Professional Documents
Culture Documents
ﺍﻟﺘﻮ
ﺮﻭ
يف الحالل
ﻨﺸ
ﺐ ﻟﻠ
ﻜﺘ
ﲑ ﺍﻟ
ﻋﺼ
ﺯﻳﻊ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻭ ﺸﺮ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻜﺘ
ﲑ ﺍﻟ
ﻋﺼ
ﺯﻳﻊ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻭ
;
ﺸﺮ
رواية
ﺐ ﻟﻠﻨ
رقية طه
ﻜﺘ
ﲑ ﺍﻟ
يف الحالل
ﻋﺼ
ﺯﻳﻊ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻭ ﺸﺮ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻜﺘ
ﲑ ﺍﻟ
ﻋﺼ
ﻋﺼ
ُ َّ ُ َ َّ ٰ ُ ُّ َ َّ ُ َ ً ُ َ ُ َ
ﲑ ﺍﻟ
} َواتقوا ي ْوما ت ْرجعون فِي ِه إِل اهلل ۖ ثم توف ك
ﻜﺘ
َّ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ ُ ْ َ ُ َ َْ
نف ٍس ما كسبت وهم ل يظلمون {
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﺸﺮ
( �سورة البقرة )
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ﺯﻳﻊ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻭ ﺸﺮ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻜﺘ
ﲑ ﺍﻟ
ﻋﺼ
إهداء
�إىل من و�ضع قدمي على �أول الطريق،
ﻋﺼ
�إىل من علمني معنى احلياء وغ�ض الب�رص،
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
�إىل من نق�ش على جدار قلبي مباد ًئا
ﺐ ﻟﻠﻨ
خ�صي�صا
ً �إىل من �أر�سله اهلل �إ ّيل
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
زوروا ﻣوﻗﻌﻧﺎ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻣوﻗﻊ ﻋﺻﯾر اﻟﻛﺗب
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠ
ﻨﺸ
www.booksjuice.com
ﺮﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
هناية ...وبداية!
رجات ال�سلم بخطى وئيدة ُمتوق ًفا لال�سرتاحة عدة مرات، راح يرتقي َد ِ
ويف كل مرة ي�ضع يده على قلبهُ ،يغم�ض عينيه بقوة وي�ضغط على �أ�سنانه،
ﻋﺼ
بيد مرتع�ش ٍة
بخفوت كي ال ي�سمعه �أحد ،ثم ي�ستند على احلائط ٍ ٍ يت�أ ّوه
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ ويوا�صل ال�صعود �إىل منزله.
يف اخلم�سني من عمره هو ،يتميز وجهه بق�سمات جميلة و�إن كانت ال
تخلو من �صرامة وا�ضحة ،فربغم �ضعفه ومر�ضه الذي أ� ّدى �إىل انخفا�ض
نظرات قوية
ٍ وزنه �إىل الن�صف تقري ًبا� ،إال �أن عينيه دائ ًما ما تَرى بها
ﺐ ﻟﻠﻨ
بيد
و�صل �إىل منزله بالطابق الرابع� ،أخرج املفاتيح من جيبه ٍ
مرتع�ش ٍة� ،سار بخطوات واهنة نحو الباب وهو يت�أوه بقوة� ،سقطت املفاتيح
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
الرتاج ،حاول �أن ينثني ليلتقطها ف�سقط هو من يده قبل �أن ُيدخلها يف ِ
ﺯﻳﻊ
الآخر بجوارها� ،سمعت زوجته �صوت ارتطام خفيف باخلارج فلم تعب�أ
بذلك ووا�صلت حت�ضري الطعام كي تنتهي منه �سري ًعا قبل �أن يعود �أفراد
عائلتها من اخلارج ،بعد ربع �ساعة تقري ًبا عاد ولده الأكرب من مدر�سته
الثانوية� ،صعد درجات ال�سلم بقفزات متتالية تت�سم باملرح ،وما �إن و�صل
أر�ضا ،ظل�إىل الطابق الرابع حتى �شهق بخوف وجل�س بجوار والده املُلقى � ً
ُيح ّرك ر�أ�سه ميي ًنا وي�سا ًرا يف حماولة منه لإفاقته ،ونظ ًرا لعدم معرفته
مببادئ الإ�سعافات الأولية فلم ي�ستطع فعل �أي �شيء ،نه�ض على الفور
9
و�أخذ يطرق باب منزلهم طرقات متتالية فزعة ،ارتدت والدته حجابها
وقامت بفتح الباب بقلق ،وملا ر�أت زوجها على هذا احلال �صرخت و�أمرت
ولدها �أن ي�ستغيث بجارهم الذي يعمل يف ال�صيدلية املجاورة ملنزلهم.
ب�سرعة الربق عاد الفتى ومعه جارهم ،قاما بحمل الرجل و�إدخاله
يف �إحدى ال�سيارات ثم هروال به �إىل امل�شفى القريب ،قام الأطباء بعدة
حماوالت لإفاقته وبعدها بد�أ يفتح عينيه �شي ًئا ف�شي ًئا ،زفرة قوية من
اجلميع تَلحقها ابت�سامة كبرية وعبارات احلمد وال�شكر �إىل اهلل متلأ
الأجواء ،نظر الرجل يف َعيني ابنه وظل ُيلي و�صاياه الأخرية عليه بعدما
ﻋﺼ
�شعر �أنه قد �آن �أوان الفراق ،ثم �صعدت روحه �إىل بارئها ،ومن هنا وجد
ﲑ ﺍﻟ
الفتى نف�سه �أمام م�سئولية كبرية �أُلقيت على عاتقه بغت ًة ومن دون �سابق
ﻜﺘ
�إنذار.
z
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
10
-1-
منذ عدة �أ�شهر وهو يحمل ذلك ال�سر بداخله ،مل ي�ستطع �أن ُيخرب
�أحدً ا به ،هل الأمر خطري �إىل هذا احلد؟ �أم �أنه ال �أهمية له من الأ�سا�س
ﻋﺼ
مهل ،فمن غري عادته جمال للحوار يف �أي وقت م�ضى؟! ولكن ً كي يكون ً
ﲑ ﺍﻟ
�أن ُيخفي �أي �شيء عن �صديقه املق ّرب حممد مهما كان �صغ ًريا ،ال �شك
�أن الأمر �سيغ�ضبه ،ولكن ال بد �أن ُيخربه بكل ما يجول ب�صدره حتى ي�شعر
ﻜﺘ
بالراحة.
جل�س ذلك ال�شاب طويل القامة ذو الب�شرة القمحية والوجه غري
ﺐ ﻟﻠﻨ
بانتظار و�صول �صديقه حممد ،والذي ي�ستغرق �أكرث من ن�صف �ساعة داخل
الأتوبي�س حتى ي�صل �إىل اجلامعة ،بد�أ ُيعيد ترتيب كلماته و�أفكاره قبل �أن
ﻭ
يلقيها على م�سامع �صديقه ،ظل يف حالة من الت�شتت لدقائق �إ�ضافية حتى
ﺍﻟﺘﻮ
زفر �ضائ ًقا وهو يخرب نف�سه ب�أن الأمر ال ي�ستحق كل هذا العناء ،فهو مل
ﺯﻳﻊ
يفعل �شي ًئا خاط ًئا لأن نيته مل تكن �سيئة ،و�أن غ�ضب حممد �سيكون فقط
لأنه مل يخربه بالأمر من البداية لي�س �إال.
ال يعلم ملاذا يف هذا التوقيت بالتحديد تذكر والده املُتو ّفى فظهر �شبح
ابت�سامة حزينة على �شفتيه ،فعندما مات والده كان يف ال�صف الثاين
الثانوي فتل ّقى جمرى حياته الهادئ الدائم اخل�ضرة َدفقة هواء عنيفة
كادت تع�صف به ،وجد نف�سه بغتة �أمام م�سئولية �ضخمة مل ُيد ّرب على
11
التعامل معها ،كانت �أخته هند حينها يف ال�صف الثالث الإعدادي،
ف�أ�صبح هو امل�سئول عنها بالإ�ضافة �إىل م�سئولياته نحو والدته ونحو
متطلبات منزلهم ،تذكر و�صية والده الأخرية قبل موته فخفق قلبه بقوة.
«خد بالك من �أختك يا �إ�سالم ،حافظ عليها وحطها يف عينيك يا
ابني».
ومن بعيد ،ظهر �شاب �أبي�ض الب�شرة ،متو�سط الطول ،تظهر على
مالحمه الطيبة وال َوداعة ،يرتدي نظارة طبية وله ابت�سامة عذبة تريح
ﻋﺼ
القلب مبجرد ر�ؤيتها ،حترك باجتاه �صديقه الذي يعرف مكانه جيدً ا،
ومبجرد �أن ر�آه ابت�سم ،فانعك�ست ابت�سامته على وجه �إ�سالم ،نه�ض الأخري
ﲑ ﺍﻟ
من مكانه وح ّيا �صديقه ثم جل�س �صامتًا ،قطع �صمته حممد عندما قال
ﻜﺘ
متعج ًبا:
-خري يا �إ�سالم! قولتلي �آجي بدري النهارده ليه؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
ال�ضوء �شي ًئا ف�شي ًئا ،ن�سمة هواء خفيفة داعبت وجه �إ�سالم فما كان منه
غري �أنه تنهد بقوة و�ألقى بحمله العالق ب�صدره منذ مدة طويلة ،نظر �إىل
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
حممد وابت�سم ً
قليل وهو يقول:
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
النا�س!
ﲑ ﺍﻟ
-وهو حد قالك �إين بلعب بيها؟! عيب يا حممد �أخوك راجل
ﻜﺘ
بردو ،كل احلكاية �إين حبيت �أتعرف عليها الأول كوي�س ،وملا
لقيت �أنها منا�سبة يل قررت �أتقدم لها.
ﺐ ﻟﻠﻨ
نظر يف عينيه نظرة يعرفها جيدً ا و�صمت� ،شعر �إ�سالم ب�أن كرامته قد
ُجرحت ،و�أن �صديقه قد �أهانه بل ورمبا ظن به ظن ال�سوء ،فقال مداف ًعا
ﺸﺮ
عن نف�سه:
ﻭ
كوي�س ،عل�شان كده قولت �أتعرف عليها الأول على النت و�أفهم دماغها
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
-حممد �أنا م�سمحلك�ش ،يا تتكلم عنها ِعدل يا �إما ت�سكت.
هام�سا:
زفر حممد وقال ً
ﲑ ﺍﻟ
-خال�ص يا �إ�سالم براحتك ،يال عل�شان املحا�ضرة قربت تبد�أ.
ﻜﺘ
zzz
ﺐ ﻟﻠﻨ
عائلتها وزميالتها ومن َث ّم ُتعاود التفكري فيه مرة �أخرى ،تذهب �إىل ذلك
املبنى الرئي�سي لكلية الرتبية لتح�ضر حما�ضرتها وتعود �إىل املبنى ال�صغري
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
املجاور لتح�ضر املحا�ضرة الأخرى وال تن�سى �أن تنظر �إليه ولو ً
قليل كلما
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
وتب�سمت برباءة ،ح�ضرت تلك التي رزقها اهلل بجمال خالب ،حيث لهما ّ
وقوام مم�شوق ،ونظرت لها وقد م ّيزها بب�شرة بي�ضاء وعينني زرقاوين ٍ
ﲑ ﺍﻟ
ات�سعت عيناها ب�شدة وقالت �ضاحكة:
ﻜﺘ
أنت ل�سه واقفة قدامه يا �سلمى؟
ِ �-
-عاجبني �أوي يا فاطمة ،الزم نكون موجودين ُبكرة ب�إذن اهلل.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ببطء ،وما �إن و�صلت �إىل باب �شقتها حتى �أدارت املفتاح بخفة داخل
ﺯﻳﻊ
القفل ،قامت بفتح الباب ووجلت ،فور دخولها �سمعت �صرخات حما�سية
�آتية من �آخر ال�صالة ،فتبينت �أنها من �أختها ال�صغرى والء تقول فيها:
� -سلمى تعايل ب�سرعة امل�سل�سل ل�سه بادئ �أهو ،كوي�س حلقتي نف�سك.
ُ�س ّرت لذلك كث ًريا ،و�أخربتها ب�أنها �ستذهب لت�ضع حقيبتها داخل
غرفتها وتعود على الفور� ،أثناء عودتها متتمت بهدوء وقد انتابها �شعور
ت�أنيبي:
15
-ياااه لو الواحد يبطل م�سل�سالت ،ويا �سالم لو يبطل الأغاين
كمان� ،أكيد وقتها هكون مرتاحة جدً ا ،على الأقل م�ش هح�س
كل �شوية بت�أنيب ال�ضمري ده.
�سمعتها والء فنظرت لها ب�ضيق وقد ارتفع حاجبها الأي�سر للأعلى
وقالت بحنق:
أنت هتعملي فيها �ست ال�شيخة؟ يا تتفرجي يا مت�شي يا �سلمى
ِ �-
علي.
عل�شان متبوظي�ش احللقة َّ
ﻋﺼ
تنهدت �سلمى بقوة ثم ابت�سمت م�ست�سلمة وقالت:
ﲑ ﺍﻟ
-خال�ص هتفرج ،يال قوليلي ح�صل �إيه من الأول.
zzz
ﻜﺘ
يبدو �أنه َ�ش َعر ببع�ض الت�أنيب يف �ضمريه خالل ال�ساعتني املا�ضيتني،
ﺐ ﻟﻠﻨ
ينطق بتلك الكلمات يف حق هذه الفتاة املجهولة ،فرمبا الأمر بني �إ�سالم
ﻭ
وبينها على �شكل �آخر عك�س ما يتوقعه ،ورمبا �أخط�أت هي و�أخط�أ �صديقه
ﺍﻟﺘﻮ
بالفعل ،ولكنه ما زال ال َيحقّ له �أن يتحدث عنها ب�أي �سوء �أو يظن بها غري
ﺯﻳﻊ
اخلري ،عزم على االعتذار ع ّما بدر منه مبجرد انتهاء تلك املحا�ضرة،
وبالفعل فور خروج الطالب من القاعة وقف �أمام �إ�سالم ونظر له بعينني
ت�ش ُّع منهما نظر ٌة وانية متوددة تتحلى بالطيبة وال�سالم ،ومتتم معتذ ًرا:
ِ
� -إ�سالم معل�ش �أنا �آ�سف ،مكن�ش ق�صدي �أتكلم عن البنت دي
كدهً ،
وفعل مكن�ش يحق يل �إين �أظلمها �أو �أقول عليها حاجة
وح�شة من وراها ،ب�س �أنا ب�صراحة م�ش مقتنع بجواز النت ده،
16
و�شايف �إين ملا �أحب �أخطب واحدة الزم �أخدها من بيت �أهلها
و�أتعرف عليها عندهم عل�شان كل حاجة تبقى يف النور ،ب�س
عموما دي �أراء بردو ،معل�ش متزعل�ش مني.
ً
بد�أت التقطيبة تخف ،وارت�سمت ابت�سامة �صغرية على �شفتيه وهو
يقول:
� -أنت عارف �إين م�ش بعرف �أزعل منك يا حممد لأنك �أغلى
�صديق عندي ،ب�س مكنت�ش �أمتنى �أ�سمع منك �أنت بالذات كالم
ﻋﺼ
زي ده ،وعلى العموم يا �سيدي على مدار الأيام اجلاية هتعرف
بنف�سك �إن وجهة نظرك دي غلط ،متام؟
ﲑ ﺍﻟ
�أوم�أ بر�أ�سه �إيجا ًبا وابت�سم� .سارا م ًعا يف هدوء تام باجتاه الكافيرتيا
ﻜﺘ
كما تع ّودا� ،أوقفهما ندا ٌء من جار و�صديق حممد والذي ُيدعى فاروق،
فتوقف ك ٌل منهما ونظرا �إليه .زفر ٌة ُمتنقة �أطلقها فم �إ�سالم تلقائ ًيا
ﺐ ﻟﻠﻨ
يوما ،بينما ظهرت ابت�سامة وا�سعة مبجرد ر�ؤية فاروق ،فهو مل يتقبله ً
على وجه حممد ورحب بجاره بحما�س �شديد ،نظر فاروق لكل منهما وقد
ﺸﺮ
ﻋﺼ
ثم دار على َع ِقبيه لين�صرف بعدما �أخربهما باملكان واملوعد
ﲑ ﺍﻟ
املخ�ص�ص للندوة ،نظر �إ�سالم �إىل حممد و�أخربه ب�أن فاروق بالت�أكيد
ﻜﺘ
يكذب عليهما وي�ستخدم بع�ض احليل لي�شجعهما على احل�ضور كما تفعل
الإعالنات التليفزيونية الكاذبة جلذب امل�شاهدين ل�شراء منتج ما� ،ضايق
ﺐ ﻟﻠﻨ
هذا القول حممد ب�شدة وحاول الدفاع عن �صديقه بكل ما �أوتي من قوة،
و�أخرب �إ�سالم ب�أنه لو كذب رجال العامل �أجمع فلن يكذب فاروق حتت �أي
ﺸﺮ
وبالفعل عاد كل منهما �إىل منزله بانتظار الغد للذهاب �إىل تلك
الندوة املجهولة ،ظل �إ�سالم حائ ًرا طوال اليوم ،هل ميكن �أن تكون هناك
ندوة دينية بهذا اال�سم؟ �أم �أن ظنه ِتاه فاروق �صحيح! �أخذ يفكر لبع�ض
الوقت ثم تذكر فج�أة �أن هند �أخته ال�صغرى معه يف نف�س اجلامعة ومن
املمكن �أن تكون قد �سمعت بهذه الندوة من قبل ،ذهب لغرفتها وطرق
الباب بخفة ،فقامت با�ستقباله مبرح كعادتها� ،س�ألها ع ّما �إذا كانت
�سمعت عن هذه الندوة ،ف�أجابت م�ؤكدة:
18
� -أيوة عارفة �أنها ُبكرة.
-مني اللي قالكم عليها؟
-حاطني �إعالن كبري عندنا يف تربية عنها ،و�سلمى �صاحبتي طول
اليوم واقفالنا قدامه ومبهورة بيه �أوي ،ب�س ب�صراحة باين عليها
حلوةلأنالكالمالليمكتوبعنهاخمتلفومميزعن�أيندوةتانية.
�شعر باحلرج ال�شديد من نف�سه ،فعلى ما يبدو �أنه قد خ�سر هذه
املناف�سة من قبل �أن تبد�أ ،عاد ليكرر ال�س�ؤال على �أخته مرة
�أخرى كمحاولة �أخرية منه لإنقاذ املوقف ،ف�أجابت بتعجب:
ﻋﺼ
� -أنت م�ستغرب ليه كده؟
ﲑ ﺍﻟ
� -أ�صل فيه واحد ممل كده ا�سمه فاروق قالنا عليها ،وب�صراحة
ﻜﺘ
�أنا م�ش م�صدق ،لأن �أكيد �أي حاجة هتيجي من ناحيته هتبقى
مملة زيه.
ﺐ ﻟﻠﻨ
عموما
-معرف�ش يا �إ�سالم� ،أنا قولتلك على اللي �أعرفه وخال�صً ،
ممكن حت�ضرها ُبكره وتت�أكد بنف�سك.
ﺸﺮ
ومبا �أن هذا هو احلل الوحيد ،ا�ست�سلم يف النهاية وقرر االنتظار للغد
ﻭ
zzz
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
الرجل واملر�أة ،احلب الذي من املمكن �أن يكون م�صد ًرا للثواب ،ورمبا
ﲑ ﺍﻟ
أي�ضا م�صد ًرا للعقاب ،ولكن كيف لنا �أن نفرق بني النوعني؟ الأمر يف � ً
ﻜﺘ
غاية الب�ساطة ،فالنوع الأول من احلب وهو احلب العفوي غري املق�صود،
�شاب عن
�سب فيه وال ي�سعى �إليه ،ك�أن ي�سمع ٌ والذي ال يكون للإن�سان َك ٌ
ﺐ ﻟﻠﻨ
فتاة �أو يراها فج�أة فيتعلق قلبه بها ،ف�إذا اتقى اهلل فيها ومل يدفعه هذا
التعلق �إىل فعل �أي �شيء حمرم من نظر ٍة �أو ُخلوة بل ودفعه �إىل ال�سعي
ﺸﺮ
ﻋﺼ
انتهت الندوة وخرج كل من يف القاعة وابت�سامته على �شفتيه ويف
ﲑ ﺍﻟ
قلبه �إح�سا�س بالراحة واالن�شراح ال ُيكن �أن ُيو�صف ،فكم الم�ست تلك
ﻜﺘ
الكلمات ِجدار قلوبهم ،وكم �شعرت �أرواحهم بال�سعادة بعدما �سمعت �آيات
اهلل و�أحاديث نبيه عليه ال�صالة وال�سالم ،خرج حممد تكاد �أع�ضا�ؤه تهتز
ﺐ ﻟﻠﻨ
�سرو ًرا ،وقف �أمام املبنى ونظر ل�صديقه بانت�صار� ،ضحك �ضحكة متل�ؤها
الثقة وقال ببهجة �شديدة:
ﺸﺮ
ﻋﺼ
-ما�شي يا با�شا ربنا معاك ،ويا ريت بجد كل النا�س زي الداعية
ﲑ ﺍﻟ
ده كان الواحد ح�ضر علطول ،امل�شكلة �إين م�ش برتاح للنا�س
ﻜﺘ
امللتزمني دول ،بح�س �أنهم م�ش عاي�شني وم�ش بي�ضحكوا وكلهم
مملني زي فاروق كده.
ﺐ ﻟﻠﻨ
جدً ا.
ﻭ
وقبل �أن ُيجيب التقطت عيناه فاروق الذي ي�سري نحوهما ،حاول
ﺍﻟﺘﻮ
كظم غيظه حتى ال ي�شعر �صديقه بال�ضيق ،وتَ�ص ّنع االبت�سامة وهو ُيح ّيي
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
-جايز...
ﲑ ﺍﻟ
عموما يا �سيدي لو فيه �أي حاجة تاين يف الندوة م�ش وا�ضحة ً -
ﻜﺘ
قول ،معل�ش م�ضطر �أم�شي دلوقتي وحابب ت�س�أل عليها ابقى ّ
عل�شان عندي حما�ضرة� ،سالم عليكم.
ﺐ ﻟﻠﻨ
تركهما وغادر ذاه ًبا �إىل حما�ضرته ،نظر حممد �إىل �إ�سالم و�س�أله
ع ّما �إذا كان قد اقتنع بكلمات فاروق الي�سرية ف�أجابه بالنفي ،و�أخربه
ﺸﺮ
�أن �شخ�صية فاروق تت�سم بالتعقيد وامللل ،وب�أنه ُيعطي الأمور �أكرث من
حقها و ُي�ض ّيق على نف�سه كث ًريا ،و�أنه يحاول فقط �أن يجعل نف�سه طبيع ًيا
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�أمامهما ،ثم نظر ل�صديقه بثقة تامة و�أخربه �أن الطبيعي هو ما هما عليه
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
الدخول �إىل املجموعة لتُلقي نظرة �سريعة وت�ستك�شف الأمر بنف�سها ،ولكن
ﲑ ﺍﻟ
يبدو �أن النظرة ال�سريعة طالت ...طالت كث ًريا.
ﻜﺘ
بعد �ساعة ون�صف تقري ًبا طرقت والء باب الغرفة فلم جتد جوا ًبا،
ازدادت ِحدة طرقاتها فنه�ضت �سلمى بفزع وقامت بفتح الباب على
ﺐ ﻟﻠﻨ
الفور ،نظرت لها والء والغ�ضب ميل�ؤها و�س�ألتها عن �سبب غلق الباب كل
هذه املدة ،ف�أجابت متعجبة:
ﺸﺮ
ﻋﺼ
انتابها الف�ضول ف�أدارت احلا�سوب جتاهها ودققت النظر فيه لدقيقة
ﲑ ﺍﻟ
ون�صف تقري ًبا ،ثم زفرت مبلل و�أعادته لأختها مرة �أخرى وهي تقول بعدم
ﻜﺘ
اهتمام:
عليك.
-بال�ش تقعدي معاهم كتري يا �سلمى بدل ما ي�أثروا ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
عليك ،ب�س من
املفرو�ض تتعمل؟ معل�ش �أنا �آ�سفة جدً ا لو طولت ِ
�ساعة ما دخلت اجلروب و�أنا حا�سة �إنكم نا�س خمتلفني عننا،
ﲑ ﺍﻟ
وح�سيت براحة كبرية ملا قر�أت الكالم اللي بتكتبوه� ،آخر حاجة
ﻜﺘ
بقى ،لو كالمكم وبو�ستاتكم دي �صح! معنى كده �إن حياتي كلها
غلط و�إن هدف الدرا�سة لوحده بردو غلط؟! ب�صي م�ش عارفة
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أنا حمتارة وكان الزم �أكلمك ،وعارفة �إننا متكلمنا�ش قبل كده
ب�س �ساحميني ملقيت�ش حد غريك �أ�س�أله ،م�ستنية جوابك.
ﺸﺮ
قر�أت الر�سالة عدة مرات قبل �أن تغلق حا�سوبها وتَ�ست ِند بر�أ�سها
ﻭ
على ظهر ال�سرير وترتك ال َعنان لذاكرتها �أن ت�سرتجع �صو ًرا كثرية من
ﺍﻟﺘﻮ
حياتها املا�ضية والتي جعلتها تت�ساءل بحرية �أهذه ح ًقا هي احلياة التي
ﺯﻳﻊ
من املفرت�ض �أن تعي�شها؟ �أم �أن هناك هد ًفا �آخر جمهول!
zzz
جال�سا يتناول �إفطاره يف كافيرتيا اجلامعة مع
ذات �صباح بينما كان ً
�صديقه املقرب وهالة من ال�سكون التام ُتيط بهما ،تذكر فج�أة ما حدث
بالأم�س �أثناء حديثه مع �صديقته �سارة ف�شعر بال�ضيق ،حانت منه التفاتة
26
�سريعة �إىل حممد فوجده منهم ًكا يف تناول طعامه ومل ي�شعر بنظراته،
تنحنح ً
قليل وقال بحرج بالغ:
-حممد �أنا كلمت �سارة امبارح.
اعتدل يف جل�سته وا�ستقام ظهره ،نظر له بعدم فهم ومتتم:
-طيب و�إيه اجلديد؟
�أجابه بنربة ي�شوبها الت�أنيب واخلجل:
ُ -ب�ص ب�صراحة كده �أنا طلبت منها �صورتها وهي وافقت ،طلعت
ﻋﺼ
�أحلى بكتري مما كنت �أتخيل والقيتني غ�صب عني بقولها كالم
ﲑ ﺍﻟ
مكن�ش ينفع يتقال.
ﻜﺘ
الحظ الوجوم الذي ك�سا وجه �صديقه ،حاول �أن ميت�ص �ضيقه وقال
مرب ًرا:
ﺐ ﻟﻠﻨ
ُ -ب�ص هي من �ساعة ما دخلت حياتي و�أنا عاوز �أقولك لأين م�ش
ﺍﻟﺘﻮ
متعود �أخبي عليك حاجة ،ب�س كنت عارف �إنك هتت�ضايق لو
ﺯﻳﻊ
عرفت...
قاطعه ً
قائل بابت�سامة خافتة م�ؤ ّنبة:
-ب�س ملا لقيت �إنك بد�أت تتجرجر يف الغلط قولت تقويل عل�شان
�أ�شوفلك حل ،واهلل فيك اخلري.
نه�ض من مكانه ببطء وجل�س باملقعد املجاور ل�صديقه ،نظر له وقال
ب�صدق ظهر جل ًيا يف كلماته:
27
-اللي ح�صل ح�صل ،املهم دلوقتي �أنا م�ش عاوز �أعمل معاها �أي
حاجة غلط حلد ما �أجتوزها.
-وهتتجوزها امتى بقى؟
ً
م�ستائل .ف�أجابه �إ�سالم وقد ات�سعت ابت�سامته كث ًريا عندما قالها
تذكر �أمر زواجه منها وقال:
-بعد ما �أتخرج و�أ�شتغل �إن �شاء اهلل.
-يعني على الأقل بعد �سنتني؟ ده لو لقيت �شغل � ً
أ�صل بعد ما
ﻋﺼ
تتخرج.
.......-
ﲑ ﺍﻟ
-وطب ًعا هتف�ضل تتكلم معاها حلد ما تيجي تتقدم لها!
ﻜﺘ
�أجابه ب�سرعة ُفجائية مل تكن ُمتوقعة منه:
� -أكيد طب ًعا يا بني.
ﺐ ﻟﻠﻨ
هم�س ب�أ�سلوبه الهادئ بعدما تق ّم�ص دور الأخ الأكرب لإ�سالم كما كان
يفعل دائ ًما ،الأخ الأكرب النا�صح الأمني ،والذي يتحمل م�سئولية �أخوته
ﺸﺮ
ﻋﺼ
عنها خال�ص ،وت�أكد �إن لو ليك ن�صيب فيها هتتجوزها حتى لو
ﲑ ﺍﻟ
ح�صل �إيه ،ولو ملك�ش ن�صيب فيها يبقى م�ش هتتجوزها حتى
ﻜﺘ
لو قعدت تكلمها حلد ما تتخرج زي ما بتقول.
علي بكذب عليها � -إيه يا بني اللي �أنت بتقوله ده! عاوزها تقول َّ
ﺐ ﻟﻠﻨ
بعد ده كله؟ خال�ص بقى �أنا هحاول �أخد بايل من كالمي معاها
وخال�ص.
ﺸﺮ
-متام ،ب�س حاول تقلل كالمك معاها بردو ،ولو ح�سيت يف
�أي وقت �إنك ممكن تقول حاجة حرام يبقى اقفل الكمبيوتر
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ب�سرعة ك�أن النت ف�صل ،رغم �إين حا�س�س �إن تقري ًبا كالمكم
ﺯﻳﻊ
كله حرام.
-يا رااجل! كالمنا كله حرام! حتى لو كالم عادي! هنفتي بقى.
-يا عم معرف�ش �أنا بقول تقري ًبا ،ابقى ا�س�أل �شيخ وات�أكد.
وقبل �أن ُيجيب �إ�سالم َ�سمِ عا م ًعا �أذان الظهر� ،شعر حممد باالرتياح
وابت�سم ل�صديقه بخفة وقال:
-تيجي ن�صلي الظهر؟ وادعي ربنا يعدي املو�ضوع ده على خري.
29
-ما�شي ب�س يال ب�سرعة جنيب �أي حاجة ناكلها لأين ميت من
اجلوع وبعدها نروح ن�صلي.
�أوم�أ بر�أ�سه مواف ًقا و�سارا م ًعا باجتاه باب اجلامعة للخروج منه ل�شراء
بع�ض ال�شطائر من اخلارج ،وذلك ب�سبب ارتفاع �أ�سعار امل�أكوالت يف
كافيرتيا كلية الهند�سة ،كان املكان مزدح ًما ب�شدة من جائعي اجلامعة
فا�ضطرا للتوقف بع�ض الوقت حتى االنتهاء من طلبهما ،وما �إن �أزِفت
�ساعة الرحيل حتى نظر �إ�سالم يف �ساعته فوجدها قد دقت الثانية
ع�شر قبل خم�سة دقائق ف�أ�سرع بخطاه نحو قاعة املحا�ضرات ودخل على
ﻋﺼ
الفور قبل �أن يح�ضر املحا�ضر ويرف�ض دخولهما من بعده ،وبالطبع ن�سيا
ﲑ ﺍﻟ
�صالتهما ككل يوم!
zzz
ﻜﺘ
يف غرفتها ذات اللون الوردي الفاحت ،وعلى �سريرها ال�صغري ذي
ﺐ ﻟﻠﻨ
اللون البني القامت ،ترقد ُم�ستلقية على ظهرها وا�ضع ًة ك ّفيها خلف ر�أ�سها
ﺸﺮ
�سابح ًة يف فكر عميق ،ما زالت عيناها ُمع ّلقة ب�سقف الغرفة نا�صع البيا�ض
وهي ت�سرتجع كل ما حدث اليوم ،مرت امل�شاهد بوم�ضاتها ال�سريعة على
ﻭ
مع �صديقتيها عندما �س�ألتهما ذلك ال�س�ؤال الذي �سيتوقف عليه اتخاذ
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
الذي طغى على عقلها وزلزل كيانها مبجرد قراءة بع�ض املن�شورات على
ﲑ ﺍﻟ
ال�شبكة العنكبوتية ،تذكرت � ً
أي�ضا رد عقلها عليها ب�أن تلك املن�شورات
ﻜﺘ
تت�سم بالعقالنية ال�شديدة وبها بع�ض الآيات القر�آنية والأحاديث النبوية
ال�شريفة التي تق�شعر لها الأبدان ،تذكرت حينها هم�ساتها لنف�سها:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-طيب وفيها �إيه ملا �أغري من نف�سي و�أكون �أح�سن من كده؟ م�ش
�أنا دا ًميا بقول �إين الزم �أكون مميزة عن كل البنات؟ ودا ًميا
ﺸﺮ
بردو برف�ض فكرة �إين �أكون عاي�شة احلياة الروتينية اللي كل
النا�س عاي�شاها دي وخال�ص؟ �أكيد �أنا م�ش خملوقة عل�شان
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
و�أجنح و�أتخرج و�أ�شتغل وب�س ،الزم يكون فيه حاجات تانية!
ﲑ ﺍﻟ
الزم �أطور نف�سي و�أطور �شخ�صيتي وتفكريي ،الزم �أعرف �أنا
عاي�شة ليه ومهمتي �إيه يف الأر�ض ،عل�شان يوم القيامة يكون
ﻜﺘ
ربنا را�ضي عني والر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم يكون فخور بيا،
وهو ده بالظبط اللي احنا بنحاول نعمله يف اجلروب ،بنحاول
ﺐ ﻟﻠﻨ
حاجة كمان ،كون �إنك م�ستغربة اجلو �أو خايفة منه �شوية
ﻭ
ﻋﺼ
املن�ضدة ،على �سطح الكومودينو ،بني ثنايا غطائه الأزرق ،ورمبا � ً
أي�ضا
ﲑ ﺍﻟ
حتت ال�سجادة املُف ِرت�شة منت�صف الغرفة ،بحث عنها يف كل مكان ولكن
بال جدوى ،فقد اختفت ك�سراب ح ّلق بعيدً ا وهو على غري نية للرجوع،
ﻜﺘ
�أخ ًريا قام م�ست�سل ًما وذهب �إىل هاتفه ل ُيحدث منقذه الوحيد واملعتاد يف
يائ�سا ثم قال:
تلك املواقف ،زفر ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
�ش ّقت االبت�سامة اخلفيفة �أخ ًريا طريقها بني �شفتيه اليائ�ستني وقال
ب�أريحية:
-ما�شي �شك ًرا يا حممد .معل�ش لو قلقتك من النوم وال حاجة.
-ال وال يهمك� ،أنا قاعد بتفرج على برنامج ،ملا يخل�ص هبقى
�أنام �إن �شاء اهلل.
ً
مت�سائل: همهم
33
-برنامج �إيه ده؟ ميكن �أجي �أتفرج معاك.
قال املقطع الأخري �ضاح ًكا ،ف�أجاب �صديقه بتلقائية:
-برنامج ديني كده.
-ما �شاء اهلل ما �شاء اهلل ،ربنا يهديك يا بني.
-يا عم ما ت�سيبني يف حايل بقى ميكن ربنا يهديني ويقربني
منه.
-خال�ص يا �شيخ حممد كمل يا �أخويا كمل� ،أنا ب�س م�ستغرب
ﻋﺼ
ا�شمعنى النهارده يعني!
ﲑ ﺍﻟ
ً
مت�سائل بجدية ممزوجة بالتعجب ،فما كان من �صديقه غري �أنه قالها
نظر لوهلة �إىل التلفاز ثم تب�سم ً
قائل:
ﻜﺘ
-عادي كنت بقلب ولقيته والكالم �شدين ،املهم روح �أنت دلوقتي
ﺐ ﻟﻠﻨ
نظر �إ�سالم �إىل مر�آته ب�شيء من الذهول ثم متتم وهو على نف�س
ﺍﻟﺘﻮ
احلالة:
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
قد �إيه الر�سول تعب عقبال ما ن�شر الدين الإ�سالمي بال�شكل
ﲑ ﺍﻟ
ده ،و�إن ال�شباب دلوقتي �سايبني الدين ده وكل تفا�صيل احلياة
ﻜﺘ
اللي بي�شملها وما�شيني ورا �شوية مو�ضات متخلفة بن�ستوردها
من الغرب ،ال والأغرب �أنهم عاجبهم �أوي احلال ده ،ولو �شافوا
ﺐ ﻟﻠﻨ
�صمت ً
قليل ثم تنهد تنهيدة حزينة و�أردف:
-الكالم كان حلو �أوي ،رغم �إين ح�سيت �ساعتها �إين مق�صر
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
جامد و�إين م�ش هينفع �أعي�ش كده كتري ،نف�سي ت�ساعدين يا
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
وقبل �أن ينطق �إ�سالم ببنت �شفة قال حممد مبنتهى احل�سم:
ﲑ ﺍﻟ
-واملو�ضوع كده منتهي بالن�سبايل.
ﻜﺘ
zzz
ﺐ ﻟﻠﻨ
ال يزال ذلك الهدوء ال َف ْجري م�سيط ًرا بكامل قوته على احلي كله.
على غري عادتها يف تلك ال�ساعة املت�أخرة من الليل ا�ستفاقت من نومها
ﺸﺮ
حتت الغطاء ،وك�أنها قد �شعرت بتلك الروح التي تنتظرها يف مكان ما
ﺍﻟﺘﻮ
جتهله ،وجدت نف�سها فج�أة تنه�ض من جديد وتقوم بفتح جهاز احلا�سوب
ﺯﻳﻊ
اخلا�ص بها لتُلقي نظرة �سريعة على موقع الفي�س بوك وبعدها تعاود النوم
مرة �أخرى� ،أقل من خم�س دقائق ووجدت ر�سالة جديدة من تلك الفتاة
املجهولة حمتواها:
م�ستنياك على فكرة.
ِ -كنت
عقدت ما بني حاجبيها يف ده�شة ،ثم كتبت بف�ضول:
-بجد؟ ا�شمعنى؟
36
كنت على بايل طول اليوم وح�سيت �إين ممكن -م�ش عارفةِ ،
�أكلمك النهارده.
أنت
-حبيبتي �شك ًرا بجد ،ب�صي �أنا فكرت كتري يف الكالم اللي � ِ
فعل حياتي كلها غلط؟بعتيهويل وبردو حمتارة ،هو �أنا ً
-م�ش بالظبط ،حمتاجني نظبط ب�س �شوية حاجات وهتكوين
%100ب�إذن اهلل.
ارت�سمت على وجهها عالمات احلرية ب�صورة �أكرب ،تراجعت بظهرها
ﻋﺼ
للخلف ال�صق ًة �إياه بظهر كر�سيها وتنهدت بتعب� ،صمتت ِ
لثوان ثم كتبت:
-طيب املفرو�ض �أبد�أ منني؟ ب�صراحة ل�سه خايفة وبردو
ﲑ ﺍﻟ
علي فكرة �إن االلتزام ده يعني تعقيد ،و�إين لو بقيتم�سيطرة َّ
ﻜﺘ
زيكم حياتي هتبقى كئيبة� ،أنا �آ�سفة �إين بقول كده ب�س ده اللي
جوايا.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ممكن تنجحي �أول كام يوم ،لكن بعدها هتح�سي �إن املو�ضوع
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
خطوة بخطوة ،و�أنا واثقة �إنك قدها ب�إذن اهلل.
ﲑ ﺍﻟ
لك �أوي.
-حا�ضر يا حف�صة ،بجد �شك ًرا ِ
ﻜﺘ
وبالفعل ،بعدما حتم�ست لتلك الفكرة قامت بالدخول �إىل املجموعة
املزعومة و�أخذت تقر�أ بع�ض املن�شورات تارة وتفكر يف حمتواها وما
ﺐ ﻟﻠﻨ
يجذبها منها تارة �أخرى ،بينما �أغلقت حف�صة هاتفها ونه�ضت من
مكانها لت�ستعد ل�صالة الفجر ،م�ضت الدقائق �أمام �شا�شة احلا�سوب
ﺸﺮ
تتبعها الدقائق حتى �أمت �أ�صغر العقربني دورة وبع�ض دورة يف ميدان
�ساعته ،انتبهت �سلمى فج�أة لبع�ض خيوط ال�ضوء اخلافت التي ت�سللت
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
عرب نافذتها لت�ضيء غرفتها ذات اللون الوردي ،فنه�ضت على الفور لأداء
ﺯﻳﻊ
�صالتها قبل �شروق ال�شم�س ،وقد �شعرت ببع�ض اخلجل املمزوج بالتعجب
من فعلتها تلك ،فقد كادت ُت�ض ّيع �صالتها التي بها تر�ضي اهلل لتبحث عن
�أي �شيء تفعله لتنال به ر�ضا اهلل!
انتهت من �صالتها وجل�ست مرة �أخرى على حا�سوبها .بعد �أقل من
ن�صف ال�ساعة عزمت على �إر�سال ر�سالة جديدة حلف�صة بها �أول قرار
اتخذته لتعديل خط أ� ما كانت تفعله �ساب ًقا.
38
-حف�صة باركيلي ،احلمد هلل �أخدت �أول قرار يف طريقي للتغيري،
قررت �إين هبطل �أن�شر �أي �صور لبنات ب�شعرها �أو لب�سها �ضيق
أنت ممكنعلى النت مهما ح�صل ،عارفة �إنه قرار �صغري �أوي و� ِ
علي ويف نف�س الوقت ممكن علي ،ب�س ح�سيت �إنه �سهل َّ
ت�ضحكي َّ
مينع ذنوب كتري كانت هتجيلي كل ما ولد ي�شوف ال�صور دي
�أو بنت تقرر تقلدها ،و�أنا ب�صراحة يف ِغنى عن الذنوب دي،
أنت اللي قولتيلي �أبد�أ باحلاجات ال�سهلة دي وواحدة وكمان � ِ
واحدة �أكرب �أهدايف ،دعواتك بقى يا حف�صتي.
ﻋﺼ
قر�أت الر�سالة مرة �أخرى ،تنهدت ب�أريحية ،ثم �أغلقت حا�سوبها
ﲑ ﺍﻟ
ونه�ضت لتُكمل نومها حتى موعد حما�ضرتها الأوىل.
ﻜﺘ
zzz
يف ال�سماء ُزرقة �صافية ُتزينها بع�ض ال�سحابات ال�صغرية التي تداعب
ﺐ ﻟﻠﻨ
لت�شاركهما يف ر�سم تلك اللوحة الرائعة التي تعك�س ذلك اجلمال الرباين
الباهر ،يف ظل ذلك اجلو املفعم باحلياة جل�س �إ�سالم ب�صحبة �صديقه
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
�أجاب مداف ًعا عن فعلته بكل ثقة:
-احنا االتنني بنحب بع�ض وم�ستحيل نتخلى عن �أحالمنا اللي
ﲑ ﺍﻟ
حلمناها �سوا ،وم�ستحيل بردو حد يقدر يفرقنا عن بع�ض ،يعني
ﻜﺘ
خال�ص مفي�ش م�شكلة ملا �أتعامل معاها على �إنها مراتي حلد
ب�س ما �أتخرج و�أتقدم لها ر�سمي ،وبالن�سبة للكالم فعادي يعني
ﺐ ﻟﻠﻨ
�إما لأ ،وهي حال ًيا م�ش مراتك ،عل�شان كده املفرو�ض تتعامل
ﺯﻳﻊ
معاها زي �أي بنت غريبة عنك ،حبك ليها م�ش مربر �أبدً ا �إنك
تقولها كالم زي ده .حقيقي �أنا �أمتنى �إنك تتجوز البنت اللي
بتحبها ،لكن يف نف�س الوقت احنا منعرف�ش علم الغيب ،جايز
يكون ربنا كاتب واحدة تانية من ن�صيبك� ،ساعتها بقى هيكون
�إيه موقفك ملا تقولها كالم قولته لواحدة قبلها يف احلرام؟ ما
حتافظ على قلبك يا عم حلد ما تتجوزها وبعدين ابقى اعمل
اللي �أنت عاوزه!
40
-عاجبني �أوي العقل اللي نزل عليك فج�أة ده!
قالها �ضاح ًكا ،ف�أجابه �صديقه بابت�سامة خفيفة:
-من �ساعة ما ح�ضرت الندوة الأخرية دي و�أنا تفكريي اتغري
متاما بالن�سبة ملو�ضوع احلب ده ،ا�ستفدت منها حاجات كتري،
ً
ربنا يبارك لفاروق عل�شان قالنا عليها.
-ما�شي يا عم ،يال نقوم بقى عل�شان املحا�ضرة قربت تبد�أ.
وبالفعل قام كل منهما من مكانه متج ًها �إىل قاعة املحا�ضرات ،ويف
ﻋﺼ
ر�أ�س كل منهما فكرة غري قابلة للتغيري ،ف�أحدهما يظن �أنه �أخ ًريا وجد
فتاة �أحالمه ومن حقه �أن يفعل معها ما ي�شاء ،بينما الآخر ي�سعى بكل ما
ﲑ ﺍﻟ
�أوتي من قوة للمحافظة على قلبه لكي يهديه نق ًيا ملن ت�ستحق.
ﻜﺘ
zzz
ﺐ ﻟﻠﻨ
ُتدرك جيدً ا �أن املحا�ضر لن ي�سمح لها بالدخول ،ولكنها قررت املحاولة
وذلك لأهمية تلك املحا�ضرة� ،سارت باجتاه املبنى الرئي�سي لكلية الرتبية
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
كبرية تغمرها بعدما �أيقنت �أن املحا�ضر مل ي� ِأت بعد �أو �أن املحا�ضرة قد
متاماَ ،م ُثلت �أمامهما وقامت بالتقاط �أنفا�سها التي هربت قبل
مت �إلغا�ؤها ً
قليل ،نظرت لها هند وقد رفعت حاجبها الأمين ،و�س�ألت باهتمام:
-ات�أخرتي ليه يا �أ�ستاذة؟ م�ش من عادتك يعني!
علي نومة.
-معل�ش �أ�صلي كنت �سهرانة �شوية على النت وراحت َّ
هي املحا�ضرة اتلغت؟
41
� -أيوه ،ب�س قو ِّلنا بقى �إيه اللي كان م�سهرك يا جميل؟
قالتها فاطمة �ضاحكة وقد غمزت بعينها الي�سرى ،ف�أجابت �سلمى
بحما�س:
-كنت بقر أ� �شوية حاجات كده وخال�ص قررت �أعمل ثورة على
نف�سي و�أتغري.
-وهتعملي �إيه بقى؟ هتطريي وال هتم�شي على املايه؟
-قررت �أحاول �أظبط حياتي و�أركز يف كل ت�صرفاتي و�أ�شوف
ﻋﺼ
هي تر�ضي ربنا وال لأ.
ابت�سمت هند وقالت بت�سا�ؤل:
ﲑ ﺍﻟ
-جميل ،ب�س �إيه �سبب قرارك ده؟
ﻜﺘ
-فاكرين البنت اللي دخلتني اجلروب اللي قولتلكم عليه؟
اتكلمت معاها وب�صراحة ارحتت جدً ا ،ح�سيت �إين بطري و�أنا
ﺐ ﻟﻠﻨ
بقر أ� كالمها ،ح�سيت براحة كبرية كمان ملا قعدت �أفكر مع
نف�سي ولقيت �إين الزم �أبد�أ �أعدل من ت�صرفاتي ،ادعويل بقى
ﺸﺮ
ﻋﺼ
يومني و�أقول م�ش قادرة �أكمل؟ املهم �أنتوا معايا وال لأ؟
وكما ُيقال يف املثل ال�شعبي «ال�سكوت عالمة الر�ضا» كان رد كلتيهما
ﲑ ﺍﻟ
أي�ضا ،ولكن من نوع �آخر� ،سكوت يحمل بني طياته الال مباالة �سكوتًا � ً
ﻜﺘ
وال�سخرية ،نظرت لهما وقد زادها �صمتهما �إ�صرا ًرا ،وقالت بكل ثقة:
-طيب متام� ،أنا هكمل طريقي لوحدي ب�إذن اهلل ،وهن�شوف
ﺐ ﻟﻠﻨ
-حتى لو حمد�ش �ساعدين ،ف�أنا مت�أكدة �إن ربنا معايا وهيعي ّني
ﺯﻳﻊ
دا ًميا �أين �أم�شي يف طريقه ،وب�إذن اهلل هكمل حتى لو الكل
اتريق لأن �أنا اللي �صح .قويني يــارب!
z
43
-2-
ﻋﺼ
الليل ال�شاتي� ،إ�سالم قد َغ ّط يف �سبات عميق قبل قليل ،بينما جل�ست
ﲑ ﺍﻟ
هند ب�صالة املنزل ت�شاهد فيل ًما �أجنب ًيا على احلا�سوب اخلا�ص بها وقد
ﻜﺘ
و�ضعت ال�سماعات بكلتا �أذنيها ،وعلى اجلانب الآخر جل�ست والدتها تقر�أ
يف كتاب اهلل ،دقائق من ال�صمت مرت قبل �أن ت�سمع الأم �صيحات متتالية
ﺐ ﻟﻠﻨ
�آتية من غرفة �إ�سالم تنادي با�سم هند ،اقرتبت من ابنتها وطرقت على
كتفها بخفة ،وقالت بابت�سامة خفيفة:
ﺸﺮ
وقبل �أن جتيب الأم �سمعت هند نداءات �إ�سالم املتكررة ،فنه�ضت على
الفور ودلفت من باب غرفته ،وقالت بتعجب:
� -إيه يا �إ�سالم مالك؟
�أ�شار �إىل هاتفه املحمول ،وقال ب�ضيق م�صحوب ببقايا نعا�سه:
� -سكتي البتاع ده م�ش عارف �أنام منه.
44
�أم�سكت هند بالهاتف ونظرت يف �شا�شته فوجدت املت�صل حممد،
�أخربت �إ�سالم بذلك فلم يعب�أ ومل ُي ِجبها حتى ،فهم�ست بهدوء:
-طيب خد رد ميكن يكون عاوزك يف حاجة مهمة.
-م�ش قادر يا هند ،عينيا بتقفل لوحدها.
-طيب �أكن�سل؟
-اعملي �أي حاجة املهم خليه ي�سكت.
وبالفعل قامت هند بغلق االت�صال وو�ضعت الهاتف مكانه و�سارت
ﻋﺼ
باجتاه باب الغرفة ،وقبل �أن تخرج منه �سمعت رنني الهاتف من جديد،
ﲑ ﺍﻟ
فعادت على الفور ونظرت لأخيها وقالت:
ﻜﺘ
-يا �إ�سالم دي خام�س مرة يت�صل� ،أكيد فيه حاجة �ضروري.
-لأ يا هند م�ش حاجة �ضروري.
ﺐ ﻟﻠﻨ
-يعني �أنت عمال تكلمني ده كله وم�ش عارف ترد على �صاحبك
يا �إ�سالم؟!
ﺸﺮ
-بيت�صل عل�شان يقويل على برنامج كان متفق معايا ال�صبح �إننا
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
وكان حمتواها:
ﲑ ﺍﻟ
معاك �شوية؟ ح�صلت �شوية حاجات
-حف�صة ممكن �أتكلم ِ
ﻜﺘ
�ضايقتني اليومني اللي فاتوا ب�س النت كان فا�صل فمعرفت�ش
�أكلمك.
ﺐ ﻟﻠﻨ
مرت دقيقة تلو الأخرى حتى �أمت العقرب ال�صغري ربع دورة يف ميدان
حمتاجاك
ِ �ساعته ومل ي�أتها �أي رد ،بعثت بر�سالة �أخرى حمتواها« :حف�صة
ﺸﺮ
حبيبتي مالك؟
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
� -صح طب ًعا� ،أي �إن�سان يا �سلمى بيفكر �إنه يتغري طبيعي جدً ا
ﲑ ﺍﻟ
هيالقي �شوية �صعوبات قدامه ،طبيعي هيالقي نا�س بت�ستخف
ﻜﺘ
عليك هتالقي
بيه وب�أفكاره ،ب�س عارفة؟ ملا يبد أ� التغيري ده يبان ِ
بيتخذوك قدوة ليهم� ،ساعتها ب�س
ِ النا�س يف عيلتك وكليتك
ﺐ ﻟﻠﻨ
هكمل ب�إذن اهلل وم�ش هت�ستلم لكالم �أي حد ،كمان �أنا من
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
�صباحا ظل �إ�سالم
ً �صبيحة اليوم التايل بعد انتهاء حما�ضرة الثامنة
ﲑ ﺍﻟ
يتفر�س يف الوجوه يف ترقب باح ًثا عن تو�أمه ،فمن غري عادة حممد �أن
ﻜﺘ
يت�أخر عن �أي حما�ضرة مهما كانت ،ومن غري عادته � ً
أي�ضا �أن ُيغلق هاتفه
بهذا ال�شكل� ،أخذ يدور حول البناية عدة دورات باح ًثا عنه فلم ِ
يجد ذلك،
ﺐ ﻟﻠﻨ
مر به زميلهما �شادي ف�س�أله �إ�سالم ع ّما �إذا كان قد �شاهد حممد يف
املحا�ضرة ال�سابقة �أو يف �أي مكان ،ف�أجاب بالنفي و�أخذ ميرح معه بع�ض
الوقت ثم غادر على الفور ،وقف �إ�سالم ُمت�أف ًفا للحظات ثم نوى الذهاب
ﺸﺮ
فوجد �أن الهاتف ما زال مغل ًقا� ،ضحك متعج ًبا ثم قال:
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
-دور عليه يا �إ�سالم ،ب�س معتقد�ش �إنك هتالقيه...
ﲑ ﺍﻟ
نظر له �إ�سالم بعدم فهم ،ف�ألقى عليه فاروق نظرة �أخرية ميل�ؤها
ﻜﺘ
القهر ثم �سار �أمامه ال يدري �إىل �أين يذهب ،بل �أنه ال يدري � ً
أي�ضا ما
الذي جاء به �إىل اجلامعة بعد ما حدث �أم�س� ،أح ًقا مل ي�ستطع املكوث يف
ﺐ ﻟﻠﻨ
منزلهم يف هذا التوقيت بالتحديد؟ �أم مل ي�ستطع ر�ؤية ال�شارع مبا فيه من
وجوه حزينة فقرر الهرب �إىل �أي مكان وقادته قدماه �إىل حيث يقف الآن؟
ﺸﺮ
ظل مي�شي على غري هدى حتى وجد نف�سه يقف �أمام �أحد املقاعد ،جل�س
عليه وظلت �صور من املا�ضي تتحرك �أمام عينيه وهو يت�أمل وفقط ،بينما
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
وقف �إ�سالم للحظات وقد ملأته الده�شة قبل �أن يتمتم بحنق:
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
� ًأول :مفي�ش كالم مع �شباب يف اجلامعة نهائي �إال لل�ضرورة� ،أنا
أ�صل كنت بعمل كده تلقائي ،ب�س دلوقتي بد�أت �أعدد النوايا � ً
ﲑ ﺍﻟ
عل�شان �أخد ثواب �أكرث ،خليتها بنية �إين �أعف قلبي ،و�إين
ﻜﺘ
�أحافظ على قلوب ال�شباب اللي حواليا ،ولو افتكرت نية كمان
هحطها عليهم.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ثان ًيا :هحاول �أبطل �أغاين ،بد�أت �أحمل �أنا�شيد للنا�س اللي
قولتيلي عليهم وب�إذن اهلل �أ�سمعهم بدل الأغاين.
ﺸﺮ
ثال ًثا و�أخ ًريا :خال�ص ب�إذن اهلل هبطل م�سل�سالت خال�ص،
ﻭ
ما يخل�ص �أوعدك ب�إذن اهلل م�ش هعلق نف�سي بواحد غريه
ﺯﻳﻊ
تاين.
هاه �إيه ر�أيك بقى؟ �أنفع �أبقى تلميذة �شطورة وال لأ؟ وهل املعدل
اللي ما�شية بيه ده حلو وال �إيه؟ ومعل�ش بجد �إين مقدرت�ش �أبطل
كل احلاجات يف نف�س الوقت ،ب�س �أختك قوية بردو وب�إذن اهلل
قريب جدً ا هاجي �أقولك �إين بطلتهم نهائي ،يال ه�ستنى ردك،
مع ال�سالمة.
50
ا�ستلمت حف�صة الر�سالة وقر�أتها و�أجابت بكل حما�س:
فيك� ،أيوة كده هو ده الكالم
-حبيبتي يا �سلمى ربنا يبارك ِ
وال بال�ش ،وعلى فكرة طاملا حطيتي رجلك على �أول الطريق
هتالقيك مع مرور الوقت بت�سيبي حاجات كتري تغ�ضب ربنا
ِ
فيك وعارفة �إنك قدها ب�إذن
عل�شان تنويل ر�ضاه� ،أنا واثقة ِ
اهلل.
zzz
ﻋﺼ
جال�سا يف فرا�شه وهو يلهث ب�شدة ،ظل فتح عينيه يف فزع وا�ستوى ً
ﲑ ﺍﻟ
حماول ال�سيطرة على ً ُيح ّدق �أمامه بخوف وهو ي�ضع كفه على �صدره
ﻜﺘ
كابو�سا مرع ًبا ،ر�ؤيته ملحمد وهو يغرق يف هذا النهر ً انفعاله ،لقد كان
العميق ،نظرته الال مبالية له وعدم اهتمامه مب�ساعدته على النجاة،
كلمة �صديقه التي قالها قبل اختفا�ؤه حتت املاء� :شك ًرا يا �صاحبي ،والتي
ﺐ ﻟﻠﻨ
مثيل من قبل ،كل هذا كان �سب ًبا يف كانت ُم�صاحبة لنظرة مل ي َر لها ً
ﺸﺮ
يبحث عن �أي ات�صال قادم من حممد فلم يجد ،فقد كان �آخر ات�صال
ﺍﻟﺘﻮ
متثاقل قام ي�ستند على مرفقيه ،قبل �أن ينتهي ً بينهما قبل يومني اثنني،
ﺯﻳﻊ
به الأمر واق ًفا على الأر�ض ب�شيء من الإعياء ،حترك ببطء نحو احلمام،
نظر يف مر�آته الدائرية فوجد �شحو ًبا يظهر جل ًيا على وجهه ،قام بغ�سل
وجهه وتن�شيفه بخفة ،ثم انتقل �إىل خزانة مالب�سه وقام بارتداء �أول ما
ر�آه �أمامه وهبط من منزله ُمقر ًرا الذهاب ملنزل حممد.
يف الطريق و�أثناء جلو�سه بجوار �إحدى نوافذ الأتوبي�س الذي �س ُيق ّله
�إىل منزل �صديقه بد�أت بع�ض الطم�أنينة تت�سلل �إىل قلبه� ،أخذ ُيحدث
51
مفزعا فح�سب ،و�أنه بالت�أكيد لي�س له �أي
نف�سه ب�أن ما ر�آه لي�س �إال حل ًما ً
عالقة بالواقع ،ها هو قد و�صل �إىل مراده ،ترجل من الأتوبي�س واجته
�س ًريا �إىل ال�شارع الذي يقطن به �صديقه� ،سار ب�ضع خطوات فتبني له �أن
ال�شارع مزدحم ب�شدة ،يبدو �أن هناك منا�سبة ما ،ف�آثر الرجوع للخلف
قليل وا�ستدار ليتجه �إىل ال�شارع املجاور ومنه �إىل اجلهة املقابلة من ً
مهل ،فهناك يقطن فاروق ومن املمكن �أن يراه مرة �شارع حممد ،ولكن ً
�أخرى ،يا حلظه ال�سيئ ،زفر ب�ضيق قبل �أن ُيحدث نف�سه ً
قائل:
ﻋﺼ
-وهو �إيه اللي هيوقفه يف ال�شارع دلوقتي يعني!
�سار خطوة تلو الأخرى حتى اقرتب من منزل حممد� ،شعر براحة
ﲑ ﺍﻟ
�شديدة تغمره بعدما جتاوز منزل فاروق ومل يره ،ولكن هيهات ،فراحته
ﻜﺘ
التي مل يتجاوز عمرها الثواين مل تكتمل ،ها هو قد ظهر �أمامه من جديد
ً
قائل با�ستنكار:
ﺐ ﻟﻠﻨ
قالها متمت ًما وهو يحاول التحكم يف ع�صبيته حتى ال ينطق ل�سانه مبا
ال ُيح َمد عقباه ،نظر له �إ�سالم نظرة �أخرية ثم قال ُم ِنه ًيا هذا احلوار
الثقيل:
� -أنا طالع ملحمد دلوقتي لأين م�ش فا�ضي للكالم العجيب بتاعك
ده.
-ما �أنا قولتلك م�ش هتالقيه!
52
قالها بابت�سامة مت�أملة ،ف�أجاب �إ�سالم مبلل:
� -أُمال راح فني يعني؟!
-يعني �أنت م�ش عارف؟
-م�ش عارف �إيه؟! ما تبطل الألغاز اللي بتتكلم بيها دي..
zzz
م�ساء الأربعاء احلادية ع�شرة قبل منت�صف الليل.
ﻋﺼ
جال�سا يتناول طعام الع�شاء حني �شعر ب�أمل خفيف يف كان حممد ً
�صدره ،وكعادته مل يعب�أ بذلك وا�ست�أنف تناول طعامه ،بد�أت الآالم ت�شتد
ﲑ ﺍﻟ
عليه �شي ًئا ف�شي ًئا ،ترك قطعة اخلبز التي كان يحملها يف يده و�ضغط على
ﻜﺘ
�صدره بقوة ،طرقت نهى �-أخته التي ت�صغره بثالثة �أعوام -باب الغرفة
وهي حتمل طب ًقا يف يدها ،وقالت بحنان:
ﺐ ﻟﻠﻨ
قامت بو�ضع الطبق �أمامه ،وقبل �أن ت�ستدير على �أعقابها لتن�صرف
ﺯﻳﻊ
فزعا،
الحظت على وجهه بع�ض التعبريات الغريبة ،والتي �أحالت فرحتها ً
فمالحمه املنكم�شة مبا فيها عينيه املغم�ضتني بقوة �شديدة حتى كادتا �أن
تعت�صرا مقلتيهما ،و�أ�سنانه التي ت�ضغط بقوة على �شفتيه ،ويده التي كادت
�أن تقتلع قلبه من مكانه ،وتلك الآهة املكتومة التي �شعرت �أنه ينتزعها من
انتزاعا ،كل هذا كان �سب ًبا يف �إ�صابتها بالهلع ،فما كان منها غري
ً �أعماقه
�أنها اقرتبت منه ب�شدة ،ر ّبتت على كتفه بخوف وهي تقول:
-حممد مالك؟
53
-مفي�ش يا نهى ،مفي�ش.
نظرت له بحدة ،و�صاحت قائلة:
-مفي�ش ازاي؟ ّ
قول مالك وال حا�س�س ب�إيه؟
ب�ضيق يف تنف�سه ،مع ازدياد �آالم �صدره �أكرث و�أكرث مل يعد يحتمل
�شعر ٍ
ذلك ح ًقا ،قال ب�صوت قارب على الرحيل:
-ات�صليلي ب�إ�سالم ب�سرعة يا نهى ،خليه ييجي.
وبالفعل �أم�سكت بهاتفه النقال وبحثت عن ا�سم �إ�سالم وقامت
ﻋﺼ
باالت�صال على الفور ،ات�صلت مرة �أتبعتها بالثانية ،والثالثة ،حتى �أمتت
ﲑ ﺍﻟ
اخلم�س ومل جتد �أي �إجابة ،زفرت بع�صبية ونظرت له بعينني متلأهما
اللهفة ،فات�سعت عيناها برعب حينما وجدت ر�أ�سه ُمن ّك ًبا على الطاولة،
ﻜﺘ
قليل فوجدته ما زال يت�أوه هرولت باجتاهه بفزع وحاولت حتريك ر�أ�سه ً
تلك الآهة املكتومة ،قررت االت�صال بوالدها ولكنها تذكرت �أنه لن ي�ستطيع
ﺐ ﻟﻠﻨ
احل�ضور قبل �ساعتني على الأقل� ،شعرت �أن عقلها ُ�شل عن التفكري و�أنها
ﺸﺮ
ما عادت تدري ماذا يجب �أن تفعل ،ف�أ�سرعت اخلطى نحو غرفة والدتها
و�أيقظتها من نومها بفزع ،هرولت الأم �إىل غرفة ابنها و�أمرت نهى �أن
ﻭ
يعي�شون يف تلك البناية وحدهم ولن ت�ستطيع الفتاة الهبوط لل�شارع لنداء
ﺯﻳﻊ
�أحد اجلريان يف تلك ال�ساعة املت�أخرة من الليل ،تناولت نهى الهاتف من
جديد وقامت بالبحث عن ا�سم فاروق و�ضغطت على زر االت�صال ،فتح
قليل ليطرد منهما بقايا نعا�سه ،ثم �أم�سك الأخري عينيه و�أخذ يفركهما ً
بهاتفه و�أجاب بهدوء:
-ال�سالم عليكم ،ازيك يا حممد؟
�أجابت ب�سرعة بالغة:
54
-وعليكم ال�سالم� ،أنا �أخت حممد ،بعد �إذن ح�ضرتك تعاىل
ً
حال.
