي واحدة يف ال�شارع‪ ،‬طبيعة‬


‫�أجنبية عنه‪ ،‬يعني ً‬
‫التعامل بينهم الزم تبقى يف حدود ال�ضرورة وب�س‪ ،‬وكالمهم‬
‫كله املفرو�ض يكون من�ضبط من غري هزار وال جتاوزات‪.‬‬
‫انكم�شت مالمح وجهه‪ ،‬يبدو �أن كلمات �صديقه مل َت ُرق له‪� ،‬أو رمبا مل‬
‫تب ُد منطقي ًة بالدرجة الكافية ليقتنع بها‪ ،‬فكيف له �أن يعاملها ك�أي فتاة‬
‫�أخري!‬
‫‪107‬‬
‫هذا عجيب‪ ،‬فهو يحبها! بل رمبا �أ�صبح يع�شقها‪� ،‬أ�صبح يع�شق كلماتها‬
‫وهم�ساتها‪� ،‬أ�صبح يهرول �إليها وقت �ضيقه ليق�ص عليها �سبب حزنه‬
‫وي�أخذ منها جرعة حنان ُتن�سيه همه‪� ،‬أيتحدث ذلك الغريب عن �سارة؟‬
‫بالطبع ال‪ ،‬فهي تختلف عن اجلميع‪ ،‬كعادته مل يجد ما يقوله‪ ،‬بل رمبا مل‬
‫يعد يرغب يف قول �أي �شيء‪ ،‬مل ينتظر منه فاروق ردًا‪ ،‬بل ا�ستطرد كالمه‬
‫ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬هتقويل طيب بردو ما هو وعدها باجلواز‪ ،‬يعني مفرقت�ش الكام‬
‫�شهر دول‪ ،‬وكمان هو الزم يعرب لها عن م�شاعره ويعرف طبيعة‬

‫ﻋﺼ‬
‫م�شاعرها قبل ما يتقدم لها‪� ،‬صح؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬بد�أت تفهمني!‬
‫ﻜﺘ‬
‫قالها �ضاح ًكا وك�أنه �شعر �أخ ًريا بربيق �أمل ي�شع �أمام عينيه‪ ،‬وب�صوت‬
‫مليء بالود �أكمل الآخر حديثه‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ُ -‬ب�ص يا �إ�سالم‪ ،‬مفي�ش حاجة يف الدنيا ت�ضمن �إنه يتجوزها‬


‫فعل‪ ،‬ياما جوازات كتري بتنتهي على �آخر يوم وميكن �آخر‬ ‫ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫�ساعة كمان‪ ،‬اه هو خمطط �إنه هيتجوزها بعد ما ظروفه‬


‫تتظبط زي ما بتقول‪ ،‬ب�س �أنت متعرف�ش ربنا كاتبله �إيه‪،‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫متعرف�ش علم الغيب يا �إ�سالم‪ ،‬وبالتايل ما ينفع�ش تكون على‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫يقني كده �إن هي دي اللي هتكون مراته‪ ،‬وحلد ما يتاكد �أنها‬


‫بقت مراته بالفعل الزم ياخد باله من كالمه معاها وميتعدا�ش‬
‫حدود اجلدية وال�ضرورة‪.‬‬
‫‪ -‬جدية �إيه يا فاروق! ده بيحبها! بيحبها يا نااا�س‪ ،‬واحلب ده‬
‫حاجة م�ش ب�إيدينا‪ ،‬يعني ما في�ش زرار بندو�س عليه فيخلينا‬
‫نحب �أو منحب�ش‪ ،‬دي حاجة فطرية ومنقدر�ش نتحكم فيها‪،‬‬
‫ازاي بقى بتطلب منه ميعربلها�ش عنه حبه!‬
‫‪108‬‬
‫قالها بانفعال وا�ضح‪ ،‬نطقت ق�سماته مبا يت�ضارب يف قلبه من م�شاعر‬
‫غ�ضب‪ ،‬تعجب‪ ،‬وعدم فهم‪ ،‬ف�أجاب الآخر وهو املتو ِقع لرد الفعل ذاك‪:‬‬
‫‪ -‬احلب اه فطري‪ ،‬واه ممكن جدً ا نالقينا بنحب حد غ�صب عننا‬
‫وبدون ما نق�صد‪ ،‬ولكن م�ش مطلوب مننا نعرب عن احلب ده �إال‬
‫ملا يكون بيننا رباط �شرعي‪ ،‬غري كده يبقى حبنا الزم يف�ضل‬
‫جوا قلوبنا وميطلع�ش �إال يف احلالل‪.‬‬
‫‪ -‬أل معل�ش يا فاروق‪� ،‬أنت بتقول �أي كالم وخال�ص لأنك جمربت�ش‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫اللي �أنت بتقول عليه ده م�ستحيل يح�صل!‬
‫‪ -‬ومني قالك �إين جمربت�ش؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قالها م�صحوبة بابت�سامة مت�أملة‪ ،‬ابت�سامة ُتذ ّكره ٍ‬
‫مبا�ض طويل من‬
‫ﻜﺘ‬
‫االنتظار‪ ،‬ونب�ضات كادت تزلزل املكان من حوله من �سرعة دقاتها‪ ،‬فغر‬
‫الآخر فاه ده�شة‪ ،‬مل ي�صدقه‪ ،‬فاحلب ال يليق بفاروق و�أمثاله يف اعتقاده‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ولكن ف�ضوله دفعه ملوا�صلة احلديث ف�س�أل‪:‬‬


‫‪� -‬أنت حبيت قبل كده؟‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬وما زلت!‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪...-‬؟!‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬بحبها بقايل �أكرث من ع�شرة �سنني‪ ،‬وب�صراحة م�ش متخيل �إن‬


‫مراتي ممكن تكون واحدة غريها‪ ،‬مع ذلك عمري ما ح�س�ستها‬
‫بحاجة وال حاولت حتى �ألفت انتباهها ب�أي �شكل من الأ�شكال‪،‬‬
‫ويوم ما ب�شوفها بال�صدفة بغ�ض ب�صري عنها عل�شان �أحافظ‬
‫عليها من نف�سي‪ ،‬وب�إذن اهلل �أول ما �أخل�ص الكلية و�أ�شتغل‬
‫هروح �أتقدملها‪ ،‬ادعيلي يا �إ�سالم‪.‬‬
‫‪ -‬بتحبها بقالك ع�شرة �سنني وهي متعرف�ش! طب ازاي!‬
‫‪109‬‬
‫حدجه بنظرات َت ُّنم عن عدم ت�صديقه‪ ،‬نظرات تعجبية ذاهلة‪ ،‬تيقن‬
‫�أن فاروق غريب الأطوار‪ ،‬ف ِفعلته تلك ال يفعلها �أحد‪ ،‬قر أ� فاروق الف�ضول‬
‫يف عينيه ف�أراد �أن ُيطفئ ناره و�أردف‪:‬‬
‫‪ -‬بحاول �أتقي ربنا فيها يا �إ�سالم‪ ،‬بحاول �أف�ضل حمافظ عليها‬
‫بي و�أوجع قلبها‬ ‫حلد ما تكون من ن�صيبي‪ ،‬م�ش عاوز �أ�شغلها َّ‬
‫على الفا�ضي و�أنا عارف �إين م�ش هقدر �أجتوزها دلوقتي‪.‬‬
‫‪ -‬طيب ب�س هي الزم تعرف عل�شان ت�ستناك‪� ،‬أو على الأقل عل�شان‬

‫ﻋﺼ‬
‫تبقى فاهم هي بتبادلك نف�س ال�شعور وال لأ بدل ما بعد ال�سنني‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫دي كلها ترف�ضك وتت�صدم!‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬قلوبنا بني �إيدين ربنا يقلبها كيف ي�شاء يا �إ�سالم‪ ،‬يعني �أنا‬
‫بحاول �أتقي ربنا فيها ومت�أكد �إن ربنا م�ش هيخذلني �أبدً ا‪ ،‬لأنه‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عامل �إين بتمناها من كل قلبي وبدعي بقايل كتري �أنها تكون‬


‫من ن�صيبي لو فينا اخلري لبع�ض‪ ،‬وعلى فكرة �أنا حاولت كتري‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أن�ساها ب�س مقدرت�ش‪ ،‬فقولت خال�ص �آخد خطوة �إيجابية‬


‫ﻭ‬

‫و�أجتهد عل�شان �أو�صل لها‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ب�س اللي �أنت بتقوله ده �صعب �أوي!‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬م�ش �صعب و‪...‬‬


‫برت كلماته‪ ،‬ع ّدلها‪ ،‬ثم ا�ست�أنف‪:‬‬
‫‪ -‬هو �صعب �شوية احلقيقة‪ ،‬وحمتاج جماهدة مننا‪ ،‬ب�س م�ش‬
‫م�ستحيل‪ ،‬وب�صراحة فرحة احلالل وقتها‪ ،‬وراحة ال�ضمري اللي‬
‫الواحد هيكون فيها ت�ستاهل التعب‪.‬‬
‫‪110‬‬
‫ال ي�ستطيع �إنكار حبه لتلك النظرات ال�صادقة التي ر�آها يف عيني‬
‫فاروق‪ ،‬نظرات َت ُّنم عن حب عتيق اجتاح جوارحه جمعاء‪ ،‬حاول مقارنة‬
‫حبه ل�سارة بحب فاروق لتلك املجهولة فظن �أن الأخري فاقه مبراحل‪،‬‬
‫�أعجبته تلك العالقة الربيئة التي ال ي�شوبها �أي كدر‪ ،‬عالقة ن�ش�أت من قلب‬
‫�أحدهم وقررت �أال ت�صل لقلب الآخر �إال يف احلالل‪ ،‬مهما طال الزمن‪،‬‬
‫ابت�سم لفاروق ‪-‬ولأول مرة‪ -‬تلك االبت�سامة الغابطة‪ ،‬ابت�سامة تغ ِبطة على‬
‫عفته‪� ،‬أخالقه‪ ،‬و�صفاء دواخله‪ ،‬بعد مدة مل ي�ستطع تقديرها تذكر هدفه‬
‫الأ�سا�سي من تلك اجلل�سه ف�س�أل‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬طيب بالن�سبة للم�شكلة اللي قولتلك عليها‪� ،‬إيه احلل؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�أجابه ذاك الذي تركه عدة دقائق ليجمع �شتات �أفكاره ويحلل كل ما‬
‫ﻜﺘ‬
‫�سمعه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬ال�صح �إنه هياخد قرار �إنه م�ش هيكلمها تاين �أبدً ا‪ ،‬ويحط يف‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫دماغه �إن من ترك �شي ًئا هلل عو�ضه اهلل خ ًريا منه‪ ،‬يعني هو‬
‫هيرتكها عل�شان ر�ضا ربنا‪ ،‬ولو فيها اخلري له ت�أكد �إنها هتكون‬
‫ﺸﺮ‬

‫من ن�صيبه‪ ،‬ولو فيها ال�شر له يبقى هو عمل ال�صح ملا مكمل�ش‬
‫معاها ومنع ذنوب كتري كانت ممكن حت�صل‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مل يب ُد قد ا�ستوعب قوله‪ ،‬ف�أردف بحرية‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ب�س هي كده هتقول عليه كداب وبي�ضحك عليها!‬


‫‪� -‬صحيح ده ممكن يح�صل‪ ،‬وهنا هيكون االختبار‪ ،‬فهل �ساعتها‬
‫هيقول ر�ضا ربنا فوق �أي �شيء وهيدو�س على نف�سه حلد ما‬
‫يعدي املرحلة دي‪ ،‬وال هي�ست�سلم!‬
‫زفر بقوة ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬ما�شي هقوله‪.‬‬
‫‪111‬‬
‫‪ -‬ولعله �ساعتها يكت�شف �إن م�ش ده احلب وال هي دي الإن�سانة‬
‫اللي كان بيدور عليها وال حاجة‪ ،‬و�إنه ب�س كان فرحان باالهتمام‬
‫والكلمتني احللوين اللي بيتقالوا‪.‬‬
‫‪ -‬جايز!‬
‫قالها و�صمت وغاب بعدها يف ُلج تفكريه‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫يف �سكون الليل ان�س ّل �إىل دورة املياه وهو يرتنح من التعب‪ ،‬بعدما علم‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أن �صالة الفجر مل يبقَ عليها �إال القليل ا�ستعاذ باهلل من ذلك الرجيم‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫و�أح�سن و�ضوءه وجل�س يف انتظار نداء املنادي لل�صالة‪� ،‬شعر �أن النوم‬
‫ﻜﺘ‬
‫ُيثقل جفنيه في�سدلهما على عينيه‪ ،‬مل ي�ست�سلم‪ ،‬قام بتحريك ر�أ�سه ميي ًنا‬
‫وي�سا ًرا عدة مرات يف حماولة منه لالنت�صار على ذاك الذي يحاول‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ال�سيطرة عليه‪ ،‬يبدو �أن الوقت ال مير‪ ،‬بالفعل ال مير‪ ،‬نه�ض من مكانه‬
‫وقد جتلى التعب ظاه ًرا على وجهه‪ ،‬و�أم�سك بهاتفه املحمول فوجد �أن‬
‫ﺸﺮ‬

‫الفجر ما زال �أمامه �إحدى ع�شرة دقيقة‪ ،‬ال يعلم ملاذا طاف بعقله يف‬
‫تلك اللحظة قائمي الليل‪ ،‬ملاذا ال يكون منهم؟ ملاذا ال ُي َجرب �أن يتعبد‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�إىل اهلل والنا�س نيام؟ ملاذا ال يبد أ� بركعتني خفيفتني وركعة وتر ويكتب يف‬
‫تلك الليلة ‪-‬ب�إذن اهلل‪ -‬من القائمني؟ بعد دقيقتني كان قد اتخذ قراره‪،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ا�ستقبل القبلة وهتف بهدوء‪ :‬اهلل �أكرب‪.‬‬


‫ال يعلم �سر تلك االبت�سامة التي ارت�سمت على َمياه مبجرد انتهائه‬
‫من �أداء �صالته‪� ،‬أيكون ذلك لأن هذه هي املرة الأوىل التي ي�صلي فيها يف‬
‫جوف الليل؟ �أم �أنه �شعر بالراحة بعدما �ألقى على �سجادته كل ما جتي�ش‬
‫به نف�سه وترك ر�سائله ت�شق طريقها �إىل ال�سماء؟ ال يدري‪ ،‬كل ما �أ�صبح‬
‫يدركه ح ًقا هو �أن هذه املرة لن تكون الأخرية �إذا كتب اهلل له احلياة‬
‫‪112‬‬
‫بعد تلك الليلة‪ ،‬وها هو املنادي ينادي لل�صالة‪ ،‬مما جعله ينه�ض من‬
‫مكانه‪ ،‬يطوي �سجادة ال�صالة‪ ،‬ويذهب ليت�أكد من �أن والدته تغلبت على‬
‫ُماربها‪ ،‬ثم يغادر �إىل بيت اهلل‪.‬‬
‫من جديد ها هو على فرا�شه‪ ،‬ي�س�أل طيور النوم �أن ُتلق �إليه‪ ،‬ولكنها‬
‫�أبت ومتنعت‪ ،‬فغريتها على كرامتها املُهانة بعدما جتاهلها وهي املت�شبثة‬
‫در�سا لن ين�ساه‪ ،‬حتى يعلم بعد ذلك قيمتها‬ ‫به جعلتها تقرر �أن تعطيه ً‬
‫وال يتجاهلها لأي �سبب كان‪ ،‬م�سكينة تلك الطيور‪ ،‬يبدو �أنها مل تدرك‬
‫بعد �أن �إ�سالم �أ�صبح يف�ضل �صالته عليها‪ ،‬ومل تعد تغلبه ب�سطوتها كما‬

‫ﻋﺼ‬
‫كانت تفعل �ساب ًقا‪ ،‬فلتذهب لغريه �إن �شاءت‪ ،‬ولت�ضع كل حيلها ومكائدها‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫فامل�ؤمن القوي لن يقع فري�سة لها مهما خططت ودبرت‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ظل يتململ يف فرا�شه ميي ًنا وي�سا ًرا بال جدوى‪ ،‬انقلب على ظهره‬
‫وبد أ� ُيبحر يف خياالته ناظ ًرا ل�سقف غرفته املُ�ضاء ب�شعاع �ضوء خافت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�آت ًيا من بني دفتي النافذة‪ ،‬طاف بذهنه حواره ال�سابق مع فاروق عندما‬
‫�أخربه بحبه لتلك املجهولة‪ ،‬ومبحاولته املحافظة عليها من كل �شيء‪ ،‬حتى‬
‫ﺸﺮ‬

‫نف�سه! تعجب ب�شدة من تلك العفة التي ما عاد يراها يف ت�صرفات �شبابنا‬
‫اليوم‪� ،‬أعجبه يقينه بربه وثقته ب�أنه طاملا �سار يف امل�سار ال�صحيح فحت ًما‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫لن يخذله اهلل �أبدً ا‪ ،‬ومرة �أخرى بد أ� يقارن حاله بحال �صديقه‪ ،‬ف�شعر‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫باخلزي! فكيف له �أن يحاول احل�صول على قلب �سارة وقلبها يف الأ�سا�س‬
‫بيد اهلل! وحمال �أن يح�صل عليه بعدما �أغ�ضب اهلل‪� .‬شيء ما بداخله‬
‫�أخربه ب�أال يقلق‪ ،‬فهو بالفعل قد ح�صل على قلبها‪ ،‬ليجيبه �شي ًئا �آخر‬
‫هام�سا بكل ثقة‪� :‬أتعتقدين �أيتها الأمارة بال�سوء �أن هذا احلب �سي�ستمر؟‬‫ً‬
‫لك من حمقاء!‬ ‫�أتعتقدين �أنهما �سيحيان احلياة التي يحلمان بها �سو ًيا؟ يا ِ‬
‫فما ُب ِني على باطل فهو باطل‪ ،‬وبالت�أكيد لن يبارك اهلل يف باطل‪� .‬شعر �أن‬
‫هناك حر ًبا ما دائرة بداخل ر�أ�سه فنه�ض من مكانه ُمقر ًرا �إنهاء تلك‬
‫‪113‬‬
‫املعركة بطريقته‪ ،‬جذب حا�سبه ال�شخ�صي وفتح املوقع الذي اعتاد �أن‬
‫يحدثها عليه‪ ،‬وجدها مت�صلة الآن كما توقع‪ ،‬ت�سارعت نب�ضات قلبه وبد�أت‬
‫الو�ساو�س تغزو عقله‪ ،‬ماذا لو ك ّذبته؟ ماذا لو ظنت ب�أنه كان يخدعها‬
‫طوال ال�شهور املا�ضية؟ ماذا لو تخلت عن حبه؟ هل يرتاجع؟ �أم يخو�ض‬
‫املعركة ويرفع راية احلق مهما كانت اخل�سائر؟ راحت الأفكار تتالطم‬
‫داخل ر�أ�سه بني مد وجذر لعدة دقائق‪ ،‬حتى ح�سم �أمره مقر ًرا جعل ر�ضا‬
‫اهلل فوق �أي �شيء‪ ،‬وليحدث ما يحدث‪ ،‬فكفى ما �ضاع من وقت!‬
‫وبالفعل بد أ� حديثه معها‪ ،‬حياها و�س�ألها عن حالها‪ ،‬ثم �أخربها ب�أنه‬

‫ﻋﺼ‬
‫يريد �أن يحدثها يف �أمر هام‪ ،‬وطلب منها �أن حتاول ا�ستيعاب كل ما‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�سيقوله وال ت�صدر �أي حكم قبل معرفة احلقيقة كاملة‪ ،‬وعدته بذلك‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫حاول انتقاء كلماته حتى ي�ستطيع تو�صيل ما يدور بخلده بدقة فكتب‪:‬‬
‫‪� -‬أنا عرفت �إن كالمنا مع بع�ض ال يجوز‪ ،‬و�إننا الزم نبطل كالم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حلد ما يكون بيننا ارتباط �شرعي‪ ،‬فعاوزك ت�ساعديني يا �سارة‬


‫عل�شان نعمل ال�صح ونرتك بع�ض هلل واحنا على يقني �إن لو لينا‬
‫ﺸﺮ‬

‫ن�صيب يف بع�ض هنكون لبع�ض‪ ،‬ب�س �ساعتها هتكون عالقتنا‬


‫بدايتها �صح و�أكيد ربنا هيباركلنا فيها‪ ،‬و�أوعدك يا �ستي �إين‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أول ما �أتخرج و�أ�شتغل هكلمك بنف�سي عل�شان �آخد رقم والدك‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬هاه و�إيه كمان!‬


‫بيد مرتع�شة بعدما جتمعت الدموع يف مقلتيها و�شعرت بوخزة‬ ‫كتبتها ٍ‬
‫كم املرات التي تعر�ضت فيها لهذا املوقف مع‬ ‫يف �صدرها‪ ،‬وتذكرت ّ‬
‫متحم�سا‪:‬‬
‫ً‬ ‫اختالف الكلمات‪ ،‬ظن �إ�سالم �أن الأمر �سيمر ب�سالم ف�أكمل‬
‫‪ -‬مفي�ش‪ ،‬هنحاول ب�س نحط خطة مع بع�ض بحيث لو حد فينا‬
‫قرر يتنازل يالقي التاين بي�صده‪ ،‬وربنا يجمعنا يف احلالل يا‬
‫�سارة‪.‬‬
‫‪114‬‬
‫رغ ًما عنها ان�سابت دمعاتها على خديها و�شعرت بدوار خفيف يف‬
‫ر�أ�سها‪ ،‬حاولت �أن تلملم �شتات نف�سها وكتبت بقهر‪:‬‬
‫‪� -‬إ�سالم‪� ،‬أنت فاكر �إن �أنا ه�صدق الكالم الفارغ بتاعك ده؟‬
‫�أنا كنت مت�أكدة �إنك زيهم‪ ،‬وكنت م�ستنية حلظة الغدر دي‬
‫يف �أي وقت‪ ،‬ب�س ميكن يف الآخر بد�أت �أن�سى‪ ،‬بد�أت �أح�س �إنك‬
‫خمتلف‪ ،‬بد�أت �أحبك من قلبي يا �إ�سالم‪.‬‬
‫�أر�سلتها وتركت العنان لدموعها التي بد�أت تهطل ك�أمطار غزيرة بال‬

‫ﻋﺼ‬
‫توقف‪ ،‬مل حتاول �أن تكفكفها‪ ،‬بل �أنها حاولت �أن ت�ستجمع ما تبقى من‬
‫�شجاعتها و ُت َه ِدئ �أنني روحها الذي مزق طيات قلبها وا�ستطردت‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬روح يا �إ�سالم‪ ،‬روح �شوف البنت التانية اللي عينك زاغت‬
‫ﻜﺘ‬
‫عليها بعد ما كنت بتقويل �إنك عمرك ما حبيت غريي‪ ،‬و�أنا‬
‫للأ�سف �صدقتك! ومتخاف�ش‪� ،‬أنا م�ش هحاول �أظهر يف حياتك‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تاين ب�أي �شكل من الأ�شكال وال �أبوظلك عالقتك اجلديدة‪ ،‬ب�س‬


‫بردو عمري ما هقدر �أ�ساحمك! ويا ريت بعد كده متحاول�ش‬
‫ﺸﺮ‬

‫ت�ستخدم الدين بالطريقة الرخي�صة دي عل�شان تطلع ب�شكل‬


‫حمرتم قدامي‪ ،‬لأين خال�ص ات�أكدت �إن كلكم خاينني!‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أر�ضا‪ ،‬ظلت ت�شهق‬‫�أر�سلتها و�ألقت بالهاتف بعيدً ا وانهارت باكية � ً‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ب�شدة وكادت تدمر مقلتيها من فرط البكاء‪ ،‬بد�أت تهاجم ر�أ�سها وم�ضات‬
‫�سريعة من م�شاهد �سابقة‪� ،‬أولها م�شهد ترك حبيبها الأول لها‪ ،‬ذلك‬
‫ال�شاب الذي اقتحم قلبها الربيء ووهمها ب�أنها يع�شقها‪ ،‬وب�أنها �أ�صبحت‬
‫كل حياته‪ ،‬وبعدما تعلقت به زهد هو فيها وانتقل �إىل غريها رغبة يف‬
‫التغيري‪ ،‬بعدما ك�سر قلب تلك امل�سكينة التي مل تكن �أمتت ال�ساد�سة ع�شر‬
‫من عمرها حينها‪ ،‬مل يتوقف الأمر عند هذا احلد‪ ،‬بل حاولت �سارة �أن‬
‫حب �آخر تداوي به نزف قلبها‪ ،‬و�أحبت الثاين والثالث‪ ،‬وتركاها‬
‫تبحث عن ٍ‬
‫‪115‬‬
‫ك ٌل ل�سبب يراه منطق ًيا من وجهة نظره‪ ،‬و�أخ ًريا جاء �إ�سالم و�ضرب قلبها‬
‫يف مقتل‪ ،‬حتى فا�ض نزفه و�أ�صبح غري قادر على املقاومة‪ ،‬ظلت تتذكر كل‬
‫تلك الذكريات وهي مت�سك بر�أ�سها حمركة �إياها بقوة وت�سد �أذنيها لكي‬
‫ال ت�ستمع �إىل ذاك ال�ضجيج القوي الدائر بر�أ�سها‪ ،‬بينما تعجب �إ�سالم من‬
‫كلماتها تلك وبد�أت ترتفع �أ�صوات نب�ضاته‪ ،‬و�أر�سل م�ستفه ًما‪:‬‬
‫أنت بتقويل �إيه يا �سارة؟ مني اللي خاينني؟ وبنت �إيه اللي عيني‬
‫‪ِ �-‬‬
‫زاغت عليها؟ �أنا م�ش فاهم حاجة‪ ،‬وم�ش م�صدق �إنك ممكن‬
‫عليك الفرتة اللي فاتت دي‬
‫تكوين افتكرتي �إين كنت ب�ضحك ِ‬

‫ﻋﺼ‬
‫كلها!‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�سمعت رنني هاتفها يخربها بو�صول ر�سالة جديدة‪ ،‬ف�أ�سرعت �إليه‬
‫ﻜﺘ‬
‫وظلت تدع�سه بقدميها مرة تلو الأخرى وتقفز فوقه وهي ت�صرخ بجنون‪،‬‬
‫متاما ومل يتبق منه �إال بع�ض القطع املعدنية والزجاجية‬ ‫حتى حتطم ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ال�صغرية املتناثرة حولها‪ ،‬نه�ضت من مكانها بعدما ُجرحت قدميها‬


‫بخدو�ش خفيفة‪ ،‬و�سارت بخفوت نحو فرا�شها بعدما هد�أت حدة بكائها‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫وازداد �شعورها ب�أن الغرفة كلها تدور من حولها‪ ،‬وقبل �أن ت�صل خ ّيم على‬
‫الغرفة �صمت َمهيب �إال من �صوت ارتطامها بالأر�ض‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫انتظر �إ�سالم عدة دقائق‪ ،‬وملا مل يجد �إجابة لأ�سئلته �أر�سل لها عدة‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫عالمات ا�ستفهام‪ ،‬وانتظر مرة �أخرى‪ ،‬ظل ما يقرب من الن�صف �ساعة‬


‫يف و�ضع االنتظار حتى م ّل‪ ،‬فقرر االت�صال بها هاتف ًيا لعل كلماته ونربات‬
‫�صوته ُت َهدئ من انفعالها‪ ،‬وبالفعل قام باالت�صال بها فوجد �سيدة تخربه‬
‫بروتينية ب�أن الهاتف الذي يحاول االت�صال به رمبا يكون مغل ًقا �أو غري‬
‫متاح حال ًيا‪ ،‬كرر االت�صال مرة تلو الأخرى وظل جواب تلك ال�سيدة كما‬
‫هو‪ ،‬فزفر بقوة و�ألقى هاتفه على املن�ضدة بعدما �شعر باخلوف وت�أنيب‬
‫ال�ضمري‪ ،‬هل يكون حدث لها مكروه؟ �أم �أنها فقط غ�ضبت فامتنعت عنه؟‬
‫‪116‬‬
‫ربد نار قلبها ويجعلها‬
‫�أخذ يدعو اهلل �أن يحفظها من كل �سوء‪ ،‬و�أن ُي ّ‬
‫ت�صدقه يف كل ما قاله‪ ،‬لأنه ح ًقا مل يتمنَ لها ً‬
‫يوما �أي �أذى‪.‬‬
‫ترك كل �شيء وقفز على فرا�شه‪ ،‬تدثر بغطائه اخلفيف وا�ستلقى على‬
‫ظهره وا�ض ًعا كفيه خلف ر�أ�سه وبد أ� يفكر يف اخلطوة القادمة‪ ،‬هل يتحدث‬
‫معها مرة �أخرى بعدما تهد�أ ويحاول �شرح وجهة نظره بو�ضوح‪� ،‬أم ي�ضغط‬
‫على قلبه ويرتكها هلل حتى لو ظنت به ما ظنت‪ ،‬ظلت الأفكار تتالطم يف‬
‫ر�أ�سه كالأمواج حتى �شحب وجهه و�شعر بالإرهاق‪ ،‬وبدون وعي منه ذهب‬
‫يف ُ�سبات عميق!‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪zzz‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مرت الليايل ثقيلة على نف�سه‪ ،‬رغم برودتها �إال �أنها مل تخفف من‬
‫ﻜﺘ‬
‫حدة النريان التي ا�شتعلت يف �صدره‪ ،‬فكل ليلة متر عليه ت ُكن �أ�صعب من‬
‫�سالفتها‪ ،‬يجد نف�سه يوم ًيا وب�شكل �أوتوماتيكي يفتح حا�سبه ال�شخ�صي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وير�سل �إليها بع�شرات الر�سائل علها تبعث له ولو حتى كلمة واحدة‬
‫تطمئنه عليها‪ ،‬هاتفها ما زال مغل ًقا منذ �آخر مرة حادثها فيها‪ ،‬وح�سابها‬
‫ﺸﺮ‬

‫ال�شخ�صي على موقع الفي�س بوك اتخذته العناكب �سك ًنا لها‪� ،‬أهمه التفكري‬
‫و�أعياه �إيجاد حل لتلك الأزمة‪ ،‬تهم�س له دواخله كث ًريا ب�أنها قد تكون ماتت‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أو �أ�صابها �أي مكروه‪ ،‬ولكن عقله يرف�ض الفكرة‪ ،‬يرف�ض �أن يكون �سب ًبا يف‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أذاها‪ ،‬يرف�ض �أن ُيعاقبها لأنها فقط �أحبته! كاد �أن ُي َجن‪ ،‬فلو فقط اطم�أن‬
‫�أنها بخري‪ ،‬حتى ولو مل يحدثها‪ ،‬لكانت هد�أت النار املت�أججة يف �صدره‬
‫وذهب ت�أنيب �ضمريه ذاك بال رجعة‪.‬‬
‫طال انتظاره‪ ،‬طال كث ًريا حتى �أن الف�صل الدرا�سي الثاين كان قد‬
‫�شارف على االنتهاء‪ ،‬مر �سري ًعا على اجلميع عداه‪ ،‬فف�ؤاده ما زال يكتوي‬
‫بجمرات �أمل و�شوق �إىل حبيبة �سابقة ال يعلم عنها �شي ًئا‪ ،‬ذات م�ساء بينما‬
‫هو ُيق ّلب يف كتبه ا�ستعدادًا لبدء املذاكرة �سمع رنني هاتفه‪ ،‬فنظر يف‬
‫‪117‬‬
‫�شا�شته بعدم اهتمام و�إذا بعينيه تت�سعان ب�شدة‪� ،‬شعر بنب�ضاته كما لو �أنه‬
‫ي�سمع عزفها بالقرب من م�سامعه‪ ،‬يف �أقل من ثانية كان قد �ضغط على زر‬
‫ا�ستقبال املكاملة مناد ًيا با�سمها‪� ،‬أجابته املت�صلة قائلة بجدية‪:‬‬
‫‪� -‬إ�سالم معايا؟‬
‫�أوم�أ بر�أ�سه �إيجا ًبا وك�أنها تراه‪� ،‬أعادت ال�س�ؤال مرة �أخرى فانكم�شت‬
‫مالمح وجهه ا�ستغرا ًبا‪ .‬من هذه؟ وما ذاك ال�صوت الرخيم؟ �أتكون‬
‫املت�صلة هي �أم �سارة �أو �أختها الكربى؟ �أيكون حدث لها مكروه كما ح ّدثه‬

‫ﻋﺼ‬
‫قلبه طوال الأيام املا�ضية؟ هز ر�أ�سه برف�ض تام لتلك الفكرة اللعينة‬
‫متمت ًما بداخله‪� :‬إن �شاء اهلل ال‪ ،‬فهي حت ًما بخري‪ .‬رفعت املت�صلة �صوتها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫للمرة الثالثة بنفاد �صرب‪ ،‬ف�أجاب على الفور بعدما عاد من �شروده‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫معاك‬
‫‪� -‬أيوة �إ�سالم ِ‬
‫‪� -‬أه ًال يا �إ�سالم‪� ،‬أنا ندى‪� ،‬أخت �سارة الكبرية‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ما هذا؟ �ألن توبخه؟ �ألن تهدده لتجعله يندم على كل مرة ح ّدث‬
‫�أختها فيها؟! فات�صالها به الآن ي�ؤكد ب�أنها علمت بكل �شيء عن عالقته‬
‫ﺸﺮ‬

‫ب�شقيقتها ال�صغرى‪� ،‬أخرجته من �شروده مرة �أخرى بكلماتها التي حتمل‬


‫ﻭ‬

‫يف طياتها اجلدية والرجاء‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬عاوزة �أتكلم معاك �شوية وبعد �إذنك ت�سمعني بدون مقاطعة‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬اتف�ضلي!‬
‫قالها وبد�أت ترتفع �أ�صوات نب�ضات قلبه‪ .‬ا�ستن�شقت ندى ن�سمات‬
‫خفيفة من الهواء وبد�أت حديثها قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬من حوايل �شهرين ون�ص دخلنا على �سارة الأو�ضة ولقيناها‬
‫مغمى عليها‪ ،‬طب ًعا جرينا بيها على امل�ست�شفى واحلمد هلل‬
‫الإ�صابات البدنية كانت طفيفة‪ ،‬امل�شكلة �أنها �أول ما فاقت‬
‫‪118‬‬
‫كانت بتعيط بهي�سترييا والدكتور اللي بيعاجلها قال �إنها الزم‬
‫تروح لدكتور نف�سي‪ ،‬وقد كان!‬
‫�صمتت ً‬
‫قليل اللتقاط �أنفا�سها بينما جيو�ش من االنفعاالت املتداخلة‬
‫بداخل قلب �إ�سالم حثتها على اال�ستطراد‪:‬‬
‫‪ -‬الدكتور النف�سي قال �إنها حمتاجة كور�س عالج مكثف والزم‬
‫تتحجز يف امل�ست�شفى‪ ،‬حاولنا �ساعتها نعرف ال�سبب فطب ًعا‬
‫مكنت�ش بتتكلم‪ ،‬فكرت �أفتح �أكونت الفي�س بتاعها وفهمت‬

‫ﻋﺼ‬
‫بعدها كل حاجة‪.‬‬
‫‪ -‬طيب هي كوي�سة؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قاطعها �إ�سالم بخوف‪ .‬بينما �أجابت هي بال مباالة‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬كوي�سة‪ ،‬متقلق�ش!‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ثم ا�ستطردت‪:‬‬
‫‪ -‬اللي �أنت متعرفو�ش يا �إ�سالم �إن �سارة بنوتة قمة يف الرقة‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫طيبة جدً ا وبيت�ضحك عليها ب�سرعة‪ ،‬يعني �أنت م�ش �أول واحد‬
‫ي�ضحك عليها‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ب�س �أنا‪...‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫قاطعته قائلة باقت�ضاب‪:‬‬


‫‪� -‬أنا حقيقي ميهمني�ش �إذا كنت �صادق يف الكالم اللي قولتهولها‬
‫متاما‬
‫وال لأ‪� ،‬أنا كل اللي يهمني دلوقتي �إنك تبعد عن �سارة ً‬
‫ومتحاول�ش تتوا�صل معاها ب�أي �شكل من الأ�شكال‪ ،‬هي خال�ص‬
‫كلها فرتة ب�سيطة وترجع متار�س حياتها الطبيعية بعد ما تكون‬
‫نف�سيتها احت�سنت وثقتها يف نف�سها رجعت لها تاين‪.‬‬
‫‪119‬‬
‫فعل قررت متكلم�ش معاها تاين حلد ما �آجي �أتقدم لها‪،‬‬ ‫‪� -‬أنا ً‬
‫كل اللي كنت عاوزه ب�س �إين �أتطمن �إنها بخري ‪.‬‬
‫‪ -‬تتقدم ملني؟‬
‫�أطلت الده�شة من عينيه بعدما �شعر بالع�صبية الوا�ضحة املُ�صاحبة‬
‫لنربة �صوتها‪ ،‬ف�أجاب ب�شيء من التوتر‪:‬‬
‫‪� -‬أتقدم ل�سارة‪� ،‬أختك!‬
‫‪� -‬إ�سالم‪ ،‬وا�ضح �إنك ل�سه مراهق وعاي�ش يف �شوية �أحالم وردية‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ووا�ضح بردو �إنك م�ش مدرك �إنك بتتكلم عن بنت نادر زيدان‬
‫كبري رجال الأعمال يف البلد‪ ،‬يعني بتتكلم عن واحد م�ستحيل‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يجوز بنته ل�شاب يف م�ستواك!‬
‫ﻜﺘ‬
‫أر�ضا‪ ،‬فبد�أت الدماء تغلي يف وجهه‪،‬‬‫�شعر ب�أنها �أطاحت برجولته � ً‬
‫ً‬
‫حماول ال�سيطرة على‬ ‫وبد�أت كرامته املهانة ت�ستغيث طالبة الث�أر‪� ،‬أجابها‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫انفعاالته‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬لأ يا فندم �أنا عارف �أنا بتكلم عن بنت مني‪ ،‬وكل التفا�صيل دي‬
‫اتفقت عليها مع �سارة‪ ،‬وهي م�ستعدة تتحملني �شوية يف �أول‬
‫ﻭ‬

‫اجلواز حلد ما م�ستوايا يتح�سن ب�إذن اهلل‪ ،‬و�أعتقد دي حياتنا‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫واحنا ب�س اللي من حقنا نظبطها بالطريقة اللي تعجبنا‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫اخرتقت زفرتها القوية �أذنه ف�شعر بال�ضيق‪ ،‬بينما �ألقت هي بكلماتها‬


‫الأخرية‪:‬‬
‫‪ُ -‬ب�ص يا �إ�سالم‪ ،‬هقولك �آخر كالم عندي لأين م�ش فا�ضية‬
‫للحوار ده‪ ،‬جواز من �سارة مفي�ش‪ ،‬متام؟ روح �أنت بقى �شوف‬
‫حالك وكافح واعمل اللي يعجبك بعيد عننا‪ ،‬ويا ريت بالذوق‬
‫كده متتوا�صل�ش مع �سارة تاين‪ ،‬عل�شان لو ده ح�صل هيكون فيه‬
‫‪120‬‬
‫رد فعل من بابا م�ش هيعجبك‪ ،‬وطب ًعا �أنا م�ش ق�صدي �أجرح‬
‫م�شاعرك‪ ،‬ب�س �أنتوا االتنني الزم تفوقوا‪ ،‬فكر يف كالمي كوي�س‬
‫و�أنت هتعرف �إنه �صح‪ ،‬بعد �إذنك‪.‬‬
‫�ألقت ما يف جعبتها و�أغلقت املكاملة‪� ،‬شعر �إ�سالم ب�أن هناك نا ًرا‬
‫ُمتلظية يف �أح�شائه‪ ،‬فح ًقا امل�صائب ال ت�أتي ُفرادى‪� ،‬ألقى بج�سده ب�إنهاك‬
‫جال�سا ُمطر ًقا بر�أ�سه التي �أم�سكها بكلتا يديه بعدما‬
‫على فرا�شه‪ ،‬ا�ستوى ً‬
‫�أغم�ض عينيه حتى كاد �أن يعت�صرهما‪� ،‬أخذ ي�ضغط على ر�أ�سه بقوة‬
‫ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫حماول �إيقاف �سيل الأفكار التي ع�صفت بها فج�أة‪ ،‬مرت بر�أ�سه وم�ضات‬
‫م�شاهد �سريعة كم�شهد موت والده‪ ،‬موت حممد‪� ،‬أول �أيام معرفته ب�سارة‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حياة الطي�ش واال�ستهتار التي كان يعي�شها وينعم فيها براحة البال‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫و�أخ ًريا حمادثته الأخرية مع �سارة والتي كان ال ينوى بها �إال كل خري‪،‬‬
‫ولكنه ح�صد ثمار عالقته اخلاطئة ووجد �أن كل �شيء خطط �إليه انقلب‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ر� ًأ�سا على عقب!‬


‫ﺸﺮ‬

‫عاد بظهره �إىل الوراء حتى الت�صق بالفرا�ش‪� ،‬سحب الغطاء وتدثر‬
‫به مقر ًرا الهروب بالنوم ككل مرة‪� ،‬شيء ما بداخله �أخربه ب�أال يفعل‪� ،‬إىل‬
‫ﻭ‬

‫متى �سيهرب من واقعه بتلك الطريقة؟ �إىل متى �سيظل �ضعي ًفا غري قاد ٍر‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫على مواجهة �أزماته! وجد نف�سه ينه�ض من مكانه ويلقي بالغطاء بعيدً ا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫حماول البدء بحل‬ ‫ً‬ ‫جال�سا من جديد‪ ،‬بد�أ ُيعيد ترتيب �أفكاره‬
‫وي�ستوي ً‬
‫م�شكلة تلو الأخرى‪ ،‬يف تلك اللحظة بالتحديد قفزت �إىل ر�أ�سه اجلملة‬
‫التي قالها حممد عقب الندوة الدينية الأخرية التي ح�ضراها �سو ًيا‪:‬‬
‫«حبيت فكرة �إن زوجتي تبقى �أول حب يف حياتي‪ ،‬عل�شان كده ب�إذن‬
‫اهلل هف�ضل حمافظ على قلبي حلد ما �أقابلها‪ ،‬لأن امل�شاعر وقتها هتكون‬
‫طازة وم�ش م�ستهلكة‪ ،‬م�ش حابب �أنا �إين �أتعرف على دي ودي ويف الآخر‬
‫‪121‬‬
‫�أروح �أجتوز واحدة تانية خال�ص‪ ،‬خليني كده بعفتي عل�شان �أر�ضي ربنا‪،‬‬
‫و�أنا مت�أكد �إنه هريزقني بواحدة عفيفة زيي»‬
‫وقرر �أن البداية �سوف تكون من هنا‪ ،‬من مبد أ� العفة‪ ،‬فيكفيه ما‬
‫حدث �ساب ًقا‪ ،‬ومن اليوم �سوف يبد أ� حياة جديدة‪� ،‬سوف يحافظ على عفة‬
‫قلبه حتى يرزقه اهلل باحلالل �سواء كانت �سارة هي زوجته امل�ستقبلية �أو‬
‫غريها‪ ،‬ال يهم‪ ،‬فاملهم �أن يفعل ما ُير�ضي اهلل وفقط‪ ،‬ال ينكر �أن كلمات‬
‫�أخت �سارة �أ�شعرته بالغ�ضب واخلوف م ًعا‪ ،‬وال ينكر �أنه �إىل الآن ال يعلم‬
‫ماذا يجب �أن يفعل مع ذاك الرثي الذي ال يريد تزويج ابنته ب�شخ�ص‬

‫ﻋﺼ‬
‫أي�ضا �أنه ي�شعر بحب �سارة يطغى على قلبه وال يريد زوجة‬ ‫مثله‪ ،‬وال ينكر � ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�سواها‪ ،‬ولكن مع ذلك قرر �أن يرتكها هلل بعدما تذكر �أن «من ترك �شي ًئا‬
‫ﻜﺘ‬
‫هلل عو�ضه اهلل خ ًريا منه»‪ ،‬نعم �سيرتك تدبري الأمر كله هلل وين�شغل هو مبا‬
‫يف مقدوره �أن يفعله من درا�سة وعمل‪ ،‬وليكن بعدها ما يكن‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�شعر ب�أن بع�ض ن�سمات الهواء اخلفيفة ت�سللت من �أ�سفل النافذة و�أتت‬
‫لتداعب وجهه وك�أنها تخربه ب�أنه �أ�صاب‪ُ ،‬ت�شجعه �أن ي�ستمر فيما بد�أه‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫حتثه على ال�صمود وعدم التنازل عن قراره‪ ،‬تهتف به ب�أن من �أخط�أ فعليه‬
‫قليل ويتحمل نتيجة �أخطائه حتى يتماثل قلبه لل�شفاء‪،‬‬ ‫�أن يتوب ثم ي�صرب ً‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قرر �أن ُين�صت باهتمام لكلمات تلك الن�سمات ويتتبع ن�صائحها‪� ،‬سيحاول‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫جاهدً ا من اليوم �أن يفعل ما ير�ضي ربه‪ ،‬و�أال ُيو ِقع نف�سه يف بحر ذنوب ال‬
‫�أول له وال �آخر‪ ،‬من اليوم فقط �سيكون �إ�سالم ا�س ًما على م�سمى!‬
‫‪zzz‬‬
‫انتهت امتحانات نهاية العام وا�ستعد ك ٌل ال�ستثمار �إجازته‪� ،‬أراد �إ�سالم‬
‫�أن يعرف �أكرث عن دينه‪ ،‬فطلب من فاروق �أن ي�صحبه معه لدرو�س دينية‬
‫أي�ضا �أن ُير�شح له بع�ض‬‫لرجال ِثقات يت�شرب منهم العلم‪ ،‬وطلب منه � ً‬
‫‪122‬‬
‫الكتب الدينية ب�سيطة الأ�سلوب كبداية له‪ ،‬ومع مرور �شهور الإجازة‬
‫واقرتاب بداية ال�سنة الدرا�سية اجلديدة‪ ،‬كان قلب �إ�سالم قد تغري كث ًريا‪،‬‬
‫فقد �أ�صبح يعرف �أكرث عن دينه ويحفظ ثالثة �أجزاء من القر�آن الكرمي‪،‬‬
‫كان قد تعلم‪ ،‬در�س‪� ،‬أدرك‪ ،‬وحفظ عدة �أحاديث من �أحاديث نبيه الكرمي‪،‬‬
‫مل يقف عند هذا احلد‪ ،‬بل � ً‬
‫أي�ضا بد أ� ببع�ض ال�سنن الب�سيطة كالتب�سم يف‬
‫أي�ضا �صيام يومي االثنني واخلمي�س‪.‬‬ ‫وجه كل من يراه‪ ،‬و�صالة ال�ضحى‪ ،‬و� ً‬
‫كان ي�شعر بال�سعادة تغمر قلبه‪ ،‬تلك ال�سعادة والراحة التي متناها‬

‫ﻋﺼ‬
‫لليال طوال‪ ،‬ها هو الآن ي�شعر بها ويرى �أثرها كلما نظر يف املر�آة‪ ،‬ها‬
‫هو الآن يح�صد ثمرة توبته وقربه من ربه‪ ،‬مرت عدة �أ�شهر على حمادثته‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الأخرية ل�سارة‪� ،‬شيء ما بداخله �أخربه كث ًريا �أن يحدثها ويطمئن عليها‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫�شيء ما �ألح عليه �أن يفعل ليثبت لها حبه‪ ،‬ورغم �أمله‪ ،‬ورغم �شوقه �إليها‪،‬‬
‫�إال �أنه رفع رايته بتلك اجلملة التي حفرها بداخل ر�أ�سه «ر�ضا اهلل �أهم من‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أي �شيء»‪ ،‬وكانت نتيجة ذلك �أنه الحظ الفرق بني ذنوبه ال�سابقة وذنوبه‬
‫احلالية‪ ،‬الحظ انت�صاره على عدة معا�صي كان يفعلها �ساب ًقا وا�ستبدالها‬
‫ﺸﺮ‬

‫ببع�ض م�صادر احل�سنات‪ ،‬الحظ اختفاء تلك املطارق القوية التي كانت‬
‫ﻭ‬

‫تدق فوق قلبه من �آن لآخر لت�أنبه على ما يفعله‪ ،‬الآن فقط ا�ستطاع �أن‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫يعي�ش تلك احلياة التي متناها له �صديقه حممد‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أما عن �سلمى‪ ،‬تلك الفتاة ذات الوجه الربيء النقي‪ ،‬فقد كانت هي‬
‫الأخرى على �أمت ا�ستعداد لبداية عامها اجلديد بذلك القرار الذي لطاملا‬
‫حاولت ت�أجيله‪ ،‬حتى منّ اهلل عليها بالهداية والقوة‪ ،‬فا�ستطاعت بف�ضل‬
‫اهلل �أن تنت�صر على �شيطانها‪ ،‬وقررت �أن ُتفاجئ �صديقتيها به يف �أول يوم‬
‫لها يف الدرا�سة‪ ،‬رغم علمها بر�أيهما‪� ،‬إال �أنها مل تعد تهتم بكالم الب�شر‪،‬‬
‫فاملرء منا لن يتقدم خطوة واحدة �إذا ت�أثرت ت�صرفاته بكلمات من حوله‪.‬‬
‫‪123‬‬
‫ويف �صباح �أول يوم يف العام الدرا�سي الثالث يف تلك اجلامعة بالن�سبة‬
‫لها ول�صديقتيها‪ ،‬جل�ست فاطمة مع هند بجوار ال�شجرة املقابلة ملبنى كلية‬
‫الرتبية بانتظار ح�ضورها‪ ،‬ظلت كل منهما تراقب املارة يف �صمت حتى‬
‫قطعته هند وهي ت�شري �إىل �إحدى الفتيات وتقول �ضاحكة‪:‬‬
‫‪ -‬ب�صي البنت اللي هناك دي �شبه �سلمى �أوي‪ ،‬وكمان نف�س‬
‫م�شيتها!‬
‫نظرت لها فاطمة لوهلة ثم �أ�شاحت بوجهها وقالت بت�أكيد‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬لأ يا بنتي م�ش زيها خال�ص!‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بد�أت الفتاة تقرتب منهما �أكرث و�أكرث‪ ،‬وبد�أت نظرات االنت�صار تطل‬
‫من عيني هند لأن الفتاة بالفعل ت�شبه �سلمى كث ًريا‪� ،‬أما فاطمة ف�أخذت‬
‫ﻜﺘ‬
‫عيناها تت�سع بتعجب �شديد وهي ترقب تلك الآتية من بعيد‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫متاما! �أيعقل �أن تكون‬


‫نعم �إنها هي‪ ،‬ال ت�شبهها فقط ولكنها تطابقها ً‬
‫فعلتها‪ ،‬وبدون �أن تخربهما! وقفت الفتاة �أمامهما وابت�سمت ابت�سامتها‬
‫ﺸﺮ‬

‫الرقيقة وقالت بخجل‪:‬‬


‫‪ -‬احم احم‪ ،‬يا �أه ًال باحللوين‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�صرخت فاطمة يف وجهها‪ ،‬وقالت ب�صوت ُتغ ّلفه الده�شة واال�ستياء‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫أنت عملتيه يف نف�سك ده يا �سلمى!‬


‫‪� -‬إيه اللي � ِ‬
‫�ضاقت عيناها وانكم�شت مالمح وجهها‪ ،‬نظرت �إليها وهي ترفع‬
‫كتفيها بعدم فهم وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬عملت �إيه؟‬
‫وخمليك عاملة زي ال�ست‬
‫ِ‬ ‫أنت لب�ستيه ده! مكربك �أوي‬
‫‪� -‬إيه اللي � ِ‬
‫عليك!‬
‫العجوزة‪ ،‬وكمان وا�سع جدً ا ومبهدل ِ‬
‫‪124‬‬
‫جل�ست �سلمى بجوارهما وابت�سمت لفاطمة بثقة وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬بالعك�س يا فاطمة‪ ،‬اخلمار �شكله حلو جدً ا واحلمد هلل مريحني‪،‬‬
‫و�إذا كان على الو�سع يا �ستي فهو ده املطلوب �أ�ص ًال يف احلجاب‪.‬‬
‫ثم التفتت �إىل هند و�س�ألتها عن ر�أيها‪ ،‬وعلى غري املتوقع �أجابت هند‪:‬‬
‫‪ -‬حبيته!‬
‫ات�سعت عينا �سلمى فرحة وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬بجد!‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أوم�أت هند بر�أ�سها �إيجا ًبا وقالت بحما�س‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عليك‪� ،‬ألف مربوك‪.‬‬
‫‪ -‬حقيقي �شكله لطيف ِ‬
‫ﻜﺘ‬
‫أنت!‬
‫‪� -‬شوفتي �أهي دي النا�س وال بال�ش‪ ،‬م�ش � ِ‬
‫قالتها �سلمى موجهة حديثها لفاطمة‪ ،‬ف�سرى الغ�ضب يف خاليا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الأخرية وظهر ذلك جل ًيا على وجهها وزفرت قائلة‪:‬‬


‫عاجباك دلوقتي يا �ست �سلمى؟ هتعملي فيها متدينة‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬مبقيت�ش‬
‫ﺸﺮ‬

‫علينا يعني!‬
‫نه�ضت �سلمى من مكانها ووقفت قبالة فاطمة وهم�ست بحنان‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وعموما يا �ستي‬
‫ً‬ ‫‪ -‬على فكرة كنت بهزر وم�ش ق�صدي حاجة‪،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫قويل اللي يعجبك‪� ،‬أنا خال�ص تقري ًبا �أخدت مناعة من كرت‬
‫االنتقادات ومبقيت�ش بح�س‪.‬‬
‫ثم التفتت بعينيها �إىل هند و�س�ألت‪:‬‬
‫‪ -‬عرفتوا املحا�ضرة الأوىل هتكون فني؟‬
‫�أجابت هند بالإيجاب‪ ،‬ونه�ضت كل منهن و�سارت باجتاه املدرج الذي‬
‫�ستقام به املحا�ضرة‪.‬‬
‫‪125‬‬
‫ويف اجلهة املقابلة‪ ،‬و�أمام مبنى كلية الهند�سة‪ ،‬وقف �إ�سالم يبحث‬
‫يف املارة عن فاروق‪ ،‬فلقد ا�شتاق �إليه كث ًريا لأنه مل يلتق به منذ �أكرث‬
‫من ع�شرة �أيام‪ ،‬الحظ �شادي ‪-‬الذي كان مير بجواره‪ -‬عينيه التائهتني‬
‫فاقرتب منه وحياه با�س ًما‪ ،‬رد �إ�سالم التحية بحما�س و�س�أله عما �إذا كان‬
‫ر�أى فاروق هنا �أو هناك‪ ،‬ف�أخربه �شادي ب�أن فاروق كان هنا قبل عدة‬
‫دقائق وبالت�أكيد �صعد للأعلى لريى جدول املحا�ضرات اخلا�ص به‪ ،‬وعلى‬
‫الفور �صعد �إ�سالم الدرج وذهب باجتاه الالفتة التي يتم ل�صق جداول‬
‫املحا�ضرات عليها‪ ،‬وبالفعل وجد فاروق يقف �أمامها مم�س ًكا بهاتفه‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫بدل من نقله با�ستخدام القلم‬ ‫ح�س ًنا‪ ،‬يبدو �أنه يقوم بت�صوير اجلدول ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫والورقة كما كان يفعل الطالب قد ًميا‪ ،‬اقرتب �إ�سالم من فاروق ورفع‬
‫�صوته وهو يقول �ضاح ًكا‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬كل ده عمال ت�صور فيه! �أُمال لو كان جدول االمتحانات كنت‬
‫عملت �إيه!‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫التفت فاروق باجتاه م�صدر ال�صوت‪ ،‬وملا ر�أى �إ�سالم ات�سعت ابت�سامته‬
‫ﺸﺮ‬

‫واقرتب منه ُمت�ض ًنا �إياه‪ ،‬ثم حرك وجهه بي�أ�س م�صطنع وقال‪:‬‬
‫‪� -‬شكلك عمرك ما هتبطل اللما�ضة بتاعتك دي يا �إ�سالم‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪� -‬سيب اللما�ضة يف حالها دلوقتي وقويل فا�ضي وال لأ عل�شان‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫عاوزك يف مو�ضوع‪.‬‬
‫‪ -‬فا�ضي يا �سيدي‪ ،‬اتف�ضل!‬
‫�سارا �سو ًيا باجتاه �أحد املقاعد‪ ،‬وفور جلو�سهما بد�أ �إ�سالم حديثه‬
‫ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬مبا �إن دي �آخر �سنة لينا يف الكلية‪ ،‬ومبا �إننا كده كده بنتعب‬
‫جامد وبتطلع عينيا‪ ،‬فعاوزك تقويل ازاي ممكن �آخد ثواب‬
‫طول ال�سنة على تعبي ده لو ينفع!‬
‫‪126‬‬
‫‪ -‬املو�ضوع كله متوقف على نيتك‪.‬‬
‫قالها بب�ساطة‪ ،‬وملّا مل يفهم �إ�سالم ما يق�صده ا�ستطرد‪:‬‬
‫‪ -‬يعني ممكن تتعب طول ال�سنة وما ت�ستفيد�ش حاجة غري‬
‫�إنك عديت �سنة‪ ،‬وممكن بردو تعدد النوايا زي �إنك عاوز‬
‫تبقى مهند�س ناجح نافع لبلدك ولأمتك‪ ،‬و�إنك نف�سك تتفوق‬
‫عل�شان بعد كده تكون فاهم وت�شتغل ب�ضمري وما تت�سبب�ش يف �أي‬
‫�أذى للنا�س اللي هتعم ّلهم ال�شغل‪ ،‬وممكن بردو عل�شان تفرح‬

‫ﻋﺼ‬
‫والدتك وتخليها تفتخر بيك‪ ،‬وممكن كذا حاجة تانية‪ ،‬حاول‬
‫تفكر يف املو�ضوع وجتدد نيتك كل �شوية عل�شان ب�إذن اهلل تاخد‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ح�سنات على الوقت اللي بتق�ضيه هنا‪ ،‬وكل ما النوايا تزيد‬
‫ﻜﺘ‬
‫وتكون �صادقة �أكرث ب�إذن اهلل ثوابك يكون �أزيد‪.‬‬
‫ردد �إ�سالم كلمات فاروق الأخرية بداخله‪ ،‬و�شعر ب�صداها يرتدد‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫داخل عقله‪ ،‬وعلى الفور قرر �أن ي�ستثمر وجوده يف �سنته الأخرية‬
‫باجلامعة‪ ،‬فيكفي ما �ضاع �ساب ًقا‪ ،‬الآن وفقط �أدرك �أنه ي�ستطيع احل�صول‬
‫ﺸﺮ‬

‫على الثواب من �أي �شيء يفعله يف هذه احلياة‪ ،‬فقط لو جدد نيته وجعلها‬
‫خال�صة لربه‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪zzz‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بد�أت والء ‪-‬الأخت ال�صغرى ل�سلمى‪ -‬يف ترتيب موادها الدرا�سية‬


‫ح�سب �سهولتها و�صعوبتها‪ ،‬وقامت ب�إعداد جدول لتنظيم عملية املذاكرة‬
‫وحتديد عدد �ساعات معينة لكل مادة كي ال تهتم بواحدة على ح�ساب‬
‫الأخرى‪ ،‬وذلك لأنها قررت �أن جتتهد بقدر ا�ستطاعتها يف تلك ال�سنة‬
‫التي تدعى ثانوية عامة‪ ،‬كي حتقق ما متنته ومتناه والدها طيلة ال�سنوات‬
‫املا�ضية‪.‬‬
‫‪127‬‬
‫بينما �شعرت �سلمى بحب كلية الرتبية يت�سلل �إىل قلبها‪ ،‬وذلك حينما‬
‫فكرت يف الأمر ووجدت �أن وظيفة املعلم لها �أهمية كبرية يف املجتمع‪،‬‬
‫فمعلم الأطفال ال�صغار بالتحديد قادر على غر�س العديد من القيم‬
‫واملبادئ النبيلة يف نفو�س طالبه‪ ،‬كما �أن با�ستطاعته ‪ -‬بب�ساطة �شديدة‪-‬‬
‫�أن يجعل ه�ؤالء ال�صغار يحبون مادته الدرا�سية ويحبونه هو �شخ�ص ًيا‪،‬‬
‫ومن املمكن �أن يتذكره أ� ًيا منهم فيما بعد ويظل يدعو له ما دام ح ًيا‪،‬‬
‫لذلك قررت تلك الفتاة ذات الأ�صل الطيب �أن تكون هي املعلمة التي‬

‫ﻋﺼ‬
‫يتمناها كل طالب‪� ،‬أرادت �أن تكون من ُع ّمار الأر�ض‪� ،‬أرادت �أن ت�سمو‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مب�ستوى التعليم يف بلدها‪ ،‬قررت �أال ت�ست�سلم وت�سري كما �سار رفقائها‬
‫ال�سابقني‪ ،‬ال بل �ستغري م�سارها وحتاول ‪-‬حتى ولو كانت وحيدة‪� -‬أن تفعل‬
‫ﻜﺘ‬
‫ما متنته دائ ًما �أن يكون!‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مر العام الدرا�سي �سري ًعا على اجلميع عدا ال�صغرية والء‪ ،‬والتي‬
‫كانت تنتظر ثمرة جهدها طوال العام‪ ،‬وذات يوم بينما �سلمى جتل�س على‬
‫ﺸﺮ‬

‫احلا�سوب اخلا�ص بها وجدت �إعالن ُين ّبئها بظهور نتيجة الثانوية العامة‬
‫بعد طول انتظار‪ ،‬فت�سارعت نب�ضاتها كما لو كانت نتيجتها هي‪ ،‬و�صاحت‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ب�أعلى �صوتها با�سم والء التي جاءت مهرولة وقد �أدركت من نربة �صوت‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أختها �أن اللحظة املنتظرة قد حانت‪ ،‬اقرتبت من �سلمى وقد بد�أ خافقها‬
‫ي�ضخ بقوة اخلوف والتوتر‪ ،‬ونظرت لها وهي تومئ بر�أ�سها بهدوء وت�ضيق‬
‫ما بني عينيها وك�أنها ت�س�ألها عن حقيقة ما ت�شعر به‪ ،‬فابت�سمت �سلمى‬
‫بحنان وقالت‪:‬‬
‫‪� -‬أيوة النتيجة ظهرت احلمد هلل‪ ،‬حلظة واحدة �أنادي ماما‬
‫ونيجي ن�شوفها �سوا‪.‬‬
‫‪128‬‬
‫و�سرعان ما اختفت من الغرفة وذهبت تبحث عن والدتها‪ ،‬مل ت�ستطع‬
‫والء االنتظار �أكرث من ذلك وجل�ست على الكر�سي املقابل للحا�سوب‬
‫وحاولت �أن حت�صل على نتيجتها بنف�سها‪ ،‬ولكن ارتعا�ش كفيها حال بينها‬
‫وبني رغبتها‪ ،‬وعلى الفور ح�ضرت �سلمى م�سرعة تتبعها والدتها‪ ،‬ووقفت‬
‫�أمام احلا�سوب وكتبت الرقم القومي الذي حتفظه جيدً ا‪ ،‬حلظات قليلة‬
‫مرت ولكنها كانت ثقيلة باردة على اجلميع‪ ،‬مما جعل والء بالتحديد تفكر‬
‫يف كل احتمال ممكن عدا ح�صولها على الدرجة التي تتمناها‪ ،‬ولكنها‬

‫ﻋﺼ‬
‫�سرعان ما �سمعت �صيحة �أختها وهي تقول بفرح �شديد‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ %97 ،%97 -‬يا والاااء‪� ،‬ألف �ألف مربوووك يا حبيبتي‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫و�سرعان ما �أم�سكت الأم بال�صغرية وجذبتها �إىل ح�ضنها و�ضمتها‬
‫بقوة‪ ،‬كل ذلك ووالء ال ت�شعر ب�أي �شيء‪ ،‬انتظرت حتى �أفلتتها والدتها‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫واقرتبت من احلا�سوب وك�أنها ال ت�صدق ما �سمعته وبد�أت تنظر �إىل‬


‫درجات كل مادة حتى و�صلت �إىل جمموعها النهائي‪ ،‬وهنا فقط ارت�سمت‬
‫ﺸﺮ‬

‫ابت�سامة عذبة على �شفتيها ومتتمت بعبارات احلمد‪� ،‬أرادت �أن ُتخرب‬
‫ﻭ‬

‫والدها لكي تكتمل فرحتها فنه�ضت على الفور و�أم�سكت بهاتفها وقامت‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫باالت�صال به‪ ،‬ولكن يبدو �أن هاتفه مغلق �أو قد نفد �شحنه‪ ،‬بعد عدة دقائق‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫تتعد الن�صف �ساعة �سمعت طرقات على باب املنزل‪ ،‬قامت بفتحه‬ ‫مل َ‬
‫م�سرعة وما �أن ر�أت والدها وقبل �أن ينطق هو ب�أي �شيء قالت بفخر �شديد‪:‬‬
‫‪ -‬هند�سة يا حاج ب�إذن اهلل‬
‫فابت�سم والدها ابت�سامة خفيفة وهو يربت على كتفها‪ ،‬ثم نظر ل�سلمى‬
‫نظرة ذات معنى‪ ،‬وعاد �إىل والء ليقول بتباهي‪:‬‬
‫‪129‬‬
‫‪ -‬كنت مت�أكد �إنك هت�شرفيني قدام النا�س يا والء وم�ش هتعملي‬
‫زي �أختك!‬
‫�أهي املرة الألف �أم الع�شرة �آالف �أم �أكرث من ذلك؟ �أ�صبحت ال‬
‫ت�ستطيع َعد املرات التي ُيوبخها فيها والدها لأنها و�ضعت ر�أ�سه بالرتاب‬
‫بدل من الطب كما كان يتمنى‪ ،‬ثالث �سنوات‬ ‫ب�سبب التحاقها بكلية الرتبية ً‬
‫مرت‪ ،‬ثالث �سنوات ويف كل فر�صة ُيفتح فيها هذا املو�ضوع يجرحها والدها‬
‫بكلمة �أو ب�أخرى‪ ،‬حتى ظنت �أنه �أ�صبح يكرهها ب�سبب تلك الف�ضيحة التي‬

‫ﻋﺼ‬
‫�سببتها له بعد التحاقها بتلك الكلية‪ ،‬ابت�سمت �سلمى وحاولت �إخفاء تلك‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الأعا�صري التي تدور بداخلها‪ ،‬ولكن ابت�سامتها خرجت منك�سرة وهي‬
‫ﻜﺘ‬
‫تقول‪:‬‬
‫‪� -‬أنا �آ�سفة يا بابا �إين ك�سفتك قدام النا�س‪ ،‬ب�س تربية م�ش �سيئة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫زي ما ح�ضرتك متخيل‪ ،‬وكمان م�ش �شرط تكون والء �أف�ضل‬


‫ﺸﺮ‬

‫مني عل�شان هتدخل هند�سة ب�إذن اهلل‪.‬‬


‫‪ -‬لأ �أف�ضل يا �سلمى‪� ،‬أف�ضل لأنها تعبت وذاكرت وحققت لأبوها‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اللي كان بيتمناه‪ ،‬وغريها كان بيتدلع وم�ش بيذاكر �إال كل فني‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وفني‪.‬‬
‫‪ -‬ما�شي يا بابا ميكن هي �أف�ضل مني يف النقطة دي‪ ،‬ب�س ممكن‬
‫�أنا كمان �أمتيز يف جمايل ويف حياتي و�أكون �إن�سانة ناجحة حتى‬
‫لو جمبت�ش جمموع كبري يف الثانوية العامة‪.‬‬
‫‪ -‬اللي عايز ينجح كان جنح من زمان يا �سلمى‪ ،‬وكل واحد وقت‬
‫اجلد بيبان �إذا كان ناجح وال فا�شل‪.‬‬
‫‪130‬‬
‫‪ -‬يا بابا ب�س‪...‬‬
‫وهنا مل ي�ستطع والدها االحتفاظ بهدوئه �أكرث من ذلك‪ ،‬نظر لها‬
‫بحدة وقاطعها ً‬
‫قائل بحزم‪:‬‬
‫‪� -‬سلمى املو�ضوع منتهي‪ ،‬روحي يال افرحي مع �أختك بدل ما‬
‫حت�س �إنك بتغريي منها‪.‬‬
‫‪ -‬متقلق�ش يا بابا‪ ،‬والء عمرها ما هتح�س بكده لأنها عارفة �إين‬
‫كنت �أكرث واحدة بت�شجعها وبتقف جنبها ملا بتتعب �أو بيجيلها‬

‫ﻋﺼ‬
‫االكتئاب بتاع الثانوية العامة‪ ،‬بعد �إذن ح�ضرتك‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قالتها و�سارت وهي جتر خلفها �أذيال اخليبة‪ ،‬كم مرة حاولت �أن‬
‫ﻜﺘ‬
‫تو�ضح له وجهة نظرها‪ ،‬كم مرة �أرادت �أن تخربه �أنها من املمكن �أن‬
‫تنجح يف �أي �شيء �آخر‪ ،‬و�أن املو�ضوع لي�س له عالقة مبجموعها يف الثانوية‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫العامة‪ ،‬كم مرة ذكرته ب�أن الأف�ضلية تكون لل�شخ�ص التقي القريب من‬
‫ربه ولي�س ل�صاحب املجموع املرتفع يف تلك املدعوة بالثانوية العامة‪ ،‬ولكن‬
‫ﺸﺮ‬

‫والدها �أبى �أن يفكر يف كلماتها‪� ،‬أبى �أن ميررها بداخل عقله حتى ال يت�أكد‬
‫ً‬
‫حمتفظا بر�أيه يف‬ ‫من �صحتها وينهزم �أمامها‪ ،‬ظل طوال ثالث �سنوات‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�سلمى ب�أنها غري ناجحة على الإطالق‪ ،‬و�أن والء املجتهدة درا�س ًيا حت ًما‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫هي الأف�ضل منها‪.‬‬


‫و�صلت �سلمى �إىل غرفتها وتركت العنان لدموع عينيها ب�أن تهطل‬
‫ك�أمطار غزيرة بعدما حاربتها كث ًريا لتحب�سها داخل مقلتيها حتى ال‬
‫تف�ضحها �أمام والدها‪ ،‬و�أظهرت ثباتها رغم ما يعت�صر قلبها من �أمل‪،‬‬
‫دقائق قليلة مرت قبل �أن تطرق والء باب الغرفة وتفتحه بهدوء‪ ،‬وجدتها‬
‫�سلمى تنظر �إليها ب�إ�شفاق وتهم�س بحزن‪:‬‬
‫‪131‬‬
‫أنت عارفة �إن بابا بيحبك وم�ش ق�صده حاجة‪،‬‬
‫‪ -‬معل�ش يا �سلمى � ِ‬
‫وحقيقي �أنا �آ�سفة �إين كنت �سبب يف كل اللي ح�صل ده‪.‬‬
‫بد�أت �سلمى تكفكف دموعها‪ ،‬ونظرت لوالء بابت�سامة باهتة وك�أنها‬
‫عليك‪ ،‬فذلك حت ًما كان ال بد �أن يحدث‪ ،‬اقرتبت منها‬
‫حتدثها �أن ال ِ‬
‫ال�صغرية وربتت على كتفها بحنان بعدما جل�ست �إىل جوارها‪ ،‬ف�أحاطتها‬
‫�سلمى بذراعها الأمين وقالت بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬مت�شغلي�ش بالك يا والء‪ ،‬املهم دلوقتي عاوزين نفكر يف اخلطوة‬

‫ﻋﺼ‬
‫اجلاية‪.‬‬

‫‪z‬‬ ‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪132‬‬
‫‪-5-‬‬

‫مرت عدة �أ�شهر بعد تخرج كل من �إ�سالم وفاروق‪ ،‬حاول خاللهم‬


‫ال�شابان البحث عن �أي وظيفة منا�سبة ولكن يبدو �أنهما وجدا الأمر‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أ�صعب مما كانا يتوقعان‪ ،‬بد�أ �إ�سالم يبحث على الإنرتنت ويت�صل ب�أقاربه‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ومعارفه وي�س�ألهم عن �أي وظيفة �سمعوا عنها تليق به‪ ،‬بينما ظل فاروق‬
‫يتجول بني ال�شركات وامل�صانع نها ًرا حل�ضور املقابالت ال�شخ�صية‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ليل على الإنرتنت للبحث عن �شركات جديدة تطلب مهند�سني‬ ‫واجللو�س ً‬
‫حديثي التخرج واالت�صال بهم لتحديد موعد املقابلة ال�شخ�صية‪ ،‬ا�ستمر‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫احلال به هكذا قرابة اخلم�سة �أ�شهر حتى �شعر بالإحباط ال�شديد‪� ،‬شعر‬
‫�أن �أحالمه تنهار �أمام عينيه‪� ،‬شعر �أنه لن ي�صل للفتاة التي ظل يحلم‬
‫ﺸﺮ‬

‫بها ل�سنوات طوال ب�سبب تلك الوظيفة غري املوجودة‪ ،‬ففي كل مقابلة‬
‫ﻭ‬

‫�شخ�صية كان يجد ع�شرات ال�شباب مثله ينتظرون دورهم يف املقابلة رغم‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أن ال�شركة ال حتتاج �إال �إىل مهند�س واحد فقط �أو اثنني ال �أكرث‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بد أ� يلج�أ �إىل اهلل‪ ،‬نعم فاللجوء �إىل اهلل هو احلل‪ ،‬بد�أ يطلب من ربه‬
‫العون‪ ،‬بد�أ يحدث ربه مبا يف قلبه من �أحالم و�أحزان‪ ،‬بد�أ يخرج كل ما‬
‫يعتمل بداخله من �أماين على �سجادته ال�صغرية ويطلب من ربه �أن يرزقه‬
‫بالأموال التي يتقدم بها لتلك الفتاة التي حافظ عليها ل�سنوات‪ ،‬و�أن‬
‫يزوجها �إياه باحلالل لكي ي�سكن �إليها ويعرب لها عن حبه ويق�ص عليها‬
‫�صربه وجماهدته طوال ال�سنوات املا�ضية‪.‬‬
‫‪133‬‬
‫وبالفعل بعد �أيام قالئل وجد �إحدى ال�شركات تت�صل به لتخربه ب�أنه مت‬
‫قبوله يف الوظيفة التي تقدم �إليها قبل عدة �أيام‪ ،‬وتطلب منه احل�ضور يف‬
‫الغد لإمتام الإجراءات الالزمة وال�شروع يف العمل‪ ،‬كاد �أن يقفز من مكانه‬
‫فرحا بعدما �شعر �أن ن�صف‬ ‫فور �سماعه هذا اخلرب‪ ،‬كاد �أن يرق�ص قلبه ً‬
‫امل�شكلة قد ُح َّل‪ ،‬و�أن املتبقي فقط هو الذهاب ملنزل تلك التي متناها دائ ًما‬
‫وطلبها زوجة له‪ ،‬انتظر انتهاء �أول يوم يف عمله بفارغ ال�صرب و�أ�سرع �إىل‬
‫منزله لكي يخرب والدته بالأمر‪ ،‬فح ًقا �أ�صبح ال ي�ستطيع ال�صرب �أكرث من‬
‫ذلك‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫دخل منزله على عجل وتوجه �إىل املطبخ حيث توجد والدته و�أخربها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫على الفور برغبته يف الزواج‪� ،‬ضحكت الأم مبلء فيها حيث ظنت �أنه ميزح‬
‫ﻜﺘ‬
‫وقالت بال مباالة ب�أنها �سوف تبحث له عن عرو�س‪ ،‬وعندما علمت منه‬
‫�أن العرو�س موجودة بالفعل ارتفعت �أ�صوات �ضحكاتها �أكرث وهي تقول‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫م�شاك�سة �إياه‪:‬‬
‫‪ -‬يا خويا طب ما �أنت بتعرف بنات �أهو‪ ،‬عام ّلي فيها �شيخ ليه‬
‫ﺸﺮ‬

‫بقى!‬
‫أنت متعرفي�ش ابنك‬ ‫أنت اللي بتقويل كده يا حجة! هو � ِ‬
‫‪ -‬بقى � ِ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عموما دي بنت �أخالقها كوي�سة جدً ا و�أنا‬


‫مرتبي ازاي وال �إيه! ً‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫حابب �إنها تكون زوجتي امل�ستقبلية ب�إذن اهلل‪ ،‬ممكن بقى تقفي‬
‫معايا ونفاحت بابا يف املو�ضوع �أول ما ييجي؟ لأين ب�صراحة‬
‫م�ستعجل جدً ا!‬
‫نظرت له والدته بحب وعلى �شفتيها ابت�سامة فرحة‪ ،‬وبد�أت الدموع‬
‫تتجمع يف عينيها البنيتني‪ ،‬نعم فقد كرب ال�صغري الذي كان يجري هنا‬
‫وهناك وي�صرخ يف كل مكان‪ ،‬كرب و�أراد �أن يتزوج وينجب لها حفدة �صغار‬
‫تت�سلى بهم وميلئون حياتها ب�أ�صواتهم و�ضجيجهم‪� ،‬س�ألته والدته من تكون‬
‫‪134‬‬
‫تلك الفتاة‪ ،‬وعندما �أخربها با�سمها قالت ب�أنها ال تعرفها جيدً ا‪ ،‬ولكنها‬
‫حت ًما ذات خلق و�إال مل يكن ليختارها فاروق‪ ،‬وعدته ب�أنهم �سيذهبون �إىل‬
‫منزلها يف �أقرب وقت �إن �شاء الرحمن‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫ذات م�ساء بينما �سلمى جال�سة على فرا�شها و ُمتد ّثرة بغطائها ال�سماوي‬
‫اخلفيف‪ ،‬ومم�سكة بيدها �إحدى الروايات تقر�أ فيها‪� ،‬إذ تدخل عليها والء‬
‫وهي تتمايل مينة وي�سرة من فرط �ضحكاتها‪ ،‬مما قذف الف�ضول �إىل عقل‬

‫ﻋﺼ‬
‫�سلمى وجعلها ترتك ما بيدها وت�س�أل والء عن ال�سبب‪ ،‬يبدو �أنها مل ت�سمع‬
‫ال�س�ؤال‪ ،‬هكذا ظنت �سلمى‪ ،‬مما جعلها تعيده مرة �أخرى‪ ،‬و�إذا بوالء تنظر‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�إليها �ساخرة وت�ستمر يف ال�ضحك من جديد‪ ،‬نه�ضت �سلمى من مكانها‬
‫ﻜﺘ‬
‫ووقفت �أمام والء وو�ضعت يدها على فمها لتقطع وا�صلة ال�ضحك التي‬
‫ظنت �أنها �ست�ستمر للغد‪ ،‬ثم �أفلتت يدها و�س�ألت بجدية �أكرب من املرة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ال�سابقة‪ ،‬ف�أجابت والء مم�سكة �ضحكاتها ب�صعوبة‪:‬‬


‫أبوك جايبلك عري�س‪ ،‬و ُم ِّ�صر �إنك تقابليه!‬
‫‪ِ �-‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬عري�س ازاي يعني! هو احنا م�ش متفقني �إن مفي�ش كالم يف‬
‫ﻭ‬

‫املو�ضوع ده غري بعد التخرج؟!‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قالتها �سلمى ب�ضيق وقد بدت عالمات التوتر على وجهها‪ ،‬وملا مل ترد‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫والء ا�ستطردت‪:‬‬
‫‪� -‬أنتوا عارفني كوي�س �أوي �إين ل�سه م�ش م�ستعدة للخطوة دي‬
‫دلوقتي‪� ،‬أنا حمتاجة �إين �أقرب من ربنا �أكرث من كده و�أعرف‬
‫عن ديني كوي�س‪ ،‬عل�شان �أكون ب�إذن اهلل زوجة و�أم �صاحلة‪،‬‬
‫وكمان حمتاجة �أقر�أ عن التعامل مع الرجال وتربية الأطفال‬
‫وحاجات كتري‪ ،‬اجلواز ده م�سئولية م�ش لعبة يا جماعة!‬
‫‪135‬‬
‫‪ -‬يا �ستي و�أنا مايل‪ ،‬ما تروحي تقويل الكالم ده لبابا!‬
‫قالتها والء بال مباالة‪ ،‬ف�س�ألتها �سلمى عن كونه يف حالة مزاجية جيدة‬
‫�أم ت�ؤجل احلوار لوقت �آخر‪ ،‬وقبل �أن جتيب ال�صغرية �سمعا م ًعا طرقات‬
‫والدهما على الباب‪� ،‬أتبعها بدخوله بابت�سامته اخلفيفة‪ ،‬طلب الأب من‬
‫والء البقاء خارج الغرفة واقرتب من �سلمى وجل�س بجوارها‪ ،‬و�أخربها‬
‫�أن هناك من يريد التقدم خلطبتها‪ ،‬ف�أجابت �سلمى وهي حتاول انتقاء‬
‫غ�ضب والدها‪:‬‬ ‫كلماتها حتى ال ُت ِ‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬م�ش احنا متفقني يا بابا �إن مفي�ش جواز �إال بعد ما �أتخرج ب�إذن‬
‫اهلل‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬و�أنا عند كلمتي‪ ،‬لو ح�صل ن�صيب يبقى نعمل خطوبة دلوقتي‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫والفرح بعد ما تخل�صي كليتك �إن �شاء اهلل‪.‬‬
‫‪ -‬ب�س �أنا م�ش عايزة يا بابا!‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حازما‪:‬‬
‫اختفت االبت�سامة من على �شفتي والدها‪ ،‬نظر لها بجدية وقال ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫أنت م�ش �صغرية‪،‬‬


‫‪ -‬مفي�ش حاجة ا�سمها م�ش عايزة‪ ،‬الولد كوي�س و� ِ‬
‫�شوفيه ولو موافقتي�ش خال�ص حمد�ش هيجوزك بالعافية‪.‬‬
‫ﻭ‬

‫غ�ضب والدها‪ ،‬وتيقنت � ّأل مفر من مقابلته‪ ،‬ف�س�ألته‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أرادت �سلمى �أال ُت ِ‬


‫عن �أخالقه ف�أجابها مبنتهى الثقة‪ :‬حمرتم وبي�صلي‪ ،‬فزفرت بي�أ�س‪،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫و�س�ألت مو�ضحة‪:‬‬
‫‪ -‬يا بابا م�ش ق�صدي‪� ،‬أنا عاوزة �أعرف يعني عالقته بربنا عاملة‬
‫ازاي؟ مواظب على ال�صالة يف اجلامع وال لأ؟ بيتقن �شغله‬
‫وعنده �ضمري وبرياعي ربنا يف ال�سر قبل العلن وال لأ؟ عالقته‬
‫بزميالته يف ال�شغل حدودها �إيه؟ بي�سمع �أغاين وبيتفرج‬
‫على �أفالم وال بيغ�ض ب�صره؟ �أهدافه يف احلياة �إيه؟ عارف‬
‫‪136‬‬
‫واجباته كزوج وعارف املفرو�ض هيتعامل ازاي مع الأمانة اللي‬
‫هيتجوزها وال لأ؟ بره مبامته وباباه �أخباره �إيه؟ كده يعني!‬
‫انتظرها والدها على م�ض�ض حتى �أنهت ثرثرتها‪ ،‬ثم ع ّلق على كلماتها‬
‫بتعجب‪:‬‬
‫أنت عاوزاين �أ�س�أل على ده كله! ده كده هيم�شي من قبل ما‬
‫‪ِ �-‬‬
‫ييجي!‬
‫‪ -‬يا بابا ما هو ده الطبيعي!‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬لأ الولد حمرتم وكوي�س و�أنا عارف والده‪ ،‬اقعدي معاه وبعدين‬
‫ّ‬
‫يطف�ش‬ ‫أنت عايزاه‪ ،‬وربنا ي�سرت وما‬
‫ابقي ا�س�أليه على اللي � ِ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫منك!‬
‫ﻜﺘ‬
‫�ألقى بكلماته الأخرية احلا�سمة و�ضرب بكفيه على ركبتيه م�ستعدً ا‬
‫للنهو�ض‪ ،‬كادت �سلمى �أن تطلب منه �أن ي�ؤجل الأمر لعدة �أيام حتى تفكر‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أو ت�ستعد‪ ،‬ولكنها و�أدت طلبها قبل �أن يتجاوز �شفتيها حتى ال تثري �سخطه‪،‬‬
‫وتركته يغادر مقررة �أن تت�صرف هي يف الأمر عن طريق ت�صنع الغباء �أو‬
‫ﺸﺮ‬