خفق قلبه ب�شدة بعدما �سمع �صوتها ،حاول ال�سيطرة على رد فعله
و�أجاب باتزان:
-خري فيه حاجة ح�صلت؟
-حممد تعبان �أوي والزم يروح امل�ست�شفى ،بعد �إذنك تعاىل
ب�سرعة لأننا م�ش عارفني نت�صرف.
ﻋﺼ
-حا�ضر �أنا جاي ً
حال ب�إذن اهلل.
ﲑ ﺍﻟ
ناه�ضا يف حركة ُفجائية ،ارتدى حذاءه
قالها ذلك الذي �أزاح غطاءه ً
وهرول باجتاه منزل حممد ،حني و�صل �إىل املنزل طرق الباب بقوة،
ﻜﺘ
فقامت الأم بفتح الباب و�أ�شارت �إىل غرفة حممد قائلة ب�أمل:
ﺐ ﻟﻠﻨ
ليلتقط �أنفا�سه ،وقف �أمامه وقال بابت�سامة قلقة وهو يربت على يديه:
-خال�ص يا حممد عم جمدي جاي ً
حال وهرنوح امل�ست�شفى.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
حاول �أن ي�ساعده ليجعله ي�ستلقي على الفرا�ش �إىل �أن ي�أتي جارهم
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
ارتاح ب�س دلوقتي حلد ما العربية تيجي.
هام�سا:
�أغم�ض عينيه وقال ً
ﲑ ﺍﻟ
� -أ�شهد� ...أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل ،و�أ�شهد �أن حممدً ا ر�سول اهلل.
ﻜﺘ
مرت الدقائق وك�أنها �ساعات ،بل رمبا �سنني� ،أخذ اجلميع ينظر �إىل
ال�سماء ويدعو اهلل �أن ي�أتي الرجل ب�أق�صى �سرعة� ،سمع فاروق �صوت
ﺐ ﻟﻠﻨ
العربة تقرتب من املنزل �شي ًئا ف�شي ًئا ،نظر من النافذة فت�أكد من و�صولها
فهم�س ب�أريحية �أن احلمد هلل .ثم عاد ملحمد من جديد ،وقال مبت�س ًما:
ﺸﺮ
اقرتب منه �أكرث و�أم�سك بيده ليجعله ينه�ض معه فلم يجد �أي
ﺯﻳﻊ
ا�ستجابة ،حاول حتريكه ميي ًنا وي�سا ًرا ولكن بال جدوى ،نظر يف عينيه
�صارخا وهو يحركه بعنف: ً املغلقتني بفزع ،وقال
علي يا
-حممد! يا حممد! حممد يال العربية جات ،حممد رد َّ
علي �أرجوك!
حممد! حممد رد َّ
نظر بلهفة �إىل والدته التي ات�سعت عيناها ب�شدة ،ثم عاود النظر �إليه
من جديد وظل ُيح ّركه وهو ما زال ي�صرخ:
56
-حممد خال�ص هرنوح امل�ست�شفى �أهو� ،أنت م�ش برتد ليه
علي ،حممد قول �أي حاجة! قول �أي حااااجةهاه! حممد رد َّ
�أرجوووووك.
ولكن ال حياة ملن تنادي ،ما عاد ي�سمع �صوتًا عدا تلك ال�شهقات الآتية
من خلفه ،حاول التحقق من وجود �أي نف�س يخرج من �أنفه �أو بع�ض
النب�ضات الآتية من قلبه فلم يجد� ،أم�سكه مرة �أخرى و�أخذ يحركه من
ً
حماول تكذيب ما يراه وظل يردد: جديد
ﻋﺼ
-يـ ــارب ،ي ـ ـ ــارب.
�سقطت الأم على الأر�ض من �أثر �صدمتها وانهارت باكية على ولدها
ﲑ ﺍﻟ
الوحيد� ،أما عن نهى فهي �إىل الآن غري م�ستوعبة ما يحدث وتنظر للم�شهد
ﻜﺘ
ً
مهرول باجتاه باب املنزل ،و�صرخ بذهول وفقط ،نه�ض فاروق من مكانه
ب�أعلى �صوته ً
قائل:
ﺐ ﻟﻠﻨ
�صعد ال�سيد جمدي وابنه وقاموا بحمل حممد وذهبوا به �سري ًعا �إىل
العربة ومعهم فاروق الذي طلب من والدة حممد �أن تت�صل بوالده وتخربه
ﻭ
بالأمر لي�أتي �إليهم على الفور ،و�أكد لها ب�أنه �سيخربها بكل جديد �-إن
ﺍﻟﺘﻮ
ُوجد.-
ﺯﻳﻊ
zzz
مرت الدقائق على من داخل العربة ببطء خميف ،ف�أحدهم قلبه يكاد
يقتلع �صدره من كرثة نب�ضاته ،والآخر ال ُيكاد ُي�سمع لنب�ضاته �صوتًا ،بينما
ال�سائق ومن بجواره يف حالة من اال�ضطراب ال�شديد ،توقفت ال�سيارة
وهبط الرجال على عجل حاملني ذاك املري�ض �إىل غرفة الطبيب ،دخل
حممد �إىل غرفة العمليات ووقف فاروق �أمام الباب املغلق وظل يتمتم
57
بالدعاء ،ب�ضع دقائق فقط ووجده ُيفتح من جديد ،خرجت منه املمر�ضة
م�سرعة باجتاه غرفة ما ،ناداها فاروق لي�س�ألها عن �صاحبه ف�أجابت
بتوتر:
-ادعيله.
ثوان حتى عادت ب�سرعة �أكرب من املرة ال�سابقة ،دخلتوما هي �إال ٍ
الغرفة و�أغلقت الباب خلفها ،ظل فاروق يدعو اهلل �أن ُينجي �صاحبه ،حتى
وجد الباب ُيفتح من جديد ويخرج منه الطبيب� ،س�أله فاروق بلهفة كبرية
ﻋﺼ
عن �صديقه ،ف�أجاب ب�أ�سف:
-عملنا كل اللي نقدر عليه ،ب�س ده ق�ضاء ربنا ،البقاء هلل.
ً
مت�سائل بذهول:
ﲑ ﺍﻟ
ات�سعت عيناه بفزع ال مثيل له� ،شهق
ﻜﺘ
-مات؟ حممد مات!
ﺐ ﻟﻠﻨ
-ميكن لو كان جه بدري �شوية كنا قدرنا نلحق قلبه قبل ما
متاما ،ولكن ده ن�صيبه� ،شد حيلك. يتوقف ً
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
قالها الطبيب وهو ُير ّبت على كتف فاروق ،ثم �سار مغاد ًرا املمر ليرتك
ﺯﻳﻊ
جمال لذلك ال�شاب لتفريغ تلك ال�شحنة املت�أملة التي يحملها بقلبه ،ظلً
فاروق عدة حلظات يحاول ا�ستيعاب كل ما حدث ،يحاول ا�ستيعاب �أن
�صديقه الآن مل يعد موجودًا بينهم ،يحاول ا�ستيعاب �أنه �آن الآن وقت
احل�ساب ،فهل كنت على ا�ستعداد لتلك اللحظة يا حممد� ،أم ماذا �سيكون
م�صريك؟ �شعر ب�أمل يف ر�أ�سه من فرط التفكري ،فارمتى على �أول كر�سي
بجواره ودفن وجهه بني كفيه ،وظل يخرب اهلل مبا يحمله قلبه من �أحزان.
58
دقائق مرت ال يعلم �أقليلة هي �أم كثرية قبل �أن ينه�ض من مكانه فج�أة
متج ًها �إىل غرفة الطبيب لي�س�أله عن �إجراءات دفن حممد ،ويطلب منه
�أن ُيلقي عليه نظرة �أخرية قبل الرحيل.
zzz
نظر �إ�سالم لفاروق نظرة القادمني من كوكب �آخر ،مل ي�ستطع �أن
ينطق ببنت �شفة� ،ضاقت عيناه وجتمعت فيهما العربات ،ظل ينظر
لفاروق للحظات قبل �أن ُيحادثه ب�صوت جت�سد فيه احلزن بكامل �سطوته:
ﻋﺼ
� -أنت بتقول �إيه؟ حممد مات بجد؟!
ﲑ ﺍﻟ
�سمع ال�س�ؤال ف�ضاقت عيناه ناظ ًرا �إىل �شرفة بعيدة بائ�سة ي�ستعيد من
ﻜﺘ
ً
�صارخا: ما�ضيه م�شهد ما ،ثم �أجابه
ﺐ ﻟﻠﻨ
-بقولك حممد مات قدام عيني ،عارف يعني �إيه مات قدام
عيني؟ عارف يعني �إيه �آخر حاجة يقولهايل تبقى خلي بالك
ﺸﺮ
من �إ�سالم وخليه يقرب من ربنا؟ عارف يعني �إيه كان نف�سه
يكون �أح�سن من كده ب�س ب�سبب تريقتك عليه ف�ضل واقف مكانه
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
عارف يعني �إيه بيتحا�سب؟ بجد �أنا م�ش متخيل �إنك ل�سه لك
عني تيجي حلد هنا بعد كل اللي ح�صل ده! يعني ال �ساعدته
وهو عاي�ش وال حتى اهتميت �إنك تلحقه قبل ما ميوت!
لعلها �أوىل املرات التي ُي ّلجم فيها ل�سانه بهذا ال�شكل ،اكتفى فقط
بنظرة خاوية حتت قدميه يحاول فيها �أن يدرك كل ما �سمعه للتو ،نظر له
فاروق بقهر وا�ضح وقال:
59
� -أنا عمري ما ه�ساحمك وال هعفيك من امل�سئولية يا �إ�سالم ،لأنه
كان ممكن يبقى �أف�ضل من كده بكتري لوال �إنه عنده �صاحب
عموما خال�ص ،الكالم مبقا�ش له الزمة ،املهم دلوقتي زيكً ،
ندعيله لأنه �أكيد حمتاج دعاءنا.
�ألقى تلك الكلمات الثقيلة على م�سامعه وغادر ،بينما �أخذ �إ�سالم ينظر
�إىل ذلك ال�صوان فتبني -من دون اجلميع -والد حممد ،والذي جل�س يف
املقدمة� ،أخذ ي�س�أل نف�سه� :أح ًقا مات حممد؟ �أح ًقا لن يراه ثانية بعد
الآن؟ �ألن يتخرج معه؟ �ألن يبقى بجانبه �إىل الأبد كما وعده؟ �ألن يقف
ﻋﺼ
�إىل جواره يوم عر�سه كما اتفق معه؟ �أبالفعل ذهب تو�أمه؟ ولكن كيف
ﲑ ﺍﻟ
ذهب بتلك ال�سرعة؟ وكيف �سيعي�ش من دونه بعد الآن؟ وكيف �سيتحمل
ﻜﺘ
مرارة الذنب الذي و�ضعه فاروق على عاتقه؟ كيف كل هذا ،كيف! �أخذت
تلك اخلواطر وغريها تدور بر�أ�سه وهو ي�سري باجتاه ذلك املكان املظلم
ﺐ ﻟﻠﻨ
يف عينيه باهر ال�ضوء يف عيون الآخرين� ،شعر فج�أة بيد دافئة تلم�س يده،
ا�ستفاق من �شروده على وجه والد حممد املنكم�شة مالحمه� ،س�أله وهو
ﺸﺮ
العامل بالإجابة:
-هو حممد مات ً
فعل؟
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
�أجابها بفتور ثم �سار باجتاه غرفته و�أغلق الباب خلفه بقهر ،تبادلت
ﲑ ﺍﻟ
والدته مع هند النظرات التعجبية ،فقررت الأخرية الدخول �إىل غرفة
�أخيها لت�ستف�سر عن �سبب ت�أخره نظ ًرا لأنه غري معتاد على ذلك ،فتحت
ﻜﺘ
الباب على عجل و�س�ألت باهتمام:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-كنت فني ده كله يا �إ�سالم؟ احنا خوفنا يكون ال قدر اهلل ح�صلك
وخ�صو�صا �إنك قافل موبايلك.
ً حاجة
ﺸﺮ
-ام�شي يا هند.
ً
ﻭ
حماول الهرب من العامل �أجمع، قالها وو�ضع غطاء ال�سرير فوق ر�أ�سه
ﺍﻟﺘﻮ
-أل م�ش هم�شي �إال ملا تقويل �إيه اللي ح�صل وخالك تت�أخر �أوي
كده.
�صارخا وك�أنه �أخ ًريا وجد ً
منفذا لتلك امل�شاعر ً نه�ض من مكانه و�أجاب
املكتومة بداخله:
-عاوزة تعريف ح�صل �إيه؟ هاه؟ �أقولك ح�صل �إيه ،حممد
علي و�أنا
�صاحبي مات و�أنا كنت ال�سبب يف موته ،فاكرة ملا رن َّ
61
معربتو�ش؟ �ساعتها كان بيموت و�أنا �أول واحد ات�صل بيه� ،أ�صله
كان فاكرين �صاحب بجد وهلحقه.
ات�سعت عينا هند بفزع ال مثيل له ،وقبل �أن تنطق بحرف واحد وجدته
ي�ست�أنف �صراخه ً
قائل:
-طيب عارفة �إن باباه �أول ما �شافني �أخدين باحل�ضن جامد؟
�أ�صله فاكرين زي ابنه وبيقويل �أنت من ريحة الغايل ،م�سكني
الراجل ميعرف�ش �أن ابنه كان ممكن يكون �أح�سن من كده
بكتري لوال �أنه عنده �صاحب ندل زيي ،ميعرف�ش �إن حممد كان
ﻋﺼ
دائ ًما بيقويل عاوزين نلحق نقرب من ربنا قبل ما منوت و�أنا
ﲑ ﺍﻟ
كنت ب�ضحك عليه و�أقوله يا عم احنا ل�سه قدامنا العمر طويل،
خلينا نعي�ش حياتنا �شوية وبعدين نبقى نقرب ،مكنت�ش �أعرف
ﻜﺘ
�أنه قدامه يوم واحد ب�س وم�شوفهو�ش تاين ،مكنت�ش �أعرف �أنه
ب�سهولة كده هيبد�أ يتحا�سب واهلل �أعلم هو مرتاح دلوقتي وال
ﺐ ﻟﻠﻨ
لأ.
ظل يلهث ب�شدة وهو يعود بظهره �إىل ظهر �سريره� ،أغلق عينيه وحاول
ﺸﺮ
-عارفة �آخر حاجة قالها �إيه قبل ما ميوت؟ قال خلوا بالكم
ﺍﻟﺘﻮ
من �إ�سالم وخلوه يقرب من ربنا عل�شان م�ش عاوزه ميوت زيي،
ﺯﻳﻊ
علي �أكرث ما يو�صي على �أهله؟ دلوقتي عارفة يعني �إيه يو�صي َّ
ب�س عرفت ليه هو كان دائ ًما بيقويل �إين �أكرت من تو�أمه! اهلل
علي تاين،
يكرمك يا هند اطلعي دلوقتي وم�ش عاوز حد يدخل َّ
كفاية اللي �أنا فيه.
نظرت له هند نظرة مت�أملة ثم غادرت الغرفة.
zzz
62
ُقبيل الفجر بقليل ،و�أمام تلك النافذة املُغطاة برزاز الأمطار وقف
ينظر �إىل الال �شيء� ،أخذت �صور من املا�ضي تن�ساب �أمام عينيه� ،أخذ
يتذكر الكثري من املواقف التي تربطه مبحمد ،ال يعلم ملاذا يف هذا
التوقيت بالتحديد تذكر موقف حممد عندما مات والده ،كان يرى امل�شهد
�أمامه وك�أنه حدث بالأم�س ،تذكر كيف �شعر باالنك�سار عندما مات والده
وهو يف مثل هذه ال�سن ال�صغرية ،تذكر ات�صاله املفاجئ مبحمد وطلبه
منه احل�ضور على الفور ،تذكر �سرعة تلبية �صديقه للنداء بعك�س ما فعل
هو عندما احتاجه ،تذكر وقفته بجواره وم�ساعدته على ا�ستذكار درو�سه
ﻋﺼ
لكي ي�ستطيعا االلتحاق بكلية الهند�سة كما متنيا ،تذكر ت�شجعيه الدائم له
ﲑ ﺍﻟ
وحثه على حمل م�سئولية ذلك املنزل ال�صغري وم�ساعدته على حتمل تلك
امل�سئولية حتى ا�ستطاع بف�ضل اهلل االعتياد عليها ،تذكر الكلمات التي
ﻜﺘ
قالها حممد والتي ما زالت تطرق �أذنيه �إىل الآن:
ﺐ ﻟﻠﻨ
� -أنت راجل البيت دلوقتي يا �إ�سالم ،يال ام�سح دموعك وقوم
ح�س�س �أمك و�أختك �إن ليهم ظهر و�سند ،و�أنا جنبك �أهو
ﺸﺮ
من يده امل�سكينة كانت هناك �صرخة �أقوى من قلبه املكلوم ،وملا �شعر
ﺯﻳﻊ
بالتعب �أ�سند ر�أ�سه على النافذة و�أغم�ض عينيه و�أخذت دموعه تن�ساب
ب�صمت ،عدة ثواين مرت فقط قبل �أن ي�سمع �أذان الفجر ،وكغري العادة
قرر الذهاب لأداء ال�صالة يف موعدها ،قام بفتح باب غرفته وذهب �إىل
احلمام ليتو�ض�أ وعاد �إىل الغرفة على الفور� ،أدى �صالته ثم ا�ستلقى على
ً
حماول النوم. الفرا�ش
�ساعة وربع ال�ساعة مرت وعينه ال يغم�ض لها جفن ،فتلك الذكريات
امل�ؤملة تفرت�س ر�أ�سه امل�سكني طوال الليل حتى كاد �أن ُيجن� ،سمع �صوتًا
63
ً
حماول الهرب من ذكرياته ب�أي طريقة، بخارج الغرفة فنه�ض على الفور
فتح باب غرفته فوجد والدته تقر أ� يف كتاب اهلل ،وما �أن ر�أته حتى هرولت
باجتاهه ،م�سحت على �شعره بحنان وقالت:
-البقاء هلل يا �إ�سالم ،عامل �إيه دلوقتي يا بني؟
-احلمد هلل يا �أمي.
بهدوء �أجاب ،فابت�سمت قائلة بحما�س �شديد:
-عارف كنت بعمل �إيه دلوقتي؟
ﻋﺼ
نظر �إىل امل�صحف املو�ضوع على الطاولة ،ثم عاود النظر �إليها وك�أنه
ﲑ ﺍﻟ
ي�ستعجب من �س�ؤالها املعلومة �إجابته ،ابت�سمت بهدوء و�أجابت:
ﻜﺘ
-قراءة القر�آن يف وقت بعد الفجر ده بتكون حلوة �أوي ،بعدها
ب�إذن اهلل هدعي ملحمد �صاحبك كتري �إن ربنا يرحمه ويجعله
ﺐ ﻟﻠﻨ
ً
مت�سائل: ثم قال
-هو �أنا ينفع �أعمله حاجة تنفعه دلوقتي بعد ما مات؟
� -أيوة طب ًعا يا حبيبي ،الر�سول عليه ال�صالة وال�سالم بيقول:
«�إذا مات ابن �آدم انقطع عمله �إال من ثالث� :صدقة جارية �أو علم
ينتفع به �أو ولد �صالح يدعو له».
ف�سرة:
قالتها وهي تربت على كتفه ،ثم �أردفت ُم ّ
64
-يعني �أنت ممكن تطلع �صدقة عنه� ،أو لو كان بيقولك �أي
معلومة مفيدة نفذها وفيد بيها النا�س ،وكمان دائ ًما خليك
فاكره بدعائك.
� -شك ًرا يا �أمي .
قالها ب�صدق تام ،ثم دار على �أعقابه لين�صرف ،دخل غرفته و�أغلق
بابها كعادته وجل�س يفكر يف كل كلمة قالتها �أمه.
zzz
ﻋﺼ
ال�ساد�سة والن�صف م�سا ًء تقري ًبا� ،أم�سكت �سلمى هاتفها النقال
ﲑ ﺍﻟ
بحما�س �شديد ،نظرت �إليه بفرحة كالأطفال ،ثم ذهبت و�أغلقت باب
ﻜﺘ
غرفتها و�أخذت تردد خلفه:
�إح�سا�سك ملا �إيديك بتمد اخلري،
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
وخ�صو�صا لأنها بدون مو�سيقى
ً قالتلي عليه ،حبيتها جدً ا
فم�أخدت�ش بايل �إن �صوتي ِع ِلي.
ﲑ ﺍﻟ
وك�أنها بكلمتها تلك �ساعدت على ثوران الربكان اخلامد داخل والء،
ﻜﺘ
ازداد �صياح الأخرية وهي تقول:
-تااين هتقوليلي مو�سيقى! ليه يعني هي حرام؟ م�ش كفاية
ﺐ ﻟﻠﻨ
-يا بنتي �أنا مقولت�ش هتدخلوا النار وال الكالم ده ،وكمان م�ش
�أنا اللي �أقول حرام وال حالل لأين معندي�ش العلم الكايف لده،
كل احلكاية �إين �سمعت حديث عن الر�سول �صلى اهلل عليه
احلر واحلرير
و�سلم بيقول« :ليكونن من �أمتي �أقوام ي�ستحلون ِ
واخلمر واملعازف» فب�صراحة خفت �أكون من النا�س دول
فقولت �أبطل �أ�سمع مو�سيقى �أح�سن ،واحلمد هلل �أنا مرتاحة
دلوقتي جدً ا ودي �أهم حاجة.
66
تنهدت والء وقد بدا عليها عدم االقتناع ،وقالت:
يهديك ويهدينا جمي ًعا.
ِ -براحتك يا �سلمى ،ربنا
قالتها وتركت الغرفة وغادرت ،ف�ألقت �سلمى هاتفها على الفرا�ش
وقامت بفتح احلا�سوب اخلا�ص بها لتقم بتنزيل جمموعة �أخرى من
الأنا�شيد ،وما �أن انتهت حتى قامت بفتح ح�سابها على موقع الفي�س بوك،
فوجدت ر�سالة �آتية من حف�صة وكان حمتواها:
� -سلمتي! بقالك ثالث �أيام م�ش بتقوليلي �آخر �أخبارك ،لعله
ﻋﺼ
خري يا حبيبتي.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ ابت�سمت لر�سالتها تلك و�أجابت:
-خري جدً ا احلمد هلل ،كنت ب�س م�ستنية ملا �أعمل �شوية حاجات
حلوين كده عل�شان �أقولهوملك مرة واحدة ،ب�صي يا �ستي،
مبدئ ًيا كده امل�سل�سل خل�ص احلمد هلل وب�إذن اهلل م�ش ه�شوف
ﺐ ﻟﻠﻨ
-ياااه بقى �أيوة كده ،هو ده الكالم وال بال�ش� ،أنا حا�سة �إين
ممكن �أدخل اجلنة ب�سببك يا �سلمى.
وببالغ التعجب كتبت:
-ب�سببي �أنا؟ ازاي!
� -أ�صل �أنا دائ ًما ببعت جروبات دينية للبنات اللي عندي
وبن�صحهم وبكتب لهم بو�ستات وكده ،لكن مكونت�ش بالقي
67
�أي تفاعل معايا� ،ساعات كان بيجيلي �إحباط وبقول لنف�سي
خال�ص �أبطل اللي بعمله ده طاملا مفي�ش حد بيهتم ،لكن بعدها
كنت برجع �أفتكر احلديثني اللي قالهم الر�سول �صلى اهلل عليه
و�سلم دول:
رجل واحدً ا خري لك من حمر النعم» و «من دعا «لأن يهدي اهلل بك ً
�إىل هدى كان له من الأجر مثل �أجور من تبعه ال ينق�ص ذلك من �أجورهم
�شي ًئا ،ومن دعا �إىل �ضاللة كان عليه من الإثم مثل �آثام من تبعه ال َينق�ص
َ ْ ْ َ
ذلك من �آثامهم �شي ًئا» ،وكمان كنت دائ ًما بفتكر الآية دي } َومن أحس ُن
ﻋﺼ
ال إنَّن م َِن ال ْ ُم ْسلم َ
َ َ َ َ ً ََ َ َ ْ ً ِّ َّ َ َ َ
ني{ ،و�أقعد �أقول ِِ الا وق ِ ِ قول ممن دع إِل الل َِّ وع ِمل ص ِ
ﲑ ﺍﻟ
لنف�سي اوعي تي�أ�سي ،م�ش ميكن بنت تكون حمتاجة ن�صيحتك وب�سبب
ﻜﺘ
كلمة واحدة منك حياتها تتغري ،م�ش ميكن ب�سبب الكلمة دي تدخلي
اجلنة ،واحلمد هلل �أخ ًريا لقيتك يا �سلمى وح�سيت �إن بجد اللي بعمله
ﺐ ﻟﻠﻨ
دمعت عيناها وهي تقر أ� تلك احلروف ،ال تعلم ملاذا ،ولكن رمبا �شعرت
ﻭ
بتلك الطاقة الإيجابية التي تبثها تلك الر�سالة ،الطاقة الإيجابية التي
ﺍﻟﺘﻮ
تخربها ب�أال ت�ستلم مهما حدث ،الطاقة الإيجابية التي تخربها ب�أن تفعل
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
ب�صي هو عادة �أنا م�ش ب�صلي الظهر يف الكلية ،ب�س ملا بروح
ﲑ ﺍﻟ
ب�صليه ،هو كده عادي؟
-وم�ش بت�صليه ليه؟
ﻜﺘ
بتعجب �س�ألت .ف�أجابت �سلمى وقد ا�ست�شعرت احلرج:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-يعني �إيه؟
ﺯﻳﻊ
-يعني هتب�صي على كالمك اللي فوق ده ،وتقوليلي يا ترى ملا
تروحي عند ربنا هتقدري تقوليله يا رب �أنا كنت ب�ضيع الظهر
علطول عل�شان الب�سة بنطلون؟ تفتكري دي هتبقى �إجابة
مقنعة؟
ابتلعت ريقها ب�صعوبة� ،شعرت بالندم لكونها و�ضعت نف�سها يف هذا
امل�أزق� ،أجابت بحرية:
69
-م�ش عارفة.
-لأ عارفة!
كتبتها بعناد ،فازداد حرج �سلمى و�س�ألت:
-طيب �أعمل �إيه؟
-عندك جيبة؟
� -آه عندي اتنني م�ش بلب�سهم ،ب�س �إيه عالقة ده باملو�ضوع؟
-طيب ممكن عل�شان نر�ضي ربنا ت�سمعي احلل اللي هقولك
ﻋﺼ
عليه ده؟ واعتربيه يا �ستي جتربة ملدة �أ�سبوع وبعدين قوليلي
ﲑ ﺍﻟ
ر�أيك.
ﻜﺘ
جميلة تلك احلف�صة ،وجميلة كلماتها ،فمن غري عادتها �أن ُتعاتب
�صديقتها �أو توبخها ب�سبب ذنب ما تفعله ،بل على العك�س حتاول دائ ًما
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أن القرار النابع من داخل الإن�سان يكن له الت�أثري الأقوى ،لذلك فهذا هو
وخ�صو�صا �سلمى ،التي وقفت
ً الأ�سلوب املُتبع لديها يف ن�صح �أي �شخ�ص،
ﻭ
-حل �إيه؟
عاوزاك الأ�سبوع اجلاي كله تنزيل من بيتك متو�ضية ،وتلب�سي
ِ -
أنت يف
طقم وا�سع وعليه جيبة من االتنني اللي عندك ،هتنزيل و� ِ
نيتك �إنك تر�ضي ربنا ،و�إنك م�ش عاوزة حاجة من الدنيا غري
أنت نازلة �إنه يثبتك ويحببك يف اللب�س ده
ر�ضاه عنك ،وادعي و� ِ
ومرتجعي�ش للبنطلونات تاين ،ووقت ما ت�سمعي الأذان روحي
�صلي علطول وبعدين كملي يومك براحتك.
70
� -إيه ده يا بنتي! يعني عاوزاين �أرمي كل اللب�س اللي عندي و�أروح
اجلامعة يوم ًيا باجليبتني دول ب�س؟
كتبتها بتعجب �شديد ،ف�أجابت حف�صة بهدوء كعادتها:
-لأ طب ًعا م�ش هرنميهم ،ممكن ب�س ننفذ الفكرة دي الأ�سبوع
اجلاي وبعدين نبقى نفكر فيما بعد ذلك؟
-ما�شي يا �ستي من عينيا ،جنرب م�ش هنخ�سر حاجة.
فيك ووفقك ملا يحبهعينيك يا �سلمتي ،بارك اهلل ِ
ِ -ت�سلم
ﻋﺼ
وير�ضاه.
zzz
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
وبالفعل ،مع بداية الأ�سبوع اجلديد بد�أت �سلمى يف تنفيذ ما اتفقت
عليه مع �صديقتها ،حيث قامت بارتداء �إحدى التنورتني التي متتلكهما،
ﺐ ﻟﻠﻨ
أي�ضا تو�ض�أت قبل �أن تهبط من منزلها ،و�صلت �إىل اجلامعة وذهبتو� ً
م�سرعة �إىل حيث جتل�س كل من هند وفاطمة و�س�ألتهما عن ر�أيهما فيما
ﺸﺮ
عليك
-حلو الطقم ده يا �سلمى ما �شاء اهلل ،مربوك ِ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
-لأ عادي.
ﲑ ﺍﻟ
�شعرت فاطمة باالنزعاج من ذلك الرد البارد ،ف�أعادت �س�ؤالها
بطريقة �أخرى ولكن �أكرث حدة:
ﻜﺘ
أنت م�ش حا�سة �إنها بقت غريبة جدً ا اليومني
-عادي ازاي؟ يعني � ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
-أل م�ش غريبة وال حاجة ،كل احلكاية �إن البنت حبت تغري من
ﻭ
z
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
73
-3-
مر �أ�سبوع كامل و�إ�سالم على نف�س احلالة ،يجل�س يف تلك البقعة
املظلمة يف زاوية غرفته ُم�س ًكا بهاتفه ،ال يخرج من تلك الو�ضعية الكئيبة
ﻋﺼ
�إال ل�شراء م�ستلزمات املنزل ويعود لها من جديد ،كان منظره متغ ًريا ب�شكل
ﲑ ﺍﻟ
كبري ،حليته نابتة ب�شكل غري مهذب� ،شاربه على نف�س املنوال ،هندامه مل
ف�ضل االنعزال عن اجلميع بهاتفه يعد ُي�ش ّكل له �أي �أهمية مثل ذي قبلّ ،
ﻜﺘ
العامر ب�صور املُتو َّفى.
كانت والدته ت�شعر بانفطار قلبها على ولدها الوحيد ،وعلى تلك
ﺐ ﻟﻠﻨ
احلالة التي تراه عليها ،فمنذ موت حممد وهو يجل�س وحده هكذا طوال
ﺸﺮ
اليوم وال يتحدث مع �أحد �إال لل�ضرورة الق�صوى ،غري �أنه مل يذهب �إىل
وخ�صو�صا
ً اجلامعة كل هذه املدة ،الأمر الذي جعل قلق والدته يزداد
ﻭ
لأن االمتحانات النهائية للف�صل الدرا�سي الأول على و�شك البدء ،ورغم
ﺍﻟﺘﻮ
�صعوبة املوقف لعلمها مبكانة حممد يف قلب ابنها �إال �أنها قررت ا�ستجماع
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
ر�أ�سه:
ﲑ ﺍﻟ
� -أنا عمري ما ه�ساحمك وال هعفيك من امل�سئولية يا �إ�سالم.
ﻜﺘ
فقرر �أن ُيلقي عليه نظرة �أخرية ويغادر على الفور ،ولكن من �سوء
حظه �أن فاروق كان قد ر�آه بالفعل ومل ُي ِعره �أي اهتمام ،الأمر الذي جعل
ﺐ ﻟﻠﻨ
�إ�سالم يت�صبب عر ًقا ،و�أخذ ُي�سرع اخلطى نحو نهاية ال�شارع حتى يختفي
متاما من �أمامه.
ً
ﺸﺮ
ذكرياته ،قام يف هدوء وفتح باب غرفته ،فوجد والدته تبت�سم له ،قامت
ﺯﻳﻊ
باحت�ضانه فت�سللت بع�ض الطم�أنينة �إىل قلبه� ،أحاطته بذراعها و�سارت به
باجتاه الفرا�ش وجل�ست معه ،قالت مت�سائلة على الفور:
-هتف�ضل على احلال ده كتري يا �إ�سالم؟
�أجابها ويف حروفه ُيوم�ض بريق االنك�سار:
-مكنت�ش �أعرف �إين بحبه �أوي كده يا �أمي ،عمري ما تخيلت �إنه
ممكن يختفي من حياتي فج�أة كده ،حممد كان بالن�سبايل كل
75
حاجة ،كان الأب والأخ وال�صديق ،حا�س�س �إن حياتي فا�ضية
�أوي من غريه ،م�ش عارف ازاي ممكن �أكملها لوحدي!
وفور �سماعها لتلك الكلمات املغزولة حروفها بن�سيج الآالم حتركت
دمعة حائرة يف عينيها ،وك�أنها قد تذكرت م�شهدً ا قد ًميا ملعت �آثاره على
قليل و�أجابت ب�شيء من ال�صمود: عينيها احلزينتني ،حاولت التما�سك ً
-لو احلزن يا بني هريجع اللي راح كنت هقولك احزن وعيط
وك�سر الدنيا كلها ،ب�س خال�ص ده قدر ربنا والزم نر�ضى بيه.
ﻋﺼ
تنهدت ً
قليل ثم �أردفت:
ﲑ ﺍﻟ
-فاكر يا �إ�سالم ملا �أبوك مات؟ كنت �أنت وقتها يف تانية ثانوي
وهند يف تالتة �إعدادي� ،ساعتها �أنا ح�سيت �إين اتك�سرت مبعنى
ﻜﺘ
الكلمة ،ح�سيت �إين م�ستحيل �أقدر �أ�شيل م�سئوليتكم لوحدي،
ب�س ملا هديت وقعدت �أفكر مع نف�سي لقيت �إن ربنا رحيم،
ﺐ ﻟﻠﻨ
ومفي�ش حاجة هتح�صلنا غري ملا يكون فيها اخلري لينا ،مهما
كنا �شايفينها �صعبة دلوقتي ،اجلنة م�ش �أي حد يدخلها يا
ﺸﺮ
ﻋﺼ
-حابة �أقولك ب�س �إين نفذت كل اللي اتفقنا عليه الأ�سبوع اللي
فات احلمد هلل ،كنت بروح باجليبة كل يوم وما فاتتني�ش �أي
ﲑ ﺍﻟ
�صالة ظهر بف�ضل اهلل.
ﻜﺘ
وبكل حفاوة وفرحة كتبت �صديقتها:
ﺐ ﻟﻠﻨ
بك �أوي يا �سلمى ،ربنا يثبتك ويقربك منه � -أنا حقيقي فخورة ِ
كمان وكمان.
ﺸﺮ
حف�صة ،ح�سيت �إين م�ش قادرة �أرجع �ألب�س �ضيق تاين ،بقيت
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
وقت.
ﲑ ﺍﻟ
�أر�سلتها ثم �أغلقت املوقع على الفور ،نه�ضت من مكانها وذهبت باجتاه
ﻜﺘ
خزانة مالب�سها وقامت بفتحها� ،أخذت تنظر �إليها مل ًيا ثم قامت ب�إخراج
�أحد بناطيلها و�أم�سكت به �أمام املر�آة ،عدة ثواين مرت دون �أن تدري
ﺐ ﻟﻠﻨ
قبل �أن ت�ستفيق من �شرودها وتقرر �أن ُتغلق باب غرفتها وتعيد ارتداء
ذلك البنطال من جديد ،وبالفعل ارتدته فلم تتحمل تلك احلالة التي ر�أت
ﺸﺮ
قليل ،وحدث معها نف�سها عليها و�سارعت بنزعه وا�ستبداله ب�آخر �أو�سع ً
ما حدث �ساب ًقا فا�ستبدلته بثالث ،وظلت هكذا حتى و�صلت �إىل اخلام�س،
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
مل تعد ت�شعر بالراحة قط يف تلك البناطيل ال�ضيقة� ،سارعت بنزعه هو
الآخر و�ألقت بهم جمي ًعا داخل اخلزانة وارمتت على الفرا�ش وقد ظهر
ﺯﻳﻊ
عليها التعب.
�ساعة كاملة مرت ،اختتمتها �سلمى ب�إم�ساكها بر�أ�سها التي �أمل به الأمل
من فرط التفكري ،ظلت كلمات حف�صة ترتدد على عقلها وتقرع ر�أ�سها
كقرع الطبول ،حاولت �أن تكف عقلها عن التفكري ،حاولت �أن ت�شعر بالال
مباالة التي كانت ت�شعر بها قبل ذلك الأ�سبوع ،ولكنها مل ت�ستطع ،زفرت
زفرة قوية انتزعتها من �أعماقها وقالت وهي ت�ستغيث:
78
-يااارب �ساعدين ،مبقيت�ش فاهمة حاجة وال عارفة �أعمل حاجة،
م�ش متخيلة �إين ممكن �أبطل بنطلونات وم�ش قادرة بردو �أنزل
بيهم تاين ،تعبت بجد ،تعبت!
بعد حلظات �سمعت �أذان املغرب ُيرفع من �أحد امل�ساجد القريبة،
حل لتوقف تلك املعركة العنيفة فهبت واقفة وك�أنها �أخ ًريا قد وجدت ً
الدائرة داخل ر�أ�سها .تو�ض�أت� ،أدت �صالتها وظلت تدعو اهلل كث ًريا �أن
يعينها على ما هي مقدمة عليه ،ثم وقفت �أمام النافذة وظلت عيناها
ال�س ُحب الراب�ضة هناك يف ذلك الف�ضاء تتابع احلركة البطيئة لتلك ُ
ﻋﺼ
الف�سيح ،ا�ستن�شقت بع�ض الن�سمات الليلية الهادئة ،ثم هم�ست لنف�سها
ﲑ ﺍﻟ
مت�سائلة:
ﻜﺘ
-بتعملي يف نف�سك كده ليه يا �سلمى؟ فني قوتك؟ فني ال�شيطان
اللي قررتي �إنك تهزميه؟ ليه متوقعة �إن القرار �صعب �أوي
ﺐ ﻟﻠﻨ
و�أ�شوف �إيه اللي باقي ،جايز �ألآقي حاجات حلوة ووا�سعة كنت
ﺯﻳﻊ
نا�سياها.
وبالفعل قامت ب�إخراج تلك البناطيل ال�ضيقة ومعها ب�ضعة قم�صان
وف�ساتني ق�صرية ،و�أخ ًريا القليل من التنانري التي ال تتعدى الركبتني
ف�ض ًال عن كونها ت�صف ج�سدها �أكرث من الالزم ،ثم نظرت �إىل اخلزانة
وانتابتها حالة ه�ستريية من ال�ضحك وقالت ذاهلة:
-معقولة! ده الدوالب بقى �أبي�ض! هلب�س �إيه �أنا بقى دلوقتي؟
79
�أغم�ضت عينيها ثم زفرت وهي تقول ب�إ�صرار:
-بردو م�ش هلب�سكم تاين ،م�ستحيل �أفرط يف نعمة ال�سرت اللي
ح�سيت بيها اليومني اللي فاتوا ،م�ش مهم بقى ،هحاول �أق�ضيها
ب�أي حاجة حلد ما �أجيب جديد ،وب�إذن اهلل �أنا قدها ،ب�إذن
اهلل.
ثم قررت �أن تذهب لتق�ص على حف�صة ما حدث لت�ستمع �إىل كلماتها
قدمة عليه،
التي تريح قلبها دائ ًما وتعطيها احلما�س لت�ستمر على ما هي ُم ِ
ﻋﺼ
بعدما قامت برتتيب تلك الثياب ال�ضيقة من جديد وو�ضعتهم يف مكان
خا�ص بهم ،وذلك لأنها قررت االحتفاظ بهم لرتتديهم لزوجها ...زوجها
ﲑ ﺍﻟ
وفقط.
ﻜﺘ
zzz
ﺐ ﻟﻠﻨ
جال�سا هكذا يف تلك البقعة الظلماء بال حراك حتى بعد ما �أ�سيظل ً
قالته والدته قبل �ساعات! �أ�ستظل �أيامه متر على هذا النحو من الب�ؤ�س؟
ﺸﺮ
�أهذا الذي �أو�صى به حممد قبل موته؟ �أهذا ما متناه له طيلة حياته؟
بالطبع ال ،ولكن ما ع�ساه �أن يفعل ذلك امل�سكني بعدما قارب على اجلنون
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
من فرط حبه وافتقاده ل�صديقه! ذلك احلب الذي مل يدرك قيمته �إال
ﺯﻳﻊ
بعدما فقده.
ظل ل�ساعات يفكر يف كلمات والدته الأخرية ،ومن ثم قرر الذهاب
بع�ضا من �آالمه ،ورغم علمه ب�ضيقهلفاروق لعله ي�ستطيع �أن ُيزيل عنه ً
بديل فقرر خو�ض ال�شديد منه يف تلك الأيام بالتحديد� ،إال �أنه مل يجد له ً
التجربة وحتمل نتائجها ،وبالفعل نه�ض من فرا�شه البائ�س ،ب ّدل مالب�سه
وغادر على الفور متج ًها �إىل منزل فاروق ،فور و�صوله وقف �أمام الباب
وقد بدا عليه التوتر� ،شيء ما بداخله �أخربه �أن ُيغادر بال رجعة� ،شيء ما
80
�أخربه �أنه يف الطريق اخلاطئ ،ولكنه حاول �أن َين ِف�ض غبار تلك الأفكار
ال�سوداء عن ر�أ�سه وقرر �إمتام ما �أتى لأجله �إىل النهاية ،طرق الباب عدة
طرقات مرتع�شة ،وما �إن �سمع �صوت تلك الأقدام املقرتبة حتى زاد �شعوره
بالتوتر ،خطوات ما بني الثالث واخلم�س خطاها للخلف قبل �أن ُيفتح
الباب بوا�سطة فاروق ،ظل كل منهما ينظر للآخر ب�صمت ،حتى قطعه
خال
�إ�سالم ب�إلقاء التحية على فاروق� ،أوم�أ الأخري بر�أ�سه ُمي ًبا بوجه ٍ
من �أي تعبري ،مما جعل هالة من الندم حتيط ب�إ�سالم وتخربه ب�أنه �أخط�أ
من البداية يف قراره ذاك ،ابتلع ريقه وقال بحرج:
ﻋﺼ
-كنت عاوز منك خدمة يا فاروق.
ﲑ ﺍﻟ
مل يرد ،بل �أنه مل يبت�سم حتى ،كانت ق�سماته يظهر عليها القليل من
ﻜﺘ
العطف ،ولكن يبدو �أن ذلك امل�شهد الذي ر�آه قبل �أيام ما زال حمفو ًرا يف
ذاكرته مان ًعا �إياه من تقبل �إ�سالم ب�أي �شكل من الأ�شكال ،عندما مل يجد
ﺐ ﻟﻠﻨ
من ربنا و�أعي�ش �صح زي ما كان دائ ًما بيقويل ،ب�س م�ش عارف
�أعمل �إيه و�أبد�أ منني!
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
-يا ريت ت�سيبني يف حايل يا �إ�سالم� ،أنا تعبان وم�ش قادر �أن�سى
ﺯﻳﻊ
�شكل حممد وهو بيموت قدام عيني ،وم�ش قادر �أن�سى �إنك كنت
ال�سبب الأ�سا�سي يف �إنه ميوت وهو بال�شكل ده ب�سبب �إحباطك
الدائم له ولت�صرفاته.
متاما ليبعد عنه كل
ورغم �شعوره بق�سوة كلماته �إال �أنه وجدها منا�سبة ً
ما ُيذ ّكره بذلك امل�شهد الذي لطاملا حاول ن�سيانه ومل ُيفلح� .شعر �إ�سالم
�أن ل�سانه قد أُ�جلم بعدما �سمع تلك الكلمات الثقيلة ،فقرر �إلقاء جملته
الأخرية ال�ستعادة ما تبقى من كرامته املهانة واملغادرة على الفور:
81
-ما�شي يا فاروق �أنا هم�شي ،ب�س متن�سا�ش �إين جيت يف يوم
وطلبت منك تاخد ب�إيدي للجنة و�أنت رف�ضت ت�ساعدين ،يعني
�أنت عملت معايا زي ما �أنا عملت مع حممد بالظبط! مع
ال�سالمة يا �صاحب �صاحبي.
ظهر على فاروق بع�ض الت�أثر ،فلي�س من عادته �أن يرد من يحتاجه
خائ ًبا ،ولكنه حاول �أال ي�ست�سلم لإح�سا�سه هذه املرة ومل يتف ّوه ب�أي حرف،
مما جعل �إ�سالم يهبط درجات ال�سلم وقد �أحاطه الندم من كل اجتاه.
ﻋﺼ
فور عودته ملنزله دخل غرفته و�أغلق الباب خلفه يف �شيء من العنف
ﲑ ﺍﻟ
املُثقل بالت�أفف� ،ألقى بج�سده املتعب على فرا�شه وظل يتقلب ومل تغم�ض
له عني ،وكعادة قلوب الأمهات �شعرت والدته مبعاناته رغم تلك احلائط
ﻜﺘ
ال�سميكة التي تف�صله عنها فهرعت �إليه ،جل�ست على حافة الفرا�ش
وقالت بعتاب:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-كنت...
ﺯﻳﻊ
فج�أة ،توقفت الكلمات يف فيه ال�شاكي ،مل يعرف مبا ُيخربها� ،أ ُيخربها
باحلقيقة كاملة وتهان كرامته �أمامها هي الأخرى! �أم يحفظ ماء وجهه
ويحاول الهرب من الإجابة! قرر اختيار اخليار الثاين و�أخربها ب�أنه قام
بزيارة �أحد �أ�صدقاء حممد .مل تقتنع ،فلمعة احلزن تلك التي تراها يف
عينيه ال بد �أن وراءها �شي ًئا ما� ،شي ًئا �أرادت بقوة �أن تعرفه ولكنها لن
ت�ضغط عليه �أكرث من ذلك ،حاولت تغيري املو�ضوع وقالت مازحة:
82
قول بقى �صحيح هو �أنت م�ش ناوي تروح -ما�شي ما عليناّ ،
اجلامعة؟ وال عجبتك قعدتك معايا كده؟
-م�ش عاوز �أروح يف حتة يا �أمي ،عاوزكم ب�س ت�سيبوين يف حايل
و�أنا هبقى كوي�س.
نظرت يف عينيه وقالت بحزم:
� -إ�سالم ،فوق لنف�سك! االمتحانات خال�ص كلها ثالثة �أ�سابيع
وتبد�أ ،واخد بالك يعني �إيه ثالثة �أ�سابيع ،م�ستقبلك يا بني بعد
ﻋﺼ
ما تعبت فيه ال�سنني دي كلها هي�ضيع من �إيدك.
ﲑ ﺍﻟ
ابت�سم �ساخ ًرا وقال:
ﻜﺘ
-م�ش م�شكلة ،ما هو حممد كمان م�ستقبله �ضاع.
-حممد م�ستقبله م�ضاع�ش وال حاجة ،ده ن�صيبه اللي مكتوب
ﺐ ﻟﻠﻨ
-وحممد بردو كان بيتمنى �إننا نكون �أح�سن من كده ،كان بيتمنى
ﺍﻟﺘﻮ
�إننا نقرب من ربنا ونعي�ش �صح بدل اال�ستهتار اللي كنا فيه ده،
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
نظر �إليها وقد �أ�شفق عليها ثم قال م�ست�سل ًما:
ﲑ ﺍﻟ
أنت عايزاه كله ،حا�ضر.
-حا�ضر يا �أمي ،هعمل اللي � ِ
وبالفعل قرر موا�صلة درا�سته لري�ضي والدته لي�س �إال ،فهي يف ر�أيه لي�س
ﻜﺘ
لها �أي ذنب يف كل ما حدث� ،أخذ يتحرك كالآلة ،يذهب ويعود ،يح�ضر
هذه املحا�ضرة وتلك ،ولكن بال روح ،فروحه -يف ر�أيه -قد غادرت مع
ﺐ ﻟﻠﻨ
ذلك الراحل ،ظل هكذا حتى بد�أت فرتة االمتحانات ،والتي فيها كان
ﺸﺮ
يحاول الرتكيز قدر امل�ستطاع ليحقق فقط ما متناه �أحبا�ؤه ،وعندما انتهى
بد�أ يعود من جديد حلالته ال�سابقة ،جتدد اجلرح بقلبه ،لي�س بقوة حدوثه
ﻭ
حينها بالت�أكيد ولكن ندبته الباقية �آملته ،و�شعو ًرا قو ًيا باملرارة ظل يالحقه
ﺍﻟﺘﻮ
ومل ي�ستطع التغلب عليه حتى بعد مرور �أكرث من �شهر ون�صف ال�شهر على
ﺯﻳﻊ
وفاة �صديقه ،ولكن ما ع�ساه �أن يفعل؟ �سيظل يحاول ،فقط يحاول لعله
ينجح يف النهاية.
zzz
وها هي الآن تقف �أمام حا�سوبها ولأول مرة بعد انتهاء االمتحانات،
تقف وقد ملأها احلما�س ملوا�صلة طريقها نحو اجلنة� ،أر�سلت ر�سالة
حلف�صة تخربها فيها ب�أنها على �أمت ا�ستعداد لأخذ اخلطوة القادمة يف
84
التغيري ،و�أنها �ستحاول بكل طاقتها �أن ت�ستغل تلك الإجازة يف كل ما يفيد،
مرت �ساعة تتبعها الأخرى ولكن ال جميب ،تعجبت فقامت ب�إر�سال ر�سالة
أي�ضا مل تر �أي رد ،مر يومان كامالن وهي تنتظر، ثانية وثالثة ولكنها � ً
حتى �أنها �أ�صبحت ال ُتغلق حا�سوبها على �أمل منها يف ا�ستالم �أي �شيء
يطمئنها على �صديقتها ،وبالفعل ،يف �ساعة ما ا�ستلمت ر�سالة من حف�صة
تخربها فيها ب�أنها موجودة الآن ،جل�ست �أمام حا�سوبها وقلبها ينب�ض
ب�شدة ،وكتبت بتوتر ظهر جل ًيا يف حروفها املبعرثة:
ﻋﺼ
عليك �أوي!
كنت فني يا بنتي؟ قلقتيني ِ ِ -
ﲑ ﺍﻟ
-معل�ش يا �سلمتي� ،أ�صل كتب كتابي كان امبارح ،م�ش هتباركيلي
وال �إيه؟
ﻜﺘ
حال �إىل حال ،ما بني الفرح والتعجب
ويف حلظة واحدة تبدل حالها من ٍ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
وب�إذن اهلل ربنا هرييح قلبك وكل قلقك ده هريوح وهيفرح
ﲑ ﺍﻟ
قلبك بحاللك يا عرو�سة.
ﻜﺘ
أنت،
-يا رب يا �أحلى �أخت ،املهم بقى ،عاوزين نتكلم عنك � ِ
قوليلي قررتي تعملي �إيه يف الإجازة؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
-ل�سه م�ش عارفة ،ب�س عادي هبقى �أكلمك بعد الفرح ب�شوية
ب�إذن اهلل ونتفق.
ﺸﺮ
متنت �أال تك�سر فرحتها ،ولكنها �أدركت �أنه ال مفر من �إخبارها ،فكتبت
ﻭ
بحروف بائ�سة:
ﺍﻟﺘﻮ
دلوقتي.
-م�ش هينفع تتوا�صلي معايا؟ طيب ليه؟!
ببالغ اخلوف والتعجب كتبتها ،ف�أجابت حف�صة:
� -إيهاب ظروفه ملخبطة �شوية لأنه ل�سه بيحط رجليه على �أول
الطريق ،فغال ًبا كده هن�شتغل ليل ونهار حلد ما نقف على
رجلينا و�ساعتها م�ش هقدر �أدخل نت زي الأول� ،أنا مكونت�ش
86
علي �أكرث ملا تالقيني اختفيت
ناوية �أقولك ،ب�س خوفت تقلقي َّ
عليك متزعلي�ش.
فج�أة فقررت �أعرفك كل حاجة وباهلل ِ
مل ترد ،اكتفت بنظرة خاوية حتت قدميها� ،أتبعتها بكفيها تعبثان
بعينيها الالمعتني� ،شعرت حف�صة مبا قد ت�شعر به �صديقتها من �آالم،
فكتبت م�شجعة �إياها:
� -سلمى! ممكن ت�سمعيني؟
كنت ال�سبب يف كل
أنت ِ -يا حف�صة �أنا بجد بحبك �أوي ،و� ِ
ﻋﺼ
اخلطوات اللي �أخدتها دي ،حقيقي م�ش هعرف �أعمل �أي
حاجة من غريك!
ﲑ ﺍﻟ
عاوزاك تركزي يف الكلمتني اللي هقولهوملك دول وحتطيهم ِ -
ﻜﺘ
حلقة يف ودنك :اللي معاه القر�آن والدعاء يا �سلمى م�ش هيكون
حمتاج لأي �إن�سان ،هما دول �سالحك اللي هتقوي بيهم نف�سك!
ﺐ ﻟﻠﻨ
مل ترد ،ولكنها هذه املرة كانت حتاول ا�ستيعاب ما قد ُكتب ،فتلك
الكلمات �شعرت �أنها مهمة ،وا�ستثنائية ،ا�ست�أنفت حف�صة كالمها وكتبت:
ﺸﺮ
�إن�سانة -ب�سم اهلل ما �شاء اهلل -قوية وقادرة على نف�سك ،كل
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
زهرة بي�ضاء و�أح�ضرت لها املاء ثم رحلت ،رحلت تارك ًة �إياها لتعتني بهذه
الزهرة وحدها وترويها وحدها حتى تراها تزدهر وتت�سع �أمام عينيها
ﲑ ﺍﻟ
لت�صبح حديقة نقية ذات جمال خالب� ،شعرت �أن اهلل �أر�سل �إليها حف�صة
ﻜﺘ
لتقوم بدو ٍر ما يف حياتها ،و�سرعان ما انتهى هذا الدور بعدما و�ضعت
أح�ست للحظة �أنها قد ا�ستوعبت احلكمة من قدميها على �أول الطريقّ � ،
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
جاعل من �ساعده الأمين و�سادة نومه ،ويغطي على حاله راقدً ا بفرا�شه ً
ﲑ ﺍﻟ
عينيه ب�ساعده الأي�سر ،متر �أمام عينيه بع�ض الذكريات ،تلك الذكريات
التي تتلذذ ب�إيالمه وتتفنن يف كيفية الظهور ب�أ�سو�أ الطرق ،وك�أنها تت�صارع
ﻜﺘ
مع بع�ضها البع�ض يف �أي منها �ستفوز بلقب قاهرة القلوب ،بينما والدته
-تلك امل�سكينة -جتل�س باخلارج وقد بلغ منها الأمل مبلغه ،وذلك لأنها مل
ﺐ ﻟﻠﻨ
تره على هذه احلالة منذ مات والده قبل عدة �سنوات� ،شعرت �أن حزنه
على حممد �أ�شبه بحزنه على والده حني وفاته ،ولكن حينها كان وجود
ﺸﺮ
حممد يف حياته له بالغ الأثر يف تقبله لوفاة والده واجتيازه لتلك املرحلة
ﻭ
�أعز �صديق لقلبه من حياته بهذا ال�شكل؟ من ي�ستطيع �أن يزيل عن قلبه
ﺯﻳﻊ
تلك املرارة وذلك ال�شعور القوي بالذنب جتاه من رحل؟ من قادر على �أن
يوما،
يعود به لإ�سالم ال�سابق؟ ذلك ال�شاب الذي مل تفارق ال�ضحكة وجهه ً
حتى يف �أ�صعب حلظاته كان يجد من ُيخرجها من قلبه عمدً ا ،بعد تفكري
قررت �أن حتاول معه مرة �أخرى ،لعلها ت�ستطيع �أن تفوز ولو بالقليل من
�إ�سالم ال�سابق ،طرقت الباب بخفة وفتحته وهي تلقي التحية على ذلك
امليت احلي� ،أجابها بابت�سامة خفيفة طفت على �سطح �شفتيه يف تكا�سل،
يف حماولة منها جلذب انتباهه �س�ألت:
89
-وحممد عامل �إيه دلوقتي؟
مل ت�شعر بالرع�شة التي �سرت بج�سده بعدما ذكرت تلك احلروف
الأربع ،نظر لها وهو يحاول �أال ي�سمح لدموعه �أن تطفو من مقلتيه �أمامها،
مل ُيجب ،ولكن عينيه نطقت بتلك الده�شة التي ملأته ب�سبب ذلك ال�س�ؤال
ف�سرة:
الغريب� ،شعرت �أنها جنحت فيما خططت له ،فقالت ُم ّ
-تفتكر هو مرتاح دلوقتي يا �إ�سالم؟ م�ش ميكن يكون حمتاج
حد يدعيله يا بني؟ م�ش ميكن يكون حمتاج ثواب يو�صله ب�أي
ﻋﺼ
طريقة؟ حاول تغري من نف�سك يا �إ�سالم لعل تغيريك ده يفيده
ب�أي حاجة ،حاول تنفع نف�سك وتنفع �صاحبك يا بني.
ﲑ ﺍﻟ
-م�ش عارف �أبد�أ منني يا �أمي وم�ش القي حد ي�ساعدين� ،أنا ً
فعل
ﻜﺘ
ندمان �إين م�سمعت�ش كالمه من الأول ،م�ش متخيل �إين كنت
ممكن �أموت و�أنا على احلالة دي ،طيب ولو ُمت ،هقول لربنا
ﺐ ﻟﻠﻨ
وك�أنه قد �أراد فقط البوح مبا ُي�ض ّيق براح �صدره �إىل تلك ال�سيدة ذات
احل�ضن الدافئ ،ع ّلها ت�ساعده على التخل�ص من تلك امل�شاعر اخلانقة
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
التي ي�شعر بها� ،ألقى كلماته و�سكت مرة �أخرى ،فهم�ست والدته وهي
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
-طيب �أالقي فني ال�صحبة ال�صاحلة دي؟ جايز ملا �أبد�أ �أحقق
و�صية حممد و�أغري من نف�سي �أح�س �إين ارحتت �شوية.
ﲑ ﺍﻟ
-تقري ًبا كنت قولت قبل كده �إن حممد عنده واحد �صاحبه
ﻜﺘ
متدين كده ،ما ت�شوفه ميكن ياخد ب�إيدك ويكون هو ال�صاحب
ال�صالح اللي بتدور عليه.
ﺐ ﻟﻠﻨ
تذكر كلماته وقتما و�صف له ليلة وفاة حممد وبعدها �ألقى على عاتقه
ﻭ
وعدم االهتمام من ِقبل فاروق ،الأمر الذي جعله ي�شعر �أن كرامته قد
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
�صباح اجلمعة الأوىل من �إجازة ن�صف العام جل�ست �سلمى �أمام
ﻜﺘ
�شرفتها امل�شم�سة وظلت تنظر �إىل ال�سماء وهي ُت َّذ ّكر نف�سها ب�أنه تبقى
يوم واحد فقط على حفل زفاف حف�صة ،متنت لو �أنها ت�ستطيع الذهاب،
ﺐ ﻟﻠﻨ
متنت �أن تراها وج ًها لوجه وتقا�سمها فرحة ذلك اليوم ولكن ُبعد امل�سافة
حال بينها وبني �أمنيتها� ،أخذت تتذكر كلمات حف�صة الأخرية والتي ال
ﺸﺮ
«اللي معاه القر�آن والدعاء يا �سلمى م�ش هيكون حمتاج لأي �إن�سان،
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
يف البيت وبرا البيت ،بطلت �أن�شر �صور بنات على النت ،و�أخ ًريا
بطلت البنطلونات واللب�س ال�ضيق.
ﲑ ﺍﻟ
يف تلك اللحظة نادت عليها والدتها لتطلب منها م�ساعدتها يف حت�ضري
ﻜﺘ
ما �سيقدمونه لل�ضيوف القادمني بعد �صالة اجلمعة مبا�شرة ،حيث كان
من املعتاد �أن ي�أتي جميع �أفراد عائلة والدها عندهم كل جمعة باعتبار
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أنه �أكرب �أخوته ،وجدتها �سلمى فر�صة ذهبية لتنفيذ اخلطوة التي لطاملا
�أجلتها قبل ذلك عدة مرات ،وبالفعل ذهبت �إىل املطبخ لت�ساعد والدتها،
ﺸﺮ
وما �أن �سمعت �أول طرقة على باب منزلها حتى هرعت �إىل غرفتها و�أغلقت
الباب خلفها ،بد�أت يف ارتداء مالب�سها ومن ثم حجابها ،انتهت و�ألقت
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
نظرة �أخرية على هندامها قبل الرحيل ف�شعرت �أن حجابها يبدو ق�ص ًريا
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
تيقنت �أن ذلك ال يجوز للفتاة امل�سلمة حتى قررت منع ذلك املرح املُفرط
مع �أقاربها ال�شباب باعتبارهم �أجانب عنها ،حاولت اخلروج من ذلك
ﲑ ﺍﻟ
املوقف املحرج وبابت�سامتها املرحة قالت:
ﻜﺘ
-يعني �أ�سلم دلوقتي وال �أروح �أجيب الع�صري؟ الع�صري �أهم
ﺐ ﻟﻠﻨ
طب ًعا.
ثم قفزت من مكانها وهرعت �إىل املطبخ ،تنف�ست ال�صعداء بعدما
ﺸﺮ
�أح�ست بالراحة ال�شديدة نتيجة لنجاح خطتها تلك املرة وعدم م�صافحتها
لأي من �أقاربها ال�شباب ،قررت �أن تفعل ذلك يف كل مرة ي�أتي �إليهم
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�أحدهم حتى يعتاد اجلميع على عدم م�صافحتها لهم ،حملت �أكواب
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
قليل وهي تنظر � ً
أر�ضا ،ر�أته وهو يرتكها ويعرب قالتها وعادت للخلف ً
ﲑ ﺍﻟ
املمر ُمتج ًها �إىل والدها و�أخوته و�سمعت �ضحكاته املتتالية وهو يحدثهم،
�سمعته وهو يخربهم مبا حدث� ،سمعت �ضحكات اجلميع على فعلتها
ﻜﺘ
وكلماتها تلك ف�أ�سرعت بالدخول �إىل غرفتها بعدما قررت االكتفاء مبا
ف�ضلت �أن ُت�ضي ما تبقى من حدث ،وبرغم ا�شتياقها لأقاربها �إال �أنها ّ
ﺐ ﻟﻠﻨ
كو ًبا من الع�صري لذلك ال�شاب الثالثيني ،زفرت بقوة وقامت بالتعديل
ﻭ
من هيئة حجابها وخرجت وقد ا�ستحال وجهها �إىل اللون الأحمر ،ق ّدمت
ﺍﻟﺘﻮ
كوب الع�صري البن عمها يف �صمت ،و�سارت بخطوات حاولت �أن جتعلها
ﺯﻳﻊ
متزنة لكي ال تنف�ضح حقيقة م�شاعرها �أمام اجلميع ،وقبل �أن ت�صل �إىل
كر�سيها املجاور للباب جاءها �صوته القائل:
أنت جدعة على فكرة.
-ب�س � ِ
ت�س ّمرت مكانها و�س�ألت نف�سها� :أح ًقا ما �سمعته للتو؟ حانت منها
التفاتة �سريعة �إىل احلا�ضرين الناظرين جميعهم باجتاهها ومل ُتدرك
ماذا يجب �أن تفعل ،ا�ستطرد ذلك املنقذ الثالثيني كالمه ً
قائل:
95
أنت مقتنعة بيه ،واوعي يهمك كالم �أي حد.
-اعملي اللي � ِ
مازحا:
ثم نظر للجميع وقال ً
-لو حد فكر ي�سلم عليها تاين هقطعله �إيده.
وها هو يا�سر ذلك ال�شاب الذي يكربها مبا يزيد عن ع�شرة �سنوات،
ال�شاب الذي لطاملا �شعرت ب�صعوبة مواجهته هو بالتحديد نتيج ًة لكونه
ُيعترب مبثابة �أخ لها ،ال�شاب الذي لطاملا داعبها و�أح�ضر لها احللوى منذ
قدمة
�أن كانت طفلة ،ها هو الآن يتفهم موقفها بل وي�شجعها على ما هي ُم ِ
ﻋﺼ
عليه� ،أرادت �أن ت�شكره ب�شدة� ،أرادت �أن ُتخربه �أنه �أنقذها من �أكرث
املواقف املحرجة التي مرت بها يف حياتها� ،أرادت �أن تخربه بالكثري مما
ﲑ ﺍﻟ
ت�شعر به ،ولكنها اكتفت بقولها:
ﻜﺘ
-حا�ضر ب�إذن اهلل.
ثم ذهبت �إىل عمها وعماتها وجل�ست معهم وقالت مازحة:
ﺐ ﻟﻠﻨ
منكم كده ،يا تيجوا تقعدوا معانا يا �إما احنا هنقعد معاكم.
ارت�سمت ابت�سامة حنونة على ثغر عمها وقال:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
وبالفعل ح�ضر اجلميع وجل�سوا �سو ًيا ،وها هي تلك العنيدة ت�سببت يف
اجتماع العائلة كلها يف مكان واحد ولأول مرة منذ مدة طويلة.
zzz
و�صل �إىل منزله بعدما �أدى �صالة الع�صر ،دخل غرفته و�ألقى بج�سده
على فرا�شه وظل يفكر يف كل ما حدث طوال الأ�سبوعني املا�ضيني ،تذكر
ذهابه اليومي للم�سجد كما وعد والدته ،تذكر �صالة الفجر التي حر�ص
96
على �أدائها على عك�س ما كان يفعل �ساب ًقا ،تذكر الراحة التي كان يعتقد
�أنه �سي�شعر بها ،تذكر ال�صحبة ال�صاحلة التي توقع �أن يجدها من �أول
وهلة ،ولكن يبدو � ّأل فائدة من كل املحاوالت ،نه�ض من فرا�شة مرة �أخرى
و�أم�سك بهاتفه وقام بالدخول �إىل موقع الفي�س بوك ع ّله يجد ما ي�شغل
بدل من ال�سماح لتلك الأفكار اخلانقة �أن ت�سيطر على ر�أ�سه، قليل ً
باله ً
نظرة �سريعة على قائمة الأ�صدقاء املت�صلني حال ًيا �ألقاها قبل �أن ُيغلق
هاتفه على وجه ال�سرعة ويلقيه على فرا�شه ،تعجب من فعلته تلك ،ف�ساب ًقا
ﻋﺼ
كانت من �أ�سعد حلظاته تلك اللحظة التي يدخل فيها على املوقع فيجدها
مت�صلة الآن� ،سارة حبه الأول ،تلك الفتاة التي �أح�س معها مب�شاعر مل
ﲑ ﺍﻟ
ي�شعر بها من قبل مع �أي �شخ�صُ ،ترى ماذا حدث له الآن؟ ملاذا ت�أثرت
ﻜﺘ
عالقتهما �إىل هذا احلد بعد وفاة حممد؟ ملاذا �أ�صبح ال ُيطيق احلديث
معها �أكرث من خم�س دقائق على �أق�صى تقدير؟ �أ�أ�صبح ال ُيحبها؟ �أم مل
ﺐ ﻟﻠﻨ
قليل ،عله يجد الدواء يف احلديث معها� ،سار بخطوات بطيئة كي يحدثها ً
ﻭ
مفتوحا بع�ض ال�شيء� ،أطل بر�أ�سه منه وقال ً نحو غرفتها فوجد الباب
ﺍﻟﺘﻮ
مبت�س ًما:
ﺯﻳﻊ
-ممكن �أدخل؟
َ�ش َعرت باحلنني �إىل ذلك ال�صوت وتلك االبت�سامة� ،ألقت ما كانت
حتمله يف يدها وقفزت من فرا�شها وهرولت باجتاهه ،قامت بفتح الباب
على م�صرعيه و�أ�شارت �إليه ليدخل وهي تقول مبنتهى ال�سعادة:
-ممكن طب ًعا ،ده �أنا م�ستنية اللحظة دي من زمان �أوي يا
�إ�سالم.
97
جل�سا م ًعا على فرا�شها ،ابت�سمت له وهي تنظر �إليه بعينني تفي�ضان
حن ًوا ،وقالت متمنية:
-م�ش هرتجع لطبيعتك بقى يا �إ�سالم؟ نف�سي �أوي �أ�شوف �إ�سالم
بتاع زمان.
-بحاول واهلل يا هند ب�س م�ش قادر ،حا�س�س �إن حياتي ملها�ش
�أي معنى ،حتى التجربة اللي بد�أت فيها وقولت ممكن تريحني
�شوية تقري ًبا ف�شلت ،حقيقي مبقيت�ش عارف �أعمل �إيه!
ﻋﺼ
-ممكن �أعرف �إيه هي التجربة دي؟ وليه حا�س�س �أنها ف�شلت؟
�أغم�ض عينيه وتنهد بقوة ،وك�أنه ي�سرتجع بتلك التنهيدة �أحداث �شهر
ﲑ ﺍﻟ
كامل م�ضى ،نظر يف عينيها ،ابت�سم لها تلك االبت�سامة املت�أملة التي اعتاد
ﻜﺘ
عليها وقال:
-كنت بحاول �أبطل اال�ستهتار اللي �أنا فيه ده ،و�أعي�ش حياتي �صح
ﺐ ﻟﻠﻨ
-لأن تقري ًبا كل اللي �شوفتهم هناك �شيوخ كبار ،وب�صراحة كنت
بتحرج �أروح �أتكلم معاهم ،ميكن كنت متوقع �إين �أالقي �شباب
كتري يف �سني هناك ،وا�ستغربت جدً ا ملا اكت�شفت �إن ال�شارع كله
مفيهو�ش �شاب واحد مواظب على �صالته!
-طيب ما �أنت كنت زي كل ال�شباب دول يا �إ�سالم ،م�ستغرب ليه
بقى؟!
98
كرد على كلماته ،ولكنها تركت يف نف�سه بالغ احلرج،
قالتها بتلقائية ٍ
�أجابها ب�صوت م�ضطرب:
-عندك حق يا هند ،ب�س �أنا خال�ص احلمد هلل واظبت على
�صالتي ،امل�شكلة �إين م�ش حا�س�س بطعم ال�صالة ،وال حا�س�س
�إين بد�أت �أقرب من ربنا ،وال �أي حاجة ،حا�س�س �إين جمرد �آلة
بروح وباجي وخال�ص ،م�ش عارف ليه!
تقم�صت دور الأخت الكربى و�أجابت بعقالنية:
ﻋﺼ
-ب�س �أنا عارفة ،م�شكلتك يا �إ�سالم �إن الدافع ورا تغيريك ده
غلط ،يعني �أنت بتفكر تتغري ب�س لأنك مت�أثر مبوت حممد
ﲑ ﺍﻟ
وحزين عليه ،ومع الوقت طبيعي حزنك على حممد هيقل
ﻜﺘ
و�إح�سا�سك بت�أنيب ال�ضمري هيقل وبالتايل م�ش هتكمل الطريق
اللي بد�أت فيه ،بالإ�ضافة �إىل �إنك برتوح امل�سجد عل�شان ب�س
ﺐ ﻟﻠﻨ
طريقك لربنا.
ﻭ
-كالمك باين عليه حلو ،ب�س بردو م�ش فاهم ق�صدك �إيه.
ﺍﻟﺘﻮ
ُ -ب�ص يا �إ�سالم ،الطبيعي �إنك لو عاوز تتغري بجد يبقى هتتغري
ﺯﻳﻊ
عل�شان تر�ضي ربنا ،هتتغري عل�شان �أنت مقتنع �إن حياتك غلط
وحمتاج تظبطها ،هتتغري عل�شان نف�سك ،م�ش عل�شان حممد
قالك ،من الآخر يا �إ�سالم� ،شوف قلبك حمتاج �إيه عل�شان
يرتاح واعمله.
وك�أنه وجد ما كان يبحث عنه منذ مدة ف�صاح بها ويف �صوته راحة
كبرية:
99
-ياااه يا هند� ،أنا ازاي مفكرت�ش بالطريقة دي قبل كده! �أنا
فعل كان كل همي �إين �أح�س �إين بعمل �أي حاجة من اللي ً
حممد قالهايل وب�س ،لكن عمري ما فكرت �أ�صلي بقلبي �أو
�أقر أ� قر�آن بقلبي ،عمري ما فكرت �أنا حياتي فيها �أخطاء �إيه
وقررت �أعدلها ،عمري ما كنت جاد يف كوين ً
فعل عاوز �أتغري
من جوايا.
نه�ض من مكانه ونظر لها بامتنان �شديد وهم�س:
ﻋﺼ
-بجد �شك ًرا يا هند� ،أنا حمتاج دلوقتي �أقعد مع نف�سي �شوية
و�أفكر بطريقة خمتلفة� ،أنا هتغري ب�إذن اهلل عل�شان ربنا ،هدور على
ﲑ ﺍﻟ
طريق ربنا عل�شان �أم�شي فيه ،وب�إذن اهلل هالقيه حتى لو كنت لوحدي.
ﻜﺘ
�سار باجتاه باب الغرفة ،وقبل �أن يخرج منها نظر لها و�س�ألها بف�ضول
بالغ:
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
ً
حماول �أن ينال ثواب كل الفور وهبط من منزله و�سار بخطوات هادئة
ﲑ ﺍﻟ
خطوة يخطوها باجتاه بيت اهلل ،و�صل �إىل امل�سجد وانتظر �إقامة ال�صالة،
�أدى �صالته وجل�س بانتظار در�س املغرب ،كان الدر�س عن ف�ضل القر�آن
ﻜﺘ
و�سط ما قال الإمام �سمع �إ�سالم تلك الآية التي ف�سرت له الكرمي ،ويف
َ َّ َ ُ َ َ ً َ ً ْ َ َ ْ َ ْ َ َ َ
كل �شيء} ،ومن أعرض عن ذِك ِري فإِن ل م ِعيشة ضنك{� ،شعر �أن هناك
ﺐ ﻟﻠﻨ
� -آه عل�شان كده بقى ،م�ش القي حياتي وال القي نف�سي لأين بعيد
عن ذكر ربنا ،فني القر�آن اللي املفرو�ض �أكون حافظه �أو على
ﻭ
الأقل فاهمه وبعمل بيه ،فني ل�ساين اللي دائ ًما بريدد الأذكار
ﺍﻟﺘﻮ
قلبي اللي عاي�ش حياته كلها يف طاعة اهلل ،طبيعي جدً ا حياتي
كلها تبقى كئيبة ومليانة هموم طول ما �أنا بعيد عن ربنا.
عاد من ِخ�ضم �أفكاره �إىل الواقع فوجد �أن الإمام ُيلقي بكلماته
الأخرية وينهي در�سه ،نه�ض من مكانه و�سارع باخلروج عائدً ا �إىل منزله،
مهرول باح ًثا عن م�صحفه الذي وجده يف ذلك الرف النائيً دخل غرفته
وتتناثر عليه ذرات الرتاب ،احت�ضنه بني كفيه وظل ير�سل �إليه نظرات
101
االعتذار من هاتني العينني الالمعتني بالعربات� ،أح�ضر ً
منديل ورق ًيا من
جيبه وقام ب�إبعاد تلك الذرات الرتابية البائ�سة التي جتر�أت على امل�سا�س
مب�صحفه الغايل ،ثم ذهب به �إىل مكتبه وجل�س يقر�أ يف �أول �صفحة ُف ِتحت
ً
حماول ا�ستيعاب �أمامه ،قر أ� هذه املرة بقلبه مع ل�سانه ،قر�أ ببطء �شديد
ً
حماول فهم كل معنى تريد الآية �أن تخربه به، كل حرف ينطقه ل�سانه،
وبعدما انتهى وجد �أنه قد قر أ� ثالث �صفحات فقط ،ولكنه �شعر بال�سعادة
تغمر قلبه وك�أن كلمات القر�آن قد م�ست روحه ون ّب�أته ب�أنه الآن فقط قد
وجد طريق اهلل.
ﻋﺼ
z ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
102
-4-
انتهت �إجازة ن�صف العام وعاد كل طالب �إىل حياته الطبيعية� ،أخذت
�سلمى ُترتّب خزانتها وجتهز املالب�س التي �سوف ترتديها يف �أول �أ�سبوع
ﻋﺼ
متاما
لها يف الف�صل الدرا�سي الثاين ،بعدما انتهت من تفريغ مكتبها ً
ﲑ ﺍﻟ
ا�ستعدادًا ال�ستقبال �أكوام الكتب واملذكرات القادمة بعد عدة �أيام ،وعلى
ب ُعد �أمتار وقف �إ�سالم يفعل نف�س ال�شيء بطاولته ال�صغرية قبل �أن ي�سمع
ﻜﺘ
تلك الطرقات اخلفيفة على باب منزله ،يف بداية الأمر �شعر �أنه ُخ ّيل له،
ﺐ ﻟﻠﻨ
ولكن مع ا�ستمرار تلك الطرقات وارتفاع �صوتها تيقن �أن �أحدهم يقف
بالفعل خلف الباب ،عدة خطوات خطاها قبل �أن يفتح الباب وتنكم�ش
ﺸﺮ
مالمح وجهه ا�ستغرا ًبا نتيجة لر�ؤية �آخر �شخ�ص توقع �أن يراه �أمام الباب،
تبادال م ًعا النظرات ال�صامتة ،حتدثت �أعينهما قبل �أن يتحدث ثغرهما،
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�أحدهما نطقت عيناه ببالغ الده�شة من ر�ؤية الآخر ،بينما الآخر ابتلع
ﺯﻳﻊ
ل�سانه حيا ًء ومل يقدر على التفوه ب�أي كلمة ،طال ال�صمت الذي قطعه
�إ�سالم بت�أدية واجبه ك�صاحب املنزل وهم�س:
ً �-
أهل يا فاروق.
-يا ترى هتعمل معايا زي ما عملت معاك؟
قالها متوق ًعا رد الفعل ،ولكن ما حدث كان عك�س توقعه ،وجد �إ�سالم
يبت�سم له ويف�سح له الطريق وهو ي�شري �إىل الداخل ً
قائل بابت�سامة خفيفة:
103
-أل طب ًعا ،احنا ما اتربينا�ش �إننا نحرج حد جه حلد عندنا،
اتف�ضل.
�شعر باخلجل من نف�سه ومن فعلته ال�سابقة ،ومن تلك الإ�ساءة التي
قابلها �إ�سالم بالإح�سان ،ثمة �شعور بالذنب يحاوطه ،ولكن ابت�سامة
�إ�سالم الهادئة انعك�ست على وجهه وخففت من ذلك ال�شعور ،وجد نف�سه
يخرج تلك الكلمات من �أعماق قلبه:
عموما �أنا م�ش جاي �أت�ضايف ،كل
-ربنا يريح قلبك يا �إ�سالمً ،
ﻋﺼ
اللي جاي �أطلبه منك حاجة واحدة ب�س.
-اتف�ضل!
ﲑ ﺍﻟ
-يا ريت ت�ساحمني على كل اللي عملته معاك� ،أنا عارف �إنك
ﻜﺘ
جيتلي يف �أكرث وقت كنت حمتاجني فيه ،وعارف �إين غلطت
جامد ملا ات�صرفت بالطريقة دي ،و�صدقني من �ساعتها و�أنا
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
-ربنا ير�ضى عنك يا رفيق� ،أ�سيبك دلوقتي بقى لأن مهمتي
ﲑ ﺍﻟ
انتهت ،وهنتقابل تاين كتري ب�إذن اهلل.
ﻜﺘ
�صافحه وغادر على الفور ،ظل �إ�سالم يتتبع �أثره بعينيه حتى اختفى
عن ناظريه ،وعلى وجهه تلك االبت�سامة الهادئة ال�ساكنة الودودة ،نعم
ﺐ ﻟﻠﻨ
ها هو فاروق ي�أتي �إليه بكامل �إرادته ليعتذر له عن كل ما بدر منه ،وها
هو �إ�سالم يقبل ذلك االعتذار بكل ب�ساطة وبدون �أن ي�شعر ب�أي جرح يف
ﺸﺮ
كرامته �أو رغبة ملحة يف االنتقام ،يبدو �أن ذلك الفتى ُو ّفق يف اتخاذ
امل�سار ال�صحيح لبناء �شخ�صيته اجلديدة ،غفر اهلل لك يا �إ�سالم وهداك
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
zzz
�صبيحة اليوم التايل ذهب �إ�سالم �إىل اجلامعة وعلى وجهه ابت�سامة
م�شرقة ،وكحركة فطرية منه �أخذ يتفر�س يف الوجوه باح ًثا عن تو�أمه،
بحث عنه يف مكانهما املف�ضل داخل الكافيرتيا ،وملّا مل يجده بد�أت
ابت�سامته تبهت �شي ًئا ف�شي ًئا ،ود لو �أنه يراه� ،أو يرى خياله فح�سب ،رمبا
ذلك ُيخفف من حدة ال�شوق الذي ي�شعر به ،ولكن ذلك لن يحدث ،هو
105
على يقني من ذلك ،فعهد اخليال قد انتهى ،ومع بداية دخوله يف دوامة
احلزن التي جتتاح قلبه من �آن لآخر وجد ذلك الكف احلاين مي�سك
بذراعه ،وجد �أحدهم يهم�س بهدوء:
-كنت حا�س�س �إين هالقيك هنا.
التفت ف�إذا به ي�صطدم بتلك االبت�سامة املنقو�شة على ثغر فاروق ،تلك
االبت�سامة التي ُته ّيئه لإخراج كل ما جتي�ش به نف�سه ،وعلى الرغم من ذلك
مل ُي ِرد �أن يتحدث يف الأمر ،فعالقته بفاروق مل تتوطد �إىل هذا احلد،
ﻋﺼ
حاول تغيري املو�ضوع فقال م�ستف�س ًرا:
-متعرف�ش �أول حما�ضرة لينا هتكون امتى؟
ﲑ ﺍﻟ
-كل حما�ضرات كهرباء ومدين هتبد�أ من الأ�سبوع اجلاي ب�إذن
ﻜﺘ
اهلل.
-يعني �أم�شي خال�ص؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
-طيب كنت عايز �آخد ر�أيك يف مو�ضوع مبا �إنك عارف يف الدين
يعني.
ابت�سم فاروق ُم َر ِّح ًبا و�أوم أ� بر�أ�سه للداللة على موافقته ،جل�س �إ�سالم
على �أحد املقاعد ،فرتك فاروق الكر�سي املجاور له �شاغ ًرا وجل�س ً
مقابل
له ،يف تلك اللحظة حاول �إ�سالم التحكم يف تعبريات وجهه كي ال ينف�ضح
�أمره ،ثم بد أ� ب�سرد ق�صته على م�سامع رفيقه لعله يجد عنده الرد الذي
ي�صيب ت�أنيب �ضمريه ذاك يف مقتل:
106
-فيه واحد �أعرفه اتعرف على بنت من على النت ،كان الأول
بيتكلم معاها عادي وواحدة واحدة بد�أ يتعلق بيها ويحبها،
بعدها ب�شوية بد أ� يكون فيه �شوية جتاوزات بينهم يف الكالم،
هو وعدها باجلواز بعد ما يخل�ص درا�سة ،وهو عند وعده لأنه
ً
فعل بيحبها ،ب�س هل اللي بيح�صل دلوقتي ده فيه م�شكلة؟
ث ّبت نظراته داخل عينيه ،ثم انفرج ثغره عن ابت�سامة خفيفة وقال:
-لو مكن�ش حا�س�س �إن فيه م�شكلة مكن�ش �س�أل.
ﻋﺼ
يبدو �أنه حمق ،فاملرء م ّنا ال يبد�أ يف �إلقاء الأ�سئلة �إال عندما يرتفع
ﲑ ﺍﻟ
�ضجيج ذاك الذي ُيدعى �ضم ًريا داخل قلبه ،وكلما زادت قوة ال�صوت
وحدته كان الدافع وراء البحث عن الإجابة �أكرب ،مل يتحدث الفتى ،ولكن
ﻜﺘ
�صديقه ا�ستطاع بب�ساطة فك �شفرات عينيه ثم هم بالرد على ال�س�ؤال ،يف
حني قاطعه �إ�سالم وقال باح ًثا عن جواب:
ﺐ ﻟﻠﻨ
معينة!
ً
حمتفظا بتلك االبت�سامة الهادئة: �أجاب وهو ما زال
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
� -أقولك ليه ،لأن بب�ساطة هي دلوقتي م�ش مراته ،هي واحدة
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
م�شاعرها قبل ما يتقدم لها� ،صح؟
ﲑ ﺍﻟ
-بد�أت تفهمني!
ﻜﺘ
قالها �ضاح ًكا وك�أنه �شعر �أخ ًريا بربيق �أمل ي�شع �أمام عينيه ،وب�صوت
مليء بالود �أكمل الآخر حديثه:
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
اللي �أنت بتقول عليه ده م�ستحيل يح�صل!
-ومني قالك �إين جمربت�ش؟
ﲑ ﺍﻟ
قالها م�صحوبة بابت�سامة مت�أملة ،ابت�سامة ُتذ ّكره ٍ
مبا�ض طويل من
ﻜﺘ
االنتظار ،ونب�ضات كادت تزلزل املكان من حوله من �سرعة دقاتها ،فغر
الآخر فاه ده�شة ،مل ي�صدقه ،فاحلب ال يليق بفاروق و�أمثاله يف اعتقاده،
ﺐ ﻟﻠﻨ
-وما زلت!
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
...-؟!
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
تبقى فاهم هي بتبادلك نف�س ال�شعور وال لأ بدل ما بعد ال�سنني
ﲑ ﺍﻟ
دي كلها ترف�ضك وتت�صدم!
ﻜﺘ
-قلوبنا بني �إيدين ربنا يقلبها كيف ي�شاء يا �إ�سالم ،يعني �أنا
بحاول �أتقي ربنا فيها ومت�أكد �إن ربنا م�ش هيخذلني �أبدً ا ،لأنه
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
-طيب بالن�سبة للم�شكلة اللي قولتلك عليها� ،إيه احلل؟
ﲑ ﺍﻟ
�أجابه ذاك الذي تركه عدة دقائق ليجمع �شتات �أفكاره ويحلل كل ما
ﻜﺘ
�سمعه وقال:
-ال�صح �إنه هياخد قرار �إنه م�ش هيكلمها تاين �أبدً ا ،ويحط يف
ﺐ ﻟﻠﻨ
دماغه �إن من ترك �شي ًئا هلل عو�ضه اهلل خ ًريا منه ،يعني هو
هيرتكها عل�شان ر�ضا ربنا ،ولو فيها اخلري له ت�أكد �إنها هتكون
ﺸﺮ
من ن�صيبه ،ولو فيها ال�شر له يبقى هو عمل ال�صح ملا مكمل�ش
معاها ومنع ذنوب كتري كانت ممكن حت�صل.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
�أن �صالة الفجر مل يبقَ عليها �إال القليل ا�ستعاذ باهلل من ذلك الرجيم
ﲑ ﺍﻟ
و�أح�سن و�ضوءه وجل�س يف انتظار نداء املنادي لل�صالة� ،شعر �أن النوم
ﻜﺘ
ُيثقل جفنيه في�سدلهما على عينيه ،مل ي�ست�سلم ،قام بتحريك ر�أ�سه ميي ًنا
وي�سا ًرا عدة مرات يف حماولة منه لالنت�صار على ذاك الذي يحاول
ﺐ ﻟﻠﻨ
ال�سيطرة عليه ،يبدو �أن الوقت ال مير ،بالفعل ال مير ،نه�ض من مكانه
وقد جتلى التعب ظاه ًرا على وجهه ،و�أم�سك بهاتفه املحمول فوجد �أن
ﺸﺮ
الفجر ما زال �أمامه �إحدى ع�شرة دقيقة ،ال يعلم ملاذا طاف بعقله يف
تلك اللحظة قائمي الليل ،ملاذا ال يكون منهم؟ ملاذا ال ُي َجرب �أن يتعبد
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�إىل اهلل والنا�س نيام؟ ملاذا ال يبد أ� بركعتني خفيفتني وركعة وتر ويكتب يف
تلك الليلة -ب�إذن اهلل -من القائمني؟ بعد دقيقتني كان قد اتخذ قراره،
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
كانت تفعل �ساب ًقا ،فلتذهب لغريه �إن �شاءت ،ولت�ضع كل حيلها ومكائدها،
ﲑ ﺍﻟ
فامل�ؤمن القوي لن يقع فري�سة لها مهما خططت ودبرت.
ﻜﺘ
ظل يتململ يف فرا�شه ميي ًنا وي�سا ًرا بال جدوى ،انقلب على ظهره
وبد أ� ُيبحر يف خياالته ناظ ًرا ل�سقف غرفته املُ�ضاء ب�شعاع �ضوء خافت
ﺐ ﻟﻠﻨ
�آت ًيا من بني دفتي النافذة ،طاف بذهنه حواره ال�سابق مع فاروق عندما
�أخربه بحبه لتلك املجهولة ،ومبحاولته املحافظة عليها من كل �شيء ،حتى
ﺸﺮ
نف�سه! تعجب ب�شدة من تلك العفة التي ما عاد يراها يف ت�صرفات �شبابنا
اليوم� ،أعجبه يقينه بربه وثقته ب�أنه طاملا �سار يف امل�سار ال�صحيح فحت ًما
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
لن يخذله اهلل �أبدً ا ،ومرة �أخرى بد أ� يقارن حاله بحال �صديقه ،ف�شعر
ﺯﻳﻊ
باخلزي! فكيف له �أن يحاول احل�صول على قلب �سارة وقلبها يف الأ�سا�س
بيد اهلل! وحمال �أن يح�صل عليه بعدما �أغ�ضب اهلل� .شيء ما بداخله
�أخربه ب�أال يقلق ،فهو بالفعل قد ح�صل على قلبها ،ليجيبه �شي ًئا �آخر
هام�سا بكل ثقة� :أتعتقدين �أيتها الأمارة بال�سوء �أن هذا احلب �سي�ستمر؟ً
لك من حمقاء! �أتعتقدين �أنهما �سيحيان احلياة التي يحلمان بها �سو ًيا؟ يا ِ
فما ُب ِني على باطل فهو باطل ،وبالت�أكيد لن يبارك اهلل يف باطل� .شعر �أن
هناك حر ًبا ما دائرة بداخل ر�أ�سه فنه�ض من مكانه ُمقر ًرا �إنهاء تلك
113
املعركة بطريقته ،جذب حا�سبه ال�شخ�صي وفتح املوقع الذي اعتاد �أن
يحدثها عليه ،وجدها مت�صلة الآن كما توقع ،ت�سارعت نب�ضات قلبه وبد�أت
الو�ساو�س تغزو عقله ،ماذا لو ك ّذبته؟ ماذا لو ظنت ب�أنه كان يخدعها
طوال ال�شهور املا�ضية؟ ماذا لو تخلت عن حبه؟ هل يرتاجع؟ �أم يخو�ض
املعركة ويرفع راية احلق مهما كانت اخل�سائر؟ راحت الأفكار تتالطم
داخل ر�أ�سه بني مد وجذر لعدة دقائق ،حتى ح�سم �أمره مقر ًرا جعل ر�ضا
اهلل فوق �أي �شيء ،وليحدث ما يحدث ،فكفى ما �ضاع من وقت!
وبالفعل بد أ� حديثه معها ،حياها و�س�ألها عن حالها ،ثم �أخربها ب�أنه
ﻋﺼ
يريد �أن يحدثها يف �أمر هام ،وطلب منها �أن حتاول ا�ستيعاب كل ما
ﲑ ﺍﻟ
�سيقوله وال ت�صدر �أي حكم قبل معرفة احلقيقة كاملة ،وعدته بذلك،
ﻜﺘ
حاول انتقاء كلماته حتى ي�ستطيع تو�صيل ما يدور بخلده بدقة فكتب:
� -أنا عرفت �إن كالمنا مع بع�ض ال يجوز ،و�إننا الزم نبطل كالم
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
توقف ،مل حتاول �أن تكفكفها ،بل �أنها حاولت �أن ت�ستجمع ما تبقى من
�شجاعتها و ُت َه ِدئ �أنني روحها الذي مزق طيات قلبها وا�ستطردت:
ﲑ ﺍﻟ
-روح يا �إ�سالم ،روح �شوف البنت التانية اللي عينك زاغت
ﻜﺘ
عليها بعد ما كنت بتقويل �إنك عمرك ما حبيت غريي ،و�أنا
للأ�سف �صدقتك! ومتخاف�ش� ،أنا م�ش هحاول �أظهر يف حياتك
ﺐ ﻟﻠﻨ
ب�شدة وكادت تدمر مقلتيها من فرط البكاء ،بد�أت تهاجم ر�أ�سها وم�ضات
�سريعة من م�شاهد �سابقة� ،أولها م�شهد ترك حبيبها الأول لها ،ذلك
ال�شاب الذي اقتحم قلبها الربيء ووهمها ب�أنها يع�شقها ،وب�أنها �أ�صبحت
كل حياته ،وبعدما تعلقت به زهد هو فيها وانتقل �إىل غريها رغبة يف
التغيري ،بعدما ك�سر قلب تلك امل�سكينة التي مل تكن �أمتت ال�ساد�سة ع�شر
من عمرها حينها ،مل يتوقف الأمر عند هذا احلد ،بل حاولت �سارة �أن
حب �آخر تداوي به نزف قلبها ،و�أحبت الثاين والثالث ،وتركاها
تبحث عن ٍ
115
ك ٌل ل�سبب يراه منطق ًيا من وجهة نظره ،و�أخ ًريا جاء �إ�سالم و�ضرب قلبها
يف مقتل ،حتى فا�ض نزفه و�أ�صبح غري قادر على املقاومة ،ظلت تتذكر كل
تلك الذكريات وهي مت�سك بر�أ�سها حمركة �إياها بقوة وت�سد �أذنيها لكي
ال ت�ستمع �إىل ذاك ال�ضجيج القوي الدائر بر�أ�سها ،بينما تعجب �إ�سالم من
كلماتها تلك وبد�أت ترتفع �أ�صوات نب�ضاته ،و�أر�سل م�ستفه ًما:
أنت بتقويل �إيه يا �سارة؟ مني اللي خاينني؟ وبنت �إيه اللي عيني
ِ �-
زاغت عليها؟ �أنا م�ش فاهم حاجة ،وم�ش م�صدق �إنك ممكن
عليك الفرتة اللي فاتت دي
تكوين افتكرتي �إين كنت ب�ضحك ِ
ﻋﺼ
كلها!
ﲑ ﺍﻟ
�سمعت رنني هاتفها يخربها بو�صول ر�سالة جديدة ،ف�أ�سرعت �إليه
ﻜﺘ
وظلت تدع�سه بقدميها مرة تلو الأخرى وتقفز فوقه وهي ت�صرخ بجنون،
متاما ومل يتبق منه �إال بع�ض القطع املعدنية والزجاجية حتى حتطم ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
وازداد �شعورها ب�أن الغرفة كلها تدور من حولها ،وقبل �أن ت�صل خ ّيم على
الغرفة �صمت َمهيب �إال من �صوت ارتطامها بالأر�ض.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
انتظر �إ�سالم عدة دقائق ،وملا مل يجد �إجابة لأ�سئلته �أر�سل لها عدة
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
zzz
ﲑ ﺍﻟ
مرت الليايل ثقيلة على نف�سه ،رغم برودتها �إال �أنها مل تخفف من
ﻜﺘ
حدة النريان التي ا�شتعلت يف �صدره ،فكل ليلة متر عليه ت ُكن �أ�صعب من
�سالفتها ،يجد نف�سه يوم ًيا وب�شكل �أوتوماتيكي يفتح حا�سبه ال�شخ�صي
ﺐ ﻟﻠﻨ
وير�سل �إليها بع�شرات الر�سائل علها تبعث له ولو حتى كلمة واحدة
تطمئنه عليها ،هاتفها ما زال مغل ًقا منذ �آخر مرة حادثها فيها ،وح�سابها
ﺸﺮ
ال�شخ�صي على موقع الفي�س بوك اتخذته العناكب �سك ًنا لها� ،أهمه التفكري
و�أعياه �إيجاد حل لتلك الأزمة ،تهم�س له دواخله كث ًريا ب�أنها قد تكون ماتت
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�أو �أ�صابها �أي مكروه ،ولكن عقله يرف�ض الفكرة ،يرف�ض �أن يكون �سب ًبا يف
ﺯﻳﻊ
�أذاها ،يرف�ض �أن ُيعاقبها لأنها فقط �أحبته! كاد �أن ُي َجن ،فلو فقط اطم�أن
�أنها بخري ،حتى ولو مل يحدثها ،لكانت هد�أت النار املت�أججة يف �صدره
وذهب ت�أنيب �ضمريه ذاك بال رجعة.
طال انتظاره ،طال كث ًريا حتى �أن الف�صل الدرا�سي الثاين كان قد
�شارف على االنتهاء ،مر �سري ًعا على اجلميع عداه ،فف�ؤاده ما زال يكتوي
بجمرات �أمل و�شوق �إىل حبيبة �سابقة ال يعلم عنها �شي ًئا ،ذات م�ساء بينما
هو ُيق ّلب يف كتبه ا�ستعدادًا لبدء املذاكرة �سمع رنني هاتفه ،فنظر يف
117
�شا�شته بعدم اهتمام و�إذا بعينيه تت�سعان ب�شدة� ،شعر بنب�ضاته كما لو �أنه
ي�سمع عزفها بالقرب من م�سامعه ،يف �أقل من ثانية كان قد �ضغط على زر
ا�ستقبال املكاملة مناد ًيا با�سمها� ،أجابته املت�صلة قائلة بجدية:
� -إ�سالم معايا؟
�أوم�أ بر�أ�سه �إيجا ًبا وك�أنها تراه� ،أعادت ال�س�ؤال مرة �أخرى فانكم�شت
مالمح وجهه ا�ستغرا ًبا .من هذه؟ وما ذاك ال�صوت الرخيم؟ �أتكون
املت�صلة هي �أم �سارة �أو �أختها الكربى؟ �أيكون حدث لها مكروه كما ح ّدثه
ﻋﺼ
قلبه طوال الأيام املا�ضية؟ هز ر�أ�سه برف�ض تام لتلك الفكرة اللعينة
متمت ًما بداخله� :إن �شاء اهلل ال ،فهي حت ًما بخري .رفعت املت�صلة �صوتها
ﲑ ﺍﻟ
للمرة الثالثة بنفاد �صرب ،ف�أجاب على الفور بعدما عاد من �شروده:
ﻜﺘ
معاك
� -أيوة �إ�سالم ِ
� -أه ًال يا �إ�سالم� ،أنا ندى� ،أخت �سارة الكبرية.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ما هذا؟ �ألن توبخه؟ �ألن تهدده لتجعله يندم على كل مرة ح ّدث
�أختها فيها؟! فات�صالها به الآن ي�ؤكد ب�أنها علمت بكل �شيء عن عالقته
ﺸﺮ
-اتف�ضلي!
قالها وبد�أت ترتفع �أ�صوات نب�ضات قلبه .ا�ستن�شقت ندى ن�سمات
خفيفة من الهواء وبد�أت حديثها قائلة:
-من حوايل �شهرين ون�ص دخلنا على �سارة الأو�ضة ولقيناها
مغمى عليها ،طب ًعا جرينا بيها على امل�ست�شفى واحلمد هلل
الإ�صابات البدنية كانت طفيفة ،امل�شكلة �أنها �أول ما فاقت
118
كانت بتعيط بهي�سترييا والدكتور اللي بيعاجلها قال �إنها الزم
تروح لدكتور نف�سي ،وقد كان!
�صمتت ً
قليل اللتقاط �أنفا�سها بينما جيو�ش من االنفعاالت املتداخلة
بداخل قلب �إ�سالم حثتها على اال�ستطراد:
-الدكتور النف�سي قال �إنها حمتاجة كور�س عالج مكثف والزم
تتحجز يف امل�ست�شفى ،حاولنا �ساعتها نعرف ال�سبب فطب ًعا
مكنت�ش بتتكلم ،فكرت �أفتح �أكونت الفي�س بتاعها وفهمت
ﻋﺼ
بعدها كل حاجة.
-طيب هي كوي�سة؟
ﲑ ﺍﻟ
قاطعها �إ�سالم بخوف .بينما �أجابت هي بال مباالة:
ﻜﺘ
-كوي�سة ،متقلق�ش!
ﺐ ﻟﻠﻨ
ثم ا�ستطردت:
-اللي �أنت متعرفو�ش يا �إ�سالم �إن �سارة بنوتة قمة يف الرقة،
ﺸﺮ
طيبة جدً ا وبيت�ضحك عليها ب�سرعة ،يعني �أنت م�ش �أول واحد
ي�ضحك عليها.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
-ب�س �أنا...
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
ووا�ضح بردو �إنك م�ش مدرك �إنك بتتكلم عن بنت نادر زيدان
كبري رجال الأعمال يف البلد ،يعني بتتكلم عن واحد م�ستحيل
ﲑ ﺍﻟ
يجوز بنته ل�شاب يف م�ستواك!
ﻜﺘ
أر�ضا ،فبد�أت الدماء تغلي يف وجهه،�شعر ب�أنها �أطاحت برجولته � ً
ً
حماول ال�سيطرة على وبد�أت كرامته املهانة ت�ستغيث طالبة الث�أر� ،أجابها
ﺐ ﻟﻠﻨ
انفعاالته:
ﺸﺮ
-لأ يا فندم �أنا عارف �أنا بتكلم عن بنت مني ،وكل التفا�صيل دي
اتفقت عليها مع �سارة ،وهي م�ستعدة تتحملني �شوية يف �أول
ﻭ
ﻋﺼ
حماول �إيقاف �سيل الأفكار التي ع�صفت بها فج�أة ،مرت بر�أ�سه وم�ضات
م�شاهد �سريعة كم�شهد موت والده ،موت حممد� ،أول �أيام معرفته ب�سارة،
ﲑ ﺍﻟ
حياة الطي�ش واال�ستهتار التي كان يعي�شها وينعم فيها براحة البال،
ﻜﺘ
و�أخ ًريا حمادثته الأخرية مع �سارة والتي كان ال ينوى بها �إال كل خري،
ولكنه ح�صد ثمار عالقته اخلاطئة ووجد �أن كل �شيء خطط �إليه انقلب
ﺐ ﻟﻠﻨ
عاد بظهره �إىل الوراء حتى الت�صق بالفرا�ش� ،سحب الغطاء وتدثر
به مقر ًرا الهروب بالنوم ككل مرة� ،شيء ما بداخله �أخربه ب�أال يفعل� ،إىل
ﻭ
متى �سيهرب من واقعه بتلك الطريقة؟ �إىل متى �سيظل �ضعي ًفا غري قاد ٍر
ﺍﻟﺘﻮ
على مواجهة �أزماته! وجد نف�سه ينه�ض من مكانه ويلقي بالغطاء بعيدً ا
ﺯﻳﻊ
حماول البدء بحل ً جال�سا من جديد ،بد�أ ُيعيد ترتيب �أفكاره
وي�ستوي ً
م�شكلة تلو الأخرى ،يف تلك اللحظة بالتحديد قفزت �إىل ر�أ�سه اجلملة
التي قالها حممد عقب الندوة الدينية الأخرية التي ح�ضراها �سو ًيا:
«حبيت فكرة �إن زوجتي تبقى �أول حب يف حياتي ،عل�شان كده ب�إذن
اهلل هف�ضل حمافظ على قلبي حلد ما �أقابلها ،لأن امل�شاعر وقتها هتكون
طازة وم�ش م�ستهلكة ،م�ش حابب �أنا �إين �أتعرف على دي ودي ويف الآخر
121
�أروح �أجتوز واحدة تانية خال�ص ،خليني كده بعفتي عل�شان �أر�ضي ربنا،
و�أنا مت�أكد �إنه هريزقني بواحدة عفيفة زيي»
وقرر �أن البداية �سوف تكون من هنا ،من مبد أ� العفة ،فيكفيه ما
حدث �ساب ًقا ،ومن اليوم �سوف يبد أ� حياة جديدة� ،سوف يحافظ على عفة
قلبه حتى يرزقه اهلل باحلالل �سواء كانت �سارة هي زوجته امل�ستقبلية �أو
غريها ،ال يهم ،فاملهم �أن يفعل ما ُير�ضي اهلل وفقط ،ال ينكر �أن كلمات
�أخت �سارة �أ�شعرته بالغ�ضب واخلوف م ًعا ،وال ينكر �أنه �إىل الآن ال يعلم
ماذا يجب �أن يفعل مع ذاك الرثي الذي ال يريد تزويج ابنته ب�شخ�ص
ﻋﺼ
أي�ضا �أنه ي�شعر بحب �سارة يطغى على قلبه وال يريد زوجة مثله ،وال ينكر � ً
ﲑ ﺍﻟ
�سواها ،ولكن مع ذلك قرر �أن يرتكها هلل بعدما تذكر �أن «من ترك �شي ًئا
ﻜﺘ
هلل عو�ضه اهلل خ ًريا منه» ،نعم �سيرتك تدبري الأمر كله هلل وين�شغل هو مبا
يف مقدوره �أن يفعله من درا�سة وعمل ،وليكن بعدها ما يكن.
ﺐ ﻟﻠﻨ
�شعر ب�أن بع�ض ن�سمات الهواء اخلفيفة ت�سللت من �أ�سفل النافذة و�أتت
لتداعب وجهه وك�أنها تخربه ب�أنه �أ�صابُ ،ت�شجعه �أن ي�ستمر فيما بد�أه،
ﺸﺮ
حتثه على ال�صمود وعدم التنازل عن قراره ،تهتف به ب�أن من �أخط�أ فعليه
قليل ويتحمل نتيجة �أخطائه حتى يتماثل قلبه لل�شفاء، �أن يتوب ثم ي�صرب ً
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
قرر �أن ُين�صت باهتمام لكلمات تلك الن�سمات ويتتبع ن�صائحها� ،سيحاول
ﺯﻳﻊ
جاهدً ا من اليوم �أن يفعل ما ير�ضي ربه ،و�أال ُيو ِقع نف�سه يف بحر ذنوب ال
�أول له وال �آخر ،من اليوم فقط �سيكون �إ�سالم ا�س ًما على م�سمى!
zzz
انتهت امتحانات نهاية العام وا�ستعد ك ٌل ال�ستثمار �إجازته� ،أراد �إ�سالم
�أن يعرف �أكرث عن دينه ،فطلب من فاروق �أن ي�صحبه معه لدرو�س دينية
أي�ضا �أن ُير�شح له بع�ضلرجال ِثقات يت�شرب منهم العلم ،وطلب منه � ً
122
الكتب الدينية ب�سيطة الأ�سلوب كبداية له ،ومع مرور �شهور الإجازة
واقرتاب بداية ال�سنة الدرا�سية اجلديدة ،كان قلب �إ�سالم قد تغري كث ًريا،
فقد �أ�صبح يعرف �أكرث عن دينه ويحفظ ثالثة �أجزاء من القر�آن الكرمي،
كان قد تعلم ،در�س� ،أدرك ،وحفظ عدة �أحاديث من �أحاديث نبيه الكرمي،
مل يقف عند هذا احلد ،بل � ً
أي�ضا بد أ� ببع�ض ال�سنن الب�سيطة كالتب�سم يف
أي�ضا �صيام يومي االثنني واخلمي�س. وجه كل من يراه ،و�صالة ال�ضحى ،و� ً
كان ي�شعر بال�سعادة تغمر قلبه ،تلك ال�سعادة والراحة التي متناها
ﻋﺼ
لليال طوال ،ها هو الآن ي�شعر بها ويرى �أثرها كلما نظر يف املر�آة ،ها
هو الآن يح�صد ثمرة توبته وقربه من ربه ،مرت عدة �أ�شهر على حمادثته
ﲑ ﺍﻟ
الأخرية ل�سارة� ،شيء ما بداخله �أخربه كث ًريا �أن يحدثها ويطمئن عليها،
ﻜﺘ
�شيء ما �ألح عليه �أن يفعل ليثبت لها حبه ،ورغم �أمله ،ورغم �شوقه �إليها،
�إال �أنه رفع رايته بتلك اجلملة التي حفرها بداخل ر�أ�سه «ر�ضا اهلل �أهم من
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أي �شيء» ،وكانت نتيجة ذلك �أنه الحظ الفرق بني ذنوبه ال�سابقة وذنوبه
احلالية ،الحظ انت�صاره على عدة معا�صي كان يفعلها �ساب ًقا وا�ستبدالها
ﺸﺮ
ببع�ض م�صادر احل�سنات ،الحظ اختفاء تلك املطارق القوية التي كانت
ﻭ
تدق فوق قلبه من �آن لآخر لت�أنبه على ما يفعله ،الآن فقط ا�ستطاع �أن
ﺍﻟﺘﻮ
�أما عن �سلمى ،تلك الفتاة ذات الوجه الربيء النقي ،فقد كانت هي
الأخرى على �أمت ا�ستعداد لبداية عامها اجلديد بذلك القرار الذي لطاملا
حاولت ت�أجيله ،حتى منّ اهلل عليها بالهداية والقوة ،فا�ستطاعت بف�ضل
اهلل �أن تنت�صر على �شيطانها ،وقررت �أن ُتفاجئ �صديقتيها به يف �أول يوم
لها يف الدرا�سة ،رغم علمها بر�أيهما� ،إال �أنها مل تعد تهتم بكالم الب�شر،
فاملرء منا لن يتقدم خطوة واحدة �إذا ت�أثرت ت�صرفاته بكلمات من حوله.
123
ويف �صباح �أول يوم يف العام الدرا�سي الثالث يف تلك اجلامعة بالن�سبة
لها ول�صديقتيها ،جل�ست فاطمة مع هند بجوار ال�شجرة املقابلة ملبنى كلية
الرتبية بانتظار ح�ضورها ،ظلت كل منهما تراقب املارة يف �صمت حتى
قطعته هند وهي ت�شري �إىل �إحدى الفتيات وتقول �ضاحكة:
-ب�صي البنت اللي هناك دي �شبه �سلمى �أوي ،وكمان نف�س
م�شيتها!
نظرت لها فاطمة لوهلة ثم �أ�شاحت بوجهها وقالت بت�أكيد:
ﻋﺼ
-لأ يا بنتي م�ش زيها خال�ص!
ﲑ ﺍﻟ
بد�أت الفتاة تقرتب منهما �أكرث و�أكرث ،وبد�أت نظرات االنت�صار تطل
من عيني هند لأن الفتاة بالفعل ت�شبه �سلمى كث ًريا� ،أما فاطمة ف�أخذت
ﻜﺘ
عيناها تت�سع بتعجب �شديد وهي ترقب تلك الآتية من بعيد.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
�أوم�أت هند بر�أ�سها �إيجا ًبا وقالت بحما�س:
ﲑ ﺍﻟ
عليك� ،ألف مربوك.
-حقيقي �شكله لطيف ِ
ﻜﺘ
أنت!
� -شوفتي �أهي دي النا�س وال بال�ش ،م�ش � ِ
قالتها �سلمى موجهة حديثها لفاطمة ،ف�سرى الغ�ضب يف خاليا
ﺐ ﻟﻠﻨ
علينا يعني!
نه�ضت �سلمى من مكانها ووقفت قبالة فاطمة وهم�ست بحنان:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
وعموما يا �ستي
ً -على فكرة كنت بهزر وم�ش ق�صدي حاجة،
ﺯﻳﻊ
قويل اللي يعجبك� ،أنا خال�ص تقري ًبا �أخدت مناعة من كرت
االنتقادات ومبقيت�ش بح�س.
ثم التفتت بعينيها �إىل هند و�س�ألت:
-عرفتوا املحا�ضرة الأوىل هتكون فني؟
�أجابت هند بالإيجاب ،ونه�ضت كل منهن و�سارت باجتاه املدرج الذي
�ستقام به املحا�ضرة.
125
ويف اجلهة املقابلة ،و�أمام مبنى كلية الهند�سة ،وقف �إ�سالم يبحث
يف املارة عن فاروق ،فلقد ا�شتاق �إليه كث ًريا لأنه مل يلتق به منذ �أكرث
من ع�شرة �أيام ،الحظ �شادي -الذي كان مير بجواره -عينيه التائهتني
فاقرتب منه وحياه با�س ًما ،رد �إ�سالم التحية بحما�س و�س�أله عما �إذا كان
ر�أى فاروق هنا �أو هناك ،ف�أخربه �شادي ب�أن فاروق كان هنا قبل عدة
دقائق وبالت�أكيد �صعد للأعلى لريى جدول املحا�ضرات اخلا�ص به ،وعلى
الفور �صعد �إ�سالم الدرج وذهب باجتاه الالفتة التي يتم ل�صق جداول
املحا�ضرات عليها ،وبالفعل وجد فاروق يقف �أمامها مم�س ًكا بهاتفه،
ﻋﺼ
بدل من نقله با�ستخدام القلم ح�س ًنا ،يبدو �أنه يقوم بت�صوير اجلدول ً
ﲑ ﺍﻟ
والورقة كما كان يفعل الطالب قد ًميا ،اقرتب �إ�سالم من فاروق ورفع
�صوته وهو يقول �ضاح ًكا:
ﻜﺘ
-كل ده عمال ت�صور فيه! �أُمال لو كان جدول االمتحانات كنت
عملت �إيه!
ﺐ ﻟﻠﻨ
التفت فاروق باجتاه م�صدر ال�صوت ،وملا ر�أى �إ�سالم ات�سعت ابت�سامته
ﺸﺮ
واقرتب منه ُمت�ض ًنا �إياه ،ثم حرك وجهه بي�أ�س م�صطنع وقال:
� -شكلك عمرك ما هتبطل اللما�ضة بتاعتك دي يا �إ�سالم.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
عاوزك يف مو�ضوع.
-فا�ضي يا �سيدي ،اتف�ضل!
�سارا �سو ًيا باجتاه �أحد املقاعد ،وفور جلو�سهما بد�أ �إ�سالم حديثه
ً
قائل:
-مبا �إن دي �آخر �سنة لينا يف الكلية ،ومبا �إننا كده كده بنتعب
جامد وبتطلع عينيا ،فعاوزك تقويل ازاي ممكن �آخد ثواب
طول ال�سنة على تعبي ده لو ينفع!
126
-املو�ضوع كله متوقف على نيتك.
قالها بب�ساطة ،وملّا مل يفهم �إ�سالم ما يق�صده ا�ستطرد:
-يعني ممكن تتعب طول ال�سنة وما ت�ستفيد�ش حاجة غري
�إنك عديت �سنة ،وممكن بردو تعدد النوايا زي �إنك عاوز
تبقى مهند�س ناجح نافع لبلدك ولأمتك ،و�إنك نف�سك تتفوق
عل�شان بعد كده تكون فاهم وت�شتغل ب�ضمري وما تت�سبب�ش يف �أي
�أذى للنا�س اللي هتعم ّلهم ال�شغل ،وممكن بردو عل�شان تفرح
ﻋﺼ
والدتك وتخليها تفتخر بيك ،وممكن كذا حاجة تانية ،حاول
تفكر يف املو�ضوع وجتدد نيتك كل �شوية عل�شان ب�إذن اهلل تاخد
ﲑ ﺍﻟ
ح�سنات على الوقت اللي بتق�ضيه هنا ،وكل ما النوايا تزيد
ﻜﺘ
وتكون �صادقة �أكرث ب�إذن اهلل ثوابك يكون �أزيد.
ردد �إ�سالم كلمات فاروق الأخرية بداخله ،و�شعر ب�صداها يرتدد
ﺐ ﻟﻠﻨ
داخل عقله ،وعلى الفور قرر �أن ي�ستثمر وجوده يف �سنته الأخرية
باجلامعة ،فيكفي ما �ضاع �ساب ًقا ،الآن وفقط �أدرك �أنه ي�ستطيع احل�صول
ﺸﺮ
على الثواب من �أي �شيء يفعله يف هذه احلياة ،فقط لو جدد نيته وجعلها
خال�صة لربه.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
zzz
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
يتمناها كل طالب� ،أرادت �أن تكون من ُع ّمار الأر�ض� ،أرادت �أن ت�سمو
ﲑ ﺍﻟ
مب�ستوى التعليم يف بلدها ،قررت �أال ت�ست�سلم وت�سري كما �سار رفقائها
ال�سابقني ،ال بل �ستغري م�سارها وحتاول -حتى ولو كانت وحيدة� -أن تفعل
ﻜﺘ
ما متنته دائ ًما �أن يكون!
ﺐ ﻟﻠﻨ
مر العام الدرا�سي �سري ًعا على اجلميع عدا ال�صغرية والء ،والتي
كانت تنتظر ثمرة جهدها طوال العام ،وذات يوم بينما �سلمى جتل�س على
ﺸﺮ
احلا�سوب اخلا�ص بها وجدت �إعالن ُين ّبئها بظهور نتيجة الثانوية العامة
بعد طول انتظار ،فت�سارعت نب�ضاتها كما لو كانت نتيجتها هي ،و�صاحت
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ب�أعلى �صوتها با�سم والء التي جاءت مهرولة وقد �أدركت من نربة �صوت
ﺯﻳﻊ
�أختها �أن اللحظة املنتظرة قد حانت ،اقرتبت من �سلمى وقد بد�أ خافقها
ي�ضخ بقوة اخلوف والتوتر ،ونظرت لها وهي تومئ بر�أ�سها بهدوء وت�ضيق
ما بني عينيها وك�أنها ت�س�ألها عن حقيقة ما ت�شعر به ،فابت�سمت �سلمى
بحنان وقالت:
� -أيوة النتيجة ظهرت احلمد هلل ،حلظة واحدة �أنادي ماما
ونيجي ن�شوفها �سوا.
128
و�سرعان ما اختفت من الغرفة وذهبت تبحث عن والدتها ،مل ت�ستطع
والء االنتظار �أكرث من ذلك وجل�ست على الكر�سي املقابل للحا�سوب
وحاولت �أن حت�صل على نتيجتها بنف�سها ،ولكن ارتعا�ش كفيها حال بينها
وبني رغبتها ،وعلى الفور ح�ضرت �سلمى م�سرعة تتبعها والدتها ،ووقفت
�أمام احلا�سوب وكتبت الرقم القومي الذي حتفظه جيدً ا ،حلظات قليلة
مرت ولكنها كانت ثقيلة باردة على اجلميع ،مما جعل والء بالتحديد تفكر
يف كل احتمال ممكن عدا ح�صولها على الدرجة التي تتمناها ،ولكنها
ﻋﺼ
�سرعان ما �سمعت �صيحة �أختها وهي تقول بفرح �شديد:
ﲑ ﺍﻟ
%97 ،%97 -يا والاااء� ،ألف �ألف مربوووك يا حبيبتي.
ﻜﺘ
و�سرعان ما �أم�سكت الأم بال�صغرية وجذبتها �إىل ح�ضنها و�ضمتها
بقوة ،كل ذلك ووالء ال ت�شعر ب�أي �شيء ،انتظرت حتى �أفلتتها والدتها
ﺐ ﻟﻠﻨ
ابت�سامة عذبة على �شفتيها ومتتمت بعبارات احلمد� ،أرادت �أن ُتخرب
ﻭ
والدها لكي تكتمل فرحتها فنه�ضت على الفور و�أم�سكت بهاتفها وقامت
ﺍﻟﺘﻮ
باالت�صال به ،ولكن يبدو �أن هاتفه مغلق �أو قد نفد �شحنه ،بعد عدة دقائق
ﺯﻳﻊ
تتعد الن�صف �ساعة �سمعت طرقات على باب املنزل ،قامت بفتحه مل َ
م�سرعة وما �أن ر�أت والدها وقبل �أن ينطق هو ب�أي �شيء قالت بفخر �شديد:
-هند�سة يا حاج ب�إذن اهلل
فابت�سم والدها ابت�سامة خفيفة وهو يربت على كتفها ،ثم نظر ل�سلمى
نظرة ذات معنى ،وعاد �إىل والء ليقول بتباهي:
129
-كنت مت�أكد �إنك هت�شرفيني قدام النا�س يا والء وم�ش هتعملي
زي �أختك!
�أهي املرة الألف �أم الع�شرة �آالف �أم �أكرث من ذلك؟ �أ�صبحت ال
ت�ستطيع َعد املرات التي ُيوبخها فيها والدها لأنها و�ضعت ر�أ�سه بالرتاب
بدل من الطب كما كان يتمنى ،ثالث �سنوات ب�سبب التحاقها بكلية الرتبية ً
مرت ،ثالث �سنوات ويف كل فر�صة ُيفتح فيها هذا املو�ضوع يجرحها والدها
بكلمة �أو ب�أخرى ،حتى ظنت �أنه �أ�صبح يكرهها ب�سبب تلك الف�ضيحة التي
ﻋﺼ
�سببتها له بعد التحاقها بتلك الكلية ،ابت�سمت �سلمى وحاولت �إخفاء تلك
ﲑ ﺍﻟ
الأعا�صري التي تدور بداخلها ،ولكن ابت�سامتها خرجت منك�سرة وهي
ﻜﺘ
تقول:
� -أنا �آ�سفة يا بابا �إين ك�سفتك قدام النا�س ،ب�س تربية م�ش �سيئة
ﺐ ﻟﻠﻨ
اللي كان بيتمناه ،وغريها كان بيتدلع وم�ش بيذاكر �إال كل فني
ﺯﻳﻊ
وفني.
-ما�شي يا بابا ميكن هي �أف�ضل مني يف النقطة دي ،ب�س ممكن
�أنا كمان �أمتيز يف جمايل ويف حياتي و�أكون �إن�سانة ناجحة حتى
لو جمبت�ش جمموع كبري يف الثانوية العامة.
-اللي عايز ينجح كان جنح من زمان يا �سلمى ،وكل واحد وقت
اجلد بيبان �إذا كان ناجح وال فا�شل.
130
-يا بابا ب�س...
وهنا مل ي�ستطع والدها االحتفاظ بهدوئه �أكرث من ذلك ،نظر لها
بحدة وقاطعها ً
قائل بحزم:
� -سلمى املو�ضوع منتهي ،روحي يال افرحي مع �أختك بدل ما
حت�س �إنك بتغريي منها.
-متقلق�ش يا بابا ،والء عمرها ما هتح�س بكده لأنها عارفة �إين
كنت �أكرث واحدة بت�شجعها وبتقف جنبها ملا بتتعب �أو بيجيلها
ﻋﺼ
االكتئاب بتاع الثانوية العامة ،بعد �إذن ح�ضرتك.
ﲑ ﺍﻟ
قالتها و�سارت وهي جتر خلفها �أذيال اخليبة ،كم مرة حاولت �أن
ﻜﺘ
تو�ضح له وجهة نظرها ،كم مرة �أرادت �أن تخربه �أنها من املمكن �أن
تنجح يف �أي �شيء �آخر ،و�أن املو�ضوع لي�س له عالقة مبجموعها يف الثانوية
ﺐ ﻟﻠﻨ
العامة ،كم مرة ذكرته ب�أن الأف�ضلية تكون لل�شخ�ص التقي القريب من
ربه ولي�س ل�صاحب املجموع املرتفع يف تلك املدعوة بالثانوية العامة ،ولكن
ﺸﺮ
والدها �أبى �أن يفكر يف كلماتها� ،أبى �أن ميررها بداخل عقله حتى ال يت�أكد
ً
حمتفظا بر�أيه يف من �صحتها وينهزم �أمامها ،ظل طوال ثالث �سنوات
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�سلمى ب�أنها غري ناجحة على الإطالق ،و�أن والء املجتهدة درا�س ًيا حت ًما
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
اجلاية.
z ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
132
-5-
ﻋﺼ
�أ�صعب مما كانا يتوقعان ،بد�أ �إ�سالم يبحث على الإنرتنت ويت�صل ب�أقاربه
ﲑ ﺍﻟ
ومعارفه وي�س�ألهم عن �أي وظيفة �سمعوا عنها تليق به ،بينما ظل فاروق
يتجول بني ال�شركات وامل�صانع نها ًرا حل�ضور املقابالت ال�شخ�صية،
ﻜﺘ
ليل على الإنرتنت للبحث عن �شركات جديدة تطلب مهند�سني واجللو�س ً
حديثي التخرج واالت�صال بهم لتحديد موعد املقابلة ال�شخ�صية ،ا�ستمر
ﺐ ﻟﻠﻨ
احلال به هكذا قرابة اخلم�سة �أ�شهر حتى �شعر بالإحباط ال�شديد� ،شعر
�أن �أحالمه تنهار �أمام عينيه� ،شعر �أنه لن ي�صل للفتاة التي ظل يحلم
ﺸﺮ
بها ل�سنوات طوال ب�سبب تلك الوظيفة غري املوجودة ،ففي كل مقابلة
ﻭ
�شخ�صية كان يجد ع�شرات ال�شباب مثله ينتظرون دورهم يف املقابلة رغم
ﺍﻟﺘﻮ
�أن ال�شركة ال حتتاج �إال �إىل مهند�س واحد فقط �أو اثنني ال �أكرث.
ﺯﻳﻊ
بد أ� يلج�أ �إىل اهلل ،نعم فاللجوء �إىل اهلل هو احلل ،بد�أ يطلب من ربه
العون ،بد�أ يحدث ربه مبا يف قلبه من �أحالم و�أحزان ،بد�أ يخرج كل ما
يعتمل بداخله من �أماين على �سجادته ال�صغرية ويطلب من ربه �أن يرزقه
بالأموال التي يتقدم بها لتلك الفتاة التي حافظ عليها ل�سنوات ،و�أن
يزوجها �إياه باحلالل لكي ي�سكن �إليها ويعرب لها عن حبه ويق�ص عليها
�صربه وجماهدته طوال ال�سنوات املا�ضية.
133
وبالفعل بعد �أيام قالئل وجد �إحدى ال�شركات تت�صل به لتخربه ب�أنه مت
قبوله يف الوظيفة التي تقدم �إليها قبل عدة �أيام ،وتطلب منه احل�ضور يف
الغد لإمتام الإجراءات الالزمة وال�شروع يف العمل ،كاد �أن يقفز من مكانه
فرحا بعدما �شعر �أن ن�صف فور �سماعه هذا اخلرب ،كاد �أن يرق�ص قلبه ً
امل�شكلة قد ُح َّل ،و�أن املتبقي فقط هو الذهاب ملنزل تلك التي متناها دائ ًما
وطلبها زوجة له ،انتظر انتهاء �أول يوم يف عمله بفارغ ال�صرب و�أ�سرع �إىل
منزله لكي يخرب والدته بالأمر ،فح ًقا �أ�صبح ال ي�ستطيع ال�صرب �أكرث من
ذلك.
ﻋﺼ
دخل منزله على عجل وتوجه �إىل املطبخ حيث توجد والدته و�أخربها
ﲑ ﺍﻟ
على الفور برغبته يف الزواج� ،ضحكت الأم مبلء فيها حيث ظنت �أنه ميزح
ﻜﺘ
وقالت بال مباالة ب�أنها �سوف تبحث له عن عرو�س ،وعندما علمت منه
�أن العرو�س موجودة بالفعل ارتفعت �أ�صوات �ضحكاتها �أكرث وهي تقول
ﺐ ﻟﻠﻨ
م�شاك�سة �إياه:
-يا خويا طب ما �أنت بتعرف بنات �أهو ،عام ّلي فيها �شيخ ليه
ﺸﺮ
بقى!
أنت متعرفي�ش ابنك أنت اللي بتقويل كده يا حجة! هو � ِ
-بقى � ِ
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
حابب �إنها تكون زوجتي امل�ستقبلية ب�إذن اهلل ،ممكن بقى تقفي
معايا ونفاحت بابا يف املو�ضوع �أول ما ييجي؟ لأين ب�صراحة
م�ستعجل جدً ا!