‫الربود‪ ،‬ال�سذاجة ورمبا اجلنون‪ ،‬حتى يغادر ذاك العري�س بال رجعة‪.‬‬
‫ﻭ‬

‫م�ضى يومان قبل �أن يخربها والدها �أن العري�س �سي�أتي مع والده‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ووالدته يف الغد‪ ،‬ظلت تفكر طوال الليل فيما يجب �أن تفعله‪ ،‬كانت يف‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫حرية ما بني �أمرين‪� ،‬إما �أن جتعله يكرهها ب�أي طريقة كانت‪ ،‬ويف تلك‬
‫موقف َح ِرج �أمام والد العري�س الذي‬‫احلالة تكون قد و�ضعت والدها يف ٍ‬
‫يقول �أنه يعرفه جيدً ا‪ ،‬و�إما �أن ترف�ضه ‪-‬بعد �أن ي�أتي‪ -‬بدون �سبب مقنع‪،‬‬
‫أي�ضا‪ ،‬فبع�ض‬‫ولكنها �شعرت �أن هذا �سي�صبح ظل ًما كب ًريا له ورمبا لنف�سها � ً‬
‫الأمور ال يجب ا�ستخدام ال ِعناد فيها‪ ،‬حاولت التفكري بطريقة �أخرى‪،‬‬
‫حاولت التنازل عن قناعاتها ال�شخ�صية و�س�ألت نف�سها‪ :‬ماذا لو كان هذا‬
‫‪137‬‬
‫ال�شخ�ص هو من حتلم به منذ �سنوات؟ ماذا لو �أخذ بيديها �إىل طريق‬
‫اهلل كما متنت؟ ماذا لو وجدت فيه كل ما كانت حتلم به يف رفيق دربها‬
‫ون�صفها الثاين! �أيعقل �أن ترف�ضه لأنها مل تن ِه درا�ستها بعد‪� ،‬أيعقل �أن‬
‫�صالح من �أجل عدة �شهور درا�سة �إ�ضافية‪� ،‬أم تقبل به‬
‫�شاب ٍ‬ ‫تتنازل عن ٍ‬
‫وترتب �أمورها معه كما ترى يف �صاحلها و�صاحله‪ ،‬نعم تلك الفكرة جيدة‪،‬‬
‫هكذا رددت بداخل نف�سها‪ ،‬ح�س ًنا‪� ،‬ستقابله بطبيعتها‪ ،‬وبدون �أي ت�صنع‪،‬‬
‫وليكن بعدها ما يكن‪.‬‬
‫يف اليوم التايل بعد �صالة الع�شاء مبا�شرة بد�أت �سلمى يف اال�ستعداد‬

‫ﻋﺼ‬
‫ال�ستقبال العري�س املُنتظر‪ ،‬ارتدت ف�ستا ًنا �أني ًقا �أبي�ض اللون ُمزدان‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بزهرات بنف�سجية �صغرية من على الأطراف‪ ،‬وقامت بلف خمارها‬
‫ﻜﺘ‬
‫البنف�سجي حول وجهها احليي ليزداد نو ًرا‪ ،‬قررت �أال ت�ضع نقطة واحدة‬
‫من م�ساحيق التجميل اخل َّداعة‪� ،‬شعرت �أن �أقل حقوقه �أن يراها على‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫طبيعتها‪ ،‬و�أن يوافق عليها كما هي‪ ،‬ال �أن يرى واحدة ويكت�شف بعد ذلك‬
‫ً‬
‫وعاجل �أو‬ ‫�أنه تزوج ب�أخرى‪ ،‬تيقنت �أنها لن ت�ستطيع �أن تخدعه ً‬
‫طويل‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫آجل �سوف يكت�شف حقيقتها ولن ينالها منه حينها �سوى بع�ض الكلمات‬ ‫� ً‬
‫اجلارحة التي ُتفقدها ثقتها بنف�سها‪ ،‬انتهت من تعديل هندامها �أمام‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫املر�آة وا�ستدارت لتجل�س على فرا�شها لتعيد ترتيب �أفكارها يف ر�أ�سها‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫دقائق قليلة مرت قبل �أن ت�سمع طرقات على باب منزلهم‪ ،‬ت�صحبها‬
‫طرقات �أخرى عنيفة على باب قلبها‪ ،‬حاولت �أال تتوتر‪ ،‬حاولت �أن تبدو‬
‫ال�ستار الذي يف�صل ال�صالة‬ ‫هادئة‪ ،‬ولكن الأمر لي�س بيدها‪ ،‬اقرتبت من ِ‬
‫عن بقية الغرف وفتحت منه فتحة �صغرية حاولت من خاللها اختال�س‬
‫النظر له�ؤالء القادمني‪ ،‬فلمحت امر�أة تتحرك بهدوء وا�ضح و�أمامها رجل‬
‫احتل ال�شيب ر�أ�سه‪ ،‬وبجوارهما يقف �شاب طويل القامة مفتول الع�ضالت‬
‫يرتدي مالب�س �أنيقة للغاية وله رائحة عطر جميلة �أ�سعدتها‪ ،‬حاولت �أن‬
‫‪138‬‬
‫تتحقق من مالمح وجهه ولكنه حترك للأمام فلم ت�ستطع �أن ترى �أي �شيء‪،‬‬
‫جل�س كل من والدها ووالدتها مع الزائرين و�أخذ كل منهم يتعرف على‬
‫الآخر وعائلته ما يقرب من الربع �ساعة‪ ،‬ثم نه�ض الأب لإح�ضار العرو�س‪،‬‬
‫�سارت �سلمى خلف والدها بحياء بالغ و�ألقت التحية على احلا�ضرين‪،‬‬
‫ثم �أ�شار لها والدها �أن جتل�س يف نهاية ال�صالة وطلب من العري�س �أن‬
‫ينه�ض ليجل�س �أمامها‪ ،‬وانزوى اجلميع يف اجلانب الآخر من ال�صالة كي‬
‫يرتكوا لهما حرية احلديث‪ ،‬فكانوا يرونهم بدقة ولكن ال ي�سمعون �إال بع�ض‬
‫الكلمات فقط‪ ،‬بد�أ العري�س حديثه ب�إلقاء التحية على �سلمى‪ ،‬وملا رفعت‬

‫ﻋﺼ‬
‫وجهها لتجيبه ملحت يف وجهه َم ْ�س َحة من و�سامة فات�سعت ابت�سامتها رغ ًما‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عنها‪ ،‬وظهرت ُحمرة احلياء على خديها فنظرت للأر�ض مرة �أخرى‪،‬‬
‫طويل‪ ،‬حدثها عن عمله‬ ‫الحظ العري�س ارتباكها فبد أ� يحدثها عن نف�سه ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫وعن �أ�صحابه‪ ،‬حدثها عن الأماكن التي يخرج �إليها �أ�سبوع ًيا وعن نوعية‬
‫أي�ضا عن اهتمامه ال�شديد‬ ‫امل�صايف التي يحب زيارتها �سنو ًيا‪ ،‬حدثها � ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بهندامه و�أناقته‪ ،‬وعن نظرة النا�س له‪� ،‬شعرت �سلمى من كلماته ب�أنه‬
‫�شاب عادي ال مييزه �شيء عن معظم ال�شباب‪� ،‬شاب يعي�ش ليعمل ويخرج‬
‫ﺸﺮ‬

‫مع �أ�صدقائه وينام وفقط‪ ،‬مل يذكر �أي �شيء عن عالقته بربه‪ ،‬مل يتحدث‬
‫ﻭ‬

‫عن اجلنة وعن �أنه يتمنى �أن يكون من �أهلها‪ ،‬مل يتحدث عن �أي �شيء من‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اهتمامات �سلمى‪ ،‬قررت �أن ت�س�أله عما يجول بخاطرها ولكن بقليل من‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫الذكاء‪ ،‬فانتظرت حتى انتهى من كالمه وقالت مبت�سمة‪:‬‬


‫‪ -‬ما �شاء اهلل ح�ضرتك باين عليك مهتم ب�شغلك جدً ا‪ ،‬و�أكيد‬
‫طب ًعا لو ات�شغلت �شوية وفاتتك ال�صلوات برتوح تعو�ضها يف‬
‫البيت وم�ش بتخليها تروح منك‪� ،‬صح؟‬
‫ابت�سم بحرج بعدما باغتته بذلك ال�س�ؤال الذي مل يتوقعه و�أجاب‪:‬‬
‫‪� -‬آه‪� ...‬آه طب ًعا!‬
‫‪139‬‬
‫�شعرت ب�أنه ر�سب يف �أول اختبار و�ضعته له‪ ،‬حاولت �أال يبدو على وجهها‬
‫�أي تغيري وظلت حمتفظة بابت�سامتها‪ ،‬و�س�ألت مرة �أخرى‪:‬‬
‫‪ -‬متام ربنا يعينك‪ ،‬يا ترى �إيه هي �صفات الزوجة اللي بتتمناها؟‬
‫‪ -‬يعني تبقى حلوة‪ ،‬وتعامل �أهلى كوي�س وتهتم بيا وب�أوالدها‪،‬‬
‫وطب ًعا ما تبقا�ش نكدية!‬
‫قال كلمته الأخرية �ضاح ًكا‪ ،‬ف�أكملت �سلمى متجاهلة �سخريته و�س�ألت‪:‬‬
‫‪ -‬طيب وح�ضرتك بتعرف تهتم ب�أوالد؟ ق�صدي يعني حاطط‬

‫ﻋﺼ‬
‫خطة للرتبية؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬وملا �أنا هربيهم هي هتعمل �إيه؟!‬
‫ﻜﺘ‬
‫قالها بتعجب ممزوج بالده�شة‪ ،‬ف�أجابت �سلمى مو�ضحة‪:‬‬
‫‪ -‬ق�صدي يعني ح�ضرتك ت�ساعدها يف تربيتهم‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫علي امل�صاريف وهي‬


‫‪ -‬لأ طب ًعا �أنا م�ش فا�ضي للكالم ده‪� ،‬أنا َّ‬
‫ﺸﺮ‬

‫تت�صرف يف الباقي!‬
‫رغ ًما عنها ت�أثرت ابت�سامتها وظهر ال�ضيق على وجهها‪ ،‬حاولت �أال‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫تظلمه وو�ضحت ر�أيها للمرة الأخرية وقالت‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬طيب ما هو ً‬
‫مثل الزم ح�ضرتك اللي توديهم امل�سجد عل�شان‬
‫يتعودوا على ال�صالة وكده‪.‬‬
‫ً‬
‫حماول ا�ستعادة ابت�سامته‪:‬‬ ‫زفر مبلل‪ ،‬وقال‬
‫‪ -‬ما�شي هبقى �أوديهم �إن �شاء اهلل!‬
‫‪� -‬آخر حاجة بقى‪ ،‬ح�ضرتك بتحلم ب�إيه؟ �أو �إيه هي �أهدافك يف‬
‫احلياة؟‬
‫‪140‬‬
‫‪ -‬بحلم �أعي�ش حياة م�ستقرة وهادية بدون م�شاكل‪ ،‬و�أف�ضل‬
‫�أترقى يف �شغلي حلد ما �أم�سك الإدارة‪.‬‬
‫‪ -‬ب�س؟!‬
‫‪ -‬وهو الإن�سان حمتاج �إيه تاين غري كده؟!‬
‫قالها بتعجب �شديد‪ ،‬بينما �شعرت �سلمى ب�أنها اكتفت بتلك الأ�سئلة‬
‫وبكالمه ال�سابق عن نف�سه ملعرفة �شخ�صيته‪ ،‬قررت �أن تعطيه حقه يف‬
‫معرفتها‪ ،‬ف�س�ألته �إذا كان لديه �أي �أ�سئلة يوجهها �إليها‪ ،‬ف�أجاب على الفور‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬قوليلي‪� ،‬إيه هي �صفات فار�س �أحالمك؟‬
‫�شعرت �سلمى بطاقة كبرية جتتاحها‪ ،‬وك�أنها كانت تنتظر هذا ال�س�ؤال‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫طوال الوقت‪ ،‬وانطلق ل�سانها مبا يف داخلها من �أحالم‪ ،‬وقالت ب�سرعة‬
‫ﻜﺘ‬
‫رهيبة‪:‬‬
‫‪ -‬عاوزاه يكون حافظ القر�آن �أو حتى �أجزاء منه ويحفظني‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عاوزاه بار ب�أمه و�أبوه وبرياعي ربنا يف كل خطوة بيعملها‪،‬‬


‫عاوزاه حد عاي�ش وهدفه اجلنة وبيعمل �أي حاجة ممكن تقربه‬
‫ﺸﺮ‬

‫من الهدف ده‪ ،‬الزم الزم يكون مواظب على �صلواته كلها‬
‫يف امل�سجد‪ ،‬الزم كمان يكون عارف معلومات عن دينه وعن‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫املعاملة اللي املفرو�ض يعاملها لزوجته و�أوالده‪ ،‬عاوزاه كمان‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫حد علطول بيحاول يغ�ض ب�صره‪ ،‬حد قلبه ما فيهو�ش غري حب‬
‫ربنا وم�ش بي�سمح �أبدً ا �إن يدخله �أي حب حرام‪ ،‬حد بيتخذ‬
‫النبي عليه ال�صالة وال�سالم قدوة ومت�أكد �إن �أي حاجة النبي‬
‫وال�صحابة كانوا بيعملوها احنا كمان نقدر نعملها‪ ،‬عاوزاه‬
‫كمان ي�ساعدين يف �شغل البيت ويوم ما �أعمل حاجة غلط يقعد‬
‫معايا ويفهمني بالراحة‪ ،‬من الآخر عاوزاه حد ياخد بايدي‬
‫للجنة ب�أي �شكل من الأ�شكال‪.‬‬
‫‪141‬‬
‫وك�أنها تفكر يف اجتاه ويفكر هو يف اجتاه �آخر‪ ،‬وجد �أنه ال توجد به‬
‫حتى �صفة واحدة مما متنتها‪ ،‬فابت�سم لها ً‬
‫قائل ب�صدق‪:‬‬
‫‪ -‬ربنا يرزقك بيه‪� ،‬أ�ست�أذن �أنا بقى‪.‬‬
‫ثم نه�ض من مكانه واقرتب من ه�ؤالء اجلال�سني بعيدً ا‪ ،‬نظر �إىل والده‬
‫ففهم �أنه يريد املغادرة‪ ،‬فنه�ض هو الآخر وتبعته زوجته‪� ،‬ألقوا التحية على‬
‫اجلميع وغادروا على الفور‪� ،‬أثناء �سريه مع �أهله وعندما �س�ألته والدته عن‬
‫ر�أيه �أجاب باقتناع �شديد‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬دي تقري ًبا عاوزة تتجوز واحد م�ش موجود يف الوجود!‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وعندما مل تفهم والدته طلب منها �أن ترتكه يفكر لعدة �أيام‪ ،‬ثم بعدها‬
‫ﻜﺘ‬
‫�سيخربهم بر�أيه النهائي‪.‬‬
‫ذهبت �سلمى �إىل غرفتها فور مغادرتهم متعللة برغبتها يف تبديل‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مالب�سها‪ ،‬وحتى ال يحا�صرها �أحدهم بالأ�سئلة وهي التي ال تريد �أن ترد‬
‫ب�أي �شيء قبل �أن تفكر بكل جدية وعقالنية‪ ،‬ولكن ف�ضول والء امللتهب �أبى‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أن ير�ضخ لرغبة �سلمى‪ ،‬فانتظرت ب�صعوبة حتى انتهت �أختها من تبديل‬
‫ﻭ‬

‫مالب�سها ودخلت الغرفة‪� ،‬س�ألتها ب�إ�صرار �شديد عن ر�أيها‪ ،‬ف�أرادت �سلمى‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أال تغ�ضب �شقيقتها و�أجابت‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ه�صلي ا�ستخارة و�أ�شوف ب�إذن اهلل‪ ،‬ب�س يف الغالب هرف�ض‪.‬‬


‫وهنا �صرخت والء بهلع‪ ،‬وات�سعت حدقتاها ب�شدة وهي تهتف بده�شة‪:‬‬
‫عليك! هو ده حد يرتف�ض!‬
‫‪ -‬ترف�ضي مني يا �سلمى حرام ِ‬
‫�ض ّيقت �سلمى ما بني عينيها بتعجب �شديد‪ ،‬و�س�ألت باهتمام‪:‬‬
‫أنت �شوفتيه؟‬
‫‪ -‬مالك م�ستغربة كده ليه؟ هو � ِ‬
‫‪142‬‬
‫معاك‪� ،‬شويف �شكله ولب�سه عاملني‬
‫‪� -‬أيوة �شوفته ملا قام وراح يقعد ِ‬
‫ازاي‪ ،‬ده طلع �أحلى بكتري من النا�س اللي بتيجي يف التلفزيون‪،‬‬
‫يعني هتبقي ما�شية جنبه ورافعة را�سك لفوق بكل فخر‪ ،‬كمان‬
‫�شغال يف �شركة كبرية وهيعي�شك ملكة!‬
‫‪ -‬ب�س م�ش عنده دين يا والء‪ ،‬ودينه و�أخالقه عندي �أهم من �أي‬
‫حاجة تانية!‬
‫نظرت لها والء باقت�ضاب ثم قالت م�ستنكرة‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬م�ش عنده دين ازاي يعني؟! ما هو م�سلم �أهو!‬
‫تنهدت �سلمى ب�إرهاق‪ ،‬يبدو �أن حماولة �إقناع والء �ستف�شل ككل مرة‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ذهبت �إىل �أقرب مقعد بجوارها و�ألقت بج�سدها ال�صغري عليه‪ ،‬ثم عادت‬
‫ﻜﺘ‬
‫بظهرها �إىل ظهر كر�سيها بهدوء‪ ،‬وقالت وهي تنظر �إليها برفق‪:‬‬
‫‪ -‬م�ش كفاية �إنه يكون م�سلم يف البطاقة يا والء‪� ،‬أنا عاوزة واحد‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ياخد بايدي للجنة‪ ،‬ويكون �أول �أهدافه يف احلياة �إنه ير�ضي‬


‫ربنا‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬يا �سلمى ده عري�س لقطة‪ ،‬خ�سارة بجد ت�ضيعيه من �إيدك‪،‬‬


‫ﻭ‬

‫وافقي يا �ستي وابقي غرييه براحتك بعدين!‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪� -‬أيوة بالظبط كده‪ ،‬بعد اجلواز يتغري‪ ،‬وبكره يتعدل‪ ،‬و�أ�سمع �أنا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫كالمكم دلوقتي على �أمل �إنه يبقى �إن�سان تاين بعد اجلواز‪،‬‬
‫و�أتفاجئ بعدها �إن مفي�ش حاجة فيه اتغريت و�أندم‪ .‬أل يا‬
‫والء �أنا مقتنعة �إين لو م�ش هقدر �أحتمله زي ما هو كده يبقى‬
‫الرف�ض هيكون �أف�ضل َّ‬
‫يل وله‪ ،‬لأن الطبيعي �إين بختار �إن�سان‬
‫هعي�ش معاه ب�إذن اهلل عمري كله فالزم �أكون متقباله بعيوبه‬
‫قبل مميزاته‪ ،‬ولو يا �ستي بعد اجلواز اتغري للأح�سن كمان‬
‫‪143‬‬
‫فهتكون حاجة كوي�سة‪ ،‬ولو متغري�ش �أكون بردو قادرة �أكمل‬
‫حياتي معاه زي ما هو‪.‬‬
‫مبلل �شديد‪ ،‬كانت تريد �أن تخربها‬
‫كانت والء ت�ستمع �إىل كلمات �أختها ٍ‬
‫ب�أنها تفكر بحماقة‪ ،‬فكيف ترف�ض ذاك الكنز الذي �أتى �إليها من حيث‬
‫ال حتت�سب‪ ،‬ذاك الكنز الذي تتمناه مئات ورمبا �آالف الفتيات غريها‪،‬‬
‫�أي عقل هذا يا اهلل! �شعرت والء �أن �سلمى لن تدرك قيمة هذا الر�أ�س‬
‫الياب�س وذلك التفكري العقيم �إال عندما ُت�ض ّيع منها تلك الفر�صة‪� ،‬أرادت‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أن ت�صرخ بها لت�ستفيق‪� ،‬أرادت �أن تزوجها �إياه عنوة‪ ،‬ولكنها لن ت�ستطيع‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أنت حرة‪ .‬ثم‬
‫اكتفت بنظرة خاوية �إىل �أختها �أتبعتها بكلمتها الأخرية‪ِ � :‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫غادرت الغرفة و�صفعت الباب خلفها بي�أ�س‪ ،‬ابت�سمت �سلمى بعدما غادرت‬
‫�صغريتها الغرفة وظلت تدعو لها بالهداية والتوفيق يف حياتها‪ ،‬وقررت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بعدها �أال تخرب �أحدً ا �آخر عن ر�أيها قبل اتخاذ قرارها النهائي‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ف�شلت كل حماوالته طوال �شهر كامل وهو يحاول �إقناع والده بالتقدم‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫لتلك الفتاة التي ظل يتمناها ل�سنوات‪ ،‬ولكنه يرف�ض وب�شدة‪ ،‬يرى �أن‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫فاروق ما زال �صغ ًري على الزواج وم�سئوليته‪ ،‬و�أن اال�ستعجال الآن ‪-‬وهو‬
‫الذي مل ُي َث َّبت يف عمله حتى‪� -‬سوف يجعله يندم الح ًقا لأنه اختار و�ضع‬
‫احلمل الثقيل على ظهره بحما�س �شبابي طائ�ش وبال تفكري عميق‪،‬‬ ‫ذاك ِ‬
‫قرر ال�شاب �أن يرتك والده عدة �أيام ليهد�أ‪ ،‬ومن َّثم يبد أ� يف الإحلاح عليه‬
‫من جديد‪ ،‬فلو طلب منه �أن يتنازل عن �أي حلم �آخر لفعل‪ ،‬ولكن هذا‬
‫احللم بالتحديد لن يتنازل عنه �أبدً ا مهما كلفه الأمر‪.‬‬
‫‪144‬‬
‫واقف يف �صمت ينظر‬ ‫ذات م�ساء خريفي خفيف الربودة‪ ،‬بينما هو ٌ‬
‫من نافذته �إىل تلك ال�سماء املظلمة والتي حتت�ضن يف �صدرها القمر‬
‫بنوره اخلجول‪ ،‬ويت�أمل ما تناثر حوله من جنوم متعددة الأحجام ب�ضوئها‬
‫اخلافت احلزين‪ ،‬وك�أنها �شعرت به و�أرادت �أن ت�شاركه �آالمه وهمومه‪،‬‬
‫�إذا به ي�سمع طرقات خفيفة على باب حجرته‪ ،‬ظن �أنه �أكرم‪ ،‬الأخ الأكرب‬
‫والوحيد له‪ ،‬ف�أذن له بالدخول‪ ،‬ترك همومه و�أحزانه جان ًبا والتفت ل ُيلقي‬
‫عليه التحية‪ ،‬ف�إذا به يرى والده �أمامه‪ ،‬ر�سم ابت�سامة هادئة على وجهه‬
‫مع �إمياءة ر�أ�س خفيفة و�أ�شار لوالده �أن يجل�س‪ ،‬جل�س بجواره‪ ،‬بق�سمات‬

‫ﻋﺼ‬
‫مليئة بالإ�شفاق قال الأب‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪� -‬أمك بتقول �إنك م�ش بتاكل كوي�س اليومني دول‪ ،‬وعلطول �ساكت‬
‫ﻜﺘ‬
‫وقاعد لوحدك!‬
‫‪ -‬متقلق�ش يا بابا‪ ،‬هبقى كوي�س �إن �شاء اهلل‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬كل ده يا بني عل�شان رف�ضت �إنك تتجوز دلوقتي؟! �أنا بعمل ده‬
‫كله عل�شان م�صلحتك!‬
‫ﺸﺮ‬

‫قالها الأب بتعجب �شديد‪ ،‬فالح طيف حزن بعينيه‪ ،‬وقال ب�أ�سى وهو‬
‫يتذكر حمادثاته ال�سابقة مع والده‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬يا بابا ح�ضرتك حتى رف�ضت تعرف هي مني‪ّ ،‬ول عرفتها منني‪،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ورف�ضت ت�سمع مني �أي حاجة �أبررلك بيها �سبب طلبي ده!‬
‫�أحاطه الأب بذراعه الأي�سر وربت على كتفه بحنان ثم قال بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬طيب ما�شي يا فاروق‪ِّ ،‬‬
‫قول هي مني يا بني‪ ،‬وليه م�ستعجل على‬
‫اجلواز كده!‬
‫‪ -‬هي تبقى نهى �أخت حممد �صاحبي اهلل يرحمه‪.‬‬
‫‪ -‬حممد ابن احلاج عماد جارنا؟‬
‫‪145‬‬
‫ً‬
‫مت�سائل باهتمام‪ ،‬بينما الحظ فاروق ق�سمات والده التي النت‬ ‫قالها‬
‫وبد�أت تظهر عليها ابت�سامة خفيفة‪ ،‬فانفرجت �أ�ساريره و�أوم�أ بر�أ�سه‬
‫�إيجا ًبا‪ ،‬ثم متتم بحما�س‪:‬‬
‫‪ -‬و�سبب �إين م�ستعجل على اجلواز لأن مفي�ش �أي �سبب يخليني‬
‫�أ�أجل �أكرث من كده‪ ،‬يعني خال�ص اتخرجت وا�شتغلت وب�إذن‬
‫اهلل قادر �أ�شيل م�سئولية زوجة وبيت‪ ،‬وكمان البنت على خلق‪،‬‬
‫ولو راحت مني حقيقي هزعل جامد!‬

‫ﻋﺼ‬
‫نظر الأب يف عيني ابنه وهو يتحدث عن الأمر‪ ،‬ور�أى احلزن ي�سبح‬
‫بداخلهما‪ ،‬ومل�س بخربته يف التعامل مع الب�شر �شوق فاروق اجلارف‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫لإمتام ذلك الأمر‪ ،‬ف�أراد �أال ُيحزنه كما كان يفعل �ساب ًقا‪ ،‬لعله على حق‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫يوما ً‬
‫طائ�شا وال م�ستهرتًا‪ ،‬و�أنه‬ ‫وخ�صو�صا لأنه يعرف �أن فاروق ما كان ً‬
‫ً‬
‫حت ًما �سيقدر على تلك امل�سئولية طاملا �أنه متم�سك بها لهذه الدرجة‪ ،‬قال‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ً‬
‫مت�سائل‪:‬‬ ‫الأب‬
‫‪ -‬طيب يا بني امتحانات ن�صف ال�سنة قربت تبد�أ‪ ،‬هينفع تتقدم‬
‫ﺸﺮ‬

‫للنا�س دلوقتي؟ والعرو�سة بتدر�س وال اتخرجت؟‬


‫ﻭ‬

‫بد�أت عالمات ال ِب�شر تك�سو وجه فاروق‪ .‬يبدو �أنه �سيوافق‪ ،‬هكذا ح َّدث‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫نف�سه‪ ،‬و�أجاب على الفور‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬هي يف كلية الآداب ق�سم اللغة العربية الفرقة الثالثة‪ ،‬وممكن‬


‫نت�صل بوالدها ون�شوف هيوافق دلوقتي وال ن�ستنى لبعد‬
‫االمتحانات‪.‬‬
‫ربت الأب على ر�أ�س ابنه‪ ،‬وابت�سم ابت�سامة القبول وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬خال�ص يا بني ات�صل ب�أ�ستاذ عماد وقوله على املو�ضوع وربنا‬
‫يقدم اللي فيه اخلري‪.‬‬
‫‪146‬‬
‫‪ -‬بجد يا بابا؟ يعني وافقت خال�ص؟‬
‫قالها فاروق وهو ي�صيح بعدم ت�صديق‪ ،‬ف�أوم أ� والده بر�أ�سه وقال‬
‫�ضاح ًكا‪:‬‬
‫‪ -‬طاملا ُم�صمم‪ ،‬هعمل �إيه ب�س‪ ،‬يال ربنا ي�سعدك يا بني‪.‬‬
‫ثم نه�ض من مكانه مغاد ًرا الغرفة يف هدوء‪ ،‬وقف فاروق وظل يتتبع‬
‫والده بعينيه حتى غاب عن ناظريه‪ ،‬ثم عاود اجللو�س وهو ي�ؤكد لنف�سه �أن‬
‫�صحيحا‪ ،‬و�أن والده بالفعل َق ِبل بالأمر بعد طول انتظار‪ ،‬نظر يف‬
‫ً‬ ‫ما �سمعه‬

‫ﻋﺼ‬
‫�ساعته ف�إذا بها احلادية ع�شرة م�سا ًء‪ .‬الوقت غري منا�سب‪ ،‬هكذا هم�س‬
‫لنف�سه‪ ،‬فقرر الذهاب للنوم على �أن يت�صل بال�سيد عماد يف الغد‪ ،‬و�أخذ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يدعو اهلل �أن يوفقه ملا فيه اخلري وملا يحبه وير�ضاه‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪zzz‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ظهرية اليوم التايل ات�صل فاروق بال�سيد عماد و�أخربه برغبته يف‬
‫التقدم للآن�سة نهى‪ ،‬ف َر ّحب والدها بذلك كث ًريا و�أخرب فاروق ب�أنه ما‬
‫ﺸﺮ‬

‫�شخ�صا �أف�ضل منه‪ ،‬ولكنه ال بد �أن ي�س�أل العرو�س‬


‫ً‬ ‫يوما‬
‫متنى البنته ً‬
‫ووالدتها �أو ًال‪ ،‬و�سيجيب عليه يف �أقرب فر�صة ب�إذن املوىل‪ ،‬انتظر فاروق‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حتى امل�ساء‪ ،‬و�إذا بهاتفه الذي كان بني يديه يهتز وينري با�سم ال�سيد‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫عماد‪� ،‬ضغط على زر املوافقة وو�ضع الهاتف على �أذنه ب�سرعة‪ ،‬ف�إذا بوالد‬
‫العرو�س يخربه ب�أنهم يف انتظارهم يف عطلة نهاية الأ�سبوع بعد �صالة‬
‫الع�شاء مبا�شرة‪� ،‬أخذ فاروق ي�شكره ب�شدة ومبنتهى احلما�س‪ ،‬وي�ؤكد له‬
‫ب�أنهم �سيذهبون �إليهم يف املوعد املحدد‪ ،‬مما جعل الرجل يتعجب‪ ،‬ولكنه‬
‫بعد ذلك �ضحك بطيبة وهو يتذكر �أيام �شبابه عندما وافقت عليه والدة‬
‫نهى وما �شعر به وقتها‪.‬‬
‫‪147‬‬
‫ح�ضر نف�سه للقاء‬ ‫ويف يوم اجلمعة بعد �صالة املغرب بد أ� فاروق ُي ّ‬
‫عرو�سه‪ ،‬فقام بارتداء مالب�س �أنيقة للغاية‪ ،‬و�أم�سك بالفر�شاة وبد�أ‬
‫بت�سريح �شعره للخلف ثم و�ضع عليه القليل من كرمي ال�شعر الذي يف�ضله‪،‬‬
‫ي�صا لهذه املنا�سبة‪ ،‬ثم‬ ‫وقام بر�ش ً‬
‫بع�ضا من العطر الذي ا�شرتاه ِخ ّ�ص ً‬
‫ابت�سم للمر�آة‪ ،‬ابت�سم ب�شدة وكانت عيونه ت�شع �سرو ًرا‪ ،‬فور انتهائه مما‬
‫كان يفعله �سمع املنادي ينادي ل�صالة الع�شاء‪ ،‬فهبط من منزله لأداء‬
‫�صالته‪ ،‬ثم عاد وا�صطحب والديه �إىل منزل نهى‪.‬‬
‫فتح ال�سيد عماد باب منزله ورحب بهم ِترحا ًبا �شديدً ا‪ ،‬دخلوا جمي ًعا‬

‫ﻋﺼ‬
‫وبد�أ فاروق يتحدث مع ال�سيد عماد عن �إمكانياته وما ينوي �أن يفعله �إذا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�أراد اهلل �أن تكون نهى من ن�صيبه‪ ،‬بينما ظل والد فاروق يتحدث عن‬
‫ﻜﺘ‬
‫عائلته‪ ،‬عمله‪ ،‬و�أ�شياء من هذا القبيل‪ ،‬ابتعدت والدة نهى عن الرجال‬
‫مع والدة فاروق وبد�أت كل واحدة منهما تتحدث مع الأخرى عن تربيتها‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لأبنائها وما هم عليه من خلق ودين‪ ،‬ا�ستمر حديث العائلتني ما يقرب‬


‫من الن�صف �ساعة حتى قام الأب و�أح�ضر ابنته و�أجل�سها على مقربة‬
‫ﺸﺮ‬

‫قليل‪،‬‬‫من فاروق‪ ،‬وتركهما يتحدثان مع بع�ضهما البع�ض وابتعد عنهما ً‬


‫كانت نهى �شديدة احلياء‪ ،‬كانت حيية �أكرث من معظم فتيات هذه الأيام‪،‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ر�أى فاروق بو�ضوح خديها ي�شعان حمرة كحمرة ال�شفق‪� ،‬أو رمبا �أكرث‪،‬‬
‫ووجدها � ً‬
‫أي�ضا تفرك �أ�صابعها ببع�ضها من فرط ارتباكها‪ ،‬ف�أراد �أن ُي َه ّدئ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫من روعها‪ ،‬فنق�ش ابت�سامة ودودة على وجهه و�س�ألها عن ا�ستعدادها‬


‫لالمتحانات القادمة‪ ،‬تنحنحت نهى بحرج وابت�سمت وهي تنظر � ً‬
‫أر�ضا‬
‫وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬طيب ما بال�ش �سرية االمتحانات دلوقتي‪.‬‬
‫ظهرت ملعة انت�صار يف عينيه‪ ،‬فهذا بالفعل ما توقعه منها‪ ،‬فمتى‬
‫ظهرت كلمة االختبارات قيلت هذه اجلملة هرو ًبا من املوقف‪ ،‬بد�أ‬
‫‪148‬‬
‫فاروق يحدثها عن نف�سه بعدما خفتت حدة توترها‪ ،‬وعن �صفات زوجته‬
‫امل�ستقبلية التي يتمناها‪ ،‬وعن املعاملة التي �سوف يعاملها بها‪ ،‬وعن ما‬
‫يجب عليها فعله وقت �ضيقه �أو مر�ضه‪� ،‬أخربها � ً‬
‫أي�ضا �أنه يود من تعينه‬
‫على طاعة ربه‪ ،‬و�أن يكون هدفها الأول والأخري يف هذه احلياة هو ر�ضا‬
‫املوىل عز وجل‪� ،‬أخربها �أنه يف بداية حياته ويريد من تقف �إىل جواره‬
‫وتتحمل راتبه ال�صغري حتى يرزقهما اهلل باخلري الكثري‪ ،‬و�أنه لن يتوقف‬
‫عند هذه الوظيفة‪ ،‬بل �سيحاول تطوير نف�سه وبذل ق�صارى جهده حتى‬
‫تعي�ش معه حياة كرمية‪� ،‬أخربها �أنه كث ًريا ما متنى �شريكة لدربه‪� ،‬شريكة‬

‫ﻋﺼ‬
‫يجدها دائ ًما �إىل جواره بحبها وعطفها و�صربها عليه‪� ،‬شريكة ينجب‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أبطال يحملون رايات الإ�سالم ويكونون دائ ًما يف خدمته‪ ،‬كانت‬ ‫منها � ً‬
‫نهى ت�ستمع �إليه بفخر �شديد‪ ،‬فهذا بالتحديد ما كانت تتمناه يف زوجها‬
‫ﻜﺘ‬
‫امل�ستقبلي‪� ،‬أرادت �أن تخربه ب�أنها �شعرت بالراحة ال�شديدة بعدما الم�ست‬
‫زوجا مثله‪،‬‬
‫أي�ضا تتمنى ً‬ ‫كلماته ِ�شغاف قلبها‪� ،‬أرادت �أن تخربه ب�أنها هي � ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫واحد‪ ،‬انتهى فاروق من كالمه و�س�ألها‬‫بحرف ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ولكنها مل ت�ستطع �أن تنطق‬
‫عن �أي مالحظات عليه‪ ،‬ف�أوم�أت بر�أ�سها نف ًيا‪ ،‬ف�س�ألها عن �أي �شيء �آخر‬
‫ﺸﺮ‬

‫خافت ب�أنها ال تتذكر �أي �شيء الآن‪،‬‬


‫ب�صوت ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫تريد معرفته عنه‪ ،‬فقالت‬
‫ﻭ‬

‫�س�ألها عن كونها قلقة من �شيء ما وتريد مناق�شته معه‪ ،‬ف�أوم�أت بر�أ�سها‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫نف ًيا مرة �أخرى بحرج بالغ‪ ،‬فابت�سم فاروق وقال مبرح‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬طيب يعني �أم�شي وال �إيه؟‬


‫‪ -‬ال ال م�ش ق�صدي‪.‬‬
‫قالتها ب�سرعة بالغة‪ ،‬مما جعل فاروق يقول بوجه يحمل كل �آيات‬
‫ال�سعادة من رد فعلها ذاك‪:‬‬
‫‪ -‬طيب ممكن تعرفيني عنك �أكرث؟ يعني بتعملي �إيه يف حياتك‪،‬‬
‫و�إيه �أهدافك؟‬
‫‪149‬‬
‫ولأول مرة رفعت نهى وجهها‪ ،‬و�أطلقت ب�صرها لرتاه عن ُقرب‪ ،‬ابت�سم‬
‫قلبها لر�ؤية ذلك الوجه الأ�سمر املثقوب بعينني �سوداوين وا�سعتني‪ ،‬ويزينه‬
‫ثغر با�سم وحلية متو�سطة الطول زادت من جماله‪ ،‬التقت عيناها بعينيه‬
‫فمالت � ً‬
‫أر�ضا بتوتر‪ ،‬حاولت جمع �شتات نف�سها وقالت‪:‬‬
‫‪� -‬أنا حقيقي بتمنى كل احلاجات اللي ح�ضرتك بتقولها دي‪ ،‬بتمناها‬
‫من كل قلبي‪ ،‬ب�س �أنا ل�سه يف �أول الطريق‪ ،‬وخايفة ح�ضرتك تكون �شايفني‬
‫يف مكانة �أعلى من اللي �أنا فيها دي‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬يعني �إيه؟‬
‫حرجا من ذلك‬
‫�س�ألها م�ستفه ًما‪ ،‬ف�أجابت وقد انكم�شت يف مقعدها ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫التق�صري الذي ت�شعر به جتاه ربها‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬يعني �أنا تقري ًبا م�ش حافظة قر�آن خال�ص‪ ،‬ممكن نقول ال�سور‬
‫الق�صرية ب�س‪ ،‬وم�ش احلد بردو اللي بيعمل عبادات كتري‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫و�سنن وكده‪ ،‬لكن احلمد هلل طول عمري حمافظة على �صالتي‬
‫وحجابي ال�شرعي‪ ،‬وبحاول دا ًميا �أراعي ربنا يف كل خطوة‬
‫ﺸﺮ‬

‫بعملها‪ ،‬و�أ�س�أل نف�سي قبل ما �أعمل �أي حاجة هل ممكن �آخد‬


‫ﻭ‬

‫عليها ح�سنات وال �سيئات‪ ،‬ب�س كمان فيه حاجات كتري يف الدين‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ل�سه م�ش عارفاها‪ ،‬يعني كنت متفقة مع حممد اهلل يرحمه �إننا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫نبد�أ نقرب من ربنا �سوا‪ ،‬ب�س هو قايل هيقنع �صاحبه �إ�سالم‬


‫يبد�أ معانا‪ ،‬وملحق�ش!‬
‫قالتها و�صمتت‪ ،‬الحظ فاروق دمعة تت�أرجح داخل عينها ومتنعها نهى‬
‫ب�شتى الطرق من الهبوط‪ ،‬فابت�سم لها وقال م�شج ًعا �إياها‪:‬‬
‫‪ -‬وال يهمك يا نهى‪ ،‬كل ده مقدور عليه ب�إذن اهلل‪ ،‬يعني طاملا‬
‫حمافظة على فرو�ضك وبتخايف ربنا يف ال�سر والعلن يبقى‬
‫‪150‬‬
‫اوعي تخايف‪ ،‬وا�سعي بردو �إنك تكملي كل اللي �شايفاه ناق�ص‬
‫عندك‪.‬‬
‫‪� -‬أنا بالفعل بد�أت احلمد هلل �أطور من نف�سي يف الفرتة الأخرية‪،‬‬
‫بد�أت �أطبق بع�ض ال�سنن ال�سهلة بالن�سبايل‪ ،‬ولب�ست النقاب‪،‬‬
‫وبحاول بقدر الإمكان �أقر�أ و�أ�سمع معلومات دينية كل ما تتاح‬
‫يل الفر�صة‪ ،‬ب�س للأ�سف ما�شية ب�سرعة ال�سلحفاة‪ ،‬وبح�س‬
‫ب�إحباط يف �أوقات كتري وببقى حمتاجة حد ي�شجعني ويعينني‪.‬‬
‫ابت�سم فاروق وقال‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬لو وافقتي �أنا ممكن �أ�ساعدك!‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ت�سارعت نب�ضاتها‪ ،‬وازداد توترها املغلف باحلياء ومل ت�ستطع �أن تنب�س‬
‫ﻜﺘ‬
‫قليل لوجدها ان�صهرت �أمامه‬ ‫ببنت �شفة‪� ،‬شعر فاروق ب�أنه لو زاد الكالم ً‬
‫من فرط حرجها‪ ،‬ف�س�ألها مرة �أخرى عن كونها تريد �أن تتحدث يف �أي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مودعا �إياها وعاد �إىل‬


‫�شيء �آخر‪ ،‬فحركت ر�أ�سها نف ًيا‪ ،‬فنه�ض من مكانه ً‬
‫جمل�س الرجال وحتدث معهم ً‬
‫قليل‪ ،‬ثم ا�ست�أذنوا جمي ًعا لين�صرفوا‪ ،‬بد�أت‬
‫ﺸﺮ‬

‫والدته تودع والدة نهى وابنتها‪ ،‬وعندما غمز لها فاروق وهي تقف �أمام‬
‫نهى كما اتفق معها‪ ،‬بد�أت الأم تربت على كتف العرو�س بحنان وتخربها‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ب�أنها كالبدر‪ ،‬وب�أنها �ستكون �سعيدة �إذا �أ�صبحت زوجة البنها‪ ،‬فابت�سمت‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫نهى واحت�ضنت والدة فاروق بحب‪ ،‬ابت�سم فاروق البت�سامتها‪ ،‬ودعا لوالدته‬
‫باجلنة‪ ،‬وقرر �أن ي�شكرها من �أعماقه عندها يخرج من هذا املنزل لأنها‬
‫قامت بدورها بطريقة مميزة‪ ،‬فقد اتفق معها على هذا لي�سعد قلب نهى‪،‬‬
‫أي�ضا ليجعلها تقرتب من والدته وت�شعر بحنانها وتعتربها �أُ ًما ثانية لها‪.‬‬
‫و� ً‬
‫هبط فاروق من منزل عرو�سه‪ ،‬و�أثناء �سريه مع والديه نظر لوالدته‬
‫وقال والبهجة تند من عينيه‪:‬‬
‫‪151‬‬
‫‪� -‬أمي �أنا طاير من الفرحة‪� ،‬أق�سم باهلل طاير وحا�س�س �إن مفي�ش‬
‫حد �أدي يف الدنيا دي‪ ،‬ربنا يكملها على خري ويقدرين على �إين‬
‫�أكون ليها الزوج ال�صالح اللي بتتمناه و�أكرث‪.‬‬
‫‪ -‬ربنا ي�سعدك يا فاروق يا بني‪� ،‬أنت ً‬
‫فعل ت�ستاهل كل خري‪.‬‬
‫قالتها والدته وقد الح ال�سرور على حمياها‪ ،‬بينما ابت�سم والده لر�ؤية‬
‫تلك لفرحة‪� ،‬أما عن فاروق‪ ،‬فقد ذهب �إىل عامل �آخر‪ ،‬ذهب بخياله �إىل‬
‫�صرب ال�سنني‪ ،‬وغ�ض الب�صر‪ ،‬واملحافظة عليها من جمرد كلمة‪ ،‬والآن‪،‬‬
‫الآن فقط �أطلق ب�صره ونظر لها حتى ارتوى‪ ،‬وحتدث معها و�أخربها‬

‫ﻋﺼ‬
‫مبا يريد قوله من �سنوات يف حدود ما هو م�سموح به الآن‪ ،‬و�سمع �صوتها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وتعرف على �أحالمها‪� ،‬أدرك الآن وفقط قيمة العفة التي عا�ش بها ً‬
‫طويل‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫طوال الأيام املا�ضية كانت �سلمى تريد �أن تخرب والدها برف�ضها‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫للعري�س الذي �أتى �إليها قبل عدة �أيام‪ ،‬ولكنها تخاف �أن ي�سخط عليها‬
‫ﺸﺮ‬

‫وي�ست�شيط غ�ض ًبا منها‪ ،‬فكانت ت�ؤجل قرارها وتفكر مرة تلو الأخرى لعلها‬
‫تغري ر�أيها يف �أي وقت‪ ،‬ويف ع�صر �أحد الأيام وجدت والء تنادي عليها‬
‫ﻭ‬

‫وتخربها ب�أن والدها يريدها باخلارج‪ ،‬فعلمت �أنه �سي�س�ألها عن ر�أيها‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫يف املو�ضوع‪ ،‬خرجت من غرفتها ووقفت �أمام والدها وقد بدت مرتبكة‪،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�س�ألها بالفعل عن ر�أيها يف العري�س‪ ،‬فابتلعت ريقها ب�صعوبة‪ ،‬وتنهدت‬


‫حا�سمة �أمرها و�أخربته �أنها �أدت �صالة اال�ستخارة وقررت عدم املوافقة‬
‫عليه‪ ،‬وعلى غري العادة �ضحك والدها ب�شدة‪ ،‬ف�س�ألته �سلمى عن ال�سبب‬
‫خ�صو�صا لأنها كانت تتوقع �أن ي�صرخ بوجهها‬
‫ً‬ ‫وقد انتابها الف�ضول ال�شديد‬
‫�أو ُيجربها على اجللو�س معه مرة �أخرى على �أقل تقدير‪ ،‬ف�أجابها والدها‬
‫أي�ضا قام بالرف�ض‪ ،‬فابت�سمت �سلمى وارمتت على الكر�سي‬ ‫ب�أن العري�س � ً‬
‫املجاور لوالدها وقالت �ضاحكة‪:‬‬
‫‪152‬‬
‫‪� -‬سبحان اهلل! القلوب عند بع�ضيها‪.‬‬
‫كان فاروق ي�شعر بالراحة ال�شديدة بعدما جل�س مع نهى وحتدث �إليها‪،‬‬
‫ولكن مبا �أن الغيب ال يعلمه �إال اهلل‪ ،‬ومبا �أنه يريدها ب�شدة ولكنه � ً‬
‫أي�ضا ال‬
‫يعلم هل م�ستقبله معها �سيكون على ما يرام �أم ال‪ ،‬فقد قام ب�أداء �صالة‬
‫اال�ستخارة ووكل �أمره �إىل ربه وهو على يقني ب�أن اهلل حت ًما �سيختار له‬
‫اخلري‪ ،‬وم�ضى يوم تلو الآخر حتى ات�صل فاروق على والد نهى و�أخربه‬
‫أي�ضا‪ ،‬ولكنها تطلب‬‫مبوافقته‪ ،‬وعلى الفور قال ال�سيد عماد �أن نهى وافقت � ً‬
‫ت�أجيل �أي خطوة �أخرى حتى تنتهي من امتحانات ن�صف العام اخلا�صة‬

‫ﻋﺼ‬
‫بها‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بد�أت االمتحانات وذاب جميع الطالب بداخل الكتب واملالزم اخلا�صة‬
‫ﻜﺘ‬
‫بهم‪ ،‬مرت حلظات ع�صيبة على اجلميع‪ ،‬وخا�ص ًة والء التي كانت تائهة‬
‫ب�شدة و�سط هذا املجتمع اجلديد الذي دخلته‪ ،‬وهذه املحا�ضرات التي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مل تعتد على املذاكرة منها‪ ،‬و�أخذت حتاول بذل ق�صارى جهدها حتى‬
‫تظل متفوقة كما عهدها اجلميع‪ ،‬بينما حاولت �سلمى �أن ُتك ّر�س كافة‬
‫ﺸﺮ‬

‫جمهوداتها هذه الأيام لإتقان موادها الدرا�سية حتى ُتنهي عامها النهائي‬
‫باجلامعة على خري‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫انق�ضت امتحانات ن�صف العام وبد�أ كل طالب با�ستغالل �إجازته‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫الق�صرية فيما يحب‪ ،‬كانت �سلمى تخطط لعدة �أ�شياء‪ ،‬وكانت تنتظر‬
‫الإجازة بفارغ ال�صرب‪ ،‬ولكن منذ بدايتها وهي ت�شعر بحالة من الي�أ�س‬
‫والإحباط ال�شديد مل متر بها من قبل‪� ،‬شعرت بفتور يف قلبها‪� ،‬شعرت �أن‬
‫العبادة �أ�صبحت ثقيلة عليها‪� ،‬شعرت �أن �إميانها يف تناق�ص م�ستمر‪ ،‬مل‬
‫تعد لديها نف�س الطاقة ونف�س احلما�س ال�سابق ملوا�صلة م�سريتها‪� ،‬أح�ست‬
‫ه�شة وواهنة‪� ،‬أح�ست �أن الدنيا ما عادت وردية‬ ‫فج�أة �أن روحها �أ�صبحت ّ‬
‫كما كانت تراها‪� ،‬أرهقتها كرثة امل�ضايقات واالنتقادات التي تتعر�ض لها‬
‫‪153‬‬
‫من �أختها وبنات عائلتها وحتى �صديقاتها‪� ،‬أتعبتها الوحدة وافتقادها‬
‫لل�صحبة ال�صاحلة‪ ،‬ا�شتاقت كث ًريا حلف�صة ولدفء كلماتها التي كانت‬
‫ترمم �شروخ قلبها‪ ،‬متنت لو ا�ستطاعت التوا�صل معها الآن و�إفراغ تلك‬
‫الهموم اجلاثمة على �صدرها‪ ،‬زفرت ب�أ�سى وهي تنظر �إيل تاريخ اليوم‬
‫يف هاتفها ال�صغري‪ ،‬لقد م�ضى �أ�سبوع كامل من الإجازة‪ ،‬ومل يتبقَ �سوى‬
‫�أ�سبوع �آخر ويبد�أ الف�صل الدرا�سي الثاين‪ ،‬وهي التي مل تتحرك من مكانها‬
‫خطوة واحدة‪� ،‬أرادت �أن حتدث حف�صة‪� ،‬أرادت ذلك ب�شدة‪ ،‬فذهبت �إىل‬
‫احلا�سوب اخلا�ص بها وقامت بفتح موقع الفي�س بوك وكتبت حلف�صة‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬حف�صة �أنا حمتاجالك دلوقتي �أكرث من �أي وقت فات‪� ،‬أنا تعبت‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بجد ومبقيت�ش حا�سة بروحي‪ ،‬زي ما يكون قلبي مات خال�ص‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫مبقيت�ش عارفة �أح�س بال�صالة وال القر�آن وال �أي حاجة‪ ،‬حا�سة‬
‫�إين عمالة �أت�أخر م�ش �أتقدم‪ ،‬حا�سة �إين معندي�ش طاقة �إين‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أ�ستمر يف الطريق ده‪� ،‬أنا خايفة �أوي يا حف�صة‪ ،‬خايفة مقدر�ش‬


‫�أكمل!‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أخذت تعبث بزر الف�أرة لرتى ر�سائلها ال�سابقة مع حف�صة‪ ،‬توقفت عند‬
‫ر�سالتها الأخرية و�أخذت تقر�أ فيها بتمهل‪� ،‬شعرت ب�أن كلماتها الم�ست‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫جدار ف�ؤادها وبد�أت تربت عليه بعطف‪ ،‬رفعت �صوتها ً‬


‫قليل وهي تقر�أ‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫«ملا حت�سي �إنك تعبتي وم�ش قادرة تكلمي طريقك ا�ستخدمي �سالحك‪،‬‬
‫أنت بتقويل لربنا يا رب ابعتلي‬
‫معاك القر�آن والدعاء‪ ،‬افتحي م�صحفك و� ِ‬‫ِ‬
‫جواك يف �سجودك واف�ضلي اتكلمي‬ ‫ر�سالة‪ ،‬اتعودي دائ ًما تقويل كل اللي ِ‬
‫أرجوك يا‬
‫ويقويك‪ِ � ،‬‬
‫ِ‬ ‫حلد ما ترتاحي‪ ،‬متن�سي�ش تدعي كتري ربنا يثبتك‬
‫�سلمى اوعي ت�سمحي لل�شيطان �إنه يهزمك‪� ،‬أو ت�سمعي كلمتني بايخني من‬
‫معاك القر�آن والدعاء يا �سلمى فاهماين؟‬
‫�أي حد فتتنازيل عن هدفك‪ِ ،‬‬
‫معاك �سالحك يا �سلمى اوعي تتخلي عنه»‬
‫ِ‬
‫‪154‬‬
‫وجدت االبت�سامة ت�شق جمراها عرب �شفتيها‪� ،‬شعرت برع�شة خفيفة‬
‫جتتاح ج�سدها ال�ضئيل‪ ،‬فنه�ضت من مكانها ونظرت من نافذة غرفتها‬
‫ل�سماءٍ وا�سع ٍة ُمزينة بنجوم براقة‪� ،‬شعرت ب�أنها تبت�سم لها لتخربها �أن كل‬
‫فخيل �إليها �أن القمر مي�شي على‬‫�شيء �سيكون على ما يرام‪ ،‬نظرت ميي ًنا ُ‬
‫ا�ستحياءٍ مقرت ًبا منها ليقف �إىل جوارها يف تلك املحنة‪� ،‬أعجبها منظر‬
‫�ضوئه اخلفيف وهو يت�سلل اخللفية الكحلية املظلمة فيبدد جز ًءا ً‬
‫�ضئيل‬
‫من ظلمتها‪� ،‬أغم�ضت عينيها ورفعت كفيها املكتنزتني �إىل ال�سماء وبد�أت‬
‫تتمتم لربها مبا يعتمل �صدرها من �آالم‪� ،‬أخذت ت�شكو له امل�ضايقات التي‬

‫ﻋﺼ‬
‫تتعر�ض لها‪ ،‬وتطلب منه العون والقوة‪� ،‬أخربته �أنها �أحبت هذا الطريق وال‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫تريد �أن حتيد عنه ولكن نف�سها تق�سو وتتمرد‪ ،‬طلبت منه �أن يثبتها على‬
‫طريق احلق ويهون عليها م�صائب الدنيا و�ضغوطات احلياة‪ ،‬ثم عادت‬
‫ﻜﺘ‬
‫�أدراجها �إىل حا�سوبها مرة �أخرى‪ ،‬وبد�أت مت�شي على �صفحتها الرئي�سية‬
‫ب�شرود‪ ،‬قر�أت عدة من�شورات بعينني زائغتني وك�أن قلبها يف مكان �آخر‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ا�ستوقفها من�شور يخربها ب�أن �صديقتها زهرة اللوت�س ت�ستمع �إىل ا�شتقت‬
‫�إليك‪ ،‬ف�أخذت حتمد اهلل الذي عافاها من هذا االبتالء وتدعو ل�صديقتها‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أن ترتك الأغاين التي ُتيت قلبها وتعود �إىل كتاب اهلل‪ ،‬قبل �أن تهبط �إىل‬
‫ﻭ‬

‫من�شور �آخر الحظت ا�سم املن�شد �أحمد �سعيد‪ ،‬ذلك املن�شد الذي �أخربتها‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عنه حف�صة من قبل‪ ،‬فعلمت ب�أنها �أ�ساءت الظن ب�صديقتها وا�ستغفرت‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ربها‪ ،‬ثم قررت حتميل تلك الأن�شودة واال�ستماع �إليها لعلها ت�ستحوذ على‬
‫مكان ما بقلبها‪ ،‬وبد�أت الأن�شودة‪..‬‬
‫�ضاقت بيا الدنيا لقيتني �إن�سان غريب‬
‫وبقيت �أنا حاجة تانية بجد �إن�سان عجيب‬
‫لقيتني بعدت يف ثانية بعد �أما كنت قريب‬

‫‪155‬‬
‫لقيت قلبي بقى �آ�سي عينيا مفيها�ش دموع‬
‫لقيتني بجد نا�سي �أي معنى للخ�شوع‬
‫خال�ص قلبي �إح�سا�سي بيتمنوا الرجوع‬
‫وخال�ص يا رب �أنا راجع ليك ندمان ب�شدة �أنا بني �إيديك‬
‫على كل حلظة مكنت�ش ليك وكنت فيها عا�صيك ونا�سيك‬
‫يا رب راجع �أدق الباب باب الرحيم باب التواب‬

‫ﻋﺼ‬
‫ده ملا بعدت �شوفت العذاب خال�ص يا رب ا�شتقت �إليك‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�أنا قولت هعي�ش حياتي ب�س �أنا عاي�شها حرام‬
‫ﻜﺘ‬
‫عل�شان �أر�ضي �شهواتي و�أبقى مب�سوط ومتام‬
‫�أتاريني هزيد �آهاتي وكل ده �أوهام‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وخال�ص عرفت حقيقي بجد �أحلى حياة‬


‫ﺸﺮ‬

‫ملا ينور طريقي بر�ضا وحب اهلل‬


‫يبقى القر�آن �صديقي ور�سويل �أم�شي يف ُخطاه‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وخال�ص يا رب �أنا راجع ليك ندمان ب�شدة �أنا بني �إيديك‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫على كل حلظة مكنت�ش ليك وكنت فيها عا�صيك ونا�سيك‬


‫يا رب راجع �أدق الباب باب الرحيم باب التواب‬
‫ده ملا بعدت �شوفت العذاب خال�ص يا رب ا�شتقت �إليك‬
‫كانت ت�ستمع �إىل الكلمات بذهول متام‪ ،‬أ� ُك ِتبت الأن�شودة من‬
‫�أجلها؟ �أم كيف لها �أن ت�صف حالتها بتلك الدقة! يبدو �أن اجلميع‬
‫‪156‬‬
‫مير بتلك املرحلة ولي�س هي فقط كما كانت تظن‪� ،‬أخذت تعيد �سماع‬
‫متاما بتلك الأحا�سي�س‬ ‫الأن�شودة مرة تلو الأخرى وهي م�ستمتعة ً‬
‫اجلميلة التي غمرتها‪ ،‬ثم �أغلقت حا�سبها بعدما قررت �أال ت�ضيع وقتًا‬
‫�أكرث من ذلك‪ ،‬هزمت �شيطانها و�أم�سكت مب�صحفها الذي مل ُيفتح‬
‫منذ عدة �أيام‪ ،‬و�أول ما ر�أته عيناها كانت الآية الكرمية « َو َن ْحنُ َ أ� ْق َر ُب‬
‫ِيد» فابت�سمت ودمعت عيناها وهي تهم�س براحة‪:‬‬ ‫إِ� َل ْي ِه ِمنْ َح ْب ِل ا ْل َور ِ‬
‫‪ -‬فهمت الر�سالة يا رب‪ ،‬وم�ش هتنازل عن طريقي �أبدً ا ب�إذن اهلل‪ ،‬وم�ش‬
‫هحتاج م�ساعدة من �أي خملوق لأنك دائ ًما معايا‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪zzz‬‬
‫ات�صال هاتف ًيا �آت ًيا من فاروق يخربه فيه ب�أن �إحدى‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ً‬ ‫تلقى �إ�سالم‬
‫ﻜﺘ‬
‫ال�شركات اخلا�صة تطلب مهند�سني مدنيني حديثي التخرج‪ ،‬و�أن مدير‬
‫�شركتهم �أخربهم �أن ين�شروا اخلرب على �أو�سع نطاق لعل �أحدهم يحتاج‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�إىل تلك الوظيفة‪ ،‬و�أن املقابلة ال�شخ�صية �ستكون غدً ا ب�إذن الرحمن‪�ُ ،‬سر‬
‫�إ�سالم لذلك اخلرب كث ًريا‪ ،‬وتفاءل بعدما كان قد ي�أ�س من البحث املُ�ضني‬
‫ﺸﺮ‬

‫وك ّلت منه �أقدامه‪� ،‬شكر فاروق ب�شدة و�أخربه �أنه �سيجهز �أوراقه‪ ،‬و�سيكون‬
‫ﻭ‬

‫هناك يف املوعد املحدد ب�إذن اهلل‪ ،‬ح ّياه وكاد �أن يغلق الهاتف لوال �أنه �سمع‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫فاروق يهتف‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬على فكرة خطوبتي اخلمي�س اجلاي ب�إذن اهلل‪.‬‬


‫�صاح �إ�سالم ب�سعادة وقال �ضاح ًكا‪:‬‬
‫‪� -‬ألف مربووك يا �أبو الكباتن‪ ،‬وعقبايل!‬
‫‪ -‬اهلل يبارك فيك يا �إ�سالم‪ ،‬وب�إذن اهلل حت�صلني قريب‪.‬‬
‫‪ -‬هتعملوها فني؟‬
‫‪157‬‬
‫‪ -‬هنعملها حاجة على ال�ضيق كده يف بيت نهى ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫‪� -‬آه يعني بتقويل متجي�ش!‬
‫قالها ُمظه ًرا تذمره الذي يخفي وراءه ابت�سامة وا�سعة‪ ،‬فابت�سم فاروق‬
‫بخفة وقال‪:‬‬
‫‪ -‬مقدر�ش �أقول كده‪ ،‬ت�شرف طب ًعا يف �أي وقت!‬
‫ه ّن�أه �إ�سالم مرة �أخرى وقد �شعر بال�سعادة احلقيقية تغمر قلبه‪،‬‬
‫فمجرد تخيله ب�أن فاروق انتظر �سنوات طوال حتى يعي�ش تلك اللحظات‬

‫ﻋﺼ‬
‫جتعله ي�شعر برجفة خفيفة يف قلبه‪ ،‬وبعدها ترت�سم ابت�سامة هادئة حنونة‬
‫على �شفتيه مع متتمة �آتية من �أعماق القلب ب�أن يبارك اهلل له يف حياته‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬‫ويقر عينه بزوجته وحبيبته‪.‬‬


‫ﻜﺘ‬
‫ذهب �إ�سالم لوالدته و�أخربها بالأمر وطلب منها �أن تدعو له ب�أن ُيي�سر‬
‫له ربه اخلري حيث كان‪ ،‬ف�أخذت تدعو له ولفاروق � ً‬
‫أي�ضا بعدما �أخربته �أن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫هذا الفتى دخل قلبها منذ عرفته‪ ،‬و�أنها تطمئن على �إ�سالم عندما يكون‬
‫ﺸﺮ‬

‫معه‪� ،‬أ ّيدها �إ�سالم ب�شدة و�أخربها �أنه كان يظلم فاروق كث ًريا يف ال�سابق‪،‬‬
‫ولكنه بعدما تقرب منه وجد داخل قلبه اخلري الكثري‪ ،‬انتهى من كالمه‬
‫ﻭ‬

‫مع والدته فا�ست�أذن منها ليذهب للنوم لأنه يبدو �أن يومه القادم �سيكون‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫طويل‪.‬‬‫ً‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�صباحا‪ ،‬فتح حقيبته اجللدية وو�ضع بداخلها كل ما‬


‫ا�ستيقظ من نومه ً‬
‫يحتاجه من �أوراق للتقدم للعمل‪ ،‬ثم قام بارتداء بذلة �سوداء �أنيقة‪ ،‬تخفى‬
‫أبي�ضا ناع ًما‪ ،‬ورابطة عنق �سوداء المعة‪ّ ،‬‬
‫م�شط �شعره‬ ‫قمي�صا � ً‬
‫ً‬ ‫خلفها‬
‫وارتدى حذاءه اجللدي الأ�سود‪ ،‬و�أخ ًريا زين وجهه بنظارته ال�شم�سية‬
‫وهبط من منزله تلحقه دعوات �أمه بالتوفيق‪ ،‬و�صل �إىل ال�شركة وقام‬
‫بعمل املقابلة ال�شخ�صية وقد �أعجبهم ب�شدة لباقته يف احلوار‪ ،‬فوعدوه‬
‫‪158‬‬
‫�أن يقوموا بالرد عليه خالل ثالثة �أيام‪ ،‬م�ضت الأيام بطيئة كعجوز يف‬
‫الثمانني يت�سلق ً‬
‫جبال �شاهقة‪ ،‬ثم جاءه الرد بالقبول‪ ،‬وطلبوا منه �أن ي�أتي‬
‫يف اليوم التايل ال�ستالم عمله‪ ،‬هرول �إ�سالم �إىل �أمه اجلال�سة تق�شر بع�ض‬
‫ثمرات البطاطا يف �صمت‪ ،‬ودنا منها بوجه يحمل كل �آيات ال�سعادة ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬ربنا ا�ستجاب لدعائك يا �أمي‪ ،‬احلمد هلل‪.‬‬
‫‪ -‬اتقبلت يف ال�شغل يا �إ�سالم؟‬
‫�س�ألته بلهفة كبرية‪ ،‬ف�أوم�أ بر�أ�سه �إيجا ًبا‪ ،‬جذبته �إىل ح�ضنها بقوة‬

‫ﻋﺼ‬
‫و�أخذت تربت على ظهره بحنان بالغ‪ ،‬فقد كانت ت�شفق عليه ب�شدة طوال‬
‫الفرتة املا�ضية عندما جتده عائدً ا هائ ًما على وجهه وقد �أرهقه البحث‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫احلمد هلل‪ ،‬قالتها بعد �أن زفرت زفر ًة طويلة‪ ،‬ثم دفعت به بعيدً ا عنها‬
‫ﻜﺘ‬
‫و�أخربته مازحة �أنه يجب �أن ينام مبك ًرا من الآن و�صاعدً ا فالعمل ينتظره!‬
‫‪zzz‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بد�أ �إ�سالم يرتدد على عمله يوم ًيا‪ ،‬وا�ستطاع خالل فرتة ق�صرية تكوين‬
‫ﺸﺮ‬

‫�صداقات مع فريق عمله‪ ،‬م�ضى �شهره الأول يف العمل على خري‪ ،‬وكانت‬
‫حلظة ا�ستالم راتبه الأول مميزة جدً ا بالن�سبة له‪ ،‬فربغم كون الراتب‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�صغ ًريا بع�ض ال�شيء �إال �أنه لأول مرة مي�سك ما ًال �آت ًيا من عرق جبينه‪،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫يف الرابعة والن�صف م�سا ًء كان ي�سري يف ال�شارع عائدً ا �إىل منزله ويحمل‬
‫راتبه بفرحة كبرية‪ ،‬عندما الحظ فتاتني �آتيتني من بعيد‪� ،‬إحداهما ترتدي‬
‫بنطال من اجلينز وفوقه ف�ستان ي�صل بالكاد �إىل ركبتيها‪ ،‬بينما الأخرى‬‫ً‬
‫ترتدي مالب�س ف�ضفا�ضة للغاية مل تظهر �أ ًيا من تفا�صيل ج�سدها‪ ،‬وجد‬
‫نف�سه بتلقائية يدعو لذات املالب�س الف�ضفا�ضة ويتمنى لو كانت جميع‬
‫الفتيات مثلها‪ ،‬اقرتبت الفتاتان منه �أكرث فتبني �أن ذات البنطال هي هند‬
‫�أخته ومعها �صديقة لها‪ ،‬ابت�سمت هند ب�سعادة و�أ�شارت له وهي تتجه �إليه‪،‬‬
‫‪159‬‬
‫بينما �شعرت �سلمى باحلرج ال�شديد واقرتبت من احلائط حتى بد�أ ثوبها‬
‫يتعلق به و�أ�سرعت اخلطى نحو منزلها‪ ،‬وقفت هند �أمام �أخيها و�ألقت‬
‫عليه التحية‪ ،‬ثم نظرت �إىل جوارها فلم جتد �صديقتها‪� ،‬أطلقت ب�صرها‬
‫بعيدً ا فوجدتها قاربت على الو�صول ملنزلها‪ ،‬ف�أدركت �أنها جتازوتهما‬
‫وم�ضت دون �أن تنتبه لها‪� ،‬ضحكت ب�شدة وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬اتك�سفت وجريت!‬
‫نظر �إ�سالم خلفه بتلقائية‪ ،‬ثم عاود النظر �إليها و�س�ألها باهتمام‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬هي مني دي؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬معقولة متعرفها�ش! دي �سلمى �صاحبتي اللي كانت دائ ًما‬
‫بتيجي عندنا البيت واحنا �صغريين‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬ما �شاء اهلل‪ ،‬باين عليها حمرتمة‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قالها وات�سعت ابت�سامته‪ ،‬ف�أوم�أت هند بر�أ�سها وقد ت�أبطت ذراعه‬


‫و�سارت به باجتاه منزلهما‪ ،‬وبد�أت حتدثه عن �صديقتها بح�سن نية‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫حدثته عن �أخالقها وتفكريها املختلف‪ ،‬وعن التغيري املفاجئ الذي طر�أ‬


‫عليها‪ ،‬وعن اقرتابها من اهلل عز وجل وجعل كل �أهدافها متعلقة به‪،‬‬
‫ﻭ‬

‫�أخربته � ً‬
‫أي�ضا عن �شخ�صيتها احلنونة والهادئة‪ ،‬وعن ر�أ�سها الياب�س العنيد‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�صحيحا مهما كلفها الأمر‪� ،‬أخربته عن كل‬


‫ً‬ ‫و�إ�صرارها على تنفيذ ما تراه‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫جميل ت�شعر به جتاه �سلمى‪ ،‬فكان �إ�سالم ولأول مرة ي�ستمع �إليها باهتمام‬
‫�شديد‪ ،‬ومن �آن لآخر يهم�س‪ :‬ما �شاء اهلل‪ ،‬ثم يعاود االنتباه لكلماتها من‬
‫جديد‪ ،‬و�صال م ًعا �إىل منزلهما‪ ،‬ودخل كل منهما لتبديل مالب�سه‪ ،‬انتهى‬
‫�إ�سالم من ارتداء مالب�س املنزل وجل�س على فرا�شه يفكر ب�شرود‪ ،‬بد�أ‬
‫يفكر يف كل كلمة قالتها هند‪ ،‬بد�أ ي�س�أل نف�سه‪ ،‬هل بالفعل ما زال هناك‬
‫فتيات بهذه ال�صفات اجلميلة يف عاملنا احلايل! و�إذا كانت موجودة‪ ،‬فهل‬
‫‪160‬‬
‫من املمكن �أن يح�صل �شخ�ص مثله على �إحداهن بعد ما اقرتفه من ذنوب‬
‫ما�ضية! بد�أ ي�ؤكد لنف�سه ب�أنه تاب وندم على كل ما اقرتفته نف�سه من‬
‫معا�صي‪ ،‬ومنذ توبته وهو يتمنى �أن يجد من ت�أخذ بيديه لتقربه من اهلل‬
‫عز وجل وت�سري معه حتى ي�صال �إىل اجلنة �سو ًيا‪ ،‬زفر زفرة قوية بعدما‬
‫�شعر �أن هذا احللم يبدو بعيدً ا‪ ،‬ثم نه�ض من مكانه و�سار باجتاه املطبخ‬
‫لريى ماذا �أعدت والدته للغداء‪ ،‬فقد �أ�صبحت معدته ت�صدر �أ�صواتًا غري‬
‫الئقة من فرط �شوقها �إىل الطعام‪.‬‬
‫‪zzz‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫كانت والء جتل�س �ساهمة عندما دخلت �سلمى لتح�ضر بع�ض الأغرا�ض‬
‫من الغرفة‪ ،‬و�س�ألتها عن �شيء ما فلم ُتب‪ ،‬اقرتبت منها �سلمى و�أم�سكت‬
‫ﻜﺘ‬
‫كتفها وهزته هزة خفيفة‪ ،‬فانتف�ضت والء من مكانها‪ ،‬ثم تنهدت بقوة بعد‬
‫ر�ؤية �أختها وعادت لهدوئها من جديد‪� ،‬س�ألتها �سلمى عن �سبب �شرودها‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ف�أجابت ب�ضيق‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬كنت بفكر يف العري�س التحفة اللي رف�ضتيه ده‪ ،‬بجد لو كان‬


‫اتقدملي �أنا كنت وافقت بدون تردد‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أنت ل�سه فاكرة!‬


‫‪ -‬ياااه يا والء‪ِ � ،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬حقيقي م�ش متخيلة ازاي جالك قلب ترف�ضيه! كده خال�ص‬


‫ُعمرك ما هيجيلك زيه لأن الفر�صة م�ش بتيجي غري مرة‬
‫واحدة‪.‬‬
‫ابت�سمت �سلمى وقالت بثقة‪:‬‬
‫‪ -‬هيجيلي �أح�سن منه ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫�صاحت وهي تتميز من الغيظ‪:‬‬
‫‪161‬‬
‫أنت فاكرة نف�سك مني يا �سلمى؟ يكون�ش ال�شباب كلهم هيموتوا‬
‫‪ِ �-‬‬
‫خليك واقعية يا‬
‫عليك‪ ،‬وال بتعريف يف علم الغيب و�أنا معرف�ش! ِ‬
‫ِ‬
‫�سلمى بدل ما ت�ضيعي نف�سك ب�أحالمك امل�ستحيلة دي!‬
‫داهمتها موجة من االنفعاالت جالت يف �صدرها‪ ،‬كانت �أفكارها‬
‫م�ضطربة ما بني �أن ت�صدق كلمات والء وزميالتها عن فار�س �أحالمها‬
‫غري املوجود‪ ،‬وما بني �أن تثق مبا يحمله قلبها من يقني‪ ،‬تنهدت تنهيدة‬
‫قوية �أخرجت بها كل الأفكار ال�سيئة العالقة بر�أ�سها‪ ،‬ثم ِا ْف َ ّت ثغرها عن‬

‫ﻋﺼ‬
‫و�ضاءة هادئة وهي جتيب باتزان‪:‬‬ ‫ابت�سامة ّ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬على فكرة �أنا واقعية جدً ا يا والء‪ ،‬كل املو�ضوع �إن �أنا عندي ثقة‬
‫ﻜﺘ‬
‫فعل م�ش عايزة حاجة من‬ ‫كبرية جدً ا يف ربنا‪ ،‬ربنا عامل �إين ً‬
‫الدنيا غري واحد ياخد ب�إيدي للجنة وي�ساعدين على �إننا نعي�ش‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حياتنا مبا ير�ضي اهلل‪.‬‬


‫�صمتت ً‬
‫قليل اللتقاط �أنفا�سها املتالحقة ثم ا�ستطردت‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪� -‬أنا عارفة �إين �أقل بكتري من �إين �أ�ستاهل واحد زي ده‪ ،‬ب�س‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أنا بد�أت �أغري من نف�سي‪ ،‬وم�ش بتوقف �أبدً ا عن الدعاء و�أنا‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫مت�أكدة �إن ربنا م�ش هيخذلني لأنه بيقول يف احلديث القد�سي‬


‫«�أنا عند ظن عبدي بي»‪ ،‬و�أنا ظننت بربنا خري يا والء‪ ،‬وواثقة‬
‫علي!‬
‫�إنه كرمي وهريزقني باللي يكمل معايا الطريق‪ ،‬متقلقي�ش َّ‬
‫تراخت ق�سمات والء‪ ،‬وانهار حاجباها‪ ،‬تنهدت بي�أ�س وهم�ست‪:‬‬
‫‪ -‬براحتك يا �سلمى‪ ،‬حقيقي �أمتنى يتحققلك اللي بتحلمي بيه‬
‫أنت متخيلة كده‪.‬‬
‫ده‪ ،‬ب�س الدنيا م�ش جميلة زي ما � ِ‬
‫‪162‬‬
‫ابت�سمت �سلمى وهي تخرب �صغريتها ب�أن رحمة اهلل وكرمه و�سعت كل‬
‫يوما ما �صدق كالمها‪� ،‬أخربتها � ً‬
‫أي�ضا �أن‬ ‫�شيء‪ ،‬وب�أنها �سوف تثبت لها ً‬
‫النبي عليه ال�صالة وال�سالم قال‪ »:‬ادعوا اهلل و�أنتم موقنون بالإجابة»‪،‬‬
‫وب�أنها بد�أت بالفعل تدعو اهلل وهي على يقني من �أنه �سيحقق لها �أحالمها‬
‫مهما ر�أتها بعيدة‪.‬‬

‫‪z‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪163‬‬
‫‪-6-‬‬

‫يوما عن يوم يزداد ت�شبثه بها‪ ،‬وتتعمق‬ ‫�أ�صبحت ال تغيب عن باله‪ً ،‬‬
‫بداخله فكرة ارتباطه بها‪ ،‬حاول كث ًريا طرد تلك الفكرة عن ر�أ�سه لأنه ما‬

‫ﻋﺼ‬
‫زال ذو �إمكانيات قليلة ال ت�سمح له بالتقدم لإحداهن‪ ،‬ولكن كلمات هند‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عنها كانت تتقافز داخل ر�أ�سه من �آن لآخر وتلهب حما�سه لتدفعه للقيام‬
‫ب�أي خطوة �إيجابية‪� ،‬سيطرت الفكرة ب�شكل تام على ر�أ�سه مما جعله يبد�أ‬
‫ﻜﺘ‬
‫يف التخطيط للتقدم لها‪ ،‬ويف حلظة ما طاف �شبح حبيبته الأوىل �سارة‬
‫مبخيلته‪ ،‬ر�آها حزينة ومالحمها باهتة‪� ،‬شعر �أنها تتهمه باخليانة وعدم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الوفاء بالوعد‪ ،‬مما جعله ينتف�ض وك�أنه �أُ�صيب مبا�س كهربائي فج�أة‪،‬‬
‫�شعر �أنه دينء وحقري‪ ،‬فكيف له �أن يفكر يف فتاة �أخرى بعدما وعدها �أن‬
‫ﺸﺮ‬

‫يتقدم لها فور تخرجه وعمله‪ ،‬كيف له �أن ين�ساها حتى ولو م�ضت �سنوات‪،‬‬
‫ﻭ‬

‫لأول مرة منذ فرتة طويلة يقرر الدخول لزيارة �صفحتها ال�شخ�صية‪� ،‬أراد‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫فقط �أن يطمئن عليها بعدما منع نف�سه عنها �شهور طوال‪� ،‬أراد �أن يخربها‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫هام�سا ب�أنه ما زال على العهد‪ ،‬وب�أنه �سوف يطرد �سلمى ‪-‬تلك‬‫ولو حتى ً‬
‫الزائرة اجلديدة‪ -‬عن ر�أ�سه و ُيفرغ قلبه لها وفقط‪� ،‬أراد � ً‬
‫أي�ضا �أن يق�ص‬
‫عليها ما طر�أ عليه من تغيريات خالل الفرتة املا�ضية‪ ،‬ويطلب منها �أن‬
‫تكون هي رفيقته يف دربه اجلديد وتعينه وت�شجعه على التقرب من ربه‬
‫�أكرث و�أكرث‪ ،‬قام بالدخول على �صفحتها ال�شخ�صية فلمحها ت�ضع �صورة‬
‫�شخ�صية لفتاة ذات خ�صالت �سوداء حريرية ُم�سدلة خلف ظهرها‪ ،‬فغ�ض‬
‫الطرف عنها فو ًرا وهبط للأ�سفل ليتابع �آخر �أخبارها‪ ،‬مرت �إحدى ع�شرة‬
‫‪164‬‬
‫دقيقة ا�ستغرقها جمي ًعا يف قراءة من�شوراتها املبعرثة عن احلب واملوت‬
‫واالكتئاب‪ ،‬التفا�ؤل والأمل واحلياة‪ ،‬قبل �أن يرى من�شورها الالحق املكون‬
‫واحد ُكتب فيه‪ :‬و�أخ ًريا جربت طعم احلب‪ ..‬لأول مرة‪.‬‬ ‫�سطر ٍ‬‫من ٍ‬
‫وم�صحوب ب�صورة لها وقد �أحاطها �أحدهم بذراعه وهو ينظر لها‬
‫بع�شق‪ ،‬ا�شتعلت الغرية داخل قلبه وت�أجج الغ�ضب ب�صدره‪� ،‬شعر ب�أن‬
‫الدماء تغلي داخل ر�أ�سه وبد�أت �أنفا�سه تتالحق ب�سرعة كبرية‪ ،‬بد�أ يقر�أ‬
‫طعم للحب هذا‬ ‫جملتها الوحيدة مرة تلو الأخرى وهو يكاد يجن‪� ،‬أي ٍ‬
‫الذي ت�شعر به لأول مرة! و�إذا كانت �صادقة‪ ،‬فماذا عن عالقتها ب�إ�سالم!‬

‫ﻋﺼ‬
‫وماذا عن عالقتها مبن �سبقوه و�أخربته عنهم يف حمادثتها الأخرية! �شعر‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بت�شتت �أركانه وانهيار �أطرافه‪� ،‬شعر ب�أنه ال بد �أن يواجهها و ُي َفرغ بها كل‬
‫ﻜﺘ‬
‫ما يحمله �صدره من غ�ضب‪ ،‬نعم ال بد �أن يفهم منها كل �شيء قبل �أن يقرر‬
‫خطوته القادمة‪ ،‬كان هذا ر�أيه قبل �أن يدقق النظر للمرة الأوىل ل�صورتها‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫امل�صاحبة لذاك املن�شور‪ ،‬والتي تخلت فيها عن حجابها الق�صري و�أ�سدلت‬


‫�شعرها الأ�سود الناعم خلف ظهرها‪ ،‬ات�سعت حدقتاه ب�شدة وهو ينظر‬
‫ﺸﺮ‬

‫لل�صورة بعدم ت�صديق‪� ،‬أتكون ظنونه التي قفزت �إىل ر�أ�سه للتو حقيقة‪،‬‬
‫�أتكون �سارة تخلت عن حجابها‪ ،‬وعن عالجها‪ ،‬وعن كل �شيء وعادت‬
‫ﻭ‬

‫للدوامة التي كانت تعي�شها �ساب ًقا و�أرادت �أن ترتبط ب�أحدهم حتى تن�سى‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�إ�سالم وما فعله بها! �أراد التحقق من ظنونه‪ ،‬فبد�أ ينظر �إىل التعليقات‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫امل�صاحبة لذلك املن�شور ووجد اجلميع يهنئها بعالقتها اجلديدة ويتمنى‬


‫كل منهم �أن يكون مثلها‪ ،‬اجلميع �سعيد ويبارك لها على هذا اخلرب ال�سار‪،‬‬
‫�إال فتاة واحدة فقط هي التي مل تتقبل الأمر‪ ،‬وعلقت بتعجبها من فرحتهم‬
‫بتلك العالقة املحرمة‪ ،‬مما جعل اجلميع ي�ستهزئ بها وي�سخر منها ومن‬
‫تفكريها الرجعي العقيم‪ ،‬وجد �إ�سالم معدل الغ�ضب لديه قد و�صل �إىل‬
‫القمة‪ ،‬فقام بال�ضغط بقوة على زر �إغالق احلا�سوب اخلا�ص به حتى كاد‬
‫‪165‬‬
‫�أن يحطمه‪ ،‬و�ألقى بنف�سه على فرا�شه وزفر زفرة قوية وهو ينظر �إىل‬
‫�سقف غرفته وظل يفكر حتى راح يف ُ�سبات عميق‪.‬‬
‫ا�ستيقظ من نومه على �صوت �أذان املغرب‪ ،‬فنه�ض من مكانه وقد‬
‫�أثقلت الهموم كاهله‪ ،‬وبد أ� يتم�شى ببطء نحو دورة املياه ليتو�ض�أ‪ ،‬هبط‬
‫من منزله وقام ب�أداء �صالته‪ ،‬وبعدها وجد نف�سه وبدون �سابق ترتيب‬
‫يت�صل بفاروق ويخربه بحاجته �إىل احلديث معه‪ ،‬وي�س�أله ما �إذا كان لديه‬
‫الوقت الكايف �أم ال‪ ،‬وملا رحب فاروق بالفكرة وجد �إ�سالم نف�سه ي�ستقل �أول‬
‫�أتوبي�س يو�صله �إىل منزل �صديقه‪ ،‬ا�ستقبله فاروق بابت�سامة وا�سعة ورحب‬