نظرت له والدته بحب وعلى �شفتيها ابت�سامة فرحة ،وبد�أت الدموع
تتجمع يف عينيها البنيتني ،نعم فقد كرب ال�صغري الذي كان يجري هنا
وهناك وي�صرخ يف كل مكان ،كرب و�أراد �أن يتزوج وينجب لها حفدة �صغار
تت�سلى بهم وميلئون حياتها ب�أ�صواتهم و�ضجيجهم� ،س�ألته والدته من تكون
134
تلك الفتاة ،وعندما �أخربها با�سمها قالت ب�أنها ال تعرفها جيدً ا ،ولكنها
حت ًما ذات خلق و�إال مل يكن ليختارها فاروق ،وعدته ب�أنهم �سيذهبون �إىل
منزلها يف �أقرب وقت �إن �شاء الرحمن.
zzz
ذات م�ساء بينما �سلمى جال�سة على فرا�شها و ُمتد ّثرة بغطائها ال�سماوي
اخلفيف ،ومم�سكة بيدها �إحدى الروايات تقر�أ فيها� ،إذ تدخل عليها والء
وهي تتمايل مينة وي�سرة من فرط �ضحكاتها ،مما قذف الف�ضول �إىل عقل
ﻋﺼ
�سلمى وجعلها ترتك ما بيدها وت�س�أل والء عن ال�سبب ،يبدو �أنها مل ت�سمع
ال�س�ؤال ،هكذا ظنت �سلمى ،مما جعلها تعيده مرة �أخرى ،و�إذا بوالء تنظر
ﲑ ﺍﻟ
�إليها �ساخرة وت�ستمر يف ال�ضحك من جديد ،نه�ضت �سلمى من مكانها
ﻜﺘ
ووقفت �أمام والء وو�ضعت يدها على فمها لتقطع وا�صلة ال�ضحك التي
ظنت �أنها �ست�ستمر للغد ،ثم �أفلتت يدها و�س�ألت بجدية �أكرب من املرة
ﺐ ﻟﻠﻨ
-عري�س ازاي يعني! هو احنا م�ش متفقني �إن مفي�ش كالم يف
ﻭ
قالتها �سلمى ب�ضيق وقد بدت عالمات التوتر على وجهها ،وملا مل ترد
ﺯﻳﻊ
والء ا�ستطردت:
� -أنتوا عارفني كوي�س �أوي �إين ل�سه م�ش م�ستعدة للخطوة دي
دلوقتي� ،أنا حمتاجة �إين �أقرب من ربنا �أكرث من كده و�أعرف
عن ديني كوي�س ،عل�شان �أكون ب�إذن اهلل زوجة و�أم �صاحلة،
وكمان حمتاجة �أقر�أ عن التعامل مع الرجال وتربية الأطفال
وحاجات كتري ،اجلواز ده م�سئولية م�ش لعبة يا جماعة!
135
-يا �ستي و�أنا مايل ،ما تروحي تقويل الكالم ده لبابا!
قالتها والء بال مباالة ،ف�س�ألتها �سلمى عن كونه يف حالة مزاجية جيدة
�أم ت�ؤجل احلوار لوقت �آخر ،وقبل �أن جتيب ال�صغرية �سمعا م ًعا طرقات
والدهما على الباب� ،أتبعها بدخوله بابت�سامته اخلفيفة ،طلب الأب من
والء البقاء خارج الغرفة واقرتب من �سلمى وجل�س بجوارها ،و�أخربها
�أن هناك من يريد التقدم خلطبتها ،ف�أجابت �سلمى وهي حتاول انتقاء
غ�ضب والدها: كلماتها حتى ال ُت ِ
ﻋﺼ
-م�ش احنا متفقني يا بابا �إن مفي�ش جواز �إال بعد ما �أتخرج ب�إذن
اهلل.
ﲑ ﺍﻟ
-و�أنا عند كلمتي ،لو ح�صل ن�صيب يبقى نعمل خطوبة دلوقتي،
ﻜﺘ
والفرح بعد ما تخل�صي كليتك �إن �شاء اهلل.
-ب�س �أنا م�ش عايزة يا بابا!
ﺐ ﻟﻠﻨ
حازما:
اختفت االبت�سامة من على �شفتي والدها ،نظر لها بجدية وقال ً
ﺸﺮ
و�س�ألت مو�ضحة:
-يا بابا م�ش ق�صدي� ،أنا عاوزة �أعرف يعني عالقته بربنا عاملة
ازاي؟ مواظب على ال�صالة يف اجلامع وال لأ؟ بيتقن �شغله
وعنده �ضمري وبرياعي ربنا يف ال�سر قبل العلن وال لأ؟ عالقته
بزميالته يف ال�شغل حدودها �إيه؟ بي�سمع �أغاين وبيتفرج
على �أفالم وال بيغ�ض ب�صره؟ �أهدافه يف احلياة �إيه؟ عارف
136
واجباته كزوج وعارف املفرو�ض هيتعامل ازاي مع الأمانة اللي
هيتجوزها وال لأ؟ بره مبامته وباباه �أخباره �إيه؟ كده يعني!
انتظرها والدها على م�ض�ض حتى �أنهت ثرثرتها ،ثم ع ّلق على كلماتها
بتعجب:
أنت عاوزاين �أ�س�أل على ده كله! ده كده هيم�شي من قبل ما
ِ �-
ييجي!
-يا بابا ما هو ده الطبيعي!
ﻋﺼ
-لأ الولد حمرتم وكوي�س و�أنا عارف والده ،اقعدي معاه وبعدين
ّ
يطف�ش أنت عايزاه ،وربنا ي�سرت وما
ابقي ا�س�أليه على اللي � ِ
ﲑ ﺍﻟ منك!
ﻜﺘ
�ألقى بكلماته الأخرية احلا�سمة و�ضرب بكفيه على ركبتيه م�ستعدً ا
للنهو�ض ،كادت �سلمى �أن تطلب منه �أن ي�ؤجل الأمر لعدة �أيام حتى تفكر
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أو ت�ستعد ،ولكنها و�أدت طلبها قبل �أن يتجاوز �شفتيها حتى ال تثري �سخطه،
وتركته يغادر مقررة �أن تت�صرف هي يف الأمر عن طريق ت�صنع الغباء �أو
ﺸﺮ
الربود ،ال�سذاجة ورمبا اجلنون ،حتى يغادر ذاك العري�س بال رجعة.
ﻭ
م�ضى يومان قبل �أن يخربها والدها �أن العري�س �سي�أتي مع والده
ﺍﻟﺘﻮ
ووالدته يف الغد ،ظلت تفكر طوال الليل فيما يجب �أن تفعله ،كانت يف
ﺯﻳﻊ
حرية ما بني �أمرين� ،إما �أن جتعله يكرهها ب�أي طريقة كانت ،ويف تلك
موقف َح ِرج �أمام والد العري�س الذياحلالة تكون قد و�ضعت والدها يف ٍ
يقول �أنه يعرفه جيدً ا ،و�إما �أن ترف�ضه -بعد �أن ي�أتي -بدون �سبب مقنع،
أي�ضا ،فبع�ضولكنها �شعرت �أن هذا �سي�صبح ظل ًما كب ًريا له ورمبا لنف�سها � ً
الأمور ال يجب ا�ستخدام ال ِعناد فيها ،حاولت التفكري بطريقة �أخرى،
حاولت التنازل عن قناعاتها ال�شخ�صية و�س�ألت نف�سها :ماذا لو كان هذا
137
ال�شخ�ص هو من حتلم به منذ �سنوات؟ ماذا لو �أخذ بيديها �إىل طريق
اهلل كما متنت؟ ماذا لو وجدت فيه كل ما كانت حتلم به يف رفيق دربها
ون�صفها الثاين! �أيعقل �أن ترف�ضه لأنها مل تن ِه درا�ستها بعد� ،أيعقل �أن
�صالح من �أجل عدة �شهور درا�سة �إ�ضافية� ،أم تقبل به
�شاب ٍ تتنازل عن ٍ
وترتب �أمورها معه كما ترى يف �صاحلها و�صاحله ،نعم تلك الفكرة جيدة،
هكذا رددت بداخل نف�سها ،ح�س ًنا� ،ستقابله بطبيعتها ،وبدون �أي ت�صنع،
وليكن بعدها ما يكن.
يف اليوم التايل بعد �صالة الع�شاء مبا�شرة بد�أت �سلمى يف اال�ستعداد
ﻋﺼ
ال�ستقبال العري�س املُنتظر ،ارتدت ف�ستا ًنا �أني ًقا �أبي�ض اللون ُمزدان
ﲑ ﺍﻟ
بزهرات بنف�سجية �صغرية من على الأطراف ،وقامت بلف خمارها
ﻜﺘ
البنف�سجي حول وجهها احليي ليزداد نو ًرا ،قررت �أال ت�ضع نقطة واحدة
من م�ساحيق التجميل اخل َّداعة� ،شعرت �أن �أقل حقوقه �أن يراها على
ﺐ ﻟﻠﻨ
طبيعتها ،و�أن يوافق عليها كما هي ،ال �أن يرى واحدة ويكت�شف بعد ذلك
ً
وعاجل �أو �أنه تزوج ب�أخرى ،تيقنت �أنها لن ت�ستطيع �أن تخدعه ً
طويل،
ﺸﺮ
آجل �سوف يكت�شف حقيقتها ولن ينالها منه حينها �سوى بع�ض الكلمات � ً
اجلارحة التي ُتفقدها ثقتها بنف�سها ،انتهت من تعديل هندامها �أمام
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
دقائق قليلة مرت قبل �أن ت�سمع طرقات على باب منزلهم ،ت�صحبها
طرقات �أخرى عنيفة على باب قلبها ،حاولت �أال تتوتر ،حاولت �أن تبدو
ال�ستار الذي يف�صل ال�صالة هادئة ،ولكن الأمر لي�س بيدها ،اقرتبت من ِ
عن بقية الغرف وفتحت منه فتحة �صغرية حاولت من خاللها اختال�س
النظر له�ؤالء القادمني ،فلمحت امر�أة تتحرك بهدوء وا�ضح و�أمامها رجل
احتل ال�شيب ر�أ�سه ،وبجوارهما يقف �شاب طويل القامة مفتول الع�ضالت
يرتدي مالب�س �أنيقة للغاية وله رائحة عطر جميلة �أ�سعدتها ،حاولت �أن
138
تتحقق من مالمح وجهه ولكنه حترك للأمام فلم ت�ستطع �أن ترى �أي �شيء،
جل�س كل من والدها ووالدتها مع الزائرين و�أخذ كل منهم يتعرف على
الآخر وعائلته ما يقرب من الربع �ساعة ،ثم نه�ض الأب لإح�ضار العرو�س،
�سارت �سلمى خلف والدها بحياء بالغ و�ألقت التحية على احلا�ضرين،
ثم �أ�شار لها والدها �أن جتل�س يف نهاية ال�صالة وطلب من العري�س �أن
ينه�ض ليجل�س �أمامها ،وانزوى اجلميع يف اجلانب الآخر من ال�صالة كي
يرتكوا لهما حرية احلديث ،فكانوا يرونهم بدقة ولكن ال ي�سمعون �إال بع�ض
الكلمات فقط ،بد�أ العري�س حديثه ب�إلقاء التحية على �سلمى ،وملا رفعت
ﻋﺼ
وجهها لتجيبه ملحت يف وجهه َم ْ�س َحة من و�سامة فات�سعت ابت�سامتها رغ ًما
ﲑ ﺍﻟ
عنها ،وظهرت ُحمرة احلياء على خديها فنظرت للأر�ض مرة �أخرى،
طويل ،حدثها عن عمله الحظ العري�س ارتباكها فبد أ� يحدثها عن نف�سه ً
ﻜﺘ
وعن �أ�صحابه ،حدثها عن الأماكن التي يخرج �إليها �أ�سبوع ًيا وعن نوعية
أي�ضا عن اهتمامه ال�شديد امل�صايف التي يحب زيارتها �سنو ًيا ،حدثها � ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
بهندامه و�أناقته ،وعن نظرة النا�س له� ،شعرت �سلمى من كلماته ب�أنه
�شاب عادي ال مييزه �شيء عن معظم ال�شباب� ،شاب يعي�ش ليعمل ويخرج
ﺸﺮ
مع �أ�صدقائه وينام وفقط ،مل يذكر �أي �شيء عن عالقته بربه ،مل يتحدث
ﻭ
عن اجلنة وعن �أنه يتمنى �أن يكون من �أهلها ،مل يتحدث عن �أي �شيء من
ﺍﻟﺘﻮ
اهتمامات �سلمى ،قررت �أن ت�س�أله عما يجول بخاطرها ولكن بقليل من
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
خطة للرتبية؟
ﲑ ﺍﻟ
-وملا �أنا هربيهم هي هتعمل �إيه؟!
ﻜﺘ
قالها بتعجب ممزوج بالده�شة ،ف�أجابت �سلمى مو�ضحة:
-ق�صدي يعني ح�ضرتك ت�ساعدها يف تربيتهم.
ﺐ ﻟﻠﻨ
تت�صرف يف الباقي!
رغ ًما عنها ت�أثرت ابت�سامتها وظهر ال�ضيق على وجهها ،حاولت �أال
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
-طيب ما هو ً
مثل الزم ح�ضرتك اللي توديهم امل�سجد عل�شان
يتعودوا على ال�صالة وكده.
ً
حماول ا�ستعادة ابت�سامته: زفر مبلل ،وقال
-ما�شي هبقى �أوديهم �إن �شاء اهلل!
� -آخر حاجة بقى ،ح�ضرتك بتحلم ب�إيه؟ �أو �إيه هي �أهدافك يف
احلياة؟
140
-بحلم �أعي�ش حياة م�ستقرة وهادية بدون م�شاكل ،و�أف�ضل
�أترقى يف �شغلي حلد ما �أم�سك الإدارة.
-ب�س؟!
-وهو الإن�سان حمتاج �إيه تاين غري كده؟!
قالها بتعجب �شديد ،بينما �شعرت �سلمى ب�أنها اكتفت بتلك الأ�سئلة
وبكالمه ال�سابق عن نف�سه ملعرفة �شخ�صيته ،قررت �أن تعطيه حقه يف
معرفتها ،ف�س�ألته �إذا كان لديه �أي �أ�سئلة يوجهها �إليها ،ف�أجاب على الفور:
ﻋﺼ
-قوليلي� ،إيه هي �صفات فار�س �أحالمك؟
�شعرت �سلمى بطاقة كبرية جتتاحها ،وك�أنها كانت تنتظر هذا ال�س�ؤال
ﲑ ﺍﻟ
طوال الوقت ،وانطلق ل�سانها مبا يف داخلها من �أحالم ،وقالت ب�سرعة
ﻜﺘ
رهيبة:
-عاوزاه يكون حافظ القر�آن �أو حتى �أجزاء منه ويحفظني،
ﺐ ﻟﻠﻨ
من الهدف ده ،الزم الزم يكون مواظب على �صلواته كلها
يف امل�سجد ،الزم كمان يكون عارف معلومات عن دينه وعن
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
حد علطول بيحاول يغ�ض ب�صره ،حد قلبه ما فيهو�ش غري حب
ربنا وم�ش بي�سمح �أبدً ا �إن يدخله �أي حب حرام ،حد بيتخذ
النبي عليه ال�صالة وال�سالم قدوة ومت�أكد �إن �أي حاجة النبي
وال�صحابة كانوا بيعملوها احنا كمان نقدر نعملها ،عاوزاه
كمان ي�ساعدين يف �شغل البيت ويوم ما �أعمل حاجة غلط يقعد
معايا ويفهمني بالراحة ،من الآخر عاوزاه حد ياخد بايدي
للجنة ب�أي �شكل من الأ�شكال.
141
وك�أنها تفكر يف اجتاه ويفكر هو يف اجتاه �آخر ،وجد �أنه ال توجد به
حتى �صفة واحدة مما متنتها ،فابت�سم لها ً
قائل ب�صدق:
-ربنا يرزقك بيه� ،أ�ست�أذن �أنا بقى.
ثم نه�ض من مكانه واقرتب من ه�ؤالء اجلال�سني بعيدً ا ،نظر �إىل والده
ففهم �أنه يريد املغادرة ،فنه�ض هو الآخر وتبعته زوجته� ،ألقوا التحية على
اجلميع وغادروا على الفور� ،أثناء �سريه مع �أهله وعندما �س�ألته والدته عن
ر�أيه �أجاب باقتناع �شديد:
ﻋﺼ
-دي تقري ًبا عاوزة تتجوز واحد م�ش موجود يف الوجود!
ﲑ ﺍﻟ
وعندما مل تفهم والدته طلب منها �أن ترتكه يفكر لعدة �أيام ،ثم بعدها
ﻜﺘ
�سيخربهم بر�أيه النهائي.
ذهبت �سلمى �إىل غرفتها فور مغادرتهم متعللة برغبتها يف تبديل
ﺐ ﻟﻠﻨ
مالب�سها ،وحتى ال يحا�صرها �أحدهم بالأ�سئلة وهي التي ال تريد �أن ترد
ب�أي �شيء قبل �أن تفكر بكل جدية وعقالنية ،ولكن ف�ضول والء امللتهب �أبى
ﺸﺮ
�أن ير�ضخ لرغبة �سلمى ،فانتظرت ب�صعوبة حتى انتهت �أختها من تبديل
ﻭ
ﻋﺼ
-م�ش عنده دين ازاي يعني؟! ما هو م�سلم �أهو!
تنهدت �سلمى ب�إرهاق ،يبدو �أن حماولة �إقناع والء �ستف�شل ككل مرة،
ﲑ ﺍﻟ
ذهبت �إىل �أقرب مقعد بجوارها و�ألقت بج�سدها ال�صغري عليه ،ثم عادت
ﻜﺘ
بظهرها �إىل ظهر كر�سيها بهدوء ،وقالت وهي تنظر �إليها برفق:
-م�ش كفاية �إنه يكون م�سلم يف البطاقة يا والء� ،أنا عاوزة واحد
ﺐ ﻟﻠﻨ
� -أيوة بالظبط كده ،بعد اجلواز يتغري ،وبكره يتعدل ،و�أ�سمع �أنا
ﺯﻳﻊ
كالمكم دلوقتي على �أمل �إنه يبقى �إن�سان تاين بعد اجلواز،
و�أتفاجئ بعدها �إن مفي�ش حاجة فيه اتغريت و�أندم .أل يا
والء �أنا مقتنعة �إين لو م�ش هقدر �أحتمله زي ما هو كده يبقى
الرف�ض هيكون �أف�ضل َّ
يل وله ،لأن الطبيعي �إين بختار �إن�سان
هعي�ش معاه ب�إذن اهلل عمري كله فالزم �أكون متقباله بعيوبه
قبل مميزاته ،ولو يا �ستي بعد اجلواز اتغري للأح�سن كمان
143
فهتكون حاجة كوي�سة ،ولو متغري�ش �أكون بردو قادرة �أكمل
حياتي معاه زي ما هو.
مبلل �شديد ،كانت تريد �أن تخربها
كانت والء ت�ستمع �إىل كلمات �أختها ٍ
ب�أنها تفكر بحماقة ،فكيف ترف�ض ذاك الكنز الذي �أتى �إليها من حيث
ال حتت�سب ،ذاك الكنز الذي تتمناه مئات ورمبا �آالف الفتيات غريها،
�أي عقل هذا يا اهلل! �شعرت والء �أن �سلمى لن تدرك قيمة هذا الر�أ�س
الياب�س وذلك التفكري العقيم �إال عندما ُت�ض ّيع منها تلك الفر�صة� ،أرادت
ﻋﺼ
�أن ت�صرخ بها لت�ستفيق� ،أرادت �أن تزوجها �إياه عنوة ،ولكنها لن ت�ستطيع،
ﲑ ﺍﻟ
أنت حرة .ثم
اكتفت بنظرة خاوية �إىل �أختها �أتبعتها بكلمتها الأخريةِ � :
ﻜﺘ
غادرت الغرفة و�صفعت الباب خلفها بي�أ�س ،ابت�سمت �سلمى بعدما غادرت
�صغريتها الغرفة وظلت تدعو لها بالهداية والتوفيق يف حياتها ،وقررت
ﺐ ﻟﻠﻨ
بعدها �أال تخرب �أحدً ا �آخر عن ر�أيها قبل اتخاذ قرارها النهائي.
zzz
ﺸﺮ
ف�شلت كل حماوالته طوال �شهر كامل وهو يحاول �إقناع والده بالتقدم
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
لتلك الفتاة التي ظل يتمناها ل�سنوات ،ولكنه يرف�ض وب�شدة ،يرى �أن
ﺯﻳﻊ
فاروق ما زال �صغ ًري على الزواج وم�سئوليته ،و�أن اال�ستعجال الآن -وهو
الذي مل ُي َث َّبت يف عمله حتى� -سوف يجعله يندم الح ًقا لأنه اختار و�ضع
احلمل الثقيل على ظهره بحما�س �شبابي طائ�ش وبال تفكري عميق، ذاك ِ
قرر ال�شاب �أن يرتك والده عدة �أيام ليهد�أ ،ومن َّثم يبد أ� يف الإحلاح عليه
من جديد ،فلو طلب منه �أن يتنازل عن �أي حلم �آخر لفعل ،ولكن هذا
احللم بالتحديد لن يتنازل عنه �أبدً ا مهما كلفه الأمر.
144
واقف يف �صمت ينظر ذات م�ساء خريفي خفيف الربودة ،بينما هو ٌ
من نافذته �إىل تلك ال�سماء املظلمة والتي حتت�ضن يف �صدرها القمر
بنوره اخلجول ،ويت�أمل ما تناثر حوله من جنوم متعددة الأحجام ب�ضوئها
اخلافت احلزين ،وك�أنها �شعرت به و�أرادت �أن ت�شاركه �آالمه وهمومه،
�إذا به ي�سمع طرقات خفيفة على باب حجرته ،ظن �أنه �أكرم ،الأخ الأكرب
والوحيد له ،ف�أذن له بالدخول ،ترك همومه و�أحزانه جان ًبا والتفت ل ُيلقي
عليه التحية ،ف�إذا به يرى والده �أمامه ،ر�سم ابت�سامة هادئة على وجهه
مع �إمياءة ر�أ�س خفيفة و�أ�شار لوالده �أن يجل�س ،جل�س بجواره ،بق�سمات
ﻋﺼ
مليئة بالإ�شفاق قال الأب:
ﲑ ﺍﻟ
� -أمك بتقول �إنك م�ش بتاكل كوي�س اليومني دول ،وعلطول �ساكت
ﻜﺘ
وقاعد لوحدك!
-متقلق�ش يا بابا ،هبقى كوي�س �إن �شاء اهلل.
ﺐ ﻟﻠﻨ
-كل ده يا بني عل�شان رف�ضت �إنك تتجوز دلوقتي؟! �أنا بعمل ده
كله عل�شان م�صلحتك!
ﺸﺮ
قالها الأب بتعجب �شديد ،فالح طيف حزن بعينيه ،وقال ب�أ�سى وهو
يتذكر حمادثاته ال�سابقة مع والده:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
-يا بابا ح�ضرتك حتى رف�ضت تعرف هي منيّ ،ول عرفتها منني،
ﺯﻳﻊ
ورف�ضت ت�سمع مني �أي حاجة �أبررلك بيها �سبب طلبي ده!
�أحاطه الأب بذراعه الأي�سر وربت على كتفه بحنان ثم قال بهدوء:
-طيب ما�شي يا فاروقِّ ،
قول هي مني يا بني ،وليه م�ستعجل على
اجلواز كده!
-هي تبقى نهى �أخت حممد �صاحبي اهلل يرحمه.
-حممد ابن احلاج عماد جارنا؟
145
ً
مت�سائل باهتمام ،بينما الحظ فاروق ق�سمات والده التي النت قالها
وبد�أت تظهر عليها ابت�سامة خفيفة ،فانفرجت �أ�ساريره و�أوم�أ بر�أ�سه
�إيجا ًبا ،ثم متتم بحما�س:
-و�سبب �إين م�ستعجل على اجلواز لأن مفي�ش �أي �سبب يخليني
�أ�أجل �أكرث من كده ،يعني خال�ص اتخرجت وا�شتغلت وب�إذن
اهلل قادر �أ�شيل م�سئولية زوجة وبيت ،وكمان البنت على خلق،
ولو راحت مني حقيقي هزعل جامد!
ﻋﺼ
نظر الأب يف عيني ابنه وهو يتحدث عن الأمر ،ور�أى احلزن ي�سبح
بداخلهما ،ومل�س بخربته يف التعامل مع الب�شر �شوق فاروق اجلارف
ﲑ ﺍﻟ
لإمتام ذلك الأمر ،ف�أراد �أال ُيحزنه كما كان يفعل �ساب ًقا ،لعله على حق،
ﻜﺘ
يوما ً
طائ�شا وال م�ستهرتًا ،و�أنه وخ�صو�صا لأنه يعرف �أن فاروق ما كان ً
ً
حت ًما �سيقدر على تلك امل�سئولية طاملا �أنه متم�سك بها لهذه الدرجة ،قال
ﺐ ﻟﻠﻨ
ً
مت�سائل: الأب
-طيب يا بني امتحانات ن�صف ال�سنة قربت تبد�أ ،هينفع تتقدم
ﺸﺮ
بد�أت عالمات ال ِب�شر تك�سو وجه فاروق .يبدو �أنه �سيوافق ،هكذا ح َّدث
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
�ساعته ف�إذا بها احلادية ع�شرة م�سا ًء .الوقت غري منا�سب ،هكذا هم�س
لنف�سه ،فقرر الذهاب للنوم على �أن يت�صل بال�سيد عماد يف الغد ،و�أخذ
ﲑ ﺍﻟ
يدعو اهلل �أن يوفقه ملا فيه اخلري وملا يحبه وير�ضاه.
ﻜﺘ
zzz
ﺐ ﻟﻠﻨ
ظهرية اليوم التايل ات�صل فاروق بال�سيد عماد و�أخربه برغبته يف
التقدم للآن�سة نهى ،ف َر ّحب والدها بذلك كث ًريا و�أخرب فاروق ب�أنه ما
ﺸﺮ
حتى امل�ساء ،و�إذا بهاتفه الذي كان بني يديه يهتز وينري با�سم ال�سيد
ﺯﻳﻊ
عماد� ،ضغط على زر املوافقة وو�ضع الهاتف على �أذنه ب�سرعة ،ف�إذا بوالد
العرو�س يخربه ب�أنهم يف انتظارهم يف عطلة نهاية الأ�سبوع بعد �صالة
الع�شاء مبا�شرة� ،أخذ فاروق ي�شكره ب�شدة ومبنتهى احلما�س ،وي�ؤكد له
ب�أنهم �سيذهبون �إليهم يف املوعد املحدد ،مما جعل الرجل يتعجب ،ولكنه
بعد ذلك �ضحك بطيبة وهو يتذكر �أيام �شبابه عندما وافقت عليه والدة
نهى وما �شعر به وقتها.
147
ح�ضر نف�سه للقاء ويف يوم اجلمعة بعد �صالة املغرب بد أ� فاروق ُي ّ
عرو�سه ،فقام بارتداء مالب�س �أنيقة للغاية ،و�أم�سك بالفر�شاة وبد�أ
بت�سريح �شعره للخلف ثم و�ضع عليه القليل من كرمي ال�شعر الذي يف�ضله،
ي�صا لهذه املنا�سبة ،ثم وقام بر�ش ً
بع�ضا من العطر الذي ا�شرتاه ِخ ّ�ص ً
ابت�سم للمر�آة ،ابت�سم ب�شدة وكانت عيونه ت�شع �سرو ًرا ،فور انتهائه مما
كان يفعله �سمع املنادي ينادي ل�صالة الع�شاء ،فهبط من منزله لأداء
�صالته ،ثم عاد وا�صطحب والديه �إىل منزل نهى.
فتح ال�سيد عماد باب منزله ورحب بهم ِترحا ًبا �شديدً ا ،دخلوا جمي ًعا
ﻋﺼ
وبد�أ فاروق يتحدث مع ال�سيد عماد عن �إمكانياته وما ينوي �أن يفعله �إذا
ﲑ ﺍﻟ
�أراد اهلل �أن تكون نهى من ن�صيبه ،بينما ظل والد فاروق يتحدث عن
ﻜﺘ
عائلته ،عمله ،و�أ�شياء من هذا القبيل ،ابتعدت والدة نهى عن الرجال
مع والدة فاروق وبد�أت كل واحدة منهما تتحدث مع الأخرى عن تربيتها
ﺐ ﻟﻠﻨ
ر�أى فاروق بو�ضوح خديها ي�شعان حمرة كحمرة ال�شفق� ،أو رمبا �أكرث،
ووجدها � ً
أي�ضا تفرك �أ�صابعها ببع�ضها من فرط ارتباكها ،ف�أراد �أن ُي َه ّدئ
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
يجدها دائ ًما �إىل جواره بحبها وعطفها و�صربها عليه� ،شريكة ينجب
ﲑ ﺍﻟ
أبطال يحملون رايات الإ�سالم ويكونون دائ ًما يف خدمته ،كانت منها � ً
نهى ت�ستمع �إليه بفخر �شديد ،فهذا بالتحديد ما كانت تتمناه يف زوجها
ﻜﺘ
امل�ستقبلي� ،أرادت �أن تخربه ب�أنها �شعرت بالراحة ال�شديدة بعدما الم�ست
زوجا مثله،
أي�ضا تتمنى ً كلماته ِ�شغاف قلبها� ،أرادت �أن تخربه ب�أنها هي � ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
واحد ،انتهى فاروق من كالمه و�س�ألهابحرف ٍ ٍ ولكنها مل ت�ستطع �أن تنطق
عن �أي مالحظات عليه ،ف�أوم�أت بر�أ�سها نف ًيا ،ف�س�ألها عن �أي �شيء �آخر
ﺸﺮ
نف ًيا مرة �أخرى بحرج بالغ ،فابت�سم فاروق وقال مبرح:
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
-يعني �إيه؟
حرجا من ذلك
�س�ألها م�ستفه ًما ،ف�أجابت وقد انكم�شت يف مقعدها ً
ﲑ ﺍﻟ
التق�صري الذي ت�شعر به جتاه ربها:
ﻜﺘ
-يعني �أنا تقري ًبا م�ش حافظة قر�آن خال�ص ،ممكن نقول ال�سور
الق�صرية ب�س ،وم�ش احلد بردو اللي بيعمل عبادات كتري
ﺐ ﻟﻠﻨ
و�سنن وكده ،لكن احلمد هلل طول عمري حمافظة على �صالتي
وحجابي ال�شرعي ،وبحاول دا ًميا �أراعي ربنا يف كل خطوة
ﺸﺮ
عليها ح�سنات وال �سيئات ،ب�س كمان فيه حاجات كتري يف الدين
ﺍﻟﺘﻮ
ل�سه م�ش عارفاها ،يعني كنت متفقة مع حممد اهلل يرحمه �إننا
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
-لو وافقتي �أنا ممكن �أ�ساعدك!
ﲑ ﺍﻟ
ت�سارعت نب�ضاتها ،وازداد توترها املغلف باحلياء ومل ت�ستطع �أن تنب�س
ﻜﺘ
قليل لوجدها ان�صهرت �أمامه ببنت �شفة� ،شعر فاروق ب�أنه لو زاد الكالم ً
من فرط حرجها ،ف�س�ألها مرة �أخرى عن كونها تريد �أن تتحدث يف �أي
ﺐ ﻟﻠﻨ
والدته تودع والدة نهى وابنتها ،وعندما غمز لها فاروق وهي تقف �أمام
نهى كما اتفق معها ،بد�أت الأم تربت على كتف العرو�س بحنان وتخربها
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ب�أنها كالبدر ،وب�أنها �ستكون �سعيدة �إذا �أ�صبحت زوجة البنها ،فابت�سمت
ﺯﻳﻊ
نهى واحت�ضنت والدة فاروق بحب ،ابت�سم فاروق البت�سامتها ،ودعا لوالدته
باجلنة ،وقرر �أن ي�شكرها من �أعماقه عندها يخرج من هذا املنزل لأنها
قامت بدورها بطريقة مميزة ،فقد اتفق معها على هذا لي�سعد قلب نهى،
أي�ضا ليجعلها تقرتب من والدته وت�شعر بحنانها وتعتربها �أُ ًما ثانية لها.
و� ً
هبط فاروق من منزل عرو�سه ،و�أثناء �سريه مع والديه نظر لوالدته
وقال والبهجة تند من عينيه:
151
� -أمي �أنا طاير من الفرحة� ،أق�سم باهلل طاير وحا�س�س �إن مفي�ش
حد �أدي يف الدنيا دي ،ربنا يكملها على خري ويقدرين على �إين
�أكون ليها الزوج ال�صالح اللي بتتمناه و�أكرث.
-ربنا ي�سعدك يا فاروق يا بني� ،أنت ً
فعل ت�ستاهل كل خري.
قالتها والدته وقد الح ال�سرور على حمياها ،بينما ابت�سم والده لر�ؤية
تلك لفرحة� ،أما عن فاروق ،فقد ذهب �إىل عامل �آخر ،ذهب بخياله �إىل
�صرب ال�سنني ،وغ�ض الب�صر ،واملحافظة عليها من جمرد كلمة ،والآن،
الآن فقط �أطلق ب�صره ونظر لها حتى ارتوى ،وحتدث معها و�أخربها
ﻋﺼ
مبا يريد قوله من �سنوات يف حدود ما هو م�سموح به الآن ،و�سمع �صوتها
ﲑ ﺍﻟ
وتعرف على �أحالمها� ،أدرك الآن وفقط قيمة العفة التي عا�ش بها ً
طويل.
zzz
ﻜﺘ
طوال الأيام املا�ضية كانت �سلمى تريد �أن تخرب والدها برف�ضها
ﺐ ﻟﻠﻨ
للعري�س الذي �أتى �إليها قبل عدة �أيام ،ولكنها تخاف �أن ي�سخط عليها
ﺸﺮ
وي�ست�شيط غ�ض ًبا منها ،فكانت ت�ؤجل قرارها وتفكر مرة تلو الأخرى لعلها
تغري ر�أيها يف �أي وقت ،ويف ع�صر �أحد الأيام وجدت والء تنادي عليها
ﻭ
يف املو�ضوع ،خرجت من غرفتها ووقفت �أمام والدها وقد بدت مرتبكة،
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
بها.
ﲑ ﺍﻟ
بد�أت االمتحانات وذاب جميع الطالب بداخل الكتب واملالزم اخلا�صة
ﻜﺘ
بهم ،مرت حلظات ع�صيبة على اجلميع ،وخا�ص ًة والء التي كانت تائهة
ب�شدة و�سط هذا املجتمع اجلديد الذي دخلته ،وهذه املحا�ضرات التي
ﺐ ﻟﻠﻨ
مل تعتد على املذاكرة منها ،و�أخذت حتاول بذل ق�صارى جهدها حتى
تظل متفوقة كما عهدها اجلميع ،بينما حاولت �سلمى �أن ُتك ّر�س كافة
ﺸﺮ
جمهوداتها هذه الأيام لإتقان موادها الدرا�سية حتى ُتنهي عامها النهائي
باجلامعة على خري.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
الق�صرية فيما يحب ،كانت �سلمى تخطط لعدة �أ�شياء ،وكانت تنتظر
الإجازة بفارغ ال�صرب ،ولكن منذ بدايتها وهي ت�شعر بحالة من الي�أ�س
والإحباط ال�شديد مل متر بها من قبل� ،شعرت بفتور يف قلبها� ،شعرت �أن
العبادة �أ�صبحت ثقيلة عليها� ،شعرت �أن �إميانها يف تناق�ص م�ستمر ،مل
تعد لديها نف�س الطاقة ونف�س احلما�س ال�سابق ملوا�صلة م�سريتها� ،أح�ست
ه�شة وواهنة� ،أح�ست �أن الدنيا ما عادت وردية فج�أة �أن روحها �أ�صبحت ّ
كما كانت تراها� ،أرهقتها كرثة امل�ضايقات واالنتقادات التي تتعر�ض لها
153
من �أختها وبنات عائلتها وحتى �صديقاتها� ،أتعبتها الوحدة وافتقادها
لل�صحبة ال�صاحلة ،ا�شتاقت كث ًريا حلف�صة ولدفء كلماتها التي كانت
ترمم �شروخ قلبها ،متنت لو ا�ستطاعت التوا�صل معها الآن و�إفراغ تلك
الهموم اجلاثمة على �صدرها ،زفرت ب�أ�سى وهي تنظر �إيل تاريخ اليوم
يف هاتفها ال�صغري ،لقد م�ضى �أ�سبوع كامل من الإجازة ،ومل يتبقَ �سوى
�أ�سبوع �آخر ويبد�أ الف�صل الدرا�سي الثاين ،وهي التي مل تتحرك من مكانها
خطوة واحدة� ،أرادت �أن حتدث حف�صة� ،أرادت ذلك ب�شدة ،فذهبت �إىل
احلا�سوب اخلا�ص بها وقامت بفتح موقع الفي�س بوك وكتبت حلف�صة:
ﻋﺼ
-حف�صة �أنا حمتاجالك دلوقتي �أكرث من �أي وقت فات� ،أنا تعبت
ﲑ ﺍﻟ
بجد ومبقيت�ش حا�سة بروحي ،زي ما يكون قلبي مات خال�ص،
ﻜﺘ
مبقيت�ش عارفة �أح�س بال�صالة وال القر�آن وال �أي حاجة ،حا�سة
�إين عمالة �أت�أخر م�ش �أتقدم ،حا�سة �إين معندي�ش طاقة �إين
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أخذت تعبث بزر الف�أرة لرتى ر�سائلها ال�سابقة مع حف�صة ،توقفت عند
ر�سالتها الأخرية و�أخذت تقر�أ فيها بتمهل� ،شعرت ب�أن كلماتها الم�ست
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
«ملا حت�سي �إنك تعبتي وم�ش قادرة تكلمي طريقك ا�ستخدمي �سالحك،
أنت بتقويل لربنا يا رب ابعتلي
معاك القر�آن والدعاء ،افتحي م�صحفك و� ِِ
جواك يف �سجودك واف�ضلي اتكلمي ر�سالة ،اتعودي دائ ًما تقويل كل اللي ِ
أرجوك يا
ويقويكِ � ،
ِ حلد ما ترتاحي ،متن�سي�ش تدعي كتري ربنا يثبتك
�سلمى اوعي ت�سمحي لل�شيطان �إنه يهزمك� ،أو ت�سمعي كلمتني بايخني من
معاك القر�آن والدعاء يا �سلمى فاهماين؟
�أي حد فتتنازيل عن هدفكِ ،
معاك �سالحك يا �سلمى اوعي تتخلي عنه»
ِ
154
وجدت االبت�سامة ت�شق جمراها عرب �شفتيها� ،شعرت برع�شة خفيفة
جتتاح ج�سدها ال�ضئيل ،فنه�ضت من مكانها ونظرت من نافذة غرفتها
ل�سماءٍ وا�سع ٍة ُمزينة بنجوم براقة� ،شعرت ب�أنها تبت�سم لها لتخربها �أن كل
فخيل �إليها �أن القمر مي�شي على�شيء �سيكون على ما يرام ،نظرت ميي ًنا ُ
ا�ستحياءٍ مقرت ًبا منها ليقف �إىل جوارها يف تلك املحنة� ،أعجبها منظر
�ضوئه اخلفيف وهو يت�سلل اخللفية الكحلية املظلمة فيبدد جز ًءا ً
�ضئيل
من ظلمتها� ،أغم�ضت عينيها ورفعت كفيها املكتنزتني �إىل ال�سماء وبد�أت
تتمتم لربها مبا يعتمل �صدرها من �آالم� ،أخذت ت�شكو له امل�ضايقات التي
ﻋﺼ
تتعر�ض لها ،وتطلب منه العون والقوة� ،أخربته �أنها �أحبت هذا الطريق وال
ﲑ ﺍﻟ
تريد �أن حتيد عنه ولكن نف�سها تق�سو وتتمرد ،طلبت منه �أن يثبتها على
طريق احلق ويهون عليها م�صائب الدنيا و�ضغوطات احلياة ،ثم عادت
ﻜﺘ
�أدراجها �إىل حا�سوبها مرة �أخرى ،وبد�أت مت�شي على �صفحتها الرئي�سية
ب�شرود ،قر�أت عدة من�شورات بعينني زائغتني وك�أن قلبها يف مكان �آخر،
ﺐ ﻟﻠﻨ
ا�ستوقفها من�شور يخربها ب�أن �صديقتها زهرة اللوت�س ت�ستمع �إىل ا�شتقت
�إليك ،ف�أخذت حتمد اهلل الذي عافاها من هذا االبتالء وتدعو ل�صديقتها
ﺸﺮ
�أن ترتك الأغاين التي ُتيت قلبها وتعود �إىل كتاب اهلل ،قبل �أن تهبط �إىل
ﻭ
من�شور �آخر الحظت ا�سم املن�شد �أحمد �سعيد ،ذلك املن�شد الذي �أخربتها
ﺍﻟﺘﻮ
ربها ،ثم قررت حتميل تلك الأن�شودة واال�ستماع �إليها لعلها ت�ستحوذ على
مكان ما بقلبها ،وبد�أت الأن�شودة..
�ضاقت بيا الدنيا لقيتني �إن�سان غريب
وبقيت �أنا حاجة تانية بجد �إن�سان عجيب
لقيتني بعدت يف ثانية بعد �أما كنت قريب
155
لقيت قلبي بقى �آ�سي عينيا مفيها�ش دموع
لقيتني بجد نا�سي �أي معنى للخ�شوع
خال�ص قلبي �إح�سا�سي بيتمنوا الرجوع
وخال�ص يا رب �أنا راجع ليك ندمان ب�شدة �أنا بني �إيديك
على كل حلظة مكنت�ش ليك وكنت فيها عا�صيك ونا�سيك
يا رب راجع �أدق الباب باب الرحيم باب التواب
ﻋﺼ
ده ملا بعدت �شوفت العذاب خال�ص يا رب ا�شتقت �إليك
ﲑ ﺍﻟ
�أنا قولت هعي�ش حياتي ب�س �أنا عاي�شها حرام
ﻜﺘ
عل�شان �أر�ضي �شهواتي و�أبقى مب�سوط ومتام
�أتاريني هزيد �آهاتي وكل ده �أوهام
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
zzz
ات�صال هاتف ًيا �آت ًيا من فاروق يخربه فيه ب�أن �إحدى
ﲑ ﺍﻟ
ً تلقى �إ�سالم
ﻜﺘ
ال�شركات اخلا�صة تطلب مهند�سني مدنيني حديثي التخرج ،و�أن مدير
�شركتهم �أخربهم �أن ين�شروا اخلرب على �أو�سع نطاق لعل �أحدهم يحتاج
ﺐ ﻟﻠﻨ
�إىل تلك الوظيفة ،و�أن املقابلة ال�شخ�صية �ستكون غدً ا ب�إذن الرحمن�ُ ،سر
�إ�سالم لذلك اخلرب كث ًريا ،وتفاءل بعدما كان قد ي�أ�س من البحث املُ�ضني
ﺸﺮ
وك ّلت منه �أقدامه� ،شكر فاروق ب�شدة و�أخربه �أنه �سيجهز �أوراقه ،و�سيكون
ﻭ
هناك يف املوعد املحدد ب�إذن اهلل ،ح ّياه وكاد �أن يغلق الهاتف لوال �أنه �سمع
ﺍﻟﺘﻮ
فاروق يهتف:
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
جتعله ي�شعر برجفة خفيفة يف قلبه ،وبعدها ترت�سم ابت�سامة هادئة حنونة
على �شفتيه مع متتمة �آتية من �أعماق القلب ب�أن يبارك اهلل له يف حياته
هذا الفتى دخل قلبها منذ عرفته ،و�أنها تطمئن على �إ�سالم عندما يكون
ﺸﺮ
معه� ،أ ّيدها �إ�سالم ب�شدة و�أخربها �أنه كان يظلم فاروق كث ًريا يف ال�سابق،
ولكنه بعدما تقرب منه وجد داخل قلبه اخلري الكثري ،انتهى من كالمه
ﻭ
مع والدته فا�ست�أذن منها ليذهب للنوم لأنه يبدو �أن يومه القادم �سيكون
ﺍﻟﺘﻮ
طويل.ً
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
و�أخذت تربت على ظهره بحنان بالغ ،فقد كانت ت�شفق عليه ب�شدة طوال
الفرتة املا�ضية عندما جتده عائدً ا هائ ًما على وجهه وقد �أرهقه البحث.
ﲑ ﺍﻟ
احلمد هلل ،قالتها بعد �أن زفرت زفر ًة طويلة ،ثم دفعت به بعيدً ا عنها
ﻜﺘ
و�أخربته مازحة �أنه يجب �أن ينام مبك ًرا من الآن و�صاعدً ا فالعمل ينتظره!
zzz
ﺐ ﻟﻠﻨ
بد�أ �إ�سالم يرتدد على عمله يوم ًيا ،وا�ستطاع خالل فرتة ق�صرية تكوين
ﺸﺮ
�صداقات مع فريق عمله ،م�ضى �شهره الأول يف العمل على خري ،وكانت
حلظة ا�ستالم راتبه الأول مميزة جدً ا بالن�سبة له ،فربغم كون الراتب
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�صغ ًريا بع�ض ال�شيء �إال �أنه لأول مرة مي�سك ما ًال �آت ًيا من عرق جبينه،
ﺯﻳﻊ
يف الرابعة والن�صف م�سا ًء كان ي�سري يف ال�شارع عائدً ا �إىل منزله ويحمل
راتبه بفرحة كبرية ،عندما الحظ فتاتني �آتيتني من بعيد� ،إحداهما ترتدي
بنطال من اجلينز وفوقه ف�ستان ي�صل بالكاد �إىل ركبتيها ،بينما الأخرىً
ترتدي مالب�س ف�ضفا�ضة للغاية مل تظهر �أ ًيا من تفا�صيل ج�سدها ،وجد
نف�سه بتلقائية يدعو لذات املالب�س الف�ضفا�ضة ويتمنى لو كانت جميع
الفتيات مثلها ،اقرتبت الفتاتان منه �أكرث فتبني �أن ذات البنطال هي هند
�أخته ومعها �صديقة لها ،ابت�سمت هند ب�سعادة و�أ�شارت له وهي تتجه �إليه،
159
بينما �شعرت �سلمى باحلرج ال�شديد واقرتبت من احلائط حتى بد�أ ثوبها
يتعلق به و�أ�سرعت اخلطى نحو منزلها ،وقفت هند �أمام �أخيها و�ألقت
عليه التحية ،ثم نظرت �إىل جوارها فلم جتد �صديقتها� ،أطلقت ب�صرها
بعيدً ا فوجدتها قاربت على الو�صول ملنزلها ،ف�أدركت �أنها جتازوتهما
وم�ضت دون �أن تنتبه لها� ،ضحكت ب�شدة وهي تقول:
-اتك�سفت وجريت!
نظر �إ�سالم خلفه بتلقائية ،ثم عاود النظر �إليها و�س�ألها باهتمام:
ﻋﺼ
-هي مني دي؟
ﲑ ﺍﻟ
-معقولة متعرفها�ش! دي �سلمى �صاحبتي اللي كانت دائ ًما
بتيجي عندنا البيت واحنا �صغريين.
ﻜﺘ
-ما �شاء اهلل ،باين عليها حمرتمة.
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أخربته � ً
أي�ضا عن �شخ�صيتها احلنونة والهادئة ،وعن ر�أ�سها الياب�س العنيد
ﺍﻟﺘﻮ
جميل ت�شعر به جتاه �سلمى ،فكان �إ�سالم ولأول مرة ي�ستمع �إليها باهتمام
�شديد ،ومن �آن لآخر يهم�س :ما �شاء اهلل ،ثم يعاود االنتباه لكلماتها من
جديد ،و�صال م ًعا �إىل منزلهما ،ودخل كل منهما لتبديل مالب�سه ،انتهى
�إ�سالم من ارتداء مالب�س املنزل وجل�س على فرا�شه يفكر ب�شرود ،بد�أ
يفكر يف كل كلمة قالتها هند ،بد�أ ي�س�أل نف�سه ،هل بالفعل ما زال هناك
فتيات بهذه ال�صفات اجلميلة يف عاملنا احلايل! و�إذا كانت موجودة ،فهل
160
من املمكن �أن يح�صل �شخ�ص مثله على �إحداهن بعد ما اقرتفه من ذنوب
ما�ضية! بد�أ ي�ؤكد لنف�سه ب�أنه تاب وندم على كل ما اقرتفته نف�سه من
معا�صي ،ومنذ توبته وهو يتمنى �أن يجد من ت�أخذ بيديه لتقربه من اهلل
عز وجل وت�سري معه حتى ي�صال �إىل اجلنة �سو ًيا ،زفر زفرة قوية بعدما
�شعر �أن هذا احللم يبدو بعيدً ا ،ثم نه�ض من مكانه و�سار باجتاه املطبخ
لريى ماذا �أعدت والدته للغداء ،فقد �أ�صبحت معدته ت�صدر �أ�صواتًا غري
الئقة من فرط �شوقها �إىل الطعام.
zzz
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
كانت والء جتل�س �ساهمة عندما دخلت �سلمى لتح�ضر بع�ض الأغرا�ض
من الغرفة ،و�س�ألتها عن �شيء ما فلم ُتب ،اقرتبت منها �سلمى و�أم�سكت
ﻜﺘ
كتفها وهزته هزة خفيفة ،فانتف�ضت والء من مكانها ،ثم تنهدت بقوة بعد
ر�ؤية �أختها وعادت لهدوئها من جديد� ،س�ألتها �سلمى عن �سبب �شرودها،
ﺐ ﻟﻠﻨ
ف�أجابت ب�ضيق:
ﺸﺮ
ﻋﺼ
و�ضاءة هادئة وهي جتيب باتزان: ابت�سامة ّ
ﲑ ﺍﻟ
-على فكرة �أنا واقعية جدً ا يا والء ،كل املو�ضوع �إن �أنا عندي ثقة
ﻜﺘ
فعل م�ش عايزة حاجة من كبرية جدً ا يف ربنا ،ربنا عامل �إين ً
الدنيا غري واحد ياخد ب�إيدي للجنة وي�ساعدين على �إننا نعي�ش
ﺐ ﻟﻠﻨ
� -أنا عارفة �إين �أقل بكتري من �إين �أ�ستاهل واحد زي ده ،ب�س
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
z
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
163
-6-
يوما عن يوم يزداد ت�شبثه بها ،وتتعمق �أ�صبحت ال تغيب عن بالهً ،
بداخله فكرة ارتباطه بها ،حاول كث ًريا طرد تلك الفكرة عن ر�أ�سه لأنه ما
ﻋﺼ
زال ذو �إمكانيات قليلة ال ت�سمح له بالتقدم لإحداهن ،ولكن كلمات هند
ﲑ ﺍﻟ
عنها كانت تتقافز داخل ر�أ�سه من �آن لآخر وتلهب حما�سه لتدفعه للقيام
ب�أي خطوة �إيجابية� ،سيطرت الفكرة ب�شكل تام على ر�أ�سه مما جعله يبد�أ
ﻜﺘ
يف التخطيط للتقدم لها ،ويف حلظة ما طاف �شبح حبيبته الأوىل �سارة
مبخيلته ،ر�آها حزينة ومالحمها باهتة� ،شعر �أنها تتهمه باخليانة وعدم
ﺐ ﻟﻠﻨ
الوفاء بالوعد ،مما جعله ينتف�ض وك�أنه �أُ�صيب مبا�س كهربائي فج�أة،
�شعر �أنه دينء وحقري ،فكيف له �أن يفكر يف فتاة �أخرى بعدما وعدها �أن
ﺸﺮ
يتقدم لها فور تخرجه وعمله ،كيف له �أن ين�ساها حتى ولو م�ضت �سنوات،
ﻭ
لأول مرة منذ فرتة طويلة يقرر الدخول لزيارة �صفحتها ال�شخ�صية� ،أراد
ﺍﻟﺘﻮ
فقط �أن يطمئن عليها بعدما منع نف�سه عنها �شهور طوال� ،أراد �أن يخربها
ﺯﻳﻊ
هام�سا ب�أنه ما زال على العهد ،وب�أنه �سوف يطرد �سلمى -تلكولو حتى ً
الزائرة اجلديدة -عن ر�أ�سه و ُيفرغ قلبه لها وفقط� ،أراد � ً
أي�ضا �أن يق�ص
عليها ما طر�أ عليه من تغيريات خالل الفرتة املا�ضية ،ويطلب منها �أن
تكون هي رفيقته يف دربه اجلديد وتعينه وت�شجعه على التقرب من ربه
�أكرث و�أكرث ،قام بالدخول على �صفحتها ال�شخ�صية فلمحها ت�ضع �صورة
�شخ�صية لفتاة ذات خ�صالت �سوداء حريرية ُم�سدلة خلف ظهرها ،فغ�ض
الطرف عنها فو ًرا وهبط للأ�سفل ليتابع �آخر �أخبارها ،مرت �إحدى ع�شرة
164
دقيقة ا�ستغرقها جمي ًعا يف قراءة من�شوراتها املبعرثة عن احلب واملوت
واالكتئاب ،التفا�ؤل والأمل واحلياة ،قبل �أن يرى من�شورها الالحق املكون
واحد ُكتب فيه :و�أخ ًريا جربت طعم احلب ..لأول مرة. �سطر ٍمن ٍ
وم�صحوب ب�صورة لها وقد �أحاطها �أحدهم بذراعه وهو ينظر لها
بع�شق ،ا�شتعلت الغرية داخل قلبه وت�أجج الغ�ضب ب�صدره� ،شعر ب�أن
الدماء تغلي داخل ر�أ�سه وبد�أت �أنفا�سه تتالحق ب�سرعة كبرية ،بد�أ يقر�أ
طعم للحب هذا جملتها الوحيدة مرة تلو الأخرى وهو يكاد يجن� ،أي ٍ
الذي ت�شعر به لأول مرة! و�إذا كانت �صادقة ،فماذا عن عالقتها ب�إ�سالم!
ﻋﺼ
وماذا عن عالقتها مبن �سبقوه و�أخربته عنهم يف حمادثتها الأخرية! �شعر
ﲑ ﺍﻟ
بت�شتت �أركانه وانهيار �أطرافه� ،شعر ب�أنه ال بد �أن يواجهها و ُي َفرغ بها كل
ﻜﺘ
ما يحمله �صدره من غ�ضب ،نعم ال بد �أن يفهم منها كل �شيء قبل �أن يقرر
خطوته القادمة ،كان هذا ر�أيه قبل �أن يدقق النظر للمرة الأوىل ل�صورتها
ﺐ ﻟﻠﻨ
لل�صورة بعدم ت�صديق� ،أتكون ظنونه التي قفزت �إىل ر�أ�سه للتو حقيقة،
�أتكون �سارة تخلت عن حجابها ،وعن عالجها ،وعن كل �شيء وعادت
ﻭ
للدوامة التي كانت تعي�شها �ساب ًقا و�أرادت �أن ترتبط ب�أحدهم حتى تن�سى
ﺍﻟﺘﻮ
�إ�سالم وما فعله بها! �أراد التحقق من ظنونه ،فبد�أ ينظر �إىل التعليقات
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
به ،فبادله �إ�سالم ابت�سامة خفيفة وبد أ� يف حديثه مبا�شرة بعدما جل�س
ﲑ ﺍﻟ
على �أقرب كر�سي للباب وقال:
ﻜﺘ
-فاروق فاكر ال�شاب اللي كلمتك عليه قبل كده وكنت بقولك �إنه
بيحب واحدة وح�صل بينهم �شوية جتاوزات ،و�أنت قولتلي �إنه
ﺐ ﻟﻠﻨ
الزم يبطل يتكلم معاها ويتوب لربنا ،و�إنها لو فيها اخلري ليه
فربنا هيقرب بينهم تاين ولكن يف احلالل؟
ﺸﺮ
زفر �إ�سالم بقوة ،وقال وقد ا�ستعارت احلرية لنف�سها بوجهه مقعدً ا:
ﺯﻳﻊ
� -أنا هكون �صريح معاك و�أحكيلك على كل حاجة لأين يف �أ�شد
احلاجة للن�صيحة ،ال�شاب ده يبقى �أنا ،والبنت اللي حبيتها
زمان وبعدها توبت وبطلت �أكلمها بقيت بح�س مع مرور الوقت
�إن مكانتها بتقل يف قلبي ،و�إن م�ش دي البنت اللي تنا�سبني
كزوجة.
�صمت ً
قليل ثم ا�ستطرد:
166
-من كام يوم �شوفت بنت جارتنا و�صاحبة �أختي ،و�س�ألت عنها
وب�صراحة �أُعجبت جدً ا ب�أخالقها ولقيتني م�شدود ليها وبتمنى
�إنها تكون مراتي ،بعدها بد�أت �أفتكر البنت اللي حبيتها زمان
وح�سيت �إين كده طلعت ندل معاها ،فقررت �إين �أطلع جارتي
دي من دماغي و�أرجع �أتوا�صل مع البنت الأوالنية و�أحاول
�أتقدملها هي عل�شان �أويف بوعدي ،النهارده بقى عرفت عنها
�شوية معلومات كده �ضايقتني وح�سيت �إين م�ش هقدر �أكمل
معاها ،فب�صراحة م�ش عارف �إيه ال�صح يف احلالة دي ،عل�شان
ﻋﺼ
كده قولت �آجي �أحكيلك جايز �أالقي عندك احلل.
ﲑ ﺍﻟ
عاد فاروق بظهره �إىل ظهر كر�سيه يف هدوء ،ثم هتف بعدما ر َّبع
ﻜﺘ
ذراعيه �أمام �صدره:
-ب�ص يا �سيدي ،املو�ضوع يتلخ�ص يف نقطتني �أ�سا�سيتني ،النقطة
ﺐ ﻟﻠﻨ
متاما ،وده اللي ح�صل ،يبقى كده خال�ص املو�ضوع ونبعد عنه ً
انتهى ،يعني مبعنى �آخر �أنت م�ش ُمطالب �إنك تتجوزها عل�شان
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ب�س حا�س�س بالذنب ،لأنك لو عملت كده وهي م�ش منا�سبة ليك
ﺯﻳﻊ
حال ًيا يبقى ظلمت نف�سك وظلمتها واحتمال كبري تعي�شوا يف
م�شاكل ال ح�صر لها!
�صمت للحظات حاول فيها التقاط �أنفا�سه وا�ست�أنف:
-ومن هنا بننتقل للنقطة التانية :وهي هل البنت دي منا�سبة
ليك دلوقتي وال لأ؟ يعني ترت�ضيها زوجة بكل ما فيها من
مميزات وعيوب وال لأ؟ لو اه ،يبقى تروح تتقدم لها وب�إذن اهلل
ربنا يجعلها من ن�صيبك لو فيها اخلري ليك ،ولو لأ ،يبقى تدور
167
على الإن�سانة اللي متوافقة مع �شخ�صيتك لأن املفرو�ض �إن
دي واحدة ب�إذن اهلل هتعي�ش معاها عمرك كله فبالتايل الزم
تختارها بعناية.
�شعر ب�أن هناك يدً ا حانية ُتربت على قلبهَّ ،
هد�أت كلمات فاروق من
روعه ً
قليل ،وهم�س جمي ًبا على ا�ستف�سارات �صديقه:
-ب�صراحة يا فاروق �أنا ملا �أختي حكت يل عن �صاحبتها دي لقيت
ت�شابه كبري بني تفكريي وتفكريها ،ولقيت �إن �أحالمها تقري ًبا نف�س
ﻋﺼ
�أحالمي ،فحال ًيا �شايف �أنها �أن�سب واحدة َّ
يل ،وبالن�سبة للبنت التانية
ﲑ ﺍﻟ
فعل فكرة ت�أنيب �ضمري م�ش �أكرث.فهي ً
ﻜﺘ
متاما ،خال�ص -من ر�أيي يا �إ�سالم �إنك تقفل �صفحة املا�ضي دي ً
اللي ح�صل ح�صل وب�إذن اهلل ربك يتقبل توبتك وك�أن �شي ًئا مل
ﺐ ﻟﻠﻨ
لإ�سالم بتاع دلوقتي بكل ظروفه و�أفكاره ،يبقى توكل على اهلل،
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
-أل م�ش هتكون بتخدعها ،لأن هي املفرو�ض حتا�سبك على
�أفعالك من �أول ما تعرفك ب�س� ،إمنا �أي ذنب ح�صل قبل كده
ﲑ ﺍﻟ
فده بيكون بينك وبني ربنا ،يعني �أنت عملت ذنب وتوبت عنه
ﻜﺘ
وربنا �سرتها عليك ،مينفع�ش �أنت بقى تيجي تف�ضح نف�سك
وجتاهر باملع�صية عادي كده ،بالإ�ضافة �إىل �أنها لو عرفت
ﺐ ﻟﻠﻨ
نظرها� ،أو �أي فكرة تانية ال�شيطان يو�سو�س لها بيها ،فعل�شان
كده اتفق معاها من الأول �إنكم م�ش هتحا�سبوا بع�ض على �أي
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
انتظمت يف ال�صالة يف امل�سجد ،بد�أت �أفهم و�أحفظ القر�آن،
وقر�أت يف �سرية جميع الأنبياء ،ودلوقتي بقر�أ يف �سرية
ﲑ ﺍﻟ
ال�صحابة ويف الفقه� ،أعمل �إيه تاين ّ
قول؟
ﻜﺘ
� -شوف يا �سيدي ،فيه نقطة مهمة جدً ا لو عرفت تدرب نف�سك
عليها هتظبط معاك حاجات كتري ،وهي �إنك ت�ست�شعر مراقبة
ﺐ ﻟﻠﻨ
بجدول خفيف كده فيه كام حاجة ب�سيطة تقدر تواظب عليها
يوم ًيا زي ً
مثل �أذكار ال�صباح وامل�ساء ،ورد قر�آن يومي� ،صالة
ال�سنن و�صالة ال�ضحى� ،سورة امللك قبل النوم ،عدد معني من
الت�سبيح وال�صالة على النبي واال�ستغفار ،قيام الليل حتى لو
ركعتني مع ركعة الوتر .يعني اللي تقدر عليه اعمله ،بالن�سبة
للمعامالت :فحاول دائ ًما تخليك قدوة ب�أخالقك ،عامل كل
170
النا�س باحل�سنى وابت�سم يف و�شهم ،خد بالك من والدتك
وبرها ،حافظ على �أختك لأنها م�سئولة منك ،حاول تخلي اللي
ي�شوفك يقول هو ده امل�سلم اللي على حق ،كمان راعي ربنا يف
�شغلك واوعي تت�شغل وتن�سى �أوقات ال�صالة ،ميكن مع مرور
الأيام تالقي �أ�صحابك ات�شجعوا وبقوا ينزلوا ي�صلوا معاك،
خد بالك من عينيك و�أنت ما�شي يف ال�شارع وحافظ على بنات
النا�س ،و�أخ ًريا بقى حاول تتعلم عن دينك با�ستمرار �سواء عن
طريق الكتب �أو الفتاوى �أو حتى الربامج الدينية ،وكل ما ييجي
ﻋﺼ
يف بالك �س�ؤال عن �أي حاجة ادخل ابحث عنه وزود معلوماتك،
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ ونكتفي بهذا القدر الآن.
-كالم جميل ،كالم رائع ،بارك اهلل فيك يا �شيخنا.
قالها �إ�سالم مبرح ،فنظر له فاروق بغ�ضب م�صطنع وقال:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-بترتيق ح�ضرتك!
-لأ واهلل بتكلم بجد ،ب�إذن اهلل �أحاول �أنفذ كل الكالم ده ،لأين
ﺸﺮ
ﻋﺼ
ال�سبل
ر�آها قبل عدة �ساعات� ،إال �أنه �سي�ستمع �إىل كلمات فاروق ويقطع كل ُ
ﲑ ﺍﻟ
أي�ضا �أن يحاول التقرب من ربه باملزيد من الطاعات املو�صلة �إليها ،قرر � ً
يف الفرتة القادمة ،وبعدها �إذا ر�أى يف نف�سه نف�س تلك الرغبة ،ونف�س
ﻜﺘ
ذاك ال�شغف بالزواج من ذات املالب�س الف�ضفا�ضة ،ف�سيبد�أ يف التحدث
يف الأمر مع والدته و�أخته ،وليفعل اهلل له اخلري حينها.
ﺐ ﻟﻠﻨ
zzz
ﺸﺮ
بعد ُم�ضي �شهر كامل ،ومع ا�ستمرار ت�شبث الفكرة بر�أ�سه ورف�ضها �أن
ت�ست�سلم ملخاوفه وجد نف�سه يقهر خوفه ويتخذ قراره بالتقدم لها وينتظر
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�أهمها كون �إمكانياته حمدودة وراتبه �صغري ولذلك لن تقبل به �أي عائلة،
فذلك املبلغ من املال الذي تركه له والده بعد وفاته لن يغطي كل التكاليف
املطلوبة ،ولذلك ف�أ�سرة العرو�س ال بد �أن توافق على تلك الإمكانيات
الب�سيطة املتوفرة معه الآن حتى ي�ستطيع تدبري باقي املبلغ املطلوب،
كانت هذه الفكرة كافية بالن�سبة له لكي ال يفكر يف �أمر الزواج قبل عدة
�سنوات� ،إال �أن خوفه من �ضياع �سلمى من بني يديه جعله يفكر يف الأمر
مرة �أخرى ويقرر ال�سعي جاهدً ا للو�صول �إليها وهو على يقني من �أن اهلل
172
أي�ضا منقادر على �أن يحقق له ما يتمناه حتى لو ر�آه �صع ًبا ،كان يخاف � ً
�أال يكون هو ذاك ال�شاب الذي حتلم به �سلمى ،خاف �أن تكون متطلباتها
يف فار�س �أحالمها تفوقه مبراحل ،ولكنه تراجع عن هذه الفكرة �سري ًعا
وقرر �أال ي�سبق الأحداث وينتظر حتى ي�سمع منها ر�أيها بنف�سه� ،أما عن
راتبه ال�صغري ،فقد ظن ب�سلمى خ ًريا و�شعر �أنها �ستوافق عليه وتقف �إىل
جواره حتى تتح�سن حالته املادية وي�ستطيع تعوي�ضها وقتها عن كل حلظة
�صرب وعناء �شعرت بها معه ،كما �أن ال�شركة التي يعمل بها تقوم برتقية
�أحد املوظفني اجلدد كل عام وتزيد من راتبه وذلك ح�سب الكفاءة كما
ﻋﺼ
زعموا ،لذلك �شعر �إ�سالم �أن الرتقية �ستكون من ن�صيبه يف هذا العام لأن
ﲑ ﺍﻟ
جمهوداته وجدارته يف العمل تظهر جلية �أمام اجلميع.
ﻜﺘ
غادر غرفته بعدما ح�سم �أمره وتوجه �إىل غرفة والدته ليفاحتها
يف الأمر ،فوجد منها ترحا ًبا �شديدً ا لأنها تثق يف �أخالق �سلمى وت�شعر
ﺐ ﻟﻠﻨ
باالطمئنان عندما جتد هند معها ،كان لرد فعل والدته بالغ الأثر الطيب
على نف�سه ،فلم يتوقع �أن تتحم�س للفكرة لهذه الدرجة ،على الفور
ﺸﺮ
ا�ست�أذن منها وغادر �إىل غرفة هند ليخربها هي الأخرى مبا يفكر به،
للوهلة الأوىل تعجبت هند ب�شدة من طلبه و�أخربته ب�أنه ال يعرف �سلمى
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
قدم على هذه اخلطوة� ،إال �أنه �أخربها ب�أنه �سمع عنها ما جيدً ا حتى ُي ِ
اخل�صال الطيبة التي �شجعته على اتخاذها زوجة له ،وب�أنه يكفي من ِ
ﺯﻳﻊ
بالت�أكيد �سوف يتعرف عليها بو�ضوح �أكرث يف بيت والدها ،جل�ست هند
على �أريكتها وبد�أت تفكر للحظات وهي تطرق ب�أ�صابعها على الطاولة،
ثم التفت �إليه و�أخربته ب�أن �سلمى ال تفكر يف الزواج حال ًيا وترف�ض �أي
أي�ضا والدها من املمكن �أال يوافق على م�شروع ارتباط قبل تخرجها ،و� ً
�شخ�ص يف �إمكانياته املحدودة ،زفر �إ�سالم زفرة طويلة ،ثم طلب من هند
�أال حتاول �إحباطه وت�شتيت �أفكاره ،و�أخربها �أن تذهب ل�سلمى وحتدثها يف
173
الأمر لتعرف ر�أيها منها هي مبا�شرة ،و�إذا مل يتي�سر الأمر ف�سيعلم ب�أن
اخلري مل يكن يف زواجه منها ،طلبت منه هند �أن يرتكها لبع�ض الوقت
لتفكر يف الأمر وترتب احلوار الذي �ستديره مع �سلمى يف ر�أ�سها قبل �أن
تذهب �إليها ،ف�أخربها �إ�سالم ببع�ض النقاط الهامة التي ال بد �أن تتحدث
فيها لتعرف ر�أي �صديقتها بوجه عام ،و�إذا وجدت �أن موا�صفات فار�س
�أحالمها تت�شابه مع موا�صفات �إ�سالم حينها فقط تعر�ض عليها طلبه
وتنتظر رد فعلها ،ا�ستجابت هند ملطلبه لِ ا ر�أته يف عينيه من �إ�صرار،
وحاولت �أن تزيل تلك الهموم التي ظهرت جلية على وجهه وبد�أت ت�س�أله
ﻋﺼ
عما �أعجبه يف �سلمى ،ارت�سمت ابت�سامة خفيفة على وجه �إ�سالم وبد�أ
ﲑ ﺍﻟ
يحدثها عن بع�ض ال�صفات اجلميلة التي �سمعها عنها وتركت يف قلبه
�أث ًرا طي ًبا جعله يتحم�س ب�شدة لتلك الفكرة ،فبد�أت هند بدورها حتدثه
ﻜﺘ
مرة �أخرى عن �سلمى وعن �أخالقها الطيبة وم�شاعرها ال�صادقة جتاه كل
من حتب ،مما �أ�شعره �أنه كان على حق عندما قرر خو�ض التجربة وحتمل
ﺐ ﻟﻠﻨ
النتائج مهما كانت ،بعد قليل تركها �إ�سالم لتنفرد بنف�سها كما طلبت
وخرج لأداء بع�ض الأمور اخلا�صة به ،بينما جل�ست هند تتخيل �سلمى وهي
ﺸﺮ
زوجة لأخيها و�أم لأوالده وبد�أت هي الأخرى تتحم�س للفكرة ،حتى وجدت
ﻭ
نف�سها ترفع �سماعة الهاتف وتخرب �سلمى ب�أنها �آتية لزيارتها بعد ن�صف
ﺍﻟﺘﻮ
�ساعة.
ﺯﻳﻊ
ارتدت هند عباءتها ال�سوداء التي ترتديها عادة عندما تذهب لأي
مكان قريب من منزلها ،وهبطت على الفور باجتاه منزل �سلمى ،بد�أت
حتدثها عن �أمور �شتى ،ومع مرور الدقائق بد�أت تتطرق معها �إىل مو�ضوع
فار�س الأحالم ،و�أخذت حتدثها عن �صفات من تريد الزواج منه وحتلم
بق�ضاء باقي حياتها معه ،فبد�أت �سلمى بدورها تتحدث عن ذلك ال�شاب
امل�ؤمن القوي الذي تتمنى الزواج منه� ،أخربتها ب�أنها حتلم مبن يكون هدفه
174
الأول يف هذه احلياة هو ر�ضا اهلل عز وجل ،مبن ي�شجعها على التقرب من
اهلل ويعلمها دينه وقر�آنه ،مبن يعرف حقوقه وواجباته ،ويتعامل معها كما
تعامل النبي عليه ال�صالة وال�سالم مع زوجاته ،مبن يراها �أجمل الن�ساء،
وينظر جلمال قلبها قبل �أن يهتم بجمال ج�سدها ،مبن ينوي �إن�شاء بيت
م�سلم ويربي �أوالده على الدين ال�صحيح حتى يكونوا قدوة بني �أقرانهم
فيما بعد� ،أخربتها �أن ال�شكل ،واحلالة املادية ،واملكانة االجتماعية ال
يهمونها بقدر ما يهمها كونه يخاف اهلل ويعاملها مبا ير�ضيه� ،أما الباقي
فيكفي فيه �أن ي�صل �إىل درجة القبول ال �أكرث� ،أخربتها � ً
أي�ضا ب�أنها ت�سعى
ﻋﺼ
جاهدة لتكون تلك الزوجة التي ت�ستحق �شا ًبا مثل هذا ،و�أنها على يقني
ﲑ ﺍﻟ
يوما ما ب�إذن اهلل ،كانت هند تعلم ب�أن �سلمى تتمنى تلك من �أنها �ستجده ً
الأمنيات لأنها حتدثت معها يف ذلك الأمر من قبل عدة مرات� ،إال �أن
ﻜﺘ
هذه املرة بالتحديد كانت ت�ستمع �إىل كلمات �صديقتها مبنتهى الرتكيز،
وكلما قالت �سلمى كلمة ت�شبه ما قاله �إ�سالم من قبل كانت تتيقن من �أن
ﺐ ﻟﻠﻨ
عرو�س منا�سبة جدً ا لأخيها� ،أرادت �أن تتحدث معها بو�ضوح ٌ �صديقتها
�أكرث لتعرف ر�أيها يف �إ�سالم مبا �أنه �أ�صبح ي�شبه كث ًريا ذلك ال�شاب القابع
ﺸﺮ
ﻋﺼ
-فيه �شاب تقري ًبا عنده نف�س �أفكارك يف حاجات كتري وحابب
ﲑ ﺍﻟ
ييجي يتقدملكّ ،
وقال �أ�س�ألك هل املبد�أ موجود وال لأ.
ﻜﺘ
-مني ال�شاب ده؟
�س�ألت باهتمام .ف�أجابت هند بحما�س:
ﺐ ﻟﻠﻨ
ابتلعت �سلمى ريقها بحرج �شديد بعدما �أدركت ت�أثري رد فعلها على
�صديقتها ،حاولت الهدوء ور�سم ابت�سامة خفيفة على �شفتيها ،وبد�أت
تقول معتذرة:
-أل واهلل م�ش ق�صدي يا هند ،على عيني وعلى را�سي طب ًعا ،ب�س
أخوك م�ش
أنت يعني عارفة تفكريي كوي�س ومتهي�أيل �إ�سالم � ِ� ِ
زي ال�شاب اللي بحلم بيه خال�ص!
176
-هو ده ال�سبب ب�س يعني؟!
-اه واهلل هو ده.
النت مالمح هند بع�ض ال�شيء ،وبد�أت حتدث �سلمى عن موا�صفات
�إ�سالم وعن التغريات الكثرية التي طر�أت على حياته يف الفرتة الأخرية،
فكانت �سلمى ت�ستمع وابت�سامتها تت�سع من �آن لآخر ،فقد �شعرت ب�أنه
ي�شبهها يف �أ�شياء كثرية حتى �أنه بد�أ يتقرب من اهلل عز وجل يف نف�س
التوقيت الذي بد�أت هي الأخرى ت�شق طريقها فيه نحو اجلنة ،انتظرت
حتى انتهت هند من حديثها وكادت �أن تتحدث ولكنها مل جتد ما تقوله
ﻋﺼ
ف�صمتت� ،س�ألتها هند عن ر�أيها ف�أخربتها ب�أنها ال تعرف� ،شعرت هند
ﲑ ﺍﻟ
ب�أنها حمرجة منها ف�س�ألتها بو�ضوح �أكرث:
ﻜﺘ
-طيب �إيه ر�أيك يف �شكله؟ �أو يف الكالم اللي قولته عنه؟
-الكالم جميل جدً ا طب ًعا ويفرح �أي حد� ،إمنا ال�شكل فب�صراحة
ﺐ ﻟﻠﻨ
حلو.
ﻭ
� -أيوة يعني مفهمت�ش بردو! موافقة مبدئ ًيا �إنه ييجي وتقعدوا مع
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
�ألقت �سلمى بج�سدها ال�ضئيل على الفرا�ش ،وو�ضعت كفيها خلف
ر�أ�سها وبد�أت تفكر يف كلمات هند التي �ألقتها على م�سامعها قبل قليل ،ال
ﲑ ﺍﻟ
تنكر �أنها �شعرت ب�شعور رائع وهي ت�سمع من هند �صفة تلو الأخرى جتذبها
ﻜﺘ
نحو �إ�سالم ،وت�ؤكد لها ب�أن ما حتلم به من املمكن �أن يتحقق يف واقعها،
ولكنها � ً
أي�ضا ما زالت عند ر�أيها بخ�صو�ص عدم االرتباط �أثناء الدرا�سة،
ﺐ ﻟﻠﻨ
بد�أت ت�س�أل نف�سها ماذا لو كان �إ�سالم هو ذاك الرجل الذي تتمناه ،هل
من املعقول �أن ترف�ضه ب�سبب ان�شغالها بدرا�ستها التي �ستنتهي بعد �أ�شهر
ﺸﺮ
قليلة! �أم ت�ستقبله يف منزلها وتتحدث �إليه ووقتها فقط �ستت�ضح الر�ؤية
بالن�سبة لها وتقرر قرارها النهائي عن قناعة ،هذا هو ،هكذا رددت
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
قبل �أن تنه�ض من مكانها وتذهب باجتاه غرفة مكتب والدها لتحادثه
ﺯﻳﻊ
يف الأمر .طرقت طرقات خفيفة على الباب اخل�شبي بني اللون ،ف�أتاها
�صوت والدها من خلف الباب ي�أذن لها بالدخول ،جل�ست �أمامه وتنحنحت
يف حرج بالغ ،وقالت هام�سة:
-بابا يف عري�س عاوز يتقدملي ،فكنت عاوزة �أعرف ر�أي
ح�ضرتك يف املو�ضوع.
ترك والدها الكتاب الذي بني يديه ،وعدل من و�ضعية نظارته الطبية
وهو ينظر �إليها و�أجابها متعج ًبا:
178
أنت قولتي �إنك م�ش موافقة على �أي ارتباط قبل ما -م�ش � ِ
تتخرجي؟
فعل ده كان ر�أيي ،ب�س العري�س ده �أخو �صاحبتي وتقري ًبا هوً -
�شاب كوي�س ،فحا�سة �إين م�ش هينفع �أرف�ضه عل�شان ال�سبب ده
يعني.
-متام مفي�ش �أي م�شكلة ،قوليلي موا�صفاته �إيه.
�أخربته �سلمى ب�إيجاز عن ا�سمه وعمله وقليل من �صفاته ،ف�أجاب
والدها ب�إعجاب:
ﻋﺼ
-مهند�س و�شغال يف �شركة كبرية ،ممتاز! كده هيعي�شك يف
م�ستوى كوي�س.
ﲑ ﺍﻟ
ابتلعت �سلمى ريقها بتوتر و�أجابت بحروف مبعرثة:
ﻜﺘ
-طب ًعا �إن �شاء اهلل.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ف�أم�سك والدها بالكتاب الذي كان يقر أ� فيه من جديد بعدما �أخربها
ب�أنه ينتظر ات�صال �إ�سالم يف �أي وقت ،فنه�ضت من كر�سيها الوثري
ﺸﺮ
وخرجت من الغرفة بعدما �أغلقت الباب خلفها بهدوء ،وقررت �أن تت�صل
بهند يف اليوم التايل وتخربها با�ستعدادهم ال�ستقبال �إ�سالم ،وتطلب
ﻭ
بعد يومني وجدت �سلمى والدها يناديها ويخربها ب�أن �إ�سالم قام
باالت�صال به ومت حتديد موعد الر�ؤية ال�شرعية على �أن تكون اخلمي�س
القادم ب�إذن املوىلً � ،إذا مل يتبق لها �سوى ثالثة �أيام قبل �أن تقابل العري�س
املنتظر ،وبالتايل ال بد لها �أن تقوم بتجهيز كل املو�ضوعات التي تريد
مناق�شته فيها لتعرف �إذا كانت كلمات هند يف حملها �أم �أنها تراه مميزً ا
عن اجلميع فقط لأنه �أخيها.
zzz
179
يوم اخلمي�س بعد �صالة املغرب بن�صف �ساعة تقري ًبا �سمعت طرقات
خفيفة على باب منزلها ،ولكنها كانت قوية جدً ا على م�سامعها ،وك�أنها
كانت تطرق فوق باب قلبها فتزيده توت ًرا ،ع ّدلت من هندامها املتوا�ضع
ووقفت خلف ال�ستار لكي تلتقط للزائرين �أية �صورة ُته ّدئ بها من روعها
وتر�ضي ف�ضولها ،ولكنها كالعادة مل تتبني �إال ظهر �إ�سالم ووالدته� ،سار
الأب بهما حتى و�صال �إىل نهاية ال�صالة ،جل�سوا جمي ًعا وبد أ� احلديث عن
�إ�سالم وعمله� ،أخالقه ،عائلته وعائلة والده ،ثم نه�ض الأب من مكانه
و�سار باجتاه غرفة �سلمى -التي ما �إن �شعرت باقرتابه حتى هرولت باجتاه
ﻋﺼ
غرفتها -وقام با�صطحابها �إىل جمل�س العائلة� ،أجل�سها يف مواجهة �إ�سالم
ﲑ ﺍﻟ
وبد أ� يحدثه عن درا�ستها و�صفاتها الطيبة ،ثم نظر لزوجته نظرة ذات
معنى فقامت با�صطحاب والدة �إ�سالم �إىل الداخل حتى يتحدثا ب�أريحية
ﻜﺘ
جمل�سا بعيدً ا عنهما بع�ض ال�شيء ،و�أخذ
ً �أكرث ،بينما اتخذ والد �سلمى
ُيقلب يف �أحد الكتب وهي ينظر �إليهما بني الفينة والأخرى حتى يرتك
ﺐ ﻟﻠﻨ
لهما املجال ليتعرفا على �شخ�صيات بع�ضهما البع�ض ،ابت�سم �إ�سالم وهو
ينظر ل�سلمى لأول مرة منذ بداية اجلل�سة ،ومتتم بهدوء:
ﺸﺮ
�أوم�أت بر�أ�سها �إيجا ًبا ور�سمت ابت�سامة خفيفة على �شفتيها وهي تتمتم
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
-رغي!
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ مو�ضحا:
ً تنحنح �إ�سالم وقال
-هكلمك عن نف�سي �شوية ،حتبي �أخت�صر وال �أقولك كل اللي
جوايا؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
دلوقتي.
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
�إين الزم �أ�سعى بكل قوتي عل�شان �آخد ر�ضا ربنا ،و�إن املفرو�ض
كل حاجة بعملها يف حياتي تكون هلل ،يعني �أكلي� ،شربي،
ﲑ ﺍﻟ
�شغلي ،زواجي ،تربيتي لأوالدي ،وكل حاجة يف الدنيا املفرو�ض
ﻜﺘ
نيتي الأ�سا�سية فيها �إين بعملها عل�شان ربنا ،وعل�شان بعدها
ب�إذن اهلل �أفوز باجلنة ،عرفت وح�سيت بحاجات كتري مكنت�ش
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أعرف عنها حاجة ،زي �إين �أ�ست�شعر قرب ربنا مني� ،إين �أح�س
فعل يبقى كل هديف يف بكلمات القر�آن بتلم�س قلبي ،و�إين ً
ﺸﺮ
الدنيا �إين �أح�س �إن ربنا را�ضي عني وعن ت�صرفاتي� ،أي نعم
�أنا ل�سه يف �أول الطريق ،ب�س بحمد ربنا من كل قلبي �إنه هداين
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
قبل ما �أموت.
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
-وخل�صت احلكاية ،هو ده بقى �إ�سالم اللي قدامك.
مزيجا من الده�شة واحلزن واخلوف والفخر وعدم ً كان �شعورها
ﲑ ﺍﻟ
الت�صديق ،كل ذلك يت�ضارب يف الآن نف�سه ،مل ت�ستطع �أن تنطق ببنت
ﻜﺘ
�شفة ،فما �سمعته للتو يحتاج �إىل املزيد من الوقت ال�ستيعابه وت�صديقه
قبل �أن ُتيب عليه ،ففقدان الإن�سان ل�صديقه بهذه الطريقة و�شعوره
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
احلمد هلل بعدها برجع �أقوى من الأول وبكمل يف طريقي،
ﲑ ﺍﻟ
وب�إذن اهلل م�ش هرتاح �إال ملا �أو�صل للجنة.
ﻜﺘ
�شعر �إ�سالم ب�سعادة كبرية تغمر قلبه� ،شعر ب�أنها تتحدث عنه هو
ولي�س عن نف�سها� ،أراد �أن يخربها ب�أنها ت�شبهه كث ًريا ،وب�أنه �سعيد جدً ا
ﺐ ﻟﻠﻨ
بحديثه معها ،ولكنه كتم �شعوره بداخله بعدما مر بخاطره �س�ؤال كان ال
بد �أن يعرف �إجابتها عليه وقال:
ﺸﺮ
ببع�ضها:
ﺯﻳﻊ
-عاوزين نتفق على حاجة الأول ،كل كلمة هنقولها هنا الزم نكون
مقتنعني بيها متام االقتناع ،يعني ملا حد فينا ي�س�أل �أي �س�ؤال
فعل الإجابة اللي يف قلبه ،وبكل �صراحة الزم التاين يجاوب ً
و�صدق ،لأن ال�صراحة دي مهمة جدً ا وهتفيدنا كتري� ،إمنا لو
كل واحد حاول يحلي كالمه ويعمل �إنه حد كوي�س ومفيهو�ش
غلطة وبعد كده بد�أت تظهر �شخ�صيته احلقيقة بيكون الو�ضع
�سيئ جدً ا وبيبد�أ الطرفني يفقدوا الثقة يف بع�ض ،بالإ�ضافة
184
�إىل �أنهم بيح�سوا �أنهم اجتوزوا نا�س غري اللي كانوا يعرفوهم،
و�أنا ب�صراحة مقبل�ش �إن حاجة زي دي حت�صل �أبدً ا بيني وبني
مراتي.
علقت �سلمى بحما�س �شديد على كلماته وقالت:
� -أنا مب�سوطة جدً ا �إن ح�ضرتك ذكرت النقطة دي ،لأن دي
تقري ًبا من الأولويات عندي ،يعني بحب �أظهر و�أتكلم بطبيعتي
جدً ا لأين بح�س �إن دي �أب�سط حقوق الإن�سان اللي هعي�ش معاه،
ﻋﺼ
غري �إننا لو وا�ضحني ومتفقني على كل حاجة من الأول ده بيقلل
ن�سبة امل�شاكل بعد كده ب�شكل كبري جدً ا ،بالإ�ضافة �إىل �إين بكره
ﲑ ﺍﻟ
الكذب جدً ا �أ�ص ًال فمتقلق�ش ب�إذن اهلل.
ﻜﺘ
نف�سا عمي ًقا ثم ا�ستطردت:
�أخذت ً
-وردًا على �س�ؤال ح�ضرتك ،وبكل �صراحة هقول على ح�سب
ﺐ ﻟﻠﻨ
درجة الفقر ده ،يعني م�ش هقدر �أجزم �إين ممكن �أعرف
مثل� ،إمنا لو �شقة �صغرية حتى�أعي�ش يف ع�شة فوق ال�سطوح ً
ﺸﺮ
لو �إيجار ،واملرتب �صغري �شوية مفي�ش عندي �أي م�شكلة ،ولو
الإن�سان ً
ﻭ
ﻋﺼ
يف الهبوط للم�سجد والعودة مرة �أخرى ملوا�صلة احلديث مع ابنته ،فوافق
ﲑ ﺍﻟ
الأب وهبط معه لأداء ال�صالة ،بينما هرولت هي باجتاه غرفتها لت�ؤدي
ﻜﺘ
�صالتها هي الأخرى وقلبها ي�شع بهجة و�سرور.
انتهت من �صالتها وجل�ست على طرف فرا�شها ب�سعادة بالغة ،لأول
ﺐ ﻟﻠﻨ
مرة ت�شعر بذلك الكم من الراحة جتاه �شخ�ص ما ،لوهلة �شعرت ب�أنه
ن�صفها الآخر الذي يطابقها يف �أ�شياء كثرية� ،شعرت وك�أنها كانت جتل�س
ﺸﺮ
ليال طوال ،ثم �ضحكت �ضحكة خفيفة �أمام ال�شخ�ص الذي ظلت حتلم به ٍ
وبد�أت تنف�ض تلك الأفكار احلاملة عن ر�أ�سها ،و�أخذت حتث نف�سها على
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
عدم الت�سرع ،فما �سمعته منه لي�س كاف ًيا �أبدً ا للحكم عليه ،بد�أت ت�سرتجع
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
م�ش متوافقة مع بع�ضها ،وبالتايل بتالقي عالقتهم حلوة مع
كل النا�س �إال مع بع�ضهم ،وده طب ًعا كارثة ،عل�شان كده مهم
ﲑ ﺍﻟ
بالن�سبايل �أعرف �شخ�صيتك متوافقة معايا وال لأ.
ﻜﺘ
نف�سا
�شبكت �سلمى �أ�صابعها ببع�ضها يف �شيء من اخلجل و�سحبت ً
عمي ًقا قبل �أن تقول:
ﺐ ﻟﻠﻨ
قدرة ربنا بال حدود وبالتايل ب�ستعني باهلل بقلب جامد وفع ًال
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
علي نف�سي ب�سرعة جدً ا ،يعني ممكن يف مرة هو �أنا بي�صعب َّ
يزعقلي �أو يقول �أي حاجة تزعلني ويالقيني بقوله حا�ضر ،لكن
ﲑ ﺍﻟ
بعدها يالقيني علطول �ساكتة وم�ش ب�ضحك وم�ش متفاعلة
ﻜﺘ
معاه نهائي ،بالرغم من �إن هو ممكن �أ�ص ًال يكون ن�سي املو�ضوع
كله ،لكن �أنا بف�ضل �شايلة جوايا وغ�صب عني م�ش بقدر �أتكلم،
ﺐ ﻟﻠﻨ
ما �أقول اللي جوايا وبعدها خال�ص برجع تاين زي الأول ،يعني
ﻭ
ﻋﺼ
ما كانوا �أقرب اتنني لبع�ض بيبقوا عاي�شني �سوا ب�س عل�شان
فعل مهم زي ما مياخدو�ش لقب مطلق �أو مطلقة ،املو�ضوع ً
ﲑ ﺍﻟ
قولتي.
ﻜﺘ
�أح�ضرت والدة �سلمى لإ�سالم كو ًبا �آخر من الع�صري بعدما الحظت
اندماجه ال�شديد من ابنتها ،فابت�سم لها بامتنان وارت�شف ر�شفة خفيفة
ﺐ ﻟﻠﻨ
منها �أبدً ا ،يعني بالن�سبايل على الأقل الزم يكون مواظب على
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
وطب ًعا يكون عندها ا�ستعداد �إنها تتفقه يف الدين وتنفع نف�سها
ﲑ ﺍﻟ
وتنفع النا�س.
ﻜﺘ
ثم �أ�ضاف �ضاح ًكا:
-ملي�ش دعوة ما هي الزم ت�شجعني ،لأين ب�صراحة م�ش عاوز
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
علطول عل�شان ما تتحرج�ش� ،أو تتكلمي معاهم ب�أ�سلوب كوي�س
ﲑ ﺍﻟ
ومرة يف مرة البنات هيبد�ؤوا يقربوا منك وبعد كده هتالقيهم
هم اللي بييجوا يطلبوا منك ر�أيك يف �أي مو�ضوع �شاغلهم. َ
ﻜﺘ
وا�ضحا على
ً عقدت حاجبيها يف تفكري ،و�س�ألت بعدما بدا التعجب
ﺐ ﻟﻠﻨ
وجهها:
-معل�ش هو ازاي ح�ضرتك جه يف بالك مو�ضوع الر�سالة ده؟
ﺸﺮ
�ضحك �إ�سالم حتى بدت نواجذه ،و�أجابها على �س�ؤالها غري املتوقع:
ﺯﻳﻊ
-كانت دائ ًما ماما ملا تكون زعالنة من بابا وم�ش قادرة تقوله
اللي جواها كانت بتكتب ر�سالة �شكلها حلو وتر�سم ورد وجنوم
وحاجات كده على الأطراف ،وبعدين تر�ش �شوية من العطر
اللي بابا بيحبه وحتطهاله يف جيب البنطلون اللي هريوح بيه
ال�شغل تاين يوم ،وهو عادة ملا بييجي يطلع املحفظة عل�شان
يدفع فلو�س املوا�صالت كان بيالقيها وبيقر�أها قبل ما يو�صل
191
ال�شغل ،وملا يرجع بي�صاحلها �أو يتناق�ش معاها يعني يف احلاجة
اللي م�ضايقاها دي ،ب�س كده.
-ما �شاء اهلل.
قالتها �سلمى من كل قلبها بعدما اف ّرت ثغرها عن ابت�سامة وا�سعة ،ثم
�س�ألت مرة �أخرى:
� -أنا دائ ًما ب�سمع عن مو�ضوع �إين �أنفع النا�س ب�أخالقي ده ب�س
بردو م�ش فاهمة ازاي� ،أو مفي�ش قدامي مثال واقعي �أقدر
ﻋﺼ
�أ�ستوعب منه النقطة دي ،فهل ح�ضرتك عندك تو�ضيح �أكرث
ليها؟
ﲑ ﺍﻟ
-هقولك مثال ب�سيط ح�صل معايا من قريب ،ملا بد�أت �أ�شتغل
ﻜﺘ
يف ال�شركة اللي �أنا فيها دي ،كان طب ًعا الظهر والع�صر بي�أذنوا
علي و�أنا يف ال�شغل ،وبالتايل كان من الأ�سا�سيات عندي �إين َّ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ال�شغل ،رغم �إن زمايلي �ساعات كتري بيقعدوا ياكلوا �أو يهزروا
يف وقت ال�شغل وحمد�ش بيتكلم معاهم ،املهم ملا لقوا �إين
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
الهادئة ،و�أراد �أن يو�ضح لها حقيقة �شخ�صيته حتى ال تظن �أنه مالك ال
ً
حماول انتقاء كلماته: يخطئ فقال
ﲑ ﺍﻟ
-طيب مبا �إننا اتفقنا على ال�صراحة ،فخليني �أ�ستغل الفر�صة
ﻜﺘ
و�أقولك على عيب معني يف �شخ�صيتي لأنك من حقك تكوين
عارفاه.
ﺐ ﻟﻠﻨ
املت�سارعة ،والتي ظنت �أن عزفها القوي ي�صل �إىل م�سامعه� ،أوم�أت بر�أ�سها
لتحثه على موا�صلة احلديث ،فقال بال َت ُّمل:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
�أذكر النقطة دي بحيث �إن زوجتي الزم تكون عارفاها لأنها
هتفرق معانا جدً ا بعد كده.
ﲑ ﺍﻟ
توقف احلوار فج�أة وخ ّيم عليهم ال�صمت لربهة ،ثم ا�ست�أنفت �سلمى
ﻜﺘ
احلديث قائلة:
-احلقيقة الع�صبية تعترب �صفة خميفة جدً ا بالن�سبايل ،الإن�سان
ﺐ ﻟﻠﻨ
ممكن ي�شتم� ،أو ي�ضرب� ،أو يعمل �أي كارثة بدافع ال�صعبية،
و�أنا �شخ�ص ًيا م�ش عارفة ممكن �أقدر �أ�ستحمل حاجة زي كده
ﺸﺮ
وال لأ.
ﻭ
ﻋﺼ
� -سيدنا حممد عليه ال�صالة وال�سالم قال« :كلكم راع ،وكلكم
م�سئول عن رعيته» وبالتايل ف�أنا هتحا�سب على �أوالدي وعلى
ﲑ ﺍﻟ
تربيتي ليهم ،يعني مفي�ش قدامي فر�صة للتفكري ،الزم �أكون
ﻜﺘ
�أب قدوة والزم �أكون قد امل�سئولية ،عل�شان كده احلمد هلل �أنا
�شغال على نف�سي الفرتة دي وبحاول �أعرف عن ديني �أكرث
ﺐ ﻟﻠﻨ
و�أواظب على فرو�ضي وعلى بع�ض ال�سنن بحيث �إين ب�إذن اهلل
ملا �أكون �أب �أبقى فخور ب�أوالدي و�أنا �شايفهم بيقلدوين.
ﺸﺮ
هربي عليها الأوالد ،هعرف �إن دوري م�ش ب�س �إين �أ�أكل و�أ�شرب
و�أنيم و�أذاكر لهم ،بالعك�س دوري �أهم و�أو�سع من كده بكتري،
دوري ي�شمل تعليمهم دينهم وتربيتهم تربية �سليمة مبا يتوافق
مع دينهم م�ش مع النا�س �أو العادات والتقاليد ،املو�ضوع وا�سع
جدً ا وميكن ل�سه مبقيت�ش عندي خربة فيه �أوي ،ب�س �أنا حال ًيا
بد�أت �أقر�أ يف الدين ،و�شوية كده وهبد�أ �أقر�أ يف الرتبية وعلم
النف�س �إن �شاء اهلل.
195
تابعت وهي تنظر �إليه بعدما علت وجهها ُحمرة اخلجل:
-الأب بردو بيكون ليه دور مهم جدً ا يف الرتبية ،بيكون م�سئول
عن �إنه يعلم �أوالده �إن دينهم �أهم حاجة يف حياتهم ،الزم
ياخدهم معاه امل�سجد ويعودهم على �إن ده الطبيعي ،الزم
يفهمهم دورهم الأ�سا�سي يف الدنيا دي ،وي�ساعدهم على �أنهم
يكونوا نافعني يف جمتمعهم وعندهم �شخ�صيات �سوية ومنتجة.
ابت�سم �إ�سالم وهو يومئ بر�أ�سه م�ؤيدً ا وقال:
ﻋﺼ
-عندك حق ً
فعل ،ربنا يقدرنا.
ﲑ ﺍﻟ
-كلمني عن عالقتك مبامتك وهند ،وبر الوالدين �أخباره �إيه؟
ب�صراحة هاه.
ﻜﺘ
قالتها ب�شيء من املرح ،فتنهد �إ�سالم و�أجاب ب�صدق:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-ماما بالن�سبايل حاجة كبرية �أوي ،ببقى مب�سوط جدً ا ملا �أ�شوفها
مب�سوطة ،عارف �أنها تعبت كتري بعد وفاة بابا اهلل يرحمه حلد
ﺸﺮ
ما كربنا ،وعل�شان كده بحاول على �أد ما �أقدر �أ�ساعدها دلوقتي
و�أخد بايل منها ومن هند.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�صمت هنيهة ثم ا�ستطرد وهو يريح ظهره �إىل املقعد ويقول ب�أ�سف:
ﺯﻳﻊ
196
-هند بقى حقيقي م�ش عارف �أقولك �إيه ،ب�س هي تعترب �أقرب
يل يف الدنيا ،هي �أختي و�صاحبتي وم�ستودع �أ�سراري حد َّ
وخ�صو�صا بعد وفاة حممد اهلل يرحمه ،بحب جدً ا �أهزر معاها
ً
و�أرخم عليها حلد ما ت�صوت وتطردين من الأو�ضة ،هي تعترب
نعمة يف حياتي ربنا يباركلي فيها.
-يا رب يا رب.
�شعر ب�أن جل�سته قد طالت و�أن هذا رمبا ي�ؤذي عائلة �سلمى ،فقال يف
اخلتام:
ﻋﺼ
-فيه حاجة مهمة كنت حابب �إنك تعرفيها لأنها ممكن تفرق
ﲑ ﺍﻟ
معاك يف اتخاذ قرارك ،حال ًيا �أنا م�ش عندي �شقة فب�إذن ِ
ﻜﺘ
اهلل هتجوز يف �شقة �إيجار حلد ما ربنا يرزقني و�أقدر �أ�شرتي
واحدة ،بالن�سبة للجهاز ف�أنا معايا مبلغ كده مرياثي من بابا
ﺐ ﻟﻠﻨ
ولكن ده املتوقع حال ًيا ،وب�إذن اهلل الكالم ده هيتقال لعمي لو
ﺯﻳﻊ
فيه ن�صيب.
كانت تريد �أن تخربه ب�أنها توافق على تلك الإمكانيات وب�شدة ،و�أنها
ال تتمنى �سوى رج ًال يعاملها مبا ير�ضي اهلل ،ولكنها ا�ستحت منه ف�أوم�أت
بر�أ�سها مبت�سمة وقالت:
-متام.
-حابه ت�س�أيل عن حاجة تاين؟
197
هزت ر�أ�سها نف ًيا ،ف�ضرب بكفيه على ركبتيه ونه�ض من مكانه ً
قائل
ب�أدب:
-طيب �أ�ست�أذن �أنا.
والتفت �إىل �أبيها الذي نه�ض من مقعده هو الآخر وبد�أ يف االقرتاب
منه .ان�سحبت �سلمى على ا�ستحياء ودخلت �إىل الغرفة التي جتمع �أم
�إ�سالم ب�أمها ،و ّدعتها و�سارت يف اجتاه غرفتها التي ما �إن دخلتها حتى
نزعت حجابها وارمتت على فرا�شها تفكر يف كل ما حدث حتى راحت يف
ﻋﺼ
�سبات عميق.
z ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
198
–7-
م�ضى الليل �إال �أقله ومل يبق �إال انح�سار الغطاء عن جبني الفجر،
كحلة براقة فوق ج�سد تناثرت النجوم الالمعة واملختلفة يف �أحجامها ُ
ﻋﺼ
ال�سماء ،فتحت �سلمى جفونها بهدوء وبد�أت مت�سح �أثر النوم عن وجهها
ﲑ ﺍﻟ
بكلتا يديها ،مل تتبني �إال ب�صي�ص نور قد ت�سرب من �أ�سفل باب غرفتها،
حت�س�ست الكومود بجوارها حتى �أم�سكت بهاتفها فوجدت �أنه ما زال هناك
ﻜﺘ
�ساعة كاملة تف�صلها عن �صالة الفجر ،فبد�أت ت�سرتجع تلك اجلل�سة التي
جمعتها ب�إ�سالم قبل �ساعات ،كان �شعو ًرا بالراحة وال�سعادة يغمر قلبها،
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أعجبها تفكريه وطريقة تعبريه عن ر�أيه يف بع�ض الأمور ،بد�أت تفكر يف �أن
�إ�سالم قد يكون هو ال�شخ�ص الذي لطاملا حلمت به ،ولكنها فج�أة تذكرت
ﺸﺮ
�صفة الع�صبية التي ذكرها ك�أحد عيوبه� ،شعرت باخلوف منه ومن ذلك
ﻭ
�أن يحيل حياتها �إىل جحيم ،زفرت زفرة قوية و�أخربت نف�سها �أن �صراحته
ﺯﻳﻊ
حتى يف ذكر عيوبه تعترب نقطة حت�سب له ،و�أنها هي الأخرى لديها من
العيوب ما لديها ،قررت �أن تقوم لت�ؤدي �صالة اال�ستخارة وترتك الأمر �إىل
ربها ،فوحده يعلم باخلري.
تو�ض�أت و�صلت ركعتي قيام ليل ،ثم عقدت النية لت�صلي �صالة
اال�ستخارة ،كانت تعلم �أنه من ال�سنة �أن تقر أ� بالركعة الأوىل بعد الفاحتة
ب�سورة «قل يا �أيها الكافرون» ويف الركعة الثانية بعد الفاحتة ب�سورة «قل
199
هو اهلل �أحد» ،انتهت من �صالتها ورفعت يدها مت�ضرعة �إىل اهلل وهي
م�ستح�ضرة عظمته وقدرته ،بد�أت حتمد هلل عز وجل وتثني عليه ،ثم
قامت بال�صالة على النبي عليه ال�صالة وال�سالم ،ثم بد�أت دعاءها قائلة:
«اللهم �إين �أ�ستخريك بعلمك ،و�أ�ستقدرك بقدرتك ،و�أ�س�ألك من
ف�ضلك العظيم ،ف�إنك تقدر وال �أقدر ،وتعلم وال �أعلم ،و�أنت عالم الغيوب،
اللهم �إن كنت تعلم �أن زواجي من �إ�سالم بن حممود خري يل يف ديني
ومعا�شي وعاقبة �أمري ،فاقدره يل ،وي�سره يل ،ثم بارك يل فيه ،و�إن كنت
تعلم �أن زواجي منه �شر يل يف ديني ومعا�شي وعاقبة �أمري عاجله و�آجله،
ﻋﺼ
فا�صرفه عني ،وا�صرفني عنه ،واقدر يل اخلري حيث كان ثم �أر�ضني به»
ﲑ ﺍﻟ
نه�ضت من مكانها وهي متوكلة على اهلل حق توكله ،نه�ضت وهي على
ﻜﺘ
يقني من �أن اهلل �سيختار لها اخلري حيث كان ،وعلى ُبعد �أمتار ،كان
�إ�سالم يجل�س نف�س اجلل�سة على �سجادة ال�صالة راف ًعا يده �إىل اهلل بكل
ﺐ ﻟﻠﻨ
ف�ضلك العظيم ،ف�إنك تقدر وال �أقدر ،وتعلم وال �أعلم ،و�أنت عالم الغيوب،
ﻭ
اللهم �إن كنت تعلم �أن زواجي من �سلمى بنت طارق خري يل يف ديني
ﺍﻟﺘﻮ
ومعا�شي وعاقبة �أمري ،فاقدره يل ،وي�سره يل ،ثم بارك يل فيه ،و�إن كنت
ﺯﻳﻊ
تعلم �أن زواجي منها �شر يل يف ديني ومعا�شي وعاقبة �أمري عاجله و�آجله،
فا�صرفه عني ،وا�صرفني عنه ،واقدر يل اخلري حيث كان ثم �أر�ضني به»
zzz
بعد ثالثة �أيام �أرادت �سلمى �أن تخرب والدها مبوافقتها بعدما فكرت
جيدً ا وارت�ضت تلك ال�صفات التي يت�صف بها �إ�سالم ،وتوكلت يف املجهول
على ربها وهي على يقني من �أنه لو كان خ ًريا لها �سيتي�سر الأمر ،ولو كان
200
�ش ًرا لها �سيحدث �أي �شيء مينع ا�ستكمال تلك الزيجة ،كانت يف طريقها
لغرفة والدها ولكنها تراجعت يف اللحظة الأخرية و قررت �أو ًال �أن تت�أكد
من �أمر ما يف نف�سها قبل النطق بقرارها الأخري ،انتظرت حتى �سمعت
�أذان املغرب و�أدت �صالتها ،ثم ات�صلت على �صديقتها هند و�أخذت
حتدثها يف �أي �شيء وكل �شيء ،ويف و�سط حديثهما قالت �سلمى بذكاء:
أخوك هي�سمعك وهتحرجيني.
-يا بنتي وطي �صوتك �شوية ،كده � ِ
-ال متخافي�ش� ،إ�سالم ل�سه مرجع�ش من امل�سجد.
ﻋﺼ
قالتها هند برباءة �شديدة ،بينما ارت�سمت على وجه �سلمى ابت�سامة
كامل حينما �سمعت الإجابة التي كانت تنتظرها، وا�سعة احتلت وجهها ً
ﲑ ﺍﻟ
بعدها �أخذت حتدث هند لبع�ض الوقت ثم �أغلقت الهاتف ،مل تكن كافية
ﻜﺘ
تلك املرة بالن�سبة لها ،بل �أنها انتظرت حتى �صالة الع�شاء ،وقامت ب�أداء
ال�صالة وبد�أت تفكر يف طريقة �أخرى ت�ستف�سر بها عن �أمر �صالة �إ�سالم
ﺐ ﻟﻠﻨ
دون �أن ُت�شعر �صديقتها ب�أي �شيء ،قامت بو�ضع بع�ض الأطعمة على
الطاولة ثم ات�صلت بهند و�ألقت عليها التحية ،فقالت الأخرية �ضاحكة:
ﺸﺮ
� -أه ًال يا �ستي ،عاوزة �إيه تاين؟ م�ش من عادتك يعني تت�صلي
ﻭ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
�صباحا وقبل �صالة الفجر بربع ال�ساعة �أطف�أ �إ�سالم منبهه
ً الرابعة
ﻜﺘ
ونه�ض من فرا�شه بتثاقل ،ظل يرتنح حتى و�صل �إىل دورة املياه و�ضرب
منحن �أمام ال�صنبور حتى �شعر �أنه قدوجهه بعدة دفعات من املاء وهو ٍ
ﺐ ﻟﻠﻨ
قليل ،تو�ض�أ وت�سلل بهدوء باجتاه غرفة والدته ،وجد باب الغرفة�أفاق ً
مفتوحا ووجد والدته مت�سك مب�صحفها وتقر أ� بع�ض �آيات القر�آن الكرمي،
ً
ﺸﺮ
حياها ومازحها ً
قائل:
أ�صحيك
ِ -يعني مفي�ش مرة كده يا حجة تخليني �آخد الثواب و�
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�أنا؟
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
من �أ�سفل البناية ،فت�سارعت دقات قلبها و�شعرت �أنه �سيخرج من قف�صها
ﲑ ﺍﻟ
قليل خو ًفا من �أن يراها رغم ظالم غرفتها ال�صدري ،عادت للخلف ً
ﻜﺘ
وعلوها الكبري عن ال�شارع ،تنف�ست ال�صعداء واقرتبت من النافذة مرة
خال من املارة كما كان ،ووجدت � ً
أي�ضا جوا ًبا �أخرى بهدوء فوجدت ال�شارع ٍ
ﺐ ﻟﻠﻨ
يف اليوم التايل ات�صل �إ�سالم بوالد �سلمى وبلغه مبوافقته ،فرد عليه
والد �سلمى و�أخربه مبوافقتها هي الأخرى وحددا م ًعا موعدً ا بعد ب�ضعة
�أيام للتحدث عن تفا�صيل الزواج و�إمكانيات العرو�سني وما �إىل ذلك.
وخ�صو�صا بعدما
ً رهبة �شديدة كان ي�شعر بها �إ�سالم جتاه تلك اجلل�سة،
�أخربته هند �أن والد �سلمى يهتم كث ًريا بالأمور املادية ،ولكنه عندما حتدث
مع والدته يف الأمر ربتت على قلبه بكلماتها قائلة :ما تقلق�ش يا �إ�سالم،
لو ليكم ن�صيب يف بع�ض هتتجوزوا مهما واجهتوا م�شاكل ،ومهما ح�صل،
203
توكل على اهلل يا بني و�إن �شاء اهلل خري .وبالفعل قرر �إ�سالم التوكل على
ربه وعدم التفكري يف املجهول ،فرمبا يحدث ما مل يكن يتوقعه.
يف اليوم املحدد ا�صطحب �إ�سالم عمه الوحيد وذهبا م ًعا �إىل منزل
�سلمى ،ا�ستمرت جل�ستهما مع �أبيها ما يقرب من ال�ساعة والن�صف ثم
ان�صرفا يف هدوء ،وفور عودة والد �سلمى �إىل غرفته �إذا بها تهرول
ً
مت�سائل بعدما زفر باجتاهه وت�س�أل بلهفة ع ّما حدث ،ف�أجابها والدها
زفرة �ضيق:
ﻋﺼ
أنت موافقة على الولد ده ً
فعل؟! ِ �-
ﲑ ﺍﻟ
�أوم�أت بر�أ�سها �إيجا ًبا وقد بد�أ طائر اخلوف يحلق بعينيها ،فتمتم
ﻜﺘ
والدها بعتاب:
أنت كان متقدملك واحد هيعي�شك ملكة وموافقتي�ش!
-يا بنتي ما � ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
-يا بابا �أنا م�ش فاهمة حاجة ،ماله �إ�سالم؟ و�إيه اللي ح�صل؟
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
-وافقت عليه لأين ح�سيت �إنه �شاب كوي�س وبيخاف ربنا ،ودي
�أهم حاجة عندي.
�ضحك والدها وقال �ساخ ًرا:
أنت طيبة يا �سلمى ومتعرفي�ش حاجة.
-واهلل � ِ
ثم ا�ستعاد ً
بع�ضا من جديته ال�سابقة وا�ستطرد:
204
� -أنا و�أمك تعبنا كتري يف �أول حياتنا حلد ما و�صلنا للم�ستوى ده،
وم�ش ه�سمح �أبدً ا �إنك تتبهديل مع واحد غريب ويف الآخر اهلل
باعوك بالرخي�ص.
ِ �أعلم هيقدر ده وال هيقولك �أهلك
-أل يا بابا معتقد�ش �إن �إ�سالم يعمل كده ب�إذن اهلل لأنه ً
فعل
�شاب بيتقي ربنا ،وكمان م�ستواه م�ش عيب عل�شان نرف�ضه،
و�أنا موافقة �أعي�ش معاه على قد م�ستواه ده حلد ما ربنا يرزقنا
و�ساعتها �أنا مت�أكدة �إنه هيعو�ضني عن كل حاجة.
ﻋﺼ
بق�سمات حملت من ال�ضيق ما حملته من العتاب �أف�صح:
ﲑ ﺍﻟ
عليك ال�سنني دي كلها ويف الآخر تخيبي ظني يف
-يعني �أتعب ِ
تعليمك وكمان جوازك!
ﻜﺘ
نظرت له بحنان وهم�ست:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-ما تقلق�ش يا بابا ،م�ش هخيب ظنك املرة دي ب�إذن اهلل ،وكمان
�أنا �صليت ا�ستخارة وتوكلت على اهلل ومت�أكدة �إن ربنا هيفعلي
ﺸﺮ
اخلري.
أنت حرة ،ب�س �أنا م�ش هتنازل عن عموما ده اختيارك و� ِ
ً -
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
من �أين ي�أتي بباقي الأموال! تنهد بي�أ�س ثم عاد �أدراجه �إىل منزله ودخل
ﲑ ﺍﻟ
يف هدوء �إىل غرفته و�أغلق بابها مقر ًرا الهرب بالنوم ،فاليوم كان �شا ًقا
ﻜﺘ
عليه من كل اجتاه �سواء يف العمل �أو يف النقا�شات الكثرية التي خا�ضها
مع والد �سلمى ،ولكن هند حني �سمعت �صوت �إغالق الباب هرولت نحو
ﺐ ﻟﻠﻨ
غرفته ،دفعت دفة الباب بلطف� ،أطلت بر�أ�سها من فرجة الباب ،وقالت
ب�سعادة وا�ضحة:
ﺸﺮ
وجدت ج�سدً ا ُملقى على الفرا�ش ووج ًها وك�أمنا الهم ي�سري فيه م�سرى
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
علي �أجيب لها الدنيا كلها ،ب�س �أعمل �إيه ظرويف
-واهلل �أنا لو َّ
ﲑ ﺍﻟ
كده.
ﻜﺘ
ربتت هند على كتفه بحنان وقالت:
-خال�ص يا عم م�ش م�شكلة ،ممكن تاخد من فلو�س مرياثي اللي
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أنت حمتاجه.
-أل طب ًعا يا هند ،اوعي تقويل كده تاين� ،أنا هت�صرف ب�إذن اهلل.
ﺸﺮ
-هتعمل �إيه؟
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
أي�ضا ،فهو يحاول ب�شتى الطرق �إيجاد حل باحلزن ال�شديد عليه وهند � ً
ﲑ ﺍﻟ
لورطته قبل املوعد املحدد للرد النهائي على والد �سلمى ،ولكن �إىل الآن
كان الف�شل هو �سيد املوقف .ذات �صباح ات�صلت �سلمى على �صديقتها
ﻜﺘ
لتعاتبها على عدم ال�س�ؤال عنها كل تلك الأيام املا�ضية ،فوجدت ردًا خاو ًيا
من هند ،تعجبت و�س�ألتها عن ال�سبب ب�شيء من احلزن ،فاعتذرت هند
ﺐ ﻟﻠﻨ
و�أخربتها ب�أنها ت�شعر بال�ضيق فقط مما حدث ،ومن احلال الذي و�صل
�إليه �أخيها ،وهنا �س�ألت �سلمى بعدم فهم:
ﺸﺮ
أنت متعرفي�ش!
-ويعني � ِ
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
جديد.
�أُغلقت املكاملة وجل�ست �سلمى على �أقرب كر�سي تفكر يف ما حدث،
ﲑ ﺍﻟ
وفيما يجب �أن تخرب به والدها ع ّله ُيخفف من حدة طلباته ً
قليل ،انتظرت
ﻜﺘ
حتى ا�ستيقظ من نومه وذهبت �إليه وقالت بهدوء:
-بابا هو ليه ح�ضرتك طلبت �شبكة كبرية كده من �إ�سالم؟!
ﺐ ﻟﻠﻨ
َّ
تخ�ضب وجهها بال�ضيق وقالت:
-يعني يا بابا العادي �إننا ناخد كل الفلو�س اللي معاه عل�شان
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
الغالب الدهب ده كله �أ�ص ًال م�ش بيتلب�س غري للمنظرة ،و�أنا
م�ش بحب املنظرة.
�أردف دون �أن يبدر عنه �أدنى اهتمام ب�ضيقها:
أنت حرة ،ده حقك والزم �شبكتك تكون -تلب�سيه ما تلب�سيهو�ش � ِ
أنت م�ش
عندك حتى لو هتت�شال يف الدوالب �سنني ،وبعدين � ِ
رخي�صة عل�شان �أجوزك بال�ساهل كده ،ولو هو م�ش قد اجلواز
مكن�ش يتقدم لبنات النا�س.
209
�أطرقت بوجهها ُتواري تنهيدة خمتنقة تنهدتها ثم قالت:
-يا بابا ما هو هيجيب �شبكة بردو ،ب�س م�ش الزم تكون كبرية
كده! ح�ضرتك عارف ظروف ال�شباب دلوقتي ،واحنا املفرو�ض
نقدر ظروفه ،وكمان �أنا �أكيد م�ش هلب�س ده كله فوق بع�ضه
يعني.
نظر لها بق�سمات جامدة وقال باقت�ضاب:
� -سلمى خال�ص املو�ضوع بالن�سبايل منتهي� ،شبكتك من حقك
ﻋﺼ
أنت م�ش �أقل من بنات �أعمامك.
وم�ش هتنازل عنها ،وكمان � ِ
قالت وقد تلبدت عيناها بالغيوم وخفتت طبقة �صوتها حتى درجة
ﲑ ﺍﻟ
البوح:
ﻜﺘ
-ما�شي يا بابا ،بعد �إذن ح�ضرتك.
ان�صرفت من غرفته وات�صلت بعدها فو ًرا بهند تخربها مبا حدث،
ﺐ ﻟﻠﻨ
ف�أجابت هند ب�أنها كانت تتوقع ذلك ،وبد�أت تفكر معها يف حل �آخر
للم�شكلة ،حينها اقرتحت �سلمى �أن يتم مد فرتة اخلطبة حتى ي�ستطيع
ﺸﺮ
�ضمن اقرتاحاته
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
زوجا ر�سم ًيا لها ،جل�ست العرو�س على ُبعد منا�سب من عري�سها،وي�صبح ً
وقالت بحياء:
ﲑ ﺍﻟ
-بعتذر بجد لو كنا تقلنا عليك يف الطلبات ،حقيقي حاولت
ﻜﺘ
�أعمل اللي �أقدر عليه ب�س حماولتي ف�شلت.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
بالن�سبة للكالم :فهيكون على قدر احلاجة بحيث نقدر نتعرف
ﲑ ﺍﻟ
على بع�ض كوي�س ،ومن غري خ�ضوع بالقول �أو �أي كالم ب�شهوة،
ﻜﺘ
باباك دائ ًما يكون قاعد و�شايفنا زي
وطب ًعا مفي�ش خلوة ،يعني ِ
النهارده كده ،ومع التزامك بكامل حجابك وحماولة غ�ض
ﺐ ﻟﻠﻨ
الب�صر من الطرفني.
بالن�سبة للتليفون :فهنحاول نخليه لل�ضرورة ب�س ،يعني حاجة
ﺸﺮ
مهمة الزم تتقال يبقى يا �إما تت�صلي على هند وهي تبلغني،
ﻭ
باباك الأول،
علي و�ساعتها تكوين ا�ست�أذنتي ِ يا �إما تت�صلي َّ
ﺍﻟﺘﻮ
ال�صالة قدام النا�س كلها ،ده هي�ساعد كتري �إننا نقفل الباب يف
و�ش ال�شيطان وميعرف�ش يوقعنا ،وكمان ميكون�ش فيه ات�صال
بعد ال�ساعة 8بليل.
بالن�سبة للخروج :فر�أيي نخليه بعد كتب الكتاب �أف�ضل ،ولو
مثل نتفرج على ال�شقة �أو كده حاجة �ضرورية زي �إننا نروح ً
يبقى الزم يكون والدك معانا.
212
بالن�سبة للزيارات :فممكن ً
مثل نخليها مبدئ ًيا مرة يف الأ�سبوع،
وبعد ما نتعرف على بع�ض �أكرث ون�س�أل ونتناق�ش يف كل اللي
جوانا نبد�أ نقللها �أو مننعها خال�ص حلد كتب الكتاب.
علي
و�أخ ًريا� :أنا عارف �إن املو�ضوع ممكن يكون �صعب �شوية َّ
وعليك ،لكن اللي عاوز ير�ضي ربنا وعاوز ربنا يباركله يف ِ
حياته هيعمل �أكرث من كده ،وت�أكدي �إننا لو �أخل�صنا نيتنا هلل
ربنا هيعي ّنا وهتعدي الفرتة دي على خري �إن �شاء اهلل ،هاه
قولتي �إيه؟
ﻋﺼ
عدة م�شاعر ت�ضاربت يف نف�سها الآن ،ما بني فرحة وفخر ،بهجة
ﲑ ﺍﻟ
وده�شة ،انبهار وعدم ت�صديق ،كانت تريد �أن تخربه �أنها تفخر به وبتلك
ﻜﺘ
الكلمات التي �ضاعفت من مكانته داخل قلبها ،تريد �أن تخربه �أنها ظلت
ليال طوال حتلم بذلك ال�شاب الذي يحافظ عليها حتى من نف�سه ،تريد
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أن تخربه �أنها �أ�صبحت حترتمه كل يوم عن اليوم الذي ي�سبقه ،تريد
�أن تخربه بالكثري والكثري ،ولكنها ال ت�ستطيع �أن حتدثه الآن مبا يعتمل
ﺸﺮ
ثم �أ�ضافت:
-كمان م�ش الزم نن�سى �إن فيه قاعدة فقهية بتقول «من ا�ستعجل
�شي ًئا قبل �أوانه عوقب بحرمانه» و�أنا ب�صراحة بقى م�ش عاوزة
�أ�ستعجل و�آخد حاجة م�ش من حقي وبطريقة حرام ،عل�شان
ربنا �أو ًال ،ثم لأن �إح�سا�سها يف احلالل �أكيد هيكون �أح�سن
بكتري.
213
بعفوي ٍة ارت�سمت على �شفتيه ابت�سامة خفيفة وقال:
-عندك حق ،وعل�شان كده �أنا عاوزك لو ح�سيتي يف يوم �إين
ممكن �أتنازل عن الكالم ده تقفلي باب ال�شيطان يف و�شي ،لو
معاك والقيتيني هقول حاجة تغ�ضب ربنا كلميني كنت قاعد ِ
بجدية وذكريني باتفاقنا ،ولو مفي�ش نتيجة يبقى حتى اطرديني
م�ش م�شكلة ،ممكن �أزعل �شويتني ب�س طاملا ده ال�صح يبقى
ما ترتددي�ش �إنك تعمليه ،ولو نف�س الكالم ح�صل يف التليفون
ﻋﺼ
يبقى اقفلي ال�سكة وحا�سبيني على الكالم ده بعد كده� ،أنا بجد
ﲑ ﺍﻟ
عليك و�أح�س �إن
حمتاجك يا �سلمى ت�ساعديني عل�شان �أحافظ ِ
ﻜﺘ
معاك ،عاوز �إ�سالم اجلديد هو�ضمريي مرتاح و�أنا بتعامل ِ
علي ويبد�أ يرجعني
اللي يفوز ،م�ش عاوز �أبدً ا ال�شيطان ينت�صر َّ
ﺐ ﻟﻠﻨ
لورا تاين.
ح�سا�سا داخل قلبها ،فوجدت نف�سها
ً مل�ست كلماته ال�صادقة وت ًرا
ﺸﺮ
ثم بد�أت تتحدث معه عن تفا�صيل حفل اخلطبة بعد �أن �أخربها
باملوعد الذي حدده مع والدها وعلم مبوافقتها فاطم�أن قلبه ،اتفقا على
�أن يكون احلفل يف منزل �سلمى ويتم ح�ضوره من قبل الأهل والأ�صدقاء
املقربني� ،سيتم حينها ف�صل الرجال عن الن�ساء ،و�سيتم ت�شغيل �أنا�شيد
�أفراح �إ�سالمية ،بعد انتهائهما من ترتيب كل �شيء ا�ستعد �إ�سالم للرحيل،
وقبل �أن يغادر الغرفة نظر �إليها للحظات ثم حاول غ�ض ب�صره وهو يقول:
214
� -أي �س�ؤال ييجي يف بالك ابقي اكتبيه يف ورقة ،وملا �آجي ب�صي
يف الورقة وا�س�أليني عادي عل�شان �أجاوبك على كل حاجة بتدور
يف دماغك ،و�أنا كمان هعمل كده عل�شان ب�صراحة ملا باجي هنا
بن�سى حاجات كتري.
و�ضاءة ،فابت�سمت هي الأخرى بحياء قالها وقد افرت ثغره عن ابت�سامة ّ
و�أجابته باملوافقة ،حياها بعدها و�سار باجتاه والدها الذي ربت على كتفه
الأمين بحنان �أبوي مل يكن يتوقعه ،وقام ب�إي�صاله �إىل باب املنزل.
ﻋﺼ
هبط الدرج وهو يقفز بفرحة كالأطفال ،فح ًقا احلديث مع تلك الفتاة
ﲑ ﺍﻟ
يبعث البهجة داخل قلبه من حيث ال يدري ،بد�أ ي�سري باجتاه منزله وهو
ينظر �إىل النجوم املتناثرة يف كبد ال�سماء ،وقد ملع �سنا القمر فوق �صفحة
ﻜﺘ
وجهه ،التقطت عيناه �سحابة �صغرية كانت ت�سري بخجل و�سط ال�سماء
الوا�سعةُ ،خيل �إليه �أنها تنظر �إليه وتبت�سم ،فابت�سم قلبه ثم راح يتمتم
ﺐ ﻟﻠﻨ
بقت �أمانة عندي ،يا كرمي متم لنا على خري وابعدنا عن كل
التنازالت والذنوب اللي بيقع فيها معظم النا�س دلوقتي ،قدرنا
�إننا نحافظ على عفتنا ونواجه �أي �صعوبات حلد ما نكون مع
بع�ض يف احلالل ،اللهم �إين توكلت عليك وفو�ضت �أمري كله
�إليك.
zzz
215
ذات �صباح هادئ وجميل برزت ال�شم�س من خدرها تنف�ض بيدها
غبار الظالم عن وجه الأر�ض ،كانت �أمرية حفل اليوم تغط يف نوم عميق
عندما �أر�سلت ال�شم�س �شعاع �أمل يداعب وجنتيها فبد�أت تفتح عينيها
ببطء ،كانت ر�أ�سها على الو�سادة وعيناها تنظران �إىل �سقف الغرفة وهي
ال تكاد ت�صدق نف�سها ،فاليوم يوم خطبتها ،اليوم هو اليوم الذي حتلم
به كل فتاة وتظل تتخيل تفا�صيله ل�سنوات عدة� ،أم�سكت بهاتفها ونظرت
�صباحا ،قامت فو ًرا باالت�صال على هند التي
ً ل�ساعته ف�إذا بها التا�سعة
�ستقابلها هي وفاطمة للذهاب معها �إىل خبرية التجميل التي �ستهتم بها
ﻋﺼ
وبب�شرتها يف ذلك اليوم� ،أجابت هند بحب:
ﲑ ﺍﻟ
� -صباح اخلري على �أحلى عرو�سة� ،آه احنا يف اجلامعة ،مفي�ش
ﻜﺘ
حما�ضرات دلوقتي ،جهزي نف�سك وكلميني ونتقابل �سوا �إن
�شاء اهلل.
ﺐ ﻟﻠﻨ
على اجلانب الآخر ،وفور �إغالق هند املكاملة مع �سلمى� ،صاحت فاطمة
بحما�س وقالت:
-عقبايل بقى �أنا كمان يا رب ملا �أعي�ش اليوم ده.
�ضحكت هند وقالت:
-عقبالنا كلنا.
نظرت فاطمة �إىل الأفق البعيد وقالت ب�شرود:
216
-قريب جدً ا يا هند ،قريب جدً ا هي�ست�سلم ويقع يف حبي.
-هو مني ده؟!
قالتها هند وهي تنظر ل�صديقتها بتعجب �شديد ،فتمتمت فاطمة بال
تردد:
-كرمي البحريي.
يف البداية عقدت الده�شة ل�سان هند فلم تنطق بحرف ،ثم بد�أت
�صحيحا ،و�س�ألت بتوج�س:
ً متني نف�سها ب�أن ما فكرت به لي�س
ﻋﺼ
-كرمي البحريي املعيد بتاع البوتري؟
ﲑ ﺍﻟ
�أوم�أت �صديقتها بر�أ�سها �إيجا ًبا ،ف�صاحت هند ب�ضيق:
ﻜﺘ
-وما لقيتي�ش غري ده يا فاطمة!
هزت فاطمة كتفيها با�ستنكار وقالت:
ﺐ ﻟﻠﻨ
متحدية وقالت:
-وعل�شان كده �أنا حطيته يف دماغي ،وقررت �أنا اللي �أفوز بيه،
وهت�شويف يا هند فاطمة ملا بتحط حاجة يف دماغها بيح�صل
�إيه.
قالتها و�سارت وهي ترفع هامتها �إىل ال�سماء ونظرة التحدي تند من
عينها ،كانت كاملغيبة فلحقتها هند وهي ت�ضرب كف ًا بكف ،وتخرب نف�سها
ب�أن الكالم لن يجدي نف ًعا مع �صديقتها بعدما ر�أت تلك النظرة يف عينيها.