‫ﻋﺼ‬
‫به‪ ،‬فبادله �إ�سالم ابت�سامة خفيفة وبد أ� يف حديثه مبا�شرة بعدما جل�س‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫على �أقرب كر�سي للباب وقال‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬فاروق فاكر ال�شاب اللي كلمتك عليه قبل كده وكنت بقولك �إنه‬
‫بيحب واحدة وح�صل بينهم �شوية جتاوزات‪ ،‬و�أنت قولتلي �إنه‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الزم يبطل يتكلم معاها ويتوب لربنا‪ ،‬و�إنها لو فيها اخلري ليه‬
‫فربنا هيقرب بينهم تاين ولكن يف احلالل؟‬
‫ﺸﺮ‬

‫ابت�سم فاروق بعدما تذكر ذلك احلوار وقال‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬اه فاكره‪ ،‬يا ترى �إيه اجلديد يف حياته دلوقتي؟‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫زفر �إ�سالم بقوة‪ ،‬وقال وقد ا�ستعارت احلرية لنف�سها بوجهه مقعدً ا‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬أنا هكون �صريح معاك و�أحكيلك على كل حاجة لأين يف �أ�شد‬
‫احلاجة للن�صيحة‪ ،‬ال�شاب ده يبقى �أنا‪ ،‬والبنت اللي حبيتها‬
‫زمان وبعدها توبت وبطلت �أكلمها بقيت بح�س مع مرور الوقت‬
‫�إن مكانتها بتقل يف قلبي‪ ،‬و�إن م�ش دي البنت اللي تنا�سبني‬
‫كزوجة‪.‬‬
‫�صمت ً‬
‫قليل ثم ا�ستطرد‪:‬‬
‫‪166‬‬
‫‪ -‬من كام يوم �شوفت بنت جارتنا و�صاحبة �أختي‪ ،‬و�س�ألت عنها‬
‫وب�صراحة �أُعجبت جدً ا ب�أخالقها ولقيتني م�شدود ليها وبتمنى‬
‫�إنها تكون مراتي‪ ،‬بعدها بد�أت �أفتكر البنت اللي حبيتها زمان‬
‫وح�سيت �إين كده طلعت ندل معاها‪ ،‬فقررت �إين �أطلع جارتي‬
‫دي من دماغي و�أرجع �أتوا�صل مع البنت الأوالنية و�أحاول‬
‫�أتقدملها هي عل�شان �أويف بوعدي‪ ،‬النهارده بقى عرفت عنها‬
‫�شوية معلومات كده �ضايقتني وح�سيت �إين م�ش هقدر �أكمل‬
‫معاها‪ ،‬فب�صراحة م�ش عارف �إيه ال�صح يف احلالة دي‪ ،‬عل�شان‬

‫ﻋﺼ‬
‫كده قولت �آجي �أحكيلك جايز �أالقي عندك احلل‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عاد فاروق بظهره �إىل ظهر كر�سيه يف هدوء‪ ،‬ثم هتف بعدما ر َّبع‬
‫ﻜﺘ‬
‫ذراعيه �أمام �صدره‪:‬‬
‫‪ -‬ب�ص يا �سيدي‪ ،‬املو�ضوع يتلخ�ص يف نقطتني �أ�سا�سيتني‪ ،‬النقطة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الأوىل‪ :‬وهي �إنكم �أنتوا االتنني �أذنبتوا بعالقتكم احلرام دي‪،‬‬


‫وعل�شان ن�صلح املو�ضوع ده بنتوب لربنا ونندم على الذنب ده‬
‫ﺸﺮ‬

‫متاما‪ ،‬وده اللي ح�صل‪ ،‬يبقى كده خال�ص املو�ضوع‬ ‫ونبعد عنه ً‬
‫انتهى‪ ،‬يعني مبعنى �آخر �أنت م�ش ُمطالب �إنك تتجوزها عل�شان‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ب�س حا�س�س بالذنب‪ ،‬لأنك لو عملت كده وهي م�ش منا�سبة ليك‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫حال ًيا يبقى ظلمت نف�سك وظلمتها واحتمال كبري تعي�شوا يف‬
‫م�شاكل ال ح�صر لها!‬
‫�صمت للحظات حاول فيها التقاط �أنفا�سه وا�ست�أنف‪:‬‬
‫‪ -‬ومن هنا بننتقل للنقطة التانية‪ :‬وهي هل البنت دي منا�سبة‬
‫ليك دلوقتي وال لأ؟ يعني ترت�ضيها زوجة بكل ما فيها من‬
‫مميزات وعيوب وال لأ؟ لو اه‪ ،‬يبقى تروح تتقدم لها وب�إذن اهلل‬
‫ربنا يجعلها من ن�صيبك لو فيها اخلري ليك‪ ،‬ولو لأ‪ ،‬يبقى تدور‬
‫‪167‬‬
‫على الإن�سانة اللي متوافقة مع �شخ�صيتك لأن املفرو�ض �إن‬
‫دي واحدة ب�إذن اهلل هتعي�ش معاها عمرك كله فبالتايل الزم‬
‫تختارها بعناية‪.‬‬
‫�شعر ب�أن هناك يدً ا حانية ُتربت على قلبه‪َّ ،‬‬
‫هد�أت كلمات فاروق من‬
‫روعه ً‬
‫قليل‪ ،‬وهم�س جمي ًبا على ا�ستف�سارات �صديقه‪:‬‬
‫‪ -‬ب�صراحة يا فاروق �أنا ملا �أختي حكت يل عن �صاحبتها دي لقيت‬
‫ت�شابه كبري بني تفكريي وتفكريها‪ ،‬ولقيت �إن �أحالمها تقري ًبا نف�س‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أحالمي‪ ،‬فحال ًيا �شايف �أنها �أن�سب واحدة َّ‬
‫يل‪ ،‬وبالن�سبة للبنت التانية‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫فعل فكرة ت�أنيب �ضمري م�ش �أكرث‪.‬‬‫فهي ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫متاما‪ ،‬خال�ص‬ ‫‪ -‬من ر�أيي يا �إ�سالم �إنك تقفل �صفحة املا�ضي دي ً‬
‫اللي ح�صل ح�صل وب�إذن اهلل ربك يتقبل توبتك وك�أن �شي ًئا مل‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يكن‪ ،‬حاول تتجاهل كل اللي فات‪ ،‬وتقطع �أي طريق ممكن‬


‫يو�صلك للبنت بتاعت زمان‪ ،‬ودلوقتي بقى فكر يف م�ستقبلك‬
‫ﺸﺮ‬

‫و�شوف جارتك اللي بتقول عليها دي‪ ،‬لو ً‬


‫فعل لقيت �أنها منا�سبة‬
‫ﻭ‬

‫لإ�سالم بتاع دلوقتي بكل ظروفه و�أفكاره‪ ،‬يبقى توكل على اهلل‪،‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وربنا يي�سرلك اخلري دائ ًما‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫بعفوي ٍة ارت�سمت على �شفتيه ابت�سامة وا�سعة جميلة‪ ،‬ومتتم بامتنان‬


‫�شديد‪:‬‬
‫‪ -‬حقيقي يا فاروق كالمك ريحني‪ ،‬ربنا يجازيك كل خري‪.‬‬
‫وقبل �أن يجيب �صديقه‪� ،‬س�أل �إ�سالم باهتمام �شديد ذاك ال�س�ؤال‬
‫الهام الذي طر�أ على ر�أ�سه للتو‪:‬‬
‫‪168‬‬
‫‪ -‬طيب ملا �أروح �أتقدم لأي واحدة‪ ،‬املفرو�ض �أحكيلها عن كل‬
‫املا�ضي بتاعي وال �أعمل �إيه؟ �أنا عاوز �أكون �صريح معاها‪ ،‬ب�س‬
‫م�ش عارف النقطة دي لو عر ِفتها ممكن النتيجة تكون �إيه!‬
‫�أجابه فاروق على الفور وبدون حلظة تفكري واحدة‪:‬‬
‫‪ -‬لأ طب ًعا متقولها�ش �أي حاجة عن املو�ضوع ده‪ ،‬وال عن �أي ذنب‬
‫تاين عملته!‬
‫‪ -‬طيب وم�ش كده هكون بخدعها؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬أل م�ش هتكون بتخدعها‪ ،‬لأن هي املفرو�ض حتا�سبك على‬
‫�أفعالك من �أول ما تعرفك ب�س‪� ،‬إمنا �أي ذنب ح�صل قبل كده‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫فده بيكون بينك وبني ربنا‪ ،‬يعني �أنت عملت ذنب وتوبت عنه‬
‫ﻜﺘ‬
‫وربنا �سرتها عليك‪ ،‬مينفع�ش �أنت بقى تيجي تف�ضح نف�سك‬
‫وجتاهر باملع�صية عادي كده‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل �أنها لو عرفت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪-‬ومهما تفهمت املو�ضوع‪ -‬هتيجي يف �أي وقت بردو تفتكر اللي‬


‫�أنت عملته وممكن املو�ضوع يقلب معاها ب�شك‪� ،‬أو تبد�أ تقل من‬
‫ﺸﺮ‬

‫نظرها‪� ،‬أو �أي فكرة تانية ال�شيطان يو�سو�س لها بيها‪ ،‬فعل�شان‬
‫كده اتفق معاها من الأول �إنكم م�ش هتحا�سبوا بع�ض على �أي‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حاجة يف املا�ضي‪ ،‬و�إنكم تركزوا يف �أفعال بع�ضكم احلالية ب�س‪،‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫وكده كده حمد�ش فينا خايل من الذنوب يا �إ�سالم‪.‬‬


‫‪ -‬مت�أكد يا فاروق؟‬
‫�أوم�أ فاروق بر�أ�سه �إيجا ًبا و�أجاب بثقة‪:‬‬
‫‪ -‬مت�أكد جدً ا متقلق�ش‪ ،‬وعل�شان قلبك يرتاح �أكرث ابحث و�إقر�أ‬
‫بنف�سك فتاوى يف املو�ضوع ده وهتالقي كالمي �صح ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫تنهد �إ�سالم براحة كبرية وهم�س با�س ًما‪:‬‬
‫‪169‬‬
‫‪ -‬ياااه يا فاروق‪ ،‬متعرف�ش املو�ضوع ده كان تقيل على قلبي ازاي‪،‬‬
‫احلمد هلل �إين لقيت احلل اللي يريحني عندك‪.‬‬
‫‪ -‬احنا يف اخلدمة دا ًميا يا با�شمهند�س‪.‬‬
‫‪ -‬طيب معل�ش �آخر طلب قبل ما �أم�شي‪.‬‬
‫نظر فاروق ل�صديقه باهتمام بعدما �أوم أ� بر�أ�سه بخفة معلن ًا قبوله‬
‫لطلب �إ�سالم‪ ،‬قال الأخري على الفور‪:‬‬
‫‪� -‬أنا عاوز �أقرب من ربنا �أكرث من كده‪ ،‬حال ًيا �أنا احلمد هلل‬

‫ﻋﺼ‬
‫انتظمت يف ال�صالة يف امل�سجد‪ ،‬بد�أت �أفهم و�أحفظ القر�آن‪،‬‬
‫وقر�أت يف �سرية جميع الأنبياء‪ ،‬ودلوقتي بقر�أ يف �سرية‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ال�صحابة ويف الفقه‪� ،‬أعمل �إيه تاين ّ‬
‫قول؟‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪� -‬شوف يا �سيدي‪ ،‬فيه نقطة مهمة جدً ا لو عرفت تدرب نف�سك‬
‫عليها هتظبط معاك حاجات كتري‪ ،‬وهي �إنك ت�ست�شعر مراقبة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ربنا ليك يف كل وقت‪ ،‬يعني كل ما تيجي تعمل �أي حاجة ت�س�أل‬


‫نف�سك يا ترى احلاجة دي تر�ضي ربنا وال لأ‪ ،‬يا ترى لو عملتها‬
‫ﺸﺮ‬

‫هتكون يف ميزان ح�سناتي وال �سيئاتي‪ ،‬كده يعني‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬متام‪ ،‬و�إيه تاين؟‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مثل‪ ،‬فممكن تبد�أ‬‫‪ -‬فيه حاجات تانية كتري‪ ،‬يعني لو عبادات ً‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫بجدول خفيف كده فيه كام حاجة ب�سيطة تقدر تواظب عليها‬
‫يوم ًيا زي ً‬
‫مثل �أذكار ال�صباح وامل�ساء‪ ،‬ورد قر�آن يومي‪� ،‬صالة‬
‫ال�سنن و�صالة ال�ضحى‪� ،‬سورة امللك قبل النوم‪ ،‬عدد معني من‬
‫الت�سبيح وال�صالة على النبي واال�ستغفار‪ ،‬قيام الليل حتى لو‬
‫ركعتني مع ركعة الوتر‪ .‬يعني اللي تقدر عليه اعمله‪ ،‬بالن�سبة‬
‫للمعامالت‪ :‬فحاول دائ ًما تخليك قدوة ب�أخالقك‪ ،‬عامل كل‬
‫‪170‬‬
‫النا�س باحل�سنى وابت�سم يف و�شهم‪ ،‬خد بالك من والدتك‬
‫وبرها‪ ،‬حافظ على �أختك لأنها م�سئولة منك‪ ،‬حاول تخلي اللي‬
‫ي�شوفك يقول هو ده امل�سلم اللي على حق‪ ،‬كمان راعي ربنا يف‬
‫�شغلك واوعي تت�شغل وتن�سى �أوقات ال�صالة‪ ،‬ميكن مع مرور‬
‫الأيام تالقي �أ�صحابك ات�شجعوا وبقوا ينزلوا ي�صلوا معاك‪،‬‬
‫خد بالك من عينيك و�أنت ما�شي يف ال�شارع وحافظ على بنات‬
‫النا�س‪ ،‬و�أخ ًريا بقى حاول تتعلم عن دينك با�ستمرار �سواء عن‬
‫طريق الكتب �أو الفتاوى �أو حتى الربامج الدينية‪ ،‬وكل ما ييجي‬

‫ﻋﺼ‬
‫يف بالك �س�ؤال عن �أي حاجة ادخل ابحث عنه وزود معلوماتك‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫ونكتفي بهذا القدر الآن‪.‬‬
‫‪ -‬كالم جميل‪ ،‬كالم رائع‪ ،‬بارك اهلل فيك يا �شيخنا‪.‬‬
‫قالها �إ�سالم مبرح‪ ،‬فنظر له فاروق بغ�ضب م�صطنع وقال‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬بترتيق ح�ضرتك!‬
‫‪ -‬لأ واهلل بتكلم بجد‪ ،‬ب�إذن اهلل �أحاول �أنفذ كل الكالم ده‪ ،‬لأين‬
‫ﺸﺮ‬

‫نف�سي �أكون ال�شاب اللي ي�ستاهل بنت بالأخالق اللي �سمعتها‬


‫عنها دي‪ ،‬ربنا يقدرنا‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ب�س خد بالك يا �إ�سالم‪� ،‬أنت هتعمل احلاجات دي عل�شان‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫تر�ضي ربنا‪ ،‬م�ش عل�شان البنت توافق عليك‪ ،‬فاهم الفرق؟‬


‫قالها فاروق بحذر �شديد وجدية‪ ،‬ف�أوم�أ �إ�سالم بر�أ�سه متفه ًما و�أجاب‪:‬‬
‫‪ -‬ما تقلق�ش يا فاروق‪� ،‬أنا قررت �أم�شي يف الطريق ده وم�ش ه�سيبه‬
‫�أبدً ا ب�إذن اهلل مهما ح�صل‪ ،‬كل احلكاية ب�س �إين ح�سيت �أنها‬
‫بنت على خلق وت�ستاهل كل خري فحبيت �أكون ال�شخ�ص اللي‬
‫هي بتتمناه‪ ،‬لكن حتى لو حم�صل�ش ن�صيب ف�أنا مكمل يف‬
‫طريقي بردو �إن �شاء اهلل‪.‬‬
‫‪171‬‬
‫مودعا �صديقه بعدما �شعر �أن‬
‫�ألقى بجملته الأخرية ونه�ض من مكانه ً‬
‫الزيارة قد طالت‪ ،‬و�أنه ال بد له �أن يعود ملنزله قبل ت�أخر الوقت‪ ،‬هبط‬
‫درجات ال�سلم ب�سرعة وبد أ� ي�سري يف ال�شارع باجتاه موقف الأتوبي�س‪� ،‬شعر‬
‫ب�أن طيور ال�سالم حتلق وترتاق�ص داخل قلبه‪� ،‬شعر براحة غريبة وفريدة‬
‫من نوعها مل ي�شعر بها منذ فرتة‪ ،‬ف�سبحان من بدل تلك احلالة ال�سيئة‬
‫التي كان يعي�شها قبل ب�ضع �ساعات �إىل تلك الراحة اجلميلة التي ي�شعر‬
‫بها الآن‪� ،‬أخذ ي�سرتجع كلمات فاروق ويفكر يف خطوته القادمة‪ ،‬قرر �أال‬
‫يتحدث مع �سارة ثانية رغم رغبته ال�شديدة يف معرفة �سر كلماتها التي‬

‫ﻋﺼ‬
‫ال�سبل‬
‫ر�آها قبل عدة �ساعات‪� ،‬إال �أنه �سي�ستمع �إىل كلمات فاروق ويقطع كل ُ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أي�ضا �أن يحاول التقرب من ربه باملزيد من الطاعات‬ ‫املو�صلة �إليها‪ ،‬قرر � ً‬
‫يف الفرتة القادمة‪ ،‬وبعدها �إذا ر�أى يف نف�سه نف�س تلك الرغبة‪ ،‬ونف�س‬
‫ﻜﺘ‬
‫ذاك ال�شغف بالزواج من ذات املالب�س الف�ضفا�ضة‪ ،‬ف�سيبد�أ يف التحدث‬
‫يف الأمر مع والدته و�أخته‪ ،‬وليفعل اهلل له اخلري حينها‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪zzz‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫بعد ُم�ضي �شهر كامل‪ ،‬ومع ا�ستمرار ت�شبث الفكرة بر�أ�سه ورف�ضها �أن‬
‫ت�ست�سلم ملخاوفه وجد نف�سه يقهر خوفه ويتخذ قراره بالتقدم لها وينتظر‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بعدها ما �سيحدث‪ ،‬كانت خماوفه يف الفرتة ال�سابقة من عدة �أ�شياء‪،‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أهمها كون �إمكانياته حمدودة وراتبه �صغري ولذلك لن تقبل به �أي عائلة‪،‬‬
‫فذلك املبلغ من املال الذي تركه له والده بعد وفاته لن يغطي كل التكاليف‬
‫املطلوبة‪ ،‬ولذلك ف�أ�سرة العرو�س ال بد �أن توافق على تلك الإمكانيات‬
‫الب�سيطة املتوفرة معه الآن حتى ي�ستطيع تدبري باقي املبلغ املطلوب‪،‬‬
‫كانت هذه الفكرة كافية بالن�سبة له لكي ال يفكر يف �أمر الزواج قبل عدة‬
‫�سنوات‪� ،‬إال �أن خوفه من �ضياع �سلمى من بني يديه جعله يفكر يف الأمر‬
‫مرة �أخرى ويقرر ال�سعي جاهدً ا للو�صول �إليها وهو على يقني من �أن اهلل‬
‫‪172‬‬
‫أي�ضا من‬‫قادر على �أن يحقق له ما يتمناه حتى لو ر�آه �صع ًبا‪ ،‬كان يخاف � ً‬
‫�أال يكون هو ذاك ال�شاب الذي حتلم به �سلمى‪ ،‬خاف �أن تكون متطلباتها‬
‫يف فار�س �أحالمها تفوقه مبراحل‪ ،‬ولكنه تراجع عن هذه الفكرة �سري ًعا‬
‫وقرر �أال ي�سبق الأحداث وينتظر حتى ي�سمع منها ر�أيها بنف�سه‪� ،‬أما عن‬
‫راتبه ال�صغري‪ ،‬فقد ظن ب�سلمى خ ًريا و�شعر �أنها �ستوافق عليه وتقف �إىل‬
‫جواره حتى تتح�سن حالته املادية وي�ستطيع تعوي�ضها وقتها عن كل حلظة‬
‫�صرب وعناء �شعرت بها معه‪ ،‬كما �أن ال�شركة التي يعمل بها تقوم برتقية‬
‫�أحد املوظفني اجلدد كل عام وتزيد من راتبه وذلك ح�سب الكفاءة كما‬

‫ﻋﺼ‬
‫زعموا‪ ،‬لذلك �شعر �إ�سالم �أن الرتقية �ستكون من ن�صيبه يف هذا العام لأن‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫جمهوداته وجدارته يف العمل تظهر جلية �أمام اجلميع‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫غادر غرفته بعدما ح�سم �أمره وتوجه �إىل غرفة والدته ليفاحتها‬
‫يف الأمر‪ ،‬فوجد منها ترحا ًبا �شديدً ا لأنها تثق يف �أخالق �سلمى وت�شعر‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫باالطمئنان عندما جتد هند معها‪ ،‬كان لرد فعل والدته بالغ الأثر الطيب‬
‫على نف�سه‪ ،‬فلم يتوقع �أن تتحم�س للفكرة لهذه الدرجة‪ ،‬على الفور‬
‫ﺸﺮ‬

‫ا�ست�أذن منها وغادر �إىل غرفة هند ليخربها هي الأخرى مبا يفكر به‪،‬‬
‫للوهلة الأوىل تعجبت هند ب�شدة من طلبه و�أخربته ب�أنه ال يعرف �سلمى‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قدم على هذه اخلطوة‪� ،‬إال �أنه �أخربها ب�أنه �سمع عنها ما‬ ‫جيدً ا حتى ُي ِ‬
‫اخل�صال الطيبة التي �شجعته على اتخاذها زوجة له‪ ،‬وب�أنه‬ ‫يكفي من ِ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بالت�أكيد �سوف يتعرف عليها بو�ضوح �أكرث يف بيت والدها‪ ،‬جل�ست هند‬
‫على �أريكتها وبد�أت تفكر للحظات وهي تطرق ب�أ�صابعها على الطاولة‪،‬‬
‫ثم التفت �إليه و�أخربته ب�أن �سلمى ال تفكر يف الزواج حال ًيا وترف�ض �أي‬
‫أي�ضا والدها من املمكن �أال يوافق على‬ ‫م�شروع ارتباط قبل تخرجها‪ ،‬و� ً‬
‫�شخ�ص يف �إمكانياته املحدودة‪ ،‬زفر �إ�سالم زفرة طويلة‪ ،‬ثم طلب من هند‬
‫�أال حتاول �إحباطه وت�شتيت �أفكاره‪ ،‬و�أخربها �أن تذهب ل�سلمى وحتدثها يف‬
‫‪173‬‬
‫الأمر لتعرف ر�أيها منها هي مبا�شرة‪ ،‬و�إذا مل يتي�سر الأمر ف�سيعلم ب�أن‬
‫اخلري مل يكن يف زواجه منها‪ ،‬طلبت منه هند �أن يرتكها لبع�ض الوقت‬
‫لتفكر يف الأمر وترتب احلوار الذي �ستديره مع �سلمى يف ر�أ�سها قبل �أن‬
‫تذهب �إليها‪ ،‬ف�أخربها �إ�سالم ببع�ض النقاط الهامة التي ال بد �أن تتحدث‬
‫فيها لتعرف ر�أي �صديقتها بوجه عام‪ ،‬و�إذا وجدت �أن موا�صفات فار�س‬
‫�أحالمها تت�شابه مع موا�صفات �إ�سالم حينها فقط تعر�ض عليها طلبه‬
‫وتنتظر رد فعلها‪ ،‬ا�ستجابت هند ملطلبه لِ ا ر�أته يف عينيه من �إ�صرار‪،‬‬
‫وحاولت �أن تزيل تلك الهموم التي ظهرت جلية على وجهه وبد�أت ت�س�أله‬

‫ﻋﺼ‬
‫عما �أعجبه يف �سلمى‪ ،‬ارت�سمت ابت�سامة خفيفة على وجه �إ�سالم وبد�أ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يحدثها عن بع�ض ال�صفات اجلميلة التي �سمعها عنها وتركت يف قلبه‬
‫�أث ًرا طي ًبا جعله يتحم�س ب�شدة لتلك الفكرة‪ ،‬فبد�أت هند بدورها حتدثه‬
‫ﻜﺘ‬
‫مرة �أخرى عن �سلمى وعن �أخالقها الطيبة وم�شاعرها ال�صادقة جتاه كل‬
‫من حتب‪ ،‬مما �أ�شعره �أنه كان على حق عندما قرر خو�ض التجربة وحتمل‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫النتائج مهما كانت‪ ،‬بعد قليل تركها �إ�سالم لتنفرد بنف�سها كما طلبت‬
‫وخرج لأداء بع�ض الأمور اخلا�صة به‪ ،‬بينما جل�ست هند تتخيل �سلمى وهي‬
‫ﺸﺮ‬

‫زوجة لأخيها و�أم لأوالده وبد�أت هي الأخرى تتحم�س للفكرة‪ ،‬حتى وجدت‬
‫ﻭ‬

‫نف�سها ترفع �سماعة الهاتف وتخرب �سلمى ب�أنها �آتية لزيارتها بعد ن�صف‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�ساعة‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ارتدت هند عباءتها ال�سوداء التي ترتديها عادة عندما تذهب لأي‬
‫مكان قريب من منزلها‪ ،‬وهبطت على الفور باجتاه منزل �سلمى‪ ،‬بد�أت‬
‫حتدثها عن �أمور �شتى‪ ،‬ومع مرور الدقائق بد�أت تتطرق معها �إىل مو�ضوع‬
‫فار�س الأحالم‪ ،‬و�أخذت حتدثها عن �صفات من تريد الزواج منه وحتلم‬
‫بق�ضاء باقي حياتها معه‪ ،‬فبد�أت �سلمى بدورها تتحدث عن ذلك ال�شاب‬
‫امل�ؤمن القوي الذي تتمنى الزواج منه‪� ،‬أخربتها ب�أنها حتلم مبن يكون هدفه‬
‫‪174‬‬
‫الأول يف هذه احلياة هو ر�ضا اهلل عز وجل‪ ،‬مبن ي�شجعها على التقرب من‬
‫اهلل ويعلمها دينه وقر�آنه‪ ،‬مبن يعرف حقوقه وواجباته‪ ،‬ويتعامل معها كما‬
‫تعامل النبي عليه ال�صالة وال�سالم مع زوجاته‪ ،‬مبن يراها �أجمل الن�ساء‪،‬‬
‫وينظر جلمال قلبها قبل �أن يهتم بجمال ج�سدها‪ ،‬مبن ينوي �إن�شاء بيت‬
‫م�سلم ويربي �أوالده على الدين ال�صحيح حتى يكونوا قدوة بني �أقرانهم‬
‫فيما بعد‪� ،‬أخربتها �أن ال�شكل‪ ،‬واحلالة املادية‪ ،‬واملكانة االجتماعية ال‬
‫يهمونها بقدر ما يهمها كونه يخاف اهلل ويعاملها مبا ير�ضيه‪� ،‬أما الباقي‬
‫فيكفي فيه �أن ي�صل �إىل درجة القبول ال �أكرث‪� ،‬أخربتها � ً‬
‫أي�ضا ب�أنها ت�سعى‬

‫ﻋﺼ‬
‫جاهدة لتكون تلك الزوجة التي ت�ستحق �شا ًبا مثل هذا‪ ،‬و�أنها على يقني‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يوما ما ب�إذن اهلل‪ ،‬كانت هند تعلم ب�أن �سلمى تتمنى تلك‬ ‫من �أنها �ستجده ً‬
‫الأمنيات لأنها حتدثت معها يف ذلك الأمر من قبل عدة مرات‪� ،‬إال �أن‬
‫ﻜﺘ‬
‫هذه املرة بالتحديد كانت ت�ستمع �إىل كلمات �صديقتها مبنتهى الرتكيز‪،‬‬
‫وكلما قالت �سلمى كلمة ت�شبه ما قاله �إ�سالم من قبل كانت تتيقن من �أن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عرو�س منا�سبة جدً ا لأخيها‪� ،‬أرادت �أن تتحدث معها بو�ضوح‬ ‫ٌ‬ ‫�صديقتها‬
‫�أكرث لتعرف ر�أيها يف �إ�سالم مبا �أنه �أ�صبح ي�شبه كث ًريا ذلك ال�شاب القابع‬
‫ﺸﺮ‬

‫يف خيالها‪� ،‬ألقت �س�ؤالها العابر وهي العاملة بالإجابة‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫أنت ممكن تفكري تتخطبي دلوقتي؟‬


‫‪� -‬سلمى هو � ِ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�ضحكت �سلمى بتلقائية و�أجابت متعجبة‪:‬‬


‫أنت عارفة ر�أيي من زمان يف املو�ضوع ده!‬
‫‪� -‬إيه يا هند ما � ِ‬
‫‪ -‬طيب لو افرت�ضنا �إن فيه عري�س موجود دلوقتي‪ ،‬وفيه �صفات‬
‫كتري من اللي بتحلمي بيها‪� ،‬ساعتها هتوافقي ييجي يتقدم؟‬
‫قالتها وعقدت ذراعيها �أمام �صدرها‪ ،‬وبد�أت تنظر يف عيني �سلمى‬
‫وعلى �شفتيها ابت�سامة خفيفة‪ ،‬اقرتب حاجبا �سلمى من بع�ضهما البع�ض‬
‫وبد أ� كل منهما ينظر للآخر بده�شة بينما هي جتيب‪:‬‬
‫‪175‬‬
‫‪ -‬م�ش عارفة يا هند‪ ،‬ب�س هو �أ�ص ًال هييجي منني يعني!‬
‫‪ -‬م�ش مهم هييجي منني‪ ،‬املهم هتوافقي وال لأ؟‬
‫زفرت �سلمى ب�ضيق بعدما بد�أت تظهر عالمات اخلجل والتوتر على‬
‫وجهها وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬هند يا ريت تقويل كل اللي عندك علطول بدل القلق ده!‬
‫�ضحكت هند لِ ا ر�أته من بوادر حياء على وجه �صديقتها‪ ،‬وقالت‬
‫مف�سرة‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬فيه �شاب تقري ًبا عنده نف�س �أفكارك يف حاجات كتري وحابب‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ييجي يتقدملك‪ّ ،‬‬
‫وقال �أ�س�ألك هل املبد�أ موجود وال لأ‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬مني ال�شاب ده؟‬
‫�س�ألت باهتمام‪ .‬ف�أجابت هند بحما�س‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪� -‬إ�سالم �أخويا‪.‬‬


‫أخوك!‬
‫‪� -‬إ�سالم � ِ‬
‫ﺸﺮ‬

‫قالتها �سلمى بذهول وقد ارتفع �صوتها ً‬


‫قليل مما �أ�شعر هند بال�ضيق‪،‬‬
‫ﻭ‬

‫وجعلها جتيب باندفاع‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪� -‬أيوة �إ�سالم �أخويا‪ ،‬ماله وح�ش وال �إيه؟!‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ابتلعت �سلمى ريقها بحرج �شديد بعدما �أدركت ت�أثري رد فعلها على‬
‫�صديقتها‪ ،‬حاولت الهدوء ور�سم ابت�سامة خفيفة على �شفتيها‪ ،‬وبد�أت‬
‫تقول معتذرة‪:‬‬
‫‪ -‬أل واهلل م�ش ق�صدي يا هند‪ ،‬على عيني وعلى را�سي طب ًعا‪ ،‬ب�س‬
‫أخوك م�ش‬
‫أنت يعني عارفة تفكريي كوي�س ومتهي�أيل �إ�سالم � ِ‬‫� ِ‬
‫زي ال�شاب اللي بحلم بيه خال�ص!‬
‫‪176‬‬
‫‪ -‬هو ده ال�سبب ب�س يعني؟!‬
‫‪ -‬اه واهلل هو ده‪.‬‬
‫النت مالمح هند بع�ض ال�شيء‪ ،‬وبد�أت حتدث �سلمى عن موا�صفات‬
‫�إ�سالم وعن التغريات الكثرية التي طر�أت على حياته يف الفرتة الأخرية‪،‬‬
‫فكانت �سلمى ت�ستمع وابت�سامتها تت�سع من �آن لآخر‪ ،‬فقد �شعرت ب�أنه‬
‫ي�شبهها يف �أ�شياء كثرية حتى �أنه بد�أ يتقرب من اهلل عز وجل يف نف�س‬
‫التوقيت الذي بد�أت هي الأخرى ت�شق طريقها فيه نحو اجلنة‪ ،‬انتظرت‬
‫حتى انتهت هند من حديثها وكادت �أن تتحدث ولكنها مل جتد ما تقوله‬

‫ﻋﺼ‬
‫ف�صمتت‪� ،‬س�ألتها هند عن ر�أيها ف�أخربتها ب�أنها ال تعرف‪� ،‬شعرت هند‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ب�أنها حمرجة منها ف�س�ألتها بو�ضوح �أكرث‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬طيب �إيه ر�أيك يف �شكله؟ �أو يف الكالم اللي قولته عنه؟‬
‫‪ -‬الكالم جميل جدً ا طب ًعا ويفرح �أي حد‪� ،‬إمنا ال�شكل فب�صراحة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عموما �أنا �أهم حاجة عندي هو من جواه‬‫م�ش فاكراه �أوي‪ ،‬ب�س ً‬


‫عامل �إيه‪ ،‬لأين لو حبيت اللي جواه فطبيعي جدً ا عيني هت�شوفه‬
‫ﺸﺮ‬

‫حلو‪.‬‬
‫ﻭ‬

‫‪� -‬أيوة يعني مفهمت�ش بردو! موافقة مبدئ ًيا �إنه ييجي وتقعدوا مع‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بع�ض تتعرفوا �أكرث وال لأ؟‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬م�ش عارفة يا هند‪ ،‬م�ش عارفة‪.‬‬


‫قر�أت هند ب�سهولة احلياء الظاهر على وجه �صديقتها‪ ،‬واحلرية التي‬
‫�أدركتها من كلماتها الب�سيطة املبعرثة‪ ،‬ف�أرادت �أن تنت�شلها من هالة‬
‫احلرج التي حتيط بها وقالت بعدما �أدركت �أنها ال ترف�ض الأمر ب�شدة‬
‫هذه املرة كما كانت تفعل من قبل‪ ،‬ولكنها � ً‬
‫أي�ضا تخجل من �أن تخربها‬
‫مبوافقتها املبا�شرة‪:‬‬
‫‪177‬‬
‫بك بعد‬
‫‪ -‬طيب ُب�صي اتكلمي مع �أهلك يف املو�ضوع و�أنا هت�صل ِ‬
‫يومني كده ب�إذن اهلل و�أ�شوف ر�أيك‪ ،‬متام؟‬
‫�أوم�أت �سلمى بر�أ�سها ممتنة‪ ،‬فنه�ضت هند من مكانها وبد�أت تودعها‬
‫متعللة ب�أن والدتها جتل�س وحيدة باملنزل وال يجب �أن تت�أخر عليها �أكرث‬
‫من ذلك‪ ،‬تفهمت �سلمى الأمر واحت�ضنت �صديقتها بحرارة‪ ،‬ثم �أو�صلتها‬
‫�إىل باب املنزل وتبعتها بعينيها حتى اختفت عن ناظريها‪� ،‬أغلقت الباب‬
‫وهرولت باجتاه غرفتها مرة �أخرى‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫�ألقت �سلمى بج�سدها ال�ضئيل على الفرا�ش‪ ،‬وو�ضعت كفيها خلف‬
‫ر�أ�سها وبد�أت تفكر يف كلمات هند التي �ألقتها على م�سامعها قبل قليل‪ ،‬ال‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫تنكر �أنها �شعرت ب�شعور رائع وهي ت�سمع من هند �صفة تلو الأخرى جتذبها‬
‫ﻜﺘ‬
‫نحو �إ�سالم‪ ،‬وت�ؤكد لها ب�أن ما حتلم به من املمكن �أن يتحقق يف واقعها‪،‬‬
‫ولكنها � ً‬
‫أي�ضا ما زالت عند ر�أيها بخ�صو�ص عدم االرتباط �أثناء الدرا�سة‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بد�أت ت�س�أل نف�سها ماذا لو كان �إ�سالم هو ذاك الرجل الذي تتمناه‪ ،‬هل‬
‫من املعقول �أن ترف�ضه ب�سبب ان�شغالها بدرا�ستها التي �ستنتهي بعد �أ�شهر‬
‫ﺸﺮ‬

‫قليلة! �أم ت�ستقبله يف منزلها وتتحدث �إليه ووقتها فقط �ستت�ضح الر�ؤية‬
‫بالن�سبة لها وتقرر قرارها النهائي عن قناعة‪ ،‬هذا هو‪ ،‬هكذا رددت‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قبل �أن تنه�ض من مكانها وتذهب باجتاه غرفة مكتب والدها لتحادثه‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫يف الأمر‪ .‬طرقت طرقات خفيفة على الباب اخل�شبي بني اللون‪ ،‬ف�أتاها‬
‫�صوت والدها من خلف الباب ي�أذن لها بالدخول‪ ،‬جل�ست �أمامه وتنحنحت‬
‫يف حرج بالغ‪ ،‬وقالت هام�سة‪:‬‬
‫‪ -‬بابا يف عري�س عاوز يتقدملي‪ ،‬فكنت عاوزة �أعرف ر�أي‬
‫ح�ضرتك يف املو�ضوع‪.‬‬
‫ترك والدها الكتاب الذي بني يديه‪ ،‬وعدل من و�ضعية نظارته الطبية‬
‫وهو ينظر �إليها و�أجابها متعج ًبا‪:‬‬
‫‪178‬‬
‫أنت قولتي �إنك م�ش موافقة على �أي ارتباط قبل ما‬ ‫‪ -‬م�ش � ِ‬
‫تتخرجي؟‬
‫فعل ده كان ر�أيي‪ ،‬ب�س العري�س ده �أخو �صاحبتي وتقري ًبا هو‬‫‪ً -‬‬
‫�شاب كوي�س‪ ،‬فحا�سة �إين م�ش هينفع �أرف�ضه عل�شان ال�سبب ده‬
‫يعني‪.‬‬
‫‪ -‬متام مفي�ش �أي م�شكلة‪ ،‬قوليلي موا�صفاته �إيه‪.‬‬
‫�أخربته �سلمى ب�إيجاز عن ا�سمه وعمله وقليل من �صفاته‪ ،‬ف�أجاب‬
‫والدها ب�إعجاب‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬مهند�س و�شغال يف �شركة كبرية‪ ،‬ممتاز! كده هيعي�شك يف‬
‫م�ستوى كوي�س‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ابتلعت �سلمى ريقها بتوتر و�أجابت بحروف مبعرثة‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬طب ًعا �إن �شاء اهلل‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ف�أم�سك والدها بالكتاب الذي كان يقر أ� فيه من جديد بعدما �أخربها‬
‫ب�أنه ينتظر ات�صال �إ�سالم يف �أي وقت‪ ،‬فنه�ضت من كر�سيها الوثري‬
‫ﺸﺮ‬

‫وخرجت من الغرفة بعدما �أغلقت الباب خلفها بهدوء‪ ،‬وقررت �أن تت�صل‬
‫بهند يف اليوم التايل وتخربها با�ستعدادهم ال�ستقبال �إ�سالم‪ ،‬وتطلب‬
‫ﻭ‬

‫منها �أن يتوا�صل هو مع والدها لتحديد موعد الر�ؤية ال�شرعية‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بعد يومني وجدت �سلمى والدها يناديها ويخربها ب�أن �إ�سالم قام‬
‫باالت�صال به ومت حتديد موعد الر�ؤية ال�شرعية على �أن تكون اخلمي�س‬
‫القادم ب�إذن املوىل‪ً � ،‬إذا مل يتبق لها �سوى ثالثة �أيام قبل �أن تقابل العري�س‬
‫املنتظر‪ ،‬وبالتايل ال بد لها �أن تقوم بتجهيز كل املو�ضوعات التي تريد‬
‫مناق�شته فيها لتعرف �إذا كانت كلمات هند يف حملها �أم �أنها تراه مميزً ا‬
‫عن اجلميع فقط لأنه �أخيها‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫‪179‬‬
‫يوم اخلمي�س بعد �صالة املغرب بن�صف �ساعة تقري ًبا �سمعت طرقات‬
‫خفيفة على باب منزلها‪ ،‬ولكنها كانت قوية جدً ا على م�سامعها‪ ،‬وك�أنها‬
‫كانت تطرق فوق باب قلبها فتزيده توت ًرا‪ ،‬ع ّدلت من هندامها املتوا�ضع‬
‫ووقفت خلف ال�ستار لكي تلتقط للزائرين �أية �صورة ُته ّدئ بها من روعها‬
‫وتر�ضي ف�ضولها‪ ،‬ولكنها كالعادة مل تتبني �إال ظهر �إ�سالم ووالدته‪� ،‬سار‬
‫الأب بهما حتى و�صال �إىل نهاية ال�صالة‪ ،‬جل�سوا جمي ًعا وبد أ� احلديث عن‬
‫�إ�سالم وعمله‪� ،‬أخالقه‪ ،‬عائلته وعائلة والده‪ ،‬ثم نه�ض الأب من مكانه‬
‫و�سار باجتاه غرفة �سلمى ‪-‬التي ما �إن �شعرت باقرتابه حتى هرولت باجتاه‬

‫ﻋﺼ‬
‫غرفتها‪ -‬وقام با�صطحابها �إىل جمل�س العائلة‪� ،‬أجل�سها يف مواجهة �إ�سالم‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وبد أ� يحدثه عن درا�ستها و�صفاتها الطيبة‪ ،‬ثم نظر لزوجته نظرة ذات‬
‫معنى فقامت با�صطحاب والدة �إ�سالم �إىل الداخل حتى يتحدثا ب�أريحية‬
‫ﻜﺘ‬
‫جمل�سا بعيدً ا عنهما بع�ض ال�شيء‪ ،‬و�أخذ‬
‫ً‬ ‫�أكرث‪ ،‬بينما اتخذ والد �سلمى‬
‫ُيقلب يف �أحد الكتب وهي ينظر �إليهما بني الفينة والأخرى حتى يرتك‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لهما املجال ليتعرفا على �شخ�صيات بع�ضهما البع�ض‪ ،‬ابت�سم �إ�سالم وهو‬
‫ينظر ل�سلمى لأول مرة منذ بداية اجلل�سة‪ ،‬ومتتم بهدوء‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ازيك يا �آن�سة �سلمى؟‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أوم�أت بر�أ�سها �إيجا ًبا ور�سمت ابت�سامة خفيفة على �شفتيها وهي تتمتم‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بعبارات احلمد‪ ،‬ولكنها مل ت�ستطع �أن ترفع ر�أ�سها عن الأر�ض من فرط‬


‫حيائها‪ ،‬بد أ� �إ�سالم يت�أمل يف مالحمها الهادئة ب�أريحية تامة‪ ،‬فالآن وفقط‬
‫حان وقت �إطالق الب�صر‪ ،‬ظل يت�أملها ما يزيد عن الدقيقتني ويف كل حلظة‬
‫ابت�سامته تت�سع �أكرث من ذي قبل‪� ،‬أعجبته براءة وجهها وحيا�ؤها الظاهر‬
‫عليه‪� ،‬أعجبه جمالها الطبيعي واخلايل من �أي م�ستح�ضرات جتميل‬
‫�صناعية‪ ،‬مل تكن �سلمى باجلمال اخلالب يف مقايي�س العديد من الب�شر‪،‬‬
‫ولكنها كانت يف عينيه من �أبر�أ و�أجمل الفتيات التي ر�آهم يف حياته‪ ،‬يكفي‬
‫‪180‬‬
‫�أنه مبجرد �أن ينظر �إليها يجد االبت�سامة ت�شق جمراها عرب �شفتيه بدون‬
‫�إنذار ُم�سبق‪ ،‬انتبه �إىل �أن �صمته قد طال فحاول �أن يعرث يف ذاكرته على‬
‫�أي �س�ؤال يبد أ� به حواره معها‪ ،‬ولكن ذاكرته خانته يف تلك اللحظة رغم‬
‫كرثة الأ�سئلة التي ظل يحفظها قبل �أن ي�أتي‪ ،‬تنهد يف ي�أ�س وحاول �أن‬
‫يجمع �شتات نف�سه‪ ،‬ثم قال بدون تفكري‪:‬‬
‫‪ -‬بتحبي الرغي؟‬
‫نظرت له �سلمى بتعجب ممزوج باخلجل و�أجابت مت�سائلة‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬رغي!‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫مو�ضحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫تنحنح �إ�سالم وقال‬
‫‪ -‬هكلمك عن نف�سي �شوية‪ ،‬حتبي �أخت�صر وال �أقولك كل اللي‬
‫جوايا؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬لأ اتف�ضل ح�ضرتك قول كل اللي جواك‪.‬‬


‫اعتدل �إ�سالم يف جل�سته‪ ،‬حترك ً‬
‫قليل �إىل اليمني حتى يكون يف‬
‫ﺸﺮ‬

‫متاما‪ ،‬ثم بد�أ حديثه ً‬


‫قائل‪:‬‬ ‫مواجهتها ً‬
‫‪ -‬احنا عندنا اتنني �إ�سالم‪� ،‬إ�سالم بتاع زمان‪ ،‬و�إ�سالم بتاع‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫دلوقتي‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وملا وجدها بد�أت تنجذب لكلماته �أ�ضاف‪:‬‬


‫‪� -‬أنا عي�شت �أكرث من ع�شرين �سنة من حياتي تقري ًبا بدون‬
‫هدف‪ ،‬كان هديف الوحيد �إين �أكون مب�سوط ومتفوق وب�س‪،‬‬
‫عمري ما فكرت �أنا خملوق ليه‪� ،‬أو مهمتي يف احلياة دي �إيه‪،‬‬
‫ت�صرفاتي كلها كانت طاي�شة وتقري ًبا مفيها�ش حاجة مفيدة‪،‬‬
‫ميكن احلاجة املفيدة الوحيدة اللي عملتها هي �إين احتملت‬
‫‪181‬‬
‫م�سئولية هند وماما‪ ،‬وكمان ده مكن�ش مبزاجي‪ ،‬ده كان غ�صب‬
‫عني بعد وفاة بابا اهلل يرحمه‪.‬‬
‫دعت �سلمى لوالده بالرحمة ونظرت �إليه مبت�سمة حتثه على املوا�صلة‪،‬‬
‫فقال‪:‬‬
‫‪ -‬ميكن دلوقتي املو�ضوع بقى خمتلف �شوية‪ ،‬من حوايل �سنتني‬
‫كده بد�أت �أقرب من ربنا واتعرفت على �صحبة �صاحلة‪ ،‬بد�أت‬
‫�أعرف �أنا عاي�ش ليه‪ ،‬و�إيه هديف الأ�سا�سي يف احلياة‪ ،‬اكت�شفت‬

‫ﻋﺼ‬
‫�إين الزم �أ�سعى بكل قوتي عل�شان �آخد ر�ضا ربنا‪ ،‬و�إن املفرو�ض‬
‫كل حاجة بعملها يف حياتي تكون هلل‪ ،‬يعني �أكلي‪� ،‬شربي‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�شغلي‪ ،‬زواجي‪ ،‬تربيتي لأوالدي‪ ،‬وكل حاجة يف الدنيا املفرو�ض‬
‫ﻜﺘ‬
‫نيتي الأ�سا�سية فيها �إين بعملها عل�شان ربنا‪ ،‬وعل�شان بعدها‬
‫ب�إذن اهلل �أفوز باجلنة‪ ،‬عرفت وح�سيت بحاجات كتري مكنت�ش‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أعرف عنها حاجة‪ ،‬زي �إين �أ�ست�شعر قرب ربنا مني‪� ،‬إين �أح�س‬
‫فعل يبقى كل هديف يف‬ ‫بكلمات القر�آن بتلم�س قلبي‪ ،‬و�إين ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫الدنيا �إين �أح�س �إن ربنا را�ضي عني وعن ت�صرفاتي‪� ،‬أي نعم‬
‫�أنا ل�سه يف �أول الطريق‪ ،‬ب�س بحمد ربنا من كل قلبي �إنه هداين‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قبل ما �أموت‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫تنف�س بعمق ثم ا�ستعاد ابت�سامته وهو يتذكر رفيق دربه وا�ستطرد‪:‬‬


‫‪ -‬ال�سبب الأ�سا�سي يف تغيريي من �إ�سالم رقم واحد لإ�سالم رقم‬
‫اتنني هو حممد حبيبي و�صديق عمري اهلل يرحمه‪ ،‬حممد ده‬
‫كان كتلة خري ما�شية على الأر�ض‪ ،‬كان دائ ًما واقف جنبي يف‬
‫�أي م�شكلة بتقابلني‪ ،‬وكان علطول ّ‬
‫بيقول �إننا الزم نقرب من‬
‫ربنا ونلحق نف�سنا قبل ما منوت‪ ،‬ب�س �أنا كنت ب�ستهرت بكالمه‬
‫باعتبار �إن العمر ل�سه طويل قدامنا وهنبقى نتوب ب�س م�ش‬
‫‪182‬‬
‫دلوقتي‪ ،‬ب�س العمر مطلع�ش طويل وال حاجة زي ما كنت فاكر‪،‬‬
‫وبني يوم وليلة لقيته مات قبل ما يلحق يتوب‪ ،‬ميكن ده كان‬
‫�أق�سى در�س �أتعلمته يف حياتي‪ ،‬ومن بعدها و�أنا بحاول �أرجع‬
‫لطريق ربنا عل�شان �أحلق نف�سي قبل ما �أموت �أنا كمان و�أنا‬
‫بعيد‪.‬‬
‫الحظ �إ�سالم ت�أثر �سلمى ال�شديد بكالمه‪ ،‬ف�أ�ضاف بع�ض املرح �إىل‬
‫�صوته ليواري ما ي�شعر به وقال‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬وخل�صت احلكاية‪ ،‬هو ده بقى �إ�سالم اللي قدامك‪.‬‬
‫مزيجا من الده�شة واحلزن واخلوف والفخر وعدم‬ ‫ً‬ ‫كان �شعورها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الت�صديق‪ ،‬كل ذلك يت�ضارب يف الآن نف�سه‪ ،‬مل ت�ستطع �أن تنطق ببنت‬
‫ﻜﺘ‬
‫�شفة‪ ،‬فما �سمعته للتو يحتاج �إىل املزيد من الوقت ال�ستيعابه وت�صديقه‬
‫قبل �أن ُتيب عليه‪ ،‬ففقدان الإن�سان ل�صديقه بهذه الطريقة و�شعوره‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫القاتل بالذنب جتاهه حت ًما هو من �أق�سى املواقف التي من املمكن �أن‬


‫يتعر�ض لها �أي �شخ�ص‪ ،‬الحظ �إ�سالم �شرودها املتوقع‪ ،‬ف�أراد �أن يخرجها‬
‫ﺸﺮ‬

‫منه وقال ب�أدب‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬ممكن بقى تكلميني �أكرث عن �سلمى؟‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ارت�سمت فوق وجهها ابت�سامة حيية من �أعذب ما ر�أى‪ ،‬وخالج قلبها‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�شيء من ال�سعادة وهي ت�ستمع لطريقته املريحة يف احلديث‪ ،‬والتي تزيل‬


‫التوتر عن قلبها رويدً ا رويدً ا وجتعلها تتحدث عن كل دواخل نف�سها بكل‬
‫�أريحية‪ ،‬نظرت للأر�ض كعادتها وقالت بهدوء‪:‬‬
‫‪� -‬سلمى بردو نف�س نظام ح�ضرتك كده‪ ،‬يعني كانت عاي�شة‬
‫حياتها زي نا�س كتري بدون �أي هدف حقيقي‪ ،‬كنت حا�سة‬
‫�إن فيه حاجة ناق�صة‪� ،‬أو �إن م�ش دي احلياة اللي املفرو�ض‬
‫‪183‬‬
‫�أعي�شها‪ ،‬ب�س مكنت�ش �أعرف �إيه ال�صح عل�شان �أعمله‪ ،‬حلد ما‬
‫ربنا رزقني ببنوتة من على الفي�س ا�سمها حف�صة عرفتني على‬
‫جروب كده تقري ًبا �شقلب حياتي كلها‪ ،‬اتعلمت منه حاجات‬
‫كتري جدً ا‪ ،‬وعرفت �أنا عاي�شة ليه‪ ،‬و�إيه هديف يف احلياة‪ ،‬بعدها‬
‫بد�أت �أغري من نف�سي ومن تفكريي‪ ،‬واحلمد هلل بطلت حاجات‬
‫كتري جدً ا غلط كنت بعملها‪ ،‬ول�سه مكملة �أهو ب�إذن اهلل‪ ،‬م�ش‬
‫هنكر �إين �أوقات كتري ب�ضعف وم�ش بكون قادرة �أخد �أي خطوة‬
‫جديدة‪ ،‬وميكن ده ب�سبب �إن حف�صة اجتوزت و�سابتني‪ ،‬ب�س‬

‫ﻋﺼ‬
‫احلمد هلل بعدها برجع �أقوى من الأول وبكمل يف طريقي‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وب�إذن اهلل م�ش هرتاح �إال ملا �أو�صل للجنة‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫�شعر �إ�سالم ب�سعادة كبرية تغمر قلبه‪� ،‬شعر ب�أنها تتحدث عنه هو‬
‫ولي�س عن نف�سها‪� ،‬أراد �أن يخربها ب�أنها ت�شبهه كث ًريا‪ ،‬وب�أنه �سعيد جدً ا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بحديثه معها‪ ،‬ولكنه كتم �شعوره بداخله بعدما مر بخاطره �س�ؤال كان ال‬
‫بد �أن يعرف �إجابتها عليه وقال‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬لو اتقدملك �شخ�ص كوي�س ب�س فقري هتوافقي؟‬


‫م�سرعا وقال بجدية وهو ي�شبك �أ�صابعه‬
‫ً‬ ‫همت بالإجابة‪ ،‬ولكنه قاطعها‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ببع�ضها‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬عاوزين نتفق على حاجة الأول‪ ،‬كل كلمة هنقولها هنا الزم نكون‬
‫مقتنعني بيها متام االقتناع‪ ،‬يعني ملا حد فينا ي�س�أل �أي �س�ؤال‬
‫فعل الإجابة اللي يف قلبه‪ ،‬وبكل �صراحة‬ ‫الزم التاين يجاوب ً‬
‫و�صدق‪ ،‬لأن ال�صراحة دي مهمة جدً ا وهتفيدنا كتري‪� ،‬إمنا لو‬
‫كل واحد حاول يحلي كالمه ويعمل �إنه حد كوي�س ومفيهو�ش‬
‫غلطة وبعد كده بد�أت تظهر �شخ�صيته احلقيقة بيكون الو�ضع‬
‫�سيئ جدً ا وبيبد�أ الطرفني يفقدوا الثقة يف بع�ض‪ ،‬بالإ�ضافة‬
‫‪184‬‬
‫�إىل �أنهم بيح�سوا �أنهم اجتوزوا نا�س غري اللي كانوا يعرفوهم‪،‬‬
‫و�أنا ب�صراحة مقبل�ش �إن حاجة زي دي حت�صل �أبدً ا بيني وبني‬
‫مراتي‪.‬‬
‫علقت �سلمى بحما�س �شديد على كلماته وقالت‪:‬‬
‫‪� -‬أنا مب�سوطة جدً ا �إن ح�ضرتك ذكرت النقطة دي‪ ،‬لأن دي‬
‫تقري ًبا من الأولويات عندي‪ ،‬يعني بحب �أظهر و�أتكلم بطبيعتي‬
‫جدً ا لأين بح�س �إن دي �أب�سط حقوق الإن�سان اللي هعي�ش معاه‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫غري �إننا لو وا�ضحني ومتفقني على كل حاجة من الأول ده بيقلل‬
‫ن�سبة امل�شاكل بعد كده ب�شكل كبري جدً ا‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل �إين بكره‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الكذب جدً ا �أ�ص ًال فمتقلق�ش ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫نف�سا عمي ًقا ثم ا�ستطردت‪:‬‬
‫�أخذت ً‬
‫‪ -‬وردًا على �س�ؤال ح�ضرتك‪ ،‬وبكل �صراحة هقول على ح�سب‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫درجة الفقر ده‪ ،‬يعني م�ش هقدر �أجزم �إين ممكن �أعرف‬
‫مثل‪� ،‬إمنا لو �شقة �صغرية حتى‬‫�أعي�ش يف ع�شة فوق ال�سطوح ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫لو �إيجار‪ ،‬واملرتب �صغري �شوية مفي�ش عندي �أي م�شكلة‪ ،‬ولو‬
‫الإن�سان ً‬
‫ﻭ‬

‫فعل كوي�س ف�أنا م�ستعدة �أ�ستحمل معاه كتري جدً ا حلد‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ما يقف على رجليه ب�إذن اهلل‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أحب �إ�سالم �صراحتها و�إجابتها العقالنية املتزنة والوا�ضحة‪ ،‬فلم‬


‫تخربه ب�أنها تقبل به فق ًريا وفقط‪ ،‬ولكنها �أرادت و�ضع النقاط فوق‬
‫وا�ضحا �أمام عينيه‪� ،‬س�ألها عن موا�صفات‬
‫ً‬ ‫الأحرف حتى يكون كل �شيء‬
‫الزوج الذي تتمناه ف�أجابت‪:‬‬
‫‪ -‬نف�سي �أوي يف حد يراعي ربنا َّيف‪ ،‬ويعاملني زي النبي عليه‬
‫ال�صالة وال�سالم ما كان بيعامل زوجاته‪ ،‬حد يكون �سند َّ‬
‫يل‬
‫‪185‬‬
‫و�أح�س بالأمان و�أنا معاه‪ ،‬حد �أكون عارفة �إين ملا �أغلط هالقيه‬
‫بينبهني ويقويل �إن اللي عملته ده غلط عل�شان ربنا قال كذا‬
‫م�ش عل�شان النا�س قالوا كذا‪ ،‬حد يكون ر�ضا ربنا �أول �أولوياته‪،‬‬
‫فعل كان كده ف�أكيد هياخد باله مني وحتى وقت الزعل‬ ‫لأنه لو ً‬
‫عمره ما هيظلمني لأنه هيخاف من ح�ساب ربنا‪.‬‬
‫وهم �أن ي�س�ألها �س� ًؤال ولكنه �سمع �أذان الع�شاء‪،‬‬
‫�أعجبته كلماتها‪ّ ،‬‬
‫فنه�ض من مكانه و�أخربها ب�أنه �سيذهب لأداء ال�صالة ويعود مرة �أخرى‬
‫رحبة َخ ِجلة ا�ست�أذن من والدها‬
‫�إذا �أرادت ذلك‪ ،‬وملا وجد منها ابت�سامة ُم ّ‬

‫ﻋﺼ‬
‫يف الهبوط للم�سجد والعودة مرة �أخرى ملوا�صلة احلديث مع ابنته‪ ،‬فوافق‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الأب وهبط معه لأداء ال�صالة‪ ،‬بينما هرولت هي باجتاه غرفتها لت�ؤدي‬
‫ﻜﺘ‬
‫�صالتها هي الأخرى وقلبها ي�شع بهجة و�سرور‪.‬‬
‫انتهت من �صالتها وجل�ست على طرف فرا�شها ب�سعادة بالغة‪ ،‬لأول‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مرة ت�شعر بذلك الكم من الراحة جتاه �شخ�ص ما‪ ،‬لوهلة �شعرت ب�أنه‬
‫ن�صفها الآخر الذي يطابقها يف �أ�شياء كثرية‪� ،‬شعرت وك�أنها كانت جتل�س‬
‫ﺸﺮ‬

‫ليال طوال‪ ،‬ثم �ضحكت �ضحكة خفيفة‬ ‫�أمام ال�شخ�ص الذي ظلت حتلم به ٍ‬
‫وبد�أت تنف�ض تلك الأفكار احلاملة عن ر�أ�سها‪ ،‬و�أخذت حتث نف�سها على‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عدم الت�سرع‪ ،‬فما �سمعته منه لي�س كاف ًيا �أبدً ا للحكم عليه‪ ،‬بد�أت ت�سرتجع‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بعقالنية تامة كلماته ال�سابقة يف حماولة منها لتحليلها‪ ،‬حتى �سمعت‬


‫طرقات خفيفة على باب منزلها �أتبعها والدها بتدوير املفتاح يف املكان‬
‫املخ�ص�ص له والدخول ب�صحبة �إ�سالم‪ ،‬تعجبت من �أن والدها طرق‬
‫الباب رغم �أنه ميتلك املفتاح‪ ،‬ولكنها بعد ذلك �أدركت �أنه رمبا فعل ذلك‬
‫ثوان قليلة مرت قبل �أن ينادي عليها‬
‫لينبههم قبل دخوله مع ذاك الغريب‪ٍ ،‬‬
‫ً‬
‫مقابل لها وابت�سم‬ ‫والدها ملوا�صلة احلديث مع عري�سها‪ ،‬جل�س �إ�سالم‬
‫وهو يقول‪:‬‬
‫‪186‬‬
‫‪ -‬احنا اتفقنا �إننا هنتكلم بكل �صراحة �صح؟ وبنا ًء عليه ف�أنا‬
‫عاوز �أعرف �أكرث عن �شخ�صيتك‪ ،‬يعني بتحبي �إيه وبتكرهي‬
‫�إيه‪� ،‬إيه ال�صفات اللي ممكن ت�ستحمليها‪ ،‬و�إيه اخلطوط‬
‫احلمراء بالن�سبالك اللي مينفع�ش حد يتعدى عليها‪.‬‬
‫�صمت للحظات قبل �أن يقول بجدية وا�ضحة‪:‬‬
‫‪ -‬معل�ش هي احلاجات دي مهمة بالن�سبايل �شوية‪ ،‬لأن ممكن‬
‫تالقي اتنني كوي�سني جدً ا وعلى خلق‪ ،‬ولكن �شخ�صياتهم‬

‫ﻋﺼ‬
‫م�ش متوافقة مع بع�ضها‪ ،‬وبالتايل بتالقي عالقتهم حلوة مع‬
‫كل النا�س �إال مع بع�ضهم‪ ،‬وده طب ًعا كارثة‪ ،‬عل�شان كده مهم‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بالن�سبايل �أعرف �شخ�صيتك متوافقة معايا وال لأ‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫نف�سا‬
‫�شبكت �سلمى �أ�صابعها ببع�ضها يف �شيء من اخلجل و�سحبت ً‬
‫عمي ًقا قبل �أن تقول‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬لو جينا نتكلم عن �شخ�صيتي فممكن نقول �إن �أنا حد متفائل‬


‫جدً ا وعنيد �إىل حد ما‪ ،‬يعني ملا بحط حاجة يف دماغي بحاول‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أ�سعى بكل الطرق عل�شان �أو�صلها طاملا مت�أكدة �إنها �صح‬


‫ﻭ‬

‫وتر�ضي ربنا‪ ،‬كمان معندي�ش حاجة ا�سمها م�ستحيل وواثقة �إن‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قدرة ربنا بال حدود وبالتايل ب�ستعني باهلل بقلب جامد وفع ًال‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بالقي ربنا قواين وحققلي اللي امتنيته و�سعيت له‪.‬‬


‫اعتدلت يف جل�ستها وعقدت ذراعيها �أمام �صدرها بتلقائية �شديدة‬
‫وهي تقول بجدية‪:‬‬
‫‪ -‬فيه حاجة مهمة جدً ا يف �شخ�صيتي الزم زوجي امل�ستقبلي يكون‬
‫واخد باله منها لأنها هيتوقف عليها حاجات كتري جدً ا‪ ،‬وهي‬
‫�إن �أنا عادة م�ش بعرف �أتخانق و�أعلي �صوتي‪ ،‬ودي هتكون‬
‫‪187‬‬
‫ميزة بالن�سباله‪ ،‬ولكني بردو ب�شيل جوايا جامد جدً ا‪ ،‬وده عيب‬
‫حمتاج منه جمهود عل�شان يتعامل معاه كما يجب‪.‬‬
‫مل يفهم �إ�سالم مق�صدها فنظر لها وك�أنه يحثها على تو�ضيح كلماتها‪،‬‬
‫فقالت بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬يعني بب�ساطة �شديدة �أنا م�ش من النوع اللي بيتخانق على �أي‬
‫حاجة‪ ،‬وبحاول �أكون متفهمة لأق�صى درجة وبالتايل ب�إذن‬
‫اهلل ده هيقلل عدد امل�شاكل جدً ا بيني وبني جوزي‪ ،‬لكن كمان‬

‫ﻋﺼ‬
‫علي نف�سي ب�سرعة جدً ا‪ ،‬يعني ممكن يف مرة هو‬ ‫�أنا بي�صعب َّ‬
‫يزعقلي �أو يقول �أي حاجة تزعلني ويالقيني بقوله حا�ضر‪ ،‬لكن‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بعدها يالقيني علطول �ساكتة وم�ش ب�ضحك وم�ش متفاعلة‬
‫ﻜﺘ‬
‫معاه نهائي‪ ،‬بالرغم من �إن هو ممكن �أ�ص ًال يكون ن�سي املو�ضوع‬
‫كله‪ ،‬لكن �أنا بف�ضل �شايلة جوايا وغ�صب عني م�ش بقدر �أتكلم‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�ساعتها بقى مطلوب منه �إنه يتفهم النقطة دي ووقت ما يح�س‬


‫�إين م�ش طبيعية يعرف �إن فيه حاجة زعلتني ويحاول معايا حلد‬
‫ﺸﺮ‬

‫ما �أقول اللي جوايا وبعدها خال�ص برجع تاين زي الأول‪ ،‬يعني‬
‫ﻭ‬

‫اخلال�صة ممكن نقول �إن �أنا واحدة ح�سا�سة جدً ا‪ ،‬وبالتايل‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بزعل ب�سرعة‪ ،‬وبردو بت�صالح وب�صفى ب�سرعة‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫تنحنحت بحرج بالغ وقالت بابت�سامة خجلة‪:‬‬


‫‪ -‬معل�ش �أنا عارفة �إين اتكلمت يف النقطة دي كتري‪ ،‬ب�س حقيقي‬
‫املو�ضوع ده مهم جدً ا بالن�سبايل‪ ،‬لأن لو جوزي تفهم احلتة دي‬
‫يبقى ب�إذن اهلل م�شاكلنا هتتحل �أول ب�أول‪� ،‬أما لو كرب دماغه‬
‫وما �أعطها�ش اهتمام يبقى �أنا هف�ضل �أ�شيل منه‪ ،‬وموقف ورا‬
‫موقف نبد�أ نبعد عن بع�ض واللي جوانا يتغري من ناحية بع�ض‬
‫‪188‬‬
‫وبالتايل هنعي�ش زي نا�س كتري عل�شان العيال‪ ،‬وده طب ًعا �شيء‬
‫متاما بالن�سبايل‪.‬‬
‫مرفو�ض ً‬
‫نظر لها �إ�سالم ب�إعجاب �شديد وقال بحما�س ظهر جل ًيا يف كلماته‪:‬‬
‫‪ -‬بتعتذري ليه؟ بالعك�س �أنا مب�سوط جدً ا �إنك اتكلمتي يف املو�ضوع‬
‫فعل معظم النا�س ملا م�ش بيحلوا م�شاكلهم �أول ب�أول‬ ‫ده‪ ،‬لأن ً‬
‫بتالقي املواقف بد�أت ترتاكم وكل واحد بيبقى �شايف نف�سه‬
‫هو اللي �صح والتاين �شخ�ص �أناين وم�ش بيفهم‪ ،‬وبعدها بعد‬

‫ﻋﺼ‬
‫ما كانوا �أقرب اتنني لبع�ض بيبقوا عاي�شني �سوا ب�س عل�شان‬
‫فعل مهم زي ما‬ ‫مياخدو�ش لقب مطلق �أو مطلقة‪ ،‬املو�ضوع ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قولتي‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫�أح�ضرت والدة �سلمى لإ�سالم كو ًبا �آخر من الع�صري بعدما الحظت‬
‫اندماجه ال�شديد من ابنتها‪ ،‬فابت�سم لها بامتنان وارت�شف ر�شفة خفيفة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫من الكوب ثم و�ضعه على املن�ضدة‪ ،‬و�س�أل �سلمى باهتمام‪:‬‬


‫‪ -‬يا ترى فيه نقاط تانية هامة بالن�سبالك حابة �إنك تو�ضحيها؟‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أوم�أت بر�أ�سها �إيجا ًبا وقالت‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬عالقته بربنا فيها �شوية �أ�سا�سيات م�ش هقدر �أقبل ب�أقل‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫منها �أبدً ا‪ ،‬يعني بالن�سبايل على الأقل الزم يكون مواظب على‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫فرو�ضه‪� ،‬صالته يف امل�سجد ً‬


‫مثل دي يف املركز الأول‪ ،‬وبره‬
‫بوالديه‪ ،‬ومراعاته لربنا يف �شغله‪ ،‬و�شوية حاجات تانية كده لو‬
‫مكن�ش بيعملها حقيقي م�ش هقدر �أعي�ش معاه‪ ،‬يعني عمري ما‬
‫ه�ستحمل يف يوم من الأيام �إين بدل ما �أكون بقول البني انزل‬
‫�صلي مع بابا �أبقى بتحايل على �أبوه عل�شان ينزل ي�صلي يف‬
‫امل�سجد عل�شان الولد يعمل زيه‪ ،‬موقف زي ده ممكن يقهرين‬
‫مبعنى الكلمة‪.‬‬
‫‪189‬‬
‫هز ر�أ�سه متفه ًما‪ ،‬وقال بعدما �شعر باالرتباط ال�شديد بني كلماتها‬
‫و�أفكاره‪:‬‬
‫‪ -‬تقري ًبا ده ً‬
‫فعل نف�س ر�أيي‪ ،‬يعني م�ش �شرط �أ�سا�سي بالن�سبايل‬
‫�إن البنت اللي هتجوزها تكون خامتة القر�آن ً‬
‫مثل �أو عندها علم‬
‫وخ�صو�صا �إن �أنا ل�سه مبقيت�ش كده‪ ،‬كل احلكاية‬
‫ً‬ ‫كبري بالدين‪،‬‬
‫�إين حمتاج واحدة بتخاف ربنا‪ ،‬واحدة ملا النا�س ت�شوفها‬
‫تالقيها بتتعامل ب�أخالق الإ�سالم‪ ،‬ويوم ما تغلط و�أقولها‬
‫احلاجة دي تغ�ضب ربنا �أالقيها تراجعت فو ًرا وا�ستغفرت ربها‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫وطب ًعا يكون عندها ا�ستعداد �إنها تتفقه يف الدين وتنفع نف�سها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وتنفع النا�س‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ثم �أ�ضاف �ضاح ًكا‪:‬‬
‫‪ -‬ملي�ش دعوة ما هي الزم ت�شجعني‪ ،‬لأين ب�صراحة م�ش عاوز‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أكمل الطريق اللي بد�أته لوحدي‪.‬‬


‫ملعت عيناها بربيق االنبهار وقالت بحما�س ملتهب‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬حتة �إن الواحد ينفع النا�س دي تعترب حاجة بجد مبهرة‬


‫ﻭ‬

‫بالن�سبايل‪ ،‬كل ما بييجي يف دماغي املو�ضوع ده بفتكر علطول‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حف�صة واللي عملته معايا‪ ،‬حف�صة دخلت حياتي فرتة تعترب‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫م�ش كبرية‪ ،‬ومبجرد ب�س ما اتكلمت معايا �شوية ت�سببت يف �إن‬


‫متاما‪ ،‬ور�ؤيتي مل�ستقبلي و�أهدايف اتبدلت من‬
‫تفكريي اتغري ً‬
‫حال �إىل حال‪ ،‬حقيقي نف�سي �أوي �أعمل زيها و�أنفع غريي‪ ،‬ب�س‬
‫م�ش عارفة ازاي!‬
‫أنت �أ�ص ًال م�ش واخدة بالك‪ ،‬وده عن‬
‫أنت ممكن تنفعي غريك و� ِ‬
‫‪ِ �-‬‬
‫ي�شوفوك �إن�سانة خلوقة‬
‫ِ‬ ‫طريق �أخالقك‪ ،‬يعني مبجرد ما النا�س‬
‫‪190‬‬
‫يقلدوك يف احلاجات احللوة اللي‬
‫ِ‬ ‫وبتخاف ربنا ده هيخليهم‬
‫بتعمليها‪ ،‬ولو ما عملوها�ش دلوقتي ف�أكيد على الأقل هت�سيبي‬
‫�أثر طيب جواهم‪ ،‬ممكن كمان تبدئي واحدة واحدة تعريف‬
‫عن دينك وتن�صحي �صاحباتك بطريقة حلوة ومبتكرة عل�شان‬
‫يتقبلوا الن�صيحة‪ ،‬وطب ًعا �أنتوا كبنات بتبقوا �شاطرين يف الر�سم‬
‫والكتابة واحلاجات دي‪ ،‬يعني ممكن بب�ساطة �شديدة تكتبي‬
‫لأي واحدة �شايفاها بتعمل ذنب معني ر�سالة �أ�سلوبها حلو‪،‬‬
‫مثل وتديهالها ومت�شي‬‫وتلونيها وتر�شي عليها �أي نوع عطور ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫علطول عل�شان ما تتحرج�ش‪� ،‬أو تتكلمي معاهم ب�أ�سلوب كوي�س‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ومرة يف مرة البنات هيبد�ؤوا يقربوا منك وبعد كده هتالقيهم‬
‫هم اللي بييجوا يطلبوا منك ر�أيك يف �أي مو�ضوع �شاغلهم‪.‬‬ ‫َ‬
‫ﻜﺘ‬
‫وا�ضحا على‬
‫ً‬ ‫عقدت حاجبيها يف تفكري‪ ،‬و�س�ألت بعدما بدا التعجب‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وجهها‪:‬‬
‫‪ -‬معل�ش هو ازاي ح�ضرتك جه يف بالك مو�ضوع الر�سالة ده؟‬
‫ﺸﺮ‬

‫وبالتفا�صيل احللوة دي؟ يعني �أنا كبنت عمري ما جه يف بالك‬


‫�أكتب ر�سالة حلوة كده!‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�ضحك �إ�سالم حتى بدت نواجذه‪ ،‬و�أجابها على �س�ؤالها غري املتوقع‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬كانت دائ ًما ماما ملا تكون زعالنة من بابا وم�ش قادرة تقوله‬
‫اللي جواها كانت بتكتب ر�سالة �شكلها حلو وتر�سم ورد وجنوم‬
‫وحاجات كده على الأطراف‪ ،‬وبعدين تر�ش �شوية من العطر‬
‫اللي بابا بيحبه وحتطهاله يف جيب البنطلون اللي هريوح بيه‬
‫ال�شغل تاين يوم‪ ،‬وهو عادة ملا بييجي يطلع املحفظة عل�شان‬
‫يدفع فلو�س املوا�صالت كان بيالقيها وبيقر�أها قبل ما يو�صل‬
‫‪191‬‬
‫ال�شغل‪ ،‬وملا يرجع بي�صاحلها �أو يتناق�ش معاها يعني يف احلاجة‬
‫اللي م�ضايقاها دي‪ ،‬ب�س كده‪.‬‬
‫‪ -‬ما �شاء اهلل‪.‬‬
‫قالتها �سلمى من كل قلبها بعدما اف ّرت ثغرها عن ابت�سامة وا�سعة‪ ،‬ثم‬
‫�س�ألت مرة �أخرى‪:‬‬
‫‪� -‬أنا دائ ًما ب�سمع عن مو�ضوع �إين �أنفع النا�س ب�أخالقي ده ب�س‬
‫بردو م�ش فاهمة ازاي‪� ،‬أو مفي�ش قدامي مثال واقعي �أقدر‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أ�ستوعب منه النقطة دي‪ ،‬فهل ح�ضرتك عندك تو�ضيح �أكرث‬
‫ليها؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬هقولك مثال ب�سيط ح�صل معايا من قريب‪ ،‬ملا بد�أت �أ�شتغل‬
‫ﻜﺘ‬
‫يف ال�شركة اللي �أنا فيها دي‪ ،‬كان طب ًعا الظهر والع�صر بي�أذنوا‬
‫علي و�أنا يف ال�شغل‪ ،‬وبالتايل كان من الأ�سا�سيات عندي �إين‬ ‫َّ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أ�سيب ال�شغل و�أنزل �أ�صلي‪ ،‬يف البداية كان بيح�صل معايا‬


‫احلجة �إين كده بعطل‬ ‫م�شاكل كتري ب�سبب املو�ضوع ده‪ ،‬وكانت ِ‬
‫ﺸﺮ‬

‫ال�شغل‪ ،‬رغم �إن زمايلي �ساعات كتري بيقعدوا ياكلوا �أو يهزروا‬
‫يف وقت ال�شغل وحمد�ش بيتكلم معاهم‪ ،‬املهم ملا لقوا �إين‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ُم�صر على املو�ضوع ده خال�ص تقبلوا الأمر الواقع ومبقا�ش‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫وخ�صو�صا �إين قولتلهم �إن‬


‫ً‬ ‫حد بيتكلم معايا ملا بنزل �أ�صلي‪،‬‬
‫الوقت اللي بريوح مني يف ال�صالة ممكن �أزوده على �ساعات‬
‫العمل الر�سمية لو هم عاوزين كده‪ ،‬الغريب يف املو�ضوع واللي‬
‫�أنا عمري ما كنت �أتوقعه‪� ،‬إن مع الوقت لقيت اتنني من زمايلي‬
‫بقوا ينزلوا ي�صلوا معايا‪ ،‬وبيقولويل �أنهم كان نف�سهم يعملوا‬
‫كده من زمان ب�س م�ش بيقدروا يقفوا قدام املدير‪ ،‬فكانوا‬
‫بي�صلوا يف املكتب وخال�ص‪ .‬ب�س هو ده اللي �أنا ق�صدي عليه‪،‬‬
‫‪192‬‬
‫أنت تكوين بتعملي حاجة بتلقائية �شديدة عل�شان تاخدي‬
‫يعني � ِ‬
‫ر�ضا ربنا‪ ،‬وبعدين تالقي نا�س بتقلدك وبتكون �سبب يف �إنك‬
‫يجيلك ثواب من حيث ال حتت�سبي‪.‬‬
‫هم�ست يف �صوت مت�أثر يهزه نغم الفرح‪:‬‬
‫‪ -‬اهلل! جميل ً‬
‫فعل املوقف ده‪ ،‬ما �شاء اهلل‪ ،‬ربنا يرزقني بحاجة‬
‫زي كده‪.‬‬
‫ابت�سم �إ�سالم لر�ؤية تلك االنفعاالت اجلميلة البادية على مالحمها‬

‫ﻋﺼ‬
‫الهادئة‪ ،‬و�أراد �أن يو�ضح لها حقيقة �شخ�صيته حتى ال تظن �أنه مالك ال‬
‫ً‬
‫حماول انتقاء كلماته‪:‬‬ ‫يخطئ فقال‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬طيب مبا �إننا اتفقنا على ال�صراحة‪ ،‬فخليني �أ�ستغل الفر�صة‬
‫ﻜﺘ‬
‫و�أقولك على عيب معني يف �شخ�صيتي لأنك من حقك تكوين‬
‫عارفاه‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حاولت التظاهر بعدم الت�أثر رغم حماوالتها اجلادة يف تهدئة نب�ضاتها‬


‫ﺸﺮ‬

‫املت�سارعة‪ ،‬والتي ظنت �أن عزفها القوي ي�صل �إىل م�سامعه‪� ،‬أوم�أت بر�أ�سها‬
‫لتحثه على موا�صلة احلديث‪ ،‬فقال بال َت ُّمل‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ممكن نقول �إن �أنا حد ع�صبي �شوية‪ ،‬ووقت ما بتع�صب بكون‬


‫حمتاج ب�س حد يقويل حا�ضر وميت�ص غ�ضبي‪ ،‬وبعد ما �أهد�أ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫يبد�أ يناق�شني يف كل اللي ح�صل حلد ما نحل امل�شكلة‪.‬‬


‫نطق وجهها بالوجوم والقلق‪ ،‬فقد �أدركت �أن تلك ال�صفة تتعار�ض‬
‫وب�شدة مع طبيعتها احل�سا�سة‪ ،‬ولكنها حاولت عدم الت�سرع يف احلكم عليه‬
‫ومتتمت بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬ب�س م�ش دائ ًما بيقدر الإن�سان يقول حا�ضر وي�سكت‪ ،‬طبيعي‬
‫�ساعات بيكون حمتاج يدافع عن نف�سه �أو يبني وجهة نظره‬
‫‪193‬‬
‫يف نف�س وقت امل�شكلة‪ ،‬وم�ش دائ ًما بردو بيكون ال�شخ�ص اللي‬
‫اتع�صب على حق!‬
‫ابت�سم �إ�سالم بتفهم وقال‪:‬‬
‫‪� -‬أنا عارف �إن املو�ضوع م�ش �سهل �أبدً ا‪ ،‬وعارف �إن حمد�ش‬
‫هيقدر يعمل كده علطول‪ ،‬ومن ناحيتي ف�أنا احلمد هلل بحاول‬
‫�أ�شتغل على نف�سي الفرتة دي وبد�أت بالفعل �أقدر �أ�سيطر على‬
‫ع�صبيتي يف مواقف كتري‪ ،‬لكن ح�سيت �إن من باب الأمانة �إين‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أذكر النقطة دي بحيث �إن زوجتي الزم تكون عارفاها لأنها‬
‫هتفرق معانا جدً ا بعد كده‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫توقف احلوار فج�أة وخ ّيم عليهم ال�صمت لربهة‪ ،‬ثم ا�ست�أنفت �سلمى‬
‫ﻜﺘ‬
‫احلديث قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬احلقيقة الع�صبية تعترب �صفة خميفة جدً ا بالن�سبايل‪ ،‬الإن�سان‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ممكن ي�شتم‪� ،‬أو ي�ضرب‪� ،‬أو يعمل �أي كارثة بدافع ال�صعبية‪،‬‬
‫و�أنا �شخ�ص ًيا م�ش عارفة ممكن �أقدر �أ�ستحمل حاجة زي كده‬
‫ﺸﺮ‬

‫وال لأ‪.‬‬
‫ﻭ‬

‫أنت دورك �إنك‬


‫‪ -‬كل �إن�سان فينا بيكون عنده مميزات وعيوب‪ ،‬و� ِ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫تقارين مميزاته بعيوبه وتختاري‪ ،‬لو لقيتي كفة املميزات هي‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫اللي رجحت يبقى �ساعتها بتحاويل تفكري يف الطريقة اللي‬


‫هتتعاملي بيها مع العيوب دي بحيث �إنك تخرجي منها ب�أقل‬
‫�ضرر ممكن‪� ،‬ساعتها العالقة بينكم ب�إذن اهلل هتكون ناجحة‪.‬‬
‫لثوان اللتقاط �أنفا�سه ثم �أردف بابت�سامته العذبة‪:‬‬
‫�صمت ٍ‬
‫‪ -‬عاوز �أطمنك �إين ب�إذن اهلل هحاول �أراعي ربنا يف زوجتي على‬
‫قد ما �أقدر‪ ،‬يعني م�ش هكون من النا�س اللي بتتع�صب ب�سبب‬
‫‪194‬‬
‫وبدون �سبب‪ ،‬من الآخر �أنا هحاول �أ�سيطر على نف�سي‪ ،‬وهي‬
‫حتاول تت�صرف بذكاء وحكمة ملا تالقيني مت�ضايق‪ ،‬وتعدي‬
‫املوقف وبعدين تعاتبني يف وقت تاين‪ ،‬ب�س كده‪.‬‬
‫ابت�سمت �سلمى بعدما �شعرت ببع�ض الراحة ت�سري بداخلها‪ ،‬و�س�ألت‬
‫باهتمام‪:‬‬
‫‪ -‬ح�ضرتك �شايف �إنك تعرف تربي �أوالد؟ يعني هتكون قدوة‬
‫�صاحلة لأوالدك ب�إذن اهلل؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪� -‬سيدنا حممد عليه ال�صالة وال�سالم قال‪« :‬كلكم راع‪ ،‬وكلكم‬
‫م�سئول عن رعيته» وبالتايل ف�أنا هتحا�سب على �أوالدي وعلى‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫تربيتي ليهم‪ ،‬يعني مفي�ش قدامي فر�صة للتفكري‪ ،‬الزم �أكون‬
‫ﻜﺘ‬
‫�أب قدوة والزم �أكون قد امل�سئولية‪ ،‬عل�شان كده احلمد هلل �أنا‬
‫�شغال على نف�سي الفرتة دي وبحاول �أعرف عن ديني �أكرث‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫و�أواظب على فرو�ضي وعلى بع�ض ال�سنن بحيث �إين ب�إذن اهلل‬
‫ملا �أكون �أب �أبقى فخور ب�أوالدي و�أنا �شايفهم بيقلدوين‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬بالن�سبايل ف�أنا �شايفة �إين الزم �أربي نف�سي الأول عل�شان‬