217
بعد �ساعتني تقابلت �سلمى مع �صديقتيها وذهنب م ًعا �إىل مركز
التجميل ،بد�أت خبرية التجميل يف عمل بع�ض الو�صفات لتفتيح وتنعيم
وجه العرو�س ثم �أم�سكت ب�إحدى �أدوات �إزالة ال�شعر ،ف�أ�شارت �سلمى
بكفها وقالت ب�أدب:
-بعد �إذنك بال�ش تقربي من حواجبي.
نظرت لها ال�سيدة الثالثينية بعدم فهم وقالت:
-أُ�مال هعملهم ازاي!
ﻋﺼ
ابت�سمت �سلمى بهدوء وقالت:
ﲑ ﺍﻟ
-لأ ما هو �أنا م�ش هعملهم �أ�ص ًال.
ﻜﺘ
وهنا تلفتت ال�سيدة مينة وي�سرة ثم �س�ألت متعجبة:
أنت العرو�سة؟
-م�ش � ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
-غريبة!
ثم �سارت باجتاه �إحدى الغرف لتح�ضر بع�ض م�ستح�ضرات التجميل،
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
قدام ربنا.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ ثم نظرت لهند و�أ�ضافت:
-وخطيبي لو هيت�ضايق من اللي ير�ضي ربنا ف�أنا م�ش هينفع
�أكمل معاه �أ�ص ًال.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
قامت بدفع احل�ساب و�ألقت التحية عليها ،ثم نظرت �إىل �صديقتيها
ﲑ ﺍﻟ
فتبعاها يف �صمت ،فور خروجهن من مركز التجميل �صرخت فاطمة بها
قائلة:
ﻜﺘ
أنت �أكيد جمنونة!
ِ �-
ﺐ ﻟﻠﻨ
تنهدت �سلمى براحة كبرية لأنها بعد �صراعات داخلية كثرية انت�صرت
على نف�سها الأمارة بال�سوء ،وابت�سمت ل�صديقتها وهي تقول:
ﺸﺮ
ﻋﺼ
�سلمى يف غرفتها يف ذلك الوقت ُتع ّدل من هندامها وحتاول ال�سيطرة على
ﲑ ﺍﻟ
نب�ضات قلبها املت�سارعة ،وتتح�س�س بيديها ال�صغريتني وجهها الدافئ
ﻜﺘ
ووجنتيها الورديتني من فرط خجلها ،بد�أت ت�سري بهدوء وكادت تطري مع
الهواء لرقتها ،دخلت �إىل الغرفة و�ألقت التحية على �إ�سالم وهي تنظر
ﺐ ﻟﻠﻨ
�إ�سالم بها وقبل �أن ينطق ب�أي كلمة ذ َّكر نف�سه بالعهد الذي اتخذه على
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
طب ًعا بعد ما ننزل نتفرج على الفر�ش ونعرف الأ�سعار ون�شوف
ﲑ ﺍﻟ
هحتاج �أحو�ش كام فوق الفلو�س اللي معايا ،طب ًعا الكالم ده كله
ﻜﺘ
أديك فكرة عن اللي هيكون باالتفاق مع عمي� ،أنا ب�س حبيت � ِ
بفكر فيه.
ﺐ ﻟﻠﻨ
هذه املالب�س الف�ضفا�ضة واختيارها للألوان الهادئة تلك جعلها تزيد يف
ﻭ
عينيه براءة فوق براءتها ،مل يخربها �أنه بد�أ ي�شعر بحبها يت�سلل �إىل قلبه،
ﺍﻟﺘﻮ
و�أن حديثه القليل معها كفيل ب�أن يجعل يومه كله ورد ًيا ،مل يخربها بكم
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
الظهر ،ترك �إ�سالم عمله وذهب لأداء ال�صالة ،وفور عودته �أخربه زميله
ﲑ ﺍﻟ
ب�أن املدير يدعوهم ملكتبه ،ا�شتعلت احلما�سة بداخل قلبه الذي ازدادت
نب�ضاته ب�شكل ملحوظ ،وتوهجت عيناه بربيق مميز� ،سار بخطوات واثقة
ﻜﺘ
نحو مكتب املدير ،نه�ض املدير من مكانه وبد�أ ينظر لإ�سالم وزمالئه
ال�ستة مبت�س ًما ،ثم �أخذ يقلب بع�ض الأوراق على مكتبه ،و�أخ ًريا �أردف:
ﺐ ﻟﻠﻨ
وهنا خفقت قلوب جميعهم وازداد تركيزهم �أ�ضعا ًفا م�ضاعفة وكل
ﺯﻳﻊ
منهم ينتظر �أن ي�سمع �أول حرف من ا�سمه حتى يطمئن قلبه.
-وجدنا �أن املهند�س زكي ماهر هو م�ستحق الرتقية لهذا العام،
وبالتوفيق للجميع يف الأعوام القادمة.
ات�سعت حدقتا �إ�سالم عن �آخرهما بده�شة وعدم ا�ستيعاب ،فزكي هو
�آخر �شخ�ص كان يتوقع ح�صوله على الرتقية نظ ًرا لعدم جديته الوا�ضحة
يف العمل التي ت�صل �إىل حد اال�ستهتار ،نظر حوله وك�أنه غائب عن الوعي
من هول ال�صدمة ،فوجد �أن وجوه زمالئه حتمل كل �آيات احلزن والتذمر،
223
�ضم �أ�صابعه يف باطن كفيه يف حماولة منه لل�سيطرة على انفعاله و�سار
مغاد ًرا الغرفة كما �سار اجلميع ،دخل مكتبه وارمتى على �أقرب كر�سي
وهو يف حالة غ�ضب �شديد حتى كاد ال�شرر �أن يتطاير من عينيه ،اقرتب
منه زميله وربت على كتفه وهو يقول:
-كنت عارف �إن ده اللي هيح�صل ب�س حمبيت�ش �أحبطك ميكن
يكون ن�صيبك �أح�سن مننا.
نظر له �إ�سالم بعدم فهم و�س�أل:
ﻋﺼ
-كنت عارف منني؟
ﲑ ﺍﻟ
تنهد تنهيدة قوية وقال مف�س ًرا:
ﻜﺘ
-والد زكي يبقى �صديق املدير ،فمن الطبيعي �إن هو اللي ياخد
الرتقية.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
هنا وكان الزم �أعرفك ،و�أنت حر يف قرارك بعد كده.
حاب�سا تلك النار التي
طويل َ ًزفر �إ�سالم زفرة قوية وبعدها �صمت ً
ﲑ ﺍﻟ
َ
َ ُْ ُ َْ َ َ َّ َ َ َْ
الل َّ يدِث بعد ذل ِك تغلي بف�ؤاده وبد أ� يتذكر الآية الكرمية }ل تد ِري لعل
ﻜﺘ
َ
أ ْم ًرا{.
z
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
225
-8-
أنت �صاحية
طرقات خفيفة على باب غرفتها �أتبعها ب�س�ؤال ق�صريِ � :
يا هند؟ ف�ألقت هند هاتفها على الفرا�ش وقفزت مهرولة باجتاه الباب،
ﻋﺼ
فتحت الباب مبت�سمة وقالت بحنان:
ﲑ ﺍﻟ
-ادخل يا �إ�سالم.
ﻜﺘ
بابت�سامة حتمل خلفها الكثري من امل�شاعر املختلطة قال:
-كنت عاوزك ب�س تت�صلي ب�سلمى وتعتذري لها عن زيارة بكره.
ﺐ ﻟﻠﻨ
-ليه يا �إ�سالم؟!
-خمنوق جدً ا وم�ش عارف هقولهم �إيه بعد مو�ضوع الرتقية ده.
ﺸﺮ
-ب�س...
ﻭ
قائل:
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
� -أيوة ما �أنا �سمعت واهلل ،ب�س �إ�سالم بيقول �إنه م�ش هيقدر
ﲑ ﺍﻟ
ييجي!
ﻜﺘ
-دي �أول مرة نعزمكم يا هند ،وهنزعل بجد لو رف�ضتوا ،يال
هن�ستناكم� ،سالم.
ﺐ ﻟﻠﻨ
�ألقت بجملتها الأخرية و�أغلقت اخلط بعدها ،فما كان من هند �سوى
�أنها تركت هاتفها وذهبت لوالدتها لتق�ص عليها ما حدث.
ﺸﺮ
zzz
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ِ
وا�ستقرت جال�سه يف املقعد املقابل به� ،أطبق ال�صمت عليهما لدقيقة
كاملة حتى قطعته �سلمى مت�سائلة:
-عجبك الأكل؟
�أوم أ� �إ�سالم بر�أ�سه و�أجاب:
-جميل ما �شاء اهلل.
227
قالها و�صمت مرة �أخرى ال يدري فيما يتحدث ،ف�شعرت �سلمى به
وهم�ست بهدوء:
-ممكن حتكيلي �إيه اللي ح�صل يف ال�شغل بالظبط؟
رغم علمها بالإجابة ولكنها �أرادت �أن ت�سمعها منه هو� ،شبك �أ�صابع
ميناه بي�سراه وقال ب�ضيق:
-باخت�صار كنت متع�شم جامد �إن الرتقية هتكون من ن�صيبي،
وخ�صو�صا لأنه تقري ًبا
ً وملا �أخدها �شخ�ص تاين ات�صدمت،
ﻋﺼ
�أكرث واحد مبي�شتغل�ش يف ال�شركة!
ﲑ ﺍﻟ
-م�ش �أنت عملت اللي عليك؟
ﻜﺘ
علي و�أكرث واهلل.
-عملت اللي َّ
قالها بي�أ�س ،فابت�سمت �سلمى وقالت بثقة:
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
الأرجاء ملجرد �سماع �صوتها ،كل ذلك �ساهم يف ات�ساع ابت�سامته ،وجعله
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ ي�شاركها حما�سها ً
قائل:
-يال اتف�ضلي� ،أنا م�ستعد.
-امممم� ،أول حاجة� ،أنا م�ش حابة �أجيب تليفزيون وال ني�ش يف
ﺐ ﻟﻠﻨ
بيتنا.
-وال�سبب؟
ﺸﺮ
عل�شان �شكلها قدام النا�س ،و�أنا ب�صراحة م�ش بحب كده� ،أنا
حابة �أجيب احلاجات اللي ه�ستخدمها وب�س ،ونف�س املبد�أ ده
هطبقه ب�إذن اهلل يف كل حاجة ،يعني م�ش هجيب �أعداد مهولة
من كل حاجة عل�شان ملا حد ي�س�ألني �أقعد �أفتخر بحاجتي ،لأ
�أنا مقتنعة �إن ده بيتي ومن حقي �أجيب فيه اللي �أنا عاوزاه وب�س
بغ�ض النظر عن ر�أي النا�س.
229
-جميل� ،أنا موافق جدً ا على الكالم ده ،طيب وبالن�سبة
للتليفزيون؟
-التليفزيون بالن�سبايل �ضرره �أكرب من نفعه ،معظم احلاجات
اللي بتيجي عليه م�ش مفيدة �أبدً ا ،يف حني �إين ممكن �أ�ستبدله
مثل و�أدخل على الإنرتنت �أتفرج على اللي بجهاز كمبيوتر ً
ينا�سب اهتماماتي وينفعني بدل امل�سل�سالت والكالم ده،
وبالفعل �أنا ما�شية باملبد أ� ده بقايل �سنة تقري ًبا وفرق معايا
جدً ا احلقيقة.
ﻋﺼ
-فكرة حلوة� ،أنا عن نف�سي م�ش بتفرج على التليفزيون كتري
ﲑ ﺍﻟ
بردو ،ب�إذن اهلل هتكلم مع عمي يف املو�ضوع ده و�أقوله وجهة
ﻜﺘ
نظرنا ،هاه �إيه كمان؟
بد�أت تنظر يف الورقة التي بني يديها وك�أنها تختار املو�ضوع التايل ،ثم
ﺐ ﻟﻠﻨ
اتفاقنا من البداية.
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
والزم �أطبقه �سواء على احلقيقة �أو و�أنا بتفرج على التليفزيون،
لدرجة �إين كنت را�سمة �إميو�شن مبت�سم على ورقة وبلزقه يف
ﲑ ﺍﻟ
بع�ض الأحيان على وجه الداعية �أو ال�شخ�ص اللي بتفرج عليه
ﻜﺘ
عل�شان �أريح نف�سي.
نظرت �إليه لربهة فالحظت ابت�سامته املت�سعة ،فخف�ضت عينيها � ً
أر�ضا
ﺐ ﻟﻠﻨ
بقدر الإمكان على احليطة �أو الرتابيزة �أو �أي حاجة تانية غري
ﻭ
�سمعا �أ�صوات �أقدام تقرتب منهما �شي ًئا ف�شي ًئا ،وبعدها ظهرت والدة
�سلمى ومن خلفها هند ووالدة �إ�سالم ،قام �إ�سالم من مكانه ونظر لوالدته
با�ستفهام ،فقالت:
-هن�ست�أذن احنا بقى ،وخليك �أنت مع عرو�ستك.
-طيب هو�صلكم.
قالها واقرتب منها �أكرث ،ف�ضحكت بهدوء وقالت:
231
-تو�صلنا فني يا بني! ده البيت يف �آخر ال�شارع!
ثم التفتت �إىل والدة �سلمى واحت�ضنتها ،ثم �ضمت �سلمى �إليها بحب
وربتت على كتفها ،وبعدها غادرت يف هدوء ،عادت �سلمى �إىل مكانها
وتبعها �إ�سالم.
-مامتك باين عليها حنينة قوي.
متتمت بها �سلمى بابت�سامة ،فقال �إ�سالم:
-حنينة وعاقلة جدً ا كمان ،ربنا يباركلي فيها.
ﻋﺼ
حلظات �صمت قليلة مرت قبل �أن يقطعها �إ�سالم بقوله:
ﲑ ﺍﻟ
-كانت هند قالتلي قبل كده �إنك خايفة جدً ا من فكرة اجلواز،
ﻜﺘ
وطول الوقت �شايفة نف�سك م�ش م�ستعدة خلطوة زي دي ،يا
ترى �إيه ال�سبب؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
قدها ،و�أنا حابة �أكون زوجة ناجحة وعارفة كوي�س �أوي حقوقها
وواجباتها وبتعرف تدير �ش�ؤ�ؤن بيتها كوي�س ،والثانية :وهي
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
-حا�ضر ه�ستعني باهلل و�أطلب منه يعينني ويطمن قلبي ب�إذن
اهلل.
ﲑ ﺍﻟ
-نيجي للنقطة التانية وهي انت�شار حاالت الطالق ،ب�صراحة
ﻜﺘ
مثل �إن ال�شاباملو�ضوع له �أ�سباب كتري جدً ا ب�س من �أ�شهرها ً
بيكون حاطط يف دماغه �إن مراته علطول هتكون جميلة ورقيقة
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
حقها وزيادة ،وبيغفل عن احتياجاتها العاطفية وبيكون جاف
جدً ا يف م�شاعره وم�ش �شايف �إنه غلطان يف حاجة ،ده بي�أثر
ﲑ ﺍﻟ
على نف�سية ال�ست وبيعمل فجوة كبرية ما بينهم ،وعندك كمان
ﻜﺘ
نوع من ال�ستات م�ش بيكون عندهم مبد�أ طاعة الزوج ده �أبدً ا،
بتح�س �إنها �ضعيفة لو قالت جلوزها حا�ضر و�سمعت كالمه،
ﺐ ﻟﻠﻨ
-افتكرت حاجة كمان بتعمل م�شاكل كتري جدً ا ،وهي عدم تفهمنا
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
�أوم أ� بر�أ�سه و�أم�سك بكوب الع�صري وبد أ� يرت�شف منه يف هدوء.
zzz
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
�صاف وجميل خرجت �سلمى من قاعة املحا�ضرات ٍ ذات �صباح
ب�صحبة �صديقتيها هند وفاطمة ،وقف ثالثتهن �أمام البناية الرئي�سية
ﺐ ﻟﻠﻨ
وافقت �سلمى وكذلك هند ،ويف طريقهن �إىل خارج اجلامعة توقفت
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
�أوم�أ مبت�س ًما دون �أن يتحدث ،ف�س�ألته فاطمة �س�ؤالها الوهمي ،و�شرح
لها يف �إيجاز ما حتتاجه ،فلمعت عينيها وقالت ب�سعادة:
ﲑ ﺍﻟ
-ياااه هو ازاي ح�ضرتك �شرحتها بالو�ضوح ده! �أنا طول الرتم
ﻜﺘ
تايهة فيها ،يا ريتني كنت �س�ألت ح�ضرتك من زمان.
احتجت �أي حاجة تاين ابقي تعايل.
ِ -لو
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
وهي تقول:
ﲑ ﺍﻟ
� -أ�صل متعرفي�ش يا هند ال�س�ؤال ده كان �شاغلني قد �إيه.
ﻜﺘ
نظرت لها هند بتوج�س وعدم اقتناع وقالت:
-طيب م�ش هت�شرتي ال�سندوت�شات قبل ما تدخلي؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
مرت الأيام �سري ًعا واقرتبت امتحانات نهاية العام ،حالة من التوتر،
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
مرا ًرا ب�أنها لن تنجح ولن تتخرج مثل زميالتها ،ات�صلت بهند باكية
و�أخربتها مبخاوفها ،فبد�أت هند تطمئنها ببع�ض الكلمات لتهون عليها
الأمر ،ثم خطر يف بالها فكرة ،ف�أنهت املكاملة وذهبت �إىل �أخيها ،ق�صت
عليه حوارها مع �سلمى وطلبت م�ساعدته يف حل هذه امل�شكلة ،ف�أخربها
ب�أنه �سيتدبر الأمر ،غادرت هند وهي تدعو اهلل �أن يبعث ال�سكينة والراحة
�إىل قلب �سلمى ويوفقها يف اختباراتها ،بعد عدة �أيام علمت �سلمى من
والدها �أن �إ�سالم يريد تقدمي موعد زيارة هذا الأ�سبوع لتكون يف يوم
237
الثالثاء ً
بدل من يوم اجلمعة ،كانت يف حالة ال ت�سمح لها مبقابلته ،ولكنها
أي�ضا مل ت�ستطع الرف�ض ،ف�أخربت �أبيها ب�أنها �ستكون جاهزة يف املوعد� ً
املحدد ب�أمر اهلل.
ويف يوم الثالثاء بعد �صالة الع�شاء بن�صف �ساعة �سمعت �سلمى
طرقاته على باب منزلها ،فخفق قلبها كجناح ذبابة وارتفعت دقاته حتى
ظنت �أنها ت�سمعها بو�ضوح ،هرولت �إىل املر�آة وبد�أت تنظر بي�أ�س �إىل
وجهها ال�شاحب وعينيها احلمراوين من �أثر البكاء ،ثم �سارت متعجلة
�إىل دورة املياه و�ضربت وجهها بعدة دفعات من املاء يف حماولة بائ�سة
ﻋﺼ
منها لتبدو ب�شكل �أف�ضل ،ولكن ال فائدة ،تنهدت بحرج ثم جففت وجهها
ﲑ ﺍﻟ
بهدوء و�سارت �إىل غرفتها التي انتظرت بها حتى ناداها والدها.
ﻜﺘ
بحرج بالغ وخطوات بطيئة وعينني مثبتتني بالأر�ض �سارت حتى و�صلت
�إليه ،بد�أت ترفع عينيها للأعلى فلمحت باقة من الورد الأحمر حتت�ضن
ﺐ ﻟﻠﻨ
تلقائية على وجهها و�شعرت مبزيج من امل�شاعر اجلميلة داخل قلبها ،وملا
انتبهت �إىل ذاك اجلال�س �أمامها التفتت �إليه بحرج وقالت:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
-ال�سالم عليكم.
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
-ب�صراحة �أنا مرعوبة ،حا�سة �إين ن�سيت كل حاجة وم�ش هعرف
ﲑ ﺍﻟ
�أكتب وال كلمة.
ﻜﺘ
�صمت �إ�سالم للحظات لرتتيب �أفكاره ثم قال:
� -إح�سا�سك ده طبيعي جدً ا يا �سلمى وبيح�صل مع معظم الطلبة،
ﺐ ﻟﻠﻨ
� -أنا م�ش هنكر �إين دا ًميا ببقى خايفة قبل االمتحانات وبعرف
ﺯﻳﻊ
�أجاوب كوي�س بعدها احلمد هلل ،ب�س فعل ًيا املرة دي خويف زايد
مثل ومتخرجت�ش هزعل جدً ا ،ولو ال قدر اهلل نزلت يف مادة ً
جدً ا ،وهتكون م�شكلة كبرية مع بابا.
-طيب ممكن نتفق على حاجة؟
حركت ر�أ�سها عالمة املوافقة ،ف�أردف:
239
-عاوزك الفرتة دي تبذيل كل طاقتك يف املذاكرة ،متفكري�ش
يف االمتحان وال النتيجة وال �أي حاجة ،هدفك اللي حتطيه
قدام عينك هو �إنك تخل�صي املادة وتراجعيها مرة �سريعة على
الأقل ،لو يف الن�ص ح�سيتي ب�إحباط ظني بربنا خري وت�أكدي
�إنه هيكون عند ظنك وكملي مذاكرتك ،وب�إذن اهلل هتتي�سر.
-هحاول ب�إذن اهلل.
-طيب متام ،ندخل على املو�ضوع اللي بعده مبا �إين م�ش حابب
الزيارة دي تكون طويلة عل�شان مذاكرتك �أهم دلوقتي ،فني
ﻋﺼ
الآن�سة �صاحبتك؟
ﲑ ﺍﻟ
نظرت له �سلمى بعدم فهم وهي ت�ضيق ما بني عينيها ،ثم غ�ضت
ﻜﺘ
طرفها و�س�ألت:
� -آن�سة مني؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
-الورقة.
�شعرت ب�سذاجتها ومتتمت بخجل:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
-متام �أبد�أ �أنا ،مبا �إين واثق �إنك هتتخرجي وبتقدير كمان ب�إذن
اهلل ،قوليلي بتفكري تعملي �إيه بعد التخرج؟
ثم �ضحك وهو يقول:
-غري �إنك تتجوزي طب ًعا.
انكم�شت �سلمى يف مقعدها واحمرت وجنتاها ً
خجل ،وقالت بعد
�صمت ق�صري:
240
-ب�صراحة بفكر �أ�شتغل بعد التخرج علطول ب�إذن اهلل ،ون�سيت
�أتكلم معاك يف النقطة دي قبل كده.
قال و�سحائب ال�ضيق تظلل مالحمه:
أنت فاكرة يا �سلمى �إين م�ش هقدر �أ�صرف على بيتي!
-ليه؟ هو � ِ
�سكنت الده�شة مقلتيها و�أجابت م�سرعة وك�أنها تريد �أن تثبت �أنها
ُبراء من تلك التهمة التي رماها بها:
-واهلل �أبدً ا يا �إ�سالم� ،أنا م�ش ق�صدي كده خال�ص ،كل الفكرة
ﻋﺼ
�إين حبيت جدً ا ال�شغل مع الأطفال ملا جربته يف الرتبية العملي،
ﲑ ﺍﻟ
وحا�سة �إين بجانب �شرح الإجنليزي ممكن �أقدر �أغر�س فيهم
ﻜﺘ
مبادئ وقيم يعي�شوا بيها حياتهم بعد كده.
-لو ده هدفك الأ�سا�سي ف�أنا معندي�ش م�شكلة ،ب�س ب�شرط.
ﺐ ﻟﻠﻨ
توفقي بني ال�شغل والبيت ف�أنا هبقى مب�سوط لنجاحك� ،إمنا لو
ﻭ
هو �أهم.
-هو ده نف�س ر�أيي على فكرة ،اتفقنا.
-متام ،نف�سك تعملي �إيه كمان؟
علي جدً ا فكرة �إين �ألب�س
-ب�صراحة بقايل كام �شهر م�سيطرة َّ
متاما ،من �أ�سبوعني تقري ًبا خطرت على النقاب وبابا راف�ض ً
بايل فكرة تانية ومتحم�سة ليها جدً ا ،وهي �إين �ألب�س النقاب
241
يوم الفرح ب�إذن اهلل ،ومن �ساعتها و�أنا فرحانة وحا�سة �إن فيه
�أمل بعد ما كنت يئ�ست �إن بابا يوافق.
بك جدً ا لو عملتي اخلطوة دي على فكرة ،ربنا -هبقى فخور ِ
يوفقك.
ملعت عيناها وقالت بحما�س:
-اهلل امل�ستعان.
�ساد ال�صمت بينهما ،فكل منهما كان يحاول جتميع �أفكاره قبل
ﻋﺼ
الدخول �إىل النقطة التالية ،قطعت �سلمى ذلك ال�صمت قائلة:
ﲑ ﺍﻟ
-هقولك على موقف قد يكون تافه �شوية ،ب�س وراه مو�ضوع مهم
حابة �أناق�شك فيه.
ﻜﺘ
نظر لها �إ�سالم بانتباه ،فا�ست�أنفت:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-امبارح بابا طلب مني ُكباية �شاي ،عملتها وو�أنا رايحة �أديهاله
وقعت بدون ق�صد على ال�سجادة وبهدلت الدنيا ،وطار منها
ﺸﺮ
بع�ض النقط على ِرجل بابا� ،ساعتها بابا ات�ضايق جامد وزعق
وقايل كلمتني ل�سه م�أثرين َّيف حلد دلوقتي...
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
-ومن هنا ف�أنا حابة �أتفق معاك على حاجة ،يا ريت يا �إ�سالم
منحا�سب�ش بع�ض على حاجة ملنا�ش ذنب فيها� ،أ�صل �أنت
بتلومني على �إيه! دي حاجة غ�صب عني ووارد حت�صل يف �أي
وقت ،املواقف اللي زي دي لو اتكررت كتري واتكرر معاها اللوم
والعتاب اللي بي�صل يف بع�ض الأحيان لغلظة �شديدة �ساعتها
الزم ه�شيل منك والفجوة بيننا هتكرب ،و�أنا م�ش عاوزة كده
�أبدً ا.
242
� -أنا متفهم جدً ا كالمك ،و�إن الواحد ملا بيغلط غلط غري مق�صود
زي ده بيكون هو نف�سه مت�ضايق وم�ش ناق�ص �إن حد يقعد يلوم
عليه وي�ضايقه �أكرث.
-من املواقف بردو اللي م�ش قادرة �أن�ساها ،كنت يف املدر�سة مرة
ولقيت والدة طالب عندي يف ثانية ابتدائي بتقويل �إن ابنها
عنده تبول ال �إرادي وكل يوم بيقوم من النوم و�سريره غرقان،
وبت�س�ألني �أعاقبه ازاي عل�شان يبطل!
ﻋﺼ
ظهر الغ�ضب جل ًيا على وجهها وهي تتابع:
ﲑ ﺍﻟ
� -أنت متخيل يا �إ�سالم! عاوزة تعاقب الولد عل�شان م�ش قادر
يتحكم يف نف�سه! عل�شان م�ش ق�صده! طيب هتعاقبيه على �إيه!
ﻜﺘ
الولد مري�ض يا نا�س وحمتاج عالج م�ش حمتاج �ضرب وعقاب!
حاولت �ساعتها بقدر الإمكان �أرد عليها بالراحة ،ب�س حقيقي
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
عنا.
ﲑ ﺍﻟ
ابت�سم �إ�سالم بارتياح وقال:
ﻜﺘ
-متام اتفقنا ،و�ضيفي مع االتفاقات كمان �إننا منطلع�ش �أ�سرار
بيتنا بعد الزواج �أبدً ا لأي حد ،يعني حتى لو اتخانقنا �أو زعلنا
ﺐ ﻟﻠﻨ
من بع�ض الزم زعلنا يف�ضل ما بي ّنا حلد ما نت�صافى ،لأن احنا
هنت�صالح وهنن�سى ،لكن النا�س م�ش بتن�سى ،وكمان ملا النا�س
ﺸﺮ
يقدرنا.
ﺯﻳﻊ
ابت�سم و�س�أل:
-فيه مو�ضوع تاين حابة تتكلمي فيه؟
-ب�صراحة مفي�ش حاجة يف بايل حال ًيا.
نه�ض من مكانه وقال مبت�س ًما:
-طيب �أنا ه�ست�أذن دلوقتي عل�شان معطلكي�ش �أكرث من كده،
ونتقابل بعد ما تخل�صي امتحانات ب�إذن اهلل.
244
عندما الحظ والدها الذي كان ي�شاهدهما من بعيد �أن �إ�سالم نه�ض من
مكانه َع ِل َم �أنه �سيغادر ،فاقرتب منهما وا�صطحب �إ�سالم �إىل باب املنزل
وهو يودعه ،ثم ذهب �إىل غرفة نومه لي�سرتيح ،يف تلك اللحظة نظرت
�سلمى �إىل ال�صندوق الرائع املو�ضوع على الطاولة وانت�شلت غطاءه بلهفة،
فلمعت عيناها وتلبدت بالغيوم وهي تقلب بني يديها قطع ال�شيكوالتة التي
اختارها �إ�سالم بعناية �شديدة ،يبدو �أن هند �أخربته بالأنواع التي تف�ضلها
نوعا واحدً ا �إال و�أح�ضر منه قطعة حتى ملأ ال�صندوق بع�شرة فلم يرتك ً
قطع خمتلفة� ،أعادت �سلمى قطع ال�شيكوالتة �إىل ال�صندوق ونظرت �إىل
ﻋﺼ
باقة الزهور ال�ساكنة على الطاولة ،تناولتها وجل�ست تنظر �إليها بفرحة
ﲑ ﺍﻟ
ومترر �أ�صابعها على زهورها زهرة زهرة ،ثم احت�ضنتها بني ذراعيها وقد
�صرح قلبها بحب �إ�سالم ...للمرة الأوىل.
ﻜﺘ
zzz
ﺐ ﻟﻠﻨ
ب�أن االمتحان جاء �أف�ضل مما توقعت�ُ ،سرت الأم لذلك اخلرب كث ًريا،
ﺍﻟﺘﻮ
احت�ضنت ابنتها ثم طلبت منها �أن تذهب لتبديل ثيابها ،وعادت هي �إىل
ﺯﻳﻊ
املطبخ لتنهي عملها� ،سارت �سلمى �إىل غرفتها وقلبها ينب�ض بقوة ،دخلت
و�أغلقت الباب خلفها ،فتحت حقيبتها و�أخرجته منها وو�ضعته �أمامها على
الفرا�ش وبد�أت تت�أمله ،دفرت وردي اللون تزينه من الأمام وردات �صغرية
بعدة �ألوان ،و�أطراف �صفحاته من الداخل تزينها جمموعة �ألوان ت�شبه
قو�س قزح ،جل�ست على فرا�شها و�أخرجت قلمها وبد�أت تكتب:
حان وقت البوح
245
عزيزي �إ�سالم ،ال �أخفيك �س ًرا مل �أعد �أ�ستطع كتمان ما بداخلي �أكرث
من ذلك ،بداخلي الكثري من امل�شاعر جتاهك ،ال �أعلم كيف حدث ذلك،
ولكن كل ما �أعلمه �أنني �أحببتك كث ًريا� ،س�أقولها �صريحة ولن �أنكرها بعد
اليوم� ،أنا �أحبك يا �إ�سالم و�أمتنى �أن يجمعنا اهلل على خري حتى �أ�ستطيع
�أن �أخربك بكل ما يدور بداخلي بال قيود ،وحتى يحني ذلك الوقت �سيكون
هذا الدفرت هو مكاين لأحتدث معك بكلمات غري الكلمات ،و�سرتاين هنا
ب�صورة خمتلفة عما تراها يف الواقع.
ﻋﺼ
�أتعلم؟ قلبي ينب�ض ب�شدة منذ ا�شرتيت هذا الدفرت ،وابت�سامتي ما
زالت مر�سومة على وجهي ،طوال الطريق �أنتظر بلهفة عودتي �إىل املنزل
ﲑ ﺍﻟ
حتى �أكتب لك كلماتي الأوىل ،باهلل عليك يا �إ�سالم كيف ا�ستطعت �أن
ﻜﺘ
تريح قلبي بحديثك معي يف كل مرة �إىل هذا احلد؟ كيف ا�ستطعت �أن
جتعلني �أنتظر زيارتك حتى �أ�ستمع �إىل كلماتك التي تر�ضي عقلي وقلبي؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
تدافع تلك امل�شاعر بداخلي ،لذلك ر�أيت �أن ذلك الدفرت هو احلل الأمثل
ﺯﻳﻊ
لتفريغها ،ومن اليوم �س�أنتظر تلك اللحظة التي �س�أهديك فيها هذا الدفرت
بعد عقد قراننا مبا�شرة ،و�أرى يف عينيك فرحة بزوجتك التي �سعت بكل
طاقتها حتى حتافظ على قلبك ول�سانك عفي ًفا طوال فرتة ِ
اخلطبة ،يا
رب ،يا رب �أعنا على مرور تلك الفرتة على خري دون �أن نع�صيك.
�س�أذهب الآن لأ�ساعد �أمي يف حت�ضري الغداء ،و�س�أعود يف وقت �آخر
ب�إذن اهلل لأحدثك بالكثري ،ال�سالم عليك.
246
ذ ّيلت ال�صفحة بتاريخ اليوم وال�ساعة والدقيقة ،ثم خطفت نظرة
�سريعة �إىل الكلمات املكتوبة وعينيها ت�شع بهجة و�سرور� ،أغم�ضت عينيها
واحت�ضنت الدفرت ثم تركته على الفرا�ش وبد�أت بتبديل ثيابها ،بعد
ارتدائها مالب�س املنزل تناولت الدفرت و�سارت به باجتاه خزانتها لتخبئه
بها ،ولكنها عادت مرة �أخرى وفتحت �صفحة بي�ضاء تلي ال�صفحة التي
كتبت بها م�سب ًقا وكتبت:
يل؟ هاها �أمزح بالطبع ،فقط لقد عدتُ من جديد ،هل ا�شتقت إ� َّ
تذكرتُ �شي ًئا ما و�أريد �أن �أخربك به.
ﻋﺼ
� ْأتذ ُكر عندما �أتيت لزيارتي يف املرة الأخرية قبل امتحاناتي؟ � ْأتذ ُكر
ﲑ ﺍﻟ
أي�ضا؟ مهما �أردتُ �أنباقة الورد التي �أح�ضرتها ،و�صندوق ال�شيكوالتة � ً
ﻜﺘ
�أ�صف لك فرحتي بتلك الهدية فلن �أ�ستطيع ،ومهما �شكرتك على كلماتك
العذبة التي حتدثت بها وقتها لتطمئن قلبي فلن �أوفيك حقك ،ومهما
ﺐ ﻟﻠﻨ
�سمعت رنني هاتفها� ،أم�سكت بحقيبتها و�أخرجت الهاتف ،وملا ر�أت ا�سم
�إ�سالم ينري ال�شا�شة ارتع�شت يداها ،خرجت من الغرفة ووقفت يف �صالة
املنزل ثم �أجابت بتوتر ممزوج بال�سعادة:
-ال�سالم عليكم.
-وعليكم ال�سالم ورحمة اهلل وبركاته ،ازيك يا �سلمى ؟�أخبارك
�إيه؟
247
-احلمد هلل يف �أح�سن حال.
-طمنيني عملتي �إيه يف االمتحان؟
-احلمد هلل ،كان �أف�ضل مما توقعت يا �إ�سالم.
-يعني افتكرتي الإجابات �أهو.
ابت�سمت بخجل وقالت:
-يف البداية مكنت�ش عارفة �أجاوب خال�ص ،وبعد مرور ربع
ﻋﺼ
الوقت تقري ًبا افتكرت كل حاجة وك�أن الكتاب كان مفتوح
قدامي ،احلمد هلل.
ﲑ ﺍﻟ
�شعر �إ�سالم ب�سعادة ال تو�صف ،لأنه يف ذلك الوقت بالتحديد ك ّثف
ﻜﺘ
الدعاء لها ولهند ،علم �أن اهلل تقبل دعاءه فابت�سم ،ثم قال:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-خال�ص هبقى �أكلمك تاين يف وقت يكون موجود فيه ب�إذن اهلل،
ﻭ
عامة �أنا كنت عاوز �أقولك �إين رايح النهارده بعد ال�شغل انرتفيو
ﺍﻟﺘﻮ
دي ،ادعيلي.
-حا�ضر ب�إذن اهلل.
-يال �سالم عليكم.
ردت ال�سالم و�أغلقت اخلط ،ثم نظرت �إىل الهاتف و�شردت ،انت�شلها
نداء والدتها التي تطلب منها م�ساعدتها يف نقل الأطباق �إىل املائدة قبل
248
عودة والدها من �شرودها ،و�ضعت الهاتف جان ًبا و�سارت م�سرعة تلبي
نداء والدتها وهي حتمد اهلل على نعمة وجود �إ�سالم يف حياتها ،وتدعوه
�أن يحفظ قلبه ويدمي عليه عفته.
zzz
� -أيوة يا دكتور كرمي� ،أنا م�ستنية ح�ضرتك جنب العربية.
وقفت تلك ال�شقراء التي ترقرق يف وجهها ماء اجلمال تنتظر حما�ضر
مادة ال�شعر بلهفة كبرية ،و�ضعت هاتفها يف حقيبتها وبد�أت تفكر يف
ﻋﺼ
الطريقة املنا�سبة التي �ستبد أ� بها حديثها ،مرت دقائق قليلة قبل �أن جتده
ﲑ ﺍﻟ
ً
ماثل �أمامها مبت�س ًما ويقول:
ﻜﺘ
كنت حمتاجة حاجة؟ -خري يا فاطمةِ ،
-ح�ضرتك عارف �إن النهارده �آخر يوم يف االمتحانات ،وكان
ﺐ ﻟﻠﻨ
نف�سي �أبد�أ الإجازة و�أنا مب�سوطة ،ب�س للأ�سف فيه كام �س�ؤال
هتجنن و�أعرف �أنا جاوبتهم �صح وال لأ ،يا �إما هف�ضل خايفة
ﺸﺮ
حلد ما النتيجة تظهر� ،أنا عارفة �إين تقلت على ح�ضرتك كتري
الفرتة اللي فاتت ،ب�س دي هتكون �آخر مرة.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
أنت عاوزاه.
�أنا معندي�ش م�شكلة ،ويف الطريق ا�س�أيل اللي � ِ
ﲑ ﺍﻟ
منده�شة �س�ألت:
ﻜﺘ
� -آجي فني؟
�ضاح ًكا �أجاب:
ﺐ ﻟﻠﻨ
هل �أخربته �أن قلبها الآن يرق�ص من الفرحة� ،أم �أن عينيها قامتا
ﻭ
باملهمة على �أكمل وجه؟ ت�ص ّنعت الرتدد ،ولكنها مل ُتفلح هذه املرة
ﺍﻟﺘﻮ
وا�ستطاع كرمي �أن يرى كل �شيء يف عينيها� ،أ�شار �إليها �أن تركب دون �أن
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
اليوم ،ولكنها مل ت�ستطع� ،أح�ضر النادل الطعام املطلوب ،ويف �أثناء تناول
ﲑ ﺍﻟ
الطعام حتدثا م ًعا يف �أمور عدة ،ثم خرجا من املطعم ي�سري �أحدهما
بجوار الآخر ،ركبت ال�سيارة معه ،ا�ستغلت ان�شغاله بالقيادة وبد�أت تدقق
ﻜﺘ
النظر يف مالحمه ،كانت لديه م�سحة من الو�سامة ،ب�شرته القمحية،
عيناه العميقتان وحاجباه الكثيفان جعال لنظراته �أث ًرا حمب ًبا على
ﺐ ﻟﻠﻨ
نف�سها� ،شردت للحظة ور�أت نف�سها تقف �إىل جواره بف�ستانها الأبي�ض،
حلم بعيد يراودها كل يوم ،ولكنها عزمت على حتقيقه مهما كلفها الأمر،
ﺸﺮ
مرت الدقائق حتى اقرتبت من منزلها ،تركت �أحالمها جان ًبا وبد�أت
ﻭ
مودعا وعاد
ت�صف له املكان حتى و�صلت �إىل بيتها ،تركها �أمام البناية ً
ﺍﻟﺘﻮ
zzz
و�ضعت والدة �إ�سالم طعام الفطور على الطاولة وجل�ست يف انتظاره
حتى ينتهي من ارتداء مالب�سه التي �سيذهب بها �إىل عمله ،طال انتظارها
ف�شعرت بالقلق ،نه�ضت و�سارت بهدوء نحو غرفته ،طرقت الباب مرتني
فقال �إ�سالم:
251
-اتف�ضلي يا ماما.
�أمالت املقب�ض وحركت الباب ،ثم نظرت �إىل ولدها الذي يجل�س
وحيدً ا بزاوية غرفته وقالت بتعجب:
-قاعد بتعمل �إيه يا �إ�سالم؟ جميت�ش تفطر ليه؟
-كنت بفكر يف حاجة كده ،عامة مت�شغلي�ش بالك يا حبيبتي ،يال
نفطر.
اقرتبت منه والدته وابت�سمت ،جل�ست على الفرا�ش �أمامه وقالت:
ﻋﺼ
-طيب ممكن ت�شاركني معاك؟
ﲑ ﺍﻟ
تنهد بحرية و�أردف:
ﻜﺘ
-مبا �إن �سلمى خل�صت امتحانات فاملفرو�ض �إين هروح الزيارة
اجلاية �أتفق على اليوم اللي هنجيب فيه ال�شبكة زي ما وعدتها،
ﺐ ﻟﻠﻨ
اجلهاز منني!
-ل�سه حمد�ش كلمك من املطعم اللي عملت فيه املقابلة �آخر
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
مرة؟
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
باحلنني �إليها ،ف�إنه مل ي�ستمع �إىل �صوتها منذ عدة �أيام ،ومل يرها منذ
�أكرث من �شهر ،حاول �ضبط انفعاالته قبل �أن يرد عليها كما حاولت هي
ﲑ ﺍﻟ
الأخرى ال�سيطرة على ارتعا�شة يدها� ،أجابها وحياها� ،س�ألها عن �أحوالها
ﻜﺘ
و�أحوال �أ�سرتها ،وفعلت هي مثل ما فعل ،ثم قالت:
-عاوزة �أقولك على خرب هيفرحك ب�إذن اهلل.
ﺐ ﻟﻠﻨ
-بابا وافق �إنك جتيب ن�صف ال�شبكة دلوقتي والباقي ملا ربنا
يرزقك ب�إذن اهلل.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�إنه يتخيل ،هكذا �أكد لنف�سه� ،أو رمبا مل تلتقط �أذنيه الكلمات بدقة،
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
زنيت على بابا �شوية بردو ،واحلمد هلل النهارده قايل �أكلمك
ﲑ ﺍﻟ
و�أقولك �إنه موافق.
�أراد �إ�سالم �أن يتحدث مع والدها لي�شكره بنف�سه� ،أعطت �سلمى
ﻜﺘ
الهاتف لذلك اجلال�س �إىل جوارها ،فقال �إ�سالم:
ﺐ ﻟﻠﻨ
ب�إذن اهلل.
� -شوف يا �إ�سالم� ،أنا مكنت�ش هعمل كده لوال �إين ات�أكدت بنف�سي
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
فيها حتى يف مكاملاتك ،فطول ما �أنت كده �أنا هقف معاك زي
ما تكون ابني ،ب�س لو جيت يف يوم وظلمتها فت�أكد �إين �أول واحد
هيقف قدامك ويجيب حق بنته.
� -سلمى طيبة وت�ستاهل كل خري يا عمي� ،أوعدك �إين هحاول
دا ًميا �أراعي ربنا فيها عل�شان خويف من ربنا قبل �أي �شيء.
-متام يا �إ�سالم ،ه�ستناك بكره عل�شان نتفق على اليوم اللي
هننزل جنيب فيه ال�شبكة.
254
-ب�أمر اهلل يا عمي.
�أعطى ال�سيد طارق الهاتف البنته ،فقال �إ�سالم بامتنان:
� -أنا ب�شكرك جدً ا يا �سلمى على كل حاجة.
-ال�شكر هلل� ،أنا معملت�ش حاجة ،ربنا يي�سرلك �أمورك.
-يا رب ،نتقابل بكره ب�إذن اهلل� ،سالم عليكم.
ردت ال�سالم و�أغلقت اخلط ،ثم هربت �إىل دفرتها لتكمل حديثها معه
هناك.
ﻋﺼ
zzz
ﲑ ﺍﻟ
م�ساء اليوم التايل �أدى �إ�سالم �صالة املغرب يف امل�سجد القريب من
ﻜﺘ
منزله ثم عاد وارتدى مالب�سه ،تعطر و�صفف �شعره ،بعدها هبط �إىل
ال�شارع و�سار وهو يحمل هديتها بني يديه حتى و�صل �إيل منزلها� ،صعد
ﺐ ﻟﻠﻨ
�إىل البناية ،طرق الباب ففتح والدها وجل�س معه لبع�ض الوقت ليتناق�شا
يف بع�ض الأمور ،بعدها ح�ضرت العرو�س ،كانت �أف�ضل ً
حال من املرة
ﺸﺮ
ً
قائل:
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
فيك مميزات �أي �شاب يتمناها
-يف الفرتة اللي فاتت �أنا �شوفت ِ
ﲑ ﺍﻟ
يف زوجته ،وتقري ًبا عرفت عنك كل احلاجات ال�ضرورية اللي
كنت حمتاج �أعرفها ،عل�شان كده �أنا متطمن وم�ستعد من
ﻜﺘ
دلوقتي �إين �أكتب الكتاب.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
باالت�صال على �إ�سالم ،و�أثناء عودتها �إىل �صالة املنزل �سمعت نغمة رنني
هاتفه:
ﲑ ﺍﻟ
�أنا ليه بتوه و�سط الب�شر نا�سي و�أ�شيل الآخرة من را�سي
ﻜﺘ
وعارف �إين بكره هكون ذكرى ويف الرتاب مدفون
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
�أحدهم تقرتب من باب املنزل ،وتذكرت �أنها مل ت ؤ� ِد �صالتها ،فهرولت
z ﲑ ﺍﻟ
�إىل غرفتها لت�أدية �صالتها ومن ثم تعود لت�ست�أنف حديثها معه من جديد.
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
258
-9-
وبعد انتظار دام ل�سنوات ،وبعد �أحالم كانت ل�ساعات ،وبعد �صرب
و�شوق لتحقيق تلك الأمنيات فقد اقرتبت اللحظة ،اقرتبت اللحظة
ﻋﺼ
التي ظل يتخيلها فاروق رمبا ملئات املرات ،تلك اللحظة التي �سيم�سك
ﲑ ﺍﻟ
فيها بيد نهى ويقب�ض عليها بقوة وهو يعلن للعامل �أجمع �أنها من الآن
ما عادت �أجنبية عنه ،نعم فقد �أ�صبحت زوجته ورفيقته التي لن يرتكها
ﻜﺘ
�أبدً ا مهما حدث� ،ساعات قليلة فقط تف�صله عن حتقيق حلمه� ،ساعات
ويراها �أمامه ويخربها عن كل �شيء خب�أه عنها منذ �أن نب�ض قلبه بحبها،
ﺐ ﻟﻠﻨ
ال ي�ستطيع �أن يغم�ض له جفن من فرط �سعادته ،ي�شعر وك�أنها حوله يف
كل مكان ،ي�شعر ب�أنها ت�ضحك هنا وهناك وتخربه هي الأخرى مبا يعتمل
ﺸﺮ
قلبها من م�شاعر ،مل ي�شعر بوالده الذي يقف �أمامه منذ خم�س دقائق
ﻭ
للراحة فجل�س على الفرا�ش بجوار فاروق الذي �أفاق فج�أة وهو ينظر �إىل
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
م�ستح�ضرات التجميل ،تلك الفتاة الودودة رقيقة القلب كانت تقف يف
�أحد �أركان امل�سجد وقلبها يخفق ب�شدة ،بد�أت ت�ستمع �إىل كلمات ال�شيخ
ﲑ ﺍﻟ
ون�صائحه للعرو�سني وهي تنوي من كل قلبها �أن تنفذ ما يقوله و�أكرث،
ﻜﺘ
خلطبة �سري ًعا ،ووجدت نف�سها بعد حلظات ت�سمع نف�س ال�صوت انتهت ا ُ
وهو يقول :بارك اهلل لكما وبارك عليكما وجمع بينكما يف خري .وجميع
ﺐ ﻟﻠﻨ
من بامل�سجد يرددون خلفه ،تلك الأحا�سي�س التي �شعرت بها وقتها ال
ومباركات ت�أتيها من كل مكان
ٍ ميكن �أن ت�صفها كلمات ،وجدت �أح�ضا ًنا
ﺸﺮ
فاروق ينظر حوله بده�شة ،هل ما التقطته �أذناه قبل قليل واقع بالفعل!
ﺍﻟﺘﻮ
�أم �أن هذا جمرد حلم من �أحالمه التي ال تنتهي! وقف ي�س�أل �إ�سالم الذي
ﺯﻳﻊ
كان يقف �إىل جواره هل ح ًقا �أ�صبحت نهى زوجته؟ هل ي�ستطيع الآن �أن
يخربها بتلك امل�شاعر التي كان يكتمها عنها منذ �سنوات؟ هل ي�ستطيع �أن
ينظر �إليها وقتما �شاء ويحدثها كيفما �شاء؟ وملا �أجاب �إ�سالم بالإيجاب
مل ي�صدقه وذهب ي�س�أل والده نف�س الأ�سئلة ،ف�ضحك الوالد وبد�أ يدفعه
بيديه وهو يقول:
-اطلع طيب خد عرو�ستك من فوق و�أنت ت�صدق بنف�سك.
260
�سمع فاروق تلك اجلملة واختفى من �أمام والده� ،سار ب�سرعة باجتاه
م�صلى الن�ساء ،بد�أ ي�صعد الدرج وقلبه يدق مع كل خطوة ،ويف عينيه لهفة
لر�ؤيتها تكاد تخرجهما من حمجريهما ،كانت نهى تقف بانتظاره على
ال�س َّلم ،وملا التقت عيناه بعينيها وقف لربهة م�شدوهً ا،
الدرجة ال ُعليا من ُ
كيف �أ�صبحت جميلة �إىل هذا احلد! وقف يت�أملها لبع�ض الوقت حتى �سمع
�صوتها الرقيق يقول:
� -آجي �أنا طيب؟
ﻋﺼ
هز ر�أ�سه لي�ستفيق ثم تابع �صعوده حتى و�صل �إليها ،وقف �أمامها
مبا�شرة ،اقرتب منها كما مل يقرتب من قبل� ،أمعن النظر يف وجهها
ﲑ ﺍﻟ
وعلى وجهه ابت�سامة و�ضاءة ،ثم �أم�سك بر�أ�سها ولثم جبينها ومتتم بحب:
ﻜﺘ
-و�أخ ًريا بقيتي َّ
يل ،اللهم لك احلمد.
ارجتف ف�ؤادها ،انتف�ض ج�سدها و�شعرت بحرارة جتتاحه كله،
ﺐ ﻟﻠﻨ
ح�ضرت والدته التي كانت تقف خلف العرو�س واحت�ضنته وهن�أته على
عقد قرانه ،وبجوارها وقفت والدة نهى وهن�أت فاروق وطلبت منه �أن ي�ضع
ﺯﻳﻊ
ابنتها يف عينيه ،وعدها بذلك ،فابت�سمت نهى بامتنان ،ثم دخلت امل�سجد
وارتدت غطا ًء لر�أ�سها ووجهها ،ثم و�ضعت يدها املرتع�شة بيد زوجها،
و�سارت �إىل جواره حتى و�صلت �إىل منزلها.
دخلت نهى �إىل غرفتها ،نزعت خمارها ونقابها وعدلت من هيئة
حجابها ثم عادت �إىل زوجها ،وملا ر�آها والدها ا�ست�أذن من فاروق
وا�صطحب زوجته وغادرا املكان ليرتكا لهما م�ساحة من احلرية ،جل�ست
261
أر�ضا ،كانت ت�شعر باحلرج ال�شديد مننهى على مقربة منه ونظرت � ً
جلو�سها �إىل جواره بهذه الطريقة� ،أم�سك بذقنها ورفع وجهها �إليه ،نظر
�إليها بعيون ت�شع فرحة وهم�س:
� -أنا بحبك يا نهى ،بحبك من زمان �أوي.
�شعرت بدقات متزايدة بخافقها ،ارتع�ش ج�سدها بطريقة ملحوظة،
الحظ فاروق توترها ف�أم�سك بكفيها و�ضمهما بداخل كفيه ،ر�سم على
وجهه ابت�سامة حنونة وهو ينظر �إليها ومل يتحدث ،فنزلت ال�سكينة على
ﻋﺼ
قلبها ،و�شعرت ب�سعادة عارمة تغمر كيانها ،مزَّقت ال�صمت ب�س�ؤال قذفه
الف�ضول �إىل عقلها:
ﲑ ﺍﻟ
-يعني �إيه بتحبني من زمان �أوي؟
ﻜﺘ
-دي ق�صة طويلة ،طويلة جدً ا ،حتبي ت�سمعيها دلوقتي؟
�أوم�أت بر�أ�سها بحما�س ،فتنف�س فاروق بعمق وقال:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-من واحنا �صغريين ملا كنت باجي �ألعب مع حممد قدام بيتكم،
ﺸﺮ
ﻋﺼ
نظراتي وحماول�ش �ألفت انتباهك ب�أي طريقة ،وكنت على يقني
ﲑ ﺍﻟ
من �إن ربنا هريا�ضيني يف النهاية.
ﻜﺘ
تناول كوب املياه املو�ضوع على املن�ضدة وارت�شف منه ر�شفة ثم �أردف:
-كان دا ًميا حممد اهلل يرحمه بيحكيلي عن حنانك عليه وعن
ﺐ ﻟﻠﻨ
الطيب ده.
ب�سحب تنذر بهطول دمعها ،نظر �إليها فاروق بحب
�أدلهمت عيناها ُ
وقال:
-حتى واحنا خمطوبني كنت بقول البنت دي نقية وقلبها ن�ضيف،
حافظت عليه ال�سنني دي كلها و�ألوثه،
ِ فم�ستحيل �آجي �أنا بعد ما
عل�شان كده كنت بحاول �أقلل الزيارات ومكاملات التليفون على
علي
قد ما �أقدر ،كنت خايف جدً ا �أتنازل ،املو�ضوع كان �صعب َّ
263
أنت قدامي وم�ش قادر �أعربلك عن
وخ�صو�صا و� ِ
ً جدً ا يا نهى
اللي جوايا.
نظر �إىل عينيها املغرورقتني بالدموع وقال:
� -أنا حقيقي م�ش م�صدق �إين قاعد قدامك دلوقتي وبحكيلك
عن حاجات كامتها جوايا بقايل �سنني.
م�سحت بكفها عينيها املغ�شيتني بالدموع التي انهمرت وحدها ،ثم
قالت بت�أثر:
ﻋﺼ
� -أنا اللي م�ش م�صدقة �إن كل الكالم ده عل�شاين ،حقيقي يا
ﲑ ﺍﻟ
فاروق �أنا م�ش قادرة �أ�ستوعب كل اللي بيح�صل ده ،وم�ش
عارفة �أ�شكر ربنا عليه ازاي ،وال عارفة ممكن �أعو�ضك ازاي
ﻜﺘ
عن �صربك ده.
-وجودك جنبي و�إنك تعامليني مبا ير�ضي اهلل هيبقى �أجمل
ﺐ ﻟﻠﻨ
عو�ض بالن�سبايل ،وربنا يقدرنا على �شكره على نعمه التي ال
تعد وال حت�صى.
ﺸﺮ
نظرت �إليه ،ثبتت عينيها يف عينيه هذه املرة ومل ت�سمح حلرجها �أن
ﻭ
يغلبها وهم�ست:
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
� -أوعدك يا فاروق �إين هحاول �أعمل كل اللي �أقدر عليه عل�شان
�أ�سعدك.
zzz
«عزيزي �إ�سالم...
ها �أنا قد ُعدت �إليك من جديد ،ال �أخفيك �س ًرا ،فكرتُ كث ًريا يف
طلبك يف الأ�سابيع املا�ضية ،ا�ستخرت اهلل عدة مرات ،ويف كل مرة �أ�شعر
264
بطم�أنينة عجيبة متلأ قلبي وروحي� ،أنتظر ب�شدة تلك اللحظة التي �س�أقف
فيها �إىل جوارك و�أعرتف لك بكل ما يعتمل بقلبي من م�شاعر� ،أت�شوق
لر�ؤية نظرة عينيك حينها ،وابت�سامتك التي �ستعني يل الكثري.
�أتعلم؟ برغم �أنك مل تف�صح طوال ال�شهور املا�ضية بحقيقة م�شاعرك
جتاهي ولو بكلمة واحدة� ،إال �أنني �أ�شعر �أنك ُت ِكنُّ يل الكثري من امل�شاعر
الطيبة ،هكذا �أخربين قلبي و�أنا �أ�صدقه.
�س�أت�صل بك الليلة بعد عودتك من عملك و�أخربك مبوافقتي ،وبعدها
ﻋﺼ
�ستتوىل �أنت مهمة �إخبار �أبي بالأمر ،و�أ�س�أل اهلل �أن يي�سر لنا كل اخلري،
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ يف �أمان اهلل»
�أغم�ضت عينيها وتنهدت براحة� ،أغلقت دفرتها وخب�أته كعادتها بني
كتبها ،ثم بد�أت تتابع قر�ص ال�شم�س الذي مال �إىل الغروب ،و�أخدت تدعو
ﺐ ﻟﻠﻨ
�سعادته غامرة ،انتظر زيارتها القادمة بفارغ ال�صرب حتى يفاحت والدها
يف الأمر ،ولكن حدث ما مل يكن يتوقعه ،فقد جاء رد والدها بالرف�ض
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ب�شهر واحد،
التام ،لن ي�سمح لهما بعقد القران �إال قبل موعد الزفاف ٍ
ﺯﻳﻊ
حاول �إ�سالم �أن يتناق�ش معه يف الأمر ويو�ضح له بع�ض الأمور ،ولكنه �أ�شار
له بيديه �أن يتوقف ،و�أخربه بنفاد �صرب �أن الأمر غري قابل للنقا�ش ،ظهرت
عالمات ال�ضيق وال�صدمة على وجه �إ�سالم� ،أ�شفقت �سلمى عليه ،ولكن
ما باليد حيلة ،عليهما االنتظار حتى املوعد الذي حدده والدها ،حاولت
�أن تتحدث معه يف بع�ض الأمور الأخرى ولكن كلماته كانت قليلة مفتقرة
وقت لي�س بطويل ا�ست�أذنها وغادر.
للحما�س الذي تعودت عليه منه ،وبعد ٍ
265
عاد �إىل منزله ،دخل غرفته و�صفق الباب خلفه� ،أم�سك بهاتفه وقرر
االت�صال بفاروق ،فهو فقط من �سيفهمه وي�شعر به ،ولكن خذله فاروق
دون ق�صد منه عندما قرر التحدث مع زوجته يف نف�س اللحظة� ،ألقى
�إ�سالم هاتفه مبلل على الفرا�ش وجل�س ينظر �إىل الال �شيء ،بعد ن�صف
�ساعة �سمع رنني هاتفه� ،أجاب على املت�صل متمت ًما بتحية الإ�سالم ،فقال
فاروق:
-وعليكم ال�سالم ورحمة اهلل وبركاته ،معل�ش يا �إ�سالم كان
معايا مكاملة مهمة.
ﻋﺼ
-ما�شي يا عم ،عقبال ما يكون عندنا مكاملات مهمة احنا كمان.
ﲑ ﺍﻟ
حاول املزاح ولكن نربة �صوته كانت خمتلفة هذه املرة ،فقال فاروق:
ﻜﺘ
� -صوتك م�ش عاجبني ،هو فيه حاجة ح�صلت؟
-حمايا رف�ض �إننا نكتب الكتاب دلوقتي ،و�أنا مبقيت�ش قادر
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أ�صرب يا فاروق!
ﺸﺮ
ﻋﺼ
قالها بحرية ،فتمتم فاروق:
ﲑ ﺍﻟ
-اتكلم معاها مبنتهى ال�صراحة يا �إ�سالم� ،أنتوا من البداية
ﻜﺘ
اتفقتوا �أنكم هتحاولوا تعي�شوا اخلطوبة دي مبا ير�ضي اهلل،
والزم ت�ساعدوا بع�ض وتيجوا على نف�سكم عل�شان حتققوا
ﺐ ﻟﻠﻨ
الهدف ده� ،أنا واثق �إنك لو و�ضحت لها املو�ضوع بطريقة كوي�سة
هي هتتفهم ق�صدك وت�ساعدك.
ﺸﺮ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
املرة اخلام�سة �أو رمبا ال�ساد�سة التي تذهب فيها لتناول الغداء
ﻜﺘ
ب�صحبته يف مطعمه املف�ضل� ،أحب حديثها ،رقتها ،وابت�سامتها اجلميلة،
و�أحبت �أناقته ،كرمه ،حزمه وجديته ،تطورت العالقة بينهما كث ًريا يف
الفرتة املا�ضية� ،أ�صبحت تناديه با�سمه جمردًا بال �ألقاب ،و�أ�صبح ميزح
ﺐ ﻟﻠﻨ
من حلمها رغم �أنه �أخربها ذات مرة ب�أنه ال يفكر يف الزواج �إال بعد
االنتهاء من ر�سالة الدكتوراه ،ولكنها لن تنتظر كل هذا الوقت� ،ستظل
ﻭ
�إىل جواره حتى يتعلق بها ب�شدة ،لن ت�سمح لأي فتاة �أخرى االقرتاب منه،
ﺍﻟﺘﻮ
268
-بحب البنت اللي بتهتم بنف�سها طول الوقت وتبقى حلوة يف كل
حاالتها ،كمان البنت اللي ت�سمع كالمي من غري ما جتادلني �أو
ت�ستفزين بكالمها ،و�أكيد متكون�ش نكدية وال زنانة.
ثم غمز لها وقال:
فيك ،عل�شان كده ببقى مب�سوط
-وتقري ًبا كل ال�صفات دي لقيتها ِ
ملا بتيجيلي الكلية ،وببقى مب�سوط �أكرث ملا بكون فا�ضي وبنخرج
�سوا بدل ما �أنا معظم اليوم قاعد لوحدي كده.
ﻋﺼ
�شعرت فاطمة ب�سعادة غامرة وقالت:
ﲑ ﺍﻟ
-طيب ما تتجوز عل�شان متكون�ش لوحدك!
فهم ما ترمي �إليه ولكنه تظاهر بغري ذلك ،وقال بعدم اكرتاث:
ﻜﺘ
-ال ال جواز �إيه دلوقتي� ،أنا م�ش فا�ضي خال�ص للكالم ده.
ﺐ ﻟﻠﻨ
-وهو اجلواز هيعطلك يف �إيه؟! بالعك�س� ،أنا �شايفة �إنك ملا ترجع
من �شغلك كل يوم تالقي مراتك م�ستنياك بلهفة وعماللك
ﺸﺮ
-اجلواز م�سئولية وتقييد ووجع دماغ ،على �إيه ده كله ،ما �أنا
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
وفور خروج �سلمى �إليه ،قال بعد القاء التحية:
معاك يف مو�ضوع مبا �إن عمي موافق�ش على
ﲑ ﺍﻟ
-كنت حابب �أتناق�ش ِ
ﻜﺘ
كتب الكتاب.
ا�ستمعت �سلمى �إليه بكامل انتباهها ،فا�ستانف:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-كنت قولتلك قبل كده يف مرة قبل خطوبتنا �إين قررت �أحافظ
ﺸﺮ
ﻋﺼ
-ب�س ب�شرط ،الزم الآن�سة ورقة �صاحبتك يكون مليان ن�صفها
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ على الأقل.
انت�شلتها �ضحكته ومزحته الأخرية من حالة احلزن التي انتابت قلبها،
حتب جل�سته وكلماته ،تنتظر زيارته بفارغ ال�صرب رغم �أنها ُتظهر ثباتها
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أمامه� ،ست�شتاق �إليه كث ًريا و�إىل حديثه الذي ُيزهر قلبها ،ولكنها �ست�صرب
وتتحمل حتى ي�أتي الفرج والفرح من عند اهلل ،حاولت �ضبط انفعاالتها
ﺸﺮ
عل�شان كده �أنا م�ستعدة �أعمل �أي حاجة عل�شان �أفوز يف التحدي
ده.
ثم ابت�سمت وقالت:
� -أنا ممتنة لك جدً ا يا �إ�سالم �إنك بت�ساعدين �إين �أكمل طريقي
�صح وعمرك ما بتكون عائق قدامي ،بالعك�س دا ًميا بت�شجعني
وتقويني� ،أنا موافقة على كل اللي قولته.
271
ا�ستطاعت ب�أ�سلوبها و�صدقها وتفهمها �أن تزيح جبل الهم اجلاثم على
�صدره طوال الأ�سبوع ،انتهى الأمر ومت االتفاق ب�سهولة مل يكن يتوقعها،
�شكر اهلل من كل قلبه على نعمة وجود �سلمى يف حياته ،و�شكره � ً
أي�ضا على
نعمة التي�سري ،فكلما فكر يف التقرب �إىل اهلل ب�شكل ما وجت ّلد بالعزمية
وال�صرب وجد العوائق تتال�شى من �أمامه تدريج ًيا حتى تختفي بال رجعة،
فاللهم لك احلمد على نعمك التي ال تعد وال حت�صى.
zzz
ﻋﺼ
ومتر الأيام ،الأ�سابيع ،وال�شهور ،ويزداد ال�شوق ،رغم �أن الفرتة
ﲑ ﺍﻟ
املا�ضية كانت مليئة بالأحداث الهامة بالن�سبة لها ولكنها مل تن�سه ومل
تن�شغل عنه �أبدً ا ،كانت دائ ًما حتدثه يف دفرتها ،حني علمت بنجاحها
ﻜﺘ
وتخرجها من اجلامعة هرولت �إليه و�شكرته من كل قلبها على ن�صائحه
التي �ألقاها على م�سامعها قبل البدء يف االمتحانات� ،أخربته �أن كلماته
ﺐ ﻟﻠﻨ
من عظمته ،كانت تلك الهدية لها جميل الأثر على نف�سها ،كتبت �إليه
كث ًريا حينما بد�أت تبحث عن عمل وذهبت �إىل م�شارق املحافظة ومغاربها
ﺯﻳﻊ
حتى ا�ستطاعت �أن تفوز بوظيفة يف �إحدى املدار�س اخلا�صة ،رغم �أن
الراتب بالكاد يكفي ت�سديد ثمن موا�صالتها �إال �أنها كانت �سعيدة بعملها
أي�ضا عن حفل زفاف فاروق ،كم �أعجبها مع ه�ؤالء ال�صغار ،حدثته � ً
ب�ساطة وي�سر تلك الزيجة� ،شكرته ب�شدة على دعوتها حل�ضور ذلك
احلفل ب�صحبة هند� ،أخربته �أنها ُ�س ّرت كث ًريا بالفقرات الب�سيطة التي
قامت بها �صديقات نهى يف املنزل ،وحينما �صعد فاروق �إىل الأعلى لريى
272
زوجته قبل ارتداء النقاب َغ ّ�ضت الطرف عنه ،ولكن هند �أخربتها �أن
بهجة العامل كله ُجمعت يف وجهه يف تلك اللحظة ،ومتنت من كل قلبها
�أن يرزقها اهلل مبن يحبها وترى يف عينيه مثل هذا احلب� ،أخربته � ً
أي�ضا
�أنها �أحبت تلك الألعاب النارية الكثرية التي انطلقت فج�أة مبجرد هبوط
نهى �إىل ال�شارع ب�صحبة زوجها� ،أحبت الورود التي و�ضعت على ال�سيارة
ب�شكل مميز ،و�أكرث ما �شعرت �أنه مبهج يف تلك الليلة هي فكرة قيادة
فاروق �سيارة الزفاف بنف�سه� ،شعرت حينها �أنه كالفار�س الذي يخطف
حمبوبته ويهرب بها بعيدً ا ،كانت تودعهما بعينيها وتدعو لهما بكل اخلري،
ﻋﺼ
ثم ابت�سمت وهي تتخيل نف�سها يف ذلك املوقف فخجلت و�أغلقت الدفرت.
ﲑ ﺍﻟ
مل يكن �أقل منها �شو ًقا ،بل �أن ال�شوق وقف بكامل �سطوته ور ّكز رايته
ﻜﺘ
يوما بعد يوم ،ومكانتها عنده فوق قلبه ،ي�شعر �أن حبها يزيد يف قلبه ً
�أ�صبحت يف �أعايل ال�سماء ،ذات يوم دخل غرفة هند و�أخربها �أنه يتمنى
ﺐ ﻟﻠﻨ
ب�شدة ر�ؤية �سلمى ،نظرت له هند بتعجب� ،أو رمبا ب�شك ،و�س�ألته عما مينعه،
ف�أخربها �أن حبها يف قلبه و�صل �إىل القمة ،ويخاف كث ًريا من �أال ي�ستطيع
ﺸﺮ
�أن يخفي بداخله كل هذا احلب ،ويجد نف�سه قد �أف�صح عن بع�ضه بعد كل
هذا ال�صرب ،ف�ضحكت هند لتغيظه و�أخربته �أال ُيتعب نف�سه� ،ستتوىل هي
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�أمر �إخبارها بكل �شيء ،حينها نظر �إىل النافذة بتمعن ،ثم عاود النظر
�إليها و�أخربها بحزم ب�أنها �إن فعلت ما قالت �ستجد نف�سها ُملقاة من تلك
ﺯﻳﻊ
النافذة يف اليوم التايل ،تظاهرت هند باخلوف ،ثم �ضحكت ووعدته �أن
حتفظ ال�سر بداخلها حتى يقرر هو بنف�سه �إخبار �سلمى بكل ما يخفي،
وطم�أنته ب�أن الوقت املتبقي حتى موعد عقد القران لي�س بكثري ،و�س�ألت
اهلل �أن يي�سر لهما الأمر على خري.
zzz
273
«عزيزي �إ�سالم،
طويل تلك اللحظة� ،صربنا وحتملنا الكثري� ،ساعات قليلة انتظرنا ً
تف�صلنا عن احلدث الأكرب ،وبعدها ب�إذن اهلل �س�أعرتف لك بكل �شيء،
�أ�شعر �أن قلبي �سيخرج من قف�صي ال�صدري من �شدة دقاته� ،أ�شعر بفرحة
عارمة جتتاح روحي� ،أنتظر ب�شوق �أول لقاء بيننا بعد عقد القران ،ذلك
اللقاء الذي تخيلته ع�شرات املرات.
بعد �ساعات يا �إ�سالم �سيكون هذا الدفرت ملكك ،و�سرتى فيه وج ًها
ﻋﺼ
�آخر ل�سلمى مل تكن تعرفه� ،سلمى التي نب�ض قلبها بحبك منذ التقت بك،
�سلمى التي مل ت�سمح لأي �شاب �أن يطرق باب قلبها �سواك ،ها هي الآن
ﲑ ﺍﻟ
تهدي �إليك �شي ًئا من �أغلى ما متلك ،وهي على يقني من �أنك �ستحافظ
ﻜﺘ
عليه.
هذه كلماتي الأخرية هنا ،املرة القادمة �س�أخربك بكل ما يدور بداخلي
ﺐ ﻟﻠﻨ
وج ًها لوجه وبال خوف� ،أ�س�أل اهلل �أن يبارك لنا ويي�سر لنا كل �أمورنا».
ﺸﺮ
قبل �صالة الع�صر ب�ساعة وقف �إ�سالم يهندم مالب�سه �أمام املر�آة
وي�صفف �شعره ،وبعدها و�ضع عطره اخلا�ص ونظر �إىل نف�سه بفرحة
حقيقية ،كذلك كانت نظرات والدته التي احت�ضنته وهن�أته ودعت له
بالربكة ،بد�أت هند متزح معه والتقطا م ًعا بع�ض ال�صور ،ثم �أخذا بيد
قليل حتى اقرتبوا من بيت �سلمى، والدتهما وهبطا بها �إىل ال�شارع� ،ساروا ً
ويف نف�س التوقيت نزلت �سلمى من منزلها ب�صحبة عائلتها ،الح ال�سرور
274
على حمياه عندما �شاهدها بذلك الف�ستان الذي ُ�صبغ بلون ال�سكر ،وذلك
اخلمار اجلميل الذي حمل اللون ذاته� ،أما عن تلك الفرا�شات ال�صغرية
وردية اللون التي زينت �أطراف الف�ستان و�أطراف �أكمامه ف�إنها �أ�ضافت
على مالب�سها بهجة فوق بهجة ،ملحت �سلمى ابت�سامته فخجلت و�أكملت
أر�ضا ،وكلما اقرتبت من امل�سجد زادت دقات قلبها ب�شكل ال�سري وهي تنظر � ً
ملحوظ حتى ظنت �أنه �أُفت ُِ�ضح �أمرها ،و�صل اجلميع �إىل امل�سجد الكبري يف
احلي والذي يتكون من طابق واحد ،اختفت الن�ساء يف مكانهن املخ�ص�ص
خلف ال�ستار ،وبد أ� الرجال يف �إمتام �إجراءات العقد ،بعد دقائق مليئة
ﻋﺼ
بامل�شاعر املت�ضاربة بني توتر ،فرحة ،تفا�ؤل ،و�شوق ،قال ال�شيخ:
ﲑ ﺍﻟ
-بارك اهلل لكما وبارك عليكما وجمع بينكما يف خري.
ﻜﺘ
وكثت الأح�ضان والقبالت ،بعد انهالت املباركات على كل منهما ُ
دقائق قليلة و�أثناء اختال�س �سلمى النظر �إليه من خلف ال�ستار ،ر�أته
ﺐ ﻟﻠﻨ
يقرتب منها ،فخرجت ووقفت �أمام ال�ستار وابت�سمت وهي تتابع خطواته
�إليها ،وملا وقف �أمامها مبا�شرة مد يده �إليها ويف عينيه ا�ستقرت نظرة
ﺸﺮ
دافئة وفرحة لو ُو ِّزعت على العامل لكفته ،نظرت �سلمى بحرج ليده
املمدودة ،وبد�أت بارتباك تقرتب منها ،وملا الم�ست كفها كفه �شعرت
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
برع�شة �شديدة جتتاح ج�سدها كله ،فقب�ض �إ�سالم على يدها بقوة وهم�س:
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
-ت�سمحيلي �أقولك �إن �شكلك حلو �أوي؟
ﲑ ﺍﻟ
اعتلت �شفتيها ابت�سام ٌة خجلى ،وا�شتعل الوهج الأحمر يف وجنتيها من
جديد ،فقال �إ�سالم:
ﻜﺘ
� -أول مرة �أ�شوف عرو�سة تكون حلوة كده وهي م�ش حاطة مكياج.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ميك �أب.
نظر �إىل عينيها با�س ًما وهم�س:
أنت زي القمر من غري �أي حاجة.
ِ �-
تخ�ضب وجهها باالرتباك ،وا�صطبغ خداها بحمرة ال�شفق ،الحظ َّ
�إ�سالم ارتعا�شة خفيفة يف كفيها فقال �ضاح ًكا:
-خال�ص خال�ص �أنا �آ�سف ،ه�سكت �أهو.
276
�ضحكت �ضحكة خفيفة من �أ�سلوبه املرح ،فنظر �إ�سالم �إىل عينيها
وقال:
� -سلمى� ،أنا حقيقي م�ش م�صدق �إنك دلوقتي بقيتي حاليل
و�أقدر �أقولك كل اللي جوايا بدون خوف �أو ت�أنيب �ضمري.
رفعت ب�صرها �إليه ف�صوبت ال�شم�س ِ�سهامها نحو ب�ؤب�ؤي عينيها
�ضرمت فيهما خيوط النريان لرت�سم م�شهدً ا ال يبدع يف الع�سليني ،ف�أُ ِ
�صنعه �سوى خالق الأكوان ،لوحة فنية ت�أ�سر كل من ينظر �إليها كما �أ�سرت
ﻋﺼ
ذلك اجلال�س �أمامها ،تنف�س بقوة ومتتم:
-عارفة يا �سلمى؟ �أنا ملا اتقدمتلك كان كل هديف �أالقي بنت
ﲑ ﺍﻟ
بتخاف ربنا تكمل معايا الطريق� ،أُعجبت ِ
بك يف البداية ب�سبب
ﻜﺘ
عليك قالتلي حاجات كتري
لب�سك املحت�شم ،وملا �س�ألت هند ِ
فيك حلد ما �أخدت قراري
حلوة خلتني قعدت فرتة كبرية �أفكر ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
وجيتلك.
تناول ر�شفة من الكوب املو�ضوع �أمامه و�أكمل:
ﺸﺮ
أنت
بقيت بقول لنف�سي دا ًميا �إين معايا كنز والزم �أحافظ عليهِ � ،
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
بك جامد كنت كالمك و�أفهمك �أكرث ،ملا لقيت �إين بد�أت �أتعلق ِ
ﲑ ﺍﻟ
عليك� ،سميتك على موبايلي بجاهد �أكرث و�أكرث عل�شان �أحافظ ِ
ﻜﺘ
عليك �أفتكر العهد(رفيقتي �إىل اجلنة) عل�شان كل ما �أت�صل ِ
معاك ،وملا
اللي �أخدته على نف�سي و�أحاول �أن�ضبط يف كالمي ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
أنت
ب�صرب حلد ما ييجي اليوم ده يا �سلمى ،دلوقتي خال�ص � ِ
بقيتي مراتي وم�ش هحتاج �أكتم �أي م�شاعر جوايا تاين �أبدً ا،
ﻭ
كانت الدموع تتلأ أل يف عينيها َبيد �أنها حاولت �أن تخفيها ،ما ت�شعر به
الآن تعجز احلروف عن و�صفه� ،إنها فرحة احلالل ،فرحة ال�صرب وال�شوق
ثم اللقاء� ،أغم�ضت عينيها وتنف�ست بقوة ،ثم قالت ب�صدق ظهر جل ًيا يف
كلماتها:
علي كده
-ياااربي� ،أنا بجد عاجزة عن الرد ،ملا �أنت بتقول َّ
�أُمال �أنا �أقول عليك �إيه ب�س! �أنا من �أول يوم اتكلمت معاك
فيه و�أنا مرتاحة بطريقة غريبة ،لقيت تفكريك قريب جدً ا
278
من تفكريي ،لقيت �شخ�ص بيحرتم ر�أيي وبي�سمعني برتكيز
وبيخليني �أتناق�ش معاه يف كل اللي بفكر فيه مبنتهى الأريحية،
علي يا �إ�سالم وبتحميني
مبرور الأيام �شوفتك و�أنت بتحافظ َّ
وبتقفل �أي باب ممكن ال�شيطان يدخلنا منه ،ح�سيت قد �إيه
�إنك بتحاول بكل قوتك مت�شي �صح ومل�ست فيك ت�صرفات
رجولية نادرة اليومني دول ،عل�شان كده امت�سكت بيك لأق�صى
درجة ،ياااه يا �إ�سالم لو تعرف �أنا كنت بدعيلك قد �إيه� ،أنا
كنت بدعيلك �أكرث ما بدعي لنف�سي ،وملا كنت بكلم هند و�أالقيها
ﻋﺼ
قالت ا�سمك كان قلبي بريفرف وببقى نف�سي جدً ا �أ�شوفك �أو
ﲑ ﺍﻟ
حتى �أ�سمع �صوتك ،وكنت بخبي ده كله جوايا ،احلمد هلل �إن
الأيام دي عدت يا �إ�سالم ،احلمد هلل �إننا مع بع�ض دلوقتي
ﻜﺘ
وربنا يقويني و�أعو�ضك عن كل حلظة �صربت فيها وجيت على
نف�سك عل�شان مت�شي �صح.
ﺐ ﻟﻠﻨ
-على فكرة ،فيه حاجة بجهزلك فيها بقايل �شهور ،ممكن تيجي
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
�أحد املقاعد بينما قالت �سلمى بحما�س:
ﲑ ﺍﻟ
-ه�ست�أذنك ب�س خم�س دقايق وجاية ب�إذن اهلل.
ﻜﺘ
-لأ خم�س دقايق كتري ،هم اتنني كفاية!
قالها و�ضحك ،ف�ضحكت �سلمى هي الأخرى وقالت:
ﺐ ﻟﻠﻨ
الذي اهتمت به خبرية التجميل ليظهر يف �أبهى �صوره ،ثم ح ّوطت مقدمة
ﻭ
بفرحة كبرية ،ثم �أغم�ضت عينيها وتنف�ست بعمق ،حملت دفرتها و�سارت
بخطوات خجلة حتى و�صلت �إليه.
�أ�سند ظهره �إىل ظهر مقعده وعقد ذراعيه �أمام �صدره وبد�أ ي�سرتجع
ما حدث يف ال�ساعات الأخرية وقد ارت�سمت على وجهه �أمارات ال�سعادة،
ويف حلظة ما وجدها تقف �أمامه مبت�سمة بحياء بالغ ،ف ُف ِغر فاه ده�شة
وات�سعت عيناه ناظ ًرا �إليها بذهول ،بالت�أكيد هو يحلم ،هكذا ظن ،فحرك
280
ر�أ�سه مرا ًرا لي�ستفيق من حلمه فوجدها ما زالت �أمامه ،دنا منها وما زال
الذهول يرتاق�ص على �صفحة وجهه ،وملا ت�أكد من �أنها حقيقة هم�س:
أنت ازاي كده!
ِ �-
� -إيه ر�أيك؟
-معقولة ده كله عل�شاين!
قالها ُيظ ُّل قوله بحاجبيه املتقاربني يعك�سان ده�شته ،فتمتمت �سلمى:
-ربنا يقدرين و�أعمل كل اللي �أقدر عليه عل�شان �أ�سعدك يا
ﻋﺼ
�إ�سالم.
ﲑ ﺍﻟ
�أحاط وجهها بكفيه ولثم مقدمة ر�أ�سها وقال:
ﻜﺘ
فيك يا �سلمى.
-ربنا يباركلي ِ
نظرت له بامتنان ،ثم جذبته من يده و�أجل�سته على الأريكة ،جل�ست
ﺐ ﻟﻠﻨ
قب�ضت �سلمى على الدفرت بقوة وك�أنها تودع �شي ًئا غال ًيا و�أردفت:
-هنا هت�شوف جانب تاين من �شخ�صية �سلمى مكنت�ش تعرفه
قبل كده ،هنا العامل اللي كنت عاي�شة معاك فيه طول ال�شهور
اللي فاتت ،كنت بكلمك وبقولك كل اللي بح�س بيه بدون تردد،
دي الهدية اللي بجهزهالك بقايل كتري ،وبتمنى ً
فعل �إنها
تفرح قلبك وتكون ذكرى حلوة لينا نفرح ملا ن�شوفها فيما بعد.
281
�أم�سك �إ�سالم الدفرت بحما�س وهم بفتحه ،ولكن �سلمى �أوقفته ب�سرعة
وقالت بحرج:
-لأ لأ م�ش دلوقتي ،ملا تر َّوح!
�ضحك �إ�سالم وقال:
-ه�شوف �أول �صفحة ب�س حتى.
�ضغطت بيديها ال�صغريتني على الدفرت لت�ضمن �أنه لن يفتحه وقالت:
-م�ش هينفع بجد يا �إ�سالم ،ملا تر َّوح اقر�أه براحتك.
ﻋﺼ
أنت خدودك بقت طمطماية ليه دلوقتي! -طيب � ِ
ﲑ ﺍﻟ
قالها مبرح وهو يركز نظراته يف عينيها ،ف�سحبت �سلمى الدفرت من
ﻜﺘ
يده و�أ�سرعت اخلطى نحو غرفتها بعدما قالت:
-هروح �أحطلك الك�شكول يف ال�شنطة بتاعتك وجايه.
ﺐ ﻟﻠﻨ
�ضحك �إ�سالم� ،ضحك كث ًريا من ردة فعلها تلك� ،أحب خجلها واحمرار
وجنتيها الوا�ضح والذي ُي�ضفي على وجهها براءة ورقة فوق رقتها ،و�س�أل
ﺸﺮ
اهلل من كل قلبه �أن يدمي الود بينهما ويجمع بينهما على خري.
zzz
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
يف �أحد املطاعم ال�شهرية وقف �أمامها مبت�س ًما ،ثم �سحب مقعدً ا
و�أ�شار �إليها بطريقة م�سرحية �أن جتل�س� ،شعرت ب�أنها كالأمرية� ،سارت
بخطوات واثقة وهي جتر خلفها ذيل ف�ستانها الأزرق وجل�ست حيث �أ�شار،
اختار املقعد الذي يقابلها مبا�شرة وجل�س عليه ،ثم قال بوجه م�شرق:
� -إيه ر�أيك يف املكان؟
تلفتت حولها وخافقها ي�ضخ بقوة ال�سعادة وقالت:
282
-حلو �أوي يا �إ�سالم ،ب�س باين عليه غايل جدً ا.
عليك ،وبعدين النهارده �أول يوم �أقب�ض
-مفي�ش حاجة تغلى ِ
أنت مراتي ،مكن�ش ينفع �أعدي املنا�سبة دي ب�سهولة كده. و� ِ
ثم �ضحك وهو يقول:
-ومتقلقي�ش ،بعد كده العزومة دي هتكون كل �سنة مرة.
�ضحكت هي الأخرى وقالت:
-اهلل يطمن قلبك يا �إ�سالم ،خال�ص �أنا هحاول �آخد حقي
ﻋﺼ
املرادي تالت ومتلت بقى.
ﲑ ﺍﻟ
-ب�صراحة فيه �سبب كمان.
ﻜﺘ
قالها و�سكت متاب ًعا نظرات عيناها املتلهفة ،ثم قال بعد وهلة:
� -أنا خل�صت قراءة الك�شكول النهارده الفجر ،كل يوم كنت بقر�أ
ﺐ ﻟﻠﻨ
�ساعة �أو اتنني قبل ما �أنام ،النهارده مقدرت�ش �أ�سيبه �إال ملا
خل�صته.
ﺸﺮ
الإح�سا�س املده�ش الذي كان ي�شعر به يف كل مرة مي�سك بها بهذا الدفرت،
ﺍﻟﺘﻮ
مل يكن يتوقع �أنها ُت ِكنُّ له كل هذه امل�شاعر ،مل يكن يتخيل �أنها �أحبته �إىل
ﺯﻳﻊ
هذا احلد ،تذكر عندما كان يقر�أ بع�ض العبارات ب�سعادة كبرية ثم يعيد
قراءتها بتمهل وك�أنه �أراد لروحه �أن تت�شرب الكلمات ،كانت عيناه يف كل
مرة تلتهم الأ�سطر ب�شوق جارف ،وكانت منزلتها ترتفع يف قلبه كل يوم
عن اليوم الذي ي�سبقه ،قال بعدما �أفاق من �شروده:
-هت�صدقيني لو قولتلك �إين م�ش القي كالم يو�صف �إح�سا�سي؟
�أنا حلد دلوقتي م�ش م�ستوعب �إن كل الكالم ده كتبتيه عل�شاين!
283
�أنا كنت ببقى طاير من الفرحة و�أنا بقر�أ كالمك يا �سلمى،
كنت بح�س �إن ربنا رزقني بنعمة كبرية �أوي الزم �أف�ضل �أ�شكره
عليها طول عمري.
�شعرت بنب�ضاتها قوية مت�سارعة ،حاولت �أن تبدو هادئة ،و�س�ألت:
-طيب ّ
قول �إيه �أكرث حاجة عجبتك يف اللي كتبته؟
رفع حاجبه الأمين و�ضيق عينيه بتفكري ثم قال:
� -أكرث حاجة عجبتني �إنك عمالة كل �شوية تقويل« :بعد عقد
ﻋﺼ
القران �س�أعرتف لك بكل �شيء» ،و�أنا م�شوفت�ش �أي اعرتافات
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ منك حلد دلوقتي!
قالت بحرج:
-م�ش �أنا قولتلك �إين ببقى فرحانة ملا ب�شوفك؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
قالتها فج�أة ،فنظر خلفه بعدم فهم ثم عاود النظر �إليها و�س�أل:
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
ومت�شي �إىل جواره بثقة وعلى وجهها ُر�سمت ابت�سامة فخر ،ظنت �أنها
ﲑ ﺍﻟ
تتخيل ،ففركت عينيها بكفيها وعاودت النظر �إليها لتجدها جتل�س �أمامه
ﻜﺘ
على الطاولة وت�ضحك� ،شعرت بغ�صة يف قلبها ،تركت امللعقة من يدها
وعلت وجهها غيمة حزن ،الحظ �إ�سالم توقفها عن الطعام وقال:
ﺐ ﻟﻠﻨ
الحظ طيف احلزن الذي الح بعينيها ،ف َم َ�ش َط املكان بعينيه ثم قال:
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
-احنا حتت �أمرك يف �أي وقت يا كرمي بيه ،املهم تبقى مب�سوط.
ﲑ ﺍﻟ
� -أنا �شكلي هتجنن و�آجي �أخطبك عل�شان �أ�ضمن �إنك هتكوين
ﻜﺘ
معايا علطول.
قفزت من مكانها و�س�ألته بلهفة تكاد ُتخرج عينيها من حمجريهما:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-بجد يا كرمي؟
ﺸﺮ
286
أنت كده لأين
-ب�س اوعي تتغريي بعد اجلواز� ،أنا عاوزك زي ما � ِ
بحب �أعي�ش حياتي براحتي بدون قيود ،و�أهم حاجة تف�ضلي
واخدة بالك من نف�سك وحلوة كده طول الوقت ،عل�شان زوجة
كرمي البحريي مينفع�ش تكون واحدة عادية.
�أوم�أت بعينها موافقة وقد ترقرق وجهها بالبهجة وقالت:
-من عينيا يا كرمي.
-خال�ص �أنا هكلم والدي يف املو�ضوع و�أبلغك باجلديد ،ب�س �أهم
ﻋﺼ
حاجة ملا نيجي �أهلك يوافقوا على كل حاجة عل�شان متحرج�ش
قدام والدي.
� -أنا غالية جدً ا عند �أهلى ،وهم م�ستعدين يعملوا �أي حاجة
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
علي ،ب�س �أنا ات�صدمت ملا �شوفتكم مع
� -أنا �آ�سفة يا �ستي ،حقك َّ
ﲑ ﺍﻟ
بع�ض!
ﻜﺘ
قالت �ساخرة:
أنت �شوفتينا بنعمل �إيه يعني! احنا كنا يف مكان عام
-وهو � ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
أنت عارفة �إين مبحب�ش �أتكلم على حد ،ب�س ويروح لغريهاِ � ،
ﲑ ﺍﻟ
حقيقي �أنا م�ش متطمنة �أبدً ا لعالقتكم دي ،حتى لو هتتجوزوا
لك.
يف النهاية فم�ش هو ده الزوج اللي �أمتناه ِ
ﻜﺘ
قال النهارده �إنه هييجي يتقدملي ،و�أنا تعبت كتري -كرمي ّ
عل�شان �أ�سمع منه الكلمة دي ،فم�ستحيل بعد ده كله �أتنازل يا
ﺐ ﻟﻠﻨ
من �ساعة ما قربت منه وهو مفي�ش يف حياته غريي ،كمان بعد
ﺯﻳﻊ
z
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
290
- 10 -
ﻋﺼ
فرا�شها بحما�س وبد�أت تدور يف غرفتها مبتهجة وك�أنها فرا�شة و�سط
ﲑ ﺍﻟ
حقول الزهور ،ذهبت للمر�آة ونظرت �إىل وجهها الرائق الذي اهتمت
به خبرية التجميل كث ًريا يف الليلة املا�ضية وابت�سمت ب�سعادة ،ثم خرجت
ﻜﺘ
لتناول فطورها مع عائلتها قبل الذهاب خلبرية التجميل مرة �أخرى لت�ضع
فرحا يف تلك
لها اللم�سات الأخرية ،مل يكن قلبها الوحيد الذي يرق�ص ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
اللحظة ،بل �أن �إ�سالم منذ �أن ا�ستيقظ ل�صالة الفجر وهو ي�شعر ب�سعادة
ال تو�صف� ،أدى �صالته وجل�س يذكر اهلل ويقر�أ قر�آ ًنا حتى طلعت ال�شم�س
ﺸﺮ
وارتفعت يف الأفق ،ثم �صلى ركعتي ال�ضحى وجل�س بعدها يدعو اهلل �أن
ﻭ
يتمم زواجه على خري وميتعه باحلالل ،وبعدها عاد ملنزله و�أكمل نومه حتى
ﺍﻟﺘﻮ
فرح ،ده�شة ،توتر ،قلق ،انبهار ،وعدم ت�صديق ،كل ذلك يت�ضارب يف الآن
وخ�صو�صا يف عقل �سلمى التي ما �إن ر�أت نف�سها بف�ستانها الأبي�ض
ً نف�سه،
حتى جتمعت الدموع يف عينيها وارت�سمت على �شفتيها ابت�سامة تعني
الكثري� ،سمعت �إحداهن تهم�س �إليها �ضاحكة ببع�ض الكلمات ف�سارت جتر
خلفها ذيل ف�ستانها حتى و�صلت �إىل باب مركز التجميل ووقفت هناك،
�صعد �إ�سالم الدرج وما �أن ر�آها حتى توقفت قدماه فج�أة وظل ينظر �إليها
بعينني مت�سعتني تطل منهما الده�شة� ،أ�شارت �سلمى بيديها �ضاحكة،
291
فتمالك نف�سه وتابع ال�سري حتى و�صل �إليها ،عقدت الده�شة ل�سانه فلم
ينطق بحرف ،ظل ينظر �إليها لدقيقة كاملة بعدم ا�ستيعاب ،ثم �سحب
كفها الأمين ولثمه ،وبعدها انفكت عقدة ل�سانه و�أخربها �أن جمالها اليوم
ال يو�صف ،تنحنحت هند التي جاءت من خلف �سلمى وغمزت بعينيها
لهما �ضاحكة ،ف�شعرت �سلمى باحلرج و�أخربتهما �أنها �ستذهب ال�ستكمال
ارتداء مالب�سها ،انتظراها ب�ضع دقائق حتى ارتدت خمارها وو�ضعت
على وجهها النقاب للمرة الأوىل كما كانت حتلم ،ثم �أم�سكت بذلك التاج
الذي ا�ستقرت فوقه الف�صو�ص البي�ضاء الالمعة التي �أ�ضفت عليه ً
جمال
ﻋﺼ
خال ًبا وو�ضعته فوق ر�أ�سها ،و�أخ ًريا �أدخلت كفيها ال�صغريين يف القفازات
ﲑ ﺍﻟ
وخرجت �إليهما با�سمة ،تعلقت بيد زوجها ودخلت معه �إىل ال�سيارة التي
تلفها الورود البديعة من كل مكان ،حتركت ال�سيارة حتى و�صال �إىل �إحدى
ﻜﺘ
احلدائق العامة وبد�أت هند بالتقاط العديد من ال�صور اجلميلة لهما،
كانت ال�شم�س تتابعهما بحما�س وت�أبى الغروب ،وملا انتهوا غادرت خ�شبة
ﺐ ﻟﻠﻨ
كامل دون نق�صان هبط �إ�سالم من يف بقعة جت ّلى فيها �ضوء القمر ً
ال�سيارة ب�صحبة زوجته التي لف ذراعها حول ذراعه و�سار �إىل جوارها
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
حتى دلف �إىل قاعة ُعر�سه ،كانت القاعة كبرية احلجم ،يف�صلها من
املنت�صف �ستار كبري يف�صل الرجال عن الن�ساء ،دخلت �سلمى �إىل اجلزء
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
خلف �أريكة العرو�س ُكتب فيها ب�أنه مطلوب من �سلمى �أن تق�شر هذه
ﲑ ﺍﻟ
الثمرة بطريقة احرتافية لت�أكد لهن �أنها طباخة ماهرة� ،ضحكت الن�ساء
كث ًريا و�أيدن الفكرة ،فر�ضخت �سلمى ملطالبهن وبد�أت تق�شر الثمرة
ﻜﺘ
ال�صغرية ومن حولها موجة من ال�ضحك اجلماعي ا�ستمرت لعدة دقائق،
وعلى اجلانب الآخر من ال�ستار بد أ� فاروق يلف حول احلا�ضرين ويهم�س
ﺐ ﻟﻠﻨ
لكل منهم ب�شيء يف �أذنه ،وملا انتهى �أ�شار لهم بعينيه ،فهجموا جمي ًعا على
�إ�سالم ودفعوه نحو مكرب ال�صوت ،نظر �إليهم بعدم فهم ف�أمروه �أن يغني
ﺸﺮ
لزوجته� ،ضحك �ساخ ًرا من تلك النكتة الغريبة ،وملا وجد �إ�صرا ًرا �شديدً ا
ﻭ
منهم �أخربهم بجدية �أن �صوته ال ي�صلح لذلك �أبدً ا ،توقفت �أ�صوات
ﺍﻟﺘﻮ
الأنا�شيد ،رجع كل منهم �إىل مقعده ونظروا �إليه منتظرين التنفيذ ،فوجد
ﺯﻳﻊ
�أنه لن ي�ستطيع �أن يخرج من هذا امل�أزق فا�ست�سلم ،وقال وهو يرفع حاجبه:
-افتكروا �إن �أنتوا اللي اختارتوا ،اللي هيرتيق على �صوتي م�ش
هريوح من هنا �سليم ،اللهم بلغت.
ثوان ثم قال:
�ضحك فاروق وبع�ض احل�ضور ،بد أ� �إ�سالم يفكر لعدة ٍ
-يال ا�ستعنا باهلل ،هقولكم �أن�شودة �أجمل فرحة لـماهر زين.
�أغم�ض عينيه وهو يتذكر �سلمى وقال:
293
هي يوم فرحنا ده �شيء �أكيد �أجمل فرحة َّ
ذكريات الليلة ديَّ حا�ضرة م�ش ممكن تغيب
�إح�سا�س اليوم ده مني فينا ين�ساه علطول جتمعنا �أحلى حياة
�أجمل فرحة يف حياتنا الليلة
حلوين واهلل اهلل اهلل
ما �شاء اهلل ما �شاء اهلل
يا �سالم يا �سالم ما تباركوا يا �أهل اهلل
ﻋﺼ
احنا على ُ�سنة نبينا جينا وكتبنا الكتاب
ﲑ ﺍﻟ
واحنا طايرة الفرحة بينا والليلة دي القلب داب
ﻜﺘ
�إح�سا�س اليوم ده مني فينا ين�ساه علطول جتمعنا �أحلى حياة
�أجمل فرحة يف حياتنا الليلة
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
وت�سارعت �ضربات قلبها منذ �أن بد أ� �إن�شاد ،ورغم �أن �صوته مل يكن عذ ًبا
مبا يكفي �إال �أنها �أحبته �أكرث من �أي �صوت �آخر ،فقط لأنه �صوت زوجها
ﲑ ﺍﻟ
وحبيبها ،عاد �إ�سالم �إىل مقعده بعدما ترك مكرب ال�صوت من يده ،بد�أ
ﻜﺘ
النادل بتوزيع امل�شروبات على احل�ضور ثم ا�ستمرت الفقرات مرة �أخرى
حتى انتهى الوقت املحدد للعر�س ،وحينها خطف الفار�س زوجته وهرب
ﺐ ﻟﻠﻨ
�صعدا م ًعا �إىل الطابق الرابع ،ذكرا اهلل ودلفا �إىل بيتهما� ،أغلق �إ�سالم
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
بد�أت بفتح املغلف والتهمت �أول ق�ضمة من ال�شيكوالتة بتلذذ ،نظر
ﲑ ﺍﻟ
�إ�سالم �إليها بابت�سامة هادئة ،ما زالت حتمل بني جنباتها قلب طفلة ولن
تتغري ،م�سح على ر�أ�سها بحب وقال:
ﻜﺘ
-هروح �أتو�ضى عقبال ما تخل�صي �أكلك.
ﺐ ﻟﻠﻨ
بدل ثيابه وجدد و�ضوءه ،ثم عاد �إليها فوجدها جال�سه مرتبعة على
الأريكة وقد �أ�سندت كوعيها على ركبتيها� ،ضمت كفيها و�أ�سندت ذقنها
ﺸﺮ
ربت على كتفيها و�أ�شار �إىل املمر الطويل امل�ؤدي �إىل دورة املياه وقال:
-يال روحي اتو�ضي وتعايل عل�شان ن�صلي �سوا.
�أوم�أت بر�أ�سها وغادرت الغرفة ،تابعها �إ�سالم بعينيه حتى اختفت ،ثم
�أخرج ورقة من جيب بنطاله وبد أ� يهم�س عدة مرات« :ب�سم اهلل ،اللهم
جنبنا ال�شيطان ،وجنب ال�شيطان ما رزقتنا» ذلك الدعاء الذي يجب �أن
يقوله يف كل مرة قبل ِجماع �أهله كما و�صانا النبي �صلى اهلل عليه و�سلم،
296
ت�أكد من �أنه حفظه ب�شكل جيد ود�س الورقة يف جيبه مرة �أخرى ،وانتظر
حتى خرجت �إليه زوجته وهي ترتدي مالب�س ال�صالة ،نظر �إليها �ضاح ًكا
فانكم�شت يف نف�سها حيا ًء منه ،وبد�أت بارتباك ت�ضع �سجادتي ال�صالة
على الأر�ض ،وقف �أمامها وكرب ف�شعرت برجفة جميلة يف قلبها ،وكربت
وراءه� ،صلى بها ركعتني ثم التفت �إليها ،و�ضع يده على مقدمة ر�أ�سها
وقال:
-اللهم �إين �أ�س�ألك من خريها وخري ما ُج ِب ْلت عليه ،و�أعوذ بك
من �شرها و�شر ما ُج ِب ْلت عليه.
ﻋﺼ
ثم رم�ش بعينيه وقال بحب:
ﲑ ﺍﻟ
فيك يا �سلمى.
-ربنا يباركلي ِ
ﻜﺘ
ارت�سمت ب�سمة �صغرية على ثغرها َت ِبعتها رجف ٌة خفيفة اجتاحت
ج�سدها كله ،فنظر �إليها �إ�سالم راف ًعا حاجبه الأمين وقال:
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
كنت بتقويل �إن والدتك عاماللنا �أكل حلو
وخلينا يف املهمِ ،
ﲑ ﺍﻟ
�أوي النهارده� ،أنا حلد دلوقتي م�شوفت�ش �أي �أكل ،خبيتيه فني؟
اعرتيف!
ﻜﺘ
�ضحكت حتى بدت نواجذها ثم نه�ضت من مكانها و�سارت باجتاه
املطبخ لتجهز الع�شاء.
ﺐ ﻟﻠﻨ
zzz
ﺸﺮ
�صبيحة اليوم اخلام�س بعد زواجهما ات�صلت هند ب�أخيها لتخربه ب�أنها
ﻭ
كل من �إ�سالم و�سلمى لتلك الزيارة بحما�س �شديد ،بعد �صالة الع�شاء
ﺯﻳﻊ
ب�ساعة تقري ًبا �سمعا طرقات متفرقة على باب منزلهما ،فتح �إ�سالم الباب
و�سلم عليهم بحرارة ثم دعاهم للدخول ،جل�ست خالته على �أحد املقاعد
وبد�أت تتلفت ذات اليمني وذات ال�شمال وتدقق النظر يف كل ما يحيط
بها ،ح�ضرت �سلمى وو�ضعت �أكواب الع�صري التي كانت حتملها على
الطاولة ،ثم اقرتبت من الن�ساء واحت�ضنت كل منهن وحيتهن ببهجة ،ثم
جل�ست بجوار زوجها ،قالت اخلالة �شكرية با�ستنكار وهي ت�شري �إىل نقاب
العرو�س:
298
أنت يا بنتي الب�سالنا البتاع ده ليه! هو فيه حد غريب! ده عمك
-و� ِ
أبوك.
ح�سني قد � ِ
ثم نظرت لها بجدية وقالت:
-اخلعيه يا بنتي واقعدي براحتك ،واهلل �أنا ما عارفة الزمته �إيه
البتاع اللي خانقني نف�سكم بيه ده!
�شعرت �سلمى باحلرج ال�شديد وردت عليها بال�صمت ،بينما تدارك
�إ�سالم املوقف ونظر �إىل خالته وقال ب�أدب:
ﻋﺼ
-النقاب ده نعمة من ربنا يا خالتي ،و�سلمى بتحبه و�أنا كمان
ﲑ ﺍﻟ
مب�سوط �إنها لب�ساه وحابة تلتزم بيه ،ادعيلها بالثبات.
ﻜﺘ
ثم ابت�سم وقال مغ ًريا جمرى احلديث:
-املهم قوليلي �إيه ر�أيك يف ال�شقة؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
�ساخرة:
-وهو �أنا �شوفت حاجة عل�شان �أقول ر�أيي!
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
حرة فيه ،وكمان ما �شاء اهلل عليها جابت حاجات جميلة
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ ورقيقة زيها.
-طيب والت�سريحة بتاعتها فا�ضية كده ليه هي كمان! يا دوب
�شوية حاجات حطاهم يف الن�ص كده وخال�ص ،ده �أنا بناتي
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
�سمعت ا�سمه �شعرت وك�أنها حلقت بجناحيها �إىل �آفاق بعيدة يف �أعايل
ﲑ ﺍﻟ
ال�سماء ،اقرتب منها �أخوها �أكرث وكرر عليها طلبه فا�ستجابت وخرجت
معه ،كانت تلك اجلل�سة ت�ضم كرمي ووالده من جهة ،وفاطمة ووالدتها
ﻜﺘ
بي�سر �شديد ،وذلك بعدما
و�أخيها الأكرب من جهة �أخرى ،متت االتفاقات ٍ
�أحلت فاطمة على �أخيها �أن ي�ستجيب لكل مطالب العري�س ،و�أخربته �أنه
ﺐ ﻟﻠﻨ
على ُخلق وله ُ�سمعة طيبة يف اجلامعة وهي موافقة على الزواج منه،
اخلطبة يف �إحدى القاعات الفاخرة، بعدها بفرتة ب�سيطة �أُقيم حفل ِ
ﺸﺮ
كانت فاطمة ترتدي ف�ستا ًنا بلون الذهب وقد �أظهرت بع�ض اخل�صالت
ﻭ
ال�شقراء من �أ�سفل حجابها ،كانت تبدو جميلة وفاتنة� ،شعر كرمي بالفخر
ﺍﻟﺘﻮ
عندما ر�آها ،و�أخذ يرق�ص معها طيلة الليل ،كانت الفتيات يلتففن حولهما
ﺯﻳﻊ
وكل منهن تتمنى لو كانت مكانها� ،إال تلك امل�سكينة التي وقفت يف �آخر
القاعة وقد انزوى يف عينيها حزن �شديد ،ويف اللحظة التي وقفا فيها
�أمام الكعكة املكونة من خم�س طبقات وبد�أ امل�صور يطلب منهما �أن يقوما
ببع�ض احلركات �أثناء تناول الكعكة حتى يلتقط لهما �أجمل ال�صور ،مل
ت�ستطع التحمل وهرولت بقهر �إىل باب القاعة ،ملحتها هند فهرولت خلفها
وحاولت منعها من املغادرة ،ولكنها نظرت �إليها بعينني دامعتني وقلب
ممزق و�أخربتها �أنه ال بد من املغادرة ،فر�ضخت هند لرغبتها وعادت
301
�صباحا ،فعانقت العرو�س ً هي لتكمل احلفل ،انتهى احلفل يف الواحدة
ذراع عري�سها وخرجت من القاعة ،جل�ست �إىل جواره بفخر وذهبت بهما
ال�سيارة �إىل بيتها.
كانت فرتة اخلطبة من �أروع الفرتات التي مرت بها يف حياتها ،ففي كل
منا�سبة كان يفاجئها كرمي بهدية �أثمن و�أجمل من التي �سبقتها ،خرجت
معه �إىل كل مكان ،حتى �أنها ظنت �أنه طاف بها العا�صمة كلها ،بل �أنها
�أخربت �أهلها ذات مرة �أن هناك رحلة �ستقام يف اجلامعة للطالب وحديثي
التخرج و�سافرت معه ثالثة �أيام كانوا يف ر�أيها الأروع على الإطالق ،كانت
ﻋﺼ
ت�شعر ب�سعادة كبرية وهي جتل�س بجانبه �أثناء قيادة ال�سيارة وجتده قد
ﲑ ﺍﻟ
أي�ضا ،تلك املواقف كانت �أم�سك بكفها وقب�ض عليها بقوة ورمبا لثمها � ً
ﻜﺘ
تثبت لها حبه ،ال تنكر �أنها يف بع�ض الأحيان كانت ت�شعر بانقبا�ض قلبها
وت�ؤنب نف�سها على ما تفعل ،وخا�صة عندما وقعت عيناها ذات مرة �أثناء
َ َْ َ ْ ُ َ َْ َ ْ ُ َ
اس َول يستخفون قراءة والدتها للقر�آن على هذه الآية }يستخفون م َِن انلَّ ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
م َِن اهلل َو ُه َو َم َع ُه ْم{� ،شعرت حينها وك�أن الأر�ض متيد من حتت قدميها،
ﺸﺮ
�شعرت ب�أنها ر�سالة موجهة لها ،فانتابها اخلوف لعدة �أيام و�أخذت تلوم
نف�سها على �أنها تخ�شى �أن ُيك�شف �أمرها �أمام �أخويها وال تخ�شى ممن
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
يوما واحدً ا ،ملأت حياته ب�شكل كامل ،وذهبت معه �إىل منا�سبات عنه ً
عدة خا�صة ب�أهله و�أ�صدقائه ،حتى �أن اجلميع كان ي�ضرب بهما املثل يف
احلب والغرام� ،شعرت �أنها �أخ ًريا وجدت ال�سعادة التي كانت حتلم بها،
انتظرت بلهفة مرور الأ�شهر ال�ستة املتفق عليهم للخطبة حتى ترى نف�سها
بف�ستانها الأبي�ض ،وت�ضمن �أنها �ستظل �إىل جواره �إىل الأبد وتغرف من
في�ض حبه وكرمه.
302
ذات يوم �أخربها كرمي �أنه ال يريد الإجناب منها قبل ثالثة �أعوام
على الأقل ،فهو غري م�ستعد نهائ ًيا لتحمل م�سئولية كتلك ،كما �أنه يود �أن
ي�ستمتع بحياته معها ويريدها �أال تن�شغل ب�أي �شيء عنه ،ا�ستجابت فاطمة
ملطلبه و�أكدت له ب�أنها �ست�أخذ مان ًعا للحمل منذ يوم زواجهما الأول،
ورغم �أن الطبيبة حذرتها من تلك اخلطوة �إال �أنها ا�ستجابت لإحلاحها يف
النهاية وو�صفت لها بع�ض موانع احلمل وطلبت منها �أن تختار من بينها،
وملا علم كرمي بتلك الأخبار �سرد على م�سامعها بع�ض عبارات االمتنان
واحلب ،و�أخربها �أن مكانتها تعلو يف قلبه مبقدار طاعتها له ،مرت الأيام
ﻋﺼ
اخلطبة ،فقد كان �سري ًعا و�أتى يوم زفافهما ،مل تختلف تلك الليلة عن ليلة ِ
ﲑ ﺍﻟ
أي�ضا ،وكانت الفقرات املقدمة ت�شبهالزفاف يف �إحدى القاعات الفاخرة � ً
اخلطبة� ،إال �أنها كانت �أكرث عددًا ،ويف نهاية املطاف لفت فاطمة
فقرات ِ
ﻜﺘ
ذراعها حول ذراع زوجها ودخلت �إىل �سيارته لتنتقل �إىل عاملها اجلديد.
zzz
ﺐ ﻟﻠﻨ
قليل وهو يرى الدمعات التي التي ت�صارع وت�أبى التوقف� ،سكت زوجها ً
ﻭ
تبعت الدمعة الأوىل تند قافزة من حواف عينيها تلحق بها �إىل الو�سادة
ﺍﻟﺘﻮ
يف �سباق ال ينتهي ،كان ميرر �أ�صابعه على �شعرها وهو يتلو بع�ض �آيات
ﺯﻳﻊ
القر�آن الكرمي وي�س�أل اهلل �أن ي�صربهما على ما حدث ويرزقهما من حيث
هام�سا:
ال يحت�سبا ،احت�ضن خديها بكفيه ونادى با�سمها ،قال ً
أرجوك.
-كفاية � ِ
رفعت وجهها �إليه بنظرة قهر مل يرها من كرثة الدموع التي تغطي
وجهها والتي تفي�ض بكرم من ينبوع عينيها ،وقالت بنربة مذبوحة وذابحة
من �أثر البكاء:
303
� -أنا ال�سبب يا فاروق� ،أنا اللي قتلته!
حاول �أن يبدو هاد ًئا ،لكن �صوته املرتع�ش ف�ضح خبايا قلبه وهو يجيب
ب�صوت يت�صدع ح�سرة:
-ده ق�ضاء ربنا واحنا را�ضيني يا نهى ،رددي دا ًميا اللهم �أجرين
يف م�صيبتي و�أخلف يل خ ًريا منها.
حاولت �أن جتل�س فخرجت منها ندة �أمل� ،أ�سندها زوجها حتى
ا�ستقامت جل�ستها ،ثم قالت بع�صبية مل تفلح يف �إخفائها:
ﻋﺼ
� -أنا ازاي كنت غبية كده! يعني �إيه �أبقى حامل والطفل ميوت يف
ﲑ ﺍﻟ
بطني و�أنا ده كله م�ش حا�سة ب�أي حاجة!
ملحت دمعة ترتاق�ص على �أعتاب عينيه فقالت بندم:
ﻜﺘ
� -أنا �آ�سفة يا فاروق� ،آ�سفة على كل حاجة.
ﺐ ﻟﻠﻨ
�شعر بال�شفقة جتاهها ملا �سمع نربة �صوتها املت�أملة ،فر�سم ابت�سامة
على وجهه وهم�س:
ﺸﺮ
أنت ملكي�ش ذنب يف كل اللي ح�صل ،احلمد � -آ�سفة على �إيه ب�س! � ِ
هلل يا نهى� ،أكيد اللي ح�صل ده ح�صل حلكمة يعلمها ربنا ،و�أنا
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
حد �أكيد هيكون رحيم بيه.
ﲑ ﺍﻟ
ق�صة �سيدنا يو�سف؟ فاكرة ملا ربنا -م�ش دا ًميا يا نهى ،فاكرة
َْ ُ َ ُ َ َ َ َ َّ ْ َ َ َ ْ َ ٌ ْ َ َ ْ ََ ُ ْ َ
اود فتاها عن نف ِس ِه ۖ قد يز تر ِ قال }وقال ن ِس َوة ِف المدِين َ ِة امرأت الع ِز ِ
ﻜﺘ
َش َغ َف َها ُح ًّبا ۖ إِنَّا ل َ َن َاها ِف َضل ٍل ُّمبِ ٍني{ �شوفتي التعبري الدقيق «قد
�شغفها ح ًبا» ومع ذلك ملا تعفف �سيدنا يو�سف وحاول يبعد عنها
ﺐ ﻟﻠﻨ
كده ملا ربنا ذكر يف َالقر�آن َالعالقة بني الزوج والزوجة -عل�شان
ُ ْ ْ َ ً ِّ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ُ ِّ ْ ُ
قال }ومِن آيات ِ ِه أن خلق لكم من أنف ِسكم أزواجا لتسكنوا إِلها وجعل
َ ْ َ ُ َّ َ َّ ً َ َ ْ َ ً
حة{ مقال�ش حب ،وده لأن املودة والرحمة �أعم و�أ�شمل بينكم مودة ور
بكتري من احلب.
-ياااه يا فاروق� ،أنا عمري ما فكرت فيها بال�شكل ده ،عندك حق
فعل ،لو اللي بيننا ده جمرد حب فممكن مع �أول م�شكلة يتحول ً
احلب ده لكره �أو ق�سوة �أو ما �شابه.
305
و�ضعت كفها على كفه وقالت بحب:
بي
-يف اليومني اللي فاتوا �أنا �شوفت قد �إيه �أنت كنت رحيم َّ
وقت �ضعفي ،ويف كل ال�شهور اللي فاتت عي�شت معاك املعنى
احلقيقي للمودة ،ربنا يباركلي فيك يا فاروق.
م�سح على �شعرها بحنان ،نظر �إليها مبت�س ًما وقال بلطف:
وفيك يا حبيبتي ،ممكن بقى نر�ضى بق�ضاء اهلل ونقول احلمد
ِ -
هلل من قلبنا؟
ﻋﺼ
�أوم�أت بعينيها وهم�ست:
ﲑ ﺍﻟ
-احلمد هلل.
zzz
ﻜﺘ
�أ�شرقت الأر�ض بنور ربها ،ت�سللت �أ�شعة �شم�سها وداعبت وجه تلك
ﺐ ﻟﻠﻨ
احلورية النائمة ففتحت جفنيها بهدوء� ،ألقت نظرة على ذلك النائم �إىل
ﺸﺮ
جوارها وابت�سمت ،ثم �سارت كفرا�شة رقيقة واجتهت نحو املطبخ لتعد
له فطوره قبل �أن ي�ستيقظ من نومه للذهاب لعمله� ،أعدت � ً
أ�شكال و�ألوا ًنا
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
من الطعام ،رتبت املائدة ب�شكل مبهج ثم �أيقظته بنربة حنونة �أ�سعدته،
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
و�صلت �إىل زوجها النائم ،حركت ذراعه عدة مرات لتوقظه ،التفت �إليها
ﲑ ﺍﻟ
بنعا�س �شديد ،فقربت ما حتمله يف يديها �إىل وجهه ،نظر �إليه بعدم فهم،
ثم عاود النظر �إليها و�س�أل:
ﻜﺘ
� -إيه ده؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
-ده اختبار حمل منزيل يا �إ�سالم ،هو اللي �أنا �شايفاه ده حقيقي؟
قال بال وعي:
ﺸﺮ
-بكام �إيه يا �إ�سالم! �أنا عملت اختبار حمل وطلع �إيجابي� ،أنت
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
� -صباح النور يا �سيدي ،يال عل�شان ح�ضرتلك الفطار ،مع �إين
ﲑ ﺍﻟ
املفرو�ض معمل�ش �أي حاجة النهارده ،ب�س كله بثوابه بقى.
ﻜﺘ
-ليه؟!
�س�ألها متعج ًبا ،فقالت بحما�س:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-هتجيبيه منني؟
ﻭ
-من هنا.
انتف�ض من مكانه� ،أم�سك �أعلى ذراعيها بكفيه ،بد�أ ينقل ب�صره بينها
وبني مو�ضع حملها لعدة مرات ثم �س�أل بعدم ت�صديق:
أنت حامل؟
� -سلمى � ِ
�أوم�أت بر�أ�سها وقد حمل وجهها كل �آيات ال�سعادة ،فانفرجت �أ�ساريره،
عانقها ومتتم:
308
-يا ربي لك احلمد ،احللم اللي م�ستنيني حتقيقه بقالنا �شهور،
مبارك يا حبيبتي.
تذكرت ما حدث بعد �صالة الفجر فقالت بغيظ:
-على فكرة �أنا قولتلك �أول ما عملت االختبار عل�شان �أفرحك،
ب�س �أنت �صدمتني برد فعلك.
-ليه؟ هو �أنا عملت �إيه؟
-حطيت املخدة على را�سك ومنت!
ﻋﺼ
انخرط يف ال�ضحك فكورت كفها وكادت �أن تلكمه يف وجهه� ،أم�سك
ﲑ ﺍﻟ
بكفها ال�صغري وقال �ضاح ًكا:
ﻜﺘ
-خال�ص �أنا �آ�سف ،حقيقي حم�سيت�ش ب�أي حاجة من اللي
بتقوليها دي.
ﺐ ﻟﻠﻨ
مودعا
�ستغادر حتى ال تت�أخر على الطابور ال�صباحي ،فوقف على الباب ً
ﺍﻟﺘﻮ
-م�ش عاوزك تقلقي من �أي حاجة ،ب�إذن اهلل هقب�ض خالل كام
يوم ،ا�س�أيل على دكتورة كوي�سة و�أول ما املرتب ييجي هرنوح
عليك.
لها علطول عل�شان نتطمن ِ
�أوم�أت بر�أ�سها بابت�سامة مطمئنة ثم ودعته و�أغلقت الباب.
zzz
309
كانت تراقب عقارب ال�ساعة وت�شعر وك�أنها تدق فوق ر�أ�سها� ،شعور
مزيج من احلما�س والتوتر ينتابها ،دارت عدة مرات يف البيت ثم هم�ست
لنف�سها �أخ ًريا باطمئنان :كل �شيء جاهز .جل�ست على �أحد املقاعد وظلت
تراقب عقارب ال�ساعة حتى �سمعت طرقاته على باب املنزل ،نب�ض قلبها
بفرحة ،هرولت نحو املر�آة وعدلت من هندامها ثم فتحت الباب ووقفت
خلفه ،دخل زوجها و�ألقى التحية ،ثم �ضحك عندما ر�أى هي�أتها ،فقد
كانت ترتدي تنورة �سوداء يعلوها قمي�ص �أبي�ض ،وقد لفت حول عنقها
ﻋﺼ
�إحدى رابطات عنقه التي حملت اللون الأزرق ،ثم رفعت �شعرها لأعلى
وو�ضعت القليل من م�ساحيق التجميل ،ابت�سمت �إليه وقالت ب�شيء من
ﲑ ﺍﻟ
اجلدية:
ﻜﺘ
-وعليكم ال�سالم ورحمة اهلل وبركاتهً � ،
أهل بح�ضرتك يا فندم
يف مطعم الأكلة ال�سعيدة.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ابت�سمت املر�أة و�أ�شارت �إليه �أن يجل�س على ر�أ�س الطاولة ،وقالت:
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
طبق حم�شي كرنب مميز ،فراخ م�شوية� ،شوربة� ،سلطة� ،صنفان من
احللويات
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ال�سعر :بع�شرة جنيه لب و�سوداين من عند �أبو حممد.
( الوجبة العادية)
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
-ق�صدك كل واحد من حقه يختار احلاجة اللي هيعرف يدفع
ﲑ ﺍﻟ
متنها ،هاتيلنا املح�شي يا بنتي عل�شان �أنا ميت من اجلوع.
ﻜﺘ
-حا�ضر يا فندم ،حلظة واحدة.
قالتها وهرولت �إىل املطبخ� ،أطلقت كل ال�ضحكات التي كانت تكتمها
ﺐ ﻟﻠﻨ
فو�ضعت يدها على فمها وو�أدت �ضحكتها التالية بداخله ،ثم بد�أت
ﻭ
بو�ضع الطعام يف �صمت ،انتهت من ترتيب املائدة ووقفت على مقربة من
ﺍﻟﺘﻮ
زوجها وقالت:
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
ابت�سمت نهى وقالت ب�صدق:
ﲑ ﺍﻟ
-ملا اجتوزنا يا فاروق �أنا كنت ناوية �أعمل كل اللي �أقدر عليه
ﻜﺘ
عل�شان �أخليك �أ�سعد �إن�سان يف الدنيا ،كنت بتمنى �أ�شوفك
بت�ضحك طول الوقت ،وكنت ب�سعى لكده بكل قوتي ،كمان كنت
ﺐ ﻟﻠﻨ
كل ما ي�شوفوين ي�س�ألوين فيه بيبي جاي يف ال�سكة وال لأ ،وملا
ﺯﻳﻊ
�أقولهم لأ يب�صويل بنظرة �شفقة� ،أحيا ًنا كمان كنت بعرف �إن
علي ،املو�ضوع ده
واحدة قريبتي �أو �صاحبتي حامل وخمبية َّ
كان بيتعبني جدً ا ،كل ده خالين م�ش بفكر طول الوقت �إال يف
اخللفة� ،ضيعت �أول �سنة من جوازنا يف النكد ،تعبتك معايا
كتري و�أنت كنت بت�صرب وت�ستحمل وتعمل معايا اللي مفي�ش حد
بيعمله مع مراته.
بتحد وقالت:
نظرت �إليه ٍ
313
-ب�س خال�ص يا فاروق ،كفاية الوقت اللي �ضاع� ،أنا فكرت كتري
الفرتة اللي فاتت وقررت �أ�ستمتع بحياتي معاك وم�ش ه�سمح �إن
حلظة تانية ت�ضيع مني بعد كده ،واحلمل ييجي وقت ما ييجي،
عل�شان وقتها ملا تالقيني م�شغولة بالبيبي تفتكر ر�صيدي عندك
من املواقف احللوة.
�أم�سكت يديه مبت�سمة وقالت بحب:
-كمان يا فاروق �أنت مت�ستاهل�ش مني اللي كنت بعمله ده �أبدً ا،
ﻋﺼ
�أنت ت�ستاهل كل حاجة حلوة يف الدنيا.
قب�ض على كفها بيده الأخرى وقال ب�أمل:
ﲑ ﺍﻟ
-ياااه يا نهى ،متعرفي�ش �أنا كنت م�ستني اللحظة دي قد �إيه،
ﻜﺘ
احلمد هلل �إنك رجعتي من تاين.
نظرت �إليه نادمة وقالت ب�صدق:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-و�أنا م�ستني.
قالها بحما�س ،ثم تابع تناول طعامه معها ويف قلب كل منهما الكثري
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
zzz
يف الفرتة الأخرية �شكت لزوجها عدة مرات من �أنها تعاين من بع�ض
اال�ضطرابات يف معدتها� ،شعور باخلمول والإرهاق ينتابها� ،إح�سا�س
بالغثيان ورغبة يف التقي�ؤ م�ستمرة ،طلب زوجها منها �أكرث من مرة �أن
تذهب معه للطبيب ليطمئن عليها فكانت ترف�ض متعللة ب�أنها ال حتب زيارة
الأطباء ،ولكنها ملا الحظت ا�ستمرار تلك الأعرا�ض ا�ست�سلمت ووافقت
314
�أخ ًريا على الذهاب معه ،قال زوجها للطبيب ب�أنها تعاين من بع�ض �آالم
املعدة ،ومن املمكن �أن يرجع ذلك �إىل تناولهما �أطعمة من خارج املنزل
يف الكثري من الأحيان� ،إذ رمبا تناولت زوجته �شي ًئا فا�سدً ا ف�سبب لها
هذا الأمل ،نظر �إليه الطبيب متفه ًما و�أخربه ب�أنه �سيقوم ب�إجراء بع�ض
الفحو�صات ،بعد دقائق قليلة عاد �إليه وقد �أنار وجهه م�ستب�ش ًرا ،وقال
ً
متهلل:
-مربوك ،املدام حامل.
ﻋﺼ
�شهقت بخوف تلك التي كانت خلف ال�ستار تعدل من هندامها ،بينما
نظر كرمي للطبيب بذهول وقال ب�صدمة:
ﲑ ﺍﻟ
-حامل ازاي! دي بتاخد مانع للحمل!
ﻜﺘ
�شبك الطبيب �أ�صابعه ،و�ضع كفيه على الطاولة ،وقال باتزان:
� -إرادة ربنا فوق كل �شيء.
ﺐ ﻟﻠﻨ
عادت فاطمة وقد حمل وجهها كل �ألوان القلق والتوتر ،جل�ست يف
ﺸﺮ
مقابل زوجها ونك�ست ر�أ�سها ،نظر �إليها كرمي نظرة �أخافتها و�س�أل:
كنت بتاخدي احلبوب بانتظام؟
أنت م�ش ِ ِ �-
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
-تقري ًبا.
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
ليطمئنها وطلب منها �أن تذهب يف �أ�سرع وقت لأحد �أطباء الن�ساء والتوليد
لتتابع حملها� ،أوم�أت �إليه بتفهم ثم هبطت الدرج ب�سرعة و�سارت حتى
ﲑ ﺍﻟ
و�صلت �إىل عربة زوجها ،وجدته يكور كفه وي�ضرب به على نافذة ال�سيارة
ﻜﺘ
عدة مرات� ،أم�سكت باملقب�ض وفتحت باب العربة وهمت �أن جتل�س قبل �أن
جتده ي�صرخ بها ويقول وهو ي�شري ب�سبابته:
ﺐ ﻟﻠﻨ
�شعرت باحلرج� ،أغلقت الباب مرة �أخرى ،عادت للخلف وجل�ست يف
هدوء� ،أطبق عليهما ال�صمت طوال الطريق �إال من بع�ض ال�سباب الذي
ﻭ
�ألقاه زوجها على م�سامع بع�ض الذين كانوا يعرت�ضون طريقه �أثناء
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
-م�ش كرمي اللي يتحط قدام الأمر الواقع يا فاطمة.
-احلمل ح�صل غ�صب عني يا كرمي.
وكنت مبتاخدي�ش احلبوب بردو
ﲑ ﺍﻟ
-احلمل ح�صل مبزاجكِ ،
ﻜﺘ
مبزاجك.
قالها بت�أكيد ،فقالت مدافعة عن نف�سها:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-نكتة املو�سم دي وال �إيه! ده �أنا �شوفت منك كمية كذب على
ﺍﻟﺘﻮ
و�سفرنا من وراهم!
قالت بانهيار:
� -أنا عملت كل ده عل�شان بحبك.
زفر مبلل وقال منه ًيا احلديث:
-خال�صة الكالم :اللي قولته هيتنفذ يا فاطمة!