‫�أعرف �أربي �أوالدي‪ ،‬الزم �أتعود �أراعي ربنا يف كل �صغرية‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وكبرية يف حياتي‪� ،‬ساعتها هعرف �أختار القيم الأ�سا�سية اللي‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫هربي عليها الأوالد‪ ،‬هعرف �إن دوري م�ش ب�س �إين �أ�أكل و�أ�شرب‬
‫و�أنيم و�أذاكر لهم‪ ،‬بالعك�س دوري �أهم و�أو�سع من كده بكتري‪،‬‬
‫دوري ي�شمل تعليمهم دينهم وتربيتهم تربية �سليمة مبا يتوافق‬
‫مع دينهم م�ش مع النا�س �أو العادات والتقاليد‪ ،‬املو�ضوع وا�سع‬
‫جدً ا وميكن ل�سه مبقيت�ش عندي خربة فيه �أوي‪ ،‬ب�س �أنا حال ًيا‬
‫بد�أت �أقر�أ يف الدين‪ ،‬و�شوية كده وهبد�أ �أقر�أ يف الرتبية وعلم‬
‫النف�س �إن �شاء اهلل‪.‬‬
‫‪195‬‬
‫تابعت وهي تنظر �إليه بعدما علت وجهها ُحمرة اخلجل‪:‬‬
‫‪ -‬الأب بردو بيكون ليه دور مهم جدً ا يف الرتبية‪ ،‬بيكون م�سئول‬
‫عن �إنه يعلم �أوالده �إن دينهم �أهم حاجة يف حياتهم‪ ،‬الزم‬
‫ياخدهم معاه امل�سجد ويعودهم على �إن ده الطبيعي‪ ،‬الزم‬
‫يفهمهم دورهم الأ�سا�سي يف الدنيا دي‪ ،‬وي�ساعدهم على �أنهم‬
‫يكونوا نافعني يف جمتمعهم وعندهم �شخ�صيات �سوية ومنتجة‪.‬‬
‫ابت�سم �إ�سالم وهو يومئ بر�أ�سه م�ؤيدً ا وقال‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬عندك حق ً‬
‫فعل‪ ،‬ربنا يقدرنا‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬كلمني عن عالقتك مبامتك وهند‪ ،‬وبر الوالدين �أخباره �إيه؟‬
‫ب�صراحة هاه‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫قالتها ب�شيء من املرح‪ ،‬فتنهد �إ�سالم و�أجاب ب�صدق‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ماما بالن�سبايل حاجة كبرية �أوي‪ ،‬ببقى مب�سوط جدً ا ملا �أ�شوفها‬
‫مب�سوطة‪ ،‬عارف �أنها تعبت كتري بعد وفاة بابا اهلل يرحمه حلد‬
‫ﺸﺮ‬

‫ما كربنا‪ ،‬وعل�شان كده بحاول على �أد ما �أقدر �أ�ساعدها دلوقتي‬
‫و�أخد بايل منها ومن هند‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�صمت هنيهة ثم ا�ستطرد وهو يريح ظهره �إىل املقعد ويقول ب�أ�سف‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬مقدر�ش �أنكر �إين �ساعات بزعلها‪ ،‬و�إين م�ش را�ضي عن م�ستوى‬


‫بري بيها‪ ،‬ب�س �أقدر �أقول �إين ميكن دلوقتي �أف�ضل ً‬
‫مثل من‬
‫ال�سنة اللي فاتت كتري‪ ،‬و�إين ب�إذن اهلل مع الوقت هقدر �أظبط‬
‫النقطة دي‪.‬‬
‫مل ي�ستطع �أن مينع �ضحكته وهو يتذكر �أخته و�صديقته ال�صغرية‪ ،‬وقال‬
‫بابت�سامته الوا�سعة‪:‬‬

‫‪196‬‬
‫‪ -‬هند بقى حقيقي م�ش عارف �أقولك �إيه‪ ،‬ب�س هي تعترب �أقرب‬
‫يل يف الدنيا‪ ،‬هي �أختي و�صاحبتي وم�ستودع �أ�سراري‬ ‫حد َّ‬
‫وخ�صو�صا بعد وفاة حممد اهلل يرحمه‪ ،‬بحب جدً ا �أهزر معاها‬
‫ً‬
‫و�أرخم عليها حلد ما ت�صوت وتطردين من الأو�ضة‪ ،‬هي تعترب‬
‫نعمة يف حياتي ربنا يباركلي فيها‪.‬‬
‫‪ -‬يا رب يا رب‪.‬‬
‫�شعر ب�أن جل�سته قد طالت و�أن هذا رمبا ي�ؤذي عائلة �سلمى‪ ،‬فقال يف‬
‫اخلتام‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬فيه حاجة مهمة كنت حابب �إنك تعرفيها لأنها ممكن تفرق‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫معاك يف اتخاذ قرارك‪ ،‬حال ًيا �أنا م�ش عندي �شقة فب�إذن‬ ‫ِ‬
‫ﻜﺘ‬
‫اهلل هتجوز يف �شقة �إيجار حلد ما ربنا يرزقني و�أقدر �أ�شرتي‬
‫واحدة‪ ،‬بالن�سبة للجهاز ف�أنا معايا مبلغ كده مرياثي من بابا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫اهلل يرحمه‪ ،‬ممكن يكفي ال�شبكة و�شوية من العف�ش‪ ،‬وب�إذن اهلل‬


‫الباقي هحو�ش من مرتبي و�أجيبه‪ ،‬بالن�سبة للمرتب وم�صاريف‬
‫ﺸﺮ‬

‫البيت فممكن نقول �إن م�ستوانا قد يكون حتت املتو�سط ب�شوية‪،‬‬


‫وطب ًعا ربنا قادر يفتحها علينا ويرزقنا من حيث ال نحت�سب‪،‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ولكن ده املتوقع حال ًيا‪ ،‬وب�إذن اهلل الكالم ده هيتقال لعمي لو‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫فيه ن�صيب‪.‬‬
‫كانت تريد �أن تخربه ب�أنها توافق على تلك الإمكانيات وب�شدة‪ ،‬و�أنها‬
‫ال تتمنى �سوى رج ًال يعاملها مبا ير�ضي اهلل‪ ،‬ولكنها ا�ستحت منه ف�أوم�أت‬
‫بر�أ�سها مبت�سمة وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬متام‪.‬‬
‫‪ -‬حابه ت�س�أيل عن حاجة تاين؟‬
‫‪197‬‬
‫هزت ر�أ�سها نف ًيا‪ ،‬ف�ضرب بكفيه على ركبتيه ونه�ض من مكانه ً‬
‫قائل‬
‫ب�أدب‪:‬‬
‫‪ -‬طيب �أ�ست�أذن �أنا‪.‬‬
‫والتفت �إىل �أبيها الذي نه�ض من مقعده هو الآخر وبد�أ يف االقرتاب‬
‫منه‪ .‬ان�سحبت �سلمى على ا�ستحياء ودخلت �إىل الغرفة التي جتمع �أم‬
‫�إ�سالم ب�أمها‪ ،‬و ّدعتها و�سارت يف اجتاه غرفتها التي ما �إن دخلتها حتى‬
‫نزعت حجابها وارمتت على فرا�شها تفكر يف كل ما حدث حتى راحت يف‬

‫ﻋﺼ‬
‫�سبات عميق‪.‬‬

‫‪z‬‬ ‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪198‬‬
‫‪–7-‬‬

‫م�ضى الليل �إال �أقله ومل يبق �إال انح�سار الغطاء عن جبني الفجر‪،‬‬
‫كحلة براقة فوق ج�سد‬ ‫تناثرت النجوم الالمعة واملختلفة يف �أحجامها ُ‬

‫ﻋﺼ‬
‫ال�سماء‪ ،‬فتحت �سلمى جفونها بهدوء وبد�أت مت�سح �أثر النوم عن وجهها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بكلتا يديها‪ ،‬مل تتبني �إال ب�صي�ص نور قد ت�سرب من �أ�سفل باب غرفتها‪،‬‬
‫حت�س�ست الكومود بجوارها حتى �أم�سكت بهاتفها فوجدت �أنه ما زال هناك‬
‫ﻜﺘ‬
‫�ساعة كاملة تف�صلها عن �صالة الفجر‪ ،‬فبد�أت ت�سرتجع تلك اجلل�سة التي‬
‫جمعتها ب�إ�سالم قبل �ساعات‪ ،‬كان �شعو ًرا بالراحة وال�سعادة يغمر قلبها‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أعجبها تفكريه وطريقة تعبريه عن ر�أيه يف بع�ض الأمور‪ ،‬بد�أت تفكر يف �أن‬
‫�إ�سالم قد يكون هو ال�شخ�ص الذي لطاملا حلمت به‪ ،‬ولكنها فج�أة تذكرت‬
‫ﺸﺮ‬

‫�صفة الع�صبية التي ذكرها ك�أحد عيوبه‪� ،‬شعرت باخلوف منه ومن ذلك‬
‫ﻭ‬

‫امل�ستقبل املجهول معه‪ ،‬فوجود تلك ال�صفة مع من مثل �سلمى من املمكن‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أن يحيل حياتها �إىل جحيم‪ ،‬زفرت زفرة قوية و�أخربت نف�سها �أن �صراحته‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫حتى يف ذكر عيوبه تعترب نقطة حت�سب له‪ ،‬و�أنها هي الأخرى لديها من‬
‫العيوب ما لديها‪ ،‬قررت �أن تقوم لت�ؤدي �صالة اال�ستخارة وترتك الأمر �إىل‬
‫ربها‪ ،‬فوحده يعلم باخلري‪.‬‬
‫تو�ض�أت و�صلت ركعتي قيام ليل‪ ،‬ثم عقدت النية لت�صلي �صالة‬
‫اال�ستخارة‪ ،‬كانت تعلم �أنه من ال�سنة �أن تقر أ� بالركعة الأوىل بعد الفاحتة‬
‫ب�سورة «قل يا �أيها الكافرون» ويف الركعة الثانية بعد الفاحتة ب�سورة «قل‬
‫‪199‬‬
‫هو اهلل �أحد»‪ ،‬انتهت من �صالتها ورفعت يدها مت�ضرعة �إىل اهلل وهي‬
‫م�ستح�ضرة عظمته وقدرته‪ ،‬بد�أت حتمد هلل عز وجل وتثني عليه‪ ،‬ثم‬
‫قامت بال�صالة على النبي عليه ال�صالة وال�سالم‪ ،‬ثم بد�أت دعاءها قائلة‪:‬‬
‫«اللهم �إين �أ�ستخريك بعلمك‪ ،‬و�أ�ستقدرك بقدرتك‪ ،‬و�أ�س�ألك من‬
‫ف�ضلك العظيم‪ ،‬ف�إنك تقدر وال �أقدر‪ ،‬وتعلم وال �أعلم‪ ،‬و�أنت عالم الغيوب‪،‬‬
‫اللهم �إن كنت تعلم �أن زواجي من �إ�سالم بن حممود خري يل يف ديني‬
‫ومعا�شي وعاقبة �أمري‪ ،‬فاقدره يل‪ ،‬وي�سره يل‪ ،‬ثم بارك يل فيه‪ ،‬و�إن كنت‬
‫تعلم �أن زواجي منه �شر يل يف ديني ومعا�شي وعاقبة �أمري عاجله و�آجله‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫فا�صرفه عني‪ ،‬وا�صرفني عنه‪ ،‬واقدر يل اخلري حيث كان ثم �أر�ضني به»‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫نه�ضت من مكانها وهي متوكلة على اهلل حق توكله‪ ،‬نه�ضت وهي على‬
‫ﻜﺘ‬
‫يقني من �أن اهلل �سيختار لها اخلري حيث كان‪ ،‬وعلى ُبعد �أمتار‪ ،‬كان‬
‫�إ�سالم يجل�س نف�س اجلل�سة على �سجادة ال�صالة راف ًعا يده �إىل اهلل بكل‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ت�ضرع وخ�شية ويقول‪:‬‬


‫«اللهم �إين �أ�ستخريك بعلمك‪ ،‬و�أ�ستقدرك بقدرتك‪ ،‬و�أ�س�ألك من‬
‫ﺸﺮ‬

‫ف�ضلك العظيم‪ ،‬ف�إنك تقدر وال �أقدر‪ ،‬وتعلم وال �أعلم‪ ،‬و�أنت عالم الغيوب‪،‬‬
‫ﻭ‬

‫اللهم �إن كنت تعلم �أن زواجي من �سلمى بنت طارق خري يل يف ديني‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ومعا�شي وعاقبة �أمري‪ ،‬فاقدره يل‪ ،‬وي�سره يل‪ ،‬ثم بارك يل فيه‪ ،‬و�إن كنت‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫تعلم �أن زواجي منها �شر يل يف ديني ومعا�شي وعاقبة �أمري عاجله و�آجله‪،‬‬
‫فا�صرفه عني‪ ،‬وا�صرفني عنه‪ ،‬واقدر يل اخلري حيث كان ثم �أر�ضني به»‬
‫‪zzz‬‬
‫بعد ثالثة �أيام �أرادت �سلمى �أن تخرب والدها مبوافقتها بعدما فكرت‬
‫جيدً ا وارت�ضت تلك ال�صفات التي يت�صف بها �إ�سالم‪ ،‬وتوكلت يف املجهول‬
‫على ربها وهي على يقني من �أنه لو كان خ ًريا لها �سيتي�سر الأمر‪ ،‬ولو كان‬
‫‪200‬‬
‫�ش ًرا لها �سيحدث �أي �شيء مينع ا�ستكمال تلك الزيجة‪ ،‬كانت يف طريقها‬
‫لغرفة والدها ولكنها تراجعت يف اللحظة الأخرية و قررت �أو ًال �أن تت�أكد‬
‫من �أمر ما يف نف�سها قبل النطق بقرارها الأخري‪ ،‬انتظرت حتى �سمعت‬
‫�أذان املغرب و�أدت �صالتها‪ ،‬ثم ات�صلت على �صديقتها هند و�أخذت‬
‫حتدثها يف �أي �شيء وكل �شيء‪ ،‬ويف و�سط حديثهما قالت �سلمى بذكاء‪:‬‬
‫أخوك هي�سمعك وهتحرجيني‪.‬‬
‫‪ -‬يا بنتي وطي �صوتك �شوية‪ ،‬كده � ِ‬
‫‪ -‬ال متخافي�ش‪� ،‬إ�سالم ل�سه مرجع�ش من امل�سجد‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫قالتها هند برباءة �شديدة‪ ،‬بينما ارت�سمت على وجه �سلمى ابت�سامة‬
‫كامل حينما �سمعت الإجابة التي كانت تنتظرها‪،‬‬ ‫وا�سعة احتلت وجهها ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بعدها �أخذت حتدث هند لبع�ض الوقت ثم �أغلقت الهاتف‪ ،‬مل تكن كافية‬
‫ﻜﺘ‬
‫تلك املرة بالن�سبة لها‪ ،‬بل �أنها انتظرت حتى �صالة الع�شاء‪ ،‬وقامت ب�أداء‬
‫ال�صالة وبد�أت تفكر يف طريقة �أخرى ت�ستف�سر بها عن �أمر �صالة �إ�سالم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫دون �أن ُت�شعر �صديقتها ب�أي �شيء‪ ،‬قامت بو�ضع بع�ض الأطعمة على‬
‫الطاولة ثم ات�صلت بهند و�ألقت عليها التحية‪ ،‬فقالت الأخرية �ضاحكة‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪� -‬أه ًال يا �ستي‪ ،‬عاوزة �إيه تاين؟ م�ش من عادتك يعني تت�صلي‬
‫ﻭ‬

‫مرتني ورا بع�ض كده‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬مفي�ش‪ ،‬كنت هتع�شى فقولت �أقولك تيجي تتع�شي معايا‪ ،‬عندنا‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أكل حلو �أوي‪.‬‬


‫‪ -‬ت�سلمي يا �سلمى‪ ،‬بالهناء وال�شفاء‪� ،‬أنا ه�ستنى �إ�سالم ملا ييجي‬
‫ونتع�شى كلنا‪.‬‬
‫حاولت �سلمى كتم �ضحكاتها وهي تقول بدهاء‪:‬‬
‫‪� -‬إيه ده! معقولة ل�سه جما�ش من ال�شغل حلد دلوقتي!‬
‫وكالعادة �أجابت هند بتلقائية �شديدة‪:‬‬
‫‪201‬‬
‫‪ -‬لأ جه من بدري‪ ،‬هو ب�س نزل ي�صلي وهيجيب الع�شاء معاه وهو‬
‫جاي �إن �شاء اهلل‪.‬‬
‫‪ -‬ما�شي يا هنود‪ ،‬بالهناء وال�شفاء‪ ،‬عاوزة حاجة؟‬
‫وعندما �أجابتها هند بالنفي و�أغلقت املكاملة تنهدت �سلمى ب�أريحية‬
‫تامة و�شعرت ب�سعادة كبرية داخل قلبها‪ ،‬يبدو �أن اللعبة قد �أعجبتها‪،‬‬
‫فقررت معاودتها للمرة الأخرية‪ ،‬ولكن هذه املرة يف �صالة الفجر‪ ،‬وبعدها‬
‫فقط �ستقرر قرارها النهائي‪.‬‬
‫‪zzz‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�صباحا وقبل �صالة الفجر بربع ال�ساعة �أطف�أ �إ�سالم منبهه‬
‫ً‬ ‫الرابعة‬
‫ﻜﺘ‬
‫ونه�ض من فرا�شه بتثاقل‪ ،‬ظل يرتنح حتى و�صل �إىل دورة املياه و�ضرب‬
‫منحن �أمام ال�صنبور حتى �شعر �أنه قد‬‫وجهه بعدة دفعات من املاء وهو ٍ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قليل‪ ،‬تو�ض�أ وت�سلل بهدوء باجتاه غرفة والدته‪ ،‬وجد باب الغرفة‬‫�أفاق ً‬
‫مفتوحا ووجد والدته مت�سك مب�صحفها وتقر أ� بع�ض �آيات القر�آن الكرمي‪،‬‬
‫ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫حياها ومازحها ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫أ�صحيك‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬يعني مفي�ش مرة كده يا حجة تخليني �آخد الثواب و�‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أنا؟‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬يا �سيدي روح �صحي �أختك وريحني �شوية‪.‬‬


‫قالتها مبت�سمة‪ ،‬فابت�سم �إ�سالم كانعكا�س البت�سامتها وهو يومئ بر�أ�سه‬
‫�إيجا ًبا‪ ،‬و�سار يف اجتاه غرفة هند‪ ،‬بد�أ يوقظها عدة مرات حتى وعدته �أنها‬
‫�ستنه�ض‪ ،‬ثم خرج من منزله متج ًها �إىل امل�سجد القريب منه‪� ،‬أدى �صالته‬
‫ومت�شى يف �سكون الليل عائدً ا �إىل منزله وا�ض ًعا كفيه يف جيبي بنطاله‪ ،‬و‬
‫م�سرت�شدً ا بذلك ال�ضوء اخلجول الآتي من القمر‪ ،‬و�صل �إىل البناية فوقف‬
‫‪202‬‬
‫يت�أمل القمر ومنظره اخلالب وتلك النجوم اجلميلة التي تتلألأ من حوله‪،‬‬
‫�شرد ً‬
‫قليل فيما حدث قبل ثالثة �أيام وبد�أت ترت�سم ابت�سامة جميلة على‬
‫وجهه دون �أن ي�شعر‪ ،‬بعدها اتخذ قراره بالرد على والد �سلمى‪� ،‬سيوافق‪،‬‬
‫نعم �سيوافق ويخرب والدها غدً ا بذلك‪ ،‬وليكن بعدها ما يكن‪.‬‬
‫يف نف�س التوقيت تقري ًبا كانت �سلمى تنظر على ا�ستحياء من نافذتها‬
‫�إىل ال�شارع اخلايل من املارة وهي �شاردة‪ ،‬كانت تفكر يف حيلة �أخرى لكي‬
‫تت�صل بهند وت�س�أل عن �إ�سالم‪ ،‬ولكنها وجدته هو �شخ�ص ًيا �أمامها مير‬

‫ﻋﺼ‬
‫من �أ�سفل البناية‪ ،‬فت�سارعت دقات قلبها و�شعرت �أنه �سيخرج من قف�صها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قليل خو ًفا من �أن يراها رغم ظالم غرفتها‬ ‫ال�صدري‪ ،‬عادت للخلف ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫وعلوها الكبري عن ال�شارع‪ ،‬تنف�ست ال�صعداء واقرتبت من النافذة مرة‬
‫خال من املارة كما كان‪ ،‬ووجدت � ً‬
‫أي�ضا جوا ًبا‬ ‫�أخرى بهدوء فوجدت ال�شارع ٍ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ل�س�ؤالها على طبق من ذهب‪� ،‬أغم�ضت عينيها ب�أريحية واطم�أنت لكونه‬


‫�صباحا‬
‫ً‬ ‫يهتم ب�صالته مثلها ورمبا �أكرث‪ ،‬وقررت بعدها �أن تخرب والدها‬
‫ﺸﺮ‬

‫مبوافقتها وتبد أ� يف التفكري يف م�ستقبلها اجلديد معه‪.‬‬


‫‪zzz‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫يف اليوم التايل ات�صل �إ�سالم بوالد �سلمى وبلغه مبوافقته‪ ،‬فرد عليه‬
‫والد �سلمى و�أخربه مبوافقتها هي الأخرى وحددا م ًعا موعدً ا بعد ب�ضعة‬
‫�أيام للتحدث عن تفا�صيل الزواج و�إمكانيات العرو�سني وما �إىل ذلك‪.‬‬
‫وخ�صو�صا بعدما‬
‫ً‬ ‫رهبة �شديدة كان ي�شعر بها �إ�سالم جتاه تلك اجلل�سة‪،‬‬
‫�أخربته هند �أن والد �سلمى يهتم كث ًريا بالأمور املادية‪ ،‬ولكنه عندما حتدث‬
‫مع والدته يف الأمر ربتت على قلبه بكلماتها قائلة‪ :‬ما تقلق�ش يا �إ�سالم‪،‬‬
‫لو ليكم ن�صيب يف بع�ض هتتجوزوا مهما واجهتوا م�شاكل‪ ،‬ومهما ح�صل‪،‬‬
‫‪203‬‬
‫توكل على اهلل يا بني و�إن �شاء اهلل خري‪ .‬وبالفعل قرر �إ�سالم التوكل على‬
‫ربه وعدم التفكري يف املجهول‪ ،‬فرمبا يحدث ما مل يكن يتوقعه‪.‬‬
‫يف اليوم املحدد ا�صطحب �إ�سالم عمه الوحيد وذهبا م ًعا �إىل منزل‬
‫�سلمى‪ ،‬ا�ستمرت جل�ستهما مع �أبيها ما يقرب من ال�ساعة والن�صف ثم‬
‫ان�صرفا يف هدوء‪ ،‬وفور عودة والد �سلمى �إىل غرفته �إذا بها تهرول‬
‫ً‬
‫مت�سائل بعدما زفر‬ ‫باجتاهه وت�س�أل بلهفة ع ّما حدث‪ ،‬ف�أجابها والدها‬
‫زفرة �ضيق‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫أنت موافقة على الولد ده ً‬
‫فعل؟!‬ ‫‪ِ �-‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها �إيجا ًبا وقد بد�أ طائر اخلوف يحلق بعينيها‪ ،‬فتمتم‬
‫ﻜﺘ‬
‫والدها بعتاب‪:‬‬
‫أنت كان متقدملك واحد هيعي�شك ملكة وموافقتي�ش!‬
‫‪ -‬يا بنتي ما � ِ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ا�شمعنى موافقة على ده يعني!‬


‫نظرت له بعدم فهم ومتتمت‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬يا بابا �أنا م�ش فاهمة حاجة‪ ،‬ماله �إ�سالم؟ و�إيه اللي ح�صل؟‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أنت هتتعبي معاه‪ ،‬م�ش عارف‬ ‫‪ -‬الولد م�ستواه م�ش قد كده و� ِ‬


‫وافقتي عليه ازاي ب�س!‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬وافقت عليه لأين ح�سيت �إنه �شاب كوي�س وبيخاف ربنا‪ ،‬ودي‬
‫�أهم حاجة عندي‪.‬‬
‫�ضحك والدها وقال �ساخ ًرا‪:‬‬
‫أنت طيبة يا �سلمى ومتعرفي�ش حاجة‪.‬‬
‫‪ -‬واهلل � ِ‬
‫ثم ا�ستعاد ً‬
‫بع�ضا من جديته ال�سابقة وا�ستطرد‪:‬‬
‫‪204‬‬
‫‪� -‬أنا و�أمك تعبنا كتري يف �أول حياتنا حلد ما و�صلنا للم�ستوى ده‪،‬‬
‫وم�ش ه�سمح �أبدً ا �إنك تتبهديل مع واحد غريب ويف الآخر اهلل‬
‫باعوك بالرخي�ص‪.‬‬
‫ِ‬ ‫�أعلم هيقدر ده وال هيقولك �أهلك‬
‫‪ -‬أل يا بابا معتقد�ش �إن �إ�سالم يعمل كده ب�إذن اهلل لأنه ً‬
‫فعل‬
‫�شاب بيتقي ربنا‪ ،‬وكمان م�ستواه م�ش عيب عل�شان نرف�ضه‪،‬‬
‫و�أنا موافقة �أعي�ش معاه على قد م�ستواه ده حلد ما ربنا يرزقنا‬
‫و�ساعتها �أنا مت�أكدة �إنه هيعو�ضني عن كل حاجة‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫بق�سمات حملت من ال�ضيق ما حملته من العتاب �أف�صح‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عليك ال�سنني دي كلها ويف الآخر تخيبي ظني يف‬
‫‪ -‬يعني �أتعب ِ‬
‫تعليمك وكمان جوازك!‬
‫ﻜﺘ‬
‫نظرت له بحنان وهم�ست‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ما تقلق�ش يا بابا‪ ،‬م�ش هخيب ظنك املرة دي ب�إذن اهلل‪ ،‬وكمان‬
‫�أنا �صليت ا�ستخارة وتوكلت على اهلل ومت�أكدة �إن ربنا هيفعلي‬
‫ﺸﺮ‬

‫اخلري‪.‬‬
‫أنت حرة‪ ،‬ب�س �أنا م�ش هتنازل عن‬ ‫عموما ده اختيارك و� ِ‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الطلبات اللي طلبتها‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫وعندما �س�ألته ع ّما طلبه منهم �أجاب‪:‬‬


‫‪ -‬رغم �إن الراجل املفرو�ض بيكون عليه فر�ش البيت كام ًال‪ ،‬ب�س‬
‫مراعاة لظروفه وظروف ال�شباب حال ًيا �أنا قولتلهم هنق�سم‬
‫البلد ن�صفني‪ ،‬احنا علينا املطبخ والأنرتيه‪ ،‬وهم عليهم النوم‬
‫وال�سفرة‪ ،‬طب ًعا مع ال�شبكة وم�صاريف كتب الكتاب والفرح‪،‬‬
‫وكفاية �أوي �إين وافقت تقعدي يف �شقة �إيجار‪.‬‬
‫‪205‬‬
‫ابت�سمت �سلمى ب�أريحية و�س�ألت �أبيها عن ر�أيهم يف هذا الأمر‪ ،‬ف�أجابها‬
‫ب�أنه �أعطاهم فر�صة �أ�سبوع للتفكري‪ ،‬وبعدها من املفرت�ض �أن يخربوه‬
‫بر�أيهم �سواء بالقبول �أو الرف�ض‪ ،‬ف�أوم�أت بر�أ�سها بتفهم‪ ،‬ثم ا�ست�أذنت‬
‫منه وغادرت �إىل غرفتها‪.‬‬
‫وعلى م�سافة لي�ست بالبعيدة كان ي�سري يف الطرقات املجاورة وقد �أثقل‬
‫كاهله التفكري‪ ،‬فطلبات والد �سلمى كانت �أكرث مما يطيق‪ ،‬فاملبلغ الذي‬
‫أي�ضا راتب �سنة كاملة لن يفي بالغر�ض‪ ،‬ماذا‬ ‫تركه له والده لن يكفي‪ ،‬و� ً‬
‫ع�ساه �أن يفعل؟ �أيرف�ض ويغلق ذلك الباب برمته؟ �أم يقبل وهو ال يعلم‬

‫ﻋﺼ‬
‫من �أين ي�أتي بباقي الأموال! تنهد بي�أ�س ثم عاد �أدراجه �إىل منزله ودخل‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يف هدوء �إىل غرفته و�أغلق بابها مقر ًرا الهرب بالنوم‪ ،‬فاليوم كان �شا ًقا‬
‫ﻜﺘ‬
‫عليه من كل اجتاه �سواء يف العمل �أو يف النقا�شات الكثرية التي خا�ضها‬
‫مع والد �سلمى‪ ،‬ولكن هند حني �سمعت �صوت �إغالق الباب هرولت نحو‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫غرفته‪ ،‬دفعت دفة الباب بلطف‪� ،‬أطلت بر�أ�سها من فرجة الباب‪ ،‬وقالت‬
‫ب�سعادة وا�ضحة‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪� -‬أيوة بقى يا عري�س‪ ،‬كده املو�ضوع بقى ر�سمي‪.‬‬


‫ثم دخلت م�سرعة لتمازحه كما هي عادتها‪ ،‬ولكن على غري املتوقع‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وجدت ج�سدً ا ُملقى على الفرا�ش ووج ًها وك�أمنا الهم ي�سري فيه م�سرى‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫الدماء‪ ،‬نظرت لأخيها بتعجب و�س�ألت‪:‬‬


‫‪ -‬مالك يا �إ�سالم؟ ح�صل حاجة وال �إيه؟‬
‫يف نف�س اللحظة كانت والدته تقف عند الباب بعدما علمت هي الأخرى‬
‫مبجيئه‪ ،‬فنه�ض من رقدته وجل�س على حافة الفرا�ش �شاب ًكا يده بالأخرى‬
‫وبد أ� يق�ص عليهما كل ما حدث‪� ،‬أخربهما ب�أن والد �سلمى طلب منه �شراء‬
‫غرفة النوم وغرفة ال�سفرة‪ ،‬وهو �سيتوىل �أمر غرفة ال�صالون واملطبخ‪،‬‬
‫‪206‬‬
‫ولكن هذه لي�ست امل�شكلة‪ ،‬فامل�شكلة تكمن يف كونه طلب ذه ًبا البنته قد‬
‫يكلفه كل ما ميلك من �أموال‪ ،‬وحينها لن يبقى معه �أي �شيء مل�صاريف‬
‫جتهيز املنزل �أو الفرح‪ ،‬تنهدت والدته بحرية وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬طيب يا بني ما عرفتو�ش تقللوا معاه عدد اجلرامات �شوية؟‬
‫‪ -‬حاولت ً‬
‫فعل‪ ،‬ب�س هو قال يل بنتي غالية ويجيلها الغايل‪ ،‬وهي‬
‫م�ش �أقل من بنات �أعمامها‪.‬‬
‫نظر لوالدته وقد اف ّرت ثغره عن ابت�سامة خفيفة وقال‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫علي �أجيب لها الدنيا كلها‪ ،‬ب�س �أعمل �إيه ظرويف‬
‫‪ -‬واهلل �أنا لو َّ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫كده‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ربتت هند على كتفه بحنان وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬خال�ص يا عم م�ش م�شكلة‪ ،‬ممكن تاخد من فلو�س مرياثي اللي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أنت حمتاجه‪.‬‬
‫‪ -‬أل طب ًعا يا هند‪ ،‬اوعي تقويل كده تاين‪� ،‬أنا هت�صرف ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬هتعمل �إيه؟‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قالتها بحرية‪ ،‬ف�أجابها بتفكري‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬م�ش عارف بالظبط‪ ،‬ب�س ممكن �أ�شوف كمان �شغل بليل‪،‬‬


‫وممكن �أطلب نطول فرتة اخلطوبة �شوية‪� ،‬سنتني ً‬
‫مثل حلد ما‬
‫�أحو�ش باقي املبلغ‪ ،‬وكانوا بيقولوا �إن عندنا يف ال�شغل بريقوا‬
‫كل �سنة موظف من املوظفني اجلدد‪ ،‬فيمكن الرتقية ال�سنادي‬
‫تكون من ن�صيبي ومرتبي يزيد �شوية‪ ،‬اهلل امل�ستعان‪.‬‬
‫اقرتبت منه والدته ونظرت �إليه بابت�سامة حنونة وقالت‪:‬‬
‫‪207‬‬
‫‪ -‬ما تقلق�ش يا �إ�سالم‪ ،‬ربك قادر يي�سرها من عنده ويتمم لكم‬
‫فرحتكم على خري‪.‬‬
‫‪ -‬يا رب يا �أمي‪ ،‬يا رب‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫مر يوم تلو الآخر و�إ�سالم يعود من عمله يتناول طعام الغداء على‬
‫يائ�سا‬
‫م�سرعا للبحث عن عمل ليلي‪ ،‬ويعود يف وقت مت�أخر ً‬ ‫ً‬ ‫عجل ثم يهبط‬
‫ليلقي بج�سده املنهك على الفرا�ش ويغط يف نوم عميق‪ ،‬كانت والدته ت�شعر‬

‫ﻋﺼ‬
‫أي�ضا‪ ،‬فهو يحاول ب�شتى الطرق �إيجاد حل‬ ‫باحلزن ال�شديد عليه وهند � ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫لورطته قبل املوعد املحدد للرد النهائي على والد �سلمى‪ ،‬ولكن �إىل الآن‬
‫كان الف�شل هو �سيد املوقف‪ .‬ذات �صباح ات�صلت �سلمى على �صديقتها‬
‫ﻜﺘ‬
‫لتعاتبها على عدم ال�س�ؤال عنها كل تلك الأيام املا�ضية‪ ،‬فوجدت ردًا خاو ًيا‬
‫من هند‪ ،‬تعجبت و�س�ألتها عن ال�سبب ب�شيء من احلزن‪ ،‬فاعتذرت هند‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫و�أخربتها ب�أنها ت�شعر بال�ضيق فقط مما حدث‪ ،‬ومن احلال الذي و�صل‬
‫�إليه �أخيها‪ ،‬وهنا �س�ألت �سلمى بعدم فهم‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪� -‬إيه اللي ح�صل؟ و�إ�سالم ماله؟‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أنت متعرفي�ش!‬
‫‪ -‬ويعني � ِ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫قالتها با�ستنكار‪ ،‬ف�أجابت �سلمى بقلق‪:‬‬


‫‪ -‬يا بنتي واهلل ما �أعرف حاجة‪ ،‬ح�صل �إيه طمنيني؟‬
‫وهنا بد�أت هند تق�ص على �صديقتها كل ما حدث‪ ،‬وطلبات والدها‬
‫املبالغ فيها‪ ،‬واحلال الذي و�صل �إليه �إ�سالم ب�سبب تلك الطلبات‪ ،‬ف�أطلت‬
‫الده�شة من ق�سمات �سلمى و�س�ألت‪:‬‬
‫‪ -‬هو بابا طلب ال�شبكة دي كلها ً‬
‫فعل!‬
‫‪208‬‬
‫‪� -‬أيوة للأ�سف‪.‬‬
‫‪� -‬أنا كل اللي كنت �أعرفه يا هند �أنه وافق على مو�ضوع ال�شقة‬
‫الإيجار‪ ،‬وهيق�سم معاكم اجلهاز‪ ،‬وطب ًعا ال�شبكة والفرح عليكم‬
‫فقولت يبقى كده متام‪ ،‬ب�س مكنت�ش �أعرف �أنه طلب حاجات‬
‫ب�أ�سعار عالية كده‪.‬‬
‫�صمتت للحظات ثم ا�ستطردت‪:‬‬
‫عليك لو فيه �أي‬
‫عموما �أنا هحاول �أت�صرف‪ ،‬وب�إذن اهلل هرد ِ‬
‫‪ً -‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫جديد‪.‬‬
‫�أُغلقت املكاملة وجل�ست �سلمى على �أقرب كر�سي تفكر يف ما حدث‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وفيما يجب �أن تخرب به والدها ع ّله ُيخفف من حدة طلباته ً‬
‫قليل‪ ،‬انتظرت‬
‫ﻜﺘ‬
‫حتى ا�ستيقظ من نومه وذهبت �إليه وقالت بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬بابا هو ليه ح�ضرتك طلبت �شبكة كبرية كده من �إ�سالم؟!‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬م�ش كبرية وال حاجة‪ ،‬هو ده العادي دلوقتي‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫َّ‬
‫تخ�ضب وجهها بال�ضيق وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬يعني يا بابا العادي �إننا ناخد كل الفلو�س اللي معاه عل�شان‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫نحطها يف �شبكة ويف الآخر ميالقي�ش حاجة يجهز بيها‪ ،‬ويف‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫الغالب الدهب ده كله �أ�ص ًال م�ش بيتلب�س غري للمنظرة‪ ،‬و�أنا‬
‫م�ش بحب املنظرة‪.‬‬
‫�أردف دون �أن يبدر عنه �أدنى اهتمام ب�ضيقها‪:‬‬
‫أنت حرة‪ ،‬ده حقك والزم �شبكتك تكون‬‫‪ -‬تلب�سيه ما تلب�سيهو�ش � ِ‬
‫أنت م�ش‬
‫عندك حتى لو هتت�شال يف الدوالب �سنني‪ ،‬وبعدين � ِ‬
‫رخي�صة عل�شان �أجوزك بال�ساهل كده‪ ،‬ولو هو م�ش قد اجلواز‬
‫مكن�ش يتقدم لبنات النا�س‪.‬‬
‫‪209‬‬
‫�أطرقت بوجهها ُتواري تنهيدة خمتنقة تنهدتها ثم قالت‪:‬‬
‫‪ -‬يا بابا ما هو هيجيب �شبكة بردو‪ ،‬ب�س م�ش الزم تكون كبرية‬
‫كده! ح�ضرتك عارف ظروف ال�شباب دلوقتي‪ ،‬واحنا املفرو�ض‬
‫نقدر ظروفه‪ ،‬وكمان �أنا �أكيد م�ش هلب�س ده كله فوق بع�ضه‬
‫يعني‪.‬‬
‫نظر لها بق�سمات جامدة وقال باقت�ضاب‪:‬‬
‫‪� -‬سلمى خال�ص املو�ضوع بالن�سبايل منتهي‪� ،‬شبكتك من حقك‬

‫ﻋﺼ‬
‫أنت م�ش �أقل من بنات �أعمامك‪.‬‬
‫وم�ش هتنازل عنها‪ ،‬وكمان � ِ‬
‫قالت وقد تلبدت عيناها بالغيوم وخفتت طبقة �صوتها حتى درجة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫البوح‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬ما�شي يا بابا‪ ،‬بعد �إذن ح�ضرتك‪.‬‬
‫ان�صرفت من غرفته وات�صلت بعدها فو ًرا بهند تخربها مبا حدث‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ف�أجابت هند ب�أنها كانت تتوقع ذلك‪ ،‬وبد�أت تفكر معها يف حل �آخر‬
‫للم�شكلة‪ ،‬حينها اقرتحت �سلمى �أن يتم مد فرتة اخلطبة حتى ي�ستطيع‬
‫ﺸﺮ‬

‫�إ�سالم جتميع باقي املبلغ املطلوب‪ ،‬ف�أجابت هند مبت�سمة‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪� -‬سبحان اهلل‪ ،‬بتفكروا زي بع�ض‪ ،‬هو ً‬


‫فعل قال يل كده بردو من‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�ضمن اقرتاحاته‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫تنا�ست كل ما حدث وابت�سمت بحياء وقالت‪:‬‬


‫‪ -‬احلمد هلل‪ ،‬لعله خري‪.‬‬
‫بعد يومني ح�ضر �إ�سالم ملنزل والد �سلمى و�أخربه مبوافقته على كافة‬
‫أي�ضا �أنه يبحث عن عمل ليلي‪ ،‬وطلب منه املوافقة على‬ ‫طلباته‪ ،‬و�أخربه � ً‬
‫مد فرتة اخلطبة حتى ي�ستطيع تدبري باقي املبلغ املطلوب‪ ،‬فوافق الأب‬
‫على �أال تزيد املدة عن عامني‪ ،‬فابت�سم �إ�سالم وقال‪:‬‬
‫‪210‬‬
‫‪ -‬ب�إذن اهلل يا عمي م�ش هنحتاج �أكرث من كده‪ ،‬ولو ربنا ي�سرها‬
‫ودبرت �أموري قبل ال�سنتني يبقى نعجل باجلواز ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫ثم اتفقا على موعد حفل اخلطبة‪ ،‬وهنا نه�ض الأب من مكانه و�سار‬
‫باجتاه غرفة �سلمى‪ ،‬طلب منها احل�ضور لالتفاق مع عري�سها على كافة‬
‫التجهيزات املطلوبة يف املرحلة القادمة‪ ،‬فرافقته على ا�ستحياء وطلبت‬
‫منه �أن يجل�س على م�سافة ما منهما بحيث ي�ستطيع ر�ؤيتهما‪ ،‬وهذا �سيكون‬
‫احلال يف كل مرة يح�ضر فيها �إ�سالم �إىل منزلها �إىل �أن يتم عقد القران‬

‫ﻋﺼ‬
‫زوجا ر�سم ًيا لها‪ ،‬جل�ست العرو�س على ُبعد منا�سب من عري�سها‪،‬‬‫وي�صبح ً‬
‫وقالت بحياء‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬بعتذر بجد لو كنا تقلنا عليك يف الطلبات‪ ،‬حقيقي حاولت‬
‫ﻜﺘ‬
‫�أعمل اللي �أقدر عليه ب�س حماولتي ف�شلت‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أوم�أ �إ�سالم بر�أ�سه متفه ًما‪ ،‬وقال مبت�س ًما‪:‬‬


‫‪ -‬وال يهمك‪� ،‬أنا خال�ص اتفقت مع عمي على كل حاجة‪ ،‬خلينا‬
‫ﺸﺮ‬

‫بقى احنا يف املهم دلوقتى‪ ،‬وبعد �إذنك ا�سمعيني للنهاية‬


‫وبعدين قوليلي تعليقك‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫نظرت له باهتمام وهي تومئ بر�أ�سها موافقة‪ ،‬فا�ستطرد‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫بيك يكون بداية جديدة يف حياتي‪ ،‬بداية‬


‫‪� -‬أنا نف�سي ارتباطي ِ‬
‫تقربني من ربنا وتكون كل خطوة فيها يف ميزان ح�سناتي‪ ،‬م�ش‬
‫العك�س‪ ،‬وعل�شان كده �أنا حابب من اللحظة دي نبد�أها �صح و‬
‫ن�ساعد بع�ض �إننا نق�ضي فرتة خطوبتنا بالطريقة اللي تر�ضي‬
‫ربنا‪.‬‬
‫عاد بظهره �إىل ظهر كر�سيه‪ ،‬وعقد ذراعيه �أمام �صدره وقال بجدية‪:‬‬
‫‪211‬‬
‫عليك حتى من نف�سي‪ ،‬واعملي زووم‬ ‫‪� -‬سلمى‪� ،‬أنا قررت �أحافظ ِ‬
‫جامد على اجلملة دي واوعي تن�سيها‪ ،‬وبنا ًء عليه ف�أنا قر�أت‬
‫عن �ضوابط اخلطوبة وعرفت �إن اخلطوبة ما هي �إال وعد‬
‫بالزواج وبالتايل ف�أنا دلوقتي �أجنبي عنك وهتتعاملي معايا‬
‫زي ما بتتعاملي مع �أي �شاب غريب بالظبط‪ ،‬مع الفرق ب�س �إن‬
‫معاك بحيث نقدر ندر�س‬ ‫�أنا ممكن �آجي �أزورك و�أقعد �أتكلم ِ‬
‫�شخ�صيات بع�ض ون�شوف هيكون فيه توافق بيننا وال لأ‪ ،‬ب�إذن‬
‫اهلل تعاملنا مع بع�ض الفرتة اجلاية هيكون كالآتي‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫بالن�سبة للكالم‪ :‬فهيكون على قدر احلاجة بحيث نقدر نتعرف‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫على بع�ض كوي�س‪ ،‬ومن غري خ�ضوع بالقول �أو �أي كالم ب�شهوة‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫باباك دائ ًما يكون قاعد و�شايفنا زي‬
‫وطب ًعا مفي�ش خلوة‪ ،‬يعني ِ‬
‫النهارده كده‪ ،‬ومع التزامك بكامل حجابك وحماولة غ�ض‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الب�صر من الطرفني‪.‬‬
‫بالن�سبة للتليفون‪ :‬فهنحاول نخليه لل�ضرورة ب�س‪ ،‬يعني حاجة‬
‫ﺸﺮ‬

‫مهمة الزم تتقال يبقى يا �إما تت�صلي على هند وهي تبلغني‪،‬‬
‫ﻭ‬

‫باباك الأول‪،‬‬
‫علي و�ساعتها تكوين ا�ست�أذنتي ِ‬ ‫يا �إما تت�صلي َّ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أنت واقفة يف‬ ‫وتتكلمي قدامه ب�صوتك العادي‪� ،‬أو ً‬


‫مثل و� ِ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ال�صالة قدام النا�س كلها‪ ،‬ده هي�ساعد كتري �إننا نقفل الباب يف‬
‫و�ش ال�شيطان وميعرف�ش يوقعنا‪ ،‬وكمان ميكون�ش فيه ات�صال‬
‫بعد ال�ساعة‪ 8‬بليل‪.‬‬
‫بالن�سبة للخروج‪ :‬فر�أيي نخليه بعد كتب الكتاب �أف�ضل‪ ،‬ولو‬
‫مثل نتفرج على ال�شقة �أو كده‬ ‫حاجة �ضرورية زي �إننا نروح ً‬
‫يبقى الزم يكون والدك معانا‪.‬‬
‫‪212‬‬
‫بالن�سبة للزيارات‪ :‬فممكن ً‬
‫مثل نخليها مبدئ ًيا مرة يف الأ�سبوع‪،‬‬
‫وبعد ما نتعرف على بع�ض �أكرث ون�س�أل ونتناق�ش يف كل اللي‬
‫جوانا نبد�أ نقللها �أو مننعها خال�ص حلد كتب الكتاب‪.‬‬
‫علي‬
‫و�أخ ًريا‪� :‬أنا عارف �إن املو�ضوع ممكن يكون �صعب �شوية َّ‬
‫وعليك‪ ،‬لكن اللي عاوز ير�ضي ربنا وعاوز ربنا يباركله يف‬ ‫ِ‬
‫حياته هيعمل �أكرث من كده‪ ،‬وت�أكدي �إننا لو �أخل�صنا نيتنا هلل‬
‫ربنا هيعي ّنا وهتعدي الفرتة دي على خري �إن �شاء اهلل‪ ،‬هاه‬
‫قولتي �إيه؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫عدة م�شاعر ت�ضاربت يف نف�سها الآن‪ ،‬ما بني فرحة وفخر‪ ،‬بهجة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وده�شة‪ ،‬انبهار وعدم ت�صديق‪ ،‬كانت تريد �أن تخربه �أنها تفخر به وبتلك‬
‫ﻜﺘ‬
‫الكلمات التي �ضاعفت من مكانته داخل قلبها‪ ،‬تريد �أن تخربه �أنها ظلت‬
‫ليال طوال حتلم بذلك ال�شاب الذي يحافظ عليها حتى من نف�سه‪ ،‬تريد‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أن تخربه �أنها �أ�صبحت حترتمه كل يوم عن اليوم الذي ي�سبقه‪ ،‬تريد‬
‫�أن تخربه بالكثري والكثري‪ ،‬ولكنها ال ت�ستطيع �أن حتدثه الآن مبا يعتمل‬
‫ﺸﺮ‬

‫بداخلها‪ ،‬فاكتفت ب�إجابتها التي حتمل بني طياتها حما�س �شديد‪:‬‬


‫‪ -‬موافقة‪ ،‬موافقة جدً ا طب ًعا‪ ،‬ب�إذن اهلل ربنا هيقوينا وهنقدر‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ننفذ الكالم ده‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ثم �أ�ضافت‪:‬‬
‫‪ -‬كمان م�ش الزم نن�سى �إن فيه قاعدة فقهية بتقول «من ا�ستعجل‬
‫�شي ًئا قبل �أوانه عوقب بحرمانه» و�أنا ب�صراحة بقى م�ش عاوزة‬
‫�أ�ستعجل و�آخد حاجة م�ش من حقي وبطريقة حرام‪ ،‬عل�شان‬
‫ربنا �أو ًال‪ ،‬ثم لأن �إح�سا�سها يف احلالل �أكيد هيكون �أح�سن‬
‫بكتري‪.‬‬
‫‪213‬‬
‫بعفوي ٍة ارت�سمت على �شفتيه ابت�سامة خفيفة وقال‪:‬‬
‫‪ -‬عندك حق‪ ،‬وعل�شان كده �أنا عاوزك لو ح�سيتي يف يوم �إين‬
‫ممكن �أتنازل عن الكالم ده تقفلي باب ال�شيطان يف و�شي‪ ،‬لو‬
‫معاك والقيتيني هقول حاجة تغ�ضب ربنا كلميني‬ ‫كنت قاعد ِ‬
‫بجدية وذكريني باتفاقنا‪ ،‬ولو مفي�ش نتيجة يبقى حتى اطرديني‬
‫م�ش م�شكلة‪ ،‬ممكن �أزعل �شويتني ب�س طاملا ده ال�صح يبقى‬
‫ما ترتددي�ش �إنك تعمليه‪ ،‬ولو نف�س الكالم ح�صل يف التليفون‬

‫ﻋﺼ‬
‫يبقى اقفلي ال�سكة وحا�سبيني على الكالم ده بعد كده‪� ،‬أنا بجد‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عليك و�أح�س �إن‬
‫حمتاجك يا �سلمى ت�ساعديني عل�شان �أحافظ ِ‬
‫ﻜﺘ‬
‫معاك‪ ،‬عاوز �إ�سالم اجلديد هو‬‫�ضمريي مرتاح و�أنا بتعامل ِ‬
‫علي ويبد�أ يرجعني‬
‫اللي يفوز‪ ،‬م�ش عاوز �أبدً ا ال�شيطان ينت�صر َّ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لورا تاين‪.‬‬
‫ح�سا�سا داخل قلبها‪ ،‬فوجدت نف�سها‬
‫ً‬ ‫مل�ست كلماته ال�صادقة وت ًرا‬
‫ﺸﺮ‬

‫تومئ بكل �صدق وتقول‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬حا�ضر ب�إذن اهلل‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ثم بد�أت تتحدث معه عن تفا�صيل حفل اخلطبة بعد �أن �أخربها‬
‫باملوعد الذي حدده مع والدها وعلم مبوافقتها فاطم�أن قلبه‪ ،‬اتفقا على‬
‫�أن يكون احلفل يف منزل �سلمى ويتم ح�ضوره من قبل الأهل والأ�صدقاء‬
‫املقربني‪� ،‬سيتم حينها ف�صل الرجال عن الن�ساء‪ ،‬و�سيتم ت�شغيل �أنا�شيد‬
‫�أفراح �إ�سالمية‪ ،‬بعد انتهائهما من ترتيب كل �شيء ا�ستعد �إ�سالم للرحيل‪،‬‬
‫وقبل �أن يغادر الغرفة نظر �إليها للحظات ثم حاول غ�ض ب�صره وهو يقول‪:‬‬
‫‪214‬‬
‫‪� -‬أي �س�ؤال ييجي يف بالك ابقي اكتبيه يف ورقة‪ ،‬وملا �آجي ب�صي‬
‫يف الورقة وا�س�أليني عادي عل�شان �أجاوبك على كل حاجة بتدور‬
‫يف دماغك‪ ،‬و�أنا كمان هعمل كده عل�شان ب�صراحة ملا باجي هنا‬
‫بن�سى حاجات كتري‪.‬‬
‫و�ضاءة‪ ،‬فابت�سمت هي الأخرى بحياء‬ ‫قالها وقد افرت ثغره عن ابت�سامة ّ‬
‫و�أجابته باملوافقة‪ ،‬حياها بعدها و�سار باجتاه والدها الذي ربت على كتفه‬
‫الأمين بحنان �أبوي مل يكن يتوقعه‪ ،‬وقام ب�إي�صاله �إىل باب املنزل‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫هبط الدرج وهو يقفز بفرحة كالأطفال‪ ،‬فح ًقا احلديث مع تلك الفتاة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يبعث البهجة داخل قلبه من حيث ال يدري‪ ،‬بد�أ ي�سري باجتاه منزله وهو‬
‫ينظر �إىل النجوم املتناثرة يف كبد ال�سماء‪ ،‬وقد ملع �سنا القمر فوق �صفحة‬
‫ﻜﺘ‬
‫وجهه‪ ،‬التقطت عيناه �سحابة �صغرية كانت ت�سري بخجل و�سط ال�سماء‬
‫الوا�سعة‪ُ ،‬خيل �إليه �أنها تنظر �إليه وتبت�سم‪ ،‬فابت�سم قلبه ثم راح يتمتم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وب�صره ما زال معل ًقا بال�سماء‪:‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬يا رب قويني وقدرين على �إين �أكون قد امل�سئولية دي‪ ،‬يا‬


‫رب وحدك عامل باللي جوايا‪ ،‬وعامل �إين ً‬
‫فعل نف�سي �أعي�ش‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫خطوبتي بالطريقة اللي تر�ضيك و�أحافظ على البنت اللي‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫بقت �أمانة عندي‪ ،‬يا كرمي متم لنا على خري وابعدنا عن كل‬
‫التنازالت والذنوب اللي بيقع فيها معظم النا�س دلوقتي‪ ،‬قدرنا‬
‫�إننا نحافظ على عفتنا ونواجه �أي �صعوبات حلد ما نكون مع‬
‫بع�ض يف احلالل‪ ،‬اللهم �إين توكلت عليك وفو�ضت �أمري كله‬
‫�إليك‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫‪215‬‬
‫ذات �صباح هادئ وجميل برزت ال�شم�س من خدرها تنف�ض بيدها‬
‫غبار الظالم عن وجه الأر�ض‪ ،‬كانت �أمرية حفل اليوم تغط يف نوم عميق‬
‫عندما �أر�سلت ال�شم�س �شعاع �أمل يداعب وجنتيها فبد�أت تفتح عينيها‬
‫ببطء‪ ،‬كانت ر�أ�سها على الو�سادة وعيناها تنظران �إىل �سقف الغرفة وهي‬
‫ال تكاد ت�صدق نف�سها‪ ،‬فاليوم يوم خطبتها‪ ،‬اليوم هو اليوم الذي حتلم‬
‫به كل فتاة وتظل تتخيل تفا�صيله ل�سنوات عدة‪� ،‬أم�سكت بهاتفها ونظرت‬
‫�صباحا‪ ،‬قامت فو ًرا باالت�صال على هند التي‬
‫ً‬ ‫ل�ساعته ف�إذا بها التا�سعة‬
‫�ستقابلها هي وفاطمة للذهاب معها �إىل خبرية التجميل التي �ستهتم بها‬

‫ﻋﺼ‬
‫وبب�شرتها يف ذلك اليوم‪� ،‬أجابت هند بحب‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪� -‬صباح اخلري على �أحلى عرو�سة‪� ،‬آه احنا يف اجلامعة‪ ،‬مفي�ش‬
‫ﻜﺘ‬
‫حما�ضرات دلوقتي‪ ،‬جهزي نف�سك وكلميني ونتقابل �سوا �إن‬
‫�شاء اهلل‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫نه�ضت من فرا�شها وهي مبتهجة كفرا�شة و�سط حقول الزهور‪،‬‬


‫و�سارت باجتاه خزانتها وقامت بفتحها‪ ،‬تلم�ست بيديها ذلك الف�ستان‬
‫ﺸﺮ‬

‫خ�صي�صا لذلك اليوم‪ ،‬ثم تناولت‬


‫ً‬ ‫ال�ساتر الف�ضفا�ض الذي �أح�ضرته‬
‫خما ًرا يليق به وقامت بو�ضعهما م ًعا على الفرا�ش‪ ،‬خرجت من غرفتها‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫لتتناول فطورها وت�ؤدي �صالة ال�ضحى ثم تعود من جديد لرتتدي ثيابها‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫على اجلانب الآخر‪ ،‬وفور �إغالق هند املكاملة مع �سلمى‪� ،‬صاحت فاطمة‬
‫بحما�س وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬عقبايل بقى �أنا كمان يا رب ملا �أعي�ش اليوم ده‪.‬‬
‫�ضحكت هند وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬عقبالنا كلنا‪.‬‬
‫نظرت فاطمة �إىل الأفق البعيد وقالت ب�شرود‪:‬‬
‫‪216‬‬
‫‪ -‬قريب جدً ا يا هند‪ ،‬قريب جدً ا هي�ست�سلم ويقع يف حبي‪.‬‬
‫‪ -‬هو مني ده؟!‬
‫قالتها هند وهي تنظر ل�صديقتها بتعجب �شديد‪ ،‬فتمتمت فاطمة بال‬
‫تردد‪:‬‬
‫‪ -‬كرمي البحريي‪.‬‬
‫يف البداية عقدت الده�شة ل�سان هند فلم تنطق بحرف‪ ،‬ثم بد�أت‬
‫�صحيحا‪ ،‬و�س�ألت بتوج�س‪:‬‬
‫ً‬ ‫متني نف�سها ب�أن ما فكرت به لي�س‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬كرمي البحريي املعيد بتاع البوتري؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�أوم�أت �صديقتها بر�أ�سها �إيجا ًبا‪ ،‬ف�صاحت هند ب�ضيق‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬وما لقيتي�ش غري ده يا فاطمة!‬
‫هزت فاطمة كتفيها با�ستنكار وقالت‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬وهالقي �أح�سن منه فني! فلو�س ومكانة اجتماعية وو�سامة‪ ،‬ويف‬


‫عز �شبابه وكل بنات الكلية بتتمناه!‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ب�س ده كل �شوية �أ�شوفه واقف مع بنت �شكل!‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫متتمت بها هند وال�ضجر ميلأ وجهها‪ ،‬فابت�سمت فاطمة ابت�سامة‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫متحدية وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬وعل�شان كده �أنا حطيته يف دماغي‪ ،‬وقررت �أنا اللي �أفوز بيه‪،‬‬
‫وهت�شويف يا هند فاطمة ملا بتحط حاجة يف دماغها بيح�صل‬
‫�إيه‪.‬‬
‫قالتها و�سارت وهي ترفع هامتها �إىل ال�سماء ونظرة التحدي تند من‬
‫عينها‪ ،‬كانت كاملغيبة فلحقتها هند وهي ت�ضرب كف ًا بكف‪ ،‬وتخرب نف�سها‬
‫ب�أن الكالم لن يجدي نف ًعا مع �صديقتها بعدما ر�أت تلك النظرة يف عينيها‪.‬‬
‫‪217‬‬
‫بعد �ساعتني تقابلت �سلمى مع �صديقتيها وذهنب م ًعا �إىل مركز‬
‫التجميل‪ ،‬بد�أت خبرية التجميل يف عمل بع�ض الو�صفات لتفتيح وتنعيم‬
‫وجه العرو�س ثم �أم�سكت ب�إحدى �أدوات �إزالة ال�شعر‪ ،‬ف�أ�شارت �سلمى‬
‫بكفها وقالت ب�أدب‪:‬‬
‫‪ -‬بعد �إذنك بال�ش تقربي من حواجبي‪.‬‬
‫نظرت لها ال�سيدة الثالثينية بعدم فهم وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬أُ�مال هعملهم ازاي!‬

‫ﻋﺼ‬
‫ابت�سمت �سلمى بهدوء وقالت‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬لأ ما هو �أنا م�ش هعملهم �أ�ص ًال‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫وهنا تلفتت ال�سيدة مينة وي�سرة ثم �س�ألت متعجبة‪:‬‬
‫أنت العرو�سة؟‬
‫‪ -‬م�ش � ِ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أوم�أت �سلمى بر�أ�سها �إيجا ًبا‪ ،‬ف�ألقت ال�سيدة ما يف يدها وقالت‪:‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬غريبة!‬
‫ثم �سارت باجتاه �إحدى الغرف لتح�ضر بع�ض م�ستح�ضرات التجميل‪،‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وهنا نظرت فاطمة �إىل �سلمى و�صاحت بغ�ضب‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫أنت عملتيه ده يا �سلمى! �أحرجتي ال�ست‪ ،‬وبعدين‬


‫‪� -‬إيه اللي � ِ‬
‫هتح�ضري اخلطوبة باملنظر ده يعني!‬
‫زفرت �سلمى زفرة قوية‪ ،‬ثم حاولت �ضبط انفعاالتها وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬وماله املنظر ده يا فاطمة؟ ده ال�شكل اللي ربنا خلقني بيه‪ ،‬و�أنا‬
‫بحبه ومعندي�ش �أي م�شكلة �أف�ضل كده طول عمري‪ ،‬وكمان �أنا من �ساعة‬
‫ما قريت احلديث اللي النبي عليه ال�صالة وال�سالم بيقول فيه «لعن اهلل‬
‫‪218‬‬
‫النام�صة واملتنم�صة» و�أنا قررت �إين عمري ما هقرب من حواجبي مهما‬
‫كان‪ ،‬لأن اللعن معناه الطرد من رحمة ربنا‪ ،‬ودي حاجة م�ش هينة �أبدً ا‪.‬‬
‫‪ -‬يا �سلمى دي خطوبتك‪ ،‬يعني يوم م�ش عادي‪ ،‬النا�س هيقولوا‬
‫عليك �إيه ب�س! وكمان خطيبك نف�سه �أكيد هيت�ضايق‪.‬‬
‫ِ‬
‫هم�ست �سلمى بحكمة وهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬احلالل واحلرام ثابت يا فاطمة �سواء يف يوم اخلطوبة �أو يف‬
‫�أي يوم تاين‪ ،‬والنا�س م�ش هينفعوين يف حاجة ملا �أقف �أحتا�سب‬

‫ﻋﺼ‬
‫قدام ربنا‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫ثم نظرت لهند و�أ�ضافت‪:‬‬
‫‪ -‬وخطيبي لو هيت�ضايق من اللي ير�ضي ربنا ف�أنا م�ش هينفع‬
‫�أكمل معاه �أ�ص ًال‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ابت�سمت هند وهي حترك ر�أ�سها عالمة الر�ضا‪ ،‬ف�شعرت فاطمة‬


‫بال�ضيق‪ ،‬وقبل �أن تنب�س ببنت �شفة �سمعت خطوات �أقدام �آتية من بعيد‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ح�ضرت خبرية التجميل وقامت بو�ضع بع�ض م�ساحيق التجميل �أمام‬


‫�سلمى و�أم�سكت ب�إحداها واقرتبت منها‪ ،‬ف�أبعدت �سلمى وجهها و�س�ألت‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬هو ده كده �آخر حاجة؟‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ابت�سمت ال�سيدة‪ ،‬و�أجابت وهي تومئ بر�أ�سها �إيجا ًبا‪:‬‬


‫‪ -‬ما تقلقي�ش هنخل�ص قبل الع�صر زي ما طلبتي‪.‬‬
‫نه�ضت �سلمى من مكانها‪ ،‬وابت�سمت لل�سيدة وهي تخربها ب�أنها لن‬
‫ت�ضع �أ ًيا من تلك امل�ستح�ضرات على وجهها‪ ،‬ف�س�ألت ال�سيدة من جديد‬
‫وعالمات التعجب متلأ وجهها‪:‬‬
‫أنت العرو�سة!‬
‫أنت مت�أكدة �إن � ِ‬
‫‪ِ �-‬‬
‫‪219‬‬
‫�ضحكت �سلمى مبلء �شدقيها وقالت‪:‬‬
‫‪� -‬أيوة واهلل‪.‬‬
‫ز ّمت ال�سيدة ما بني حاجبيها يف ده�شة ومتتمت‪:‬‬
‫‪� -‬أول مرة �أ�شوف عرو�سة حت�ضر خطوبتها من غري ميك �أب!‬
‫‪ -‬طاملا ل�سه مفي�ش كتب كتاب يبقى ما ينفع�ش �أحط ميك �أب‬
‫قدام خطيبي‪.‬‬
‫قالتها بب�ساطة‪ ،‬ثم �أم�سكت بحقيبتها و�س�ألت ال�سيدة عن ح�سابها‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫قامت بدفع احل�ساب و�ألقت التحية عليها‪ ،‬ثم نظرت �إىل �صديقتيها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫فتبعاها يف �صمت‪ ،‬فور خروجهن من مركز التجميل �صرخت فاطمة بها‬
‫قائلة‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫أنت �أكيد جمنونة!‬
‫‪ِ �-‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تنهدت �سلمى براحة كبرية لأنها بعد �صراعات داخلية كثرية انت�صرت‬
‫على نف�سها الأمارة بال�سوء‪ ،‬وابت�سمت ل�صديقتها وهي تقول‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬جمنونة جمنونة‪ ،‬املهم �أعمل اللي ير�ضي ربنا‪.‬‬


‫‪zzz‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫كان حفل اخلطبة ً‬


‫ب�سيطا جدً ا‪ ،‬ح�ضر �أفراد العائلتني والأ�صدقاء‬
‫املقربني لكل من �إ�سالم و�سلمى‪ ،‬اجتمع الرجال �سو ًيا يف �صالة املنزل‪،‬‬
‫بينما جتمعت الن�ساء مع بع�ضهن البع�ض يف الغرفة املفتوحة على ال�صالة‪،‬‬
‫ومت الف�صل بينهن وبني الرجال ب�ستار كبري �أخفى كل �شيء وك�أنها حائط‬
‫�سميك ولي�ست جمرد قطعة قما�ش‪ ،‬قامت �سلمى بت�شغيل بع�ض الأنا�شيد‬
‫الإ�سالمية اخلا�صة بالأفراح على جهاز احلا�سوب اخلا�ص بها ثم جل�ست‬
‫تتحدث مع الن�ساء وت�ضحك ومترح معهن لبع�ض الوقت‪ ،‬كان �إ�سالم قد‬
‫‪220‬‬
‫خي �سلمى ما بني �أمرين‪� :‬إما �أن يتم �شراء احللي اخلا�ص بها وترتديه‬ ‫ّ‬
‫يف هذه احلفل مب�ساعدة والدته‪ ،‬و�إما �أن يتم ت�أجيل ارتدائه �إىل ما بعد‬
‫عقد القران حتى ي�ستطيع هو بنف�سه م�ساعدتها يف ارتدائه ‪-‬وهذا ما كان‬
‫يتمناه هو‪ -‬وبالفعل اختارت �سلمى اخليار الثاين و�ستنتظر �إىل ما بعد‬
‫عقد القران حتى ت�ستطيع اال�ستمتاع بتلك اللحظة مع عري�سها‪.‬‬
‫بعد ثالث �ساعات تقري ًبا هد�أ البيت وت�س ّرب ال�ضيوف واحدً ا تلو الآخر‬
‫وما تبقى �إال �أفراد الأ�سرتني‪ ،‬وهنا قامت والدة �سلمى بفتح ال�ستار و�أ�شارت‬
‫فرحا‪ ،‬كانت‬
‫لإ�سالم �أن يتف�ضل �إىل الداخل‪ ،‬نه�ض من مكانه وقلبه يقفز ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫�سلمى يف غرفتها يف ذلك الوقت ُتع ّدل من هندامها وحتاول ال�سيطرة على‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫نب�ضات قلبها املت�سارعة‪ ،‬وتتح�س�س بيديها ال�صغريتني وجهها الدافئ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ووجنتيها الورديتني من فرط خجلها‪ ،‬بد�أت ت�سري بهدوء وكادت تطري مع‬
‫الهواء لرقتها‪ ،‬دخلت �إىل الغرفة و�ألقت التحية على �إ�سالم وهي تنظر‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫للأر�ض خجلة‪ ،‬حياها هو الآخر ثم هم�س ب�سعادة‪:‬‬


‫‪� -‬ألف مربوك يا عرو�سة‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬اهلل يبارك فيك‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫قالتها بنربة حتمل كل �آيات ال�سعادة وعيناها تلمعان ب�شدة‪ ،‬ف�شعر‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�إ�سالم بها وقبل �أن ينطق ب�أي كلمة ذ َّكر نف�سه بالعهد الذي اتخذه على‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫نف�سه‪ ،‬فحاول انتقاء كلماته بحر�ص �شديد‪ ،‬وهم�س بابت�سامة ودودة‪:‬‬


‫‪ -‬ودلوقتي بقى مبا �إننا بقينا خمطوبني ر�سمي ف�أحب �أع ّرفك‬
‫�آخر �أخباري‪.‬‬
‫عادت �سلمى بظهرها �إىل ظهر كر�سيها يف انتباه‪ ،‬وعقدت ذراعيها‬
‫�أمام �صدرها عالمة الرتكيز ومتتمت‪:‬‬
‫‪ -‬اتف�ضل‪.‬‬
‫‪221‬‬
‫أنت عارفة �إين حال ًيا بدور على �شغل بليل‪ ،‬ب�صراحة ل�سه‬
‫‪ -‬طب ًعا � ِ‬
‫ملقيت�ش حاجة منا�سبة‪ ،‬فدعواتك معايا‪.‬‬
‫التقط �أنفا�سه للحظات ثم ا�ستطرد‪:‬‬
‫مثل ن�ستنى ملا تخل�صي‬ ‫‪ -‬بالن�سبة لل�شبكة‪ ،‬ف�أنا بقول �إننا ممكن ً‬
‫امتحانات وبعدين ن�شرتيها وتخليها عندك حلد ميعاد كتب‬
‫الكتاب‪ ،‬واحتمال �أكون �ساعتها خال�ص لقيت �شغل تاين‬
‫وبالتايل نقدر نحدد فرتة اخلطوبة هتكون حوايل قد �إيه‪ ،‬وده‬

‫ﻋﺼ‬
‫طب ًعا بعد ما ننزل نتفرج على الفر�ش ونعرف الأ�سعار ون�شوف‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫هحتاج �أحو�ش كام فوق الفلو�س اللي معايا‪ ،‬طب ًعا الكالم ده كله‬
‫ﻜﺘ‬
‫أديك فكرة عن اللي‬ ‫هيكون باالتفاق مع عمي‪� ،‬أنا ب�س حبيت � ِ‬
‫بفكر فيه‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬متام مفي�ش م�شكلة خال�ص‪.‬‬


‫هذا كل ما كان ي�ستطيع �إخبارها به يف تلك اللحظة‪ ،‬مل ُيخربها �أن‬
‫ﺸﺮ‬

‫هذه املالب�س الف�ضفا�ضة واختيارها للألوان الهادئة تلك جعلها تزيد يف‬
‫ﻭ‬

‫عينيه براءة فوق براءتها‪ ،‬مل يخربها �أنه بد�أ ي�شعر بحبها يت�سلل �إىل قلبه‪،‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫و�أن حديثه القليل معها كفيل ب�أن يجعل يومه كله ورد ًيا‪ ،‬مل يخربها بكم‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫يوما ما �سيخربها‬ ‫يوما ما‪ً ،‬‬


‫امل�شاعر املمتزجة ببع�ضها البع�ض داخل قلبه‪ً ،‬‬
‫بكل هذا و�أكرث‪ ،‬فقط انتظري يا نف�س املوعد املنا�سب وال تت�سرعي‪ ،‬فربك‬
‫�سيجزيك بكل اخلري على �صربك واختيارك ر�ضاه � ًأول وقبل �أي‬ ‫ِ‬ ‫حت ًما‬
‫�شيء �آخر‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫‪222‬‬
‫انق�شع الليل وانبثقت ال�شم�س من رحم ال�سماء تنرث قبالتها يف‬
‫بقاع الأر�ض‪ ،‬تل ّقى �إ�سالم �إحدى قبالتها ويف عينيه نظرة �أمل‪� ،‬أمل يف‬
‫احل�صول على الرتقية املنتظرة وازدياد راتبه مما ي�ساعده على تدبري‬
‫�أمور بيت الزوجية ب�شكل �أ�سرع‪� ،‬أنهى فطوره على عجل وارتدى مالب�س‬
‫�أنيقة كعادته‪ ،‬ثم ح ّلق ب�صحبة طائر التفا�ؤل �إىل عمله‪ ،‬فور و�صوله وجد‬
‫جميع من بال�شركة يف حالة من الرتقب‪ ،‬بد�أ عمله وهو يدعو اهلل �أن تكون‬
‫الرتقية من ن�صيبه لأنه يبذل جمهودًا ي�ضاعف جمهودات اجلميع‪ ،‬ولأنه‬
‫يرى �أنه �أكرث من ي�ستحق تلك الرتقية‪ ،‬مرت ال�ساعات وحان موعد �صالة‬

‫ﻋﺼ‬
‫الظهر‪ ،‬ترك �إ�سالم عمله وذهب لأداء ال�صالة‪ ،‬وفور عودته �أخربه زميله‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ب�أن املدير يدعوهم ملكتبه‪ ،‬ا�شتعلت احلما�سة بداخل قلبه الذي ازدادت‬
‫نب�ضاته ب�شكل ملحوظ‪ ،‬وتوهجت عيناه بربيق مميز‪� ،‬سار بخطوات واثقة‬
‫ﻜﺘ‬
‫نحو مكتب املدير‪ ،‬نه�ض املدير من مكانه وبد�أ ينظر لإ�سالم وزمالئه‬
‫ال�ستة مبت�س ًما‪ ،‬ثم �أخذ يقلب بع�ض الأوراق على مكتبه‪ ،‬و�أخ ًريا �أردف‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬يف احلقيقة‪ ،‬كانت املناف�سة بينكم وا�ضحة جدً ا خالل ال�شهور‬


‫ﺸﺮ‬

‫املا�ضية مما و�ضعنا يف موقف حمري‪ ،‬ولكن بعد تفكري وتدقيق‬


‫وجدنا �أن املهند�س‪...‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وهنا خفقت قلوب جميعهم وازداد تركيزهم �أ�ضعا ًفا م�ضاعفة وكل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫منهم ينتظر �أن ي�سمع �أول حرف من ا�سمه حتى يطمئن قلبه‪.‬‬
‫‪ -‬وجدنا �أن املهند�س زكي ماهر هو م�ستحق الرتقية لهذا العام‪،‬‬
‫وبالتوفيق للجميع يف الأعوام القادمة‪.‬‬
‫ات�سعت حدقتا �إ�سالم عن �آخرهما بده�شة وعدم ا�ستيعاب‪ ،‬فزكي هو‬
‫�آخر �شخ�ص كان يتوقع ح�صوله على الرتقية نظ ًرا لعدم جديته الوا�ضحة‬
‫يف العمل التي ت�صل �إىل حد اال�ستهتار‪ ،‬نظر حوله وك�أنه غائب عن الوعي‬
‫من هول ال�صدمة‪ ،‬فوجد �أن وجوه زمالئه حتمل كل �آيات احلزن والتذمر‪،‬‬
‫‪223‬‬
‫�ضم �أ�صابعه يف باطن كفيه يف حماولة منه لل�سيطرة على انفعاله و�سار‬
‫مغاد ًرا الغرفة كما �سار اجلميع‪ ،‬دخل مكتبه وارمتى على �أقرب كر�سي‬
‫وهو يف حالة غ�ضب �شديد حتى كاد ال�شرر �أن يتطاير من عينيه‪ ،‬اقرتب‬
‫منه زميله وربت على كتفه وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬كنت عارف �إن ده اللي هيح�صل ب�س حمبيت�ش �أحبطك ميكن‬
‫يكون ن�صيبك �أح�سن مننا‪.‬‬
‫نظر له �إ�سالم بعدم فهم و�س�أل‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬كنت عارف منني؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫تنهد تنهيدة قوية وقال مف�س ًرا‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬والد زكي يبقى �صديق املدير‪ ،‬فمن الطبيعي �إن هو اللي ياخد‬
‫الرتقية‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫نه�ض �إ�سالم من مكانه بغ�ضب وقال ثائ ًرا‪:‬‬


‫‪ -‬وملا املو�ضوع كله بالوا�سطة واجعني دماغنا ليه بقى طول الوقت‬
‫ﺸﺮ‬

‫مبو�ضوع الكفاءة وال�ضمري وحب العمل والكالم الكذب ده كله!‬


‫ﻭ‬

‫�ضحك زميله بح�سرة وقال‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬وهو �أنت بت�صدق الكالم ده!‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ت�أجج الغ�ضب ب�صدر �إ�سالم ومتتم‪:‬‬


‫‪� -‬أ�ستغفر اهلل العظيم‪� ،‬أ�ستغفر اهلل العظيم‪ ،‬طيب وهنعمل �إيه‬
‫دلوقتي؟!‬
‫‪ -‬م�ش هنعمل حاجة‪َ ،‬ك ّمل �شغلك يا با�شمهند�س!‬
‫‪ -‬بب�ساطة كده!‬
‫‪224‬‬
‫‪ -‬و�أب�سط من كده كمان‪ ،‬لو فكرت تتكلم هيم�شوك ويجيبوا ع�شرة‬
‫مكانك‪ ،‬عادي جدً ا!‬
‫‪� -‬أنت كده بتحرق دمي زيادة يا مروان!‬
‫ربت �صديقه على كتفه وقال بطيبة‪:‬‬
‫‪� -‬أنا م�ش ق�صدي �أ�ضايقك يا �إ�سالم‪� ،‬أنا ب�س حبيت �أعرفك‬
‫احلقيقة لأين بقايل خم�س �سنني �شغال هنا وعرفت نظامهم‬
‫خال�ص‪ ،‬ربنا يعلم �أنا حبيتك واحرتمتك قد �إيه‪ ،‬ب�س ده الواقع‬

‫ﻋﺼ‬
‫هنا وكان الزم �أعرفك‪ ،‬و�أنت حر يف قرارك بعد كده‪.‬‬
‫حاب�سا تلك النار التي‬
‫طويل َ ً‬‫زفر �إ�سالم زفرة قوية وبعدها �صمت ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫َ‬
‫َ ُْ ُ َْ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ‬
‫الل َّ يدِث بعد ذل ِك‬ ‫تغلي بف�ؤاده وبد أ� يتذكر الآية الكرمية }ل تد ِري لعل‬
‫ﻜﺘ‬
‫َ‬
‫أ ْم ًرا{‪.‬‬

‫‪z‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪225‬‬
‫‪-8-‬‬

‫أنت �صاحية‬
‫طرقات خفيفة على باب غرفتها �أتبعها ب�س�ؤال ق�صري‪ِ � :‬‬
‫يا هند؟ ف�ألقت هند هاتفها على الفرا�ش وقفزت مهرولة باجتاه الباب‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫فتحت الباب مبت�سمة وقالت بحنان‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬ادخل يا �إ�سالم‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫بابت�سامة حتمل خلفها الكثري من امل�شاعر املختلطة قال‪:‬‬
‫‪ -‬كنت عاوزك ب�س تت�صلي ب�سلمى وتعتذري لها عن زيارة بكره‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ليه يا �إ�سالم؟!‬
‫‪ -‬خمنوق جدً ا وم�ش عارف هقولهم �إيه بعد مو�ضوع الرتقية ده‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ب�س‪...‬‬
‫ﻭ‬

‫قاطعها وهو ي�شري بيده �أمام وجهها ً‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قائل‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬بعد �إذنك يا هند اعملي اللي بقولك عليه‪.‬‬


‫�أوم�أت بر�أ�سها م�ست�سلمة فابت�سم �إ�سالم وعاد لغرفته‪ ،‬بينما ات�صلت‬
‫هي ب�صديقتها و�أبلغتها بر�سالة �إ�سالم‪ ،‬فتعجبت �سلمى وا�ستف�سرت عن‬
‫ال�سبب‪ ،‬وملّا ق�صت عليها هند ما حدث يف ال�شركة منذ يومني �صمتت‬
‫�سلمى للحظات‪ ،‬ثم �أخربت هند ب�أنها �ستعاود االت�صال بها بعد قليل‪،‬‬
‫تعجبت هند من رد فعل �صديقتها ولكنها مل تعد متلك �سوى االنتظار‪ ،‬بعد‬
‫مرور ن�صف �ساعة تقري ًبا ات�صلت �سلمى بهند وقالت بحما�س‪:‬‬
‫‪226‬‬
‫‪ -‬قويل لإ�سالم �إن بابا عازمكم على الغداء بكره ب�إذن اهلل بعد‬
‫�صالة الع�صر‪.‬‬
‫�ضحكت هند بعدم ا�ستيعاب وقالت‪:‬‬
‫أنت بتقويل �إيه يا بنتي!‬
‫‪ِ �-‬‬
‫برباءة م�صطنعة كررت‪:‬‬
‫‪ -‬بقولك قويل لإ�سالم �إن بابا عازمكم على الغداء بكره ب�إذن‬
‫اهلل بعد �صالة الع�صر‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪� -‬أيوة ما �أنا �سمعت واهلل‪ ،‬ب�س �إ�سالم بيقول �إنه م�ش هيقدر‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ييجي!‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬دي �أول مرة نعزمكم يا هند‪ ،‬وهنزعل بجد لو رف�ضتوا‪ ،‬يال‬
‫هن�ستناكم‪� ،‬سالم‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�ألقت بجملتها الأخرية و�أغلقت اخلط بعدها‪ ،‬فما كان من هند �سوى‬
‫�أنها تركت هاتفها وذهبت لوالدتها لتق�ص عليها ما حدث‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪zzz‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بف�ستان بلون البنف�سج تتناثر ب�أطرافه وردات �صغرية بي�ضاء اللون‪،‬‬


‫وبخمار يحمل اللون ذاته �سارت بخطوات هادئة َح ِّيية حتى و�صلت �إليه‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ِ‬
‫وا�ستقرت جال�سه يف املقعد املقابل به‪� ،‬أطبق ال�صمت عليهما لدقيقة‬
‫كاملة حتى قطعته �سلمى مت�سائلة‪:‬‬
‫‪ -‬عجبك الأكل؟‬
‫�أوم أ� �إ�سالم بر�أ�سه و�أجاب‪:‬‬
‫‪ -‬جميل ما �شاء اهلل‪.‬‬
‫‪227‬‬
‫قالها و�صمت مرة �أخرى ال يدري فيما يتحدث‪ ،‬ف�شعرت �سلمى به‬
‫وهم�ست بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬ممكن حتكيلي �إيه اللي ح�صل يف ال�شغل بالظبط؟‬
‫رغم علمها بالإجابة ولكنها �أرادت �أن ت�سمعها منه هو‪� ،‬شبك �أ�صابع‬
‫ميناه بي�سراه وقال ب�ضيق‪:‬‬
‫‪ -‬باخت�صار كنت متع�شم جامد �إن الرتقية هتكون من ن�صيبي‪،‬‬
‫وخ�صو�صا لأنه تقري ًبا‬
‫ً‬ ‫وملا �أخدها �شخ�ص تاين ات�صدمت‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أكرث واحد مبي�شتغل�ش يف ال�شركة!‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬م�ش �أنت عملت اللي عليك؟‬
‫ﻜﺘ‬
‫علي و�أكرث واهلل‪.‬‬
‫‪ -‬عملت اللي َّ‬
‫قالها بي�أ�س‪ ،‬فابت�سمت �سلمى وقالت بثقة‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬خال�ص يبقى متقلق�ش من حاجة‪ ،‬وخليك واثق �إن ربنا هيدبرها‬


‫ﺸﺮ‬

‫من حيث ال تدري‪.‬‬


‫‪ -‬امل�شكلة كمان �إن كل ال�شغل الليلي اللي بالقيه يا �إما مواعيده‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫م�ش منا�سبة ملواعيد �شغلي يا �إما املرتب قليل جدً ا!‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�صمت هنيهة ثم قال‪:‬‬


‫‪ -‬عامة �أنا م�ش عاوز �أوجع دماغك بالكالم ده‪ ،‬ب�إذن اهلل‬
‫هت�صرف‪.‬‬
‫‪ -‬بالعك�س يا �إ�سالم‪� ،‬أنا ببقى حابة �أ�شاركك التفا�صيل دي‪،‬‬
‫وزي ما قولتلك �أنا واثقة جدً ا يف ربنا ومت�أكدة �إن الأمور كلها‬
‫هتتي�سر‪ ،‬ودلوقتي ت�شوف بنف�سك ‪.‬‬
‫‪228‬‬
‫ابت�سم للمرة الأوىل منذ بداية جل�ستهما‪ ،‬فتنف�ست �سلمى براحة‬
‫و�أخرجت ورقة مطوية من جيب ف�ستانها وقالت بحما�س وهي ت�ضعها يف‬
‫مواجهة �إ�سالم‪:‬‬
‫‪ -‬الآن�سة دي تقدر تقول �إنها هتكون �صديقتنا يف كل املرات اللي‬
‫هنتقابل فيها‪ ،‬لأين بكتب هنا كل املوا�ضيع اللي حابة �أناق�شك‬
‫فيها عل�شان من�سا�ش حاجة زي ما قولتلي‪.‬‬
‫ب�ساطتها‪ ،‬حما�سها‪ ،‬براءتها‪ ،‬رقتها‪ ،‬و� ً‬
‫أي�ضا البهجة التي تنت�شر يف‬

‫ﻋﺼ‬
‫الأرجاء ملجرد �سماع �صوتها‪ ،‬كل ذلك �ساهم يف ات�ساع ابت�سامته‪ ،‬وجعله‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫ي�شاركها حما�سها ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬يال اتف�ضلي‪� ،‬أنا م�ستعد‪.‬‬
‫‪ -‬امممم‪� ،‬أول حاجة‪� ،‬أنا م�ش حابة �أجيب تليفزيون وال ني�ش يف‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بيتنا‪.‬‬
‫‪ -‬وال�سبب؟‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬بالن�سبة للني�ش ف�أنا ب�صراحة �شايفاه حاجة ملها�ش الزمة‪،‬‬


‫ﻭ‬

‫جمرد قطعة ديكور م�ش �أكرث‪ ،‬يعني معظم احلاجات اللي‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بتتحط يف الني�ش م�ش بن�ستخدمها‪ ،‬العرو�سة بتجيبها ب�س‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫عل�شان �شكلها قدام النا�س‪ ،‬و�أنا ب�صراحة م�ش بحب كده‪� ،‬أنا‬
‫حابة �أجيب احلاجات اللي ه�ستخدمها وب�س‪ ،‬ونف�س املبد�أ ده‬
‫هطبقه ب�إذن اهلل يف كل حاجة‪ ،‬يعني م�ش هجيب �أعداد مهولة‬
‫من كل حاجة عل�شان ملا حد ي�س�ألني �أقعد �أفتخر بحاجتي‪ ،‬لأ‬
‫�أنا مقتنعة �إن ده بيتي ومن حقي �أجيب فيه اللي �أنا عاوزاه وب�س‬
‫بغ�ض النظر عن ر�أي النا�س‪.‬‬
‫‪229‬‬
‫‪ -‬جميل‪� ،‬أنا موافق جدً ا على الكالم ده‪ ،‬طيب وبالن�سبة‬
‫للتليفزيون؟‬
‫‪ -‬التليفزيون بالن�سبايل �ضرره �أكرب من نفعه‪ ،‬معظم احلاجات‬
‫اللي بتيجي عليه م�ش مفيدة �أبدً ا‪ ،‬يف حني �إين ممكن �أ�ستبدله‬
‫مثل و�أدخل على الإنرتنت �أتفرج على اللي‬ ‫بجهاز كمبيوتر ً‬
‫ينا�سب اهتماماتي وينفعني بدل امل�سل�سالت والكالم ده‪،‬‬
‫وبالفعل �أنا ما�شية باملبد أ� ده بقايل �سنة تقري ًبا وفرق معايا‬
‫جدً ا احلقيقة‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬فكرة حلوة‪� ،‬أنا عن نف�سي م�ش بتفرج على التليفزيون كتري‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بردو‪ ،‬ب�إذن اهلل هتكلم مع عمي يف املو�ضوع ده و�أقوله وجهة‬
‫ﻜﺘ‬
‫نظرنا‪ ،‬هاه �إيه كمان؟‬
‫بد�أت تنظر يف الورقة التي بني يديها وك�أنها تختار املو�ضوع التايل‪ ،‬ثم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ح�سمت �أمرها وقالت‪:‬‬


‫‪ -‬عاوزة �أ�س�ألك على حاجة ب�س جتاوبني مبنتهى ال�صراحة‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫معاك مبنتهى ال�صدق‪ ،‬عل�شان ده كان‬


‫‪� -‬صدقيني �أنا بتكلم ِ‬
‫ﻭ‬

‫اتفاقنا من البداية‪.‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪� -‬إيه �أخبار غ�ض الب�صر معاك؟‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬اممم‪� ،‬صعب ال�س�ؤال ده!‬


‫قالها �ضاح ًكا وهو يحك ر�أ�سه ب�أطراف �أ�صابعه‪ ،‬ثم تنهد بقوة و�أردف‪:‬‬
‫عليك‪ ،‬املو�ضوع كل �شوية بتزيد �صعوبته‬
‫‪ -‬ب�صي م�ش ه�ضحك ِ‬
‫وبيكون حمتاج جماهدة �أكرب‪ ،‬البنات لب�سها الفرتة الأخرية‬
‫بقى �سيئ جدً ا جدً ا‪ ،‬والإنرتنت كل �شوية تظهرلنا فيه �إعالنات‬
‫ملها�ش �أي الزمة تخلينا ن�شيل ذنوب وخال�ص‪ ،‬ف�أنا بجاهد‪،‬‬
‫‪230‬‬
‫بجاهد كتري واهلل وكل �شوية �أفكر نف�سي �إن غ�ض الب�صر فر�ض‬
‫مهما الزمن اتغري والنا�س اتغريت‪ ،‬فدعواتك معايا‪.‬‬
‫�أوم�أت �سلمى بتفهم وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬املو�ضوع بالن�سبايل ميكن �أ�سهل �شوية‪ ،‬من �صغري و�أنا‬
‫بتحا�شى النظر للرجالة‪ ،‬تقدر تقول ببقى حمرجة �شوية‪،‬‬
‫َ ُ ِّ ْ ُ ْ َ‬
‫�سنتني تقري ًبا بد�أت �أ�ستوعب الآية }وقل للمؤمِن ِ‬
‫ات‬
‫َ‬
‫لكن من‬
‫َي ْغ ُض ْض َن مِن أبص ِاره َِّن{ وبقيت �أقول لنف�سي �إن ده �أمر من ربنا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬

‫ﻋﺼ‬
‫والزم �أطبقه �سواء على احلقيقة �أو و�أنا بتفرج على التليفزيون‪،‬‬
‫لدرجة �إين كنت را�سمة �إميو�شن مبت�سم على ورقة وبلزقه يف‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بع�ض الأحيان على وجه الداعية �أو ال�شخ�ص اللي بتفرج عليه‬
‫ﻜﺘ‬
‫عل�شان �أريح نف�سي‪.‬‬
‫نظرت �إليه لربهة فالحظت ابت�سامته املت�سعة‪ ،‬فخف�ضت عينيها � ً‬
‫أر�ضا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وهي تقول بحرج‪:‬‬


‫‪ -‬ب�س عامة يعني �أنا بطلت املو�ضوع ده وبقيت بكتفي ب�إين �أركز‬
‫ﺸﺮ‬

‫بقدر الإمكان على احليطة �أو الرتابيزة �أو �أي حاجة تانية غري‬
‫ﻭ‬

‫ال�شخ�ص اللي بتفرج عليه‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬جميل‪ ،‬ربنا يثبتك‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�سمعا �أ�صوات �أقدام تقرتب منهما �شي ًئا ف�شي ًئا‪ ،‬وبعدها ظهرت والدة‬
‫�سلمى ومن خلفها هند ووالدة �إ�سالم‪ ،‬قام �إ�سالم من مكانه ونظر لوالدته‬
‫با�ستفهام‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫‪ -‬هن�ست�أذن احنا بقى‪ ،‬وخليك �أنت مع عرو�ستك‪.‬‬
‫‪ -‬طيب هو�صلكم‪.‬‬
‫قالها واقرتب منها �أكرث‪ ،‬ف�ضحكت بهدوء وقالت‪:‬‬
‫‪231‬‬
‫‪ -‬تو�صلنا فني يا بني! ده البيت يف �آخر ال�شارع!‬
‫ثم التفتت �إىل والدة �سلمى واحت�ضنتها‪ ،‬ثم �ضمت �سلمى �إليها بحب‬
‫وربتت على كتفها‪ ،‬وبعدها غادرت يف هدوء‪ ،‬عادت �سلمى �إىل مكانها‬
‫وتبعها �إ�سالم‪.‬‬
‫‪ -‬مامتك باين عليها حنينة قوي‪.‬‬
‫متتمت بها �سلمى بابت�سامة‪ ،‬فقال �إ�سالم‪:‬‬
‫‪ -‬حنينة وعاقلة جدً ا كمان‪ ،‬ربنا يباركلي فيها‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫حلظات �صمت قليلة مرت قبل �أن يقطعها �إ�سالم بقوله‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬كانت هند قالتلي قبل كده �إنك خايفة جدً ا من فكرة اجلواز‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫وطول الوقت �شايفة نف�سك م�ش م�ستعدة خلطوة زي دي‪ ،‬يا‬
‫ترى �إيه ال�سبب؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬املو�ضوع بالن�سبايل بيتلخ�ص يف نقطتني �أ�سا�سيتني‪ ،‬الأوىل‪:‬‬


‫وهي �إين �شايفة اجلواز ده م�سئولية كبرية خايفة مكون�ش‬
‫ﺸﺮ‬

‫قدها‪ ،‬و�أنا حابة �أكون زوجة ناجحة وعارفة كوي�س �أوي حقوقها‬
‫وواجباتها وبتعرف تدير �ش�ؤ�ؤن بيتها كوي�س‪ ،‬والثانية‪ :‬وهي‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫انت�شار حاالت الطالق حوالينا ب�شكل مبالغ فيه‪ ،‬املو�ضوع ده‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫بريعبني‪ ،‬يعني هو معقولة كل النا�س دي بتنف�صل و�أنا اللي‬


‫حياتي هت�ستمر وهعي�ش زي ما بتمنى! م�ش عارفة حقيقي‪.‬‬
‫عاد بظهره �إىل مقعده و�شبك �أ�صابع ميناه بي�سراه وقال بتفهم‪:‬‬
‫‪ -‬طيب من�سك نقطة نقطة‪ ،‬بالن�سبة للم�سئولية فهي بتبد�أ‬
‫�صغرية وبعدها بتكرب‪ ،‬يعني يف بداية الزواج بيكون البيت‬
‫جميل ومرتتب‪ ،‬فهتالقي مطلوب منك حاجات ب�سيطة زي‬
‫‪232‬‬
‫الأكل مثال وتنظيف البيت على ال�سريع كده‪ ،‬ومبا �إن مفي�ش‬
‫�إال �شخ�صني ب�س يف البيت فهتكون الدنيا طول الوقت نظيفة‪،‬‬
‫أنت بقيتي بتعريف تعملي �شغل‬ ‫بعدها ملا ييجي طفل بتكوين � ِ‬
‫عليك م�سئولية الطفل‬ ‫البيت �أ�سرع وبحرفية �أكرث‪ ،‬فبت�ضاف ِ‬
‫وهكذا‪ ،‬عاوزك كمان تكوين على يقني من حاجة‪ ،‬وهي �إنك‬
‫ملا ت�ستعيني باهلل وتطلبي منه ي�ساعدك حت ًما هتالقي �أمورك‬
‫قواك على م�سئولياتك‪.‬‬
‫اتي�سرت وربنا ِ‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬حا�ضر ه�ستعني باهلل و�أطلب منه يعينني ويطمن قلبي ب�إذن‬
‫اهلل‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬نيجي للنقطة التانية وهي انت�شار حاالت الطالق‪ ،‬ب�صراحة‬
‫ﻜﺘ‬
‫مثل �إن ال�شاب‬‫املو�ضوع له �أ�سباب كتري جدً ا ب�س من �أ�شهرها ً‬
‫بيكون حاطط يف دماغه �إن مراته علطول هتكون جميلة ورقيقة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫زي ما بي�شوف ال�ستات يف التليفزيون‪ ،‬والبنت بتكون م�ستنية‬


‫الزوج اللي يغرقها هدايا ويف�سحها وتعي�ش معاه زي ما بتقر�أ‬
‫ﺸﺮ‬

‫يف الروايات‪ ،‬فلما بيتجوزوا هو بيالقي �إنها �إن�سانة عادية جدً ا‬


‫ﻭ‬

‫�أوقات بتهتم بنف�سها و�أوقات بتن�شغل ببيت وعيال‪ ،‬وهي تالقيه‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫يادوب بي�صرف على البيت بالعافية وكل يوم يرجع من ال�شغل‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫خمنوق وم�ش طايق كلمة‪ ،‬فهنا بتالقي كل واحد بد أ� يلوم يف‬


‫أنت مهملة وم�ش مالية عيني وكذا كذا‪ ،‬وهي‬ ‫التاين‪ ،‬هو يقولها � ِ‬
‫تقوله دي �صاحبتي جوزها بيجيبلها كذا وكذا و�أنت بخيل يف‬
‫فلو�سك وم�شاعرك‪ ...‬الخ‪ ،‬فبتالقي احلياة مع الوقت بتبقى‬
‫�أ�صعب‪ ،‬يعني حتى لو حم�صل�ش طالق بتكون عالقتهم متوترة‬
‫جدً ا وعاي�شني وخال�ص عل�شان الأوالد‪.‬‬
‫‪233‬‬
‫‪ -‬واحلل يف احلالة دي �إننا نكون واقعيني �شوية و�صادقني مع‬
‫بع�ض كمان‪ ،‬بحيث مندي�ش وعود ونعي�ش يف عامل وردي يف‬
‫اخلطوبة وبعد الزواج نت�صدم بالواقع‪.‬‬
‫‪ -‬بالظبط كده‪.‬‬
‫‪ -‬طيب و�إيه كمان؟‬
‫مثل نوع من الرجال بيكون �شايف �إنه لو بي�صرف على‬ ‫‪ -‬عندك ً‬
‫مراته كوي�س وبيجيب لها كل طلباتها يبقى هو كده �أعطاها‬

‫ﻋﺼ‬
‫حقها وزيادة‪ ،‬وبيغفل عن احتياجاتها العاطفية وبيكون جاف‬
‫جدً ا يف م�شاعره وم�ش �شايف �إنه غلطان يف حاجة‪ ،‬ده بي�أثر‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫على نف�سية ال�ست وبيعمل فجوة كبرية ما بينهم‪ ،‬وعندك كمان‬
‫ﻜﺘ‬
‫نوع من ال�ستات م�ش بيكون عندهم مبد�أ طاعة الزوج ده �أبدً ا‪،‬‬
‫بتح�س �إنها �ضعيفة لو قالت جلوزها حا�ضر و�سمعت كالمه‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وعلطول وقفاله ال ِّند بال ِّند وعاوزة كلمتها هي اللي مت�شي‪،‬‬


‫النوع ده حقيقي �صعب الواحد يكمل معاه‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫عقدت ذراعيها وو�ضعت يدها اليمنى حتت ذقنها مفكرة ثم قالت‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬افتكرت حاجة كمان بتعمل م�شاكل كتري جدً ا‪ ،‬وهي عدم تفهمنا‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫لفكرة االختالف بني الراجل وال�ست‪ ،‬يعني تالقي ال�ست بتفرح‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫بحاجات ب�سيطة جدً ا‪ ،‬وجوزها �شايفها تفاهة فبيحرمها منها‬


‫ويطلب منها ب�أ�سلوب حاد �إنها تعقل �شوية‪ ،‬ويف نف�س الوقت‬
‫ممكن تالقيها ح�سا�سة وبتزعل ب�سرعة‪ ،‬فبدل ما جوزها يحاول‬
‫ي�شوف �إيه اللي مزعلها ويرا�ضيها لأ بيف�ضل يقولها �إنها نكدية‪،‬‬
‫فتعيط �أكرث وتكون نكدية �أكرث وندخل يف دوامة ال تنتهي‪ ،‬كمان‬
‫�ساعات الزوج بتكون فيه حاجات معينة بت�ضايقه ب�س الزوجة‬
‫م�ش مقتنعة �إن دي حاجات ت�ضايق و�شايفاها عادية‪ ،‬فبدل ما‬
‫‪234‬‬
‫حتاول تتفهم م�شاعره باعتبار �إن �شخ�صياتنا م�ش زي بع�ض‬
‫وتتعامل على هذا الأ�سا�س‪ ،‬لأ دي بتقعد ترتيق وت�سخر منه‬
‫قدام �صحباتها و�أهلها وده بردو بيزود الفجوة ما بينهم‪.‬‬
‫أحييك عليها‪.‬‬
‫فعل يا �سلمى‪ِ � ،‬‬ ‫‪ -‬نقطة ممتازة ومهمة ً‬
‫ابت�سمت بخجل و�س�ألت وهي ت�شري �إىل �أكواب الع�صري املو�ضوعة‬
‫�أمامهما‪:‬‬
‫‪ -‬حتب ناخد بريك �شوية ون�شرب الع�صري؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أوم أ� بر�أ�سه و�أم�سك بكوب الع�صري وبد أ� يرت�شف منه يف هدوء‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫�صاف وجميل خرجت �سلمى من قاعة املحا�ضرات‬ ‫ٍ‬ ‫ذات �صباح‬
‫ب�صحبة �صديقتيها هند وفاطمة‪ ،‬وقف ثالثتهن �أمام البناية الرئي�سية‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫للمحا�ضرات‪ ،‬وقالت فاطمة بتعب‪:‬‬


‫‪ -‬يا بنات �أنا جعانة جدً ا‪ ،‬تعالوا جنيب �سندويت�شات قبل‬
‫ﺸﺮ‬

‫املحا�ضرة الثانية ما تبد�أ‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫وافقت �سلمى وكذلك هند‪ ،‬ويف طريقهن �إىل خارج اجلامعة توقفت‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫فاطمة عن ال�سري وبد�أت تنظر ميينها برتكيز‪ ،‬ثم قالت متلهفة‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ثواين يا بنات ورجعالكم!‬


‫ويف حلظات كانت اختفت من �أمامهما‪ ،‬نظرت هند �إىل �سلمى و�س�ألت‬
‫متعجبة‪:‬‬
‫‪ -‬هي رايحة فني؟‬
‫‪ -‬م�ش عارفة‪� ،‬أدينا م�ستنيني‪.‬‬
‫‪235‬‬
‫ومن بعيد وقف كرمي البحريي ب�صحبة ثالث فتيات‪ ،‬ت�س�أله �إحداهن‬
‫عن بع�ض الأ�سئلة التي ت�شغلها بخ�صو�ص مادة ال�شعر‪ ،‬بينما ت�سخر منها‬
‫�صديقتها ل�سذاجة �أ�سئلتها وت�ضحك الثالثة‪ ،‬اقرتبت فاطمة منهن ووقفت‬
‫�صامتة حتى انتهت الفتاة مما حتتاجه وغادرت ب�صحبة �صديقتيها‪ ،‬نظر‬
‫كرمي �إليها منتظ ًرا حديثها‪ ،‬فتنحنحت وقالت بنعومة‪:‬‬
‫‪� -‬أنا فاطمة دفعة �سنة رابعة‪ ،‬كان ب�س فيه نقطة عاوزة �أ�س�أل‬
‫ح�ضرتك عليها عل�شان دا ًميا بتلخبط فيها‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أوم�أ مبت�س ًما دون �أن يتحدث‪ ،‬ف�س�ألته فاطمة �س�ؤالها الوهمي‪ ،‬و�شرح‬
‫لها يف �إيجاز ما حتتاجه‪ ،‬فلمعت عينيها وقالت ب�سعادة‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬ياااه هو ازاي ح�ضرتك �شرحتها بالو�ضوح ده! �أنا طول الرتم‬
‫ﻜﺘ‬
‫تايهة فيها‪ ،‬يا ريتني كنت �س�ألت ح�ضرتك من زمان‪.‬‬
‫احتجت �أي حاجة تاين ابقي تعايل‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬لو‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬بجد؟ يعني م�ش هت ّقل على ح�ضرتك؟‬


‫ﺸﺮ‬

‫قالتها بحما�س‪ ،‬ف�أجاب كرمي‪:‬‬


‫‪ -‬لأ �أبدً ا‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪� -‬شك ًرا جدً ا حل�ضرتك‪ ،‬و�آ�سفة لو عطلتك‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ان�سحبت من �أمامه حتى ال ي�شعر بنب�ضات قلبها القوية‪ ،‬ها هي‬


‫خطوتها الأوىل قد جنحت‪ ،‬وا�ستطاعت �أن جتعله ي�سمح لها مبقابلته يف‬
‫�أي وقت دون �شروط‪ ،‬ودون �أن تطلب‪� ،‬ستحاول جاهدة ا�ستغالل الفرتة‬
‫الأخرية قبل تخرجها يف توطيد العالقة بينها وبني كرمي حتى جتد بعد‬
‫تخرجها ُحجة ملقابلته‪ ،‬عادت �إىل حيث تركت �صديقتيها فلم جتد �إال‬
‫هند‪ ،‬ف�س�ألت‪:‬‬
‫‪� -‬أُمال فني �سلمى؟‬
‫‪236‬‬
‫كنت بتعملي‬
‫أنت ِ‬
‫‪ -‬رجعت املدرج عل�شان املحا�ضرة هتبد�أ‪ ،‬املهم � ِ‬
‫�إيه مع دكتور كرمي؟‬
‫قالت بال مباالة‪:‬‬
‫‪ -‬كنت ب�س�أله على حاجة يف املنهج‪.‬‬
‫‪ -‬وهو اللي بي�س�أل على حاجة يف املنهج بريجع طاير من الفرحة‬
‫كده!‬
‫�أم�سكت فاطمة يد �صديقتها وبد�أت ت�سري بها باجتاه قاعة املحا�ضرات‬

‫ﻋﺼ‬
‫وهي تقول‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪� -‬أ�صل متعرفي�ش يا هند ال�س�ؤال ده كان �شاغلني قد �إيه‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫نظرت لها هند بتوج�س وعدم اقتناع وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬طيب م�ش هت�شرتي ال�سندوت�شات قبل ما تدخلي؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬لأ خال�ص �شبعت!‬


‫‪zzz‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫مرت الأيام �سري ًعا واقرتبت امتحانات نهاية العام‪ ،‬حالة من التوتر‪،‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫التيه‪ ،‬واخلوف �أ�صابت �سلمى‪ ،‬و�سوا�س قوي ي�ضرب بر�أ�سها ويخربها‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫مرا ًرا ب�أنها لن تنجح ولن تتخرج مثل زميالتها‪ ،‬ات�صلت بهند باكية‬
‫و�أخربتها مبخاوفها‪ ،‬فبد�أت هند تطمئنها ببع�ض الكلمات لتهون عليها‬
‫الأمر‪ ،‬ثم خطر يف بالها فكرة‪ ،‬ف�أنهت املكاملة وذهبت �إىل �أخيها‪ ،‬ق�صت‬
‫عليه حوارها مع �سلمى وطلبت م�ساعدته يف حل هذه امل�شكلة‪ ،‬ف�أخربها‬
‫ب�أنه �سيتدبر الأمر‪ ،‬غادرت هند وهي تدعو اهلل �أن يبعث ال�سكينة والراحة‬
‫�إىل قلب �سلمى ويوفقها يف اختباراتها‪ ،‬بعد عدة �أيام علمت �سلمى من‬
‫والدها �أن �إ�سالم يريد تقدمي موعد زيارة هذا الأ�سبوع لتكون يف يوم‬
‫‪237‬‬
‫الثالثاء ً‬
‫بدل من يوم اجلمعة‪ ،‬كانت يف حالة ال ت�سمح لها مبقابلته‪ ،‬ولكنها‬
‫أي�ضا مل ت�ستطع الرف�ض‪ ،‬ف�أخربت �أبيها ب�أنها �ستكون جاهزة يف املوعد‬‫� ً‬
‫املحدد ب�أمر اهلل‪.‬‬
‫ويف يوم الثالثاء بعد �صالة الع�شاء بن�صف �ساعة �سمعت �سلمى‬
‫طرقاته على باب منزلها‪ ،‬فخفق قلبها كجناح ذبابة وارتفعت دقاته حتى‬
‫ظنت �أنها ت�سمعها بو�ضوح‪ ،‬هرولت �إىل املر�آة وبد�أت تنظر بي�أ�س �إىل‬
‫وجهها ال�شاحب وعينيها احلمراوين من �أثر البكاء‪ ،‬ثم �سارت متعجلة‬
‫�إىل دورة املياه و�ضربت وجهها بعدة دفعات من املاء يف حماولة بائ�سة‬

‫ﻋﺼ‬
‫منها لتبدو ب�شكل �أف�ضل‪ ،‬ولكن ال فائدة‪ ،‬تنهدت بحرج ثم جففت وجهها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بهدوء و�سارت �إىل غرفتها التي انتظرت بها حتى ناداها والدها‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫بحرج بالغ وخطوات بطيئة وعينني مثبتتني بالأر�ض �سارت حتى و�صلت‬
‫�إليه‪ ،‬بد�أت ترفع عينيها للأعلى فلمحت باقة من الورد الأحمر حتت�ضن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بداخلها جمموعة من الزهور الوردية مو�ضوعة على املن�ضدة‪ ،‬وبجوارها‬


‫�صندوق وردي اللون ُمزين بطريقة �أحبتها كث ًريا‪ ،‬فارت�سمت ابت�سامة‬
‫ﺸﺮ‬

‫تلقائية على وجهها و�شعرت مبزيج من امل�شاعر اجلميلة داخل قلبها‪ ،‬وملا‬
‫انتبهت �إىل ذاك اجلال�س �أمامها التفتت �إليه بحرج وقالت‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ال�سالم عليكم‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬وعليكم ال�سالم ورحمة اهلل وبركاته‪ ،‬ازيك يا �سلمى‪� ،‬أخبارك‬


‫�إيه؟‬
‫جل�ست يف مكانها املعتاد ومتتمت بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬احلمد هلل‪.‬‬
‫‪ -‬مبا �إن امتحاناتك الأحد اجلاي ف�أنا حبيت �آجي النهارده بدل‬
‫يوم اجلمعة عل�شان وقتها �أكيد هتكوين م�شغولة‪ ،‬وب�إذن اهلل‬
‫‪238‬‬
‫هنعترب دي �آخر زيارة الفرتة دي‪ ،‬ونتقابل بعد ما تخل�صي‬
‫متاما ب�إذن اهلل عل�شان م�ش حابب �أعطلك‪.‬‬
‫امتحاناتك ً‬
‫‪ -‬متام‪ ،‬اهلل امل�ستعان‪.‬‬
‫‪ -‬قوليلي بقى‪� ،‬إيه �أخبار املذاكرة؟‬
‫‪ -‬كوي�سة‪.‬‬
‫‪ -‬مت�أكدة؟‬
‫قالها ب�شك‪ ،‬فتنهدت �سلمى بحزن وقالت‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ب�صراحة �أنا مرعوبة‪ ،‬حا�سة �إين ن�سيت كل حاجة وم�ش هعرف‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�أكتب وال كلمة‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫�صمت �إ�سالم للحظات لرتتيب �أفكاره ثم قال‪:‬‬
‫‪� -‬إح�سا�سك ده طبيعي جدً ا يا �سلمى وبيح�صل مع معظم الطلبة‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ب�س عاوزك تكوين متيقنة من حاجة‪ ،‬وهي �إنك طاملا ذاكرتي‬


‫ﺸﺮ‬

‫كوي�س يبقى �أكيد املعلومات كلها احتفظت جوا خمك وهتخرج‬


‫وقت ما حتتاجيها‪ ،‬حتى لو حا�سة دلوقتي �إن املعلومات كلها‬
‫ﻭ‬

‫دخلت جوا بع�ضها ب�سبب توترك‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪� -‬أنا م�ش هنكر �إين دا ًميا ببقى خايفة قبل االمتحانات وبعرف‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أجاوب كوي�س بعدها احلمد هلل‪ ،‬ب�س فعل ًيا املرة دي خويف زايد‬
‫مثل ومتخرجت�ش هزعل‬ ‫جدً ا‪ ،‬ولو ال قدر اهلل نزلت يف مادة ً‬
‫جدً ا‪ ،‬وهتكون م�شكلة كبرية مع بابا‪.‬‬
‫‪ -‬طيب ممكن نتفق على حاجة؟‬
‫حركت ر�أ�سها عالمة املوافقة‪ ،‬ف�أردف‪:‬‬

‫‪239‬‬
‫‪ -‬عاوزك الفرتة دي تبذيل كل طاقتك يف املذاكرة‪ ،‬متفكري�ش‬
‫يف االمتحان وال النتيجة وال �أي حاجة‪ ،‬هدفك اللي حتطيه‬
‫قدام عينك هو �إنك تخل�صي املادة وتراجعيها مرة �سريعة على‬
‫الأقل‪ ،‬لو يف الن�ص ح�سيتي ب�إحباط ظني بربنا خري وت�أكدي‬
‫�إنه هيكون عند ظنك وكملي مذاكرتك‪ ،‬وب�إذن اهلل هتتي�سر‪.‬‬
‫‪ -‬هحاول ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫‪ -‬طيب متام‪ ،‬ندخل على املو�ضوع اللي بعده مبا �إين م�ش حابب‬
‫الزيارة دي تكون طويلة عل�شان مذاكرتك �أهم دلوقتي‪ ،‬فني‬

‫ﻋﺼ‬
‫الآن�سة �صاحبتك؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫نظرت له �سلمى بعدم فهم وهي ت�ضيق ما بني عينيها‪ ،‬ثم غ�ضت‬
‫ﻜﺘ‬
‫طرفها و�س�ألت‪:‬‬
‫‪� -‬آن�سة مني؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�ضحك �إ�سالم وهو يجيب‪:‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬الورقة‪.‬‬
‫�شعرت ب�سذاجتها ومتتمت بخجل‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ب�صراحة مكتبت�ش حاجة الأ�سبوع ده‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬متام �أبد�أ �أنا‪ ،‬مبا �إين واثق �إنك هتتخرجي وبتقدير كمان ب�إذن‬
‫اهلل‪ ،‬قوليلي بتفكري تعملي �إيه بعد التخرج؟‬
‫ثم �ضحك وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬غري �إنك تتجوزي طب ًعا‪.‬‬
‫انكم�شت �سلمى يف مقعدها واحمرت وجنتاها ً‬
‫خجل‪ ،‬وقالت بعد‬
‫�صمت ق�صري‪:‬‬
‫‪240‬‬
‫‪ -‬ب�صراحة بفكر �أ�شتغل بعد التخرج علطول ب�إذن اهلل‪ ،‬ون�سيت‬
‫�أتكلم معاك يف النقطة دي قبل كده‪.‬‬
‫قال و�سحائب ال�ضيق تظلل مالحمه‪:‬‬
‫أنت فاكرة يا �سلمى �إين م�ش هقدر �أ�صرف على بيتي!‬
‫‪ -‬ليه؟ هو � ِ‬
‫�سكنت الده�شة مقلتيها و�أجابت م�سرعة وك�أنها تريد �أن تثبت �أنها‬
‫ُبراء من تلك التهمة التي رماها بها‪:‬‬
‫‪ -‬واهلل �أبدً ا يا �إ�سالم‪� ،‬أنا م�ش ق�صدي كده خال�ص‪ ،‬كل الفكرة‬

‫ﻋﺼ‬
‫�إين حبيت جدً ا ال�شغل مع الأطفال ملا جربته يف الرتبية العملي‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وحا�سة �إين بجانب �شرح الإجنليزي ممكن �أقدر �أغر�س فيهم‬
‫ﻜﺘ‬
‫مبادئ وقيم يعي�شوا بيها حياتهم بعد كده‪.‬‬
‫‪ -‬لو ده هدفك الأ�سا�سي ف�أنا معندي�ش م�شكلة‪ ،‬ب�س ب�شرط‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪� -‬إيه هو؟‬


‫‪� -‬إن �أ�سرتك وبيتك يكونوا هما رقم واحد عندك‪ ،‬يعني لو قدرتي‬
‫ﺸﺮ‬

‫توفقي بني ال�شغل والبيت ف�أنا هبقى مب�سوط لنجاحك‪� ،‬إمنا لو‬
‫ﻭ‬

‫ال�شغل كان �سبب يف �إنك تق�صري تق�صري ملحوظ يف البيت‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫يبقى �ساعتها الزم تتنازيل عنه يف مقابل �إنك حتافظي عما‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫هو �أهم‪.‬‬
‫‪ -‬هو ده نف�س ر�أيي على فكرة‪ ،‬اتفقنا‪.‬‬
‫‪ -‬متام‪ ،‬نف�سك تعملي �إيه كمان؟‬
‫علي جدً ا فكرة �إين �ألب�س‬
‫‪ -‬ب�صراحة بقايل كام �شهر م�سيطرة َّ‬
‫متاما‪ ،‬من �أ�سبوعني تقري ًبا خطرت على‬ ‫النقاب وبابا راف�ض ً‬
‫بايل فكرة تانية ومتحم�سة ليها جدً ا‪ ،‬وهي �إين �ألب�س النقاب‬
‫‪241‬‬
‫يوم الفرح ب�إذن اهلل‪ ،‬ومن �ساعتها و�أنا فرحانة وحا�سة �إن فيه‬
‫�أمل بعد ما كنت يئ�ست �إن بابا يوافق‪.‬‬
‫بك جدً ا لو عملتي اخلطوة دي على فكرة‪ ،‬ربنا‬ ‫‪ -‬هبقى فخور ِ‬
‫يوفقك‪.‬‬
‫ملعت عيناها وقالت بحما�س‪:‬‬
‫‪ -‬اهلل امل�ستعان‪.‬‬
‫�ساد ال�صمت بينهما‪ ،‬فكل منهما كان يحاول جتميع �أفكاره قبل‬

‫ﻋﺼ‬
‫الدخول �إىل النقطة التالية‪ ،‬قطعت �سلمى ذلك ال�صمت قائلة‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬هقولك على موقف قد يكون تافه �شوية‪ ،‬ب�س وراه مو�ضوع مهم‬
‫حابة �أناق�شك فيه‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫نظر لها �إ�سالم بانتباه‪ ،‬فا�ست�أنفت‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬امبارح بابا طلب مني ُكباية �شاي‪ ،‬عملتها وو�أنا رايحة �أديهاله‬
‫وقعت بدون ق�صد على ال�سجادة وبهدلت الدنيا‪ ،‬وطار منها‬
‫ﺸﺮ‬

‫بع�ض النقط على ِرجل بابا‪� ،‬ساعتها بابا ات�ضايق جامد وزعق‬
‫وقايل كلمتني ل�سه م�أثرين َّيف حلد دلوقتي‪...‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫تنهدت بحزن عندما تذكرت املوقف و�أكملت‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ومن هنا ف�أنا حابة �أتفق معاك على حاجة‪ ،‬يا ريت يا �إ�سالم‬
‫منحا�سب�ش بع�ض على حاجة ملنا�ش ذنب فيها‪� ،‬أ�صل �أنت‬
‫بتلومني على �إيه! دي حاجة غ�صب عني ووارد حت�صل يف �أي‬
‫وقت‪ ،‬املواقف اللي زي دي لو اتكررت كتري واتكرر معاها اللوم‬
‫والعتاب اللي بي�صل يف بع�ض الأحيان لغلظة �شديدة �ساعتها‬
‫الزم ه�شيل منك والفجوة بيننا هتكرب‪ ،‬و�أنا م�ش عاوزة كده‬
‫�أبدً ا‪.‬‬
‫‪242‬‬
‫‪� -‬أنا متفهم جدً ا كالمك‪ ،‬و�إن الواحد ملا بيغلط غلط غري مق�صود‬
‫زي ده بيكون هو نف�سه مت�ضايق وم�ش ناق�ص �إن حد يقعد يلوم‬
‫عليه وي�ضايقه �أكرث‪.‬‬
‫‪ -‬من املواقف بردو اللي م�ش قادرة �أن�ساها‪ ،‬كنت يف املدر�سة مرة‬
‫ولقيت والدة طالب عندي يف ثانية ابتدائي بتقويل �إن ابنها‬
‫عنده تبول ال �إرادي وكل يوم بيقوم من النوم و�سريره غرقان‪،‬‬
‫وبت�س�ألني �أعاقبه ازاي عل�شان يبطل!‬

‫ﻋﺼ‬
‫ظهر الغ�ضب جل ًيا على وجهها وهي تتابع‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪� -‬أنت متخيل يا �إ�سالم! عاوزة تعاقب الولد عل�شان م�ش قادر‬
‫يتحكم يف نف�سه! عل�شان م�ش ق�صده! طيب هتعاقبيه على �إيه!‬
‫ﻜﺘ‬
‫الولد مري�ض يا نا�س وحمتاج عالج م�ش حمتاج �ضرب وعقاب!‬
‫حاولت �ساعتها بقدر الإمكان �أرد عليها بالراحة‪ ،‬ب�س حقيقي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كنت بغلي من جوايا‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬عندك حق يا �سلمى‪ ،‬هي �أكيد بتقول كده عل�شان املو�ضوع‬


‫مرهق بالن�سبالها‪ ،‬وعلى فكرة كلنا بنعمل كده باختالف‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫املواقف‪ ،‬يعني بنتع�صب ونت�ضايق ونلوم من غري ما نفكر � ً‬


‫أ�صل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫هل ال�شخ�ص اللي قدامنا ده ِغلط َغلط حقيقي ي�ستاهل نلومه‬


‫عليه وال لأ‪� ،‬أوعدك �إين هحاول �آخد بايل من النقطة دي يف‬
‫معاك‪ ،‬ويف تعاملي مع النا�س عامة ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫حياتي ِ‬
‫ابت�سمت �سلمى بامتنان‪ ،‬فقال �إ�سالم برتدد‪:‬‬
‫‪ -‬طيب باملرة خلينا نتفق على حاجة كمان‪.‬‬
‫ا�ستمعت �إليه �سلمى برتكيز وهو يقول‪:‬‬
‫‪243‬‬
‫‪ -‬عاوزين نتفق �إننا منحا�سب�ش بع�ض على �أي غلطة‪� ،‬أي تق�صري‬
‫يف حق ربنا �أو يف حق نف�سنا عملناه يف املا�ضي‪ ،‬عاوزين نن�سى‬
‫أنت حتكمي على ت�صرفات �إ�سالم من �أول ما‬ ‫اللي فات و� ِ‬
‫عرفتيه‪ ،‬و�أنا �أحكم على �سلمى اللي قدامي دلوقتي بدون ما‬
‫�أقعد �أفت�ش وراها عل�شان �أدور على غلطاتها ال�سابقة‪ ،‬وربنا‬
‫يغفر لنا زالتنا‪.‬‬
‫‪� -‬أنا موافقة جدً ا يا �إ�سالم‪� ،‬أنا ق�صرت يف حق ربنا كتري زمان‪،‬‬
‫فعل �إنك حتا�سبني على حاجة زي دي‪ ،‬وربنا يعفو‬ ‫وم�ش حابة ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫عنا‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ابت�سم �إ�سالم بارتياح وقال‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬متام اتفقنا‪ ،‬و�ضيفي مع االتفاقات كمان �إننا منطلع�ش �أ�سرار‬
‫بيتنا بعد الزواج �أبدً ا لأي حد‪ ،‬يعني حتى لو اتخانقنا �أو زعلنا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫من بع�ض الزم زعلنا يف�ضل ما بي ّنا حلد ما نت�صافى‪ ،‬لأن احنا‬
‫هنت�صالح وهنن�سى‪ ،‬لكن النا�س م�ش بتن�سى‪ ،‬وكمان ملا النا�س‬
‫ﺸﺮ‬

‫ِب ِت َّد َخل �ساعات امل�شكلة بتكرب �أكرت‪.‬‬


‫فعل حابة �أكلمك فيها‪ ،‬ربنا‬‫‪ -‬نقطة ممتازة يا �إ�سالم وكنت ً‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫يقدرنا‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ابت�سم و�س�أل‪:‬‬
‫‪ -‬فيه مو�ضوع تاين حابة تتكلمي فيه؟‬
‫‪ -‬ب�صراحة مفي�ش حاجة يف بايل حال ًيا‪.‬‬
‫نه�ض من مكانه وقال مبت�س ًما‪:‬‬
‫‪ -‬طيب �أنا ه�ست�أذن دلوقتي عل�شان معطلكي�ش �أكرث من كده‪،‬‬
‫ونتقابل بعد ما تخل�صي امتحانات ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫‪244‬‬
‫عندما الحظ والدها الذي كان ي�شاهدهما من بعيد �أن �إ�سالم نه�ض من‬
‫مكانه َع ِل َم �أنه �سيغادر‪ ،‬فاقرتب منهما وا�صطحب �إ�سالم �إىل باب املنزل‬
‫وهو يودعه‪ ،‬ثم ذهب �إىل غرفة نومه لي�سرتيح‪ ،‬يف تلك اللحظة نظرت‬
‫�سلمى �إىل ال�صندوق الرائع املو�ضوع على الطاولة وانت�شلت غطاءه بلهفة‪،‬‬
‫فلمعت عيناها وتلبدت بالغيوم وهي تقلب بني يديها قطع ال�شيكوالتة التي‬
‫اختارها �إ�سالم بعناية �شديدة‪ ،‬يبدو �أن هند �أخربته بالأنواع التي تف�ضلها‬
‫نوعا واحدً ا �إال و�أح�ضر منه قطعة حتى ملأ ال�صندوق بع�شرة‬ ‫فلم يرتك ً‬
‫قطع خمتلفة‪� ،‬أعادت �سلمى قطع ال�شيكوالتة �إىل ال�صندوق ونظرت �إىل‬

‫ﻋﺼ‬
‫باقة الزهور ال�ساكنة على الطاولة‪ ،‬تناولتها وجل�ست تنظر �إليها بفرحة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ومترر �أ�صابعها على زهورها زهرة زهرة‪ ،‬ثم احت�ضنتها بني ذراعيها وقد‬
‫�صرح قلبها بحب �إ�سالم‪ ...‬للمرة الأوىل‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪zzz‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أثناء عودتها من امتحان املادة الأوىل كانت تخفيه بداخل حقيبتها‪،‬‬


‫و�صلت �إىل منزلها وطرقت بابه مبتهجة‪ ،‬ف�أ�صدرت �صوتًا �أ�شبه بالنغمات‬
‫ﺸﺮ‬

‫املو�سيقية‪ ،‬فتحت والدتها بلهفة و�س�ألتها عما فعلت يف االمتحان‪ ،‬ف�أجابت‬


‫ﻭ‬

‫ب�أن االمتحان جاء �أف�ضل مما توقعت‪�ُ ،‬سرت الأم لذلك اخلرب كث ًريا‪،‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫احت�ضنت ابنتها ثم طلبت منها �أن تذهب لتبديل ثيابها‪ ،‬وعادت هي �إىل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫املطبخ لتنهي عملها‪� ،‬سارت �سلمى �إىل غرفتها وقلبها ينب�ض بقوة‪ ،‬دخلت‬
‫و�أغلقت الباب خلفها‪ ،‬فتحت حقيبتها و�أخرجته منها وو�ضعته �أمامها على‬
‫الفرا�ش وبد�أت تت�أمله‪ ،‬دفرت وردي اللون تزينه من الأمام وردات �صغرية‬
‫بعدة �ألوان‪ ،‬و�أطراف �صفحاته من الداخل تزينها جمموعة �ألوان ت�شبه‬
‫قو�س قزح‪ ،‬جل�ست على فرا�شها و�أخرجت قلمها وبد�أت تكتب‪:‬‬
‫حان وقت البوح‬
‫‪245‬‬
‫عزيزي �إ�سالم‪ ،‬ال �أخفيك �س ًرا مل �أعد �أ�ستطع كتمان ما بداخلي �أكرث‬
‫من ذلك‪ ،‬بداخلي الكثري من امل�شاعر جتاهك‪ ،‬ال �أعلم كيف حدث ذلك‪،‬‬
‫ولكن كل ما �أعلمه �أنني �أحببتك كث ًريا‪� ،‬س�أقولها �صريحة ولن �أنكرها بعد‬
‫اليوم‪� ،‬أنا �أحبك يا �إ�سالم و�أمتنى �أن يجمعنا اهلل على خري حتى �أ�ستطيع‬
‫�أن �أخربك بكل ما يدور بداخلي بال قيود‪ ،‬وحتى يحني ذلك الوقت �سيكون‬
‫هذا الدفرت هو مكاين لأحتدث معك بكلمات غري الكلمات‪ ،‬و�سرتاين هنا‬
‫ب�صورة خمتلفة عما تراها يف الواقع‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أتعلم؟ قلبي ينب�ض ب�شدة منذ ا�شرتيت هذا الدفرت‪ ،‬وابت�سامتي ما‬
‫زالت مر�سومة على وجهي‪ ،‬طوال الطريق �أنتظر بلهفة عودتي �إىل املنزل‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حتى �أكتب لك كلماتي الأوىل‪ ،‬باهلل عليك يا �إ�سالم كيف ا�ستطعت �أن‬
‫ﻜﺘ‬
‫تريح قلبي بحديثك معي يف كل مرة �إىل هذا احلد؟ كيف ا�ستطعت �أن‬
‫جتعلني �أنتظر زيارتك حتى �أ�ستمع �إىل كلماتك التي تر�ضي عقلي وقلبي؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كيف ا�ستطعت �أن جتعلني �أ�صدقك و�أثق بك �إىل هذا احلد؟‬


‫ﺸﺮ‬

‫علي �أن �أتريث وال �أعلق نف�سي‬


‫�أعلم �أننا ما زلنا يف البداية‪ ،‬ويجب َّ‬
‫بك كث ًريا حتى �أعرفك �أكرث مبرور الأيام‪ ،‬ولكنني ال �أ�ستطيع �أن �أوقف‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫تدافع تلك امل�شاعر بداخلي‪ ،‬لذلك ر�أيت �أن ذلك الدفرت هو احلل الأمثل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫لتفريغها‪ ،‬ومن اليوم �س�أنتظر تلك اللحظة التي �س�أهديك فيها هذا الدفرت‬
‫بعد عقد قراننا مبا�شرة‪ ،‬و�أرى يف عينيك فرحة بزوجتك التي �سعت بكل‬
‫طاقتها حتى حتافظ على قلبك ول�سانك عفي ًفا طوال فرتة ِ‬
‫اخلطبة‪ ،‬يا‬
‫رب‪ ،‬يا رب �أعنا على مرور تلك الفرتة على خري دون �أن نع�صيك‪.‬‬
‫�س�أذهب الآن لأ�ساعد �أمي يف حت�ضري الغداء‪ ،‬و�س�أعود يف وقت �آخر‬
‫ب�إذن اهلل لأحدثك بالكثري‪ ،‬ال�سالم عليك‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫ذ ّيلت ال�صفحة بتاريخ اليوم وال�ساعة والدقيقة‪ ،‬ثم خطفت نظرة‬
‫�سريعة �إىل الكلمات املكتوبة وعينيها ت�شع بهجة و�سرور‪� ،‬أغم�ضت عينيها‬
‫واحت�ضنت الدفرت ثم تركته على الفرا�ش وبد�أت بتبديل ثيابها‪ ،‬بعد‬
‫ارتدائها مالب�س املنزل تناولت الدفرت و�سارت به باجتاه خزانتها لتخبئه‬
‫بها‪ ،‬ولكنها عادت مرة �أخرى وفتحت �صفحة بي�ضاء تلي ال�صفحة التي‬
‫كتبت بها م�سب ًقا وكتبت‪:‬‬
‫يل؟ هاها �أمزح بالطبع‪ ،‬فقط‬ ‫لقد عدتُ من جديد‪ ،‬هل ا�شتقت إ� َّ‬
‫تذكرتُ �شي ًئا ما و�أريد �أن �أخربك به‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫� ْأتذ ُكر عندما �أتيت لزيارتي يف املرة الأخرية قبل امتحاناتي؟ � ْأتذ ُكر‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أي�ضا؟ مهما �أردتُ �أن‬‫باقة الورد التي �أح�ضرتها‪ ،‬و�صندوق ال�شيكوالتة � ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫�أ�صف لك فرحتي بتلك الهدية فلن �أ�ستطيع‪ ،‬ومهما �شكرتك على كلماتك‬
‫العذبة التي حتدثت بها وقتها لتطمئن قلبي فلن �أوفيك حقك‪ ،‬ومهما‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أظهرت لك امتناين لأنني مل �أ َر يف عينيك نظرة واحدة ُتبني �ضيقك من‬


‫أي�ضا‪� ،‬أ�شكرك ب�شدة‬‫�شحوب وجهي و�سوء حالتي حينها فلن �أوفيك حقك � ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫يا �إ�سالم‪� ،‬أ�شكرك على كل �شيء‪ ،‬حفظك اهلل يل يا عزيزي‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫للمرة الثانية ذيلت ال�صفحة بتاريخ اليوم وال�ساعة والدقيقة‪ ،‬ثم‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أغلقت الدفرت وخب�أته يف خزانتها بني كتبها‪ ،‬و�أثناء خروجها من الغرفة‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�سمعت رنني هاتفها‪� ،‬أم�سكت بحقيبتها و�أخرجت الهاتف‪ ،‬وملا ر�أت ا�سم‬
‫�إ�سالم ينري ال�شا�شة ارتع�شت يداها‪ ،‬خرجت من الغرفة ووقفت يف �صالة‬
‫املنزل ثم �أجابت بتوتر ممزوج بال�سعادة‪:‬‬
‫‪ -‬ال�سالم عليكم‪.‬‬
‫‪ -‬وعليكم ال�سالم ورحمة اهلل وبركاته‪ ،‬ازيك يا �سلمى ؟�أخبارك‬
‫�إيه؟‬
‫‪247‬‬
‫‪ -‬احلمد هلل يف �أح�سن حال‪.‬‬
‫‪ -‬طمنيني عملتي �إيه يف االمتحان؟‬
‫‪ -‬احلمد هلل‪ ،‬كان �أف�ضل مما توقعت يا �إ�سالم‪.‬‬
‫‪ -‬يعني افتكرتي الإجابات �أهو‪.‬‬
‫ابت�سمت بخجل وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬يف البداية مكنت�ش عارفة �أجاوب خال�ص‪ ،‬وبعد مرور ربع‬

‫ﻋﺼ‬
‫الوقت تقري ًبا افتكرت كل حاجة وك�أن الكتاب كان مفتوح‬
‫قدامي‪ ،‬احلمد هلل‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�شعر �إ�سالم ب�سعادة ال تو�صف‪ ،‬لأنه يف ذلك الوقت بالتحديد ك ّثف‬
‫ﻜﺘ‬
‫الدعاء لها ولهند‪ ،‬علم �أن اهلل تقبل دعاءه فابت�سم‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬هو بابا موجود؟‬


‫‪ -‬لأ ل�سه مرجع�ش من ال�شغل‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬خال�ص هبقى �أكلمك تاين يف وقت يكون موجود فيه ب�إذن اهلل‪،‬‬
‫ﻭ‬

‫عامة �أنا كنت عاوز �أقولك �إين رايح النهارده بعد ال�شغل انرتفيو‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫يف مطعم كبري حمتاج �شخ�ص يف احل�سابات‪ ،‬و�أنا متفائل املرة‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫دي‪ ،‬ادعيلي‪.‬‬
‫‪ -‬حا�ضر ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫‪ -‬يال �سالم عليكم‪.‬‬
‫ردت ال�سالم و�أغلقت اخلط‪ ،‬ثم نظرت �إىل الهاتف و�شردت‪ ،‬انت�شلها‬
‫نداء والدتها التي تطلب منها م�ساعدتها يف نقل الأطباق �إىل املائدة قبل‬
‫‪248‬‬
‫عودة والدها من �شرودها‪ ،‬و�ضعت الهاتف جان ًبا و�سارت م�سرعة تلبي‬
‫نداء والدتها وهي حتمد اهلل على نعمة وجود �إ�سالم يف حياتها‪ ،‬وتدعوه‬
‫�أن يحفظ قلبه ويدمي عليه عفته‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫‪� -‬أيوة يا دكتور كرمي‪� ،‬أنا م�ستنية ح�ضرتك جنب العربية‪.‬‬
‫وقفت تلك ال�شقراء التي ترقرق يف وجهها ماء اجلمال تنتظر حما�ضر‬
‫مادة ال�شعر بلهفة كبرية‪ ،‬و�ضعت هاتفها يف حقيبتها وبد�أت تفكر يف‬

‫ﻋﺼ‬
‫الطريقة املنا�سبة التي �ستبد أ� بها حديثها‪ ،‬مرت دقائق قليلة قبل �أن جتده‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ً‬
‫ماثل �أمامها مبت�س ًما ويقول‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫كنت حمتاجة حاجة؟‬ ‫‪ -‬خري يا فاطمة‪ِ ،‬‬
‫‪ -‬ح�ضرتك عارف �إن النهارده �آخر يوم يف االمتحانات‪ ،‬وكان‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫نف�سي �أبد�أ الإجازة و�أنا مب�سوطة‪ ،‬ب�س للأ�سف فيه كام �س�ؤال‬
‫هتجنن و�أعرف �أنا جاوبتهم �صح وال لأ‪ ،‬يا �إما هف�ضل خايفة‬
‫ﺸﺮ‬

‫حلد ما النتيجة تظهر‪� ،‬أنا عارفة �إين تقلت على ح�ضرتك كتري‬
‫الفرتة اللي فاتت‪ ،‬ب�س دي هتكون �آخر مرة‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬طيب ما هو �أنا كنت واقف مع الطالب بعد االمتحان علطول‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫وجاوبت على كل الأ�سئلة‪ ،‬ليه مكنتي�ش معاهم؟‬


‫مل تتوقع �س�ؤاله‪ ،‬توترت وبد�أت حبات العرق تتندى على جبينها‪ ،‬قالت‬
‫متلعثمة‪:‬‬
‫بي وكانت حمتاجة عالجها �ضروري لأنها‬‫‪� -‬أ�صل ماما ات�صلت َّ‬
‫اكت�ش ِفت �أنه خل�ص‪ ،‬روحت ب�سرعة ا�شرتيت غريه و�أديتهولها‬
‫وبعدين رجعت تاين‪.‬‬
‫‪249‬‬
‫�صدقها‪ ،‬و�س�أل‪:‬‬
‫أنت بيتك قريب من هنا؟‬
‫‪ِ �-‬‬
‫‪� -‬آه �شوية‪.‬‬
‫فتح باب ال�سيارة املجاور لهما‪� ،‬ألقى حقيبته اجللدية ال�صغرية يف‬
‫املقعد اخللفي ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬عام ًة �أنا كنت هروح �أتغدى دلوقتي و�أرجع اجلامعة تاين‬
‫عل�شان ل�سه عندي �شغل‪ ،‬لو حتبي تيجي معايا ونرجع �سوا تاين‬

‫ﻋﺼ‬
‫أنت عاوزاه‪.‬‬
‫�أنا معندي�ش م�شكلة‪ ،‬ويف الطريق ا�س�أيل اللي � ِ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫منده�شة �س�ألت‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪� -‬آجي فني؟‬
‫�ضاح ًكا �أجاب‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬يف املطعم‪� ،‬أنا بتغدى يف مطعم‪ ،‬واعتربيها عزومة مبنا�سبة‬


‫ان ِتهاء االمتحانات‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫هل �أخربته �أن قلبها الآن يرق�ص من الفرحة‪� ،‬أم �أن عينيها قامتا‬
‫ﻭ‬

‫باملهمة على �أكمل وجه؟ ت�ص ّنعت الرتدد‪ ،‬ولكنها مل ُتفلح هذه املرة‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وا�ستطاع كرمي �أن يرى كل �شيء يف عينيها‪� ،‬أ�شار �إليها �أن تركب دون �أن‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫يتحدث‪ ،‬فا�ستجابت وانطلق بها �إىل مطعمه املف�ضل‪.‬‬


‫وتخي منها ما يحبه ثم �س�ألها عما تريد‪،‬‬‫�أم�سك كرمي قائمة الطعام ّ‬
‫ف�أجابته بحرج وقالت ب�أنها �ستختار نف�س اختياره‪ ،‬نظر لها بابت�سامة‬
‫وا�سعة ثم �أمر النادل ب�إح�ضار الطعام‪ ،‬ويف وقت االنتظار بد�أ ي�س�ألها عن‬
‫والدتها املري�ضة‪ ،‬ف�أخربته �أن والدتها تعاين من بع�ض الآم العظام‪ ،‬و�أنها‬
‫هي فقط من ترعاها بعدما توفى والدها وتزوج �أخواها‪ ،‬ابت�سم كرمي‬
‫‪250‬‬
‫بحزن عندما تذكر والدته املتوفاة‪ ،‬و�أخربها ب�أن والدته توفيت وهو ابن‬
‫ت�سع �سنني‪ ،‬وبعدها تزوج والده ب�سيدة طيبة بد�أت ترعاه حتى ا�شتد عوده‪،‬‬
‫ثم طلب منه والده �أن ينتقل للطابق الثاين ويقيم فيه لأن زوجته �أ�صبحت‬
‫ت�شعر باحلرج منه وال ت�ستطيع �أن تتحرك يف بيتها ب�أريحية يف وجوده‪،‬‬
‫ومن يومها وهو على هذه احلالة‪ ،‬يجل�س وحيدً ا يف �شقته معظم اليوم‪،‬‬
‫ويهبط من وقت لآخر لريى والده و�أخيه ال�صغري و�أحيا ًنا قليلة يتناول‬
‫معهما الطعام‪� ،‬شعرت فاطمة بال�شفقة جتاهه‪ ،‬ظهر ذلك يف عينيها‪،‬‬
‫متنت لو ا�ستطاعت �إخباره ب�أنها على �أمت ا�ستعداد � ّأل ترتكه وحيدً ا بعد‬

‫ﻋﺼ‬
‫اليوم‪ ،‬ولكنها مل ت�ستطع‪� ،‬أح�ضر النادل الطعام املطلوب‪ ،‬ويف �أثناء تناول‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الطعام حتدثا م ًعا يف �أمور عدة‪ ،‬ثم خرجا من املطعم ي�سري �أحدهما‬
‫بجوار الآخر‪ ،‬ركبت ال�سيارة معه‪ ،‬ا�ستغلت ان�شغاله بالقيادة وبد�أت تدقق‬
‫ﻜﺘ‬
‫النظر يف مالحمه‪ ،‬كانت لديه م�سحة من الو�سامة‪ ،‬ب�شرته القمحية‪،‬‬
‫عيناه العميقتان وحاجباه الكثيفان جعال لنظراته �أث ًرا حمب ًبا على‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫نف�سها‪� ،‬شردت للحظة ور�أت نف�سها تقف �إىل جواره بف�ستانها الأبي�ض‪،‬‬
‫حلم بعيد يراودها كل يوم‪ ،‬ولكنها عزمت على حتقيقه مهما كلفها الأمر‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫مرت الدقائق حتى اقرتبت من منزلها‪ ،‬تركت �أحالمها جان ًبا وبد�أت‬
‫ﻭ‬

‫مودعا وعاد‬
‫ت�صف له املكان حتى و�صلت �إىل بيتها‪ ،‬تركها �أمام البناية ً‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�إىل عمله مرة �أخرى‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪zzz‬‬
‫و�ضعت والدة �إ�سالم طعام الفطور على الطاولة وجل�ست يف انتظاره‬
‫حتى ينتهي من ارتداء مالب�سه التي �سيذهب بها �إىل عمله‪ ،‬طال انتظارها‬
‫ف�شعرت بالقلق‪ ،‬نه�ضت و�سارت بهدوء نحو غرفته‪ ،‬طرقت الباب مرتني‬
‫فقال �إ�سالم‪:‬‬
‫‪251‬‬
‫‪ -‬اتف�ضلي يا ماما‪.‬‬
‫�أمالت املقب�ض وحركت الباب‪ ،‬ثم نظرت �إىل ولدها الذي يجل�س‬
‫وحيدً ا بزاوية غرفته وقالت بتعجب‪:‬‬
‫‪ -‬قاعد بتعمل �إيه يا �إ�سالم؟ جميت�ش تفطر ليه؟‬
‫‪ -‬كنت بفكر يف حاجة كده‪ ،‬عامة مت�شغلي�ش بالك يا حبيبتي‪ ،‬يال‬
‫نفطر‪.‬‬
‫اقرتبت منه والدته وابت�سمت‪ ،‬جل�ست على الفرا�ش �أمامه وقالت‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬طيب ممكن ت�شاركني معاك؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫تنهد بحرية و�أردف‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬مبا �إن �سلمى خل�صت امتحانات فاملفرو�ض �إين هروح الزيارة‬
‫اجلاية �أتفق على اليوم اللي هنجيب فيه ال�شبكة زي ما وعدتها‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫دلوقتي �أ�سعار الذهب بقت عالية �أوي يا �أمي وكده معظم‬


‫فلو�سي هتخل�ص‪ ،‬م�ش عارف بجد �أت�صرف ازاي وهكمل باقي‬
‫ﺸﺮ‬

‫اجلهاز منني!‬
‫‪ -‬ل�سه حمد�ش كلمك من املطعم اللي عملت فيه املقابلة �آخر‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مرة؟‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫زم �شفتيه وحرك ر�أ�سه ناف ًيا‪ ،‬قالت والدته بح�سم‪:‬‬


‫‪ -‬م�ش �أنت متم�سك بالبنت؟‬
‫‪ -‬جدً ا يا �أمي‪.‬‬
‫‪ -‬يبقى هتكون راجل قد كلمتك وهتجيب ال�شبكة زي ما اتفقت‬
‫مع والدها‪ ،‬وبعدها تثق �إن ربك هيدبرها من حيث ال حتت�سب‪.‬‬
‫ثم غمزت له وقالت‪:‬‬
‫‪252‬‬
‫‪ -‬م�ش �أنت بردو اللي دا ًميا تكلمنا عن الثقة يف اهلل‪ ،‬وال �أنا‬
‫غلطانة؟‬
‫علي من �سعي ودعاء وهتوكل‬ ‫‪ -‬عندك حق يا ماما‪� ،‬أنا هعمل اللي َّ‬
‫على اهلل‪ ،‬وربنا يي�سرها‪.‬‬
‫نظرت له والدته م�ؤيدة‪ ،‬ثم ا�صطحبته �إىل الطاولة لتناول فطوره‪.‬‬
‫بعد ثالثة �أيام و�أثناء عودته من عمله �سمع رنني هاتفه املحمول‪،‬‬
‫�أخرجه بفتور‪ ،‬وملا علم �أنها �سلمى ُنق�شت ابت�سامة كبرية على وجهه‪� ،‬شعر‬

‫ﻋﺼ‬
‫باحلنني �إليها‪ ،‬ف�إنه مل ي�ستمع �إىل �صوتها منذ عدة �أيام‪ ،‬ومل يرها منذ‬
‫�أكرث من �شهر‪ ،‬حاول �ضبط انفعاالته قبل �أن يرد عليها كما حاولت هي‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الأخرى ال�سيطرة على ارتعا�شة يدها‪� ،‬أجابها وحياها‪� ،‬س�ألها عن �أحوالها‬
‫ﻜﺘ‬
‫و�أحوال �أ�سرتها‪ ،‬وفعلت هي مثل ما فعل‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫‪ -‬عاوزة �أقولك على خرب هيفرحك ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ا�ستمع لها بانتباه ف�أردفت‪:‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬بابا وافق �إنك جتيب ن�صف ال�شبكة دلوقتي والباقي ملا ربنا‬
‫يرزقك ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�إنه يتخيل‪ ،‬هكذا �أكد لنف�سه‪� ،‬أو رمبا مل تلتقط �أذنيه الكلمات بدقة‪،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫متحججا ب�أنه مل ي�سمعها بو�ضوح‪ ،‬وملا �أعادت جملتها‬


‫ً‬ ‫طلب منها التكرار‬
‫متاما مثل �سابقتها‪ ،‬ات�سعت عيناه وخفق قلبه‪� ،‬س�ألها‪:‬‬
‫وكانت ً‬
‫أنت بتتكلمي بجد؟‬
‫‪ِ �-‬‬
‫قالت بفرحة‪:‬‬
‫‪� -‬أيوة واهلل‪.‬‬
‫‪ -‬ازاي وافق فج�أة كده؟!‬
‫‪253‬‬
‫‪ -‬ميكن عل�شان ا�ستخدمت �سالحي!‬
‫قالتها بب�ساطة‪ ،‬بينما نظر والدها �إليها بذهول‪ ،‬وكذلك فعل �إ�سالم‬
‫و�س�أل‪:‬‬
‫‪� -‬سالح �إيه؟!‬
‫�أجابت بثقة‪:‬‬
‫‪� -‬سالحي اللي هو الدعاء‪ ،‬كنت بدعي ربنا كتري الفرتة اللي‬
‫فاتت عل�شان املو�ضوع ده‪ ،‬وكنت واثقة �إنها هتتي�سر‪ ،‬وب�صراحة‬

‫ﻋﺼ‬
‫زنيت على بابا �شوية بردو‪ ،‬واحلمد هلل النهارده قايل �أكلمك‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫و�أقولك �إنه موافق‪.‬‬
‫�أراد �إ�سالم �أن يتحدث مع والدها لي�شكره بنف�سه‪� ،‬أعطت �سلمى‬
‫ﻜﺘ‬
‫الهاتف لذلك اجلال�س �إىل جوارها‪ ،‬فقال �إ�سالم‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ب�صراحة يا عمي �أنا م�ش عارف �أ�شكر ح�ضرتك ازاي‪ ،‬و�أوعدك‬


‫�إين هجيب باقي ال�شبكة اللي اتفقنا عليها �أول ما ظرويف ت�سمح‬
‫ﺸﺮ‬

‫ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫‪� -‬شوف يا �إ�سالم‪� ،‬أنا مكنت�ش هعمل كده لوال �إين ات�أكدت بنف�سي‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫من �أخالقك ولقيتك بتحاول حتافظ على بنتي وتراعي ربنا‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫فيها حتى يف مكاملاتك‪ ،‬فطول ما �أنت كده �أنا هقف معاك زي‬
‫ما تكون ابني‪ ،‬ب�س لو جيت يف يوم وظلمتها فت�أكد �إين �أول واحد‬
‫هيقف قدامك ويجيب حق بنته‪.‬‬
‫‪� -‬سلمى طيبة وت�ستاهل كل خري يا عمي‪� ،‬أوعدك �إين هحاول‬
‫دا ًميا �أراعي ربنا فيها عل�شان خويف من ربنا قبل �أي �شيء‪.‬‬
‫‪ -‬متام يا �إ�سالم‪ ،‬ه�ستناك بكره عل�شان نتفق على اليوم اللي‬
‫هننزل جنيب فيه ال�شبكة‪.‬‬
‫‪254‬‬
‫‪ -‬ب�أمر اهلل يا عمي‪.‬‬
‫�أعطى ال�سيد طارق الهاتف البنته‪ ،‬فقال �إ�سالم بامتنان‪:‬‬
‫‪� -‬أنا ب�شكرك جدً ا يا �سلمى على كل حاجة‪.‬‬
‫‪ -‬ال�شكر هلل‪� ،‬أنا معملت�ش حاجة‪ ،‬ربنا يي�سرلك �أمورك‪.‬‬
‫‪ -‬يا رب‪ ،‬نتقابل بكره ب�إذن اهلل‪� ،‬سالم عليكم‪.‬‬
‫ردت ال�سالم و�أغلقت اخلط‪ ،‬ثم هربت �إىل دفرتها لتكمل حديثها معه‬
‫هناك‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪zzz‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫م�ساء اليوم التايل �أدى �إ�سالم �صالة املغرب يف امل�سجد القريب من‬
‫ﻜﺘ‬
‫منزله ثم عاد وارتدى مالب�سه‪ ،‬تعطر و�صفف �شعره‪ ،‬بعدها هبط �إىل‬
‫ال�شارع و�سار وهو يحمل هديتها بني يديه حتى و�صل �إيل منزلها‪� ،‬صعد‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�إىل البناية‪ ،‬طرق الباب ففتح والدها وجل�س معه لبع�ض الوقت ليتناق�شا‬
‫يف بع�ض الأمور‪ ،‬بعدها ح�ضرت العرو�س‪ ،‬كانت �أف�ضل ً‬
‫حال من املرة‬
‫ﺸﺮ‬

‫ال�سابقة‪ ،‬فابت�سم �إ�سالم بتلقائية ووقف وحياها‪ ،‬نظرت له بامتنان وردت‬


‫ﻭ‬

‫ال�سالم ثم خف�ضت ب�صرها وجل�ست يف مكانها املعتاد‪ ،‬بد�أ �إ�سالم حديثه‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫أنت عملتيه معايا ده �أنا عمري ما هن�ساه ب�إذن‬


‫‪ -‬املوقف اللي � ِ‬
‫اهلل‪.‬‬
‫ابت�سمت ابت�سامة دافئة ممتنة ومل تتحدث‪ ،‬فا�ست�أنف �إ�سالم‪:‬‬
‫‪ -‬كنت بتكلم مع عمي من �شوية واتفقنا �إننا هرنوح يوم اخلمي�س‬
‫�إن �شاء اهلل ن�شرتي ن�صف ال�شبكة‪ ،‬وبعدها نبد�أ جنهز ال�شقة‬
‫علطول‪ ،‬يعني نقدر نقول �إننا ممكن نعمل الفرح بعد �سبع �شهور‬
‫‪255‬‬
‫ً‬
‫مثل بدل ما كانوا هيبقوا �سنة ون�ص‪� ،‬إيه ر�أيك يف الكالم ده‪،‬‬
‫موافقة؟‬
‫بحيائها املعتاد وحرجها الوا�ضح متتمت‪:‬‬
‫‪ -‬موافقة‪.‬‬
‫‪ -‬فيه حاجة كمان فكرت فيها من بعد مكاملتك امبارح وكنت‬
‫حابب �أقولك عليها‪.‬‬
‫م ّفة الف�ضول‪ ،‬قال �إ�سالم‪:‬‬ ‫ً‬
‫حممول على ِ َ‬ ‫�أطل االهتمام من عينيها‬

‫ﻋﺼ‬
‫فيك مميزات �أي �شاب يتمناها‬
‫‪ -‬يف الفرتة اللي فاتت �أنا �شوفت ِ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يف زوجته‪ ،‬وتقري ًبا عرفت عنك كل احلاجات ال�ضرورية اللي‬
‫كنت حمتاج �أعرفها‪ ،‬عل�شان كده �أنا متطمن وم�ستعد من‬
‫ﻜﺘ‬
‫دلوقتي �إين �أكتب الكتاب‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ت�سارعت نب�ضاتها وتوردت وجنتاها نتيجة لكلماته تلك‪ ،‬ا�ست�أنف‬


‫�إ�سالم بعد وهلة‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ه�ستنى موافقتك على خطوة كتب الكتاب يف �أي حلظة‪،‬‬


‫املو�ضوع مفيهو�ش �أي جمامالت‪ ،‬فكري براحتك وخدي وقتك‪،‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أنت عايزاه واعرفيني كوي�س‪ ،‬وملا حت�سي‬


‫ا�س�أليني عن كل اللي � ِ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�إنك خال�ص مرتاحة وموافقة بلغيني‪ ،‬و�أنا وقتها هقول لعمي‬


‫ون�شوف هنعمل �إيه‪.‬‬
‫‪ -‬حا�ضر ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫�سمعا م ًعا النداء ل�صالة الع�شاء‪ ،‬قاال مثل ما قال امل�ؤذن ثم هبط‬
‫�إ�سالم �إىل ال�صالة ب�صحبة ال�سيد طارق‪� ،‬أطل ال�شغف من عني �سلمى‬
‫وهي تنظر �إىل ذلك املغلف الذي و�ضعه �إ�سالم على الطاولة‪� ،‬أرادت ب�شدة‬
‫�أن تعرف حمتواه ولكنها �آثرت االنتظار حتى يغادر �إ�سالم‪ ،‬بجوار املغلف‬
‫‪256‬‬
‫ملحت �سلمى هاتف �إ�سالم فتذكرت تلك اجلملة التي قالتها هند منذ فرتة‬
‫وهي ت�ضحك‪:‬‬
‫أنت لو ُ�شفتي ا�سمك على موبايله هتعريف �إنه عاي�ش الدور‬
‫‪ -‬ما � ِ‬
‫ً‬
‫فعل‪.‬‬
‫�أرادت ب�شدة �أن تعرف ما هذا اال�سم الذي تتحدث عنه هند‪ ،‬ولكن‬
‫هند �أبت و�ضحكت مرة �أخرى لتثري غيظها‪ ،‬وها هي الفر�صة جاءت‬
‫�أمامها ولن ترتكها‪ ،‬هرولت م�سرعة �إىل غرفتها‪� ،‬أم�سكت بهاتفها وقامت‬

‫ﻋﺼ‬
‫باالت�صال على �إ�سالم‪ ،‬و�أثناء عودتها �إىل �صالة املنزل �سمعت نغمة رنني‬
‫هاتفه‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�أنا ليه بتوه و�سط الب�شر نا�سي و�أ�شيل الآخرة من را�سي‬
‫ﻜﺘ‬
‫وعارف �إين بكره هكون ذكرى ويف الرتاب مدفون‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مبعمل�ش ح�ساب ليها مفي�ش يف �إيديا �أعديها‬


‫ِ‬ ‫طب ليه‬
‫دى حلظة �أنا و�أنت هن�شوفها تروح الروح لباريها‬
‫ﺸﺮ‬

‫دابة م�سيخ دجال واملهدي �صراط من�صوب وعلى النار عدي‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وعلى الفردو�س تروح وت�شوف نبينا يف �سكتك‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫موت وقيامة بعث ونار جنة خوف وعط�ش وتقف ت�ستنى‬


‫(((‬
‫ثواب وعقاب �أمل وعذاب يا رب رحمتك‬
‫ن�سيت �سلمى ما جاءت لأجله وان�شغلت ب�سماع كلمات الأن�شودة‪،‬‬
‫�أعجبتها ب�شدة والم�ست قلبها‪� ،‬أرادت �أن ت�سمعها مرة �أخرى وحتفظ ولو‬
‫جز ًءا ي�س ًريا منها حتى ت�ستطيع البحث عنها على �شبكة الإنرتنت‪ ،‬قامت‬

‫((( كلامت وإنشاد‪ :‬أحمد وجدي‬


‫‪257‬‬
‫باالت�صال ب�إ�سالم مرة �أخرى‪ ،‬ا�ستمعت للمقطع الأول للأن�شودة‪ ،‬حفظته‪،‬‬
‫ثم ا�ستقرت عيناها على �شا�شة الهاتف الذي �أنار بجملة (رفيقتي �إىل‬
‫اجلنة)‪ ،‬وهنا ات�سعت عيناها‪ ،‬ات�سعت ب�شدة‪� ،‬شعرت بفرحة حقيقية‬
‫اجتاحت قلبها‪� ،‬أرادت �أن ُتخربه ب�أنها حتلم طوال الوقت �أن تكون رفيقته‬
‫يف الدنيا والآخرة حتى من قبل �أن ترى ا�سمها املنقو�ش على هاتفه‪ ،‬ولكنها‬
‫الآن علمت �أنه يحلم باحللم ذاته‪ ،‬فزادت عزميتها وزاد �إ�صرارها‪ ،‬وقررت‬
‫�أن تبذل ق�صارى جهدها حتى حتافظ على هذا الكنز الثمني‪ ،‬وتعينه‬
‫على التقرب �أكرث من اهلل عز وجل‪ُ ،‬خيل �إليها �أنها ت�سمع خطوات �أقدام‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أحدهم تقرتب من باب املنزل‪ ،‬وتذكرت �أنها مل ت ؤ� ِد �صالتها‪ ،‬فهرولت‬

‫‪z‬‬ ‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�إىل غرفتها لت�أدية �صالتها ومن ثم تعود لت�ست�أنف حديثها معه من جديد‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪258‬‬
‫‪-9-‬‬

‫وبعد انتظار دام ل�سنوات‪ ،‬وبعد �أحالم كانت ل�ساعات‪ ،‬وبعد �صرب‬
‫و�شوق لتحقيق تلك الأمنيات فقد اقرتبت اللحظة‪ ،‬اقرتبت اللحظة‬

‫ﻋﺼ‬
‫التي ظل يتخيلها فاروق رمبا ملئات املرات‪ ،‬تلك اللحظة التي �سيم�سك‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫فيها بيد نهى ويقب�ض عليها بقوة وهو يعلن للعامل �أجمع �أنها من الآن‬
‫ما عادت �أجنبية عنه‪ ،‬نعم فقد �أ�صبحت زوجته ورفيقته التي لن يرتكها‬
‫ﻜﺘ‬
‫�أبدً ا مهما حدث‪� ،‬ساعات قليلة فقط تف�صله عن حتقيق حلمه‪� ،‬ساعات‬
‫ويراها �أمامه ويخربها عن كل �شيء خب�أه عنها منذ �أن نب�ض قلبه بحبها‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ال ي�ستطيع �أن يغم�ض له جفن من فرط �سعادته‪ ،‬ي�شعر وك�أنها حوله يف‬
‫كل مكان‪ ،‬ي�شعر ب�أنها ت�ضحك هنا وهناك وتخربه هي الأخرى مبا يعتمل‬
‫ﺸﺮ‬

‫قلبها من م�شاعر‪ ،‬مل ي�شعر بوالده الذي يقف �أمامه منذ خم�س دقائق‬
‫ﻭ‬

‫ويراقب انفعاالته وتعبريات وجهه ب�سعادة‪ ،‬ا�ستغاثت قدما الوالد طل ًبا‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫للراحة فجل�س على الفرا�ش بجوار فاروق الذي �أفاق فج�أة وهو ينظر �إىل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫والده بده�شة‪ ،‬ابت�سم الأب وقال مبرح‪:‬‬


‫‪ -‬م�ش هننام النهارده وال �إيه يا عم فاروق؟ الفرحة ن�ستك �إن‬
‫عندك �شغل ال�صبح!‬
‫‪ -‬حا�ضر هحاول �أنام دلوقتي �إن �شاء اهلل‪.‬‬
‫قالها وقد نطق وجهه بجزء ي�سري مما ي�شعر به من فرحة‪ ،‬فر ّبت الأب‬
‫على كتفه وابت�سم مرة �أخرى ثم غادر الغرفة‪� ،‬صبيحة اليوم التايل ذهب‬
‫‪259‬‬
‫فاروق �إىل عمله كعادته ولكنه عاد بعد �صالة الظهر مبا�شرة بعدما �أعطاه‬
‫مدير ال�شركة ما تبقى من اليوم �إجازة كمباركة له على عقد قرانه‪ ،‬تناول‬
‫طعاما �سري ًعا ثم بد�أ ي�ستعد ليظهر �أمام عرو�سه ب�أبهى �صورة‪.‬‬
‫ً‬
‫ل الطابق الأول‬ ‫الثالثة ع�ص ًرا قبل �صالة الع�صر بربع ال�ساعة امت أ‬
‫بامل�سجد القريب من منزل فاروق بالرجال‪ ،‬بينما اكتظ م�صلى الن�ساء‬
‫ال�صغري الذي يعلو امل�سجد بالن�ساء من �أهل العرو�سني‪ ،‬كانت نهى ترتدي‬
‫ف�ستا ًنا وردي اللون‪ ،‬وتغطي ر�أ�سها بحجاب ق�صري وت�ضع القليل من‬

‫ﻋﺼ‬
‫م�ستح�ضرات التجميل‪ ،‬تلك الفتاة الودودة رقيقة القلب كانت تقف يف‬
‫�أحد �أركان امل�سجد وقلبها يخفق ب�شدة‪ ،‬بد�أت ت�ستمع �إىل كلمات ال�شيخ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ون�صائحه للعرو�سني وهي تنوي من كل قلبها �أن تنفذ ما يقوله و�أكرث‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫خلطبة �سري ًعا‪ ،‬ووجدت نف�سها بعد حلظات ت�سمع نف�س ال�صوت‬ ‫انتهت ا ُ‬
‫وهو يقول‪ :‬بارك اهلل لكما وبارك عليكما وجمع بينكما يف خري‪ .‬وجميع‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫من بامل�سجد يرددون خلفه‪ ،‬تلك الأحا�سي�س التي �شعرت بها وقتها ال‬
‫ومباركات ت�أتيها من كل مكان‬
‫ٍ‬ ‫ميكن �أن ت�صفها كلمات‪ ،‬وجدت �أح�ضا ًنا‬
‫ﺸﺮ‬

‫فدمعت عيناها‪ ،‬وارت�سمت على �شفتيها ابت�سامة جميلة‪ ،‬بالأ�سفل وقف‬


‫ﻭ‬

‫فاروق ينظر حوله بده�شة‪ ،‬هل ما التقطته �أذناه قبل قليل واقع بالفعل!‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أم �أن هذا جمرد حلم من �أحالمه التي ال تنتهي! وقف ي�س�أل �إ�سالم الذي‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫كان يقف �إىل جواره هل ح ًقا �أ�صبحت نهى زوجته؟ هل ي�ستطيع الآن �أن‬
‫يخربها بتلك امل�شاعر التي كان يكتمها عنها منذ �سنوات؟ هل ي�ستطيع �أن‬
‫ينظر �إليها وقتما �شاء ويحدثها كيفما �شاء؟ وملا �أجاب �إ�سالم بالإيجاب‬
‫مل ي�صدقه وذهب ي�س�أل والده نف�س الأ�سئلة‪ ،‬ف�ضحك الوالد وبد�أ يدفعه‬
‫بيديه وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬اطلع طيب خد عرو�ستك من فوق و�أنت ت�صدق بنف�سك‪.‬‬
‫‪260‬‬
‫�سمع فاروق تلك اجلملة واختفى من �أمام والده‪� ،‬سار ب�سرعة باجتاه‬
‫م�صلى الن�ساء‪ ،‬بد�أ ي�صعد الدرج وقلبه يدق مع كل خطوة‪ ،‬ويف عينيه لهفة‬
‫لر�ؤيتها تكاد تخرجهما من حمجريهما‪ ،‬كانت نهى تقف بانتظاره على‬
‫ال�س َّلم‪ ،‬وملا التقت عيناه بعينيها وقف لربهة م�شدوهً ا‪،‬‬
‫الدرجة ال ُعليا من ُ‬
‫كيف �أ�صبحت جميلة �إىل هذا احلد! وقف يت�أملها لبع�ض الوقت حتى �سمع‬
‫�صوتها الرقيق يقول‪:‬‬
‫‪� -‬آجي �أنا طيب؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫هز ر�أ�سه لي�ستفيق ثم تابع �صعوده حتى و�صل �إليها‪ ،‬وقف �أمامها‬
‫مبا�شرة‪ ،‬اقرتب منها كما مل يقرتب من قبل‪� ،‬أمعن النظر يف وجهها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وعلى وجهه ابت�سامة و�ضاءة‪ ،‬ثم �أم�سك بر�أ�سها ولثم جبينها ومتتم بحب‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬و�أخ ًريا بقيتي َّ‬
‫يل‪ ،‬اللهم لك احلمد‪.‬‬
‫ارجتف ف�ؤادها‪ ،‬انتف�ض ج�سدها و�شعرت بحرارة جتتاحه كله‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ا�ضطربت وتلعثمت حروفها‪ ،‬ا�ستجمعت قواها ونطقت ويف عينيها تلألأت‬


‫الدموع‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬احلمد هلل يا فاروق‪ ،‬احلمد هلل‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ح�ضرت والدته التي كانت تقف خلف العرو�س واحت�ضنته وهن�أته على‬
‫عقد قرانه‪ ،‬وبجوارها وقفت والدة نهى وهن�أت فاروق وطلبت منه �أن ي�ضع‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ابنتها يف عينيه‪ ،‬وعدها بذلك‪ ،‬فابت�سمت نهى بامتنان‪ ،‬ثم دخلت امل�سجد‬
‫وارتدت غطا ًء لر�أ�سها ووجهها‪ ،‬ثم و�ضعت يدها املرتع�شة بيد زوجها‪،‬‬
‫و�سارت �إىل جواره حتى و�صلت �إىل منزلها‪.‬‬
‫دخلت نهى �إىل غرفتها‪ ،‬نزعت خمارها ونقابها وعدلت من هيئة‬
‫حجابها ثم عادت �إىل زوجها‪ ،‬وملا ر�آها والدها ا�ست�أذن من فاروق‬
‫وا�صطحب زوجته وغادرا املكان ليرتكا لهما م�ساحة من احلرية‪ ،‬جل�ست‬
‫‪261‬‬
‫أر�ضا‪ ،‬كانت ت�شعر باحلرج ال�شديد من‬‫نهى على مقربة منه ونظرت � ً‬
‫جلو�سها �إىل جواره بهذه الطريقة‪� ،‬أم�سك بذقنها ورفع وجهها �إليه‪ ،‬نظر‬
‫�إليها بعيون ت�شع فرحة وهم�س‪:‬‬
‫‪� -‬أنا بحبك يا نهى‪ ،‬بحبك من زمان �أوي‪.‬‬
‫�شعرت بدقات متزايدة بخافقها‪ ،‬ارتع�ش ج�سدها بطريقة ملحوظة‪،‬‬
‫الحظ فاروق توترها ف�أم�سك بكفيها و�ضمهما بداخل كفيه‪ ،‬ر�سم على‬
‫وجهه ابت�سامة حنونة وهو ينظر �إليها ومل يتحدث‪ ،‬فنزلت ال�سكينة على‬