317
�ألقى بكلمته ثم ذهب لغرفة نومه و�صفق الباب خلفه بعنف ،دارت
فاطمة بعينيها كالتائهة وقد ظللت مالحمها �سحائب الهموم ،ثم �ألقت
بج�سدها املنهك على الأريكة وبد�أت تبكي!
zzz
فتحت الباب بفرحة بعدما �سمعت طرقاته املميزة ،وقف �أمامها
مبت�س ًما وقد حمل بني يديه باقة حتت�ضن ثالث وردات وقطعة من
ال�شيكوالتة وبع�ض البالونات ،قدمها �إليها فتناولتها ببهجة طفولية وبد�أت
ﻋﺼ
ت�شم رائحة الأزهار وهي مغم�ضة العينني� ،شكرته بحب و�أف�سحت له
ﲑ ﺍﻟ
املجال ليدخل ،نزع حذاءه وجل�س على �أحد املقاعد ،قال ب�سرور:
ﻜﺘ
-قب�ضت �أخ ًريا.
غمزت �إليه وقالت وهي حترك ر�أ�سها:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-عرفت من الهدية.
كانت قد تعودت منه �أن يح�ضر لها هدية ب�سيطة يف كل �شهر مبنا�سبة
ﺸﺮ
احل�صول على راتبه ،رغم �أن الهدية مل تكلفه الكثري من املال �إال �أنه يكن
ﻭ
لها بالغ الأثر الطيب على نف�سها� ،أ�سرعت بو�ضع الطعام لأنها تعلم مدى
ﺍﻟﺘﻮ
جوعه ،وبعدها جل�سا �سو ًيا لتق�سيم الراتب� ،أخرج �إ�سالم مبل ًغا لإيجار
ﺯﻳﻊ
ال�شقة والكهرباء واملياه والإنرتنت و�ضعه جان ًبا ،ثم �أم�سك بيد �سلمى
وو�ضع فيها مبل ًغا �آخر وقال بحنان:
-ودي فلو�س الدكتورة بتاعتك.
بد أ� يعد ما تبقى و�أخرج منه مبل ًغا �صغ ًريا وهم�س:
-ودي فلو�س ال�صدقة.
� -صدقة!
318
قالتها �سلمى بذهول ممزوج بالفرحة ،ف�أردف �إ�سالم:
-من �ساعة ما عرفت �إنك حامل قررت �إين ب�إذن اهلل هخرج
خم�سة يف املية من مرتبي كل �شهر لل�صدقة� ،أنا عارف �إن
مرتبي م�ش كبري ،ب�س النبي عليه ال�صالة وال�سالم قال« :ما
نق�ص مال من �صدقة» و�أنا مت�أكد �إن ربنا هيباركلنا يف الباقي.
�أم�سك باملبلغ الأخري وق�سمه على �أربعة ،ثم و�ضع كل جزء يف مظروف
و�أغلقه ،و�ضعهم يف يد �سلمى وقال:
ﻋﺼ
-ودي كده فلو�س كل �أ�سبوع� ،أول ظرف هنفتحه بعد بكره ب�إذن
اهلل ،و�شيلي الباقي للأ�سابيع اجلاية.
ﲑ ﺍﻟ
تناولت �سلمى الأظرف منه ب�صمت ،فنظر لها �إ�سالم و�س�أل:
ﻜﺘ
-بتفكري يف �إيه؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
-من كام يوم عرفت �إن �صاحبتي يف املدر�سة وقع على بنتها
ﺍﻟﺘﻮ
حروق �صعبة جدً ا� ،صاحبتي جات املدر�سة النهارده بعد غياب
خم�سة �أيام ووريتني �صور البنت.
�سقطت دمعة حارة من عينها وتابعت:
� -أنا اتقهرت مبعنى الكلمة يا �إ�سالم ملا �شوفت ال�صور ،تخيلت
لوهلة �إن الطفل اللي يف بطني ده هو اللي ح�صل فيه كده،
فمقدرت�ش �أ�ستحمل جمرد الفكرة ،عل�شان كده قررت �أتربع
319
لها مبرتبي كله ال�شهر ده ،وهكلم بابا كمان جايز يقدر ي�ساعد
لأنها حمتاجة مبلغ م�ش قليل لعالج البنت.
�صمتت اللتقاط �أنفا�سها وتابعت:
-كمان قررت �إين هعمل ن�سبة من مرتبي لل�صدقة كل �شهر ب�إذن
اهلل؛ لأين حا�سة بندم رهيب على كل ال�سنني اللي �ضاعت مني
بدون ما �أطلع ع�شرة جنيه حتى لل�صدقة ،مع �إين كنت بجيب
�شيكوالتة وم�شروبات �ساقعة و�شيب�سي بع�شرات اجلنيهات ،ربنا
ﻋﺼ
يعفو عني.
و�أخ ًريا كفكفت دموعها ،ابت�سمت �إليه وقالت:
ﲑ ﺍﻟ
-اللي �أنا م�ستغرباله هو �إننا قررنا نف�س القرار يف نف�س الوقت،
ﻜﺘ
�أنت ً
فعل ن�صفي الثاين.
-احلمد هلل ،ده من ف�ضل ربنا يا �سلمى ،املهم دلوقتي �إين عرفت
ﺐ ﻟﻠﻨ
-هو �أنت بجد م�ش معرت�ض على مو�ضوع �إين �أتربع مبرتبي كله
ده؟
قال بتعجب:
-وهعرت�ض ليه! بالعك�س.
-عل�شان يعني لو البيت احتاج حاجة وال كده.
قالتها بحرج ،فابت�سم �إ�سالم لريفع عنها حرجها وقال:
320
� -أنا قولتهالك قبل كده وهقولهالك تاين ،مرتبك ملكك ولكي
أنت م�سئولة مني �سواء بت�شتغلي �أو
كامل حرية الت�صرف فيهِ � ،
لأ ،ف�أنا كده كده عامل ح�سابي �أم�شي البيت على قد مرتبي،
أنت
وكنت معرفك من الأول م�ستوايا املادي عل�شان كده و� ِ
أنت م�ش مطلوب منك غري �إنك ت�صربي معايا حلد وافقتي ،ف� ِ
ما ربنا يرزقنا باخلري الوا�سع.
ملعت عيناها بفخر وقالت:
ﻋﺼ
� -أنت �إن�سان خلوق وابن �أ�صول يا �إ�سالم ،ربنا يكرث من �أمثالك.
zzz
ﲑ ﺍﻟ
انق�شع الليل وطفقت ال�شم�س ت�ضيء الكون ب�أنوارها ،فتحت فاطمة
ﻜﺘ
�أبواب عينيها بهدوء ،ت�أوهت حينما �شعرت ب�أمل يف عنقها وظهرها من �أثر
النوم جال�سة على الأريكة ،نظرت يف �ساعة احلائط وفزعت عندما �أدركت
ﺐ ﻟﻠﻨ
اقرتاب موعد عمل زوجها ،هرولت �إىل املطبخ و�أعدت فطو ًرا �سري ًعا ثم
ذهبت لتوقظ زوجها الذي �أدركت للتو ب�أنه غري موجود ،تناولت هاتفها
ﺸﺮ
وات�صلت عليه فلم يرد� ،ألقت الهاتف غا�ضبة ثم جل�ست تفكر فيما حدث
بالأم�س ،كانت تتمنى �أن يرزقها اهلل بطفل منه ال تنكر ذلك ،ولكنها مل
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
تتوقع �أن تتحقق �أمنتيها بهذه ال�سرعة ،ال تريد خ�سارة كرمي مهما كان
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
وقفت يف ال�شرفة وظلت تنتظره حتى �أرخى الليل �سدوله ،فعادت بي�أ�س
ﲑ ﺍﻟ
�إىل الداخل و�أ�سندت ظهرها املنهك على الفرا�ش ،ا�ستمرت يف االنتظار
ﻜﺘ
حتى �سمعت �صوت مفتاحه يتحرك يف الرتاج فقفزت من مكانها وهرولت
�إليه ،قالت بلوم:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-وقرارك؟
� -أنا حاولت �أنزله ب�س مقدرت�ش �أكمل.
-روحي لدكتور ي�ساعدك تنزليه.
�صمتت للحظات ثم ا�ستجمعت �شجاعتها ،نظرت يف عينيه وقالت
ب�إ�صرار:
-لأ� ،أنا قررت �إين م�ش هقتل البيبي يا كرمي.
322
�صفق بيديه عدة مرات ثم قال بنربة �أخافتها:
-برافو برافو ،اتعلمتي تقويل لأ كمان ،وملني؟ لكرمي البحريي.
-يا كرمي �أنا...
قاطعها ب�إ�شارة من يده ،نظر �إليها بجمود وقال بربود:
-عامة زي ما حتبي ،ب�س �أنا م�ش م�سئول عن �أي حاجة ليها
أنت اللي اختارتي.عالقة بالطفل ده ،وافتكري �إن � ِ
-م�ش م�سئول يعني �إيه يا كرمي؟! هو �أنا حملت فيه لوحدي!
ﻋﺼ
-حملتي فيه ب�إرادتك ومن غري ما تاخدي ر�أيي ،يبقى تتحملي
ﲑ ﺍﻟ
م�سئولية قرارك وحدك.
ﻜﺘ
� -أنا مكنت�ش �أعرف �إين هحمل عل�شان �آخد ر�أيك!
أنت بتقويل ل�صاحبتك �إنك � -أنا �سمعتك بنف�سي قبل كده و� ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
z
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
324
-األخري-
ﻋﺼ
للحائط� ،ضمت ركبتيها �إىل �صدرها ُمط ّوقة �إياهما بذراعيها ،عادت
ﲑ ﺍﻟ
بذاكرتها �إىل الوراء وقد �أخذت �صو ٌر من املا�ضي تن�ساب �أمام عينيها،
تذكرت عندما �أخربها زوجها ب�أنه غري م�سئول عن �أي �شيء يتعلق بذلك
ﻜﺘ
الطفل ،وملا طلبت منه بعدها �أن يذهب معها للطبيب �أو حتى يعطيها
بع�ض املال لتذهب ب�صحبة والدتها �صرخ فيها بعنف واتهمها بالغباء،
ﺐ ﻟﻠﻨ
حينها ا�ستعانت ببع�ض النقود التي كانت حتتفظ بها وذهبت �إىل الطبيب
الذي �أمرها بالراحة التامة ج�سد ًيا ونف�س ًيا ،تذكرت معاملة زوجها
ﺸﺮ
�شعرت �أنها �أ�شبه بخادمة ال بزوجة ،تذكرت تلك املرة التي �أم�سكت فيها
ﺍﻟﺘﻮ
كث ًريا تلك التي كان يلقيها على م�سامعها يف بداية تعارفهما ،وملا ثارت
وغ�ضبت و�صرخت يف وجهه �أخربها بكل برود ب�أن هذا طبعه ولن يغريه،
أي�ضا� ،شحب وجهها وتربعت حتت �ساءت حالتها النف�سية كث ًريا ،والبدنية � ً
عينيها الهاالت ال�سوداء ،زاد وزنها ب�شكل ملحوظ و�ضعفت حركتها،
�أ�صبحت كئيبة و�صامتة تعاين وحدها ،تكذب على �أمها كث ًريا وتخربها
ب�أنها يف �أف�ضل حال؛ فوالدتها مري�ضة ولن تتحمل �أي �أخبار �سيئة ،ال�شيء
الوحيد الذي يهون عليها تلك احلياة ،ال�شيء الوحيد الذي ير�سم على
325
وجهها االبت�سامة كل يوم هو تلك احلركة اخلفيفة لطفلتها التي ت�شعر
بها بداخلها ،ت�أتي �إليها وك�أنها �شعاع �أمل مي�سح على قلبها ،نه�ضت من
مكانها بابت�سامة منك�سرة وفتحت اخلزانة� ،أخرجت منها قطعة وحيدة
من املالب�س قد ا�شرتتها ل�صغريتها واحت�ضنتها ،متنت لو كان ب�إمكانها
�شراء املزيد ،ولكن نقودها قاربت على النفاد� ،سمعت �صوت مفتاح زوجها
يتحرك يف الرتاج� ،أ�صبحت تكره ذلك ال�صوت� ،أعادت قطعة املالب�س
للخزانة وعادت لتجل�س على الفرا�ش ،دخل زوجها الغرفة و�أ�ضاء امل�صباح
ﻋﺼ
وقال ب�ضجر:
أنت قاعدة فيها دي!
� -إيه الك�آبة اللي � ِ
ﲑ ﺍﻟ
نظرت �إليه ومل ترد ،ف�س�أل:
ﻜﺘ
-جهزتي الطقم اللي هروح بيه الفرح؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أكرث من مرة:
-مبنظرك ده!
ابتلعت �إهانته وقالت تت�صنع عدم الفهم:
� -أكيد م�ش هروح بلب�س البيت يعني!
�أم�سكها من ذراعها ووقف بها �أمام املر�آة ،وقال بحدة:
326
� -شويف و�شك وج�سمك بقوا عاملني ازاي! م�ستحيل �أخلي النا�س
أنت بال�شكل ده.
ي�شوفوك ما�شية جنبي و� ِ
ِ
التفتت �إليه وقد احتقن وجهها من الغ�ضب �سائلة بحدة:
-ويا ترى مني اللي هتبقى ما�شية جنبك النهارده يا دكتور كرمي؟
بد�أ ي�صفف �شعره وهو يقول بربود:
-دي حاجة متخ�صكي�ش.
مل تعد حتتمل ،ثارت و�صرخت وبد�أت تقذفه بكل القهر الذي حتمله يف
ﻋﺼ
قلبها طوال الفرتة املا�ضية ،ت�سارعت �أنفا�سها و�أخذت تنتحب ب�شدة وهي
ﲑ ﺍﻟ
ت�شكو منه �إليه ،انهمرت دموعها و�أغرقت مالب�سها ،ظلت تبكي وت�صرخ
حتى جف دمعها و�ضعف �صوتها ،جل�ست � ً
أر�ضا وحاولت التقاط �أنفا�سها
ﻜﺘ
الهاربة ،نظر �إليها كرمي ومتتم:
ﺐ ﻟﻠﻨ
ذلك التهديد الذي رددته ع�شرات بل رمبا مئات املرات ،ومل جتر�ؤ
ملرة واحدة على التنفيذ� ،سحب يده من بني كفيها ومل ُيع ّقب ،خرج من
بخطوات وئيد ٍة
ٍ البيت يف هدوء ،وبعد �ساعة خرجت غا�ضبة من غرفتها
مهزومة جتر حقيبة مالب�سها خلفها� ،أخذت تت�أمل كل ركن يف البيت
وقلبها يحرتق ،و�أخ ًريا رحلت بعدما ا�ستوطن الي�أ�س ف�ؤادها.
zzz
327
�صالة الفجر لو نعرف قيمتها يف يوم ن�صلي جماعة نن�سى النوم
وما نفرط�ش فيها يف يوم مدام عاي�شيني
نقوم من بدري نت�صاحب على القر�آن ن�صلي ركعتني ب�إميان
قيمتها كبرية يف امليزان يف يوم الديني
اهلل يهديكم �صلوا و�صوموا وقيموا لياليكم
ده اللي هينفع ويعود ليكم اهلل يهديكم
ﻋﺼ
اهلل يكفيكم �شر بالء الدنيا عليكم
ﲑ ﺍﻟ
(((
على �أعمال اخلري يجازيكم ويبارك فيكم
ﻜﺘ
�أم�سك بهاتفه و�أطف�أ املنبه ثم �سار بنعا�س نحو دورة املياه ،تو�ض�أ
و�صلى ركعتني قيام ليل �أتبعهما بركعة وتر ثم جل�س يقر أ� القر�آن حتى �سمع
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أذان الفجر� ،أغلق م�صحفه وذهب �إىل زوجته ليوقظها� ،أم�سك بذراعها
وبد أ� يحركه ففتحت عينيها بهدوء ،هم�س مبت�س ًما:
ﺸﺮ
و�ضع يده على جبهتها يتح�س�سها ف�شعر وك�أن حتت يده �أل�سنة من
اللهب ،قال بخوف:
-حرارتك مرتفعة جامد يا �سلمى.
نظرت �إليه ب�ضعف وهي مت�سك بر�أ�سها ،ربت على كفها بحنان ثم
هرول باجتاه املطبخ� ،سمع �إقامة ال�صالة فعاد �إليها ً
قائل:
((( إنشاد :عمرو الديب.
328
-خم�س دقايق ب�س هروح �أ�صلي و�أجيلك علطول ب�إذن اهلل.
�أوم�أت بر�أ�سها و�أغم�ضت عينيها بتعب� ،أدى �إ�سالم �صالته وعاد
م�سرعا ،دخل �إىل املطبخ و�أح�ضر �صح ًنا مملو ًءا باملاء البارد وقطعة من
ً
القما�ش وعاد �إليها ،بد�أ ي�ضع القما�شة املُبتّلة باملاء على جبهتها و�أماكن
جال�سا �إىل جوارها
�أخرى متفرقة من ج�سدها حتى �سكنت ونامت ،ظل ً
يدعو اهلل �أن ي�شفيها ويردد بع�ض �آيات القر�آن حتى اقرتب �شروق ال�شم�س،
فبد أ� يهزها بهدوء وهو يهم�س:
ﻋﺼ
-حبيبتي حاويل تقومي ت�صلي ،ال�شم�س قربت تطلع.
فتحت عينيها ب�ضعف وهم�ست:
ﲑ ﺍﻟ -حا�ضر.
ﻜﺘ
�ساعدها على النهو�ض و�أ�سندها حتى و�صلت لدورة املياه ،تو�ض�أت
أر�ضا وانتظرها حتى �أدت وعاد بها �إىل الغرفة ،و�ضع �سجادة ال�صالة � ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
�صالتها ثم �أخذها �إىل فرا�شها مرة �أخرى ،و�ضع يده على ر�أ�سها ليطمئن
ﺸﺮ
ً
�إ�سالم ليذهب �إىل عمله� ،س�ألها عن حالها فقالت:
� -أح�سن احلمد هلل.
و�ضع يده على جبهتها فوجد حرارتها انخف�ضت بع�ض ال�شيء ،ولكنها
متاما ف�س�أل:
مل تهد�أ ً
-هرتوحي املدر�سة النهارده؟
329
�أوم�أت بر�أ�سها نف ًيا وهم�ست:
-م�ش قادرة خال�ص للأ�سف.
قال بطفولية:
معاك.
-خال�ص هقعد ِ
ربتت على كفه وقالت مبت�سمة:
علي� ،أنا هبقى كوي�سة ب�إذن
-روح �شغلك يا �إ�سالم ومتقلق�ش َّ
اهلل.
ﻋﺼ
أنت لوحدك.� -أخاف تتعبي و� ِ
ﲑ ﺍﻟ
-ممكن �أت�صل مباما تيجي تقعد معايا.
ﻜﺘ
أنت
معاك طول ما � ِ
أنت �أمانة عندي يا �سلمى ،مينفع�ش ابقى ِ ِ �-
�سليمة و�أول ما تتعبي �أقولهم تعالوا خدوا بالكم من بنتكم!
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
-ق�صدك هريقوك.
ﲑ ﺍﻟ
قالت ب�شك:
ﻜﺘ
� -أنا م�ش عاوزاك تتع�شم يف مو�ضوع الرتقية ده يا �إ�سالم عل�شان
ميح�صل�ش زي املرتني اللي فاتوا.
ﺐ ﻟﻠﻨ
zzz
ﺯﻳﻊ
م�ضى �شه ٌر كامل ومل ت َر وجهه مرة واحدة! �شعرت باحلنني �إليه ،رغم
ق�سوته وغلظته يف كثري من الأحيان �إال �أنها ما زالت حتبه وتود العي�ش
بقربه ،كان والده وزوجته يت�صالن بها من وقت لآخر ليطمئ ّنا عليها ،مل
تخربهما �أن نقودها نفدت و�أنها لن ت�ستطيع الذهاب للطبيب هذا ال�شهر،
�أخربتهما �أنها تعي�ش يف �أف�ضل حال ب�صحبة والدتها وال حتتاج لأي �شيء،
مل تكن والدتها تعرف �أي �شيء ب�أمر خالفها مع كرمي ،فقد �أخربتها فاطمة
331
ب�أنه م�شغول بعمله كث ًريا هذه الأيام ولن ي�ستطيع االعتناء بها ،وهي تخاف
�أن ت�سوء حالتها وهي وحدها باملنزل ،لذلك طلبت منها �أن ت�أتي �إليها حتى
ينهي الأعمال الهامة التي بني يديه و�صدقتها والدتها ،كانت تهبط من
املنزل يوم ًيا وتخرب �أمها ب�أنها ذاهبة لتناول الغداء معه يف �أحد املطاعم
وتظل تتجول يف ال�شوارع قرابة الأربع �ساعات ،ثم تعود منهكة وتنتظرها
حتى تنام وتذهب خل�سة �إىل الثالجة لت�سكن �أنني معدتها التي تز�أر
باجلوع� ،أرادت البوح� ،أرادت �أن تختبئ يف ح�ضنها وت�صرخ وتق�ص عليها
كل �شيء ،ولكنها كانت ترتاجع يف كل مرة خو ًفا على قلبها احلنون ،فتلك
ﻋﺼ
العجوز تتمنى دائ ًما �أن تراها �سعيدة ،لذلك كانت ت�ساعدها على اخلروج
ﲑ ﺍﻟ
مع كرمي يف كل مرة من دون علم �أخويها ،و�صلت �إىل �شهرها ال�ساد�س من
احلمل ،زحفت �أعرا�ض احلمل وطغت عليها ب�ضراوة ،كل �شهر مير عليها
ﻜﺘ
أي�ضا ،طلب منها الطبيب مرا ًرا بع�ض التحاليل يزداد �ضعفها وحزنها � ً
والأدوية فلم تهتم� ،أبت نف�سها �أن تطلب املال من كرمي ،و�أبت �أكرث �أن
ﺐ ﻟﻠﻨ
تطلب من والدتها التي تعلم يقي ًنا �أن زوجها ُيغرقها بالأموال ،كانت تتعمد
الدخول �إىل الطبيب وحدها وترتك والدتها باخلارج متعللة ب�أي �شيء
ﺸﺮ
حتى ال ُيك�شف �أمرها ،ظنت �أن التحاليل والأدوية لي�س لها �أهمية كبرية؛
ﻭ
فالن�ساء الفقريات يحملن ويلدن دون �أية �أدوية �أو حتاليل ،جل�ست تعبث
ﺍﻟﺘﻮ
و�أتى ذلك اجلنني ليف�سد عليها فرحتها� ،أح�ست به يتحرك بداخلها وك�أنه
يلومها ،فاعتذرت �إليه وعاودت م�شاهدة ال�صور حتى �أتاها ات�صال من
والد زوجها ،اطمئن عليها و�أخربها �أن كرمي �سقط من على الدرج منذ
يومني و ُك�سرت �ساقه� ،شهقت بخوف و�س�ألته عن حاله ف�أجاب:
� -أنا عاوزك تيجي ت�شوفيه بنف�سك.
� -آجي! بعد ما �سابني الفرتة دي كلها يا عمو!
332
� -أنا عارف �إنه غلطان وي�ستاهل ك�سر رقبته ،و�إين مهما قولتله
أنت املرة دي يا بنتي ،ودي
بردو م�ش بي�سمع الكالم ،ب�س جربي � ِ
�أول و�آخر مرة هطلب منك الطلب ده.
أي�ضا ،فقررت و�ضع كانت حترتمه ،و�شعرت باخلوف على كرمي � ً
اخلالفات جان ًبا والذهاب �إليه لتطمئن على حاله وليحدث بعدها ما
يحدث.
متهلل ،حياها ب�شدة� ،أتت زوجته طرقت الباب بتوتر ،ففتح حماها ً
ﻋﺼ
و�ضمتها �إليها بفرحة� ،أم�سكت بيدها وهمت بال�صعود معها ،فجذبها
زوجها من يدها الأخرى ونظر �إليها نظر ًة ذات معنى ،فرتاجعت
ﲑ ﺍﻟ
و�أف�سحت املجال لفاطمة لت�صعد وحدها ،بد�أت ت�صعد درجات ال�سلم
ﻜﺘ
نف�سا
ويف كل خطوة تزداد �ضربات قلبها ،وقفت �أمام باب �شقتها و�أخذت ً
عمي ًقا ،عادت للوراء ثالث خطوات وكادت ترتاجع ،ولكنها ح�سمت �أمرها
ﺐ ﻟﻠﻨ
يف النهاية و�أدارت املفتاح بداخل القفل ووجلت ،كان املنزل هاد ًئا ومعت ًما
�إال من ب�صي�ص نور قد ت�سرب من �إحدى الغرف ،كل النوافذ مغلقة
ﺸﺮ
احلا�سوب �أمامه و�إىل جواره وقفت ع�صا طويلة يبدو �أنه يحتاجها لالتكاء
عليها ،نظر �إليها ً
طويل ،فتوترت وقالت بتلعثم:
-ازيك يا كرمي؟
-كنت عارف �إنك هتيجي.
قالها مبت�س ًما ،فهم�ست:
-كان الزم �أ�شوفك و�أتطمن عليك.
333
� -أنا بخري.
-احلمد هلل.
قالتها و�صمتت وبد�أت تعبث بحقيبتها ،ثم التفتت �إليه و�س�ألت:
-الدكتور قالك هتفك اجلب�س امتى؟
-بعد �شهر �أو �شهر ون�صف كده.
�أوم�أت بر�أ�سها بتفهم و�أردفت:
ﻋﺼ
-هبقى �آجى �أتطمن عليك قبلها بردو.
نظرت �إليه ب�أعني دامعة ثم دارت على �أعقابها لتن�صرف ،م�شت
ﲑ ﺍﻟ
خطوتني قبل �أن ت�سمعه يقول:
ﻜﺘ
-ا�ستني يا فاطمة.
ﺐ ﻟﻠﻨ
تردد ً
قليل ،ثم �س�أل:
ﻭ
-والبيبي؟
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
-اقعدي.
ﲑ ﺍﻟ
تطلعت �إليه بكربياء ومل تتحرك خطوة ،فكرر:
ﻜﺘ
-اقعدي يا فاطمة.
ا�ستجابت ملطلبه وجل�ست ،تنازل عن بع�ض غروره وقال:
ﺐ ﻟﻠﻨ
�إن املو�ضوع �صعب ،ح�سيت �إن وجودك كان عامل فرق كبري يف
ﺍﻟﺘﻮ
-ما هو �أنا...
قاطعها ب�إ�شارة من يده وتابع:
� -أنا �أكرث حاجتني بكرههم يف حياتي يا فاطمة هم الكذب و�أن
حد يقويل لأ.
ركز نظراته يف عينيها وقال بهدوء:
335
أنت جمعتي بني االتنني يف مو�ضوع احلمل ده ،عل�شان كده
-و� ِ
قررت �أعاقبك.
�ضربت بقب�ضتها على الفرا�ش ،وزعقت وعينيها ت�شعان غ�ض ًبا:
-قولتلك مكدبت�ش.
� -أ ًيا كان ،اللي ح�صل ح�صل ،و�أنا معندي�ش طاقة �أتكلم يف اللي
فات.
� -أُمال عايز �إيه دلوقتي؟
ﻋﺼ
�س�ألت متعجبة ،ف�أجاب:
ﲑ ﺍﻟ
-البنت دلوقتي بقت �أمر واقع يف حياتنا ،و�أنا قررت �أتقبله،
ﻜﺘ
وهبقى م�سئول عن �أي م�صاريف �أو طلبات خا�صة بيها ،ولكن...
قالها و�صمت ليجذب انتباهها ،ثم ا�ست�أنف:
ﺐ ﻟﻠﻨ
قالت با�ستنكار:
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
املوتى ،عاد بر�أ�سه �إىل ظهر الأريكة ،عقد ذراعيه �أمام �صدره ،وبد�أ
ﲑ ﺍﻟ
ي�سرتجع تفا�صيل الكارثة التي حدثت منذ �ساعات قليلة� ،ضغط على
ً
ﻜﺘ
حماول تخفيف �أمل ال�صداع الذي يكاد يفتك جبهته ب�إبهامه و�سبابته
بر�أ�سه ،كان ي�شعر باالنهيار الكامل ،ازدحمت ر�أ�سه بالأفكار وامتلأت
بالهموم ،زفر بقوة وك�أنه يريد �إخراج كل ما هو عالق ب�صدره من هموم،
ﺐ ﻟﻠﻨ
ونظر ل�ساعة يده مت�أف ًفا ،بعد ن�صف �ساعة و�صلت زوجته لباب ال�شقة
ً
ﺸﺮ
ﻋﺼ
-طيب ب�سرعة عل�شان جعان.
ﲑ ﺍﻟ
تناولت حقيبتها ونه�ضت ،وقبل �أن ت�سري نظرت �إليه بف�ضول و�س�ألت:
ﻜﺘ
-هو �أنت ا�شمعنى جيت بدري النهارده؟
زفر بغ�ضب وقال بعدم حتمل:
ﺐ ﻟﻠﻨ
لتح�ضر الطعام ،بعد ن�صف �ساعة وجدته يقف على باب املطبخ ويقول:
ﺯﻳﻊ
� -أنا نازل �أ�صلي الع�صر ،يا ريت �أرجع �أالقي الأكل حمطوط.
وقبل �أن تنب�س ببنت �شفة كان قد تركها وغادر� ،شعرت �أنه رمبا يعاين
من �أمر ما ف�أرادت �أن ُتدخل ال�سرور على قلبه� ،صلت وقامت ب�إخراج
بع�ض ال�صحون التي مل ت�ستخدمها منذ مدة ،غ�سلتها وو�ضعتها على
الطاولة ثم بد�أت ت�ضع فوقها ما �أعدته من طعام وتزينه بطريقة مبهجة،
عاد �إ�سالم من اخلارج ،وقف �أمام الطاولة ونادى:
-فني باقي الأكل يا �سلمى؟
338
�أجابته من املطبخ:
-ل�سه بعمل �أهو.
و�صل �إليها ب�سرعة الربق وقال وقد اتقدت النار بعينه وانتفخت
�أوداجه:
أنت ل�سه خمل�صتي�ش الأكل وعماله تزيني وتتدلعي
-يعني � ِ
بال�شكل ده!
اقرتبت منه وقالت ب�ضيق:
ﻋﺼ
-فيه �إيه يا �إ�سالم! �أنا كنت حابة �أفرحك!
ﲑ ﺍﻟ
قال بع�صبية:
ﻜﺘ
-و�أنا هفرح يعني ملا تت�أخري �ساعة وال اتنني عل�شان تزينيلي
الطبق!
ﺐ ﻟﻠﻨ
يا �إ�سالم.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
اقرتب منها وقد تطاير ال�شرر من عينه� ،أم�سك مبع�صمها بقوة وزعق:
ﺯﻳﻊ
أنت ازاي تتكلمي معايا بالطريقة دي! وازاي مت�شي و�أنا بكلمك!
ِ �-
ت�أملت ف�أفلتت يدها بع�صبية ثم �صرخت �صرخة اهتزت لها الأركان،
نظر �إ�سالم بعينني مت�سعتني ليدها التي ا�صطدمت بالإناء املو�ضوع على
النار والذي اكتظ بالزيت املغلي ،فتطايرت منه كمية لي�ست بالقليلة على
يدها ،وقف م�شدوهً ا للحظات ثم �أم�سك بيدها وو�ضعها حتت ال�صنبور،
كانت �سلمى ت�صرخ وتت�أمل وقد هبطت عرباتها كال�شالل ،بعد عدة دقائق
339
�أخرج يدها من �أ�سفل ال�صنبور وو�ضع لها مره ًما للحروق ثم �أح�ضر لها
مالب�سها على عجل� ،ساعدها يف ارتدائها وهبط بها �إىل امل�شفى.
ً
خطوطا على ً
خطوطا طوال الطريق كانت �صامتة ،ت�سيل دموعها
خديها دون توقف .عز عليها �أن تتعر�ض لهذه املهانة وت�صاب بهذا
الأذى وهي يف �شهورها الأخرية من احلمل� ،أي �أنها يف حالة من ال�ضعف
اجل�سدي والنف�سي �أكرث من �أي وقت م�ضى ،نظر �إليها ذلك اجلال�س �إىل
جوارها يف ال�سيارةُ ،خيل �إليه �أنه ي�ستمع �إىل �أ ّناتها ال�ضعيفة ت�صدر من
�أعماق نف�سها فاعت�صر قلبه و�أخذ يلوم نف�سه ب�شدة على ما حدث.
ﻋﺼ
و�صال �إىل منزلهما ،نظر �إليها متعذ ًرا ،فنظرت �إليه بقهر وان�سحبت
ﲑ ﺍﻟ
من �أمامه ،بدلت مالب�سها وتكومت يف �أحد �أركان غرفتها تنظر �إىل يدها
ﻜﺘ
امللفوفة بتلك ال�شا�شة البي�ضاء ويف عينيها نظرة �أمل ،اقرتب �إ�سالم منها،
�أم�سك بوجهها ورفعه �إليه ،متعن يف عينيها وهم�س:
ﺐ ﻟﻠﻨ
بحدة:
قاطعته ِ
ﺯﻳﻊ
340
� -إن احلمد هلل ،نحمده ون�ستعينه ون�ستغفره ون�ستهديهُ ،
ونعوذ
�سيئات �أعمالنا ،من ي ْه ِد ُ
اهلل ِ باهلل من �شرو ِر �أنف�سنا ومن
م�ض َّل له ،ومن ي�ضلل فال هادي له ،و�أ�شهد �أنْ ال �إله �إال فال ِ
اهلل وحده ال �شريك له ،و�أ�شهد �أنَّ حممدً ا عبدُه ور�سو ُله ،بعثه ُ
اهلل رحم ًة للعاملني هاد ًيا ومب�ش ًرا ونذي ًرا ،ب ّلغ الر�سالة و أ� ّدىُ
اهلل خ َري ما جزى نب ًيا من �أنبيائه، ون�صح ا أل ّم َة ،فجزا ُه ُ
َ الأمانة
هلل و�سالمه عليه وعلى جميع الأنبياء واملر�سلني ،وعلى �صلواتُ ا ِ
�صحابته و�آل بيته ،وعلى من �أحبهم �إىل يوم الدين ،در�سنا اليوم
ﻋﺼ
يا �إخواين بعنوان (ال تغ�ضب) والدر�س ده يف غاية الأهمية،
ﲑ ﺍﻟ
ب�إذن اهلل هحاول مطول�ش عليكم ب�س ركزوا معايا ،والأطفال
احللوين اللي معانا كمان يركزوا وب�إذن اهلل هي�ستفادوا.
ﻜﺘ
نظر �إليه �إ�سالم بذهول� ،شعر �أن اهلل �أر�سله ليلقي هذه املحا�ضرة
ﺐ ﻟﻠﻨ
جال�سا
الأول :عن �سليمان بن ُ�ص َرد ر�ضي اهلل عنه قال :كنت ً
ﺯﻳﻊ
مع النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ورجالن ي�ست ّبان ،و�أحدهما قد
احمر وجهه ،وانتفخت �أوداجه ،فقال ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه
و�سلم� :إين لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد ،لو قال:
�أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد.
رجل قال للنبي والثاين :عن �أبي هريرة ر�ضي اهلل عنه� ،أن ً
�صلى اهلل عليه و�سلم� :أو�صني ،قال :ال تغ�ضب ،فر ّدد ،قال :ال
تغ�ضب .رواه البخاري.
341
نظر �إليهم ال�شيخ وقال:
-واخدين بالكم؟ مو�صاهو�ش ب�أي حاجة تانية ،ولكن قاله ال
تغ�ضب ،طيب ليه منغ�ضب�ش؟
�صمت للحظات جلذب انتباههم ثم تابع:
-بب�ساطة لأن الغ�ضب ده من �أقبح الأخالق ال�سيئة ،لأنه بيخرج
الإن�سان من طبيعته الإن�سانية �إىل البهيمية ،وبي�ساعده على
ارتكاب ت�صرفات �سيئة جدً ا زي ال�سب واللعن وال�شتم وال�ضرب
ﻋﺼ
واالعتداء والإتالف والطالق ،بل رمبا والعياذ باهلل يلفظ
الإن�سان ب�ألفاظ توجب الردة ،وكمان الغ�ضب له �أثاره ال�سيئة
ﲑ ﺍﻟ
جدً ا على الفرد واملجتمع لأنه بيفرق بني الأحباب وي�شتت �أ�سر
ﻜﺘ
كانت مطمئنة.
خفتت نربة �صوته ً
قليل وقال بهدوء:
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
�شرعا وفاعله ُيثاب على ذلك.
فهذا غ�ضب حممود ً
ﲑ ﺍﻟ
فقد قالت عائ�شة ر�ضي اهلل عنها :ما انتقم ر�سول اهلل �صلى
اهلل عليه و�سلم لنف�سه� ،إال �أن تنتهك حرمة اهلل فينتقم هلل
ﻜﺘ
بها.
�أ�س�أل اهلل تعاىل �أن تدوم ال�سكينة يف قلوبكم ،واالبت�سامة على
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
أنت عارفة �إين مكنت�ش �أق�صد،
الثمن ،ب�س حاويل ت�ساحمينيِ � ،
ﲑ ﺍﻟ
و�إن ده م�ش طبعي.
ﻜﺘ
�سكت لربهة ثم ا�ست�أنف:
-وعارفة كمان مكانتك عندي عاملة ازاي.
ﺐ ﻟﻠﻨ
� -أنا حلد دلوقتي م�ش م�ستوعبة وال م�صدقة اللي ح�صل ،م�ش
متخيلة �إن �أكرث �شخ�ص ببقى متطمنة و�أنا جنبه يعمل معايا
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
فعل ،ب�س ال�شيطان بيعرف كوي�س -املوقف ب�شكل عام م�ش كبري ً
علي املرادي ،ب�س ب�إذن اهلل
�أوي ي�ستغلنا ويوقعنا ،هو انت�صر َّ
دي هتكون �آخر مرة.
�سمعت كلماته و�سكتت ،لي�س لديها طاقة للحديث� ،أغم�ضت عينيها
با�ست�سالم ونامت على �شقها الأمين ،نظر �إليها �إ�سالم ً
طويل ثم اجته
ملكانه ور�أ�سه يدور كطواحني الهواء ،و�ضع ر�أ�سه على و�سادته وطال ُ�سهاده.
344
يف ال�صباح ا�ستيقظت �سلمى وتناولت هاتفها من على الكومود لتغلق
�صحن �صغ ٍري مو�ضوع بجوارها يبتلع ثالث �شطائر،
ٍ املنبه ،فانتبهت �إىل
حملت ال�صحن وخرجت من الغرفة ،مت�شت يف الرواق حتى و�صلت �إىل
ال�صالة فوجدت �إ�سالم يجل�س �أمام احلا�سوب ،عندما �أح�س بها نظر
�إليها مبت�س ًما وقال:
� -أنا عارف �إنك م�ش هتقدري تعملي �أكل اليومني دول� ،أنا هتوىل
املو�ضوع ده متقلقي�ش.
ﻋﺼ
ما زال احلزن يطري بجناحيه داخل عينيها ،هم�ست بنربة منخف�ضة:
� -شك ًرا.
ﲑ ﺍﻟ
-هرتوحي املدر�سة النهارده؟
ﻜﺘ
-الزم �أروح عل�شان جتهيزات احلفلة.
ﺐ ﻟﻠﻨ
قالتها وعادت �إىل غرفتها ،ارتدت مالب�سها بعدما ت�أوهت عدة مرات
ب�سبب احتكاك يدها باملالب�س ،تناولت حقيبتها ودفرتها وخرجت �إىل
ﺸﺮ
الدرا�سي عادت و�صعدت الدرج ب�شق الأنف�س ،ثم وجلت �إىل �شقتها
ﺍﻟﺘﻮ
فوجدته �أمامها مم�س ًكا بحا�سوبه� ،أعد لهما وجبة خفيفة للغداء وق�ضى
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
�ضرب فاروق جبهته بكفه وقال �ضاح ًكا:
ﲑ ﺍﻟ
� -آخ! ده �أنا �شكلي ن�سيت �أقولك ،ال�شركة بتاعتنا يا �سيدي هتفتح
ﻜﺘ
فرع جديد ليها يف الإ�سكندرية وطب ًعا حمتاجني مهند�سني
كل التخ�ص�صات ،فاتكلمت مع نهى وقررنا ننقل هناك لأن
ﺐ ﻟﻠﻨ
املرتب هيكون �أعلى ،رغم �إن ال�شغل هيكون �أكرث �شوية لأن عدد
املهند�سني اللي هناك �أقل ،ب�س م�ش م�شكلة بقى ربنا يقوينا.
ﺸﺮ
-كنت بفكر �أقولك واهلل ،ب�س �أنا عارف �إن مراتك بت�شتغل
فقولت �أكيد م�ش هينفع.
-أل عادي ،هي قالتلي �إنها حابة تاخد �إجازة �سنة وال اثنني بعد
الوالدة عل�شان تاخد بالها من البنت ،وبعدها ب�إذن اهلل هتقرر
�إذا كانت هتكمل �شغل وال لأ.
-ما �شاء اهلل ،عرفتوا �إن اجلنني بنت؟
346
ابت�سم �إ�سالم وقال:
� -أيوة احلمد هلل ،املهم ب�س �سيبني النهارده �أتكلم مع �سلمى
يف املو�ضوع ون�ستخري ،وب�إذن اهلل بكره �أكلمك تاين و�أقولك
قرارنا.
حياه و�أغلق اخلط� ،سمعته �سلمى وهو يحمد اهلل كث ًريا بعدما
�أنهى املكاملة ،خرجت �إليه فر�أت وجهه خمتل ًفا ً
متاما عن الأيام
املا�ضية ،وك�أن �سحابة الهم كانت ت�سكنه والآن تخل�صت من
ﻋﺼ
ِحملها و�أمطرت ،دعاها للجلو�س بجانبه فا�ستجابت و�س�ألت:
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ -هو �أنت �سيبت ال�شغل؟
-ا�شمعنى؟
-ح�سيت كده من كالمك ،وكمان عل�شان م�ش بالقيك بتنزل زي
ﺐ ﻟﻠﻨ
الأول.
ابت�سم �إ�سالم وقال:
ﺸﺮ
ﻋﺼ
تنهد وا�ست�أنف:
ﲑ ﺍﻟ
-يومها كنت راجع دمي حمروق بطريقة رهيبة و�شايل هموم
أنت قربتي تولدي ول�سه م�ش
الدنيا كلها فوق دماغي ،اللي هو � ِ
ﻜﺘ
معانا فلو�س الوالدة كاملة ،وكمان جميبنا�ش اللب�س للبنت،
ده غري م�صاريف البيت ،كنت م�ضغوط ب�شكل م�ش طبيعي،
ﺐ ﻟﻠﻨ
�س�ألت با�ستنكار:
-وهو �أنا غلطت يف �إيه؟!
ابت�سم �إليها ومتتم:
أنت لقياين جعان -غلطتي ملا �أ�س�أتي تقدير املوقف ،يعني � ِ
ومتع�صب ،وده م�ش العادي بتاعي ،يبقى كان املفرو�ض
حتاويل متت�صي غ�ضبي يف الوقت ده وحتطيلي �أي حاجة �أكلها
348
وخال�ص ،وملا �أهدى تبدئي تلوميني على �أ�سلوبي احلاد وت�س�أيل
عن ال�سبب براحتك.
عقدت ذراعيها ولوت �شفتيها و�صمتت ،رفع �إ�سالم ر�أ�سها �إليه وقال
بحنان:
� -أنا م�ش بلومك على اللي عملتيه ،الغلط الأكرب كان مني �أنا،
�أنا ب�س بحاول �أحلل املوقف و�أخرج كل الأخطاء اللي ح�صلت
عل�شان ناخد بالنا ومنكررها�ش تاين.
ﻋﺼ
تنهدت ،غالبت ابت�سامة باهتة لرت�سمها على وجهها فخانتها ،قالت
هام�سة:
ﲑ ﺍﻟ
-ح�صل خري يا �إ�سالم.
ﻜﺘ
-فكي التك�شرية بقى.
ﺐ ﻟﻠﻨ
تلقف يدها بني يديه و�ضمها �إىل �صدره �ضمة جمع فيها بني الندم
وال�شوق ما جمع ،ثم زفر زفرة نفخ فيها من الهم واخلوف ما نفخ ،حدثها
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
بهم�س:
ﺯﻳﻊ
أنت �أحلى حاجة موجودة يف حياتي بعد �أمي ،وملا -بدون مبالغةِ � ،
ب�شوفك زعالنة م�ش ببقى قادر �أعي�ش يومي ب�شكل طبيعي ،و�أنا
الفرتة دي حقيقي م�ضغوط جامد ،فحاويل ت�ساحميني وتكوين
واقفة جنبي زي ما اتعودت منك دا ًميا.
-ب�إذن اهلل دا ًميا هتالقيني �أكرث واحدة واقفة يف ظهرك
وبت�سندك وقت �ضعفك ،املهم فهمني مو�ضوع ال�شغل اجلديد
ده.
349
بد�أ يق�ص عليها ما قاله فاروق ،فقالت برتدد:
� -إ�سكندرية! طيب بالن�سبة ل�شغلي فمفي�ش م�شكلة على الأقل
�أول �سنة بعد الوالدة� ،إمنا ازاي هن�سافر دلوقتي و�أنا على و�ش
والدة؟ وهعمل �إيه يف �إجازتي اللي ل�سه مبد�أت�ش؟ وازاي هقعد
لوحدي هناك وممكن الطلق ييجي يف �أي وقت! وكمان هولد
فني ومع مني!
ربت �إ�سالم على يديها وقال:
ﻋﺼ
يل ت�أكدي �إن ربنا هيي�سرلنا كل الأمور -لو ال�شغل ده هو اخلري َّ
دي ،ب�س ب�شكل عام متقلقي�ش من ناحية الوالدة� ،أنا عارف
ﲑ ﺍﻟ
�إنك حابة تولدي مع الدكتورة بتاعتك ويف و�سط �أهلك ،فممكن
ﻜﺘ
�أ�سافر �أنا مبدئ ًيا و�أ�شوف ال�شغل كوي�س وال لأ ،وممكن �أخدك
معايا وقبل الوالدة علطول تنزيل تقعدي مع والدتك ،ب�س �أنا
ﺐ ﻟﻠﻨ
-طيب ُب�ص ،هو �أنا قلقانة �شوية ب�س م�ش م�شكلة ،يال ن�صلي
ﻭ
ﻋﺼ
مرت الأيام ،و�صلت �إىل منت�صف �شهرها ال�سابع ،بد�أت ت�شعر ببع�ض
ﲑ ﺍﻟ
الآالم غري املحتملة ،ا�ست�شارت طبيبها ف�أمرها ببع�ض التعليمات ،نفذتها
ﻜﺘ
ولكن ال فائدة ،فالآالم تزداد ب�شكل مبالغ فيه ،ا�صطحبت كرمي لأول مرة
وذهبت للطبيب دون �سابق موعد ،فح�صها و�أخربهما بخوف �أن االنتظار
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أكرث من ذلك فيه خطورة على الطفلة ،نظرت فاطمة لزوجها ب�صدمة
بينما �س�أل كرمي الطبيب عن احلل ،فطلب منه ح�ضورهما يف الغد لإجراء
ﺸﺮ
عملية الوالدة ،نظرت فاطمة �إىل الطبيب م�شدوهة وقد ات�سعت عيناها
بفزع ،فحاول �أن يطمئنها و�أخربها �أن كل �شيء �سيكون على ما يرام،
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
عادت �إىل املنزل وظلت تبكي هذه الليلة كما مل تبك من قبل ،ات�صلت
بهند و�أخربتها مبا حدث ،وطلبت منها �أن ت�شرتي يف الغد بع�ض املالب�س
ﺯﻳﻊ
اخلا�صة بحديثي الوالدة وت�أتي �إليها قبل ذهابها للطبيب ،وافقت هند
على الفور و�أخذت تطمئنها� ،أغلقت فاطمة اخلط وتابعت بكاءها حتى
تعبت وا�ست�سلمت خلدر النوم الذي بد أ� ي�سري يف �أو�صالها.
بعد �ساعات ارتدت مالب�س العملية م�ست�سلمة ودخلت �إىل غرفة
العمليات ،مرت الدقائق على من كانوا باخلارج وك�أنها �ساعات ،ويف
حلظة ما ُف ِتح باب غرفة العمليات وخرج منه طبيب الأطفال وهو يحمل
351
ال�صغرية ،اقرتب كرمي منه بلهفة تعجب هو نف�سه منها ،حمل طفلته بني
يديه و�أخذ ينظر �إليها مبت�س ًما ،كانت قليلة الوزن ولكنها جميلة كوالدتها،
ف�شعرها ُخلق بلون الذهب وب�شرتها بي�ضاء م�شربة بحمرة ،ومالحمها
رقيقة كمالمح �أمها ،طبع كرمي قبلة على ر�أ�سها و�أح�س حينها ب�شيء
داخله مل يفهمه ،وك�أن اهلل قذف حبها يف قلبه مبجرد ر�ؤيتها� ،س�أل
الطبيب عن حالتها ،ف�أجاب ب�أ�سف:
-هتحتاج تدخل ّ
احل�ضانة دلوقتي �ضروري ،و�إن �شاء اهلل خري.
ﻋﺼ
-طيب وفاطمة؟
-بخري احلمد هلل ،هتخرج بعد ما تفوق من البنج.
ﲑ ﺍﻟ
اقرتبت والدة فاطمة وهي ت�ستند على هند لرتى ال�صغرية ،حملتها
ﻜﺘ
لأقل من دقيقة وبعدها �أخذها الطبيب و�سار بها وهم يتابعونه بنظراتهم
حتى اختفى من �أمامهم.
ﺐ ﻟﻠﻨ
بعد يومني وقفت فاطمة م�ستندة �إىل زوجها تنظر �إىل طفلتها العارية
�إال من احلفا�ض ،واملو�ضوعة يف ذلك ال�صندوق الزجاجي �صغري احلجم،
ﺸﺮ
�أن ت�ضمها بداخل ح�ضنها وال ترتكها �أبدً ا ،فر�ؤيتها على تلك الهيئة تدمي
ﺍﻟﺘﻮ
قلبها ،كان كرمي ينظر للطفلة وقد ظهر الأ�سى على وجهه ،متنى ب�صدق
ﺯﻳﻊ
�أن تتح�سن حالتها وتعود معهما �إىل املنزل ،مر يوم تلو الآخر واحلال
كما هو ،ت�أتي فاطمة وزوجها لالطمئنان على ال�صغرية وينتظران �إىل
جوارها ل�ساعات ،ثم يعودان وحدهما بعدما هتك احلزن قمي�ص قلوبهما
مل�شاهدتها على تلك احلالة ،يف اليوم ال�سابع وحينما و�صال �إىل امل�شفى
�أخرب كرمي زوجته ب�أنه �سيذهب لدفع ح�سابات امل�شفى وبعدها يلحق بها،
ف�أوم�أت بر�أ�سها ،و�صعدت وحدها �إىل ال�صغرية ،دخلت الغرفة بلهفة
واقرتبت من ال�صندوق اخلا�ص بابنتها فلم جتدها ،هل من املعقول �أنها
352
قد تعافت؟ خطرت الفكرة على ر�أ�سها فلمعت عيناها ب�أمل وهرولت
تبحث عن الطبيب لت�س�أله ،وملا و�صلت �إليه نظرت �إليه م�ستب�شرة وقالت:
-البنت خفت �صح؟
ط�أط أ� الطبيب ر�أ�سه وهم�س:
-البقاء هلل يا مدام فاطمة.
�صرخت فاطمة بعينني مت�سعتني:
-يعني �إيه! البنت فيني يا دكتور؟
ﻋﺼ
زم �شفتيه يف �أ�سى ومتتم:
ذهب �إ�سالم لعمل املقابلة ال�شخ�صية بال�شركة التي يعمل بها فاروق
ﺸﺮ
بعدما قدم كافة �أوراقه �إليهم قبلها ب�أيام ،كان مدير ال�شركة ً
رجل وقو ًرا
ﻭ
متوا�ض ًعا ذا ابت�سامة عذبة ،بد أ� ي�س�أل �إ�سالم بع�ض الأ�سئلة ،وملا ر�آه يجيب
ﺍﻟﺘﻮ
بلباقة وثقة وعلم من فاروق �إتقانه وتفانيه يف عمله وافق على تعيينه،
ﺯﻳﻊ
ولكنه �أخربه �أنه لن ينقله لفرع الإ�سكندرية �إال بعدما يق�ضي الثالثة �أ�شهر
الأوىل معهم يف الفرع الأ�سا�سي لتدريبه على العمل ،كاد �إ�سالم يرق�ص
فرحا بعدما �سمع ذلك اخلرب ،لقد دبر اهلل له �أمره من حيث ال يحت�سب، ً
فبعد انتهاء الوقت املحدد �سي�ستطيع وبكل �سهولة �أن ي�صطحب زوجته
وابنته معه �إىل الإ�سكندرية ،بد أ� العمل من اليوم التايل ،وملا ق�ضى �شهره
الأول بال�شركة وح�صل على الراتب ذهب �إىل �سلمى ويف عينيه فرحة
353
كالأطفال ،و�ضع املال بني يديها و�أخربها �أنه �سيذهب معها ل�شراء كل ما
حتتاجه للمولودة.
يوما و�أثناء وجوده يف ال�شركة ات�صلت به �سلمى وهي
بعد �أربعة ع�شر ً
تبكي ،ف�س�ألها بقلق عن ال�سبب ،ف�أجابت:
-حا�سة ب�أمل عمال ييجي ويروح� ،أنا خايفة �أوي يا �إ�سالم.
-والدة يعني وال �إيه؟
-م�ش عارفة!
ﻋﺼ
-طيب كلمي الدكتورة.
ﲑ ﺍﻟ
-كلمتها قالويل معاها حالة والدة.
ﻜﺘ
عليك بلغيني قالتلك �إيه ،ولو
-طيب تابعي معاهم و�أول ما ترد ِ
احتجت تروحي لها ه�ست�أذن و�أجيلك علطول ب�إذن اهلل. ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
-حا�ضر.
ﺸﺮ
�أغلقت اخلط وبد�أت تدعو اهلل �أن يي�سر لها �أمر و�ضعها ،بينما
حاول �إ�سالم جاهدً ا �إنهاء الأعمال التي بني يديه حت�س ًبا لأي
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
�أجابها بحنان �أثناء عبوره الطريق:
-خال�ص يا حبيبتي واهلل جاي �أهو ،معل�ش حاويل ت�ستحملي
ﲑ ﺍﻟ و�أنا...
ﻜﺘ
يا �أ�ستاذ حا�سب!
ﺐ ﻟﻠﻨ
هذا �آخر ما �سمعته �سلمى قبل �إغالق اخلط ،نظرت يف هاتفها بعدم
ﻭ
ا�ستيعاب وقد ظهر على وجهها الفزع ،ات�صلت ب�إ�سالم مرة �أخرى فوجدت
ﺍﻟﺘﻮ
اخلط مغل ًقا ،ات�صلت مرة ثالثة ،ورابعة ،وخام�سة ،ا�صطبغ وجهها خو ًفا
ﺯﻳﻊ
وبد�أت ترجتف وهي تكرر االت�صال بجنون ملدة تتعدى الن�صف �ساعة،
�شديد وكان قلبها ُيعت�صر ك�أن �آالف الإبر ُر ِ�شقت فيه ،بد�أت
�شعرت ب أ� ٍمل ٍ
تبكي بانهيار وتتو�سل �إىل اهلل �أن يحفظ لها زوجها وتراه �أمام عينها
�سلي ًما ومعافى� ،شعرت ببع�ض الآالم اجل�سدية التي تعاونت مع الآالم
النف�سية و�سحقاها �سح ًقا ،ات�صلت بزوجها للمرة الأخرية فوجدت اخلط
مغل ًقا كما هو ،فات�صلت بوالدتها وق�صت عليها ما حدث ،هرولت �أمها
و�أختها ووالدها �إليها و�أخذوها �إىل امل�شفى تبعتهم هند ووالدتها ،دخلت
355
�سلمى �إىل الطبيبة ف�أخربتها بعد فح�صها ب�أنها �ست�ضع طفلتها خالل
ال�ساعات القليلة القادمة ب�إذن اهلل ،فخرجت من عندها متوترة ،وبد�أت
تق�ص على اجلميع ما حدث وهي تبكي تارة ب�سبب �آالمها اجل�سدية وتارة
ب�سبب خوفها على �إ�سالم ،قال والد �سلمى ب�أنه �سيذهب لتتبع الطريق
الذي عاد منه �إ�سالم وي�س�أل عن وجود �أي حادث هناك ،وملا و�صل �إىل
هناك علم با�صطدام �شاب ب�سيارة �أجرة ونقله �إىل امل�شفى ،وملا �س�أل عن
موا�صفات ال�شاب وجدها تنطبق على �إ�سالم ،فات�صل عليهم و�أخربهم
مبا حدث وبعدها ذهب �إىل امل�شفى ليت�أكد من الأمر.
ﻋﺼ
zzz
ﲑ ﺍﻟ
�شعر ب�شلل تام يف كل �أطرافه ،ال ي�ستطيع حتريك ج�سده قيد �أمنلة،
ﻜﺘ
عينه ال يقوى على فتحها ،ت�صل �إىل �أذنيه همهمات غري مفهومة� ،أ�صوات
كثرية تختلط ببع�ضها البع�ض ال يتبني منها �أي �شيء ،ظل على تلك احلالة
ﺐ ﻟﻠﻨ
لعدة ثوان وبعدها بد�أ يفتح عينيه �شي ًئا ف�شي ًئا و ُيحرك �أطرافه بهدوء،
الظالم يحيط به من كل اجتاه ،ولكن الأ�صوات بد�أت تت�ضح يف �أذنيه،
ﺸﺮ
�شعر مبلم�س الرتاب �أ�سفل يديه� ،أح�س ب�أحدهم وهو يحاول حتريكه،
ﻭ
�سمع �آخر يقول ب�أنه مات ،ف�أخربه ب�أنه ما زال على قيد احلياة ،ولكن
ﺍﻟﺘﻮ
�صوته أُ�حتب�س يف حنجرته ،حرك قدمه الي�سرى مت�أملًا فلم�ست قدم �أحد
ﺯﻳﻊ
الرجال ،نظر الرجل �إليه فلمح عينه الن�صف مفتوحة ،بد�أ ُيبعد الواقفني
حوله وهو يقول ب�سعادة:
-الراجل طلع عاي�ش ،و�سعوله كده يا رجالة عل�شان يعرف
يتنف�س.
ابتعد الرجال �شي ًئا ف�شي ًئا فظهر ال�ضوء من جديد ،اقرتب منه رجالن
لي�ساعداه على الوقوف� ،أ�شار لهما �أن يرتكوه ولكنهما �أ�صرا على حمله،
356
فبد�أ يجز على �أ�سنانه وخرجت منه ندة �أمل� ،أدخله الرجالن بداخل
�إحدى ال�سيارات وا�صطحبه غريهما �إىل امل�شفى.
كان ج�سده ُمط َّع ًما باخلدو�ش �إثر ا�صطدامه ب�إحدى �سيارات الأجرة
التي دفعته بقوة فتطاير ج�سده و�سقط بعنف على الأر�ض� ،شكى للطبيب
من بع�ض الآالم يف يده و�ساقه الي�سرى ،وملا فح�صه الطبيب نظر �إليه
وقال بهدوء:
-هنحتاج ب�س جنب�س �إيدك ورجلك ال�شمال عل�شان فيهم بع�ض
ﻋﺼ
الك�سور الب�سيطة ،وب�إذن اهلل بعد �شهر هرتجع �أح�سن من
الأول.
ﲑ ﺍﻟ
�ضحك �أحد الواقفني وقال بب�ساطة:
ﻜﺘ
-يا �ضاكتور ده ربنا بيحبه ،احنا كنا فاكرينه مات ،دي العربية
طريته بتاع مرتين وال ثالثة� ،سبحان اهلل ،له يف ذلك حكم.
ﺐ ﻟﻠﻨ
قال �أحدهم:
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
ا�ستمر يف ال�ضحك وهو يقول:
ﲑ ﺍﻟ
-حيلك حيلك� ،أنا بخري احلمد هلل.
ﻜﺘ
-طيب �أنت فني؟ و�إيه اللي ح�صل؟
علي ومترجحني -مفي�ش ،كان فيه عربية معدية وحبت ت�سلم َّ
ﺐ ﻟﻠﻨ
�شوية.
� -إ�سالم �أنت بتهزر! �أنا قلبي هيقف من اخلوف� ،أرجوك طم ّني
ﺸﺮ
عليك.
ﻭ
-يا �ستي واهلل كوي�س� ،شوية وهتالقيني عندك ب�إذن اهلل ،املهم
ﺍﻟﺘﻮ
-طلعت والدة ً
فعل ،والطلق �شغال �أهو ب�س ل�سه قدامي �شوية،
دعواتك.
يقويك ويعينك ،هقفل دلوقتي و�شوية وهجيلك امل�ست�شفى
-ربنا ِ
ب�إذن اهلل.
قبل �أن يغلق اخلط قالت ب�سرعة:
-مامتك هنا ونف�سها ت�سمع �صوتك يا �إ�سالم.
358
ابت�سم وبد أ� يحدث والدته بلطف ،يداعبها ويطمئنها ،ثم �أعطى
الهاتف للرجل و�شكره ،وبد أ� الطبيب يتابع عمله من جديد.
بد�أت �آالم الطلق ت�شتد على �سلمى ،وهي ت�أبي دخول غرفة العمليات
قبل �أن ترى زوجها ،ظلت تتم�شى يف الرواق الطويل الذي يف�صل غرفة
العمليات عن باقي الغرف وهي تدعو وتذكر اهلل ،ويف حلظة ما ر�أت القمر
ينظر �إليها وعلى وجهه ابت�سامة من �أعذب ما ر�أت ،كان ي�سري بعرجة
خفيفة وهو ي�ستند على ع�صا منا�سبة لطوله بعدما ُلفت اجلبرية حول
�ساقة ويده الي�سرى ،و�إىل جواره ي�سري والدها �ساندً ا له ،تنا�ست �سلمى
ﻋﺼ
�آالمها وهرولت �إليه ،اقرتبت منه وظهرت الدموع من �أ�سفل نقابها ،فقال
ﲑ ﺍﻟ
مازحا:
�إ�سالم ً
ﻜﺘ
-يا �ستي ما قولنا كوي�س وزي الفل ،خال�ص بقى م�ش هنقعد
ن�شرتي يف مناديل كل �شوية.
ﺐ ﻟﻠﻨ
معاك الوالدة،
-احلمد هلل �إن املو�ضوع طلع ب�سيط وقدرت �أح�ضر ِ
احلمد هلل على نعمه التي ال تعد وال حت�صى.
حاولت ر�سم ابت�سامة على �شفتيها بعدما ت�أوهت ب�صوت مكتوم وهي
تكز على �أ�سنانها ،الحظ �إ�سالم حالتها ف�س�أل ب�شفقة:
-كده الطلق و�صل لفني؟
-على الآخر خال�ص.
359
بعدما بدقائق ب�سيطة ا�صطحبتها الطبيبة �إىل غرفة العمليات وبد�أت
عملها.
كانت ت�صرخ منادية بقوة :يا رب ،يا رب ،كانت تكررها كث ًريا
ب�صوت مت�أمل� ،سمعها كل من كان بخارج الغرفة ،حتى �أن �أمها انهارت
باكية ب�سبب �سماع تلك ال�صرخات ،مرت الدقائق �صعبة على اجلميع،
متاما وهي حتاول دفع جنينها ،ويفوخ�صو�صا على تلك التي خارت قواها ً
ً
حلظة ما �شعرت �أن الطبيبة مت�سك به ،كانت الر�ؤية م�شو�شة من فرط
تعبها ،ولكنها ملحته فابت�سمت وبد�أت حتمد اهلل عدة مرات ،ثم �أغم�ضت
ﻋﺼ
عينيها يف ا�ست�سالم ،جاءت طبيبة الأطفال وفح�صت الطفل وعلمت �أنه
ﲑ ﺍﻟ
ب�صحة جيدة ،نظفته املمر�ضة وتناولت مالب�سه با�سمة و�ألب�سته �إياها،
ﻜﺘ
ثم خرجت من غرفة العمليات وهي حتمله ،هرول اجلميع �إليها مبا فيهم
�إ�سالم الذي مل متنعه الع�صا من �سباقهم� ،أعطت املمر�ضة الطفل لوالدة
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
361
ﺯﻳﻊ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻭ ﺸﺮ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻜﺘ
ﲑ ﺍﻟ
ﻋﺼ
شكر خاص
ﻋﺼ
�إىل �أمي احلبيبة :فاطمة طه.
ﲑ ﺍﻟ
زوجي العزيز :عبد الرحمن �أ�سامة.
ﻜﺘ
�أختي الغالية :زينب طه.
ﺐ ﻟﻠﻨ
رقية طه
ﺯﻳﻊ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻭ ﺸﺮ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻜﺘ
ﲑ ﺍﻟ
ﻋﺼ