‫ﻋﺼ‬
‫قلبها‪ ،‬و�شعرت ب�سعادة عارمة تغمر كيانها‪ ،‬مزَّقت ال�صمت ب�س�ؤال قذفه‬
‫الف�ضول �إىل عقلها‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬يعني �إيه بتحبني من زمان �أوي؟‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬دي ق�صة طويلة‪ ،‬طويلة جدً ا‪ ،‬حتبي ت�سمعيها دلوقتي؟‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها بحما�س‪ ،‬فتنف�س فاروق بعمق وقال‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬من واحنا �صغريين ملا كنت باجي �ألعب مع حممد قدام بيتكم‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫كنت دا ًميا ب�شوفك واقفة من بعيد بتتفرجي علينا‪ ،‬وملا كنت‬


‫كنت بتتك�سفي وجتري على جوا‪ ،‬كنت‬ ‫بقولك تعايل العبي معانا ِ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أنت مك�سوفة وبتعمد كل مرة �أقولك تلعبي معانا‬ ‫بحب �أ�شوفك و� ِ‬


‫عل�شان �أ�شوفك بال�شكل ده‪ ،‬ملا كربنا �شوية وبقينا يف �إعدادي‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫لقيتك احتجبتي ومبقيتي�ش تخرجي تتفرجي علينا زي الأول‪،‬‬


‫ح�سيت �إن ناق�صني حاجة‪ ،‬فكنت بتعمد �آجي من املدر�سة‬
‫أنت جاية من املدر�سة‪،‬‬
‫بدري و�أقف عند بيتكم عل�شان �أ�شوفك و� ِ‬
‫مثل عرفت من ال�شيخ يف �صالة اجلمعة �إن فيه‬ ‫بعدها ب�سنتني ً‬
‫حاجة ا�سمها غ�ض الب�صر‪ ،‬و�إن ربنا �أمرين مب�ص�ش على �أي‬
‫علي‬
‫بنت �أو �ست م�ش من حمارمي‪ ،‬كان املو�ضوع �صعب جدً ا َّ‬
‫‪262‬‬
‫عليك �أرجع �أ�ستغفر ربنا‬
‫يف البداية‪ ،‬ب�س كنت كل مرة �أب�ص ِ‬
‫و�أقول لنف�سي �إن ر�ضا ربنا �أهم من �أي حاجة و�أرجع �أجاهد‬
‫من تاين‪ ،‬ملا دخلت ثانوي بد�أت �أفهم م�شاعري �أكرث‪ ،‬بد�أت‬
‫�أح�س �إن نهى دي هي البنت اللي نف�سي �أكمل معاها حياتي‪،‬‬
‫بد�أت �أت�أكد �إن حبك عمال يكرب جوايا‪ ،‬قعدت ا�س�أل نف�سي‬
‫طيب و�أنت هتعمل �إيه دلوقتي؟! لقيت �إين م�ش قدامي غري‬
‫�إين ا�ستنى ملا �أتخرج و�أ�شتغل عل�شان �أعرف �أتقدملك‪ ،‬ومن‬
‫عليك من نف�سي ومن‬
‫يومها �أخدت عهد على نف�سي �إين �أحافظ ِ‬

‫ﻋﺼ‬
‫نظراتي وحماول�ش �ألفت انتباهك ب�أي طريقة‪ ،‬وكنت على يقني‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫من �إن ربنا هريا�ضيني يف النهاية‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫تناول كوب املياه املو�ضوع على املن�ضدة وارت�شف منه ر�شفة ثم �أردف‪:‬‬
‫‪ -‬كان دا ًميا حممد اهلل يرحمه بيحكيلي عن حنانك عليه وعن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫فيك كتري �أوي قدامي‪،‬‬‫�أخالقك و�صفاتك الطيبة‪ ،‬كان بي�شكر ِ‬


‫كنت ببقى عاوز �أ�صرخ و�أقوله كفاية حرام عليك �أنا �صابر‬
‫ﺸﺮ‬

‫بيخليك تكربي يف نظري �أكرث‬


‫ِ‬ ‫أ�سا�سا‪ ،‬كالمه كان‬
‫بالعافية � ً‬
‫بيك يزيد‪ ،‬كنت وقتها بقول البنت الطيبة دي‬ ‫وحبي وتعلقي ِ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ت�ستاهل �شخ�ص طيب زيها‪ ،‬وكنت بتمنى من كل قلبي �أكون �أنا‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫الطيب ده‪.‬‬
‫ب�سحب تنذر بهطول دمعها‪ ،‬نظر �إليها فاروق بحب‬
‫�أدلهمت عيناها ُ‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪ -‬حتى واحنا خمطوبني كنت بقول البنت دي نقية وقلبها ن�ضيف‪،‬‬
‫حافظت عليه ال�سنني دي كلها و�ألوثه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫فم�ستحيل �آجي �أنا بعد ما‬
‫عل�شان كده كنت بحاول �أقلل الزيارات ومكاملات التليفون على‬
‫علي‬
‫قد ما �أقدر‪ ،‬كنت خايف جدً ا �أتنازل‪ ،‬املو�ضوع كان �صعب َّ‬
‫‪263‬‬
‫أنت قدامي وم�ش قادر �أعربلك عن‬
‫وخ�صو�صا و� ِ‬
‫ً‬ ‫جدً ا يا نهى‬
‫اللي جوايا‪.‬‬
‫نظر �إىل عينيها املغرورقتني بالدموع وقال‪:‬‬
‫‪� -‬أنا حقيقي م�ش م�صدق �إين قاعد قدامك دلوقتي وبحكيلك‬
‫عن حاجات كامتها جوايا بقايل �سنني‪.‬‬
‫م�سحت بكفها عينيها املغ�شيتني بالدموع التي انهمرت وحدها‪ ،‬ثم‬
‫قالت بت�أثر‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪� -‬أنا اللي م�ش م�صدقة �إن كل الكالم ده عل�شاين‪ ،‬حقيقي يا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫فاروق �أنا م�ش قادرة �أ�ستوعب كل اللي بيح�صل ده‪ ،‬وم�ش‬
‫عارفة �أ�شكر ربنا عليه ازاي‪ ،‬وال عارفة ممكن �أعو�ضك ازاي‬
‫ﻜﺘ‬
‫عن �صربك ده‪.‬‬
‫‪ -‬وجودك جنبي و�إنك تعامليني مبا ير�ضي اهلل هيبقى �أجمل‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عو�ض بالن�سبايل‪ ،‬وربنا يقدرنا على �شكره على نعمه التي ال‬
‫تعد وال حت�صى‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫نظرت �إليه‪ ،‬ثبتت عينيها يف عينيه هذه املرة ومل ت�سمح حلرجها �أن‬
‫ﻭ‬

‫يغلبها وهم�ست‪:‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬أوعدك يا فاروق �إين هحاول �أعمل كل اللي �أقدر عليه عل�شان‬
‫�أ�سعدك‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫«عزيزي �إ�سالم‪...‬‬
‫ها �أنا قد ُعدت �إليك من جديد‪ ،‬ال �أخفيك �س ًرا‪ ،‬فكرتُ كث ًريا يف‬
‫طلبك يف الأ�سابيع املا�ضية‪ ،‬ا�ستخرت اهلل عدة مرات‪ ،‬ويف كل مرة �أ�شعر‬
‫‪264‬‬
‫بطم�أنينة عجيبة متلأ قلبي وروحي‪� ،‬أنتظر ب�شدة تلك اللحظة التي �س�أقف‬
‫فيها �إىل جوارك و�أعرتف لك بكل ما يعتمل بقلبي من م�شاعر‪� ،‬أت�شوق‬
‫لر�ؤية نظرة عينيك حينها‪ ،‬وابت�سامتك التي �ستعني يل الكثري‪.‬‬
‫�أتعلم؟ برغم �أنك مل تف�صح طوال ال�شهور املا�ضية بحقيقة م�شاعرك‬
‫جتاهي ولو بكلمة واحدة‪� ،‬إال �أنني �أ�شعر �أنك ُت ِكنُّ يل الكثري من امل�شاعر‬
‫الطيبة‪ ،‬هكذا �أخربين قلبي و�أنا �أ�صدقه‪.‬‬
‫�س�أت�صل بك الليلة بعد عودتك من عملك و�أخربك مبوافقتي‪ ،‬وبعدها‬

‫ﻋﺼ‬
‫�ستتوىل �أنت مهمة �إخبار �أبي بالأمر‪ ،‬و�أ�س�أل اهلل �أن يي�سر لنا كل اخلري‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫يف �أمان اهلل»‬
‫�أغم�ضت عينيها وتنهدت براحة‪� ،‬أغلقت دفرتها وخب�أته كعادتها بني‬
‫كتبها‪ ،‬ثم بد�أت تتابع قر�ص ال�شم�س الذي مال �إىل الغروب‪ ،‬و�أخدت تدعو‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لإ�سالم لب�ضع دقائق حتى اختب�أت ال�شم�س يف �أح�ضان ال�سماء‪.‬‬


‫ويف امل�ساء‪ ،‬عندما علم �إ�سالم مبوافقة �سلمى على عقد القران‪ ،‬كانت‬
‫ﺸﺮ‬

‫�سعادته غامرة‪ ،‬انتظر زيارتها القادمة بفارغ ال�صرب حتى يفاحت والدها‬
‫يف الأمر‪ ،‬ولكن حدث ما مل يكن يتوقعه‪ ،‬فقد جاء رد والدها بالرف�ض‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ب�شهر واحد‪،‬‬
‫التام‪ ،‬لن ي�سمح لهما بعقد القران �إال قبل موعد الزفاف ٍ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫حاول �إ�سالم �أن يتناق�ش معه يف الأمر ويو�ضح له بع�ض الأمور‪ ،‬ولكنه �أ�شار‬
‫له بيديه �أن يتوقف‪ ،‬و�أخربه بنفاد �صرب �أن الأمر غري قابل للنقا�ش‪ ،‬ظهرت‬
‫عالمات ال�ضيق وال�صدمة على وجه �إ�سالم‪� ،‬أ�شفقت �سلمى عليه‪ ،‬ولكن‬
‫ما باليد حيلة‪ ،‬عليهما االنتظار حتى املوعد الذي حدده والدها‪ ،‬حاولت‬
‫�أن تتحدث معه يف بع�ض الأمور الأخرى ولكن كلماته كانت قليلة مفتقرة‬
‫وقت لي�س بطويل ا�ست�أذنها وغادر‪.‬‬
‫للحما�س الذي تعودت عليه منه‪ ،‬وبعد ٍ‬
‫‪265‬‬
‫عاد �إىل منزله‪ ،‬دخل غرفته و�صفق الباب خلفه‪� ،‬أم�سك بهاتفه وقرر‬
‫االت�صال بفاروق‪ ،‬فهو فقط من �سيفهمه وي�شعر به‪ ،‬ولكن خذله فاروق‬
‫دون ق�صد منه عندما قرر التحدث مع زوجته يف نف�س اللحظة‪� ،‬ألقى‬
‫�إ�سالم هاتفه مبلل على الفرا�ش وجل�س ينظر �إىل الال �شيء‪ ،‬بعد ن�صف‬
‫�ساعة �سمع رنني هاتفه‪� ،‬أجاب على املت�صل متمت ًما بتحية الإ�سالم‪ ،‬فقال‬
‫فاروق‪:‬‬
‫‪ -‬وعليكم ال�سالم ورحمة اهلل وبركاته‪ ،‬معل�ش يا �إ�سالم كان‬
‫معايا مكاملة مهمة‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ما�شي يا عم‪ ،‬عقبال ما يكون عندنا مكاملات مهمة احنا كمان‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حاول املزاح ولكن نربة �صوته كانت خمتلفة هذه املرة‪ ،‬فقال فاروق‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪� -‬صوتك م�ش عاجبني‪ ،‬هو فيه حاجة ح�صلت؟‬
‫‪ -‬حمايا رف�ض �إننا نكتب الكتاب دلوقتي‪ ،‬و�أنا مبقيت�ش قادر‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أ�صرب يا فاروق!‬
‫ﺸﺮ‬

‫وقبل �أن ينطق فاروق بكلمة �أردف �إ�سالم‪:‬‬


‫‪� -‬أنا حا�س�س �إين متقيد يا فاروق‪ ،‬جوايا كالم كتري �أوي نف�سي‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أقوله وم�ش هينفع �أقوله دلوقتي‪� ،‬أنا حبيتها يا فاروق‪ ،‬حبيتها‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫جدً ا كمان ونف�سي �أعربلها عن اللي جوايا و�ساكت عل�شان‬


‫مغ�ضب�ش ربنا‪ ،‬نف�سي �أب�صلها براحتي و�أ�شوفها كوي�س وهي‬
‫بتتكلم وداي�س على نف�سي وبحاول �أغ�ض ب�صري‪ ،‬ب�س حقيقي‬
‫املو�ضوع كل مرة بيبقى �أ�صعب‪ ،‬كل مرة �أروحها بح�س �إين‬
‫بجاهد جامد عل�شان كالمي معاها يكون من�ضبط‪ ،‬كان نف�سي‬
‫حمايا يوافق عل�شان �آخد راحتي �شوية‪ ،‬ب�س للأ�سف هو م�ش‬
‫قابل حتى النقا�ش يف املو�ضوع ده‪� ،‬أعمل �إيه دلوقتي؟‬
‫‪266‬‬
‫‪� -‬أنا مقدر �إح�سا�سك جدً ا جدً ا يا �إ�سالم‪ ،‬وعارف قد �إيه املرحلة‬
‫دي �صعبة وحمتاجة جماهدة عالية‪ ،‬ب�س �صدقني كله يهون‬
‫عل�شان ر�ضا ربنا‪ ،‬عن نف�سي اتفقت مع نهى �إننا نقلل الزيارات‬
‫�شوية ونخليها لل�ضرورة ب�س لأين فعل ًيا كان فا�ضلي تكة‬
‫و�أعرتفلها بكل حاجة‪ ،‬فقولت �أح�سن حل �أخلي وجودي عندهم‬
‫يف �أ�ضيق احلدود حلد ما نعقد و�ساعتها �أروحلها براحتي‪.‬‬
‫فعل‪ ،‬ب�س م�ش عارف هقوله ل�سلمى‬ ‫‪� -‬أنا فكرت يف املو�ضوع ده ً‬
‫ازاي‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫قالها بحرية‪ ،‬فتمتم فاروق‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬اتكلم معاها مبنتهى ال�صراحة يا �إ�سالم‪� ،‬أنتوا من البداية‬
‫ﻜﺘ‬
‫اتفقتوا �أنكم هتحاولوا تعي�شوا اخلطوبة دي مبا ير�ضي اهلل‪،‬‬
‫والزم ت�ساعدوا بع�ض وتيجوا على نف�سكم عل�شان حتققوا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الهدف ده‪� ،‬أنا واثق �إنك لو و�ضحت لها املو�ضوع بطريقة كوي�سة‬
‫هي هتتفهم ق�صدك وت�ساعدك‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬هي ب�صراحة �سلمى متفهمة جدً ا ومتعاونة‪ ،‬هحاول �أتكلم‬


‫معاها يف املو�ضوع و�أ�شوف هنو�صل لإيه‪� ،‬شك ًرا جدً ا يا فاروق‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ال�شكر هلل يا �إ�سالم‪ ،‬حتت �أمرك يف �أي وقت‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬املهم طم ّني عليك‪ ،‬حددتوا ميعاد الفرح وال ل�سه؟‬


‫‪ -‬هيكون قريب ب�إذن اهلل‪ ،‬هخل�ص ب�س دهانات ال�شقة وبعدها‬
‫نحدد اليوم‪.‬‬
‫‪ -‬طيب ومراتك هتعمل �إيه يف ال�سنة الأخرية ليها يف اجلامعة؟‬
‫‪ -‬عادي هتكملها وهي يف بيتي ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫‪ -‬ا�ستقريتوا هتعملوه فني؟‬
‫‪267‬‬
‫‪ -‬ل�سه واهلل يا �إ�سالم‪ ،‬ب�س ب�شكل عام امليزانية احلالية ال ت�سمح‬
‫�إننا ن�أجر قاعة‪ ،‬فلو عندك �أفكار حلوة نق�ضي بيها اليوم ده‬
‫بلغني‪.‬‬
‫وعده ب�أنه �سيفكر معه ثم �أنهى املكاملة و�أغلق الهاتف وو�ضعه بجواره‪،‬‬
‫�شعر ببع�ض ال�سكينة تت�سلل �إىل قلبه بعد تلك املحادثة الق�صرية‪ ،‬قرر �أن‬
‫ي�صمد ويجاهد وال ي�سمح لل�شيطان �أن ينت�صر عليه‪� ،‬سيبذل ما بو�سعه‬
‫حتى متر تلك الفرتة مبا ير�ضي اهلل مهما كلفه الأمر‪.‬‬
‫‪zzz‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫املرة اخلام�سة �أو رمبا ال�ساد�سة التي تذهب فيها لتناول الغداء‬
‫ﻜﺘ‬
‫ب�صحبته يف مطعمه املف�ضل‪� ،‬أحب حديثها‪ ،‬رقتها‪ ،‬وابت�سامتها اجلميلة‪،‬‬
‫و�أحبت �أناقته‪ ،‬كرمه‪ ،‬حزمه وجديته‪ ،‬تطورت العالقة بينهما كث ًريا يف‬
‫الفرتة املا�ضية‪� ،‬أ�صبحت تناديه با�سمه جمردًا بال �ألقاب‪ ،‬و�أ�صبح ميزح‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫م�ستخدما كفيه وال تعرت�ض‪� ،‬شعرت �أنها اقرتبت‬


‫ً‬ ‫معها يف بع�ض الأحيان‬
‫ﺸﺮ‬

‫من حلمها رغم �أنه �أخربها ذات مرة ب�أنه ال يفكر يف الزواج �إال بعد‬
‫االنتهاء من ر�سالة الدكتوراه‪ ،‬ولكنها لن تنتظر كل هذا الوقت‪� ،‬ستظل‬
‫ﻭ‬

‫�إىل جواره حتى يتعلق بها ب�شدة‪ ،‬لن ت�سمح لأي فتاة �أخرى االقرتاب منه‪،‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وحينما يتيقن من �أنه لن ي�ستطيع العي�ش بدونها �سي�أتي هو من تلقاء نف�سه‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ليطلب الزواج منها‪.‬‬


‫�أثناء انهماكه يف تناول الطعام �س�ألت‪:‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫قول �صحيح يا كرمي‪ ،‬هي �إيه املوا�صفات اللي بتحبها تكون‬
‫موجودة يف البنت؟‬
‫حلظات من الرتقب مرت قبل �أن يقطعها كرمي بقوله‪:‬‬

‫‪268‬‬
‫‪ -‬بحب البنت اللي بتهتم بنف�سها طول الوقت وتبقى حلوة يف كل‬
‫حاالتها‪ ،‬كمان البنت اللي ت�سمع كالمي من غري ما جتادلني �أو‬
‫ت�ستفزين بكالمها‪ ،‬و�أكيد متكون�ش نكدية وال زنانة‪.‬‬
‫ثم غمز لها وقال‪:‬‬
‫فيك‪ ،‬عل�شان كده ببقى مب�سوط‬
‫‪ -‬وتقري ًبا كل ال�صفات دي لقيتها ِ‬
‫ملا بتيجيلي الكلية‪ ،‬وببقى مب�سوط �أكرث ملا بكون فا�ضي وبنخرج‬
‫�سوا بدل ما �أنا معظم اليوم قاعد لوحدي كده‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫�شعرت فاطمة ب�سعادة غامرة وقالت‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬طيب ما تتجوز عل�شان متكون�ش لوحدك!‬
‫فهم ما ترمي �إليه ولكنه تظاهر بغري ذلك‪ ،‬وقال بعدم اكرتاث‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬ال ال جواز �إيه دلوقتي‪� ،‬أنا م�ش فا�ضي خال�ص للكالم ده‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬وهو اجلواز هيعطلك يف �إيه؟! بالعك�س‪� ،‬أنا �شايفة �إنك ملا ترجع‬
‫من �شغلك كل يوم تالقي مراتك م�ستنياك بلهفة وعماللك‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أكله حلوة ده �أكيد هي�سعدك وي�شجعك �أكرث على مذاكرتك‬


‫ور�سالتك‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬اجلواز م�سئولية وتقييد ووجع دماغ‪ ،‬على �إيه ده كله‪ ،‬ما �أنا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫عاي�ش َملك زماين �أهو وبعمل كل اللي �أنا عايزه براحتي‪.‬‬


‫‪� -‬أعتقد لو اجتوزت واحدة بتحبك هتكون فرحان معاها وم�ش‬
‫هتح�س بالتقييد ووجع الدماغ اللي بتقول عليه ده‪.‬‬
‫�ضحك كرمي وقال بخبث‪:‬‬
‫‪ -‬طيب لو عندك عرو�سة حلوة كده وبتحبني وتكون بتعرف تطبخ‬
‫�أهم حاجة ابقي عرفيني‪.‬‬
‫‪269‬‬
‫�شعرت فاطمة باحلرج ال�شديد‪� ،‬أغ�ضبها عدم اهتمامه بها بال�شكل‬
‫الذي كانت تتمناه‪ ،‬غارت على نف�سها وبد�أت بي�أ�س تلملم ما تبقى من‬
‫كرامتها‪ ،‬ثم قررت �أن تغري جمرى احلديث �إىل �أي مو�ضوع �آخر‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫أ�سبوعا ً‬
‫كامل ق�ضاه �إ�سالم وهو يفكر يف الطريقة املُثلى التي �سيتحدث‬ ‫� ً‬
‫بها مع �سلمى بخ�صو�ص �أمر تقليل الزيارات‪ ،‬فكر يف عدة �أفكار‪ ،‬ولكنه‬
‫اختار يف النهاية امل�صارحة‪ ،‬وال �شيء غري امل�صارحة‪ ،‬يف زيارته التالية‬

‫ﻋﺼ‬
‫وفور خروج �سلمى �إليه‪ ،‬قال بعد القاء التحية‪:‬‬
‫معاك يف مو�ضوع مبا �إن عمي موافق�ش على‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬كنت حابب �أتناق�ش ِ‬
‫ﻜﺘ‬
‫كتب الكتاب‪.‬‬
‫ا�ستمعت �سلمى �إليه بكامل انتباهها‪ ،‬فا�ستانف‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬كنت قولتلك قبل كده يف مرة قبل خطوبتنا �إين قررت �أحافظ‬
‫ﺸﺮ‬

‫معاك �إننا هنحاول نعني‬


‫عليك حتى من نف�سي‪ ،‬وكنت متفق ِ‬ ‫ِ‬
‫بع�ض ونعي�ش فرتة خطوبتنا مبا ير�ضي اهلل‪� ،‬صح كده؟‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أوم�أت �سلمى بعدم فهم‪ ،‬فقال‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬وكنت قولتلك وقتها كمان �إن زياراتي الهدف الأ�سا�سي منها‬


‫�إننا ندر�س �شخ�صيات بع�ض كوي�س‪ ،‬وب�صراحة �أنا �شايف �إننا‬
‫يف ال�شهور اللي فاتت فهمنا بع�ض ب�شكل كبري‪.‬‬
‫تنهد ثم قال بعد حلظات �صمت ق�صرية‪:‬‬
‫وعلي‪ ،‬وعل�شان نقدر نكمل اخلطوبة دي بدون‬ ‫عليك َّ‬ ‫‪ً -‬‬
‫حفاظا ِ‬
‫تنازالت‪ ،‬كنت بقرتح �إننا نقلل الزيارات �شوية‪ ،‬يعني نخليها‬
‫‪270‬‬
‫ملا يكون فيه �سبب معني ليها‪� ،‬أو نخليها مرة كل �شهر ً‬
‫مثل‪ ،‬زي‬
‫ما حتبي‪.‬‬
‫الحظ نظراتها القلقة فقال‪:‬‬
‫‪ -‬وطب ًعا الكالم ده م�ش �إجباري‪ ،‬يعني يف �أي وقت حت�سي �إنك‬
‫حمتاجة تتكلمي معايا يف حاجة �أو ت�س�أيل عن حاجة مكاملة‬
‫�صغرية وهتالقيني عندك ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫ثم �ضحك وهو يقول‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ب�س ب�شرط‪ ،‬الزم الآن�سة ورقة �صاحبتك يكون مليان ن�صفها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫على الأقل‪.‬‬
‫انت�شلتها �ضحكته ومزحته الأخرية من حالة احلزن التي انتابت قلبها‪،‬‬
‫حتب جل�سته وكلماته‪ ،‬تنتظر زيارته بفارغ ال�صرب رغم �أنها ُتظهر ثباتها‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أمامه‪� ،‬ست�شتاق �إليه كث ًريا و�إىل حديثه الذي ُيزهر قلبها‪ ،‬ولكنها �ست�صرب‬
‫وتتحمل حتى ي�أتي الفرج والفرح من عند اهلل‪ ،‬حاولت �ضبط انفعاالتها‬
‫ﺸﺮ‬

‫حتى ال ُيك�شف �أمرها وقالت بح�سم‪:‬‬


‫‪ -‬فكرة �إين �أق�ضي خطوبتي مبا ير�ضي اهلل تعترب حتدي‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بالن�سبايل‪ ،‬حتدي معظم النا�س دلوقتي بيخ�سروا فيه للأ�سف‪،‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫عل�شان كده �أنا م�ستعدة �أعمل �أي حاجة عل�شان �أفوز يف التحدي‬
‫ده‪.‬‬
‫ثم ابت�سمت وقالت‪:‬‬
‫‪� -‬أنا ممتنة لك جدً ا يا �إ�سالم �إنك بت�ساعدين �إين �أكمل طريقي‬
‫�صح وعمرك ما بتكون عائق قدامي‪ ،‬بالعك�س دا ًميا بت�شجعني‬
‫وتقويني‪� ،‬أنا موافقة على كل اللي قولته‪.‬‬
‫‪271‬‬
‫ا�ستطاعت ب�أ�سلوبها و�صدقها وتفهمها �أن تزيح جبل الهم اجلاثم على‬
‫�صدره طوال الأ�سبوع‪ ،‬انتهى الأمر ومت االتفاق ب�سهولة مل يكن يتوقعها‪،‬‬
‫�شكر اهلل من كل قلبه على نعمة وجود �سلمى يف حياته‪ ،‬و�شكره � ً‬
‫أي�ضا على‬
‫نعمة التي�سري‪ ،‬فكلما فكر يف التقرب �إىل اهلل ب�شكل ما وجت ّلد بالعزمية‬
‫وال�صرب وجد العوائق تتال�شى من �أمامه تدريج ًيا حتى تختفي بال رجعة‪،‬‬
‫فاللهم لك احلمد على نعمك التي ال تعد وال حت�صى‪.‬‬
‫‪zzz‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ومتر الأيام‪ ،‬الأ�سابيع‪ ،‬وال�شهور‪ ،‬ويزداد ال�شوق‪ ،‬رغم �أن الفرتة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫املا�ضية كانت مليئة بالأحداث الهامة بالن�سبة لها ولكنها مل تن�سه ومل‬
‫تن�شغل عنه �أبدً ا‪ ،‬كانت دائ ًما حتدثه يف دفرتها‪ ،‬حني علمت بنجاحها‬
‫ﻜﺘ‬
‫وتخرجها من اجلامعة هرولت �إليه و�شكرته من كل قلبها على ن�صائحه‬
‫التي �ألقاها على م�سامعها قبل البدء يف االمتحانات‪� ،‬أخربته �أن كلماته‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حينها كانت داع ًما كب ًريا لها‪� ،‬شكرته � ً‬


‫أي�ضا على زيارته املفاجئة لها بعد‬
‫ﺸﺮ‬

‫تخرجها‪ ،‬وتلك الباقة املميزة من الزهور التي �أح�ضرها معه‪ ،‬والتي‬


‫اختب�أت خلف كتاب �سرية الر�سول عليه ال�صالة وال�سالم وك�أنها ت�ستحي‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫من عظمته‪ ،‬كانت تلك الهدية لها جميل الأثر على نف�سها‪ ،‬كتبت �إليه‬
‫كث ًريا حينما بد�أت تبحث عن عمل وذهبت �إىل م�شارق املحافظة ومغاربها‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫حتى ا�ستطاعت �أن تفوز بوظيفة يف �إحدى املدار�س اخلا�صة‪ ،‬رغم �أن‬
‫الراتب بالكاد يكفي ت�سديد ثمن موا�صالتها �إال �أنها كانت �سعيدة بعملها‬
‫أي�ضا عن حفل زفاف فاروق‪ ،‬كم �أعجبها‬ ‫مع ه�ؤالء ال�صغار‪ ،‬حدثته � ً‬
‫ب�ساطة وي�سر تلك الزيجة‪� ،‬شكرته ب�شدة على دعوتها حل�ضور ذلك‬
‫احلفل ب�صحبة هند‪� ،‬أخربته �أنها ُ�س ّرت كث ًريا بالفقرات الب�سيطة التي‬
‫قامت بها �صديقات نهى يف املنزل‪ ،‬وحينما �صعد فاروق �إىل الأعلى لريى‬
‫‪272‬‬
‫زوجته قبل ارتداء النقاب َغ ّ�ضت الطرف عنه‪ ،‬ولكن هند �أخربتها �أن‬
‫بهجة العامل كله ُجمعت يف وجهه يف تلك اللحظة‪ ،‬ومتنت من كل قلبها‬
‫�أن يرزقها اهلل مبن يحبها وترى يف عينيه مثل هذا احلب‪� ،‬أخربته � ً‬
‫أي�ضا‬
‫�أنها �أحبت تلك الألعاب النارية الكثرية التي انطلقت فج�أة مبجرد هبوط‬
‫نهى �إىل ال�شارع ب�صحبة زوجها‪� ،‬أحبت الورود التي و�ضعت على ال�سيارة‬
‫ب�شكل مميز‪ ،‬و�أكرث ما �شعرت �أنه مبهج يف تلك الليلة هي فكرة قيادة‬
‫فاروق �سيارة الزفاف بنف�سه‪� ،‬شعرت حينها �أنه كالفار�س الذي يخطف‬
‫حمبوبته ويهرب بها بعيدً ا‪ ،‬كانت تودعهما بعينيها وتدعو لهما بكل اخلري‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ثم ابت�سمت وهي تتخيل نف�سها يف ذلك املوقف فخجلت و�أغلقت الدفرت‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مل يكن �أقل منها �شو ًقا‪ ،‬بل �أن ال�شوق وقف بكامل �سطوته ور ّكز رايته‬
‫ﻜﺘ‬
‫يوما بعد يوم‪ ،‬ومكانتها عنده‬ ‫فوق قلبه‪ ،‬ي�شعر �أن حبها يزيد يف قلبه ً‬
‫�أ�صبحت يف �أعايل ال�سماء‪ ،‬ذات يوم دخل غرفة هند و�أخربها �أنه يتمنى‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ب�شدة ر�ؤية �سلمى‪ ،‬نظرت له هند بتعجب‪� ،‬أو رمبا ب�شك‪ ،‬و�س�ألته عما مينعه‪،‬‬
‫ف�أخربها �أن حبها يف قلبه و�صل �إىل القمة‪ ،‬ويخاف كث ًريا من �أال ي�ستطيع‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أن يخفي بداخله كل هذا احلب‪ ،‬ويجد نف�سه قد �أف�صح عن بع�ضه بعد كل‬
‫هذا ال�صرب‪ ،‬ف�ضحكت هند لتغيظه و�أخربته �أال ُيتعب نف�سه‪� ،‬ستتوىل هي‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أمر �إخبارها بكل �شيء‪ ،‬حينها نظر �إىل النافذة بتمعن‪ ،‬ثم عاود النظر‬
‫�إليها و�أخربها بحزم ب�أنها �إن فعلت ما قالت �ستجد نف�سها ُملقاة من تلك‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫النافذة يف اليوم التايل‪ ،‬تظاهرت هند باخلوف‪ ،‬ثم �ضحكت ووعدته �أن‬
‫حتفظ ال�سر بداخلها حتى يقرر هو بنف�سه �إخبار �سلمى بكل ما يخفي‪،‬‬
‫وطم�أنته ب�أن الوقت املتبقي حتى موعد عقد القران لي�س بكثري‪ ،‬و�س�ألت‬
‫اهلل �أن يي�سر لهما الأمر على خري‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫‪273‬‬
‫«عزيزي �إ�سالم‪،‬‬
‫طويل تلك اللحظة‪� ،‬صربنا وحتملنا الكثري‪� ،‬ساعات قليلة‬ ‫انتظرنا ً‬
‫تف�صلنا عن احلدث الأكرب‪ ،‬وبعدها ب�إذن اهلل �س�أعرتف لك بكل �شيء‪،‬‬
‫�أ�شعر �أن قلبي �سيخرج من قف�صي ال�صدري من �شدة دقاته‪� ،‬أ�شعر بفرحة‬
‫عارمة جتتاح روحي‪� ،‬أنتظر ب�شوق �أول لقاء بيننا بعد عقد القران‪ ،‬ذلك‬
‫اللقاء الذي تخيلته ع�شرات املرات‪.‬‬
‫بعد �ساعات يا �إ�سالم �سيكون هذا الدفرت ملكك‪ ،‬و�سرتى فيه وج ًها‬

‫ﻋﺼ‬
‫�آخر ل�سلمى مل تكن تعرفه‪� ،‬سلمى التي نب�ض قلبها بحبك منذ التقت بك‪،‬‬
‫�سلمى التي مل ت�سمح لأي �شاب �أن يطرق باب قلبها �سواك‪ ،‬ها هي الآن‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫تهدي �إليك �شي ًئا من �أغلى ما متلك‪ ،‬وهي على يقني من �أنك �ستحافظ‬
‫ﻜﺘ‬
‫عليه‪.‬‬
‫هذه كلماتي الأخرية هنا‪ ،‬املرة القادمة �س�أخربك بكل ما يدور بداخلي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وج ًها لوجه وبال خوف‪� ،‬أ�س�أل اهلل �أن يبارك لنا ويي�سر لنا كل �أمورنا»‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ذ ّيلت ال�صفحة بتاريخ اليوم وال�ساعة والدقيقة‪ ،‬ثم �أخذت تقلب‬


‫�صفحاته بفرحة‪ ،‬وبعدها �أغلقته بهدوء حتى ال ُتف�سد ذلك الغالف الرقيق‬
‫ﻭ‬

‫الذي غلفته به بالأم�س‪ ،‬تنف�ست بعمق ثم بد�أت ترتدي مالب�سها لتذهب‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�إىل خبرية التجميل‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫قبل �صالة الع�صر ب�ساعة وقف �إ�سالم يهندم مالب�سه �أمام املر�آة‬
‫وي�صفف �شعره‪ ،‬وبعدها و�ضع عطره اخلا�ص ونظر �إىل نف�سه بفرحة‬
‫حقيقية‪ ،‬كذلك كانت نظرات والدته التي احت�ضنته وهن�أته ودعت له‬
‫بالربكة‪ ،‬بد�أت هند متزح معه والتقطا م ًعا بع�ض ال�صور‪ ،‬ثم �أخذا بيد‬
‫قليل حتى اقرتبوا من بيت �سلمى‪،‬‬ ‫والدتهما وهبطا بها �إىل ال�شارع‪� ،‬ساروا ً‬
‫ويف نف�س التوقيت نزلت �سلمى من منزلها ب�صحبة عائلتها‪ ،‬الح ال�سرور‬
‫‪274‬‬
‫على حمياه عندما �شاهدها بذلك الف�ستان الذي ُ�صبغ بلون ال�سكر‪ ،‬وذلك‬
‫اخلمار اجلميل الذي حمل اللون ذاته‪� ،‬أما عن تلك الفرا�شات ال�صغرية‬
‫وردية اللون التي زينت �أطراف الف�ستان و�أطراف �أكمامه ف�إنها �أ�ضافت‬
‫على مالب�سها بهجة فوق بهجة‪ ،‬ملحت �سلمى ابت�سامته فخجلت و�أكملت‬
‫أر�ضا‪ ،‬وكلما اقرتبت من امل�سجد زادت دقات قلبها ب�شكل‬ ‫ال�سري وهي تنظر � ً‬
‫ملحوظ حتى ظنت �أنه �أُفت ُِ�ضح �أمرها‪ ،‬و�صل اجلميع �إىل امل�سجد الكبري يف‬
‫احلي والذي يتكون من طابق واحد‪ ،‬اختفت الن�ساء يف مكانهن املخ�ص�ص‬
‫خلف ال�ستار‪ ،‬وبد أ� الرجال يف �إمتام �إجراءات العقد‪ ،‬بعد دقائق مليئة‬

‫ﻋﺼ‬
‫بامل�شاعر املت�ضاربة بني توتر‪ ،‬فرحة‪ ،‬تفا�ؤل‪ ،‬و�شوق‪ ،‬قال ال�شيخ‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬بارك اهلل لكما وبارك عليكما وجمع بينكما يف خري‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫وكثت الأح�ضان والقبالت‪ ،‬بعد‬ ‫انهالت املباركات على كل منهما ُ‬
‫دقائق قليلة و�أثناء اختال�س �سلمى النظر �إليه من خلف ال�ستار‪ ،‬ر�أته‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يقرتب منها‪ ،‬فخرجت ووقفت �أمام ال�ستار وابت�سمت وهي تتابع خطواته‬
‫�إليها‪ ،‬وملا وقف �أمامها مبا�شرة مد يده �إليها ويف عينيه ا�ستقرت نظرة‬
‫ﺸﺮ‬

‫دافئة وفرحة لو ُو ِّزعت على العامل لكفته‪ ،‬نظرت �سلمى بحرج ليده‬
‫املمدودة‪ ،‬وبد�أت بارتباك تقرتب منها‪ ،‬وملا الم�ست كفها كفه �شعرت‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫برع�شة �شديدة جتتاح ج�سدها كله‪ ،‬فقب�ض �إ�سالم على يدها بقوة وهم�س‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬خايفة ليه؟ ممكن متخافي�ش من حاجة طول ما �أنا جنبك؟‬


‫كانت نربته حانية ودافئة‪ ،‬رفعت �سلمى ب�صرها �إليه‪ ،‬وملا التقى نظرها‬
‫بنظره احمر وجهها حمرة اخلجل‪ ،‬ونزف جبينها ماء العرق‪ ،‬ثم فرت‬
‫عيونها منه فرار الداء من الدواء‪� ،‬أم�سك �إ�سالم بذقنها و�أعاد نظرها‬
‫�إليه مرة �أخرى‪ ،‬ثم هم�س بحب‪:‬‬
‫‪ -‬مبارك يا عرو�سة‪.‬‬
‫‪275‬‬
‫كادت �أن تبكي من ذلك الإح�سا�س الذي ال يو�صف‪ ،‬دمعت عيناها‬
‫بالفعل‪ ،‬كان �صمتها ونظرة عيناها يف تلك اللحظة �أبلغ من �أي كالم‪ ،‬قر�أ‬
‫�إ�سالم يف عينيها الدامعتني ح ًبا جار ًفا له فابتهج قلبه‪ ،‬وقرر �أن يهرب بها‬
‫�إىل �أي مكان لي�ستطيع �إخبارها بكل ما كتم عنها طوال ال�شهور املا�ضية‪.‬‬
‫ا�صطحبها �إىل �إحدى احلدائق العامة‪ ،‬طلب لها م�شرو ًبا داف ًئا ثم بد�أ‬
‫يراقب ذلك االرتباك الظاهر جل ًيا على وجهها وي�ضحك‪ ،‬قال بعد �صمت‬
‫ق�صري‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ت�سمحيلي �أقولك �إن �شكلك حلو �أوي؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫اعتلت �شفتيها ابت�سام ٌة خجلى‪ ،‬وا�شتعل الوهج الأحمر يف وجنتيها من‬
‫جديد‪ ،‬فقال �إ�سالم‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪� -‬أول مرة �أ�شوف عرو�سة تكون حلوة كده وهي م�ش حاطة مكياج‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫نظرت له بفرحة وقالت‪:‬‬


‫‪ -‬بجد يا �إ�سالم؟‬
‫ﺸﺮ‬

‫ثم �ضحكت وهي تقول‪:‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫علي جمنونة ملا قولتلها �إين م�ش هحط‬


‫‪� -‬أ�صل الكوافرية قالت َّ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ميك �أب‪.‬‬
‫نظر �إىل عينيها با�س ًما وهم�س‪:‬‬
‫أنت زي القمر من غري �أي حاجة‪.‬‬
‫‪ِ �-‬‬
‫تخ�ضب وجهها باالرتباك‪ ،‬وا�صطبغ خداها بحمرة ال�شفق‪ ،‬الحظ‬ ‫َّ‬
‫�إ�سالم ارتعا�شة خفيفة يف كفيها فقال �ضاح ًكا‪:‬‬
‫‪ -‬خال�ص خال�ص �أنا �آ�سف‪ ،‬ه�سكت �أهو‪.‬‬
‫‪276‬‬
‫�ضحكت �ضحكة خفيفة من �أ�سلوبه املرح‪ ،‬فنظر �إ�سالم �إىل عينيها‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪� -‬سلمى‪� ،‬أنا حقيقي م�ش م�صدق �إنك دلوقتي بقيتي حاليل‬
‫و�أقدر �أقولك كل اللي جوايا بدون خوف �أو ت�أنيب �ضمري‪.‬‬
‫رفعت ب�صرها �إليه ف�صوبت ال�شم�س ِ�سهامها نحو ب�ؤب�ؤي عينيها‬
‫�ضرمت فيهما خيوط النريان لرت�سم م�شهدً ا ال يبدع يف‬ ‫الع�سليني‪ ،‬ف�أُ ِ‬
‫�صنعه �سوى خالق الأكوان‪ ،‬لوحة فنية ت�أ�سر كل من ينظر �إليها كما �أ�سرت‬

‫ﻋﺼ‬
‫ذلك اجلال�س �أمامها‪ ،‬تنف�س بقوة ومتتم‪:‬‬
‫‪ -‬عارفة يا �سلمى؟ �أنا ملا اتقدمتلك كان كل هديف �أالقي بنت‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بتخاف ربنا تكمل معايا الطريق‪� ،‬أُعجبت ِ‬
‫بك يف البداية ب�سبب‬
‫ﻜﺘ‬
‫عليك قالتلي حاجات كتري‬
‫لب�سك املحت�شم‪ ،‬وملا �س�ألت هند ِ‬
‫فيك حلد ما �أخدت قراري‬
‫حلوة خلتني قعدت فرتة كبرية �أفكر ِ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وجيتلك‪.‬‬
‫تناول ر�شفة من الكوب املو�ضوع �أمامه و�أكمل‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫معاك يف الر�ؤية ال�شرعية ح�سيت براحة رهيبة‪،‬‬ ‫‪ -‬ملا �أتكلمت ِ‬


‫ﻭ‬

‫معاك يف اخلطوبة بعدها حبيت �شخ�صيتك جدً ا‪،‬‬ ‫وملا اتعاملت ِ‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أنت‬
‫بقيت بقول لنف�سي دا ًميا �إين معايا كنز والزم �أحافظ عليه‪ِ � ،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بالقيك قبل ما‬


‫ِ‬ ‫يا �سلمى بالن�سبايل �إن�سانة مليانة مميزات‪ ،‬ملا‬
‫بتعملي �أي حاجة بت�س�أيل نف�سك هل هي تر�ضي ربنا وال لأ‪،‬‬
‫وب�شوفك بتتنازيل عن حاجات كتري ِنف�سك فيها عل�شان تر�ضي‬
‫بك �أوي‪� ،‬أنا مت�أكد �إنك بت�ستحملي �سخافات‬ ‫ربنا ببقى فخور ِ‬
‫من نا�س كتري وبتيجي على َنف�سك عل�شان تعملي ال�صح حتى لو‬
‫انتقدوك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫حواليك‬
‫ِ‬ ‫كل اللي‬
‫‪277‬‬
‫نظرت له بامتنان‪ ،‬ف�أر�سل �إليها نظرة حب ومتتم‪:‬‬
‫‪ -‬بعد خطوبتنا ب�شوية ح�سيت بحبك بد أ� ي�سكن قلبي‪ ،‬كنت‬
‫حابب الإح�سا�س ده‪ ،‬ويف نف�س الوقت كنت خايف مقدر�ش‬
‫�أكمل بنف�س الثبات واجلدية‪ ،‬عاوز �أقولك �إنك �ساعدتيني‬
‫كتري �أوي �إين �أجتاوز الفرتة دي ويارب نكون م�شينا فيها مبا‬
‫فيك �شخ�صية متفهمة ومريحة �إىل‬ ‫فعل‪ ،‬لقيت ِ‬ ‫ير�ضي اهلل ً‬
‫�أق�صى درجة‪ ،‬لقيت �إن�سانة عاقلة ب�ستمتع و�أنا بتناق�ش معاها‪،‬‬
‫كنت ب�ستنى يوم اجلمعة بفارغ ال�صرب عل�شان �أ�شوفك و�أ�سمع‬

‫ﻋﺼ‬
‫بك جامد كنت‬ ‫كالمك و�أفهمك �أكرث‪ ،‬ملا لقيت �إين بد�أت �أتعلق ِ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عليك‪� ،‬سميتك على موبايلي‬ ‫بجاهد �أكرث و�أكرث عل�شان �أحافظ ِ‬
‫ﻜﺘ‬
‫عليك �أفتكر العهد‬‫(رفيقتي �إىل اجلنة) عل�شان كل ما �أت�صل ِ‬
‫معاك‪ ،‬وملا‬
‫اللي �أخدته على نف�سي و�أحاول �أن�ضبط يف كالمي ِ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لك ممكن �أبد�أ �أتنازل قولتلك �إننا هنقلل‬


‫ح�سيت �إين يف زياراتي ِ‬
‫الزيارات‪ ،‬ميكن دي كانت �أ�صعب خطوة بالن�سبايل‪ ،‬ب�س كنت‬
‫ﺸﺮ‬

‫أنت‬
‫ب�صرب حلد ما ييجي اليوم ده يا �سلمى‪ ،‬دلوقتي خال�ص � ِ‬
‫بقيتي مراتي وم�ش هحتاج �أكتم �أي م�شاعر جوايا تاين �أبدً ا‪،‬‬
‫ﻭ‬

‫�أنا حقيقي بحبك جدً ا‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫كانت الدموع تتلأ أل يف عينيها َبيد �أنها حاولت �أن تخفيها‪ ،‬ما ت�شعر به‬
‫الآن تعجز احلروف عن و�صفه‪� ،‬إنها فرحة احلالل‪ ،‬فرحة ال�صرب وال�شوق‬
‫ثم اللقاء‪� ،‬أغم�ضت عينيها وتنف�ست بقوة‪ ،‬ثم قالت ب�صدق ظهر جل ًيا يف‬
‫كلماتها‪:‬‬
‫علي كده‬
‫‪ -‬ياااربي‪� ،‬أنا بجد عاجزة عن الرد‪ ،‬ملا �أنت بتقول َّ‬
‫�أُمال �أنا �أقول عليك �إيه ب�س! �أنا من �أول يوم اتكلمت معاك‬
‫فيه و�أنا مرتاحة بطريقة غريبة‪ ،‬لقيت تفكريك قريب جدً ا‬
‫‪278‬‬
‫من تفكريي‪ ،‬لقيت �شخ�ص بيحرتم ر�أيي وبي�سمعني برتكيز‬
‫وبيخليني �أتناق�ش معاه يف كل اللي بفكر فيه مبنتهى الأريحية‪،‬‬
‫علي يا �إ�سالم وبتحميني‬
‫مبرور الأيام �شوفتك و�أنت بتحافظ َّ‬
‫وبتقفل �أي باب ممكن ال�شيطان يدخلنا منه‪ ،‬ح�سيت قد �إيه‬
‫�إنك بتحاول بكل قوتك مت�شي �صح ومل�ست فيك ت�صرفات‬
‫رجولية نادرة اليومني دول‪ ،‬عل�شان كده امت�سكت بيك لأق�صى‬
‫درجة‪ ،‬ياااه يا �إ�سالم لو تعرف �أنا كنت بدعيلك قد �إيه‪� ،‬أنا‬
‫كنت بدعيلك �أكرث ما بدعي لنف�سي‪ ،‬وملا كنت بكلم هند و�أالقيها‬

‫ﻋﺼ‬
‫قالت ا�سمك كان قلبي بريفرف وببقى نف�سي جدً ا �أ�شوفك �أو‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حتى �أ�سمع �صوتك‪ ،‬وكنت بخبي ده كله جوايا‪ ،‬احلمد هلل �إن‬
‫الأيام دي عدت يا �إ�سالم‪ ،‬احلمد هلل �إننا مع بع�ض دلوقتي‬
‫ﻜﺘ‬
‫وربنا يقويني و�أعو�ضك عن كل حلظة �صربت فيها وجيت على‬
‫نف�سك عل�شان مت�شي �صح‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كانت نظراته تتابع حركة يدها وتعبريات وجهها ال�صادقة‪ ،‬فابت�سم‬


‫ﺸﺮ‬

‫قلبه ولفته �سحابة من ال�سكون والطم�أنينة‪ ،‬ففا�ضت عينه بحب دفع‬


‫ال�سعادة �إىل قلبها‪ ،‬تذكرت �شي ًئا ما فقالت بحما�س‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬على فكرة‪ ،‬فيه حاجة بجهزلك فيها بقايل �شهور‪ ،‬ممكن تيجي‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫معايا البيت عل�شان ت�شوفها؟‬


‫انتقل حما�سها �إليه‪ ،‬فلمعت عيناه وقال بنربة حمببة لها‪:‬‬
‫‪ -‬يا �سالم! ده �شيء ي�سعدين‪ ،‬حتبي نروح دلوقتي؟‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها موافقة‪ ،‬فا�سرتق النظر �إىل �ساعته وقال‪:‬‬
‫‪ -‬طيب خال�ص املغرب قرب‪ ،‬تعايل ندور على م�سجد ن�صلي فيه‬
‫وبعدها من�شي‪.‬‬
‫‪279‬‬
‫ترك مقعده ووقف �أمامها‪ ،‬مد يده �إليها مبت�س ًما‪ ،‬فنه�ضت من مكانها‬
‫و�شبكت �أ�صابعها ب�أ�صابعه وقد ت�سلل بع�ض الدفء لثنايا روحها‪ ،‬ثم �سارت‬
‫بالقرب منه للبحث عن �أقرب م�سجد‪.‬‬
‫وقفت �أمام باب منزلها تنظر �إىل ذاك الواقف بجوارها بعدم‬
‫ت�صديق‪ ،‬ثم طرقت الباب بخفة وعلى �شفتيها ُنق�شت ابت�سامة جميلة‪،‬‬
‫فتحت والدتها الباب واحت�ضنتها‪ ،‬ثم �صافحت �إ�سالم للمرة الأوىل‬
‫وهن�أته‪ ،‬دخال م ًعا �إىل الغرفة املفتوحة على ال�صالة‪ ،‬جل�س �إ�سالم على‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أحد املقاعد بينما قالت �سلمى بحما�س‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬ه�ست�أذنك ب�س خم�س دقايق وجاية ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬لأ خم�س دقايق كتري‪ ،‬هم اتنني كفاية!‬
‫قالها و�ضحك‪ ،‬ف�ضحكت �سلمى هي الأخرى وقالت‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬حا�ضر هحاول �آجي ب�سرعة ب�إذن اهلل‪.‬‬


‫تركته ودخلت �إىل غرفتها‪ ،‬نزعت خمارها و�أ�سدلت �شعرها البني‬
‫ﺸﺮ‬

‫الذي اهتمت به خبرية التجميل ليظهر يف �أبهى �صوره‪ ،‬ثم ح ّوطت مقدمة‬
‫ﻭ‬

‫بطوق من الورود التي ُ�صبغت بلون ال�سكر كف�ستانها‪ ،‬و�ضعت‬‫ر�أ�سها ٍ‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫القليل من م�ساحيق التجميل على وجهها‪ ،‬نظرت �إىل نف�سها يف املر�آة‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫بفرحة كبرية‪ ،‬ثم �أغم�ضت عينيها وتنف�ست بعمق‪ ،‬حملت دفرتها و�سارت‬
‫بخطوات خجلة حتى و�صلت �إليه‪.‬‬
‫�أ�سند ظهره �إىل ظهر مقعده وعقد ذراعيه �أمام �صدره وبد�أ ي�سرتجع‬
‫ما حدث يف ال�ساعات الأخرية وقد ارت�سمت على وجهه �أمارات ال�سعادة‪،‬‬
‫ويف حلظة ما وجدها تقف �أمامه مبت�سمة بحياء بالغ‪ ،‬ف ُف ِغر فاه ده�شة‬
‫وات�سعت عيناه ناظ ًرا �إليها بذهول‪ ،‬بالت�أكيد هو يحلم‪ ،‬هكذا ظن‪ ،‬فحرك‬
‫‪280‬‬
‫ر�أ�سه مرا ًرا لي�ستفيق من حلمه فوجدها ما زالت �أمامه‪ ،‬دنا منها وما زال‬
‫الذهول يرتاق�ص على �صفحة وجهه‪ ،‬وملا ت�أكد من �أنها حقيقة هم�س‪:‬‬
‫أنت ازاي كده!‬
‫‪ِ �-‬‬
‫‪� -‬إيه ر�أيك؟‬
‫‪ -‬معقولة ده كله عل�شاين!‬
‫قالها ُيظ ُّل قوله بحاجبيه املتقاربني يعك�سان ده�شته‪ ،‬فتمتمت �سلمى‪:‬‬
‫‪ -‬ربنا يقدرين و�أعمل كل اللي �أقدر عليه عل�شان �أ�سعدك يا‬

‫ﻋﺼ‬
‫�إ�سالم‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�أحاط وجهها بكفيه ولثم مقدمة ر�أ�سها وقال‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫فيك يا �سلمى‪.‬‬
‫‪ -‬ربنا يباركلي ِ‬
‫نظرت له بامتنان‪ ،‬ثم جذبته من يده و�أجل�سته على الأريكة‪ ،‬جل�ست‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�إىل جواره وب�سطت يديها بالدفرت �أمامه وقالت‪:‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬خال�ص دلوقتي بقى ملكك‪.‬‬


‫نظر �إ�سالم للدفرت بتعجب و�س�أل‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪� -‬إيه ده؟‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫قب�ضت �سلمى على الدفرت بقوة وك�أنها تودع �شي ًئا غال ًيا و�أردفت‪:‬‬
‫‪ -‬هنا هت�شوف جانب تاين من �شخ�صية �سلمى مكنت�ش تعرفه‬
‫قبل كده‪ ،‬هنا العامل اللي كنت عاي�شة معاك فيه طول ال�شهور‬
‫اللي فاتت‪ ،‬كنت بكلمك وبقولك كل اللي بح�س بيه بدون تردد‪،‬‬
‫دي الهدية اللي بجهزهالك بقايل كتري‪ ،‬وبتمنى ً‬
‫فعل �إنها‬
‫تفرح قلبك وتكون ذكرى حلوة لينا نفرح ملا ن�شوفها فيما بعد‪.‬‬
‫‪281‬‬
‫�أم�سك �إ�سالم الدفرت بحما�س وهم بفتحه‪ ،‬ولكن �سلمى �أوقفته ب�سرعة‬
‫وقالت بحرج‪:‬‬
‫‪ -‬لأ لأ م�ش دلوقتي‪ ،‬ملا تر َّوح!‬
‫�ضحك �إ�سالم وقال‪:‬‬
‫‪ -‬ه�شوف �أول �صفحة ب�س حتى‪.‬‬
‫�ضغطت بيديها ال�صغريتني على الدفرت لت�ضمن �أنه لن يفتحه وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬م�ش هينفع بجد يا �إ�سالم‪ ،‬ملا تر َّوح اقر�أه براحتك‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫أنت خدودك بقت طمطماية ليه دلوقتي!‬ ‫‪ -‬طيب � ِ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قالها مبرح وهو يركز نظراته يف عينيها‪ ،‬ف�سحبت �سلمى الدفرت من‬
‫ﻜﺘ‬
‫يده و�أ�سرعت اخلطى نحو غرفتها بعدما قالت‪:‬‬
‫‪ -‬هروح �أحطلك الك�شكول يف ال�شنطة بتاعتك وجايه‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�ضحك �إ�سالم‪� ،‬ضحك كث ًريا من ردة فعلها تلك‪� ،‬أحب خجلها واحمرار‬
‫وجنتيها الوا�ضح والذي ُي�ضفي على وجهها براءة ورقة فوق رقتها‪ ،‬و�س�أل‬
‫ﺸﺮ‬

‫اهلل من كل قلبه �أن يدمي الود بينهما ويجمع بينهما على خري‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫يف �أحد املطاعم ال�شهرية وقف �أمامها مبت�س ًما‪ ،‬ثم �سحب مقعدً ا‬
‫و�أ�شار �إليها بطريقة م�سرحية �أن جتل�س‪� ،‬شعرت ب�أنها كالأمرية‪� ،‬سارت‬
‫بخطوات واثقة وهي جتر خلفها ذيل ف�ستانها الأزرق وجل�ست حيث �أ�شار‪،‬‬
‫اختار املقعد الذي يقابلها مبا�شرة وجل�س عليه‪ ،‬ثم قال بوجه م�شرق‪:‬‬
‫‪� -‬إيه ر�أيك يف املكان؟‬
‫تلفتت حولها وخافقها ي�ضخ بقوة ال�سعادة وقالت‪:‬‬
‫‪282‬‬
‫‪ -‬حلو �أوي يا �إ�سالم‪ ،‬ب�س باين عليه غايل جدً ا‪.‬‬
‫عليك‪ ،‬وبعدين النهارده �أول يوم �أقب�ض‬
‫‪ -‬مفي�ش حاجة تغلى ِ‬
‫أنت مراتي‪ ،‬مكن�ش ينفع �أعدي املنا�سبة دي ب�سهولة كده‪.‬‬ ‫و� ِ‬
‫ثم �ضحك وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬ومتقلقي�ش‪ ،‬بعد كده العزومة دي هتكون كل �سنة مرة‪.‬‬
‫�ضحكت هي الأخرى وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬اهلل يطمن قلبك يا �إ�سالم‪ ،‬خال�ص �أنا هحاول �آخد حقي‬

‫ﻋﺼ‬
‫املرادي تالت ومتلت بقى‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬ب�صراحة فيه �سبب كمان‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫قالها و�سكت متاب ًعا نظرات عيناها املتلهفة‪ ،‬ثم قال بعد وهلة‪:‬‬
‫‪� -‬أنا خل�صت قراءة الك�شكول النهارده الفجر‪ ،‬كل يوم كنت بقر�أ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�ساعة �أو اتنني قبل ما �أنام‪ ،‬النهارده مقدرت�ش �أ�سيبه �إال ملا‬
‫خل�صته‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫خالج قلبها �شيء من ال�سعادة‪� ،‬س�ألته بعينيها عن ر�أيه‪ ،‬فتذكر ذلك‬


‫ﻭ‬

‫الإح�سا�س املده�ش الذي كان ي�شعر به يف كل مرة مي�سك بها بهذا الدفرت‪،‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مل يكن يتوقع �أنها ُت ِكنُّ له كل هذه امل�شاعر‪ ،‬مل يكن يتخيل �أنها �أحبته �إىل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫هذا احلد‪ ،‬تذكر عندما كان يقر�أ بع�ض العبارات ب�سعادة كبرية ثم يعيد‬
‫قراءتها بتمهل وك�أنه �أراد لروحه �أن تت�شرب الكلمات‪ ،‬كانت عيناه يف كل‬
‫مرة تلتهم الأ�سطر ب�شوق جارف‪ ،‬وكانت منزلتها ترتفع يف قلبه كل يوم‬
‫عن اليوم الذي ي�سبقه‪ ،‬قال بعدما �أفاق من �شروده‪:‬‬
‫‪ -‬هت�صدقيني لو قولتلك �إين م�ش القي كالم يو�صف �إح�سا�سي؟‬
‫�أنا حلد دلوقتي م�ش م�ستوعب �إن كل الكالم ده كتبتيه عل�شاين!‬
‫‪283‬‬
‫�أنا كنت ببقى طاير من الفرحة و�أنا بقر�أ كالمك يا �سلمى‪،‬‬
‫كنت بح�س �إن ربنا رزقني بنعمة كبرية �أوي الزم �أف�ضل �أ�شكره‬
‫عليها طول عمري‪.‬‬
‫�شعرت بنب�ضاتها قوية مت�سارعة‪ ،‬حاولت �أن تبدو هادئة‪ ،‬و�س�ألت‪:‬‬
‫‪ -‬طيب ّ‬
‫قول �إيه �أكرث حاجة عجبتك يف اللي كتبته؟‬
‫رفع حاجبه الأمين و�ضيق عينيه بتفكري ثم قال‪:‬‬
‫‪� -‬أكرث حاجة عجبتني �إنك عمالة كل �شوية تقويل‪« :‬بعد عقد‬

‫ﻋﺼ‬
‫القران �س�أعرتف لك بكل �شيء»‪ ،‬و�أنا م�شوفت�ش �أي اعرتافات‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫منك حلد دلوقتي!‬
‫قالت بحرج‪:‬‬
‫‪ -‬م�ش �أنا قولتلك �إين ببقى فرحانة ملا ب�شوفك؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عقد حاجبيه وزم �شفتيه وقال بي�أ�س‪:‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬امممم‪ ...‬عظيم االعرتاف ده احلقيقة!‬


‫‪� -‬إيه ده ُب�ص وراك!‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قالتها فج�أة‪ ،‬فنظر خلفه بعدم فهم ثم عاود النظر �إليها و�س�أل‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬أب�ص على �إيه؟‬


‫‪ -‬اجلار�سون هناك �أهو‪ ،‬نادي عليه ب�سرعة عل�شان �أنا جعانة‬
‫جدً ا‪.‬‬
‫قالتها وهي حتاول كتم �ضحكاتها‪ ،‬فنظر �إ�سالم �إليها بغيظ م�صطنع‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪ -‬حاااا�ضر حااا�ضر يا �سلمى‪.‬‬
‫‪284‬‬
‫نادى على النادل وطلب منه الطعام الذي اختاراه‪ ،‬تبادال �أطراف‬
‫احلديث حتى �أتى �إليهما الطعام‪� ،‬ساد ال�صمت بينهما �أثناء تناول الطعام‪،‬‬
‫فكل منهما كان ينعم باالن�شراح الروحي الذي جعله يهيم يف عامل مزهر‬
‫بداخل نف�سه‪ .‬كان �إ�سالم يتوقف عن الطعام يف بع�ض الأحيان ويختل�س‬
‫النظر �إليها ليت�أكد من �أنها معه بالفعل‪ ،‬وكانت �سلمى تفعل ما يفعل يف‬
‫�أحايني �أخرى‪ ،‬بعد ن�صف �ساعة تقري ًبا توقفت �سلمى عن الطعام ونظرت‬
‫بذهول �إىل تلك التي وجلت من باب املطعم وهي متعلقة بيد �أحد الرجال‬

‫ﻋﺼ‬
‫ومت�شي �إىل جواره بثقة وعلى وجهها ُر�سمت ابت�سامة فخر‪ ،‬ظنت �أنها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫تتخيل‪ ،‬ففركت عينيها بكفيها وعاودت النظر �إليها لتجدها جتل�س �أمامه‬
‫ﻜﺘ‬
‫على الطاولة وت�ضحك‪� ،‬شعرت بغ�صة يف قلبها‪ ،‬تركت امللعقة من يدها‬
‫وعلت وجهها غيمة حزن‪ ،‬الحظ �إ�سالم توقفها عن الطعام وقال‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬كملي �أكلك يا �سلمى‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫ابت�سمت ابت�سامة تخفي بها جتاعيد ال�ضيق واحلزن وقالت‪:‬‬


‫‪� -‬شبعت احلمد هلل‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الحظ طيف احلزن الذي الح بعينيها‪ ،‬ف َم َ�ش َط املكان بعينيه ثم قال‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬هو فيه حاجة �ضايقتك هنا؟‬


‫‪ -‬هو فيه حاجة ممكن ت�ضايقني و�أنا معاك؟!‬
‫نظر �إليها بامتنان وابت�سم‪ ،‬ثم متتم‪:‬‬
‫‪ -‬خال�ص �أنا قربت �أخل�ص �أهو‪ ،‬وبعدها هنخرج نتم�شى �شوية‬
‫�سوا‪.‬‬
‫‪285‬‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها موافقة‪ ،‬وانتظرت حتى �أنهى طعامه ثم غادرت املكان‬
‫وهي حتمل يف قلبها ه ًما كب ًريا مل تدركه تلك التي جل�ست متزح مع ذاك‬
‫ال�شاب حتى �ضحك مبلء �شدقيه‪ ،‬ا�ستمر ي�ضحك بطريقة جنونية ثم قال‬
‫يف حلظة وهو يحاول التقاط �أنفا�سه‪:‬‬
‫‪ -‬يا بنت الإييه‪� ،‬أنا �أول مرة حد ي�ضحكني بال�شكل ده!‬
‫غمزت �إليه بعينها الي�سرى وقالت‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬احنا حتت �أمرك يف �أي وقت يا كرمي بيه‪ ،‬املهم تبقى مب�سوط‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪� -‬أنا �شكلي هتجنن و�آجي �أخطبك عل�شان �أ�ضمن �إنك هتكوين‬
‫ﻜﺘ‬
‫معايا علطول‪.‬‬
‫قفزت من مكانها و�س�ألته بلهفة تكاد ُتخرج عينيها من حمجريهما‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬بجد يا كرمي؟‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ب�صراحة �أنا مكنت�ش ناوي �أرتبط دلوقتي خال�ص‪ ،‬ب�س بد�أت‬


‫�أغري ر�أيي الفرتة الأخرية بعد ما قربت منك‪ ،‬يعني بنت زي‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عليك‪ ،‬كمان دمك خفيف ومطيعة‬


‫القمر وكل النا�س هتح�سدين ِ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫معاك‪ ،‬يبقى ليه‬


‫ومتفتحة وببقى مب�سوط يف الوقت اللي بق�ضيه ِ‬
‫�أ�أجل اخلطوة دي �أكرث من كده!‬
‫قالت ب�سعادة‪:‬‬
‫‪ -‬ب�صراحة عندك حق‪.‬‬
‫�أ�شار لها ب�سبابته وقال حمذ ًرا‪:‬‬

‫‪286‬‬
‫أنت كده لأين‬
‫‪ -‬ب�س اوعي تتغريي بعد اجلواز‪� ،‬أنا عاوزك زي ما � ِ‬
‫بحب �أعي�ش حياتي براحتي بدون قيود‪ ،‬و�أهم حاجة تف�ضلي‬
‫واخدة بالك من نف�سك وحلوة كده طول الوقت‪ ،‬عل�شان زوجة‬
‫كرمي البحريي مينفع�ش تكون واحدة عادية‪.‬‬
‫�أوم�أت بعينها موافقة وقد ترقرق وجهها بالبهجة وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬من عينيا يا كرمي‪.‬‬
‫‪ -‬خال�ص �أنا هكلم والدي يف املو�ضوع و�أبلغك باجلديد‪ ،‬ب�س �أهم‬

‫ﻋﺼ‬
‫حاجة ملا نيجي �أهلك يوافقوا على كل حاجة عل�شان متحرج�ش‬
‫قدام والدي‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫قالت ب�سرعة‪:‬‬


‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬هيوافقوا �أكيد‪.‬‬
‫رفع �أنفه بغرور وقال �ضاح ًكا‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬وا�ضح �إين عري�س ُلقطة‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫تداركت فاطمة املوقف وحاولت �أن تنقذ ما ميكن �إنقاذه وقالت‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪� -‬أنا غالية جدً ا عند �أهلى‪ ،‬وهم م�ستعدين يعملوا �أي حاجة‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ممكن تفرحني‪ ،‬عل�شان كده لو �أنا وافقت هم كمان هيوافقوا‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫أنت موافقة طب ًعا‪.‬‬


‫‪ -‬و� ِ‬
‫قالها وغمز �إليها بعينه‪ ،‬فقالت على ا�ستحياء‪:‬‬
‫‪ -‬هبقى �أقولك ر�أيي ملا تيجي‪.‬‬
‫ابت�سم كرمي �إليها بثقة ثم �شرع يف تناول طعامه‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫‪287‬‬
‫كنت بتعملي �إيه مع دكتور كرمي يف املطعم النهارده يا فاطمة!‬
‫‪ِ -‬‬
‫قالتها �سلمى بانفعال �شديد يف حمادثة تليفونية �أجرتها م�ساء نف�س‬
‫اليوم‪ ،‬فقالت فاطمة بتعجب‪:‬‬
‫أنت عرفتي منني!‬
‫‪ -‬و� ِ‬
‫‪� -‬أنا �شوفتكم بنف�سي يا فاطمة‪.‬‬
‫أنت بتتكلمي معايا بالطريقة دي ليه!‬
‫‪ -‬طيب � ِ‬
‫زفرت �سلمى بقوة‪ ،‬متالكت نف�سها ومتتمت بهدوء‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫علي‪ ،‬ب�س �أنا ات�صدمت ملا �شوفتكم مع‬
‫‪� -‬أنا �آ�سفة يا �ستي‪ ،‬حقك َّ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بع�ض!‬
‫ﻜﺘ‬
‫قالت �ساخرة‪:‬‬
‫أنت �شوفتينا بنعمل �إيه يعني! احنا كنا يف مكان عام‬
‫‪ -‬وهو � ِ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫والنا�س كلها حوالينا!‬


‫ﺸﺮ‬

‫اكتنفتها دوامة احلرية‪ ،‬قالت بعدم فهم‪:‬‬


‫أنت م�ش �شايفة �إن فيه حاجة غلط يف املو�ضوع!‬
‫‪ -‬يعني � ِ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫زفرت فاطمة مبلل وقالت‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬لأ م�ش �شايفة يا �سلمى‪ ،‬اتنني بيحبوا بع�ض وخارجني مع بع�ض‪،‬‬


‫�إيه امل�شكلة يعني! وعامة هو قريب جدً ا هييجي يتقدملي‪.‬‬
‫أنت!‬
‫‪ -‬دكتور كرمي هيتقدملك � ِ‬
‫�أطلت الده�شة من عينها وقالت بع�صبية‪:‬‬
‫علي ً‬
‫مثل!‬ ‫‪ -‬م�ستغربة ليه كده! �شايفاه كتري َّ‬
‫‪288‬‬
‫تنف�ست بعمق وهي تغلق عينيها وت�ضغطهما بقوة‪ ،‬تنهدت ثم قالت‬
‫بهدوء‪:‬‬
‫أنت كترية عليه يا فاطمة!‬
‫�شايفاك � ِ‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬لأ‪،‬‬
‫توقف احلوار فج�أة وخ ّيم عليهما ال�صمت لربهة‪ ،‬جتمعت بع�ض‬
‫الدموع اخلر�ساء بني �أهداب �سلمى‪� ،‬أم�سكتها بان�ضباط وقالت‪:‬‬
‫أنت م�ش �أول وال ثاين وال‬
‫عليك يا فاطمة‪ِ � ،‬‬
‫‪� -‬أنا بحبك وخايفة ِ‬
‫حتى عا�شر بنت تق�ضي فرتة مع دكتور كرمي وبعدها ي�سيبها‬

‫ﻋﺼ‬
‫أنت عارفة �إين مبحب�ش �أتكلم على حد‪ ،‬ب�س‬ ‫ويروح لغريها‪ِ � ،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حقيقي �أنا م�ش متطمنة �أبدً ا لعالقتكم دي‪ ،‬حتى لو هتتجوزوا‬
‫لك‪.‬‬
‫يف النهاية فم�ش هو ده الزوج اللي �أمتناه ِ‬
‫ﻜﺘ‬
‫قال النهارده �إنه هييجي يتقدملي‪ ،‬و�أنا تعبت كتري‬ ‫‪ -‬كرمي ّ‬
‫عل�شان �أ�سمع منه الكلمة دي‪ ،‬فم�ستحيل بعد ده كله �أتنازل يا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�سلمى عل�شان جمرد تخيالت يف دماغك‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫�صمتت هنيهة ثم تابعت‪:‬‬


‫‪� -‬أنا عارفة كرمي كوي�س يا �سلمى‪ ،‬هو كان بتاع بنات ً‬
‫فعل ب�س‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫من �ساعة ما قربت منه وهو مفي�ش يف حياته غريي‪ ،‬كمان بعد‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫اجلواز �أكيد هيتغري وي�شيل امل�سئولية �أكرث من كده‪.‬‬


‫‪ -‬مت�أكدة �إنه هيتغري!‬
‫‪� -‬أيوة مت�أكدة يا �سلمى‪ ،‬ومن ف�ضلك �أنا م�ش متقبلة كالم تاين‬
‫يف املو�ضوع ده ال منك وال من هند‪.‬‬
‫‪ -‬هي هند كانت عارفة!‬
‫قالتها ب�صدمة مل تفلح يف �إخفائها‪ ،‬فقالت فاطمة‪:‬‬
‫‪289‬‬
‫‪� -‬أيوة عارفة من زمان‪ ،‬ب�س �أنا قولتلها متقولكي�ش عل�شان عارفة‬
‫�إن دماغك خمتلفة عني وهتقعدي تديني يف حما�ضرات م�ش‬
‫هتفيدين ب�أي حاجة‪.‬‬
‫�سالت دمعة على خدها‪ ،‬كفكفتها ب�أمل وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬عامة �أنا هف�ضل جنبك يا فاطمة‪ ،‬لو ح�سيتي �إنك حابة تتكلمي‬
‫م�ستنياك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫يف �أي وقت هتالقيني‬
‫و ّدعتها و�أغلقت اخلط ويف قلبها حزن و�أمل وخوف كبري من امل�ستقبل‪.‬‬

‫‪z‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪290‬‬
‫‪- 10 -‬‬

‫�أ�سفر ال�صبح‪� ،‬ضحيت ال�شم�س وطرقت �أ�شعتها �أبواب عينيها‪ ،‬فرفعت‬


‫جفنيها بهدوء وابت�سمت لتلك التي كانت ت�شاك�سها بنورها‪ ،‬ثم قفزت من‬

‫ﻋﺼ‬
‫فرا�شها بحما�س وبد�أت تدور يف غرفتها مبتهجة وك�أنها فرا�شة و�سط‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حقول الزهور‪ ،‬ذهبت للمر�آة ونظرت �إىل وجهها الرائق الذي اهتمت‬
‫به خبرية التجميل كث ًريا يف الليلة املا�ضية وابت�سمت ب�سعادة‪ ،‬ثم خرجت‬
‫ﻜﺘ‬
‫لتناول فطورها مع عائلتها قبل الذهاب خلبرية التجميل مرة �أخرى لت�ضع‬
‫فرحا يف تلك‬
‫لها اللم�سات الأخرية‪ ،‬مل يكن قلبها الوحيد الذي يرق�ص ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫اللحظة‪ ،‬بل �أن �إ�سالم منذ �أن ا�ستيقظ ل�صالة الفجر وهو ي�شعر ب�سعادة‬
‫ال تو�صف‪� ،‬أدى �صالته وجل�س يذكر اهلل ويقر�أ قر�آ ًنا حتى طلعت ال�شم�س‬
‫ﺸﺮ‬

‫وارتفعت يف الأفق‪ ،‬ثم �صلى ركعتي ال�ضحى وجل�س بعدها يدعو اهلل �أن‬
‫ﻭ‬

‫يتمم زواجه على خري وميتعه باحلالل‪ ،‬وبعدها عاد ملنزله و�أكمل نومه حتى‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫موعده مع م�صفف ال�شعر‪ ،‬مرت ال�ساعات التالية مليئة بامل�شاعر املختلطة‪،‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫فرح‪ ،‬ده�شة‪ ،‬توتر‪ ،‬قلق‪ ،‬انبهار‪ ،‬وعدم ت�صديق‪ ،‬كل ذلك يت�ضارب يف الآن‬
‫وخ�صو�صا يف عقل �سلمى التي ما �إن ر�أت نف�سها بف�ستانها الأبي�ض‬
‫ً‬ ‫نف�سه‪،‬‬
‫حتى جتمعت الدموع يف عينيها وارت�سمت على �شفتيها ابت�سامة تعني‬
‫الكثري‪� ،‬سمعت �إحداهن تهم�س �إليها �ضاحكة ببع�ض الكلمات ف�سارت جتر‬
‫خلفها ذيل ف�ستانها حتى و�صلت �إىل باب مركز التجميل ووقفت هناك‪،‬‬
‫�صعد �إ�سالم الدرج وما �أن ر�آها حتى توقفت قدماه فج�أة وظل ينظر �إليها‬
‫بعينني مت�سعتني تطل منهما الده�شة‪� ،‬أ�شارت �سلمى بيديها �ضاحكة‪،‬‬
‫‪291‬‬
‫فتمالك نف�سه وتابع ال�سري حتى و�صل �إليها‪ ،‬عقدت الده�شة ل�سانه فلم‬
‫ينطق بحرف‪ ،‬ظل ينظر �إليها لدقيقة كاملة بعدم ا�ستيعاب‪ ،‬ثم �سحب‬
‫كفها الأمين ولثمه‪ ،‬وبعدها انفكت عقدة ل�سانه و�أخربها �أن جمالها اليوم‬
‫ال يو�صف‪ ،‬تنحنحت هند التي جاءت من خلف �سلمى وغمزت بعينيها‬
‫لهما �ضاحكة‪ ،‬ف�شعرت �سلمى باحلرج و�أخربتهما �أنها �ستذهب ال�ستكمال‬
‫ارتداء مالب�سها‪ ،‬انتظراها ب�ضع دقائق حتى ارتدت خمارها وو�ضعت‬
‫على وجهها النقاب للمرة الأوىل كما كانت حتلم‪ ،‬ثم �أم�سكت بذلك التاج‬
‫الذي ا�ستقرت فوقه الف�صو�ص البي�ضاء الالمعة التي �أ�ضفت عليه ً‬
‫جمال‬

‫ﻋﺼ‬
‫خال ًبا وو�ضعته فوق ر�أ�سها‪ ،‬و�أخ ًريا �أدخلت كفيها ال�صغريين يف القفازات‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وخرجت �إليهما با�سمة‪ ،‬تعلقت بيد زوجها ودخلت معه �إىل ال�سيارة التي‬
‫تلفها الورود البديعة من كل مكان‪ ،‬حتركت ال�سيارة حتى و�صال �إىل �إحدى‬
‫ﻜﺘ‬
‫احلدائق العامة وبد�أت هند بالتقاط العديد من ال�صور اجلميلة لهما‪،‬‬
‫كانت ال�شم�س تتابعهما بحما�س وت�أبى الغروب‪ ،‬وملا انتهوا غادرت خ�شبة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بنف�س را�ضي ٍة واختب�أت يف �أح�ضان ال�سماء‪.‬‬


‫امل�سرح ٍ‬
‫ﺸﺮ‬

‫كامل دون نق�صان هبط �إ�سالم من‬ ‫يف بقعة جت ّلى فيها �ضوء القمر ً‬
‫ال�سيارة ب�صحبة زوجته التي لف ذراعها حول ذراعه و�سار �إىل جوارها‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حتى دلف �إىل قاعة ُعر�سه‪ ،‬كانت القاعة كبرية احلجم‪ ،‬يف�صلها من‬
‫املنت�صف �ستار كبري يف�صل الرجال عن الن�ساء‪ ،‬دخلت �سلمى �إىل اجلزء‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫املخ�ص�ص للن�ساء ونزعت نقابها‪� ،‬سارت يف ممر طويل ينتهي بالأريكة‬


‫املخ�ص�صة للعرو�س‪ِ ،‬ومن حولها �سارت جمموعة من الفتيات ال�صغريات‬
‫ترتدي ك ٌل منهن ف�ستا ًنا � ً‬
‫أبي�ضا وتعق�ص �شعرها بطوق �أبي�ض وتقوم ب�إلقاء‬
‫حافل‬ ‫ً‬
‫ا�ستقبال ً‬ ‫العديد من الورود احلمراء والزهرية على العرو�س‪ ،‬كان‬
‫ومبهجا‪ ،‬جل�ست �سلمى على الأريكة وبد�أت ت�ستقبل الأح�ضان والقبالت‬ ‫ً‬
‫الآتية من �أقاربها و�أ�صدقائها‪ ،‬ثم عاد اجلميع �إىل مكانه وبد�أت فرقة‬
‫‪292‬‬
‫الفتيات الإ�سالمية بتقدمي عرو�ضها‪ ،‬كانت الفرقة مكونة من �سبع فتيات‪،‬‬
‫�إحداهن تهتم باختيار الأنا�شيد املنا�سبة لكل فقرة‪� ،‬أما البقية فمهمتهن‬
‫تقدمي عرو�ضهن بطريقة لطيفة جتذب احلا�ضرين‪ ،‬كانت بع�ض العرو�ض‬
‫حما�سية ويتفاعل معها اجلميع‪ ،‬كعر�ض مت تقدميه با�ستخدام �أطواق‬
‫كبرية احلجم يتبادلنها مع بع�ضهن البع�ض بطريقة مميزة‪ ،‬وعر�ض �آخر‬
‫�أ�ضحك اجلميع حيث قدمت �إحدى الفتيات هدية ل�سلمى‪ ،‬فلمعت عينا‬
‫العرو�س بفرحة‪ ،‬وما �إن فتحت الهدية حتى وجدتها حتوي ثمرة بطاطا‬
‫مب�أة‬‫و�سكني! كان الأمر غري ًبا جدً ا‪ ،‬ولكن الفتاة �أخرجت لوحة كانت ُ َ‬

‫ﻋﺼ‬
‫خلف �أريكة العرو�س ُكتب فيها ب�أنه مطلوب من �سلمى �أن تق�شر هذه‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الثمرة بطريقة احرتافية لت�أكد لهن �أنها طباخة ماهرة‪� ،‬ضحكت الن�ساء‬
‫كث ًريا و�أيدن الفكرة‪ ،‬فر�ضخت �سلمى ملطالبهن وبد�أت تق�شر الثمرة‬
‫ﻜﺘ‬
‫ال�صغرية ومن حولها موجة من ال�ضحك اجلماعي ا�ستمرت لعدة دقائق‪،‬‬
‫وعلى اجلانب الآخر من ال�ستار بد أ� فاروق يلف حول احلا�ضرين ويهم�س‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لكل منهم ب�شيء يف �أذنه‪ ،‬وملا انتهى �أ�شار لهم بعينيه‪ ،‬فهجموا جمي ًعا على‬
‫�إ�سالم ودفعوه نحو مكرب ال�صوت‪ ،‬نظر �إليهم بعدم فهم ف�أمروه �أن يغني‬
‫ﺸﺮ‬

‫لزوجته‪� ،‬ضحك �ساخ ًرا من تلك النكتة الغريبة‪ ،‬وملا وجد �إ�صرا ًرا �شديدً ا‬
‫ﻭ‬

‫منهم �أخربهم بجدية �أن �صوته ال ي�صلح لذلك �أبدً ا‪ ،‬توقفت �أ�صوات‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الأنا�شيد‪ ،‬رجع كل منهم �إىل مقعده ونظروا �إليه منتظرين التنفيذ‪ ،‬فوجد‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أنه لن ي�ستطيع �أن يخرج من هذا امل�أزق فا�ست�سلم‪ ،‬وقال وهو يرفع حاجبه‪:‬‬
‫‪ -‬افتكروا �إن �أنتوا اللي اختارتوا‪ ،‬اللي هيرتيق على �صوتي م�ش‬
‫هريوح من هنا �سليم‪ ،‬اللهم بلغت‪.‬‬
‫ثوان ثم قال‪:‬‬
‫�ضحك فاروق وبع�ض احل�ضور‪ ،‬بد أ� �إ�سالم يفكر لعدة ٍ‬
‫‪ -‬يال ا�ستعنا باهلل‪ ،‬هقولكم �أن�شودة �أجمل فرحة لـماهر زين‪.‬‬
‫�أغم�ض عينيه وهو يتذكر �سلمى وقال‪:‬‬
‫‪293‬‬
‫هي يوم فرحنا ده �شيء �أكيد‬ ‫�أجمل فرحة َّ‬
‫ذكريات الليلة ديَّ حا�ضرة م�ش ممكن تغيب‬
‫�إح�سا�س اليوم ده مني فينا ين�ساه علطول جتمعنا �أحلى حياة‬
‫�أجمل فرحة يف حياتنا الليلة‬
‫حلوين واهلل اهلل اهلل‬
‫ما �شاء اهلل ما �شاء اهلل‬
‫يا �سالم يا �سالم ما تباركوا يا �أهل اهلل‬

‫ﻋﺼ‬
‫احنا على ُ�سنة نبينا جينا وكتبنا الكتاب‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫واحنا طايرة الفرحة بينا والليلة دي القلب داب‬
‫ﻜﺘ‬
‫�إح�سا�س اليوم ده مني فينا ين�ساه علطول جتمعنا �أحلى حياة‬
‫�أجمل فرحة يف حياتنا الليلة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حلوين واهلل اهلل اهلل‬


‫ﺸﺮ‬

‫ما �شاء اهلل ما �شاء اهلل‬


‫يا �سالم يا �سالم ما تباركوا يا �أهل اهلل‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قولوا ما �شاء اهلل ويا رب تعي�شوا �أحلى �سنني‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫قولوا ما �شاء اهلل ويا حملى زوجني �صاحلني‬


‫ربنا يجمعنا ويا بع�ض يف اجلنة ربنا يجعلنا طول العمر متفاهمني‬
‫�أجمل فرحة يف حياتنا الليلة‬
‫حلوين واهلل اهلل اهلل‬
‫ما �شاء اهلل ما �شاء اهلل‬
‫يا �سالم يا �سالم ما تباركوا يا �أهل اهلل‬
‫‪294‬‬
‫�أنهى الأن�شودة وبد أ� ُيع ّدل من هيئة رابطة ُعنقه وهو ينظر �إليهم‬
‫بغرور‪ ،‬ثم قال �ضاح ًكا‪:‬‬
‫‪ -‬يا رب تكونوا ا�ستمتعتوا ب�صوتي وحمد�ش فيكم جاله �أزمة‬
‫قلبية وال حاجة‪.‬‬
‫�ضحك بع�ضهم بينما �ص ّفق البقية بحرارة وبدت ال�سعادة على‬
‫وجوههم‪ ،‬نظر �إ�سالم �إليهم بامتنان العتقاده ب�أنهم يجاملونه‪ ،‬وهو ال‬
‫يدري �أن �إحداهن جتل�س على ُبعد �أمتار منه وقد تلبدت عيناها بالغيوم‬

‫ﻋﺼ‬
‫وت�سارعت �ضربات قلبها منذ �أن بد أ� �إن�شاد‪ ،‬ورغم �أن �صوته مل يكن عذ ًبا‬
‫مبا يكفي �إال �أنها �أحبته �أكرث من �أي �صوت �آخر‪ ،‬فقط لأنه �صوت زوجها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وحبيبها‪ ،‬عاد �إ�سالم �إىل مقعده بعدما ترك مكرب ال�صوت من يده‪ ،‬بد�أ‬
‫ﻜﺘ‬
‫النادل بتوزيع امل�شروبات على احل�ضور ثم ا�ستمرت الفقرات مرة �أخرى‬
‫حتى انتهى الوقت املحدد للعر�س‪ ،‬وحينها خطف الفار�س زوجته وهرب‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بها �إىل بيته‪.‬‬


‫‪zzz‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫�صعدا م ًعا �إىل الطابق الرابع‪ ،‬ذكرا اهلل ودلفا �إىل بيتهما‪� ،‬أغلق �إ�سالم‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الباب ونظر �إىل زوجته بحب وهم�س‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬نورتي بيتك يا حبيبتي‪.‬‬


‫‪ -‬ده نورك يا �إ�سالم‪.‬‬
‫نطقت بها ويف �صوتها رجفة تنذر ببكاء قريب‪� ،‬شعر �إ�سالم بها‬
‫ف�أم�سك بيدها بحنان و�سار بها �إىل الأريكة التي تتو�سط غرفة ال�ضيوف‪،‬‬
‫�أ�شار �إليها �أن جتل�س وقال‪:‬‬
‫‪ -‬حلظة واحدة وجاي ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫‪295‬‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها بابت�سامة خفيفة وجل�ست وقد بدت عليها �أمارات التوتر‪،‬‬
‫عاد �إ�سالم وهو يخفي ميناه خلف ظهره‪ ،‬حاولت �أن تتبني ما يحمله خلف‬
‫ظهره ولكنها ف�شلت‪ ،‬فابت�سم �إ�سالم و�أ�شار �إليها بقطعة �شيكوالتة كبرية‬
‫احلجم من النوع الذي تف�ضله وقال �ضاح ًكا‪:‬‬
‫‪� -‬أنا عارف �إنك بتفرحي باحلاجات التافهة دي‪.‬‬
‫�ضحكت رغ ًما عنها‪ ،‬نظرت �إليه بغيظ وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬ما�شي يا �إ�سالم‪� ،‬شك ًرا‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫بد�أت بفتح املغلف والتهمت �أول ق�ضمة من ال�شيكوالتة بتلذذ‪ ،‬نظر‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�إ�سالم �إليها بابت�سامة هادئة‪ ،‬ما زالت حتمل بني جنباتها قلب طفلة ولن‬
‫تتغري‪ ،‬م�سح على ر�أ�سها بحب وقال‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬هروح �أتو�ضى عقبال ما تخل�صي �أكلك‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بدل ثيابه وجدد و�ضوءه‪ ،‬ثم عاد �إليها فوجدها جال�سه مرتبعة على‬
‫الأريكة وقد �أ�سندت كوعيها على ركبتيها‪� ،‬ضمت كفيها و�أ�سندت ذقنها‬
‫ﺸﺮ‬

‫عليهما‪ ،‬وتنظر �إليه بابت�سامة ممتنة‪ ،‬جل�س �إىل جوارها وقال‪:‬‬


‫‪ -‬عجبتك؟‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪� -‬أوي يا �إ�سالم‪� ،‬شك ًرا جدً ا‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ربت على كتفيها و�أ�شار �إىل املمر الطويل امل�ؤدي �إىل دورة املياه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬يال روحي اتو�ضي وتعايل عل�شان ن�صلي �سوا‪.‬‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها وغادرت الغرفة‪ ،‬تابعها �إ�سالم بعينيه حتى اختفت‪ ،‬ثم‬
‫�أخرج ورقة من جيب بنطاله وبد أ� يهم�س عدة مرات‪« :‬ب�سم اهلل‪ ،‬اللهم‬
‫جنبنا ال�شيطان‪ ،‬وجنب ال�شيطان ما رزقتنا» ذلك الدعاء الذي يجب �أن‬
‫يقوله يف كل مرة قبل ِجماع �أهله كما و�صانا النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪،‬‬
‫‪296‬‬
‫ت�أكد من �أنه حفظه ب�شكل جيد ود�س الورقة يف جيبه مرة �أخرى‪ ،‬وانتظر‬
‫حتى خرجت �إليه زوجته وهي ترتدي مالب�س ال�صالة‪ ،‬نظر �إليها �ضاح ًكا‬
‫فانكم�شت يف نف�سها حيا ًء منه‪ ،‬وبد�أت بارتباك ت�ضع �سجادتي ال�صالة‬
‫على الأر�ض‪ ،‬وقف �أمامها وكرب ف�شعرت برجفة جميلة يف قلبها‪ ،‬وكربت‬
‫وراءه‪� ،‬صلى بها ركعتني ثم التفت �إليها‪ ،‬و�ضع يده على مقدمة ر�أ�سها‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪ -‬اللهم �إين �أ�س�ألك من خريها وخري ما ُج ِب ْلت عليه‪ ،‬و�أعوذ بك‬
‫من �شرها و�شر ما ُج ِب ْلت عليه‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ثم رم�ش بعينيه وقال بحب‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫فيك يا �سلمى‪.‬‬
‫‪ -‬ربنا يباركلي ِ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ارت�سمت ب�سمة �صغرية على ثغرها َت ِبعتها رجف ٌة خفيفة اجتاحت‬
‫ج�سدها كله‪ ،‬فنظر �إليها �إ�سالم راف ًعا حاجبه الأمين وقال‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أنت خايفة كده ليه؟‬


‫‪ -‬ممكن تقوليلي � ِ‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬هاه! لأ �أنا م�ش خايفة خال�ص‪.‬‬


‫‪ -‬لأ ما هو وا�ضح ً‬
‫فعل‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قالها �ضاح ًكا‪ ،‬ثم نظر يف عينيها بحنان وهم�س‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬عاوزك تعريف �إن من �أهم �أهدايف يف عالقتنا �سوا �إنك تكوين‬


‫متطمنة ومرتاحة طول ما �أنا جنبك‪� ،‬إين م�شوف�ش نظرة‬
‫عينيك مرة تانية؛ لأين راجلك و�سندك و�أكرث‬
‫ِ‬ ‫اخلوف دي يف‬
‫أنت �أمانة عندي‪ ،‬عاوزك كمان‬ ‫عليك عل�شان � ِ‬
‫واحد هيخاف ِ‬
‫تعريف �إين م�ش �أناين يا �سلمى‪ ،‬وعمري ب�إذن اهلل ما هكون‬
‫ال�شخ�ص اللي بيفكر يف م�صلحته وب�س وين�سى مراته‪� ،‬أنا ُمقدر‬
‫خماوفك وتوترك و�إحراجك‪ ،‬عل�شان كده �أنا هراعي النقاط‬
‫‪297‬‬
‫متاما على‬
‫معاك حلد ما تتعودي ً‬
‫دي كلها ب�إذن اهلل يف تعاملي ِ‬
‫حياتك اجلديدة معايا‪.‬‬
‫بعد �سماعها لتلك الكلمات قذف اهلل الطم�أنينة وال�سكينة يف قلبها‪،‬‬
‫هد�أت نف�سها وتوقفت ارتعا�شة ج�سدها‪ ،‬متتمت بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬بجد �شك ًرا جدً ا يا �إ�سالم‪ ،‬ربنا يباركلي فيك‪.‬‬
‫مازحا‪:‬‬
‫حرك ر�أ�سه مبرح وقال ً‬
‫‪ -‬ال�شكر هلل يا �ستي‪ ،‬املهم �سيبك دلوقتي من الكالم العميق ده‬

‫ﻋﺼ‬
‫كنت بتقويل �إن والدتك عاماللنا �أكل حلو‬
‫وخلينا يف املهم‪ِ ،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�أوي النهارده‪� ،‬أنا حلد دلوقتي م�شوفت�ش �أي �أكل‪ ،‬خبيتيه فني؟‬
‫اعرتيف!‬
‫ﻜﺘ‬
‫�ضحكت حتى بدت نواجذها ثم نه�ضت من مكانها و�سارت باجتاه‬
‫املطبخ لتجهز الع�شاء‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪zzz‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫�صبيحة اليوم اخلام�س بعد زواجهما ات�صلت هند ب�أخيها لتخربه ب�أنها‬
‫ﻭ‬

‫�ستح�ضر م�سا ًء ب�صحبة والدتها وخالتها وزوج خالتها لزيارتهم‪ ،‬فا�ستعد‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫كل من �إ�سالم و�سلمى لتلك الزيارة بحما�س �شديد‪ ،‬بعد �صالة الع�شاء‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ب�ساعة تقري ًبا �سمعا طرقات متفرقة على باب منزلهما‪ ،‬فتح �إ�سالم الباب‬
‫و�سلم عليهم بحرارة ثم دعاهم للدخول‪ ،‬جل�ست خالته على �أحد املقاعد‬
‫وبد�أت تتلفت ذات اليمني وذات ال�شمال وتدقق النظر يف كل ما يحيط‬
‫بها‪ ،‬ح�ضرت �سلمى وو�ضعت �أكواب الع�صري التي كانت حتملها على‬
‫الطاولة‪ ،‬ثم اقرتبت من الن�ساء واحت�ضنت كل منهن وحيتهن ببهجة‪ ،‬ثم‬
‫جل�ست بجوار زوجها‪ ،‬قالت اخلالة �شكرية با�ستنكار وهي ت�شري �إىل نقاب‬
‫العرو�س‪:‬‬
‫‪298‬‬
‫أنت يا بنتي الب�سالنا البتاع ده ليه! هو فيه حد غريب! ده عمك‬
‫‪ -‬و� ِ‬
‫أبوك‪.‬‬
‫ح�سني قد � ِ‬
‫ثم نظرت لها بجدية وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬اخلعيه يا بنتي واقعدي براحتك‪ ،‬واهلل �أنا ما عارفة الزمته �إيه‬
‫البتاع اللي خانقني نف�سكم بيه ده!‬
‫�شعرت �سلمى باحلرج ال�شديد وردت عليها بال�صمت‪ ،‬بينما تدارك‬
‫�إ�سالم املوقف ونظر �إىل خالته وقال ب�أدب‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬النقاب ده نعمة من ربنا يا خالتي‪ ،‬و�سلمى بتحبه و�أنا كمان‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مب�سوط �إنها لب�ساه وحابة تلتزم بيه‪ ،‬ادعيلها بالثبات‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ثم ابت�سم وقال مغ ًريا جمرى احلديث‪:‬‬
‫‪ -‬املهم قوليلي �إيه ر�أيك يف ال�شقة؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أخذت ر�شفة من كوب الع�صري الذي بني يديها ثم �ضحكت وقالت‬


‫ﺸﺮ‬

‫�ساخرة‪:‬‬
‫‪ -‬وهو �أنا �شوفت حاجة عل�شان �أقول ر�أيي!‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫نه�ض �إ�سالم من مكانه و�أ�شار �إليهم بيديه ً‬


‫قائل‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬طيب اتف�ضلوا اتفرجوا على ال�شقة‪.‬‬


‫نه�ض اجلميع عدا ال�سيد ح�سني الذي رف�ض الدخول معهم‪ ،‬مت�شت‬
‫ال�سيدة �شكرية على مهل و�أخذت تدقق النظر يف الأثاث والديكور‪ ،‬ثم‬
‫عادت ب�صحبة �أختها وبنتها �إىل غرفة ال�ضيوف‪ ،‬ا�ست�أذنت منهم �سلمى‬
‫وذهبت لإح�ضار بع�ض �أنواع احللويات فمالت ال�سيدة �شكرية على �أختها‬
‫وهم�ست يف �أذنها‪:‬‬
‫‪299‬‬
‫‪� -‬أُمال الني�ش حطينه فني؟‬
‫ابت�سمت والدة �إ�سالم وقالت بطيبة‪:‬‬
‫‪ -‬الوالد قالوا م�ش عاوزين ني�ش‪.‬‬
‫‪ -‬وده ينفع يعني! أُ�مال هتحط حاجتها فني! وال هي م�ش جايبة‬
‫�إال على القد!‬
‫‪ -‬حتط حاجتها يف املكان اللي يعجبها يا �شكرية‪ ،‬ده بيتها وهي‬

‫ﻋﺼ‬
‫حرة فيه‪ ،‬وكمان ما �شاء اهلل عليها جابت حاجات جميلة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫ورقيقة زيها‪.‬‬
‫‪ -‬طيب والت�سريحة بتاعتها فا�ضية كده ليه هي كمان! يا دوب‬
‫�شوية حاجات حطاهم يف الن�ص كده وخال�ص‪ ،‬ده �أنا بناتي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كانوا بيملوا الت�سريحة كلها وم�ش بيالقوا مكان يحطوا فيه‬


‫باقي حاجتهم‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫زفرت والدة �إ�سالم وقالت‪:‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬وبناتك بردو يا �شكرية ملحقو�ش ي�ستخدموا كل احلاجات دي‪،‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ويف الآخر ال�صالحية بتاعتهم انتهت وا�ضطروا يرموهم‪� ،‬صح‬


‫وال لأ؟‬
‫رمقتها بنظرة باردة ومل ترد‪ ،‬فتابعت والدة �إ�سالم‪:‬‬
‫‪� -‬سلمى بنت ذكية وعاقلة يا �شكرية وعارفة كوي�س املفرو�ض‬
‫جتيب �إيه وامتى‪ ،‬وكمان �أنا م�ش مهم عندي كل الكالم ده‪،‬‬
‫�أنا كل اللي بتمناه �إن ابني يكون مب�سوط ومرتاح معاها وب�س‪.‬‬
‫‪300‬‬
‫همت �شكرية بالرد ولكن قطعها دخول �سلمى وهي حتمل �صينية مليئة‬
‫ب�أ�صناف احللويات بني يديها‪ ،‬نه�ضت هند و�ساعدتها يف توزيع الأطباق‬
‫على اجلميع‪ ،‬تناولوا ما حوته الأطباق �أثناء حديثهم يف موا�ضيع �شتى ثم‬
‫ا�ست�أذنوا من �إ�سالم وغادروا على الفور‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫كانت �سعادتها عارمة‪ ،‬ت�سارعت دقات قلبها و�شعرت �أنه �سيخرج‬
‫من قف�صها ال�صدري‪ ،‬دعاها �أخوها للخروج للجلو�س مع العري�س‪ ،‬فلما‬

‫ﻋﺼ‬
‫�سمعت ا�سمه �شعرت وك�أنها حلقت بجناحيها �إىل �آفاق بعيدة يف �أعايل‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ال�سماء‪ ،‬اقرتب منها �أخوها �أكرث وكرر عليها طلبه فا�ستجابت وخرجت‬
‫معه‪ ،‬كانت تلك اجلل�سة ت�ضم كرمي ووالده من جهة‪ ،‬وفاطمة ووالدتها‬
‫ﻜﺘ‬
‫بي�سر �شديد‪ ،‬وذلك بعدما‬
‫و�أخيها الأكرب من جهة �أخرى‪ ،‬متت االتفاقات ٍ‬
‫�أحلت فاطمة على �أخيها �أن ي�ستجيب لكل مطالب العري�س‪ ،‬و�أخربته �أنه‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫على ُخلق وله ُ�سمعة طيبة يف اجلامعة وهي موافقة على الزواج منه‪،‬‬
‫اخلطبة يف �إحدى القاعات الفاخرة‪،‬‬ ‫بعدها بفرتة ب�سيطة �أُقيم حفل ِ‬
‫ﺸﺮ‬

‫كانت فاطمة ترتدي ف�ستا ًنا بلون الذهب وقد �أظهرت بع�ض اخل�صالت‬
‫ﻭ‬

‫ال�شقراء من �أ�سفل حجابها‪ ،‬كانت تبدو جميلة وفاتنة‪� ،‬شعر كرمي بالفخر‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عندما ر�آها‪ ،‬و�أخذ يرق�ص معها طيلة الليل‪ ،‬كانت الفتيات يلتففن حولهما‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وكل منهن تتمنى لو كانت مكانها‪� ،‬إال تلك امل�سكينة التي وقفت يف �آخر‬
‫القاعة وقد انزوى يف عينيها حزن �شديد‪ ،‬ويف اللحظة التي وقفا فيها‬
‫�أمام الكعكة املكونة من خم�س طبقات وبد�أ امل�صور يطلب منهما �أن يقوما‬
‫ببع�ض احلركات �أثناء تناول الكعكة حتى يلتقط لهما �أجمل ال�صور‪ ،‬مل‬
‫ت�ستطع التحمل وهرولت بقهر �إىل باب القاعة‪ ،‬ملحتها هند فهرولت خلفها‬
‫وحاولت منعها من املغادرة‪ ،‬ولكنها نظرت �إليها بعينني دامعتني وقلب‬
‫ممزق و�أخربتها �أنه ال بد من املغادرة‪ ،‬فر�ضخت هند لرغبتها وعادت‬
‫‪301‬‬
‫�صباحا‪ ،‬فعانقت العرو�س‬ ‫ً‬ ‫هي لتكمل احلفل‪ ،‬انتهى احلفل يف الواحدة‬
‫ذراع عري�سها وخرجت من القاعة‪ ،‬جل�ست �إىل جواره بفخر وذهبت بهما‬
‫ال�سيارة �إىل بيتها‪.‬‬
‫كانت فرتة اخلطبة من �أروع الفرتات التي مرت بها يف حياتها‪ ،‬ففي كل‬
‫منا�سبة كان يفاجئها كرمي بهدية �أثمن و�أجمل من التي �سبقتها‪ ،‬خرجت‬
‫معه �إىل كل مكان‪ ،‬حتى �أنها ظنت �أنه طاف بها العا�صمة كلها‪ ،‬بل �أنها‬
‫�أخربت �أهلها ذات مرة �أن هناك رحلة �ستقام يف اجلامعة للطالب وحديثي‬
‫التخرج و�سافرت معه ثالثة �أيام كانوا يف ر�أيها الأروع على الإطالق‪ ،‬كانت‬

‫ﻋﺼ‬
‫ت�شعر ب�سعادة كبرية وهي جتل�س بجانبه �أثناء قيادة ال�سيارة وجتده قد‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أي�ضا‪ ،‬تلك املواقف كانت‬ ‫�أم�سك بكفها وقب�ض عليها بقوة ورمبا لثمها � ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫تثبت لها حبه‪ ،‬ال تنكر �أنها يف بع�ض الأحيان كانت ت�شعر بانقبا�ض قلبها‬
‫وت�ؤنب نف�سها على ما تفعل‪ ،‬وخا�صة عندما وقعت عيناها ذات مرة �أثناء‬
‫َ َْ َ ْ ُ َ‬ ‫َْ َ ْ ُ َ‬
‫اس َول يستخفون‬ ‫قراءة والدتها للقر�آن على هذه الآية }يستخفون م َِن انلَّ ِ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫م َِن اهلل َو ُه َو َم َع ُه ْم{‪� ،‬شعرت حينها وك�أن الأر�ض متيد من حتت قدميها‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫�شعرت ب�أنها ر�سالة موجهة لها‪ ،‬فانتابها اخلوف لعدة �أيام و�أخذت تلوم‬
‫نف�سها على �أنها تخ�شى �أن ُيك�شف �أمرها �أمام �أخويها وال تخ�شى ممن‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫خلقها‪ ،‬ولكنها �سرعان ما جتاهلت هذا الإح�سا�س حتى ال يف�سد عليها‬


‫فرحتها‪ ،‬اقرتبت من كرمي يف تلك الفرتة كما مل تقرتب من قبل‪ ،‬مل تغب‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫يوما واحدً ا‪ ،‬ملأت حياته ب�شكل كامل‪ ،‬وذهبت معه �إىل منا�سبات‬ ‫عنه ً‬
‫عدة خا�صة ب�أهله و�أ�صدقائه‪ ،‬حتى �أن اجلميع كان ي�ضرب بهما املثل يف‬
‫احلب والغرام‪� ،‬شعرت �أنها �أخ ًريا وجدت ال�سعادة التي كانت حتلم بها‪،‬‬
‫انتظرت بلهفة مرور الأ�شهر ال�ستة املتفق عليهم للخطبة حتى ترى نف�سها‬
‫بف�ستانها الأبي�ض‪ ،‬وت�ضمن �أنها �ستظل �إىل جواره �إىل الأبد وتغرف من‬
‫في�ض حبه وكرمه‪.‬‬
‫‪302‬‬
‫ذات يوم �أخربها كرمي �أنه ال يريد الإجناب منها قبل ثالثة �أعوام‬
‫على الأقل‪ ،‬فهو غري م�ستعد نهائ ًيا لتحمل م�سئولية كتلك‪ ،‬كما �أنه يود �أن‬
‫ي�ستمتع بحياته معها ويريدها �أال تن�شغل ب�أي �شيء عنه‪ ،‬ا�ستجابت فاطمة‬
‫ملطلبه و�أكدت له ب�أنها �ست�أخذ مان ًعا للحمل منذ يوم زواجهما الأول‪،‬‬
‫ورغم �أن الطبيبة حذرتها من تلك اخلطوة �إال �أنها ا�ستجابت لإحلاحها يف‬
‫النهاية وو�صفت لها بع�ض موانع احلمل وطلبت منها �أن تختار من بينها‪،‬‬
‫وملا علم كرمي بتلك الأخبار �سرد على م�سامعها بع�ض عبارات االمتنان‬
‫واحلب‪ ،‬و�أخربها �أن مكانتها تعلو يف قلبه مبقدار طاعتها له‪ ،‬مرت الأيام‬

‫ﻋﺼ‬
‫اخلطبة‪ ،‬فقد كان‬ ‫�سري ًعا و�أتى يوم زفافهما‪ ،‬مل تختلف تلك الليلة عن ليلة ِ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أي�ضا‪ ،‬وكانت الفقرات املقدمة ت�شبه‬‫الزفاف يف �إحدى القاعات الفاخرة � ً‬
‫اخلطبة‪� ،‬إال �أنها كانت �أكرث عددًا‪ ،‬ويف نهاية املطاف لفت فاطمة‬
‫فقرات ِ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ذراعها حول ذراع زوجها ودخلت �إىل �سيارته لتنتقل �إىل عاملها اجلديد‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫دموع حارقة حترق وجنتيها‪ ،‬حتاول ال�سيطرة على �شهقاتها املتالحقة‬


‫ﺸﺮ‬

‫قليل وهو يرى الدمعات التي‬ ‫التي ت�صارع وت�أبى التوقف‪� ،‬سكت زوجها ً‬
‫ﻭ‬

‫تبعت الدمعة الأوىل تند قافزة من حواف عينيها تلحق بها �إىل الو�سادة‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫يف �سباق ال ينتهي‪ ،‬كان ميرر �أ�صابعه على �شعرها وهو يتلو بع�ض �آيات‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫القر�آن الكرمي وي�س�أل اهلل �أن ي�صربهما على ما حدث ويرزقهما من حيث‬
‫هام�سا‪:‬‬
‫ال يحت�سبا‪ ،‬احت�ضن خديها بكفيه ونادى با�سمها‪ ،‬قال ً‬
‫أرجوك‪.‬‬
‫‪ -‬كفاية � ِ‬
‫رفعت وجهها �إليه بنظرة قهر مل يرها من كرثة الدموع التي تغطي‬
‫وجهها والتي تفي�ض بكرم من ينبوع عينيها‪ ،‬وقالت بنربة مذبوحة وذابحة‬
‫من �أثر البكاء‪:‬‬
‫‪303‬‬
‫‪� -‬أنا ال�سبب يا فاروق‪� ،‬أنا اللي قتلته!‬
‫حاول �أن يبدو هاد ًئا‪ ،‬لكن �صوته املرتع�ش ف�ضح خبايا قلبه وهو يجيب‬
‫ب�صوت يت�صدع ح�سرة‪:‬‬
‫‪ -‬ده ق�ضاء ربنا واحنا را�ضيني يا نهى‪ ،‬رددي دا ًميا اللهم �أجرين‬
‫يف م�صيبتي و�أخلف يل خ ًريا منها‪.‬‬
‫حاولت �أن جتل�س فخرجت منها ندة �أمل‪� ،‬أ�سندها زوجها حتى‬
‫ا�ستقامت جل�ستها‪ ،‬ثم قالت بع�صبية مل تفلح يف �إخفائها‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪� -‬أنا ازاي كنت غبية كده! يعني �إيه �أبقى حامل والطفل ميوت يف‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بطني و�أنا ده كله م�ش حا�سة ب�أي حاجة!‬
‫ملحت دمعة ترتاق�ص على �أعتاب عينيه فقالت بندم‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪� -‬أنا �آ�سفة يا فاروق‪� ،‬آ�سفة على كل حاجة‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�شعر بال�شفقة جتاهها ملا �سمع نربة �صوتها املت�أملة‪ ،‬فر�سم ابت�سامة‬
‫على وجهه وهم�س‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫أنت ملكي�ش ذنب يف كل اللي ح�صل‪ ،‬احلمد‬ ‫‪� -‬آ�سفة على �إيه ب�س! � ِ‬
‫هلل يا نهى‪� ،‬أكيد اللي ح�صل ده ح�صل حلكمة يعلمها ربنا‪ ،‬و�أنا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫واثق �إن ربنا هيعو�ضنا خ ًريا عن الطفل اللي راح‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫نظرت �إليه ب�ضعف وقالت‪:‬‬


‫‪ -‬يعني �أنت مبقيت�ش بتكرهني يا فاروق؟ معقولة تكون ل�سه‬
‫بتحبني زي الأول؟‬
‫نظر يف عينيها ً‬
‫طويل وقال بحنان‪:‬‬
‫‪ -‬اللي بيني وبينك يا نهى �أكرب من احلب بكتري‪� ،‬أنا عمري ما‬
‫معاك‪.‬‬
‫ح�سيت براحة و�سكينة زي اللي ح�سيتها ِ‬
‫‪304‬‬
‫بيد من لطف على ق�سماتها‪ ،‬فر�سمت ب�سمة مطمئنة‬
‫م�سحت كلماته ٍ‬
‫على وجهها و�س�ألت‪:‬‬
‫‪ -‬هو �إيه اللي ممكن يكون �أكرب من احلب يا فاروق؟‬
‫‪ -‬املودة والرحمة‪.‬‬
‫نظرت �إليه بتعجب و�س�ألت‪:‬‬
‫‪ -‬يعني �إيه الفرق؟ ما هو طبيعي يكون فيه بيننا مودة ورحمة‬
‫طاملا بنحب بع�ض‪ ،‬م�ش املودة دي اللي هي املحبة؟ واللي بيحب‬

‫ﻋﺼ‬
‫حد �أكيد هيكون رحيم بيه‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ق�صة �سيدنا يو�سف؟ فاكرة ملا ربنا‬ ‫‪ -‬م�ش دا ًميا يا نهى‪ ،‬فاكرة‬
‫َْ‬ ‫ُ َ ُ َ َ َ َ َّ ْ‬ ‫َ َ َ ْ َ ٌ ْ َ َ ْ ََ ُ ْ َ‬
‫اود فتاها عن نف ِس ِه ۖ قد‬ ‫يز تر ِ‬ ‫قال }وقال ن ِس َوة ِف المدِين َ ِة امرأت الع ِز ِ‬
‫ﻜﺘ‬
‫َش َغ َف َها ُح ًّبا ۖ إِنَّا ل َ َن َاها ِف َضل ٍل ُّمبِ ٍني{ �شوفتي التعبري الدقيق «قد‬
‫�شغفها ح ًبا» ومع ذلك ملا تعفف �سيدنا يو�سف وحاول يبعد عنها‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حتول حبها ده لعنف وق�سوة و�سجن‪� ،‬شويف قالت بعدها �إيه‬


‫« َقا َل ْت َما َجزَ ا ُء َمنْ �أَ َرا َد ِب َ�أ ْه ِل َك ُ�سو ًءا ِ�إ َّل َ�أن ُي ْ�س َجنَ َ�أ ْو َع َذ ٌ‬
‫اب‬
‫ﺸﺮ‬

‫أَ� ِلي ٌم»‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫نظر �إىل عينيها مبت�س ًما وتابع‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫كده ملا ربنا ذكر يف َالقر�آن َالعالقة بني الزوج والزوجة‬ ‫‪ -‬عل�شان‬
‫ُ ْ ْ َ ً ِّ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َ َ َ َ‬ ‫َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ُ ِّ ْ ُ‬
‫قال }ومِن آيات ِ ِه أن خلق لكم من أنف ِسكم أزواجا لتسكنوا إِلها وجعل‬
‫َ ْ َ ُ َّ َ َّ ً َ َ ْ َ ً‬
‫حة{ مقال�ش حب‪ ،‬وده لأن املودة والرحمة �أعم و�أ�شمل‬ ‫بينكم مودة ور‬
‫بكتري من احلب‪.‬‬
‫‪ -‬ياااه يا فاروق‪� ،‬أنا عمري ما فكرت فيها بال�شكل ده‪ ،‬عندك حق‬
‫فعل‪ ،‬لو اللي بيننا ده جمرد حب فممكن مع �أول م�شكلة يتحول‬ ‫ً‬
‫احلب ده لكره �أو ق�سوة �أو ما �شابه‪.‬‬
‫‪305‬‬
‫و�ضعت كفها على كفه وقالت بحب‪:‬‬
‫بي‬
‫‪ -‬يف اليومني اللي فاتوا �أنا �شوفت قد �إيه �أنت كنت رحيم َّ‬
‫وقت �ضعفي‪ ،‬ويف كل ال�شهور اللي فاتت عي�شت معاك املعنى‬
‫احلقيقي للمودة‪ ،‬ربنا يباركلي فيك يا فاروق‪.‬‬
‫م�سح على �شعرها بحنان‪ ،‬نظر �إليها مبت�س ًما وقال بلطف‪:‬‬
‫وفيك يا حبيبتي‪ ،‬ممكن بقى نر�ضى بق�ضاء اهلل ونقول احلمد‬
‫‪ِ -‬‬
‫هلل من قلبنا؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أوم�أت بعينيها وهم�ست‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬احلمد هلل‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫�أ�شرقت الأر�ض بنور ربها‪ ،‬ت�سللت �أ�شعة �شم�سها وداعبت وجه تلك‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫احلورية النائمة ففتحت جفنيها بهدوء‪� ،‬ألقت نظرة على ذلك النائم �إىل‬
‫ﺸﺮ‬

‫جوارها وابت�سمت‪ ،‬ثم �سارت كفرا�شة رقيقة واجتهت نحو املطبخ لتعد‬
‫له فطوره قبل �أن ي�ستيقظ من نومه للذهاب لعمله‪� ،‬أعدت � ً‬
‫أ�شكال و�ألوا ًنا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫من الطعام‪ ،‬رتبت املائدة ب�شكل مبهج ثم �أيقظته بنربة حنونة �أ�سعدته‪،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�ساعدته يف ارتداء مالب�سه ثم جل�ست معه على الطاولة تطعمه بيديها‪،‬‬


‫كان ي�شعر بال�سعادة لذلك االهتمام‪� ،‬أيقن �أنه مل يخطئ يف قراره بالزواج‬
‫منها‪ ،‬ها هي تهتم به بنف�س احلما�س حتى بعد انتهاء ما ي�سمى ب�شهر‬
‫الع�سل‪� ،‬أنهى طعامه‪ ،‬ودعها مبت�س ًما‪ ،‬وهبط ذاه ًبا �إىل اجلامعة‪.‬‬
‫�أغلقت الباب وراءه‪ ،‬جل�ست على مقعدها الوثري وبد�أت ت�سرتجع‬
‫ذكريات ليلة زفافها‪ ،‬وبالتحديد نظرات احل�سد واحلقد التي ر�أتها يف‬
‫‪306‬‬
‫عيون الفتيات‪ ،‬رفعت هامتها عالية و�ضحكت بانت�صار‪ ،‬ها هي قد فازت‬
‫به وحدها يف النهاية‪ ،‬و�ستعي�ش �سعيدة معه �إىل الأبد‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫بعينني مت�سعتني نظرت �إليه بعدم ت�صديق‪ ،‬قربته من عينيها �أكرث‪،‬‬
‫وبد�أت تدقق النظر فيه �أكرث و�أكرث وفمها مفتوح من هول الده�شة‪ ،‬ذلك‬
‫امل�ستطيل الأبي�ض الذي يبتلع يف منت�صفه �شا�شة �صغرية‪ ،‬وقد ُر�سم على‬
‫خط �أحمر يعلوه ٌ‬
‫خط �آخر بنف�س اللون‪� ،‬سارت كالتائهة حتى‬ ‫هذه ال�شا�شة ٌ‬

‫ﻋﺼ‬
‫و�صلت �إىل زوجها النائم‪ ،‬حركت ذراعه عدة مرات لتوقظه‪ ،‬التفت �إليها‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بنعا�س �شديد‪ ،‬فقربت ما حتمله يف يديها �إىل وجهه‪ ،‬نظر �إليه بعدم فهم‪،‬‬
‫ثم عاود النظر �إليها و�س�أل‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪� -‬إيه ده؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ده اختبار حمل منزيل يا �إ�سالم‪ ،‬هو اللي �أنا �شايفاه ده حقيقي؟‬
‫قال بال وعي‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬جبتي االختبار ده بكام؟‬


‫ﻭ‬

‫نظرت �إليه بذهول‪ ،‬ثم �ضحكت رغ ًما عنها وقالت‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬بكام �إيه يا �إ�سالم! �أنا عملت اختبار حمل وطلع �إيجابي‪� ،‬أنت‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫متخيل يعني �إيه الكالم ده!‬


‫و�ضع الو�سادة فوق ر�أ�سه وهمهم‪:‬‬
‫‪� -‬إن �شاء اهلل هتبقي كوي�سة‪.‬‬
‫وقبل �أن تنطق بكلمة �سمعت �أ�صوات �شخريه تعم املكان‪ ،‬فجل�ست‬
‫با�ست�سالم على حافة الفرا�ش وبد�أت تنظر لالختبار مرة �أخرى وقد‬
‫ت�سارعت دقات قلبها‪ ،‬قررت �أن تت�صل بوالدتها لتت�أكد من ظنها فتناولت‬
‫‪307‬‬
‫الهاتف و�أخربت والدتها بالأمر‪ ،‬فبكت الأم بفرحة‪ ،‬وبكت �سلمى لبكائها‬
‫ثم �أغلقت اخلط‪ ،‬حمدت اهلل كث ًريا‪ ،‬وبعدها نامت حتى موعد عملها‪.‬‬
‫�صباحا ا�ستيقظت من نومها‪� ،‬أعدت فطو ًرا خفي ًفا ثم‬ ‫ً‬ ‫يف ال�سابعة‬
‫عادت �إىل زوجها النائم‪ ،‬جل�ست �إىل جواره وبد�أت تربت على ذراعه‬
‫وتنادي با�سمه‪ ،‬فتح عينيه بهدوء وهو يتثاءب‪ ،‬ابت�سم �إليها وقال‪:‬‬
‫‪� -‬صباح اخلري يا �سلمى‪.‬‬
‫نظرت �إليه بغيظ وقالت‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪� -‬صباح النور يا �سيدي‪ ،‬يال عل�شان ح�ضرتلك الفطار‪ ،‬مع �إين‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫املفرو�ض معمل�ش �أي حاجة النهارده‪ ،‬ب�س كله بثوابه بقى‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬ليه؟!‬
‫�س�ألها متعج ًبا‪ ،‬فقالت بحما�س‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬عل�شان هجيب نونو ب�إذن اهلل‪.‬‬


‫نظر �إليها بعدم فهم و�س�أل‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬هتجيبيه منني؟‬
‫ﻭ‬

‫�أ�شارت �إىل مو�ضع حملها وهم�ست مبت�سمة‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬من هنا‪.‬‬
‫انتف�ض من مكانه‪� ،‬أم�سك �أعلى ذراعيها بكفيه‪ ،‬بد�أ ينقل ب�صره بينها‬
‫وبني مو�ضع حملها لعدة مرات ثم �س�أل بعدم ت�صديق‪:‬‬
‫أنت حامل؟‬
‫‪� -‬سلمى � ِ‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها وقد حمل وجهها كل �آيات ال�سعادة‪ ،‬فانفرجت �أ�ساريره‪،‬‬
‫عانقها ومتتم‪:‬‬
‫‪308‬‬
‫‪ -‬يا ربي لك احلمد‪ ،‬احللم اللي م�ستنيني حتقيقه بقالنا �شهور‪،‬‬
‫مبارك يا حبيبتي‪.‬‬
‫تذكرت ما حدث بعد �صالة الفجر فقالت بغيظ‪:‬‬
‫‪ -‬على فكرة �أنا قولتلك �أول ما عملت االختبار عل�شان �أفرحك‪،‬‬
‫ب�س �أنت �صدمتني برد فعلك‪.‬‬
‫‪ -‬ليه؟ هو �أنا عملت �إيه؟‬
‫‪ -‬حطيت املخدة على را�سك ومنت!‬

‫ﻋﺼ‬
‫انخرط يف ال�ضحك فكورت كفها وكادت �أن تلكمه يف وجهه‪� ،‬أم�سك‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بكفها ال�صغري وقال �ضاح ًكا‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬خال�ص �أنا �آ�سف‪ ،‬حقيقي حم�سيت�ش ب�أي حاجة من اللي‬
‫بتقوليها دي‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ما�شي ه�ساحمك و�أمري هلل‪ ،‬يال بقى عل�شان متت�أخر�ش على‬


‫ال�شغل‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫تناوال فطورهما م ًعا ثم ارتدى كل منهما مالب�سه‪� ،‬أخربته �سلمى ب�أنها‬


‫ﻭ‬

‫مودعا‬
‫�ستغادر حتى ال تت�أخر على الطابور ال�صباحي‪ ،‬فوقف على الباب ً‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�إياها وقد كانت عيونه ت�شع فرحة‪ ،‬نظر �إليها ً‬


‫طويل ثم قال بحب‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬م�ش عاوزك تقلقي من �أي حاجة‪ ،‬ب�إذن اهلل هقب�ض خالل كام‬
‫يوم‪ ،‬ا�س�أيل على دكتورة كوي�سة و�أول ما املرتب ييجي هرنوح‬
‫عليك‪.‬‬
‫لها علطول عل�شان نتطمن ِ‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها بابت�سامة مطمئنة ثم ودعته و�أغلقت الباب‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫‪309‬‬
‫كانت تراقب عقارب ال�ساعة وت�شعر وك�أنها تدق فوق ر�أ�سها‪� ،‬شعور‬
‫مزيج من احلما�س والتوتر ينتابها‪ ،‬دارت عدة مرات يف البيت ثم هم�ست‬
‫لنف�سها �أخ ًريا باطمئنان‪ :‬كل �شيء جاهز‪ .‬جل�ست على �أحد املقاعد وظلت‬
‫تراقب عقارب ال�ساعة حتى �سمعت طرقاته على باب املنزل‪ ،‬نب�ض قلبها‬
‫بفرحة‪ ،‬هرولت نحو املر�آة وعدلت من هندامها ثم فتحت الباب ووقفت‬
‫خلفه‪ ،‬دخل زوجها و�ألقى التحية‪ ،‬ثم �ضحك عندما ر�أى هي�أتها‪ ،‬فقد‬
‫كانت ترتدي تنورة �سوداء يعلوها قمي�ص �أبي�ض‪ ،‬وقد لفت حول عنقها‬

‫ﻋﺼ‬
‫�إحدى رابطات عنقه التي حملت اللون الأزرق‪ ،‬ثم رفعت �شعرها لأعلى‬
‫وو�ضعت القليل من م�ساحيق التجميل‪ ،‬ابت�سمت �إليه وقالت ب�شيء من‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫اجلدية‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬وعليكم ال�سالم ورحمة اهلل وبركاته‪ً � ،‬‬
‫أهل بح�ضرتك يا فندم‬
‫يف مطعم الأكلة ال�سعيدة‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تناولت وردة حمراء من على الطاولة‪� ،‬أعطته �إياها ومتتمت‪:‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ح�ضرتك �أول مرة ت�شرفنا‪ ،‬م�ش كده؟‬


‫‪ -‬م�ش عارف‪ ،‬تقري ًبا!‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ابت�سمت املر�أة و�أ�شارت �إليه �أن يجل�س على ر�أ�س الطاولة‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬احنا ل�سه فاحتني املطعم جديد‪ ،‬ونتمنى �إن اخلدمة تعجب‬


‫ح�ضرتك وتكرر الزيارة مرة تانية‪.‬‬
‫‪� -‬إن �شاء اهلل‪.‬‬
‫متتم بها مبت�س ًما وقد �أعجبته اللعبة‪ ،‬فتناولت املر�أة قائمة الطعام‬
‫التي قد �أعدتها م�سب ًقا‪ ،‬قدمتها �إليه وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬دي الوجبات اللي بنقدمها حال ًيا‪ ،‬يا رب تنال �إعجاب ح�ضرتك‪.‬‬
‫‪310‬‬
‫�أم�سك فاروق بقائمة الطعام التي تكونت من وجهني زينتهما زوجته‬
‫ب�شكل مميز‪ ،‬قلبها بني يديه بحما�س ثم فتحها وبد أ� يقر�أ ما فيها بعينيه‪:‬‬
‫( الوجبة العائلية)‬
‫خروف م�شوي على الفحم‪� ،‬أرز‪� ،‬سلطة‪ ،‬طحينة‬
‫ال�سعر‪ :‬ع�شرة �آالف جنيه‪.‬‬
‫( الوجبة ال�سوبر)‬

‫ﻋﺼ‬
‫طبق حم�شي كرنب مميز‪ ،‬فراخ م�شوية‪� ،‬شوربة‪� ،‬سلطة‪� ،‬صنفان من‬
‫احللويات‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ال�سعر‪ :‬بع�شرة جنيه لب و�سوداين من عند �أبو حممد‪.‬‬
‫( الوجبة العادية)‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�صينية بطاط�س بالفراخ‪� ،‬أرز‪� ،‬سلطة‪� ،‬شوربة‬


‫ﺸﺮ‬

‫ال�سعر‪ :‬رحلة �إىل �إحدى الدول الأوروبية ملدة ع�شر �أيام‪.‬‬


‫( وجبة الدايت)‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫كوب زبادي‪ ،‬ثمرة فاكهة‪ ،‬كوب ماء‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ال�سعر‪ :‬مئة دوالر‬


‫كانت تتابع تعبريات وجهه طوال الوقت وت�ستمع �إىل �ضحكاته اخلفيفة‬
‫التي �أ�صدرها �أثناء القراءة‪� ،‬أغلق فاروق قائمة الطعام وقال �ضاح ًكا‪:‬‬
‫‪ -‬الأ�سعار بتاعتكم رهيبة‪.‬‬
‫حاولت كتم �ضحكاتها وقالت بجدية م�صطنعة‪:‬‬
‫‪311‬‬
‫‪ -‬حاولنا بقدر الإمكان �إنها تكون يف متناول اجلميع‪ ،‬املهم‬
‫ح�ضرتك قررت هتاكل �إيه؟‬
‫قال ب�شك‪:‬‬
‫أنت م�ش عارفة؟‬
‫‪ -‬يعني � ِ‬
‫لوت �شفتيها لأ�سفل ورفعت كتفيها لأعلى وقالت برباءة‪:‬‬
‫‪ -‬و�أنا هعرف منني يا فندم‪ ،‬كل واحد من حقه يختار احلاجة‬
‫اللي بيحبها‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ق�صدك كل واحد من حقه يختار احلاجة اللي هيعرف يدفع‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫متنها‪ ،‬هاتيلنا املح�شي يا بنتي عل�شان �أنا ميت من اجلوع‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬حا�ضر يا فندم‪ ،‬حلظة واحدة‪.‬‬
‫قالتها وهرولت �إىل املطبخ‪� ،‬أطلقت كل ال�ضحكات التي كانت تكتمها‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫خالل الدقائق ال�سابقة‪� ،‬سمعت �صوتًا �آت ًيا من اخلارج يقول‪:‬‬


‫‪� -‬سمعتك على فكرة!‬
‫ﺸﺮ‬

‫فو�ضعت يدها على فمها وو�أدت �ضحكتها التالية بداخله‪ ،‬ثم بد�أت‬
‫ﻭ‬

‫بو�ضع الطعام يف �صمت‪ ،‬انتهت من ترتيب املائدة ووقفت على مقربة من‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫زوجها وقالت‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬لو ح�ضرتك احتجت �أي حاجة �أنا موجودة‪.‬‬


‫‪ -‬ب�صراحة عندي طلب كده‪ ،‬ب�س م�ش عارف هينفع وال لأ‪.‬‬
‫‪ -‬لو �أقدر عليه هعمله �أكيد يا فندم‪.‬‬
‫قال بطفولية‪:‬‬
‫‪ -‬ب�صراحة �أنا م�ش بحب �آكل لوحدي‪ ،‬ممكن تقعدي تاكلي‬
‫معايا؟‬
‫‪312‬‬
‫ت�صنعت احلرج وهي تومئ بر�أ�سها‪ ،‬جل�ست على ميينه بهدوء وبد�أت‬
‫تتناول الطعام بخفة‪ ،‬نظر �إليها فاروق ممت ًنا وقال‪:‬‬
‫‪ -‬مبدئ ًيا �أنا حبيت الفكرة جدً ا‪ ،‬ب�س ممكن تقوليلي �إيه �سبب‬
‫التغيري املفاجئ ده؟‬
‫‪ -‬تغيري �إيه يا فندم؟!‬
‫�صفق فاروق بيده مرتني‪ ،‬ثم قال مبرح‪:‬‬
‫‪ -‬ارجع لأ�صلك يا مارد!‬

‫ﻋﺼ‬
‫ابت�سمت نهى وقالت ب�صدق‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬ملا اجتوزنا يا فاروق �أنا كنت ناوية �أعمل كل اللي �أقدر عليه‬
‫ﻜﺘ‬
‫عل�شان �أخليك �أ�سعد �إن�سان يف الدنيا‪ ،‬كنت بتمنى �أ�شوفك‬
‫بت�ضحك طول الوقت‪ ،‬وكنت ب�سعى لكده بكل قوتي‪ ،‬كمان كنت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بتمنى ربنا يرزقني بطفل منك‪.‬‬


‫تنهدت تنهيدة خفيفة وتابعت‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫احلمل ات�أخر بد�أت �أقلق‪ ،‬وغ�صب عني نف�سيتي ات�أثرت‬ ‫‪ -‬ملا َ‬


‫ب�سبب املو�ضوع ده وكنت بعيط كل �شوية‪ ،‬كمان النا�س كانوا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫كل ما ي�شوفوين ي�س�ألوين فيه بيبي جاي يف ال�سكة وال لأ‪ ،‬وملا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أقولهم لأ يب�صويل بنظرة �شفقة‪� ،‬أحيا ًنا كمان كنت بعرف �إن‬
‫علي‪ ،‬املو�ضوع ده‬
‫واحدة قريبتي �أو �صاحبتي حامل وخمبية َّ‬
‫كان بيتعبني جدً ا‪ ،‬كل ده خالين م�ش بفكر طول الوقت �إال يف‬
‫اخللفة‪� ،‬ضيعت �أول �سنة من جوازنا يف النكد‪ ،‬تعبتك معايا‬
‫كتري و�أنت كنت بت�صرب وت�ستحمل وتعمل معايا اللي مفي�ش حد‬
‫بيعمله مع مراته‪.‬‬
‫بتحد وقالت‪:‬‬
‫نظرت �إليه ٍ‬
‫‪313‬‬
‫‪ -‬ب�س خال�ص يا فاروق‪ ،‬كفاية الوقت اللي �ضاع‪� ،‬أنا فكرت كتري‬
‫الفرتة اللي فاتت وقررت �أ�ستمتع بحياتي معاك وم�ش ه�سمح �إن‬
‫حلظة تانية ت�ضيع مني بعد كده‪ ،‬واحلمل ييجي وقت ما ييجي‪،‬‬
‫عل�شان وقتها ملا تالقيني م�شغولة بالبيبي تفتكر ر�صيدي عندك‬
‫من املواقف احللوة‪.‬‬
‫�أم�سكت يديه مبت�سمة وقالت بحب‪:‬‬
‫‪ -‬كمان يا فاروق �أنت مت�ستاهل�ش مني اللي كنت بعمله ده �أبدً ا‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أنت ت�ستاهل كل حاجة حلوة يف الدنيا‪.‬‬
‫قب�ض على كفها بيده الأخرى وقال ب�أمل‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬ياااه يا نهى‪ ،‬متعرفي�ش �أنا كنت م�ستني اللحظة دي قد �إيه‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫احلمد هلل �إنك رجعتي من تاين‪.‬‬
‫نظرت �إليه نادمة وقالت ب�صدق‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ب�إذن اهلل الفرتة اجلاية هعو�ضك عن كل اللي فات‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬و�أنا م�ستني‪.‬‬
‫قالها بحما�س‪ ،‬ثم تابع تناول طعامه معها ويف قلب كل منهما الكثري‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫من احلب والأمل‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪zzz‬‬
‫يف الفرتة الأخرية �شكت لزوجها عدة مرات من �أنها تعاين من بع�ض‬
‫اال�ضطرابات يف معدتها‪� ،‬شعور باخلمول والإرهاق ينتابها‪� ،‬إح�سا�س‬
‫بالغثيان ورغبة يف التقي�ؤ م�ستمرة‪ ،‬طلب زوجها منها �أكرث من مرة �أن‬
‫تذهب معه للطبيب ليطمئن عليها فكانت ترف�ض متعللة ب�أنها ال حتب زيارة‬
‫الأطباء‪ ،‬ولكنها ملا الحظت ا�ستمرار تلك الأعرا�ض ا�ست�سلمت ووافقت‬
‫‪314‬‬
‫�أخ ًريا على الذهاب معه‪ ،‬قال زوجها للطبيب ب�أنها تعاين من بع�ض �آالم‬
‫املعدة‪ ،‬ومن املمكن �أن يرجع ذلك �إىل تناولهما �أطعمة من خارج املنزل‬
‫يف الكثري من الأحيان‪� ،‬إذ رمبا تناولت زوجته �شي ًئا فا�سدً ا ف�سبب لها‬
‫هذا الأمل‪ ،‬نظر �إليه الطبيب متفه ًما و�أخربه ب�أنه �سيقوم ب�إجراء بع�ض‬
‫الفحو�صات‪ ،‬بعد دقائق قليلة عاد �إليه وقد �أنار وجهه م�ستب�ش ًرا‪ ،‬وقال‬
‫ً‬
‫متهلل‪:‬‬
‫‪ -‬مربوك‪ ،‬املدام حامل‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫�شهقت بخوف تلك التي كانت خلف ال�ستار تعدل من هندامها‪ ،‬بينما‬
‫نظر كرمي للطبيب بذهول وقال ب�صدمة‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬حامل ازاي! دي بتاخد مانع للحمل!‬
‫ﻜﺘ‬
‫�شبك الطبيب �أ�صابعه‪ ،‬و�ضع كفيه على الطاولة‪ ،‬وقال باتزان‪:‬‬
‫‪� -‬إرادة ربنا فوق كل �شيء‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عادت فاطمة وقد حمل وجهها كل �ألوان القلق والتوتر‪ ،‬جل�ست يف‬
‫ﺸﺮ‬

‫مقابل زوجها ونك�ست ر�أ�سها‪ ،‬نظر �إليها كرمي نظرة �أخافتها و�س�أل‪:‬‬
‫كنت بتاخدي احلبوب بانتظام؟‬
‫أنت م�ش ِ‬ ‫‪ِ �-‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬تقري ًبا‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫نظر �إليها بغ�ضب ت�أجج ب�صدره و�صرخ‪:‬‬


‫كنت بتاخديها بانتظام وال لأ؟‬
‫‪ -‬يعني �إيه تقري ًبا‪ ،‬بقولك ِ‬
‫انكم�شت يف مقعدها وقالت بتلعثم‪:‬‬
‫‪ -‬كنت بن�ساها يف بع�ض الأحيان‪ ،‬ب�س م�ش كتري‪.‬‬
‫�أب�صرت للمرة الأوىل ال�شرر بعينه‪ ،‬فاجتاحتها رع�شة �شديدة‪ ،‬بينما‬
‫قال كرمي بتوعد‪:‬‬
‫‪315‬‬
‫هوريك ازاي تبقي تن�سيها بعد كده‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬بتن�سيها؟ ااااه طيب �أنا‬
‫نظر �إليه الطبيب ب�ضيق وقال بجدية‪:‬‬
‫‪ -‬من ف�ضلك احلالة النف�سية اجليدة مهمة جدً ا للمر�أة احلامل‪،‬‬
‫يا ريت ح�ضرتك تراعي النقطة دي وتتقبل الأمر الواقع‪.‬‬
‫كان �سي�صب غ�ضبه الهادر على الطبيب ولكنه تراجع يف �آخر حلظة‪،‬‬
‫نه�ض من مكانه وفتح باب الغرفة وخرج‪ ،‬ح ّولت فاطمة نظرها بني الباب‬
‫املفتوح وبني الطبيب وهي ال تدري ما يجب عليها فعله‪ ،‬ابت�سم الطبيب‬

‫ﻋﺼ‬
‫ليطمئنها وطلب منها �أن تذهب يف �أ�سرع وقت لأحد �أطباء الن�ساء والتوليد‬
‫لتتابع حملها‪� ،‬أوم�أت �إليه بتفهم ثم هبطت الدرج ب�سرعة و�سارت حتى‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫و�صلت �إىل عربة زوجها‪ ،‬وجدته يكور كفه وي�ضرب به على نافذة ال�سيارة‬
‫ﻜﺘ‬
‫عدة مرات‪� ،‬أم�سكت باملقب�ض وفتحت باب العربة وهمت �أن جتل�س قبل �أن‬
‫جتده ي�صرخ بها ويقول وهو ي�شري ب�سبابته‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬متقعدي�ش جنبي‪ ،‬ارجعي ورا‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫�شعرت باحلرج‪� ،‬أغلقت الباب مرة �أخرى‪ ،‬عادت للخلف وجل�ست يف‬
‫هدوء‪� ،‬أطبق عليهما ال�صمت طوال الطريق �إال من بع�ض ال�سباب الذي‬
‫ﻭ‬

‫�ألقاه زوجها على م�سامع بع�ض الذين كانوا يعرت�ضون طريقه �أثناء‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫القيادة‪ ،‬كان قلبها ينب�ض خو ًفا ً‬


‫وفزعا‪ ،‬هذه هي املرة الأوىل التي تراه‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫فيها على هذا احلال‪ ،‬ويبدو �أنها لن تكون الأخرية‪.‬‬


‫دخال املنزل م ًعا‪� ،‬أغلق زوجها الباب‪ ،‬نظر يف عينيها وقال بحزم‪:‬‬
‫‪ -‬الطفل ده الزم ينزل يف �أ�سرع وقت‪.‬‬
‫�شهقت ب�صدمة و�صرخت‪:‬‬
‫‪ -‬طفل �إيه اللي ينزل يا كرمي!‬
‫‪316‬‬
‫تابع وك�أنه مل ي�سمعها‪:‬‬
‫‪ -‬و�أي فلو�س هتحتاجيها هتالقيها عندك‪.‬‬
‫كانت نظراته مرعبة‪� ،‬شعرت ب�ضعف وخوف رهيب‪ ،‬قالت م�ستعطفة‬
‫�إياه‪:‬‬
‫‪ -‬كرمي يا حبيبي‪ ،‬ممكن تهدى �شوية وبعدين نكمل كالم؟‬
‫قال وهو يجز على �أ�سنانه‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬م�ش كرمي اللي يتحط قدام الأمر الواقع يا فاطمة‪.‬‬
‫‪ -‬احلمل ح�صل غ�صب عني يا كرمي‪.‬‬
‫وكنت مبتاخدي�ش احلبوب بردو‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬احلمل ح�صل مبزاجك‪ِ ،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫مبزاجك‪.‬‬
‫قالها بت�أكيد‪ ،‬فقالت مدافعة عن نف�سها‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪� -‬أنا م�ش �إن�سانة كذابة يا كرمي!‬


‫ﺸﺮ‬

‫�ضحك �ساخ ًرا وقال‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬نكتة املو�سم دي وال �إيه! ده �أنا �شوفت منك كمية كذب على‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أهلك عمري ما �شوفتها يف حياتي‪ ،‬وال ن�سيتي خروجاتنا‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫و�سفرنا من وراهم!‬
‫قالت بانهيار‪:‬‬
‫‪� -‬أنا عملت كل ده عل�شان بحبك‪.‬‬
‫زفر مبلل وقال منه ًيا احلديث‪:‬‬
‫‪ -‬خال�صة الكالم‪ :‬اللي قولته هيتنفذ يا فاطمة!‬
‫‪317‬‬
‫�ألقى بكلمته ثم ذهب لغرفة نومه و�صفق الباب خلفه بعنف‪ ،‬دارت‬
‫فاطمة بعينيها كالتائهة وقد ظللت مالحمها �سحائب الهموم‪ ،‬ثم �ألقت‬
‫بج�سدها املنهك على الأريكة وبد�أت تبكي!‬
‫‪zzz‬‬
‫فتحت الباب بفرحة بعدما �سمعت طرقاته املميزة‪ ،‬وقف �أمامها‬
‫مبت�س ًما وقد حمل بني يديه باقة حتت�ضن ثالث وردات وقطعة من‬
‫ال�شيكوالتة وبع�ض البالونات‪ ،‬قدمها �إليها فتناولتها ببهجة طفولية وبد�أت‬

‫ﻋﺼ‬
‫ت�شم رائحة الأزهار وهي مغم�ضة العينني‪� ،‬شكرته بحب و�أف�سحت له‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫املجال ليدخل‪ ،‬نزع حذاءه وجل�س على �أحد املقاعد‪ ،‬قال ب�سرور‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬قب�ضت �أخ ًريا‪.‬‬
‫غمزت �إليه وقالت وهي حترك ر�أ�سها‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬عرفت من الهدية‪.‬‬
‫كانت قد تعودت منه �أن يح�ضر لها هدية ب�سيطة يف كل �شهر مبنا�سبة‬
‫ﺸﺮ‬

‫احل�صول على راتبه‪ ،‬رغم �أن الهدية مل تكلفه الكثري من املال �إال �أنه يكن‬
‫ﻭ‬

‫لها بالغ الأثر الطيب على نف�سها‪� ،‬أ�سرعت بو�ضع الطعام لأنها تعلم مدى‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫جوعه‪ ،‬وبعدها جل�سا �سو ًيا لتق�سيم الراتب‪� ،‬أخرج �إ�سالم مبل ًغا لإيجار‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ال�شقة والكهرباء واملياه والإنرتنت و�ضعه جان ًبا‪ ،‬ثم �أم�سك بيد �سلمى‬
‫وو�ضع فيها مبل ًغا �آخر وقال بحنان‪:‬‬
‫‪ -‬ودي فلو�س الدكتورة بتاعتك‪.‬‬
‫بد أ� يعد ما تبقى و�أخرج منه مبل ًغا �صغ ًريا وهم�س‪:‬‬
‫‪ -‬ودي فلو�س ال�صدقة‪.‬‬
‫‪� -‬صدقة!‬
‫‪318‬‬
‫قالتها �سلمى بذهول ممزوج بالفرحة‪ ،‬ف�أردف �إ�سالم‪:‬‬
‫‪ -‬من �ساعة ما عرفت �إنك حامل قررت �إين ب�إذن اهلل هخرج‬
‫خم�سة يف املية من مرتبي كل �شهر لل�صدقة‪� ،‬أنا عارف �إن‬
‫مرتبي م�ش كبري‪ ،‬ب�س النبي عليه ال�صالة وال�سالم قال‪« :‬ما‬
‫نق�ص مال من �صدقة» و�أنا مت�أكد �إن ربنا هيباركلنا يف الباقي‪.‬‬
‫�أم�سك باملبلغ الأخري وق�سمه على �أربعة‪ ،‬ثم و�ضع كل جزء يف مظروف‬
‫و�أغلقه‪ ،‬و�ضعهم يف يد �سلمى وقال‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ودي كده فلو�س كل �أ�سبوع‪� ،‬أول ظرف هنفتحه بعد بكره ب�إذن‬
‫اهلل‪ ،‬و�شيلي الباقي للأ�سابيع اجلاية‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫تناولت �سلمى الأظرف منه ب�صمت‪ ،‬فنظر لها �إ�سالم و�س�أل‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬بتفكري يف �إيه؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪� -‬أنا م�ستغربة!‬


‫‪ -‬من �إيه؟‬
‫ﺸﺮ‬

‫تذكرت ما حدث قبل �أيام وقد دمعت عيناها ومتتمت‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬من كام يوم عرفت �إن �صاحبتي يف املدر�سة وقع على بنتها‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�شوربة مغلية‪ ،‬البنت ل�سه عندها �سنتني وللأ�سف �أ�صابتها‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫حروق �صعبة جدً ا‪� ،‬صاحبتي جات املدر�سة النهارده بعد غياب‬
‫خم�سة �أيام ووريتني �صور البنت‪.‬‬
‫�سقطت دمعة حارة من عينها وتابعت‪:‬‬
‫‪� -‬أنا اتقهرت مبعنى الكلمة يا �إ�سالم ملا �شوفت ال�صور‪ ،‬تخيلت‬
‫لوهلة �إن الطفل اللي يف بطني ده هو اللي ح�صل فيه كده‪،‬‬
‫فمقدرت�ش �أ�ستحمل جمرد الفكرة‪ ،‬عل�شان كده قررت �أتربع‬
‫‪319‬‬
‫لها مبرتبي كله ال�شهر ده‪ ،‬وهكلم بابا كمان جايز يقدر ي�ساعد‬
‫لأنها حمتاجة مبلغ م�ش قليل لعالج البنت‪.‬‬
‫�صمتت اللتقاط �أنفا�سها وتابعت‪:‬‬
‫‪ -‬كمان قررت �إين هعمل ن�سبة من مرتبي لل�صدقة كل �شهر ب�إذن‬
‫اهلل؛ لأين حا�سة بندم رهيب على كل ال�سنني اللي �ضاعت مني‬
‫بدون ما �أطلع ع�شرة جنيه حتى لل�صدقة‪ ،‬مع �إين كنت بجيب‬
‫�شيكوالتة وم�شروبات �ساقعة و�شيب�سي بع�شرات اجلنيهات‪ ،‬ربنا‬

‫ﻋﺼ‬
‫يعفو عني‪.‬‬
‫و�أخ ًريا كفكفت دموعها‪ ،‬ابت�سمت �إليه وقالت‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬اللي �أنا م�ستغرباله هو �إننا قررنا نف�س القرار يف نف�س الوقت‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫�أنت ً‬
‫فعل ن�صفي الثاين‪.‬‬
‫‪ -‬احلمد هلل‪ ،‬ده من ف�ضل ربنا يا �سلمى‪ ،‬املهم دلوقتي �إين عرفت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫فلو�س ال�صدقة ال�شهر ده هرتوح فني‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫قالها وغمز‪ ،‬ثم تابع باهتمام‪:‬‬


‫‪ -‬وابقي طمنيني على البنت‪ ،‬ربنا يتم �شفاها على خري‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�صمتت هنيهة ثم �س�ألت ب�صدق‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬هو �أنت بجد م�ش معرت�ض على مو�ضوع �إين �أتربع مبرتبي كله‬
‫ده؟‬
‫قال بتعجب‪:‬‬
‫‪ -‬وهعرت�ض ليه! بالعك�س‪.‬‬
‫‪ -‬عل�شان يعني لو البيت احتاج حاجة وال كده‪.‬‬
‫قالتها بحرج‪ ،‬فابت�سم �إ�سالم لريفع عنها حرجها وقال‪:‬‬
‫‪320‬‬
‫‪� -‬أنا قولتهالك قبل كده وهقولهالك تاين‪ ،‬مرتبك ملكك ولكي‬
‫أنت م�سئولة مني �سواء بت�شتغلي �أو‬
‫كامل حرية الت�صرف فيه‪ِ � ،‬‬
‫لأ‪ ،‬ف�أنا كده كده عامل ح�سابي �أم�شي البيت على قد مرتبي‪،‬‬
‫أنت‬
‫وكنت معرفك من الأول م�ستوايا املادي عل�شان كده و� ِ‬
‫أنت م�ش مطلوب منك غري �إنك ت�صربي معايا حلد‬ ‫وافقتي‪ ،‬ف� ِ‬
‫ما ربنا يرزقنا باخلري الوا�سع‪.‬‬
‫ملعت عيناها بفخر وقالت‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪� -‬أنت �إن�سان خلوق وابن �أ�صول يا �إ�سالم‪ ،‬ربنا يكرث من �أمثالك‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫انق�شع الليل وطفقت ال�شم�س ت�ضيء الكون ب�أنوارها‪ ،‬فتحت فاطمة‬
‫ﻜﺘ‬
‫�أبواب عينيها بهدوء‪ ،‬ت�أوهت حينما �شعرت ب�أمل يف عنقها وظهرها من �أثر‬
‫النوم جال�سة على الأريكة‪ ،‬نظرت يف �ساعة احلائط وفزعت عندما �أدركت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫اقرتاب موعد عمل زوجها‪ ،‬هرولت �إىل املطبخ و�أعدت فطو ًرا �سري ًعا ثم‬
‫ذهبت لتوقظ زوجها الذي �أدركت للتو ب�أنه غري موجود‪ ،‬تناولت هاتفها‬
‫ﺸﺮ‬

‫وات�صلت عليه فلم يرد‪� ،‬ألقت الهاتف غا�ضبة ثم جل�ست تفكر فيما حدث‬
‫بالأم�س‪ ،‬كانت تتمنى �أن يرزقها اهلل بطفل منه ال تنكر ذلك‪ ،‬ولكنها مل‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫تتوقع �أن تتحقق �أمنتيها بهذه ال�سرعة‪ ،‬ال تريد خ�سارة كرمي مهما كان‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ال�سبب‪ ،‬فهي لن ت�سمح ل�صديقاتها بال�شماتة فيها‪ ،‬ولن ت�سمح لبنات‬


‫عائلتها احلقودات بال�ضحك عليها من خلف ظهرها‪ ،‬ماذا ع�ساها �أن‬
‫تفعل! يف حلظة ما قالت لنف�سها ب�أن الطفل ميكن تعوي�ضه‪� ،‬أما كرمي فال‪،‬‬
‫أر�ضا بعنف يف حماولة منها‬ ‫ووقفت على حافة الفرا�ش و�ألقت بنف�سها � ً‬
‫للإجها�ض‪ ،‬ت�أوهت وت�أملت‪ ،‬ولكنها �أ�سندت بيديها على الكومود ب�إ�صرار‬
‫ووقفت‪� ،‬صعدت على الفرا�ش وكررت نف�س العملية‪ ،‬كانت هذه املرة م�ؤملة‬
‫�أكرث من التي �سبقتها‪ ،‬وللمرة الثانية �أ�سندت بيديها على الكومود ووقفت‬
‫‪321‬‬
‫و�صعدت �إىل فرا�شها‪ ،‬وقفت على حافة الفرا�ش‪ ،‬و�ضعت يدها على مو�ضع‬
‫حملها معتذرة‪ ،‬دمعت عيناها ومل تتحمل فجل�ست مكانها وبد�أت تنتحب‪،‬‬
‫�شعرت بقلبها وك�أنه يحرتق ويعت�صر أ�ملًا‪ ،‬ظلت تبكي قرابة الن�صف �ساعة‬
‫ثم متالكت نف�سها وكفكفت دمعها‪ ،‬وقررت �أال تتنازل عن جنينها الذي‬
‫يحمل ا�سم كرمي مهما حدث‪� ،‬أما عن كرمي ف�ستحاول معه ب�شتى الطرق‬
‫حتى يتقبل وجود ذلك اجلنني‪.‬‬
‫يف ال�ساعات التالية �أعدت غدا ًء مميزًا وانتظرت زوجها فلم ي�أت‪،‬‬
‫ات�صلت عليه عدة مرات فلم يرد‪ ،‬ويف نهاية املطاف �أغلق هاتفه بالكلية‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫وقفت يف ال�شرفة وظلت تنتظره حتى �أرخى الليل �سدوله‪ ،‬فعادت بي�أ�س‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�إىل الداخل و�أ�سندت ظهرها املنهك على الفرا�ش‪ ،‬ا�ستمرت يف االنتظار‬
‫ﻜﺘ‬
‫حتى �سمعت �صوت مفتاحه يتحرك يف الرتاج فقفزت من مكانها وهرولت‬
‫�إليه‪ ،‬قالت بلوم‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬كنت فني ده كله يا كرمي؟ �أنا قلقت عليك جدً ا‪.‬‬


‫ً‬
‫متجاهل كلماتها‪:‬‬ ‫نظر �إليها بجدية و�س�أل‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬فكرتي يف اللي قولتلك عليه؟‬


‫ﻭ‬

‫�أوم�أت بر�أ�سها برتدد‪ ،‬ف�س�أل‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬وقرارك؟‬
‫‪� -‬أنا حاولت �أنزله ب�س مقدرت�ش �أكمل‪.‬‬
‫‪ -‬روحي لدكتور ي�ساعدك تنزليه‪.‬‬
‫�صمتت للحظات ثم ا�ستجمعت �شجاعتها‪ ،‬نظرت يف عينيه وقالت‬
‫ب�إ�صرار‪:‬‬
‫‪ -‬لأ‪� ،‬أنا قررت �إين م�ش هقتل البيبي يا كرمي‪.‬‬
‫‪322‬‬
‫�صفق بيديه عدة مرات ثم قال بنربة �أخافتها‪:‬‬
‫‪ -‬برافو برافو‪ ،‬اتعلمتي تقويل لأ كمان‪ ،‬وملني؟ لكرمي البحريي‪.‬‬
‫‪ -‬يا كرمي �أنا‪...‬‬
‫قاطعها ب�إ�شارة من يده‪ ،‬نظر �إليها بجمود وقال بربود‪:‬‬
‫‪ -‬عامة زي ما حتبي‪ ،‬ب�س �أنا م�ش م�سئول عن �أي حاجة ليها‬
‫أنت اللي اختارتي‪.‬‬‫عالقة بالطفل ده‪ ،‬وافتكري �إن � ِ‬
‫‪ -‬م�ش م�سئول يعني �إيه يا كرمي؟! هو �أنا حملت فيه لوحدي!‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬حملتي فيه ب�إرادتك ومن غري ما تاخدي ر�أيي‪ ،‬يبقى تتحملي‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫م�سئولية قرارك وحدك‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪� -‬أنا مكنت�ش �أعرف �إين هحمل عل�شان �آخد ر�أيك!‬
‫أنت بتقويل ل�صاحبتك �إنك‬ ‫‪� -‬أنا �سمعتك بنف�سي قبل كده و� ِ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫هتدب�سيني يف عيل عل�شان معرف�ش �أهرب منك‪.‬‬


‫�ضحك �ساخ ًرا وقال‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬غبية! ده �أنا كده ههرب منك �أكرث‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫قالت مدافعة عن نف�سها‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪� -‬أنا كنت بهزر يا كرمي‪ ،‬واهلل العظيم كنت بهزر‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬م�ش م�صدقك‪ ،‬وم�ش ه�صدقك مهما قولتي‪.‬‬


‫قالها وان�صرف �إىل غرفة نومه‪� ،‬سارت فاطمة خلفه‪ ،‬وملا و�ضعت‬
‫قدمها الأوىل بداخل احلجرة وكادت تتحدث‪ ،‬قال كرمي حمذ ًرا‪:‬‬
‫‪ -‬م�ش عاوز كلمة كمان منك يف املو�ضوع ده‪� ،‬إال لو غريتي ر�أيك‪.‬‬
‫تنهدت بي�أ�س وقالت با�ست�سالم‪:‬‬
‫‪323‬‬
‫‪ -‬طيب م�ش هتتغدى؟ �أنا م�ش را�ضية �آكل من بدري وم�ستنياك‪.‬‬
‫‪ -‬اتغديت برا‪.‬‬
‫قالها بربود و�ألقى بج�سده على الفرا�ش‪� ،‬أم�سك بهاتفه وبد�أ يت�صفح‬
‫طويل‪� ،‬شعرت بالقهر وقد متلك الذل من‬ ‫الإنرتنت‪ ،‬نظرت �إليه فاطمة ً‬
‫نف�سها‪ ،‬دمعت عيناها فان�سحبت من �أمامه حتى ال يرى دموعها‪ ،‬جل�ست‬
‫على الأريكة املقابلة لطاولة الطعام التي امتلأت بكل ما لذ وطاب‪ ،‬وطال‬
‫بكا�ؤها‪.‬‬

‫‪z‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪324‬‬
‫‪ -‬األخري‪-‬‬

‫دوما اجللو�س يف الظالم‪ ،‬فهذه الظلمة لن تكون‬ ‫�أ�صبحت ُتف�ضل ً‬


‫�أ�شد من التي تخيم على قلبها‪ ،‬جل�ست على فرا�شها وقد �أ�سندت ظهرها‬

‫ﻋﺼ‬
‫للحائط‪� ،‬ضمت ركبتيها �إىل �صدرها ُمط ّوقة �إياهما بذراعيها‪ ،‬عادت‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بذاكرتها �إىل الوراء وقد �أخذت �صو ٌر من املا�ضي تن�ساب �أمام عينيها‪،‬‬
‫تذكرت عندما �أخربها زوجها ب�أنه غري م�سئول عن �أي �شيء يتعلق بذلك‬
‫ﻜﺘ‬
‫الطفل‪ ،‬وملا طلبت منه بعدها �أن يذهب معها للطبيب �أو حتى يعطيها‬
‫بع�ض املال لتذهب ب�صحبة والدتها �صرخ فيها بعنف واتهمها بالغباء‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حينها ا�ستعانت ببع�ض النقود التي كانت حتتفظ بها وذهبت �إىل الطبيب‬
‫الذي �أمرها بالراحة التامة ج�سد ًيا ونف�س ًيا‪ ،‬تذكرت معاملة زوجها‬
‫ﺸﺮ‬

‫اجلافة طوال الفرتة املا�ضية و�أوامره ال�صارمة ومطالبه التي ال تنتهي‪،‬‬


‫ﻭ‬

‫�شعرت �أنها �أ�شبه بخادمة ال بزوجة‪ ،‬تذكرت تلك املرة التي �أم�سكت فيها‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بهاتفه ووجدته يتحدث مع طالباته بكلمات غري الئقة‪ ،‬كلمات ت�شبه‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫كث ًريا تلك التي كان يلقيها على م�سامعها يف بداية تعارفهما‪ ،‬وملا ثارت‬
‫وغ�ضبت و�صرخت يف وجهه �أخربها بكل برود ب�أن هذا طبعه ولن يغريه‪،‬‬
‫أي�ضا‪� ،‬شحب وجهها وتربعت حتت‬ ‫�ساءت حالتها النف�سية كث ًريا‪ ،‬والبدنية � ً‬
‫عينيها الهاالت ال�سوداء‪ ،‬زاد وزنها ب�شكل ملحوظ و�ضعفت حركتها‪،‬‬
‫�أ�صبحت كئيبة و�صامتة تعاين وحدها‪ ،‬تكذب على �أمها كث ًريا وتخربها‬
‫ب�أنها يف �أف�ضل حال؛ فوالدتها مري�ضة ولن تتحمل �أي �أخبار �سيئة‪ ،‬ال�شيء‬
‫الوحيد الذي يهون عليها تلك احلياة‪ ،‬ال�شيء الوحيد الذي ير�سم على‬
‫‪325‬‬
‫وجهها االبت�سامة كل يوم هو تلك احلركة اخلفيفة لطفلتها التي ت�شعر‬
‫بها بداخلها‪ ،‬ت�أتي �إليها وك�أنها �شعاع �أمل مي�سح على قلبها‪ ،‬نه�ضت من‬
‫مكانها بابت�سامة منك�سرة وفتحت اخلزانة‪� ،‬أخرجت منها قطعة وحيدة‬
‫من املالب�س قد ا�شرتتها ل�صغريتها واحت�ضنتها‪ ،‬متنت لو كان ب�إمكانها‬
‫�شراء املزيد‪ ،‬ولكن نقودها قاربت على النفاد‪� ،‬سمعت �صوت مفتاح زوجها‬
‫يتحرك يف الرتاج‪� ،‬أ�صبحت تكره ذلك ال�صوت‪� ،‬أعادت قطعة املالب�س‬
‫للخزانة وعادت لتجل�س على الفرا�ش‪ ،‬دخل زوجها الغرفة و�أ�ضاء امل�صباح‬

‫ﻋﺼ‬
‫وقال ب�ضجر‪:‬‬
‫أنت قاعدة فيها دي!‬
‫‪� -‬إيه الك�آبة اللي � ِ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫نظرت �إليه ومل ترد‪ ،‬ف�س�أل‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬جهزتي الطقم اللي هروح بيه الفرح؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫نه�ضت من مكانها‪ ،‬فتحت اخلزانة و�أخرجت منها مالب�سه‪ ،‬و�ضعتها‬


‫على الفرا�ش وجل�ست �إىل جوارها‪ ،‬تناول كرمي القمي�ص وبد أ� يرتديه‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫قالت فاطمة مبلل‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪� -‬أنا خمنوقة جدً ا‪ ،‬ينفع �آجي معاك الفرح؟‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫رماها بنظرة م�ستهزئة‪ ،‬وقال وهو ي�شري ب�سبابته من الأعلى للأ�سفل‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أكرث من مرة‪:‬‬
‫‪ -‬مبنظرك ده!‬
‫ابتلعت �إهانته وقالت تت�صنع عدم الفهم‪:‬‬
‫‪� -‬أكيد م�ش هروح بلب�س البيت يعني!‬
‫�أم�سكها من ذراعها ووقف بها �أمام املر�آة‪ ،‬وقال بحدة‪:‬‬
‫‪326‬‬
‫‪� -‬شويف و�شك وج�سمك بقوا عاملني ازاي! م�ستحيل �أخلي النا�س‬
‫أنت بال�شكل ده‪.‬‬
‫ي�شوفوك ما�شية جنبي و� ِ‬
‫ِ‬
‫التفتت �إليه وقد احتقن وجهها من الغ�ضب �سائلة بحدة‪:‬‬
‫‪ -‬ويا ترى مني اللي هتبقى ما�شية جنبك النهارده يا دكتور كرمي؟‬
‫بد�أ ي�صفف �شعره وهو يقول بربود‪:‬‬
‫‪ -‬دي حاجة متخ�صكي�ش‪.‬‬
‫مل تعد حتتمل‪ ،‬ثارت و�صرخت وبد�أت تقذفه بكل القهر الذي حتمله يف‬

‫ﻋﺼ‬
‫قلبها طوال الفرتة املا�ضية‪ ،‬ت�سارعت �أنفا�سها و�أخذت تنتحب ب�شدة وهي‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ت�شكو منه �إليه‪ ،‬انهمرت دموعها و�أغرقت مالب�سها‪ ،‬ظلت تبكي وت�صرخ‬
‫حتى جف دمعها و�ضعف �صوتها‪ ،‬جل�ست � ً‬
‫أر�ضا وحاولت التقاط �أنفا�سها‬
‫ﻜﺘ‬
‫الهاربة‪ ،‬نظر �إليها كرمي ومتتم‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أنت اللي و�صلتينا للحال ده‪.‬‬


‫‪ -‬كل ده ب�سببك يا فاطمة‪ِ � ،‬‬
‫قالها ومل يزد‪ ،‬ارتدى معطفه‪ ،‬و�ضع ً‬
‫بع�ضا من عطره‪ ،‬وهم باخلروج‬
‫ﺸﺮ‬

‫قبل �أن مت�سك بيده وت�صيح فيه بغ�ضب‪:‬‬


‫‪� -‬أنا ال�سبب �أنا ال�سبب‪ ،‬طول الوقت �أنا ال�سبب‪ ،‬خال�ص �أنا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ه�سيبلك البيت كله و�أريحك مني طاملا تعباك �أوي كده‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ذلك التهديد الذي رددته ع�شرات بل رمبا مئات املرات‪ ،‬ومل جتر�ؤ‬
‫ملرة واحدة على التنفيذ‪� ،‬سحب يده من بني كفيها ومل ُيع ّقب‪ ،‬خرج من‬
‫بخطوات وئيد ٍة‬
‫ٍ‬ ‫البيت يف هدوء‪ ،‬وبعد �ساعة خرجت غا�ضبة من غرفتها‬
‫مهزومة جتر حقيبة مالب�سها خلفها‪� ،‬أخذت تت�أمل كل ركن يف البيت‬
‫وقلبها يحرتق‪ ،‬و�أخ ًريا رحلت بعدما ا�ستوطن الي�أ�س ف�ؤادها‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫‪327‬‬
‫�صالة الفجر لو نعرف قيمتها يف يوم ن�صلي جماعة نن�سى النوم‬
‫وما نفرط�ش فيها يف يوم مدام عاي�شيني‬
‫نقوم من بدري نت�صاحب على القر�آن ن�صلي ركعتني ب�إميان‬
‫قيمتها كبرية يف امليزان يف يوم الديني‬
‫اهلل يهديكم �صلوا و�صوموا وقيموا لياليكم‬
‫ده اللي هينفع ويعود ليكم اهلل يهديكم‬

‫ﻋﺼ‬
‫اهلل يكفيكم �شر بالء الدنيا عليكم‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫(((‬
‫على �أعمال اخلري يجازيكم ويبارك فيكم‬
‫ﻜﺘ‬
‫�أم�سك بهاتفه و�أطف�أ املنبه ثم �سار بنعا�س نحو دورة املياه‪ ،‬تو�ض�أ‬
‫و�صلى ركعتني قيام ليل �أتبعهما بركعة وتر ثم جل�س يقر أ� القر�آن حتى �سمع‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أذان الفجر‪� ،‬أغلق م�صحفه وذهب �إىل زوجته ليوقظها‪� ،‬أم�سك بذراعها‬
‫وبد أ� يحركه ففتحت عينيها بهدوء‪ ،‬هم�س مبت�س ًما‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪� -‬أنا نازل امل�سجد يا حبيبتي‪ ،‬قومي يال عل�شان ت�صلي‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫و�ضعت يدها على ر�أ�سها وقالت ب�إعياء‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬دماغي وجعاين �أوي يا �إ�سالم‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫و�ضع يده على جبهتها يتح�س�سها ف�شعر وك�أن حتت يده �أل�سنة من‬
‫اللهب‪ ،‬قال بخوف‪:‬‬
‫‪ -‬حرارتك مرتفعة جامد يا �سلمى‪.‬‬
‫نظرت �إليه ب�ضعف وهي مت�سك بر�أ�سها‪ ،‬ربت على كفها بحنان ثم‬
‫هرول باجتاه املطبخ‪� ،‬سمع �إقامة ال�صالة فعاد �إليها ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫((( إنشاد‪ :‬عمرو الديب‪.‬‬
‫‪328‬‬
‫‪ -‬خم�س دقايق ب�س هروح �أ�صلي و�أجيلك علطول ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها و�أغم�ضت عينيها بتعب‪� ،‬أدى �إ�سالم �صالته وعاد‬
‫م�سرعا‪ ،‬دخل �إىل املطبخ و�أح�ضر �صح ًنا مملو ًءا باملاء البارد وقطعة من‬
‫ً‬
‫القما�ش وعاد �إليها‪ ،‬بد�أ ي�ضع القما�شة املُبتّلة باملاء على جبهتها و�أماكن‬
‫جال�سا �إىل جوارها‬
‫�أخرى متفرقة من ج�سدها حتى �سكنت ونامت‪ ،‬ظل ً‬
‫يدعو اهلل �أن ي�شفيها ويردد بع�ض �آيات القر�آن حتى اقرتب �شروق ال�شم�س‪،‬‬
‫فبد أ� يهزها بهدوء وهو يهم�س‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬حبيبتي حاويل تقومي ت�صلي‪ ،‬ال�شم�س قربت تطلع‪.‬‬
‫فتحت عينيها ب�ضعف وهم�ست‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫‪ -‬حا�ضر‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫�ساعدها على النهو�ض و�أ�سندها حتى و�صلت لدورة املياه‪ ،‬تو�ض�أت‬
‫أر�ضا وانتظرها حتى �أدت‬ ‫وعاد بها �إىل الغرفة‪ ،‬و�ضع �سجادة ال�صالة � ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�صالتها ثم �أخذها �إىل فرا�شها مرة �أخرى‪ ،‬و�ضع يده على ر�أ�سها ليطمئن‬
‫ﺸﺮ‬

‫فوجد حرارتها ما زالت مرتفعة‪ ،‬تناول ال�صحن وا�ستبدل املياه التي‬


‫حتويه و�أح�ضر قما�شة �أخرى وبد�أ يكرر ما فعله �ساب ًقا حتى تهد أ� حرارتها‪،‬‬
‫ﻭ‬

‫ف�سكنت ونامت ونام هو الآخر‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�صباحا رن منبه هاتفها ف�أطف�أته بهدوء وبد�أت توقظ‬ ‫يف ال�سابعة‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ً‬
‫�إ�سالم ليذهب �إىل عمله‪� ،‬س�ألها عن حالها فقالت‪:‬‬
‫‪� -‬أح�سن احلمد هلل‪.‬‬
‫و�ضع يده على جبهتها فوجد حرارتها انخف�ضت بع�ض ال�شيء‪ ،‬ولكنها‬
‫متاما ف�س�أل‪:‬‬
‫مل تهد�أ ً‬
‫‪ -‬هرتوحي املدر�سة النهارده؟‬
‫‪329‬‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها نف ًيا وهم�ست‪:‬‬
‫‪ -‬م�ش قادرة خال�ص للأ�سف‪.‬‬
‫قال بطفولية‪:‬‬
‫معاك‪.‬‬
‫‪ -‬خال�ص هقعد ِ‬
‫ربتت على كفه وقالت مبت�سمة‪:‬‬
‫علي‪� ،‬أنا هبقى كوي�سة ب�إذن‬
‫‪ -‬روح �شغلك يا �إ�سالم ومتقلق�ش َّ‬
‫اهلل‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫أنت لوحدك‪.‬‬‫‪� -‬أخاف تتعبي و� ِ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬ممكن �أت�صل مباما تيجي تقعد معايا‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫أنت‬
‫معاك طول ما � ِ‬
‫أنت �أمانة عندي يا �سلمى‪ ،‬مينفع�ش ابقى ِ‬ ‫‪ِ �-‬‬
‫�سليمة و�أول ما تتعبي �أقولهم تعالوا خدوا بالكم من بنتكم!‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�صمت هنيهة ثم تابع‪:‬‬


‫‪ -‬ب�ستغرب جدً ا الزوج اللي �أول ما مراته تتعب يخليها تروح عند‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أهلها‪ ،‬و�أول ما تخف ياخدها تاين! حقيقي بالقي نا�س كتري‬


‫ﻭ‬

‫بيعملوا احلوار ده وم�ش القي تف�سري منطقي لكده!‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ممكن يكون م�ش هيعرف يعتني بيها كوي�س وقت مر�ضها‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬جايز‪ ،‬ب�س �أعتقد بردو وجوده جنبها يف الوقت ده هيفرق‬


‫معاها نف�س ًيا كتري‪.‬‬
‫ثم غمز �إليها وقال‪:‬‬
‫‪� -‬صح وال �إيه؟‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها وقد غمرها احلب وهم�ست‪:‬‬
‫‪330‬‬
‫‪� -‬صح ال�صح كمان‪.‬‬
‫ثم قالت بقلق‪:‬‬
‫‪ -‬ب�س �أنا خايفة حت�صل م�شكلة معاك ب�سبب الغياب‪.‬‬
‫‪ -‬متقلقي�ش‪� ،‬أنا عندي �إجازات ل�سه‪.‬‬
‫قالت �ضاحكة‪:‬‬
‫‪ -‬يا بني ا�سمع كالمي‪ ،‬كده هيت�ضايقوا ويرفدوك ونقعد يف‬
‫ال�شارع‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ق�صدك هريقوك‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قالت ب�شك‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪� -‬أنا م�ش عاوزاك تتع�شم يف مو�ضوع الرتقية ده يا �إ�سالم عل�شان‬
‫ميح�صل�ش زي املرتني اللي فاتوا‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫رفع ر�أ�سه عال ًيا وقال بثقة‪:‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬املرة دي املو�ضوع خمتلف‪ ،‬املدير بنف�سه هو اللي م�أكديل �إين‬


‫هرتقى‪ ،‬وكلها �أيام وت�شويف بنف�سك‪.‬‬
‫ﻭ‬

‫‪ -‬يا رب يا �إ�سالم‪ ،‬يا رب‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪zzz‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫م�ضى �شه ٌر كامل ومل ت َر وجهه مرة واحدة! �شعرت باحلنني �إليه‪ ،‬رغم‬
‫ق�سوته وغلظته يف كثري من الأحيان �إال �أنها ما زالت حتبه وتود العي�ش‬
‫بقربه‪ ،‬كان والده وزوجته يت�صالن بها من وقت لآخر ليطمئ ّنا عليها‪ ،‬مل‬
‫تخربهما �أن نقودها نفدت و�أنها لن ت�ستطيع الذهاب للطبيب هذا ال�شهر‪،‬‬
‫�أخربتهما �أنها تعي�ش يف �أف�ضل حال ب�صحبة والدتها وال حتتاج لأي �شيء‪،‬‬
‫مل تكن والدتها تعرف �أي �شيء ب�أمر خالفها مع كرمي‪ ،‬فقد �أخربتها فاطمة‬
‫‪331‬‬
‫ب�أنه م�شغول بعمله كث ًريا هذه الأيام ولن ي�ستطيع االعتناء بها‪ ،‬وهي تخاف‬
‫�أن ت�سوء حالتها وهي وحدها باملنزل‪ ،‬لذلك طلبت منها �أن ت�أتي �إليها حتى‬
‫ينهي الأعمال الهامة التي بني يديه و�صدقتها والدتها‪ ،‬كانت تهبط من‬
‫املنزل يوم ًيا وتخرب �أمها ب�أنها ذاهبة لتناول الغداء معه يف �أحد املطاعم‬
‫وتظل تتجول يف ال�شوارع قرابة الأربع �ساعات‪ ،‬ثم تعود منهكة وتنتظرها‬
‫حتى تنام وتذهب خل�سة �إىل الثالجة لت�سكن �أنني معدتها التي تز�أر‬
‫باجلوع‪� ،‬أرادت البوح‪� ،‬أرادت �أن تختبئ يف ح�ضنها وت�صرخ وتق�ص عليها‬
‫كل �شيء‪ ،‬ولكنها كانت ترتاجع يف كل مرة خو ًفا على قلبها احلنون‪ ،‬فتلك‬

‫ﻋﺼ‬
‫العجوز تتمنى دائ ًما �أن تراها �سعيدة‪ ،‬لذلك كانت ت�ساعدها على اخلروج‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مع كرمي يف كل مرة من دون علم �أخويها‪ ،‬و�صلت �إىل �شهرها ال�ساد�س من‬
‫احلمل‪ ،‬زحفت �أعرا�ض احلمل وطغت عليها ب�ضراوة‪ ،‬كل �شهر مير عليها‬
‫ﻜﺘ‬
‫أي�ضا‪ ،‬طلب منها الطبيب مرا ًرا بع�ض التحاليل‬ ‫يزداد �ضعفها وحزنها � ً‬
‫والأدوية فلم تهتم‪� ،‬أبت نف�سها �أن تطلب املال من كرمي‪ ،‬و�أبت �أكرث �أن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تطلب من والدتها التي تعلم يقي ًنا �أن زوجها ُيغرقها بالأموال‪ ،‬كانت تتعمد‬
‫الدخول �إىل الطبيب وحدها وترتك والدتها باخلارج متعللة ب�أي �شيء‬
‫ﺸﺮ‬

‫حتى ال ُيك�شف �أمرها‪ ،‬ظنت �أن التحاليل والأدوية لي�س لها �أهمية كبرية؛‬
‫ﻭ‬

‫فالن�ساء الفقريات يحملن ويلدن دون �أية �أدوية �أو حتاليل‪ ،‬جل�ست تعبث‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بهاتفها وت�شاهد �صورها املتفرقة مع كرمي‪ ،‬تذكرت كم كانت �سعيدة معه‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫و�أتى ذلك اجلنني ليف�سد عليها فرحتها‪� ،‬أح�ست به يتحرك بداخلها وك�أنه‬
‫يلومها‪ ،‬فاعتذرت �إليه وعاودت م�شاهدة ال�صور حتى �أتاها ات�صال من‬
‫والد زوجها‪ ،‬اطمئن عليها و�أخربها �أن كرمي �سقط من على الدرج منذ‬
‫يومني و ُك�سرت �ساقه‪� ،‬شهقت بخوف و�س�ألته عن حاله ف�أجاب‪:‬‬
‫‪� -‬أنا عاوزك تيجي ت�شوفيه بنف�سك‪.‬‬
‫‪� -‬آجي! بعد ما �سابني الفرتة دي كلها يا عمو!‬
‫‪332‬‬
‫‪� -‬أنا عارف �إنه غلطان وي�ستاهل ك�سر رقبته‪ ،‬و�إين مهما قولتله‬
‫أنت املرة دي يا بنتي‪ ،‬ودي‬
‫بردو م�ش بي�سمع الكالم‪ ،‬ب�س جربي � ِ‬
‫�أول و�آخر مرة هطلب منك الطلب ده‪.‬‬
‫أي�ضا‪ ،‬فقررت و�ضع‬ ‫كانت حترتمه‪ ،‬و�شعرت باخلوف على كرمي � ً‬
‫اخلالفات جان ًبا والذهاب �إليه لتطمئن على حاله وليحدث بعدها ما‬
‫يحدث‪.‬‬
‫متهلل‪ ،‬حياها ب�شدة‪� ،‬أتت زوجته‬ ‫طرقت الباب بتوتر‪ ،‬ففتح حماها ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫و�ضمتها �إليها بفرحة‪� ،‬أم�سكت بيدها وهمت بال�صعود معها‪ ،‬فجذبها‬
‫زوجها من يدها الأخرى ونظر �إليها نظر ًة ذات معنى‪ ،‬فرتاجعت‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫و�أف�سحت املجال لفاطمة لت�صعد وحدها‪ ،‬بد�أت ت�صعد درجات ال�سلم‬
‫ﻜﺘ‬
‫نف�سا‬
‫ويف كل خطوة تزداد �ضربات قلبها‪ ،‬وقفت �أمام باب �شقتها و�أخذت ً‬
‫عمي ًقا‪ ،‬عادت للوراء ثالث خطوات وكادت ترتاجع‪ ،‬ولكنها ح�سمت �أمرها‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يف النهاية و�أدارت املفتاح بداخل القفل ووجلت‪ ،‬كان املنزل هاد ًئا ومعت ًما‬
‫�إال من ب�صي�ص نور قد ت�سرب من �إحدى الغرف‪ ،‬كل النوافذ مغلقة‬
‫ﺸﺮ‬

‫وك�أنها ُجفون ُم�سدلة‪ ،‬اقرتبت من الغرفة امل�ضاءة فوجدتها تعبق برائحة‬


‫مكتومة‪� ،‬شعرت بنب�ضاتها مت�سارعة‪� ،‬أغم�ضت عينيها وتنف�ست �أكرث من‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫جال�سا على الفرا�ش وا�ض ًعا‬


‫مرة ثم دخلت الغرفة ووقفت على بابها‪ ،‬ر�أته ً‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫احلا�سوب �أمامه و�إىل جواره وقفت ع�صا طويلة يبدو �أنه يحتاجها لالتكاء‬
‫عليها‪ ،‬نظر �إليها ً‬
‫طويل‪ ،‬فتوترت وقالت بتلعثم‪:‬‬
‫‪ -‬ازيك يا كرمي؟‬
‫‪ -‬كنت عارف �إنك هتيجي‪.‬‬
‫قالها مبت�س ًما‪ ،‬فهم�ست‪:‬‬
‫‪ -‬كان الزم �أ�شوفك و�أتطمن عليك‪.‬‬
‫‪333‬‬
‫‪� -‬أنا بخري‪.‬‬
‫‪ -‬احلمد هلل‪.‬‬
‫قالتها و�صمتت وبد�أت تعبث بحقيبتها‪ ،‬ثم التفتت �إليه و�س�ألت‪:‬‬
‫‪ -‬الدكتور قالك هتفك اجلب�س امتى؟‬
‫‪ -‬بعد �شهر �أو �شهر ون�صف كده‪.‬‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها بتفهم و�أردفت‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬هبقى �آجى �أتطمن عليك قبلها بردو‪.‬‬
‫نظرت �إليه ب�أعني دامعة ثم دارت على �أعقابها لتن�صرف‪ ،‬م�شت‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫خطوتني قبل �أن ت�سمعه يقول‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬ا�ستني يا فاطمة‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عادت �إىل حيث كانت‪ ،‬نظرت �إليه با�ستفهام‪ ،‬ف�س�أل‪:‬‬


‫كنت عاملة �إيه الفرتة اللي فاتت؟‬
‫‪ِ -‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫تردد ً‬
‫قليل‪ ،‬ثم �س�أل‪:‬‬
‫ﻭ‬

‫‪ -‬والبيبي؟‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�ضحكت �ساخرة وقالت‪:‬‬


‫‪ -‬البيبي! تقري ًبا دي �أول مرة ت�س�أل عنه!‬
‫جتاهل �سخريتها الوا�ضحة و�س�أل‪:‬‬
‫‪ -‬عرفتي ولد وال بنت؟‬
‫‪ -‬عرفت‪.‬‬
‫‪ -‬طلع �إيه؟‬
‫‪334‬‬
‫‪ -‬بنت‪.‬‬
‫‪ -‬وهي كوي�سة؟‬
‫‪ -‬م�ش عارفة!‬
‫‪ -‬يعني �إيه م�ش عارفة؟‬
‫‪ -‬مت�شغل�ش بالك‪ ،‬م�ش هتفرق كتري‪.‬‬
‫�أ�شار لطرف الفرا�ش وقال‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬اقعدي‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫تطلعت �إليه بكربياء ومل تتحرك خطوة‪ ،‬فكرر‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬اقعدي يا فاطمة‪.‬‬
‫ا�ستجابت ملطلبه وجل�ست‪ ،‬تنازل عن بع�ض غروره وقال‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬بقايل �سنني عاي�ش لوحدي وكنت خال�ص اتعودت على كده‪،‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫معاك وبعدها جربت الوحدة تاين ح�سيت‬


‫ب�س ملا جربت �أعي�ش ِ‬
‫ﻭ‬

‫�إن املو�ضوع �صعب‪ ،‬ح�سيت �إن وجودك كان عامل فرق كبري يف‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حياتي حتى واحنا زعالنني من بع�ض‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ما هو �أنا‪...‬‬
‫قاطعها ب�إ�شارة من يده وتابع‪:‬‬
‫‪� -‬أنا �أكرث حاجتني بكرههم يف حياتي يا فاطمة هم الكذب و�أن‬
‫حد يقويل لأ‪.‬‬
‫ركز نظراته يف عينيها وقال بهدوء‪:‬‬
‫‪335‬‬
‫أنت جمعتي بني االتنني يف مو�ضوع احلمل ده‪ ،‬عل�شان كده‬
‫‪ -‬و� ِ‬
‫قررت �أعاقبك‪.‬‬
‫�ضربت بقب�ضتها على الفرا�ش‪ ،‬وزعقت وعينيها ت�شعان غ�ض ًبا‪:‬‬
‫‪ -‬قولتلك مكدبت�ش‪.‬‬
‫‪� -‬أ ًيا كان‪ ،‬اللي ح�صل ح�صل‪ ،‬و�أنا معندي�ش طاقة �أتكلم يف اللي‬
‫فات‪.‬‬
‫‪� -‬أُمال عايز �إيه دلوقتي؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫�س�ألت متعجبة‪ ،‬ف�أجاب‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬البنت دلوقتي بقت �أمر واقع يف حياتنا‪ ،‬و�أنا قررت �أتقبله‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫وهبقى م�سئول عن �أي م�صاريف �أو طلبات خا�صة بيها‪ ،‬ولكن‪...‬‬
‫قالها و�صمت ليجذب انتباهها‪ ،‬ثم ا�ست�أنف‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أنت هتكوين م�سئولة عنها‬


‫‪ -‬م�ش عاوز �أي �شيء يتغري يف حياتي‪ِ � ،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫م�سئولية كاملة يف �أول �سنتني‪ ،‬لأين م�ش ه�ستحمل زن وال عياط‬


‫وال الكالم ده‪ ،‬وطب ًعا تاخدي بالك مني ومن البيت زي الأول‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قالت با�ستنكار‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬و�أنا �إيه اللي هيخليني �أوافق على الكالم ده؟‬


‫‪ -‬عل�شان احنا اتفقنا �إن مفي�ش �أطفال �إال بعد ثالث �سنني‪ ،‬ولو‬
‫كنت بتن�سي احلبوب غ�صب عنك زي ما بتقويل‬ ‫افرت�ضنا �إنك ِ‬
‫يبقى بردو دي غلطتك والزم تتحملي عواقبها‪.‬‬
‫نه�ضت من مكانها وقالت بغ�ضب‪:‬‬
‫‪� -‬أنا ما�شية يا كرمي‪.‬‬
‫‪336‬‬
‫علي‪ ،‬و�أنا مت�أكد �إنك هتوافقي يف النهاية‪.‬‬
‫‪ -‬فكري براحتك وردي َّ‬
‫�ألقى بجملته الأخرية ومل يزد‪ ،‬فان�سحبت من �أمامه وقد أُ� ِ‬
‫�سر َي‬
‫الغ�ضب كالنار يف خالياها‪� ،‬أ�سرعت نحو الباب‪ ،‬فتحته وخرجت‪� ،‬صفقته‬
‫خلفها بعنف ثم هبطت الدرج بع�صبية وا�ضحة‪ ،‬ورجعت من حيث �أتت‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫�سار حائر اخلطى متذبذب الف�ؤاد‪ ،‬حتى �إذا ما و�صل �إىل الأريكة‬
‫ارمتى عليها بج�سده الذي ينخره الوهن كما ينخر الدود يف جثامني‬

‫ﻋﺼ‬
‫املوتى‪ ،‬عاد بر�أ�سه �إىل ظهر الأريكة‪ ،‬عقد ذراعيه �أمام �صدره‪ ،‬وبد�أ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ي�سرتجع تفا�صيل الكارثة التي حدثت منذ �ساعات قليلة‪� ،‬ضغط على‬
‫ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫حماول تخفيف �أمل ال�صداع الذي يكاد يفتك‬ ‫جبهته ب�إبهامه و�سبابته‬
‫بر�أ�سه‪ ،‬كان ي�شعر باالنهيار الكامل‪ ،‬ازدحمت ر�أ�سه بالأفكار وامتلأت‬
‫بالهموم‪ ،‬زفر بقوة وك�أنه يريد �إخراج كل ما هو عالق ب�صدره من هموم‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ونظر ل�ساعة يده مت�أف ًفا‪ ،‬بعد ن�صف �ساعة و�صلت زوجته لباب ال�شقة‬
‫ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫وهبوطا‪،‬‬ ‫ب�شق الأنف�س‪� ،‬أدخلت املفتاح بالرتاج و�صدرها ينهج �صعودًا‬


‫جال�سا على الأريكة‪،‬‬
‫�أدارته بداخل القفل ووجلت‪ ،‬نظرت �أمامها فوجدته ً‬
‫ﻭ‬

‫ات�سعت عيناها بفرحة حقيقية وقالت بعدم ت�صديق‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬إ�سالم �أنت جيت؟‬


‫نظر لها باقت�ضاب و�س�أل‪:‬‬
‫‪ -‬ات�أخرتي كده ليه يا �سلمى؟‬
‫التهبت عيناها باحلما�س وقالت بعدما جل�ست بجواره‪:‬‬
‫‪ -‬قعدت مع زميالتي �شوية بعد ما خل�صنا ح�ص�صنا عل�شان كنا‬
‫بنجهز حلفلة الطالب املتفوقني‪.‬‬
‫‪337‬‬
‫‪ -‬الأكل بتاع النهارده جاهز؟‬
‫خال من �أي تعبري‪ ،‬فز ّمت ما بني حاجبيها بتعجب‬
‫قالها بوجه باهت ٍ‬
‫وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬مالك يا �إ�سالم؟ فيه حاجة م�ضايقاك؟‬
‫‪ -‬ردي على �س�ؤايل بعد �إذنك‪.‬‬
‫قالت برتدد‪:‬‬
‫‪ -‬ل�سه‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬طيب ب�سرعة عل�شان جعان‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫تناولت حقيبتها ونه�ضت‪ ،‬وقبل �أن ت�سري نظرت �إليه بف�ضول و�س�ألت‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬هو �أنت ا�شمعنى جيت بدري النهارده؟‬
‫زفر بغ�ضب وقال بعدم حتمل‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬الأكل يا �سلمى الأكل‪ ،‬بقولك جعان!‬


‫ﺸﺮ‬

‫احلدة على غري عادته‪،‬‬


‫عجيب �أمره‪ ،‬ماذا �أ�صابه‪ ،‬وملاذا يتحدث بتلك ِ‬
‫ٌ‬
‫لوت �شفتيها بتعجب ثم بدلت مالب�سها م�سرعة ودخلت �إىل مطبخها‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫لتح�ضر الطعام‪ ،‬بعد ن�صف �ساعة وجدته يقف على باب املطبخ ويقول‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬أنا نازل �أ�صلي الع�صر‪ ،‬يا ريت �أرجع �أالقي الأكل حمطوط‪.‬‬
‫وقبل �أن تنب�س ببنت �شفة كان قد تركها وغادر‪� ،‬شعرت �أنه رمبا يعاين‬
‫من �أمر ما ف�أرادت �أن ُتدخل ال�سرور على قلبه‪� ،‬صلت وقامت ب�إخراج‬
‫بع�ض ال�صحون التي مل ت�ستخدمها منذ مدة‪ ،‬غ�سلتها وو�ضعتها على‬
‫الطاولة ثم بد�أت ت�ضع فوقها ما �أعدته من طعام وتزينه بطريقة مبهجة‪،‬‬
‫عاد �إ�سالم من اخلارج‪ ،‬وقف �أمام الطاولة ونادى‪:‬‬
‫‪ -‬فني باقي الأكل يا �سلمى؟‬
‫‪338‬‬
‫�أجابته من املطبخ‪:‬‬
‫‪ -‬ل�سه بعمل �أهو‪.‬‬
‫و�صل �إليها ب�سرعة الربق وقال وقد اتقدت النار بعينه وانتفخت‬
‫�أوداجه‪:‬‬
‫أنت ل�سه خمل�صتي�ش الأكل وعماله تزيني وتتدلعي‬
‫‪ -‬يعني � ِ‬
‫بال�شكل ده!‬
‫اقرتبت منه وقالت ب�ضيق‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬فيه �إيه يا �إ�سالم! �أنا كنت حابة �أفرحك!‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قال بع�صبية‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬و�أنا هفرح يعني ملا تت�أخري �ساعة وال اتنني عل�شان تزينيلي‬
‫الطبق!‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫زفرت بحنق وعادت �إىل ما كانت تفعله متمتمة مبلل‪:‬‬


‫‪� -‬أنا هروح �أخل�ص اللي ورايا عل�شان ملي�ش مزاج �أتخانق دلوقتي‬
‫ﺸﺮ‬

‫يا �إ�سالم‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اقرتب منها وقد تطاير ال�شرر من عينه‪� ،‬أم�سك مبع�صمها بقوة وزعق‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫أنت ازاي تتكلمي معايا بالطريقة دي! وازاي مت�شي و�أنا بكلمك!‬
‫‪ِ �-‬‬
‫ت�أملت ف�أفلتت يدها بع�صبية ثم �صرخت �صرخة اهتزت لها الأركان‪،‬‬
‫نظر �إ�سالم بعينني مت�سعتني ليدها التي ا�صطدمت بالإناء املو�ضوع على‬
‫النار والذي اكتظ بالزيت املغلي‪ ،‬فتطايرت منه كمية لي�ست بالقليلة على‬
‫يدها‪ ،‬وقف م�شدوهً ا للحظات ثم �أم�سك بيدها وو�ضعها حتت ال�صنبور‪،‬‬
‫كانت �سلمى ت�صرخ وتت�أمل وقد هبطت عرباتها كال�شالل‪ ،‬بعد عدة دقائق‬
‫‪339‬‬
‫�أخرج يدها من �أ�سفل ال�صنبور وو�ضع لها مره ًما للحروق ثم �أح�ضر لها‬
‫مالب�سها على عجل‪� ،‬ساعدها يف ارتدائها وهبط بها �إىل امل�شفى‪.‬‬
‫ً‬
‫خطوطا على‬ ‫ً‬
‫خطوطا‬ ‫طوال الطريق كانت �صامتة‪ ،‬ت�سيل دموعها‬
‫خديها دون توقف‪ .‬عز عليها �أن تتعر�ض لهذه املهانة وت�صاب بهذا‬
‫الأذى وهي يف �شهورها الأخرية من احلمل‪� ،‬أي �أنها يف حالة من ال�ضعف‬
‫اجل�سدي والنف�سي �أكرث من �أي وقت م�ضى‪ ،‬نظر �إليها ذلك اجلال�س �إىل‬
‫جوارها يف ال�سيارة‪ُ ،‬خيل �إليه �أنه ي�ستمع �إىل �أ ّناتها ال�ضعيفة ت�صدر من‬
‫�أعماق نف�سها فاعت�صر قلبه و�أخذ يلوم نف�سه ب�شدة على ما حدث‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫و�صال �إىل منزلهما‪ ،‬نظر �إليها متعذ ًرا‪ ،‬فنظرت �إليه بقهر وان�سحبت‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫من �أمامه‪ ،‬بدلت مالب�سها وتكومت يف �أحد �أركان غرفتها تنظر �إىل يدها‬
‫ﻜﺘ‬
‫امللفوفة بتلك ال�شا�شة البي�ضاء ويف عينيها نظرة �أمل‪ ،‬اقرتب �إ�سالم منها‪،‬‬
‫�أم�سك بوجهها ورفعه �إليه‪ ،‬متعن يف عينيها وهم�س‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪� -‬أنا �آ�سف‪.‬‬


‫�ضحكت �ساخرة و�سكتت‪ ،‬تنف�س �إ�سالم بقوة وقال‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪� -‬أنا كنت‪...‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بحدة‪:‬‬
‫قاطعته ِ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬إ�سالم‪� ،‬أنا م�ش متقبلة منك �أي كالم دلوقتي‪.‬‬


‫تركها بحرج وان�سحب من �أمامها‪ ،‬جل�س على الأريكة باخلارج‪ ،‬ط�أط�أ‬
‫ر�أ�سه و�ضغط عليها بكفيه بقوة فلم يعد يحتمل الآالم التي �أملت بها‪� ،‬سمع‬
‫النداء ل�صالة الع�شاء‪ ،‬كان يحتاج ب�شدة لتلك ال�صالة لريتاح بها‪� ،‬أدى‬
‫�صالته وجل�س مكانه �شاردًا بعدما علم �أن الإمام �سيلقي عليهم خطبة‪،‬‬
‫قال ال�شيخ‪:‬‬

‫‪340‬‬
‫‪� -‬إن احلمد هلل‪ ،‬نحمده ون�ستعينه ون�ستغفره ون�ستهديه‪ُ ،‬‬
‫ونعوذ‬
‫�سيئات �أعمالنا‪ ،‬من ي ْه ِد ُ‬
‫اهلل‬ ‫ِ‬ ‫باهلل من �شرو ِر �أنف�سنا ومن‬
‫م�ض َّل له‪ ،‬ومن ي�ضلل فال هادي له‪ ،‬و�أ�شهد �أنْ ال �إله �إال‬ ‫فال ِ‬
‫اهلل وحده ال �شريك له‪ ،‬و�أ�شهد �أنَّ حممدً ا عبدُه ور�سو ُله‪ ،‬بعثه‬ ‫ُ‬
‫اهلل رحم ًة للعاملني هاد ًيا ومب�ش ًرا ونذي ًرا‪ ،‬ب ّلغ الر�سالة و أ� ّدى‬‫ُ‬
‫اهلل خ َري ما جزى نب ًيا من �أنبيائه‪،‬‬ ‫ون�صح ا أل ّم َة‪ ،‬فجزا ُه ُ‬
‫َ‬ ‫الأمانة‬
‫هلل و�سالمه عليه وعلى جميع الأنبياء واملر�سلني‪ ،‬وعلى‬ ‫�صلواتُ ا ِ‬
‫�صحابته و�آل بيته‪ ،‬وعلى من �أحبهم �إىل يوم الدين‪ ،‬در�سنا اليوم‬

‫ﻋﺼ‬
‫يا �إخواين بعنوان (ال تغ�ضب) والدر�س ده يف غاية الأهمية‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ب�إذن اهلل هحاول مطول�ش عليكم ب�س ركزوا معايا‪ ،‬والأطفال‬
‫احللوين اللي معانا كمان يركزوا وب�إذن اهلل هي�ستفادوا‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫نظر �إليه �إ�سالم بذهول‪� ،‬شعر �أن اهلل �أر�سله ليلقي هذه املحا�ضرة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫خ�صي�صا من �أجله‪ ،‬نظر �إليه بانتباه‬


‫ً‬ ‫يف هذا التوقيت وعن هذا املو�ضوع‬
‫و�أن�صت �إليه متام الإن�صات‪ ،‬قال ال�شيخ‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬هبد�أ الدر�س النهارده مبوقفني حدثوا يف عهد النبي �صلى اهلل‬


‫عليه و�سلم بخ�صو�ص مو�ضوع الغ�ضب ده‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫جال�سا‬
‫الأول‪ :‬عن �سليمان بن ُ�ص َرد ر�ضي اهلل عنه قال‪ :‬كنت ً‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مع النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ورجالن ي�ست ّبان‪ ،‬و�أحدهما قد‬
‫احمر وجهه‪ ،‬وانتفخت �أوداجه‪ ،‬فقال ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم‪� :‬إين لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد‪ ،‬لو قال‪:‬‬
‫�أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد‪.‬‬
‫رجل قال للنبي‬ ‫والثاين‪ :‬عن �أبي هريرة ر�ضي اهلل عنه‪� ،‬أن ً‬
‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪� :‬أو�صني‪ ،‬قال‪ :‬ال تغ�ضب‪ ،‬فر ّدد‪ ،‬قال‪ :‬ال‬
‫تغ�ضب‪ .‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪341‬‬
‫نظر �إليهم ال�شيخ وقال‪:‬‬
‫‪ -‬واخدين بالكم؟ مو�صاهو�ش ب�أي حاجة تانية‪ ،‬ولكن قاله ال‬
‫تغ�ضب‪ ،‬طيب ليه منغ�ضب�ش؟‬
‫�صمت للحظات جلذب انتباههم ثم تابع‪:‬‬
‫‪ -‬بب�ساطة لأن الغ�ضب ده من �أقبح الأخالق ال�سيئة‪ ،‬لأنه بيخرج‬
‫الإن�سان من طبيعته الإن�سانية �إىل البهيمية‪ ،‬وبي�ساعده على‬
‫ارتكاب ت�صرفات �سيئة جدً ا زي ال�سب واللعن وال�شتم وال�ضرب‬

‫ﻋﺼ‬
‫واالعتداء والإتالف والطالق‪ ،‬بل رمبا والعياذ باهلل يلفظ‬
‫الإن�سان ب�ألفاظ توجب الردة‪ ،‬وكمان الغ�ضب له �أثاره ال�سيئة‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫جدً ا على الفرد واملجتمع لأنه بيفرق بني الأحباب وي�شتت �أ�سر‬
‫ﻜﺘ‬
‫كانت مطمئنة‪.‬‬
‫خفتت نربة �صوته ً‬
‫قليل وقال بهدوء‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬لو ركزتوا يف املواقف اللي بنغ�ضب فيها وحللتوها كوي�س‬


‫ﺸﺮ‬

‫هتالقوا معظمها مواقف ب�سيطة وكانت ممكن تتحل ب�سهولة‬


‫لوال �أننا �ضعفنا و�سمحنا لل�شيطان ي�ستغلنا ويخرب علينا‬
‫ﻭ‬

‫حياتنا‪ ،‬ال�شيطان عارف كوي�س �أوي يدخل لكل واحد مننا‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫منني ويوقعه ازاي‪ ،‬عل�شان كده النبي عليه ال�صالة وال�سالم‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أخربنا ببع�ض الو�صايا والن�صائح اللي املفرو�ض نقوم بيها‬


‫وقت الغ�ضب‪ ،‬هحاول �أذكرها ب�إيجاز‪.‬‬
‫� ًأول‪ :‬التعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم �أول ما نح�س بالغ�ضب‬
‫ثان ًيا‪ :‬نغري احلالة اللي احنا عليها‪ ،‬يعني لو واقفني نقعد‪ ،‬لو‬
‫قاعدين ن�ضطجع‪ ،‬كده الإن�سان هيهدى �أكرث ويبعد عن �أي‬
‫انتقام كان ممكن يعمله وقت غ�ضبه‪.‬‬
‫‪342‬‬
‫ثال ًثا‪ :‬ن�سكت عن الكالم‪ ،‬وبدل ما نقول �أي حاجة نقعد ن�ستغفر‬
‫ونذكر ربنا‪.‬‬
‫راب ًعا‪ :‬نتو�ض�أ‪ ،‬وممكن ن�صلي كمان ركعتني وندعي ربنا يهدي‬
‫قلوبنا‪.‬‬
‫والزم ناخد بالنا من حاجة‪ ،‬وهي �إن الغ�ضب بيكون مذموم‬
‫انتقاما لنف�سه‪� ،‬أما �إذا غ�ضب غرية هلل‬
‫ً‬ ‫لو غ�ضب الإن�سان‬
‫النتهاك حمارمه �أو دف ًعا للأذى عن نف�سه وغريه يف ذات اهلل‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫�شرعا وفاعله ُيثاب على ذلك‪.‬‬
‫فهذا غ�ضب حممود ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫فقد قالت عائ�شة ر�ضي اهلل عنها‪ :‬ما انتقم ر�سول اهلل �صلى‬
‫اهلل عليه و�سلم لنف�سه‪� ،‬إال �أن تنتهك حرمة اهلل فينتقم هلل‬
‫ﻜﺘ‬
‫بها‪.‬‬
‫�أ�س�أل اهلل تعاىل �أن تدوم ال�سكينة يف قلوبكم‪ ،‬واالبت�سامة على‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وجوهكم‪ ،‬وال�سعادة يف بيوتكم‪ ،‬وال�صحة يف �أبدانكم‪ ،‬والتوفيق‬


‫ﺸﺮ‬

‫يف حياتكم‪ ،‬والأمان يف دروبكم‪ ،‬والنور يف وجوهكم‪ ،‬و�أن يغفر‬


‫لكم ولوالديكم ولكل عزيز لديكم‪� ،‬آمني يا رب العاملني‪ ،‬و�صل‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اللهم و�سلم على �سيدنا حممد وعلى �آله و�صحبه �أجمعني‪،‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أحبكم يف اهلل‪ ،‬وال�سالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬


‫فهم �إ�سالم �سبب ما حدث مع �سلمى بعدما �سمع الدر�س‪� ،‬إنه ال�شيطان‬
‫وال �شيء غري ال�شيطان‪ ،‬ذلك املخلوق اخلبيث الذي ا�ستطاع �أن ي�ستغل‬
‫�ضعفه وغ�ضبه وانت�صر عليه وفرق بينه وبني زوجته‪ ،‬قرر �إ�سالم �أن‬
‫ي�سحقه يف اجلولة القادمة بعدما تعلم كيف يتمالك نف�سه وقت غ�ضبه‪،‬‬
‫عاد ملنزله و�سار حتى و�صل لغرفة نومه‪ ،‬كانت �سلمى ت�ضع ر�أ�سها على‬
‫الو�سادة وعيناها مفتوحتان حتدق يف الظالم‪ ،‬حاول �إ�سالم اختزال‬
‫‪343‬‬
‫احلرب ال�ضرو�س التي تطحن قلبه وتع�صف بفكره يف ابت�سامة مرهقة‬
‫باهتة‪ ،‬و�س�أل‪:‬‬
‫‪ -‬عاملة �إيه دلوقتي يا �سلمى؟ ل�سه حا�سة ب�أمل؟‬
‫قالت ب�صوت متح�شرج وهي تخفي عربة بعينها‪:‬‬
‫‪ -‬يعني �شوية‪ ،‬احلمد هلل‪.‬‬
‫نظر �إليها وقال بندم‪:‬‬
‫أنت اللي دفعتي‬
‫علي و� ِ‬
‫‪� -‬أنا عارف �إن ال�شيطان عرف ي�ضحك َّ‬

‫ﻋﺼ‬
‫أنت عارفة �إين مكنت�ش �أق�صد‪،‬‬
‫الثمن‪ ،‬ب�س حاويل ت�ساحميني‪ِ � ،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫و�إن ده م�ش طبعي‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫�سكت لربهة ثم ا�ست�أنف‪:‬‬
‫‪ -‬وعارفة كمان مكانتك عندي عاملة ازاي‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫نظرت �إليه دامعة العني قريحة القلب وقالت ب�صوت واهن‪:‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪� -‬أنا حلد دلوقتي م�ش م�ستوعبة وال م�صدقة اللي ح�صل‪ ،‬م�ش‬
‫متخيلة �إن �أكرث �شخ�ص ببقى متطمنة و�أنا جنبه يعمل معايا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫كده عل�شان موقف �أقل ما ُيقال عنه �إنه تافه‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫فعل‪ ،‬ب�س ال�شيطان بيعرف كوي�س‬ ‫‪ -‬املوقف ب�شكل عام م�ش كبري ً‬
‫علي املرادي‪ ،‬ب�س ب�إذن اهلل‬
‫�أوي ي�ستغلنا ويوقعنا‪ ،‬هو انت�صر َّ‬
‫دي هتكون �آخر مرة‪.‬‬
‫�سمعت كلماته و�سكتت‪ ،‬لي�س لديها طاقة للحديث‪� ،‬أغم�ضت عينيها‬
‫با�ست�سالم ونامت على �شقها الأمين‪ ،‬نظر �إليها �إ�سالم ً‬
‫طويل ثم اجته‬
‫ملكانه ور�أ�سه يدور كطواحني الهواء‪ ،‬و�ضع ر�أ�سه على و�سادته وطال ُ�سهاده‪.‬‬
‫‪344‬‬
‫يف ال�صباح ا�ستيقظت �سلمى وتناولت هاتفها من على الكومود لتغلق‬
‫�صحن �صغ ٍري مو�ضوع بجوارها يبتلع ثالث �شطائر‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫املنبه‪ ،‬فانتبهت �إىل‬
‫حملت ال�صحن وخرجت من الغرفة‪ ،‬مت�شت يف الرواق حتى و�صلت �إىل‬
‫ال�صالة فوجدت �إ�سالم يجل�س �أمام احلا�سوب‪ ،‬عندما �أح�س بها نظر‬
‫�إليها مبت�س ًما وقال‪:‬‬
‫‪� -‬أنا عارف �إنك م�ش هتقدري تعملي �أكل اليومني دول‪� ،‬أنا هتوىل‬
‫املو�ضوع ده متقلقي�ش‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ما زال احلزن يطري بجناحيه داخل عينيها‪ ،‬هم�ست بنربة منخف�ضة‪:‬‬
‫‪� -‬شك ًرا‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬هرتوحي املدر�سة النهارده؟‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬الزم �أروح عل�شان جتهيزات احلفلة‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قالتها وعادت �إىل غرفتها‪ ،‬ارتدت مالب�سها بعدما ت�أوهت عدة مرات‬
‫ب�سبب احتكاك يدها باملالب�س‪ ،‬تناولت حقيبتها ودفرتها وخرجت �إىل‬
‫ﺸﺮ‬

‫جال�سا �أمام احلا�سوب ومل ي�ستعد للذهاب لعمله! �أمره‬


‫ال�صالة‪ ،‬ما زال ً‬
‫عجيب! مل ت�س�أله رغم ف�ضولها‪ ،‬حيته وغادرت البيت‪ ،‬وملا �أنهت يومها‬
‫ﻭ‬

‫الدرا�سي عادت و�صعدت الدرج ب�شق الأنف�س‪ ،‬ثم وجلت �إىل �شقتها‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫فوجدته �أمامها مم�س ًكا بحا�سوبه‪� ،‬أعد لهما وجبة خفيفة للغداء وق�ضى‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�سدل ال�ستار على‬


‫باقي اليوم على الأريكة �أمام احلا�سوب‪ ،‬حتى بد أ� جفنه ُي ِ‬
‫عينيه من �شدة التعب‪ ،‬ف�أذعن ل�سلطان النوم و�أغم�ض عينيه يف ا�ست�سالم‪.‬‬
‫اليوم التايل كان ن�سخة مطابقة من اليوم الذي �سبقه‪� ،‬شعرت �سلمى‬
‫ببع�ض القلق‪ ،‬ولكنها ما زالت تت�أمل مما حدث وال ت�سمح له بالتحدث معها‬
‫�إال بكلمات قليلة مقت�ضبة‪ ،‬فكرت �أكرث من مرة �أن ت�س�أله و�سارت �إليه‬
‫بالفعل عدة مرات‪ ،‬ولكنها كانت ترتاجع يف النهاية وتعود �أدراجها �إىل‬
‫‪345‬‬
‫غرفتها‪ ،‬ويف نهاية اليوم الرابع و�أثناء جلو�س �إ�سالم �أمام حا�سوبه �سمع‬
‫فرحا‪:‬‬
‫رنني هاتفه ور�آه ينري با�سم فاروق ف�أجاب ً‬
‫‪ -‬ازيك يا غايل‪ ،‬فينك من زمان؟‬
‫‪ -‬موجود‪ ،‬ب�س م�شغول �شوية كده‪ ،‬املهم كنت عاوز �أ�شوفك قبل‬
‫ما �أ�سافر‪.‬‬
‫رفع �إ�سالم حاجبه بتعجب وقال‪:‬‬
‫‪ -‬هت�سافر فني؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫�ضرب فاروق جبهته بكفه وقال �ضاح ًكا‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪� -‬آخ! ده �أنا �شكلي ن�سيت �أقولك‪ ،‬ال�شركة بتاعتنا يا �سيدي هتفتح‬
‫ﻜﺘ‬
‫فرع جديد ليها يف الإ�سكندرية وطب ًعا حمتاجني مهند�سني‬
‫كل التخ�ص�صات‪ ،‬فاتكلمت مع نهى وقررنا ننقل هناك لأن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫املرتب هيكون �أعلى‪ ،‬رغم �إن ال�شغل هيكون �أكرث �شوية لأن عدد‬
‫املهند�سني اللي هناك �أقل‪ ،‬ب�س م�ش م�شكلة بقى ربنا يقوينا‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫قال �إ�سالم بلوم‪:‬‬


‫‪ -‬طيب مقولتلي�ش ليه يا بني عل�شان �آجي معاك‪ ،‬ما �أنت عارف‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�إين م�ش مرتاح يف �شركتي‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬كنت بفكر �أقولك واهلل‪ ،‬ب�س �أنا عارف �إن مراتك بت�شتغل‬
‫فقولت �أكيد م�ش هينفع‪.‬‬
‫‪ -‬أل عادي‪ ،‬هي قالتلي �إنها حابة تاخد �إجازة �سنة وال اثنني بعد‬
‫الوالدة عل�شان تاخد بالها من البنت‪ ،‬وبعدها ب�إذن اهلل هتقرر‬
‫�إذا كانت هتكمل �شغل وال لأ‪.‬‬
‫‪ -‬ما �شاء اهلل‪ ،‬عرفتوا �إن اجلنني بنت؟‬
‫‪346‬‬
‫ابت�سم �إ�سالم وقال‪:‬‬
‫‪� -‬أيوة احلمد هلل‪ ،‬املهم ب�س �سيبني النهارده �أتكلم مع �سلمى‬
‫يف املو�ضوع ون�ستخري‪ ،‬وب�إذن اهلل بكره �أكلمك تاين و�أقولك‬
‫قرارنا‪.‬‬
‫حياه و�أغلق اخلط‪� ،‬سمعته �سلمى وهو يحمد اهلل كث ًريا بعدما‬
‫�أنهى املكاملة‪ ،‬خرجت �إليه فر�أت وجهه خمتل ًفا ً‬
‫متاما عن الأيام‬
‫املا�ضية‪ ،‬وك�أن �سحابة الهم كانت ت�سكنه والآن تخل�صت من‬

‫ﻋﺼ‬
‫ِحملها و�أمطرت‪ ،‬دعاها للجلو�س بجانبه فا�ستجابت و�س�ألت‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫‪ -‬هو �أنت �سيبت ال�شغل؟‬
‫‪ -‬ا�شمعنى؟‬
‫‪ -‬ح�سيت كده من كالمك‪ ،‬وكمان عل�شان م�ش بالقيك بتنزل زي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الأول‪.‬‬
‫ابت�سم �إ�سالم وقال‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬عامة هم اللي طردوين‪ ،‬م�ش �أنا اللي م�شيت‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫�شهقت �سلمى بفزع و�س�ألت‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬طردوك! طيب ليه؟‬


‫أنت ن�سيتي‪،‬‬
‫‪ -‬يوم ما اتخانقنا كان نف�س يوم الرتقية بتاعتي ب�س � ِ‬
‫�ساعتها كنت رايح مبنتهى احلما�س ومتلهف �أعرف هرتقى‬
‫لإيه‪ ،‬ومرتبي هيزيد قد �إيه‪ ،‬ب�س اتفاجئت �إن الرتقية راحت‬
‫لواحد ل�سه �شغال من �أ�سبوعني!‬
‫نظر �إليها ب�ضيق وتابع‪:‬‬
‫‪347‬‬
‫‪ -‬دخلت على املدير وكنت متع�صب جدً ا‪ ،‬مقدرت�ش �أ�ستحمل‬
‫وطلعت كل اللي جوايا‪ ،‬قولتله �إين �شوفت كمية ظلم يف ال�شركة‬
‫حمد�ش ي�ستحملها‪ ،‬ده غري �إنهم بي�ستغلونا وبيكلفونا مب�شاريع‬
‫فوق طاقتنا ومع ذلك م�ستحملني ومكملني‪ ،‬وكمان بيكذبوا‬
‫علينا طول الوقت ويع�شمونا وبعدها يخلفوا وعودهم‪ ،‬املهم‬
‫املدير ات�ضايق من �صراحتي وكلمني باحتقار �شديد‪ ،‬ف�شدينا‬
‫مع بع�ض يف الكالم وطردين‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫تنهد وا�ست�أنف‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬يومها كنت راجع دمي حمروق بطريقة رهيبة و�شايل هموم‬
‫أنت قربتي تولدي ول�سه م�ش‬
‫الدنيا كلها فوق دماغي‪ ،‬اللي هو � ِ‬
‫ﻜﺘ‬
‫معانا فلو�س الوالدة كاملة‪ ،‬وكمان جميبنا�ش اللب�س للبنت‪،‬‬
‫ده غري م�صاريف البيت‪ ،‬كنت م�ضغوط ب�شكل م�ش طبيعي‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أنت عارفة �إين ملا ببقى‬


‫وب�صراحة كنت جعان جدً ا كمان‪ ،‬و� ِ‬
‫ﺸﺮ‬

‫جعان م�ش بقدر �أ�صرب‪ ،‬فكل ده مع بع�ضه خالين م�ش م�ستحمل‬


‫أنت بغلطة غري مق�صودة منك �ساعدتي‬ ‫ن�صف كلمة‪ ،‬وللأ�سف � ِ‬
‫ﻭ‬

‫يف اللي ح�صل ده‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�س�ألت با�ستنكار‪:‬‬
‫‪ -‬وهو �أنا غلطت يف �إيه؟!‬
‫ابت�سم �إليها ومتتم‪:‬‬
‫أنت لقياين جعان‬ ‫‪ -‬غلطتي ملا �أ�س�أتي تقدير املوقف‪ ،‬يعني � ِ‬
‫ومتع�صب‪ ،‬وده م�ش العادي بتاعي‪ ،‬يبقى كان املفرو�ض‬
‫حتاويل متت�صي غ�ضبي يف الوقت ده وحتطيلي �أي حاجة �أكلها‬
‫‪348‬‬
‫وخال�ص‪ ،‬وملا �أهدى تبدئي تلوميني على �أ�سلوبي احلاد وت�س�أيل‬
‫عن ال�سبب براحتك‪.‬‬
‫عقدت ذراعيها ولوت �شفتيها و�صمتت‪ ،‬رفع �إ�سالم ر�أ�سها �إليه وقال‬
‫بحنان‪:‬‬
‫‪� -‬أنا م�ش بلومك على اللي عملتيه‪ ،‬الغلط الأكرب كان مني �أنا‪،‬‬
‫�أنا ب�س بحاول �أحلل املوقف و�أخرج كل الأخطاء اللي ح�صلت‬
‫عل�شان ناخد بالنا ومنكررها�ش تاين‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫تنهدت‪ ،‬غالبت ابت�سامة باهتة لرت�سمها على وجهها فخانتها‪ ،‬قالت‬
‫هام�سة‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬ح�صل خري يا �إ�سالم‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬فكي التك�شرية بقى‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قالها مبرح‪ ،‬فابت�سمت وقالت‪:‬‬


‫‪ -‬ربنا يباركلنا يف بع�ض ويبعد ع ّنا ال�شيطان‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫تلقف يدها بني يديه و�ضمها �إىل �صدره �ضمة جمع فيها بني الندم‬
‫وال�شوق ما جمع‪ ،‬ثم زفر زفرة نفخ فيها من الهم واخلوف ما نفخ‪ ،‬حدثها‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بهم�س‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫أنت �أحلى حاجة موجودة يف حياتي بعد �أمي‪ ،‬وملا‬‫‪ -‬بدون مبالغة‪ِ � ،‬‬
‫ب�شوفك زعالنة م�ش ببقى قادر �أعي�ش يومي ب�شكل طبيعي‪ ،‬و�أنا‬
‫الفرتة دي حقيقي م�ضغوط جامد‪ ،‬فحاويل ت�ساحميني وتكوين‬
‫واقفة جنبي زي ما اتعودت منك دا ًميا‪.‬‬
‫‪ -‬ب�إذن اهلل دا ًميا هتالقيني �أكرث واحدة واقفة يف ظهرك‬
‫وبت�سندك وقت �ضعفك‪ ،‬املهم فهمني مو�ضوع ال�شغل اجلديد‬
‫ده‪.‬‬
‫‪349‬‬
‫بد�أ يق�ص عليها ما قاله فاروق‪ ،‬فقالت برتدد‪:‬‬
‫‪� -‬إ�سكندرية! طيب بالن�سبة ل�شغلي فمفي�ش م�شكلة على الأقل‬
‫�أول �سنة بعد الوالدة‪� ،‬إمنا ازاي هن�سافر دلوقتي و�أنا على و�ش‬
‫والدة؟ وهعمل �إيه يف �إجازتي اللي ل�سه مبد�أت�ش؟ وازاي هقعد‬
‫لوحدي هناك وممكن الطلق ييجي يف �أي وقت! وكمان هولد‬
‫فني ومع مني!‬
‫ربت �إ�سالم على يديها وقال‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫يل ت�أكدي �إن ربنا هيي�سرلنا كل الأمور‬ ‫‪ -‬لو ال�شغل ده هو اخلري َّ‬
‫دي‪ ،‬ب�س ب�شكل عام متقلقي�ش من ناحية الوالدة‪� ،‬أنا عارف‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�إنك حابة تولدي مع الدكتورة بتاعتك ويف و�سط �أهلك‪ ،‬فممكن‬
‫ﻜﺘ‬
‫�أ�سافر �أنا مبدئ ًيا و�أ�شوف ال�شغل كوي�س وال لأ‪ ،‬وممكن �أخدك‬
‫معايا وقبل الوالدة علطول تنزيل تقعدي مع والدتك‪ ،‬ب�س �أنا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ب�صراحة م�ش عاوز �أ�سيبك �أبدً ا يف الفرتة دي‪ ،‬فندعي ربنا‬


‫يي�سرلنا الأمر‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬طيب ُب�ص‪ ،‬هو �أنا قلقانة �شوية ب�س م�ش م�شكلة‪ ،‬يال ن�صلي‬
‫ﻭ‬

‫ا�ستخارة وبعدها قول ل�صاحبك يقدملك يف ال�شركة‪ ،‬و�أ ًيا كان‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اللي هيح�صل بعدها ف�أنا مت�أكدة �أنه اخلري لينا‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أوم أ� بعينيه مبت�س ًما ثم عاونها ونه�ضا لأداء �صالة اال�ستخارة‪.‬‬


‫‪zzz‬‬
‫ُم�ضطر ٌة هي‪ُ ،‬رغ ًما عنها وافقت على عر�ضه وعادت �إىل املنزل مرة‬
‫وخ�صو�صا لأنها بد�أت‬
‫ً‬ ‫�أخرى‪ ،‬حتتاج ب�شدة �إىل املال لتطمئن على طفلتها‪،‬‬
‫ت�شعر يف الفرتة الأخرية ببع�ض الآالم التي �أثارت القلق يف نف�سها‪ ،‬قامت‬
‫بعمل التحاليل والأ�شعة املطلوبة منها وذهبت �إىل الطبيب‪� ،‬أخربها �أن‬
‫‪350‬‬
‫الطفلة وزنها �ضعيف وحالتها ال�صحية لي�ست على ما يرام‪� ،‬أعطاها بع�ض‬
‫التعليمات وطلب منها �أن تت�صل به مبجرد �أن ت�شعر ب�أي �أمل حتى لو كان‬
‫ً‬
‫ب�سيطا‪ ،‬لأن الأمر رمبا يكون خط ًريا‪� ،‬أ�شار �إليها ب�سبابته حمذ ًرا ب�شدة من‬
‫التهاون يف هذا الأمر‪ ،‬ف�أوم�أت بر�أ�سها متفهمة وعادت �إىل بيتها مت�أملة‪،‬‬
‫ق�صت على كرمي كل ما حدث والندم يلوكها بني فكيه‪ ،‬فلوال تهاونها يف‬ ‫ّ‬
‫ال�سابق رمبا كانت �صغريتها بحال �أف�ضل الآن‪ ،‬تعاطف معها كرمي هذه‬
‫اهتماما به‬
‫ً‬ ‫وخ�صو�صا بعدما وجد منها‬
‫ً‬ ‫املرة وبد�أ ُيح�سن معاملته معها‬
‫�أثناء مر�ضه رغم تعبها‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫مرت الأيام‪ ،‬و�صلت �إىل منت�صف �شهرها ال�سابع‪ ،‬بد�أت ت�شعر ببع�ض‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الآالم غري املحتملة‪ ،‬ا�ست�شارت طبيبها ف�أمرها ببع�ض التعليمات‪ ،‬نفذتها‬
‫ﻜﺘ‬
‫ولكن ال فائدة‪ ،‬فالآالم تزداد ب�شكل مبالغ فيه‪ ،‬ا�صطحبت كرمي لأول مرة‬
‫وذهبت للطبيب دون �سابق موعد‪ ،‬فح�صها و�أخربهما بخوف �أن االنتظار‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أكرث من ذلك فيه خطورة على الطفلة‪ ،‬نظرت فاطمة لزوجها ب�صدمة‬
‫بينما �س�أل كرمي الطبيب عن احلل‪ ،‬فطلب منه ح�ضورهما يف الغد لإجراء‬
‫ﺸﺮ‬

‫عملية الوالدة‪ ،‬نظرت فاطمة �إىل الطبيب م�شدوهة وقد ات�سعت عيناها‬
‫بفزع‪ ،‬فحاول �أن يطمئنها و�أخربها �أن كل �شيء �سيكون على ما يرام‪،‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عادت �إىل املنزل وظلت تبكي هذه الليلة كما مل تبك من قبل‪ ،‬ات�صلت‬
‫بهند و�أخربتها مبا حدث‪ ،‬وطلبت منها �أن ت�شرتي يف الغد بع�ض املالب�س‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫اخلا�صة بحديثي الوالدة وت�أتي �إليها قبل ذهابها للطبيب‪ ،‬وافقت هند‬
‫على الفور و�أخذت تطمئنها‪� ،‬أغلقت فاطمة اخلط وتابعت بكاءها حتى‬
‫تعبت وا�ست�سلمت خلدر النوم الذي بد أ� ي�سري يف �أو�صالها‪.‬‬
‫بعد �ساعات ارتدت مالب�س العملية م�ست�سلمة ودخلت �إىل غرفة‬
‫العمليات‪ ،‬مرت الدقائق على من كانوا باخلارج وك�أنها �ساعات‪ ،‬ويف‬
‫حلظة ما ُف ِتح باب غرفة العمليات وخرج منه طبيب الأطفال وهو يحمل‬
‫‪351‬‬
‫ال�صغرية‪ ،‬اقرتب كرمي منه بلهفة تعجب هو نف�سه منها‪ ،‬حمل طفلته بني‬
‫يديه و�أخذ ينظر �إليها مبت�س ًما‪ ،‬كانت قليلة الوزن ولكنها جميلة كوالدتها‪،‬‬
‫ف�شعرها ُخلق بلون الذهب وب�شرتها بي�ضاء م�شربة بحمرة‪ ،‬ومالحمها‬
‫رقيقة كمالمح �أمها‪ ،‬طبع كرمي قبلة على ر�أ�سها و�أح�س حينها ب�شيء‬
‫داخله مل يفهمه‪ ،‬وك�أن اهلل قذف حبها يف قلبه مبجرد ر�ؤيتها‪� ،‬س�أل‬
‫الطبيب عن حالتها‪ ،‬ف�أجاب ب�أ�سف‪:‬‬
‫‪ -‬هتحتاج تدخل ّ‬
‫احل�ضانة دلوقتي �ضروري‪ ،‬و�إن �شاء اهلل خري‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬طيب وفاطمة؟‬
‫‪ -‬بخري احلمد هلل‪ ،‬هتخرج بعد ما تفوق من البنج‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫اقرتبت والدة فاطمة وهي ت�ستند على هند لرتى ال�صغرية‪ ،‬حملتها‬
‫ﻜﺘ‬
‫لأقل من دقيقة وبعدها �أخذها الطبيب و�سار بها وهم يتابعونه بنظراتهم‬
‫حتى اختفى من �أمامهم‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بعد يومني وقفت فاطمة م�ستندة �إىل زوجها تنظر �إىل طفلتها العارية‬
‫�إال من احلفا�ض‪ ،‬واملو�ضوعة يف ذلك ال�صندوق الزجاجي �صغري احلجم‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫كانت دموعها جتري �ساخنة متالحقة على وجهها‪ ،‬متنت لو ا�ستطاعت‬


‫ﻭ‬

‫�أن ت�ضمها بداخل ح�ضنها وال ترتكها �أبدً ا‪ ،‬فر�ؤيتها على تلك الهيئة تدمي‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قلبها‪ ،‬كان كرمي ينظر للطفلة وقد ظهر الأ�سى على وجهه‪ ،‬متنى ب�صدق‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أن تتح�سن حالتها وتعود معهما �إىل املنزل‪ ،‬مر يوم تلو الآخر واحلال‬
‫كما هو‪ ،‬ت�أتي فاطمة وزوجها لالطمئنان على ال�صغرية وينتظران �إىل‬
‫جوارها ل�ساعات‪ ،‬ثم يعودان وحدهما بعدما هتك احلزن قمي�ص قلوبهما‬
‫مل�شاهدتها على تلك احلالة‪ ،‬يف اليوم ال�سابع وحينما و�صال �إىل امل�شفى‬
‫�أخرب كرمي زوجته ب�أنه �سيذهب لدفع ح�سابات امل�شفى وبعدها يلحق بها‪،‬‬
‫ف�أوم�أت بر�أ�سها‪ ،‬و�صعدت وحدها �إىل ال�صغرية‪ ،‬دخلت الغرفة بلهفة‬
‫واقرتبت من ال�صندوق اخلا�ص بابنتها فلم جتدها‪ ،‬هل من املعقول �أنها‬
‫‪352‬‬
‫قد تعافت؟ خطرت الفكرة على ر�أ�سها فلمعت عيناها ب�أمل وهرولت‬
‫تبحث عن الطبيب لت�س�أله‪ ،‬وملا و�صلت �إليه نظرت �إليه م�ستب�شرة وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬البنت خفت �صح؟‬
‫ط�أط أ� الطبيب ر�أ�سه وهم�س‪:‬‬
‫‪ -‬البقاء هلل يا مدام فاطمة‪.‬‬
‫�صرخت فاطمة بعينني مت�سعتني‪:‬‬
‫‪ -‬يعني �إيه! البنت فيني يا دكتور؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫زم �شفتيه يف �أ�سى ومتتم‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫‪ -‬ربنا ي�صرب قلبك‪.‬‬


‫ﻜﺘ‬
‫ظلت �أ�صداء كلماته تطن يف ر�أ�سها ثم �سقطت غائبة عن الوعي‪.‬‬
‫‪zzz‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ذهب �إ�سالم لعمل املقابلة ال�شخ�صية بال�شركة التي يعمل بها فاروق‬
‫ﺸﺮ‬

‫بعدما قدم كافة �أوراقه �إليهم قبلها ب�أيام‪ ،‬كان مدير ال�شركة ً‬
‫رجل وقو ًرا‬
‫ﻭ‬

‫متوا�ض ًعا ذا ابت�سامة عذبة‪ ،‬بد أ� ي�س�أل �إ�سالم بع�ض الأ�سئلة‪ ،‬وملا ر�آه يجيب‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بلباقة وثقة وعلم من فاروق �إتقانه وتفانيه يف عمله وافق على تعيينه‪،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ولكنه �أخربه �أنه لن ينقله لفرع الإ�سكندرية �إال بعدما يق�ضي الثالثة �أ�شهر‬
‫الأوىل معهم يف الفرع الأ�سا�سي لتدريبه على العمل‪ ،‬كاد �إ�سالم يرق�ص‬
‫فرحا بعدما �سمع ذلك اخلرب‪ ،‬لقد دبر اهلل له �أمره من حيث ال يحت�سب‪،‬‬ ‫ً‬
‫فبعد انتهاء الوقت املحدد �سي�ستطيع وبكل �سهولة �أن ي�صطحب زوجته‬
‫وابنته معه �إىل الإ�سكندرية‪ ،‬بد أ� العمل من اليوم التايل‪ ،‬وملا ق�ضى �شهره‬
‫الأول بال�شركة وح�صل على الراتب ذهب �إىل �سلمى ويف عينيه فرحة‬
‫‪353‬‬
‫كالأطفال‪ ،‬و�ضع املال بني يديها و�أخربها �أنه �سيذهب معها ل�شراء كل ما‬
‫حتتاجه للمولودة‪.‬‬
‫يوما و�أثناء وجوده يف ال�شركة ات�صلت به �سلمى وهي‬
‫بعد �أربعة ع�شر ً‬
‫تبكي‪ ،‬ف�س�ألها بقلق عن ال�سبب‪ ،‬ف�أجابت‪:‬‬
‫‪ -‬حا�سة ب�أمل عمال ييجي ويروح‪� ،‬أنا خايفة �أوي يا �إ�سالم‪.‬‬
‫‪ -‬والدة يعني وال �إيه؟‬
‫‪ -‬م�ش عارفة!‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬طيب كلمي الدكتورة‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬كلمتها قالويل معاها حالة والدة‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫عليك بلغيني قالتلك �إيه‪ ،‬ولو‬
‫‪ -‬طيب تابعي معاهم و�أول ما ترد ِ‬
‫احتجت تروحي لها ه�ست�أذن و�أجيلك علطول ب�إذن اهلل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬حا�ضر‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أغلقت اخلط وبد�أت تدعو اهلل �أن يي�سر لها �أمر و�ضعها‪ ،‬بينما‬
‫حاول �إ�سالم جاهدً ا �إنهاء الأعمال التي بني يديه حت�س ًبا لأي‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ظروف‪ ،‬بعد �ساعة ات�صلت �سلمى به مرة �أخرى وقالت بتوتر‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬الدكتورة قالتلي احتمال كبري تكون والدة‪ ،‬وعاوزاين �أروح‬


‫�أك�شف عل�شان تت�أكد‪.‬‬
‫‪ -‬طيب الب�سي وجهزي �شنطتك‪ ،‬و�أنا جاي علطول ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫‪ -‬هو احنا هرنوح لوحدنا؟‬
‫‪� -‬أيوة‪ ،‬ولو ات�أكدنا �إنها والدة هنت�صل ب�أهلك و�أهلي ونقولهم‬
‫ييجوا امل�ست�شفى‪.‬‬
‫‪354‬‬
‫�أغلقا اخلط‪ ،‬ذهبت �سلمى الرتداء مالب�سها‪ ،‬وذهب �إ�سالم ملديره‬
‫و�أبلغه بالأمر ف�أعطاه باقي اليوم �إجازة ودعا لهما بالتي�سري‪ ،‬هرول �إ�سالم‬
‫م�سرعا يف �إحدى العربات‪ ،‬ظل بداخلها قرابة‬
‫ً‬ ‫�إىل موقف ال�سيارات وقفز‬
‫الن�صف �ساعة ثم هبط منها لي�سري بع�ض اخلطوات ويركب غريها‪ ،‬ف�سمع‬
‫رنني هاتفه‪� ،‬أجاب زوجته‪ ،‬فقالت بخوف‪:‬‬
‫‪� -‬إ�سالم الأمل عمال يزيد و�أنا مرعوبة‪ ،‬ات�أخرت كده ليه؟ �أرجوك‬
‫تعاىل ب�سرعة‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أجابها بحنان �أثناء عبوره الطريق‪:‬‬
‫‪ -‬خال�ص يا حبيبتي واهلل جاي �أهو‪ ،‬معل�ش حاويل ت�ستحملي‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫و�أنا‪...‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫يا �أ�ستاذ حا�سب!‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يا �أ�ستاذ خد بالك!‬


‫يا �أ�ستاااذ!‬
‫ﺸﺮ‬

‫هذا �آخر ما �سمعته �سلمى قبل �إغالق اخلط‪ ،‬نظرت يف هاتفها بعدم‬
‫ﻭ‬

‫ا�ستيعاب وقد ظهر على وجهها الفزع‪ ،‬ات�صلت ب�إ�سالم مرة �أخرى فوجدت‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اخلط مغل ًقا‪ ،‬ات�صلت مرة ثالثة‪ ،‬ورابعة‪ ،‬وخام�سة‪ ،‬ا�صطبغ وجهها خو ًفا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وبد�أت ترجتف وهي تكرر االت�صال بجنون ملدة تتعدى الن�صف �ساعة‪،‬‬
‫�شديد وكان قلبها ُيعت�صر ك�أن �آالف الإبر ُر ِ�شقت فيه‪ ،‬بد�أت‬
‫�شعرت ب أ� ٍمل ٍ‬
‫تبكي بانهيار وتتو�سل �إىل اهلل �أن يحفظ لها زوجها وتراه �أمام عينها‬
‫�سلي ًما ومعافى‪� ،‬شعرت ببع�ض الآالم اجل�سدية التي تعاونت مع الآالم‬
‫النف�سية و�سحقاها �سح ًقا‪ ،‬ات�صلت بزوجها للمرة الأخرية فوجدت اخلط‬
‫مغل ًقا كما هو‪ ،‬فات�صلت بوالدتها وق�صت عليها ما حدث‪ ،‬هرولت �أمها‬
‫و�أختها ووالدها �إليها و�أخذوها �إىل امل�شفى تبعتهم هند ووالدتها‪ ،‬دخلت‬
‫‪355‬‬
‫�سلمى �إىل الطبيبة ف�أخربتها بعد فح�صها ب�أنها �ست�ضع طفلتها خالل‬
‫ال�ساعات القليلة القادمة ب�إذن اهلل‪ ،‬فخرجت من عندها متوترة‪ ،‬وبد�أت‬
‫تق�ص على اجلميع ما حدث وهي تبكي تارة ب�سبب �آالمها اجل�سدية وتارة‬
‫ب�سبب خوفها على �إ�سالم‪ ،‬قال والد �سلمى ب�أنه �سيذهب لتتبع الطريق‬
‫الذي عاد منه �إ�سالم وي�س�أل عن وجود �أي حادث هناك‪ ،‬وملا و�صل �إىل‬
‫هناك علم با�صطدام �شاب ب�سيارة �أجرة ونقله �إىل امل�شفى‪ ،‬وملا �س�أل عن‬
‫موا�صفات ال�شاب وجدها تنطبق على �إ�سالم‪ ،‬فات�صل عليهم و�أخربهم‬
‫مبا حدث وبعدها ذهب �إىل امل�شفى ليت�أكد من الأمر‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪zzz‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�شعر ب�شلل تام يف كل �أطرافه‪ ،‬ال ي�ستطيع حتريك ج�سده قيد �أمنلة‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫عينه ال يقوى على فتحها‪ ،‬ت�صل �إىل �أذنيه همهمات غري مفهومة‪� ،‬أ�صوات‬
‫كثرية تختلط ببع�ضها البع�ض ال يتبني منها �أي �شيء‪ ،‬ظل على تلك احلالة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لعدة ثوان وبعدها بد�أ يفتح عينيه �شي ًئا ف�شي ًئا و ُيحرك �أطرافه بهدوء‪،‬‬
‫الظالم يحيط به من كل اجتاه‪ ،‬ولكن الأ�صوات بد�أت تت�ضح يف �أذنيه‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫�شعر مبلم�س الرتاب �أ�سفل يديه‪� ،‬أح�س ب�أحدهم وهو يحاول حتريكه‪،‬‬
‫ﻭ‬

‫�سمع �آخر يقول ب�أنه مات‪ ،‬ف�أخربه ب�أنه ما زال على قيد احلياة‪ ،‬ولكن‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�صوته أُ�حتب�س يف حنجرته‪ ،‬حرك قدمه الي�سرى مت�أملًا فلم�ست قدم �أحد‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫الرجال‪ ،‬نظر الرجل �إليه فلمح عينه الن�صف مفتوحة‪ ،‬بد�أ ُيبعد الواقفني‬
‫حوله وهو يقول ب�سعادة‪:‬‬
‫‪ -‬الراجل طلع عاي�ش‪ ،‬و�سعوله كده يا رجالة عل�شان يعرف‬
‫يتنف�س‪.‬‬
‫ابتعد الرجال �شي ًئا ف�شي ًئا فظهر ال�ضوء من جديد‪ ،‬اقرتب منه رجالن‬
‫لي�ساعداه على الوقوف‪� ،‬أ�شار لهما �أن يرتكوه ولكنهما �أ�صرا على حمله‪،‬‬
‫‪356‬‬
‫فبد�أ يجز على �أ�سنانه وخرجت منه ندة �أمل‪� ،‬أدخله الرجالن بداخل‬
‫�إحدى ال�سيارات وا�صطحبه غريهما �إىل امل�شفى‪.‬‬
‫كان ج�سده ُمط َّع ًما باخلدو�ش �إثر ا�صطدامه ب�إحدى �سيارات الأجرة‬
‫التي دفعته بقوة فتطاير ج�سده و�سقط بعنف على الأر�ض‪� ،‬شكى للطبيب‬
‫من بع�ض الآالم يف يده و�ساقه الي�سرى‪ ،‬وملا فح�صه الطبيب نظر �إليه‬
‫وقال بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬هنحتاج ب�س جنب�س �إيدك ورجلك ال�شمال عل�شان فيهم بع�ض‬

‫ﻋﺼ‬
‫الك�سور الب�سيطة‪ ،‬وب�إذن اهلل بعد �شهر هرتجع �أح�سن من‬
‫الأول‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�ضحك �أحد الواقفني وقال بب�ساطة‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬يا �ضاكتور ده ربنا بيحبه‪ ،‬احنا كنا فاكرينه مات‪ ،‬دي العربية‬
‫طريته بتاع مرتين وال ثالثة‪� ،‬سبحان اهلل‪ ،‬له يف ذلك حكم‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ابت�سم الطبيب وهو يجهز �أدواته‪ ،‬وابت�سم �إ�سالم من �أ�سلوب الرجل‬


‫ﺸﺮ‬

‫الب�سيط وقال وهو ينظر له ول�صاحبه‪:‬‬


‫‪� -‬أنا حقيقي م�ش عارف �أ�شكركم ازاي على تعبكم معايا ده‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قال �أحدهم‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬مت�شكرنا�ش يا بني‪ ،‬ده �أنت زي �أوالدنا‪.‬‬


‫‪ -‬طيب لو مفيها�ش �إزعاج‪� ،‬أنا كنت حمتاج تليفون عل�شان �أكلم‬
‫�أهلي �ضروري‪ ،‬لأين م�ش عارف موبايلي راح فني‪.‬‬
‫�ضحك الرجل الآخر وقال‪:‬‬
‫‪ -‬موبايلك اتك�سر �ستني حتة‪� ،‬أنا �شوفته بنف�سي وهو بيطري من‬
‫�إيدك ملا العربية خبطتك‪ ،‬يال فداك ربنا يعو�ض عليك‪.‬‬
‫‪357‬‬
‫ثم �أخرج هاتفه من جيبه وناوله لإ�سالم‪ ،‬ابت�سم �إ�سالم �إليه بامتنان‪،‬‬
‫ات�صل ب�سلمى ف�سمعها تلقي حتية الإ�سالم بحزن‪ ،‬فقال �ضاح ًكا‪:‬‬
‫‪ -‬هاه ولدتي وال ل�سه؟‬
‫�شهقت بذهول وهم�ست‪:‬‬
‫‪� -‬إ�سالم؟‬
‫ثم �س�ألت ب�سرعة‪:‬‬
‫‪� -‬أنت فني يا �إ�سالم؟ �أنت كوي�س؟ ح�ص َّلك �إيه طمني؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫ا�ستمر يف ال�ضحك وهو يقول‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬حيلك حيلك‪� ،‬أنا بخري احلمد هلل‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬طيب �أنت فني؟ و�إيه اللي ح�صل؟‬
‫علي ومترجحني‬ ‫‪ -‬مفي�ش‪ ،‬كان فيه عربية معدية وحبت ت�سلم َّ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�شوية‪.‬‬
‫‪� -‬إ�سالم �أنت بتهزر! �أنا قلبي هيقف من اخلوف‪� ،‬أرجوك طم ّني‬
‫ﺸﺮ‬

‫عليك‪.‬‬
‫ﻭ‬

‫‪ -‬يا �ستي واهلل كوي�س‪� ،‬شوية وهتالقيني عندك ب�إذن اهلل‪ ،‬املهم‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أنت �إيه الأخبار؟‬


‫� ِ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬طلعت والدة ً‬
‫فعل‪ ،‬والطلق �شغال �أهو ب�س ل�سه قدامي �شوية‪،‬‬
‫دعواتك‪.‬‬
‫يقويك ويعينك‪ ،‬هقفل دلوقتي و�شوية وهجيلك امل�ست�شفى‬
‫‪ -‬ربنا ِ‬
‫ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫قبل �أن يغلق اخلط قالت ب�سرعة‪:‬‬
‫‪ -‬مامتك هنا ونف�سها ت�سمع �صوتك يا �إ�سالم‪.‬‬
‫‪358‬‬
‫ابت�سم وبد أ� يحدث والدته بلطف‪ ،‬يداعبها ويطمئنها‪ ،‬ثم �أعطى‬
‫الهاتف للرجل و�شكره‪ ،‬وبد أ� الطبيب يتابع عمله من جديد‪.‬‬
‫بد�أت �آالم الطلق ت�شتد على �سلمى‪ ،‬وهي ت�أبي دخول غرفة العمليات‬
‫قبل �أن ترى زوجها‪ ،‬ظلت تتم�شى يف الرواق الطويل الذي يف�صل غرفة‬
‫العمليات عن باقي الغرف وهي تدعو وتذكر اهلل‪ ،‬ويف حلظة ما ر�أت القمر‬
‫ينظر �إليها وعلى وجهه ابت�سامة من �أعذب ما ر�أت‪ ،‬كان ي�سري بعرجة‬
‫خفيفة وهو ي�ستند على ع�صا منا�سبة لطوله بعدما ُلفت اجلبرية حول‬
‫�ساقة ويده الي�سرى‪ ،‬و�إىل جواره ي�سري والدها �ساندً ا له‪ ،‬تنا�ست �سلمى‬

‫ﻋﺼ‬
‫�آالمها وهرولت �إليه‪ ،‬اقرتبت منه وظهرت الدموع من �أ�سفل نقابها‪ ،‬فقال‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مازحا‪:‬‬
‫�إ�سالم ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬يا �ستي ما قولنا كوي�س وزي الفل‪ ،‬خال�ص بقى م�ش هنقعد‬
‫ن�شرتي يف مناديل كل �شوية‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�ضحكت �سلمى لأول مرة منذ �ساعات وقالت ب�صدق‪:‬‬


‫‪ -‬احلمد هلل �إين �شوفتك قدامي تاين يا �إ�سالم‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ان�سحب والدها من جوارهم وعاد �إىل زوجته وابنته‪ ،‬بينما قب�ض‬


‫ﻭ‬

‫�إ�سالم على يد �سلمى وقال بعينني ت�شعان ود‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫معاك الوالدة‪،‬‬
‫‪ -‬احلمد هلل �إن املو�ضوع طلع ب�سيط وقدرت �أح�ضر ِ‬
‫احلمد هلل على نعمه التي ال تعد وال حت�صى‪.‬‬
‫حاولت ر�سم ابت�سامة على �شفتيها بعدما ت�أوهت ب�صوت مكتوم وهي‬
‫تكز على �أ�سنانها‪ ،‬الحظ �إ�سالم حالتها ف�س�أل ب�شفقة‪:‬‬
‫‪ -‬كده الطلق و�صل لفني؟‬
‫‪ -‬على الآخر خال�ص‪.‬‬
‫‪359‬‬
‫بعدما بدقائق ب�سيطة ا�صطحبتها الطبيبة �إىل غرفة العمليات وبد�أت‬
‫عملها‪.‬‬
‫كانت ت�صرخ منادية بقوة‪ :‬يا رب‪ ،‬يا رب‪ ،‬كانت تكررها كث ًريا‬
‫ب�صوت مت�أمل‪� ،‬سمعها كل من كان بخارج الغرفة‪ ،‬حتى �أن �أمها انهارت‬
‫باكية ب�سبب �سماع تلك ال�صرخات‪ ،‬مرت الدقائق �صعبة على اجلميع‪،‬‬
‫متاما وهي حتاول دفع جنينها‪ ،‬ويف‬‫وخ�صو�صا على تلك التي خارت قواها ً‬
‫ً‬
‫حلظة ما �شعرت �أن الطبيبة مت�سك به‪ ،‬كانت الر�ؤية م�شو�شة من فرط‬
‫تعبها‪ ،‬ولكنها ملحته فابت�سمت وبد�أت حتمد اهلل عدة مرات‪ ،‬ثم �أغم�ضت‬

‫ﻋﺼ‬
‫عينيها يف ا�ست�سالم‪ ،‬جاءت طبيبة الأطفال وفح�صت الطفل وعلمت �أنه‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ب�صحة جيدة‪ ،‬نظفته املمر�ضة وتناولت مالب�سه با�سمة و�ألب�سته �إياها‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ثم خرجت من غرفة العمليات وهي حتمله‪ ،‬هرول اجلميع �إليها مبا فيهم‬
‫�إ�سالم الذي مل متنعه الع�صا من �سباقهم‪� ،‬أعطت املمر�ضة الطفل لوالدة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�سلمى وهي تقول بفرحة‪:‬‬


‫‪ -‬ما �شاء اهلل ولد زي القمر‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫�ضحك �إ�سالم وردد متعج ًبا‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬ولد! ما �شاء اهلل اللهم بارك‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�س�أل املمر�ضة عن �سلمى ف�أجابته ب�أنها �ستخرج �إليهم بعد دقائق‪،‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫طويل‪ ،‬أُ� ِ�سر‬


‫فابت�سم باطمئنان وتناول ال�صغري بيمناه‪� ،‬أخذ ينظر �إليه ً‬
‫كل ًيا يف جماله وبراءته‪� ،‬شعر وك�أن له جناحني يرفرف بهما من الفرحة‪،‬‬
‫اقرتب من �أذنه اليمنى وبد�أ ي�ؤذن بها‪ ،‬ثم هم�س لل�صغري �ضاح ًكا‪:‬‬
‫‪� -‬أمك جابتلك اللب�س كله لونه بامبي‪ ،‬معل�ش هت�ضطر ت�ستحملنا‬
‫كام �شهر حلد ما جنيبلك لب�س جديد يليق بيك يا‪...‬‬
‫�صمت للحظات تذكر فيها �أحدهم ثم قال بحما�س‪:‬‬
‫‪360‬‬
‫‪ -‬يا حممد‪ ،‬ه�سميك حممد‪.‬‬
‫�ضمه �إليه ل ُي�سمعه نب�ضات قلبه وي�شعره بحنانه وهم�س‪:‬‬
‫‪ -‬املرة اللي فاتت ملحقت�ش �أ�ساعد حممد‪ ،‬لكن املرة دي ب�إذن‬
‫اهلل �أنا هقف معاك وهكون جنبك طول الوقت حلد ما تتعلم‬
‫ازاي تعي�ش حياتك كلها‪ ...‬يف احلالل‪.‬‬

‫متت بحمد هللا‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪361‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫شكر خاص‬

‫ﻋﺼ‬
‫�إىل �أمي احلبيبة‪ :‬فاطمة طه‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫زوجي العزيز‪ :‬عبد الرحمن �أ�سامة‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫�أختي الغالية‪ :‬زينب طه‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أختي التي مل تلدها �أمي‪ :‬ندى حممود‪.‬‬


‫�صديقتي اجلميلة‪ :‬فاطمة الألفي‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أ�شكركم من كل قلبي على ت�شجيعكم‪ ،‬دعمكم الدائم يل‪� ،‬آرائكم‬


‫ﻭ‬

‫ريا حتى خرجت الرواية بهذا ال�شكل‪،‬‬


‫ومالحظاتكم التي �ساعدتني كث ً‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أ�س�أل اهلل �أن يدمي وجودكم يف حياتي‪ ،‬ويجعل كل ما فعلتموه من �أجلي‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫يف ميزان ح�سناتكم‪.‬‬

‫رقية طه‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬

You might also like